قضايا

شعوب يصنعها الخوف من السلطة تعيش تحت ضغوط نفسية واجتماعية كبيرة حيث تفرض الحكومات أو السلطات قيودًا صارمة على الحريات الشخصية وحرية التعبير، مما يؤدي إلى مناخ من الخوف والترهيب. يسعى الأفراد في هذه الأنظمة وتحت غطاء مهترئ من الديمقراطية إلى الامتثال للقواعد حتى لو كانت غير عادلة، خوفًا من العقوبات أو الانتقام ويفضل الناس العزلة أو الانسحاب من الحياة العامة، مما يؤدي إلى ضعف الروابط الاجتماعية والتواصل ويعيش الأفراد في حالة من القلق والترقب، مما يؤثر سلبًا على صحتهم الجسدية والنفسية وتنعدم الثقة بين أفراد المجتمع، غالبًا ما تصاحب هذه الأنظمة اقتصاديات ضعيفة، حيث تُصرف الموارد على القمع والإرهاب بدلاً من تحسين مستويات المعيشة ،ويفتقر الأفراد إلى الأمل في التغيير أو التحسن، مما يؤدي إلى شعور باليأس والتشاؤم حول المستقبل، هذه الخصائص يمكن أن تعزز استمرار دورة الخوف في صناعة الانسان.

دور السرديات التاريخية

السرديات التاريخية تلعب دورًا كبيرًا في تعميق سلطة الخوف في هذه المجتمعات. حيث تُستخدم لتشكيل الهوية الجماعية، وغالبًا ما تُبرز تهديدات الماضي، مما يعزز الشعور بالخوف من التكرار، كما تُستخدم لتبرير وجود السلطة، حيث تُصور الحكومات نفسها كحامية من الأخطار، مما يسمح لها بتعزيز قبضتها على المجتمع. تلعب السرديات التي تركز على الصراعات التاريخية والانقسامات بين الجماعات في تعزيز الخوف من الآخر كما تقوض الروابط الاجتماعية. السيطرة على السرديات التاريخية تعني السيطرة على المعلومات، مما يحد من استخدام الأفراد التفكير النقدي وتشجع على استخدام الأحداث المأساوية كوسيلة لتذكير الأفراد بالماضي من خلال اعادة سرد أحداث مروعة، وخلق أساطير حول اعداء و تهديدات اسطورية، تُعيد السرديات التاريخية إنتاج أنماط من الخوف والاستبداد، حيث تُعتبر تجارب الماضي دروسًا تُستخدم لتبرير القمع في الحاضر كما تُستخدم لتوجيه سلوك الأفراد، حيث تُشجع على الخوف من المعارضة أو الانحراف عن القيم السائدة وتُزيد الانقسامات مما ينمي سلطة الخوف ويعزز الصراعات الاجتماعية.

شعوب تحكمها قوة الخوف

في العديد من المجتمعات الشرق اوسطية، تُعتبر القوة (سواء كانت سياسية، اقتصادية، أو اجتماعية) عاملاً رئيسياً في تشكيل هويات الأفراد. حيث تتحدد قيم الأفراد ومعتقداتهم وأدوارهم الاجتماعية بناءً على مراكز القوة والسلطة التي تُنتج علاقات غير متكافئة، حيث يمكن للأقوياء أن يفرضوا معاييرهم وأيديولوجياتهم، مما يؤثر على سلوك الأفراد ويساهم في تشكل تصوراتهم عن أنفسهم. تاريخ المجتمعات الشرق أوسطية مليء بالصراعات والنزاعات، هذا يؤدي إلى شعور الأفراد بأنهم مُشكلون من خلال هذه الظروف، والحاكم هو تجسيد للقوة، حيث يُنظر إليه كأعلى سلطة، ولكن ليس بالضرورة كعامل مُؤثر في بناء الإنسان. بدلاً من ذلك، يكون الحاكم سببًا في تعزيز سلطة الخوف والامتثال بالتالي يمكن أن يُنظر إلى تأثير القوة على الأفراد كنوع من "الاستعمار الداخلي"، حيث يفرض الحاكم قيمًا معينة تُعزز من تبعية الأفراد، مما يُعيق تطورهم الذاتي وتجعلهم يتكيفون مع الظروف القاسية التي تخلق إنسانًا يُعبر عن نفسه من خلال قوة البقاء، لكنه يفتقر إلى الحرية الحقيقية أو القدرة على التعبير عن الذات. في ظل هذه الديناميات، يسعى بعض الأفراد إلى البحث عن هويتهم الحقيقية بعيدًا عن تأثير القوة، مما يؤدي إلى صراعات داخلية تمتاز بالاعتلال، ان تقديم فكرة الخوف والقوة تصنع الإنسان في المجتمعات الشرق أوسطية ذو شخصية ازدواجية لا يفتح المجال لفهم أعمق للعلاقات الاجتماعية والسياسية، ويبرر التوترات بين الهوية الفردية والتأثيرات الهيكلية التي تفرضها السلطة الى مرجعيات ميتافيزيقية وهمية.

الثقافة وتشكيلات القوة

تحدد الثقافة القيم والمعايير السائدة التي تُفسر أنواع معينة من القوة، مثل السلطة السياسية أو الاقتصادية، مما يؤثر على كيفية رؤية الأفراد للسلطة ومكانتهم في المجتمع، تعمل الثقافة على تعزيز الهويات الجماعية، مما يؤثر على كيفية استجابة الأفراد للسلطة. فالهويات الثقافية يمكن أن تُعزز التضامن أو الانقسام، تساهم الثقافة في تشكيل الروايات التاريخية التي تُستخدم لتبرير السلطة أو تحديها. الروايات التاريخية المدعومة ثقافيًا يمكن أن تُعزز من شرعية السلطة أو تُضعفها وتسهم في كيفية تفاعل الأفراد مع السلطة، مما يؤثر على السلوك الاجتماعي وسقف التوقعات. الممارسات الثقافية تُعزز نوع معين من الطاعة، حيث يمكن أن تُستخدم لتعزيز سلطة القوة وتأثيرها، مما يؤثر على كيفية رؤية الأفراد للواقع من حولهم، تلعب اللغة دورًا في تشكيل القوة من خلال قوة الخطاب والرموز التي تُستخدم لنقل الأفكار والمشاعر. اللغة يمكن أن تُعزز من قوة السلطة مثل السلطة الأبوية والسلطة الدينية، مما يؤثر على كيفية تنظيم المجتمع. المعرفة والثقافة ليست فقط تنتج القوة، بل هي عامل رئيسي في تشكيلها وتوجيهها. التفاعل بين المعرفة والثقافة والقوة يُعقد من فهم الديناميات الاجتماعية والسياسية، مما يُظهر كيف يمكن أن تتداخل العوامل الثقافية مع الهياكل السلطوية.

العولمة هيمنة ثقافية وتنميط عالمي

تؤدي العولمة، مدفوعة بقوة وسائل الإعلام والتكنولوجيا والشركات متعددة الجنسيات، إلى نشر ثقافة استهلاكية عالمية تهيمن عليها النماذج الغربية، وتحديداً الأمريكية. هذا الانتشار لا يقتصر على المنتجات مثل الوجبات السريعة (ماكدونالدز) والمشروبات (كوكاكولا)، بل يمتد ليشمل القيم، الأفكار وأنماط الحياة، تواجه الثقافات المحلية تحدياً كبيراً في الحفاظ على خصوصيتها وهويتها أمام هذا المد الثقافي العالمي. يمكن أن يؤدي ذلك إلى تراجع اللغات المحلية، والعادات والتقاليد، وتغيير الأذواق الفنية والاستهلاكية لدى الأجيال الشابة. تُستخدم الثقافة كـ "قوة ناعمة" لتعزيز الهيمنة السياسية والاقتصادية. فالدول التي تملك القوة الإعلامية والإنتاجية الثقافية، مثل الولايات المتحدة، تستطيع التأثير على وعي الشعوب وتوجيه الرأي العام العالمي بما يخدم مصالحها، تتأثر هياكل السلطة التقليدية داخل دول الشرق الأوسط بفعل العولمة بطرق متباينة، كما تساهم العولمة في إضعاف دور الدولة الوطني من خلال تجاوز الحدود السياسية والثقافية بواسطة تدفق المعلومات ورؤوس الأموال وتصبح الدول( خاصة دول الشرق الأوسط)، غير قادرة على ادارة الحكم، ويدار المشهد الداخلي وإدارة الدولة بمنهجية لا وطنية تلتقي مع بعض الطروحات المتطرفة دينيا، في المقابل تستغل بعض الأنظمة السلطوية خطاب "أخطار العولمة" لتبرير سياساتها القمعية وتغطية إخفاقاتها الداخلية، مدعية أنها تحمي الهوية الثقافية من "الغزو الخارجي". رغم ذلك لا تُقابل العولمة بالاستسلام التام دائمًا، بل تولّد أشكالاً متنوعة من المقاومة التي تعيد تعريف العلاقة بين المعرفة والثقافة والقوة كرد فعل على التنميط الثقافي حيث تسعى العديد من المجتمعات إلى إحياء تراثها الثقافي والتأكيد على خصوصيتها كشكل من أشكال المقاومة. هذا يحفز الثقافات المحلية على التطور والمنافسة بدلاً من الذوبان.

العولمة تعزز سلطة الخوف

العولمة ليست مجرد عملية أحادية الاتجاه، بل تؤدي إلى تفاعل وتمازج بين الثقافات المختلفة، مما ينتج عنه "ثقافات هجينة" جديدة تجمع بين المحلي والعالمي. هذا التهجين يمكن أن يكون مصدراً لتشكل حركات اجتماعية وسياسية عالمية تهدف إلى مقاومة الهيمنة الاقتصادية والثقافية للعولمة، وتدعو إلى نظام عالمي أكثر عدالة يحترم التنوع الثقافي ويعيد رسم خريطة القوة الثقافية في العالم، من جهة تخلق قوة ثقافية عالمية مهيمنة تميل إلى التنميط وإضعاف الخصوصيات المحلية وتعزز سلطة الخوف من السلطة بما يخدم مصالح القوى السياسية والاقتصادية الكبرى من خلال تسويق تكنولوجيا الرعب النووي والأسلحة الذكية، إن العلاقة بين المعرفة والثقافة والقوة في عصر العولمة هي علاقة صراع وتفاوض مستمر بين قوى أحادية التوجه من ناحية اقتصادية وقوى التنوع لتجاوز سلطة الخوف في بناء الانسان.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

ليست كل الحصون آمنة، وليست كل الأبواب المغلقة دليل حكمة أو "تعفف أخلاقي" أو صون للذات والهوية من "الغزو الثقافي" و"الأخطار الفكرية". ففي كثير من الأحيان، يتحوّل الانغلاق إلى بيئة خصبة للتكلّس، ويصبح الخوف من الآخر – ومن التغيير – شرارة لانهيار داخلي صامت لكنه عميق. هذا المقال هو محاولة لتأمّل مظاهر ما يمكن تسميته بـ "التعفن الثقافي"، حين تُصاب المجتمعات والجماعات وحتى النخب بما يشبه التحلّل المعرفي والركود الأخلاقي، نتيجة الإقامة الطويلة داخل جدران الهوية الصلبة، والمقولات المقدسة، واليقينيات المتخشبة. فهل يمكن تشخيص هذا التعفن؟ وكيف نرصد علاماته؟ وما الذي يُغذيه ويُؤبّده؟ ثم، هل من أمل في معالجته أو الخروج من دائرته القاتلة؟ هذا ما تسعى هذه الورقة لمقاربته عبر ثلاثية: الانغلاق، الركود، والتعفن.

إشكالية التعفن الثقافي

يمكننا القول مجازاً – وتحليلياً أيضاً – إن المجتمعات المغلقة قد تُصاب بما يمكن تسميته بـ "التعفن الثقافي"، مثل علبة مواد غذائية مغلقة تترك لسنوات حتى يتعفن ما فيها. ويكون هذا التعفن، في السياق الثقافي، ناتجاً عن الانغلاق، والعزلة، وغياب التفاعل، وتكلّس البنى الفكرية والاجتماعية، وهيمنة المقولات والسرديات التقليدية، وصنمية المفاهيم، ووثنية الشخوص والنصوص، واعتبار الإبداع بدعة، ووصم الاجتهاد بالفساد، واستمرار إعادة إنتاج المعنى ذاته دون نقد أو تفكيك أو مساءلة.

الأبواب الموصدة والنوافذ المسدودة

التشبيه بالمعلّبة المغلقة المهملة التي تُركت في الظلمة والرطوبة لسنوات حتى تعفنت هو محاولة تعبيرية لمحاكاة حال المجتمعات حين تنغلق على نفسها؛ فتمنع دخول الهواء الجديد (الأفكار المختلفة، الأسئلة الجريئة، التفاعلات الثقافية)، وتمنع خروج الهواء الفاسد (التحيّزات والقناعات المسبقة، السرديات العتيقة، والبنى السلطوية المتآكلة)؛ مما يُفضي إلى حالة ركود داخلي وانبعاث روائح خانقة لا يشعر بها مَن هم في الداخل بالضرورة.

مظاهر الجمود والتعفن

1- نخب فكرية وأدبية وأكاديمية تكرر نفسها لعقود، تُعيد إنتاج ما قالته منذ زمن، دون مراجعة أو استدراك أو تحديث. تعيش هذه النخب في وهم "الأصالة" الذي هو في الحقيقة "أصولية" تجرّ المجتمع إلى الوراء.

2- خطابات سلطوية؛ أيديولوجية وثقافية ودينية لا تتحمل النقد، وتُحَرِّم التفكير خارج القوالب والخنادق. وتحافظ على ديمومة هيمنتها عبر استمرارية القولبة الفكرية والخندقة الثقافية للأجيال الجديدة.

3- مجتمعات تُجَرِّم المختلف، وتحكم بالنفي والاستئصال على المخالف، وتطرد مَن لا يشبهها، وتخشى الأسئلة لأنها تهدد "نقاءها"؛ في حين أن رفض النقد والمراجعة، هو في الواقع، يهدد "بقاءها"!

4- مراكز حضرية متوجسة من "الغرباء" و"الدخلاء" و"الوافدين"، ومدن تاريخية تتقوقع على رموزها ورمزيتها ومقولاتها المتوارثة، وترفض أي تجديد أو انفتاح أو اتصال بالخارج خوفاً من فقدان "تميّزها الثقافي"، أو زوال شرعية التفوق والفوقية التي تعتاش عليها نخبها وطبقتها المهيمنة.

5- عوالم وبيئات هوياتية أو فئوية أو طبقية أو جهوية "تُقدِّس" ذاتها وتنطوي عليها وتنظر من "ثقب بابها المسدود" أو عبر "عدساتها الثقافية الملوّنة بعبادة الذات ومشاعر العظمة والارتياب" إلى العالم، وتعيد إنتاج هذه الذات من دون أي محاولة لمناقشة السائد أو محاكمة المألوف أو التفكير في المسكوت عنه.

6- اتجاهات أصولية ونزعات محافِظة تحتكر الحق والحقيقة، وتُشهر سلاح التكفير والتخوين في وجه كل من يفكر بطريقة نقدية أو تساؤلية وتُصدر أحكام الإقصاء الاجتماعي والاستبعاد السياسي والإعدام المعنوي والاغتيال الاخلاقي بحق كل من يسعى للتفكيك والتجديد وفتح آفاق التطور الفكري والثقافي.

مآلات التعفن

يؤدي التعفن الثقافي في المجتمعات المغلقة إلى تشوه عميق في البنية الأخلاقية والاجتماعية، إذ يُفضي إلى الظلم الاجتماعي عبر إعادة إنتاج المركزية والرمزية والشرعية لصالح الفئة التي تقدم نفسها بوصفها المدافعة عن الهوية والنقاء. كما يتسبب في الانسداد السياسي بمنع تداول السلطة وحراك الأفكار وتنافس المشاريع، وفي غياب العدالة الاقتصادية من خلال احتكار الموارد من قِبل الطبقات المسيطرة.

وما يُفاقم المأساة أن هذه النخب المتكلسة توهم نفسها بأنها تحافظ على القيم والأخلاق من خلال الانغلاق تحت شعار "حماية الخصوصية الثقافية" و"المحافظة على الهوية"، في حين أن الواقع يُفرز المزيد من المهمّشين والمظلومين نتيجة انعدام العدالة حيث يتحوّل الخطاب الأخلاقي إلى مجرد غطاء للهيمنة وتكريس الفساد السياسي والتفاوت الطبقي، مما يجعل مآل هذه المجتمعات مآلاً غير أخلاقي على الإطلاق، حتى وإن تزيّن بشعارات الفضيلة.

تعفن نخبوي

في السياق النخبوي، يُمكن أن يُصاب المثقف أيضاً بهذا العفن حين يصبح حارساً للمعنى بدل أن يكون مولّداً له؛ حين يتحوّل من ناقد إلى ناقل لخطاب السلطة ولكن بصيغة ثقافوية، وحين ينتقل بوظيفته الاجتماعية والفكرية من مُزعزع للجمود والتقليد إلى مدافع عن الوضع الراهن ومجمّل ومُجامِل ومبرّر له.

فالنخب، حين تعيش في صوامع نخبوية أو فئوية أو مؤسسية منعزلة عن المجتمع ومنخفضة السقف وضيقة المساحة (مريحة للذات ولكنها خانقة الإبداع)، ودون احتكاك مع الواقع أو مع المغاير، تفقد حساسيتها الضميرية وتبدأ بالتكلّس.

البيئة المغلقة ليست بالضرورة منطقة أو مكان أو مؤسسة. إنها سجن هوياتي وزنزانة ذهنية وقبو نفسي، وقد تتجلى في تراث ثقافي قومي أو ديني أرهقه التكرار والاستعادة والاستهلاك السياسي، أو هوية جماعية مأسورة لسرديات النقاء والمظلومية والأفضلية، أو نزعة حزبية متمترسة ومرتابة، أو عقيدة سياسية منفصلة عن الواقع، أو مدينة محافِظة متخوفة من رياح التغيير والتحوّلات، أو انتماء نخبوي متعالٍ، أو وضع طبقي قلِق أو "أسرة عريقة" أو "إرث مجيد" أو "تاريخ تليد" أو مصلحة ذاتية أو أسطورة نرجسية، شخصية أو حزبية، أو عالَم من الأوهام والخرافات والنظريات التي اكتسبت قداسة إسمنتية وحصانة خرسانية وأحيطت بأسوار فولاذية مكهربة فلا يصلها النقد ولا تطالها المساءلة.

لماذا يحدث هذا؟

1- الخوف من الفقد والاختلاف؛ فقدان السلطة والمكانة والهوية والتميّز والامتيازات. يتغذى الخوف على نقص المعرفة، وعلى نفعية الطبقة المهيمنة التي تكرّس الجهل المقدس وتستثمر في مخاوف الجمهور في سردياتها وخطاباتها.

2- هيمنة الماضي على الحاضر، واتخاذه مرجعية قيمية وأخلاقية واجتراره وإعادة تأويله بما يخدم استمرارية الوضع الراهن وبقاء الحال على ما هو عليه.

3- غياب التواصل الأفقي مع الخارج (التجارب الفكرية والسياسية الأخرى، الثقافات المختلفة، الأجيال الجديدة).

4- غياب التواصل العمودي مع التاريخ (قراءة الماضي في سياقه وظروفه، فهم الحاضر بواقعية، استشراف المستقبل).

5- انعدام الحوافز للتجديد داخل بنية لا تُكافئ التغيير، بل تحتفي بالأفكار المحافِظة التي تبجّل الماضي والأنا والأصل والهوية.

ما المضاد الحيوي لهذا العفن؟

1- الانفتاح والاحتكاك والتفاعل (مع المختلف والمخالف؛ شخصياتٍ وسردياتٍ ومفاهيم، ومع التنوّع، ومع العالم الخارجي سواء كان فكراً جديداً أو جغرافيا بشرية شاسعة أو تاريخاً مدوّناً بصيغة مغايرة للمتعارف والمتواطأ عليه).

2- إدراك أن المعرفة جدلية بطبيعتها، ونسبية في تموضعها، وتكاملية في بنيتها، وتجريبية في صيرورتها، وتأويلية في سياقيّتها، ومستدامة في تطورها.

يُشكل هذا الوعي كاسراً جوهرياً لحالة الركود الثقافي التي تعانيها المجتمعات والجماعات والمؤسسات المغلقة. فحين يُفهم أن الحقيقة ليست مُنجزة ولا نهائية، بل هي دائماً قيد التشكّل عبر الحوار والصراع والسؤال والتجريب، تصبح البنى الفكرية أكثر مرونة واستعداداً للنقد والتنقيب والتجاوز، وتصبح المعاني المختلفة والمتناقضة قابلة للتعايش والتجاور والتحاور. وهكذا، يُسهم هذا الوعي في تفكيك الجمود، لأنه يُخرج المجتمع من أوهام الامتلاك المطلق للمعنى، ويفتح الأفق أمام تجدّد لا ينفي الماضي لكنه لا يُؤلِّهه، ويُفسح المجال لنهضة تقوم على الحَراك لا الجمود والحِران في المكان، وعلى التلاقح لا التناطح.

3- إثارة الأسئلة المقلقة تمثل أحد المضادات الحيوية للتعفن الثقافي؛ فهي تُربك الطمأنينة المزيفة التي تنشأ من الاجترار والتلقين والخوف من المجهول. ليست وظيفة السؤال هنا أن يُجاب مباشرة، أو أن يستدر ردوداً نموذجية جاهزة ومريحة، بل أن يستفز العقول، أن يُحرّك الرواكد، أن يُحدث خلخلة في البنى المتيبسة للوعي وزعزعة في المفاهيم المستقرة. فالطمأنينة التي لا تُختبر بأسئلة صعبة هي طمأنينة وهمية، تعيش على الإنكار والتواطؤ مع السائد. وحدها الأسئلة الجذرية، التي تناقش الأفكار بهدوء وذكاء ولا تطعن في الأشخاص أو تستهين بالجمهور أو تزدري مشاعره، هي القادرة على فتح النوافذ في العلبة المغلقة، لتدخل شمس النقد وتغادر ظلمة التقديس.

الحرية شرطاً للتجدد والانعتاق

الحرية، بما هي فسحة تجريب وجرأة على الخروج من العلبة قبل أن تتعفن الروح، ليست ترفاً فكرياً ولا مطلباً سياسياً فحسب، بل ضرورة وجودية لمقاومة التكلّس الداخلي والانغلاق القاتل. إنها القدرة على التنفس خارج الجدران الذهنية وعتمة الغرف العقائدية المغلقة، وعلى اختبار الأفكار لا وراثتها، وعلى مساءلة المألوف لا التسليم له. ففي بيئة قامعة للفكر، تختنق الروح، لا بفعل الاضطهاد المباشر فقط، بل أيضاً بفعل الطاعة الصامتة والجمود الطويل والاستسلام للموروث. الحرية هنا ليست شعاراً بل شرطاً للحياة الثقافية، والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، إذ لا تجديد بلا مغامرة عقلية ومجازفة إبداعية، ولا نهضة بلا تحدٍّ للمسلّمات الراسخة، ولا أفق بلا شجاعة كسر العلبة قبل أن تتحوّل إلى مقبرة للمعنى.

إن أخطر ما في "التعفن الثقافي" أنه لا يُرى من الداخل بسهولة، بل يُشمّ فقط من الخارج. أما مَن هم في قلبه، فقد تعايشوا مع رائحته، أو اقتنعوا بأنها عطر النقاء وعبير القيم السامية. إن مقاومة هذا التعفن لا تكون بالشعارات، بل بخلق مناخ دائم من الانفتاح، والاحتكاك، والشك الخلاق، والسؤال المربِك والومضة المستفزة للفكر والوعي الذي يشجّع العقول على مغادرة منطقة الراحة الفكرية والاسترخاء المعرفي. ولا يُمكن لمجتمع أو نخبة أو مؤسسة أن تتجدد ما لم تُدرك أن بذور الأفكار الحية تحتاج هواءً نقياً وأرضاً محروثة وماءً متدفقاً وشمساً مشرقة وسواعد نشيطة، لا بيئة مغلقة ومعقمة تظن أنها تحافظ على النقاء والأصالة بينما هي تكبت الحياة وتلجم التغيير وتكبح المستقبل. التجدّد لا يبدأ بالثورة على الآخر بل بالمساءلة الصادقة للذات، وكل انغلاق على الذات هو أفول مؤجل، وإن تأخر إعلانه.

هذا المقال لا يهدف إلى التحريض على التصادم مع المجتمع، بل هو دعوة للتفكير خارج الصندوق، وكسر جدران العلبة الفكرية التي كبّلت الروح وخنقت العقل، ورفض التعليب الذهني والقولبة المفاهيمية والهندسة الثقافية التي تُفرَض باسم العادات أو المقدسات أو "الهوية". إن الرفض الذي ننادي به هنا ليس عدائياً ولا فوضوياً، بل هو رفضٌ عقلاني، نقدي، وجدلي، يهدف إلى التغيير الجذري العميق والحفر البنيوي في السائد ولكن بأسلوب هادئ وصبور، لا بعقلية إعلان الحرب ولا بمنطق المواجهة الصِدامية مع المجتمع، بل من خلال زرع الأسئلة لإنارة الوعي بدل إشهار السيوف، وإيقاد الشموع لإضاءة العتمة بدل لعنها.

***

همام طه

يقول صامويل بيكيت: "بضع دقائق من التفكير وضعت الإيجابيات والسلبيات في توازن دقيق للغاية لدرجة أنني، كما هو الحال دائمًا، وجدت نفسي مضطرًا إلى عدم فعل أي شيء".

حالة الشلل التي يتحدث عنها بيكيت تخصنا اليوم، سواء من حيث المساحات المتاحة للعمل أو فيما يتعلق بمجال الحوار. نحن نعيش في زمن المحاور المفقود وأزمة في مساحات الممكن. لا نعرف مع من نتحدث أو لمن نكتب، ولا مع من نتحالف. صمت صاخب وسط وحدة مزدحمة يشكل أحد أكثر مفارقات العصر الحديث الأكثر تعقيدًا.

ورغم أنه يمكن الافتراض بأننا نقضي الجزء الأكبر من وقتنا في الحديث إلى أنفسنا، أي في الحديث مع ذواتنا، إلا أننا، عند التأمل جيدًا، لسنا وحدنا أبدًا. إن لم يكن بسبب التداخل الطبيعي بين الذوات، وهو ما تتحدد به هويتنا الفردية ولا يمكننا الانفصال عنه.

إن عدم القدرة على الاستغناء عن الآخر والإدراك بأننا عندما نتحدث أو نكتب، فإننا نفعل ذلك دائمًا لشخص ما، يضعنا أمام المفارقة المؤلمة للعصر الحديث. فنحن غارقون في زحام افتراضي وواقعي متزايد، ومع ذلك نشعر بوحدة متفاقمة. إن ما يتعرض للهجوم هنا هو حالة الوجود ذاتها، والتي أثبتت أنها لا غنى عنها بالنسبة لنا، إذ نحتاج إلى الآخر لكي نتمكن من التعرف على أنفسنا.

السرد، الحوار، والكتابة، التي تكتسب معناها من خلال التفاعل والاعتراف المتبادل، أصبحت اليوم تجارب تعاني من غياب الآخر كمرآة للتواصل. وهكذا، لمن نتحدث؟ ومع من نتحاور؟ ولمن نكتب؟ ليس لأن الآخر غير موجود، بل لأنه غالبًا ما يفشل في أن يكون محاورًا قادرًا على إحداث صدى واعتراف متبادل.

نتيجة لذلك، نجد أنفسنا عاجزين عن التعبير في العديد من المواقف، وعندما نتمكن من التعبير، فإن كلماتنا كثيرًا ما ترتد إلينا فارغة من المعنى.

من بين الأمور العديدة التي أدين بها للكاتب دانييلي ديل جوديتشي، هناك اثنتان ترافقانني باستمرار: تحذير وسؤال. التحذير يتعلق بوجوب العناية عند الدخول إلى اللغة، أما السؤال فهو: "اليوم، مع من تتحدث؟" أي أين نجد محاورًا حقيقيًا يمكننا أن نبني معه حوارًا يتيح لنا فهمًا تعاونيًا أو حتى جدليًا، لكنه يظل حوارًا منتجًا؟ أين نجد دائرة المعترفين ببعضهم البعض؟

قبل كل شيء، نحن نصل إلى اللغة، نبلغ الكلمة، وإذا ساد زمن نجد فيه عوائق للوصول إليه، فمن الحكمة أن نتساءل عن الأسباب ونتعلم منها. فاللغة ليست أمرًا بديهيًا، وعند تأمل أزمتها في أشكالها المنطوقة والمكتوبة، لا ينبغي أن نتجاهل إساءة استخدامها، والتي تتجلى اليوم في أشكال من التسرع، السطحية، الابتذال، الإسهاب، والهوس بالكتابة. ربما يمكننا أن نكتشف قيمة الانتظار، ومعنى الصمت الثمين، إلى جانب قدرته على توليد المعاني.

إن أهمية الوصول إلى اللغة لا تكمن فقط في إنتاج السرد، بل أيضًا في الانتظار والاستعداد، في تلك المساحة الزمنية الفاعلة التي تحمل معناها في وجودها نفسه، في مدتها، وفيما تنتجه دون أن تتحول إلى سرد واضح ومباشر. قد تتجلى هذه القيمة بشكل أكثر وضوحًا عندما نمتنع عن اختزال المشاعر العميقة أو الأحاسيس الأولية في مجرد رواية سطحية. فـما لا يمكن سرده ليس فقط ما لا نستطيع التعبير عنه بالكلمات، بل أيضًا ما يمتلك قوة تحولية لأنه يبقى غير معبَّر عنه، غير متاح للتواصل الظاهري والمشترك.

ومع ذلك، حتى من لا يروي أو لا يكتب، فإنه يقوم بفعل موجَّه نحو الآخر. فهو يسعى إلى احتواء التعبيرات العفوية والطبيعية للعلاقات الإنسانية ولتفاعلنا المتبادل. ولكن ما هي نتائج ذلك؟ هل تؤدي إلى الإبداع والتجديد، أم إلى الانغلاق والانهيار الداخلي؟

في أحد أبيات قصيدته Filò، يقطع الشاعر أندريا زانزوتو سلاسة النص باللهجة المحلية فجأة بعبارة يونانية: Logos erchomenos، أي "اللغة التي تأتي". يتحدث عن سرد ينبثق من حيث لا توجد كتابة ولا نحو، من حيث يبقى اللوغوس دائمًا في حالة قدوم، دون أن يتجمد في لحظة محددة، ودون أن يفقد براءته الأولى في تعبيره.

لكن هناك نوعًا آخر من التوقف، ليس بوصفه ولادةً للغة، بل تجميدًا لإمكانية القول والكتابة. إنه التجمد العاطفي والعلاقاتي الذي يخنق الكلمة قبل أن تنطق، حين لا يجد الصوت من يستقبله، وحين لا يجد المعنى صدى يبعثه للحياة.

نحن لا نتحدث هنا عن ما لا يمكن قوله أو ما يتعذر التعبير عنه، ولا عن ما يصبح صوته مجرد ضجيج أو يكون صمته أكثر بلاغة من التلفظ به، ولا حتى عن ما يؤدي التعبير عنه إلى تجميد المعنى أو إغلاق الفراغ الضروري لتطور الدلالة.

بل نتحدث—ويا للمفارقة أن نكتب عن ذلك بينما نقول إننا لم نعد قادرين على الحديث أو الكتابة—عن الكلام الذي يمكن أن يُقال لكنه لا يُقال، لأنه لا أحد يتوقع أن يُسمَع؛ عن ما يمكن التعبير عنه، لكن لا جدوى من ذلك، لأن لا أحد سيصغي إليه؛ عن الكلمات التي إذا نُطقت فلن تخرق الصمت، بل ستزيد من ضجيج العالم الفارغ.

من المرجح أن ذلك حدث عندما بدأنا نتمكن من احتواء الصمت التأملي، وعندما بدأنا نتحدث إلى أنفسنا، أي نخوض في حوار داخلي، مما أدى إلى تطور الفكر الرمزي وإلى نشوء التعاون والتشارك المجتمعي. يبدو أن التعددية والتنوع المشترك، انطلاقًا من التأمل في التنوع الداخلي، إلى جانب دور الاتصال التعاوني، كانا عاملين حاسمين في تجاوز الأفعال الفردية الفورية والبسيطة، والابتعاد عن مجرد تقليد العادات والتقاليد.

في اللغة، كلمة "ما وراء" تحمل معنيين: فهي تشير إلى مكان وزمان في آنٍ واحد. وبالتالي، فإن تجاوز الواقع الحالي لا يعني فقط وضع المستقبل في مركز الاهتمام بدلاً من الحاضر، بل يعني أيضًا خلق مساحات جديدة للإمكانات والاحتمالات. في كلا الحالتين، القدرة على احتواء الذات والانفتاح على الآخر هي المفتاح الأساسي لصنع المستقبل.

من الواضح أنه لا يمكن أن توجد علاقة إنسانية حقيقية دون تقارب، تمامًا كما لا يمكن أن يوجد "لوغوس" (كلام منطقي) دون "ديا" (بُعد تفاعلي): أي "ديالوغوس" (حوار)، ولا يمكن أن توجد صورة دون فعل: أي "تخيُّل". الصمت ليس مجرد غياب للكلام، بل هو نقيض تشغيل الفكر من خلال صدى الآخر في داخلنا.

اليوم، بات من الواضح أن "الذات" و"الآخر" لا يُولدان منفصلين، بل يتشكلان من خلال العلاقة البينية بين الأفراد. فكوننا كائنات تفاعلية هو الذي يسمح لنا بأن نصبح ذواتًا مستقلة، حيث تسبق التفاعلية الإنسانية الوعي الفردي وتُشكّله. ولكن ذلك مشروطٌ بأن تعمل الكلمة التي يمكن قولها داخلنا قبل أن تُقال، أو حتى لو لم تُقال أبدًا.

الحوار هو البوتقة التي يمكن من خلالها لصراعات الذات أن تتخلى عن تصلبها الدفاعي، وأن تحاول، عبر ممارسة "الأنا الأقل"، الوصول إلى "منطقة اللقاء"، حيث يحدث الانسحاب المؤقت للهوية الفردية، لا من أجل القضاء على الاختلافات، بل بهدف إعادة تعريف الذات في سياق العلاقة مع الآخر. هذه العملية لا تؤدي فقط إلى نقل شيء من الذات إلى الآخر، بل تتيح لكليهما أن يصبحا شيئًا مختلفًا عمّا كانا عليه سابقًا.

ما يجعل الحوار—سواء كان عاطفيًا، سياسيًا، أو علاجيًا—مساحة للتطور، هو "منطقة اللقاء"، حيث الفرصة الحقيقية تكمن في أن تصبح "آخر" وأنت تظل نفسك، عبر عملية تحول ذاتي ناتجة عن التفاعل وإعادة تشكيل المعنى. ولكن شرط هذا التحوّل هو وجود الآخر الذي يمكننا التحدث إليه—وهذا ما نفتقده اليوم.

عدم الحديث مع الآخر وعدم خلق مجال للحوار يعني مشاهدة تحول في طبيعة الإنسان ذاته.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

 يُعتبر التعليم المدماك الأساس لتحقيق التنمية المستدامة، ورافعة ضرورية لتحقيق التقدّم، لكن بعض البلدان، ولاسيّما النامية، ومنها البلدان العربية، حوّلت التعليم إلى سلعة محكومة بمنطق السوق والربح، في حين أن التعليم هو حق إنساني وحاجة لا غنى عنها لتنمية المجتمع وتطوّره. وقد نصّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 26 (فقرة أ) على أن "لكل شخص الحق في التعليم. ويكون التعليم مجانيًا، على الأقل في مراحله الابتدائية والأساسية. ويكون التعليم الابتدائي إلزاميًا".

تدهور مستوى التعليم

تدهور مستوى التعليم في العقود الثلاثة ونيّف المنصرمة وتدنى محتواه، وابتعد كثيرًا عن متطلبات التنمية المستدامة، التي تعني توسيع "خيارات الناس"، في الوقت الذي يزداد فيه اللهاث للحصول على شهادات أكاديمية لا ترتقي إلى معايير الحد الأدنى من المعرفة المطلوبة، ناهيك عن أن بعضها لا تستكمل الشروط الأكاديمية المعروفة.

ولهذه الأسباب طفحت ظاهرة تسليع التعليم، خصوصًا من الجامعات الخاصة لدرجة أصبح منتجًا تجاريًا يُباع ويُشترى، وتحوّل إلى بضاعة استهلاكية تخضع للعرض والطلب يتمّ تسويقها وترويجها بشتّى الطرق القانونية وغير القانونية، لاسيّما بطغيان المنافع الخاصة والمطامح الشخصية، حتى تحوّلت العلاقات السامية بين المعلم والتلميذ والأستاذ والطالب من الاحترام والتقدير إلى الجشع المادي أحيانًا. وتناسى الكثيرون قول الشاعر أحمد شوقي:

قم للمعلم وفه التبجيلا / كاد المعلّم أن يكون رسولا

وأصبحت الدروس الخصوصية مسألة شائعة في العديد من البلدان العربية، وأصبح الكتاب الجامعي أو المدرسي أداة للاسترزاق، بما فيها الملخصات الجامعية وكتابة أطاريح الماجستير والدكتوراه أحيانًا، وزاد الأمر تعقيدًا استسهال البعض استخدام الذكاء الاصطناعي دون تعب يُذكر أو مجهود يُبذل أو مستوى معرفي وعلمي يُذكر، حتى صار اللقب العلمي مثارًا للسخرية تتندّر فيه بعض الأوساط، وبات الحصول على الشهادة، بغض النظر عن مصدرها، وسيلة للارتقاء بالمناصب الحكومية والوجاهة الاجتماعية، والأمر انعكس على مستوى الأبحاث الأكاديمية، التي جاءت بعيدة عن الابتكار والإبداع، بل هي اجترار لما قبلها ونقل وحشو للمعلومات في أحيان كثيرة.

لقد تضخّمت نسبة الحاصلين على شهادات عُليا (بعضها مزور)، فضلًا عن ذلك لا يأخذ بنظر الاعتبار حاجة البلد إلى الاختصاصات، إضافة إلى متطلّبات التنمية، وهكذا واجهت العديد من البلدان العربية جمهورًا عريضًا من الخريجين فائضًا عن الحاجة أو في اختصاصات غير مواكبة للتطوّر، في حين أن بلادنا وعموم البلدان النامية بحاجة إلى الكوادر الوسطية والدراسات المهنية (البوليتكنيك - (Polytechnic، التي ما يزال الاهتمام بها محدودًا.

 فحتى في الغرب الرأسمالي، المحكوم بحريّة السوق، فإن التعليم لا يُعتبر سلعةً، بل إن نسبة الجامعات الخاصة في الولايات المتحدة، على سبيل المثال لا الحصر، لا تزيد عن 10% من إجمالي عدد الجامعات ومعظمها مؤسسات تاريخية، أي أن المعايير العلمية هي التي تسود فيها وليس منطق السوق والأرباح المادية، إضافة إلى ذلك فإنها تخضع لرقابة صارمة من جانب الدولة، بما فيها مراقبة أجور الجامعة وضمان جودة برامجها وكفاءة الأساتذة والإداريين، كما أن مخرجاتها يجب أن تتوافق مع خطط التنمية ولا تتعارض مع السياسة التعليمية للدولة ومصالحها.

وإذا كان عصرنا، ونحن على عتبة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين، يزدحم بسرعة تدفّق المعلومات لدرجة أقرب إلى الخيال، في ظلّ الطور الرابع من الثورة الصناعية، الذي شهد الطفرة الرقمية "الديجيتال" واقتصادات المعرفة والذكاء الاصطناعي، فإن الحاجة إلى أنسنة التعليم تعتبر مسألة حيوية وهي فرض عين وليس فرض كفاية.

وأنسنة التعليم تعني مراعاة حاجات المتعلمين بهدف تنمية العلاقات الإنسانية وروح التعاون وتعزيز المهارات للتعامل والتفاعل مع الآخرين، من خلال محتوى المناهج وطُرق التدريس وأساليب التقويم وطبيعة العلاقات بين المعلّم والتلميذ والأستاذ والطالب، فضلًا عن الإدارات المدرسية والجامعية.

والأساس الفلسفي لأنسنة التعليم يعتمد على أربعة جوانب؛

أولها - الجانب العقلية، وثانيها - الجانب الوجداني؛ وثالثها - الجانب النقدي؛ ورابعها- الجانب المهاراتي.

وكان عالم النفس الأمريكي كارل روجرز (1902 - 1987) قد وضع معايير للتوجه الإنساني في ميدان التعليم بالتعاون مع عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو (1908 - 1970) الذي اشتهر بنظرية تدرّج الحاجات، ، فالأول استند على الشروط النفسية للتعليم، إضافة إلى التنمية الوجدانية والمعرفية، فضلًا عن الخبرة، يضاف إليها حريّة التعبير عن الرأي واحترام رأي الآخرين والمساعدة على فهم أنفسهم من خلال فهم الآخر. أمّا الثاني فقد اهتم بدوافع المتعلمين والنمو الاجتماعي ومهارات الاتصال، ووضع هرمًا لحاجات المتعلّم، تقوم قاعدته على الحاجات الفيسيولوجية، أما قمته فهي تحقيق الذات، وهذه يمكن تلبيتها من خلال منح المتعلم مدىً واسعًا من التجارب والخبرات.

يُعتبر المتعلّم هو محور العملية التعليمية، في حين أن المعلّم هو المرشد والمسيّر والموجّه لها، ومهمته إرشاد المتعلمين نحو المعرفة، ولا بدّ من ارتباط المنهج بقضايا المجتمع وحاجات الطلبة واهتماماتهم، وذلك بهدف تحسين جودة التعليم استجابةً لسمة العصر، وتساوقًا مع المستجدات والمتغيّرات والاكتشافات العلمية السريعة، ويبقى الهدف إعداد مواطنين صالحين يمتلكون مهارة التفكير النقدي والمسؤولية الاجتماعية، من خلال توفير بيئة تعليمية ونفسية سليمة بعيدة عن العنف وفرض الرأي، واعتماد الحوار وسيلة للإقناع.

