قضايا

  الثقافة المصرية قديمة ضاربة بجذورها فى عمق الأرض منذ آلاف السنين..  وهي ثقافة مؤثرة يمتد تأثيرها لما وراء الوطن العربي إلى جميع قارات العالم، ليس فقط بسبب الحضارة الفرعونية وما تركته من آثار مبهرة، ولكن حتي على صعيد التأثير المعاصر؛ وإن شخصيات مثل نجيب محفوظ وأم كلثوم وأحمد زويل باتت لهم شهرة عالمية متجاوزة لحدود المكان والجغرافيا، وأمثالهم فى مصر كثيرون. واللهجة المصرية يستطيع أي إنسان أن يميزها بسبب انتشارها الإعلامي منذ بداية عصر السينما والتليفزيون والإذاعة، فكانت مصر من أوائل الدول التي استثمرت ملكاتها وقواها الناعمة فى مجال الإعلام والسينما.

 الريادة فى مصر راسخة رسوخ الجبال الرواسي، وهي ليست ريادة مصطنعة أو مستحدثة، وإنما هي بديهية وطبيعية لما حباها الله به من نعم وخصائص وإمكانات.

مصر الثقافة

 نعم مرت علي مصر شعباً وأرضاً ونيلاً عهود متتالية تأثر فيها النسيج المصري الثقافي بعدة ثقافات؛ فرعونية ويونانية ورومانية وفارسية حتي انتهت للثقافة الإسلامية التي تنوعت فى ذاتها إلى مراحل وعهود منذ العصر العمري إلى الأموي إلى العباسي فالإخشيدى والطولوني ثم الفاطمي فالأيوبي فالمملوكي ثم العثماني، وبعدها جاء نابليون والاستعمار البريطاني، لتمتزج بالشعب المصري طوائف وجاليات أجنبية وعربية كان منها الإيطالي واليوناني والإنجليزي والفرنسي والتركي والشامي، وامتزج هؤلاء بالشعب المصري حتي باتت عائلات بأكملها ذات أصول أوروبية هي عائلات مصرية خالصة وتنقطع صلتها بأصولها الأوروبية أو العربية إلا بمصر.

 استطاعت مصر دائماً أن تصهر فى نسيجها الفريد شعوباً ولغات وثقافات عدة دون أن تفقد هويتها ومزاجها وطابعها المميز. والبراعة فى اليد المصرية والعقل المصري سارية حتي على الأميين غير المتعلمين؛ فالفلاح المصري هو الأبرع، والفنان المصري ابتدع فنون الزخرفة والنقش على النحاس والحجارة وطورها، وشهدت على براعته آثار فرعونية ويونانية وقبطية وإسلامية من مختلف العصور نفذتها أيادٍ مصرية ماهرة.

 ثقافة مصر لا تحتاج لأدني مجهود لتظهر وتطفو على السطح؛ فهي موجودة فى كل شارع وحارة وركن فيها. ولهذا كان النشاط الثقافي السنوي نشاطاً طبيعياً يأتي كانعكاس لما تفيض به القلوب والعقول والأيادي من إبداع تزخر به مصر دائماً.

تعدد روافد الثقافة

 لا شك أن وزارة الثقافة في قيادتها للمؤسسات الثقافية تضع خطة لاستغلال كل روافدها ومواردها لخدمة الجمهور المصري بمختلف مراحله العمرية. من خلال مهرجانات ومعارض وفعاليات وندوات وإصدارات ومنتجات ثقافية عديدة تغطي جميع محافظات مصر..

 ربما يكون معرض الكتاب هو الفعالية الأبرز إعلامياً لما تحمله من زخم وشهرة، لكن حتي على مستوى المعارض، فإن وزارة الثقافة ممثلة فى الهيئة العامة للكتاب تقوم بتنظيم معارض أخري محلية تزيد عن عشرين معرضاً فى عدد من محافظات مصر، كما تشارك في عدد من المعارض الدولية خارج مصر بإنتاج كثيف، تمثل فى إصدارات هيئة الكتاب وهيئة قصور الثقافة ، وهي إصدارات كثيرة وعناوين تنوعت في مشاربها وواتجاهاتها بين الإصدار الأدبي والعلمي والترجمات.

 لم يقتصر أداء وزارة الثقافة على ما هو قائم من أبنية ومراكز ثقافية منتشرة فى المدن والمحافظات والقري، بل أقامت ورممت وجددت عدة منشآت ثقافية جديدة خلال السنة الماضية زاد عددها على خمسة عشر منشأة. إلى جانب هذا فقد تعاونت الهيئات الثقافية وعلى رأسها هيئة الكتاب مع وزارة الأوقاف لإصدار مؤلفات وسلاسل تنويرية مختلفة لنشر الوعي والثقافة الإسلامية الوسطية.

رؤية مصر 2030

 إنها أنشطة ثقافية تجري وفق مخطط استراتيجي ينطوي تحت رؤية مصر 2030. بحيث أن كل وزير من الوزراء يستكمل ما حققه الوزير السابق، فلا تضارب ولا تعارض ولا عشوائية وإنما خطة استراتيجية متكاملة تسير تبعاً لمنهج ورؤية بعيدة المدي.

 هناك عدة محاور لهذه الرؤية، لعل من أهمها محور "حماية وصون التراث الثقافي المصري". وهو المحور الذي حققت فيه وزارة الثقافة نجاحات عدة، منها نجاحها فى تسجيل احتفالات مسار العائلة المقدسة على قوائم التراث الثقافي غير المادي، وكذلك تقديم ملف آلة السمسمية لمناقشة تسجيلها ضمن نفس المخطط. وفي نفس الإطار تسير إصدارات هيئة الكتاب فى نفس الإطار الذي يعيد تقديم التراث المصري وتحقيقه في عدد من السلاسل الجديدة من حيث الشكل وطريقة التقديم لتلائم الجيل الجديد من الشباب.

 محور آخر انضمت فيه وزارة الثقافة لمبادرة "حياة كريمة"، فوجهت أنشطتها وفعالياتها نحو العشوائيات والمناطق الحدودية، هكذا نظمت الوزارة فعاليات وصل عددها لنحو خمسة آلاف فعالية، مع تزويد مكتبات المدارس والجامعات بنحو سبعين ألف كتاب، بخلاف المهرجانات والندوات.

 وفى هذا الإطار وقعت وزارة الثاقفة عدداً من بروتوكولات التعاون مع وزارات ومؤسسات داخل وخارج مصر. أفرزت عدداً من المنتجات الثقافية والفعاليات وليالي العرض المسرحية ومعارض الفنون التشكيلية.

أين دور رجال الأعمال؟!

 تحدثت مراراً عن دور الاستثمار الثقافي الخاص فى النهوض بمجالات الثقافة المتعددة فى مصر. فلا يمكن إلقاء العبء كله على الدولة والحكومة بمواردها المحدودة خصوصاً فى ظل أزمة اقتصادية عالمية تؤثر ولا شك فى محيطنا الإقليمي..

  لا أعلم فى حدود ما أتابعه أحداً من رجال الأعمال يوجه جزءاً من استثماراته نحو ترقية الفنون والأداب فى مصر، باستثناء نجيب ساويرس ورعايته لمهرجان الجونة، وجائزته الأدبية السنوية المعروفة، ومثل هذه الفعاليات، على قلتها وشحها وتركيزها على هدف محدود من أهداف الثقافة، إيجابية وتستحق الإشادة. ولا يمكننا اعتبار امتلاك بعض رجال الأعمال لقنوات فضائية أو صحف خاصة من باب المشاركة الفعالة فى نهضة المجال الثقافي، لأن لهذه المؤسسات اتجاه دعائي يخص منشئيها من رجال الأعمال. لكنني أتحدث عن الثقافة بمعناها الأوسع. فما المانع أن تنضم جمعية رجال الأعمال للمؤسسات التي يحدث بينها وبين وزارة الثقافة بروتوكول تعاون قائم على خطة مرسومة، في مقابل مزايا حكومية يتم تقديمها لرجال الأعمال المشاركين فى صورة إعفاءات ضريبية أو حملات دعائية وإعلانية لشركاتهم ومنتجاتهم؟!

 ثم لماذا لا يشارك رجال الأعمال المثقفون بأنفسهم، بعيداً عن وزارة الثقافة، فى الرقي بالثقافة المصرية من خلال إدخال التقنية والتكنولوجيا فى هذا المجال بشكل هادف للربح؟!

 إن الصورة الذهنية الموجودة فى عقول رجال الأعمال أن الثقافة نشاط خدمي غير ربحي يمتص الأموال ولا يكتسبها، وهذا تصور خاطئ تماماً؛ خاصة فى ظل التقدم التقني والتكنولوجي الذي جعل الثقافة بمختلف مجالاتها من أقوي القطاعات الإنتاجية تحقيقاً للمكاسب والأرباح، وقد تكلمت فى هذا الشأن فى مقالات عديدة سابقة، ويمكنني وغيري تقديم عشرات الأمثلة لمشروعات ثقافية ذات أرباح مهولة، لكنها تتم فى أوروبا وأمريكا والصين وغيرها من البلاد المتقدمة، فلماذا لا نقلدهم ونحذو حذوهم، ما دامت لدينا الأدوات والموارد البشرية والطبيعية لهذا الأمر؟

معاً نستطيع

التطوير يسير على قدمين. ولا يمكن أن نكتفي "بالحجل" على قدم الحكومة وحده، دون تحفيز القدم الأخري، القطاع الخاص، بالاستثمار فى المجال الثقافي. لأن فى انتعاش الاستثمار الثقافي انتعاش للاقتصاد المصري. وبنظرة سريعة لمؤسسات عالمية كبري مثل أمازون التي بدأت نشاطها بالاستثمار فى الكتب، لتصبح فى غضون سنوات من كبريات شركات التجارة الإليكترونية. أو مؤسسات وادى السيليكون التي استثمرت فىى الثقافة الشعبية باتجاهها نحو السوشيال ميديا، نستطيع أن نؤكد أن استثمارنا فى الثقافة معناه الاستثمار فى البشر، وهو لعمري أقوى أنواع الاستثمار وأكثرها نجاحا واستمراراً.

 المثقفون أنفسهم ليس بأيديهم إلا طرح الأفكار الخلاقة والدعوة لتحقيقها على  الأرض، لكنهم فى حاجة لمن يملكون رؤوس الأموال لتحويل الأفكار المجردة والأحلام إلى واقع، وهم فى حاجة لأصحاب السلطة والقرار لوضع الأفكار والرؤي النظرية محل التنفيذ.

 معاً نستطيع، مثقفون وقادة ورجال أعمال. نستطيع أن نستعيد ريادة مصر الثقافية لا فى محيطنا الإقليمي وحده، بل وعالمياً. لأن مصر كانت ولا زالت  ملأي بالإبداعات والمبدعين فى كل مجالات الفن والأدب والعلم.

***

د. عبد السلام فاروق

 

هل يصح أن تتقدّم كلمة الفلسفة على الصبر، وكيف يكون للصبر فلسفته؟ الحقيقة أن كل ما يتصل بالإنسان من قريب أو من بعيد، وراؤه فلسفة، والصبر كمقوم روحي هو من خصائص الإنسان، والفلسفة تتوجه إلى الإنسان: عقله ومعرفته وسلوكه وحضارته، ثم ما يحاط بالإنسان من عوامل تنهض به أو تؤخره ناهيك عن بيئته، يطور فيها أو يتركها هملاً بغير تصريف أو تطوير.

وإرادة الاحتمال هى لب لباب الفلسفة، وإذا كان تعريف الصبر فى مجال الدين هو (ثبات باعث الدين فى مقابل باعث الهوى) فإنه فى المفهوم الفلسفى إرادة احتمال، وعزم على مواجهة المصاعب، وقدرة على امتصاص السقطات الإنسانية وتوظيفها ناحية الإيجاب، وطرد السلبي منها، ولن يكون هناك نجاح قط والمرء لا يقوى على الاحتمال ولا تترقى فيه عزيمة الاصطبار.

الصبور هو إنسان بامتياز، والعبادة التى تقوم على أركان الصبر هى عبادة نافعة بكل تأكيد، ونصف الدين صبر، والنصف الآخر شكر. وآفاق الفلسفة وظلال الدين هما قوام الإنسان الراقي لأنهما جعلا منه إنساناً صبوراً يحتمل الآفات والمعاطب، والتسلط الغبي من الأراذل، وسفاهة الأخلاق، وقلة الأدب، وسوء التصرّف ونذالة السلوك.

والاحتمال تحكيم للعقل إزاء فلتات الطيش، وضبط للنفس بمقتضاه، والانتصار للمبدأ، ومقاومة ما تكره من واقع كدر قائم على القهر والتسلط.

يمدك رافد الفلسفة بمدد العزم والاحتمال انتصاراً للعقل، وضبطاً لحركته الواعية فى التصرّف الإنساني. ويمدك رافد الدين بالصبر تعلقاً بالمصير، وتضييقاً للطمع فى الدنيا وترقية لمسيرتها المؤقتة، واعتباراً للانتقال منها ولو بعد حين، ومهما طال بقاؤك فيها.

للإمام أبي حامد الغزالي طيّب الله ثراه نظرات فائقة فى فلسفة الصبر باعتباره خاصية الإنس، ولا يتصور ذلك فى البهائم والملائكة‏، ‏أمّا فى البهائم فلنقصانها، وأمّا فى الملائكة فلكمالها‏.‏

يرى الغزالي أن البهائم سُلّطت عليها الشهوات وصارت مسخّرة لها فلا باعث لها على الحركة والسكون إلا الشهوة، وليس فيها قوة تصادم الشهوة، وتردها عن مقتضاها حتى يسمي ثبات تلك القوة فى مقابلة مقتضى الشهوة صبراً.

وتلك هى فلسفة الغزالي فى الصبر، بمجرد النظر فى مضمون التعريفات الأوليّة يتبين لك كيف يعالج هذا العقل الكبير مسألة المفاهيم، ويفتح معانيها أمام القارئ من أيسر الألفاظ. أسس الصبر على المعقولية والتصور حين سلبه عن البهائم وخصّه بالإنسان، وزانه بالفاعلية العمليّة.

وأمّا الملائكة؛ فإنهم جرّدوا للشوق إلى حضرة الربوبية بدرجة القرب منها، ولم تُسلّط عليهم شهوة صارفة صادّة عنها حتى يحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند.

وأمّا الإنسان؛ فإنه خلق فى ابتداء الصبا ناقصاً مثل البهيمة لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذى هو محتاج إليه، ثم تظهر فيه شهوة اللعب والزينة ثم شهوة النكاح على الترتيب، وليس له قوة الصبر البتة، إذ الصبر عبارة عن ثبات جند فى مقابلة جند آخر قام القتال بينهما لتضاد مقتضياتهما ومطالبهما، وليس فى الصبي إلا جند الهوى كما فى البهائم، ولكن الله تعالى بفضله وسعة جوده أكرم بني آدم ورفع درجتهم عن درجة البهائم، فوكّل به عند كمال شخصه بمقاربة البلوغ ملكين أحدهما يهديه، والآخر يقويه فتميز بمعونة الملكين عن البهائم‏.‏ واختص بصفتين :‏ إحداهما معرفة الله تعالى ومعرفة رسوله ومعرفة المصالح المتعلقة بالعواقب، وكل ذلك حاصل من الملك الذى إليه الهداية والتعريف‏.‏

فالبهيمة لا معرفة لها ولا هداية إلى مصلحة العواقب، بل إلى مقتضى شهواتها فى الحال فقط فلذلك لا تطلب إلا اللذيذ‏.‏

وأمّا الدواء النافع مع كونه مضراً فى الحال فلا تطلبه ولا تعرفه، فصار الإنسان بنور الهداية يعرف أن اتّباع الشهوات له مغبّات مكروهة فى العاقبة، ولكن لم تكن هذه الهداية كافية ما لم تكن له قدرة على ترك ما هو مضرّ، فكم من مضرٍّ يعرفه الإنسان كالمرض النازل به مثلاً ولكن لا قدرة له على دفعه، فافتقر إلى قدرةٍ وقوّةٍ يدفع بها فى نحر الشهوات فيجاهدها بتلك القوة، حتى يقطع عداوتها عن نفسه. فوكل الله تعالى به ملكاً آخر يسدّده ويؤيده ويقويه بجنود لم تروها، وأمر هذا الجند بقتال جند الشهوة، فتارة يضعف هذا الجند، وتارة يقوّى ذلك بحسب إمداد الله تعالى عبده بالتأييد، كما أن نور الهداية أيضاً يختلف فى الخلق اختلافاً لا ينحصر.

كلام الغزالي يدفع لجهاد الإنسان ظلمات نفسه ضد كل ما فيه مضرّة، وأبرزها ظلمه لنفسه من قريب. والقرآن الكريم يقول (وقد خاب من حمل ظلماً) لكن أشد أنواع الظلم هو ظلم النفس لنفسها. والأكثر شدة هو ظلمها لغيرها، والظاهر أن ظلم النفس لغيرها نتيجة لظلمها لذاتها، فلن تر ظالماً مطلقاً إلا ونفسه معوجة منحرفة غير مستقيمة بحال. كل الآفات النفسية يعكسها على سواه، فيظلم غيره ويتمادى فى الظلم لأنه كان من قبل ظلم نفسه وأمعن فى ظلمها، وتلك هى الخيبة النكراء المقرونة بالتشويه الباطن للدخائل النفسية.

***

د. مجدي إبراهيم

الحروب المجتمعية في التحليل السيكولوجي

شغلت الحرب اهتمام الفلاسفة والمفكرين وعلماء النفس والأجتماع، وتباينت وجهات نظرهم في الأجابة على تساؤلات محيرة:

لماذا يقتل الأنسان اخاه الأنسان؟

لماذا الحرب.. بين مكونات الشعب الواحد؟

هل هناك وسيلة.. طريقة لأنقاذ البشرية من الحروب؟

هل من الممكن السيطرة على التطور العقلي للإنسان تخلصه من الكراهية والتدمير؟

المنظور السيكولوجي

هناك نظريتان لتفسير الحرب

الأولى يتبناها علماء النفس التطوري، يرون أنه من الطبيعي أن يخوض البشر حروبا لأننا مخلوقون في الأصل من جينات أنانية ورثناها من اجدادنا وسنورّثها لاحفادنا. لماذا؟: لأنها الوسيلة التي تمكننا من البقاء بالحصول على القوت والموارد التي تضمن لنا الحياة.

وان سالتهم: الا يمكن ان نحقق ذلك دون حرب؟.. يجيبوك.. نعم، ولكن اذا شكّل الآخرون تهديدا لبقائنا، فاننا لا نتردد لحظة في اعلان الحرب عليهم.

والثانية.. تفسر الحروب بيولوجيا بقولها: ان الرجال مهيؤون بيولوجيّا لخوض الحروب لأنهم يتمتعون بكميات كبيرة من هرمون التستوستيرون العدواني، وانخفاض هرمون السعادة.. السيروتونين. واثبتوا ذلك تجريبيا بأن حقنوا حيوانات بالسيروتونين فتصرفت بلطافة، وحقنوا اخرى بالهرمون العدواني التستوستيرون فتصرفت بعدوانية.

ومن اشهرالتفسيرات النفسية للحروب تفسير (ويليام جيمس).. فقد كان أول عالم نفسي يحقق في الأسباب النفسية وراء اندلاع الحروب، نشره في مقال بعنوان "المعادل الأخلاقي للحرب" عام 1910.

يقول فيه.. إن الحروب كانت منتشرة جدا بسبب آثارها النفسية الإيجابية سواء على الفرد أو المجتمع. ويرى أن الآثار الإيجابية للحرب على المستوى الاجتماعي تتمثل في خلق شعور بالتكاتف والوحدة الوطنية بوجه التهديد الجماعي بتوحيدها لصفوف الناس معا، حيث إن الانخراط في المعارك لا يقتصر على الجيش فقط، بل يشاركه أفراد المجتمع كافة، فضلا عن أنها تجلب إحساسا بالانضباط والامتثال واحترام الأهداف المشتركة، بجانب إلهام المواطنين التصرف بشرف والتخلي عن الأنانية من أجل خدمة الصالح العام.

وعلى المستوى الفردي، يرى جيمس أن الحرب تبعث في نفوس الناس شعورا بأنهم على قيد الحياة وعلى أهبة الاستعداد، كما أنها تمنحهم هدفا ومعنى لتجاوز رتابة الحياة اليومية والتحرر من سطحيتها، ولأنها تتيح أيضا الفرصة للتعبير عن القيم الإنسانية مثل الانضباط والشجاعة والتضحية بالذات، والتي غالبا ما تكون متخفية في قلب دوامة الحياة العادية.

وننبه الى ان الحرب لا تعني فقط استخدام السلاح بانواعه فهناك حرب ليس فيها اي سلاح هي الحرب النفسية التي تحقق نفس هدف الحرب المسلحة، اي فرض الارادة على الاخر بغرض التحكّم في اعماله اقتصاديا واجتماعيا واعتباريا.. بسلاح الكلمة التي تؤثر سلبا او ايجابا في معنويات الآخر المعادي او الآخر الصديق او المحايد.. وتدخل الخوف او الرعب باستخدام الأشاعة والدعاية السوداء.

ونرى ما يمكن ان يعدّ اضافة نظرية تتضمن مفارقة كبيرة !:

ان الانسان كلما تطور (حضاريا) يزداد سلوكه العدواني، بمعنى ان الحضارة هي احد اهم اسباب الحروب، بدليل ان الحروب في المجتمعات البدائية (غير المتحضرة) اقل بكثير من المجتمعات المتحضرة.

شاهدنا في ذلك ان علماء الآثار والأنثروبولوجيا اجروا دراسات عن العنف شملت 21 مجتمعا بدائيا (من الصيادين وجامعي الثمار)، وخلصت الدراسة التي اعدها "دوغلاس فراي" و"باتريك سودربيرغ" إلى أنه على مدار الـ200 عام الماضية، كانت الهجمات القاتلة بين المجموعات نادرة للغاية، ولم تحصل فيها سوى 148 حالة وفاة كانت بسبب صراعات فردية أو نزاعاتٍ عائلية. ليس هذا فقط عالم الأنثروبولوجيا "آر. برايان فيرغسون"جمع أدلة مقنعة تثبت أن الحرب لا يتجاوز عمرها 10 آلاف عام، وأنها باتت متكررة منذ حوالي 6 آلاف عام فقط.

ونضيف ايضا ما يمكن ان يعد قانونا اجتماعيا، هو: تزداد الحروب بزيادة أعداد نفوس العالم.

نظرية عراقية

اجرى علماء النفس تجاربهم على الحيوانات وخرجوا منها بنتائج صاغوها بنظريات تطبق على البشر، فيما اصبح العراق بعد (2003) مختبرا بشريا تمكّن عالم النفس الوصول لنتائج جديدة. وهذا ما فعلناه بمتابعتنا لما حصل للعراقيين خلال العشرين سنة الأخيرة (بعد 2003)، بنتائج تقدم لعلم النفس العربي والعالمي اجابة عملية واقعية عن اسباب الحروب المجتمعية، صغناها بأهم سببين:

الأول: المعتقدات

والواقعة التي تثبت ذلك ما حصل في العراق بين عامي 2006- 2008، وراح ضحيتها عشرات الآلاف، واتذكر انه في يوم 17 تموز 2007 وصل عدد القتلى مئة عراقي ولسبب في منتهى السخافة.. ان العراقي يقتل أخاه العراق لمجرد ان اسمه حيدر او عمر.

نصبوا سيطرات بالشوارع.. يسألوك شسمك.. السني يقتل الآخر اذا كان اسمه حيدر، والشيعي يقتل الآخر اذا كان اسمه عمر. سموها اعلاميا الحرب الطائفية.. فيما هي علميا حرب المعتقدات. السنة يعتبرون انفسهم انهم هم الذين يمثلون الدين الاسلامي وهم على حق والشيعة على باطل والسلطة يجب ان تكون بيدهم، والشيعة يعتقدون انهم هم المسلمون الحقيقيون والسنة على باطل.. والمعتقدات هذه سبب عالمي تاريخي وسيبقى ازليا بمسميات مختلفة.. فتأخذ اسما آخر على صعيد النخب.. هي (الأدلجة) سيما على صعيد الأحزاب.. وخذ مثالين عربين على ذلك ما حصل للحزب الشيوعي السوداني، وما حصل للحزب الشيوعي العراقي من تعذيب بشع.. قلع عيون، سلخ جلد.

والثاني.. هو.. الهوية.. والهويات نوعان.. هويات توحّد فتشيع المحبة والسلام.. انموذجها هوية الأنتماء للوطن، فحين يغلّب الملايين الذين يسكنون وطنا معينا شعورهم بالأنتماء الى وطنهم.. عاشوا بسلام ومحبة. وهويات فرعية: طائفية، قومية، عشائرية... اذا غلبّوها شاعت الكراهية وشحنت النفوس بدافع الأنتقام الذي يؤدي بحتمية سيكولوجية الى حروب بين مكونات المجتمع الواحد.

والمشكلة هنا لا تكمن في الاعتزاز بهويتنا الفرعية، بل في الموقف الذي نتبناه إزاء المجموعات الأخرى المختلفة عنا. فتعريفنا لأنفسنا من خلال انتمائنا لمجموعة معينة أو اقتصار هُويتنا على هذه المجموعة يخلق تلقائيا إحساسا بالتنافس والعداوة مع الأطراف الأخرى، تولّد بالضرورة صورة عقلية تصنِّف البشر على أساس كونهم "داخل المجموعة أم خارجها" و تؤدي بسهولة إلى تأجيج الصراع. ولهذا نجد أن معظم النزاعات على مر التاريخ كان سببها صدام بين مجموعتين أو أكثر مختلفتين في الهوية، مثل المسيحيين والمسلمين في الحروب الصليبية، أو اليهود والعرب، أو الهندوس والمسلمين في الهند.. وحديثا حصل في عالمنا العربي هويتان فرعيتان جرى تغلّيبهما على هوية الأنتماء للوطن وكانتا أحد أهم اسباب الحروب بين ابناء الوطن الواحد، هما الهوية الطائفية.. وشاهدها ما حدث بلبنان في سبعينيات القرن الماضي ووثقه امين المعلوف في كتابه (الهويات القاتلة)، وما حدث في العراق بعد 2003 ووثقناه في كتابنا (الشخصية العراقية من السومرية الى الطائفية).

والثانية هي الهوية العشائرية، وشاهدها اليمن والعراق. ففي العام 1998 كنت استاذا زائرا بجامعة صنعاء وذهبت بالسيارة الى مأرب لرؤية قصر الملكة بلقيس، فشاهدت في الطريق دبابات وعليها شباب بملابس مدنية. سألت صاحبي اليمني، مو المفروض ان يكونوا بملابس عسكرية؟.. اجاب انها تعود للعشيرة الفلانية. وفهمت ان معظم العشائر اليمنية عندها دبابات تستخدمها لمحاربة بعضها البعض.

وفي العراق.. توجد لدى كل عشيرة(لاسيما العشائر الكبيرة في الجنوب) انواع الأسلحة، واذا نشبت معارك فيما بينها فان الدولة لا تستطيع احيانا انهائها او التدخل فيها. والسبب السيكولوجي لقيام الحرب الطائفية والحرب العشائرية هو التباهي والفخر والشجاعة والأستعلاء على الآخر وامتلاك موارد ديمومة الحياة.

ولدينا سبب ثالث يعد اضافة جديدة لعلم النفس العربي. فمن متابعتنا لما وقع للمجتمع العراقي من احداث في الألفية الثالثة التي لم يشهد مثلها التاريخ المعاصر، اوصلتنا الى ابتكار مصطلح سيكولوجي جديد للحرب هو (الحول العقلي).

ونعيد القول بان (الحول العقلي) يعني ان المصاب به يرى الأيجابيات في الجماعة التي ينتمي لها.. طائفة، قومية.. ويغمض عينيه عن سلبياتها، ويرى السلبيات في الجماعة الأخرى ويغمض عينيه عن ايجابياتها، ويرى ان جماعته على حق والجماعة الأخرى على باطل، وان الجماعات الأخرى هي السبب في خلق الأزمات مع ان جماعته شريك فيها. ما يعني أن حال احول العقل هذا كحال احول العين الذي يرى الواحد اثنين ولا يمكنك ان تقنعه بأنه واحد، ولهذ تنشب الحروب بين المنتمين للجماعات المصابة بالحول العقلي.. يعني حولان بحولان و(ثولان بثولان). ويشكل مصطلح (الحول العقلي) اضافة عربية جديدة لعلم النفس العالمي.

الخاتمة.. مع اينشتاين

بعث اينشتاين برسالة الى فرويد استهلها برثاء حال المثقفين على مر العصور، و الاعتراف بحقيقة أن غالبية النخب هم من الأوغاد، والمتربحين وأصحاب المصالح، والمؤدلجين وبعض الحمقى. وأن النشاط الإنساني الأكثر أهمية هو بأيدي سياسيين غير مسؤولين على الإطلاق. وأضاف بأن المثقفين يملكون تأثيرا بسيطا على مسار الأحداث السياسية، و أن النخب الفكرية لا تمارس أي تأثير مباشر على مسار التاريخ؛ وإن حقيقة انقسامها إلى عدة تيارات تجعل مهمة أعضائها مستحيلة للتعاون فيما بينها وإيجاد حلول للأزمات وتفادي الحروب.

واذا اضفت لها.. أن الطبيعة البشرية تقوم على الضد وضده النوعي: الخير وضده النوعي الشر، الحب وضده النوعي الكراهية، السلام وضده النوعي الحرب، وزدتها بما شئت من العيوب البشرية، وتساءلت عن المستقبل لمن سيكون: للمفكرين والمثقفين الذين يشيعون المحبة والسلام؟ ام لاصحاب المصالح والاوغاد والحمقى الذين يشيعون الكراهية والحروب؟.. عندها ستغسل يديك من الدنيا والحياة.

ومع ذلك، فنحن السيكولوجيون نبشر بالتفاؤل دائما.. وهذا ممكن اذا امتلك هذا الجيل وسائل التكنلوجيا والتواصل والاعلام، ووظف فيها ما حصل لاجدادهم من كوارث وحروب، واشاع بان الطبيعة البشرية قائمة على المحبة والسلام.. فانه سيوفق في التقليل من هذه الحروب لأنها تنّمي دافع الخير في الطبيعة البشرية.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية العراقية

.......................

* عن هذا الموضوع.. اجرت معنا فضائية الفرنسية 24 حوارا في برنامج (في الممنوع) بث الخميس 25/6/ 2024.

 

المقدمة: مقاربة معرفية لمفهوم الإغراق التجاري والمآلات الأستراتيجية للأقتصاد العراقي !؟

وصول نسبة الأغراق في نظام السوق العراقية ل95 % والتي أصابت الصناعات الداخلية بالشلل التام للقطاعين الخاص والعام كما وأدت سياسة السوق المفتوحة إلى أغراق العراق بسلع رخيصة ومبتذلة كمالية وربما الطامة الكبرى مسرطنة وملوثة طالما يفىتقد المستهلك ثقافة السوق بأتباعه هوساً شرائيا ومما زاد الطين بلة تأثر الأ قتصاد العراقي بالوضع الأقليمي والدولي بتعرض النظام الأقتصادي العالمي إلى ثلاث هزات عنيفة ومقلقة حيث أخذت مخرجاتها وتداعياتها السالبة أبعاداً واسعة في جغرافية الغرب الأوربي والشرق أوسطي بما فيه العراق والتي هي:

- حرب الخيج الثانية

- هجمات الحادي عشر من سبتمبر2001

- تفشي فايروس كورونا

والأمر الآخطر والواضح اليوم هو أغراق السوق العراقية بكمٍ هائل من المنتجات من دول الجواروالعالم (ايران بالدرجة الأولى وتركيا بعدها ودول الخليج ومن الصين )، وليس بالضروري أن تكون البضاعة جيدة المهم هنا الربح فقط، وبلغت نسبة المنتجات المستوردة 96 %أنها نسبة خطيرة فعلاً بجعل الأقتصاد العراقي مرتهن وأسير سياسات الدول الخارجية، بسبب السياسات الخاطئة التي تبنتها الجهات الحكوميةالمختصة في أدارة هذا القطاع وغياب الدعم والمساعدة، والعراق يستورد أكثر من 75% من المنتجات الزراعية من أيران ثم تركيا ومصر والسعودية، يقدر مبالغ الأستيراد السنوية للعراق ب( 30 ) ملياردولار وهو رقمٌ خيالي بالنسبة لأية دولة نامية.

مآلات الأ قتصاد العراقي بعد غياب التخطيط وعبثية نظام السوق

- أقتصاد أحادي ريعي في الأعتماد على النفط بنسبة96%، يعتبر العراق دولة ريعية منذ تأسيسه في عشرينات القرن الماضي وقد تبدوكلمة الريعية تبشر بالنماء والأزدهار ولكنهُا (مسكناً) مؤقتاً في تلبية الحكومة لمتطلبات الناس بسهولة، فغياب التخطيط الأستراتيجي بعدم أمتلاك الدولة للخطط الأقتصادية المستقبلية.

– قلة الخبرة وراس المال والكفاءة وخاصة في القطاع الزراعي.

- الأرث الثقيل من المسؤوليات المستلمة من النظام الشمولي السابق من مغامرات القائد الرمز الذي أوقع العراق تحت البند السابع لأجتاحه الكويت ودفع المبالغ المليارية التعويضية لها.

- أرتفاع مؤشرات التضخّمْ النقدي بسبب الكساد الأقتصادي وأنتشار البطالة وأرتفاع نسبة المديونية مع مظاهر الفساد الأداري والمالي.

– التلاعب بمصير الأحتياطي النقدي وكميات الذهب ومزاد العملة وتبييض الأموال والتي هربت أكثر من 480 مليار دولار منذ2003 لحد الآن.

- عدم خضوع جميع المنتجات المستوردة إلى ضوابط ضريبية وكمركية.

 - قلة مساهمة القطاعين  الصناعي والزراعي في الأقتصاد العراقي الحاضر والمستقبل حيث تكون مساهمة الصناعة 1% والزراعة 3%.

- ضعف العامل الأستثماري في عموم البلاد، وفوبيا رأس المال في أقتحام هذا المجال وهو المعروف أصلاً بأنهُ جبان.

- مفهوم الأغراق هو أدخال السلع الأجنبية بسعرٍ أقلْ من سعر تكلفتها أو بأقل من سعر البضائع الوطنية، وأن الأغراق سلوك تجاري غير عادل، ربما يرقى إلى عمل تخريبي مقصود، ويمكن عرض بعض التداعيات المدمرة والمؤثرة على الأقتصاد العراقي

- وصلتْ نسبة سياسة الأغراق في السوق العراقية إلى 95% وشملت آثارها السلبية إلى القطاع الخاص والعام على السواء حيث اصيبت الصناعات العراقية بالشلل التام جراء الأغراق المتعسف أضافة ألى أنها دفعت فاتورات عالية لشراء الوقود ودفع الضرائب العالية وأرتفاع الأيجارات وأجور الأيدي العاملة، وأزدياد عدد العاطلين وأرتفاع نسبة الفقر.

- أنخفاض موجودات النقد الأجنبي الذي هو غطاء للعملة المحلية.

- تعرض السوق المصرفي إلى فوضى أستيرادية تأثيراتها مباشرة للنظام السياسي والأقتصادي والزراعي المحلي.

-أضطراب الميزانية العامة وتأثيرها المباشر على الخطط المستقبلية لأقتصاد الدولة.

- أن الدولة الريعية تبقى رهينة الريع الطبيعي وتختفي فيها الأنشطة الأقتصادية المساهمة في مداخيل الميزانية، وعدم حدوث أي توسع في القاعدة الأنتاجية للأقتصاد عن طريق التصنيع والتنويع في مصادر الدخل، وشلْ قدرات الدولة المسؤولة اصلاً عن ضخ المبالغ الكبيرة من رأس المال وتدويرها بالأقتصاد الوطني وأعطاء الأنطباع بالرفاه والأزدهارالأقتصادي.

- وكذلك من عيوب الأقتصاد الريعي تمتلك الدولة فوائض كبيرة من رأس المال تحاول بالبيروقراطية الأقتصادية أن تجعل أساليب الأنفاق العام تحت هذه الظروف الملتوية وبالتالي تؤدي ألى نتائج عكسية تعوّق عملية تقدم وتطوّرْ النظام الأقتصادي والأجتماعي. – وكارثة الأقتصاد الريعي تضخ الأموال الطائلة وتستعملها الحكومة كمخدر وأمتصاص النقمة وعدم الرضا بينما في الوجه الآخر تؤدي إلى تشجيع الأستيراد وطرد العملة الصعبة التي حصلوا عليها من النفط.

- تعرض الدولة النفطية الريعية إلى أضطرابات أقتصادية ما دامت لها أرتيباط مع السوق العالمية، وخير مثال هبوط سعر البرميل من النفط الخام من 110 دولار ألى أقل من خمسين دولار.

- الريع لا ينحسر أثره على المجالات الأقتصادية والأجتماعية والتجارية بل تشمل أخلاقيات العمل في أنتشار الأتكالية وتضخّمْ الجهاز الأداري البيروقراطي، وعلى الأغلب تنشأ حكومات دكتاتورية وراثية كما هو الحال في دول الخليج للسيطرة الأسرية على هذه الثروة.

- حول المزارعون أراضيهم إلى مشاريع أخرى حين لم يجدو حلاً فمنهم من حوّلها إلى مخازن وورش تصليح السيارات وآخرين عملوا على تقطيعها وتحويلها إلى أراضي سكنية بواقع 50 م أو 100م وهي العشوائية بشحمها ولحمها للأسف الشديد.

لماذا هذه الخيبات والنكسات؟! ما أسبابها ؟

 - موازنات أنفجارية وعجز غير مبرر، أقرها مجلس النواب العراقي في شهر مايس 2024  أضخم موازنة أنفجارية غير مسبوقة الأضخم في تأريخ البلاد ( 153 ملياردولار أمريكي) بعجز 64 ترليون دينار عراقي، هناك حكمة أقتصادية تقول ليس بضخامة الموارد المالية لبناء الأوطان بل بالوضع الموضوعي السوي والمقبول لأصحاب القرار السياسي بالأشخاص الكفوئين في أستحقاقات مواقع المسؤولية ثم إن الموازنة هي التخطيط للأستخدام الأمثل للطاقات المادية واليشرية وتنمية أكبر قدرة من الموارد عن طريق العمل في تخطيطها وأستخدامها لفترات مالية مقبلة وهي بذلك تحقق هدفين هما ( التخطيط والرقابة ) وهي تلبية وطنية ضرورية لأستحقاقات واجبة التنفيذ عبر متطلبات أعمار البلد وهذا ما يعني حول الموازنة ، أما الميزانية تعني توضيح المركز المالي للمشروع وعلاقتها بالحسابات الختامية للسنة السابقة (الدكتور رائد فهمي – ملاحظات الحزب الشيوعي العراقي في أقرار موازنة 2024).

- سياسة السوق المفتوحة أدتْ إلى أغراق العراق بسلعٍ رخيصة مبتذلة لا يراعى فيها عامل الجودة ولا الأكسباير، حتى بعض الأحيان غير صالحة للأستهلاك البشري، وأتباع المستهلك هوساً شرائياً  كانت البضاعة عراقية أم أجنبيةً لربما يرجع إلى أرتفاع الدخل والأنعاش الأقتصادي النسبي والمؤقت .

- ودخل العراق في النفق المظلم للعولمة الحداثوية ولم يتجاوز بعد 2003 النظام الريعي في الأعتماد على النفط الخام المعرض دوما إلى تذبذب الأسعار وتعرضه لهجمات أرهابية وسيطرة الأحزاب السياسية على واردات منافذ الحدود والمطارات، إضافة إلى الفساد الأداري والمالي المستشري في مفاصل الدولة العميقة مما أثقل الأقتصاد العراقي بالديون الداخلية والخارجية، مما أضطر العراق إلى اللجوء لصندوق النقد الدولي أو ما أسميه الصندوق الأسود مجازاً الذي جعل أرتهان أجيال المستقبل لديون ثقيلة فاتورتها عجز مالي يقدربأكثرمن 64 ترليون دينار عراقي، وهنا تسكب العبرات حين يأتي ذكرصندوق النقد الدولي الذي يعتبر ذراع الرأسمالية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في وضع الدول الغارقة في الأزمات المالية في مصيدة هذا الصندوق الأسود، وأجزم بأن منظمة IMF هي أشرس المؤسسات الأقتصادية العالمية التي تتقاطع مع تطبيق السياسات اللبرالية الجديدة بأستغلاله خيبات الدول ا لعاثرة بازمات أقتصادية ليقرضها أموالا للأنقاذ كما حدثت مع زامبيا في 2002 القرض مقابل وضع التعريفة الكمركية على المواد الزراعية وأغراق السوق بالمواد والسلع الزراعية  المستوردة مما أدى إلى ترك الزراعة والهجرة والبطالة  والفقر، وحدثت مع الأرجنتين القرض مقابل ترسيمة كمركية على القمح مما أدى إلى أتجاه الفلاحين لزراعة المخدرات  بدل القمح (كتاب الأغتيال الأقتصادي للأمم لجون ديكنز)، وهذا ما يعني أستغلال الصندوق مرور الدول بأزمات مالية ليقرضها أموالا للأقراض مقابل أملاءات.

- أقتصاد أحادي ريعي في الأعتماد على النفط بنسبة96%، يعتبر العراق دولة ريعية منذ تأسيسه في عشربنات القرن الماضي وقد تبدوكلمة الريعية تبشر بالنماء والأزدهار ولكنهُا مسكناً مؤقتاً في تلبية الحكومة لمتطلبات الناس بسهولة، فغياب التخطيط الأستراتيجي بعدم أمتلاك الدولة للخطط الأقتصادية المستقبلية.

المخرجات الكارثية السياسية للأغراق التجاري غثاثة سياسية ومخاض عسير للتغيير!

مفهوم الأغراق هو أدخال السلع الأجنبية بسعرٍ أقلْ من سعر تكلفتها أو بأقل من سعر البضائع الوطنية، وأن الأغراق سلوك تجاري غير عادل، ربما يرقى إلى عمل تخريبي مقصود، ويمكن عرض بعض التداعيات المدمر والمؤثرة على الأقتصاد العراقي:

- وصلتْ نسبة سياسة الأغراق في السوق العراقية إلى 95% وشملت آثارها السلبية إلى القطاع الخاص والعام على السواء حيث حيث اصيبت الصناعات العراقية بالشلل التام جراء الأغراق المتعسف أضافة ألى أنها دفعت فاتورات عالية لشراء الوقود ودفع الضرائب العالية وأرتفاع الأيجارات وأجور الأيدي العاملة، وأزدياد عدد العاطلين وأرتفاع نسبة الفقر.

- أنخفاض موجودات النقد الأجنبي الذي هو غطاء للعملة المحلية.

- تعرض السوق المصرفي إلى فوضى أستيرادية تأثيراتها مباشرة للنظام السياسي والأقتصادي والزراعي المحلي.

- اضطراب الميزانية العامة وتأثيرها المباشر على الخطط المستقبلية لأقتصاد الدولة.

- أن الدولة الريعية تبقى رهينة الريع الطبيعي وتختفي فيها الأنشطة الأقتصادية المساهمة في مداخيل الميزانية، وعدم حدوث أي توسع في القاعدة الأنتاجية للأقتصاد عن طريق التصنيع والتنويع في مصادر الدخل، وشلْ قدرات الدولة المسؤولة اصلاً عن ضخ المبالغ الكبيرة من رأس المال وتدويرها بالأقتصاد الوطني وأعطاء الأنطباع بالرفاه والأزدهارالأقتصادي.

- وكذلك من عيوب الأقتصاد الريعي تمتلك الدولة فوائض كبيرة من رأس المال تحاول بالبيروقراطية الأقتصادية أن تجعل أساليب الأنفاق العام تحت هذه الظروف الملتوية وبالتالي تؤدي ألى نتائج عكسية تعوّق عملية تقدم وتطوّرْ النظام الأقتصادي والأجتماعي. – وكارثة الأقتصاد الريعي تضخ الأموال الطائلة وتستعملها الحكومة كمخدر وأمتصاص النقمة وعدم الرضا بينما في الوجه الآخر تؤدي إلى تشجيع الأستيراد وطرد العملة الصعبة التي حصلوا عليها من النفط.- تعرض الدولة النفطية الريعية إلى أضطرابات أقتصادية ما دامت لها أرتيباط مع السوق العالمية، وخير مثال هبوط سعر البرميل من النفط الخام من 110 دولار ألى أقل من خمسين دولار.

- الريع لا ينحسر أثره على المجالات الأقتصادية والأجتماعية والتجارية بل تشمل أخلاقيات العمل في أنتشار الأتكالية وتضخّمْ الجهاز الأداري البيروقراطي، وعلى الأغلب تنشأ حكومات دكتاتورية وراثية كما هو الحال في دول الخليج للسيطرة الأسرية على هذه الثروة.

- حول المزارعون أراضيهم إلى مشاريع أخرى حين لم يجدو حلاً فمنهم من حوّلها إلى مخازن وورش تصليح السيارات وآخرين عملوا على تقطيعها وتحويلها إلى أراضي سكنية.

- سياسة السوق المفتوح أدى إلى أغراق العراق بسلعٍ رخيصة مبتذلة لا يراعى فيها عامل الجودة ولا الأكسباير، حتى بعض الأحيان غير صالحة للأستهلاك البشري، والطامة الكبرى من أن تكون مسرطنة وملوّثة بالأشعاع --- طالما يفتقد المستهلك ثقافة السوق وأتباعهِ هوساً شرائياً  كانت البضاعة عراقية ام أجنبيةً لربما يرجع إلى أرتفاع الدخل والأنعاش الأقتصادي لديه.

- تردي الوضع الأمني في حماية المستثمر ورجال الأعمال والمقاولين من الأبتزاز والخطف والفدية.

- الأقتصاد الأحادي الريعي بالأعتماد على النفط بنسبة 96%.

- تضرر قطاع الزراعة بشكلٍ كبير وواسع بسبب أعتماد البلاد على أغراق السوق المحلية بالمنتوج الأجنبي من الخضروات والفواكه، وأن العراق يستورد أكثر من 75% من تلك المنتجات الزراعية من أيران وتركيا ومصر تكلف الخزينة العراقية أكثر من 24 مليار دولار سنوياً، فهذه السياسة الأقتصادية العوجاء حوّلتْ البلد من نافذة لبيع منتوجها الزراعي المحلي الوطني إلى منافذ لبيع المنتجات الزراعية المستوردة، مما أضطر الكثير من المزارعين بيع أراضيهم في ظل غياب الدعم الحكومي للقطاع الزراعي، فآلاف الدونمات التي كانت مخصصة لزراعة الرقي والبطيخ والطماطة والخيار منذُ عشرات السنين لم تعدْ منتجة اليوم وغير قادرة على منافسة المنتوج المستورد.

– توقف الدعم الحكومي للفلاح بعد 2003 وهو بحاجة ماسّةٍ لوسائل تحسين المنتج الزراعي من بذور محسّنة وأسمدة ومكننة الزراعة وأصلاح التربة وشق قنوات البزل لتصريف ملوحة الأرض، ولم تستفد الحكومات من فقرات الدسنتور العراقي 2005 الذي رسم هيكل الشكل الأقتصادي العراقي وفق العولمة الحداثوية، ومع كل الآسف أنّهُ نظام تخبط عشوائي لا هو أشتراكي ولا هو رأسمالي، وقدرهُ أن يقع تحت تأثير التغييرات الداخلية والأقليمية والدولية.

– الحروب الداعشية منذ 2014 ولحد الآن والعراق يستنزف مادياً وبشرياً.

- فتح الحدود العراقية على مصراعيها أمام طوفان البضائع الأجنبية مما أدى إلى أغلاق أبواب المصانع العراقية والتي أدت إلى تفاقم أنتشار البطالة والفقر.

- أتخام السوق العراقية بالبضاعة الأجنبية ومنتجاتها وفي ظل غياب آليات حماية الصناعة المحلية وتخلف تقنيات الأنتاج، وعدم فرض قانون (التعريفة الكمركية) على البضائع المستوردة، وتخلي الكثير من المزارعين عن أستصلاح أراضيهم، أضافة إلى عامل التصحّرْ الذي غطى مساحاتٍ شاسعة من الأراضي الزراعية.

- غياب الطاقة الكهربائية الكافية للتشغيل، وأنحسار الأمن وخاصة في أطراف المدن حيث وجود الصناعة، مع قلة الخبرات اللآزمة للنهوض وغياب مشاريع البناء والأعمارحالتْ دون تطوير المنتج العراقي.

المعالجة

- تفعيل دور القطاعات الزراعية وبث الروح في الصناعات المتوقفة خاصة التي تعتمد على المواد الأولية للأنتاج والتصديركالقطن والتمور وقصب السكر.

– معالجة الوضع الأمني ومحاربة الفساد الأداري والمالي.

– توسيع وتشجيغ فقرة الأستثمار وفتح المجال امام القطاع الخاص بالمشاركة الفعلية في عملية النهوض التنموي بشرط أزالة البيروقراطية والروتين الممل.

– تفعيل دور الجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية ووضعها تحت المراقبة في تدقيق المواصفات العالمية على البضائع المستوردة.

– ضبط المنافذ الحدودية وتفعيل القوانين العقابية والتأديبية لأجتثاث الرشوة والأبتزاز والفساد ألداري.- الحكومة مطالبة بمنع أستيراد الخضروات، وألزام جميع المنافذ الحدودية – بما فيها منافذ الأقليم لهذا القرار حماية المنتج المحلي وتشجيع المزارع على الأستمرار بمهنة الزراعة.

– دفع مستحقات المنتجين فوراً وبدون مماطلة وتأخير لكي لا تفقد الحكومة ثقتها وهيبتها لدى الشعب العراقي ودعم الزراعة وتنمية الثروة الحيوانية وخلق مجالات تنافسية محلية والسيطرة على السوق والأسعار.

– غزو المنتجات الزراعية المستوردة للبلاد وبهذا الشكل المخيف اجبر عدد كبير من المزارعين مغادرة المهنة وكذلك  بسبب السياسات الخاطئة التي تبنتها الحكومة المركزية المختصة في أدارة هذا القطاع وغياب الدعم والمساعدة خصوصاً بعد 2003 .

– ايقاف هذا المد التجاري المستورد بواسطة تفعيل القوانين الضريبية والكمركية لغرض حماية المنتوج المحلي، وأعفاء القطاع الخاص من الرسوم الكمركية على المواد الأولية التي تدخل في التصنيع.

– وكان لأصدار (اجازة أستيراد) عملاً رائعاً من غرف التجارة والمطلوب ألزام التجار جميعاً بأقتناءه والعمل به عند التصدير والأستيراد ونشره بشكلٍ واسع والأهتمام به أعلامياً.

- أنشاء مراكز التدريب والتأهيل المهني المستمر وشمول تدريب الأيدي العاملة العراقية وزيادة مهاراتها.- وأعتماد خطة بعيدة المدى للنهوض بأقتصادنا الوطني عموماً وتخليصه من الأحادية.- تحريم الغش الصناعي وفرض العقوبات الرادعة لمن يلجأ أليها.

- نشر ثقافة العمل بأحترامه وتقديسه. – وضع حد لسياسة أغراق السوق المحلية بالمنتوجات الأجنبية ---- وأخيراً حبذا لو نأخذ بنماذج دولية نجحت في مجال التصدير الزراعي والصناعي والغذائي وتنويع مصادر الدخل ودعم أنتاجنا الوطني.

***

كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد

تموز2024

.........................

المصادر والهوامش

-د/أبراهيم كبه – نظرية التجارة الدولية 1953/ 

- كارل ماكس-نقد الأقتصاد السياسي- ترجمة أنطون حمصي 1970

د/أبراهيم كبه-النفط والأزمة العالمية 1956

د- سمير شعبان – جريمة تبييض الأموال 2016

- ميزان المدفوعات – وزارة المالية العراقية

- نظرية كينز أقتباس بتصرف.

الدرجات الفخرية هي الاعتراف المرموق في التعليم العالي، مخصصة للأفراد البارزين ذوي السمعة الوطنية أو الدولية. عادةً ما يكون المتلقون هم كبار العلماء والمكتشفين والمخترعين والمؤلفين والفنانين والموسيقيين ورجال الأعمال والناشطين الاجتماعيين والقادة في السياسة أو الحكومة. في بعض الأحيان، يتم منح الدرجات الفخرية للأشخاص الذين قدموا خدمة مدى الحياة للجامعة من خلال عضوية مجلس الإدارة، أو العمل التطوعي، أو المساهمات المالية الكبيرة. وهي معروفة أيضاً بالعبارات اللاتينية Honoris Causa الدرجة عادة ما تكون درجة الدكتوراه، أو درجة الماجستير بصورة أقل شيوعاً.

إذن الدكتوراه الفخرية هي درجة اسمية تكريمية وتشريفية، وليست مرتبة علمية أو أكاديمية، ولا تحمل معها أي مؤهل أكاديمي رسمي. على هذا النحو، من المتوقع دائماً أن يتم إدراج هذه الدرجات العلمية في السيرة الذاتية للفرد كجائزة، وليس في قسم التعليم. وفيما يتعلق باستخدام هذا اللقب التشريفي، فإن سياسات مؤسسات التعليم العالي تطلب بشكل عام من الحاصلين عليه "الامتناع عن اعتماد اللقب المضلل" وأن الحاصل على الدكتوراه الفخرية يجب أن يقيد استخدام لقب "الدكتور" قبل اسمهم حصراً مع مؤسسة التعليم العالي المعنية وليس خارجها.

تسلط شهادات الدكتوراه الفخرية الضوء على أسئلة غير مريحة، ولكنها مهمة حول غرض الجامعة ودورها في تعزيز البحث العلمي، وفي المجتمع الأوسع. اتُهمت بعض الجامعات والكليات بمنح درجات فخرية مقابل تبرعات كبيرة. يتعرض الحاصلون على الدرجة الفخرية، وخاصة أولئك الذين ليس لديهم مؤهلات أكاديمية سابقة، للانتقاد في بعض الأحيان إذا أصروا على أن يطلق عليهم لقب "دكتور" نتيجة لمنحتهم، لأن التكريم قد يضلل عامة الناس بشأن مؤهلاتهم.

الأصل التاريخي

تعود هذه الممارسة إلى العصور الوسطى، عندما يتم إقناع الجامعة، لأسباب مختلفة ـ أو تراها الجامعة مناسبة ـ بمنح الإعفاء من بعض أو كل المتطلبات القانونية المعتادة لمنح الدرجة العلمية.

لقد تم استخدام الدكتوراه الفخرية منذ فترة طويلة لتعزيز العلاقات المفيدة مع الأفراد أو البلدان أو المنظمات. منحت جامعة أكسفورد أول دكتوراه فخرية مسجلة في حوالي عام 1478 إلى "ليونيل وودفيل" Lionel Woodville صهر ملك إنجلترا "إدوارد الرابع"  Edward IV في محاولة واضحة "للحصول على تأييد رجل يتمتع بنفوذ كبير، وأصبح فيما بعد أسقف "سالزبوري" Salisbury.

في أواخر القرن السادس عشر، أصبح منح الدرجات الفخرية أمراً شائعاً جداً، خاصة بمناسبة الزيارات الملكية إلى أكسفورد أو كامبريدج. في زيارة "جيمس الأول" James I إلى أكسفورد عام 1605، على سبيل المثال، حصل ثلاثة وأربعون عضواً من حاشيته (خمسة عشر منهم من الإيرل earls أو البارونات barons ) على درجة الماجستير في الآداب، وينص سجل الدعوة صراحة على أن هذه كانت درجات كاملة تحمل الامتيازات المعتادة (مثل حقوق التصويت في الدعوة والتجمع).

في الولايات المتحدة، مُنحت درجة الدكتوراه في الفلسفة لأول مرة كدرجة فخرية في "جامعة باكنيل" Bucknell University في عام 1852؛ لم تمنح أي جامعة أمريكية درجة الدكتوراه المكتسبة حتى عام 1861. حيث إن "جامعة ييل" Yale University هي أول من فعل ذلك. منحت أكثر من مئة مؤسسة في الولايات المتحدة درجة الدكتوراه الفخرية، ودرجات علمية أخرى في القرن التاسع عشر، إلى أكثر من سبعمائة مستلم. ومع ذلك، فإن ممارسة منح الدكتوراه. باعتبارها درجة فخرية أثارت إدانة من منظمات مثل "الجمعية الأمريكية لعلم اللغة" American Philological Association و"الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم" American Association for the Advancement of Science، كما منع مجلس أمناء جامعة ولاية نيويورك في عام 1897 أي جامعة في الولاية من منح درجة الدكتوراه الفخرية. انخفضت الدرجات العلمية التشريفية الممنوحة في الولايات المتحدة في القرن العشرين، ولم تجد الدراسات الاستقصائية التي أجراها مكتب التعليم بالولايات المتحدة أي منها ممنوحة في عام 1940 أو في السنوات اللاحقة. أحد آخر الحاصلين على درجة الدكتوراه الفخرية. كان المغني الأمريكي "بنج كروسبي" Bing Crosby من "جامعة غونزاغا"  Gonzaga University في عام 1937.

بحلول عام 2001، بدأت حوالي 21 ولاية أمريكية في السماح للمدارس العامة بمنح شهادات الثانوية الفخرية للمحاربين القدامى العسكريين في إطار برنامج يسمى "عملية الاعتراف" Operation Recognition. في ولاية أوهايو، لم يكن من الواضح ما إذا كانت المدارس العامة لديها السلطة القانونية لمنحها حتى 12 يوليو 2001، عندما وقع الحاكم "بوب تافت" Bob Taft على مشروع قانون يسمح لمناطق المدارس العامة بمنحها للمحاربين القدامى الذين تم تسريحهم بشرف من الحرب العالمية الثانية. ويعتقد أن مدرسة "لاكوتا الشرقية" Lakota East High School الثانوية قد منحت أول شهادات من هذا النوع لمجموعة من 20 من قدامى المحاربين في مايو من ذلك العام.

الاستخدام الحديث

ترغب بعض الجامعات أن تربط نفسها بأفراد استثنائيين من خلال منح درجات الدكتوراه الفخرية، ولكن هذه الممارسة كثيراً ما اجتذبت الجدل، الأمر الذي أدى إلى خلق صداع لمديري الجامعات.

في حين أنشأت بعض الجامعات درجات فخرية منفصلة، مثل "دكتوراه الجامعة" University Doctorate في "جامعة جريفيث" Griffith University حافظت معظم الجامعات الأسترالية على النظام التقليدي الذي يمكن من خلاله منح مجموعة من الدرجات الفخرية. وهذا يعني عدم الحصول على أي درجة علمية فعلياً، ولكن المرشح يحصل على التمييز بالاسم على أي حال.

تُمنح الدرجات الفخرية عادةً في احتفالات التخرج العادية، حيث يُدعى المتلقون غالبًا لإلقاء خطاب قبول أمام أعضاء هيئة التدريس والخريجين المجتمعين - وهو الحدث الذي غالباً ما يشكل أبرز أحداث الحفل. بشكل عام، تقوم الجامعات بترشيح عدة أشخاص كل عام للحصول على درجات فخرية؛ وعادة ما تمر هذه الترشيحات عبر عدة لجان قبل الحصول على الموافقة. بصورة عامة لا يتم إخبار المرشحين إلا بعد الحصول على الموافقة الرسمية. غالباً ما يُعتقد أن النظام محاط بالسرية، ويُنظر إليه أحياناً على أنه سياسي ومثير للجدل. وفي بعض الأحيان تم منح بعض المنظمات شهادات الدكتوراه الفخرية.

لا تعتبر الدرجات الفخرية ذات نفس مكانة الدرجات الموضوعية المكتسبة من خلال العمليات الأكاديمية القياسية للدورات والأبحاث الأصلية، باستثناء إن أظهر المتلقي مستوى مناسباً من المنح الأكاديمية التي من شأنها عادةً أن تكون مُؤهله للحصول على درجة علمية.

تعتبر درجة ad eundem أو jure officii في بعض الأحيان فخرية، على الرغم من أنها تمنح فقط للفرد الذي حصل بالفعل على مؤهل مماثل في جامعة أخرى أو حصل على مكتب يتطلب المستوى المناسب من المنح الدراسية. في ظل ظروف معينة، يمكن منح درجة علمية للفرد من طبيعة المنصب الذي يشغله وإكمال الأطروحة. تعتبر " الأطروحة والوضع القانوني" dissertation et jure dignitatis بمثابة درجة أكاديمية كاملة.

على الرغم من أن درجات الدكتوراه العليا مثل دكتوراه في العلوم، ودكتوراه في الآداب، وما إلى ذلك غالباً ما تُمنح بصورة فخرية، إلا أنه في العديد من البلدان (لا سيما إنجلترا، واسكتلندا، وأيرلندا، وأستراليا، ونيوزيلندا) من الممكن رسمياً الحصول على مثل هذه الدرجة باعتبارها درجة علمية. يتضمن هذا عادةً تقديم مجموعة من الأبحاث التي يحكمها النظراء، والتي يتم إجراؤها عادةً على مدار عدد من السنوات، والتي قدمت مساهمة كبيرة في المجال الأكاديمي المعني. ثم تقوم الجامعة بتعيين لجنة من الممتحنين الذين سينظرون في الحالة ويعدون تقريراً يوصي بمنح الدرجة أم لا. عادة، يجب أن يكون لدى مقدم الطلب علاقة رسمية قوية بالجامعة المعنية، على سبيل المثال أن يكون من الطاقم الأكاديمي بدوام كامل، أو من الخريجين منذ عدة سنوات.

بعض الجامعات، التي تسعى للتمييز بين الدكتوراه الموضوعية والدكتوراه الفخرية، لديها درجة (often DUniv, or Doctor of the University) تُستخدم لهذه الأغراض، مع الاحتفاظ بدرجات الدكتوراه العليا الأخرى للمنح الدراسية الأكاديمية التي يتم فحصها رسمياً.

يتمتع رئيس أساقفة "كانتربري" Canterbury بسلطة منح الدرجات العلمية. يُعتقد أحياناً خطأً أن "درجات لامبث" Lambeth degrees فخرية؛ ومع ذلك، كان لدى رؤساء الأساقفة لعدة قرون السلطة القانونية (في الأصل كممثلين للبابا، والتي تم تأكيدها لاحقاً بموجب قانون هنري الثامن لعام 1533)، لمنح الدرجات العلمية والقيام بذلك بانتظام للأشخاص الذين اجتازوا الامتحان أو يعتبرون متفوقين واستوفوا المتطلبات المناسبة.

بين تكريم المشاهير والتقييم الرسمي لمجموعة من الأبحاث، تستخدم بعض الجامعات درجات فخرية للاعتراف بإنجازات الدقة الفكرية. لا تمنح بعض معاهد التعليم العالي درجات فخرية كسياسة عامة. تمنح بعض الجمعيات العلمية الزمالات الفخرية بنفس الطريقة التي تمنح بها الجامعات الشهادات الفخرية، وذلك لأسباب مماثلة.

الاستخدام العملي

ليس من المعتاد أن يعتمد الحاصلون على الدكتوراه الفخرية عبارة "دكتور" "Dr." يعتبر بشكل عام غير لائق أن يستخدم الحاصلون على الدكتوراه الفخرية اللقب الرسمي "دكتور" Doctor، بغض النظر عن الظروف الخلفية للجائزة. قد تتضمن الاتصالات الكتابية التي يتم فيها منح الدكتوراه الفخرية الحروف "h.c." بعد الجائزة للإشارة إلى تلك الحالة.

يمكن لمتلقي الدرجة الفخرية إضافة عنوان الدرجة بعد الاسم، ولكن يجب توضيح أن الدرجة فخرية بإضافة "فخرية" أو "فخرية سببية" أو "h.c." بين قوسين بعد عنوان الدرجة. في بعض البلدان، يجوز للشخص الحاصل على الدكتوراه الفخرية استخدام لقب "دكتور" اسمياً، والمختصر "Dr.h.c". أو "دكتور"، " "Dr.(h.c.). في بعض الأحيان، يستخدمون "Hon" قبل أحرف الدرجة العلمية، على سبيل المثال، "Hon DMus".

في السنوات الأخيرة، اعتمدت بعض الجامعات ألقاباً منفصلة تماماً للدرجات الفخرية. ويرجع ذلك جزئياً إلى الارتباك الذي أحدثته الدرجات الفخرية. على سبيل المثال، تأخذ الدكتوراه الفخرية من "جامعة أوكلاند للتكنولوجيا" Auckland University of Technology اللقب الخاص HonD لأنه من الشائع الآن في بعض البلدان استخدام درجات معينة، مثل LLD أو HonD، على أنها فخرية بحتة.

بعض الجامعات، بما في ذلك الجامعة المفتوحة، تمنح درجة الدكتوراه في الجامعة (DUniv) لمرشحين مختارين، مع منح درجات الدكتوراه أو EdD لأولئك الذين استوفوا المتطلبات الأكاديمية.

تمنح معظم الجامعات الأمريكية درجات LLD (دكتوراه في القانون)، وLittD (دكتوراه في الآداب)، وLHD (دكتوراه في الآداب الإنسانية)، وScD (دكتوراه في العلوم)، وPedD (دكتوراه في علم أصول التدريس)، وDD (دكتوراه). اللاهوت) فقط كدرجات فخرية. ولا تمتلك الجامعات الأمريكية نظام "الدكتوراه العليا" المتبع في المملكة المتحدة وبعض الجامعات الأخرى حول العالم.

يوجد لدى بعض الجامعات والكليات تقليد منح درجة الماجستير لكل عالم يتم تعيينه كأستاذ كامل، ولم يحصل على درجة هناك من قبل. في جامعات "أكسفورد" Oxford و"دبلن" Dublin و"كامبريدج" Cambridge يُمنح العديد من كبار الموظفين درجة الماجستير في الآداب بعد ثلاث سنوات من الخدمة، وفي كلية "أمهرست" Amherst يُمنح جميع الأساتذة الدائمين درجة الماجستير في الآداب بدرجة أكاديمية.  على الرغم من أن المدرسة تقدم فقط درجة البكالوريوس في الآداب المكتسبة (تمنح أمهيرست الدكتوراه الفخرية عند التخرج في الربيع للعلماء البارزين وغيرهم من المدعوين الخاصين). كما تمنح جامعات مثل جامعة "براون" Brown و"جامعة بنسلفانيا" Pennsylvania وجامعة "هارفارد" Harvard أعضاء هيئة التدريس الدائمين، الذين ليس لديهم شهادة من مدارسهم، AM ad eundem.

يتم الحصول على هذه الدرجات ad eundem أو jure officii وهي وليست فخرية، لأنها تعترف بالتعلم الرسمي.

وبالمثل، تُمنح درجة "الكرامة" dignitatis degree للشخص الذي أظهر مكانة مرموقة وعلمية من خلال تعيينه في مكتب معين. وهكذا، على سبيل المثال، يمكن منح DD (دكتور في اللاهوت) للأسقف بمناسبة تكريسه، أو أن ينشئ القاضي LLD (دكتوراه) أو DCL (دكتور في القانون المدني) عند تعيينه في منصب قضائي مقعد. وتعتبر هذه أيضاً درجات موضوعية وليست فخرية.

