قضايا

لطالما كان الفن محل جدل، بين كونه تعبيرًا فرديًا عن رؤية ذاتية وبين كونه صناعة تخضع لقوانين السوق والترويج.
بابلو بيكاسو، واحد من أكثر الفنانين تأثيرًا في القرن العشرين، يقف في قلب هذا الجدل. فهل كان بيكاسو عبقريًا أصيلًا، أم أنه كان “فنانًا مصنوعًا” في ظل نظام ثقافي واقتصادي ساهم في بروزه وتكريسه؟
هذا السؤال ليس مجرد تأمل في تاريخ الفن، بل هو نافذة على أسئلة أعمق تتعلق بطبيعة الإبداع، وصناعة الرموز الثقافية، والتلاعب بالسياق التاريخي لصالح توجهات معينة.
لفهم هذا السؤال بشكل أعمق، لا بد من التوقف عند السياق التاريخي والاجتماعي الذي برز فيه بيكاسو، وعلاقته بشبكات النفوذ الثقافية والاقتصادية، خاصة في باريس مطلع القرن العشرين، حيث لعبت مؤسسات فنية، وتجار لوحات، ونقاد، ودور نشر أدوارًا حاسمة في تحديد من يصبح “أسطورة فنية” ومن يظل في الظل. فالسؤال حول ما إذا كان بيكاسو مجرد عبقري بالفطرة أم أنه تم تصنيعه يرتبط بإشكالية فلسفية قديمة: هل يولد الإنسان عبقريًا، أم أن السياق الاجتماعي والاقتصادي هو الذي يشكل العبقرية؟
هذا السؤال يعيدنا إلى رؤى فلسفية مثل رؤية آرثر شوبنهاور، الذي كان يرى أن العبقرية الحقيقية نادرة، وأن معظم من يُطلق عليهم عباقرة هم في الحقيقة نتاج للظروف المحيطة بهم. بناءً على هذا التصور، يمكننا التساؤل: هل كان بيكاسو سيصل إلى مكانته العالمية لو لم يكن في باريس، ولو لم يحظَ برعاية نخبة الفن؟ أم أن السياق الذي وُضع فيه لعب دورًا حاسمًا في تشكيل صورته كرمز للحداثة الفنية؟
بالمقابل، نجد أن فريدريك نيتشه كان يحمل منظورًا مختلفًا، حيث اعتبر أن العبقرية ليست مجرد موهبة طبيعية، بل هي القدرة على تجاوز الأعراف والتقاليد وإعادة ابتكار الذات. وإذا نظرنا إلى بيكاسو من هذه الزاوية، نجد أنه لم يكتفِ باتباع مدارس فنية سائدة، بل كان جزءًا من موجة التجديد، حيث أسهم في تأسيس التكعيبية، مما جعله خارج نطاق التصنيع التقليدي للفنانين. ولكن في الوقت نفسه، يمكننا التساؤل: هل كان هناك فنانون آخرون يمتلكون ذات العبقرية، لكنهم لم يحظوا بفرصة الظهور؟
من الأمثلة التي يمكن طرحها خوان غريس، الفنان الإسباني الذي كان من رواد التكعيبية، لكنه لم ينل شهرة تضاهي شهرة بيكاسو، رغم أن أسلوبه كان أكثر تجريدًا وانضباطًا. كذلك أميديو موديلياني، الذي قدم أسلوبًا فريدًا في الرسم والنحت، لكنه مات شابًا قبل أن يحقق الشهرة الواسعة. فهل كان الفرق بين هؤلاء وبيكاسو هو الموهبة، أم أن بيكاسو كان ببساطة أكثر قدرة على فهم قواعد السوق الفني والترويج لنفسه؟
من هنا، يتضح أن نظام السوق الفني الحديث يقوم إلى حد كبير على الترويج والاحتكار الرمزي. فالفنان، لكي يصبح أيقونة، يحتاج إلى أن يكون جزءًا من شبكة من الرعاة، وصالات العرض، والنقاد، والمتاحف، الذين يكرّسون قيمته. ومن هنا تأتي الفكرة بأن بيكاسو لم يكن مجرد فنان موهوب، بل كان مشروعًا مدعومًا من قبل منظومة ثقافية قوية.
ففي سياق باريس بداية القرن العشرين، كان هناك صعود لمنظومة تجار الفن الحديث، مثل دانيال-هنري كانفايلر، الذي كان أحد أكبر الداعمين للتكعيبية، وكان له دور أساسي في نشر أعمال بيكاسو. أيضًا، هناك دور النقاد والمؤسسات الفنية التي كانت تبحث عن رموز جديدة لتمثيل الحداثة الفنية، مما جعل بيكاسو يحصل على دعم غير متاح لكثير من معاصريه. ومن هنا يمكن مقارنة بيكاسو بفنانين آخرين ربما امتلكوا مواهب مماثلة أو تفوقوا عليه، لكنهم لم ينالوا ذات الحظ من الرعاية والترويج.
فهل كان بيكاسو ليحظى بذات المكانة لو لم يكن في البيئة المناسبة؟ أو لو لم يحصل على دعم التجار والنقاد الذين رأوا فيه فرصة لإعادة تشكيل المشهد الفني؟
هذا السؤال يقودنا إلى جانب آخر من مسيرة بيكاسو، وهو تحوله المستمر بين الأساليب الفنية. فمن الواقعية في بداياته، إلى التكعيبية، إلى التجريب السريالي، وأخيرًا إلى فن أكثر تبسيطًا في أواخر حياته. فهل كانت هذه التحولات انعكاسًا لتطور إبداعي طبيعي، أم أنها كانت استجابة لحاجات السوق والنقاد؟
إذا طبقنا نظرية جان بودريار حول “تصنيع المعنى”، يمكننا القول إن بيكاسو لم يكن فقط فنانًا، بل كان جزءًا من منظومة إعادة إنتاج الرموز الثقافية. كل تحول في أسلوبه كان بمثابة إعادة صياغة لصورة الفنان الثوري، مما جعله يحافظ على حضوره في الذاكرة الجماعية كمبدع متجدد.
لكن لا يمكن تجاهل دور بيكاسو الشخصي في بناء أسطورته. لم يكن مجرد متلقٍ لدعم المؤسسات، بل كان أيضًا بارعًا في الترويج لنفسه، وفي خلق هالة حول فنه. كان قادرًا على جذب الانتباه، وعلى استغلال الأحداث الكبرى لصالحه، مثل انخراطه في القضايا السياسية (كما في لوحة غرنيكا التي أصبحت رمزًا لمناهضة الحرب). هذا يظهر أنه لم يكن مجرد منتج لصناعة الفن، بل كان لاعبًا ذكيًا داخلها، يفهم كيف يستخدم النظام لصالحه.
وبالعودة إلى السؤال الأساسي، لا يمكن إنكار أن بيكاسو كان فنانًا موهوبًا واستثنائيًا، لكنه أيضًا كان جزءًا من صناعة ثقافية ضخمة ساهمت في تكريس صورته كرمز للفن الحديث. ولكن هل يقلل ذلك من قيمته؟
ربما يكون الأهم من التساؤل حول ما إذا كان “صناعة” أم لا، هو فهم كيف يتم تشكيل الرموز الفنية في المجتمعات الحديثة، وكيف أن النجاح في الفن لا يرتبط فقط بالإبداع، بل أيضًا بالسياقات الاجتماعية والاقتصادية التي تساهم في تشكيله.
لهذا، من الخطأ النظر إلى بيكاسو إما كعبقري خالص أو كمنتج تسويقي محض. هو كان الاثنين معًا: عبقري في فنه، وعبقري في فهم قواعد اللعبة الفنية. قد يكون هناك فنانون بموهبة مماثلة لم يحظوا بذات الشهرة، لكن بيكاسو لم يكن مجرد محظوظ، بل كان لاعبًا ذكيًا يعرف كيف يضع نفسه في المكان والزمان المناسبين، ويستفيد من كل تحول في السوق الفني لتعزيز أسطورته.
بهذا المعنى، يمكن القول إن بيكاسو لم يكن مجرد صنيعة للسوق، لكنه أيضًا لم يكن كيانًا منفصلًا عن المنظومة التي ساهمت في بروزه. بل كان لاعبًا بارعًا في لعبة الفن، استطاع أن يستخدم النظام لصالحه بقدر ما استخدمه النظام كرمز وواجهة لتحولات الفن في القرن العشرين.
والسؤال الأعمق الذي يبقى: هل هناك فنانون اليوم يعيشون القصة ذاتها، ولكن بأدوات جديدة؟ 

***

ابراهيم برسي

 

تعيش في عالم مليء بالصور، الأصوات، والأحداث التي تأخذها كحقائق بديهية. لكن ماذا لو أخبرتك أن هذه "الحقائق" التي تتنفسها يومياً ليست سوى وهم متقن، تم صياغته لك بعناية من قبل قوى مجهولة؟ ماذا لو كنت قد تم برمجتك منذ لحظة ولادتك لتكون جزءًا من رواية لا تعرف حتى من كتبها؟
التاريخ من يكتبه؟
ماذا لو كانت كل ما تعتقد أنه تاريخك ليس سوى سلسلة من الأكاذيب المتعمدة؟ كيف نعرف أن الحروب، الفتوحات، وحتى التغيرات الاجتماعية لم تُصنع من أجل هدف واحد؟ أن تكتب تاريخك يعني أن تكتب مصيرك، ولكن هل يمكنك حقًا الوثوق بالتاريخ الذي تلقيته؟ في الواقع، قد تكون حياتك كلها مجرد صفحة في كتاب كتبه شخص آخر. هل قرأت هذا الكتاب؟ وهل تساءلت يومًا لماذا تظن أنك تملك اختيارك؟
الوعي: أداة للسيطرة
عقلك ليس ملكك. هذه الفكرة قد تكون صادمة، لكنها الحقيقة المؤلمة. كل فكرة، كل معتقد، وكل قناعة لديك قد تم غرسها فيك من قبل نظام عميق يعمقك داخل هذا القفص الوهمي. تظن أنك حر، ولكن في واقع الأمر، أنت مجرد خلية في شبكة معقدة حيث تسيطر عليها قوى خارج إدراكك. تُخبرك بما تفكر، كيف تعيش، وما هي "الحقائق" التي تقبلها. هل تساءلت يومًا لماذا تفكر بطريقة معينة؟ ولماذا لم تفكر بطريقة أخرى؟ هل اخترت أيديولوجيتك بيدك، أم أنها كانت مفروضة عليك؟
ما وراء القيم والأخلاقيات
القيم والأخلاقيات التي تعيش بها ليست شيئًا فطريًا في الإنسان. من علمك أن القتل أمر خاطئ؟ من قرر أن الحب هو أسمى قيمة؟ هناك من يحدد لك ما هو صحيح وما هو خاطئ. وكلما نظرت إلى الأمام، تكتشف أن كل شيء، من الأديان إلى الأنظمة السياسية، ما هو إلا أداة لحجز الوعي البشري في نطاق محدود. لكن الأهم من ذلك، هل أنت مستعد لاكتشاف أن ما تعتقده من قيم ربما ليس أكثر من أدوات تم استخدامها لاحتجازك داخل هذه الشبكة الضخمة؟
المستقبل: هل نحن من نقرر أم هم؟
العالم الذي تعيش فيه اليوم هو مجرد مكون من عدة مراحل كانت قد خططت منذ البداية. فماذا لو كانت كل خطوة نخطوها اليوم قد تم التخطيط لها مسبقًا؟ ماذا لو كانت الحروب القادمة، الابتكارات التكنولوجية، وحتى الحروب الفكرية قد تم تحديدها لنا مسبقًا؟ التكنولوجيا الحديثة التي نشهدها الآن ليست سوى قناع آخر، يتم استخدامه لتقوية الجدران التي تحيط بعقولنا. هل أنت حقًا قادر على اتخاذ قراراتك بنفسك، أم أن هناك يدًا خفية تقودك إلى مصيرك؟
الذهاب إلى أبعد من ذلك: هل تعرف ما تراه؟
تعتقد أنك ترى كل شيء، لكن الحقيقة أنك ترى فقط ما يُسمح لك برؤيته. هل تساءلت يومًا عن الأماكن التي لا يمكنك الوصول إليها؟ أو الأسئلة التي لا يسمح لك أحد بطرحها؟ العالم الذي نعيشه لا يشبه ما نراه. ربما أنت الآن داخل عالم محدود، يُزودك بهؤلاء الذين يملكون السلطة ليبقوك في مكانك. ماذا لو كانت جميع الحروب التي شهدتها، جميع الثورات التي حلمت بها، كلها مجرد فصول في قصة كتبها آخرون؟
النهاية: هل يمكنك العودة؟

الأسئلة التي طرحتها قد تكون قد زرعت الشك في قلبك، وهذا ما تريده القوى التي تتحكم في العالم. إن كانت هذه الأفكار قد جعلتك تشعر بأنك ضائع، فهذا لأنك بدأت تلمس الحقيقة. ولكن الحقيقة مرة، وخطيرة، ولا يمكن العودة بعدها. ماذا لو أخبرتك أن هذه الكلمات التي تقرأها الآن، ليست مجرد كلمات، بل هي "مفتاح" لبوابة كان يجب أن تظل مغلقة؟ هل تستطيع العودة إلى حياتك السابقة بعد أن تكون قد دخلت هذا العالم من الأسئلة المحرمة؟
الخاتمة:
لا عودة بعد الآن. الحقيقة التي اكتشفتها عن هذا العالم قد تظل تلاحقك. إن كنت قد شعرت بالخوف، أو حتى الشك في هذه الكلمات، فاعلم أن اللعبة أكبر مما تتصور. نحن جزء من خوارزمية معقدة، لا نستطيع الهروب منها إلا إذا عرفنا تمامًا من يقف وراءها. الآن، بعد أن قرأت هذه الكلمات، هل تجرؤ على التفكير بما وراء هذا العالم؟
***
الكاتب: سجاد مصطفى حمود

 

انشغل علماء النفس بدراسة الصوم بيولوجيا وسيكولوجيا وانتهوا بموقفين متضادين:
ألأول، يتبناه كتّاب وأطباء نفسانيون عرب، يرون ان الصوم يؤدي الى انخفاض مستوى الجلوكوز في المخ، فينجم عنه اضطراب في عمل الدماغ، واختلال في افرازات الهرمونات وتوقيتات الساعة البيولوجية.. لأن جسم الانسان اعتاد ان ينشط في النهار ويستهلك طاقة، وان النوم في الليل يعمل على ترميم ما اهترأ في الجسم.. ما يعني أن الصوم، وفقا لهذا الرأي، مضر بجسم الانسان لأنه يضطره الى ان يسهر في الليل وينام كثيرا في النهار، وانه يسبب السمنة، وله انعكاسات نفسية سلبية يكفيك منها التوتر العصبي، وتعكر المزاج، والنرفزة، والصداع، والدوخة، الناجمة عن انخفاض نسبة السكر في الدم، والخلل في ايقاع الساعة البيولوجية.. فضلا عن ان الصوم يؤدي الى ضعف الأداء الوظيفي، وانخفاض الأنتاجية على مستوى الفرد والمؤسسات الحكومية والأهلية.. وقضايا اجتماعية اوجعها حسرات اطفال الفقراء واليتامى في العيد.
الموقف الثاني، نبدأه بما قاله الحائز على جائزة نوبل في الطب الدكتور ألكسيس كاريك بكتابه (الإنسان ذلك المجهول) ما نصه: (إن كثرة وجبات الطعام وانتظامها ووفرتها تعطّل وظيفة أدت دورا عظيما في بقاء الأجناس البشرية، وهي وظيفة التكيف على قلّة الطعام).. بمعنى ان الصوم يدرّب جسم الانسان على التكيّف في الأزمات الأقتصادية. ووفقا لما يراه هذا الطبيب فان خلف الشعور بالجوع تحدث ظاهرة اهم هي ان سكر الكبد سيتحرك، وتتحرك معه أيضا الدهون المخزونة تحت الجلد، وبروتينات العضل والغدد، وخلايا الكبد.. ليتحقق في النهاية الوصول الى كمال الوسيط الوظيفي للاعضاء.. ويخلص الى القول بأن الصوم ينظّف ويبدّل أنسجتنا ويضمن سلامة القلب.
وحديثا، يرى علماء نفس وأطباء نفسانيون في اميركا وانجلترا واوربا، ان بقاء الانسان على نفس الروتين والايقاع في عمل الجسم، يؤدي الى الكسل والخدر والموت قبل الآوان، فيما التغيير يؤدي الى تنشيط البدن ويمنحه حيوية تطيل العمر. وتوصل آخرون الى نتائج سيكولوجية مدهشة بأن الصوم ينمّي قدرة الانسان على التحكّم في الذات، ويدرّبه على ترك عادات سيئة، ويمنحه الفرصة على اكتساب ضوابط جديدة في السلوك تنعكس ايجابيا على شخصيته هو والمجتمع ايضا.
مثال ذلك، ان الصائم الذي اعتاد على تدخين علبة كاملة في اليوم فأن تدربه على الامتناع عنها في النهار قد يدفع به الى تركه. وقل الشيء ذاته عن آخر اعتاد على ان يغتاب او يكذب ودرّبه صيامه على الامتناع عنهما شهرا لا يوما او اسبوعا، معللين ذلك بقانون نفسي، هو: ان كثرة التدريب على سلوك جديد يؤدي الى ثباته.. وأن الصوم، بهذا المفهوم، وسيلة علاجية لمن يعانون القلق النفسي والاكتئاب.. والأغتراب الأجتماعي، والسياسي ايضا!.. غير ان ذلك قد ينطبق على المصريين ولا ينطبق على العراقيين! .
في السياق ذاته تخلص دراسة الدكتور (باري شوارتز) الى نتيجة أخرى مدهشة، هي أن نفسية الاكتئاب والإحباط ترتبط بالإفراط في الانسياق مع تيار الاستهلاك الذي اصبح ظاهرة بالعصر الحديث وصفها ايريك فروم و هربرت ماركيوز بأنها سلبية خطيرة تنخر في نفسية الانسان، وأن كبح الشهوات الغريزية والسيطرة على الرغبات عن طريق الصوم يؤدي الى خفضها. ولك ان تطلع على ما يدهشك في كتب: "الصوم" لهربرت شيلتون، و "الجوع من أجل الصحة" لنيكولايف بيلوي " و "الصوم" لجيسبير بولينغ، ".. مستندين الى ما أكدته أبحاث أنثربولوجيا الأديان بأن فعل الصوم يكاد يكون سلوكا مشتركا بين جميع الملل الدينية.
والمدهش اكثر أن مجلة (سيكولوجست) تؤكد ظهور عشرات المراكز الطبية في دول العالم، (الجمعية العالمية للصحة، وجمعية الطبيعة والصحة بكندا، والجمعية الأميركية للصحة الطبيعية، واخرى في اليابان والهند والصين..) اعتمدت الصوم وسيلة علاجية.. تسهم في ضبط الشهوات والتحكم بالانفعالات (الغضب مثلا).. وضبط اللسان حين يهم بقضم سمعة فلانه او فلان.
ترى، هل تنطبق هذه على العراقيين؟ وهل تفيد معهم وهم الذين صاموا عن التسامح خمسا واربعين سنة؟!
***
أ. د. قاسم حسين صالح
مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

إذا كان التطور، في جوهره، آلية صماء تحكمها المصادفة والضرورة كما قال جاك مونو، فهل يمكننا أن نقول الشيء ذاته عن تطور الوعي الجمعي؟ هل تصاحبه ذات الحتميات التي تسوق الكائن البيولوجي نحو أشكال أكثر تعقيدًا؟ أم أن الوعي يسبح في مدار مستقل، متحررًا من تلك الآليات؟
إن كان هناك ارتباط بين التطور البيولوجي والتطور الفكري، فلماذا نجد أنماطًا فكرية واجتماعية بدائية لا تزال قائمة حتى اليوم، رغم التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل؟
حين تحدث داروين عن التطور، لم يكن يطرح مجرد سردية علمية حول التغيرات التي تطرأ على الكائنات عبر العصور، بل كان يؤسس لإطار كوني يحكم كل أشكال الحياة. الجينات الطافرة، والانتقاء الطبيعي، والظروف البيئية الحاسمة، كلها عناصر ترسم خريطة الصعود والهبوط في مسيرة الكائنات الحية. ولكن، هل ينطبق ذلك على الأفكار والمعتقدات والأنساق الاجتماعية؟
إذا كان الدماغ البشري قد تطور ليستوعب أنماطًا أكثر تعقيدًا من التفكير والتأمل، فلماذا لا نشهد تطورًا موازيًا في السلوكيات الجماعية بنفس الوتيرة؟ بل لماذا تبدو بعض المجتمعات وكأنها تعود إلى أنماط تفكير بدائية، رغم تراكم المعرفة؟
إن كان العقل وليد الدماغ، وكان الدماغ منتجًا بيولوجيًا خاضعًا لقوانين التطور، فمن الطبيعي أن نسأل: هل تتطور الأفكار والمعتقدات كما تتطور الكائنات؟ أم أن الوعي الجمعي، بكل تجلياته السياسية والثقافية، محكوم بمنطق مختلف، أكثر تعقيدًا، وربما أكثر عبثية؟
إذا كان الفكر البشري محكومًا بعملية انتقاء شبيهة بالانتقاء الطبيعي، فلماذا تستمر بعض الأفكار الرجعية والقمعية في البقاء رغم عدم فائدتها الواضحة؟ ألا يفترض بالتطور الفكري أن يعمل على تصفيتها لصالح أنساق فكرية أكثر تقدمًا؟ أم أن الأفكار، على عكس الكائنات الحية، لا تخضع تمامًا للانتقاء الطبيعي، بل تُعاد برمجتها وفق ضرورات سياسية واقتصادية؟
إن ما بعد الحداثة، بتهكمها العميق على السرديات الكبرى، تجعلنا نتساءل: هل الوعي الجمعي يتطور حقًا، أم أنه يعيد إنتاج نفسه في أشكال جديدة، بينما يبقى الجوهر ثابتًا؟
إن المجتمعات البشرية، رغم كل ما شهدته من “تقدم”، ما زالت تعيد إنتاج ذات الأنماط القمعية، ذات الانقسامات البدائية، ذات النزعات البدائية نحو العنف والسيطرة والخرافة. فهل نحن نتطور، أم أننا ندور في دوائر وهمية؟
في هذا السياق، نجد أن الديمقراطية، مثلًا، تُقدَّم لنا باعتبارها تتويجًا لمسار طويل من التطور السياسي، لكنها قد تكون في جوهرها إعادة تشكيل لأشكال قديمة من السلطة تحت مسميات جديدة.
الإنسان الحديث، رغم ثورة المعلومات والتكنولوجيا، ليس بالضرورة أكثر وعيًا من الإنسان الذي عاش في أثينا قبل ألفي عام. ربما تغيرت الأدوات، لكن هل تغيّر الإدراك؟ أم أن وعيه أصبح مجرد انعكاس جديد لآليات السيطرة والتطبيع التي فرضها النظام الرأسمالي، كما يرى فوكو ودريدا؟
لعل أبرز ما يجعل مسألة تطور الوعي الجمعي معقدة هو أن الأفكار لا تُختبر بنفس القسوة التي يختبر بها الانتقاء الطبيعي صلاحية الجينات. في علم الأحياء، الكائن غير القادر على التكيف يختفي ببساطة، لكن في عالم الأفكار، يمكن للخرافة أن تعيش جنبًا إلى جنب مع العلم، ويمكن للأيديولوجيا أن تتجدد حتى بعد أن يثبت فشلها. هنا يتضح أن التطور الفكري لا يتبع نفس المنطق الذي يتبعه التطور البيولوجي. هناك آليات أخرى تلعب دورها، مثل السلطة، الإعلام، الاقتصاد، والدين، وجميعها تسهم في إعادة إنتاج الأفكار بدلًا من السماح لها بالانقراض الطبيعي.
إذا كان هناك عامل يمكن أن يدفعنا للقول بأن الوعي الجمعي يتطور، فهو التكنولوجيا. لكنها تطرح معضلة فلسفية: هل التكنولوجيا تطور في الوعي، أم أنها مجرد تضخيم لقدراتنا البيولوجية دون أن تمس جوهر إدراكنا للعالم؟ هل الإنترنت جعلنا أكثر وعيًا، أم أنه صنع وهمًا بالمعرفة، بينما أغرقنا في الضوضاء المعلوماتية؟
هنا، نجد أن الثورة الرقمية، رغم وعودها بتحرير المعرفة، ربما تكون قد خلقت شكلًا جديدًا من العبودية الفكرية، حيث يُعاد تشكيل العقول من خلال الخوارزميات، وتتحكم الرأسمالية الرقمية في تدفق الأفكار بطرق غير مسبوقة.
هل نحن إذن أمام وعي متطور، أم أمام نسخة أكثر تعقيدًا من التلقين الجماعي؟
التحولات الرقمية لم تأتِ فقط بمزيد من المعلومات، بل جاءت أيضًا بقدرة أكبر على التلاعب بالعقول وتوجيه الإدراك الجمعي. في السابق، كانت الأيديولوجيات تفرض نفسها من خلال الدولة و المنابر الدينية، أما اليوم، فهي تُبث عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تتحول الحقيقة إلى مجرد وجهة نظر وسط ضجيج لا ينتهي. هل هذا تطور؟ أم أنه مجرد إعادة إنتاج لفكرة “التحكم في الوعي”، لكن بأساليب أكثر ذكاءً؟
نيتشه كان سيضحك ساخرًا من فكرة أن الإنسان “يتطور” نحو حالة وعي أرقى، فهو يرى أن كل محاولة لتصوير التقدم العقلي كحتمية تطورية ما هي إلا امتداد للوهم الديني الذي جعل الإنسان يعتقد أنه محور الكون.
ربما ما يحدث ليس تطورًا، بل تراكبًا معقدًا للمعرفة، يجعلنا نظن أننا نتحسن بينما نحن في الحقيقة نعيد تدوير نفس التساؤلات والأزمات. ولو نظرنا إلى التاريخ، لوجدنا أن الأسئلة الوجودية الكبرى التي طرحها الإغريق ما زالت قائمة اليوم، وإن اختلفت لغتها. هل يعني ذلك أن الوعي الجمعي عالق في نقطة معينة، يعيد تشكيل نفسه باستمرار دون أن يتحرك فعليًا نحو “أعلى”؟
وإذا كان هناك تطور في الوعي الجمعي، فهو ليس خطيًا، وليس بالضرورة تصاعديًا. قد يكون تطورًا في “الأدوات”، لكنه ليس تطورًا في “الفهم”. وهنا، نعود إلى السؤال الأساسي: هل نحن، كبشر، نتطور في وعينا بقدر ما نتطور في أجسادنا؟ أم أن وعينا الجمعي، مهما تغيرت أشكاله، محكوم بديناميكيات أزلية لا يمكن تجاوزها؟
ربما الإجابة ليست في العلم، ولا في الفلسفة، بل في اللحظة التي يتأمل فيها الإنسان نفسه، ويدرك أن كل ما يراه حوله، مهما بدا معقدًا، قد يكون مجرد نسخة جديدة من القديم، بواجهة أكثر حداثة، ولكن بجوهر لم يبارح مكانه منذ الأزل. أو ربما، وللمفارقة، يكون التطور الوحيد الذي شهدناه هو قدرتنا المتزايدة على خداع أنفسنا بأننا نتطور.
***
إبراهيم برسي

بقلم: مارثا سي نوسباوم
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
الغضب هو العاطفة التي أصبحت تغمر سياساتنا وثقافتنا. يمكن للفلسفة أن تساعدنا على الخروج من هذا الدوامة المظلمة.
***

لا توجد عاطفة يجب أن نفكر فيها بشكل أعمق وأكثر وضوحًا من الغضب. الغضب يواجه معظمنا كل يوم – في علاقاتنا الشخصية، في مكان العمل، على الطرق السريعة، في الرحلات الجوية – وغالبًا، في حياتنا السياسية أيضًا. الغضب هو عاطفة سامة وشعبية في الوقت نفسه. حتى عندما يعترف الناس بميلها إلى التدمير، فإنهم غالبًا ما يتمسكون بها، معتبرين إياها عاطفة قوية مرتبطة بالاحترام الذاتي والرجولة (أو، بالنسبة للنساء، بتبرير المساواة). إذا كنت ترد على الإهانات والأضرار دون غضب، فسوف ينظر إليك الناس على أنك ضعيف الشخصية ومضطهد. تقول الحكمة التقليدية، عندما يظلمك الناس، يجب أن تستخدم الغضب المبرر لوضعهم في مكانهم، وفرض عقوبة عليهم. يمكننا أن نسمي هذا "سياسة كرة القدم"، لكن يجب أن نعترف على الفور بأن الرياضيين، بغض النظر عن خطابهم، يجب أن يكونوا أشخاصًا منضبطين يعرفون كيف يتجاوزون الغضب في سعيهم لتحقيق هدف جماعي.
إذا فكرنا عن كثب في الغضب، يمكننا أن نبدأ في رؤية لماذا هو وسيلة غبية لإدارة حياة المرء. مكان جيد للبدء هو تعريف أرسطو: ليس مثاليًا، ولكنه مفيد، ونقطة انطلاق لتقليد طويل في التفكير الغربي. يقول أرسطو إن الغضب هو استجابة لأضرار كبيرة لشخص أو شيء يهتم به المرء، ويعتقد الشخص الغاضب أن هذه الأضرار قد تم إلحاقها به ظلماً. يضيف أنه على الرغم من أن الغضب مؤلم، إلا أنه يحتوي أيضًا في نفسه على أمل في الانتقام. إذن: الأضرار الكبيرة، المتعلقة بالقيم الشخصية أو دائرة الاهتمامات، وظلم هذه الأضرار. كل هذا يبدو صحيحًا وغير مثير للجدل. ربما الأكثر إثارة للجدل هو فكرته (التي يتفق عليها جميع الفلاسفة الغربيين الذين يكتبون عن الغضب) بأن الشخص الغاضب يريد نوعًا من الانتقام، وأن هذا جزء مفهومي مما هو عليه الغضب. بمعنى آخر، إذا لم تكن تريد نوعًا من الانتقام، فمشاعرك شيء آخر (ربما الحزن)، لكن ليس حقًا الغضب.
هل هذا صحيح حقًا؟ أعتقد أن الجواب نعم. يجب أن نفهم أن الرغبة في الانتقام يمكن أن تكون رغبة دقيقة جدًا: الشخص الغاضب لا يحتاج إلى أن يتمنى الانتقام لنفسه. قد يريد ببساطة أن تفعل القوانين ذلك؛ أو حتى نوعًا من العدالة الإلهية. أو، قد يريد بشكل أكثر دقة ببساطة أن تسير حياة المعتدي بشكل سيء في المستقبل، على أمل، على سبيل المثال، أن تكون الزيجة الثانية لشريكها الخائن فاشلة للغاية. أعتقد أنه إذا فهمنا الرغبة بهذه الطريقة الواسعة، فإن أرسطو على صواب: الغضب يحتوي على نوع من الرغبة في الرد. يتفق علماء النفس المعاصرون الذين يدرسون الغضب تجريبيًا مع أرسطو في رؤية هذه الحركة المزدوجة فيه، من الألم إلى الأمل.
المسألة الأساسية هنا هي: فكرة الانتقام لا معنى لها. مهما كانت الجريمة – قتل، اغتصاب، خيانة – فإن إلحاق الألم بالجاني لا يساعد في استعادة ما فُقد. نحن نفكر في الانتقام طوال الوقت، ومن الميول البشرية العميقة أن نعتقد أن التناسب بين العقوبة والجريمة على نحو يعيد الأمور إلى نصابها. لكن هذا لا يحدث. لنفترض أن صديقتي قد تعرضت للاغتصاب. أريد بشدة أن يتم القبض على الجاني وإدانته ومعاقبته. ولكن، حقًا، ما الفائدة من ذلك؟ إذا نظرنا إلى المستقبل، قد أريد العديد من الأشياء: استعادة حياة صديقتي، منع وتحديد الاغتصاب في المستقبل. لكن المعاملة القاسية لهذا الجاني قد تحقق هذا الهدف أو قد لا تحققه. الأمر مسألة تجريبية. وعادة لا يعامل الناس ذلك على أنه مسألة تجريبية: هم في قبضة فكرة الكفاءة الكونية التي تجعلهم يعتقدون أن "الدم مقابل الدم، والألم مقابل الألم" هو الطريق الصحيح. فكرة الانتقام هي إنسانية بعمق، لكنها معيبة قاتلة كطريقة لفهم العالم.
هناك حالة واحدة، وأعتقد أنها الوحيدة، التي تجعل فكرة الانتقام منطقية. وهي عندما أرى الظلم على أنه هبوط كامل وحسب، كما يسميه أرسطو: إهانة شخصية تُرى على أنها تتعلق بالترتيب الاجتماعي فقط. إذا كانت المشكلة ليست الظلم نفسه، بل الطريقة التي أثر بها على ترتيبي في الهرم الاجتماعي، فعندئذ يمكنني حقًا تحقيق شيء ما من خلال إذلال الجاني: من خلال وضعه في مرتبة أدنى نسبيًا، أضع نفسي في مرتبة أعلى نسبيًا، وإذا كان المكانة هي كل ما يهمني، فلا داعي للقلق من أن المشاكل الحقيقية التي سببها الفعل الظالم لم تُحل.
الشخص المظلوم الذي يشعر بالغضب الشديد، ويسعى للانتقام، يصل سريعًا، كما أزعم، إلى مفترق طرق. هناك ثلاث طرق أمامها: الطريق الأول: تسلك طريق التركيز على المكانة، معتبرة أن الحدث كله يتعلق بها وبمكانتها. في هذه الحالة، يصبح مشروع الانتقام منطقيًا، لكن تركيزها المعياري مركز على الذات وضيّق بشكل غير مقبول. الطريق الثاني: تركز على الجريمة الأصلية (الاغتصاب، القتل، إلخ)، وتبحث عن الانتقام، معتقدة أن معاناة الجاني ستجعل الأمور أفضل. في هذه الحالة، تركيزها المعياري على الأشياء الصحيحة، لكن تفكيرها لا معنى له. الطريق الثالث: إذا كانت عقلانية، وبعد استكشاف ورفض الطريقين الأولين، ستلاحظ أن هناك طريقًا ثالثًا مفتوحًا أمامها، وهو الأفضل على الإطلاق: يمكنها التوجه إلى المستقبل والتركيز على القيام بما سيكون منطقيًا، وفي الوضع الراهن، مفيدًا حقًا. قد يتضمن هذا معاقبة الجاني، لكن بروح رادعة لا انتقامية.
يبدأ معظم الناس بالغضب اليومي: إنهم حقًا يريدون أن يعاني الجاني.
لذلك، لوضع ادعائي الجذري باختصار: عندما يكون الغضب منطقيًا (لأنه يركز على المكانة)، فإن ميله إلى الانتقام يعد إشكاليًا من الناحية المعيارية، لأن التركيز الأحادي على المكانة يعيق السعي وراء القيم الجوهرية. عندما يكون منطقيًا من الناحية المعيارية (لأنه يركز على القيم الإنسانية الهامة التي تم الإضرار بها)، فإن ميله إلى الانتقام لا معنى له، وهو إشكالي لهذا السبب. دعونا نسمي هذا التغيير في التركيز بـ "الانتقال". نحن بحاجة ماسة إلى الانتقال في حياتنا الشخصية والسياسية، حيث غالبًا ما تهيمن عليهما فكرة الانتقام والتركيز على المكانة.
في بعض الأحيان، قد يشعر الشخص بعاطفة تجسد الانتقال بالفعل. محتواها بالكامل هو: "يا لها من فضيحة! يجب ألا يحدث هذا مرة أخرى." يمكننا أن نسمي هذه العاطفة "غضب الانتقال"، وهذه العاطفة لا تحتوي على مشاكل الغضب العادي. لكن معظم الناس يبدأون بالغضب اليومي: هم حقًا يريدون أن يعاني الجاني. لذا فإن الانتقال يتطلب جهدًا أخلاقيًا، وغالبًا سياسيًا. يتطلب عقلانية تتطلع إلى الأمام، وروحًا من السخاء والتعاون.
النضال ضد الغضب غالبًا ما يتطلب فحصًا ذاتيًا وحيدًا. سواء كان الغضب المعني شخصيًا، أو متعلقًا بالعمل، أو سياسيًا، فإنه يتطلب جهدًا دقيقًا ضد عادات الشخص والقوى الثقافية السائدة. العديد من القادة العظام فهموا هذا النضال، ولكن لا أحد منهم فَهِمه بعمق مثل نيلسون مانديلا. كان يقول كثيرًا إنه يعرف الغضب جيدًا، وأنه كان مضطرًا للنضال ضد مطالب الانتقام في شخصيته. وقد ذكر أنه خلال سنواته الـ27 من السجن، كان عليه ممارسة نوع من التأمل المنضبط للحفاظ على تقدم شخصيته وتجنب فخ الغضب. ويبدو الآن أنه كان من الواضح أن السجناء في جزيرة روبن قد تهرّبوا بنسخة من كتاب التأملات للفيلسوف الرواقى ماركوس أوريليوس، ليعطوهم نموذجًا للجهد الصبور ضد تأثيرات الغضب.
لكن مانديلا كان مصممًا على الفوز بالنضال. كان يريد أمة ناجحة، حتى في ذلك الوقت، وكان يعرف أنه لا يمكن أن توجد أمة ناجحة عندما يكون هناك انقسام بين مجموعتين بسبب الشكوك والضغينة والرغبة في جعل الطرف الآخر يدفع ثمن الأخطاء التي ارتكبها. حتى وإن كانت تلك الأخطاء فظيعة، فإن التعاون كان ضروريًا من أجل الوحدة الوطنية. لذا، فعل أشياء في ذلك السجن الكريه كان زملاؤه السجناء يعتقدون أنها مشوهة. تعلم الأفريكانية. درس ثقافة وظروف الظالمين. مارس التعاون من خلال تكوين صداقات مع سجانيه. لم تكن السخاء والود مبررة بالأفعال الماضية؛ لكنها كانت ضرورية للتقدم في المستقبل.
كان مانديلا يروي للناس حكاية صغيرة. تخيل أن الشمس والريح يتنافسان لرؤية من يستطيع جعل مسافر يخلع بطانيته. الرياح تعصف بقوة، وبشكل عدواني. لكن المسافر يلف البطانية حول نفسه أكثر. ثم تبدأ الشمس في التألق، أولاً برفق، ثم بشكل أكثر شدة. يخفف المسافر البطانية عن نفسه، وفي النهاية يخلعها. هكذا، كما قال، يجب أن يعمل القائد: انسَ عقلية الانتقام، واصنع مستقبلاً من الدفء والشراكة.
وكان مانديلا واقعيًا. لم يكن ليقترح، كما فعل غاندي، تحويل هتلر من خلال السحر. وبالطبع، كان مستعدًا لاستخدام العنف استراتيجيًا عندما يفشل اللاعنف. فعدم الغضب لا يعني عدم استخدام العنف (على الرغم من أن غاندي كان يعتقد أن ذلك يعنيه). لكنه كان يفهم الوطنية والروح التي تتطلبها الأمة الجديدة. ومع ذلك، وراء اللجوء الاستراتيجي إلى العنف، كان دائمًا هناك رؤية للناس كانت انتقاليّة، تركز على خلق مستقبل مشترك بعد أفعال فظيعة ومروعة، وليس على الانتقام.
مرات ومرات مع بدء فوز المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) في النضال، كان أعضاؤه يرغبون في الانتقام. بالطبع كانوا يرغبون في ذلك، لأنهم عانوا من ظلم فادح. لكن مانديلا رفض ذلك تمامًا. عندما صوت المؤتمر الوطني الأفريقي لاستبدال النشيد الوطني القديم للآفريكانيين بنشيد حركة الحرية، أقنعهم بتبني النشيد الذي هو الآن رسمي، والذي يتضمن نشيد الحرية (بثلاث لغات أفريقية)، وبيتًا من النشيد الآفريكاني، وقسمًا ختاميًا باللغة الإنجليزية. عندما أراد المؤتمر الوطني الأفريقي إزالة اعتماد فريق الرجبي كفريق وطني، مدركًا بشكل صحيح العلاقة الطويلة للرياضة بالعنصرية، ذهب مانديلا، كما هو مشهور، في الاتجاه المعاكس، داعمًا فريق الرجبي في فوزهم بكأس العالم ومن خلال الصداقات، جعل اللاعبين البيض يعلمون الرياضة للأطفال السود. وعندما وُجهت إليه تهمة أنه كان مستعدًا للغاية لرؤية الجوانب الجيدة في الناس، أجاب: "واجبك هو العمل مع البشر ككائنات بشرية، ليس لأنك تعتقد أنهم ملائكة".
يسأل مانديلا فقط: كيف يمكنني إحداث التعاون والصداقة؟
وقد رفض مانديلا ليس فقط الإغراء الزائف للانتقام، ولكن أيضًا سمّية الهوس بالمكانة الاجتماعية. لم يرَ نفسه أبدًا فوق المهام البسيطة، ولم يستخدم مكانته الاجتماعية للإهانة. قبيل إطلاق سراحه، في بيت انتقالي حيث كان لا يزال رسميًا سجينًا، ولكن كان لديه أحد الحراس كطاهٍ خاص له، أجرى مناقشة مثيرة مع هذا الحارس حول مسألة عادية جدًا: كيف سيتم غسل الصحون.
يقول مانديلا: توليت الأمر بنفسي لكسر التوتر وربما الاستياء من جانبه لأنه يجب أن يخدم سجينًا عن طريق الطهي ثم غسل الصحون، وعرضت عليه أن أغسل الصحون فرفض... قال إن هذا عمله. فقلت: 'لا، يجب أن نشارك في ذلك.' على الرغم من أنه أصر، وكان صادقًا، لكنني أجبرته، حرفيًا أجبرته، على السماح لي بغسل الصحون، وأقمنا علاقة جيدة جدًا... إنه شخص رائع، الحارس سوارت، صديق جيد لي جدًا."
كان من السهل جدًا رؤية الوضع كعكس للمكانة الاجتماعية: الأفريكانر الذي كان يهيمن في السابق يغسل الصحون لزعيم حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي كان يُحتقر سابقًا. وكان من السهل أيضًا أن نراه من منظور الانتقام: الحارس يحصل على إهانة يستحقها بسبب تورطه في القمع. من المهم أن مانديلا لم يسلك أيًا من هذين المسارين المحكوم عليهما بالفشل، حتى ولو لبضع لحظات. سأل فقط: كيف يمكنني إحداث التعاون والصداقة؟
إن مشروع مانديلا كان سياسياً؛ ولكنه ينطوي على تداعيات على العديد من جوانب حياتنا: الصداقة، والزواج، وتربية الأطفال، والعمل كزملاء جيدين، وقيادة السيارة. وبطبيعة الحال، ينطوي المشروع أيضاً على تداعيات على الطريقة التي نفكر بها في ما ينطوي عليه النجاح السياسي وكيف تكون الأمة الناجحة. فكلما واجهنا قرارات أخلاقية أو سياسية ملحة، يتعين علينا أن نصفي أذهاننا، وأن نقضي بعض الوقت في ما أشار إليه مانديلا (مستشهداً بماركوس أوريليوس) بـ "المحادثات مع نفسي" . وعندما نفعل ذلك، أتوقع أن نرى بوضوح أن الحجج التي يطرحها الغضب مثيرة للشفقة وضعيفة، بينما سيكون صوت السخاء والعقل المتطلع للمستقبل قويًا وجميلًا أيضًا.
(تمت)
***
..................
الكاتبة: مارثا سي نوسباوم/ Martha C Nussbaum: (من مواليد 1947) أستاذة القانون والأخلاق المتميزة في جامعة شيكاغو. أحدث كتاب لها، والذي استند إلى محاضرات جون لوك التي ألقتها في جامعة أكسفورد، هو الغضب والتسامح: الاستياء والكرم والعدالة (2016). حصلت نوسباوم على درجات فخرية من أكثر من 60 كلية وجامعة في الولايات المتحدة وكندا وأمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا وأوروبا. وهي أكاديمية في أكاديمية فنلندا، وزميلة في الأكاديمية البريطانية، وعضوة في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم. وهي أيضًا عضو في الجمعية الفلسفية الأمريكية، حيث كانت رئيسة القسم المركزي من عام 1999 إلى عام 2000.

