قضايا

توطئة: ظلّت حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل حقلًا شائكًا للاشتباك بين قوى الإسلام السياسي والقوى المحافظة بمختلف توجّهاتها، وبين القوى الأخرى بتيّاراتها المختلفة أيضًا، وكان هذا الموضوع مثار جدل طويل في الفقه الديني، لاسيّما الإسلامي، وقد كانت حصته كبيرة منذ بداية تأسيس الدولة العراقيّة في العام 1921، حيث تصدّرت معركة السفور والحجاب وتعليم المرأة عناوين السجال الدائر في هذا الحقل.

والأمر لا يتعلّق بالعراق فحسب، بل أن الإشكالية تمتدّ إلى جميع البلدان الإسلامية، وإن بدرجات متفاوتة، فكلّما اقتربت الدولة من مفاهيم الحداثة تقدّمت فيها مسألة تحرّر المرأة، وإن ببطيء وبشكل نسبي قياسًا للدول الأخرى التي تعثّرت فيها الحداثة، فواجهت المرأة الكثير من التعقيد والعقبات والتحدّيات أمام تحرّرها ومساواتها.

لعلّ الوضع الأكثر صعوبة هو زاوية النظر إلى موضوع الشريعة الإسلامية، أو ما يُصطلح عليه موضوع أحكام الفقه، وهذا هو الأدق، وعلاقة ذلك بمفهوم الدولة العصريّة. فالدولة الحديثة، بغضّ النظر عن نظامها الاجتماعي، تسعى لتمثيل مواطنيها دون تمييز بسبب دينهم أو عرقهم أو جنسهم أو لغتهم أو لونهم أو أصلهم الاجتماعي، سواءً كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين، متديّنين أو غير متديّنين.

المرأة والدولة العصرية

وقد لجأت الدولة العصريّة في عالمنا الإسلامي إلى التكيّف مع متطلّبات الحداثة، منذ الإرهاصات الأولى في مطلع القرن العشرين، لاسيّما الجدل حول "المشروطة" و "المستبدّة"، وقبله ناقش مصلحو النهضة الأوائل مثل رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبدة ومحمد حسين النائيني وغيرهم، فكرة نظام الحكم ومدى انسجامه مع معايير التطوّر الكوني، الدستوري  والقانوني، دون التخلّي عن أحكام الإسلام.

وحين طرقت الحداثة أبواب العراق "الجديد"، المنسلخ عن الدولة العثمانية، كانت البداية صياغة دستور متقدّم بمعايير ذلك الزمن (1925)، وبدأت قبله ومعه وبعده إرهاصات قضيّة المرأة، حيث انشطرت النخب إلى فريقين، الأول - مؤمن بالتحرّر، ومنفتح على الجديد؛ والثاني- محافظ، ومنغلق على التقاليد البالية والأعراف التي أخذ الزمن يتجاوزها، وهنا يمكن استحضار قصيدة الجواهري الكبير "الرجعيون" (1929)، بخصوص تعليم الفتيات، حيث اعترض بعض العاملين في الحقل الديني في النجف على افتتاح مدرسة للبنات، التي يقول فيها:

غدًا يُمنعُ الفتيانَ أن يتعلّموا

كما اليومَ ظلماً ستُمنع الفتيات

تحكّم باسمِ الدينِ كلٌّ مذمم

ومُرتكب حفّتْ به الشُبُهات

وما الدينُ إلاّ آلة يَشهَرونها

إلى غرضٍ يقضُونه، وأداة

كان نظام المحاكم الشرعية (الدينية) لأتباع الأديان والطوائف هو المتّبع، لكنه ما بعد الحرب العالمية الثانية والانفتاح نحو الحداثة، بدأت بعض التململات لتنظيم قانون موحّد، تندرج فيه الأحكام الإسلامية المتعلّقة بالأحوال الشخصيّة، لكنّ تلك المحاولة لم يُكتب لها النجاح، إذْ رفض البرلمان العراقي (1945) إمراره، على الرغم من أن أحكامه وُضعت على وفقًا للطائفتين الإسلاميّتين (الشيعيّة والسنيّة).

القانون رقم 188 ومناهضوه

تكفّلت ثورة 14 تموز / يوليو 1958 إحياء هذا القانون، فاعتمدت تشريعًا برقم 188 لعام 1959، جمعت فيه الأحكام الشرعية العامة، ليكون مرجعيّةً لهذا التشريع، الذي أثار ضجّةً كبرى ضدّها، وكان القانون أحد أسباب الإطاحة بها، خصوصًا وأن موضوع المساواة في الإرث أثار حفيظة العديد من الأوساط الدينية والتيّارات الإسلامية الجديدة، التي نشأت وكأنها ردًّا على موجة الحداثة التي شملت المجتمع العراقي بجميع مفاصله، ليس في موضوع المرأة فحسب، بل في مجالات السينما والمسرح والموسيقى والغناء وغيرها.

وكان لمعارضة آية الله السيّد محسن الحكيم للقانون سيكون له دورًا كبيرًا في تعبئة أجزاء من الشارع العراقي ضدّه، علمًا بأنه سبق له أن عارض المشروع الملكي القديم، الذي عُرض عليه فرفضه رفضًا قاطعًا، حسب حواري في دمشق (1986) ولندن (أوائل التسعينيات) مع الفقيه الشاعر السيّد محمد بحر العلوم، وهو ما جاء عليه في كتاب بعنوان "أضواء على قانون الأحوال الشخصية العراقي" (1963)، وكما جاء في حديث بحر العلوم، أن الحكيم سبق له أن تحفّظ على قانون الإصلاح الزراعي لاعتبارات (شرعيّة)، مثلما انتقد محاولة ضمّ الكويت في العام 1961، ووقف ضدّ شنّ الحرب على الشعب الكردي.

رابطة المرأة

إن قانون الأحوال الشخصية لعام 1959 هو جهد متراكم لأنشطة رابطة المرأة العراقية، على مدى نحو عقد من الزمن منذ تأسيسها في العام 1952، وقد ساهمت الدكتورة نزيهة الدليمي، الوزيرة في حينها وهي أول وزيرة عربية، بإقناع عبد الكريم قاسم بمقترح القانون، الذي لم يتراجع عنه على الرغم من الضغوط التي تعرّض لها، حتى أن بعض القوميين والبعثيين المناوئين لقاسم، وقفوا وراء السيّد الحكيم، ونشروا فتواه "الشيوعية كفر وإلحاد"، بزعم أن فكرهم القومي يقوم على الإيمان وليس الإلحاد.

وأتذكّر أن الصديق حميد المطبعي، الذي بدأ أولى خطواته في حزب البعث، هو من قام بخطّ تلك العبارة التي سرت مثل النار في الهشيم على العديد من جدران أزقّة النجف، وعلى جدار منزله بالذات، الذي لا يبعد سوى أمتار عن منزل المرجع الإسلامي الكبير السيّد الحكيم.

ومن الأسباب الموجبة لقانون الأحوال الشخصية: لم تكن الأحكام الشرعية للأحوال الشخصية قد شرعّت في قانون واحد، يجمع من أقوال الفقهاء ما هو المتفق عليه والأكثر ملائمة للمصلحة الزمنية، وكان القضاء الشرعي يستند في إصدار أحكامه الى النصوص المدونة في الكتب الفقهية، والى الفتاوى في المسائل المختلف عليها وإلى قضاء المحاكم في البلاد الإسلامية. وقد وجد إن في تعدد مصادر القضاء وإختلاف الأحكام، ما يجعل حياة العائلة غير مستقرّة، وحقوق الفرد غير مضمونة، فكان هذا دافعاً للتفكير بوضع قانون يجمع فيه أهم الأحكام الشرعية المتفّق عليها. وقد اشتمل القانون على أهم أبواب الفقه في الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية الجامعة لمسائل الزواج والطلاق والولادة والنسب والحضانة والنفقة والوصية والميراث.

الحريّات الشخصية

 ظاهرتان مترابطتان شهدتهما الدولة العراقية، الأولى - اتّجاهها أكثر فأكثر نحو الحداثة، وبالتدريج والتراكم؛ والثانية - نشوء نقيض الحداثة، لاسيّما بانتعاش تيّار الإسلام السياسي بالضدّ منها. وبقدر ما كانت دائرة الحريّات الشخصيّة والتمرّد على التقاليد البالية تتّسع وتتعمّق، كانت الاتجاهات المحافظة تنمو في معارضتها، وخصوصًا بشأن المرأة التي بدأت تشارك في العمل والحياة العامة، فخلال الأعوام الأولى ما بعد ثورة تمّوز / يوليو 1958، ارتفعت نسبة الإناث في المدارس إلى أكثر من ثلاثة أضعاف مما كانت عليه، والأمر انعكس على ميادين متعدّدة، على الرغم من أن ثمّة كوابح واجهتها، فبعد انقلاب 8 شباط / فبراير 1963، تمّ تعديل قانون الأحوال الشخصيّة بما يُضعفه، وكان ذلك بمثابة غزل مع التيّار الديني والقوى المحافظة الأخرى.

الميني جوب

تحت عنوان محاربة الميوعة لدى الشبان والخلاعة لدى الشابات، استخدم وزير الداخلية، الفريق صالح مهدي عمّاش، القانون  لدهن سيقان الفتيات بالطلاء الأسود وحلق شعور الفتيان كجزء من العقاب على الملبس والمظهر، وهو ما دعا الشاعر الجواهري لأن يكتب قصيدةً إلى عمّاش، ذاع صيتها، تحت عنوان "رسالة مملّحة"، وهي التي اشتهرت باسم  "الميني جوب"، والتي يقول فيها:

نُبئتُ انكَ توسعُ الأزياء عتاً واعتسافا

وتقيس بالأفتار أردية بحجة أن تنافى

ماذا تنافي، بل وماذا ثمَّ من أمر ٍ يُنافى

أترى العفافَ مقاسَ أردية ٍ، ظلمتَ إذاً عفافا

هو في الضمائر ِ لا تخاط ُ ولا تقصُّ ولا تكافى

من لم يخفْ عقبى الضمير ِ ، فمنْ سواهُ لن يخافا

وما قصيدة الجواهري، إلّا التعبير الملطّف لرفض التوجّهات المحافظة، التي تريد النَيْل من الحريّات الشخصية، وخصوصًا حقوق المرأة، سواء من جانب المؤسسة الرسمية أم المؤسسات الدينية الإسلامية بتناغمها مع مثل هذه التوجّهات، التي تناهض الحداثة تحت عناوين مختلفة.

السبعينيات

وعلى الرغم من أن العراق شهد تطوّرًا ملحوظًا في السبعينيات لصالح المرأة وحقوقها، وخصوصًا في العام الدولي للمرأة (1975)، حيث أصدر عددًا من التشريعات في المجالات المختلفة، مثلما انضمّ إلى العديد من الاتفاقيات الدولية، التي تصبّ في هذا الاتجاه، إلّا أن الحروب التي دخلها (الحرب العراقية - الإيرانية وحرب قوّات التحالف والاحتلال الأمريكي، وما تبعه من طائفية وإرهاب، بما فيه الحرب ضدّ تنظيم القاعدة وداعش)، وفترة الحصار الدولي التي فُرضت عليه لمدّة 12 عامًا، ابتلعت تلك المنجزات التي تحقّقت، بل شهدت فترة التسعينيات قرارات صادرة عن مجلس قيادة الثورة، تنتقص من حقوق المرأة، بما فيها "قوانين غسل العار"، فضلًا عن انتعاش العشائرية بوجهها السلبي، وانحسار مظاهر المدنية التي عرفتها الدولة لصالح البداوة والقرويّة، خصوصًا في التعامل مع المرأة، تلك الأمرو التي تراجعت على نحو كبير بعد العام 1958، لكنّها عادت بقوّة في فترة الحصار الدولي وبتشجيع من حزب البعث الحاكم نفسه، تارة باسم الحملة الإيمانية، وأخرى التوقيع بالدم ولاءً للنظام.

الاحتلال وما بعده

أعاد الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003 إلى الواجهة الخلافات الحادّة بشأن الموقف من المرأة وحقوقها ودورها، فازدادت حالة الأخذ والردّ والدفع والجذب، على الرغم من أن الدستور الدائم (2005)، اشترط كوتا نسائية لا تقلّ عن 25%، وهو أمر إيجابي، لا بدّ من العمل على تحسينه باختيار أفضل النماذج، وليس وفقًا للولاءات الحزبية الطائفية والإثنية الضيّقة.

 واتخذ الصراع بخصوص المرأة منحى دستوريًّا وقانونيًّا أيضًا، وصل ذروته يوم أعلن وزير العدل العراقي الأسبق حسن الشمري إنجاز مشروع قانونيْ الأحوال الشخصيّة الجعفري، والقضاء الشرعي الجعفري، وأحالهما بدوره إلى مجلس شورى الدولة، وقال أن هذا الأخير اقتنع بهما تمهيدًا لعرضهما على مجلس الوزراء لإقرارهما، وبدوره سيرفعهما الأخير إلى البرلمان لمناقشتهما وإقرارهما، وأشار إلى أنهما ينطلقان من الدستور. وكما هو معلوم فإن المادة المشار إليها، يوجد عليها الكثير من الاعتراضات، ولنتعرف على ما تقوله هذه المادة: "العراقيون أحرارٌ في الالتزام بأحوالهم الشخصيّة، حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم، وينظم ذلك بقانون".

وقد أثار نشر خبر مشروعي القانونين موجة واسعة من الآراء ووجهات النظر المتناقضة، حول قوانين الأحوال الشخصيّة، حيث لا تزال الذاكرة العراقيّة، وخصوصًا القانونيّة والسياسيّة، طريّة، وتحتفظ بسجالات وصراعات حادّة، امتدّت طيلة عقود من الزمن وصاحبها إشكالات وانقلابات وتراجعات، ولا تزال ذيولها مستمرّة حتى الآن، وهي تنام وتستيقظ بين الحين والآخر، كما أشرت في كتابي "دين العقل وفقه الواقع".

الجدير بالذكر أن الصراع تجدّد بين التيار الإسلامي والمحافظ من جهة، وبين القوى الأخرى بعد الاحتلال الأمريكي للعراق من جهة ثانية، حيث جرت محاولات في مجلس الحكم الانتقالي لإلغاء قانون الأحوال الشخصيّة رقم 188 لعام 1959، ومن المفارقة أن يكون المجلس المذكور قد وافق على القانون الجديد، رقم 137 لعام 2003، الذي شكّل خلفيّة مرجعية لقانون الأحوال الشخصيّة الجعفري، لكن بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق، رفض المصادقة عليه بحكم صلاحياته، حيث لا تعتبر قرارات مجلس الحكم الانتقالي نافذة، إلّا بعد مصادقة بريمر عليها، وأعاده إلى المجلس لمناقشته، ومن ثمّ التصويت عليه، وهنا حصلت المفارقة الثانية، حين لم يحظَ بالأغلبيّة التي حصل عليها قبل اعتراض بريمر عليه، وهو ما يذكره بريمر في كتابه "عام قضيته في العراق" (2006).

ما أشبه اليوم بالبارحة

وما أشبه اليوم بالبارحة، حين تبنّى النائب رائد المالكي مقترح تعديل قانون الأحوال الشخصية باسم كتلة الإطار التنسيقي المتنفّذة، وهو تعديل يقضي إلى قانون موازي ينتقص من وحدانية القانون وتطبيقه على الجميع، بما يقلّص من شرعية الدولة ويحوّل جزء من سلطتها إلى الفقهاء، في قضايا الزواج والطلاق  والميراث والنفقة والحضانة وما سواها، ويترتّب على ذلك أن الفقيه وشيخ العشيرة وربّ الأسرة دورًا موازيًا لدور الدولة المسؤولة الأولى والأساسية قانونيًا عن تنظيم شؤون الأحوال الشخصية، ومسؤوليتها فوق مسؤولية الجميع، وهي وحدها ودون سواها من له الحق في إصدار القوانين والأحكام وتطبيقها على نحو موحّد وعلى جميع المواطنين المتساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات.

المشروعية القانونية

ثمّة في الدول مشروعية قانونية واحدة، تقوم على سياق واحد، وقانون واحد، وليس سلطات متوازية في موضوع الأحوال الشخصية أو غيرها، وهو ما سيخلق ازدواجية في المشروعية، ويقود إلى تعارضات تؤدي إلى المزيد من انقسام المجتمع على أساس طائفي أو إثني، وتلك من مخرجات نظام المحاصصة الطائفي - الإثني ما بعد الاحتلال، وهي ازدواجية عرفها العراق في العهد الملكي بحكم الامتيازات التي أراد البريطانيون أن يمنحونها لشيوخ العشائر، فشرعوا قانونًا في العام 1916، حتى قبل استكمال احتلالهم للعراق، الذي عُرف باسم "قانون دعاوى العشائر"، والذي استمرّ موازيًا للقانون المدني العراقي الذي أعدّه الفقيه الكبير عبد الرزّاق السنهوري في العام 1951. وكان من أولى القرارات التي اتّخذتها الثورة، وهو إلغاء قانون دعاوى العشائر واستعادة وحدانية القانون، الذي يُطبّق على الجميع.

لعلّ العيش المشترك سيتأثّر كثيرًا حين توضع الألغام في قانون يقسّم المجتمع والعوائل العراقية إلى هوّيات مذهبية وطائفية مغلقة ومنعزلة، في حين أن الدولة ينبغي أن تقوم على المواطنة المتكافئة والمتساوية. وعقود الزواج هي التي تحدد حقوق وواجبات الزوجين، وليس سلطة الفقيه أو المذهب، وتلك هي إحدى سمات الحداثة في الدولة العصرية.

***

د. عبد الحسين شعبان

يشكل الفكر الانساني عند الابداع، حالة فريدة وله خاصيّة لدى المبدع، وتختلف من انسان الى آخر، ومهما تعددت أنواع الكتابة في الفنون الابداعية المختلفة في الرواية أوالشعر الى السينما والمسرح أو الموسيقى وصياغة الالحان، تبقى الفرادة والتميز هي التي تقف الفيصل بين ما يبدعه انسان عن انسان آخر، وذلك بما تفيض قريحة المبدع في نتاجه الابداعي بما يتمخض عنه شعراً او رواية أو أي موضوع أبداعي آخر.

وما يشغل اليوم الناس من مخاوف الذكاء الاصطناعي وتداخله في صناعة البشراو ما سيكتشف لاحقا من اكتشافات اخرى ربما تعلو على الذكاء الاصطناعي اوغيره، وتحديداً في مجالات الأدب والفنون، هذه المخاوف؛ ينبغي أن لا تشكل خوفا او قلقا مزمنا يخالج المبدعين والنقاد، فالآلة هي الآلة، تبقى خالية الشعور والوجدان والاحساس والتفاعل والاختلاجات أو الارهاصات التي تعصف بالمبدع في حالة مخاضه عند الشروع بالكتابة؛ ذلك إن الانفعال الحقيقي لا يتحقق ولا يأتي إلا بوجود فيض من الاحساس والمشاعر والتجارب الحياتية، فضلاً عن الحالة الابداعية والثقافية المتراكمة لدى المبدع والكاتب.

فالذكاء الاصطناعي مهما علا بذكائه، يبقى مبرمجاً من الانسان الذي صنعه، وإن حمّلهُ بالعديد من البرامج التقنية في مجال الفكر أو الثقافة المتخصصة او الفنون وبكل انواعها أو حتى في المجالات العلمية الاخرى، فالحالة الانسانية الفذة التي يمتلكها العقل البشري وذلك المزيج من الروح والجسد، وما يختلج المبدع عند تفاعله مع الحدث الذي يعيشه لحظة بلحظة، لا يمكن للذكاء الاصطناعي ان يرتقي الى هذا التفاعل الحسي العالي بين الروح والجسد عند الانسان.

فالفعل جراء الانعكاس من الواقع الى الانسان لا يمكن أن يحمله الذكاء الاصطناعي أو يكمله في ذاته كما هو عند الانسان، ولا يستطيع ان يتفاعل روحياً وحسياً كما يعيشه المبدع عند الشروع بكتابة القصيدة او القصة والرواية أو بكتابة النوتة الموسيقية ..الخ، حتى إذا ما اخذنا بالاعتبار ان هذا الذكاء الخارق سيعطينا ذلك الاحساس الروحي المتفاعل في حالة الغناء مثلاً.

فمهما تقدم العلم بنا من صناعة الروبوتات وما تسعى العلوم من تطور سريع في التكنولوجيا، قد تضاهي الانسان شكلاً، أوبعض الحركات الروبوتية التي نشاهدها  قد تستفز الكثير من الناس وتبهرهم  بالتطور العلمي الذي وصل اليه العقل البشري، إلا أنه تبقى الروح عصيّة على الانسان أن يصنعها أو يجسدها او يبرمجها أو الوصول الى حالة التحايل عليها بشتى الطرق..لتسمو على الروح الانسانية الحقة. (يسألونك عن آلروح قل الروح من أمر ربّي) قرآن كريم.

لقد أثبتت التجارب عبر سنوات خلت، منذ الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر من القرن المنصرم، وحتى يومنا هذا، أن سلالات التنوع البشري والاكتشافات البشرية المتلاحقة في العلوم التطبيقة وغير التطبيقية أو أكتشافات الذرة ودقة تفاصيل أبعادها، كانت كلها اضافة مبدعة للتاريخ الانساني وخدمت البشرية كثيراً بلا شك (إلا في حالة سلوك الانسان بسوء تطبيقها)، أثبتت ومنذ ذلك الحين، أن الروح لم يتمكن الانسان من الأمساك بناصيتها وتجسيدها؟ أو القدرة على الزمام للوصول اليها؟ ولم يعرف كنهها؟ ولم يدرك ماذا هي؟ وما يسكن فيها؟  وكيف تكون؟ والى أين تسير؟

لذا، يبقى الأدب والفن وكل الأبداع الانساني، حراً سامياً يمتلك زمام أرضه بيده ولا يمكن للذكاء الاصطناعي ان يتفوق عليه، وأن كان ذلك التفوق جدلاً؛ فأن أبداعه خالٍ من كل ما يصدر من تفاعلات بين ما هو سلسلة أفكار متداخلة بعضها ببعض كما في العديد من الروايات العالمية التي كتبها؛ أمثال جورج أورويل برواية الحيوان او مائة عام من العزلة لجابريل غارسيا ماركيز أو رواية الكريات الزجاجية لهيرمان هيسة وغيرهم الكثير.. فتلك الرويات الكلاسيكية كُتبت بطريقة عصيّة على قدرة الذكاء الاصطناعي، كأن يخلق شخصيات هي من نسيج الواقعية السحرية أو أعمق ماوراء الخيال، أو له القدرة على أختلاق خيال بعيد المدى ان صح التعبير متشابك متعدد الاحداث والشخوص متشعب الافكار ذات ثيمة تتفرع منها ثيمات عدة لا يستطيع الذكاء الاصطناعي من الامساك بها أو العروج الى هكذا قدرة فنية أبداعية روحية تجعل المتلقي ان يعيشها كما يعيش نتاج أبداع بشري انساني حقيقي.

كما إن القدرة عند الذكاء الاصطناعي، لا يمكنه من تحديد الشخصيات وأبعادها وعمقها كما يصورها الابداع البشري في صياغتها، وان أراد في رسم أبطال القصة او الرواية أو كتابة النص الشعري، فهو يعيد ولا يخلق نصاً، ولا يمنح النص الجديد الروح الابداعية للنص الاصلي، فضلاً إنه يخلط فكرة مع أفكار أخرى تنأى بعيداً عن جوهر النصوص الاصلية.

لقد وجد أن ما يقدمه من نصوص تكاد تكون خالية العمق والدلالة والرمزية وتوظيف الموروث وعمق الخيال مقارنة بنص أبداعي بشري، إذ تجد بوضوح نمطية النص وضعف التفاعل بين المتلقي وما يرسم من أحداث داخل هيكلية العمل الابداعي المكتوب.

إن المتلقي العام أوالمثقف، ومن خلال وعيه بممارسة القراءة، أضافة الى درجة ثقافته، يميز أو يدرك على الاقل، إن الكتاب الذي بين يديه لو قورن نصه مع نص كتابٍ لذكاءٍ أصطناعي، سيُدرك بالحال قيمة ما يحتويه والفرق بين النصّين.

ولا شك فيه، إن الذكاء الاصطناعي خلقَ مشكلة في عالم الابداع، ورغم ما يمتلك من جوانب إيجابية، إلا أنه يبقى عصياً على تقليد ما أبدعه الفكر الانساني أو الارتقاء الى قمة أبداعه، ذلك ما أشرنا اليه، إن النص الابداعي تكتنزه الروح البشرية وعذاباتها ومنها تختلق نفائس الشعر والرواية وتبدعه الروح لا الآلة.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

الإنسان ينمو ويتطور عبر الزمن، من الطفولة إلى الشيخوخة، وكل مرحلة من مراحل الحياة لها خصائصها وتحدياتها، ويتعلم الإنسان ويتكيف مع مرور الوقت، والزمن يوفر للإنسان الفرصة للتعلم من تجاربه وتطوير مهاراته وقدراته، ومع مرور الوقت يكتسب الحكمة والبصيرة التي تمكنه من التعامل مع الحياة بشكل أكثر فعالية، الزمن يعطي للحياة معنى، فالإنسان يعي أهمية الوقت من خلال الخبرات المتراكمة، ويستمد معانيه من خلال تجاربه عبر الزمن، وإدراك الإنسان للزمن يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالذاكرة التي تخزن الأحداث والتجارب، مما يسمح باستدعاء الماضي والاستفادة منه في الحاضر والمستقبل، ويعيش وفقًا لإحساس داخلي بالزمن، مثل الشعور بأن الوقت يمر ببطء أو بسرعة، وهو ما يمكن أن يتأثر بالحالة النفسية للفرد، الإنسان يعيش في زمنه ولكن الزمن يعيش في الإنسان، فكيفما كانت مدة حياته، يبقى تأثيره مستمرًا، والإنسان يعيش بين ذكريات الماضي وأحلام المستقبل، ولكن الحكمة تكمن في استمتاعه بلحظة الحاضر، ويبني تاريخه بأفعاله، والزمن يحكمه بذكرياته، ويجعل من الزمن جنديًا يعمل لصالحه أو عدوًا يقاومه، وفي كل الأحوال يبقى الزمن سيد الواقع، والزمن كالنهر لا يمكن أن تضيف نفسك إلى الماء نفسه مرتين، لأن الماء الذي مر لن يعود مرة أخرى، وهو ليس سوى نهر يجري دون توقف، ونحن كقطرة ماء تتلاشى فيه، وإذا فات الزمن فقد فات الإنسان، فالزمن لا يعود والحياة قصيرة.. يقول (ألبرت أينشتاين): الزمن ليس سوى إحساس قائم داخل عقولنا، والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتمتع بالقدرة على فهم هذا الإحساس وتأثيراته على وجوده

مفهوم الزمن يختلف من ثقافة إلى أخرى؛ بعض الثقافات تقدّر الوقت وتحترمه بشدة، بينما في ثقافات أخرى، يكون الزمن أكثر مرونة ولا يتم الالتزام الصارم بالمواعيد، وهناك عادات وتقاليد مرتبطة بالزمن، مثل الاحتفالات السنوية أو الطقوس الدينية التي تعتمد على أوقات محددة من العام، وفي العصر الحديث التكنولوجيا أثرت بشكل كبير على إدراكنا للزمن، والاتصالات السريعة وتكنولوجيا المعلومات جعلت الإنسان يشعر بأن الوقت يمر بشكل أسرع، حيث تتسارع وتيرة الحياة بشكل ملحوظ، وساعدت الإنسان على إدارة وقته بشكل أكثر فعالية، من خلال تقنيات مثل الجداول الزمنية الرقمية والتنبيهات التذكيرية.

الزمن له علاقة معقدة وعميقة بالإنسان، حيث يؤثر على كل جانب من جوانب الحياة البشرية، وهذه العلاقة تمتد إلى مستويات متعددة، تشمل الفلسفية والنفسية والاجتماعية والبيولوجية، فالإنسان يعيش في إطار زمني يبدأ بالولادة وينتهي بالموت، وهذا الإطار الزمني يحدد الكثير من قرارات الإنسان وسلوكياته، ويسعى لتحقيق أهداف معينة قبل انتهاء الوقت المحدد له في الحياة ، يؤثر إحساس الأفراد بالزمن على هويتهم، قد يشعرون بأنهم "يضيعون الوقت"، بينما آخرون يشعرون بالرضا عن "استثمار الوقت" في أنشطة معينة، ويتغير فهم المجتمع للوقت مع التغيرات التكنولوجية والاجتماعية، مثل ظهور الإنترنت والاتصالات الفورية وتأثيرها على تصوراتنا للوقت والسرعة، ومن خلال دراسة الزمن، يمكن فهم كيفية تنظيم المجتمعات وتفاعل الأفراد والجماعات داخل هذه الهياكل

جسم الإنسان يحتوي على ساعة بيولوجية داخلية تتحكم في العديد من الوظائف الحيوية، مثل النوم والاستيقاظ، تتزامن مع دورة الليل والنهار الطبيعية، وتتقدم خلايا الجسم في العمر بمرور الوقت، مما يؤدي إلى الشيخوخة والتغيرات الجسدية المرتبطة بها، وتقسم المجتمعات الزمن إلى وحدات (مثل الساعات، الأيام، الأسابيع) وتُنظم الأنشطة الاجتماعية وفقًا لهذه التقسيمات، مثل العمل، التعليم، والعبادة، وغيّرت الحداثة الصناعية والزمن المنظم بالمواعيد اليومية طريقة حياة الناس، يلعب الزمن دورًا حاسمًا في بناء العلاقات الاجتماعية والحفاظ عليها، والعلاقات القوية تعتمد على الوقت الذي يُستثمر فيها، مثل الوقت الذي نقضيه مع الأسرة أو الأصدقاء، والعلاقات تتغير وتتطور مع مرور الوقت، ويمكن أن تقوى بعض العلاقات أو تضعف بناءً على التغيرات الزمنية والظروف المختلفة

***

نهاد الحديثي

غير التاريخ العرقي الديني السائد.. تاريخ الارض والانسان(1)

ان الشعب الرافض لبعض مراحل تاريخه واصوله، اشبه بالانسان الرافض لبعض اعضاء جسمه وكيانه، يعاني من (انفصام وعوق الشخصية) ويكون عرضة سهلة للتنكر للوطن والخضوع للأجنبي..