تقرير اليونيسكو

ما تزال بلداننا العربية تواجه العديد من التحديات في مجال التعليم وعلاقته بالتنمية على الصعيدين الفلسفي والنظري من جهة، والعملاني والتطبيقي من جهة أخرى، بما فيه توفر الأدوات اللازمة لتحقيق الأنسنة. وقد أصدرت منظمة اليونيسكو تقريرًا جديدًا عن التعليم تضمّن معالجات مهمة على الصعيد الكوني، وقد قدّم عبد الباسط بن حسن، وهو عضو اللجنة الدولية التي أعدت التقرير ورئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان قراءةً عميقة ومكثفة له في جلسة حوارية لعدد من الخبراء، التأمت في معهد الفنون الجميلة بمدينة سوسة (تونس)، ناقشت مستقبل التعليم وعلاقته بالثقافة والفنون بشكل عام والسينما بشكل خاص على هامش مهرجان سوسة السينمائي الدولي.

الجدير بالذكر أن أكثر من 500 منظمة دولية شاركت في تقديم ملاحظاتها لإنجاز التقرير، وتم فيه استطلاع رأي نحو مليون و500 ألف شخص، علمًا بأن اللجنة التي أعدته مؤلفة من 18 خبيرة وخبير ويرأسها رئيس جمهورية أثيوبيا السابق مولاتو تيشومي، وقد نظّمت مؤتمرًا دوليًا انعقد في سيول (كوريا الجنوبية) شارك فيه نحو 200 معني بقضايا التعليم والتربية، وساهموا في مناقشة الصيغة الأخيرة له، وصدر ﺑ20 لغة.

تحديات وأفكار

 ويمكن تأشير التحدّيات الموضوعية والذاتية التي تواجه التعليم، والتي قادت إلى تراجعه وأهمها: الحروب والنزاعات المسلحة والتغييرات المناخية وغياب العدالة الاجتماعية وهيمنة السوق والاستهلاك، إضافة إلى التعصب ووليده التطرف ونتاجهما العنف والإرهاب، ومثل هذا التراجع هو انعكاس للتراجع العام في مجالات النفع العام كالصحة والنقل والمستلزمات المتعلّقة بذوي الاحتياجات الخاصة وغيرها.

ويسلّط تقرير اليونسكو الضوء على أفكار أساسية جوهرها يتعلق بأسباب فشل التعليم، إْذ لابدّ من تشخيص الخلل ومعرفة الأسباب، وبالتالي وضع المعالجات لتجاوز أزمته، وهذا يستوجب مراجعه التجارب السابقة لتحديد الإيجابيات التي ينبغي الحفاظ عليها، ومن ثم البحث فيما تحتاجه لتحسين الأداء التعليمي، إبتداءً من البيئة التعليمية والتربوية والإدارة والمعلم والطالب، استنادًا إلى عدد من المبادئ المهمة:

 أولها - جعل التعليم أولوية، وهذا يتطلب "أنسنة" التعليم، ومن خلاله يمكن "أنسنة" المجتمع.

 وثانيها - اعتبار التعليم حق أساس من حقوق الانسان، وهو ما نصت عليها الشرعة الدولية لحقوق الانسان، إذْ لا يمكن الافتئات عليه، سواء للكبار أو لمحو الأمية او للتعليم الشعبي.

وثالثها - الخروج من سلعنة التعليم لأنه منفعة مشتركة وعامة، وليس بضاعة للكسب والاستغلال.

 ورابعها- اعتبار التعليم مسألة تعاونية، وهذا يقتضي مراجعة سياسات الفضاء التعليمي ككل بمشاركة الجميع، فالأمر لا يخص وزارات التعليم والتربية أو هذه الإدارة أو تلك، بل يشمل الجميع لتطوير المهارات والتدريب على الممارسة الحرة وقبول التعددية والتنوع.

 وخامسها - استخدام الحوكمة في مجال التعليم حتى مع نقص الموارد، ولكن بحوكمتها وتنويعها يمكن الوصول إلى نتائج مهمة.

 والمقصود بالفضاء التعليمي معرفة الغير أولا، وبناء الفكر النقدي ثانيًا، في إطار تأهيل المعلمين والمعلمات والمربيين والمربيات لخلق بيئة أمنة اجتماعيًا، وبالتالي تطوير حق التعبير للطلبة ومنظماتهم المهنية.

عقد اجتماعي جديد

ويرتكز تقرير اليونيسكو على فكرة جوهرية أساسها "عقد اجتماعي جديد" يقوم عليه التعليم باعتباره عموميًا ومجانيًا، وهو ما يحتاج إلى أنسنته وتطوير طرقه ومناهجه لرفع مستواه، وذلك بالتعاون مع المجتمع المدني، وخلاصته أن  حصيلة الماضي كانت طائفة من الوعود غير المتحققة، الأمر الذي أصاب العديد من المجتمعات بخيبة أمل، فضلًا عن المعنيين بالإصلاح والتجديد، لذلك لا بدّ من التوجه إلى وضع "الأنسنة" مقابل "السلعنة"، فقد قادت سلعنة التعليم إلى تدمير المجتمعات، بجعل التعليم سلعةً وليس حقًا وواجبًا في الآن، الأمر الذي احتاج إلى تنمية الفرص، والاستفادة من جميع  المجالات لتحقيق هذا الهدف، ولاسيّما الفنون.

ولعلّ الفنون تُعتبر إحدى السبل الاكثر جدارة على إدراك التصورات العلمية بتغيير الفرص وجعل الثقافة جزءًا لا يتجزأ من الحياة، والفن هو التعويض الأكثر قدرة على إدراك ما أهملناه في الماضي، خصوصًا حرية المعلم في وضع البرامج وتكييفها تبعًا لمستوى الطلبة، بحيث تكون العلاقة أفقية في العملية التعليمية، وليست عمودية والفضاءات اجتماعية وأفقية كذلك.

 ﻓ "الأنسنة" تقتضي "العقلنة"، أي جعل العلم ثقافة، والتربية على التفكير العقلاني العلمي طريقة ناجحة بعيدًا عن الغيبيات والخرافات والوثوقية الإطلاقية، وادعاء امتلاك الحقيقة والأفضلية على الآخر. وهذا يتطلّب إعادة النظر بالعملية التعليمية برمّتها بهدف إصلاحها وتجديدها، إذْ يقتضي الأمر فهم التراث والاستفادة من إيجابيات الماضي وتوظيفها في عمليات التغيير المنشودة، فلا عصرنة دون تراث ولا حداثة دون تاريخ.

ولعلّ ما هو أكثر أهمية، هو الاستفادة من خير ما في الماضي للتجديد والإبداع والابتكار والتطوير لتنمية المهارات والقدرات وتهذيب الذوق الإنساني، وبالثقافة يمكن إدراك العلاقة العضوية بين الحداثة والقدامة والمعاصرة والأصالة، بحيث يمكن توظيف ذلك من خلال المساواة بين الذكور والإناث وبين الريف والحضر، بمعنى توفير الفرص والتمييز الإيجابي، وذلك يحتاج إلى جعل التعليم عموميًا ومؤسسًا بفلسفة المدرسة العمومية.

 وإذا ما حدث أي تطور إيجابي في الوضع العام، فإنه سينعكس إيجابًا كذلك على التعليم، ذلك أن تطوير التعليم يعني تطوير الحياة، وتقديم رؤية إصلاحية للحاضر والمستقبل، تأخذ بنظر الاعتبار التجارب الدولية الناجحة للاستفادة من دروسها وعبرها دون استنساخها أو تقليدها بمراعاة ظروف كل مجتمع ودرجة تطوّره وحاجاته الفعلية.

***

د. عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكر

هل تكون الحقيقة سجنا للأفكار ومجتمعا لتصريف المعلومات، مهما كانت تقديراتها في الرصد والتجميع والاستقصاء؟. ذلك، أن مسألة التحقق من صحة الأخبار في عملية التتبع الإعلامي، عند تنوع المحتوى، وتشاكل مديات الصور والفيديوهات والتحديثات الشخصية، يوازي في القيمة والتأثير تحسين الأداء الصحفي والإعلامي مع الحرص على تقديم معلومات وبيانات صحيحة، بغاية التداول والنشر وإدارة المعرفة. وهو أمر لا يجاوز البتة بحثنا عن الحقيقة من داخل الصندوق، مع الاعتبارات الموضوعية والثقافية والقانونية، للمحتوى، والذي من أهم خصائصه التي يقوم عليها، التقصي الدقيق ووضع معايير سليمة لكيفية التحقق من الأخبار المكذوبة، ما ينتج عن ذلك كله، من عوامل التدقيق في عناصر الصورة أو الفيديو، كما هو الحال بالنسبة، للزمن والمكان والعلامات الظاهرة والصوت واللغة والمظهر العام للأشخاص.

نعم، الإعلام ينصت لضمير الحقيقة أنى اقتفت أسرارها، وأنى جاوزت مظانها، حيث لا يقصر التفكير في النبش عن مصدرها، دون امتلاك الأدوات والمفاعيل التي تجعل من المغامرة فيها وعدم تجاوز نظامها، أمرا محذورا ومتجاوزا. فهي تلقط أنفاسها من حالة التشكك، والإيغال في تفكيكها إلى وضع لا يلتبس ولا ينوء إلى نقض البراهين. وهو ما يجد محذوراته وتوابعه السلبية أكثر اصطراعا وتجاذبا، مع شيوع وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وتحول وسائل الإعلام في عمومها، إلى الطفرة الرقيمة، وبات من اليسير والمتناول تداول معلومات وبيانات مدهونة بالمحتويات الكاذبة المفبركة والزائفة.

وليس خافيا على مهتمي الإعلام والكتابة الصحفية والنشر المعلوماتي، أن يتبنى العالم منذ العام 2016 يوما عالميا للتحقق من صدقية الأخبار على الأنترنيت، اختير لذلك الثاني من أبريل من كل عام، وهو اليوم التالي لما يعرف بيوم "كذبة أبريل"، حيث يرمز الاحتفاء إلى حماية الجمهور من انتشار وباء المعلومات الخاطئة والمزيفة، خصوصا خلال الأزمات المتعاقبة من الكوارث الطبيعية أو الصحية أو الحروب العسكرية. ونحن هنا، نستقطع جزءا لا غنى عنه، في حقل أخلاقيات الصحافة، وارتباطها بجَلْبِ المَصادِرِ وفَهْمِ ومُعالَجةِ قَضِيةِ المَوْضُوعِيَّة، والانتباه إلى أثَرَ المدوّناتِ والإِنْترنِت عَلى القِيَمِ التَّقلِيديَّةِ للصَّحافَة. إذ غالبا ما يضعنا الإعلام أمام فوهة البحث عن الحقيقة، حتى في وضعية تجاوز الأخلاقيات، التي تصبح تحت رحمة البحث عن صناعة الرأي الموجه، المنحاز لقيم المادية والدوغمائية وعقيدة الامتلاك.

ولأنه لا محيد للإعلام عن الحقيقة كأخلاق ووازع ضميري، فإنه أضحى من الأكيد راهنا، ملامسة هذه الجوانب في أشكال وتأثيرات السياسات الإعلامية التي تنتهجها السلط، على الصحافة والإعلام بشكل عام، والتدخل في رسم ضوابط وحدود أخلاقيات، هي بمثابة المركز الذي تقوم عليه البيئة الثقافية في مجتمعاتنا، والأحداث الأخيرة التي جاءت متسلسلة وصادمة، كوباء كورونا وزلزال الحوز وحربي روسيا وأوكرانيا وحدث 7 أكتوبر وما تلاها من إبادة غزة، تضعنا أمام هذا الامتحان الصعب، حيث تعاني الحقيقة الإعلامية من سوء الانضباط لمبادئ الحياد والمصداقية وتداول حرية الرأي والنزاهة والاستقلالية والموضوعية. وهو ما خصصنا له سابقا فصلا كاملا ضمن كتابنا "في سوسيولوجيا الإعلام والرقمنة: قراءات في المحتوى والوسيط".

***

د. مصطفى غَلمان

المقدمة: يمثل الفكر الإنساني الميدان الأكثر تعقيداً لتشكيل الوعي الجمعي وتوجيه مسارات الحضارة. وعلى الرغم من تقديس الإنسان للمفكرين، وتكريسهم رموزاً للعبقرية، فإن هذا التمجيد لا يخلو من مآخذ جوهرية تحتم إعادة النظر في أدوارهم الحقيقية. فالمفهوم التقليدي للعبقرية الذي يختزل النجاح الفكري إلى الشهرة والعدد الكبير من المؤلفات يُغفل وجود حالات صارخة من الغباء الفكري، يختبئ خلفها لباس العبقرية، ويغذي منظومة فكرية متكلسة تفتقر إلى الحيوية النقدية. في سياقنا هذا، ليس الغباء الفكري حالة انعدام للمعرفة فقط، بل هو أعمق من ذلك: هو حالة منهجية تعبر عن تجمد الفكر، ورفض الانفتاح على البدائل، والانغلاق داخل حقول معرفية مسقوفة بمنظومات ميتافيزيقية أو إيديولوجية جامدة. وهذا النوع من الغباء أخطر لأنه يحمل تأثيراً مدمرًا على الفكر المجتمعي ويقود إلى أزمات معرفية مستعصية على الحل. وكما قال المفكر العراقي فريدون عبيدي في كتابه فلسفة الوعي والتمرد في العراق.

في العراق، كان الفلاسفة هم الشهود على تحولات الوعي، ولم يكونوا أبداً أسارى لصور جاهزة، بل متمردين على كل الثوابت. فهذا التمرد والجرأة هي الضمانة الحقيقية لحيوية الفكر، وليس مجرد الألقاب أو شهرة المؤلفات.

الغباء الفكري: التعريف والخصائص

الغباء الفكري ليس مجرد خطأ أو ضعف معرفي، بل هو اضطراب منهجي في بنية الفكر، يقود إلى:

التكرار المفرط لنفس البديهيات دون اختبارها أو مراجعتها. التمسك الأيديولوجي بالأفكار مهما دلت التجارب على عكسها. الغفلة النقدية تجاه الذات وتجاه الإطار المعرفي السائد. التحصن بالمصطلحات والعبارات المعقدة كستار يخفي فقر الأفكار. بهذا المعنى، يصبح الغباء الفكري نوعاً من الجمود المعرفي الذي يمنع التطور، ويحول الفكر إلى مجرد استنساخ ميت لشكلاته القديمة. وقد أكدت انا إحدى مداخلات

إنّ الفكر لا يُقاس بعدد الكلمات أو ضجيج الأقلام، بل بمدى جرأته على مواجهة ذاته ونقدها بلا هوادة.

التحليل النقدي لمظاهر الغباء الفكري عند كبار المفكرين

1. التكرار الاستعادي

تتعرض غالبية التيارات الفكرية العظيمة لخطر الوقوع في فخ التكرار، حيث يعيد المفكرون إنتاج أفكار سبق طرحها بطرق مختلفة ظاهرياً، لكنها في الجوهر نفس الأفكار. وهذا لا يعكس فقط نقصاً في القدرة على الابتكار، بل يحول الفكر إلى دائرة مفرغة من دون إنتاج جديد. كمثال، نجد في بعض المدارس الفلسفية المعاصرة إصراراً على إعادة إنتاج أفكار ماركس أو فوكو دون تطوير أو نقد حقيقي، مما يجعلها سجينة الماضي.

2. التناقضات البنيوية

لا يمكن إغفال التناقضات التي تنتاب نظريات كبرى، وغالباً ما يتم تجاهلها أو تبريرها بتفسيرات غامضة. هذه التناقضات تكشف عن هشاشة البنى المفاهيمية، وتضعف مصداقية المفكر أمام من يبحث عن وضوح المنهج والمنطق. كما أشار الفيلسوف العراقي محمد رشيد النجفي في تحليله لنظريات العصر الحديث

الحقيقة ليست ثمرة تعليب فكري جاهز، بل هي زلزال يزلزل الأطر الضيقة، فاحذر من تلك العبقرية التي لا تزلزل شيئاً.

3. الأيديولوجية والتبعية الثقافية

يميل بعض المفكرين إلى استلاب فكرهم لصالح إيديولوجيات مهيمنة أو تيارات ثقافية سائدة، مما يحول أفكارهم إلى أدوات تخدم سلطات أو مصالح، بدلاً من أن تكون أدوات نقد وتحليل حر. وهذه الظاهرة ليست محصورة بزمن أو مكان، بل هي خطيئة تتكرر في كل العصور، حيث يصبح الفكر أسيراً للهيمنة الثقافية، وينهار دوره الحر والناقد.

4. الانغلاق النقدي

غياب النقد الذاتي يعد من أخطر مظاهر الغباء الفكري. كثير من المفكرين يرفضون مراجعة أفكارهم أو الاعتراف بأخطائهم، ما يولّد تحصناً فكرياً ضد كل تطور أو تغيير، ويكرس الجمود الفكري الذي يقتل الحيوية. وفي هذا الصدد قال سجاد مصطفى حمود

المفكر الحقيقي هو الذي يضيء الطريق في الظلمات، لا الذي يكتفي بتثبيت الظلمات تحت أقدامنا.

الغباء الفكري كمخاطر معرفية واجتماعية

إن الغباء الفكري ليس مجرد عيب شخصي، بل هو تهديد معرفي يطال المجتمع بأسره. فهو يفرز أجيالاً من المتلقين العاجزين عن التفكير المستقل، ويعزز ثقافة الطاعة والجمود، ويقوض قدرات المجتمعات على التجديد والمواجهة. حين تنتشر عبقرية مزيفة تتحكم في الخطاب العام، تصبح المجتمعات سجينة رؤى جامدة تعيق التقدم وتقتل الحيوية الفكرية. هذه الحالة تؤدي إلى عزلة فكرية تجعل الإنسان محكوماً بأطر ثقافية ميتة، بلا قدرة على استيعاب الجديد أو استشراف المستقبل.

شروط الخروج من الغباء الفكري

التمكين النقدي: ضرورة تبني منهجية نقدية صارمة تبدأ بالنقد الذاتي ثم تتوسع إلى نقد الأطر المعرفية السائدة. التشكيك المنهجي: تبني موقف فلسفي يستند إلى التشكيك وعدم القبول بالمسلّمات دون اختبار دقيق.

الابتكار الفكري: العمل على خلق مفاهيم وأدوات تحليل جديدة تتجاوز الأساليب التقليدية.

الوعي بالتحيزات: الاعتراف بالتحيزات الثقافية والسياسية التي تؤثر في الفكر والجهود لتحريره منها.

الخاتمة

إن مفهوم العبقرية يجب أن يتجاوز الألقاب والأساطير، ليصبح مرآة لصدق الفكر وعمق النقد، وجرأة التجديد. أما الغباء الفكري، فلا يقتصر على ضعف الفرد، بل هو مرض يهدد سيرورة المعرفة الإنسانية جمعاء. إن مواجهة هذا المرض المعرفي تتطلب نقلاً نوعياً في ممارسات الفكر، بحيث يتحول من إعادة إنتاج سلطة وأيديولوجيا، إلى قوة حرة تولّد المستقبل. من هنا تأتي مسؤولية المفكر الحقيقي الذي لا يرضى بالبريق الزائف، بل يصرّ على كشف حقيقة الفكر مهما كانت مريرة، ساعياً نحو عقول حرة، ووعي متحرر. وأخيراً، أتساءل: هل نمتلك الجرأة لنكون مفكرين متمردين على أنفسنا، أم سنظل أسرى لعبقرية مزيفة تسجننا داخل جدرانها؟

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

.......................

هامش توثيقي

1. فريدون عبيدي، فلسفة الوعي والتمرد في العراق، دار الفكر العربي، بغداد، 1998، ص. 45-49

2. محمد رشيد النجفي، خطابات الفكر الحر في العراق الحديث، مطبعة النهضة، النجف، 2005، ص. 112-117.

 

(المتكلم يفكر والكلام يتبعه)... القديس أوغسطين

لا مناص ان الكلمة ليست مجرد أداة تواصل، بل هي مرآة تعكس نوازعنا وأعماقنا وتجاربنا. هذه العبارة الشهيرة للقديس أوغسطين: «المتكلم يفكر والكلام يتبعه» تختزن في طياتها حكمة إنسانية خالدة، تنبهنا أن كل لفظ ننطقه ينطلق من عمق تفكيرنا وأحاسيسنا وتجاربنا. الفكر، هو ذلك المنبع الخفي للكلام، هو مصدر كل كلمة نقولها، فهي انعكاس لفكرة عميقة تسكن في ذاتنا. الفكر هو الروح الحقيقية للكلمة، هو اللحظة الاساسية التي نصغي فيها إلى أنفسنا قبل أن نصوغ ما سنقول. حين يفكر الإنسان، فإنه يختار الكلمة إما بحرص أو يرميها بإنفعال، ينتقيها لينقل ما يشعر به وما يؤمن به بصدق وعفوية. أو من دون لحظة تفكر، يبقى الكلام مجرد ضوضاء بلا معنى... أما إذا انبثق الكلام عن فكر عميق، يصبح له وقع في القلب والعقل معًا. لذلك كانت الكلمة، الجسر النابض بين الذات والوجود، فالكلمة هي جسرنا نحو العالم بكل معانيه وتعبيراته، هي الطريقة التي نعبر بها عن خيباتنا وآمالنا، وعن هويتنا وتطلعاتنا، عن إنسانيتنا وتطرفنا، وهي التي تقرّب بين القلوب وتبني جسور التواصل بين البشر. كما تهدمها وتدمرها، حين ينطلق الكلام من فكر مسؤول، يكون له تأثير عميق؛ فهو يلمس مشاعر الآخرين ويوصل رسائلنا بصدق ووضوح ومحبة.

إن كل كلمة تخرج منا تحمل صور تجاربنا ونبض إنسانيتنا او انعدامها. لهذا، الكلمة الطيبة ترتقي بالحوار من مجرد نقاش إلى لقاء حقيقي بين الأرواح والعقول والقلوب.

عن قوة الكلمة في تطوير الثقافة والهوية

تمنح الكلمة الصادرة عن فكر مسؤول وغني بالرؤى والتجارب والتطلعات، المجتمع شيئًا من روحه الثقافية وهويته الإنسانية، ففي المجتمعات القديمة، كانت خطب الحكماء وقصائد الشعراء ونصوص الفلاسفة تلهم ذاكرة الجماعة المعنى وتشكّل رؤيتها للعالم من حولها. ولغاية يومنا هذا، لازالت الكلمة أصل بناء الثقافة والحضارة، تخلق جسور الحوار والتفاهم والتعارف، وتقارب بين الشعوب عبر معاني القيم والمبادئ النبيلة الجامعة إنسانيا، كما تدافع عن الإنسان ضد موجات السطحية والغوغائية والتفاهة والتطرف والاستبداد.

كلام أوغسطين ووجدان المعنى

لدى القديس أوغسطين، لم تكن علاقة الفكر بالكلمة علاقة عقل فقط، بل علاقة وجدان ينبض بروح الحب المطلق كذلك. حيث اعتبر أن الكلمة الصادقة هي تعبير عن معنى وجداني، عن ثقة ومسؤولية بحب وإلهام، مما جعل الكلمة في فلسفة اوغسطين مسؤولية مقدسة، وأن التعبير بصدق هو مشاركة أرض الحقيقة مع الآخرين تحت انوار الوجدان. فكل كلمة تخرج من القلب لتصل إلى قلب الآخر هي بناء إنساني عظيم.

الفكر والكلمة: تحدي الانسجام

في عصر رقمي صاخب تكثر فيه الأصوات وتضيع فيه المعاني وسط فوضى المجتمعات والشبكات، أصبح من الضروري أن نقارب الانسجام العميق بين ما نفكر فيه وما ننطق به. دعوة أوغسطين لنتمعن بصدق قبل أن نتحدث، وأن نسمح للفكر أن يعطر الكلمة بعطر الحب والحق والعدل، فتواجه الكلمات الجوفاء بكلمات تحمل المعنى والإحساس والأفق. هنا فقط يمكننا بناء حوار إنساني أصيل يرتقي بأخلاقياتنا وصلتنا بذواتنا وبالآخرين وبالطبيعة والوجود كله.

1. الكلمة وبناء الذات والآخر

الكلمة ليست وسيلة لاستعراض الذات فحسب، بل هي رؤية لبناء الذات وتمتين العلاقات. حين تنسجم الكلمة مع الفكر الواعي، يصبح الإنسان أكثر صدقًا مع نفسه ومع العالم. والكلمة الصادقة تفتح أبواب الحوار والتسامح والتعايش والتعاون والتعارف، تخلق مناخًا من الثقة الرحبة الراسخة والواعدة بغد افضل، تصنع الكلمة مساحة للتعاون والبناء المشترك بين البشر رغم كل التباينات والخلافات والشكوك والمصالح المبعثرة فالكلمة الصادقة تضمد الجروح وترمم الشقوق وترتب الحقوق والواجبات بعدل وإحسان، هكذا الكلمة الطيبة كانت وستظل ماء الحقيقة.

2. الكلمة بوصفها إبداع فني:

ليس المتكلم العقلاني وحده من يحتاج للصدق بين الفكر والكلمة؛ فالإبداع – شعرًا أو موسيقى أو رواية أو مسرح او سينما – هو أيضا ثمرة هذا الانسجام. حين يكتب الشاعر أو يغني الفنان من قلبه، أو يمثل المسرحي بعنفوان او يتخيل الروائي بهيام ويلاحق السينيمائي الواقع بإيمان تصل رسالة كل منهم بلا حواجز، حيث تنهض الأرواح وتتنفس المشاعر ويطير الوجدان في ٱفاق المعنى بلا حياء ولا حيرة؛ لأن الصلة بين ما يفكر وما ينطق تكون صادقة وحية.

أما بعد..

إن حكمة القديس أوغسطين: «المتكلم يفكر والكلام يتبعه» ليست مجرد نصيحة كهنوتية، بل نداء عميق لكل إنسان. ودعوة لكل واحد منا لتصبح كلماته منبعًا للخير والجمال والحب والتسامح والتعارف، أن نبحث عن التفكير المسؤول قبل صدق التعبير. ففي كل كلمة نبني بها، امامنا ٱفاق لتجسير الروابط وتمتينها، لإشعال شموع الوعي، ولإضاءة طريق البشرية نحو المزيد من الإنسانية والنباهة والصفاء..

بكلمة: عندما ينمو الحب في تفكيرك، تنمو معه الكلمة الطبية، لأن الحب هو المعنى الانساني..

***

مراد غريبي

 

من منطلق المنهج التحليلي السوبر خلاّق، الأخلاق السوبر خلاّقة = إنتاج كلّ الأفعال والمبادىء المفيدة للذات والآخرين × إنتاج كلّ الأفعال والمبادىء المقبولة عقلانياً ومشاعرياً. هذه أخلاق سوبر خلاّقة لأنها فعّالة في إنتاج كلّ الأفعال والمبادىء المفيدة للذات والآخرين والمقبولة عقلانياً ومشاعرياً. فبدلاً من أن تكون الأخلاق إتّباع مبادىء معيّنة وتقليد أفعال، الأخلاق الحقة إنتاج أفعال ومبادىء مما يجعلها أخلاقاً سوبر خلاّقة ويُحوِّل الإنسان إلى سوبر خلاّق في عملية بناء الأفعال والمبادىء الأخلاقية. هكذا يستعيد الإنسان دوره في إبداع ماهيته الإنسانوية الكامنة في إنتاج الأخلاق.

تنجح فلسفة الأخلاق السوبر خلاّقة في ضمان استمرارية التطوّر الأخلاقي. وفي هذا فضيلة كبرى دالة على صدق تلك الفلسفة الأخلاقية. فبما أنَّ الأخلاق السوبر خلاّقة = إنتاج كلّ الأفعال والمبادىء المفيدة للذات والآخرين × إنتاج كلّ الأفعال والمبادىء المقبولة عقلانياً ومشاعرياً، وعلماً بأنَّ كلّ الأفعال والمبادىء المفيدة للذات والآخرين والمقبولة عقلانياً ومشاعرياً تتضمن الأفعال والمبادىء المفيدة والمقبولة عقلانياً ومشاعرياً الغير مُكتشَفة حالياً أو في الماضي، إذن الأخلاق السوبر خلاّقة تستلزم اكتشاف الأفعال والمبادىء المفيدة والمقبولة عقلانياً ومشاعرياً التي لم تُكتشَف بعد مما يتضمن أنَّ الأخلاق السوبر خلاّقة تضمن استمرارية التطوّر الأخلاقي من خلال اكتشاف الأفعال والمبادىء الأخلاقية الخيّرة غير المعروفة حالياً أو في الماضي والعمل على ضوئها. هكذا لا تسجن فلسفة الأخلاق السوبر خلاّقة الإنسان في أخلاق الحاضر والماضي بل تدفع به إلى اكتشاف أخلاقيات المستقبل الجديدة وبذلك تحرِّر الإنسان من أخلاقية الحاضر والماضي من أجل بناء أخلاقيات المستقبل. من هنا، تضمن الأخلاق السوبر خلاّقة حرية الإنسان ومشاركته في صياغة وجوده الأخلاقي. وكلّ هذه الفضائل، كفضيلة ضمان حرية الإنسان، أدلة على نجاح فلسفة الأخلاق السوبر خلاّقة وصدقها.

بالإضافة إلى ذلك، تتنوّع النظريات الأخلاقية وتختلف فمنها نظرية الأخلاق الأنانية التي تقول إنَّ الأخلاق تتكوّن من تحقيق الفرد لمصالحه ومنفعته الذاتية كما جاء ذلك لدى الفيلسوفة آين راند ومنها النظرية النفعية القائلة بأنَّ الأخلاق كامنة في تحقيق المنفعة الكبرى للعدد الأكبر من الناس الآخرين كما يصرّ الفيلسوف جون ستيوارت مِل. نظرية أخلاقية أخرى تؤكِّد على أنَّ الأخلاق قائمة على العقلانية بمعنى أنَّ الأفعال الأخلاقية الخيّرة هي الأفعال المقبولة عقلانياً كما وَرَد ذلك في نظرية الفيلسوف إيمانويل كانط مما يتضمن أنَّ الأفعال الأخلاقية هي المقبولة عالَمياً من قِبَل كلّ البشر العقلاء. أما نظرية أخرى في الأخلاق فتقول إنَّ الأخلاق قائمة على المشاعر فالفعل الأخلاقي الخيّر هو الذي يسبِّب الشعور باللذة أو المتعة بينما الفعل غير الأخلاقي يسبِّب الألم كما يعبِّر عن ذلك الفيلسوف ديفيد هيوم.

أما فلسفة الأخلاق السوبر خلاّقة فتنجح في التوحيد بين النظريات المختلفة السابقة فتحلّ الخلاف فيما بينها. وعلى أساس هذا النجاح في حلّ الخلاف الفلسفي بين تلك النظريات الأخلاقية المتصارعة تكتسب فلسفة الأخلاق السوبر خلاّقة صدقها. فبما أنَّ الأخلاق السوبر خلاّقة = إنتاج كلّ الأفعال والمبادىء المفيدة للذات والآخرين × إنتاج كلّ الأفعال والمبادىء المقبولة عقلانياً ومشاعرياً، إذن تتضمن الأخلاق السوبر خلاّقة أنَّ الأخلاق كامنة في إفادة الذات تماماً كما تؤكِّد نظرية الأخلاق الأنانية وتتضمن أنَّ الأخلاق كامنة أيضاً في إفادة الآخرين كما تقول النظرية النفعية بالإضافة إلى تضمنها لنظرية أنَّ الأخلاق متكوِّنة من الأفعال والمبادىء المقبولة عقلانياً فالعالمية كما لدى كانط وتضمنها لنظرية أنَّ الأخلاق قائمة على المقبول مشاعرياً كما لدى هيوم. هكذا تنجح الأخلاق السوبر خلاّقة في التعبير عن كلّ المذاهب الأخلاقية السابقة فتوحِّد فيما بينها وتحلّ الخلاف الفلسفي القائم بين تلك النظريات.

كما تنجح فلسفة الأخلاق السوبر خلاّقة في التعبير عن الأفعال الأخلاقية الخيّرة والتمييز بينها وبين الأفعال غير الأخلاقية من خلال تحليل الأخلاق على أنها المفيدة للذات والآخرين والمقبولة عقلانياً ومشاعرياً. مثل ذلك أنَّ القتل والسرقة والكذب أفعال غير أخلاقية لأنها غير مفيدة للذات والآخرين وغير مقبولة عقلانياً ومشاعرياً بينما تطوير الذات ومساعدة الآخرين ومحبتهم أفعال أخلاقية خيّرة لأنها مفيدة للذات والآخرين ومقبولة عقلانياً ومشاعرياً. وهذا النجاح في التمييز بين الأفعال الأخلاقية والأفعال غير الأخلاقية دليل أساسي على صدق فلسفة الأخلاق السوبر خلاّقة.

***

حسن عجمي

عندما وُجدنا في هذه الحياة، كنّا خارج دائرة الوعي مجرّد أجرام صغيرة تنبض بالحياة دون إدراك معناها، نشرب من ثدي أمهاتنا، نغلق أعيننا في استراحة مؤقتة من ضجيج الولادة، ننتظر مكتسباتنا التي لم تولد بعد. كانت ابتسامتنا الأولى سببًا في بكاء الفرح، لا لأننا وعيناها، بل لأنّ من حولنا أرادوا أن ينسجوا لها معنى. نولد بدين أو مذهب أو لسان لم نختره، في بيئة لم نستشر في دخولها، تنمو أغصاننا من جذع يتجذر كلّ يوم في طبيعة الحياة القادمة، دون أن نعي بعد أنّ الجذور قد لا تكون اختيارًا، بل قدرًا متخفّيًا.

يومًا بعد يوم، نحاط بدائرة المجتمع والعائلة، نخوض أول أشكال "التنشئة القسرية"، لا بالضرب، بل بالحب المشروط، بالكلمات المتكررة: لا تفعل، افعل، هذا خطأ، هذا صواب، حتى تصبح هذه العبارات مادة أولى في بناء وعينا.

نولد أحيانًا بجين معيّن قد يتحكم في مزاجنا، أو يحرّك كيمياء أدمغتنا، أو يضع فوقنا ستارة من الحزن دون سبب، أو يهبنا خفة الروح والذكاء دون تدريب. ربما نولد هادئين، أو شجعانًا، أو قلقين ومكتئبين. بعضنا يرث صفات جسدية أو أمراضًا لا ذنب له فيها، لكنه يُحاسب عليها اجتماعيًا ضمنيًا، أو يُنظر إليه من خلالها كما لو كانت سمة أخلاقية.

لكنّ الإنسان ليس عبدًا لجيناته، فثمة حريّة تنبثق من وسط القيود، كمن يشعل عود ثقاب في كهف مغلق. هناك، في أعمق نقطة من وعينا، نكتشف أننا لسنا فقط مَن نولد، بل أيضًا من يخلقون أنفسهم لحظة بلحظة، كمن ينقّح وجوده باستمرار دون إذنٍ من ماضيه. فكلّ فكرة نعيد التفكير فيها، كلّ سلوك نرفضه رغم تعوّدنا عليه، كلّ قرار نأخذه ضدّ الوراثة والبيئة، هو إعلان ضمني: أنا حيّ باختياري، لا ببرمجتي.

ثم، يأتي "القدر". لا ذاك الذي ننتظره في الكتب أو الأدعية، بل القدر الذي يتوجه إليك في محنة، في حادث مفاجئ، أو خسارة موجعة، أو سؤال يهزّ أساسك. هنا، يستيقظ فيك شيء نائم منذ زمن بعيد، لا توقظه النعمة بل الشدّة. القدر هنا ليس عقوبة، بل دعوة لتغيير الجلد. هناك، حيث تشعر أنك تحترق، تولد إنسانًا جديدًا.

ولكن، إن لم تستجب لهذا القدر، قد تسقط في فخ الدوغمائية، فتصبح أسير بنية ذهنية مغلقة. ترفض كلّ تساؤل، وتطرد كلّ اختلاف، فتبني لنفسك قبرًا من الطمأنينة المزيفة. مع ذلك، حتى هذا الإنسان "المنغلق" له دور، رغم قسوته، فهو يخلق تصادمًا ضروريًا يولّد الأسئلة، ويحفّز النمو البشري، ويجعل الفكر يتقدّم، لا بالاتفاق بل بالاختلاف.

في منتصف الطريق، نبدأ نفهم أنّ الحياة ليست سلسلة من النجاحات، بل مسرحًا مليء بالإخفاقات. نتأمل وجوه من حولنا، نلاحظ من غادر قبل أن يقول كلّ شيء، ومن بقي رغم كلّ شيء. يبدأ الصمت يتكاثر فينا، لا لأننا مللنا الحديث، بل لأننا أدركنا أنّ أكثر الأشياء عمقًا لا تُقال.

نحاول أن نفهم: لماذا نشعر بالضيق رغم كلّ "النِعم"؟ لماذا نغضب رغم وعينا التام أنّ الغضب لا يغيّر شيئًا؟ لأنّ الصبر له حدود، ليس إلهيًا، بل بشريًا. نُبتلى ليس فقط بالأقدار، بل بحيرتنا تجاهها. لا ندري أحيانًا إن كنّا نُختبر، أم نُعاقب، أم فقط نُجرِّب بصمت.

نصل إلى مرحلة "البانوراما"، حيث تبدأ الذاكرة بعرض مشاهد حالمة: لحظات الطفولة، أول قبلة، ضحكة أم، خذلان صديق، صمت حبيب. لحظات لا نفهم قيمتها حين نعيشها، لكنها تتحول إلى "مقدسات شخصية" حين تُعرض على شاشة الوداع. هنا، ندرك فجأة أننا لم نكن نعيش، بل نُستهلك في محاولة العيش.

تبدو الحياة مثل رحلة طويلة داخل متاهة، كلّ باب يفتح على سؤال، وكلّ جواب يولّد خيبة أو أملًا مؤقتًا. نحيا بين الحنين والخوف، بين العقل الذي يطالبنا بالحذر، والقلب الذي يحرّضنا على المغامرة. نحب ونتألم، نجرّب ونخسر، ونواصل الطريق رغم فقدان الخريطة.

وها نحن نصل إلى النهاية. لا تأتي غالبًا كما نرغب، بل كما تشاء الحياة. قد تكون لحظة هدوء، أو لحظة فزع. قد تكون بعد مرض طويل، أو مفاجأة برق في سماء زرقاء. لكن كلّ النهايات تشترك في شيء واحد: الصمت العميق.

في تلك اللحظة، تُعرض أمامك حياتك كلّها في ومضة. لا كفلم، بل كشعور كثيف. تدرك فجأة أنّ كلّ ما كنت تخافه لم يكن حقيقيًا، وأنّ كلّ ما كنت تؤجله لم يكن ينتظرك.

وها هي المفاجأة الكبرى: أنت لم تكن أنت.

لقد كنتَ انعكاسًا لتوقعات الآخرين، صورة مرآة للقبول، نتيجة جيناتٍ وأوامر تربوية وقرارات لم تراجعها. لكن الآن فقط، وأنت تودّع هذا الجسد، تُدرك أنّ الحياة الحقيقية تبدأ بعد الموت الرمزي، لا الفيزيائي. تموت الشخصيات وتولد الحقيقة.

ربما كانت الحياة كلّها مجرّد سؤال طرحه عليك الوجود:

"هل كنت ذاتك… أم نسخة صامتة مما أرادوه لك؟"

وهنا، وحده الصمت يجيب.

***

فؤاد الجشي

المقدمة في الشارع/ رؤية نقدية في مسرح الشارع / الجزء السادس

أن المتتبع للمسألة المتعلقة في الاشتباك الاصطلاحي بين مسرح الشارع والعروض الخاصة بالمسرح التقليدي الذي من الممكن أن تقدم في مسرح العلبة، أو أماكن مغلقة قريبة الشبه بالصالات المسرحية، أو في الشارع، يجد أن هناك أختلاف في الرؤية والأهداف وأمور أخرى قد تتعلق بالعناصر الخاصة بالعرض المسرحي، من حيث الاشتغال لهذه العناصر في كلا المسرحين، وكذلك يوجد أتفاق في جوانب أخرى بينهما، ونبيّن الفروق بين مسرح الشارع وبين عروض المسرح التقليدي التي تقدم في الشارع على المستوى الاصطلاحي، الذي لا يكون متطابقاً بشكل كلي مع المستوى الاشتغالي لمسرح الشارع، لذا سنركّز فقط على الفروق بينهما على المستوى الاصطلاحي كما جاء في التحديدات السابقة لمسرح الشارع، وهي كالآتي :

1. إنَّ أهم ما يميز بين مسرح الشارع والمسرح التقليدي هو المكان، بالأخص طبيعة المكان بين المحدد واللامحدد، ونعني هنا بالمكان المحدد هو المكان الذي يكون واضح في حدوده سواء كان هذا الحد جدار اً في مسرح، أو حائطاً في بناية مثل الكنائس، أو البنايات القديمة - على الرغم من أن بعض التعريفات ضمت الأماكن غير الصالات إلى مفهوم الشارع، على الرغم من أنها أماكن قد تكون مشتركة بين المسرحين-، والصالات غير الدالة على البناية المسرحية من الممكن أن تستخدم في مجال المكان المعّد للعرض المسرحي، أي كل مكان سواء أكان مكاناً مسرحياً مثل صالات العرض المسرحي، أو مكان يمكن أن يستخدم للعرض المسرحي هو مكان محدد يدخل في التمييز بين مسرح الشارع والمسرح التقليدي. علماً أن المكان، أو ما يقارب له من فضاء مفتوح غير محدد سواء أكان في شارع عام، أو في سوق مفتوح، أو ساحة عامة، أو شاطئ بحر..الخ كلها تدخل في مصطلح المكان اللامحدد الذي تقدّم فيه عروض مسرح الشارع.

2. إنَّ الفرق الثاني بين مسرح الشارع والمسرح التقليدي يكمن في طبيعة الفكرة الدرامية المقدمة للجمهور، وذلك في كون الأفكار المسرحية في مسرح الشارع تتطلب الأخذ بنظر الاعتبار طبيعة الحدث ومكانيته وزمانيته، على أعتبار أن الفكرة المسرحية التي يقوم عليها العرض في مسرح الشارع تتضح كالآتي:

- لا تقع في زمن طويل من حيث طبيعة تقديم العرض، فهي قد تكون قصيرة جداً، أو تأخذ بعض الوقت الذي لا يتجاوز الدقائق المعدودة في طرحها.

