قضايا

مفهوم (الظمأ الأنطولوجي) من المفاهيم التي اجترحها المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي للتعبير عن ظمأ الانسان الى ما يثري وجوده، وهو بتعبيره "الظمأ للمقدس، أو الحنين للوجود، لأنه ظمأ الكينونة البشرية، باعتبار أن وجود الإنسان وجود يحتاج إلى ما يثريه. فظمأ الانسان في بعده الانطولوجي متجذر فيه ومهمين على وجوده بالكامل، وهو المفهوم الوحيد الذي بإمكانه أن يجيب عن تساؤلاتنا حول سيادة ظاهرة الإرهاب وتفشيها بين الشباب في الغرب وغيره، ممَّن هم في كفاية معاشية، وبعضهم يعيش ترفاً مادياً، وفي هذا الإطار يتساءل "فما الذي يدفعهم للهجرة إلى ولائم الذبح، وحفلات الرقص على أشلاء الضحايا في بلادنا. والتسابق على الانخراط في وحشيّة عبثيّة، تتلذَّذ بالدم المسفوح، وتتهافت على مغامرات مهووسة في العمليات الانتحاريّة؟". ويجيب "إنَّ ذلك يعود إلى ما يعانونه من ظمأ أنطولوجي للمقدَّس، وبسبب رتابة الحياة، وذبولها وانطفاء المتعة التي تمنحها لهم الملذَّات الحسِّية".

والظمأ بما هو تعبير عن الحاجة والنقصان والفقر، فهو ينطلق بالأساس من مفهوم الاستلاب والاغتراب بأنواعه والتي تنبع بالأساس من الاغتراب الميتافيزيقي - الديني، لكن بمنظور يغاير تصورات فيورباخ الذي يرى "أنه لا يوجد تباين واختلاف بين الطبيعة الإلهيّة والطبيعة البشريّة أي أنّ الإنسان نزع عن نفسه صفاته وتنازل عنها لله - أي أن الله أنموذج ذهني من تصورات الانسان ذاته - ونتج عن ذلك اغترابه وضعفه وعجزه واستلابه وقد ربط فيورباخ الاغتراب بالدين واعتبره المصدر الأساس للاغتراب، حيث أن فكرة الله تسلب الإنسان ذاته وذلك لاعتقاده بوجود قوة مفارقة له متميزة ومختلفة، وبذلك فالاغتراب الميتافزيقي هو غير أشكال الاغتراب الأخرى. يقول الرفاعي: "الاغتراب الميتافزيقي كما أصطلحُ عليه، هو اغتراب وجودي عن العالَم الميتافيزيقي. وهو ضربٌ من الاغتراب يختلف عن اغتراب الوعي والاغتراب الاقتصادي والاغتراب الاجتماعي والاغتراب النفسي والاغتراب السياسي. ينشأ هذا الاغتراب عندما يحبس الإنسانُ وجودَه بالوجود المادي الضيق، فيختنق باغترابه عن الوجود الميتافيزيقي. وينتج عن ذلك تمزق الكينونة الوجودية للإنسان وضياعها بتشرّدها عن الأصل الوجودي لكلِّ موجود في عالَم الامكان. يفتقرُ الإنسانُ في وجوده المتناهي المحدود إلى اتّصالٍ بوجودٍ غنيّ لا نهائيّ لا محدود، وعندما لا يتحقّق له مثلُ هذا الاتّصال الوجوديّ يسقطُ في الاغترابِ الميتافيزيقيّ. الاغترابُ الميتافيزيقي يعني أنَّ وجودَ الذَّات البشرية وكمالَها لا يتحقّقان ما دامتْ مغتربةً في منفى عن أصلها الذي هو الوجود الإلهي". نقطة الاختلاف تكمن في أن الخلاص من الاغتراب في الأنواع الأخرى لا يعني الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي، والى هذا يشير الرفاعي: "على الرغم من الآثار الموجعة لاغتراب الوعي والاغتراب الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والسياسي، لكن الخلاص من الاغتراب في هذه الأنواع لا يعني الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي". ويرجع الرفاعي أسباب عدم القدرة من الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي "لأن الاغتراب الميتافزيقي اغتراب لكينونة الكائن البشري عن وجودها، وهذه الحالة من الاغتراب تنتج القلق الوجودي إذ بعد أن يفتقد صلته بإلهه يفتقد ذاته". بمعنى أن الكائن البشري لا يمكنه الخلاص من اساس اغترابه، الا إذا استطاع ان يجد تلك الصلة بينه وبين إلهه فيصل الى حالة من التسامي والتصالح مع الذات وحبها. وطبعاً قد تختلف رؤية الانسان للإله فقد يكون الإله عند البعض هو المال او المادة المشبعة لأنواع الغرائز أو هو شخص ما أو عقيدة ما أو رمز ما، لكن ما يقصده الرفاعي بالإله هنا هو الله تعالى كحقيقة مطلقة يصعب إدراكها؛ لذلك فإن البحث عنها يظل دائماً هو الهدف من خلق الانسان للارتقاء بذاته وتساميها في رحلة البحث هذه، ولذلك فهو يقول بخلاص الانسان من أنواع الاغتراب من دون التمكن من الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي إلا في حالة الاقتراب من الحقيقة المطلقة حيث يتحول المنظور"الى الإله من منظور عدائي الى منظور قائم على الحب" بمعنى أن الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي يكمن في الدين بتجلياته الروحية والأخلاقية والجماليّة.

الإنسان كما يشير الرفاعي "كائنٌ متعطِّشٌ على الدوام إلى ما يرتوي به، ومن خلال البعد الأنطولوجي في تصوراته: يمكنه العبور إلى جوهر الدين، وبه يرتوي الظمأ للمقدَّس، وبه يتذوَّق الأبعاد الجماليّة، ويدرك ما يفيضه الدينُ على مشاعر المتديِّن في عالمنا، من جمال"، ومحبة وتسامح نابعة من منظومة تيولوجية مترشّحة عن الدين كحقيقة انطولوجية لها تجلياتها الجماليّة التي تروي ظمأ الانسان الى الكمال، وهي بذلك تختلف عن حقيقة الدين في طابعها الايديولوجي الذي يسيس وجودنا دون أن يثريه.

***

حسن الكعبي – كاتب عراقي

...................

* المشاركة رقم: (10) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

التقطت اللغة الإنجليزية مفهوم الغطرسة والمصطلح الذي يشير إلى هذا النوع من الغرور من اليونانيين القدماء، الذين اعتبروا الغطرسة عِلَّة خطيرة في الشخصية قادر على إثارة غضب الآلهة. في المأساة اليونانية الكلاسيكية، كانت الغطرسة في كثير من الأحيان عيباً قاتلاً أدى إلى سقوط البطل المأساوي. عادة تؤدي الثقة المفرطة بالبطل إلى محاولة تجاوز حدود القيود البشرية واحتلال مكانة إلهية، وكانت الآلهة حتماً تُذل الجاني بتذكير حاد بفنائه.

الغطرسة هي سمة شخصية تنطوي على الفخر المفرط والثقة والأهمية الذاتية. وبناءً على ذلك، يميل الأفراد المتغطرسون إلى المبالغة في تقدير أشياء مثل قدراتهم ومعرفتهم وأهميتهم واحتمال نجاحهم. على سبيل المثال، قد يعتقد الشخص المتغطرس أنه لا يخطئ أبداً، وأن نجاحه مضمون في جميع مشاريعه، أو أنه يستحق أن يكون فوق القانون. وهي سمة إشكالية يمكن أن تؤدي إلى عواقب سلبية خطيرة على الأفراد المتغطرسين وعلى من حولهم، لذلك من المهم فهمها والتعامل معها بفعالية.

السلوك المتغطرس قديم قدم الطبيعة البشرية. ومع ذلك، فإن العوامل التي تجعل الناس يُنظر إليهم على أنهم متعجرفون لم تحظ إلا بقدر قليل جداً من الاهتمام البحثي. الغطرسة هي واحدة من أكثر مظاهر الطبيعة البشرية غير المُحببة والتي لا يمكن القضاء عليها، وهي ظاهرة تمت إدانتها منذ العصور القديمة. كان لدى اليونانيين القدماء مفهوم للغطرسة، والذي يشير إلى الأفعال التي تهين الضحية من أجل متعة أو إرضاء المعتدي. كان يُنظر إلى الغطرسة أيضاً على أنها خطيئة في الديانات الإبراهيمية. تؤكد الأبحاث المعاصرة هذه الأفكار المبكرة التي تبين أن الأشخاص المتغطرسين أقل إعجاباً من قبل الآخرين، ويُنظر إليهم على أنهم أقل اجتماعياً، وأقل ذكاءً، وأقل إنتاجية.

على الرغم من سمعتها السيئة، لا تزال الغطرسة شائعة إلى حد ما حتى يومنا هذا. أظهر استطلاع أجرته منصة Amazon's Mechanical Turk شارك فيه 335 شخصاً أن ما يصل إلى 84% من المشاركين أفادوا بأنهم واجهوا سلوكاً متعجرفاً مرة واحدة على الأقل شهرياً. واعترف ما يصل إلى 46% من المشاركين بالتصرف بغطرسة. من الواضح أن السلوك المتغطرس هو حدث اجتماعي متكرر. لكن لماذا يستمر الناس في التصرف بغطرسة؟

قد تكون إحدى الإجابات المفاجئة على هذا السؤال هي أن بعض السلوكيات يُنظر إليها على أنها متعجرفة على الرغم من أنها لم تكن مقصودة على هذا النحو من قبل الممثلين. وبعبارة أخرى، قد تكون الأخطاء المتعجرفة ناجمة عن المفاهيم الخاطئة لدى الأفراد حول الظروف التي بموجبها يُنظر إلى سلوكهم على أنه متعجرف. أحد مظاهر الغطرسة المثيرة للاهتمام في هذا الصدد هو سلوك الرفض، حيث قد يعتقد الناس خطأً أن طردهم للآخرين سيكون مبرراً بتفوقهم الفعلي في الكفاءة.

قد يتصرف الناس باستخفاف تجاه الآخرين بطرق مختلفة. في بعض الحالات، قد يتجاهل الأفراد الآخرين بشكل سلبي، على سبيل المثال، من خلال عدم النظر إليهم، أو من خلال عدم الاهتمام بما يشعر به شريكهم، وما يفكر فيه ويقوله، أو من خلال عدم الرد عليهم. وفي حالات أخرى قد يكون الفصل أكثر نشاطاً، مثل التحقير من الآخرين، أو مقاطعتهم. إن أحد أكثر أشكال سلوك الرفض هو رفض النصيحة. في الواقع، تظهر الأبحاث أن الناس يميلون إلى تجاهل نصيحة الآخرين في سياقات اجتماعية مختلفة، مثل العلاقات الوثيقة، وعلاقات العمل، وفي مواضيع مختلفة، مثل المسائل الواقعية ومسائل الذوق، حتى عندما لا يكون هذا السلوك مبرراً عقلانياً.

ولكن من الواضح أن ليس كل رفض للنصيحة يشير إلى الغطرسة. وقد يشير إلى سمات أو مواقف أو حالات عقلية أخرى للمنصح مثل الاستقلال أو عدم المصداقية أو الثقة بالنفس.

الغطرسة في أثينا القديمة، هي الاستخدام المتعمد للعنف للإذلال أو الإهانة. لقد تغير دلالة الكلمة بمرور الوقت، وأصبح تعريف الغطرسة على أنها غطرسة متعجرفة تقود الشخص إلى تجاهل الحدود الإلهية المحددة للعمل البشري في عالم منظم.

الغطرسة في اليونان القديمة

المثال الأكثر شهرة للغطرسة في اليونان القديمة كان حالة "ميدياس" Meidias، الذي ضرب الخطيب "ديموسثينيس" Demosthenes في وجهه عام 348 قبل الميلاد عندما كان الأخير يرتدي ثياباً احتفالية ويؤدي وظيفة رسمية. وهذا الشعور بالغطرسة يمكن أن يميز الاغتصاب أيضاً. كانت الغطرسة جريمة على الأقل منذ زمن "سولون" Solon في القرن السادس قبل الميلاد، وكان بإمكان أي مواطن توجيه اتهامات ضد طرف آخر، كما كان الحال أيضاً بتهمة الخيانة أو المعصية. في المقابل، لا يمكن إلا لأحد أفراد عائلة الضحية توجيه اتهامات بالقتل.

إن أهم مناقشة للغطرسة في العصور القديمة هي التي أجراها أرسطو في كتابه البلاغة:

"تتكون الغطرسة من فعل وقول أشياء تسبب العار للضحية... لمجرد الاستمتاع بها. الانتقام ليس غطرسة، بل انتقام. الشباب والأغنياء متعجرفون لأنهم يعتقدون أنهم أفضل من الآخرين".

تتناسب الغطرسة مع ثقافة العار في اليونان القديمة والكلاسيكية، حيث كانت تصرفات الناس تسترشد بتجنب العار والسعي إلى الشرف. ولم يتناسب ذلك مع ثقافة الذنب الداخلي، التي أصبحت مهمة في العصور القديمة اللاحقة والتي تميز الغرب الحديث.

"أوديب" Oedipus الذي أعمى نفسه يُظهر الإفراط في الافتراض أو الغطرسة في ثقته بأنه أفلت من نبوءة "أوراكل أبولو" Apollo's oracle، يرى أنه كان مخطئاً وأنه - تماماً كما تنبأ - تزوج أمه وقتل والده. ولذلك فهو يعمي نفسه.

نظراً لأن اللغة اليونانية تحتوي على كلمة تعني خطأ وهي (hamartia) ولكن ليس الخطيئة، فقد استخدم بعض الشعراء - وخاصة "هسيود" Hesiod القرن في السابع قبل الميلاد و"إسخيليوس" Aeschylus في القرن الخامس قبل الميلاد الغطرسة لوصف العمل غير المشروع ضد النظام الإلهي. أدى هذا الاستخدام إلى المعنى الحديث للمصطلح وتأكيده على المعصية. كثيراً ما يسعى نقاد الأدب اليوم إلى العثور في الغطرسة على "العيب المأساوي" (hamartia) الذي يعاني منه أبطال المأساة اليونانية. هناك شخصيات في الأساطير والتاريخ اليوناني قد يكون مناسباً لها هذا الاستخدام، مثل الملك الفارسي "زركسيس" Xerxes في تاريخ "هيرودوت" Herodotus للحروب الفارسية في القرن الخامس قبل الميلاد، الذي حاول معاقبة البحر لتدمير جسره فوق الدردنيل "أياكس" Ajax في مسرحية "سوفوكليس" Sophocles، الذي طلب من أثينا مساعدة المحاربين الآخرين لأنه لا يحتاج إلى مساعدة إلهية؛ أو أوديب في مسرحية سوفوكليس أوديب ريكس، الذي بقتله والده الحقيقي عن غير قصد والزواج من أمه يحقق نبوءة أوراكل دلفي عنه.

محددات الغطرسة المدركة

عرّف عالم النفس الأمريكي "راسل جونسون" Russell  Johnson وزملاؤه الباحثون في مقال بعنوان "التصرف بتفوق ولكن في الواقع أدنى: ارتباطات وعواقب الغطرسة في مكان العمل" Acting Superior But Actually Inferior?: Correlates and Consequences of Workplace Arrogance الغطرسة بأنها "مجموعة من السلوكيات التي تنقل إحساس الشخص المبالغ فيه بالتفوق، والذي غالباً ما يتم تحقيقه من خلال الاستخفاف بالآخرين". وهكذا، عندما يواجه الناس رفضاً للنصيحة، فإنهم سيعتبرونها غطرسة إذا أرجعوها إلى رغبة الموجه في إثبات تفوقه على المرشد. ما الذي يمكن أن يؤدي إلى مثل هذا الإسناد؟

تحدد الأدبيات المتعلقة بإدراك الشخص عاملين رئيسيين يحددان تصور الناس للأفراد الآخرين: الكفاءة الفعالة والسلوك بين الأشخاص. يبدو أن هذين العاملين لهما أهمية كبيرة في إدراك السلوك الرافض. وعلى وجه التحديد، ما إذا كان رفض النصيحة سيبدو متعجرفاً قد يعتمد على طريقة الفصل بين الأشخاص، وعلى مدى إمكانية تبرير الفصل من خلال كفاءة مقدم المشورة.

إن المؤشر الأكثر وضوحاً للغطرسة هو طريقة الفصل. إذا كانت طريقة الفصل في حد ذاتها مهينة، فسيكون من الصعب تفسيرها على أنها مجرد رغبة في إثبات تفوق الفرد. على الرغم من أن الدراسات السابقة حول مفهوم الغطرسة لم تتلاعب بطريقة التعامل مع الأشخاص المستهدفين بشكل مباشر، إلا أن نتائجها تتفق مع هذا التنبؤ. على سبيل المثال، أظهر عالم النفس الأمريكي "برنارد وينر" Bernard Weiner وزملاؤه في جامعة كاليفورنيا University of California في بحث بعنوان "حسابات النجاح كمحددات للغطرسة والتواضع" Accounts for Success as Determinants of Perceived Arrogance and Modesty أن الأشخاص الذين أرجعوا نجاحهم إلى قدرتهم كان يُنظر إليهم على أنهم أكثر غطرسة من أولئك الذين أرجعوا ذلك إلى أسباب أخرى مثل الجهد أو الحظ أو مساعدة الآخرين. والأهم من ذلك، أن عزو نجاح الناس إلى قدراتهم الخاصة كان يُنظر إليه على أنه محاولة لإثبات تفوقهم على الآخرين. وهكذا، عندما وصفت إحدى النساء نجاحها بطريقة تشير ضمناً إلى تفوقها الثابت، استنتج المشاركون أنها كانت أكثر غطرسة.

قد تشير الكفاءة الأقل للمستشار أيضاً إلى الغطرسة باعتبارها الدافع الأساسي لرفض نصيحته. على وجه الخصوص، إذا رفض أحدهم النصيحة بشكل غير مبرر، فقد يشك الناس في أن الدافع وراء هذا السلوك هو رغبتها في إثبات تفوقها على المستشار، أو عدم رغبتها في الاعتراف بكفاءة المستشار الأعلى (أو المساوية له). وعلى العكس من ذلك، إذا كان من الممكن تبرير رفض النصيحة من خلال الكفاءة العالية للمستشار، فإن تفسير الغطرسة يجب أن يبدو أقل احتمالا.

تتوافق الأبحاث السابقة حول مفهوم الغطرسة مع هذا المنطق. يأتي بعض الدعم غير المباشر لهذه الفكرة من بحث جونسون. وبشكل أكثر تحديداً، طلب الباحثون من الموظفين تقييم غطرسة زملائهم وأدائهم في العمل، كما قاموا أيضاً بقياس ذكاء زملاء العمل. وأظهرت النتائج أن زملاء العمل الأقل ذكاءً والأضعف أداءً تم تصنيفهم على أنهم أكثر غطرسة. وهذا يعني أنه من المفترض أن زملاء العمل الذين لا يمكن تبرير سلوكهم من خلال كفاءتهم كان يُنظر إليهم على أنهم أكثر غطرسة. تأتي الأدلة الأقوى من الدراسات التجريبية التي أجراها وينر وزملاؤه. وجد الباحثون أنه عندما يتم تبرير نجاح الشخص المتفاخر بشكل واضح من خلال قدرته الفعلية، فإنه يُنظر إليه على أنه أقل غطرسة.

أمثلة على الغطرسة

على الرغم من وجود أمثلة لأفراد متغطرسين في كل مجالات الحياة، إلا أن هذه الظاهرة ترتبط بشكل شائع بأولئك الذين يشغلون مناصب في السلطة. على سبيل المثال، غالباً ما يظهر الغطرسة من قبل الرؤساء التنفيذيين وغيرهم من المديرين التنفيذيين، ومن قبل السياسيين، ومن قبل القضاة والمحامين، وأساتذة الجامعات، ورؤساء الأندية الرياضية.

في كل هذه الحالات، تحدث الغطرسة عندما يظهر الشخص مستويات مفرطة من الفخر، أو الثقة، أو الأهمية الذاتية بطرق مختلفة، مثل المبالغة في تقدير قدراته، أو رفض الاعتقاد بأنه يمكن أن يرتكب أي خطأ.

هذه الأمثلة ليست حاسمة لفهم ماهية الغطرسة أو كيفية التعامل معها، ولكنها يمكن أن تكون مثيرة للاهتمام لأولئك الذين يريدون معرفة المزيد حول هذا الموضوع. في بعض الحالات، تتعامل هذه الأمثلة مع الغطرسة ليس بالمعنى النفسي الأكثر حداثة، حيث يُنظر إليها في المقام الأول على أنها سمة شخصية، ولكن بالمعنى الأدبي الأقدم، لا سيما في حالة الأساطير اليونانية، حيث غالبتً ما يُنظر إلى الغطرسة على أنها سمة شخصية. التصرف المفرط في الكبرياء الذي يؤدي إلى سقوط مأساوي.

مثال على الغطرسة من التاريخ

ويظهر مثال تاريخي بارز للغطرسة في حالة "نابليون" Napoleon القائد العسكري الفرنسي الذي غزا روسيا في عام 1812. وانتهى الغزو بتراجع جيش نابليون، بعد أن عانت قواته كثيراً من الشتاء الروسي القاسي ومن تكتيكات الأرض المحروقة التي اتبعتها روسيا، وحرب العصابات. وقد تم وصف غطرسته في الاقتباس التالي:

"إن الأحداث التي وقعت في سهول روسيا خلال الأشهر التالية هي مادة لمأساة يونانية. بدأ المشروع ببراعة، بل وببراعة شديدة؛ وعندما أصبحت البشائر الطيبة سيئة، تجاهل نابليون، وهو أناني للغاية، أهميتها حتى أصبح هو ومضيفه ملتزمين تماماً وبلا رجعة بمهمة محكوم عليها بالفشل. لم تعاقب الآلهة الغطرسة بشدة أكثر من أي وقت مضى" من كتاب "الحملة الروسية، 1812" The Russian campaign, 1812 للكاتب "ميري دي فيزينساك" Mairie de Fezensac الصادر عام 1970.

أمثلة على الغطرسة في الأدب

في مسرحية دكتور "فاوستس" Faustus (لكاتبها كريستوفر مارلو Christopher Marlowe)، يُظهر الطبيب فاوستوس غطرسة عندما يعقد صفقة مع الشيطان، والتي ستمنحه السلطة، ولكنها تلعنه بالجحيم، وعندما يتجاهل الفرص المتاحة له للتوبة حتى فوات الأوان.

في رواية "فرانكشتاين" Frankenstein (بقلم ماري شيلي Mary Shelley) يُظهر العالم فيكتور فرانكنشتاين غطرسة عندما خلق الحياة على شكل وحشه.

في القصيدة الملحمية "الفردوس المفقود" Paradise Lost (لكاتب جون ميلتون John Milton)، تُظهر شخصية الشيطان الغطرسة عندما يحاول التمرد على حكم الله في السماء، وعندما يعلن في النهاية أنه "من الأفضل أن يحكم في الجحيم بدلاً من الخدمة في الجنة".

أمثلة على الغطرسة في الأساطير والتاريخ اليوناني

يرتبط مفهوم الغطرسة ارتباطاً وثيقاً بالتاريخ والأساطير اليونانية، حيث نشأ. وفيما يلي بعض أبرز الأمثلة على الغطرسة في هذه المجالات:

في القصيدة الملحمية الأوديسة (من تأليف هوميروس  Homer)، يتم عرض الغطرسة من قبل الخاطبين "بينيلوب" Penelope (زوجة أوديسيوس)، الذين يغازلونها أثناء غياب أوديسيوس الطويل، والذين يتصرفون بوقاحة في منزلها، وهو الفعل الذي قُتلوا بسببه فيما بعد بسببه. ومع ذلك أظهر أوديسيوس نفسه أيضاً بغطرسة، بعد أن أعمى العملاق والهروب من كهفه، أخبر أوديسيوس العملاق باسمه بتفاخر. ونتيجة لذلك، ينتقم والد العملاق، وهو "بوسيدون" Poseidon (إله البحر اليوناني)، لابنه بمعاقبة "أوديسيوس" Odysseus.

في أسطورة "ديدالوس" Daedalus يحاول الحرفيون الماهرون ديدالوس وابنه "إيكاروس" Icarus الهروب من المتاهة التي بناها ديدالوس لملك كريت "مينوس" Minos  بعد أن قام الملك بسجنهم لمنع ديدالوس من مشاركة معرفته بالمتاهة. يهرب الزوج عن طريق جمع الريش ولصقه في الأجنحة باستخدام الشمع. ومع ذلك، على الرغم من تحذيرات ديدالوس، يظهر إيكاروس غطرسة ويطير عالياً جداً، مما يتسبب في ذوبان جناحيه من الشمس، وعند هذه النقطة يسقط في البحر ويغرق.

في مسرحية "أياكس" Ajax (لـ سوفوكليس Sophocles)، يظهر المحارب العظيم أياكس غطرسة مرتين؛ أولاً عندما يتفاخر بأنه لا يحتاج إلى مساعدة الآلهة في المعركة، ثم عندما يرفض عرض المساعدة الذي قدمته الإلهة أثينا. كعقاب على ذلك، تخدعه أثينا بقتل الحيوانات التي استولى عليها الجيش اليوناني كغنائم حرب. عندما يدرك أياكس ما فعله، يشعر بالخجل ويقتل نفسه في النهاية.

في مسرحية "أوديب ريكس" Oedipus Rex (بقلم سوفوكليس Sophocles )، يغادر أوديب منزله في "كورنثوس"  Corinthفي محاولة لتجنب النبوءة التي أعطتها له الكاهنة "أوراكل دلفي" Oracle of Delphi بأنه سيقتل والده ذات يوم ويتزوج أمه. خلال أسفاره، يقتل رجلاً التقى به، والذي تبين في النهاية أنه والده الحقيقي الذي لم يعرفه أبدًا "لايوس" Laius. حرر أوديب مدينة طيبة من أبو الهول لاحقاً، وكمكافأة له على ذلك، مُنح ملكية طيبة، وتزوج الملكة "جوكاستا" Jocasta التي كانت والدته الحقيقية طوال الوقت. يمكن تفسير العديد من الأفعال على أنها غطرسة في حالة أوديب، بما في ذلك، أبرزها، محاولته الهروب من مصيره، وكبريائه المفرط الذي يمنعه من رؤية الحقيقة، وسوء معاملته للنبي الأعمى "تيريسياس" Tiresias. عندما تظهر الحقيقة، تقتل والدة أوديب نفسها، ويصاب أوديب بالعمى بسبب اليأس.

أخطار الغطرسة

يكمن الخطر الرئيسي للغطرسة في أنها تشوه حكم الناس بطرق مختلفة، مما يجعل الفرد المتغطرس يتخذ قرارات ضارة له وللآخرين الذين يتأثرون بهذه القرارات. على سبيل المثال، بما أن الغطرسة تنطوي على ثقة مفرطة في معارف الفرد وقدراته، فإنها يمكن أن تدفع الناس إلى المبالغة في تقدير قدرتهم على تحقيق نتائج إيجابية في مختلف المجالات، وهو ما يدفعهم إلى خوض أخطار غير ضرورية. وبالمثل، يمكن للغطرسة أن تقود الناس إلى المبالغة في تقدير صحة وموثوقية حدسهم، وبالتالي الإفراط في الاعتماد على تلك الحدس مع تجنب عملية التفكير السليم، خاصة إذا كانت تنطوي على مناقشات مع الآخرين. علاوة على ذلك، ترتبط الغطرسة أيضًا بمجموعة من القضايا الإضافية، مثل التهور والاندفاع، وفقدان الاتصال بالواقع، وعدم الرغبة في النظر في النتائج غير المرغوب فيها، ورفض الشعور بالمسؤولية أمام الآخرين، والصعوبات في مواجهة الحقائق المتغيرة، والاعتماد على صيغة مبسطة للتغيير. النجاح، وضعف الوعي الأخلاقي، وكلها يمكن أن تؤدي إلى نتائج سلبية. أحد المجالات البارزة التي تم فيها التحقيق في أخطار الغطرسة هو المشهد المؤسسي، حيث ثبت أن هذه الظاهرة تؤثر سلباً على عملية صنع القرار لدى المسؤولين التنفيذيين بطرق مختلفة.

علاوة على ذلك، يمكن أن يكون للغطرسة أيضاً تأثير ضار من منظور اجتماعي، لأن الغطرسة غالباً ما تؤدي إلى سلوكيات تجعل الآخرين يشكلون رأياً سلبياً عن الفرد المتغطرس. على سبيل المثال، غالباً ما يتسبب الأفراد المتغطرسون في كراهية أعضاء مجموعتهم لهم، عندما يُظهرون الغطرسة من خلال تقديم ادعاءات صريحة بشأن تفوقهم الذاتي، أو من خلال القول بأنهم أفضل من الآخرين، أو أن مستقبلهم سيكون أفضل، أو عندما يبالغون في تقدير قدراتهم الذاتية.

ما الذي يدفع الناس إلى الغطرسة

السؤال الختامي: ما الذي يدفع بعض الناس إلى الغطرسة؟ لا يوجد سبب واحد للغطرسة، ولكن بشكل عام، من المرجح أن تؤدي السلوكيات التي تضخم كبرياء الشخص أو ثقته أو أهميته الذاتية إلى ذلك، غالباً من خلال عملية تدريجية. على سبيل المثال، في بعض الحالات، يمكن لسلسلة من النجاحات الكبرى المتتالية أن تثير الغطرسة، كما يمكن الإعفاء من القواعد أو الحصول على الثناء المستمر ولا انتقاد.

بالإضافة إلى ذلك، هناك عوامل معينة يمكن أن تجعل الشخص أكثر استعداداً لتطوير الغطرسة. ويشمل ذلك، على سبيل المثال، البيئة الثقافية، أو وجود سمات شخصية مثل النرجسية، والتي تنطوي على الاهتمام المفرط أو الإعجاب بالذات.

أخيراً، لاحظ أنه على الرغم من أن الغطرسة تتم مناقشتها عادةً باعتبارها سمة شخصية، إلا أنها يمكن أن تحدث أيضا على نطاق واسع، بين مجموعات مثل الفرق الرياضية أو الشركات أو البلدان، التي يطور أعضاؤهاً غطرسة جماعية فيما يتعلق بهوية مجموعتهم، بشكل جماعي، بصورة عملية مشابهة لتطور الغطرسة الفردية، وذلك بحسب النوع، أو العرق، أو الدين، أو اللغة، أو الموقع الاجتماعي، أو المكانة العلمية.. الخ.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

بقلم: بيتر هيل

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان كاثوليكيًا، ثم عقلانيًا، ثم بروتستانتيًا. والأهم من ذلك كله أنه جسد صعود الحداثة العربية العثمانية

إن الشرق الأوسط في القرن التاسع عشر يمثل مفارقة. فمن ناحية، كان هذا الوقت هو الوقت الذي أصبحت فيه فكرة المجتمع العلماني الحديث ممكنة. ومن ناحية أخرى، شهد صعود هويات دينية جديدة مثيرة للانقسام عارضت هذه الفكرة. ففي مختلف أنحاء الأقاليم العربية في الإمبراطورية العثمانية، كان المثقفون يعملون على خلق مجال عام حديث: صحافة دورية نابضة بالحياة، وسلسلة من الجمعيات الثقافية، ومدارس على الطراز الجديد. وكان أتباع الديانات المختلفة ــ المسلمين والمسيحيين واليهود ــ يلتقون في هذه المؤسسات، ويناقشون المجتمع والعلم والثقافة. وبدأ قِلة ــ مثل "المادي" شبلي شمائل ــ في التوصية بالعلم الحديث كبديل للدين. وفي الوقت نفسه، أعلنت الدولة العثمانية المساواة الرسمية بين رعاياها من مختلف الديانات، في عام 1856. وأخذ العديد من المثقفين الأمر على محمل الجد، وناشدوا رفاقهم أن يضعوا الخلافات الدينية جانباً باسم "الوطن" أو "الأمة" للناس من جميع الأديان.

في الوقت نفسه، كانت هذه المقاطعات العربية ــ وخاصة سوريا ولبنان ــ تعاني من صراعات كبرى بين الطوائف الدينية. ففي لبنان، شهدت أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر قتالاً مريراً بين الجماعات المسلحة من الطائفتين الدرزية الإبراهيمية والموارنة المسيحيين. وتصاعدت التوترات في مختلف أنحاء سوريا، بسبب تدخل الدول الأوروبية والمخاوف من تنامي قوتها داخل الأراضي العثمانية. وفي عام 1860، بلغت هذه الضغوط ذروتها: ففي العاصمة الإقليمية دمشق نفسها، ذبح حشد من المسلمين المسلحين عدة آلاف من المسيحيين. وفي الوقت نفسه، كان الزعماء الدينيون والمجددون يسعون إلى خلق مجتمعات دينية أكثر تجانساً، ومتميزة بوضوح عن بعضها البعض. ودعا الناشطون المسلمون في الحركة السلفية المبكرة، مثل رشيد رضا، إلى العودة إلى المثال النقي لزمن النبي محمد. وكان رجال الدين الكاثوليك مثل البطريرك مكسيموس مظلوم يهدفون إلى تمييز مجتمعاتهم بشكل لا لبس فيه عن الجماعات المسيحية الأخرى وكذلك المسلمين. وكانت هذه المشاريع، بطريقتها، حديثة مثل مشاريع العلمانية أو العقلانية العلمية. لقد شرعوا في استئصال مجموعة قديمة من الممارسات الدينية - مثل العبادة المشتركة للقديسين والأضرحة، أو المواكب المشتركة والأيام المقدسة - والتي كانت في بعض الأحيان تطمس الحدود بين الأديان.

لقد ترك القرن التاسع عشر في العالم العربي العثماني إرثاً متناقضاً. فقد شهد ظهور نوعين من المشاريع التي استمرت في تقسيم الشرق الأوسط، حتى يومنا هذا: نوع يهدف إلى إقامة مجتمع علماني، والعلم والعقلانية من ناحية، ونوع يصر على الهوية الدينية وانفصال المجتمعات الدينية من ناحية أخرى. فكيف نشأت هذه الاتجاهات ــ المتناقضة على السطح ــ في نفس اللحظة، جنباً إلى جنب؟

إن إحدى الطرق للإجابة على هذا السؤال هي من خلال التاريخ المصغر: وذلك بالنظر إلى قصة فرد واحد لعب دوراً في ظهور كلا النوعين من المشاريع. وكان هذا الشخص هو ميخائيل ميشاقة، الرجل الذي ساعد في تشكيل العقلانية العلمية والإحياء الديني، حيث سار على مساره الغريب عبر القرن التاسع عشر العربي. إن قصة رحلته غير العادية من الشك إلى الإيمان تسلط الضوء على التحول الذي حدث في مكانة الدين في المجتمع العربي العثماني: وهو التحول الذي يساعدنا على رؤية كيف تشابكت جذور العلمانية العقلانية والهوية الدينية الانقسامية.

وصل ميشاقة إلى ميناء دمياط المصري في عام 1817، وكان عمره 17 عامًا. وفي المدينة الصاخبة، التي كانت المركز الرئيسي للتجارة بين سوريا ومصر، وجد عالمًا مختلفًا تمامًا عن بلدة دير القمر الجبلية اللبنانية، حيث نشأ. على طول واجهة النيل، كانت الصنادل تفرغ القهوة أو الأرز أو الكتان مباشرة في مداخل المنازل والقوافل المطلة على الواجهة البحرية. وكان يمر عبر الميناء الفلاحون من فلسطين والأئمة من إسطنبول؛ واليهود من رودس، والمسيحيون الأقباط المصريون في طريقهم للحج إلى القدس. وفي قلب تجارة المدينة كان هناك مجتمع صغير ولكنه ثري من التجار المسيحيين من سوريا: احتل الشاب ميخائيل مكانه بينهم، حيث أقام مع عمه وشقيقه الأكبر اللذين استقرا بالفعل في دمياط، وانطلق لتعلم التجارة وكسب المال.

ولكن كان هناك عيب واحد. ففي كل ربيع كان الطاعون يظهر في المدينة. وفي ذروته كان من الممكن رؤية ما يصل إلى مائة موكب جنائزي يغادر المدينة. واستمر المرض في إصابة وقتل سكان دمياط بانتظام لعدة أشهر، حتى يونيو/حزيران أو يوليو/تموز. وكان يمثل مشكلة للجميع: ولكن لم يكن هناك إجماع على كيفية التعامل معه. ولجأ كثيرون، من المسلمين والمسيحيين، إلى الصلاة؛ ولجأ البعض إلى وسائل سحرية، مثل رسم المربعات أو المخططات على الجانب الخارجي من الغرف والمنازل كحماية. ولجأ آخرون (أو نفس الأشخاص) إلى الوسائل الطبية ــ ولكن الأطباء اختلفوا في الأسباب الحقيقية للطاعون وعلاجه. فبعضهم اعتقد أنه ينتشر باللمس، وآخرون عن طريق استنشاق الهواء الفاسد؛ وبعضهم اعتقد أن دخان التبغ أو الأفيون مفيد للحماية، بينما رفض آخرون هذه العلاجات. وسعى المسيحيون الأثرياء في دمياط إلى حماية أنفسهم من خلال شكل من أشكال "الإغلاق"، فحبسوا أنفسهم في منازلهم أو شققهم لعدة أشهر، وغسلوا كل ما دخل في الماء أو الخل.

يمكن أن تتسبب هذه الردود المختلفة في حدوث نزاعات: فقد يبدو أن اتخاذ احتياطات طبية معقدة ينكر قدرة الله، بينما قد يبدو الاعتماد فقط على السحر أو الصلاة بمثابة إهمال خطير. في المجتمع المختلط لميناء مصر المشغول، كانت الأنظمة العقائدية المختلفة تحتك ببعضها البعض بينما تواجه التحدي المشترك للطاعون. بعد فترة وجيزة من وصول ميخائيل مشاقة إلى دمياط، أصيب أخوه الأكبر أندراوس بالطاعون، لكنه تعافى. لكن فوق باب غرفته، وجد ميخائيل أوراقًا تحمل شعارًا دينيًا، وضعها الكاهن الكاثوليكي المحلي. قيل له إن هذه الأوراق من المفترض أن "تمنع الطاعون من دخول المكان": لكن، كما لاحظ ميخائيل، فقد فشلت بوضوح، لأن أندراوس أصيب بالطاعون على أي حال. قيل له: "لا تكن ضعيف الدين وتزرع الشكوك". ومع ذلك، استمر الشك: هذه التناقضات في التعامل مع الطاعون كانت عاملاً أدى إلى تشكيك مشاقة في الدين بحد ذاته.13 mashaqa

"لقد أصبحت أعتبر كل ما قرأته وسمعته في كتب الطوائف كذباً وضلالاً لا قيمة له على الإطلاق"

العامل الرئيسي الآخر كانت جذوره أيضًا في المزيج الاجتماعي المتنوع بشكل غير عادي في دمياط. لأكثر من عقد من الزمان، كان أغنى تاجر مسيحي في المدينة، باسيل فخر، على اتصال برجال الدين اليونانيين والبحارة، ومع المسافرين والعلماء من أوروبا الغربية، وكان يرعى ترجمة أعمال التنوير الأوروبي إلى العربية. كانت هذه هي المرة الأولى التي تكون فيها العلوم ما بعد نيوتونية أو أفكار المتشككين من الديستيين الفرنسيين متاحة باللغة العربية. وقد قرأ مشاقة بالفعل بعضًا من هذه الكتب في منزله بجبل لبنان، بفضل عمه الذي أحضرها من دمياط، والآن قرأ المزيد. قدم له علم التنوير نظامًا من "القوانين الطبيعية" لشرح وتوقع ظواهر الطبيعة - مثل حركات الكواكب والنجوم - بدقة رياضية. بالمقابل، بدت "القوانين" التي وضعتها الأديان مشكوك فيها وغير عقلانية. حُسِم رفض مشاقة للدين عندما قرأ إحدى ترجمات فخر العربية الأخرى. كان هذا هو "أطلال الإمبراطورية" للفيلسوف الفرنسي كونستانتان-فرانسوا دي فولني، الذي سافر بنفسه عبر مصر وسوريا في ثمانينيات القرن الثامن عشر.

جادل فولني بأن شؤون البشر - مثل العالم الطبيعي - تحكمها "قوانين طبيعية، منتظمة في مسارها، متسقة في آثارها". أما الأديان، فقد كانت تشويهات لهذه القوانين، ناتجة عن سوء فهم للكون، ومستمرة بفضل النخب الكهنوتية التي سعت للحفاظ على قوتها. كما قال مشاقة لاحقًا: "لقد [جئت] لأعتقد أن جميع الأديان كانت أكاذيب، وأن القوانين الدينية قد أوجدها الحكماء، ككابح للجهلاء." مثل فولني، لم يرفض مشاقة فكرة الكائن الإلهي الذي خلق عجائب الطبيعة، لكنه قرر التصرف "وفقًا لهداية النور الطبيعي" الذي "زرعه الله في داخلنا". وعلى الرغم من بقائه ظاهريًا كاثوليكيًا، حتى لا يسبب فضيحة لعائلته وأتباع مذهبه، إلا أنه "أصبح يعتبر كل ما قرأه وسمعه في كتب الطوائف أكاذيب وأوهامًا عديمة الجدوى"، غير مقبولة "للعقل السليم".

في حين انجذب ميشاقا ـ ومن حوله دائرة صغيرة من الشباب الكاثوليك السريان، مثل شقيقه أندراوس ـ إلى موقف ديستي يقوم على "القانون الطبيعي" والعقل، انطلق آخرون في دمياط لمواجهتهم. فكتب الكاهن الكاثوليكي المتعلم سابا كاتب مجموعة من المقالات تهدف إلى دحض "بدع" الماديين القدامى (مثل ديمقريطس وأبيقور) والحديثين (مثل فولتير وهوبز). وفي مواجهة هؤلاء، طرح الحجة المعروفة القائمة على التصميم: فالكون العجيب الذي كشفت عنه العلوم لابد وأن يكون له خالق إلهي. والأمر الجدير بالملاحظة هنا أن سابا كاتب تبنى أسلوباً في الحجج كان غير معتاد في ذلك الوقت في مجال الدفاعيات المسيحية: فبما أن خصومه "لا يؤمنون بأي كتاب مقدس، ولا بإرسال نبي"، فقد كتب: "لقد جعلت القضية الأساسية في الخلاف إثبات العقل وحده". ومثل خصومه من الديستيين أو الملحدين، تبنى كاتب "العقل" ــ وليس النصوص الكتابية أو التقاليد الكنسية ــ كمعيار له.

عاد مشاقة إلى جبل لبنان في عام 1820 - سئمًا من الطاعون والإغلاقات التي "حبستني في بيتي لمدة خمسة أشهر تقريبًا" من كل عام. وبناءً على دور عائلته كتجار ومصرفيين لأمير جبل لبنان بشير الشهابي، سرعان ما وجد ميشقا نفسه بالقرب من مراكز القوة السياسية المحلية. كان لا يزال في العشرينيات من عمره، فتم تعيينه مستشارًا لأمراء حاصبيا، وهي بلدة في جبال لبنان الشرقية، ومنح إيجارات الأراضي الشاسعة. واصل تعليمه الذاتي، فدرس الطب بعد مرض قصير، وكتب أطروحة مبتكرة عن الموسيقى العربية. حافظ على شكوكه بشأن الدين: سجل في مذكراته عدة حوادث سخر فيها من ادعاءات رجال الدين، المسيحيين والمسلمين. كان هذا هو موقفه أيضاً عندما التقى لأول مرة في عام 1823 بشخصية دينية جديدة: جوناس كينج، أحد المبشرين البروتستانت الأميركيين الذين وصلوا مؤخراً إلى سوريا. وعندما سمع مشاقة الشاب "الوسيم" من نيو إنجلاند يتجادل مع الكاثوليك في دير القمر، "ضحك سراً من الجانبين".

جلب المبشرون الإنجيليون إلى سوريا العثمانية جرعة كبيرة من التعالي الغربي: إذ اعتبروا سكانها بشكل عام "غير متحضرين" و"جهلاء"، بحاجة إلى نوعهم الخاص من التنوير الديني. لكنهم جلبوا أيضًا اهتمامًا غير معتاد بالمعتقدات الفردية للأشخاص الذين التقوهم. بينما كانوا يتنقلون حول شرق البحر الأبيض المتوسط، أفادوا بلقاء – بالإضافة إلى المسلمين المؤمنين واليهود والمسيحيين المحليين – من وصفوهم بـ "الكفار"، أفراد غير مقتنعين بأي من الأديان المطروحة. من بينهم كان مهندس مالطي، استشهد بفولني كمصدر لاعتقاده أن "الكتاب المقدس خدعة"؛ والدكتور ماربورغو، الطبيب اليهودي البارز في الإسكندرية؛ والراهب الأرمني يعقوب غريغوري ورتابت، الذي نجحوا في إبعاده عن "آرائه الكافرة والديستية" وتحويله إلى البروتستانتية. بينما كان المبشرون الأمريكيون يتمركزون في مدن سوريا من ثلاثينيات القرن التاسع عشر إلى خمسينيات القرن التاسع عشر، وجدوا مجموعات مشابهة، غالبًا من الشباب المسيحيين، غير الراضين عن كنائسهم المحلية والذين أصبحوا بسرعة "مرتابين تمامًا بشأن موضوع الدين".

لإقناع هذه الجماعات بمزايا الدين والمسيحية البروتستانتية، استعان المبشرون البروتستانت بموضوعات عقلانية في تراثهم. وكما قال الأمريكي بليني فيسك في عام 1823، فإن المسيحية الحقيقية ــ أي البروتستانتية الإنجيلية ــ يمكن اعتبارها "وسيطا ذهبيا" بين "تطرفي الخرافة والكفر": بين معتقدات المسيحيين المحليين والمسلمين وغيرهم، والديسم أو الشك. ولإقناع المسيحيين المحليين ــ وخاصة الكاثوليك ــ غالبا ما استهدفوا في وعظهم وكتاباتهم ما اعتبروه جوانب غير عقلانية من معتقداتهم: عبادة القديسين والصور، وتحول الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح. ولإقناع "الكفار" المتشككين، أكدوا على ما اعتبروه "أدلة" على حقيقة المسيحية. ومثلهم كمثل الكاثوليكي سابا كاتب في عشرينيات القرن التاسع عشر، استندوا في نداءهم إلى هؤلاء الناس ليس على الكتاب المقدس أو التقاليد، بل على "العقل".

ظل "العقل" شعاره: ومع ذلك لم يعد يؤمن بالعقل وحده

في أربعينيات القرن التاسع عشر، شعر ميشاقا بقوة هذا النداء. بحلول ذلك الوقت، كان يعيش في دمشق، متزوجًا ويزدهر كمرابٍ وطبيب وتاجر. لقد شهد تغييرات دراماتيكية في سوريا: احتلالها من قبل جيش حاكم مصر القوي، محمد علي باشا، والتحركات الأولى للعنف الطائفي التي أعقبت انسحاب هذا الجيش، في عام 1841. وقد تأثر ميشاقا بالفعل بمجموعة من العوامل الاجتماعية والفكرية للبحث مرة أخرى عن الحقيقة الدينية، في عام 1842 أو 1843، عثر على كتاب ترجمه إلى العربية المبشرون البروتستانت في مالطا، بعنوان "دليل النبوة". في هذا الكتاب الإنجيلي الأكثر مبيعًا، شرع القس المشيخي الاسكتلندي ألكسندر كيث في إثبات أن النبوءات الواردة في الكتاب المقدس قد تحققت بالفعل - وبالتالي إثبات أن النص يجب أن يكون موحى به من الله. ولتحقيق هذه الغاية، قارن بين الكتاب المقدس والرحالة الأوروبيين المعاصرين إلى الأرض المقدسة، فجمع "الأدلة" على إبادة المدن التي قال الله إنها ستُدمر. حتى أنه استشهد بقصة رحلة فولني لدعم مزاعمه. ولإثبات وجهة نظره، أرفق الكتاب بنقوش - وفي وقت لاحق، صور فوتوغرافية - تقدم دليلاً تجريبياً على أنقاض البتراء أو نمرود أو بابل.

وبعد قليل من التفكير والتردد، وجد ميشاقة أن حجج كيث مقنعة، وخاصة بفضل أسلوبه العقلاني، المختلف تمامًا عن أسلوب "أطباء كنيستي"، الذين يتحدثون عن "أمور ترفضها ... الأسباب السليمة". وبعد بضع سنوات، وبعد مزيد من التردد، وبعد التقرب من المبشرين البروتستانت الأميركيين في بيروت، ومن سوريين آخرين تحولوا هم أنفسهم إلى البروتستانت، ومن القنصل البريطاني في دمشق، اتخذ ميشاكا الخطوة التي لا رجعة فيها بالتحول العلني. في نوفمبر 1848، أعلن إيمانه "بالإيمان المسيحي وفقًا للكتاب المقدس"، وسرعان ما انخرط في جدال مرير مع رئيس الدين المحلي الذي كان يتركه، مكسيموس مظلوم، بطريرك الكنيسة الكاثوليكية اليونانية. في حججه ضد الكاثوليكية ـ التي طبعها له المبشرون البروتستانت في بيروت ـ ندد ميشاكا بـ"الخرافات" غير العقلانية و"الاختراعات الكهنوتية" في العقيدة الكاثوليكية، بعبارات مماثلة لتلك التي استخدمها في وصف الدين بشكل عام في شبابه الديستي. وظل "العقل" شعاره: ومع ذلك لم يعد يؤمن بالعقل وحده. فقد قبل الآن الوحي الإلهي كدليل أكثر أمانًا، مشيرًا إلى أن الأحكام العقلانية غالبًا ما تكون متغيرة وغير مؤكدة.

لقد ظلت المسيحية العقلانية هذه سبباً في دعم ميشاقة طيلة ما تبقى من حياته، رغم الاضطرابات التي شهدتها المنطقة. ففي عام 1860، تعرض ميشاقا، إلى جانب مسيحيين آخرين في دمشق، لهجوم شنه حشد من المسلمين في حلقة دامية من العنف الطائفي. ففر عبر الشوارع مع طفليه الصغيرين: ورغم تعرضه للضرب المبرح، إلا أنه كان محظوظاً لأنه نجا بحياته. ولكنه تمكن من إعادة تأسيس نفسه في دمشق كرجل أعمال مزدهر ونائب قنصل للولايات المتحدة، وورث هذه المناصب عن أبنائه. وحافظ ميشاقا على سمعته الطيبة في التعلم عبر مجموعة واسعة من المجالات، من الرياضيات إلى الموسيقى، وكتب مذكرات ذكية وحيوية عن حياته وعصره، قبل وفاته في عام 1888.

لقد ساهم مشاقة بلا شك في خلق مجال عام حديث باللغة العربية، وفي قضية العقلانية العلمية. وكان من أوائل الأعضاء في الجمعيات العلمية والثقافية في سوريا العثمانية، وكتب لمنشوراتها وللصحافة الدورية المتنامية. وكانت كتاباته الدينية، الموجهة إلى جمهور من مختلف الأديان، رائدة في استخدام الكتيبات المطبوعة في الجدل العام. وكان لعقلانيته حد حاد، كما حدث عندما ندد بالمعتقدات والعادات الشعبية، فضلاً عن الممارسات الدينية، باعتبارها "خرافات".

لكن مشاقة كان أيضًا ناشطًا دينيًا. وسعى جنبًا إلى جنب مع المبشرين الأمريكيين إلى إنشاء شكل عربي من المسيحية الإنجيلية. ساهمت جدالاته المناهضة للكاثوليكية بشكل كبير في تشكيل المجتمع البروتستانتي السوري الصغير ولكن المؤثر، من خلال تقديم المذاهب الإنجيلية في شكل مناسب للجمهور الناطق بالعربية: أعاد المبشرون نشرها حتى القرن العشرين. لقد دخلوا في تقليد من الخلافات بين الأديان، تبناه المدافعون المسلمون والكاثوليك على حد سواء. ونتيجة لذلك، يمكن الآن العثور على نسخ رقمية من هذه النصوص التي تعود إلى القرن التاسع عشر على المواقع الإلكترونية المخصصة لنشر الإسلام، مثل "القرآن للجميع" والمكتبة الإلكترونية الإسلامية الشاملة.

إن هذه الجوانب التي تبدو متباينة من عمل مشاقة وإرثه تشترك جميعها في شيء واحد: تركيزه على "العقل". بالنسبة له، كان هذا هو المعيار الذي يجب أن يتم تبرير كل المعتقدات به - سواء كانت نظرية علمية يمكن اختبارها عن طريق التجربة أو الإيمان بالوحي الإلهي الذي يتجاوز الفهم البشري. وكان لهذا عواقب متناقضة على ما يبدو. كان بإمكان مشاقة أن يفكر في إمكانية كونه بلا دين تمامًا ـ فقد أمضى خمسة وعشرين عاماً في الإيمان بالله ـ وأن يحكم على المعتقدات المختلفة من الخارج، في ضوء العقل. ولكن بعد أن اختار عقيدة معينة، كان عليه أن يصر على أوراق اعتمادها العقلانية، وأن يفصلها بشكل حاد عن "الخرافات" غير العقلانية، وأن يرسم حدودها بشكل أكثر إحكاماً.

ومازال أقطاب العلمانية والإحياء الديني ينشطون الخطاب الثقافي في العالم العربي اليوم

ولم يكن ميشاقة وحده، في سوريا في القرن التاسع عشر، في تبني وجهة نظر ما بعد عصر التنوير للدين باعتباره شيئاً يمكن تبريره بالعقل، أو الإيمان الحقيقي باعتباره "الوسط الذهبي" بين "الخرافة" والكفر. حتى المصلح الكاثوليكي ماكسيموس مظلوم كتب دفاعاً عن عقيدة الكنيسة ضد عالم مسلم من جامعة الأزهر في القاهرة، حيث استند ليس إلى الكتاب المقدس أو التقاليد ولكن إلى "الأدلة العقلانية والفلسفية". وفي العقود التي أعقبت وفاة ميشاقة في عام 1888، أصبحت هذه الطريقة في الجدال حول الدين شائعة بشكل متزايد في المجال العام العربي المتنامي. الآن، يناقش المسيحيون والمسلمون و"الماديون" العلميون على حد سواء العلاقة بين الإيمان والعقل: وكان الجميع يفترضون، مثل ميشاقة، أنهم يجب أن يضعوا أنفسهم في مكان ما على طيف بين الإيمان غير المفكر والعقل الملحد.

لكن هؤلاء الإصلاحيين أنفسهم كانوا أيضًا يؤكدون على الفصل بين المجتمعات والممارسات الدينية. شرع الإصلاحيون المسلمون والمسيحيون - الحركة السلفية المبكرة، المبشرون البروتستانتيون، والكاثوليك الإصلاحيون مثل مظلوم - في إدانة "الخرافات" التي يمارسها عامة الناس. بعض هذه الممارسات كانت تمحو الخطوط الفاصلة بين المجتمعات الدينية، مثل زيارة المسلمين أو الدروز لمزار قديس مسيحي، أو العكس. وكانت أخرى تمزج بين الدين والسحر، أو مثل التجمعات الصوفية الشعبية، تسيء إلى معايير الأخلاق العامة والذوق الرفيع التي كانت تتصلب. لكي يقدموا دياناتهم كعقائد متسقة يمكن للأفراد العقلانيين أن يتبنوها، كان على الإصلاحيين من جميع الأطياف أن يجردوا هذه الممارسات غير التقليدية والمحلية والجماعية وغالبًا ما تكون تزامنية. ومع ذلك، بينما كانوا يفعلون ذلك، كانوا يفككون نسيج الثقافة الدينية المشتركة: نظام هرمي متعدد الأديان وجد فيه المسلمون والمسيحيون واليهود وغيرهم مكانًا. بدلاً من ذلك، ساعدوا في خلق إمكانيات الحداثة المتناقضة: من ناحية، صورة المجتمع العلماني والفضاء العام، التعايش والمساواة بين الأديان؛ ومن ناحية أخرى، مشاريع النهضة الهوياتية "المعقلنة"، المجتمعات الدينية الحصرية والمتجانسة.