***

بالنسبة لتاريخ الاوطان، هنالك نوعان من التاريخ:

ـ التاريخ الاقوامي العرقي: الذي يهتم بـ(اصل الجماعة) العرقي القبائلي وحتى الجيني الموروثي، وخصوصياتها المتعلقة بلغتها واسمها وموروثاتها وحكاياتها.. الخ.. مثل: العرب، الروس، الفرس، الترك، الاكراد، البربر، الانكليز، الالمان.. الخ..(2)

ـ التاريخ البلداني الارضي: أي تاريخ (الوطن) او (مجموعة اوطان مشتركة في اقليم او قارة). ويهتم اساسا بـ(تاريخ الارض) بجميع (اقوامها) (ومراحلها) منذ وجود البشرالاول وحتى العصر الحالي.

هذان النوعان من التاريخ، (الاقوامي العرقي) و(الوطني الارضي)، يمكن اعتبارهما متكاملين او متعارضين، حسب تعاملنا وسردنا لهما.

فمثلا، قد يقوم البعض باعتبار (تاريخ العرقية الانگليزية: Anglo-Saxons) التي استقرت في(بريطانيا) في القرن الخامس الميلادي، والتي منها اشتق اسم (انگلترا: ارض الانگل)، ومعها سيطرت المسيحية واللغة الانگليزية وتأسست الدولة الملكية، بأنه وحده (تاريخ بريطانيا) مع اهمال (تاريخ الارض والوطن) قبل حضور الانگليز بآلاف الاعوام، وكذلك (الاقوام البريطانية) الاخرى مثل (الاسكتلند، والغال، والايرش، والنورماند..).(3)

او سرد (تاريخ قارة اوربا) بالاعتماد مثلا فقط على (تاريخ اللاتين وتأسيسهم للدولة الرومانية)، مع اهمال آلاف الاعوام من التاريخ الاوربي السابق بما فيه (التاريخ اليوناني الحضاري) و(الاتروسكي)، كذلك(الاعراق الاوربية) الاخرى مثل السلاف والسلت والجرمان.. الخ..

لهذا لو عاينا تواريخ جميع البلدان، كذلك تواريخ المجموعات الاقليمية المعروفة: اوربا، اوربا الشرقية، اوربا الغربية، امريكا الشمالية، امريكا اللاتينية، افريقيا السوداء، شبه القارة الهندية، الهند الصينية.. الخ، فأن جميع البحوث تسرد (تاريخ الارض والبشر) اي منذ فجر تاريخ المنطقة والوجود البشري فيها، حتى العصر الحالي، بجميع مراحله واقوامه ولغاته واديانه، بالترافق مع سرد (تاريخ الاقوام) المختلفة التي عاشت سابقا او لا زالت تعيش في (الوطن) او في (المجموعة الاقليمية).(4)

لكن، وهنا المشكلة الغريبة، ما ان يتم الحديث عن أي عنوان فيه كلمة عرب: (العرب.. العالم العربي: Arab world.. الشعوب العربية: Arab Peoples.. البلدان العربية: Arab countries..الخ)، فجأة بصورة عجيبة يتم الغاء (تاريخ الارض والبشر) ليحل محله (التاريخ العرقي القبائلي) الذي يبدأ بـ(اول ظهور للقبائل العربية، ثم فترة ما بعد الفتح، وحتى العصر الحالي)؟؟!!

ولو عاينا جميع الكتابات العربية لكبار الباحثين والمؤرخين، طيلة العصر الحديث منذ قرنين، تراهم يكررون هذا (المنهج العرقي) الذي فرضه علينا المستشرقون لغايات خبيثة سوف نوضحها. (عاين تحت بعض العناوين والكتب السائدة التي تكرر هذا التاريخ العرقي الجيني القبائلي للعرب، مع تجاهل تام لتاريخ الارض والجماعات الاخرى والمراحل السابقة لتاريخ العالم العربي)!![5]

الاكثر غرابة، ان هذا التاريخ العرقي العروبي، سرعان ما يتم الغاؤه ما ان يبدأ الحديث عن تواريخ المجموعات الاخرى المرتبطة بالعالم العربي، مثل:

(الشرق الاوسط:Middle East)، (الهلال الخصيب:Fertile Crescent)، (شمال افريقيا:North Africa)، (شبه الجزيرة العربية: Arabian Peninsula).. إذ يتم سرد تواريخها بصورة (ارضية وطنية).

وكأن كلمة (عرب وعالم عربي) بالضرورة يجب ان تعني (العرق القبائلي العربي) وتلغي (تاريخ الارض والوطن)!؟

بل في السنوات الاخيرة، حتى في الوثائق الرسمية العربية والدولية، يتحدثون عن: (الشرق الاوسط وشمال افريقيا) بدلا من: (العالم العربي)!؟

هذه بعض اخطر الغايات السياسية السلبية التي حققها هذا الالغاء للتاريخ (الارضي الوطني للعرب والشعوب العربية):

1ـ انه فرض على الشعوب العربية عملية قطع وانفصام نفسي ومعرفي، عن التواريخ الاولى لبلدانها واسلافها، السابقة للفتح العربي.

فالمصري الذي يعتبر نفسه (عربي)، حسب هذا الفهم العرقي، لا ينتمي لـ(تاريخ مصر القديمة)؟ كذلك العراقي والسوري والمغاربي والسوداني.. ما دام (العربي) ينتمي حصرا لـ( تاريخ الجزيرة العربية وقبائلها)؟؟! بل الاسوء في هذا، ان (الميراث الاسلامي) يستهين بتاريخنا القديم ويعتبره (تاريخ الحاد واوثان وجاهلية وبداوة اعراب) بنفس الوقت يتبني ويدافع عن: (تاريخ التوراة) باساطيره وعنصريته واحقاده ضد حضارتنا واسلافنا: كنعان ومصر وبابل!؟

2ـ ان هذا الانفصام والتقطيع العرقي الاقوامي، لتاريخ (شعوب العالم العربي)، منح ولا زال، التبرير للجماعات العنصرية الرافضة لـ(عرب)، كي يقولوا: انتم (يا عرب) غزاة اجانب، فعودوا الى جزيرتكم العربية، واتركونا (نحن السكان الاصليون: يهود صهاينة، وتنظيمات عنصرية نشطة من بربر واكراد وسريان ومدعي الآشورية.. الخ).. بل هنالك حتى (جماعات عربية، من اهل الحداثة وعقدة الغرب)، تتفاخر باستنكافها عن الانتماء لـ(العرب البدو الجاهلية الغزاة المتخلفين!) لتدعي الانتماء الى (السومريين.. الفراعنة.. الآشوريين.. نوميديا..الخ..)!؟(6)

حتى (الاسلاميين العرب)، بسبب هذا (الفهم العرقي العروبي) تراهم يعارضون ذكر:(عرب وعالم عربي، وشعوب عربية) لانهم يعتبرونها مناقضة لمفهوم:(المسلمين والعالم الاسلامي). رغم انهم وياللعجب، يتفاخرون بالحديث عن:(عظمة الفرس وايران، والعثمانيين الاتراك)!؟

الهوية المشتركة لشعوب العالم العربي(7)

من يطالع التاريخ ويتمعن بالجغرافية، سيكتشف بكل وضوح ان(المجموعة العربية) اساسها الطبيعي ليس قائما على (العرقية القومية)، بل على (مشتركات طبيعية) قديمة جغرافية تاريخية بيئية اقوامية ثقافية دينية لغوية تعاطفية ومصالحية، اكبر واقدم واعقد من(الهوية العرقية العروبية).

وكما بينا في دراسات سابقة، انه حتى (اللغة العربية) هي نتاج آلاف الاعوام من تمازج (اللغات السامية ـ الحامية).(8) بل ان البحوث الجينية في السنوات الاخيرة، برهنت على ان هنالك (مشتركات موروثية) تشمل غالبية ابناء الشعوب العربية بمختلف اعراقهم ولغاتهم، من خلال الغلبة الكاملة للموروثتين:(: J وE ) وكذلك جينات موميات المصريين القدماء، وجينات المغاربة الاوائل، مرتبطة بجينات المشرق. (9)

***

مراحل تاريخ العالم العربي الحالي

ها نحن نقدم هنا، اول مبادرة لسد هذا الفراغ المعرفي التاريخي، حسب علمنا، بتدوين (تاريخ ارضي بشري، لبلدان العالم العربي). وهو سرد مختصر جدا، آملين ان يلهم مؤرخينا وباحثينا، كي يطوروه ويصدروا الدراسات والكتب في تفاصيله:

ملاحظتان: ـ للسهولة والتوضيح، فاننا هنا نستخدم تسميتي( العالم العربي) و(الشرق) بنفس المعنى، اي (العالم العربي الحالي) بـ(المعنى الارضي) وليس (العرقي السائد).(10)

ـ كما سترون، اننا ابتكرنا هذا (التحقيب التاريخي الجديد) لـ(العالم العربي)، الذي لا يعتمد على (فترات الدول والملوك)، بل حسب (الفترات الثقافية المختلفة: اللغة والدين والحالة الحضارية).

اولاـ مرحلة ما قبل التاريخ، واكتشاف الزراعة والتدجين حوالي عشرة آلاف عام ق .م

من المهم التوضيح، ان (منطقةالهلال الخصيب: العراق والشام ومصر) كانت على صعيد البشرية جمعاء، معقل النشوء الاول والاقدم للتطورات التقنية والمعرفية:

(الاستقرار والزراعة والتدجين والمدينة.. الخ). وذلك يعود الى اسباب جغرافية وبيئية. بالنسبة لمصر والعراق، وجود الانهار الكبرى في سهول قاحلة: (النيل ودجلة والفرات) اما (الشام: كنعان: فينيقيا) فلأنها بسبب موقعها الوسطي بين البلدين، قد شكلت طيلة التاريخ الوسيط بينهما، اقواميا وثقافيا وسياسيا.

كي نتجنب الاشكالية المصطنعة غربيا، والجدال حول(اصل الانسان وتاريخ وجوده وتحولاته الخلقية)(11)، فأننا فضّلنا البدء بالمرحلة التطورية للبشرية، الاقرب والمتفق عليها، وايضا تخص مباشرة تاريخ (العالم العربي) وهي: مرحلة اكتشاف الزراعة والتدجين(العصر الحجري الحديث: Néolithique)، لانها عالميا، قد ظهرت اول مرة في (منطقة الشام وشمال العراق) حوالي ( 10 ألاف ق.م)، ومنها انتقلت الى عموم سواحل البحر المتوسط، الاوربية والعربية. عرفتها مصر وشمال افريقيا في الالف السادس ق.م. ثم اليمن وجنوب الجزيرة العربية في الالف الرابع ق.م.

ـ خلال هذه المرحلة بدأت تظهر ( اولى المدن) التي من علاماتها وجود السور حول مجموعة من البيوت، واقدمها (مدينة اريحا: Jéricho) في فلسطين(12)، ثم في عدة مناطق من الهلال الخصيب.

ـ مع الاستقرار الزراعي والتدجيني، بدأت في منطقتنا بالتدريج تظهر مختلف المكتشفات الاساسية مثل العجلة واستخراج المعادن والمعمار والاسلحة، وغيرها.(13)

ثانياـ المرحلة التاريخية والحضارية، بين ثلاثة آلاف عام ق.محتى اواسط الالف السابق للميلاد

لقد اتفق على ان(العصور التاريخية) لأية منطقة، تبدأ مع اكتشاف الكتابة والتدوين وتسجيل الاخبار.(14) وايضا في منطقتنا، قد بدأ هذا العصر على صعيد العالم، وذلك بابتكار نوعين من (الكتابة التصويرية): (المسمارية العراقية) وقد تبنتها ايضا (عيلام: الاحواز: جنوب النهرين) وكذلك (بلاد كنعان)(15).

وايضا (الكتابة الرسومية المصرية: الهيروغليفية)، ومنها اشتقت (الكتابة المروية السودانية)(16). بجانب (الكتابة والثقافة والدين) برزت في كل من العراق ومصر، دولة قوية موحدة حتمتها ضرورة (الادارة الموحدة لتنظيم ري انهار دجلة والفرات والنيل).(17)

في (كنعان: الشام) بلغ (التمازج الكتابي: المصري العراقي) اوجه في اواخر الالف الثاني ق.م، بظهور اهم ابتكار ثقافي عالمي: (الكتابة الحروفية: الالفباء الكنعانية الفينقية) التي هي اساس جميع الكتابات الحروفية في العالم، كاليونانية واللاتينية والهندية، وطبعا العربية.

ـ بالنسبة لـ(السودان) فتاريخها البشري والحضاري والسياسي متداخل مع (تاريخ مصر) بحكم التداخل الجغرافي ونهر النيل المشترك. ظهرت فيها (دولة كرمة: 2500 ق.م) ثم (كوش) التي حكمت مصر لحوالي القرن(744- 665 ق.م).

ـ بسبب موقع (مصر) الوسطي بين قسمي العالم العربي (المشرقي) و(المغاربي) فأنها طيلة تاريخها ظلت مركز استقبال للهجرات القادمة من القسمين، غالبا سلمية، واحيانا غزوات حربية. ابتداءا من 1800 ق. م، ونهاية (الاسرة المصرية الثانية عشرة)، سيطرت على حكم (مصر) ولفترات متقطعة (اسر كنعانية) من الشام، اشهرهم (الهكسوس: 1650 ـ 1550)، كذلك (اسرة شيشنق: 945 ق.م) الكنعانية الليبية.

بعد حوالي 1500 عام من ظهور الكتابة والحضارة في (الهلال الخصيب)، اي في اواخر الالف الثاني ق. بدأت معالم (الحضارة: الدولة والمدينة والتدوين الكتابي المتنوع والواسع) تظهر في مختلف انحاء العالم، مثل الصين واليونان وايطاليا والهند.(18)

ايضا في هذه الحقبة بدأت تظهر اسس(الحضارة والدولة) في باقي (العالم العربي الحالي) أي في (شمال افريقيا) و(الجزيرة العربية). وكان لشيوع استخدام (الجمل) في هذه الحقبة، دور حاسم لتسهيل التنقل والتواصل القبائلي والتجاري والغزواتي، بين (بوادي العالم العربي)، بدءا من قسمه المشرقي: (الهلال الخصيب والجزيرة العربية).(19)

ـ حوالي 1200 ق.م ظهرت الهجرات الفينقية من (سواحل سوريا ولبنان وفلسطين) نحو سواحل(شمال افريقيا) حيث امتزجوا مع (البربر) وعمّروا المدن الساحلية التجارية من ليبيا والجزائر حتى المغرب الاقصى ومورتانيا، مثل:(صبراته، لبدة، اويا: ليبيا) و(هيبو عنابة، تيباسا، شرشال، قرتا قسطنطينة، سكيكدة: الجزائر) و( طنجة، سبتة، مليلة، صويرة، اسفي: المغرب). واسسوا دولة (قرطاجة: تونس: 800 ق.م).

ـ بالنسبة لـ(الجزيرة العربية)، فهنالك تواصلات طيلة التاريخ مع شمالها: (بلدان الهلال الخصيب)، اما برا عبر (قوافل الجمال) مع باديتي الشام وسيناء، او عبر(الخليج العربي والبحر الاحمر). وهناك شواهد عديدة، مثل (دلمون) في البحرين، وكذلك (مجان: عمان) و(ام النار: الامارات) و(الدعسة والخور: قطر)، بالاضافة الى التواصل التجاري والسكاني المستمر عبر البحر الاحمر بين كل من مصر والسودان مع الحجاز واليمن.

ـ في اليمن ظهرت (مملكة سبأ: 1200 ق.م) واشتهرت بـ (سد مأرب). ثم ظهر(خط المسند) المقتبس من (الابجدية الكنعانية) ربما بتأثير هجرات كنعانية.

ـ في اواخر هذه الحقبة حوالي 1000 ق.م بدأت تظهر وتنتشر في الشام والعراق وسيناء اسماء ثلاث مجموعات قبائل بدوية جديدة: (العرب والآراميون والعبرانيون)، ومعهم ظهر لاول مرة (الجمل) كوسيلة تنقّل حاسمة عبر بواد العالم العربي حتى اقاصي الجزيرة العربية، بل ايضا سيناء ومصر وبوادي شمال افريقيا. ومعهم بدأت تنتشر(اللغة الآرمية) وتشيع ثقافيا واداريا لانها تبنّت (الكتابة الحروفية الفينقية) التي هي اسهل بكثير من(الكتابتين السائدتين:(المسمارية والرسومية). وايضا بدأت تظهر في الاردن (ممالك : مشايخ)(20) عربية مثل (العمونيون والادوميون والمؤابيون)، بجانب اخرى في سوريا وفلسطين تحمل مسميات (آرامية وعبرية).

ـ كذلك برزت (واحة تيماء)، شمال السعودية، تقع على طريق القوافل نحو العراق والشام ومصر، وفيها آثار تعود لهذه الفترة. وكانت خاضعة للدولة النهرينية (الاشورية ثم البابلية)، وفيها: (نقش تيماء) للفرعون(رمسيس الثالث: 1186). واشتهرت بانها قد اصبحت معتزلا روحيا لآخر ملك بابلي (نبونيد) الذي اختفى فيها مع انصاره بعد سقوط ونهاية بابل على يد الاخمين الايرانيين (593 ق.م). وقد نشأت شمالها (قرب العراق) (واحة دومة الجندل) كمركز تجاري وثقافي مرتبط بـ(بلاد النهرين).

ـ يمكن باختصار ذكر اهم ثلاثة انجازات حضارية عالمية قدمتها منطقتنا في هذه الحقبة لعموم البشرية: ابتكار الكتابة الصورية(المصرية العراقية) لاول مرة في تاريخ البشرية، و(شريعة حمورابي البابلية العراقية) اول قانون اجتماعي حكومي مكتوب، و(عقيدة التوحيد والخلود ويوم الحساب المصرية) التي شكلت اساس الاديان السماوية، و(الابجدية الكنعانية) التي اشتقت منها جميع ابجديات العالم.. طبعا مع ما لايحصى من الانجازات والابداعات في جميع مجالات المعرفة والعلوم والتشييد.

ثالثاـ مرحلة نهاية الحضارة والدول المستقلة وبدء الاحتلالات الاجنبية:

(ايران ويونان ورومان وبيزنط) مع بروز الثقافة اليونانية، وتمكن شعوبنا من

استلهام ديانتهم المسيحية ونشرها في العالم. دامت حوالي 1200 عام،

بين (القرن السادس ق.م حتى القرن السابع ميلادي حيث (الفتح العربي الاسلامي).

ان التغيير التاريخي الكبير الذي حصل في المنطقة، يتمثل بظهور قبائل بدوية محاربة تتقن استخدام الجياد، اطلق عليها تسمية: (القبائل الآرية)، او (الهندو اوربية). وهي كما يبدو قد نزحت من (جنوب روسيا) حوالي 2000 ق.م، لتغزو اوربا والشرق الاوسط والهند، وتفرض لغتها على اللغات الاصلية وتصبغها بلونها، لتظهر ما يسمى(عائلة اللغات الآرية: الهندو اوربية).(21) ابتداءا من 1000 ق.م تمكنت هذه القبائل ان تؤسس دول جديدة محاربة في الاناضول وايران واليونان، لتشرع بالتدريج بمحاربة بعضها البعض وتهدد البلدان الحضارية المجاورة: (الهلال الخصيب) والتي اصابها الهرم والانهاك بعد اكثر من الفي عام من الحضارة.

هكذا سقطت اخيرا هذه (الدول الشرقية القديمة) تحت ضربات (الدول الآرية المحاربة الجديدة)، وخضعت لهذه الاحتلالات المتتالية:

1ـ الاحتلال الاخميني الايراني، بين(538 و330 ق.م) : وقد شمل العراق والشام ومصر.

2ـ الاحتلال اليوناني: بين القرن الرابع ق.م حتى الاحتلال الروماني حوالي القرن الاول م: وقد شمل خصوصا العراق والشام ومصر، حيث تقاسمتهما سلالتان يونانيتان: السلوقية والبطلمية.

3ـ الاحتلال الروماني: بين القرن الثالث ق.م حتى القرن الرابع م: وقد بدأ اولا باحتلال (قرطاجة) وهزيمة (البطل هانيبال: حنا بعل) من قبل الرومان في 202 ق.م. ثم امتد الاحتلال الى سوريا ومصر. اما العراق فقد دام حكم اليونان حتى حوالي 200 م، ليعقبه من جديد الاحتلال الايراني البارثي ثم الساساني.

4ـ الاحتلال البيزنطي: ابتداءا من حوالي 400 م حتى الفتح العربي الاسلامي، وشمل جميع (بلدان العالم العربي) الواقعة على البحر المتوسط، من سوريا حتى سواحل الاطلس. بالحقيقة هو امتداد طبيعي للحكم الروماني، بعد انقسام الامبراطورية الرومانية الى (غربية مقرها روما الكاثوليكية)، و(شرقية: بيزنطة) ومقرها(القسطنطينية: اسطنبول) الارثوذكسية.

علما بأنه بالنسبة لشمال افريقيا، قبل وصول البيزنط من الشرق، تمكن (البرابرة الجرمان) اواسط 400 م من عبور مضيق جبل طارق، وتكوين (مملكة الفندال) وعاصمتها(هيبون: عنابة: الجزائر) التي دامت حوالي القرن.

هكذا طيلة هذه المرحلة الطويلة التي دامت حوالي 1200 عام، تحول (العالم العربي) الى ساحة صراع دولية بين يونان وايران ورومان وبيزنط وفندال. يمكن ذكر اهم الامور التي ظهرت خلالها:

ـ ظهور عدة (مشايخ: ممالك) تحمل اسم(عربية) ولكنها تستخدم(الآرامية) في الكتابة: (دولة الانباط: البتراء) في الاردن. (الحضر والحيرة وميسان) في العراق. (بصرى وتدمر) في سوريا.

كذلك ظهرت عدة دول في انحاء الجزيرة العربية، مثل: (المملكة اللحيانية: دادان) شمال السعودية(الحجاز) ومرتبطة بـ(التيماء). و(كندة) في نجد. اما في اليمن، فقد اعقبت (مملكة سبأ) ممالك عدة: (مَعين) و(قتبان) و(حضرموت) و(حِمْيَر).

ـ ظهور اليهودية وكتاب (التوراة) الذي تم تدوينه في (بابل) من قبل الجالية اليهودية، وبالاعتماد على سير شعبية بدوية ممتزجة مع الثقافتين الكنعانية والبابلية. وقد شجع على تكوين هذه الديانة (الاخمين الايرانيون) الذي سيطروا على (بابل) وعموم المنطقة، وارسلوا نخبة من (الجالية اليهودية البابلية) الى (فلسطين) ليحكموها كممثلين للدولة الاخمينية الا يرانية. وفي (بابل) ايضا دونوا (التلمود) وبعضه في (فلسطين). ثم في(مصر) ترجموا التوراة الى (اليونانية: السبعينية).

ـ بروز العديد من الكنعانيين الفينقيين الذين اصبحو اباطرة في روما. مؤسس هذه السلالة الفينقية هو: (سيبتيموس سيفيروس: الفينقي الليبي، وزوجته السورية جوليا دومنا) ثم ابنيهما (كركلا، وغيتا) و(ماكرينوس: الجزائر) و(إيل جبل: سوريا) و(سيفيروس ألكسندر: لبنان) و(فيليب العربي: سوريا).

ـ رغم الخضوع السياسي اللغوي الثقافي، الا ان (اهل الشرق) تمكنوا من المشاركة الفعالة في (الابداع الحضاري) باللغة اليونانية، (بجانب اللغة ألآرامية)، حيث فرضوا ميراثهم الروحي من خلال مراكز حضارية نشطة: الاسكندرية المصرية، ونصيبين(الرها) الشامية، و(سلوقيا) العراقية و(قرطاجة) وعموم الشمال افريقية، حيث ظهرت دولتي(نوميديا) و(موريتانيا) بثقافة مختلطة (بربرية فينقية رومانية).(22)

يمكن تقريبيا الحديث عن حقبتين لهذا النشاط (الروحاني الشرقي):

ـ فترة ما قبل المسيحية: وقد اتخذت مسميات وجماعات مثل: الرواقية (زينون الفينقي) والافلاطونية الجديدة (افلوطين المصري) و(العرفانية: الغنوصية) و(الهرمزية المصرية).(23)

ـ الفترة المسيحية، حيث بدأت شعوب الشرق تنهض وتتميز (دينيا ثقافيا) وتفرض حضورها من خلال دينها الجديد النابع من الميراث الروحي الشرقي الممزوج بالمؤثرات اليونانية والآسيوية.(24) وقد تمكنت من فرض دينها المسيحي على كامل الامبراطورية الرومانية المسيطرة على البحر المتوسط الغربي والشرقي.(25) وقد برزت عدة مذاهب مسيحية وطنية رافضة للهيمنة البيزنطية، مثل اليعقوبية في الشام، والنسطورية في العراق، والقبطية في مصر، والدوناتية في شمال افريقيا. وقد ظهرت شخصيات دينية شرقية كبرى، لعبت ادوارا حاسمة في تكوين المسيحية، مثل(اريوس الليبي الاسكندري) و(اوغسطين: الجزائر) و(انطوان المصري) مؤسس الرهبنة.

ـ ظهور (المانوية البابلية) في العراق ومؤسسها (ماني البابلي) اثناء الحكم الايراني. وكانت ديانة زهدية اشبه (بالصوفية)، واصبحت (السريانية) لغتها المقدسة. وقد انتشرت في انحاء العالم، من فرنسا الى الصين، ولازال اسمها حتى الآن في اللغات الاوربية (ماني كايزم: Manichaeism) من التسمية السريانية:(ماني حيا: ماني الحي). وايضا تركت وثائقا ( باللغة القبطية المصرية). ومن اشهر معتنقيها (اوغسطين: الفينقي الجزائري) الذي اصبح فيما بعد اول (فيلسوف مسيحي). في (الاحواز) تم صلب (ماني البابلي) على يد (الملك بهرام الفارسي) عام 272 م، بطلب من كهنة المجوس.(26)

ـ شيوع (الابجدية الكنعانية) من خلال(اللغة ألارامية) التي نطق بها (السيد المسيح) واصبحت لغة كنائس الشرق باسم(السريانية). لهذا فأنها انتشرت في انحاء العالم من الشام والعراق حتى ايران حتى الهند. وقد اصبحت (لغة الثقافة الاولى) في (الامبراطورية الساسانية الايرانية) التي كانت تحتل العراق والاحواز . كذلك برزت(اللغة القبطية) في (الكنيسة المصرية). مع استمرار(الفينقية) كلغة شعبية في شمال افريقيا بجانب لغات البربر.(27)

رابعاـ المرحلة العربية الاسلامية وتكوين اكبر امبراطورية وحضارة عربية عالمية

وكما وضحنا في دراسة سابقا، ان المسيحية الشرقية قد لعبت دورا ثقافيا دينيا تمهيديا لظهور الاسلام. فهو قد اتى كي ينجز ما (عجزت هذه المسيحية عنه)، اي تحرير (شعوب العالم العربي) من الاحتلال الاجنبي الطويل، وتوحيدهم روحيا وسياسيا. وليستعيدوا قواهم واستقلاليتهم ويحيّوا حضارتهم الشرقية السالفة. ثم يأخذوا دورهم التاريخي الذي حتمّه عليهم موقعهم الوسطي بين قارات العالم القديم. ان هذا يوضح سبب التقبّل السريع لـ(شعوب الشرق المسيحية) لهذا (الاسلام ولغته العربية) لانهم شعروا انه اتى ليكمل المرحلة التاريخية الكبرى المنتظرة مننذ 1200 عام.

وكانت بداية هذه المرحلة مع تأسيس (الامبراطورية الاموية: الشامية ـ المصرية)، وعاصمتها دمشق) التي نشرت جيوشها (دين الاسلام) من حدود فرنسا (الاندلس) الى حدود الصين(السند وتركستان). خلالها كان أول ظهور تاريخي لـ(الغة العربية) بصيغتها القرآنية الحالية، وشيوعها مع الاسلام.