 

طواحين دون كيشوت او الانجازات الوهمية هي مفهوم يعبر عن الانجازات او الانتصارات الوهمية او غير الحقيقية. يمكن ان تطبق مثل هذه البطولات في السياسة او الرياضة او حتى في حياة الناس اليومية. يمكن ان يصف الاشخاص أنفسهم او الاخرين بالأبطال على الرغم من ان الامور لا تبرر ذلك. هذه الانجازات مرتبطة عادة بشخصية دون كيشوت بطل الرواية الشهيرة لمؤلفها (ميغيل ديثيربانتس). كان (دون كيشوت) يعتقد أنه فارس نبيل، وبدأ في محاربة "طواحين الهواء" التي تصورها وحوش، وهو من الشخصيات الرائعة في الثقافة الغربية بشكل عام والاسبانية بشكل خاص. ففي الرواية، كان دون كيشوت يظن نفسه بطلا لكنه في الواقع كان لا يواجه جبابرة، بل” طواحين هواء”. تمثل هذه الرمزية التحديات او الصراعات التي لا تكون حقيقية او مباشرة، ولكن قد تُرى كذلك. هذا يظهر كيفية استغلال الوهم او طواحين الهواء في العالم من حولنا وكيف يمكن ان نصبح سهلي الانقياد للوهم، بمعني آخر، ان الانجازات الوهمية والصراعات غير الموجودة في الواقع تُعبر كما يبدو عن الحاجة الانسانية الى خلق معني وهدف في الحياة وحتى وان كان هذا المعنى مبنيا على الأوهام، من بينها الإنجازات والانتصارات غير الحقيقية أو المبنية على أوهام. هذه البطولات يمكن أن تظهر في مجالات مختلفة، وقد يسعى الأفراد أو الجماعات إلى بناء صورة بطولية عن أنفسهم، رغم أن الواقع لا يشير الى ذلك. تمثل هذه الطواحين وتسلط الضوء بشكل عام على كيفية رؤيتنا للعالم من حولنا وكيف يمكن أن نقع فريسة للأوهام. بعض الحركات الاجتماعية قد تنشأ حول قضايا تُعتبر غير حقيقية أو مبالغ فيها. مثل بعض الحركات التي تتصارع أهدافها يكون تأثيرها عرضيا ولا تستند على واقع محسوس. وتستخدم المبالغة في تقدير التحديات غير الحقيقية التي تواجه بتحديات من وحي الخيال، يجعل الافراد يركزون على صراعات وأعداء غير موجودين أو صراعات غير ذات معنى، أيضا هناك ايديولوجيات تدعو إلى صراعات وخلق أعداء وهميين، مما يؤدي إلى الانحراف عن الأهداف الحقيقية التي يمكن أن تعود بالنفع عند التركيز عليها، الاهداف و القضايا يمكن أن تفيد الناس كالقضايا الاجتماعية والاقتصادية بشكل حقيقي هي التي يجب التركيز عليها والتي يمكن أن تكون لها تأثير واضح وليس الأنشطة الاجتماعية الاحتفالية، الحملات التي تركز على قضايا وهمية أو مبالغ فيها، تشبه "طواحين الهواء" لدون كيشوت.
التقييم النقدي للأهداف
من المهم التقييم النقدي للأهداف والوسائل المستخدمة في تحقيق الأهداف لضمان أن يكون لها تأثيرًا إيجابيًا على المجتمع، لأن كثرة التحديات أو الصراعات التي تواجه المجتمعات تجعل الافراد يشعرون بأنهم في معركة مستمرة ضد "أعداء" حقيقيين وتنمو الأنانية التي يمكن أن تؤدي إلى رؤية ضيقة للأمور، حيث يركز الشخص فقط على مصالحه الشخصية بدلاً من رؤية الصورة الأكبر، مما يجعله يتجاهل الحقيقي. الأشخاص الأنانيون يسعون إلى خلق تنافس أو صراع مع الآخرين لأسباب تافهة، مما يؤدي إلى تفاقم الصراعات التي لا تستند على أساس منطقي، وزيادة العوائق وكذلك التحديات من منظور فردي، تجعلهم يعتقدون أن كل شيء يدور حولهم، وهي صراعات يمكن أن تؤدي الى الأنانية وتدهور العلاقات الاجتماعية، حيث الشعور هو صراع ذاتي مستمر، يضخم الإحساس بالصراع الوهمي بتضخم طواحين الهواء لدى الأشخاص الأنانيين ويمكن أن يؤدي إلى صراعات غير ضرورية ومبالغ فيها، مما يؤثر سلبًا على حياتهم وحياة من حولهم. من المهم التعرف على هذه الديناميكيات لمحاولة تقليل الصراعات وبناء علاقات أكثر صحة.
الوهم وعلاقته بالأنانية وانعدام الامن
العلاقة بين الأنانية، وانعدام الأمن، وتضخم طواحين الهواء معقدة ومتعددة الأبعاد. وربط هذه المفاهيم الأشخاص الأنانيون يشعرون بعدم الأمان، مما يدفعهم إلى حماية بمصالحهم بشكل مفرط. هذا السلوك يمكن أن يكون له دلالة على شعورهم بالتهديد، قد يسعى الأفراد الأنانيون إلى تعزيز صورتهم الذاتية من خلال تحقيق إنجازات شخصية حتى وان كانت وهمية. ما يزيد من إحساس الاشخاص بعدم الأمان إذا لم ويحصلوا على الاعتراف أو الدعم يبالغ في تقدير تحديات الازمة التي يوجهونها يؤدي إلى تضخيم الصراعات الوهمية في حياتهم، لتعويض المشاعر، عدم الأمان، قد يتجه الأفراد إلى خلق صراعات أو تحديات غير موجودة، مما يجعلهم يشعرون الإحساس بأنهم في وضع السيطرة، انها موجودة ولا يركزون على ما يهدد من تضخيم الصراعات التي تتعلق بمصالحهم الشخصية، حتى وإن كانت اللجوء الى صراعات غير مهمة تجاهل مشاعر الآخرين واحتياجاتهم، يمكن يؤدي ذلك إلى انعدام الامن يؤدي الى تصورات خاطئة عن الصراعات، مما يزيد من تفاقم الأمور. تتفاعل الأنانية وانعدام الأمن مع بعضهما البعض لتغذية تضخم طواحين الهواء، حيث إن كل مفهوم يعزز من الآخر. هذا التفاعل يمكن أن يؤدي إلى صراعات غير ضرورية، مما يؤثر على العلاقات الشخصية. من المهم وعي هذه الديناميكيات، للعمل على تحسين الذات والعلاقات مع الآخرين. وإدراكها وتجاوز تاثيراتها السلبية انعدام الأمن، تضخم طواحين الهواء يتطلب وعيًا وجهودًا مستمرة لنبذ الانانية.
العقل وتجاوز أوهام دون كيشوت
في كل الإبداعات البشرية من فك الرموز التاريخية الى قراءة الاساطير التأسيسية ،لا توجد لغة تحمل كل الطموحات الشرعية للحقيقة ،لكن هناك شكلا ابداعيا يضم المعرفة وهو الوعي اللغة كانت وسيطا، في كل تجربة يراد لها ان تتكامل بالتوسع التواصلي المستمر والثابت وبدلالات اكثر عمقا من الشعارات ،أي بتفكير حر دون قناع الأيديولوجيات و اللاشعور، تصبح مزاعم التأويل الميتافيزيقي لا تشتمل على معرفة بالشروط الاجتماعية والتأريخية السياقية، بالتالي تقودنا الى تعريف سلبي للمرحلة المعاصرة عند استقراء طابعها منطقيا رغم الحساسية التي تستدعي التعاطف ،لكننا لا نلاحظ هنا فصلا بين البنية الأيديولوجية والواقع المعاش ،تاريخنا ان كان فرديا او اجتماعيا بدا بتفجير النصوص داخل سحابة مليئة بالمعاني والتأويلات، وهناك ابتكارات غير منطوقة اعادت تعريف كل الأشياء على المستوى المعاصر، يجب ان نصحو من حطام الأزمنة ونبدأ بتوزيع المقاطع المتفرقة من سوء الفهم الى دائرة الانساق السيكولوجية المرضية، ولا نضطر الى اللجوء للمراوغة والاعتذار عند بلورة العجز بمنهج اسقاطي ،لان العلاقة محزنة وتثير الكثير من التساؤلات ،كوننا نقوم بتبرير المراوغة والاعتذار. بدون الروح المعملية وتحرير العقل من الأطر المتحجرة لا يوجد انتصار ، الرجوع الى الوراء حنين مرضي دون تقييم نقدي ومراعاة للسياقات القائمة على حساسية المعنى لا يقيده المجاز ،بل يجب ان نبحث عن شعور بالعالم يجعلنا ندرك مأساتنا، شعور يصبح ادراكيا عندما يتجاوز الوهم رغم غرائبيات اليوم ،هي سلسلة كشوفات قلقة مسورة بالدلالات الاقتصادية والاجتماعية قابلة للانفجار بحضور مادي عند فتح قنوات الكلام، المراهنة على الوهم اشبه بلبس طاقية الاخفاء في مشهد مليء بالرعب، هو مشهد ادعاء ساذج لا يستطيع صنع علاقات واشكال جديدة للحياة ،تعيد الوحدة الى المعرفة والوعي وتوحد بين المسافات الاجتماعية والاقتصادية دون تقاطع، وتعيد الخبرة الإنسانية الى نسيجها ،نحن نعرف ان اكثر الأشياء مراوغة هو الوهم ،يعطل قدرة الانسان على إعادة ترتيب أولوياته وبالتالي لا يستطيع ان يساعدنا على ان نقوم من وسط حطام الكلمات الى بناء لغة متفردة تحمل من الشفافية دون أوهام سيكولوجية وتحمل أسس التحول والابتكار.
***
غالب المسعودي

هل أهدافك خارج ذاتك؟
في الصداقة والانفتاح الحقيقي على الآخر، نعيش حياة ثانية، حتى وإن لم نتلق نفس الانفتاح. نعيش جانبًا آخر من الحياة من خلال انفتاحنا، النظر بعين القلب والبصيرة إلى عالم الآخر القريب.
رأيتُ بأم عين روحي مقربين مني خسروا أنفسهم، ووقعوا في دوامة إدمان العمل، حتى أصبحوا يعانون من الاحتراق الوظيفي المستمر. أحيانًا، كانوا يظهرون كما لو كانوا سكارى، لكنهم لم يكونوا كذلك. ورغم أن هذه الفئة حققت نجاحات كبيرة على الصعيد المادي، وامتيازات وأموالًا وجاهًا، إلا أنني رأيتُ خسارتهم الحقيقية بوضوح، ولن أتمنى أن تكون أي من تلك النجاحات لي.
الحقيقة أنني أدركت من خلال انفتاحي على حياة هؤلاء الأشخاص، أن هناك من يجعل غايته تحقيق النجاح والوصول إلى أهداف معينة، فيغرق في المنافسة والصراع، ويهرول للعمل بكل طاقته للوصول إلى مبتغاه. في منتصف الطريق، يفقد حياة روحه تدريجيًا، حتى يخسر نفسه بالكامل.
هذا المشهد المؤلم جعلني أدرك أنه في كثير من الأحيان لا نستطيع تغيير واقع أحبائنا، والنصائح تصبح بلا جدوى. فهؤلاء يروننا من زاوية مختلفة، لم يعودوا يفهمون عالمنا، وأحيانًا يشعرهم واقعنا بالغربة.
هذه المشاهدة أثارت بداخلي عدة أسئلة:
- ما قيمة النجاح الذي أخسر معه نفسي؟
- ما قيمة الإنجاز الذي يفقد قدرتي على تذوق تجليات الجمال في الكون والطبيعة؟
- ما قيمة النجاح الذي يفقدني الشعور بالتعاطف والمحبة والسعادة؟
- أي خسارة أكبر من خسارة روح المشاعر والعواطف؟
- أي مكسب يتحقق مع بلادة المشاعر؟
- وأي رفاهية يمكن أن أتمتع بها مع غياب الوقت الذي أستمتع فيه مع نفسي، أفكاري، قناعاتي، تأملاتي، ومراجعة نفسي؟
لقد توصلت تقريبًا إلى إجابة، وهي أن هناك نجاحات مادية خارجية قد تطور الفرد ظاهريًا، لكنها لا تمس جوهره الداخلي. في هذا السياق، قد يتراجع الفرد داخليًا، ويبتعد عن الارتقاء الروحي، نجاح لا يجدك بل يفقدك. وفي المقابل، هناك نجاح ينبع من غاية ذاتية محورها تزكية النفس والارتقاء بها، حيث يتخلى الفرد عن أي نجاح يستهلك سلامه ووقته، ويبتعد عن كل ما لا يشبه روحه أو يشوه حقيقته.
في النجاح الداخلي يدرك أن الحياة الحقيقية تكمن في القرب من الذات الحقيقية داخلنا. كما صدق من قالوا إن الحياة البسيطة، مع إنجازات صغيرة تسودها النزاهة وقيم العدالة، تمنحك سعادة وسلامًا لن تجده في الإنجازات الكبيرة التي قد تُرهقك وتسبب لك احتراقًا نفسيًا، لتتحول إلى مدمن عمل قد يصبح نرجسيًا، لا يرى لنفسه أي قيمة خارج عنوان عمله.
***
د. حميدة القحطاني

 

تحظى ثلاثية الدين والعلم والتطور بإهتمام العقل الإنساني في بحثه عن الإستقرار والتنمية. فقد اعتنت الثقافة العربية المعاصرة عناية كبيرة بالتحول الثقافي الذي حصل في العالم على مدى أكثر من ثلاثة قرون تواصلت فيها الحضارة الغربية في التقدم منذ بدايات النهضة، ثم الحداثة، فالتطور العلمي وصولاً الى التطور التقني الرقمي.
أثّـر التحول الثقافي الغربي من قانون الكنيسة الى قانون العلم، في تفكير العقل العربي الذي أراد الإفادة من هذا التحول لمعالجة الموقف العربي المعاصر، فذهب بعض المثقفين الى إستعارة التجربة الغربية لتطبيقها في الواقع العربي.
جانب مهم من المشكلة يكمن في ان كلمة كنيسة في الغرب تعني ما تعنيه كلمة مسجد عند العرب، وهي الدين، فاذا أخذنا عبارة دين الكنيسة مقابل عبارة دين المسجد سنرى ان دين الكنيسة يمثل مرحلة ما قبل الخاتمية، لأن الدين واحد وحلقاته متعددة، ولكل حلقة نبي أو رسول يمثلها. هذا يعني ان إكتمال الصورة يتحقق في اللمسات الأخيرة، وهذه اللمسات الأخيرة وضعها النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ما يعني إن دين الكنيسة لم يكن ليعطي تصوراً واضحاً ودقيقاً لتفاصيل الرسالة السماوية وأثرها في المشهد الحياتي للناس، الأمر الذي مكّن العقل الغربي منذ عصر النهضة وعصر الصناعة من توجيه إستفهامات كثيرة لم تفلح الكنيسة في تقديم أجوبة كافية ومقنعة لها، أودت بالنهاية الى ترك الناس لقانون الكنيسة والتوجه الى قانون العلم.
في ضوء هذا الحراك الغربي رأى بعض المثقفين العرب ان مضي المجتمع العربي الإسلامي في الطريق ذاته الذي مر به المجتمع الغربي، قد يساعد على تحديث الواقع وتأهيل المجتمع العربي للحاق بركب تطور الحضارة الغربية . المشكلة ان تصورات ورؤى المثقف الغربي تكونت وتبلورت في نطاق تلك المرحلة من الدين الكنيسي، ثم جاء تأثر المثقف العربي المسلم بها بحكم قوة تطور الحضارة الغربية، فأعتمد أفكار وأقوال وبحوث وكتب مفكرين غربيين كمصادر ومراجع لرصيده الثقافي الشخصي، واخذ المثقف العربي المعاصر علاقته بالثقافة الدينية في ضوء ذلك التأثر. الأمر الذي أوقعه في مشكلة مواجهة طبيعة مجتمعه، ومحاولته تغيير تلك الطبيعة، أو إقحام تصوراته الشخصية للثقافية الغربية في تلك الطبيعة، وهو ما جعله في بعض المواقع في حالة من التضاد، وأحياناً في حالة تصادم مع المعمم.
لعل أي حديث عن تطور ثقافي وإجتماعي لا يأخذ بعين الإعتبار الدور المهم للعلم المجرد وتقنية اليوم الرقمية، هو حديث لا يخدم حركة نهضة الواقع، بل لعله حديث مضر بسلامة المجتمع. لذلك علينا أن نأخذ بأسباب ونتائج التطور العلمي الذي نعيشه في عصرنا الحالي ونحن نبحث عن سبل تمكين مجتمعاتنا ثقافياً وتطويرها بما يمكنها من إستيعاب التطور الحاصل في حضارة الغرب بما يضمن سلامة الطبيعة الثقافية والإجتماعية للعالم العربي الإسلامي.
هل يسهم الاستخدام المتزايد للطاقة وللتطبيقات التقنية الرقمية في تشكيل ثقافة مادية جامدة، تصل بالمثقف الى التوقف في نشاطه عند حدود نشر المقال، وطبع الكتاب، وإنشاء صفحة الكترونية تضم عدداً من المعجبين، وشهادات شكر وتقدير. بينما يستغرق الواقع في مشاكل شخصية وأسرية وإجتماعية كثيرة أصبحت مزمنة في حياة الفرد والأسرة والمجتمع ؟.
هل تسهم كثرة السلع الآلية الذكية في السوق في تسليع الأفكار والقيم والعادات..؟
تقدم الصناعة في الغرب، ودخول الإقتصاد مرحلة صنع القرار السياسي حول العالم، هل يؤثر في التكوين الثقافي للشعوب؟
في عصر التسليع الذي تمتد فيه مشاريع الاقتصاد الصناعي والسياسي للنظام العالمي لتشمل كل شيء من سلع وافكار.. هل يؤدي ذلك الى تقييد حركة الثقافة أم الى توسيعها؟
بعد هيمنة الآلة الذكية على المشهد الحياتي لمجتمعات العالم. هل نتوقع إسلاماً جديداً في الشرق الأوسط كالمسيحية الجديدة
الحاصلة في الغرب؟
هنا تصبح الثقافة العربية المعاصرة في محنة حقيقية لا يبدو من واقع الحال انها قادرة على صناعة وعي جمعي في جو تحرك أهواءه سياسة المال والأعمال . خصوصاً وان النظام العالمي الجديد منذ بدايات القرن الواحد والعشرين بدا داعماً لتمكين الشخصيات غير الكفوءة من مواقع القرار.
ان المشكلة التي سيواجهها الدين في مستقبل عصر التقنية الذكية لا تتعلق بجوهر الدين قدر تعلقها بالثقافة الدينية للشعوب.
في إحدى المدن المعروفة بوجود مزارات دينية مشرفة، تزامن الإحتفال بعيد رأس السنة الميلادية مع ذكرى وفاة واستشهاد رمز من رموز العقيدة الدينية، فتباين المشهد الإجتماعي ما بين من يطلق الألعاب النارية في الفضاء إبتهاجاً بالعام الميلادي الجديد وبين من يقيم حفلاً تأبيناً في هذه الذكرى التاريخية الحزينة. اذا لم نجد ما يحملنا على التشكيك في الإلتزام الديني للأشخاص الذين أعربوا عن إبتهاجهم بقدوم العام الجديد في الوقت نفسه الذي تمر مدينتهم بذكرى حدث تاريخي أليم، فإن تفسير إقدامهم على سلوك يتناقض مع الحدث الديني التاريخي، مرجعه الى حالة القلق الثقافي والى التراجع الملفت في النضج النفسي لشخصية العربي المسلم، التي تسببت بها الحالة السياسية والإقتصادية والثقافية لمجتمع إنحرفت فيه السياسة عن طبيعة المجتمع، وتجاوز فيه الإقتصاد قدرة شريحة كبيرة من الفقراء على التعاطي مع التطور الإقتصادي وانحسرت الثقافة العامة وتحولت الى نشاط شخصي أو فئوي محدود، وتقلصت مساحة الصبر في صدور المكلومين والفقراء، وأختلت في مواقع القيادة معايير النظر الى مفهوم العدالة، ومفهوم القوة، ومفهوم الحرية التي كان لقاموس الأثرياء والمتنفذين حضوره الفاعل المؤثر في إستحداث تفاسير مبتدعة لهذه المفاهيم في المشهد الحياتي اليومي للمجتمع، وان كان لسان الحكومة يتحدث عن العدالة الإجتماعية وعن تساوي الكل أمام القانون، لكن الواقع مختلف كل الإختلاف عن تلك التصريحات وتلك الإستعراضات التي تقوم بها الماكنة الإعلامية الرسمية. وإذا أردنا ان نستبعد تورط الأنظمة السياسية العربية في تعمد إهمال المجتمع، فإننا لا نستبعد ابداً إخفاقها في إحتواء ظروف المرحلة الصعبة والمعقدة التي يواجهها البناء الإجتماعي، ولكي لا تبدو عاجزة أو فاشلة فإنها تلجأ الى تخدير الجماهير بتلك الإستعراضات الإعلامية.
المواطن العربي مشغول بقضايا التراث والدين والعادات والتقاليد والقيم والأخلاق، وكيف يحافظ عليها في زمن الآلة الذكية والنظام العالمي الجديد ومشاريع أمركة الثقافة العالمية، ومشروع الإسلام الأمريكي الشرق أوسطي، ومشروع التطبيع مع الكيان الغاصب..
فهو مسكون بالقلق في ظل أنظمة سياسية محلية غير مؤهلة لتحويل هذا القلق الى إستقرار.
بالمقابل ينشغل المواطن الغربي بمخرجات عصر التقنية وبمستقبل الذكاء الإصطناعي، وكيف يستفيد من ذلك في حياته بحيث تصبح ذات معنى أجمل، في ظل مناخ بيئي عالمي متغير ومستقبل يواجه نضوباً في مصادر الطاقة الطبيعية.
المواطن الغربي مشغول بالتطور الصناعي، والمواطن العربي مهموم بالتدهور الإجتماعي.
يدرك المواطن العربي حقيقة واقعه هذا، لكنه لا يملك رؤية معاصرة واضحة لتغيير هذا الواقع الى الأفضل. كما إن المواطن الغربي ليس أكثر وعياً من المواطن العربي بتعقيدات الحياة ومخاطرها، لكن المواطن الغربي عملي أكثر من المواطن العربي، ومعنى كون المواطن الغربي انه إنسان عملي لا يعفيه من إحتمالية وقوعه في حالة عدم الإنتباه للأعراض الجانبية لثقافة العولمة في ظل نظام عالمي يعتمد لغة المال والأعمال في كل انشطته التي ستجعل من الإنسان حول العالم مستهلكاً (بكسر اللام) ومستهلكاً (بفتح اللام) في الوقت ذاته.
نعتقد ان بداية مشروع تحول الثقافة العربية الى قوة لها حضورها الواضح في المشهد الحياتي للمجتمع العربي تبدأ من خروجها من عباءة السياسة الحاكمة وإنفتاحها على طريقة حياة الناس والعمل على تطوير الآلية التي يتعامل بها الناس مع بعضهم، من أجل تمكين المجتمع ثقافياً، ليصبح الوعي الجمعي محركاً يتمتع بقدرة عالية على تحريك الواقع بإتجاه التغيير الإيجابي الذي يتلائم مع طبيعة المجتمع.
***
عدي عدنان البلداوي

في عالم مهووس بالتقدم والإنجاز، يتساءل البعض هل نحن فعلاً مَن نكتب تاريخنا أم أن الأحداث تسير بنا وفق نسقٍ خفي لا نرى منه سوى خيوطًا ضبابية؟ هل ما نعتقد أنه قراراتنا الحرة هي فقط انعكاس للخيارات التي كُتبت لنا مسبقًا؟ في هذا المقال، نغوص في عمق اللحظات التي لا ننتبه إليها، في تلك القرارات التي نتخذها بعفوية، والتي قد تحمل مفتاحًا لفهم المستقبل، غير المرئي والمركب.
منذ فجر التاريخ، سعى الإنسان للكشف عن مسار حياته، محاولًا أن يضع خطة للغد. لكن ماذا لو كانت أفعالنا اليوم، حتى الصغيرة منها، هي التي تشكل الغد بشكل غير مباشر؟ قد يكون الجواب في التفاصيل الغامضة التي نحاول تجاهلها. هل ندرك فعلاً التأثيرات المترتبة على اختياراتنا اليومية؟ تلك اللحظات التي يظن البعض أنها عابرة أو غير مهمة قد تكون هي الأبجديات الأولى للواقع الذي نعيشه بعد سنوات.
عندما نختار مسارًا حياتيًا أو نلتقي بشخص غير متوقع، تتشكل الدوائر التي تؤثر في مجريات حياتنا. في الحقيقة، ليس كل شيء مرئيًا في الوقت الحاضر. المستقبل الذي يبدو ضبابيًا أمام أعيننا ربما كان قد بدأ تشكيله قبل سنوات، قبل أن نعي تمامًا أن ما نفعله الآن سيقودنا إلى نقطة معينة في الزمن. هنا يكمن التناقض: كل قرار صغير، مهما بدت عواقبه تافهة، ربما يكون أكثر تأثيرًا من أشياء كثيرة كنا نعتبرها حاسمة.
في عالم مليء بالاحتمالات، يبدو أن اختياراتنا لا تأتي من فراغ. هل هي مقدرة علينا أم هل نمارس التأثير على الواقع دون أن ندرك ذلك؟ هنالك شيء غامض يكمن وراء مسار حياتنا اليومية، شيء غير مرئي يصنع التغيرات الحقيقية في العالم. ربما هذه القوة التي لا نراها هي التي تتحكم في مصيرنا، تقودنا نحو مجالات لم نتوقعها، وتجعل من قراراتنا الصغيرة أحداثًا مصيرية. ومن هنا يبدأ التساؤل: هل نحن فعلاً أسياد أقدارنا، أم أن أفعالنا مجرد دمى في يد قوى خفية؟
الفكرة هنا ليست في أن نقع في فخ المبالغة حول الأقدار أو التوقعات الغيبية، بل في التنبه إلى أن ما نراه اليوم من أحداث ومواقف قد يكون مجرد تجسيد للخيارات التي تم اتخاذها في الماضي، أحيانًا في لحظة عابرة من الزمن. ربما نحن نعيش في وهم من أن المستقبل يتشكل فقط من قرارات اليوم الكبيرة، لكن في الحقيقة، قد تكون أفعالنا الصغيرة هي التي تكتب فصوله.
إن عملية الإدراك والوعي بما نفعله وما لا نفعله قد تفتح لنا أبوابًا لفهم أعمق لهذا الوجود الذي نشعر أنه عابر. وهكذا، نبدأ في إدراك العلاقة العميقة بين أفعالنا الحاضرة وبين عواقبها المستقبلية التي نعيشها بعد حين.
إننا لا نعيش في زمن ثابت؛ نحن محاطون بتشابك لا نهائي من التأثيرات والمفارقات. فهل كل لحظة تعيشها مجرد جزء من حكاية قد لا تكتمل إلا بعد مرور الزمن؟ هل قد تكون أفعالك اليوم هي الأبجدية التي تُكتب بها أحداث غدك، ولكن بطريقة لا تدركها إلا بعد أن يتكشف المعنى؟ كل شيء يبدأ من حيث لا نتوقع، وفي أماكن لا نتخيلها.
كل هذا يقودنا إلى السؤال الأهم: هل نحن بالفعل نصنع المستقبل؟ أم أن المستقبل هو الذي يصنعنا؟
***
سجاد مصطفى حمود

 

بقلم: لوك سترونغمان
ترجمة صالح الرزوق
***

مع توسع الإمبراطورية البريطانية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، توسعت معها المثل الأخلاقية والاجتماعية، وتطورت الثقافة. وترافق الإيمان بإمكانيات الاختراع وتطوير الذات مع النشاط التجاري وخطاب وفلسفة الغرب. وهكذا تبدلت الفكرة التي تقارن الحداثة بما هو قديم وأصبح خلفنا، وتعمق الإيمان بالمعارف اللامتناهية، كلما تحسن التقدم الاجتماعي والأخلاقي، ويعود الفضل بذلك إلى اكتشافات العلم الحديث. وكما قال يورغين هابرماز: مهد فلاسفة التنوير الطريق لمشروع الحداثة في القرن الثامن عشر، من خلال سعيهم لتطوير علوم موضوعية، وأخلاق وقوانين كونية، وفن شامل سيد نفسه، ويتناسب مع المنطق الإنساني. وفي الوقت نفسه تعمد هذا المشروع إطلاق الإمكانيات المعرفية حتى تتحرر من صيغها المتعارضة والضيقة. وقد عمل فلاسفة التنوير على توظيف التخصص والتراكم في الثقافة لإغناء تجارب حياتنا اليومية، أو بتعبير آخر لتنظيم حياتنا اليومية تنظيما عقلانيا1. وعليه أسس التنوير لمناخ ثقافي في أوروبا أدى بالنتيجة للتطورات التي شهدها القرن الثامن عشر. وكان ذلك جزءا من حراك أوسع جرى تحت مظلة إمبراطورية تمثل أعلى درجات الطموح والاحتمالات. ونجم عن التنوير وتوسع أوروبا مناخ نقدي وجدلي جديدان عم القارة الأوروبية والمستعمرات على حد سواء. حتى تحولت إنكلترا بعد ثورتها الناجحة عام 1688 إلى أهم بلد ليبرالي تحرري. ثم أدى عقد الاجتماعات في المقاهي والنوادي وازدهار الصحافة إلى تعميق الوظيفة الاجتماعية للثقافة.
ولكن في نفس الوقت ظهر مفهوم جون لوك والذي يرى أن النفس <الذات> هي لوح أبيض tabula rasa وأنه لا وجود لأفكار قبلية، وأن كل المعارف نابعة من التجربة. ولكنه تأثر بالعقلانية الديكارتية، والتي تؤمن أن مفاهيم الله والعقل والجسد موضوعات موروثة. وتم تقسيم إمبريقية لوك إلى خبرات تنبع من "مصدرين": الإحساس الخارجي والانعكاسات الداخلية.
لم تكن مثاليات التنوير وقيمه ببساطة طريقة في التفكير فقط، ولكنها إيمان بإمكانية تبدل المجتمع لفرض المزيد من إحساس الكائن بالــ "تنوير"، وأهميته في تشكيل الذات والمجتمع، وهو ما سهل ولادة ظروف وجودية لا بد منها للتوصل إلى حرية التفكير والاعتقاد. وبرأي لوك يتوجب على الأفكار أن تكون مكتفية بذاتها ومتحررة من القرارات العاطفية النابعة من الداخل أو التي يفرضها ضغط المؤسسة من الخارج - وحينها فقط يمكن القول إنها نقدية ومستنيرة فعلا. والمستنير هو الذي يثق بالطبيعة الكونية للإنسان، ويتحكم بالتاريخ وعناصر الطبيعة ويدركها. وفي عصر التنوير كانت أفكار لوك هي أفكار أنتلجنسيا عصره. وأصبح فن الرواية صيغة التعبير المفضلة عند الأفراد لاكتشاف طريقهم في العالم. كما أن الاكتشافات الجديدة ترافقت مع الفتوحات - ولذلك توجب علينا أن ننظر إلى التقاليد الأدبية بالضرورة في ضوء الواقع السائل، وأن نفهم أن أخلاق الأفراد هي عمليا نتاج انخراطهم في تيار الأحداث. فأبطال القرن الثامن عشر قاموا برحلات بيكاريسك طويلة واجهوا فيها مشكلات أخلاقية وفلسفية 2. ومن بين الفائزين بالبوكر، نلاحظ أن رواية "جي"، و"طقوس العبور"، و"الجوع المقدس"، تنتمي لاتجاهات التنوير الخاصة بالقرن العشرين. وهو اتجاه تطور بفضل الحداثيين، ولكنه قلل فعليا من أثر التنوير الذي خيم على الحقيقة المتعالية والتطور الاجتماعي والموضوعية. فقد تابعت رواية "جي" لجون بيرغر، عصر التنوير والرومنسية في أوروبا، ووظفت في سبيل ذلك أبطالها العابثين جنسيا، بالإضافة إلى مونتاج ما بعد الحداثة، وبفضل هذا الأسلوب السردي فسرت الافتراضات الفلسفية الأساسية التي بنت عليها فكرها الديمقراطي ورؤيتها للبنية الاجتماعية المستقرة التي تميز فكرة التنوير.
وبالمثل قامت رواية "طقوس العبور" لغولدنغ ببناء حوار بين مفهوم أواخر القرن العشرين عن التنوير وبين الاتجاه المعاصر لما بعد البنيوية وما بعد الحداثة. ولكن قاطع وأنكر تعبير السرد عن الحقيقة والمطلق الذي وراءها تبدل الأحداث وتعقيد اللغة المستعملة في هذا التعبير. وبالمقارنة اهتمت "طريق الأشباح" لبات باركر و"سفينة شيندلر" لتوماس كينيلي بموضوعات تخص توسعات أوروبا وتعقيدات الهوية التي تأزمت في القارة بعد تأرجح الإمبراطورية بين الحرب العالمية الأولى والثانية. لم تكن رواية "جي" لجون بيرغر، من عدة وجوه، عادية بمقاييس جائزة البوكر. فهي رواية كتبها ماركسي بعد حداثي، واهتم فيها بمغامرات جنسية لابن غير شرعي منسوب إلى وريثة أنغلو أمريكية وتاجر إيطالي. وتذكرنا مغامراته الدون جوانية بالفوضى السياسية والاجتماعية التي عصفت بمنعطف القرن التاسع عشر. لا شك أن "جي" لفتت اهتمام الماركسيين لأنها تكلمت عن فشل المجتمع والخلل في توظيف كل طاقاته بسبب بنيته غير العادلة. كما أنها سجلت وثيقة ساخرة عن تبدل مناخ الرأي العام بعد الثورة الجنسية في الستينات <وكانت بين مد وجزر>، وبعد فشل الرأسمالية على نطاق دولي وعجزها عن تحقيق أهدافها الاجتماعية، وإنجاز وعدها بالتحرر، والآثار التي تركتها على الاقتصاد. وقد قاطع تواصل السرد في "جي" معزوفات بين الفصول القصيرة، والخطوط المرسومة عمدا. حتى اقتربت من أدبيات ما بعد الحداثة. ومن أهم صفاتها الانقطاعات والمعاني التي تخرج من الشعور الباطن إلى السطح. وتوجد سخرية واضحة في "جي"، فالبطل جي يحاول أن يتجنب التاريخ في كل منعطفاته، كي يتجنب أيضا عواقبه الاجتماعية، وليتحاشى السياسية التي توسعت حتى ابتلعت كل من حوله. ولكنه يلفت بسلوكه السلبي انتباه الشرطة السرية له. فهو غير موثوق من قبل كل الأحزاب، ويتم التخلي عنه ويعتبر أنه مصدر للخطر. الرواية بعد حداثية بأسلوبها وموضوعها، ولكنها توظف النقد الماركسي الموجه لحركة التنوير، ولحركة المجتمع، ولصيغ المطلق والثوابت، والتي تأخذ مكان التحول المنشود وتحرير الذات. وبإشارة إلى عمل الأنثروبولوجي أرنولد فان جينيب تنسج "طقوس العبور" لوليام غولدنغ سردية تتبنى أسلوب التراسل والمفكرات خلال مغامرة بحرية يقوم بها شاب "يعبر" نحو مرحلة الرجولة وباتجاه حياة جديدة في أستراليا على متن "طوف خشبي" بريطاني، هو سفينة بريتانيا، وذلك في نهاية عصر التنوير وبداية ما بعد الحداثة. رواية غولدنغ رواية تحولات: ينتقل بطلها تالبوت من مرحلة الصبا إلى الشباب وفي هذه الأثناء تتشكل أخلاقياته. وتمر السفينة من عالم بريطانيا القديمة إلى عالم أستراليا الجديدة. ويتابع غولدنغ في رحلته موضوعات عن القيم الطبقية، وسوء التصرف الجنسي، وارتباك التاريخ وعدم انتظامه. وتمثل السفينة الإمبراطورية وانتقالها إلى عالم جديد، وتعبر عنه رمزيا بعبور تالبوت نحو مرحلة البلوغ والشباب. وببناء خطاباتها البديلة، تعلن هذه الرواية بعد الحداثية، وهي استعادة لرواية البيكاريسك التنويرية، أنه لا يوجد مكان خارج الثقافة، أو على نحو أدق، لا يوجد فضاء نلجأ إليه وراء ثقافة خطاب الرواية. فهو المجال الوحيد الذي نكسب منه ثقافتنا وندركها. وكأن رواية غولدنغ أدركت، مثل جون بيرغر في "جي"، أنه ليس من الممكن استعمال لغة لتتحرر بها من لغة. وأنه لا يوجد مواضع مفضلة، ولا احتمال للتعالي المطلق، وليس هناك مكان لمفهوم لا يتورط مع ما يحاول أن ينقضه. وتصبح القطيعة عند كل من شخصيات وقراء "طقوس العبور" الوسيلة الوحيدة لاختبار الواقع: فالتشظي، السخرية، السياسات المصغرة، ألعاب اللغة هي السائدة، أما الموضوع الساكن فيفككه 'التطويف" أو استعادة التاريخ الماضي. وفي "الجوع المقدس" لباري أونسوورث، مثل "طقوس العبور" لغولدنغ، مغامرة بحرية تتابع التوسع المبكر للإمبراطورية والذي شمل المثلث التجاري أو بوابة بريطانيا، وأطرافه إفريقيا والكاريبي والعالم الجديد بشكل عام. تجمع "الجوع المقدس" بين ابني عم، هما باريس وكيمب، وتستفيد من التناقض بينهما لإضفاء طابع درامي على الحكاية: أحدهما مرتزق، والآخر مثالي. أحدهما يرمز لقيم التنوير، والآخر رومنسي. وتتابع الرواية التناقض بين التنوير الذي يدعم التطور والتحرر من جهة، وبين الاتجاهات المادية وغير المؤمنة من جهة مقابلة. وتلخص الرواية خلفياتها بمقدمة تبرر وجود "زنجي الجنة" أو "المولاتو"، وهو هجين لكنه يتقن الشعر الإنكليزي. أما الحبكة فهي بالأساس عن العصيان، ويتردد فيها صدى ومفهوم "الفدية" - وتستغل وجود هذا الأفاق على حدود الإمبراطورية لتلفت نظرنا إلى دور التنوير في إضاءة التقابل ما بين المواطن المحلي ومجتمع العبودية.
***
..............................
الهوامش:
1- يورغن هابرماز: الحداثة ضد ما بعد الحداثة. في "القارئ بعد الحداثي. تحرير جوزيف ناتولي، وليندا هتشيون. نيويورك. جامعة نيويورك الحكومية. 1993. ص98.
2- دريندا أوترام. التنوير. كامبريدج. منشورات جامعة كامبريدج. 1995. ص1-30.
* من كتاب جائزة البوكر وإرث الإمبراطورية. أمستردام. 2002.