تذكرنا الشخصية الفريدة لميخائيل مشاقة بأن هذه الاحتمالات المتناقضة تنشأ من تحول مشترك: نحو تبرير الإيمان الديني من حيث العقل ونحو التركيز على المعتقد الفردي بدلاً من الممارسة الجماعية. لا يزال قطبا العلمانية والتجديد الديني يحركان الكثير من الخطاب الثقافي في العالم العربي اليوم. تذكرنا قصة مشاقة أنهما وجهان للواقع الحديث نفسه: لقد ظهرا معًا، ودخلا في شجار كان أيضًا حوارًا.

(تمت)

***

...........................

المؤلف: بيتر هيل/ Peter Hill: أستاذ مساعد للتاريخ في جامعة نورثمبريا في نيوكاسل أبون تاين، إنجلترا. وهو مؤلف كتاب "اليوتوبيا والحضارة في النهضة العربية" (2020) ودراسة عن ميخائيل ميشاقة، نبي العقل: العلم والدين وأصول الشرق الأوسط الحديث (2024).

*بيتر مؤرخ للشرق الأوسط الحديث، متخصص في العالم العربي في القرن التاسع عشر الطويل. يركز بحثه على الفكر والممارسة السياسية، وسياسة الدين، والترجمة والتبادل الثقافي. كما لديه اهتمام قوي بالتاريخ المقارن والعالمي. قبل انضمامه إلى جامعة نورثمبريا في عام 2019، كان بيتر زميلاً باحثًا مبتدئًا في كنيسة المسيح، جامعة أكسفورد. قام بالتدريس وتصميم وحدات في تاريخ الشرق الأوسط والتاريخ العالمي وتاريخ الرأسمالية. في عام 2023، كان الفائز بجائزة فيليب ليفرهولم في التاريخ. نُشر أول كتاب لبيتر، Utopia and Civilisation in the Arab Nahda، بواسطة مطبعة جامعة كامبريدج في عام 2020. وقد نشر العديد من المقالات حول الترجمة والفكر السياسي والسياسة الشعبية في الشرق الأوسط، في مجلات مثل Past & Present، ومجلة الأدب العربي، ومجلة التاريخ العالمي. وسوف يصدر كتابه الثاني، "نبي العقل: العلم والدين وأصول الشرق الأوسط الحديث"، عن دار نشر وان وورلد في ربيع عام 2024.

 

تحية تقدير وعرفان لعبد الجبار الرفاعي في ذكرى ميلاده السبعين

صدى صوتِ الألماني فريديريك شلايرماخر (1) Friedrich Schleiermacher (1768ـ1834) يتردَّدُ بين جنبات السلسلة الخماسية (2) للدكتور عبد الجبار الرفاعي، فلئنِ اعتمد الرفاعي في كتبه السَّبعة والأربعين القديمة على لغة المنطق والعلم والفلسفة يخاطب العقل، ويشيِّد الفكر، ويبني صروح علوم الأصول والفلسفات والمنطق... فلقد لجأ في كتبه الخمسة الأخيرة إلى لغة الحدس والشعور يخاطب القلب والوجدان والروح، مثلما خاطب شلايرماخر قلبَ ووجدانَ وروحَ النخبة الألمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في مؤلَّفه "عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين"، الذي أصدره مركز دراسات فلسفة بترجمة: أسامة الشحماني، عن النسخة الألمانية الأصلية المنشورة 1799 في عصر شلايرماخر. كانت لغة السلسلة الخماسية لغةً شاعرية بويطيقيةً poétique خالية من الحمولات الاصطلاحية والتَّعقيدات المفاهيمية، وأتتْ موضوعاتُها من راهن ما يعيش إنسانُ هذا العصر وظروفه المتشابكة المعقَّدة ممَّا لم تختبره المعرفة الدينية التاريخية... يحدثك فيها رجلُ الدين عن دين الحبِّ والتراحم، وعلاقات الحبِّ والتراحم، ولغة الحبِّ والتراحم، والتَّفكيرِ بالحبِّ، والتَّعامل بالحبِّ والتراحم، وإملاء وعاء النيَّة حبّاً: "الحب يضيء الحياة بمعناها الأجمل، ويبدِّد وَحشة الكائن البشري وغربتَه فيها. الظمأ البشري للحب حاجة لا تتوقف ولا تنتهي" (3)، و"الرحمةُ صوتُ الله، ومعيارُ إنسانيَّة الدِّين. لا يؤتي الدينُ ثمارَه مالم يكن تجربةً إيمانية تنبضُ فيها روحُ المؤمن بالرحمة. الرحمةُ بوصلةٌ توجِّه أهدافَ الدين، فكلُّ دين مفرغ من الرحمة يفتقدُ رسالته الإنسانية، ويفتقرُ إلى الطاقة الملهمة لإيقاظ روح وقلب وضمير الكائن البشري"(4). هذا لعمري جديدٌ في لغة الدِّين، ولغة الفقهاء ومنهم الرفاعي، ومطارحات المتديِّنين، فلغتهم وأسلوبهم ومصطلحاتهم وطرائق عروضهم ترسَّبت عليها أثقال وأسمال موضوعات ومدوَّنات القرون الطويلة، لا تتبدَّل ولا تجد لها طريقاً إلى الحلحلة، وهذا الرفاعي يغرِّدُ في كتبه الخمسة الأخيرة خارج السَّرب بلغةٍ وأسلوب وطريقة عرضٍ جديدةٍ غير مألوفةٍ، تشدُّ انتباهك وتجذبُ لبَّك، فتقرأ ثم تقرأ ثمَّ تتماهى مع سمفونية أدائه.

 يحدِّثُك من غيرِ كلَفٍ ولا تمحُّلٍ عن فضاءات الجمال والحب والفن الرحبة، وتتقاطع كلُّها عنده مع جوهر الدين، فالفنُّ "لغةُ الرُّوح قبل العقل، لغة القلب قبل الفكر" (5)، وعزيزٌ عليه ألاَّ يجد في مجتمعاتنا نصيبَها من تذوق الجمال أو الإحساس به: " تذوقُ الجمال، حالةٌ وجوديةٌ كتذوق الحب والإيمان" (6)، وَيدلُّك على كيمياءٍ وجدانيةٍ للجمال الذي: "لا يجدُ ناطقاً بصوته، أجمل من لغة الفن" (7).

يُبْنَى الإشعاعُ الإيماني الإنساني في مشروع الرفاعي على دعائم ثلاثةٍ: تذوقِ جمالٍ، واستغراقٍ في حب، وتعبيرٍ بفنٍّ، ويُعْلِمُك أنَّ ضميرِه الديني قائمٌ على دعائم ثلاثة "إيمانٍ وأخلاقٍ وإنسانية" (8).

هجرة جبران خليل جبران من لبنان إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وما قام به من عملٍ مزجي وتركيبي بين الثقافتين العربية والأنجلوسكسونية، كان وراء روائعه الأدبية والفنية، وهجرة عبد الجبار الرفاعي من العراق إلى إيران وما قام به من عملٍ مزجي بين الثقافتين العربية والإيرانية، مضيفاً إليها مَزْجَ مدوناتٍ تراثية (كلامية وفقهية وعرفانية)، ومدوَّناتٍ معاصرة (فلسفاتٍ وهرمنيوطيقا، وعلوم ألسنية ونفسٍ واجتماعٍ ومقاربات دلالية)، وخلاصاتِ مطالعاتٍ أدبية وعلمية وفكرية متنوعة...كان وراء تلك العصارة الفسيْفسائية التي تحْكي خريطة سيرِ الإنسان نحو تجانسه مع نفسه وإلهه وبني نوعه ومع محيطه الكوني، برؤية رفاعية، ولغة رفاعية، وطريقةِ عرضٍ رفاعية.

ربما قد تجدُ الأمرَ عادياً إذا ملأ عينَك مثقفٌ حداثيٌّ متميِّزٌ بكمِّ معلوماته ودقَّة تشخيصه وعمق تحليله وتنويع وسائله، أمَا وأنْ يُجِيدَ رجلُ الدِّين هذه التَّوليفةَ، وأن تكون هذه زاوية نظره، فنحنُ أمام عهدٍ جديدٍ من رجال الله الدَالِّين على الله بغيرِ لغة التراث، ومدوَنة الفقهاء العتيقة.

افتقرتِ السَّاحة الثقافية العربية على شساعتها وتنوعها، إلى المواضيع التي تناولها الرفاعي في سلسلته الخماسية، من مثل الرؤية الأنطولوجية للدين التي يقول عنها: "الكتاباتُ العربيةُ التي تدرس الدين في بعده الأنطولوجي شحيحةٌ" (9).

يسعى الرفاعي إلى أن تكون غايةُ مشروعه: "تحقيقَ السعادة" للإنسان، وتكمنُ سعادة الإنسان في شعوره بأنَّه محبوبٌ لذاته، وأغلبُ ما يكون شقاءُ الإنسان نابعاً من الإنسان، لا عن تعمُّدٍ بل عن غفلةٍ وأحياناً عن قلَّة ذوقٍ، فتتوتَّر العلاقات وتتشنَّج وتتصلَّبُ بلا سببٍ وجيه، لذا يحدثك الرفاعي ويستثمر في مثل هذه الحال في "الذكاء العاطفي"، يراه عقلاً ذكيّاً في إدارة العلاقات، بما لا يُزعج الآخر، وـ يعلِّمك ـ إتقان الكلمات الدَّافئة، والمواقف الأخلاقية في التعامل مع الناس (10)، ويُصحح الرفاعي بالذكاء العاطفي حقيقة الإنسان العاطفي الذي هو ليس بالضَّرورة الذَّكيُّ العاطفي، فقدْ يكونُ العاطفي فجّاً سليطَ اللسان (11)، بخلاف الذكيِّ العاطفي الذي له اللَّباقةُ العفويَّةُ، والكلمةُ البلْسمُ... يحدِّثُك عن هذا عبد الجبار الرفاعي رجلُ الدين، أو المثقفُ الديني كما يرتئي أن يسمِّيه، يحدثك بسلاسةٍ وتمكُّنٍ كأحدِ الاختصاصيين النَّفسانيين ثمَّ في نفس الوقت يحدثك كأحد رجال القانون، فهو وإنْ أطلق العنان لتنمية المشاعر والعواطف وتشذيبِها عبر الذكاء العاطفي، فإنَّه أيضاً يستحضرُ وعيَهُ الصَّارم في المواقف الحادَّة التي تتطلَّبُ الكيَّ، فيقول: "لا تتأسَّسُ المجتمعاتُ والدول على الحبِّ وحده، أو الرَّحمة وحدها، أو الشفقة وحدها، أو العطاء وحده. لا تعني الدعوة للحب إلغاء النظم التربوية والتعليمية والإدارية والقضائية والسياسية، ولا النظم والقوانين لبناء الدول... لا تعني الدعوة للرحمة إلغاء القوانين الجنائية والجزائية"(12)، فهو يتماهى مع العاطفة الإنسانية، ويريدُها أصلاً في العلاقات الإنسانية، لكنَّه واعٍ بالطبيعة البشرية التي تجنح للتمرد، فيُلجمها حينئذٍ بالشريعة والقانون والأنا الأعلى... هذا هو النموذج الجديد النادر ندرة المعادن النادرة، ولذا فقد ارتفعت شهاداتٌ واعترافاتٌ لأساتذةٍ وأكاديميين ومثقفين تُقرُّ بأصالة منجز عبد الجبار الرفاعي، فهذا الأستاذ الدكتور عبد الجبار عيسى السعيدي يقول:" وقد كتبت للرفاعي ذات مرة منوها بقدراته الإبداعية: (لعلِّي لا أبالغ إن قلت بأن عملكم الكبير "الدين والظمأ الأنطولوجي" يتمثل في كونه واحداً من أهم تمثلات الحكمة والعقل المعاصرين. إن لكل زمن تمثلاته الفذة، هذه القاعدة التي لا يريد البعض، لضعف أو لحسدٍ، أن يقبل بها، فالحكمة لم تنته عند ابن عربي أو ابن رشد أو ملا صدرا) (13)، وهذه الدكتورة حميدة القحطاني تقول عن قراءتها كتب الرفاعي: "تنعش روحي وتلامس قلبي وتثير فكري وتساعدني على ايقاظ ذهني"، وتقول: "أقرأ كتب الرفاعي على الدوام كي أرفع مؤشر المعنى في أيامي" (14)، ويرى الأستاذ مشتاق الحلو أنَّ منجز الرفاعي ومشروعه يمثل منهجاً متكاملاً وطريقاً ثالثةً مستقلَّةً في الرؤيا، يقول: "الرفاعي صاحب التفسير الثالث والبديل الديني المختلف عن تفسير الحوزة، وتفسير الجماعات الإسلامية للدين" (15)، أما الدكتور محمد حسين الرفاعي، فشهد بأنَّ منجز عبد الجبار الرفاعي ثورة فكرية في الخطاب الديني، من داخل الخطاب الديني، وشبَّهه بِـ "ابن حيان التوحيدي" في التصوف العقلي أو العرفان الفلسفي (16)، وأما الدكتور ياسر عبد الحسين فقد خلع عليه لقب "سبينوزا" في مقال له بعنوان: "سبينوزا العراقي: إعادة بناء مفهوم الوحي عند الرفاعي"، نشره في موقع مؤمنون بتاريخ 09. 11. 2022.

أخيراً، في عام 2014، حلَّ عيد الميلاد الستِّين لعبد الجبار الرفاعي، فخصَّصت مجلة "الموسم" (17)، كتاباً تذكارياً تكريماً وعرفاناً بجهوده وإنجازاته في 757 صفحةً، تضمَّنتْ 105 مقالاتٍ من باحثين وأكاديميين وكُتَّابٍ من مختلف الاختصاصات، ومن مختلف الأوطان العربية والإسلامية، تشيدُ بعمل الرفاعي وإضافاته النوعية للفكر العربي والإسلامي المعاصريْن، ويحتضنُ هذا العام 2024 ذكرى ميلاده السَّبعين آملين من الله الكريم أن يتوِّجهُ بالعافية والسعادة، ومزيد التوفيق لتكملة صرح مشروعه.

***

عبد اللطيف الحاج اقويدر، كاتب جزائري

......................

الهوامش:

(1) مصلح لاهوتي بروتستانتي أنقذ الدين من فخ العقلانية، بإعادة صياغة رؤية جديدة للدين، يتعالى فيها الدين عن المناكفات العقلية والمنطقية، ويتجاوز لغتهما، ويتبنى لغة الروح والقلب وهما لغتا الشعور والحدس.

(2) "الدين والظمأ الأنطولوجي"، و" الدين والكرامة الإنسانية"، و"الدين والنزعة الإنسانية"، و"الدين والاغتراب الميتافيزيقي"، و"مقدمة في علم الكلام الجديد".

(3) عبد الجبار الرفاعي، الدين والكرامة الإنسانية. طبعة 2 مزيدة ومنقَّحة. 2022. دار الرافدين، بغداد، ص 103.

 (4) الدين والاغتراب الميتافيزيقي، طبعة 3 مزيدة ومنقَّحة.  2022. دار الرافدين، بغداد، ص 25.

(5) الدين والكرامة الإنسانية،. صفحة 99.

(6) نفس المصدر. صفحة 99.

(7) نفس المصدر. صفحة 99.

(8) عبد الجبار الرفاعي. الدين والظمأ الأنطولوجي. طبعة 4 منقَّحة ومزيدة. يناير، كانون الثاني 2023. دار الرافدين، بغداد، صفحة 106.

(9) نفس المصدر. صفحة 31.

(10) نفس المصدر. صفحة 106.

(11) نفس المصدر. صفحة 107.

(12) عبد الجبار الرفاعي، الدين والكرامة الإنسانية. صفحة 111.

(13) من الأيديولوجيا إلى تجديد علم الكلام. قراءة نقدية لأنسنة الدين عند د. عبد الجبار الرفاعي. ا. د. عبد الجبار عيسى السعيدي.

(14) قراءة في كتاب "لغة الإيمان عابرة للمعتقدات والفرق". د. حميدة القحطاني. فلسفة القانون الدولي العام. المثقف: 24. 12. 2023.

(15) التفسير الثالث للدين، خارطة طريق عبد الجبار الرفاعي للجيل الجديد. مشتاق الحلو. التنويري altanweeri.net 07. 07. 2024.

(16) كريم جدي في حوار مع الدكتور محمد حسين الرفاعي. صحيفة المثقف، بتاريخ: 11. 05. 2024.

(17) مجلة مصوَّرة تُعنى بالآثار والتراث، وصاحبُها ومديرُ تحريرها هو الأستاذ محمَّد سعيد الطريحي، وتصدر عن: أكاديمية الكوفة بهولندا.

..............................

المشاركة رقم: (9) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

 

في ظلّ عالم يعج بالشكوك والإحباطات يبدو أنّ هناك من اختار أن يعيش في ظلال ثقافة تفتقر إلى الجمال والتنمية، تلك النظرة التي ترى الحياة فوضى محضة يسودها الكآبة والسلبية، تجعل الأفراد يبتعدون عن بديهيات الإبداع والجمال الذي يحيط بهم، فالأحلام تصبح مجرّد خيوط رقيقيه تتلاشى في زحام الواقع الذي يعيشه البشر وكأنها لا تعبّر عن قلوبهم وأرواحهم بل هي مجرّد عواصف عابرة لا تأثير لها.

في رحلة الذات يقول الفيلسوف نيتشة:

"ليس هناك ثمن باهض للغاية مقابل امتلاك نفسك". 

لكن دعونا نتأمل ما حولنا، ففي قلب كلّ إنسان تكمن طاقة إيجابية لا حدود لها، تلك التي تذكرنا بأنّ الله سبحانه وتعالى خلق الكون ببلاغة وعظمة تتجلى في التفاصيل الصغيرة والكبيرة، فكلّ زهرة تتفتح وموجة تتلاطم وسماوات تمتدّ تدلّ على أنّ هناك جمالًا حقيقيًا ينبغي لنا أن نستخلصه من أعماق وجودنا أحيانًا، نحتاج إلى لحظة صمت في وقف نداء الفوضى ونستمع إلى نبضات الحياة تلك التي تنادي بنا لتجعلنا نعي أن كلّ كأس من الماء يحمل في عمقه سرًّا من أسرار الحياة.

الفكرة الأساسية هنا تتعلق بالوعي، فهل البهائم تدرك ما يدور حولها في الفضاء الواسع؟

قد لا تدرك ولكن تعيش بفطرتها، بينما نحن كبشر لدينا عقول وقلب يتناغمان مع الكون، فالتساؤلات التي قد نطرحها على أنفسنا ليست مجرّد أسئلة عابرة بل هي بوابة لفتح آفاق جديدة من الفهم والعلم لتمكيننا من استخدام قدراتنا لتحقيق أدوات التغيير، علينا أن نعيد اكتشاف أنفسنا وليس فقط من خلال ما نراه بل من خلال ما نستطيع أن نكونه، فنحن كأناس نملك الخيار بأن نعيد تشكيل واقعنا وأن نغمره بفيض من الإبداع والجمال الذي يحيط بنا، علينا أن ننظر إلى السماء ونتأمل فيها ونعي أنها تمطر عقولًا قادرة على الإبداع البناء، فالأفكار والرؤى ليست بعيدة عن أرض الواقع بل هي ممكنة، بل ويجب أن نمدّ أيدينا للأحلام ونجعلها حقيقة، فالحياة ليست مجرّد رحلة بل هي لوحة فنية يمكننا رسمها بألواننا واختياراتنا.

في رحلة اكتشافنا للذات، نجد أنفسنا أمام خيارات متعددة قد تدفعنا للاختيار بين السير في دروب الاحتيال على واقعنا أو مواجهة التحديات بإرادة صلبة وعزيمة لا تلين. عندما نختار أن نكون نشطاء في صناعة جذورنا الثقافية والجمالية، ندعو في تجديد وعينا بالأشياء البسيطة التي قد تبدو تافهة، مثل ابتسامة عابرة، أو ضوء الشمس المتسلل عبرة النافذة. هذه اللحظات الصغيرة تتكون منها روائع الحياة بدلًا من الوقوف عند حدود ما يخالف تقاليد الماضي.

إنّ مواجهة هذا التحدي تتطلب منّا جهدًا اجتماعيًا مبنيًا على الفهم والتفهم، حيث يتعافى المجتمع من نزعات العزلة والتشكيك في الذات. علينا بناء الجسور بين الثقافة التقليدية وبين متطلبات الحداثة، هذه الجسور لا تعني التضحية بأنفسنا أو هويتنا بل تعبّر عن تقبّلنا لمختلف أبعاد الوجود التي قد تسهم في تشكيل مستقبل أفضل. كلما أصبحنا أكثر وعيًا بتنويع التجارب والثقافات، كنّا أكثر استعدادًا لاستقبال مختلف الآراء حتى وإن بدت متعارضة.

من خلال التفاعل مع هذا التنوع، يمكننا أن نتعلم كيف ندمج قيم الماضي مع تطلعات الحاضر والمستقبل لنغذي عقولنا بالمعرفة ونطور عواطفنا نحو الجمال والإبداع. يجب أن نكون مستعدين لتوسيع منظورنا وبالتالي الاستفادة من الحكمة المتراكمة عبر الأجيال والموسوعة المعرفية التي تتجاوز حدود الثقافات. فكلّ مكون ثقافي يحمل في طياته ما يستحقّ البذل والمشاركة، حيث يمكن أن نثرى تجاربنا من خلال تفاعلنا مع مختلف الفنون، الأدب، الموسيقى.

ربما يتطلب الأمر منّا أن نكون أكثر عمقًا في فهم ما تحمله الحياة من تعقيدات، لكن إدراكنا أنّ التحديات ليست عائقًا بل دعوة للإبداع سيشكل تحولًا جوهريًا في طريقة عيشنا.  يمكننا أن نفتح أمام أنفسنا آفاقًا جديدة لنفهم كيف يمكننا أن نكون جزءًا من التغيير بدل انتظار حدوثه. هذا الوعي يحتاج إلى كسر حدود الخوف من التجربة والمغامرة.

دعونا نحتفل بجمال الحياة ونخلق عالمًا من الأفكار المتجددة التي تغذي الروح وتعزّز قيمنا كأفراد وجماعات. وبهذا الشكل نكون أبدعنا في ربط ما هو معاصر بما هو تقليدي حتى نصنع معًا شيئًا يستحقّ الاحتفال.

***

فؤاد الجشي

 

(ليست الوثيقة الأداة السعيدة لتاريخ يكون في ذاته وبكامل الحق ذاكرة –  ميشيل فوكو)

في اللحظات السياسية الحرجة والمنعطفات التاريخية الحادة، ينهمك الكثير من المؤرخين وعلماء الاجتماع ومن يقع ضمن خانتهم في المجالات الاجتماعية والإنسانية، في العديد من النقاشات والسجالات والجدالات التي تتمحور حول القضايا والمسائل المتعلقة بأولويات الأدوار وأفضليات الوظائف للعوامل الذاتية والموضوعية المسؤولة عن سيرورات الحراك الاجتماعي وديناميات التطور الحضاري . ومن بين كل القضايا الكبرى والمسائل الملحة التي يكون لدورها وأهميتها القول الفصل في كشف الملابسات المضمرة وتعرية الإشكاليات المحتجبة، تتصدر مباحث (التاريخ) وما يرتبط به ويتمخض عنه الأولوية القصوى ضمن طائفة واسعة ومتنوعة من الأساسيات والضروريات . ذلك لأن فهم واستيعاب أي حدث سياسي أو أية واقعة اجتماعية، لابد من الرجوع مسبقا"الى البدايات والخلفيات والمرجعيات التي أدت الى وقوع الأول وحصول الثانية.

وبالرغم من حقيقة كون ان التاريخ – قديما"وحديثا"- يتصدر الكثير من العلوم والمعارف في تفسير الظواهر الاجتماعية والإنسانية، لجهة إلزام الباحثين بضرورة الرجوع الى الماضي واستقراء ما استجد في مضاميره من علاقات اجتماعية، وتفاعلات حضارية، وصراعات سياسية، وانزياحات قيمية . لكي يصار لاحقا"الى موضعة الأحداث والوقائع ذات الطابع الإشكالي ضمن السياقات التي ساهمت في تأطير طبيعتها وبلورة خصائصها من جهة، ومن ثم قذفها في أتون من التقاطعات والصراعات أو التفاعلات والتخادمات من جهة ثانية، بحيث تكون حصائل التحليل والتعليل والتأويل أقرب الى الواقع المعاش منها الى الافتراض المتخيل . نقول بالرغم من ذلك، إلاّ أن التباين في الرؤى والاختلاف في التصورات حيال دور التاريخ ومكانته في تفسير الحوادث واستخلاص النتائج، قلما حظي باتفاق آراء المؤرخين وإجماع مواقف الباحثين .

وعلى خلفية هذا التشظي في الرؤى والتذرر في التصورات لماهية التاريخ، يمكننا القول ان جلّ مباحث هذا العلم الواسع في اهتماماته والمتشعب في مقارباته، جرى استقطبتها - على نحو لا يخلو من تعسف واختزال – بين اتجاهين شائعين من العوامل التي تتراوح ما بين الذاتية والموضوعية . ففيما يتعلق بالعامل الأول، فقد اعتبرت شخصية (المؤرخ) المنوط به اكتناه ماهية (التاريخ) واستنباط فلسفة حراكه وتطوره، بالاعتماد على مستوى تحصيله الأكاديمي، ونمط تكوينه السيكولوجي، وطبيعة انتماؤه الإيديولوجي، بمثابة قطب الرحى الذي تنبثق عنه وتدور حوله سرديات التاريخ الكبرى، فضلا"عن كرونولوجيا تسلسل محطاته وتعدد انعطافاته . بحيث يصعب على الباحث فهم ديناميات التاريخ واستيعاب سيروراته، كما يستحيل عليه تتبع تحولاته وانزياحاته، دون الاحتكام الى ما يرويه (المؤرخ) من أحداث وما يستنبطه من وقائع وما يستلهمه من دوافع . أما ما يتصل بالعامل الثاني، فقد تركز الاهتمام على دور (الوثيقة) التاريخية وما تنطوي عليه من معلومات وبيانات ومؤشرات وإحصائيات، ليس فقط في الكشف عما يعنيه علم التاريخ بالنسبة لدارس أحداثه ومتقصي أثاره فحسب، وإنما في استبعاد كل ما ليس له صلة بالأدلة (الوثائقية) الملموسة التي من شأنها تأكيد صحة الحدث واثبات صدقية الواقعة . للحدّ الذي دفع برائدي المدرسة المنهجية الفرنسية (لانغلوا وسينوبوس) الى التصريح بان (التاريخ يصنع من وثائق، فحيث لا وثائق لا تاريخ) !  .

وكما هو ملاحظ، فقد نحى البعض من المؤرخين منحا"لا ينسجم وماهية الفعل (التاريخي)، من حيث كونه يقوم على مجموعة واسعة ومتنوعة ومتعاضدة من العوامل الذاتية والموضوعية، التي تجعل من ذلك الفعل ليس فقط واقعا" معاشا"يمور بصراع الارادات البشرية وتقاطع مصالحها وتصالب تطلعاتها فحسب، وإنما يشي بمسارات واتجاهات التطور أو / و التقهقر التي يتوقع للمجتمع المعني الانخراط في أتونها والاندراج في سيرورتها . ولذلك ينبغي على كل من تستهويه الكتابة التاريخية الإقرار بان الحدث التاريخي من العمق والشمول والاتساع والتشابك، بحيث لا يمكن  لشخصية (المؤرخ) وحدها صناعته مهما تحصلت عليه من خصائص ومزايا . كذلك الأمر بالنسبة لـ(لوثيقة)، فهي بالرغم من قيمتها المصدرية وأهميتها التوثيقية، لا يمكنها لوحدها أن تسدّ مسدّ العوامل والعناصر الأخرى التي يبقى التاريخ من دونها مجرد تكهنات وافتراضات لا يسندها واقع ولا يدعمها دليل . ذلك لأن الأول (المؤرخ) سيبقى عرضة لتحكم الأهواء والانفعالات والدوافع، مثلما ان الثانية (الوثيقة) ستبقى صنيعة للسياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي أوجبت صياغتها الحكومات على هذا النحو دون ذاك، وألزمت تحريرها الزعامات على هذا دون ذاك . وكما أشار المؤرخ المصري الراحل (قاسم عبده قاسم) (ان كل ما نظن انه مكتوب هو نص منقول عن نص شفاهي في حقيقة الأمر)، مثلما علق المؤرخ الغربي (ناتالي دافيز) انه (لا يمكن على الدوام أخذ الوثائق بقيمتها الظاهرية) .

وبمجمل القول يمكننا الجزم؛ ان التاريخ هو بالأساس عبارة عن مجموعة من (البشر) يتفاعلون في (مكان) ما، ويتحركون في (زمان) ما، ويعيشون في (بلدان) ما. الأمر الذي يجعل من ماهيته وكينونته تنطوي على خاصية (التفاعل) الجدلي و(التكامل) البنيوي بين عناصره ومكوناته، وليس وفقا"لخاصية (التفاضل) المعياري و(التراتب) الموقعي لتلك العناصر والمكونات.

***

ثامر عباس – باحث عراقي

(قراءة في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

إذا كانت (الزيادة في المبنى زيادة في المعنى)، حسب المقولة المتداولة في (عِلم الصَّرف)- المتعلِّق ببناء الكلمة المفردة- فهل ذلك كذلك في (عِلم النحو)، أي في بناء الجملة؟

كلَّا، ليس ذلك كذلك، حينما يُنظَر إلى المعنى البلاغي، لا إلى المعنى النحوي.

هكذا جاءت حاشية (ذي القُروح) على المساق السابق، في تعليقه على بيت الشاعر الأُموي (جَرير بن عطيَّة، -110هـ= 728م):

تَـمُرُّونَ الدِّيارَ ولم تَعُوجوا ::: كلامُكُمُ عَليَّ، إِذَنْ، حَرامُ

 متسائلًا: أقوله: «تَـمُرُّونَ الدِّيارَ» كقوله- لو قال-: «تَـمُرُّونَ بالدِّيارِ»، كما زعم النحويُّون؟

- ما رأيك؟

- النحويُّون غالبًا لا يُدرِكون المعاني البلاغيَّة، وإنَّما انشغالهم بالحروف والكلمات وتركيباتها، وَفق قواعدهم الجاهزة، اللَّهم إلَّا إذا كان النحويُّ من طبقة (عبد القاهر الجرجاني). لأجل ذلك، كثيرًا ما تتفوَّق بلاغة العامَّة على الخاصَّة. أعني بلاغة اللُّغة الدارجة على اللُّغة الرسميَّة، التي تُسمَّى الفصحى؛ لأنَّ الفصحى تمسي وتصبح معلَّبةً في قوالب قديمة، صُنِعت قبل أكثر من ألف سنة، تمنع العقل والذوق والمَلَكات الإنسانيَّة الطبيعيَّة من أن تتصرَّف في اللُّغة قيد شَعرة، وإنَّما هي أوعيةٌ جامدة، تُملأ كما أُعِدَّت منذ مئات السنين، ولا زيادة لمستزيد.

- أهذا سِرُّ تفوُّق العاميَّة أحيانًا على الفصحى في التعبير البلاغي والشِّعري؟

- نعم. فالحُريَّة ما كانت في شيءٍ إلَّا زانته، ولا نُزِعت من شيءٍ إلَّا شانته. حيث وُجِدت وُجِد الإبداع، وحيث قُمِعت قُمِع الإبداع، بل قُتِل الإنسان. وبالعودة إلى السؤال، فإنَّ قولنا: «مررتُ الدِّيارَ» ليس مطابقًا في معناه البلاغي لقولنا: «مررتُ بالدِّيار»؛ فالقول الأخير يشير إلى المرور بها مرور الكرام، والقول الأوَّل يشير إلى المرور بها مرور الأَشِحَّاء! بمعنى أنَّ (مرورك الشيء) يوحي بمُكثك معه، أمَّا (مرورك به)، فيوحي باجتيازك به، لا أكثر.

- أَفْهَمُ من هذا أنك حينما تقول: «مررتُ فلانًا»، فأنت تعني: جئتَه وأقمتَ لديه بُرهة، أمَّا «مررتُ به»، فتعني أنك إنَّما مررتَ من جانبه، كما تمرُّ بمحطةٍ على الطريق وتمضي.

- ولهذا قال الشاعر الأموي (أعشى همدان، -83هـ)(1):

يَمُرُّونَ بالدَّهنا خِفافًا عِيابُهمْ ::: ويَرْجِعْنَ مِن دارِينَ بُجْرَ الحَقائبِ

وتُروى القصيدة التي منها البيت: (للأحوص الأنصاري) أيضًا، و(لجرير).

- يا سلام! بهذا يكون (جرير) قد حقَّق الالتزام بقاعدة النحويِّين، فقال «يَمُرُّونَ بالدهنا»!

- هذا إذا صحَّ أنَّ القصيدة له، وإلَّا سيظل عند النحويِّين من المغضوب عليهم والضَّالين! لكنَّه إنَّما أضاف الباء هنا لمعنى ليس هناك؛ وشتَّان بين البيتَين ومقامَيهما! من حيث إنَّ الموصوفِين لا يقيمون بـ(الدَّهناء)، لكنَّهم يَسْلكون الطريق التي تَـمُرُّ بالدهناء. أمَّا بيت «تَـمُرُّونَ الدِّيارَ ولم تَعُوجوا»، فقد أراد الشاعر أن يثير مفارقةً، بين مرور المكان الذي يُحِبُّه أولئك المخاطَبون، ومع ذلك فإنَّهم لا يتلبَّثون فيه. فهُم قد مرُّوا- ظاهرًا- الدِّيار، التي حَقُّها الحُبُّ والحَنين والمكوث واسترجاع الذِّكريات، غير أنهم- للمفارقة- لم يعوجوا عليها، أي لم يتوقَّفوا، ولم يكترثوا لما تثيره من شجون الذِّكريات. ومن هنا يظهر أن النُّقصان في المبنى النحوي قد زاد في المعنى البلاغي.

- لو كانت الزيادة في المبنى زيادة في المعنى، لَما صحَّ قول العَرَب: إنَّ البلاغة الإيجاز؛ فالإيجاز نقصٌ في المبنى، يؤدِّي إلى الزيادة في المعنى، ولَما صحَّ أن يكون من أبواب البلاغة باب يُسمى (بلاغة الحذف). وهكذا تكون يا (ذا القُروح) قد عُجْتَ بنا على دِيار هذه المسألة، واستفرغت ما كنت تريد أن تقول حول بيت (جرير)، الذي ليس بخطأٍ نحويٍّ، بل تعبيرٌ بلاغي، عن قصد، وإصرارٍ وترصُّد، سواء أُخِذ برواية «تَـمُرُّونَ الدِّيارَ»، كما في كتب النحو، أو برواية «أَتَـمْضُونَ الرُّسُومَ» كما في ديوانه، بشرح (ابن حبيب). فلقد خرج الشاعر في كلتا الروايتين عمَّا يقرِّره النحويُّون من أنَّ (مَرَّ) و(مضَى) فعلان لازمان، لا يتعدَّيان إلَّا بحرف، فعدَّاهما جريرٌ على طريقته «الجريريَّة» بلا حرف جر. ثمَّ جاءت صناعة البيت الاستدراكيَّة، المنسوبة إلى حفيده المغمور، العاقِّ لنحو جَدِّه، (عمارة بن عقيل): «مَرَرْتُمْ بالدِّيار...».

- وستَلحظ، بالفعل، التفريق في الدارجة بين قولنا: «مَرِّيت فلان» و«مَرِّيت بـ..فلان/ على فلان»؛ فالتعبير الأوَّل يعني أنك زُرتَه، وتحدَّثت إليه، وربما أقمتَ عنده بعض الوقت، أمَّا التعبير الآخَر، فلا يدل إلَّا على اجتيازك من عنده.

- فرقٌ بين قواعد النحو وآفاق البلاغة. وذاك التفريق التعبيري، الذي جَرَتْ محاولة إلغائه، بقاعدة اللازم والمتعدِّي، في العَرَبيَّة الفصحى، قد بقي في العامِّيَّة. ومثل هذه القاعدة هو ممَّا ضاقت به العاميَّة؛ من حيث وجدتْه يُقيِّد لسانها، بل يحوِّل الإنسان، الذي ميَّزه الله باللِّسان والبيان، إلى شِبْه إنسانٍ آلي، يُبرمَج بكلام قد لا يعقله، ولا يُعبِّر عن خواطره، ولا يستطيع أن يتعدَّاه؛ قُصارَى أمره أن يلتزم به مغمض العَينَين، حذو الحرف بالحرف، متَّبِعًا سَنَن ما حفظ منه وعنه، فلا يبقَى أمامه منفذٌ إلى أن يبدع قولًا أبدًا، إلَّا في أضيق الحدود، وعلى غرار ما قاله أجداده قبل ألف سنة وخمس مئة، أو أكثر!

- ثمَّ يزيدك الطِّين بِلَّة المتشددون من النُّحاة. مع أنك ستجِد من المعاصرين- وكان ذلك قطعًا في السالفين- من يحفظ ألفيَّة (ابن مالك)، وألفيَّة (ابن معطي)، ولو أُلِّفت مليونيَّة لحفظها، وقبل ذلك يحفظ «الآجروميَّة»، و«التُّحفة السَّنيَّة»، وقد يحفظ كتاب (سيبويه) نفسه، وقد يُدرِّس قواعد النحو في الجامعة، لكنه إذا نطق لا يكاد يُبين، وهو غالبًا لحَّانةٌ لُحَنَة!

- فما الفائدة، إذن، من قواعده تلك؟! ولماذا يحدث هذا؟

-لأنَّ صاحبنا قد شغل حياته بالنظريَّة عن التطبيق، حتى أُقعِد بقواعده، وقد لَحَسَتْ دماغه معادلاتها الرياضيَّة عن اللغة الحيَّة، التي هي الأصل والغاية. ومن طرائف هذا أن أحد المشايخ المبرمَجين على القواعد النحويَّة قدَّم لنا- معشر الجهلة- شرحًا لكتاب «شرح ابن عقيل»، ونشره بصوته على موقع «يوتيوب»، وليته لم يفعل؛ لأنه قد فضح المفارقة التي نتحدث عنها. إذ أخذ يقرأ حاشية (محيي الدِّين عبد الحميد) حول (تنوين الترنُّم)، حيث قال: «تنوين الترنُّم لا يختصُّ بالاسم؛ لأنَّ الشيء إذا اختصَّ بشيء لم يجئ مع غيره.» فكيف قرأ الشيخ النحويُّ المبرمَج هذا الكلام؟ جعل يقرأ ويكرِّر: «إذا اختص بشيء لم يجيء مع غيره!». وبذا لم تعد (لم) تجزم الفعل لدى شيخنا النحويِّ المبرمَج! مع أنَّ هذا الرجل قد بلغت به الثقة بعِلمه أن قام يعلِّم الناس النحو، بل ينشر ذلك في العالمين من خلال سلسلة تسجيلات على شبكة «الإنترنت». وهو بالفعل قد يكون عالمًا بالقواعد النحويَّة، لكنه أجهل باللُّغة العَرَبيَّة من العجم! وإلى جانب عاهة الشيخ النحويِّ المبرمَج هاهنا عاهة أخرى، تتمثَّل في كارثة إملائيَّة، تُصِرُّ عليها المطابع المِصْريَّة؛ فالكتاب الذي قرأ منه تجده مطبوعًا هكذا: «إذا اختص بشىء لم يجىء مع غيره!»(2) الياء في (شيء)، والألف المقصورة- التي هي كرسي الهمزة في (يَجِئ)- تُطبَعان برسمٍ واحد! فبدا الحرفان أمام الشيخ النحويِّ المبرمَج ياءً، وإنْ لم يكونا منقوطين. غير أنَّه لو لم يكن معوَّقًا «نحويًّا»- مع أنه شيخ يتصدَّر لشرح شرح ابن عقيل- فضلًا عمَّا لو كان بدرجة تلميذٍ من تلامذة الكتاتيب القديمة، لميَّز بين الحرفَين، وإنْ كُتِبا له بالهيروغليفيَّة! ويُستدَلُّ من هذا على أمرين مهمَّين:

أوَّلهما، ما نحن بصدده، من فساد التصوُّر المزمِن أنَّ قواعد النحو ذات جدوَى لدارس اللُّغة العَرَبيَّة، ولا جدوَى لها، إلَّا إنْ جُعِلت تطبيقًا. وقد آن للتعليم أن يُدرِك أن تعليم النحو بالطريقة التقليديَّة مضيعة وقت، فهو لم يُفِد مشايخ التعليم النحويِّ أنفسهم.

والأمر الآخَر، أنَّ مَن يُصِر على كتابة (الياء) و(الألف المقصورة) برسمٍ واحد- مراهنًا على تفريق القارئ بينهما- فاسد التصوُّر كذلك، مُفْسِدٌ للسان العَرَب، وقد آن أن يخجل من فعلته؛ فخيرٌ له ولنا لو كتب العَرَبيَّة باللاتينيَّة، أو بالمسماريَّة، أو بالهيروغليفيَّة، من أن يقترف التلبيس على القارئ برسم حرفَين بصورة حرفٍ واحد، فيوقِع شيخًا نحويًّا مبرمَجًا في شَرِّ أعماله، فكيف بمَن دونه؟! وفي مقابل مشايخ النحو المبرمَجين هؤلاء، لو اختُبِر كبار الشعراء في مادَّة النحو، لرسب مبدعوهم، على الأرجح، ونجح الناظمون النائمون منهم، وبتفوُّق!

- لماذا؟

- لماذا هذه إجابتها في مساق الأسبوع المقبل، بحول الله!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...................

(1)  (1983)، ديوان أعشى همدان وأخباره، تحقيق: حسن عيسى أبي ياسين، (الرياض: دار العلوم)، 90.

(2)  يُنظَر: (1980)، شرح ابن عقيل، تحقيق: محمَّد محيي الدِّين عبدالحميد، (القاهرة: دار التراث)، 1: 20.

 

تعتبر إدارة الوقت جانبا بالغ الأهمية في أي برنامج تدريبي، ولكن في البيئة الافتراضية، قد يكون إتقانها أكثر تحديا. التدريب الافتراضي، على الرغم من أنه يقدم بديلا ملائما ومرنا للتعلم الشخصي، إلا أنه يأتي بمجموعة من القيود الخاصة به والتي يمكن أن تعيق إدارة الوقت بشكل فعال. سواء كانت مشكلات تكنولوجية، أو نقص التفاعل وجها لوجه، أو صعوبة في البقاء مركزا في بيئة عبر الإنترنت، فإن التدريب الافتراضي يقدم تحديات فريدة من نوعها يمكن أن تؤثر على قدرة الفرد على إدارة وقته بشكل فعال. أحد الأمثلة على قيود إدارة الوقت في التدريب الافتراضي هو الافتقار إلى الملاحظات الفورية والمساءلة. في بيئة الفصل الدراسي التقليدية، يتمكن المدربون من تقديم ملاحظات وإرشادات في الوقت الفعلي، مما يساعد المتعلمين على البقاء على المسار الصحيح وضبط وتيرة التعلم وفقًا لذلك. ومع ذلك، في التدريب الافتراضي، قد يكون هناك تأخير في تلقي الملاحظات، مما يؤدي إلى سوء فهم محتمل أو ارتباك يمكن أن يهدر وقتًا ثمينًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن الافتقار إلى التفاعل وجها لوجه يمكن أن يجعل من السهل على المشاركين المماطلة أو تشتيت الانتباه، مما يزيد من تعقيد جهود إدارة الوقت. لمعالجة هذه التحديات، من المهم أن تتضمن برامج التدريب الافتراضي استراتيجيات لتعزيز المساءلة والمشاركة، مثل عمليات تسجيل الوصول المنتظمة والأنشطة التفاعلية وقنوات الاتصال الواضحة.

حقائق رئيسية:

1. المقدمة

2. جدولة المهام الخاصة بك

3. جدولة وقت الفريق

4. أفضل الخطط الموضوعة ...

5. التعامل مع غير المتوقع

6. مراجعة استخدام الوقت

7. الملخص

التفاصيل:

1 – المقدمة:

في عالم اليوم سريع الخطى، أصبحت إدارة الوقت مهارة بالغة الأهمية للأفراد الذين يسعون إلى التفوق في حياتهم المهنية والشخصية. ومع ظهور برامج التدريب الافتراضي، أصبحت الحاجة إلى إدارة الوقت الفعّالة أكثر وضوحًا. ومع ذلك، وبقدر ما قد تكون استراتيجيات إدارة الوقت مفيدة، فمن الضروري التعرف على قيودها المتأصلة في سياق التدريب الافتراضي. في هذا القسم، سوف نستكشف التحديات والقيود التي يواجهها الأفراد عند محاولة إدارة وقتهم بشكل فعال في بيئة التدريب الافتراضية. من خلال الأمثلة الواقعية والأدلة القائمة على البحث، سنلقي الضوء على تعقيدات موازنة الأولويات المتنافسة، ومشتتات التكنولوجيا، والافتقار إلى الحضور المادي الذي يمكن أن يعيق ممارسات إدارة الوقت الفعالة في برامج التدريب الافتراضي. من خلال فحص قيود إدارة الوقت في التدريب الافتراضي، يمكننا اكتساب فهم أعمق للعقبات الفريدة التي يجب على الأفراد التغلب عليها من أجل تعظيم إمكاناتهم التعليمية وتحقيق أهدافهم. من خلال هذا الاستكشاف، يمكننا أيضا تحديد فرص التحسين وتطوير استراتيجيات أكثر دقة لتعزيز مهارات إدارة الوقت في المشهد المتطور باستمرار للتدريب الافتراضي.

2 - جدولة المهام الخاصة:

يعد جدولة مهامك الخاصة جزءًا أساسيًا من إدارة الوقت الفعالة في التدريب الافتراضي. في حين قد يبدو وكأنه مفهوم بسيط، فإن العديد من الأفراد يكافحون في تحديد أولويات مهامهم وإنشاء جدول واقعي. أحد قيود جدولة مهامك الخاصة هو إغراء المماطلة. بدون خطة واضحة، من السهل تأجيل المهام حتى اللحظة الأخيرة، مما يؤدي إلى زيادة التوتر وانخفاض جودة العمل. من خلال إنشاء جدول وتحديد مواعيد نهائية لكل مهمة، يمكنك أن تحاسب نفسك وتتجنب فخ التسويف. هناك تحدٍ آخر عند جدولة مهامك الخاصة وهو المبالغة في تقدير مقدار ما يمكنك إنجازه في إطار زمني معين. من المهم أن تكون واقعيا بشأن قدراتك وأن تأخذ في الاعتبار عوامل التشتيت المحتملة أو الظروف غير المتوقعة التي قد تنشأ. من خلال تقسيم المهام الأكبر إلى أجزاء أصغر يمكن إدارتها وتخصيص الوقت لكل منها، يمكنك التأكد من بقائك على المسار الصحيح وتحقيق أهدافك. بالإضافة إلى ذلك، فإن الافتقار إلى الهيكل في التدريب الافتراضي يمكن أن يجعل من الصعب تحديد أولويات المهام والبقاء منظمًا. بدون الوجود الفعلي للمدرب أو المشرف، من السهل أن تغمرك وتفقد التركيز. من خلال إنشاء جدول مفصل وتحديد أهداف واضحة لكل مهمة، يمكنك التأكد من أنك تحرز تقدمًا وتظل متحفزًا طوال عملية التدريب. في الختام، يعد جدولة مهامك الخاصة عنصرا أساسيا في إدارة الوقت الفعالة في التدريب الافتراضي. من خلال التغلب على قيود التسويف والمبالغة في التقدير والافتقار إلى الهيكل، يمكنك زيادة إنتاجيتك وتحقيق النجاح في أهداف التدريب الخاصة بك. من خلال التحكم في جدولك الزمني وتحديد أولويات مهامك، يمكنك إعداد نفسك للنجاح في التدريب الافتراضي.

3 - جدولة وقت الفريق:

إن أحد أكثر جوانب التدريب الافتراضي تحديا هو جدولة وقت الفريق بشكل فعال. في حين أن استراتيجيات إدارة الوقت يمكن أن تساعد في تحسين الإنتاجية والكفاءة، إلا أن هناك قيودًا متأصلة في تنسيق الجداول عبر مناطق زمنية مختلفة واستيعاب التفضيلات الفردية والتوافر. على سبيل المثال، ضع في اعتبارك فريقا عالميا من الموظفين المشاركين في جلسات التدريب الافتراضية. قد يكون كل عضو موجودًا في منطقة زمنية مختلفة، مما يجعل من الصعب إيجاد وقت مناسب للجميع للاجتماع. يمكن أن يؤدي هذا إلى تعارضات في الجدولة، وتفويت الاجتماعات، وانخفاض المشاركة بين أعضاء الفريق. علاوة على ذلك، قد يكون لدى أعضاء الفريق الفرديين أحمال عمل ومسؤوليات مختلفة خارج جلسات التدريب، مما يجعل من الصعب جدولة وقت مخصص للتدريب الافتراضي. قد يكافح بعض الموظفين لموازنة جلسات التدريب مع مهامهم اليومية، مما يؤدي إلى انخفاض التركيز والفعالية أثناء جلسات التدريب الافتراضية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تؤدي الاضطرابات غير المتوقعة مثل المشكلات الفنية أو مهام العمل العاجلة أو حالات الطوارئ الشخصية إلى تعقيد جدولة وقت الفريق للتدريب الافتراضي. يمكن أن تؤدي هذه الاضطرابات إلى تعطيل تدفق جلسات التدريب، مما يتسبب في حدوث تأخيرات وقد يؤثر على تجربة التعلم الإجمالية لأعضاء الفريق. على الرغم من هذه القيود، هناك استراتيجيات يمكن أن تساعد في التخفيف من بعض التحديات المرتبطة بجدولة وقت الفريق في التدريب الافتراضي. يمكن أن يساعد التواصل الواضح وخيارات الجدولة المرنة واستيعاب التفضيلات الفردية في تعزيز التعاون والمشاركة بين أعضاء الفريق. من خلال الاعتراف بهذه القيود ومعالجة تحديات الجدولة بشكل استباقي، يمكن للمؤسسات دعم فرقها بشكل أفضل في تعظيم فوائد التدريب الافتراضي. يمكن أن تؤدي استراتيجيات إدارة الوقت الفعالة والنهج التعاوني للجدولة في النهاية إلى تجربة تدريب افتراضية أكثر إنتاجية وتماسكا لجميع أعضاء الفريق.

4 -أفضل الخطط الموضوعة:

على الرغم من أفضل جهودنا للتخطيط وإدارة وقتنا بشكل فعال في التدريب الافتراضي، فستكون هناك دائمًا عقبات غير متوقعة يمكن أن تعرقل حتى أكثر الجداول تنظيمًا. الحقيقة هي أنه بغض النظر عن مدى دقة تخطيطنا لجلسات التدريب الخاصة بنا، فهناك عوامل خارجة عن إرادتنا يمكن أن تعطل جداولنا الزمنية المصممة بعناية. خذ على سبيل المثال المشكلات الفنية - وهي ظاهرة شائعة في التدريب الافتراضي. بغض النظر عن عدد المرات التي نختبر فيها معداتنا أو نستكشف المشكلات المحتملة، فمن المحتم أن تكون هناك لحظات تفشل فيها التكنولوجيا. من انقطاع الإنترنت إلى خلل في البرامج، يمكن أن تؤدي هذه الاضطرابات إلى إرباك جدول التدريب بالكامل وتركنا نكافح لتعويض الوقت الضائع. علاوة على ذلك، يمكن للعوامل البشرية أيضًا أن تؤثر على قدرتنا على الالتزام بخطط إدارة الوقت. قد يواجه المشاركون صعوبة في فهم المادة، أو طرح أسئلة غير متوقعة، أو طلب دعم إضافي لم يتم أخذه في الاعتبار في الأصل في جدول التدريب. يمكن أن تتسبب هذه الظروف غير المتوقعة في حدوث تأخيرات وإجبار المدربين على التكيف بسرعة، مما قد يؤدي إلى التضحية بمحتوى تدريبي قيم في هذه العملية. بالإضافة إلى ذلك، فإن بيئات التدريب الافتراضية أقل تنظيماً بطبيعتها من الإعدادات التقليدية الشخصية. قد يعمل المشاركون من المنزل أو من مواقع بعيدة أخرى، حيث تكثر عوامل التشتيت ويصبح إدارة الوقت أكثر صعوبة. بدون الوجود المادي للمدرب لإبقاء المشاركين على المسار الصحيح، قد يكون من الصعب ضمان مشاركة الجميع بشكل كامل والاستفادة القصوى من تجربة التدريب الخاصة بهم. في حين أن استراتيجيات إدارة الوقت مثل تحديد أهداف واضحة، وإنشاء جداول مفصلة، وتخصيص وقت للاستراحة مفيدة بالتأكيد، فمن الأهمية بمكان إدراك حدود هذه الممارسات في التدريب الافتراضي. من خلال فهم أن العقبات غير المتوقعة سوف تنشأ حتما، يمكن للمدربين إعداد أنفسهم بشكل أفضل للتكيف والتحول عند الضرورة، مما يضمن أن جلسات التدريب تظل منتجة وجذابة على الرغم من التحديات التي قد تظهر.

في حين أن إدارة الوقت أمر بالغ الأهمية للنجاح في التدريب الافتراضي، يجب الاعتراف بحدوده. إن الطبيعة السريعة للتدريب الافتراضي يمكن أن تجعل من الصعب تحقيق التوازن بين المهام المتعددة وتحديد الأولويات بشكل فعال. ومع ذلك، من خلال التعرف على هذه القيود وتنفيذ استراتيجيات مثل تحديد أهداف واقعية وإنشاء جدول منظم والاستفادة من أدوات التكنولوجيا، يمكن للأفراد التغلب على هذه التحديات وتعزيز إنتاجيتهم في التدريب الافتراضي. من المهم أن نتذكر أن إدارة الوقت ليست حلا واحدا يناسب الجميع، والمرونة والقدرة على التكيف هي المفتاح في التنقل في بيئة التدريب الافتراضي السريعة الخطى. من خلال تبني هذه المبادئ، يمكن للأفراد تعظيم إمكاناتهم وتحقيق أهدافهم. لذا، دعونا نتخذ نهجا استباقيا تجاه إدارة الوقت في التدريب الافتراضي لإطلاق العنان لإمكاناتنا الكاملة والنجاح في هذا المشهد الرقمي الديناميكي والمتطور باستمرار.

5 - التعامل مع غير المتوقع:

يوفر التدريب الافتراضي للأفراد المرونة في إدارة وقتهم وجداولهم، ولكنه يأتي أيضا بمجموعة من التحديات الخاصة به. أحد هذه التحديات هو التعامل مع غير المتوقع. بغض النظر عن مدى دقة تخطيطك لجلسات التدريب الافتراضية، فستكون هناك دائما ظروف أو اضطرابات غير متوقعة يمكن أن تفسد جدولك المعد بعناية. على سبيل المثال، يمكن أن تؤدي المشكلات الفنية مثل مشكلات الاتصال بالإنترنت أو أعطال البرامج إلى تعطيل جلسات التدريب الافتراضية، مما يتسبب في تأخير وإعاقة التقدم. بالإضافة إلى ذلك، قد تنشأ حالات طوارئ شخصية أو مواعيد نهائية غير متوقعة للعمل، مما يجبرك على إعادة ترتيب جدول التدريب الخاص بك في اللحظة الأخيرة. للتعامل بفعالية مع ما هو غير متوقع في التدريب الافتراضي، من الضروري أن تظل مرنا وقابلا للتكيف. بدلا من الإحباط أو الارتباك عند مواجهة الاضطرابات، تعامل معها بعقلية هادئة وحل المشكلات. ابحث عن حلول بديلة أو طرق بديلة لتقليل تأثير الأحداث غير المتوقعة على جدول التدريب الخاص بك. يعد التواصل بصراحة وصدق مع مدربك أو فريق التدريب أمرا بالغ الأهمية أيضا عند التعامل مع التحديات غير المتوقعة. من خلال إبقاءهم على اطلاع بأي مشكلات أو اضطرابات، يمكنك العمل معا لإيجاد حلول وإجراء تعديلات لضمان استمرار التدريب بسلاسة.

في حين أن إدارة الوقت مهمة في التدريب الافتراضي، فمن الأهمية بمكان أيضا أن تكون قادرا على التعامل مع ما هو غير متوقع. من خلال البقاء مرنا وقابلا للتكيف واستباقيا في مواجهة الاضطرابات، يمكنك التغلب على التحديات والاستفادة القصوى من تجربة التدريب الافتراضي. تذكر أن الأحداث غير المتوقعة هي جزء طبيعي من الحياة، ولكن مع العقلية والاستراتيجيات الصحيحة، يمكنك التنقل بنجاح بينها والبقاء على المسار الصحيح نحو تحقيق أهداف التدريب الخاصة بك.