ثم اعقبتها (الامبراطورية العباسية) ومقرها (العراق: بغداد) التي انجزت المرحلة الثانية المكملة: تكوين اعظم واسرع حضارة جديدة: (الحضارة العربية الاسلامية) الناطقة والمدونة بالعربية، في عموم العالم الاسلامي، وتحول (العربية) الى (لغة دينية وثقافية وابداعية) لجميع الشعوب المسلمة.

كذلك ظهرت في انحاء (العالم العربي) دول مستقل ساهمت بشكل فعال بنشر الحضارة العربية الاسلامية، مثل(الفاطمية) في بلدان المغرب ومصر والشام، و(الاندلسية) التي قادها سوية (العرب والبربر). بالاضافة الى مساهمة (الاكراد والترك والشركس مع العرب) في تأسيس دول عديدة في (الشام ومصر) مثل الطولونية والايوبية والمملوكية.

خلالها استمرت عملية استقرار (الجيوش والقبائل العربية) وتصاهرها وامتزاجها مع (شعوب العالم العربي الحالي) والتي كانت ناطقة بـ(لغات سامية حامية: آرامية وقبطية وفينقية وبربرية)، وتشيع بينها (العقيدة السماوية التوحيدية: الاسلام، وريث المسيحية السابقة).(28)

علما بأن هذه الشعوب كانت طيلة التاريخ مشتركة في البيئة والجغرافيا والتاريخ والتداخل الاقوامي. كل هذا سهّل (عملية التعريب) وتحول العربية الى (لغة اولى وحياتية) لهذه الشعوب. ثم تنامي الشعور بـ(هوية مشتركة: واقعية وثقافية ولغوية واقوامية ودينية ومصالحية)، بلغت ذروة تبلورها ووضوحها في العصر الحديث: (العالم العربي الحالي).

الجدير بالذكر، ان هذه (الحضارة العربية الاسلامية) هي بالحقيقة عملية احياء وتطوير، غير مقصودة، للحضارة الشرقية الاولى السابقة: (المصرية العراقية الكنعانية، مع قرطاجة واليمن). ثم انها كانت: (حضارة انسانية عالمية) حيث شاركت في صنعها، بالاضافة الى (شعوب العالم العربي الحالي مع الاندلس) الشعوب المسلمة في آسيا: ايران وافغانستان وتركستان والسند. يضاف الى ذلك، انها تقبّلت وتمكّنت من استيعاب وتطبيع (الحضارة اليونانية الرومانية) التي كانت مسيطرة على المنطقة قبل الفتح. لهذا فأن هذه (الحضارة العربية الاسلامية) بسبب انسانيتها وعالميتها، قد شكلّت طبيعيا الاساس الذي ساعد على ظهور(الحضارة الغربية الحالية).

خامساـ المرحلة شبه المظلمة: حيث الذبول الحضاري والثقافي، والخضوع لدول وسلالات اجنبية، بين حوالي (1300 و 1800)

وهي مشابهة الى حد بعيد لـ(المرحلة الثالثة) السابقة للاسلام، من الناحيتين الثقافية والسياسية. مثل اية حضارة، فأن الحضارة العربية الاسلامية ودولها قد اصابها الانهاك، بعد بضعة قرون من التوسع والازدهار. ومثل جميع الامبراطوريات في التاريخ القديم، فأن الشعوب البدوية المحاربة والجائعة هي التي تبدأ تنهش بها حتى تسقطها وتستولي عليها. هكذا فأن الكيانات العربية الاسلامية قد نهشتها جماعاتان من الشعوب البدائية المحاربة الجائعة: من الشمال الصليبون القادمون من اوربا الغربية، ومن الجنوب المغول:

تجلت حالة الانحطاط مع (سقوط بغداد: 1258) على يد المغول، وبلغت ذورتها بنهاية (الاندلس) وسقوط (غرناطة: 1492). في نفس الفترة بدأ (عصر النهضة الاوربية) وانطلاق الحملات الاستعمارية نحو (العالم العربي)، وبدأت باحتلال البرتغاليين لثغر سبتة المغربي عام 1413.

وقد تمكن(المغاربة) من تحقيق اول واكبر انتصار ضد الاوربيين في العصر الحديث: (معركة وادي المخازن: 1578) التي انهزم فيها الجيش البرتغالي وقّتل فيها ملكهم مع حاشيته.

وكان قيام (الدولة العثمانية: 1500) بأسم (حماية المسلمين: العالم العربي) من خطر اجتياحات دولة اوربا الغربية. وقد سيطر العثمانيون تقريبا على كل العالم العربي الحالي عدى(المغرب). علما بأن هذه (الدولة العثمانية) نشأت في مرحلة كساد حضاري عالمي، (عدى اوربا الغربية)، عاش خلالها العالم العربي التراجع الكبير على كل الاصعدة التعليمية والاجتماعية والتقنية.(29)

سادسا ـ المرحلة الحديثة بين (1800 وحتى الآن): وقد اتفق على بدايتها مع (الغزو الفرنسي لمصر والشام: 1798 ـ 1801)، ثم تأسيس (محمد علي باشا: حكم بين 1805 إلى 1848) الدولة المصرية التحديثية.

من المهم التذكير بالحقيقة المنسية التالية: ان مصر زمن (محمد علي باشا:)، قد بدأت النهضة قبل اليابان، وبدأت بتأسيس (شبه امبراطورية) تظم (الشام والسودان والحجاز واليمن) وبالتحالف مع (الامير اللبناني: بشير الشهابي)، لكن سرعان ما تم عقد (معاهدة لندن: 1840) بين الدول: (العثمانية والروسية والالمانية والبريطانية والنمساوية) واجبار ( محمد علي) على التراجع عن مشروع احياء (الامبراطورية العربية الاسلامية).(عاين شروط هذه المعاهدة الاستعمارية السارية حتى الآن:[30)

ثم تكرر نفس الامر في العراق زمن (المصلح داوود باشا: (حكم بين1817ـ 1831) الذي شرع بتقليد(محمد علي) وتأسيس دولة مستقلة، ثم مواجهة الامتيازات الفارسية والانكليزية. لكن سرعان ما حصل (توافق ايراني تركي انكليزي) لاسقاطه ونفيه الى (مكة) عام 1830. ولا زال هذا (الفيتو الغربي) لأية محاولة (احيائية عربية)، ساريا تطبيقيه حتى الآن، بتوافق غير معلن بين: (ايران) و(تركيا) و(اسرائيل) و(الغرب). ثم اكتمل الامر عندما منح الاستعمار الانكليزي(بلاد الاحواز) العراقية العربية، الى ايران عام 1925.

اما بالنسبة لامارات الخليج العربي وعمان، وكذلك اليمن، فقد عانت من الغزوات البرتغالية منذ اعوام 1500، ثم اعقبها بدء الاحتلال الانكليزي منذ 1820 وحتى اعوام الستينات.

خلال هذه الحقبة بدأ الاحتلال الفرنسي للجزائر(1830). ثم فرضت فرنسا حمايتها على (تونس) (1881-1956)، ثم على المغرب الأقصى (1912-1956 ). والاحتلال الفرنسي لموريتانيا (1891ـ 1958)، واحتلال ليبيا( 1911 ـ 1951) من قبل الايطاليين ثم الانكليز. بلغ الاجتياح الاستعماري الاوربي للعالم العربي ذروته مع (الحرب العالمية الاولى) ونهاية الدولة العثمانية، بالاحتلال الفرنسي البريطاني لبلدان الشام والعراق. والاستعمار الانكليزي لساحل الخليج العربي والكويت.

ولا زالت (اسرائيل) دليلا مستمرا على هذا الاستعمار الغربي. وفي الحقبة الاخيرة ونهاية المعسكر السوفيتي، حصل الهجوم الغربي(الديمقراطي التقدمي: باسم ثورات الربيع العربي؟؟!!) بعمليات اشعال الحروب الاهلية للانتقام من الدول التي عارضت السياسة الاستعمارية: الجزائر والعراق واليمن وليبيا وسوريا..

ـ ان المشكلة الاكبر التي تعيق عملية (الاحياء العربي) تتمثل بذلك(النهوض الثقافي المشوه) لانه (مهووس بالتقليد الحرفي للتحديث الغربي)، وما يصاحبه من احتقار للذات والميراث، ومشاعر الدونية ازاء كل ما هو غربي.

ولعل هنالك (تيار اصالي روحي واقعي) سيلعب دورا نهضويا فعالا اشبه بالدور الذي لعبته المسيحية الشرقية ثم الاسلام العر بي، لتحريرنا وبناء مرحلة حضارية جديدة.

***

سليم مطر ـ جنيف

.................................

ملاحظة: لمطالعة دراستنا هذه مع عشرات صور الخرائط وكذلك المصادر:

https://urlz.fr/s9t8

كذلك لمشاهدتها وسماعها في اليوتيب:

من اجل تدوين تاريخ جديد للعالم العربي_ سليم مطر (youtube.com)

المصادر

ملاحظة تذكيرية: لقد تعودنا في بحوثنا، الاستفادة من الامكانيات المعلوماتية المتوفرة في الانترنت، ذكر المصادر المتوفرة رقميا، بما فيها الكتب المنشورة pdf، كي يسهل على القاريء مطالعتها بسهولة، بدلا من المصادر الموجودة في كتب ورقية صعب جدا العثور عليها.

هوامش

[1] ـ للمعرفة الكافية عن مفهومنا لـ(العالم العربي والشعوب العربية)، معاينة دراساتنا العديدة حول هذا الموضوع والمنشورة في موقعنا: https://www.salim.mesopot.com/

ـ عن فهمنا لـ(ماهية الشعوب العربية الحالية)، طالع دراستنا:

دور الجغرافيا والتاريخ في انتشار العرب والتعريب واللغة العربية! لماذا يصح اعتبار ظهور العرب ولغتهم ودينهم، خلاصة تراكم آلاف الاعوام من تمازج الاقوام والأديان واللغات السامية ـ الحامية؟

[2] ـ عن تشكل القوميات، طالع في موقعنا دراستنا:

كيف تكونت القوميات والشعوب؟ امثلة: الانگليز والفرنسيين والروس والصين والفُرس! سليم مطر

ان دراستنا هذه تتمة لسلسلة دراسات تشكل بالحقيقة فصولا من كتابنا القادم عن (تاريخ العالم العربي). لهذا يمكن فهمها اكثر ومعرفة تفاصيلها ومصادرها، بمعاينة الدارسات السابقة لها، والموجودة كلها في موقعنا: https://www.salim.mesopot.com/

ومنها هذه العناوين:

ـ الإسلام والعربية، ليسا نتاج السماء والصحراء، قدرما نتاج 1500 عام من الإنجازات: اللغة الآرامية، ثم اليهودية، ثم المسيحية، ثم الإسلام والعربية

ـ دور الجغرافيا والتاريخ في انتشار العرب والتعريب واللغة العربية! لماذا يصح اعتبار ظهور العرب ولغتهم ودينهم، خلاصة تراكم آلاف الاعوام من تمازج الاقوام والأديان واللغات السامية ـ الحامية؟

[3] ـ ان ثنائية التاريخين العرقي والوطني، تنطبق على غالبية الشعوب والبلدان، فمثلا: بعض القوميين الاتراك يسردون تاريخ (تركيا) بالاعتماد فقط على (تاريخ العرقية التركية) التي نزحت قبائلها من آسيا الوسطى اثناء الدولة العباسية، وبدأت استيطان (الاناضول) ومحاربة البيزنطيين المسيحيين، ثم تكوينها الدولة العثمانية حوالي عام 1500. مع اهمال تاريخ(ارض تركيا: الاناضول) التي تشكلت فيها(الدولة الحيثية: حوالي 1500 ق.م)، ثم الحقبة اليونانية والرومانية، حتى تكوين(الامبراطورية البيزنطية المسيحية) التي كانت(اسطنبول) عاصمتها لحوالي الف عام، حتى سقوطها على يد الاتراك العثمانيين.

[4] ـ لمن يرغب ولتسهيل الامر، يمكن البحث عن العناوين التالية في الانترنت وخصوصا في ويكبيديا، العربية والانكليزية والفرنسية:

تاريخ الشرق الأوسط: History of the Middle East

تاريخ أوروبا: History of Europe

تاريخ البلقان: History of the Balkans

شبه القارة الهندية او جنوب آسيا: South Asia/Indian subcontinent

الهند الصينية: / Indochina

أمريكا الشمالية: North America

أمريكا اللاتينية: History of Latin America

أوروبا الشرقية: History of Eastern Europe

اوربا الغربية: history of west europe

[5] ـ عن العرب:

تاريخ العالم العربي/ الوطن العربي/ Arab world

تاريخ العرب/ History of the Arabs

تاريخ شمال إفريقيا/ History of North Africa

الهلال الخصيب/ Fertile Crescent

كذلك هذه الكتب العربية الموجودة للقراءة والتحميل مجانا:

تكتاب تاريخ الشعوب العربية/ألبرت حوراني

تاريخ الدولة العربية/ عبد العزيز سالم

تاريخ الدول العربية/ نبيلة حسن

تاريخ الدول العربية/ يوليوس فلهوزن

التأريخ العربي وتاريخ العرب/ مجموعة مؤلفين

الوطن العربي.. النواة والامتدادات عبر التاريخ/: عدد من المؤلفين

قصة وتاريخ الحضارات العربية/ مجموعة مؤلفين. وهو باجزاء عديدة، لكل بلد عربي كتاب خاص به. أي انه عجز عن كتابة تاريخ جامع وشامل يبدأ من فجر البشرية؟؟!!

History of the Middle East

[6] ـ طالع مثلا درااستنا عن عنصرية بعض البربر: البربر(الامازيغ)، ومشكلة(العنصرية الجينوية)!؟ سليم مطر

[7] ـ لمعرفة ماهية الهوية الجامعة بين الشعوب العربية، طالع دراستنا:

عن اشكالية تسمية: (عرب) و(الهوية العربية الجامعة):هاهي مقارنة مع (مجموعات)، تحمل كل منها اسما لهوية مشتركة: افريقيا السوداء، الهنود، الترك، الأمريك لاتين، الاوربيون!

[8] ـ ابحث عن دراستنا: دور الجغرافيا والتاريخ في انتشار العرب والتعريب واللغة العربية! لماذا يصح اعتبار ظهور العرب ولغتهم ودينهم، خلاصة تراكم آلاف الاعوام من تمازج الاقوام والأديان واللغات السامية ـ الحامية؟/ سليم مطر

[9] ـ ابحث عن عنوان: جينات المصريين القدماء أقرب لشعوب الشرق الأوسط من أفريقيا

ـ كذلك: إنسان تافوغالت: المغرب/ ـ أقدم سكان للمغرب العربي "شمال افريقيا" هم عرب من بلاد الشام/ ـ علم الجينات يهدم خرافة الأمازيغية والعرق النقي

Pleistocene North African genomes link Near Eastern and sub-Saharan African human populations

ـ عن الجينات، طالع دراستنا: مكتشفات جينـات الشعـوب، ونهايـــة اوهــام النقـــاء القومـــي العرقــــي! سابم مطر

كذلك:

-List of Y-chromosome haplogroups in populations of the worldـ

-Haplogroupes chromosome Y par populations

[10] ـ لفهم ما نقصده بـ(العالم العربي) خارج المعنى العرقي، طالع دراستنا:

ـ عشرة الاف عام من تاريخ العلاقات بين العالمين العربي والاوربي/ سليم مطر

[11] ـ ان( تاريخ وجود الانسان العاقل) اشكالية معقدة، لانه حتى الآن غير متفق عليه من قبل المختصين، لا من ناحية التواريخ التي تعود الى مئات الآلاف من السنين، ولا المكان حيث كل مرة يتم اكتشاف عظمة في بلد معين حتى تتغير جميع فرضيات الاصل. كذلك فرضية الاصل الافريقي غير متفق عليها. كذلك فرضية وجود انسان شبه قردي(نيادرتال) قابلة للنقاش بسبب ثبوت انه كان لا يقل ذكاءا عن ما يسمى بـ(الانسان العاقل).. نحن مع الدراسات الحديثة التي تعارض النظرتين السائدتين اللتين تخدمان (نظرية دارون) عن الاصل القردي للبشر. ابحث عن العناوين التالية:

ـ معلومات جديدة عن أصل إنسان نياندرتال ودينيسوفان

ـ إنسان (نياندرتال) من بني آدم ولا علاقة لوجوده بنظرية التطور

ـ كذلك ابحث عن : نظرية الخروج من إفريقيا /Recent African origin of modern humans

[12] ـ ابحث عن: تاريخ التمدن: the hystoti of urbanization

[13] ـ ابحث عن: التسلسل الزمني للاختراعات التاريخية: Timeline of historic inventions

[14] ـ حول تاريخ الكتابة هنالك اشكال مهم يتجوب الانتباه له: هنالك فرق كبيرجدا بين (الكتابة المدونة) مثلما في مصر والعراق في ملايين الوثائق والالواح وفيها مختلف المعارف في ذلك العصر، مقارنة ب(النقوش والرسوم) التي يُعتقد ربما انها تشير الى معاني معينة، لكن لم يتم فكها، ومحدودة الوجود منتثرة في صحون وعظام وحيطان وغيرها، ويطلق عليها: (ماقبل الكتابة أي شبه الكتابة: proto-writing) مثل السندية والكريتية والصينية الاولى، وهنود امريكا: Mesoamerica، وهي اقرب الى النقوش التجميلية الغامضة وغير المؤكدة بمعانيها.

اما (الكتابة الصينية) الطبيعية فقد ظهرت حوالي 1300 ق.م . ابحث عن: (الخط الصيني: Chinese characters) والكتابة اليونانية حوالي 800 ق.م وبعدها بقرون الكتابة التروسكية واللاتينية.

[15] ـ ان الكتابة المسمارية استمرت طيلة 3000 عام حتى بعد سقوط بابل، ومن (سومر: جنوب العراق) اصبحت هي الكتابة السائدة في عموم الشرق الاوسط، وقد تبناها الحيثيون في الاناضول وكذالك الايرانيون، قبل تبني الكتابة الآرامية العراقية.

ـ لا ندري لماذا نستمر حتى ألآن باستخدام (اليونانية) بتسمية انواع الكتابة المصرية: الهيروغلوفية، الهيراطيقية، الديموطيقية. لهذا فضلنا نحن اطلاق تسمية مناسبة (الرسومية) والقريبة لمعنى(التصويرية).

[17] ـ ـ في هذه الحقبة برز (اسلاف اكراد العراق وسوريا)، أي (سكان منحدرات الجبال) المطلة على (وادي النهرين)، مثل: ( الغوتيون: 2215 ق.م) الذين حكموا (سومر)، و(الكاشيون: 1600ـ 1155 ق.م ) الذين حكموا (بابل)، ثم (الحوريون الميتانيون: 1500 ـ 1300 ق. م) الذين حكموا شمال النهرين وسوريا. علما بأن جميع هؤلاء، كانوا جزءا من سكان النهرين وتبنوّا نفس اللغة والثقافة والديانة السومرية والاكدية واستمروا بنفس (الحضارة النهرينية)، ولم يتركوا أي آثار ثقافية وكتابية مختلفة تميزهم سوى اسمائهم.

ابحث عن دراستينا:

ـ اكراد النهرين : العراق وسوريا، ومراحل تاريخهم الخمس، منذ السومريين وحتى الآن

ـ أكراد العراق وسوريا، واصولهم المشتركة مع سكان البلدين منذ فجر التاريخ وحتى الآن

[18] ـ هنالك فرق بالمستوى بين(الثقافة) و(الحضارة)، اشبه بالفرق مثلا بين (المستوى الابتدائي) و(الشهادة الجامعية). جميع (البشر) افراد وجماعات وشعوب، لهم(ثقافة: لغة ومعتقد وتقاليد)، ولكن هنالك (دول وامبراطوريات) لم تصنع(حضارة)، مثال معروف دول(المغول) و(ايران) و(العثمانيين) و(الفرنج) وغيرها، لانها عاشت على (حضارات) اخرى. ابحث عن دراستنا:

ـ ماهي الحضارة، وما فرقها عن الثقافة؟ هل نحن مقبلون على (حضارة عالمية جديدة)؟ سليم مطر

[19]ـ ابحث عن دراستنا: الإسلام والعربية، ليسا نتاج السماء والصحراء، قدرما نتاج 1500 عام من الإنجازات: اللغة الآرامية، ثم اليهودية، ثم المسيحية، ثم الإسلام والعربية/ سليم مطر

[20] ـ هنالك خلط في معنى(مملكة ومشيخة) لان: ملك(ملخا)، في الآرامي، تعني شيخ او امير.

[21] ـ (ربما!) يكون(الحيثيون: 1600 ق.م) في (الاناضول: تركيا) من اوائل هذه الموجة الجديدة من القبائل الآرية. فهنالك جدال حول اذا كانت لغتهم حقا (آرية).

[22] ـ ابحث عن دراسات: انتشار اللغة الفينيقية في الشمال الإفريقي القديم وعلاقتها باللغة اللوبية

كذلك: الشمال الإفريقي القديم؛ اللغة الفينيقية؛ اللغة اللوبية؛ اللغة البونية؛ اللوبيون.

[23] ـ عن (الفترة اليونانية الشرقية)، التي اطلق عليها الاوربيون في العصر الحديث تسمية(عنصرية) تنفي عنها الدور الشرقي: (الفنرة الهلنستية: ). طالع : The great centers of Hellenistic culture were Alexandria and Antioch

[24] ـ ليس هنالك شواهد واضحة عن تأثير اديان الصين والهند: البوذية والهندوسية والتاوية، في هذا العصر. هنالك اشارة مهمة تركها أبو الكنيسة الأولى إكليمندس الإسكندري : توفي عام 215م) تدل على علمه بالبوذية إذ كتب في مؤلَف البُسُ: (الكتاب الأول، الفصل الخامس عشر): «هناك عدد من الفلاسفة العراة (gymnosophists) الهنود أيضًا، وغيرهم من الفلاسفة البربريين. وينقسم هؤلاء إلى فئتين، يدعى بعضهم بالسمنية وبعضهم بالبراهمة. وهناك من السمنية من يدعون بالهيلوبي «Hylobii»، لا يسكنون مدنًا ولا يعيشون تحت أسقُف، بل يلبسون لحاء الأشجار، ويعيشون على المكسرات، ويشربون الماء بكفوف أيديهم. وكما من يُدعَون بالإنكراتيين في يومنا هذا، لا يتخذون زوجة ولا ولدًا. بعض الهنديين أيضًا ينصاعون لتعاليم بوذا، الذي رفعوه إلى مراتب الألوهية جرّاء قداسته غير العادية».

ـ (المانوية البابلية ألآرامية) تبقى التعبير الوحيد عن تأثير البوذية في الشرق، حيث تبنت (تناسخ الارواح) البوذية ممتزجة بـ(العرفانية والمسيحية).

ـ بالنسبة للاسلام، ابحث عن: العلاقة بين البوذية والصوفية: دكتور ألكسندر بيرزين/ كذلك: علاقة الصوفية بالديانة الهندوكية!

[25] ـ علماء الإسكندرية في الكشف عن طبيعة الكون وتوصلوا إلى فهم الكثير من القوى الطبيعية. ودرسوا الفيزياء والفلك والجغرافيا والهندسة والرياضيات والتاريخ الطبيعى والطب والفلسفة والأدب. ومن بين هؤلاء الأساطين إقليدس عالم الهندسة الذي تتلمذ على يديه أعظم الرياضيين مثل أرشميدس وأبولونيوس وهيروفيلوس في علم الطب والتشريح وإراسيستراتوس في علم الجراحة وجالينوس في الصيدلة وإريستاكوس في علم الفلك وإراتوستينس في علم الجغرافيا وثيوفراستوس في علم النبات وكليماكوس وثيوكريتوس في الشعر والأدب فيلون وأفلاطون في الفلسفة وعشرات غيرهم أثروا الفكر الإنساني بالعالم القديم.

[26] ـ عن المانوية، ابحث عن دراستنا: المانوية البابلية.. أساس التصوف العراقي/ سليم مطر

[27] ـ نفس المصدر رقم (21)

[28] ـ ابحث عن دراستنا: كيف تكون (العالم العربي) الحالي: بـ(التعريب القمعي)، ام بـ(الجغرافية والتاريخ)؟

[29] ـ من المهم التنبيه الى مغالات الفكرة السائدة عن ان سبب (تخلف العالم العربي) في هذه المرحلة يتحمله (الاتراك العثمانيون)، وهذه التهمة تتجاهل الامور التالية:

ـ ان أتراك آسيا الوسطى، مثل الفرس والافغان وغيرهم، قد ساهموا بصورة فعالة في الحضارة العربية الاسلامية، بالقاب معروفة مثل: البخاري والفارابي والترمذي، والعديد العديد.

ـ ان الدولة البيزنطية التي ورثها العثمانيون لم تكن اكثر تطورا منهم.

ـ ان الدولة الايرانية الشيعية (الصفوية ثم القاجارية) لم تكن افضل حالا من العثمانيين.

ـ ان الثورة التحديثية (ابتداءا من 1500) سادت في اوربا الغربية وامريكا وحدها، لم تنتشر حتى في اوربا الشرقية، ولا في امريكا الجنوبية ولا الصين ولا الهند، باستثناء تقريبي في اليابان وروسيا.

[30] ـ لاحظ رغم العداء التاريخي بين الدولة العثمانية والدول الاوربية، الا انها دافعت عنها بوجه تنامي القوة المصرية، لانها تعني(عودة القوة العربية). وهذه أبرز شروط معاهدة لندن 1840 :

1. أن يُعطى محمد علي، وخلفاؤه من بعده، حكم مصر وراثياً. ويكون لمحمد علي مدة حياته فقط حكم جنوب سورية (فلسطين)، وإخلاء جزيرة كريت والحجاز وأدنة، مع إعادة الأسطول العثماني.

2. إذا لم يقبل هذا القرار، في مدة عشرة أيام، يُحرم حكم ولاية عكا (فلسطين). وإذا استمر رفضه، مدة عشرة أيام أخرى، يُصبح السلطان العثماني في حل من حرمانه ولاية مصر.

3. يدفع محمد علي جزية سنوية إلى السلطان، تناهز 400 ألف جنيه.

4. أن يلتزم محمد علي تطبيق المعاهدات كافة، التي أبرمتها السلطنة مع الدول الأوروبية، وفي مقدمتها معاهدة "بلطة ليمان".

5. أن تُعَد قوات محمد علي: البرية والبحرية، جزءاً من قوات السلطنة. وتكون في خدمة السلطان.

6. إذا رفض محمد علي هذه الشروط، يلجأ الحلفاء الموقعون على المعاهدة إلى استخدام القوة ضده، مع التزامهم حماية عرش السلطان العثماني.

7. إنقاص عدد الجيش المصري إلى 18 ألف جندي. وتعيين رؤسائه بواسطة الدولة. وعدم تخويل الوالي حق إنشاء السفن الحربية، إلا بعد الحصول على إذن صريح من الدولة.

الموقعون على المعاهدة: الدولة العثمانية ـ روسيا ـ إنجلترا ـ النمسا ـ بروسيا

التجربة الفنلندية

فنلندا، الواقعة في شمال اوروبا، احدى الدول الاسكندنافية عاصمتها هلسنكي. تتميز بجمال طبيعتها الخلابة وكثرة بحيراتها وغاباتها. تعرف فنلندا ايضا بثقافتها الغنية وتاريخها العريق، بالاضافة الى كونها واحدة من اكثر الدول استقرارا وازدهارا في العالم.

فنلندا، بلد غني بالإصلاحات الفكرية والتعليمية على مر السنين الماضية، اختبرت عددا من التغييرات الجديدة والبسيطة التي احدثت ثورة كاملة في نظامها التعليمي. انها اليوم تتصدر تقيمات الاداء التعليمي العالمية.

تقود فنلندا الطريق بسبب الممارسات الطبيعية السليمة وبيئة التدريس الشاملة التي تسعى جاهدة لتحقيق المساواة وتفضيلها على التميز.

فيما يلي بعض الاختلافات عن الانظمة التعليمية الاخرى وألاسباب التي قد تكمن وراء تفوق النظام الفنلندي على الساحة العالمية.

معايير عالية للمعلمين

في فنلندا، تم تحديد معايير عالية جدا للمعلمين، مما يجعل نظام التعليم الفنلندي متميزا على مستوى العالم. لا يوجد نظام "درجات" صارم للمعلمين، حيث يعتمد على الثقة والاحترافية بدلا من المساءلة الصارمة. في الواقع، لا توجد كلمة تشير إلى "المساءلة" في نظام التعليم، حيث يعتبر ان المساءلة تأتي بشكل طبيعي بعد تحمل المسؤولية. يجب على جميع المعلمين في المدارس الابتدائية والثانوية في فنلندا الحصول على درجة الماجستير قبل دخول المهنة، مما يضمن مستوى عال من الكفاءة والمعرفة. ويتلقى المعلمون تدريبا مكثفا يشمل الجوانب النظرية والعملية لتحسين العملية التعليمية باستمرار. مهنة التدريس تعتبر من اكثر المهن صرامة وانتقائية وأهمية في البلد بأكمله، حيث يتم اختيار المعلمين بعناية فائقة لضمان تقديم أفضل تعليم ممكن للطلاب. هذا التركيز على الجودة والاحترافية ساهم في تحقيق نتائج تعليمية متميزة وعزز مكانة فنلندة كواحدة من افضل الدول في التعليم.