- كذلك طبيعة تطبيق الفكرة من حيث المكان فهي لا تتنوع في الأشتغال في الأمكنة وخاص منها الخيالية التي تتطلب ديكورات وأجهزة خاصة في التعبير عن المكان المقترح في الفكرة.

- بالإضافة إلى ذلك فأنها لا تحتوي على نص مسرحي مكتوب، بل الفكرة المسرحية، لأن عروض مسرح الشارع لا تتطلب وجود نص مكتوب وتمرينات قد تصل إلى أشهر، بل الفكرة تطرح من خلال طبيعة ارتجالية في الأداء تميزها عن طبيعة النص وآليات الأداء في المسرح التقليدي. 

3. الفرق الثالث بين مسرح الشارع والمسرح التقليدي يكمن في طبيعة الأداء المسرحي والارتجال، فالأداء في مسرح الشارع يكون في طبيعته قائماً على مبدأ الارتجال، حتى وإنَّ كان هناك أفكار وبعض التمارين البسيطة المعدّة مسبقاً لاستكشاف المكان، لكن يبقى المرتكز الأساسي في الطبيعة الأدائية لدى الممثل قائمة على أساس الارتجال، وذلك بسبب طبيعة العرض في مسرح الشارع، فهو لا يمتلك منظومة أدائية قائمة على الأستقرار اللازم توفره في العرض كما هو في المسرح التقليد، فكون مسرح الشارع تابع إلى نظام المكان ذاته وطبيعة المكان ذاتها لا يمكن أن يكون منظماً ومنتظماً في الوقت نفسه، بل هو غير منتظم بسبب طبيعة مكان العرض الخارج عن السيطرة في أغلب الأحيان، وخاص إذا كان العرض يقدم دون علم الجمهور في الشارع بأنه عرض مسرحي، حسب التقسيمات الخاصة التي سنقدمها في هذا الكتاب عن الغرض من عروض مسرح الشارع ومرجعياتها الفكرية والأجتماعية وغيرها.

4. الفرق الرابع بين مسرح الشارع والمسرح التقليدي في طريقة أستخدام عناصر العرض مثل الأزياء والديكور والإضاءة والموسيقى والمؤثرات وغيرها من العناصر حسب طبيعة وحجم المكان، على أعتبار أن عناصر العرض في المسرح التقليدي يمكن أن تستخدم جميعها في العرض بأختلاف الأحجام التي يمكن أن تستخدم ومن ضمنها الديكورات الكبيرة، أو لا تستخدم جميعها، بينما في مسرح الشارع فإنه في أغلب الأحيان لا تستخدم كل عناصر العرض، بل جزءاً منها فقط كون المكان (الشارع) لا يمكن أن يستخدم الديكورات الكبيرة وخاصة الثابتة منها في أماكنها في الشارع، بل بعض الملحقات البسيطة، إنَّ الديكورات التي تستخدم في المسرح التقليدي لا يمكن أن تكون فعالة في عروض مسرح الشارع من حيث استخدامها للوصول من خلالها إلى غايات درامية معينة كما هو في المسرح التقليد، بل تقتصر في أبعد الأحيان على قطع ديكورية بسيطة مثل الكرسي وغيره من القطع السهلة الحمل باليد، كما أن بعضها لا تؤدي نفس الغرض المرجو منها في مسرح الشارع بسبب طبيعة المكان وقصر الزمن وعدم الثبات في المكان المعين وكلها أسباب تؤدي إلى الفرق في استخدمها بين المسرحين التقليد والشارع.

5. الفرق الخامس بين مسرح الشارع والمسرح التقليدي يكمن في طبيعة الجمهور وإمكانية السيطرة عليه. ففي مسرح الشارع يكون الجمهور المُستهدَف غير واضح المعالم والتفاصيل من حيث الفئات المُستهدَفة، فهو غير متطابق مع طبيعة الجمهور المسرحي في المسرح التقليدي، كون الجمهور المشاهد للعرض في المسرح التقليدي يقصد العرض المسرحي وهو متيقن في أغلب الأحيان أن هنالك أماكن مخصصة للجمهور والقاعة الخاصة بالعرض فيها وسائل راحة تمنع أن يقع العرض في الضوضاء على العكس تماماً في مسرح الشارع، إذ لا يمكن السيطرة على الجمهور ولا يمكن تحديد طبيعته، ولا ردود أفعاله التي هي في أغلب الأحيان تكون ارتجالية تجاه العرض والممثلين فيه.

6. الفرق السادس بين المسرح التقليدي ومسرح الشارع يكمن في طبيعة الفرجة ذاتها، أي في الفرجة بمعناها الأوسع بين التقصد في المسرح التقليدي واللا تقصد في مسرح الشارع، في مسرح الشارع تكون الفرجة غير متقصدة من الجمهور، بل أن عروض مسرح الشارع هي من تتقصد الأماكن التي يكون فيها الجمهور حاضراً مثل الأسواق والأماكن العامة والساحات وغيرها، أما في المسرح التقليدي فيكون هنالك أتفاق مسبق بين القائمين على العرض من خلال نشر الإعلان عن أسم العرض المسرحي وموعد تقديمه، وأهم الأسماء التي تعمل به، ومن ثم يكون الجمهور الذي يحضر للعرض متقصد ولديه علم بأنه ذاهب إلى المسرح لمشاهدة المسرحية المحددة في الإعلان عن المسرحية، وعلى هذا الأساس يقع الفرق في طبيعة الفرجة بين المسرحين التقليدي والشارع.

7. الفرق السابع في عكس خط السير من المسرح إلى الجمهور بينما المسرح التقليدي يكون خط السير من الجمهور إلى المسرح، وهذه رسالة يريد إيصالها من يعمل في مسرح الشارع بأن المسرح هو رسالة إنسانية لا تبقى حبيسة جدران المسرح التقليدي، فلابد لها أن تخرج إلى العلن، وأن يستهدف من خلالها المسرحي الجمهور في أماكنه المختلفة.

8. الفرق الثامن بين مسرح الشارع والمسرح التقليدي يكمن في المسألة المادية، أي بيع التذاكر للجمهور الراغب في المشاهدة على الرغم من أن هذه العملية تتم في المسارح التي تعمل على ربط المشاهد والحضور بالتذاكر وهي خاصة في أغلب الأحيان بالمسارح الاحترافية، وخاصة أيضاً بالدول المتقدمة التي تجعل للمسرح قيمة مادية ترتبط بالاقتصاد والضرائب وغيرها، وكذلك هذه الظاهرة توجد في دولنا العربية لكنها ترتبط بنوع العروض المقدمة والتي يسميها البعض بالتجارية، لكن هذا لا يمنع من أن تصبح هذه النقطة هي فارقة بين المسرح التقليدي ومسرح الشارع، والأخير لا يقدم عروضه من أجل أن يجني من ورائها المال، بل هو يستهدف الجمهور في الساحات العامة والأسواق والجمهور غير مجبر على دفع المال لمشاهدة عروض المسرح التي تقدم له في الشارع.

 هذه النقاط السابقة تعدّ من الفروق الأساسية بين مسرح الشارع والمسرح التقليدي، وهي ليست كل النقاط الفارق في هذا المجال، لكنها أبرز النقاط التي استخلصناها من التحديدات السابقة لمصطلح مسرح الشارع، ومن المؤكد فأن هذه التحديدات السابقة أتفقت على نقاط بين المسرحين واختلفت على النقاط، أما المختلف بين المسرحين قد ذكرناها، وأما المتفق عليها بين المسرحين فسنذكرها، وهي كما يأتي :

1. يكمن الاتفاق بين المسرح التقليدي ومسرح الشارع في أستخدام الطريقة الدرامية، كون أن المسرحين لا يخرجان من البناء الدرامي للحدث المسرحي في طرح القضايا من خلال تقاطع الإرادات وغيرها من الرؤى التي أرتبطت في بناء العرض المسرحي، ومن ثم يتشكل الصراع في طريقة تقديم العرض للوصول إلى غايات معينة يستهدفها المخرج وفريقه المسرحي في المسرح التقليدي، أو من يخطط للعرض المسرحي في مسرح الشارع، فالطريقة الدرامية التي تكمن خلف فكرة المسرح هي واحدة من حيث المفهوم، لكن شكلها في التطبيق قد يختلف بين المسرحيين.

2. يكمن الاتفاق الثاني بين المسرح التقليدي ومسرح الشارع في العناصر المسرحية المشتركة بين المسرحين من حيث مفهوم الأداء التمثيلي والأزياء والإكسسوارات والموسيقى وغيرها وهذه العناصر موجودة بين المسرحين وأن أختلفت طريقة استخدامها أو توظيفها حسب طبيعة المكان الذي يقدم فيه العرض المسرحي إلا أنها مشتركة بصورة عامة ومتواجدة في كلا المسرحين.

3. يكمن الاتفاق الثالث بين المسرح التقليدي ومسرح الشارع في ضرورة وجود الجمهور، على الرغم من الأختلاف في الجمهور ذاته من حيث التقصد والا تقصد، أي الممارسة التي يقوم بها الجمهور تجاه طبيعة العرض المسرحي، وعلى هذا الأساس فإن الجمهور هو عنصراً أساسياً متفقاً على وجوده بين المسرحين التقليدي والشارع.

4. يكمن الاتفاق الرابع في وجود بيئة قابلة على استيعاب العرض المسرحي سواء في مسرح الشارع، أو المسرح التقليدي لابد من تحديد طبيعة البيئة التي يقدم من خلالها العرض المسرحي، ولولا وجود هذه البيئة ومدى صلاحيتها لاستقبال العرض المسرحي لا يمكن أن يكون هنالك عرض مسرحي أصلاً.

***

أ.د محمد كريم الساعدي

كان هيراقليطس وُصف بشيء من الكراهية. عاش في القرن السادس ق.م، وكانت لديه الجرأة ليقول لزملائه المواطنين انهم أساسا ليسوا أفضل حالا من الحيوانات، وهو ما جعله غير محبوب في ذلك الوقت. مع ذلك هو ايضا غيّر جوهريا الطريقة التي نفكر بها حول الواقع، فكرة التغيير، وطبيعة الوجود ذاته.

ما جعل هيرقليطس مثيراً هو الطبيعة المتناقضة لشخصيته وتعاليمه. هو كان ارستقراطيا لم يرغب بالتورط في السياسة، وهو ايضا معلم كتب بألغاز، بالاضافة الى انه مفكر جادل بان المتناقضات هي أساس الواقع. معاصروه أسموه "الشخص المعتم" لأن أقواله كانت "غريبة" جدا وغامضة بتعمّد لدرجة استحق هذا اللقب.

ولد هيرقليطس في أفسس سنة 535 ق.م المدينة الساحلية اليونانية المزدهرة فيما يعرف الان بتركيا الغربية. هو جاء من عائلة ثرية لديها الكثير من الامتيازات. عائلته تمارس واجبات دينية وراثية، وكان بامكانه ان يعيش حياة مريحة في ادارة العقارات او يتسلق السلم السياسي لمدينته. مع ذلك، هو لم يختر أي من ذلك. هو اتّبع مسار العديد من المفكرين الاثرياء طوال التاريخ: اصبح متفلسفا جدا وانسحب من الحياة العامة ليفكر بعمق حول الكون.

بينما كان فلاسفة آخرون في زمانه مهوسين بالعثور على مادة أبدية لا تتغير تحكم كل شيء – طاليس مثلا، اعتقد انها الماء، اناكسيمنس اعتقد انها الهواء – هيراقليطس اتخذ اتجاها مختلفا تماما. هو نظر حوله في العالم وقال "هل تعلمون ماذا؟ التغيير ذاته هو الشيء الوحيد الدائم".

في جداله بهذه الطريقة، كان هيراقليطس أطلق ادّعاءً راديكاليا بوجه المنطق السليم. معظم الناس يريدون الاستقرار وامكانية التنبؤ وشيء ما صلبا للوقوف عليه. لكنه كان يقول لهم ان الارض التي تحت أقدامكم تتغير باستمرار وهذه ليست مشكلة او حدثا وانما صفة للحياة ذاتها.

عبارته الشهيرة حول النهر "لا احد يستطيع النزول في نفس النهر مرتين" تجسّد هذه الفكرة. الماء الذي يتدفق امامك الان هو ليس نفس الماء الذي تدفق قبل ثواني. مجرى النهر تغير، حتى ولو قليلا. انت ذاتك تغيرت – خلايا جديدة، افكار جديدة، تجارب جديدة. لاشيء يبقى ذاته – دائما.

مع ذلك، هيراقليطس لم يكن يدعو الى الفوضى حين كانت فلسفته تقوم على التغيير المستمر. هو أدخل مفهوم الـ "لوغس" الذي يُترجم الى "العقل" لكنه في الحقيقة يعني شيئا ما مثل "المبدأ العقلاني الأساسي الذي يحكم كل شيء". يمكن اعتباره كمبدأ الخوارزمية الكونية الذي يضمن حدوث كل هذا التغيير المستمر طبقا لشكل او منطق أعمق.

التقاط هيراقليطس النار كعنصر مفضل لديه يخبرك شيئا ما حول شخصيته. النار لا تقف هناك فقط كالصخرة او تدفّق يمكن التنبؤ به مثل الماء. النار تحوّل الاشياء –انها تحطم وتستهلك، تنير. تغير الخشب الى رماد، وتطلق الحرارة والضوء. بالنسبة لهيرقليطس، النار مثّلت القوة التحويلية التي تبقي الكون في تدفق مستمر وتجعل حياتنا على ماهي عليه حقا.

هو ايضا جادل ان الأضداد في الحقيقة ليست أضدادا ابدا. هي فقط وجوه مختلفة لنفس العملة. هو كتب "الطريق صعودا ونزولا هو ذاته وواحد، ". الحار والبارد، الليل والنهار، الحياة والموت- هو اعتقد ان هذه اساسيات لحياتنا وهي ليست منفصلة، او قوى متنافسة وانما مظاهر مكملة لواقع واحد جميعها تجعل العالم على ما هو عليه حقا.

وكما في نار هيرقليطس المتغيرة دائما، التاريخ والافكار هي في تدفق دائم – حرق القديم لإفساح المجال للجديد.

كل هذا يبدو يشبه البوذية تقريبا. هناك احساس بان التناقضات الظاهرة تذوب عندما تنظر لها من زاوية صحيحة. الفيزياء الحديثة أدركت هذه الرؤية بطرق مثيرة. نحن الان نعرف ان المادة والطاقة يمكن التبادل بينهما، وان الجسيمات تتصرف كالموجة وبالعكس، وان الكرسي الذي تجلس عليه والذي يبدو صلبا هو في معظمه فراغ مملوء بطاقة اهتزازية.

الجدير بالملاحظة هو مدى ملائمة هذه الرؤى القديمة في الوقت الحاضر. نحن نعيش في عصر استقطاب شديد – سياسيا وثقافيا واجتماعيا. كل واحد يأخذ جانبا، يرسم الخطوط في الرمل، رافضا حتى الاستماع للجانب الاخر. هيراقليطس ربما ينظر الى نقاشاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي ويهز رأسه . هو سيذكّرنا بان التوتر بين الرؤى المتعارضة ليس شيئا للإلغاء وانما شيء للفهم والاحتفال به.

لننظر في ان التقدم تقريبا دائما يأتي من التوتر الخلاّق بين المحافظة والابتكار، التقاليد والتغيير، النظام والفوضى. الحقوق المدنية نجحت ليس بازالة التوتر بين المساواة والقمع وانما بتوجيه ذلك التوتر الى فعل تحويلي – الى عمل شيء حول المشكلة لكي تُحل في النهاية.

كيف أثّرت افكار هيراقليطس في الفكر الغربي

هناك أثار ثرية لفلسفة هيراقليطس في الفلسفة الغربية، حتى لو لم يعترف كل شخص بذلك. افلاطون من الواضح تأثر بافكار هيراقليطس حول التغيير المستمر حتى عندما قرر بالنهاية انه يجب ان يوجد هناك عالم من أشكال أبدية غير متغيرة لتحقيق التوازن في الاشياء.

من جهة اخرى، ارسطو صرف وقتا لا بأس به مصارعا مع مفاهيم هيراقليطس وبالذات مشكلة كيف تتغير الاشياء وتبقى في نفس الوقت كما هي.

الرواقيون أحبوا هيراقليطس وبنوا فلسفة كاملة حول قبول ما لا تستطيع تغييره مع العمل لتغيير ما تستطيع – تفكير هيرقليطي خالص. هم ايضا تبنّوا تأكيده على اللوغس وحوّلوه الى مفهوم مركزي لنظام كوني عقلاني.

في العلاقة مع العصر الحديث، هيجل بالاساس بنى كامل نظامه الفلسفي على الاسس الهيرقليدية. طريقة هيجل الديالكتيكية الشهيرة التي تلتقي فيها الاطروحة بنقيضها لتخلق تركيبا هي فلسفة هيرقليدية لبست اسلوبا اكاديميا ألمانيا حديثا . قال هيجل "لا توجد عبارة لهيراقليطس لم اتبنّاها في اللوغس الخاص بي" وهو اعتراف كبير من فيلسوف غير معروف بتواضعه.

حتى كارل ماركس رغم تركيزه المادي، ورث هذا الاتجاه الديالكتيكي من خلال هيجل. فكرة ان التقدم التاريخي يأتي من خلال تصادم القوى المتضادة – البرجوازية مقابل البروليتارية، والانظمة الاقتصادية القديمة مقابل الجديدة – كانت صدى للرؤية اليونانية القديمة حول التضاد المنتج وأسست حركة سياسية واقتصادية شكلت التاريخ الانساني منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

اخيرا، هيراقليطس الذي هو ذاته لاحظ "كل شيء يتدفق"، الرجل الذي لم يتمكن من التعايش مع جيرانه نجح نوعا ما في تطوير افكار تجاوزت مدينته وامبراطوريته وكامل الحضارة.

GreekReporter,July4,2025

*** 

حاتم حميد محسن

اذا كان العلم نورا، فان الحرية الاكاديمية هي الهواء الذي يحمله. واذا كانت الجامعات مصانع العقول، فان تقييد حريتها هو اغلاق لتلك المصانع، وحرق للمخزون الفكري، وتدمير متعمد لمستقبل الوطن. فكيف يعقل ان نطالب بالابتكار والتميز في التعليم العالي، ثم نكمم افواه العلماء، ونمنعهم من مشاركة افكارهم؟ اهذه ازدواجية مقصودة؟ ام انها سياسة ممنهجة لخنق المعرفة، وتجفيف منابع الابداع؟ 

ما الذي تخشاه الانظمة من كلمة عالم؟ وما الذي يهددها من محاضرة او ندوة؟ لماذا يعتبر استضافة الباحثين والمفكرين جريمة تستوجب المنع؟ اليس العلم ملكا للانسانية؟ ام ان بعض القيادات تريد علما مسيسا يروج لاجنداتها ويحرم ما عداها؟ ان منع العلماء من القاء المحاضرات ليس سوى حلقة في سلسلة طويلة من التعتيم الفكري، سياسة مقصودة لفرض الوصاية على العقول وابقاء الاسوار حول الافكار. 

انها ليست مجرد "اجراءات احترازية" او "حماية للخطاب الرسمي"، بل هي اعلان صريح بأن الجامعات لم تعد فضاء للبحث والنقاش، بل ساحات للترويج والتلقين. فاذا كان الطلاب يمنعون من سماع اراء خبراء العالم، فكيف سنبني جيلا قادرا على المنافسة العالمية؟ كيف سننتج بحثا علميا جادا اذا كنا نرفض حتى الاستماع الى من قد يختلفون معنا؟ 

الحرية الاكاديمية ليست ترفا، بل هي شرط اساسي لبقاء الجامعات حية. فبدونها، تتحول قاعات المحاضرات الى مقابر صامتة، والاساتذة الى موظفين ينقلون معلومات جافة بلا روح، والطلاب الى مجرد ارقام في سجلات رسمية. ان سحق حرية التعبير داخل الحرم الجامعي هو اجهاض للابداع وتكريس للجهل وتدمير منهجي لأي امل في التقدم. 

والاخطر من ذلك، ان هذه السياسات ليست سوى جزء من حرب شاملة على العقل. فكلما ضاقت دوائر الحوار، اتسعت دوائر التلقين. وكلما منع العلماء من الكلام، سيطر المتطرفون والجهلاء على الساحة. انها معادلة واضحة: لا حرية = لا علم = لا مستقبل. 

التعليم العالي الحقيقي لا يزدهر الا بالتنوع، ولا ينمو الا بالاختلاف. فالعلم لا يعرف حدودا سياسية ولا يبنى بالشعارات. اذا اردنا جامعات تخرج مبتكرين، فلنفتح الابواب للنقاش الحر، ولنستقبل كل صوت يحمل فكرة جديدة، حتى لو كانت مزعجة للسلطة. فالحضارات تبنى بالحوار، لا بالاملاء. 

اما اذا استمرت سياسة التكميم، فسنكون امام جيل من الطلاب بلا اسئلة وباحثين بلا جراة وجامعات بلا روح. عندها، لن نكون امام ازمة حرية فحسب، بل امام كارثة تعليمية تهدد وجودنا كامة قادرة على اللحاق بركب الحضارة. 

الوقت يحترق، والمستقبل يسرق من بين ايدينا. اما ان نختار الحرية الاكاديمية طريقا، فنسمح للعلماء بالكلام، وللطلاب بالسؤال، وللافكار بالتصادم، او ان نستسلم لثقافة الخوف، فندفن في سرداب التخلف، ونترك وراء قطار التقدم. 

الخيار ليس صعبا... لكن الجبناء فقط من يخافون من الحرية.

***

ا. د. محمد الربيعي

 

بينما رأى أفلاطون أنّ الحبّ ارتقاء نحو الجمال الروحي، ورأى أرسطو أنّ الحبّ صداقة فاضلة قائمة على الفضيلة، ورأى فريدريك نيتشيه أنّ الحبّ إرادة قوّةٍ نابعة من الاِنجذاب الجنسي الغريزي، ورأى شوبنهاور أنّ الحبّ خداع نابع من إرادة الحياة لتحقيق غريزة البقاء، ورأى كيركيغور أنّ الحبّ نظرة روحانية عميقة تتجاوز النظرة الشهوانية، جاءَ دوستويفسكي ليختزل هذه المفاهيم بقول بيّنٍ وحادّ ليقودنا حيث تكمن الرؤية الواقعية، فيقول: "نحن لا نحب الآخرين كما هم، بل كما نُريدهم أن يكونوا، وهذا أصل كلّ خيبة". ويأتي سارتر ليعزّز هذا المفهوم بمنظور معاكس، إذ يعرّف الحبّ على أنّه "محاولة لجعل الآخر يرانا كما نريد أن نُرى".

ونلحظ من هذه التحجيمات التجريدية في توصيف الحبّ أنّ هناك شيء من الواقعية المجرّدة من المثاليات. فإما أن يكون الحبّ سعيًا لرؤية الآخرين فينا أو رؤيةَ أنفسنا في الآخرين. يصف إريك فروم هذا النوع من الحب بالأنانيّة، وربّما كان هذا الحب هو أشدّ أنواع الحبّ خداعا.

عندما تقول أنا أحب شخصًا معيّنا وتعلّل حبّك له بتعداد صفاته، فإنك لم تحبه، إنما أحببت نفسك فيه، فالصفات التي تختارها في شخص معين ما هي إلا رغبة في رؤية نفسك في شخص آخر، وإلا هناك من يحملون نفس الصفات -بل ربّما أفضل- ولم تحبّهم بنفس الشكل. فلو أحببت شخصا وبدأت في تغييره ليتناسب مع صفاتك وأفكارك ومعتقداتك فهذه قمّة الأنانية وحبّ النفس، ولا محال أن تبقى فاشلا في الحبّ مهما كثر الذين تحبّهم!

ولو خلعت الأنانية من نفسك وأحببت شخصًا لأنه "هو" لا لأجل صفات وجدتها فيه، كذلك أنت لم تحبّه إنما أحببت نفسك فيه؛ هذا لأنّك اِتبعت غريزتك الحيوانية التي قادتك لاِختياره دون غيره، وهذا يقودنا لمفهوم الأنيما والأنيموس لكارل يونغ، حيث أنّ اِختيار الآخرين بلا سبب ما هو إلا إسقاط لصفات متجذّرة في اللاوعي الجمعي، وبالأساس هي مواضع غريزية ناتجة عن تطوّر بيولوجي عبر آلاف السنين.

إذن ما الحبّ؟

سؤال من كلمتين لكنّ مضمونه متشعّب جدا، ولا يسعنا أن نقصر الحبّ بكلمات معيّنة، فنرى عَجْزَ الفلاسفة والمفكّرين بتحجيم الحبّ بتعريف أوحد. إلا أنّ المضمون الذي تتفق عليه جلّ التعريفات أنّ الحبّ هو "هبة بلا مقابل".

أن تهب الآخرين راحتهم، تهبهم السّلام والطمأنية، تهبهم العون والمساعدة، دون أن تنتظر منهم شيئًا. أن تحبّ الآخرين كما هم، لا كما تريدهم أنت، أن تريد لهم الخير حتى لو لم يعودوا لك، وأن ترى وجودهم قيمة بذاته، لا أداة لتحقيق ما تجد نفسك راغبًا فيه.

عندما نصل لأسمى درجات الحبّ نحتاج أن نصل إلى أسمى درجات الإنسانية، أن نحبّ كلّ الناس ونحبّ اِختلافهم واختلاف أعراقهم ودينهم وطوائفهم، وأن نصل لدرجة التضحية لمن لا يقدمون لنا شيئا، وهذا نهج الأنبياء والأئمة والصّالحين الذين ندّعي أننا نقتدي بهم، وننفر ممن عداهم ما إن نطّلع على عرقهم أو اِنتماءهم تاريخيّا ودينيّا!

ما أسهل أن نقول أننا نعتنق دين التعاون والإيثار ونحن نحارب ممن هم منّا ومن ديننا بسبب نزاعات تاريخية!

عندما نجتاز هذه المرحلة يمكن أن ننجح في حبّ الحياة وحبّ أنفسنا وحبّ النّاس كلّهم، فالحبّ يبدأ من داخلنا لا من الآخرين.

المحددات المسلّماتية ليست أنانيّةً في الاِختيار؛ لأنها نابعة من الوسيلة التي تميّزنا عن باقي الكائنات وهو "العقل".

أخصّ اِختيار صفات ثانويّة نابعة من موروثات ومعتقدات وإيدولوجيات وإقحام الآخر على الالتزام بها من باب إرادة المصلحة والمنفعة، وهذا في واقع الأمر شيء من السذاجة؛ لأنّ تحقق المصلحة والإفادة لكلّ إنسان أمر نسبيّ يعتمد على ارتباطنا بالآخرين.

ولأنّك تقدّم اِشتراطاتك على أنها تحقيق للسموّ والعقلانية والمطلقية، ولا تعترف بأنها نتاج موروثاتك ومعتقداتك وإيدولوجياتك وهي جزء من الاِختلاف الذي يجب أن نتقبّله كي نحقّق الحبّ بأبهى صورة فإنّك ستفشل فشلا ذريعًا في أن تحبّ الآخر كما تتصوّر.

لو جئنا بشخص عازبٍ ذي ثلاثين عاما وأبدلنا عائلته ومجتمعه بالكامل سوف يواجه مشاكلَ كثيرة، وربّما لا يستطيع التأقلم مهما حاول ذلك، حتّى وإن لم يتعرّض للأذى، لأنّه تطبّع لفترة طويلة على معتقدات وإيدولوجيات وسلوكيات مجتمعه، وربّما لا يرى أنّ ما يفعله الآخرون صحيح، فالصحيح ما ترعرع عليه وتعوّده، ولا طريق أمامه سوى أن يتقبّل الاِختلاف. وعليه فإنّ كلّ إنسان نتاج بيئته.

نفس الشيء في اِختيار الشريك، فإنّك مهما خصَصته في الحبّ، إذا لم تتقبل أنّه من عائلة ذات إيدولوجيات وسلوكيات وغرائز مختلفة بالتالي هو كذلك فلن تنجح في حبّك له.

إذن المشكلة ليست تمثيلا واقعيّا، إنما مشكلة كامنة في داخلك أو داخله، وهو قيد وهميّ يجب أن نبادر في كسره جميعنا!. الحبّ يعني التقبّل، ولكي تنجح في الحبّ يجب أن تبدأ بحبّ الذين تكرههم.

أمّا لو جئنا بصورة لا يمكن أن تخضع للتجريد، فإنك لو أردت تعلّم الحب يجب أن تمرّ بتجارب كثيرة، وهو ليس قول قطعيّ لأنّ هذا يعتمد على مدى فهمك للحبّ، ليس من المستحيل أن ينجح الإنسان في الحبّ من أوّل تجربة له؛ كونه صاحب مستوى عقليّ ناضج ومدرك لمعنى الحبّ الحقيقي، ولعمري أنه سعيد الحظ، لأنّ الحبّ الأوّل لا يُنسى أبدًا.

***

عبّاس القسام

 

‏لابد أبتداء، التأكيد على أن النهضة العلمية العربية لا يمكن أن تتحقق حاضرا دون الإستناد على أسس في العمل العلمي متينة وراسخة، ولعل الإدراك والتفهم الواعي لنتاجات العقل العربي الإبداعي في زمن السطوع الحضاري للعرب من خلال التفاعل مع تراثنا العلمي الخالد يعد واحدا من أهم هذه الأسس.

‏إن النهضة العلمية لا تأتي من مجتمع غير مهيء لها في الأساس، لذلك فلا يمكن للعقل العربي أن يضيف ويبدع في العلم ومجالاته المختلفة دون أن يكون مستعدا ومهيئا للنتاج العلمي أصلا، بما أختزنه من أفكار وفرضيات وتقاليد علمية.

‏وهنا أجد العلاقة وثيقة جدا بين تقدمنا العلمي وتحقيق نهضتنا العلمية في عصرنا الحاضر، وبين العودة المتفاعلة والمتفهمة بوعي لنتاجات تراثنا العلمي، بكل ما تضمنه هذا التراث من إنجازات مبدعة حفظت للمسيرة الحضارية الإنسانية أستمرارها وديمومتها..وبكل ما تضمنه هذا التراث أيضا من تقاليد في العمل العلمي لا أظن أننا اليوم إلا في أشد الحاجة إلى إدراكها وإستيعابها جيدا.

الكتابة والكتاب .. تاريخ أول

من الثابت علميا إن السومريين كانوا أول من أهتدى إلى الكتابة في تاريخ العراق القديم، حيث أتبعوا في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد أسلوب الكتابة بالصور، التي تمثل الشيء المطلوب إفهامه للمقابل (الكتابة التصويرية)، حتى أستطاع السومريون بعد ذلك من تطوير أسلوب الكتابة عندهم حيث أصبح بالإمكان التعبير برموز وعلامات معينة عما يريدون قوله، فأكتسب اللفظ مدلوله عند النطق به، وبذلك أرتبطت الكتابة بإمكانات الإنسان التشريحية والوظيفية من ناحية تكيف جهاز التصويت عنده للفظ والكلام.

وهكذا نشأت أو عرفت الكتابة المسمارية. يقول ديورانت صاحب كتاب "قصة الحضارة" وفي الجزء الأول من هذا الكتاب ما نصه : إن تطور الكتابة هو الذي كان يخلق الحضارة خلقا..وبداية ظهور الكتابة هو الحد الذي يعين التاريخ..ومن المعروف علميا أن السومريين هم أول من من كتب من جهة اليمين حتى اليسار.

 أما علماء الآثار والحفريات فهم يضعون أحتمالين لنشوء الكتاب، فمنهم من يعتقد أن بداية نشأة الكتاب كانت من أستعمال لفائف ورق البردي. في حين أن هناك من يرجع أصل الكتاب إلى ما كان يستعمله الآشوريون من ألواح خشب أو عاج رقيقة، حيث تتم الكتابة عليها بعد طليها بطبقة من الشمع.

 يقول الأستاذ المرحوم الدكتور طه باقر فيما يرجحه من نوع كتابي هو أصل الطباعة نعني بذلك الكتابة التي تختم على الآجر.. وكان ذلك يتم بطمغ اللبن قبل فخره، حيث يطمغ بقالب محفور بالكتابة المسمارية بهيئة معكوسة. ولا تزال تشاهد الألوف الكثيرة من الآجر المختوم وهو مبني في جدران المعابد والقصور والأبراج المدرجة.

المكتبة العربية.. أستقراء تاريخي

‏إن إستقراء علميا لمسار المكتبة العربية في تراثنا العلمي يمكننا بالفعل من أن نستنتج الآتي:

١. أن الإنسان العربي قد تعامل مع الكتاب تعاملا إبداعيا من خلال الحرص على إقتنائه وقرائته، ومن ثم ترتيب الخزائن للمحافظة على مجاميع الكتب في مكتبة عامرة.

 تقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب" ففي عام 891م يحصي مسافر عدد دور الكتب العامة في بغداد بأكثر من 100، وبدأت كل مدينة تبني لها دارا للكتب يستطيع الناس إستعارة ما يشاؤون منها.

 وتستمر المستشرقة الألمانية قائلة: إن عشق الكتب لم يكن وقفا على حفنة من العلماء فقط، بل كان هواية العرب على أختلاف طبقاتهم. فكل متعلم من رجالات الدولة المهمين إلى بائع الفحم، ومن قاضي المدينة إلى مؤذن المسجد هو زبون دائم عند بائع الكتب.

‏٢. إن دور العلم العربية لا يمكن أن تكتمل صورتها الصحيحة دون أن تضم إليها مكتبة زاخرة بالنفيس من كتب العلم والمعرفة. وهكذا كانت المدرسة المستنصرية ببغداد، والتي تعد أول جامعة كبرى في العالم الإسلامي حينها، حيث شرع نصر العباسي لبنائها سنة 625 للهجرة وتم افتتاحها سنة 631 للهجرة.

‏يقول الأستاذ المرحوم ناجي معروف: ويظهر أن المستنصرية ببغداد أصبحت قدوة لمؤسسي المدارس من الرجال والنساء، ليس في العراق وحسب بل وفي مصر والشام والحجاز، حيث شرعوا يبنون مدارسهم على صفتها من حيث المذاهب الأربعة، أو احتوائها على الكتب وعلى بقية المرافق الأخرى. وهكذا كانت في كل مسجد مكتبة خاصة كما في كل مستشفى (بيمارستان) قاعة كبيرة تصف على رفوفها الكتب والمؤلفات الطبية.

‏٣. إن رجل العلم العربي لم يترك فرصة معينة تسنح له إلا ويهتبلها على سبيل زيادة معارفه العلمية من كتب المكتبات العامرة، وهو تقليد علمي في سلوك علمائنا حري بالأستيعاب.

يروي أن سلطان بخارى قد شفي على يد الطبيب الشيخ الرئيس ابن سينا بعد أن ألّم به مرض عضال. فأراد السلطان مكافأة الشيخ ابن سينا، فما كان من الطبيب الخالد إلا أن أعلن عن رغبته بالأطلاع على مكتبة قصر السلطان.

‏٤. إن المكتبة العربية وكما يخبرنى تراثنا العلمي، لم تكن للمطالعة فقط، بل إن بعض المكتبات قد خصصت قاعاتها لأهل التأليف والترجمة.

تقول المستشرقة الألمانية هونكه في حديثها عن دور الكتب العامة في بغداد: كما ويجتمع فيها المترجمون والمؤلفون في قاعات خصصت لهم، ويتجادلون ويتناقشون كما يحدث اليوم في أرقى الأندية العلمية.

 ويذكر آدم ملتز في كتابه "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري" أنه ظهرت إلى جانب دور الكتب، مؤسسات علمية أخرى تزيد على دور الكتب بالتعليم، أو على الأقل بإجراء الأرزاق على من يلازمها. فيحكى عن ابن قاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي المتوفى سنة 323 للهجرة أنه أسس دارا للعلم في بلده وجعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفا على كل علم لا يمنع أحد من دخولها. وفي سنة 383 للهجرة أسس أبو ناصر سابور وزير بني بوية دارا للعلم في الكرخ غربي بغداد، ونقل إليها كتبا كثيرة أشتراها وجمعها وكذلك أتخذ الشريف الرضي المتوفى عام 406 للهجرة دارا سماها دار العلم وفتحها لطلبة العلم، وعيّن لهم جميع ما يحتاجون إليه. ويدل مجرد أسم هذه المؤسسات على الفرق بينها وبين دور الكتب القديمة. فكانت دار الكتب قديما تسمى خزانة الحكمة، وهي خزانة كتب ليس غير. أما المؤسسات الجديدة فتسمى دور العلم وخزانة الكتب جزء منها.

 ٥. لم يكن باعة الكتب الاّ أناساً من الراغبين بالقراءة والأستزادة من العلوم، ولم تكن سوق الكتاب إلا منتدى فكريا من نوع خاص. فهذا ابن النديم العالم الكبير ومؤلف كتاب "الفهرست" تاجر الكتب يملك حوانيت يلتقي من خلالها مع زملائه من مفكري العصري ومثقفيه.

‏ولنا أخيرا أن نقف عند ما يقوله الأوروبيون المنصفون عن حضارة العرب، حيث ينقل لنا الاستاذ محمد كرد علي: علمونا صنع الكتاب وصنع البارود وعمل إبرة السفينة، فعلينا أن نفكر ماذا كانت نهضتنا لو لم يكن من ورائها هذه المخلفات التي وصلتنا من المدنية العربية.

***

د. عامر هشام الصفار

هل توجد إرادة حرة، أم أن اختيارات شخص ما هي، بالفعل، مبنية مسبقًا على علم الأحياء والتربية؟ لقد ناقش الفلاسفة هذا السؤال لعدة قرون. لكن ما الذي يمكن أن يساهم به علم الأعصاب في ذلك؟ والسؤال هو ما الذي يجعل الاختيار خاصًا بالفرد؟ وفي الوقت نفسه يجب الافتراض أن التطور وعمليات الدماغ والتربية هي التي جعلتنا ما نحن عليه. لكن كيف تبدو عملية التطور بالضبط وفقًا لأحدث الرؤى العلمية وهل تلعب الفلسفة دورًا في ذلك؟

في كتابين حديثين، لعالم الوراثة والأعصاب كيفن ج. ميتشل أستاذ بجامعة ترينتي في دبلن وعالم

الأعصاب والأحياء الأمريكي، روبرت سابولسكي، نطلع على أن التفاصيل العلمية حول كيفية تشكيل التطور والتنشئة لأدمغتنا هي حاسمة في الإجابة على سؤال ما إذا كانت لدينا إرادة حرة. ولكلا الكتابين نظرة شاملة للعمليات الطبيعية التي تجعلنا على ما نحن عليه، لكنهما يصلان إلى استنتاجات متعارضة تماما.

ففي كتابه "الوكلاء الأحرار: كيف أعطانا التطور الإرادة الحرة" الصادر عام (2023) عن دار بريسنتون بريس، يقدم ميتشل، في 333 صفحة، ثروة من الأدلة التي تثبت أننا لسنا مجرد آلات تستجيب للقوى المادية، بل عملاء يتصرفون بهدف محدد. ويروي القصة الرائعة لكيفية نشوء الكائنات الحية القادرة، عبر مليارات السنين من التطور، على الاختيار من مادة هامدة. وبأن حركات الأشياء غير الحية - الهواء والصخور والكواكب والنجوم - تحكمها بالكامل قوى فيزيائية. تتحرك حيث يتم دفعها. ويضيف بأن قدرتنا على التراجع تسمح للمخلوقات المعقدة بشكل متزايد بالعمل كعوامل يمكنها اتخاذ خيارات حقيقية، وليس "خيارات" محددة مسبقا من خلال تدفق الذرات.

لم يبدأ ميتشل بمفاهيم مسبقة عن نوع الخصائص التي يجب أن تعتبر إرادتنا "حرة". بدلا من ذلك، تناول كيف تطورت القدرة على اتخاذ الخيارات واتخاذ الإجراءات. وهكذا تطرق في 11 فصلا إلى تاريخ الحياة والتحولات الرئيسية في التطور من خلال عدسة علم الأعصاب وإلى مواضيع عن العمل، إدراك الذات، الاختيار، المستقبل غير المكتوب، كيف نصبح أنفسنا والتفكير حول التفكير وغيرها.

وحسب قوله، قد لا نكون دائما أحرارا في اختيار أسباب ما نقوم به، لكن لدينا القدرة على التفكير فيها ولدينا درجة من ضبط النفس. ولدينا أيضا درجات من الحرية، ومع هذا ليس كل الناس متساوين في هذا الصدد. نحن نطور قدرتنا على الاختيار، وعندما نكبر يمكن أن نفقد بعضا منه مؤقتا، وذلك من خلال الأدوية أو الإجهاد أو بشكل دائم من خلال المرض العقلي على سبيل المثال. وتبقى ماهية الإرادة الحرة خاصية غامضة. وهي بحسبه، "وظيفة بيولوجية متطورة تعتمد على الأداء السليم لمجموعة موزعة من الموارد العصبية".

وفي النهاية، يقول ميتشل إنه "إذا كانت الإرادة الحرة هي القدرة على التحكم الواعي والعقلاني في أفعالنا، فأنا سعيد بالقول بأننا نمتلكها".

أما روبرت سابولسكي، فإنه يتحدث في كتابه الموسوم "محدد: علم الحياة بدون إرادة حرة" الصادر عام (2023)، عن دار بنغوين بريس، ومن خلال 528 صفحة، عن فكرة تقول أن كل ما يحدث في الكون - وبالتالي كل ما نقوم به – محدد من خلال قوانين الطبيعة وليس من قبل أنفسنا. إنه يكتب بطريقة سهلة ومقنعة ويقدم كمية مذهلة من المعلومات التي تدعم أطروحته القائلة بأننا محددون تمامًا. كيف يحدد "الكون" من نحن وماذا نفعل، يتم شرحه بالتفصيل على نطاقات زمنية مختلفة؛ من تأثير الروائح والأجواء لحظة الفعل، مرورًا بتأثير الثقافة والتربية، إلى تأثير ملايين السنين من التطور.

لكن ماذا لو كانت جميع اختياراتنا هي نتيجة لعمليات الدماغ، وإذا كان مسار تلك العمليات لا يتحدد إلا بقوانين الطبيعة؟ وبعبارة أخرى: ماذا لو قررنا أن الفكرة السائدة - داخل العِلم وخارجه، ولكن ليس في الفلسفة - هي أنه لا يمكن أن يكون هناك شيء اسمه الإرادة الحرة.