6 - مراجعة استخدام الوقت:

إدارة الوقت هي جانب مهم من برامج التدريب الافتراضي، حيث يمكن أن تؤثر بشكل كبير على فعالية وكفاءة تجربة التعلم. ومع ذلك، من المهم أن ندرك أن هناك قيودا متأصلة في إدارة الوقت في بيئة التدريب الافتراضي. في حين أن تقنيات إدارة الوقت مثل تحديد الأهداف وإعطاء الأولوية للمهام وإنشاء الجداول الزمنية يمكن أن تساعد المتعلمين بالتأكيد على البقاء على المسار الصحيح، إلا أن هناك عوامل يمكن أن تعيق فعاليتها. أحد قيود إدارة الوقت في التدريب الافتراضي هو الافتقار إلى الإشراف والمساءلة. على عكس بيئة الفصل الدراسي التقليدية حيث يمكن للمدرسين مراقبة الطلاب وتقديم ملاحظات فورية، غالبًا ما تفتقر برامج التدريب الافتراضي إلى هذا المستوى من الإشراف. يمكن أن يؤدي هذا إلى المماطلة أو تشتيت انتباه المتعلمين، مما قد يعيق في النهاية جهود إدارة الوقت. هناك قيد آخر يجب مراعاته وهو أنماط التعلم المختلفة وتفضيلات الأفراد. في حين قد يزدهر بعض المتعلمين في بيئة منظمة ذات مواعيد نهائية صارمة، قد يفضل آخرون نهجا أكثر مرونة للتعلم. قد يجعل هذا من الصعب على المدربين إدارة الوقت بشكل فعال لجميع المتعلمين، حيث قد يحتاج كل فرد إلى مستوى مختلف من التوجيه والدعم. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لبيئة التدريب الافتراضية أيضا أن تشكل تحديات فنية يمكن أن تؤثر على إدارة الوقت. يمكن أن تؤدي المشكلات الفنية مثل ضعف الاتصال بالإنترنت أو خلل البرامج أو مشكلات التوافق إلى تعطيل عملية التعلم واستهلاك الوقت الثمين الذي كان من الممكن إنفاقه على أنشطة التدريب.

في حين أن إدارة الوقت تشكل جانبا مهما من جوانب التدريب الافتراضي، فمن الأهمية بمكان الاعتراف بالقيود التي يمكن أن تعيق فعاليته. من خلال فهم هذه القيود وتكييف الاستراتيجيات وفقا لذلك، يمكن للمدربين دعم المتعلمين بشكل أفضل في إدارة وقتهم بشكل فعال وفي نهاية المطاف تحسين تجربة التعلم الشاملة.

7 – الملخص:

في حين أن إدارة الوقت تشكل جانبا أساسيا من التدريب الافتراضي، إلا أنها لها حدودها التي لا يمكن تجاهلها. فالطبيعة السريعة لبيئات التدريب الافتراضي يمكن أن تؤدي غالبا إلى زيادة تحميل المعلومات وإرهاق المتعلمين. بالإضافة إلى ذلك، فإن الافتقار إلى التفاعل وجها لوجه يمكن أن يجعل من الصعب على المدربين مراقبة المتعلمين ومساعدتهم على إدارة وقتهم بكفاءة. وعلى الرغم من هذه القيود، فهناك استراتيجيات يمكن تنفيذها للتخفيف من التحديات التي يفرضها إدارة الوقت في التدريب الافتراضي. فمن خلال تحديد التوقعات الواضحة، وتقديم الملاحظات المنتظمة، وتعزيز بيئة التعلم الداعمة، يمكن للمدربين مساعدة المتعلمين على إدارة وقتهم بشكل أفضل وتحقيق أهداف التدريب الخاصة بهم. وفي النهاية، يعتمد نجاح برامج التدريب الافتراضي على إيجاد التوازن الصحيح بين تعظيم كفاءة الوقت ودعم الاحتياجات الفردية وأنماط التعلم للمشاركين. ومن خلال الاعتراف بحدود إدارة الوقت في التدريب الافتراضي وتنفيذ استراتيجيات فعالة لمعالجتها، يمكن للمدربين خلق تجربة تعليمية أكثر جاذبية وتأثيرا لجميع أصحاب المصلحة المعنيين.

في حين أن إدارة الوقت مهارة قيمة في التدريب الافتراضي، إلا أنها ليست خالية من القيود. إن العوامل مثل الصعوبات التقنية، والمشتتات، واختلاف المناطق الزمنية يمكن أن تؤثر جميعها على فعالية استراتيجيات إدارة الوقت. ومع ذلك، من خلال الاعتراف بهذه القيود وتنفيذ تقنيات إدارة الوقت المرنة والقابلة للتكيف، لا يزال التدريب الافتراضي مسعى ناجحا ومنتجًا. من الأهمية بمكان أن تستثمر المنظمات في تدريب موظفيها على تقنيات إدارة الوقت الفعّالة للتخفيف من هذه القيود. مع التحضير والدعم المناسبين، يمكن أن يكون التدريب الافتراضي أداة قيمة حقا في مكان العمل الحديث. والمفتاح هو التعامل مع إدارة الوقت بإبداع وذكاء، وإيجاد طرق للتغلب على التحديات التي قد تنشأ. معا، يمكننا تعظيم إمكانات التدريب الافتراضي وتحقيق أهدافنا بكفاءة وفعالية.

***

نور محمد يوسف – كاتبة ومترجمة سورية

.....................

المراجع

Choudhury, M. (2018). Time Management: A Comprehensive Guide for Online Training. 2nd edition. New York: Routledge.

Ramsay, D. (2020). The 7 Habits of Highly Effective Time Managers in Virtual Training. Harvard Business Review. Retrieved from https://hbr.org/.

Smith, J. (2019). The Impact of Time Management Strategies on Virtual Training Performance. Journal of Virtual Training, 15(2), 25-40.

Mancini, Christopher. "The Power of Time Management in Virtual Training." Training Magazine, 2020. - Covey, Stephen R. The 7 Habits of Highly Effective People. Simon & Schuster, 1989.

Griffith, C. P., & Peterson, M. (2020). Virtual Training Basics (ASTD Training Basics). Association for Talent Development. Hendry, G., & Kloft, M. (2021).

Time management strategies for virtual learners. American Society for Training and Development. McKee, A. (2019).

Virtual Training Tools and Templates: An Action Guide to Live Online Learning. American Society for Training and Development.

Farkas, D. K., Parris, P. E., & Beers, M. J. (2012). Time management strategies for better virtual training. American Journal of Virtual Training, 24(3), 37-51.

Johnson, S. L., & Smith, L. G. (2016). The impact of time management on virtual training success. Journal of Online Learning, 19(2), 58-72.

Nigel P. Melville, Ken Johnston, Scott Gurbaxani. “The Role of Time in Online Training.” Communications of the ACM, 48(8), 69-72 (2005).

Gilly Salmon. “E‐Moderating: The Key to Teaching and Learning Online.” (Routledge, 2000).

Susan Straus. “Learning from e-Learning: Opportunities and Challenges of Virtual Training.” (Dorchester Publishing, 2012).

Ertmer, P. A., & Newby, T. J. (1993). Behaviorism, cognitivism, constructivism: Comparing critical features from an instructional design perspective. Performance improvement quarterly, 6(4), 50-72.

Garrison, D. R., & Vaughan, N. D. (2017). Blended learning in higher education: Framework, principles, and guidelines. John Wiley & Sons.

Pavliscak, P., & Hogshead, H. (2018). Time & technology. Journal of Usability Studies, 13(3), 144-150.

Sanfelippo, F. (2019). Time management strategies in virtual training. Journal of Virtual Training, 12(2), 68-81.

من أرض الرافدين إلى المحيط بين مسرات التنوير ومخاض بناء العقل المسلم

تعد المساهمة التنويرية للمفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي، المولود بالعراق سنة 1954م، إثراء وتثويرا للحوار الفكري والديني حول الإسلام وتصوراته ومكانته في العصر الحديث. وهي صيرورة وأفق مفصلي في تاريخ النسق النقدي الإسلامي المعاصر، مما جعل تجربته مميزة عن بقية المفكرين من معاصريه. بالإضافة لكونه ساهم مساهمة جادة وملحوظة في إثراء المكتبة الإسلامية في مجالات ومسارات علمية مختلفة، كالكتابة الفكرية والفلسفية والكلامية، والنشر والترجمة والإشراف على المجلات المتخصصة، والتي نذكر من أهمها (قضايا إسلامية معاصرة). وقد تلقف معظم القراء والباحثين كتاباته بقبول حسن، لكونها تعالج معضلات فكرية حديثة بأسلوب لغوي أنيق غير متكلف، وبرؤية متكاملة منسجمة، أسها سعة الاطلاع على المعرفة الإسلامية مع استيعاب للمعارف الغربية.

تعرف عموم الباحثين المغاربة على كتابات الرفاعي من خلال إصدارات مركز فلسفة الدين الذي يتخذ مقره ببغداد، وله إصدارات متنوعة تهم قضايا الفكر الديني وعلم الكلام الجديد وفلسفة الدين، كما تصدر عن المركز نفسه مجلة “قضايا إسلامية معاصرة” وبذات النفس والتوجه، وهي متميزة باستكتابها أسماء من مختلف التوجهات والحساسيات الفكرية، ليساهموا بمقالاتهم وأبحاثهم في محاور المجلة المتنوعة، وهو توكيد واقعي على أهمية الايمان بالاختلاف واستيعاب الآخر، من خلالها وما تنشره من ترجمات تعرفنا  كذلك على فلاسفة من الشرق والغرب، وبصمت بفتح نافذة للحوار والاختلاف بين الانتماءات العقدية والفقهية والفكرية في السياق الإسلامي…. وفي زمن صعب عرف الكثير من الاضطرابات وسوء الفهم والتواصل بين أبناء الثقافة الإسلامية باختلاف توجهاتهم.

قدم عبد الجبار الرفاعي جهدا ملحوظا في تفسير الكثير من المضار التي أثرت على الفكر الديني في مراحله التاريخية ليفقد فاعليته،كما عَدَّدَ الأعطاب التي أصابت النهضة الإسلامية الحديثة، والتي رافقت مشاريع أغلب النهضويين منذ قرن ونيف، مما جعلها تنتقل من جيل إلى جيل بما صاحبها من نواقص ورؤى وأسئلة مشوشة، لتورث تلك السمات لبقية الباحثين من اللاحقين وتشكل الكثير من قناعاتهم ومدار تفكيرهم من جديد، فلم يقدروا على تجاوزها أو تفكيك مثالبها.

وبحسب تتبعي لبعض كتاباته يبدو أن مشروعه مؤسس على دفتين: التنوير، ثم إعادة تشكيل العقل المسلم، وصيرورة اشتغاله على مفاهيم شائكة في الفكر الإسلامي سواء من خلال الكتب المنجزة، أو من خلال الاعتناء بمضامين ومحاور بعض إصدارات مجلة “قضايا إسلامية معاصرة” التي تدور ذلك المدار، ويبدو كذلك أن هم هذا الإصلاح والبناء الأخلاقي للمجتمع المسلم سكن وجدانه منذ بدايات إبداعه، وأشرك فيه الكثير من الأسماء بمختلف حساسياتها الفكرية والعقدية والمنهجية، في إطار تكامل معرفي كان من السباقين لتنزيله.

ويسائل الرفاعي مدونتنا الأخلاقية التي يعتبرها شحيحة مقارنة بالكثير من مدوناتنا الأخرى، ويفكك الثنائيات الضدية التي تسكن تراثنا، والتي تراكمت على مدى قرون كاملة، وجعلت مجتمعنا مضطربا غير مستوعب لذاته واختلافاته، إنه منهك بذاته وبسوء فهم التنوع وسوء تدبير الاختلاف، الذي هو جزء من كينونته، لتنفجر بؤر العنف واللاتسامح هنا وهنالك في أطرافه لتصل لمراكز المدن، وتتمدد لتغتال المفاهيم السامية التي زخرت به ثقافتنا. إن هذا المأزق الثقافي والاجتماعي والديني بدأ في تفكيك المعنى الوجودي للدين، ليفقد آفاق الارتفاع بالإنسان والتسامي به، ويوقعه في دوامة اللامعنى، وهو ما أحدث شرخا كبيرا وجروحا غائرة في المجتمعات العربية والإسلامية، والتي لايزال تأثيرها مستمرا إلى الآن.

 يتطلع الرفاعي لإعادة بناء شبكة المفاهيم التي تؤطر تصورنا للحياة بخلفية دينية، لتجاوز هذه الإشكالات التي تحصر الدين في الغلبة ومصادرة الانسان لخيرية أخيه الانسان، مقابل الأيديولوجيا، واختزال معنى الانسان في ضيق الانتماء. ويعترف الرفاعي في كثير من كتاباته باعتزازه بمواقف ورؤية الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي على - بوجه الخصوص - للتدين، الذي كان يصرح، قائلا:”أن الشفقةَ على عباد الله أحقّ بالرعاية من الغَيْرَةِ على الله”، واستمد منه شيئا من رؤيته لسعة الدين وعلاقة الانسان بالإنسان، ليرى أن الدين له نزعة إنسانية عالية، وينقل بذلك الدين من ضيق التفسير السلفي السني/ الشيعي. ويرافع لإعادة تعريف الدين وكذلك الانسان وفق هذا المنظور. ليستعيد الدين دوره فيشكل أفق المعنى من جديد، ويبعث على الطمأنينة والسكينة، ويمد الوجود الإنساني بمعاني جديدة للأخلاق والجمال والحياة، لتتجاوزه ككائن له “ظمأ وجودي” للدين لتشكل بعدها امتدادات عظيمة تلامس الحضارة والثقافة والمجتمع.

 إن الرفاعي يسعى لإعادة تشكيل فهمنا للدين، ويحاول حصار التأويلات التي تفضلها المجموعات المتطرفة، والتي تدعو للموت وتقيم دعوتها على النصوص المقدسة، ويبين من خلال كتاباته المتنوعة؛ قدرتنا على مزاحمة هؤلاء بتأويلات أخرى ممكنة، ليمد فيها الدين الإنسان بمعنى مرن وواسع وجديد للحياة، بدل تمجيد ثقافة الموت.

 والجدير بالذكر أن عبد الجبار الرفاعي انتقد بشدة تناولنا لمفاهيم الوحي بذهنية كلامية قديمة، واعتبر في الكثير من مقالاته أننا بحاجة إلى إعادة اكتشاف مفاهيم الوحي خارج الذهنية التقليدية، والرجوع للحس التاريخي في التعامل مع الكثير من المقولات الكلامية التي تأسست في ظل الصراع التاريخي بين الفرق الكلامية الإسلامية، واعتبرتها عقائدا نهائية، وفي غاية الدوغمائية، وحقائق كاملة لا تقبل النقاش لدى المؤمنين بها، والسبب الأساس في ذلك أنهم لم يستوعبوا تدخل الصراعات السياسية والنزعات النفسية والثقافية في تشكلاتها وتفعليها. فهؤلاء يرونها وحيا مقدسا، وسنة متبعة، وفهما صحيحا، ويقفز هؤلاء على بقية الجزئيات الأخرى. ولا يهم في الأخير لتحقق هذا الفهم المأساوي للدين وعقائده، لأي معسكر ينتمي هذا المؤمن أو كيف تشكلت طائفته.

ختاما وباختصار، يعكس عبد الجبار الرفاعي من خلال عمله ومناقشاته الفكرية التزامه بتحقيق التجديد في فهم الإسلام وتطبيقاته في العصر الحديث، من خلال البحث عن حلول تجمع بين القيم التقليدية والتحديثية، لبناء مجتمعات إسلامية مزدهرة ومتقدمة، وعقل إسلامي متسم بالنقد، وقادر على التفاعل والإبداع والمنافحة عن التصور الإسلامي عن الكون والحياة. ربما بهذا الفهم - وهذا البناء إن تحقق- يستعيد العقل المسلم الإرادة لينخرط كجزء فاعل في هذا العالم، وليس جزءا منفعلا وفقط، قادرا العطاء والمنافسة على الخير، يقدم شبكة من المفاهيم والتصورات التي تعيد للإنسانية كرامتها، وتنمي الضمير الأخلاقي الإنساني باتزان مسدد بالوحي، دون هيمنة للرؤية المادية على كينونته، ليسمو الفرد والمجتمع، متدرجا في سلم الكمال، وهو ما يعبر عنه الباحث بالحيز العمودي نحو الله سبحانه وتعالى، وما يصدر عنه من عطايا ومعاني ودلالات، بدل الانزلاقات التي وقعت فيها الفلسفة المعاصرة بحداثتها، والتي حشرت الوجود الإنساني في حيز أفقي ضيق، حتى أضحى الإنسان إله نفسه، شكله بذاته في لحظة ذهول عن الحقائق الميتافيزيقية، وهذا ما يفسر تيهه المستمر واضطرابه الفلسفي والعقدي والسلوكي.

***

د. يوسف محمد بناصر - باحث مغربي

متخصص في الحوار الديني والحضاري وقضايا التجديد في الثقافة الإسلامية. متحصل على درجة الدكتوراه من كلية الآداب ببني ملال جامعة السلطان مولاي سليمان - المغرب، له عدة مشاركات علمية في ندوات مغربية ودولية، كما ساهم بمقالات ودراسات وأبحاث عدة في مجلات وجرائد ومواقع عربية.

......................

* المشاركة رقم: (8) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

لم تكن لغة الخطاب النبويّ فى خصائصها الخاصّة إلا المثال الذى يُحاكي لغة القرآن الكريم. وقد سبقت الإشارة إلى أنها لغة حق فى حق من حق، صادقة على الدوام، لا تقبل الخطأ الذى يترائى من لغو اللغة العادية، لأن اتصال الخطاب النبوي دوماً بالحقيقة، يعجز اللغة ويمنعها قصراً عن الانحراف.

وبما أن سمة الخطاب النبويّ أن ألفاظه «ألفاظ حقائق»، وأنه صلوات الله عليه، أعطى «جوامع الكلم» فاختصر له الكلام اختصاراً، صار أخص خصائص خطابه ليس مجرد لغة تتردد على الألسنة والسلام، بل ينفذ بين شغاف القلوب فيحولها من حال فى الحياة إلى حال.

ولم تكن «اللغة اللاغية» من جنس ما يتوخّاه اللسان المؤمن تحقيقاً، ناهيك عن القلب وعن الضمير؛ لأن استخدامها في الخطاب الديني يقدح فى وعي المؤمن وطواياه قدحاً نهى عنه القرآن الكريم منذ البداية.

ولنا أن نتأمل قوله تعالى: وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فيه لعلكم تغلبون»؛ فماذا تجد؟ تجد «اللغة» هنا إتيان بالباطل من القول، واللغو الصاخب فى أثناء القراءة صرفاً للناس عنه وطلباً للغلبة، ومثاله فى القرآن كثير: أعنى مثال «اللغو» الذى ذكرت فيه «اللغة اللاغية» بسخيف الأقوال بُله الأفعال، نماذجه فى أكثر من عشرة مواضع فى الكتاب الكريم.

ونحن نأتى على خمسة منها هنا فقط، وبقيتها توضيح يفرضه سياق الآية فى مناسباتها الواردة فيها.

ففى «القصص» آية (55) قوله تعالى: «وإذا سمعوا اللّغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين»؛ فاللغة هنا لغو يلحق السّماع؛ فبمجرّد سماعه يستحق أن يُلغى من فوره بالإعراض عنه والاكتفاء بالعمل خالصاً حين يشهده الله من المخلصين، ثم إبداء السلام على شرعة الإعراض أيضاً، طلباً للسلامة وتحقيقاً للإخلاص، لكنه هنا إعراض عن العبث وسخف القول وهما بُغية الجاهليين.

وفى «المؤمنون» آية (3) قوله تعالى: «قد أفلح المؤمنون. الذين هم فى صلاتهم خاشعون. والذين هم عن اللغو معرضون»؛ فاللغة هنا لغو أيضاً ليس فيه فائدة لا من قول ولا من عمل، فليس اللغو هنا مقصوراً على اللفظ وكفى، ولكنه أيضاً يتضمّن العمل. ولن يفلح مؤمن وهو فى صلاته ليس بخاشع، وهو عن اللغو ليس بمعرض.

وفى «البقرة» آية (225) قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللّغو فى أيمانكم». اللغة فيه سبق اللسان لغواً ممَّا لم يقصد به جزم اليمين؛ فسبق اللسان باللغو بالحلفان لغة صادرة عن اعتقاد الصدق وهى تتضمّن البطلان !

وفى «الفرقان» آية (72) قوله تعالى: والذين لا يشهدون الزور وإذا مَرُّوا باللغو مَرُّوا كراماً: مرُّوا كراماً على ما ينبغي أن يُطرح بعيداً من قول أو فعل، مرُّوا كراماً لأنهم ارتفعوا عن اللغة التي تصيبهم بالدُّون ممَّا ينبغي أن يُلغى من الأفعال والأقوال، مرُّوا كراماً فما ينالهم إلا ما ينال الكريم من العزوف والإعراض، مرُّوا كراماً والكريم إذا مَرَّ باللغو لم يبال بصاحبه ولا بما يلغو فيه، مرُّوا كراماً فكرمتْ لديهم أنفسهم، وهانَ عندهم اللغو، وسقطت لديهم لغة المحجوبين.

وفي «الطور» آية (23) قوله تعالى: «يتنازعون فيها كأساً لا لغوٌ فيها ولا تأثيمٌ». نعم ..! يتنازعون فى الجنة و يتجاذبون فيها الكؤوس تنازع محبة وأنس لا تنازع شقاق وخلاف، كلٌّ منهم يجذب الكأس من يد صاحبه تلذُّذاً وتأنُّساً، فليس المقام مقام لغو ولا تأثيم، ولا هو بمقام لغة فاحشة ولا كلام قبيح، كما تفعل كؤوس الدنيا بذويها، فتمنع ألسنتهم عن الصواب بعد أن تعقل عقولهم عن الصحة والسلامة بل: (لا تسمع فيها لاغية) من باطل ولا لاهية من لغو.

وعليه يتبيّن؛ أن ألفاظ اللغة ليست فى كل حال صادقة؛ بل من اللغة ما هو باطل وقبيح، وفيها ما هو شاذ وساقط، ومنها ما يشتمل على سخيف القول وفضول الكلام.

وقد صَوَّر هذا المعنى شيخ المعرة، إذ قال:

ومن النَّاس مَنْ لفْظُهُ لؤُلؤٌ 

 يُبَادُرُه للَّقْطِ إذْ يُلفَظُ

*

وبَعْضُـهُم قـوله كالحصَـا

يُقَال فَيُلْغَى ولا يُحفَظُ

كما أنّ ألفاظ اللغة تلك، ليست فى كل حال صادقة على الواقع التاريخى الذى يشهد الحالة كما يشهد الواقعة تجربة وحدثاً فى مجراه العميق الطويل.

لكن رسول الله، صلوات ربي عليه، الذى اختاره الله لرسالته، واصطفاه لدعوته، وأرسله إلى الناس كافة، مبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرّم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم: لم تكن دعوته مجرَّد لغة، ولم تكن ألفاظه كلمات كسائر الكلمات.

ولكنها كانت «حقيقة» لا مجرد «لفظ»؛ كما كانت دعوته واقعاً تجرى فيه حقائق الحياة والكون وتشهدها وقائع التاريخ وتجاربه الحيَّة، ممارسة وفعلاً وحياة؛ الأمر الذى يتبيّن لنا فيه، مع معايشة أحواله ومباشرة أقواله والترقي الروحي فى معارج ذكره الباقي، ومدارج حقيقته الروحية، أن أحاديثه الشريفة ومناقبه الكريمة لا تحتاج مع ترقية الأحوال الباطنة إلى بيان الحديث الصحيح من الضعيف.

***

د. مجدي إبراهيم

 

بين الباحثين عن الحرية والفارّين من قيد يُدمي معصم الإنسانية، كان هناك ستيفان زفايغ، ستيفان زفايغ Stefan Zweig هذا البطل في ميدان البراءة المعلقة على عمود القسوة لم يتحمل قلبه الهش أن يشهد المزيد من الدماء الجارية بها أنهار الحروب..

إنها الحروب التي كادت تحكم على الإنسان بالإبادة، فما يصنع بالتالي صاحب أكثر من قطعة من قلعة متداعية كانت في يوم من الأيام تسمى قلبا؟! وأي قلب؟! إنه ملجأ الراكضين خلف شيء من الدفء الإنساني..

إنها الإنسانية الواعدة بكل شيء ماعدا السلام، وعن هذا السلام الذي شكل النص الغائب ها هي تحكي عن نفسها قصة حياة الكاتب الشهير ستيفان زفايغ ذاك الذي فضل الخروج في صمت قبل أن تغرب شمسه إلى الأبد..

لكنها المغادرة المبكية تلك التي جَنَّدَ لها ستيفان زفايغ روحه وروح زوجته، بل لنقل إن ما من قريب من الأحبة قد سلم من كتابة نهايته، حتى الكلب المسكين قد فصَّل له ستيفان زفايغ موتة على مقاس اشتهاءات الكاتب المبدع..

نهاية حزينة يَكتبها قلمُ القَدَر لأسطورة مُسَمَّاة «ستيفان زفايغ»، إنها نهاية توزع الموت بالمجان على أفراد بيت ستيفان زفايغ، لنقل إنهم الأحبة، أقرب الأحبة إلى القلب، لذلك نرى الغريب الأطوار ستيفان زفايغ قد آثر أن يموت رفقة ذويه موتا جماعيا..

إنها قصة انتحار جماعي، أما البطولة، فقد كانت بامتياز للمنومات التي اشتهاها الكاتب لرسم نقطة النهاية لنص حياة أسرته الصغيرة (الكاتب وزوجته وكلبهما الطيِّع رغم أنفه) قبل أن يسدل الستار على مسرح حياته..

ولننظر إلى هذا الإبداع الموازي الذي حفز خالق الروايات النمساوي المحنك ستيفان زفايغ على كتابة نهايته، وكأنه تأقلم مع القلم المكيف الذي يفصل أثواب الموت والحياة لأبطال سردياته..

لا شيء قد يتطوع لتقديم بيانات تشرح وتفسر معطيات حياة غامضة سوى سيرة الكاتب الذاتية تلك التي تحمل عنوان «عالم الأمس The World of Yesterday»..

«عالم الأمس» لا ينأى عن حياة ثانية يقدم فيها الكاتب أكثر من قراءة لأكثر من حدث، وهي مناسبة سمحت لستيفان زفايغ بأن يقف فيها عند فشل أوروبا وكيف انهارت تلك الحضارة..

إنه ستيفان زفايغ الكاتب الذي شكل على امتداد الزمن واحدا من أكثر الكُتَّاب الذين يحج القراء إلى عوالمهم الصاخبة والحيية..

ومتى أطلق هو العنان لقدراته على مستوى الكتابة؟!

لنقل إن ذلك حصل بعد أن قفز على حائط الباكالوريا القصير نسبيا، لماذا؟! لأنه كان يحول دون تمرد ستيفان زفايغ على كل ما يقيد أصابعه الشقية الحالمة برسم عوالم تشجع على الانطلاق والتحرر من كل ما يعقد ويربط..

فمن يكون المسؤول عن فكرة انتحار بشعة قيدت من انفلات قلم ستيفان زفايغ؟!

- هل هو بحر الفلسفة (الذي لا يَعِدُ بالأمان) ذاك الذي أهَّل الكاتب ستيفان زفايغ للغوص بالأدوات والعدة التي يتسلح بها الكاتب الباحث عن حقه من الخبرة والتمرس، لاسيما وأنه صال وجال في المتون الفلسفية إلى أن حاز فيها على درجة الدكتوراه؟!

- هل هي السكتة القلمية تلك التي تباغت الكاتب بعد أن تفرغ «قربة» أصابعه الذكية وتشهر عجزها التام عن الاستمرار؟!

- وإن كان كذلك، لماذا جاد الكاتب بالموت الموازي لكل من زوجته وكلبه، وما ذنبهما معا؟!

لنقل إن المسؤولية لا غرابة أن نحملها لغياب ظروف السِّلم والسلام تلك التي تعمل على تقوية غريزة حب البقاء، وأين؟! في عالم بات مهددا بقيامة صغيرة، لاسيما في ظل الفوضى المخيم ليلها موازاة مع حمى الانفلات الأمني تلك التي باتت تهدد عالم ستيفان زفايغ..

هذه الدائرة المغلقة على سوادها ما كانت إلا لتلقي بالكبير ستيفان زفايغ في منحدر الاكتئاب الحاد ذاك الذي كان يتفاقم وقعه في صمت، حينا، وفي صخب حينا آخر، إلى أن أعلن الكاتب الإنسان إفلاسه وقد استنفد كل ما في جيوب الحياة من رغبة في المضي إلى الأمام..

الاكتئاب وحده يجبر الإنسان على المشي إلى الوراء، ويجره، ويجرده من كل أسلحة قادرة على المقاومة والتصدي للإكراهات.. ولأن ستيفان زفايغ لم يكن أبدا ذلك الرجُل العادي الذي يسهل نسيانه، فقد آثرت زوجته «لوت زفايغ Lotte Zweig» هي الأخرى أن تشاركه النهاية نظرا لتعلقها الشديد به واعترافا بحبها وإخلاصها له ورفضها أن تعيش على ظهر زورق حياة لا تعرف كيف تجدف فيه بدون زوجها..

ومع أن ستيفان زفايغ تكيف إلى حد ما مع تنقلاته من بلد إلى بلد بحكم ما كان يفرضه الواقع السياسي آنذاك، إلا أن إغراقه في إنهاك نفسه بالعمل سعيا إلى نسيان حقيقة واقعه المرة لم يشفع له حتى يتجاوز وطأة البنية النفسية الهشة تلك التي أخفق صاحبنا في دفعها إلى تجديد خلاياها..

ومع أن ستيفان زفايغ كان صديقا للعبقري سيجموند فرويد، فإن حالته النفسية لم تكن في مستوى الانتفاع من هذه الصداقة، ربما لأن الأحداث التي مهَّدَت للحرب العالمية الثانية أثرت بشكل سلبي على المسكين ستيفان هذا الذي لم يعرف كيف ينجو من تبعات ما قبل الحرب..

رصيد ثري من الروايات والمسرحيات والشعر والمقالات وما إلى ذلك من كتب كان من المؤكد أنه سيطير بالكاتب ستيفان زفايغ إلى مُدُن المجد الواعدة بلقاء مع كبريات الجوائز، يكفي التذكير هنا بجائزة بورنفيلد للشعر، وجائزة غوته..

كاتب فنان بقلمه، مرهف الإحساس، بلغ به الشغف بدراسة تاريخ الأدب والفلسفة مبلغهما، لكن ما كان له إلا أن يستسلم لقلقه الداخلي ذاك الذي حكم عليه بحياة المنافي..

هزيمة الذات في حلبة الحياة ولدت في الكاتب النفور من العالم الذي يجد نفسه فيه، يَضيق الأفق أكثر فأكثر ما أن تتمدد مساحة الخيبة عندما ينجح الزعيم هتلر في صعود سُلَّم السلطة، وتلك كانت بداية النهاية لستيفان زفايغ..

يُذْكَرُ أن أكثر ما عرف انتشارا قل نظيره من كتب ستيفان زفايغ كِتابُه «لاعب الشطرنج»، والغريب أن الكاتب قد أثرت عليه لعبة الشطرنج حقيقة ما أن تعرف عليها أثناء المرحلة البوهيمية من حياته تلك التي انفتح فيها على حياة طلاب ما يجاور البكالوريا، وهي المرة الأولى التي يجرب فيها الكاتب أن يلعب لعبة الشطرنج، ومن المؤكد أن محيط الكاتب يؤثر فيه كل التأثير..

على أن عددا من كتابات ستيفان سفايغ قد تناولت حياة المشاهير بالقراءة المحايدة. من مؤلفاته الأخرى: 24 ساعة من حياة امرأة، بُناة العالم، عالم الأمس، حذار من الشفقة، التباس الأحاسيس، عنف الديكتاتورية، ماري انطوانيت، سِرّ حارق..

مَن كان يصدق أن روحا محلقة بخفة فراشة سيمتصها حتى الموت ذاك الإحساس المرهف بالجروح التي نكأتها الحرب العالمية الثانية؟!

من كان يصدق أن زوجا وديعا سيتعاهد مع زوجته على الوفاء إلى درجة أن يموتا معا في مَشْهَد عناق حارّ بعد ابتلاعهما لحفنة حبوب منوِّمَة حتى لا يَفصل بينهما شيء؟!

من كان يصدق أن ستيفان زفايغ الذي أسر عيون القراء سيجد السلام في رحلة غيبوبة بلا صحو في نفق المنومات؟!

مَن كان يصدِّق أن الكلب المحظوظ بأن ينال نصيبه من الدلال والألفة والحُبّ لا يَقوى الكاتب الحساس على أن يرحل بعيدا عنه ويتركه لشقاء لا يعلمه إلا الله؟!

إنه الأمل، إنه الأمل في شيء من السكون حتى وإن كان في الدرك الأسفل من جهنم الحياة تحت الصفر، إنه الأمل الأكبر من الوعد.. هكذا صوَّرَ للكاتب عقلُه.

***

د. سعاد درير

 

العلاقة بين الطرب والوجد من ناحية، والفهم والفكر من ناحية ثانية؛ علاقة تركيبية في غاية الغرابة والتعقيد؛ وإنما نقول تركيبية لأننا بإزاء حالتين من الوعي بالقرآن هنا أولهما: طرب السامع لمجرد سماعه القرآن استسلاماً لحركة الوجد الطارئ عليه دون أن يتحقق من فهمه، ولكنه يمضي على فعل الطرب من أثر النغمة العلوية والإيقاع المباشر من غير أن يكون هنالك فهم ولا حتى معرفة باللغة، ويخضع ذلك لفاعلية الوجد في الإيقاع الذي ينفذ إلى صميم الشعور ويصيب بؤرة الوجدان حقيقة فيستشعر أن هذا الكلام مُراد لذاته، فيه خصائص ذاتية تحكمه وتنظم حركته العلوية الباقية وتجعل وقعه على القلوب مختلفاً عن أي وقع سواه، ليس بالعادي ولا يجري مجرى العادة أبداً ولكنه يترقى بالشعور إلى أعلى منافذه وإلى صميم أغواره.

هذه الحالة تتعلق بالإيقاع الداخلي ولا تتعلق بسواها، وبالصفاء الباطن في المستقبِل نفسه، وهى من الندورة بمكان. 

أما الحالة الثانية: فيأتي الطرب والوجد فيساوقا ذلك الفهم: خاصّة ذاتية تعرفها الحالة الروحيّة، فتشرق في القلب قبل الظاهر المحسوس، ويكتشفها في نفسه المتحقق بها، يقاربها ويتذوقها، ويستشعر آفاقها المتسعة في أجوافه الباطنة، وبين ضلوعه وجوانحه، وتكون مع ذلك كالطلاسم المُبهمات لمن لا يدرك لها معنى، ولا يصيب منها تحقيقاً: (ولكلٍ درَجَات ممّا عملوا).

وقد يترادف الفهم تحقيقاً مع الفكر، ويقابله مقابلة الشبيه مقابلة واضحة لا غموض فيها. وبما أن الشبيه يدرك الشبيه كما يُقول الفلاسفة؛ فالفهم يدرك الفكر ويؤدي إليه من أقرب طريق، ويمدُّ الفكر الفهمَ بأواصر القربة لا محالة؛ فما الفكر هنا إلا الفهم. وما فكر مَنْ فكر إلا مَنْ فهم، وعن الفهم تصدر حالات الوجد والطرب، ولا تصدر مطلقاً بغير فهم ولا تفكير ولا تدّبر يحيل فاعلية الباطن إلى ظاهر ملموس، باستثناء الحالة الأولى: حالة الإيقاع على بؤرة الشعور، وهى حالة نادرة لا تعميم فيها ولا تعليم.

ولكن الذي يطرب لمعنى آية من آيات التنزيل في العموم هو بلا شك كان قد فهمها في السابق؛ فاتّسع معناها لديه من كثرة التفكير فيها، فطرب لها شعوره وَوَجِدَتْ لديه قواه الباطنة. ومن هنا جاء “الوجد” علامة رُقيِّ الفهم الذي يصحب حالات التلاوة على الحضور. فالوجد والطرب حالتان في باطن النفس يتقدّمهما الفكر أو الفهم ولا تتقدّم هاتان الحالتان على الفكر أو الفهم بوجه من الوجوه؛ فالذي يجد ويطرب لا يجد ولا يطرب من غير فهم ولا فكر، ولكنه يفهم أولاً، أي يفكر ثم يطرب لِمَا عساه يفكر فيه، وهو لا يطرب حين يطرب لغير فهم سابق ولا تفكير متقدّم، وإلا سيكون طربه عَرَضَاً لحالة نفسية مضطربة مجهولة غير مفهومة ولا معلومة؛ لأجل ذلك كان العلم في القرآن بداهةً مُقدّماً على ما عاداه، وكانت المعرفة سابقة على الوهم الذي يعجز معه الاستبصار؛ إذْ ذاك يطرب الواجد لمعنى يحسّه في قواه الباطنة بعد أن يكون قد فهمه وفكر فيه؛ ليتسق الفكر مع الشعور فلا يوحي بتناقض يفصل الحالة عن الفكرة.

الفكرة في القرآن سابقة (متقدِّمة)، والحالة لها تابعة (لاحقة) ما في ذلك شك، ولا يحدث العكس أبداً؛ لأنه إذْ ذَاَكَ إنْ حَدَثَ يلغي الفكر والعلم والفهم، ويحذف كل المفردات والعناصر الفاعلة التي تقوم عليها المعرفة وتستند القيم العليا للإنسان عليها وتبطلها من أساسها.

ليس هذا فقط؛ بل وتقدَّم الجهل والخرافة والوهم والتضليل على العقل والنور والذوق والاستبصار.

كان “الزرْكَشِي” شَرَطَ في “برهانه” شروطاً قاسية حيث قال: “أصلُ الوقوف على معاني القرآن التَّدَبُّر والتَّفَكُّر. واعْلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي حقيقةً، ولا يظهر له أسرار العلم من غيب المعرفة وفي قلبه بدعة أو إصرار على ذنب، أو في قلبه كِبْرِ أو هوى، أو حُبّ دنيا، أو يكون غير متحقق الإيمان، أو ضعيف التحقيق، أو معتمداً على قول مُفَسِّر ليس عنده إلا علم الظاهر، أو يكون رَاجعَاً إلى معقوله. وهذه كلها حُجُب وَمَوَانع، وبعضها آكد من بعض…”.

وممّا يؤيد هذا ويشدّد عليه، أن السيوطي نقل عن أبي طالب الطبري في أوائل تفسيره عند (القولُ في أدوات المفسّر): “اعلم أنّ من شرطه صحة الاعتقاد، ولزوم سنة الدين”. ثم خاض السيوطي في هذا الجزء الذي عنونه بـ “معرفة شروط المفسّر وآدابه”، بما يتفق ونصّ الزركشي المذكور سلفاً.

وقد سَبَقَتْ الإشارة إلى أن فهم القرآن هو أول ما يُقَابلنا؛ ليُشكل بجانب الحضور أركان الذاتية الخاصَّة للقرآن، وإنّما المُرَادُ من فهم القرآن أن تريده وحده، هو عينه المُراد من الخاصّة الذاتية له، وفي تلك الخاصَّة الذاتية بشرى ورحمة:” فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، أولئك هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب ” (الزمر: آية 17 – 18).

فإذا وصفهم سبحانه بأنهم أولو الألباب، كان هذا الوصف وصفاً على المدح العاقل لفهم، من جانبهم، للخاصّة الذاتية في استماع القول وإتباع أحسنه؛ فهو من جهة حدَّد الإطار النظري في كلمة “استماع القول”، ومن جهة أخرى قَرَنَ النظر بالتطبيق تَوَخِّياً للفاعلية العملية (المعاملة)، أي جَعْل القول مناط “العلم” أولاً، ثم جعل العمل والسلوك سياجاً حافظاً في المسارعة إلى مَحَابّ الله وتجَنّب مساخطه.

هذه إرادةُ مُغيِّرة تأتي كما لو كانت لبنة جذريّة وأساسية تشكِّل ذاتية القرآن الخاصَّة، إذْ تستحقُ الوصف بالهدى مدْحاً غير منقوص ووصفاً بالعقل الذي هو اللب. وذلك ضربُ لا شك فيه من الاعتقاد السَّاري دوماً في فهم القرآن على الصفة المَخْصُوصَة بذاته لا بسواه، ولذاته لا لغيره، من أجل ماذا؟

 من أجل “إرادة التغيير”

(وللحديث بقية)

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

واختلافه عن تفسير نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون

حضرت ليلة 23-7-2023 مساحة حوار بعنوان: "الإنسان في علم الكلام الجديد: الأنسنة عند عبد الجبار الرفاعي" على منصة "أنا" في Twitter لمدة خمس ساعات متواصلة من البحث والنقاش الحر. الشكر للمتحدثين فيها: الدكتور عباس براهام، والدكتور محمد حسين الرفاعي، والشكر موصول للأستاذة "أنا" مديرة الحوار على هذه المساحة المميزة في نقاش التساؤلات الفلسفية واللاهوتية. أثرى الدكتور عباس برهام الحوار بمداخلاته ومعلوماته الكيرة، والدكتور محمد حسين الرفاعي بتحليله ونقده، وهو لا يكفّ أبداً عن التساؤل وتجديد التساؤل بروحٍ حرة وذهنٍ عقلاني متقد.

حاولتُ التحدث بهذه المداخلة، لكن يبدو أن الفرصة لم تسمح بسبب كثرة الحضور والمتداخلين الذين كانوا نحو 1000 مستمع. وفيما يلي ما وددت ذكره في المداخلة. وبما أنَّ عنوان الحوار عن أركان: "علم الكلام الجديد عند الدكتور عبد الجبار الرفاعي"، فلا بد أن نعرف أن "إعادة تعريف الوحي" هي محطة من محطات "إعادة التعريفات" المركزية في مشروع نجديد الفكر الديني للرفاعي، لذلك لا يمكن عزلها عن بقية التعريفات، لا سيما إعادة تعريف الإنسان والدين والوحي والنبوة، حيث تحدث عنها بوضوح في كتابه: "مقدمة في علم الكلام الجديد"، الذي ينبغي التركيز عليه كونه هو عنوان الحوار الرئيسي.

في مداخلة أحد الأساتذة جرى خلط واضطراب بين توجهات كلامية جديدة عدة في حقل إعادة تعريف الوحي، تحدث الأستاذ وكأن تعريف الرفاعي متطابق مع تعريف الدكتور نصر حامد أبو زيد، على الرغم من أن الاختلاف عميق بين الموقفين، نصر أبو زيد يرى أن الوحي "منتَج ثقافي" يُنتجه الواقع العربي عصر البعثة، بوصفه ديالكتيكاً صاعداً، أي أن أبو زيد يقع في فخ إبستمولوجي، بسبب تجاهله للوحدة المنطقية بين المفهوم والمصداق. هذا الفخ لم يقع فيه الرفاعي مطلقاً، فهو ينطلق من مقدمة واضحة في إعادة تعريف الوحي، يصرح فيها "ان ماهية الوحي غيبية إلهية وليست بشرية... الوحي صلة استثنائية بالله. كل مَن يرى الوحي حالة بشرية تتكشف فيها قدرات وإمكانات وطاقات خلّاقة لدى الإنسان، أو هو شاعر، أو نابغة، أو ايحاء نفسي، أو غير ذلك من تفسيرات بشرية، لا تسمع في الوحي صوتا إلهيا في الوحي، فهذا لا يؤمن بصلة غيبية للنبي الكريم بالله". هذا كلام واضح للرفاعي في أن الوحي ليس "منتَجاً ثقافياً" يُنتجه الواقع كما يراه نصر أبو زيد. إعادة تعريف الوحي عند الرفاعي لا يمثل أبداً استئنافاً للمقولات الكلامية القديمة حول طبيعة الكلام الإلهي. تجديد علم الكلام عند الرفاعي تجاوز مستوى المحاولة إلى مستوى الفعل الحقيقي والانتقال من النقد إلى البناء، كما ظهر في رؤيته الرحمانية للدين، التي هي ضرورة اليوم في مجتمعاتنا، بعد شيوع العنف بمختلف أشكاله.

الدين ليس هامشياً في المجتمعات الإسلامية، لذلك يؤكد الرفاعي في مؤلفاته على أن البداية في التجديد تبدأ من إعادة تعريف الدين بعد تعريف الإنسان وحاجته للدين، يعرف الرفاعي: "الدينَ حياة في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية". ويشير إلى أن كل كتاباته أتت في سياق إعادة تعريفه للإنسان والدين والوحي، وفي ضوء هذه التعريفات، ولدت رؤيته لله والإنسان والعالم. وذلك يدلل على وعي الرفاعي بعدم امكان تكوين الذوات الحرة من دون إعادة بناء موقع الإنسان في الرؤية الدينية.

الخلط الآخر هو أن إعادة تعريف الوحي عند الرفاعي ليس استئنافاً للجدل الكلامي القديم بين المعتزلة والأشاعرة حول القرآن الكريم: أهو مخلوق أم مُحدَث،كما سحب بعض المتداخلين الحوار لهذه النقطة، وعقب على هذا القول الدكتور عباس برهام على أن هذا دليل على استمرار الكلام القديم بالجديد. يمكن ملاحظة هذا القول عند الدكتور نصر حامد أبو زيد وإلى حدٍ ما عند الدكتور محمد أركون، ولا نقرأ هذا في كتاب عند الدكتور عبد الجبار الرفاعي. اهتمت محاولات أركون ونصر أبو زيد للربط بين تأويليتهم الجديدة لماهية الوحي وقول المعتزلة بخلق القرآن، وهذا نوع من الإسقاط التاريخي للمفاهيم مُورس في الفكر العربي للبحث عن الشرعية السوسيولوجية للمقولات المعرفية الجديدة، عبر ربطها في لحظة من الماضي، هذه الظاهرة كانت حاضرة بقوة في مشاريع الفكر العربي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. الرفاعي تنبه لهذا الإسقاط التاريخي فتجاوزه بوضوح، حيث يرى الرفاعي: "ان تراث المعتزلة برغم عقلانيته، لكنه مرآة لعقلانية عصره"، وهذه التفاتة دقيقة يشير إليها في عدة موارد من كتبه. مقولات المعتزلة حُملت فوق طاقتها في الفكر العربي الحديث والمعاصر، كما حُملت مقولات ابن رشد فوق طاقتها عن الدكتور محمود عابد الجابري، هؤلاء المفكرين انشغلوا بمقولات التراث وألبسوها جلباب الحداثة ومكثوا يدورون فيها، وأغرقوا العقلانية الحديثة بتلك المقولات الأجنبية عنها.

أظن الدكتور عباس برهام لم يلتفت للتغير البراديغمي / الإبستيمي المهم في حقل الكلام الجديد واختلافه الكبير عن القديم، وهو المتمثل في عنوان الحوار (الإنسان في علم الكلام الجديد عند الرفاعي)، فعندما تتحدث عن الإنسان فأنت تتحدث عن الذات، أي تسعى لبناء ذوات عبر إعادة كشف منابع التذّوت، بحسب تعبير السوسيولوجيست الفرنسي ألان تورين. علم الكلام القديم كان يسعى لبناء جماعات، والجماعات بطبيعتها لا تطيق بناء الذوات، لا تهتم بأي ذات سوى ذات الجماعة، فهي التي تتحكم في مختلف شؤون حياة الأفراد المنتمين إليها. نجد الشكل الحديث لهذا الموقف في الحركات اليسارية والقومية والأصولية في العالم العربي.

أستاذنا الدكتور محمد حسين الرفاعي كسوسيولوجيست من القلة الذين يتحدثون عن ضرورة إعادة بناء الذات في العالم العربي أولاً في أي مسعى للتحديث، وهو ما كان محوراً لمحاضرته واجاباته التفصيلية في الندوة. يرى: ألان تورين الإنسان "بوصفه ذاتاً ينبغي أن توضع حريتها ومساواتها وكرامتها في منزلة تعلو القوانين نفسها"، بناء الذات أهم من بناء هوية على طريقة الحركات القومية والأصولية واليسارية، وخنق الذات داخل قفصها.كما يحاول الدكتور طه عبد الرحمن وغيره فعل ذلك عبر وضع حدود قومية وإسلامية للتفلسف داخل الهوية، ويطالب بالاختلاف في بناء فلسفات تتعدد بتنوع الهويات القومية والدينية، ويرفض ما هو عالمي في العقل البشري بعيداً عن الهويات المنعزلة.

الإستمرار بثنائية جديدة كثنائية العلمنة / الدين، كما يذهب د. عباس برهام، يمثل ترسيخ الثنائيات من جديد في الفكر العربي، فبدلاً من ثنائية الحداثة / التراث، ها نحن نخرج بتلفيقة أخرى بين فضائين يحتويان على كم هائل من "صراع التأويلات" بتعبير بول ريكور. العلمنة ليست شكلاً واحداً إلا من حيث التسمية، العلمنة متعددة التأويلات كأي مصطلح ينتمي للمعرفة الحديثة في علوم المجتمع والإنسان، وكذلك الحال مع الدين فنحن إزاء تأويلات عديدة للدين. منطق الثنائيات يُدخل العقل في قفص لا يمكن الخروج عليه إلا بتحطيم الفبركة التي تحتوي عليها فكرة الثنائيات.

ختاما أشكر أستاذي الدكتور محمد حسين الرفاعي، الذي يقوم بزحزحة إبستمولوجية لثنائيات كبلت الفكر العربي الحديث وأقحمته في الاختزال والأحادية، وهو بهذه الطريقة يقوم بتدشين مسار جديد لجيل كامل، والشكر للدكتور عباس برهام، وشكر خاص مجدداً للأستاذة "أنا" على هذه المساحة الحيوية في Twitter.

***

براء ريان - كاتب عراقي من الموصل

.........................

* المشاركة رقم: (7) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

يٌثير الكاتب الكبير سلامة موسى في كتابه "هؤلاء علموني" مسألة مهمة حول تحديد الشيء الأهم في حياة العظماء، هل هو تكريس الحياة بأسرها في سبيل قضية بعينها أم أن الطريقة التي نحيا بها هى الأهم؟ والحق أن الدكتور عبد الجبار الرفاعي قد جمع الحسنيين في آن واحد، فحياته كتاب حافل بالأحداث الدرامية التي ساقته إلى بعضها انحيازاته الواضحة التي دفع ثمنها تشريدا ومنفى، لم يمنعاه من التعلق بالكتب واقتناء مكتبة قيمة في كل مدينة أقام بها. قضى الرفاعي أكثر من أربعين عامًا من عمره طالبا ثم أستاذا لعلوم الدين في الحوزة، وبالرغم من ذلك فهو متحرر تماما من القيود الطائفية والأيديولوجية التي قد تستعبد غيره من دارسي علوم الدين. وهو قادر، في الوقت ذاته، على التحرر من الانحيازات المذهبية، فنجده يعترض على أدلجة الدكتور علي شريعتي للخطاب الهوياتي وتحويله إلى أيديولوجيا للإسلام السياسي. وهو أيضا قادر على محبة أصدقائه محبة بصيرة، فنجده يرى بوضوح تناقضات الدكتور حسن حنفي فيرصدها ويكتب عنها. تنبع رؤية عبد الجبار الرفاعي للأيديولوجيا من كونها محض احتكار لنظام إنتاج المعنى يضيّق بصيرة المؤدلج، فنراه على أتم الاستعداد للموت في سبيل ما يعتقده، لكنه لا يطيق تكريس دقائق من حياته للاستماع إلى مخالفيه ومحاولة الوقوف على ما قد يحمله رأيهم من وجاهة.

الرائع في حياة وفكر الرفاعي أنه قادر على مواجهة نفسه وكشف أخطائه بنفس الشجاعة التي يواجه بها الآخرين. في هذا السياق يقص علينا الرفاعي قصة لقائه الأول بكتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب، وكيف ضيّعه ذلك الكتاب ونظائره لسنوات وهو يبحث عن أحلام وهمية. لكن عقل الرفاعي اليقظ وضميره الأخلاقي الحي ينتفض ضد ثقافة الموت فيقدم لنا نقدا جريئا لفكر قطب، الذي زرع الغضب والاغتراب في نفوس آلاف من شباب المسلمين من السنة والشيعة على حد سواء.

لا يسلم الاستبداد السياسي في العراق الشقيق من قلم الرفاعي، فيسخر من وهم (المؤامرة) الذي يتخفى خلفه الديكتاتور، فيسرق وينهب ويقتل تحت شعارات الوطنية، وقد شاع شعار "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة" بعد ثورة 14 يوليو 1958. والحق أن أكبر مؤامرة تعرضت لها أوطاننا العربية هى حكم الفرد الذي اختزل الوطن في شخصه. ولم يفت الرفاعي أن يضع مثقفي السلطة أمام المرآة، ليروا ما اقترفته أياديهم حين انبطحوا أمام السلطة في انقلاب على المباديء وخيانة للناس.

يشتبك الدكتور عبد الجبار الرفاعي مع قضايا العصر، وينشغل بالكيفية التي تتفاعل فيها تكنولوجيا المعلومات مع عملية إنتاج المعرفة في عصر ما بعد الحداثة. بينما يعترف الرفاعي بتحوله إلى كائن إلكتروني فإنه يحذر من أن الذكاء الاصطناعي سيسمح لمزيد من متوسطي الموهبة بإنتاج نصوص تغيب عنها الروح والابداع والمعرفة. وقد مارس الرفاعي خلال حياته نوعا من الكتابة الموجعة – كما يحلو له أن يسميها- فهى كتابة تضع الكاتب في مواجهة النيران التي أحيانا تنطلق من فوهات صديقة.

التقيت عبد الجبار الرفاعي فيكرسي قنواتي بمقر معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومينيكان، حيث ألقى علينا سلسلة محاضرات حول "علم الكلام الجديد" من الصباح إلى ما بعد الظهر، وهى القضية التي قرر أن يكرس لها ما بقى من عمره. تقوم فكرة الرفاعي على مبدأ محوري مفاده "مركزية الله في الوجود ومركزية الإنسان في الأرض في سياق مركزية الله في الوجود"، وذلك ما اصطلح عليه: "الإنسانية الإيمانية". من خلال الإبحار في علم الكلام الجديد من منظور الرفاعي نكتشف معرفته الموسوعية بعلوم الدين والفلسفة والعلوم الإنسانية، ودراسته الوافية للعالم السيكولوجي داخل الإنسان ولمحيطه الاجتماعي أيضا. بذل الرفاعي جهدا كبيرا في إعادة تعريف: "الإنسان، والدين، وتعدد الطرق إلى الله، والوحي، والنبوة، والشريعة، والتكليف"، وأعاد ضبط المفاهيم مع ابتكار مصطلحات ومفاهيم جديدة إن لزم الأمر. من هذا المنطلق وضع تعريفا جديدا للدين بأنه: "حياة في أفق المعنى تفرضها حاجة الإنسان الوجودية لإنتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي لحياته الفردية والمجتمعية". وأشار الرفاعي إلى أن الدين لا يحتكر إنتاج المعنى، معنى الحياة الذي ينتجه الدين يخلّد وجود الإنسان، خلافا لغير الدين الذي يختص معناه بتخليد ذكرى الإنسان في الدنيا. يتصدى الرفاعي لتعريف الإنسان في ضوء الفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة، وهو في ذلك يعارض المنطق الأرسطي الذي قام عليه علم الكلام القديم. ويعمل على تعريف: الوحي، والنبوة، والشريعة، والتكليف، وتعدد الطرق إلى الله، فالخلاص الأبدى أفق رحب يتسع للبشر أجمعين، وهذه نقطة اتفاق بينه وبين محيي الدين بن عربي، رغم معارضته لابن عربي وللمتصوفة في غيرها. نسخة الرفاعي من علم الكلام الجديد تنقذنا ممن اعتقلونا خلف أسوار الصورة المظلمة لله، مؤكدا أن الله بذاته وصف نفسه بأنه "نور على نور"، وبالتالي فكل ما لا يقودنا إلى النور هو من عند غير الله.