لا يوجد امتحان موحد

الامتحان الموحد هو الطريقة الشاملة التي يتم بها اختبار الطلبة لمعرفة درجة فهم المواد الدراسية. من المفترض أن تكون الإجابة على الأسئلة الجاهزة بطريقة ما وسيلة لتحديد اتقان او على الأقل الكفاءة في موضوع ما. ما يحدث غالبا هو أن الطلاب يتعلمون الحفظ فقط لاجتياز الامتحان ويقوم المعلمون بالتدريس لغرض وحيد هو تمكين الطلاب من اجتياز الامتحان.

لا يوجد في فنلندا امتحانات موحدة من هذا القبيل. استثناءهم الوحيد هو امتحان شهادة الثانوية العامة الوطني، وهو امتحان تطوعي للطلاب في نهاية المدرسة الثانوية العليا. يصنف جميع الطلاب في جميع انحاء فنلندا على اساس فردي ويتم تعيين نظام الدرجات من قبل معلمهم. ويتم تتبع التقدم الاجمالي من قبل وزارة التربية والتعليم، والتي تعتمد على دراسة عينات من مجموعات عبر مستويات مختلفة من الطلاب والمدارس.

ومن الاسباب والاثار الايجابية لهذا النهج تطوير مهارات التقييم الذاتي مما يساعد على فهم نقاط قوة وضعف الطلاب والعمل على تحسينها بشكل مستمر. ويتم تقييم الطلاب بناء على قدراتهم الفردية، مما يعني ان كل طالب يتعلم وفقا لسرعته الخاصة. كما ان عدم وجود امتحانات موحدة يقلل من الضغط النفسي على الطلاب، مما يخلق بيئة تعليمية اكثر استرخاء وايجابية ويساعد الطلاب على التركيز على التعلم بدلا من القلق بشأن الامتحانات.

التعاون لا المنافسة

بينما يرى معظم التربويين في العالم النظام التعليمي على أنه نظام يعتمد على المنافسة بدرجة كبيرة، يرى الفنلنديون الأمر بشكل مختلف. هناك قول مأثور: "الفائزون الحقيقيون لا يتنافسون" يعكس فلسفة التعليم الفنلندية التي تركز على التعاون والتعلم الجماعي بدلا من التنافس الفردي. في هذا السياق يعتبر النجاح الحقيقي هو القدرة على التعلم والتطور بشكل مستمر، وليس مجرد التفوق على الاخرين في الامتحانات.

ومن المفارقات ان هذه السياسات وضعت فنلندة على رأس المجموعة الدولية. لا يقلق النظام التعليمي في فنلندا بشأن الأنظمة القائمة على الجدارة، ولا توجد قوائم للمدارس أو المعلمين الأفضل اداء ولا توجد جوائز او مكافئات لهم. انها ليست بيئة تنافسية - بدلا من ذلك، التعاون هو القاعدة.

جعل الأساسيات أولوية

تهتم العديد من الأنظمة المدرسية بزيادة درجات الامتحان والفهم في الرياضيات والعلوم واللغات، وتميل الى نسيان ما يشكل بيئة تعليمية غير مملة ومتناغمة وصحية. قبل سنوات عديدة ركز البرنامج الذي وضعته فنلندا على الأساسيات. لم يكن الأمر يتعلق باهمية الحصول على درجات ممتازة. بدلا من ذلك، سعوا الى جعل البيئة المدرسية مكانا أكثر انصافا واستمتاعا. ومنذ الثمانينيات ركز النظام التعليمي الفنلندي على جعل الأساسيات التالية اولوية:

- يجب ان يكون التعليم اداة لتحقيق المساواة الاجتماعية

- يحصل جميع الطلاب على وجبات مدرسية مجانية

- سهولة الحصول على الرعاية الصحية

- الارشاد النفسي

- التوجيه الفردي

بدء المدرسة في سن أكبر

هنا بدأ الفنلنديون مرة اخرى بتغيير التفاصيل المعتادة في الدول الاخرى. يبدأ الطلاب في الالتحاق بالمدرسة عند بلغوهم سن السابعة، حيث تمنح لهم الحرية خلال سنوات الطفولة المبكرة دون قيود التعليم الالزامي. هذا النهج يهدف الى السماح للأطفال بأن يعيشوا طفولتهم بشكل كامل. التعليم الالزامي في فنلندا يستمر لمدة تسع سنوات فقط، وبعد الصف التاسع او عند بلوغ سن 16، يصبح التعليم اختياريا.

توفير خيارات مهنية بعد شهادة جامعية تقليدية

في فنلندا، يتم حل معضلة المعدلات واختيار الكليات من خلال توفير خيارات تعليمية متساوية القيمة للطلاب لمواصلة تعليمهم. لا يوجد تمييز كبير بين خريجي الجامعات وخريجي المدارس التجارية والمهنية، حيث يمكن لكلا المسارين أن يكونا مهنيين ومقبوليين بنفس القدر.

في فنلندا، توجد المدرسة الثانوية العليا، وهي برنامج مدته ثلاث سنوات يعد الطلاب لامتحان شهادة الثانوية العامة الذي يحدد قبولهم في الجامعة. يعتمد هذا القبول عادة على التخصصات والخبرة التي اكتسبوها خلال فترة وجودهم في المدرسة الثانوية. بالاضافة إلى ذلك، هناك التعليم المهني، وهو برنامج مدته ثلاث سنوات ايضا، يقوم بتدريب الطلاب على مختلف المهن. طلاب هذا البرنامج لديهم خيار إجراء امتحان شهادة الثانوية العامة اذا كانوا يرغبون في التقدم الى الجامعة بعد ذلك.

اوقات دراسية مريحة تعزز التفكير النقدي

في فنلندا، يقضي الطلاب ايامهم الدراسية في بيئة تشجع على التفكير النقدي والتحليلي. يبدأ اليوم الدراسي عادة بين الساعة 9:00 و9:45 صباحا، حيث اظهرت الأبحاث ان البدء المبكر يؤثر سلبا على رفاهية الطلاب وصحتهم ونضجهم. لذلك، تبدأ المدارس الفنلندية اليوم في وقت لاحق وتنتهي عادة بين الساعة 2:00 و2:45 بعد الظهر.

بدلا من الاعتماد على نظام حشو المعلومات او التلقين، تركز المدارس الفنلندية على توفير بيئة تعليمية شاملة. يتم تشجيع الطلاب على التفكير النقدي والتحليلي، مما يساعدهم على تطوير مهارات حل المشكلات والتفكير المستقل. هذا النهج يعزز من قدرة الطلاب على فهم المواد الدراسية بعمق وتطبيقها في حياتهم اليومية، بدلا من مجرد حفظ المعلومات.

بيئة تعليمية داعمة وشخصية

في المدارس الفنلندية، يكون عدد المعلمين والطلاب في كل مدرسة قليلا نسبيا، مما يجعل الفصول الدراسية تضم عددا اقل من الطلاب. غالبا ما يبقى الطلاب مع نفس المعلم لمدة تصل الى ست سنوات، مما يسمح للمعلم بأن يصبح مرشدا لهم. خلال هذه الفترة، تتطور الثقة والعلاقة المتبادلة بين المعلم والطلاب، مما يؤدي الى فهم واحترام متبادل.

نظرا لاختلاف احتياجات واساليب التعلم لكل طالب، يتم تقديم الرعاية والاهتمام بشكل فردي. يستطيع المعلمون في فنلندا تحديد احتياجات كل طالب بدقة، مما يمكنهم من التخطيط بعناية لمساعدة الطلاب على تحقيق اهدافهم التعليمية.

جو دراسي اكثر استرخاء

في فنلندا، هناك توجه عام نحو تقليل الاجهاد والتنظيم في المدارس، مع التركيز على توفير بيئة أكثر رعاية. عادة ما يكون لدى الطلاب فصلين فقط في اليوم، مع فترات متعددة لتناول الطعام والاستمتاع بالأنشطة الترفيهية والاسترخاء. تتخلل اليوم فترات قصيرة تتراوح بين 15 إلى 20 دقيقة، حيث يمكن للأطفال النهوض والتمدد والاستمتاع بالهواء النقي وتخفيف الضغط.

هذه البيئة ليست مخصصة للطلاب فقط، بل يحتاجها المعلمون ايضا. توجد غرف مخصصة للمعلمين في جميع أنحاء المدارس الفنلندية، حيث يمكنهم الاسترخاء والاستعداد لليوم او التفاعل مع زملائهم. الراحة ضرورية للمعلمين ليتمكنوا من أداء وظائفهم بأفضل ما لديهم.

واجبات منزلية أقل

وفقا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، لدى الطلاب في فنلندا اقل قدر من العمل الخارجي والواجبات المنزلية مقارنة بأي طالب اخر في العالم. انهم يقضون نصف ساعة فقط في اليوم في العمل على واجبات من المدرسة. ومع ذلك، فأنهم يتفوقون في الأداء على طلبة البلدان التي لديها ساعات طويلة من الدراسة ما بين المدرسة والمنزل.

يحصل الطلاب الفنلنديون على كل ما يحتاجون اليه لانجازه في المدرسة دون الضغوط الاضافية التي تأتي مع التفوق في مادة ما ودون الحاجة الى القلق بشأن الدرجات والعمل المزدحم، ويمكنهم التركيز على المهمة الحقيقية - التعلم والنمو كأنسان طبيعي.

الخلاصة

يتميز نظام التعليم في فنلندا بعدة ايجابيات، منها التركيز على رفاهية الطلاب والمعلمين، والاعتماد على الاستقلالية في التدريس، وتوفير بيئة تعليمية داعمة ومريحة.  التعليم مجاني في جميع المراحل، مما يضمن تكافؤ الفرص للجميع. كما ان النظام يشجع على التعلم الذاتي والتفكير النقدي ويقلل من الضغط النفسي على الطلاب من خلال تقليل الواجبات المنزلية والامتحانات. في نظام التعليم الفنلندي، يعتبر تقليل التنافسية ايجابيا لأنه يعزز التعاون بين الطلاب ويقلل من الضغط النفسي، بينما في الأنظمة التعليمية الأخرى، ينظرالى انخفاض التنافسية كعامل سلبي لأنه قد يقلل من الدافع الشخصي لتحقيق اداء افضل.

بشكل عام، يوفر النظام التعليمي في فنلندا بيئة تعليمية مريحة وداعمة، لكنه يواجه بعض التحديات التي تحتاج الى معالجة لتحقيق افضل النتائج الممكنة.

***

ا. د. محمد الربيعي

*  بروفيسور متمرس في جامعة دبلن

...................................

مقالات سابقة في هذه السلسلة:

1) التجربة البريطانية:

  https://almadapaper.net/364910 

2) التجربة الصينية:

   https://almadapaper.net/373065

3) التجربة الكورية:

https://almadapaper.net/374432

4) التجربة السنغافورية:

https://almadapaper.net/375856

ـ هل تنطق ارض الازدواج لماذا ومتى وكيف؟

تبدا المجتمعية والقانون الناظم لسيرورتها التصيرية، ومالاتها، خارج الادراكية الاعقالية المتوفرة والمتاحة للعقل ضمن شروط وثبته الاولى، لتنتهي وقد صار بلوغها ممكنا من دون اشتراطات واضحه وبينه لدرجة الحسم، مايجعل من الانتقالية الادراكية العقلية "معركة" راهنة كبرى، تحف بها وتعتورها اثقال وزحمه مفاهيم وتصورات الطور الاول اليدوي الارضوي بكل تاريخها واسباب رسوخيتها، وتمكنها من العقل، ومع ان هذه الاخيرة تكون قد فقدت الى حد بعيد وباطراد موجباتها، والاسانيد المعاشىة التي تبرر استمرارها، الاان الاعتياد والمصالح الذاتيه وتضخمها، والتوقف عجزا دون مايتطلبة الحال من وثوب عقلي، وانتفاء القدرة على تلمس معالم البديل، تستمر فاعلة، مايضع العالم من يومها كما هو حاصل اليوم، امام حالة غير مسبوقة في التاريخ، تلعب فيها متبقيات الايهامية الغربية المتاخرة فاقدة الصلاحية بالذات دورا تكراريا بداهيا اساسيا، مع ان مبررات ومصدقات هذا الطور من التفكرية والنموذجية قد دخل منذ فترة غير قصيرة، طور الخروج من دائرة الواقع والفعل فيه، مع تراجع النموذجية الغربية الاولى الاوربية، وصعود وتمكن الكيانيه المفقسة خارج رحم التاريخ، الامبراطورية الامريكية كممثل للغرب في الطور الالي الثاني مابعد المصنعي، الايل للانتهاء هو ايضا لصالح الطور التكنولوجي العقلي.

ولا يدخل في اسباب صعوبة اختراق الرؤية التحولية اللاارضوية فقط، ثقل وضخامة الاسباب المكرسه لماقبل، فالنوع هنا يلعب الدور الرئيسي في جعل موضوعاته واليات تحققه صعبة القبول، ومما لايدخل في باب الاحتمالية او الممكن، كمثل التجرؤ على القول بان موضعا مثل مايعرف اليوم بالعراق ( ارض مابين النهرين)، يمكن ان يكون بؤرة ومنطلق التحولية والانقلاب الكوني المنتظر، على صغر حجم المكان المقصود، وتضاؤل ممكناته المادية ومامتوفر له، خصوصا بعد السحق الذي تلقاه على يد الامبريالية المفقسة خارج رحم التاريخ على الصعد الحياتيه كافة، ووقوعه من ثم خارج ارادته، لصالح الاحتلالات الظاهرة والمبطنه، بما يجعله بالاحرى واليوم، اقرب واقعا وكما هو منظور ومتصور لاي متفحص، الى الانمحاء الذاتي، والى الفناء الفعلي الكياني، وعلى مستوى التنظيم او النموذجية المجتمعية وبالاخص المطموح او المطلوب، الامر الغائب من اللوحة كليا حتى من قبل متبقيات ماكان فاعلا توهميا من نوع تيارات الايديلوجيات المحتضرة.

ليس ثمة من"عراق" اليوم كمفهوم محدد عن كينونة بذاتها"وطنيا" لدى اي كان من سكان العراق، وبالتحديد لدى "الحثالة الريعيه" المتصدرة للمشهد، ومايعد من قبيل الحكم بعدا انتقل الريع منذ ان احتل موقعه الفاصل في تعزيز وجود الحكم منذ 1968 على يد البعث البراني اولا، يوم صار مايعرف بالدولة العليا مرتكزة شرطا" للريع النفطي" بعد ما كانت، و منذ دخول هولاكو الى بغداد عام 1258 الى حينه، حكما برانيا من خارج البلاد مرتكزة العاصمة الامبراطورية المنهارة فاقدة الاليات التشكلية، ليتحول اليوم وبعد السحق التدميري الامريكي الى "حثالية ريعيه" بلا مفهوم ولارؤية، ولااي مرتكز نموذجي للدولة، ولنتخيل لو ان النفط اختفى اليوم من اللوحة، بينما العراق يفقد نهريه ليصبح "عراق مابعد النهرين" بعدما كان عراق مابين النهرين، ليحل هناعصر مابعد الزراعة النهرية التاريخيه التكوينيه،بينما يتراكم مالايحصى من اسبا ب الانهيار والتدمير المتصل وقعا واثرا ابتداء من 1980 / 1988 مع الحرب العراقية الايرانيه، اطول حرب بين دولتين بعد الحرب العالمية الثانيه، وماتبعها الى اليوم من حروب كونية واحتراب داخلي، التفجيرات الجنونية منها اخذت عددا من الخسائر البشرية يساوي حصيلة حرب بين دوليتين، الى داعش ... الخ الى الانهيار الكلي النموذجي المفهومي المتفاقم، والذاهب الى المجهول المرعب .

وسط هذا كله يظل الاكثر وطاة غياب اي تصور عن احتمالية مستقبلية، فاذا اعتبر من باب الاعتياد ان العراق "دولة " و"كيانيه" بحدود معلومة، وربما "ليبرالي ديمقراطي بدولة مدنيه" افتراضا على نسق الغرب ونموذجه الميت، والانكى الابعد،قول بعضهم مايزالون بما يسمى "صراع الطبقات والتحول الاشتراكي!!!!"، فان العجز المطلق والمثير بظل نوع الظروف المعاشة للاشمئزاز المختلط بالالم وعميق الحزن القاتل الذي لايوصف، وسط مشهد من التردي والعيش ضمن آليات الفناء والانحدارية المهينة للوجود وللتاريخ، في موضع البدئية التاريخيه والكيانيه الكونية الامبراطورية اللاااضوية الا براهيمه الاولى، وبؤرة الحياة وسيرورتها في الميادين كافة، وموئل الانقلابيه الالية الاوربية ومحفزها تجاريا عالميا، ومالايضاهى او يقارن من المنجز الكوني الشامل، بينما المتبقيات والحثالات تتسلى الى اليوم بنظريات التوهم الغربي المتهالكة، مجافية ذاتها وماتفرضه عظمتها على اهلها من مسؤولية لصالح البشرية، ولاجل بقائها واستمرارها الانقلابي. ليكون العجز المطلق عدوا للوجود والكينونه.

اليوم يعمل قانون العيش على حافة الفناء في ارض السواد على وجه التحديد محليا كما بدا وكما كان، بل امتد ليشمل المواضع العليا من "عراق الجزيرة" لتعم الوحدة الموضوعية و " فك الازدواج التاريخي"، في وقت يتحول فيه المكان الى بؤرة انقاذ للكائن البشري الحي، فالذاتيه العراقية وكشف النقاب عنها، صار اليوم مهمه انقاذية للوجود الحي فاما الانقلاب التحولي اللاارضوي من "الانسانيوان" الى "الانسان"، او فناء الجنس البشري، مايقتضي اشتراطا الارتقاء الى العقل مكان الجسد والجسدية، بااعتماد الوسيلة التكنولوجية العليا العقلية، محفزة العقل والمساعدة على تجاوز نطاق الوثبة العقلية الاولى، خارج الجسدية والحاجاتيه، حيث يغدو المقصود والمستهدف كمهمه وجدودية وانشغال( 1ـ انهاء فعل الحاجاتيه الجسدية عقليا و2ـ اضعاف لدرجة ايقاف هيمنه الموت الجسدي على العقلي) مايتطلب كاساس نبذ كل اشكال التنظيميه الارضوية الكيانوية باشكالها"الوطنيه" و"القومية" و "الامبراطورية"، لصالح وحدة الكائن البشري، وقيام اشكال تنظيم مابعد ومافوق الدولة الانتكاسية القصورية الاولى، لصالح وحدة الارادة التحولية الانتقالية الكبرى خارج الكوكب الارضي، فلا "ذكاء اصطناعي" اساسة وخلفيته العقل الاولي بوثبته وممكناته الارضوية المحدودة مستعملا لاغراض حاجاتيه مصلحية ذاتوية، بل "عقل آخر" وطور ووثبة اخرى منه كبرى، انقلابية، معها يتبدل كل مامعروف من بداية النظر والتفكر على الصعد الوجودية كافه، ذهابا الى الانتقالية العظمى، ومغادرة الجسدية الحيوانيه، وهو مايجدر وصار فرضا على العراق ومرة اخرى ان يتصدر الدلالة عليه اليوم لصالح "الانسان"، بعدما غدا استمرار "الانسايوان" الارضي مستحيلا موضوعيا وتاريخيا، نحو كائن الكون الاخر اللامرئي، بعدما انقضت ضرورات ولوازم المرور بالكون الحالي المرئي .

***

عبد الامير الركابي

 

ليس هناك - على حد علمي - من ينكر دور العقل بصورة مطلقة. لو فعل أحد ذلك فلربما عدَّه العقلاء مجنوناً أو ساذَجاً، لكننا نعرف أناساً كثيرين ينكرون دخالة العقل في نطاقات معينة، دينية أو أخلاقية أو سلوكية. وحُجّتهم في ذلك أن العقل ليس ميزاناً وافياً في هذه المسائل، أو أنه ليس المصدر الوحيد للمعرفة أو القيمة. وقد لاحظت مثلاً أن الذين يتحدثون في أمور الشريعة الإسلامية يشددون على عقلانية الإسلام وتمجيده لما يُنتج العقل من علوم، بل استحالة التعارض بين ما يسمونه العقل الصريح والنقل الصحيح. لكن هؤلاء أنفسهم يتناسون هذه المقولة حين يصلون للنقاط الحرِجة، مثل التعارض بين المقولات العلمية الثابتة بالتجربة، وبين ظاهر النص. وقد أوضحت، في كتابات سابقة، أن التعارض ثابت في الواقع، وأن النفي النظري لا يغير شيئاً فيه. لكن دعْنا نحاول فهم العوامل التي تقف وراء الارتياب في دور العقل، أو حتى رفضه.

سوف أركز على عامل واحد هو اختلاط الشريعة بالتاريخ الثقافي لأتباعها. وأحسب أن هذه المسألة واضحة عند معظم القراء، وهي تظهر بصورة مركّزة في قناعة شاعت بين الأسلاف وانتقلت إلينا مع تراثهم، وفحواها أن الشريعة قد أسَّست عقلانيتها الخاصة، بحيث لا يصح تطبيق أحكام العقل العادي على مسائلها. ومعنى العقلانية الخاصة أن الشريعة أنشأت ما يمكن وصفه بالعقل المسلم، المتمايز عن العقل العام غير المقيد بالدين أو الجغرافيا.

ترتَّب على هذه الرؤية نتائج عدة، من أبرزها إنشاء عِلم الدين، بوصفه منهجاً مدرسياً قائماً بنفسه، مستقلاً عن قواعد ومناهج العلوم الأخرى، بحيث لم يعد ممكناً تطبيق قواعد الفلسفة أو الطب أو اللغة أو التاريخ ومناهجها على المسائل التي صُنفت بوصفها مسائل دينية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تعدَّاه إلى ترجيح عِلم الدين، من حيث القيمة ومن حيث الاعتبار العلمي على كل العلوم الأخرى. ومن ذلك مثلاً أن عدداً من العلماء (القدامى خصوصاً) صرَّحوا بأن علم الدين «أشرف العلوم» إذا قورن بغيره، وفق تعبير زين الدين العاملي.

أما على مستوى الاعتبار، فقد سلّموا بأن الرأي الفقهي له مكانة تتجاوز، بل تلغي أيضاً الآراء المستمَدة من علوم أخرى. ومنها مثلاً تحريم الفقهاء تشريح جسد الميت، حتى لتعليم الطب أو كشف الجريمة المحتملة، وتحريمهم نقل الأعضاء وزرعها، ولو كان ضرورياً لإنقاذ الأرواح. وكذا موقفهم - المتصلب نسبياً - من التجارات والعقود الجديدة، ومن قضايا الحقوق الفردية كالمساواة بين الجنسين، والمساواة بين المسلم والكافر في الحقوق والواجبات، بل حتى مساواة الحضري مع البدوي، والعربي مع الأعجمي، وكثير من أمثال هذه المسائل، التي يجمع بينها عامل مشترك واحد هو أنها حديثة الظهور ولم تكن معروفة في زمن النص، أو أنها كانت عنواناً لمضمون مختلف في ذلك الزمان، ولم يستطع الفقهاء تحرير الفكرة من قيود التجربة التاريخية، رغم قولهم بقاعدة إن «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب».

غرضي من هذه المجادلة ليس الدعوة إلى إلغاء علم الدين؛ فهي دعوة لا طائل تحتها. غرضي هو عقلنة هذا العلم؛ أي التعامل معه كمنتَج بشري مثل سائر العلوم، وإعادة ربطه بتيار العلم الإنساني، ولا سيما العلوم المؤثرة في مسائل علم الدين، كعلوم الاقتصاد والاجتماع والفلسفة والمنطق والتاريخ واللسانيات والقانون وغيرها. المهم في هذا الجانب ليس اسم العلم، بل الأرضية الفكرية التي تقوم عليها هذه الفكرة، أعني بها تحرير علم الدين من قيود التاريخ والقداسات المصطنعة، والاستفادة من المساهمات الباهرة لمختلف علماء العالم من مختلف التخصصات، بالقدر الذي يساعدنا في تقديم رؤية للعالم تنطلق من روح القرآن، وتستلهم - في الوقت نفسه - روح العصر وحاجات أهله.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

في السعي إلى فهم العالم من حولنا، كان هناك دائما صِدام بين المعرفة المكتسبة من خلال الدراسة والخبرة المكتسبة من خلال اللقاءات الحية. تُعَد المعرفة والخبرة مصدرين قيمين للحكمة، لكنهما غالبا ما يتعارضان عند محاولة التعامل مع المواقف المعقدة. يمكن رؤية هذا الصِدام في جوانب مختلفة من الحياة، من اتخاذ القرار في العلاقات الشخصية إلى حل المشكلات في البيئات المهنية. من خلال التعمق في هذا الصِدام بين المعرفة والخبرة، يمكننا الكشف عن الفروق الدقيقة في الإدراك البشري واتخاذ القرار، وفي النهاية تطوير نهج أكثر شمولا لحل المشكلات. يمكن العثور على مثال مضيء للصِدام بين المعرفة والخبرة في مجال الطب. يقضي الأطباء سنوات في دراسة الكتب الطبية وحضور المحاضرات لاكتساب المعرفة اللازمة لعلاج مرضاهم. ومع ذلك، في الممارسة العملية، غالبا ما يجدون أن التجارب الفريدة لكل مريض يمكن أن تتحدى معرفتهم الواردة في الكتب المدرسية. على سبيل المثال، قد يُظهِر المريض أعراضا لا تتوافق مع تشخيص معروف، مما يضطر الطبيب إلى الاعتماد على حدسه وتجاربه السابقة لتحديد أفضل مسار للعمل. إن هذا الصدام بين المعرفة الواردة في الكتب المدرسية والخبرة في العالم الحقيقي يسلط الضوء على أهمية دمج كلا المصدرين للحكمة لتوفير أفضل رعاية ممكنة للمرضى. ومن خلال استكشاف هذا الصدام في سياقات مختلفة، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل التفاعل المعقد بين المعرفة والخبرة في عمليات صنع القرار.

1- كثيرا ما تتعارض المعرفة والخبرة في حياتنا، حيث نصبح دائما في حيرة بين ما تعلمناه من خلال التعليم وما واجهناه بشكل مباشر.

طوال حياتنا، نواجه معضلة مستمرة تتمثل في الاختيار بين ما تعلمناه من الكتب والمحاضرات والتعليم الرسمي مقابل المعرفة العملية المكتسبة من خلال تجاربنا الخاصة. هذا الصدام بين المعرفة والخبرة هو موضوع شائع في حياتنا اليومية، حيث نتمزق باستمرار بين اتباع ما تعلمناه والثقة في ما تعلمناه من خلال مساعينا الخاصة. من ناحية، توفر لنا المعرفة المكتسبة من خلال التعليم أساسًا متينًا من النظريات والمبادئ والحقائق التي تم اختبارها وإثباتها بمرور الوقت. إنها تزودنا بالأدوات اللازمة لتحليل المشكلات وفهمها وحلها بطريقة منظمة ومنطقية. غالبا ما تكون هذه المعرفة نتيجة لسنوات من البحث والدراسة والدقة الأكاديمية، وهي بمثابة مورد قيم يمكن أن يوجه قراراتنا وأفعالنا. من ناحية أخرى، تقدم لنا الخبرة منظورًا فريدًا لا يمكن تعلمه من الكتب أو الفصول الدراسية. إنها نتيجة لتفاعلاتنا مع العالم من حولنا، وأخطائنا، ونجاحاتنا، وإخفاقاتنا، ونمونا وتطورنا الشخصي. إن الخبرة تعلمنا دروسا قيمة لا يمكن نقلها بسهولة من خلال الكلمات أو المحاضرات، وهي تسمح لنا بتطوير حدسنا وإبداعنا وقدرتنا على التكيف بطرق لا يستطيع التعليم الرسمي القيام بها. وكثيراً ما ينشأ الصدام بين المعرفة والخبرة عندما نواجه مواقف في العالم الحقيقي لا تتوافق مع النظريات أو المبادئ التي تعلمناها. وفي هذه اللحظات، يتعين علينا أن نعتمد على غرائزنا وحكمنا ومهاراتنا العملية للتنقل عبر حالة عدم اليقين واتخاذ قرارات ليست واضحة أو مباشرة دائما. وهذا يتطلب توازنا دقيقا بين ما نعرفه فكرياً وما تعلمناه من خلال التجربة والخطأ، ويتحدانا للتفكير النقدي والإبداعي من أجل إيجاد حلول تعمل في حقائق الحياة الفوضوية والمعقدة. وفي نهاية المطاف، يسلط الصدام بين المعرفة والخبرة الضوء على أهمية دمج كليهما في حياتنا. ففي حين تزودنا المعرفة بأساس متين وإطار لفهم العالم، فإن الخبرة تقدم لنا فهماً أعمق وأكثر دقة يسمح لنا بتطبيق معرفتنا بطرق ذات مغزى وعملية. من خلال تبني كليهما والاعتراف بقيمة كل منهما، يمكننا أن نتنقل عبر تعقيدات الحياة وعدم اليقين فيها بثقة وحكمة وتواضع.