المؤسسات التي لا تمنح الدرجات الفخرية

بعض الجامعات الأمريكية لا تمنح درجات فخرية كمسألة سياسية، مثل معهد "ماساتشوستس للتكنولوجيا" Massachusetts Institute of Technology (MIT)، و"جامعة كورنيل" Cornell University، و"جامعة ستانفورد،" Stanford University، و"جامعة رايس" Rice University. ربما كانت "جامعة فيرجينيا" University of Virginiaالتي تأسست عام 1819 أول جامعة أمريكية لديها سياسة صريحة بعدم منح درجات فخرية بناءً على طلب مؤسسها، "توماس جيفرسون" Thomas Jefferson.

في عام 1845 دافع "ويليام بارتون روجرز"، William Barton Rogers رئيس هيئة التدريس آنذاك، بقوة عن هذه السياسة. وفي عام 1861، أسس معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في بوسطن واستمر في هذه الممارسة. تمنح جامعة فرجينيا سنوياً أوسمة توماس جيفرسون في الهندسة المعمارية والقانون، كأعلى درجات التكريم التي تمنحها تلك المؤسسة.

تمنح رابطة خريجي جامعة ستانفورد أحياناً درجة الرجل/المرأة غير المألوف، للأفراد الذين قدموا "خدمة نادرة واستثنائية" للجامعة. على الرغم من أن "جامعة كاليفورنيا" UCLA فرضت حظراً على منح الدرجات الفخرية، إلا أنها تكرم الأشخاص البارزين بميدالية جامعة كاليفورنيا بدلاً من ذلك. لم تمنح كلية "سانت جون" St. John's College درجات فخرية منذ عام 1936، لكن رابطة خريجيها تقدم أحياناً عضوية فخرية لأعضاء هيئة التدريس والموظفين المتقاعدين وغيرهم من المقربين من الكلية.

الجدل

في أغسطس 1962، رفضت الجامعة الوطنية الأسترالية منح درجة فخرية للملك "بوميبول" Bhumibol ملك تايلاند، بسبب افتقاره إلى المؤهلات الأكاديمية. وقد خلق هذا إحراجاً دبلوماسياً للحكومة الأسترالية في سياق زيارة ملكية وشيكة. تدخلت "جامعة ملبورن" University of Melbourne في هذا الانتهاك لتمنح بوميبول درجة الدكتوراه الفخرية في القانون في سبتمبر 1962، وهو الأمر الذي اعتبرته الأوساط الجامعية أمراً سيئاً.

في عام 1985 وكرفض متعمد، صوتت جامعة أكسفورد على رفض منح رئيسة الوزراء البريطانية السابقة "مارغريت تاتشر" Margaret Thatcher درجة فخرية احتجاجاً على تخفيضاتها في تمويل التعليم العالي. سبق أن مُنحت هذه الجائزة لجميع رؤساء الوزراء الذين تلقوا تعليمهم في أكسفورد.

أثارت كلية الفلسفة في كامبريدج جدلاً بين المجتمع الأكاديمي في مارس 1992، عندما استخدم ثلاثة من أعضائها حق النقض المؤقت ضد منح الدكتوراه الفخرية للفيلسوف الفرنسي "جاك دريدا" Jacques Derrida واحتجوا هم وغيرهم من أنصار الفلسفة التحليلية من خارج كامبريدج ضد المنح على أساس أن عمل دريدا "لم يتوافق مع المقاييس المقبولة للدقة الأكاديمية". على الرغم من أن الجامعة أقرت هذا الاقتراح في نهاية المطاف، إلا أن هذه الحادثة فعلت المزيد من أجل لفت الانتباه إلى الكراهية المستمرة بين الفلسفة التحليلية (التي تعد كلية كامبريدج من أبرز المدافعين عنها) والتقاليد الفلسفية القارية ما بعد الهيغلية (التي يرتبط بها عمل دريدا بشكل أوثق).

في عام 1996، منحت "كلية ساوثهامبتون "Southampton College في جامعة "لونغ آيلاند"  Long Island University (الآن حرم جامعة "ستوني بروك" Stony Brook University) درجة الدكتوراه الفخرية في الآداب البرمائية للضفدع "كيرميت"Kermit. على الرغم من أن بعض الطلاب اعترضوا على منح درجة علمية إلى دمية، إلا أن كيرميت ألقى خطاباً ممتعاً وحظيت الكلية الصغيرة بتغطية صحفية كبيرة. تم منح الدرجة تقديراً للجهود المبذولة في مجال حماية البيئة. وذكرت الجامعة: "أصبحت أغنيته الرئيسية "ليس من السهل أن تكون صديقًا للبيئة" It's Not Easy Bein' Green، صرخة حاشدة للحركة البيئية. وقد استخدم كيرميت شهرته لنشر رسائل إيجابية في إعلانات الخدمة العامة للاتحاد الوطني للحياة البرية، وخدمة المتنزهات الوطنية.

يمكن أن يؤدي منح درجة فخرية لشخصيات سياسية إلى احتجاجات من أعضاء هيئة التدريس أو الطلاب. في عام 2001، حصل الرئيس الأمريكي السابق "جورج دبليو بوش" George W Bush على درجة دكتوراة فخرية من جامعة "ييل" Yale University حيث حصل منها على درجة البكالوريوس في التاريخ عام 1968. واختار بعض الطلاب وأعضاء هيئة التدريس مقاطعة حفل التخرج الـ 300 للجامعة. اختار "أندرو كارد" Andrew Card الذي شغل منصب رئيس أركان بوش من عام 2001 إلى عام 2006، في نهاية المطاف عدم التحدث عندما منحته جامعة "ماساتشوستس أمهيرست" University of Massachusetts Amherst درجة دكتوراة فخرية في عام 2007، رداً على احتجاجات الطلاب وأعضاء هيئة التدريس في مراسم التخرج.

في عام 2005، في جامعة "ويسترن أونتاريو" University of Western Ontario تم منح "هنري مورجنتالر" Henry Morgentaler طبيب أمراض النساء المتورط في قضية قانونية تلغي تجريم الإجهاض في كندا (R. v. Morgentaler)، دكتوراه فخرية في القانون. تم الحصول على أكثر من 12000 توقيع لمطالبة UWO بإلغاء قرارها بتكريم مورجنتالر. تم تنظيم العديد من المسيرات الاحتجاجية، بما في ذلك واحدة في يوم منح الدرجة الفخرية (حصل التماس مضاد لدعم درجة مورجنتالر على 10000 توقيع)

في عام 2007، طالب المتظاهرون جامعة "إدنبره" University of Edinburgh بإلغاء الدرجة الفخرية الممنوحة للزعيم الزيمبابوي "روبرت موغابي" Robert Mugabe في عام 1984. وكشفت الجامعة في وقت لاحق عن خطط لمراجعة سياسة الشهادات الفخرية وتجريد بعض الشخصيات من درجاتهم الفخرية الذين لا يستحقونها.

عند النظر في إلغاء الدرجة الفخرية لشخصية سياسية، يتم أخذ أسباب مثل انتهاك حقوق الإنسان أو الفساد السياسي في الاعتبار. ونتيجة لذلك، أُعلن عن تجريد موغابي من درجته الفخرية. خططت الجامعة أيضاً لإجراءات اختيار أكثر صرامة فيما يتعلق بالمتلقين المحتملين للدرجات الفخرية، في محاولة لتصحيح الاتجاه المتمثل في منح الدرجات العلمية للمشاهير. كما طلب الطلاب في جامعة ماساتشوستس أمهرست من الجامعة إلغاء الدرجة الفخرية التي مُنحت لموغابي منذ أكثر من عشرين عاماً، وفي 12 يونيو 2008، ألغى الأمناء بالإجماع الدرجة الفخرية لروبرت موغابي. كما ألغت "جامعة ولاية ميشيغان" Michigan State University درجتها الفخرية.

في أبريل 2009، رفض رئيس جامعة ولاية "أريزونا" Arizona State University "مايكل كرو" Michael Crow منح درجة فخرية للرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما" Barack Obama بسبب افتقاره إلى الإنجازات المؤهلة الكافية. كما اندلع الجدل حول منح "جامعة نوتردام" University of Notre Dame لأوباما درجة فخرية، حيث إن المؤسسة التعليمية هي كاثوليكية رومانية، ويحمل أوباما آراء مؤيدة لحق الاختيار بشأن الإجهاض ويدعم أبحاث الخلايا الجذعية الجنينية.

في فبراير 2012، مُنحت "روسما منصور" Rosmah Mansor زوجة رئيس وزراء ماليزيا "نجيب رزاق" Najib Razak درجة الدكتوراه الفخرية بشكل مثير للجدل من "جامعة كيرتن" Curtin University عن "خدمات تعليم الطفولة". كرمت الجامعة روسما لتأسيسها وقيادتها مراكز "بيرماتا" Permata للطفولة المبكرة في ماليزيا على الرغم من أن بعض الخريجين والطلاب أكدوا أن المراكز الممولة من الحكومة هي "إساءة استخدام أموال دافعي الضرائب".

تم إلغاء أكثر من 50 درجة فخرية مُنحت لـلممثل الأمريكي الكوميدي الشهير "بيل كوسبي" بسبب ادعاءات ودعاوى قضائية تتعلق بالاعتداء الجنسي. وفي ديسمبر 2022 ألغت "كلية معهد شيكاغو للفنون" School of the Art Institute of Chicago درجة الدكتوراه الفخرية الممنوحة لمغني الراب "كاني ويست" Kanye West بعد سلسلة من التصريحات العنصرية والمعادية للسامية التي أدلى بها ويست.

القيود القانونية والأخلاقية على استخدام الدرجة الفخرية

إن حيازة الدكتوراه الفخرية لا يؤهل حاملها للعمل في مجال بدون تعليم رسمي في الطب أو الهندسة المعمارية أو اللاهوت، لا يمكن لحامل الدرجة الفخرية أن يعمل كطبيب أو مهندس معماري أو وزير. نظراً لأن معظم حاملي الشهادات الفخرية هم بالفعل متخصصون أو خبراء في مجال ما، فإن القليل منهم يستخدمون الدكتوراه الفخرية أكثر من مجرد جائزة.

وفقًا للاتفاقية، لا يستخدم الحاصلون على الدكتوراه الفخرية لقب "دكتور" "Dr" في المراسلات العامة. لا يتم التعامل مع الممنوحين للشهادات الفخرية لا شفهياً ولا كتابياً على أنهم "دكتور" من قبل المؤسسات الأكاديمية الأخرى - ولا تتم مخاطبتهم بشكل صحيح على أنهم "دكتور" في حياتهم المهنية/الشخصية. ويستمر التعامل معهم بطريقة ما قبل حصولهم على التكريم. على سبيل المثال، السيد/الآنسة/السيدة Mr./Ms./Mrs ومع ذلك، لا يتم دائماً مراعاة هذه الاتفاقية الاجتماعية بدقة.

يشعر العديد من الأكاديميين أنه من غير الأخلاقي أن يقدم حاملو الدكتوراه الفخرية أنفسهم كخبراء في مجال الشهادة، بالرغم من أن معظم حاملي الدكتوراه الفخرية حصلوا على أكثر من 20 عامًا من التعليم. يقولون إن حامل الشهادة الفخرية الذي ينوي تقديم نفسه كخبير في هذا المجال يلحق الضرر بمؤسسات التعليم العالي ويقلل من جهود أولئك الذين حصلوا على شهاداتهم.

أهم الأشخاص البارزين الذين استخدموا لقب الدكتوراة الفخرية في حياتهم العملية:

الكاتبة والشاعرة الأمريكية "مايا أنجيلو"  Maya Angelou، والممثل الكوميدي ومقدم البرامج الأمريكي "ستيفن كولبيرت" Stephen Colbert، ورجل الدولة الأمريكي "بنيامين فرانكلين" Benjamin Franklin، والسياسي والرئيس السابق للبيرو "آلان غارسيا" Alan García، والناقد الأدبي والمعجمي الإنجليزي "صموئيل جونسون" Samuel Johnson،  و"إدوين لان"د Edwin  Land العالم والمخترع الأمريكي الذي اخترع الكاميرا الفورية. و"ريتشارد ستالمان" Richard Stallman المبرمج الأمريكي، ومؤسس مؤسسة البرمجيات الحرة في مجال تكنولوجيا المعلومات. وكذلك "سوكارنو" Sukarno الزعيم الإندونيسي وأول رئيس لها.   و"جيريميا وولف" Jeremiah Wolfe ، أحد كبار السن المحترمين من الفرقة الشرقية لهنود الشيروكيCherokee Indians .

تقويض المعايير

كثيرا ما يقال إن توزيع الشهادات الفخرية "غير المكتسبة" يقلل من قيمة أعلى المؤهلات الأكاديمية في الجامعة. إن منح الدكتوراه الفخرية للمشاهير والسياسيين وخاصة الرياضيين، يميل إلى إثارة الدهشة وإثارة النكات المريرة من الأكاديميين حول الموعد الذي يجب أن يتوقعوا فيه الحصول على الميدالية الأولمبية الفخرية. إن مجرد حصول المرء على درجة الشرف لا يعني أن لديه مؤهلات للممارسة في المجال الذي حصل فيه على الدرجة. على سبيل المثال، إذا حصل على شهادة فخرية في القانون، فهذا لا يوفر له المؤهلات لممارسة القانون.

تم تسليط الضوء على نقص تمثيل المرأة بين الحاصلين على الشهادات الفخرية من خلال سياسات تكافؤ الفرص في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات. في عام 1995 اعترفت "جامعة موناش" Monash University بأنها منحت شهادات الدكتوراه الفخرية منذ عام 1964 لـ 122 رجلاً و13 امرأة فقط. وقد سعت مع جامعات أخرى، إلى تصحيح هذا الأمر، بهدف تحقيق التمثيل المتساوي بين الجنسين بين المستفيدين - وهو الهدف الذي لا يزال بعيداً عن التحقيق.

نلاحظ في السنوات طفرة بالعالم العربي بمنح شهادات الدكتوراة الفخرية من قبل العديد من الجهات والمواقع الثقافية، وبعض المنظمات التي تستخدم أسماء وعناوين "وازنة" بهدف إضفاء بعض المصداقية، بمنح شهادات الدكتوراة الفخرية بمقابل نقدي، حتى باتت مواقع التواصل الاجتماعي تزدحم بأصحاب تلك الشهادات الوهمية. المهزلة في أن يقوم من ليس له حق بمنح شهادات دكتوراة فخرية لمن لا يستحق. يدفع العديد من أجل اللقب على غرار ما يُمنح من ألقاب السفراء الفخريين وسفراء السلام وما شابه ذلك من ألقاب ودرجات لا تعكس في الحقيقة أي كفاءات، كما أنها لا تمنح الفرد أي امتيازات، ولا تؤهله للتعليم أو استخدامها في إكمال المسار الأكاديمي التعليمي، ولا يعتد بها في الملف الشخصي لحاملها، وهي شهادات للصالونات فقط.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

كلما إبتعدنا عن العلم تآكلنا وخارت قوانا، فعصرنا عصر العلم والإبداع، وعلينا أن نرى ذلك بوضوح وعزيمة جادة، فالحاجة أم الإختراع، وما إبتكرنا ما نحتاجه من أبسط الأشياء، وصار إعتمادنا على الآخرين بالمأكل والملبس، وكافة معطيات العصر التكنولوجية.

وأصبحت الدول القوية علميا تهيمن على وجودنا، والصين تستعمرنا إقتصاديا، والقوية عسكريا، ومَن يطعمنا يصادر إرادتنا، فتحولنا إلى عالة على غيرنا، وتوهمنا بأننا سننتصر على أعدائنا بالسلاح الذي إشتريناه منهم.

وما تخصصه أنظمة حكم دولنا للنشاطات العلمية نسبة ضئيلة، وتوفر بيئة طاردة للعقول العالمة والباحثة، فتهاجر إلى الديار الأخرى لتعبر عن طاقاتها فيها.

فإهمال التعليم والبحث العلمي والمختبرات وغيرها من متطلبات التواصل مع العصر الإبداعي الفياض، تسبب بتفاعلات سلبية أنهكت الحياة في دول الأمة، التي لا تعرف أنظمة حكمها سوى الإعتماد على السلاح المستورد، وما أنجزت به غير التناحرات والصراعات البينية الخاسرة.

أولا: الثقافة العلمية!!

الثقافة الحقيقية علمية، فهذا قرن الثقافة العلمية  والبحث العلمي والإبداع العلمي، وغيرها يأتي في درجات أخرى، فالقوة والإقتدار إبداع علمي، فالسيادة للعلم والقوة بالعلم، فعلينا أن نعزز الثقافة العلمية، ونحث الخطى بالإتجاه الذي سيقرر مصيرنا.

والإبداعات الأخرى لا تمنح القوة والقدرة على التحدي والحياة، فما قيمة الشعراء أمام عالم واحد يبدع ويخترع، ويأتي بأفكار قابلة للتحول إلى موجودات مادية فاعلة.

فعلينا أن نعيش في عصرنا ونتعلم قوانينه، ومعطياته المؤثرة بصناعة الواقع المستقبلي، لأنها مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الأجيال الحاضرة، التي من واجبها أن توفر الظروف المواتية لإطلاق طاقاتها المتوافدة إلى ميادين الجريان الحي.

وليس مقبولا أن نغفل أهمية التفاعل العلمي في الزمن المُعاصر، بل المطلوب إعطاء الأولوية لما هو علمي، للوصول إلى حلول وإستنتاجات نافعة للبناء الأرقى.

وعلى المسؤولين والقادة وعي أهمية العلم في تأمين الإرادة الوطنية، وتحفيز المواطنين على العطاء الأمثل النافع للجميع.

فالحياة بالعلم، وبدونه نعيش تداعيات مروعة ومدمرة للكينونة الحضارية، وممزقة للّحمة الوطنية، فلا شيئ يتقدم على العلم، ولا يكون بغير العلم، وإن الحياة تتنور بالتفكير العلمي، وبأبحاث العلماء الجادين القادرين على الإمساك بالحلول الناجعة للمشاكل والتحديات القائمة في أوطاننا، المُبتلاة بالذين ينكرون العلم.

فهل لنا أن نعلن ثورتنا العلمية، ونتعلم، ونرفع رايات العلم؟!

ولن نكون إذا بقي العلم بلا دور في حياتنا!!

ثانيا: الأمية العلمية!!

المستقبل علمي صناعي، والمجتمعات القوية تهتم بالبحث العلمي والإبتكارات التصنيعية، فالعالم يسير على سكة معبّدة بالعلوم، والدول المتقدمة تخصص ميزانيات ضخمة للنشاطات العلمية.

ويمكن تقدير القوة العلمية لأي بلد من براءات الإختراعات الممنوحة فيه، ومن الواضح أن دولنا تأتي في آخر القائمة، لأن الأمية العلمية تعصف بأرجائها ، فتمحنت بالمشاكل وعجزت عن حلول ذات قيمة عملية، وأصبحت تتوسل بالدول الطامعة فيها لحل مشاكلها، وتتناسى بأنها تحقق مصالحها بواسطتها.

فالدول القائدة للعالم هي الفائزة بأكثر براءات الإختراعات، وقد إنطلقت دول آسيا الشرقية في الربع الأخير من القرن العشرين نحو التأسيس لمراكز للبحوث العلمية، وحشدت الجهود لبناء القاعدة العلمية اللازمة لتقوية  الحياة وتطويرها، وأكثرها نجحت وإنطلقت في مسارات أوصلتها إلى مصاف الدول المتقدمة، فبرعت بالصناعات المؤثرة في الحياة المعاصرة.

ودول الأمة متمحنة بالمعضلات، لأنها تناست العلم وأنكرته، وأشاعت الجهل ورسخت الأمية الشاملة، حتى أن مناهج تعليمها بدت خارج العصر، لإندحارها في موضوعات بائسة وتصورات سوداوية ظالمة.

وصارت أدمغة مجتمعاتها محشورة في زوايا حادة، ومؤججة بأضاليل وأوهام وعواطف سلبية خانقة تدفع للإنتقام والإنهزام، فغاب العلم وتسيَّد الجهل والإحتران.

فالمطلب الشافي يتمثل بالإنطلاق في دروب العلم، والإهتمام بمناهجه وبمراكزه البحثية، وتشجيع إرادة الإبتكار والإختراع، وحث الشباب على الإبداع التقني والتكنولوجي اللازم للنهوض والبناء.

فلا خيار سوى الإستثمار في المستقبل العلمي للأمة، فعندها ستنتصر على التحديات وتؤسس لمنطلقات حضارية أصيلة.

فهيا إلى ميادين العلم والبحث العلمي!!

ثالثا: المُعاصَرة العلمية!!

الكلام عن المعاصرة لم يعد جديدا، بل من أقدم الموضوعات التي تناولها الكتاب والمفكرون العرب، والمغيّب في المعاصرة ماهيتها ومناهجها التي أغفلت، فالدنيا في عصر العلم، ولكي تتحقق المعاصرة لا بد أن تكون علمية أولا، وبعدها تأتي الحالات الأخرى.

فالأمم الغير قادرة على التفاعل العلمي المتجدد مع منطلقات عصرها، لا تستطيع أن تدّعي المعاصرة، مهما حاولت أن توهم نفسها في نشاطات أخرى أيا كان نوعها.

فعندما تنتفي المعاصرة العلمية تنهار أية معاصرة أخرى، فلكي تعاصر على مستويات الحياة المتنوعة، لابد من المعاصرة العلمية.

وهذه العلة وقع في مهاويها المفكرون العرب، وراحوا يتحدثون عن المعاصرة وكأنها مصطلح خيالي، وتجنبوا الخوض في صميمها العلمي، الذي تتولد عنه سلسلة من المعاصرات المتصلة به.

فالمجتمعات العاجزة علميا، لا يمكنها أن تخدع نفسها وأجيالها بأنها تعاصر في ميادين المعارف الأخرى، كالشعر والقصة والرواية، وغيرها من الإبداعات.

فخلو الساحة الثقافية من المعاصرة العلمية يتسبب بتداعيات سلبية، ويمنع نشاطات فكرية وأدبية متعددة.

وفي واقعنا العربي، توهمنا التجديد في الأدب بشتى نشاطاته، وما أتينا بما هو معاصر وجديد، وأصبحنا ندور في دوامة مصطلحات مبهمة، ومسميات مستوردة لا تمت بصلة للواقع الذي حُشرت فيه، وراح أصحابها يسوقونها على أنها معاصرة وتواصل مع ما في الدنيا من ثورات معرفية متسارعة.

وهذا التخبط والإضطراب الإدراكي عوّق قدرات إنتاج المعرفة في واقعنا المأسور بما لا يعنيه، ففقد خصوصيته ونكهته ومميزاته وضاعت ملامحه، فصارت المعاصرة إقتلاع لحاضره ومستقبله وتدثر بماضيه.

فمجتمعاتنا هامت في متاهات المعاصرة، وياليتنا تحررنا من سطوة المصطلحات، وتعاملنا ببساطة ووضوح مع ما تمليه علينا حاجاتنا المادية والنفسية والفكرية والروحية، لنكون مبدعين أصلاء، وأصحاب معارف غير مسبوقة.

فهل لنا أن نعاصر بما فينا؟!!

رابعا: القوة العلمية!!

القوة في العلم وكل قوة تولد من رحمه، فالعلم يصنع ويعزز القدرات، فالدول الصناعية بالعلم تكوَّنت، وبالبحث وإعتماد المناهج العلمية تطورت وتجددت قدراتها، وتعاظمت إرادتها المعرفية والإبتكارية، حتى سادت الدنيا وتشامخت بما تنتجه عقولها العلمية المتفاعلة.

الدول الغربية بالعلم تسامقت، الصين بالعلم تواصلت وتوثبت، ففي العلم قوة، فالذي لا يصنع ما يحتاجه، عليه أن لا يتبجح بالقوة، فحالما يستورد طعامه وشرابه وحاجاته الأساسية الأخرى وما يلزمه للدفاع عن نفسه، فأنه ضعيف وخانع وتابع، فالقوي الحقيقي مَن يصنع سلاحه ويطوره وينافس الآخرين بعقول شعبه وأمته.

فأين نحن من هذا وذاك؟

البشرية عاشت قرونا متعاقبة بظلامية خانقة وعندما إستيقظت من أوهامها وهذياناتها، وتحركت عقول نخبها وأبصرت وتعلمت وتباحثت وإكتشفت وإخترعت، أدركت أنها كانت تعيش في عصور دامسة، فبعد أن أضاء العلم دروب وجودها إتخذته سبيلا لبناء حاضرها.

وتجدنا في بعض مجتمعات الأمة قد إندحسنا في أنفاق العصور المظلمة، التي قاست منها أوربا خصوصا، وأنهكتها تصوراتها، التي كانت سيدة المواقف والقرارات.

خامسا: الشباب والحركة العلمية!!

الشباب المتوثب نحو المستقبل عليه أن يتزود بالعلم، ويتعلم مهارات التعبير المادي عن الأفكار، فبدون هذه القدرة العلمية لن ينجز إرادته، ولن يحقق تطلعاته، فلابد للعلم أن يكون قائدا، وفاعلا في حياة الشباب الطامح إلى الأفضل والأقدر.

فالمستقبل يصنعه العلم، والشباب الخالي من المعرفة العلمية، والمجرد من مهارات الإبتكار والإختراع والإبداع الأصيل، لا يستطيع أن يقدم خيرا لنفسه ولبلاده.

الشباب الغير متمكن علميا يتحول إلى طاقة مبيدة لوجوده الوطني، وعالة على الآخرين، ويتحقق إستعماله لإنجاز ما تفرضه رموز التضليل والإستعباد والهوان والتبعية.

الشباب يجب أن يتألق بالعلم، ليدرأ عنه آفات الخنوع والخضوع للمدّعين بالمعارف، ويحسبونه من الجاهلين المغفلين، الذين عليهم أن يعيشوا حياة القطيع، ويساقون إلى مجازر الرغبات الدونية لأدعياء المُثل والقيم السامية.

فتعلموا أيها الشباب، وارفعوا رايات العلم، فأن أعداءكم سيذهبون، لأنهم سيدركون بأنكم تضعون أصابعكم على زناد الثورة الحقيقية، بعد أن كنتم تسرحون وتمرحون في عبثية، وإستنزاف لطاقاتكم وقدراتكم الإبداعية المتميزة.

فتعاونوا علميا، وتحركوا بإتجاه نأسيس المشاريع العلمية، فهي التي ستجمعكم وتوحد طاقاتكم، وتنمي قدراتكم وتنقلكم إلى آفاق التقدم والعطاء المعبر عن وجودكم الحضاري المعاصر.

أيها الشباب أنتم منبع العلم وجوهر العلماء، ففيكم من موروثات أجدادكم العلمية ما لا يتوفر عند غيركم، فلا تخنقوا طاقاتكم، ولا تبددوا ثرواتكم الفكرية، ولا تخضعوا للمنوِّمين والمخدرين لوجودكم .

أيها الشباب العلم طريقكم، وبالعلم قوتكم وإزدهار حاضركم ومستقبلكم، فكونوا علماء أوفياء لأجدادكم العلماء الأعلام!!

سادسا: العرب والثورة العلمية!!

العرب يحتاجون لثورة علمية شاملة، تزعزع أركان النمطية الخامدة، وآليات التفاعل الخاملة مع التحديات القائمة.

العرب بالعلم يكونون، مثلما كانوا به في مسيرتهم الحضارية، أما التركيز على ما دون العلم فعبث وضياع، وإستنزاف للطاقات والقدرات الوهاجة الكامنة في أعماق الأجيال.

فلا خيار عند العرب غير طريق العلم، والإندفاع العلمي الثوري على جميع المستويات، ولديهم المؤهلات الكفيلة بتعبيد مساراتهم العلمية المتميزة، القادرة على الإتيان بالأصيل الواعد.

العرب لن يتحرروا من مأزقهم الحضاري، ويفعّلون العقول ويتفاعلون بها، إلا بإتخاذ العلم منهجا للقوة والقدرة والحياة.

فخيار العرب المصيري يتلخص بالتفكير والبحث والإبداع العلمي، فهذه الأركان الثلاثة هي المنقذ من الضياع والخسران.

وقد أغفل المفكرون والمصلحون أهمية العلم ودوره في صناعة الوجود العربي الأرقى والأقوى، وتخبطوا في متاهات بائسة أوصلتنا إلى ما نحن عليه من أحوال واهنة خالية من إرادة الحياة الحرة الكريمة.

فعندما نراجع ما طرحوه منذ منتصف القرن التاسع عشر، لا نعثر على الحث على العلم والتفكير العلمي ولا تأكيد على مناهج البحث والإبداع العلمي، رغم إنشاء الجامعات والمعاهد والمراكز المعرفية المتنوعة في العديد من دول الأمة، لكن مفهوم البحث العلمي لا يزال في المؤخرة، وما يُرصد له لا يكاد يذكر في ميزانيات معظم الدول.

فتجد العرب يعتمدون على غيرهم، فكل ما يتصل بحياتهم من إنتاج الآخرين، ولا يمتلكون حلولا لمشاكلهم، لأنهم لا يعرفون التفاعل العلمي معها، ولهذا تتراكم المعضلات وتتعقد، ويزدادون قعودا، ورقودا في كهوف الإمتهان، ويوفرون الأجواء المواتية لصناعة الويلات والتداعيات المريرة.

فلا حياة للعرب إلا بالعلم، ومَن سار على الدرب وصل، ومن جَدّ وجَد، فتعلموا العلم ومناهجه وانطلقوا في مسارات الدنيا المشرقة بالإبداعات الأصيلة، فالعرب أمة علم!!

سابعا: البحوث العلمية والتقدم!!

أتصفح هذا الصباح مونوغراف يبين الأموال المرصودة للبحث العلمي في علاقة الدماغ بالسلوك وهي بمئات الملايين، ويشترك فيها مئات الباحثين والعلماء في ميادين السلوك، وهذا على مستوى بعض الجامعات أو إن شئت بعض الأقسام في عدد من الجامعات، فكيف سيكون الحجم والرصيد المالي على مساحة البلاد وفي المجالات الأخرى؟!

إن المجتمعات المتقدمة لم تتقدم بالعبثية والتصورات الطوباوية والأضاليل والخداعات التي تمتهن الأجيال في المجتمعات المتأخرة، إنها متقدمة بالبحوث العلمية، وسلوك البحث العلمي صار عنصرا من الحياة اليومية ويؤكد دوره في أي دائرة أو ميدان عمل.

وهذه المجتمعات تخصص نسبة كبيرة من ميزانيتها للبحث العلمي، ويمكن القول أن قوة وتقدم أي دولة في العالم تتناسب طرديا مع ما تخصصه للبحوث العلمية، أما المجتمعات المتأخرة فموضوع البحث العلمي لا يعنيها ولا تقترب منه، ولا يوجد في ميزانياتها تخصيصات له، ولا يتوفر وعي إجتماعي لتأسيس الجمعيات المعتمدة على تبرعات المواطنين للصرف على البحوث العلمية اللازمة للتقدم والرقاء.

ويبدو أن من أهم الأسباب الجوهرية لتردي الأوضاع في تلك المجتمعات هو إغفالها لدور البحث العلمي في معالجة تحديات الحاضر وبناء الأسس الصحيحة لمستقبل أفضل.

ففي المجتمعات المتقدمة لا يوجد سلوك أو عمل لا يخضع للبحث العلمي والدراسة والتدقيق والتقييم المتكرر لإستنباط الدروس والعبر ولمنع تكرار الخطأ الذي حصل، فلا تمر حالة دون دراسة وتحليل وتحقيق وإستنتاجات وتوصيات وتعديلات تكفل التطور والوقاية من الزلل.

وبما أن مجتمعات الدول المتأخرة مغفلة بحثيا وجاهلة لأهمية وضرورة البحث العلمي، فستبقى ترزخ تحت سنابك التداعيات والتفاعلات السلبية المتفاقمة، التي تأحذها إلى مزيج من الخسران والبهتان، فعليها أن تتعلم كيف تمارس نشاطات البحث العلمي، فكل حالة وموقف يجب أن يكون تحت أضواء البحث والدراسة العلمية المعاصرة.

فالمجتمعات تتقدم بالبحوث العلمية، وتتأخر بإهمالها، وإن لم تتنبه إلى هذا القصور الحضاري الفتاك فأنها لن تتعافى، وستبقى تدور في دائرة مفرغة من الويلات الجسام.

فهل ستتمكن الدول المتأخرة من ترسيخ مفاهيم وسلوكيات البحث العلمي، وهل للجامعات والمؤسسات التعليمة دور رائد ومنور فيها؟!!

وهل سيتم تخصيص ما يكفي من الأموال للبحوث العلمية؟!!

تلك أهم الفوارق الحاسمة ما بين التقدم والتأخر!!

وفي الختام طلب العلم فريضة، وما أوتينا من العلم إلا قليلا، فلماذا لا نتفكر ونتعقل، ونبتهل بالجد والإجتهاد، أن نزداد علما، فالقوة علمية ، وأمتنا عندما كانت ترعى العلم والعلماء بلغت ذروة القوة والإقتدار.

و" العلم يرفع بيتا لا عماد له... والجهل يهدم بيت العز والشرف"!!

***

د. صادق السامرائي

انتشرت في الأوساط الثقافية العربية معلومة تفيد أن أكثر علماء الحضارة الإسلامية هم من العجم، وإن العلماء العرب منهم يشكلون القلة القليلة. وغدت هذه المقولة من المسَلّمات، واعتُبرت صحيحة لا تقبل الشك ولا النقاش. وحديثاً، اخذت القنوات الفضائية ومنصات التواصل الاجتماعي تروّج لهذه الفكرة عبر النقاش مع مثقفين يؤمنون بصحة المقولة، دون التأكد من صحتها. ومما ساعد على قبول صحة المعلومة أن العالم الفذ ابن خلدون هو الذي قالها في مقدمته المشهورة، حيث كتب فيها "من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم من العجم وليس في العرب حملة علم لا في العلوم الشرعية ولا في العلوم العقلية إلّا في القليل النادر". ونقلها عنه كُتّاب كبار، مثل احمد امين وجرجي زيدان وفيليب حتّي، فترسخت في عقول الناس وثقافتهم.

اعترض كتّاب ومثقفين آخرين على توصيف ابن خلدون للعلماء العرب بالقليل النادر، وعملوا جاهدين على إثبات خطأها، أذكر منهم على سبيل المثال، الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري، الذي فنّد فكرة ابن خلدون التي تقول "أن جُلّ العلماء المسلمين من العجم" حيث أفرد فصلاّ كاملاّ في كتابه "أوراق في التاريخ والحضارة الجزء الأول" أوضح فيه الملابسات والتناقضات الفكرية التي كتبها ابن خلدون في مقدمته المشهورة وما يقصده بالعرب والتعريب، وأشار إلى قول ابن خلدون " وإن كان منهم العربي في نسبه فهو أعجمي في لغته ومرباه ومشيخته مع إن الملة عربية وصاحبها عربي" وأوضح ما فيها من تناقض والتباس في المعنى، ولا مجال هنا للتفصيل ويمكن مراجعة الكتاب لمن يرغب بالتوسع.

والمرجع الثاني المعتمد، هو كتاب "عروبة العلماء المنسوبين إلى البلدان الأعجمية في المشرق الإسلامي" لمؤلفه الدكتور ناجي معروف، أستاذ التاريخ بجامعة بغداد، نشر عام 1974، وهو كتاب ضخم في ثلاث مجلدات، بذل فيه المؤلف جهداّ جباراّ لإثبات خطأ مقولة ابن خلدون قيد البحث، وصحح الدكتور معروف نسبة العلماء العرب في الملة الإسلامية بأنهم الأكثرية وأن الأعاجم هم القليل النادر. والكتاب يبدأ بجدول يحوي أسماء العلماء العرب ونَسَبهم العربي والجغرافي وتخصصهم. وقد جَمع أسماء 300 عالم عربي في هذا الجدول. كما ناقش بإسهاب شديد كيف يُنسَب العلماء إلى وطنهم أو دمائهم أو لغتهم. ولِسِعة الموضوع يمكن قراءة الكتاب لمن يرغب.

من المعلوم أن البصرة والكوفة وبغداد والقيروان وقرطبة كانت منارة العلم وإشعاعه، ليس في العالم الإسلامي فحسب بل لكل مدن وشعوب العالم. ومن المعلوم أيضاً أن هذا الصرح العلمي العظيم بُني بجهود أبنائه. ونتساءل، هل من المنطق أن يُبنى هذا الصرح الكبير بسواعد غير أبنائه؟ فالتاريخ يخبرنا كيف أصبحت بغداد قِبلة العالم العلمية بجهود ابو جعفر المنصور وهارون الرشيد والمأمون، في الفترة الزمنية 755م إلى 833م، فقد بَذلوا المال الكثير والجهد الكبير لشراء الكتب وبناء المكتبات وعملوا على تشجيع ودعم العلماء في إسهامهم للعلوم والمعرفة، ووصلت بغداد إلى ما وصلت إليه. ونتساءل أيضاً، لماذا يَترك العلماء غير العرب أوطانهم إلى مدن عربية بدل أن يبرزوا في أوطانهم ليكونوا فخراً لها؟ وإذا سكنوا في بلاد العرب، ونشأوا وترعرعوا فيها، وصار لسانهم عربياً، أفلا يستعربون ويصبحون عرباً؟

أوضح الدكتور ناجي معروف، في مؤلفه الكبير (المذكور أعلاه)، الالتباس في نسب الأشخاص، هل هو إلى الوطن، أم إلى القبيلة أو اللغة؟ ويسرد مثالاً على ذلك، المتصوف الفقيه المشهور، جلال الدين الرومي، ولد في خراسان (حالياً أفغانستان)، ثم درس في بغداد، وانتقل إلى دمشق واستقر وتوفي في تركيا، ويفخر به الاتراك ويعتبرونه منهم. معظم مؤلفاته بالفارسية وبعضها بالتركية والعربية، وأصله عربي من قريش

ينتهي إلى محمد ابن أبي بكر الصديق! فما هو نسبه؟ عربي (الأصل) أم خراساني (المولد) أم تركي (اللغة)؟ يحسبه المؤيدون لمقولة ابن خلدون غير عربي، ويحسبه العرب عربي! فأين الحقيقة؟ وهنالك أمثلة أخرى مشابهة لمن يريد التأكد.

يُعتبر النبي الكريم (ص) عربي الأصل، يعود نسبه إلى قصي ابن نزار ابن عدنان ابن إسماعيل (ع)، ابن خليل الله إبراهيم (ع)، وإليهم ينتسب العرب، علماً أن إبراهيم وإسماعيل (ع) لم يكونا عرباً بل كان لسانهم آرامياً، وتعرّبوا بمخالطتهم قبيلة جُرهم العربية وأصبح لسانهم عربياً. وإذا كان هذا مسّلَماً به، فلماذا لا يعتبر غير العربي مُستعرباً إذا ما سكن في بلاد العرب وخالطهم ونطق بلسانهم؟ ونفس المنطق يصُحُ على المصريين، فهم عرب لا ريب في ذلك، لكن أصولهم لم تكن عربية بل فرعونية، ثم أصبحوا أقباطاً بعد أن احتلهم اليونانيون والرومان، ثم تعربوا بعد الفتح الإسلامي بعد أن اتخذوا العربية لغةً لهم، كونها لغة القرآن ولغة التعامل الإداري للدولة، فكيف يقاس النسب إذاً؟

عندما يروّج المؤيدون لفكرة، أن أكثر العلماء المسلمين هُم من العجم، فإنهم يعددون العلماء الاعاجم، وأشير إلى ما قاله مقدم برنامج في إحدى القنوات الفضائية،  بقوله "أن معظم العلماء المسلمين هم من العجم، فابن سينا فارسيا من أوزبكستان، وعباس بن فرناس امازيغي، وابن بطوطة امازيغي والفارابي من فاراب بتركستان، والبخاري من بخارى ومسلم من نيسابور وأبو داوود من أفغانستان والنسائي من تركمانستان والترمذي من فارسي من أوزبكستان، وابن ماجة فارسي من قزوين وسيبويه فارسي والرازي فارسي وصلاح الدين كرديا، محمد الفاتح تركيا، الخوارزمي من خوارزم، طارق ابن زياد امازيغي". وأقول، إن هؤلاء 16 عالماً أعجمياً حسب ما ذكرهم مقدم البرنامج، وهي معلومة صادقة وصحيحة، لا شك فيها ولا نقلل من شأنهم ولا نحط من قدرهم، بل على العكس نُعلي شأنهم. لكنها تطرح وجهة نظر واحدة من الحقيقة، ذلك أنه ذكر أسماء العلماء غير العرب، ونسي أو تناسى أن يذكر الطرف الثاني من المعادلة، بمعنى هل يوجد عدد من العلماء العرب يساوي العدد المذكور من غير العرب لتتساوى المجموعتان؟ الجواب نعم. وسأذكر لكم أسماء 16 عالماً عربيا من نفس الاختصاصات المذكورة لتتساوى الكفتان "الكندي، ابن الهيثم، ابن طفيل، جابر أبن حيان، ابن سبعين، خالد ابن الوليد، عمرو ابن العاص، مالك ابن أنس، الشافعي، أحمد ابن حنبل، المسعودي، ابن الاثير، ابن كثير، الخليل ابن أحمد الفراهيدي، الجاحظ" مع العلم أن هؤلاء العلماء العرب ينتمون إلى مِلة واحدة (العرب) بينما ينتمي العلماء غير العرب إلى عدة ملل (فارسية، تركية، كردية، امازيغية) وهذا يكفي لترجيح ملة العرب. وأُذكّر بأن الدكتور ناجي معروف جمع في كتابه أسماء 300 عالم عربي (من ملة العرب)، فهل يستطيع دعاة العلماء المسلمين العجم أن يجمعوا أسماء 300 عالم غير عربي من ملة واحدة؟

وختاماً فإن الغرض من هذا البحث، ليس رفع شأن قوم أو الانتقاص من قوم آخر، فكل الاقوام لها عزتها ورفعة شأنها بما لا يمكن التشكيك فيه، وإنما الغرض أساساً هو إظهار الحقيقة وتصحيح فكرة غير صحيحة من باب إعادة قراءة التاريخ، أو إعادة كتابة التاريخ. والله الموفق

***

د. صائب المختار

 

في دراسة للباحثين: عثمان سعدي وقادة جليد

هل كانت بلاد البربر كلها دوناتية؟

الحديث عن الدوناتية يعود نسبة إلى الأب دونا النقريني الذي يعد أهم شخصية دينية مسيحية أمازيغية جزائرية، فالأب دونا مات شهيدا دفاعا عن الشعب الأمازيغي في مواجهة الإستعمار الروماني، حيث مات في سجون روما باسبانيا سنة 355م،  قبل ميلاد خصمه القديس أوغسطين الروماني واليد اليمنى للاستعمار الروماني بنوميديا وموريتانيا أي بالمغرب الكبير، والأب دونا من مواليد مدينة نقرين جنوب تبسة، في هذه الفترة كان صراع بين الرومان والمسيحيين منذ دخولهم المغرب عن طريق مصر والمشرق، عندما  مات الإمبراطور الروماني خلفه الإمبراطور قسطنطين الذي رفع شعار التسامح سنة 307م، وقام الإمبراطور بتعيين الأسقف كوسيليوس الذي تعاون مع محاكم التفتيش، رفض المسيحيون تواجده وأن يتولى قيادة المسيحية، حيث جمع الأب دونا سبعين أسقفا نوميديا قدموا وثيقة رفضهم لهذا الأسقف.

من هذه الحادثة نشأ المذهب الدوناتي، إلا أن الأسقف الذي كانوا يصفونه بالخائن تم تثبيته بقرطاج ووقعت حرب دموية سقط فيها العديد من المسيحيين النوميديين، في الجانب الثقافي كانت لغة الدوناتيين هي الفينيقية أي الكنعانية العربية، والفينيقية حسبما أفاد به الدكتور عثمان سعدي في إحدى دراساته هي لغة الحضر والدواوين  والعبادات، لكنها كانت محاطة بلهجات أمازيغية شفوية وكلاهما ينتميان إلى أرومة واحدة هي العروبية وظلت قائمة 17 عشر قرنا كلغة فصحى بالمغرب، وهذا يعني أن الرومان الذين سيطروا على المغرب (المغرب الكبير) منذ  146 سنة ق.م فشلوا في فرض لغتهم وثقافتهم الرومانية على سكان المغرب الأمازيغ، وأمام إصرار الدوناتيين على الدفاع عن هويتهم اضطر قسطنطين سنة 321م  إلى إصدار تعليمات بوقف عمليات القمع  ضد الدوناتيين، وأطلق الأب دونا صرخته : " الله أرسل المسيح لإنصاف المستضعفين".

ازدادت شعبية الأب دونا فكان ملاحقا أمرت الإمبراطورية الرومانية باعتقاله ونقله إلى اسبانيا حيث سجن في سجون الرومان ومات هناك في السجن سنة 355م، وفي هذا قامت الإمبراطورية الرومانية بنهب ممتلكات الفلاحين الأمازيغ حيث قامت ما أطلق عليها بثورة الدائرين ضد الإقطاع من أجل استعادة أراضهم وتوحد الفلاحون الأمازيغ مع الدوناتيين، استعان الدكتور عثمان سعدي دراسته ببعض ما جاء به المؤرخون ومنهم المؤرخة الفرنسية أوديت فانييه في دراسة نشرتها سنة 1926 عن الدوناتية وكيف كان الكولون الرومان يحولون السادة إلى عبيد ويستولون على مخازن حبوب الفلاحين الأمازيغ، استمرت الدوناتية إلى  أن تحولت إلى مذهب شعبي جماهيري،  أعيد له الإعتبار بعد مجيئ  الإمبراطور يوليان ابن أخت الإمبراطور قسطنطين، لكن الدوناتيين المخلصين استمروا في نضالهم وكفاحهم ضد الإمبراطورية الرومانية فقاموا بثورات ودعموا ورات عديدة منها  ثورة فيرموس البربري، ولما جاء القديس أوغسطين وجد بلاد البربر كلها دوناتية، فوقف ضد الدوناتيين بعد أن وصفهم بالهراطقة، واعتبر الدوناتية هرطقة وأهلها خارجون عن القانون، ودار جدال بين المذهبين حين أمر بعقد مناظرة جمع فيها 565 أسقفا، منهم 279 أسقف دوناتي و286 أسقف كاثوليكي، واشترط في المناظرة أن الطرف الذي ينتصر في الجدال بين المذهبين  سيعمم مذهبه في أفريقيا.

كانت الكفة في صالح الدوناتيين، لكن  امبراطور قرطاج بالتواطؤ مع أوغسطين اعتقل الأساقفة الدوناتيين في 26 جوان 411م، وبقرار امبراطوري حُلَّ المذهب الدوناتي وصودرت كنائسه وممتلكاته لصالح الكاثوليك، حيث أصبح الدوناتيون في  تيمقاد وشرشال يمارسون طقوسهم في سرية تامة إلى أن مات أوغسطين في عنابة مدافعا عن الإستعمار الروماني، في حين انضم الدوناتيون إلى الوندال، أما عن البحوث والدراسات التي تركها الأب دونا يذكر الدكتور عثمان سعدي  كتاب بعنوان: " الروح القدسية" تحدث عنه بعض رجال الكاثوليك، الذين كشفوا أن أوغسطين قام بحرق سائر الكتب الدوناتية، رغم محاولات كل من غودانتيوس أسقف تيمقاد وبيتليانس أسقف مدينة سيرتا (عاصمة النوميديين)، لكنها باءت بالفشل، يشار أن كل مؤلفات الدوناتية كتبت بالفينيقية واللاتينية.

نأتي الآن إلى ما قاله الدكتور قادة جليد أستاذ الفلسفة بجامعة وهران متقاعد في محاضراته التي ارتكزت على دور الشخصيات الأمازيغية والثورات في بلاد المغرب الكبير (المغرب العربي) انطلاقا من مملكة أوراس النمامشة، يقول الدكتور قادة جليد أن ثورة الدوارين  لم يكتب عنها الجزائريون وظل تاريخها مطمورا، ومن الشخصيات التي تحدث عنها الدكتور قادة جليد الملكة رويا وهي أمازيغية دوناتية حاربت الإستعمار، كذلك الملكة داهيا وهي ملكة أوراس النمامشة التي لقبها العرب بالكاهنة، لأنها كانت تقوم بطقوس قبل خوض أي معركة، وكانت ترابط في مكان محدد هو هضبة ثازينت جنوب مدينة تبسة، وكان جميع البربر لها مطيعون، قامت معركة بينها وبين جيش المسلمين وانتصرت عليه بعد أن جمعت ثمانين من الأسرى العرب لكنها لم تلحق بهم أذى بل حاورتهم واكتشفت تطابقا بين عادات العرب وعادات البربر، ويقال أن من بين الأسرى يمنيين، ولغياب ترجمان يترجم اللغة البربرية إلى العربية أطلقت سراح جميع الأسرى وأرسلتهم إلى الجيش الإسلامي بلا فدية، ماعدا أسير واحد هو خالد بن يزيد العبسي الذي طلبت منه أن يعلم ابنيها اللغة العربية وتعاليم الإسلام وأمرت ولديها أن يعتنقا الإسلام، حسب الدكتور قادة جليد ظلت الدوناتية حركة وطنية أمازيغية قاومت الإستعمار الروماني ثم الفرنسي وهي تحتاج إلى فتح نقاش حولها بين المفكرين والأكاديميين، خاصة وأنه في كل تحوّل تاريخي كل شيء يتغير إلا الشكل الثقافي الذي يمارس نوعا من المقاومة وهذا يحتاج إلى وعي ثقافي والتسلح بمناهج جديدة، وقال أن طمس الحقائق التاريخية يعتبر  انغلاقا  دوغماتيا واقترح الخروج من الجدال السياسي والإيديولوجي والتفكير في الجانب المعرفي والتاريخي وغرسه في أذهان الأجيال.

***

ورقة علجية عيش

في ذكرى وفاة عميد المسرح وعرّاب الخشبة في الجزائر عبد الحميد حباطي

 تتعرض الثقافة إلى الانحراف إلى حد تجعلها تدخل غرفة الإنعاش، عندما توكل الأمور إلى غير المختصين، ما يجعلها بحاجة إلى عملية قيصرية، ففي الجزائر مثلا تتعرض الثقافة إلى التشويه ويصاب المثقفون بالإحباط، ما يدفعهم إلى العزوف الثقافي، فيغلقون على أنفسهم كل باب من شأنه أن يضيف شيئا للساحة الثقافية ويعمل على ترقية الفعل الثقافي.

 فتعيين مسؤولين على رأس قطاع ما لا تربطهم به علاقة لا من بعيد ولا من قريب، كما أنهم يفتقرون إلى الخبرة الميدانية التي تسهل عليهم إدارة وتسيير قطاع ما خاصة إذا تعلق الأمر بالفكر والثقافة، وهي واحد من المجالات التي أسالت كثير من الحبر بين مفكرين ومثقفين والفلاسفة، أمام تعدد الثقافات وتخصصاتها في الأدب والمسرح والسينما، والفن (الموسيقى) وما شاكلها من المنتوجات الإبداعية، التي ترسم نمطا كليا لحياة شعب ما مع احترام ذوق الجمهور وتقديم له معارف جديدة، فأن توكل المسؤولية لغير أهلها يحدث الشرخ والانفصال بين النخبة والجمهور، هذا الجمهور الذي أصبح يتابع أشياء لا تلبي ذوقه الرفيع وما يغذي عقله ويكتسب منه تجربة، ولذا لم تعد للمثقفين القابلية الثقافية للإنماء وأصبحت الفضاءات الثقافية تنظم في غالب الأحيان معارض للحلويات والألبسة التقليدية وحرم الجمهور المثقف من الوقوف على تظاهرات فكرية ثقافية كتنظيم ملتقيات لمناقشة قضايا فكرية تعبر عن مشكلات المجتمع يحضرها باحثون وأكاديميون وكل المهتمين بالجانب الثقافي فكل منهما لا غنى عنها للأخرى طالما النشاطات الثقافية تولد طريقة متميزة في النظر إلى من يحيطون بنا بل إلى العالم كله.

وكعينة نقدم قطاع المسرح في الجزائر كنموذج وهذا من خلال زيارتي إلى المدرسة la medersa الواقعة بشارع العربي بن مهيدي التي تحولت إلى دار "إبداع" السنة الماضية، تنظم فيها تظاهرات تتعلق بالألبسة والحلويات التقليدية بعد أن كانت مُلْحَقَة تابعة لجامعة قسنطينة تنظم فيها المحاضرات واللقاءات الفكرية، وكانت تحظى باستقبال مثقفين ومفكرين أي النخبة من داخل وخارج الولاية وحتى من خارج الوطن، وأثناء زيارتي لها منذ يومين، وقفت على لوحة معلقة بالطابق السفلي للدار تعود لفنان مسرحي، لكنه غير معروف لدى الجمهور من عشاق المسرح وربما هو مجهول حتى عند المسرحيين أو كما يقال عند أصحاب" الكار"، وكأن اللوحة تم إخفاؤها كي لا يراها الجمهور، رغم أنه خصصت له في السفل قاعة أطلق عليها اسم " مدرسة الفنان عبد الحميد حباطي " وهي قاعة فارغة لا توجد سوى صورته معلقة في إحدى الجدران، وإذا بي أتساءل مع نفسي اين كان هذا الوجه المسرحي المبدع يوم تقرر إطلاق اسم فنان على مسرح قسنطينة الجهوي؟، حيث تم اختيار فنان لا علاقة له بالمسرح، وهو الفنان محمد الطاهر فرقاني مغني المالوف ولم يطلق على أحد المسرحيين من أبناء المدينة، وقد وقعت ضجة كبيرة احتجاجا و اعتراضا على هذا القرار التي صدر عن وزير الثقافة عز الدين ميهوبي.

 وقد كشف الوزير السابق يومها أن القرار كان قرار رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة قبل خلعه، كانت النتيجة إبعاد الأديب محمد زتيلي مدير المسرح الذي كان من بين الرافضين للقرار والذين وقفوا في حركة احتجاجية أمام مدخل المسرح رافعين شعار: "المسرح للمسرحيين"، فسوء الاستخدام في عملية التوظيف أو التعيين أو توزيع الأدوار، قد يقود إلى فشل قطاع من القطاعات سواء في الثقافة أو في المجالات الأخرى، في هذه الورقة نقف مع عميد المسرح وعرّاب الخشبة كما سمّوه، إنه الفنان المسرحي ابن قسنطينة عبد الحميد حباطي وهو من مواليد 05 جوان 1945 بقسنطينة، وكما هو موثق في لوحة جدارية كبيرة، وضع هذا الفنان أو خطواته على ركح الخشبة مع جمعية الهلال التمثيلي ، وغداة الإستقلال أنشأ فرقة "البهاليل" مع ممثلين من أمثال بشير بن محمد، ورشيد زغيمي قبل أن يتابع تكوينه بمعهد الفنون الدرامية، كما تابع عبد الحميد حباطي دورات تكوينية بالخارج قبل ان يلتحق بالمسرح الوطني الجزائري كممثل محترف في سنة 1965، وخلال تلك الفترة قرر مصطفى كاتب حين كان مديرا للمسرح الوطني الجزائري تعيينه للإشراف على التكوين والتنشيط بالمسرح الجهوي قسنطينة، قدم عبد الحميد حباطي أعمالا مسرحية وقام بأدوار أضاءت سقف المسرح بإبداعاته، منها على الخصوص : مسرحية القانون والناس، ناس الحومة، لا حال يدوم، ديوان العجب، ومسرحية البوغي) كان ذلك في الفترة بين 1978 إلى غاية 2003، بالإضافة إلى ذلك قدم هذا الممثل والمخرج المسرحي أعمالا في السينما والتلفزيون.

 من الأفلام التي شارك فيها نذكر منها: "دورية نحو الشرق" للمخرج عمار العسكري وطاحونة السيد هابر لأحمد راشدي وأعمال أخرى للشاشة الصغيرة، هي أعمال لا يزال الجمهور يتذكرها خاصة دورية نحو الشرق التي كان لها صدى كبير جدا لدى الجمهور، حتى عند الأطفال، وقد ظل عبد الحميد حباطي محافظا على هذا الفن إلى أن وافته المنية يوم 06 ماي 2020، عن عمر ناهز 75 سنة بعد مرض عضال، وها هي ذكرى وفاته الرابعة تمر، لكن للأسف لا أحد تذكره من رفاق الدرب ولو بيوم دراسي يجتمع فيه المسرحيون ويناقشون مسائل تتعلق بمستقبل المسرح في الجزائر وكيف النهوض به، كان على السلطات المحلية أن تطلق على دور الثقافة التي ما تزال مغلقة إلى اليوم منذ إنشائها في تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة 2015 على اسم هذا الفنان تكريم عائلته بعد وفاته، أو أسماء أخرى نشطت الساحة الثقافية سواء في المسرح أو دور السينما التي لا تزال مغلقة أيضا إلى اليوم.، تبقى مسالة التنوع الثقافي ومن يضعه في إطاره الصحيح، أي الاعتماد على متخصصين كل والمجال الذي يعمل فيه للنهوض بقطاع الثقافة وارتقائها إلى العالمية، لا سيما والجزائر تملك من المؤهلات ما يجعلها في مقدمة الصفوف.

***

علجية عيش

كان بودي أن أصوغ عنوان المقال بالشكل التالي: (حين يستحيل المثقف إلى تاجر!)، ولكني آثرت، في اللحظة الأخيرة، العدول عن فعل ذلك، حيث ارتأيت ان الإبقاء على العنوان بصيغته الحالية هو الأكثر تعبيرا"عن مقاصد هذه المقالة. على اعتبار إن ضمّ الثقافة إلى التجارة، وبالتالي اجتماع شخصية المثقف مع شخصية التاجر، يعد من قبيل إضافة النقيض إلى نقيضه، ومشابهة المختلف مع ما يخالفه.

فإذا ما سلمنا بأن من حق (كل إنسان) أن يمارس الأعمال والأنشطة التجارية المشروعة، وفقا" لقدراته الذاتية ومهاراته الشخصية وإمكاناته الاقتصادية واجتهاداته التسويقية، فهل يا ترى – بالمقابل –  يحق (للمثقف) كإنسان أن يزاول هذا الفعاليات الاجتما - اقتصادية، حاله في ذلك كحال أي إنسان آخر دون ممانعات ذاتية أو احراجات اجتماعية، أم إن هناك (اعتبارات) أدبية و(روادع) قيمية ينبغي عليه مراعاتها والتقيد بها، حين تضطره الظروف للانخراط في مثل هذه الأنشطة والممارسات ذات الطبيعة الاقتصادية والإنسانية؟!.

فمن البديهي القول أن كل إنسان بحاجة إلى تأمين قوت حياته الشخصية والعائلية كما فعل أسلافه منذ آلاف السنين ؛ ليس فقط على صعيد الضروريات المادية والمعيشية والغريزية فحسب، وإنما على مستوى الضروريات الفكرية والنفسية والرمزية كذلك. وبما أن المثقف هو إنسان أولا"وقبل كل شيء كما أشرنا، فانه لا تثريب عليه حين يزاول عملا"- مهنة ما سواء في مجال التوظيف الرسمي (الحكومي) كأستاذ جامعي على سبيل المثال، أو في مجال العمل التجاري (الأهلي) كصاحب مشروع خاص أو كمساهم في شركة. دون الأخذ بنظر الاعتبار الخصائص الإضافية التي من مثل ؛ وزنه الاجتماعي، ودوره الاقتصادي، ومستواه الثقافي، وتحصيله العلمي، طالما كان محافظا"على ثوابت الثقافة في بنية وعيه، ومراعيا"معايير الأخلاق في أنماط سلوكه.

وبضوء التغييرات الجذرية الحاصلة في بنى المجتمعات العربية عامة والمجتمع العراقي خاصة، على مدى العقود القليلة الماضية، فضلا"عن التحولات الحادة والتداعيات العاصفة في مدماك منظوماتها القيمية والرمزية والحضارية، فان دفاعات وممانعات البعض من (المثقفين) الطارئين سرعان ما تخضع لعوامل التآكل في أساساتها، والتصدع في معمارها، والتفكك في روابطها كما المومياء وهي تواجه عوامل الطبيعة. بحيث تهاوت الحواجز القائمة في وعيهم، واندرست الحدود المنقوشة في ضمائرهم، واضمحلت الفواصل المرسّمة في سيكولوجاتهم. وهكذا، فقد تخالطت في تفكيرهم وتداخلت في تصوراتهم العديد من التناقضات والتقاطعات؛ ما بين قيم (الثقافة) ورميم (الخرافة) من ناحية، ودماثة (الأخلاق) وخباثة (النفاق) من ناحية ثانية، وفضيلة (القناعة) ورذيلة (الرقاعة) من ناحية ثالثة.  

والحال، فقد ثبت لي - واقعيا"وشخصيا"- من خلال تعاملي المباشر مع بعض أصحاب دور النشر الخاصة من ذوي الخلفيات الأكاديمية (أساتذة جامعيين) أو الفكرية (كتاب وباحثين)، ممن استحبوا الانخراط في مجال طباعة الكتب ونشرها وتوزيعها، أنهم تحولوا – بوازع من مآرب ومكاسب مالية - الى (تجار) أقحاح لا يختلفون بشيء عن أقرانهم، سوى كونهم باتوا بارعين في ارتداء الأقنعة المزينة بعناوين ثقافية مغرية ويافطات ترويجية جذابة. لا بل أن نظرتهم الى المنتوج الثقافي والفكري باتت لا تقل – من حيث اعتصارهم فائض القيمة - عن نظرة نظرائهم تجار السوق ان لم تكن أشد إمعانا"في مجالات الكسب المادي. ولعل حجتهم الجاهزة على ذلك ما طرأ على سوق (الكتاب) من غلاء في مواد الطباعة، فضلا"عما أصاب القراء من عزوف عن الكتب (الورقية) المكلفة والتحول عنها الى الكتب (الالكترونية) المجانية، الأمر أفضى الى ركود السلعة الثقافية (الكتاب) وتراجع زخم الطلب عليها كما كان الحال في السابق !.

ولكن، برغم قوة الحجة التي يسوقونها ووجاهة الأسباب والدوافع التي يقدمونها هؤلاء الذين يحرصون على الجمع بين فضائل (الثقافة) ورذائل (التجارة)، لتبرير مثل هذا السلوك (التجاري) الشائن في التعامل مع الكاتب والكتاب، فان هناك (حدود) معيارية – أدبية وأخلاقية وإنسانية - لا ينبغي ولا يجوز على من يحسب نفسه من أرباب (الثقافة) تجاهلها أو تجاوزها مهما كانت الأسباب والدوافع، وإلاّ فانه يفقد صفته ك(مثقف) ويستحيل الى (تاجر) سوق تحركه بواعث الربح والخسارة ليس إلاّ، وإذاك تسقط دعاوى الثقافة عن شخصيته وتزاح هالة الاعتبار التي تجلل كيانه !. 

***

ثامر عباس – كاتب وباحث عراقي

رينيه ديكارت هو أحد أكثر الفلاسفة تأثيرًا في التاريخ، وهو معروف بمساهماته في الثنائية الديكارتية، ومنهج الشك، ومفهوم الكوجيتو. ومع ذلك، وعلى الرغم من أفكاره الثورية العديدة، فإن فلسفة ديكارت ليست خالية من العيوب. في هذا المقال، سأناقش بعض نقاط الضعف الرئيسية في فلسفة ديكارت.

أحد العيوب الرئيسية في فلسفة ديكارت هو اعتماده على منهج الشك. في حين اعتقد ديكارت أن الشك أداة ضرورية للوصول إلى الحقيقة، يزعم المنتقدون أن هذه الطريقة معيبة لأنها يمكن أن تؤدي إلى الشك وإنكار وجود المعرفة تمامًا. من خلال الشك في كل شيء، لم يتمكن ديكارت في النهاية من توفير أساس متين لمعتقداته.

عيب آخر في فلسفة ديكارت هو مفهومه لثنائية العقل والجسد. اقترح ديكارت أن العقل والجسد مادتين منفصلتين لهما طبيعة مميزة، لكن هذه الفكرة تعرضت لانتقادات لافتقارها إلى الأدلة التجريبية ولكونها يصعب التوفيق بينها وبين علم الأعصاب الحديث. يزعم المنتقدون أن ثنائية ديكارت تؤدي إلى نوع من مشكلة العقل والجسد التي لم يتم حلها بشكل مرضٍ حتى الآن.

كما تعرضت فكرة ديكارت عن الكوجيتو، أو "أنا أفكر إذن أنا موجود"، لانتقادات لكونها دائرية وتكرارية. تعتمد حجة ديكارت لوجود الذات على فعل التفكير ذاته، مما يثير السؤال حول كيف يمكن للمرء أن يعرف أن الذات موجودة دون افتراض وجودها في المقام الأول. هذا التفكير الدائري يقوض الكوجيتو كدليل صالح على الوجود.

وعلاوة على ذلك، تم انتقاد عقلانية ديكارت بسبب التركيز المفرط على العقل وإهمالها لأهمية الأدلة التجريبية. كان ديكارت يعتقد أن العقل وحده يمكن أن يؤدي إلى معرفة معينة، لكن المنتقدين يزعمون أن هذا يؤدي إلى رؤية ضيقة ومحدودة للفهم البشري. من خلال تجاهل دور الخبرة والملاحظة، قد تتجاهل فلسفة ديكارت مصادر مهمة للمعرفة.

مشكلة أخرى في فلسفة ديكارت هي محاولته إثبات وجود الله من خلال حجته الوجودية. زعم ديكارت أن فكرة الكائن المثالي لابد وأن نشأت من كائن مثالي، ألا وهو الله. ومع ذلك، أشار المنتقدون إلى أن هذه الحجة تعتمد على افتراض خاطئ - أن الوجود هو الكمال. وقد تعرضت هذه الحجة لانتقادات واسعة النطاق ولا تعتبر دليلاً قاطعًا على وجود الله.

كما تعرضت نظرية ديكارت للأفكار الفطرية للنقد. كان يعتقد ديكارت أن بعض الأفكار فطرية ومتأصلة في العقل البشري منذ الولادة، لكن المنتقدين يزعمون أن هذه الفكرة لا تدعمها الأدلة التجريبية. تفترض المدرسة الفكرية التجريبية، التي تؤكد على دور الخبرة في تشكيل المعرفة، أن جميع الأفكار يتم اكتسابها من خلال الإدراك الحسي وليست فطرية.

بالإضافة إلى ذلك، تم التشكيك في اعتماد ديكارت على الأفكار الواضحة والمتميزة كمعيار للحقيقة. زعم ديكارت أن الأفكار الواضحة والمتميزة فقط يمكن اعتبارها مؤكدة، لكن المنتقدين يشيرون إلى أن هذا المعيار غامض وذاتي. إن ما هو واضح ومميز لشخص ما قد لا يكون هو نفسه بالنسبة لشخص آخر، مما يؤدي إلى عدم وجود معايير موضوعية لتحديد الحقيقة.

كما تعرضت فلسفة ديكارت لانتقادات بسبب افتقارها إلى مراعاة القضايا الاجتماعية والسياسية. ركز ديكارت في المقام الأول على نظرية المعرفة والميتافيزيقيا، متجاهلاً الآثار الأوسع لفلسفته على المجتمع. يزعم النقاد أن نهج ديكارت الفردي والعقلاني يفشل في معالجة القضايا الأخلاقية والسياسية المهمة.

وأخيرًا، تعرض رفض ديكارت للوعي الحيواني لانتقادات بسبب مركزيته البشرية وتجاهله لمعاناة الكائنات غير البشرية. ادعى ديكارت الشهير أن الحيوانات مجرد آلات بدون وعي أو مشاعر، وهي وجهة نظر تعرضت لانتقادات واسعة النطاق بسبب قسوتها وافتقارها إلى الأدلة. أظهرت الأبحاث الحديثة في العلوم المعرفية أن الحيوانات قادرة على المشاعر والفكر المعقد، مما يتحدى وجهة نظر ديكارت الضيقة للإدراك الحيواني.