تقدم هذه النسخة رؤية للمواجهة الفكرية مع التطرف الديني، ودعاة فكرة "الإسلام دين ودولة"، فهو يقول أن النبوة مهمة دينية بحته، وما دونها من شؤون الدولة وتداول السلطة والعلوم والمعارف والثقافة هو دنيوي لا ريب في ذلك. وهو في ذلك أيضا يكشف عوار الشعارات التي يرفعها أنصار "أسلمة المعرفة" فهؤلاء أصحاب أيديولوجيا تصبغ كل شيء في حياة الفرد والمجتمع بصبغة دينية.

كان ذلك هو الرفاعي الموقف والفكر المؤمن المستنير الملتزم بالعبادة، والمعارض للاستبداد، الذي فر من العراق سنة 1980 بعد أن حكم عليه بالإعدام، ثم عاد إليها عودة الطير المهاجر، مناضلا في داخل العراق من أجل الوطن ومن أجل الدين والمعرفة. أما الرفاعي الإنسان فقد عرفته بشوشا، مرهف الحس، لديه قدرة مذهلة على جعلك صديقا منذ اللقاء الأول، متخطيا حواجز السن، والجنسية، والانتماء المذهبي. وهو متجدد مثل الطفل المقبل على الحياة، محب للاجتماع بالناس، والاستماع لهم بتواضع العالم، وحكمة الشيخ، وحنان الأبوين.

***

ميادة مدحت، طالبة دكتوراه مصرية، وباحثة في الدراسات الأوروبية المتوسطية، جامعة القاهرة

...................

المشاركة رقم: (6) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

حين ينزلق المجتمع صوب حضيض الرياء والنفاق والفساد، ينتفي حينذاك الرهان على (المعايير) الأخلاقية، ويختفي الاحتكام الى المقاييس الحضارية، وتندرس جميع القيم الإنسانية، كما لو أن المجتمع المعني لم يرى أنوار الحضارة يوما"ولم يلامس مثلها وقيمها وأعرافها، بحيث استمر يراوح بين أطوار التبربر والتوحش والتبدون ! . وعلى ما يبدو فان المجتمع العراقي سيبقى المصدر الأساسي الذي يمكن اعتماده كنموذج حيّ وكتجربة ملموسة لمختلف ضروب الانحرافات التي تنجر إليها وتنخرط فيها المجتمعات التي فقدت معادلات التوزان بين أخلاق الثقافة وثقافة الأخلاق .

ولعل البعض يتساءل عن الفرق ما بين قولنا بـ(أخلاق الثقافة) و(ثقافة الأخلاق)، لجهة ما تضمره تلك التعابير من دلالات معرفية وسوسيولوجية أصيلة قارة أو دخيلة مكتسبة، لاسيما وان عملية التقديم والتأخير ما بين اللفظين المختلفين قمينة بتوليد الكثير من الانطباعات الذهنية المتضاربة التي قد لا تحمل السامع على التعاطي معها بجدية كافية أو باهتمام ملحوظ، من حيث كونها تسوقه للاعتقاد أن مثل هذه التعابير والألفاظ لا تعدو أن تكون مجرد تلاعب بالألفاظ ليس إلاّ . وللإجابة على مثل هكذا تساؤل يمكننا القول ؛ ان لكل مجتمع من المجتمعات البشرية ثقافة ما تعبر عن طبيعة معتقدات وعادات وعلاقات الأغلبية الساحقة من جماعاته ومكوناته، والتي عادة ما تتموضع في بنية وعيها ونمط سلوكها على شكل ضوابط ومعايير يصعب إهمالها أو تجاهلها دون عواقب اجتماعية أو نفسية أو دينية، بل وحتى سياسية في بعض الأحيان .

ولما كانت الثقافة بالأساس ظاهرة اجتماعية وإنسانية، فهي مشروطة بالبنى الجامعة والأنساق الشاملة المسؤولة عن كينونة القيم المعيارية (الأخلاقية والرمزية) السائدة، والتي يمكن اعتبارها بمثابة البوصلة الموجهة والمرشدة الى حيث ينبغي للمجتمع أن يحتكم إليها ويرتكز عليها، حين تضطره الظروف الاستثنائية للمفاضلة بين الخيارات العديدة والتوجهات المتنوعة . من هنا لا يمكن تصور وجود (ثقافة) معينة من غير وجود معايير (أخلاقية) محددة، لا تعكس فقط طبيعة الثقافة المحلية (الوطنية) الحاكمة لتصورات والضابطة لتمثلات مختلف مكونات المجتمع المعني فحسب، وإنما تؤطر أنماط التواضعات العرفية والعلاقات الاجتماعية والسلوكيات الحضارية التي يتوجب على تلك المكونات الالتزام بها والانخراط فيها كذلك . هذا مع الإشارة الى أن هذه الكيفية السوسيولوجية والانثروبولوجية، لا تقتصر فقط على المجتمعات المتطورة حضاريا"دون المجتمعات المتخلفة في هذا المضمار كما قد يعتقد البعض، وإنما هي ظاهرة عامة تسري على الجميع وتطال الكل دون استثناء، بصرف النظر طبعا"عن تنوع المضامين القيمية والاعتبارية والرمزية التي تحملها هذه الثقافة أو تلك للتعبير عن تفردها وتميزها .

وإذا ما تناولنا - في هذا السياق - دلالات العبارة الأخرى (ثقافة الأخلاق) للوقوف على الخصائص التي تميّزها عن نظيرها العبارة الأولى (أخلاق الثقافة)، فإننا بذلك ننتقل من المستوى الجمعي / المعياري الى المستوى الفردي / الإجرائي. أي بمعنى ان مجالات البحث والتحليل ستنقلنا من صيغ التعاطي مع القيم والأعراف الخاصة بالمجتمع الكلي، الى صيغ التعاطي مع أشكال ومستويات تمثل واجتياف (الأفراد) مضامين تلك القيم والأعراف، كل بحسب تربيته الأسرية وتحصيله العلمي ووعيه الحضاري . وهو الأمر الذي يفسّر لنا واقعة التعدد والتنوع في حالات التباين والتغاير التي يعكس من خلالها أعضاء المجتمع مستوى تقبلهم لقيم وأعراف الثقافة من جهة، ومدى التزامهم بالمعايير والضوابط التي تدعو لها وتحضّ عليها من جهة أخرى .

ولعله من الجدير بالملاحظة؛ ان الأضرار التي يتوقع لها أن تتمخض عن الفساد في (أخلاق الثقافة) أقل وطأة على مصير المجتمع من تلك الأضرار الناجمة عن الانحراف في (ثقافة الأخلاق)، كيف؟!. ذلك لأن هذه الأخيرة تتعلق بطبيعة المواقف والسلوكيات التي يجسّدها الأفراد واقعيا"وفعليا"، إزاء ما تحاول الأولى ترويجه وإشاعته من قيم اجتماعية ومعايير أخلاقية وضوابط عرفية . إذ ليس كل ما تصوغه وتجسدّه (أخلاق الثقافة) على صعيد الوعي الجمعي يجري تمثله واجيتافه من قبل الأفراد والجماعات بكيفية متساوية ومتشابهة، بما يضمن انسجامها التام وتوافقها الكلي مع مضامين تلك القيم والمعايير والضوابط . وإنما هي تتقاطع على نحو دائم مع العديد من التصورات والتأويلات والتمثلات والتعديلات، بالقدر الذي تتقاطع فيها وتتعارض معها مصالح الأفراد والجماعات والمكونات التي يتشكل منها نسيج المجتمع . وهو الأمر الذي يؤول بالنهاية ليس فقط الى تصدع مدماك الوعي الثقافي وانهيار معماره الأخلاقي فحسب، وإنما سيفضي – عاجلا"أم آجلا"- الى تفكك البنى التحتية المسؤولة عن ديناميات وسيرورات التطور الاجتماعي والحضاري برمته .    

***

ثامر عباس

تعقيباً على حديث الأسبوع الماضي حول تطبيقات الحداثة التي باتت جزءاً من حياتنا اليومية، قال أحد الزملاء إنَّ السلوك العقلاني في المجالات التي ذكرنا أمثلة عنها، أداة محدودة الأثر. ومقصودُه أنَّ المجتمعَ يعيش في ظلّ الحداثة ويمارسها؛ لكن من دون أن تُغيِّرَ بنيتَه الذهنية التقليدية.

هذا مثالٌ عن إشكالات رائجة تُطرح في سياقات متفاوتة. وهي تشير إلى مشكلتين، أظنهما مصدرَ التباين في آراء الناس ومواقفِهم حيال الحداثة. المشكلة الأولى هي المسافة بين ثقافتِنا الموروثة وبين المضمون الثقافي للحداثة، المخالف لما ورثناه وألفناه. أما المشكلة الثانية فتتعلَّق بما يبدو مساراً أحادياً لا خيارَ فيه: إما الحداثة وإما العيش على هامش العصر.

سوف أتعرَّض لهاتين المشكلتين في السطور التالية. لكن يهمني أولاً التأكيد على ما سبق أن طرحتُه، وهو أنَّ الحداثة ليست قصراً على النتاج الأدبي؛ بل يسعني القول إنَّ أبرزَ تجلياتِها تقع في الحياة المادية اليومية، وذكرتُ من بين جوانبها السوق والتعليم والصحة، وأحسب أن هذه القطاعات تشكل الجانب الرئيسي من الحركة اليومية للفكر والبشر والمال، في أي مجتمع في شرق العالم أو غربه. صحيح أن الحداثة ما زالت غير مكتملة، إلا أن ما نراه من تطبيقاتها التي تزداد يوماً بعد يوم، يؤكد على نحو قاطع أنها باتت سمة رئيسية لحياتنا اليومية وتفكيرنا في المستقبل.

بالعودة إلى المشكل الأول الذي زعمتُ أنه مصدر للتباين في مواقف الناس تجاه الحداثة، فالواضح أن كل مجتمع يتخذ موقف المتشكك تجاه أي وافد جديد؛ خصوصاً لو رآه معارضاً لمألوفه الحياتي أو الثقافي، أو العناصر المؤلِّفة لهويته. وقد ذكرتُ في حديث الأسبوع الماضي أن العقل هو محور الحداثة، ونتاجه -أي العلم البشري- هو مصدر شرعية الأفعال، ومعيار التمايز بين ما يصنَّف صحيحاً وما يصنَّف خطأ أو فاسداً. ثم إنَّ الحداثة لا تقيم وزناً للماضي؛ بل تعدُّ فعل الإنسان في حاضره موضوعاً وحيداً للنقاش والتقييم، وأن قيمته مرتبطة بما ينتج عنه الآن، أو ما يترتب عليه في المستقبل.

الماضي –في الثقافة الحداثية- مخزن للمعرفة، يرجع الإنسان إليه إن شاء، يعمل فيه من أجل معرفة أدق وأعلى، مرتبطة بزمنها الراهن. بعبارة أخرى فإنه ليس للزمن سلطة فوق العقل، كما أن الماضي على وجه الخصوص لا يتمتع بأولوية أو فوقية على الحاضر. بل العكس تماماً هو الصحيح، فقد يكون العلم نتاجاً صرفاً للحاضر، أو قد يكون امتداداً متطوراً عن علم بدأ في الماضي ولم يكتمل. في كلتا الحالتين، فإن علم الحاضر أعلى قيمة من نظيره القديم.

هذه الفكرة -أي غلبة الجديد على القديم في القيمة والاعتبار- أقوى من أن تقاوم؛ لأن الناس يرون ثمراتها الواقعية. وهذا بالضبط هو سر المشكل الثاني، أي كون الحداثة طريقاً جبرياً لا خيار فيه. هذه مشكلة عسيرة فعلاً؛ لكننا لا نملك خياراتٍ إزاءها. إن اعتزال العالم ليس خياراً. وقد ابتُلينا خلال نصف القرن المنصرم بطائفة من الناس اتخذوا التخويفَ من الحداثة عملاً يومياً، حتى ترسخت قناعة لدى شريحة واسعة من الناس، فحواها أن تقبُّل الحداثة يعني تسهيل هيمنة الغرب وزوال الدين والهوية. هذا الخطاب الذي جرى تسويقه على نطاق واسع جداً، زرع ما يمكن وصفه بعقدة ذنب في أنفس الناس الذين يرون بعقولهم فضائل الحداثة؛ لكنهم يخشون ارتكاب الخطيئة.

ربما لهذا السبب نرى من الشائع في مجتمعنا أن يعيش الناس حقيقة الحداثة ويمارسونها كل ساعة؛ لكنهم يُلبسونها عباءة التقاليد. هذا لا يعني أنَّ ذهنيتهم غارقة في التقليد، كل ما في الأمر أن الحداثة ما زالت غير مكتملة، وليست –بعد– خطاباً مهيمناً.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

(اصلاح التعليم العالي الطريق السليم لاصلاح الدولة)

هذه المقالة تتبنى ما طرحته في كتاباتي السابقة وتعيد ما اكدت عليه في سياقات مختلفة. اسأل القراء الأوفياء الذين يتابعون أعمالي مسامحتي ازاء الالحاح في التأكيد، فالحاجة تدعوني لاعادة النظر في هذه القضايا بين الحين والآخر، نظرا لاستمرار تراجع جودة التعليم العالي وتجاهل مسألة الاصلاح، وغياب النقاش حوله بين الأكاديميين والتربويين.

تراجع التعليم وسبل تطويره

في ظل الأوضاع الراهنة بالعراق، أصبح من المألوف في بيئة متأرجحة تسودها ظواهر الفساد، أن نشهد تراجعا في مهام الجامعات بتنمية الإنسان. لم يعد الالتحاق بالجامعة مؤشرا للنجاح كما كان في السابق، بل تحول إلى مجرد مراحل انتظار للحصول على وظيفة قد لا تتصل بالمؤهلات الأكاديمية المكتسبة، مما افضى الى تدني القيمة الأخلاقية والمعنوية للشهادات الجامعية، والى سيطرة نوع من الأمية المخفية وتزايد الخسائر في العملية التعليمية، وبالتالي تعقيد مسيرة الفرد العراقي نحو الانخراط في مجتمع المعرفة.

عند تقييم حال التعليم العالي والجامعات، ومع الأخذ في الاعتبار تأثيرات العزلة والحصار الذاتي والهجرة والإرهاب وعدم الاستقرار، نجد واقعا مؤسفا يتسم بنقص الإمكانات البشرية والمادية ومن مشكلات عديدة وتحديات كبيرة تحد من فعاليته وتعيق تقدمه، وهذه التحديات مرتبطة بالوضع العام للمجتمع العراقي الذي يحمل عبءً تاريخيا يعيق تطوره نحو مجتمع المعرفة وإنتاجها، ومن ثم تحويل هذه المعرفة إلى قوة دافعة للتقدم الاقتصادي والاجتماعي. ومن ابرز هذه التحديات، تطوير قدرات الأفراد وأدائهم، وهو ما يقع ضمن مسؤوليات الجامعات التي يجب أن توفر الأدوات والأنظمة المستندة إلى تكنولوجيا المعرفة لمساعدة الانسان العراقي على دخول القرن الحادي والعشرين والمشاركة في انتاج المعرفة العالمية.

تطوير التعليم العالي يتجاوز الإصلاحات الطفيفة، إذ يستلزم تحولا شاملا وعميقا في نظام الجامعات والتعليم العالي. ينبغي ان يقوم هذا التحول على اسس علمية رصينة توازي المعايير الدولية المعتمدة في الأوساط الأكاديمية المتقدمة. يجب أن يتسم هذا الإصلاح بالنزاهة والموضوعية، وان يشمل إزالة العناصر البالية من النظام الحالي. الاصلاح يعني تفكيك القديم وبناء الجديد، ولإنجاز هذا الإصلاح، يجب الاستعداد لتحمل تبعاته السياسية والاجتماعية والمالية، التي قد تكون ثقيلة، وهذا يتطلب عزما وشجاعة، وبالطبع، فهما شاملا للواقع الأكاديمي العالمي ومتطلبات سوق العمل والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

هل الأولوية لاصلاح التعليم أم الاصلاح السياسي؟

عند التطرق لموضوع إصلاح التعليم، يواجهنا البعض برفض إمكانية تحقيقه قبل إصلاح النظام السياسي. يرى هؤلاء ان أي محاولة لاصلاح التعليم دون تغيير النظام السياسي ستكون بمثابة "ترقيع" لن يحلّ المشكلة بشكل جوهري. في المقابل، يعتقد آخرون أن إصلاح التعليم ضروري لخلق جيل جديد قادر على المطالبة بالتغيير السياسي. فبرأيهم، لا يمكن بناء نظام سياسي ديمقراطي فعّال دون تعليم نوعي يُنشئ مواطنين فاعلين وواعين.

فما هو الصحيح؟ هل إصلاح التعليم يسبق إصلاح النظام السياسي أم العكس؟

لا يمكن الجزم بأيهما يأتي أولا، الإصلاح السياسي او إصلاح التعليم، فهما مترابطان بشكل وثيق. فمن ناحية، يعد التعليم عنصرا أساسيا في أي إصلاح سياسي ناجح، حيث يوفّر للمواطنين المعرفة والمهارات اللازمة للمشاركة الفعالة في الحياة السياسية. من ناحية أخرى، لا يمكن إصلاح التعليم بشكل فعّال دون وجود بيئة سياسية داعمة. فغياب الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية يعيق تطوير نظام تعليمي مبتكر وفعال.

باعتقادي ان إصلاح التعليم يمكن أن يأخذ الأولوية على الإصلاح السياسي في العراق. واستند في هذه الحجة إلى عدة نقاط رئيسية:

1. التعليم هو أساس التغيير:

يعد التعليم اداة قوية لتحقيق التغيير الاجتماعي والاقتصادي. من خلال تزويد العراقيين بمهارات ومعارف أفضل، يمكنهم المساهمة بشكل أكثر فاعلية في مجتمعهم واقتصادهم. كما يمكن للتعليم ان يساعد على تعزيز التسامح والتفاهم بين مختلف الفئات في العراق، ولفهم خطورة الفساد وإدراك أنه آفة متعددة الأوجه، تخلف وراءها ندوبا عميقة في مختلف جوانب المجتمع، وهو امر ضروري لبناء مجتمع ديمقراطي مستقر.

2. جيل متعلم ضروري للاصلاح السياسي:

لا يمكن تحقيق إصلاح سياسي حقيقي بدون جيل متعلم ومنور. ان العراقيين المتعلمين هم أكثر قدرة على التفكير النقدي واتخاذ قرارات مستنيرة بشأن مستقبلهم. كما يمكنهم المساهمة بشكل أكثر فاعلية في العملية السياسية ومحاسبة الحكومة.

3. التعليم يساعد على تقليل التوتر الطائفي:

يمكن للتعليم أن يلعب دورا هاما في تقليل التوتر الطائفي في العراق. من خلال تعليم جميع العراقيين عن تاريخهم وثقافاتهم المختلفة، يمكن للتعليم أن يساعد على بناء جسور التفاهم والاحترام بين مختلف الفئات.

4. إصلاح التعليم يحظى بدعم شعبي:

يسود الرأي ان إصلاح التعليم هو احد أهم القضايا بالنسبة للشعب العراقي. هناك دعم شعبي واسع النطاق لبرامج تهدف إلى تحسين جودة التعليم.

خلاصة القول ان إصلاح التعليم لا يمثل بديلا عن الإصلاح السياسي، بل هو ضروري لخلق الظروف المواتية للإصلاح السياسي الحقيقي.

هل الأولوية لاصلاح التعليم الاولي أم التعليم العالي؟

اصلاح التعليم الاولي والتعليم العالي يمكن ان يكونا متوازيين في الأهمية، ولكن بالرغم من ان العديد من الخبراء يرون ان إصلاح التعليم الأولي يجب أن يكون له الاولوية لاعتقادهم أن الأساس القوي الذي يبنى في المراحل الاولى من التعليم يمكن ان يؤدي الى نتائج أفضل في المراحل التعليمية اللاحقة. بالاضافة الى ذلك، التعليم الاولي يعد الطلاب للتعلم المستمر ويساعد في تطوير المهارات الأساسية مثل القراءة والكتابة والحساب. الا ان اصلاح التعليم العالي يمكن ان يتحقق بصورة منفردة لكونه لا يتطلب مثلما يتطلبه التعليم الاولي من وقت طويل ومرادف لاصلاح المجتمع والعائلة والنظام السياسي، بالرغم من ان هذه عناصر مهمة تؤثر في سرعة او فاعلية تحقيقه، وبالتأكيد فأن مجرد الشروع باصلاحه سيحفزعمليات مشابهة لاصلاح قطاعات الدولة الاخرى والنظام السياسي ككل، ونظرا لان  له تأثير مباشر على الابتكار والتنمية الاقتصادية، فلا يعد مجرد خطوة نحو تحسين النظام التعليمي فحسب، بل هو استثمار في مستقبل البحث العلمي والابتكار والتقدم الاقتصادي للبلاد. يمكن للجامعات المُحدثة ان تنتج خريجين مجهزين بالمهارات اللازمة لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، مما يساهم في تعزيز القدرة الاقتصادية والتنافسية العالمية للبلاد، فالتعليم العالي يعد الطلاب ليس فقط للمهن المتخصصة، بل يعلمهم كيفية التفكير النقدي وحل المشكلات والابتكار. هذه المهارات ضرورية لتطوير منتجات جديدة وخدمات طبية وهندسية وتقنيات يمكن ان تحدث ثورة في الزراعة والصناعة والبيئة وتساهم في النمو الاقتصادي. علاوة على ذلك، البحث العلمي  الذي يحدث في الجامعات يمكن ان يؤدي إلى اكتشافات وابتكارات جديدة تساهم في تحسين جودة الحياة ودفع عجلة التقدم العلمي.  الجامعات التي تركز على البحث تعد مراكز للابداع والتفكير الريادي، وتعزز الروابط بين الأكاديميا والصناعة، مما يساعد في تسريع وتيرة التحول الاقتصادي.

بالإضافة إلى ذلك، سيمكن اصلاح التعليم العالي من تحسين جودة القوى العاملة، مما يعزز الانتاجية ويساهم في الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. الجامعات المتميزة تعد الطلاب ليكونوا مواطنين فاعلين ومسؤولين، قادرين على المشاركة بشكل إيجابي في المجتمع.

لذلك، يعتبر إصلاح التعليم العالي استثمارا حيويا يُمكن ان يحقق عوائد طويلة الأمد للمجتمع ككل، ويساهم في تحقيق التنمية المستدامة والشاملة. في الحصيلة، يمكن للتحسينات في التعليم الأولي أن تعزز جودة التعليم العالي، والعكس صحيح. المهم هو اصلاحات تعالج التحديات في كل مستوى من مستويات التعليم.

بعد ان ادراكنا اهمية وضرورة إصلاح التعليم العالي، يتعين علينا الآن تحديد العناصر الأساسية لهذا الإصلاح، والتي أعتقد أنها تتمثل في النقاط التالية:

1. تطوير المناهج وطرائق التدريس والتخلص من اسلوب التلقين وحشو المعلومات واعتماد التفكير النقدي معيارا رئيسيا في القبول والتدريس والبحث العلمي. وهذا يعني التحول من التعليم الى التعلم والتأكيد على نشاط الطالب وانتاجاته من خلال اعادة انتاج معارف الاخرين وابتكار اخرى جديدة، اي تحويل الطالب من دوره السلبي بتلقي المعلومات فقط الى دور ايجابي يعتمد بدرجة كبيرة على استنباط المعلومات بنفسه وبمشاركة زملائه وتوجيه واشراف استاذهم، وحيث يتطلب منه (اي الطالب) اتقان جميع ما اكتسبه من مهارات الدروس.

2. اعادة هيكلية الجامعات بما يساير التطور العالمي في الادارة الجامعية والتنظيم الاداري للجامعات ومنع الفساد. وبالرغم اني لا ارغب هنا من اقتراح نظام اداري واكاديمي معين الا اني ارى اهمية في نظام ادارة الجامعات يتضمن لمجلس امناء بالاضافة لمجلس اكاديمي ومجالس استشارية خارجية، ودمج الجامعات القريبة من بعضها وتقليل عدد الكليات في الجامعة الواحدة.

3. نظام فاعل لضمان الجودة والاعتماد الاكاديمي، يمكن ان يكون عبر تأسيس هيئة مستقلة لضبط الجودة مرتبطة بمجلس الوزراء. وهذا النظام يحتاج الى ادوات تقييم انتاجية لكي توفر اجابات واضحة لما هي رؤية الجامعة والاهداف التي تسعى لتحقيقها؟ كيف يمكن قياس نجاح الجامعة؟ ما هي انظمة التقييم وقياس النوعية والجودة؟ وما هي المواضيع التي تسعى الجامعة لتحقيق الصدارة والتميز فيها؟ والتقييم يبنى بالاساس على توفير اجابات شافية للاسئلة التالية: ماذا تحاول أن تفعل الجامعة؟ لماذا تحاول أن تفعل ذلك؟ ما هي الطريقة التي ستتبعها؟ لماذا تفعل ذلك وبهذه الطريقة؟ لماذا تعتقد ان هذه هي الطريقة المثلى للقيام بذلك؟ وهل تعرف الجامعة كيف يتم التحسين؟

4. تنمية مستوى كفاءات ومؤهلات الموارد البشرية ومنها اكتساب مهارات تقنية متقدمة وتعزيز المهارات الأساسية وتنمية المهارات الشخصية وتعزيز المهارات اللغوية والحصول على شهادات احترافية بحيث يكون هدفها تحسين الاداء والابتكار وتعزيز قدرة المنافسة.

5. تعزيز تنافسية الجامعات من خلال ربط سياساتها وسلوكياتها بمتطلبات سوق العمل واحتياجات المجتمع العراقي، بدلا من التركيز الحصري على ابتكار برامج تماثل تلك المطبقة في الدول المتقدمة.

6. تطهير الجامعات من الفاسدين وانصاف المتعلمين وحملة الشهادات المزورة والمتهربين من العمل.

7. الإدارة اللامركزية للجامعات والمرونة التنظيمية والهيكلية وضمان الحرية الاكاديمية. ان تطبيق مفهوم استقلالية الجامعة يعتبر الضمانة الرئيسية لاداء الاستاذ لمهماته الاكاديمية وكذلك للتخلص من قبضة الثقافة البيروقراطية، فالاستقلالية تشجع الاختلاف في المناهج الدراسية بين الجامعات المختلفة وبما يتناسب مع قدرات كل جامعة وامكانياتها البشرية وحاجة مجتمعها، وفي هذه الوصفة يكون لقيادات الجامعات والكليات والاقسام حقوق كاملة في الادارة، وعندئذ يكون حجر الاساس في ادارة الجامعة هو التدريسي، والمرونة التنظيمية والهيكلية لمختلف مؤسساتها هو جوهر ادارتها.

8. التعاون الأكاديمي والعلمي مع جامعات الدول المتطورة لكون التعاون الأكاديمي والعلمي مع جامعات الدول المتطورة أداة استراتيجية لتعزيز قدرات العراق في مجالات التعليم والبحث العلمي. من خلال تنفيذ مشاريع بحثية وبرامج تدريسية مشتركة، وعقد مؤتمرات وندوات علمية، وتأسيس مراكز أبحاث مشتركة، تتيح هذه الشراكات تبادل المعرفة والخبرات وتطوير المهارات وتعزيز الابتكار وبناء علاقات دولية قوية.

9. زيادة مصادرالتمويل والانفاق بسخاء على البنية التحتية للجامعات ومؤسسات التعليم الاخرى، وإقامة المشاريع التعليمية سواء الدراسات الأولية، أم الجامعات، أم مدن العلم (التي يمكنها من جذب أفضل العقول من الخارج) أم مشاريع البحث العلمي والتطوير، اذ يصب كل هذا في تنمية الموارد البشرية التي هي أساس التنمية الاقتصادية واستثمار عقول الشباب العراقي لمواجهة تحديات العصر والاستجابة لمتطلباته. ان اي اصلاح بدون توفير اموال جديدة وكافية لا يمكن ان يحقق الغاية منه.

10. برنامج ابتعاث واسع النطاق. الشهادات العليا وخصوصا الدكتوراه من الجامعات العالمية الرائدة ضرورية لتطور التعليم ولاقتصاد البلدان النامية، لذلك ركزت هذه البلدان خصوصا بلدان جنوب شرق اسيا وبلدان الخليج العربي والصين على تمكين ابنائها من الدراسة في الخارج.

11. تأسيس مجلس للتربية والتعليم العالي والبحث العلمي والابتكار والتطوير مرتبط برئاسة الوزراء، بحيث يمثل هيئة مستقلة ذات طبيعة استشارية للتفكير الاستراتيجي في قضايا التربية والتكوين والبحث العلمي، وآلية لرصد عمل وتطور المنظومة التربوية.

هذه هي المكونات الجوهرية لاصلاح التعليم العالي، وهي نفس العناصر التي تناولتها في مقالاتي السابقة حول الاصلاح وشددت على أهميتها في سياقات متعددة. بالطبع، هناك جوانب أخرى قد تكون ذات أهمية بالغة للتدريسيين الذين تعاملوا مع تحديات التعليم ومشكلاته في الجامعات العراقية. ومن هنا، تبرز الحاجة الى تأسيس لجنة عليا مختصة بتحديد المعايير الرئيسية واعداد خطة متكاملة للاصلاح.

والخلاصة، لقد أصبح ضروريا اصلاح نظام التعليم العالي والبحث العلمي بشكل شامل لمواكبة متطلبات القرن الواحد والعشرين، فالتأخر الزمني وضعف الجودة يعيقنا عن التقدم في هذا المجال، وان مسألة العلاقة بين التدريب وسوق العمل هي المسألة الأساس في أي مشروع للاصلاح الجامعي، بالاضافة الى ان عملية الاصلاح والتطوير وتغيير القوانين غدت حتمية لا مناص منها، ونتطلع من خلال هذه العملية لمستقبل باهر للتعليم العالي والبحث العلمي في العراق.

***

ا. د. محمد الربيعي

في السنوات الأخيرة، أدت التطورات السريعة في مجال الذكاء الاصطناعي إلى إعادة تقييم ما يعنيه أن تكون إنسانا وطبيعة الواقع نفسه. ومع تزايد تعقيد تقنيات الذكاء الاصطناعي وانتشارها في حياتنا اليومية، أصبحت الأسئلة حول العلاقة بين البشر والذكاء الاصطناعي، فضلا عن تأثير الذكاء الاصطناعي على إدراكنا للواقع، أكثر إلحاحا. ستستكشف هذه المقالة التفاعل المعقد بين الواقع والإنسانية والذكاء الاصطناعي، باستخدام أمثلة من مجالات مختلفة لتوضيح الطرق التي تتقاطع بها هذه المفاهيم وتتفاعل.

تتمثل إحدى الطرق الرئيسية التي يعمل بها الذكاء الاصطناعي على إعادة تشكيل فهمنا للواقع من خلال قدرته على إنشاء محاكاة واقعية وبيئات افتراضية. على سبيل المثال، تسمح تقنية الواقع الافتراضي للمستخدمين بالانغماس في عوالم رقمية لا يمكن تمييزها عن الواقع المادي. إن طمس الحدود بين الواقع والافتراضي له آثار عميقة على إدراكنا للواقع، لأنه يثير تساؤلات حول ما هو حقيقي وما هو اصطناعي.

وعلاوة على ذلك، يعمل الذكاء الاصطناعي أيضا على تغيير الطريقة التي نتفاعل بها مع المعلومات والوسائط. تستخدم المنصات الإلكترونية وخوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي الذكاء الاصطناعي لتنقية المحتوى المخصص للمستخدمين، مما يخلق فقاعة تصفية تعزز معتقداتهم ووجهات نظرهم الحالية. وقد أدت هذه الظاهرة إلى انتشار المعلومات المضللة واستقطاب الخطاب العام، حيث أصبح الناس معزولين بشكل متزايد في غرف صدى خاصة بهم. ونتيجة لذلك، أصبح فهمنا للواقع أكثر تجزئة وذاتية، ويتشكل من خلال الخوارزميات التي تحكم تجاربنا عبر الإنترنت.

في الوقت نفسه، يتحدى الذكاء الاصطناعي أيضا المفاهيم التقليدية للذكاء والإبداع البشري. على سبيل المثال، تم استخدام الذكاء الاصطناعي لتأليف الموسيقى وكتابة الأدب وإنشاء فن لا يمكن تمييزه عن الأعمال التي ينتجها الفنانون البشريون. يثير هذا التشويش على الخط الفاصل بين الإبداع البشري والإبداع الاصطناعي تساؤلات حول الصفات الفريدة التي تحدد الإنسانية، مثل العاطفة والحدس والوعي.

بالإضافة إلى ذلك، يعمل الذكاء الاصطناعي على إحداث ثورة في الطريقة التي نتفاعل بها مع الآلات والتكنولوجيا. على سبيل المثال، يستخدم المساعدون الصوتيون مثل Siri و Alexa خوارزميات الذكاء الاصطناعي لفهم الكلام البشري والاستجابة له، مما يخلق تجربة مستخدم أكثر طبيعية وبديهية. إن دمج الذكاء الاصطناعي في الأجهزة اليومية يطمس التمييز بين البشر والآلات، حيث نعتمد بشكل متزايد على الذكاء الاصطناعي لأداء المهام واتخاذ القرارات نيابة عنا.

على الرغم من هذه التطورات، هناك أيضا مخاوف بشأن الآثار الأخلاقية للذكاء الاصطناعي وتأثيره على المجتمع. على سبيل المثال، يثير تطوير أنظمة الأسلحة المستقلة تساؤلات حول دور الذكاء الاصطناعي في الحرب وإمكانية اتخاذ الآلات لقرارات الحياة والموت دون تدخل بشري. وبالمثل، أثار صعود تكنولوجيا المراقبة المدعومة بالذكاء الاصطناعي مخاوف بشأن الخصوصية والحريات المدنية، حيث تجمع الحكومات والشركات وتحلل كميات هائلة من البيانات عن الأفراد.

في مجال الرعاية الصحية، يعمل الذكاء الاصطناعي على إحداث ثورة في طريقة تشخيص الأمراض وعلاجها. على سبيل المثال، يمكن لخوارزميات التعلم الآلي تحليل الصور الطبية وبيانات المرضى للكشف عن أمراض مثل السرطان في مرحلة مبكرة، وتحسين نتائج العلاج وإنقاذ الأرواح. يتمتع هذا التطبيق للذكاء الاصطناعي بإمكانية تحويل تقديم الرعاية الصحية وتحسين نتائج المرضى، ولكنه يثير أيضا تساؤلات حول دور الذكاء الاصطناعي في عمليات صنع القرار التي تؤثر على صحة الإنسان ورفاهته.

في مجال النقل، تقود الذكاء الاصطناعي تطوير المركبات ذاتية القيادة التي يمكنها التنقل على الطرق والتفاعل مع المركبات الأخرى دون تدخل بشري. تتمتع هذه التكنولوجيا بإمكانية الحد من حوادث المرور والازدحام، وتحسين كفاءة الوقود، وزيادة القدرة على الحركة للأشخاص ذوي الإعاقة. ومع ذلك، فإن التبني الواسع النطاق للمركبات ذاتية القيادة يثير أيضا تساؤلات حول الآثار الأخلاقية لاتخاذ القرارات التي يقودها الذكاء الاصطناعي في مواقف الحياة والموت المحتملة على الطريق.

وعلاوة على ذلك، يشكل الذكاء الاصطناعي أيضًا مستقبل العمل والتوظيف. مع قيام تقنيات الذكاء الاصطناعي بأتمتة المهام والوظائف الروتينية، هناك مخاوف بشأن التأثير على سوق العمل وإمكانية تشريد الوظائف على نطاق واسع. يثير هذا التحول نحو الأتمتة تساؤلات حول دور البشر في مستقبل يهيمن عليه الذكاء الاصطناعي، فضلا عن الحاجة إلى مهارات جديدة وتدريب للتكيف مع قوة عاملة سريعة التغير.

إن تقاطع الواقع والإنسانية والذكاء الاصطناعي هو ظاهرة معقدة ومتعددة الأوجه تعيد تشكيل الطريقة التي نتصور بها أنفسنا والعالم من حولنا. مع استمرار تقدم تقنيات الذكاء الاصطناعي واندماجها بشكل أكبر في حياتنا اليومية، من المهم أن نفحص بشكل نقدي الآثار الأخلاقية والاجتماعية والفلسفية للذكاء الاصطناعي وتأثيره على المجتمع. من خلال الانخراط في حوار ومناقشة مدروسة حول دور الذكاء الاصطناعي في حياتنا، يمكننا ضمان تطوير التكنولوجيا واستخدامها بطريقة تعزز رفاهية الإنسان ورفاهية الآخرين.

***

محمد عبد الكريم يوسف

تشير العدالة الاجتماعية إلى التقسيم العادل والمنصف للموارد والفرص والامتيازات في المجتمع. كانت في الأصل مفهوماً دينياً، ثم أصبح يُنظر إليه بشكل أكثر فضفاضة على أنه التنظيم العادل للمؤسسات الاجتماعية التي توفر الوصول إلى الفوائد الاقتصادية. ويشار إليها أحياناً باسم "العدالة التوزيعية". العدالة الاجتماعية مصطلح واسع، وهناك العديد من الاختلافات في كيفية تطبيق المدافعين عن هذا المنظور. ومع ذلك، فإن المحددات الاجتماعية مثل فجوة الثروة العرقية أو عدم المساواة في الوصول إلى الرعاية الصحية تظهر بشكل كبير في تحليل العدالة الاجتماعية.

العدالة الاجتماعية تعني أن حقوق جميع الناس في المجتمع تؤخذ بعين الاعتبار بطريقة عادلة. في حين أن تكافؤ الفرص يستهدف كل فرد في المجتمع، فإن العدالة الاجتماعية تستهدف الفئات المهمشة والمحرومة من الناس في المجتمع. وينبغي ضمان حصول جميع الأشخاص على قدم المساواة على خدمات الرعاية الصحية.

يجب أن تتمتع الناس الذين يعيشون في عزلة أو على الهامش بنفس إمكانية الوصول إلى المياه النظيفة والصرف الصحي التي يتمتع بها أي شخص يعيش في مجتمع المنطقة الحضرية. يجب أن يحصل الأشخاص ذوو الخلفية الاجتماعية والاقتصادية المنخفضة على نفس الجودة الصحية للخدمات التي يتلقاها الشخص ذو الدخل الاجتماعي والاقتصادي الأعلى.

في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بدأ الإصلاحيون القانونيون في إنجلترا والولايات المتحدة، الذين استلهم بعضهم مذهب النفعية، في تطبيق مفهوم العدالة الاجتماعية على قضايا عدم المساواة القانونية والاقتصادية والسياسية، بما في ذلك حقوق المرأة، حقوق العمال واستغلال المهاجرين والأطفال. في منتصف القرن العشرين، تم الاعتراف بالتمييز العنصري والحقوق المدنية للأقليات في الولايات المتحدة، وخاصة الأمريكيين من أصل أفريقي، كمشكلة رئيسية للعدالة الاجتماعية، كما انعكس ذلك في حركة الحقوق المدنية على مستوى البلاد في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.

منذ ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، كانت حقوق المرأة وحقوق الأقليات الجنسية أيضًا محوراً رئيسيًا للناشطين الذين تصوروا أهدافهم فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية. اهتمت حركات العدالة الاجتماعية اللاحقة في الولايات المتحدة وأوروبا بالكشف عن الأشكال المنهجية للتمييز العنصري وتفكيكها وعلى نطاق أوسع، مع تحديد الآليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة التي يمكن من خلالها لأعضاء الجماعات العرقية أن يتفاعلوا مع هذه الأشكال. وكانت الأقليات العرقية والثقافية - في تقدير المدافعين عن العدالة الاجتماعية - مضطهدة ومستبعدة ومستغلة، خاصة من قبل الأغلبية البيضاء.

تعكس هذه التطورات التوسع التدريجي للعدالة الاجتماعية كمثال عملي، والتي تشمل الآن عدداً من المواضيع والقضايا التي تتجاوز الحقوق الأساسية والمساواة الاقتصادية. بشكل عام، كان المثل الأعلى الذي كان الناشطون يهدفون إليه هو مجتمع يقدر العدالة والمساواة لجميع الأفراد والفئات الاجتماعية في جميع مجالات الحياة؛ التي تعترف وتحترم الهويات العرقية والثقافية والجنسانية وغيرها من الهويات المختلفة بين المواطنين؛ والأهم من ذلك، أنه يوفر حياة كريمة ومرضية لجميع الأفراد.

مفهوم العدالة الاجتماعية

يُنظر إلى العدالة الاجتماعية، في السياسة المعاصرة، والعلوم الاجتماعية، والفلسفة السياسية، باعتبارها المعاملة العادلة والوضع المنصف لجميع الأفراد والفئات الاجتماعية داخل الدولة أو المجتمع. يستخدم المصطلح أيضاً للإشارة إلى المؤسسات أو القوانين أو السياسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي توفر بشكل جماعي مثل هذا العدل والإنصاف. ويتم تطبيقه بشكل شائع على الحركات التي تسعى إلى تحقيق العدالة والإنصاف والشمول وتقرير المصير، أو أهداف أخرى في الوقت الحالي، أو السكان المضطهدين، أو المستغلين، أو المهمشين تاريخياً.

من الناحية النظرية، غالباً ما تُفهم العدالة الاجتماعية على أنها معادلة للعدالة نفسها، أياً كان تعريف هذا المفهوم. العديد من التفسيرات الأضيق إلى حد ما تتصور العدالة الاجتماعية على أنها معادلة أو مكونة جزئياً للعدالة التوزيعية - أي التوزيع العادل والمنصف للمنافع، والأعباء الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية.

وفقاً لبعض التفسيرات، تشمل العدالة الاجتماعية أيضاً ـ من بين شروط أخرى ـ تكافؤ الفرص للمساهمة في الصالح العام والاستفادة منه، بما في ذلك عن طريق شغل المناصب العامة (يشار إلى هذه القراءات أحياناً باسم "العدالة المساهمة"). وتعزز التفسيرات الأخرى الهدف الأقوى المتمثل في المشاركة المتساوية لجميع الأفراد والجماعات في جميع المؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الرئيسية.

تؤكد تعريفات أخرى للعدالة الاجتماعية على الظروف المؤسسية التي تشجع التنمية الذاتية الفردية وتقرير المصير - ويُفهم الأول على أنه عكس القمع، والأخير على أنه عكس السيطرة. هناك مفهوم ذو صلة بالعدالة، اقترحته الفيلسوفة الأمريكية "مارثا نوسباوم" Martha Nussbaum وهو أن المجتمع العادل يعزز قدرات الأفراد على الانخراط في أنشطة ضرورية لحياة إنسانية" حقيقية - بما في ذلك، من بين أمور أخرى، القدرة على عيش حياة بالطول الطبيعي، واستخدام المرء لعقله بطرق تحميها ضمانات حرية التعبير، والمشاركة بشكل هادف في صنع القرار السياسي.

لا تزال هناك تفسيرات أخرى تحدد العدالة الاجتماعية، أو العدالة نفسها، من حيث فئات واسعة من حقوق الإنسان، بما في ذلك مجموعة كاملة من الحقوق المدنية والسياسية مثل الحق في الحرية الشخصية والمشاركة في الحكومة، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية مثل الحق في العمل والتعليم، والحقوق التضامنية أو الجماعية مثل الحق في الاستقلال السياسي والتنمية الاقتصادية.

تعد العدالة الاجتماعية مفهوماً نظرياً ومثلاً عملياً في نفس الوقت، فهي موضوع للفهم والنقاش الاجتماعي العلمي والفلسفي، فضلاً عن كونها هدفاً واقعياً لحركات الإصلاح الاجتماعي والسياسي. بشكل عام، تمثل المُثُل العملية للعدالة الاجتماعية محاولة لتحقيق مفهوم معين للعدالة الاجتماعية في دولة أو مجتمع معين. وبناءً على ذلك، فإن مثل هذه المُثُل تميل إلى التباين باختلاف الظروف التاريخية والثقافية التي يتم السعي لتحقيقها فيها؛ وقد تعتمد أيضاً على الفهم الاجتماعي العلمي الحالي للمؤسسات المطلوب إصلاحها أو إلغاؤها أو إنشاؤها.

ومهما كان مفهوم العدالة الاجتماعية، فمن الطبيعي أن يرتكز على مفهوم العدالة نفسه. في الواقع، نشأ مفهوم العدالة الاجتماعية كتطبيق لنظرية العدالة التاريخية على المشاكل الاجتماعية الحالية. وقد اعتمدت المفاهيم اللاحقة للعدالة الاجتماعية أيضاً على النظريات التاريخية.

نظريات العدالة

أُجريت الدراسات الفلسفية الأولى للعدالة والسلطة السياسية في الغرب في اليونان القديمة وروما على يد مفكرين جمعت أعمالهم بين التأملات النظرية والملاحظات التجريبية الثاقبة بشكل عام. يمكن القول إن أكثر هذه الأعمال تأثيراً كان كتاب "جمهورية أفلاطون" The Republic of Plato وهو فحص مطول، في شكل حوار، للعدالة باعتبارها فضيلة فردية وسمة مميزة للمجتمع السياسي المثالي. بالنسبة لأفلاطون، العدالة في النفس الفردية وفي دولة المدينة تتكون من التشغيل المتناغم للعناصر الرئيسية التي يتكون منها كل منها: العقل والروح والشهوة في الروح؛ والحكام والأوصياء (أو الجنود) والمنتجين (مثل المزارعين والحرفيين) في الدولة المدينة. يتم تحقيق التشغيل المتناغم في كلتا الحالتين عندما يسعى كل عنصر إلى تحقيق الكائن أو الوظيفة المناسبة له أو يؤديها، ولا يتطفل على المهام أو الوظائف المناسبة للعناصر الأخرى.

بالرغم من إن رؤية أفلاطون للمجتمع العادل غير ديمقراطية بشكل لافت للنظر وقائمة على أساس طبقي، وأصبح تركيزه على خدمة الصالح العام من خلال الأداء المتكامل للطبقات الاجتماعية سمة بارزة في العديد من النظريات اللاحقة. (من الجدير بالذكر أن أفلاطون رأى أن النساء يتمتعن بنفس القدرة مثل الرجال، وبالتالي يستحقن الفرص للمساهمة في الصالح العام. وأصر على أن النساء مثل الرجال سيكونون من بين حكام جمهورية عادلة)

تصور أرسطو ـ مثل أفلاطون ـ العدالة باعتبارها فضيلة فردية وسمة لدولة المدينة المثالية (أو التي تعمل بشكل جيد). تم تفسير نظرية أرسطو عن العدالة السياسية بطرق مختلفة، ولكن من المفهوم عموماً أنها تشمل سيادة القانون، والسعي لتحقيق الصالح العام (الغرض من الدولة هو تحقيق الأساس المجتمعي للحياة الجيدة لجميع المواطنين)، والتوزيع العادل، من الفوائد والأعباء بين الأفراد المستحقين أو الجديرين بالتقدير (عدالة التوزيع)، والإنصاف في التعاملات بين الأفراد (العدالة التصحيحية، أو التبادلية، أو المتبادلة).

ومع ذلك، فإن الجدارة السياسية لا يمكن تحقيقها إلا من قبل المواطنين الفاضلين الذين يساهمون بشكل كبير في الصالح العام. وبالتالي، فإن المجتمع العادل، على الرغم من أنه يعتمد على الترويج الكفء للصالح العام، إلا أنه يتضمن نظاماً اجتماعياً هرمياً وتوزيعاً عادلاً للحقوق والمسؤوليات السياسية بين كبار أعضاء هذا التسلسل الهرمي. إن فهم أرسطو للعدالة السياسية هو إلى هذا الحد أرستقراطي.

أثرت رؤية أرسطو للعدالة بشكل كبير على الفيلسوف المسيحي في العصور الوسطى القديس "توما الأكويني" Thomas Aquinas الذي اتبع أرسطو في اعتقاده أن الغرض من السلطة السياسية هو تعزيز خير المجتمع وأنه في المجتمع العادل سيتم توزيع الفوائد حسب المرتبة الاجتماعية، مع " "أعضاء المجتمع الأكثر بروزاً الذين يتلقون فوائد أكبر في المقابل. أصبحت فلسفة الأكويني ولاهوته مذاهب رسمية للكنيسة الكاثوليكية الرومانية في القرن السادس عشر، وألهمت رؤيته للعدالة في النهاية الإصلاحات الاجتماعية المقاسة التي دعت إليها الكنيسة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

في القرنين السابع عشر والثامن عشر، طور الفلاسفة الإنجليز "توماس هوبز" Thomas Hobbes و"جون لوك" John Locke والفيلسوف الفرنسي "جان جاك روسو" Jean-Jacques Rousseau مفاهيم مؤثرة للعدالة بناءً على فكرة العقد الاجتماعي. في العصور البدائية، وفقا لنظرية العقد الاجتماعي، كان الأفراد يولدون في "حالة طبيعية" فوضوية، والتي سعوا في نهاية المطاف إلى الهروب منها بسبب الخطر والبؤس الذي تنطوي عليه أو لأنهم يرغبون في تجربة مزايا النظام الاجتماعي. وللقيام بذلك، قاموا بتشكيل مجتمع عن طريق ميثاق أو اتفاق يحدد مجموعة من حقوق وواجبات الأفراد ومجموعة من السلطات التي تمارسها الحكومة المركزية. ومن ثم فإن نظريات العقد الاجتماعي تحاول إضفاء الشرعية على السلطة السياسية وتحديد حدودها على أساس المصلحة الذاتية الفردية والموافقة العقلانية. كانت مفاهيم العدالة المبنية على نظرية العقد الاجتماعي مختلفة بشكل كبير عن الفهم السابق، لأنها نظرت إلى العدالة باعتبارها خلقاً بشرياً أو بناءً اجتماعياً، وليس كمثل مثالي متجذر في السمات الموضوعية للطبيعة البشرية والمجتمع. أصبحت نسخة جون لوك الخاصة من العقد الاجتماعي، والتي اعترفت بمجموعة من الحقوق الفردية الطبيعية التي ألزم العقد الاجتماعي السلطة الحاكمة بحمايتها، الأساس الفلسفي لليبرالية السياسية.

الأفكار النفعية

في القرن التاسع عشر، تناول الفيلسوفان النفعيان الإنجليزيان "جون ستيوارت ميل" John Stuart Mill و"هنري سيدجويك" Henry Sidgwick قضايا العدالة الاجتماعية التي برزت بسبب التفاوتات الاقتصادية الشديدة التي خلقها نمو الرأسمالية الصناعية في أوروبا والولايات المتحدة خلال الثورة الصناعية. على غرار الفيلسوف الانجليزي والفقيه الاجتماعي النفعي "جيريمي بنثام" Jeremy Bentham الذي طرح مبدأ بموجبه تعتبر الأفعال صحيحة أو خاطئة من الناحية الأخلاقية بما يتناسب مع توازن السعادة أو التعاسة التي تنتجها، قدم ميل نظرية تهدف إلى شرح وتبرير ما فهمه على أنه العامل الرئيسي على أسس نفعية. مبادئ العدالة، كما تنعكس في الاستخدام الشائع للمصطلحات العادلة وغير العادلة والمصطلحات ذات الصلة. وتشمل هذه المبادئ، من بين أمور أخرى، الأفكار القائلة بأن العدالة تتطلب احترام الحقوق القانونية والأخلاقية للأفراد وحق الأفراد في امتلاك أو الحصول على ما يستحقونه. إن مثل هذه المبادئ صالحة، وفقاً لميل، لأن المجتمع الذي يحترمها باستمرار (كقوانين أو أعراف أخلاقية) سوف يتمتع على المدى الطويل بمستوى أكبر من السعادة لعدد أكبر من الناس مقارنة بالمجتمع الذي لم يفعل ذلك. بشكل عام، تشمل رؤية ميل للمجتمع العادل المثل الليبرالية للحقوق الفردية (على سبيل المثال، في الحياة والحرية والملكية)، والديمقراطية، والمشاريع الحرة.

على الرغم من أن النفعية كانت تياراً رئيسياً للفكر الاجتماعي في القرن التاسع عشر باعتبارها وسيلة فكرية رئيسية لإصلاح العدالة الاجتماعية، أثبت تفسيرها لطبيعة العدالة في نهاية المطاف عرضة لاعتراضات خطيرة، يتذكر بعضها الصعوبات الأساسية التي أثيرت ضد التفسيرات النفعية لصواب أو خطأ التصرفات الفردية. على سبيل المثال، ظل بعض منتقدي النفعية غير مقتنعين بأن مفهوم مِل للعدالة من شأنه أن يستبعد أي نظام اجتماعي يمكن تصوره حيث يتم قبول استعباد أو استغلال أقلية من السكان على أساس أنه يسهل سعادة الأغلبية.

تم إحياء الاهتمام بنظريات العقد الاجتماعي في النصف الثاني من القرن العشرين على يد الفيلسوف السياسي الأمريكي "جون راولز" John Rawls في كتابه نظرية العدالة (1971). يرفض راولز التفسيرات النفعية للعدالة (على أساس النقد المذكور أعلاه) ويدافع عن مفهوم "العدالة كإنصاف". يرى راولز أن العدالة تتكون من المبادئ الأساسية للحكومة التي يوافق عليها الأفراد الأحرار والعقلانيون في وضع افتراضي من المساواة الكاملة. ومن أجل ضمان عدالة المبادئ المختارة، يتخيل راولز مجموعة من الأفراد الذين أصبحوا جاهلين بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية التي أتوا منها، فضلاً عن قيمهم وأهدافهم الأساسية، بما في ذلك تصورهم للسياسة. ما يشكل "حياة جيدة". وخلف "حجاب الجهل" هذا، فإن أي مجموعة من الأفراد سوف يقودها العقل والمصلحة الذاتية إلى الاتفاق على أن: 1ـ يجب أن يتمتع كل شخص بحق متساو في الحرية الأساسية الأكثر شمولاً والتي تتوافق مع حرية مماثلة للآخرين و 2ـ ينبغي ترتيب التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية بحيث تعود بالنفع الأكبر على الأقل حظاً، وترتبط بالمناصب المفتوحة للجميع في ظل ظروف تكافؤ الفرص العادل.

يضمن مبدأ راولز الأول معظم الحقوق والحريات الأساسية المرتبطة تقليدياً بالليبرالية والديمقراطية الحديثة، ويمنع مبدأه الثاني التفاوتات الضارة في الثروة والدخل ويوفر تكافؤاً حقيقياً في الفرص للتنافس على المناصب العامة. يتم تفسير عمل راولز على نطاق واسع على أنه يقدم نموذجاً فكرياً لدولة الرفاهية الرأسمالية الحديثة أو الديمقراطية الاجتماعية الموجهة نحو السوق.

على الرغم من جاذبيتها الواسعة، سرعان ما تم تحدي مساواة راولز الليبرالية من قبل دعاة التحررية المحافظة، الذين اتهموا المجتمع الذي تصوره راولز بأنه غير عادل لأنه سيسمح ـ في الواقع/ يتطلب ـ للدولة بإعادة توزيع السلع الاجتماعية والاقتصادية دون موافقة أصحابها، في انتهاك لحقوق الملكية الخاصة لأصحابها. وزعم بعض الليبراليين، على خطى الفيلسوف الأميركي "روبرت نوزيك" Robert Nozick أن العقد الاجتماعي المشتق بشكل صحيح من شأنه أن يبرر فقط "دولة الحد الأدنى"، مع صلاحيات تقتصر على تلك الضرورية لحماية المواطنين ضد العنف والسرقة والاحتيال. جادل نقاد آخرون بأن نظرية راولز لا تأخذ في الاعتبار بشكل كافٍ الفهم المشترك للمجتمع لكيفية العيش المناسب.