وهذه باختصار هي مشكلة الإرادة الحرة. فما المشكلة؟ من الناحية العلمية، من المحتمل أننا محددون. ولكن من دون الإرادة الحرة، هل يظل هناك ما يسمى بالمسؤولية؟ أليس من غير المجدي مكافأة أو معاقبة الأفعال التي لا مفر منها على أي حال؟

وفقا لسابولسكي، فالأدلة العلمية الرائدة على عدم وجود الإرادة الحرة تعتمد على التجارب التي تظهر أن خياراتنا الحرة الواعية يتم تحديدها دون وعي من قبل دماغنا قبل عدة ثوانٍ. لكن حسبه، فإن هذا يترك مجالًا للإرادة الحرة؛ ففي نهاية المطاف، من الممكن أن تكون القرارات التي تتم قبل تلك الثواني القليلة حرة وبالتالي غير محددة.

كما أنه يوضح بشكل مقنع أن هناك ثلاثة أفكار شائعة غير صحيحة حول كيفية إظهار العِلم أن العالمَ غير محدد. تُظهر ما يسمى بنظرية "النشوء" ونظرية الفوضى أنه لا يمكن التنبؤ ببعض الظواهر في العالم من خلال رسم خرائط لجميع القوى الطبيعية الكامنة وراءها. لكن عدم القدرة على التنبؤ يمكن أن يسير جنبًا إلى جنب مع الحتمية.

ويتابع بأن ميكانيكا الكم تظهر بالفعل أن العالم، على المستوى دون الذري على الأقل، ليس حتميًا. ويتمسك بفكرة أن الحتمية تستبعد الإرادة الحرة تمامًا. يقول: "أرِني خلية عصبية واحدة لا يتم تحديد نشاطها من خلال العمليات البيولوجية السابقة وسوف أؤمن بالإرادة الحرة".

إن النقطة المهمة هي أن هناك أنواعًا متعددة من "الإرادة الحرة". والقدرة على القيام بما تقرره بنفسك هو أمر مهم للغاية. وأن القول بأننا محددون ليس هو نفسه القول بأننا مجبرون. وبالتالي فإن الإرادة الحرة والحتمية ليستا متعارضتين.

***

نجاة تميم

حتى الان لم يمض سوى عدة شهور على إعادة انتخاب دولاند ترامب كرئيس للولايات المتحدة، لكن حكمهُ دائما ما قورن بالاستبداد. هذا قد يبدو امرا جديدا للامريكيين وللمراقبين في بقية دول العالم. لكن أخطار الاستبداد هي قديمة. نحن نستطيع ان نتعلم من الطريقة التي تعامل بها اليونانيون والصينيون القدماء مع هذه القضية.

من أين يأتي الاستبداد؟

كانت الشعوب في اليونان الكلاسيكية منفصلة الى دول مستقلة تُعرف بـ polis. بعض هذه المدن المستقلة مثل اثينا وارغوس كانت ديمقراطية. بينما دول اخرى مثل رودس وخيوس كانت فيها خصائص ديمقراطية مثل المشاركة المدنية في الحياة العامة.

هذه المدن المستقلة city-states واجهت بشكل متكرر اعداءً خارجيين وايضا تهديد استبدادي من الداخل. الامور وصلت الى ذروتها عام 510ق.م في ظل حكم الدكتاتور القمعي هيبياس Hippias، الذي طُرد في النهاية الامر الذي قاد الى تأسيس ديمقراطية عبر إصلاحات جرت تحت قيادة رجل الدولة الاثني كليسثينيس Cleisthenes.

طبقا لافلاطون، الاستبداد هو النظام السياسي الاكثر انحطاطا ويبرز من تطرّف الديمقراطية.هو جادل بان المواطنين الديمقراطيين يصبحون معتادين على العيش بالمتعة بدلا من العقل او الواجب نحو الصالح العام، المجتمع يصبح مجزءاً. الديماغوجيون او القادة الشعبويون الذين يستلمون السلطة عبر الانجذاب الى رغبات الجماهير وأفضلياتهم يطلقون الوعود للناس بالمزيد من الحريات. هم يبعدون المواطنين عن الفضيلة باتجاه الاستبداد.

ارسطو الذي هو تلميذ افلاطون، يعرّف الاستبداد كشكل فاسد من الملكية. الطاغية يفسد النظام الدستوري لكي يوجد حكم يخدم مصالحه الذاتية – حكم الرجل الواحد. الاستبداد، كما يقول، يحطم القانون والعدالة ويفسد ثقة العامة. ان اتجاه افلاطون وارسطو في التصدي للاستبداد كان مرتبطا بقوة بمفهومهما للدولة المستقلة وأهمية المواطنة.

بالنسبة لليونانيين الكلاسيك، كانت المواطنة علاقة ملزمة ضمن واجبات متبادلة والتزامات مستحقة على جميع المواطنين الاخرين. القانون، كما اعتقدا، هو الملك. تلك الاعراف هي التي قيدت السلطة السياسية خاصة الحكم الاعتباطي للرجل الواحد.

هما اعتقدا ان التعليم المدني عبر المشاركة في الحياة الديمقراطية اليومية يعزز الفضيلة. كلا المواطنين والحاكم خاضعين للقانون الذي حطّمه الطاغية. ارسطو قال ان طبقة وسطى قوية يمكنها منع الاستبداد لانها تشير الى القليل من اللامساواة وبذلك يصبح المجتمع اكثر استقرارا.

رؤية افلاطون كانت اكثر تركيزا على الداخل inward looking. هو رأى الاستبداد كتجسيد سياسي لروح مضطربة "مستعبدة" محكومة بالرغبة بدلا من العقل. هو يرى ان التوجيه الفلسفي لتحقيق الانسجام كان مطلوبا لكل من الطاغية والشعب. فقط من خلال الحكمة يمكن للناس تمييز ورفض الديماغوجيين والشعبويين.

حماية الديمقراطية من الاستبداد

بعض الدول المستقلة تعلمت من فشلها الدستوري عندما استولى الطاغية عليها. فمثلا، بعد ان سيطر انقلاب الارستقراطيين على اثينا الديمقراطية عام 411 ق.م بدأ الاثنيون بآداء قسم ديموفانتور oath of Demophantor. هذه كانت اولى المحاولات لضمانات دستورية للديمقراطية ضد الاستبداد. انها ألزمت المواطنين قانوناً على مقاومة أي محاولة للاطاحة بالديمقراطية بالقوة. كان التعهد واجبا متبادلا كما رأى عدد من المختصين، يمكن لكل مواطن ان يعتمد على دعم الاخرين لحماية الديمقراطية عندما يحاول المستبد العودة مرة اخرى. هذا جعل من المستبعد ان يتخذ الناس عملا يمهد لحكم طاغية محتمل طالما هم يدركون ان كل مواطن اقسم للحيلولة دون ذلك.

المؤرخون اليونانيون لتلك الفترة يؤيدون تلك الافكار. فمثلا، هيرودوتس في القرن الخامس قبل الميلاد وثّق صعود العديد من الدكتاتوريات في المنطقة المعروفة اليوم بتركيا. هو أدان الفراغ السياسي الذي خلقه انحدار الحكم الارستقراطي. هنا، الطموحات الشخصية وترف النخبة مهّدا الطريق للسلوك الاستبدادي. مؤرخ آخر شهير وهو ثوسيديديس Thucydides يكتب في نفس الفترة، حلل السلطة والفساد السياسي اللذان يكمنان خلف الطاغية. هو لاحظ كيف ان اوقات الازمات كشفت عن نقاط الضعف داخل اثينا، الامر الذي قاد الى الفئوية وعدم الاستقرار وتآكل الديمقراطية.

الاستبداد في الصين الكلاسيكية

في الصين الكلاسيكية نرى وجهة نظر تكميلية للاستبداد وفريدة من نوعها. خلال فترة الدول المتحاربة (475-221 ق.م) عندما تم تقسيم سلالة تشو Zhou Dynasty بين عدة دول متنافسة، كان منع الاستبداد هو الاهتمام المركزي. هذه الدول كانت معظمها ملكيات وراثية بدلا من ديمقراطيات لكنها مع ذلك أكّدت على المسائلة امام الناس. الفيلسوف الصيني والعالِم الكونفوشيوسي مينكوس Mencius في القرن الرابع ق.م جادل بان رفاهية الناس هي أساس الحكم الشرعي. هو جادل، هناك مسؤولية للجميع في ظل سلطة السماء Mandate of Heaven. هذه العقيدة الصينية زعمت ان السماء تمنح الشرعية فقط للحكام. اذا اصبح الحاكم استبداديا او فشل في الحفاظ على الانسجام والفضيلة، عندئذ يمكن سحب السلطة منه، وتبرير الثورة اوالتغير في السلالة.

مينكوس قال ان الحاكم الذي يقمع الناس ليس حاكما وانما "انسان فقط" يمكن الاطاحة به بالقوة.

زونزي Xunzi فيلسوف كونفشيوسي آخر كتب في أواخر القرن الرابع الى القرن الثالث ق.م اعتقد ان الناس انانيون بطبعهم وفوضويون.

لمنع مجيء طاغية هو اكد على الطقوس والتعليم وحكم القانون. هو اعتقد بالمراسم الرسمية والممارسات التنظيمية مثل آداب المحكمة وطقوس العائلة والسلوك الاخلاقي اليومي. هذه كما يُعتقد ساعدت في ترسيخ الفضيلة وتنظيم السلوك والحفاظ على الانسجام الاجتماعي.

موزي Mozi كان فيلسوفا صينيا في القرن الخامس الى بداية القرن الرابع ق.م عارض الكونفوشيوسية وأسس الموزية Mohism وقدم رؤية مختلفة. هو رفض كل التسلسلات الهرمية، وأكد على التزام عالمي او اهتمام بجميع الآخرين كمبدأ أخلاقي سياسي مركزي.

طبقا لموزي، يبرز الاستبداد عندما يفضل الحكام الأنانيون عوائلهم ومكانتهم ومصالحهم الشخصية على الصالح العام. هو دعا الى سلوك أخلاقي قوي وركز على كفاءة القادة بدلا من نسبهم او ثروتهم او مكانتهم.

الاستبداد اليوم

في النظر الى كل ما تقدم، هذه التقاليد تقترح ان منع الاستبداد يتطلب اكثر من مجرد قيادة أخلاقية، بل يتطلب فكرة الاعتماد المتبادل reciprocity لإلتزامات متبادلة بين المواطنين – وضمانات شاملة ضد الطموحات الشخصية للحكام. من الضروري تطبيق الحوكمة الاخلاقية والتعليم المدني والاطر القانونية والمسؤوليات المشتركة في هذا الميدان.

The conversation, July15,2025

*** 

حاتم حميد محسن

(إذا تفوقت عقول الآلات على عقول البشر في الذكاء العام، فإن هذا الذكاء الخارق الجديد قد يحل محل البشر كأهم وجود حيّ على الأرض.. إن ثمة مسارات وأخطار واستراتيجيات محتملة لإنشاء مثل هذا الذكاء الخارق والتحكم فيه)... نيك بوستروم

*عالم من التحكم الصناعي

على الرغم من انشغال حقل الإلكترونيك بتطوير عدة تخصصات دقيقة في عالم التحكم الصناعي وأنظمة الإرسال الرقمي، فإن التطورات الراهنة التي عمت نظم "تحليل التكنولوجيا"، واكتسابها أهمية متزايدة في مجتمعات العصر السريع، قد أثر على تاريخ التكنولوجيا كجزء من مشهد أكاديمي مشترك.

ويعتبر سوسيولوجيون هذا الرهان، جزءا من فرعٍ معرفيٍّ غامضٌ، يتقاطع مع العديد من التقاليد المعرفية. بالإضافة إلى أن مناهج مؤرخي التكنولوجيا، المُتمايزة وفقًا لتركيزهم الزمني، تُعزز الانطباع بغياب التجانس.

وفي السياق، أثار فرانسوا سيغوت هذا التباين في مرحلة تطور تاريخ التكنولوجيا، حيث اعتلق سؤال الخروج عن التاريخ الداخلي للتقنيات، أو ما يسميه ب" التاريخ التقني للتقنيات"، وإثارة المشكلات والمناهج التي تم تطويرها بالتلازم مع تخصصات أخرى، كعلم الاجتماع والاقتصاد وتاريخ العلوم وعلم الآثار أيضا. بيد أن هذا الأمر لم يمنع من الحديث عن تأخر إدماج تاريخ التكنولوجيا بشكل كاف في أكثر المناهج التاريخية تقليدية، دون المساس بخلفية حضوره الديناميكي في مناهج التدريس والبحث العلمي، في كبريات الجامعات الغربية والآسيوية، وذلك بفضل مساهمة وجهات نظر منهجية ومفاهيم جديدة من التاريخ الاقتصادي وعلم الاجتماع وتاريخ العلوم.

وشكلت تحيزات مفاهيمية منطقية، بؤرة خلاف في تقصيد حصر التكنولوجيا كإحدى هذه اليقينيات التاريخية الزائفة، على اعتبار سذاجة الإنتاج التقني المتقدم للمجتمعات الصناعية، أو ارتكازها بالأساس على الوفرة أو التفضيل العلمي، في مقابل التقنيات الحديثة والصناعية والعلمية التي تتجاوز النمط الاستهلاكي والتحول إلى تكييفات خارج المجتمع.

ويلتقي هذا المعنى مع ما أطلق عليه الفيلسوف الأماني كريستيان وولف، بالفن التقني الجديد الذي ينصهر مع فنون إنسانية وأعمال فنية تكون نتيجتها علم الأشياء بكل تجرد واكتمالية.

* السوشال ميديا: صناعة النصر

تجترح وسائل الإعلام الاجتماعية، باعتبارها مكونا أساسيا لمجموعة من تطبيقات الإنترنت التي تنبني على أسس أيديولوجية والتكنولوجية من الويب، والتي تسمح بإنشاء وتبادل المحتوى الذي يتعاطاها المستخدمون، عالما من الدعاية (البروبجندا)، التي تبحث لها عن أعداء خارج العقل، تستنفر قابلياتنا لإبداء قيم الكراهية والحقد والانتقام تجاه كيانات جغرافية أو حضارية أو دينية أو شخصية. وهو نفس المنطق، الذي يجعل منا أدوات للرفض والمقاطعة وتحاشي البحث عن الحقيقة، كما هو الشأن بالنسبة لتداوليات "ديكتاتورية هتلر وموسوليني وستالين وصدام حسين والقذافي وبوتين. أو كوريا الشمالية وإيران وغير ذلك. "محور الشر" الذي روجت له منطقيات الإعلام الغربي وأخطبوطياته، على مر الحقب السابقة. نتج عنها تحويل المغضوب عليهم ضمن نسق النظام العالمي القطبي، إلى قطيع مزعج ومحضور ومنبوذ، يلزمه الردع والمواجهة والمحاصرة والتطويع، عوض المكاشفة والاستنتاج والنقد الغيري.

إن تلك الدعاية الإعلامية، التي ترمز صناعة أبواقها وأطقمها المندسة، لحدود الرغبة فينا، لتغطية تردي قيم الهوية وتراجع أخلاقيات المعرفية وفهم ثقافة الآخر، هي نفسها التي تغالط الضمير العالمي وتحتذي بنظرية طغيان الغالب وتسلطه، واتساع نفوذه وفرض أشكال علاقاته.

ويبدو أن هذا الطعم الماثل في الراهن، بدا وكأنه ينفض دعاياته التقليدية، ويزيل عنها صباغات السياسة الدوغمائية، وميكيافيلية التوجيه الاحتمائي بإزائها، لتصير عالما مفضوحا بكل سياقات الواقع المفروض، وحتمياته الاحتيالية، حيث يستعاض عن سابقاتها بعرض القوة والسباق نحو التسلح وامتلاك التكنولوجيا وتعالي/ تضخم الأنا المستبدة، بفائض الإرهاب والابتزاز والضغط، ومثال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خير دليل على اتساع حقيقة اكتساح وسائل الدعاية لمنظومة تعمل على ترويج مفاهيم جديدة، ك"صناعة النصر" الذي لا يقهر، وتورية أنساق السياسة والحقوق الدوليين، والانحلال من التزامات النظام الدولي.

إنه لم يعد باستطاعة المفكرين، أن ينساقوا خلف هوياتهم الحضارية والثقافية والنفسية، في اقترابيتهم نحو حقل مفهوم "كسب الحرب المشتعلة على امتداد العولمة"، بما هي حرب تنتفض فيها العقول والقطعيات، وتنتصب كأدوات لصد الهجمات المحتملة والرهانات المستتبعة لها، دونما الحاجة إلى استعباد الناس وإذلالهم. لغة يصفها كزافييه دوران ب"الحرب الناعمة المخملية"، تستأثر وضعها الجديد وفق أنماط وأوعية دقيقة وبيانية وغير قابلة للتكسير. ذلك أن هذا القياس سرعان ما تنكسر أرتاله وأوابده، تحت قصف "التفاهة" و"اللامعنى" و"القبض على فراغات نصر مزيف"؟.

***

د. مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

 

نحو عقد اجتماعي جديد في المجتمعات العربية

رغم مرور أكثر من قرن على تشكُّل الدولة الوطنية الحديثة في العالم العربي، لا تزال الطائفية تشكّل أحد أخطر التحديات البنيوية التي تُقوِّض أسس المجتمعات الحديثة. فالطائفية ليست مجرد انتماء ديني أو مذهبي، بل هي اختزال معقّد للهوية الإنسانية وتحويلها إلى أداة للصراع السياسي والاجتماعي. إنها آلية نفسية واجتماعية تعيد تشكيل الولاءات من الانتماء إلى الوطن الجامع، إلى الولاء للطائفة أو العرق أو المذهب، مما يؤدي إلى انقسام المجتمع إلى كيانات متقوقعة تعيش في حالة ريبة متبادلة.

إن أخطر ما في الطائفية أنها تُنتج "عقلاً طائفياً"، لا يرى العالم إلا من خلال ثنائية "نحن" و"هم"، وتحوّل التعددية إلى تهديد وجودي. وهذا العقل يُفرز سرديات مغلقة، تعيد إنتاج الكراهية وتنزع عن الآخر المختلف صفته الإنسانية، فيتم تشييئه أو تجريده من حقوقه الأساسية، بل حتى من أهليته للعيش المشترك.

تتغذى الطائفية على الخوف، وتقوم على منطق الحصار، حيث يُزرع في وعي الجماعة أنها مهددة، وأن بقاءها لا يتحقق إلا بعزل نفسها أو بالهيمنة على غيرها. وهكذا تصبح الطائفة دولة داخل الدولة، والمواطنة مقسّمة على أسس طائفية ومذهبية، لا على أساس الانتماء الوطني الواحد.

لقد أنتجت هذه العقلية، عبر العقود، أنظمة سياسية مريضة بالمحاصصة، تعيد إنتاج الفساد والتمييز، وتضعف المؤسسات العامة لصالح الولاءات الضيقة. وفي ظل هذا المناخ، لا يعود القانون هو الحَكَم، بل تصبح الزبونية الطائفية هي مفتاح الحصول على الحقوق أو المناصب أو حتى الحماية الأمنية. وهو ما يفتح الباب واسعًا أمام انهيار الثقة بين المواطنين والدولة، بل بين المواطنين أنفسهم.

ولا يقتصر خطر الطائفية على تآكل مؤسسات الدولة فقط، بل يتعدى ذلك إلى تهديد السلم الأهلي، إذ تصبح أي أزمة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية مرشحة لأن تتحول إلى فتيل صراع طائفي. يكفي إشعال خطاب تحريضي واحد حتى تنفجر الأوضاع، كما شهدنا في أكثر من بلد عربي، حيث تحوّلت مدن وبلدات بأكملها إلى خطوط تماس مذهبية، وسقط الآلاف ضحايا صراعات لا علاقة لها بالمطالب الاجتماعية الحقيقية.

إن ما يزيد من مأساوية المشهد هو تجاهل التاريخ العربي الطويل الذي أثبت أن التعدد الديني والإثني يمكن أن يكون مصدر قوة حضارية. لقد عرفت الدولة العباسية، في فترات ازدهارها، تعايشًا حقيقيًا بين المسلمين والمسيحيين واليهود والصابئة، وكانت بغداد في القرن الرابع الهجري منارة علمية استوعبت الألسن والأديان والمذاهب. وفي الأندلس، شكّلت العلاقة بين المسلمين واليهود والمسيحيين نموذجًا للتفاعل الإبداعي، حيث أسهم الجميع في العلوم والفنون والآداب. حتى في العصر الحديث، كانت بيروت، في منتصف القرن العشرين، حاضنة لصحافة وفكر وحركات ثقافية شارك فيها مثقفون من مختلف الطوائف دون أن يُختزلوا في هوياتهم الدينية.

هذا السياق يؤكد أن الطائفية ليست قدرًا حتميًا، بل ظاهرة مصطنعة تُنتجها بنى سياسية محددة، وتتغذى على خطاب متعمَّد يُعيد تفسير التعدد باعتباره مصدر تهديد، لا موردًا ثقافيًا وإنسانيًا.

لا يمكن فهم الطائفية دون تحميل المسؤولية للفاعلين الذين أنتجوها واستثمروها. فالعديد من الأنظمة العربية، خصوصًا بعد الاستقلال، اعتمدت على سياسات "فرّق تسد" لضمان البقاء في السلطة، فعمّقت الانقسامات المذهبية والعرقية، وخلقت موازنات طائفية هشّة داخل مؤسسات الدولة. بدلًا من بناء دولة المواطنة، تم تصنيع "دولة الطوائف"، حيث يُقاس الولاء للسلطة بالانتماء، لا بالكفاءة أو النزاهة.

ولم تكن بعض النخب الدينية أقل تورطًا. إذ استُخدمت المنابر الدينية – أحيانًا بشكل مباشر وأحيانًا عبر الإيحاء – لترسيخ مشاعر التمييز والعداء، وغُذِّيَ الخطاب الطائفي في مواجهة الدعوات إلى التغيير أو المساواة. وقد تماهت بعض القيادات الدينية مع السلطات السياسية، وشكّلت غطاءً شرعيًا لاستمرار منطق الفرز الطائفي ورفض الانفتاح على الآخر. وهكذا، تحوّل الدين من منظومة قيم إنسانية جامعة إلى "حدّ فاصل" بين جماعات متنازعة.

الطائفية أيضًا تُضعف مناعة المجتمعات تجاه التدخلات الخارجية. فحين يتشرذم الشعب إلى طوائف متصارعة، تصبح الدولة هشّة، وتغدو الطوائف أدوات في يد القوى الإقليمية والدولية التي تبحث عن وكلاء يخدمون مصالحها. وهكذا تفقد الدولة استقلال قرارها، وتتحول إلى ساحة تصفية حسابات بين قوى لا يعنيها استقرار شعوبنا بقدر ما يعنيها تعظيم نفوذها.

ولعل أكثر ما يجعل الطائفية خطيرة أنها تزرع الكراهية في النفوس عبر الأجيال، فتنشأ أجيال جديدة على مشاعر الريبة والخوف من الآخر، وتنعدم فرص التواصل أو التفاهم. وهنا تتجاوز الطائفية حدود السياسة لتصبح أزمة عميقة في البنية الثقافية والأخلاقية والاجتماعية. إنها تقطع سبل المصالحة، وتمنع المجتمعات من تجاوز جراحها، وتبقيها رهينة لذاكرة النزاعات والانقسامات.

لكن ما يغيب عن كثير من النقاشات هو أن المجتمعات العربية لم تكن يومًا أحادية، بل هي من أكثر مجتمعات العالم ثراءً بالتنوع الديني واللغوي والعرقي. لقد عاش العرب قرونًا من التفاعل الحضاري بين المسلمين والمسيحيين واليهود، بين العرب والأمازيغ والأكراد والتركمان والأشوريين والسريان... وقد كانت هذه الفسيفساء عامل إثراء ثقافي واجتماعي واقتصادي حين كانت تُدار بروح التسامح والاعتراف المتبادل.

من هنا، فإن التحدي الحقيقي ليس في "وجود" الطوائف، بل في "تطييف" الدولة والمجتمع. الطوائف جزء طبيعي من التكوين المجتمعي، لكن تحويلها إلى كيانات سياسية مغلقة هو ما يهدد الاستقرار.

الحل يبدأ من إعادة الاعتبار لفكرة المواطنة الجامعة، التي لا تُفرّق بين الناس على أساس الدين أو العرق، بل تساوي بينهم في الحقوق والواجبات. وهذا يتطلب إصلاحًا جذريًا في بنية الدولة، وفي الثقافة السياسية، وفي التعليم، والإعلام، والخطاب الديني. يجب أن يُعاد تعريف الوطن بوصفه بيتًا مشتركًا، لا غنيمة تتقاسمها الطوائف.

كما يجب أن يُعاد بناء الثقة بين مكونات المجتمع، عبر برامج للعدالة الاجتماعية، ومصالحة وطنية حقيقية، ومبادرات حوار تعترف بالجروح وتعمل على معالجتها، لا طمسها أو توظيفها. كذلك لا بد من تمكين المؤسسات المدنية، وتحصينها ضد الاختراقات الطائفية، وجعلها منصات للتفاعل بين مكونات المجتمع المختلفة.

إن مجتمعاتنا العربية لا يمكن أن تنهض وهي رهينة هويات قاتلة. لا تنمية في ظل الطائفية، ولا ديمقراطية مع الطائفية، ولا استقرار دون تجاوز الطائفية. وحدها الدولة المدنية العادلة، التي تحتضن كل مكوناتها بلا تمييز، هي القادرة على تحويل هذا التنوع إلى قوة ناعمة تنهض بالمجتمع بأكمله.

إننا أمام لحظة مفصلية: إما أن نعيد صياغة علاقتنا ببعضنا البعض على أسس الاحترام والعدالة والاعتراف، أو نستمر في الدوران داخل حلقة مفرغة من الشك والكراهية والانقسام. والطريق واضح، وإن كان شاقًا: بناء عقد اجتماعي جديد يؤسس لوطن لا يذوب فيه أحد، ولا يُقصى منه أحد.

***

د. هدى لحكيم بناني

عرف التصور اليوناني الميتافيزيقي للعالم، تغييرا في بنيته ومكوناته، نتيجة مجموعة من التحولات الفكرية والمعرفية التي وقعت فجر الفكر الأوروبي الحديث، خاصة ما يتعلق بالثورة العلمية الفلكية التي أحدثها العالم البولوني «نيكولاكوبيرنيك» (1473م-1543م). ذلك، أنه قدم افتراضا رياضيا مفاده أن الشمس هي مركز الكون[2]، كحل لمسألة فلكية تدعى بمشكلة تحير الكواكب، بوصفها مشكلة أفرزتها مجموعة من الأرصاد الفلكية التي أفادت بأن ما يوجد في عالم ما فوق القمر بلغة أرسطو، يحمل بعض الفوضى والفساد، حيث تم رصد تغير بعض النجوم-الكواكب من موضع إلى آخر [تحير الكواكب=تحيرها من موضع إلى آخر]، الشيء الذي يعني أن العالم المتسم بالنظام والكمال في الكسمولوجية الأرسطية، يحمل بعض الصفات والخصائص التي كانت موجودة في عالم الفساد والتكون. فالفوضى -نظريا- لا تحكم عالم ما تحت القمر حسب الأرصاد الفلكية التي تمت في القرنين 14م و15م، وإنما عالم ما فوق القمر أيضا. وإذا كان الأمر كذلك، فإن السؤال المطروح هو؛ هل يتسم العالم بالفوضى حقيقة؟

في الواقع، إن ما يبدو للحواس بحسب مشكلة تحير الكواكب هو الفوضى، لكن ما يبدو للحدس العقلي هو أن المشكلة لا توجد في الكواكب-النجوم في حد ذاتها، وإنما في الذات الراصدة. فاعتبار الذات ثابتة لا تتحرك يجعلها تنظر إلى ما يتحرك أنه فوضى، والحال أن العالم ليس فوضويا، بل منظما تنظيما محكما ووحدويا، ليس فيه فوق أو تحت، بل كل في فلك يسبحون. وبهذا المعنى، سيتم توحيد العوالم الأرسطية في عالم واحد يبدو بالحس فوضويا، لكنه يحتاج إلى دراسة عقلية منظمة لاستنتاج قوانينه ونواميسه، التي تنظمه تنظيما محكما. وإذا أصبح العالم في التصور الميتافيزيقي الحديث واحدا وموحدا من حيث بنيته ونواميسه، إذ لا فرق بين فوق أو تحت، فإن ذلك يعني انهيار التراتبية الطبيعية نظريا بين فوق وتحت، وإذا انهارت هذه التراتبية الطبيعية، فستنهار معها التراتبية الطبيعية للأجرام والكواكب، من حيث إن الذي يضفي المعقولية والمعنى والأفضلية ليست الطبيعة نفسها، وإنما الذات أي ذات العالِم.

وبما أن علم الفلك هو أب العلوم، من حيث إن الفلاسفة والعلماء يستمدون منه بعض الأسس النظرية حول العالم، لتأصيل نظرية فلسفية بخصوص الإنسان والمجتمع، فإن لهذا التحول العلمي الفريد الذي أدى إلى انهيار الكصمولوجية اليونانية القائمة على تراتبية العوالم[3]، وما ترتب عن ذلك من انهيار للتراتبية الطبيعية، الأثر البالغ في ظهور مجموعة من المفاهيم الفلسفية الحديثة؛ كالذات، والحرية والمسؤولية...إلخ. إن انهيار التراتبية الطبيعية التي استند إليها فلاسفة اليونان في تأسيس نظرية سياسية، كان له تجليات في التصور الفلسفي للمجتمع والدولة. ذلك أن انهيار التراتبية الطبيعية بين الأجرام-الكواكب في التصور الكصمولوجي الحديث، يعني انهيار فكرة التفاوت الطبيعي الذي استند إليه أفلاطون-مثلا- في تصوره السياسي لطبقات المجتمع. وما دام التصور الكصمولوجي الحديث قد وحد بين العوالم، فإنه لم يعد للتفاوت الطبيعي أية فائدة، الشيء الذي يترتب عنه نظريا انهيار لفكرة التفاوت الطبيعي بين البشر على المستوى السياسي والاجتماعي، ومن ثم، ظهور فكرة المساواة كقيمة إنسانية، أما التفاوت فأصبح مصدره ما هو إنسي، وليس ما هو طبيعي.

هكذا، تم الانتقال في تاريخ الفكر الفلسفي من منظومة فكرية ومعرفية تجعل من فكرة التفاوت الطبيعي بين البشر أساسا لها في بناء نظرية فلسفية لمجال الحكم وتدبيره داخل المدينة-الدولة، تماشيا والنظام الميتافيزيقي لذلك العصر القائم على تقسيم العالم إلى عالمين لكل منهما طبيعته ووظيفته، إلى منظومة فكرية ومعرفية تجعل من فكرة المساواة الطبيعية بين الأفراد أساسا لها في إرساء مبادئ سياسية للحكم في الدول، تماشيا والكصمولوجية الجديدة القائمة على توحيد العوالم الأرسطية في عالم واحد ذي بنية ووحدة قانونية، بناء على قدرات الذات وإمكاناتها بوصفها مبدأ إضفاء المعنى والمعقولية.

***

د. لوكيلي عبد الحليم - باحث في الفلسفة-المغرب.

.......................

[2] Nicolas Copernic. Des révolutions des Orbes Célestes, Trad. Alexandre Koyré, version Eélectronique, 1934, Ch.IV.

[3] Alexandre Koyré. étude d’histoire de la pense scientifique. 1eéd. )Paris: Gallimard, 1973(, p. 11.

 

رَفْضُ الجَوائزِ الأدبية مِنْ قِبَلِ بَعْضِ الكُتَّابِ لَيْسَ حالةً مِزاجيَّةً أوْ حَرَكَةً عَفْوِيَّة، بَلْ هُوَ سِيَاسة مَنهجية قائمة عَلى مَوْقَفٍ وُجوديٍّ مُسْبَقٍ، وَفَلسفةٍ مَعرفية، وقَنَاعَةٍ ذاتيَّة. وفي بَعْضِ الأحيان، قَدْ يُجْبَرُ الكاتبُ عَلى رَفْضِ الجائزة مِنْ قِبَلِ السُّلطة الحاكمة لاعتبارات سِيَاسية بعيدة كُلَّ البُعْدِ عَن الأدبِ والثقافة.

مِنْ أبرزِ الكُتَّابِ المعروفين برفضِ الجوائز، الكاتبُ المَسرحي الأيرلندي جورج بِرْنارد شو (1856 - 1950). يُعْتَبَر أحَدَ أشهر الكُتَّاب المَسْرحيين في العَالَم، وهو الكاتب الوحيد في التاريخ الذي حازَ على جائزة نوبل للآداب (1925)، وجائزة الأوسكار لأحسن سيناريو (فيلم بيجماليون في عام 1938).

فَجَّرَ بِرْنارد شو مُفاجأةً مِنَ العِيَار الثقيل، حَيْثُ رَفَضَ جائزةَ نوبل حِينَ أُعْلِنَ فَوْزه به، مُقَلِّلًا مِنْ قِيمتها، وَمُتَهَكِّمًا مِنْ صَانِعِهَا: (قَدْ أغْفِرُ لنوبل اختراعَه للدِّيناميت، لَكِنَّني لا أغْفِرُ لَهُ اختراعَ جائزة نوبل).

ولكنَّه قَبِلَهَا عام 1926 بعد ضُغوطات كثيرة، وقال: (إنَّ وطني أيرلندا سَيَقْبَل هذه الجائزة بسرور، ولكنَّني لا أستطيعُ قَبول قِيمتها المادية. إنَّ هَذا طَوْقُ نَجَاةٍ يُلْقَى بِه إلى رَجُلٍ وَصَلَ فِعْلًا إلى بَرِّ الأمان، ولَمْ يَعُدْ عليه مِن خطر).

وَقَدْ تَبَرَّعَ بقيمة الجائزة لإنشاء مؤسسة تُشَجِّع نَشْرَ أعمال كِبار مُؤلِّفي بِلاد الشَّمَالِ باللغة الإنجليزية.

وَالفَيلسوف والأديب الفرنسي جان بول سارتر(1905-1980) رَفَضَ جائزة نوبل للآداب (1964)، فَهُوَ يَعْتبر أنَّه لا يَسْتحق أيُّ شخص أن يُكَرَّم وَهُوَ عَلى قَيْدِ الحَيَاة، كما رَفَضَ أيضًا وِسَامَ جَوْقَةِ الشَّرف في 1945. كانتْ هَذه التَّكريمات بالنِّسْبَةِ إلَيْهِ تَقْييدًا لِحُرِّيته، لأنَّها تَجْعَل مِنَ الكَاتِبِ مُؤسَّسَةً. وظلَّ هذا المَوْقِفُ شهيرًا، لأنَّه يُوضِّح مِزَاجَ المُثَقَّف الذي يُريد أنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا عَن السُّلطةِ السِّياسية.

وفي عام 1976، قَبِلَ سارتر تكريمًا وحيدًا في حَيَاته، وهو الدُّكتوراة الفَخْرية مِنْ جامعة أُورُشَلِيم العِبْرِيَّة، وَقَدْ تَلَقَّاها مِنْ سِفَارَةِ إسرائيل بباريس. لَقَدْ قَبِلَ هذه الجائزة فقط لأسباب سياسية، " لِخَلْقِ رابط بَيْنَ الشَّعْبِ الفِلَسْطِينيِّ الذي أتَبَنَّاهُ وإسرائيل صَدِيقتي ".

وَالرِّوائيُّ الأُستراليُّ باتريك وايت (1912- 1990)، أحد أعظم أُدباء أُستراليا في القَرْنِ العِشرين، كانَ رافضًا للجَوائز، وَبَرَّرَ ذلك قائلًا إنَّ قِيمة الإنسانِ لَدَيْه أعلى مِنَ المَظَاهِرِ أو التَّكريم. رَفَضَ جائزة البوكر. وتَمَّ ترشيحُه لِنَفْسِ الجائزة بَعْدَ وَفَاتِه، لأنَّه لا يَسْتطيع رَفْضَها وَهُوَ مَيت.وَعِنْدَ فَوْزِه بجائزة نوبل للآداب (1973) خَشِيَت اللجنة أن يَرفض الجائزةَ، فأبلغتْ صَدِيقَتَهُ الرَّسَّامَة (سيدني نولان سيدي) الأُسترالية، لِتُخبره بفوزه بالجائزة مِنْ أجْلِ قَبولها على شرط أن تذهب صديقته لاستلام الجائزة. وَلَمْ يَتِم عَمَل مُحَاضَرَة كما هُوَ المُعتاد بالأكاديميَّة السويدية لغياب الفائز بالجائزة. وَهُوَ أوَّلُ أُسترالي يَفُوز بجائزة نوبل للآداب.

جاءَ في تقرير الأكاديمية السويدية عن سبب منحه جائزة نوبل للآداب: (لطريقته الرائعة والمُؤثِّرة نَفْسِيًّا في فَنِّ السَّرْد، والتي قامت بتقديم مُحتوى جديد للأدب).

أمَّا الأديبُ الروسيُّ بوريس باسترناك (1890 - 1960) فَقَدْ مُنِحَ جائزة نوبل للآداب (1958)، لكنَّ السُّلطة السِّياسية في بلاده أجْبَرَتْهُ عَلى رَفْضِها، إذْ عَدَّتْ رِوَايَتَهُ " الدكتور جيفاكو " نَصًّا مُضَادًّا للثَّورةِ البُلْشُفِيَّة. ولَمْ يَتِم الاكتفاء بهذا، فقد فُصِلَ مِن اتِّحَاد الكُتَّاب، وأُوقِفَ إصدارُ تَرْجماته، وفُرِضَ حَظْرٌ عَلَيْه، وتُرِكَ بِلا رَاتب.

والجَدِيرُ بالذِّكْرِ أنَّ السُّلطة السُّوفييتية كانتْ قَدْ وَضَعَتْ باسترناك تحت المُرَاقَبَة مُنذ مَطْلَعِ الثلاثينيات، وصَوَّرَتْهُ إنسانًا مَعزولًا عَن العَالَمِ، وغارقًا في الذاتية والانطوائية والعدمية، ثُمَّ أطلقتْ عَلَيْهِ لَقَب " المُرْتَد " و" عَدُو الشَّعْب ".

والفَيلسوفُ الرُّوماني إميل سيوران (1911- 1995) المَعروفُ باليأسِ والتَّشَاؤُمِ والعَدَمِيَّة، ظَلَّ طِيلةَ حياته يَمتنع عَن الجُمهور، ويَرفض الجوائزَ، ويَبتعد عَن وسائل الإعلام مُكْتَفِيًا بالكتابة. وكانَ يَعيش عُزلةً في غُرفةٍ صغيرة في وسط باريس، حيث حافظَ على مسافة بَينه وبَين العَالَمِ الخارجيِّ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ نِهائيًّا.

والرِّوائيُّ الألماني باتريك زوسكيند (1949 -...) مَعروفٌ برفضه الجوائز الأدبية، وَيُفَضِّل العُزلةَ والابتعادَ عَن الأضواء، ولا يَحْضُر أيَّةَ مُناسبة لتكريمه، حَتَّى إنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ العَرْضَ الأوَّلَ للفيلم المُقْتَبَس عَنْ رِوايته الشَّهيرة " العِطْر "، التي تُعَدُّ مِنْ أكثر الرِّوايات مَبيعًا في ألمانيا في القَرْنِ العِشرين، حَيْثُ تُرجمت إلى 48 لُغة، وَبِيعَ مِنها 20 مليون نُسخة عَبْرَ العَالَمِ. كما يَرفض إجراءَ المُقابَلات الصَّحفية، والظُّهورَ الإعلاميَّ، مِمَّا يُعَزِّز صُورته كشخصية انطوائية انعزالية لا تُحِبُّ الشُّهرةَ والأضواءَ الإعلامية والظُّهورَ العَلَنِيَّ.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

خلال العقدين الماضيين، وبسرعة مذهلة حقاً غيرت التكنولوجيا عالمنا القديم إلى غير رجعة، ونجحت بفرض هيمنتها بوصفها وسيطاً أساسياً في ميادين التعليم، والتصنيع، والمعاملات التجارية والرسمية، والتصميم، والترفيه. ومع شبكات التواصل الاجتماعي تحديداً لم يعد للحياة التي عاشها جيل الآباء الايقاع ذاته، بل ولا الطعم، ولا الثقافة أيضاً. يأتي ذلك بخلاف جيل الأبناء المولودين في عهد الصعود المدوي لشبكة الإنترنت، والتمدد اللامحدود للعالم الرقمي. لقد كانت بعض النخب العربية تدق ناقوس الخطر قبل ربع قرن محذرة من مخاطر الفجوة الرقمية بين الغرب والشرق، اليوم، وقد صارت الهواتف الذكية لا تفارق أيدي الأطفال قبل الكبار تولد فجوة أخرى ليست بأقل خطورة من الأولى، بل ربما كانت أشد تأثيراً في عالمنا العربي،  فجوة أسرية.

لا أحد بوسعه أن يجحد الفوائد المذهلة التي توفرها التقنية الحديثة، لكن حين يتمكن أطفال في عمر الرابعة والخامسة من الدخول - بلا رقيب موجه - لشبكة الانترنت بكل ما تنطوي عليه من مغريات وتناقضات ومخاطر فإن من بين ما يعنيه ذلك أنهم قد بدأوا خطوتهم الأولى في طريق مغرٍ عنوانه: إدمان التقنية. وجميعنا يعلم أن أي شكل من أشكال الإدمان سيفضي حتماً إلى النتائج المعروفة ذاتها، إلى الشرود الذهني، إلى قلة التركيز، وإلى ضعف الثقة بالنفس، وعدم القدرة على الاندماج والتواصل مع المجتمع.

تبدأ تلك الأعراض بالظهور حين لا يوفر الآباء وقتاً كافياً للتواصل العاطفي مع أبنائهم، لا سيما أولئك الذين يعملون لساعات طويلة بشكل يومي، فهم لن يكونوا قادرين على تزويد الأبناء بالخبرات الحياتية، والتقاليد الثقافية عبر أساليب تقليدية غير رقمية لكنها  -مع ذلك- مفعمة بالتشويق، مثل سرد الحكايات الممتعة ذات المغزى الأخلاقي، وبعض الألعاب البدنية المثيرة، والمفيدة للصحة البدنية. أو حتى بأن يلزم الآباء أنفسهم بالتعرف على ما يستجد في العالم الرحب لألعاب الفيديو، ومشاركتهم اللعب مع الأبناء باختيار ألعاب تجمع بين الأسلوب الترفيهي المثير والمضمون التعليمي في آن واحد.