وفي الختام، في حين كان لفلسفة ديكارت تأثير عميق على الفكر الغربي، إلا أنها ليست خالية من العيوب. من أسلوبه في الشك إلى مفهومه للثنائية، فإن فلسفة ديكارت مليئة بالتناقضات والافتراضات المشكوك فيها. وقد أشار النقاد إلى نقاط ضعف مختلفة في حجج ديكارت، من اعتماده على العقل إلى إهماله للأدلة التجريبية. في نهاية المطاف، بينما لا تزال أفكار ديكارت قيد الدراسة والمناقشة، فمن المهم الاعتراف بالعيوب في فلسفته ومعالجتها في هذا السياق.

***

محمد عبد الكريم يوسف

ما نسميه الذات يتكون من ثلاث وجهات نظر على الأقل

بقلم: بيتر جاردينفورس

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

النقاط الرئيسية

- نحن لا نكتفي بالمرايا لأنها لا تظهر ذواتنا "الحقيقية".

- لا توجد ذات حقيقية، بل هي نتيجة مفاوضات مستمرة مع أنفسنا.

- تؤثر التقنيات الجديدة بشكل متزايد على تصورنا لأنفسنا.

كانت المرايا أفضل في الماضي. هكذا قال والد زوجتي، الذي عاش 93 عامًا. في سنواته الأخيرة، أصبح محبطًا من صورته المنعكسة  التي يحدق به كل صباح.

يعتقد الكثير من الناس أن الصورة التي يرونها لأنفسهم في المرآة ليست دقيقة؛ تبدو قديمة جدًا وقبيحة. وينطبق الشيء نفسه على الصور الفوتوغرافية أيضا. قالت سوزان سونتاج:

" يشعر كثير من الناس بالقلق عندما يوشكون على التقاط صورة لهم: ليس خوفاً من انتهاك خصوصيتهم، بل خوفاً من أن تخذلهم الكاميرا. يرغب الناس في صورة مثالية تعكس أفضل مظهر لهم. يشعرون بالخيبة عندما لا تعكس الكاميرا صورة تجعلهم أكثر جاذبية مما هم عليه في الواقع."

وهكذا، هناك تعارض بين ما تظهره المرآة أو الصورة وإدراكنا لأنفسنا. نحن غالبًا ما نعتز بصورنا عندما كنا أصغر سنًالتشجيع خداع الذات عندما لا يتطابق انعكاسنا الحالي مع خيالنا الوهمي. أو نتلاعب بصورة التقطناها بهواتفنا قبل نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي.

في الواقع، لم تكن المرايا أفضل على الإطلاق في الماضي. تعتبر المرايا، كما اعتدنا عليها، ظاهرة جديدة تاريخيًا وأصبحت شائعة في المنازل منذ ما يزيد قليلاً عن قرن من الزمان.

إذًا كيف كان الناس يشكلون صورتهم الذاتية قبل وجود المرايا؟ هناك طريقتان أخريان لاكتساب المعرفة عن أنفسنا.

إحداهما من خلال الإدراكات التي يحملها الآخرون عنا. التحدث إلى الأشخاص القريبين منا يتيح لنا رؤية أنفسنا من الخارج: فالصديق هو مرآة لذاتنا الداخلية. نحن نرى أنفسنا من خلال إدراكات الآخرين لنا ومن خلال الصفات الداخلية (والخارجية) التي ينسبها الآخرون إلينا. أحيانًا يكون الأشخاص الذين لا نعرفهم مصدرًا أفضل لأنهم يستطيعون رؤيتنا من منظور غير متوقع. (قد نكون قد خدعنا المقربين منا بصورتنا الذاتية).

والطريقة الأخرى لاكتساب المعرفة عن أنفسنا هي التأمل في كيفية تجربتنا لأجسادنا وعالمنا الداخلي. نحاول فهم أفكارنا وذكرياتنا ومشاعرنا وأفعالنا ونقارنها بما نختبره من الآخرين ومع كيف نتذكر أنفسنا عندما كنا أصغر سنًا.

من المعتقد الشائع أن بداخلنا عميقًا يكمن "الذات الحقيقية" لنا. نسعى لأن نكون "صادقين مع أنفسنا"، لكن ما نسميه الذات هو مزيج من ثلاث وجهات نظر على الأقل: المظهر كما نراه في المرآة، وكيف نعكس أنفسنا من خلال الآخرين، والعالم الداخلي المدرك. هذه الطرق الثلاث للنظر إلى الذات تتعارض أحيانًا مع بعضها البعض. السؤال هو كيف يمكننا دمجها في "أنا" موحدة—أو ما إذا كان من الممكن حتى دمجها في كيان واحد.

كانت حكمة أوراكل دلفي هي "اعرف نفسك." قد لا يكون هذا ممكنًا لأنه لا يوجد جوهر ثابت يشكل ذاتك الحقيقية. كما يكتب الشاعر الدنماركي هنريك نوربراندت: "أياً كانت الأنهار التي ننعكس فيها، فإننا نرى أنفسنا فقط عندما ندير ظهورنا."

إن الصورة أكثر دقة هي أن الذات هي نتيجة لمفاوضات مستمرة مع أنفسنا، نزن فيها الرغبات المختلفة ضد بعضها البعض، حيث تساهم توقعات الأشخاص من حولنا والثقافة السائدة أيضًا. فنحن نقوم ببناء ذواتنا باستمرار.على أننا بارعون في خداع أنفسنا في هذا النوع من المفاوضات.

(تمت)

***

...................

الكاتب: بيتر جاردينفورس/Peter Gärdenfors دكتوراه، هو أستاذ العلوم المعرفية في جامعة لوند، السويد. وهو عضو في الأكاديمية الملكية السويدية للآداب والتاريخ والآثار، وكذلك في أكاديمية العلوم. كان عضوًا في لجنة جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية من عام 2011 إلى عام 2017. وله العديد من الكتب، منها الفضاءات المفاهيمية: هندسة الفكر. حصل على جائزة إينار هانسن الفخرية في العلوم الإنسانية 2017 وجائزة سوينسون في العلوم الإنسانية والاجتماعية 2021.

 

يشهد العالم اليوم ثورة رقمية هائلة تغزو جميع جوانب الحياة، بما في ذلك التعليم. فالتحول الرقمي في التعليم والذكاء الاصطناعي أصبحا ضرورة حتمية لمواكبة التطورات المتسارعة وتحسين جودة التعليم وزيادة التفاعل والمشاركة وتعزيز مهارات القرن الحادي والعشرين وتوفير فرص تعليمية متساوية للجميع.

لكن، هل يتمكن نظام التعليم في العراق من الانضمام إلى هذا التحول الرقمي واستخدام الذكاء الاصطناعي بصورة مفيدة؟ وما هي العقبات التي تواجهه في تطبيق التكنولوجيا في المدارس والجامعات؟ وما هي الحلول الممكنة لتجاوز هذه العقبات والاستفادة من التحول الرقمي في التعليم؟ هذه هي الأسئلة التي سأحاول الإجابة عليها هنا.

العقبات

يواجه نظام التعليم في العراق عدة عقبات تحول دون تحقيق التحول الرقمي في التعليم والاستفادة من التطورات الهائلة في الذكاء الاصطناعي، ومن أهمها:

1. البنية التحتية الضعيفة:  يعاني العراق من نقص في البنية التحتية الرقمية، مثل الاتصال بالإنترنت والأجهزة اللوحية والبرامج التعليمية. وفقا لتقرير البنك الدولي، فإن نسبة الوصول إلى الإنترنت في العراق هي 75%، وهي أقل من المتوسط العالمي. كما أن جودة الاتصال بالإنترنت ضعيفة ومتقطعة ومكلفة، مما يؤثر على تجربة التعلم الإلكتروني. بالإضافة إلى ذلك، فأن المدارس والجامعات تفتقر إلى الأجهزة اللوحية والبرامج التعليمية اللازمة لتطبيق التكنولوجيا في العملية التعليمية. وتوجد فجوة رقمية كبيرة بين المناطق الحضرية والريفية، مما يؤدي إلى تفاوت في مستوى الوصول الى التكنولوجيا والتعليم. وفقا لتقرير البنك الدولي الذي اشرنا اليه اعلاه، فأن نسبة الوصول الى الانترنت في المناطق الريفية هي 58%، مقارنة بـ 84% في المناطق الحضرية. كما أن نسبة الوصول إلى الحواسيب في المناطق الريفية هي 6%، مقارنة بـ 14% في المناطق الحضرية.

2. التدخل السياسي:  يتعرض نظام التعليم في العراق للتدخل السياسي من قبل الأحزاب وبصور مختلفة، مما يؤثر على استقلالية ونزاهة المؤسسات التعليمية. وفقا لتقرير منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، فأن العراق يعاني من ضعف في الحوكمة والمساءلة والشفافية في قطاع التعليم، مما يعيق تطبيق السياسات والبرامج التكنولوجية بشكل فعّال. ومن المشاكل المرتبطة بنظام التعليم والتي تحول دون تحقيق التحول الرقمي بكفاءة وبسرعة والاستخدام الفعال للذكاء الاصطناعي هي الافتقار الى الموارد الكافية والسياسات التربوية والتعليمية الخاطئة ونظام الجودة الضعيف وسوء الادارة والاشراف ونقص البحث التربوي والاداري (الربيعي، 2021).

3. نقص التدريب والكفاءة:  المعلمون والمدرسين في العراق يحتاجون إلى تدريب شامل ومستمر على استخدام التكنولوجيا وتكاملها في العملية التعليمية. وبالرغم من عدم توفر إحصائيات وزارية دقيقة وشاملة تحدد معدلات التدريب للمدرسين والمعلمين الا انه وبشكل عام يعاني العراق من نقص في الكفاءات التكنولوجية لدى المعلمين والمدرسين، مما يؤثر على جودة التعليم والتعلم. كما أن المناهج التدريبية للمعلمين والمدرسين قد تكون غير محدثة أو غير متوافقة مع متطلبات التعليم الرقمي (للمزيد من المعلومات راجع تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية).

4. الفساد الإداري:  الفساد والبيروقراطية هما من أبرز المشاكل التي تعيق تطور التعليم في العراق. وفقا لمؤشر الفساد السنوي الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية، فأن العراق احتل المرتبة 160 من بين 180 دولة في عام 2020، مما دل على انتشار واسع للفساد في جميع مستويات الحكومة والمجتمع، والشواهد كثيرة في هذا المجال. الفساد بالتأكيد يؤثر على توزيع الموارد والميزانيات والمشاريع في قطاع التعليم وبصورة فظيعة.

الحلول

لتجاوز العقبات التي تواجه التحول الرقمي وانتشار استخدامات الذكاء الاصطناعي في التعليم في العراق، اقترح اتخاذ بعض الخطوات والإجراءات من قبل جميع الجهات المعنية بالتعليم، ومنها:

1. توفير البنية التحتية الرقمية اللازمة لتطبيق التكنولوجيا في التعليم، مثل توسيع شبكة الإنترنت وتحسين جودتها وتخفيض تكاليفها، وتزويد المدارس والجامعات بالأجهزة اللوحية والبرامج التعليمية المناسبة، وتأمين البيانات والمعلومات الرقمية.

2. حماية المؤسسات التعليمية من التدخل السياسي وضمان استقلاليتها ونزاهتها. كما يجب أيضا تعزيز الحوكمة والمساءلة والشفافية في قطاع التعليم، ومراقبة وتقييم أداء السياسات والبرامج التكنولوجية بشكل دوري وموضوعي.

3. توفير التدريب الشامل والمستمر للمعلمين والمدرسين على استخدام التكنولوجيا وتكاملها في العملية التعليمية. يجب أيضا تحديث المناهج التدريبية للمعلمين والمدرسين لتتوافق مع متطلبات التعليم الرقمي وتنمية مهاراتهم التكنولوجية في الذكاء الاصطناعي. بالاضافة الى تشجيع التعلم المستمر والتطوير المهني للمعلمين والمدرسين من خلال الايفاد لخارج البلاد وتعليم اللغات والاستفادة من المصادر والمنصات الرقمية المتاحة.

4. العمل على تقليص الفجوة الرقمية بين المناطق الحضرية والريفية في العراق، وضمان توفير فرص تعليمية متساوية ومنصفة لجميع الطلاب. كما يجب توفير الدعم والمساعدة للطلاب الذين يواجهون صعوبات في الوصول إلى التعليم الرقمي أو الاستفادة منه، مثل توفير المساعدات المالية والتقنية والأكاديمية.

5. مكافحة الفساد والبيروقراطية في قطاع التعليم، وضمان توزيع الموارد والميزانيات والمشاريع بشكل عادل وشفاف. يجب أيضا تبني آليات ومعايير واضحة وموحدة للتعاقد والمناقصة والتوريد والتركيب والصيانة والتشغيل في المشاريع الرقمية في التعليم، وفرض عقوبات شديدة على الفاسدين والمفسدين ونشر اخبار العقوبات المفروضة في وسائل الاعلام لردع المخالفات ولزيادة الوعي العام.

6. تحديث المناهج الدراسية لتتوافق مع احتياجات العصر والتكنولوجيا، وتضمين محتوى ومهارات رقمية في جميع المراحل والمواد التعليمية، وتبني مناهج تعليمية مرنة ومتنوعة ومتكيفة مع احتياجات وميول وقدرات الطلاب، مثل التواصل الفعال عبر قنوات رقمية متنوعة واستخدام برامج الانتاجية الاساسية وحل المشكلات بطرق ابداعية باستخدام مهارات البرمجة وفهم اساسيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته والمشاركة في مجتمعات التعلم الرقمي. بالاضافة لذلك لابد ان تشجع المناهج الدراسية على الابتكار والابداع باستخدام التكنولوجيا، والريادة في مجال التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، وتعزيز التفكير النقدي والتحليلي، وغرس قيم المسؤولية والاخلاقيات في استخدام التكنولوجيا.

الخلاصة

التحول الرقمي واستخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم هو ضرورة حتمية لمواكبة التطورات المتسارعة وتحسين جودة التعليم وزيادة التفاعل والمشاركة وتعزيز مهارات القرن الحادي والعشرين وتوفير فرص تعليمية متساوية للجميع. لكن، نظام التعليم في العراق يواجه عدة عقبات تحول دون تحقيق هذا التحول الرقمي، مثل البنية التحتية الضعيفة، والتدخل السياسي، ونقص التدريب والكفاءة، والفجوة الرقمية، والفساد الإداري، والمناهج القديمة. لتجاوز هذه العقبات، يجب اتخاذ الخطوات والإجراءات الضرورية من قبل جميع الجهات المعنية بالتعليم ، بضمنها على صعيد التدريب تنظيم دورات تدريبية منتظمة للمعلمين والمدرسين في مجال التعليم الإلكتروني والتكنولوجيا لضمان قدرتهم على استخدام الأدوات الرقمية بشكل فعّال في العملية التعليمية،  ومشاركة جميع الجهات المُعنية بالتعليم في التعاون لضمان حصول المعلمين على فرص تدريبية مستمرة في مجال التعليم الإلكتروني والذكاء الاصطناعي  والتكنولوجيا.

وباختصار شديد، لتحقيق التحول الرقمي في التعليم في العراق، يجب اصلاح المناهج التعليمية لتتوافق مع احتياجات العصر والتكنولوجيا، والى توفير البنية التحتية اللازمة، وتطوير الكفاءات، وتبني سياسات تكنولوجية فعّالة.

***

ا. د. محمد الربيعي

كثيرون منّا وجدوا في استعادة العبارات الجاهزة سهولة التعبير عن مشاعرهم وافكارهم امام حدث او موقف؛ مثل شعبي، حكمة، قول مأثور، مقطع شعري، جملة مبتورة.. لا نعني بــ "العبارة الجاهزة" تلك المستخدمة في رتابة الحياة اليومية بقدر ما نعني تلك التي تلتصق بلسان صاحبها ويردّدها بشكل تلقائي كردة فعل على عارض مفاجئ. وهذه الظاهرة، التي غالبا ما ترتبط بمن تجاوزوا سن الشباب وصاروا يميلون إلى الاقتصاد باللغة، لا علاقة لها بالثقافة والتعليم ومستوى المعيشة، ولا علاقة لها بجمالية العبارة ووضوحها ومصدرها، فالعقل الإنساني لا ينشغل فقط بالمنطقي والموضوعي والمعقول، فقد يردّد المرء كلمات صوتية لا معنى لها، تبدو كالهذيان او الهمهمة، ولكن الأهم هو انسجام ذلك مع اللحظة المعينة المرتبطة بمزاج صاحبها. كذلك ليس بالضرورة ان يكون الدافع لترديد عبارة ما جودتها وصحتها، ولا حتى نزاهة وموقع قائلها، ولكن المهم هو طريقة توظيفها في سياق اللحظة، فكثير من الاقوال المؤثرة قالها مجانين أو ضحايا أو قتلة لا يتمتعون بسمعة طيبة، ثم التصقت بالذاكرة الاجتماعية. وما زالت اقوال الحجاج بن يوسف الثقفي بحق أهل العراق تتردّد على ألسنة العامة، وعبارة جوزيف جوبلز وزير الدعاية النازي عن المثقفين، واشعار أبو نؤاس عن الندماء، وكلمات الحسين بن علي في الظلم.. فتعافى المجتمع، أو تردي قيمه الاخلاقية، غالبا ما يستدعي قصائده وأمثاله وأقواله التي تنسجم مع ظرفه.

نعود إلى السؤال؛ لماذا تلتصق بألسنتنا عبارات دون غيرها، وتحجز مكانا لها في تلافيف ذاكرتنا، نستعيدها بوعي او دونه؟ فهل المفاجأة هي التي تستدعي رد فعل ينسجم معها فتحضر العبارة؟ ام الإحساس بظل حادثة قديمة هو من يستحضر العبارة، أم ان فعل الاستعادة حالة طبيعية لترميم للذاكرة بعد ان تتراكم الحوادث وتندثر؟ وهناك أسئلة أخرى، إذ لا قاعدة ثابتة في فعل الاستعادة. الشاعر والسياسي (ناصر الثعالبي) عاش حياة محتدمة، في حين ان مقطعا شعريا علق بذاكرته أعوام طويلة يستعيده في لحظات تأمله، يبدو من بعيد لا علاقة مباشرة له بتجربة الشاعر (افطرّه هم ما بيچ يا روحي؟! الورد معذوره منّه!) الثعالبي لم يوضح سببا لتعلقه بهذه الجملة الشعرية العميقة التي ضمنها الشاعر مظفر النواب قصيدته (جايتنه مزنة)، وليس من السهولة فهم علاقتها بتجربة الثعالبي، ولكن يبدو ان الجملة غاطسة في الماضي ومرتبطة بحادثة مشابهة، يجري استحضارها لغرض التوازن الداخلي. بكلام آخر الثعالبي يستعيد الجملة الشعرية له وليس لنا، يرددها حين تدهسه الذكريات، وكأن تجاورا بين الحوادث، أو بين احاسيس الماضي والحاضر، هو الذي يؤدي إلى استعادتها وترديدها (افطرّه هم ما بيچ يا روحي؟! الورد معذوره منّه!)

أن نستل جملة من قصيدة شعر تشكل قطعة من أرواحنا، نردّدها بتلذذ عقود طويلة، لا يعني بأية حال أنها عظيمة أو أن ذائقتنا الشعرية "ذهبية" وكذلك لا يعني ان الشاعر فطن إلى ذلك قبلنا، ولكن اسرار القول الشعريّ هي التي تمس شيئا في ارواحنا في لحظة معينة من سموها، او انكسارها، فتجعلنا نعلق بالجملة الشعرية ونردّدها بصوتٍ خافت. بالطبع ترديد الجملة الشعرية وقوة التصاقها بالذاكرة مرتبط بطبيعة الفرد، وقد تختلف دلالته بين العاشق وغيره، بين المترف وغيره، بين الثوري وغيره. فللشاعر "علي الشيباني" قصيدة شعر قرأها أيام المد الثوري بالعراق في سبعينيّات القرن الفائت، التصق منها بذاكرة الروائي "سلام إبراهيم" مقطعا ردّده أعوام طويلة (يا ريتك تخلصني، الحزن مثل الخبز، مثل القميص) يروي "إبراهيم" كيف أنه صادف يوم سماع القصيدة أحد معارفه على دراجة هوائية بالشارع ثم توقف وأنشد تلك الصرخة الشعرية بصوت عال ويده تعت بقميصه. إنّ استعادة "إبراهيم" هذا المقطع الشعري دون غيره تشكل مادة للتأمل، فللشيباني قصائد أجمل وأعمق، فلماذا علقت بذاكر "إبراهيم" هذه الجملة الشعرية، ردّدها في البارات والجبال والمنافي طوال أربعين عام. تكرار الجملة لا يعتمد كليا لا على الذاكرة ولا على اللغة، وإن كان يوظفهما، فهي عملية نحت فردية تعتمد تجربة الفرد وطبيعة الحوادث التي تضغط لاستحضار جملة شعرية دون غيرها. قد تكون عروق هذه الجملة الشعرية مطمورة في شوارع مدينة الديوانية، وان معناها في مكان آخر وظروف أخرى، وأن "إبراهيم" في استعادتها يبحث عن علاقة بين لحظتين حدثتا في زمنين مختلفين. على العموم فعل الاستعادة هنا لا يأتي من فراغ، خصوصا وأن "إبراهيم" من أقرب أصدقاء الشاعر علي الشيباني، حفظ أشعاره ووثق سيرته. وعندما توفى الشاعر علي الشيباني كان "إبراهيم" بالمنفى، وفي عودته بحث عن قبره، وقرأ عنده ذات المقطع الشعريّ، ولكن هذه المرة بجسدٍ هدّه المنفى (يا ريتك تخلصني، الحزن مثل الخبز، مثل القميص).

إنّ أغلب العبارات الجاهزة التي التصقت بذاكرتنا وألسننا هي صورة من تشابك الماضي بالحاضر، استنفذت الكثير من الوقت لتثبت في ذاكرتنا، وتتكرر على ألسننا. بمعنى انها ليست لنا، وأحيانا لا نعرف صاحبها ولا ندري بكم من الأعوام سبقتنا، وبالتالي نحن ناقلين لها، نتوسط من قال ومن سمع، ونردّدها كنوع من المشاركة الاجتماعيّة. اعطى ذلك الانطباع بقرب فعل الاستعادة والتكرار من الثقافة الشفاهيّة، نلمسه في كثرة الاشعار الشعبية والامثال التي نردّدها أحيانا دون سبب واضح، أو دون معرفة بأصل العبارة ومعناها. فكثير من المواقف في حياتنا لا اسم لها وقد تحتاج الإشارة إليها فقط كلمة او همهمة او هزة يد او عبارة صوتية لا معنى لها ولا جذر لغوي. فعبارة (تهيّ\بهيّ) أو تهيه\بهيه) التي تبدو خارج نظام اللغة، عبارة شائعة في مناطق الفرات الأوسط بالعراق، باتت مقبولة في ثقافة مشتركة ولهجات متقاربة. هذه العبارة الصوتية لا معنى محدّد لها، معناها يتشكّل اثناء الحدث إن كان يأسا او استغرابا او رفضا أو سخرية. إنّ الاستعمال الواسع لعبارة (تهي\بهي) لا يوحي بانها فضلة لغوية، وأنها خارج نظام اللغة، بقدر ما هي حالة انسجام بين الحس الشعبي والحدس اللغوي، تساعد في فهم العبارة والقدرة على توظيفها حسب طبيعة الموقف. ينبغي التأكيد هنا على ان العبارات الشائعة قد لا تلتصق بكل الذاكرات، وليس على الدوام لها ذات المعنى، وقد يختلف الافراد عن المجموعات في أسلوب استعادتها وتوظيفها. فالأفراد غالبا ما يرددون عبارات مشهورة ومعروف سياقها الثقافي\الاجتماعي، في حين ان المجموعات لها مسلك مختلف في ترديد الاقوال عن الافراد، بسبب الطبيعة اللاواعية التي تعيشها المجموعة، كما هو في عبارة (تهيّ\بهيّ) المجهولة المصدر. أردنا القول انه فيما يخص الثقافة الشعبية لا يمكننا الجزم بأمر معين، فقد تنتشر عبارة واضحة المبنى لكنها عاطلة المعنى كما هو في عبارة (ليش يا ربي.. أوف يا ربي) التي يرددها العراقيون عندما تواجههم مشكلة. فهذه العبارة تبدو ظاهريا اعتراض على إرادة رب العالمين، في حين انها عبارة شكوى وتذمر وعتب تعوّد بسطاء الناس على ترديدها وكأن الله جار لهم يسمع ندائهم وشكواهم. وحتى لو جرى توضيح اضطراب عبارة (ليش يا ربي.. أوف يا ربي) فذلك سيكون متأخرا، وستكون العادة قد ذهبت بعيدا في صقل الألسن والنيات. في لقاء ممتع جمع طلاب عرب بالراحل "أميل حبيبي" بموسكو العاصمة روى فيه حكاية مناضل فلسطيني كان يردد على الدوام مقطعا شعريا لا يعرف قائله (لولا الحياء لعادني استعمار\ ولزرت قبرك والحبيب يزار) روى الراحل كيف أنه صحح له الخطأ، استعبار وليس استعمار، وأنه مقطع من قصيدة لجرير في رثاء زوجته أُم حزرة "خالدة بنت سعد" وأن الاستعمار لم يكن موجودا زمن الدولة الأموية. روى الراحل كيف ان صديقه اقتنع بكلامه، لكنه استمر على تكراره (لولا الحياء لعادني استعمار\ ولزرت قبرك والحبيب يزار). حكاية "أميل حبيبي" مثل كتاباته ملفوفة بسخرية سوداء، قال يومها " نحن بهؤلاء واجهنا الاحتلال الاسرائيلي".

تحدثنا عن "العبارة الجاهزة" الراكدة في الذاكرات وكيف أن استعادتها يعتمد على ظروف برانية، مثل تجاور الحوادث والمواقف، أو انبعاث الاحاسيس التي تربط الماضي بالحاضر، وكذلك قلنا ان لا قاعدة لالتصاق العبارات بألسن أصحابها، فقد يكون العارض المرضي هو من يصنع، او يستعيد العبارة، فالدماغ ما زال طلسما عند علماء الاعصاب والطب النفسي. يُروى عن سقوط أحد المقاتلين الشيوعيين هو وبغلته من جبل عال، مات والبغل وحدث ارتجاج في طاسة رأس راكبه "أبو سرور" هكذا كانوا يلقبونه. ثم عجز "أبو سرور" عن التواصل ومجاراة الكلام، وصار يمسك فقط بنهاية الكلام ويردّده بسخرية، فإذا انتهى كلام المقاتلين بمفردة عن السلاح، سيكمل الجملة أبو سرور (هو سلاحيش يخويه..) وإذا انتهى كلام المقاتلين بمفردة عن مسؤول كبير، سيكمل أبو سرور الجملة (هو مسؤوليش يخويه..) قد لا تتكرر الحادثة ولا الشخوص ولا الكلام، ولكن الإشارات الحسية المنبعثة من تلك اللحظة هي التي تستدعي حضور الجملة، يطلقها أبو سرور ويمضي.

إنّ فعل الاستعادة، كردة فعل على حادثة مفاجئة، قد يكون خاليا من الحروف والكلام، فنجد أحدهم يبتسم دوما بسخرية في مواجهة المواقف السلبية، وآخر اعتاد تحريك يده في الفراغ استغرابا مما يحدث، وثالث يهمهم كلما حوصر بالمصادفات اللعينة. فيما يخص الأخيرة "الهمهمة" فبسبب السكون الذي يلفها ظنّها البعض طارئة تأتي لاختصار الوقت، أو للتحفظ عن الرد، أو انها تسد ثغرة في أسلوب التعبير الذي لا تستطيعه اللغة، في حين ان تكرارها يأتي من عمق روحي غامض، تزداد فاعليته بغياب الكلام. خلو الهمهمة من كلام لا يعني خلوها من مضمون، فتكرارها كوحدة صوتية يؤكد مضمونها. وفي حال خلت الهمهمة من مضمون ستكون أكثر ظلمة، لأنها ستكون من مخ مليء بالأشباح. في الحقيقة نحن نتحدث بالعموم عن الهمهمة، وغالبا ما نؤول أسباب استعادتها، إذ لا سبيل لتبيّن اسرارها، باعتبارها بنية نفسية مغلقة، مفتاحها عند صاحبها. في اللغة "الهمهمة" هي التكلّم مع النفس بصوت خفي، مثل سير الإبل على الرمال، ولكن بحثنا عن معنى للهمهمة فقط في القواميس لن يساعدنا كثيرا. الهمهمة والذهول والتلعثم وحركات الجسم اللاإرادية.. هي سجل للمشاعر والاحاسيس والمواقف الدفينة التي لا تستطيع اللغة حيالها الكثير، وقد تكون أبعد ممّا تشترطه اللغة. إنها رماد اللغة.

***

نصير عواد

 

ومع مجىء الليل الدامس، استيقظت على صوت صرخات باكية قادمة من كل حدب وصوب؛ فاندفعت نحو النافذة ألتمس سر هذه الأصوات. وإذا بامرأة مرتدية ثوبًا أسود قاتمًا، تحمل مصباحًا لينير طريقها المعتم. اقتربت المرأة شيئًا فشيئًا من نافذة غرفتي، وكأنها تريد محادثتي، لم أملك إلا أن ألبي نداءها؛ فخرجت مسرعة باتجاهها ولكنها اختفت كلمح البصر. ومع ذلك تتبعت صوت الصرخات المدوية، فقادتني إلى قصر عتيق تبدو عليه علامات الشيخوخة من نوافذه المتعددة تطل نساءً كثيرات، وفي إحدى هذه النوافذ ذات الزجاج المحطم رأيت السيدة حاملة المصباح. اتجهت بخطوات قلقة نحو القصر؛ ففوجئت بأستاذي د. "حليم عثمان" و د. "نجيب راشد" وصديقتي الصدوق "نور الهدي"، وإذا د. "حليم عثمان" قائلًا: كأنما الأمر لم يكن وليد المصادفة؛ لابد من أن السيدة حاملة المصباح قد جمعتنا هنا لغاية في نفسها.

-  نعم أستاذي هناك شيء ما وراء هذه السيدة ومصاحبتها للأصوات الباكية. لم يتحدث أستاذي د."راشد"؛ ولكنه كان ينظر نظرة فاحصة إلى القصر المنهك، وبادر بفتح بابه الحديدي للدخول. ووجدنا مصباحًا مشتعلًا بجوار المدخل، حمله  أستاذي "د.عثمان" وتتبعنا هذه الأصوات لتقودنا إلى حديقة القصر حيث السيدة حاملة المصباح يبدو على وجهها الذل والانكسار؛ فقد جفت عيناها الحمراوان على إثر دموعها المنهمرة ، وقد كانت متكئة على إحدي شجرات الحديقة الباكية.

السيدة: قائلة بصوت مبحوح لقد استدعتكم هذه الصرخات لتعبر عن الظلم الذي طال النساء منذ فجر التاريخ الإنساني، قد ظل الرجال يبطشون بنا ويسعون إلى تهميشنا وحرماننا من أبسط الحقوق المشروعة. وها أنا واحدة من تلك الأصوات المعذبة. أتتذكرين كلماتي ا.آمال لا توجد فائدة.

- نعم أتذكر هذه الكلمات يوم لقائنا سيدة "زانثيب" زوجة الفيلسوف "سقراط"، والأم لأبنائه الثلاث إمبروكليس وسوفرونيسكوس ومينكسونوس، فقد علمنا من تراث الفكر الفلسفي بعلاقتك غير المثالية بزوجك الحكيم، مع أنه كان ملهمًا لكثير من البشر. (1)

- زانثيب: تنهدت بحزن وبصوت مكسور قائلةً: مع أن الحكيم كان ملهمًا لكثير من البشر لم يحقق التوازن والانسجام في علاقته معي كشريكة دربه، والسبب في ذلك –كما يقال-  "هو تأنيبي وتوبيخي المستمر له؛ بسبب عدم تحمله المسؤولية والاهتمام بعائلتنا، فأصبحت في نظر الجميع الزوجة التي تتصرف بأسلوب ينافي اللياقة والآداب التي يجب أن تتسم بها المرأة الأثينية؛ لكثرة توبيخ الحكيم أمام أصدقائه".[1] (1)

-  أشعر من حديثك أن كل ما تحلمين به هو ما ترغب فيه أي امرأة أن يشاركها زوجها تحمل مسؤولية شؤون عائلتهما. وهذا للأسف ما يفتقده الحكيم لعل كثرة  تأنيبك وإلقاء اللوم عليه أمام  الجميع، أحدث خللًا في العلاقة الزوجية بينكما.

- نور الهدى: سيدة "زانثيب" مع هذه الخلافات وعدم التوافق بينكما؛ فلماذا اقترن الحكيم بك؟

-  زانثيب: يبدو على ملامح وجهها علامات الألم والأسى قائلةً:  في قصة زواجنا ذكريات تنقر على أوتار قلبي نغمات الحسرة والشجن "فقد كنت أصغر من "سقراط"  بقرابة 35 عامًا عندما تزوجته"، وأكثر ما يؤلم قلب المرأة قد فعله بي منزل الفلسفة من السماء إلى الأرض؛ فعندما سُئل عن سبب اختياره لي كرفيقة دربة، لم يذكر أنه انجذب إلىَّ؛ بسبب جمالي أو حبه لي، بل قال: إنه اختارني؛ لأنني كنت ذات طبع عصبي وناري، وكان يرى في ذلك فرصة لتحفيز تفكيره الفلسفي وتدريب نفسه على المناقشات الجدلية([2]) (2) . وأعتقد أنه إذا استطاع أن يتعامل معي بانسجام، سيتمكن من التحدث مع أي شخص في أثينا.([3])([4])  (3) (2) وأصبحت مقولته الشهيرة "تزوج يا بني فإن وفقت في زواجك عشت سعيدًا، وإن لم توفق أصبحت فيلسوفًا ترمز لتسلطي وشراستي معه([5]). (4) وما أغرقني في بحر الحزن حديثه عن إعجابه بحكمة "ديوتيما" فقد وقف منها موقف التلميذ من الأستاذ ليقتبس منها، ويتلق عنها معرفة الحب باعتبارها معلمته في الحب[6]، إلى جانب إعجابه بفصاحة "إسبازيا" فهي من علمته البيان([7]).(5) ومع حبي الشديد له إلا إنني اشعر أن الحياة انطفأت بداخلي من شدة تهكمه عليَّ وإعجابه بالأخريات.

نور الهدي: أشعر من نبرة صوتك صدى المعاناة من هذا الوضع المميت لمشاعر أي أنثى - سيدة "زانثيب"-  عندما تكتشف أن شريك دربها لم يتزوجها بدافع الحب والاهتمام. وللأسف الشديد كان الحكيم أنانيًّا بشكل لافت للنظر؛ فشغله الشاغل الانغماس في عالمه الفكري والفلسفي وزواجه منك فرصة لتطوير مهاراته الجدلية والفكرية دون أن يضع في الاعتبار مشاعرك كأنثى.

-  زانثيب: لم يكن هذا كل شيء أستاذة "نور" فعلى الرغم من مشاركته بانتظام في المناقشات الفلسفية، إلا إنه رفض قبول أي مقابل مادي نظير هذه المناقشات؛ فقد كان لديه قناعة راسخة بأن السعي وراء الحكمة والحقيقة هي الهدف الأسمى للفيلسوف. ومن ناحية أخرى، لم يكن لديه وظيفة أو مصدر للدخل المادي لإعالة عائلتنا[8]، لكن ماذا عن وضعي ووضع أبنائنا؟ هل عائلتنا في دائرة اهتمامات وتفكير الحكيم كمناقشاته الفلسفية التي لا تنقطع؟ الحقيقة أنه لم يضع في اعتباره رعاية أسرته وتوفير احتياجاتها[9].

- د. عثمان: لقد تخلى "سقراط "عن دوره كرب أسرة ومعيل لهم، لينشغل بمناقشاته الفلسفية تاركًا عليك "زانثيب" عبء الإنفاق والرعاية. وهذا، لا شك، ينهك قدراتك البدنية والعاطفية، بوصفك المسؤولة الوحيدة عن توفير الاحتياجات المادية للأبناء. لعلك انتابك الشعور بالقلق الدائم على مستقبل أبنائك.

-  يبدو لنا أن ارتباط الحكيم "سقراط" بالحياة الفلسفية جعل السيدة "زانثيب" تشعر بأنها مهمشة؛ فأخذت تعاني من الوحدة والحرمان؛ بسبب إهمال أبي الفلسفة اليونانية لها، وهذا النوع من الإهمال العاطفي من جانب رفيق الدرب يعذب توأم روحه. وأخذت التساؤلات تراودني هل كان سقراط يدرك مدى تأثير غيابه على زانثيب؟

- زانثيب: الأسوأ من ذلك طالما كان زوجي الحكيم ينغمس في حالة السُكر خلال تلك الندوات الفلسفية التي يحضرها الرجال فيشربون من وعاء نبيذ مشترك، وبمجرد أن يصبح الجميع لطيفين، تبدأ المناقشة الفلسفية أما أنا فأظل وحيدة في منزلي، أترقب عودته في وقت متأخر من الليل تسكنني الهموم لرؤيته بعد أن أفرط في شرب النبيذ[10]. (3) أليس بإمكان سقراط أن يقضي بعض الوقت مع عائلتنا؟ ألم ينتبه لحالة الحزن والانكسار التي تخيم على مشاعري؟

وتستمر زانثيبي في الحديث أريدكم مشاركتي لحظة وداعه الأخير يوم إعدامه فعندما دخل أصدقاؤه إلى الزنزانة، كنت أجلس بجانبه، ممسكة بطفلنا الأصغر بين ذراعي. غارقة في بكائي عليه فأخذت انتحب وأندب.  أتعتقد د. "عثمان" أنه أخبرني بحبه لي؟ هل احتضن طفلنا وقبله وأخبره أن كل شيء سيكون على ما يرام د. "راشد"؟ أنه طلب من أحد أصدقائه إيصالي للمنزل دون وداع[11].(5)  حاولت "نور الهدي" تضميد جراح "زانثيب" وتخفيف وطأة المحنة التي أثقلت كاهلها مبررةً موقف سقراط قائلةً:

- نور الهدى: ربما  أراد إبعادك عن الزنزانة حتى لا تشاهدي المشهد المؤلم لحظة إعدامه وهو يعلم مقدار حبك وتعلقك به؛ فأراد أن يجنبك لحظة الفراق المميتة لقلبك. [12](3)

زانثيب: كلا عزيزتي أراد الجلوس مع أصدقائه وتلاميذه آخر لحظاته مصممًا على إكمال مناقشته الفلسفية.[13](3) عن خلود النفس قبل رحيله[14].(6)

- نور الهدي: لقد أصبح أمر العلاقة بين "زانثيب" وسقراط واضحًا للجميع؛ لقد كان زوجًا وأبًا فاشلًا في كثير من الجوانب. وللأسف الشديد أن تصور سقراط  السلبي عن زوجته بصفة خاصة والمرأة بصفة عامة ؛ إنما يعكس رؤية المجتمع اليوناني القديم للمرأة والذي امتد عبر العصور الفلسفية إلى يومنا الحالي. وفي هذه اللحظة راودني تساؤل هل كانت زانثيب على حق تمامًا في كل ما أثارته من شكاوى ضد سقراط؟ أم أننا  في حاجة إلى مزيد من التحري والبحث للوصول إلى الحقيقة؟ وهنا تحدثت زانثيب بصوت مفعم بالحزين والشجن .

- زانثيب: ومع عدم رعاية واهتمام زوجي بي وبعائلتنا إلا إنني لم أعمم ذلك على  كافة الرجال والفلاسفة. فقد رأيت كيف يُظهر د. "عثمان" الحرص والاهتمام بحفيدته "كنزي" وكيف يعتني د. "راشد" بابنه "أسلم" وإخوته. لقد تمنيت أن يقدم زوجي الحكيم "سقراط" هذا النوع من الرعاية .

-  أوصلتنا "زانثيب" إلى خارج القصر قائلةً كل ما أتمناه منكم نقل صوتي إلى الحكماء والمفكرين إلى ضرورة تغيير الصورة النمطية عن بنات حواء. وهنا قاطع د. راشد الصمت متحدثًا

د. راشد: أذكركم جميعًا أننا  في حاجة ماسة إلى الدعوة للتكامل بين «إيزيس» و «أوزوريس» على مستوى الحياة الخاصة والحياة العامة والحرص على دعم الأسرة بوصفها النواة الأولى في تكوين مجتمعاتنا وتقدمها. والحرص على معالجة غياب النساء واستبعادهن من السجلات التاريخية على مر العصور من خلال إبراز الدور الذي مثلته النساء في كافة  المجالات التاريخية والسياسية والأدبية والفلسفية والعلمية وغيرها.

ومع مولد الفجر الجديد خرجنا من القصر العتيق المتهالك، وتفرق  كل من أستاذيّ وصديقتي عند مفترق الطرق. وتركني الجميع وحيدة وحائرة أمام هذا التشعب من الطرق إلى أين اتجه؟ وفي هذه اللحظة همس في أذني صوت جدتي "حتشبسوت"، إن مأساة النسوة في زمن مُنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض تحتاج منك أن تتقدمي بثبات نحو هذا الطريق وتتطلعي إلى آفاق جديدة بصحبة "الهرمنيوطيقي العربي"، ترى إلى أين سيأخذني هذا الطريق؟ ومن يكون الهرمنيوطيقي العربي؟

***

د. آمال طرزان - مصر

........................

المراجع:

https://www.encyclopedia.com/women/encyclopedias- almanacs- transcripts- and- maps/xanthippe- c- 435- bce

https://totallyhistory.com/socratess- wife- xanthippe/

Van Bryan: Five Reasons Why Socrates Was A Terrible Husband, In March 3, 2014

https://classicalwisdom.com/people/philosophers/five- reasons- socrates- terrible- husband/ , In: 14/5/2024,  10:25 pm.

(4) مصطفى غالب: سقراط في سبيل موسوعة فلسفية، ط1، دار مكتبة الهلال، بيروت،1989م، ص 11.

(5) إمام عبد الفتاح إمام: نساء فلاسفة في العالم القديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1996م، ص175-  158

(6) يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، 2017 م، ص7.

معًا نحو حركة نسوية شرقية

 

يمكن الإحاطة دلاليا بهذا المفهوم العصي، وعلى نحو نسبي نوعا ما، في ضوء الآية الكريمة (105) من سورة التوبة، يقول تعالى:

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

مع ما يُستفاد منه ورود ثلاثة مستويات تواصلية معنية بالفعل البشري في حدود ترجيح كفّة الخيري وتبنّي منظومته، قدرا جالبا للاعتدال أو التوازن الإنساني والمجتمعي.

أولا بالنسبة للذات، كونها مطالبة بفتح مرايا الكينونة ومواجهتها المواجهة الحقيقية الفاضحة للأقنعة والزيف النرجسي.

على اعتبار العمل الصالح، وحتّى نبقى في السياق الذي ترمي إليه المرجعية الدينية، استكناها، سواء من الآية الكريمة المذكورة أو باعتماد الأحاديث النبوية الشريفة.

كما هو وارد عن الرسول الأكرم (ص) قوله: (إذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثم أَصابَ فله أَجْرَان، وإِذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثم أَخْطَأَ فله أَجْر).

مع أن الحديث منقوص وأنه يشترط أن يكون الاجتهاد المشروط بالأجر هو اجتهاد الحاكم بمعنى القاضي*.

وإذا ما حصرنا طرحنا وحدّدناه في هذا المفهوم، أي الاجتهاد والذي يحمل دلالات في الكتاب والسنة، تمّ تمريرها إما بشكل مباشر، مثلما يعكس ذلك هذا الحديث، أو ضمنيا كما توحي بذلك الآية السابقة.

قلت إذا ما اختزلنا الحمولة الدلالية لهذا المفهوم في الاجتهاد الايجابي الذي ينصّ عليه المقدس، بشكل عام، نلمح كيف أن ولادته وترعرعه إنما يكون ابتداء في مركزية ذاتية الكائن، ومن ثم تبرز ثماره على الذات وتتناسل، بما يثير إعجاب وقبول الآخر/ المؤمنين، وبما هو مدعاة للتنافسية ضمن خارطة الخيرية والتعمير، فضلا عن سائر ما يبرهن على الرقابة الإلهية ويغذي الشهادة النبوية ههنا/ فسيرى الله عملكم ورسوله.

ثانيا مستوى الغيرية، بحيث يبرز ذلكم الطرف الذي يتفاعل إيجابيا كذلك،  ويصدر عنه رد فعل حميد ، بدوره دال على الاعتدال والتوازن والنأي عن الضغائن والأحقاد.

هكذا تتحقق تجليات الخيرية في ارتباط بالمرجعية التي قد تتيح تشبعا بروح التنافسية كحدّ أدنى لقهر بهيمية الكائن وقمع نزوعه الشيطاني إذ يشوه المرايا الأنوية، ويقود إلى مستنقع ما هو مناقض بالتمام للاجتهاد الإيجابي وصون المقدّس لخيارات ورهانات تخليقه، أي كمفهوم وممارسة كذلك، والتقعيد لمعانيه السلوكية والثقافية والوجودية.

الغيرية إزاء مرايا الذات العارية والصادقة والمتمرّدة على الأقنعة، في فعل بملمح ملائكي نوراني، راع لمعطيات الخيرية.

ثالثا الرقابة الإلهية والشهادة النبوية، وهما أقوى خاصيتان في مثل هذه المقاربة، بالتأكيد، وكيف أنهما شكّلتا لازمة، تنعت الخطاب العقلي، بعدّه جوهر الاجتهاد الإيجابي ووقوده، تبعا لديباجة دينية تروم الكمال الوجودي وتنشد الروح الحضارية في أقصى الأبعاد.

بالتالي، هي مستويات تتضافر وتتشاكل لتصنع أفقا طوباويا راويا للخيرية الإنسانية المقبولة في الأرض والمباركة في السماء، وفق خطوط نفسية وسلوكية تحتفي بالعقل، ضمن انتماء إنساني أوسع، يتخطى العقدي والعرقي واللساني، ليدمغ بحجج وبراهين المشترك، رافلا بهوية كونية ترعاها عين ربانية ساهرة لا تنام.

علما أن الاجتهاد يبقى اجتهادا، بدليل ما وصل إليه وأدركه العقل الأجنبي، السّباق إلى ابتكارات واختراعات شتّى، حدّا جعل ثمراته وقطوفه في متناول الإنسانية جمعاء، بحيث لم يبق حكر المنطق الاستهلاكي، على مصادره وينابيعه، إنما تعدّى ذلك إلى عالمية وعولمة.

ولقد تعمّدت هذا التقسيم، فقط، لإيضاح حقيقة كثيرا ما نغفل عنها، وهي أهمية المسؤولية الوجودية التي يناضل في رحابها المسلم مذيلا هذا السفر الحياتي الخاطف والعابر بمفازة أخروية خالدة وباقية، وشاهدة أيضا على مسرح تفعيل وتثوير العقل الإسلامي، تبعا لمنسوب طاقي ينبذ الغلو والتكلّف، ليغدق على الذات في مركزيتها ووسائطيتها وفي فلك ما يمتدّ عنها ويكمّلها، بنكهة وخصوصية وقداسة الاجتهاد الإيجابي.

لا كما عند غير المسلم، وإن اجتهد فإن ما قدّمه لا ينزاح عن نطاق المنقطع والبائد، مادام هذا المجتهد يُحرم، دونما حصاد جوائز جهوده بعد الموت.

هذا ما يضفي، شرعية، ربما، على هذا التقسيم، أمّا فيما يتعلّق بباقي دوال رسائل الخيرية الوالج الاجتهاد عقيدة وسلوكا في بلورة أنويتها، فهو غير مجد ولا أهمية له، اللهم ، ما تبدّى من زاوية محاربة تاريخ فصل مفهوم الاجتهاد الألصق والأشدّ لحمة بالخطاب العقلي، مثلما هو معلوم ومتّفق عليه، والحيلولة دون محاولات التعتيم على الاجتهاد في لبوسه العدمي المتناقض جملة وتفصيلا، مع وصايا وتعاليم المقدس إجمالا.

***

أحمد الشيخاوي - شاعر وناقد من المغرب

............................

* التوثيق: من صحيح البخاري- الباب الحادي والعشرون- 7352

 

الحكومات هي الجهة الأقدر على تغيير ثقافة المجتمع. هناك بطبيعة الحال جهات أخرى قادرة على إحداث تغيير بقدر ما (من سينما هوليوود حتى متاجر علي بابا). لكن لا أحد يباري الحكومة في قدرتها على إنجاز هذه المهمة. وأذكر لهذه المناسبة رؤية المفكر الأميركي بنديكت أندرسون، التي أقامت أساساً متيناً لدراسة مفهوم الهوية الوطنية والدولة القومية. رأى أندرسون أن تكوين هوية الأمة أو الجماعة الوطنية، يبدأ باستعراض انتقائي للتجربة التاريخية، وتحديد الفقرات التي ستشكل «التاريخ الرسمي للبلد» والذي سيكون - في نهاية المطاف - المرجع الرئيسي للهوية الوطنية.

لو نظرنا إلى واقع الحياة، فسوف نرى أن غالبية الناس، يعرفون أنفسهم من خلال الأوصاف التي أخبرهم بها أشخاص آخرون. خذ مثلاً معرفتك بآبائك وأجدادك، كيف توصلت إليها... أليس بالمعلومات التي سمعتها من أبيك أو جيرانك. حسناً، ماذا لو كانت هذه المعلومات مضخمة أو مبتسرة أو نصف حقيقية، أو هي معلومات مختلطة بالأماني والعواطف، فهل ستعرف ذلك التاريخ على حقيقته؟

إذا كنت تدعي لنفسك هوية عائلية أو قبلية أو تجربة تاريخية من أي نوع، فاعلم أنها ليست سوى روايات الآخرين، التي قد تكون دقيقة محققة، وقد تكون مجرد «سوالف»، هذا ما أسماه أندرسون «جماعة متخيلة» أي هوية متخيلة. وهو وصف ينطبق على كل الجماعات والطوائف والأمم، بلا استثناء، حسب اعتقادي.

تحدث أندرسون أيضاً عن دور الطباعة، أي الكتب والصحافة المطبوعة، التي أنتجت ما يمكن وصفه بثقافة معيارية مشتركة، كما ساهمت في توحيد لغة الخطاب، أي ما يقال وما لا يقال في المجال العام. وهذا هو الأساس الأولي لما نسميه «العرف العام». لا ننسى أيضاً دور التعليم الرسمي والمنابر العامة الاجتماعية، التي ساهمت بشكل فعال في رسم صورة موحدة عن الذات الجمعية، مستندة إلى تاريخ انتقائي أو فهم محدد لما جرى في ذلك التاريخ.

لا شك إذن في قدرة الحكومة على صياغة الثقافة العامة وتوجيهها؛ لأنها تملك كل الأدوات اللازمة لهذه المهمة. وقد أشرت سابقاً إلى أن جميع الحكومات قد استثمرت هذه الإمكانية ولم تفرط فيها.

لكن السؤال الذي ربما يراود بعض الناس: إلى أي حد ينبغي للحكومة أن تستثمر هذه القدرة... هل يصح للدولة أن تتحول صانعاً لثقافة المجتمع، أم تكتفي بإرساء الأرضية اللازمة للمصلحة العامة أو النظام العام؟

توصلت في دراسات سابقة إلى أن الطبقة الوسطى في المجتمعات التقليدية، ترغب إجمالاً في تبني الحكومة دور صانع الثقافة العامة، بل وما هو أبعد من ذلك. أما في المجتمعات الصناعية، فان الطبقة الوسطى تميل بقوة إلى تقليص دور الحكومة في هذا المجال، واقتصاره على دعم الهيئات الأهلية النشطة في المجال الثقافي. يرجع هذا التمايز إلى الدور التحديثي للدولة، وفق رؤية ماكس فيبر، أبرز آباء علم الاجتماع الحديث. ففي المجتمع التقليدي تلعب الإدارة الحكومية دوراً محورياً في عقلنة العرف العام وغربلة التقاليد، وصولاً إلى جعل الحياة العامة مرنة ومستجيبة لتيارات التحديث. وهذا هو بالضبط الدور الذي تريده الطبقة الوسطى. أما في المجتمعات الصناعية، فإن مهمة التحديث منجزة فعلياً، وإن الخيارات الثقافية تصنف ضمن المجال الشخصي، حيث تتجلى الحرية الفردية في أوسع نطاقاتها، الحرية التي لا يريد الإنسان الحديث أن تتقلص أو تمسي عُرضة للاختراق، من أي طرف كان.

أميل للاعتقاد بأنه خير للدولة أن تقتصر على التخطيط لأهداف العمل الثقافي الوطني ودعمه، من دون التدخل في تفاصيله. ربما يقول بعضنا إن المجتمع لن يفعل شيئاً ما لم تبادر الحكومة إليه. وهذا أمر محتمل جداً. لكنني أظنه نتيجة لنوع من التوافق السلبي على هذه المعادلة، أي أن الحكومة تملك كل شيء فعليها أن تفعل كل شيء. ولو بدأنا في تغيير هذه المعادلة، فربما يتغير الحال، ولو بعد حين.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

في المفهوم: لا يستطيع أحد أن ينكر حاجة الإنسان المستمرة للكشف والمعرفة، وتوقه الدائب للعلم والإحاطة، وهو ما يتطلب أدوات معرفيّة تُجدّد باستمرار، كما لا يستطيع أحد أن ينكر حاجة البحث- والنقد الأدبي على وجه الخصوص- لكل ما يستجد من فكر ونظر ما دام- في النهاية- سيصب في نهر الوعي الإنساني ويخدم البحث عن " الحق " والحقيقة التي يسعى إليها الإنسان في كل زمان ومكان.

هي سلسلة من الدراسات المتعلق بمناهج النقد الأدبي، قمت بتسليط الضوء على أهم هذه المناهج ليس من باب اهتمامي بالنقد الأدبي، فأنا لست ناقداً أدبيّاً في الأساس. أنا باحث وكاتب في قضايا الفكر وباتجاهات عدّة، سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة ودينيّة وأبستمولوجيّة وفلسفيّة وما يرتبط بها بعلم الاجتماع، ومنها دراساتي المتعلقة أيضاً بقضايا المناهج الفكريّة الحديثة والمعاصرة التي تعاملت مع قضايا الواقع الإنساني وطريقة تفكير الإنساني وعلاقة الفكر بالواقع.

إن الذي شدّ انتباهي في الحقيقة لدراسة مناهج النقد الأدبي هو ذاك العمق المعرفي الذي تتحلى به هذه المناهج من جهة، ثم درجة ارتباطها بالواقع وقضاياه، رغم أن بعضها يحاول التهرب من مضمون الواقع والتركيز على الشكل فقط، إلا أنه لم يفلح من كون الشكل ذاته هو انعكاس للواقع بالضرورة جهة ثانيّة، وأخيراً ارتباطها بالمناهج الفكريّة والفلسفيّة وعلم الاجتماع من جهة ثالثة، فكل هذه المناهج بشقيها الفلسفي والأدبي تكمل بعضها في فهم الظواهر التي يراد دراساتها. بيد أن مناهج النقد الأدبي وخاصة التي ربطت ما بين شكل الظاهرة ومضمونها، كالمنهج الواقعي، والبنيوي التكويني، ومنهج النقد الثقافي، والمنهج التكميلي، فهذه المناهج تمدُّ الدارس لها في الحقيقة بمعرفة آليّة التفكير، ثم طريقة تحليل الظاهرة وإعادة تركيبها باستخدام أدق وسائل المعرفة النظريّة، والبحث عن المسكوت عنه، أي المضمر في الظواهر المراد دراستها. أي هي تفسح في المجال واسعا للعقل الإنساني أن يمارس دوره في التقصي والبحث عن الحقيقة بعيدا عن ما هو مثالي وميتافيزيقي، بالرغم من أن هناك الكثير من مناهج ما بعد الحداثة تشتغل على الذاتيّة وتعمل على تفتيت الظواهر أو تفكيكها أو التمسك بشكلانيتها على حساب المضمون، ولكنها تظل برأيي ترخي العنان للعقل كي يتحرك بحريّة لتحليل الظواهر وفرض سلطته المعرفيّة عليها.

دعونا بداية نتعرف على أهم مبادئ وسمات وخصائص "منهج الأسلوب" في النقد الأدبي. الذي أعتبره مفتاح أو بوابة معرفة النقد الأدبي بشكل خاص، وآليّة تفكير منطقي وعقلاني بشكل عام.

إن مفهوم كلمة (أسلوب)، قديم قدم استعماله، ولعل أقدم إشارة إلى هذا المصطلح (الأسلوب) وردت في كلام (أرسطو) حيث أراد به طريقة التعبير، فقال: (حقاً لو كنا نستطيع أن نستجيب إلى الصواب، ونرعى الأمانة من حيث هي، لما كانت لنا حاجة إلى الأسلوب ومقتضياته، ولكن علينا أن لا نعتمد في الدفاع عن رأينا على شيء سوى البرهنة على الحقيقة، ولكن كثيرا ممن يصغون إلى براهيننا يتأثرون بمشاعرهم أكثر مما يتأثرون بعقولهم، فهم في حاجة إلى وسائل الأسلوب أكثر من حاجتهم إلى الحجّة..).(1). وعلى هذا الأساس المنهجي العقلاني الذي يربط عملية اكتساب المعرفة في طرق وأساليب للبحت والتقصي، يقسم "أرسطو" أنواع الشعر إلى شعر الملاحم، والمأساة، والملهاة، والشعر الغنائي الذي أدخله ضمن ما يسمى بفن الموسيقى. يقول أرسطو: (وفي هذا أسلك الترتيب الطبيعي فنبدأ بالمبادئ الأولى: الملحمة والمأساة، ثم الملهاة ، وجل صناعة العزف بالناي والقيثارة" (2). فأرسطو يعتبر هذه الأنواع من الشعر كلها (أنواع من المحاكاة في مجموعها، لكنها فيما بينها تختلف على أنحاء ثلاثة: لأنها تحاكي إما بوسائل مختلفة، أو موضوعات متباينة، أو بأسلوب متمايز) (3).

أما مفهوم الأسلوب في الموروث العربي الإسلامي، فقد وردت لفظة (أسلوب) في كلام العرب منذ القدم، فجاء في لسان العرب لابن منظور: (ويقال للسطر من النخيل: أسلوباً، وكلّ طريق ممتد فهو أسلوب، والأسلوب: الطريق، والوجه، والمذهب.."(4).

بيد انّ هذه المعاني قد اتسعت عند البلاغيين والنقاد العرب، الذين ربطوا معناها بعدّة مسارات، فالأسلوب عند بعضهم يدّل على طريقة العرب في أداء المعنى، مثلما نجد ذلك عند ابن قتيبة الدينوري(-276هـ) إذ قال: (... والشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب، وعدّل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحداً منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيملّ السامعين، ولم يقطعْ وبالنفوس ظمأ إلى المزيد").(5). ويبدو لنا من هذا النص إيمان "ابن قتيبة" بضرورة مناسبة الشاعر بين القول ومقامه، فيطيل ويوجز بحسب اقتضاء الصياغة منه ذلك، مع مراعاة حال السامع وقت إنشاده قصيدته.

وربما اقترب من مفهوم النظم الذي يمثل الخواص التعبيريّة في الكلام، كتابات عبد القاهر الجرجاني (-471هـ)، إذ قال: (واعلم أن الاحتذاء عند الشعراء وأهل العلم بالشعر وتقديره وتمييزه أن يبتدئ الشاعر في معنىً له وغرض وأسلوب، والأسلوب هو الضرب من النظم والطريقة فيه.). (6). كما نادى "الجرجاني" بضرورة مناسبة المقال للمقام، فلا يكون الغزل كالافتخار، ولا المديح كالوعيد،، ولا الهجاء كالاستبطاء، ولا الهزل بمنزلة الجد، (فإن المدح بالشجاعة والبأس يتميز عن المدح باللباقة والظرف، ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والمدام، فلكل واحد من الأمرين نهج هو أملك به، وطريق لا يشاركه الآخر فيه..).(7).

وقد يرقى مفهوم الأسلوب إلى النوع الأدبي، وطرق صياغته مثلما نجده عند السجلماسي (-بعد 704هـ) (الذي أطلق على فنون البلاغة مصطلح (أساليب) فسمى واحداً من كتبه (المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع) الذي عنى من خلاله بالفنون البلاغيّة التي تناولها كتابه مثل التشبيه، والاستعارة، والإشارة، والمبالغة والتضمين).(8). وفي تعريف ابن خلدون الذي حدد مفهوم الأسلوب في الإبداع الأدبي فذكر: (إنه يرجع - (الأسلوب) - إلى صورة ذهنيّة للتراكيب المنتظمة كليّة، باعتبار انطباقها على تركيب خاص، وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها، ويصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال، ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان، فيرصها فيه رصّا كما يفعل البنّاء في القالب، أو النسّاج في المنوال..).(9).

الأسلوب في كتابات المحدثين:

لقد استوعب المحدثون العرب المعاني التي طرقها القدماء في تعريفهم الأسلوب، لذلك جاءت هذه التعريفات مقاربة لتلك المعاني في مضمونها العام، وكان أبرز تلك التعريفات قولهم: إن الأسلوب هو "طريقة الكاتب أو الشاعر الخاصة في اختيار الألفاظ، وتأليف الكلام". وإنه "طريقة الكتابة، أو طريقة الإنشاء، أو طريقة اختيار الألفاظ وتأليفها للتعبير بها عن المعاني قصد الإيضاح والتأثير". وعرفوه بأنه "الميزة النوعيّة للأثر الأدبي". وقالوا إن الأسلوب هو "قوام الكشف لنمط التفكير عند صاحبه". وقيل هو "الصورة اللفظيّة التي يعبّر بها عن المعنى، أو نظم الكلام وتأليفه لأداء الأفكار، وعرض الخيال، أو هو العبارات اللفظيّة المنسقة لأداء المعاني". وبتعدد التعريفات تعددت طرائق صياغتها، بيد أن هذه التعاريف تكاد تلتقي في معنىً جوهري يراد به أن الأسلوب هو طريقة اختيار الكاتب لأدواته الكتابيّة بالشكل الذي يميزه عن غيره، ويحكم له بالتفرد في صياغة أفكاره والتعبير عنها. وهذا ما نجده عند العديد من النقاد الغربيين والعرب كما سيتبين لنا أدناه:

الأسلوب في كتابات النقاد الغربيين المحدثين:

لقد قُدمت تعاريف مختلفة باختلاف اتجاهات أصحابها في طريقة توصيفهم للأسلوب، ويمكن عرض أبرزها في ما يلي:

أ- من زاوية المُخَاطِب أو المُرسل: يقول "بوفون": (الأسلوب هو الرجل. إذ إن الأفكار لوحدها هي أساس الأسلوب، وهي لـيست سـوى انتظام الحركة التي تجعلها أفكارا.).(10). ومن زاوية المخاطَب أيضاً: إن الأسلوب موجه إلى المتلقي، وتُكمل براعة المبدع في درجة الإقنـاع التـي  يمتلكها أسلوبه للتأثير في نفس السامع. يقول " فاليري" :(الأسلوب سلطان العبارة).(11)

ويقول "ستندال": (الأسلوب هو أن تضيف إلى فكر معين جميع الملابسات الكفيلة بإحداث التأثير الذي ينبغـي لهـذا الفكـر أن يحدثـه.). (12).  ويقـول " ريفاتبر" (الأسلوب قوةٌ ضاغطة تتسلط على حاسيّة القارئ بواسطة إبراز بعض عناصر سلسلة الكـلام، وحمـل  القارئ على الانتباه إليها).(13).

ومن زاوية الخطاب، أو الرسالة: هناك من حاول إعطاء مفهوم للأسلوب انطلاقاً من النص في حد ذاته، نذكر منهم : مؤسـس المدرسة الوصفيّة في العلوم اللغويّة " فردينانددي سوسير"(1913-1857م) من خلال بحوثه المقدمة فـي هذا المجـال، وذلك حينما فرق بين وضع اللغة الكائنة بين طياّت معاجمها، ووضعها حينما تخرج إلى مجال الاسـتخدام، كـي تؤدي وضيفتها الإخباريّة المنوطة في نقل الأفكار وتوصيل للمعلومات.  ومن ثم قسم "دي سويسير" النظام اللغوي إلى قسمين:

اللّغة بكونها وسيلة لصياغة الخطاب، والخطاب، ورأى بأن "الخطاب" يشتمل على مستويين من الاستخدام هما: "الخطاب العادي النفعي" وهو خطاب مباشر يتدوله الناس في حياتهم اليومية المباشرة، والخطاب الرسمي العلمي، ومنه الأدبي الفني".  كما يُعرف " شارل بالي" الخطاب" بأنه "تفجر طاقات التعبير الكامنة في اللّغة". (14).

أما  مفهوم الأسلوب في كتابات النقاد العرب المحدثين:

فنجد منهم من يحاول أن يضيف للقديم شيئاً جديداً، ومن أبرز هؤلاء: "احمد الشايب". والذي أفرد للأسلوب كتاب خاص به وذكر فيه العديد من التعريفات من أهمها:

- (" فن من الكلام يكون قصصاً أو حواراً، أو تشبيهاً أو مجازاً، كتابةً، تقريراً، حكماً، أمثالاً . أو بتعبير آخر: " طريقة الكتابة أو طريقة الإنشاء أو طريقة اختيار الألفاظ وتأليفها للتعبير بها عن المعاني قصد الإيضاح والتأثير". أو " هو الصورة اللفظيّة التي يعبر بها عن المعاني أو نظم الكلام وتأليفه لأداء الأفكار وعرض الخيال أو العبارات اللفظيّة المنسِّقة لأداء المعاني). (15).  وهناك من العرب المحدثين:  ("سعد مصلوح" فهو قد طرح رؤيةً تدعو بطريق غير مباشر إلى ربط الأسلوب بمنشئه، وهي رؤية لسانيّة سالفة حيث يقول: (إن الأسلوب اختيار، أو انتقاء يقوم به المنشئ لسمات لغويّة معينة بغرض التعبير عن موقف معيّن). (16). وهناك: "صلاح فضل": يعرفِّه على أنه: (علم الأسلوب هو الوريث لعلوم البلاغة).(17).  ويتساءل: (ماذا أكتب إذا طلب مني أحدهم أن أوجز هذه المفاهيم بجملة أو جملتين؟ - يمكننا أن نقول: الأسلوب خاصيّة مشتركة لعدّة ظواهر في اللغة والفترة الزمنية والجنس الأدبي. أي بمعنى أن نصًا ما قد يكشف عن أسلوبيّة خاصة لكاتب معين) .(18).

ومن مجمل هذه التعريفات نستنتج الآتي:

أولا: إن الأسلوب يمثل الاختيار الواعي للكاتب من بين مدّخر واسع من الإمكانيات المتاحة. وثانيا: إن الأسلوب خاصيّة فرديّة للنص يتحكم بها الكاتب. وثالثا: إن الأسلوب هو نتيجة المعايير والمواصفات ومنطلقاتها. ورابعا: إن الأسلوب يعكس خاصيّة منشئه، وما يحيط به من ظروف تسهم في خلق النص.(19).