حركات العدالة الاجتماعية

كما ذكرنا سابقاً، كانت الحركات من أجل العدالة الاجتماعية تسترشد وتُلهم بالفهم الفكري لطبيعة العدالة. أحد الأمثلة المبكرة والمهمّة لهذا التأثير هو عمل الباحث اليسوعي الإيطالي "لويجي تاباريلي" Luigi Taparelli في القرن التاسع عشر، الذي صاغ مصطلح العدالة الاجتماعية في أربعينيات القرن التاسع عشر. مستوحاة من الراهب والفيلسوف الإيطالي "توما الأكويني" Thomas Aquinas طرح تاباريلي رؤية محافظة للعدالة التي تضفي الشرعية على الحكم الأرستقراطي من خلال إرساءه على عدم المساواة الطبيعية المفترضة بين الأفراد. في وقت لاحق من القرن التاسع عشر، أصبحت العدالة موضوعاً رئيسياً للتعاليم الاجتماعية الكاثوليكية الرومانية، والتي ظهرت رداً على العواقب الاجتماعية الوخيمة للثورة الصناعية.

قبلت الكنيسة عموماً عدم المساواة الاقتصادية والتقسيم الطبقي الاجتماعي باعتبارهما نتاجاً لعدم المساواة الطبيعية في القدرة بين الأفراد، لكنها شددت على العمل المتناغم المثالي بين الطبقات الاجتماعية والاقتصادية والالتزام الأخلاقي للمجتمع المدني والدولة بحماية الضعفاء وتعزيز الصالح العام.  وهكذا يمثل نهج الكنيسة تجاه العدالة الاجتماعية مساراً وسطاً بين رأسمالية عدم التدخل، التي ترفض أي تدخل من الدولة في الاقتصاد لصالح العمال الصناعيين الفقراء والمستغلين، والاشتراكية، التي من شأنها فرض ملكية الدولة أو السيطرة على الاقتصاد لتلبية احتياجاتها. أي الاحتياجات الأساسية للعمال وضمان المساواة المادية بينهم. ادعاء تاباريلي بأن الدولة ملزمة بالتدخل نيابة عن الأفراد المنكوبين فقط في المواقف التي تكون فيها الوحدات الاجتماعية الأصغر ـ بما في ذلك الأسرة ـ غير قادرة على معالجة المشاكل الاجتماعية ذات الصلة، تبناها "البابا ليو الثالث عشر" Pope Leo XIII (تلميذ سابق لتاباريللي) في كتابه "من الأشياء الجديدة" الصادر عام 1891. عنوانه باللاتينية Rerum novarum. وعنوانه باللغة الإنجليزية Of the new things. وتم التأكيد عليه مرة أخرى في منشور "البابا بيوس الحادي عشر" Pope Pius XI في كتابه "السنة الأربعون" المنشور عام 1931 وعنوانه باللغة اللاتينية Quadragesimo anno. وعنوانه باإنجليزية: Fortieth year.

اختلاف التقاليد الثقافية

العدالة الاجتماعية هي العدالة فيما يتعلق بالتوازن العادل في توزيع الثروة والفرص والامتيازات داخل مجتمع يتم فيه الاعتراف بحقوق الأفراد وحمايتها. في الثقافات الغربية والآسيوية، غالباً ما يشير مفهوم العدالة الاجتماعية إلى عملية ضمان قيام الأفراد بأدوارهم المجتمعية والحصول على مستحقاتهم من المجتمع. في الحركات الحالية من أجل العدالة الاجتماعية، كان التركيز على كسر الحواجز أمام الحراك الاجتماعي، وإنشاء شبكات الأمان، والعدالة الاقتصادية. العدالة الاجتماعية تحدد الحقوق والواجبات في مؤسسات المجتمع، مما يمكن الناس من الحصول على الفوائد والأعباء الأساسية للتعاون. وتشمل المؤسسات ذات الصلة في كثير من الأحيان الضرائب، والتأمين الاجتماعي، والصحة العامة، والمدارس العامة، والخدمات العامة، وقانون العمل وتنظيم الأسواق، لضمان توزيع الثروة، وتكافؤ الفرص.

إن التفسيرات الحداثية التي تربط العدالة بالعلاقة المتبادلة مع المجتمع تتوسطها الاختلافات في التقاليد الثقافية، والتي يؤكد بعضها على المسؤولية الفردية تجاه المجتمع والبعض الآخر على التوازن بين الوصول إلى السلطة واستخدامها المسؤول. ومن ثم، يتم استحضار العدالة الاجتماعية اليوم أثناء إعادة تفسير شخصيات تاريخية مثل رجل الدين والمؤرخ الإسباني "بارتولومي دي لاس كاساس" Bartolomé de las Casas في المناقشات الفلسفية حول الاختلافات بين البشر، وفي الجهود المبذولة من أجل المساواة بين الجنسين والعرقية والاجتماعية، ومن أجل الدعوة إلى العدالة للمهاجرين، والسجناء، والبيئة، والمجتمع، والمعاقين جسدياً وإنمائيا.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

نستكمل في هذا الجزء استعراضنا التحليلي لمقتبسات من مداخلات المستشار العشماوي ومفتي الديار المصرية الشيخ طنطاوي حول قضية الحجاب الديني للنساء. ونتابع في هذا الجزء فقرات من مداخلة الشيخ:

2- وفي الفقرة الثالثة يستعيد الشيخ ما قاله المستشار حول آية الخِمار ويخصص الفقرة الرابعة للرد عليه فيقول: " إن سيادته – المستشار – استشهد على ما يريد بالجملة الأخيرة مما ذكره من الآية الكريمة وترك تفسير ما قبلها وما بعدها مع أن محل الشاهد هو قوله تعالى قبل هذه الجملة مباشرة "ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها". ثم يعود إلى الاستشهاد بالقرطبي الذي استشهد به العشماوي ليخلص بعد ذلك إلى خلاصات تؤكد عمومية الحكم على جميع النساء المسلمات ويقول: "إن قوله تعالى "وليضرب بخمرهن على جيوبهن" هو بيان لإخفاء بعض مواضع الزينة بالنسبة للمرأة بعد النهي عن لإبدائها... والمعنى على النساء المؤمنات ألا يظهرن شيئا من زينتهن سوى الوجه والكفين. وعليهن كذلك ان يسترن رؤوسهن وأعناقهن وصدورهن بخمرهن حتى لا يطلع أحد من الأجانب على شيء من ذلك. والآية الكريمة من أصرح الروايات في الأمر بالتستر والاحتشام بالنسبة للنساء وفي النهي عن إبداء شيء من زينتهن سوى الوجه والكفين. ص 28"؟

* من الواضح أن الشيخ طنطاوي يُقَوِّل الآية ما ليس فيها ويحمل إليها مضمون حديث الآحاد سالف الذكر حول التحجب وكشف الوجه والكفين ويجعله منها. ولا يقدم دليلا على نقل مضمون الآية من التخصيص المنصوص عليه بزوجات النبي إلى التعميم على النساء المؤمنات إلا استنباطا. ومن الواضح أن الشيخ يريد إلغاء سياق الآية وسبب نزولها ويحاول إكمال مضمون الآية وكأنها عجزت عن أن تقوله.

3- وفي الفقرة الخامسة ينقل الشيخ كلام المستشار حول آية الخمار وسبب نزولها فلا ينفي ما قيل ويضيف إلى ذلك ما قاله المستشار حول القاعدة الأصولية حول دوران الحكم مع العلة وجودا وانتفاء. ويخصص الفقرة السادسة للرد على المستشار فيقول: إن تفسير المستشار لآية الخمار وما استنتجه منها بعيد عن الصواب لأن الآية تأمر النبي "ص" بأن يأمر زوجاته وبناته ونساء المؤمنين بالتزام بالاحتشام والتستر في جميع أحوالهن" والشيخ هنا يقفز على الخلاصة التي يأخذ بها المستشار وينتهي إليها في نهاية مقالته والتي تقول: "وقد سعت هذه الجماعات – الإسلامية – إلى فرض ما يسمى بالحجاب بالإكراه والإعنات على نساء وفتيات المجتمع كشارة يُظهرون بها انتشار نفوذهم وامتداد نشاطهم وازدياد أتباعهم، دون الاهتمام بأن يعبر المظهر عن الجوهر، وأن تكون هذه الشارة  معنى حقيقيا للعفة والاحتشام وعدم التبرج. ص 21" بما يعني أن المستشار يفرق بين الاحتشام الذي يدعو هو إليه وبين الحجاب كعلامة سياسية جاءت بها الأحزاب والتنظيمات المعاصرة.

* ويضيف الشيخ في الفقرة ذاتها أن بعض المحققين من المفسرين يرون أن المراد بنساء المؤمنين هنا يشمل الحرائر والإماء وإن الأمر بالتستر يشمل الجميع ويقتبس عن الإمام أبي حيان الغرناطي قوله "والظاهر أن قوله "ونساء المؤمنين" يشمل الحرائر والإماء (الجواري) والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفاتهن". ويعلق الشيخ أن قول أبي حيان هو ما تطمئن إليه النفس ويرتاح إليه العقل.

4- وفي الفقرة السابعة ينقل الشيخ كلام المستشار حول الحديث النبوي بروايتيه ويخصص للرد عليه الفقرة الثامنة فيقول: "بل التقدير الصحيح أن أحاديث الآحاد حجة يجب اتباعها والعمل بموجبها". ثم يأتي بعدة استشهادات واقتباسات عن شيوخ آخرين لتأكيد هذا المغزى علما بأن الشيوخ والعلماء القدماء الذين قالوا بعكس ذلك كثيرون أيضا ويمكن للقارئ أن يراجع ذلك في كتب التراث ليجد الآتي وهذه المقتبسات من اختياري. ع.ل:

* أن أحاديث الآحاد خمسة أنواع وهي "المشهور، العزيز، الغريب، المطلق والنسبي" ولها أسماء أخرى ذكرها العشماوي وهي (الصحيح، ومنه الحَسِن، ومنه الضعيف، ومنه المنكر، ومنه الشاذ، ومنه الموضوع أي المكذوب على النبي) وقد فرق العلماء القدماء بين هذه الأنواع واختلفوا أيما اختلاف في موضوع الأخذ بها واعتبارها حجة. ومثال ذلك: "قال ابن حزم الأندلسي: «إن خبر الواحد العدل عن مثله إلى الرسول محمد يوجب العلم والعمل معا، وبهذا نقول، وقد ذكر هذا القول أحمد بن إسحاق عن مالك بن أنس، وقال الحنفيون والشافعيون وجمهور المالكيين وجميع المعتزلة والخوارج إن خبر الواحد لا يوجب العلم...».

* وعن حديث الآحاد أيضا قال ابن عبد البر: «واختلف أصحابنا وغيرهم في خبر الواحد هل يوجب العلم والعمل جميعا، أم يوجب العمل دون العلم؟ والذي عليه أكثر أهل العلم منهم: أنه يوجب العمل دون العلم، وهو قول الشافعي وجمهور أهل الفقه والنظر، ولا يوجب العلم عندهم إلا ما شهد به على الله، وقطع العذر بمجيئه قطعا ولا خلاف فيه، وقال قوم كثير من أهل الأثر وبعض أهل النظر: إنه يوجب العلم الظاهر والعمل جميعا، منهم الحسين الكرابيسي وغيره، وذكر ابن خواز بنداذ أن هذا القول يخرج على مذهب مالك».

* قال السرخسي: «قال فقهاء الأمصار: خبر الواحد العدل حجة للعمل به في أمر الدين ولا يثبت به علم اليقين. وقال بعض من لا يعتد بقوله: خبر الواحد لا يكون حجة في الدين أصلا. وقال بعض أهل الحديث: يثبت بخبر الواحد علم اليقين...»

فكيف جوَّز الشيخ طنطاوي لنفسه الأخذ بقول فريق منهم دون فريق آخر وجعله حكما مطلقا في العلم والعمل، والجزم في ذلك بالقول "إن أحاديث الآحاد يجب اتباعها والعمل بها، ولا مجال هنا لتفصيل القول في ذلك"؟

5- وفي الفقرة التاسعة ينقل كلام العشماوي حول عدم الإكراه في الدين وفي الأحكام الذي نص عليه القرآن. ويخصص الفقرة العاشرة للرد عليه فيقول (نعم، الإكراه والقسر لم يقل به عاقل، ولكن الذي قال به العقلاء هو بيان الحكم الشرعي للأمور بيانا واضحا، خاليا من التأويل السقيم ومن التفسير المنحرف. وإن الحجاب بمعنى أن تستر المرأة جميع ما أمر الله تعالى بسترة من بدنها، سوى الوجه والكفين وهو فرض ديني على سبيل القطع والجزم واليقين والدوام/ ص30". بمعنى أن الشيخ طنطاوي يوافق لفظا على منطق عدم الإكراه ولكنه يرفضه عمليا ويجعل من حديث آحاد وليس من الآيات الثلاث أو واحدة منها هي حجته لجعل الحجاب فريضة "على سبيل القطع والجزم واليقين والدوام".

ويختم الشيخ مداخلته بالقول "إن كل مسلمة بالغة لا تلتزم بستر ما امر الله تعالى بستره هي آثمة عاصية لله تعالى وأمرها بعد ذلك مفوض إليه/ ص31".

والفرق بين هذا الخطاب لشيخ الأزهر وخطاب السلفيين التكفيريين في منظمات القاعدة وداعش ومؤسسة المطاوعة في السعودية هو أن الشيخ يفوض أمر المرأة المسلمة العاصية الآثمة لأنها لم ترتدِ اللباس الذي يسمونه حجاب إلى الله أما الآخرون فيأخذون على عاتقهم القيام بأفعال الله ويعاقبون هذه المرأة عقابا جسديا كأن تجلد أو تعزر.

* في رده على ردود الشيخ طنطاوي تحت عنوان "لا، الحجاب ليس فريضة إسلامية" يذكر المستشار العشماوي الخلاصات التالية:

* يكرر المستشار ما كان قد ذكره في مقالته الأولى ومنه ان م يسمونها "آية الحجاب" لا تتعلق بالحجاب المعاصر "الملبس" من قريب أو بعيد وهو ليس من الدين في شيء. وهو اعتساف في تلمس الحكم الشرعي وبآية لا تفيد ذلك أبدا. فصريح لفظ الحجاب في الآية لا يتعلق به بل بالستار يوضع بين زوجات النبي والمؤمنين الضيوف.

* ثم يناقش استدلال الشيخ بالقرطبي وهو كما يعرفه من غلاة المتعصبين فيقتبس منه قول القرطبي "في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذنَ في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض أو مسألة يستفتين فيها ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة (كذا) من أن المرأة كلها عورة، بدنها وصوتها...تفسير القرطبي ص 5309". ويعلق المستشار بقوله إن رأي القرطبي هو رأي أهل عصره من أن المرأة كلها عورة وهو قول غلاة المتطرفين في العصر الحالي. فهل يرى فضيلة المفتي الرأي ذاته؟ ص 37".

* وبخصوص كلام الشيخ حول آية الخمار يعلق المستشار: "يقول فضيلة المفتي أن هذا الشق من آية الخمار ليس هو الدليل على الحجاب وبذلك فهو قد اتفق معنا، وأن محل الشاهد على الحجاب هو قوله تعالى "ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها" ثم أورد فضيلة المفتي بعض الصحابة والفقهاء كما جاء في تفسير القرطبي  من أن المقصود بالزينة الوجه والكفان... وقد اختلف الفقهاء في بيان ما ظهر من الزينة وهو اختلاف فقهاء أي آراء بشر قالوا بها في ظروف عصورهم وأحوال أمصارهم وليست حكما دينيا واضحا ومحددا وقاطعا، فعض الفقهاء قالوا بأن الزينة هو كحل العينين وخضاب اليدين بالحناء والخواتم. ص 38.

* ويقول المستشار "إن فضيلة المفتي لم يرد على لب ما ذكرناه من ان هذه الآية (آية الجلاليب) لا تفيد معنى وضع غطاء على الرأس يسمى خطأ بالحجاب، وما للجلاليب وما لغطاء الرأس؟ وما الصلة بين إدناء الجلاليب ووضع غطاء على الرأس؟ ص 39.

* ثم يتوقف العشماوي عند حديث الآحاد الذي يحتج به طنطاوي ويعرفها ويقتبس آراء الصحابة والمفسرين القدماء بموضوع الأخذ بها من عدمه ويخلص إلى القول " لا يجب الأخذ بسنة (أحاديث) الآحاد في الأمور الاعتقادية التي تنبني على القطع واليقين ولا تنبني على الظن الذي لا يغني عن الظن شيئا. أما في الأحكام العملية فيجري اتباع ما جاء به مع انه ظني الدلالة لأن الصحابة والتابعين ومن يلونهم عملوا به ثم يدرج مجموعة عناوين لكتب وموسوعات للتوثيق.

ثم ينتقل إلى موضوع موقوتية بعض الأحكام المتعلقة بأوقات معينة وأماكن معينة أي تعليق بعض الأحكام التي تتصل بالأمور العملية. ويضرب مثالا على ذلك في "أن القرآن وإن توسع في أبواب تحرير الرق "العبيد" ولكنه لم يلغ الرق ولا التسري (الاستمتاع الجنسي) بالجواري إطلاقاً، وقد ورد التسري في القرآن في 25 موضعا، وقد ألغى القانون المصري الرق بالدكريتو سنة 1887 على اعتبار أنه لم يعد مسايرا لروح العصر. ثم ألغته الدول العربية في الستينات من القرن الماضي. ص 42".

ويختم المستشار العشماوي كلامه بالقول: "إن ما يسمى بالحجاب حاليا وهو وضع غطاء على الرأس غالبا مع وضع المساحيق والأصباغ ليس فرضا دينياً لكنه عادة اجتماعية لا يدعو الأخذ بها او الكف عنها إلى الإيمان او التكفير مادام الأصل قائم وهو الاحتشام والعفة. ص 43."

أختمُ بالتذكير بموقفي الشخصي من مداخلات المستشار العشماوي والمفتي طنطاوي ومن موضوع الحجاب؛ فمثلما اعتبرتُ العشماوي ذراع النظام الحاكم القضائي وأبرز العلمانيين الحكوميين فإن الشيخ طنطاوي يمثل من وجهة نظري الذراع الفقهي الديني للحكم وأبرز سلفيي الحكم القائم ومهندس سياسات النظام في مجال الشؤون الدينية.

وإذا كان عشماوي يرفض الحجاب مصطلحا ومضمونا ويعتبره شعارا سياسيا لما يسميه "الإسلام السياسي"، ويدعو إلى عدم الأخذ به، وإذا كان موقف الشيخ الطنطاوي على نقيضه تماما يرى في الحجاب فرضا دينيا واجبا، فإن موقفي الشخصي ينأى عن كلا هذين الموقفين - العلماني الحكومي والسلفي الحكومي -  ويعتبر أن موضوع حجاب المرأة أو سفورها يدخل في صميم خصوصيات المرأة وإنه مسألة شخصية تهم المرأة نفسها ولا علاقة لها بالرجل من قريب أو بعيد. وسواء فرض الرجل على المرأة الحجاب الديني أو السفور أو التعري على المرأة فهو يمارس ضدها قسرا ذكوريا وقمعا صريحا يسلب منها حريتها الشخصية ويهين عقلها ويتدخل بفظاظة في إيمانها ومواقفها الروحية وأيضا في خصوصياتها كأنثى، وعليه فإن قرار التحجب أو السفور هو قرار خاص بكل امرأة من دون أي تدخل أو قمع مباشر أو غير مباشر من قبل الرجل وينبغي حماية حق المرأة هذا وحريتها الشخصية قانونيا ودستوريا.

لقد كان هدفي من الخلاصات السالفة من كتابات العشماوي والطنطاوي هو إطلاع الشباب المهتمين بهذا الموضوع على وجهات نظر الطرفين وعلى الحجج والأدلة الموثقة التي يسردها الطرفان ليكونوا على إطلاع تام عليها ومباشر عليها في أصولها وليسهُل عليهم اتخاذ الموقف الحر والعقلاني المناسب.

***

علاء اللامي

....................

* رابط لتحميل كتاب "حقيقة الحجاب وحجية الحديث":

https://kotoobna.com/download/14965/%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AC%D8%A7%D8%A8-%D9%88%D8%AD%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB-pdf

 

سواء كان التطرف قوميا او دينيا فالاثنان وجهان لعملة واحدة والنتيجة واحدة هي العنف والارهاب والتدمير، فالتطرف والتعصب والتمييز مرادفات لشيء واحد عرفته البشرية منذ النشأة الاولى لها ومشى في مفاصلها حتى اليوم وقد اهتم علماء الاجتماع والسياسة بمسألة التعصب والتطرف ووضعوا لها التعاريف التي تحدد مفهومها كما شرحوا أسبابها ونتائجها على الحضارة الانسانية ورقيها في سلم الصعود نحو الأفضل.

فالمتطرف "هو عضو الحزب المتمسك بحرفية مبادئ أي مذهب سياسي والقائل باتخاذ اشد القرارات والمنادي بأعنف التدابير وأقساها" "القاموس السياسي والاقتصادي، إعداد مهدي الزبيدي ص18.

وينتج عن التطرف الغلو.. "وهو موقف مبالغ فيه يقفه إنسان من قضية عامة او خاصة بشكل متطرف يتجاوز فيه حدود المألوف والمعقول وهو نوعان، غلو ساذج يأتي نتيجة اندفاع عاطفي، وغلو واع نتيجة إدراك يعبر عنه بسلوك او اقوال.. "ألغلو والفرق المغالية في الحضارة الاسلامية عبد الله سلوم، ص15.

ويؤدي التطرف الى العنف والحرب العقائدية التي تحارب من داخل العقيدة وباسمها وهي عبارة عن صراع بين القديم والجديد وهي أخطر أنواع الحروب لذا يعد التطرف الديني آفة جميع الأديان السماوية منها والوضعية فقد شهدت الديانة اليهودية فرقا متطرفة ابتعدت عن جادة الدين الذي جاء به النبي موسى مثل الفرقة "الفريسية" التي يعد اليهود مبادءها عبارة عن هرطقة لأنهم جاءوا بكثير من البدع الجديدة التي ليست من الدين اليهودي وكذلك المسيحية التي شهدت صراعات عنيفة رغم ان مبادئ هذا الدين سلمية شعارها المحبة والاخاء كما دعا الاسلام؟ الى الرحمة والتسامح.

كما جاء في بعض الايات القرآنية "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" أو "لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك". وينسب الى النبي محمد قوله "إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين".

ولكن التطرف يعد آفة الأديان كلها والتيارات والأحزاب السياسية التي جنحت الى يمين ويسار هذا معتدل وهذا متطرف وذاك وسط وهكذا.

لقد درس علماء النفس والاجتماع اسباب التطرف وأرجعوه الى: عامل التنشئة الاولى اي التربية البيتية (العائلية) التي ينشأ الفرد خلالها ويتلقى معلوماته الاولية منها، كذلك يكون التطرف كرد فعل لتطرف مقابل وما ينتج عنه من جمود فكري وعقائدي في البيئة الاجتماعية التي ينشأ فيها الانسان حيث تتولد تراكمات دينية ومذهبية تتحكم بعقلية وسلوكية من يؤمن بها وتترسخ بمرور الزمن وقد تتجاوز هذه العقائد الحدود ويصدر صاحبها احكاما على الآخرين بالكفر والردة ويعد عمله هذا جهادا في سبيل الدين، كما يلجأ المتطرف الى انتقاء آيات واحاديث?معينة للبرهنة على صحة آرائه.

والتطرف الديني ظاهرة لها ابعادها الفكرية والسياسية فقد نشأ الفكر التكفيري في العالم العربي كرد فعل لهزيمة العرب المسلمين في حرب حزيران 1967 حيث ظهرت في مصر جماعة (التكفير والهجرة) التي كفرت جميع المسلمين واصبحت تياراً سياسياً خطيراً هدفه إحداث تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية في بنية المجتمع المصري اولا والاسلامي ثانياً.

وقد لوح هؤلاء بفكرة ما يسمى (الحل الاسلامي) باعتباره الحل الأفضل لجميع المشاكل التي يعاني منها المسلمون في جميع ارجاء العالم العربي والاسلامي حتى تحول هذا التطرف الاسلامي الى منظمات ارهابية تبيح العنف وسفك الدماء وتعتبره نوعا من الجهاد الذي يوصل صاحبه الى الجنة وامتدت هذه المنظمات الارهابية في شرق الأرض وغربها كمنظمة (طالبان) و(القاعدة) و(بوكو حرام) و(جيش الرب) وغيرها من المنظمات التي أخذت تعيث في الارض فسادا تستمد عزمها مادياً ومعنويا من منابع الارهاب العالمي الثلاثة وهي الولايات المتحدة الامريكية والسعود?ة واسرائيل لا بهدف خلق دولة اسلامية كما يزعمون بل لزعزعة الوضع الدولي وخلق مناخ ملائم لنمو الرأسمالية العالمية وسيطرتها على العالم وتسييره وفقا لمصالحها بعد زوال الاتحاد السوفيتي وبقاء القطب الواحد الذي يحاول الهيمنة على كل مقدرات الشعوب والتحكم في مستقبلها ومنها الشعب العراقي الذي كان نصيبه من هذا التآمر الدولي ان خضعت اجزاء كبيرة ومهمة من ارضه الى سيطرة منظمة ارهابية لا دين لها ولا تاريخ ولا حضارة بل هي على الضد من هذا كله.

ويعتبر التسامح والتسويات نقيضاً للتطرف والتعصب وقد أولى علماء الاجتماع هذه الامور اهتماما كبيرا (فقد ألف عالم الاجتماع والفيلسوف الانكليزي جون لوك كتابا في التسامح ضد المناخ الطائفي الفكري المصاحب للاضطهاد الديني في القرن السابع عشر فكرته المحورية تدور حول مسألتين احداهما دفاع عن الليبرالية في السياسة والدين والاخرى دفاع عن التسامح الديني ومحدودية العقل الإنساني التي لا تسمح لأحد بفرض عقيدته على الآخرين..) "ألمعجم الفلسفي، مراد وهبه، ص 194" وبذلك تكون التسوية كما جاء في "الموسوعة السياسية العربية للدراسات والنشر، عبدالوهاب الكيالي 1974.." الوصول الى اتفاق بين الافراد او الجماعات او الدول في سبيل فض المشكلة والتصالح والوساطة وهي احدى سبل التسوية الودية، حيث يكون فض النزاع بالطرق السمية دون اللجوء الى الاكراه والقوة". لقد دعا الاسلام الى اللاعنف وأكد على مبدأ السلام عبر العديد من الآيات القرانية مثل "يا أيها الذين امنوا ادخلوا في السلم كافة"، "وان جنحوا للسلم فاجنح لها" كما دعا القران الى التسامح والعفو "فاعف عنهم واصفح ان الله يحب المحسنين" كما حارب الاسلام الحمية العصبية والعنصرية التي كانت سائدة في العص? الذي سبق الاسلام ".

ويعد الدين المسيحي اكثر الاديان تسامحاً فمنذ نشأته الأولى بشر بالمحبة والتعايش السلمي ونبذ التطرف والعنف وقد تجسد هذا في موقف المسيح من بطرس اثناء القبض عليه حيث استل بطرس سيفه وضرب رئيس الكهنة فما كان من المسيح ان انتهره قائلا له: ان حمل السيف ليس اسلوبنا، أسلوبنا هو الكلام الهادئ اللين ومقارعة الحجة بالحجة والدليل بالبرهان، وقال له في هدوء "رد سيفك الى مكانه لان كل الذين يأخذون بالسيف يهلكون"

كما بشر المسيح بالمحبة والتسامح قائلا.. "أحبوا أعداءكم وصلوا لأجل الذين يسيئون اليكم ويطردوكم.." إنجيل لوقا.

وجاء في الإصحاح الخامس.. "من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر، ومن اراد ان يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا، ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين ومن سألك فأعطه ومن أراد ان يقترض منك فلا نرده..".

إذا هذه رسالة سلام ومحبة وتعايش سلمي خالية من التطرف والتعصب والعداوة، رسالة تجسدت فيها كل معالم الانسانية.

***

غريب دوحي

 

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

أنشدنا (ذو القُروح) بيت الشاعر الأُموي (جَرير(1) بن عطيَّة، -110هـ= 728م):

تَمُـرُّونَ الدِّيارَ ولم تَعُوجوا

كلامُكُمُ عَليَّ، إِذَنْ، حَرامُ

ثمَّ أردفَ: وهو كلامٌ- كما ترى- مألوفٌ مفهومٌ مأنوس، لكنَّه زلزلَ عروش النُّحاة زلزالها، لأكثر من ألف سنة، وما يزال، وسيظل، متصايحين: «كلامُكَ، يا جَريرُ، هُوَ الحَرامُ»!

- يا ساتر! لماذا؟

- معتقدين أنه قد ارتكب خطأً فاحشًا، وزلَّ به لسانه التميميُّ الفصيح زَلَّةً لا تُغتفَر، فطاح من أعينهم؛ لأنه كان يجب وجوبًا أن يقول: «تَمُـرُّونَ بالدِّيار»، وربما صنعوا للبيت- كعادتهم- رواية، زعموا أنها هي الفصيحة الصحيحة، لا لشيءٍ إلَّا لأنها تتماشى مع قواعدهم.

- عربيَّة (جَرير)، إذن، كعربيَّتنا اليوم؛ نحن نقول: مررتُ محمَّدًا، ومررتُ الجامعةَ... إلخ.

- هيهات، إنَّ الأصل، كما قال النحاة: «تَمُـرُّونَ بالدِّيار»، ، وما عداه فاسدٌ مفسِد، ولو قلتُه أنا، أعني (ذا القُروح)، أو قاله (جَرير)! ولذا صار إعراب مَن تطوَّع لإعراب هذا البيت الشاذ: أنَّ كلمة «الدِّيار»: منصوبةٌ بنزع الخافض.

- يقولون هذا، مع أنَّ هذا استعمال ممتدٌّ منذ (جَرير)، وربما قبله، إلى يوم العَرَب هذا.

- ممتدٌّ أو غير ممتدٍّ، نحن جميعًا، وعلى رأسنا جَرير، لم نعد عَرَبًا فصحاء، بناءً على الحُكم النَّحْوي القرقوشي.

- أو قل: نحن، على أحسن تقدير: شاذُّون، يُحفَظ قولنا، ولا يُقاس عليه!

- قل ما شئت، لكن الحقيقة: أنَّ لكلِّ قاعدةٍ شواذَّ، إلَّا قواعد النُّحاة، بزعمهم، وهي قواعد لا تتزعزع!

- ولو كانت لديهم المرونة العقليَّة، والوعي اللِّساني الكافي، لما خَطَّأوا من خرج على قواعدهم، ولو في حرف جَرٍّ، هكذا ضربة لازب.

- (لو) هذه كلمة تفتح عمل الشيطان، كما قيل! ثمَّ إنَّ اللُّغة ليست بحروف مقدَّسة، بل هي وسيلة إفهامٍ وتواصل؛ فإذا تحقَّقت غايتها هذه أصبح التمسُّك التشنُّجي بكلِّ حرفٍ فيها محض تنطُّعٍ أعمَى، وغُلُوٍّ بلا معنى. أ ولم يأت في «القرآن»، مثلًا: «وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُون»؟ ولم يقل: «كالوا لهم، أو وزنوا لهم»؛ لأن المعنى المطلوب إيصاله قد تحقَّق، وهذه هي الغاية اللُّغويَّة، والبلاغة الإيجاز.

- صح!

- بَيْدَ أنَّ أصحابنا هؤلاء سيقولون لك هاهنا: إنَّه لا يجوز مَرَرْتُ زَيْدًا، بل يجب أن تقول: بزَيْدٍ؛ لأنَّ الفعل (مَرَّ) لازم، لا يَنصب مفعولًا به، ولو انطبقت السماء على الأرض! فهو لا يتعدَّى بنفسه، وإنَّما يتعدَّى بحرف، وكذلك أنت لا ينبغي لك أن تتعدَّى قواعدنا، لا بحرفٍ ولا من دون حرف! ولذلك اخترع بعضهم لبيت جَرير روايةً أخرى باردة، هي: «مَرَرْتُمْ بالدِّيار ولم تَعُوجُوا»، وزعموا أنها هي الرواية الصحيحة، والأخرى رواية شاذَّة، والعياذ بالله، ونسبوا الرواية الباردة إلى حفيد جَرير (عُمارة بن عَقيل). ونسبوا الرواية الإشكاليَّة (الشاذَّة، والعياذ بالله) إلى مشاغبي أهل (الكوفة)(2)...

- عليهم من الله ما يستحقون!

- من تقصد؟

- مشاغبي (الكوفة).

- ومع هذا سيلفتك بيت (جَرير) في ديوانه- وليس برواية مشاغبي (الكوفة) ولا (البصرة)- بأنَّ الخطأ النحوي نفسه الذي أنكره النحاة واقع فيه أيضًا، وإنْ بلفظٍ آخَر:

أَقُـولُ لِصـُحْبَتِي لمَّا ارْتَحَلْـنا

ودَمْعُ العَيْنِ مُنْهَمِرٌ سـِجـامُ

*

أَتَـمْضُونَ الرُّسُومَ ولا تُحَـيَّا

كَلامُكُـمُ عَلَــيَّ إِذَنْ حَـرامُ

*

أَقِيمُــوا إِنَّمـا يَـوْمٌ كَـيَـوْمٍ

ولَكِــنَّ الرَّفِيــقَ لَـهُ ذِمــامُ

*

بِنَفْسـِيَ مَــنْ تَجَنُّـبُهُ عَـزِيـزٌ

عَلَــيَّ ومَــنْ زِيـارَتُـهُ لِـمامُ(3)

فأين الحقيقة؟ أقال جَرير: «تَمُرُّونَ الدِّيارَ»؟ أم اصطنعها (الكوفيُّون) لإثارة قضيَّة نحويَّة، ولمناكفة (البصريِّين)؟ غير أنَّ رواية الديوان أيضًا قد استُعمل فيها الفعل اللازم (مَضَى)، وعُدِّي بلا حرف تعدية؛ فإذا خطِّئت الرواية الأولى، لزم تخطئة الأخرى، ليقال هنا: الصواب « أَتَـمْضُونَ بالرُّسُوم»! وهكذا يبدو أنَّ جَريرًا متورِّطٌ في الخطأ النحوي، حيثما ولَّى بيته! ولو قال: «أتأتونَ الرُّسُومَ»، مثلًا، لكانت في ذلك نجاته من ألسنة النحاة. ومهما يكن، تظلُّ العَرَبيَّة أوسع، وأذكى، وأجمل من القواعد الضيِّقة، والمتطرِّفة أحيانًا، في تعاملها مع الظاهرة اللِّسانية، وفهمها للُغة الإنسان بصفةٍ عامَّة.

- ولا أدلَّ على هذا من استنفار النُّحاة دائمًا، وإشعالهم الحرائق في الشِّعر والنثر، من أجل حرفٍ زائدٍ هنا أو حرفٍ ناقصٍ هناك. فعَدِّ عمَّا تَرَى، إذ لا ارتجاعَ له...

- عَدَّيناه! ولعلَّك تودُّ أن أعود بك إلى (مكَّة) و(المدينة)، وحكاية المعرَّب والدخيل؟

- إنَّ العَود أحمد!

- لقد كانت (مكَّة) بخاصَّة، و(الحِجاز) بعامَّة، ملتقى حضارات وثقافات عالميَّة، منذ ما قبل الإسلام. وازداد ذلك بعد الإسلام؛ يوم أن صارت مكَّة مهوى أفئدة البشر والثقافات من كلِّ أقطار الكُرَة الأرضيَّة.

- ولذا، لو طرحنا السؤال هنا: ممَّ تشكَّل التراث الحِجازي، أساسًا، الذي جاء «القرآن» بلسانه؟

- إنَّه فسيفساء من ثقافات شتَّى: شاميَّة، ويمانيَّة، وأفريقيَّة، وروميَّة، وفارسيَّة، وهنديَّة، وصينيَّة.. إلى غير ذلك.

- مضافًا إلى التراث المحلِّي.

- بالطبع، لكن المحلِّيَّ بات يتعذَّر فَرْزُه عن غيره من أمشاج التراثات الوافدة.

- وقد كان ذلك وما يزال مصدر ثراءٍ وتنوُّعٍ رائع، قلَّ نظيره، يشمل: الفنون، والعادات، والأطعمة، والأزياء، واللُّغة.

- نعم، وما دخول المعرَّب من لُغات أخرى في نصِّ «القرآن»، إذن، سِوَى ناتجٍ طبيعيٍّ من نواتج تلك المثاقفة القديمة.

- ومن هنا فإنَّ كلَّ نزوع، قديم أو حديث، نحو تجريد المجتمع الحِجازي من ذلك الإرث المتعدِّد، هو نزوع يحاول المستحيل، فضلًا عن كونه نزوعًا عنصريًّا اتِّباعيًّا.

- هو كتلك المحاولات القُرَشيَّة الفاشلة قُبيل الإسلام للتَّطهير العِرقي، باضطهاد غير العَرَب ماديًّا أو معنويًّا، واشتداد هذا بُعيد الإسلام، لاستجابة هؤلاء قبل غيرهم للدعوة المحمَّديَّة: (بِلال الحبشي)، و(سَلمان الفارسي)، و(صُهَيب الرومي). ثمَّ أصبح ذلك التمييز، بالمعيار الإسلامي، نزوعًا غير إسلامي؛ لعالميَّة الإسلام، مثلما هو بمعيار الحضارة نزوعٌ منغلقٌ وغير حضاري، بل غير عاقلٍ أصلًا.

- وفوق هذا فإنَّه نزوعٌ ضد صاحبه، وضد مكتسباته الوطنيَّة، إنْ كان يعي قيمة التنوُّع الثقافي، وعقم الانغلاق والتصحُّر ورفض الاختلاف.

- الأُمم المحتضِّرة تعتزُّ بثراء تراثها الإنسانيِّ وتنوُّعه، وإنْ كان في أصله لأعدائها، كما هو الحال في (إسبانيا)، على سبيل المثال، وما ورثه الإسبان عن الحضارة الإسلاميَّة الأندلسيَّة. ولا يدَّعي صفاء الدم الثقافي إلَّا جاهل، كحال من يدَّعي صفاء الدم العِرقي. وما دامت اللُّغات حوامل التاريخ كلِّه، فلا مفرَّ لها من تمازج الأنفاس في رئتَيها العتيقتين، شرقًا وغربًا، شَمالًا وجنوبًا.

- التُّراث؟ وما أدراك ما التُّراث؟ كشكول من الحقِّ والباطل!

- وكذا التُّراث الحداثي، هو من العماء والأدلجة بمكانٍ مرموق. أمَّا التراث القديم، فلا شك أنه محتاجٌ إلى غربلةٍ بغرابيل دقيقة، وإعادة قراءةٍ وتنقيح، وتحقيق حقيقي، قبل أن تلوم أحدًا، أو تتَّهمه بالإغراض، أو السعي لقلب الحقِّ باطلًا والباطل حقًّا. فكثيرًا ما يجد هذا ضالَّته في تضاعيف الكتب التراثيَّة. ويمكن أن نضرب هنا مثالًا بغير كتابٍ تراثي. وليكن كتابًا ذا عنوان ضخم، زخرفيَّ الادِّعاء، حتى لقد بات عنوانه ذاك عنوانًا على فراغه. وهو كتاب «العِقد الفريد»، لـ(ابن عبدربِّه الأندلسي، -328هـ= 940م).

- إلَّا «العِقد الفريد»، يا (ذا القُروح)، اتَّق الله!

- هذا الكتاب الكشكولي، يا صديقي، فقيرٌ في قيمته العِلميَّة، لا يعدو في معظمه نُقولًا من هنا وهناك، أشبه بصحائف الطلبة الحائطيَّة: حِكمة هنا، ومَثَل هناك، وحكاية مقتبسة هنالك، مع التكرار للحكاية الواحدة عِدَّة مرَّات.

- كيف؟

- انظر، مثلًا، كيف كرَّر الزعم أنَّ (عليَّ بن الحُسين) كان يصلِّي في اليوم ألف ركعة؛ فذكره في (كتاب الزُّمُرُّدة)، و(كتاب العَسجدة الثانية)، و(كتاب اليتيمة الثانية: مرَّتين). ولقد صَدَقَ من سفَّه قيمته، حين ورد إلى المشرق، فقال: «هذه بضاعتنا رُدَّت إلينا». ويُنسب هذا إلى (الصاحب بن عبَّاد). بل هو يُسِفُّ عن بضاعة المشرق، إذا قيس بكتاب «الأغاني»، لـ(أبي الفرج الأصفهاني)، على سبيل المثال، بما حواه هذا الأخير من مادَّة تاريخيَّة أصيلة، وأخبار صار فيها مرجعًا. أمَّا صاحبنا الفقيه ابن عبدربِّه، فإنه لتلهِّيه بتلك النُّتف من المقتبسات، بين اليواقيت و الزُّمُرُّدات والعساجد، قد غفل حتى عن أن يحفل بأخبار موطنه (الأندلس) وأدبه، سِوَى ما قد تجد من معلومات تاريخيَّة محدودة وعابرة، وإن احتفى بشخصه الكريم في كتابه. وموعدنا المساق الآتي، للتعرُّف على بعض طرائف «العِقد الفريد»، ونقل مؤلِّفه الأعمَى، وما قد يورد من روايات متضاربة.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.......................

(1)  يبدو أنَّنا أصبحنا في حاجةٍ إلى ضبط مثل هذا الاسم، بعد أن تصدَّى أحد الأُميِّين لتقديم كتاب «الكامل في اللُّغة والأدب»، لـ(المبرِّد)، في نسخةٍ مسموعةٍ مشوَّهةٍ على موقع «يوتيوب»، فكان ينطق اسم هذا الشاعر على أنه جُرَيْر، بضم الجيم، والمبرِّد: المبرَّد.. ولله في خلقه شؤون!

(2)  يُنظَر: المُبَرِّد، (1986)، الكامل، تحقيق: محمَّد أحمد الدالي، (بيروت: مؤسَّسة الرسالة)، 1: 50.

(3)  (1986)، ديوان جَرير، شرح: محمَّد بن حبيب، تحقيق: نعمان محمَّد أمين طه، (القاهرة: دار المعارف)، 2: 278- 279.

 

يحدثنا بول كوبر حول التنمية الاقتصادية والفكرية والإبداعية في الشرق الأدنى القديم

بقلم: بول كوبر

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تُعد الملحمة السومرية المعروفة باسم " إنمركار وسيد أراتا " أول قصة معروفة عن اختراع الكتابة، بواسطة ملك يضطر لإرسال عدد كبير من الرسائل لدرجة أن رسولَه لا يستطيع تذكرها جميعًا.

كان خطابه مهمًا ومحتواه واسعًا... لأن الرسول، الذي كان فمه متعبًا، لم يكن قادرًا على تكراره، فقام سيد كولابا بملامسة بعض الطين وكتب الرسالة كما لو كانت على لوح. في السابق، لم يكن قد تم تطوير كتابة الرسائل على الطين. ولكن الآن، تحت ذلك الشمس وفي ذلك اليوم، كان الأمر كذلك بالفعل.

كان لدى السومريين شيئان يتوفران بكميات شبه غير محدودة: الطين تحت أقدامهم، والقصب الذي ينمو على المستنقعات وضفاف الأنهار — وهذان العنصران اجتمعا لخلق الكلمة المكتوبة. كانوا يضعون علامات على ألواح الطين الرطبة بحجم كف اليد باستخدام أطراف القصب المقطوع، وتعطي أشكال هذه الانطباعات المميزة هذا النوع من الكتابة اسمها، من الكلمة اللاتينية التي تعني "مستطيل": الكتابة المسمارية. أقدم الألواح الطينية المسمارية تأتي من المدينة السومرية أوروك، ويعود تاريخها إلى نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد. وهي مصممة بشكل يتناسب مع اليد البشرية، ونتيجة لذلك هي تقريبًا بأبعاد الهاتف الذكي الحديث.

كانت الكتابة المسمارية في البداية مكونة من نحو ١٥٠٠ رسم توضيحي يمثل كل منها كلمة كاملة، ولكن كان على النساخ العمل بسرعة، ونسخ مئات الوثائق طوال يومهم. مع مرور الوقت، أصبحت الصور التوضيحية الأصلية أبسط وأكثر تجريدًا. في هذا الوقت تقريبًا، كان لدى شخص ما فكرة رائعة مفادها أن كل رمز يمكن أن يمثل أيضًا صوتًا معينًا، بدلاً من فكرة كاملة، وبعد 3000 قبل الميلاد، كان هذا يعني انخفاض عدد الرموز من حوالي 1500 إلى حوالي 600. كانت هذه بدايات الحروف الهجائية الأولى. لن يعود العقل البشري كما كان مرة أخرى أبدًا، وبفضل هذه القدرة الجديدة على تسجيل المعرفة ونقلها، حققت تكنولوجيا سومر قفزات أكبر إلى الأمام.

لن يعود العقل البشري كما كان مرة أخرى أبدًا، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى هذه القدرة الجديدة على تسجيل المعرفة ونقلها.

تُعرف هذه المرحلة من تاريخ بلاد ما بين النهرين بفترة أوروك، والتي استمرت حتى نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد. إحدى العلامات الرئيسية للتحول إلى هذه الفترة هو التغيير الجذري في صناعة الفخار في المنطقة، لكنها لم تصبح أكثر تطوراً وزخرفة مع تحسن التكنولوجيا. في الواقع، كان فخار عصر العبيد السابق جميلًا بشكل استثنائي، حيث تم صنعه باستخدام جهاز يعرف باسم العجلة البطيئة ومطلي بتصميمات هندسية مميزة باللون البني أو الأسود. وكانت هذه العناصر الفاخرة لعدد قليل من الأثرياء. على النقيض من ذلك، شهدت فترة أوروك زيادة كبيرة في كمية الفخار المنتج، ولكن الجودة انخفضت بشكل كبير. وبفضل "العجلة السريعة" الجديدة، أصبح من الممكن تصنيع الجرار والأواني الفخارية بأعداد كبيرة على يد عمال في ورش مكثفة، وأصبح الآن في متناول الجميع. كان هذا هو العصر الأول للإنتاج الضخم.

في وثائقهم الطينية، ينبض الاقتصاد المزدهر للمدن السومرية بالحياة من خلال سلسلة من الأرقام. نعلم أنه في جيرسو، على سبيل المثال، كان هناك 15,000 امرأة يعملن في صناعة النسيج. وكان هناك مصنع واحد ينتج 1,100 طن من الطحين سنويًا، ولكنه كان ينتج أيضًا الخبز، البيرة، وزيت الكتان، بالإضافة إلى أحجار الطحن، القصب المنسوج، والأواني الفخارية. كان هذا المصنع يوظف 134 متخصصًا و858 عاملًا ماهرًا، منهم 669 امرأة، 86 رجلًا، و103 من المراهقين من كلا الجنسين. ولأنه لم تكن هناك عملة في ذلك الوقت، كان يتم دفع أجور العمال مباشرةً بالطعام والسلع الأخرى. كانت الحصة الدنيا للعامل غير الماهر في المصنع تتكون من عشرين لترًا من الشعير شهريًا، بالإضافة إلى لترين من الزيت وكيلوغرامين من الصوف سنويًا، بينما يمكن لمشرفهم أن يكسب ضعف هذه الحصة. وكان العمال الأفقر في بعض الأحيان يضطرون إلى استكمال دخلهم عن طريق اقتراض المواد الأساسية (مثل الفضة، الحبوب، أو الصوف) من المقرضين، دائمًا بأسعار فائدة مرتفعة للغاية.

من بين جميع المستوطنات السومرية، كانت المستوطنات التي ارتقت إلى أعلى المستويات هي تلك التي أعطت هذه الفترة اسمها: أوروك. بحلول نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد،  عندما كانت أقدم أهرامات مصر لا تزال على بعد 400 عام على الأقل، ولم يكن من المقرر وضع أحجار ستونهنج الأكبر لمدة 800 عام أخرى - كانت مدينة أوروك والمنطقة الحضرية المحيطة بها موجودة تقريبًا يبلغ عدد سكانها 90.000 نسمة، وتمتد على مساحة 2.5 كيلومتر مربع. وكانت هذه إلى حد بعيد أكبر مستوطنة في العالم.

إن أقدم عمل أدبي باقٍ للبشرية، ملحمة جلجامش، يبدأ في أوروك. من المحتمل أن الملك جلجامش الحقيقي حكم المدينة في أوائل الألفية الثالثة قبل الميلاد، وترك انطباعًا كافيًا لينزل في الأسطورة كبطل أسطوري، ثلثاه إله وثلثه إنسان. على مدى القرون التي تلت ذلك، من المرجح أن قصصه قد انتقلت شفويًا قبل أن يتم تدوينها على الطين بواسطة الكتبة البابليين والآشوريين اللاحقين. رغم أنها تحتوي على أساطير أكثر من الحقائق التاريخية، فإن ملحمة جلجامش تخبرنا عن كيفية تغير المجتمع السومري. على سبيل المثال، من الواضح أن الحروب بدأت تتزايد. عندما تبدأ الحكاية، يتم ذكر إحدى سمات المدينة مرارًا وتكرارًا كمصدر للفخر: حلقة من الأسوار الضخمة المحصنة..

اصعد وتجول على سور أوروك،

تفحص حجر الزاوية وتفحص طوبه،

أليست جدرانه من الآجر المحروق، وأساساته مغطاة بالقار؟

يمكننا أن نفترض أن الأسوار المدينة أصبحت ضرورية الآن لمدينة قوية مثل "أوروك ذات الأسوار القوية".

ثلاث سنوات حاصر العدو مدينة أوروك؛

كانت أبواب المدينة مغلقة، والمزاليج مغلقة.

وحتى عشتار، الإلهة، لم تتمكن من مقاومة العدو.

وفي وسط المدينة كان يوجد معبد الإلهة عشتار، وكذلك المعبد الأبيض الشهير، وهو عبارة عن حرم مكون من أربعة طوابق مخصص لإله السماء آنو، والذي يمكن رؤيته من مسافة ما عبر سهل سومر. وكان مغطى بالجبس الأبيض الذي يعكس ضوء الشمس أثناء النهار وضوء القمر بعد حلول الظلام. تعطينا ملحمة جلجامش إحساسًا بالحياة الدينية الصاخبة لهذه المعابد.

ثلاثة أرطال من الزيت حملها الرجال في الأواني.

لقد احتفظت برطل واحد من الزيت واستخدمته في التضحيات،

بينما قام الملاح بتخزين الرطلين الآخرين بعيدًا.

من أجل معبد الآلهة ذبحت ثيرانًا؛

قتلت خرافًا يومًا بعد يوم.

أباريق من عصير التفاح، والزيت، والخمر الحلو،

كماء النهر،

سكبتها كقرابين.

إذا مشيت في شوارع أوروك خلال هذا الوقت، فسوف ترى الأسواق مليئة بالمنتجات - الفول والعدس والرمان والتمر، ومرطبانات شراب التمر والزيت - وتشم رائحة الدخان المنبعث من الأفران وأفران الخبز، وجميع الروائح النفاذة للخبز. مدينة قديمة. في الأجزاء الأكثر ثراءً من المدينة، تم بناء المنازل من الطوب المحروق، ولكن في أماكن أخرى، كانت المنازل المبنية من الطين مزدحمة في متاهة فوضوية من الأزقة والساحات التي من المحتمل أن تكون مغطاة بحصير من القصب لإبعاد حرارة منتصف النهار، كما يفعل الناس اليوم في أجزاء من العراق.

سترى المزارعين يحملون حزمًا كبيرة من القصب والقمح على ظهورهم والرعاة يجلبون أغنامهم وثيرانهم ذات الشعر الطويل من الحقول، بينما تعمل النساء في النساجين، وطحن الدقيق، وقطر القوارب على طول القنوات، وجمع الطين والرمل، وينسجن السلال من نبات السلال. كنت ستشاهد دوائر من الرجال في الساحات المظللة، يتقاسمون جرة كبيرة من البيرة المنكهة بالأعشاب والعسل، وكلهم يحتسون من القش الطويل المصنوع من القصب المجوف.

انتشر تأثير حضارة أوروك الحضرية مثل التموجات على البركة - وسرعان ما أدى نجاحها إلى ظهور مقلدين محليين.

مع وصول طرق التجارة إلى الهند، انتشر تأثير حضارة أوروك الحضرية مثل التموجات على البركة - وسرعان ما أدى نجاحها إلى ظهور مقلدين محليين. مع اقتراب الألفية الثالثة من نهايتها، كانت دولة مدينة سومرية أخرى في طريقها للنشوء والتي ستأخذ مكان أوروك كقوة إقليمية بارزة. وكان اسم تلك المدينة أور.

كانت أور مدينة ساحلية تقع عند النقطة التي يلتقي فيها نهر الفرات بالبحر، مما جعلها مركزًا تجاريًا مزدهرًا. وكما رأينا سابقًا، إذا كنت بحاجة إلى الطين أو القصب، كان جنوب العراق هو المكان المناسب لذلك، ولكن كان على السومريين استيراد كل الموارد الأخرى التي احتاجوها. لحسن الحظ، كان لديهم دائمًا ما يتاجرون به. تميزوا بين معظم شعوب الشرق الأدنى القديم بقدرتهم على إنتاج فائض كبير ومتنوّع من الطعام، ولذلك سرعان ما أصبحوا سلة خبز المنطقة.

وفي مقابل هذه السلع الأساسية، تدفقت البضائع القيمة مرة أخرى. جاء النحاس من جبال شمال غرب إيران وأرمينيا، ثم جاء لاحقًا عن طريق السفن من جزيرة قبرص، بينما سافر القصدير لصناعة البرونز عبر الممرات الجبلية الطويلة من أفغانستان. وكانت الفضة تنزل عبر نهر الفرات على متن مراكب من جبال طوروس التركية، بينما كان الذهب يأتي برا من مصر وبالسفن من الهند.

يمكن قطع الأخشاب العادية المستخدمة في أعمال البناء في جبال زاغروس في إيران، إلى الشرق، ولكن بالنسبة للإنشاءات الدقيقة، مثل القصور وبوابات المدينة المزخرفة، فإن الأخشاب الثمينة من شجرة الأرز هي التي تفي بالغرض. وقد تم نقل هذا برا ومن ثم عبر نهر الفرات من جبال لبنان. تروي إحدى حلقات ملحمة جلجامش سعي الملك لذبح وحش في هذه التلال، وسرقة هذا الخشب الجميل من الغابة التي يحرسها، وربط الخشب في طوف وإعادته عبر النهر إلى سومر.

من ساحلهم الصغير على الخليج الفارسي، أرسل السومريون سفنهم إلى موانئ البحرين وعمان الحديثة، ومن هناك على طول الساحل للتجارة مع حضارة أخرى من أقدم الثقافات وأكثرها غموضًا في العالم: الشعب الذي نعرفه اليوم باسم السند. حضارة الوادي. كان هذا هو المصدر المحتمل لجميع أنواع التوابل والأحجار الكريمة مثل العقيق واللازورد الأزرق اللامع، والتي كان السومريون يعشقونها ويستخدمونها لصنع المجوهرات والتمائم، وترصيع ألواح الألعاب، والآلات الموسيقية والمنحوتات ذات الجمال الرقيق. إن المقتنيات الجنائزية التي تم اكتشافها في أور لا تظهر فقط الثروة الهائلة المتمركزة في أيدي النخبة، ولكن أيضًا الحرفية الرائعة، مما يشير إلى وجود مجتمع متطور من الفنانين.

من كتاب (سقوط الحضارات: قصص العظمة والانحدار) بقلم بول كوبر. تم النشر بواسطة مطبعة هانوفر سكوير، وهي نسخة تابعة لدار نشر هاربر كولينز. حقوق النشر © 2024 بول كوبر.

***

..............................

المؤلف: بول كوبر/ Paul Cooper: مذيع بودكاست، ومؤرخ، ومؤلف روايتين تاريخيتين مشهورتين، نهر الحبر وكل أصنامنا المكسورة. حصل على درجة الدكتوراه من جامعة إيست أنجليا وقام بالتدريس هناك وفي وارويك. وهو يكتب وينتج ويستضيف البودكاست Fall of Civilizations، الذي تم تصنيفه ضمن أفضل عشرة برامج بودكاست بريطانية، ومنذ إطلاقه في عام 2018، حصد أكثر من مائة مليون عملية تنزيل وأكثر من مليون مشترك على YouTube.

 

الهندسة الوراثية، والمعروفة أيضا باسم التعديل الوراثي، هي عملية يقوم فيها العلماء بتعديل المادة الوراثية للكائن الحي لإدخال سمات مرغوبة أو إزالة سمات غير مرغوبة. كان لهذه التكنولوجيا الثورية تأثير كبير على الأمن الغذائي في جميع أنحاء العالم من خلال زيادة غلة المحاصيل، وتعزيز القيمة الغذائية، وتحسين مقاومة الآفات والأمراض.