من الواجب أن يتمكن الأبوان من تأسيس أرضية للتواصل الحميمي، وخلق أوقات تتنحى فيها الهواتف الذكية لبعض الوقت من أيدي الأبناء. من تراه قادراً على فعل ذلك سواهم؟ إن التواصل المباشر وجهاً لوجه، والشروع بالحديث، وتقديم إجابات شافية عن تساؤلات الأبناء المشروعة التي لا تنتهي بدلاً من أن يحصل عليها الأبناء من مصادر إلكترونية غير موثوقة، أو عن طريق أصدقاء افتراضيين لا أحد يعرف حقيقتهم، أو يعلم صدق نواياهم، أقول إن ذلك كله يعني من بين ما يعنيه إعادة تجسير للهوة الفاصلة بين أفراد الأسرة. وتلك هي أولى خطوات التعافي من شرور إدمان التقنية، والدفع باتجاه بناء المجتمع السليم.

***

عباس عبيد

في مقابل هذه الرؤية البسيطة التي قمنا بتقديمها لنوضح ملامح النظر الفكري والمعرفي الذي طبع العصر الوسيط مع ابن خلدون (الجزء الأول من المقال الذي عنوانه "العلم بما هو جزئي: ابن خلدون نموذجا)، يمكن استدعاء تصور "الحسن ابن الهيثم" فيما يخص مسألة كيفية الإبصار. إذ ينطلق في سياق معالجته لهذه المسألة من الإشارة إلى كونها ليست من السهولة بمكان حدها، نظرا للطافة موضوعها وتشعبها واختلاف الآراء بخصوصها. سيما، وأنها موضوع تختلط فيه المجالات والعلوم، حيث يشترك في تناولها علمين جليلين هما؛ العلوم الطبيعية باعتبار العين من الحواس، والحواس من الأمور الطبيعية. ثم علوم التعاليم (الرياضيات) لكون البصر حينما ينقل ما يوجد حسيا، فهو لا ينقله إلا شكلا أو وضعا، وإما حركة أو سكونا[2].

إن ابن الهيثم قبل أن يقدم تصوره بخصوص مسألة الإبصار قام بإبراز خلاصات ونتائج أصحاب علوم التعاليم وعلم الطبيعة بخصوصها. لذلك، يشير إلى أن هناك نظريتين متعارضتين لمسألة الإبصار، نظرية أولى تعتبر أن الإبصار يتم اعتمادا على أشعة الضوء المنبعثة من العين وفق خطوط مستقيمة لها مركز هو نقطة التقائها في مركز العين، وأصحاب هذه النظرية هم أصحاب التعاليم (أي؛ أقليديس وبطليموس)، يقول ابن الهيثم في هذا الصدد: «فأصحاب التعاليم فإنهم عنوا بهذا العلم أكثر من عناية غيرهم (...) إلا أنهم على اختلاف طبقاتهم وتباعد أزمانهم وتفرق أرائهم متفقون بالجملة على أن الإبصار إنما يكون بشعاع يخرج من البصر إلى المبصر وبه يدرك البصر صورة المبصر، وأن هذا الشعاع يمتد على سموت خطوط مستقيمة أطرافها مجتمعة عند مركز البصر، وأن كل شعاع يدرك به مبصر من المبصرات فشكل جملته شكل مخروط رأسه مركز البصر وقاعدته سطح المبصر»[3]. ونظرية ثانية تعتبر أن دخول الضوء إلى العين يتم بصورة طبيعية، وهؤلاء هم أصحاب علم الطبيعة (الفيزياء)؛ يقول ابن الهيثم: «وقد بحث المتحققون بعلم الطبيعة عن حقيقة هذا المعنى بحسب صناعتهم واجتهدوا فيه بقدر طاقتهم، فاستقرت أراء المحصلين منهم على أن الإبصار إنما يكون من صورة ترد من المبصر إلى البصر منها يدرك البصر صورة المبصر»[4]. هكذا إذن، يبدو التعارض بين أصحاب علم الطبيعة وعلوم التعاليم في مسألة كيفية الإبصار. وعليه، فما هو تصور الحسن ابن الهيثم لهذه المسألة؟

يبتدئ ابن الهيثم بنوع من الانتقاد لما سبق ذكره، وبما أنه ليس المقام لتوسيع النظر في هذه المسألة هاهنا، فإنه يمكننا القول باختصار فيما يخص النظرية الأولى أنه لا يمكن أن تنطلق الأشعة من العينين إلى النجوم البعيدة بمجرد فتح أعيننا (نقد للنظرية الأولى)، إذ حتى طبيعة الخطوط فيها اختلاف بين أصحاب علوم التعاليم، إذ نجد «بعضهم يرى أن مخروط الشعاع جسم مصمت متصل ملتئم، وبعضهم يرى أن الشعاع خطوط مستقيمة هي أجسام دقاق أطرافها مجتمعة عند مركز البصر، وتمتد متفرقة حتى تنهي إلى المبصر، وأن ما وافق أطراف هذه الخطوط من سطح المبصر أدركه البصر وما حصل بين أطراف خطوط الشعاع من أجزاء المبصر لم يدركه البصر، ولذلك تخفى عن البصر الأجزاء التي في غاية الصغر والمسام التي في غاية الدقة التي تكون في سطوح المبصرات...»[5]. مما يعني أن أصحاب التعاليم أنفسهم مختلفون في كيفية صياغة تصور عن المسألة المطروحة، لكن علة المشكلة التي لم يصيبوا فيها، ليست اختلافهم المحمود، وإنما في الأساس النظري للمسألة، كما الحال بالنسبة لأصحاب علم الطبيعة الذين يجعلون من الحواس هي المدركة للمبصرات، بل هي المميزة لها، والحال أن الأمر غير ذلك.

ونظرا لهذا التباين بين العلوم المهتمة بمسألة الابصار، بل والخلاف الملتبس بينهما، وجب استئناف نجد «النظر في مبادئه ومقدماته، ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات، ونميز خواص الجزئيات، ونلتقط باستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما هو مطرد لا يتغير وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس (...) ونصل بالتدرج والتلطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين.»[6]. انطلاقا من هذا النص يتضح بالملموس أن الطريق الذي هو مسلك النظر في مسألة الإبصار عند ابن الهيثم مختلف تماما عن الأقدمين، إذ الاهتمام بجزئيات الإبصار وعناصره واستقراء ما يخصه بكيفية تتخللها التدقيق في خواص الجزئيات، وجزئيات الجزئيات، يوحي لنا بشكل ابستمولوجي التغير الذي حصل في بنية التفكير العلمي في المسائل العلمية في العصر الوسيط.

إن العين -وهذا هو الأساس في نظرية الإبصار الهيثمية- لا تبصر شيئا وإن كانت تبصر كل شيء، بمعنى أن ما تبصره العين ليس إلا صورا أتت من الأشعة الضاغطة على العين من الكائن المرئي، ومن تم فالعين لا تبصر الصور إلا إذا كان لها حجم مقتدر، حيث ليس في مقدور البصر أن يدرك ما كان في غاية الصغر. غير أن المفيد في هذا السياق هو تأكيده على فكرة هامة تتمثل في أن «الأبعاد التي يصح أن يدرك منها البصر المبصرات تكون بحسب الأضواء التي في المبصرات، وما كان من المبصرات أشد إضاءة فقد يدركه البصر من بعد قد تخفى من مثله المبصرات المساوية لذلك المبصر في العظم إذا كانت الأضواء التي فيها أضعف من الضوء الذي في ذلك المبصر»[7]. إن لهذا القول دلالة فلسفية كبرى في نظرية المعرفة الحديثة، إذ الموضوعات التي يكون لنا اهتمام بها في الواقع، هي المواضيع التي تثيرنا وتجعلنا نبذل جهدا تجاهها، وبحسب ابن الهيثم فكل جسم هو مضيء من ذاته وفق خطوط مستقيمة كما نلحظها في تمثيل الفوتوغرافي حينما يلتقط صورة، لذلك، فإن الجسم الأكثر إضاءة هو الجسم الأكثر إثارة لنفوسنا من حيث طلب الاهتمام به.

حاصل القول إن ما نريد التأكيد عليه مع ابن الهيثم هو أنه إذا كان العقل يدرك المعقولات، والحس يدرك المحسوسات عند فلاسفة اليونان (أفلاطون وأرسطو)، فإن الحس عند ابن الهيثم ليس سوى ناقل لعملية الصور الساطعة من أشعة الكائنات نحو العقل، ومن تم تمييزها وإدراكها بواسطته، وتصنيفها وفق نوعها. وبذلك، يشكل ابن الهيثم حلقة أساسية في تاريخ الفكر النظري العلمي من حيث تميز نظرته بخصوص عملية الإبصار، وهي حلقة توضح بالبيان الناصح التوجه الجديد للعلم الذي اتجه نحو الاهتمام بدقاق الأمور وأعراضها، لا بمبادئها الكلية.

***

د. لوكيلي عبدالحليم باحث في الفلسفة-المغرب

.................................

[2]  الحسن ابن الهيثم، كتاب المناظر، المقالات 1-2-3 في الإبصار على الاستقامة، حققها وراجعها على الترجمة اللاتينية عبد الحميد صبره، مكتبة الإسكندرية، ط.1، 1983، ص. 60.

[3]  المصدر عينه، ص. 20.

[4]  المصدر عينه، ص. 20.

[5]  المصدر عينه، ص. 21.

[6]  المصدر عينه، ص. 22.

[7]  المصدر عينه، ص. 27.

 

من الاستيعاب إلى الإبداع

في تاريخ الأمم، لا يُبنى المجد الحضاري إلا على تفاعل حيّ بين الفكر والعقل، بين الهوية والانفتاح، بين الذات والآخر. ولعلّ من أبرز تمظهرات هذا التفاعل في الحضارة العربية الإسلامية، ظاهرة الترجمة، التي تجاوزت كونها مجرد نقلٍ لغوي، لتغدو فعلًا ثقافيًا معرفيًا شاملًا ساهم في تشكيل ملامح الفكر العربي الإسلامي وفتح له أبواب الإبداع.

إذا كانت الترجمة، في معناها السطحي، تُعرّف على أنها تحويل النصوص من لغة إلى أخرى، فإنها، في السياق الحضاري العربي، ارتقت إلى كونها جسرًا حضاريًا حقيقيًا، مرّت عليه علوم وفلسفات وأساليب تفكير، وتمّت إعادة بنائها داخل السياق الإسلامي، ضمن رؤية عقلية متماسكة، دون أن تذوب في مرجعياتها الأصلية.

لقد نشأت الحاجة إلى الترجمة في الدولة الإسلامية منذ لحظة التوسّع والاحتكاك بحضارات غنية كالحضارة الفارسية والرومانية، لكن التفاعل الأعمق والأثر الأكبر كان مع الحضارة اليونانية، لما حملته من رصيد فلسفي ومنطقي وعلمي متراكم. فمع اتساع الدولة، بدأت تظهر أسئلة علمية وكلامية وفكرية معقّدة تتطلب أدوات تحليل عقلانية دقيقة، فكان المنطق الأرسطي، والطب الجالينوسي، والهندسة الإقليدية، كلها مداخل هامة لإشباع هذا التطلّع.

بلغت حركة الترجمة أوجها في العصر العباسي، خاصة في عهد الخليفة المأمون، الذي أسّس "دار الحكمة" في بغداد، لتكون مركز إشعاع علمي عالمي. في هذه المرحلة، لم تكن الترجمة مجرّد نشاط لغوي بل مشروعًا حضاريًا متكاملًا، حيث نُقلت أعظم الأعمال الفكرية والعلمية اليونانية إلى العربية، على يد نخبة من المترجمين المتبحّرين، أمثال حنين بن إسحاق وثابت بن قرة ويحيى بن عدي.

غير أن ما يميّز الترجمة العربية ليس فعل النقل في ذاته، بل الطبيعة النقدية التحليلية التي طبعت هذا النقل. لم يُترجم النص ليُتعبد به، بل ليُناقش ويُعلّق عليه ويُعاد بناؤه. فالفارابي مثلًا لم يكتفِ بشرح منطق أرسطو، بل أضاف إليه ووسّعه ليكوِّن نسقًا منطقيًا عربيًا إسلاميًا خاصًا. كما جمع ابن سينا بين الفلسفة الأرسطية ومفاهيم التوحيد، بينما قدّم ابن رشد شروحًا عقلانية دقيقة للفكر الأرسطي، أثّرت لاحقًا في فكر أوروبا خلال عصورها الوسطى.

بهذا المعنى، فإن الترجمة في الحضارة العربية لم تكن استنساخًا، بل كانت توليدًا للمعنى، وتحويلًا للمادة الفكرية اليونانية إلى نسيج معرفي جديد يتماشى مع خصوصية العقل الإسلامي. لقد استوعب العرب الفكر اليوناني ثم تجاوزوه، وأضافوا إليه، ونقلوه للعالم بعد أن أعادوا كتابته بلغة عربية، وفكر إسلامي، ومنطق نقدي.

كما أدّت الترجمة دورًا محوريًا في تطوير اللغة العربية نفسها، التي أثبتت قدرتها الاستثنائية على استيعاب المصطلحات الفلسفية والعلمية الجديدة، بل وتوليد مصطلحات خاصة بها، مما جعلها، لعدة قرون، لغة العلوم والفلسفة في العالم.

ولعلّ أجمل ما يُستخلص من هذه التجربة هو تعامل الحضارة العربية مع الآخر. فلم يكن الفكر اليوناني يُنظر إليه كفكر دخيل يجب رفضه، بل كرصيد إنساني مشترك، يمكن تحويله، عبر أدوات الترجمة والتحليل، إلى مادة للإبداع الذاتي. وهذا ما يجعل من الترجمة، لا مجرد وسيلة، بل علامة على النضج الحضاري والقدرة على استيعاب الآخر دون الذوبان فيه.

ومن موقعي كباحثة في الحضارة العربية، أرى أن الترجمة كانت بحقّ رئة حضارية تنفّست بها الأمة، ومفتاحًا من مفاتيح نهضتها الأولى، ومن أعظم تجليات نضجها العقلي. لقد استطاع العقل العربي في تلك المرحلة أن يجعل من الآخر الفكري مادةً للحوار، لا للرفض، ومن النص المترجَم نواةً للتجاوز، لا مجرد نهاية للفهم.

وإننا اليوم، في ظلّ تحديات الانغلاق والانبهار، مدعوّون لإحياء تلك الروح الحضارية الأصيلة، حيث تكون الترجمة مدخلًا للنقد، وبوابةً للإبداع، وأداةً لفهم الذات من خلال الآخر.

هكذا كانت الترجمة جسرًا، نعم، لكنها لم تكن جسر عبور فقط، بل جسر بناء وتشييد، نُقل عليه الفكر، وأُعيد إنتاجه، حتى أصبح جزءًا من هوية حضارية جديدة.

فهل نملك اليوم شجاعة العودة إلى الترجمة بالمعنى الذي جعل منها العرب أداة نهضتهم؟

***

بقلم: نجوى لزرق

متخصصة في اللغة والأدب والحضارة العربية

عرفت العصور الوسطى تحولات في المنظومة الفكرية والعلمية التي نقلت إليها وفق سياق كوني وحضاري من اليونان عبر جملة من العوامل العملية (الترجمة نموذجا). لذلك، لن نتطرق إلى لحظات كثيرة منه، بقدر ما سنركز على لحظة المفكر العربي الإسلامي عبد الرحمان ابن خلدون (1332م-1406م) المؤسس لعلم "العمران البشري"، نظرا لما طرحه من تصور واقعي وعيني، كان بمثابة البدايات الجنينية للانتقال من العلم بالكلي إلى العلم بالجزئي. لكن قبل ذلك، وجب أن ننظر إلى عنصر هام ساهم في العودة إلى الجزئي والاهتمام به، يتعلق الأمر بالأديان السماوية.

يمكن القول، في هذا الصدد، أنه يعود الفضل للأديان السماوية في ظهور جملة من الشروط ذات البعد النظري التي مكنت من بزوغ مجموعة من المفاهيم التي تعد من أساسيات الحداثة الفكرية[2]. والقصد هنا، يتعلق بظهور العلم الإلهي في مقابل العلم الإنساني، فإذا كان العلم اليوناني أساسا يقوم على ما هو كلي، بمعنى لا معرفة ولا علم حقيقيين إلا بالكليات والماهيات كما هو الحال مع أفلاطون وأرسطو، فإن العلم الإلهي يقوم على ما هو جزئي، إذ الله يعلم إلى جانب علمه المطلق بالكليات، فهو يعلم أيضا جزئيات العالم وخفاياه، ومن تم أصبح الاهتمام بما هو جزئي من الأهمية بمكان، الأمر الذي سمح بمحاولة تحقيق النظرين العلمي والفلسفي العيني. وبذلك، يكون ظهور العلم الإلهي لحظة أساسية ساهمت في بداية انبثاق منظومة فكرية جديدة قوامها لا علم إلى بما هو جزئي، وقد تجلت هذه القاعدة في سياق النظر الفلسفي والعلمي والكلامي وغيره.

في هذا السياق، يمكننا الاتجاه صوب ابن خلدون لنقف في مستويين: مستوى أول؛ يتعلق بعلم التاريخ، ومستوى ثاني؛ يتعلق بعلم العمران البشري. إن الاهتمام بالتاريخ أمر لم يكن مطروحا عند اليونان، حيث كانت القاعدة الأساسية لإدراك الموضوعات تتم وفق رؤية مكانية تحددها ثنائية فوق وتحت، وليس زمانية تحددها ثنائية قبل وبعد. إن الاهتمام بأحوال الناس وأخبارهم الجزئية لهو سياق أخر يقف عند حدود جزئيات العالم وأحواله، لا كلياته. يقول ابن خلدون حول فن التاريخ المطلع على أخبار الناس وأحوالهم الجزئية ما يلي: «أما بعد، فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال، وتشد إليه الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوق والأغفال، وتتنافس في الملوك والأقيال، وتتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمق لها الأقوال، وتصرف فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول النطاق فيها والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال. وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق»[3].

يتضح من خلال هذا النص-ونصوص أخرى كثيرة في كتاب المقدمة-أنه أصبح هناك اهتمام بأحوال الناس وعيشهم وجزئياتهم انطلاقا من علم التاريخ، من حيث «هو فن عزيز المذهب، جم الفائدة، شريف الغاية، إذ يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا»[4]. إن المطلع على مثل هذه النصوص التي تحمل خصائصا وطرافة في النظر إلى مجال الواقع العيني وتبيان ملامحه ودراسته في العصر الوسيط، يبين بوضوح ذلك الانتقال من منطق الكليات إلى منطق الجزئيات، وهو أمر ساهم فيه الدين من حيث إن النصوص الدينية على اختلافها تتحدث عما عاشه الأنبياء والرسل ومعجزاتهم وغيرها، وما سيأتي في العالم الآخر، مما يعني استحضار البعد الزمني للموضوع القائم على ثنائية قبل وبعد، وليس ثنائية فوق وتحت المكانية عند اليونان.

الأمر نفسه، ينطبق على العلم الجديد الذي أسسه ابن خلدون، أعني علم "العمران البشري"، إذ هو علم خاص به، ولم يكن موجودا كما يصرح بذلك هو. إنه يختلف عن الخطابة باعتبارها مجالا للأقوال والخطابات، وعن السياسة المدنية باعتبارها مجالا لتدبير المدن بكيفية لا تنفصل والأخلاق تحقيقا للفضيلة والخير الأسمى. يقول ابن خلدون في هذا الصدد: «وأعلم أن الكلام في هذا الموضوع مستحدث الصنعة، غريب النزعة، عزيز الفائدة، أعثر عليه البحث، وأدى إليه الغوص. وليس من علم الخطابة الذي هو أحد الكتب المنطقية. فإن موضوع الخطابة إنما هو الأقوال المقنعة النافعة في استمالة الجمهور إلى رأي أو صدهم عنه. ولا هو أيضا من علم السياسة المدنية، إذ السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بمقتضى الأخلاق والحكمة، ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه»[5].

يختلف علم العمران البشري من حيث موضوعه عن المجالات المذكورة في النص السابق، أي الخطابة والسياسة المدنية، إذ يقول ابن خلدون؛ «فقد خالف موضوعه موضوع هذين الفنين اللذين ربما يشبهانه. وكأنه علم مستنبط النشأة. ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة، ما أدري ألغفلتهم عن ذلك، وليس الظن بهم، أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل إلينا. فالعلوم كثيرة والحكماء في أمم النوع الإنساني متعددون، وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل»[6]. لكن «الفن الذي لاح لنا النظر فيه نجد منه مسائل تجري بالعرض لأهل العلوم في براهين علومهم، وهي من جنس مسائله بالموضوع والمطلب، مثل ما يذكره الحكماء في إثبات النبوة، من أن البشر متعاونون في وجودهم فيحتاجون فيه إلى الحاكم والوازع، ومثلما يذكر في أصول الفقه في باب إثبات اللغات أن الناس محتاجون إلى العبارة عن المقاصد بطبيعة التعاون والاجتماع، وشأن العبارة أخف، ومثلما يذكره الفقهاء في تعليل الأحكام الشرعية بالمقاصد في أن الزنا مخلط للإنساب، مفسد للنوع، وأن القتل أيضا مفسد للنوع، وأن الظلم مؤذن بخراب العمران المقتضي فساد النوع، وغير ذلك من سائر المقاصد الشرعية في الأحكام، وأنها كلها مبنية على العمران، فكان لها النظر فيما يعرض له. وهو ظاهر كلامنا في هذه المسائل الممثلة»[7].

لهذا، يعرف ابن خلدون العمران بعد أن قام بعد جزئيات العلوم والصنائع التي ليست من النوع نفسه، قائلا: «العمران، هو التساكن والتنازل في مصر أو حلة للأنس بالعشرة واقتضاء الحاجات، لما في طباعهم من التعاون على المعاش، كما نبينه»[8]. إن ابن خلدون يصف موضوع العلم الذي أبدعه على كونه مجالا للاهتمام بما هو واقعي في حياة الناس من معيش وغيره، سيما وأن الاجتماع الإنساني يعد ضرورة يقتضيها وجود الإنسان في العالم.

هكذا، يتبين مع ابن خلدون –وإن بإيجاز-أنه يسلك مسلكا مخالفا للقدامى (اليونان خصوصا)، إذ يذهب في اتجاه الوقوف عند وقائع عينية بكيفية مفصلة تحدد أخبارهم وخباياهم المعيشية، ومن تم فهو يتناول الواقع كما هو موجود، بغية تبيان ما ينبغي العمل عليه للبحث عن الأفضل، وليس الذهاب في اتجاه تناول الكليات وفق سياسة مدنية تسعى تحقيق الخير والسعادة وغيرها.

***

د. لوكيلي عبدالحليم باحث في الفلسفة – المغرب

.........................

[2] عبد المجيد باعكريم وآخرون. "أولويات البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية والشرعية في العالم العربي". ط. 1. (قطر: مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية، 2020)، ص.52.

[3] عبد الرحمان ابن خلدون. المقدمة. ج 1. تحقيق عبد السلام الشدادي. ط.5. (الدار البيضاء: خزانة ابن خلدون بيت الفنون والعلوم، 2005)، ص. ص. 5-6.

[4] المصدر عينه، ص. 13.

[5] المصدر عينه، ص. 56.

[6] المصدر عينه.

[7] المصدر عينه، ص. 57.

[8] المصدر عينه، ص. 62.

 

اذا كانت الانسانية تعيش في كون قاحل، لابد من إيجاد فلسفة لملأ الفراغ. بدءاً من اكتشاف كواكب خارج النظام الشمسي الى الاتساع المطلق للكون، هناك اسباب جيدة للشك في ان الانسانية ليست وحيدة في هذا الكون. لكننا لانزال، لم نجد دليلا على وجود حياة خارج كوكب الارض، وهو ما يثير احتمال اننا ندرة فريدة في كون عقيم، واذا كان ذلك صحيحا، فهو يمثل مشكلة فلسفية وفرصة للانسانية على حد سواء.

فكرة اننا ربما لدينا جيران في الكون سحرت الخيال الانساني لعقود من الزمن. انها ليست فيلما من افلام الخيال العلمي الذي يتأمل بامكانية وجود ذكاء خارج كوكب الارض – الرأي العام يبدو يميل بقوة نحو الاعتقاد باننا لسنا وحيدين. البروفيسور في جامعة كولومبيا ديفد كبنك وجد اننا عند مناقشة علم الفلك واحتمال وجود حياة في مكان آخر في الكون، فان معظم الناس يصرّون على القول، "بالتأكيد نحن لسنا وحيدين". ومنْ يستطيع لومهم؟ مع وجود بلايين المجرات، كل مجرة مليئة بالنجوم والكواكب بحيث يبدو احتمال وجود حياة هنا فقط على هذه النقطة الزرقاء الباهتة ضعيف جدا.

العديد من العلماء والشخصيات الاعلامية يدعمون هذه الفكرة، وهم بذلك حوّلوا المحادثة من "لو" توجد حياة الى "متى" سنجدها و "ماذا" تشبه. في هذا الجو من الاثارة والتأمل، فان احتمال مقابلة كائنات ذكية اخرى يبدو حتميا مالم نعتقد سلفا بوجود كائنات فضائية .

ان "سيناريو الكون المزدحم" وما فيه من طريقة لجذب حدسنا، هو صدى لأبسط وأعمق الافكار الفلسفية. مبدأ اوكام ريزر(القائل ان ابسط التوضيحات هي الافضل لحل المشكلة، خاصة عندما تكون هناك عدة توضيحات ممكنة) يدفعنا للاعتقاد بان فكرة "هناك حياة " هي أسهل توضيح - انها فقط تبدو صحيحة .اما مبدأ الرداءة mediocrity chimes يذكّرنا بان زاويتنا الصغيرة في الوجود هي ليست فريدة من نوعها . وان مبدأ كوبرنيكوس يعطي دفعا للمعرفة، مكتسحا خيال البشرية الاناني القديم فيما يتعلق بالاهمية الكونية. الاعتقاد اننا وحيدين في هذا الفضاء الشاسع لايبدو فقط غير محتمل وانما عفا عليه الزمن، مثل التشبث بخارطة كونية لاتزال الارض فيها هي المركز. نفس هذا التساؤل يلتقطه كارل ساغان carl Sagan في روايته contact، قصة تتخيل اول ملاقاة للانسانية لحياة ذكية وراء الارض. هو يسأل هل "كل تلك البلايين من العوالم سوف تذهب الى ضياع، بلا حياة، عقيمة؟". "كائنات ذكية تنمو فقط في هذه الزاوية الغامضة من كون فسيح عصي على الفهم ؟". الفيلم زاد من حدة المشاعر: "الكون مكان كبير جدا، اذا كان يتعلق بنا فقط، يبدو كانه إهدار رهيب للمكان". لكن هذا الاعتقاد في الجار الكوني ليس فقط حول الحدس – انه تأسس على العلم الذي أشعل فضولا ورهبة معا. مع اكتشاف كواكب خارج النظام الشمسي، تعلّمنا ان مجرتنا تزخر بتنوع هائل حيث هناك بلايين الكواكب تدور حول النجوم في ما يسمى بالمنطقة الصالحة للحياة، حيث الظروف ربما تساعد في وجود ماء . في وقت ما، محيطات الارض بدت متفردة، الان، بحار مخفية على اقمار مثل قمري يورب و انسيلادوس تشير الى ان عوالم مائية قد لا تكون نادرة جدا. اثبتت الحياة على الارض انها مرنه بشكل ملحوظ، تزدهر في فوهات براكين ساخنة، بحيرات حمضية، وحتى اراضي قاحلة مشعة – اشياء تشحذ الخيال حول اين يمكن ان توجد الحياة. كائنات فضائية ربما تتطور بطرق مختلفة جدا، تتشكل بواسطة كيمياء حيوية لا نستطيع تصورها بعد.

وبينما يبدو صمت الكون صاخبا، يجدر التذكير ان البحث لازال في البدء . في ظروف كونية، نحن فقط تعلّمنا الاستماع، حيث ان تكنلوجيا المستقبل تفتح نافذة جديدة كليا على الكون. احصائيا، الاحتمالات لايمكن انكارها: مع ترليونات النجوم، كيف لا يمكن ان تنشأ الحياة في مكان آخر؟ حتى اكتشاف ميكروب متواضع في عالم بعيد سيكون عملا ثوريا، مذكّرا ايانا بان قصة الارض ليست الاّ فصلا واحدا من احتمالات لامتناهية للكون.

مع ذلك، هذه الاسباب المحفزة للاثارة العلمية يجب ان لا تصرف انتباهنا عن الحقيقة الصادمة: هذه لا تزال قفزة ايمان. السؤال حول ما اذا كنا او لم نكن وحيدين في الكون يبقى أحد الالغاز الكبرى للعلم. وكما يشير البروفيسور ديفد كبنك David Kipping ، البيانات ترسم صورة مثيرة للاهتمام متوافقة تماما مع الكون المليء بالحياة وهي متوافقة ايضا مع الكون الذي نقف فيه بمفردنا تحت النجوم. هو يذكّرنا، بان الاصرار على ان هناك حياة، هو بمثابة استبدال الادلة بالتفاؤل. الجواب الاكثر صدقا لهذا اللغز الكوني هو بسيط، وبشعور مليء بالدهشة والخوف: "نحن لا نعرف".

لماذا نكون وحيدين؟ الجواب يبدأ ببدايات غير محتملة للحياة. التولد التلقائي – العملية التي بواسطتها تنبثق شرارة الحياة من اللاحياة – قد يكون من غير المحتمل جدا ان تمثل الارض انتصارا فريدا في كون قاحل. حتى في ظل ظروف مثالية، الحياة لا تنبثق ببساطة، لم تنجح تجربة في استنساخها. ظروف الارض الفريدة – قمر مستقر، صفائح تكتونية، ومزيج كيميائي مضبوط بدقة – تشكل احتمالا واحدا في الترليون. التطور يضيف عنصرا بيانيا آخر: بينما الحياة الميكروبية قد تكون عادية، لكن القفزة الى كائنات ذكية تتطلب سلسلة ساخرة من الحوادث والتي قد تكون كارثية. اذا كان تطورنا بمثابة لعبة يانصيب كوني، فان الكون ربما مليء بالتذاكر الرابحة التي لم تتم المطالبة بها بعد. مع كل ما موجود من ترليونات النجوم والكواكب فان الكون يبقى فارغا تماما من التفكير والحياة الحالمة.

وحتى لو وجدت حضارات اخرى، نحن سنبقى للابد منفصلين بالاتساع الهائل للمكان والزمان. محاولاتنا للاستماع للنجوم لم تُقابل الاّ بالصمت المزعج. الحضارات ربما تصعد وتختفي كشرارة قبل ان تتمكن اشاراتها من عبور الفراغ المجري. المسافات مذهلة – الضوء ذاته ياخذ الاف السنين ليعبر أقرب النجوم – والتكنلوجيا التي نستخدمها للسفر بين النجوم هي خيال اكثر من كونها حقيقة، وما هو اسوأ، ان التسارع في توسع الكون يؤدي الى إبعاد المجرات عن بعضها البعض ليلقي بنا في نوع من العزلة الكونية. وبمعنى اكبر، نحن ربما وحيدين فعلا – انجراف في بحر رائع من النجوم الصماء التي توميء باشارة لن يراها احد ابدا.

وبالرغم من كل بحوثنا وما نقوم به من طرق على ابواب الكون، نحن ربما وحيدين تماما، وفي الوقت الحالي، هذا هو الواقع الذي نعيشه. المستقبلي جون ميشيل غودر John Michael Godier لاحظ ان العزلة الحقيقية في الكون لا يمكن اثباتها ابدا، نحن يمكننا اكتشاف كائنات غريبة ونعرف اننا لسنا وحدنا، لكننا لن نؤكد ابدا اننا كذلك، محاصرون كما نحن داخل فقاعة الكون المرئي المتلألئة. ماذا لو، بعد قرون لم تتمكن تلسكوباتنا من العثور على اي محيطات حيوية غريبة ولا بصمات تقنية، فقط صمت كوني متواصل؟ وكما قال ارثر كلارك، اما نحن وحيدين او غير وحيدين، وكلاهما مرعب. لكي نفهم هذه الوحدة العميقة، ربما تكون الفلسفة هي الوسيلة.

تشرّد في اللامتناهي

في الوهلة الاولى، تبدو فكرة العزلة الكونية بعيدة، مدفونة تحت ضجيج حياتنا المكتظة بالسكان والفوضى. منْ لديه الوقت للتأمل في العزلة الكونية عند التعامل مع المشاكل الارضية؟ مع ذلك، يلوح هذا الصمت في أعماق نفسيتنا الجماعية، ويبقى السؤال "ماذا لو" غامضا ينخر فينا بهدوء. اذا كان الوعي التأملي في كون فارغ فريدا - او نادرا ، فان النتائج ستكون مذهلة، تطبع هويتنا بمزيج من القلق والخوف والاغتراب.

فمن جهة، هذه العزلة تبدو كانها إعجاب كوني . الارض جوهرة تاج الوجود، مكان سحري فيه الكون يتصور ذاته. اذا كنا وحيدين، فان وجودنا يتجاوز الاحتمال، انها معجزة تتحدى الخيال. وكما يذكر عالم الفيزياء الفلكية هاورد سمث في اننا نصبح اهمية كونية نادرة، ثمينة. نحن تفرّد – الاحتمالات المستحيلة تصبح حقيقة.

لكن هذا التفرد الاستثنائي يأتي مع شعور بالوحدة المؤرقة. في كون فسيح جدا ومظلم، نحن سنكون الصوت الوحيد في فراغ أبدي، نغني ليس الى أي مستمع، نتأمل ما اذا كان واقعنا حقيقيا. هذا ليس فقط امر مزعج بل انه مربك جدا، يجبرنا للصراع مع مفارقة في ان نكون شيئا فريدا ونادرا ومتجولين تائهين.

بعض الفلاسفة يتعقبون العزلة الكونية الانسانية الى اللحظة التي جُرّدنا بها وبلا مراسم من العرش بواسطة الثورة الكوبرنيكية. الفيلسوف افي ساغي Avi Sagi يشبّهها بإشعار إخلاء كوني: في يوم ما، كانت الارض موقدا مركزيا مريحا للكون، وبعدها ضعنا في فضاء لامتناهي. مارتن بوبر التقط هذا النزوح الوجودي كـ "كائن مشرد في اللامتناهي". عندما نتجرد من القصة التي يدور فيها الكون حولنا، نجد انفسنا بلا مرساة، منعزلين، ومتقزمين بآفاق لا حدود لها. كما لو جُعل الشيء اكثر سوءا، كل تقدم علمي يعمق فقط إحساسنا بالاغتراب. اكتشاف حجم الكون الهائل، بلايين المجرات والمسافات التي لايمكن تصورها لا تعطي أجوبة، انها اكّدت على الطبيعة غير المحتملة لوعينا التأملي على هذا الكوكب الصخري الصغير. التفكير الشهير لكارل ساغان في (نقطة زرقاء شاحبة) لخص ذلك: الارض، "نقطة وحيدة في محيط هائل لظلام كوني"، تلمع كجمر خافت في بحر من الصمت. انها مفارقة المر والحلو: نحن غبار النجوم، تشكّلنا من نفس العناصر كالمجرات، لكننا نشعر بالنفي منها. الثورة الكوبرنيكية تركت ندبة على النفس البشرية، فصلتنا عن دفء المركزية البشرية القديمة. الان نحن عالقون بين الحنين الى كون يهتم وجمال مخيف بارد .

يشير افي ساجي الى ان الثورة الكوبرنيكية فعلت اكثر من تغيير في فهمنا الكوني، انها نفت الانسانية الى عزلة وجودية كافح معها نيتشه وسارتر وكامو قبل ان نبدأ في إجهاد انفسنا لسماع همسات الكون. بينما معظمنا مطلع على العزلة في كل يوم – سوء الاتصالات، ارتباطات ضحلة، او ألم العزلة – لكن الوجوديين حفروا عميقا، كشفوا عزلة كونية عميقة، انفصال حيك في نسيج الوجود.

إعلان نيتشه عن موت الاله، نظر الى كون منفصل عن الغرض الالهي – افق شاسع غير مقيد انجرفت فيه الانسانية بلا مرساة. بالنسبة له، الفراغ لم يكن فقط فراغا، انه كان تذكيرا مستمرا بان الكون لم يعد بيتنا. فقط الشجاع يمكنه مواجهة هذه اللامبالاة الباردة حين يصنع المعنى من الهاوية. كامو في "الصمت الكبير"، شبّه هذه الوحدة بصرخة كونية جرى ابتلاعها بهدوء قاس لا يلين. في اسطورة سيزيف هو وصف الانسانية كغرباء في كون لايجيب ، حُشروا في هوة مؤلمة بين الحاجة للمعنى ورفض الصمت الكوني. سارتر رأى الكون كامتداد وحشي بلا معنى. هو جادل ان الانسانية حرة وسجينة معا – كائنات معزولة تملأ الوجود بأدوار ومشتات للانتباه، تبقى مع ذلك تائهه. حتى بين آخرين، حذّر سارتر اننا منبوذون وجوديا تقطعت بنا السبل الى الابد.

لكن سارتر، برؤيته الحادة للعلاقات، اعترف انه بدون الآخرين سوف ننهار في عدم محض. الوحدة في جوهرها ليست فقط غياب الناس وانما هي تجويف مؤلم تُرك بسبب فقدان الارتباط الحميم والهادف. الانسانية كساكن وحيد في كون فارغ من الجيران، تشعر بهذا الغياب بحدة. نحن نتعلم منْ نحن من خلال الاخرين، هم يشكّلون مرآة لوجودنا. لو تصورت انت للحظة، كونك الشخص الوحيد على الارض. لا مقارنات، لا حوار، فقط صدى صوتك يتردد بلا نهاية في الصمت. كيف يمكن ان يستمر إحساسك بالذات؟ بالتأكيد الارض مليئة بحياة رائعة لكن الحيوانات والنباتات لا تجيب على نظراتنا التأملية. اكتشاف بكتريا على المريخ ربما يثير العلماء، لكنه لن يريح هذا التوق العميق. العزاء يكمن في العثور على وعي آخر – شيء تشارك، تتحدى، تكشف ألغاز الوجود معه. في أحلامنا الواسعة، ربما حضارة اخرى لديها إجابات لم نتمكن بعد من فهمها. هل يمكنها كشف شيء فاتنا حول معنى الكون؟ او حول أنفسنا؟.

في معظم التاريخ الانساني نحن لم نر أنفسنا وحيدين. نحن ملأنا الكون بآلهة ووحوش وكائنات اسطورية – رفاق لإزالة الفراغ المخيف. حتى اليوم، يرى البعض ان الفراغ اصبح أقل حدة بفعل الثيولوجي، مسكون بالملائكة، الشياطين، او الارواح. الفيلسوف جون ماكجرو John McGraw لاحظ انه عندما يتحمل الانسان عزلة طويلة، هوعادة يستحضر الوجوه والاشكال لتجنّب الوحدة. الخيال العلمي الحديث مع كائناته الفضائية المتخيلة والالات الواعية ربما يخدم نفس الهدف – طريقة لملأ الصمت بشيء يشبه الارتباط.

التجارب الفكرية للخيال العلمي تغوص في هذه الحاجة للآخرين. يجادل بيرشدل Per Schelde ان الكائنات الفضائية والذكاء الصناعي هم أصداء حديثة لكائنات عملاقة او عفاريت قديمة اوالجن والغول. هذه الكائنات ازدهرت في وقت ما عندما كانت هناك غابات غير مروّضة ومناظر طبيعية اسطورية أثارت الدهشة. الان مع الطبيعة المروضة، اصبح الفضاء المساحة البرية الجديدة – مجراته المجهولة مليئة بالوحوش المتخيلة وكائنات اخرى من العالم الآخر. فلسفياً، التعاريف اعتمدت على المقارنة – حضور "الاخر" لتتأمل بنا وتعرّفنا. في ظروفنا الحالية، نظرا للافتقار الى وعي الآخر التأملي العاكس لنا، اصبح الخيال العلمي وسيلة لتجاوز وجهة نظرنا البشرية المركزية.

الكائنات الفضائية والذكاء الصناعي يتحديان حدود الوجود الانساني، يجبراننا لإعادة النظر بمعنى الانسان. وكما يقترح الفيلسوف مارك رولاند،اختلافهم الصارخ عنا يصبح مرآة لنا .عندما نحدق في كائنات فضائية او مكائن، نحن في الحقيقة ننظر الى انفسنا. افلام مثل Blade Runner لا تستكشف فقط روبوتات ونسخ متشابهة – هي تستكشف جوهر الانسانية.

الشوق للآخر ربما يوضح ايضا هوسنا بالذكاء الصناعي. هل سعينا للذكاء الصناعي - قادر على تقليد التفكير الانساني – يكون استجابة لا واعية للاحتمال المخيف باننا وحيدون تماما؟ ربما هذه المخلوقات ليست فقط عجائب تكنلوجية وانما محاولة جماعية للمشاركة بعبء عزلتنا الكونية، لنجد شراكة في كون شاسع وفارغ حتى لو كان علينا ان نبنيها بأنفسنا.

ما الذي يجعل الفراغ قابلا للتحمّل؟

هنا تجربة فكرية لخيال علمي عادية تم طرحها: الانسانية، بعد 500 سنة من البحث، تستنتج ان الكون خالي وبشكل قاطع من الجيران . لا يوجد لقاء مثير مع كائنات فضائية، لا محادثات مجرية كبرى. فقط نحن، وربما القليل من الميكروبات المريخية. ماذا بعد؟ وماذا عن الان،عندما نأخذ بالاعتبار وحدتنا الكونية الحالية؟ كدليل ارشادي، نحن نعود للوجوديين، اولئك الذين تجرأوا على استكشاف الوحدة وصارعوا مع العزلة بطريقة فريدة.