2- على سبيل المثال، قد يكون لدى الطبيب معرفة واسعة بحالة طبية معينة، ولكن ما لم يكن لديه خبرة في علاج المرضى الذين يعانون من هذه الحالة، فقد لا تكون معرفته ذات قيمة في بيئة الحياة الواقعية.

إن المعرفة والخبرة عنصران مهمان في أي مهنة، ولكن عندما يتعارضان، فقد يؤدي ذلك إلى عدم الكفاءة وفجوات في الفهم. خذ على سبيل المثال الطبيب الذي لديه معرفة واسعة بحالة طبية معينة. قد يكون قد درس الحالة على نطاق واسع، وحفظ جميع الكتب المدرسية، واجتاز جميع الامتحانات بنجاح باهر. ومع ذلك، ما لم يكن لديه الخبرة العملية في علاج المرضى الذين يعانون من تلك الحالة، فقد لا تكون معرفته ذات قيمة في بيئة الحياة الواقعية. يأتي المرضى إلى الأطباء ليس فقط لمعرفتهم النظرية، ولكن أيضًا لقدرتهم على تطبيق تلك المعرفة بطريقة عملية. بدون الخبرة، قد يكافح الطبيب لاتخاذ قرارات سريعة، أو تشخيص الحالات المعقدة، أو التواصل بشكل فعال مع المرضى. قد يتبين أن معرفته، مهما كانت واسعة، غير كافية عندما يواجه الفروق الدقيقة وعدم اليقين في الممارسة الطبية في الحياة الواقعية. على سبيل المثال، قد يكافح الطبيب الذي قرأ فقط عن حالة طبية نادرة للتعرف عليها في مريض، مما يؤدي إلى تأخير التشخيص والعلاج. من ناحية أخرى، قد يتعرف الطبيب الذي عالج عدة حالات من نفس الحالة بسرعة على الأعراض، ويقترح الاختبارات المناسبة، ويبدأ العلاج على الفور. في هذه الحالة، تلعب الخبرة دورا حاسما في ضمان رعاية المرضى في الوقت المناسب وبطريقة فعّالة. علاوة على ذلك، تساعد الخبرة الأطباء على تطوير مهارات مهمة مثل التفكير النقدي وحل المشكلات واتخاذ القرار. لا يمكن تعلم هذه المهارات من الكتب المدرسية وحدها؛ فهي تتطلب الممارسة العملية والتعرض لسيناريوهات سريرية مختلفة. بدون الخبرة، قد يفتقر الطبيب إلى الثقة والحكم اللازمين للتنقل في تعقيدات الممارسة الطبية. في الختام، في حين أن المعرفة ضرورية لبناء أساس قوي في أي مهنة، فإن الخبرة هي التي تساعد المهنيين على تطبيق هذه المعرفة بشكل فعال في المواقف العملية. يمكن سد التعارض بين المعرفة والخبرة من خلال التعلم المستمر والممارسة العملية والتوجيه. من خلال الجمع بين الاثنين، يمكن للمهنيين أن يصبحوا متكاملين وكفؤين في مجالهم، مما يوفر أفضل رعاية ممكنة لأولئك الذين يخدمونهم.

3- من ناحية أخرى، قد لا يكون لدى الشخص الذي لديه ثروة من الخبرة الشخصية في مجال معين دائما المعلومات الأكثر دقة أو حداثة، مما يؤدي إلى صراعات مع أولئك الذين درسوا الموضوع بعمق.

عندما يتعلق الأمر بالصراع بين المعرفة والخبرة، فمن المهم أن ندرك أن امتلاك ثروة من الخبرة الشخصية في مجال معين لا يعني دائما امتلاك المعلومات الأكثر دقة أو حداثة. في حين أن الخبرة يمكن أن تكون قيمة بالتأكيد وتوفر رؤى فريدة، إلا أنها يمكن أن تؤدي أيضا إلى التحيزات والمفاهيم الخاطئة والمعتقدات القديمة التي قد لا تتوافق مع أحدث الأبحاث أو الفهم لموضوع ما. على سبيل المثال، تخيل مدرسًا متمرسًا عمل في هذا المجال لسنوات عديدة وطور أساليبه الخاصة في التدريس بناءً على تجاربه الشخصية. في حين أن أساليبه ربما نجحت في الماضي، فقد لا تكون متوافقة مع أحدث الأبحاث حول أفضل الممارسات في التعليم. بدون مواكبة التطورات في هذا المجال، قد يحد هذا المعلم عن غير قصد من الفرص التعليمية لطلابه ويعيق نموهم الأكاديمي. وبالمثل، في مجال الرعاية الصحية، قد يعتمد الطبيب الذي يمارس الطب منذ عقود على تجاربه السابقة لتشخيص وعلاج المرضى. ومع ذلك، بدون البقاء على اطلاع بأحدث التطورات الطبية والممارسات القائمة على الأدلة، فقد يقدم علاجات قديمة أو غير فعالة. إن هذا لا يضر بصحة المرضى فحسب، بل يعيق أيضًا تقدم العلوم الطبية ككل. في هذه الحالات، قد تنشأ صراعات بين الأفراد الذين درسوا موضوعًا بعمق وأولئك الذين يعتمدون بشكل كبير على التجارب الشخصية. من الأهمية بمكان أن يدرك الأفراد حدود تجاربهم الشخصية وأن يكونوا منفتحين على التعلم من أولئك الذين كرسوا وقتهم لدراسة موضوع بدقة. من خلال الجمع بين المعرفة والخبرة، يمكن للأفراد تحقيق فهم أكثر شمولا لموضوع ما واتخاذ قرارات أكثر استنارة. في الختام، في حين أن الخبرة الشخصية يمكن أن تقدم رؤى قيمة، لا ينبغي اعتبارها بديلا للمعرفة والفهم المتعمقين. من خلال الاعتراف بحدود التجارب الشخصية والبقاء على اطلاع بأحدث الأبحاث والتطورات في مجال ما، يمكن للأفراد سد الفجوة بين المعرفة والخبرة والعمل نحو منظور أكثر استنارة وشمولية.

4. من المهم إيجاد توازن بين المعرفة والخبرة من أجل اتخاذ قرارات مستنيرة والتنقل بين تعقيدات الحياة بشكل فعال.

إن الصدام بين المعرفة والخبرة هو معضلة شائعة يواجهها العديد من الأفراد في حياتهم اليومية. فمن ناحية، تزودنا المعرفة بالفهم النظري للمفاهيم والمبادئ، في حين تزودنا الخبرة برؤية عملية واقعية. ومع ذلك، فإن الاعتماد بشكل كبير على أحدهما على حساب الآخر يمكن أن يؤدي إلى تفويت الفرص واتخاذ قرارات دون المستوى الأمثل. ومن المهم إيجاد توازن بين المعرفة والخبرة من أجل اتخاذ قرارات مستنيرة والتعامل مع تعقيدات الحياة بشكل فعال. تمنحنا المعرفة أساسًا متينًا للبناء عليه، وتزودنا بالمعلومات اللازمة لتحليل المواقف واتخاذ خيارات مستنيرة. على سبيل المثال، قد يعرف الطالب الذي يدرس الاقتصاد مفاهيم نظرية مثل العرض والطلب، ولكن بدون خبرة العمل في سوق حقيقية، قد يكافح لتطبيق هذه المبادئ بشكل فعال. من ناحية أخرى، تعتبر الخبرة لا تقدر بثمن في تزويدنا بسياق العالم الحقيقي والحكمة العملية. فهي تسمح لنا بالتعلم من أخطائنا، والتكيف مع المواقف الجديدة، وتطوير فهم أعمق لأنفسنا والعالم من حولنا. على سبيل المثال، قد يكون لدى صاحب العمل المخضرم معرفة باستراتيجيات التسويق، لكن خبرته في التعامل مع العملاء واختبار الأساليب المختلفة هي التي تؤدي في النهاية إلى النجاح. من خلال إيجاد التوازن بين المعرفة والخبرة، نتمكن من اتخاذ قرارات أكثر شمولا تأخذ في الاعتبار كل من الإطار النظري والآثار العملية. وهذا يسمح لنا بالاستفادة من أفضل ما في العالمين، وتسخير قوة المعرفة لإعلام أفعالنا، مع الاستفادة من خبرتنا لتوجيهنا عبر المياه غير المؤكدة. في الختام، فإن الصدام بين المعرفة والخبرة هو صراع مستمر نواجهه جميعا. من خلال إيجاد التوازن بين الاثنين، يمكننا اتخاذ قرارات أكثر استنارة، والتنقل بين تعقيدات الحياة بشكل فعال، وتحقيق النجاح في النهاية في مساعينا. لذا، دعونا نسعى جاهدين لاحتضان كل من المعرفة والخبرة، والاعتراف بطبيعتهما التكميلية والاستفادة من قوتهما المشتركة لخلق مستقبل أكثر إشراقا لأنفسنا ولمن حولنا.

5. من خلال إدراك قيمة كل من المعرفة والخبرة، يمكننا أن نفهم العالم من حولنا بشكل أفضل ونتخذ خيارات أكثر استنارة في حياتنا الشخصية والمهنية (سميث، 2018).

ولكي نتمكن من التعامل مع تعقيدات العالم من حولنا، فمن الضروري أن ندرك ونقدر كلا من المعرفة والخبرة. ففي حين تزودنا المعرفة بفهم أساسي لمختلف الموضوعات، تقدم لنا الخبرات تطبيقات عملية ورؤى واقعية لا يمكن تعلمها من الكتب المدرسية وحدها. ومن خلال تبني نقاط القوة الفريدة لكل من المعرفة والخبرة، يمكننا اتخاذ خيارات أكثر استنارة في حياتنا الشخصية والمهنية. تزودنا المعرفة بالنظريات والمبادئ والمفاهيم التي تعمل كأحجار بناء لفهمنا. فهي تزودنا بإطار لتفسير وتحليل العالم من حولنا، مما يساعدنا على فهم الظواهر والظواهر المعقدة. ومع ذلك، فإن المعرفة مجرد نظرية ما لم يتم تطبيقها واختبارها من خلال الخبرات. من ناحية أخرى، توفر لنا الخبرات الفرصة لتطبيق معرفتنا في مواقف العالم الحقيقي واكتساب رؤى مباشرة لا يمكن استخلاصها من الكتب أو المحاضرات. سواء كان ذلك من خلال العمل العملي أو السفر أو التفاعلات الشخصية، فإن الخبرات تزودنا بفهم أعمق لكيفية تطبيق المعرفة في سياقات مختلفة. إن المعرفة والخبرة تسمحان لنا برؤية الفروق الدقيقة والتعقيدات في أي موقف، مما يساعدنا على اتخاذ قرارات أكثر استنارة بناء على الملاحظات والتأملات العملية. ومن خلال إدراك قيمة كل من المعرفة والخبرة، يمكننا تبني نهج أكثر شمولا وتكاملا لفهم العالم من حولنا. وبدلا من الاعتماد فقط على المعرفة النظرية أو الخبرة العملية، يمكننا الاستفادة من نقاط القوة في كليهما لاكتساب فهم أعمق وأكثر شمولاً للموقف. وهذا بدوره يمكّننا من اتخاذ خيارات أكثر استنارة وفعالية في حياتنا الشخصية والمهنية. إن الصدام بين المعرفة والخبرة ليس معركة يجب الفوز بها، بل هو شراكة يجب تبنيها. ومن خلال دمج كل من المعرفة والخبرة في عمليات صنع القرار لدينا، يمكننا تعزيز فهمنا للعالم واتخاذ خيارات أكثر استنارة. وبينما نتنقل بين تعقيدات الحياة، دعونا لا نقلل من قوة المعرفة، ولا نتجاهل الدروس الثمينة التي تقدمها التجارب. وفي الختام، فإن الصدام بين المعرفة والخبرة هو نقاش معقد ومستمر له آثار في جوانب مختلفة من الحياة، بما في ذلك التعليم والعلوم والنمو الشخصي. في حين تزودنا المعرفة بأساس من الفهم، فإن الخبرة تسمح لنا بتطبيق واختبار تلك المعرفة في مواقف العالم الحقيقي. ومن خلال إدراك قيمة كل من المعرفة والخبرة، يمكننا سد الفجوة بين النظرية والتطبيق، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى رؤى أعمق وحل أكثر فعالية للمشاكل. وبينما نستمر في التعامل مع هذا الصدام، فمن الضروري تبني نهج شامل يقدر المعرفة والخبرة، وتسخير قوة كل منهما لدفع الابتكار والنمو في مختلف المجالات. دعونا نسعى جاهدين لتنمية التوازن بين المعرفة والخبرة، والاستفادة من نقاط القوة في كل منهما لتحقيق نجاح وفهم أكبر في مساعينا.

***

محمد عبد الكريم يوسف

.......................

المراجع

1.     Dewey, John. Experience and Education. New York: Touchstone, 1997.

2.     Polanyi, Michael. Personal Knowledge. Chicago: University of Chicago Press, 2017.

3.     Socrates. The Apology of Socrates. New York: Dover Publications, 1997.

4.     Smith, J. (2018). The Power of Knowledge and Experience. Journal of Personal Growth, 15(2), 45-56.

5.     Gawande, Atul. "Complications: A Surgeon's Notes on an Imperfect Science." Picador, 2003.

6.     Gladwell, Malcolm. "Blink: The Power of Thinking Without Thinking." Back Bay Books, 2007.

7.     Sacks, Oliver. "The Man Who Mistook His Wife for A Hat." Vintage, 1998.

8.     Sternberg, R. J. (2016). Wisdom, Intelligence, and Creativity Synthesized. Cambridge University Press.

9.     Dewey, J. (1938). Experience and Education. Macmillan.

10.   Kolb, D. A. (2014). Experiential Learning: Experience as the Source of Learning and Development. Pearson.

11.   Polanyi, M. (1966). The Tacit Dimension. University of Chicago Press.

يُعتبر افلاطون (429-347) أحد أشهر الفلاسفة على مر العصور. هو منْ ابتكر نظرية الأشكال وأسس أول أكاديمية في العالم. مع ذلك، لم يُعرف الاّ القليل عن حياته وعن كيفية موته او حتى مكان دفنه. لكن بحثا جديدا ملفتا لبرنامج المدارس الفلسفية اليونانية في ايطاليا قدّم أجوبة جديدة لتلك الأسئلة.

مخطوطات على ورق البردي المتفحم، عُثر عليها في القرن الثامن عشر في فيلا رومانية قرب مدينة هيركلانيوم Herculaneum على الساحل الغربي لايطاليا. هذه الفيلا احتوت على مخزون كبير من المعرفة لاتزال لم تُكشف بعد. يبدو ان صاحب الفيلا  له اهتمام كبير بالفلسفة اليونانية، وخاصة فلسفة ابيقور، حيث جمع عدد هام من المخطوطات النادرة. لكن قراءة 1800 مخطوطة كان امرا صعبا محفوفا بالمخاطر. ومع ان الكاربون الناجم عن انفجار بركان فيزوف عام 79 م لم يدمر المخطوطات، لكنها كانت هشة و رقيقة للغاية لدرجة ان نشرها يكتنفه الكثير من التحدي. من بين هذه المخطوطات كتاب للفيلسوف الإيبيقوري فيلوديموس philodemus في القرن الاول قبل الميلاد حول تاريخ الفلسفة اليونانية بعنوان ترتيب الفلاسفة. في القرنين الآخيرين، نُشرت مختلف الطبعات لترتيب الفلاسفة، مع ان نسبة كبيرة من النصوص بقيت غير مقروءة. لكن بفضل التصوير فوق الطيفي أصبح من الممكن التمييز بين الحبر الاسود والسطح المعتم للورق المتفحم حيث يمكن الآن قراءة ما نسبته 30% أكثر مما كان في السابق.

هذا الجزء الجديد المتوفر من تاريخ مدرسة افلاطون – الاكاديمية – يتضمن معلومات عن موقع قبر افلاطون وموته حوالي 348 ق.م .

وحسب المصادر الاخرى المتوفرة سلفا عن موت افلاطون تفيد بان افلاطون دُفن في مكان ما من موقع الاكاديمية، أشبه بحديقة عامة – خارج اسوار مدينة اثينا والتي اشتراها افلاطون وأقام  فيها مدرسته. يبدو من خلال الطبعة الجديدة ان افلاطون "دُفن في الحديقة قرب موسيون". هذه الحديقة كانت جزءا خاصا من الاكاديمية، بينما الموسيون يشير الى ضريح آلهة الموسيقى والانسجام، الذي أقامه افلاطون ذاته.

قبل ان يندفع الناس للتنقيب عن  قبر افلاطون، لابد من التنبيه، وكما اعترف الكلاسيكي الايطالي كيليان فلايشر Kilian Fleischer بان قرائته للكلمة اليونانية etaphe (وتعني دُفن) ليست مؤكدة. لكن هذا كموقع قرب الموسيون ربما سيكون مناسب تماما لأن الموسيقى تلعب دورا هاما في فلسفة افلاطون. في عمله العظيم الجمهورية، يصر افلاطون على مكانة الموسيقى في تعليم الشباب.

الإستماع الى النوع المناسب من الموسيقى وخاصة الايقاعات الملائمة سيكون له تاثيرا مفيدا على الروح. في آخر عمل له (القوانين)، يستعمل افلاطون تعبير "mousikos aner"، حرفيا تعني "رجل الآلهة"، ليشير الى رجل حائز على تعليم نخبوي من النوع الذي سعت اليه الاكاديمية.

اهتمام افلاطون في الآلهة يلقي ضوءا على قصة فلوديوس حول موت افلاطون. طبقا لفلوديوس، ان افلاطون في أيامه الاخيرة اصيب بحمى شديدة ووقع في حالة هذيان. عندما كانت البنت التراقية تعزف الناي لتسليته، كان الإيقاع خاطئا، لكن يبدو ان افلاطون استرد وعيه واشتكى من ان الفتاة كانت غير قادرة على ضبط الإيقاع. هذا أراح رفيقته التي استنتجت ان حالة افلاطون ليست خطيرة. غير ان افلاطون  توفي بعد ذلك بفترة قصيرة. هذه ليست القصة الوحيدة التي وصلتنا حول موت افلاطون. طبقا لدايوجينز لارتيوس مؤلف كتاب آخر عن تاريخ الفلسفة اليونانية بعنوان حياة فلاسفة بارزون (القرن الثالث الميلادي)، ان افلاطون توفي اما في حفل زفاف او بسبب القمل.

اذاً، ما احتمال ان تكون قصة فلوديوس صحيحة مع عدم توفر مصادر اخرى؟ هناك اسباب تدعو للشك. ان موت الفلاسفة القدماء قُصد به ان يعكس حياتهم وتعليمهم. اذا لم يكن كذلك، فان الاجيال القادمة ستكون سعيدة باختراع مشهد ملائم لفراش الموت. وهكذا، بقيت هذه القصة الجديدة حول افلاطون، حتى في ظروفه المرضية حكماً جديرا بالاعتبار لكل الاشياء الموسيقية، الخادم الحقيقي للآلهة، انها تخبرنا الكثير عن الكيفية التي أرادت بها الأكاديمية ان يُتذكّر مؤسسها بدلا من كيفية موته.

***

حاتم حميد محسن

في السياسة والمساعدات الإنسانية والعلوم الاجتماعية، يتم تعريف الجوع على أنه حالة لا يتمتع فيها الشخص بالقدرة البدنية أو المالية على تناول ما يكفي من الغذاء لتلبية الاحتياجات الغذائية الأساسية لفترة طويلة. في مجال تخفيف الجوع، يُستخدم مصطلح الجوع بمعنى يتجاوز الرغبة المشتركة في الغذاء التي يعاني منها جميع البشر، والمعروفة أيضاً بالشهية. ويؤدي الشكل الأكثر تطرفاً للجوع ـ عندما ينتشر سوء التغذية على نطاق واسع، وعندما يبدأ الناس في الموت جوعاً بسبب عدم حصولهم على الغذاء الكافي والمغذي ـ إلى إعلان المجاعة

على مر التاريخ، عانت قطاعات من سكان العالم في كثير من الأحيان من فترات طويلة من الجوع. وفي كثير من الحالات، نتج الجوع عن انقطاع الإمدادات الغذائية بسبب الحروب أو الأوبئة أو الأحوال الجوية السيئة. في الأعوام التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، جرى الاعتقاد أن التقدم التقني وسياسات التعاون الدولي قد تكون سبباً في خفض مستويات الجوع في العالم. ورغم أن التقدم كان متفاوتاً إلا أنه بحلول عام 2015، تراجع خطر الجوع الشديد بالنسبة لجزء كبير من سكان العالم. ووفقاً لتقرير منظمة الأغذية والزراعة لعام 2023 عن حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم، فقد انعكس هذا الاتجاه الإيجابي عما كان عليه في عام 2017 تقريباً، عندما أصبح من الواضح حدوث ارتفاع تدريجي في عدد الأشخاص الذين يعانون من الجوع المزمن. وفي عامي 2020 و2021، حدثت زيادة هائلة في عدد الأشخاص الذين يعانون من نقص التغذية بسبب جائحة كوفيد-19. حدث انتعاش في عام 2022 جنباً إلى جنب مع الانتعاش الاقتصادي، على الرغم من أن التأثير على أسواق المواد الغذائية العالمية الناجم عن غزو أوكرانيا يعني أن انخفاض الجوع في العالم كان محدودًا للغاية.

وبينما لا يزال معظم سكان العالم يعيشون في آسيا، فإن معظم الزيادة في الجوع منذ عام 2017 حدثت في أفريقيا وأمريكا الجنوبية. ناقش تقرير منظمة الأغذية والزراعة لعام 2017 ثلاثة أسباب رئيسية للزيادة الأخيرة في معدلات الجوع: المناخ، والصراع، والتباطؤ الاقتصادي. وركزت طبعة عام 2018 على الطقس المتطرف باعتباره المحرك الرئيسي لزيادة الجوع، ووجدت أن ارتفاع المعدلات حاد بشكل خاص في البلدان التي تكون فيها النظم الزراعية أكثر حساسية للتغيرات المناخية المتطرفة. ووجد تقرير حالة انعدام الأمن الغذائي لعام 2019 وجود علاقة قوية بين الزيادات في معدلات الجوع والبلدان التي عانت من التباطؤ الاقتصادي. وبدلاً من ذلك، تناولت نسخة 2020 آفاق تحقيق هدف التنمية المستدامة المتعلق بالجوع. وحذر من أنه إذا لم يتم فعل أي شيء لمواجهة الاتجاهات السلبية التي شهدتها السنوات الست الماضية، فإن عدد الأشخاص الذين يعانون من الجوع المزمن يمكن أن يرتفع بأكثر من 150 مليون شخص بحلول عام 2030. وأفاد تقرير عام 2023 عن قفزة حادة في الجوع بسبب كوفيد-19. الوباء الذي استقر في عام 2022.

الجوع المتزايد

تكافح عشرات ملايين الأسر حول العالم من أجل الحصول على الطعام. المفارقة الإنسانية أن الجوع شعور بسيط يصعب فهمه، لكنه أيضاً مفهوم معقد بشكل لا يصدق. إن واحداً تقريباً من كل عشرة أشخاص يعيش في مستوى معين من انعدام الأمن الغذائي. ولكن ما هو انعدام الأمن الغذائي؟ فهل هذا هو نفس سوء التغذية؟ متى تكون المجاعة مجاعة؟ هل ننهي الجوع فعلاً؟ (هل يمكننا بالفعل إنهاء الجوع؟)

تتضافر الصراعات والصدمات الاقتصادية العديدة، والظواهر المناخية المتطرفة، والظواهر الجوية المتطرفة التي يغذيها تغير المناخ، وارتفاع أسعار الأسمدة لتخلق أزمة غذائية عالمية ذات أبعاد غير مسبوقة. لا تزال الجهود التي يبذلها العالم لمعالجة انعدام الأمن الغذائي أقل من المطلوب. مع بقاء ست سنوات فقط، أصبح العالم أبعد عن المسار الصحيح في جهوده الرامية إلى القضاء على الجوع بحلول عام 2030. هناك حاجة ملحة إلى استجابة واسعة النطاق وتنسيق استثنائي. وقد ارتفع عدد الأشخاص الذين يعانون من الجوع تدريجياً منذ عام 2015، قبل أن يتسارع بشكل حاد في عام 2020 استجابة للجائحة والصراع. لا يبدو أن هذا الاتجاه يُظهر أي مؤشرات تراجع على المدى القريب، مما يزيد من صعوبة تحقيق القضاء على الجوع بحلول عام 2030.

إن تزايد تواتر وشدة الفيضانات، وحالات الجفاف، وغير ذلك من الظواهر الجوية المتطرفة يثقل كاهل الإمدادات العالمية من القمح وغيره من السلع الأساسية الحيوية، وقد تفاقم هذا الوضع بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا. علاوة على ذلك، فإن ارتفاع مستويات الديون السيادية، إلى جانب انخفاض قيمة العملة في العديد من الأسواق، وتشديد الأوضاع المالية، وارتفاع تضخم أسعار الغذاء والأسمدة، يجعل من الصعب على الدول التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي الحاد الاستجابة بفعالية.

مع بقاء ست سنوات فقط لتحقيق الهدف الثاني من أهداف التنمية المستدامة، يحتاج العالم إلى زيادة الاستجابات الرامية إلى القضاء على الجوع بشكل عاجل. وسيكون اتباع نهج منسق في التعامل مع أزمة الغذاء والتغذية واسعة النطاق أمراً بالغ الأهمية؛ ولا يمكن السماح بتراجع المكاسب الإنمائية التي تحققت في العقود الأخيرة. وفقاً للمسار الحالي، تشير التقديرات إلى أن ما يقرب من 670 مليون شخص في 72 دولة - 8 % من سكان العالم - سيظلون يعانون من نقص التغذية في نهاية العقد، أي الجوع المزمن. وستكون الحالات الأكثر خطورة في البلدان "التي تشكل نقطة الجوع الساخنة". فإما أن يتحرك العالم في مهمة إنقاذ أرواح ملايين، أو أن نرى المزيد من الناس يواجهون المجاعة.

يكافحون لإطعام أسرهم

إن حجم أزمة الجوع وسوء التغذية العالمية الحالية هائل. ويواجه أكثر من 42.3 مليون شخص مستويات جوع طارئة، في حين يقع أكثر من 1.1 مليون شخص في قبضة الجوع الكارثي - في غزة في المقام الأول، ولكن أيضاً في جيوب في جنوب السودان ومالي. إنهم يتأرجحون على حافة المجاعة. تنطوي العديد من الأزمات الغذائية على قضايا متداخلة متعددة تؤدي إلى الجوع، والتي تتراكم عاماً بعد عام. إن التفاعل بين الصراعات والصدمات الاقتصادية وتأثير أزمة المناخ أمر حيوي لفهم حجم التحدي.

يواجه برنامج الأغذية العالمي تحديات متعددة - حيث يستمر عدد الأشخاص الذين يعانون من الجوع الشديد في التزايد بوتيرة من غير المرجح أن يضاهيها التمويل، في حين أن تكلفة تقديم المساعدات الغذائية مرتفعة بسبب ارتفاع أسعار الغذاء والوقود. وتؤدي الاحتياجات غير المستجاب لها إلى زيادة خطر الجوع وسوء التغذية. وإن لم تتوفر الموارد الضرورية فإن الثمن سيكون المزيد من الأرواح المفقودة، وتراجع في مكتسبات التنمية.

ما الذي يقود أزمة الغذاء العالمية؟

ولكن لماذا أصبح العالم أكثر جوعاً من أي وقت مضى؟

نتجت أزمة الجوع الضخمة التي نواجهها حالياً، بسبب مجموعة حادة من العوامل. حيث لا تزال الحروب والصراعات هي السبب الأكبر للجوع، حيث يعيش 70% من جياع العالم في مناطق ساخنة تضج بالحروب والعنف. إن الأحداث التي وقعت في بلدان مثل فلسطين وأوكرانيا تشكل دليلاً آخر على الكيفية التي يغذي بها الصراع الجوع، حيث يجبر الناس على ترك منازلهم، ويمحو مصادر دخلهم، ويدمر اقتصادات البلدان.

تعتبر أزمة التغيرات المناخية أحد أبرز أسباب ارتفاع مستويات الجوع في العالم. كما أن الصدمات تدمر المحاصيل والناس والبنية التحتية، وتحرم البشر من فرصة إطعام أنفسهم. وسوف يخرج موضوع الجوع عن سيطرة الجميع إذا فشل العالم في القيام بخطوات فورية تتعلق بالمناخ. وقد ارتفعت أسعار الأسمدة العالمية بوتيرة أسرع من أسعار المواد الغذائية. وتسببت نار الحرب في أوكرانيا في إشعال أسعار الوقود خاصة الغاز الطبيعي، وهذا أدى إلى تعثر إنتاج العالم من الأسمدة، وأعاق تصديرها، ما تسبب في نقص الإمدادات والمحاصيل، وارتفاع الأسعار العالمية. ومن الممكن أن يؤدي ارتفاع أسعار الأسمدة إلى تحويل أزمة القدرة على تحمل تكاليف الغذاء الحالية إلى أزمة توافر الغذاء.