إحدى الطرق التي زادت بها الهندسة الوراثية من الأمن الغذائي هي تطوير محاصيل معدلة وراثيا (GM) أكثر مرونة في مواجهة الضغوط البيئية مثل الجفاف والفيضانات ودرجات الحرارة القصوى. على سبيل المثال، ابتكر الباحثون أصنافا من الأرز قادرة على تحمل فترات طويلة من الغمر في الماء، مما يسمح للمزارعين في المناطق المعرضة للفيضانات بمواصلة زراعة محاصيلهم حتى خلال موسم الرياح الموسمية.

مثال آخر على زيادة الهندسة الوراثية للأمن الغذائي هو تطوير محاصيل مقاومة، والتي تنتج بروتينا ساما لبعض الآفات الحشرية. ومن خلال إدخال الجين المسؤول عن إنتاج هذا البروتين في المحاصيل مثل الذرة والقطن، يتمكن المزارعون من تقليل الحاجة إلى المبيدات الحشرية الكيميائية، وبالتالي حماية محاصيلهم من الآفات مع الحد من التلوث البيئي وتقليل المخاطر الصحية على عمال المزارع.

كما لعبت الهندسة الوراثية دورا حاسما في تعزيز القيمة الغذائية لبعض المحاصيل. على سبيل المثال، طور الباحثون أصنافا من الأرز، المعروفة باسم الأرز الذهبي، والتي تم تحصينها بالبيتا كاروتين، وهو مقدمة لفيتامين أ. وهذا يعني أن المجتمعات التي تعتمد بشكل كبير على الأرز كمصدر غذائي أساسي يمكنها الآن الوصول إلى عنصر غذائي ضروري للنمو والتطور الصحي.

وعلاوة على ذلك، سمحت الهندسة الوراثية بإنشاء محاصيل يمكن أن تزدهر في الأراضي الهامشية التي عادة ما تكون غير مناسبة للزراعة. على سبيل المثال، قام الباحثون بهندسة أصناف من الكسافا قادرة على النمو في تربة ذات مستويات عالية من سمية الألومنيوم، وهي مشكلة شائعة في العديد من أجزاء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ومن خلال توسيع نطاق البيئات التي يمكن فيها زراعة المحاصيل، تتمتع الهندسة الوراثية بالقدرة على زيادة إنتاج الغذاء وتحسين سبل العيش في المناطق ذات الأراضي الصالحة للزراعة المحدودة.

بالإضافة إلى زيادة غلة المحاصيل والقيمة الغذائية، ساهمت الهندسة الوراثية أيضا في تحسين الأمن الغذائي من خلال جعل المحاصيل أكثر مقاومة للأمراض. على سبيل المثال، طور الباحثون أصنافا من البابايا مقاومة لفيروس البقع الحلقية المدمر للبابايا، والذي أدى إلى تدمير محاصيل البابايا في هاواي في تسعينيات القرن العشرين. ومن خلال إدخال الجين المسؤول عن مقاومة هذا الفيروس، تمكن المزارعون من إحياء صناعة البابايا وضمان إمدادات غذائية مستقرة للمستهلكين.

ومن الجوانب المهمة الأخرى للهندسة الوراثية قدرتها على الحد من الخسائر بعد الحصاد، والتي يمكن أن تشكل جزءا كبيرا من هدر الغذاء في جميع أنحاء العالم. ومن خلال تطوير محاصيل ذات مدة صلاحية محسنة ومقاومة للتلف، يمكن للهندسة الوراثية المساعدة في ضمان وصول المزيد من الغذاء المنتج إلى المستهلكين بدلا من فقده بسبب التلف أو الآفات أثناء التخزين والنقل.

وعلاوة على ذلك، مكنت الهندسة الوراثية من تطوير محاصيل ذات خصائص غذائية محسنة، وهو ما يمكن أن يساعد في معالجة سوء التغذية وانعدام الأمن الغذائي في الفئات السكانية الضعيفة. على سبيل المثال، ابتكر الباحثون أصنافًا من الكسافا مدعمة بالعناصر الغذائية الأساسية مثل الحديد والزنك، والتي غالبًا ما تفتقر إليها الأنظمة الغذائية للأشخاص في البلدان النامية. من خلال تحسين المحتوى الغذائي للمحاصيل الأساسية، تتمتع الهندسة الوراثية بالقدرة على الحد من نقص المغذيات وتحسين النتائج الصحية العامة.

وفي الختام، زادت الهندسة الوراثية بشكل كبير من الأمن الغذائي من خلال تعزيز غلة المحاصيل، وتحسين القيمة الغذائية، وزيادة مقاومة الآفات والأمراض، وتوسيع نطاق البيئات التي يمكن فيها زراعة المحاصيل. ومن خلال تطوير المحاصيل المعدلة وراثيًا، تمكن الباحثون من معالجة مجموعة واسعة من التحديات التي تواجه الزراعة وإنتاج الغذاء، مما يساهم في نهاية المطاف في نظام غذائي أكثر استدامة ومرونة. وفي حين أن التكنولوجيا ليست خالية من الخلافات والاعتبارات الأخلاقية، فإن الهندسة الوراثية لديها القدرة على الاستمرار في لعب دور رئيسي في ضمان الأمن الغذائي العالمي في مواجهة النمو السكاني وتغير المناخ.

***

محمد عبد الكريم يوسف

هنالك حقيقتان يجب تأكيدهما في صدد العلاقة بين العلم والقرآن:

الحقيقة الأولى هى أن القرآن تضمّن حيث تقريرات “المبدأ” مناهج التعليم والبحث العلمي قاطبة، ومن يتأمل في آياته الكريمة يكتشف المبادئ الأولى التي يقوم عليها العلم ومناهجه المختلفة المتباينة؛ فمن المنهج العقلي والدعوة إلى استخدام العقل والتأمل في مخلوقات الله، إلى المنهج الاستقرائي واستعمال الحواس الظاهرة والباطنة، إلى المنهج الوصفي ووصف الحقائق الغائبة عن المدارك، أو تقريبها من طريق الوصف الى الأذهان والعقول، إلى المنهج الاستردادي وحكاية تواريخ الأمم السالفة بغية وضع العقل البشري بالوعي والاعتبار في إطار ما عساه يفكر فيه؛ إلى المنهج الجدلي ومناقشة آراء المخالفين، ومواجهة عقائدهم المنحرفة، وإقامة الحوار الهادف البناء بين ما هو حق وما هو باطل.

صدق رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إذْ قال في القرآن الكريم :” فيه نبأ ما قبلكم، وخَبَرُ ما بعدكم، وحكمُ ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل. مَنْ تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبلُ الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يُخْلَق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذْ سمعته حتى قالوا : إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به.

مَنْ قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعي إليه هُدي إلى صراط مستقيم”.

ليس أصدق عندي من هذا القول في القرآن الكريم؛ هذه واحدة.

أمّا الحقيقة الثانية التي نؤكدها هنا هي أن القرآن منبع العلوم الإسلامية ومنبع مناهجها المختلفة. وليس يشك باحث منصف في الفكر الإسلامي والحياة الإسلامية في أن القرآن كان “نقطة انطلاق” المسلمين؛ إذْ اتجهوا إليه بالمباشرة يقرأونه ويتدبرونه. والقرآن “حَمَّال أوجه”، يعطي لكل” الوجه الذي يريد”. ومن هذا التدبر وهذا التفكر في أعماق النص الإلهي، بدأ الفكر الإسلامي : اختلفت الطرق بالناس باختلاف مناهج السير وطرائق التعبير ولكن الأصل واحد : هو القرآن.

والحياة الإسلامية ليست سوى التفسير القرآني : فمن النظر في قوانين القرآن العملية نشأ الفقه. ومن النظر فيه ككتاب يضع الميتافيزيقا نشأ علم الكلام. ومن النظر فيه ككتاب أخروي نشأ الزهد والتصوف والأخلاق. ومن النظر فيه ككتاب للحكم نشأ علم السياسة. ومن النظر فيه كلغة إلهية نشأت علوم اللغة .. وهكذا.

وتطور العلوم الإسلامية جميعها إنما ينبغي أن يبحث في هذا النطاق : في النطاق القرآني نشأت، وفيه نضجت وترعرعت، وفيه تطورت، وواجهت علوم الأمم تؤيدها أو تنكرها في ضوئه. وبهذا يكون القرآن مصدر العلوم الإسلامية ومصدر المناهج المتبعة في دراستها من حيث إنه يعطي للباحث مبدأ السير ولا يقيده في سيره نحو طلب العلم والبحث فيه واختيار الوجهة التي يختارها منهجاً ورؤية.

ومن يلتمس تطور العلوم الإسلامية خارج نطاق القرآن يلتمس الفراغ العقلي والمعرفي، يلتمس الخرافة والتعطيل، ثم ضيق الأفق الذي لا يعوّل عليه لا في الحياة الدنيا ولا في الآخرة. شرط هذا التطور إذا هو وقع في النطاق القرآني : الممارسة والحياة في ضوء معطيات القرآن ومباشرة فنون الإيحاء خلال الآيات ثم انتظار الروافد الروحية مع المجاهدة بالفكرة وبالتطبيق سواء.

أمّا الترقيع الغريب الذي نراه اليوم في المعارف الإسلامية وقياسها بمقاييس وافدة لا علاقة لها بروح القرآن ولا أصل لها إلا في جماجم أصحابها، ثم يراد غرسها في واقع البيئة الإسلامية على أجنحة التجديد والتحديث وما بعد التحديث، هذه القياسات جهل مطبق لا يعول عليه، بل هى تسئ من حيث يراد منها الإفادة، ولا تقدم في النهاية سوى نوايا سيئة إزاء منهج القرآن في بناء الفرد والمجموع.

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

الحبر الخفي.. منح الصفحة الرئيسية لكاتبات منسيات في حقبة زمنية

بقلم: رامي تارجوف؛

مراجعة: تيري إلين كروس ديفيس

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

أخت شكسبير" هي إشارة غير مباشرة إلى مقالة فيرجينيا وولف عام 1929 بعنوان "غرفة خاصة بالنساء"، التي تتخيل فيها الكاتبة البريطانية أن شكسبير كان له أخت موهوبة بنفس القدر تُدعى جوديث. ورغم قلة الفرص والحماية المتاحة لها، تلتقي جوديث بنهاية مأساوية، على الرغم من براعتها الفطرية. تسعى وولف لإثبات نقطة: أن النساء بحاجة إلى مساحة ووقت للكتابة. اليوم، تم إنشاء العديد من ملاذات الكتابة والإقامات الأدبية للنساء، مثل هيدجبروك، وستورينايف، وملاذ الفنون الأدبية تورتش، تقديراً لأن بعض النساء يستفدن من الوقت بعيداً عن المسؤوليات اليومية لتصوّر وتطوير الكتابات الجديدة. لكن ماذا حدث للنساء اللواتي حلمن بالكتابة في إنجلترا عصر النهضة؟ تكتب رامي تارجوف أنهن "لم يكن يُنظر إليهن إلا كملحقات في الهامش". أخيراً، في "أخوات شكسبير"، يشغلن مركز الصفحة.

تتبع تارجوف أستاذة العلوم الإنسانية بجامعة برانديز،  أربع نساء يكتبن في زمن شكسبير: إليزابيث كاري، آن كليفورد، إيميليا لانيير، وماري سيدني. تم استبعاد كاتبات أخريات يستحقن الذكر، مثل أفرا بين ومارجريت كافنديش، لكن التركيز الضيق للكتاب يجعل منه سلسلة أكثر حميمية من الصور الشخصية، ضمن خلفية غنية من إنجلترا عصر النهضة، ووليم شكسبير، والملكة إليزابيث الأولى. تبدأ تارجوف بتوضيح المعايير الثقافية والجندرية في ذلك الوقت، وكيف كان يُتوقع من النساء الطاعة والخدمة - أولاً لآبائهن، ثم لأزواجهن. بموجب مبدأ "التحقق"، أصبح الرجال الوصيّين القانونيين على زوجاتهم. كان من المفترض أن تكون النساء في عصر النهضة هادئات في الأماكن العامة. إذا تم الحكم عليهن بالاضطراب، كان من الممكن أن يُطلق عليهن لقب "الثرثارات"، كما تكتب تارجوف، و"يُعرضن في الشوارع وهن يرتدين طوقاً حديدياً ثقيلاً يُعرف باسم 'طوق الثرثارات'". استبعدت معظم المؤسسات التعليمية، بما في ذلك الجامعات، النساء، و"ما إذا كانت الفتاة تلقت أي نوع من التعليم في إنجلترا عصر النهضة كان يعتمد بالكامل على ظروف عائلتها".

يقدم الفصل الأول من "أخوات شكسبير" الملكة إليزابيث الأولى، التي كانت نموذجاً يحتذى به للكاتبات الأخريات في تلك الفترة. "منذ وقت مبكر في طفولتها"، تكتب تارجوف، "تشجعت إليزابيث ليس فقط على دراسة مجموعة واسعة من اللغات ولكن أيضاً على كتابة أعمالها الخاصة". قصة قصيدتها التي كتبتها في قصر وودستوك - والتي نحتتها على نافذة باستخدام ألماس أثناء احتجازها هناك خلال حكم أختها غير الشقيقة، ماري الأولى - هي حكاية مميزة: "يشتبه بي كثيراً، / لا يمكن إثبات شيء، / تقول إليزابيث السجينة".

تنتقل تارجوف بشكل زمني عبر قصص مواضيعها الأربع، متناوبة بينها ومزينة سردها بتفاصيل مُعَدة بدقة. تفتح الخرائط لنسل كل امرأة الكتاب، لكن "أخوات شكسبير" لا تعيش حصرياً في غبار التاريخ؛ هناك لحظات تربط فيها تارجوف الماضي بالحاضر. على سبيل المثال، مناقشتها للطاعون الدبلي، الذي عصف بإنجلترا قبل قرون، قد تذكّر القراء بتجاربهم الخاصة خلال جائحة كوفيد-19. كما تقول القصة، تقيّدت مارجريت كليفورد، كونتيسة كمبرلاند ووالدة آن، من حضور ابنتها إلى المحكمة خلال تفشي المرض.

يتوهج "أخوات شكسبير" بتفاصيل سيرة ذاتية مثيرة، ويحتوي على لحظات مشوقة تتفوق على أي عرض تلفزيوني معاصر بتعقيداتها.

لقد تنوعت كتابات النساء بين الترجمات والشعر والتاريخ والدراما وغيرها. تكتب تارجوف أن ثلاثاً من بين الأربع كن إما من النبلاء أو من أعضاء البرجوازية الثرية، ولذلك تم تسجيل تفاصيل حياتهن بدقة أكبر من معظم النساء الأخريات في تلك الفترة. كانت النساء النبيلات يتزوجن من رجال في المناصب العامة، ولديهن أسر في البلاط، ويستخدمن الأمناء والمديرين لمتابعة كتاباتهن الشخصية. أصبحت إيميليا لانيير، التي ولدت من "الطبقة المتوسطة"، أول امرأة إنجليزية في القرن السابع عشر تنشر كتاباً من الشعر الأصلي، "سالفي ديئس ريكس يودايوروم". من حياتها يمكننا إحياء بعض اللحظات فقط، باستخدام معرفة العصر لملء الفراغات. كان من الممكن للعائلات العاملة مثل عائلة لانيير - موسيقيون في البلاط لديهم طموحات - أن يأملوا "أن تمنحهم العائلات الرفيعة … فرصاً لم يتمكنوا من توفيرها بأنفسهم"، تكتب تارجوف. وبهذه الطريقة، تغيرت حياة لانيير عندما أرسلتها والدتها لتنشأ مع "كونتيسة كينت" - النسخة الإنجليزية من التنقل الاجتماعي في عصر النهضة.

عند القراءة عن ماري سيدني، كونتيسة بيمبروك، نتعرف على حماستها للترجمة. مع وجود وصمة طبقية على النشر وفكرة أنه كان يُعتبر غير لائق للأرستقراطيين الإنجليز أن يشاركوا كتاباتهم مع الجمهور العام، لم يكن بإمكان سيدني أن تقرر فجأة الدخول إلى عالم الأدب. كان وفاة شقيقها السير فيليب سيدني هي التي فتحت لها باباً. العلاقة الوثيقة بين الأخوين جعلتها قادرة على إكمال ترجمته غير المكتملة لكتاب المزامير. في النهاية، ترجمت ماري المزيد من المزامير أكثر من شقيقها وأصبحت أول كاتبة تترجم كتاب المزامير كاملا إلى الشعر الإنجليزي. "في المزامير الـ107 التي ترجمتها ماري بنفسها"، تكتب تارجوف، "يوجد 128 تركيبة مختلفة من المقاطع والأوزان". كان عملها عرضاً بارعاً لمهارة الشاعر.

يتميز كتاب "أخوات شكسبير" بتفاصيل سيرة ذاتية غنية تجعله مشوقًا للغاية، حيث يحتوي على تقلبات أكثر من أي برنامج تلفزيوني معاصر. على سبيل المثال، نقرأ عن معركة آن كليفورد القانونية التي استمرت 38 عامًا حول ميراثها، وتعليم إليزابيث كاري المبكر في فحص ساحرة. (سمح والد كاري، لورانس تانفيلد، المحامي وعضو البرلمان، لابنته أن تكون في الغرفة أثناء إجراء التحقيق الرسمي مع الساحرة المتهمة. وكانت الأسئلة التي اقترحتها إليزابيث هي التي أطلقت في النهاية سراح المرأة من مصير بشع). نتعرف أيضًا على رحلات ماري سيدني إلى مدينة سبا البلجيكية لتحسين صحتها المتدهورة، وزيارات أميليا لانيير لسيمون فورمان، المنجم والمعالج الطبي المشكوك فيه الذي كان يقوم بزيارات منزلية. قيل إن فورمان "كان يستطيع قراءة خريطة فلكية، إجراء عمليات جراحية بسيطة، واستحضار الأرواح من الموت جميعًا في جلسة واحدة". بطريقة تسبق اختبار بيشدي، يدخل الأزواج والأطفال ويخرجون من القصة دون أن يسرقوا الأضواء من النساء.

تظل إحدى تصريحات تارجوف المبكرة عالقة في الأذهان طويلاً بعد تقديمها: "مهما اعتقدنا أننا نعرف عن عصر النهضة، فإنها كانت نصف القصة فقط." كم عدد أخوات شكسبير اللواتي قد يكونن موجودات؟ في الكثير من إنجلترا عصر النهضة، باستثناء ملكي واحد، كانت النساء شخصيات هامشية في قصصهن الخاصة. في "أخوات شكسبير"، تصحح تارجوف بحماسة تحيز التاريخ ضد النساء وتضع موضوعاتها في الأدوار الرئيسية التي استحقنها دائماً.

***

.............................

تيري إلين كروس ديفيس / Teri Ellen Cross Davisشاعرة أمريكية سوداء ومؤلفة كتاب "اتحاد أكثر كمالًا" (دار ماد كريك بوكس، 2021)، الفائز بجائزة تشارلز ب. ويلر للشعر، وكتاب "هاينت" (دار جيفال للنشر، 2016)، الفائز بجائزة أوهايوانا للكتاب للشعر لعام 2017. كانت زميلة في مؤسسة كايف كانيم وتعمل حاليًا في مكتبة فولجر شكسبير في واشنطن العاصمة. تعيش في سيلفر سبرينج بولاية ماريلاند.

https://theamericanscholar.org/invisible-ink/

تعد الأنسنة تيارا جديدا ينادي الكثير من المفكرين بضرورة تطبيقه في بيئتنا العربية على التراث العربي والإسلامي، متدثرين برداء التجديد، والتي يأملون من وراءها إحياء الشعوب الإسلامية بعد سبات دام طويلا، ويأتي محمد أركون وحسن حنفي، في الصفوف الأولى لدعوات الأنسنة في مجتمعنا العربي، فقد كانت الأنسنة عندهم محور مشروعهما النقدي، ومن ثم كانت خطوتهم الأولى هي أنسنة الوحي وتطويعه للواقع وجعله تجربة بشرية، ثم أنسنة علم الكلام والإلهيات، وجعل الإنسان مركز الوجود. في المعرفة الإسلامية تأتي مسألة الوحي أولى المسائل التي شغلت الساحة الفكرية قديما وحديثا، حيث يرتبط القرآن ارتباطاً وثيقا بظاهرة الوحي، الوحي الذي جاء به الأنبياء، وقالوا إنه يوحى إليهم من قبل الله سبحانه، وإنهم على اتصال بالله إما مباشرة، وإما عبر الاتصال بالملاك الذي يشكل واسطة في تلقي الوحي، ومن ثم تكون نظرة الأنسنة للوحي نظرة مغايرة لحقيقة الوحي. وربما أدت هذه النظرة إلى الرفض التام والهجوم الحاد على دعاة الأنسنة لما فيها من مخالفات ما هو موروث.

أنسنة إيمانية

على الرغم من كثرة الاعتراضات التي وجهت إلى هذه الأنسنة المغالية عند كل من محمد أركون وحسن حنفي، والرفض الشديد لها من قبل العديد من المفكرين، لأنها قد تنقلب إلى وجه آخر للتطرف والاقصاء، لاسيما في تناولها لمسألة الوحي خاصة، والقول ببشريته من دون صلة بالله. يأتي الدكتور عبد الجبار الرفاعي معترضا على القول ببشرية الوحي بالشكل الذي صورته الأنسنة المغالية، يعترض الرفاعي على طمس جانبه الغيبي، وأيضا يحاول تصحيح المسار، من خلال محطات عدة من أهمها:

* يرى الرفاعي: أن الوحي ليس تجربة بشرية، بل هو في نظر الرفاعي كما يصرح بذلك بقوله: "الوحي صلة استثنائية بالله، وكل من يفسر الوحي خارج هذه الصلة ليس لا يومن بالنبوة.كل من يرى الوحي حالة بشرية تتكشف فيها قدرات وإمكانات وطاقات خلاقة لدى الإنسان، أو هو شاعر، أو نابغة، أو ايحاء نفسي، أو غير ذلك من تفسيرات، لا تسمع في الوحي صوتا إلهيا في الوحي، فهذا لا يؤمن بلة إلهية للنبي الكريم بالله". هذا يعني أن الرفاعي يرفض رفضا قاطعا أية محاولة لنفي الصوت الإلهي الذي يختص به الوحي. يشرج عبد الجبار الرفاعي رؤيته في بيان حقيقة الوحي: "الفهم الذي أتبناه للوحي لا يهدر البُعدَ الإلهي الغيبي المتعالي على التاريخ الذي ينطق به الوحي... أرى الوحي قبس نور إلهي تجلى في شخصيات أصيلة صادقة، تتفرد بيقظتها الروحية، وأشرق على أرواح ساطعة كالمرآة المصقولة فتشع ضوؤها على الناس". وهذا التعريف اقتبسه الرفاعي من قوله تعالى: "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين"، وأهم ما فيه هو أنه لم يجعل الوحي ذو صبغة بشرية خالصة، وهو يبعد كليا عن الذي تريده الأنسنة بالتأسيس له وجعله بشريا خالصا، والنظر إليه بوصفه تجربة بشرية تخضع لإرادة البشر وخاضعة للشعور والمشاعر، وجعله منتجا ثقافيا وظاهرة لغوية منعكسة للواقع الذي وجدت فيه ولا تنفك عنه، وبسبب هذه الأمور مجتمعة اعترض عبد الجبار الرفاعي على هذه الأنسنة المغالية.

لا ينفي الرفاعي البُعد التاريخي البشري في الوحي. بعدان للوحي في نظره: إلهي وبشري، كما يشرح ذلك بقوله: "البُعد الإلهي الغيبي في الوحي لا يقع في إطار صيرورة التاريخ وسياقاته، البُعد البشـري في الوحي يقع في إطار صيرورة التاريخ وسياقاته.كل ما هو تاريخي بشـري وكل ما هو بشـري تاريخي،كل ما هو إلهي بوصفه إلهيا خارج التاريخ، وكل ما هو خارج التاريخ لا يخضع لمعادلات دراسة الواقع وأدوات فهمه وتفسيراته."

* الأمر الأكثر خطورة في الأنسنة المغالية هو نزع الصوت الإلهي في القرآن الكريم، وإن لم يصرح بذلك روادها، إلا أنهم سلكوا كل الطرق المؤدية لذلك. وهنا يأتي الدكتور عبد الجبار الرفاعي أول المعترضين على انكار الحضور الإلهي في القرآن، وإهدار الطاقة الرمزية في الشعائر والطقوس والعبادات وتفسيرها بمناهج العلوم التجريبية، مما انتهى إلى "إنهاك الدين وتفريغه من محتواه الروحي والأخلاقي والجمالي، واستنزاف الدلالات الرمزية للنصوص الدينية". يدافع الدكتور عبد الجبار الرفاعي عن الدين، وعن طاقة المقدس المتجددة في العطاء والصلاحية، ليبين أن "المقدس مستمر متواصل أبدي، غير أنه ليس ساكنا أوقارا أو ثابتا بل هو متحرك، ومتغير إنه موجود دائما، لكن أشكاله وأنماطه شديدة التنوع وعادة ما يتعرض المقدس للتلاعب من قبل البشر، ويجري توظيفه في المعارك ويستخدم كقناع وذريعة في الصراع الاجتماعي، ويخضع لمختلف أنواع التفسير والتأويل والقراءات المنبثقة عن الفضاء البشري الحاضن له"، وهو يقصد أنه على الرغم من الصوت الإلهي في النصوص الدينية إلا أنها لا تتسم بالصلابة والجمود، وإنما هي مرنة تتناغم مع الأفكار والعقول، ما يهدر مضمونها التفسير وفقا للأهواء والمزاجات والمصالح.

* أنسنة لا تطمس الجانب الغيبي:

بعد أن كان الأمر الأول في بيان مغالطات الانسنة المغالية، يأتي عبد الجبار الرفاعي ذاكر أمراً أخر لتصحيح المسار ودحض الخلاف، وهو القول بـ"أنسنة إيمانية"، ترفض "الأنسنة الإيمانية" أنسنة محمد أركون وحسن حنفي التي ترى الإنسان مركزا للوجود، وطمست الجانب الديني والغيبي، وفي إطار ذلك يقول الدكتور عبد الجبار: "في ضوء مفهومي المتقدم لكل من الإنسان والدين، فما أعنيه بأنسنة الدين، ليس هو ما يذهب إليه بعض المفكرين، من أن الدين ينبغي أن يدرس بوصفه ظاهرة بشرية نابعة عن طبيعة البشر، ولا يصح تفسيرها وتطورها خارج عوالم البشر الحسية". يتحدث الرفاعي في سياق مشروعه في "الإنسانية الإيمانية"، عن: "مركزية الله في الوجود ومركزية الإنسان في الأرض غير الخارجة عن مركزية الله في الوجود... الرؤيةُ للعالَم في الإنسانيَّة الإيمانية تبتني على مركزية الله في الوجود، ومركزيةِ الإنسان في الأرض. مركزيةُ الإنسان في إطار مركزية الله، كما سنشير إلى ذلك في الحديث عن الاستخلاف الذي اختص اللهُ به الإنسانَ دون سواه من المخلوقات، بما يمتلك من عقل وإرادة وحرية وإمكانات وقدرات متنوعة تؤهله لهذه المهمة الاستثنائية". وهذا يعني أن عبد الجبار الرفاعي يرفض رفضاً قاطعاً أنسنة محمد أركون وحسن حنفي التي تذهب إلى مركزية الإنسان في الوجود، ويقيم بدلاً منها "أنسنة إيمانية" لا تجعل الدين ظاهرة بشرية بحتة، ولا يقصيه عن حياة الناس وواقعهم وطبيعتهم، وإن كانت تعبيراته تظهر في سلوك الإنسان وحياته.

يضع عبد الجبار الرفاعي يده على أساس المشكلة، وربما يكون بسببها عدم فهم دور الدين في الحياة فهما صحيحا، وإهمال أثره الفاعل في النفوس. يقول الرفاعي: "فهم الدين وكيفية قراءة نصوصه من أهم العوامل الفاعلة في تحول السياسة والاقتصاد والثقافة والعلاقات في حياة المجتمعات، الدين هو الحبل السري الذي يتغذى منه تكوين الفرد وتقاليد المجتمع وأعرافه، وقيمه وهويته، لكن لم يهتم أكثر من يكتبون عن الدين في بلادنا بالأثر المهم لاختلاف طرق فهم الدين، وكيفية قراءة نصوصه في تكوين الفرد والمجتمع ، ولم يسلطوا الضوء على تجذره في اللاشعور الجمعي وترسيخه، وأثره في تشكيل شخصية الفرد في طفولته وتوجيه سلوكه وبناء مواقفه في مختلف مراحل حياته".

* الدكتور عبد الجبار الرفاعي يقرر أن الدين له أهمية شديدة جداً في حياتنا، وله اليد الطولى في التغيير والتطور، لكن تعدد الطرق التي بها يُفهم الدين لها أثر كبير في إحداث تغيرات في المجتمع، وعلى الرغم من ذلك لم يهتم أكثر من يكتبون عن الدين بهذا التأثير الكبير، وأثره في تشكيل شخصية الفرد. وعلى هذه الأساس يضع الرفاعي تعريفه الجديد للدين، الذي ورد نصه في مختلف أعماله، بقوله: "الدين حياة في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاج معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياته الفردية والمجتمعية". يشير الرفاعي إلى الدور الروحي والأخلاقي والجمالي للدين، وإلى حضوره في حياة الفرد والمجتمع، ولم نقرأ هذا التعريف المستوعب في أي كتاب يسبقه. وفي ضوء هذا التعريف يتأسس فكره الديني، ورؤيته للإنسانية الإيمانية.

* يضع عبد الجبار الرفاعي ملامح الأنسنته التي يدعو إليها فيقول:

* "أنسنة الدين عندي تعني إنسانية إيمانية، وإيمانية إنسانية، وهي مختلفة عن الإنسانية التي لا تعبأ بالإيمان، والتي يتحدث عنها بعض المفكرين، في الغرب والشرق، وتتمحور فيها الأنسنة حول مركزية الإنسان، وتنصيب الإنسان بديلا لله في كل شيء، حتى تنتهي إلى نسيان الله وتأليه الإنسان"، وهذا يعني أن ملامح الأنسنة عند عبد الجبار الرفاعي تتضح في أنها ترتبط بالإيمان ارتباطا وثيقا، فلا تخرج من عباءته، ولا تعطي للإنسان دورا خارج الأرض وتجعله محور الوجود، وبديلا عن الله،كما تفعل الأنسنة الأخرى التي يدعو  إليها محمد أركون وحسن حنفي وغيرهما، والتي يرى عبد الجبار الرفاعي أنها ترفع الإنسان لمرتبة الالوهية.

* يؤكد الرفاعي على بيان الجانب الأهم في أنسنته، والذي طُمس في تفكير أركون وحنفي في أنسنتهم، وهو الجانب الإلهي، فيشدد على أهميته، فيقول: "أنسنة الدين التي أدعو لها هي نمط حضور للإله الروحي الأخلاقي الجمالي في حياة الإنسان، وبكلمة أخرى أنسنة الدين تنشد دينا روحانياً، واخلاقياً، وجمالياً لا يقطع الصلة بالله، ويجعل الدين ظاهرة بشرية خالصة، مثلما لا يتجاهل الطبيعة البشرية، ويتعاطى مع الإنسان وكأنه روح مجرد فقط، بل يوظف كل المعطيات المتاحة للتفكير والفهم الصحيح لحقيقة الإنسان". يشرح عبد الجبار الرفاعي من خلال هذا النص ملامح أنسنته في كونها: ارتقاء للجانب الروحي الذي يتصل بالإله في أعلى درجاته، ويصل فيها الإنسان إلى أعلى درجات الاخلاق أيضا، ويقيم من خلالها دينا أكثر كمالا وأخلاقا، ورحانيات، وجمالا، موظفا كل شيء في مكانه الصحيح من أجل الرقي بالإنسان.

* يلفت عبد الجبار الرفاعي النظر إلى أمر غاية في الأهمية، وهو ان الإيمان والأنسنة الحقة لا يتعارضان كما يدعي دعاة الأنسنة المادية البحتة فيقول: "الإنسانية الإيمانية يتحد فيها مسار الإيمان بمسار حماية كرامة الكائن البشري، واحترام إنسانيته، بل الإيمان إنما يتحقق ويتكرس فيها بالغيرة على الإنسان، إنها أنسنة للإنسان بحمايته من لا إنسانية الإنسان وتحرير الإنسان من تعصب وعدوان، ووحشية الإنسان"، في ضوء ذلك ليس هناك تعارض بين الأنسنة الحقة بصفاتها المذكورة عند الرفاعي، والإيمان الصحيح، لأنها حفظت للإنسان حقوقه كاملة، وعملت على الترقي به، دون طمس الجانب الإلهي من الإنسانية، ومن ثم يضيف قائلا: "الإنسانية الإيمانية عندي يحيل معناها إلى أن (الله واحد والإنسان واحد)، بمعنى أن الإنسان يكتسب حقوقه الطبيعية بوصفه إنساناً لا غير، وعلى هذا الأساس يبتنى مفهوم المواطنة التي ينبثق منها استحقاق كل مواطن لحقوقه المدنية والسياسية، وفي إطار هذا الفهم تكتسب المساواة قيمتها من كونها مساواة لا غير، وتكتسب الحرية قيمتها من كونها حرية لا غير، وتكتسب الاخلاق قيمتها من كونها أخلاقا لا غير". هذا النص يشير فيه الرفاعي إشارة خفية إلى أن الفهم الصحيح للدين، ومن ثم تطبيق أنسنته الإيمانية، ينتج من خلاله ارتباط الدين بالقوانين في الدولة الحديثة القائمة على المواطنة التي يتساوى فيها جميع الموطنين في الحقوق والواجبات، وعدم وجود تعارض بينهما، فإنسانية الإنسان التي أثبتتها أنسنة عبد الجبار الرفاعي انبثق عنها تحقق مفاهيم المواطنة التي تحدد حقوقه وواجباته الوطنية، والمساواة وعم التمييز بين المواطنين، والحرية، والكرامة، وتحققت فيها كذلك الأخلاق.

ينبغي الإشارة إلى أن عبد الجبار الرفاعي وحسن حنفي قد انطلقا من الدعوة لتجديد علم الكلام، وأن علم الكلام القديم وبعض العلوم الدينية قد طمست طبيعة الإنسان، ومن ثم كانت الحلول الأولى لكلاهما هي بناء علم كلام جديد وأنسنة الدين. وقد صرح بذلك عبد الجبار الرفاعي قائلا: "أنسنة الدين مسعى يهدف إلى إنقاذ المعنى الروحي والأخلاقي، والجمالي للدين، بعد ضياعه في دين سياسي لا يعرف الكثير عن هذا المعنى، ولا يسعى لامتلاكه، ودين فقهي يختزل الدين في مدونة أحكام قانونية تنسى الكثير من معانيه الروحية والأخلاقية والجمالية، ودين كلامي يتيه فيه الدين في ظلام جداليات لا تنتهي لعلماء الكلام، ومحاجات عقيمة، تميت القلب وتطفئ شعلة الروح" ، وهو بهذا  يشير إلى أن غرض الأنسنة عنده هو إحياء الحياة الروحية لدى الإنسان والأخلاقية والجمالية، والعمل على تنميتها، بعد ما حاولت إخفائها العوامل السياسية والفقهية والقانونية وجدالات لا حصر لها.

الدكتور عبد الجبار الرفاعي كان الأكثر اعتدالا وأكثر عقلانية، فرفض طمس الجانب الغيبي في الدين، ورفض اقتلاع التراث من جذوره،كما أشار إلى ذلك في عدة نصوص من كتاباته، على خلاف ما فعل محمد أركون وحسن حنفي والذين ابتدعوا أنسنة تطمس الجانب الديني وتضع الإنسان محل الله. ومن الجدير بالذكر أن عبد الجبار الرفاعي له دراسة نقدية موسعة عن كتابات صديقه حسن حنفي في كتابة الجديد: "مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث"، احتلت الفصل الثاني من الكتاب، وتقع في نحو 50 صفحة، بعنوان: "حسن حنفي: الأضداد في كأس واحد"، وعنون أحد فقراتها بـ"نسيان الله في تفسير حسن حنفي"،  وهذا العنوان بلا شك يبين حقيقة أنسنة حسن حنفي التي استبعدت الله من القرآن واستبدلته بالإنسان، وبيان تماديها في طمس الجانب الإلهي حتى في القرآن.

يؤكد الدكتور مصطفى كيحل شيئا مما ذهب إليه الدكتور عبد الجبار الرفاعي، إذ يبين أن هناك أنسنة إسلامية موجودة في تراثنا، وهي ربما التي حفظت للإنسان حقوقه، فيقول: " فالإنسان في الإنسية الإسلامية وبفضل كينونته المفارقة التي تجعله في علاقة استخلاف مع الله، يتكشف وجهه الإنسي بوصفه سيداً للعالم، ومبدعًا للمعنى، يتبوأ مكانة كبيرة في صناعة التاريخ، وهو بحسب هذه الرؤية، ليس كائنا ذليلا أمام الله، وإنما هو خليفة الله، وكائن عزيز عنده وحامل لأمانته على الأرض، وذلك لا يتحقق إلا بفضل علمه ووعيه وحرية اختياره ومسؤوليته، فمصير الإنسان يجب أن يصنعه الإنسان نفسه، وبتلك الكيفية تتحقق أصالته التامة". وفي هذا الكلام يريد مصطفى كيحل بيان أن الإنسان ليس كما حاول بعض المفكرين الادعاء أنه طمست معالمه، وأخفيت أدواره في التراث الإسلامي، بل إنه يؤكد أن الأنسنة متحققة في تراثنا، وإلا فكيف كان الإنسان خليفة الله، ومكرماً من عنده، وحامل للأمانة، ولا شك أن هذا ما حدث للإنسان في نطاق الدين الإسلامي وتحت ظلاله، بغض النظر عن تلك المصطلحات الجديدة، التي كان الاهتمام بالإنسان فيها مجرد تقليد للغرب فقط، وليس لحقيقة موجودة على أرض الواقع. ذلك وغيره ما أنجزه عبد الجبار الرفاعي في أنسنته الإيمانية بتفصيل وشروح لا نجدها في كتابات أخرى، حيث بين أن الإنسان مكرما، لكن ليس بوصفه مركز الوجود، لكن بوصفه مستخلف من الله تعالى ينوب عنه في الأرض، بمعنى انه يعتمد على عقله وتجاربه لا غير في بناء الدولة ونظامها السياسي والاقتصادي والمالي والاداري وكل نظمها الإدارة والحياتية.

***

د. رنـا إبراهيم البهوتي

..........................

المشاركة رقم: (4) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

قراءة في اجتهادات أستاذ الانثروبولوجيا في الجامعة المستنصرية (جعفر نجم نصر)

في المجتمعات التي قطعت شوطا "كبيرا" في مضمار التقدم العلمي والتطور المعرفي والرقي الحضاري، عادة ما تحتفي المؤسسات الثقافية والفكرية في اجتراح أحد مفكريها أو باحثيها (مصطلح) أو (مفهوم) جديد في مضمار العلوم الاجتماعية والإنسانية، من حيث كونه لا يعكس فقط مستوى التجريد النظري للخطاب الفكري – الثقافي السائد في المجتمع المعني فحسب، وإنما يعبر عن قدرة صاحب الخطاب على اختزال وتكثيف عمليات التفاعل بين عناصر الظاهرة الاجتماعية قيد البحث، وتقديمها، من ثم، في إطار لغوي معبّر يجمع بين اختصار المعاني ووضوح الدلالات.

ورغم ان ما يبذله بعض الباحثين والأكاديميين العراقيين من جهود فكرية في دراساتهم وأبحاثهم التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحضارية والدينية عن طبيعة المجتمع العراقي، فضلا"عما يستخلصونه من آراء وأفكار وتصورات أثناء تحليلاتهم وتأويلاتهم لما جرى ويجري لجماعاته السوسيولوجية ومكوناته الانثروبولوجية، لاسيما ما يتعلق بتحولات الوعي وانسلاخات الهوية واحتقانات السيكولوجيا التي لا يفتأ هذا المجتمع من الانخراط في أتونها والعيش في أزماتها والاكتواء بلظى صراعاتها. فان تلك الجهود قلما وجدت لها آذان صاغية من لدن الجهات الحكومية المسؤولة عن هذه الميادين والمجالات، فضلا"عن إثارة اهتمام شرائح (النخبة) المفروض بها التعاطي مع تلك الجهود من باب التحليل والتأويل والتفسير لما تنطوي عليه من طروحات واستنتاجات، سواء بالرفض لها والإعراض عنها أو القبول بها والموافقة عليها، مع الإشارة – بالطبع – الى مسوغات هذا القبول أو ذاك الرفض.

ولعل هناك من يعتقد – وهو محق نسبيا"– ان هذه الضروب من التجاهل المتعمد والإهمال المقصود إزاء تلك الجهود، ناجمة بالأساس عن شيوع مظاهر الجهل الفكري والأمية الثقافية والعدمية النقدية بين أغلب عناصر نخبنا المحلية، فضلا"عن تزايد ميلها للركون الى المألوف من التصورات، والسائد من التمثلات، والشائع من الانطباعات. وذلك من منطلق كونها مثابات مترسخة ومنطلقات قارة، لاسيما وان خصائص المحيط الثقافي الذي تنشط في رحابه وتتغذى من قيمه وتحتكم الى رموزه، ساهم – ويساهم – في تعزيز تلك المظاهر وأضفى عليها هالة من المشروعية المعرفية والقيمية التي ما كان لها الاستمرار لولا تواضع مكونات المجتمع بمختلف تلاوينها على قبولها والاسترشاد بها، هذا بصرف النظر عما تنطوي عليه تلك التواضعات من اختلاف في الوسائل وتباين في الغايات.

وفي هذا الإطار، فقد لفت انتباهي – وأنا أطالع ما كتبه أستاذ الانثروبولوجيا في الجامعة المستنصرية، الأكاديمي والباحث (جعفر نجم نصر) على صفحته الفيسبوكية – خلال أحدى مساهماته الفكرية بصدد العلاقة بين خطاب (النخبة) المثقفة من جهة، واستيعاب (العامة) القارئة لذلك الخطاب من جهة أخرى. حيث تضمن مقاله الموسوم ( تجديد الفكر الإسلامي : تجاوزا"لجدلية العامة والنخبة – البحث عن جيل بيني ثالث (فكرة أولية) ) استخدامه مصطلح (الجيل البيني) كأداة تحليلية يفسّر من خلالها ويبرر الضرورات السوسيولوجية والابستمولوجية لميلاد (جيل) جديد من الجمهور، يجمع بين علمية ورصانة الخطاب الثقافي لعناصر (النخبة) من جانب، وبين شفافية وواقعية التعبير عما تهجس به معطيات الواقع الاجتماعي لجمهور (العامة) من جانب ثان. بحيث يستطيع هذا (الجيل الثالث) أن يتجاوز عيوب ومثالب خطابات وطروحات (النخبة) القديمة وما تنطوي عليه من غموض وتعقيد وتجريد من جهة، ويتمكن، من جهة ثانية، من بلوغ ما تهدف إليه الفكريات الحديثة والمنهجيات النقدية من تغييرات بنيوية وتحولات حضارية، بما يتوائم وطبيعة المجتمع المعني ومستوى وعي مكوناته. ذلك لأننا – كما يستطرد الأستاذ جعفر (نحتاج الى الجيل الثالث بيني (عامي / نخبوي) قريب من شؤون العامة وهمومها وقريب من لغة العلم المتواضعة / الأخلاقية الهادفة).

ولعل هناك من يعتقد ان استخدام هذا المصطلح (الجيل البيني) من قبل الأستاذ (جعفر)، لا يعدو أن يكون مرادفا "لمفهوم (المجايلة) الذي توسع في شرح معانيه وتحليل مضامينه سابقا" المؤرخ العراقي المعروف (سيّار الجميل) عبر مؤلفه الموسوم (المجايلة التاريخية : فلسفة التكوين التاريخي). وحيال ذلك نسارع للقول؛ انه وأن يبدو للناظر تقارب دلالات كلا اللفظين في مجال موضوع البحث المطروح، إلاّ ان دراسة متأنية ومتمعنة تظهر ان هناك من الاختلافات والتباينات ما يفضي الى تخطئة تلك النظرة المبتسرة ودحض انطباعاتها القاصرة. حيث تظهر المقارنة المعرفية والمنهجية بين معاني ودلالات كل من (المصطلح) و(المفهوم) آنفي الذكر، الى ان الأخير انتهج خلال البحث والتقصي عن العلاقات والتصورات والمآلات المسار (الجدلي – التفاعلي) بين ميادين التاريخي والثقافي والسوسيولوجي. هذا في حين وقع خيار الأول على المسار (الخطابي – الشعبوي) للكشف عن المقاصد والغايات التي أريد له الاحتكام إليها والبناء عليها والتعبير عنها.

والحقيقة لسنا هنا في وارد المفاضلة بين القيمة المعرفية والمنهجية لكل من (المصطلح) و(المفهوم) في مجال التحليل والتأويل للظواهر الاجتماعية المتوالدة والمتناسلة، بقدر ما أريد (الإشادة) و(الإشارة) الى أهمية الجهود والمساعي التي بذلها الأستاذ (جعفر) في ارتياد مثل هذه المجالات النظرية، التي من شأنها فتح المزيد من آفاق البحث ومداخل الدراسة لكل ما يعانيه المجتمع من احتقانات وانقسامات وكراهيات وصراعات، ليس فقط في شؤون السياسة والاقتصاد والدين والتاريخ فحسب، وإنما في قضايا الثقافة والوعي والهوية والسيكولوجيا أيضا". وفيما يتعلق بتبعات وتداعيات ما تنطوي عليه مثل هذه المصطلحات (الجيل البيني)، نأمل أن تكون لنا عودة لاستعراضها في مواضيع أخرى لاحقة بإذن الله.

***

ثامر عباس – باحث عراقي

ظل الأذكياء من المفكرين والمثقفين وعلماء الدين العراقيين والعرب الذين أقاموا في إيران ودرسوا فيها خلال العقود الأربعة ونصف الماضية؛ قريبين من بالمرجل الفكري الإيراني المستعر والمنتج، سواء في جزئه الديني الأصولي أو جزئه الديني الحداثي أو جزئه العلماني والليبرالي المتمرد على الدين، وتأثروا بنتاجاته المنهجية والفكرية والثقافية، وترجموا كثيراً منها إلى اللغة العربية، وبنوا أغلب قواعد تفكيرهم ورؤاهم في إطار هذه النتاجات، ثم طرحوها في مؤلفاتهم ودراساتهم ومحاضراتهم، وخاصة في مجالات علم الكلام الجديد وفلسفة الدين وفلسفة الفقه والفقه السياسي وتقنين الشريعة والتجديد الفكري والفقهي.

ولعل أكثر المفكرين وعلماء الدين الإيرانيين الذين طبعوا أفكار العراقيين والعرب في إيران بطابعهم الفكري: الإمام الخميني، علي شريعتي، مرتضى المطهري، داريوش شايگان، مصباح يزدي، جوادي آملي، جعفر سبحاني، أحد قراملكي، عبد الكريم سروش، مصطفى ملكيان، محمد رضا حكيمي، حسين نصر، عبد الكريم سروش، عبد الرضا داوري، عميد زنجاني، محمد جواد لاريجاني، محمد مجتهد شبستري، محمد خاتمي، محسن كديور وغيرهم. وهم يمثلون تيارات فكرية مختلفة، تبدأ بأقصى يمين التيار الأصولي، وتنتهي بأقصى يسار التيار العلماني المتمرد على الدين، وجميعهم ينشطون داخل إيران أو تطبع كتبهم داخل إيران.

ونجد أغلب المثقفين العراقيين الذين عادوا من إيران إلى العراق بعد العام 2003؛ بدأوا بطرح أفكارهم ورؤاهم الثقافية والسياسية، وكأنّ كثيراً منها ترجمة عن النتاج الفكري الإيراني الذي صدر في عقود السبعينات والثمانيات والتسعينات من القرن الماضي، وإلى ما بعد نهاية الألفية الثانية، مستثمرين إتقانهم اللغة الفارسية ومتابعتهم الدائمة للجدل الفكري في إيران، واستحالوا وفقاً لذلك إسلاميين أصوليين، أو إسلاميين إصلاحيين تجديديين، أو علمانيين ليبراليين متصالحين مع الدين، أو متمردين على الدين والشريعة والموروث، أو ليبراليين متدينين عرفانيين، أو مندكين بفكر ولاية الفقيه، أو رافضين لها، بل حتى الذين مالوا إلى الفكر السني أو تطرفوا في التمسك بالمنهج الأخباري الشيعي؛ تعود أغلب أصولهم الفكرية والثقافية إلى المناخ الفكري والفلسفي الإيراني.

ويمكن أن نستثني من هذا التأثر العميق، من انتقل إلى إيران وكان متقدماً في السن، وقد اكتمل بناؤه الفكري والعلمي والثقافي في العراق وغير العراق، سواء في أجواء الحوزة العلمية أو أجواء الحركة الإسلامية العراقية، وظل متمسكاً تلقائياً بثقافته التقليدية. والملاحظ أن هؤلاء لم يتطوروا منهجياً وفكرياً غالباً، على العكس من الذين كانوا على تماس مع المرجل الفكري الإيراني، وتأثروا كثيراً بنزاعاته وجدالياته ونتاجاته، وتماهوا معها غالباً؛ فقد تطوروا فكرياً وعلمياً وثقافياً تطوراً كبيراً ونوعياً.

ويمكن أيضاً تقسيم التوجهات الفكرية والثقافية لهؤلاء العراقيين والعرب المتأثرين بالفكر الإيراني المعاصر، على أساس ثلاث حقب زمنية أساسية، وهي عقد السبعينات وعقد الثمانينات وعقد التسعينات من القرن الماضي؛ إذ كان للتأثر والتماهي علاقة مباشرة بطبيعة الموضوعات التي تطرح في الساحة الفكرية الإيرانية في كل حقبة، والرموز الفكرية التي تظهر وتبرز خلالها، وعادة ما يكون طرح الموضوعات الفكرية وبروز مفكريها في الساحة الإيرانية متأثراً بالمشهد السياسي، وبالتالي؛ تكون علاقة الفكر والسياسة علاقة تأثير وتأثر، وهو ما ينعكس تلقائياً على النخبة الفكرية والثقافية العراقية في إيران.

وقد كان عقد السبعينات من القرن الماضي عقداً تقليدياً، وأفرز علماء دين عراقيين وعرب تقليديين غالباً، ولم يشهد ظهور مثقفين وباحثين عراقيين غير معممين إلّا نادراً، وهو ما ينسجم مع طبيعة الحضور العراقي في إيران، والذي كان يتمثل غالباً في العراقيين (المسفرين) من ذوي الأصول الإيرانية، ومن برز منهم كان من علماء الدين، وقد تحول هؤلاء إلى مراجع دين وفقهاء وباحثين دينيين تقليديين متمسكين غالبا بمنهج الحوزة النجفية ومنتمين إليها وإلى مرجعياتها، باستثناء علماء الدين الذين كانوا مرتبطين بالسيد محمد باقر الصدر ومدرسته التغييرية؛ فقد تميزوا عن غيرهم بالنزعة التجديدية الإصلاحية.

في حين كان عقد الثمانينات عقداً منتجاً من الناحيتين الكمية والنوعية، بالنسبة للوسط الثقافي والعلمي العراقي في إيران، وتميز بأنه عقد حركي وتجديدي، وهو أهم الحقب الزمنية، بالنظر للحجم الكبير للحضور العراقي في إيران؛ حيث شهد هذا العقد هجرة وتهجير الآلاف من علماء الدين والمثقفين الحركيين العراقيين إلى إيران، وكانوا غالباً يحظون ببنية تحتية ثقافية إسلامية حصينة، وينتمي كثير منهم إلى مدرسة السيد محمد باقر الصدر التغييرية، وفي حين كانت أغلبيتهم منخرطة في العمل السياسي المعارض؛ فإن جزءاً منهم كانوا يجمعون بين العمل السياسي والعمل الثقافي والفكري والعلمي، بينما تفرغ آخرون إلى العمل البحثي والفكري والعلمي، بمناهجه الحديثة، سواء في إطار الحوزة العلمية القمية التي كانت تشهد انفتاحاً ملحوظاً على المناهج الحديثة والمأسسة والجدل الفكري المتأثر بمقولات التجديد والإصلاح الفكري والمنهجي والديني، أو في إطار الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، أو المؤسسات البحثية والمجلات والصحف. وبالتالي؛ أفرز هذا العقد أبرز الأسماء الفقهية والفكرية والعلمية والبحثية المشهورة اليوم في العراق.

أما عقد التسعينات؛ فقد تميز بهجرة آلاف الشباب العراقيين إلى إيران، وخاصة بعد انتفاضة شعبان 1991، وهو جيل مختلف غالباً في تكوينه النفسي والثقافي والسياسي والاجتماعي عن الجيل الحركي التأصيلي الذي هاجر إلى إيران في الثمانينات. ولذلك؛ برزت في أوساط المثقفين العراقيين المنتمين إلى عقد التسعينات، ظواهر تتعارض مع السائد العقدي والفكري الإسلامي في الوسط العراقي المنتمي لعقد الثمانينات؛ ففضلاً عن الاختلاف الذي ذكرناه في التكوين النفسي والثقافي والاجتماعي؛ فإن شباب التسعينات عاشوا أجواء الخلاف الفكري- السياسي الحاد في إيران، وخاصة الفترة التي انفرد فيها التيار الإصلاحي بالسلطة في إيران، ونشر ثقافته الإسلامية الليبرالية الوطنية بشكل واسع ومكثف، وهو مشهد كان غائباً في عقد الثمانينات، الذي كانت فيه الأوساط الثقافية والفكرية الإيرانية تعيش أجواء تثبيت دعائم الدولة الجديدة وركائزها الفقهية السياسية، وحرب الثمان سنوات المستعرة.

ولذلك؛ فقد انعكست المناخات السياسية والثقافية والفكرية الإيرانية التي كان كان يقودها التيار الإصلاحي والتيار الليبرالي، انعكست على شباب جيل التسعينات العراقي؛ فذاب كثير منهم في علي شريعتي وعبد الكريم سروش وغيرهما من الأسماء المعارضة للسائد الإسلامي الشيعي، وانفتحوا على أسماء فكرية عربية وغربية أكثر علمانية، من خلال الكتب التي لم يكونوا يألفونها في العراق، وباتوا متعاطفين مع الثقافة الليبرالية الجديدة أو منتمين إليها، إضافة إلى تماهيهم مع أفكار التيار الإصلاحي الإيراني الوطني. على العكس من جيل الثمانينات الذي ظل يتعاطف مع التيار الإيراني الأصولي الأممي، ولا ينسجم مع أفكار شريعتي وسروش، ومع سياسات التيار الإصلاحي والتيار الوطني الإيراني. وكان مُلاحظاً أن أغلب جيل التسعينات أتقن اللغة الفارسية بسرعة، وأفضل من جيل الثمانينات، الذي كان أغلبه منشغلاً بشدة في العمل المعارض ومنخرطاً في مؤسساته وأحزابه.

وكان دخول أجيال المثقفين العراقيين في إيران على خط الجدل والحوار والصراع بين التيارات الفكرية الإيرانية، يقوّي بنيتهم الفكرية بشدة، ويعزز قدراتهم على الغوص في عمق المناهج والأفكار الجديدة، ويدفعهم لمزيد المطالعة والبحث، سواء كان دخولاً عميقاً أو سطحياً، وفق المستوى الثقافي والفكري للمتجادلين. وهي فرصة لم يكن لها نظير، ولم يكن لتحدث لهذه الفئة من الأذكياء العراقيين لو كانوا يعيشون في بلد آخر غير إيران.