 

من المدهش ان مؤسس النظرية الذرية الفيلسوف اليوناني ليوكيبوس Leucippus (500-440 ق.م) أول منْ صاغ مفهوم الانفجار الكوني الكبير الذي يُعرف الآن بـ Big Bang. ومن بين امور اخرى، هو ذكر "ان كل الأشياء في الكون لامتناهية ويتغير بعضها الى البعض الآخر".
ليوكيبوس رائد نظرية الانفجار العظيم
ان أصل الفكر الكوني يمتد رجوعا الى آلاف السنين، حيث كان الفلاسفة القدماء يتأملون طبيعة الكون، ومن بينهم الفيلسوف ليوكيبوس في القرن الخامس قبل الميلاد. هو اقترح افكارا تحمل تشابها مذهلا مع النماذج الكونية الحديثة وخاصة نظرية الانفجار الكبير. هو تصوّر ان الكون تشكّل بفعل حركة فوضوية وتحطّم للجسيمات الذرية. هذه الفكرة المبكرة تبدو مشابهة للفهم العلمي المعاصر لتطور الكون.
الكون الذري لـ ليوكيبوس
ليوكيبوس والى جانب تلميذه ديموقريطس طوّرا أول نظرية عُرفت بالنظرية الذرية. هو جادل بان الكون يتألف من جسيمات (ذرات) تتحرك في الفراغ. وفي مقطع يُنسب له، وصف ليوكيبوس الكون في انه يحتوي على ذرات وهذه الذرات كانت في البدء في حركة فوضوية، ثم تدريجيا اتّحدت الذرات في تراكيب أكبر بسبب ميولها الطبيعية. الجسيمات الأثقل استقرت وشكّلت الأساس للأجسام الأرضية، بينما الجسيمات الأخف وزناً تحركت نحو الخارج وشكّلت السماوات.
هذا الوصف يتشابه بشكل كبير مع المفهوم الحديث لحالة الكون البدائية primordial cosmic state. في هذه الحالة البدائية، كانت المادة في يوم ما مبعثرة بشكل فوضوي قبل ان تتحد في مجرات ونجوم وكواكب.
لننظر لآن الى النص القديم لـ ليوكيبوس الذي احتفظ به المؤرخ المسيحي يوسابيوس Eusebius (260-340.م) في عمله "الإستعداد الإنجيلي":
"الكون الحالي، في شكله المبعثر، كان قد تشكل بهذه الطريقة: بحركة عشوائية، وبدون قصد تحركت الذرات باستمرار وتجمعت بسرعة في مكان واحد بأعداد كبيرة، وهكذا اكتسبت تنوعا في الأشكال والأحجام. الجسيمات الأثقل والأكبر تجمعت في المركز، بينما الجسيمات الأصغر والأكثر حركة وانزلاقاً تحركت نحو الخارج وتجمعت لتشكل الأجسام السماوية. لكن عندما توقفت القوة الضاربة التي رفعت الجسيمات صعودا، و لم تعد تندفع نحو السماوات، عندئذ مُنعت الجسيمات من النزول اكثر، وضُغطت باتجاه مواقع يمكنها احتوائها. وهكذا، كانت كتلة الاجسام المحيطة متناثرة ومتشابكة، وفي هذا التشابك، وُلدت السماوات. ومن نفس الطبيعة، شكّلت الذرات المتنوعة طبيعة النجوم".
الكون وُلد من تصادم وضغط الذرات
تنطوي رؤية ليوكيبوس على ان الكون المنظم برز من حالة الاضطراب الأولية. هذه الفكرة وجدت أصداءً لها في نظرية الانفجار الكبير. هو يقترح ان الذرات اصطدمت وتراكمت في دوامة دائرية، وبالنهاية شكلت هياكلا كونية متميزة. الفيزياء الحديثة تصف انفجارا اوليا. هذا الانفجار قاد الى تكوين تدريجي للمادة من خلال قوى الجاذبية والتفاعلات بين الجسيمات الأساسية.
هذه الفكرة من التطور الكوني تتماشى مع أعمال الفيزياء الحديثة. بما فيها اعمال الفيزيائي البلجيكي جورج لمنيتر Georges Lemnitre الذي هو اول من افترض نظرية الانفجار العظيم. كذلك العالم البريطاني ستيفن هاوكنك الذي استطلع التقلبات الكوانتمية في الكون المبكر، وايضا، النموذج التضخمي للامريكي ألان جوث Alan Guths inflationary model الذي اعتمد على فكرة الكون الفوضوي المبكر حين تعرّض لتوسّع سريع قبل ان يبرد في مادة مركبة.
رؤية سابقة لعصرها
أفكار ليوكيبوس افتقرت الى الدقة الرياضية والصلاحية التجريبية التي تميّز النظريات العلمية الحديثة. مع ذلك، هو فهم تكوين الكون ببصيرة مذهلة. مفهومه للأصل الفيزيائي العفوي للكون الخالي من التدخل الإلهي، وضع الأرضية للتحقيق العلمي اللاحق. فكرة ان الكون لم يكن ساكنا وانما برز من حالة الفوضى الأولية كانت تمهيدا للاكتشافات في القرون اللاحقة.
رؤية ليوكيبوس، مع انها تأملية، لكنها تُظهر كيف ان الفلسفة اليونانية القديمة غرست البذور الاولى للثورة العلمية اللاحقة. نظريته في الكون المنظم ذاتيا الموجّه بتفاعل الذرات، هي السلف الفكري المبكر لنموذج الانفجار العظيم. هذا يجعل ليوكيبوس واحدا من أبرز المفكرين في مجال علم الكون.
***
حاتم حميد محسن
............................
Feb19, 2025, GreekReporter.com

 

شاع سابقا أن ثالوث التخلف هو الجهل والمرض والفقر، حيث تعاني العديد من دول العالم من حالة غير إنسانية نتيجة صراعات أهلية وماضوية، ولأسباب ارتفاع مستوى عدم تحقق المساواة والعدالة، وسوء إدارة الموارد، ولكن لا يمكن أن نجعل التخلف يعود إلى الجهل والمرض والفقر في حد ذاتها، فهذه الثلاثة مصاديق تدل على التخلف، ونتيجة لهذا التخلف وليست هي سبب التخلف؛ لأن للجهل اقتضاءات أدت إليه، لأسباب صراعية أو احترابية أو إدارية، وكذلك المرض والفقر، ومن خلال تأملي في العديد من المناطق التي تنخفض فيها العدالة غير الإنسانية، وتتمدد فيها حالات انخفاض تحقق مصاديق المساواة والعدالة، أرى أنها لا تتجاوز ثالوث الدين والسياسة والثقافة، وليس الجهل والمرض والفقر.
فأما الدين فعندنا النص وما بعد النص، وكثيرا ما يشكل الإنسان في تأريخه فهومات النص، ومع مرور الزمن يدخلها في الدين، وتأخذ حيزا في تفكيره وعقائده، وتشكل مذاهبه وطرقه، فعندما كان يتعامل مع النص أنه جاء لتحقيق مقاصد الإنسان الكبرى في الوجود، أصبح المدار هو الانتصار للذات أو المصالح السياسية والطائفية والمذهبية، كما أن قيم النص المطلقة والمرتبطة بذاتية الإنسان الواحدة، والأصل أن يرقى العقل الديني في تحقق مقاصدها، نجد أنه يرهن مصاديق القيم للتأريخ والمذهب والظرفي، فيعيش الإنسان في ظل خطاب ديني وفق ظرفية لا علاقة لنا بها، ولكنها لأسباب تأريخية أصبحت من الدين ذاته.
فعندنا نحن - غالب المسلمين – أن النص المقدس توقف عند إكمال الدين ذاته في عهد النبي الأكرم – صلى الله عليه وسلم -، والمتأمل في هذا النص نجد المتعلق بحركة الحياة نسبته قليلة جدا، وغالبه مجملا أو معللا، لترك مساحة واسعة للعقل البشري في التدافع لبناء الإنسان، وتحقيق مقاصد قيمه الواسعة، فمفهوم الدولة والحكامة مثلا لا نجد لها تلك الحرفية في النص الأول؛ لأنها متحركة، وكذلك في التشريعات القانونية، والمعاملات البشرية.
ولما كان الرومان ثم خلفهم المسيحيون يسجلون حولياتهم، ويركزون على الأحداث والصراعات السياسية كالحروب وتعاقب الملوك والحكام، مع ذكر بعض الجوائح والأحداث الكبرى، لكنها لا تلتفت بشكل كبير إلى الجانب الحضاري والثقافي، وتختصر قرون الأمم في هذه الصراعات، والأمر ذاته لما خلفهم المسلمون، ودونوا حولياتهم، حتى فيما يتعلق بالسيرة النبوية، ركزوا على الحروب والمغازي والصراعات السياسية، ويكاد أن هذه الأمم ينعدم لديها أي شكل من الحضارة، وتعدد الثقافة، إلا ما ذكره لاحقا غيرهم كالأدباء والشعراء، ويستلهم من الاجتهادات الفقهية، وبعض معالم الروايات الحديثية.
ثم لا توجد إشكالية في هذا، إذا استطاع العقل الديني أن يمايز بين النص وبين الأحداث السياسية، ولو ارتفعت عنها مصاديق الحضارة والثقافة والتي تعنى بالإنسان بشكل أكبر، الإشكالية عندما تتحول هذه الصراعات السياسية إلى الدين نفسه، ويصبح بدل الالتفات إلى قيم الإنسان لتحقيق كرامته وإنسانية، ندور وفق شخوص التأريخ، كما يحدث اليوم في تجسيد مسلسلات تأريخية آخرها الجدل حول مسلسل معاوية بن أبي سفيان، والذي عادة ما تعرض هذه الأفلام والمسلسلات التأريخية لأجل انتصارات طائفية ومذهبية، يجعل العقل الإسلامي والعربي يعيش تلك الحقبة وفق صراعتها السياسية، لتشغله عن مشاكله الإنسانية الكبرى اليوم، وتحقق رؤية الإنسان في البناء الحضاري، والتعدية الثقافية وفق اللحظة التي نعيشها.
هذا الأمر ذاته في الجدليات الكلامية، والاجتهادات الفقهية، فلها أسبابها التأريخية، وطبيعتها المتحركة وفق الأدوات العقلية، والظروف الزمكانية، وتشكل مذاهب كلامية وفقهية وغنوصية، فهي حالة طبيعية تدل على سعة المتحرك ما بعد النص ذاته، لا أن يتحول هذا المتحرك إلى نص مغلق يعوق حركة نهضة الإنسان، ويجعله يعيش في صراعات كلامية، وخلافات فقهية، تحولت إلى دين متراكم بسبب الاجتهاد البشري، والذي سيكون هذا الدين المتراكم تأريخيا لا نصيا سببا مؤديا إلى صراعات سياسية وأهلية تؤدي بشكل طبيعي إلى الجهل والمرض والفقر، وليس إلى الإحياء والبناء وتحقيق مقاصد القيم الكبرى وفق زمنية ومكانية اللحظة وليس الماضي المنتهي بظروفه الزمكانية.
الدين بهذه الصورة المتراكمة يؤثر في الاجتماع البشري، كما أنه سيؤثر بشكل طبيعي في المتحرك السياسي، فهنا يأتي ثاني الثالوث وهو السياسة، والتي في الأصل أن تتحرر من الماضي لتهذب أدبيات الماضي ليعيش واقعه، وأن تعنى بقيم الإنسان الكبرى لتحقيق مصاديق كرامته وإنسانيته، لنجد اليوم العديد من السياسات تكون سببا كبيرا في تخلف المجتمعات، وقيده إلى طيش الخلافات والصراعات الأهلية، والأصل في السياسة أن تكون خارج صندوق المكونات الدينية والمذهبية والثقافية، منطلقة من ذاتية الإنسان الواحدة والمتساوية لتحقيق العدالة في ضوء المحافظة على المواطنة الواحدة والمشتركة، بيد أنها تحصر ذاتها في صندوق الطائفية، للحفاظ والتقرب مع هيمنة طائفة ما لها الغلبة لسبب ديمغرافي أو تأريخي أو مادي، فتضيق سعة السياسة لأنها دينت، كما أنها تفسد الدين ذاته، ويحدث التزاوج السلبي بينهما، والذي يساهم بشكل كبير في غياب قيم الإنسان وذاتيته الواحدة، وجره إلى مصاديق مؤدية إلى الجهل والمرض والفقر.
هذا الأمر ذاته ينطبق على الثقافة، وهي في الأصل واسعة ومستقلة في الوقت ذاته، وغايتها الإنسان، فهي راصدة وناقدة للدين التأريخي والسياسات المستندة إليه، والخطاب المترتب عليهما يعتبر ضمنيا خطابا ثقافيا، بيد أنه إجرائيا إذا استقل الخطاب الثقافي يتهذب هذان الخطابان؛ لأن الخطاب الثقافي دائرته أوسع، وينطلق من قاعدة مستقلة، فإذا كان المثقف مصالحيا لا ينطلق من غاية الإنسان، ودوره المستقل في تحقق قيم الإنسان، متجاوزا الماضي إلى الحاضر، والأنا إلى الذات الإنسانية، هذا المثقف إذا لم يحافظ على هذا الخط الرأسي، لن يكون بينه وبين من يحيي صراعات ماضوية، أو يريد أن يحافظ على وجوده ومنافعه وشهرته باسم الطائفة أو المذهب أو الدين أو المجتمع؛ لن يكون بينهما فارقا إلا في الأدوات المستخدمة، ويكون أيضا أداة للسياسة السلبية القائمة على تكريس التخلف، ثم تكون الثقافة هنا ثالوث التخلف المؤدي إلى الجهل والمرض والفقر تماما.
***
بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

 

بين التشويه والاستيعاب القسري

في عمق البنية الثقافية العربية، حيث تتشابك أنساق السلطة مع ميراث طويل من الأبويّة، تتجلى المؤسسة النسوية كإشكالية معقدة، لا باعتبارها صيرورة تحررية فحسب، بل بوصفها موضعًا للصراع بين خطابين متنافرين: خطاب الهيمنة الذكورية، الذي يسعى إلى نفيها أو استيعابها المشروط، وخطاب التحرر النسوي، الذي يواجه وطأة الإقصاء والتشويه.
هذه الثنائية ليست مجرد تجلٍّ عابر لسلطة تستميت في الدفاع عن مركزيتها، بل هي جزء من منظومة أوسع من الاستلاب الثقافي، الذي يحوّل النسوية إلى سردية مضادة، لا بوصفها نقدًا لبُنى التسلط، بل كتهديد يتطلب التفكيك أو الاحتواء.
ما إن تطرح النسوية إشكالاتها داخل الفضاء العربي، حتى تُواجَه بآليات دفاعية تتراوح بين العداء العلني والاستيعاب المُفرغ من المضمون. هنا، تستدعي السلطة الذكورية أدواتها التقليدية: التشويه الأخلاقي، التنميط، والتأطير داخل سرديات جاهزة تُجرّد الخطاب النسوي من جذريته.
إنها عملية تقويض ممنهج، حيث لا يُسمح للخطاب النسوي أن يوجد إلا بوصفه خطابًا مشوّهًا أو مُحتوًى داخل الأطر المسموح بها. وهذا ما يجعل من النسوية، في المخيلة الذكورية العربية، كيانًا خاضعًا للرقابة الدائمة، حيث لا يُسمح لها بأن تتجاوز الحدود المرسومة لها مسبقًا.
في هذا السياق، يُعاد تعريف النسوية داخل النسق الأبوي، بحيث تصبح مقبولة فقط إذا لم تصطدم بالبنى التقليدية، بل عملت ضمن منظومة القيم نفسها، كإصلاحٍ داخلي، لا كتحرر جذري.
وهذه الاستراتيجية ليست مجرد فعلٍ واعٍ من السلطة، بل هي جزء من العنف الرمزي، الذي تحدث عنه بيير بورديو، حيث تُمارَس السيطرة ليس عبر القمع المباشر فقط، بل من خلال تطبيع أنماط التفكير التي تجعل من الهيمنة أمرًا بديهيًا وغير قابل للنقاش.
إن هذا العنف الرمزي هو الأخطر، لأنه يعمل بلا وعي مباشر، مما يسمح للسلطة الذكورية بإعادة إنتاج ذاتها بأشكال أكثر خفاءً، حتى في اللحظات التي يبدو فيها أن النسوية تحقق تقدمًا.
تعتمد المنظومة الذكورية، في تعاملها مع النسوية، على استراتيجيتين متوازيتين:
الأولى: الإقصاء والتشويه، حيث يتم تصوير النسويات بوصفهن كيانات متطرفة، مشوّهة، ومستوردة من “الآخر الغربي”، في تكرار لنمط الاستشراق، حيث يتم إسقاط صورة دخيلة تتناقض مع “أصالة” الثقافة المحلية.
أما الاستراتيجية الثانية، فهي الاستيعاب الناعم، حيث يُعاد تقديم النسوية عبر قوالب مقبولة: المرأة بوصفها جزءًا من “الأسرة”، أو النسوية بوصفها “حقوقًا” لا تمسّ عمق البنية السلطوية، بل تتعايش معها.
وبهذا الشكل، تتحول المطالب النسوية إلى مطالب شكلية، خاضعة لشروط النظام، الذي يفترض أنه يُحدث تغييرًا، بينما هو في الحقيقة يعيد إنتاج نفسه بشكل أكثر مرونة.
إن فداحة الصدام بين النسوية والمنظومة الذكورية لا تكمن فقط في رفض الاعتراف بحقوق النساء، بل في تحويل النسوية ذاتها إلى خطاب هش، مُراقب، مشروط.
فحتى حين يتم السماح بظهور أصوات نسوية، فإنها تُنتقى بعناية، بحيث تتناسب مع ثقل المؤسسة الذكورية، فلا تخلخل استقرارها.
إن ما يحدث هنا هو إنتاج “تعددية زائفة”، حيث يُسمح ببعض التنوع، لكن ضمن حدود لا يمكن تجاوزها. وهكذا، تبدو النسوية وكأنها تحظى بقبول تدريجي، لكنها في الواقع لا تزال خاضعة لمنطق السيطرة، الذي يفرض عليها أن تكون “مقبولة” حتى يُسمح لها بالوجود.
في هذا السياق، تتجلّى النسوية لا كحركة تحرر فحسب، بل كموقع للصراع الدائم، حيث يتم التعامل معها بوصفها كيانًا “زائدًا عن الحاجة”، أو، على الأقل، مشروعًا يمكن تأجيله حتى تحلّ “المشكلات الأكثر أهمية”.
هذا الخطاب الموارب يعكس آلية التأجيل المستمر، حيث يتم ترحيل أي تغيير حقيقي إلى ما لا نهاية، تحت ذرائع الاستقرار والخصوصية الثقافية.
وهكذا، تبقى النسوية أسيرة لحالة من التعليق المستمر: لا هي مُعترف بها بالكامل، ولا هي قادرة على تحقيق قطيعة فعلية مع البنية الأبوية.
إن الخروج من هذه الحلقة المُفرغة يتطلب تفكيكًا جذريًا للسرديات التي تكرّس السلطة الذكورية، لا عبر إعادة إنتاج مطالب إصلاحية داخل النظام، بل عبر زعزعة أسس النظام ذاته.
وكما أشار جاك دريدا، فإن النقد الجذري لا يكتفي بتحليل النص، بل يجب أن يذهب إلى البنية التي تنتجه، ويفكك المسلّمات التي تجعل من الهيمنة واقعًا غير مرئي.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن النسوية، في جوهرها، ليست مجرد مشروع لتحرير النساء، بل هي ممارسة فلسفية تهدف إلى تفكيك الأنظمة السلطوية بأكملها، باعتبار أن قمع النساء ليس منفصلًا عن قمع الفئات الأخرى.
في النهاية، تظل معركة النسوية داخل الفضاء العربي مشدودة بين خطابين:
خطاب الهيمنة، الذي يسعى إلى احتوائها، وخطاب التحرر، الذي يواجه الإقصاء والاستلاب. إن المهمة اليوم ليست في المطالبة بمكان داخل النظام، بل في إعادة التفكير في إمكانية نظام مختلف، نظام لا يقوم على الامتيازات الذكورية، بل على عدالة جذرية تتجاوز الثنائية التقليدية للسلطة والخضوع.
وكما يقول ميشيل فوكو: “حيث توجد السلطة، يوجد من يقاومها”، والنسوية ليست سوى أحد أكثر أشكال هذه المقاومة إصرارًا، لأنها لا تسعى فقط إلى مواجهة التراتبية، بل إلى كشف زيفها من الأساس.
السؤال ليس: هل ستنتصر النسوية أم لا؟ بل: كيف يمكنها أن تواصل هدم السرديات التي تكرّس هشاشتها المصطنعة، لتصبح ليس مجرد خطاب مقاومة، بل مشروعًا لتحرير المجتمع بأسره من فداحة الهيمنة؟
***
إبراهيم برسي

دراسة تحليلية في المجتمعات العربية

المقدمة: تلعب البيئة الثقافية دورًا جوهريًا في صياغة الوعي الجمعي للمجتمعات، حيث تتداخل العوامل الثقافية، الاجتماعية، الدينية، والتعليمية في بناء منظومة فكرية مشتركة تحدد طريقة إدراك الأفراد للعالم من حولهم. في المجتمعات العربية، يبرز هذا التأثير بوضوح من خلال التقاليد المتوارثة، والبنية القيمية، والتأثير الإعلامي، مما ينعكس على أنماط التفكير والسلوك الاجتماعي والسياسي. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل العوامل التي تسهم في تشكيل الوعي الجمعي العربي، واستكشاف الآليات التي تعزز أو تعيق تطوره في ظل المتغيرات الحديثة.
أولًا: مفهوم الوعي الجمعي والبيئة الثقافية
يشير الوعي الجمعي إلى مجموعة الأفكار والمعتقدات والمفاهيم التي يتبناها أفراد المجتمع بشكل مشترك، والتي تشكل تصوراتهم تجاه القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية. وقد صاغ عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم هذا المصطلح للإشارة إلى الدور الذي تلعبه الثقافة في توحيد المجتمعات وضبط سلوك الأفراد. في السياق العربي، تتسم البيئة الثقافية بتداخل العوامل الدينية والتاريخية والسياسية، مما يجعل الوعي الجمعي عرضة للتحولات تبعًا للمؤثرات المتجددة.
ثانيًا: دور العوامل الثقافية في تشكيل الوعي الجمعي العربي
1. الدين والبنية القيمية:
يعد الدين عنصرًا مركزيًا في تشكيل الوعي الجمعي العربي، إذ يؤثر في الأخلاق العامة، والسلوكيات الفردية، والتصورات الجماعية تجاه مفاهيم مثل العدالة، والهوية، والسلطة. ومع ذلك، تختلف مستويات تأثير الدين بين المجتمعات تبعًا لمدى تداخله مع الدولة والسياسات الرسمية.
2. التعليم والمناهج الدراسية:
يلعب التعليم دورًا رئيسيًا في تشكيل الوعي الجمعي، حيث تعمل المناهج الدراسية على نقل القيم والمعرفة للأجيال الجديدة. غير أن العديد من الأنظمة التعليمية العربية تعاني من الجمود، مما يؤدي إلى تكريس أنماط تفكير تقليدية بدلًا من تعزيز النقد والتحليل المستقل.
3. وسائل الإعلام وتأثيرها المتباين:
أحدثت وسائل الإعلام التقليدية والرقمية تحولًا كبيرًا في تشكيل الوعي الجمعي العربي، إذ باتت تؤدي دورًا مزدوجًا بين نقل المعرفة وترسيخ الأيديولوجيات المختلفة. في ظل العولمة الرقمية، أصبح الإعلام أداة يمكن توظيفها لتعزيز الانفتاح الفكري، أو على العكس، لترسيخ التصورات النمطية والتلاعب بالرأي العام.
ثالثًا: تحديات تطور الوعي الجمعي في المجتمعات العربية
1. الإرث الاستعماري وتأثيره على العقل الجمعي:
شهدت المجتمعات العربية مراحل استعمارية تركت بصماتها على الهوية الثقافية والوعي الجمعي، حيث خلقت ثنائية بين الأصالة والمعاصرة، وأنتجت حالة من الارتباك في التوجهات الفكرية.
2. السلطوية الفكرية وقمع النقد:
في بعض الدول العربية، يُنظر إلى النقد الفكري على أنه تهديد للاستقرار، مما أدى إلى تقييد الحريات الفكرية والإبداعية، وتعزيز ثقافة الامتثال بدلًا من التفكير النقدي.
3. الحداثة والتقليدية: صراع الأجيال:
يواجه الوعي الجمعي في المجتمعات العربية تحديًا مزدوجًا يتمثل في التوفيق بين التقاليد المتوارثة ومتطلبات الحداثة، مما أدى إلى بروز فجوات فكرية بين الأجيال المختلفة.
رابعًا: استراتيجيات تطوير الوعي الجمعي في العالم العربي
1. إصلاح النظام التعليمي:
ينبغي إعادة النظر في المناهج الدراسية لتشجيع التفكير النقدي، وتعزيز قيم الإبداع والبحث العلمي، بدلًا من التلقين الذي يعزز العقلية النمطية.
2. تعزيز الإعلام المستقل والموضوعي:
دعم الصحافة الحرة ومنصات التواصل الاجتماعي التي تقدم محتوى نقديًا وتحليليًا يساهم في تعزيز وعي جمعي قائم على الحقائق بدلًا من التوجيه الأيديولوجي.
3. تشجيع الحوار الفكري والتعددية الثقافية:
الانفتاح على التيارات الفكرية المختلفة يساهم في بناء وعي أكثر شمولية، ويساعد على تجاوز الانقسامات العقائدية والسياسية التي تعيق تطور المجتمعات.
الخاتمة
يمثل الوعي الجمعي حجر الأساس في بناء المجتمعات وتوجيه مساراتها المستقبلية، وهو نتاج البيئة الثقافية التي تتشكل من خلال التفاعل بين الدين، والتعليم، والإعلام، والعوامل التاريخية. في العالم العربي، يواجه الوعي الجمعي تحديات متجددة تتطلب إعادة التفكير في آليات تكوينه، لضمان خلق بيئة فكرية قادرة على مواجهة التغيرات العالمية دون فقدان الهوية الثقافية. إن تحقيق هذا التوازن يتطلب إرادة سياسية، وإصلاحات مؤسسية، وتطورًا في الخطاب الثقافي، ليكون الوعي الجمعي أداة للنهوض بدلًا من أن يكون عائقًا أمام التقدم.
***
سجاد مصطفى حمود

(مقالات حول مفاهيم) الوجود القرآني

لم يكن دافع هذه المقالات وجودها في شهر رمضان الكريم فحسب. بل هي تمتد الى سنوات عديدة مضت كتبت خلالها. مجموعة افكار منها (الاحاسيس في القران الكريم. المستقبل في القران. هوامش السرد الفكري في القران. بين منطق ارسطو ومنطق العالم الاخر. المنهج في القران. مفهوم الشيء في القران. الحداثة القرانية المطلقة. الحضارة الشيطانية. الموجات الحضارية السالبة. وافكار اخرى اعتز بها.
وعند الحديث عن الذاكرة والشيطان فلانهما مفهومان قرآنيان ارتبطا بالفكر والمعرفة والنفس والاجتماع والميتافيزيقا على حد سواء.
وما من شك ان النسيان وهو الالية التي تنزلق من نافذة غرفة الذاكرة. يمثل احد اهم اعداء التوحيد. والذي يمكن اعتباره (التوحيد) نوع من انواع المعرفة لانه يرتبط بالاستدلال والتعقل. لاكتشاف وجود اخر. تذكره النصوص الدينية.
ولو استعنا باراء فلاسفة الاسلام. سوف نرى بان الفارابي يستعرض عملية المعرفة من خلال الحواس ظاهرة وهي الخمسة ثم الحواس الباطنة وتتألف الحواس الباطنة من الحس المشترك والخيال أو المخيلة والذاكرة والوهم. وهي قوة عديدة تكون في النفس.
‏و تساعدنا الذاكرة باستدعاء الصور او المواقف التي يجمعها الإنسان من الطبيعة للاستفادة منها.
‏وما حدث من خلال تاريخ البشرية نفهم بأن النسيان وهو عطب يصيب الذاكرة، لعدد من الاسباب منها الداخلي والخارجي. فالخارجي هو عملية تغيير الوقائع من خلال البث او الالهاء. او مشاكل اقتصادية. واجتماعية او عمال الوسوسة الشيطانية وهي ترتبط بالوجود الانساني اما العامل الداخلي. فلربما ارتبط بالضعف العقلي او ضعف البدن. او المشاكل النفسية او ضغط العمل او الوراثة والنسيان هو الصورة المقلقة الاشد ضررا للإنسان وتاريخ الإنسانية.
ان منهجية الشيطان هو ان يُنسي الإنسان العديد من التفاصيل المهمة او الاستراتجية في حياته. فالشيطان يسعى إلى جعل الإنسان ينسى ذكر الله والتزام أوامره. وهذا ما يرد في النص القراني (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ (سورة المجادلة: 19). حتى ان اول لحظات شروع البشرية وآلامها. ارتبط بالنسيان (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ (سورة طه: 115). هنا يُشير القرآن إلى أن آدم عليه السلام نسي العهد بسبب وسوسة الشيطان. وفي نص قراني اخر (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (سورة الأنعام: 68). او قوله تعالى (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾ (سورة المجادلة: 19) وفي سورة يوسف قال تعالى (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ (سورة يوسف).
ولا ريب ان مرجعية هذا النسيان تكمن في جانب اداري في وجود الانسان فهو يبتعد عن تفاصيل الله ومنهجه. ليعمل (اداريا) بمنهجية اخرى للسهولة او للمنافع العاجلة او للراحة النفسية او للذة وقد وصف القران الكريم. كل تلك العملية بقوله تعالى (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ (سورة الزخرف: 36)، وهذه مسالة اشبه بالادارية. فترك الخروج الى الشمس والانكماش بغرفة معتمة سيقود كل الانسجة والاعضاء الى التعود على الظلام. والادمان عليه.
ولا يمكن الاستهانة بالقدرة الكبيرة للشيطان على انتاج الشذوذ مع ان كيده يوصف بالضعف. فهو يدير العوالم المتعددة. ولسنوات عديدة. ويعتمد الية اشبه بالتنويم المغناطيسي بمعادلة (قادت الى تبني الغضب او تقديم الالهاء او الشهوة او الرغبة والذي ينسجم مع رغبة الاخر بشكل كبير. والى قراءة لقوة ومقياس وحجم الرفض لدى الاخرين. وفهم التحدي والاستجابة. ولذلك فقد نجح باغواء العديد من الناس وفق ضعف الذاكرة. لكنه فشل مع الانبياء سيما ابراهيم واسماعيل ومريم وايوب وعيسى ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه.
ان الآيات القرآنية توضح أن الشيطان يعمل على إغواء الإنسان من خلال الوسوسة واستغلال أفكاره وذكرياته. الذاكرة هنا ليست مذكورة بشكل صريح، لكنها تظهر ضمن السياقات التي تتحدث عن الوسوسة، والتوبة، والشهوات، والغفلة. يمكن تفسير هذه الآيات على أنها تحذر من كيفية استغلال الشيطان للذاكرة الإنسانية لإبعاد الإنسان عن طريق الحق. ان الآيات التي تشير إلى علاقة الذاكرة بالشيطان تشمل آيات الوسوسة (سورة الناس، سورة طه)، التوبة (سورة آل عمران)، الغفلة (سورة الأعراف)، واستغلال الشهوات (سورة يوسف).
ومن دون شك فان الشيطان يستغل غفلة الإنسان وضعف ذاكرته الروحية كما تصورها سورة الأعراف (7: 201) بقوله تعالى (الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ"
ومن اجمل المكاشفات هي تلك الحوارية التي تكشفها سورة إبراهيم (14: 22). بتنصل الشيطان من التزاماته. فالشيطان يذكر الناس بما فعلوه بناءً على وسوسته، مما يعكس فكرة أنه كان يستغل ذكرياتهم وأفكارهم لإغوائهم.
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
‏ولان القرآن هو المادة المقررة او المنهج الذي رسم للمسلمين. سيكون من الطبيعي أن يسلط الشيطان أدوات على تبديد أو حرف ذلك المنهج كما فعل في الكتب السابقة. الا إن ذلك الكتاب الحيوي و الجوهري في تاريخ الإنسانية موسوم بالحفظ كما في قوله تعالى: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” (الحجر: 9).
واظن بأن من أهم جوانب الوعي. واتضاح الذاكرة. هو تلك الصورة المحزنة والمخيفة. وذلك الكشف الذي سيكون عند نهاية البشرية والرحيل إلى العالم الآخر. والقيام بعرض الذاكرة المخفية لافعال الإنسان ووصف مشاهد التذكر في الآخرة، ويعبر القران عن ذلك المشهد بقوله تعالى (وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين، هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون” (الصافات: 20-21).
***
ا. د. رحيم محمد الساعدي

المعطيات الحضارية السريعة والمتجددة تشكل تحديا كونها تجري داخل حركة زمانية ومكانية وتحاول بناء لغة جديدة ترتكز على العلم واشكاليات المعرفة، اذ ليس هناك أكثر اغراء من حضارة تتمأسس علميا وتقترب من الواقع الإنساني بخطاب عقلي بعيدا عن الأوهام المريحة، المجاهرة بالغباء" عبارة تشير الى إظهار الشخص أو المجموعة لجهلهم أو عدم القدرة على فهم الأمور بطريقة صحيحة، تُستخدم هذه العبارة في سياقات مختلفة، سواء في النقاشات العامة أو على وسائل التواصل الاجتماعي، لتعبر عن استنكار أو نقد للأفكار أو الآراء التي تبدو غير منطقية أو غير مدروسة، إبداء آراء مبنية على معلومات مضللة، و تقديم أدلة غير تجريبية من وحي الخيال البدائي ، واستخدام منصات وسائل التواصل الاجتماعي مثل تويتر أو فيسبوك او التكتوك، لنشر تعليقات أو مقاطع فيديو تظهر قلة الفهم لموضوعات عميقة و معقدة، مثل الاقتصاد أو الطب والدين والتحدث في مواضيع خارج مجال الخبرة الشخصية، مثل إبداء الرأي في قضايا طبية بدون خلفية علمية، التفاخر بعدم الحاجة للتعليم أو المعرفة، والاعتقاد أن الخبرة الحياتية وحدها كافية لفهم جميع الأمور، هنا يجب التمييز بين الجهل البسيط والمجاهرة بالغباء، هذا يتطلب فهمًا دقيقًا لكل منهما من ناحية معرفية، الشخص الجاهل قد يكون مهتمًا بالتعلم أو البحث عن المعرفة، يمكن أن يظهر الشخص الجاهل تواضعًا في اعترافه بعدم معرفته، وقد يسعى لتصحيح جهله، الغباء هو إظهار الجهل بطريقة متعمدة أو من دون إدراك للجهل، وغالبًا ما يرتبط بالثقة المفرطة بالنفس، الشخص الذي يجاهر بالغباء لا يكون مهتمًا بالتعلم أو يرفض قبول الحقائق ، يمكن أن يظهر الشخص المجاهر بالغباء عدم احترام للمعرفة أو الخبرة، وقد يتحدث بثقة عن مواضيع لا يمتلك أي معرفة بها، يدلي برأي حول موضوع علمي معقد دون معرفة، يظهر ثقة مفرطة في رأيه بالتالي يمكن القول إن الجهل البسيط يُعتبر حالة طبيعية يمكن تجاوزها بالتعلم، بينما المجاهرة بالغباء تعكس سلوكًا غير واعٍ أو متمرد على المعرفة، مما يؤدي إلى نشر معلومات خاطئة والتي تعتبر ادعاءات دون براهين.
التحيزات الشخصية والمجاهرة بالغباء
التحيزات الشخصية وتحديدها يتطلب ممارسة الوعي الذاتي والتفكير النقدي، قد تساعد هذه العملية على تجنب تأثيرها، كوننا ننظر فقط إلى المعلومات التي تؤكد اعتقادنا، ولا نأخذ في الاعتبار وجهات نظر أخرى. ان استخدم أساليب التفكير النقدي عند تقييم الآراء يجب ان يبنى على أسئلة ذاتية، مثلا ما الأدلة التي تدعم هذا الراي او ذاك الراي؟ وهل هناك وجهات نظر أخرى يجب أن ننظر إليها؟ يتطلب هذا وقتًا وجهدًا لكن من خلاله، يمكننا تعزيز الوعي الذاتي وتطوير القدرة على التفكير النقدي بشكل أفضل. نتيجة التحيزات الشخصية يمكن ان نواجه مشكلة أخرى وهي الدفاعية، يشكل التغلب على الدفاعية عند مواجهة آراء مختلفة وعيًا وجهدًا أيضا، يجب ان نكون واعيًن لمشاعرنا وأفكارنا عندما نتعرض لآراء مختلفة. ان الاستماع بغضب وعدم محاولة فهم وجهة النظر الأخرى بالكامل، لا يعزز من الدفاع عن الرأي ويطرح أسئلة حول سوء الفهم وقد يغير وجهة نظر الآخر، ويمكن أن يظهر عدم الاهتمام والاستعداد للنقاش، يجب أن نعترف ان الاختلاف في الآراء امر طبيعي. والنظر الى النقاش كفرصة للتعلم بدلاً من معركة علينا الفوز بها، وذلك باستخدام كلمات تعبر عن الانفتاح واثارة اهتمام الاخر. يساعد هذا في تقليل التوتر خصوصا عندما نشعر بأننا قد نكون على خطأ، يجب ان نكون مستعدًين للاعتراف بذلك. من المهم أن نكون منفتحًين على التعلم من الآخرين والتركيز على الأفكار وليس الأشخاص. واعتبار الاخذ بالآراء المختلفة كإهانة شخصية، والنقد فرصة للانتقام. يؤدي الغباء والجهل إلى عدم استخدام التفكير النقدي، حيث يعاني الأفراد من عدم القدرة على تحليل المعلومات بشكل فعال، التفكير النقدي يتطلب وعيًا ومعرفة، مما يمكّن الأفراد من تقييم الأفكار والآراء بدقة، عدم الادراك لمفاهيم معينة أو الافتقار إلى المعرفة الأساسية، يصعب من اتخاذ قرارات مستنيرة أو توجيه انتقادات بناءة ، لذا من المهم تعزيز التعليم وتطوير مهارات التفكير النقدي لدى الأفراد، مما يساعد على فهم العالم بشكل أفضل والتفاعل مع المعلومات بطرق أكثر واقعية .السؤال التالي يشكل أهمية محورية وهو حول الاصرار على معلومات مؤسطرة وتطبيقها على حقائق علمية موثقة تجريبيا ، هل هو غباء ام جهل بسيط..؟ الإصرار على معلومات مؤسطرة وتطبيقها على حقائق علمية موثقة تجريبياً يمكن أن يعكس مزيجاً من الجهل البسيط والغباء، قد يعني أن الشخص يفتقر إلى المعرفة أو المعلومات الصحيحة حول موضوع معين، في هذه الحالة، يكون الشخص غير مدرك لمصداقية الحقائق العلمية أو غير متمكن من فهمها، وقد تشير إلى الافتقار إلى القدرة على التفكير النقدي أو الفهم العميقن إذا كان الشخص يتجاهل الأدلة العلمية الواضحة ويصر على معلومات غير صحيحة رغم وجود تناقض واضح، يُعتبر ذلك مجاهرة بالغباءً في نهاية المطاف، من المهم معالجة هذه القضايا من خلال التعليم والتوعية، مما يساعد الأفراد على فهم الحقائق العلمية بشكل أفضل وتقييم المعلومات بدقة.
الأسطرة الثقافية
بعض المعلومات المؤسطرة ثقافيا تكون متجذرة في التقاليد، مما يجعل من الصعب تغيير المفاهيم المترسخة حتى في وجه الأدلة العلمية، من الأسباب المهمة التي تؤدي الى ذلك تراجع الثقة في المؤسسات العلمية أو الطبية، يمكن أن يؤدي إلى الشك في المعلومات العلمية، مما يدفع الناس للاعتماد على مصادر غير موثوقة، المعلومات المؤسطرة غالباً ما تكون بسيطة وسهلة الفهم، مما يجعلها أكثر جذبًا مقارنة بالمفاهيم العلمية المعقدة ، كل هذه العوامل تساهم في استمرار وانتشار المعلومات المؤسطرة، مما يستدعي جهودًا أكبر في التعليم والتوعية.
دور الانحيازيات الايديولوجية
تلعب الانحيازيات الأيديولوجية دورًا كبيرًا في انتشار الغباء والجهل البسيط، يميل الأفراد إلى البحث عن المعلومات التي تدعم معتقداتهم الأيديولوجية، ويتجاهلون الأدلة التي تتعارض معها، هذا الانحياز يؤكد الجهل ويعزز الأفكار الخاطئة، الأشخاص الذين يتمسكون بأيديولوجيات معينة قد يرفضون المعلومات الجديدة أو الأدلة العلمية التي تتعارض مع تلك المعتقدات، مما يمنعهم من التعلم والتطور، الانحيازيات الأيديولوجية قد تؤثر على كيفية اتخاذ الأفراد للقرارات، مما يؤدي إلى اختيارات غير مدروسة بناءً على قناعات غير مبنية على حقائق، المجتمعات التي تتبنى أيديولوجيات معينة قد تكون متجانسة في أفكارها، مما يعزز من الانحياز الجماعي ويجعل من الصعب على الأفراد التفكير بشكل مستقل أو قبول وجهات نظر مختلفة، بعض الأيديولوجيات ترتبط بقيم ثقافية معينة، مما يجعل من الصعب على الأفراد التفكير بشكل نقدي حول تلك القيم أو مراجعتها، مما يؤدي إلى استمرار الجهل، وسائل الإعلام قد تعزز الأيديولوجيات من خلال تقديم معلومات منحازة أو مضللة، مما يؤثر على الرأي العام ويزيد من انتشار الأفكار غير الصحيحة، الأفراد قد يرتبطون بأيديولوجيات معينة كجزء من هويتهم، مما يجعلهم أكثر مقاومة لتغيير وجهات نظرهم حتى في وجه الأدلة القوية بشكل عام، تؤدي الانحيازيات الأيديولوجية إلى تعزيز الجهل البسيط والغباء عن طريق منع الحوار المفتوح والتفكير النقدي، مما يتطلب جهودًا لزيادة الوعي وتطوير مهارات التفكير النقدي.
العولمة وانتشار نظام التفاهة
العولمة تُسهم في انتشار المعلومات السطحية والغير دقيقة، إذ يتم تفضيل المحتوى السريع والاختزالي على حساب المعلومات المعمقة، مما يقلل من فرصة التعلم وسائل الإعلام الاجتماعية تروج لمحتوى ترفيهي وتافه، مما يؤدي إلى إلهاء الأفراد عن الموضوعات الجادة والعلمية، ويزيد من الجهل حول القضايا المهمة مع زيادة الاعتماد على مصادر المعلومات السريعة، وتراجع التفكير النقدي، الأفراد يصبحون أقل قدرة على تقييم المعلومات بشكل موضوعي، مما يُعزز الجهل بشكل عام، يسهم نظام التفاهة العالمي في تعزيز الجهل والغباء من خلال تقليل جودة المعلومات المتاحة، وزيادة التشتت الفكري، وتقليل القدرة على التفكير النقدي. هذه تظهر كيف يمكن للعولمة أن تساهم في تسطيح المعرفة، مما ينتج عنه فهم سطحي للعالم وقضاياه المعقدة وتجذر المجاهرة بالغباء وانتشار الجهل.
***
غالب المسعودي

يبقى تمثيل وقائع مِن التَّاريخ، ذات الشّجار الدِّينيّ والمذَّهبيّ، خطراً ليس في الحُسبان، فالمتلقي يتعامل مع المَشاهد واقعاً مجسداً أمامه فيلماً، يُطبع في ذهنه أنَّ المعروض ليس تاريخاً ممثلاً، ولى ومضى، إنَّما حاضرٌ حيَّ يعيشه بكلِّ جوارحه، يترصد عدوه مجسداً في الفيلم.
يجري التّراشق بتفاسير وتآويل للمعروض، فالمُشاهدُ لا يتعامل مع الشَّخصيات بفائدة التَّاريخ، إنما بعين ما رسمتها مخيلته، ملائكيَّة أو شيطنة، فلكلٍّ تدويناته وتهويلاته، مدحاً وقدحاً. كيف يُرجى مِن مؤلف السيناريو الحياد والموضوعيَّة، والتَّاريخ الذي غرف منه معلوماته متعدد الرّوايات، وكاتب النّص والمخرج ضالتهما الإثارة، لا يهمهما ما تسفر عنه، سلباً أم إيجاباً؟
فالكاتب لا يملك ثبت أمثال محمد بن جرير الطّبري (ت: 310هج)، الذي لم يتعبه تقصي الواقعة مِن مختلف الموارد، ولا يهمه ما عرف بـ «الجرح والتَّعديل». مع علمنا، أنَّ ما نقرؤه في كُتب الملل والنّحل، وفي حِقب مِن التّاريخ العام، ليس المعلومة التي يُطمأن إليها، فكلّ مؤرخٍ جعل شخوص فرقته ملائكةً وأعلى، بينما جعل الآخرين شياطين وأدنى، ومَن حاول الحياد جُلد بسِياط التَّسقيط، مِن قِبل الطَّرفين.
كيف يكون الأَمر، والدّراما الدّينية أو التّاريخيَّة، شأنها شأن غيرها، تقدم محلاةً محشاةً بزيادات ونواقص للإثارة والترويج، فأصحابها لا يكترثون بنتائج التَّأثير كفائدة اجتماعيَّة، لأنَّ النّجاح عندهم يحدده عدد المتفرجين، وأيّ عمل يثير الجمهور، وإنْ كان برنامج «زعيق»، يُعد ناجحاً بحصاد ملايين المشاهدات، بينما برامج ثقافيّة جادة، لها جمهورها الهادئ، عُطلت لأنْها لا تُنافس في أجواء الجهل.
أما عن كتابة الرّواية نصاً أدبيَّاً، فيغلب على الظَّن أن الذي أدخلها جرجي زيدان (ت: 1914) مِن كُتاب الغرب، وزيدان طبيب، ودارس للعلوم الطَّبيعية، ليته ترك التّاريخ واعتنى بطبه، لأنَّ ما صنفه تحت عنوان «روايات تاريخ الإسلام»، نشد فيه التَّشويق لقراءة كتبه، وليس صحيحاً قصد تشجع قراءة التّاريخ، فقد أدخل الخيال على الرّوايات، وفتح الباب أمَّام آخرين، دربوا على دربه وأسلوبه، وعاشوا على جهود المؤرخين، الأوائل والمعاصرين، فمن أجل الإثارة والتّشويق هُتكت شخصيات، ورفعت أُخرى، وأخذت هذه الكتب تُمثل دراما وكوميديات.
ذكر لي أحدهم منبهراً بما قرأه في نص أدبيّ تاريخيّ، أنَّ صفاً دراسيّاً جمع بين ثلاثة كبار صاروا، واتفقوا على التعاضد في المستقبل: الوزير نظام المُلك (اغتيل: 485 هج)، وقائد الحركة النّزاريّة حسن الصَّباح (ت: 519ه)، والشَّاعر عُمر الخيَّام (ت: 515 هج)، وشاع ذلك على أنّها حقيقة، وجد من نقل ذلك إثارة فجعلها في روايته، وهي كذْبة سبق أنْ كشفها طه أحمد شرف، في «دولة النّزاريَّة أجداد أغاخان» (القاهرة 1950)، وهذا مجرد مثال. إذا دخلت أكاذيب في تدوين التَّاريخ، لأسبابٍ وأغراضٍ شتى، فكُتاب السِّيناريوهات للدراما التَّاريخية، وكُتاب قصص التاريخ بأسلوب الرّوايات الأدبيَّة، زادوا في المشهد، ودورهم هنا ليس قصد التَّنابز المذهبيّ أو الدّينيّ، إنما طلب الإثارة والتّشويق، بقصد جذب المشاهدين والقراء، لهذا لا تجد مؤرخاً، يحترم عِلمه، يقرأ هذه القصص، ويشاهد تلك الأعمال، ويتخذها في مصادره، حتَّى مِن باب نقضها.
لا يجوز معاملة تدوين التّاريخ بالتمثيل وكتابة الأدب، فهو بشرقنا غير مأمون النَّتائج، لا تظنونه نزهة مشوقة لقراءة التّاريخ، فالعِلة بالملقن والمتلقي، أعمال تخوض في مواقف ومعارك، مَن يعتبرها نصراً لا ظُلم فيه، ولا تستطيع الدّراما أو الأدب تقديمها بأقل مِن هذا، بينما الذي وقع عليه النَّصر يراه قهراً، وهذه حقيقة المعارك كافة، فيها المنتصر والمهزوم. أقول: لا يُحجب التّاريخ في الدّراما أو الأدب، إلا ما يصعب على العوام تحمله مهما جُمل، وإلا هناك أضابير مِن الوقائع، التي يجتمع عليها النّاس، مِن الآداب والعلوم والفلسفات، تمثيل الوقائع الحياديَّة لا الملتهبة، حرصاً على الإثارة النَّافعة.
***
د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