كما قدمت البلاغة أربعة مبادئ أساسيّة للأسلوب:

(الأول: المناسبة أو الملاءمة بين الأسلوب ومقامه النصّي (الكاتب، النص، المتلقي.). والثاني: الدقة، أي ملاءمة الأسلوب للاستعمال اللساني المعتمد في عصر معين. والثالث: الوضوح، أي استبعاد تعدد المعاني النصّية. والرابع: الزخرف، أي زخرفة الخطاب الطبيعي بالصور الأسلوبيّة.). (20).

وأياً كان تعريف الأسلوب، سواء لدى النقاد الغربيين أو العرب فإن القاسم المشترك بين هذه الآراء جميعا عن الأسلوب كما يتبين لنا هو: طريقة التعبير أو الإنشاء أو الكتابة، وطريقة اختيار الألفاظ وتأليفها والتعبير بها عن المعاني قصداً للإيضاح والتأثير، وهو العنصر اللفظي في النص، يقابله العناصر المعنويّة، الأفكار والخيال والعاطفة. وتعريفه يختلف باختلاف المنطلقات، فهناك تعريف بالنظر إلى المخاطِب (الكاتب أو المُرْسِلْ) والمخاطَب (المتلقي أو المُرْسَل إليه) والخطاب (النص، أو الرسالة). وهذا التعدد أثر في تعدد الأسلوبيات أيضاً..(21).

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

............................

الهوامش:

1- (في الاسلوب والاسلوبيّة موقع جامعة آل البيت - الباحث: محمد حسين عبد الله المهداوي). بتصرف.

2- (مجلة الرافد جدليّة الفن والمحاكاة رؤية فلسفيّة وجمالية.).

3- (رؤية فلسفية وجمالية فريدريك نتشه: مولد التراجيديا، ترجمة شاهر حسن عبيد، الطبعة الأولى 2008. اسماعيل الموسوي).

4- (قاموس لسان العرب لابن منظور . وهذا ما يقترب منه تاج العروس – والصحاح -).

5- (في الاسلوب والاسلوبية موقع جامعة آل البيت - الباحث: محمد حسين عبد الله المهداوي).

6- (عبد القاهر الجرجاني-:دلائل الإعجاز في علم المعاني، شرح د. ياسين الأيـوبي، المكتبـة العصـرية، بيـروت لبنـان، 2003،م،ص.) 132:).

7- (موقع المنهل- الأسلوب بين القدمى والمحدثين – أ- عبد القادر ج الجلفة.).

8- المرجع نفسه.

9- (موقع المنهل- الأسلوب بين القدمى والمحدثين – أ- عبد القادر ج الجلفة.).

10- (حميد آدم تويني - فن الأسلوب عبر العصور الأدبية ، دار الصفاء للنشر و التوزيع ، عمان الاردن ، ط.1 2006م ، ص.1).

11- (عدنان بن ذربل - النص و الأسلوبية بين النظرية و التطبيق ، مرجع سابق، ص.44).

12- (يوسف أبو العدوس-الأسلوبية الرؤية و التطبيق ، دار الميسرة للنشر و التوزيع، عمان، الأردن ، ط،1 2007م ،ص.30).

13- المرجع نفسه، ص.37.

14- (مجلة الأثر –العدد (30). جوان 2018.). بتصرف.

15- (أحمد الشايب، الأسلوب، مكتبة النهضة المصرية، مصر، ط،2 ،2003 ص.44).

16- (سعد مصلوح، الأسلوب دراسة لغوية إحصائية، عالم الكتب، القاهرة، ط،3 1412هـ، ص.37.).

17- (صلاح فضل، علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته، ص.95).

18- (موقع الحوار المتمدن - الأسلوب والأسلوبية - حواريات حيدر مكي- ج1.).

19- (في الاسلوب والاسلوبية موقع جامعة آل البيت - الباحث: محمد حسين عبد الله المهداوي). بتصرف.

20- (في الاسلوب والاسلوبية موقع جامعة آل البيت - الباحث: محمد حسين عبد الله المهداوي).

21- (موقع موضوع - تعريف الأسلوبية في الأدب -  الكتابة بواسطة: علي طعامنه.). بتصرف.

 

(في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

أشرنا في المساق السابق إلى ما نُسِب إلى (مُجاهِد بن جَبْر بن عبدالله التغلبي، -104هـ= 722م) في تفسير معنى (الرَّهْو)، في قوله تعالى: «فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ؛ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ،‏ وَاتْرُكِ البَحْرَ رَهْوًا؛ إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ.»(1)  إذ قال، كما قال غيره: إنَّ معنى رهوًا: يَبَسًا، قياسًا على آيةٍ أخرى، في (سُورة طه: 77): «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا.» (2) وقلنا: إنَّ هذا بضِدِّ المعنى الدقيق للكلمة؛ مع أنَّ «يَبَسًا» في آية (طه) إنَّما تعنى لا ماء فيه، كما تقول: «بئر يابسة»، أي لا ماء فيها كالمعتاد، لكن ذلك لا ينفي بالمطلق وجود بعض الماء فيها أو النَّدَى. وأضافوا في تفسير معنى «رَهْوًا»: ساكنًا، وهذا لا معنى له هاهنا. وقالوا: واسعًا. وقالوا: قائمًا ماؤه. وقالوا: سهلًا دمثًا... إلخ. وهكذا تلحظ إبعاد المفسِّرين في الفهم والتفسير. وهي، كما ترى، أشبه بالتخمينات، منها بالتفسيرات؛ لأنَّ القوم لا يعرفون أصلًا معنى المادَّة (رَهْو)، على حقيقته في العَرَبيَّة، وفي مثل هذا السياق تحديدًا، وإنَّما ينقلون، ويقارنون، ويروون، وتتضارب عليهم المعاني والروايات، فيَخلُصون إلى تفسيرات شتَّى، وكأنَّ «القرآن» لم ينزل بلسانٍ عَرَبيٍّ مبين. وهو قد نزل كذلك، وكثيرٌ من مفرداته ما برحت حيَّة على ألسنة الناس في اللهجات العَرَبيَّة إلى اليوم؛ غير أنَّ معظم هؤلاء الذين فسَّروا لنا أعاجم؛ فجاء عملهم أشبه بالترجمة عن لُغة أجنبيَّة. بل إنَّ المترجِم لا يحار تلك الحيرة، إذا كان يعلم اللُّغة المترجِم عنها جيِّدًا.

والأَوْجَه- في ضوء بعض العَرَبيَّة الحيَّة من خلال اللهجات التي ما زالت تَستعمل هذه المفردة (رَهْو)- أنَّ معنى الآية: واتْرُك ثرَى البحر مُبْتَلًّا: أي: اتْرُكْه لا ماء فيه إلَّا بمقدار الرَّهْوَة، وهي: الطَلُّ، والنَّدَى، والبَلَل اليسير. والكلمة مستعملةً في لهجات (فَيْفاء)، مثلًا، بهذا المعنى إلى الآن، وربما في لهجات أخرى. فقوله: اتْرُك البحر رَهْوًا، أي نَدِيًّا، لكي يَغترَّ بذلك فرعونُ وجنوده، فإذا هم يغرقون في ما كان في نظر العَين رَهْوًا، أو رَهْوَةً، أي بَلَلًا، كأيسر ما يكون! على أن معجمات العَرَبيَّة نفسها قد خاضت المخاض نفسه؛ لأنها تتكئ على جمعٍ لُغويٍّ ناقص، أُهمِل فيه كثير ممَّا أشار (أبو عمرو ابن العلاء) إلى أنَّه ما انتهى إلينا منه إلَّا أقلّه. ولن تعدم في اللهجات العَرَبيَّة الحديثة بعض ما ضيَّعه اللُّغويُّون وأهملته مدوَّناتهم. وأَشْبَه ما نجده في كتب العَرَبيَّة بالمقصود قولهم: الرَّهْوُ: المَطَر الساكن. وقولهم: اتْرُكِ البحْرَ رَهْوًا؛ يعني: تَفَرُّق الماء منه. وقيل: رَهْوًا أَي دَمِثًا. وما عداه ضربٌ من التخمين، لا من التفسير.

أمَّا قول مجاهد بأن معنى (الحُور العِين): «أَنْكَحْناهُمْ حُورًا عِيْنًا يَحارُ فيها الطَّرْفُ»(3)، فيبدو أيضًا عن عدم معرفةٍ بمعنى (الحُور العِين)، عند العَرَب، وإنَّما هو يربط بين (الحُور) و(الحَيرة)، و(العِين) و(طَرْف الناظر بعينه إلى جمالهن)! وكأنَّ معنى «الحُور العِين»: اللَّائي يحار فيهن الناظر، لا على أنَّ ذلكما نعتان لعَينَي المرأة، بصفتَي (الحَوَر) و(العَيَن). والقائل بهذا كذلك لا يرجع إلى شواهد العَرَبيَّة، بل ينطلق من فرضيَّات وروايات وخواطِر فرديَّة، تضرب أخماسًا بأسداس.

وكُنَّا قبلئذٍ قد رأينا ترنُّح المفسِّرين في فهم كلمة (جَدٍّ)، في الآية «وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا»، وتقاطرهم مردِّدين القول: إنَّه «عُنِي بذلك الجَدُّ، الذي هو أبو الأب، وقالوا : ذلك كان جَهْلَةً من كلام الجِنِّ»! والحقُّ: إنَّ هذا القول كان جَهْلَةً من جَهَلَة الإنس بالعَرَبيَّة التي جاء بها «القرآن»، ولا علاقة للجِنِّ المفترَى عليهم بالموضوع من قريبٍ ولا بَعيد. أولئك الإنس من متعاطي التفسير، في القرن الثالث الهجري أو الثامن الهجري، وهم لم يسمعوا كلام العَرَب، كما يشهد عليهم كلامهم، وقلَّما كلَّفوا أنفسهم بالعودة إليه حينما يتصدَّون لفهم ما تصدَّروا له من تفسير نصِّ «القرآن الكريم»، الذي جاء بلسانٍ عَرَبيٍّ مُبين، لا بلسان الجِنِّ والشياطين. لم يسمعوا مثلًا، في ما لم يسمعوا، قول الشاعرة الجاهليَّة (سُعْدَى بنت الشَّمَرْدَل الجُهَنِيَّة)(4)- لا الجِنِّيـَّة!- وهي تُنشِد في رثاء أخيها (أسعد)، الذي قتلتْه (بَهْزٌ، من بني سُليم بن منصور):

ذَهَبَــتْ بِـهِ بَهْـزٌ فَأَصـْبَحَ (جَـدُّها) ::: يَعْلُو وَأَصْبَحَ (جَـدُّ) قَـوْمِيَ يَخْشـَعُ

 ولعلَّ في هذا، وفي ما تقدَّم من هذا السياق، ما يُغني عن تتبُّع نظائره من التفسيرات، أو قل: من التخمينات.

-2-

وفي مقابل هذا يُصدَم العَرَبيُّ بتنطُّعات لُغويَّة جديدة قديمة، وسلفيَّات تافهة، تسعى إلى تجميد اللُّغة في ثلَّاجة ما نطقَ به بعض القدماء، قبل ما يربو على ثلاثة عشر قرنًا، إبَّان ما سُمِّي بعصور الاحتجاج، مع جهلٍ بلسان تلك العصور أصلًا. من شواهد هذا أن قد تسمع تفيهق هؤلاء حتى في قراءة «القرآن» بطرائق مبالغ فيها من القلقة والإقلاب، ونحوهما مما لا أحسب إنسانًا عَرَبيًّا سَوِيًّا نطق بمثله قط، لا في تجويد «القرآن» ولا في غيره. وتلحظ ذلك لدَى الإخوة الأزهريِّين بخاصَّة، حتى أصبح هذا مجال تندُّرٍ في السينما المِصْريَّة، منذ (إسماعيل ياسين)، وغيره. ولقد وصفَ لنا أمثالَ أولئك (طه حسين) في سيرته «الأيَّام»، ممَّن يفتنهم التشدُّق، وتفخيم الكلام، ونفخ الأوداج به حين ينطقون، وكأنَّ أحدهم نُفَساء ساعة مخاضها المتعسِّر. مشوِّهين لغتنا الجميلة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ظانِّين أنَّ تلك هي لغة العَرَب الفصحاء، لا لغة العامَّة والدَّهماء، فإذا هم يُغالون في المدِّ، والغن، والإخفاء، والإدغام، والقلقلة، والإقلاب، بصُوَرٍ عجيبة. ولعَمري ما ذلك الزُّحَّار المتكلَّف لديهم بلُغة العَرَب، ولا العجم، ولا الإنس، ولا الجان. هذا فضلًا عن ارتجالهم التفسير ارتجالًا، كذلك الشيخ الذي سُئل عن الآية «وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا»، فأجاب باطمئنان: أي خلقكم كالثِّيران، لا تعقلون شيئًا! وليست تلك بظاهرة منقرضة- سادت أيَّام الجيل الذي صوَّر بعض نماذجه طه حسين(5)- بل ما زال بعضهم بيننا، تسمعهم في أحفاد أولئك السَّلَف وأسباطهم ونظرائهم. حتى لقد قدَّم أحدهم مؤخَّرًا قراءة جيِّدة لكتابٍ تراثيٍّ في اللُّغة والأدب، نشرها على موقع «يوتيوب»، لولا أنه ظلَّ في قراءته يُضحِك الثكلَى، بطريقته المتكلَّفة، التي لا تفرِّق بين تجويد «القرآن» وغيره من النصوص، حتى إنَّه ليكسِّر الأوزان الشِّعريَّة تكسيرًا بتلك التلاوات التجويديَّة، بما فيها من القلقة والإقلاب؛ لأنه لا يعي أنَّ تلك المواريث المبتدعة في القراءة، إذ تشوِّه النصَّ القرآنيَّ نفسه أحيانًا، لا يصحُّ تطبيقها على الشِّعر بحالٍ من الأحوال. والكُتب المسموعة اليوم- مع كونها خدمة ثقافية رائعة- لا تنجو من تطفُّل طائفتين من القرَّاء: قارئ جاهل، يكاد لا يُحسِن قراءة جملةٍ واحدةٍ بلا ارتكاب فواحش نحويَّة ولُغويَّة، تجد معها عَرَبيَّة (اللِّمبي)، في فيلم «اللِّمبي في الجاهليَّة»، خيرًا من عَرَبيَّته! ولا تدري ما دافع أمثال هؤلاء الأُميِّين لتقديم قراءات شوهاء لكُتب التراث؟! وطائفة مقابلة، تشوِّه اللُّغة أيضًا بقراءتها، التي لا تدري كيف تصف تكلُّفها في النُّطق والتفخيم والتشدُّق والتَّفَيْهُق. مع أنَّ أبناء هذه الطائفة الأخيرة، غالبًا، لا يجهلون الحديث النبوي: «أبْعَدُكُم منِّي مجالِسَ يومَ القِيامةِ الثَّرثارونَ المُتَفَيْهِقون.»

يحدُث هذا وذاك على الرغم من أنَّ الأصل في اللُّغة أنها وسيلة تعبير، وهي كائنٌ اجتماعيٌّ حيٌّ، ينمو بحياة الإنسان ويتطوَّر بتطوُّرها. خذ، على سبيل الشاهد، ما راج ويروج من تشنيعٍ على من يستعمل صفة «يتيم» لمن فَقَدَ أُمَّه، وتقريع مَن قال ذلك، والزعم أنَّه لا يوصف باليُتم من فَقَدَ أُمَّه، وإنَّما ذلك في عالم البهائم! قائلين: اليتيم: مَن فَقَدَ أباه فقط، وأمَّا مَن فَقَدَ أُمَّه، فهو العَجِيُّ، أو المنقطع، ومَن فَقَدَ الأبَ والأُمَّ: اللَّطيم! وكأنَّ هذه الكلمات المعجميَّة مقدَّسة، أو أنزلها الله في كتابه، وأمر بعدم تغييرها، وتعبَّدنا بالتمسُّك بها! على حين أنَّها لا تعدو صفات، جاءت لتصوِّر واقع الحال قديمًا، والحال متغيِّرة. فلقد كان الأبُ قديمًا هو الراعي؛ فإذا فُقِد تيتَّمت الأُسرة جميعًا. وما كانت كذلك الأُمُّ؛ لحال المرأة عمومًا في تلك الأزمنة. وهذا واقعٌ قد تغيَّر اليوم. بل إنه لم يكن واقعًا شاملًا لجميع الأزمنة والبيئات والظروف في الماضي نفسه. ومعنى كلمة (يتيم)، في الأصل: المفرَد، الخالي من مُعِينٍ ونَصير. هذا هو الأصل؛ فمن انفرد عمَّن يَعُوْلُه ويَعتمد عليه، فهو يتيمٌ لُغةً، حقيقةً أو مجازًا. حتى لقد نُسِب إلى (علي بن أبي طالب) البيت:

لَيْسَ اليَتِيمُ الَّذِي قَدْ ماتَ والِدُهُ ::: إِنَّ اليَـتِـيمَ يَتِـيمُ العِلْمِ والأَدَبِ

وبالحريِّ القول: إِنَّ اليَتِيمَ يَتِيمُ الأُمِّ والأبِ، معًا أو يَتِيمُ أحدهما. على أنَّ الرعاية للإنسان ليست ماليَّة مادِّيَّة فحسب، بل هي نفسيَّة، قبل ذلك وبعده. والطِّفل في كثيرٍ من الحالات عالةٌ على أُمِّه لا على أبيه، ماديًّا ومعنويًّا. أفإنْ وُصِف الطِّفل بأنَّه يَتِيمٌ لفَقْد أُمِّه، عُدَّ ذلك منكَرًا من القول وزورًا؟! أيُّ عمًى بعد هذا، أو جمود لُغوي، أو تعطيل لطاقات التعبير. وما وُصِف الحيوان الفاقدُ أُمَّه بصفةٍ خاصَّةٍ (يتيم) إلَّا لأنَّ اعتماده على أُمِّه لا على أبيه. وما كذلك الإنسان. بل الأصل في الإنسان أنه يعتمد على الاثنين؛ من حيث هو يعيش في أُسرة لا في غابة، فإذا فَقَدَ أحد مؤسِّسَيها، أُفْرِدَ، وتَيَتَّمَ. ولذلك جرى العُرف الاجتماعي في التعبير بخلاف محفوظ اللُّغة في بعض كتبها التراثيَّة، فصار يوصف باليُتْم مَن فَقَدَ أباه أو أُمَّه أو كليهما، وما عاد ثمَّةَ اليوم من عَجِيٍّ، ولا لَطيم، والعياذ بالله!

ثمَّ إليك ما يقوله أحد الأعراب القدماء جِدًّا- وهو من الذين يتمسَّك المتنطِّعون بلُغتهم، التي عبَّرت عن زمانهم وظروفهم، حَذْوَ القُذَّة بالقُذَّة- وهو (حُمَيْدُ بن ثَوْرٍ الهِلالي، -30هـ= 650م)(6)، والرَّجُل يُعَدُّ صحابيًّا، وهو شاعرٌ مُخَضْرَمٌ، لكنه، مع الأسف، لا يُحسِن العَرَبيَّة السليمة، بمقاييس أولئك المتفيهقة، إذ يقول:

يَظَــلُّ بِــهِ فَــرْخُ القَطَـاةِ كَـأَنَّهُ ::: يَتِيمٌ جَفَتْ عَنْـهُ المَراضِيعُ رَاضِعُ

فيُسمِّي مَن فَقَدَ أُمَّه، فجفتْه المرضعات: «يتيمًا»! فيا له من جاهل بالعَرَبيَّة الصحيحة، التي يعتنقها بعض فِراخ القطا من المعاصرين! لِـمَ لم يقل «عَجِيٌّ جَفَتْ...»، مع أنَّ الوزن يستقيم له بذلك؟!

[وللحديث بقايا].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..................

(1) سُورة الدُّخان: الآيات 22- 24.

(2) يُنظَر: البخاري، (1981)، صحيح البُخاري، ضبط وتعليق: مصطفى ديب البُغا، (دمشق، بيروت: دار القلم)، 4: 1822.

(3) يُنظَر: م.ن.

(4) يُنظَر: الأصمعي، (1993)، الأصمعيَّات، تحقيق: أحمد محمَّد شاكر وعبد السلام هارون، (القاهرة: دار المعارف)، 103/ 18.

(5) يُنظَر: (1992)، الأيَّام، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر)، مثلًا: 64، 70، 74، 95، 113، 116.

(6) (2010)، ديوان حُمَيْد بن ثَوْر الهِلالي، تحقيق: محمد شفيق البيطار، (أبو ظبي: هيئة أبي ظبي للثقافة والتراث)، 313/ 2

 

دولة حديثة، لا دينية ولا علمانية

دعوة الدكتور الرفاعي إلى إقامة دولة مدنية حديثة بعيدة عن مقتضيات علم الكلام القديم، والجديد وسطوته التي أعادت بعض الجماعات والأحزاب الدينية المعاصرة إنتاجها بعد أن استلهمت النموذج القديم، وأعطت ظهرها للتطورات الحديثة في بناء الدول..هذه الدعوة تشهد دون أدنى شك على حرص الدكتور الرفاعي ومسؤوليته االأدبية والأخلاقية والقانونية والشرعية، وما يحمله من روح انفتاح حقيقية واطلاع على ما هو موجود من نظم سياسية وفلسفية وديمقراطية حديثة في عالم اليوم، لا يمكن للدولة الإسلامية القديمة أو الدولة القائمة في دار الإسلام الحالية تجنبُ النظر إليها. والدولة التي هي "ظاهرة اجتماعية مركبة" كما يقول، "أعمقُ وأعقد مؤسسة ابتكرها الإنسان" وهي ظاهرة حيّة، تنمو وتتطور مفاهيمها، ويعاد تكوينها تبعًا لتراكم تجربتها وتنوّعها عبر الزمان.

والإشكالية الرئيسية التي يتعذر معها بناء "دولة حديثة" من هذا النوع هو، كما يقول أيضا، الدينُ بمعناه الكلامي والفقهي القديم..."الدين الذي ينصُّ على التمييز بين المسلم وغير المسلم، والرجل والمرأة، السيد والعبد"(١)، وهو يشير إلى أن مفهوم (المسلم) غيرُ مفهوم (المواطن) الذي تقوم عليه الدولة الحديثة، باعتبار أن "المسلم بمعناه الكلامي والفقهي يتحدث لغةً، وينتمي إلى مجال تداولي غير الذي يتحدث به مفهوم المواطن، والمجال التداولي الذي يتموقع فيه". (٢)

وهكذا، يبدو خيار الدولة المبنية على أسس إدارية ودستورية وقانونية جديدة بعيدة عن التصورات التراثية السابقة بهذا الخصوص، خيارًا محسومًا لدى الدكتور الرفاعي، ولكن السؤال عن الكيفية التي تبنى بها هذه الدولة في الإطار الإسلامي الذي يمثله هو نفسُه، سيظل مع ذلك قائما، على الرغم من معارضته الجذرية لدعاة الدولة الإسلامية العصرية المستنسخة عن الماضي، وتلك التي تتلبس مضطرة بلبوس (الدولة المدنية) الحديثة، مع عدم إيمانها بروحها وإطرها التشريعية والقانونية المختلفة عن الدولة الحديثة. إذ كيف يمكن الفصل بين هذه الدولة المتصورة، وبين صورتها العلمانية التي ارتبط بها تكوين ونشأة الدولة الحديثة في أوربا، التي تمثل المصدرَ والأساس لبناء هذه الدولة في نموذجها المبني أو الذي يُراد له أن يُبنى على مثالها في بلد مثل العراق على سبيل المثال، ما زالت بعضُ الأحزاب (الإسلامية) تحتل مواقع سياسية مسيطرة ومؤثرة في إدارة وتوجيه دفة الحكم فيه...؟

وإذا كانت حقوقُ الإنسان وحرياتُه هي الأساس في بناء الدولة الحديثة في عرف الدكتور الرفاعي، في حين تبقى حقوق الله بالمعنى الذي يقرره علمُ الكلام والفقه التقليدي هي الأساس في بناء الدولة الدينية السابقة، فهل يكفي ما يسميه وجود "دين الحقوق الروحية والأخلاقية والجمالية التي تتقدم فيه حقوق الإنسان على حقوق الله" لضمان حضور الدين بصورة فاعلة في بناء هذه الدولة؟ وماذا يمكن أن يقال عن تلك الدول الغربية والشرقية الحديثة التي حققت هذا النوع من المستوى الأخلاقي الرفيع دون وجود دين إسلامي أو غير إسلامي كمضمون أو معتقد لهذه الدول؟

ألم يقل بعضُ فقهائنا السابقين إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة...؟ ألم يزل بعضُ الناس في العراق وخارج العراق يرون في بعض الحكام العرب صورة الطاغية العادل التي تكلم عنها بعضُ فقهائنا ضمن ظروف وسياقات تاريخية معينة في الماضي؟

فما يعني الناس في النتيجة أن الأساس في شرعية الدولة أو عدم شرعيتها هو مدى قدرتها على إقامة العدل بمفهومه الواسع بين الناس، بصرف النظر عن شكل هذه الدولة ونوع المصطلحات التي تستخدمها.

والسؤال، مرة أخرى، هو: ما موقعُ الإسلام أخلاقا وأدبًا وروحًا في بناء هذه الدولة، وما هي الضمانة التي يتمّ عن طريقها تحقيق الرهان على وجوده...؟

ونحن لا نريد بهذا العودة إلى مثل ما يقوله وائل حلاق من (استحالة الدولة الإسلامية) لما تنطوي عليه من تناقض، إذا ما حكمنا عليها بمعايير الدولة الحديثة. ذلك أن المقارنة بين تاريخ الإسلام ما قبل الحديث والتاريخ الغربي الحديث، قانونًا وسياسة وأخلاقًا ومؤسسات، تكشف أن الحداثة تعاني مأزقًا أخلاقيًا يجعل من المستحيل قيام مشروع يستند إلى الأسس الأخلاقية وحدها.

إنها، كما نرى، إشكاليه أو مفارقة لا تحل بحسن النوايا، ولا بالعبارات الإنشائية الجميلة أو الخطابات المرسلة دون تحديد أو تعيين واقعي. وما دمنا نعترف بالإشكالية التي نجد أنفسنا فيها غيرَ قادرين على الإفادة من جانب من تراثنا الديني والمدني والنموذج الذي بنيت دولة الخلافة الإسلامية السابقة على أساسه، فنتجّه مختارين أو مجبرين إلى النموذج الغربي الميهمن لنأخذ منه، ونبني دولتنا الجديدة على صورته، فلماذا نقف في منتصف الطريق، أو عند خط التقاطع بين ماض نقول إنه ذهب ولن يعود، وحاضر مختلف وغريب يضغط بكل ثقله علينا، ويختلط في زمنه الثقافي المركب الحاضرُ الراهن مع الماضي البعيد في إطار شعور أو لاشعور معرفي واحد. وهو سؤال غير شخصي يطرحه كثييرٌ من الناس وهم يرون مقدار الفساد والأذى الذي يلحق بهم من رجال دين فاسدين يتصدرون سدة الحكم ويحكمون باسم الدين.

لقد انتهت قراءةُ الأوربيين لتراثهم الديني المقدس قراءةً هرمنيوطيقية إلى نتيجة واضحة وصريحة مفادُها ضرورةُ فصل الدين عن الدولة. وهي خطوة حاسمة في تاريخ الحضارة الأوربية ما كان بالإمكان تخطي هيمنة الكنيسة ورجال دينها في القرون الوسطى دون إنجازها. وقد ترافقت مع الثورات السياسية التي عرفتها فرنسا وبريطانيا وما فعله البروتستانتيون بقيادة مارتن لوثر في ألمانيا القرن السادس عشر، وانتهت معها عهود التحالف بين الإقطاع ورجال الدين، وفتحت الباب للعلمانية (Laïcité,Secularism)،* التي لا نستطيع نحن بناء الدولة على أساسها لأكثر من عامل وسبب، حتى إذا كان هناك شعور لدى كثير من مواطني الدولة عندنا بأنهم يعيشون من الناحية العملية في إطار هذه العلمانية أو ما هو قريب منها مع عدم وجود اعتراف رسمي أو دستوري بها.

وفي المجتمعات الغربية الحالية، يتم تحديد درجة الفصل السياسي بين الكنيسة باعتبارها مؤسسة روحية لا علاقة لها بالسياسة، والدولة المدنية من خلال الهياكل الإدارية والأطر القانونية المقررة. وهي أطرٌ تحدد العلاقة بين الدين والدولة، وترسم نمط هذه العلاقة بين الدولة والكنيسة بوصفهما كيانين منفصلين ومستقلين عن سلطة بعضهما البعض. ولم يكن اعتراف الكنيسة المتأخر الذي جاء على لسان البابا بندكت السادس عشر عام ٢٠٠٥ ب " أن اللامساواة الجائرة، وأشكال الإكراه المختلفة، التي تطال اليوم الملايين من الرجال والنساء تتنافي تنافيًا صريحًا مع إنجيل المسيح، ومن شأنها ألا تدع ضمير أي مسيحي مرتاحًا"(٣) ليتحقق لولا ما فرضته هذه الثورات من واقع سياسي أجبرت الكنسية على النظر بطريقة أخرى إلى هذه العلاقة.

وذلك لا ينفي طبعًا وجود الانتهاكات التي يتعرض لها القانون بين حين وآخر في هذه الدولة أو تلك من قبل أفراد وجماعات وحتى حكام، يبقون غير قادرين على إخفاء مشاعرهم العنصرية، واعتراضاتهم العلنية أو المضمرة على تطبيق القوانين الديمقراطية عليهم وعلى غيرهم من ذوي المذاهب والجنسيات الأخرى في مجتمعاتهم بصورة متساوية.

والدكتور الرفاعي الذي يعي جيدا أن الإنسان عندنا ما زال يخضع (لمشروطيات) النص الديني، فيدعو إلى (تحيين) هذا النص، وجعله "معاصرا لنا" لا يشرح لنا بدقة الكيفية العملية التي نذهب بها إلى تطبيق هذا التحيين. وهو ما يؤدي إلى الشعور بمشاعر الخيبة لدى الإنسان أحيانا لدى اكتشافه أن حسابات البيدر غير حسابات الحقل. فهل يمكن القبول، مثلا، بتجربة أتاتورك في تركيا، أو الحبيب بورقيبة في تونس بداية القرن الماضي وحوالي منتصفه في مسائل اجتماعية محددة تفرضها بعضُ الأحكام الدينية مثل رفع الحجاب، وتحريم الزواج بأكثر من واحدة، أو إباحة شرب الخمر، ولو بشروط وقواعد، تخفف المنع عنها في دولة مثل العراق من الناحية الرسمية، تفاديًا لما يجري من انتهاك لهذا التحريم بأكثر من سبيل وطريقة، من الناحية العملية...؟

والدكتور الرفاعي يرى أن ما يجعل هذا التحيين الذي تتطلبه القراءة الهرمنيوطيقية للنص الديني ممكنًا هو أن في كل نص هامشًا حرّا مفتوحًا للقراءة، ولكنه لم يحدد لنا مثل هذا الهامش بطريقة عملية واضحة.

وهل يمكن القول مثلا أن مسألة الحجاب غير ملزمة للمرأة المسلمة اعتمادًا على ما ذكر من أن الأمر في نزول الآية الكريمة الخاصة بالحجاب كان متصلًا بنساء الرسول؟ وهل يمكن أن يكون تمام الآية الخاصة بتعدد الزوجات "فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً"، (النساء 3) هو هذا الهامش الذي نبحث عنه؟ وكيف السبيل إلى هذه العدالة التي يتصل تحقيقها بمشاعر وعواطف بشرية لا سبيل إلى السيطرة عليها، ولا يكفي لتحقيقها اللجوء إلى فرض مجموعة من الوسائل المادية والتنظيمية أو القانونية المحددة؟ في حين أن البديل لا بدّ أن يكون واضحا وحاسما، حتى إذا تعارض تعارضًا صريحًا مع الأحكام الدينية التي كانت نتاجًا لواقع تاريخي مختلف.

وهل يمكن، قياسًا على ذلك، الأخذ بالسياقات التاريخية المتدرجة التي أدت إلى تحريم الخمر في سورة المائدة، فيما كان هذا التحريم مفروضا قبل ذلك فقط على المسلمين الذين يقربون الصلاة وهم سكارى، في سورة النساء؟ أم أن هناك طريقة أخرى لتحيين النصوص الدينية لا نبدو قادرين على إدراكها؟

وكيف تتم هذه القراءة الجديدة للنص القرآني بما يجعله قادرًا على "تخطي المسافات وعبور غربة الزمن وتحيينه في مختلف العصور" (٤) إذا لم نستطع التعامل بصورة عملية واضحة مع إشكالات اجتماعية ضاغطة وعابرة للزمن من هذا النوع؟

ونحن نذكر هذه الموضوعات كمجرد أمثلة لمشاكل اجتماعية وقانونية قائمة نتيجة الالتزام الحرفي بالمحرمات الدينية وقراءاتها التأويلية الخاطئة عبر العصور الإسلامية المختلفة. ونورد ذكر الحجاب وتعدد الزوجات وتحريم الخمر كنماذج من أخرى كثيرة، لم نستطع التوصل فيهما إلى مقاربة دينية وأخلاقية وقانونية يمكن أن نخرج بها من نطاق التحريم الديني المطلق المطابق للنص الحرفي للآيات القرآنية، إلى نوع من الضوابط والقواعد الأخلاقية والدينية التي تراعي الحاجات الاجتماعية القائمة في عالم اليوم من ناحية، وكون الخمر، مثلا، تقليدا وعادة لها تاريخ طويل في المجتمع العراقي، ولم تستطع المحرمات الدينية بصيغتها الحرفية القائمة في الماضي والحاضر تقليلَ اللجوء إليها، حتى في أشدّ العهود الإسلامية صرامةً وبطشًا، فضلا عن وجود ديانات عراقية أخرى لا يشملها هذا التحريم.

وما نراه من موقف السلطة الحالية القائمة في العراق بهذا الخصوص، يبقى مثيرا للتساؤل والقلق. وهو لا يزيد، في الواقع، على أن يكون موقفا منافقا لا يسمح بتعاطي الخمر أو المتاجرة بها من الناحية العلنية، ولكنه يستغلّ تجارتها وحتى تعاطيها على نحو بشع وغير أخلاقي، من الناحية العملية.

علمًا بأن أبدية النصوص المقدسة التي يشير إليها الدكتور الرفاعي، ليست مرتبطة بما تحمله أو لا تحمله هذه النصوص من هذه الهوامش فقط، بل أيضا بما تنطوي عليه من روح إنساني كاشف عن سياقات تاريخية واجتماعية ومعنوية محددة. فالملاحم اليونانية والمسرحيات الكلاسيكية القديمة قد ظلت هي الأخرى عابرة للزمن مع أنها ليست مقدسة. وما زلنا نقرأ بعضَ نماذج الشعر الجاهلي التي سبقت ظهور الإسلام ونزول القرآن الكريم لما فيها من مضامين إنسانية ولغوية كاشفة عن أنماط حياة وتعبيرات فنية وبلاغية لم يتردد المفسرون المسلمون أنفسهم من الاستعانة بها لتوضيح لغة النص القرآني، تمامًا كما يستخدم النص القرآني نفسُه لفهمها، أحيانا أخرى.

وسنرى أن فلسفة الههرمنيوطيقا أو علم التأويل (hermeneutics/ interpretation) التي نتكلم عليها كأداة وجهاز لفهم النصوص المقدسة وغير المقدسة وتحليلها ورؤيتها في إطارها التاريخي وموقعها في الوجود الإنساني بطريقة أفضل، ستبقى غيرَ ذات جدوى ما لم نكن قادرين على الإفادة منها في إجراء تعديلات عملية في حياتنا التي يلعبُ التطبيقُ الخاطئ لبعض النصوص دورًا سلبيًا فيها، ويدعونا التفسيرُ الهرمنيطيقي إلى رؤيتها بطريقة أخرى تجعلها "معاصرة لنا" حقا.

ونحن نقرأ للدكتور الرفاعي، على سبيل المثال، هذا النص من النصوص التي لها صلة ببناء الدولة الحديثة:

"علوم الدين حقلٌ من حقول المعرفة العامة، وهي محكومة بمنطق الخطأ والصواب وتطور الوعي البشري المحكومة به المعارفُ كلُّها. علوم الدين التي تضعنا في أفق العصر وأسئلته ومتطلباته يجب أن تنبني على  مسلّمات معرفية، مضمونها لانهائية المعرفة ولا أبديتها، وعدم بلوغ هذه المعرفة مدياتها القصوى في أيّ زمان؛ وليست هناك أصول وقواعد أبدية يمكن استعمالها لكلّ زمان في فهم الدين وقراءة نصوصه. فكل عصر ينتج أصول فهمه للدين وقواعد تفسيره لنصوصه في سياق تطور علوم الإنسان ومعارفه". (٥)

وفيه نرى هذا النمط من رجال الدين الملتزمين التزامًا روحيًا وأخلاقيًا صادقًا، يفتحون هذه الفسحة الواسعة من الحرية التي يمكن أن نبني دولتنا الحديثة في إطارها بسبب من إدراكنا لصعوبة إقامة هذه الدولة بناءً على تصورات كلامية وفلسفية تراثية أو معاصرة يحاول أصحابها التغطية على فشلهم الفكري لصالح استمرارهم في توفير مصالحهم السياسية والدنيوية. وكما أن أسوأ تزوير للفلسفة هو استخدام اسم الفلسفة ضدّ الفلسفة، كما يقول الدكتور الرفاعي، يمكن القول على النحو نفسه: إن أسوأ تزوير للدين هو استخدام هؤلاء المتدينين اسم الدين ضد الدين نفسه.

وسواء كان موقف الدكتور الرفاعي ناتجًا عن قراءة عميقة للفلسفة الهرمنيوطيقية والنظم السياسية الأوربية القائمة في عالم اليوم، أم عن غيره، فإن صوته هنا يمثل الخلاصة المطلوبة التي تدعم بناء دولة حديثة خالصة من أوهام صلاحية الدين وأبديته في هذا الجانب أو ذاك خارج حقل التأويل لنصوصه بما يتناسب مع أوضاع العصر. علما بأن ما يقوله هنا يُعدّ، في جانب منه على الأقل، تأكيدا لدولة قائمة على نحو ما بالفعل، وبما يجعله نوعًا من تحصيل حاصل. فهذه الدولة موجودة على ما يعتور بعض جوانبها من نقص، ولا أحد حتى من رجال الأحزاب الدينية المشاركة فيها يدعو إلى تطبيق الشريعة وإقامة الحدود التي تقتضيها صورة الماضي القاتمة في الدولة الإسلامية السابقة. وما سمعه الدكتور الرفاعي مرة وأثار انزعاجه في بغداد من أحد السياسيين وهو يتكلم إلى الطلاب في إحدى الجامعات بما هو شرعي وما هو غير شرعي دون مناسبة، يظل عابرًا ولا قيمة له، وقد اعتدنا أن نراه لدى أنصاف المتدينين، مثلما نراه لدى أنصاف المثقفين في هذا الوقت وكلّ وقت.

***

الدكتور ضياء خضير

..................

الهوامش

١- عبد الجبار الرفاعي، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، دار الرافدين ، بغداد، ط٣ ، ص٩٤

٢- نفسه، ص٩٥

٣- الحرية المسيحية والتحرر، بندكت السادس عشر، مجمع العقيدة والإيمان، ترجمة ومنشورات اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام، جل الديب 1986، فقرة 2

٤- الدين والاغتراب الميتافيزيقي ، ١٦١

٥- نفسه، ص ١١٥-١١٦

يُقْبِلُ عيدُ الأضحى في عامه هذا والمجتمعات العربية -بشكل خاص- ترزح تحت وطأة الحرب والظلم والإجرام مثل الذي نشهده منذ عدة شهور في غزة الفلسطينية والسودان، ولا نعرف أيَّ طعمٍ سيتذوقُ أهلُ هذه المناطق مع عيدٍ يفترض أنّه يحمل في طياته السعادة والفرح وفقا لأبجديات العيد وفلسفته، ولا نملك حقَ دفع الجميع إلى محاكاة السعادة واصطناعها في ظل ظروف لا تلامس كرامة الإنسان ولا تحمي حياته وأساسياتها، إلا أننا بدافع من إدراكنا لفلسفة العيد ومقاصده العميقة نسعى إلى مقاومة هذه الظروف وبشاعتها، وهذا ما يمكن أن يصنع امتزاجا بين الفرح الذي يجسّده العيدُ في النفوس وبين الأسى الجاثم على صدور المظلومين الواقعين تحت وطأة الحروب وقسوتها، وشهدنا مثل هذا الامتزاج في عيد الفطر المنصرم في وجوه أهل غزة وإن كان ما يصلنا عبر الشاشات والأخبار لا يعكس واقعا مطلقا بل يفتح نافذةً ترينا شيئا يسيرا من الواقع. بعيدا عن الحروب ومآسيها، كذلك يأتي العيد في زمن الطفرة الرقمية التي أحدثت تغييرات في بعض ملامح العيد ومقاصده خصوصا في الزوايا الاجتماعية، وهذا ما سنعدّه أيضا متغيرات تقتحم ممارستنا الاجتماعية والمجتمعية في الأعياد.

لا أريد التحدث في هذا المضمار المتعلق بالعيد وفلسفته من منطلقات الرأي الآخر عبر كشف ما يقوله الباحثون والمهتمون بالشأن الديني والثقافي والفلسفي والاجتماعي، بل أتناول حديثا ينطلق من منطلقات ذاتية تعكس الرأي الشخصي لأستوضح بواسطتها ما يمكن أن يكون في دائرة الظن اليقيني -من حيث نسبيته الذاتية-. تؤكد مداركنا الواعية بأن للعيد فلسفته الخاصة من منطلقات المقاصد الكثيرة التي تفيض منه سواء الدينية "التعبديّة" أو الاجتماعية أو النفسية، ويتكيّف إدراكنا هذا من منطق العادة التي يمكن أن نقول أنها من مفرزات جيناتنا الوراثية التي جُبلت غريزةً على توظيف السعادة الجمعية التي تتفق على حصولها وممارستها الأديانُ أو الثقافاتُ، وعيدنا في الإسلام له جذوره التعبديّة التي تنطلق من مبادئ التقرّب إلى الله، ولهذا نجد أن ما يميّز عيد الأضحى اقترانه بموسم الحج الذي يجسّد الاجتماع الإنساني الكبير حيث تنتفي كل أشكال التباينات الإنسانية المتعلقة بالمال والمناصب والمستويات الاجتماعية؛ فالجميع سواسية يؤدون شعائر الحج وفق فلسفة تتبنى أعلى معايير الأخلاق وضوابطها، وتتجلى صورة الحجاج بملابس إحرامهم البيضاء؛ فترسّخ معنى أن تكون فردا سويا يقصد القرب من الله ويمارس شعائر الحج التي تعبّر عن الانسجام الجماعي ونظامه، وبمجرد أن تنقضي هذه الأركان تفيض القلوب رغبةً في نيل الثواب والقبول؛ فينعكس السرور في قلب الحاج بعد إتمامه لهذا الفرض العظيم، وينعكس معه السرور في قلب كل مسلم يعيش لحظات هذه الأيام المباركة في كل بقاع الأرض، وتُترجمُ هذه المشاعرُ إلى ممارسات تعكس سعادة الإنسان، وهذا ما يأتي في صورة العيد ومقاصده الاجتماعية وقبلها النفسية التي تجد لها متنفّسا من ضوضاء الحياة ومشكلاتها؛ فنجد مظاهر البهجة في أشكالها المتنوعة التي وإن تباينت بين مجتمع ومجتمع آخر إلا أنها تحمل المقاصد نفسها التي تحاول أن تسلكَ بالنفسِ مرتبةَ الطهارةِ والسلام والسكينة حيثُ يكون للألفة المجتمعية تحقُّقٌ، ولجبر الخواطر والرحمة والإحسان نصيبٌ خاصٌّ لا يشعر فيه الفقير بالضعف، ولا يملك الغني فيه شعورا بالمنّة والكلفة؛ فالجميع يسعى إلى تحقيق مقاصد العيد، وهنا تتضح ملامح الفلسفة الأخلاقية الصُلبة المرتبطة بالإيمان.

في ظل وجود هذه المقاصد -التي لا نملك بدًا إلا بإقرارها وممارستها- نقبع أحيانا تحت تأثير الظروف المحيطة التي تحيل بيننا وبين تحقيق هذه المقاصد والتفاعل مع حيثياتها، ولا أجد أقسى من ظروف الحرب الإجرامية التي يشنّها الكيان الصهيوني على أهل غزة وما تحمله من مشاهدَ تسيل من هَوْلِها الدموع حزنًا وألمًا، وهنا نرى ظرفية المتغيرات التي تحاول أن تخترقَ جزئيات العيد وتزعزعَ مقاصده السامية، ونرى مدى التأثير الذي يمكن أن تلحقه هذه المتغيرات بالجانب النفسي الذي يعكس قدرة الإنسان على تجاوز كل ما يحيط به من ظروف قاسية، ويتفاعل مع مظاهر العيد بما يملكه من مشاعر دفينة تتعلق بالعيد وفلسفته العميقه، والتوازن بين وقع الألم وظرفية الفرح أمرٌ يصعب تحقيقه في غالب الأحيان، ونتذكر في هذا المعرض ما فاضت به قريحة المتنبي الذي حاول أن يجد للعيد ملاذًا يفرُّ به من ظروفٍ يعيشها، إلا أن للظروف غلبةً أحالت بينه وبين تحقق مقاصد العيد؛ فعبّر عن ذلك بقوله: عيدٌ بأيَّة حال عدتَ يا عيدُ … بما مضى أم بأمرٍ فيكَ تجديدُ. تظل هناك محطة في العيد وفلسفته -حتى وإن ضاقت بظروف الحياة- تُؤْثرُ بقاءَ الأملِ الذي يأتي في صوره المناسبة، وفي ظروف الحرب الغاشمة يأتي في صورة النصر القريب الذي باتت معالمه واضحة تُنْبي بقيام دولة فلسطينية مستقلة وهزيمة للكيان الصهيوني الذي لم يجدْ له قبولًا في العالم أجمع.

وفي زاوية أخرى، لا يمكن أن نرى العيد بمظاهر ثابتة لا متغيرة؛ فثقافة العيد تأخذ شكلها وفقا لمستجدات الزمان وتطوراته، ونحن في عصر رقمي -تتدافع فيه طفرات التقنيات الذكية بأنواعها المختلفة- من الممكن أن نتوجس خوفا من فقداننا لبعض ما نظنه ثقافة ثابتة للعيد غير قابلة للتغير؛ فأسلوب تفاعلاتنا الاجتماعية والمجتمعية في ظل أدوات التواصل الاجتماعي وتطبيقاتها تأخذنا إلى اتخاذ صور أخرى لهذا التفاعل تتقلص فيه مظاهر الاجتماع واللقاءات والزيارات؛ فنعوّضها بالتواصل الرقمي الذي يفقدنا شيئا من قيمة العيد ومبتغاه -وإن واكب متغيرات العصر ومستجداته الرقمية-، إلا أن هذه الممارسات المستجدة تُكسب أفراد المجتمعات تأقلما مع واقع جديد -يستهجن البعض حدوثه-، ومع مرور الزمن يتحول إلى أسلوب حياة يعتاد الناس تقبّله، وهذا ديدن المخاضات التي تسبق دخول ثقافة جديدة لتحل محل ثقافة قديمة، وهنا لا نملك حق مقاومة حدوث هذه المتغيرات حال أنها لا تمس قيم المجتمعات العليا وأحدها القيم التي تتعلق بمقاصد العيد، وحينها لابد من الدفع بالوعي الذي يهدف إلى حماية المقاصد دون الإفراط في مقاومة المتغيرات، ولكن عبر منهجية التوازن.

***

د. معمر بن علي التوبي

أكاديمي وباحث عُماني

بقلم: جابرييلا جالفين

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

 في عام 2018، صنفت الحكومة الدنماركية رسميًا أحياء الأقليات ذات المؤشرات الاجتماعية المحددة على أنها "غيتو". تهدف السياسات إلى تفكيك الجيوب العرقية من خلال إعادة التطوير، والإخلاء، وعقوبات جنائية مشددة - والرعاية النهارية الإلزامية للأطفال الذين تزيد أعمارهم عن عام واحد. وقد يشكل ذلك تمييزًا عنصريًا بموجب قانون الاتحاد الأوروبي.

 إن السياسة الحكومية الرامية إلى تفكيك الأحياء ذات الأغلبية غير البيضاء تعمل على تمزيق النسيج الاجتماعي للمجتمعات المتماسكة

 كان ابن فاطمة عبد الحميد يبلغ من العمر 11 شهراً عندما أبلغتها البلدية أنه يجب أن يبقى في الحضانة عندما يبلغ عامه الأول. وبما أنه ولد قبل الأوان وكان لا يزال صغيرا بالنسبة لعمره، أراد عبد الحميد إبقاء ابنه في المنزل حتى يتمكن من المشي. لقد تخيلته في الحضانة، غير قادر على الوصول إلى لعبة أو التحرك دون مساعدة، ولم تعجبها الصورة. ونظراً لأن زوجها يدير مطعماً سورياً بينما تدرس عبد الحميد للحصول على درجة البكالوريوس، فقد شعرت أنه ليس هناك حاجة إلى التعجل في إرساله.

 لكن الدولة الدنماركية لم توافق على ذلك. تعيش عبد الحميد، وهي مواطنة دانمركية المولد هاجر والداها الفلسطينيان إلى هنا قبل ولادتها، مع عائلتها في فولسموز، وهو أكبر "غيتو" في الدنمارك، وهي التسمية الرسمية لأحياء الأقليات ذات الدخل المنخفض. وباعتبارها مقيمة في فولسموز، اعتبرت الحكومة أن ابنها كان معرضًا لخطر التحدث باللغة الدنماركية بشكل غير مناسب وضعف الأداء في المدرسة. منذ عام 2019، طُلب من جميع العائلات في ما يسمى بالجيتوات إرسال أطفالهم إلى الرعاية النهارية عندما يبلغون عامًا واحدًا أو المخاطرة بفقدان المزايا العامة، في محاولة لتعليمهم "التقاليد والأعراف والقيم التي نؤكد عليها في هذا البلد". ".

 تؤكد الحكومة الدنماركية أيضًا أن الأطفال في هذه المناطق الذين يتغيبون عن الرعاية النهارية هم أكثر عرضة لبدء المدرسة بمهارات لغوية متأخرة، مما يعرضهم لخطر نتائج تعليمية وتوظيفية سيئة. قبل دخول القانون حيز التنفيذ، كان 69% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين عام واحد وعامين والذين هاجر آباؤهم من دول غير غربية في دور الحضانة، مقارنة بـ 93% بين الأطفال من أصل دنماركي. وفي الأحياء "الضعيفة"، حيث يعيش مزيج من الدنماركيين البيض والمهاجرين وأحفادهم، تم تسجيل 75% من الأطفال بعمر عام واحد في الرعاية النهارية.

 بالعودة إلى فولسموز - التي تقع في أودنسه، ثالث أكبر مدينة في الدنمارك - اكتشفت عبد الحميد "التقاليد والأعراف والقيم" التي كان ابنها بحاجة إلى تعلمها عندما تقدمت بطلب للحصول على إعفاء من قاعدة الرعاية النهارية وجاءت أخصائية اجتماعية تابعة للبلدية لتخبرها. تفقد منزل العائلة. وبدت الزائرة متعاطفة، وقامت بطرح قائمة من الأسئلة المطلوبة، بما في ذلك كيف ستضمن عبد الحميد المساواة بين الجنسين بين أطفالها (كانت لديها طفل واحد فقط في ذلك الوقت)، وكيف ستعلمه عن الديمقراطية وكيف ستقدم له عيد الميلاد. - سؤال لم تعرف عبد الحميد، وهي مسلمة، كيف تجيب عليه.

 تقول عبد الحميد، البالغة من العمر الآن 26 عاماً: "لم يكن الأمر مخيفاً للغاية، ولكن مثل: "من تظن نفسك، تأتي إلى منزلي وتعلمني كيف أكون مع طفلي، فقط لأنني أعيش في فولسموز؟" أم لطفلين. "أعتقد أن الأمر كان سخيفًا للغاية. "لكنني كنت أقول، عليّ فقط إنهاء هذه المحادثة، يجب أن أصل إلى هدفي فقط" - كل ما أرادته هو أن يتجنب ابنها الرعاية النهارية وألا تسحب الحكومة مخصصاتها النقدية.

 أعربت الأخصائية الاجتماعية عن بعض المخاوف بشأن مهارات زوجها في اللغة الدنماركية - فقد وصل كلاجئ سياسي من سوريا منذ حوالي ثماني سنوات، وبينما تقول عبد الحميد أن لغته الدنماركية ممتازة، فإنه لم يخضع بعد لامتحان اللغة المطلوب - لكنهم حصلوا على الإعفاء، على الرغم من أنهم لم يتمكنوا من التقدم بطلب للحصول على أموال إضافية لرعاية طفلهما في المنزل، كما تفعل العائلات التي تعيش خارج مناطق الجيتو. بدأ ابن عبد الحميد الحضانة بعد ستة أشهر، بمجرد أن بدأ المشي؛ اليوم، يبلغ من العمر 5 سنوات تقريبًا، ولغته الدنماركية أفضل من لغته العربية.

 تعد سياسة الرعاية النهارية أحد قوانين الجيتو المثيرة للجدل في الدنمارك، والتي تم إقرارها في عام 2018 بدعم واسع من الأحزاب السياسية الرئيسية. في كل عام، تقوم الحكومة بتقييم الأحياء التي يبلغ عدد سكانها ما لا يقل عن 1000 نسمة؛ لكي تكون المنطقة مؤهلة لتكون "منطقة سكنية معرضة للخطر"، يجب أن تستوفي اثنين من أربعة معايير تغطي مستويات تعليم السكان والبطالة والدخل والإدانات الجنائية. ولكن إذا استوفت منطقة ما المعايير وكان أكثر من نصف سكانها من أصل غير غربي، فسيتم اعتبارها جيتو، أو، منذ أن أعادت حكومة يسار الوسط تسمية القانون في عام 2021، "مجتمعًا موازيًا".

 يمكن أن تكون تسمية الجيتو بمثابة ختم الموت للحي. تخضع االجيتوات لمجموعة من السياسات المستهدفة لتفكيك الجيوب العرقية من خلال هدم المساكن وإعادة التطوير، والإخلاء القسري، وفرض عقوبات أشد على الجرائم المرتكبة في المنطقة. ويجب على الآباء أيضًا، كما اكتشفت عبد الحميد، إرسال أطفالهم إلى الحضانة. ومع ذلك، فإن التسجيل السنوي في دور الرعاية النهارية في الجيتوات محدد بنسبة 30% لأطفال الحي. وهذا يعني أنه إذا كان 30% من الأطفال في الرعاية النهارية الأقرب إلى المنزل هم من الجيتو، فيجب على الآباء إرسال أطفالهم إلى منشأة بها نسبة أقل من الأطفال من الحي الذي يقيمون فيه. وخصصت الدولة 1.45 مليار دولار حتى عام 2026 لتنفيذ القانون، بهدف تغيير التركيبة العرقية والاقتصادية لأحياء الجيتو بحلول عام 2030.

 تقول الحكومة الدنماركية إن هذه الإجراءات ضرورية لمعالجة "التحديات الاجتماعية والتكاملية العميقة الجذور"، وخاصة المخاوف من عدم اعتناق غير الغربيين الثقافة الدنماركية أو الاستفادة من أنظمة الرعاية الاجتماعية السخية في البلاد. وعلى الرغم من ذلك، فإنهم لا يتحدثون اللغة على وجه صحيح. يقول معارضو القوانين إنها تضعف النسيج الاجتماعي لأحياء المهاجرين وأحياء الجيل الثاني، ويمثل، كما قالت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان في عام 2018، "الاستيعاب القسري".

 تقول سوشيلا ماث، رئيسة قسم التقاضي في مبادرة عدالة المجتمع المفتوح: "على الرغم من وجود اتجاهات مثل هذه في جميع أنحاء أوروبا، فإننا نجدها واحدة من أكثر الأمثلة وضوحًا وفظاعة، إن لم تكن أكثرها، على التمييز العنصري". . وهي تؤيد الطعن القانوني في الحزمة المعروض الآن أمام محكمة العدل الأوروبية.

 أحدث قائمة للأحياء العشوائية، التي نُشرت في ديسمبر 2023، تُسمّي 12 حيًا كمجتمعات موازية، بعد أن كانت تشمل 29 حيًا في عام 2018، حيث تغيّرت البيانات الاجتماعية والاقتصادية، وانتقل الناس من تلك الأحياء أو انخفضت نسبة السكان غير الغربيين إلى أقل من 50%. واليوم هم موطن لحوالي 28600 شخص، وتتراوح نسبة السكان غير الغربيين من 53.1% إلى 77.4%، مقارنة بـ 10.1% في جميع أنحاء الدنمارك. معظم السكان هم من تركيا أو سوريا أو العراق أو لبنان أو باكستان أو إيران، ومنذ عام 2022، من أوكرانيا، على الرغم من إعفاء الأوكرانيين من سياسات الجيتو. تشمل التسمية غير الغربية الجميع بدءًا من المهاجرين الذين وصلوا مؤخرًا إلى الدنماركيين الذين يحملون جوازات سفر مع أحد الوالدين على الأقل من البلدان المعينة.

 تقول مايكين فيل، وهي معلمة تعيش في حي ميولنباركن العشوائي في كوبنهاغن وتعود أصولها إلى الدنمارك:"نحن نأتي من خلفيات ثقافية متعددة، ولكن لغتنا المشتركة هي الدنماركية"، "إذا استمعت إلى الأطفال وهم يلعبون مع بعضهم البعض، ستجد أنهم دائمًا يتحدثون الدنماركية."

 تخضع سياسات الإسكان الخاصة بقوانين الجيتو لاحتجاجات منتظمة - بما في ذلك عريضة موقعة من 52000 شخص - والدعاوى القضائية المستمرة، لكن قواعد الرعاية النهارية قد تم وضعها تحت الرادار بالمقارنة. منذ عام 2019، تم تسجيل ما لا يقل عن 241 طفلًا في البرنامج الإلزامي، وهو مجاني، وتم حرمان عائلات ما لا يقل عن 53 طفلًا صغيرًا من المزايا العامة لتحدي القواعد، وفقًا لبيانات البلدية التي جمعتها شركة نيو لاينز. لا تشمل هذه الأرقام العائلات التي اشتركت في الرعاية النهارية بمبادرة منها بسبب التهديد الوشيك بالإكراه القانوني.

 أماني حساني، باحثة ما بعد الدكتوراه في جامعة برونيل في لندن، تدرس تأثير قوانين الأحياء الفقيرة،/ الجيتو ترى أن هذه السياسة تشكل نوعًا من "ضغط النزوح"، مما يعني أن الأسر ذات الموارد الأفضل يمكنها الانتقال لتفادي القوانين بينما يظل السكان الضعفاء خلفهم، يفتقرون إلى الدعم المجتمعي من جيرانهم السابقين.

 قدم المشرعون المحافظون اقتراح الرعاية النهارية في عام 2018، مسلحين بدراسة أولية تظهر أن الأطفال ثنائي اللغة ذوي الخلفية غير الغربية سجلوا نتائج سيئة في اختبارات اللغة في سن الثالثة.بينما يميل هؤلاء الأطفال إلى التحسن بحلول عيد ميلادهم السادس، إلا أنهم عمومًا كانوا يؤدون بشكل أسوأ من الأطفال الذين ينتمون إلى أسر أحادية اللغة. شملت الدراسة بضع مئات من الأطفال - أولئك الذين لديهم والدين من الدنمارك والدول الغربية وغير الغربية على حد سواء - واستندت إلى تقييمات لغة معيارية التي اعترف الباحثون بأنها قد تكون معيبة لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار كيفية تعلم الأطفال ثنائيي اللغة أو المحرومين اجتماعيًا للغات. في الدراسة، قام الموظفون التعليميون بقياس نطق الأطفال وطلبوا منهم تسمية الأشياء والألوان استنادًا إلى صور، من بين اختبارات أخرى، وملأ الآباء تقارير عن مفردات أطفالهم؛ ثم قام الباحثون بتحديد درجة إجمالية للغة لكل طفل.

 قال باحثون آخرون إنه لا ينبغي لواضعي السياسات استخدام هذه الأنواع من اختبارات اللغة لتبرير إلزامية الرعاية النهارية لأنها لا تصور الطرق المختلفة التي يتواصل بها الأطفال مع بعضهم البعض،وجادلوا أيضًا بأن الأطفال الصغار لا يحتاجون إلى التقدم بنفس الوتيرة في اللغة الدنماركية من أجل إتقان اللغة. كما جاءت المعارضة السياسية للخطة من المنظمات المهنية مثل اتحاد العاملين في مرحلة الطفولة المبكرة والأحزاب اليسارية التي أرادت تعزيز استخدام الرعاية النهارية بطرق أخرى، مثل جعل العاملين في مجال الصحة المجتمعية يناقشون مراكز الرعاية النهارية عند الاجتماع مع الآباء الجدد. لكن القانون أقره البرلمان الدنماركي في نهاية المطاف بموافقة 78%.

 قالت آني هالسبي-يورجنسن، عضو في الحزب الاجتماعي الديمقراطي ذو الاتجاه اليساري الوسطي، التي قامت بتوسيع تشريعات الأحياء الفقيرة/ الجيتوات منذ توليهم السيطرة على الحكومة في عام 2019، خلال مناقشة مشروع القانون في عام 2018: "لست قلقة جدًا بشأن العنصر الإلزامي. سأختار دائمًا مصلحة الطفل إذا كان هذا هو المطلب."

 في الواقع، يمكن أن تؤثر برامج الطفولة المبكرة ذات الجودة العالية بشكل إيجابي على التطور المعرفي والاجتماعي والسلوكي للأطفال، لا سيما الأطفال ذوي الدخل المنخفض والأطفال ثنائيي اللغة. وعلى المدى الطويل، ترتبط هذه البرامج بمستويات تعليمية أعلى وزيادة مشاركة الأمهات في القوى العاملة. يرى الدنماركيون أن دور الحضانة أداة لتحقيق تكافؤ الفرص خلال فترة حاسمة لنمو الطفل، وقد ضمنت الدولة رعاية الأطفال الشاملة منذ عام 2004 – وهو استثمار اجتماعي يُعزى إليه تعزيز المساواة في البلد الاسكندنافي الذي يبلغ عدد سكانه ما يقرب من 6 ملايين نسمة.

 يقول كريستيان ساندبيرج هانسن، الأستاذ المشارك في علم الاجتماع التربوي بجامعة آرهوس والذي يعارض قوانين الجيتو: "منذ اختراع الرعاية النهارية في الدنمارك، أصبحت أداة سياسية، وخاصة أداة مهنية، لصياغة دولة الرفاهية". "لقد أصبحت القاعدة الأساسية أن يحضر الأطفال البالغون من العمر عامًا واحدًا إلى الرعاية النهارية بطريقة ما."

 المشكلة في سياسة الرعاية النهارية، وفقًا للعاملين في مجال رعاية الأطفال والآباء والباحثين، هي العنصر الإجباري. ويقولون إنه إذا كانت الحكومة تريد حقًا تعزيز الالتحاق بالرعاية النهارية، فيجب عليها التركيز على التواصل والحوافز لعائلات محددة تكافح، وليس التهديد بفرض عقوبات مالية في أحياء الأقليات ذات الدخل المنخفض في الغالب.

 تقول ليزا برون، العاملة في مجال رعاية الأطفال في جيتو في آرهوس، ثاني أكبر مدينة في الدنمارك: "إن السنوات الثلاث الأولى من حياتك مهمة للغاية". لمساعدة الآباء المتشككين على أن يصبحوا أكثر راحة في إرسال أطفالهم إلى رعاية النهار، تقوم بزيارات منزلية قبل تسجيلهم وتدعوهم للبقاء في المركز طالما أرادوا.

 يبدو أن القاعدة التي تنص على ألا يأتي أكثر من 30 بالمائة من الملتحقين الجدد بالرعاية النهارية من الأحياء المحرومة، بغض النظر عن سعة المنشأة أو ما إذا كانت الأسرة قد سجلت طفلها بالفعل، يمكن أن يكون لها آثار عكسية. في أحد أحياء الجيتو في مدينة إسبيرج الساحلية، أصبح مركز الرعاية النهارية في بيديلينز بورنيهوس نصف فارغ على الرغم من قائمة الانتظار الطويلة للأطفال من الحي، كما يقول مديره مايكل فريدريكسن.

 نظرًا لأن الآباء يجب أن يرسلوا أطفالهم الذين يبلغون من العمر عامًا واحدًا إلى الرعاية النهارية، فإن المقيمين في قائمة الانتظار يقودون سياراتهم عبر المدينة لوضع أطفالهم في مرافق أخرى - عادة ما تكون على بعد ميل واحد إلى ثلاثة أميال، ولكن في حالة واحدة أكثر من 8 أميال - بينما ينتظرون دور الرعاية النهارية. مكان مجاني في بيدلينس بورنهوس. ومع ذلك، فإن قواعد إعادة التوزيع نفسها لا تنطبق على العائلات من مناطق خارج الجيتو، وبما أنهم عادةً ما يرسلون أطفالهم إلى مراكز الرعاية النهارية في منطقتهم، فإن العدد الإجمالي للتسجيلات في بيديلينز بورنيهوس لا يزال منخفضًا. هذا يعني أن الفرص المتاحة لأطفال الحي قليلة ومتباعدة ، على حد قول فريدريكسن.

 تقول فريدريكسن، وهي تقف في منطقة لعب هادئة في بيديلينس بورنيهوس: "لقد تم تدريبنا جميعًا على التعامل مع الأطفال في مستواهم الأساسي وتطويرهم حقًا من حيث احتياجاهم إلى التطوير". "لقد تم إنفاق الكثير من الأموال على التدريب الإضافي، لكن الأرجوحات تظل فارغة لأننا لا نستطيع العمل إلا بنصف طاقتنا."

 بعد أن أنجبت مروى مولودها العام الماضي، كان وضع ابنتها على قائمة الانتظار في بيديلينز بورنيهوس من أول الأشياء التي قامت بها. يذهب أطفال أختها إلى هناك، وكانت مروى، وهي من أصل تركي وفلسطيني، تحب الأجواء المتعددة الثقافات والشاملة. ولكن عندما حان وقت التسجيل، كانت الحصة البالغة 30% تعني أن عليها التسجيل في مكان آخر حتى يتم فتح مكان في بايديلينز بورنيهوس بعد عدة أشهر، وهو ما شعرت أنه أمر غير عادل.

 تقول مروى، وهي طالبة في التعليم تبلغ من العمر 22 عاماً طلبت استخدام اسمها الأول فقط: "أريد أن أعلم ابنتي أن كل شخص جيد بما فيه الكفاية وأن تكبر دون القلق بشأن لون البشرة". "من الصعب تعليمها مجموعة من القيم، ومن ثم لا يتم رؤية تلك القيم في جميع أنحاء المجتمع".