ولعل أهم النوافذ الفكرية والثقافية التي كان يطل عبرها الباحث العراقي في إيران ويطرح من خلالها أفكاره ورؤاه، هي المراكز الثقافية ومراكز الأبحاث العراقية، وهي محدودة في إمكانياتها وآفاقها، وكذلك المؤتمرات الفكرية الإيرانية وقناة سحر التلفزيونية والمجلات والصحف. ويمكن القول إن أهم دوريتين كانتا تمثلان نافذتين فكريتين بحثيتين مقروءتين يكتب فيهما الباحثون العراقيون، هما: مجلة التوحيد التي أسسها الشيخ محمد علي التسخيري، وترأس تحريرها علي المؤمن، ومجلة قضايا إسلامية معاصرة التي ترأس تحريرها عبد الجبار الرفاعي. وأعقبهما صدور مجلات بحثية عربية أخرى. أما باقي الدوريات العربية التي صدرت في إيران، وهي كثيرة؛ فكانت غالباً سياسية أو دينية، ولم تكن تعنى بالفكر المعاصر وقضايا التجديد، عدا عن بعض الدوريات البحثية.

وفضلاً عن تأثر المثقف والباحث العراقي في إيران بالمناخ الفكري الإيراني المتحرك، ودراسته في الجامعات والحوزات، ونشره المقالات والبحوث في المجلات العربية في إيران، وعلاقاته بالمفكرين وعلماء الدين والمثقفين الإيرانيين، سواء العلاقات المباشرة، أو من خلال مطالعة كتبهم وبحوثهم باللغة الفارسية أو المترجمة إلى العربية؛ فإن معرض طهران الدولي للكتاب، كان فرصة استثنائية؛ فتحت أبواباً جديدة للمثقف والباحث العراقي للتعرف على آخر الأفكار والمناهج؛ فقد كانت الكتب العربية أو المترجمة إلى العربية، خاصة المطبوعة في دمشق والقاهرة وبيروت، تُعرض بكل ألوانها الفكرية، دون رقابة حقيقية، من الكتب الدينية الأصولية، إلى التجديدية الملتزمة، إلى المنفلتة إلى المتمردة إلى العلمانية، وصولاً إلى الإلحادية. ومن خلالها تعرف المثقف والباحث العراقي على "كارل بوبر" و"جون هيغ" و"هوسلر" و"ميشيل فوكو" و"هابرماس" و"هايدغر" و"شتراوس" و"التوسير" و"البير كامو" وحسن حنفي وجورج طرابيشي ونصر حامد أبو زيد ومحمد عابد الجابري وبرهان غليون ومحمد أرگون وغيرهم من المفكرين والفلاسفة الغربيين والعرب.

وظهرت حينها موجة جديدة لدى المثقفين والباحثين العراقيين، وتحديداً جيلي الثمانينات والتسعينات، وهي الاطلاع على الفكر غير الإيراني، والمقارنة بينه وبين الفكر الإيراني، وهي موجة ساهمت في تكريس الحضور الفكري والعمق المعرفي للمثقف العراقي المقيم في إيران.

وبات كثيرٌ من جيل التسعينات يتآلف ويتحالف فكرياً وثقافياً مع هذه الأسماء الجديدة، بما يعزز تأثره وتماهيه بالتيار الليبرالي الإيراني، ولم يعد يعنيه غالباً المفكرون الذين كوّنوا الشخصية الثقافية العراقية لجيل الثمانينات، كالصدر والخميني ومطهري ومغنية والمودودي وسيد قطب ومحمد قطب ومالك بن نبي وفضل الله وشمس الدين ومصباح يزدي والآصفي والتسخيري والعسكري.

وللأمانة التاريخية؛ أقول بأن المثقفين والباحثين وعلماء الدين العائدين من إيران، والذين منحهم الوسط الثقافي داخل العراق توصيف (مفكر)، وهو توصيف عن جدارة واستحقاق أحياناً؛ لم يكونوا سيحظون به لو كانوا قد بقوا في إيران، أو غادروا إلى أوروبا؛ لأن منح توصيف (مفكر) أو (مجتهد) أو (باحث) أو (مثقف)؛ صعب جداً في إيران، حتى للإيرانيين أنفسهم؛ فكيف بالمثقف العراقي الذي يعاني من قلة فرص التعبير، تبعاً لحاجز اللغة. غير أن هؤلاء المثقفين العراقيين العائدين من إيران، تألقوا تألقاً كبيراً في داخل العراق. ووجدوا بيئة حاضنة دافئة، وفرصاً كبيرة للتعبير، من خلال الجامعات ومراكز البحوث ووسائل الإعلام والمنتديات الثقافية، فضلاً عن نشر مؤلفاتهم وتوزيعها بكثافة في المكتبات ومعارض الكتب داخل العراق وخارجه.

وقد ظل جزء من المتأثرين العراقيين بالفكر الإيراني المعاصر، أميناً للعلم ولقواعد منهجه وأفكاره، ولم ينسب هذه المناهج والأفكار لنفسه، ولم يزعم أنه وراء التأسيس والتقعيد والتأصيل والتجديد، في حين نسبها آخرون لأنفسهم، مستثمرين جهل القارئ العراقي والعربي باللغة الفارسية وعدم اطلاعه على النتاج الفكري الإيراني المعاصر، وبات كثير منهم مشهوراً في الوسط العلمي والثقافي العراقي والعربي. وسنتطرق في مقال قادم إلى أفكار ونتاجات ستة نماذج من المفكرين وعلماء الدين والباحثين المتأثرين بالفكر الإيراني في تلاوينه المختلفة، ومساحات التأثر، وهم: كمال الحيدري، عبد الجبار الرفاعي، علي المؤمن، ماجد الغرباوي، أحمد القبانجي وأحمد الكاتب.

***

د. علي المؤمن

.........................

ملاحظة: هذه المقال ومقالات أخرى قادمة، هي خلاصة مكثفة لفصول من كتابي القادم (موصولاً بين الدعوة والدولة)، وهو كتاب مشاهدات خلال (50) عاماً.

 

بقلم: سامانثا روز هيل

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

في عملها الأخير غير المكتمل، وجهت حنة أرندت نقدًا لاذعًا لفكرة أننا نبحث عن ذواتنا الحقيقية

عندما أفكر في يدي

– شيء غريب يتعلق بي –

أقف بلا وطن،

لست هنا ولا هناك

ولست على يقين من شيء.

هكذا تبدأ إحدى قصائد حنة أرندت، التي كتبتها في صيف عام 1924 بعد السنة الأولى من دراستها في جامعة ماربورغ في ألمانيا مع الفيلسوف مارتن هايدغر. تعكس القصيدة التي تحمل عنوان "ضائع في نفسي" الشعور بالاغتراب الذاتي. إنه ذلك الشعور بالغربة الذاتية عندما يكون المرء غير متأكد من أي شيء، ناهيك عن نفسه.

منذ سن مبكرة، كانت أرندت تصارع التوتر الذي شعرت به بين حقيقتها وكيف كان الآخرون يرونها. شابة، عبقرية، ومرئية بوضوح على أنها يهودية مقارنة بزملائها الألمان، شعرت بأنها مختلفة. ليس من الصعب تخيل أرندت الشابة، تعيش وحدها، ترفض حضور الدروس الصباحية، وتدرس هوميروس في فترة ما بعد الظهر للمتعة. علنًا، كانت نجمة، تستمتع بالاهتمام الذي كانت تتلقاه من زملائها وأساتذتها لجمالها وذكائها. ولكن في السر، كانت خجولة وتشعر بالراحة أكثر عندما تكون وحدها مع نفسها.

بعد وفاة والدها عندما كانت في السابعة من عمرها، قضت أرندت معظم طفولتها في مكتبته. بحلول الوقت الذي كانت فيه في الرابعة عشرة من عمرها، كانت قد قرأت الأعمال الفلسفية لإيمانويل كانط، وكتابات أستاذها المستقبلي كارل ياسبرز عن سيكولوجية الرؤى العالمية، وعلمت نفسها اللغة اليونانية واللاتينية. بحلول سن الثامنة عشرة، عندما كانت في الكلية، لم يكن الاختباء في المكتبة خيارًا. كانت تصارع بنشاط ما يعنيه أن تصبح شخصًا في العالم، مع وحدتها والشعور بأن هناك شيئًا أكثر بداخلها. ما معنى أن يحقق الإنسان شيئًا من نفسه، أن يصبح شخصًا بدلاً من لا شيء؟ "هل هو أكثر مما أنا؟ هل له معنى أعلى؟" تسأل عن يدها، اليد التي ستكتب بعضًا من أروع أعمال النظرية السياسية في القرن العشرين.

ما معنى اكتشاف الذات الحقيقية، الأصيلة؟ أن يتصرف الإنسان من مكان ينبع من الأصالة؟ هل هناك ذات أصدق داخل الذات يمكن الكشف عنها؟ عمّ نتحدث حقًا عندما نتحدث عن الأصالة؟

ظهرت الأصالة كمفهوم فلسفي في كتاب هايدجر "الكينونة والزمان" (1927)، الذي نُشر في أعقاب الحرب العظمى. حاول عمل هايدغر استعادة الكينونة من العادية اليومية للحياة التي يعيشها الناس في العالم مع الآخرين. بالنسبة له، فإن معظم وجودنا اليومي غير أصيل، لأن الوجود في العالم مع الآخرين يبعدنا عن الوجود مع ذاتنا الحقيقية، الذات التي لا تتأثر بالعالم.

بالنسبة لهايدغر، هناك فرق بين ما يُترجم على أنه "الكينونة" (بحرف كبير) و"الوجود" (بحرف صغير). لا يشير هذا التمييز إلى كينونة متسامية كما يفعل كتابة "الله" بحرف كبير، بل يشير إلى حقيقة أن الإنسان ليس مجرد كائن بين الكائنات دائمًا. أو، بعبارة أخرى، تعني الكينونة أن هناك نسخة أصدق من الذات، نسخة أكثر أصالة، يمكن تجربتها فقط عندما يخرج الإنسان من تدفق الحياة اليومية، ما أطلق عليه هايدغر "الحياة اليومية". وعندما نختبر هذه الكينونة، لا نختبر حياتنا المشتركة فقط، بل نختبر كل ما يعنيه أن نكون بشرًا - بما في ذلك موتنا المحتوم، ذلك الجزء من أنفسنا - عدم وجودنا - الذي يبقى عادة مخفيًا عن وعينا.

الذات الحقيقية هي الذات التي انفصلت عن القطيع؛ إنها الذات الموجودة للذات وحدها

الكلمة الألمانية للحياة اليومية هي Alltäglichkeit، والتي تعني "العادية"، "الرتابة" و"التفاهة". في كلمة Alltäglichkeit، تعطي كلمة der Alltag ("اليوميات") إحساسًا بالتكرار والروتين. إنها اسم مفرد ينقل إحساسًا بعدم القدرة على تمييز يوم عن الآخر - الاستيقاظ، الذهاب إلى العمل، العودة إلى المنزل، مشاهدة التلفاز، الذهاب إلى السرير. قد يعتبرها البعض الواقع المتكرر والممل الذي يعيش فيه الكثير منا يومًا بعد يوم. ولكن هذه الحياة اليومية هي جزء لا مفر منه من الحياة. الجميع يختبرها. وبالنسبة لهايدغر، هذا يعني أنه إذا قضينا معظم وقتنا في الحياة اليومية، حيث تتشكل روتيناتنا بشكل كبير بواسطة المجتمع الذي نعيش فيه، وعادات الأشخاص الذين نقضي الوقت معهم، والمؤسسات السياسية التي تحكم الحياة، فإننا بالضرورة ننسى جزءًا من أنفسنا. من السهل الانزلاق إلى طريقة روتينية في الحياة، ناسين أننا اخترنا أن نعيش بطريقة معينة على الإطلاق. وعلاوة على ذلك، بالنسبة لهايدغر، هذا يعني أنه لا يمكن للإنسان أن يفهم الطبيعة الكاملة للكينونة بفحص الحياة اليومية وحدها. لذلك، طور مفهوم الأصالة ضد هذه الحياة اليومية في محاولة لالتقاط صورة كاملة للذات.

إذًا، ما هي الأصالة؟

إذا كانت الذات غير الأصيلة هي الذات اليومية، الواحدة بين الكثيرين، فإن الذات الأصيلة هي الذات التي انفصلت عن القطيع؛ إنها الذات التي توجد للذات وحدها. الخروج من تدفق الحياة اليومية هو حدث استثنائي. الحكمة الشائعة تقول: "نحن ما نفعله" أو "نحن مجموع أفعالنا". كل اختيار يشكل المسار المستقبلي الذي نجد أنفسنا فيه، وأحيانًا نخطو خطوة إلى الوراء ونرى الصورة الكاملة لأنفسنا، كيف وصلنا إلى ما نحن عليه. ولكن بالنسبة لهايدغر، نحن أنفسنا بالكامل فقط في تلك اللحظات الاستثنائية، في تلك الفجوة في الكينونة عندما نكون قد تركنا الطريق المعتاد الذي قطعته الحياة اليومية تمامًا. الكلمة الألمانية التي يستخدمها هايدغر للأصالة هي Eigentlichkeit، والتي تُعرّف بأنها "حقًا" أو "بصدق". تعني Eigen "غريب"، و"خاص" أو "خاص بواحد". حرفيًا، يمكن ترجمتها على أنها امتلاك صفة أن تكون حقًا لنفسك. أو بعبارة عامية، قد نقول اليوم شيئًا مثل "أن تكون صادقًا مع نفسك". في تلك اللحظات الاستثنائية، عندما يختبر المرء الحقيقة لنفسه بالكامل، يكون بعيدًا عن القطيع، وحيدًا في كينونته. وبهذه الطريقة، فإن مفهوم هايدغر للأصالة هو مفهوم وحيد جدًا. إنه أن يسمح المرء لنفسه بأن يختبر للحظة الوحدة المخيفة للعدم - موته - وهو لا يزال على قيد الحياة.

ضد هذا المفهوم للأصالة الوحيدة لدى هايدجر، الذي أصبح الأساس للوجودية الألمانية، قدم ياسبرز فهمًا آخر لما يعنيه أن تكون مشروطًا بعالم الحياة اليومية. كان ياسبرز أستاذًا في جامعة هايدلبرغ الذي انتقل من علم النفس إلى الفلسفة عندما كان يقترب من الأربعين. كان كلاهما مهتمين بمعنى الكينونة، لكنهما اقتربا من السؤال الأساسي للوجود البشري بشكل مختلف تمامًا. أراد هايدغر أن يفهم كل ما يمكن معرفته عن الكينونة، بينما كان ياسبرز أكثر اهتمامًا بما لا يمكن معرفته. كما وضعت عالمة ياسبرز كارمن ليا ديدجي في مجلة Psyche في عام 2020: "ياسبرز هو أحد المفكرين الوجوديين القلائل الذين لم يسعوا إلى السيطرة، أو ترويض، أو قهر الحالة غير المعروفة والمحدودة للحياة البشرية".

قدم كتاب ياسبرز "الفلسفة" (1932)، الذي نُشر على أعتاب الحرب العالمية الثانية، فلسفته الوجودية. بينما لم يعتبرها "وجودية"، كانت مهتمة بسؤال ما يعنيه أن تعيش بشكل أصيل. سعى هايدغر إلى الأصالة في الوحدة، بعيدًا عن التأثير الفاسد للآخرين، لكن بالنسبة لياسبرز لا يمكننا أن نوجد في العالم إلا مع الآخرين، مما يعني أن أي مفهوم للحرية يجب أن يكون مشروطًا بمبدأ الوجود مع الآخرين في العالم. نظرًا لأن لا أحد يوجد بمفرده أبدًا، يجب أن تُفهم ذاتنا الأصيلة دائمًا وفقط في علاقة مع الآخرين والعالم الذي نعيش فيه. كان جدال ياسبرز ذا أهمية خاصة بالنظر إلى السياق السياسي في ذلك اليوم، الذي دعا البشر إلى مواجهة الواقع السياسي المرعب الذي واجهوه. الواقع الذي أصبح فيه "لا تقتل" "اقتل". كان الشخص يترك مع بوصلته الداخلية ليقرر كيف يتصرف عندما تكون الأمور صعبة.

تحولت أرندت إلى مفهوم الإرادة من أجل التفكير في كيفية اتخاذ قرار التصرف في العالم

في خضم الحرب العالمية الثانية، انبثقت الوجودية الفرنسية من الوجودية الألمانية. إذا كانت الأصالة بالنسبة لهايدجر مسألة وجود، ومسألة حرية عند ياسبرز، فإنها أصبحت بالنسبة لجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وألبير كامو مسألة أخلاقيات فردية. تحول السؤال الأساسي من "ما معنى الوجود؟" إلى "كيف يجب أن أكون؟" إن العقيدة التي يقوم عليها عمل سارتر - "الوجود يسبق الجوهر" - تعني أننا قد أُلقينا في العالم دون أي مادة ثابتة، وهذا يعني أنه علينا أن نختار من نصبح. وبينما حاول فلاسفة مثل توماس هوبز وجان جاك روسو تصوير الطبيعة البشرية من خلال تخيل كيف كانت الحياة قبل المجتمع، بالنسبة لسارتر، لا توجد طبيعة بشرية. يجب علينا دائمًا أن نتخيل ونعيد تصور هويتنا، وهذا يعني أننا دائمًا في طور التحول. بالنسبة لبوفوار، كانت الصيرورة مشروعًا إبداعيًا وعملًا فنيًا. وقالت إنه لا يكفي أن يشكل المرء نفسه في ظل الظروف الحالية للعالم، بل يجب على المرء أيضًا أن يشكل ظروف العالم نفسه. لم تكن الأصالة بالنسبة للوجوديين الفرنسيين تتعلق بالكشف عن الذات الحقيقية الموجودة مسبقًا، بل بالأحرى اختيار الانخراط في عملية الصيرورة.

عالقة بين الوجودية الألمانية والفرنسية، وقدمت نقدًا لمفهوم الأصالة في عملها الأخير غير المكتمل، "حياة العقل". بدلاً من الأصالة، لجأت أرندت إلى مفهوم الإرادة للتفكير في كيفية اتخاذ الإنسان قراراته في العالم. كطالبة لهايدغر وياسبرز، وزميلة لسارتر وكامو وبوفوار من عام 1933 إلى 1941 خلال سنوات نفيها في باريس، رفضت أرندت فكرة أن هناك ذاتًا حقيقية داخل الذات. لم تكن مفكرة متسامية. بالنسبة لها، لم يكن هناك إله بحرف كبير G، ولم تكن هناك كينونة بحرف كبير B. بدلاً من الذات الداخلية الأصيلة، جادلت بأن العضو الداخلي لاتخاذ القرارات الذي يوجه أفعال الإنسان هو الإرادة.

اتباعًا لأعمال القديس أوغسطين وياسبرز، قلبت أرندت هايدجر على رأسه وجادلت بأن كل التفكير ينطلق من التجربة في العالم، وليس من الكينونة. من خلال الجدال بأن التفكير هو وظيفة الكينونة، حاول هايدغر فصل التفكير عن الإرادة ليجادل بأن الكينونة الداخلية الحقيقية هي التي تحدد في النهاية من يصبح الإنسان في العالم. ولكن بالنسبة لأرندت، كان هذا تخليًا عن المسؤولية الشخصية والاختيار. كان ذلك وسيلة لتسليم سلطة اتخاذ القرار. وبالنسبة لها، فإن القرارات التي نتخذها في الوقت الحقيقي عند مواجهة المواقف هي التي تحدد من سنصبح، وتحدد بدورها نوع العالم الذي سنساعد في تشكيله.

إذًا، ما هي الإرادة؟ وهل هي بديل مقنع للأصالة؟

على عكس "الأصالة"، فإن "الإرادة" ليست كلمة مرغوبة جدًا. أولاً، هي ليست شيئًا يمكن للإنسان امتلاكه، إنها فعل، شيء يجب أن يقوم به. وعلى عكس الأصالة، لا يوجد إحساس بالراحة في "الإرادة". تعد الأصالة باليقين، بينما تعد الإرادة بعدم اليقين. وفي أوقات الاضطراب، من البشري جدًا تفضيل ما يعد بالتوقعات على المجهول. في اللغة العامية، عادةً ما تظهر الإرادة حول ليلة رأس السنة عندما يبدأ الناس بالحديث عن القرارات وكيف يرغبون في تغيير حياتهم. تصبح الإرادة مسألة "قوة الإرادة". أو أسوأ، يمكن أن تذكرنا الإرادة بتلك الأوقات الصعبة عندما يسألنا أحدهم "هل أنت مستعد للتعاون؟" "هل أنت مستعد للمحاولة؟" "هل أنت مستعد لفعل ما يلزم لإنجاز المهمة؟" ولكن بالنسبة لأرندت، كانت الإرادة وسيلة حريتنا، كانت الوعد بأنه يمكننا دائمًا أن نكون غير ما نحن عليه، وبالتالي أن نكون في العالم. الإرادة هي مساحة من التوتر داخل الذات حيث يشعر الإنسان بنشاط الفرق بين مكانه الحالي والمكان الذي يرغب في أن يكون فيه.

الإرادة هي التدخل الوحيد الذي نملكه ضد التكيف مع الوجود الدنيوي.

الإرادة هي النشاط العقلي الذي يحدث بين التفكير والحكم. لديها القدرة على تشكيلنا عن طريق جذبنا إلى صراع مع أنفسنا. بدون الصراع الداخلي، لا يوجد تقدم للأمام. هذه هي المبادئ الأساسية للإرادة:

1. تتميز الإرادة بحالة داخلية من عدم الانسجام.

2. تُختبر الإرادة كإحساس ملموس بالتوتر داخل الجسم حيث يكون العقل في حرب مع نفسه.

3. تجعل الإرادة الإنسان مدركًا للقرارات الممكنة، مما يخلق شعورًا بالانجذاب في اتجاهات متعددة في نفس الوقت.

4. يمكن أن تكون الإرادة شعورًا وحيدًا جدًا. تتشكل القرارات والاختيارات بواسطة البيئة اليومية، ولكن في النهاية تكون المسؤولية عن اتخاذ القرار على عاتق الشخص نفسه.

5. تجعل الإرادة الإنسان مدركًا للتوتر الموجود بين نفسه كجزء من العالم، ونفسه كفرد وحيد موجود في علاقة مع العالم.

6. الإرادة هي مبدأ التفرد البشري.

7. ترتبط الإرادة بالعالم من خلال الفعل.

8. الإرادة هي العضو الداخلي للحرية.

يتخذ الجميع مئات القرارات يوميًا، ولكن في معظم الأحيان لا يكونون على دراية بالقرارات التي يتخذونها. وقراراتهم لا تخضع للإرادة. وبدلاً من ذلك، فهم ببساطة يتبعون روتينًا من الأنماط التي تشكلت مع مرور الوقت. من أجل إشراك الإرادة، يجب على الشخص أن يكون مستعدًا للتوقف. لأن، بينما يتحرك التفكير من التجربة الماضية، والخيال يركز على ما قد يحدث في المستقبل، فإن الماضي والمستقبل هما خارج نطاق الإرادة. الإرادة هي ما يحدث قبل أن يتصرف الإنسان. أن تكون في حالة الإرادة يعني أن تكون في اللحظة الحالية.

إن الأصالة جذابةإلى حد ما لأنها تعد بشعور من الانسجام، فهي الوعد بأنه إذا عرفنا من نحن، يمكننا أن نتصرف بطريقة تتماشى فيها أفعالنا مع قيمنا. ولكن الإرادة تتميز بشعور من الصراع. إنها العضو الداخلي الذي يولد التوتر داخل النفس، مما يجعل الشخص مدركًا للتناقضات بين من هو ومن يرغب في أن يكون، أو ما يريد وما يمكنه الحصول عليه. لكن هذا التوتر هو أمر حيوي لجلب الوعي إلى عملية اتخاذ القرار.

بالنسبة لأرندت، نحن لسنا وحدنا أبدًا، حتى عندما نكون وحدنا مع أنفسنا

استعارت أرندت فكرة أن الشعور الداخلي بالصراع هو الإرادة نفسها من أعمال القديس أوغسطين في "الاعترافات"، التي حاولت فهم سبب اختيار الناس للخطية. جادل أوغسطين بأن الاختيار كان في النهاية مسألة عادات ورفقة. نحن نقلد سلوكيات أولئك الذين نقضي وقتًا معهم، وتصبح تلك السلوكيات عادات. الإرادة هي التدخل الوحيد الذي نملكه ضد التكيف مع الوجود الدنيوي. لكن هذا يعني أنه في كل مرة نختار فيها التصرف بطريقة ما، نختار عدم التصرف بطريقة أخرى. كل "سأفعل" هي أيضًا "لن أفعل". وبسبب هذا، بالنسبة لأرندت، فإن الإرادة هي الهيئة الداخلية للاستقلالية والحرية، وليست الأصالة. الأصالة، على الأقل بالمعنى الذي استخدمه هايدغر، ستكون قريبة جدًا من نوع ما من الحالة الإنسانية قبل أن يمنح الله الإنسان الإرادة الحرة.

الإرادة هي هبة الاختيار مما يعني أننا أحرار في اتخاذ القرار.

لا يوجد ذات حقيقية داخل الذات. هناك فقط صراع الإرادة وكيف نقرر حله. من الطبيعي أن نسعى للأمان في زمن المجهول. من الطبيعي أن نأمل في شعور بالتوجيه في زمن عدم اليقين. الحفاظ على هذا الاحتكاك الداخلي للإرادة هو الوسيلة للحرية، مهما بدا غير مريح ومحبِط في بعض الأحيان. مهما أردنا أن يقرر شخص آخر لنا، حتى بين الحين والآخر. لأن ما رأت أرندت في مفهوم هايدغر الوحيد للأصالة كان فهمًا للكينونة ينكر العالم. بالنسبة له، يمكن تجربة حرية الأصالة فقط بمفرده، بعيدًا عن عالم الوجود مع الآخرين، في حين أننا بالنسبة لأرندت لسنا وحدنا أبدًا، حتى عندما نكون وحدنا بأنفسنا.

في الصيف التالي، عادت أرندت إلى منزلها في كونيجسبيرج حيث رسمت صورة ذاتية شبابية بعنوان "الظلال". قامت بعمل نسختين وأرسلت واحدة بالبريد إلى هايدجر. هكذا وصفت نفسها:

كان استقلالها وخصوصياتها يعتمدان في الواقع على شغف حقيقي تصورته لأي شيء غريب. وهكذا، اعتادت على رؤية شيء جدير بالملاحظة حتى فيما يبدو أكثر طبيعية وابتذالًا؛ في الواقع، عندما صدمتها بساطة الحياة وعاديتها حتى النخاع، لم يخطر ببالها، عند التفكير، أو حتى عاطفيًا، أن أي شيء عاشته يمكن أن يكون تافهًا، وهو شيء لا قيمة له يعتبره بقية العالم أمرًا مفروغًا منه، وأن ذلك لم يعد يستحق التعليق.

رد هايدجر بإخبارها أن ظلالها هي أساس روحها.  يكتب لها:

إن اعترافك المذهل لن يقوض إيماني بالدوافع الحقيقية والغنية لوجودك. على العكس من ذلك ، بالنسبة لي هو دليل على أنك قد انتقلت إلى العلن - على الرغم من أن الطريق للخروج من هذه التشوهات الوجودية، التي ليست لك حقًا، سيكون طويلاً.

وبعد بضعة أشهر، ذهبت أرندت للدراسة مع ياسبرز في جامعة هايدلبرغ. قامت بقص شعرها وبدأت بالتدخين ووجدت مجموعة من الأصدقاء. وجدت السكون في عزلتها، والشعور بالانتماء الذاتي في هايدلبرغ، حيث تعلمت أن تصاحب نفسها في لحظات الهدوء. لقد كانت دائمًا مختلفة، ولكن بدلاً من تجربة اختلافها كشيء عزلها عن الآخرين، أصبح ذلك الأساس لكيفية حبها لعالم التواجد مع الآخرين. أدركت أن حب العالم كان اختيارًا وفعلًا إراديًا، وجمال الوجود هو أن المرء دائمًا ما يتمرجح في رقصة المعرفة والجهل.

***

.........................

المؤلفة: سامانثا روز هيل/Samantha Rose Hill: مؤلفة كتاب حنة أرندت (2021)، ومحررة ومترجمة كتاب ما تبقى: القصائد المجمعة لحنا أرندت (سيصدر قريبًا، 2024). وهي عضو هيئة تدريس مشارك في معهد بروكلين للبحوث الاجتماعية في مدينة نيويورك. ظهرت أعمالها في مجلة Los Angeles Review of Books، وLitHub، وOpenDemocracy، والمجلات Public Seminar، وContemporary Policy Theory، وTheory & Event.

 

كان أبو الفتح عثمان ابن جنّي، صاحب «الخصائص»، يعتقد أنّ اللغة، بأصولها وأصواتها التي تمثلها الأبجديّة، إنما تقدّم احتمالات لا نهاية لها من الألفاظ التي ترمز إلى معاني، وأن تقلبات اللفظ الواحد تؤدي إلى معان مُتقاربة اعتماداَ على ما كان قرَّره من وجود علاقة بين اللفظ ومدلوله؛ الأمر الذى يتأكد معه أن الألفاظ تقدّم صوراً ضئيلة جداً من المعاني، وأن المعاني على كثرتها تقدِّم صوراً ضئيلة جداً للحقائق، والحقائق، كما تقدَّم، في عظمتها وجبرتها لا تدرك كل الإدراك، ولا يُحاط بها كل الإحاطة وليس يشمُّ منها أحد رائحة سوى بمقدار ما تتجلى به عليه.

وأبلغ منه وأوضح وأقدر دلالة ما يقوله «عبدالقاهر» في «دلائل الإعجاز» من أن الألفاظ لا تُعطى ما ورائها من الحقائق ولا تتجاوز مستواها، فكأنما هي محدودة بحدودها : (إنّما الألفاظ أدلة على المعاني، وليس للدليل إلا أن يُعلمك الشيء على ما يكون عليه. أمّا أن يصير الشيء بالدليل على صفة لم يكن عليها؛ فما لا يقوم في عقل ولا يتصوَّر في وهم).

ويُلاحظ في البيان النبوي خاصّة استواء الألفاظ مع المعاني مع الحقائق استواءً يتحوّل معه التعبير اللفظي إلى حقيقة ماثلة كأنك تراها وتسمعها بالحس المباشر والتجربة المشهودة.

هنالك تتحوّل الكلمات إلى حياة، وتُعاش الحياة في ظلال من المعاني المتصلة بالحقائق، فلا يتصور في الخطاب النبوي خاصّة وجود هوة وسيعة بين الحقيقة والمعنى، ولا بين اللفظ والمباشرة العمليّة.

تأمل وصيته عليه السلام من حيث قال : أكنز هذه الكلمات (اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد. وأسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك. وأسألك شكر نعمتك، وحُسن عبادتك. وأسألك قلباً سليماً، ولساناً صادقاً. وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، واستغفرك لما تعلم؛ إنك أنت علام الغيوب).

ألفاظ في كلمات غير أنها متصلة من طريق التجربة العمليّة بالحقائق من فورها، تباشرها التجربة؛ لتتحول خلاها الكلمة إلى حياة قائمة بالفعل، بل هى ألفاظ حقيقة لا تغايرها الحقيقة بل تباشرها وتمسُّها من قريب.

وممّا جاء من خطبه، صلوات الله وسلامه عليه، فيما رواه ابن جرير وابن كثير من خطب المدينة تركيزها على التقوى والتحذير من ضدها : (اتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية، فإنّه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً، ومن يتق الله فقد فاز فوزاً عظيماً، وإن تقوى الله توقي مقته وتوقي سخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه، وترضي الرب، وترفع الدرجة، خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله.

قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا، وليعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وسمّاكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيى من حي عن بينة، ولا قوة إلا بالله، فأكثروا من ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله يكفيه ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).

وكانت أول خطبة خطبها النبي، صلى الله عليه وسلم، في المدينة المنورة، جاء فيها التحذير من غضب الله والتشديد على تجنب عقابه، (فمن استطاع أن يقي وجهه من النار، ولو بشق تمرة، فليفعل، ومن لم يجد فكلمة طيبة، فإنّ بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف).

ولم يعرف العرب خطاباً أقدر على البلاغة وجمال العبارة فى إيجاز لا يخل كما جاء في الخطاب النبوى : ويظهر ذلك في الكتب والرسائل التى كانت تصدر عن النبي، عليه السلام، كما يظهر فيما جدّ من تعبيرات وأساليب جديدة كقوله عليه السلام: » الآن حمى الوطيس»، «مات حتف أنفه»، «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين»، «إياكم وخضراء الدّمن»؛ إلى غير ذلك ممّا رواه الثقات أنه لم يسمع من أحد قبله عليه السلام؛ الأمر الذى لا يشك أحد في أنه صلوات الله عليه، بلغ الغاية فى الفصاحة؛ لأنه نبت من قريش وهم أفصح العرب، واسترضع في بنى سعد وهم من الفصاحة بمكان؛ إلا أن ذلك لا يمنع من أن يُظاهر القرآن الوراثة والبيئة.

وليس من شك في أن للقرآن الأثر الأكبر في فصاحته عليه السلام؛ فلولاه لكانت فصاحته فى حدود بيئته، فلا نسمع منه مثل هذه المعاني الإسلامية في تلك الأساليب القرآنية ممّا لم يكن يعرفه العرب، ولم يكن يختبروه.

وعليه؛ فالخطاب النبوي خطاب حقائق، دائم الصحة وصادقها، وهو حق في حق من حق، وليس هو بخطاب لغة يتقرّر فيها الخطأ والصواب، والحق والباطل سواء، لأن اتصاله بالحقيقة يعجز اللغة ويمنعها عن الانحراف.

(وللحديث بقيّة)

***

مجدي إبراهيم

 

يعتبر القاضي والباحث محمد سعيد العشماوي واحدا من أهم رجال المؤسسة الثقافية والقضائية الحكومية المصرية، وخصوصا في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك. تولى العشماوي مناصب عديدة منها رئيس محكمة استئناف القاهرة، ورئيس محكمة الجنايات، ورئيس محكمة أمن الدولة العليا. وهو إلى ذلك مبتكر مصطلح "الإسلام السياسي"، وقد صك هذا المصطلح لأول مرة في كتاب له بهذا العنوان صدرت طبعته الأولى في تشرين الأول سنة 1986. وهو مصطلح ملتبس وليس له نظير في اللغات الأجنبية كما بينا في مناسبة سابقة (1) وقد وصفت مواقف العشماوي الإسلامية بأنها "مستنيرة ومنفتحة على العصر" ولكنها أغاظت الإسلاميين المستقلين والمنتظمين في "حركة الإخوان المسلمين" معا، فناهضوه وناصبوه العداء. ولكنني أعتبره من أبرز علمانيي النظام الحاكم وليس صاحب موقف فكري تنويري مستقل ومعارض. وللعشماوي في ما يخص موضوع مقالتنا كتاب آخر بعنوان "حقيقة الحجاب وحجية الحديث" وهو ما سنتوقف عنده في هذه القراءة النقدية.

في هذا الكتاب "حقيقة الحجاب وحجية الحديث" نشر المؤلف محمد سعيد العشماوي إلى جانب آراءه ردود المؤسسة الأزهرية بقلم مفتى الجمهورية المصرية الشيخ محمد سيد طنطاوي على موقفه من الحجاب الديني للنساء إلى جانب ردوده على تلك الردود. فمن هو الشيخ محمد سيد طنطاوي؟ إنه واحد من علماء الدين الذين برزوا في العصر الحديث وبلغ منصبي مفتى الديار المصرية ورئيس مشيخة الأزهر الشريف عرف بتبني أهم المواقف التي تتبنى فكر النظام الحاكم وسياساته.

ومثلما اعتبرتُ العشماوي ذراع الحكم القضائي وأبرز العلمانيين الحكوميين فإن الشيخ طنطاوي يمثل من وجهة نظري الذراع الفقهي الديني للحكم وأبرز سلفيي الحكم القائم ومهندس سياسات النظام في مجال الشؤون الدينية. وسوف نأتي بعدد من المثلة الموثقة على مواقفه وتصريحاته تؤكد ذلك لاحقا.

في هذه المراجعة والقراءة النقدية لآراء الاثنين سأحاول أن أقدم خلاصات مركز مهمة لتوضيح موقفيهما. وإذا كان عشماوي يرفض الحجاب مصطلحا ومضمونا ويدعو إلى عدم الأخذ به، وإذا كان موقف الشيخ الطنطاوي على نقيضه تماما يرى في الحجاب فرضا دينيا واجبا، فإن موقفي الشخصي الذي عبرت عنه في أكثر من مناسبة ينأى عن كلا هذين الموقفين - العلماني الحكومي والسلفي الحكومي -  ويعتبر أن موضوع حجاب المرأة أو سفورها يدخل في صميم خصوصيات المرأة وإنه مسألة شخصية تهم المرأة نفسها ولا علاقة لها بالرجل من قريب أو بعيد. وسواء فرض الرجل على المرأة الحجاب الديني أو السفور أو التعري على المرأة فهو يمارس ضدها قسرا ذكوريا وقمعا صريحا يسلب منها حريتها الشخصية ويهين عقلها ويتدخل بفظاظة في خصوصياتها كأنثى، وعليه فإن قرار التحجب أو السفور هو قرار خاص بكل امرأة من دون أي تدخل أو قمع مباشر أو غير مباشر من قبل الرجل وينبغي حماية حق المرأة هذا وحريتها الشخصية قانونيا ودستوريا.

هدفي من هذه الخلاصات من كتابات العشماوي والطنطاوي هو إطلاع الشباب المهتمين بهذا الموضوع على وجهات نظر الطرفين وعلى الحجج والأدلة الموثقة التي يسردانها ليكونوا على إطلاع تام عليها ومباشر عليها في أصولها:

1- يرى العشماوي أن "الحجاب" لغةً واصطلاحاً، ليس المقصود به لباس المرأة، بل هو ساتر أمر القرآن بوضعه بين نساء النبي والمؤمنين من الرجال. والأمر القرآني ورد في الآية 52 من سورة الأحزاب ونصها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا –الأحزاب 52}.

2- يذكر الكاتب سبب نزول هذه الآية وهو أن النبي عند زواجه بزينب بنت جحش - التي كانت زوجة لمتبناه السابق زيد بن حارثة وتنازل له زيد عنها - أولمَ لمجموعة من الصحابة في بيته وليمة. فلما طُعِموا ظلوا جالسين يتحدثون ووجه العروس إلى الحائط، فثقلوا على النبي فنزلت تلك الآية التي تحتوي على الأحكام الثلاثة الواردة فيها، وهي: تصرفات المؤمنين في بيت النبي كيف يجب أن تكون، ووضع حجاب أي ستار بين زوجات النبي والمؤمنين، ومنع زواج المؤمنين من زوجات النبي بعده. ويخلص العشماوي إلى أن الحجاب المقصود هنا هو "الساتر" الذي يجب وضعه بين نساء النبي وضيوفه من المؤمنين. وأن المسلمين صاروا يميزون بين زوجاته من أمهات المؤمنين المحجوبات وبين ما ملكت يمينه. وتأكد ذلك بعد زواجه من صفية بنت حُيي، فقالوا "إنْ حَجَبَها فهي من أمهات المؤمنين أي زوجاته وإنْ لم يحجبها فهي من جواريه".

3- آية الخمار: سورة التوبة – الآية 31 {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ...}. ويذكر سبب نزولها وعلة الحكم فيها هو تعديل عرف كان قائما عند نزول الآية وهو أن النساء كن يغطين رؤوسهن بالأخمرة – جمع خمار – ويسدلنها وراء ظهورهن فأمر الآية المؤمنات بلي أي إسدال الخمر على الجيوب أي على أعلى جلبابها لستر صدرها ولم يكن الهدف وضع زي بعينه.

4-آية الجلاليب: سورة الأحزاب آية 59 {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}. وذكر سبب نزولها المنصوص عليه في التفاسير ويتعلق بالنهي عن التبذل وكشف وجوههن حين يخرجن للتبرز وقضاء الحاجة قبل اتخاذ الكُنف "المراحيض" على عادة الجواري. والآية هنا تنهى عن هذا التبذل وتأمر النساء الحرائر بإدناء الجلاليب على الوجوه حين يخرجن الى الخلاء للتبرز حتى لا تتعرضن للإيذاء من قبل الفجار والعابثين وللتمييز بين الحرائر والجواري. ويعزز العشماوي فهمه هذا بما روي عن معاقبة عمر بن الخطاب للجواري اللائي كن يتقنعن أو يدنين عليهن جلاليبهن تشبها بالحرائر. في الجزء الثاني من المقالة نستكمل وجهة نظر العشماوي في الحديث النبوي الخاص بالحجاب وكيف رد شيخ الأزهر ومفتي الجمهورية الشيخ محمد طنطاوي على العشماوي؟

5- يخلُص العشماوي إلى الآتي: "الآيات أعلاه لا تفيد وجود حكم قطعي بارتداء المؤمنات المسلمات زيا معينا على الإطلاق وفي كل العصور. ولو أن آية من الآيات الثلاث الآنفات أفادت هذا المعنى على سبيل القطع واليقين لما تكرر النص على الحكم نفسه في آية أخرى.

6- بخصوص الحديث النبوي الذي روته أم المؤمنين عائشة بصيغة (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت – بلغت الحيض – أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى هنا" وقبض على نصف الذراع. والرواية الثانية للحديث مختلفة وتقول "يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح ان يرى منها إلا هذا"، وأشار إلى وجهه وكفيه. فهاتان الروايتان للحديث النبوي، كما يوثق العشماوي، هما روايتان لحديث آحاد وليس من الأحاديث المتواترة التي عليها إجماع أي إنه حديث للاسترشاد والاستئناس ولكنه لا ينشئ حكما شرعيا أو يلغيه. ورغم أن الروايتين مرويتين عن أم المؤمنين عائشة ولكنهما متناقضان؛ ففي الحديث الأول يجوز للمؤمنة أن تظهر نصف ذراعيها مع كفيها ووجهها وفي الثاني يحق لها ان تظهر كفيها فقط من دون ذراعيها ووجهها، فكيف ذلك؟

7- يرى العشماوي أن أسلوب القرآن ونهج الإسلام هو عدم الإكراه في الدين، وإذا كان الأصل هو عدم الإكراه في الدين فمن باب أولى أن يكون لا اكراه في تطبيق أي حكم من أحكامه. وحتى في أحكام الحدود (العقوبات) وإنما يكون التنفيذ دائما بالقدوة الحسنة والنصيحة اللطيفة والتواصي المحمود. ص 19.

8- خلاصات: يخلص المؤلف إلى الخلاصات التالية:

* الحجاب في القرآن يعني وضع ساتر بين زوجات النبي – وحدهن – وبين المؤمنين، وليس ارتداء زي معين.

* الخمار كان عرفا تضع النساء بمقتضاه مقانع وأغطية على رؤوسهن ويرسلنها وراء ظهورهن فتظهر صدورهن فأمر القرآن بتعديل هذا العرف بحيث تضرب النساء بخمرهن على جيوبهن ليخفين صدورهن العارية ويتميزن عن غير المؤمنات.

* إدناء الجلاليب كان القصد منه تمييز بين المؤمنات الحرائر والجواري وبما أن الجواري انتفين في عصرنا فقد انتفت الحاجة إلى هذا الحكم بالتعديل العرف السابق.

* حديث النبي عن الحجاب هو حديث آحاد (لم تتوافر فيه شروط المتواتر، ويسمى خبر آحادٍ ومنه الصحيح، ومنه الحَسِن، ومنه الضعيف، ومنه المنكر، ومنه الشاذ، ومنه الموضوع). وهو أدنى إلى أن يكون أمرا وقتياً يتعلق بظروف العصر بتمييز المؤمنات عن غيرهن، أما الحكم الدائم فهو الاحتشام وعدم التبرج. ص 20.

* الحجاب –بالمفهوم الدارج حالا – شعار سياسي وليس فرضاً دينياً ورد على سبيل القطع والجزم واليقين والدوام في القرآن أو في السنة النبوية. فرضته جماعات الإسلام السياسي ثم تمسكت به كشعار لها وأفرغت عليه صبغة دينية.

* ننتقل الآن إلى ردود شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية الشيخ محمد طنطاوي على المستشار محمد سعيد العشماوي. وقبل ذلك ولكي نوثق قولنا إن الشيخ طنطاوي يمثل الجناح الديني السلفي لنظام الحكم في مصر بأمثلة ثابتة ندرج أدناه بعض مواقف الشيخ التي نشرت في الصحافة في وقتها والتي تؤكد مضمون قولنا هذا:

* أثار شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي ضجة كبيرة في الشارع المصري حين صافح الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز الذي يلقبه العرب بجزار قانا أثناء فعاليات مؤتمر «حوار الأديان» في 12 نوفمبر 2008.

* في شهر شباط -فبراير 2003، وقبل احتلال القوات الأمريكية للعراق أقال طنطاوي الشيخ علي أبو الحسن رئيس لجنة الفتوى بالأزهر من منصبه بسبب فتوى أكد فيها «وجوب قتال القوات الأمريكية إذا دخلت العراق". وموقف طنطاوي هنا مستل من صميم موقف النظام المصري المؤيد لتلك الحرب التدميرية للعراق.

* في نهاية أغسطس 2003 أصدر طنطاوي قراراً بإيقاف الشيخ نبوي محمد العش رئيس لجنة الفتوى وإحالته للتحقيق؛ لأنه أفتى بعدم شرعية مجلس الحكم الانتقالي العراقي الذي شكله الاحتلال الأميركي وحرَّم التعامل معه، وقال شيخ الأزهر أن الفتوى التي صدرت (ممهورة بشعار خاتم الجمهورية المصري وشعار الأزهر) «لا تعبر عن الأزهر الذي لا يتدخل في السياسة وسياسات الدول".

* في 30 ديسمبر عام 2003 استقبل طنطاوي وزير الداخلية الفرنسي آنذاك نيكولا ساركوزي في الأزهر وصرح طنطاوي أنه من حق المسؤولين الفرنسيين إصدار قانون يحظر ارتداء الحجاب في مدارسهم ومؤسساتهم الحكومية.

* في 8 أكتوبر 2007 أصدر طنطاوي فتوى تدعو إلى «جلد صحفيين» نشروا أخبارا فحواها أن الرئيس حسني مبارك مريض، وقد أثارت هذه الفتوى غضباً شديداً لدى الصحفيين والرأي العام.

* في 5 يوليو 2009 ظهرت مطالب برلمانية جديدة تدعو لعزله على خلفية جلوسه مرة أخرى مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز على منصة واحدة في مؤتمر حوار الأديان الذي عقد في الأول والثاني من يوليو 2009 في كازخستان.

ننتقل الآن إلى رد الشيخ طنطاوي على آراء المستشار العشماوي والذي نشر في مجلة روزاليوسف عدد 3446 في 27 حزيران – يونيو 1994:

1- يستعيد الشيخُ كلامَ المستشار بدقة ومن دون اختصار في الفقرة الأولى من رده. وفي الفقرة الثانية يكتب " والذي أراه أن تخصيص الحجاب بزوجات النبي كما يرى سيادته ليس صحيحا لأن حكم نساء المؤمنين - نلاحظ هنا أن الشيخ لا يقول المؤمنات بل نساء المؤمنين ولهذا دلالته - في ذلك كحكم زوجات النبي (ص) لأن المسألة تتعلق بحكم شرعي يدعو إلى مكارم الأخلاق وما كان كذلك لا مجال معه للتخصيص. ولذلك قال بعض العلماء: قوله تعالى "ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن" قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم. ص 26. ولم يتوقف الشيخ عند التفريق الذي قام به المستشار بين الحجاب بالمعنى القرآني أي الستار والمعنى المعاصر أي زي المرأة ولبسها. يتبع في الجزء القادم وفيه نستكمل ردود الشيخ طنطاوي.

***

علاء اللامي

......................

هوامش:

1-«الإسلام السياسي» مصطلح ملتبس لغةً ومريب مضموناً –علاء اللامي

https://al-akhbar.com/Opinion/291935

 

قيل: إن الشاعر والفيلسوف لا يتفقان، فالفيلسوف يزعم أن الشاعر يحبب إلى الناس الخلاعة ويغريهم بها؛ والشاعر يظن أن الفيلسوف يبعدهم من الإدراك الأسمى لحقائق الحياة، وقيل: إن هذا الخلاف بينهما قديم جدًّا، أقدم من أفلاطون وهوميروس، فلا الفيلسوف يحترم الشاعر منذ ذاك الزمن حتى اليوم، ولا الشاعر يحترم الفيلسوف، منذ أفلاطون وطرده الشعراء من مدينته الفاضلة ظلت العلاقة مضطربة بين الفيلسوف والشعر، علاقة لم تعد إلى التواصل إلا مع نيتشه الذي أعاد الربط بين الفلسفة والشعر بشكل جمالي. لكن الخلافات مازالت كثيرة بين العالمين رغم تقاطعاتهما، وإمكانية إرساء أرض وسط بينهما، لكل نمط من الكتابة قواعده التي يسعى العقل لفرضها أو التسليم بالشائع منها، لكن أكثر الكتابات انفلاتا من عقال العقل هي الشعر. غير أن الشاعر لا يكسر كل القواعد، فهو يكتب بلغة لها نحوها وأصواتها وعوالمها، وقد يجند نفسه دفاعا عن واقع بديل لآخر مرفوض، فينشد عدلا برفضه لما يبدو له ظلما، وقد يتخيل ما ليس موجودا فيشيده بناء على نموذج خاص، ابتدعه واشترط له شروطا، امتثل لها بطريقته، أو حتى تمرد عليها فناقضها أو أخفى ما ينازعها وجودها، الشاعر لا ينشد كمالا للغة، بل خلقا لها، لتكون ما ليس هي، أو ما لا يشبهها، فتهب المعاني صورا مختلفة، ولذلك تتحول اللغات بانقلابات الشعراء على مساراتهم، فيمسكون بالمنفلت ليعيدوا تشييده كي يبدو مرئيا، حتى وهو مخترق بصور أخرى، لم تنل منه كليا، وتركت عليه خدوشاتها الراسمة لمسارات الأفكار والتخيلات وهي تغامر في مواجهاتها للمعتاد والمتفق حوله، اقتناعا أو كرها. من هنا اكتشفت الوشائج الخفية بين الفلاسفة والشعراء، هي وجدت ولم تظهر إلا متأخرة، الشاعر الفيلسوف محمد اقبال يقول عندما كانت الأساطير تقتات من الشعر، كان الشعراء مغيبون ونادرا ما تحضر أسماؤهم بحضور كلامهم أو ما شابهه، لكن الفلاسفة بتوجسهم من الشعر حاولوا بناء قولهم، بما يشبه اختزال الكلام وعزله عن الصور. فقط أفلاطون، في حجاجية الكهف، استحضر صورهم الشبيهة بالأسطورة وإن جعل لغتها خالية من التعبير الأدبي رغم مجازاتها الظاهرة، ولم يكن له خيار آخر، والأسطورة لا تزال عوالمها حاضرة، تحتضر، لكن ببطء، لكن نيتشه في عودته إلى الحكمة الزرادشتية شذب القول الشعري بحكمة الشذرة، التي لم تكن غريبة عن الشعر الذي كان خير ممثل لها عندما يحتويها، ليجعل الفكرة عميقة بمعناها وجمالية تعبيرها، مثبتا أن العقل يتمثل بحب، كما قد يعشق العاشق بعقل، وهكذا، بفنية تمرد على الميتافيزيقا التي ربما بدت له أسطورة عقلنها العقل بأن استأجر لها بناء عقليا يجعلها مقبولة كوجود حقيقي يدعم به الموجود، ويهبه أخلاقية مفترضة، هي أخلاق الخضوع للقوة الغريزية التي تقدست بالفضيلة، صونا لعار الخضوع والامتثال للقوة المفروضة بأخلاقية، تحررت من سطوة المقدس، لتقبل بعبودية لأقانيم جديدة، هي قوانين العقل المبجلة، والتي خرقها يجعل الإنسان منحطا في نظر نفسه، قبل غيره، الفيلسوف مفارق في تاريخه، بين الرفض والتمرد يقيم، كاشف عن أنساق الفكر الذي يتمثل به العالم، إذ هو على حد تعبير سقراط “الذبابة التي تزعجكم” وهي طيلة النهار تلدغ لتحرم البشر من النوم، ليضجروا من الكسل وعاداته السيئة، فكانت الفلسفة رديفا لليقظة، والحكيم هو اليقظ، الرافض للخدع والاستسلام للراحة التي يحبذها الجسد وتسعى لها الأنفس الراضخة له، إنه الحالم بالوضوح والبداهة العقلية، وهو مطارد للوهم في صراعاته ضد غيره، فلا تغريه البساطة التي تخفي عجزا، ولا القداسة التي تستهوي الخاضعين لسلطتها المغرية، ولا يستكين الفيلسوف لما هو عليه، وهو الوحيد الذي يراجع رسالته وقد يتخلى عنها في مساره، فيعترف بما اقترف من هفوات، ليعلنها دون طقوس للغفران، فهي ليست ذنوبا موجبة للتوبة، وهو لا يخافها، كعثرات يتعلم بها الجري والتغلب على خيبات الفكر وهو يفاجئ نفسه، فيتمرن بالخدع على ملاحقة الحقائق أو ما يبدو كذلك، هو من بمعرفته يكتشف أنه لا يعرف، هو من بوجوده المتناهي يرسم حدود اللانهائي، كما يظنه ويحسب أنه ملاقيه فيما بعد بغيره، أي بمن يواصلون مساره، أو يعدلونه، أو حتى يرفضونه

الفيلسوف متمرد لا يستكين لما هو عليه، وهو الوحيد الذي يراجع رسالته وقد يتخلى عنها في مساره، أما الشاعر فلا يجرد في تخيله، بل يلامس باللغة ما يستعصي عليها وهي تستحوذ على عوالم متاحة لرؤيتها ولمسها، هو يخلق للفكر متعة، بلغة لها إيقاعاتها الداخلية، قبل قافيتها الخارجية، فيتخيل بوهم أوجه الحقيقة ليدفعها نحو ما كانته قبل القول، وينتظر بروزها ليعيد صياغة القول أو يكتبه، وبذلك فهو لا ينشد كمالا للغة، بل خلقا لها، لتكون ما ليس هي، أو ما لا يشبهها، فتهب المعاني صورا مختلفة، يجد فيها سامعها ما لم يجد القارئ فيها، فتتجدد المعاني وقد تتضارب، في غموض تمضي وتتسع إلى ما لا نهاية، فيجد فيها كل ساع إليها ما افتقده في غيرها، فيعثر على الحكمة إن حكيما كان، ورمزا بإيحاءات محركة لعوالم، بحث عنها فتاهت منه أو فقدها في ذكرى عاشها، إن في بنات خيال الشعراء العبقريين وبنات أفكار الفلاسفة الكبار لفلسفة هي الشعر، وشعرًا هو الفلسفة، وقل: هو الشعر الفلسفي في أسمى مظاهره، وهي الفلسفة الشعرية في أجلى وأجمل معانيها، فما قولنا بأبي العلاء، شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء؟ وما قولنا بالفارض، شاعر التصوف والفلسفة الإلهية؟ وهل أذكرك كذلك بقصيدة الفيلسوف ابن سينا في النفس؟ فماهي حقيقة الغزالي في «إحياء العلوم»، وماهي حقيقة ابن طفيل في «حي بن يقظان».

***

نهاد الحديثي

كثيرة هي المشروعات الفكرية - قديما وحديثا- التي أعادت توجيه العيون النّاظرة والأذهان المتأمّلة الى الذات الإنسانية، وإلى الإنسان عنصراً من عناصر الطّبيعة، بعيداً عن الأجرام السّماوية وسائر الكائنات الأرضية الأخرى وتفاعلاتها الأفقية؛ فبات سؤال الوجود الإنساني منطلقا من الإنسان نفسه ليعود إليه في الآن ذاته، كيف لا وهو أهمّ من وُجد على البسيطة، وأهم فاعل فيها تأثيراً وتأثراً؟[1] . وبافتراضنا هذه المثابة لهذا الكائن الأرضي ابتداء، وتسليمنا لتطوّر تعريفه من كائنٍ "عاقل مهاريّ"، إلى حيوان ناطق من منطق أرسطي، إلى كائن أداتيّ وَسَلِيّ ( من الوسيلة)، إلى كائن أخلاقي روحيّ؛ إلاّ أنّه - في نظرنا- لم يبرح موقعه القديم، ولم يغادر ظروفه الصّعبة، التي ناضل من أجل تصفيتها منذ قرون (الحروب، الاستعمار، التطهير العرقي، التجهيل، التفقير...)، كأن البشريّة تدور في حلقة مُفرغة، ماضيها ماثلٌ في حاضرها، وحاضرها نسخةٌ كربونية من ماضيها، رغم أن خطاب الأنسنة الكونيّ لم ينقطع منذ مغامرات العقل الأولى في التفكير الوجودي، الأمر الذي واصلته الأديان بعد ذلك إلى يوم النّاس هذا، ومازال الإنسانُ - للأسف - مُشكلاً عليه الإنسان[2]، والمعارك من أجل الأنسنة ( Humanism) لابد أن تستمر مادام الإنسان معمّرا الأرض أوّلا، ولأنها مدعوّة ثانيا لمواجهة كلّ شكل من أشكال" آثار الانحراف" الناتجة عن التّدافع البشري[3] .