بالإضافة إلى زيادة تكاليف التشغيل، يواجه برنامج الأغذية العالمي انخفاضات كبيرة في التمويل، مما يعكس المشهد المالي الجديد والأكثر صعوبة الذي يواجهه القطاع الإنساني بأكمله. وقد اضطر ما يقرب من نصف العمليات القطرية للبرنامج إلى خفض حجم ونطاق المساعدات الغذائية والنقدية والتغذوية بنسبة تصل إلى 50 %. فيما الجوع وسوء التغذية يتصاعدان في غرب ووسط أفريقيا، فإن الجوع في غزة أصبح مجاعة تشكل علامة قاتمة على جبهة العالم.

بؤر الجوع

من الممر الجاف لأمريكا الوسطى وهايتي، مروراً بمنطقة الساحل وجمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان ثم شرقاً إلى القرن الأفريقي وفلسطين وسوريا واليمن وصولاً إلى أفغانستان، تدفع الصراعات والصدمات المناخية الملايين من الناس إلى النزوح لحافة المجاعة.

وفي عام 2023، جمع العالم 8.3 مليار دولار أمريكي لبرنامج الأغذية العالمي لمعالجة أزمة الغذاء العالمية. ولكن هل تكفي جهود إبقاء الناس على قيد الحياة فقط؟ بالطبع لا. يجب معالجة الأسباب الحقيقية للجوع. إذا لم يتم تمكين المجتمعات المحلية في بعض مناطق الشرق الأوسط وفي بعض الدول الأفريقية من تحمل الضغوط ومواجهة التحديات، ودعم مشاريع التنمية فيها، فإن نشوء الصراعات وعدم الاستقرار، يكون البديل، مما ينتج عنه زيادة في مستويات الهجرة نحو الشمال. عندما نفذت أموال برنامج الأغذية العالمي الذي كان مكلفاً في إطعام اللاجئين السوريين عام 2015، لم يكن أمام الهاربين من الحرب إلا مغادرة مخيمات اللجوء والتوجه نحو أوروبا.

جهود دولية

يساعد العمل الذي يقوم به برنامج الأغذية العالمي على تغيير الحياة على بناء رأس المال البشري، ودعم الحكومات في تعزيز برامج الحماية الاجتماعية، وتحقيق الاستقرار في المجتمعات المحلية في الأماكن المحفوفة بالمخاطر بشكل خاص، ومساعدتها على النجاة بشكل أفضل من الصدمات المفاجئة دون فقدان جميع أصولها. في غضون أربع سنوات فقط من توسيع نطاق تعزيز القدرة على الصمود في منطقة الساحل، قام برنامج الأغذية العالمي والمجتمعات المحلية بتحويل 158000 هكتار من الحقول القاحلة في منطقة الساحل في خمسة بلدان أفريقية إلى أراضي زراعية ومراعي. واستفاد أكثر من 2.5 مليون شخص من الأنشطة المتكاملة. وتشير الأدلة إلى أن الناس مجهزون بشكل أفضل لتحمل الصدمات الموسمية ويتمتعون بإمكانية وصول أفضل إلى الموارد الطبيعية الحيوية والمصادر مثل الأرض التي يمكنهم العمل فيها. تتمتع العائلات ومنازلهم وممتلكاتهم وحقولهم بحماية أفضل ضد المخاطر المناخية. ويعمل الدعم بمثابة حاجز ضد عدم الاستقرار من خلال جمع الناس معاً، وإنشاء شبكات الأمان الاجتماعي، والحفاظ على إنتاجية الأراضي، وتوفير فرص العمل - وكلها تساعد على كسر دائرة الجوع.

وكمثال آخر، فإن برنامج التأمين الصغير الرائد التابع لبرنامج الأغذية العالمي - مبادرة R4 لتعزيز القدرة على الصمود في المناطق الريفية - يحمي حوالي 360.000 أسرة زراعية ورعوية من المخاطر المناخية التي تهدد المحاصيل وسبل العيش في 14 بلداً بما في ذلك بنغلاديش، والسلفادور، وإثيوبيا، وفيجي، وغواتيمالا، وكينيا، ومدغشقر، وزيمبابوي.

في الوقت نفسه، يعمل برنامج الأغذية العالمي مع الحكومات في 83 دولة لتعزيز أو بناء شبكات الأمان الوطنية والحماية الاجتماعية المراعية للتغذية، مما يسمح بالوصول إلى عدد أكبر من الناس من خلال المساعدات الغذائية الطارئة. لكن المساعدات الإنسانية وحدها لا تكفي. إن الجهود المنسقة بين الحكومات والمؤسسات المالية والقطاع الخاص والشركاء هي الطريقة الوحيدة للتخفيف من حدة الأزمة الأكثر حدة في عام 2024. إن الحكم الرشيد هو الخيط الذهبي الذي يجمع المجتمع معاً، مما يسمح لرأس المال البشري بالنمو، وتطور الاقتصادات والناس. لتزدهر.

ويحتاج العالم أيضاً إلى مشاركة سياسية أعمق للوصول إلى القضاء على الجوع. إن الإرادة السياسية وحدها هي القادرة على إنهاء الصراع في أماكن مثل فلسطين، واليمن، وجنوب السودان، وأوكرانيا، وبدون التزام سياسي حازم لاحتواء ظاهرة الاحتباس الحراري على النحو المنصوص عليه في اتفاق باريس، فإن المحركات الرئيسية للجوع سوف تستمر بلا هوادة.

حقائق عن الجوع في العالم لعامي 2023 (و2024)

يعطينا مؤشر الجوع العالمي (GHI)، الذي يصدره سنويا كل من منظمة Concern and Welthungerhilfe، لمحة سريعة عن الحقائق والأرقام الحالية المتعلقة بالجوع في العالم، فضلا عن نظرة تاريخية حول كيفية إحراز التقدم (أو عدم إحرازه). إليك ما تحتاج إلى معرفته في عام 2023.

ينتج العالم ما يكفي من الغذاء لإطعام جميع سكانه البالغ عددهم 8 مليارات نسمة، ومع ذلك يعاني 828 مليون شخص من الجوع كل يوم. يواجه 40% منهم من مستويات حادة من الجوع بحسب تقديرات برنامج الأغذية العالمي. إن 2.3 مليار شخص – 29.6% من سكان العالم – لا يحصلون على الغذاء الكافي. ويموت 9 ملايين شخص كل عام لأسباب مرتبطة بالجوع؛ والعديد منهم أطفال دون سن الخامسة. يضرب الجوع الأطفال بشكل خاص: إذ يعاني 45 مليون طفل في العالم دون سن الخامسة من الهزال. ويعاني 149 مليون طفل دون سن الخامسة من التقزم.

في عام 2022، ارتفع عدد الأشخاص الذين يواجهون الجوع الحاد بنسبة 25% خلال ثلاثة أشهر فقط بسبب الصراع في أوكرانيا. وحتى لو انتعشنا من التداعيات الاقتصادية للوباء، تتوقع الأمم المتحدة أننا لن نحقق هدفنا المتمثل في القضاء على الجوع بحلول عام 2030. وتشير تقديراتها إلى أنه بحلول نهاية هذا العقد، سيظل هناك 670 مليون شخص يواجهون الجوع.

من مؤشر الجوع العالمي لعام 2023، يتضح ستة أشياء حول الجوع في العالم مع دخولنا عام 2024.

1. توقف التقدم في القضاء على الجوع - بل وانعكس ازداد معدل الجوع في بعض الحالات - منذ عام 2015. على الرغم من أن بعض البلدان قد أحرزت تقدماً كبيراً، إلا أن مؤشر الجوع العالمي لهذا العام يظهر أنه لم يتم إحراز تقدم يذكر نحو الحد من الجوع على نطاق عالمي منذ عام 2015. تبلغ درجة مؤشر الجوع العالمي لعام 2023 18.3، وهي درجة تعتبر معتدلة (في السياق، مؤشر الجوع العالمي لعام 2015) كانت درجة GHI 19.1). منذ عام 2017، ارتفع معدل انتشار نقص التغذية. وقد ارتفع عدد الأشخاص الذين يعانون من نقص التغذية من 572 مليوناً آنذاك إلى حوالي 735 مليوناً اليوم.

2. تبلغ مستويات الجوع أعلى مستوياتها في جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ويصنف المؤشر العالمي للرعاية الصحية الجوع على أربعة مستويات: منخفض، ومعتدل، وخطير، ومثير للقلق، ومثير للقلق للغاية. وفي تقرير هذا العام، صنفت تسع دول ذات مستويات مثيرة للقلق من الجوع، بما في ذلك بوروندي، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، والنيجر، والصومال، وجنوب السودان. مستويات الجوع خطيرة في 34 دولة إضافية. وفي 18 من هذه البلدان، تتزايد مستويات الجوع مقابل الانخفاض.

3. الأزمات المتداخلة تعمل معاً على زيادة الجوع في العالم.  نواجه تهديداً ثلاثياً في الوقت الحالي يتمثل في الصراع، وتغير المناخ، والتداعيات الاقتصادية لجائحة كوفيد-19، وكلها أدت إلى تفاقم مستويات الجوع العالمية دون نهاية في الأفق. تأتي هذه الأزمات على رأس الأسباب الرئيسية الأخرى للجوع، بما في ذلك الفقر، وعدم المساواة، وعدم كفاية الإدارة، وضعف البنية التحتية، وانخفاض الإنتاجية الزراعية. وبالنظر إلى أنه من المتوقع أن يشهد العالم المزيد من الصدمات في السنوات المقبلة، وخاصة نتيجة لتغير المناخ، فمن المرجح أن تصبح فعالية الاستعداد للكوارث والاستجابة لها ذات أهمية متزايدة في التوقعات المتعلقة بالأمن الغذائي.

4. نحن لسنا على الطريق الصحيح للوصول إلى القضاء على الجوع بحلول عام 2030 - ولكن هناك سبب للأمل. ونظراً لوتيرة التقدم الحالية، فمن المحتمل أن يكون الوصول إلى القضاء على الجوع بحلول عام 2030 أمراً مستحيلاً. في الواقع، لن تصل 58 دولة إلى مستويات منخفضة من الجوع بحلول ذلك الوقت. ومع ذلك، فإن العديد من البلدان تحرز تقدماً أيضاً. وقد نجحت سبعة بلدان، أشارت نتائجها في مؤشر الجوع العالمي لعام 2000، إلى مستويات جوع مثيرة للقلق للغاية (أنجولا، وتشاد، وإثيوبيا، والنيجر، وسيراليون، والصومال، وزامبيا) في خفض درجات الجوع لديها خلال الأعوام الثلاثة والعشرين الماضية. علاوة على ذلك، خفضت سبع دول درجات مؤشرها العالمي للمؤشرات الصحية بمقدار خمس نقاط أو أكثر بين عامي 2015 و2023 (بنغلاديش، وتشاد، وجيبوتي، ولاوس، وموزمبيق، ونيبال، وتيمور الشرقية).

5. يتعين على الجميع أن يلعبوا دوراً رئيسياً في تحويل النظم الغذائية وخاصة الشباب. حيث يصل الشباب والمراهقون إلى مرحلة البلوغ في ظل أنظمة غذائية غير متكافئة وغير مستدامة. وتفشل هذه الأنظمة في توفير الأمن الغذائي، كما أنها معرضة بشدة لتغير المناخ والتدهور البيئي. ورغم ذلك فإن عدد الشباب المشاركين في القرارات التي ستؤثر على مستقبلهم محدود. إن السعي لتحقيق السيادة الغذائية - الحق في الحصول على غذاء صحي ومناسب ثقافياً يتم إنتاجه من خلال أساليب سليمة ومستدامة بيئياً - يمثل فرصة للأجيال الشابة لتحويل النظم الغذائية الفاشلة إلى أنظمة أكثر استدامة وعدالة وقدرة على تلبية الاحتياجات في العالم. ومن الأهمية بمكان الاستثمار في قدرات الشباب ليصبحوا قادة في تحويل النظم الغذائية. وهذا يعني الاستثمار في تعليمهم وتنمية مهاراتهم، فضلا عن صحتهم وتغذيتهم.

6. يجب أن تنظر حلول مشكلة الجوع إلى ما بعد عام 2030. قد لا نصل إلى القضاء على الجوع بحلول عام 2030، لكن هذا لا يعني أنه يمكننا الاستسلام تماماً. تفشل سياسات واستثمارات النظم الغذائية الحالية في معالجة دورة الجوع المتوارثة بين الأجيال في أجزاء كثيرة من العالم. ويجب أن تتبنى الحلول منظورا طويل الأجل لما بعد عام 2030، وأن تعكس سبل عيش الشباب وخياراتهم واختياراتهم. ويجب أن يكون الحق في الغذاء عنصراً أساسياً في سياسات النظم الغذائية وبرامجها وعمليات الإدارة، ويجب أن يكون الناس قادرين على إعمال حقهم في الغذاء بطرق مناسبة اجتماعياً وثقافياً وبيئياً لسياقهم المحلي.

كيف يتم قياس الجوع؟

قضية معقدة تتطلب أكثر من شخصية. عند تجميع مؤشر الجوع العالمي كل عام، يتم النظر إلى أربعة مؤشرات رئيسية: 1ـ النسبة المئوية للأشخاص الذين يعانون من نقص التغذية (ويعرفون أيضاً باسم الأشخاص الذين لا يحصلون على كمية كافية من السعرات الحرارية اليومية). 2ـ نسبة الأطفال (أقل من 5 سنوات) الذين يعانون من الهزال، أي انخفاض الوزن بالنسبة للطول، وهذه علامة على سوء التغذية الحاد. 3ـ نسبة الأطفال (أقل من 5 سنوات) الذين يعانون من التقزم، أي قصر الطول بالنسبة لأعمارهم. وهذه علامة على سوء التغذية المزمن. 4ـ معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة. تمنح هذه المجموعة من المؤشرات مجتمعة إحساساً ثلاثي الأبعاد بالجوع. أنها تعكس نقص السعرات الحرارية، فضلا عن سوء التغذية. وتعكس مجموعات البالغين والأطفال على حد سواء - وللأطفال أهمية خاصة هنا لأنهم أكثر عرضة لآثار نقص الطاقة الغذائية والبروتين والمغذيات الدقيقة.

مواسم الجوع

إن موسم الجوع هو حقيقة يواجهها الملايين حالياً. يُعرف أحد أكثر أشكال انعدام الأمن الغذائي ثباتاً بموسم الجوع. وهو الوقت من العام بين الزراعة والحصاد الذي ستنفد فيه الإمدادات الغذائية للأسرة، ويمكن أن يستمر لعدة أشهر. وبفضل عدم القدرة على التنبؤ بالمحاصيل، يمكن أن تكون مواسم الجوع أطول فأطول أو أكثر حدة في حالات مثل تغير المناخ أو الكوارث الطبيعية.

ان استمر تجاهل الدول للجائعين، وما لم تكف الأنظمة الغربية والبنك الدولي عن استخدام سياسة نهب خيرات الشعوب الفقيرة، وإن لم يتم اعتماد معايير أكثر عدلاً لتوزيع الثروات والغذاء، فإن الجائعين قادمين، وأن الفوضى الكبيرة قادمة بلا شك، ولأن النار لا تستعر إلا في أكوام القش والحطب الجاف، فإن التاريخ يعلمنا أن الفقراء الجائعين هم من أشعل الثورات الاجتماعية، وأنهم في طريقهم لتحقيق ذلك سيأكلون الأثرياء.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

الشهوة قد تؤثر على العقل وتجعله يصدر قرارات متهورة أو غير مدروسة، ومن الممكن أن يكون للأغراءات القوية تأثير كبير على التفكير العقلاني والتحكم بالذات، مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات قد لا تكون في مصلحة الشخص على المدى الطويل، لذلك من المهم ممارسة التحكم والوعي في مواجهة الشهوات للحفاظ على التوازن والاستقرار في الحياة .والشهوة إذا ام يتم التحكم بها بالشكل الصحيح، يمكنها أن تقود الإنسان إلى سلوكيات تتعارض مع مبادئه وقيمه. والشهوة عندما تكون قوية جداً، قد يصبح الإنسان غير قادر على التفكير بوضوح، أو اتخاذ قرارات منطقية، مما يجعله يركز فقط على تحقيق رغباته الفورية دون النظر إلى العواقب المستقبلية، وهذا التأثير قد يؤدي إلى مشكلات مثل اتخاذ قرارات تضر بالذات والأخرين وفقدان السيطرة على النفس، والانغماس في سلوكيات قد تكون ضارة . ومن هنا تأتي أهمية تطوير مهارات التحكم بالذات، مثل ممارسة التأمل، والتفكير النقدي، والتفكير في العواقب قبل التصرف الخاطئ. والوعي بهذه التحديات والعمل على تطوير القوى الداخلية والتحكم بالذات، يمكن أن يساعد الإنسان على مواجهة الشهوات في طريقة متوازنة ومحافظة على العقلانية. والشهوة هي واحده من قوى الطبيعة في الإنسان، وهي جزء من التركيب البيولوجي والنفسي الذي يدفعه لتحقيق رغبات معينة، سواء كانت جسدية أو نفسية، مع ذلك يمكن للشهوة أن تصبح قوى مسيطرة على الإنسان إذا لم يتم التحكم بها بالشكل الصحيح، وقد تؤدي إلى عواقب غير مرغوب بها .وعندما تكون الشهوة مصحوبة بالرغبات الغريزية، تجعل الشخص أقل قدره على التصرف بحكمة ورزانة، مما قد يؤدي إلى ندماً لاحقاً . وفي هذا السياق هناك فكرة شائعة هي (أن الشهوة تذهب العقل) وهي تشير إلى الحالة التي يفقد فيها الشخص السيطرة على قراراته وسلوكياته وذلك يسبب الرغبة الشديدة لفعل شيء ما، ومن الممكن أن ينجم عن ذلك مشكلات في العلاقات الشخصية، وفي العمل، وحتى في الصحة النفسية. والشهوة بوصفها جزءاً من الطبيعة الإنسانية لها دور مهم في الحياة، سواء كانت مرتبطة الجسيد، والنفس، والعاطفة، مع ذلك عندما تخرج عن السيطرة ممكن أن تتحول إلى قوه مدمرة تؤثر سلباً على حياة الشخص وعلاقاته، وحتى مجتمعة، والشهوة الغير موجهة قد تقود إلى الإفراط والانغماس في سلوكيات غير مرغوبة في المجتمع، مثل الادمان على الملذات المؤقتة، أو السعي المستمر وراء الرغبات دون الاهتمام بالواجبات أو المسؤوليات، وهذا يؤدي إلى انهيار القيم الأخلاقية، والروابط الاجتماعية وخلق حالة من الفوضى الداخلية والشعور بالذنب أو الندم. ومن الأساليب الفعالة للسيطرة على الشهوة والتقليل من تأثيرها السلبي، التأمل والتفكير وهما يساعدان على تهدئة العقل والتحكم بالأفكار والرغبات. وكذلك ممارسة النشاطات البدنية حيث أن الرياضة تساعد في تحرير الطاقة الزائدة والتقليل من التوتر الذي يغذي الشهوة، وايضاً الابتعاد عن المحفزات وتجنب الموقف، أو الأشخاص، أو المواد التي قد تشعل الشهوة بشكل مفرط . وكذلك البحث عن الدعم من خلال الحديث مع مستشار أو شخص موثوق به ممكن أن يساعد في فهم وتوجيه الشهوة بشكل صحيح. إضافة إلى ذلك التوازن في كل شيء هوه المفتاح للحفاظ على العقلانية والسيطرة على الشهوة، بما يضمن حياة أكثر استقرار وسعادة. وتظهر هذه المشكلة بشكل خاص بحالات مثل الإدمان على المواد المخدرة، أو الكحول، أو حتى الإدمان على الإنترنت، والجنس، في مثل هذه الحالات يصبح العقل مأسوراً بالرغبات، ويجد الشخص صعوبة في مقاومة الإغراءات على الرغم من أدراكه للضرر المحتمل، وللتغلب على هذا التأثير يجب على الشخص العمل على تطوير قدراته العقلية والنفسية التي تمكنه من مقاومة هذه الدوافع.

***

قائد عباس حمودي حميد

سؤال يتساءله كل فرد من افراد المجتمع العربي، ويمكن الجزم بأن الجميع مقتنعين بصحة هذا القول وحقيقة هذا الواقع المرير، بل ومنهم من يجاهد جهاداً مستميتاً لإثبات صحته. وقَبل هذا السؤال يحق لنا أن نتساءل هل نحن فعلاً متخلّفين؟ وهو تسائل مشروع لتوصيف حالنا ولمعرفة الأسباب لهذا الواقع.

ما هو المقصود بالتخلّف، وما هو مفهوم التخلّف؟ لغوياً، التخلّف يعني التأخر، كأن يقال " تخلّف دراسياً " بمعنى تأخر عن أقرانه في الدراسة، أو يقال " متخلّف عقلياً " بمعنى درجة ذكائه أقل مما هو متعارف عليه. وقد تعني كلمة التخلّف عدم حدوث الفعل، مثل قولنا " تخلّف عن الحضور " بمعنى لم يحضر. من هذا يمكن القول، إن مقولة " العرب متخلّفين " قد تكون منقوصة المعنى. فما هو نوع التخلّف المقصود هنا؟ هل هو تأخر أم انعدام كُلّي، وهل هو تخلّف ثقافي، أم تخلّف حضاري، أم علمي أو عسكري أو أخلاقي أو أو أو. وقد يتفق الجميع أن التخلّف العربي يشمل كل هذه المفاصل بدون استثناء.

وإذا كان الحال كذلك، فلنناقش جزئية التخلّف الثقافي. هل نُعتبر متخلّفين ثقافياً وفي مجتمعنا من هم فعلاً يوصفون بالمثقفين الكبار، أمثال رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده، مروراً بطه حسين وسلامة موسى، وجورج طرابيشي ومحمد عابد الجابري، وكثيرون غيرهم ممن اثبتوا جدارة في مجال الثقافة. ومثال حيّ آخر من المثقفين الذين يعيشون بيننا الآن ويتعطشون لقراءة ومناقشة الآراء المطروحة حالياً، مثلاً، في صحيفة المثقف وكل المشاركون في الصحيفة، أو ممن يُجْرون المناظرات الثقافية أو يقرأون الكتب وغيرها من النشاطات الثقافية الحالية. أليست هذه كلها ثقافة يمتهنها المثقفون العرب في الزمن الحديث، فلماذا ننتقصها أو نتغافل عنها. قد يقول البعض إن هذا صحيح ولكن المجتمع الأوروبي سبقنا بمسافة شاسعة. ويكون الرد، إن الهدف ليس هو التنافس مع الثقافة الأوروبية، بل هو تطوير الثقافة والمثقفين في مجتمعاتنا، ويتأتى من ذلك من الاعتراف بوجود نهضة ثقافية في مجتمعنا حتى لو كانت ضعيفة أو غير ناضجة، نسعى لتحسينها وتطويرها، حالنا في ذلك حال المجتمعات الأخرى في العالم التي تَسعى لتطوير مجتمعها دون الحاجة لنظرة دونية كونها أقل ثقافياً من الأوروبيين. وبنظرة تاريخية بسيطة يتوضَّح لنا أن النهضة الثقافية العربية بدأت في النصف الأول من القرن التاسع عشر، واستمرت خلال تاريخنا المعاصر، ولو بصورة متعثرة. وللمقارنة، فإن النهضة الأوروبية، لمن يَقتدي بها، بدأت في القرن الثاني عشر ونضجت في القرن التاسع عشر، أي بعد ستة قرون من المثابرة والجهاد المُضّني للمثقفين الأوروبيين.

وبنفس المنطق يمكن مناقشة مفهوم التخلّف الحضاري ولماذا نُعتبَر متخلّفين حضارياً. لو نظرنا إلى مجتمعاتنا الحالية لوجدنا الدراسة الجامعية منتشرة في كل الدول العربي وكذلك الدراسات العليا ومختلف التخصصات الدقيقة، ومعترف بها على المستوى الدولي. والكثير من هؤلاء الاختصاصيون الذين هاجروا إلى أوروبا اثبتوا جدارة فائقة في مجال اختصاصهم، مما يوحي أن العيب ليس فيهم ولا في النهضة ولا الثقافة، وإنما هو بسبب فشل الأنظمة الحاكمة والإدارية التي لم تتمكن من توفير البيئة الحاضنة لهم.

يقول طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر؛ مَدّت أوروبا سكك الحديد وأسلاك التلغراف والتلفون، فمددناها. وجلست اوروبا إلى الموائد واتخذت أواني الطعام وادواته فصَنعَنا صنيعها. ثم تجاوزنا إلى ما اصطنع الأوروبيون لأنفسهم من لباس. وحياتنا المعنوية على اختلاف مظاهرها والوانها أوروبية. نظام الحكم عندنا أوروبي خالص، نقلناه عن الأوروبيين. مجلس الوزراء ونظارات الحكومة ووزارتها، أوروبي المصدر والجوهر والشكل، لم يعرف منه المسلمون شيئاً في القرون الوسطى وقبل هذا العصر الحديث. قد يكون من النافع والظريف أيضاً أن يُقارَن بين محاكمنا الشرعية الآن بعد أن تأثرت بالإصلاح الحديث وبين محاكمنا قبل ذلك، من النظام القضائي الإسلامي القديم. وأكبر الظن أن قضاة المسلمين القدماء لو أُنشروا في هذه الأيام، لأنكروا من نظام المحاكم الشرعية شيئاً كثيرا.

ويقول طه حسين أيضاً "وإذن فكل شيء يدل على أنه ليس هناك عقل أوروبي يمتاز من هذا العقل الذي يعيش في مصر وما جاورها من بلاد الشرق القريب، إنما هو عقل واحد تختلف عليه الظروف". فما هو نوع التخلّف والجهل الذي يشير إليه أولئك الذين يَدْعُون إلى فكرة التخلّف.

ولو قارَنّا حال المجتمع العربي الإسلامي في السنوات العشر الأولى من بداية القرن التاسع عشر (1800 – 1810م)، بحاله في العشر سنوات الأولى من القرن الحالي (2000 – 2010م)، لوجدنا تطوراً واضحاً وجلياً للعيان في حال المجتمعات العربية عن سابقها. يتمثل ذلك في تطور الحالة الاجتماعية والصحية والدراسية والقانونية وغيرها من مختلف النواح والمجالات. ففي مجال الدراسة، مثلاً، انقرض نظام التعليم الإسلامي القديم المعتمد على الكتاتيب وتحفيظ القرآن للأطفال الذين حظوا بفرصة التعلّم، واستُبدل بنظام التعليم المدرسي الأوروبي، وكثرت المدارس الابتدائية والمتوسطة والجامعية، وجُعل التعليم الزامياً وللجنسين. كما انتشرت الكتب والمؤلفات الثقافية والعلمية والصحف والمجلات ووسائل الاعلام. أليس كل هذا تغيّر نحو الاحسن (تطور)؟ قد يقول البعض نعم لكن المستوى الدراسي والثقافي العام متواضعاً ومتدنياً! والأحرى بنا، بدلاً من أن نكون مُحبَطين ومُحبِطين، أن نعمل على معالجة المعوقات لرفع المستوى بدلاً من التركيز على كشفها وشرحها، لأنها أصلاً مكشوفة ومعروفة للجميع، فما نجني من ذلك سوى الإحباط وتضيّع الوقت.

وما بالك في التطور والتحديث الصحي في المجتمعين السابق والحالي. كان الطب يمارس سابقاً من قبل الحلاقين والعطّارين ويعالج بالسحر والشعوذة، واستبدل كل هذا بالمستشفيات المتخصصة والأطباء الاختصاصيين، ووجد الصيادلة والصيدليات، واستعملت الادوية الحديثة. ألا يُسمى هذا تطوراً وتحديثاً للمجتمع ولأفراد المجتمع؟ وقس على ذلك نواحي الحياة الأخرى التي تغيّرت نحو الأحسن وأصبح حال المجتمعات العربية أفضل بكثير من حالها في السابق.

وقد يعترض البعض على مفهوم التطور والتحديث هنا، أيضاً، من منطلق المقارنة مع ما وصل إليه الغرب من تطور لا يقارن بما نحن عليه الآن. وأرى في هذا الاعتراض اجحافاً غير مقبول، لأن المقياس ليس ما وصل اليه الغرب بل هو تطور حالنا نحو الأفضل. يمكن القول إن ما وصلت إليه النهضة الأوروبية يمثل القمة أو الدرجات العليا من النهضة والتحديث، والأكيد أننا لا نسعى حالياً للوصول إلى أعلى سُلّم النهضة، بل نطمح في الصعود إلى الدرجات الوسطى من السُلًم الحضاري، لأننا حالياً في الدرجات السفلى منه.

من هذه المقارنات نتساءل عن المقصود بالتخلّف في مجتمعاتنا، هل هو تأخر ثقافي وحضاري عن المجتمعات الأخرى، أم هو انعدام الثقافة والحضارة في مجتمعاتنا؟ وإذا قبلنا أنه تأخر وليس انعدام، فهو اعتراف ضمني بأن هناك نهضة وثقافة وتحظّر في مجتمعاتنا، حتى لو كانت بمستوى متواضع أو متعثرة. يجب أن نُقرّ بها، ونسعى لتطويرها وإغنائها كنهضة حضارية، لا أن نَطعَن بها ونقلل من شأنها.