هم يؤكدون ان العزلة ليست عبئا خالصا. انها تنطوي على جمال ساحر وغريب. لو نتعلم ايجاد سلام في هذا الصمت الكوني كما يبدو للوهلة الاولى، يمكن ان يكشف عن معنى عميق في الانتماء – حميمية كونية. الفراغ لايجب ان ينتهي في اغتراب.

كامو رأى هذا في اسطورة سيزيف: عبر احتضان غرابة كل من أنفسنا والكون، نحن نكتشف تقارب غريب. الذهن والكون يصبحان اخوة في اسطورة، يستحمان في نفس الصمت المجهول. حتى سيزيف وهو يدحرج صخرته الى ما لانهاية، وجد طريقة لصنع بيت في التشرد. في كون انسلخ عن اسياده، اصوات الارض اللامعدودة ترتفع لتملأ الهدوء. كل ذرة من صخرة، كل رقاقة من الجبل تصبح هي عالمها الخاص – ثري وغريب وكاف. مواجهة الوحدة الكونية وجها لوجه ربما هي الخيار الاكثر قوةً. اذا كنا حقا وحيدين – لا رفاق من خارج الارض واعين ذاتيا – انه زمن وقف الانتظار واحتضان هذا الكون كما لو كان لنا.

الشوق المستمر لأشكال اخرى للحياة او أمل بالخلاص من عزلة يخاطر بتجنب المسؤولية. هل سيجعل حي مجري صاخب وجودنا اكثر معنى؟

الفيلسوف توماس ناجل يجادل بانه حتى لو مورس دور في مشروع كوني عظيم ربما يفشل في اعطائنا ما نبحث عنه حقا. في النهاية، مع او بدون ألعاب نارية "للاخرين"، نحن البشر العراة نقف في عالم لا يمكن فهمه، ولا أحد يعمل خيارا لنا.

هذا الواقع الصارخ ليس عبئا – انه دعوة لإحتضان الجمال والدهشة حولنا. سواء كانت هناك حياة اخرى موجودة ام لا، الكون هو بيتنا. هذه دعوة لإستعادة الكون – ليس كبيت فقدناه وانما بيت لم نتمكن بعد من السكن فيه بالكامل. نيتشه نظر الى وحدتنا الكونية كفرصة لنقل الارض الى بيت يستحقه الانسان الكامل او السوبرمان. كارل ساغان في كتابه اتصال contact يردد : "انه سلفا هنا. انه داخل كل شيء. انت لا يجب عليك مغادرة كوكبك لتجده". مهمتنا تبدأ باحترام أعظم لفرادة الارض، تواضع أعمق وواجب عطوف لحماية هذا العالم الهش المنقطع النظير.

ان ندرة الحياة وبالأخص وعي التأمل الذاتي- يجعل الارض جوهرة مبهرة في فراغ كوني، تستحق احترام لا مثيل له. هذا الادراك لا يحتاج ان يملأنا بالخوف وانما باحساس عميق بالمسؤولية. اذا كنا حقا وحيدين، نحن لسنا فقط تعبير واحد من بين عدة تعبيرات للحياة، نحن صوتها المتفرد، شاهدها الوحيد. أذهاننا وقلوبنا ستكون وسائل الكون الثمينة، تتصور جماله وأسراره.

وكما يصف ذلك كارل ساغان في روايته (اتصال) : "في كل بحثنا، الشيء الوحيد الذي وجدناه والذي يجعل الفراغ محتملا هو بعضنا البعض". في هذا الترابط، نحن ننقل الفراغ الكوني الى هدف ومعنى وحب.

***

حاتم حميد محسن

كثيرٌ من الناس يعتقدون في قرارة أنفسهم أن العالم ليس عادلاً، أو أن العدالة حلم مثالي لا يمكن تحقيقه في دنيا الإنسان. أصحاب هذا الاعتقاد ليسوا من عامة الناس فقط، فهناك – أيضاً – علماء وزعماء وأشخاص حصلوا من الدنيا على أفضل ما فيها، لكنهم عجزوا عن فهم التوازن الطبيعي بين الخير والشر في العالم.

القديس أوغسطين (354 - 430م) واحد من أكثر الذين أثَّروا على التفكير المسيحي في أصعب ظروفه. حين غزت القبائل القوطية مدينة روما في 420م ودمرت أبرز قصورها وسلبت مبانيها وكنائسها، بدأ كثير من الناس في التساؤل: هل تستطيع المسيحية إقامة العدل في هذه الدنيا، ولو في الحد الأدنى، أي ضمان دماء الناس وأموالهم في مقابل الغزو والعدوان؟

يقال إن أوغسطين كتب كتابه الشهير «مدينة الله» لمواساة الذين انشغلت أذهانهم بهذا السؤال. وكانت خلاصة الجواب الذي قدمه، هو أن الكنيسة صورة رمزية عن العدل المتوقع في مدينة الله. أما العدل الكامل والحقيقي، فهو ممكن فقط في الآخرة. بعبارة أخرى، فإن الشر هو الحاكم في العالم، وإن الكنيسة مثل جزيرة للخير وسط محيط الشر، إنها رمز لمدينة العدل التي لن تقوم في الحياة الدنيا.

هذا التصوير أقرب للتبرير منه إلى الجواب الواقعي. وأراه منبعثاً من رؤية متشائمة للعالم. ولو أخذنا بموقعه التاريخي، فقد يوضح أن هذا النوع من القناعات قديم جداً في ثقافة البشر، رغم أنه يخالف القراءة المنصفة للتاريخ.

السؤال الذي يراودني بين حين وآخر، هو: ما الذي يجعل الناس، في مختلف الأزمان، على قناعة بأن الشر أقوى من الخير في العالم؟ هذا بالطبع يختلف عن السؤال الفلسفي - الثيولوجي، الذي يتناول مسألة الشر في العالم بذاتها. فأنا وغيري نعلم أن وجود الشر جزء من طبيعة الكون، ولولاه لما أمكن تمييز الخير ولما كان للخير والعاملين به، هذه القيمة الرفيعة في كل مجتمع.

أقول إن التجربة الواقعية للبشر عبر التاريخ، لا تدعم تلك القناعة. كما يخالفها الواقع الذي نراه أمامنا كل يوم. قارن بين مساحة الشر ومساحة الخير، بين عدد الأشرار وعدد الأخيار في العالم، بين الأمناء والسارقين، بين القتلة والمسالمين، بين الملتزمين بواجباتهم والفوضويين، بين من يحبون العلم ومن يستأنسون بالجهل، في هذا الزمن وفي الأزمنة الماضية. سترى دائماً أن الشر ليس سوى نسبة صغيرة، وجودها يكشف عن حجم الخير في العالم؛ لأن الأشياء القيّمة إنما تُعرّف بالمقارنة مع أضدادها.

وجد عدد من علماء النفس أن الإذلال المتكرر، إذا ترافق مع العجز عن المقاومة أو الرد على العدوان، يزرع في النفس اعتقاداً بأن العدل غير ممكن في هذا العالم. وقد وجدت من خلال مطالعات سابقة أن المجتمعات كافة تقريباً تعرَّضت، في فترة من تاريخها، للقهر والإذلال، على يد قوة محتلة أو على يد حكومة جابرة أو على يد عصابات محلية.

هناك بالتأكيد صلة بين تاريخ القهر وبين ثقافة المقهور الحالية. لكن السؤال الذي يبرز دائماً، هو: لماذا استطاعت بعض المجتمعات الخلاص من ذلك الشعور، وبقي غيرها أسيراً له؟

أستطيع القول باختصار شديد، إن التوجيه الثقافي يتدخل بشكل مؤثر، في تحويل الشعور بالمهانة موقفاً عاماً تجاه العالم، موقف يتسم بالارتياب والميل للقطيعة، كما قد يفعل العكس، فيضع إطاراً يقيد ذلك الشعور ويعيد تعريفه بوصفه جزءاً من مرحلة تاريخية منتهية، وبالتالي منعه من اختراق الزمن والتحكم في ثقافة المجتمع الحاضر.

زبدة القول: إذا سمعتم من يكثر الحديث عن الشر وهيمنته في العالم، ويقلل من قيمة الخير المحيط به من كل جانب، فاعلموا أن وراءه ثقافة متشائمة، لا تستند إلى دليل قدر ما تستند إلى انفعالات أو مبالغة في التقدير.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

في غابر الأزمان، وعلى مدى التاريخ البعيد، لم تكن أمام الإنسان فرصة التعافي من صفعةٍ سابقةٍ قد وُجّهت له، إلا وتلقى صفعةً أخرى قد أثقلته وأردته أسفل سافلين، وهكذا عاش الإنسان على سطح هذه المعمورة، فبعدما تباهى بمركزية ما يسكنه، خيّل له مركزيته بالنسبة للعام، إلى أن جاء (كوبرنيكوس) الذي أعلن مركزية الشمس ودوران الأرض حول الأولى، فأفقد الأمر مركزية الإنسان تبعاً لانهيار مركزية الأرض التي يسكنها. فدار الإنسان حول نفسه ليعلن المكانة المثلى بين أنواعه، فتسيّد على الكائنات المجاورة، وتزعم المشهد المُعاش باعتباره الأكثر حظاً بين الأنواع، إلى أن جاء (داروين)، فقوض في كتابه الشهير (أصل الأنواع)، نظرية الخلق المنفصل، ونادى باستمرارية الخلق وصولاً إلى الحلقة الأخيرة وهي الإنسان، وبذلك وحّدت النشأة الأولى في الخلق، من وجهة نظر علمية، علائق الإنسان مع سائر المخلوقات، بعدّه جزءاً لا يتجزأ عن سائر المخلوقات الأخرى، فانتهت بذلك حقبة التسيّد على الكون بذريعة الخلق الفريد.

فتفرد الإنسان يتبجح من جديدٍ تحت غائلة (الإنسان حيوان عاقل)، فبدأت رحلة الاستعلاء تعود مرة أخرى لتُفرّد الإنسان على سائر ما خُلق تحت ذريعة الوعي، إلى أن جاء الأمر بالطبيب النمساوي (سجموند فرويد) ليعلن الضربة القاضية على الإنسان بالإعلاء من راية الغريزة على حساب العقل، ورجاحة اللاوعي على حساب الوعي الذي تبارك الإنسان في تقديمه كميزة على حساب غيره من الكائنات. وبذلك توازن العيش بالتسليم بمكانة الإنسان الطبيعية مع العالم ومع غيره ومع نفسه.

مع ما تقدم، فإن ما أسلفنا القول فيه، لا يخرج عن إطار اعادة خلق التوازن بين الإنسان وما يحيط به، والعيش المشترك تحت وصايا التواضع والواقعية، واعتناق المسؤولية الأخلاقية إزاء الكون والطبيعة. فمما لا شكّ فيه، أنّ الإنسان لو كان مفتقراً إلى هذه الثورات المعروفة، لطغى في الأرض وعلا فيها فساداً، مستبيحاً ومتمرّداً على معالم الطبيعة وما يحيط به، ولتسيّد على بقية الكائنات بعدّه الأصل الأصيل في دائرة الوجود. لذلك نقول بأهمية ما تعرّض له الإنسان من صفعاتٍ قد أوغلت في داخله معالم العيش المشترك، سواء مع الطبيعة أو مع بقية الكائنات الموجودة على سطح البسيطة.

من هنا نفهم آلية الاشتغال الحقيقي للفلسفة في القرن التاسع عشر، فلا شكَّ في إنّ السمة البارزة فيها تتمثل في الكيفية التي من خلالها مصادرة المباحث الميتافيزيقية المتعالية، والعمل على استبدال مفارقتها بما يخدم الإنسان والعالم الذي يعيش به، لذلك وُلدت الاتجاهات والمذاهب الفلسفية المعاصرة، الماركسية، الوجودية، البراغماتية وغيرها... وكلها بالأساس تهدف إلى اعادة توظيف مكانة الإنسان في العالم، وعلاقته مع التاريخ والطبيعة والآخر. لكن سرعان ما خفتت هذه الشعلة المتوهجة بميلاد التطور التقني، فقد أصبحت ثنائية الإنسان/العالم، تحلُّ محل الأنا/الآخر، إلى أن وصل الأمر بميلاد ما يُعرف بـ(الذكاء الاصطناعي)، وهي الثورة التي أعلنت بميلادها نهاية الإنسان وموت إبداعه، وقد اجتازت في أثرها جميع الثورات سالفة الذكر، لأنها لا تريد أن تعيد الإنسان إلى مكانته الطبيعية وتحديد مسؤولياته اتجاه ما يُحيط به، بل تريد به الذهاب إلى فجوةٍ من ككهف أفلاطون، ليكتفي بالنظر إلى الرسومات المشوهة على ذلك الجدار الزائف، المحجوب عن الحقيقة، بحقيقة النور المحجوب بوساطة الـ(GPT).

لا مكان اليوم لأيِّ مهمةٍ للإنسان، فقد أفرغت الثورة الأخيرة من الإنسان إبداعه وعبقريته وقدرته على التفكير، وهنا نشهد نهاية عصر الإنتاج، وبداية لعصرٍ جديدٍ يُنعتُ بـ(عصر الاستهلاك الالكتروني)، لأن الثورة الأخيرة ستؤسس لميلاد مجتمع ناصت متلقٍ لما يفرزه الذكاء من صورٍ وأفكارٍ وآراء، دون الحاجة إلى قدرة الإنسان في الابداع وممارسة إدلاء الرأي، فانتهت بذلك علاقة الذات السائلة والأخرى المجيبة، لانّ لا قدرة على الاجابة عن شيء، حيث لا وجود لمصدرٍ داخليِ يعتمد عليه الإنسان في صقل مهاراته للإجابة عن شيء يُسئل عنه، سيبقى الإنسان سائلاً دون إجابة بشرية، لأن هنالك من تكفّل عناء التحضير لإجابات مصبوبة في قوالب جاهزة، سيأخذ بها الإنسان من دون فحصٍ أو دراية.

ولا معنى اليوم لوجود آلة التفكير الإنساني، ولا معنى للإبداع والعبقرية، ولا معنى للمهنةِ أصلاً، فانتهى عصر الفن وانتهت مهنة الرسام، فتستطيع أن تخبر الذكاء بشيءٍ فيرسمه من دون جهدٍ أو قيد، ولا مكان للشعراء والمفكرين، فقد ناب عنهم الذكاء بسرد ما يودُّ المستمع سماعه، فأعقد الأشياء باتت أيسرها، فقد كانت الحقيقية في الفكر والمعرفة محجوبة وراء مئات الكتب والمجلات، وكان الباحث قد يمكث شهوراً متتالية في البحث عن مُشكل معرفي، فيعيش في بطون الكتب لليالٍ وأيام، بغية النقد والتحليل والتركيب وإعادة بنينة الأفكار وصقلها في قوالب الحقيقة الملائمة، أما اليوم فلا اعتماد على ما كُتب، وليس للباحثين أيُّ صلةٍ بالكتب وما كتبه الفلاسفة والمفكرين، فلك أن تمسك هاتفاً ذكياً، وتدخل في موقعٍ أذكى، فتكتب مثلاً: (ما الوجود؟)، ليقترح عليك الذكاء عشرات من الإجابات الجاهزة، وهذه العملية وإن اختصرت المسافات، إلا أنها ستبقى مفتقدة إلى الجهد الذي من شأنه أن يصنع باحثاً حقيقياً، فما الاعتماد على الذكاء إلّا إيذاناً بميلاد الغباء.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

ما الاستعمالات الخاصة (الإيجابية) للغة من وجهة نظر توماس هوبز[2]؟

إذا كانت اللغة حينما تستخدم بكيفية عامة، يكون الهدف من ذلك، جعل الفكر كعلامات وإشارات لتذكر ما مضى، أو كدلالات لإضفاء المعنى على الأشياء، فإن الاستخدام الخاص لها يتجلى في مجموعة من الأهداف التي يحصرها هوبز في العناصر الآتية[3]:

أولا؛ حينما يستخدم الإنسان الكلام أو اللغة بكيفية خاصة، فإنه يبتغي من ذلك تسجيل ما استنتجه بعقله أنه سبب لشيء حدث في الماضي، أو في الحاضر، أو يمكن أن يحدث في المستقبل. يقول هوبز: «أولا؛ تسجيل ما نجد بواسطة التأمل أنه سبب لأي شيء حاضر أو ماض، وما نجد أن أشياء حاضرة أو ماضية يمكن أن تنتجه، مما يعني باختصار اكتساب الآداب.»[4].

ثانيا؛ بما أن اللغة ليست وسيلة تفكير فقط، بل أداة تواصل ونقل للمعرفة من الذات إلى الغير (L’autrui)، فإن استخدام اللغة بكيفية خاصة له هدف آخر، يتمثل في أننا نسعى منه إلى تعليم بعضنا بعضا؛ أي تشارك الخلاصات النظرية والعملية التي نتحصل عليها من التأملات (The Meditations)، والخبرات (The experiences) الفكرية والمعرفية في الواقع.

ثالثا؛ لا يكتفي الإنسان في استخدامه للغة على النحو الخاص، بتسجيل الخلاصات النظرية لأسباب الأشياء، أو نشر ذلك طمعا في التعلم والتقدم، وإنما يستخدم الإنسان الكلام بكيفية خاصة، لكي يعبر عن إرادته، وما ينوي فعله بعد ترو (Déliberation)؛ أي أنه يفصح أحيانا عما يبتغيه ويرغب فيه لذاته، حتى يجد عونا له لتحقيق ذلك في علاقته بالآخرين. يقول هوبز: «وثالثا؛ أن نعلم الآخرين بإرادتنا وأغراضنا حتى نحصل على المساعدة المتبادلة من بعضنا البعض.»[5].

رابعا؛ بما أن الإنسان يحمل في جوفه أهواء متعددة، من بينها هوى الفرح، فإنه يستخدم اللغة أحيانا للتسلية واللهو بغية الترويح عن النفس، وذلك، باستحضار مجموعة من القصص والنكث، والتعبير عنها بطرق تبعث في النفس الانشراح والفرح، لكن، شريطة أن يكون مزاحا بريئا من كل ما من شأنه أن يقلل من قيمة الآخرين. يقول هوبز: «ورابعا؛ لبهجة أنفسنا والآخرين من خلال اللعب البريء بالكلام بغرض المتعة أو الترفيه.»[6].

وبناء عليه، إذا كان استخدام اللغة بكيفية خاصة، غايته الأهداف السالف ذكرها؛ أي حفظ أسباب الأشياء، وتعليمها لبعضنا، والتعبير عن إرادة الإنسان ورغباته، وجعلها أداة لخلق جو من الفرح، فإن ذلك يفيد أن اللغة هنا قد استعملت بكيفية إيجابية، الهدف منها تشارك هواجس الذات ومبتغياتها مع الآخرين. معنى ذلك، أنه إذا كانت الغاية هي معرفة أسباب الأشياء، ومن ثم، السعي إلى نشرها للآخرين، للتعبير عن إرادة الذات وميولاتها، وأحيانا لخلق فضاء يبعث على الفرح، فإنها غاية مفيدة وإيجابية.

 ***

د. لوكيلي عبد الحليم - باحث في الفلسفة-المغرب

..............................

[2] توماس هوبز (Thomas Hobbes) فيلسوف وعالم رياضيات وفيزياء إنجليزي ولد يوم 5 أبريل من سنة 1588م في مدينة مالميسبري (Malmesbury)، وتوفي يوم 4 دجنبر من سنة 1679م. اشتهر بنظريته في مجال الفلسفة السياسية أو المدنية، غير أن له اهتمامات فلسفية في مجالات أخرى كالتاريخ والفيزياء والأخلاق واللاهوت...إلخ. ولعل من أهم أعماله التي تعد مصدرا أساسيا في تاريخ الفلسفة هو كتابه التنين أو اللفياثان (Léviathan).

[3] توماس هوبز. اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة. ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب؛ مراجعة وتقديم رضوان السيد. ط. 1. (أبوظبي: معهد أبو ظبي للثقافة والثرات، 2011). ص. 41.

[4] المصدر عينه.

[5] المصدر عينه.

[6] المصدر عينه.

أم إنها صورة نمطية فحسب؟!

يطرح الاستاذ الدكتور فارس كمال نظمي في كتابه الجديد (الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعية لرؤية الشباب الجامعي خلال عشرين سنة 2004- 2024) مفهوماً رائجاً للصورة النمطية للعنف في الشخصية العراقية، ثم يأخذنا في رحلة فكرية يعرض فيها الكاتب أهم النظريات حول الصورة النمطية وكيف إن العديد من الكتاب والباحثين العراقيين أثاروا موضوع كون الفرد العراقي عنيفاً أو متطرفاً في سلوكه مقابل سلوكيات أمثال المسالمة والتسامح، دون براهين علمية موضوعية بل انطباعات ورؤى ذاتية تخصهم.

ولاختبار ما إذا كان الشباب العراقي يحملون الصورة النمطية نفسها عن "عنفية" الفرد العراقي، تم اختيار عينتين من طلبة الجامعة، الأولى في سنة ٢٠٠٤ أي بعد سقوط النظام البعثي ذلك النظام وما جلبه من مصائب على الشعب العراقي وجيرانه وغيّر في شخصية الفرد العراقي جراء الحروب والحصار الاقتصادي؛ وأعيد تكرار التجربة علىً نفس الفئة بهدف القياس سنة ٢٠٢٤. فقد اختيرت كلية الآداب لتكون ممثلة عن الاختصاصات الإنسانية فيما اختيرت كلية الصيدلة لتكون ممثلة عن الاختصاصات العلمية ومن كلا الجنسين، بافتراض إن هذين العقدين من الزمن يعدّان فترة زمنية كافية لدراسة أي تغير نفسي في سلوكيات الأشخاص وأفكارهم بتأثير ما مر به العراق خلالها من عنف سياسي وانقسام طائفي وتبدلات في الثقافة السياسية والهوية الوطنية.

لا ريب ان المجتمعات البشرية تتأثر بالبيئة الاجتماعية والأعراف السائدة، والمجتمع العراقي لا يزال يعيش صراع البداوة والحضارة، وهذا ما شاهده البريطانيين عند احتلالهم للعراق إبان الحرب العالمية الاولى من كون المجتمع ذا تكوين قبلي عشائري لم يتغير حتى عند وصول قوات الاحتلال في٢٠٠٣، ولا تزال العشائرية اهم صفات المجتمع العراقي بتقديرنا.

إلا ان الاستاذ فارس يأخذنا في دراسته ليبحث اتجاهات الطبقة المتعلمة من المجتمع العراقي، وهي طبقة مستعدة للتغير نتيجة التعليم والدراسة وزيادة المعرفة بالمقارنة مع المجتمع الريفي والعامة من الناس وهم الأكثرية. وقد طُرحت النظرة النمطية للشعوب العنيفة للنقاش في الولايات المتحدة الأمريكية إبان الحرب العالمية الثانية حيث كان النقاش علىً أشده حول كون الشعب الألماني عنيفاً، وكان رد علم النفس واضحاً بإن القطيع ينفذ الأوامر لأن المسؤولية توزع على القطيع بأكمله من ناحية، ومن ناحية أخرى تنفيذ الأوامر لا علاقة بها بالانتماء العرقي للشعوب.

كان من أهم ما توصل اليه الباحث نظمي في دراسته أن التغير قد حدث فعلاً بين الشباب وباتجاه موجب في نظرتهم النمطية للشخصية العراقية، أي إن الشباب الجامعي ومن كلا الجنسين يعتقدون سنة ٢٠٢٤ بإن الشخصية العراقية غير عنيفة رغم انهما متوترةً وانفعالية. وهذا يمثل تغيرا ايجابياً بالمقارنةً مع نتائج سنة ٢٠٠٤ .

وقد التقيت بالباحث لأسأله حول إمكانية تعميمً نتائج بحثه على جميع أبناء المجتمع العراقي أم إنها تبقى منحصرة في الطبقة المتعلمة؟

فردّ قائلاً «إن منهجية البحث العلمي ترشدنا إلى التريث بإطلاق مثل هذه التعميمات غير المسنودة بالبراهين الموثوقة. فللحصول على إجابة مستقرة ومسنودة لا بد من إجراء دراسات ميدانية مماثلة تشمل فئات أخرى من العراقيين، وعندها يمكن الخروج بصورة واضحة المعالم عن موقفهم من عنفية أو عدم عنفية الفرد العراقي. لكن دراستي تناولت الشباب حصراً لكونهم الفئة الأكثر عدداً من بين الفئات الاجتماعية الأخرى، ولكونهم الأكثر تأثيراً في مجريات الأحداث المستقبلية للبلاد. وهم بذلك يقدمون صورة مهمة وذات دلالة نفسية عميقة عن توجهات المجتمع وموقفه التقييمي الذاتي من نفسه خلال العقدين الأخيرين، دون إمكانية التعميم أو الإطلاق».

ختاماً يوصي الباحث فارس كمال نظمي بإن الباحثين والمؤرخين والكتاب والإعلاميين ممن يتصدون لموضوعة الشخصية العراقية، مطالبون بالتوقف عند نتائج البحث الحالي واستنتاجاته، والتمعن بها، وملاقحتها بمضامين مؤلفاتهم، سعياً لتحاشي الانبهار بالتصورات التعميمية المسبقة عن سيادة خصائص العنف لدى الفرد العراقي، فتكوين فهم شامل للشخصية الاجتماعية في أي بلد يستلزم - إلى جانب الرصد الموضوعي لها والملاحظات النخبوية عنها - أن نفهم أيضاً كيف يفكر الناس ذاتياً حيالها، أي إدراكهم الظاهراتي لها ، إذ يشكل هذا الإدراك ركناً أساسياً كاشفاً عن الديناميات الوظيفية لهذه الشخصية، بين خصائصها الموضوعية الواقعية وبين صورتها النمطية المتكونة ذاتياً في أذهان من ينتمون لها. هذه الوصية للكاتب عامة وهي طبعاً واردة في جميع المجتمعات الإنسانية، لكن تاريخ العراق – بتقديرنا- دموي وفترات سواد السلم الاجتماعي قصيرة بالمقايسة مع فترات العنف الشديد منذ شهداء كربلاء وصولاً الى حلبچة والأنفال والمقابر الجماعية والحروب في كوردستان وإيران والكويت.  إلا إن شخصية الفرد العراقي يمكن أن تتغير وتتطور عن طريق المعرفة والتعليم ومحو الأمية من ناحية، ومن ناحية اخرى مع إزالة جميع مظاهر العنف في الشارع المدجج بالسلاح من عصابات وما يسمى بالميليشيات ووجود العديد من المجموعات الاجرامية المسلحة السرية منها والتي تعشعش هنا وهناك.

هذا يدفعنا للتساؤل المحق، هل العنف من الأمور السلوكية المنغرسة في شخصية الإنسان منذ ايام إنسان الكهف الذي كان علية النضال من أجل البقاء؟

هل الانسان العراقي أكثر عنفاً من أبناء الشعوب الأخرى؟

أم إنها صورة نمطية فحسب؟!

يجيب الاستاذ نظمي بالقول:

«إن علم النفس الاجتماعي يرى إن العنف سلوك معقد ولا يتحكم به موضع واحد في الدماغ، إذ وجد أن ثمة أنظمة عصبية لدى الحيوانات والبشر تسهّل العدوان، وحين يتم تنشيط هذه المناطق في الدماغ تزداد العدائية، وعندما يتم تقليل نشاطها تقل العدائية. كما ثبت أن تفاعلاً معقداً بين العوامل البيئية والفسيولوجية هو الذي يقرر ما إذا كان العدوان سيحدث أم لا. فالدماغ نظرياً مزود بالقدرة على التصرف بعدوانية، إلا أن ممارسة هذه القدرة من عدمه يعتمد على عوامل بيئية عديدة أخرى، أي أن وجود هذه القدرة لا يعني أنها يجب أن تُمارَس بالضرورة، إذ يمكن للسياق الاجتماعي المحيط بها أن يكبحها أو يحيّدها أو يقننها. ومن جهة أخرى، يرى علم النفس التطوري أن العنف أصبح مبرمجاً في الجينات البشرية بوصفه أحد أهم الوسائل للبقاء على قيد الحياة، إذ أن الصراعات عبر التاريخ بين الجماعات البشرية قد رسخت جينياً حتمية التنافس من أجل الاستحواذ على موارد العيش والحياة. إلا أن هذه التفسيرات البيولوجية تظل تواجه نقداً علمياً مستمراً في ضوء البرهنة على أن جماعات بشرية عديدة في مراحل ما قبل التاريخ، وجماعات بدائية حالية، نادراً ما خاضت حروباً أو صراعات عنفية فيما بينها، بما يعني إن إنسان الكهوف لم يكن مبرمجاً على العنف، بل ظهر العنف في مراحل لاحقة من التطور الاجتماعي. فمثلاً لم تندلع الحروب إلا قبل عشرة آلاف سنة، ولم تصبح أمراً دورياً مشاعاً إلا قبل ستة آلاف سنة طبقاً لدراسات انثربولوجية وآثارية».

ختاما بدورنا نشكر الدكتور فارس كمال نظمي على الإيضاحات التي تقدم بها والاضافة القيّمة لموضوع مهم هو الصورة النمطية التي تحملها الطبقة المتعلمة العراقية حيال الشخصية العراقية، وكيفية تغيرها ديناميكياً.

***

د. توفيق رفيق التونجي - الاندلس

........................

السيرة الذاتية للمؤلف:

الاستاذ الدكتور فارس كمال عمر نظمي، من مواليد بغداد ١٩٦٢. بروفيسور / كاتب وباحث في سيكولوجيا السياسة والمجتمع والشخصية. أستاذ علم نفس الشخصية، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم نفس الدين، وعلم النفس العام، والإحصاء النفسي. مُحاضِر في عدد من الجامعات العراقية، منها جامعة بغداد، وجامعة صلاح الدين-أربيل، وكلية بابل للفلسفة واللاهوت، وأكاديمية بغداد للعلوم الإنسانية. الاختصاص البحثي الدقيق: العدالة/ الحرمان/ الهوية الاجتماعية/ الاحتجاج/ السلوك الجمعي/ العنف/ الدين السياسي.

له أطروحة دكتوراه في علم النفس الاجتماعي:

(الحرمان النسبي والهوية الاجتماعية وعلاقتهما بسلوك الاحتجاج لدى العاطلين عن العمل)، بتقدير "امتياز" من قسم علم النفس/ كلية الآداب/ جامعة بغداد 2009.

الإشارات:

لقراءة الكتاب بالكامل راجع الرابط التالي:

https://drive.google.com/file/d/1A54HrxajDgQy9Ow0jC8j2gXlmclrkDUX/view?usp=sharing

 

العدالة الاجتماعية مقصد شرعي، وقيمة أخلاقية مهمة في نهضة المجتمعات وبناء الدول الراشدة.

وتعتبر العدالة الأجتماعية غاية وليست وسيلة، وتطبيقها غالباً مايكون نسبياُ.

معالمها لاتأتي من فراغ أنما لغاية تتلخص فكرتها في تحقيق مبدأ المساواة، والعدل، والرخاء، وتحقيق التوازن بين حقوق الأفراد ومسؤولياتهم او التزاماتهم تجاه المجتمع.

وهي مفهوم ملتبس، والبعض يراه مجرد تجريد عقلي لا سبيل إلى تطبيقه في عالم الواقع، وما مطبق من العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ليس إلا محاولات تهدف إلى الحفاظ على الحقوق التي اقرها القانون الطبيعي والأخلاقي.

والعدالة الاجتماعية مفتاح مجاني وطوعي لتحقيق مبدأ المساواة الذي ينطوي على شفرة اساس تبدأ من رأس الهرم (العدالة)، وتنتهي بتحقيق اهدافه.

ولن تتحقق عدالة اجتماعية كاملة، ولن يضمن لها التنفيذ والبقاء، ما لم تستند إلى شعور نفسي باطن باستحقاق الفرد لها، وبحاجة الجماعة إليها، وبعقيدة في أنها تؤدي إلى طاعة الله، وإلى واقع إنساني أسمى.

اول مبدأ لتحقيق العدالة هو الاسلام وقوانينه السمحة، فبدأ بتحرير الوجدان البشري من عبادة أحد غير الله، ومن الخضوع لأحد غير الله، فما لأحد غير الله من سلطان، وما من أحد يميته أو يُحييه إلا الله، وما من أحد يملك له ضراً ولا نفعاً، وما من أحد يرزقه من شيء في الأرض ولا في السماء، وليس بينه وبين الله وسيط ولا شفيع، والله وحده هو الذي يستطيع، والكل سواه عبيد، لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}.

واصولها تتوثق من جملة اساسيات اهمها:

العلاقات الأسرية:

تزهو العلاقات الاسرية عندما يُمارَس العدل والمساواة داخل الأسرة، يشعر جميع أفراد الأسرة بالتقدير والاحترام، مما يعزز الروابط الأسرية ويُقوي العلاقات بين أفرادها.

توفير بيئة صحية للأطفال: يشعر الأطفال بالأمان والقبول عندما يتم تطبيق العدل والمساواة في الأسرة هذا يساعدهم على النمو بشكل صحي وسليم.

يعرض تقرير المفوّضة السامية لعام 2021 خطة مؤلفة من أربع نقاط تنصّ على 20 توصية قابلة للتطبيق تهدف إلى القضاء على العنصرية النظمية وانتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها الموظفون المكلفون ضد الإنسان، وهي:

1-اتخاذ الإجراءات:

عن طريق الغاء ثقافة الإنكار، وتفكيك العنصرية النظمية، وتفعيل مبدأ الكل سواسية في العمل، وعدم استعمال اسلوب التفضيل، والأنحياز لشخص من دون آخر.

2- السعي لتحقيق العدالة:

يتحقق ذلك عند عدم اقرار قانون العفو العام للسجناء، والذي بدوره يفسح مجالاً كبيراً لعدم المساواة.

3-الاستماع:

يعد سيد الموقف أن كان يكفل ضمان اصوات الكل.

4- جبر الضرر:

بوساطة استعمال اسلوب المواجهة، وهنا يقدم مبدأ المساواة وجبر الضرر المفتعل بقصدية.

وهنا يمكننا القول: بإن العدالة الأجتماعية تُعتبر احدى القيم الأساسية التي يسعى المجتمع العالمي الى تحقيقها، وتعني توفير الفرص المتساوية لجميع الأفراد، بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية، الاقتصادية أو الثقافية.

ومع تزايد الفجوات في مختلف أنحاء العالم، تبرز التحديات التي تواجه مفهوم العدالة الاجتماعية، كما تظهر الفرص التي يمكن استغلالها لتحقيقها.

التحديات تُعد الفجوات الاقتصادية احدى أكبر التحديات للعدالة الاجتماعية، اذ يعيش جزء كبير من سكان العالم في فقر مدمج، بينما تتركز الثروات في أيدي قلة قليلة، وتساهم السياسات الاقتصادية غير المتكافئة، وزيادة التفاوت في توزيع الدخل في تفاقم هذه الفجوات، مما يعيق تحقيق العدالة الاجتماعية.

التمييز العنصري والجنسي، اذ لا يزال هذا التمييز يمثل عائقاً كبيراً أمام العدالة الاجتماعية، ففي هذا المجال تتعرض مجموعات اجتماعية للتهميش، وتُحرم من الفرص المتاحة، مما يزيد من حدة الفجوة بين الطبقات، ويتطلب التصدي لهذا التحدي وضع سياسات فعالة تهدف إلى مكافحة التمييز، وتعزيز الشمولية.

تغير المناخ، فهو تحد عالمي آخر يؤثر بشكل غير متساوٍ على الفئات الأكثر ضعفا، فالتأثيرات السلبية للتغير المناخي غالباً ما تؤثر بشكل أكبر على المجتمعات الفقيرة، التي لا تملك الموارد الكافية للتكيف مع تلك التغييرات.

لذا، فإن تحقيق العدالة الاجتماعية يستلزم التعامل مع قضايا البيئة، وبناء مجتمعات قادرة على مواجهة التحديات البيئية. الفرص تعزيز التعليم، اذ يُعتبر احدى الأدوات الفعالة لتعزيز العدالة الاجتماعية، فمن خلال توفير فرص تعليمية متساوية، يمكن تقليل الفجوات، وزيادة قدرة الأفراد على تحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، ويجب أن تُبذل الجهود لتوفير التعليم الجيد للجميع، خاصة للفئات المهمشة.

التكنولوجيا والابتكار تُعد التكنولوجيا أداة قوية يمكن استخدامها لتعزيز العدالة الاجتماعية، فمن خلال الابتكارات التكنولوجية، يمكن تحسين الوصول إلى المعلومات والخدمات، مما يُسهم في خفض الفجوات، بشرط استغلال التكنولوجيا بشكل عادل لضمان استفادة الجميع. السياسات العامة المستدامة، اذ تستطيع الحكومات وضع سياسات عامة تهدف إلى تعزيز العدالة الاجتماعية، من خلال تنفيذ برامج تهدف إلى دعم الفئات الأكثر ضعفاً، مثل توفير الرعاية الصحية والإعانات الاجتماعية، يمكن تحسين الظروف المعيشية وتعزيز العدالة.

في الختام، تُعد العدالة الاجتماعية هدفاً مهماً يحتاج إلى جهود متكاملة لمواجهته، رغم التحديات العديدة، إلا أن هناك فرصاً مهمة يمكن استغلالها لتحسين الوضع الحالي، فمن خلال التعاون بين الحكومات، المنظمات غير الحكومية، والمجتمع المدني، يمكن بناء عالم أكثر عدالة وإنصافا للجميع.

إن تحقيق العدالة الاجتماعية ليس مجرد هدف، بل هو ضرورة لتحقيق التنمية المستدامة والرفاهية للجميع.

***

د. وسن مرشد محمود

جامعة تكنلوجيا المعلومات والاتصالات

إستكمالاً لما قد بدأناه في مقال سابق حمل العنوان نفسه.. تخبرنا التوقعات عن امكانية تقنية الذكاء الاصطناعي في عام 2030م في تزييف 90% من الفديوهات الموجودة. هذا يعني ان كل شيء يمكن دحضه مستقبلاً.!

حين يصل الحال بالناس الى مرحلة عدم القدرة على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مزيف، سيكون الضوء الأخضر قد اذن بدخول الآلات الذكية الى حياتنا ومشاركتنا فيها والتحكم بها حد تقرير المصير كما يذهب الى ذلك بعض الاختصاصيين في مجال التقنية ومشاريع الذكاء الاصطناعي.

وقد يستحيل الواقع اكذوبة يمكن التلاعب بها تقنياً ببرامج الذكاء الاصطناعي التوليدي بحيث يمكن خداع الناس العاديين وربما حتى المختصين منهم.

ان استمرار مشاريع الذكاء الاصطناعي في تطوير قدرات الآلة الذكية سيوصله الى حال يكون فيه الروبوت كفأ لعدد قليل من المبدعين الحقيقيين، اما بقية الناس فسيبدون أقل ذكاءً من الآلة الذكية، وهنا سيحدث التحكم الآلي بالبشر وستتعقد على الثقافة العربية مهمة التوثيق، فبعد دخولنا القرن الواحد والعشرين حيث التطور التقني المتسارع وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، اصبح التوثيق امراً مشاعاً، ومع اشاعته ظهرت غايات واجندات لها مشاريع تستهدف نوعاً معيناً من التوثيق يقفز في كثير من الأحيان على الواقع وعلى حقيقة ما حدث ويحدث. لا يراد من هذا التزييف التلاعب بأحداث المرحلة التي يتم فيها عملية التزييف العميق، وانما يراد منه توجيه مرحلة مستقبلية هي في حدود عقد او عقدين أو أكثر. اظهرت إحصائيات حديثة إن غالبية شباب اليوم يعتمدون على الانترنت اعتماداً كلياً في استحصال الخبر والمعلومة، وهنا تأتي الخطورة، حيث سيقدم لجيل المستقبل وثائق الكترونية عن احداث مر عليها الزمن، لن يكون بوسع ثقافة هذا الجيل ان تسعفه في ادراك ما اذا كانت هذه الوثائق مطابقة للواقع ام هي مزيفة تم اعادة انتاجها ببرامج تقنية رقمية ذكية تخدم اهدافاً واغراضاً معينة.

لذلك يبدو ان من بين المشاكل التي ستواجهها الثقافة العربية المعاصرة هي ان سنوات عمر الجيل الجديد لن يسعها ان تعينه على استيعاب وفهم تاريخ ثقافة الأمة في زمن التسارع المذهل للتطور العلمي والتقني. كما ان سنوات عمر جيل الآباء الموجودين على قيد الحياة لن يسعها ان تعينهم على تقديم فهم واضح يساعد على استيعاب هذا التاريخ الثقافي للجيل الشاب، لأسباب عدّة، منها ظهور شعور نفسي بوجود فاصل زمني تقني بين الآباء والأبناء سببه تمكن جيل الشباب من أدوات التقنية المتطورة التي هي اليوم مصدر للثقافة، يقابله ضعف في تمكن جيل الآباء من هذه التقنية. من شأن هذا التفاوت ان يعرقل تحرك جيل الآباء لمد يد العون لجيل الأبناء في تكوين فهم واضح نافع لثقافة المجتمع العربي، فهماً لا يحرم جيل الشباب من شعور التواصل مع الماضي، ولا يتسبب في شعور جيل الاباء بالقلق على مستقبل ثقافة الأمة بعد ان هيأت تطبيقات الذكاء الإصطناعي تقديم كل ما يحتاجه المستخدم من مادة ثقافية تصل عند بعضهم حد تزويد الذكاء الاصطناعي بنص لأحد الكتاب القدماء وربما حتى المعاصرين، ثم يطلب من chatGBT مثلاً ان يقدم له نصّاً قريباً في محتواه ومعناه من النص الأصلي. في ثوان قليلة سيقدم الذكاء الاصطناعي نصّاً جديداً بمفردات وتعبيرات قريبة جداً من محتوى النص الأصلي قد يتعذر كشف هذا التلاعب الحاصل. حتى وان حصل اكتشافه من قبل مثقف حاذق، وناقد متمرس، فقد لا يسعه نقد ذلك خوفاً مما يمكن ان يلحقه من اذى بسبب غياب روح الثقافة في عصر المادة ولغة الارقام والمصالح وهيمنة الانفعالات. ولعل هذا ما جعل كثيراً من مثقفي جيل الآباء يفضلون جواً هادئاً من النشاط الثقافي، تتحرك فيه الموضوعات التقليدية التي لا يرتفع فيها ضغط الكلمات، كي لا ينبض قلب الفكرة بالوعي المتدفق فتتحرك منظومة الجسم المبتلاة بأمراض العمر المزمنة وعاهات ما بعد الفوضى السياسية والامنية في اغلب بلدان العالم العربي من بداية القران الواحد والعشرين حتى يومنا هذا.