عاش الغرب والعالم على مدى يقارب الثلاثة قرون، افتاحية انتقالية آليه انهت العصر الطويل من الانتاجية اليدوية ومترتباتها، ومايتناسب مع طبيعتها على المستويات كافة، وفي مقدمها المجتمعية، ومع الانقلابيه الشامله الالية والممتدة على مستوى المعمورة، لم يحظ الانقلاب المشار اليه بالتقييم اللازم المطابق كحدث مفصلي وانقلابي شامل ونوعي، في حين اضطلع الغرب نفسه بحكم انبجاس الالة بين تضاعيفه بالمهمه المنوه عنها، معتبرا نفسه جديرا بالتوفر على الاسباب التقييميه الضرورية للحظة، بينما كانت الظروف وقتها بصالح ميله الانفرادي وتميزه، مادام العالم ببقية مواضعه الاخرى مايزال خارج مفعول الانقلابة الحاصلة، تلك التي وضعت الغرب بما تسببت فيه من تسريع غير عادي للاليات المجتمعية والعقلية منها، بموقع الغلبة نموذجا وطريقة ادراك.
واليوم اذا ماجرى النظر الى الافتتاحية الانقلابية الالية، فان مايلفت النظر في اشتراطات والسياقات التي ادت اليها ورافقتها حتى الان، تظل تؤشر الى مجموعة عوامل كان من طبيعتها كما وجدت، ان تضع الانقلاب المستجد في حال من القصور وجوانب النقص التوهمي، من اهمها الجانب الموضوعي الذي يحصر التحقق الالي ضمن موضع بعينه من الكرة الارضية دون غيرها، مولدا حالا من اللاتساوي، وحيازة الغلبة القاهرة من قبل موقع دون سواه، مع توفر اسباب الامتداد والهيمنه التغلبية، استنادا لما قد صار متوفرا له من قدرات وامكانات غير عادية.
هذا في الوقت الذي لم يطرا على البال، ولا كان واردا التساؤل حول الغرب وهل هو مؤهل وقادر على التفاعل الضروري مع الحدث الحاصل بين تضاعيفة، وهل اذا تسنى له ان يكون الاول في مجال التعرف على الاله، فانه لابد ان يكون وبالحتم، كفوءا بما يتعلق بالتعرف الضروري على بعد الحدث الحاصل ومنطوياته الكونية الفعليه، ام ان هذا الطور من التاريخ البشري المجتمعي محكوم بان يمر بفترة افتتاح وطور ابتدائي اولي ومتدن على مستوى الادراكية الضرورية واللازمه، وان مايمكن توقعه من الحقبة مدار البحث، هو مجرد عتبه ذاهبه بالانقلابية المستجده الى الاكتمال اللاحق، بعد ان يكون مرورها قد وفر الاسباب والمعطيات اللازمة، وما هو ضروري من الشروط لبلوغ المسار الانتقالي كماهو مهيأ لكي يبلغه؟
هنالابد من اخذ المشروع الغربي المعاصر الموكول الى الانقلابيه الاليه بنظر الاعتبار، باعتباره هو الاخر محطة ابتداء، ليس من شانها، ولاهي منطوية حتما على مايدل على التحولية الحاصلة بكمال عناصرها، ومع النمطية المجتمعية الغربية الارضوية وازدواجها الطبقي كينونة، يكون من الاقرب للمنطق ان ياتي ماقد انتجته اللحظة مدار البحث ـ وهو مايبقى ساريا الى اليوم ـ من قبيل التوهمية والنظر الاني الموكول لنوع مجتمعي غير متناسب مع، ولايتطابق فعالية مع نوع وطبيعه الحدث الانقلابي الحاصل ونوعه وادواته، وبالدرجة الاولى افاق انقلابيته التاريخيه المجتمعية، ونوعها، خارج التعديل والتحسين، او الثورة الانتقالية داخل النوع المجتمعي ذاته، بامل الذهاب الى الحقيقة المتعدية للمجتمعية القائمه، فالاله لها نمط ونوع مجتمعيتها، مثلما كان لليدوية الانتاجية صنف مجتمعيتها الغالبة، وهذا من حيث الجوهر ماهو واقع اليوم.
ومع المخالفة غير المالوفة والخطرة لما معدود بمثابة ثابته نهائية غير خاضعه للمراجعه ولا النقاش، فان اللزوم يقتضي اعادة النظر في الظاهرة المجتمعية من زاوية اذا ماكانت معطى ابديا ثابتا، ام انها مثلها مثل كل ماموجود في الكون والطبيعية، ظاهرة يسري عليها قانون الوجود والفناء، او التحول، الامر المنطقي مع مايفترض من ترسيم تصيري لهذا العالم الوجودي الحي، بدءا من تشكله الاول وسيرورته التفاعلية الصائرة نموا الى الاعلى تقدما واكتمالا، وصولا الى ماينبغي افتراض يلوغه عند نقطة بعينها من المسار المذكور خارج الاعتقادية البديهوية الاعتيادية التي لاترى للمسار المجتمعي ومعه البشري مادته، اي احتمالية غير المعاشه، بلا نهاية، فالتشكلية والانطلاق الاول البدئي، ليس له في الذهن البشري احتمالية تحللية لاحقة، هي لحظة انقضاء الصلاحية، مع افتراض احتمالية التبادلية والتعاقب بافتراض افراز الظاهرة الراهنه مايعقبها من شكل مجتمعية ونوع حيوي اخر.
ومن اهم مايطالعنا لهذه الجهه موضوع الوسيلة المتداخلة مع نوع الوجود المجتمعي عندما تحل اليدوية وسيلة للانتاج، في صيغة مجتمعية هي بالاحرى وتلخيصا (التجمع + انتاج الغذاء) بعد وعلى انقاض طور (الصيد واللقاط)، ومن الواضح مدى الصله بين الحاجة الجسدية الاساس التي تتشكل المجتمعية الاولى في غمرتها وتلبية لها، مع القدر غير العادي من التماثل بيئيا ويدويا، وهما العنصران الرئيسان الطبيعيان، اللذان منهما ومن تفاعليتهما يتولد المبتنى المجتمعي، النوع والنمطية، حيث الغلبة الجسدية ومحركاتها الحاجاتية على العقل لدرجه اخضاعه لمقتضياتها، وهو ما يظل مستمرا مادامت الفعالية اليدوية مستمرة.
فاذا انتقلت المجتمعات الى العنصر الثالث الالة، واقحم على البنية الثنائية ( بيئة + كائن بشري) والتي هي العامل الحاسم التكويني البنيوي المجتمعي على مدى الطور الاول اليدوي، فان المجتمعية تكون وقتها قد بدات الانتقال الى طور مجتمعي اخر عناصره الاساس( بيئة + كائن بشري + آله)، وليس الى حالة "تقدم" ضمن المجتمعية الاولى كما قد كرس الغرب الاعتقاد بخصوص الانقلابيه الالية، مستغلا صيغتها الاولى الافتتاحية "المصنعية" ومعتبرا اياها الصيغة الاخيرة والانتهاء، مدللا بالمناسبة على قصورية ادراكية جوهر للحدث الانقلابي المستجد وحقيقته النوعية، بفعل العجز عن تبين، ناهيك عن ادراك تحوليته وعدم نهائيته النوعية، مع شكله المصنعي الاول.
فالالة ليست المصنع او قوة البخار، او حتى الكهرباء، ولا الدفقة الاولى من الانقلاب المترافق مع بدء الاصطراعية المتاتية عن اقتحام عنصر من صنف وطبيعة اخرى للعملية التفاعلية المجتمعية الاولى ومتبقياتها، من خارجها مختلف عنها نوعا وطبيعة، الامر الذي يلقي باثره على الظاهرة المجتمعية الموروثة كما هي بنيويا من جهه، وعلى الاله العنصر الاصطراعي التفاعلي نفسها، مامن شانه احداث عملية جديدة من التشكل، تترافق مع حالة موازية من التحلل المطرد، تظل تصيب المجتمعية بصيغتها الاولى اليدوية، فاذا بالاله تتحول بالاصطراع، الى التكنولوجيا الانتاجية الحالية، ثم التكنولوجيا العليا المنتظره والموشكه على الانبجاس من هنا فصاعدا، مهيئة الاسباب لتشكل المجتمعية الاخرى، العقلية مافوق الارضية الجسدية، تلك التي كانت ممكنه ومتلائمه مع الطور اليدوي.
عجز الغرب الحديث عن ان يدرك الطبيعة التحولية المجتمعية الالية، والتي تنتهي معها المجتمعية الاولى، فتبدا بالتحلل لصالح المجتمعية العقلية، وهو قد عجز بالذات امام طبيعة الالة ونوع مفعولها، فاعتبره من قبيل لحظة التقدم المجتمعي من اليدوي الى الالي، في حين ان الاله هي وسيله واداة تحول وانقلاب نوعي مجتمعي، يتولد عنه ماقد تولد من انتقال من (الصيد واللقاط) الى (التجمع + انتاج الغذاء) اي ان الاله هي موشر نهاية المجتمعية الراهنه، لاماقد رافقها من توهمات.
ـ يتبع ـ
***
عبد الأمير الركابي

إن المعاهد البحثية ومراكز الدراسات، قبل أن تكون انتاجاً ثقافياً ومعرفياً، هي منجز حضاري متميز.. إذ إن المعاهد البحثية هي المرآة التي تعكس اهتمام الأمم والشعوب بالعلم والمعرفة واستشراف آفاق المستقبل وفق المنظور العلمي والمعرفي.. كما تعكس توجه الأمم والشعوب في حفظ تراثها ومنجزاتها المعرفية والحضارية.. لأن حفظ المنجز الفكري والسياسي والاجتماعي والعلمي لمجتمع ما، هو ممارسة واعية بالتحولات والتطورات التي تحصل في المجتمع.. وعملية هادفة لتأكيد ذاكرة المجتمع الحضارية.. فالمعاهد البحثية، هي بمثابة المخزن والوعاء لذاكرة التاريخ الانساني، في أبعاده المختلفة، وعلى حسب اهتمام واختصاص مراكز البحث والدراسة..
والمراكز البحثية كحدث او منجز حضاري، هي وليد الواقع النهضوي، الذي يعيشه مجتمع ما.. إذ يسعى كل مجتمع في مسيرته النهضوية الى تأسيس الأطر والأوعية المنسجمة وظروفه التاريخية، التي تحفظ منجزاته العلمية والمعرفية، وتسعى نحو تطويرها وتأكيدها في الوسط العام..
وفي هذا القرن من الزمان، الذي شهد تطوراً هائلاً في مختلف الميادين والحقول، انبثقت عمليات الاهتمام المعرفي، وتبادل المعلومة والمعرفة والخبرة العلمية، ضمن إطار مؤسسي دائم، هو ما نطلق عليه اليوم "مراكز البحوث والدراسات".. فغدت الشعوب والأمم والحضارات، تتبادل معارفها، وتحافظ على مميزاتها وخصائصها، انطلاقاً من ورش العمل البحثية المنتشرة في أرجاء المجتمعات المتحضرة.. كما أصبحت مراكز البحث وسيلة فضلى، لعرض المنجز الفكري والعلمي والحضاري لأية أمة من الأمم.. ولكن أخطر ظاهرة تواجه العمل المؤسسي البحثي والدراساتي، هي نزعة الهيمنة المعرفية، التي تحول أنشطة المعهد البحثية الى أداة هدامة للمعارف الأخرى.. ففي الكثير من الأحيان، نجد أن معاهد الدراسة تسعى نحو توظيف تراث أمة أو فكرها لخط أيدلوجي وسياسي معين.. فيتم اخضاع المعرفة والمعلومة بشكل متعسف لذلك الخط الأيدلوجي أو التوجه السياسي.. وكمثال على ذلك يتحدث الدكتور محمد عبدالهادي، وهو صاحب مشروع (أمهات المسائل) في الفكر الاسلامي، معرباً عن دوافع اهتمامه بهذا المشروع قائلاً: "لقد كان الباعث لنا على التفكير في هذا المشروع أننا اطلعنا على نشرة المؤلفات الكبرى في العالم الغربي
The great books of the western world
التي أصدرتها دائرة المعارف البريطانية، وهي تشتمل على أهم كتب العلم والفلسفة والدين والأدب وجملة الثقافة الانسانية " 443 مصنفاً في 51مجلداً" لقد طرح مشروع الأفكار الكبرى من وجهة نظر الفكر الغربي وتطوره، ومن النادر جداً أن تجد اشارة عارضة الى الاسلام أو مفكريه. رغم أن الفكر الاسلامي كان قد دخل في تاريخ الفكر الغربي وأثر فيه، بعد أن كان قد احتل مكاناً كبيراً بين الفكر اليوناني والفكر القديم بوجه عام.
وفي إطار العالم الثالث ودائرته العربية والاسلامية، نجد هذه المسألة أيضاً بشكل واضح وجلي.. إذ إن الكثير من مراكز البحوث والدراسات ما هي إلا امتداد أيدلوجي وسياسي، لنظام سياسي معين، يسعى نحو توسيع رقعته الجماهيرية، أو استيعاب النخبة الثقافية والفكرية في إطار هذا المركز أو المعهد البحثي. وهنا يصبح المركز البحثي جزءاً من الترسانة الفكرية والأيدلوجية الذي يسعى من خلال نشاطه وأعماله البحثية والأكاديمية، الى توظيفها بما ينسجم ونزعة الهيمنة ومنطق المركزية الثقافية.. ولا نجازف إذا ما اعتبرنا عدم التجرد في شكل من الأشكال، هو احدى المشاكل الأساسية التي تعاني منها مراكز الأبحاث والدراسات.
ومن هنا نتبع أهمية الموضوعية، والاهتمام العلمي والبحثي والأكاديمي الجاد والهادف الى الوصول الى الحقائق دون توظيفها الأيدلوجي أو السياسي. ومن الضروري القول أيضاً، إن الدفاع عن الجدارة الذاتية على المستوى المعرفي والعلمي، لا يستلزم اقصاء الجدارة عن الآخرين.. كما أن انصاف الآخرين لا يعني تعطيل مسيرة الجدارة الذاتية.. فالثغرة المنهجية القائمة في الكثير من النماذج والتجارب البحثية والدراساتية، هي ثغرة التحيز واللاموضوعية، مما يفقد العمل البحثي بعده الحضاري وقيمته التربوية والتعليمية، التي تتجلى في اعطاء الرؤية وبيان الحقائق المتحررة من العناصر الدوغمائية والنظرة الواحدية. وعلى هذا نقول إن معاهد البحوث والدراسات، من الأنماط الحضارية المتقدمة في الاهتمام بالحقل المعرفي والعلمي وتهدف وتنشد الأمور التالية:
- تركيز وتكثيف الجهود البحثية والفكرية، حيث إن مراكز البحث ومعاهد الدراسات الاستراتيجية، تقوم بتكثيف الجهود المبذولة في هذا السبيل، مما يرجع على المتابع، وذوي الاهتمام الفكري والبحثي بالفائدة العميمة..
- دعم صناع القرار: دائماً رجل الادارة والتنفيذ بحاجة الى الجهود البحثية المركزة، التي تبلور له الخيارات وتوضح له السياسات، وتفصل له القضايا بشكل علمي ودقيق.. ولذلك نجد أن الكثير من الحكومات والاجهزة التنفيذية في المؤسسات العامة المحلية والاقليمية والدولية، تعمد على دراسات وأبحاث وخبرات مراكز البحوث والدراسات، واعتبارها هيئة استشارية لتلك الجهة أو ذلك الجهاز التنفيذي الحكومي أو الأهلي..
وكمثال على ذلك، نجد أن في الولايات المتحدة الأمريكية، ومع بروز ظاهرة الصحوة الاسلامية في العالم العربي والاسلامي بدأت مراكز البحوث والدراسات بالاهتمام بهذا الحقل، جمع الكفاءات والقدرات الفكرية والسياسية للاستفادة منهم في هذا المجال، للوصول الى تصور واضح واستراتيجي عن هذه الظاهرة.. ودائماً نجد أن مع نمو أي ظاهرة اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو اقتصادية، ينبري أهل الخبرة والاختصاص في الإطار المؤسسي الذي يجمعهم لدراسة تلك الظاهرة، وتقديم نتائج أبحاثهم وخلاصة آرائهم الى الحكومة أو الأجهزة التنفيذية في الولايات المتحدة الأمريكية..
- تطوير الحياة المعرفية في الوسط العام: بما أن مراكز الأبحاث والدراسات عادة ما تستقطب أصحاب الاهتمام والخبرة، لذلك فإن لمؤسسات البحث الدور الأساسي في تطوير الحياة المعرفية والفكرية والعلمية في الوسط العام. عن طريق أنشطتها الثقافية والعلمية ومنابرها الإعلامية المختلفة.. ولذلك نجد في الكثير من الدول والبلدان، أن وراء تقدم وتطور الحياة الثقافية والعلمية، مؤسسات ومعاهد ومراكز للبحوث والدراسات ف مختلف الحقول والاختصاصات.. حيث تقوم هذه المراكز برفد الساحة بالمعلومة الجديدة الموثوقة، والتحليل العلمي الرصين، وتبلور آفاق المستقبل. وتوضح المدلهمات من القضايا والأمور..
لذلك كله: تبقى مراكز الأبحاث ضرورة حضارية ونمطاً متقدماً مع العلم والمعرفة..
وعلى ضوء ذلك، نشعر بأهمية العمل على تأسيس مراكز أبحاث ودراسات وطنية، تأخذ على عاتقها تنفيذ المهام الوطنية الموكولة لها، وتطوير مستوى البحث العلمي في مجتمعنا. وفي هذا الإطار نود التأكيد على المقترحات التالية:
- تحظى المؤسسات الإعلامية في وطننا العزيز بإمكانات مادية وبشرية متميزة إلا أن هذه المنابر تفتقد الى مراكز للدراسات والابحاث. لذلك فإننا نشعر بأهمية أن تنطلق مؤسساتنا ومنابرنا الإعلامية، في تأسيس مراكز للدراسات والابحاث، وتضيف الى نجاحاتها نجاحاً جديداً من خلال تطوير العمل العلمي والثقافي والبحثي من خلال هذه المراكز والمؤسسات البحثية. ونهيب بجريدة الرياض الغراء، التي هي السباقة والمبادرة في تأسيس الانشطة والمؤسسات الثقافية والإعلامية، أن تبادر الى تأسيس مركز للأبحاث والدراسات، يكون جزءاً من منظومتها الإعلامية والثقافية، ويتكامل مع كل أنشطتها ومبادراتها في هذا الصدد.
ولعلنا لا نبالغ حي القول ان كبريات الصحف في العالم، تحتضن مؤسسات بحثية جادة، تأخذ على عاتقها تطوير مستوى البحث في أوطانها، ورفد النشاط الإعلامي والصحافي بالمزيد من المعلومات والأفكار والاستراتيجيات.
يحتضن وطننا (8) جامعات عريقة، استطاعت أن تخرج خلال هذه السنين عشرات الآلاف من الكفاءات والقدرات والكوادر الوطنية، إلا أن مراكز الأبحاث والدراسات في هذه المؤسسات العلمية العريقة ليس بمستوى الطموح. ونشعر بأهمية بلورة خطة وطنية جديدة، تأخذ على عاتقها تطوير هذا الحقل البحثي الهام.
تشجيع القطاع الخاص على تأسيس مراكز للأبحاث والدراسات، تأخذ على عاتقها تطوير المستوى المعرف للحقل والمجال الذي يتحرك فيه القطاع الخاص.
وجماع القول: ان مراكز الابحاث والدراسات، من القضايا الوطنية الهامة والحيوية، والتي تتطلب من الجميع القيام بجهد نوعي، في سبيل تأسيس بنية تحتية وطنية لهذه المراكز والمعاهد البحثية.
***
محمد محفوظ – باحث سعودي

 

في عالم يسوده هاجس التميز والمقارنة، تبرز التصنيفات الجامعية العالمية كبوصلة توجه الطلاب وأولياء الأمور في رحلة البحث عن أفضل مؤسسة تعليمية، وتساهم في تحديد السياسات التعليمية لبعض الدول، كما استخدمت نتائجها دول للتباهي بجودة جامعاتها.
هذه التصنيفات، التي تتصدر عناوين الأخبار وتثير نقاشات واسعة، تعد بمثابة دليل شامل لجودة التعليم العالي. لكن، هل حقًا تقدم هذه التصنيفات صورة دقيقة وواقعية عن جودة التعليم؟ هل تعكس حقًا التفوق الأكاديمي والبحثي، أم أنها مجرد مسرحية وهمية بمعايير مضللة وتقييمات مغلوطة؟ هل يمكن الاعتماد عليها كمرجع نهائي في اختيار الجامعة المناسبة، أم أنها مجرد أداة تسويقية تروّج لبعض المؤسسات على حساب أخرى؟
دعونا نسلط الضوء على بعض أوجه الخلل وعدم كفاءة وعقلانية هذه التصنيفات:
- معايير مضللة:
تعتمد التصنيفات بشكل كبير على مؤشرات محدودة، لا تعكس بالضرورة جودة التعليم بشكل شامل. على سبيل المثال، تركز على عدد الأبحاث المنشورة في المجلات عالية التأثير، ومنها البحوث المسروقة، دون الأخذ بعين الاعتبار جودة التدريس وفعالية التعلم ورضا الطلاب. هذا التركيز المفرط على الأبحاث يخلق حلقة مفرغة، حيث تسعى الجامعات إلى زيادة عدد المنشورات على حساب الجودة. يجب أن تتضمن المعايير مؤشرات أكثر شمولًا مثل الكفاءة الأكاديمية، وشمولية المناهج وتميزها، وتنوع أساليب التدريس، ومعايير القبول، ومعدلات التخرج، ونسبة توظيف الخريجين، وتقييمات الطلاب لجودة التدريس.
- تلاعب بالمعلومات:
لا توفر كثير من الجامعات معلومات صحيحة، ويتم فيها إضافة أو حذف على حسب «مهارة» الجامعة في تضليل المعلومات. وقد ظهر في مرات عديدة، وبصورة جلية تجريف للمعلومات مما اضطر مؤسسات التصنيف إلى تغيير ترتيب الجامعة. ومع أنه، بالإضافة إلى البيانات المقدَّمة من الجامعات، تعتمد مؤسسات التصنيف أيضًا على مصادر خارجية، مثل قواعد البيانات العلمية (مثل Scopus وWeb of Science) واستطلاعات الرأي بين الأكاديميين، وأصحاب العمل، والتي تساعد في التحقق من صحة البيانات المقدمة من الجامعات، وتوفير رؤية أكثر شمولًا لأدائها، إلا أنه يجب أن تكون هناك آليات أكثر صرامة، للتحقق من صحة البيانات المقدَّمة من الجامعات. ويجب على مؤسسات التصنيف أن تتعاون مع جهات خارجية مستقلة للتدقيق في هذه البيانات.
- محدودية عدد الجامعات المشاركة:
مؤسسات التصنيفات لا تصنِّف إلا الجامعات المشاركة، لذا فإنها لا تضم في تصنيفاتها إلا عددًا محدودًا من الجامعات، والتي لا تمثل أكثر من 5% من مجموع الجامعات العالمية، فهناك العديد من الجامعات في العالم التي لا تشارك في هذه التصنيفات، إما لأنها لا ترغب في ذلك، أو لأنها لا تستطيع توفير البيانات المطلوبة، أو لأنها لا تستوفي معايير التصنيف.
وهذا يعني أن التصنيفات العالمية لا تعكس بالضرورة مستوى الجامعة العالمي، أو جودة الجامعة في العالم، بل فقط بين الجامعات التي اختارت المشاركة. وتُظهر هذه النسبة المنخفضة نقص الاهتمام العالمي بالتصنيفات. ويعكس عدد الجامعات المشاركة من أية دولة اهتمام تلك الدولة وجامعاتها بالمشاركة. على سبيل المثال تضم إحدى التصنيفات 46 جامعة فقط من أصل 3982 جامعة أمريكية (بنسبة 1.2%) وهذا يثير تساؤلات حول مدى تمثيل هذه التصنيفات للواقع الفعلي للتعليم العالي في العالم.
- تقييمات مغلوطة:
تغفل التصنيفات دور العوامل الخارجية، مثل حجم الجامعة، وثرائها المادي في التاثير على نتائجها، مما يضفي مظهرًا زائفًا على تميز بعض الجامعات على حساب أخرى. ويبدو أن الجامعات ذات الموارد الأكبر لديها ميزة واضحة في إجراء الأبحاث، وجذب عناصر أفضل من أعضاء هيئة التدريس. من دون أن تأخذ التصنيفات في الاعتبار هذه العوامل الخارجية عند تقييم الجامعات فإنها تبقى متحيزة.
- مسرحية وهمية:
تصبح الجامعات منساقة وراء لعبة التصنيفات، مركزة جهودها على تحسين مؤشراتها المصطنعة بدلًا من التركيز على جوهر العملية التعليمية، وتطوير تجربة الطلاب. وهذا يحرف الهدف الحقيقي للتعليم العالي، وهو توفير تعليم جيد للطلاب، وإجراء أبحاث تخدم المجتمع. يجب أن تركز الجامعات على تحسين جودة التعليم بدلًا من السعي وراء الترتيب.
- تأثير سلبي:
تساهم التصنيفات في خلق بيئة تنافسية غير صحية بين الجامعات، لا تتعلق أبدًا بجودة التعليم والبحث والابتكار وخدمة المجتمع، مما يعوق التعاون، وتبادل المعرفة، ويحوّل التركيز من الارتقاء بالتعليم، بشكل عام، إلى السعي وراء الرتب المصطنعة، خاصة عندما يعتمد التصنيف على سياسة «ادفع أكثر تحوز مرتبة أفضل». التعاون وتبادل المعرفة هما اساس التقدم في التعليم العالي لذا يجب ان تشجع التصنيفات على التعاون بدلا من التنافس.
- إغفال التنوع:
تهمل التصنيفات احتياجات وتطلعات الطلاب الفردية، مقدمة صورة نمطية عن «أفضل» الجامعات دون مراعاة التنوع في مجالات التخصص، وأساليب التعلم وثقافات الطلاب. بينما يجب أن يختار الطلاب الجامعات التي تناسب احتياجاتهم وأهدافهم الفردية، وليس فقط الجامعات التي تحتل مرتبة عالية في التصنيفات.
- التحيز الثقافي والجغرافي:
يشارك في التصنيفات عدد محدود من الجامعات، وكل من يشارك يجد موقعًا فيها، إلا أن المواقع المتقدمة محجوزة لجامعات الدول الغربية، وبعض جامعات العالم النامي التي تدفع بعضها أموالًا طائلة، وتبقى المراتب المتأخرة متوفرة لجامعات الدول الفقيرة. وبما أن التصنيفات تركز على تمثيل الجامعات الناطقة بالإنجليزية، خصوصًا الأمريكية والبريطانية، فإن ذلك يؤثر سلبًا على تصنيف الجامعات في الدول النامية، والجامعات الناطقة بلغات أخرى، ما يعني أنه لا يوجد تمثيل عادل للجامعات من مختلف المناطق والثقافات.
الخلاصة:
تبرز التصنيفات الجامعية العالمية كمرجع للقيادات التعليمية وللطلاب وأولياء الأمور، لكنها تعاني من عيوب جوهرية؛ فهي تعتمد على معايير مضللة كالتركيز على الأبحاث المنشورة دون جودتها، وتتلاعب الجامعات بالمعلومات المقدمة. كما أن هذه التصنيفات تقتصر على عدد محدود من الجامعات المشاركة، مما يقلل من تمثيلها للواقع. وتغفل هذه التصنيفات العوامل الخارجية المؤثرة، وتخلق تنافسًا غير صحي بين الجامعات. وبالإضافة إلى ذلك، تهمل التصنيفات احتياجات الطلاب الفردية، وتُظهِر تحيّزًا ثقافيًا وجغرافيًا واضحًا.
***
ا. د. محمد الربيعي
بروفسور متمرس ومستشار دولي، جامعة دبلن.

 

التماسيح إذا جاعت تصبح مجنونة وان شبعت تنصرف الى النوم غير مكترثة، في بعض الحضارات القديمة عبدت اتقاء شرها لتصبح معتقدا يمارسه الانسان وهو في وضعية العجز المكرس يستمد طقوسه من إخفاقات الازمة، كذلك يُنظر إلى الصعاليك على أنهم متمردون أو خارجون عن القانون لكنهم مهذبون. اعتُبروا منبوذين تقليديا، حيث كانوا يتحدون الأعراف الاجتماعية، وأحيانا كان يُنظر إليهم بإعجاب بسبب شجاعتهم وكرمهم. شعراؤهم كان لهم تأثير قوي، وأعمالهم الأدبية تُعتبر جزءًا من التراث الثقافي العربي. تناول المؤرخون العرب الصعاليك بشكل متنوع، بعضهم رأى فيهم رموزًا للحرية والاستقلال، بينما اعتبرهم آخرون مثالاً على الخروج عن التقاليد تحولت قصص الصعاليك إلى أساطير شعبية، حيث أُبرزت شجاعتهم ومواقفهم النبيلة، مما ساهم في تشكيل صورة إيجابية عنهم في الثقافة العربية، بالمجمل، كانت نظرة المجتمع للصعاليك معقدة، تجمع بين الرفض والاحترام، مما يعكس التوتر بين القيم التقليدية والحرية الفردية، تغيرت النظرة إلى الصعاليك عبر العصور، سواء في سياق تاريخي أو اجتماعي.
صعاليك اليوم
بينما كان تمرد صعاليك الأمس مرتبطًا بالسياق القبلي والمجتمعي، فإن تمرد صعاليك اليوم يتسم بتعقيد أكبر، حيث يتناول قضايا معاصرة ويستخدم وسائل حديثة للتعبير عن الرأي وهي تمثل صعاليك معاصرين من خلفيات ثقافية متنوعة، حيث يستخدمون فنونهم ووسائل التعبير المختلفة للتحدي والتمرد على القضايا الاجتماعية والسياسية، مما يعكس تغيرًا في مفهوم التمرد عبر العصور، تتراوح استراتيجيات التعبير عن الآراء بين استخدام التكنولوجيا، الفنون، والنشاط المباشر. يتيح هذا التنوع للصعاليك المعاصرين الوصول إلى جماهير مختلفة وزيادة تأثيرهم على القضايا التي يهتمون بها بشكل عام، بينما اعتمد صعاليك الماضي على وسائل تقليدية للتعبير عن آرائهم، يستخدم صعاليك اليوم استراتيجيات متنوعة وعالمية، مما يمنحهم أدوات ووسائل أكثر تأثيرًا للتعبير عن قضاياهم والتواصل مع جمهورهم، سلوكيات الصعاليك يمكن أن تُفهم على أنها نتيجة تفاعلية بين العوامل الثقافية والاجتماعية. في كثير من الحالات، يكون البؤس والفقر عوامل رئيسية تدفع الأفراد إلى التمرد. الأوضاع الاقتصادية السيئة، التمييز، والظلم الاجتماعي يمكن أن تثير مشاعر الغضب والرغبة في التغيير، يمكن أن تؤثر التجارب المشتركة للمجتمعات، مثل الحروب أو الاستبداد، على سلوك الأفراد وتوجهاتهم، مما يؤدي إلى نشوء ثقافة من المقاومة والتمرد وقد تكون ثقافة التمرد جزءًا من الهوية المجتمعية، حيث ينشأ الأفراد في بيئات تشجع على مقاومة الظلم وتقدير قيم الحرية والعدالة ،الأدب والفن يمكن أن يلعبا دورًا في تشكيل سلوكيات الصعاليك من خلال تقديم نماذج من التمرد والاحتجاج ،بينما لا يوجد دليل قاطع على أن التمرد هو سلوك "مرسوم جينيًا"، يمكن أن تلعب العوامل الجينية دورًا مهما في تشكيل شخصيات الأفراد، مثل الميل إلى الجرأة أو الاستقلالية ،يمكن أن تنتقل قيم التمرد من جيل إلى جيل، مما يجعلها جزءًا من التراث الثقافي للمجموعات البشرية. الأفراد الذين نشأوا في بيئات تعاني من القمع قد يميلون أكثر إلى التمرد، سلوكيات الصعاليك غالبًا ما تكون نتيجة تفاعل معقد بين الظروف الاجتماعية والثقافية والعوامل الوراثية. الأفراد قد يتأثرون بعوامل متعددة، مما يجعل سلوكهم متنوعًا وغير قابل للتنبؤ، يمكن القول إن سلوكيات الصعاليك ليست نتيجة ثقافية بحتة لحالة البؤس، ولا هي مجرد تمرد موروث جينيًا. بل هي نتيجة تفاعل معقد بين العوامل الثقافية، الاجتماعية الاقتصادية، والوراثية. كل من هذه العوامل تساهم في تشكيل سلوكيات الأفراد، مما يؤدي إلى تنوع في طرق التعبير عن التمرد والاحتجاج.
تأثير الدين في تشكيل سلوكية الصعاليك
يمكن القول إن الدين له تأثير مزدوج في تشكيل سلوكيات الصعاليك، يمكن أن يكون مصدر إلهام للتغيير والتمرد ضد الظلم، وفي الوقت نفسه يمكن أن يُستخدم لتبرير القمع. يعتمد دور الدين على السياق الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي يعيش فيه الأفراد، الأديان المختلفة تحمل قيمًا ومبادئ متباينة. في الثقافات التي تهيمن عليها الأديان التوحيدية، مثل الإسلام والمسيحية، قد يتم الاستناد إلى نصوص دينية معينة لتعزيز قيم العدالة والمقاومة، في الثقافات التي تعتمد على الأديان التقليدية أو الروحانية، يمكن أن تكون هناك طرق مختلفة للتعبير عن التمرد، مثل استخدام الطقوس أو الرموز الروحية، تأثير الدين يمكن ان يلاحظ من خلال التالي:
فهم النصوص الدينية
التفسير والتأويل:
كيفية تفسير النصوص الدينية يمكن أن تختلف بشكل كبير. في بعض الثقافات، قد يتم تفسير النصوص بطرق تدعو إلى السلم والتسامح، بينما في ثقافات أخرى قد تُستخدم لتبرير العنف أو التمرد. السياقات التاريخية تلعب دورًا في تفسير النصوص. في بيئات شهدت ظلمًا تاريخيًا، قد يُستخدم الدين كأداة للتمرد.
التقاليد والعادات:
التقاليد الثقافية المحيطة بالدين يمكن أن تؤثر على كيفية استجابة الأفراد للظلم. المجتمعات التي تركز على الجماعة قد تتضامن أكثر في مواجهة القمع، الأساطير المحلية وقصص الأبطال يمكن أن تعزز من روح المقاومة وتلهم الأفراد للتمرد في الثقافات التي تعاني من قمع سياسي، قد يُستخدم الدين كوسيلة لإلهام الثورات أو الحركات الاجتماعية.
الاختلافات بين الثقافات
تختلف الثقافات بناءً على مجموعة من العوامل، بما في ذلك التنوع الديني، فهم النصوص، التراث الثقافي، الهيكل الاجتماعي، الظروف السياسية، والتأثيرات الدولية. كل ثقافة تقدم سياقًا فريدًا يؤثر على كيفية استخدام الدين كأداة للتمرد أو المقاومة تبرير ممارسات الصعاليك مثل السطو والسرقة دينيًا يعتمد على عدة عوامل، بما في ذلك السياق الاجتماعي والسياسي، والفهم الديني للنصوص. في بعض الأديان، يمكن أن يُفسر بعض النصوص بشكل يبرر مقاومة الظلم، حتى وإن كان ذلك يتضمن أفعالًا مثل السرقة. على سبيل المثال، قد يُشار إلى قصص أنبياء أو شخصيات تاريخية واجهوا الظلم بطرق غير تقليدية، بعض الصعاليك يمكن أن يستندوا إلى نصوص دينية تدعو إلى مساعدة الفقراء والمحتاجين، معتبرين أن أفعالهم هي جزء من هذا الالتزام ويمكن أن يُنظر إلى السطو أو السرقة كوسيلة لمقاومة الأنظمة الظالمة أو الظلم الاجتماعي، حيث يعتبر الصعاليك أنهم يحاربون من أجل العدالة، يُعتبر السطو على الممتلكات التي يُعتقد أنها مسروقة أو مكتسبة بطرق غير شرعية كنوع من أنواع المقاومة في بعض الثقافات، وتكون هناك أساطير أو قصص تاريخية تروى عن الصعاليك، تُظهرهم كأبطال يقاومون الظلم، مما يعزز من تبرير سلوكياتهم. في بعض المجتمعات، يُنظر إلى الصعاليك باحترام كأشخاص يقاومون الظلم، مما يمنحهم نوعًا من الدعم الاجتماعي أو الديني لتبرير أفعالهم، تبرير ممارسات الصعاليك مثل السطو والسرقة دينيًا يعتمد على السياق الاجتماعي، والتفسير المرن للنصوص الدينية، والاعتبارات الأخلاقية المتعلقة بالعدالة الاجتماعية. يمكن أن يكون لهذا التبرير جذور عميقة في الثقافة والتقاليد، مما يعزز موقف الصعاليك في سياقات معينة ،منها التبني الانتقائي للقيم، أحيانا يتبنى بعض الصعاليك قيم السلطة الجديدة، لكنهم يفعلون ذلك بشكل انتقائي، حيث يحتفظون ببعض القيم الأصلية ويتبنون أخرى تتماشى مع متطلبات السلطة، يمكن أن يتعاونوا مع الأنظمة الجديدة من أجل تحقيق أهداف معينة، حتى لو كان ذلك يعني التخلي عن بعض مبادئهم والانغماس في الفساد، في بعض الحالات، قد يتحول الصعاليك إلى أدوات للسلطة، ويبدؤون في تبني القيم السلبية التي تمردوا عليها، مما يؤدي إلى خيانة مبادئهم السابقة والتأقلم مع الانتهاكات، قد يصبحون جزءًا من النظام الجديد، مما يؤدي إلى تبرير الانتهاكات التي كانوا يعارضونها سابقًا باستمرار المقاومة، هنا يظهر صعاليك آخرون كناقدين للنظام الجديد، حتى لو كانوا في مواقع السلطة، مما يعكس عدم رضاهم عن تغيرات الوضع ويمكن أن يتحول بعضهم إلى قادة للحركات المعارضة مرة أخرى إذا اكتشفوا أن السلطة الجديدة لم تحقق المكسب الأساسي للتغيير وهو الاستيلاء الكلي على الموارد نتيجة التغيير.
***
غالب المسعودي

 

‏اتصور بان اضافة مفهوم الرقمي او الرقمية الى القران الكريم، ليس اقحاما او الحاقا بمفهوم الرقمية التكنولوجية التي نعرفها اليوم، لان الواقع يشير الى تناول القران الكريم للفكر الرقمي بابهى صورة، وقد غاب عنا فهم تلك العلاقات او الرموز القرانية، لضعف المعرفة او عدم التخصص.
وتعد الجملة الرقمية في القرآن الجزء المهم من الإعجاز العلمي والفكري للقرآن، فهي موجودة في البناء الهندسي للقران وفي منظومة تراكيبه المشفرة وفي التاويل، وفي الجمل الكلية العامة مثل السنن او الاخبار عن مسائل مستقبلية، وهي تشير إلى تنوعات علمية ورياضية يقوم ببناء نظام دقيق جدا للكلمات والحروف وخرائط لمنظومة الآيات والسور في القرآن، ولعله المفهوم يقترب من منظومة الذكاء الصناعي اليوم. وكنت قد تناولت بمقال سابق العلاقة بين التشفير والقران، وتناولت ما تشابه واتحد او تقارب بينهما.
‏ونعلم انه يتكون القرآن الكريم من 114 سورة. وعدد آياته القرآن الكريم هو 6236 آية. وعدد الحروف في القرآن يبلغ حوالي 323,671 حرفًا اما الحروف المقطعة في بداية بعض السور (مثل "الم"، "حم") لها تكرارات معينة تظهر فيها نسب رياضية دقيقة. بينما يبرز التكرار الرقمي للكلمات بتكرار كلمات معينة في القرآن بعدد محدد ومتناظر. على سبيل المثال:
* كلمة "الدنيا" تتكرر 115 مرة، وكلمة "الآخرة" تتكرر أيضًا 115 مرة.
* كلمة "الملائكة" تتكرر 88 مرة، وكلمة "الشياطين" تتكرر أيضًا 88 مرة.
* كلمة "الحياة" تتكرر 145 مرة، وكلمة "الموت" تتكرر أيضًا 145 مرة. وفي نحو اخر نجد بان الكلمات المتوازنة تتقابل بشكل
* كلمة "الإنسان" تتكرر 65 مرة، وكلمة "النبي" تتكرر أيضًا 65 مرة.
* كلمة "الإيمان" تتكرر 24 مرة، وكلمة "الكفر" تتكرر أيضًا 24 مرة.
* ذكر الرقم 7 في قوله تعالى: "وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا" (النبأ: 12)، وهو عدد السماوات.
* ذكر الرقم 19 في قوله تعالى: "لديها تسعة عشر"
* الرقم 19 له أهمية خاصة في الإعجاز الرقمي للقرآن، وقد اكتشف العالم الإسلامي رشاد خليفة أن الرقم 19 هو أساس لنظام رقمي معقد في القرآن.
ويلاحظ ان العدد الخاص بالسجدات يشير الى اعجاز علمي ايضا. ومن بين الفهم الرقمي في القران هو التكرار الرقمي للأسماء الإلهية، سيما الاسماء الحسنى و المذكورة في القرآن بتكرار محدد. على سبيل المثال:
* كلمة "الرحمن" تتكرر 57 مرة.
* كلمة "الرحيم" تتكرر 114 مرة.
* كلمة "الله" تتكرر 2699 مرة. ومازلنا نبحث عن دلالات هذه الارقام.
وتبرز رقمية السرد القرآني والذي يبنى على دقة عالية، فمثلا
* قصة النبي موسى عليه السلام ذُكرت في القرآن 136 مرة.
* قصة النبي عيسى عليه السلام ذُكرت في القرآن 25 مرة.
* قصة النبي إبراهيم عليه السلام ذُكرت في القرآن 69 مرة.
فيما يبرز عدد السور ذات الآيات الزوجية هو 57 سورة. وعدد السور ذات الآيات الفردية هو 57 سورة أيضًا.
خذ مثلا كلمة "ماء" في القرآن في حساب الجُمَّل، قيمتها هي:
- م = 40
- ا = 1
- ء = 1
- المجموع = 40 + 1 + 1 = 42
ويربط الباحثون هذا الرقم بوجود الماء كعنصر أساسي للحياة. اما كلمة "نور" في القرآن
فقيمتها في حساب الجُمَّل هي
- ن = 50
- و = 6
- ر = 200
- المجموع = 50 + 6 + 200 = **25 و يُقال إن لهذا الرقم قد يكون له دلالات رمزية،
‏وعند تتبع عدد كلمات اليوم في القرآن، أجد أن ذلك يتطابق مع عدد ذكر الأيام في القرآن والذي بلغ 365 مرة وهو عدد أيام السنة الشمسية، أيضا وردت كلمة الشهر 12 مرة في القرآن.
وفي القرآن الكريم، حاول بعض الباحثين والمفسرين تطبيق هذا النظام للعثور على إشارات أو معاني مضمرة في نصوص القرآن وبعضهم حاول ربط قيم الجمل الرقمية بمواضيع معينة أو أحداث تاريخية أو حتى تنبؤات. وهي محاولات مستمرة، ومازال المختصون يبحثون عن قيم العلاقة المفقودة في الجانب الرقمي القراني، واظن بانه سيكون للذكاء الاصطناعي (وهو قفزة علمية مهمة) الدور المهم في كشف اسرار تلك العلاقات المهمة والتي ستكشف لنا عن قيم معرفية وميتافيزيقية مفقودة، تعمل على حلحلة الاسرار التي غابت عنا.
***
ا. د. رحيم محمد الساعدي