مع الأسف فإن معظم الناس والمثقفين العرب لا يعتقدون بوجود نهضة في مجتمعاتنا ولا يعترفون بها، ويحاولون التقليل من شأنها أو حتى اهمالها. يقول المثل الصيني " بدلاً من أن تلعن الظلام أشعل شمعة " وهي حكمة رائعة تعبّر عن التفاؤل وتقهر اليأس، ذلك أن لَعن الظلام لا ينير الطريق بل يطيل من أجله. وايقاد شمعة بسيطة تنير الطريق على الرغم من صغرها. فبدلاً من أن نبقى دائرين في فَلَك السلبية وكشف العيوب التي هي اصلاً مكشوفة ومعروفة، علينا أن نبحث عن أي شيء جديد، ولو كان بسيطاً جداً، ينير أفكارنا ويثيرها ويحفزها للبحث نحو الأفضل، بدل أن نبقى نندب تخلّف مجتمعاتنا الثقافي والحضاري. 

وكلمة أخيرة فإن هذا المقال هو رسالة لكل من يحاول أن يرسم صورة سوداء أو قاتمة لفكر وثقافة المجتمع العربي.

***

د. صائب المختار 

يتحدَّثُ علماءُ النفس عن موضوع من أهم موضوعات هذا العلم في النفسلوجيةِ الحديثة وهو العقل الباطن. والعقل الباطن هو العقل القديم الذي نشأ منذ نشوء الإنسان، والذي كان يعتمد عليه في تحصيل معاشه وفي الحفاظ على حياتهِ بين آلاف الحيوانات المفترسة.

فهو الآلةُ التي أودَعها الإله فيه لكي يحافظ على حياته على هذه الأرض. وهذا العقل الباطنُ هو منشأ العقائد. وهو العنصر الأهم في نشوء السحر والإيمان بالأساطير والخرافات.

وقبل أن ننتقل إلى حيثيات عنوان هذه المقالة لابد من أن نعترف بأن الأساطير في الزمن القديم كانت من أهم الركائز التي يعتمد عليها الإنسان في حياته. الخوف من الرعد مثلا أو الخوف من الزلازل والأمطار الشديدة والرياح العاتية دعت الإنسان القديم إلى الالتجاء إلى الأساطير ومن ثم محاولة وضع حد لها من خلال ابتكار آليات سحرية يتصورون أنهم بها يستطيعون إيقاف سطوتها وبطشها. وحتى عهد قريب كان العربُ يفعلون أشباه هذا العمل. حينما يهرب العبدُ منهم وهو الذي أسمَوهُ بالعبد "الآبق"، يربطون خنفساء بخيط صغير إلى عصاً مثبتةٍ في الأرض، فتدور الخنفساء حول العصا محاولةً الإفلات من الخيط والأسر، لكنها تقع بالنتيجة في شرك هذه العصا، وتجد نفسها قريبةً من العصا وقد زاد أسرها. هذه اللعبة السحرية كان العرب في الجاهلية يظنون فيها وسيلةً ناجعةً من أجل الإمساك بالعبد الآبق. فهم يحاكون هذه الخنفساء بالعبد، ويتصورون بأن العبد سوف يدور في الفلاةِ ثم يعود إلى خيمته كما عادت الخنفساءُ إلى العصا في الوسط.

هذه إحدى الوسائل التي جنحَ إليها الإنسان بسبب ضعفه أو عدم قدرته على تحقيق ما يريده. وبعض الأقوام كانوا يحرقون اللبن في النار حتى يجف ظناً منهم أنهم بهذه الوسيلة يوقفون وابلَ المطر الذي جرف محاصيلهم وحيواناتهم وبيوتهم. وما إلى ذلك من الأمثلة الكثيرة التي كانت الركيزة الأولى من ركائز التخلص من سطوة الطبيعة أو كل ما ينافي اللذة والراحة والسعادة في الإنسان حسب اعتقادهم.

 العقل الباطن وكما قرره علماء النفس الحديث هو منشأ العقائد والفنون والأدب من شعر ونثر وخطب وغيرها. أما العقل الواعي فهو منشأ المعارفِ والعلوم والتكنولوجيا الحديثة والصناعة المتطورة بل وحتى الزراعة المتطورة، لكن كم من البشر يمتلك هذا العقل الواعي حتى يكون مبتكرا مؤثرا في المجتمع؟ عددُ هؤلاء ليس كبيراً. وبكلمه أخرى، إن كل البشر يملكون العقل الباطن، لكن ليس كل البشر يملكون عقلا واعيا مؤثراً. نعم، هم يملكون عقلا واعيا لكن ليس مؤثراً كالعقل الباطن عندهم. أي أن العقل الباطنَ يعمل دونما رقابةٍ، بينما العقل الواعي يعمل بعد أن توجد الرقابة عليه أو قواعد المنطق والعلم. لذلك نجد في كل عصر من العصور، وخاصة في عصر الثورات والغزوات أن العقل الباطن وما يتمثل فيه من العقائد الدينية مثلاً أو السياسية، هو الذي يقود البشر في تلك الأعصر، فيحرك الناس دون شعور منهم، وكأنهم منومون مغناطيسيا إلى الغزو وفتح البلدان والفجور بالنساء من أجل إشباع رغبتهم أو رغباتهم ومنها الرغبة الجنسية بعد تحليل هذا الاعتداء بشتى الطرق.

 أما العقل الواعي والذي لا يتمثل إلا في عددٍ قليلٍ من الناس فإنهُ لا يزال غيرَ مؤثّر في كل تغيير لأن العقل الواعي يتحدث مع الآخرين وفقاً للقوانين المنطقية والعلمية وهذه لا يفهمها أكثرُ الناس. فهي غير مؤثرةٍ في المجتمع الجاهلِ إلا قليلاً. لذلك نجد أن الزعماء الفاسدين والطغاةَ وعلى مر التاريخ يمتد حكمُهم سنوات طويلة. طبعاً إذا عرفوا كيف يسوسون الناس من خلال التنويم المجتمعي أو الإيحاء. فهم يعزفون على وتر العقيدة الدينية أو على نطاق ضيقٍ من الطائفية من خلال التركيز على العاطفة المجنونة الهوجاء والتي مصدرها العقل القديم أو العقل الباطن، أو ربما على أمنياتٍ هزيلةٍ من أمثال التخلص من الفقر أو الأمراض أو توفير السكن الملائم أو المعيشة الكريمة، ومنها زيادة الرواتب مثلاً، وتقليل الضرائب. وهذا ما يمارسهُ الغربُ وقد نجحوا إلى حد كبير. أما الزعماء الذين يتحدثون بالمنطق وقواعد العلم والأخلاق، فإنهم ،على الأغلب، يفشلون في البقاء في مناصبهم. ولو أحصينا عددَ الزعماء الذين يتبعون الحالة الثانية فإنهم لا يتعدون أصابع اليد الواحدة.

لو عدنا إلى مجتمعاتنا الشرقية وبالذات العربية منها، فإننا نجد أنها ساحة خصبة يمكن لآلاف الطلاب والدارسين للنفسلوجية الحديثة أن يكتبوا البحوث والأطروحات وينالوا الشهادات العالية في هذا المجال. مجتمعاتنا العربية الإسلامية تؤمن بالعقل الباطن وتستهين بالعقل الواعي. حدثنا التاريخ عن شعوب تختلف عقائديا مع الدولة العثمانية وتوجهاتها الطائفية وقد حاربت معها الإنجليز في الحرب العالمية الأولى، والدافع الأول في هذا هو العقل الباطن المتمثل في العقيدة الدينية، وأن الدولة العثمانية هي الأفضل بعدما كانت هي السبب الأول في تخلف الشعوب وكما هو معروف. ورغم الفساد والمحسوبية والرشوة والتخلف في كل مجالات الحياة التي عاشتها شعوبُنا وبلداننا ومنها العراق فإنهم يقفون بدافع العقيدة الدينية معهم وكلهم يقينٌ بأن الإنجليز هم من الكفار ولا يحملون لهم الخير لأنهم يختلفون معهم في العقيدة والثقافة.

لجأ الناس في مثل هذه المجتمعات المتخلفة إلى وسائل كثيرةٍ متعلقة بالعقل الباطن ومنها الأساطير والخرافات، وعملوا على إشاعتها بين الجماعات الطائفية والعرقية من أجل جمع الناس حول عصا واحدة، وهي عصا الخنفساء، حتى وجدنا كثيراً من الانشقاق بين طائفتين أو اكثر تنتميان إلى الإسلام أو المسيحية وتتقاتلان من أجل إثبات حقيقة توهموها وهي ليست حقيقة تاريخية معترف بها أو متفق عليها عقلاً ونقلا. وحينما يعيا الطرفان من إقناع أحدهما الآخر، يلجأ أحدُهما أو كلاهما إلى طريق الخرافة والإيحاء المجتمعي أو النفسي فيتكؤون على جهالات العقل الباطن، وهو العقل القديم حسب ما يصنفه علماء النفس. إذن، هناك عودةٌ إلى القديم البالي، وهذه العودةُ هي بمثابةِ وأدٍ للعقل الواعي. فنجد المجتمع لا يستجيبُ لأي خطيبٍ أو مصلحٍ أو عالمٍ يحدِّثهم بمنطق العلم الحديث، ونجدهم يتجمعون حول "المنبر" الذي يشيع الخرافة والأسطورة. وهذا المنبرُ أشبه بعصا الخنفساء التي كان يستخدمها العرب في الجاهلية من أجل الإمساك بالعبد الآبق كما أسلفنا. نجد الآلافَ يصطفون في مناسبات دينيةٍ يدعو إليها رجلٌ يدَّعي التدين ويعرفُ من أين تؤكل الكتف، فأشاع بعلمٍ أو بدون علمٍ ما يعتقد بأنه اليقين أو الحقائق الدينية التي تيقَّن منها بطرق ملتويه هي أشبه بالجدال العقيم والتظليل منها إلى الحقيقة المنطقية التي تبتنى على الأدلة العقلية والنقلية المعتبرة. فنجد هذا الداعية مثلا لا يعترف بكتاب المسلمين الأول وهو القرآن بل يدّعي أنهُ محرَّفٌ، لأنه لا يشفي غليله في تقرير ما يريده وما يود أن يلقنه للمحيطين به.

 انتشرت الخرافةُ في كل مذاهب المسلمين من خلال ابتكار طقوسٍ معينة تعددت صورها ومظاهرها وحرص مبتكروها على شدِّ عقول أتباعهم إليها كالذي نقرأ عنه في تاريخ القرون الوسطى لأوروبا من خلال ابتكار ممارسات ونحوتٍ وتماثيلَ ورقصاتٍ معينةٍ ونشر الأعلامِ من القماش الملون ومسيرات تدق فيها الطبول وتنفخ فيها المزامير من أجل حشد الناس بطريقه الإيحاء النفسي والعدوى المجتمعية. ولم يجدوا وسيلةً أنجع من هذه بغرضِ السيطرة على المجتمع ومقدّراته. وصل الأمر عند هؤلاءِ إلى أنهم اعتبروا الناس عبيداً يعملون في أراضيهم ومزارعهم الواسعة التي استولوا عليها باسم المقدَّس. وهذا ما نشاهده الآن في مجتمع مثل العراق والذي يعد نسخةً مشابهً لما كان يحدث قبل مئات من السنين في تلك البلدان التي تطورت هذه الأيام، فأصبحنا نُهين العقل الواعي ونتمسك بالعقل القديم، العقل الحيواني، الذي يشترك فيه الحيوانُ والإنسان، كما أسلفنا.

أكتب هذه المقالة وأعلم سلفاً أنها لن تؤثر في من يقرأ من هؤلاء المؤمنين بالعقل القديم، وممن سلكوا سبل العقيدة الجامدة والتي لا تستند إلى عقل واعٍ أو منطق أو قواعد علمية سليمة. لكن لابد لنا من أن نطلق العِنان لأقلامنا مؤمنين بأن الإنسان لابد أن يعودَ فيؤمن بقدراتِ العقل الواعي لأنه الوسيلةُ التي أوصلتنا إلى قمة التطور، والذي بفضلهِ نمسك الهاتف المحمول أو نركب السيارة الفارهة وننام تحت أجهزةِ التبريد الحديثة وكل ما له علاقة برفاهية الإنسان. هذه كلها نتاجٌ للعقل الواعي.

 أما العربي والذي بقي مهووساً بأسطورةِ الحضارة القديمة، فبقي إلى هذه اللحظة مؤمنا بالعقل القديم. لذلك نجده يتشبث بإلقاء الخطب الرنانة وكتابةِ القصائد العصماء التي لا تغني ولا تُشبع من جوع. ولا نعلم متى نعي ما حولنا حتى نعيد لعقلنا الواعي هيبته لأن لكل زمان عقل لابد أن نعيش فيه، وآنَ الأوانُ كي نهجر هذه المحاكاة، محاكاة الجهل في المجتمع وأن نقفز بعقلنا الذي سوف نحاسَبُ عليه أمام رب الأرباب وهو العقل الواعي وليس العقل الباطن، لأن الثاني هو مما نحن مجبورون عليه ولا نستطيع تغييره لأنه بمثابه الروح لأجسامنا. هذا الإيحاء بالجهل والخرافة والأساطير التي نراها يوميا في مجتمعاتنا المسلمة لابد أن تتغير يوما، ولنا صولات وجولات في الضرب على هذا الوتر، وتر إيقاظ العقل الواعي من سباته، لعلنا نلحق بالأمم الواعية، أو على الأقل نفلت من عبودية عصا الخنفساء!!

***

بقلم: د. علي الطائي

غرب توهمي مؤقت قبل الصحوة  اللاارضوية العظمى

تنبثق الاله  وكانها اداة متوافقة كليا مع اشتراطات الارضوية مع انها لاتتطابق فعالية وحضورا الا مع المجتمعية الاخرى غير الارضوية، وهذا مايعجز عن ادراكه ابتداءالكائن البشري، وبالذات الاوربي الارضوي الازدواجي/ الطبقي مجتمعيا، بحكم طبيعته ونوع نمطيته، فيذهب متباهيا الى تكريس ماهو قائم ومستمر غلبة منذ ان تبلورت المجتمعية ودخلت انتكاستها التحولية التاريخية، مع انتصارالنمطية الارضوية  اليدوية  وتغلبها، مستفيدة من نقص الاسباب الضرورية لحضور التحولية وتحقق اللاارضوية  في حينه، واذ توفر الاله تعاظما في الامكانات الاقتصادية والاحترابيه والمفهومية، مع النموذجية الكيانية، وفي مختلف المجالات المعاشة، فانها تتيح للنمطية الارضوية مايوافق كينونتها وبنيتها من طموح ورغبة  بالتسيد والغلبة التي هي من طبيعتها، وعنصر اساس محرك ضمن خاصياتها.

في القراءة المقابلة للسردية الحديثة الانقلابيه الاليه، يفوت الكائن البشري ويسقط من اعتباره بداهة،  امكان القول بان الانقلاب الالي  هو انقلاب تحولي مجتمعي استدراكي، يبدا مع القرن السادس عشر، كبداية دورة اصطراعية ازدواجية جديدة، مع  انقضاء اوان اليدوية الانتاجوية تحت طائلة التحول الى الالية،  والتحورات التي هي ماخوذة بها حكما،وصولا لمنطوياتها النهائية مع التكنولوجية العليا / العقلية، وهو ماتشمله  الدورة الثالثة  الناطقة في ارض سومر التاريخيه، مع عودة التبلور البنيوي التاريخي لهذا الموضع الاصطراعي الازدواجي مجتمعيا من المعمورة، بحسب قانو ن الدورات والانقطاعات الذي يحكمه، بينما تظهر الالة على المنقلب الاوربي المقابل كابتدا "مصنعي"، مقارب للاشتراطات اليدوية، ومع دخول الالة كعنصر مستجد ثالث على المكونات الدينامية المجتمعية  وفعلها، ومايتوفر بسببها من امكانات للمجتمعية الاوربية، بالاخص من ناحية تعزيز تغلبيتها  وهيمنتهاعلى مستوى المعمورة نموذجا كيانويا،  فان  الاصطراعية اللاارضوية، الارضوية تتحول الى اصطراعية كونية وتاريخيه  فاصلة، واذ يصل الاحتلال الغربي الانكليزي الى ارض الرافدين، فان منطويات الالة وظهورها الفعلي الكوني تبدا بالفعل لحظتها، فنشهد من بداية القرن العشرين نوع اصطراعية افنائية غربية للاارضوية،  وللكينونة  الازدواجية الكونيه، تذكر  بالافنائية البابلية الاولى، وماتسنى لها في حينه "محليا" من ممكنات السحق للمجتمعية اللاارضوية، وماقدولده ذلك من ردة فعل تعبيرية مقابله عن نمط المجتمعية اللاارضوي، اتخذت وقتها شكلاحدسيا نبويا تجسد في الكونية الابراهيمه، اكمل اشكال التعبيرية اللاارضوية كونيا.

ان مرحله وطور الالة في التاريخ المجتمعي البشري هو طور ومرحلة الانتقال الى الصيغة الكونية الاخيرة من الاصطراع التحولي الارضوي اللاارضوي التاريخي، مع توفر الارضوية على اعلى مايمكن من التسارعية في الاليات  والديناميات المجتمعية، وفي مناحي القوة والقدرة الشاملة نموذجا وتفكرا، مايوفر الاسباب الضرورية اللازمه   للغرب لاعتماد  نهج الافنائية للاارضوية الازدواجية، بفرض النموذجية الكيانيه الاوربية،  وفبركتها بالاستعمار والقسر، والحضور المباشر، وصولا الى التدميرية  والسحق الكياني في الطور الثاني الامريكي، المفقس خارج رحم التاريخ، والمرتكز  لارث الغرب الاوربي المنهار بفعل تناقض كينونته مع المضمون المضمر من الحقيقة  الالية التحولية،  المغيبة قصورا.

ان تاريخ المجتمعات البشرية هو تاريخ الاصطراعية التحولية بين مجتمعيتين، لاارضوية وارضوية، تتخذ في موضع من المعمورة شكل النموذج الاصطراعي والتاريخي المحكوم لقانون الدورات والانقطاعات، فيمر بدورتين، الاولى السومرية البابلية الابراهيمه، والثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، هما السابقتان على التبلور التحولي اللاارضوي بحكم النقص العقلي الموافق للوثبة العقلية الاولى، والاشتراطات اليدوية الانتاجوية وفعلها المجتمعي بيئيا، وصولا الى الدورة الثالثة الراهنه،  والتي تبدا مع القرن السادس عشر في ارض سومر الحديثة/ نفسها، بينما تكون الانتاجوية اليدوية قد صارت ذاهبة للزوال، مع انبثاق الاله ومايواكبها وينجم عنها من مظاهر انقلابية اولية، تعيد تكرار المفاهيم اليدوية بوسائل آليه مؤاتية آنيا.  وقت تكون في بدايتها المصنعية.

يعرف الانقلاب الالي سرديتان، ارضوية احادوية كاستمرار تظل غالبة مثلما كانت قبل الالة، واخرى تحولية لاارضوية حصتها البقاءخارج البحث والنظر، مدفونه كما ظلت اللاارضوية والمجتمعية ككل، مع تاريخها وقانون تصيرها ومقصدها النهائي، غير ان التوهمية الغربية الراهنه هي بلا ادنى شك، ليست هي ذاتها تلك السابقة على الاله وانبجاسها المتاخر، فهي  بالاحرى حالة توهمية في غير اوانها، وخارج زمنها بينما تكون الاسباب الضرورية الاعقالية  قد صارت موضوعيا، بحكم الالة، هي الجديرة بالحضور بعد اماطة اللثام عنها، وعن منطوياتها المغيبه، ومن هنا ننطلق متجرئين لنقول بان الغرب الحديث هو كذبة توهمية تضليليه مؤقته وعابره، مقابل الانبعاث المتاخر الضروري والحتمي التاريخي، اللاارضوي الرافديني،  منطوى الحقيقة التاريخيه المغيبة.

تبدا المجتمعات وتتبلور ابتداء ناقصة القدرة على ادراك ذاتيتها اعقالا، وبالاساس ادراك المهمة الكبرى المجتمعية الترقوية، بينما يكون الكائن البشري حينها "انسايوانا" ذاهبا بحكم التفاعلية المجتمعية ومنتهياتها لاكتساب اسباب الخروج من وطاة وهيمنه القصورية العقلية، التي تظل ملازمه للعقل بعد وثبته الكبرى الاولى المواكبه للانتصاب على قائمتين، بانتظار الاكتمال العقلي مابعد الارضوي اليدوي، عندما تنقلب اليدوية  وتحل الالية الانتاجوية قبل  ذهابها من متبقيات الانتاجية والادراكية اليدوية ومخلفاتها الجسدوية الحاجاتيه، الى الصيغة العليا التي تتحور باتجاهها  لتنقل الانتاجوية من "الجسدية الحاجاتيه الارضوية" الى   المرحلة العليا الهدف من الوجود البشري، "الانتاجية العقلية"، وقت يسقط القصور الادراكي،  ويتراجع "الانسايوان" وخاصياته، ليبدا "الانسان" يلوح في الافق مع الوثبة الاستكمالية العقلية الثانيه الذاهبة بالعقل خارج الجسدية ومتبقيات وطاة ومتعلقات الحيوانيه.

فهل يمكن الاستدلال اليوم، ومن هنا فصاعدا على مثل هذه الاحتمالية بالذات، وتحديدا في موضع الانقلابية والاصطراعية التاريخيه في ارض مابين النهرين، مع مايقابلها من حال واشتراطات انهيارية اوربية امريكيه، صارت حاكمه اليوم للحال التوهمي الالي الاوربي ومتبقياته، وماقد نجم عنه على الصعد كافة، واولها المعنى والمستهدف الفعلي الغائب الى اليوم عن النظر.

ـ يتبع ـ

***

عبد الامير الركابي

 

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

ناقشنا في المساق السابق ما نقله (مُحْيي الدِّين بن عَرَبي، ـ638هـ= 1240م) في كتابه «محاضرة الأبرار، ومسامرة الأخيار، في الأدبيَّات والنوادر والأخبار» من حكاية مديح (علي بن الجهم، ـ249هـ= 863م) لـ(المتوكِّل العبَّاسي، ـ247هـ= 861م)، بقوله:

أَنتَ كالكَلبِ في حِفَاظِكَ لِلوُ

دِّ، وكالتَّيْسِ في قِرَاعِ الخُطُوبِ

*

أَنتَ كالدَّلْو، لا عَدِمتُكَ دَلْـوًا

مِن كِبَارِ الدِّلا كَـثيرِ الذَّنُـوبِ!

وإضافةً إلى ما يظهر من اختلاق تلك الحكاية، فقد أشرنا إلى أنَّ لُغة الشِّعر أوسع من أن تقاس بمقياس لغة الحياة اليوميَّة المتباينة بين لغة المجتمع الحَضَري والمجتمع البدوي. فبعيدًا عن حكاية (الكلب) و(التيس) و(المها)، وعن مسطرة اللائق وغير اللائق، فإنَّ الشاعر الحاذق مصوِّرٌ لآفاق الحياة، ومشاعر النفس البَشَريَّة، المتلوِّنة المتقلِّبة، وليس بناطقٍ رسميٍّ باسم مجتمعٍ بعينة. ومَن قاسَ بهذا المقياس، فإنَّه لا يفرِّق بين لغة الأدب- فضلًا عن لغة الشِّعر- وغيرها من اللُّغات. نعم، ليس بالضرورة أن يقفز الشاعر من التحليق في السماوات والتجريد إلى القول، مثلًا: «هاتِ الرَّبابةَ.. هاتِ الرَّبابة»، من نحو قول (الثبيتي):

أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ

صُبَّ لنَا وَطَنًا فِي الكُؤُوسْ

يُدِيرُ الرُّؤُوسْ

وزِدْنَا مِنَ الشَّاذِلِيَّةِ حتَّى تَفِيءَ السَّحَابَةْ

أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ

واسْفَحْ علَى قُلَلِ القَومِ قَهْوَتَكَ المُرَّةَ المُسْتَطَابَةْ

أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ مَمْزُوْجَةً بِاللَّظَى

وقَلِّبْ مَواجِعنَا فَوقَ جَمْرِ الغَضَا...

ثُمَّ هاتِ الرَّبابةَ

هاتِ الرَّبابةْ!

ومثل هذا، في غير الشِّعر، قد يثير السخرية! «مُهجة الصبح.. الوطن المصبوب في الكؤوس.. الذي يدير الرؤوس.. الشاذلية.. السحابة.. اللَّظَى... إلخ»؛ حتى ليُخيَّل إلى السامع أنَّ الشاعر سيخرج من إهاب الكون، ثمَّ في الآخِر: «هاتِ الرَّبابةَ.. هاتِ الرَّبابة»؟!  ما يبدو انتكاسةً في الخيال إلى مضارب البادية والبدائيَّة، «وكأنك، يا أبا زيد، ما غزيت»! غير أنَّ طبيعة اللُّغة الشِّعريَّة تستوعب هذا القفز بين اللُّغات المختلفة، أو حتى المتضادَّة، وبين الأجواء المتباينة، للتعبير عن معنًى من المعاني، وإنْ كان للناقد أن يتوقَّف في النهاية للتساؤل عن مدى التوفيق أو الإخفاق في التعبير عن ذلك المعنى؟ وهذا ميدان النقد تحديدًا، لا أن يُفاضِل بين الشعراء على أساس أنَّ هذا لغته حَضَريَّة وذاك لغته بَدْويَّة، أو ذاك يستعمل لُغة جاهليَّة وهذا يستعمل لغة معاصرة. الشاعر الحقُّ يبحث عن معجمه التعبيري خلال لُغات العالم، والتاريخ، ولا يحصر نفسه في عصرٍ أو مكان، إلَّا إذا كان شاعرًا عاجزًا أصلًا، أو كان محض إعلاميٍّ دَعِيٍّ في عالم الشِّعر؛ لا يفقه- وإنْ نظريًّا- طبيعة الشِّعر ووظيفته. والفنُّ بعامَّة هو خَلْق واقعٍ مُوَازٍ، لولاه ما كان الفنُّ فنًّا، وليس الفنُّ بتوثيقٍ تاريخي، أو تذكيرٍ معرفي، أو تقريرٍ للحقائق والوقائع، ليصحَّ حينئذٍ أن يُنعَت الفنُّ بالصدق الواقعي أو الكذب؛ لأننا لم نسمع منه «نشرة أخبارنا» كما أَلِفْناها، أو كما نحبُّ أن نسمعها! غير أنَّ الفنَّ، في المقابل، ليس بمحض تسلية، وإلهاء، ودغدغة عواطف، باستثناء الفنِّ في (كوكب العُربان)، حيث لا وظيفة للفنَّان هنا أكثر من الإسهام في تضييع الأوقات والعقول، وتتفيه القِيَم والأذواق.   

قلت لـ(ذي القُروح):

- لا تخرج بنا عن الموضوع، كعادتك! فما زال في النفس شيء من (حتَّى)! أعني من تكذيبك حكاية (ابن الجهم)، في وصفه (المتوكِّل) بالكلب! وبخاصَّة أنَّ لابن الجهم علاقة بالكلاب وإعجابًا بها!

- كيف؟

- أورد (الزمخشري)(1) عن (محمَّد بن الجهم)، أخي (عليِّ بن الجهم)، قال: «دعاني المأمون يومًا، فقال: قد نبغَ لك أخٌ بقول الشِّعر، فأنشدْني له! فلم أذكر إلَّا قوله في الكلب:

أُوصـيـكَ خـيرًا بـهِ فـإنَّ لــه

سـجـيَّــةً لا أزالُ أحـمدُهـا

*

يَدُلُّ ضيفي عليَّ في غَسَـقِ الــ

ـلَّيلِ إذا الـنَّـارُ نـامَ مُوقـدُهـا

فقال: أحسنَ الموصي بالكلب، وأمرَ لي بمال.»

- كان بإمكانك القول: كأنَّ هذا الخبر التبسَ على الرواة، أو وضعوا على غراره حكاية (ابن الجهم) مع (المتوكِّل)!  ولكن:

 أوَّلًا، أمامنا ديوان (ابن الجهم)، وهو مذهبٌ واحدٌ من الشِّعر الحَضَريِّ الرقيق.