من خلال متابعة حسابات بعض مستخدمي (الفيسبوك) ممن يضعون عنوانات ثقافية لحساباتهم الرقمية. رصدت حالات ظهر فيها عدد من الكتاب وهم يستعيرون نصوصاً ليست لهم، ينشرونها على حساباتهم الخاصة في مواقع التواصل الإجتماعي من دون الإشارة الى اسم صاحب النص الأصلي، وكنت قد طلبت من احدهم ان يستخدم (التنصيص) وهو يضمن منشوراته كلاماً لغيره. شكرني على ملاحظتي، لكنه لم يلتزم بها، ومضى في منشوراته اللاحقة على المنوال نفسه.

ومن مشكلات الثقافة المعاصرة في عالم المال والاعمال، ان المثقف الحقيقي الذي يعمل من اجل انسنة الوجود البشري، سيخضع لمضاربات السوق، فقد يهبط مستوى اسهم قبوله كمثقف ايجابي، فيتم تداوله كمثقف سلبي عبر التشهير والتزييف العميق لاقواله والتسقيط والتقليل من شأن افكاره وطروحاته ورؤاه.

لعلنا في عصر المال والاعمال بحاجة الى عملة ثقافية يمكن استخدامها في مساحة كبيرة كعملة صعبة، فإن لم تكن عملة عالمية، فالأولى بنا إيجاد عملة ثقافية لها من المعاصرة ما يتيح استخدامها في كل الاوساط العربية الاسلامية، وفي كل مجالات الحياة الثقافية والتجارية والاجتماعية والصناعية والسياسية.

مثلما هناك توظيف سلبي للذكاء الاصطناعي من قبل بعضهم. هناك جانب ايجابي يتمثل في استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي من قبل الذكاء الطبيعي بهدف اظهار فكرة خلاقة تمنحها تقنية الذكاء الاصطناعي حضوراً لافتاً. خصوصاً في زمن اخذ فيه كثير من الناس يبتعدون عن قراءة الكتاب. فبواسطة تقنية الذكاء الاصطناعي يستطيع الذكاء الانساني ان يحوّل فكرته الى تطبيق الكتروني مصوّر بتقنيات الشاشة والالوان والمؤثرات، ليتم بذلك اختصار موضوع وتلخيص كتاب بعدد قليل من دقائق التشويق والفائدة التي تصل بالمشاهد والمستمع الى إثارة وعيه الذاتي وتوسيع مداركه، من خلال انبهاره بتقنية الذكاء الاصطناعي وانبهاره بفكرة العقل البشري الذي نجح في استثمار التطور التقني لصالح ذكائه.

إذا كان الحضور الثقافي للكتاب الورقي قد تراجع في عصر ظهور الكتاب الالكتروني وخدمة رفع الكتب مجاناً وبأعداد كبيرة على شبكة الانترنت. فإن ذلك لم يقلل من قيمة الكتاب كمصدر، لكن المشكلة الجديدة التي ترافق ظهور تطبيقات الذكاء الاصطناعي هي ان كتباً رقمية ستظهر على يد آدميين لم يقدر لهم ان يكونوا على نصيب كافٍ من التثقيف الذاتي، ثم اصبحوا لظرف ما في حاجة نفسية الى ان يقدموا انفسهم للمجتمع على انهم مثقفين، فوجدوا في تطبيقات الذكاء الاصطناعي ما يساعدهم على ذلك، فبمساعدة chatGBT مثلاً يمكن اعداد كتاب في مجال يتم تحديده من قبل المستخدم. ثم تأتي مرحلة تقديم هذا الكتاب على انه من بنات اعمال ذلك الشخص. وفي زحمة مشاغل ومشاكل الناس المعاصرة وتسارع الزمن، سيختلط الأمر على المتلقين ولن ينتبهوا ولعلهم لن يبالوا ما اذا كان هذا الكتاب من ابداع الذكاء الانساني ام هو من انتاج الذكاء الاصطناعي. في هذه الحالة سيمرّ الكتاب بمرحلة قلقة تقلّ فيها قيمته كمصدر موثوق.

من بين محاولات مواجهة هذه المشكلة، ينبغي تفعيل قانون موحد لحماية الملكية الفكرية حول العالم، وتمكين العقل العربي من وضع آلية تقنية بمهارة عقلية وخبرة معرفية تكشف التزييف في التأليف.

لقد بدأت تظهر هنا وهناك صحف ومجلات وكتب الكترونية ومطبوعات ورقية تحوم حولها كثير من الشكوك بأنها ليست ابداعاً انسانياً بقدر ما هي انجاز آلي ذكي، قامت بها برامج وتطبيقات ذكية وظفها المؤلف او الكاتب من اجل ان يقال عنه انه شخص مثقف.

هناك مشكلة اخرى هي توظيف الذكاء الاصطناعي في استغلال السمة الثقافية للابداع الادبي والفني من اجل كسب المال. فيصبح مثلاً بمقدور مسؤول اداري في مؤسسة ثقافية رسمية ان يصطنع شعراء فضائيين أو مثقفين افتراضيين بمعنى إضفاء صفات أدبية وثقافية على أشخاص لا علاقة لهم بالثقافة، فيطلب من الجهات ذات العلاقة منحهم سمات دخول لحضور مهرجان شعري او مهرجان ثقافي مزمع اقامته في البلاد، وصرف المستحقات المالية اللازمة لذلك.. ولكي لا يفتضح الامر، يوكل للذكاء الاصطناعي اعداد سير ذاتية لكل واحد من هؤلاء المثقفين الافتراضيين او الوهميين او الفضائيين، تتضمن نماذج من انتاجاتهم الأدبية أو الفنية أو..

وهناك مشكلة معقدة تواجه الثقافة العربية المعاصرة في ظل مشاريع الذكاء الاصطناعي سببها كثرة انتشار اجهزة التقنية الحديثة، وسهولة استخدامها من قبل الجميع على اختلاف المستويات الثقافية والاعمار والاتجاهات والميول النفسية والايديولوجية في مجتمع تغلب فيه الثقافة الشعبية على ثقافة النخبة من حيث التأثر والتأثير، ومن حيث دخول العصبية القبلية والعصبية المذهبية عنصرين مهمين في تشكيل الهوية الاجتماعية للفرد وللمجتمع. الامر الذي حمل بعض الاجندات السياسية والطائفية وبعض المشاريع الموجهة، على استثمار هذه المزايا التقنية المتطورة في اجهزة الموبايل والحاسوب الشخصي والانترنت من اجل اثارة البعد القبلي والبعد الطائفي في ثقافة المجتمع الشعبية لتوسيع الفجوة بين التراث والمعاصرة، من خلال حث الجيل الجديد على عدم الأخذ بما يتقاطع من مواد التراث الادبي والفني والتاريخي مع التوجهات الطائفية والمذهبية. فقد نجد مثلاً مثقفاً سنياً رفض ان يمر في رصيده الثقافي شعر الشريف الرضي لأنه شيعي. وكذلك الحال مع المثقف الشيعي. ان وضع هكذا فواصل بين مصنفات التراث الادبي والتاريخي للمجتمع العربي، سيعرض ثقافة الجيل الجديد الى التجزئة التي من شأنها ان تقوده في ظل الوضع العام القلق عالمياً، الى التحجيم الثقافي، الذي سينتج عنه عقم فكري، وتراجع حاد في حركة الابداع. وقد يجد هكذا حال قبولاً عقائدياً تطمئن له النفس المحصورة بين مطرقة الاعتقاد التقليدي وسندان الحداثة القلقة. او يجد نفوراً من قبل النفس المتعطشة الى حرية التفكير، التي لكي ترتوي ترى ان عليها ان تسعى وراء التغريب الثقافي او ترضى بالتهجين الثقافي ظناً منها انه ماء بينا هو في واقع الحال سراب. ولعل هذا ما جعل بعض المثقفين العرب يتخذون من الظرف الاقتصادي التقني المتسارع والظرف الاجتماعي الثقافي المتراجع رأس مالٍ يحرّكون به تجارتهم، فنراهم يروجون لأفكار من قبيل ان التراث لم يعد قادراً على الوقوف على رجليه في عصر القطارات التي تسابق سرعة الضوء، والسيارات ذاتية القيادة، والطائرات المسيرة والحواسيب الجبارة القادرة على انجاز مليون مليار عملية خوارزمية في وقت قصير جداً يفوق وقت قراءة معلقة لشاعر جاهلي، أو قصيدة لشاعر اسلامي مر عليها الف عام.

وللحديث بقية

***

عدي عدنان البلداوي

مصطلح "القضيبوقراطية" هو مفهوم معقد يجمع بين الفلسفة النفسية والاجتماعية. يرتبط هذا المصطلح بفكرة استغلال القوة والسيطرة من خلال رمزية القضيب، كما تم تناولها سيغموند فرويد في نظريته، القضيب كرمز للسلطة والقوة، يرتبط هذا المفهوم بالمشاعر والدوافع اللاواعية التي تحكم سلوك الأفراد في المجتمع من خلال دراسة كيفية تفاعل الأفراد مع رمزية السلطة، كذلك "القضيبوقراطية" تشير إلى استخدام سلطة القضيب حسب المخرجات الفرويدية كرمز للسلطة والقوة (عصا الحكم)، حيث يتم استخدامه كوسيلة للتفاخر بالقوة والقدرة، يبدو أن هذا المصطلح يعتمد على مفهوم السيطرة والانتصار الجنسي، رغم انه مصطلح غير رسمي وغير معترف به في السياق السياسي العام لكن يمكن أن يعتبر عن مفهوم فردي موجود في بعض الأوساط الخاصة.

القضيبوقراطية في الحكم

مصطلح يستخدم لوصف نظام يقوم بالاعتماد على علاقات وزيجات الحاكم الشخصية والولاءات القبلية والعشائرية في توزيع السلطة واتخاذ القرارات. يعتبر هذا النظام ضد المبادئ الديمقراطية ومبادئ المساواة بين الأفراد. في القضيبوقراطية، يتم تولي السلطة والمناصب الحكومية لأفراد معينين بناءً على صلة قرابة أو الانتماء القبلي، بدلاً من الكفاءة الفردية حيث يتم تفضيل العلاقات الشخصية والقبلية على القوانين والمؤسسات الدستورية. يؤدي ذلك إلى إقصاء أو تهميش الأفراد الذين ليس لديهم الصلات القبلية المطلوبة (الصلات القضيبوقراطية). تعد القضيبوقراطية أمرًا شائعًا في بعض المجتمعات والدول التي تعاني من ضعف الحوكمة والفساد، حيث يتم تفضيل المصالح الشخصية والعشائرية على حساب المصلحة العامة. تتسبب القضيبوقراطية في غياب الشفافية والعدالة وتعرقل التنمية الاقتصادية والاجتماعية. في الديمقراطيات الحديثة، تعتبر القضيبوقراطية انتهاكًا لمبادئ الحكم الرشيد وحقوق الإنسان، من ناحية دلالية تكون القضيبوقراطية انتهاك جسدي للبنية المجتمعية وذلك بتغليب النزعة الرمزية الفرويدية في أصول الحكم.

المازوشية في الحكم

المازوشية، تشير إلى توجه جنسي يتميز بالمتعة الجنسية المتحققة من خلال تلقي الألم والاذلال. قد يكون هناك صلة بين القضيبوقراطية والمازوشية في سياق السيطرة والقوة. على الرغم من أن لكل مصطلح معناه الفردي والمستقل، إلا أن هناك بعض العلاقات المحتملة بين القضيبوقراطية والمازوشية في سياق علاقات القوة والحكم، يمكن ان نرى فيها تداخل بين القضيبوقراطية وبعض أشكال العلاقات المازوشية مطبقة على الشعوب المحكومة بالقوة الشعائرية، على سبيل المثال، قد يستغل الأفراد الذكور السلطة والهيمنة لتحقيق متعة شخصية على حساب الشعب الذي يشعر الاذلال، القضيبوقراطية هي قضية اجتماعية ونفسية تتعلق بالتوزيع غير العادل للسلطة وهيمنة الحاكم فردا او جماعة بطريقة تشبه الهيمنة الجنسية،اما المازوشية هي قضية جنسية تتعلق بتفضيلات واستجابات جنسية فردية، القبول بالذل في مجتمعات محكومة بالقسوة يمكن أن يكون له هذا التفسير، هذا يشير إلى سياقات اجتماعية محددة ولا يمكن التعميم بشكل كامل على جميع الثقافات والمجتمعات.

الأسباب التي تؤدي الى القبول:

الضغط الاجتماعي والاقتصادي: يكون القبول بالذل نتيجة للضغط الاجتماعي والاقتصادي والقوانين والعادات التي تفرضها المجتمعات المحكومة بالقسوة، حيث يتعرض الأفراد للتهديد بالعقاب أو الاستبعاد الاجتماعي إذا قاوموا أو رفضوا القبول بالذل.

الثقافة والتربية: قد تكون هناك ثقافة أو نظام تربوي في هذه المجتمعات يعلم الأفراد بأن القبول بالذل هو جزء من الواجبات أو القيم المعتمدة (بعض سرديات الخوف الوهمية). لكن يمكن رفض هذا الاعتقاد من خلال التعليم والتنشئة الاجتماعية.

الهيمنة والاستبداد: يكون القبول بالذل نتيجة لهيمنة الطبقة الحاكمة أو الأفراد ذوي النزعة القضيبوقراطية الى السلطة والقوة على الفئات الضعيفة أو المضطهدة، هناك آثار نفسية للقسوة والاضطهاد تجعل الأفراد يقبلون بالذل كوسيلة للبقاء أو وتجنب العقاب.

العلاقة بين المفاهيم

القضيبوقراطية تعزز سلوكيات سادية في بعض الأحيان، حيث يمارس القادة سلطتهم بشكل قاسي، المازوشية تفسر لماذا يقبل البعض بالاستبداد، مما يسهم في استمرارية الأنظمة القمعية، هذه الظواهر تؤثر على العلاقات الاجتماعية وتعيد تشكيل مفهوم القوة في المجتمع، تتداخل هذه المفاهيم في توضيح كيف يمكن أن تتشكل السلطة وتستمر، وكيف تؤثر على الأفراد والمجتمعات.

القضيبوقراطية والمازوشية

يمكن أن تكون هناك علاقة بين القضيبوقراطية والمازوشية في العلاقات الاجتماعية السادية. العلاقات السادية تشمل الحصول على السلطة والمتعة من خلال القوة والتحكم والتلذذ بتعذيب الاخر، ويتم استخدام العصا من قبل الحاكم السادي واقعيا ورمزيا، بينما يستمتع المجتمع المازوشي بتلقي الألم والانضباط كمصدر لمتعة الحاكم. القضيبوقراطية تعكس ايضا رغبة بعض الأشخاص في التحكم والسيطرة على الآخرين فكريا. قد يكون هذا المفهوم موجودًا في بعض الثقافات أو الأنظمة الاجتماعية التي تشجع على الهيمنة والسيطرة. لكن للقضيبوقراطية ذات صلة ببعض الاضطرابات النفسية والفكرية، مثل اضطراب الشخصية النرجسية. هذه الاضطرابات تؤدي إلى انتشار سلوكيات غير صحية مثل تعزيز القيم الثقافية القائمة على الهيمنة وتفضيل للقوة في بعض الأوساط، يتميز الأشخاص الذين يعانون من اضطراب الشخصية النرجسية بالتفاخر بالقدرات والمهارات الخاصة بهم والشعور بالأهمية، ويميلون إلى استخدام القوة والسيطرة في العلاقات الاجتماعية لتلبية احتياجاتهم الشخصية، الاضطرابات المازوشية تتضمن التمتع بتلقي الألم أو الاذلال لتحقيق ما يريده الحاكم، بالنسبة لبعض الأشخاص المازوشيين، يكونون مستعدين للتعاون مع حاكم سادي يمارس القضيبوقراطية بشكل ممتاز، الحاكم القضيبوقراطي يظهر رغبة مفرطة في السيطرة والتحكم في الشريك السياسي وفي النشاط الاجتماعي بشكل عام. رغم ذلك يجب أن نلاحظ أن هذه الأعراض ليست محددة بشكل حصري للقضيبوقراطية، وقد تظهر في سياقات أخرى أيضًا، إنها مجرد مؤشرات ممكنة تعزز الاشتباه في وجود تفضيلات قضيبوقراطية لدى متسلقي المناصب، اذ ان هناك علاقة بين القضيبوقراطية وبعض السياقات الأخرى مثل الاستبداد السلطوي، تشترك هذه السياقات في النمط العام للرغبة و التحكم والسيطرة على الآخرين وتستخدم القوة والسلطة لتحقيق ذلك، يؤثر الاضطراب النفسي أو( القضيبوقراطية )على القرارات والتصرفات الشخصية للفرد وقد يؤثر على طريقة تفكيره وتصرفاته في العلاقات الشخصية والاجتماعية و على المفهوم العام للحاكم العادل، لذا إن الصحة العقلية والنفسية الجيدة تعتبر واحدة من العديد من الصفات والمواصفات المرتبطة بالقدرة على الحكم. حيث يفضل أن يتمتع الحاكم بثبات عقلي ونفسي وقدرة على اتخاذ القرارات الصائبة وفقًا للمعايير الأخلاقية والقانونية. لذا لا يمكن القول إن التركيز على القضية القضيبوقراطية (الاهتمام المفرط بالجنس والهوس الجنسي وتطبيقه في أصول الحكم) سيؤدي إلى تطور المجتمعات والتصدي للتحديات في مجال الحضارة والتنمية الحضارية. عندما يتم التركيز الزائد على الجنس ولو رمزيا، يمكن أن يحدث تشويش في الأولويات والمناقشات الأخرى المهمة في المجتمعات يؤدي ذلك إلى إهمال قضايا أخرى مثل التعليم، والاقتصاد، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان، والتحديات البيئية، والسلام، والتعايش السلمي بين الثقافات والديانات. بالإضافة إلى ذلك، التركيز المفرط على الجنس والهوس الجنسي يؤدي إلى إشاعة العنف الجنسي والتمييز والتحرش الجنسي في المجتمعات. ويؤدي إلى خلق بيئة غير آمنة وغير صحية للجميع، ويعزز الثقافة التشهيرية والمعادية للمرأة. بدلاً من ذلك، يمكن أن يكون التركيز على التحديات الحضارية في المجتمعات والتي تشمل مجموعة متنوعة من القضايا المهمة مثل تعزيز المساواة وحقوق الانسان، ومكافحة التحرش الجنسي والعنف الجنسي، وتشجيع الحوار المفتوح والمنفتح حول القضايا المجتمعية. بالتالي التركيز على الممارسات القضيبوقراطية في الحكم بشكل مفرط لن يؤدي إلى تطور المجتمعات ومواجهة التحديات الحضارية بشكل فعال، وتبرز ظواهر منافية للأخلاق والذوق العام (ظاهرة الفاشنستات ومشاهير التكتوك). من الأفضل توجيه الجهود نحو تحقيق التوازن الصحيح والشامل في المجتمعات والحاجة للحكم الرشيد وبناء دولة ديموقراطية حقيقية.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

هل يحتاج إعلامنا اليوم حقا إلى عملية تفكيكية، محايثة لمقدرات كفاءاتنا الوطنية وزخمها المعرفي والثقافي، بموازاة انتظاراتنا إزاء الطفرات المتسارعة التي تشهدها العمليات المعلوماتية وحرب المعلومات، وسياقاتهما المتواترة وتأثيراتهما الشديدة في بناء القرارات والمصائر والاعتبارات الأخرى؟

هل نكون بحاجة إلى إعادة تقييم لمنظوراتنا الجديدة، وخلفياتنا الكلاسية المؤطرة بميازيب التنويع والتوسع التخصصي والتقائية الأدوار في مختلف مجالات وحقول لها ارتباط متمدد في وسائط التواصل الاجتماعي ومنصات الدردشة والمواقع ذات الصلة؟

وكيف سنتمكن من تحديد أساليب هذه المحطة، التي سنحتاج فيها إلى آليات خطابية ودلالية جديدة، تنبعث من صلب أسئلة واقع الإعلام وتأثيراته العميقة في الأوساط الاجتماعية الأكثر تعقيدا وتحولا، والأخطر في توجيه سلوكياتنا واستجاباتنا الاعتيادية التي نبديها تجاه مع يعتلق من مواقف وتقاطعات..؟

إن عملية تفكيك وضعية إعلامنا، تحتاج بالأساس إلى تأسيس فهومات، هي بالأساس استدراج لفرز استراتيجية طرح أسئلة نقدية تهدف إلى كشف الفرضيات، وتحويلها إلى مركز استيعاب وتمكين، بعيدا عن مشاكل "النقد المزدوج"، الذي هو في أغلبه يبتدع رؤيته بأوثاق متعددة وبعيدة عن المركز بكل أنواعه من أجل مواجهة كل أشكال الاحتواء.

لا غرو أن المنظورات الجديدة لعصر الذكاء الاصطناعي، أضحت تشكل هوية فارقة ضمن باراديجمات التواصل ونشر المعلومات والتسويق، في تناغم جاذبي موسوم بدرجة دقيقة من التطور مع الوسائط الرقمية، التي هي مجموعة أدوات تعكس مدى قدرة الذكاء الاصطناعي على إحداث ثورة في استهلاك المعلومات، والتفاعل مع العالم والمحيط.

ومع اتساق وتجاذب هذه الوضعيات، صارت مواطئ الاحتكاك مع الاقتدرات المشهدية المتسارعة للوسائط الرقمية، تفرض مواكبة وتفاعلا أكثر نجاعة وأوفر تبصرا ومناظرة، في مواجهة وصد تهديدات المجتمع، وارتداداتها على السلوكيات المجتمعية الثاوية، وانتقالتها في الحقول المؤثرة، كالتعليم والسياسة والاجتماع والحقوق الموازية.

والأخطر أن تصير هذه الوضعيات، في ظل اكتساح خوارزميات الذكاء الاصطناعي، لثخومها مجال اصطدام مع الهوية اللغوية والثقافية، حيث يتم اختراقها بوسوم التحليلات السلوكية للمستخدمين وتفضيلاتهم، ما يعزز فاعلية الحملات الاتساقية المنظمة، عن طريق استخدامات مبرمجة، منها ما يتصل بعمليات " الأتمتة"، كإنشاء المحتويات وتحرير المعطيات وتأهيلها لتصير ذات قابلية متفوقة وذات فاعلية ارتباطية متسقة مع أهدافها التأسيسية.

إن الإعداد لتلكم الطفرات، لا يصطدم مع الامتداد البطيء لتوجساتنا وشكوكنا المتورمة، واقتصادنا التكنولوجي المتحلق خلف استيراد المزيد من برامج التمكين من اكتساب خبرات لن تعتر فيها على الضالة، بينما الأبعاد التعاقدية الصميمة توجد في العقل الاشتراطي الصانع، الذي يكرس الفجوات الحضارية ويوطنها في العقل التنافسي والتجاري.

فهل نحسن تدبير لحظة الاندماج مع آليات وأجهزة الإبداع المتطورة والصيرورية، حتى نتمكن من تورية التكلس الزمني وتخرصاته، في سياق نشوء إبدالات وأنظمة ستترك في طريقها لغزو فضاءات ما بعد السماوات والسيبرانيات المتدفقة، وعولميات الحروب التكنولوجية الجديدة، أثرا محفورا في ذاكرة العالم ونتوءاته المزلزلة؟.

***

د مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

الإنسانُ كائنٌ مفطورٌ على التفكيرِ والتساؤلِ، والبحثِ عن آفاقِ الحُلولِ التي تُحقّقُ سعادتَه وتُناسبُ كمالَه الإنسانيّ. التفلسفُ من خصوصيّاتِ الإنسانِ التي تميّزَ بها في هذا الوجودِ. التفكيرُ والتفلسفُ توأمانِ لا يفترقانِ. التفلسفُ هو السعيُ نحو الحكمةِ، وهو ممارسةٌ عقليّةٌ وروحيّةٌ يتأمّلُ الإنسانُ من خلالها العالمَ والوجودَ والحياةَ والقيمَ والذاتَ، أمّا الإنسانُ، فلماذا يتفلسف؟ لأنّهُ يشعرُ - بشكلٍ فِطريٍّ - أنّ الجهلَ والتعتيمَ مشينٌ، ونقصٌ في ذاتِه. وهذا الإحساسُ لا يحتاجُ إلى مُنبّهٍ خارجيٍّ، بل هو إدراكٌ أَوّليٌّ بديهيٌّ نابعٌ من صميمِ الذاتِ الإنسانيّةِ بخصوصِ قُبحِ الجهلِ.

وبالتالي يفرُّ الإنسانُ منهُ بطبعِه، ولا يقبلُهُ، حتّى وإنْ كانَ فعلًا موصوفًا به. ومن خلالِ ذلك، يسعى لمحاولةِ الفهمِ والاكتشافِ والوعيِ المُخلِّصِ، ومنها البحثُ عن لذّةِ الدهشةِ، كما عبّر سقراط: «الدهشةُ هي بدايةُ الفلسفةِ» وبكلِّ الأحوالِ، حينما يندهشُ الإنسانُ من شيءٍ عاديٍّ يقتحمُ حياتَه - كالزمنِ الذي يتسلّلُ من بين يديه بصمتٍ، أو الموتِ الذي يخطفُ الأحبّةَ دون إنذارٍ، أو الوعيِ الذي يُشعرُه بوجودِه بشكلٍ غريبٍ - يبدأُ سيلُ التساؤلاتِ الوجوديّةِ بالانفجارِ في داخلِه.

أسئلةٌ تبدو في ظاهرِها بسيطةً، لكنها تحملُ أثقلَ الأجوبةِ: من أنا؟ لماذا وُجِدتُ؟ ما هي الحقيقةُ؟ ما الغايةُ من كلِّ هذا؟ وإلى أينَ المآلُ؟

والحقيقةُ أنَّ هذا النوعَ من الدهشةِ والتساؤلِ لا يُشبهُ الفضولَ العابرَ، بل هو لحظةٌ وجوديّةٌ صِرفةٌ، تجعلُ الإنسانَ يتوقّفُ ويتأمل، ويبدأُ رحلةَ البحثِ عن معنىً لحياتِه، وعن موقعِه في هذا الكونِ. ومن هنا، يُولَدُ التفلسفُ، ليس كترفٍ عقليٍّ، بل كحاجةٍ داخليّةٍ مُلِحّةٍ لفهمِ ما لا يُفهَمُ بسهولةٍ.

ومنها دوافعُ الرغبةِ العارمةِ في مَسكِ خيطِ الحقيقةِ، إذ الإنسانُ بطبعِه لا يكتفي بالظواهرِ، بل يسعى لاكتشافِ حقائقِ الأشياءِ، وسبرِ أغوارِها وأبعادِها، والوصولِ إلى ما وراءَها - حسبَ مقدرتِه البشريّةِ. وعلى ضوءِ ذلك، عدَّ فلاسفةُ الدينِ أنَّ حبَّ الخيرِ والجمالِ والتديُّنِ، وحبَّ الاستطلاعِ، والفضولَ المعرفيَّ، تشعُّباتٌ من خصائصِ الإنسانِ الفِطريّةِ التي لا يُستغنى عنها بأيِّ حالٍ، حتّى وإنْ أخطأت أهدافَها المشروعةَ.

الأهمُّ من ذلك أنَّ القلقَ الوجوديَّ - كمسألةِ الحريّةِ والمصيرِ والخوفِ من الموتِ - تُعدُّ مناجمَ بركانيّةً فاتحةً لبابِ التأمُّلِ والفهمِ العميقِ المتعلّقِ بإثارةِ الأسئلةِ، وإلفاتِ الغريزةِ البحثيّةِ. كما يرى "مارتن هايدغر":"القلقُ يكشفُ لنا حقيقتَنا: أنّنا موجودونَ نحو النهايةِ".

ثَمّةَ علاقةٌ وطيدةٌ بين محطةِ الإبداعِ والتفكيرِ النقديِّ؛ فالتفكيرُ النقديُّ خُطواتٌ إجرائيّةٌ ممنهجةٌ في إثارةِ الأسئلةِ إزاءَ المشاكلِ والقضايا الكبرى المطروحةِ. وعلى حدِّ وصفِ كارل بوير: "العِلمُ لا يبدأُ من الملاحظةِ، بل من المشاكلِ." التفكيرُ النقديُّ هو القُدرةُ على تحليلِ المعلوماتِ والأفكارِ بشكلٍ منطقيٍّ، بهدفِ التحقّقِ من صحّتِها، واكتشافِ الفرضيّاتِ، والتمييزِ بين الحقيقةِ والرأيِ الخاطئِ، وتحليلِ المفاهيمِ والمعطياتِ، وتقييمِ الأدلّةِ والحججِ، والاستنتاجِ المنطقيِّ القويمِ، والمرونةِ الذهنيّةِ في قَبولِ وُجهاتِ النظرِ المختلفةِ.

يعتمدُ التفكيرُ النقديُّ بشكلٍ مَاسٍّ على قواعدِ التحليلِ والاستدلالِ العِلميِّ، والتقييمِ الموضوعيِّ المُنصفِ، والاحتكامِ النزيهِ، والتأمّلاتِ الذاتيّةِ المُنتِجةِ في استظهارِ رُؤى الأشياءِ.

أمّا الإبداعُ، فهو القُدرةُ التوليديّةُ على صِياغةِ الأفكارِ، أو طرحِ الحُلولِ الأًصيلةِ والمُبتكرةِ، في الوقتِ ذاتهِ موضعتُها حسبَ الموقفِ الإشكاليِّ والحاجةِ المطلوبةِ. العلاقةُ بين التفكيرِ النقديِّ والإبداعِ هي علاقةٌ تفاعليّةٌ، وليست انفعاليّةً؛ بمعنى أنّ كُلًّا من الطرفينِ (التفكير النقديّ والإبداع) يُؤثّرُ ويتأثّرُ بالآخرِ في دورةٍ عقليّةٍ مُتبادلةٍ تكامليّةٍ. فالتفكيرُ النقديُّ لا يُلغِي الإبداعَ، ولا الإبداعُ يُعارضُ مِبضَعَ النقدِ. إنّ دورَ التفكيرِ النقديِّ - وفقًا لضوابطِه المعرفيّةِ - يتمثّلُ في تصحيحِ وتقويمِ الأفكارِ المطروحةِ، دون الانشغالِ بشخصِ قائلِها، وهي ممارسةٌ صحّيّةٌ تفتحُ آفاقًا للتفاؤلِ، لما تُتيحه من تجديدٍ في النشاطِ المعرفيِّ، وإيجادِ بدائلَ أكثرَ نُضجًا وفاعليّةً. أمّا الإبداعُ، فيحتاجُ دومًا إلى جُرأةِ السؤالِ، والتفكيرِ المختلفِ. وما من إبداعٍ إلّا ومنشأُهُ قوّةُ التمحيصِ والفحصِ، وجرأةُ التفكيرِ النقديِّ. وهذا ما نَجِدهُ مُصداقَه بدقّةٍ في طيّاتِ التراثِ الإسلاميِّ — مثلًا — عندَ ابن رُشدٍ الفيلسوفِ في نظريتِه "الفصلِ بين الحقيقةِ الشرعيّةِ والفلسفيّةِ"، التي تُوّجتْ بنقدِه للغزاليِّ في "تهافتِ الفلاسفةِ"، حيثُ اتّهمَ الأخير الفلاسفةَ بالتكفيرِ، فردَّ عليهِ ابنُ رشدٍ في كتابِه "تهافت التهافت". أمّا جانبُهُ الإبداعيُّ، فقد انتهى بتأسيسِ رؤيةٍ فلسفيّةٍ جمعتْ بين الإيمانِ والعقلِ، أثّرتْ في الغربِ اللاتينيِّ لقرونٍ عديدةٍ، وكان لجهادِه العقليِّ دورٌ في ظهورِ عصرِ العقلِ والأنوارِ في أوروبا، وفي الوقتِ ذاتهِ، شنَّ الغزاليّ هجومًا نقديًّا مُدجّجًا على قلاعِ الفلاسفةِ، وانتهى به المطافُ إلى الربطِ بين المنطقِ والفكرِ الإسلاميِّ، وسادتْ به كتبُهُ مثل: إحياءِ علومِ الدين والمنقذِ من الضلال. مثلًا، نظريّةُ "المقاصدِ الشرعيّةِ" عندَ الشاطبيِّ جاءتْ نتيجةَ نقدِه لمدارسِ الفقهِ المدرسيِّ، والتجزيئيِّ، وغيابِ النظرِ الكلّيِّ في مشروعيّةِ الاجتهادِ — أقولُ ذلك بصرفِ النظرِ عن قيمةِ ومقبوليّةِ النظريّةِ.

كذلك، مثلًا، ابنُ الهيثمِ البَصْريُّ عندما نقدَ نظريّةَ بطليموس في الرؤيةِ والبصرياتِ القائلةِ إنّ "العينَ تُرسلُ شعاعًا نحو الجسمِ"، وأثبتَ عكسَها: أنَّ الضوءَ يدخلُ إلى العينِ، وقد استخدمَ منهجًا تجريبيًّا مُبدعًا، ويُعدّ بذلك أوّلَ من وضعَ أُسسَ المنهجِ العلميِّ الحديثِ. والنماذجُ بهذا الصددِ وافرةٌ وكثيرةٌ.

من شروطِ صناعةِ النهضةِ الحقيقيةِ تفعيلُ التفكيرِ النقديِّ في مواجهةِ آفاتِ التسطيحِ، وسياساتِ التجهيلِ، وآليّاتِ التقليدِ الأعمى. فلا يُكتبُ لأمّةٍ النهوضُ والفلاحُ وهي تُقصي أدواتِ العقلِ، وتخشى أصواتَ النقدِ الذاتيِّ، وتمتهنُ الصمتَ المُطبقَ أمامَ تشخيصِ عللِها وهمومِها الحضاريةِ.

وللأسفِ نعيشُ حالة مَقلقةً من التُّخمةِ المعرفيّةِ والخمولِ العقليِّ في التعاملِ مع قضايا الفكرِ، حتى أصبحَ البعضُ يتعاطى مع النصوصِ، وكأنّها محفوظاتٌ يوميّةٌ لا تُحرّكُ العقلَ ولا تُثيرُ التساؤلاتِ. أمّا الدرسُ الفلسفيُّ، فلا يزالُ في كثيرٍ من الأحيانِ وعمومِ حالاتهِ دونَ مستوى الطموحِ، إذ ما يُعرفُ بالفلسفةِ الإسلاميةِ باتَ أشبهَ بـ"علمِ كلامٍ موسّعٍ" يتكرّرُ فيه الجدلُ بأساليبَ تقليديةٍ دونَ أن يُنتجَ رؤيةً جديدةً أو يُلهمَ عقلًا معاصرًا.

إنّ كثيرًا من "المثقّفينَ" اليومَ يُعانون من أزمةِ إبداعٍ حقيقية، فيتصوّرُ بعضُهم أن حفظَ أسماءِ الفلاسفةِ والروائيينَ، أو تكرارَ الأقوالِ والمقولاتِ، كافٍ ليَحمِلَ لقبَ المفكّرِ أو الناقدِ! والحالُ أن عصرَنا مغلوبٌ بالتقليدِ، مُثقلٌ بالتهميشِ، تائهٌ في غيابِ المعنى حتى باتَ يُشبهُ عصرَ "النسخِ العقليِّ" لا عصرَ النهوضِ والتحديثِ. نحنُ بأمسِّ الحاجةِ إلى إعادةِ الاعتبارِ لمكانةِ العقلِ الخالصِ، لا بوصفِهِ تابعًا مُقلّدًا، بل صانعًا ومُساءلًا ومُبدعًا، قادرًا على التفكيكِ، وإعادةِ البناءِ، واكتشافِ المساراتِ المتنوّعةِ. فالتفكيرُ النقديُّ لا يهدِمُ الثوابتَ، بل يفتحُ آفاقًا رحبةً لفهمِ النصوصِ والمتونِ، ويُنقذُنا من سطوةِ الجمودِ والانبهارِ الأجوفِ، ويَرسُمُ ملامحَ وعيٍ مُتجدّدٍ يجمعُ بين الأصالةِ والمعاصرةِ، ويُؤسسُ لعقلٍ حرٍّ قادرٍ على المساءلةِ والإبداعِ والتجاوزِ، لا عقلٍ يكتفي بالتكرارِ والتلقينِ

***

محمد قاسم الطائي

هل الإنسان في حاجة إلى التنشئة الاجتماعية أم لا؟

إن القارئ لهذا الإشكال الفلسفي سيدرك بعمق أنه يحمل مفارقة إشكالية تاريخية، متصلة بمسألة ما إذا كان الإنسان في حاجة إلى التكوين والتأهيل والتربية، أم أنه يولد مجبولا على بعضها، وبذلك، فهو ليس بحاجة إليها. ولرصد بعض المعطيات التي حاولت النظر في هذه المشكلة، يمكن القول بأن تاريخ الفكر الإنساني النظري منذ اليونان إلى اليوم، قد انشطر في اعتقادنا إلى تصورين. تصور يرى بأن الإنسان يولد حاملا لبعض السمات والخصائص التي تجعله صاحب إمكانية وقدرة على القيام ببعض الوظائف تحقيقا للنظام في الوجود-العالم (أطروحتي أفلاطون وأرسطو في السياسة نموذجا). وتصور آخر، ينظر بمنظار النفي؛ أي يعتبر بأن الإنسان يولد صفحة بيضاء في حاجة إلى النحت والتوضيب والتأهيل، حتى يكون هذا الكائن الفريد قادرا على القيام بجملة وظائف إسهاما في العيش الحتمي المشترك.

يمكن القول، في هذا السياق، بأننا سنركز اهتمامنا في هذه المقالة على التصور الثاني لبيان بعض الأفكار المفيدة في فهم حاجة الإنسان إلى التربية والتنشئة الاجتماعية. ينطلق الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في مقاله «تأملات في التربية» من قول يلخص بشكل واضح أساس هذا التصور، حيث يقول: «الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يجب تربيته. ونقصد بالتربية الرعاية (التغذية، التعهد) والانضباط والتعليم المقترن بالتكوين (Bilding)»[2]. إذا كان الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يجب تربيته، فذلك معناه أنه الكائن الوحيد الذي يولد دون أن يكون مجبولا على بعض الطباع والسمات، التي لا يكتسبها إلا بواسطة التربية والتأهيل.

واستنادا إلى هذا الفهم الحديث بخصوص الإنسان، يمكن القول بأن الإنسان يولد حيوانا فقط، لا إنسانا بالحد. إذ ما دامت الإنسانية فينا صفات وسمات، فإنها بحسب هذا الفهم لا تولد معنا، بل نصيرها بواسطة التنشئة الاجتماعية، أو لنقل بلغة كانط: «إن الانضباط يحول الحيوانية إلى الإنسانية»[3]. فالانضباط على شكل من القيم والمبادئ الناتجة عن عملية التنشئة الاجتماعية التربوية، هي الوسيلة الكفيلة للانتقال بالكائن البشري من وضعه الطبيعي الحيواني الذي يولد عليه، إلى وضع ثقافي إنساني. لكن، ما دلالة التنشئة الاجتماعية؟

للإجابة عن هذا التساؤل يمكن استحضار تعريف عالم الاجتماع البريطاني أنتوني غيدنر الذي عرف مفهوم التنشئة الاجتماعية في كتابه «علم الاجتماع» بالقول: «يطلق مصطلح التنشئة الاجتماعية على العملية التي يتعلم بها الأطفال أو الأعضاء الجدد أساليب الحياة في مجتمعهم»[4]. وبهذا المعنى، تكاد تكون التنشئة الاجتماعية بمثابة القناة الأساسية التي يتم من خلالها نقل ثقافة الأمة أو الحضارة أو الدولة أو الأسرة إلى الأجيال اللاحقة، بل هي كذلك.

جدير بالذكر، أنه لتبيان كون الإنسان في حاجة إلى التنشئة الاجتماعية، يميز لنا غيدنز بين الحيوانات والإنسان. فالحيوانات بوصفها الكائنات التي توجد في أدنى سلم التطور، تكون فور ولادتها قادرة على حماية نفسها، دون الاستعانة بالحيوانات البالغة، بينما «الحيوانات الأخرى، المتقدمة في سلم التطور فهي في حاجة إلى تعلم طرائق السلوك المناسبة»[5]، الخارجة عن حيوانية الكائن الحي، الحاضنة له ثقافيا وإنسانيا. وبهذا المعنى، فالتنشئة الاجتماعية «هي التي تجعل من هذا الكائن الوليد بصورة تدريجية، إنسانا واعيا بذاته ومدركا لبعض المعارف والمهارات المتعلقة بمسالك الثقافة التي ولد فيها»[6].

وإذا كان الإنسان خاضعا لنوع من التنشئة الاجتماعية، فإن ذلك، لا يفيد أنه يُنحت على منوال لا انفكاك معه، بحيث يصير كائنا مبرمجا ثقافيا، بقدر ما أنها عملية مرنة تزوده كلما تجددت ثقافة الإنسانية بأسس ومبادئ، ترقى به نحو الإنسان الكامل المنفلت باستمرار. وبناء عليه، هل التنشئة الاجتماعية واحدة أم متعددة؟

يمكن القول بأن الإنسان خاضع لنوعين من التنشئة الاجتماعية[7]: تنشئة أولية: تنطوي على مرحلة الرضاعة والطفولة، وهي مرحلة يتم فيها تزويد الطفل بأقصى درجات التعلم الثقافي من قبل الأسرة، بحيث يتعلم فيها الطفل اللغة وطرائق السلوك الأساسية التي تؤهله لكي يتأقلم ويتعايش مع الجماعة البشرية. وتنشئة اجتماعية ثانوية، تنطبق على مرحلة ما بعد الطفولة إلى حدود سن البلوغ، إذ تتداخل في هذه المرحلة عوامل متعددة ومختلفة خارج دائرة الأسرة، كالمدرسة والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعية، وغيرها من العوامل التي تتفاعل فيما بينها في تزويد الطفل بمجموعة من المعارف والقيم، ومن ثمة، تأهيله كي يكون إنسانا متحضرا.