في عالم تُمارَس فيه الهيمنة ليس فقط عبر العنف المباشر، بل من خلال تشكيل الوعي ذاته، يصبح السؤال الأساسي: كيف تُنتج الأنظمة القمعية الطاعة، ليس فقط كحالة مفروضة بالقوة، بل كشيء يُستبطن في النفوس؟
إن الطاغية لا يُولد، بل يُصنع، كما أن الجماهير لا تُقمع، بل تُروّض. في فضاء الهيمنة، لا تُفرض السيطرة بالحديد والنار فحسب، بل عبر منظومة سرديات تتسلل إلى الوعي، تعيد تشكيل الإدراك، وتحكم تصور الذات في علاقتها بالسلطة. ليست المسألة، إذن، مجرد قمع مباشر، بل هندسة للخضوع، حيث لا يكتفي النظام بفرض الطاعة، بل يعمل على جعلها جزءًا من بنية التفكير، بحيث يبدو التمرد عبثًا، والخضوع ضرورة.
وهكذا تتم صناعة “الماعز الأليف”، الكائن الذي لا يحتاج إلى سياط الجلاد كي يركع، بل يركع طوعًا، ويدافع عن قيوده باعتبارها أمانًا، ويرى في الطغيان قدرًا لا مفر منه.
هذه الصناعة لا تتم من فراغ، بل عبر منظومة متكاملة من الأدوات التي تعمل على قولبة الإنسان منذ طفولته. ومن بين هذه الأدوات يأتي الدين، حين يتحول من تجربة روحية إلى أداة ضبط تُعيد إنتاج الطاعة، وتقدمها كفضيلة مطلقة.
فالمواطن المُطيع ليس مجرد شخص يخضع لسلطة الأمر الواقع، بل هو كائن تم تشكيله بحيث لا يرى في نفسه سوى انعكاس لما يُملى عليه، عاجز عن التخيّل خارج حدود السرديات المفروضة عليه.
وليست هذه الحالة طبيعية، بل يتم إنتاجها عبر خطاب ديني يُقدّم الطاعة كمبدأ مطلق، حيث يُعاد تفسير النصوص الدينية لتُنتج إنسانًا خاضعًا، يرى في أي محاولة للخروج عن النظام القائم تمردًا على “الإرادة الإلهية”.
وهكذا، لا يعود الدين وسيلة للتحرر الروحي، بل يتحول إلى قيد يُكبّل الفرد، حيث يتم غرس فكرة أن “كل سلطة هي من عند الله”، وأن مواجهة الظلم قد تعني الوقوع في الفتنة، وكأن العبودية أكثر أمانًا من الحرية!
وليس هذا بالأمر الجديد؛ فقد دعمت الكنيسة الكاثوليكية طغيان الملوك بوصفهم “ظل الله على الأرض”، كما استُخدمت فتاوى الطاعة في بعض البلدان الإسلامية لترسيخ مقولة أن الحاكم لا يُسأل عما يفعل، مما جعل التمرد يبدو كفرًا، والخضوع ضربًا من التقوى.
وهكذا، يصبح الظلم مشيئة إلهية، ويُعاد تأويل الاستبداد كاختبار للصبر، لا كحالة يجب تفكيكها. وهكذا تتم صناعة “الماعز الأليف”، الفرد الذي يرى في الطغيان مشيئة إلهية، وفي الفقر امتحانًا، وفي الجوع نعمة، وفي الحرية خطرًا على الاستقرار!
لكن الأمر لا يتوقف عند التوظيف الديني فقط، بل يمتد ليشمل بُعدًا نفسيًا أكثر تعقيدًا، حيث يصبح الطغيان ذاته مصدرًا للراحة.
يذكر إريك فروم، في كتابه الخوف من الحرية، أن كثيرين يهربون من الحرية، لا لأنهم يحبون الطغيان، بل لأن الحرية نفسها مخيفة؛ إنها مسؤولية، عبء ثقيل يتطلب قدرة على اتخاذ القرار ومواجهة العواقب.
وهكذا، يُصبح الفرد الذي يخضع باسم الدين ليس مجرد ضحية، بل شريكًا في استدامة النظام الذي يقهره. حينها، لا يحتاج النظام القمعي إلى استخدام العنف المفرط، فالجمهور نفسه يصبح حارسًا للقمع، يراقب نفسه بنفسه، ويفرض على الآخرين ذات القيود التي كُبّل بها.
وهكذا تتم صناعة “الماعز الأليف”، الكائن الذي يخاف من الحرية أكثر مما يخاف من سجّانه!
وبينما تعمل الأنظمة القمعية على تكييف الدين ليناسب أهدافها، فإن الرأسمالية تُكمل هذا الدور من زاوية أخرى، حيث لا تُشكّل فقط نظامًا اقتصاديًا، بل تتحول إلى ماكينة ضخمة لإنتاج الوعي المشوّه، وخلق إنسان يرى نفسه في حدود ما يستهلكه.
مارك فيشر، في كتابه الواقعية الرأسمالية، يشير إلى أن أحد أخطر أشكال الهيمنة هو جعل أي بديل غير قابل للتخيّل؛ حيث يُقدَّم النظام القائم وكأنه “الطبيعة الثانية”، وكأن أي محاولة للخروج منه ليست فقط مستحيلة، بل غير منطقية.
في هذه الحالة، يتحول الإنسان إلى مستهلك سلبي، لا يرى في نفسه سوى رقم في معادلة العرض والطلب، فاقدًا للقدرة على التفكير في ذاته كفاعل سياسي، وكشخص يمكن أن يُعيد تشكيل الواقع.
يُختزل وجوده إلى كونه ترسًا في ماكينة الإنتاج والاستهلاك، يقيس نجاحه بعدد الأشياء التي يمتلكها، لا بقدرته على التأثير في مجتمعه. وهكذا، يصبح التسوق شكلًا من أشكال الحرية الزائفة، ويتحول الدين إلى سلعة، والهوية إلى ماركة، والفكر إلى إعلان تجاري.
وهكذا تتم صناعة “الماعز الأليف”، الفرد الذي يرى في التسوق حرية، وفي تراكم الديون طموحًا، وفي نجاحه الفردي تعويضًا عن فشل مجتمعه بأكمله!
ولأن هذه السيطرة لا يمكن أن تُترك للصدفة، فإن النظام يحتاج إلى آليات مؤسسية لترسيخها، وأبرزها التعليم والإعلام.
فمنذ الطفولة، يُقال للطفل: “الكبير لا يُناقش”، وحين يكبر، يتعلم أن “الحاكم لا يُسأل عما يفعل”. وهكذا، يتحول الخضوع إلى قيمة متوارثة، يُنقل من جيل إلى جيل، حتى يصبح جزءًا من النسيج الاجتماعي نفسه.
أما الإعلام، فإنه لا يُعنى بإيصال الحقيقة، بل بإنتاج الحقيقة، أو بالأحرى، إنتاج نسخة واحدة منها، نسخة تخدم القائمين على السلطة.
يصبح الإعلام سلاحًا، لا لقمع المعارضين فحسب، بل لمنع إمكانية تخيّل عالم مختلف. يتحول إلى آلة دعائية تعمل على تطبيع الظلم، وإعادة إنتاجه في صورة قدر لا يُرد، أو “واقع لا يمكن تغييره”.
وهكذا تتم صناعة “الماعز الأليف”، الكائن الذي يستهلك الأخبار كما يستهلك البضائع، يصدق كل ما يُقال له، ويردد الخطاب الرسمي وكأنه وحي!
إن إدراك العطب هو الخطوة الأولى في مقاومته، إذ أن النظام لا يسقط عندما يشتد قمعه، بل عندما يُسائل الناس شرعيته.
وكما قال فرانز فانون: “كل جيل يجب أن يكتشف مهمته، إما أن ينجزها أو يخونها”.
غير أن المقاومة لا تبدأ فقط من التمرد المسلح أو المواجهة المباشرة، بل من تفكيك منظومة الهيمنة في الفكر والسلوك، من مساءلة الخطابات التي تجعل الطاعة تبدو طبيعية، من إعادة تعريف الممكن، من فهم أن ما يبدو ثابتًا ليس إلا توافقًا مؤقتًا بين القوة والخضوع.
إن أخطر ما في الهيمنة ليس فقط أنها تقمع، بل أنها تجعلنا نحب قيودنا، نخاف من فقدانها، نرى في الطاعة خلاصًا من قلق الحرية.
لكن “الماعز الأليف” ليس قدرًا محتومًا، بل خيار يمكن كسره، شرط أن نجرؤ على إعادة اختراع ذواتنا من جديد!
***
إبراهيم برسي

 

السيطرة على الأفكار من الانفراد بخلخلة العقول إلى غسيل الأدمغة

علاقة المخدرات بالمشاكل النفسية والفكرية
إنّ المُعاناة النفسية لدى الشباب الذين يتعاطون المخدرات تُترجم بشكلٍ جليّ من خلالِ عدمِ الارتياح، وعدم الاستقرار من الناحيةِ النفسية، وخاصّة في سنّ المُراهقة، ويتوضّح ذلك من الصمت الذي يسلكه المراهق، وحالة الإنطواء التي يمرّ بها، وعدمِ أخذ الإعتبار لذاتهِ، إضافةً إلى اضطراب المزاج وخلل في تأنيب الضمير.
وقد تأخذ هذه المعاناة شكلاً آخراً مثل بداية الإنحراف، ومن ثُمّ يبدأ التطرف والعنف والعدوانية، وتتّضح اضطرابات المزاج وتقلباته أكثر.
وبهذه الحالة يصبحُ الشاب أو أي إنسانٍ آخر، مُعتمداً على هذه المواد نفسياً وجسدياً، وأحياناً يضطّر لزيادة الجرعة، كي يحصل على نتائج أكثر تأثيراً على ذاته، " إنّه الإدمان "، وهذا ممّا يجعل الضرر أشدّ تأثيراً في الجسم وبالعقل، وبهذه الحال يفقد الإنسان قدرته على ممارسة أعماله أو واجباته، في حال غياب هذه المواد المُخدّرة، لأنّه أصبح أسيرها، وإذا تخلّى عنها أو مُنعت عنه قد تظهر عليه حالات أو أعراض نفسية وجسدية خطيرة قد تُؤدي إلى الموت.
لذلك نقول أن مشكلة المخدرات كفيلةٌ بتدمير أي مجتمعٍ إذا انتشرت و هددت البنية البشرية والاقتصادية وكذلك الاجتماعية، وتُعدّ من أخطر المشاكل التي تُهدد الحالتين النفسية والاجتماعية، وهي سبب رئيس للإحباط والاكتئاب والقلق واليأس والأرق.
العبث بالعقول، وعلاقة الاكتئاب بالمشاكل النفسية وشخصية الإنسان
إنّ الاكتئاب بشكلٍ عام هو ليس فقط إحباطٌ وعزلة، بل يلعب دوراً مؤثّراً أخطر من ذلك و خاصّة على الدماغ وعلى مقدرة الإنسان في الإدراك والتصرف، لذلك إن الأشخاص المُصابون بالإكتئاب لديهم صعوبة في إنجاز المهام التي تتطلّب قدراتٍ عالية من الإدر اك والتفكير، حيث أن الإكتئاب يلعب دوراً واضحاً لدى الشخص المُصاب، حيثُ يُعاني من مشاكل قد تكون بسيطة مثل التنزّه أو التحدّث مع أبناء الحي، أو إتخاذ قرارات بسيطة، وعدم قدرته على معالجة الأمور بشكلٍ طبيعي، إضافةً إلى شعوره بصعوبة الإستيعاب أو التعلّم أو الإستماع، إضافةً إلى معاناته في قصور القدرات العقلية.
كما يُعاني المُصاب بالاكتئاب من صعوبة تذكّر الأمور التي حدثت، وإذا حاول الثذكّر يشعر بالتوتر وتحصل عنده حالة الإنكماش الذهني وسوء النمو.
كلّ هذه الأمور فيما إذا استمرت واستفحلت قد تُؤثّر على الدماغ بشكلٍ مباشر ويحصل تلف في بعض خلايا الدماغ، وهذا يُسبب إيقاف نمو بعض الخلايا، وبالتالي يهرم الدماغ ويشيخ.
غسيل الأدمغة ومراحلها
ما شاهدناه ونشاهده من التعذيب، والتلاعب بالأعصاب، والتحوّل الديني، والجنسي، كلّ هذه الأمور وسواها إنما تتجسّد لتاريخ غسل الأدمغة الطاغي والمُروّع، الذي حقّق اختراقاتٍ جسيمة في مجالِ السيطرة الاجتماعية والدينية والسياسيّة.
وليس سراً أن نسرد أنّ هناك أدوية خاصّة بالأعصاب، أُستخدمت ولا تزال في مجال الاستجواب في أقبية المخابرات.
وهذه الأدوية أو العقاقير يتم تحديثها وتطويرها على الدوام.
ولعل الجميع يتذكّر "مشروع مانهاتن" الضخم والخاص بالعقل، بهدف محو الذاكرة، والتلقين الاوتوماتيكي حتّى في حالات النوم، اضافة إلى مُسببات الهلوسة، المتطرفون و المتشددون استخدموا هذه التقنيات، ورجال الأمن والاستخبارات والمجرمين والارهابيون يحتلّون دوراً مهماً في هذا المجال المخيف، من أجل تغيير قناعات الأفراد ومحو ذاكرتهم.
ولعل الاتحاد السوفياتي والصين أول من قام بهذه الممارسات التي ترتبط بشكلٍ مباشر بغسيل الأدمغة. ومن ثُمّ قامت وكالة الاستخبارات الأمريكية "بمشروع مانهاتن للعقل" المهتم في غسيل الأدمغة والتحوّل الأيديولوجي، وكان بمثابة الرد على الصين والاتحاد السوفياتي. ومن ثّمّ أصبحت دول كثيرة تعتمد هذا الأسلوب، حيث اعتمدت أجهزة المخابرات في جلسات التحقيق على الإيحاء، وتعريض الآخرين للجهد الجسدي وقلة النوم. وبمساعدة العقاقير وأثناء نوم الذي يتم التحقيق معه، يقوم بالتحدث أثناء نومه بحقائق تستفيد منها أجهزة المخابرات، كي يتلاعبوا بأفكارهم، ومن ثُمّ الإدلاء باعترافاتٍ لا أساس لها من الصحة، وبذلك يكونوا ضحايا لجلسات محاكمة صورية .
إنّ غسيل الأدمغة وسيلة من وسائل السيطرة على البشر وعلى العقول، وهو يُمثّل تهديداً مباشراً ودائماً على الإنسانية وتقييدها.
وحينما يفهم الإنسان هذه اللعبة القذرة يُصبحُ بإمكانه أن يستعيد السيطرة على نفسه وعلى عقله وحماية حريته.
سيكولوجية الذات البشرية، القصور الوجداني والنزعوي
يجب على الإنسان أن يبحث عن كيفية تقييم وإدراك ذاته من خلال التفكير السليم، كي يكتشف ذاته ويكون واعياً كينونته بشكلٍ جيد.
غظنّ مفهوم الذات يتضمن معتقدات أي إنسان حول صفاته أو نفسيته، ووعيه حول صفاته وشخصيته، وهي جزء مهم من بحوث علم النفس الإنساني والاجتماعي والتطوري، حيث أنّه يُمثّلُ البناء الأمثل، أو المرآة التي يرى فيها الإنسان ذاته عندما يكون بمفرده، أو عندما يكون متفاعلاً مع الآخرين.
وبهذه الحال يُدرك الفرد نفسه، ويدرك احساسه الوجودي وبتميّزه أنه كائن مستقل ومنفصل ومتميّز عن الآخرين، من خلال سماته وخصائصه الشخصية المتكوّنة مع مرور الأيام ومنذ طفولته، حيث أن الطفل يصبح واعياً لذاته مع مرور الزمن، ويُدرك بأنه جزء من المجتمع والعالم.
ومن هذا الزمن يتضح مفهوم الذات ويصبح الفرد محط تقدير وجهة نظره حول ذاته، والقيمة التي يضعها لنفسه، وماذا يتمنى أن يكون كنظرةٍ ساميةٍ مثالية.
أحياناً كثيرة لا يحدث تطابق واقع الفرد وبين رؤيته لنفسه، أو ما يودّ أن يكون، فإن هذا الشرخ أو التفاوت الملموس يؤثّر على تقييم الذات.
لذا نرى أن هناك علاقة وثيقة بين حقيقة الذات، وتقدير الذات أو الأنا المنشودة، لذلك قد يحصل وبناءً على النسبية سلباً أو إيجاباً في التطابق، صفات معينة مثل: ذكي - كسول - متفائل - قوي - سعيد - ضعيف - مكتئب - ذكي.
ولكي ننجح في نمو التطابق النفسي للفرد علينا أن نجد الطرق التي يستجيب من خلالها الآخرون إلينا، أو نحونا، وعلينا أن نفكر جيداً حينما نقارن أنفسنا بالآخرين، وأن نؤكّد على دورنا الاجتماعي، وعلى المنظور الذي من خلاله نعرف كينونة أنفسنا مع الآخر.
ولا بُدّ من الثقة والاستقلالية والمحبة بعيداً عن أي قيود أو إملاءات.
يجب أن يتحلّى الفرد بالجرأة بهدف استخدام عقله بعيداً عن أي وصايةٍ أو قيد.
لذلك عندما نتحدث و نستخدم كلمو "القصور"، فهذا يعني أن إنسان ما لا يستخدم عقله، أو لا يجرؤ على استخدامه، ولا يستطيع أن يتحكّم بتفكيره الخاص، أي هناك عجز ما، عجز في استخدام العقل، هناك من يصفه بالاستبداد كأساسٍ للوصاية التي تُهمين على المرء وفي كلّ المجالات، بما فيها الفكرية.
وخروج هذا المرء من هذه الحالة هي مهمته نفسه، ومسؤوليته، السبب لا يكمن في عدمِ القدرة على الفهم، ولكن قولاً واحداً في الحاجةِ إلى الشجاعة لاستخدام عقله بعيداً عن تشجيع من الآخرين.
وكما قال "كانط" "تجرأ على التفكير، امتلك الشجاعة لاستخدام حسّك الخاص".
وهذا يعني أن الانسان مسؤول عن عجزه وقصوره، وهو يتحمّل المسؤولية لعدم بلوغه النضوج في السن القانونية، وهي السن التي يكون فيها الإنسان قادراً على التفكير بحرية دون أي وصايةٍ أو إملاء أو إشارات وإرشاد من الغير.
إن التمرد والخروج من القصور يحتاج إلى جهدٍ ومشوار معقّد، وعملية شائكة، تجتمع فيها الثقافة وعلم الاجتماع والفلسفة وعلم النفس ونظريات المعرفة والتاريخ إضافة إلى الأديان.
حيث أن الإنسان بشكلٍ عام هو مقيد بمشاعره واستجاباته ومواقفه التي ترسم له ومنذ طفولته في المنزل، في الشارع، وفي المدرسة، والمعلمين والمناهج ورفاق دربه، فالإنسان يصبح أسير هذه البرمجه، ولا يستطيع البسطاء وهم الأغلبية من الخروج من هذا التجذّر الذي يرسم ردود أفعاله ومشاعره ومواقفه بدون تفكير أو ردة فعل، هنا تماماً نحن نكون أمام قصورٍ ذاتي فكري ومعرفي ونفسي.
وجديراً بالذكر أن الشكل السلطوي الذي يحدد ممارسات السلطة السياسية والقضائية والدينية، يحدّ من تفكير المرء، ومن إبداعه الفكري، ولكن وبكلِ تأكيد حينما لم تعد هناك سلطة قمعية ولم تعد هناك طاعةٌ عمياء، ستتمكّن الإنسانية من نضجها الفكري.
ولم يتحرر الفكر، ومستحيل أن يُبدع المفكر إلاّ من خلالِ الحرية التي تبيح استعمال العقل وفي كلّ المجالات، وتوسيع المعارف، وتقدم الإنسانية نحو السمو والتألق.
سيكولوجية التفكير والوظائف السلوكية
سيكولوجية التفكير تعتبر من العمليات العقلية الأساسية، وبنفس الوقت هي تشغل الحيّز الرئيس من مجمل حيثيات القدرات.
حيث بإمكاننا السيطرة على معظم المشكلات التي نقع في مطباتها من خلال التفكير، وكل شخصٍ عليه أن يُفكّر، الموظف يُفكر، المعلم يفكر ويطلب من تلامذته التفكير، والوالد يطلب من أبنائه التفكير، فمن خلال التفكير نرتقي سلوكاً، وبمستوى سلوكنا وأدائنا العقلي في مختلف مجالات الحياة.
التفكير هو عملية معرفية، كما هو خاصيّة راقية، حيث أن الإنسان وحده الذي يتميّز بها من بين المخلوقات الأخرى.
التفكير هو عملية إدراك داخل عقل الإنسان، ويعتمد على استخدام المعرفة المختزنة في الجسم الإدراكي لدى كل إنسان، وهو عمل ذو هدف، يبدأ بعقدةٍ ويتوصّل في النهاية لحلّها.
ديكارت قال: "أنا أفكّر إذن أنا موجود".
فكان التفكير من وجهة نظره دليل على وجود الإنسان.
السيطرة على مواقف اتخاذ القرار بعد تفكيك عناصره وتحليلها
اتخاذ القرار يحتاج إلى معلوماتٍ وبيانات، وبنفس الوقت تقييم البدائل بهدف الوصول إلى الأفضل قدر الإمكان، كما تربطه عدة معايير للوصول إلى البديل الأفضل.
للوصول إلى قراراتٍ رشيدةٍ وفاعلة، لا بُدّ من البداية تحديد المشكلة، وجمع المعلومات والبيانات الملائمة المتوفرة، وتحديد ما هو متوفّر من بدائل متاحة، وعند اختيار البديل الأفضل تنتهي عملية إتخاذ القرار المناسب.
ولكن قد تواجه عملية اتخاذ القرار عدة مشاكل، أو ما يُعيق اتخاذ القرار، مثل: الامكانيات المادية، الطاقة البشرية، والأمور التقنية، هذا فيما يختص بالنواحي الداخلية، ولكن قد تواجه متخذ القرار عوائق خارجية أيضاً مثل: هل يُؤثّر القرار على سياسة الدولة؟، أو على الرأي العام، أو على المنافسين، وكذلك المستهلكين، والنقطة الأخيرة الموزعين.
فعند اتخاذ أي قرار علينا أن نأخذ بعين الاعتبار بأن القرار المُتخذ يُحقق الهدف المرسوم، وليس بالضرورة أن يؤدّي القرار إلى إرضاء كل الأطراف أو الجميع، وعلى الدوام هناك بدائل لاختيار الأفضل، وفي الختام أن عملية اتخاذ القرار هي عملية ذهنية وفكرية بحته، ولكن في النهاية تتحوّل إلى عملٍ مادي ملموس وهادف.
ولا بُدّ إلاّ أن ننوّه بأن مرحلة اتخاذ القرار تمر باستشارات ومشاركة الآخرين، مع الأخذ بعين الاعتبار أن يكون مركز اتخاذ القرار محصور في يدِ شخصٍ واحد وغالباً هو المدير المسؤول.
تحويل العقل البشري إلى استجابات أوتوماتيكية
من المفروض أو بالمنطق أن العقل البشري لا يمكنه أن يتحوّل إلى مجرد مركز التقاط اشاراتٍ بهدفِ الاستجابة لها.
نعم حقّق الباحثون اكتشافات عديدة بهدف تحويل العقل البشري إلى آلةٍ أوتوماتيكية، والأصح أن نقول نعم، العقل البشري بإمكانه أن يكون متفاعلاً بينه وبين التقنيات، لأن العقل البشري في المقام الأول، وفوق مختلف أشكال الآلات، يكفي أن المشاعر والأحاسيس التي يملكها لا تملكها الآلات المُصنّعة.
كلنا نسمع أن الذكاء الاصطناعي سيحلّ محل البشر، وهذه العملية ما هي سوى روبوتات يُسيّرها العالم بتحكّم، وهدفها السيطرة على العقل البشري، الإنسان.
ولكن كل هذه الكلمات أو النظريات هي ضرب من الوهم والخيال، الذي من الصعوبة بمكان تنفيذه.
يكفي سبباً واحداً أن المنطق خارج نطاق هذه اللعبة، والمنطق شئنا أم أبينا تخضع له كل الدساتير والقوانين، والسلوك هو الذي يجب أن يسود في أي بحثٍ أو مشروع.
نعم بالإمكان اختراع روبوتات تتلقى الأوامر وتنفّذها، وبإمكانها خدمة الإنسان والمجتمع، من خلال تجهيزها لخدمة كبار السن مثلاً، أو تأمين نظام المرور بالشوارع، أو لخدمةِ الأطفال ومراقبتهم، حتّى في مجال ترتيب المستودعات في الشركات والمصانع، وسواها، وأي خطأ يقوم به الذكاء الاصطناعي يؤكّد الحاجة إلى التدخل البشري والمراجعة البشرية.
بالأساس الذكاء الاصطناعي هو من صنع البشر، وبالتالي فإنه يُجهز لخدمة الإنسان، والبشر هم وحدهم الذين يُزوّدون الروبوت بالمعلومات ليقوم بعد ذلك بتنفيذها.
ولكن أيّاً كانت الأمور فإنّ الذكاء الاصطناعي قد يُؤمّن فرصاً مثل كفاءة متطورة، لكنه بنفس الوقت هو روبوت وفي المقام الأول يُعاني من فقدان اللمسة الإنسانية والمنطق الإنساني والمشاعر الإنسانية.
***
د. أنور ساطع أصفري

في المساق الماضي حدَّثَنا (ذو القُروح) عن كتاب عنوانه «نَهْج البلاغة: نسخةٌ جديدةٌ محقَّقةٌ وموثَّقة». أشار إلى أنَّه دراسةٌ أصلها أطروحة دكتوراه. وأنَّ المؤلِّف (صبري إبراهيم السيد) قد ذكرَ أنه توصَّل، في نتائجه لتمحيص ما يمكن أن تَثبت صحَّته للإمام (عَليٍّ)، إلى أنَّ النصوص التي اتَّفق جُلُّ علماء المسلمين، سُنةً وشيعةً، على صِحَّة نسبتها إليه من الخُطَب هي أقل من النِّصف، ولا تعدو: 44.5%، ومن الرسائل: 65.8%، ومن الحِكم: 26.9%، ومن الغريب: 44.4%. على أنَّ ثمَّة نصوصًا منسوبة إليه لم يَرْوِها أحد، ولم تَرِد في أيِّ كتاب. ثمَّ ذكرَ المؤلِّف النصوص المشكوك في صِحَّة نِسبتها، والنصوص التي ثبتت نِسبتها لآخَرين. ويَخلُص من ذلك إلى القول: «إنَّ نِسبة تدخُّل أقلام أخرى في النصوص الواردة بالكِتاب تعلو في الحِكَم، ويليها الغريب من الكلام، ثم الخُطَب، وتأتي الرسائل في نهاية الخطِّ البياني.» وحين سألتُه عن رأيه في الكِتاب، قال:
ـ مهما يكن رأيي في الكِتاب، فكُلٌّ يُؤخَذ من كلامه ويُرَد. وممَّا يُلحَظ على هذا العمل أنه كثيرًا ما يعتمد على تقميش المقولات من هنا وهناك، بلا تمحيص، أو تأصيل. ومن عاقبة هذا أن تجده، مثلًا، ينسب كلام الأوَّل السابق إلى المتأخِّر اللَّاحق، بل التَّابع المردِّد.
ـ مثل ماذا؟
ـ مثل كلام (الذَّهبي، ـ748هـ) في «ميزان الاعتدال»، على المباينة بين نَفَس كاتب «النَّهْج» ونَفَس (عَليٍّ) والجيل الذي جايله في صدر الإسلام، فقد نسبَه المؤلِّف إلى (ابن حجر العسقلاني، ـ852هـ)، في «لسان الميزان».(1) والحقيقة أن ابن حجر إنَّما نقلَ هذا نقلًا عن الذَّهبي؛ فالذَّهبي هو صاحب هذه اللفتة اللِّسانية البارعة، وهو أحقُّ بالتوثيق عنه. وقد سبق توقُّفنا عند هذا القول الذَّهبي للذَّهبي.
ـ وماذا أيضًا؟
ـ من هناته كذلك عدم التدقيق في ما يورد من معلومات. مثال ذلك أنَّه ذكرَ، في مسردٍ بأسماء الجامعين الأقدمين لخُطَب الإمام: (الجاحظ، ـ255هـ)، في ما سمَّاه كتابًا بعنوان «مئة كلمة من كلام أمير المؤمنين عَليِّ بن أبي طالب». والحقُّ أنَّ هذا ليس بكتاب، كما نفهم من هذا المصطلح، بل لا يعدو في مخطوطه سبع صحائف، إذا استظهرنا غاية الاستظهار! ثمَّ إنه ليس في الخُطَب، بل في العبارات الحِكْميَّة، وقد تقدَّم الكلام عليه. وإنْ كان قد يُعتذر عن تلك العيوب بما يلزم منه الاعتذار، على حدِّ قول (أبي الطَّيِّب):
وأَعْلَـمُ أَنِّـي إِذا مـا اعْتَـذَرْتُ:::إِلَيْـكَ أَرادَ اعْـتِـذارِي اعْتِذَارَا
وذلك أنَّ المؤلَّف قد سردَ في تمهيده كلَّ ما أثير حول «النَّهْج» من الشُّبهات، وما قيل في الرَّدِّ عليها، دون تمحيص، أو نقد، أو مناقشة، فاحتملَ عُهدة أغلاطها. إذ كان ينقل المعلومات على عواهنها خبط عشواء، وهذا مزلقٌ منهاجيٌّ أكبر ممَّا يظهر في التفصيلات من مزالق جزئيَّة. هذا إلى اضطرابات صياغيَّة، وأخطاء لُغويَّة، وإملائيَّة، مستغرَبة من مِثله.
ـ لكنَّ المهمَّ أنَّ تلك الدراسة قد كشفت كثيرًا مما ظلَّ يسعى بعض المتعصِّبين إلى تبرئة مؤلِّف «النَّهْج» منه.
ـ نعم. إلى درجة أنها كشفت أنَّ نصوصًا من أحاديث الرسول الكريم، وأقوال السيِّد المسيح، قد نُسِبت اعتباطًا إلى (عَليٍّ) في «نَهْج البلاغة». كما أنَّ مأثورات من أقوال الصحابة والتابعين وتابعي التابعين- ومن هذا أقوال لـ(عُمَر بن الخطاب)، و(عبد الله بن مسعود)، و(حُذيفة بن اليمان)- قد أضيفت بلا تحرُّج إلى أقوال الإمام. بل أضيف إليه ما ثبتَ بالبحث أنَّه لمتأخِّرين عنه، كبعض أقوال ابنه (الحَسَن بن عَلي)، والأئمة (الرِّضا)، و(الباقر)، و(الصَّادق)، و(عَليِّ بن الحُسين بن عَلي)، و(زَين العابدين بن عَليِّ بن الحُسين)، وغيرهم وغيرهم. كلُّ ذلك جمعه (الشَّريف الرَّضِي) وعزاه إلى (عَليِّ بن أبي طالب)، ولا عزاء لغيره! بل تجاوز ذلك إلى عَزْو بعض كلامٍ للخليفة العبَّاسي (المأمون) إلى ابن أبي طالب!
ـ أَبَتِ الدَّراهمُ إلَّا أن تُخرِج أعناقها؟
ـ أَبَت! حتى إنَّ المدافعين عن (الرَّضِي)، الذاهبين إلى محاولة إثبات مصادره، كانوا في الوقت نفسه لا يملكون إنكار أنَّ بعض ما ورد في «نَهْج البلاغة» كان يُنسَب إلى غير (عَليٍّ) قبل تأليف «النَّهْج»، ثمَّ إذا به قد صار، بقُدرة شريف، منسوبًا في «النَّهْج» إلى (عَليٍّ).(2)
ـ مثال ذلك؟
ـ على سبيل المثال، ما وردَ بشأن الخطبة الثامنة عشرة، «في ذَمِّ اختلاف العلماء في الفُتيا»- بما يَتبدَّى فيها من سفسطةٍ كلاميَّةٍ مدرسيَّة، يَبعُد عقلًا أن تكون من كلام (عَليٍّ)- ومنها هذا النص:
«تَرِد على أحدهم القضيَّة في حُكم من الأحكام، فيحكُم فيها برأيه، ثمَّ تَرِد تلك القضيَّة بعينها على غيره، فيحكُم فيها بخلاف قوله، ثمَّ يجتمع القُضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم، فيصوِّب آراءهم جميعًا، وإلاههم واحد، ونبيُّهم واحد، وكتابهم واحد! أ فأمرَهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه؟! أم نهاهم عنه فعَصَوه؟! أم أنزل الله سبحانه دِينًا ناقصًا، فاستعان بهم على إتمامه؟! أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا، وعليه أن يرضى؟! أم أنزل الله سبحانه دِينًا تامًّا، فقصَّر الرسول عن تبليغه وأدائه؟! والله سبحانه يقول: «مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ»، وفيه (تِبْيان كُلِّ شيء)...».
ليظهر أن هذا النَّص من كلام (ابن أُذَينة العَبْدي البَصْري، توفي بعد169هـ)، وهو من رواة (جعفر الصَّادق، ـ148هـ)، له كتاب في «الفرائض».
ـ كيف عرفتَ ذلك؟
ـ وردَ في كتاب «دعائم الإسلام»، للفقيه الإسماعيلي القاضي (النعمان المغربي المِصْري، ـ363هـ)(3) قوله: «ورُوِّينا عن عَمْرو بن أُذَيْنَة، وكان من أصحاب أبي عبدالله جعفر بن محمَّد، (ص)، أنَّه قال: دخلتُ يومًا على عبدالرحمن بن أبي ليلى بالكوفة، وهو قاضٍ، فقلتُ: أردتُ، أصلحك الله، أن أسألك عن مسائل. وكنتُ حديث السِّن. فقال: سَلْ، يا ابن أخي، عمَّا شِئت! قلتُ: أخبِرْني عنكم، معاشرَ القضاة، تَرِدُ عليكم القضيَّة في المال والفَرْج والدَّم، فتقضي أنت فيها برأيك، ثمَّ تَرِد تلك القضيَّة بعَينها على قاضي مَكَّة، فيقضي فيها بخلاف قَضِيَّتك، ثمَّ تَرِد على قاضي البَصْرة، وقاضي اليَمَن، وقاضي المدينة، فيقضون فيها بخلاف ذلك، ثمَّ تجتمعون عند خليفتكم الذي استقضاكم فتُخبرونه باختلاف قضاياكم، فيصوِّب رَأْيَ كلِّ واحدٍ منكم، وإلاهكم واحدٌ ونبيُّكم واحدٌ ودِينكم واحدٌ! أ فأمرَكم الله عزَّ وجلَّ بالاختلاف فأطعتموه؟! أم نهاكم عنه فعصيتموه؟! أم كنتم شركاء الله في حُكمه؛ فلكم أن تقولوا وعليه أن يرضى؟! أم أنزل الله دِينًا ناقصًا؛ فاستعان بكم في إتمامه؟! أم أنزل الله تامًّا؛ فقصَّر رسول الله، (ص)، عن أدائه؟! أم ماذا تقولون؟ فقال: من أين أنت يا فَتَى؟ قلتُ: من أهل البَصْرة. قال: من أيِّها؟ قلتُ: من عبد القَيس. قال: من أيِّهم؟ قلتُ: من بني أُذَيْنَة. قال: ما قرابتك من عبد الرحمن بن أُذَيْنَة؟ قلتُ: هو جَدِّي. فرحَّب بي وقرَّبني...».
وهكذا صاغ (الشَّريف الرَّضِي) هذه الحكاية- التي دار حِوارها بين (ابن أبي أُذَيْنة) و(عبدالرحمن بن أبي ليلى)- ليشكِّل منها خُطبةً، أو كلامًا، ينسبه إلى (عليٍّ) في «نَهْج البلاغة»!
ـ عجيب ما أسمع! وهذا، إذن، ما كان يدفع دائمًا كلَّ ناقدٍ للتُّراث العَرَبي النثري إلى الشكِّ والارتياب في ذلك الخليط الذي قمَّشه (الرَّضِيُّ) ونسبَه، بقضِّه وقضيضه، إلى (أبي الحَسَن، رضي الله عنه).
ـ نعم. لقد كان يفعل ذلك تكثُّرًا ومفاخرةً، إمَّا عن لَبسٍ أو تلبيس. لكنَّ هذا لم يَبْدُ كافيًا عند بعض لاحقيه، من المتحمِّسين أكثر منه، فنهضوا إلى الاستدراك عليه؛ إذ لم يشف غليلهم حجم كتاب «النَّهْج». وقد بلغ المستدرِكون خمسة، لعلَّ آخِرهم (محمَّد باقر المحمودي)، الذي ألَّف كتابًا سمَّاه «نَهْج السعادة في مستدرك نَهْج البلاغة»، وهو موسوعةٌ ضخمة، تقع في مجلَّداتٍ ثمانية!(4)
[للحديث بقيَّة].
***
أ. د.عبد الله بن أحمد الفَيفي
.........................
(1) يُنظَر: السيد، صبري إبراهيم، (1986)، نَهج البلاغة: نسخةٌ جديدةٌ محقَّقةٌ وموثَّقةٌ تحوي ما ثبتت نسبته للإمام عَليٍّ (رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه) من خُطَب ورسائل وحِكَم، (الدوحة: دار الثقافة)، 24.
(2) يُنظَر: الخطيب، عبد الزهراء، (1985)، مصادر نَهْج البلاغة وأسانيده، (بيروت: دار الأضواء)، 1: 363- 366.
(3) (1963)، تحقيق: آصف بن علي أصغر فيضي، (القاهرة: دار المعارف)، 92- 93.
(4) يُنظَر: الخطيب، 1: 267- 271.

 