 تعكس قواعد الجيتو استراتيجية طويلة المدى لاستخدام الرعاية النهارية التي تفرضها الدولة لاستيعاب الثقافة الدنماركية. منذ عام 2011، يُطلب من الأطفال الصغار ثنائيي اللغة الذين تبلغ أعمارهم 3 سنوات فما فوق حضور الرعاية النهارية إذا اعتبرت لغتهم الدنماركية غير كافية، وهي قاعدة تم توسيعها لتشمل الأطفال بعمر عامين في عام 2016. لكن الأطفال الناطقين باللغة الإنجليزية والألمانية معفون من هذه القاعدة. ولهذا السبب يصف هانسن عبارة "العائلات ثنائية اللغة" بأنها "تعبير ملطف للمهاجرين المسلمين".

 بعبارة أخرى، فإن قواعد الرعاية النهارية هي بمثابة التذكير الأول للآباء غير البيض، وخاصة المسلمين، بالآخر الاجتماعي الذي قد يواجهه أطفالهم عندما يكبرون في الدنمارك. يقول حساني إن القوانين "تشير إلى حقيقة أن المجتمع الذي يتم بناؤه هنا، داخل هذه المنطقة السكنية، ليس جيدًا بما فيه الكفاية". "ومن هنا تأتي فكرة المجتمع الموازي."

 كما تم تطبيق قوانين الغيتو بالتزامن مع تحول الدنمارك نحو اليمين فيما يتعلق بالهجرة، والذي اشتد في السنوات الأخيرة. في عام 2016، أصدر البرلمان قانونًا يلزم طالبي اللجوء بتسليم المجوهرات والأشياء الثمينة الأخرى للمساعدة في تمويل إقامتهم في الدنمارك؛ وفي عام 2018، أقرت حظر البرقع؛ وفي عام 2019، رأت الحكومة أن العودة إلى أجزاء من سوريا آمنة وبدأت في إلغاء تصاريح إقامة اللاجئين؛ وفي عام 2022، أعلنت عن خطط لإرسال طالبي اللجوء إلى رواندا؛ وفي عام 2023، قالت رئيسة الوزراء ميتي فريدريكسن، وهي من الحزب الديمقراطي الاشتراكي، إنها تريد سحب المزايا العامة من النساء غير الغربيات اللاتي لا يعملن بدوام كامل.

 في عام 2020، قال ماتياس تيسفاي، وهو ديمقراطي اشتراكي شغل سابقًا منصب وزير الهجرة والاندماج وهو الآن وزير الأطفال والتعليم، لصحيفة كوبنهاغن إن الناس من بعض البلدان "يندمجون في المجتمع الدنماركي دون أي مشاكل، بينما يتخلف البعض الآخر عن الركب" عدة أجيال. ولذلك، فإن أهم شيء يمكننا القيام به هو منع التدفق من البلدان التي تكون فيها مشاكل التكامل منخفضة للغاية.

 رفض تسفايا طلب إجراء مقابلة من خلال متحدث باسمه. ورفض الديمقراطيون الاجتماعيون وحزب التحالف الأحمر-الأخضر اليساري المعارض لقوانين الجيتو / الأحياء الفقيرة، وعدة سياسيين محليين الرد على الطلبات.

 على الرغم من أن الدنماركيين يميلون إلى أن تكون لديهم وجهات نظر إيجابية عن الهجرة، إلا أن الخطاب السياسي المتشدد قد أثر على الرأي العام. وفقًا لدراسة أجريت في كوبنهاغن عام 2010، فإن العائلات ذات الأصل الدنماركي أكثر احتمالًا للانسحاب من المدرسة العامة المحلية إذا تجاوزت نسبة الطلاب من غير الغربيين 35%. مؤخرًا، وجد المعهد الدنماركي لحقوق الإنسان أن العائلات البيضاء والميسورة الحال أكثر احتمالًا للانسحاب من المدارس العامة المحلية إذا كان هناك جيتو / حي فقير في منطقتهم.

 عندما تغطي الصحف الدنماركية هذه المناطق، فإنها تركز على العنف والمخدرات ونشاط العصابات وتحركات الشرطة، وتصف الأطفال هناك بـ " "أطفال الجيتو". ويقول هانسن إنه إلى جانب سياسة الجيتو نفسها، تعمل التغطية الإعلامية على ترسيخ فكرة أن جميع المشاكل الاجتماعية في البلاد تتركز في هذه الأحياء.

 لدى السكان رؤية مختلفة لمجتمعاتهم. قام إبراهيم الخطيب، 57 عامًا، بتربية بناته الثلاث في الجيتو في هوجي تاستروب، بعد انتقاله من لبنان إلى الدنمارك في عام 1990. يقول مدير مشروع تكنولوجيا المعلومات إن صورة حيه كمجتمع مغلق لا تتطابق مع الواقع، لكن العام الماضي اضطر إلى مغادرة المنطقة لأن المبنى الذي يقطنه كان مقررًا له الهدم كجزء من خطة تطوير الإسكان.

 يقول الخطيب: "كان المكان آمنًا جدًا لأطفالي والأطفال الآخرين - كانوا هناك يلعبون [ولم يكن هناك] أي شيء خطير". ويضيف: "أنا أسميه أجمل جيتو في الدنمارك. ... كان من الصعب جدًا علي وعلى عائلتي الانتقال من هناك."

 مع مرور الوقت، يبدأ الأطفال في استيعاب الرسائل التحقيرية التي يسمعونها أثناء نموهم. وفقًا لتقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لعام 2015، شعر 63% من الأطفال الدنماركيين الذين لديهم آباء من العراق أو الصومال بالانتماء في المدرسة، وهو أقل بحوالي 20 نقطة مئوية مما هو عليه في فنلندا، الدولة الشمالية الأخرى المجاورة للدنمارك .

 تقول كريستينا باكير سيمونسن، أستاذة العلوم السياسية في جامعة آرهوس: "في كثير من الأحيان، عندما يكبر الأطفال بما يكفي ليدركوا أنه لا يُنظر إليهم ببساطة على أنهم دنماركيون، على سبيل المثال، يبدأون في الشعور بالألم والإحباط".

 فريدة، التي ولدت في سوريا وتقوم بتربية أطفالها الثلاثة في نفس الجيتو في كوبنهاغن حيث نشأت، تستعد بالفعل لهذه المحادثات. عندما أرادت ابنتها البالغة من العمر 9 سنوات تجربة ارتداء الحجاب لبضعة أيام، وحاولت فريدة ثنيها خوفاً من أن يواجهوها فور مغادرتها الحي الذي تعيش فيه، حيث يعتبر حوالي ثلاثة أرباع السكان أنفسهم غير غربيين.

 تقول فريدة، وهي قابلة تبلغ من العمر 37 عاماً طلبت استخدام اسمها الأول فقط: "لا أريد لأطفالي أن يكبروا ويعيشوا هذه التجربة في مثل هذه السن المبكرة". عندما يحين وقت مناقشة الازدراء في الحي، "سأتركهم يصلون إلى استنتاجاتهم سواء كانت مبنية على العنصرية أو أي شيء آخر، لكنني أعتقد أن الأطفال أذكياء. سوف يكتشفون الأمور."

 وقد رفع العديد من سكان الجيتو، سواء من البيض أو غير الغربيين، دعاوى قضائية للطعن في القوانين. وفي القضية الأكثر شهرة، ستقرر محكمة العدل الأوروبية ما إذا كانت التسمية غير الغربية تميز الأشخاص على أساس أصلهم العرقي. وإذا كان الأمر كذلك، فإن خطط التنمية التي وضعتها الدنمرك لمناطق "الغيتو" قد تشكل تمييزاً عنصرياً بموجب قانون الاتحاد الأوروبي. وتؤكد الحكومة الدنماركية أن كلمة "غير غربي" هي علامة على الجنسية أو البلد الأصلي، وليس العرق أو الإثنية.

 ومن المقرر أن تنظر محكمة الاتحاد الأوروبي في القضية في يوليو/تموز، ومن الممكن أن يصدر القرار في وقت مبكر من العام المقبل، حسبما يقول ماث من مبادرة عدالة المجتمع المفتوح. إن النصر القانوني للمقيمين من شأنه أن يرسل إشارة إلى دول الاتحاد الأوروبي الأخرى بأن قوانين مكافحة التمييز في الكتلة سيتم دعمها، "وأنه لا يمكنك التهرب منها باستخدام صياغة بديلة للأصل العنصري أو الإثني، أو من خلال معاملة المجموعات العنصرية على أنها يقول ماث: "مواطنون من الدرجة الثانية باسم شيء مثل التكامل".

 يقول فيلي، أحد سكان مولنرباركن، وهو أحد المدعين في الدعوى، إن العديد من العائلات، التي سئمت من حالة عدم اليقين الناتجة عن الدعاوى القضائية المختلفة والنزوح السكني، قبلت الاستقرار بشكل دائم في مكان آخر. عندما صدرت النسخة الأخيرة من قائمة الغيتو في ديسمبر 2023، لم تكن Möllenerparken مدرجة فيها للمرة الأولى. لم يكن هناك أي تغيير تقريبًا في التعليم والدخل والتوظيف والإحصاءات الجنائية، لكنه لم يعد قابلاً للعد. انخفض عدد السكان إلى 966؛ لقد ذهب الكثير من الناس.

 "لقد عاش الكثير من الناس في Mjolnerparken لمدة 30 أو 20 عامًا وأصبحوا أقرب إلى جيرانهم، لأنهم أصبحوا أسرهم في بلد بعيد عن أسرهم"، يوضح فيلي. “وهكذا تم اقتلاع شبكة الدعم القوية جدًا للعديد من الأشخاص. »

 لم يكن هناك سوى القليل من الإرجاء أثناء سير الدعاوى القضائية. واليوم، تستمر عمليات هدم المساكن والإخلاء، وتبتعد الأسر التي لديها الوسائل اللازمة للقيام بذلك عن "الغيتوات"، ويتعين على الآباء أن يطلبوا من الدولة الإذن لإبقاء أطفالهم في المنزل، ويتم إرسال الأطفال الدنماركيين الصغار إلى الرعاية النهارية ليتعلموا كيف يصبحون دنمركيين. وبالنسبة للآباء الدنمركيين من ذوي الخلفيات غير الغربية، فإن سياسات الغيتو تعكس إحجام الدنمرك عن قبول مجتمع متعدد الثقافات. الآن، يتم نقل هذا الصراع إلى أطفالهم.

 تقول عبد الحميد: "لا أستطيع الاختيار بين الاثنين". "أحلم بالدنماركية، وأفكر بالدنماركية، وأتحدث بالدنماركية. لكن في الوقت نفسه، جزء من هويتي كوني فلسطينية".

***

.....................

الكاتبة: جابرييلا جالفين /Gabriela Galvin صحفية مستقلة تقيم في آرهوس وأمستردام. وقد ظهرت أعمالها في EUobserver، وEuronews، وGlobal Health NOW، وغيرها. رابط المقال على نيو لاينز:

https://chatgpt.com/c/d5a4754c-82e5-4741-9ae4-d04e185b4862

 

بقلم: شايلا لاف

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

يقول متعددو اللغات أنهم يشعرون كما لو أن تعلم لغة أخرى يتعارض مع لغاتهم القديمة. بحث جديد يضع هذا على المحك.

عندما توفي والد جولي سيديفي، عادت إلى موطنها في جمهورية التشيك واكتشفت خسارة أخرى: اللغة التشيكية، لغتها الأم. في كتابها الذاكرة تتحدث: في فقدان واستعادة اللغة والذات (2021)، تصف سيديفي، عالمة اللغات في كندا، تجربتها مع استنزاف اللغة - نسيان لغة معروفة ذات يوم، حتى تلك التي تعلمتها منذ فترة طويلة. بالنسبة لها، كان استنزاف اللغة مرتبطًا بتعلمها اللغة الإنجليزية، الأمر الذي أدى إلى مزاحمة اللغة التشيكية.

كتبت سيديفي: "مثل الأسرة التي ترحب بطفل جديد، لا يمكن لعقل واحد أن يقبل لغة جديدة دون بعض التأثير على اللغات الأخرى الموجودة هناك بالفعل". وهذه ملاحظة متكررة بين متعددي اللغات، وهي أن "اللغات يمكن أن تتعايش، لكنها تتصارع، كما يفعل الأشقاء، على الموارد العقلية والاهتمام"، على حد تعبيرها.

تقدم دراسة حديثة في المجلة الفصلية لعلم النفس التجريبي بعضًا من الأدلة التجريبية الأولى لهذه العملية. وشملت الدراسة متحدثين هولنديين أصليين يعرفون اللغة الإنجليزية أيضًا، ولكن ليس الإسبانية. أجرى المشاركون اختبارًا لمفردات اللغة الإنجليزية، وتم تخصيص 46 كلمة لكل شخص يعرفونها بالفعل. ثم تعلموا نصف هذه الكلمات باللغة الإسبانية.

بعد تعلم هذه النسخ الإسبانية الـ 23، تم اختبار المشاركين مرة أخرى على جميع الكلمات الإنجليزية البالغ عددها 46 كلمة. نظرًا لأنه تم طرح الأسئلة المتعلقة بالكلمات الإنجليزية عليهم من قبل، فقد استجاب المشاركون عمومًا بشكل أسرع في هذا الاختبار الجديد. لكن بشكل عام، أظهروا زيادة أقل في السرعة عند تذكر الكلمات الإنجليزية التي تعلموها للتو باللغة الإسبانية. "ومن ثم،" يكتب الباحثون، "يمكننا أن نستنتج أن تعلم الكلمات من لغة جديدة يأتي على الأقل على حساب سهولة استرجاع الكلمات في اللغات الأجنبية التي تم تعلمها مسبقًا." وفي إحدى التجارب، تعلم النسخ الإسبانية من الكلمات كما يبدو أيضًا أنها تجعل المشاركين أقل دقة قليلًا عند تذكر تلك الكلمات باللغة الإنجليزية.

اختبر القائمون على التجربة ما إذا كان إعطاء الكلمات الإسبانية يومًا للفهم سيؤدي إلى تداخلها بشكل أكبر مع النسخ الإنجليزية، وهو ما لم يحدث عندما تم اختبار المشاركين مرة أخرى في نفس اليوم. لكن التأخير لم يحدث فرقا كبيرا في النتائج.

تتنافس الكلمات في أذهاننا، وقد يحدث تأخير في استرجاعها نتيجة اضطرار الشخص إلى التوقف لاختيار الكلمة الصحيحة

أشارت دراسات سابقة إلى أن تعلم شيء جديد يمكن أن يزيل معلومات أخرى من خلال عملية ذاكرة تسمى التداخل. في وقت مبكر من عام 1900، أثبت الباحثون ذلك من خلال مطالبة الناس بتعلم وتذكر مجموعات من الكلمات، مثل "وردة - نافذة، حصان - سحابة"، ثم مجموعات جديدة تحتوي فقط على العنصر الأول من كل زوج: على سبيل المثال، "وردة" . - كرسي، حصان - كرة". الأشخاص الذين شاهدوا القائمة الثانية واجهوا صعوبة في تذكر القائمة الأولى. تتنافس الكلمات في أذهاننا، ويمكن أن يحدث تأخير في استرجاعها نتيجة اضطرار الشخص إلى التوقف مؤقتًا لاختيار الكلمة الصحيحة.

عندما يتداخل التعلم الجديد مع التعلم القديم، يطلق عليه "التدخل الرجعي". وهذا أمر شائع عند تعلم أكثر من لغة واحدة، كما تقول كريستين ليمهوفر، المؤلفة الرئيسية في البحث الأخير، والأستاذة المشاركة في علم اللغة النفسي بجامعة رادبود في هولندا. إذا علمت لأول مرة أن كلمة "dog" تعني chien باللغة الفرنسية، ثم تعلمت أنها perro باللغة الإسبانية، فقد يصبح تذكر un chien أكثر جهدًا لاحقًا.

أحد الأسئلة البارزة حول التدخل بأثر رجعي هو ما إذا كان التعلم الجديد يمكن أن يعطل الكثير من التعلم الأقدم الذي تم ترسيخه في الذاكرة طويلة المدى، بدلا من شيء تم تعلمه مؤخرا.أظهرت هذه الدراسة الجديدة أن ذلك ممكن؛ تفاجأت ليمهوفر بأن تعلم الكلمات الإسبانية أثر على تذكر اللغة الإنجليزية التي تعلمها المشاركون الهولنديون قبل سنوات عديدة. من المثير للاهتمام أن التجارب كشفت أيضًا أن التداخل يمكن أن ينشأ من مجرد تعلم لغة جديدة، سواء تم استخدامها أم لا.

بعد رؤية هذا التداخل في المختبر، تقول ليمهوفر إنه شيء يجب على متعلمي اللغة الاستعداد له: قد يكون تعدد اللغات ببساطة مرهقًا للدماغ. لقد ثبت أن الأشخاص متعددي اللغات يستغرقون وقتًا أطول للعثور على كلمة ما وإخراجها في أي من اللغات التي يتحدثونها، ويمكنهم تجربة حالات طرف اللسان في كثير من الأحيان.

ليمهوفر ألمانية، أمضت عامًا في لندن، ثم ذهبت إلى هولندا للحصول على درجة الدكتوراه - لذا فهي تتمتع بخبرة مباشرة كبيرة في هذه الظاهرة. وتقول: "عندما بدأت في تعلم اللغة الهولندية، توقفت لغتي الإنجليزية فجأة". "عندما حاولت التحدث بها، خرجت الكثير من الكلمات الهولندية، الأمر الذي كان محرجًا في بعض الأحيان. لقد اختفت هذه المشكلة فقط عندما أصبحت لغتي الهولندية أكثر استقرارًا، وتحدثت الإنجليزية بشكل أفضل مرة أخرى.

لا يمكن تجنب ذلك بشكل كامل، لكن ليمهوفر تعتقد أنه يمكن التخفيف من هذه التأثيرات من خلال الاستمرار في استخدام لغة يتم نسيانها أو التداخل معها. تقول ليمهوفر: "على الرغم من أننا لم نختبر ذلك تجريبيًا في تلك الدراسة، إلا أننا نعتقد بقوة أن تأثيرات النسيان التي لاحظناها يمكن تجنبها من خلال الاستمرار في استخدام اللغة الأخرى أيضًا".

بالنسبة لـ سيدفي، كان قضاء بعض الوقت في جمهورية التشيك والتعرف مرة أخرى على اللغة هناك أمرًا غريبًا بعض الشيء في البداية، لكن الكلمات عادت سريعًا - وعاد معها جزء من نفسها. وكتبت في مقال نشرته عام 2015: "كانت اللغة الإنجليزية هي اللغة التي صُغت بها استقلالي، ولغة تفردي  ولكن باللغة التشيكية، تمت رعايتي، وراحتي، وغنيت لها.

(تمت)

***

......................

الكاتبة: شايلا لاف / Shayla Love: محررة اساسية فى سايكى، ظهرت مقالاتها الصحفية العلمية في مجلات Vice وThe New York Times وWired وغيرها. تعيش في بروكلين، نيويورك.

 

الحجُ رمزٌ عملي تطبيقى فعّال لوحدة القصد: ووحدة التوجُّه ووحدة الغاية، وإشعار الناس، وهم محرِمُون فى صعيد واحد، يمثلون حالة الفطرة كونهم إخواناً متحابين أمام معبود واحد، لا ينظر إلى صورهم ولا إلى مناصبهم ولا إلى أموالهم، ولكن ينظر إلى قلوبهم وأعمالهم ونواياهم.

اللافت للنظر فى مناسك الحج كلها هو الطواف، أمرٌ لا يُعلل إلّا بحكمة تدعو إلى التأمل، فالكعبة رمز التوحيد، وهيكله البيت العتيق، أراد الله أن يجسّد فكرة التوحيد فى بيته العتيق فكانت الكعبة، فالطواف حولها استشعار العبد التوجّه إلى الله وحده بغير لوثة الشرك والوثنيّة، استشعاره باقياً فى عالم الحقيقة والرضى، تاركاً للزيف وللوهم وللختل وللخداع، متجهاً بكليّته إلى حقيقة التوحيد مجسّدة أمامه فى أول بيت مبارك وضع للناس.

ليس أسهل من أن تكون حركة الطواف حركة مستقيمة، ولكنها لحكمة إلهية بالغة كانت حركة دائرية، تجئ فيها ترقية من عَسَاهُ يطوف بالكعبة من حركة الأرض إلى حركة السماء.

فالحركة المستقيمة حركة طبيعة فيزيقية، حركة الحار والبارد والثقيل والخفيف، أو إنْ شئت قلت : حركة النار والماء والتراب والهواء. هذه حركة مستقيمة ليست كاملة بسبب أن لها أضداداً، فحركة الجسم الخفيف إلى أعلى كحركة النار والهواء، وحركة الجسم الثقيل إلى أسفل كحركة التراب والماء، ولكل من الحركتين أضداد كما يقول الفلاسفة.

أمّا الحركة الدائرية فلا ضدّ لها، هى أكمل الحركات الطبيعية ولذلك يختص بها العالم العلوى، عالم الأفلاك السماوية. تذكر هنا فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأذكر معها تلك الحركة الدائرية الكاملة، حركة الكون بكل ما فيه ومن فيه، وأذكر إنها ليست مجرّد نقلة وكفى، ولكنها رمزٌ يجسّد معنى يبقى مع الزمن بل ويعلو على الزمن حتى يُفينه، ثم يظل المعنى باقياً حاضراً بعد فناء المحدثات.

لك أن تلاحظ : الحركة الدائرية الكاملة هى حركة الفاني حول الباقي، كحركة النيترون حول النواة دائرية، وحركة الحيوان المنوى حول البويضة دائرية، وحركة الأجرام السماوية حول مركزها دائرية، لأن مادة الأثير المختلفة بحكم طبيعتها عن العناصر الأربعة تجعل الأفلاك السماوية تتحرك حركة دائرية وليس لها ضد، ثابتة بلا تغيير، ثم حركة المتغير حول الثابت حركة طبيعية دائرية، وهى طبيعية، لأنها حيّة وفطريّة من طبيعة الكون الحي المفطور على السنن والنواميس الثوابت.

حركة الطواف تحقيق التوحيد، رمزٌ للحقيقة الإلهية العليا الخالدة، وجعل التوحيد حقيقة ملموسة مشهودة باقية، من خلالها يسبّح الكون كله لله. وسيبقى البيت العتيق عتيقاً، لأنه المركز الثابت الذى سيظل ثابتاً بتجسيد التوحيد تسبيحاً للخالق رغم فناء المتغيرات من حوله، وفناء الأضداد.

أمّا تعليل الطواف بسبع، فلا يسيغهُ فى العقل شئ قدر ما يسيغهُ التكفير عن الخطايا وملاقاة الله تعالى بالندم والاعتذار.

وقد قيل إنّ الملائكة لمّا خلق الله آدم جعله بشراً من طين قالوا (أتجعل فيها من يُفسد فيها ويُسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك) غضب الله عليهم، وكان من علائم غضبه أن أعرض عنهم، ولمّا أعرض عنهم فزعوا، فتملكتهم الضراعة وأجهشوا بالبكاء إشفاقاً من غضب الله، فذهبوا يعتذرون إليه ويطوفون بالعرش سبعاً كما يطوف الناس بالبيت الحرام وهم يقولون:

(لبيك اللهمّ لبيك ..

ربنا معذرةً إليك ..

نستغفرك ونتوب إليك)

فنظر الله إليهم ونزلت عليهم الرحمة، ووضع الله سبحانه تحت العرش بيتاً هو البيت المعمور ثم قال : طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش، فكان طوافهم به أيسر من طوافهم بالعرش.

ثم أمر الله الملائكة من سكان الأرض أن يبنوا فى الأرض بيتاً على مثال البيت المعمور، وأمر من فى الأرض أن يطوفوا به سبعاً كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور.

هذا هو الجانب المقبول فى الرواية تعليلاً للطواف فيما لو صدقت، فالطواف، فضلاً عن كونه توجُّهاً للحق وحده، فهو تجسيد للتوحيد وتكفير للخطايا واعتذارٌ للّه ثم قُربة منه تعالى. وهو، من بعدُ، قدوة بطواف الملأ الأعلى حول العرش، ثم تحت العرش فى البيت المعمور، ثم فى الأرض، فى البيت العتيق.

ومن يتأمل الروايات التى وردت فى الحجر الأسود على اختلافها، يدرك من فوره إساغة الطواف بحركته الدائرية على النحو الذى ذكرناه ..

وقيل : إنّ الله عز وجل كان قد استودعه جبل أبي قبيس زمن طوفان نوح، فجاء جبريل ووضعه فى مكانه، وبنى إبراهيم عليه، وهو حينئذ يتلألأ نوراً حتى أضاء بنوره شرقاً وغرباً وشمالاً ويميناً إلى منتهى أنصاب الحرم من كل ناحية، وإنمّا سودته أنجاس الشرك والجهالة وأرجاس الوثنية وزرايا الذنوب والخطايا.

وهنا تبرز حكمة الطواف سبعاً واستلام الحجر الأسود فى كل مرة، وهى حكمة إلهية بالغة ما بلغ مقصودها، مردّها إلى رحمة الله تعالى، فى شهود التوحيد، وفى تكفير الخطايا والذنوب، وفى الشعور بالتقصير تجاه الحق جلّ وعلا، والاعتذار إليه ما أمكن أن يكون الاعتذار أسفاً وندماً وإشفاقاً، وفى القُربة من الله الواحد الأحد، وليس، من بعد إلا التطهير.

***

د. مجدي ابراهيم

 

عند التمعن في التطورات والتحولات الخطيرة للمجتمعات العربية والإسلامية، نكتشف مسارين حاضرين في تفاصيل الواقع العربي والإسلامي..

المسار الأول:

تفجير الهويات لتفكيك الدول القائمة وخلق دويلات دينية ومذهبية وكنتونات طائفية. مما يؤسس لمقاولات سياسية تهدف لبناء مجتمعات متطرفة، وبالتالي تدمير كل أسس التعايش بين الناس.

و في هذا المسار تلعب مؤسسات الدولة الثقافية – تحديدا دون غيرها- دورا خطيرا في حال ساعدت في انهيار المجتمع، حيث تصبح فضاءات الاجتماع العام، مسرحا للصراعات والاحتراب وممارسة العنف بكل أشكاله، أو أنها تلعب دورا استراتيجيا في حماية المجتمع من انزلاقات العنف وإضعاف الدولة والمجتمع، بل أكثر من ذلك يمكنها توطيد العلاقات وكشف المؤامرات وتصحيح الخيارات وتمكين الكفاءات من استثمار مسائل التنوع والاختلاف في مشاريع حضارية تعود بالنفع العام ودفع عجلة إبداع الدولة المدنية السليمة من تداعيات التخلف والرجعية والعدوان والعنف بكل صنوفه.

ولا شك أن هذا الخيار أو المسار هو من المسارات الخطيرة على المنطقة العربية، لأنه يدمر كل شيء، إذا ما وضع بأيادي طائفية ووفق مشاريع شيطانية تخلط الدين بالسياسة وتعمل على دفع الشعب ضد الدولة وعزل الثقافة عن دورها الحضاري الخلاق كما يذكر الأستاذ إبراهيم عبد غلوم: "فالإفراط في عزل الثقافة عن معناها الخلاق، وبالتالي عن كيفيتها في إنتاج المجتمع الذي نعيش فيه، إنما يؤدي إلى خلق ثقافة مركزية منغلقة تتصور الوجود الاجتماعي من خلال تصورها، وتوجه الخطاب الثقافي (بمعناه الشامل في الحياة) من خلال ما تنتجه النخبة المركزية من أفكار تتصل بكيفية إنتاجها للمجتمع . ويورث هذا السياق السوسيولوجي للثقافة المركزية سلسلة طويلة من الإشكاليات يوازي حجمها حجم التنوع في المجتمع (ديمغرافيا وثقافيا)، وتكون ـ عادة انعكاسا لمجتمع تسوده علاقات متنوعة ومتغيرة مع الثقافة المركزية (السلطة) تتوزع بين التحالف والولاء والانقسام والاختلاف والتمرد والعزلة . إلى آخر هذه السلسلة الطويلة من المواقف التي تنتج ثقافات موازية ومتصارعة أحيانا . ولعلنا نلاحظ الآن أن حجم إشكاليات الثقافة في دول الخليج يتفاوت فيها بمقدار ما ترثه من التنوع الثقافي "[1].

أي أن إحدى مشكلات الثقافة في العالم العربي ترتبط أساسا بالنخبة المركزية والتي تكون أخطر كلما كانت تحمل أجندات التدين السياسي، هذه النخب المركزية التي تسعى للتحكم في مصائر المجتمعات العربية عبر منصات المؤسسات الثقافية والعمل على قطع الطريق أمام الابداع الثقافي والإنتاج الفني الحضاري والرقي بالوعي الثقافي، حتى تستطيع مستقبلا تدجين المجتمع المدني وتوجيه الشعب نحو تمكينها من السلطة من خلال بساط عزل الثقافة الحية والحرة والعادلة عن حياة الناس.

لذلك يعد هذا المسار من المسارات الكارثية على الإنسان العربي والاستقرار العربي والنسيج الاجتماعي العربي وحتى الوعي الثقافي الديني للإنسان العربي. لأنه يشتت الفكر والفعل ويشدد الرقابة والتعطيل لكل ما يخالف نواياه غير المعلنة من خلال تعبئة الجميع ضد الجميع دون أفق ثقافي واجتماعي نزيه وسلمي. لذلك نجد أن الدول العربية البارز فيها هذا المسار، أو بروز تيارات الإرشاد الديني والتوعية الثقافية التي تعمل من أجل انخراط الجميع في هذا المسار، إما أنها أصبحت مسرحاً لصنوف التطرف والعنف والطائفية والحجر الثقافي وإنعدام حريات المعلومات والفكر والرأي أو تعيش حالة من الجمود تنبأ بأن القادم أسوأ.

عندما يدخل التدين السياسي أروقة المؤسسات الثقافية فإن المجتمع يصبح في وجه مدافع القابلية للقتل والتطهير الديني أو المذهبي أو العرقي والعنف المقدس والكل يشعر أنه يدافع عن مقدساته وتاريخه وثوابته، بينما في حقيقة الأمر يدمر مقدساته وتاريخه وثوابته ووطنه وإنسانيته وكرامته.

حيث يذكر المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي: وكلمة (تربية إجتماعية) تشترك في هذا المصير العام، فهي لا تعني شيئا إذا لم تكن-في الواقع وبما تحمل من معنى- وسيلة فعالة لتغيير الإنسان، وتعليمه كيف يعيش مع أقرانه، وكيف يكوّن معهم مجموعة القوى التي تغير شرائط الوجود نحو الأحسن دائما، وكيف يكوّن معهم شبكة العلاقات التي تتيح للمجتمع أن يؤدي نشاطه المشترك في التاريخ "[2].

أي أن التربية الإجتماعية بحاجة لنخبة أصيلة نزيهة لا تقبل فرض مشاريع إيديولوجية تلتحف القداسة الدينية لتصل إلى مآربها السياسية عبر الثقافة ومؤسساتها، حيث يصبح الخطاب والكتاب والفن والمهرجان والمعرض وما هنالك من إنتاج وفعالية ثقافية رهن التدين السياسي والفكر حبيس شفاعة العقل التراثي، لأنه ببساطة " ّإذا تصورنا التربية الإجتماعية في نطاق هذه المصطلحات أمكننا أن نلخصها في كلمة واحدة هي: الثقافة"[3]

وبحسب الدكتور عبد الجبار الرفاعي في كتابه الفذ والاستراتيجي " الدين والكرامة الإنسانية[4]: "تقترن التربية في التدين السياسي بالتخويف من المختلف في المعتقد والهوية والثقافة، لذلك تشيع بين من يتبنون التدين السياسي حالات حذر وشك وسوء ظن بالآخر، وتضمحل فيه منابع المحبة بين الناس والرحمة والعفو والغفران في التعامل معهم، بل طالما تحوّل إلى بيئة لنمو نزعات الكراهية والتعصب والإنغلاق"[5].

إن مؤسسات الثقافة في المجتمعات العربية والإسلامية، لابد من حمايتها من الأجندات السياسية كلها وخصوصا المتطرفة والخطاب الثقافي بكل أشكاله الإعلامية والمنبرية والدعوية والتربوية والفنية يصبح مهددا وعامل هدم وإنحراف إذا تخندق تحت لواء تيارات الفكر الشمولي والتدين الشكلي وخصوصا السياسي منه، لذلك هذا المسار الكاسح لفضاءات الثقافة في العالم العربي والاسلامي يمثل تحد خطير للشعوب والدول ومؤسساتها ولمشاريع بناء المجتمع المدني والدولة المدنية.

المسار الثاني:

مسار يراهن على قوة الدولة، ويسعى بكل إمكاناته للدفاع عن مبدأ الدولة المدنية  الجامعة والحاضنة لكل التنوعات. وهذا المسار ينطلق من مبدأ تجاوز الآنا القبلية والقومية والمذهبية والحزبية إلى رحاب الاجتماع الوطني الذي يثرى بالجميع، وإلى الدولة المدنية التي تتسع للجميع.

فالثقافة في إطار الدولة المدنية القوية لا تهمش أحدا من التنوعات والهويات والثقافات الهامشية، بل تشتغل على تحقيق التعارف والحوار والتعاون بينها من أجل إثراء الفعل الثقافي وتطويره ضمن أطر العقلانية والحريات العامة والموضوعية العلمية والتنافس الإيجابي وليس تفخيخ القرارات وفبركة القوانين الخاصة بالنشاط الثقافي بما يتناسب والنخب المركزية ومن يدور في فلكها، أو استحواذ رواد التدين السياسي على الكعكة الثقافية واستثمارها في مشاريع الصراع على السلطة والثروة بلا أدنى ضمير أخلاقي. لأن " هناك منفعة، مصلحة يقتنصها الجميع في سياق النظر إلى الثقافة بوصفها شراكة في الإنتاج واعترافا عقلانيا شاملا بالتنوع. سنجدها تتجسد بصورة أساسية في توفر إمكانيات أوسع وأعمق في الاستثمار الثقافي، إن سباقا حقيقيا نحو الموضوعية يتحقق من جراء استثمار التنوع. بل إن النزوع الذاتي حينئذ يتمثل بوصفه تروعا إلى الموضوعية والعلموية، ومن شأن ذلك أن يعيد ترتيب الأشياء والأولويات في ضوء استراتيجية الفعل لا رد الفعل، وفوق أرضية مهيأة لامتلاك أدوات المعرفة وإنتاجها أيضا "[6]

هذا المسار الثاني إستراتيجي بالنسبة لمجتمع يطمح أفراده في صياغة مدنية ثقافية تظهر في جميع المجالات الحياتية، هذا المسار يريد للعقل الثقافي أن يكون واقعيا واستراتيجيا لا عقلا مستغرقا في المدونات التراثية، بل عقلا يجتهد في وعي الدين والتدين وضرورات الحكمة والأخلاق في ذلك كله، فلا يؤدلج الواقع بنظريات أثبتت فشلها ولا زالت تهدد أمن الأوطان وتروع القلوب وتقتل الأحلام والتطلعات لشعوب عانت من ويلات الإرهاب والعنف بإسم الدين وحماية المقدس الموهوم، إنه مسار الإنفتاح على النص والواقع بالعقل العملي الواعي لا العقل التراثي الفقهي الضيق الذي يعود لقرون بالية، هنا لابد من الإنفتاح من باب الثقافة ونظمها ومؤسساتها الإجتماعية قبل أبواب الاقتصاد والسياسة، لأن التضييق في الحقل الثقافي بأنظمة وقوانين ولوائح لا تخدم سوى أصحابها وتياراتهم وهو قتل للثقافة ومعطل لأدواتها ومصداقيتها، فلابد من بناء قانوني سليم من أجل فعالية المؤسسات الثقافية في تنشيط الفعل الثقافي وإثراء الحرية الثقافية والحماية القانونية للمثقفين في بناء أطر ومؤسسات المجتمع الثقافي بما يزكي المجتمع المدني..

في ظل هاذين المسارين ومداراتها الجدلية، لابد من الدعوة إلى المسار الثاني لتجنيب كل الدول العربية فتن وأزمات وكوارث المسار الأول الذي يدمر الدولة والمجتمع معا والتاريخ والهويات والتراث..

و في هذا السياق يجدر بنا أن نذكر الجميع، إن الثقافة تحتوي بصفة عامة عدداً من الفصول هي: الأخلاق، الجمال، والمنطق العملي، والصناعة الفنية، ولكن الأمر يقتضينا أن نتساءل: كيف ينبغي أن ندركها في صورة برنامج تربوي يصلح لتغيير الإنسان الذي لم يتحضر بعد، في ظروف نفسية وزمنية معينة، أو لإبقاء الإنسان المتحضر في مستوى وظيفته الإجتماعية، وفي مستوى أهدافه الإنسانية، أما فيما يتعلق بحالتنا، اعني البلاد العربية والإسلامية، فينبغي أن نفكر في الإنسان الذي لم يتحضر بعد، أو الذي خرج من دورة حضارته في أزمة التاريخية معينة، كيما نحدد – بالنسبة إليه- شروط الفاعلية التي يمكن أن تقوم على منهج للأخلاق والجمال مثلاً. أي إنه ينبغي أن نحدد من أجل الإنسان الشروط الأولية التي تحقق له ما يبتغي من الثقافة.[7] الشروط التي تبدأ بحماية المؤسسات الثقافية من عشوائيات وأنانيات الإنسان الذي لم يتحضر بعد واستفرد بمصير المجتمع الثقافي ومستقبله الحضاري...

لأنه عندما تغلب العنصرية والجهوية والحزبية  على كل طرف بعنوانه الخاص، يتم التضحية بالوطن وثقافته والمجتمع وفضاءاته والدولة ومؤسساتها من أجل الذات والجهة والقبيلة والطائفة والهوية والحزب، فإن ذلك يفتح الطريق لفتن وصراعات لا يمكن تفاديها إلا ببناء الدولة المدنية السليمة وحمايتها لتكون  الحاضن لجميع التعبيرات..

وخلاصة القول: إننا ندعو جميع العرب بكل مجتمعاتهم وتنوعاتهم، لتحرير المؤسسات الثقافية والقوانين الخاصة بالثقافة والمثقفين والإنتاج الثقافي من رياح وسطوة العقل التراثي ورهانات التدين السياسي، وإلا سنكون مصداقا للقابلية للتخلف ورهن إرادات المستدمر ومخططاته الشيطانية.

***

بقلم: أ. مراد غريبي - كاتب وباحث

............................

[1] الثقافة وإنتاج الديمقراطية، إبراهيم عبدالله غلوم،ص 121، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2002م.

[2] ميلاد مجتمع، مالك بن نبي دار الفكر (دمشق) ط 3،سنة 1986، ص 100.

[3]  ن. م ص 99.

[4] هذا الكتاب جدا مهم وأنصح بمطالعته لأنه يتضمن عصارة فكر وتجربة كما يكشف عن أبعاد وأشكال التدين وينبه لتدين رحماني أخلاقي مستبعد معزول عن واقع ثقافة ومجتمع المسلمين في الزمن المعاصر

[5]  الدين والكرامة الإنسانية، د.عبد الجبار الرفاعي، دار التنوير –مركز دراسات فلسفة الدين، ط1 سنة 2021م، ص 143.

[6] م.س، الثقافة وإنتاج الديمقراطية، ص153.

[7]  م. س، ميلاد مجتمع ص 100-101.

على الرغم من أنَّ هناك من يعتبر  الأمر بديهياً؛ أي أن يكون هناك تطابقٌ بين نصوص المبدعين ومواقفهم في الحياة العامة وسلوكهم الأخلاقي، تطابقٌ لجهة الانتصار لقيم الحقّ والعدالة والتحرّر من ربقة الظلم والعبودية، والوقوف ضد النزعات الفاشية والعنصرية والدكتاتورية. إلاّ أنَّ هناك من لايزال  يثير الأمر، بوصفه بذرة خلافٍ متجدّد، فهناك ممن يرون بضرورة الفصل بين نصّ المبدع ومواقفه في الحياة العامة والسياسية، ومن ضمنها انتماءاته الحزبية، رافعين شعار النص أولاً، كمعيارٍ لتقييم المبدع، وأنَّ إضافاته الإبداعية، للمنجز الثقافي في بلاده، هي الفيصل في تقييم شخصيته، أو حكم التاريخ عليه بعد رحيله، بغضّ النظر، إن كان متحيّزاً لطبيعة النظام السياسي في بلاده، أو متطرّفاً، أو منساقاً للنزعات العنصرية والطائفية أو الفاشية.

على العكس ممّن يرون بضرورة التطابق الإيجابي بين الإبداع والقيم الأخلاقية، أي التطابق الإنساني بين النصّ والسلوك الاجتماعي المتّزن والموقف السياسي المناصر للناس وحقوقهم وحرياتهم، وعلى وفق ذلك يؤمن  الكاتب والمفكر  الأردني  ابراهيم أبو عواد، بهذا الطرح، إذ تناول بالنقد، في مقالةٍ له نشرها موقع ميدل إيست أونلاين، الشهر الماضي، موقف الشاعر والناقد الأميركي عزرا باوند (1885 - 1972) في هذا المضمار، باوند هو رائد الحداثة الشعرية الغربية، ويكفي من ذلك أن الشاعر والناقد الإنكليزي من أصل أميركي ت. س. إليوت، أهداه قصيدته ( الأرض الخراب) التي تُعدُّ قصيدة القرن، مذيّلاً له إيّاها بعبارة " إلى الصانع الامهر"، إذ يرى أبو عواد أنّ باوند ارتكب خطيئةً بدعمه للفاشية، ومساندته المفضوحة لموسوليني، وتكريسه موهبته الشعرية ومكانته الأدبية  لدعم العنف والإرهاب، وإيحاد مبرٍّر أخلاقي لهما، واصفاً نموذج باوند في العلاقة بين الإبداع والأخلاق، بأنّه "يظهر الصِّدَامُ الحَتْمِي بَيْنَ الوَظيفةِ الجَمَالِيَّةِ للنَّصِّ الشِّعْرِيِّ الإنسانيِّ الذي يَحْفَظ كَرامةَ الإنسانِ ويُحَافِظ على شُعُورِه وأحلامِه وتاريخه وحضارته، وبَيْنَ الوظيفةِ الأيديولوجية للفَاشِيَّةِ التي تَقُوم على القتلِ والكَرَاهِيَةِ وتَصفيةِ الخُصُومِ وإلغاءِ الحُرِّياتِ الفرديةِ وتَدميرِ مُستقبلِ الإنسانِ وإقحامِ الدُّوَلِ في حُرُوبٍ دمويّةٍ عبثيّة".

إنحياز كبار المبدعين والكتّاب للشر، المتمثّل في دعم العنف والارهاب والحروب، يفسّره  الأكاديمي والكاتب السوري عدي الزغبي، على نحوٍ منطقيٍّ نوعاً ما، إذ يرى أنَّ الانسان عبارةٌ عن ملكاتٍ عقليّةٍ متعدّدة، تنمو بيولوجياً منذ الولادة، ربّما تتكامل أو تتقاطع، لكنّها تظلُّ متمايزةً عن بعضها البعض، فربّما تبرز عند مبدعٍ ما الملكة الإبداعية، وتضمحلُّ عنده الملكة الأخلاقية، بالنتيجة، يبرز ميل هذا المبدع إلى الشر، يقول الزعبي في مقالته " لماذا ينحاز بعض المثقفين إلى الشرير؟" المنشورة في مجلة رمّان" الثقافية، بأنّ" الانفصال بين الملكات العقلية المسؤولة عن الثقافة والإبداع بأشكالها المختلفة، وبين الملكة الأخلاقية، هو الأكثر إثارة للجدل: قد يكون المبدع منحطاً أخلاقياً، وضيعاً، تافهاً؛ أو قد يعيش في عالمه الخاص، لا يفهم الأخلاق أو السياسة على الإطلاق، ويقتصر عالمه على مجاله الإبداعي، والقليل من الحياة الاجتماعية الضرورية". ويذكر الزعبي  أمثلةً عن المواقف الأخلاقية للمبدعين عبر التاريخ، من المتنبي، بوصفه كان متملّقاً لكلّ أهل السلطة، مغروراً نرجسياً عنصرياً، إلى  الرسام الفرنسي إدغار ديغا، الذي كان يحتقر النساء.

ونذكر نحن أيضاً في هذا المجال الكاتب والروائي الألماني غونتر غراس

( 1927- 2015)، الذي اعترف عام 2006، بأنّه كانَ في صباه عضواً لفترةٍ محدودةٍ في فرقة الوحدات النازية الخاصّة أس أس (SS)، وأنّه التحق طواعيةً في سن الخامسة عشر بشبيبة هتلر. وفي سنّ السابعة عشر استُدْعِي للعمل ضمن فرقة الوحدات النازية الخاصة وارتدى زيّها، حيث أنّ تلك الوحدات جهاز الحرس الخاص الذي يتولّى حماية الزعيم النازي  أدولف هتلر، وقد نُسبت لهذه الفرقة  أعمالٌ وحشيَّة. ويُذكر بأنّه  تمّ حظرها بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وسقوط النازية، فضلاً عن أنها  أدينت رسمياً بكونها "منظمة إجرامية" في ما عُرفَ بمحاكمات "نورنبيرغ".

التقييم الاخلاقي للمبدع، أصبح يُنظر إليه بأنّه تسييسٌ للموقف من الثقافة، ومن ثمَّ الإبداع، لاسيّما أنّ هذه الجدلية القديمة بين الإبداع والأخلاق، عادت إلى الواجهة، في كلِّ بلدٍ عربي، حصل فيه تغييرٌ للنظام السياسي، بما سُمِّي آنذاك الربيع العربي، حيث يُجرى تقييمٌ جديد، من قبل أهل الفكر والثقافة، لإبداع الحقبة السياسية السابقة، على سبيل المثال، ما حدث في العراق، في التاسع من نيسان عام 2003، حيث سقط في ذلك اليوم، النظام الدكتاتوري في العراق، إذ ذاك جرى فرز من آزر النظام، وامتدح زعيمه المقبور، وطبّل لحروبه وسياساته الرعناء، هذا الفرز جاء، بحسب  مُسمّياتٍ  مدوّنةٍ في تاريخ الثقافة العراقية، مثل " شعراء قادسية صدام" و" شعراء أمّ المعارك". المآسي المتلاحقة التي عانى منها العراقيون، عبر سلسلة حروبٍ وحصار، أحدثت انقساماً  بين المثقفين، لجهة أنَّ كلَّ من أيّد ذلك النظام في كتاباته، اعتُبر بالضدِّ من معاناة الناس ومشاعرهم وتطلّعاتهم، وبالضدّ من الصورة المألوفة عن  الأديب بأنّه ضمير عصره والمعبّر عن تطلّعات شعبه.

لكنَّ هناك من يقول بضرورة الفصل بين المنجز الإبداعي والموقف الأخلاقي، لا سيّما أنَّ الأخلاق تُعَدُّ قضيَّة نسبيةً، لها ضوابطها بحسب الشرائع السماوية والمعارف الوضعية، والخروج عنها في العصر الحديث، يعتبر انغماراً في فوضى لا أخلاقية.

الأمثل، بالنسبة إلى تلك الجدلية المتجددة، في كلِّ عصرٍ وأوان؛ أن يُنظر إلى المبدع برؤيةٍ موضوعية، تقيّم نتاجه الإبداعي شكلاً وبنيةً ومنجزاً، كما يتمُّ، أيضاً، تقييم موقفه الأخلاقي والسياسي من جميع الجوانب، شرعيةً ومعرفيةً، من جهةٍ أخرى. الكاتب السوري عدي الزعبي، يقيّم الشاعر والناقد والأكاديمي المفكر السوري- اللبناني - الفرنسي أدونيس( 1930- )، في هذا الاتجاه، ويأخذ على نقّاد أدونيس خلطهم بين تجربته الابداعية بوصفه علامةً كبيرةً في ريادة الشعر العربي المعاصر وتطوّره، وموقفه من الثورة السورية، وبحسب الزعبي يُعدُّ شعره " ثورة حقيقية، سواء أكنّا من المعجبين بهذا الشعر أم لا".

***

باقر صاحب

 

في المجتمعات التي تنام وتصحو على إيقاع عنف الجماعات الأصولية المنفلت من عقاله، واستشراء نوازع العدوانية للأصوليات والعصبيات المتكارهة والمتباغضة، فان بحوزة كل جماعة سوسيولوجية أو مكون انثروبولوجي مجموعة من الممارسات الشعائرية والأنشطة الطقوسية، التي أشبه ما تكون بالفروض الدينية واجبة الطاعة وإلزامية التنفيذ. ولأن طبيعة العلاقات داخل مؤسسة (العشيرة) لا تعتمد في تلبية ضروريات تكوينها، وتأمين شروط ديمومتها على مصدر خارجي يفرض عليها خصائص القيم وأنماط السلوك التي ينبغي اعتمادها. فهي عادة ما تميل الى التماسك الداخلي بين أعضائها والتخادم البيني على مستوى مكوناتها، ليس فقط لدرء المخاطر الخارجية التي تهدد وجودها الاجتماعي وكيانها الحضاري فحسب، وإنما لضمان استمرار تداول العادات والأعراف والتقاليد المتوارثة التي تمدّ جسور هويتها الحضارية والثقافية بين أجيالها السابقة واللاحقة أيضا".

وكأي جماعة (عصبية)، فان (العشيرة) دائما"ما تكون بحاجة ماسة لممارسة بعض (الشعائر) و(الطقوس) التي من شأنها الحفاظ على كيانها الاجتماعي، وتعزيز الروابط الأسرية والصلات القرابية والعلاقات الاجتماعية، بحيث تشدّ الجميع الى ثوابت أروماتها التاريخية والثقافية والقيمية والرمزية واللغوية. ولعل من أبرز تلك (الشعائر) التي تحرص (العشائر) كل الحرص على تكريسها في الوعي وديمومتها في السلوك، هي الاعتزاز بكل ما يعبر عن خصوصيات العشيرة المعنية (أصول حتى ولو كانت مختلقة، ومواريث حتى ولو كانت ملفقة، وسرديات حتى ولو كانت مصطنعة، والتفاني بالدفاع عن قيمها حتى ولو كانت عصبية، والذود عن أعرافها حتى ولو كانت استعلائية، والمنافحة عن رموزها حتى ولو كانت أسطورية. ولعل هذه المظاهر من (الاعتزاز) المتطرف و(التفاني) المتعصب قمينة باستتباع مجموعة من التصورات والتواضعات والممارسات المستهجنة أخلاقيا "وحضاريا" و"إنسانيا"، يمكن إدراجها ضمن اصطلاحين أساسيين يفضي أحدهما الى مجال الآخر هما؛ (الفزعة العصبية) و(النزعة الاستعلائية)، مع ما يتمخض عنهما من تداعيات اجتماعية وتبعات نفسية غالبا"ما كانت عوامل هدم لكيان المجتمع ومسخ لشخصيته ونسخ لهويته.

ففيما يتعلق بخاصية (الفزعة العصبية) التي تعتبر حجر الأساس في بناء المكون العشائري، فقد ساهمت هذه الخاصية الانثروبولوجية على امتداد تاريخ المؤسسة (القبلية / العشائرية) في إذكاء الروح العدوانية بين أفراد العشيرة الواحدة لأسباب تتعلق بالأدوار والوظائف والمكاسب من جهة، وفيما بين القبائل والعشائر المختلفة لأسباب تتعلق بالمصالح الاقتصادية والوجاهات الاجتماعية والزعامات السياسية من جهة أخرى. واللافت في الأمر ان القاسم المشترك بين الحالة الأولى والحالة الثانية، هو الاحتكام الى لغة (القوة) واستخدام (العنف) بين المتنافسين والمتخاصمين، بصرف النظر عن أهمية الأسباب الباعثة لهذا التصرف أو قيمة الدوافع المؤطرة لأنماطه وأبعاده. لا بل ان الطرف الذي يسعى لحل مشاكله وتسوية أموره عن طريق (القانون) باللجوء الى مؤسسات الدولة، لا يعاب فقط في رجولته ويطعن في كرامته من جانب أٌقرانه فحسب، بل وكذلك يفقد حقوقه كفرد وتهدر قيمته كانسان. من منطلق ان الفرد الذي لا يأخذ (حقه) بقوة يده، ولا يفرض (هيبته) بصلابة إرادته، لا يعد – وفقا"للقيم والأعراف العشائرية - رجلا"يستحق الاحترام والاعتبار.

وحين يعيش الفرد (العشائري) في بيئة اجتماعية من هذا النمط العدواني والاقصائي، لا يمكن إلاّ أن يكون شديد الاعتداد بنفسه وكثير التحمس لعشيرته من جهة، وشديد الازدراء لغيره وكثير التحسس إزاء آخره العشائري من جهة أخرى. ولعل هذه الحالة الشعورية المليئة بالزهو البدائي والمفاخرة الاستعراضية كفيلة بتضخيم أناه (المستقوي) بغيره، وتعظيم نزوعه (المستعلي) بما ليس فيه، على كل من يتموضع في الجانب الآخر من طيف الانتماء التحتي (العشائري) والولاء الفرعي (القبائلي). بحيث لا يني إحساسه الذاتي يتوسع ويتعمق إزاء قيمة الحدود المكانية والفوارق الاجتماعية والحواجز النفسية الفاصلة بين (النحن) الأفاضل و(الهم) الأراذل، والتي رسختها في وعيه وأوجبتها في سلوكه تلك البيئة المتشظية والمستقطبة.

وكما في كل حالات (المفاضلة) العصبية (الاثنية والقبلية والمذهبية والمناطقية) التي تستبطن شعائرها وتجتاف قيمها الجماعات العشائرية، فان عواقب هذا الضرب من مشاعر (الاستقواء) و(الاستعلاء) كفيلة بإجهاض قيم التعايش السلمي بين المكونات السوسيولوجية والانثروبولوجية من جانب، والإجهاز، من ثم، على كل ما يمت الى روح (المواطنة) الحضارية بصلة من جانب ثان. وهو ما يؤدي، في نهاية المطاف، الى جعل المجتمع بمثابة بركان يغلي بالكراهيات المدمرة ويتفجر بالصراعات المهلكة، التي كان العراق – ولا يزال – مسرحا"لها طيلة العقود الماضية. ولهذا فان ما يشاع في الندوات التلفزيونية واللقاءات والمؤتمرات والقنوات الفضائية، حول دور (العشائر) العراقية في توطيد السلم الأهلي وتحقيق الاستقرار الاجتماعي، لا يعدو أن يكون (فرية) لا أساس لها في الواقع. ذلك لأن (العشائر) ما كانت يوما"– ولن تكون في المستقبل – مصدرا" لترميم المتصدع في بنائنا الاجتماعي، وترصين المتخلع في كياننا الحضاري.

***

ثامر عباس – باحث عراقي

«الهندسة الثقافية» ليست مفهوماً معيارياً في الدراسات الاجتماعية، كما قد يبدو للوهلة الأولى. إنه مفهوم حديث الظهور نوعاً ما. ولذا فهو غير شائع بين الباحثين في هذا الحقل. لا بد من القول أيضاً إن المصطلح ليس مجرد وصف لحالة أو مسار عمل، بل ينطوي على إيحاءات محددة، هي – بوجه من الوجوه – حكم على غاياته. ولذا لا يمكن اعتباره محايداً أو موضوعياً، كما قد يود المغرمون بالتعريفات والتدقيق في المصطلحات. الذين يتحدثون عن الهندسة الثقافية، يريدون القول – غالباً – إن هناك من يسعى للتحكم في عقول الناس، باستعمال هذه الوسيلة.

إن أردنا شرح فكرة «الهندسة الثقافية» فهي تشير إلى جهد مخطط، هدفه تغيير الثقافة العامة لمجتمع ما، أو على الأقل إحداث تغيير كبير فيها. ونعرف أن تغيير الثقافة يؤدي، عادة، إلى تغيير هوية المجتمع أو شخصيته أو طريقته في التفكير أو مواقفه تجاه الحوادث والتحولات.

كثيراً ما يخلط الكتاب بين «الهندسة الثقافية» والدعاية التجارية أو السياسية، التي تؤدي – هي الأخرى – إلى تغيير في سلوكيات المجتمع المستهدف. وأذكر في هذا الصدد ما نقله أحد الكتاب عن رئيس شركة البسكويت الوطنية الأميركية (نابيسكو) وأظنها أضخم شركات الأغذية الخفيفة في العالم، الذي قال إن الخطط الدعائية للشركة تستهدف صنع مفهوم عن الحياة الحديثة، يحول منتجات نابيسكو إلى رمز للرفاهية والسعادة: «نحن نصنع المفاهيم وليس فقط البسكويت».

أراد الكاتب من وراء هذا الاستشهاد التأكيد على أن الدعاية التجارية تعيد تشكيل الوعي الجمعي والثقافة العامة. لكن يبدو لي أن هذا النوع من الدعاية يبقى محدوداً وسطحياً أيضاً. فالذين يحبون البسكويت والذين يحبون المشروبات الغازية والذين يرتدون أزياء معينة يشعرون بالسعادة ربما، لكنهم سيتخلون عنها لو اضطروا للاختيار بينها وبين وجبة الغذاء مثلاً. الدعاية تركز على توجيه الخيارات، لكنها لا تذهب أعمق من هذا.

أما الهندسة الثقافية فهي تستهدف تغيير الثقافة العامة، أو ما نسميه العقل الجمعي، من خلال إحداث تغيير عميق في القيم الأساسية التي يقيم عليها الأفراد مبادراتهم ومواقفهم العفوية تجاه الآخرين. هذا التغيير ينعكس على شكل انقلاب في خيارات الفرد، والتي سوف تتحدد – منذ الآن - على ضوء منظومة القيم الأساسية الجديدة، وتحديد ما يوضع للمقارنة، والمعايير التي تحكم التفاضل بين الخيارات.

لا شك في أن الحكومات هي الأقدر على هندسة الثقافة العامة وإعادة تشكيلها. ذلك أنها تمتلك بعض أهم القنوات المؤثرة في هذا العمل، وهي السوق، الإعلام، والتعليم، ودور العبادة. كما أنها تملك المال والوقت.

ويلعب الوقت دوراً حاسماً في الهندسة الثقافية. فتغيير العقول يتطلب وقتاً طويلاً جداً. وأعتقد أن كافة الحكومات تقوم بهذا العمل، في مرحلة من المراحل. بل حتى الحكومات الليبرالية في غرب أوروبا تهتم بها، وهي تضعها تحت عناوين مقبولة نظير «الاندماج الوطني» وتطوير الأعراف العامة مثلاً. وقد جرى التركيز على هذه المسألة بعد تفاقم مشكلة الهجرة إلى أوروبا. ونعرف على سبيل المثال أن التعليم في المرحلة الابتدائية بات يركز بدرجة أكبر على ترسيخ النموذج الثقافي الوطني الذي يمتد من تأكيد مفهوم المواطنة والحقوق المدنية، إلى سيادة القانون واستناده للإرادة العامة التي لا يمكن معارضتها، مروراً بنمط التغذية والعمل... إلخ. ولعل القراء الأعزاء يذكرون قرار الحكومة الفرنسية منع الرموز الدينية في المدارس العامة ودوائر الدولة، وهو جزء من التطبيق الفرنسي لمفهوم العلمانية الصلب الذي يشمل إبعاد المظهر الديني بشكل حازم عن مصادر قوة الدولة. لكنه يُطرح هناك في إطار مفهوم الاندماج الاجتماعي وتوحيد العرف العام.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

منبع محدود

أصلي للعقل البشري

إمكانات لا حدود لها.

***

نظرا لهجومه الشديد على السياسة الخارجية الامريكية ومناصرته لشعوب العالم المضطهدة ، كان تشومسكي بالنسبة للعديد من الناس بطلا ثوريا. عمله الرائد الأقل شهرة كان في اللغويات والتي كان فيها تشومسكي مسؤولا عن ثورته الخاصة.

اهتمام تشومسكي في السياسة بدأ مبكرا. في عمر 10 سنوات كتب أول مقالة حول أخطار الفاشية، وفي عمر 12 سنة كان يعرّف نفسه كفوضوي (والداه كانا مسرورين بهذا). كطالب جامعي اصبح مفتونا باللغويات التي درسها الى جانب انشغاله بالسياسة اليسارية. هذا وضع نمطا لحياته مغيّرا الطريقة التي نفكر بها حول اللغة في محاولة تغيير العالم. انه أمر أصعب من ان يفعله رجل واحد، لكن بدا انه يستمتع به.

اعتقد تشومسكي ان اللغويات حقل فرعي لعلم النفس المعرفي، بسبب اهتمامها في البنى اللغوية التي تسكن دماغ الانسان وبالتالي عقله. هذه التراكيب للفهم النحوي هي جزء من موهبة عصبية ورثناها من خلال عملية تطورية. يقول تشومسكي نحن جميعنا وُلدنا ومعنا "نحو عالمي"، أدوات اساسية للتفسير نطبقها على أية لغة تبرز في بيئتنا (لو كنتُ وُلدت في مكان آخر، ربما لكتبت هذه المقالة باللغة الفليبينية او لغة شمال البانيا، ولكنتم انتم بحاجة الى قاموس). هذا يفسر لماذا الاطفال الشباب يمكنهم تركيب أشياء معقدة ومفيدة وجُمل صالحة نحويا بدون امتلاكهم لأي فهم للقواعد النحوية التي يستعملونها (معظم البالغين ايضا ليست لديهم فكرة عن ذلك). انه نظام مذهل حتى لو بقيت الشكوك حول طبيعته، او حتى على وجوده.

المتحدث عند استعماله مجموعة من القواعد المحددة، يمكنه خلق عدد لا محدود من التعابير اللغوية. لذا، فان اللغة تدور حول اتّباع القواعد، وان وجود اية فوضى سيوضح ذلك.

***

حاتم حميد محسن

من واقع الممارسة الصفية:

واقع الممارسة الصفية يفيد أن منظومتنا تعيش مشكل ضعف ناتج التعليم كما ونوعا بموازاة ضعف المردودية الداخلية والخارجية تعلما وأداء لأسباب عدة؛ منها ما هو متعلق بالمداخل النظرية للمنظومة التربوية والتكوينية، ومنها ما يتعلق بالسيرورة، ومنها ما هو متعلق بالتكوين الأكاديمي والمهني الأساس، ومنها ما تعلق بالسياسة التعليمية، ومنها ما يرتبط بالوضعية القانونية والمالية والاعتبارية لأطر التربية والتكوين، ومنها ما هو متعلق بالمتعلم/ة ومعطياته التي نعلمها، وتلك التي نجهلها وما أكثرها، ومنها ما هو ذاتي وما هو موضوعي. وضمن هذه الأسباب ما يرتبط بالتفكير وكيفيته، وما يرجع في أصله إلى المسألة الاجتماعية أو الثقافية أو الاقتصادية أو العقائدية بمفهوم الإيديولوجيا أو الدينية أو النفسية أو جميعها وزيادة. فعديد الأسباب لا تستوعبها ورقة محدودة المساحة والموضوع.

هذا الواقع يطرح عدة مشاكل وإشكاليات تستوجب الدراسة والبحث العلمي والتدقيق، وليس القول الإنشائي العام؛ بل المتخصص للخلوص إلى أجوبة وحلول وتوصيات تفيد في إصلاح أزمة التربية والتكوين والتعليم في مجتمعنا، بما يؤدي إلى جودتها. ومن هذه الأسئلة التي سأطرحها في ورقتي هذه، ما قد تلامس التفكير العاطفي فتثير فيه بعض المشاعر الحزينة أو تخلق ردود أفعال متسرعة بعيدة عن التفكير البارد وعن التفكير عن بعد، وبنظرة ناقدة للذات والموضوع والمنهج والأدوات معا. أو تخلق تعاطفا متشنجا لقضايا وإشكاليات ومشاكل غدت بحكم الشعبوية صناديق مغلقة مقدسة لا يرقى النقد البناء إلى الاقتراب منها، بحكم حرمتها وقدسيتها التي تغلفها بالقضايا المغلقة إلى الأبد.

والمقدسات في التربية والتكوين والتعليم عديدة؛ منها ما هو سياسي أو إيديولوجي أو إداري أو ثقافي أو فكري أو اقتصادي أو نفسي أو مصلحجي أو مهني. تحولها الموروثات الفكرية والمسلكيات الأدائية إلى مسائل شخصية، بمعنى الشخصنة التي لا يمكن الاقتراب منها. والكثير منها أدخل في إطار الشخصنة دون الخروج منها، ما يعقد مشهد طرحها ونقدها. لكن في سبيل رفع ركام الأنقاض والغبار والأتربة عن جسم المنظومة التربوية والتكوينية التي تتراجع يوما بعد يوم بمنطوق نتائج التقويمات الدولية والإقليمية والوطنية بعيدا عن تلط الاستثناءات والطفرات الرائدة التي في أغالبتها تبنى على مجهودات شخصية لا مؤسساتية؛ يحتمل كل شيء، وتحتمل كل الرذائل من ضعاف النفوس والضمائر وقليلي الوعي. والزمن كفيل بالمراجعة والتصحيح والاعتراف.

ـ من التساؤلات:

هي التساؤلات رحم تخليق الفكر التربوي الباحث، ومفاتيح الدراسات والبحوث، وسبيل التطوير والتجديد، وأداة الإصلاح. لذا، اعتمدت المنظومات التربوية والتكوينية المتقدمة في تطوير ذاتها منظومة علامات الاستفهام اتجاه ذاتها ومواضيعها، ونحو مكوناتها وأدواتها وأطروحاتها النظرية والعملية، ومشاكلها وقضاياها. فشيدت في جسمها آلية صناعة التطور الذاتي، وحضن الإبداع، وحقل البحث والتجربة والخبرة. وقد وعت مؤخرا في العقدين الأخيرين وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة من خلال وحدة البحث التربوي ومن خلال المركز الوطني للتجديد التربوي والتجريب أهمية البحث العلمي في خلق بيئة من الباحثين المتخصصين من جهة أولى، ومن جهة ثانية توطين البحث التربوي مؤسساتيا في المنظومة، ومن جهة ثالثة تطوير المنظومة التربوية والتكوينية وتصفيتها من التحديات التي تقف في سيرورة أدائها التعليمي والتكويني. حيث أصدر المركز هذه السنة مشروعه البحثي عبر كراسة مواضيع البحث التربوي ذات الأولوية (نسخة2024)؛ تشمل تسع مجالات، وتتضمن 175 موضوعا إشكاليا للدراسة والبحث؛ من شأنها أن تقارب واقع المنظومة التربوية والتكوينية في أبعاد حكامة التدبير المؤسساتي، والمنهاج والبرامج، التكوين وتطوير الأداء المهني، والوسائط والتكنولوجيا التربوية، والمقاربة البيداغوجي، والإيقاعات الزمنية للدراسة والتعلم، التوجيه المدرسي والمهني، والتقييم والامتحانات.

وانسجاما مع هذا التوجه الجديد للفكر التربوي الرسمي المغربي، وتبعا لهذه الإشكاليات والقضايا والتحديات التربوية والبيداغوجية تبيح وتسمح هذه الورقة لنفسها أن تطرح التساؤلات التالية بعد التقعيد لها من واقع الممارسة الصفية بصفة خاصة، وبصفة عامة من واقع المنظومة التربوية والتكوينية.