وبناء على ما سبق، يتضح أن الإنسان لا يولد إنسانا، بقدر ما أنه يولد كائنا حيا، فتجعله التنشئة الاجتماعية بوصفها آلية تربوية إنسانا حاملا لقيم ومبادئ تتجاوز الحيوانية. فالتنشئة الاجتماعية لا تنزع عن الإنسان ذلك البعد الحيواني الغرائزي، وإنما تعمل على صقله وتأهيله، بل والتحكم فيه عقليا، وبذلك، نكون أمام كائن واع بما يحمله من دوافع غريزية، لكنه قادر على التحكم فيها، وصقلها باستمرار.

***

د. لوكيلي عبد الحليم

باحث في الفلسفة – المغرب

......................

[2] إيمانويل كانط. ثلاث نصوص، تأملات في التربية-ما هي الأنوار؟-ما التوجه في التفكير؟. ترجمة وتعليق محمود بن جماعة.  ط.1. (تونس: دار محمد علي للنشر، 2005)، ص.14.

أنتوني غيدنز. علم الاجتماع. ترجمة فايز الصياغ. ط.1. (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2005)

[3] إيمانويل كانط. ثلاث نصوص، مصدر سابق، ص. 14.

[4] أنتوني غيدنز. علم الاجتماع. ترجمة فايز الصياغ. ط.1. (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2005)، ص.87.

[5] المرجع عينه.

[6] المرجع عينه.

[7] المرجع عينه.

 

كم مرة وقفنا مأخوذين أمام رفوف مكتبة، نحدق في عناوين متراصة، بحثًا عما يهز عقولنا أو يفتح في وعينا نوافذ جديدة، فنفاجأ بذلك الفراغ الثقافي حين نكتشف أن كتبًا غيرت مجرى الفكر الإنساني ما تزال غائبة عن لغتنا؟ كم مرة أحسسنا بالعجز أمام فكرة حديثة، أو نظرية تشعل الجدل، فقط لأنها ظلت محبوسة خلف حواجز لغوية؟

اللغة، في هذه اللحظات، لا تكون وسيلة اتصال، بل تصبح جدارًا. وهنا تتدخل الترجمة لا بوصفها مجرد نقل، بل كفعل تحرري، يخلخل هذا الجدار، ويعيد تشكيل وعينا.

الترجمة: سفرٌ بين أزمنة وثقافات

حين تصفحت حديثًا كتاب "حياتي ومغامراتي" لأرمينيوس فامبيري، و"حول أصل اللغة" لإرنست رينان، أيقنت أن الترجمة ليست فعلاً أكاديميًّا محضًا، بل سفرًا وجوديًّا. إنها تخط لحدود الزمن، عبور إلى عوالم لم نعشها، وإصغاء إلى أصوات من عصور غابت، لكنها تركت آثارها فينا.

قراءة الكتابين تجعلني أتساءل: كيف لنا أن نفهم الآخر دون أن نقرأ كيف رآنا؟ وكيف نفسّر لغتنا، وهي هويتنا الأولى، دون أن نعرف كيف فكّر العالم في أصلها؟

الترجمة، في هذا السياق، ليست مجرد جسر بل هي مرآة ورؤية، سؤال ودهشة. من هذا المنطلق يطرح الكتابان علي المثقف العربي أسئلة تمس صميم وجوده الثقافي: أسئلة عن الاستشراق ليس كخطاب جامد، بل كساحة صراع بين المعرفة والسلطة. وأسئلة غيرها تضعنا أمام لغز اللغة، ذلك السر الذي ما زال يحير الفلاسفة والعلماء منذ فجر التاريخ.  وسؤال إضافي ذو دلالة عميقة لابد له من جواب: هل نترجم لملء فراغ أرفف المكتبات، أم لنغير العقول ولنطور إدراكنا نحو مستجدات العصر؟

في هذا المقال، أحاول أن أتتبع أثر هذين العملين في سياقهما الفكري، وأتأمل دور الترجمة كجسر بين الماضي والحاضر، بين الشرق والغرب، بين اللغة كأداة للتواصل واللغة كسر وجودي. لأننا فى الواقع لا نترجم كتباً صماء، بل نترجم أنفسنا لنكتشف ذواتنا ونقارنها بالآخر.

مرآة الاستشراق ورؤية الذات

في "حياتي ومغامراتي" للمستشرق أرمينيوس فامبيري (1832-1913) بترجمة زكريا صادق الرفاعي وتقديم ماكس نوردو، يكشف فامبيري المستشرق المجري ذي الأصول اليهودية، الذي جاب الشرق في القرن التاسع عشر، عن أبعاد أدب الرحلة حين يتجاوز الحكاية إلى السياسة، وحين تصبح المغامرة مدخلاً إلى فهم علاقة الغرب بالشرق.

تكشف الوثائق البريطانية الحديثة، ظهرت عام 2005م، أن فامبيري لم يكن مجرد رحالة، بل عميلًا مزدوجًا للإنجليز والعثمانيين، وهو ما يفتح السؤال الكبير: هل كان الاستشراق علمًا محايدًا؟ أم كان أحد أذرع القوة الاستعمارية؟ الكتاب يجسد ببراعة هذا التناقض، ما بين رؤى النخبة الفيكتورية للشرق، وبين معلومات نغرق في خضمها عن الحياة فى آسيا آنذاك.

الكتاب يظهر بوضوح كيف كان الشرق مادة للدراسة والمراقبة، ولكنه أيضًا كان مساحةً للمواجهة بين المعرفة والهيمنة، بين التدوين والاستغلال. إعادة ترجمته اليوم ليست استعادة للماضي، بل قراءة جديدة في مرآة الآخر، وتعرية للصورة النمطية التي صاغها الغرب عن الشرق.

في البدء كانت الكلمة: لغز اللغة وأصلها

أما كتاب "حول أصل اللغة"، لإرنست رينان بترجمة سحر سمير يوسف وتقديم عبد الرحمن محمد طعمة، فهو رحلة فكرية آسرة في أعماق الوعي البشري. إنه استكشاف للّحظة التي نطق فيها الإنسان الأول الكلمة، ومن ثم بنى بها حضارته، وصاغ بها فلسفاته، وأسس بها وجوده. إنه ليس مجرد كتاب عن أصل اللغة، بل هو رحلة في أعماق العقل البشري وتطوره بحثاً عن الجذور الأولى للكلمة التي ميزت الإنسان عن سائر المخلوقات.

يتبع رينان في هذا الكتاب المنهج المقارن لتتبع أصول اللغات، ساعياً لإعادة بناء ملامح "اللغة البدائية الأولى". لكن الأهم من ذلك هو تركيزه على دور اللغة كوثيقة تاريخية تكشف أسرار الحياة الإنسانية في عصور ما قبل التاريخ، وكأداة لفهم نشأة العقل البشري وتطوره. إن اللغة هنا ليست مجرد وسيلة اتصال، بل هي وعاء للفكر، وأداة لتشكيل العالم .

رينان لا يكتب بلغة العلم البارد، بل بلغة الفكر المتسائل. يطرح أسئلة كبرى: هل اللغة طبيعية أم اختراع صناعي؟ ما علاقتها بالأعراق؟ كيف تتحول الكلمة إلى وعاء للمعنى، إلى بيت للذاكرة والهوية؟ إنه ينقّب في التاريخ واللاهوت والأنثروبولوجيا، لينسج رؤية لغوية عميقة تتجاوز القوالب التقليدية. الكتاب، بترجمته الدقيقة وتقديمه المستنير، يفتح أمام القارئ العربي بابًا إلى فهم أوسع للّغة: لا كقواعد، بل ككائن حي، يتنفس، يتطور، ويعكس تشكّل الذات في علاقتها بالعالم.

سؤال محوري

ترجمة أعمال كهذه، تطرح سؤالاً جوهرياً عن دور الترجمة في عصرنا: هل نترجم لنضيف رقمًا إلى فهارس المكتبات؟ أم لنُعيد تشكيل العقل العربي على ضوء أسئلة جديدة؟ هذا هو السؤال المركزي الذي يطرحه هذان العملان. إن الترجمة الحقة لا تقاس بعدد الصفحات، بل بقدرتها على إحداث اهتزاز داخلي في القارئ، على تقويض المسلّمات، وتحفيز النقد، وخلق وعي متعدد الأبعاد.

إن ترجمة كتاب مثل: "حول أصل اللغة" ليست ترفًا فكريًّا، بل ضرورة حيوية، في زمن تتسارع فيه علوم اللغة والدماغ والذكاء الاصطناعي، بينما بقيت دراسة اللغة العربية حبيسة نظرة تقليدية ونظام مغلق. وحاجتنا لترجمة الجديد بمجال اللغويات تنبع من عدة عوامل:

-التطور الهائل في علوم اللغة: فالعالم يشهد كل يوم نظريات جديدة في علم اللغة العصبي، واللغويات الحاسوبية، وتحليل الخطاب، والتي لا يمكن للباحث العربي الإحاطة بها دون ترجمتها، وما يتم تقديمه كثير وغزير ويتطلب جهداً مضاعفاً لمواكبته.

-الحوار بين الحضارات: فاللغة هي أداة هذا الحوار، وفهم كيفية نظر الآخرين إلى ظاهرة اللغة يسهم في إثراء الفكر اللغوي العربي .

-مواكبة المناهج الحديثة: فدراسة اللغة لم تعد تقتصر على النحو والصرف، بل تشمل العلاقة بين اللغة والدماغ، واللغة والمجتمع، واللغة والذكاء الاصطناعي .

إن "المركز القومي للترجمة" في مصر، من خلال إصداراته مثل هذين الكتابين، يلعب دوراً حيوياً في ردم الفجوة بين الثقافة العربية والثقافات الأخرى. وهذا الدور ليس جديداً، فقد كانت مصر عبر تاريخها بوابة العرب إلى العالم، ومنارة للمعرفة تنير الدرب للأمة جمعاء.

نحو مشروع عربي طموح للترجمة

لا يقتصر احتياجنا الثقافي اليوم على ترجمة أعمال كبرى، بل ينبغي البحث عن مشروع ثقافي واسع وطموح؛ يربط الترجمة بالنهضة، بالتحول الحضاري.

فمن خلال قراءتي لهذين الكتابين وللدرس البليغ المستمد منهما: المعرفة والاستشراق كأداة للسلطة، والمعرفة كغاية عليا. مثل هذا التوتر بين المعرفة كقوة والمعرفة كقيمة هو ما يجعل الترجمة فعلاً ثقافياً بالغ الأهمية .

من هذا المنطلق؛ فإنني أدعو إلى مشروع ترجمي عربي جديد يركز على عدة محاور:

1. انتقاء الأعمال التي تقدم إضافات نوعية للمكتبة العربية في مختلف المجالات، وخاصة في حقل الدراسات اللغوية الحديثة.

2. الاهتمام بجودة الترجمة ودقتها، بحيث تكون قادرة على نقل الأفكار المعقدة بأمانة ووضوح.

3. توسيع نطاق اللغات المترجم عنها، فلا نقتصر على الإنجليزية والفرنسية، بل ننفتح على لغات أخرى تحمل رؤى مختلفة للعالم .

4. ربط الترجمة بالبحث العلمي، بحيث لا تكون مجرد نقل، بل إعادة إنتاج للمعرفة في سياق عربي.

5. الاهتمام بالتقديم النقدي للكتب المترجمة، كما هو الحال في الكتابين موضوع هذا المقال، حيث جاء كل منهما بمقدمة تضع العمل في سياقه وتقيمه تقييماً نقدياً.

هكذا نترجم ذواتنا

في النهاية، نحن لا نترجم كتبًا فقط. نحن نترجم وعينا، نعيد كتابة ذواتنا في لغة العالم. فالترجمة في جوهرها هي انفتاح ومقاومة وحوار متبادل بين فكرين مختلفين .

الترجمة هي الوسيلة التي نطل بها على الآخر، لا لنخافه أو نقلده، بل لنتحاور معه، لنفهمه ونفهم أنفسنا من خلاله. كما قال جوته : "من لا يعرف اللغات الأجنبية لا يعرف شيئًا عن لغته"

إننا، حين نقرأ أنفسنا بعيون الآخر، نكون قد خطونا أولى خطوات التنوير.

***

د. عبد السلام فاروق

 

عرف تاريخ الفكر الفلسفي بشكل عام، والعلمي بشكل خاص سنة (1543م) حدثا فارقا[2]، تجلى في صدور كتاب «حول الأجرام السماوية» (Des Révolutions des sphères célestes) للعالم البولوني «نيكولا كوبرنيك». وأهميته تأتي مما قدمه كافتراض؛ أي القول إن «الشمس هي مركز الكون». فمن المتعارف عليه في الفكر الفلسفي العلمي أن هذه الفرضية التي شكلت ثورة علمية آنذاك، كانت حلا لمشكلة فلكية تسمى عادة ب«مشكلة تحير الكواكب»[3]؛ بما هي مشكلة تفيد أن الرصد الفلكي الذي كان يجرى آنذاك، من لدن العلماء بواسطة التلسكوب، نتج عنه ما مفاده أن بعض الكواكب في لحظة زمنية تكون في موضع ما، لكن في لحظة أخرى، يتغير موضعها (تحير الكواكب=تغيرها من موضع إلى آخر)، الشيء الذي يعني أن عالم ما فوق القمر بلغة أرسطو، يعرف اختلالات في مكوناته. وإذا كان عالم ما فوق القمر بلغة أرسطو، يعرف في اللحظة الكوبرنيكية اختلالات في مكوناته نظريا، من حيث إن بعض كواكبه غير منتظمة في حركتها بحسب ما يتبين للذات الملاحظة، فإن ذلك يفيد أنه عالم يعيث في حالة من الفوضى، مثله مثل عالم ما تحت القمر. وإذا كان كذلك، فلما البقاء في تصوراتنا العلمية-الفلكية نظريا على منظومة معرفية تقسم العالم إلى عالمين، كليهما يتسمان بالفوضى والتغير. لذلك، سيكون الحل النظري لهذه المشكلة هو توحيد العوالم الأرسطية في حلتها السكولائية في عالم واحد وموحد في بنيته القانونية[4]؛ مما يعني جعل لهذه الفوضى المتبدية أمام الذات الملاحظة معنى ومعقولية.

يترتب عن هذه الفرضية الكوبرنيكة في مجال علم الفلك الرياضي، أنها أدت في البدايات الأولى للعصر الأوروبي الحديث، إلى تحول عميق للفكرين العلمي والفلسفي معا[5]. بل، إن هناك من الدارسين من يعتبر أن الانطلاقة الحقيقية للفكر الأوروبي الحديث، لم تتم مع التحولات الفنية، أو الاقتصادية، أو الدينية[6]، أو السياسية...إلخ، حتى، وإن كانت لها أهميتها في بلورة منظومة فكرية ومعرفية جديدة، وإنما مع الحدث الفريد الذي تم مع «نيكولا كوبيرنيك»[7]. لقد أدت الثورة الكوبرنيكية إلى نسف الأسس الميتافيزيقية للمنظومة القديمة، وتدشين منظومة جديدة، وذلك من جهتين؛ واحدة سلبية، وأخرى إيجابية[8]. فمن جهة السلب؛ فقد أدت الثورة الكوبيرنيكية إلى القضاء على الفكر الأرسطي في طبعته السكولائية القائم على ثنائية العالم، ومركزية الأرض والإنسان، وهيمنة الموضوع واستقلال الذات، وما يترتب عن ذلك، من أثار على النظام الثقافي والاجتماعي. أما من جهة الإيجاب؛ فقد أدت الثورة الكوبيرنيكية إلى تدشين منظومة جديدة قائمة على وحدة العالم، وسماوية الأرض، وارتباط الموضوع بالذات، مع ما يترتب عن ذلك من روح النقد والشك اللذين طالا كل مناحي الحياة الفكرية واليومية.

غير أن ما يهمنا من ذكر لهذه العناصر العلمية التي تؤثث للحظة فارقة في تاريخ الفكر الفلسفي-العلمي، أنها جعلت الفكر الفلسفي-العلمي ينتقل من مستوى التفكير في العالم القائم على بعد المكان إلى التفكير القائم على بعد الزمان. بمعنى آخر، إن اعتبار العالم منقسما إلى عالمين[9]؛ عالم ما فوق القمر بما هو عالم يتصف بالكمال والأزلية، حيث كل جرم يؤدي وظيفته التي أسندت إليه بالطبيعة، وعالم ما تحت القمر بما هو عالم يتصف بالكون والفساد، حيث لا يؤدي كل موجود ما أسند إليه بالطبيعة، يفيد أن التفكير الفلسفي سيكون تفكيرا يستند في أبعاده إلى ما هو مكاني؛ أي السعي إلى البحث عما يمكن أن يسعف المتفلسف في جعل عالم الكون والفساد في مستوى عالم الكمال والأزلية، من حيث إن هناك نوعا من التراتبية بين هذه العوالم بالطبيعة[10]. بيد أن نزع صفة الثبات والكمال والأزلية من عالم ما فوق القمر في سياق الثورة الكوبرنيكية، وافتراض كونه عالما فوضويا نظريا، يجعلنا أمام تصور مفاده أن ما يوجد تحت هو شبيه بما يوجد فوق، من حيث السمة الفوضوية، الشيء الذي يعني انهيار التراتبية الطبيعية بين العوالم. وإذا كان الفكر الفلسفي-العلمي اليوناني (أرسطو نموذجا) يستند إلى نمط من التفكير القائم على ما هو مكاني في فهم العالم (فوق-تحت)[11]، فإن الفكر الفلسفي-العلمي الذي نتج عن الثورة الكوبرنيكية ينطلق من نمط تفكيري يستند إلى ما هو زمني في فهم العالم (ما قبل-ما بعد)؛ أي إننا سنعمل على قلب التفكير من مستوى المقارنة بين ما يوجد فوق مع ما يوجد تحت، إلى التفكير في الكشف عما كان قبل وجود هذا الذي هو كائن؛ أي العالم، والكشف عن مظاهره وأثاره، الشيء الذي يقدم لنا نتائج وخلاصات فكرية ومعرفية جديدة كل الجدة، ناسفة كل الطروحات الفلسفية السابقة عن ذلك.

***

د. لوكيلي عبد الحليم - أستاذ مادة الفلسفة

المغرب

......................

[2] Voir l’introduction de l’ouvrage; Nicolas Copernic. Des révolutions des Orbes Célestes. Trad. Alexandre Koyré. 1eéd. (Saguenay: les classiques des sciences sociales (bibliothèque numérique), 1934),  p.4.

[3] أو ما يسمى بمسألة «إنقاذ الظواهر» (Sauver Les Phénomènes).

[4] يرى الباحث «بريام أبليارد» في كتابه «فهم الحاضر تاريخ بديل للعلم» أن انهيار العوالم الأرسطية جعل كل شيء في العالم خاضعا للقوانين ذاتها، ومن ثم، لم نعد أمام مادة سماوية خالصة لها مكوناتها وقوانينها، ومادة أرضية لها مكونات وقوانين مختلفة عن الأولى. أنظر:

- بريام أبليارد. فهم الحاضر تاريخ بديل للعلم. ترجمة عبد الكريم ناصيف. ط.1. (سوريا: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2009)، ص. 64.

[5] سالم يفوت. إبستمولوجيا العلم الحديث. ط.2. (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2008)، ص. 9.

[6] هناك من يعتبر أن الفضل للأديان السماوية في ظهور جملة من الشروط ذات البعد النظري التي مكنت من بزوغ مجموعة من المفاهيم التي تعد من أساسيات الحداثة الفكرية. أنظر:

- عبد المجيد باعكريم وآخرون. "أولويات البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية والشرعية في العالم العربي". ط. 1. (قطر: مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية، 2020)، ص.52.

[7] المرجع عينه، ص. 66.

[8] عبد المجيد باعكريم. (2018)، تكوين مدرس الفلسفة ورهان الحداثة. موقع (https://www.couua.com)، نشر يوم 18 فبراير 2018، وقد تم الاطلاع عليه يوم 2025.06.05.

[9] Aristote. Traité Du ciel. Trad. J Barthélemy saint-Hilaire. 1eéd. (Paris: Librairie philosophique de Ladrange, 1866), p.313.

[10] كان الاعتقاد السائد آنذاك، هو بما أن عالما ما فوق القمر يتميز بالكمال والأزلية على عالم ما تحت القمر الذي يتميز بالكون والفساد، فإن له شرف تدبير كل ما يطرأ في عالم ما تحت القمر، بل وكل ظواهر العالم الأرضي سببها حركة الأفلاك السماوية، ومحكومة بسلسلة من الدوافع الناتجة عن الحركات المنظمة للأفلاك السماوية. أنظر:

- سالم يفوت، أبستمولوجيا العلم الحديث، مرجع سابق، ص. 12.

[11] لا ينظر أرسطو للزمان بكيفية تجريدية-تاريخية، بل بكيفية فيزيائية فقط. ذلك، أن الزمان لا يمكن فهمه إلا في ارتباطه بالحركة، إذ يقول في هذا الصدد ما يلي؛ «وإذا كان قصدنا أن نحد الزمان ما هو فلنجعل أول ما نبتدئ به من ذلك في هذا الموضع فننظر أي شيء للحركة. فإنا معا نحس الحركة والزمان. وذلك أنا وإن كنا في ظلم ولم ينل أبداننا شيء أصلا، إذ أنه حدث في أنفسنا ضرب من الحركة ظننا على المكان أنه قد حدث أيضا زمان ما؛ وكذلك أيضا متى ظننا أن زمانا ما قد حدث، ظننا مع ذلك أن حركة ما قد حدثت. فيجب من ذلك أن يكون الزمان إما حركة وإما شيئا ما للحركة؛ وإذا لم يكن حركة فواجب ضرورة أن يكون شيئا ما للحركة.». أنظر:

- أرسطوطاليس. الطبيعة. الجزء الأول. ترجمة إسحاق ابن حنين ومن معه؛ تحقيق الدكتور عبد الرحمان بدوي. ط 1. (القاهرة: المركز القومي للترجمة (سلسلة ميراث الترجمة)، 2007)، ص. 415.

 

هناك أبعاد فلسفية مهمة في السرديات التاريخية وفلسفة الأخلاق عند فريدريك نيتشه، من الموضوعات المركزية في فلسفة فريدريك نيتشه هي الأخلاق، حيث تتسم بالتحدي للأخلاق التقليدية والدين، دعا نيتشة إلى ما يسميه "الأخلاق السيادية" أو "أخلاق الأسياد"، والتي تركز على القوة والإرادة الفردية، حيث يُعتبر الفرد هو المعيار الأخلاقي، تعتبر "إرادة القوة" مفهومًا أساسيًا في فلسفته، حيث يعتقد أن الدافع الأساسي للإنسان هو السعي نحو القوة والتفوق، يرى أن القيم ليست ثابتة، بل تتغير وفقًا للثقافات والسياقات المختلفة، و يدعو إلى إعادة النظر في القيم التقليدية كما روج نيتشه لفكرة (الإنسان الأعلى) الذي يتجاوز القيود الأخلاقية التقليدية ويعيش وفقًا لقيمه الخاصة كما يرى نيتشة ان التاريخ كعملية خلق مستمرة، حيث يمكن للأفراد أن يكون لهم دور فعال في تشكيل قيم ومعاني جديدة، يمثل نيتشه تحولًا في فلسفة الأخلاق والتاريخ، حيث يدعو إلى إعادة التفكير في القيم والمفاهيم التقليدية، ويشجع الأفراد على البحث عن معاني جديدة في سياق تاريخي جديد.

السلام بالقوة وفلسفة نيتشة

هناك علاقة يمكن استكشافها بين فلسفة السلام بالقوة في الفكر الرأسمالي وفلسفة الأخلاق عند نيتشه، اذ اعتبر نيتشه (إرادة القوة) دافعًا أساسيًا في الطبيعة البشرية، في سياق الرأسمالية، يمكن أن يُفهم السعي وراء القوة الاقتصادية والسيطرة على الموارد كامتداد لهذا المفهوم، أطروحة (السلام بالقوة) تشير إلى أن السلام يمكن تحقيقه من خلال القوة العسكرية أو الاقتصادية، هذه الفكرة تتماشى مع تفكير نيتشه حول القوة كوسيلة لتحقيق الأهداف، ويراها وسيلة لإعادة تشكيل العالم، نيتشه يشدد على أهمية الأفراد الأقوياء القادرين على خلق قيم جديدة(سوبر مان)، في الرأسمالية الأفراد أو الشركات القوية يمكن أن يسهموا في تشكيل الاقتصاد والمجتمع وفق رؤاهم، مما يعكس فكرة نيتشه عن الاخلاق، في السياق الرأسمالي، يمكن أن يُفهم السعي نحو النجاح الاقتصادي كوسيلة لتحقيق الذات، ولكنه قد يؤدي أيضًا إلى تناقضات أخلاقية، لذلك يمكن القول إن هناك تداخلًا بين فلسفة نيتشه وفلسفة السلام بالقوة في الرأسمالية، حيث كلاهما يتعامل مع مفهوم القوة كوسيلة لتحقيق الأهداف دون النظر بعناية في الآثار الأخلاقية والاجتماعية لهذه الأفكار.

السرديات الثورية وفلسفة السلام بالقوة

السرديات الثورية غالبًا ما تحمل مفهومين، مفهوم الحرب العادلة وفلسفة السلام بالقوة، الثورات عادة تُعتبر ناتجة عن ظلم أو قمع، مما يجعلها تُصنف في بعض الأحيان كحرب عادلة، حيث يسعى الثوار لتحرير أنفسهم أو الدفاع عن حقوقهم، الثورات تتضمن استخدام القوة لتحقيق التغيير، مما يتماشى مع فكرة السلام بالقوة، الثوار يرون أن القوة ضرورية لإجبار النظام القائم على الاستجابة لمطالب الشعب، في بعض الحالات تؤدي الثورات إلى فوضى وصراعات مستمرة، مما يتناقض مع الهدف المتمثل في تحقيق السلام، و قد ينتهي الأمر إلى استبداد جديد، مما يثير تساؤلات حول ما إذا كانت الحرب كانت (عادلة) حقًا .

الإمبريالية ومفهوم الحرب العادلة

تعتبر الإمبريالية فلسفة اقتصادية استغلالية تتعارض في كثير من الأحيان مع مفهوم الحرب العادلة والأخلاق. الإمبريالية تعتمد على استغلال الموارد البشرية والطبيعية في الدول الضعيفة لتحقيق مكاسب اقتصادية. هذا يتعارض مع المبادئ الأخلاقية التي تدعو إلى العدل والمساواة، مفهوم الحرب العادلة يتطلب وجود أسباب مشروعة للدفاع عن النفس أو حماية الضعفاء. الإمبريالية غالبًا ما تستخدم القوة لتحقيق مكاسب اقتصادية، مما يجعلها تتعارض مع فكرة الحرب العادلة التي تتطلب أسبابًا أخلاقية، رغم ان نيتشه كان ناقدًا للأخلاق التقليدية التي تروج للضعف وكان يدعو إلى القوة والإرادة، إلا أن استغلال الضعفاء باسم القوة يتناقض مع فكرة (الإنسان المتفوق) الذي يسعى لخلق قيم جديدة، ان استخدام القوة لتحقيق أهداف اقتصادية في سياق الإمبريالية يمكن أن يؤدي إلى انتهاكات لحقوق الإنسان، مما يتعارض مع الأخلاق التي تركز على القوة الفاعلة والإبداع كما تتعارض الإمبريالية مع مفهوم الحرب العادلة، حيث تروج للاستغلال بدلاً من العدالة، تحتاج المجتمعات إلى التفكير في كيفية تحقيق القوة والإرادة بطريقة تتماشى مع القيم الإنسانية، بدلاً من تعزيز الأنظمة الاستغلالية.

الماركسية والسرديات التقليدية

قدم ماركس تحليلًا عميقًا للعلاقات الاقتصادية، مشيرًا إلى أن الصراع الطبقي هو المحرك الأساسي للتاريخ، توقع أن الرأسمالية ستؤدي إلى تفاقم التناقضات الاجتماعية، مما ينتهي إلى ثورات عمالية بينما تركز السرديات التاريخية التقليدية على الأحداث الكبرى، فإن ماركس ينظر إلى الصراع الطبقي كعنصر أساسي في تشكيل التاريخ. هذا يوفر إطارًا لفهم تطور الرأسمالية بشكل أكثر شمولاً، ماركس اعتبر الرأسمالية مرحلة تاريخية ضرورية، تليها الاشتراكية، هذا التحليل يتيح فهمًا أفضل للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي قد لا تكون واضحة في السرديات التقليدية بينما كان العديد من المؤرخين التقليديين يصفون الأحداث، كان ماركس يسعى للتنبؤ بالاتجاهات المستقبلية، هذا التحليل النقدي يعكس فهمًا عميقًا لكيفية تأثير الديناميات الاقتصادية على المجتمع، يمكن القول إن السرديات التاريخية التقليدية لم تكن قادرة على توقع التطور الرأسمالي بالعمق الذي قدمه ماركس، تركيزه على العلاقات الاقتصادية والصراع الطبقي يوفر إطارًا أعمق لفهم التغيرات التاريخية، مما يجعله أكثر قدرة على التنبؤ بتطورات المستقبل.

(السلام بالقوة) والسياق التاريخي

 قد يُعتبر (السلام بالقوة) نوعًا من الاستقرار المؤقت، حيث يتم فرض السلام من خلال القوة العسكرية أو الهيمنة. هذا النوع من السلام قد يؤدي إلى هدوء سطحي، لكنه لا يعالج الأسباب الجذرية للنزاع، مما يجعله هشًا، يمكن أن يُنظر إلى (السلام بالقوة) كاستسلام للظروف السياسية أو الاقتصادية. في حالات معينة، قد تقبل الأطراف المعنية الاستسلام لمجموعة من الظروف القهرية، مما يؤدي إلى سلام غير حقيقي، السلام الذي يُفرض بالقوة غالبًا ما يفتقر إلى العدالة، إذا كان السلام يأتي على حساب حقوق الأفراد أو الجماعات، فإنه لا يُعتبر سلامًا حقيقيًا، بل هو نوع من السيطرة، فرض السلام بالقوة يمكن أن يؤثر سلبًا على الهوية الثقافية والاجتماعية للأفراد، هذا النوع من السلام قد يؤدي إلى مشاعر الاستياء والرفض، مما قد يُشعل النزاعات مرة أخرى في المستقبل. يتطلب فهم (السلام بالقوة) النظر إلى السياقات التاريخية والسياسية، في بعض الحالات، قد يكون السلام بالقوة ضروريًا لوضع حد للصراعات، لكن يجب أن يكون مصحوبًا بخطط طويلة الأمد لتحقيق العدالة والاستدامة، السلام الذي يُفرض بالقوة قد يواجه تحديات مستقبلية، حيث يمكن أن يؤدي إلى إعادة إشعال النزاعات بعد فترة من الوقت، إذا لم تُعالج القضايا الأساسية، فإن السلام سيكون عرضة للتفكك، بينما يمكن أن يقدم (السلام بالقوة) نوعًا من الاستقرار، فإنه غالبًا ما يكون غير مستدام ويفتقر إلى العدالة. السلام الحقيقي يتطلب معالجة الأسباب الجذرية للنزاع وتعزيز الحوار والتفاهم بين الأطراف المعنية، تلعب الذاكرة الجماعية دورًا محوريًا في تشكيل سرديات الثورة والعنف، حيث تؤثر في كيفية فهم المجتمعات لتجاربها التاريخية. حيث تؤثر في الهوية الجماعية والفهم التاريخي، من خلال تحليل هذه الذاكرة، يمكننا فهم كيفية تشكلت الأحداث التاريخية وتأثيرها على المجتمعات الحالية.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

في ظل الطفرة التكنولوجية الهائلة التي يشهدها العالم، شهدت الجريمة تحوّلًا نوعيًّا من الشكل التقليدي إلى نماذج جديدة أكثر تعقيدًا ترتبط بالفضاء الرقمي. فقد ظهرت جرائم مثل سرقة الهوية، والابتزاز الإلكتروني، واختراق الحسابات البنكية، وتزييف المحتوى، وكلها تتطلب استجابات قانونية تختلف عن تلك المعهودة في المنظومات التقليدية. ومن هنا برزت الحاجة إلى إنشاء ما يُعرف بـ "المحكمة الإلكترونية".

المحكمة الإلكترونية هي هيئة قضائية تعتمد بشكل رئيسي على التكنولوجيا في إدارة إجراءاتها، حيث تُقدَّم الدعاوى عبر منصات رقمية، وتُعقد الجلسات عن بُعد باستخدام الوسائط المرئية، وتُتداول المستندات والبيّنات إلكترونيًّا، ويُصدر القضاة أحكامهم من خلال أنظمة إلكترونية موثوقة. ولا يقتصر الأمر على الشكل فقط، بل يمتد ليشمل تعديلًا في طبيعة إدارة العدالة بما يتلاءم مع تحديات العصر الرقمي.

تُساهم هذه المحاكم في تقليص الوقت والجهد المبذول في العملية القضائية، كما تُوفّر بيئة مرنة تُمكن الضحايا من رفع قضاياهم من أماكنهم، خصوصًا في الجرائم التي قد يتعرض فيها الضحية للتهديد أو التشهير. كذلك، فإن اعتماد المحكمة الإلكترونية يُعَدُّ خطوة مهمة نحو تحقيق العدالة الشاملة، خاصة لأولئك الذين يعانون من بُعد المسافة أو ضعف الإمكانيات.

من جهة أخرى، تُعد المحكمة الإلكترونية أداة فعّالة في التصدي للجرائم السيبرانية، وذلك عبر قدرتها على مواكبة طبيعة هذه الجرائم التي غالبًا ما تُرتكب عن بُعد، وعبر شبكات معقّدة، وبأدلة يصعب تتبعها. إن سرعة التعامل مع مثل هذه الجرائم يتطلب نظامًا قضائيًّا قادرًا على التحرك بالتوازي مع تطور الجريمة.

إلا أن تفعيل المحكمة الإلكترونية لا يخلو من التحديات، فهناك حاجة ماسّة إلى تحديث التشريعات الوطنية لمواكبة هذا التحول، وإدراج قواعد إثبات جديدة تراعي طبيعة الأدلة الرقمية. كما ينبغي تدريب القضاة والمحامين والعاملين في السلك القضائي على استخدام التكنولوجيا الحديثة، وتوفير بنية تحتية رقمية متطورة وآمنة.

علاوة على ذلك، فإن الطبيعة العابرة للحدود التي تتميز بها الجرائم الإلكترونية تُثير تساؤلات حول الاختصاص القضائي، وإمكانية محاكمة المتهمين من دول مختلفة، ما يستدعي تعاونًا دوليًّا وتشريعات موحّدة لضمان ملاحقة الجناة وتحقيق العدالة دون اصطدام بالسيادة القضائية للدول.

إن العديد من الدول قد بدأت في تطبيق أنظمة قانونية إلكترونية لمواكبة تطور الجرائم الرقمية. على سبيل المثال، في استونيا، التي تُعدّ من الرواد في مجال الحكومة الإلكترونية، طوّرت الدولة منصة قضائية إلكترونية تتيح للمواطنين تقديم الدعاوى، والتواصل مع المحاكم، وحضور الجلسات عن بُعد. هذا النظام سمح بتسريع الإجراءات وتقليل التكاليف المرتبطة بالمحاكم التقليدية، وأدى إلى زيادة فاعلية النظام القضائي في محاربة الجرائم الإلكترونية.

أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد تم إدخال النظام الإلكتروني في العديد من المحاكم الفيدرالية والمحاكم المحلية، بحيث يُمكن للمحامين والمواطنين تقديم القضايا إلكترونيًّا، وتُتخذ القرارات عن طريق الأنظمة الرقمية. هذا التوجه يشمل كذلك محاكم مختصة في القضايا السيبرانية، حيث يُستعان بخبراء في التكنولوجيا لتقديم الأدلة الرقمية وتقييمها في سياق قانوني.

وفي دول الاتحاد الأوروبي، تجري الجهود لتطوير نظام محاكم إلكترونية قادر على ملاحقة الجرائم التي يتم ارتكابها عبر الحدود. تمثل المحكمة الأوروبية للعدالة أحد الأمثلة المهمة في هذا السياق، حيث تم تطوير آليات التعاون بين الدول الأعضاء في ملاحقة الجرائم الرقمية العابرة للحدود.

إجمالًا، تُعَدّ المحكمة الإلكترونية من أبرز ملامح التكيّف القانوني مع متغيرات العصر، وهي ليست مجرد خيار، بل ضرورة حتمية في ظل تسارع الجرائم الرقمية واتساع نطاقها. إن إنشاء هذه المحكمة، إذا ما تمّ ضمن بيئة قانونية وتشريعية وتقنية متكاملة، قد يُشكل نقلة نوعية في تحقيق العدالة الرقمية ومكافحة الجريمة الإلكترونية عالميًّا.

***

أ.د. هاني جرجس - استاذ علم الاجتماع

قراءة عرفانية في الإنسان الكامل عند ابن عربي

لم يكن آدمُ مجرّد بدايةٍ للحكاية، بل هو الحكاية كلّها، مكتوبةٌ بلغة الطين والنور. حين نتأمل فكر محيي الدين ابن عربي، لا نقرأه كحكيمٍ من الماضي، بل نكتشفه كمرآةٍ لوعينا المعاصر.

في فصّه العميق فصّ الحكمة الإلهية في الكلمة الآدمية، لا يقدّم ابن عربي آدم كمجرد نبيّ، بل كمفهوم ميتافيزيقي بالغ الخطورة، كأول مرآةٍ لله في العالم، وكتجسيدٍ للكمال الممكن في الكائن البشري.

السؤال الذي يستفز القارئ إذًا ليس: من هو آدم؟

بل: من نحن؟ ولماذا خُلقنا؟ وهل ما زلنا نستحق سجود الملائكة؟

 أولًا: آدم… الإنسان الذي عكست فيه الأسماء

فآدمُ هو النَّفْسُ الكليّة للعالم، وفيه انكشفت أعيانُ الحقّ، لذا سجدت لهُ الملائكة، لا لذاته، بل لما ظهر فيه من أسماء الله

– ابن عربي، فصوص الحكم

آدم، كما يراه ابن عربي، ليس مجرد فردٍ في سلسلة الأنبياء، بل هو الكلّ: مجمّع الأضداد.

فيه اجتمع الطين والنفخة، العقل والغريزة، الهبوط والاصطفاء.

لذلك، لم يكن سجود الملائكة له تقديسًا لذاته، بل خضوعًا لما تَجلى فيه من أسماء الله وصفاته.

فكل ما في العالم انعكاس جزئي، بينما آدم هو الصورة الكاملة.

 ثانيًا: الإنسان مرآة الوجود الإلهي

فإن العالمَ كلَّهُ خلقٌ مسجّى، وآدمُ هو مُجمَعُه، ولهذا استحقَّ الخلافة

– ابن عربي، فصوص الحكم

في هذا الفصّ، يصوغ الشيخ الأكبر تعريفًا فريدًا للإنسان:

أن يكون الإنسانُ مرآةً، لا جسدًا. أن يكون تجلّيًا للأسماء، لا مجرد كائن بيولوجي.

لهذا استحق الخلافة لا لأنه "أطهر" من الملائكة، بل لأنه أقدر على حمل التنوع والتناقض والتجلّي.

الإنسان الكامل لا يُقاس بطوله أو صلاته، بل بما يعكسه من صفات الخالق

ثالثًا: الهبوط... لا عقاب بل خطة

هبوطُ آدمَ كان ظهورًا لحكمة الاسم الظاهر، ولولا النزول ما عُرفت الأسماء

– ابن عربي، فصوص الحكم

في الفهم الشائع، يُنظر إلى سقوط آدم من الجنة كعقوبة. أما عند ابن عربي، فهو ظهور لسرٍّ أعظم: لا كمال بدون تجربة، ولا معرفة بدون سقوط.

على الأرض، لا في الجنة، يتجلى الإنسان الكامل. هنا تُختبر الأمانة، وتُمارس الخلافة، ويتعلم الإنسان العودة بعد التيه. وانا اقول من لا يسقط، لا يعرف العروج

هذا الفهم يلتقي مع نيتشه، من حيث أن الإنسان ليس مخلوقًا للركوع، بل مخلوقٌ للاختبار والارتقاء عبر الألم.

رابعًا: الإنسان في عصر السطح… صورة بلا معنى

في زمنٍ تتفكك فيه الهوية إلى رموز رقمية، وينكمش المعنى تحت ضغط المادة، يُصبح كلام ابن عربي أشد راهنية:

فما رأيتُ شيئًا إلا ورأيتُ الله قبله وبعده ومعه

– ابن عربي، الفتوحات المكية

لكن الإنسان المعاصر لم يعد مرآةً، بل صار سِلعة. ترك مهمة الانعكاس، وتحوّل إلى "قناع" بلا ذات. وهذا أخطر ما يمكن أن يفعله إنسان بنفسه: أن يُفرغ روحه من الأسماء، ويعيش في الطين دون نفخة: فيك نَفَسُ الله… فهل عرفت أن تتنفّس به معنىً لا عادة؟

خامسًا: العودة إلى لحظة السجود

ولقد كرّمنا بني آدم

– القرآن الكريم، الإسراء: 70

ليست كرامة الإنسان في شكله أو نسبه، بل في قابليته للتجلّي الإلهي. أن يكون مجازًا عن الغيب، ونقطة التقاء بين المادي والروحي. لذا كانت لحظة سجود الملائكة له تاريخًا للوعي الإلهي في الإنسان. وهذه اللحظة لا تزال قابلةً للحدوث... إذا وعى الإنسان من يكون. كن كما سجدت لك الملائكة أول مرة: مرآةً للحق، ومجازًا للغيب، وتجسيدًا للمعنى

 خاتمة:

هذا المقال ليس شرحًا لفصّ من كتاب، بل دعوة للوعي. ابن عربي لا يحدّثنا عن آدم الماضي، بل عن آدم الذي فينا. لا تكن طينًا بلا نفخة، ولا نفسًا بلا معرفة، ولا صورةً بلا جوهر.

واختتم المقال واقول: عد إلى تلك اللحظة الأولى… حين سجدت لك الملائكة لأنك كنت صورة الله

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

في المثقف اليوم