لا شك في أن الاستياء هو المزاج السائد في عصرنا. يشعر الأفراد بإحساس من العداء تجاه الآخرين وتجاه العالم بشكل عام – حقد، كراهية، عداء، بغض، عداوة، حسد، خبث، مرارة، سوء نية، ضغينة، وانتقام – كرد فعل على إهانات أو إساءات أو إحباطات يعتقدون أنهم تعرضوا لها.
يعتقدون ذلك، لكنه ليس بالضرورة صحيحًا، أو ربما لم يحدث بالطريقة التي يتصورونها ويعرضونها على الآخرين. غالبًا ما يحدث أن يحمل الناس في داخلهم نفورًا مكتومًا. إنه شعور يتم تغذيته لفترة طويلة، ثم ينفجر فجأة، بشكل غير متوقع حتى لأصحابه أنفسهم.
في كثير من الحالات، ينشأ الحقد من الشعور بالخجل. فالحقد والخجل مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، ومع مرور الوقت، وفقًا لما يقوله علماء النفس، فإن استبطان شعور الخجل، وما ينتج عنه من نظرة انتقاص للذات وتمزق نرجسي، قد يؤدي إلى تطوير أشكال خفية من الكراهية تجاه أولئك الذين يُعتبرون – سواء كان ذلك بحق أو بغير حق، لا يهم – مسؤولين عن الإحباط أو الإهانة التي تعرض لها الفرد.
الاستياء والحقد مترادفان. كلمة "حقد" تأتي من اللاتينية rancor وتعني: "تذمر، رغبة، مطالبة"، كما يذكر المحلل النفسي الأرجنتيني لويس كانسيبر، الذي تناول هذا الموضوع من منظور سريري وثقافي. للحقد نفس جذر كلمة rancidus، التي تعني "حقود"، وأيضًا "فاسد" و"متعفن".
عند التعرض لظلم، يكون أول ما نشعر به هو الألم والمعاناة التي تنجم عنه. الاستجابة الفورية غالبًا ما تكون الخوف، مصحوبًا بالقلق، وأحيانًا بحالة اكتئابية، وإذا كان الظلم يمس الجانب الأخلاقي وينطوي على إهانة أو وقاحة، تظهر مشاعر الغضب أو السخط. هاتان العاطفتان، من خلال عملية عقلية لاحقة – هي الاجترار الذهني المستمر – تتحولان إلى حقد واستياء.
الاجترار، أو التفكير المتكرر، هو نشاط ذهني قهري ومتكرر يغذي به الأفراد أحقادهم. أصل الكلمة يعود إلى اللاتينية muginari، كما يذكرنا علماء النفس، وتعني التأرجح أو التمايل، وهو حركة ذهنية مستمرة تتمثل في التفكير وإعادة التفكير في نفس الحدث.
أما الاستياء، الذي يعني حرفيًا "الشعور مجددًا"، فهو العودة المستمرة إلى الحالة العاطفية ذاتها، مع العجز عن التخلص من الإهانة أو الظلم بشكل نهائي. يرى المحللون النفسيون أن الجذر العميق للاستياء يكمن، قبل كل شيء، في الحسد.
"لماذا هو نعم، وأنا لا؟" هذا هو السؤال الرئيسي، وربما الوحيد، الذي يطرحه الحاسدون على أنفسهم. يرى الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك أن الحسد ليس مجرد رغبة في امتلاك ما لدى الآخر—ثروة، حب، سلطة—بل هو شعور سلبي بامتياز يتمثل بالرغبة في منع الآخر من التمتع بما يمتلك.
يستشهد جيجيك بقصة رمزية في العديد من كتبه: تقول ساحرة لفلاح: "سأحقق لك ما تتمنى، لكن اعلم أني سأحقق لجارك ضعف ما أمنحه لك." فيبتسم الفلاح بمكر ويقول: "اسلبي مني عينًا واحدة!"
استنادًا إلى نظرية المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان، يؤكد جيجيك أن نقيض حب الذات الأناني ليس الإيثار أو الاهتمام بالصالح العام، بل الحسد أو الاستياء، وهما شعوران توأمان يدفعان الشخص إلى العمل ضد مصلحته.
يذكر القديس أوغسطينوس في اعترافاته الشهيرة مشهدًا عن طفل يحسد أخاه الرضيع الذي يرضع من ثدي أمه: "لم يكن الطفل يتحدث بعد، لكنه كان ينظر إلى شقيقه بعينين غاضبتين، مليئتين بالكراهية."
وفقًا للاكان، لا يحسد الطفل أخاه لأنه يمتلك الثدي، بل لأنه يستمتع به. الحسد هنا ليس رغبة في امتلاك الشيء، بل رغبة في حرمان الآخر من لذته. إن مجرد الحصول على الثدي لا يكفي؛ يجب تدمير قدرة الآخر على الاستمتاع به.
يضع جيجيك الحسد ضمن ثلاثية مشاعر مدمرة: الحسد، البخل، والكآبة. جميعها تتمحور حول العجز عن الاستمتاع بما يملكه الفرد، مع شعور غريب باللذة من هذه المعاناة الذاتية.
يُعد الحسد اليوم "خطيئة اجتماعية" أشد من الغيرة، والتي تُعتبر خطيئة طفيفة مصاحبة أحيانًا للحالة العاطفية. يميز المحلل النفسي ليزلي فابر بين الشعورين:
- الحسد شعور ثنائي: بين "أنا" و"أنت".
- الغيرة شعور ثلاثي: بين "أنا"، و"هو"، و"هي".
يرى فابر أن الغيرة أكثر تدميرًا للعلاقات الشخصية لأنها تستدعي بشكل مهووس عناصر جديدة إلى المشهد، مما يقود إلى انهيار حتمي، كما تصوّر العديد من الروايات والأفلام.
ومع ذلك، يظل الحسد، الذي يولد الاستياء، أكثر خطورة من الغيرة؛ لأنه شعور متجذر في الرغبة السلبية، ليس فقط امتلاك ما لدى الآخر، بل تدمير متعته تمامًا.
وتتناول حنة أرندت في مقطع من كتابها "بعض مسائل الفلسفة الأخلاقية" الذي كتبته في الستينيات، موضوع الشر البشري، مشيرةً إلى الكتّاب الذين قدّموا لنا صورًا للأشرار العظام. ترى أرندت أن عظماء الأدب، مثل شكسبير وملفيل، لا يخبروننا بالكثير عن طبيعة الشر، ولكنهم يجعلوننا نفهم شيئًا جوهريًا، ففي أعماق أكثر شخصياتهم شرًا—"كياجو في عطيل وكلاغارت في بيلي باد—نجد دائمًا اليأس مرتبطًا بصاحبته التي لا تنفصل عنه: الحسد".
تشير الفيلسوفة الألمانية إلى أن سورين كيركيغارد سبق أن قال إن الشر الجذري ينبع من اليأس، لكن الحسد هو ما يستحق التأمل، فالأشرار الكبار غالبًا ما تحيط بهم هالة من النبل الزائف، ومع ذلك، فإن ياجو وكلاغارت يرتكبان الشر بدافع الحسد تجاه من هم أفضل منهم، وهنا يتبدد ذلك النبل المزعوم.
يرى آباء الكنيسة أن الحسد مرتبط بالافتراء والجشع، وينحدر من الغرور، الذي يُعد أول الخطايا السبع المميتة. أصل الكلمة اللاتينية للحسد in-videre يعني "النظر بسوء"، أي النظرة الحاسدة أو "العين الشريرة". فالحاسد هو من لا يرى جيدًا، لأن رؤيته مشوهة بالكراهية.
يروي أحد علماء النفس حادثة من برنامج إذاعي، حيث وصف مستمع معنى الحقد والضغينة قائلًا:
"إنه مثل أن تتجرع السم وتنتظر أن يموت الآخر."
تعريف بليغ ومؤثر يصوّر بوضوح كيف يحوّل الحسد والحقد الألم إلى نار تحرق صاحبها قبل غيره.
منذ زمن بعيد، وقبل أن يتحدث جاك لاكان عن الحسد، أدرك آباء الكنيسة أن الحسد يقلب المعايير، حيث يصبح الخير الذي يتمتع به الآخر مصدرًا للألم للحاسد. كتب القديس توما الأكويني أن الحاسد يرى في خير الآخرين شرًا لنفسه، وقبل اللاهوتيين المسيحيين، أشار أرسطو إلى أن الحسد لا يُثار تجاه البعيدين، بل تجاه القريبين، فهو شعور يتفشى بين أفراد الأسرة، وبين الأصدقاء، وفي المجتمعات الصغيرة.
يرى المحللون النفسيون من المدرسة الفرويدية، بمن فيهم فرويد الذي جسّد الحسد من خلال شخصية أوديب وتحدث عن "حسد المتعة" لدى النساء، أن الحسد لا ينشأ من خيرٍ مطلق يمتلكه الآخر، بل من ذلك الخير الذي يظن الحاسد أنه ينتقص من تميزه أو يهدد تفوقه الشخصي.
تكتب حنة أرندت عن اليأس، فتقول إن الشعور بالضياع يدفع إلى الشر، ويصبح الحسد مخرجًا يوهم صاحبه بإعادة ترميم "الأنا" المجروحة من خلال العدوانية تجاه الآخر. ترى أرندت أن الشر ينمو في بيئة من التفاهة، مما يدحض التصور الكلاسيكي الذي ربط الشر بالعظمة الشيطانية، وتستدل على ذلك بشخصية أدولف أيخمان، الذي وصفته بـ"عبقرية الشر التافهة"، مؤكدة أن الشر لا يحتاج إلى شخصية استثنائية أو ملامح شيطانية، بل يمكن أن ينبع من أفعال بسيطة ولكنها مدمرة.
تنسجم فكرة أرندت عن "تفاهة الشر" مع مفهوم "المنطقة الرمادية" الذي طرحه بريمو ليفي، حيث يصبح الشر نتيجة للأفعال الصغيرة التي تبدو تافهة لكنها تحمل عواقب وخيمة. إن الشر، في جوهره، ليس عظمةً مدمرةً بقدر ما هو نتاج تراكم التفاصيل اليومية الصغيرة التي تتحول إلى كارثة كبرى.
وحلّل العلماء النفسيون الذين تناولوا مشاعر مثل الحقد، والحسد، والخزي – ومن بينهم ميلاني كلاين، مؤلفة كتاب الحسد والامتنان – هذه الانفعالات السلبية خلال القرن الماضي، ورسموا صورة أشد قتامة مما وصفه آباء الكنيسة. تربط كلاين شعور الحسد بدافع الموت، تلك القوة التدميرية الفطرية، وترى أن الحسد ينشأ في العلاقة الأولى بين الرضيع وأمه، حيث يختبر الطفل شعورًا مزدوجًا من الإشباع والحسد عند اتصاله بثدي الأم، مصدر الغذاء والمتعة.
يشير بعض المحللين النفسيين من المدرسة الفرويدية إلى أن الحاسد يعجز عن الرؤية، مما يفقده القدرة على الحب، تمامًا كما يحدث للخاطئين في جحيم دانتي، الذين خُيطت جفونهم بأسلاك حديدية. أما الكاتب الإنجليزي جون بيرجر، فيرى أن قوة الإعلان التجاري، المحرك الأساسي للاستهلاك والقوة الاقتصادية الطاغية في العالم الحديث، تكمن في إثارة شعور الحسد، أي الرغبة في أن يحسدنا الآخرون. بل أكثر من ذلك، يصبح الناس أنفسهم حسودين تجاه ذواتهم، تجاه ما يمكن أن يصبحوا عليه إذا امتلكوا منتجًا معينًا، في عملية تشييء للذات، فالإعلانات لا تتحدث عن الأشياء، بل عن العلاقات الاجتماعية؛ لا تعرض المتعة، بل تقدم السعادة مقاسة بمعايير الآخرين: "السعادة المتمثلة في أن تكون موضع حسد، هي جوهر البريق".
يرى علماء الاجتماع أن السباق الاستهلاكي، والتباهي بالثروة، والسعي لزيادة القدرة الشرائية – في زمن السلع و"الفرط السلعيّة " (Hypercommodities) – يقود إلى حالة من عدم الرضا، وإلى أشكال قهرية من الانغلاق على الذات، تنتج عنها أمراض اجتماعية مثل الضغينة والحقد. حتى الشعور بالخزي بسبب عدم تحقيق النجاح أو عدم نيل الشهرة التي يروّج لها "مجتمع الاستعراض" – ما أسماه آندي وارهول بـ"خمسة عشر دقيقة من الشهرة" – يولّد موجات من الحقد تتفشى في النسيج الاجتماعي.
غالبًا ما يجد هذا الحقد الاجتماعي متنفسًا في البحث عن أكباش فداء، حيث تُصب مشاعر الغضب والمرارة على الفئات المهمشة، وهكذا تنبعث غرائز بدائية حاولت الحضارة طويلاً كبحها وتوجيهها عبر أدواتها الاجتماعية، لكنها تعود إلى الواجهة مدفوعة بآلة الاستهلاك والاستعراض.
كما يبدو أن الضغينة هي ثمرة المنافسة المستمرة لإثبات الذات، والتي تُعد واحدة من أبرز سمات المجتمع المعاصر. مقارنةً بالماضي، يظهر الأفراد اليوم عجزًا متزايدًا عن تحمّل الجرعات العالية من الإحباط اللازمة لاستمرار النظام الاجتماعي. يرى فريدريك نيتشه، في كتابه أصل الأخلاق، أن الضغينة هي داء المشاعر في المجتمعات الحديثة، وخصوصًا في الديمقراطيات، التي قلبت مفاهيم الأخلاق الأرستقراطية النخبوية لعصر ما قبل المسيحية.
فالديمقراطية والاشتراكية، وهما أبناء شرعيون للمسيحية، يغذيان الضغينة ويجعلان الحقد محركًا أساسيًا للحداثة.
وربما ليس من قبيل المصادفة أن كلمة "risentimento" (الضغينة) دخلت المفردات الحديثة عبر كتيب صدر عام 1593 بعنوان حوار بين الفرنسي والساڤوي (Dialogue du Français et du Savoysien)، حيث يصف المؤلف استياء الأرستقراطية من صعود البرجوازيين – الأثرياء الجدد – إلى مصاف النبلاء، كما أوضح الباحث ستيفانو توميلييري. في النهاية، يرى توميلييري أن الضغينة هي الحالة الشعورية لمن قضى عمره يتوق إلى شيء لم يتحقق أبدًا، حتى بات يشعر أن ما كان يأمله لن يتحقق مطلقًا، ولهذا السبب، تصبح الضغينة سمًا يسري في روح العصر الحديث.
كما يتجلى الحقد في صورة "شيطان أسير "بداخلنا، لا يتوقف عن العمل، يجترّ مشاعرنا المسمومة دون انقطاع، ويتغذى على رغباتنا المكبوتة. هذا الشيطان يواصل مضغ الألم وإعادة تكراره بلا نهاية، وكأن زمن الهضم النهائي للألم لن يأتي أبدًا.
يرى المحلل النفسي كانسيبر، الذي أجرى دراسة معمقة عن الضغينة، أن هذه العاطفة مرتبطة بالبُعد الزمني، إذ يميز بين نوعين من الذاكرة:
- ذاكرة الألم : التي تمتد عبر زمن الاستسلام والقبول بالأمر الواقع.
- ذاكرة الضغينة والحقد: التي تختبئ وتتغذى على أمل الانتقام في المستقبل.
لهذا السبب، يربط المحلل النفسي الضغينة بدوافع الموت، واصفًا إياها بأنها "هوس انتقامي متكرر لا يشبع". إنها ترتكز على مبدأ "العذاب المستمر"، حيث يتحول الغضب إلى المهرب الوحيد من الألم الداخلي.
في كتابه الهدنة، يوضح الكاتب بريمو ليفي كيف يمكن أن تتحول مشاعر الخزي إلى أداة مدمرة في كل من "ذاكرة الألم" و"ذاكرة الضغينة". حيث تتحول الإهانة – سواء كانت واقعية أم متصورة – إلى مصدر دائم للألم: "إنها تحطم الجسد والروح، وتطفئ الحياة في الغرقى وتجعلهم بائسين؛ ترتد كعار على الظالمين؛ وتبقى في الناجين ككراهية مستمرة، تتجلى في ألف صورة: عطش للانتقام، انهيار أخلاقي، إنكار، إنهاك، واستسلام."
يتساءل ليفي: أليس هذا بالضبط ما يحدث في العديد من النزاعات حول العالم، بين الشعوب وبين الأديان المختلفة؟ لا أحد في مأمن من لعنة الضغينة. يحذّرنا ليفي من أن الضغينة والحقد لا ينبعان دائمًا من أسباب واهية أو غير مبررة. لكن حتى عندما يكون هناك سبب وجيه، تبقى النتيجة واحدة: انهيار أخلاقي، سعي للانتقام، إرهاق نفسي، واستسلام للحزن.
يرى ليفي، أن الضغينة تذكّرنا بحقيقة مؤلمة: "لا توجد عدالة بشرية قادرة على محو الإهانة."
إنها شهادة تنذرنا بأن الضغينة ليست مجرد شعور عابر، بل هي داء يعصف بالروح ويعيد إنتاج الألم في دورات لا تنتهي.
***
الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

بقلم: جوادالوبي نيتل
ترجمة من الإسبانية: روزاليند هارفي
ترجمها إلى العربية: د. محمد عبد الحليم غنيم1155 guadalupenetel
في محاضرة "أدب الخيال الدولي" لهذا العام من مهرجان لانكاستر الأدبي في "عطلة نهاية الأسبوع الخريفية"، تناقش الكاتبة الحائزة على جوائز جوادالوبي نيتل كيفية تحويل الكتاب ألم التجربة الإنسانية - سواء كان جسديًا، عاطفيًا أم نفسيًا - إلى لحظات من الإبداع الأدبي.
كم هي جميلة وغامضة صورة الكيميائيين الذين صورتهما مارجريت يورسينار وأومبرتو إيكو كأفراد مكرسين لتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب. تحويل ما هو قبيح وثقيل، بل وحتى سام، يستخدم لصنع البنادق والأغلال، إلى المعدن الذي يقدره البشر أكثر من غيره، الأكثر إشراقًا، الذي يمثل بأفضل صورة تألق الشمس. بالنظر إلى كل شيء، لم يكن هذا المشروع بعيدًا عن الخيال. هناك العديد من الأمثلة في الطبيعة على التحولات مثل تلك التي سعى إليها الكيميائيون. الفطر، على سبيل المثال، يحول المواد المتعفنة إلى غذاء ويطهر سمية الأرض؛ الأشجار - والنباتات عمومًا - تحول ثاني أكسيد الكربون الناتج عن السيارات إلى أكسجين؛ والمحار ينقي المياه من الشوائب، وهذه بعض الأمثلة فقط. الأدب، وأود أن أقول، الفن عمومًا، يحول الآلام التي لا حصر لها التي تنطوي عليها التجربة البشرية إلى جمال: الجمال الذي يوجد في تمثال لورنزو بارتوليني "الذي لا يُعزى"، في نشيد الأنشاد، في "دون كيشوت" لثربانتس، في أبيات "موسم في الجحيم". لكن ما هي بالضبط هذه المادة التي نحاول تحويلها؟ ما هو هذا الشيء الذي نشير إليه بكلمة "الألم"، رغم أنه يأخذ أشكالًا عديدة؟ لماذا يستحق التفكير فيه؟
لنبدأ بالألم الجسدي. من الصعب جدًا تمثيل هذا. عمومًا، نفتقر إلى الكلمات للتحدث عن هذه التجربة: نميل إلى التحدث عن ألم بسيط أو حاد، ألم مكتوم، ألم ينبض أو يصرخ، ألم يعطل أو يترقب. نتحدث عن وخزة، عن احتراق، عن تهيج في الجلد. بالكاد نعرف كيف نحدد المكان الذي يبدأ منه: الذراع، الرأس، البطن؟ الحقيقة هي أن الكتاب يفتقرون إلى المفردات، كما يفتقر المرضى حين يحاولون شرح شعورهم لطبيبهم، لذا في الشعر كما في الروايات، هناك قلة من الأوصاف المفصلة لهذه الظاهرة. جوان ديديون، التي كانت تعاني من الصداع النصفي منذ طفولتها، تسجل الأعراض المرئية وغير المرئية لعذابها في مقال قوي بعنوان "في السرير". تقول: "الصداع الفعلي، عندما يأتي، يجلب معه القشعريرة، والتعرق، والغثيان، والإعياء الذي يبدو أنه يطيل حدود التحمل". الكاتبة المكسيكية ماريا لويزا بوجا، أيضًا، في "يوميات الألم"، تبذل جهدًا غير شائع للتعبير عن الالتهاب المستمر في مفاصلها بسبب التهاب المفاصل الروماتويدي. بالنسبة لبوجا، يعتبر ألمها رفيقًا له شخصية محددة وظهور خاص: "إنه دهني، نحيف، مظلم، ودائمًا في حالة تأهب." تكتب الكاتبة الإسبانية مارتا سانز في روايتها الذاتية "ترقوة": "أصف للطبيب العاشر المكان الدقيق حيث يوجد ألمي. مساحة لا تفسير لها بين عظم صدري وبلعومي. يقول الطبيب: 'هذا مستحيل.' بإصرار، أشير إلى تجويف صغير. أرسم دوائر حوله بإصبعي. إنها مساحة فارغة في الأشياء، المنطقة الوحيدة في الكتلة الجسدية التي لا يوجد فيها شيء على الإطلاق. يعبر الطبيب الخط: 'إذا كنت سأغرز إبرة في هذا المكان بالضبط، فسيخرج منها نظيفة من الجهة الأخرى.'" هناك العديد من الآلام التي تعاني منها سانز: الصحة العامة ومشكلاتها، الرأسمالية، تجاهل الأطباء، العمل، الشعور بالذنب، الخوف من الشيخوخة والعجز؛ والكتابة، التي في بعض الأحيان توفر الرفقة وفي أحيان أخرى ترفض ذلك. كل هذه الأمور تتركز في نقطة غير دقيقة على ترقوتها النحيلة.
إن ديديون، وبوجا، وسانز يوضحن شيئًا واحدًا: هناك قلة من التجارب المعزولة مثل الألم، لأنه بغض النظر عن الجهد الذي نبذله، من المستحيل عمليًا على مخاطبنا أن يفهم أو يتخيل ما نمر به. والأكثر من ذلك، من الصعب أن نجد شخصًا، سواء كان قارئًا أو قريبًا أو صديقًا، لديه الاستعداد لتخيل أحاسيسنا. يتطلب الأمر انفتاحًا كبيرًا وتعاطفًا عميقًا لكي يقبل الآخر ألمنا عن طيب خاطر. لدينا بالفعل ما يكفينا من ألمنا الخاص. لهذا السبب، في معظم الأحيان، لا نكلف أنفسنا عناء تخيله—آليات دفاعنا النفسية تمنعنا من القيام بذلك.
وعلى النقيض من ذلك، هناك نوع آخر من المعاناة أقل صعوبة في التعامل معه: ذلك النوع الذي نميل إلى تسميته بالألم العاطفي، أو الألم الأخلاقي، أو الألم النفسي. ولم يتناول هذا النوع من المعاناة عدداً لا يحصى من المرات من قِبَل أولئك الذين يكرسون أنفسهم للأدب فحسب، بل إنه أيضاً أحد القوى الدافعة العظيمة للفن، وأحد مكوناته الأساسية أو المواد الخام التي يتألف منها.
منذ أكثر من عشرين عامًا، عندما كنت في بداية مسيرتي الكتابية ولم يكن لدي فكرة واضحة عن موضوعاتي، قرأت، بناءً على توصية من صديق، القبر المضطرب لسيريل كونولي. هناك صادفت اقتباسًا باللغة البالية، يترجمه المؤلف على النحو التالي: "الحزن في كل مكان / في الإنسان لا كائن دائم / في الأشياء لا حقيقة دائمة". ينسب كونولي العبارة إلى بوذا ويضيف: "ترنيمة لا تزال تتردد بحزن في عشرة آلاف دير." لقد أثارني الاقتباس لدرجة أنني قررت أن أبحث في هذه الفلسفة بشكل أعمق، ومن هنا اكتشفت أنها تركز على لا شيء أقل من القضاء على المعاناة. عندما وصل بوذا إلى مرحلة التنوير وقرر تعليم الآخرين كيف يحققون ذلك، جمع مجموعة من الناس في مدينة سارناث. هناك وضع أسس تعاليمه، التي تُعرف بالحقائق النبيلة الأربع.
إن أول هذه الأنواع من المعاناة هو أن "المعاناة موجودة وتنتشر في كل مكان". إن المعاناة أو الألم الذي تتحدث عنه البوذية (الكلمة في اللغة السنسكريتية هي "دوخا") مقسم إلى فئات مختلفة. الفئة الأولى تتوافق مع الألم الجسدي والوجودي المتأصل في الحالة البشرية ـ الألم الذي لا يمكن نقله تقريباً والذي ذكرته في البداية. أما الفئة الثانية فتتوافق مع ردود أفعالنا تجاه التغيير أو الخسارة، سواء كانت خسارة للأشياء أو المواقف أو الأشخاص أو القدرات أو الإمكانيات التي نرتبط بها. أي المعاناة الناجمة عن الطبيعة العابرة للأشياء أو الروابط أو الخبرات. إنها الألم الذي عاشه المراهقان روميو وجولييت، وهي الحنين الذي شعر به أوديسيوس عندما تذكر إيثاكا، ولكنها أيضًا موضوع نجده في روايات حديثة مثل "جاتسبي العظيم" للكاتب إف. سكوت فيتزجيرالد أو "معارك في الصحراء"، الرواية الأكثر شهرة للكاتب المكسيكي خوسيه إميليو باتشيكو، حيث أحصى بدقة جميع الشوارع ودور السينما والسيارات والإعلانات والبرامج الإذاعية التي سكنت طفولته في مدينة مكسيكو سيتي خلال الخمسينيات. وبعد تذكر كل هذا، وخاصة بعد تذكر الحب الأول للراوي، أنهى باتشيكو هذه الرواية القصيرة المؤثرة بهذه الكلمات:
لقد كانت قصة قديمة جدا، بعيدة جدا، مستحيلة. ولكن ماريانا كانت موجودة، وجيم كان موجودا، وكل شيء كنت أكرره لنفسي بعد كل هذا الوقت من رفضي مواجهته كان موجودا. لن أعرف أبدا ما إذا كان الانتحار حقيقيا. لم أر روزاليس أو أي شخص آخر من تلك الحقبة مرة أخرى. لقد هدموا المدرسة، وهدموا مبنى ماريانا، وهدموا منزلي، وهدموا كولونيا روما. لقد انتهت تلك المدينة. وانتهى ذلك البلد. لم يعد هناك أي ذكرى للمكسيك في تلك السنوات. ولا أحد يهتم: من الذي قد يشعر بالحنين إلى ذلك الرعب؟
يشعر المرء، في التعليق الساخر الذي ينهي به الكتاب، بتلك المشاعر من الوحدة والعزلة التي تجتاح كبار السن عندما يسترجعون شبابهم، وهي مشاعر تناولها باشيكو أيضًا في عدة من قصائده. قلة من الكتاب الناطقين بالإسبانية وصفوا كما فعل هو الوعي بما يسميه البوذيون "عدم الدوام"، وهو ليس سوى "الزمن يهرب"، أي طبيعة الحياة العابرة والألم الناتج عن عدم القدرة على التكيف مع سرعتها.
النوع الثالث من "الدُهخا" الذي تشير إليه البوذية يصف نوعًا دقيقًا وعميقًا من المعاناة، وهو عدم الرضا الذي يأتي مع الوجود نفسه، والذي يمكن لمسه في الأسئلة المستمرة للبشر حول معنى الحياة، أو سؤال "أن نكون أو لا نكون" لهاملت، أو الحكم التي يجمعها إميل سيوران تحت العنوان المثير للاهتمام "مشكلة الولادة".
إحدى مقدمات البوذية الأخرى هي أنه، باستثناء الألم الجسدي، فإن جميع المعاناة تنشأ في العقل بسبب التعلق، والكره، والأفكار الخاطئة التي لدينا عن هويتنا. إن محاولة رفض المعاناة أو تجاهلها لا يؤدي إلا إلى جعلها أكثر قوة، ولكن الأمر نفسه ينطبق على عادة الإعجاب بها.
على الرغم من أن عمل الكاتب يستلهم إلى حد كبير من التجارب والملاحظة الدقيقة للعالم والبشر من حولنا، فإنه يستلهم أيضًا من الكتب التي كتبها الآخرون. هناك العديد من الكتاب الذين ساعدوني على مواجهة الألم مباشرة، وسيستغرق الأمر وقتًا طويلاً للغاية لذكرهم جميعًا هنا. أندريا باجاني هو واحد منهم. كتابه Se consideri le colpe (إذا كنت تحتفظ بسجل للذنوب) يروي الحزن العميق والوحدة التي يشعر بها طفل صغير تخلت عنه أمه، بينما يتحدث كتابه Mi riconosci (هل تعرفني؟) عن وفاة أفضل صديق له ومرشده، الكاتب الإيطالي أنطونيو تابوكي. إحدى روايات باجاني الأخرى، التي كتبت على شكل حكاية وعنوانها Un bene al mondo (خير في هذا العالم)، تبدأ هكذا:
كان هناك ذات مرة صبي صغير كان لديه ألم لا يفارقه أبدًا. كان يحمله معه في كل مكان. كان يعبر الحقول في الصباحات ليذهب إلى المدرسة. وعندما كان في الفصل، كان الألم يلتف عند قدميه ولخمسة ساعات ظل هناك، عيناه مغمضتين، لا يتنفس. وعند فترة الاستراحة، كان يخرج مع الصبي وزملائه إلى ساحة اللعب، وعندما ينتهي يوم المدرسة، كان الصبي يعبر الحقل في طريق العودة إلى المنزل، والألم بجانبه. لم يكن يحتاج إلى رباط لأنه لم يكن ليهرب أبدًا، ولم يكن يحتاج إلى كمامة لأنه لم يكن ليؤذي أحدًا.
هناك كتّاب نقرأهم لأنهم يبدون محبوبين، وفكاهيين، ومثيرين للاهتمام، وهناك كتّاب نقرأهم كما لو أننا نتحدث مع ذلك الجزء الحكيم في أنفسنا الذي نادراً ما نلتقي به. في هذه الفئة الثانية أضع، على سبيل المثال، الكاتب الفرنسي إيمانويل كارير. بدأت بقراءة كتابه حيوات أخرى غير حياتي دون أن أعرف ما هو موضوعه. كان والدي قد تم تشخيصه مؤخرًا بسرطان المثانة المتقدم، وكان القراءة إحدى الطرق التي ألهتني عن الحزن التنبؤي، الذي كان مؤلمًا تقريبًا وأشد إيلامًا من الحزن الحقيقي. بدا أن القصة واضحة: كان كارير في سريلانكا في وقت حدوث التسونامي، وهي الصور التي لا تُنسى والتي رأيناها جميعًا على التلفاز. لم يكن يتطلب الأمر الكثير من الجهد للانغماس في الحبكة. ومع ذلك، عاد بعد فترة قصيرة إلى فرنسا وتغيرت القصة تمامًا. لم يعد الموضوع هو التسونامي، بل عذاب أولئك الذين يقضون حياتهم برفقة شخص عزيز مصاب بالسرطان. أي أن الكتاب تحدث عن ما كنت أعيشه تمامًا، عن الشيء الذي كنت أحاول الهروب منه.
وعلى الرغم من ما قد يظنه البعض، فإن الانغماس في قصة صداقة جوليت و إتيان (المبنية على تجربة المرض، والمعاناة الجسدية، والموت الوشيك) لم يعمق حزني؛ بل ساعدني على فهم ما كان يحدث لي. وخصوصًا، ساعدني على تحويل تركيزي من معاناتي إلى معاناة والدي، وعلى ما يشعر به، وعلى قلقه، وعلى غضبه، وعلى القصة التي أدت به إلى هذه النقطة. في كتاب كارير، تم ذكر عدة كتّاب، واثنان منهم رسخا في ذهني: الكاتب السويسري فريتز زورن، الذي يتناول في كتابه الوحيد المريخ موضوع السرطان، وهو سرطان الكاتب نفسه، كذروة لتاريخ عائلي وشخصي، لكنه يراه أيضًا نتيجة لعدم القدرة على التعبير عن الغضب. والآخر هو المحلل النفسي بيير كازناف، الذي كانت مقالاته عن المرض كوسيلة للمعرفة الذاتية بمثابة النور الذي هديت به في محاولاتي لفهم ما كان يمر به والدي. يقتبس إيمانويل كارير مقطعًا من كتاب رحلة إلى نهاية الليل للكاتب لويس-فيرديناند سيلين في حيوات أخرى غير حياتي يلخص أطروحة روايته بشكل بليغ. المقطع هو: "ربما هذا هو ما نبحث عنه طوال حياتنا، لا شيء أكثر، أعظم حزن ممكن، لكي نصبح أنفسنا قبل أن نموت."
علمتني وفاة والدي، وفقدان أحبائي الآخرين الذين كنت قريبًا منهم، أنه في لحظات الألم الأكبر لدينا، يختفي الدرع العصبي الذي نميل إلى التحصن وراءه، أو على الأقل تتطور فيه شقوق، وهذا يعطينا الفرصة لإقامة اتصال حميم مع الآخرين، اتصال استثنائي. هذه الاكتشافات كانت سببًا في كتابة روايتي بعد الشتاء، التي يمر فيها أربعة شخصيات بلحظات من الفقد المدمر وفي نفس الوقت يكتشفون إمكانية اللقاء مع الآخر.
إذا كان المعلمون في البوذية يعلمون من خلال طريقة وجودهم في العالم (يتعلم المرء من مشاهدتهم، من خلال التواجد في صحبتهم)، فإن انتقال هذه المعرفة لدى الكتاب يتم عبر كتبهم. الشيء الذي ينقلونه هو إدراكهم الخاص للعالم. ماذا علمني كارير لرؤيته؟ الآخرين، أولاً وقبل كل شيء. أن أنظر إليهم كما يصفهم في كتبه: بتعاطف، وفضول، ورغبة في فهم حتى أكثر البشر اضطرابًا و قسوة.
أنا أتفق مع آموس عوز عندما يقول في المرأة في النافذة "أن تقرأ رواية يشبه أن تُدعى إلى غرف المعيشة الخاصة بالآخرين، إلى حضاناتهم، إلى مكاتبهم، وحتى إلى غرف نومهم. تُدعى إلى أحزانهم السرية، إلى أفراحهم العائلية، إلى أحلامهم." على الرغم من أننا قد ننتمي إلى ثقافات مختلفة أو لحظات زمنية مختلفة، إلا أن البشر ليسوا مختلفين إلى هذه الدرجة عن بعضهم البعض. الأدب هو رمز دقيق للغاية ينجح في فتح، ولو لوهلة، القلوب والعقول الأكثر انغلاقًا. لديه القدرة على ربطنا عبر الأيديولوجيات، من خلال مشاعرنا الأساسية مثل الخوف، والإهانة، والحنان، والمعاناة، والرحمة التي قد تنشأ منها. لديه القدرة على دفعنا إلى المجال الحميم للآخرين والمجتمعات الأخرى، حتى المجتمعات العدوة، كما يقترح عوز، ليجعلنا نشارك في قصتهم، وحياتهم اليومية، ومخاوفهم، ورغباتهم، ووجهات نظرهم، وتجاربهم، وخاصةً آلامهم.
يبدو لي أن إحدى الصفات الأكثر تميزًا في الرواية هي أنها تسمح لنا بالوصول إلى الذاتية كما لا يسمح أي فن آخر. لدى البشر علاقة حميمة جدًا مع الكلمات. نفكر بالكلمات، ونحلم بالكلمات. الكلمات، عندما يتم اختيارها بشكل جيد، يمكن أن تسمح لنا ببناء الصور، بالتعبير عن المشاعر، بتسمية الأشياء، ووصف تلك الأشياء التي لا يمكن تسميتها.
هناك أوقات لا تكون فيها الكتب مجرد نافذة كما قال عوز، بل هي بوابة حقيقية أو آلة زمن تنقلنا إلى عوالم أخرى، تأخذنا ليس فقط إلى المنازل بل إلى أجساد وعقول أشخاص آخرين، سواء كانوا حقيقيين أم خياليين؛ باختصار، تتيح لنا أن نعيش حياة الآخرين. على سبيل المثال، كنتُ جريجور سامسا؛ كنتُ برناردا ألبا الصارمة، وكنتُ واحدة من بناتها. كنتُ ابن بيدرو بارامو، كنتُ آني إرنوا، وشعرتُ بالخجل الذي شعرت به كفتاة قروية في عالم الجامعة الطبقي، شعرتُ برغبة هامبرت هامبرت في فتاة في الرابعة عشرة من عمرها، شعرتُ برغبة كارمن ماريا ماتشادو في خريج هارفارد سيئ السلوك. كنتُ جان-كلود رومان، وعرفتُ أنه لم يكن لدي خيار سوى قتل عائلتي بأكملها قبل أن يكتشفوا سلوكي المشين. بفضل جايل في، شعرتُ بمعاناة الهوتو في اضطهاد التوتسي خلال الإبادة الجماعية في رواندا وبوروندي. إن الكتب تمنحنا فرصة العيش مرة أخرى، لأن ليس إعادة الحياة إلا العيش في جسد آخر، وفي ظروف ووقت آخر؟ في الكتب، تُسجل ذاكرة البشرية. مثل الشخصيات في رواية "نصيبنا من الليل" لماريانا إنريكيز، لا يزال البشر يحلمون بتجاوز الموت، ويحاولون البقاء في هذا العالم الزائل، ويطمحون إلى نقل وعيهم—وهو أحد أهداف الكيميائيين. ننسى أنه عندما تم اختراع الكتابة، اكتشفنا سر الخلود. هكذا ننقل وعينا إلى أجساد أخرى، وأيضًا هذه هي الطريقة الأكثر شيوعًا وبساطة للتواصل مع الموتى، وهي لا تتطلب منا أي تضحية. يكفي أن نخصص بضع ساعات من وقتنا واهتمامنا لهم، لنتلقى منهم التجربة والحكمة والنصيحة ممن عاشوا قبلنا. لا يهم إن كانوا قد عاشوا في القرن الماضي، أو في عصر النهضة، أو في مصر القديمة. الكتب تحفظ تاريخنا، وحكمتنا، وتعويذاتنا، وسحر أسلافنا. أليس هذا إنجازًا سحريًا أعظم وأكثر تأكيدًا من السحر الذي سعى إليه الكيميائيون؟
***
............................
1. جوان ديديون، "في السرير" في الألبوم الأبيض. مقالات (نيويورك، فارار، ستراوس وجيرو، 1979).
2. مارثا سانز، كلافيكولا ( برشلونة، إيديتيور أناغراما، 2017). ↩
3. سيريل كونولي، القبر المتمرد (لندن، فاينينغ برس، سلسلة كومباس بوكز، 1957، ص. 21).
4. خوسيه إميليو باتشيكو، معارك في الصحراء، مترجم من الإسبانية بواسطة كاتي سيلفر (نيويورك، نيو دايركشنز، 2021).
5. كارل يونج، علم النفس والكيمياء (الطبعة الثانية، لندن، روتليدج، 1980، ص. 99).
https://wordswithoutborders.org/read/article/2025-01/the-alchemy-of-literature-a-lecture-on-pain-nettel-harvey/

لمناسبة يوم المعلم

كان الزمن الذهبي للمعلم هو النظام الملكي.. ففيه كان يلقب بـ(الأفندي) لأنه ارتدى الزي الاوربي ولوضعه الاقتصادي المعتبر. والأهم.. لأنه كان يحظى بالاحترام والاعتبار الاجتماعي.. ويعدّ القدوة في الثقافة والاخلاق والسلوك.. وكان في ذاك الزمان ينظر اليه كما لو كان (رسولا) المقترن بتكريمه من قبل النبي محمد الذي قال (انما بعثت معلما).
عن ذلك الزمن اذكر لكم حادثة واقعية تعكس كيف كانت للمعلم هيبة واحترام في خمسينيات القرن الماضي. كنت تعلمت التدخين بعمر(12)سنة.. لأنني كنت ابن ديوان، وكان الجالسون كثيرا ما يكلفونني باشعال سجائرهم (عمو قاسم.. ورّث هاي الجكارة من الموكد.. موقد القهوة يقصدون). وفي احد الايام كنت واضعا السجارة بفمي وامشي متبخترا في احد شوارع قريتي (آلبوهلاله).. وهب.. واذا انا ومعلمي وجها بوجه. لم ارمها.. بل ضغطها براحة يدي واطبقت كفي على جمرتها.
هكذا كنا نحن تلاميذ ذاك الجيل وما قبلنا.. نحترم المعلم ونهابه ونخافه ايضا.. وبقي يحظى بالاعتبار الاجتماعي والكفاية الأقتصادي في زمن الجمهورية الأولى. وكان في سبعينيات القرن الماضي يعيش وضعا اقتصاديا جيدا ايضا. اذ كنّا يومها نجوب بلدان اوربا الشرقية في العطلة الصيفية بألف دولار ونعود محملين بالهدايا.. الى الثمانينات التي شكلت بداية تدهور مكانة المعلم.. وتحديدا.. يوم أجبر على الالتحاق بالجيش الشعبي، ثم تلته الضربة الأوجع في زمن الحصار (1991-2003).. ففيه كان راتب المعلمة لا يساوي ثمن حذاء لها.. وساء الحال الذي اضطر كثيرون الى فتح (بسطيات) في الشوارع، ووصل الأمر الى ان بعض الناس كانوا ينظرون للمعلم بعين العطف والشفقة.. والتصدّق عليه (خطية.. معلم!). وانمحت هيبة المعلم.. واضطر هو الى ان يهدر بقيتها بقبوله هدايا (رشاوى) من الطلبة.
في اواسط التسعينيات.. اجريت دراسة ميدانية عن التخلخل في المكانات الاجتماعية والاقتصادية تبين منها ان الأستاذ الجامعي الذي كان يحتل المرتبة الرابعة في قمة هرم المكانة الاقتصادية في المجتمع، تراجع في زمن الحصار الى المرتبة الرابعة والعشرين، وتراجعت مكانة المعلم الى المرتبة ما قبل الأخيرة بنقطتين!. وحدث في التسعينيات ايضا ان اضطر الأستاذ الجامعي الى ان يعمل سائق اجرة بسيارته الخاصة، واضطر آخرون ان يبيعوا أعز ما يملكون.. مكتباتهم.
وتعد السلطة او الطبقة السياسة الحاكمة هي التي لها الدور الأكبر في الأساءة الى المعلم.. بدأها النظام الدكتاتوري في ثمانينات القرن الماضي بزج الأستاذ الجامعي في الجيش الشعبي.. وتبعه (النظام الديمقراطي) بالتمييز الطائفي لدرجة ان الحال وصل باحد الطلبة في كلية آداب بغداد وبالقسم الذي كنت أدّرس فيه، ان دخل القاعة الدراسية وسحب الأستاذ من سترته واخرجه.. واهانه امام طلبته. ومثل هذا.. وأشنع.. حدث كثيرا لمجرد ان الطالب يتمتع بسلطة الحزب الفلاني. ومع اننا في اكثر من مؤتمر طالبنا ان تكون المؤسسات التربوية بعيدة عن السياسة.. واتخذت فعلا بعض الاجراءات الا ان تأثير الأحزاب، الاسلامية بخاصة، ما زال موجودا، وما تزال الطائفية فاعلة على صعيد وزارة التعليم العالي تحديدا... فحين يتولى الوزارة (سنّي) تكون في حال وحين يكون الوزير (شيعيا) تكون في حال آخر..
وللتاريخ.. في نيسان 2012 وبدعوة من مكتبه، جرى لقاء شخصي مع وزير التعليم العالي السيد علي الأديب وعرض عليّ العودة الى بغداد مع تلميح نقله لي ملحق ثقافي كان حاضرا اللقاء بأسناد موقع اكاديمي كبير لي.. فشكرته واعتذرت. وفي نهاية اللقاء اسديت له نصيحة قلتها له بالنص: ان سيكولوجيا السلطة في العراق عودت المحيطين بالمسؤول ان يقولوا له ما يحب ان يسمعه.. واخشى أن يكون المحيطون بك من هذا النوع سيما وأن بينهم من هو حديث الخبرة (بينهم طلبتي!).. وعليه اقترح على جنابك تشكيل هيئة مستشارين بدرجة بروفيسور من الاختصاصات العلمية والانسانية على ان يكونوا مستقلين سياسيا. (موثق في كتابنا.. كتابات ساخرة ص 17).. ولم يأخذ بها.. وتردى حال التعليم الجامعي في زمنه وزمن من بعده بعد ان كان يتصدره على مستوى العالم العربي.
ثمة من لا يدرك ان دور المعلم يتعدى نشاطه في المدرسة، فبين المعلمين من هم مفكرون وأدباء بارزون وفنانون مبدعون، بل ان الكثير من القادة السياسيين الوطنيين كانوا في الأصل معلمين!.. وكان المعلمون يشكلّون النسبة الأكبر من السجناء السياسيين!.. ما يعني انهم بناة مجتمع.. وتلك حقيقة ادركها هتلر الذي استثنى المعلمين من زجهم في الحرب، ولما سئل لماذا؟ اجاب.. انهم هم الذين سيعيدون بناء المانيا بعد الحرب. وقبله كان الحكيم كونفوشيوس قد قسّم المجتمع الى ثلاث طبقات: الحكّام، الشعب، المعلمون.. واوصى بالعناية بالطبقة الثالثة لانه بصلاحها يصلح المجتمع.
ما المطلوب لأعادة دور المعلم وتفعيل رسالته في توعية المجتمع وبناء الوطن؟
الأول:ان تبتعد السياسة عن المؤسسات التربوية؟
الثاني: ان يتولى مسؤولية وزارتي التربية والتعليم العالي تربويون واكاديمييون اصحاب اختصاص.. وليت يتولى التعليم العالمي اكاديمي بروفيسور.. مسيحي!
الثالث: ان يصادق البرلمان على قانون يحمي المعلم ويرعاه.
الرابع: ان يعمل المعلم ذاته على اعادة الاعتبار لنفسه وان يكون بمستوى (كاد المعلم ان يكون رسولا).
هل ترتقي السياسة ويرتقي المعلم نفسه الى ادراك ان معظم التحولات الايجابية وقادة التغيير في العالم كانوا معلمين.. وان نعمل جميعا على تفعيل دور المعلم العراقي.. الذي يحتاجه الآن في زمن المحنة؟
في اليابان تقليد لطيف: في كل مناسبة تخرّج يجلس المعلمون ويضعون ارجلهم في طشوت ويقوم الطلبة بغسل اقدام معلميهم.
هل يعملها طالبنا؟. مستحيل!.. بس عالأقل من يشوف المعلم.. خل يخفي الجكاره!
***
ا. د. قاسم حسين صالح