ونحن نحرر هذه المقالة، تطالعنا وسائل الإعلام النّزيهة كلّ دقيقة بحصائد العدوان الإسرائيلي على غزّة، البالغة مئات الآلاف من المدنيّين العُزّل، أطفالا ونساء وشيوخا وشباباً، إضافة إلى دمار شامل لآلاف من المباني السّكنيّة والحكومية ذات الوظائف الحيويّة، في حرب إبادة مُعلنة بمباركة غربيّة وتأييد شبه دوليّ! ونفس القصّة في الساحة الأوكرانية، وإن كانت بمنطق وسياق آخرين.

إنّ تزايدَ ارتفاع الأرقام بشكل مطّرد كلّ لحظة، تزايدٌ في هدر الأرواح والأنفاس البشريّة، في مأساة لم تُضارعها إلاّ مأساة الحربين العالميّتين؛ وإن شئنا أنسنة هذه الأرقام الجافّة المجرّدة، قُلنا إنّها في الحقيقة آلاف من القصص الإنسانيّة المدفونة تحت الأرض[4]، وآلاف من الأحلام والمشاريع الشخصيّة التي تنتظر لحظة تحقّقها، وآلاف من الكفاءات الشّابّة والسّواعد القادرة على بناء الوطن وحمايته؛ وإنّ البيوت المسحوقة كانت ذات يوم بيئات حاضنة للحياة، تحفل بضحكات الصغار وبالدفء الأسريّ والعائليّ؛ وإنّ المباني الحكوميّة مقرّات صانعة للحياة، فهذه مدارس تهذّب السّلوك وتنمّي العقول، وتلك مشافٍ تحفظ صحة الأبدان، وغيرها مما يؤدّي وظائف لا استغناء عنها؛ فكيف تتحوّل كلّ هذه التّفاعلات الإنسانية إلى أرقام جافّة؟ وهل ثمة داعٍ لأسئلة "الوجود والمعنى" في عصرٍ يتبجّح بحقوق الإنسان وبالكرامة البشرية، عصرٍ بات فيه هذا الكائن المستضعف أرخص من فصّ مِلح؟

إن استحضار هذا الموضوع اليوم يستمدّ راهنيّته أوّلا من الأحداث المتعاقبة شرقا (داعش/ الحرب اليمنية/ العدوان الإسرائيلي/ الاضطراب السوداني...)، وغربا (الحرب الرّوسيّة/ الأوكرانية)، ثانيا باستعادة المشروع الأنسنيّ للمفكّر العراقي عبد الجبّار الرّفاعي[5]، احتفالا بالذكرى السبعين لميلاده، ولعلّه من أبرز من دعوا إلى إعادة النظر في تعريف الإنسان مرتبطاً بواقعه الديني/ الرّوحي، وبواقعه المعيش المباشر في ظلّ سياقات إقليميّة، أعادت عقارب البشريّة إلى عهد البحث عن الكينونة والماهيّة، واستجداء فتات الحقّ والكرامة والمحبة والشفقة[6]، أمام "أعين" الدّين[7] والمواثيق الدّوليّة وتاريخ مُمتدّ من النضال الإنسانيّ. وقد عالج الرفاعي ذلك في خماسيته: الدين والظمأ الأنطولوجي، الدين والكرامة الإنسانية، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، الدين والنزعة الإنسانيّة، ومقدمة في علم الكلام الجديد.

إنّ التّغريد خارج السّرب، والتّعامي عمّا في الأرض من أحداث مقلقة والتحليق في السّماء، كان شأن أغلب الكتابات الحداثيّة، باستثناء بعض الكتابات المُناضلة، تتناول الحداثة موضاعاتٍ لها، رغم ادعائها الاهتمام بالإنسان من حيث كونه كائنا يستحقّ الحرّيّة والحياة؛ والأصل أنّ مشروع الحداثة الغربي، وإن حقّق للبشريّة التحرّر من لاهوت العصر الوسيط، وبعض المظاهر التقنيّة وتخفيض منسوب الشّقاء، إلاّ أنه في الحقيقة لم يتجاوز أنْ وضَعَ الإنسان في تيهٍ وسط عالمٍ من الأشياء، رازحاً تحت وطأة عجلة الإنتاج والاستهلاك، فاقدا ذاته بين وعودٍ [8] بالسّعادة والأمن المُنتظران، كما انتُظِر "غودو" طويلا في رائعة صامويل بيكيت !؛ وهي نفس الفكرة التي أومأ إليها ميشيل فوكو في حفريّاته المعرفيّة مَصُوغاً بمقولة "موت الإنسان"، باعتبار هذا الأخير شيئا من أشياء الوجود بعدما كان ذاتا متعالية.

من هذا المنطلق يستمدّ المشروع الرّفاعويّ جدوائيّته أوّلا وفاعليّته ثانيا، فقد حاولت خماسيته - المشار إليها أعلاه - تبنّي منطق آخر للتعامل مع مفهوم الإنسان، تحت مظلّة الرّحموت السماوي، وتحت مظلّة "رحمة" فتوحاته العلمية والاقتصادية والاجتماعية، في سعي حثيث نحو معرفة سبب و معنى وجوده، متسائلا: أي أفق للحياة بعد الاستخلاف في الأرض؟ أو بتعبير علي شريعتي :" كيف يجب أن نكون؟[9].

إنّ اعتبار الإنسانيةِ الخلاصَ والتحرّر من "نسيان الإنسان"، والاعتراف ببشريّته وبمثابته على وجه البسيطة، غير مسكون بالخوف وبظلاميّة التطرّف الباعثة على القهر والتعذيب، في جو من الطمأنينة والأمن، ومساحة من السّلام والكرامة البشريّة [10]، هو في الحقيقة ما يجعل مشروع الرفاعي متماهيا مع الرّاهن، متفاعلا مع أحداثه المتجدّدة، مشيرا إلى تجاذباته، متعاطيا معها بعقلانية نقدية مستنيرة، بعيدا عن كلّ الصّور الرومنسية المرسومة لأمّة ماضيها استبداد ومظالم ودماء، وحاضرها تخلّف وجهل وأمّيّة وفقر ودماء، وكأنّ التّاريخ دار دورته وعاد إلى أمسِه، والأمر لا يخلو من طرافة حقّا، فلو أن التّوحيديّ وابن خلدون بُعثا في يومنا هذا، لوجدا واقع القرن الرابع والثامن الهجريّين ماثلين أمامهما، إلا ما كان من لباس عصريّ ملتصق بالجلد وجهاز ذكيّ في الجيوب! الرفاعي حقيقةً لم يتكلّف الجرأة للاعتراف بمثالب الحاضر، ومظاهر التخريب الذي طالته، سواء من الفكر المتطرّف أو من القِوى الإرهابيّة المغلّفة، في تناقض تام، بإهاب ديموقراطي ناعم[11]. لهذا سعى المشروع الرفاعويّ في مناسبات عديدة إلى ضرورة القطع مع القراءة الفاشية للنصوص المُنتجة لأعداد لا حصر لها من الانتحاريين، القادرين على إفناء حياة الآخرين، إرضاءً لله[12]؛ فمنطق "نحن شعب الله المختار"، إضافة إلى الاعتقاد بتفاضلية المعتقدات والأديان من منظورات ضيّقة ومغلقة، بعيدا عن أي أفق للحوار والتعايش السّلمي، أمور تجعل هذا الكائن البشريّ مهدّدا كلّ لحظة في محيطه بجماعة تحمل فكر التّقرّب إلى السّماء بسفك دماء أهل الأرض، وكم عانى الشرق من المخطط الدّاعشي التّدميريّ الفاشي ومن الحروب الدينية عبر التاريخ، في إهدار سافر للكرامة الإنسانية وانتهاك لحُرمتها !

ومع تسليمنا بوجود الشّر [13]وحضوره في حياة النّاس منذُ أول إنسان وطئت قدماه الأرض، وتسليمنا كذلك بمنسوب الألم [14] الطاغي على الرّاحة وطفوح العالم بالمعاناة، وتقلّص مساحة الخير لصالح كلّ أشكال الظلم والإفناء، فإنّ استخدام هذا "المُسلّم به"، ممن يفترضون أنفسهم "مركز الكون"، وقضاء المآرب باسم الله والمعتقد، تحت شعار " واقتلوهم حيثُ ثَقِفتموهم "[15]، أمور قد شكّلت ومازالت تشكّل انحرافا في تاريخ الوعي البشري بالآخر وبحقّه في تنسّم الحياة الآمنة. فإنقاذ النّزعة الإنسانيّة إذن، فيما يربط البشر بعضه ببعض، في اجتماع إنسانيّ سلميّ، رهين بمنح الأولويّة للعامل الرّوحيّ، والتّسامي به عن كلّ تداولٍ لأيديولوجيا إقصائيّة واعتقادات قمعية، إرضاءً لسلطان النفس المستبدّ، السّاعي دوما إلى بسط نفوذه وهيمنته على الآخر المفارق.

يؤكّد الرّفاعيّ أنّ " البشريّة اليوم بأمسّ الحاجة إلى تعزيز النّزعة الإنسانيّة، عبر استيعاب الحياة الروحية والأخلاقية الخصبة في الدّين" [16]، وهي إشارة إلى أنّ الأديان السماوية، بحمولتها العقديّة والعِباداتيّة، هي كذلك فضاء منداح للحياة وللعيش المشترك ولِبَثّ روح الطمأنينة في الفرد والجماعة؛ فما يأتينا من السّماء لا ينبغي أن يشقى الإنسان به في الأرض[17]، والله هو الرّحمن الرّحيم، و" الراحمون يرحمهم الرّحمان، ارحموا من في الأرض يرْحَمْكم من في السّماء" [18]؛ والرّفاعيّ، بهذا، يدعونا في مُجمل رؤيته الإنسانيّة إلى التماهي مع رحمانيّة الله، ومحاولة إنزالها من السّماء إلى الأرض، فيما يطيقه البشر ويحتملونه بطبيعة خليقتهم الناقصة والمحدودة، وفي التراث الصّوفي" الإنسانيّة لا تكتسب قيمتها الكاملة إلاّ بالوليّ المُكَمَّل الذي يُجلّي النّور المبدع للحقّ بوجوده الكامل" [19]، في محاولة إنسانية للتّخلّق بأخلاق الله.

إن استعادة المشروع الرفاعويّ في الذكرى السبعينيّة لميلاد هذا المفكّر الجليل، لا يعني رأساً دعوتنا إلى إعادة قراءة مشروعه الأنسنيّ/الإنسانيّ قراءة تستلهم معجما خارج معجمها الخاص، إنّما قصْدُنا ربطه بالسياقات الإقليمية المستجدّة، وإعادة تفكيكها وفق رؤية نقدية، يكون فيها الإنسانُ، في بُنيانَيْه المادّي والرّوحي والأخلاقي، الأصلَ والمرجعَ والمحورَ والغايةَ، فيتحقّق المعنى من وجوده و من استخلافه في هذا العالم .

 ***

إبراهيم أوحسين - كاتب، وقاص، وشاعر مغربي من مواليد مدينة أكادير في المغرب. صدر عنه العديد من الأعمال، من بينها: «شموع» (ديوان مشترك)، عن مطبعة نبيل سنة 2004م. «طلقات بنادق فارغة» (مجموعة قصصية)، عن بيت الأدب المغربي سنة 2008م. «قوافل من كلام» (ديوان)، عن دار شجن الحروف الإلكترونية سنة 2016م (الطبعة الأولى)، وعن هيئة الحوار الثقافي الدائم، فرع المغرب، سنة 2019م (الطبعة الثانية). ساهم في كتاب «بصمات»، عن منشورات منتدى الأدب لمبدعي الجنوب سنة 2012م. «مدرس تحت الصفر» (كتاب)، عن مكتبة ومطبعة الوسيم الحديثة بغزة، في فلسطين، عام 2017م. «البدائي الذي يسكننا»، عن منتدى الأدب لمبدعي الجنوب في المغرب عام 2021م.

 - في قصبة الطاهر

16-7 - 2024

[1] - جُرحت كبرياء الإنسان في مسيره التاريخي ثلاث مرّات: أوّلا على يد الفلكيّ كوبرنيكوس الذي أثبت أن الأرض ليست مركز الكون كما كان يُعتقد؛ ثانيا على يد داروين الذي دفع بفكرة كون الإنسان كائنا عاقلا، لكن تربطه علاقة نسب بأسلاف مشتركة من حيوانات عالية التطوّر؛ ثالثا على يد فرويد، زاعما أنَّ اللاوعي، و ليس الوعي هو محرّك الإنسان كما كان يُعتقد، وإن أغلب تصرفات الإنسان تكون نتيجة لدوافع كامنة في اللاوعي لا يستطيع التحكم فيها. و بالرغم من كلّ هذه الضربات يبقى الإنسان ذاك الكائن الموسوم بالأخلاق، موجّها دفّة البشرية نحو تحقيق النفع والرّفاه، مع الاعتراف بالمحطّات العديدة التي خانته فيها الحكمة واستحضار العقل الواعي.

[2] - من عبارة أبي حيان التوحيديّ : "وأوسع من هذا الفضاء حديث الإنسان؛ فإن الإنسان قد أشكل عليه الإنسان." ( أبو حيان و مسكويه، الهوامل والشوامل، ت أحمد أمين/ السيد أحمد صقر، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1951، ص 179.)

[3] - محمد أركون، الأنسنة والإسلام/ مدخل تاريخي نقدي، تر محمد عزب، دار الطليعة، بيروت، 2010، ص 24.

[4] - يُذكر أن الأكاديمي والشاعر الفلسطيني رفعت العرعير أسّس مشروع نحن لسنا أرقاماً/ We are not numbers، الذي يهدف إلى طرح معاناة الغزّيين عبر القصص، حتى لا يتحوّلوا إلى أرقام وأسماء غامضة في نشرات الأخبار، فمن حق الضحايا أن يمتلكوا قصصهم، وأن يحكوها للعالم كله، قصّة أرضهم وحقّهم في الكرامة والعيش. ونذكر أنه كان ضحية اغتيال إسرائيلي يوم 6 ديسمبر 2023.

[5] - عبدالجبار الرفاعي مفكر عراقي، ‏متخصص في الفلسفة وعلوم الدين. من مؤسسي علم الكلام الجديد في المجال العربي. منذ أكثر من ثلاثين عامًا يكرّس منجزه لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة، منذ إصدارها عام 1997 وحتى اليوم. أصدر 52 كتابًا..

[6] - إشارة إلى قول ابن عربي : " واعلَم أنّ الشفقةَ على عباد الله أحقّ بالرعاية من الغَيْرَةِ على الله "/ (محيي الدين بن عربي، فصوص الحِكَم، تعليق أبو العلا عفيفي، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 168.)

[7] - عدد المتديّنين، حسب موقع Adherents.com، في إحصائيات 2020، يفوق 7 مليارات، أي ما يقترب من % 90 من سكان هذا الكوكب.

[8] - أو بالتعبير الفوكويّ، مشيراً إلى وعود "الأنوار" التي زالت لحساب نتائج أخرى مغايرة ( ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء، تر مطاع صفدي وآخرون، مركز الإنماء القومي، لبنان، 1989، ص 6)

[9] - عبد الجبار الرفاعي، الدين والنزعة الإنسانيّة، مركز دراسات فلسفة الدين، ط 3، بغداد، 2018، ص 80.

[10] - الرّفاعي، الدين والنزعة الإنسانيّة، المرجع السابق، ص 13.

[11] - نضرب هنا مثال فرنسا التي تحتفل بعيدها الوطني يوم 14 يوليوز استحضارا ليوم الباستيل ( 14 يوليوز 1789)، وهو ذكرى للتحرّر والانعتاق، مع ذلك فرنسا مازالت اليوم تحتفظ بالاحتياطات الوطنية ل 14 دولة أفريقية ! أما أمريكا فهي تدعم حاليا المقاومة الأوكرانية من موقع مظلوميتها، وفي الآن نفسه تدعم إسرائيل من موقع ظالميّته !

13- عبد الجبار الرفاعي، إنقاذ النزعة الإنسانيّة في الدين، مركز دراسات فلسفة الدين، ط 2، بغداد، 2013، ص 201/202.

[13] - ناقش الفلاسفة والمتكلمون قديما وحديثا معضلة الشّر، وانقسمت الآراء فيه بين مدّعٍ أن الشرور مجانية وعبثية وليس لها ما يبررها، وبين مدّع أنها تخلق توازنا من باب حكمة ما، أو ما يشير إليه لايبنيز( Leibniz ( بالثيوديسيا( الحكمة الإلهية)، ولولاها ما عُرف الخير، كالعمى لا يُعرف إلاّ بالبصر. والنقاش طويل ومتشعب في هذه القضيّة لا يسع المقام للتفصيل فيه.

[14] - لا نقصد هنا الألم الذي يسببه الشخص المتهافت على الامتلاك لنفسه، تبعا لنمط العيش الاستهلاكي الإسرافيّ الحالي، ولكننا نقصد الألم الجائيّ من الآخر. يمكن العودة إلى (عبد الجبار الرفاعي، الدين والكرامة الإنسانية، ط 1، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، 2021،، ص 160)

[15] - اجتزأنا من الآية 191 من سورة البقرة هذه العبارة تصويرا للمنطق الاجتزائي المُشتغل في الفكر المتطرّف، على غرار " ويلٌ للمصلّين ".

[16] - عبد الجبار الرفاعي، إنقاذ النزعة الإنسانيّة في الدين، مركز دراسات فلسفة الدين، ط 2، بغداد، 2013، ص 203.

 [17] - إشارة إلى الآية 2 من سورة طه : " ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ".

[18] - رواه أبوداود والترمذيّ وصحّحه الألبانيّ.

[19] - آنّا ماري شميل، الشمس المنتصرة/ دراسة آثار الشاعر الإسلامي الكبير جلال الدين الرّومي، تر: عيسى علي العاكوب، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، طهران، 2016، ص 385.

.............................................

المشاركة رقم: (3) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي. 

 

لقد اجتهد الكثير من علماء النفس والاجتماع والانثروبولوجيا بخصوص طبيعة المصادر المادية والمعنوية التي تسهم في صيرورة (الهوية الوطنية) من جهة، والدفع باتجاه تطورها أو تدهورها من جهة أخرى؛ فمنهم من رشح (الدين) كأساس، ومنهم من آثر (اللغة) كمصدر، ومنهم ارتأى (الثقافة) كمنطلق. هذا في حين وجد آخرين في عناصر الجغرافيا وعوامل التاريخ ضالتهم المنشودة في تكوين تلك الهوية، معتبرين إنها تشكّل الأساسات المحورية التي يشاد فوقها ذلك الصرح  الحضاري والمعمار الرمزي الذي لا مجال للزهد فيه أو الاستغناء عنه .

والحقيقة ان كل ما ذكر عن تلك المصادر والمراجع  له دور – لا يمكن نكرانه - يلعبه في تلك الصيرورة وذلك التكوين، إنما العبرة في تناسب أهميتها وتتعاظم شأنها وفقا"لطبيعة الظروف الاجتماعية السائدة، الأوضاع الاقتصادية القائمة، والسياقات التاريخية المهيمنة التي يجد المجتمع المعني نفسه منخرطا"في أتونها وملتحما"في علاقاتها . ولهذا كم تبدو محاولات البعض ساذجة وعقيمة حين يغمرون بالاستغناء عن كل تلك الشبكة المعقدة من التفاعلات والصراعات والانثيالات ما بين عناصر تلك المصادر والمراجع المشار إليها، والاكتفاء بالتعويل على مصدر / مرجع واحد (أساسي) يقرر النتيجة النهائية لمئالات تلك الجدلية التفاعلية .  

ولعل من الغريب حقا ان "مفكرا" و"مؤرخا اقتصاديا" "رصينا" مثل (عصام الخفاجي) يتبنى وجهة نظر تقوم على أساس (ان مستوى التطور التكنولوجي، وبخاصة تكنولوجيا التواصل والنقل، تعيّن حدود التفاعل الجغرافي وبالتالي فإنها تعيّن عدد الأفراد الذين بوسعهم الانخراط في كل من النشاطات المادية وفي المادية المعروفة والمطلوبة)، مسندا"الى هذه البنية اختصاصات وقدرات هي بالأصل ليست من ضمن مكوناتها ولا من طبيعة عناصرها، ضاربا"عرض الحائط بكل تلك الشبكة المعقدة من الترابطات البنيوية والتفاعلات الوظيفية والانثيالات القيمية التي لا مفر من أخذها في الحسبان إذا ما أريد للتحليل السوسيولوجي أن يكون علميا "وموضوعيا".

وإذا ما حاججنا بعدم كفاية الاعتماد على البنية (اللوجستية) في تفسير السيرورات الاجتماعية، فضلا"عن عدم تمكينها الباحث من تشخيص طبيعة الظواهر التي تنطوي عليها، والتي يمكن أن تتبلور لاحقا"في سياق عمليات التراكم الاجتماعي والتقادم التاريخي والتخادم البنيوي . فذلك لا يعني التقليل من شأن تلك البنية أو تجاهل أهمية دورها في أنماط التكوين ومسارات التطور، بقدر ما نتوخى إظهار ان جدليات الواقع الاجتماعي والتاريخي أغنى واعقد مما يمكن لعامل واحد أو اثنين من عوامل الصيرورات الحضارية، تفسير ظاهرة اجتماعية تقاطعت عندها وتداخلت فيها مجموعة من البنى السوسيولوجية والانثروبولوجية والسيكولوجية والمخيالية، وكذلك اللوجستية . مثلما هي صيرورة (الهوية الوطنية) خصوصا"في المجتمعات التي لا تزال تعاني تبعات التصدع والتصارع . لاسيما وان (الايديولوجيا – كما يؤكد (الخفاجي) ذاته - (وأنماط الوعي غير قابلين للاشتقاق آليا"من القوى المصلحية والتقنية، ولا يمكن اختزالهما الى تلك القوى) .

والحقيقة ان معطيات البنية (اللوجستية) المحددة بعوامل (التواصل) و(النقل) كما يراها المفكر والمؤرخ (الخفاجي) في كتابه القيم (ولادات متعسرة : العبور الى الحداثة في أوروبا والشرق)، لم تكن دائما"صالحة أو نافعة في بلورة (الهويات الوطنية) للمجتمعات المفتتة اجتماعيا"والهشة حضاريا"حين تعرضت - مضطرة لا مختارة - لأواليات لتلك العوامل . بل عملت على العكس من ذلك تماما"، حيث أفضت الى إحياء الهويات (التحتية) و(الفرعية) للجماعات الأصولية التي طالما قاومت عوامل (الاندماج) ضمن المجتمعات الوطنية من جهة، وساهمت - عبر كل السبل - في تفكيك ومسخ الشخصيات (الاجتماعية) و(المعيارية)، واختراق وإضعاف الهويات (الوطنية) و(القومية) التي حققت تلك المجتمعات صيرورتها عبر عقود من الكفاح المضني - والدامي في بعض الأحيان - لأجل بلوغ تحررها ونيل استقلالها . والدليل على ذلك انه على الرغم من شيوع تبني ظاهرة (العولمة) لخطابات التواصل الحضاري، والتفاعل الثقافي، والتداخل الإنساني بين الشعوب والأمم المختلفة . إلاّ أن تبعاتها وتداعياتها على صعيد الاهتمام برمزية (الهويات) الوطنية والقومية واحترام (الثقافات) المحلية والشعبية، كانت ولا تزال من الأشد وقعا"عليها والأمضى فتكا"بها، لاسيما ما يتعلق بتفكيك بنيتها المتقادمة وتحطيم قيمها المتوارثة.

***

ثامر عباس – باحث عراقي

سقراط (469-399 ق.م) هذا الفيلسوف العظيم ولد في أثينا وعاش فيها. عاش في جو تزدحم وتتفاعل فيه الأفكار الفلسفية المختلفة، لقد كانت الفلسفة قبل سقراط تركز همها في العالم الخارجي والأجرام السماوية غير أنها وجهت من قبل سقراط نحو البحث عن الإنسان لذلك قيل عنه أن استنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض.

لقد دخل سقراط في جدل فلسفي مع السفسطائيين، فبينما كان السفسطائيون يجوبون شوارع أثينا لتعليم الفلسفة مقابل أجور معينة يأخذونها من تلاميذهم كان سقراط يسير في هذه الشوارع حافي القدمين يناقش كل من هب ودب طالباً استخلاص الحقيقة عن طريق الحوار.

نبوءة كاهنة دلفي:

لما سئلت كاهنة معبد دلفي: من هو الأعظم من بين الأحياء أجابت: سقراط فألتف حوله فريق من التلاميذ أشهرهم (أفلاطون) ومعبد دلفي هذا يقع في وسط اليونان على سفح جبل وهو أقدم معبد ديني في البلاد للإله (أبولو) إله النبوة. وقد تصور اليونانيون انه مركز للأرض وكانوا يحجون إليه حيث الكاهنة العذراء ليطرحون عليها الأسئلة فهو إذاً بمثابة (كعبة اليونان) يحجون إليه كل عام ويوصف في كتب التاريخ بأنه.. (أشهر هياكل اليونان حيث كان البخار يصعد من شق عظيم وعميق في الصخور فكانوا يعتقدون ان هذا البخار هو (نفس) الإله (أبولو) وقد أشادوا هيكلاً احتراماً للوحي وعندما تتكلم الكاهنة يقوم الكهنة الآخرون بتدوين أقوالها

الحكمة والإلهام والنبوة:

أما الحكمة فتعني (المعرفة الخاصة بالآلهة وهي معرفة مطلقة وأبدية لا متناهية وهي عند الكندي: علم الأشياء بحقائقها وهي فضيلة القوة النطقية، وعن الفارابي: معرفة الوجود الحق، والوجود الحق هو واجب الوجود بذاته) وقد وردت الكلمة في القرآن بقوله: (... وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ...) البقرة 269.

أما الإلهام فيعرّفه الجرجاني: (الإلهام ما وقع في القلب من علم وهو يدعو إلى العمل من غير استدلال بآية ولا نظر في حجة وهو بهذا المعنى يكون مرادفاً للوحي. ويستطرد قائلاً: هناك وجه شبه بين الإلهام والإيحاء فالملهم يجد نفسه يتكلم أو يعمل مدفوعاً بقوة خارجية غريبة..) وقد عبر أفلاطون عن هذا المعنى عندما قال: أن الشاعر يكون فاقد العقل عندما ينشد شعره..

ويعرف الجرجاني النبي بأنه (من أوحى إليه بملك أو ألهم في قلبه أو نبه بالرؤى الصالحة فالرسول اتصال بالوحي الخاص الذي فوق وحي النبوة لأن الرسول هو من أوحى إليه جبريل خاصة بتنزيل الكتاب من الله..) نفس المصدر، ص691.

العرافة والكهانة:

ولم تقتصر ظواهر العرافة والكهانة والنبوة على شعب من الشعوب فقد عرفت في الحضارات القديمة في وادي الرافدين ووادي النيل وفارس والهند والصين. ففي بلاد الرافدين تشير الأساطير البابلية ان الإله (مردوخ) إله بابل يظهر للشعراء أثناء منامهم (الرؤية) وهو يملي عليهم قصائدهم، اما في جزيرة العرب فقد عرف العرب الكهانة والعرافة قبل الإسلام كما هو في اليمن مثل (شق) و(سطيح) و(طريقة) الكاهنة. ولم تكن كلمة (نبي) غريبة عن العرب لكثرة اليهود والنصارى. وقد اتهم الرسول محمد (ص) بأنه كاهن، وقد ظهر الأحناف الموحدين في شبه الجزيرة العربية في فترة زمنية متقاربة كأمية بن أبي الصلت وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل والمعروف ان ظاهرة الإلهام تلازم الفلاسفة والعلماء والشعراء والفنانين، وقديماً قالت العرب: لكل شاعر شيطانه وقد عبر عن هذا أحد شعراءهم بقوله:

انا وكل شاعر من البشر

شيطانه انثى وشيطاني ذكر

هكذا تكلم سقراط:

تركزت ظاهرة وجود الأنبياء على الشرق بظهور فرعون مصر (أخناتون) (000-1362) ق. م. ونبي الفرس زاردشت (660-583) ق. م. وبوذا في الهند (563-483) ق. م. ثم كو نفوسيوش في الصين (551-479) ق. م. ثم ظهور ماني في بابل وفارس وقد أكملت هذه الحلقة بظهور الأنبياء المرسلين: موسى وعيسى ومحمد، لقد وضع سقراط نفسه كنبي وصاحب رسالة غير أن ظهوره هكذا لم يكن ترفاً فكرياً وإنما كانت نتيجة معاناة طويلة استمرت حتى ساعة إعدامه، لقد كان سقراط يردد دائماً أن هاتفاً داخلياً يدعوه إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر فلنتأمل أقواله التي تفوح منها رائحة النبوة:

- قال سقراط يوماً (من صدق نفسه بفناء الدنيا زهد فيها، ومن صدق نفسه ببقاء الآخرة رغب فيها). فقد كان يؤمن بخلود الروح وبالحياة الأخرى.

- وقد كان أيضاً ينصح الناس قائلاً (أن عبادة الأصنام ضارة فاعبدوا الله الواحد الأحد الصمد الباري الذي خلق العالم بما فيه، الحكيم القدير ولا تعبدوا الحجر المنحوت الذي لا يسمع ولا ينطق ولا يحس بشيء من الآلات) نختار الحكم ومحاسن الكلم، لأبي الوفاء البشر بن فاتك، ص86.

- كان يعتقد ان روحاً حارساً يمنعه من ارتكاب الخطأ، وأنه يشعر بصوت داخلي إلهي يدعوه إلى العمل الصالح. وهكذا شغل نفسه بمكارم الأخلاق فقال (أن الفضيلة معرفة والرذيلة جهل).

- ومن أقواله .. (أن الله وحده هو الذي تفرد بالعلم والحكمة، أما البشر فإن كل ما يعرفونه أنهم لا يعرفون شيئاً..)

- .. (أنا مكلف بالقيام بأعباء رسالة إلهية مضمونها إرشاد الناس إلى الحياة الصالحة ولا يثنيني عن القيام بما تطلبه هذه الرسالة شيء وإني لا أخشى الموت في سبيلها فإذا قلتم لي يا سقراط إننا سنعفو عنك الآن ولا نشترط عليك إلا أن تكف عن هذه الرسالة فإني سأجيبكم قائلاً: إني أحبكم يا أهل أثينا ولكني سأطيع الله ولا أطيعكم ولن أمتنع ما دمت حياً عن أداء هذه الرسالة..)

هذه هي أقوال سقراط أمام قضاة محكمة أثينا التي حوكم فيها بتهمة إفساد عقول الشباب لأنه كان يدعو إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام والأوثان وقد ذكرها تلميذه أفلاطون في كتابه (محاورات أفلاطون) وكان أفلاطون قد شهد هذه المحاكمة ودوّن أقوال أستاذه سقراط. ومن بين الأمور التي ذكرت في هذه المحاورات ان سقراط رفض استرحام القضاة لإطلاق سراحه كما رفض ان يؤتى بأولاده باكين ليؤثروا في قلوب القضاة ببكائهم.

إن ما يؤيد صحة أدعاء النبوة ما كتبه عنه المؤرخون والفلاسفة المعاصرون له بقولهم .. (أنه كان رجلاً غريب الأطوار تنتابه بين الحين والحين نوبات فيسقط مغشياً عليه وكانت تطول به الغيبوبة ساعات .. وإنه ادعى النبوة وتلقى الوحي من الآلهة تعليماً مباشراً ..)

فالغيبوبة أمر ملازم لمعظم الأنبياء فهم يغطون في غيبوبة قد تطول أو تقصر ثم يستفيقون بعدها وقد تراءى لهم ان ملكاً يكلمهم أو يملي عليهم أقوالاً وأحكاماً ويطلب منهم ان يصدعوا بها للناس كافة.

وجد سقراط يوماً أعلاناً مكتوباً فيه .. سقراط مدان بارتكاب جريمتين: أولاً أنه لا يعبد آلهة المدينة بل يعبد إله من عنده، ثانياً أنه يضلل الشباب. وعقوبة هاتين الجريمتين: الإعدام (وكان الذي وجه إليه هذا الاتهام تاجر من تجار الجلود وكان يحقد عليه لأنه نصح أبنه بالانصراف عن دبغ الجلود وهي صناعة أبيه والتخصص في الفلسفة. لقد كانت هذه القضية: قضية العلم والجلد، كسبها الجلد وخسرها العلم)

وقف سقراط في المحكمة بكل شجاعة وأجاب عن كل الأسئلة الموجهة إليه وكان مصراً على أداء رسالته والمكانة التي أختارها الله له وقد آثر طاعة الله على طاعة الإنسان وقال .. (إني لن أتردد عن الصدوع بالرسالة الإلهية وأن تهددني ألف موت لا موت واحد.)

وقد قضت هذه المحكمة الاستبدادية على سقراط بالإعدام عن طريق تناول كأساً من السم وكان بإمكانه الحرب فتلامذته الذين حضروا محاكمته هيئوا له طريقاً للخلاص لكنه رفض هذا مفضلاً الموت على الهرب احتراماً لشرائع مدينته، ولما تناول كأس السم وسرى في جسده قال .. (أسلمت نفسي إلى قابض النفس الحكماء ..) وهكذا اعتبر سقراط الشهيد الأول للعقل.

***

غريب دوحي

صديقي محمد الحرز، الشاعر والكاتب المعروف، متشكك في محتوى الجدالات التي تدور حول تصنيف الحداثي والتقليدي. فهو يقول صراحةً إنه لا ينبغي اتخاذ التصنيف السائد في أوروبا معياراً للتمييز بين أهل الحداثة ومعارضيها. ويقول أيضاً إنه ليس من السهل أن يتبنى شخص ما الحداثة صراحةً وعلناً، لأن مجتمعنا ما زال مرتاباً في هذا التوجه ومَن يتبنّاه. في نهاية المطاف فإن الحرز لا يقدم فكرة، بل يحكي هماً، أظن أن كثيراً من الكُتّاب وأهل الرأي قد عاناه أو عبَّر عنه في وقت من الأوقات. وقريباً من هذا المعنى تحدث الأكاديمي المعروف د.حسن النعمي، عن النسق الثقافي العام في العالم العربي، الذي يميل لإنكار هيمنة العقل، خلافاً للحال في أوروبا، حيث العقل محور المعرفة ومصدرها الوحيد. الحداثة تدور حول العقل وكونه مهيمناً على العالم. وهذا معيار رئيسي للتمايز بين الثقافة الأوروبية المعاصرة ونظيرتها العربية، التي تستمد معظم طاقتها من التجربة التاريخية، حيث تميل كفة الميزان لصالح النقل وليس العقل أو نتاجه الصرف.

الأمر العجيب في جدل الحداثة والتقاليد، في منطقة الخليج بأسرها، أن أكثر المتحدثين عنه هم الأدباء، وأكثر المعارضين لهم هم المشايخ. أقول إنه عجيب، لأن منظومة القيم والمعايير التي تعد جوهر الحداثة، منتشرة في كل جوانب حياة المجتمع، بينما يركز الأدباء على «الأشكال» الأدبية الحديثة، أكثر من تركيزهم على القيم المعيارية للحداثة.

أفترض أن العديد من الكتاب الحداثيين خصوصاً، منتبهون إلى هذه الإشكالية. فمجتمعنا يتحرك بثبات وإصرار نحو الحداثة، بقيمها ومعاييرها وتمظهراتها الحياتية. لتوضيح هذه المسألة، سأشير إلى التحول الجاري في ثلاثة قطاعات، هي: التعليم، والصحة، والتجارة. تغطي هذه القطاعات ما يقرب من ثلثي الحراك الاجتماعي اليومي، في بلدنا وأي بلد آخر، فهي تستقطب قوة العمل وحركة رأس المال وتوجِّه الانشغالات الذهنية للأفراد. هذه القطاعات باتت اليوم بعيدة عن القيم التقليدية، أكثر تمثلاً لقيم الحداثة، وأشد رغبةً فيها. ربما لا يرى كثير من الناس في هذه القطاعات تجسيداً للحداثة الناضجة، لكني واثق تماماً أنه لا يمكن تصنيفها في الدائرة التقليدية، إن أردنا التزام معطيات الواقع المشهود.

انظر مثلاً إلى المحاور الرئيسية التي تدور حولها معيشة الناس، هل تنتمي إلى عصر الحداثة أم عصر التقاليد؟ أليست البنوك هي قطب الرحى في حركة رأس المال؟ ثم انظر إلى مواقف الناس حين يشعرون بالمرض، هل يتوسلون بالجن والسحر والأساطير أم يراجعون الطبيب؟ صحيح أن هناك من يلجأ إلى الخيار الأول، لكن خُذْ إحصائية وزارة الصحة عن عدد مراجعي المستشفيات والعيادات في عام واحد، ستجد أن جميع الناس تقريباً اختاروا السبل الحديثة في علاج أنفسهم. والحال نفسه بالنسبة للتعليم والنشاطات المعيشية كافة.

الذي أردت قوله أن الحداثة ليست قصراً على التعبيرات الأدبية، كي نقول إنها موجودة أو مفقودة في المجتمع السعودي ومجتمعات الخليج عموماً. الحداثة منهج حياة يعتمد العقل والعلم مصدراً وحيد للمعرفة، ومعياراً لتمييز ما يصح وما لا يصح. وهذه قد تتجسد في مفاهيم يعبَّر عنها لفظياً، أو تتجلى في سبل عيش يتّبعها الناس ويلتزمونها وما يترتب عليها، حتى لو لم يطلقوا عليها اسم الحداثة أو أوصافها.

الحداثة بقطبيها تدور حول العقل لكونه مهيمناً على العالم، هي ليست نظاماً محدد الأطراف، بل مشروع بنهايات مفتوحة للتطور والتحول. وكلما بلغت مرحلة انكشفت أمامها مسارات جديدة. لذا لا ينبغي اعتبار المستوى الفعلي لمجتمع معين (الغرب مثلاً) معياراً نهائياً تقارَن به المجتمعات الأخرى. ما هو مهم في الحقيقة هو ما ذكره د.حسن النعمي في حديث مسجل: محورية العقل وكون نتاجه معياراً وحيداً لما يُقبل أو يُرفض. ولا أرانا بعيدين عن هذا، حتى لو قبلنا بعض التحفظات من هنا أو هناك.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

باروخ سبينوزا فيلسوف هولندي من أصل يهودي سفاردي ويعتبر من أهم المفكرين وأكثرهم تأثيرا في الفلسفة الغربية. لا يزال عمله، الذي ركز على الميتافيزيقيا ونظرية المعرفة والأخلاق، محل دراسة ومناقشة من قبل العلماء والفلاسفة في جميع أنحاء العالم.

أشهر أعمال سبينوزا هو عمله الضخم "الأخلاق"، حيث يحدد نظامه الفلسفي القائم على العلاقة المتبادلة بين الله والطبيعة والوجود الفردي. في هذا العمل، يزعم سبينوزا أن الله، أو الجوهر، هو الواقع الحقيقي الوحيد وأن كل الأشياء في الكون هي أنماط أو تعبيرات عن هذه الجوهر المفرد. تحدت هذه الوحدانية الجذرية المفاهيم التقليدية لله والذات، وأرست الأساس للعقلانية الحديثة ووحدة الوجود.

أحد المفاهيم الرئيسية في فلسفة سبينوزا هي فكرته عن "الكوناتوس"، أو السعي إلى الحفاظ على الذات وتحقيق الذات الذي يحرك جميع الكائنات الحية. وفقًا لسبينوزا، فإن كل الأشياء في الكون تحكمها هذه الرغبة الفطرية في الوجود، ويمكن للبشر تحقيق الحرية والسعادة الحقيقية من خلال مواءمة أنفسهم مع هذا الميل الطبيعي. كانت فكرة تقرير المصير وتحقيق الذات هذه بمثابة انطلاقة رائدة عن الأطر الدينية والأخلاقية التقليدية.

كما تحدى مفهوم سبينوزا لله باعتباره متأصلا في الطبيعة المعتقدات والعقائد الدينية السائدة. فبدلاً من النظر إلى الله باعتباره كيانا منفصلا متساميا يتدخل في العالم، رأى سبينوزا الله باعتباره المادة الأساسية لكل الأشياء، والتي تتجلى في قوانين الطبيعة ونظام الكون. كان لهذه النظرة الوثنية لله باعتباره متأصلا وغير متغير تأثير دائم على اللاهوت والفلسفة الحديثة.

بالإضافة إلى كتاباته الميتافيزيقية واللاهوتية، قدم سبينوزا أيضا مساهمات كبيرة في نظرية المعرفة والأخلاق. لقد طور نظرية المعرفة القائمة على فكرة أن كل المعرفة مستمدة من العقل والخبرة، وليس من الوحي الإلهي أو التقليد. لقد أرسى هذا النهج العقلاني لنظرية المعرفة الأساس لفلسفة التنوير في القرن الثامن عشر.

إن فلسفة سبينوزا الأخلاقية، التي حددها في كتابه "الأخلاق"، تستند إلى مبدأ الحب والعقلانية باعتبارهما أعلى أشكال الوجود الإنساني. وهو يزعم أن السعادة الحقيقية والوفاء يأتيان من فهم طبيعة الواقع، وقبول مكانة المرء في النظام الطبيعي، والعيش في وئام مع العالم من حولنا. لقد كان لفكرة الحياة الأخلاقية باعتبارها نتاجا للعقل والوعي الذاتي تأثير عميق على النظرية الأخلاقية الحديثة.

على الرغم من الطبيعة الجذرية لأفكاره، واجه سبينوزا انتقادات ومعارضة من السلطات الدينية والعلمانية خلال حياته. اعتبر العديد من معاصريه آرائه غير التقليدية حول الله والطبيعة والحرية الإنسانية هرطقة وخطيرة، مما أدى إلى طرده من المجتمع اليهودي في عام 1656. ومع ذلك، فقد أعيد تقييم عمل سبينوزا منذ ذلك الحين وأعطي مكانه الصحيح في تاريخ الفلسفة باعتباره مساهمة رائدة وثورية في الفكر البشري.

لا تزال أعمال سبينوزا محل دراسة ومناقشة من قبل العلماء والفلاسفة في مختلف التخصصات، من اللاهوت والأخلاق إلى النظرية السياسية وعلم النفس. كان لأفكاره تأثير دائم على تطور الفلسفة الحديثة، حيث أثرت على مفكرين مثل إيمانويل كانط وفريدريك نيتشه وباروخ دي سبينوزا. من خلال تحدي المعتقدات التقليدية وفتح آفاق جديدة للفكر، تظل أعمال سبينوزا ذات صلة ومثيرة اليوم كما كانت في القرن السابع عشر.

***

محمد عبد الكريم يوسف

ألفاظ القرآن ألفاظ حقائق، وليست ألفاظ لغة، أى ليست مُجَرَّد عبارات وضِعَتْ في قوالب لُغويّة وكفى. وكذلك جاءت خصائص الخطاب النبوي. والفرق بين لفظ الحقيقة ولفظ اللغة، هو فرق بين الحق والباطل. فأنت مثلاً حين تقول لفظة التاريخ، مطلق التاريخ قلت حقيقة. وحين تقول كلمة التجربة، مطلق التجربة قلت حقيقة. ولكن الذى ينقصك التَّحقق بالتجربة والثبوت في التاريخ؛ فإذا تحققتَ بالتجربة وثبتَّ في التاريخ بلغت الحقيقة. لكنك حين تقول: (التاريخ المصرى ليس هو التاريخ الذى يُدرَّس الآن في المدارس والجامعات!)، قلت لغة، ولم تقل حقيقة، أو قلت لفظاً بلا معنى وبلا حقيقة. هذه اللغة يصدق عليها الخطأ كما يصدق عليها الصواب، يصدق عليها الباطل كما يصدق عليها الحق.

وحين تقول: (تجربتي عن هذه الحياة إنها عابثة، وكل من فيها يعبث!) قلت «لغة»، ولم تقل «حقيقة» أو قلت لفظاً بلا معنى وبلا حقيقة، هذه اللغة تقبل الكذب كما تقبل الصدق: «وقيل: منها لغِى ولغَى إذا هَذَى، ومصدره اللَّغا». و«لغا يلغو» أتى باللغو من الكلام، وهو ما لم يعتد به، ولا يحصل منه على نفع ولا فائدة. 

والخطاب النبوي ليس كذلك، ولكنه خطاب حقائق، صحيح على الدوام، صادق على الدوام، حق على الدوام. غير أن هذه الخَاصَّة النبوية الفريدة تتمثل في قوله عليه السلام: «أوتيتُ جَوَامع الكَلِم فاختُصرَ لي الكلام اختصاراً»؛ فلكأنما يُشير من قريب إلى أن ألفاظه صلوات الله وسلامه عليه، إنما هي ألفاظ حقائق مادام قد أُعطىَ جوامع الكَلِم، وليست مُجَرَّد لغة تتردد على الألسنة دون أن تنفذ بين شغاف القلوب، فتحولها من حال في الحياة إلى حال.

بيد أنها تعبيرٌ عن حقيقة ربما يجهلها المرء لكونه ممّن لا يدركون من الكَلِم سوى شكله البَرَّاني لا حقيقته الخبيئة، لكنه من المؤكد يعلمها فيما لو كان داخل رحاب المعيّة الإلهية لا خارجها.

وبما أن الكلام لا يكون إلا على ضَرْبين: ضربٌ أنت تصِل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده؛ كقولك: خرج زيد، وانطلق عمرو. وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يَدُلك اللفظ على معناه الذى يقتضيه موضعه فى اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض، ومدار هذا على الكناية والاستعارة والتمثيل كما يقول الجرجاني صاحب "دلائل الإعجاز"؛ فقد جرت العادة بأن يُقال في الفرق بين الحقيقة والمجاز: إن الحقيقة، أن يُقَرَّ اللفظ على أصله فى اللغة. والمجاز أن يُزَال عن موضعه، ويستعمل في غير ما وُضِعَ له؛ فيقال أسدٌ، ويُرَاد شُجاع، وبحر ويُرَادُ جواد؛ فلئن كان الأمر بهذه المثابة فهو تجوّز في معنى اللفظ لا اللفظ نفسه، وإنّما يكون اللفظ مُزَالاً بالحقيقة عن موضوعه، ومنقولاً عما وضِع له، فإن مآل الأمر إلى القصد فيه: هو المعنى.

غير أن هذا المعنى لا بدّ أن يؤدّي إلى حقيقة. مع ملاحظة أن هذه الحقيقة التى يؤدّي إليها المعنى غير الحقيقة الأولى التى تعطيها دلالة اللفظ وحده ممّا يقرّه اللفظ على أصله في اللغة، فإذا كانت الحقيقة الأولى حسيّة منظورة؛ فالحقيقة الثانية التى يؤديها المعنى روحية مغيبة، باقية ثابتة، ذات دلالات ووجوه متصلة بالعطاءات الإلهية وتجلياتها.   

ومن جانب آخر، يصف الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي في كتابه «إعجاز القرآن والبلاغة النبوية»، هذه البلاغة النبويّة وصفاً يمنع عنها اللغة بالمفهوم السلبي للغة، ويضفي عليها لفظ الحقيقة، فيقول: لقد رأينا هذه البلاغة النبويّة قائمة على أن كل لفظ فيها هو لفظ الحقيقة لا لفظ اللغة، فالعناية فيها بالحقائق، ثم هي تختار ألفاظها اللغوية على منازلها، وبذلك يأتي الكلام كأنه نطق الحقيقة المُعَبّر عنها.

ومعلوم أنه عليه السلام لا يتكلف ولا يتعمّل ولم يكتب ولم يؤلف، ومع هذا لا تجد في بلاغته موضعاً يقبل التنقيح، أو كلمة تقبل التغيير، كأنما بين الألفاظ ومعانيها في كل بلاغته مقياسٌ وميزان.

ولكن السؤال الذى يتبادر إلى الذهن من أول وهلة: هل هذا يكفي؟ هل كل ما كان «الرافعي» ذكره، يكفي لإماطة اللثام عن الفرق بين لفظ الحقيقة ولفظ اللغة؟

عندى أن ذلك وحده لا يكفي، ولا يُقرِّر غور هذا الفرق في واقعه المُقرَّر في التاريخ وفي التجربة؛ فألفاظ الحقيقة توضحها التجارب ويثبتها التاريخ؛ بل تثبت بالتجربة وتثبت للتاريخ.

فنحن هنا بإزاء ثلاثة مستويات: مستوى اللفظ، ومستوى المعنى، ومستوى الحقيقة. والحقائق في عظمتها وجبروتها لا تدرك كل الإدراك ولا يُحاط بها كل الإحاطة، وليس يشم منها أحد رائحة سوى بمقدار ما تتجلى به عليه.

هنالك معاني لها، هذا صحيح، لكنها معانٍ تقريبية للحقيقة، أو هى صور ضئيلة جداً للحقائق تماماً كما أن الألفاظ في مستواها إنْ هى إلا صور ضئيلة جداً للمعاني؛ فاللفظ في ذاته يصور جزءاً من المعنى، ولا تصور الألفاظ المعاني كلها. والمعاني في مستواها كذلك لا تصوّر الحقائق من جميع أطرافها وجوانبها؛ ولا تدركها كل الإدراك ولا تحيط بها كل الإحاطة.

(وللحديث بقيّة)

***

د. مجدي إبراهيم

لعل هناك من يستغرب حديثنا عن مشاعر الكره والبغض والضغينة السائدة بين أولئك الذين يعتبرون أنفسهم (صفوة) المجتمع و(نخبته)، وتحديدا "تلك الشريحة التي يطيب لها وصمها بصفة (الثقافة) . وربما الأكثر غرابة في هذا الشأن وصم هذه الظاهرة بمرض (عضال) الثقافة العراقية، التي يرى البعض أنها تسيء الى سمعة الثقافة العراقية وتفرط في تعرية عيوبها وفضح سلبياتها، التي بالكاد تسلم ثقافة من الثقافات الإنسانية من التلوث بجراثيمها والإصابة بأعراضها . من منطلق كونها نتاج تجارب حية للانسان في تفاعله اليومي مع معطيات محيطه الطبيعي وإفرازات تكوينه الاجتماعي .

وبصرف النظر عن مدى واقعية (الاعتراضات) التي قد يسوقها البعض ضد هذه (التهمة) القاسية بحق (الثقافة) العراقية من جهة، مثلما شحنة (التحامل) على شخصية (المثقف) العراقي جراء الأخذ بهذه الانطباعات السلبية التي تتبناها هذه المقالة وتدافع عنها من جهة أخرى، فان ذلك لا ينبغي أن يمنعنا من اعتماد صيغة (المصارحة) و(المكاشفة) للذات بهكذا نمط من الحقائق المجهولة والوقائع المغيبة، خشية التسبب بنكأ جراحها النرجسية الغائرة في بطانة وعيها الملتبس، فضلا "عن احراجات تناولها بالنقد المجرد والتحليل الموضوعي . لاسيما وان (مثالب) ثقافتنا من الاستفحال والاستشراء باتت تهدد معمار شخصيتها الحضارية على نحو سافر، كما أن (عيوب) مثقفينا من الشناعة والرقاعة أضحت تنذر باضمحلال كل ما يمتلك من صفات إنسانية ومناقبيات قيمية . 

وفي سياق الكشف عما تعانيه الثقافة العراقية المازومة من أمراض عضوية مستعصية، تبرز أمامنا واحدة من أخطر تلك الأمراض وأشدها فتكا "وتدميرا" ليس فقط في مضمار إعاقة الوعي الاجتماعي في التخلص من عيوب فطرته المزمنة وسذاجته المستديمة، ومن ثم التقدم حثيثا "في مدارج النضوج العقلي والارتقاء الحضاري فحسب، وإنما في مجال كبح جماح أي نزوع ذاتي يمكن أن يتطلع للإفلات من قبضة الأفكار التقليدية السائدة، والسعي للتخلص من التصورات النمطية المهيمنة كذلك . بمعنى ان المحيط الثقافي للمجتمع العراقي لا يكتفي برفض الأفكار والنظريات التي تحمل طابع التغيير والتجديد والتحديث، من منطلق كونه مجتمع آثر الركود وأدمن العطالة على خلفية استبطان جماعاته لأساطير الماضي واجتيافها سرديات التاريخ فحسب، وإنما هو مصمم على طرد واستبعاد كل ما قد يحرك سواكنه وينبش مطموراته ويفحص تمثلاته .

ولهذا فقد نشأت أجيال متعاقبة من المثقفين (المعلبين) في وعيهم و(المنمطين) في مواقفهم، ممن يحسنون العيش في البيئات الثقافية التقليدية التي يسود أجوائها الركود الاجتماعي والجمود الفكري، بحيث لا يوجد هناك ما يشعرهم باضمحلال أرصدتهم المعرفية، وهشاشة منظوماتهم الفكرية، وخواء جعبتهم المنهجية، وضحالة عدتهم اللغوية، وهامشية مواقعهم الاجتماعية . بمختصر العابرة، لا يجدون ما يخشى منه على مصادر هيمنتهم على تضاريس خارطة الثقافة المحلية، التي لا يستطيعون العيش خارج أسورها وبعيدا"عن حواضنها ! . وعلى هذا الأساس، فإذا ما حاول أحدا"من الكتاب أو الباحثين المعاصرين، ممن أدرك طبيعة المغطس الذهني والعقلي الذي لم يبرح يتمرغ فيه دون طائل، بالاحتكام الى ذاته والاشتغال على نفسه للخروج من متاهات وترهات ذلك المغطس، عبر الاستعانة بالبراديغمات (الفكريات والمنهجيات) الحديثة، لتجديد رؤاه عن الواقع الذي يعيش فيه، وتحديث تصوراته عن المجتمع الذي ينتمي إليه، سرعان ما يواجه بسلسلة من الممنوعات المعرفية والمحرمات الدينية التي من شانها التعتيم على أنشطته والتضييق على علاقاته، بما يحدّ من دوائر حضوره، ويقلص من مجالات تأثيره .

واللافت ان هذا النمط من (المغامرين) المغردين خارج النسق الثقافي، كلما حاول أحدهم الإمعان في سعيه الدؤوب لارتياد مجاهل الفكر، والإيغال في طموحه الجرئ في ولوج عوالم المعرفة، كلما كانت الموانع الاجتماعية أمامه تتكاثر والمعوقات الثقافية دونه تتزايد . بحيث ان دوائر الرفض لأفكاره والتشكيك بمواقفه لا تني تتسع وتتفاقم بالتناسب مع مستوى (عناده) وحدود (إصراره) على التمسك بتلك الأفكار والدفاع عن تلك المواقف . ولعل من أشدّ تلك الموانع والمعوقات تأثيرا "سلبيا" تأتي ردود أفعال أقرانه من (المثقفين) التقليديين في مقدمة تلك المعارضات والاعتراضات، حيث يستشعر أولئك التقليديون ان ما يجترحه قرينهم (المغامر) من أفكار مستحدثة وما يطرحه من آراء جريئة، قمينة بفضح خوائهم الفكري وتعرية جدبهم الثقافي، الأمر الذي يستدعيهم لاستنفار كل ما في حوزتهم من علاقات وتضامنيات وتخادمات، ليس فقط لإقامة جدران من الصمت حول أعمال هذا (المغامر) أو ذاك، ومن ثم السعي للتعتيم على نصوصهم المخالفة وسريادتهم المعارضة فحسب، بل وكذلك لشحذ مشاعر البغض والكراهية إزاء شخوصهم والحض على إقصائهم وتهميشهم عن كل ما له علاقة بالأنشطة والفعاليات الثقافية، بحيث تبقى مشاركاتهم محدودة وضيقة ويستمر تأثيرهم هشا "وضعيفا" .         

***

ثامر عباس

  

في المثقف اليوم