ـ يفيد واقع المنظومة التربوية والتكوينية والممارسة الصفية أن سيرورة الأداء التعليمي يشهد توارث ثقافة بيداغوجية تقليدية ومتقادمة عبر سنين طويلة، وعبر أجيال متعاقبة من أطر التربية والتكوين؛ تحمل في طياتها نظريات تربوية ومدرسية متجاوزة، تتحكم في الذاكرة الجمعية والفردية للمنظومة التربوية والتكوينية من قبيل رؤى وأفكار ومقولات في بنية ووظيفة العملية التعليمية التعلمية سالبة لإرادة الفعل والكينونة لدى السياسي والمبرمج والمقرر والمدبر التربوي، فضلا عن رؤية مهنية خطية توحد سحنة الممارس البيداغوجي في قالب معين ضمن سلسة مهنية متشابهة الحلقات والدوائر والإجراءات والأفعال والخطاب. تكاد لا تجد فيها إلا القليل من التمايزات والتفردات نتيجة التكوين الأساس النمطي والثقافة البيداغوجية المشبعة بالنمطية والتقليد والتوحد المتعدد الكمي. والخروج عن هذه النمطية وهذا التقليد وهذه الخطية يوجب الشجب بأغلظ الألفاظ، والوصف بالخروج عن العادة، وعن الإجماع المهني، والانفراد عن الجماعة المهنية، ما يقوض تجاوز التراثيات من الأدبيات التربوية والتكوينية، ويؤدي إلى الانضباط للخطاب المدرسي وسياقه، ومن ثمة عدم كسر خطية الرؤية المهنية للمنظومة والممارسة الصفية، وعدم تهشيم سحنة الإطار التربوي بما فيه الممارس البيداغوجي. وخلاف ذلك فنشاز وخروج عن السلم الموسيقي ونغماته المعتادة، وخروج عن الفرقة الموسيقية.

هذه الثقافة البيداغوجية بمضمونها وحمولتها التقليدية قادت إلى بناء هرم من الامتيازات والمصالح والمنافع، وأحاطتها بهالة من القدسية والحرمة كأن تلمس عن قرب في واقع الممارسة الصفية عظم دور الدعم وتعظيمه إلى حد بعيد، أصبح معه الدعم مضمون الفعل التعليمي التعلمي بدل الفعل المدرسي تخطيطا وإعدادا وأداء ضمن أطر نظرية وتطبيقية حديثة تتساوق مع المعطى الواقعي للمتعلم/ة وحيثيات مستلزمات ومطالب ومتطلبات الممارسة الصفية الميدانية. فإن لامس النقد هذا الدعم بعلامات استفهام عديدة كالتساؤل عن اتساع رقعة الدعم المؤسساتي والخارجي مقابل الادعاء بأن المنظومة التربوية والتكوينية تؤدي واجبها المهني على أحسن وجه؟! واجهك الخطاب التربوي الرسمي بمجموعة من الدفوعات غير المنطقية وغير الموضوعية وغير العقلانية؛ من قبيل: المبرمج والمهندس والمخطط التربوي يدري ما يفعل، وكيف يفعل. ونجد أن النقد قاصر على بلوغ درجة فهم ووعي ماهية الدعم ووظيفته ودوره الحاسم في المعالجة التربوية، وتجويد الناتج التعليمي ... وما إلى ذلك من الأدبيات التربوية! ويبادر بعض أطر التربية والتكوين أن الدعم من حق المتعلم، وهو حق مشروع للإطار التربوي والتكويني يحسن به دخله وأجره، وما الضير في ذلك، وإنما ملامسة النقد للدعم تقع في دائرة الحسد ... وإلى ما يتساوق معه من قاموس الاستهلاك اللغوي الشعبوي والخرف التربوي. أو كأن تجد الارتخاء في أداء الواجب المهني والرسالي على مستويات مختلفة يبرر نفسه بحجج واهية كضعف الأجرة أو كثرة المهام أو كثرة الإعداد والوثائق ... أو كأن تجد تمثلات وتصورات مسبقة عن المتعلم/ة أو عن الممارس البيداغوجي أو عن أية أطر أخرى؛ بدعوى أنها ممارسة عامة، وهي في حقيقتها ممارسة شخصية أسقطت وانسحبت بالشعبوية إلى التعميم والقياس عليها. وهنا يحضرني موقف وقع مع إحدى أطر المراقبة التربوية في نهاية السنة الدراسية الماضية حين زارت إحدى المؤسسات التعليمية في بداية شهر يونيو، وأردفتها بأخرى؛ فألفت الدراسة متوقفة، وحين تساءلت عن الظاهرة واستنكرتها، لأن أبناء الأمة في هذه النازلة هم الضحية. اتحد الجمع الشعبوي عليها، من زارته ومن لم تزره، وقام ضدها بالاحتجاج والشجب واسمين إياها بالتصيد والضغط وما جاور هذه السمات. وهو أمر متوارث عبر الشعبوية التعليمية.

وهذه الثقافة البيداغوجية المتوارثة بصيغتها الماضوية تدفع إلى الركون للماضي وحيثياته التاريخية المنغلق على ما هو مألوف ومعتاد من تفاصيل الرؤية والإعداد والأداء. الأمر الذي يؤدي إلى سكون الفعل التعليمي وثباته في قوالب فكرية محددة، وتبريد الدرس المدرسي؛ في صيغ معينة؛ حيث يقود السيرورة التعليمية إلى تحصيل نفس الناتج التعليمي والمردودية الداخلية والخارجية عبر السنين. وإن كانت في كثير من الأحيان ومع مرور الوقت تتجلى بنسخ رديئة وسيئة الشكل والمداد والأوراق تبعا للتغيرات التي تحصل في تلك الثقافة البيداغوجية التقليدية، التي تنتهي صلاحيتها يوما بعد يوم، بما فيها ثقافة الممارس البيداغوجي ذات العوامل والمتغيرات العديدة كمعطى تنشئته الاجتماعية وتكوينه الأكاديمي والمهني والنفسي، ومنظومة قيمه وقناعاته ومواقفه الشخصية من المسألة التعليمية التعلمية والمهنة؛ الذي أصبح اليوم بفعل اختلالات المنظومة التربوية والتكوينية يؤول إلى الضعف، وهو مؤشر ذو دلالة إحصائية عما يروج في المجتمع ككل. فهو لا ينفك أن يكون مظهرا من مظاهر المجتمع. وهو لا يلام في ذلك إلا إذا ركن إلى هذا التقليد دون أن يفعل إرادة تغيير الذات بالتكوين الذاتي انطلاقا من كونه باحثا ومثقفا ومثالا وقدوة.

ومن هذه الثقافة التقليدية وهذه النمطية والخطية ننطلق إلى التساؤل حول مدى دورها في مقاومة التغيير والتطور، بما تمنحه من سكون واعتياد وركون للعادة واستسلام للقائم المستمر بروتين اليومي، يريح الممارس البيداغوجي من عناء التفكير والإبداع والتجريب ومتطلباته المتنوعة، وعناء التخطيط والإعداد للممارسة اليومية حسب معطيات وحيثيات واقع الفعل التعليمي العملي. وهو ما إذا فعل؛ يتطلب جهدا إضافيا ووقتا كذلك. وهل الممارس البيداغوجي وغيره حاضر لتقديم ضريبة التفكير والنقد والإبداع والتغيير والتطوير؟ وهل السياسوي حاضر هو الآخر لإسناد هذا التطوير والتغيير بالمال والإرادة السياسية التي تقتنص الفرصة، وتمنحها ظروف النجاح؟

ـ يفيد واقع المنظومة التربوية والتكوينية والممارسة الصفية وجود مجموعات الضغط والمقاومة الداخلية لأي تغيير وتجديد وإصلاح؛ لما ترى فيه تهديدا لمصالحها وامتيازاتها، ودفعا لكل ما من شأنه أن يمس بها ويشكل في نظرها خطرا عليها! خاصة إذا كانت هذه المصالح والامتيازات مالية واعتبارية، أي متعلقة بالاقتصاد والوضع الاعتباري في المنظومة التربوية والتكوينية على مستويات متنوعة كالمستوى الإداري أو التربوي أو الفكري. الأمر الذي تجد معه هذه المقاومة تشتغل بأساليب صريحة ومضمرة من أجل التخلص من ذلك التغيير والتجديد. فلكل إصلاح مهما كان جادا ومسؤولا قسط من مجموعات الضغط والمقاومة تستخف بجدواه وتشكك في فاعليته ومفاعله ونتائجه، من حيث تركز على قضايا هامشية تشد انتباه أكبر عدد من أفراد المجتمع المدرسي والمجتمع العام، وتبث الإشاعات والكلام العام البعيد عن الحقيقة والموضوعية والعقلانية، وتعمل بشكل نشيط على ربط العلاقات المتنوعة مع صانعي السياسات والقرارات، وأصحاب المصلحة الأساسيين في مقاومة التغيير والتطوير والتجديد والإصلاح، وأصحاب المصالح المتقاطعة مع مصالحهم، بما يعطي دفعة قوية لأنشطتهم المخملية والناعمة في أغلبها، لحصار مشروع الإصلاح. ويهمسون في أذني صاحب القرار الأعلى بالأراجيف، ويظلون كذلك حتى ينساق إليهم وينفذ رغباتهم. وهكذا ينسف مشروع الإصلاح، أو يمارسون الضغط والمقاومة من خارج إطار مواقعهم الرسمية بالإيعاز لتوابعهم وزوابعهم وأزلامهم وزبنائهم بممارسة الضغط ضمن عواصف فكرية وهواجس نفسية مفتعلة، بمسوغات شتى داخل أطر جمعيات مدنية أو منظمات سياسية كالنقابات والأحزاب والإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي ... وغيرها من وسائل بناء الرأي العام وتشكيله وفق توجهات واتجاهات معينة تدفعه إليها دفعا. وتكون فيها مجموعات ولوبيات الضغط ومقاومة التغيير المستفيد المستتر تحت البنية السطحية لتلك الأطر المدنية أو السياسية أو الدينية أو الثقافية أو الاجتماعية ... أو قل هي مجموعات ولوبيات المقاومة والضغط البنية العميقة لتلك الأطر.

وتسعى هذه اللوبيات والمجموعات إلى تزييف الوعي الفردي والجمعي والوعي العام بالقضايا التعليمية بتغييب عميقها وأساسيها عن التعرية عنها، وبتظهير تلك الظاهرة منها والسطحية والبسيطة كأنها هي الأساسية والمركزية، بمعنى تغييب القضايا والمشاكل الأركان، والإضاءة على القضايا والمشاكل الشرطية والثانوية والهامشية كأن تعلي من شأن الدعم التربوي وتجعله مشكلا رئيسا ومركزيا تتمحور حول مجمل القضايا التربوي، بدا التساؤل عن جودة الأداء التعليمي والممارسة الصفية تخطيطا وهندسة وإعداد وأداء؛ مما يقدمها كأنها هي الجوهرية في المنظومة التربوية والتكوينية، نتيجة غياب إعمال التفكير النقدي لدى الأغلبية، الذي يقود إلى حقائق الأمور. فالشروط تشكل المشترك بين الأغلبية، وتولد العواطف والمشاعر وتجذب الجمهور، وتدغدغ المشاعر، وتجلب فكر القطيع؛ خاصة إن كانت شروطا مادية ومالية. وتوظف في سبيل ذلك كل وسائطها ووسائلها، وتشكل حولها هالة ديماغوجية لاستقطاب الأتباع والجمهور الواسع والعريض. وتعمل هذه المجموعات واللوبيات على تعبئة أطر المنظومة والآباء والمتعلمات والمتعلمين والشارع وغيرهم من أعضاء المجتمع التعليمي والمجتمع العام ضد الإصلاح، وتنشئ حركة للوقوف ضده ـ ولو؛ لم يطلع عليه أولئك المنخرطون فيها! فلو سألت أحدهم لماذا أنت ضد هذا المشروع؟ وما هي تفاصيله التي أدت بك إلى اتخاذ هذا الموقف؟ لأجابك بنفي علمه بها، فهو تابع فقط ـ مقابل تشكيل شعبوية من أجل مناهضة التغيير والإصلاح. وهي الشعبوية التي تمارس الضغط الشعبوي على أصحاب القرار لمراجعة قراراتهم إقرارا أو توقيفا أو تعديلا أو إنشاء أو تصحيحا، مما يؤثر في مشروع الإصلاح ـ وهنا؛ يمكن القول بأن الفكر الشعبوي أخطر على المنظومة التربوية والتكوينية من الأخطاء التربوية.

كما هذه المجموعات بمقدورها في غياب التفكير النقدي والتفكير المنطقي والموضوعي وبحضور الشعبوية أن تغير سياسات برمتها لا قرارات فقط؛ فهي تعمد إلى اقتراح سياسات وقرارات بديلة، وتسوق حلولا، كثيرا ما تخدمها وإن أزمت الوضعية وعمقت أزمتها ورفعت درجة آلامها، دون أن تقارب المشكلات والقضايا الرئيسة في نظام التربية والتكوين والتعليم بحلول ملموسة وناجعة، أي التعاطي مع محيط الدائرة لا مركزها  ـ لذلك؛ نحن دائما نحل مشكلا بمشكل أكبر منه ـ وتسعى جاهدة لإقناع صناع القرار التربوي بوهم فعالية اقتراحاتها، من خلال المشاركة في المناقشات الدائرة حول الإصلاح وفي اللجان والمشاورات المتعلقة به، التي تفتحها الجهات العليا للمنظومة التربوية والتكوينية. وتحاول عبرها تغيير القرارات السياسية والإدارية والتوجهات البيداغوجية لصالحها لاستيفاء مصالحها. فمن خلال عملها واشتغالها من داخل أو من خارج المنظومة التربوية والتكوينية باعتماد استراتيجيات وأساليب ووسائط وأدوات مختلفة، يمكنها أن تلعب دورا حاسما في تعزيز موقعها ومفعولها في مقاومة التغيير والإصلاح التربوي.

وبما أن الشعبوية ـ وهي من المغالطات المنطقية ـ تستطيع تجييش الجموع ضد أو مع موضوع أو فرد أو مؤسسة أو فكرة أو قرار ... فهي قادرة على سحق نضالها حين تتخذ من التجمع دليلا على صحة وصدق طرحها، وتغدو بالمخالف إلى منطقة النعوت والشجب، وربما الاحتقار والاستهجان أو التعنيف. وهي الشعبوية تكون إيجابية حين تقوم على حقائق ووقائع واقعية ومنطقية، لأنها تملك حين ذاك المرتكز المنطقي والموضوعي للتحشيد والتجييش والتجميع تحت منطق المؤسسة أو منطق الرأي العام للدفاع عما التزمت به. وأما ما تقوم به من خارج ذلك؛ فهو ضرب من المشاعر والاندفاع والتشنج، تنتج ردود أفعال غير مرغوبة ولا مطلوبة أو نواتج سلبية في بعض الأوقات. ومن أجل توضيح هذا، نقدم بين يدي هذه الورقة مفردة من مفردات المعيش اليومي للممارسة الصفية. ذلك أن انخراط الفرد في مؤسسة ما، وهب هي نقابة أو تنسيقية أو منظمة، يلزمه ذلك حسب قوانينها الخاصة والمبادئ الأخلاقية للجماعة المهنية والإنسانية الانخراط في أنشطتها والامتثال لمقرراتها وقوانينها. وانخراطه هذا؛ انخراط مستقل عن باقي المنخرطين عضويا بحكم استقلالية شخصه وحريته الفردية. وهو مرتبط بالمنخرطين بحكم الامتثال للقرارات والمشاركة في الأنشطة فقط. لكن ـ مع الأسف الشديد ـ الشعبوية وفكرها تجعل هذا الارتباط ارتباطا عضويا وامتدادا للتجمع والتكتل البشري أو لمكونات المؤسسة في الفرد ذاته، تتجمع عنده وفيه، تلغي استقلاليته وحريته، تفرض عليه وصاية شاملة وكاملة، تلغي إرادته وحرية اتخاذ قراره الشخصي. فقد سمعت مؤخرا قصة أحد الممارسين البيداغوجيين الذي يشتغل مع منظمة مدنية غير حكومية في المجال التربوي، وهو منخرط في إضراب هيئة التدريس الحالي بكليته. وتعرض لأجل ذلك لاقتطاعات من أجرته ضخمة المبلغ؛ ولكنه عندما انخرط مع منظمته المدنية في الدعم أثناء العطلة، وهو قرار شخصي من خارج قرار نقابته لا علاقة لها به، وعلم به بعض الزملاء، استنكروا عليه ذلك وعاتبوه ووبخوه، ودفعوه إلى مقاطعة الدعم. وهنا تنبعث من رماد الشعبوية أسئلة تفصح عن خطابها بالقول:

* هل للدعم مع منظمة مدنية علاقة بقرار النقابة؟ وهل قرار النقابة يسري على مجموع أعمال وأفعال منخرطيها؟ وهل خرق هذا الممارس البيداغوجي قرار النقابة؟ أليس قرار النقابة محددا ومحدودا بمهام معينة في زمن ومكان معينين أم ممتدا إلى كل مهام وفي كل زمان ومكان؟

* أليست الشعبوية هنا أضرت بهذا الممارس البيداغوجي مرتين؟ مرة بالاقتطاع ـ ونحن نعلم أن النقابات الجادة والمسؤولة تأمن منخرطيها ومنتسبيها لدى شركات التأمين من أجل تعويضهم أثناء الإضراب حين تقتطع الدولة لهم أيام إضرابهم ـ ومرة ثانية حين منعته من الاشتغال في الدعم المأجور عليه والتعويض عن الاقتطاع من أجرته؟ وفي أي سياق يمكن تفسير الاستنكار والعتاب والتوبيخ والمنع؟

* هل عوضت الشعبوية وفكرها مبلغ الاقتطاع بالتبرع من جيبها لصالح هذا الممارس البيداغوجي باسم النضال والجماعة والمنفعة العامة والاتحاد ... وغيرها من هذه اللغة الديماغوجية؟ أم الشعبوية شاطرة فقط في اتخاذ المواقف والقرارات المتسرعة والخاطئة، والأحكام القاتلة خاصة منها أحكام القيمة السلبية التي لا تترك للتفكير العقلاني والموضوعي والنقدي مجالا للظهور بله تفعيله؟

* أليس لهذا الممارس البيداغوجي حرية اتخاذ قرار الفعل خارج قرار النقابة التي التزم به ومازال يلتزم؟ هل مارس الدعم أثناء الإضراب وفي زمن ومكان الإضراب؟ كيف لهذه الشعبوية أن تخلط الأمور وتعجنها في تركيبة عجيبة غريبة؟ هنا سقطت حرية واستقلالية وقرار وذاتية الممارس البيداغوجي بربطها بالآخر الذي لا يرتبط به إلا من خلال المؤسسة فقط، وأصبح مقيد اليدين بالشعبوية وفكرها المضطرب الذي لا يحلل مواضيعه داخل أطر فكرية سليمة وواضحة ويخلط الأمور ويعجنها عجنا.

وهنا؛ أسجل أن الممارس البيداغوجي هذا لا يملك شخصية قوية لمواجهة الآخر، أولا بالعقل والفكر والدفاع عن قراره مع نقد موقف شركائه في المؤسسة، ثم ثانيا بالفعل والاستمرار فيه دون تأثر بالآخر. فهو خارج قرار الإضراب وزمانه ومكانه حر ومستقل في قراراته وتصرفاته وأفعاله وسلوكه، المبني على منطق صحيح من حيث لا علاقة البتة لقرار الإضراب بقرار الدعم. ولا علاقة دموية ولا عرقية ولا مصاهرة أو ما وازاها، تربطه بالآخر داخل المؤسسة النقابية تسمح لهذا الآخر أن يفرض عليه رأيه أو قراره، فهو والآخر في كفتين متوازنتين مستقلتين الواحدة عن الأخرى اتجاه المؤسسة النقابية. وله كامل الصلاحية أن يتخذ قرار المشاركة في الدعم أو غير الدعم لأن ذلك لا علاقة للنقابة به؛ لكن فيما يخص قرار النقابة فيظل ملتزما به بمعطياته وحيثياته وتوجيهاته. وهذا ما يميز الشخص المستقل والحر والمسؤول عن الشخص الشعبوي الذي يهرج أكثر مما يعقلن ويرشد ويوجه. فالفكر الشعبوي دائما يعمم الظواهر، ويندفع إلى الأمام؛ بينما غيره من الفكر لا يعمم، بل يفصل ويحلل ويدقق ويدرس الحيثيات وغيرها ثم يتخذ القرار بحكمة.

ومن مفعول هذه المجموعات واللوبيات الشعبوية، يمكن أن تتجلى بخصوصها علامات استفهام عديدة، أقلها:

* ألا تشكل المقاومة الداخلية للوبيات الضغط والعرقلة كوابل لمشاريع الإصلاح؟

* ألم تساهم هذه المقاومة الداخلية في ضعف وتخلف المنظومة التربوية والتكوينية؟

* ألم يحن الوقت أن نفعل التفكير النقدي لتبئير الرؤية في المشاكل والإشكاليات والقضايا الجوهرية الأساس في أزمة التربية والتكوين؟

* ألا يمكن عزل الشعبوية عن الملف التربوي والتكويني، وعن الملف المطلبي المهني لأطر المنظومة التربوية والتكوينية، للتدقيق العقلاني والعلمي للمشاكل والإشكاليات والقضايا والمطالب؟

* ألا يمكن مقاربة أزمة التربية والتكوين من خارج الدلالة السيميولوجية لمجموعات ولوبيات الضغط والمقاومة، التي تشير أولاها إلى وقوع أزمة المنظومة التربوية والتكوينية في دائرة التجاذبات السياسوية والنقابوية والتيارات الإيديولوجية بدل الحوار التربوي والثقافي والفكري؟

ـ يفيد واقع الممارسة الصفية أن المردودية الداخلية والخارجية ضعيفة وهزيلة، بدلالة رتب المنظومة في التقويمات الوطنية والإقليمية والدولية، وبدليل نسبة انخراط المنظومة الضعيف في البحث العلمي والإنتاج الفكري والتقني والتطبيقي المتطور والمطور. وبدليل مفارقة مردوديتها الداخلية والخارجية لمتطلبات سوق الشغل ... ما أسس لتمثلات سلبية عن المؤسسة التعليمية العمومية بصفة عامة ـ رغم وجود نماذج منها استثنائية مشرفة ومشرقة وناجحة ومتفوقة ـ أدى إلى هجرها والانسحاب منها اتجاه المؤسسة التعليمية الخصوصية. ويزيد هذه المشهدية السلبية تضخيما مشاهد زمر أبناء أطر التربية والتكوين، وهم يتسابقون على الدراسة في مؤسسات التعليم الخصوصي. فينطلق من رماد نار آلام الحسرة على التعليم العمومي أسئلة نقدية مؤلمة وحارقة:

* لماذا لا يدرسون أطر التربية والتكوين والتعليم أبناءهم في المؤسسة التعليمية العمومية التي هم جزء منها؟

* ألا يطرح انسحاب أبناء أطر التربية والتكوين والتعليم نحو التعليم الخصوصي شكا مبررا في ناتج التعليم عند المتعلم؟

* ألا يطرح انسحاب أبناء أطر التربية والتكوين والتعليم نحو التعليم الخصوصي شكا مبررا في جودة المنظومة؟

* ألا يشكل ذلك مبررا منطقيا لشرائح المجتمع أن تولي وجوه أبنائها وبناتها شطر المؤسسة التعليمية الخصوصية؟

* ألا يؤدي هذا الأمر إلى تفريغ المؤسسة التعليمية العمومية من مواردها ومدخلاتها، وبالتالي إلى إغلاقها؟

* ألا يعد هذا المشكل الجوهري والاستراتيجي بداية رفع اليد عن التعليم العمومي مع انخراطنا الواعي أو غير الواعي فيه؟

* إلى أي حد سنبقى حبيسي التفكير الآني دون التفكير الاستراتيجي والرؤية بعيدة المدى العميقة الواعية؟

ـ هو النظر العقلاني والموضوعي في مسيرة ومسار مجموع مشاريع الإصلاح منذ 1965 إلى 2015 واستمرارا حتى الآن، يفيد حركية عرقوبية، تفقد الأمل في الإصلاح، ويحيلنا على الفكرة الأساس الناظمة لكل هذه المشاريع، وهي وجود سؤال الجودة في عمق المنظومة. بما هي أم المشاكل الأخرى؛ ذلك أنه إن لم تحل مشكلة الجودة، وإن حلت المشاكل العرضية، يظل سؤال جودة النتائج والمردودية الداخلية والخارجية مطروحا. وبالتالي تبقى مسألة الثقة في المنظومة التربوية والتكوين بمنطوق المؤسسة التعليمية العمومية قائمة وملحة على آباء وأمهات وأولياء المتعلمات والمتعلمين، ومحفزة على إيجاد حلول لها، إما بالدعم الأسري أو المؤسساتي أو الخارجي أو الذاتي، أو الالتحاق بالتعليم الخصوصي، ما توفرت ميزانيته لدى الأسرة. ومشاريع الإصلاح دائما تولد لدى المجتمع أسئلة عديدة، من قبيل:

*ما المشروع الناجع لإصلاح المنظومة التربوية والتكوينية يقطع مع عرقوبية الإصلاح؟

*إلى متى ستنتهي هذه السلسلة من مشاريع الإصلاح بالقطع النهائي مع فكرة الإصلاح والترقيع بالابتكار والإبداع والتجدد، والإنشاء وفق الراهن والمتوقع المستقبلي من متطلبات العصر؟

*ما الضمانات التي تطمئن الأسر على انتهاء الاحتقان والإخفاق بتلبية مطالب الإصلاح؟ وتؤدي إلى جودة التربية والتكوين والتعليم العمومي؟ وتفعيل الأطر التربوية والتكوينية تحت سقف أداء الواجب المهني والرسالة التربوية على الوجه المطلوب والمحدد، واستيفاء الحقوق حسب المنصوص عليها قانونيا وتشريعيا؟ ما الكفاءة المهنية الدالة على جودة الممارسة الصفية، المساهمة في خلق الثقة في المؤسسة التعليمية العمومية من جديد؟

* ألا يوقع مسار هذه المشاريع المنظومة التربوية والتكوينية في التسيب والارتجال والتخبط والعشوائية والانتقائية، من خلال إصدار القرار والتراجع عنه، وإصدار الأمر وإلغائه، وإصدار المذكرات والتوجيهات والعدول عنها في ذات السيرورة؟

* إلى أي حد سيبقى إصلاح الإصلاح، وإصلاح إصلاح الإصلاح يستهلك الطاقة والجهد والزمن والمال دون أن يحدث إصلاحا، وإنما ينتج الثقافة المصلحجية في النسق التربوي والتكويني والتعليمي؟

ـ في ثقافتنا الإسلامية والعربية والخطاب التربوي التقليدي المغربي؛ العملية التعليمية التعلمية تربط بالبعد الديني، بما يضفي عليها طابعا من الأهمية والقدسية يوازي مكانة علوم الشريعة الإسلامية، وتوازي المؤسسة التعليمية فيها مقام دور العبادة من مساجد ومصليات. الطابع الذي يمنحها مقاما عقائديا محترما في المجتمع والدولة، حيث سجل التاريخ المغربي احتضان المجتمع للمؤسسة التعليمية ماديا ومعنويا واجتماعيا وثقافيا؛ إذ كان هو الذي يهيئ المؤونة لها فضلا عن بنائها وجري الأوقاف لأجل تدبير متطلباتها وتدبير مستلزمات أطرها. ذلك أن معجم المنظومة التربوية والتعليمية كثير من مدخلاته الاصطلاحية واردة عليه من الحقل الديني كالفقيه والتأديب والأدب والتهذيب والتزكية ...  ويستوجب حاليا العناية في كل المستويات والأبعاد، خاصة بعد الهندسة البيداغوجية والبعد الإنساني لأطرها. ذلك أن الهندسة البيداغوجية الواعية والمفكرة والناقدة والمبدعة كفيلة بخلق استراتيجيات تربوية وتكوينية تستهدف الحاضر والمستقبل عبر قراءة واعية للكائن وللممكن الذي يشيد رؤية واضحة لهما تسير بشكل منهجي وعملي إلى تحقيق الأهداف، ووضع مناهج دراسية وممارسة صفية جيدة وفعالة وفاعلة في سيرورة الفعل التعليمي التعلمي تؤدي إلى ناتج تعليمي جيد. والبعد الإنساني كفيل بالاهتمام بأطر التربوية والتكوينية من خلق الظروف البيداغوجية الجيدة، والظروف الاجتماعية والمادية والمالية المساهمة في الاستقرار النفسي والاجتماعي والمالي والارتياح للفعل التربوي والتكويني، واﻟﺪواﻓﻊ اﻟﺴﻴﻜﻮﺳﻮﻣﺎﺗﻴﻜﻴﺔ المواتية التي تعمل على الرضا عن النفس وتخلق الحافز للعمل ... وغيرها.

هذه المكانة للمنظومة التربوية والتكوينية في التراث التربوي الإسلامي لم تعد قائمة في المجتمع؛ عندما تحولت أداتها الفاعلة وهي المؤسسة التعليمية من مؤسسة مجتمعية إلى مؤسسة مرفقية. بمعنى لم يعد المجتمع هو الحاضن والمسؤول عنها وإنما الدولة هي الحاضن والمسؤولة. وتحول الفعل التعليمي التعلمي من الرسالة إلى الوظيفة، فانتزع البعد العقائدي من واجب الرسالة، وعوض بالواجب المهني، الذي يرمز في أحد أبعاده إلى العمل مقابل الأجر بعيدا عن العامل العقائدي الذي يضفي على الممارسة الصفية البعد الإنساني الأخلاقي العام لا الأخلاقي المهني فقط كما في الواجب المهني؛ أي البعد الأخلاقي في الرسالة يغطي كل الممارسة الصفية وتفاصيلها وحيثياتها باستحضار الخوف من الله تعالى الضامن لعمق الضمير الإنساني في أعلى صفائه ونقائه. بينما في الواجب المهني هناك منظومة الأخلاق المهنية التي قد لا تغطي كل تفاصيل وحيثيات الممارسة الصفية. فمثلا في الرسالة نستحضر البعد الإنساني في الفعل التعليمي، وفي الوظيفة نستحضر الخدمة في حدود أخلاقياتها.

وهذا الانتقال من الرسالة إلى الوظيفة يسمح لمكونات المنظومة التربوية والتكوينية بمساحة معينة لتحييد البعد الإنساني من الممارسة الصفية تخطيطا وإعداد وإنجازا وتقويما. ونحن نلمس مدى الأخطاء الكبيرة والاستراتيجية التي وقعت فيها السياسة التعليمية والتنظير التربوي والتكويني والتدبير العملي لما خطط ونظر له دون أن يرف جفن لأحد، ونحن نلمس عن قرب ما يقع حاليا للمتعلم/ة من تأثيرات التجاذب والاحتقان والتحارب السياسوي والنقابوي والشعبوي، وليس له يد في هذه المحرقة السياسوية والاجتماعية! وعليه يمكن طرح بعض الأسئلة، لعل أجوبتها تقود إلى مراجعة الذات قبل فوات الأوان.

* ألم يشكل الانتقال من مفهوم ومضمون الرسالة إلى مفهوم ومضمون الوظيفة عاملا في فقد المنظومة التربوية والتكوينية روحها الإنساني؟

* ألا يمكن أن نستحضر بعدي الرسالة والوظيفة في تكامل بينها لأجل إحياء ضمير المنظومة التربوية والتكوينية من ألفها إلى يائها؟

* ألا تشكل الرسالة قبل الوظيفة دافعا رئيسا إلى التفكير الاستراتيجي في إنصاف كل مكونات المنظومة التربوية والتكوينية تحت سقف الجودة والارتياح والإبداع؟

ـ ألا يمكن العودة من الوظيفة إلى الرسالة لإحياء ما مات من الأخلاق والقيم في المنظومة التربوية والتكوينية؟

ـ ألا يمكن لمفهوم الرسالة أن يوحد الجميع تجاه المنظومة التربوية والتكوينية بما يخدمها، ويخلق التقاطعات والتقارب من أجلها؟

ـ نحو الوعي:

هذه مجرد علامات استفهام تقع على الواقع لتسائله عن آفاق المؤسسة التعليمية العمومية بالدرجة الأولى، وتحاول أن تخلق مساحة للحوار الاستراتيجي حول مآل قطاع حيوي، لا تنفك الأمم الراقية والمتقدمة أن تموضعه موضع الدماغ والقلب من جسدها المجتمعي والوطني، لعلها تحاصر به علل الجسم وتقضي على سرطاناته القاتلة. وما أكثرها حين يهن الجسم وتخور قواه، تتكالب عليه لأجل الانتعاش والاسترزاق عليه وامتصاص دمه ثم في الأخير نعيه والتكبير عليه.

ورافعة الحوار الاستراتيجي حول المسألة التربوية والتكوينية الوعي الفردي والجمعي للسياسة والسياسة التربوية أولا، ثم للقضايا والمشاكل والإشكاليات الحقيقية والمركزية والجوهرية، بمنظور بعيد المدى، يضع الغايات والأهداف والسيرورات والاستراتيجيات والتقويمات والتدخلات، ويقصد النتائج المستهدفة مباشرة ملغيا كل الهوامش والديدان الزائدة، بعزيمة جادة وقوية لا تلين لأحد مهما كان. ولا ترضخ للضغوطات ولوبيات المقاومة مهما كانت قوية وكثيفة، وهي رهن لمسؤولياتها المهنية والرسالية، وأخلاقها وإنسانيتها فقط. تاج وجودها الصالح العام للمتعلم والمتعلم فقط، وما دون ذلك من إنصاف أطر التربية والتكوين، ووضع المناهج والبرامج والمشاريع والخطط التربوية والتكوينية والاستراتيجيات ومتطلباتها المادية والمالية والظروف المناسبة والمسهلة، يهون ويسهل أمامه بالإرادة السياسية القوية في تهييئها من أجل تحقيق ذلك الصالح العام. ويتلاشى بعزمها على التغيير والتطوير والتجديد. وأما وأن تنتقي بعض المكونات منها للتعاطي معها؛ فذلك أسلوب أعرج أو عقل يرى بعين واحدة، لأن المسألة التربوية والتكوينية هي نسق مفتوح، تؤثر مكوناته البعض في البعض، ويؤثر في الأنساق الخارجية ويتأثر بها. وهو أمر جلي في الحراك والنضال الحالي.

والحوار الاستراتيجي هنا لابد أن يدرس التاريخ والسوابق والتجارب بكل معطياتها وحيثياتها لكي يستفيد منها، ويستفيد من الخبرة، خاصة أن منظومتنا التربوية والتكوينية راكمت ورصدت بنكا كبيرا من الخبرة التربوية والتكوينية والمعرفة والتجارب والطاقات والكفاءات. قادرا على إحداث التغيير والتجديد والتطور المنشود تحت جودة عالية بعيدا عن كوابح الإصلاح، وتحت غطاء الإرادة السياسية القوية والقادرة والحاضنة بكل حنان وسخاء لهذا البنك. لكن إذا غادرنا الوعي ومنطق التفكير بعيون متعددة إلى ما اعتدنا عليه؛ فلن نزداد إلا غرقا في وحل المستقبل الذي بدأ يبتعد علينا بسنين ضوئية كبيرة، أو لنقل يبتعد علينا بفرط الصوت المتسارع. ما سيتركنا ويرحل، ولعل عصر الذكاء الاصطناعي مؤشر عن بداية هذا المستقبل. وعليه؛ لابد للسياسة التربوية وللعقل التربوي والتكويني المغربي أن تذهب إلى التفكير في تحليل وتفكيك أزمة التربية والتكوين من كل مناحيها وجوانبها وتفاصيلها ومفاصلها للخلوص إلى نتائج معبرة عن الواقع ودالة عليه، لإقامة حلول عليها صحيحة وسليمة. ومنه؛ يمكن أن ننجح في الخروج من الأزمة وتجاوزها بأنفسنا.

وآمل أن نعي لما للمشاكل العميقة والسطحية من تأثير سلبي في سيرورة ومردودية وناتج المنظومة التربوية والتكوينية ومخرجاته، التي سجلت تراجعا ظاهرا وواضحا وبائنا وملموسا في نتائج التقويم الدولي PISA لمستوى التلاميذ دورة 2022 مقارنة مع دورة 2018، أخرت رتبته إلى 71 في مجال "الرياضيات"، وإلى 79 في مجال "القراءة"، وإلى 76 في مجال "العلوم"؛ مما تراجعت معه المنظومة التربوية والتكوينية المغربية ب 9 رتب في " القراءة والعلوم" من بين 81 دولة مشاركة!؟ فإن لم نع ما ذكر؛ فذلك خلل في التفكير والمنظور والأداة، يؤدي إلى استدامة أزمة المنظومة التربوية والتكوينية كما حدث ويحدث لنا في مسار الإصلاح. ويتطلب هذا تكثير وتبئير الجهود المختلفة نحو تجاوز التحديات. وذلك أمر ليس سهلا ولكنه غير مستحيل.

***

عبد العزيز قريش – باحث تربوي من المغرب

إن فرض الرقابة على اللغة المنفلتة يهدد حريتنا في التفكير

بقلم: بول هام

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

الهوس الحديث بنقاء النص ينبع من سوء تطبيق فلسفات فتجنشتاين ودريدا

"دفنت كارين حقدها واستسلمت لقاعدة التلال البدينة السوية التي تنص على أنه يجب طرد السيدات والسادة المثليين من ذوي البشرة الملونة من الحفل."

هذه العبارة تسيء إلى الجميع تقريبًا، وفقًا التوجيهية اللغوية الشاملة التي تضعها الجامعات والشركات والمؤسسات العامة في العالم الغربي. كان من الممكن أن ترسم إرشاداتهم خطًا أحمر تحت كل كلمة.

ما كان يجب أن أكتبه هو: "المرأة البيضاء، من أجل السلام، قبلت الحكم الافتراضي للشخص البدين ومغاير الجنس من أوزاركس بأنه لا ينبغي دعوة LGBTQ+ وBIPOC إلى اللقاء".

من الواضح أن المقصود من هذا هو السخرية. لن يكتب أي كاتب يستحق ملحه (أو ملحها) مثل هذه الجملة (لأسباب جمالية، كما نأمل، وليس لأنها مهينة). لكن حقيقة أنني أشعر بالحاجة إلى أشرح لنفسي إلى ما  يشير إلى وجود قوة جديدة مخيفة في المجتمع، وهو نوع من فيروس الفكر الذي أصاب معظم المنظمات والأحزاب السياسية، يميناً ويساراً، وأبرز أعراضه هو الهوس بـ"النقاء" النصى، أي اللغة المجردة من الكلمات والعبارات التي يعتبرونها مسيئة.

ومع ذلك، فإنهم في محاولتهم خلق لغة لا تسيء إلى أحد، فإنهم يهينون الجميع تقريبًا.

لماذا نخاف جدًا من استخدام الكلمات بحرية، ومن الإساءة مع الإفلات من العقاب؟ من أين نشأ هذا الولع بـ "نقاء" النص؟ أتتبع أصول هذا الهوس بنقاء النص إلى انتصار فلسفة اللغة في أوائل القرن العشرين. دعونا نلقي نظرة على بعض اللحظات المهمة في ذلك التاريخ لنفهم كيف وصلنا إلى هذا.

وصف ريتشارد رورتي، محرر المختارات الأدبية المنعطف اللغوي: مقالات في المنهج الفلسفي (1992)، "الفلسفة اللغوية" بأنها "الرأي القائل بأن المشكلات الفلسفية هي مشكلات يمكن حلها (أو حلها) إما عن طريق إصلاح اللغة".أو من خلال فهم المزيد عن اللغة التي نستخدمها حاليًا. وقد أدى ارتقاء اللغة إلى هذه المكانة المذهلة إلى انقسام الفلاسفة: فظن البعض أنها أعظم بصيرة في كل العصور؛ وكان آخرون يشعرون بالاشمئزاز مما فسروه على أنه "علامة على مرض أرواحنا، وثورة ضد العقل نفسه".

كان "التحول اللغوي" الذي يتوقف عليه التفكير الجديد بمثابة إعادة تقييم جذرية لهدف الفلسفة ذاته. لقد ابتعدت عن الأنظمة الفلسفية العظيمة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر (كما أكد ذلك جي دبليو إف هيجل، وإيمانويل كانط، وآرثر شوبنهاور وآخرون أقل شهرة )، وانقسموا إلى تيارين من الفكر - الفلسفة "التحليلية"(1) و"القارية "(2) - اللذان اختلفا كثيرًا ولكنهما اشتركا في هذا: الهوس باللغة وحدود اللغة ذات المعنى.

يؤكد فيتجنشتاين أن اللغة ليست مرآة للعقل، بل هي عباءة تغطي الشخصية الحقيقية للمتحدث.

كان المفكر الذي بذل قصارى جهده لدفع الفلسفة إلى فلك علم اللغة هو عالم المنطق النمساوي والتلميذ النجم لبرتراند راسل المسمى لودفيج فيتجنشتاين (1889-1951). وأرجع ما اعتبره ارتباكًا في الفلسفة إلى «سوء فهم منطق لغتنا»، كما روى في أول أعماله الفلسفية «الرسالة المنطقية الفلسفية» (1921).

أوضح فيتجنشتاين أن "المعنى الكامل" لهذا الكتاب هو تحديد حدود اللغة ذات المعنى، وبالتالي، الفكر ذي المعنى: «ما يمكن قوله على الإطلاق يمكن قوله بوضوح؛ وما لا يستطيع المرء أن يتحدث عنه يجب أن يصمت. لذلك فإن الكتاب سوف يرسم حدوداً للتفكير، أو بالأحرى ــ ليس للتفكير، بل للتعبير عن الأفكار. وفي رسالة إلى راسل، كان أكثر تحديداً: فقد كتب أن اللغة هي نفس الفكر: “النقطة الأساسية [في الرسالة] هي نظرية ما يمكن التعبير عنه… باللغة – (والذي يصل إلى نفس الشيء، ما يمكن التفكير فيه).”

لقد بُنيت الرسالة على سبعة مقترحات واسعة تحتوي على 525 تصريحًا تستكشف تصور فيتجنشتاين للعالم باعتباره تكتلًا من الحقائق وليس، كما يفترض معظم الناس، أشياء ذرية. يجادل البيان 4.002 بأن اللغة ليست مرآة للعقل، ولكنها عباءة تغطي الشخصية الحقيقية للمتحدث:

اللغة تخفي الفكر؛ بحيث لا يمكن من الشكل الخارجي للملابس استنتاج شكل الفكر الذي تحتويه، لأن الشكل الخارجي للملابس مبني لغرض آخر غير التعرف على شكل الجسم.

أقنعت الرسالة فيتجنشتاين بأنه قد حل مشاكل الفلسفة، وأنه يمكننا جميعًا العودة إلى المنزل والاسترخاء. لمدة 30 عامًا لم يعارضه أحد، حتى فعل ذلك في كتابه الثاني، تحقيقات فلسفية، الذي نُشر عام 1953، بعد عامين من وفاته، والذي قام فيه بمراجعة وتوسيع أفكاره حول حدود اللغة.

وجد اثنان من أفضل العقول في القرن العشرين أنفسهما يفكران ويكتبان في ظل فيتجنشتاين. وكان عالم الوضعية المنطقية الإنجليزي أ.ج.فريدي آير واحدًا من هؤلاء: "إن وظيفة الفيلسوف ليست ابتكار نظريات تأملية تتطلب التحقق من صحتها في التجربة"، كما لاحظ في كتابه "اللغة والحقيقة والمنطق" (1936)، "ولكن استخلاص نتائج استخداماتنا اللغوية".وكان الثانى الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر: "في الكلمات واللغة تأتي الأشياء إلى الوجود أولاً،" كما أشار في مقدمة للميتافيزيقا (1953)، وبنى على هذا الموضوع في "الطريق إلى اللغة" (1959). وأشار إلى أن اللغة هي التي تتكلم، وليس البشر؛ لقد كنا مجرد مشاركين في شكل من أشكال التواصل الذي سبقنا.

دعونا ننتقل سريعًا إلى حمى المثقفين الفرنسيين الذين عاشوا في باريس في الستينيات، والذين تجرأ أحدهم على إعادة بناء تفسير فيتجنشتاين لحدود اللغة من خلال القول بأن اللغة هي الحد.

وكان الجانى هو الفيلسوف الفرنسي الجزائري المولد جاك دريدا (1930-2004) الذي قال:"لا يوجد شيء خارج النص". هذه العبارة  تصور "النص" - والنص وحده – كمفتاح رئيسي لديه القدرة على فتح عقل الكاتب أو المتحدث.

وكان له تأثير الكريبتونيت(3) على المحافظين والتقليديين الذين كانوا يتوقون إلى عودة النظام الموضوعي والتسلسل الهرمي للقيم، وليس الكلمات. تراجعت مجموعة ثالثة من النقاد، أقل فصاحة، عن الاقتراح القائل بأن الكلمات وحدها هي مرآة لعقولنا، ورفضت فكرة دريدا القائلة بأن جميع أشكال التعبير كانت مجرد «وجهات نظر» في عالم كان «يتفكك» بسرعة.

كانت «التفكيكية»، هدية دريدا للعالم، طريقة في التفكير جعلت كل الاتصالات (المرئية، الأدبية، الموسيقية، الدعائية) في وضعية «الخطابات» أو “السرديات” التي يمكن “تفكيكها” وإعادة تقييمها وفقًا لمجموعات جديدة من المعايير الاجتماعية.

إن أرقى الإنتاج الفني للعقل البشري لا يمكن تقسيمه أو اختزاله في بناء اجتماعي

يرى دريدا أنه إذا تم «بناء» الفنون البصرية والموسيقى والأدب لتعكس بعض القيم التقليدية أو النخبوية، فيمكن عندئذٍ «تفكيكها» بنفس السهولة - أي تجريدها من سياقها القديم وإعادة النظر فيها وفق نقاط مرجعية ثقافية جديدة، كما يوضح الكاتب بيتر سالمون (كاتب سيرة دريدا).

يمكن إعادة تقييم كل عمل فني من خلال منظور ثقافي جديد: الماركسي، والنسوي، والمثلي، والمتحول جنسيًا، والطبقي، وغيرهم. الأمر نفسه ينطبق على الإعلان، والنظام القانوني، والحكومة، والله، وهويتك ذاتها. لا عجب أن يكون دريدا مكروهًا من قبل اليمين باعتباره أب «الماركسية الثقافية» ويحتفي به اليسار باعتباره مُحلل الأرثوذكسية الثقافية.

من الواضح أن أولئك منا الذين تجرأوا على قراءة مسرحيات ويليام شكسبير باعتبارها صورًا غير قابلة للتجزئة لنصيب الإنسان فشلوا في فهم الانقياد السياسي لهاملت أو الملك لير أو ماكبث للقراءات الماركسية والنسوية والمثلية، من وجهة نظر التفكيكيين الدريديين. أي أننا فقدنا المعنى "الحقيقي" (أي المفكك) لمسرحيات شكسبير، والذي لا يصبح واضحًا إلا بعد تفكيك "النص" وإعادة وضعه في سياقه - على سبيل المثال، من خلال تطبيق قراءة نسوية لرواية ترويض النمرة أو قراءة ماركسية لرواية العاصفة. كلتا القراءتين، وفقًا لنظرية دريديان، صحيحة تمامًا، وربما تفسيرات أكثر «أهمية» للمسرحيات.

وهكذا مارس "النص" سلطة غاشمة على العقل التفكيكي، إلى درجة أن الأغنية الإعلانية، أو عنوان إحدى الصحف الشعبية، أو كتيب السفر لم تكن أقل "صحة" كتصوير لمصير الإنسان من الفنون الجميلة والأدب العظيم. كل هذا يتوقف على وجهة نظرك، والتي يمكن رد كل شيء إليها. لم يكن هناك شيء اسمه «الجمال الموضوعي» أو «الحقيقة الموضوعية»، بل فقط خليط متنافر من الآراء الذاتية. وهنا يكمن مهد ما يسميه ما بعد الحداثيين "ما بعد الحداثة"، وهي حركة فكرية تميل إلى أن يتم تعريفها بما ليس كذلك، ويصعب مراقبتها مثل الجسيم الكمي.

إن خطأ التفكيكيين الدريديين – والمهووسين بالنص اليوم – هو أنهم يفترضون الحكم على "قيمة" أو "أهمية" النص وفقا لمعاييرهم الثقافية الضيقة.

لقد رفضوا قبول فكرة أن أرقى الإنتاجات الفنية للعقل البشري ليست قابلة للتقسيم أو اختزالها في بناء اجتماعي. سواء له علاقة أم ليس له علاقة . فإنهم يتجاوزون الثقافات والطبقات والأجناس، ويجذبون شيئًا ما فينا جميعًا. إنها غير مقيدة بإعادة قراءة اجتماعية أو تاريخية، على وجه التحديد لأنها ليست «سردًا» أو «خطابًا» آخر، بالمعنى الديريدي.إنهم يتغلبون على الصراع الكئيب بين الأمم والطبقات والأجناس، ويلهمون كل الفكر والمشاعر الإنسانية، بقطع النظر عن "السياق". إنها أصيلة إلى الأبد، ولا تقبل عجن "التفكيكية". إنهم يتجاهلون محاولات ما بعد الحداثة لوضعها على لوح وتقطيعها. إنها، باختصار، مكتملة التكوين في المكان والزمان، و"غير قابلة للتفكيك". أولئك الذين يفترضون "تفكيك" ثلاثة أمثلة - آنا كارنينا لليو تولستوي، والكوميديا الإلهية لدانتي أليغييري، وروايات جين أوستن - هم مثل الليليبوتيين (4)الذين يحاولون تقييد آلهة مجنحة.

ما علاقة كل هذا بأدلة إدراج اللغة والرقابة والشهوة النصية؟ أنا أؤكد أن الجامعات والشركات والمنظمات العامة الغربية، تماشيًا مع حقيقة أن الأفكار الثورية عادة ما تستغرق عقودًا حتى تصيب الجسم السياسي، استوعبت، بوعي أو بغير وعي، فكرة دريدا القائلة بأنه «لا يوجد شيء خارج النص».

المشكلة هي أن الكثيرين في «العالم الأنجلوسكسوني» (كما يطلق الفرنسيون على البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية) فشلوا في فهم أن دريدا كان مثقفًا فرنسيًا. لم تكن أفكاره توجيهية؛ لذا فمن المفترض أن يتم مضغها ومناقشتها وبصقها إذا لزم الأمر.

وبدلاً من ذلك، أخذت شرطة اللغة الإنجليزية "النص" وأعطت اللغة نوعًا من القوة الإيضاحية، جاعلة الكلمات والعبارات مقياسًا لعقولنا - وحتى محتوى شخصياتنا ذاته.

الكلمات هي أشباح أفكارنا، مجرد أصداء "لذواتنا".

عن قصد أو بغير قصد، فإن محاربي ثقافة الإلغاء الذين يحظرون الكتب أو يصوغون مبادئ توجيهية لتعلم اللغة يستخدمون أدوات التفكيكيين الدريديين لتشكيل العقل البشري والسيطرة عليه. كلامك يعبر عن وجهة نظر غير مقبولة لدى محكمي الصواب اللغوي في يمين السياسة ويسارها.

من خلال تحرير لغة الاستخدام التي يعتبرونها غير مقبولة، يقومون بعد ذلك باستنباط كلمات وعبارات وكتب معتمدة تملي علينا كيف يجب أن نفكر. وإذا عصينا واستمرينا في النطق أو الكتابة بأشياء غير مقبولة أو غير مسيحية، فإنهم يهددون "بإلغاء عقولنا" من خلال مهاجمة شخصياتنا، والإحساس "بذواتنا"، كما يوضح جريج لوكيانوف وريكي شلوت بشكل مخيف في كتابهما "إلغاء العقل الأمريكي: إلغاء الثقافة يقوض الثقة ويهددنا جميعًا - ولكن هناك حل" (2023).

وبهذا المعنى فإن أولئك الذين يسعون إلى حظر أو إلغاء النصوص التي يعتبرونها مسيئة يهددون ما هو أكثر بكثير من حقنا في حرية التعبير. إنهم يهددون حرية التفكير. إنهم يواصلون الافتراض السخيف بأنهم إذا استأصلوا اللغة المسيئة، فسوف يستأصلون الأشخاص المسيئين.من خلال طريقة التفكير الاستقصائية هذه، تصبح لغتنا المنطوقة وحدها هي التي تحدد ما إذا كنا أشخاصًا لطفاء أم سيئين، بمعزل عن أفكارنا ودوافعنا الخاصة. إن الطالب الشاب اللطيف الذي يستوفي جميع المعايير اللغوية المعتمدة قد يحمل أفكارًا قاتلة وعنصرية ومعوقة ولكن من سيعرف؟

إن كون اختيارنا للغة يجب أن يديننا هو بالطبع اقتراح مثير للسخرية. وهذا يجعل الاحتجاج الصامت على أفكارنا الخاصة غير ضروري. إنه يتجاهل تمامًا دوافع اللغة.يبدو الأمر كما لو أن كلماتنا المنطوقة أو المكتوبة هي الاختبار الوحيد لقيمتنا كبشر، والأبعاد الصامتة لنفسيتنا، واللاوعي، و"الروح"، والضمير، والأنا، والهو، والأنا العليا، بل والفرويدية بأكملها، لم يكن للتقاليد اليونجية والعلاج النفسي أي نتيجة.

بالنسبة لمعظمنا، الكلمات هي صمامات تخفف ضغط الدماغ، أو ببساطة الأصوات التي ننشرها بتكاسل لإرضاء أو ملء الفراغ.الكلمات هي أشباح أفكارنا، مجرد أصداء "لذواتنا". يبدو أن أفضل الشعراء فقط هم القادرون على الجمع بين عقولهم وكلماتهم.

لهذا السبب فإن حظر الكلمات لن يجعل العالم مكانًا أفضل. سيؤدي ذلك ببساطة إلى خنق التعبير عن الأفكار الموجودة على أية حال. ينبغي مناقشة الكلمات المسيئة ومواجهتها بكلمات مضادة.هذا هو التعليم، وليس الإلغاء، وهذا هو هدف الحرية. باختصار، لن يؤدي إلغاء اللغة إلى إنشاء "مساحة آمنة". سوف يخلق ديستوبيا من المهووسين بالنص: شرطة الفكر تتمتم في ارتباك محرر ذاتيًا.

(1) تتميز الفلسفة التحليلية بالتركيز على الوضوح والدقة والجدل في البحث الفلسفي. ويرتبط عادة بالفلاسفة من العالم الناطق باللغة الإنجليزية ومعروف بتركيزه على التحليل المنطقي واستخدام الأساليب الرسمية مثل المنطق الرسمي والتحليل اللغوي للغة. ومن الشخصيات الرئيسية في الفلسفة التحليلية برتراند راسل، ولودفيج فيتجنشتاين، وجي.إي. مور.

(2) من ناحية أخرى، تميل الفلسفة القارية إلى التأكيد على التفسير والمعنى والسياق الثقافي والتاريخي الأوسع للبحث الفلسفي. نشأت في أوروبا وترتبط بنهج أكثر تأويلية ووجودية، مع الأخذ في الاعتبار أسئلة حول الوجود والمعنى والذاتية. تشمل الشخصيات الرئيسية في الفلسفة القارية فريدريش نيتشه، ومارتن هايدجر، وجان بول سارتر. باختصار، يمكن رؤية الفرق بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية في مناهجهما وأولوياتهما في البحث الفلسفي، حيث تركز الفلسفة التحليلية على الوضوح والدقة، بينما تؤكد الفلسفة القارية على التفسير والسياق الثقافي.

(3) الكريبتونيت هي مادة خيالية تظهر بشكل أساسي في قصص سوبرمان التي تنشرها دي سي كوميكس. في أكثر أشكالها شهرة، فهي مادة بلورية خضراء مصدرها عالم الكريبتون، موطن سوبرمان، والتي تنبعث منها إشعاعات سامة وفريدة من نوعها يمكن أن تضعف وحتى تقتل الكريبتونيين.

(4) The Lilliputians عبارة عن مجتمع من الأشخاص يبلغ متوسط طولهم حوالي ست بوصات، ولكن مع كل الغطرسة والشعور بالأهمية الذاتية المرتبطة بالرجال ذوي الحجم الكامل. عادةً ما يكونون جشعين، غيورين ، متلاعبين و ماكين و عنيفين، أنانيين وغير جديرين بالثقة؛ إنهم، في كل شيء، صورة مخلصة لنظرائهم "العملاقين". يعيشون في جزيرة ليليبوت الواقعة في المحيط الهندي.

***

.........................

المؤلف: بول هام/Paul Ham: بول هام مؤرخ ومحاضر في التاريخ السردي في معهد العلوم السياسية في فرنسا. وهو مؤلف كتاب "الروح: تاريخ العقل البشري"، الذي ستنشره دار Penguin Random House في يوليو 2024، وهو مؤلف العمود الفرعي القادم "من صنع عقولنا؟"

إذا كان بناء الهويّة، والحفاظ عليها بصورة مستقرّة وواضحة، إحدى مشكلات الحداثة، فإن إحدى مشكلات ما بعد الحداثة، هي كيف نتفادى سكونية الهويّة وانغلاقها أمام التفاعل مع الهويّات الأخرى في الإطار الإنساني. وفي هذا الصدد يناقش أدونيس في كتابه "موسيقى الحوت الأزرق" فكرة انفتاح الهويّة وحركيّتها، ويستهلّ حديثه بالعبارة القرآنية التي تضيء بقدَمِها نفسه حداثتنا نفسها، على حدّ تعبيره، والمقصود بذلك سورة الحجرات  - الآية 13 " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".

والمقصود بالتعارف، حسب تفسيره، الحركة بين الانفصال والاتصال في آن، من خلال "رؤية الذات خارج الأهواء"، سواء كانت هذه الأهواء أيديولوجية أم عرقية أم دينية أم لغويّة أم سلالية، فهل الهويّة جوهر قائم بذاته، لا يتغيّر أو يتحوّل؟ أم هي علاقة تجمعها مواصفات بحيث تكوّن معناها وشكلها، صورتها ومضمونها، وبالتالي لا بدّ من تنميتها وتعزيزها وتفعيلها إذا ما توخّينا الحرص على المشترك الإنساني، الأمر الذي يتطلّب الانفتاح والتواصل مع الآخر، والاعتراف به وبكلّ ما يتخطّى الركود والتقوقع والثبات.

وإذا كانت ثمّة تحوّلات تجري على الهويّة على صعيد المكان - الوطن، فالأمر سيكون أكثر عرضة للتغيير بفعل المنفى وعامل الزمن وتأثير الغربة والاغتراب، وهكذا فإن الزمان والمكان لهما تأثير كبير في المتغيّرات المتراكمة، التي تحدث على الهويّة، وخصوصًا بتفاعلها مع هويّات أخرى. وحسب محي الدين بن عربي "فالزمان مكان سائل، والمكان زمان متجمّد"، وبهذا المعنى فاختلاف الهويّات ليس أمرًا مفتعلًا، لاسيّما باختلاف البلدان والقوميات أو حتى داخل الوطن الواحد، لأن ثمة مجموعات ثقافية مختلفة إثنيًا ولغويًا وسلاليًا ودينيًا عن الأخرى، ناهيك عن اختلاف هويّة الفرد الخاصة عن غيره من جهة، وعن الجماعة البشرية من جهة أخرى.

ومن المفارقة أن بعض المهاجرين من أصول غير أوروبية تراهم الأكثر حماسة، بل تعصّبًا لهوّياتهم الجديدة، لدرجة يبدو أن هذا التطرّف إزاء الهويّات الأخرى غير المندمجة، إقصائيًا وتهميشيًا وحتى عدائيًا، وهناك أمثلة صارخة على ذلك.

ثمة نوعين من الهويّات، الأولى-  التي يُطلق عليها "الأغلبية" مجازًا بحكم الكثرة العددية، والتي تستبطن التفوّق والتسيّد والهيمنة، والثانية - التي نسمّيها "الأقلية"، التي هي الأقل عددًا، والتي تشمل ضمنًا الاستتباع والخضوع والقبول بالمواقع الأدنى، ومثل هذه الثنائية فيها الكثير من التفريعات المتناقضة أحيانًا، والتي تحتاج إلى فحص دقيق في إطار مبادئ المواطنة والمساواة، التي تقوم عليها الدولة العصرية.

هكذا تظهر تعقيدات المجتمعات الثنائية المعاصر، من حيث التماسك الاجتماعي وحقوق ما نطلق عليه "الأقليات"، ارتباطًا بمفهوم التعدّدية الثقافية العرقية والدينية واللّغوية، لاسيّما في إطار المفاهيم الليبرالية وعلاقتها بالفرد والفردانية، سواءً من زاويتها الفلسفية أو الأنثروبولوجية، وثمّة سجالات عميقة في الغرب تتّخذ أحيانًا شكل قوانين وقرارات للسلطات المحليّة، وفي أحيان أخرى شكل احتكاكات مجتمعية وردود أفعال شديدة، وهذه وتلك ترتبط بعلاقات الاعتراف أو عدم الاعتراف بالتنوّع الثقافي والهويّات المتمايزة والمختلفة، والمعيار هو سقف المواطنة، التي يحدّدها القانون.

وقد تكثّفت الأبحاث والدراسات إزاء هذه العلاقة وحساسيتها، بحثًا عن الهويّة قبل ما يزيد عن أربعة عقود من الزمن، ولاسيّما عشيّة وبُعيد انتهاء عهد الحرب الباردة.

لقد تسبّبت الهجرة، من الجنوب إلى الشمال، ومن البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية، ومن البلدان المتخلّفة إلى البلدان الصناعية، في إحداث تغييرات على صعيد البنية الثقافية والاجتماعية في العديد من بلدان أوروبا، ونجم عنها سياسات رسمية وردود فعل غير رسمية، لأنها تتعلّق بالتنوّع الثقافي وقبول الآخر والحقوق والواجبات التي تترتّب عليها، ونجم عن ذلك توتّرات أحيانًا، وصراعات ونزاعات بسبب التعصّب ووليده التطرّف وأعمال عنف، سواء في محاولة لتحقيق الذات أم لحمايتها إزاء الوافدين الجدد، ناهيك عن السعي لتحقيق التوازن بين الوحدة والتنوّع.

إن الحديث عن هويّات فرعية أو خصوصيات قومية أو دينية لمجموعة ثقافية متمايزة، يستفزّ أحيانًا يعض التيارات الشعبوية المتعصّبة إثنيًا أو دينيًا، فهي لا ترى في مجتمعاتها سوى هويّة واحدة سائدة باسم القومية أو الدين، والأمر يزداد حساسيّةً وتعصّبًا لدرجة التطرّف في البلدان النامية ومنها مجتمعاتنا العربية، حيث تُعتبر كلّ رغبة في تحقيق الذات أو التعبير عن الخصوصية الهويّاتية خروجًا عمّا هو سائد أو انشقاقًا عنه أو رغبةً في الانفصال، تستحقّ أحيانًا العقاب والتحريم والتجريم، فما بالك إذا كانت هذه الرغبة باسم مجموعة ثقافية.

هنا قد تُتّهم الدولة بالظلم، سواء في علاقاتها مع المجموعات الثقافية الأخرى أو بسبب بعض إجراءاتها ضدّ المهاجرين، وهو أمر حاصل، ولاسيّما في أوقات الأزمات مع بلدان الأصل التي جاءوا منها أو بسبب تعارض الثقافات في بعض جوانبها، حيث يتمّ التعكّز على صراع الهويّات أو كما يُطلق عليها صاموئيل هنتنغتون "صدام الحضارات".

ومثل هذا الموقف، الذي يتهّم الدولة بالتقصير، ناجم أحيانًا عن طغيان الأغلبية، أو من شعور الأقلية بالاضطهاد، ولا يهمّ في ذلك مواقف الدولة، التي تدعو لتحقيق مساواة مواطنية في إطار الاندماج أو الإبقاء على الاختلاف والحفاظ على الهويّات.

أما الشعور بالغبن والإجحاف، فإنه يأتي من الطرفين، "فالأقلية" تشعر أن التمايز الثقافي لا يُحترم ولا يطبّق بما فيه الكفاية، وأن حدود هويّاتهم مهدّدة، بل مهدورة، وهو ما يعطيها الحق في "التمرّد"، ضدّ سياسات الهيمنة، وهو الشعور الذي رافق المسلمين وأنصار حقوق الإنسان إزاء "الحق في الحجاب" في فرنسا بالضدّ من القانون، الذي يفرض خلع الحجاب، والأمر يتعلّق أيضًا بالكاريكاتيرات المسيئة للنبي محمد (ص) في الصحافة الدانماركية، وبعض الصحف الأوروبية، وغيرها من القضايا.

في حين أن شعور "الأغلبية" المهيمنة، يقوم على الاختلافات الثقافية، التي هي شيء موضوعي وطبيعي بنظرها، في حين أنه بنظر "الأقلية" تمييز ضدّها، ويتم ذلك عبر استبعاد بعض أفرادها بزعم عدم إتقانهم اللغة الرسمية السائدة في البلد، أو ثمة حساسيات أمنية خاصة. ﻓ "الأغلبية" هي التي تمتلك القوّة لتقرّر "أن على الأقلية أن تصبح مثلها، مثلما هي التي تقرّر متى تبقى الأقلية مختلفة عنها، أي متى يتم استيعابها ودمجها والاستفادة منها، ومتى يتم استبعادها وعزلها وتهميشها، تبعًا لمصلحة الأغلبية".

وأحيانًا تجري عملية استخفاف بالمهاجرين واللاجئين في أوروبا أو الاستهانة بقدراتهم، بسبب عدم تقدير خصوصياتهم الثقافية، سواء بدمجهم دون إرادتهم أم وضع مسافة بينهم وبين السكّان المحليين، وفي الحالتين لمصلحة "الأغلبية" وقراراتها المهيمنة، لاسيّما بصعود الشعبوية في العديد من بلدان أوروبا، والأمر يتعلّق بإنكار ثقافتهم أو إقرارها، وفي كلي الحالتين ثمة نظرة إسقاطية مسبقة، حيث يتم وضع عقبات أمام الهويّات الفرعية كي تكون متميّزة، أي وفق نظرة تمييزية للاندماج القسري أو بفرض التمييز باسم "الأحقية" وحكم الأغلبية، وهكذا يسبب مثل هذا التمايز الثقافي تذمّرًا وسخطًا، سواء بسبب المعاملة المساواتية أم التفريقية للأقليات، وهو ما يثير احتكاكات وردود أفعال متبادلة.

وقد تنامت الانتقادات للتعدّدية الثقافية في أوروبا عمومًا من زاويتين، أحدها "للأقلية؛ وثانيها "للأغلبية"، بما له صلة بالإقرار أو الإنكار، وبما له علاقة بالهويّة والحقوق، قبولًا أو تحفظًا، فالتعدّدية الثقافية هي خاصيّة من خواص المجتمع المتعدّد الثقافات، أي كيف يمكن للدولة الحفاظ على الهويّات المتميّزة للجماعات الثقافية، لاسيّما الإثنية في مجتمع موحّد، لكنه يقوم على التنوّع الثقافي؟

وعلى مثل هذه القاعدة يعترض المتعصبون من الأغلبية، ويعتبرون ذلك تساهلًا مبالغ فيه للعادات والتقاليد الوافدة على حساب الثقافة الأصلية، لاسيّما بدعمها للهجرة، حيث يمنح المهاجرون الكثير من الحقوق وعليهم القليل من الواجبات، وهكذا أخذت تتّسع موجة العداء للأجانب "الزينوفوبيا"، وازدادت موجة العداء للإسلام والمسلمين، "الإسلاموفوبيا"، ولاسيّما بعد الأحداث الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة بتفجير برجي التجارة العالمية في 11 أيلول / سبتمبر 2001.