في زاويةٍ خافتةِ الضوء من متحف الدنمارك الوطني، تقبع بدلةٌ تبدو للوهلة الأولى كقطعةٍ من أسطورةٍ منسية. جلدها المُحاك بعناية، وثقبها المركزي الغريب، وتفاصيلها التي تختزل حكاية إنسانٍ واجهَ البرد القارس والمحيطات المتجمدة قبل قرون. هذه ليست مجرد بدلة صيد، بل هي شاهدٌ صامتٌ على حوارٍ قديم بين البشرية والطبيعة، حوارٍ لم يتوقف رغم تغير الزمن، رغم تحول التحديات والأدوات. فالقدرة على التكيف، تلك المَلَكة التي نحسبها أحياناً اختراعاً حديثاً، هي في الحقيقة جذورٌ ضاربةٌ في أعماق تاريخنا.
حين كان الجليد يكتب حكايات البقاء
تصور نفسك لحظةً في جرينلاند قبل مئتي عام. رياحٌ تزمجر كالوحوش، مياهٌ تلامس حافة التجمد، وصيادون يزحفون عبر ثقبٍ ضيق في بدلةٍ جلدية لمواجهة الحيتان العملاقة. لم تكن تلك البدلة مجرد غطاءٍ للجسد، بل كانت حافظةً للحياة. كل غرزةٍ فيها كانت حكمةً متراكمة، وكل انحناءةٍ في تصميمها إجابةً على سؤالٍ وجودي: كيف نعيش هنا؟ لقد حوّل الإنسان جلود الفقمة إلى درعٍ ذكي، يحاكي طبيعة الجسد ويحاصر البرد بذكاء، وكأنه يقول للطبيعة: "سأجد طريقةً لأرقص مع قسوتك، لا ضدها".
التكيف.. لغةٌ لا تشيخ
اليوم، وقد صار الحديث عن التغير المناخي يملأ الصحف والشاشات، قد ننسى أن البشر لم ينتظروا عصرَ الأقمار الصناعية ليبدعوا حلولاً. الفلاحون في صحاري أفريقيا الذين صمموا أنظمةً لالتقاط الندى، سكان جبال الأنديز الذين بنوا "تراسات" تتناغم مع منحدرات الجبال، وصيادو جرينلاند ببدلاتهم الجلدية.. كلهم شاركوا في نفس السردية: التكيف ليس ترفاً، بل هو فن البقاء. الفرق اليوم أن التحديات امتدت، وصارت الأدوات أكثر تعقيداً، لكن الجوهر لم يتغير. الألواح الشمسية التي تلتهم أشعةَ الحر، المباني العائمة التي تتحدى ارتفاع منسوب البحار، حتى الزراعة العمودية في قلب المدن.. كلها استمرارٌ لذلك الحوار القديم بين الإنسان وبيئته.
البدلة الجلدية في عصر الذكاء الاصطناعي
قد يبدو من السخرية أن نقارن بين بدلةٍ جلديةٍ بسيطة وبين تقنياتٍ حديثةٍ تكافح الاحتباس الحراري، لكن كليهما ينتميان إلى روحٍ واحدة: روح من يرفض الاستسلام. هناك، في الماضي، كان الإبداع يُستخرج من مواردَ محدودة، ومن مراقبة دقيقةٍ لطبائع الحيوان والمناخ. هنا، في الحاضر، صار الإبداع يُستخرج من البيانات والخوارزميات. لكن في كلا الحالين، يبقى السؤال الأصلي هو ذاته: كيف ننسج من مواردنا، مهما قلّت، حياةً قادرةً على الاستمرار؟.
ما تخبرنا به تلك البدلة الآن
ليست البدلة المعروضة خلف زجاج المتحف مجرد ذكرى من زمن غابر، بل هي مرآةٌ نرى فيها أنفسنا. لو نظر إليها مهندسو اليوم بعينٍ متأملة، لوجدوا فيها درساً عن "البساطة الذكية". فالتكيف مع المناخ لا يعني بالضرورة تقنياتٍ فائقة التعقيد، بل يعني الاستماع إلى الأرض، وفهمَ لغتها الخفية. قد نصنع في المستقبل بدلاتٍ فضائية لمجابهة الحرائق أو الأعاصير، لكنها لن تختلف جوهرياً عن بدلة جرينلاند: ستكون غلافاً يحمينا، ووعوداً بأن البشرية، رغم كل أخطائها، ما زالت تملك ذلك السحر الخفي: القدرة على إعادة اختراع حياتها، غرزةً تلو الغرزة.
في قلبِ كلِّ قطعةٍ تراثيةٍ تُخبئُها المتاحف، ثمةَ حكايةٌ عن إصرارٍ بشريٍّ يرفضُ الاندثار. تلك البدلةُ الجلديةُ التي صمدتْ قروناً لتهمسَ لزائري المتحف اليوم، ليست مجردَ شاهدٍ على ماضٍ انقضى، بل هي جسرٌ خفيٌّ يربطُ بين عبقرية الأجدادِ وتحديات الأحفاد. فالتكيّفُ مع المناخ، قديماً وحديثاً، ليس مسألةَ أدواتٍ فحسب، بل هو رقصةٌ معقدةٌ بين الحاجةِ إلى البقاءِ والرغبةِ في الازدهار.
حين تُصبحُ الثقافةُ رداءً للبقاء
لم تكن بدلةُ صيدِ الحيتانِ اختراعاً منعزلاً، بل كانت جزءاً من نسيجٍ ثقافيٍّ كاملٍ. لغةُ الملابسِ، طقوسُ الصيدِ، حكاياتُ المغامرةِ التي تُروى حول النار.. كلُّ تفصيلٍ كان يُغذي روحَ الجماعةِ ويُذكّيها بالتضامن. فالبردُ القارسُ لم يكن عدوّاً فرديّاً، بل عدواً جماعيّاً، والتكيّفُ معه لم يكن عملاً تقنياً بحتاً، بل كان عملاً اجتماعياً. هذه الروحُ الجماعيةُ هي ما نفتقده أحياناً في عصرنا، حيث تُحاصرنا الحلولُ الفرديةُ، وتنحسرُ فكرةُ أن النجاةَ من الكوارثِ المناخيةِ تحتاجُ إلى ذاكرةٍ جماعيةٍ تحملُ حكمةَ "نحن" قبلَ "أنا".
التكيّفُ: بين الحكمةِ القديمةِ وعبقريةِ الهامش
في قرى غابات الأمازون المطيرة، تبنى المنازلُ على أعمدةٍ عاليةٍ لتفادي فيضانات الأنهار، وفي صحراء الربع الخالي، تُحفر القنواتُ تحت الرمالِ لالتقاطِ شذراتِ الماء. هذه الحلولُ لم تولدْ من مختبراتٍ علميةٍ، بل من حوارٍ يوميٍّ مع الأرض. إنها "علومٌ هامشيةٌ" قد لا تجدُ طريقها إلى الكتب الأكاديمية، لكنها علومٌ تدركُ أن التكيّفَ الحقيقيَّ يبدأ بفهمِ الإيقاعِ الخفيِّ للطبيعة: متى تهاجرُ الطيور؟ كيف تتشكلُ السحبُ فوق الجبل؟ ما هي النبتةُ التي تنجو من الجفاف؟ اليوم، بينما نحاولُ تبريدَ الكوكبِ بتقنياتٍ عملاقةٍ، قد نحتاجُ إلى تعلُّمِ التواضع: فـ "المعرفةُ المحليةُ" التي راكمها الإنسانُ في ظلِّ محدوديةِ الموارد، قد تكونُ مفتاحاً لاستدامةٍ أكثرَ عمقاً من كلِّ الأرقامِ والإحصائيات.
المناخُ يتغيرُ.. فماذا عن أحلامنا؟
في الماضي، كان التحديُ منحوتاً بوضوح: صائدُ الحيتانِ يُريدُ العودةَ إلى أسرتهِ حياً. أما اليوم، فأخطارُ التغيرِ المناخيِّ تبدو مُبهَمةً، كوحشٍ لا يُرى يزحفُ من وراء الأفق. هذا الغموضُ يُنتجُ شيئاً أكثرَ خطورةً من ذوبان الجليد: إنه يذيبُ الإحساسَ بالهدف. كيف نحاربُ عدواً لا نراه؟ كيف نُقنعُ جيلاً نشأَ في المدنِ الخرسانيةِ أن إنقاذَ غابةٍ بعيدةٍ هو جزءٌ من إنقاذِ ذاته؟ ربما هنا تكمنُ أهميةُ قصصٍ مثل بدلةِ جرينلاند؛ فهي تذكّرنا أن التكيّفَ ليس عملاً تقنياً جافاً، بل هو فعلٌ روحيٌّ يُعيدُ تشكيلَ علاقتنا بالعالم. فذلك الصيادُ الذي كان يزحفُ إلى قلبِ المحيطِ المتجمد، لم يكنْ يبحثُ عن الطعامِ فقط، بل كان يبحثُ عن معنى لوجوده في عالمٍ قاسٍ.
مستقبلُ التكيّف: هل ننجو أم نُبدع؟
الأرضُ التي نعيشُ عليها اليوم تشبهُ مركباً خشبياً وسطَ عاصفةٍ، والفرقُ بين الماضي والحاضرِ أن السفينةَ لم تعدْ ملكاً لطاقمٍ واحدٍ. التكيّفُ الحديثُ يحتاجُ إلى لغةٍ عالميةٍ تترجمُ حكمةَ البدويِّ في الصحراءِ إلى سياساتٍ لمدنٍ تغرقُ، وتُحوِّلُ تصميمَ البدلةِ الجلديةِ إلى إلهامٍ لمهندسي ناطحاتِ السحابِ المقاومةِ للأعاصير. لكن هل يكفي أن نبدعَ الحلولَ دون أن نبدعَ طريقةً جديدةً للتعايش؟ قد تكونُ الإجابةُ في أن التكيّفَ الأعمقَ يبدأ حين نتوقفُ عن النظرِ إلى الطبيعةِ كعدوٍّ أو كموردٍ، ونبدأ برؤيتها كشريكٍ في رحلةِ البقاء. فذاك الصيادُ القديمُ لم ينتصرْ على البحرِ، بل تعلمَ كيف يسبحُ مع تياراته، وكأنه يقولُ لنا من وراء القرون: "انتبهوا، فالفنُّ الحقيقيُّ ليس في الهروبِ من العاصفةِ، بل في بناءِ مراكبَ تستطيعُ الرقصِ مع أمواجِها".
***
د. عبد السلام فاروق

في الغرب التقيت بأستاذة جامعية متعلمة بشكل جيد وكانت ملحدة تعتقد انه لا حياة بعد الموت والتقيت ايضا برجل عجوز متوسط التعليم غير مهتم بالقراءة كان يعمل (چايچي - بائع شاي) في بغداد قبل ان يهاجر لاورپا وهو الاخر كان يعتقد ان الانسان آله تتوقف عن العمل بمجرد الموت. وبيني وبين نفسي لم اتوقف عن التسائل (اذا كانت الاستاذة تستمد نظريتها من الكتب وادمان النظرية التجريبية فمن اين يستمد (الچايچي) نظريته وما هو مصدر اعتقاده ويقينه؟
يسأل المذيع العالم البايولوجي الشهير واستاذ جامعة اوكسفود هل هناك حياة بعد الموت؟ ويجيب الاستاذ بيقين مطلق لايشوبه اي تردد بانه لا يوجد اي حياة بعد الموت ! بل ويستهجن المذيع قائلا كيف تصدق ان الدماغ البشري الذي سوف يتآكل ويتعفن وتنتهي وظائفه البايولوجية ممكن ان يعود للحياة مرة اخرى؟
خزعل الماجدي عالم بتاريخ الاديان والاثار وهو يعتقد ويصدق فقط بالحكايات التي تترك اثارا. بمعنى انه لولا الاعلام فان هتلر مجرد اسطورة لا وجود لها طالما انه لم يترك اثارا.
المثير في الموضوع ان هذا السؤال قد طرح قبل الف واربعمائة سنة وحتى قبل ذلك. اي ان مئات السنين وحقبة طويلة من عصر التنوير والفلسفة وثورة صناعية وثورة رقمية وثورة ذكاء صناعي والى الآن ومازال الانسان يطرح نفس السؤال. (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي انشأها اول مرة- يس) والسؤال الذي يطرح علامات استفهام كثيرة لماذا لا يستطيع العقل البشري استيعاب وجود حياة بعد الموت لكنه يستوعب ظهور الحياة فجأة على الكوكب؟
وربما ان مثالا بسيطا يمكن ان يوضح هذه الجدلية. لو قدر لنا ان نتكلم مع جنين في بطن امه والجنين انسان ولديه حياة خاصه به ومفردات حياته لا تختلف في أساسياتها كثيرا فهو يحصل على الطعام ايضا ويتحرك ايضا لكنه يعيش وسط ظلام قد تعود عليه. ولو قدر لنا ان نحكي له عن حياة اخرى بعد خروجه من الرحم فيها ما لذ وطاب من شراب مختلف الوانه ونساء بأشكال متنوعه ولحوم مشوية وغير مشوية ولبن اربيل وكباب عراقي وسمك مسكوف وآلات تطير بنا من مكان لآخر ومكائن اخرى تنتقل بنا بسرعه هائلة بمجرد الضغط على دواسة هل ياترى سوف يصدق بما نقول؟ هل سوف يتيقن ويؤمن وهو الذي لايعرف من مفردات حياته غير الظلام والتحرك البسيط والحصول على طعام من لون واحد؟
الفيلسوف ديكارت آمن بوجود خالق وحاول اثباته والفيلسوف پاسكال قال ان فرص وجود حياة بعد الموت تتفوق على فرص عدم وجودها والفيلسوف كانت قال ان العقل المحض والاستدلال المنطقي وحده غير كافي لإثبات وجود الله واضاف عناصر اخرى مثل الشعور والحدس والاخلاق انا الفيلسوف سورين كيركاگارت فقال ان الاعتقاد بالله (قفزة ايمانية) وفعل من افعال الثقة وولع يفوق الدليل العقلاني وخصص الكثير من كتاباته لاهميه الشعور الداخلي للفرد في الارتباط بالله اما سقراط الملقب ابو المنطق فقد كان مبتسما وهو يشرب السم بعد حكمه بالاعدام لان تلاميذه كما يقول يتصورون انه حياته ستنتهي بالموت وهو كان متيقنا بوجود حياة اخرى لدرجة انه لم يكن يبالي بالموت
الحقيقة ان الادمان على القوانين الطبيعية من حولنا يحول بيننا وبين القدرة على تصور وجود حياة اخرى غير ما تعودنا عليه لان الحياة الاخرى تخضع لقوانين تحتاج لدراسة خواصها من جديد (يوم تبدل الارض غير الارض والسموات -ابراهيم) فهل من المنطقي ان نطبق قوانين ومنطق هذا الكون على كون اخر تختلف فيه الخصائص جذريا؟.
لذلك سيقى التخبط لا نهايه له ولا فرق في ذلك بين بائع الشاي وبين استاذ الجامعة فالايمان بالله ليس مجرد استدلالات منطقية بل ان هناك بعدا اخر ولهذا فان اية (الذين يؤمنون بالغيب - البقرة) ستبقى مصداقا لما ذكر اعلاه ودليلا يريد فيه الله فيه ان يساوي بين من سنحت له الفرصة ليتعلم جيدا ويصبح فيلسوفا وبين الانسان البسيط وسيبقى ذلك قائما حتى نهاية الزمان.
***
د. علي حافظ حميش - جامعة واسط

 

قراءة نقدية في تداعي المقدس تحت وطأة السوق

في عصرٍ باتت فيه كل الأشكال الرمزية والثقافية خاضعة لمنطق السوق، لم يَعُد الدين بمنأى عن عمليات التسليع وإعادة الإنتاج الرأسمالي. فالمقدّس، الذي لطالما كان مجالًا يُعرّف نفسه بوصفه خارج الزمن والاقتصاد، وجد نفسه تدريجيًا ضمن آليات العولمة النيوليبرالية، حيث لم يَعُد التدين تجربة ذاتية أو بحثًا عن المعنى، بل صار شكلاً من أشكال الاستهلاك المُكيَّف وفقًا لقواعد السوق.
لم يكن هذا التحوّل مجرد نتيجة عرضية لتوسع الرأسمالية، بل هو جزء من عملية أوسع لتفكيك المقدس وإعادة تشكيله بما يخدم الأيديولوجيا الاقتصادية المسيطرة.
في هذا السياق، لم يَعُد التساؤل حول علاقة الدين بالسوق مجرد طرح أكاديمي، بل أصبح ضرورة ملحّة لفهم كيف تغيّرت أنماط التدين في العقود الأخيرة.
هل نحن أمام حالة “هشاشة” روحية جعلت الدين أكثر قابلية للتسليع، أم أننا أمام عملية متعمدة لإعادة هندسة المقدّس ضمن منطق السوق؟
كيف تحولت النخب الدينية إلى لاعبين اقتصاديين فاعلين، يشاركون في إعادة تشكيل الدين نفسه بوصفه منتجًا ثقافيًا خاضعًا لآليات التسويق؟
وللإجابة على هذه الأسئلة، لا بد من العودة إلى الأسس الفكرية التي تناولت العلاقة بين الدين والاقتصاد.
نجد أن ماركس، حين وصف الدين بأنه “أفيون الشعوب”، كان يُشير إلى دوره في تهدئة الجماهير وترسيخ الواقع الطبقي، لكنه لم يكن يتخيّل أن الدين قد يتحوّل يومًا إلى مشروع اقتصادي قائم بذاته، حيث لم يَعُد مجرد أداة هيمنة، بل أصبح جزءًا من بنية الإنتاج الرأسمالي ذاته.
في المقابل، يذهب جان بودريار إلى ما هو أبعد من ذلك، حين يرى أن الرأسمالية لا تكتفي بإنتاج السلع، بل تعيد إنتاج الرموز والمعاني، بحيث يصبح الاستهلاك فعلًا أيديولوجيًا بامتياز.
وفقًا لهذا المنظور، فإن الدين في السياق الحديث لم يَعُد أداة قمعية فقط، بل صار منتجًا خاضعًا لإعادة التشكيل المستمر، حيث يتم تسويقه واستهلاكه تمامًا مثل أي سلعة أخرى.
هذا التحول في مفهوم الدين لم يَبْقَ مجرد فكرة فلسفية، بل انعكس بشكل واضح على بنية المؤسسات الدينية نفسها. فمن الكنائس الضخمة في الولايات المتحدة إلى المنظمات الإسلامية العابرة للحدود، ومن المؤسسات البوذية العالمية إلى الأشكال الجديدة من الروحانيات البديلة، باتت النخب الدينية جزءًا من شبكة اقتصادية معقدة.
لم يَعُد رجل الدين مجرد واعظ أو مفسر للنصوص المقدسة، بل تحوّل إلى فاعل اقتصادي، يستثمر في الدين تمامًا كما يستثمر رجل الأعمال في السوق.
ولم يَعُد الهدف من الخطاب الديني نشر التعاليم الروحية، بل استقطاب المزيد من “الزبائن”، حيث يتم تقييم النجاح وفقًا لحجم التبرعات وعدد المتابعين، لا وفقًا للأثر الروحي أو الأخلاقي.
الدين كاقتصاد
هذه الدينامية الاقتصادية للدين يمكن رؤيتها بوضوح في نماذج التمويل الإسلامي. فلم يكن الانتشار الكبير للبنوك الإسلامية مجرد استجابة لحاجة المسلمين إلى نظام مصرفي “أخلاقي”، بل هو جزء من عملية دمج تدريجي للنظام الاقتصادي الإسلامي في المنظومة المالية العالمية.
هذه المؤسسات، التي كانت تُسوّق نفسها في البداية كبديل عن البنوك التقليدية، سرعان ما تبنّت أساليب المنافسة نفسها، لتصبح جزءًا من النظام المالي الرأسمالي، حيث يتم تصميم المنتجات المالية الإسلامية وفقًا لآليات المضاربة والربح، وليس وفقًا لمبادئ اقتصادية بديلة.
لكن إذا كان الدين قد خضع لمنطق السوق، فإن السياحة الدينية تمثل أحد أبرز تجليات هذا التداخل بين المقدس والرأسمالي.
فالحج، الذي كان يُفترض أن يكون تجربة زهدية، أصبح جزءًا من سوق تجاري ضخم، حيث يتم بيع “باقات الحج” بأسعار متفاوتة، وفقًا لجودة الخدمات ومستوى القرب من الأماكن المقدسة.
لم يَعُد الحاج مجرد زائر للأماكن المقدسة، بل أصبح مستهلكًا في سوق منظم، تُدار فيه الطقوس بروح تجارية، حيث تُسعّر الخدمات وفقًا للطلب، ويُحدَّد مستوى “التجربة الروحية” وفقًا للقدرة الشرائية للحاج.
تصدير الروحانيات كسلعة
لكن الأخطر من ذلك، أن هذه الظاهرة لم تقتصر على السياحة الدينية التقليدية، بل امتدت إلى الروحانيات البديلة، حيث أصبحت اليوغا، والتأمل، والتصوف، جزءًا من سوق عالمي مخصص للنخب الثرية.
وهنا نجد أن عملية التسليع لا تقتصر فقط على الدين التقليدي، بل تمتد إلى أشكال أخرى من الروحانيات، التي يتم إعادة إنتاجها بما يتناسب مع حاجات السوق.
إدوارد سعيد، في كتابه “الاستشراق”، أشار إلى كيف يتم تفكيك الثقافات غير الغربية وإعادة تصديرها بما يتناسب مع حاجات المستهلك الغربي.
هذا ما حدث مع التصوف الإسلامي، الذي كان في الأصل تيارًا نقديًا يحتج على السلطة والمال، لكنه أُعيد إنتاجه كمنتج سياحي فاخر، يُسوَّق كوسيلة للراحة النفسية، بعيدًا عن أبعاده الاجتماعية والسياسية.
هل يمكن مقاومة هذا التوجه؟
كل هذه التحولات تثير سؤالًا جوهريًا:
إذا كان الدين قد تحول إلى منتج استهلاكي، فهل هذا يعني أنه فقد تمامًا قدرته على المقاومة؟
هذا السؤال يظل معلقًا، لكنه يفرض علينا البحث في البدائل الممكنة، خصوصًا في ظل استمرار محاولات إعادة توظيف الدين كأداة للمقاومة ضد الرأسمالية.
في أمريكا اللاتينية، على سبيل المثال، ظهرت حركة “لاهوت التحرير”، التي استخدمت الدين كأداة لمقاومة الاستغلال الرأسمالي، حيث تم توظيف النصوص الدينية للدعوة إلى العدالة الاجتماعية، بدلًا من استخدامها لتبرير الوضع القائم.
وفي العالم الإسلامي، ظهرت محاولات لإيجاد أنماط اقتصادية بديلة، مثل نماذج الاقتصاد الإسلامي غير الرأسمالي، لكن هذه المشاريع غالبًا ما انتهت إلى إعادة إنتاج الأنظمة المالية نفسها التي كانت تسعى إلى تجاوزها.
لكن مع ذلك، لا يمكن إنكار أن الدين لا يزال يمتلك القدرة على إنتاج مقاومات داخلية، رغم هيمنة الرأسمالية على فضاءاته الرمزية والمادية.
خاتمة
في ظل هذا التحليل، يصبح واضحًا أن العلاقة بين الدين والرأسمالية لم تَعُد علاقة خارجية، بل تحوّلت إلى علاقة عضوية، حيث لم يَعُد الدين فقط وسيلة للهيمنة، بل أصبح أيضًا أداة اقتصادية بحد ذاته.
لم يَعُد السؤال هو: هل سيبتلع السوق الدين؟
بل أصبح السؤال الأعمق هو: كيف يمكن للدين أن يعيد تعريف نفسه في ظل هذه الهيمنة الرأسمالية؟
التحدي اليوم لا يكمن فقط في مقاومة تسليع المقدس، بل في التفكير في كيفية إعادة إنتاج الروحانيات في سياقات لا تخضع بالضرورة لمنطق السوق.
إن فهم هذه الإشكالية يتطلب منا تجاوز النقد السطحي للاستهلاك الديني، والبحث في الأشكال الجديدة للتدين التي يمكن أن تتجاوز منطق الربح والخسارة، وتعيد للروحانيات مكانتها الأصلية، كمساحة للبحث عن المعنى، لا كسلعة تُباع في سوق الأديان العالمي.
***
إبراهيم برسي

تجربة الخروج من الجسد او ما تسمى بالاسقاط النجمي يشعر المرء عادة اثناء هذه التجربة ان وعيه قد غادر جسده وبامكانه النظر الى جسده من فوق وان روحه قد انفصلت عن جسده بصورة موقتة تحدث هذه الحالات عند الانتقال بين الحالات المختلفة من الوعي تحدث تجارب الخروج من الجسد عن طريق تحفيز مناطق معينة من الدماغ مثل المنطقة الامامية من الدماغ وفي دراسة حديثة اراد الباحث وعالم الاعصاب جوزيف سافيري من جامعة ستارتفورد من معرفة مناطق الدماغ والتي تشترك في اثارة تجارب الخروج من الجسد على امل ان توفر رؤى جديدة في البناء المعقد لحواسنا الذاتية عمل سافيري وفريقه مع تسعة مرضى مصابين بالصرع وتم ادخال اقطاب كهربائية في ادمغتهم كجزء من علاجهم من النوبات الشديدة وبموافقتهم قام الباحثون بتحفيز مناطق معينة من ادمغة المرضى بنبضات كهربائية فسالوا عما اذا كان هؤلاء المرضى قد تعرضوا لاي شكل من اشكال الانفصال الذاتي او من تجارب الخروج من الجسد قال سافيري بمجرد اكتشافنا للمنطقة المحددة من الدماغ والتي تسبب الانفصال. الذاتي قمنا بعد ذلك بالتحقيق من المناطق الاخرى في الدماغ والشبكات المرتبطة بهذه المناطق هذا من الناحية البيولوجية لهذه التجارب.
2-
اما من وجهة النظر الروحية لهذه التجارب غالبا ما تحمل تجارب الخروج من الجسد رسائل روحية عميقة شعورك بان روحك خرجت من جسدك فتشير هذه التجارب الى الحاجة للتحول الشخصي لاكتشاف الذات ويعتقد ان هذه التجارب تساعد المرء الى الاتصال بعوالم الوجود الاعلى ويمكن ان تعلمنا هذه التجارب كيفية تخلصنا من الخوف واندماجنا بطاقة الحب الطاقة الشافية للعقل للروح وللجسد ويرى البعض ان هذه التجارب دليل واضح على ان الوعي لا يقتصر على الجزء المادي من الدماغ والمرشدون الروحانيون يقولون ان هذه التجارب اثبات لا شك فيه بوحدة الوجود وغالبا ما يبلغ اللذين مارسوا هذه التجارب لاكتسابهم رؤى ونضوج واضح في تجاربهم الحياتي ويرى البعض ايضا ان هذه التجارب تشبه تجارب الاقتراب من الموت ولكن باختلاف تفاصيلها من فرد الى اخر.
***
سالم الياس مدالو

في كلِّ مرةٍ تُقام فيها المحافل الفلسفية، بأشكالها المختلفة، يتمُّ فيها إعلان موت الفلسفة؛ وكما أعلن نيتشة عن موت الإله بفعل الإله ذاته(لقد مات الإله وما أماته غير رحمته)، فإن شعار موت الفلسفة لم يحمله الأعداء أو الخصوم، بل الفلاسفة ذاتهم أو المتفلسفين أو طلاب الفلسفة وأساتيذها...
ففي ذات مرة، صعد أحد أبرز الفلاسفة في الفكر العراقي منبر الفلسفة، وهو بصدد تحليل واقع الفلسفة في العراق، فأعلن فاجعة معرفية مفادها (أن نستبدل الفيلسوف بالبطل، شأناً لتغيير واقعنا المعاصر)، وهذه وإن كانت تنمُّ عن رؤية واقعية نعيش تحت نيرها، إلا أنها من الأخطاء الشائعة، فالبطل من دون فلسفة جبروت هائل وإرهابي مُدمّر، مع إن الفلسفة من دون بطل، وفي كثيرٍ من الأحيان، مجرد رؤى في زاويةٍ مجهولة... الأمر الذي يتطلب درجة التكامل والتظافر وتشجيع روح التفلسف لصناعة البطل.
ومما ينبغي أن نشير له، أن السمةُ الغالبة في عقد الورش والندوات الفلسفية تكون من أجل الترقيات العلمية ونشاط الأقسام، لذلك كثيراً ما نسمع من مقرر الجلسة أو رئيسها، إزاء تقديمه للباحث الذي يروم الحديث بورقته الفلسفية (أتمنى أن لا تتجاوز الخمس دقائق من الوقت)، ولا أدري ما الذي سيقوله ذلك الألمعي في هذه الدقائق الخمس. إضافةً إلى ذلك فأن أوراق البحث التي تُقدم في هذه المحافل الفلسفية، لا تمتُّ والفلسفة بصلة إطلاقاً، وإن حاول البعض أن يبوبها في مباحث الفلسفة، لأن مباحث الفلسفة التقليدية (الوجود، المعرفة، القيم) لم تعد مباحثاً للفلسفة أصلاً، ومن أمثال تلك الموضوعات (الحزن، الموسيقى كرة القدم...)، وأنا هنا لست بصدد الإتيان بمجموعة من الأمثلة الرمزية، بل هذه الموضوعات حقيقية وقد قُدّمت في إحدى ندوات الفلسفة وبحضور العميد وجمعٍ غفير من الأساتذة وطلاب البحث الفلسفي.
ولنا أن نسلط الضوء على رحلة الفلسفة من التربية إلى التعليم، ونبدأ بما طرحه الدكتور(علي عبود المحمداوي) حول إشكالية التطرف في الدرس الفلسفي/التربوي، وهو في ذلك قد أحسن التعقيب، حيث يرى أن الدرس الفلسفي في المدارس الثانوية، الصف الخامس الأدبي تحديداً، قد أساء للفلسفة كثيراً، خصوصاً في طبيعة التعاطي والتفاعل مع الطلاب، فدائماً ما يتصور الطالب بأنها تساوي الإلحاد، لذلك نجد أغلب طلاب الفلسفة معبئّين ورافضين لفكرة التفلسف، حتى وإن شاءت الأقدار أن يدرسوا في أقسام الفلسفة، وقد لا يعود السبب في ذلك إلى الطالب بشكل مطلق، فهي مقسمة ما بين الطالب والاستاذ والمنهج، فالأخير فقير معرفياً، والاستاذ غير مختص في أغلب الأحيان، والطالب مصنوع ومدجن من بيئته الرافضة للتفكير النقدي.
وهذا يسحبنا إلى ضرورة النظر في التوزيع العشوائي الذي يُمارس على الطلبة وهم في طور الخروج من الدراسات الثانوية والولوج إلى الحياة الجامعية، فأقسام الفلسفة في هذه الحالة تقبل أقل المعدلات، لذلك نجد تيه الطالب في أروقة الفلسفة، مع أن الفلسفة يجب أن تقبل أعلى المعدلات وأنشط الطلاب، أو على أقلِّ تقدير، يجب أن تُستبعد من مارثون الانسيابية العشوائية، لتكون مجالاً حراً ترحب بمن أراد أن يُرحب بها فحسب، وأن لا تكون (علوة) تُباع فيها السلع من بعض البقالين الذين لا يحترمون الدرس الفلسفي في كثيرٍ من صوره.
وإذا ما فشل بعض البقالين في تسويق بضاعة الفلسفة بشكلٍ جيد، فإننا اليوم نُراهن على المتبضعين الجدد، ولكن كيف لهم الإبداع وهم تحت وطأة الألوان المعتقة، وأنا أتحدث عن اللجان العلمية داخل أقسام الفلسفة وعملية تصديق عناوين البحوث للدراسات الأولية والعليا... يتحقق الابداع بضرورة تجديد الدرس الفلسفي، وفكِّ الارتباط بمجموعة كبيرة من الموضوعات الفلسفية وتسريحها إلى التقاعد، والعمل على استقدام مجموعة أخرى ناشئة وفتية، بشرط أن لا تنفكُّ عن الواقع ومعاناته، فالفلسفة وقبل كل شيء(طريقة للتفكير في الواقع، تعمل على أشكلة حقول المشكلات الواقعية، بغية نقدها وتقويمها) أو ما أُحبذه من تعريفات الفلسفة ما قاله فوكو (نشاط تشخيصي، ومدار فعل التشخيص هو الواقع)، ولتحقيق ذلك الابداع المنشود، ينبغي الأخذ ببعض الاعتبارات، منها:
- الخروج من متاهات التفكير المجرد الذي أكل الدهر عليه وشرب، والانفتاح على جديد العلوم، السيسيولوجيا والانثروبولوجيا والسيكولوجيا وغيرها، فالفلسفة أولى بالبحث في إشكالاتها من غيرها.
- الفكر العربي منذ عصر النهضة وإلى يومنا هذا، يجب أن يتحول إلى الفلسفة العربية المعاصرة، وأن يُعاد تحقيب تاريخه إلى حديث (عصر النهضة)، المعاصر (أتاتورك وسقوط الدولة العثمانية)، فلسفة الحداثة (منذ هزيمة حزيران عام 1967)، وقد نمر بالمرحلة الراهنة (ما بعد داعش)... وأن يكون مادة أساسية في جميع المراحل، وأن تتشكل داخله المباحث الفلسفية المختلفة (الفلسفة السياسة، علم الاجتماع الديني، نقد الفكر الديني، حوار الأديان، صراع الحضارات، العلمانية والتراث وغيرها الكثير). ويجب الإقرار بأن الجابري وأركون والعروي وأبو زيد فلاسفة، ويجب أن نقرأ الوردي ومدني صالح والآلوسي والتكريتي والأعسم ومحسن عبد الحميد باعتبار ما كتبوه ونشروه يمثل المدرسة العراقية في الفلسفة، ويجب أن تُكتب عنهم الرسائل والاطاريح، فهم قاماتنا المعرفية التي ننتمي لها، لانتمائهم إلى واقعنا المشترك.
وقد يعترض الكثير على هذه الموضوعات وخروجها عن الفلسفة، وهؤلاء المعترضين يشهدون حقاً بأن الفيلسوف الفرنسي (ميشيل فوكو) من أعظم الفلاسفة المعاصرين، ولا أدري لما ننعته بالفيلسوف وأغلب ما اشتغل عليه يتمثل في تحليله لظاهرة الجنون والجنسانية والخطاب والسلطة والمراقبة والمعاقبة، فأين ما سبق من الفلسفة؟ وبالتالي يجب الإقرار بأنه فيلسوف لكونه قد اشتغل على موضوعات حيوية وواقعية داخل الافق النظري للابستيم المعرفي. وهذا ما يجب أن يتنبه له المعترضون، إن الفلسفة لا تقنن في أبواب، ففي أبوابها آلاف الأبواب التي تُفتح بأثر الزمان والمكان، وتلك الأبواب المرصعة بذهب أفلاطون وفضة أرسطو يجب أن نغادرها، لأنها وإن كانت ذهبية، إلا أنها دُفِنت مع مومياء اسطورة الكهف.
- السرد التاريخي في الدرس الفلسفي، فلو نظرنا في المنهج الذي يعكف طالب الدراسات العليا (ماجستير-دكتوراه) سنجد أن هناك ما تُعرف بـ(فلسفة القيم)، وهي مادة تسلط الضوء الفلسفات القيمية من حمورابي إلى توفيق الطويل، أو فلسفة التاريخ التي تبدأ من حضارات وادي الرافدين والنيل إلى الحواليات الفرنسية وما بعدها، أو الكندي ورسائله الفلسفية، والغزالي الذي حرّم الفلسفة وكفّر المشتغلين بها، وابن رشد ومناوشاته مع الأخير... من خلال ما تقدم، نفهم المساحة التي يقدمها استاذ الفلسفة لطالب الفلسفة في اختيار موضوعته الفلسفية، فلا خيارات أمامه إلا للرجوع إلى مثل ما ذُكر لكي يتخلص من ضغط الدراسات ويُسرع في احتساب شهادته في وظيفته، والمضحك المُبكي، أن ينتهي به المطاف (صدفةً) في زاوية من زوايا الجامعات العراقية الشهيرة.
***
د. حيدر عبد السادة جودة

ما الذي يضفي على التعايش البشري عمقا وجوديا يتجاوز تقاسم الزمان والمكان؟ وكيف يتحول الالتزام الأخلاقي إلى تعبير عن حريةٍ تتخطى حدود الذات.
إن فهم التضامن كجوهرٍ إنساني (وليس مجرد فعل عابر) يتطلب استيعاب تناقضات الذات وهي تنفتح على الآخر دون تفريط في هويتها. التضامن ليس فضيلة أخلاقية فحسب، بل ضرورة أنطولوجية تُجيب عن سؤال الوجود ذاته. ولتأسيس شرعية العيش المشترك دون إلغاء الفرد، ينبغي نقل التضامن من هيئة الصَنِيع إلى حوارٍ بين إرادات حرة، تلتقي من اجل اعتراف متبادل، ليدرك الفرد أن امتداده الوجودي يتجاوز جسده إلى آلام البشر جميعًا.
لكن ألا يُهدد شبح الأيديولوجيا نقاء التضامن حين يحوِّله إلى أداة هيمنة؟ الجواب ـ في تقديري- يكمن في جعل التضامن ممارسةً نقديةً تفكك هياكل السلطة الخفية، وتتجنب الوقوع في فخ التمركز حول الذات (فردية كانت أم جماعية)، كي لا تتحول إلى سيمولاكر (صورة زائفة) للاستبداد. فالتضامن الحقيقي تمردٌ على كل محاولة لتجريد الإنسان من إنسانيته، وتحويل حياته إلى سلعةٍ أو رقمٍ بارد.
هكذا يصبح التضامن فناً وجودياً يدمج الجمال بالأخلاق، ويحوّل الدفاع عن الإنسان إلى فعلٍ إبداعي يُعيد تشكيل العالم بوصفه فضاء الإرادات الحرة. التضامن معركة لا تتوقف في مواجهة العدمية، وذودٌ عن قدسية الحوار الإنساني، حيث تُولد إمكانية ‘أنسنة العالم’ من جديد، ليكون لقاءً دائما.
***
د. عبد السلام دخان

لم يعد الزمن الذي نعيشه محايدًا، بل هو مرحلة أُعيد تشكيلها بعناية، وفق منطق الهيمنة الثقافية والاستهلاكية. تحوّلت المعرفة من أداة للتحرر والوعي إلى منتج استهلاكي سريع الزوال، تُصاغ سردياته وفق متطلبات السوق، لا وفق أسس التفكير النقدي العميق.
لم يعد السؤال الوجودي للمثقف: “ماذا نقرأ؟” بل تحوّل إلى: “كيف نقرأ وسط هذا الركام الهش من النصوص المختزلة؟”. إنها مرحلة تاريخية انتصر فيها السطح على العمق، والاختزال على التحليل، والسرعة على التأمل.
ما نشهده اليوم ليس مجرد انحدار في جودة المنتج المعرفي، بل هو إعادة تشكيل متعمّدة للعقل الجمعي، بحيث يصبح عاجزًا عن التفكير خارج قوالب جاهزة، أُنتجت في معامل السلطة الرأسمالية.
هذه السلطة تدرك أن أسهل طريقة لإخضاع الشعوب ليست بالقمع المباشر، بل بإغراقها في سرديات تافهة، وسياقات باردة، وحقائق ملفّقة تعيد إنتاج ذاتها بلا مقاومة.
وبينما يتفاقم هذا الانحدار، يجد المثقف نفسه كائنًا زائدًا عن الحاجة، في عصرٍ لم تعد العزلة فيه خيارًا فلسفيًا يمارسه المفكرون لبلورة رؤاهم، كما كان الحال مع هايدغر أو سارتر، بل صارت حكمًا قسريًا يُفرض على كل من يرفض الانسياق في جوقة التفاهة.
المثقف اليوم ليس فقط كائنًا منبوذًا، بل هو فائض عن الحاجة في منظومة لم تعد تتّسع إلا للأفكار السريعة، والتصريحات الجوفاء، والمقالات المعقّمة من أي أثر فكري حقيقي.
ولكن، وسط هذا الواقع المتأزم، لا بد من التساؤل: من الذي جعل المعرفة هشّة؟
لا شك أن الرأسمالية المتأخرة أدركت أن المعرفة ليست فقط أداة تحرر، بل يمكن أن تكون أداة تحييد وإعادة إنتاج للامتثال. في عالمٍ أصبحت فيه “التفاهة شرط البقاء”، كما يقول ألان دونو، صار على الكاتب الجاد إما أن يتبنّى لغة السوق، أو أن يُدفن في أرشيف النسيان.
غير أن هذه الصورة ليست مغلقة بالكامل. صحيح أن الرأسمالية الثقافية قد فرضت منطقها بقوة، لكن المقاومة لا تزال ممكنة. فحتى في ظل الهيمنة الشاملة، تبرز دوائر صغيرة ترفض الانسياق، سواء عبر المشاريع الثقافية المستقلة، أو عبر وسائل رقمية بديلة لم تخضع بالكامل لمنطق السوق.
السؤال ليس فقط عن كيف نرصد هذا التدهور، بل كيف يمكن خلق فضاءات جديدة قادرة على كسر احتكار المعنى؟
إن هشاشة المعرفة ليست مجرد حالة عابرة أو نتيجة عرضية لزمن السرعة، بل هي جزء من مشروع متكامل. هشاشة النصوص، هشاشة النقاشات، هشاشة المقولات التي تتكرّر دون أي قدرة على إحداث قطيعة معرفية مع النظام القائم.
والنتيجة؟ ثقافة سائلة، كما وصفها زيجمونت باومان، حيث لا شيء يستقر، ولا شيء يمتلك وزنًا، لأن كل شيء محكوم عليه بأن يكون سريع الاستهلاك وسريع الاضمحلال.
لكن، إذا كان المثقف والقارئ معًا هما الضحيتين الواضحتين، فمن هو الجاني الحقيقي؟
التفاهة ليست ظاهرة طبيعية، بل مشروع سياسي واقتصادي له رُعاته ومهندسوه. الرأسمالية النيوليبرالية أدركت أن إنتاج النخب الفكرية الحقيقية يشكّل تهديدًا لها، فكان الحل هو إعادة هندسة المجال الثقافي برمّته.
لم تعد هناك حاجة إلى مفكرين جادّين، بل يكفي بضعة مؤثّرين يتحدثون عن الفلسفة كأنها لعبة مسلية، ويختزلون التاريخ في دقائق معدودة، ويحوّلون أعقد القضايا إلى أسئلة ترفيهية بلا سياقات.
لقد صارت المعرفة تُنتج داخل مختبرات الشركات التقنية الكبرى، حيث يتم تصميم “المحتوى الثقافي” وفق مقاييس السوق.
الأخبار تُختصر في تغريدة، الفلسفة تُختزل في فيديو من خمس دقائق، الكتب تتحوّل إلى ملخصات ممضوغة بلا نكهة.
بهذا الشكل، يُعاد تشكيل الذائقة الفكرية، بحيث يصبح أي شيء يتجاوز 280 حرفًا عملًا شاقًا لا يستحق القراءة.
هذه ليست مجرد هيمنة اقتصادية، بل هيمنة إبستمولوجية، حيث لا يُسمح للأفكار العميقة بأن تنمو خارج الحقول المسيّجة للمنظومة القائمة.
لكن، هل الجمهور ضحية فقط؟ أم أن هناك مسؤولية تقع على عاتقه أيضًا؟
وهنا، لا بد من الاعتراف بأن الجمهور لم يعد مجرد مستقبل سلبي لهذا الواقع، بل أصبح جزءًا منه. فالرغبة في استهلاك المحتوى السريع، والميل إلى ما هو مختزل ومباشر، يعززان هذه الهيمنة.
لذا، فإن السؤال لا يجب أن يكون فقط: “كيف تفرض الرأسمالية الثقافية منطقها؟” بل: “لماذا يتقبل الجمهور ذلك؟ وهل يمكن تغيير ذائقته الفكرية؟”
إن الإجابة على هذه الأسئلة تبدأ بالمقاومة، التي لا تعني فقط الرفض، بل إعادة تعريف العلاقة بالزمن وبالمعرفة ذاتها.
لا بد من رفض منطق السوق الثقافي، وعدم الاستسلام لهذا الإيقاع المجنون، الذي يحاول أن يجعل من الثقافة مجرد سلعة سريعة الاستهلاك.
على القارئ المثقف أن يعيد تشكيل علاقته مع القراءة، بحيث لا تكون مجرد بحث عن الجديد، بل عن الضروري والقيّم.
كذلك، يجب أن يعي الكاتب الجاد أن العزلة ليست قدرًا محتومًا، بل يمكن أن تكون موقفًا ثوريًا ضد سرديات الهشاشة.
لا جدوى من مسايرة التفاهة، ولا من محاولة إثبات الذات في فضاء باتت قوانينه تخدم الرداءة. بل إن الرهان الحقيقي هو خلق فضاءات بديلة، حيث يمكن للأفكار العميقة أن تتنفس بعيدًا عن ضجيج السوق.
ولكن، كيف يمكن تحقيق ذلك في عالم مصمم لمنع أي تغيير حقيقي؟
لقد قال ماركس ذات مرة: “الفلاسفة فسروا العالم بطرق مختلفة، لكن الأهم هو تغييره.”
ولكن، كيف يمكننا تغيير عالمٍ باتت أدواته مصممة لمنع أي تغيير حقيقي؟
هل من الممكن إعادة ترميم العقل الجمعي في عصر التفكيك المستمر؟
هل يمكن للمعرفة أن تستعيد وزنها في عالم لم يعد يقيس الأشياء إلا بمدى قدرتها على الترويج الذاتي؟
الإجابة تبدأ بإعادة إحياء السؤال الفلسفي، في زمن يحاول دفن الأسئلة العميقة تحت أنقاض المحتوى السريع.
في زمن يتهافت فيه الجميع على التصفيق، فإن الصمت قد يكون أكثر ضجيجًا، والكتابة الجادّة أكثر فعلًا من ألف ضوضاء زائفة.
ليست المشكلة في اختفاء الفكر العميق، بل في أن الجميع يحتفي بالسطحية وكأنها قدر محتوم، بينما تستمر الآلة الثقافية في إعادة تدوير التفاهة بوجوه جديدة، تحت إيقاع منصات مصممة لجعل الثقافة مجرّد وهم عابر.
وفي هذا المسرح، يكون المثقف آخر الواقفين على الخشبة، يتأمل الخراب، متسائلًا:
“هل يمكن للمعرفة أن تستعيد هيبتها؟ أم أننا أمام عصر جديد من الفراغ الفكري المقنّع بمظاهر الحداثة؟”.
***
إبراهيم برسي

سؤال مشروع يطرح نفسه علينا اليوم ونحن نشاهد تلك الدعوات المحمومة إلى تبني اقتصاد السوق الليبرالي، كما هو الحال في سورية الثورة اليوم بعد سقوط نظام الأسد. وبغض النظر عن طبيعة النظام السابق الاقتصاديّة التي ادعت الاشتراكيّة، في الوقت الذي تحول فيه الاقتصاد في سوريّة إلى اقتصاد عصابات مافيويّة تقوده قوى من البرجوازيّة البيروقراطيّة والطفيليّة من آل الأسد ومن يعمل لمصلحتهم. يظل السؤال المشروع يطرح نفسه علينا وهو: هل اقتصاد السوق الليبرالي هو الهدف المنشود في هذه السوق بعيدا عن القيم الليبراليّة الأخرى التي أسس لها فلاسفة عصر التنوير.؟.
كثيراً ما قامت الأحزاب الحاكمة، وبخاصة من منظومة الأحزاب (الديمقراطيّة الثوريّة) في دول العالم الثالث المتبنية لمشروع الاشتراكيّة العلميّة في محاربة الفكر الليبرالي وبكل من مفرداته الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والفلسفيّة، في الوقت الذي نرى فيه قوى الإسلام السياسي تتبنى قيم (اقتصاد السوق الحر) إلى حد ما، انطلاقاً من أن الإسلام في جوهره مع الاقتصاد الحر، ( لإيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَة الشتاءِ والصَّيْف ) وحديث الرسول: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء). (صححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة وصحيح الترغيب والترهيب). ولكنهم في المقابل حاربوا بقية القيم الليبراليّة، على اعتبارها نتاج دار كفر، كالديمقراطيّة والعلمانيّة ومفهوم الدولة المدنيّة والمواطنة، وبالتالي الحد بالضرورة من قيم العدالة والمساواة بين مكونات المجتمع، أي هم حاربوا القيم الليبراليّة في صيغتها التقدميّة التي تبنتها الطبقة البرجوازيّة في بداية نشوئها ونضالها ضد قوى الاستبداد ممثلة بسلطات الملك والنبلاء والكنيسة، وكانت الثورة الفرنسيّة 1789، الممثل الحقيقي لهذه القيم. ولا بد لنا أن نشير هنا بأنه مع استلام الطبقة البرجوازيّة السلطة، وانغماسها في شهوتها وغنائمها، قامت هذه الطبقة بإفراغ القيم الليبراليّة التي طالبت بها قبل وصولها إلى السلطة من مضامينها الإنسانيّة، وهنا بدأت مسألة الصراع الطبقي تظهر وبحدة بين المالك والمنتج، فجاءت أفكار ماركس فيما بعد الناقدة للطبقة البرجوازيّة (المالك) التي قادت الثورة الفرنسيّة، وراحت بعد استلامها السلطة تستغل الدولة وسلطتها وتشوه القيم الليبراليّة التي نادى بها فلاسفة عصر التنوير، وتخليها عن كل قيمها ومبادئها الإنسانيّة التي شجعت على قيامها في بداية انطلاقتها، وهي القيم المشبعة كما أشرنا أعلاه بمفاهيم الحريّة والعدالة والمساوة ودولة القانون والمواطنة والتعدديّة والتشاركيّة في قيادة الدولة والمجتمع. وأخذت تتحول إلى طبقة مستغلة لشعوبها ومستعمرة لشعوب دول العالم الثالث، وهذا ما جعل ماركس يقول مقولته المشهورة عن البرلمانات الأوربيّة وهي: ( إن الطبقة العاملة في الأنظمة الرأسماليّة تختار من يقمعها في البرلمان كل أربع سنوات).
وبناءً على هذه التحولات العميقة التي انتابت الطبقة البرجوازيّة وقيمها، حوربت أيضاً القيم الليبراليّة المشبعة بالروح الإنسانيّة في جوهرها من قبل الأحزاب المتبنية للاشتراكيّة أو الاشتراكية العلميّة والقوميّة في دول العالم الثالث كما بينا في موقع سابق، طارحة البديل عن هذه القيم الليبراليّة، قيم الديمقراطيّة الشعبيّة، التي لا تختلف من حيث المضمون عن هذه القيم الليبراليّة المشبعة بالروح الإنسانيّة. فمقولة لينين الذائعة الصيت: (مزيداً من الاشتراكية يعني مزيداً من الديمقراطيّة)، أي مزيداً من مشاركة الشعوب في تقرير مصيرها وتحقيق عدالتها وحريتها ومساواتها وما يدخل في نسيج هذه الأهداف العريضة من قيم ومبادئ إنسانيّة تهم الفرد والمجتمع معاً. بيد أن مشروع العدالة الاشتراكيّة القائم على فكرة (الديمقراطيّة الشعبيّة) ممثلة في المنظمات الشعبيّة والاتحادات والنقابات المهنيّة التي تساهم في التشريع لمصالح الجماهير وتنميتها من خلال مشاركتها في إدارة أمور البلاد ومراقبة السلطة الحاكمة والدعوة لمحاسبتها، راحت هذه القيم الايجابيّة لمفهوم الديمقراطيّة الشعبيّة بدورها تتلاشى شيئاً فشيئاً مع وصول هذه الأحزاب إلى السلطة، وتحكم قادتها بها، وفرض سياسة الحزب الواحد، أو الحزب القائد، كصيغةً أساسيّةً في قيادة الدولة والمجتمع معاً، هذا عدا ممارسة هذه الأحزاب أيضاً لسياسة رأسماليّة الدولة في صيغتها الاحتكاريّة كأنموذج اقتصادي، أخذ مع مرور الأيام يُشكل من قادة وسياسيي هذه الأحزاب طبقة من البرجوازيّة الطفيليّة اغتنت على حساب أموال الدولة، الأمر الذي حول المنظمات الشعبيّة والنقابات المهنية بناءً على هذه السياسة إلى حزام ناقل للسلطة، تعمل على نقل ما تقرره قيادة الحزب ومن يتحكم في قيادته الفعليّة إلى مكوناتها التنظيميّة وبالتالي إلى الشعب، دون أن يكون لها – أي المنظمات والنقابات - ذاك الدور الايجابي الذي رسمته لها نظريات هذه الأحزاب في المشاركة والمراقبة لسياسات الدولة ومحاسبة من يخل بهذه السياسة. أو بتعبير آخر فقدت مقومات الديمقراطيّة الشعبيّة وآليّة عملها.
وتأسيساً على ذلك وغيره الكثير من الممارسات السلبيّة التي مورست من قبل قيادات هذه الأحزاب، تحولت هذه الأحزاب ذاتها بالضرورة وفقاً لسياساتها هذه إلى أحزاب شموليّة تمارس دكتاتوريتها على أعضائها أولاً، وعلى الشعوب التي تحكم باسمها ثانياً، خاصة بعد أن سيطرت العشيرة والقبيلة والطائفة على الدولة، وحولت هذه السيطرة الأحزاب ومنظماتها ونقاباتها ذاتها إلى أداة بيد من هم في قمة السلطة أو المتحكمين بها فعلياً من أجل خدمة مصالحه.
والمحزن أيضاً أن هذه القيم النبيلة إن كانت للاشتراكيّة أو الليبراليّة التقدميّة، أو القوى الاسلاميّة التي وصلت إلى السلطة، إن كان في مصر او تونس أو ليبيا أو العراق أو حتى سوريا اليوم التي راحت تبشر بالليبراليّة، ولكن في جانبها الاقتصادي فقط ولس الاجتماعي والسياسي والثقافي، فكان اقتصاد سوق السيارات الفارهة يسود في بنية الدولة والمجتمع مع بداية استلام رجال الثورة السلطة قبل تأمين لقمة العيش للمواطن.
إذاً وعلى هذا المعطيات لم يؤخذ بالمبادئ الأساسيّة للقيم الإنسانيّة من التهميش والاقصاء لا عند مؤسسيها من الطبقة البرجوازية في أوربا أولاً، ولا عند حملة المشروع الاشتراكي ثانياً، ولا عند حملة المشروع السياسي الإسلامي ثالثاً.
أمام هذه المعطيات يحق لنا أن نتساءل هنا ماهي القيم الليبراليّة في صيغتها الايجابيّة ؟، وهل تصلح قيمها كمشروع نهضوي لدول العالم الثالث المتخلف.؟.
القيم الليبرالية وتجلياتها:
الليبراليّة منظومة أفكار وقيم ذات طابع إنساني تحققت تاريخيّاً حصيلة تطور طويل، تخلله الكثير من التناقضات والصراعات بين القوى المستغِلة والمستغَلة، وهي في المحصلة الوليد الشرعي للثورة التجاريّة والصناعيّة وحواملها الاجتماعيّة من الطبقة البرجوازيّة التجاريّة والصناعيّة في أوربا، ومن وقف معهم في بداية ظهورهم من أبناء الطبقة الرابعة الممثلة للقوى الاجتماعيّة المضطهدة تاريخيّاً، مثلما هي أيضاً التجلي النظري لعصر التنوير وما مثله هذا العصر من قيم إنسانيّة تدعو إلى الحرية والعدالة والمساواة والوقوف ضد القيم والأفكار والمبادئ الداعمة لاستغلال واستعباد القوى الممثلة لعصر الإقطاع كالملك والنبالة والكنيسة، مثلما هي ضد كل من يقف ضد العقل ودوره التاريخي في بناء الحضارة الإنسانيّة.
لا شك أن منظومة القيم الليبراليّة، أو أيديولوجيتها وحملتها من كتاب ومفكرين وفلاسفة، قد ساهمت بشكل فاعل في تغيير قيم وسلوكيات حياة المجتمعات والدول الأوربيّة من خلال نقدها العقلاني لكل ما هو غيبي وامتثالي ومطلق على مستوى الفكر، الذي مثله رجال الفكر الميتافيزيقي واللاهوتي(السكولائي - المدرسي) والسياسي القائم على التراتبيّة الاجتماعيّة، ومن خلال نقدها أيضاً لتك السلوكيات الاستبداديّة التي عملت وتعمل على الحط من القيم الإنسانيّة النبيلة التي تدل على إنسانيّة الإنسان وكرامته وحريته وإرادته ورغباته في تحقيق مصيره والحفاظ على حقوقه الطبيعيّة والقانونيّة المشروعة.
لقد تجسدت مع قيام الثورة البرجوازيّة ووصول حواملها الاجتماعية إلى السلطة، قيم الليبراليّة في المجتمع الأوربي وأصبحت منطقه الداخلي، وعلى أساسها نُظم المجتمع وانتشرت فيه قيم المواطنة والتعليم والإدارة والمؤسسات السياسية ونظم العمل وكل ما يحقق للإنسان كرامته وإنسانيته (الفرد والمجتمع). أي بتعبير آخر لقد أصبحت الليبرالية في صيغتها التقدمية التي يشر بها فلاسفة عصر التنوير، نموذج حياة للفرد والمجتمع الأوربي، وعلى أساسها تم تحديد الموقف من الماضي والحاضر والمستقبل بما يخدم الإنسان وجوهره الإنساني.
إن الليبراليّة في المحصلة كانت عند انطلاقتها الأولى كما أشرنا أعلاه، ضد الفكر الاستبدادي واللاهوتي الغيبي الأسطوري والميتافيزيقي المثالي الذاتي أو الموضوعي الساعي دوما لعزل الفكر عن الواقع، والرافض لتطور الحياة، وفي مقدمة هذا التطور، تطور العلوم الطبيعيّة التي حطمت أسس المعارف الدينيّة الأسطوريّة في تفسير حركة الكون وتشكل حياة الإنسان والحيوان والنبات، وموقع الأرض من الشمس، وطبيعة دوران الأرض، والرافض أيضاً لوجود قوانين موضوعيّة مستقلة تتحكم بسير أو حركة الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة، وأخيراً وليس آخراً، رفض إمكانية امتلاك الإنسان القدرة على تسخير عقله وإرادته في اكتشاف قوانين الطبيعة والمجتمع وتسخيرها لمصلحته.
حقيقة لقد حاربت القيم الليبراليّة التي حملتها الطبقة البرجوازيّة الوليدة، الاستبداد وقواه الماديّة والمعنويّة، واعتبرت الديمقراطيّة والعلمانيّة وسيلتين من الوسائل التي تساهم في بناء المجتمع المدني والدولة المدنيّة، والفسح في المجال واسعاً للقوى المظلومة والمستلبة المشاركة في بناء هذه الدولة والمجتمع.
نعم.. إن قيم الليبرالية التي أكدت على حرية الفرد وإرادته ودوره في التاريخ، لم تكن يوماً ذات نظرة أحاديّة، كأن تُختزل في الاقتصاد فقط، بل هي ذات طابع شمولي تتغلغل في كافة مجالات حياة الإنسان الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، وهي في بداية صعودها أو مرحلتها الأولى، عبرت عن قيم تقدميّة مشبعة بالروح الإنسانيّة المتعلقة بالعلم والمواطنة والمرأة والتربية والثقافة والفن والأدب كما أشرنا في موقع سابق.
إن مشكلة القيم الليبراليّة تقع حقيقة في جانبها الاقتصادي (اقتصاد السوق الحرّة) الذي انبعث من صلبها وعمل على تحرير وإطلاق العنان لتطور قوى وعلاقات الإنتاج، وفرض هيمنة اقتصاد السوق وسيطرة روح الربح باسم الحريّة. إن هذا الانبعاث الاقتصادي ممثلاً باقتصاد السوق الحرّة اللامشروطة واللامسؤولة عن مصالح الإنسان المنتج، ساهم بالضرورة في انتشار نمط المجتمع الاستهلاكي، وساهم في نمو العلاقات غير العقلانيّة بين المالك والمنتج، وبالتالي خلق حالة واسعة من التفاوت الطبقي والاستغلال وما نتج عن هذه الحالة من غربة واستلاب وتشيئ وضياع لقوى اجتماعيّة واسعة من أبناء المجتمع، حيث راحت هذه القيم الإنسانيّة التي بشرت بها الطبقة الرأسماليّة وثوراتها ضد الماضي وقيمه التقليديّة السلبيّة، تفقد بالضرورة سماتها وخصائصها الايجابيّة لتتكيف مع روح العصر الجديد الممثل لروح وجوهر الطبقة الرأسماليّة في صيغتها الاحتكاريّة المشبعة بالأنانيّة القائمة على المنافسة غير الشريفة والاحتكار، والتركيز على الحريّة الفردية، ونشر قيم ما بعد الحداثة المشبعة بالنهايات وموت أوتفسخ كل القيم النبيلة الممثلة لتلاحم الأسرة والمجتمع ومسؤولية الحرية الفردية تجاه الذات والآخر.
إذاً إن قيم الليبراليّة المشبعة بالقيم الايجابيّة في مراحلها الأولى ممثلة بالحرية والعدالة والمساوة والمشاركة الجماهيرية في السلطة وغير ذلك من قيم، هي قيم صالحة لكل شعب ولكل أمّة في أي مرحلة تاريخيّة تسودها قيم الظلام والاستبداد والجهل والتخلف. ولطالما أن أمتنا العربيّة تعيش هذه الحالات المزرية من التخلف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي تحت مظلة حكومات شعبويّة، فقيم الليبراليّة في مرحلتها الأولى التي كانت وراء كل الثورات التقدميّة في أوربا بكل تجلياتها التي قمنا بعرضها أعلاه هي قيم صالحة لشعوبنا ومجتمعاتنا، وهي التي تشكل الرافعة الحقيقيّة لتجاوز واقع تخلفنا الذي فرض علينا لمئات السنين ولم تستطع القوى الحاكمة بكل مسمياتها أن تخلصنا منه، بل هي ساهمت كثيراً بسبب شهوة السلطة لديها، أن تزيد من عوامل هذا التخلف وتعمق مسارته.
نعم... لكي نستطيع تجاوز هذا التخلف وتحقيق نهضتنا وتقدمنا والوصول إلى إنسانيتنا، لا بد لشعوبنا من تبني هذه القيم ومحاولة جعلها أحد العتلات الرئيسة التي ستدفع بالمجتمع والدولة معاً بعيداً عن روح الدولة الشموليّة واستبدادها، وما فرضته الحكومات المستبدّة على شعبها من ذل وخنوع وتخلف خدمة لمصالحها بعد أن اتخذت من الدولة وسيلة لتحقيق هذه المصالح الأنانيّة التي هيمنت عليها روح القبيلة والعشيرة والطائفة.
نقول في هذا السياق: بالرغم مما تخلفه ثورات الشعوب المضطهدة تاريخيّاً من دمار للدولة والمجتمع في بداية قيامها، بسبب ما مورس عليها من تجهيل وقمع للحريات، ومن إقصاء سياسي واقتصادي، إلا أن هذه الثورات تشير بهذا الشكل أو ذاك إلى أن الشعوب المتخلفة والمجهلة تاريخيّاً، قادرة أن تتعلم من تجاربها كيف تستطيع أن تتخلص من سيطرة الدولة الشموليّة، وتعيد ترتيب حياة الفرد والمجتمع في دولها ومجتمعاتها على قيم الليبراليّة أو الديمقراطية الشعبيّة أو حتى الإسلام العقلاني الذي يقبل الآخر لا فرق بينهما.. ليس عيباً أن تضحي الشعوب من أجل حريتها وعدالتها وكرامتها، والوصول إلى تحقيق طموحاتها. فهذه هي مسيرة الشعوب الحرة.
***
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث من سورية

ذكرت في المقال السابق أن «الدين المدني» يستهدف وفقاً لشروحات جان جاك روسو، توفير مبرر أخلاقي يسند القانون العام. وقد جادل بعض الزملاء قائلين: إذا كان هذا هو المقصود حقاً، فإنه متوفر في كل الأديان. فلماذا نبتدع ديناً آخر؟
هذا النوع من النقاشات ينتهي عادة إلى حالة فوضوية. ففيها يختلط التدليل العلمي بالدفاع العاطفي، وتختلط المخاوف بالتوقعات والرغبات. ولهذا السبب؛ على الأرجح، لا يشهد المجتمع العربي مناقشات معمقة ومستمرة، حول العلاقة المناسبة بين الدين والسياسة، مع أنه أكثر مجتمعات العالم ابتلاءً بالنتائج المريرة لذلك الخلط. إن الجدل في المسألة متواصل بشكل يومي. لكنه ليس نقاشاً من أجل العلم ولا يلتزم بمعايير العلم؛ ولذا لا يعين على تفكيك العقد التي تملأ هذا الموضوع. بل لا أغامر لو قلت إن ما يحدث هو العكس تماماً. فالجدالات الكثيرة بين الداعين إلى انخراط الدين في الحياة السياسية، وبين معارضي هذا الاتجاه، تحولت نزاعاً سياسياً - اجتماعياً فيه القليل جداً من العلم، والكثير جداً من العداوة والانفعال.
كان روسو يطالع مشهداً شبيهاً بهذا في أوروبا الغربية، منتصف القرن الثامن عشر. ولهذا اقترح فكرة «الدين المدني» الذي يمكنه أن يلعب دوراً مماثلاً لأي دين آخر في إطار الممارسة السياسية، من دون أن ينخرط في جدل العلاقة بين الدين والسياسة، على نحو ما شهدت أوروبا يومذاك، وما نراه في العالم العربي اليوم.
- ما الذي أثار القلق عند روسو؟
كان روسو مقتنعاً بأن القانون بطبعه، قيد على الحريات الفردية. مجرد إلزام الناس بفعل أشياء والامتناع عن أشياء أخرى، هو – في الجوهر – تقييد لحرياتهم. وهذا يثير أسئلة متضاربة، مثل: هل يمكن أن نعيش حياة اجتماعية طيبة، من دون قانون ينظم العلاقة بيننا؟ لكن – من ناحية أخرى – هل يصح أن نضحي بحريتنا الخاصة، في سبيل العيش الجمعي؟ وإذا فرضنا أن القانون ضروري للحياة الطيبة، فما هو الأساس الذي يستند إليه القانون كي يلتزم الناس به، هل هو مجرد التهديد بالعقاب من جانب الدولة. وإذا كان التزام الناس بالقانون نوعاً من القسر، فما هو المبرر الذي يسمح لرجال الدولة بوضع تلك الإلزامات، وتهديد المواطنين بالعقاب إن لم يطيعوا.
هذه الأسئلة كانت تدور بقوة، في المحيط الاجتماعي الذي شهد كتابات روسو الأولى. وبعضها ما زال محوراً لنقاشات الفلسفة السياسية حتى اليوم.
قرر روسو أن القانون ملزم؛ لأنه مستند إلى الإرادة العامة، أي إرادة مجموع المواطنين في العيش المشترك وتنظيم علاقتهم الداخلية في قانون مكتوب. القانون أشبه بخطاب من كل فرد لكل فرد آخر، يؤكد التزامه باحترام حقوقه، باعتبارهما عضوين في مجتمع واحد. وبالتالي، فالقانون إعلان التزام من جانب مجموع المواطنين، لكل واحد منهم، بأن حقوقه مصونة ومضمونة، وأن من يخرقها فهو مذنب أمامهم جميعاً. إذن فالإرادة العامة، وما يقوم عليها او يتفرع منها، أشبه بالجدار الذي يستند إليه القانون.
هذا التوضيح الذكي، لم يمنع أحدهم من التساؤل: لكن ما الذي يضمن أن تبقى الإرادة العامة موحدة، كي تواصل إسنادها للقانون، أي كي يبقى المجتمع موحداً في التزاماته؟
وفقاً لروسو، فإن إرادة كل فرد للعيش المشترك الآمن، ومن ثم، قبولهم بالقانون الذي ينظم علاقتهم ببعضهم بعضاً، يمثل بذاته تمظهراً لجوهر الإنسان، بصفته كائناً خيَّراً وعقلانياً، إنها تعبير عن طبيعته التي أفاضها الله عليه حين خلقه. ومن هنا، فهي تعبير عن روح الله وإرادته التي نفخها في هذا المخلوق. ولهذا؛ عدّها متعالية، فلا تحتاج إلى تدليل أو إسناد.
هل هذا يكفي للقبول بفكرة «الدين المدني»؟ أظن تحليله صحيحاً، لكن لا أرى استنتاجه ضرورياً. ولعل في وسعنا التدليل عليه بطريقة أيسر.
***
د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

هي حقا متاهة ان يكون هناك جسرا بين العقلانية واللا عقلانية والمتاهة هي الأرض التي يتوه فيها السالك ولا يكاد ان يعرف طريقا، ابتداء من مبنى التيه الذي بناه (ديدالوس) الى متاهة التماسيح تحت الماء، اللعب مع (التابو) سخافة وشجاعة، عقلانية ولا عقلانية لكن كثيرون يخونهم الذكاء، لابد من وجود جسر. الحدس يمكن أن يعمل كجسر بين العقلانية (التحليل المنطقي) واللاعقلانية (العواطف). في بعض الأحيان، قد يكون الحدس مدفوعًا بالعواطف، مما يجعله جزءًا من اللاعقلانية ،يمكن أن يساعد الحدس الأنسان في اتخاذ قرارات سريعة عندما تكون المعلومات غير متاحة أو عندما يكون الوقت ضيقًا ،في هذه الحالات قد يُعتبر الحدس أكثر فعالية من التفكير العقلاني ،أحيانا يُعتبر الحدس جزءًا من التفكير العقلاني، ويستند إلى تجارب سابقة ومعرفة ضمنية، يمكن أن يُظهر الحدس قدرة العقل على معالجة المعلومات بسرعة وكفاءة ويستخدم الحدس كدليل للبحث عن معلومات إضافية أو تحليل منطقي إذا كان الحدس يشير إلى شيء ما، قد يسعى الفرد إلى التحقق منه بشكل عقلاني رغم ان الاعتماد على الحدس قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات غير عقلانية نتيجة للتحيزات أو الأفكار المسبقة في بعض الحالات، قد يكون الحدس مضللاً، مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات غير موثوقة. تختلف الثقافات في مدى اعتبار الحدس كقيمة، في بعض الثقافات، يُعتبر الحدس أداة مهمة في اتخاذ القرارات، بينما في ثقافات أخرى، يُفضل التفكير المنطقي والعقلاني، يلعب الحدس دورًا مزدوجًا في العلاقة بين العقلانية واللاعقلانية، حيث يمكن أن يكون أداة فعالة في اتخاذ القرارات، لكنه يمكن أن يؤدي أيضًا إلى نتائج غير موثوقة، توازن استخدام الحدس مع التفكير العقلاني يمكن أن يُعزز من فعالية اتخاذ القرار، مما يسهم في فهم أعمق للتجربة الإنسانية.
الحدس صنو العقلانية ام اللاعقلانية
يمكن اعتبار الحدس صنوًا لكل من العقلانية واللاعقلانية، وذلك وفقًا للسياق الذي يُستخدم فيه. ان توضيح هذه العلاقة من خلال اعتبار الحدس نوعًا من المعرفة الفطرية التي تستند إلى تجارب سابقة ومعلومات غير واعية ثبتت لا اراديا في لا وعي المجموعة. في هذه الحالة، هل يمكن ان يُستخدم الحدس كأداة عقلانية لتوجيه القرارات...؟ في المواقف التي تتطلب اتخاذ قرارات سريعة، يمكن أن يكون الحدس أكثر فعالية من التفكير المنطقي، حيث يسمح للأفراد بالتصرف بناءً على تجاربهم السابقة. لكن عندما يُستخدم الحدس بدون أي تفكير منطقي أو تحليل، يمكن أن يؤدي إلى قرارات غير عقلانية. في هذه الحالة، يعتمد الأنسان على شعوره الداخلي بدلاً من الأدلة. يمكن أن يكون الحدس مشوبًا بالتحيزات والأفكار المسبقة، مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات غير موثوقة. بالرغم من ذلك يمكن أن يتواجد الحدس في نقطة التقاء بين العقلانية واللاعقلانية(جسر)، حيث يُعتبر أداة مفيدة إذا تم استخدامها بشكل متوازن مع التفكير العقلاني. يعتمد دور الحدس على السياق والظروف المحيطة به، مما يجعله أداة متعددة الأبعاد. الحدس يمكن أن يكون صنوًا لكل من العقلانية واللاعقلانية، وذلك بناءً على كيفية استخدامه والسياق الذي يُطبق فيه. يمكن أن يكون أداة فعالة في اتخاذ القرارات عندما يُستخدم جنبًا إلى جنب مع التفكير النقدي.
التمييز بين الحدس العقلاني واللاعقلاني
التمييز الذاتي بين الحدس العقلاني واللاعقلاني يتطلب التفكير في عدة عوامل ومؤشرات، بعض النقاط التي يمكن أن تساعد في هذا التمييز والتي تستند إلى تجارب سابقة هي المعرفة الضمنية، وهي معلومات مكتسبة غير واعية، غالبًا ما تكون مدعومًة بتجارب واقعية. لكن قد تكون مبنيًة على عواطف، تحيزات، أو أفكار مسبقة دون توفر اسناد كافي. الحدس يعتمد في كثير من الأحيان على شعور داخلي غير مبرر، لا يمكن التحقق منه أو دعمه بالأدلة حيث يكون الشخص غير مستعدً لاستكشاف المعلومات أو تحليل الموقف بشكل أعمق ويميل إلى الرفض أو عدم الرغبة في التحقق من الأدلة والبراهين، هنا يكون متمسكًا برأيه دون النظر إلى الأدلة المتاحة هذا يؤدي عادةً إلى نتائج غير إيجابية أو مدروسة، حيث يتم اتخاذ القرارات بناءً على فقدان التحليل المنطقي ويؤدي إلى نتائج غير موثوقة أو مضللة، حيث يتم اتخاذ القرارات بناءً على مشاعر أو انطباعات غير دقيقة. الحدس يجب ان يكون مرنًا وقابلًا للتكيف مع المعلومات والمستجدات. الشخص الذي يستخدم الحدس العقلاني يكون أكثر انفتاحًا على تغيير رأيه عند ظهور أدلة جديدة غالبًا ما يكون قابلا للتكيف. الشخص الذي يرفض تغيير رأيه حتى في وجود أدلة مضادة يظهر غالبًا في سياقات تتطلب التفكير النقدي والتحليل الدقيق، مثل اتخاذ قرارات في مجالات علمية أو مهنية كما لم يظهر في سياقات عاطفية أو اجتماعية، حيث تؤثر الضغوط الاجتماعية أو العواطف على اتخاذ القرارات، تمييز بين الحدس العقلاني واللاعقلاني يتطلب التفكير النقدي والتحليل العميق للمواقف، من خلال النظر في الأساس المعرفي، مستوى التحقق، النتائج المحتملة، القدرة على التكيف، والسياق، يمكن للأفراد اتخاذ قرارات أكثر وعيًا وفاعلية.
دور الخبرة في تمييز الحدس العقلاني عن اللاعقلاني
الخبرة تلعب دورًا حاسمًا في تمييز الحدس العقلاني عن اللاعقلاني، الخبرة تساهم في بناء المعرفة والفهم العميق للمواضيع المختلفة. كلما زادت خبرة الشخص في مجال معين، زادت قدرته على استخدام الحدس العقلاني المستند إلى معلومات موثوقة. الخبرات العملية تساهم في تطوير حدس عقلاني قوي، حيث يمكن للفرد التعرف على الأنماط والعلاقات التي قد لا تكون واضحة للآخرين. الخبرة تساعد الأفراد على تقييم المواقف بشكل أفضل، مما يمكنهم من تحديد ما إذا كانت مشاعرهم أو انطباعاتهم تستند إلى المعرفة الفعلية. الأفراد ذوو الخبرة يمكنهم تقدير المخاطر بشكل أفضل، ما يعزز من القدرة على اتخاذ قرارات عقلانية بناءً على حدسهم. الخبرة تساعد في التعرف على الأنماط السلوكية أو النتائج المتكررة. هذا يمكن أن يُعزز الحدس العقلاني، حيث يصبح الفرد قادرًا على الاستنتاج بناءً على تجاربه السابقة. مع الخبرة، يصبح الأفراد أكثر وعيًا لكيفية تأثير العواطف على أفكارهم، مما يساعدهم في تمييز الحدس العقلاني عن اللاعقلاني. الخبرة تعزز من الفطنة، وهي القدرة على فهم الأمور بسرعة. الأفراد ذوو الخبرة في مجال معين يمكن أن يكون لديهم حدس عقلاني قوي يتجاوز التفكير النقدي التقليدي. الحدس الفطري الناتج عن الخبرة يمكن أن يوجه الأفراد نحو خيارات أكثر ذكاءً، حيث يعتمدون على فهم عميق للموقف. الخبرة في سياقات معينة تعني أن الفرد سيكون أكثر دراية بالعوامل التي قد تؤثر على اتخاذ القرارات، مما يساعد في تمييز الحدس العقلاني عن اللاعقلاني. من خلال التعلم المستمر والتكيف مع الظروف المتغيرة، يمكن أن تتحسن قدرة الفرد على التمييز بين الحدس العقلاني واللاعقلاني بمرور الوقت. الخبرة تعزز من قدرة الأفراد على تمييز الحدس العقلاني عن اللاعقلاني من خلال توفير قاعدة معرفية قوية، تحسين القدرة على التقييم، التعرف على الأنماط، وتطوير الفطنة. كلما زادت خبرة الفرد في مجاله، زادت قدرته على اتخاذ قرارات أكثر وعيًا ودقة. الحدس يلعب دورًا محوريًا في العلاقة بين العقلانية واللاعقلانية، هو إدراك سريع أو شعور داخلي لا يستند بشكل مباشر إلى التفكير المنطقي أو الأدلة. يُعتبر نوعًا من "المعرفة الفطرية" التي يمكن أن تكون نتيجة لتجارب سابقة أو معرفية غير واعية. بالتالي ان أردنا ان نطور نمطا معرفيا يتميز بالخصوبة والفعالية علينا ان نمتحن التجارب حدسيا وعلى منصة الواقع متجاوزين إخفاقات الماضي التي أدت الى انحسار سلطة الثقافة لصالح ثقافة السلطة.
***
غالب المسعودي

 

" قد أنظر من عين الإبرة ولو ضيقا، علني أفهم حقيقة صورة العالم وخلفياتها وإن بشكل حذر وبطيء، لكنني أتردد في خرق قانون الرؤية، عندما أتهجر مفازات لا متقاربة، ومفجوعة بالزيف والجفاء"
كثيرا ما تتعالق أسئلة الراهن الفكري بمنظورات الرائين في أعمق سرديات القرن العشرين، ممن استشكلوا استلهامات الطفرة البشرية وتحولاتها في بنية الفلسفة الوجودية المتقابلة. وأبرز الأسئلة الحاضرة نوعيا واستشرافيا، زمنية العزلة في حولية غابرييل غارسيا ماركيز، والتي تستقصي بالحس الروائي الصاقع والدربة الواعية بتعرقات العالم وانقياداته، تلاوين السرعة وانكشافها المستديم في أتون ضجيج العالم وحتمياته.
كما لو أن البطل الإشكالي الآن، يلثغ بنفس عميق، آثار الحوافر في رمال الدهر، يقايض بها انزياحات الأفق المعتم، وتآويله المبطنة. نفسه التعالق الذي يقطع الشك باليقين، يكبح النور عن الاستمساك بالأضواء الخفيتة العامية.
إنه بطل غارسيا، الذي يصفه ب"متحف النسيان"، مقتعدا "أثر السيرورة في الأيام التي تطوى بسرعة، تنزلق من بين الأصابع كالرمل.. وأن اللحظات التي ظنها أبدية كانت في الواقع مجرد ومضات، تتلاشى قبل أن يدرك قيمتها".
العالم الآن، وفق هذه الدفقة الأنيقة، يكتشف متأخرا، أنه يستعير وجوده الكوني، من قيمة لا تغسل مدارات الماضي، بما يكفي لاستيقاظ الحواس الخلفية البديلة عن العدم، فينزوي إلى ترميم فرص المادة المبتورة عن خلفياتها المجذوبة المجردة من فكرة القيم والعيش المشترك ومبدأ التسامح وسمو الإنسية.
وعلى حين غرة، يصير عالم التشييء والتصنع وتشويه الحقائق وتزوير الإرادات، وتغييب العقل، جزءا صميما في لبوسات هذه الشيوية المستبلدة، متحررة من كل ما يمت بصلة للإعلام ورسالته النبيلة، ومتحدرة بفعل القهر والبلادة، إلى أرذل الأخلاق وأغباها.
ولن يجد المفكر في التدليل بالعشرات من أنماط التقاليد الدخيلة على مجتمع الطفرة ذاك، حيث ترى بالعين المجردة، وبعشرات النماذج المنتشرة على طول وعرض مواقع التواصل الاجتماعي، كيف تكون الطوارئ المنذورة للتشويه الأخلاقي والتفكك الاجتماعي والانحطاط القيمي، كابحة لأبسط العقود الثقافية والتربوية في زحمة تواري القياسات القدوية والاستشعارية، ومفاوزها المستجيبة لروح الضمير وتوابث المجتمع.
وفي غمرة هذا التلخبط والفوضى المضطربة، تتلقف ماكينات التشييء والوطء الصدامي القميء، عشرات الرسائل والصور والعلامات، تحركها أيادي قذرة، لا تنفك تدعو إلى الانحراف والسقوط والتلون الشيطاني، غير عابئة بقيم الإنسانية والدين والأخلاق العامة. والناظر لتلكم الرسائل والصور والعلامات، سيصاب برهق نفسي وروحي قاس، يسحبه إلى محاولة استقصاء الموصوفات والعوادم بما يكلف نظام عالم "الكذب" خطيئات الجهل وطغيان المادة وانحراف الأخلاق وضعة المروءة.
ومع الزمن، وتحت إيقاع استمرار كل هذه الكارثيات، على اختلاف صورها وتداعياتها في الوجدان اليومي للحاضنات الإلكترونية السريعة، يصير النظر إليها كما لو أنها جزء من واقع لا يشكل صاديا ولا هالكا محتوما، فيكون العيش معها وبنكهاتها المعروضة، نبتا مفروضا في منشأ التمدد والارتفاع، فتصير بعد ذلك وضعا واقعيا ومستنيبا في سير الحياة وتعاودها وارتدادها وترددها.
وإذا انشغلنا بتراكم هذه الزوايا، في سوسيولوجيا الإعلام والتربية، من موقع كون السوسيولوجيا تفضح دائما خلفيات الانخداع الذي يتم تسويقه وتشجيع أدواته، كما التربية تعيد مسلكية الوظيفة المجتمعية إلى أخلاقياتها الثاوية، فإن "المجتمع (بأغلبه) يخدع نفسه على الدوام" بحسب قول مارسيل موس، يكشف أيضا عن مثالب الهيمنة المقنعة، فإن تكريس الأنماط الجديدة للسلوكيات المهيمنة في وسائل الإعلام الجديدة، هو إقبار مستبطن للتاريخ والثقافة واللغة كفضاءات (سلط رمزية)، مرتبطة بمحيطاتها الخارجية، التي تمدها بأنفاس الفعالية والأجرأة القيمية، وقوة الاستمرار والصمود التلقائي.
فما الذي تريده الأنساق الإعلامية الناشئة اليوم، في ظل اشتداد توحش "الرأسمال" الإقطاعي، وتخلف مسلمات الخطاب التربوي الإعلامي، وبروز معاول أيديولوجية مجردة من إرث ثقافي وظيفي وإنتاجي متجادل؟.
وكيف نفكك تلكم البراديجمات المحكومة بنزاعات فردانية ذات توجهات نرجسية مفضوحة، تناكف مناخات الاندماج والتعدد والاختلاف في مجتمع منقسم بطيء الفهم وقابل للانفجار في أية لحظة، ومحتكر في فضاءاته واختياراته وتشاركاته...؟
وهل تنحدر أبنية الرساميل الاجتماعية والثقافية إلى حضيض الإسفاف والركون إلى التفاهة والابتدال، ما يجعلها محكومة بالتفكك والانهيار؟، إذ إن ما أصبحت تلقنه وسائل الإعلام الجديدة، من معارف ومهارات سلوكية ولغوية وتجارية، تشكل منفذ خطر محدق بالأفراد والجماعات، يستعصي معها العودة إلى "المنبع" الذي اشترط بيير بورديو أن يتكيف مع ما يسميه ب"سيرورة التربية والتنشئة الاجتماعية والتعليم والترويض"، وإلا وقعنا في المحظور، وأصبح من الصعب الحديث عن إصلاح قابل للتحقق.
***
د. مصطفى غَلمــــان

في عصرٍ تتسارع فيه الوقائع لتتحول إلى تغريدات، وتُختزل المعاني في شعارات، يُصبح المثقف عالقًا بين ماضٍ يقدّس العمق، وحاضرٍ يستعجل السطحية. فكيف يمكن له أن يمارس دوره وسط سطوة الاختزال؟ وكيف يتعامل مع الطغيان الرمزي للسرديات المُهيمِنة، التي تسعى إلى ضبط الوعي الجماعي وفق أنساق محددة سلفًا؟
كل عصرٍ تحكمه سردياته الكبرى، وهي ليست مجرد “قصص تُروى”، بل أنساق معرفية تُكرَّس عبر المؤسسات الناعمة، من الإعلام إلى التعليم، بل وحتى في أنماط الحياة الاستهلاكية، حيث يتم تشكيل وعي زائف—كما وصفه هربرت ماركوزه - يجعل الأفراد يتماهَون مع واقع مفروض دون وعي نقدي.
هذه الهيمنة لا تعني فقط فرض تصوّر معين عن الواقع، بل إنتاج واقع لا يرى ذاته إلا من خلال عدسة السردية المُهيمِنة.
وبذلك، تصبح الحقيقة نفسها مسألة نسبية، ليس لأنها معقدة أو متعددة الجوانب، بل لأن هشاشة الخطاب النقدي أمام المد الإعلامي تجعل من الصعب مساءلة هذا الواقع أو تجاوز حدوده الرمزية.
فالطاغية، سواء كان سلطة سياسية قمعية أو نظامًا رأسماليًا شاملًا، لا يحتاج إلى القمع المباشر دائمًا.
هناك أدوات أكثر فاعلية، مثل “التنسيم الإعلامي” - أي تفريغ الوعي من مضامينه النقدية عبر إغراقه بالتوافه، وإعادة إنتاج الواقع بطريقة تجعل القمع يبدو غير مرئي.
وكما قال بيير بورديو:
“السيطرة الأكثر فعالية هي تلك التي لا تُرى، لأنها تجعل المهيمن عليه متواطئًا مع هيمنته دون وعي منه.”
وبذلك، يصبح الانخراط في هذا الواقع أشبه بالدخول في دائرة مفرغة، حيث يتكرر إنتاج السرديات نفسها دون مقاومة تُذكر، وكأن المجتمع يُعاد تشكيله وفق رؤية تضمن استدامة هشاشته الفكرية.
لكن مواجهة هذه السرديات لا تتم فقط بتفكيكها، بل بإنتاج سرديات بديلة.
فالنقد وحده، دون تقديم نموذج مضاد، لا يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الهيمنة عبر الاعتراف الضمني بقوتها.
لذا، على المثقف ألا يكتفي بالكشف عن التلاعب الرمزي، بل أن يعمل على إنتاج وعي نقدي قادر على تجاوز منطق “رد الفعل” نحو بناء خطاب جديد منافس.
يجب ألا يكون هذا الخطاب مجرد صدى للواقع السائد، بل قوة فاعلة تستطيع كسر هشاشة البنية الفكرية المفروضة على الجماهير.
المعضلة الكبرى التي يواجهها المثقف اليوم ليست فقط في هشاشة المساحة المتاحة له داخل المشهد الثقافي، بل في الإقصاء الناعم الذي يتعرض له. لم يعد هناك مجالٌ للأفكار العميقة في فضاءاتٍ تلهث خلف كل ما هو لحظي وسطحي!
وكما لاحظ أنطونيو غرامشي، فإن الصراع الفكري هو في جوهره “صراع على الهيمنة الثقافية”، حيث تُسلب الجماهير أدوات الوعي عبر ترويضها داخل أنظمة خطابية لا تتيح سوى “خيارات مزيفة”.
وبين هذا وذاك، يجد المثقف نفسه أمام سؤال حرج: هل عليه أن يتكيف مع هذا الواقع، ويعيد صياغة خطابه وفق متطلبات الزمن الرقمي؟ أم يتمسك بعمقه ولو كان الثمن هو العزلة؟
لكن القول بأن المثقف أمام خيارين فقط - إما الاندماج التام في السوشال ميديا، أو العزلة - هو في ذاته شكلٌ من أشكال الاختزال الذي يجب تفكيكه.
بل هناك خيار ثالث: إعادة ابتكار الخطاب النقدي بطرق جديدة تتناسب مع طبيعة العصر، دون أن تفقد جوهرها. فالمثقف الذي يرفض الانخراط في المنظومة الرقمية يفقد القدرة على التأثير، بينما المثقف الذي ينغمس فيها بلا وعي يتحول إلى جزء من آلة الهيمنة، حيث تُفرغ حتى الخطابات الراديكالية من مضمونها، وتُعاد تعبئتها كمنتج استهلاكي (Commodified Thought).
وهنا تكمن الإشكالية!
فبين تفكيك السلطة والخضوع لمنطقها، تنشأ حالة من التردد تفضي إلى هشاشة الدور الثقافي ذاته.
لذا، فإن التحدي الحقيقي ليس رفض أدوات العصر، بل إعادة توظيفها لصالح مشروع ثقافي مقاوم، قادر على اختراق الحواجز الرمزية التي تفرضها المنظومة السائدة.
لا ينبغي للمثقف أن يكون مجرد “ناقد للنظام السائد”، بل يجب أن يكون “صانعًا لخطاب بديل”.
ولتحقيق ذلك، لا بد من البحث عن استراتيجيات جديدة تضمن بقاء الخطاب النقدي مؤثرًا دون أن يفقد قوته، مثل:
- إعادة ابتكار الخطاب بطريقة تواكب التحولات الثقافية، مثل المقالات الموجزة المدعومة بالتحليل العميق، أو الوثائقيات القصيرة التي تحمل مضامين نقدية قوية.
- توسيع الفضاء الثقافي عبر منصات مستقلة (Independent Platforms)، مما يتيح هامشًا أوسع للحركة، بعيدًا عن الرقابة الرمزية التي تفرضها المنصات السائدة.
- استخدام وسائل التواصل بذكاء، بحيث يتم إعادة توجيه الخوارزميات لخدمة الفكر النقدي (Algorithmic Resistance)، لا العكس!
- بناء مجتمعات فكرية موازية، بعيدًا عن المؤسسات التقليدية، من خلال إنشاء فضاءات نقدية مستقلة، مثل المجلات الإلكترونية، والمنتديات الثقافية، والتجمعات الفكرية المستقلة.
- تحويل الفكر إلى مشروع عملي، بحيث لا يبقى المثقف مجرد “محاضر أكاديمي”، بل يصبح فاعلًا في مجتمعه من خلال مشاريع ثقافية أو حملات توعوية، تساهم في تغيير أنماط التفكير بدلًا من الاكتفاء بالتنظير.
السرديات المهيمنة ليست قدرًا مقدورًا، بل هي نتيجة صراع دائم على الوعي!
المثقف ليس متفرجًا في هذا الصراع، بل هو أحد لاعبيه الأساسيين. وما دام قادرًا على زعزعة هذه السرديات، ولو بخلق نافذة صغيرة للفكر النقدي، فإنه يظل فاعلًا!
إذن، فالسؤال ليس كيف ينجو المثقف في عصر الاختزال؟ بل: كيف يعيد تعريف دوره في هذا العصر، لا كضحية له، بل كمنتج جديد للوعي؟
فالهشاشة لا تأتي من غياب الفكر، بل من غياب القدرة على تحويل الفكر إلى قوة تغيير حقيقية!
هل يستطيع المثقف اليوم تجاوز هذه الهشاشة، ليصبح قوة فاعلة، لا مجرد شاهد على التحولات؟
***
إبراهيم برسي

 

في المثقف اليوم