أما المهاجرون فإنهم ينظرون إلى وفادتهم باعتبارها حق أصيل من حقوق الإنسان، وقّعت عليه الدول الغربية واعترفت به قوانينها، وما عليها إلّا تأمين تنفيذ هذا الحق، بما يتّفق مع الموقف الإنساني، بغضّ النظر عن الاختلاف الهويّاتي، إضافة إلى الاعتبارات الأنثروبولوجية، فليس من الضروري أن يكون المجتمع قائمًا على مجموعة إثنية أو دينية واحدة، لكي يكون متماسكًا، بل أن التعدّدية الثقافية والتنوّع تُحدث مثل هذا التوازن.

إن التعصّب هو اتّجاه إلغائي لمن لا يتعصّب له، ويكشف جدل الهويّات أن اختيار الصراع بدلًا من التعايش، والصدام بدلًا من الوئام، هو الأمر الذي سيكون ضارًا وخطرًا على الهويّات الكبرى والصغرى، وهذه الأخيرة إن لم يتمّ احترامها وتأمين حقوقها المتساوية، ستكون عنصر ضعف كبير يتّسع باستمرار على مستوى الهويّة من جهة والدولة من جهة أخرى.

***

عبد الحسين شعبان

 

ينفرد الدين بأن ما كتب عنه من مجلدات وكتب ومقالات يفوق ما كتب عن اي موضوع آخر، سواء من قبل الفلاسفة والمفكرين ورجال الدين والمؤمنين والملحدين. حتى نحن السيكولوجيين ، ابتكرنا فرعا جديدا في علم النفس بعنوان (علم النفس الديني) وقبلها ابتكرنا (سيكولوجية العقيدة) وبعدها (التحليل النفسي) للدين عند فرويد ونقيضه يونغ، الى اريك فروم وصولا الى احدثهم سيريل بيرت الذي اوضح بأن " عالم النفس يدرس الدين لا ليكتشف كونه حقا او باطلا، فذلك من شأن المؤمنين بعقيدة ما تظن انها الحق وغيرها من العقائد هو الباطل،  مما قد ينجم عنه خصومات وجدالات ، وربما عداوات وحروب.. بل المهم هو دراسة الدين كظاهرة بشرية ، وانتاج للعقل الانساني،  وسواء كان هذا الدين توحيديا او كان تعدديا ، روحيا او وثنيا ".

ولا يعنينا هنا نشأة الاديان وتاريخها وانقساماتها ومناهجها المختلفة.. والانبياء والحكماء والحركات التي قادوها، والحروب التي يسمونها مقدسة ويسميها اخرون وحشية، والمتشككون الذين يرتابون حتى في وجود بعض الانبياء،  والتناقضات والخلافات في نصوص الاديان. كل هذا لا يعنينا هنا انما التنويه او التنبيه الى تشخيص حقيقة سيكولوجية جميلة امتازت بها كل الأديان.. هي انها ابتكرت اجمل المناسبات.. الأعياد.. وجعلوها تتجدد كل سنة!

سيكولوجيا العيد

يتميز العيد بطقوس دينية واجتماعية.. الجميل فيها انها مزجت موروثات الماضي وعصرنة الحاضر، وحافظت على رونقته وأصالته. ومع ان مظاهر الأحتفاء به تختلف من شعب الى آخر ، الا ان صلاة العيد وزيارة الأرحام والأقارب والأصدقاء ، وتبادل التهاني والتبريكات، واقامة الولائم والحلويات.. وفرح الأطفال بثياب العيد (والعيديات).. تعد من اجمل حالات تجسيد الخير والطيبة والمحبة والتسامح والألفة

في المجتمع التي تتوحد فيها نفوس اكثر من ملياري مسلم في العالم مع انهم من قوميات واجناس مختلفة. ليس هذا فقط ، بل ان الإحساس بالفرح يدعم البعد النفسي الاجتماعي خاصة في وقت الأزمات والطوارئ، ويؤمن دعامات نفسية واجتماعية تعد الأساس نحو الاستقرار النفسي الاجتماعي.

وينبهنا علماء الأجتماع الى ان مناسبات الأعيد الدينية تسهم في إرساء التكافل الاجتماعي والمساعدة على انسجام الناس وتواصلهم، وتحسين العلاقات فيما بينهم. فبابتسامة صادقة في وجه الآخر، وإلقاء تحية أو تهنئة، يمكن أن تحقق الكثير، وتقلص من العنف ومن المشاحنات، وتسهم في بناء مجتمع مستقر نفسيا. وينبهون ايضا الى قضية مهمة هي أن الأزمات الأجتماعية التي تصيب الكثير من أفراد المجتمع بحالات اكتئاب وقلق فأن مناسبات الأعياد الدينية تدخل مشاعر الفرحة والبهجة في نفوسهم ، وتدفع الفرد الى ان يكون اكثر ايجابية في علاقته مع أفراد بيئته ومجتمعه، وأكثر تكيفا للظروف والمتغيرات الاجتماعية، وأكثر إدراكا لتطوير تصرفاته مع الآخرين. ما يعني ان العيد ليس مجرد يوم سعيد، بل انه يجعل الفرد يعيد النظر في أسلوب عيشه وطريقة تفكيره.. ليمتد تأثيره على باقي ايام السنة.

ويقف علماء النفس وعلماء الاجتماع بالضد مما يقوله فلاسفة وكتّاب بأن هذه الأعياد خدعة او ترف ثقافي او سفاهة او ممارسة فارغة المعنى، ويتفقون بانها فعل جماعي يتوهج بالمعنى والسمو لا تستطيع رتابة الحياة اليومية أن تمنحهم إياها، وأن الأنسان بحاجة ماسة لمثل هذه الأفراح والمسرات لتفريغ المكبوتات والضغوطات، وتسريح جوانب كثيرة من الرغبات الدفينة، لاستعادة شعوره بالحياة الطبيعية المتوازنة، وبعث الأمل والتفاؤل حيث تتقوى المهارات والقدرات الاجتماعية والعاطفية، مما يساعد على خلق عالم مريح تحلو فيه الحياة.

شكرا لكل الأديان انها ابتكرت اجمل وسيلة سيكولوجية لأشاعة انبل الحاجات عند الانسان.. التسامح والمحبة بين الناس، وادخال الفرح والسرور الى النفس البشرية.. مع خالص التهاني والتبريكات بعيد الأضحى المبارك معطرة برائحة العراق.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

بدأت يومي بمحادثتي للسيدة "أمينة" قائلةً لي: سنقضي ساعات الظهرية في نهار جميل مع محرر المرأة. وقد التقيت بالسيدة "أمنية" وصديقتي "نور الهدى" ننتظر قدوم أساتذتي الجليلين في طريقهما إلينا مع محرر المرأة. أخذت "نور" تشيد بجمال المكان حيث تتساقط خيوط أشعة الشمس على وجهها، ومع قدوم الجميع فوجئت باختفاء "أمينة" من جواري، على الرغم من تعطشها للقاء "قاسم أمين" أخذت أنظر في الجوانب كلها لم ألمح لها طيفًا. وقعت عيناي على رجل غريب طويل القامة وأسمر اللون، علامات الغضب تكسو وجهه ناظرًا لقاسم أمين نظرات حادة معلنًا فيها شن الحرب عليه وبدأ د. "عثمان" بالحوار وظل عقلي متسائلًا إلى أين اختفت "أمينة"؟! ومن هذا الرجل الغامض؟!

- دكتور حليم عثمان: بدأ حديثه بكلمات مليئة بالترحاب: الواقع أنه من دواعي السرور لقاؤنا اليوم بأهم رواد الفكر والتنوير في وطننا العربي، السيد "قاسم أمين"، والذي ارتبطت ريادته الفكرية بكتابه الشهير "تحرير المرأة" والذي تعرَّض لموجة عنيفة من الانتقادات يوجب علينا الوقوف في هذا اللقاء على بعض قضايا كتابك المثير للجدل، وسنبدأ بمحاولة توضح موقفك من إشكالية مساواة المرأة بالرجل؟ كان " قاسم أمين" يستمع بتركيز، وتبدو على وجهه علامات التأمل والتمعن، ويدرك أن كتابه أثارة الجدال بالأمس وسيثيره اليوم.  

- قاسم أمين: كم أنا سعيد بلاقي بكما د. "عثمان" ود. "راشد" والحضور الكريم، والحقيقة أن المرأة بالنسبة لي هي إنسان مثل الرجل، لا تختلف عنه في الأعضاء ووظائفها، ولا في الإحساس، ولا في الفكر، ولا في كل ما تقتضيه حقيقة الإنسان من حيث هو إنسان، اللهم إلَّا بقدر ما يستدعيه اختلافهما في الصنف. فإذا تفوق الرجل على المرأة في القوَّة البدنيَّة والعقليَّة؛ فذلك يرجع إلى اشتغاله بالعمل والفكر أجيالًا طويلة كانت المرأة فيها محرومة من استعمال القوَّتين البدنية والعقلية. (1)

 - لقد كان مرتديًا بدلة بيضاء، وفي يديه كتابه "تحرير المرأة" يخرج من وسطه وردة حمراء. وإذا بالرجل الغامض مقطب الحاجبين يبادر بالرد على "قاسم أمين" دون أن يعرب عن اسمه.

الرجل الغريب: في حديثك عن مساواة المرأة بالرجل أحب أن أوضح لك سيد "قاسم أمين" أن المرأة أقل من الرجل إدركًا وحسًّا؛ فقد أجمعت كل الشرائع المنزلة على ما سلم به الطبع والعقل من أن المرأة أضعف من الرجل وأقل منه في جميع الحيثيات جسمًا وإدراكًا، وعلى أن الرجال قوامون على النساء دون العكس. ولهم عليهن السيادة، ولهن منهم حسن المعاملة والرفق والمحبة والاحترام.... إن الدليل الحسي على ذلك هو وجود " المرأة من ابتداء الخليقة للآن تحت سيطرة الرجل يوجهها كيف يشاء، ويحكم عليها بما تقتضي ميوله (2).

- د. نجيب راشد: للأسف الشديد اعتمد الذكور على التأويل الخاطئ للنص الديني الذي يرفع من شأن الذكور على الإناث، ففي قوله - تبارك وتعالى- : "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء..." [سورة النساء، من الآية 34] استندت أنت وغيرك من الذكور في مجتمعاتنا الشرقية على نص الآية الكريمة؛ لفرض الهيمنة والتّحكم في الزوجات، في حين تعد القوامة تكليفًا وليست تشريفًا لجنس الرجال. ولكننا نود التعرف بك.

- أنه حضرة المحترم "السيد أحمد عبد الجواد" جاء ليعرب عن رفضه القاطع لأطروحة "قاسم أمين"، يبدو لي أن آراءه " تحمل نفس آراء منتقدي "قاسم أمين" ك"فريد أفندي" و"طلعت حرب" ..إلخ.

- نور الهدي: إنكار مساواة المرأة بالرجل سيترتب عليه رفض تعليمها، مع أن التعليم يزيد من معارف الفرد، ويحسن مهاراته بحيث يتصرف بأسلوب ذات طابع عقلاني يتصف بالموضوعية سواء في الحياة العائلية أو العملية. فما رأي "مفكرنا حول قضية تعليم المرأة؟

- قاسم أمين: أوافقك أستاذة "نور" ففي رأيي أن المرأة لا يمكنها أن تدير منزلها إلَّا بعد تحصيل مقدار معلوم من المعارف العقليَّة والأدبيَّة. فيجب أن تتعلَّم كل ما ينبغي أن يتعلَّمه الرجل من التعليم الابتدائي على الأقل؛ حتى يكون لها إلمام بمبادئ العلوم يسمح لها بعد ذلك باختيار ما يوافق ذوقها منها، وإتقانه بالاشتغال به متى شاءت. فإذا تعلمت القراءة والكتابة، واطلعت على أصل الحقائق العلمية، وكذلك معرفتها بالعقائد والآداب الدينية استعدَّ عقلها لقبول الآراء السليمة، وطرح الخرافات والأباطيل التي تفتك الآن بعقول النساء. (1)

-  على الرغم أن "قاسم أمين" لم يطالب بالمساواة المطلقة بين المرأة والرجل في التعليم، وإنما حصولها على التعليم الابتدائي؛ حتى يتثنى لها إدارة شؤون منزلها، إلا إنني لاحظت بلوغ الغضب ذروة عنفوانه على وجهة "سي السيد" متحدثًا بصوت متسلط يفتقر للدفء.

- سي السيد: في حين إنني أخالفك أشد المخالفة، إن تعليم المرأة لا ينفع إلا إذا كان في مقدمة تعليم العلوم الدينية بما فيها من عقائد وآداب ومعاملات وعبادات، وأن يتعوَّد الأطفال منذ بدء نشأتهم على التمسك بها. فالأولوية للعلوم الدينية، أما تعليم العلوم العقلية لا يلزم أن يكون إلا مجملًا مختصرًا حتى لا يقعدهم عن إتقان العلوم الدينية.(2)

- الواضح اتفاقكما حول تعليم المرأة، حيث أراد "قاسم أمين" إلمام المرأة بالتعليم الابتدائي من تعلم القراءة والكتابة، ومعرفة الحقائق العلمية بجانب العقائد الدينية، ولكن قصر "سي السيد" تعليمها العلوم الدينية فحسب من أجل تنشئة وتربية الأطفال على تعاليم الدين القويم، أخذت التساؤلات تتبادر إلى ذهني حول قصر تعليم المرأة العلوم الدينية أليست المرأة نصف المجتمع، والأم التي تعد أجيال المستقبل؟ فكيف لها أن تنشئ أبناءها على قيم العصر إذا كان تعليمها قاصرًا على العلوم الدينية فحسب؟ ألا يؤثر ذلك سلبًا على مستقبل مجتمعاتنا العربية وتطلعاتنا نحو الرقي والتقدم خاصة اليوم في ظل عصر التكنولوجيا والثورة المعرفية؟

وإذا تنقلنا صديقتي نور إلى إشكالية الوظيفة الاجتماعيَّة للمرأة بطرح تساؤل لقاسم أمين حول موقفه من عمل المرأة؟

- قاسم أمين: لا شيء يمنع المرأة المصريَّة من أن تشتغل مثل الغربيَّة بالعلوم والآداب والفنون الجميلة والتجارة والصناعة إلَّا جهلها وإهمال تربيتها، ولو أُخِذَ بيدها إلى مجتمع الأحياء، ووُجِّهت عزيمتها إلى مجاراتهم في الأعمال الحيويَّة، واستعملت مداركها وقواها العقليَّة والجسميَّة لصارت نفسها حيَّة فعَّالة تنتج بقدر ما تستهلك، لا كما هي اليوم عبئًا لا تعيش إلَّا بعمل غيرها. وكان ذلك خيرًا لوطنها لما ينتج عنه ازدياد الثروة العامَّة والثمرات العقليَّة فيه. (1)

- ولكنني عالمنا الجليل كنت أود في كتابك تحرير المرأة أن تعود لوظائف المرأة الاجتماعية في حضاراتنا الفرعونية بدلًا من التركيز على نموذج المرأة في المجتمعات الغربية، وها هو سي السيد يقاطعني بملامح يخيم عليها القسوة.

- سي السيد: أنني أرفض رفضًا قاطعًا عمل المرأة خارج المنزل؛ لأن وظيفتها منزلية محضة، وأن اشـتـغـالـهـا خـارج بيـتـهـا خلل اجـتـمـاعي خطير، بخلاف الرجل فـإن حـيـاته تقتضي المحاولات الخـارجـيـة؛ لأنه سيبعدها عن عائلتها، وتقويض دعائم بيتها، لأن تكوينهـا البيولوجي ضعيف، فعملها خارج المنزل يشكل نوعًا من الاستعباد للمـرأة؛ لأنه ضـد فطرتها. (3) أما حديثك بأن تشتغل المرأة الشرقية مثل النابغات من النساء بأوروبا وأمريكا في العلوم الطبيعية والفلكية، فإنهن فضلًا عن كونهن أقل إدراكا وحسًّا، ولم يبلغن شأن الرجال فيها على الإطلاق إلى جانب عدم الزواج إلا بعد أن يشارفن سن الهرم تقريبا لا تتزوج قبل أن يبلغ سنها الخامسة والأربعين. فقل لي بأبيك: ماذا ينتظر منها من النسل بعد هذا السن؟!، وهل يستفيد الوطن من أبحاثها في علم الطبيعة أو السياسة أو التشريع. إنني لا أسر إذا كانت امرأتي دكتورة؛ فإني أود أن تكون المرأة مرأة (2) .

- قاسم أمين: ولكن حضرة المحترم "سي السيد" أن الوقائع أظهرت لنا أن كثيرًا من النساء لا يجدن من الرجال مَن يعولهن؛ فالبنت التي فقدت أقرباءها، ولم تتزوَّج، والمرأة المطلَّقة، والأرملة التي تُوفيِّ زوجها، والوالدة التي ليس لها أولاد ذكور أو لها أولاد قصر- كل هذه المذكورات- يحتجن إلى التعليم؛ ليمكنهنَّ القيام بما يسدُّ حاجتهن وحاجات أولادهنَّ إن كان لهنَّ أولاد، أمَّا تجرُّدهنَّ عن العلم؛ فيلجئهن إلى طلب الرزق بالوسائل المخالفة للآداب، أو إلى التطفُّل على بعض العائلات الكريمة. ولو فُرِض أن المرأة لا تخلو من زوج أو ولي ينفق عليها أفلا تكون التربية ضرورية لمساعدة ذلك العائل إن كان فقيرًا، أو تخفيف شيء من انتقال إدارة المال داخل البيت إن كان غنيًّا؟ فإن كانت المرأة غنيَّة بنفسها- وهو نادر- بأن كان لها إيراد من عقارات ونحوها أفلا يفيدها التعليم في تدبير ثروتها وإدارة شؤونها؟! (1).

- د. حليم عثمان: أؤيد رأي "قاسم أمين" عن عمل المرأة؛ فكما أن للمرأة دورًا مهمًّا في حياتها المنزلية والعائلية إلا إن هذا لا يلغي دورها الاجتماعي في إدارة المجتمع وتحمل شؤونه، خاصة وقد أصبح عمل المرأة اليوم ضرورة من ضروريات الحياة في ظل صعوبة الحياة الاقتصادية والاجتماعية في مجتمعاتنا الشرقية.

- د.نجيب راشد: ولكن شرط أن تسعى كل امرأة عاملة لإمكانية التوفيق بين العمل والحياة الشخصية والأسرية.

- نور الهدى: من أجل ذلك "د. راشد" لابد من دعم الأزواج لزوجاتهم؛ لتخفيف الأعباء المنزلية وعدم التمسك بالتقاليد والأعراف البالية التي ثقل كاهل المرأة بوصف العمل المنزلي خاصًّا بالنساء فقط.

- د. حليم عثمان: لقد كان حديثنا السابق مثمرًا للغاية، ولكن أرى استكماله في لقاءٍ آخر ، خاصة وأننا سنتحدث عن إشكالية الزواج وقضية تعدد الزوجات، وهذا يستلزم متسعًا من الوقت.

- د.نجيب راشد: هذه فرصة سعيدة أغتنمها لأدعو مفكرنا العزيز، والحضور الكرام كافة إلى حفل زفاف ابن عمي المقام في محافظة الأقصر. وسيكون هذا العرس مناسبة لقيام قاسم أمين بزيارة مدينتي.

–في إثر استجابة الجميع لدعوة "د.راشد"، أرى تعبيرات مبهمة على وجه "سي السيد"، أخذت أتسال ما يشغل باله؟ هل حضر لمعرفته بقدوم زوجته معنا؟ وإن كان كذلك، ماذا سيفعل معها؟ لا أستطيع أن أتصور كيف يمكن أن تحيا السيدة "أمينة" - وغيرها من النساء- مع مثله من الرجال؟!، فكل تصرفاته تفيض بالنرجسية والتسلط، عبوسه المستمر ينم عن طبيعته القمعية والاستبدادية.

قبيل مغادرة "قاسم أمين" اتجه إلىّ وأعطاني الكتاب، وبداخله الوردة الحمراء، قائلاً لي: "هذا لك حتى تكملي المسير، ولكن لابد أن تراعي اللاند سكيب أثناء مناقشة قضايا المرأة مع مفكري الفكر والتنوير.

***

د. آمال طرزن

.....................

 (1) قاسم أمين: تحرير المرأة ص17.

(2) محمد طلعت حرب: تربية المرأة والحجاب، ط1،مطبعة الترقيب، بمصر، 1899م ، ص 11- 13.

(1) قاسم امين: تحرير المرأة ، مرجع سابق ،ص18.

(2) محمد طلعت حرب: مرجع سابق، ص 58.

(1) قاسم امين: تحرير المرأة ،مرجع سابق، ص18.

(3) أحمد محمد احمد سالم المرأة بين قاسم أمين وناقديه الوعي الإسلامي وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية 2003 ص74 .

(2) محمد طلعت حرب: مرجع سابق، ص 16.

(1) قاسم أمين: تحرير المرأة ص19.

نسوية شرقية

 

بقلم: بنيامين سانتوس جينتا

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تشكل الاستعارات، المتغلغة في نسيج اللغة، كيفية فهمنا للواقع. ماذا يحدث عندما نحاول استخدام أشياء جديدة؟

"اللغة هي الشعر الأحفوري. كما أن الحجر الجيري في القارة يتكون من كتل لا نهائية من أصداف الكائنات الحيوانية، فإن اللغة تتكون من صور،أو مجازات، والتي الآن، في استخدامها الثانوي، توقفت منذ فترة طويلة عن تذكيرنا بأصلها الشعري."

– من مقالة “الشاعر” (1844) للكاتب رالف والدو إيمرسون

"الاستعارات... تصبح ألفاظا عادية مع تراجع حداثتها."

– من كتاب لغات الفن (1976) لنيلسون جودمان

إذا كان رالف والدو إيمرسون على حق في أن «اللغة هي الشعر الأحفوري»، فإن الاستعارات تمثل بلا شك جزءًا كبيرًا من هذه البقايا اللغوية. تم العثور على مثال أحفوري لغوي محفوظ جيدًا بشكل خاص في البرنامج التلفزيوني الساخر Veep: بعد إجراء مقابلة ناجحة تهدف إلى صرف انتباه الجمهور عن أزمة دبلوماسية محرجة، نائب الرئيس الأمريكي - الذي صورته جوليا لويس المتميزة -دريفوس - تعلق على موظفيها: "لقد لفظت الكثير من الهراء، وسأحتاج إلى النعناع"

عند استخدامها بشكل صحيح، تعمل الاستعارات على تحسين اللغة. لكن جرعات التوابل المجازية في طبق اللغة بشكل صحيح ليست بالمهمة السهلة. "يجب ألا تكون بعيدة المنال، وإلا سيكون من الصعب فهمها، أو واضحة، أو لن يكون لها أي تأثير"، وقد لاحظ أرسطو هذا منذ ما يقرب من 2500 سنة. لهذا السبب، يُفترض عمومًا أن الفنانين - أولئك الذين ينقلون الخبرة بشكل ماهر - هم أكثر مستخدمي الاستعارة مهارة، وخاصة الشعراء والكتاب.

لسوء الحظ، من المحتمل أن هذا الارتباط بالفنون هو الذي أعطى الاستعارات سمعة من الدرجة الثانية بين العديد من المفكرين. الفلاسفة، على سبيل المثال، اعتبروها تاريخيًا استخدامًا غير لائق للغة. وما تزال هناك نسخة من هذا الفكر تتمتع بنفوذ كبير في العديد من الدوائر العلمية: إذا كان ما نهتم به هو المحتوى الدقيق للجملة (كما نفعل غالبًا في العلوم)، فإن الاستعارات ليست سوى إلهاء.وعلى نحو مماثل، إذا كان ما يهمنا هو تحديد مدى القيمة الغذائية لوجبة ما، فإن عرضها على الطبق لا ينبغي أن يحدث أي فرق في هذا الحكم - بل قد يؤدي إلى تحيزنا.

في النصف الثاني من القرن العشرين، بدأ بعض العلماء (وخاصة أولئك الذين لديهم استعداد نفسي) في قلب هذا التفكير رأسًا على عقب: فقد تحولت الاستعارات ببطء من كونها أدوات غير مناسبة ولكن لا مفر منها للغة إلى بنية تحتية أساسية لنظامنا المفاهيمي.

وفي المقدمة كان اللغوي جورج لاكوف والفيلسوف مارك جونسون. في كتابهما المؤثر "الاستعارات التي نحيا بها" (1980)*، ذكرا أن "معظم نظامنا المفاهيمي العادي هو مجازي بطبيعته". ما يقصدانه بهذا هو أن نظامنا المفاهيمي يشبه الهرم، مع العناصر الأكثر واقعية في القاعدة. بعض الألفاظ الممثلة لهذه المفاهيم الأساسية الملموسة (أو "الحرفية") هي تلك الخاصة بالأشياء المادية التي نواجهها في حياتنا اليومية، مثل مفاهيم الصخور والأشجار. تقوم هذه المفاهيم الملموسة بعد ذلك بترسيخ البناء المجازي لمفاهيم أكثر تجريدًا في أعلى الهرم.

يبدأ لاكوف وجونسون من ملاحظة أننا نميل إلى الحديث عن المفاهيم المجردة بقدر ما نتحدث عن المفاهيم الملموسة. على سبيل المثال، نميل إلى الحديث عن الأفكار (مفهوم مجرد لا يمكننا ملاحظته بشكل مباشر) بنفس اللغة التي نستخدمها عندما نتحدث عن النباتات (مفهوم ملموس له العديد من الخصائص التي يمكن ملاحظتها). يمكننا أن نقول عن فكرة مثيرة للاهتمام إنها "مثمرة"، وأن أحدًا "زرع" فكرة في رؤوسنا، وأن الفكرة السيئة "ماتت على الكرمة".

إن الهدف من الجدال في إطار "الرقص" لن يكون "الفوز به" بل إنتاج منتج نهائي مرضي.

لا يقتصر الأمر على أننا نتحدث بهذه الطريقة فحسب: بل يقودنا لاكوف وجونسون إلى  الفهم الحقيقي والتوصل إلى استنتاجات حول المفهوم (المجرد) لفكرة ما من فهمنا الملموس أكثر للمفهوم (الملموس) للنبات. وخلصا إلى أننا نضع في اعتبارنا الاستعارة المفاهيمية "الأفكار هي النباتات".(بعد التقليد، سأستفيد من الاستعارة المفاهيمية، حيث يأتي المفهوم المجرد أولاً ويتم تنظيمه بواسطة الثاني.)

يشرح لاكوف وجونسون هذا الأمر بشكل أكبر من خلال المثال التالي. في اللغة الإنجليزية، عادة ما يتم بناء المفهوم المجرد للحجة بشكل مجازي من خلال المفهوم الأكثر واقعية للحرب: نقول إننا "نفوز" أو "نخسر" الحجة؛ إذا اعتقدنا أن الشخص الآخر يتحدث هراء، فإننا نقول إن ادعاءاته "لا يمكن الدفاع عنها"؛ وقد نلاحظ "خطوط ضعف" في كلامه. تأتي هذه المصطلحات من فهمنا للحرب، وهو مفهوم مألوف لدينا بشكل لافت للنظر.

إن حداثة اقتراح لاكوف وجونسون لا تكمن في ملاحظة انتشار اللغة المجازية في كل مكان، بل في التأكيد على أن الاستعارات تذهب إلى ما هو أبعد من الكلام غير الرسمي: "إن العديد من الأشياء التي نقوم بها في الجدال يتم تنظيمها جزئيًا وفقًا لمفهوم الحرب". يقترح استعارة مفاهيمية أخرى، الحجة هي رقصة. من المؤكد أن الرقص أكثر تعاونية من الحرب - والهدف، في هذا الإطار، لن يكون "الفوز" به، بل إنتاج منتج نهائي مرضي أو أداء يستمتع به الطرفان. ستكون ديناميكيات كيفية تفكيرنا في الحجج ضمن هذا الإطار مختلفة تمامًا. وهذا يسلط الضوء على دور الاستعارة في خلق الواقع بدلا من مجرد المساعدة في تمثيله.

ومن ثم يبدو أن الاستعارات توفر الأساس لكيفية تصورنا للمفاهيم المجردة (وبالتالي الكثير من العالم).ومع ذلك، فإن الاستعارة الواحدة لا تبني سوى مفاهيم معقدة بشكل جزئي، وعادة ما يتم استخدام المزيد منها. خذ مفهوم الحب الرومانسي. إن الاستعارة المفاهيمية واسعة الانتشار في مختلف اللغات هي الحب الرومانسي عبارة عن رحلة. من الشائع أن نقول إن العلاقة "على مفترق طرق" عندما يتعين اتخاذ قرار مهم، أو أن الناس "يذهبون في طريقهم المنفصل" عندما ينفصلون. (تعد قصيدة تشارلز بودلير التي كتبها عام 1857 بعنوان "دعوة إلى رحلة" مثالا بارزا على هذه الاستعارة المفاهيمية، حيث يدعو المتحدث المرأة إلى رحلة مجازية وحقيقية على حد سواء). مرة أخرى، هذه الأفكار المجازية لها تأثير كبير على كيفية تصرفنا في العلاقة: لولا فكرة وجود مفترق طرق في علاقتي، ربما لم أكن لأفكر في الحاجة إلى محادثة جادة مع شريكي حول وضعنا.

لكن الحب، المهم جدًا لحياة الإنسان، منظم جزئيًا من خلال استعارات أخرى لا حصر لها. وهناك اتجاه آخر - ربما تحجر في قصيدة أوفيد التي تحمل نفس العنوان - وهو الحب الرومانسي هو الحرب. من الشائع أن نقرأ أن أحد الطرفين "ينتصر" على الآخر أو "يكسب الأرض" من شريك متردد في البداية، وأن يد أحد الطرفين قد "تفوز" بالزواج. (من خلال هذا المثال بالفعل، نرى أن الأطر المجازية المنتشرة في كل مكان يمكن أن يكون لها دلالات معادية للنساء بشكل غير دقيق).

إلى السؤال الأبدي "ما هو الحب؟" »، فإن نظرية الاستعارات المفاهيمية لها إجابة: مجموعة الاستعارات المستخدمة لتصوريه. الحب هو رحلة والحب هو الحرب هما مثالان من هذه المجموعة التي تسلط الضوء وتخلق جوانب مختلفة لمفهوم الحب.

يعلم كل متحدث أن اللغة التي نستخدمها مهمة وأن هناك تفاعلات معقدة بين اللغة التي نتحدث بها والأفكار التي نفكر بها. تدعم الدراسات التجريبية هذا الحدس: عندما يحمل الناس استعارات مفاهيمية مختلفة في أذهانهم، فإنهم يميلون إلى اتخاذ قرارات مختلفة في نفس السياق (مؤشر معقول على أنهم يحملون مفاهيم مختلفة).

تؤثر الاستعارات على الآراء، بما في ذلك كيفية رؤية الناس لتغير المناخ أو الشرطة

في إحدى هذه الدراسات،  عُرض تقرير على مجموعتين الناس حول ارتفاع معدل الجريمة في المدينة. تلقت إحدى المجموعتين تقريراً بدأ بعبارة "الجريمة فيروس يخرب المدينة"، فيما تلقت المجموعة الأخرى تقريراً بدأ بـ "الجريمة وحش يفترس المدينة". وهكذا كانت المجموعتان مستعدتين لبناء مفهوم الجريمة مجازيًا بمفهومين مختلفين: الفيروس أو الوحش. ثم سُئلوا عن التدابير التي سينفذونها لحل مشكلة الجريمة. وكان أولئك الذين استعدوا لاستخدام الاستعارة المفاهيمية "الجريمة وحشية" أكثر ميلاً إلى التوصية باتخاذ تدابير عقابية، مثل زيادة قوة الشرطة وسجن المجرمين (تماماً كما قد يضع المرء وحشاً في قفص). وكان أولئك الذين كانوا على استعداد لاعتبار الجريمة فيروساً يميلون إلى اقتراح تدابير مرتبطة بعلم الأوبئة: احتواء المشكلة، وتحديد السبب وعلاجه، وتنفيذ الإصلاحات الاجتماعية. والمثير للدهشة أن المشاركين لم يكونوا على دراية بتأثير هذه الأطر المجازية على خياراتهم. عندما سُئلوا عن سبب اختيارهم للحلول التي قاموا بها، حدد المشاركون "بشكل عام إحصاءات الجريمة، التي كانت هي نفسها لكلا المجموعتين، وليس الاستعارة، على افتراض أنها الجانب الأكثر تأثيرًا في التقرير".

ليست الجريمة حالة شاذة: تشير الدراسات ذات السياقات المشابهة بقوة إلى أن اختيار الاستعارات المفاهيمية يؤثر بشكل كبير على آراء الأفراد وقراراتهم في مجموعة متنوعة من البيئات. وتشمل هذه، من بين أمور أخرى، كيفية رؤية الناس للتهديد الذي يشكله تغير المناخ، ومواقفهم تجاه الشرطة واتخاذهم للقرارات المالية.

إن أهمية الاستعارات والتفكير التشبيهي تكون أكثر وضوحًا عند الأطفال. وبقيادة عمل العلماء المعرفيين ديدري جينتنر وكيث هوليواك، أصبحت دراسة الاستدلال التشبيهي الآن برنامجًا بحثيًا مزدهرًا. هناك أدلة كثيرة على أهمية استخدام التشبيه في نمو الأطفال؛ تشير الدراسات إلى أن التفكير العلائقي – الضروري لإجراء التشبيهات – يتنبأ بدرجات اختبار الأطفال ومهارات التفكير المنطقي. على الرغم من أن العديد من هذه الدراسات لم يتم تكرارها بعد، يبدو أن الاستعارات تشكل الدماغ حرفيًا.

وليس من المبالغة أيضًا أن نقول إن الاستعارات تدعم العلم، ذلك النظام المفاهيمي لتنظيم المعرفة. في كتابه "القطبية والقياس" (1966)، وهو دراسة رائعة لاستخدام التشبيهات والاستعارات في العلوم اليونانية القديمة، يقدم المؤرخ السير جيفري لويد حجة مقنعة لأهمية التشبيهات في توجيه الفكر العلمي المبكر. على سبيل المثال، يسلط لويد الضوء على كيف ساهمت التشبيهات مع المنظمات السياسية في تشكيل وجهات النظر حول الكون. كان النهج اليوناني القديم النموذجي لتفسير الكون يتضمن افتراض المواد الأساسية ثم شرح كيفية تفاعلها. (اقترح إمبيدوكليس أن المواد الأساسية الأربعة هي النار والهواء والماء والأرض). وللمساعدة في تحديد العلاقات بين المواد، كان هؤلاء العلماء القدماء يستشهدون بأنظمتهم السياسية. إحدى الاستعارات المفاهيمية البارزة المستخدمة هي أن الكون ملكي، حيث تتمتع مادة واحدة بسلطة عليا على المواد الأخرى. وما تزال هذه اللغة تُستخدم في الفيزياء الحديثة عندما نسمع أن قوانين الكون تحكم عالمنا. هناك استعارة مفاهيمية سائدة أخرى وهي أن الكون ديمقراطية؛ وهذا التأطير، الذي لم يظهر إلا بعد تأسيس الديمقراطية في أثينا، يرى أن المواد الأساسية متساوية في المرتبة وتعمل بنوع من التتوافق فيما بينها.

هذا الاستخدام للاستعارات السياسية ليس مجرد أسلوبية. يكتب لويد أنه «مرارًا وتكرارًا، في عصر ما قبل سقراط وأفلاطون، كانت طبيعة العوامل الكونية، أو العلاقات بينها، تُفهم من حيث الوضع الاجتماعي أو السياسي الملموس.» من وجهة نظر نظرية الاستعارة المفاهيمية، فإن هذا منطقي: لاستيعاب مفهوم جديد ومجرد وغير مرئي (المواد الأساسية للكون)، فمن الطبيعي أن يقارنه هؤلاء المفكرون بالظواهر التي لديهم خبرة مباشرة بها (تنظيماتهم السياسي).

إن الاستعارات والتشبيهات ليست مجرد مسكوكات من صنع العلم القديم، ولكنها أيضًا أدوات حيوية للأوركسترا العلمية المعاصرة. فهي تساعد في صياغة وتأطير النظريات: إن الاستعارات السياسية، التي لا تختلف عن تلك التي استخدمها اليونانيون القدماء، شائعة في علم الأحياء الحديث، الذي يعج بلغة "الهيئات التنظيمية" ــ في استحضار الهيئات التنظيمية الموجودة الآن في الحكومات الحديثة. تسلط هذه الاستعارات الضوء على الضوابط والتوازنات الموجودة داخل الأنظمة البيولوجية المعقدة، بالتوازي مع الطريقة التي تحافظ بها الهيئات التنظيمية الحكومية على النظام في المجالات الخاصة بها. الاستعارات العسكرية شائعة أيضًا: حيث يتم تأطير الجهاز المناعي بشكل متكرر كجيش يحمي الجسم من مسببات الأمراض "الغازية". غالبًا ما تُشبه الممرات الفلزية أيضًا بالطرق السريعة، المجهزة بـ "الطرق الالتفافية"، والتي تواجه أحيانًا "حواجز الطرق" أو "حركة المرور"، كما لاحظت الفيلسوفة لورين روس**.

تعتبر التشبيهات ضرورية أيضًا لتوليد فرضيات جديدة (ما يمكن أن نطلق عليه الإبداع العلمي). ومن الأمثلة البارزة على ذلك فكرة تشارلز داروين عن الانتقاء الطبيعي، والتي توصل إليها من خلال تشبيهها بالممارسات الانتقائية للمزارعين. وبشكل عام، يمكن صياغة هذا التشبيه على النحو التالي: تختار الطبيعة الكائنات الحية من أجل اللياقة بنفس الطريقة التي يختار بها المزارعون أفضل المحاصيل من حيث المذاق ومقاومة الأمراض والصفات الأخرى.

ونظرًا لطبيعة عقولنا المجازية، فمن الجدير أن نسأل: هل استعاراتنا التصويرية مناسبة؟ نحن مدينون لأنفسنا وللآخرين بالتفكير في مدى ملاءمة الاستعارات التي نستخدمها لتأطير العالم. وهذه الاختيارات -سواء كانت واعية أم لا- يمكن أن تكون بناءة أو كارثية.

خذ بعين الاعتبار الخطاب المجازي بين الأطباء والمرضى في رعاية مرضى السرطان. تشكل هذه المحادثات الطريقة التي يحكم بها المرضى على تجربتهم الخاصة، وبالتالي تؤثر حتماً على صحتهم. استعارات الحرب موجودة في كل مكان، والتي تقول الكثير عن ثقافتنا. ومن غير المستغرب أن لا تختلف رعاية مرضى السرطان عن ذلك: فغالبًا ما يقال إن المرضى "يخوضون معركة" مع السرطان ويتم الحكم عليهم على "روحهم القتالية".ومع ذلك، تشير الأبحاث إلى أن هذا التشبيه التصويرى يسبب ضررا حقيقيا لبعض المرضى. على سبيل المثال، خلص طبيب الرعاية التلطيفية/ التخفيفية في جامعة ستانفورد، فيجيانثي بيرياكويل، إلى أن "اختيار رفض خيارات العلاج عديمة الفائدة أو الضارة يرقى الآن إلى مستوى الانسحاب الجبان من "ساحة المعركة" الذي يمكن اعتباره عملاً مخزيًا من جانب المريض". وبعبارة أخرى، فإن المريض الذي يشعر بالقلق بالفعل من الموت بسبب المرض قد يشعر بالمزيد من العار ــ غير الضروري والقاسي ــ لعدم الاستمرار في "القتال".

تشير مقالة مراجعة كتبها طبيب أورام تحث الممرضات والأطباء على إعادة التفكير في فائدة هذا الاستعارة العسكرية. البديل المقترح هو استخدام الاستعارة التصويرية "السرطان رحلة" لوصف تجربة المريض. إن إعادة صياغة مفهومه بهذه الطريقة تؤدي إلى أفكار مختلفة: السرطان ليس معركة يجب التغلب عليها، بل هو طريق فردي وفريد يجب اتباعه؛ إن تجربة المرض ليست شيئاً ينتهي (كما هو الحال غالباً مع الحرب) بل هي عملية مستمرة لا تنتهي (مع زيارات دورية إلى المستشفى لمراقبة أي تكرار).

يجب اختبار أى إعادة تشكيل استعارة تصويرية مقترحة لمعرفة ما إذا كانت تعمل بشكل أفضل من الإطار السابق. يبدو أن هذا هو الحال بالنسبة لاستعارة الرحلة: المرضى الذين أعادوا صياغة تجربتهم مع السرطان بهذه الطريقة كان لديهم نظرة أكثر إيجابية، وزيادة في الرفاهية بشكل عام، ونمو روحاني. (أظن أن تحولًا مماثلاً في العقلية من شأنه أن يفيد كثيرًا الأشخاص الذين يعانون من مشكلات الصحة العقلية والأمراض المزمنة، نظرًا لأن هذه كيانات أقل وضوحًا تحتاج إلى "محاربتها"، ولكنها بالأحرى تجارب يجب على المرضى التعايش معها، في كثير من الأحيان لبقية حياتهم.)

ومن المعروف أيضًا أن استعارة الحرب تزيد من المشاعر العنصرية، وهو أمر رأيناه خلال الوباء

من الضروري أن نكون واضحين عند كلا الطرفين اللغويين (المريض والطبيب، وبشكل عام غير الخبير والخبير) حول الاستعارات المستخدمة لتصور المرض: يتحدث محاوران عما يعتقدان أنه نفس المفهوم، ولكن كل منهما يضع هذا المفهوم في إطار استعارة مختلفة، فهذه وصفة واضحة لسوء الفهم. ومن ثم يكون الافتقار إلى التواصل مؤلمًا، خاصة عندما يعاني أحد الطرفين من مرض يستهلك بعمق كل جانب من جوانب كيانه.

ويجب علينا أيضاً أن نتساءل عن الإطار المجازي الحالي للتحديات الاجتماعية المعقدة ــ حذر الخبير الاقتصادي بول كروجمان في صحيفة نيويورك تايمز في عام 2010 من أن "الاستعارات السيئة تؤدي إلى سياسة سيئة". ولعنا نعد  جائحة كوفيد-19 مثالا على ذلك: فالممارسة طويلة الأمد لاستخدام استعارات الحرب للحديث عن الأوبئة كانت اتجاهًا لوحظ مع تفشي فيروس كورونا أيضًا. وتضمنت العبارات الشائعة "الممرضات في الخنادق"، والنظر إلى العاملين في مجال الرعاية الصحية على أنهم  "خط الدفاع الأول"، وإعلان السياسيين أن الأمة في "حرب" ضد عدو غير مرئي.

للوهلة الأولى، قد تبدو استعارات الحرب وكأنها تنقل خطورة الوضع وتحشد الناس للعمل. ولكن في مثل هذه الحالات من المهم النظر في العواقب غير المقصودة لاختيار إطار مجازي. فالحرب، على سبيل المثال، تتطلب عمومًا تعبئة وطنية مكثفة للعمل، في حين تتطلب الأوبئة من غالبية السكان البقاء في منازلهم وعدم القيام بأي شيء. ومن المعروف أيضًا أن استعارة الحرب تزيد من المشاعر العنصرية، وهو أمر رأيناه خلال جائحة كوفيد-19.

وكبديل لهذا، اقترح بعض اللغويين أن الاستعارة الأكثر ملاءمة هي إعادة صياغة مفهوم الوباء على أنه حريق، لأن هذا يؤكد على إلحاح الأزمة الصحية وتدميرها، مع تجنب بعض عيوب استعارة الحرب. هذا لا يعني أنه من الخطأ أو غير الأخلاقي أن نأخذ في الاعتبار أن الوباء هو حرب - فمن الممكن أن يكون تأطير الحرب هو في الواقع الأفضل لتعبئة الناس وتحفيزهم على البقاء في منازلهم أثناء حالات الطوارئ الوبائية. بل النقطة المهمة هي أن معرفة مشاكله المحتملة يجب أن تدفعنا إلى استخدام الاستعارة مع احتياطات إضافية.

يجب أن يكون واضحًا أن قوة اختيار الاستعارة (الاستعارات) لتنظيم أفكارنا تجعل الأداة عرضة للاختطاف من قبل المحتالين والسياسيين لتحقيق أجندتهم الخاصة. على سبيل المثال، استخدم دونالد ترامب في عام 2017 نسخة من حكاية إيسوب عن المزارع والثعبان لتقديم المهاجرين بشكل مجازي في ضوء سلبي. تحكي الحكاية عن مزارعة، في طريق عودتها إلى المنزل، وجدت ثعبانًا متجمدًا ومريضًا. تشفق المرأة على المخلوق، وتعيده إلى المنزل وتدفئه وفي طريق عودتها من العمل في اليوم التالي، رأت أن الثعبان أصبح بصحة جيدة مرة أخرى. غمرتها الفرحة، فعانقت الثعبان.وعند ذلك يعضها الثعبان عضة قاتلة.وقبل أن تموت تسأله المزارعة الثعبان لماذا تفعل مثل هذا الشيء؛ يقول الثعبان، وهو لا يشعر بأي ندم: "كنت تعلمين جيدًا أنني كنت ثعبانًا قبل أن تأويني" .من خلال قراءة هذه القصة في خطاب، هيأ ترامب الجمهور لتصور أن المهاجرين ثعابين، والولايات المتحدة امرأة. وتقدم الفيلسوفة كاثرينا ستيفنز حجة مقنعة مفادها أن ترامب استخدم هذه الحكاية لدعم الاعتقاد بأن المهاجرين يشكلون تهديدا للأمن القومي (تماما كما يشكل الثعبان تهديدا للمرأة).

يمكن للاستعارات أيضًا إدامة لغة التجريد من الإنسانية التي تمهد الأسلوب التصويري لأسوأ أنواع الفظائع البشرية. أثناء الإبادة الجماعية في رواندا، لعبت المحطة الإذاعية الرئيسية في البلاد دوراً رئيسياً في تحديد الكيفية التي تنظر بها أغلبية الهوتو إلى أقلية التوتسي: فقد استخدموا بشكل متكرر الاستعارات لتجريد التوتسي من إنسانيتهم ــ ومن الأمثلة المعروفة تشبيه التوتسي بالصراصير. عندما تستوعب مثل هذا الاستعارة إلى درجة أنها تشكل المفهوم الذي لدى الناس عن مثل هذه المجموعة، فإنه يتبع ذلك على الفور تقريبًا أنهم سيرغبون في التخلص منهم (تمامًا كما يفعلون مع الصراصير الحقيقية). هذا ما حدث. إن القوة المخيفة بشكل خاص للاستعارات المجازية لا تتمثل في أن المجموعة يُنظر إليها بشكل غير مفضل ومن ثم، للتأكيد على وجهة النظر هذه، تتم الإشارة إليها من خلال استعارات تجرد الإنسان من إنسانيته. بل إن البناء المجازي المستخدم لتأطير مجموعة معينة في المقام الأول هو سبب رؤية المجموعة الأخرى لهم بهذه الطريقة. وكان لاكوف على حق عندما حذر من أن «الاستعارات يمكن أن تقتل».

لنفترض أننا لاحظنا أننا نحتضن مفاهيم تسبب أسسها المجازية الأذى. هل يمكننا حقًا إعادة بناء المفهوم بأساس مجازي مختلف؟ ويعتقد لاكوف وجونسون ذلك ــ وآمل أن يكونا على حق، حتى ولو لم يكن القيام بذلك بالمهمة السهلة.

الخطوة الأولى هي ملاحظة الاستعارة. وليس هذا واضحا دائما. إحدى الطرق لإعادة بناء جزء من تاريخ الفكر النسوي هي القول إن المفكرين اكتشفوا الاستعارة الخبيثة المتمثلة في تأطير النساء كأشياء في البنية المجازية للمجتمع الأبوي من حولهن. من بين أولئك الذين أشاروا إلى الاستعارة المجازية السائدة، "النساء أشياء"، كانت الناشطة النسوية أندريا دوركين، التي كتبت أن "التشييء يحدث عندما يصبح الإنسان... أقل من إنسان، ويتحول إلى شيء أو سلعة". على الرغم من وجود اعتراف في الخطاب المعاصر بأن هذا المفهوم منتشر على نطاق واسع (سواء بوعي أو بغير وعي)، إلا أنه في وقت كتابة "امرأة تكره" (1974)***، يؤكد دوركين صراحة على الحاجة إلى توعية الناس به.

إذا ما ذكرت الاستعارة التصويرية بوضوح، فإن الخطوة التالية هي شرح سبب كونها غير مرغوب فيها وتتطلب التغيير. فمع التشييء، تنشأ العديد من المشاكل الأخلاقية؛ وبشكل ملحوظ، يتم تقليل استقلالية المرأة، مما يسمح بديناميكية سلطة غير متوازنة. وهذا ضرر كبير يستوجب التعويض الحتمي. للرد، بحثت الكاتبات النسويات عن سبب هذا التصور المجازي وسعين– وما زالن يسعين – إلى تفكيكه. (تعتبر دوركين وزميلتها الناشطة النسوية كاثرين ماكينون أن المواد الإباحية هي السبب الرئيسي، على الرغم من أن هذا قد تم دحضه من قبل مفكرين آخرين).

الخطوة الأولى، المهمة للغاية هي أن ندرك أن المفهوم الذي لدينا مبني بشكل مجازي

كلما كانت الاستعارة متجذرة في النفس الجماعية، كان من الصعب استبدالها. ولكن حتى عندما تكون التغييرات الصغيرة متأصلة، فقد يكون لها في بعض الأحيان تأثيرات مهمة. أحد هذه التغييرات الطفيفة أجرته صحيفة الجارديان: في عام 2019، قاموا بتغيير دليل أسلوبهم لتقديم المشورة للمؤلفين لاستخدام مصطلح "أزمة" أو "طوارئ" بدلاً من "تغير المناخ".وبررت رئيسة التحرير كاثرين فاينر ذلك بالإشارة إلى أن اللغة الحالية تبدو "سلبية ولطيفة إلى حد ما عندما يكون ما يتحدث عنه العلماء بمثابة كارثة على الإنسانية". هذا النوع من التغيير في اللغة يمكن أن يغير ببطء كيفية فهم القراء لخطورة الوضع المناخي.

لا يزال هناك الكثير من الأبحاث التي يتعين القيام بها. كيف يمكننا معرفة ما إذا كانت الاستعارة المفاهيمية تؤدى الغرض المطلوب؟ ما هي الخصائص المشتركة بين الاستعارات المفاهيمية البديلة الجيدة؟ كيف يمكننا تفكيك الاستعارة الأساسية للمفهوم بنجاح؟ سيكون من الصعب علينا أن نحرر أنفسنا من بعض الاستعارات الضارة أكثر من غيرها؛ ومع ذلك، فإن الخطوة الأولى الأكثر أهمية هي أن ندرك أن المفهوم الذي لدينا يتم بناؤه بشكل مجازي. وفي كثير من الحالات، ينبغي أن يكون العثور عليها سهلا بالقدر الكافي: ففي نهاية المطاف، كما لاحظ الفيلسوف نيلسون جودمان، "تتخلل الاستعارة كل الخطاب، العادي والخاص،وسنواجه  صعوبة  شديدة للعثور على فقرة حرفية بحتة في أي خطاب"

تُنسج الاستعارات (مجازيًا) في نسيج لغتنا وفكرنا، وتشكل طريقة فهمنا للمفاهيم المجردة والتعبير عنها. ولذلك ينبغي لنا أن نشعر بالحرية في استكشاف الاستعارات البديلة بحذر والحكم على ما إذا كانت تعمل بشكل أفضل. إن الجهد الجماعي لملاحظة وتغيير الاستعارات التي نستخدمها له إمكانات هائلة للحد من الضرر الفردي والمجتمعي.

(تمت)

***

.....................

المؤلف: بنيامين سانتوس جينتا / Benjamin Santos Genta  يدرس للحصول على  الدكتوراه في قسم المنطق وفلسفة العلوم في جامعة كاليفورنيا، إيرفين.

* الاستعارات التي نحيا بها /Metaphors We Live By: وكتاب من تأليف جورج لاكوف ومارك جونسون نُشر عام 1980. يقترح الكتاب أن الاستعارة هي أداة تمكن الناس من استخدام ما يعرفونه عن تجاربهم الجسدية والاجتماعية المباشرة لفهم أشياء أكثر تجريدًا مثل العمل والوقت والنشاط العقلي والمشاعر.

Polarity and analogy: two types of argumentation in early Greek thought / by G.E.R. Lloyd.

Lloyd, G. E. R. (Geoffrey Ernest Richard), 1933-

Cambridge: University Press; 1966

** لورين .إن .روس / lauren n. ross أستاذ مشارك في قسم المنطق وفلسفة العلوم في جامعة كاليفورنيا، إيرفين.

*** تدرس دوركين مكانة المرأة وتصويرها في القصص الخيالية والمواد الإباحية (مع التركيز على الروايات المثيرة الفرنسية Story of O وThe Image والمجلة Suck). ثم تنظر بعد ذلك في الممارسات التاريخية لربط القدم الصينية وحرق الساحرات الأوروبية في العصور الوسطى من منظور نسوي جذري.

رابط المقال:

https://aeon.co/essays/how-changing-the-metaphors-we-use-can-change-the-way-we-think

وكما تستعملها الاوساط الاخرى

قبل الخوض في تعريف الثقافة culture نقول: ان معظم المحاولات التي بذلت لتفسير النمط الثقافي العام بدأت بما يسمى بالوحدة النفسية لبني البشر[2]، أي ان جميع الشعوب المعاصرة تتشابه في الجوانب الاساسية من تركيبها وتجهيزها النفسيين فضلا عن وجود اوجه شبه كثيرة بين ثقافاتها كامتلاك كل ثقافة لغة ومراسيم الجنازات والزواج و...، وذلك بصرف النظر عن الفروق الجسمية والجغرافية القائمة بينها  .

وهناك عدة عوامل لعبت دورا مهما في تشابه هذه الثقافات منها انتقال الثقافات عن طريق الهجرة وكذلك عن طريق الاحتكاك والاقتباس.

اما الفروق الثقافية بينها فتعود[3] إلى ان الكائنات البشرية رغم التشابه الاساسي بينها، فإنها تستجيب للمنبهات او الظروف المختلفة بطرق متفاوتة. كما يجب ان لا ننسى ان جميع الثقافات تتشابه لان هناك مجموعة من الدوافع الفطرية المتماثلة والتي تحفز الناس في كل مكان على العمل وتوجه سلوكهم في خطوط متوازية.

ان فكرة الثقافة لدى علماء الانثروبولوجيا والاوساط العلمية الاخرى (كما الحال عند رجال الاعمال والاطباء والادباء والفلاسفة و...) تحمل في طياتها فكرة التدخل الانساني، أي اضافة شئ إلى حالة من الحالات الطبيعية او ادخال تعديل عليها.. وهناك عدة مدارس تناولت موضوع التغير الثقافي[4] منها:

1- المدرسة الانجليزية التي نادى مؤسسوها (اليوت، سمث، وبري) بمبدأ الانتشار الثقافي أي انتقال معالم الحضارة من مكان ما إلى بقية انحاء العالم.

2- المدرسة الالمانية النمساوية المسماة بالمدرسة الثقافية التاريخية التي تستند إلى فرضيات وضعها العالمان فرتز جرايبنر وزميله فوي وطورها من بعدهما الاب شمدت والتي لا تفترض وجود مصدر اصلي واحد للحضارات المختلفة انما يقترحون وجود سلسلة من الحلقات الثقافية.

وتشدد هاتان المدرستان على الصفة التاريخية للثقافة مما ادى إلى ولادة مدرسة ثالثة مناقضة للمدرستين، أي لا تلتزم وجهة النظر التاريخية بل تعني بظاهرة الاستقرار الثقافي فتتخذها اساسا لابحاثها.

في نقاش جرى بين علماء الانثروبولوجيا ومجموعة اخرى من علماء العلوم الاخرى[5] وقف احد الانثروبولوجيين وقال: (ايها السادة ان قدر الطبخ يمثل نتاجا ثقافيا يستوي في الاهمية مع اية قطعة موسيقية من تلحين بتهوفن او موزارت...)، ما قاله الانثروبولجي يذكرني بمقابلة أجرتها احدى المجلات العربية مع زوجة الرئيس اللبناني ألياس هراوي حين قالت: (المرأة اللبنانية تفضل دائما ان يدعو زوجها اصدقاءه إلى وليمة غداء أو عشاء في بيته بدلا من خارجه كي تظهر مهارتها من خلال المقبلات ووجبة الاكل.. اي بمعنى آخر المرأة اللبنانية تريد ان تكشف عن ثقافتها من خلال مهارتها في اعداد قدر الطبخ ومقبلاته.

الا ان احد رجال الاعمال المشاركين في الحوار قال: (اما انا فزوجتي تعتقد ان الشخص لا يكون مثقفا الا اذا استطاع التحدث عن اليوت وبيكاسو و...).

من هنا لا بد ان يتبادر إلى الذهن تساؤل هو: (هل ثمة فرق بين الحضارة Civilization (مجموعة ما ابدعه الفكر من منجزات مادية ومعنوية مثل العلوم والفنون والاداب والاثار) والثقافة Culture (التي هي مجموعة الافكار والعادات التي يتعلمها الناس وينقلونها من جيل لآخر) .

وللاجابة على سؤال كهذا لا بد لنا ان نفهم ما يعنيه علماء الانثروبولوجيا في مفهوم الحضارة.. فلو طلبت من عالم انثروبولوجي أن يعرف لك الحضارة لما تردد بالقول: (الحضارة هي ثقافة اهل المدن الذين اتجهوا دائما الى تطوير نمط معقد نسبيا من الحياة.. انهم نجحوا في تطوير لغة مكتوبة) الا ان علماء الاجتماع Sociology يميزون بين الحضارة بوصفها المجموع الاجمالي للوسائل البشرية وبين الثقافة باعتبارها المجموع الاجمالي للغايات البشرية..

وأثناء الحوار تساءل أحد الاقتصاديين الذي حضر الندوة بالقول هل يريدون علماء الانثروبولوجيا من خلال كتاباتهم أن يقولوا لنا (الثقافة والمجتمع مصطلحان مرادفتان؟ )

الا ان الحقيقة ليست كذلك لان علماء الانثروبولوجيا يعرفون المجتمع بانه (جماعة من الناس تعلم اعضاءها ان يعملوا معا) اما مصطلح الثقافة فيدل (على النمط المميز للحياة التي تعيشها هذه الجماعة) .

الا ان تعريفاً كهذا غير مقبول لدى الفلاسفة، لانهم يفهمون الثقافة (بانها ضرب من التجريد) اما المجتمع فلا يدل على مفهوم مجرد، أي بمعنى اخر بامكانك رؤية الافراد الذين يتألف منهم المجتمع ولكنك لا تستطيع ان ترى الثقافة او تلمسها.. وبالحقيقة مفهوم كهذا مقبول إلى حد ما، الا ان علماء الانثروبولوجيا يردون على ذلك بقولهم (صحيح انك ترى الكائنات البشرية التي يتألف منها المجتمع الا انك لا تستطيع رؤية الثقافة مثلما لا تستطيع رؤية الجاذبية والتطور. ومثلما لا تستطيع التخلي عن الجاذبية والتطور لا تستطيع التخلي عن الثقافة ايضا، ولكنك وبنفس الوقت ترى الأشياء التي صنعها اعضاء المجتمع وبامكانك ملاحظة التغيرات التي ادخلوها على بيئتهم الطبيعية، تلك التغيرات الناتجة عن التجديدات التي تتسرب إلى الثقافة من الداخل (على شكل اختراعات او اكتشافات) او من الخارج (عملية اقتباس).

وكلا الحالتين تعتمدان على ما اذا كان المجتمع يتقبل العنصر الجديد او يرفضه. أي بمعنى آخر ان الثقافة ليست ضرباً من التجريد كما يفهمها الفلاسفة. ان عالم الانثروبولوجيا ينظر إلى الثقافة والمجتمع كما لو كانا موادَ خام، يحاول العالم الانثروبولوجي القاء الضوء على الاشياء التي يشاهدها فعلا ويهمل الجوانب التي لا تستأثر باهتمامه، أي انه يصور كل من المجتمع والثقافة كما يتوصل اليه.

ان كان العالم الانثروبولوجي يفهم الثقافة:

(كونها تدل على النمط المميز للحياة التي تعيشها الجماعة وتشترك فيها وتنقلها من جيل لآخر)

فإن علماء النفس يفهمون الثقافة بانها:

(مجموعة من العادات الاجتماعية).

لذا علينا الآن ان نتساءل مع علماء النفس psychology ماذا يعني مصطلح العادة؟

العادة في نظر علماء النفس عملية انتقال الثقافة، من الاب إلى الابن، ومن مجتمع لآخر، وقد تضاف اليها عادات جديدة موازية للقديمة، وعادات مقتبسة موازية للاصلية، وان هذه العادات تتصارع وتتنافس حتى تنتصر العادات الاصلح فيكتب لها البقاء..

وبناءَ على هذه النظرية[6] هناك عملية انتقائية تلعب دورها في الثقافات وهي مماثلة لعملية الانتقاء الطبيعي على الصعيد البيولوجي، كما انها مسؤولة عن نشوء حالات التكيف واستمرارها في الثقافات.

الا ان عملية الانتقال في نظر علماء النفس مرتبطة كليا بمفهوم التعليم والتعلم وذلك لان الثقافة ليست غريزية، وانما هي امر لا يكتسب الا بالتعلم[7]. وعلى هذا الاساس يعلل العالم الانثروبولوجي سبب اختلاف الثقافة من مجتمع لآخر استنادا إلى:

1- المواد الثقافية التي تعلم   2- الاوساط التي تعلمها  3- الفترات التي تجري فيها تعلم مهارات معينة

الا ان موضوع التعليم في نظر العالم الانثروبولوجي لا يقتصر على التدريس الواعي او على المفهوم الدارج لهذا المصطلح، فالافراد يتعلمون جانبا كبيرا من ثقافتهم من الايماءات والحركات التعبيرية، ففي التربية تنشأ دوافع مكتسبة لدعم عملية التعليم، والشعور بالاعتزاز والرغبة في تحقيق الشخصية والظفر باحترام المجتمع، اما الاطفال فانهم يتلقون عن طريق التربية تدريبا اجتماعيا ويكتسبون مهارات جديدة وبذلك تزداد قدرتهم على التجاوب والتعاون. اذن الثقافة هي مجموعة من الاساليب التي يكتسبها الفرد بوصفه عضوا في المجتمع، والتي تساعده على التكيف على البيئة الخارجية وعلى العمل مع زملائه.

الا ان علماء الامراض العقلية يميلون في تعريفهم للثقافة إلى القول: (ان الثقافة هي وسيلة لكبت طبيعة الانسان الفطرية او عاملا يؤدي إلى اضطرابات عصبية بسبب ما يتطلب من متطلبات ومعاكسات خلال عملية تكييف الافراد على أنماط لا تتلائم في الاصل مع أمزجتهم الفطرية. تعريف كهذا دفع احد علماء الاقتصاد بالتساؤل. هل بامكاننا ان نعرف الثقافة بالوراثة الاجتماعية؟ فرد عليه أحد الانثروبولوجيين (من الحاضرين) نعم ان الكائنات البشرية تملك ارثا إجتماعيا مثلما تملك إرثا بيولوجيا، ان الانسان يكتسب ثقافته مثلما يكتسب جيناته دون ان يبذل أي جهد في التكيف عليها او في مقاومتها. لان الانسان كما وصفه دولارد مجرد ناقل سلبي للتقاليد الثقافية، الا ان سيمونس ينبهنا الى ان دور الانسان لا يقتصر على نقل الثقافة او توفير الوقود لها وانما خلقِها وممارستها. وخلاصة القول ان تعريف الوراثة الاجتماعية Social genetics يشدد على استقرار الثقافة وعلى اثر التقاليد الموروثة فيها.. الا ان تعريفا كهذا يكون ناقصا في نظر علماء الامراض العقلية، فمن وجهة نظر السيكلوجيا الفردية كل تعريف للثقافة يكون ناقصا ما لم يبين لنا ان للفرد دورا فعالا بالنسبة لثقافته، لان ما يلفت الانتباه في الكائن البشري هو انه يسعى إلى فهم نفسه وفهم سلوكه .

واستنادا إلى العوامل الاندفاعية المشتركة في السلوك لجميع بني البشر توصل مجموعة من العلماء إلى ان جميع الثقافات تتشابه لان هناك مجموعة من الدوافع الفطرية المتماثلة التي تحفز الناس في كل مكان على العمل وتوجه سلوكهم في خطوط متوازية. كما علينا ان لا ننسى ان الاجزاء الفعلية التي تتالف منها كل ثقافة هي العناصر السلوكية (الحركية والكلامية والضمنية) وان اية وحدة محددة من وحدات السلوك الاعتيادي يمكن ايجادها في مجتمع معين او في عدد من المجتمعات التي تربط بينها صلات تكفي لانتشار التبادل الثقافي بينها[8].

وخلاصة القول نقول ان الثقافة في نظر علماء الانثروبولوجيا تتمثل بمفهومين[9]:

اولا:المفهوم الايضاحي: نجد ان رواد هذه المدرسة يقصدون بالثقافة (عمليات انتقائية تاريخية المنشأ توجه ردود فعل الناس تجاه المنبهات الداخلية والخارجية) هذا التعريف جاء نتيجة للتخلص من عبارة (يكتسبها الانسان بوصفه عضوا في المجتمع) لان هذه العبارة توحي بان الثقافة لا تشير الا إلى ابعاد سلوك الافراد الناجم عن انتسابهم إلى عضوية مجتمع معين اما بالولادة واما نتيجة انضمامهم إلى المجتمع في وقت لاحق.. اذن موضوع الثقافة يفيدنا في تحليل اعمال الافراد (سواء درسناها على اساس جماعي او فردي. وفي توضيح التوزيع الجغرافي للاشغال اليدوية وفي القاء الضوء على التتابع التاريخي. وعلى هذا الاساس يمكن صياغة التعريف على الشكل الاتي[10]:

(نقصد بالثقافة منبهات تاريخية المنشأ للوضع الذي ينزع الافراد إلى اكتسابه بسبب انضمامهم إلى جماعات معينة او احتكاكهم بفئات معينة تجمعها انماط من الحياة تتصف في بعض نواحيها بخصائص مميزة...) الا ان هذا التعريف يقودنا إلى التساؤل لماذا الاشارة إلى المنبهات التاريخية؟ يجيب احد علماء الانثروبولوجيا من المشاركين في الحوار: (ان عملية الاكل عند الانسان مثلا هي ردة فعل او استجابة لدافع داخلي كالانقباضات المتصلة بالجوع، فضلا عن ثقافة ذلك المجتمع، هذا يعني ان عالم الانثروبولوجي يستعمل عبارة - رد الفعل- بدلا من المصطلح المباشر -الفعل- وذلك لان عبارة رد الفعل يقرب إلى فهمنا الشعور الذي يقترن بالتخطيط الانتقائي الذي نرسمه لحياتنا... وعلى ضوء ذلك يتساءل العالم البايولوجي (هل تعني ان الثقافة تتالف من الطرق المتبعة في مواجهة الاوضاع المتصلة برغبة الانسان في البقاء على قيد الحياة؟) فيجيب العالم الانثروبولوجي نعم من الممكن اعتبار الثقافة كما لو انها شئ يضاف إلى طاقات الانسان البيولوجية الفطرية فهي التي تعلمنا بان البشرية سوف لا تخسر ما يتعلمه الفرد بمجرد موته.. لذا نقول لا يقتصر دور الثقافة على التكيف او على الاسهام في مساعدة الانسان على البقاء على قيد الحياة والواقع انها تلعب احيانا دورا معاكسا تماما لهذا الدور. وعلى هذا الاساس يتوجب علينا ان نستعين بمفهوم الانسجام او الملائمة بالاضافة إلى مفهوم التكيف.هناك جوانب من الثقافة كانت فيما مضى تتصل اتصالا مباشرا بفكرة البقاء، هذا يعني واستنادا إلى علم النفس ان الكائنات البشرية تستطيع ان تتعلم بعضها من البعض الآخر، فلو افترضنا (استنادا إلى علم الاقتصاد) ان مجموعة من اليابانيين اقصوا من بلادهم إلى أمريكا وحل محلهم مستوطنون من الامريكيين البيض، فان الامريكيين قد يطورون بعد عدد من الاجيال مفاهيم اجتماعية متصلة بوضعهم الجديد، قد لا يكون من الصعب تمييزها عن مفاهيم الخاصة باليابانيين اليوم، لانهم سيكيفون انفسهم على الحياة الجديدة بأربعة دوافع قوىة حددها العالمان سمنر وكلمر وهما:

الجوع – الخوف – الحب - الغرور.

وكذا الحال مع اليابانيين المستوطنين في امريكا.

بعد كل هذا تأتي الفلسفة لتتسال: اين المحل الهندسي للثقافة، هل هو في المجتمع ام في الفرد؟ هل يمكن باي حال من الاحوال وصف الثقافة بانها سبب أي شئ؟

بالنسبة للسؤال الاول فيه مغالطة منطقية لان الثقافة ليست شكلاً ملموسا قابلاً للمشاهدة، بل هي وصف مجرد لمنازع الفئات البشرية نحو الاتساق في الكلام والافعال والاشغال اليدوية.. اما فيما يخص بالسؤال الثاني نقول ان مصطلح السبب يوحي بوجود قوة مندفعة في اتجاه واحد.. وهذا حسب رأي الانثروبولوجي غير صحيح. نعم ان الثقافة تنتقل من خلال الافراد والاشغال اليدوية، فعلى سبيل المثال لنفترض ان رجلا اصيب بمرض وبائي ناتج عن احد الفيروسات وانه دخل مدينة ما ونقل اليها المرض.. فاذا تسائلنا عن سبب الوباء الذي سينتشر هل هو الفرد ام الفيروس؟ ان كلا الجوابين صحيح لذا نستطيع ان نقول:

ان الافراد يمكن ان يصبحوا مضيفين لها، ومن الخطأ ان نقول بان الثقافة هي السبب، لان الثقافة ليست وراثة اجتماعية.. وليست ببكتريا تكتسب في جميع الحالات بالاحتكاك او الملامسة على نحو عرضي خارج عن وعي الافراد واراداتهم.. فعبارة الوراثة الاجتماعية قد تكون غير صحيحة لان الجينات تتخذ شكلا ثابتا لا تتغير منذ اكتسابها للمرة الاولى والاخيرة عند الميلاد بينما تعتبر البكتريا تبعا لناقليها.

ثانيا: المفهوم الوصفي: تسائل احد علماء الامراض العقلية المشاركين في الحوار قائلا:

(هل نستطيع القول بان الثقافة باعتبارها مفهوما تعني بوجه عام ما يجمع من تراث الابداع الانساني على مر الاجيال: الكتب واللوحات الفنية والمباني... الخ، ومعرفتنا بطرق التكيف على البيئة الطبيعية والاجتماعية واللغة والعادات واداب السلوك والاخلاق... فاجاب عليه احد الانثروبولوجيين قائلا: ان وصف الثقافة على انها ابداع انساني قد يستهوي خيالنا ويحظى بموافقتنا جميعا.. فكثير من مظاهر الثقافة لا يعبر عنها بالكلام أي انها ضمنية.. فرد عليه الطبيب المتسائل: من الخطأ ان نقول ان الثقافة تتكون من افكار لاننا نعرف من خلال دراستنا المقارنة في طب الامراض العقلية ان هناك اعتبارات خارجة عن نطاق المنطق والاستدلال العقلي. وبهذا يقسم العالم الانثروبولوجي مظاهر الثقافة إلى عقلي (منطقي) وغير عقلي (لامنطقي)، وبهذا يكون التعريف على الشكل الاتي [11]:

نقصد بالثقافة جميع التصاميم التاريخية المنشأ التي خططت للحياة، بما في ذلك التصاميم الضمنية والصريحة والعقلية واللاعقلية، وهذه توجد في وقت لو كانت تمتلك قدرة كامنة على توجيه سلوك الناس وارشادهم.

من هنا تساءل احد الحاضرين قائلا: لماذا كان من الضروري ان نضمن التعريف العبارة (في أي وقت معين؟ فأجابه احد زملائه:

لان الثقافة تكون عرضة لان تخلق او تفقد، ولا يجوز القول بان الثقافة ساكتة او مستقرة كليا.

وخلاصة القول نقول من خلال ما سبق نجد ان الثقافة تعني عند البعض بأعمال الفرد باعتبارها منطلقا لكل ما نصدره من احكام وعند البعض الآخر كانت تنطلق من تجديدات منسوبة إلى الجماعات.. فعلينا ان نهتم كثيرا بالتمييز بين التعاريف الوصفية والتعاريف الايضاحية. ومن خلال ما سبق نجد ان المدرسة الاولى (الايضاحية) تهتم باعمال الفرد باعتبارها منطلقا لكل ما نصدره من احكام اما المدرسة الثانية (الوصفية) فنجدها تنطلق من تجديدات منسوبة إلى الجماعات.

***

نزار حنا الديراني

..................

[1]   نقصد بالانثروبولوجيا علم الانسان واعماله ويقسم هذا العلم إلى: (1) الانثروبولوجيا الطبيعية (علم الانسان) وتقسم إلى:  أ- الحفريات البشرية (الباليونتولوجيا) ب- علم الاجسام البشرية (السوماتولوجيا). (2) الانثروبولوجيا الثقافية او الحضارية (تتناول أعمال الانسان) وتقسم إلى: أ- علم الآثار القديمة (الارخلوجيا) ب- علم السلالات البشرية ج- علم اللغويات. وسنتاول في مقالنا هذا مفهوم الثقافة عند العلماء الارخلوجيا (الذين يبحثون في الاصول الاولى للثقافة وفي الثقافات او الاطوار الثقافية المنقرضة) والعلماء الاثنلوجيا (الذين يبحثون في الثقافات الحالية لمختلف الاجناس البشرية)

[2]  جورج بيتر مردوك، المقام المشترك للثقافات، الانثروبولوجيا وازمة العالم الحديث ص221.

[3]   جورج بيتر مردوك، نفس المصدر.

[4]   ملفيل هيرسكوفتر، عمليات التغير الثقافي، الانثروبولوجيا وازمة العالم الحديث ص253.

5  كما دونها كل من كلايد كلكهوهن ووليم هـ. كلي وأعتمدت عليه في درج آراء المتحاورين الواردة في المقال.

[6]   المقام المشترك للثقافات، جورج بيتر مردوك ص221 الانثروبولوجيا.

[7]  جورج بيتر مردوك، المقام المشترك للثقافات.

[8]   جورج بيتر، المقام المشترك للثقافات.

[9]   كلايد كلكهوفن، وليم كلي، مفهوم الثقافة ص141 الانثروبولوجيا وازمة العالم الحديث.

[10]  كلايد كلكهوفن، نفس المصدر.

[11] كلكهوفن، نفس المصدر.

 

(قراءة في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة!)

من أمثال العَرَب قولهم: «بِعَيْنٍ ما أَرَيَنَّكَ‏». قال (أبو هلال العسكري، -395هـ= 1005م)(1): «معناه: اِعْجَلْ. وهو من الكلام الذي قد عُرِف معناه سماعًا من غير أن يَدلَّ عليه لفظُه. وهذا يَدلُّ على أنَّ لُغة العَرَب لم تَرِد علينا بكمالها، وأنَّ فيها أشياء لم تعرفها العلماء.» وأقول: هذا كلامٌ غريب، بل غريبان: أوَّلًا، لشرح المَثَل لدَى العسكري بأنَّه يعني: اعْجَلْ، تحديدًا؛ وثانيًا، لزعمه أنَّه غير مفهومٍ لفظًا. ثمَّ جاءنا حديثًا (شوقي ضَيف، -2005)(2) فتابع بقوله، وهو يتحدَّث عن أمثال العَرَب في الجاهليَّة: «ولا بُدَّ أن نلاحظ أنَّ بعض أمثالهم يخفَى المعنى المراد منه، ومن أجل ذلك كان لا يُفهَم إلَّا بالرجوع إلى كُتب الأمثال، كقولهم: «بعَيْنٍ ما أرينّك» [كذا، ولم يضبط الفعل بالشَّكل؛ ليزداد إشكالًا!]؛ فإنَّ معناه: أسرِعْ، وهو معنى لا يتبادر إلى السامع من ظاهر اللفظ، ومن ثمَّ علَّق عليه أبو هلال العسكري بقوله:...». وهذا الزعم هو من عقابيل الثقافة الاتِّباعيَّة بلا تدبُّر! وإنَّما معناه، كما ذكرَ (الميداني، - 518هـ= 1124م)(3): «اعملْ كأنِّي أَنْظُرُ إليك‏.»‏ ولقد كنتُ ممَّن يسلِّم بغموض معناه، بناء على كلام العسكري ومتابعة ضَيف، حتى تبيَّنتُ ضبطَه لدَى (الميداني)، وأنَّه «بِعَيْنٍ ما أَرَيَنَّكَ‏». على حين أورده لنا ضَيف غير مضبوطٍ، ما قد يذهب بالقارئ إلى أنه «بِعَيْنٍ ما أُرِيَنَّكَ‏». غير أنَّ معناه ليس محصورًا في معنى: اعْجَلْ أو أَسْرِعْ، كما فسَّره العسكري، بل معناه: يا فلان، إنِّي أراكَ بعَينٍ ما، إنْ لم تكن الباصرة، فبعَين البَصيرة والقَلب؛ فتنبَّه، وأَحسِنْ عملَك كأنِّي أَنْظُرُ إليك، كما ذكرَ الميداني. ونحو هذا المَثَل يتردَّد في تعبيراتنا الشعبيَّة، كمثل قولنا، محذِّرين أحدًا من الإهمال أو من الغش: «أنا شايفك، يا فلان!» إذن، ما سِرُّ التهويل من غموض مَثَلٍ عَرَبيٍّ مألوفٍ كهذا، سِوَى غفلةٍ قديمةٍ تُتوارث، حتى يَكُفَّ العقلُ عن مراجعتها؟! نعم، لقد شرحَه الميداني بعبارةٍ سليمة، وإنْ زعمَ، هو الآخَر، أنَّ معناه الأمر بـ«ترك البُطْء»؛ فقال: «يُضرَب في الحثِّ على ترك البُطْء‏.» وهذا كذلك من العقابيل القديمة لثقافة النقل بلا جرأةٍ على المراجعة ولا تدبُّر! ذلك أنَّ الميدانيَّ قد نقل عن العسكري- في ما يبدو- حصره المعنى في الأمر بالعَجلة أو الإسراع. وما هو، في رأيي، إلَّا مَثَلٌ يُضرَب في الحثِّ على ترك الإهمال عمومًا، أو الغِش في العمل إجمالًا، كما بيَّنَّا. أمَّا تحليل الميداني مركَّب المثل، فجاء فيه: «و(‏ما‏) صِلة دخلتْ للتأكيد، ولأجلها دخلتْ النون في الفعل. ومثله‏:‏ ومن عَضَةٍ ما يَنْبُتَنَّ شَكِيرُها.» ويُلحظ أنَّ المؤلِّفين، قديمًا وحديثًا، ظلُّوا مشغولين بشرح كلمة (شكير) هاهنا، وقلَّما التفتوا إلى ضبط كلمة (عضه)، أو شرحها. والواقع أنَّ نِصف اللُّغة العَرَبيَّة يضيع جرَّاء الضبط بالشكل، والنِّصف الآخر يضيع جرَّاء الإعجام، ولمَّا يقيِّض الله لها بَعْدُ مَن يَفُكُّ طلاسمها التاريخيَّة تلك، التي نشأت منذ معركة الإعجام والشكل، خلال القرن الأوَّل والثاني الهجريَّين، أيَّام (أبي الأسود الدؤلي، -69هـ)، و(نصر بن عاصم اللَّيثي، -89هـ)، و(يحيى بن يعمر الوشْقي، -129هـ)، ثمَّ (الخليل بن أحمد الفراهيدي، 170هـ)! فما (العَضَة)، حسب ضبط (الميداني)؟ بل أهي (عَضَة)، أم (عِضَة)، أم (عِضَه)؟ هي (عِضَهٌ)، بالهاء- كما نُرجِّح- من (العِضاه)، وهو كلُّ شجر ذي شوك. غير أنَّ اللغويِّين يضيفون أنَّها تُسمَّى أيضًا: (عِضَة)، و(عِضْهة). أمَّا الشَّكير، فما ينبت من أصول الشجر. ومعنى ذلك التعبير- وهو شطر بيت، فيه حِكمة، وليس بمَثَل، بالمعنى النوعي لجنس الأمثال(4)- أنَّ معظم الشيء ينشأ من مستصغره، والعكس كذلك. ولعلَّنا نضيف في معنى المَثَل المُشكِل «بِعَيْنٍ ما أَرَيَنَّكَ‏» ظِلالًا دلاليَّةً أخرى: أنْ ربما صحَّ القول: إنَّ (ما) تتضمَّن معنى الإبهاميَّة، التي تأتي صِفَةً لما قبلها، مقترنةً بالنَّكِرة لتزيدها عموميَّةً، أي: بعَينٍ غير معيَّنةٍ أراكَ، وإنْ لم ترني. وهو ما يقع في التحذير موقعًا أبلغ؛ كيلا يحسبنَّك المخاطَبُ غافلًا عمَّا يفعل. إلَّا أنَّ النون في «أَرَيَنَّكَ‏» ستصبح، وفق هذا الفهم، محلَّ نظر.

وبذا يبدو أنَّ التساؤل عن مدَى عِلم أعلام تراثنا باللُّغة العَرَبيَّة، أو قُل مدَى ذوقهم اللُّغوي، قد يشمل بعض المشتغلين بها أيضًا، أمثال (أبي هلال العسكري)، صاحب «الصناعتَين». وما من أحدٍ فوق أن يُؤخَذ من كلامه ويُرَد؛ فجلَّ من له الكمال والجمال، على كلِّ حال!

-2-

وبالعودة إلى ما سبق في المقال الماضي من حديثٍ حول المفسِّرِين، فإنَّ (الطَّبري، -310هـ= 922م) كان أحسن حالًا من (ابن كثير، -774هـ= 1373م)، السابق التوقُّف مع تفسيره، وإنْ كان بدَوره أستاذ المفسِّرين في النقل والإسرائيليَّات وحشو الكتب بالروايات، أنَّى وجدها التقطها. فقد جاء الطَّبري(5) قائلًا: «وقوله: «وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا» اختلف أهلُ التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضهم: معناه : فآمنَّا به ولن نُشرِك بربِّنا أحدًا ، وآمنَّا بأنه تعالى أمرُ ربِّنا وسُلطانه وقُدرته.» ثمَّ انخرط في سلسلة من المرويَّات، من حدَّثنا إلى حدَّثنا... حتى أضاف: «وقال آخرون: عُنِي بذلك الجَدُّ، الذي هو أبو الأب، وقالوا : ذلك كان جَهْلَةً من كلام الجنِّ.» وما هو بجَهْلَةٍ من كلام الجنِّ، بل هو عربيَّةٌ من كلام الإنس، كما أوضحنا في المساق السابق! هذا على الرغم من أن الطَّبري لم يورد ما نسبه ابن كثير إلى (ابن عباس)، بل روى عنه رواية أخرى، هي: «حدثني محمَّد بن سعد، قال... عن ابن عباس، قوله: «وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا» يقول: تعالى أمر ربِّنا.» غير أنَّ الطَّبري قد عاد- بعد طول مطال- إلى كلام العرب، ورجَّحه. وقد أحسن في هذا؛ لأنَّ القرآن بلسانٍ عربيٍّ مبين، وليس بلسان جِنِّيٍّ عَيِيٍّ جاهل! وذلك خيرٌ من صنيع ابن كثير، الذي أوجز إيجازًا بدا مُخِلًّا وموهِمًا. على أنَّنا لا نجد محقِّق تفسيره قد توقف ليعلِّق على هذا. أ ذلك عن إهمال معتاد؟ أم عن جهل؟ أم عن تقديسٍ للسَّلف، وتصوُّر أنه لا ينبغي أن يُناقَشوا، فضلًا عن أن يُردَّ كلامهم أو يُستدرَك عليه؟(6)

إنَّ هذا التفسير يذكِّرنا بطُرفة انتشرت عبر بعض تطبيقات التواصل الاجتماعي منذ حين لأحد المتحذلقين، حذَّر فيها من القول في الدعاء: «تبارك اسمُك وتعالى جَدُّك»؛ فقال: «لا تقولوا: «تعالى جَدُّك»، والعياذ بالله، بل «تعالى جِدُّك»، بكسر الجيم؛ لأن الله ليس له جَدٌّ»!

واستطرادًا في شأن استعمال كلمة (الجَدِّ) في لغة العَرَب، فقد كان من آلهة العَرَب الشماليِّين إلهٌ اسمه (جَد)، يُعَدُّ إله الحَظِّ والسَّعد. أُنثاه إلهة يسمُّونها (جدت/ جَدَّة). عُثِر على اسميهما في الكتابات الصفويَّة واللحيانيَّة بشَمال غرب الجزيرة العَرَبيَّة و(الأردن).(7) واسم هذا الإله الجاهلي مشتقٌّ من الجَدِّ بمعنى: الحظِّ والسَّعد وعلوِّ المكانة.

والواقع أن بعض من يبجِّلهم الخلَف من السَّلَف قد يبدون، عند التدقيق، أقرب إلى العوامِّ عِلميًّا، على فضلهم، ومكانتهم التأسيسيَّة في الثقافة الإسلاميَّة. وإنْ كان هذا الحُكم مرهونًا- في النهاية- بصِحَّة ما يُنسَب إلى أحدهم من مرويَّات. من شواهد هذا ما يستوقفك في ما يُنسَب إلى (مجاهد)- وهو: (مُجاهِد بن جَبْر بن عبدالله التغلبي، -104هـ= 722م). وكان يوصف بأنه من أعلم الناس، وله تفسير- إذ تقرأ عنه، مثلًا، في تفسير بعض آيات (سُورة الدُّخان): «قال مُجاهِد: «رَهْوًا»: طَريقًا يابِسًا، ويقال: «رَهْوًا» ساكِنًا. «على عِلْمٍ على العالمِينَ»: على مَن بَيْنَ ظَهْرَيْهِ. «فاعْتِلُوْهُ»: ادْفَعُوْهُ. «وزَوَّجْناهُمْ بِحُوْرٍ عِيْنٍ»: أَنْكَحْناهُمْ حُورًا عِيْنًا يَحارُ فيها الطَّرْفُ. «تَرْجُمُون»: القَتْلُ.»(8) وبعيدًا عن اضطراب الكلام، وترتيب الآيات مع التفسير، فإن مجاهدًا لم يكن ليفهم معنى (الرَّهْو) في قوله تعالى: «فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ؛ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ،‏ وَاتْرُكِ البَحْرَ رَهْوًا؛ إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ.»(9)، بل قال، كما قال غيره: إنَّ معنى رهوًا: يَبَسًا، قياسًا على آيةٍ أخرى (سُورة طه: 77). وهذا بضِدِّ المعنى الدقيق للكلمة؛ لأنَّ «يَبَسًا» في الآية الأخرى إنما تعنى: لا ماء فيه، كما تقول: «بئر يابسة»، أي لا ماء فيها كالمعتاد، لكن ذلك لا ينفي بالمطلق وجود بعض الماء فيها أو النَّدَى. وأضافوا في تفسير معنى «رَهْوًا»: ساكنًا، وهذا لا معنى له هاهنا. وقالوا: واسعًا. وقالوا: قائمًا ماؤه. وقالوا: سهلًا دمثًا.. وقالوا.. وقالوا... إلخ. مع أنَّ الكلمة ما برحت مستعملةً في بعض اللهجات العَرَبيَّة إلى اليوم بالمعنى الأقرب إلى المعنى القُرآني المُراد.

وفي مساق الأسبوع المقبل سنناقش معنى كلمة (رهوًا)، في ضوء اللهجات العَرَبيَّة الحديثة، التي حفظت لنا من العَرَبيَّة بعض ما ضيَّعه اللُّغويُّون وأهملته مدوَّناتهم.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

......................

(1) (1988)، كتاب جمهرة الأمثال، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، وعبدالمجيد قطامش، (بيروت: دار الجيل)، 1: 236، المثل 303.

(2) (2003)، العصر الجاهلي، (القاهرة: دار المعارف)، 408.

(3) (1955)، مجمع الأمثال، اعتناء: محمَّد محيي الدِّين عبدالحميد، (مِصْر: مطبعة السُّنَّة المحمَّديَّة)، 1: 100، المثل 494.

(4) كثيرًا ما يقع الخلط بين الأمثال والحِكم. حتى إنك لتجد كُتب الأمثال محشوَّةً بحِكَم على أنها أمثال. والصواب أنَّ المثَل: مقولة شعبيَّة تتكئ على حكاية ما، وغالبًا ما تكون مجهولة القائل.

(5) (2001)، تفسير الطَّبَري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، (القاهرة: دار هجر)، 23: 312- 313، 315.

(6) وكم من سَلَفٍ يُقدَّس ليظهر بعد حينٍ أنَّ مقدِّسيه كانوا على ضلال مبين، وهذا لدَى الشعوب كافَّة. من ذلك، مثلًا، تقديس الإسبان سيِّدَ مدريد (سان إسيدرو المزارعLabrador San Isidro، -1130)، على أنه مسيحيٌ أوربيٌّ أبيض أشقر، «يُخزي العَين»، وكان يتبرَّك الملوك الإسبان بزيارة قبره، ثمَّ كشفت (جامعة كومبلوتنسي بمدريد)، 2022، عبر التقنيات العلميَّة الحديثة، اللِّثامَ عن أنَّ قديسهم التاريخيَّ القديم كان شريفًا إدريسيًّا مسلمًا من شمال أفريقيا! ويا لشماتة التاريخ!

(7) يُنظَر: علي، جواد، (2007)، أصنام الكتابات، (بغداد: دار الوراق)، 35- 36، 44، 48- 49، 51- 52؛ الفاسي، هتون أجواد، (1993)، الحياة الاجتماعيَّة في شَمال غرب الجزيرة العَرَبيَّة في الفترة ما بين القرن السادس قبل الميلاد والقرن الثاني الميلادي، (الرِّياض: ؟)، 213.

(8) البخاري، (1981)، صحيح البُخاري، ضبط وتعليق: مصطفى ديب البُغا، (دمشق، بيروت: دار القلم)، 4: 1822.

(9) سُورة الدُّخان: الآيات 22- 24.

 

استكشاف البنية والمعنى عند د. مولاي أحمد العلوي

اللغة العربية، بتنوعها وتعقيداتها، تمثل نموذجًا مميزًا للدراسة في مجال النحو والعاملية. هذا البحث يتعمق في تلك التعقيدات، مستكشفًا تفاعل العوامل اللغوية المختلفة مثل الفعل، الفاعل، والمفعول به مع بنيات الجمل وتأثيرها على مستويات البنية اللغوية المختلفة، من البنية العميقة إلى السطحية. يقدم البحث رؤية شاملة لكيفية تكوين المعاني الدقيقة والدقيقة من خلال هذه التفاعلات.

العوامل اللغوية وتأثيرها على بنيات الجمل

يفتتح البحث بتحليل معمق لدور العوامل اللغوية الأساسية مثل الفعل، الفاعل، والمفعول به، وكيف تسهم هذه العناصر في تشكيل البنية النحوية للجملة. يتجاوز التحليل الرؤية التقليدية التي تعتبر هذه العوامل مجرد أجزاء ملتزمة بقواعد نحوية جامدة، ليكشف عن ديناميكية تفاعلها الذي يلعب دورًا حيويًا في بناء المعنى. تُظهر هذه العوامل تأثيرًا ملحوظًا في تراكم المعنى داخل الجملة، وتُعزز من الدقة والوضوح اللغوي، مما يُثري فهمنا للبنية النحوية العربية وكيفية تأثيرها في التواصل الفعّال.

استكشاف البنية العميقة والسطحية

يقدم البحث تحليلاً تفصيليًا للتمييز بين البنية العميقة والبنية السطحية في اللغة العربية، موضحًا الأدوار المختلفة التي تلعبها كل منهما. البنية العميقة، التي غالبًا ما تظل خفية، تحمل العلاقات النحوية الأساسية والأسس اللغوية التي لا تظهر دائمًا بشكل مباشر في النص المنطوق أو المكتوب. من ناحية أخرى، تعالج البنية السطحية كيفية ظهور هذه العلاقات النحوية بوضوح في الاستخدام اليومي للغة، مما يتيح للمتحدثين والكتاب تشكيل رسائلهم بطريقة مفهومة وفعالة. يستعرض البحث كيف أن التفاعل بين هذه البنيات يؤثر بشكل كبير على تفسير النصوص وفهمها، وكيف يمكن أن تقود الفروق الدقيقة بينهما إلى تباينات في التعبير والفهم. يتطرق البحث أيضًا إلى كيفية تأثير هذا التشابك بين البنية العميقة والسطحية على دقة التعبير اللغوي، مما يحدد في نهاية المطاف كيفية استقبال الرسالة وتقبلها من قبل المتلقي.

الأعمال النظرية للدكتور مولاي أحمد العلوي

البحث يولي اهتمامًا بارزًا لمساهمات د. مولاي أحمد العلوي في مجال النحو والعاملية، مشددًا على الطريقة التي يقارب بها د. العلوي التحديات النحوية واللغوية. يُعرض بتفصيل كيف يفسر د. العلوي التفاعلات بين مختلف العوامل النحوية مثل الفاعل والمفعول به، والأثر الذي تخلفه هذه التفاعلات على البنية اللغوية بأكملها. يُظهر الباحث كيف أن تحليلات د. العلوي تفتح آفاقًا جديدة لفهم كيفية تداخل هذه العوامل ليس فقط في تكوين الجملة النحوية ولكن في تشكيل معناها العميق. بالإضافة إلى ذلك، يبين البحث كيف تسهم نظريات د. العلوي في تقديم تفسيرات مبتكرة للديناميكيات النحوية واللغوية، وكيف تساعد هذه النظريات في تحليل وفهم اللغة العربية كنظام لغوي معقد وديناميكي يتفاعل بشكل مستمر. يتم التأكيد على كيفية استخدام د. العلوي للأدوات التحليلية لكشف الطبقات المخفية وراء الاستخدام الظاهري للغة، مما يتيح فهمًا أعمق لكيفية تأثير هذه العوامل في تشكيل النصوص وتفسيرها. يخلص البحث إلى أن دراسة أعمال د. العلوي تقدم مساهمة قيمة في البحث اللغوي، حيث تعزز من فهم النحو والعاملية في اللغة العربية وتحفز على مزيد من البحث في كيفية تفاعل العناصر اللغوية لتكوين بنيات نحوية ودلالية معقدة.

الأهمية الأكاديمية والتطبيقية

يُناقش البحث بعمق الأهمية الأكاديمية والتطبيقية للدراسات حول النحو والعاملية في اللغة العربية، مؤكدًا على أن الفهم المتعمق لهذه المفاهيم يمكن أن يلعب دورًا حاسمًا في تطوير وتحسين طرق تعليم اللغة العربية. يسلط الضوء على كيفية تأثير هذه الدراسات في تعزيز الاستيعاب اللغوي لدى المتعلمين، مما يمكنهم من فهم واستخدام اللغة بشكل أكثر فاعلية وجاذبية. بالإضافة إلى ذلك، يشير البحث إلى أن هذه الدراسات تفتح آفاقًا جديدة لفهم التراكيب اللغوية والعمليات النحوية بشكل أوسع، مما يحفز الباحثين والمتخصصين على استكشاف ومناقشة النظريات اللغوية في سياقات مختلفة تشمل متعدد اللغات والثقافات. هذه الأبعاد الجديدة تقدم تحديات وفرص للتفكير في كيفية تطبيق النظريات النحوية واللغوية عبر اللغات المختلفة، مما يساهم في تعزيز التبادل العلمي والثقافي بين الدارسين من مختلف أنحاء العالم. يؤكد البحث على أهمية تجديد النظر في كيفية فهمنا للغة وتعليمها، مما يؤدي إلى تحسين مستمر في الأساليب التعليمية وتحقيق نجاح أكبر في التواصل اللغوي. إضافة إلى ذلك، يفتح البحث آفاقًا جديدة في فهم التراكيب اللغوية والنحو في اللغة العربية، مما يحفز على نقاش أوسع حول النظريات اللغوية في سياقات متعددة اللغات والثقافات. يستعرض البحث كيف أن الفهم العميق لهذه النظريات يمكن أن يسهم في تحسين الأساليب التعليمية والتعلمية، ويعزز الكفاءة اللغوية لدى المتعلمين على المدى الطويل. يوفر البحث إطارًا شاملاً لفهم تفاعل العوامل اللغوية في اللغة العربية وتأثيرها الكبير على بنية الجملة، مما يعزز من قيمة البحث في الدراسات اللغوية ويؤكد على ضرورة الاستمرار في البحث والتقصي لاستكشاف أبعاد جديدة في علم اللغة العربية.

***

زكية خيرهم

تتداول في وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وفي المنتديات وبعض المؤتمرات والندوات على مستويات مختلفة اكاديمية وثقافية واجتماعية وهيئات ومنظمات مصطلح المجتمع المدني، حتى " أصبح مفهوم المجتمع المدني من أهم مفردات الديمقراطية والإصلاح التي تتداولها الكتابات والندوات والملتقيات الفكرية منذ تسعينات القرن العشرين. وجاء مفهوم المجتمع المدني مرتبطا بمفاهيم أخرى كالحرية والمشاركة السياسية وثقافة حقوق الإنسان ودولة المؤسسات والقانون" ، كما يصف معهد البحرين للتنمية السياسية ذلك، وعلى الرغم من تأخر مجتمعاتنا بتداول مفهوم المجتمع المدني كقول وليس فعل، إذ اكتشف على الاغلب مع ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي – العشرين – ليرتقي تدريجياً ليصبح مكوناً ايديولوجياً وحركياً رئيسياً في رؤى القوى الليبرالية واليسارية وتيارات الاسلام السياسي، تزامناً مع الاخفاقات في انجاز اهداف  اهداف التنمية المستدامة وعدم الخضوع للاجندات الخارجية فضلاً عن الاخفاق الواضح في صياغة عقد اجتماعي توافقي يضمن للمواطن حقوقه وحرياته ويشركه في ادارة الشأن العام، (بتصرف عن: عمر حمزاوي، في شرح أهمية المجتمع المدني في بلادنا).

ثمة اجتهادات متنوعة لتعريف المجتمع المدني، لكن جميعها كما يقول: حسام شحادة في كتابه (المجتمع المدني، منشورات بيت المواطن(دمشق:2025)، ص14)،  تميز المجتمع عن الدولة، وتشير الى منظومة الأطر الاجتماعية الطوعية التي تتوسط بين الدولة من ناحية والمكونات الاساسية للمجتمع من الناحية الاخرى( الأفراد، الاسرة، الشركات)، لذا نجد بأن هناك من يُعرف المجتمع المدني على أنه" مجموعة التنظيمات الحرة التي تملأ المجال العام بين الاسرة والدولة، اي بين مؤسسات القرابة ومؤسسات الدولة التي لامجال للاختيار في عضويتها، وهذه التنظيمات التطوعية الحرة تنشأ لتحقيق مصالح افرادها أو لتقديم خدمات للمواطنين أو لممارسة أنشطة انسانية متنوعة، وتلزم وجودها ونشاطها بقيم ومعايير الاحتلام والتراضي والتسامح والادارة السليمة للتنوع والاختلاف ( وائل السواح،الديمقراطية، سلسلة" التربية المدنية"، منشورات بين المواطن (دمشق:2014)، ص14)، في حين يُعرف  معهد البحرين المجتمع المدني: على أنه مجموعة التنظيمات والمؤسسات التي تنشأ بمبادرات أهلية ، من خلال العمل التطوعي ، والتي لها طابعها الاجتماعي .

 هذه المنظمات تعمل في مجالات ثقافية واجتماعية واقتصادية وحقوقية متنوعة وهي في عملها هذا تحظى باستقلال نسبي عن المؤسسات الرسمية إلا أن هذا الاستقلال لا يمنع التنسيق والتكامل مع تلك المؤسسات وذلك من خلال علاقات التعاون والانسجام فيما بينها، ويظهر العمل التطوعي الذي يميز تلك المنظمات طبيعتها والهدف من أدائها الوظيفي، والذي لا يكون في كل الأحوال الحصول على الربح، وإنما يكون الهدف منه التعبير عن مصالح الأعضاء والغايات والمثل التي ينشدونها، والتي قد تكون على سبيل المثال، نقابية أو مهنية كالاتحادات المهنية والعمالية، وثقافية وفكرية كإتحادات الأدباء والمفكرين والجمعيات الثقافية ، أو حقوقية ودفاعية لجماعات وفئات معينة في المجتمع كالجمعيات المعنية بشئون المرأة والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان.في حين الواقع الملموس الذي نعيشه في مجتمعاتنا يشير الى أن تأسيس المجتمع المدني قد اعطى للعلاقات طابع،اجتماعي فأصبحت تعاقدية كالجمعيات،النقابات والأحزاب، وذلك ما يمكن ان نسميه بالحركيات الاجتماعية، والتي من شأنها تعزيز شبكة النسيج الاجتماعي، والتي لامناص من مقارنتها بالنظم التي تنتهجها مجتمعاتنا ضمن الأطر السياسية، والتي هي منوطة بالدرجة الاساس للسلطوية المتحكمة بكل اواصر الحياة، وفق ما يمكن ان نصفه بالمجتمع الأبوي المتجذر في غالبية المجتمعات الشرقية (حول ذلك ينظر: هشام شرابي، النظام الأبوي واشكالية تخلف المجتمع الأبوي ، ص 20)، وذلك على الرغم من محاولتها الخروج من عباءة الدين إلا أنها لاتخرج منه إلا للدخول فيه من باب آخر، فضلاً عن سوء توظيف المفاهيم السلطوية كالديمقراطية والحريات، بحيث نجد تحكماً اقرب بالدكتاتورية في فرض النظام ليس مؤسساتياً فحسب، انما اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً ايضاً، فضلاً عن سوء استخدام التكنولوجيا بكل مفاصلها، ناهيك عن انعدام الوعي وغياب المسؤولية، والتغافل عن المؤشرات الدالة على الوطنية الاستقلالية، كل تلك الامور تعد طفيليات العقل الشرقي بالاخص الشرق اوسطي، لذا تخوض مجتمعاتنا حرباً ذاتية دون وجود هدف محدد، لأن اسباب الحرب نفسها هي نتاج عقلياتها، ونتاج طبيعي لوعيها السالب (ينظر: جوتيار تمر، الوعي السالب للبناء في كوردستان، الحوار المتمدن، 2013)، كل ذلك ساهم ويساهم حالياً في اعاقة تجذر المفاهيم سواء الحداثية او ما بعد الحداثية وحتى المفاهيم المتعلقة بالتجدد والتطور والنظام العالمي الجديد وغيرها من المفاهيم التراكمية التي توالت على المجتمعات، كبنيةشاملة وسياق متكامل ووعي ناضج للتحديث والمساهمة في عملية التحول على جميع الاصعدة، لاسيما المجال المدني الذي بات اشبه بشعارات تتخذها الجهات السلطوية من جهة، واحزاب المعارضة من جهة اخرى كمسارات استغفالية إن صح التعبير ليس بعقول العامة فقط، إنما بعقول الفئات النخبوية والثقافية والسياسية ايضاً، فالمجتمع المدني في مجتمعاتنا ليس إلا وجه آخر من أوجه السلطة والتي تم تعريفها في معجم جميل صليبا بأنها " القدرة والقوة على الشيء، والسلطان الذي يكون للانسان على غيره ويطلق مفهوم السلطة النفسية على الشخص الذي يستطيع فرض إرادته على الآخرين لقوة شخصيته، وثبات جنانه وحسن اشارته وسحر بيانه، أما السلطة الشرعية فهو مفهوم يطلق على السلطة المعترف بها في القانون كسلطة الحاكم والوالي والوالد والقائد "(المعجم الفلسفي، الشركة العالمية للكتاب (بيروت:1994)، ص670)،  وهنا نحن أمام الهيمنة، والتبعية، والولاء، والأسبقية بين الناس جميعاً، والتي تتبلور من خلال مؤسسات اجتماعية،" أن السلطة في العلوم الاجتماعية تعني قدرة أشخاص أو مجموعات على فرض إرادتهم على الآخرين، إذ يستطيع الأشخاص ذو النفاذ، إنزال عقوبات أو التهديد بها، على أولئك الذين يطيعون أوامرهم أو طلباتهم وتكاد السلطة تكون موجودة في كل العلاقات الانسانية، كما إن أطر هذه السلطة، الأسرة، المدرسة، القبيلة، الحي، الجماعة الدينية، الجماعة الوطنية ، ففي كل هذه المؤسسات تتبلور سلطات أو نوع من السلطات التي تشكل معايير تنظيم الحياة الاجتماعية ومؤشرات لتوجيه سلوك الفرد وادماجه في بيئته ومحيطه، وكل مؤسسة تقوم على سلطة وولاية لابد منها سواءا ً كانت هذه السلطة في المدرسة أو المؤسسة الدينية أو السياسية ( شرقي ميمونة، النقد الحضاري للمجتمع العربي،ص145)،  ووفق تلك المفاهيم حول السلطة والقوة والهيمنة وفرض الرأي يمكن الوقوف على المسارات التي تتخذها الجهات المعنية بالمجتمع المدني أو تلك المنظمات التي تتخذ من اسمها كمدخل تشريعي للولوج بين الفئات والشرائح المختلفة داخل المجتمعات، وهي في الحقيقة ليست إلا وجه سلطوي آخر تحقق مآربها وتفرض ايديولوجيتها المنمقة لكسب ود المجتمع، دون أن تقدم في مجمل افعالها ما يمكن أن نحسبه خدمة للمجتمع، أو تغييراً في الانماط السلوكية بين الافراد والاسر ، فضلاً عن كونها تحولت في مجتمعاتنا الى مصادر كسب لبعض الافراد المقربين من الجهات السلطوية على الاغلب ولكن برداء استقلالي مُسير، وليس مُخير، وفي الاجمال فان المجتمع المدني المنشود ضمن دوائر الايديولوجيات المتوفرة لم تستطع أن تحول اقوالها الى افعال يمكن الاتكال عليها لإحداث تغييرات مرجوة على البنى الاساسية في المجتمعات الشرقية سواء السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو حتى الثقافية.

***

د. جوتيار تمر / كوردستان

7-6-2024

........................

- حول وظائف المجتمع المدني، ينظر: حسام شحادة، المجتمع المدني، ص 16-19.

 

مصطلح الكوسموبوليتانية مشتق من الكلمة اليونانية kosmopolites، والتي تعني "مواطن العالم". تم استخدامه لأول مرة من قبل المتهكمين ثم الرواقيين لاحقاً، الذين استخدموه لتحديد الأشخاص على أنهم ينتمون إلى مجتمعين متميزين: المجتمع المحلي والمجتمع الأوسع "المشترك". هذا الفهم للكوزموبوليتانية لا يشير إلا إلى واحد من معانيها. ومفهومه اليوم واسع، ولا يكفي تعريف واحد ليشمل كل معانيه. ويمكن التمييز بين العالمية الأخلاقية والسياسية؛ يمكن فهم العالمية باعتبارها منظوراً للعدالة العالمية وكمفهوم يتم من خلاله الحديث عن حقوق الإنسان ونظرية العدالة. ويمكن أيضاً فهم الكوسموبوليتانية على أنها موقف أخلاقي، حيث ينخرط الأفراد مع الآخرين في الحوار والتفاهم من أجل تجاوز ضيق الأفق. كما يُنظر إليه بشكل متزايد على أنه يتم التعبير عنه في الظواهر الثقافية، كما هو الحال في أنماط الحياة والهويات. الكوسموبوليتانية هي وجهة نظر معيارية يمكن من خلالها تجربة العالم وفهمه والحكم عليه، وهي أيضاً حالة يتم من خلالها إنشاء القوانين والمؤسسات والممارسات التي يتم تعريفها على هذا النحو.

تشمل الكوسموبوليتانية أربع وجهات نظر متميزة، ولكنها متداخلة: (1) التماهي مع العالم أو مع الإنسانية بشكل عام والذي يتجاوز الالتزامات المحلية. (2) موقف الانفتاح والتسامح تجاه أفكار وقيم الآخرين المتميزين. (3) توقع الحركة التاريخية نحو السلام العالمي. و(4) موقف معياري يؤيد الأهداف والأفعال العالمية.

 للكوزموبوليتانية جانب جماعي مثل نظريات عالم الاجتماع الفرنسي "ديفيد دوركهايم" David Durkheim حيث كان الكثير من أعمال دوركهايم معنياً بكيفية الحفاظ على سلامة المجتمعات وتماسكها في الحداثة، وهو العصر الذي أصبحت فيه الروابط الاجتماعية والدينية التقليدية أقل عالمية بكثير، وظهرت فيه مؤسسات اجتماعية جديدة. لقد أرسى مفهوم دوركهايم للدراسة العلمية للمجتمع الأساس لعلم الاجتماع الحديث، واستخدم أدوات علمية مثل الإحصائيات والمسوحات والملاحظة التاريخية في تحليله للسلوك الاجتماعي في الجماعات الكاثوليكية والبروتستانتية. وللكوزموبوليتانية جانب يتمحور حول الفرد، وقد طورها الفيلسوف الألماني التنويري "إيمانويل كانط"  Immanuel Kant بشكل خاص. يعتقد كانط أن العقل هو مصدر الأخلاق، وأن الجماليات تنشأ من ملكة الحكم النزيه. كانت آراء كانط الدينية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنظريته الأخلاقية. لقد رسم كانط تشابهاً مع الثورة الكوبرنيكية في اقتراحه للتفكير في موضوعات الخبرة باعتبارها تتوافق مع أشكال حدسنا المكانية والزمانية وفئات فهمنا، بحيث يكون لدينا معرفة مسبقة بتلك الأشياء. وقد أثبتت هذه الادعاءات تأثيرها بشكل خاص في العلوم الاجتماعية، وخاصة علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، التي تعتبر الأنشطة البشرية موجهة مسبقاً بواسطة المعايير الثقافية.

في النظرية السياسية

الكوسموبوليتانية في النظرية السياسية، تعني الاعتقاد بأن جميع الناس يحق لهم الحصول على نفس القدر من الاحترام والتقدير، بغض النظر عن حالة جنسيتهم أو انتماءاتهم الأخرى.

كان من بين المؤيدين الأوائل للكوزموبوليتانية الفيلسوف اليوناني الساخر "ديوجين" Diogenes كان ديوجين شخصية مثيرة للجدل. تم نفيه أو هربه من "سينوب" Sinope بسبب انخفاض قيمة العملة. لأنه كان ابناً لرئيس سك العملة في سينوب. تم القبض على ديوجين من قبل القراصنة وبيعه كعبيد، واستقر في نهاية المطاف في "كورنثوس" Corinth. وهناك نقل فلسفته الساخرة إلى "كراتس" Crates الذي علمها لـ "زينو السيتيوم" Zeno of Citium ، الذي حولها إلى مدرسة الرواقية، وهي من أبقى مدارس الفلسفة اليونانية. رفض هؤلاء المفكرون فكرة أنه يجب تحديد هوية الفرد بشكل مهم من خلال المدينة الأصلية، كما كان الحال بالنسبة للذكور اليونانيين في ذلك الوقت. وبدلا من ذلك، أصروا على أنهم "مواطنو العالم".

عارض الفلاسفة الرواقيون التمييز التقليدي (اليوناني) بين اليونانيين والبرابرة من خلال تطبيق مصطلح الكوزموبوليتانيين Cosmopolitans على أنفسهم، مما يعني ضمناً أن بوليسهم، أو دولتهم المدينة، كانت الكون بأكمله. وقد ثبط "الإسكندر الأكبر" Alexander the Great هذا التمييز من خلال السماح لجنرالاته بالزواج من نساء الأراضي التي غزوها، لكن سياسته واجهت مقاومة في الميدان وصدمة في الداخل. اخترق الرواقيون (من القرن الرابع إلى الثالث قبل الميلاد) الافتراض اليوناني بتفوقهم العرقي واللغوي ونظروا إلى العالمية الجديدة من منظور فلسفي.

كان اليونانيون الأوائل قد شعروا أنه كان من إملاء الطبيعة نفسها (أو العناية الإلهية زيوس) Zeus أن الإنسانية قد انقسمت إلى يونانيين وبربريين. على العكس من ذلك، جادل الرواقيون بأن جميع الناس يشتركون في سبب واحد مشترك ويخضعون للشعار الإلهي الواحد، وبالتالي، فإن الحكيم الرواقي الحقيقي ليس مواطناً في أي دولة واحدة، بل مواطناً في العالم كله.

نفذ الرواقيون اللاحقون هذه الفكرة من خلال التأكيد على أعمال اللطف حتى تجاه الأعداء والعبيد المهزومين. كانت هناك أيضاً نصائح لتوسيع حب الذات الرواقي المميز (oikeiōsis) في دائرة دائمة الاتساع من الذات إلى العائلة، إلى الأصدقاء، وأخيراً، إلى الإنسانية ككل. وقد ذهب كثير من المؤرخين إلى أن هذا المبدأ الرواقي ساعد في التمهيد لقبول المسيحية، التي ليس فيها، بحسب القديس بولس الرسول، يهودي ولا يوناني، حر ولا عبد، ذكر وأنثى.

ذكّر "إبكتيتوس" Epictetus، وهو أحد الرواقيين المتأخرين (القرنين الأول والثاني الميلادي)، أتباعه بأن جميع البشر إخوة بطبيعتهم، وحثهم على أن يتذكروا من هم ومن يحكمون، لأن المحكومين أيضاً هم أقرباء، وإخوة بالطبيعة، وكلهم أبناء زيوس.

الكوزموبوليتانية السياسية

تطبق العالمية السياسية وجهات النظر الدولية التي وصفناها للتو على سياق العلاقات الدولية والسياسة العالمية. هناك تناقض جوهري بين المفاهيم الأخلاقية التي تنطبق على العلاقات الدولية. أنهت معاهدة وستفاليا Treaty of Westphalia عام 1648 حرب الثلاثين عاماً في أوروبا من خلال تحديد حقوق الحكام على الدول والحد من حقوقهم فيما يتعلق بالدول الأخرى. لقد أسست فكرة الدولة القومية ككيان سياسي له الحق في حكم نفسه بأي طريقة يراها مناسبة والدفاع عن سلامته الإقليمية والوطنية ضد الدول المتنافسة الأخرى. ونشرت القوى الأوروبية هذا المفهوم إلى بقية أنحاء العالم من خلال الاستعمار والغزو، وقد أصبح راسخاً في القانون الدولي وفي ميثاق الأمم المتحدة باعتباره مفهوم سيادة الدول.

 بالنسبة للعديد من المنظرين السياسيين، وخاصة أولئك الذين يتمتعون بإقناع واقعي، فإن فكرة سيادة الدولة هي حجر الأساس للقانون الدولي وترخص أي أنشطة دبلوماسية وعسكرية وحتى تجارية تعمل على توسيع نفوذ الدولة وقوتها وتعزيز مصالحها الوطنية. في هذه النظرة، يصبح الاستعداد للحرب موقفاً لا مفر منه بالنسبة للدول القومية التي ترغب في الحفاظ على هويتها وقدرتها على تقرير المصير في عالم معادٍ. علاوة على ذلك، فإن الحكومات الوطنية لديها ما يبرر رفضها لأي تدخل في شؤونها الداخلية من جانبها باعتباره انتهاكاً لسيادتها من قبل الدول القومية الأخرى أو الوكالات الخارجية الأخرى مثل المنظمات غير الحكومية.

ومع ذلك، فإن هذا التأكيد على السيادة أصبح موضع تساؤل من قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (UDHR) الذي نشرته الأمم المتحدة في عام 1948. ولا يقتصر هذا الإعلان على إدراج عدد كبير من الحقوق التي يقول إنها مملوكة لجميع البشر فقط من خلال بحكم كونهم بشراً، فإنه يمنح أيضاً جميع دول العالم مسؤولية الدفاع عن تلك الحقوق ودعمها. وهذا يوحي، كما تؤكد الإعلانات اللاحقة الصادرة عن الأمم المتحدة، أن الدول تتحمل مسؤولية الدفاع عن حقوق الإنسان واحترامها ليس فقط لمواطنيها، بل أيضاً لمواطني الدول الأخرى في حالة عدم قيام حكومات تلك الدول بالدفاع عن تلك الحقوق. حقوق. فإذا قام طاغية بقمع شعبه أو مجموعة من الأقليات داخل بلده، فإن الدفاع عن حقوق الإنسان العالمية من الممكن أن يجيز ما أصبح يعرف بالتدخل الإنساني. وقد تتراوح مثل هذه التدخلات بين تقديم المساعدات الغذائية للسكان الذين يعانون من الجوع، إلى الغزو العسكري من أجل إزالة الحكومة التي تنتهك حقوق شعبها. وبهذه الطريقة، تتعارض حقوق سيادة الدولة مع حقوق الإنسان العالمية للأفراد.

إن الفرضية المركزية للكوزموبوليتانية السياسية هي أنه في هذا الصراع، يجب إعطاء الأفضلية لحقوق الأفراد بدلاً من حقوق الدول. ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بهذا الموقف إدراك أن العديد من الحروب الدولية (على عكس الحروب الأهلية والثورات وحروب التحرير الوطني) تعتمد على الحاجة إلى إبراز قوة الدولة القومية على العالم سعياً لتحقيق مصلحتها الوطنية. والسيادة. وبناءً على ذلك، يزعم الكوزموبوليتانيون أن المثل الأعلى للسلام الدولي الدائم يتطلب تقليص الحقوق المرتبطة بالسيادة واستقلال الدول.

سوف تختلف المقترحات المحددة التي تنبع من هذا الموقف. في أحد طرفي نطاق الاحتمالات، ستكون الدعوة إلى إنشاء حكومة عالمية. وكما زعم الفيلسوف الانجليزي "توماس هوبز" Thomas Hobbes أن المجتمع المدني لا يمكن أن يخرج من حالة الطبيعة العنيفة إلا إذا حكم الطاغوت ذو السلطة المطلقة مثل هذا المجتمع، كذلك يقال إن السلام العالمي والحفاظ على حقوق الإنسان لا يمكن تحقيقهما إلا إذا كانت الدولة المماثلة لقد تحولت الطبيعة الموجودة في عالم تحتله دول قومية متبادلة العدوان إلى مجتمع عالمي مقيد بالقوانين الدولية التي يمكن فرضها ومراقبتها من قبل قوة عليا.

ومع ذلك، حتى إيمانويل كانط، الذي ربما كان أول فيلسوف حديث يدافع عن هذه الفكرة، سرعان ما أدرك أن احتمال الاستبداد العالمي في مثل هذا الاقتراح كان أكبر من أن يكون مقبولاً. وفي غياب أي قوة موازية لاحتواء قوة مثل هذه السلطة العالمية، فإن خطر القمع والاستغلال الذي تفرضه النخبة السياسية على نطاق عالمي هو ببساطة أكبر من أن يقبله أي منظر سياسي ليبرالي. بالطبع، إذا اعتبرت أنك تمتلك كل المعرفة والبصيرة المطلوبة لحكم العالم بعدل، فلن تتبنى مثل هذا الموقف المتخوف.

إن المدافعين عن الملوك الفلاسفة الأفلاطونيين، أو الحكم العالمي للعالم المسيحي، أو الخلافة العالمية، أو دكتاتورية البروليتاريا الدولية لا يشعرون بمثل هذا المنع.

ولايات إقليمية

تشير حجة أخرى ضد الحكومة العالمية إلى الضرورة العملية والفاعلة للدول. ويقال إن هناك حاجة إلى ولايات قضائية قانونية إقليمية تتمتع بامتيازات وواجبات الدول من أجل ضمان حقوق المواطنين والتوزيع العادل للمنافع الاجتماعية، وأن هذه الواجبات لا يمكن عملياً أن تؤديها حكومة عالمية. وكما نحتاج إلى السلطات البلدية لتنظيف مصارف المياه في المدن والتخلص من القمامة، وحكومات المقاطعات لإدارة المدارس والمستشفيات، فإننا في احتياج إلى حكومة وطنية لضبط القوانين (والتي سوف يستند الكثير منها إلى تقاليد ومعايير لا تنطبق عالميا). وجمع الضرائب وتوزيع السلع الاجتماعية في ضوء المفاهيم المحلية للحياة الجيدة، وتنظيم حقوق الملكية للشركات المحلية والدفاع عنها، وتأمين حقوق الإنسان بأشكال معترف بها في المناطق ذات الصلة. ورغم أن العديد من المعايير التي يتعين على الحكومات أن تطبقها تتمتع بصلاحية عالمية، فإن صياغة هذه القواعد وتطبيقها سوف تكون ذات صبغة محلية. بالإضافة إلى ذلك، يحتاج المطالبون بحقوق الإنسان إلى السلطات المحلية للتوجه إليهم في حالة انتهاك حقوقهم. علاوة على ذلك، يُقال إنه بغض النظر عن القوانين والصكوك الملزمة دولياً والتي قد تحد من سيادة الدولة أو حتى تنشئ حكومة عالمية، فإن حكومات الدول القومية فقط هي المخولة بالدخول في مثل هذه الاتفاقيات.

من جانبه، دعا كانط إلى إنشاء اتحاد عالمي للدول ذات السيادة حيث تلتزم الدول بعدد من القواعد الأساسية للتعاون الدولي، بما في ذلك قواعد الإدارة السليمة للحرب، من أجل ضمان السلام الدائم بينهما. وكانت الفكرة المركزية في وصفاته هي أن الدول الديمقراطية من المرجح أن تعيش في سلام مع بعضها البعض مقارنة بالملكيات المطلقة. فالشعوب القادرة على تقرير المصير الديمقراطي ستكون أقل احتمالاً لخوض حرب مع الشعوب الأخرى لأنها ستعرف أنها هي نفسها ستعاني من تكاليف القيام بذلك. وفي حين يستطيع الملوك عادة حماية أنفسهم من هذه التكاليف، فإن الناس العاديين لا يستطيعون ذلك.

وقد أوضح المفكر السياسي الأمريكي "جون راولز" John Rawls هذا الارتباط بين التعاون الدولي وأشكال الحكم في كتابه "قانون الشعوب" Law of peoples، حيث يرى أنه إذا اجتمع ممثلو الشعوب معاً لتصميم نظام دولي للتعاون، فإنهم سيؤيدون نظاماً دولياً للتعاون. مجموعة من المبادئ التي تشمل السيادة وأي قيود على هذه السيادة بما يضمن السلام الدائم بينهما وحماية حقوق الإنسان. لم يعتقد راولز أنه من الضروري أن تخضع جميع الشعوب التي تدخل في مثل هذا الميثاق إلى الحكم الديمقراطي. وحتى لو كانت حكوماتها مستبدة، فسيكون كافياً لتأمين السلام والتعاون إذا كان ممثلوها عقلانيين في تعاملهم مع العقد العالمي المتخيل.

انتقد العديد من المفكرين العالميين تفسير راولز على أساس أنه لا يزال دولانياً في الشكل. فهو يعطي قدراً كبيراً من المصداقية للقيم المزعومة للسيادة الوطنية ولامتيازات النخب الحاكمة، وبالتالي لا يعطي وزناً كافياً للمجموعة الكاملة لحقوق الإنسان الموضحة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ومع ذلك، فإن الشيء المهم في مساهمة راولز في هذا النقاش هو اعترافه بتعددية القيم العالمية. لا يقتصر الأمر على أن العالم يحتوي على حكومات متعددة الأشكال ــ كثير منها مستبدة وغير ليبرالية ــ بل إن العالم يحتوي أيضاً على العديد من الفلسفات السياسية، بما في ذلك الثيوقراطية، والاستبدادية، والليبرالية. وقد تكون بعض الحكومات غير الليبرالية محتشمة من حيث إنها توفر الحد الأدنى من حقوق الإنسان الأساسية لمواطنيها.

 إن العالم المسالم يجب أن يكون عالماً يسوده التسامح والتعايش رغم هذه الاختلافات. إن اتحاد كانط للدول الديمقراطية لن يغطي الكثير من سطح الأرض. إن المجتمع العالمي الحقيقي لا يمكن أن يقوم على افتراض أو فرض القيم الليبرالية الغربية على المستوى العالمي. ولا ينبغي لنا أن ننظر إلى العالمية السياسية مع تحول الليبرالية إلى إمبريالية.

تقلص سيادة الدول

مهما كانت المآزق التي تفرضها الكوسموبوليتانية على النظرية السياسية، فإن الحقيقة هي أن المجتمع العالمي قد تطور على النحو الذي أدى في الواقع إلى تقليص سيادة الدولة. وفي سياق العولمة، هناك حاجة متزايدة إلى القانون الدولي وغيره من أشكال التعاون الملزمة. وحتى لو كان الأمر يقتصر على حماية حقوق الملكية في المعاملات التجارية عبر الحدود، فيجب على جميع البلدان احترام السلطات القانونية الدولية. إن الاحتياجات العالمية الناشئة حديثاً، مثل تلك المتعلقة بحماية البيئة، واستدامة مصايد الأسماك في المحيطات، ومعايير الترابط في الاتصالات والتكنولوجيا، إلى جانب تنظيم الترتيبات المالية الدولية، أدت إلى قبول المؤسسات العالمية مثل الأمم المتحدة، البنك الدولي، والاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (GATT)، والاتفاقيات المتعلقة بالسيطرة على الأسلحة النووية، وما إلى ذلك، والتي تعمل جميعها على تقليص نطاق سيادة الدولة.

إذا كانت الدعوة إلى الحكومة العالمية هي أحد طرفي طيف الإمكانيات داخل الكوسموبوليتانية السياسية، فإن الدعوة إلى الديمقراطية العالمية هي الطرف الآخر. ما نتصوره هنا هو أن المندوبين إلى مثل هذه المؤسسات الدولية كما ذكرت سابقاً لا ينبغي أن يتم تعيينهم من قبل النخب السياسية التي تحكم البلدان التي يأتون منها، بل يجب أن يتم انتخابهم من قبل الشعوب التي يمثلونها. وإذا كان بوسع هيئات مثل الأمم المتحدة أن تشتمل على مجلس شعبي يتم انتخاب المندوبين إليه بشكل مباشر من قِبَل شعوب العالم، فمن الممكن أن تظهر هذه الهيئات مستوى حديث من الاستجابة للأجندات السياسية العالمية المشكلة ديمقراطياً. وكثيراً ما يُقدَّم البرلمان الأوروبي كمثال لما قد يكون ممكناً على هذا المنوال. إن ما إذا كان هذا الاقتراح ممكنا في سياق السياسة العالمية الحالية ليس سؤالا يسمح للفلاسفة السياسيين ذوي الميول الأكثر طوباوية لأنفسهم بالانحراف عنه.

الاعتبارات الأنثروبولوجية والاجتماعية

إن المشاعر التي تثيرها العالمية لا تقتصر على العالم الغربي. يهتم البشر دائماً بمعرفة من أين يأتي الناس. تعتمد القدرة على تحديد موقع الفرد أو الآخرين من الناحية الجغرافية والثقافية والسياسية على مجموعة من الفئات التصنيفية التي تم بناؤها ثقافياً وتاريخياً. هذه الأنماط لتمثيل العضوية في الوحدات الاجتماعية والثقافية والسياسية، وهي الأنماط التي تربط الناس بالجماعات والأقاليم، يمكن تصورها على أنها سلسلة متواصلة من المفاهيم والدوائر الداخلية التي تتراوح من المؤثرات المحلية والظاهراتية إلى مستويات التكامل الإقليمية والوطنية والدولية وعبر الوطنية الأكثر بعداً، والتي يكون تأثيرها حاضراً بشكل متغير في حياة الفاعلين الاجتماعيين. ونظراً للطبيعة الحالية لتكامل النظام العالمي، فإن جميع هذه المستويات موجودة في وقت واحد مما يسمح بمشاعر الانتماء المتعدد، والتي يتم تصورها عموماً من حيث "التهجين". التي تحدد حدود الهوية الصارمة أو المرنة ومواقف الرعايا التي بدورها توجه التعاون الاجتماعي أو المنافسة. يمكن لأي شخص أن يحمل ولاءاته لحي، أو مدينة، أو منطقة، أو بلد، أو قارة، أو أن يكون مهاجراً في مدينة عالمية، أو موظفاً في شركة عبر وطنية. إن الكثير من النقاش حول ما إذا كانت الكوسموبوليتانية ممكنة أم لا يعتمد على عدم الاهتمام بالوجود المتزامن لقوى بناء الهوية هذه، والذي يتردد صداه مع المفاهيم الجوهرية للهوية. إن وجود أشكال شاملة واسعة النطاق لدمج الناس والأراضي تحت نفس المظلة السياسية والرمزية لا يعني نهاية الأشكال الأضيق. وإلا فكيف يمكن للمرء أن يفسر استمرار النزعة الانفصالية الإقليمية والعِرقية داخل الدول القومية؟ ومع ذلك، ينبغي أن يكون واضحاً أنه في حين أن الجميع محليون، فليس الجميع عالميين.

لقد جعلت العديد من القوى العالمية المعاصرة كثير من الأشياء ممكنة، مثل الفردية مع انفصالها النسبي عن التضامنات المباشرة والضيقة، والتوسع العالمي للأنظمة الاقتصادية والسياسية بالوسائل العسكرية والتجارية والدينية، وتطوير تقنيات النقل والاتصالات التي أدت إلى تفاقم ضغط الزمان والمكان، وبالتالي، تداول الأشخاص والمعلومات والسلع على نطاق الكوكب، ونمو المدن العالمية وزيادة التباين الثقافي والعرقي الذي جلبته. إمبراطورية وسائل الإعلام وخاصة التلفزيون العالمي وظهور عصر المعلومات بشبكته الافتراضية العالمية. وكذلك الجهات الفاعلة السياسية الجديدة مثل المنظمات غير الحكومية التي تغذيها المنظمات والإيديولوجيات العابرة للحدود الوطنية.

هناك انتقادان شائعان موجهان ضد العالمية: الأول، أنها تمثيل اجتماعي نخبوي، والآخر أنه مشروع مستحيل. يمكن تقديم الحجج لموازنة هاتين النقطتين. لقد ولدت حركات الهجرة العالمية المكثفة في القرنين الماضيين أعداداً كبيرة من الأشخاص المقتلعين، وتقسيمات عرقية حضرية ووطنية معقدة، وشبكات عابرة للحدود الوطنية، وثقافات الشتات التي اختلطت بأعمال وسائل الإعلام، وخلقت عالمية شعبية، وغذت العمليات والرؤى. العولمة من الأسفل ومن ثم فمن الضروري استكشاف وجود العديد من الكوسموبوليتانية.

 تختلف الكوسموبوليتانية الشعبية عن تلك الخاصة بالشركات، والتي تختلف بدورها عن تلك الخاصة بالسياح البرجوازيين، أو رجال الأعمال، أو العلماء الدوليين. ليس هناك شك في أن التعرض للاختلاف والتنوع الثقافي يتزايد بسرعة، كما هو الحال مع عدد المهاجرين العابرين والمجموعات المتمايزة، وهي في أغلب الأحيان مجموعات مهنية، والذين يعتبر الولاء للدولة القومية أمراً ثانوياً. فعالية الحقائق التاريخية والاجتماعية (مثل القنبلة الذرية، والتكامل الكوكبي عبر الأقمار الصناعية، والترابط العالمي لأسواق الأوراق المالية، وثقافة الاستهلاك العالمية، والاتحاد الأوروبي) والأيديولوجيات العالمية الجديدة (مثل حماية البيئة والدفاع عن حقوق الإنسان)، جنباً إلى جنب مع ظهور موضوعات سياسية وحركات اجتماعية جديدة، أدى ذلك إلى تحفيز المزيد من التعبيرات وأفعال النشاط العابر للحدود الجديد. بالنسبة للبعض، كل هذا سيؤدي إلى تنظيم مجتمع مدني عالمي. وعلى الرغم من حقيقة أن هذه العمليات تولد أيضاً انتقادات نسبية في مواجهة التوزيع العالمي غير المتكافئ للسلطة (يرسم الانقسام بين الجنوب والشمال في النشاط أيضاً خطاً من العلاقات غير المتكافئة والوصول إلى الرؤية والبنية التحتية)، إلا أنها تولد إطاراً أكثر واقعية للعالمية وأكثر من أي فترة سابقة. إن الولاية القضائية خارج الحدود الإقليمية تمثل تحدياً حقيقياً آخر للأنظمة القانونية الراسخة في التشريعات الوطنية والسلطات القضائية في نظام عالمي تعمل فيه القوى الإمبريالية أو التحالفات العسكرية المتعددة الجنسيات.

خلاصة

يجادل بعض الفلاسفة والعلماء بأن الظروف الموضوعية والذاتية الناشئة في اللحظة التاريخية الفريدة اليوم، وهي مرحلة كوكبية ناشئة من الحضارة، تخلق إمكانات كامنة لظهور هوية عالمية كمواطنين عالميين وتشكيل محتمل لحركة مواطنين عالمية. تشمل هذه الظروف الموضوعية والذاتية الناشئة في المرحلة الكوكبية تحسين الاتصالات السلكية واللاسلكية وبأسعار معقولة؛ السفر إلى الفضاء والصور الأولى لكوكبنا الهش وهو يطفو في الفضاء الشاسع؛ وظهور ظاهرة الاحتباس الحراري وغيرها من التهديدات البيئية لوجودنا الجماعي؛ والمؤسسات العالمية الجديدة مثل الأمم المتحدة، أو منظمة التجارة العالمية، أو المحكمة الجنائية الدولية؛ وظهور الشركات عبر الوطنية وتكامل الأسواق غالبا ما يطلق عليه اسم العولمة الاقتصادية؛ وظهور المنظمات غير الحكومية العالمية والحركات الاجتماعية العابرة للحدود الوطنية، مثل المنتدى الاجتماعي العالمي؛ وما إلى ذلك وهلم جرا. والعولمة، وهي مصطلح أكثر شيوعا، تشير عادة بشكل أضيق إلى العلاقة الاقتصادية والتجارية

أحاول تسليط الضوء على حدود الفهم عبر العوالم المختلفة التي يصنعها الناس ويسكنونها، والإشارة بدلاً من ذلك نحو الاعتراف المتبادل - الاعتراف بممثلي الآخرين. إن الاستياء من عوالمهم، بشروطهم الخاصة ولأغراضهم الخاصة؛ والاعتراف بجهلنا بعوالم الآخرين، والخطوط غير المتكافئة لذلك الجهل، والتي شكلها تاريخ الإمبراطورية والاستعمار والعنصرية والنظام الأبوي، يدعونا مثل هذا التنظير إلى استخدام الأدوات السيميائية لاكتشاف المزيد من المعرفة معاً، لا سيما في استغلال قدرة الفن والأشكال الجمالية للمعرفة عبر الثقافات، ودعوة الناس إلى إدراك حدود كل فهم.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

في المثقف اليوم