ثانيًا، لم يكن الرجل بدويًّا أصلًا، بل هو قُرَشيٌّ، حضريٌّ أبًا عن جَد!  ويُنسَب إلى (خراسان)، ويُذكَر أنَّ مولده في (بغداد). فكيف يستقيم الزعم أنه أعرابي، قَدِم بغداد، وإنَّما هَذَّب أسلوبه فيها؟! هذا علاوة على أنَّه نشأ في أُسرة علمٍ وأدبٍ وثراء، وكان أخوه (محمَّد) معدودًا من أهل الكلام، يجمع بين الثقافة العَرَبيَّة واليونانيَّة. أمَّا شاعرنا، فقد ظلَّ اهتمامه بالشِّعر والعَرَبيَّة.  وقد مال (عليُّ بن الجهم) عن الاعتزال، الذي ساد في عصره، إلى مذهب أهل الحديث؛ فربطته علاقةٌ فكريَّة بـ(أحمد بن حنبل)، كما ربطته علاقة شِعريَّة بـ(أبي تمَّام)، وَفق ما نقرأ في تراجمه.(2)

- كيف حدث ذلك التلفيق، إذن؟

- إنما هذا نموذجٌ ممَّا يَعُجُّ به تراثنا من الأباطيل، التي تستدعي التمحيص. وكنتُ أشكُّ في هذه الأقصوصة الواضحة التلفيق، رغم تواترها، حتى وجدتُ أنْ قد نَبَّهَ إلى ما فيها من زيف بعض الدارسين، ومن هؤلاء محقِّق «ديوان علي بن الجهم».(3) على أنِّي أضيفُ هنا: أنَّ حكاية (ابن الجهم) تبدو مظهرًا من مظاهر الصراع بين ثقافة المدينة والبادية إبَّان العصر العبَّاسي. ومعلوم أنَّ (أبا نواس الحَكَمي، ـ198هـ= 813م)  كان بطل ذلك الصراع شِعريًّا، ما أدَّى إلى سحب الجنسية العربيَّة عنه، ونِسبته إلى الفُرس.  بل قل: إنَّه الصراع بين القوميَّة الفارسيَّة والقوميَّة العَرَبيَّة، الذي تغلغل إلى بلاط الحُكم العبَّاسي نفسه، حتى لقد أفضى إلى أن قتل (المأمونُ، ـ218هـ= 833م)، (ابن مراجل الفارسيَّة)،  أخاه (الأمينَ، ـ198هـ= 813م)، (ابن زُبيدة العَرَبيَّة).  ومن المفارقات في هذه المعمعة أنَّ إحدى التُّهَم التي وُجِّهت إلى الأمين أنَّه كان على صداقة مع أبي نواس، الشاعر الماجن؛ وبناءً عليه اغتيل (الأمين وصديقه الشاعر الماجن) في السنة نفسها!(4)

- والشاهد؟

- الشاهد: «هاتِ الرَّبابة.. هاتِ الرَّبابة»، أو «دَعِ الرَّبابة.. دَعِ الرَّبابة»! مع البادية أو ضِدَّها، عنصريًّا! فتلك حكايةٌ وُلِدت من رَحِم الصراع العنصري والسياسي العبَّاسي.  وربما صحَّ القول، أيضًا: إنَّ أبيات (ابن الجهم) لُفِّقت للنَّيل من (المتوكِّل)، وإنْ بصورةٍ مبطَّنة؛ فلقد كان ابن الجهم على وفاقٍ معه، بخلاف علاقته بسابقيه من الأمراء، الذين تبنَّوا الاعتزال. وقد أنشد ابنُ الجهم المتوكِّلَ- لمَّا اعتلى عرش الإمارة العبَّاسية- قصيدةً غمزَ فيها المعتزلة. ومن ثَمَّ حظيَ لدَى المتوكِّل، حتى بات نديمه، وكاتم أسراره. فمن المتصوَّر أن يحمل ذلك الخصومَ من المعتزلة على تصوير علاقة ابن الجهم بالمتوكِّل وإعجابه به بعلاقةٍ بكلب وإعجابٍ بتيس!

- وهذا يذكِّرك بأبيات (دعبل بن علي الخزاعي، ـ246هـ= 860م)(5) عن (المعتصم، ـ227هـ= 842م):

مُلـوكُ بَني العَبَّـاسِ في الكُـتْبِ سَـبْعَـةٌ

ولَـمْ تَـأتِـنـا عَـن ثـامِـنٍ لَـهُـمُ كُـتْبُ

*

كَـذَلِكَ أَهـلُ الكَهفِ في الكَهفِ سَبعَةٌ

خِـيــارٌ إِذا عُـدُّوا وثـامِـنُـهُـمْ كَـلْـبُ

*

وإِنِّــي لَأُعْلِـي كَـلبَـهُـمْ عَنـكَ رِفْـعَـةً

لِأَنَّــكَ ذو ذَنْــبٍ ولَـيْــسَ لَـهُ ذَنْــبُ

*

كَـأَنَّـــكَ إِذْ مُلِّــكْـتَـنـــا لِشَــقـائِـنـا

عَـجُـوزٌ عَلَـيها التَّاجُ والعِقْـدُ والإِتْـبُ

- والشاهد، بالإضافة إلى ما سبق، أنَّنا نقف اليوم أمام تاريخٍ متطاولٍ من الروايات المُريبة، المسيَّسة أحيانًا، المصادمة للعقل والواقع كثيرًا- لدَى من تبصَّر بملابساتها- لن ينهض بمراجعتها سِوَى تظافر الجهود المؤسسيَّة الشاملة. وهو مشروع لمَّا تنهض به مؤسَّساتنا العِلميَّة والثقافيَّة بَعد- إنْ كانت سوف تفعل أبدًا- بل إنْ لم تكن تنهض بنقيضه، من إعادة تدوير ذلك التُّراث، بعُجَره وبُجَره، مستميتةً في الدفاع عنه، ومحاربة مراجعيه وناقديه.

- ولذلك فأنت لن ترى مَدخلًا للطَّاعنين في التاريخ والتُّراث والدِّين أكثر خِصبًا وخدمةً لأغراضهم من الروايات التُّراثيَّة نفسها!

- نعم! وهي رواياتٌ كانت- في أكثرها- أحاديث أسمار، وأطراف أخبار، قد لا يُعرَف أصلها ولا فصلها، ولا يَتحرَّى ناقلوها صحَّتها غالبًا، أو حتى اتساقها واقعًا وعقلًا.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...............................

(1) (1992)، ربيع الأبرار ونصوص الأخبار، عناية: عبدالأمير مهنا، (بيروت: مؤسَّسة الأعلمي للمطبوعات)، 5: 383. والبيتان في ديوان: ابن الجهم، علي، (1980)، تحقيق: خليل مردم، (بيروت: دار الآفاق الجديدة)، 130.

(2)  يُنظَر: الباشا، عبدالرحمن رأفت، (1967)، علي بن الجهم: حياته وشِعره، (القاهرة: دار المعارف)؛ ابن الجهم، ديوانه، مقدِّمة الديوان.

(3) يُنظَر: ابن الجهم، ديوانه، 143.  وكذلك ما كتبه (عبدالله خلف)، تحت عنوان «علي بن الجهم.. حضري تفوق في الفلسفة وعِلم الكلام»، صحيفة (الوطن الكويتيَّة)، 15/ 11/ 2012، على الرابط: https://bit.ly/3pejcvl

(4) يُنظَر بحثنا تحت عنوان: «أبو نُواس الحَسن بن هانئ  (قراءةٌ جديدةٌ في: الشَّخصيَّة، والثَّورة، والتلقِّي)»، (مجلَّة «حُقول»، (النادي الأدبي بالرِّياض)، العدد 11، ذو القِعدة 1434هـ= سبتمبر 2013م ، ص1- 48).

(5) (1983)، شِعر دعبل بن علي الخزاعي، صنعة: عبدالكريم الأشتر، (دمشق: مَجْمَع اللُّغة العَرَبيَّة)، 49- 50/ 5-8.

 

بقلم: ليديا ويلسون

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

في ليلة حارة ورطبة من شهر يوليو/تموز 2018، سافرت إلى مطار بيروت، ممتنًا للسائق الذي استقبلني بسيارته المكيفة. كان شابًا شيعيًا متدينًا من جنوب لبنان، ولم يصافحني، لكنه كان ودودًا، وإن كان جادًا. وبينما كنا نسير على طريق المطار، تحدثنا عن حياته في لبنان، بما في ذلك انتقاله مؤخرًا إلى بيروت من قرية عائلته وآماله في المستقبل الآن بعد انتقاله إلى المدينة الكبرى. لكن سؤاله التالي فاجأني.

"هل سمعت عن طبيب نفساني كندي يُدعى جوردان بيترسون؟"

لقد كنت أعرف ذلك بالفعل، وذلك في الأغلب بسبب الدعاية - أو الشهرة - التي حظي بها دليل المساعدة الذاتية الذي أصدره مؤخرًا، والذي حمل عنوان "القواعد الاثنتي عشرة للحياة". كانت صحيفة نيويورك تايمز قد نشرت للتو ملفًا شخصيًا طويلًا يستند إلى الوقت الطويل الذي قضاه بيترسون في منزله وفي العمل، بعنوان "جوردان بيترسون: حارس النظام الأبوي". لكن لم تكن مواقفه بشأن الأدوار الجنسانية التقليدية هي التي تسببت في تنافر إدراكي لدي؛ فقد أدركت كيف كان ذلك يتناسب تمامًا مع وجهات النظر العالمية المحافظة في العديد من الأديان والبلدان. كان دفاعه عن الثقافة الأوروبية بأصداء تفوق العرق الأبيض هو ما جعل حماس صديقي الجديد صعب الفهم. لم يكن بيترسون قد ظهر بعد مع شخص يرتدي قميصًا مكتوبًا عليه "أنا فخور برهاب الإسلام!" (هكذا)، لكن الاتهامات كانت في الهواء.

بالنسبة لي، يمثل بيترسون الجانب اللين من الذكورية السامة في الغرب، التي أدت إلى عدد من المظاهر (التي قد تكون قاتلة أحياناً)، ولعبت دورًا في نشر ثقافة مناهضة للنسوية والحقوق المدنية. لكن بالنسبة لهذا الشاب الشيعي اللبناني، فقد قدم له بيترسون تفسيراً لوضعه في الحياة، والأهم من ذلك، طريقة للخروج من إحباطاته مستندة إلى "العلم" (علم النفس التطوري، مصحوبًا بادعاءات زائفة كتبت عنها في مقال سابق في "نيو لاينز")، بالإضافة إلى لغة المساعدة الذاتية التقليدية (قف بشكل مستقيم، نظّف غرفتك، تحمل مسؤولية نجاحاتك وإخفاقاتك).

تقدم الزمن بضع سنوات: عندما حاولت إجراء مقابلات مع هؤلاء المعجبين أنفسهم، وجدتهم متحفظين. في الفترة الفاصلة، أصبح جوردان بيترسون شخصية مثيرة للانقسام، وعنصرًا رئيسيًا في حروب الثقافة التي تقسم العديد من البلدان. العديد منهم رفضوا التحدث معي، قلقين من أنني سأصورهم كجزء من المشكلة في العالم، وهم يعرفون آرائي عن بيترسون — والنسوية، والحقوق المدنية، وحقوق المتحولين جنسيًا، وما إلى ذلك. لجأت إلى الاتصال بأصدقاء كانوا في الماضي يرسلون لي مقاطع فيديو، مع وعدهم بالسرية.

قالت لي صديقة إماراتية في الخمسينيات من عمرها: "لقد ساعد الكثير من الناس". والأدلة على ذلك موجودة في كل مكان: الناس يصطفون لسماعه يتحدث، ويقتربون منه لتوقيع نسخ من كتابه، ويتحدثون عنه بإعجاب في غرف الدردشة، ويشاركون مقاطع الفيديو الخاصة به عبر "واتساب". (تلقيت مقاطع الفيديو الخاصة به من أصدقاء في الهند والأردن ولبنان، بالإضافة إلى صديقتي في الإمارات). نظرة سريعة على التعليقات تحت مقاطع الفيديو الخاصة به تُظهر مدى امتنان الناس له.

"هذا الرجل المذهل قد أضاء لي الضوء لأجد معنى في وجودي"؛ "التاريخ سيذكر هذا الرجل كنور مطلق في وقت مظلم"؛ "لحظة البصيرة بالنسبة لي كانت عندما استمعت إليه يتحدث في برنامج روغان عن المسؤولية، وكيف أن الشفقة على الذات غير مجدية. خرجت واشتريت كتاب "12 قاعدة" في نفس اليوم. غير حياتي." هناك حرفياً ملايين من مثل هذه التعليقات، تعبر عن الامتنان للتمكين الذي منحهم إياه في جميع أنحاء العالم.

ولكن ليس استجابةً لرسالته الأخيرة "للمسلمين". الرسالة الفعلية تحتوي على بعض محتوى المساعدة الذاتية المعتاد، حيث يخبر مستمعيه بأن "العدو في المكان الخطأ" وأن أفضل مكان للعثور على الشيطان هو داخل أنفسهم. نصيحته؟ "أفضل رهان لك على جبهة الحرب الروحية هو أن تجعل من نفسك ومن ممارستك الإسلامية شيئًا يستحق الإعجاب إلى درجة أن الضوء الذي يشع من سيكولوجياتك المتوازنة وأفعالك المنتجة والكريمة والحكيمة يكون قويًا جدًا لدرجة أن الناس يعتنقون دينك من شدة الإعجاب. هذا هو الهدف!" كل هذا ينتمي إلى مناطق مألوفة لدى بيترسون. ثم ينتقل إلى "الرسالة" نفسها، التي تدور حول بناء السلام، وتحث المسلمين على تجاوز الانقسامات الطائفية والدينية. "أيها الشيعة، ابحثوا عن صديق سني بالمراسلة. تواصلوا مع شخص من الجانب الآخر. أيها السنة، افعلوا الشيء نفسه. ثم ربما تواصلوا، بحذر، مع مسيحي، أو حتى، لا قدر الله، مع يهودي!" (تم تحويل الكلمات الأربع الأخيرة على الفور إلى صورة متحركة، انتشرت على نطاق واسع).

في وقت كتابة هذه السطور، هناك حوالي 39,000 تعليق وأكثر من 2 مليون مشاهدة، وبينما ليست جميع التعليقات سلبية، إلا أن الفرق مع مقاطع الفيديو الأخرى له كان لافتًا. كتب أحد المعجبين السابقين: "إذا كان عليّ اختيار ثلاث كلمات لوصف ما رأيته للتو، فسأختار متعالٍ، محبط، والأهم من ذلك، مخيب للآمال."

كتب آخرون: "على الرغم من أن محتوى 'المحاضرة' مقبول في معظمه، إلا أنه يبدو لي، كمسلم، مهيناً بطريقة ما" و" كنت أنظر إلى الدكتور بيترسون كأفضل مفكر في عصرنا، لكنني أشعر الآن بخيبة أمل."

وهكذا دواليك. شعر المعجبون المسلمون بالإهانة والاستياء من نبرة المحاضرة، التي — ربما دون قصد — تصور جميع المسلمين كمعادين للسامية وطائفيين.

هناك أيضًا مشكلات سياسية تتعلق بالفيديو. في توجيه هذه "الرسالة" إلى معجبيه المسلمين، تعثر بيترسون بشكل غير مقصود في موضوع مثير للجدل: اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل والأنظمة العربية الاستبدادية التي توسط فيها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. أشاد بيترسون بشدة بـ "اتفاقيات إبراهيم الاستثنائية، التي فتحت إمكانية السلام بين جميع شعوب الكتاب بطريقة غير مسبوقة." هذه الاتفاقيات ليست شائعة — على أقل تقدير — في شوارع العديد من الدول ذات الأغلبية المسلمة، وباختياره لبناء رسالته على هذا "الإنجاز"، دون معرفة ما تعنيه للمسلم العادي، يسحب بيترسون الهزيمة من فك الانتصار.

مستوحى من شعبيته بين المسلمين، فإن "الرسالة" التي سجلها في الواقع قللت من عدد متابعيه المسلمين.

هذا هو جوهر رد قناة "المسلم المتشكك"، وهي قناة يوتيوب يديرها المتشدد دانيال حقيقتجو، الذي يعتقد أن القيم الإسلامية تتماشى مع قيم اليمين المتطرف — مما يجعلها مناسبة بشكل طبيعي لجوردان بيترسون. في الواقع، نداء بيترسون لـ "أهل الكتاب" للتوحد يستند إلى اعتقاد مماثل بأن جميع الديانات الإبراهيمية تواجه تهديدات وأعداء مشتركين: "فماذا لو توقفنا جميعًا عن الجدال حول الأمور التافهة والتفاصيل وواجهنا المشكلة الحقيقية؟" يسأل، والمشكلة الحقيقية هي "الأفكار الانتقامية الشيطانية، التي تواجه حاليًا كل ما هو متعالٍ وتقليدي وذو قيمة." وهذا يعني: "الأفكار اليقظوية، والتصحيح السياسي، والأفكار النيوماركسية المنحطة." كان من المفترض أن يكون كل هذا من صميم اهتمامات حقيقتجو، نظرًا لأنه يشارك بيترسون وجهة نظره حول هذا العدو المشترك (الليبرالي)، لكنه بدلاً من ذلك رد بغضب في فيديو حصل على أكثر من 200,000 مشاهدة.

يبدأ الفيديو بقوله: "أريد أن أعتذر، لأنني في الماضي قلت إن المسلمين يمكن أن يستفيدوا من انتقادات بيترسون للفيمينية وأيديولوجيا المتحولين جنسيًا. لكنني أتراجع عن كل ذلك. لا تأخذوا شيئًا من هذا الرجل. إنه سم خالص." والأسباب؟ "لأنه بمجرد أن يكتشف بيترسون أن لديه بعض المتابعين من المسلمين، ما هو أول شيء يفعله؟ يرسل رسالة إلى المسلمين يدفع فيها باتفاقيات إبراهيم."

شاهدت رسالة بيترسون بنفسي. من الصعب أن يفوت المرء النبرة المتعالية التي وصفها الكثيرون في التعليقات والردود. كما أنه يظهر جهلاً بالإسلام وسياسات المنطقة. بدأت في إرسال الرابط إلى الأشخاص الذين أوصوا لي ببيترسون في الماضي. لكن، مرة أخرى، فوجئت بردود فعل من أعرفهم. تساءلت المرأة الإماراتية عمن سيستجيب لدعوته: "لنرى من هم الواعيون والشجعان الذين سيتقدمون للأمام." وجد صديق بريطاني مسلم أن الرسالة "قوية" لكنه تساءل عن مدى تأثيرها. لم يأخذها أي منهما بسوء.

بالنسبة للكثيرين، لا يُعتبر بيترسون فقط شخصية الأب الصارمة التي تشجعهم على تحمل المسؤولية وبذل قصارى جهدهم، بل هو أيضًا مفكر كان سابقًا ناقدًا للإسلام، لكنه انخرط منذ ذلك الحين مع مجموعة متنوعة من المفكرين المسلمين. "ما يمكن أن نتعلمه جميعًا من القرآن والإسلام" هو نقاش مدته 1.5 ساعة مع "المتحول النيومحافظ" حمزة يوسف (صدر في مايو 2022 وحصل حاليًا على 1.8 مليون مشاهدة). "الإسلام وإمكانية السلام"، أيضًا لمدة 1.5 ساعة، يضم محمد حجاب، الذي يواجه مشكلة بسبب مجموعة من الآراء الأصولية (صدر في ديسمبر 2021 وحصل على 3.1 مليون مشاهدة). "الإسلام والمسيح والحرية"، مدته أقل من 1.5 ساعة، يضم الكاتب الليبرالي مصطفى أقيول (صدر في أكتوبر 2021، بأكثر من 600,000 مشاهدة). يُظهر قناة بيترسون على اليوتيوب تفاعلًا واسع النطاق مع الأفكار الإسلامية، مع التركيز غالبًا على أوجه التشابه مع الديانات الإبراهيمية الأخرى والتساؤل حول قيم "الحداثة". يتم تجاوز الأسئلة المتعلقة بمواقفه تجاه "الحضارة الغربية" والحاجة إلى إعادة إحياء الليبرالية التقليدية؛ القيم التي في صميم دعوته مشتركة، بينما يتم تجاهل الآثار — تفوق الثقافة الغربية.

تم تجاهل المشكلات الشخصية لبيترسون أيضًا. بعد أن بدأ يعاني من الاكتئاب كمراهق، تدهورت حالته بشكل ملحوظ في عام 2018، وانتهى به الأمر على كوكتيل من الأدوية قبل أن يسافر إلى روسيا — ضد نصيحة الأطباء — ليتم إدخاله في غيبوبة طبية مستحثة. بعد تجربة مراكز إعادة تأهيل أخرى، لجأ بيترسون في النهاية إلى النظام الغذائي الذي كانت ابنته ميكايلا تروج له، والذي يتكون فقط من اللحوم الحمراء (وفي الممارسة، بشكل شبه حصري لحم البقر)، والملح والماء. هو الآن خارج مضادات الاكتئاب تمامًا، ويبدو أن العديد من المشاكل الأخرى قد اختفت أيضًا، بدءًا من مشاكل الهضم إلى الصدفية، ورائحة الفم الكريهة والشخير — بل ويدعي أن النظام الغذائي تخلص من العوامات في عينيه. لكن هذا الحل غير موجود في كتابه "12 قاعدة للحياة" أو في الجزء الثاني "12 قاعدة أخرى للحياة"، ولم يوضح لماذا لم تساعد قواعده ونظرياته الكثيرة الآخرين في أدنى نقاط حياته — فقط الأنظمة العلاجية القاسية والأنظمة الغذائية جعلت حياته محتملة.

ربما تفسر صعوبات السنوات القليلة الماضية سبب توجهه ضد المؤسسة الطبية، حيث قال في محادثة مع بريت وينشتاين في مارس 2021: "أعتقد أنه إذا قمت بإجراء الإحصاءات بشكل صحيح، فإن الطب، بمعزل عن الصحة العامة، يقتل أكثر مما ينقذ." هذا التصريح يشير إلى أنه ابتعد كثيرًا عن أصوله، عندما كان يجادل من أجل العقلانية والعودة إلى القيم الليبرالية لعصر التنوير الأوروبي. (الطب الحديث، باستخدام المضادات الحيوية فقط، أنقذ أرواح الكثيرين أكثر مما قتل).

لم يبدو أن أياً من هذا يؤثر على معجبيه. قال أحد المؤيدين لي: "لديه إدماناته الخاصة، وشياطينه الخاصة، لكن هذا فقط يثبت أنه إنسان، مثلنا". "لماذا نحتاج إلى وضع الأشخاص الذين نعجب بهم على قاعدة تمثال، ونتوقع منهم أن يكونوا فوق البشر؟" كتبه تستمر في البيع؛ ومقاطع الفيديو العديدة الخاصة به تحقق أرقام مشاهدة كبيرة، غالبًا ما تتجاوز المليون. لقد منح الكثيرين شعورًا بالقدرة على التحكم في حياتهم، إلى جانب مبررات لقيمهم "التقليدية" (والتي غالبًا ما تتجه نحو التعصب، كما يظهر في تعليق عابر للمعلق "المسلم المتشكك" على اليوتيوب المذكور أعلاه الذي أيد "أيديولوجية بيترسون المناهضة للفيمينيزم والمتحولين جنسياً").

وعندما لاحظ ذلك، اكتشف أن العديد من أتباعه المخلصين كانوا في العالم الإسلامي. واكتسب هؤلاء المعجبين دون أن يحاول حقاً، فجاء ليحتضن المفكرين والنشطاء المسلمين في برنامجه الصوتي. مدفوعًا بإعجابه الواضح من المسلمين حول العالم ونجاح العديد من هذه التسجيلات، توجه إلى معجبيه المسلمين مباشرة. ومع نبرة التعالي، والجهل بالإسلام، وتجاهل الحقائق السياسية والحساسيات، فقد أضعف قاعدة المعجبين التي لم يسعَ إلى اكتسابها ولكن قدرها مع ذلك. وبما أن المسلمين انجذبوا إليه بسبب قيمه، التي تتشابه إلى حد كبير مع الفكر المحافظ، فإنهم الآن يتخلون عنه، ليس لأنهم يرون من خلال إصلاحاته للمساعدة الذاتية، بل لأنه انغمس في منطقة لا يفهمها. لدى المسلمين رسالة إلى بيترسون، لكن من المشكوك فيه ما إذا كان سيستمع إليها.

***

..........................

الكاتبة: ليديا ويلسون/  Lydia Wilson  ليديا ويلسون هي رئيسة قسم الثقافة في مجلة "نيو لاينز" وزميلة زائرة في قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة كامبريدج، وزميلة بحثية في مركز حل النزاعات المستعصية بجامعة أكسفورد، ورئيسة اللجنة الدائمة لمراقبة الإرهاب والنزاعات في الاتحاد العالمي للعلماء، وزميلة فولكان في مبادرة الحوار الدولي. حصلت ليديا على بكالوريوس في العلوم الطبيعية، ثم درجة الماجستير في تاريخ وفلسفة العلوم، ودرجة الدكتوراه في الفلسفة العربية الوسيطة، وجميعها من جامعة كامبريدج. بين الدرجات العلمية، حاولت ليديا تعلم اللغة العربية في دبي، لكنها اكتشفت أن القليل من العربية يُستخدم هناك، لذا حاولت مرة أخرى في سوريا وحققت نجاحاً أكبر.

بعد الدكتوراه، التي ركزت التى فيها: ليديا ويلسون على ترجمة وتأطير أعمال الفارابي (وخلالها شاركت في تأسيس مجلة "كامبريدج ليتيراري ريفيو"، وهي مجلة متخصصة في الكتابات التجريبية)، تركت ليديا دراسات العصور الوسطى وذهبت إلى العراق بتمويل بحثي لدراسة متى وأين يقوم الناس بأقصى التضحيات من أجل قضية ما، وبدأت بإجراء مقابلات مع عناصر من حزب العمال الكردستاني. وعندما أعلنت جماعة الدولة الإسلامية الخلافة، توسعت أبحاثها لتغطية ظاهرة الانضمام إلى الخلافة الناشئة، وإجراء مقابلات مع سجناء داعش، وعائلاتهم، والمجندين، وآخرين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا. استمر هذا العمل خلال فترة زمالات ما بعد الدكتوراه في كامبريدج ونيويورك وأكسفورد ثم العودة إلى كامبريدج، وتوسع ليشمل تقديم الاستشارات لوكالات الأمم المتحدة والحكومات والمنظمات غير الحكومية حول مكافحة التطرف العنيف.

خلال هذه الفترة، كتبت ليديا مقالات صحفية وأكاديمية عن النزاعات والإرهاب والثقافة، وظهرت مقالاتها في مجلات مثل "تايم"، "نيويورك ريفيو أوف بوكس"، "ذا نيشن"، "تايمز ليتراري سبلمنت" والعديد من المنافذ الأخرى. كما خاضت تجربة الصحافة الإذاعية، وقدمت سلسلة تلفزيونية من ثلاثة أجزاء على قناة بي بي سي بعنوان "التاريخ السري للكتابة"، وكانت تتحدث بانتظام كخبيرة على قنوات دولية مختلفة. خلال فترة الإغلاق، مع استحالة السفر، انضمت ليديا إلى مختبر الحاسوب بجامعة كامبريدج للعمل على أنماط التطرف عبر الإنترنت، وفي هذه الفترة أيضًا انضمت إلى "نيو لاينز" كمحررة مساهمة. لم يكن هناك عودة بعد هذه الخطوة إلى "نيو لاينز"، وتزايدت المسؤوليات حتى أصبحت تعمل بدوام كامل في أبريل 2022.

https://newlinesmag.com/argument/how-jordan-peterson-ruined-his-image-with-muslims

 

بقلم: لاين سيدوني تالا مافوتسينج

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

يمتد إرث فونميلايو رانسوم-كوتي إلى ما هو أبعد من كونها والدة الموسيقي النيجيري الأسطوري والناشط السياسي فيلا كوتي أو أول امرأة نيجيرية تقود سيارة. يكشف فيلم السيرة الذاتية للمخرجة بولانلي أوستن بيترز عن دورها في استقلال نيجيريا وحركات تحرير المرأة.

بنهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الاقتصاد النيجيري على حافة الانهيار. الأعباء الاقتصادية التي عانت منها حياة النيجيريين العاديين خلال فترة ما بين الحربين قد تفاقمت فقط بسبب القيود الاقتصادية للحرب، التضخم المرتفع، والنقص الحاد في الموارد. في أبيوكوتا، المدينة التي أسسها شعب اليوروبا في عام 1830 وتعد الآن عاصمة ولاية أوجون في جنوب غرب نيجيريا، كانت النساء اللائي شاركن في الأسواق المحلية وبيع المواد الغذائية أكثر تأثراً - وليس لأول مرة. لكن هذه المرة كانت النساء سيجدن من يدافع عن قضيتهن: فوميلايو رانسم كوتي. لم يقتصر نهجها على تعزيز النضال ضد الاستعمار والنظام الأبوي، بل ألهم أيضًا العديد من حركات العدالة الاجتماعية الأخرى في نيجيريا، وفي إفريقيا وحول العالم.

عندما فرض المسؤولون الاستعماريون البريطانيون الضرائب في أبيوكوتا لأول مرة في عام 1918، كانت النساء مستهدفات بشكل غير عادل. لم يكن الأمر أنهم فقط فرضوا عليهن ضرائب بشكل منفصل عن الرجال وفي عمر مبكر (كانت الفتيات يدفعن الضرائب من سن 15 بينما الأولاد لم يدفعوا حتى سن 16)، بل كانت طرق جمع الضرائب التي استخدمها تنفيذ القانون المحلي عنيفة ومفرطة. تم اقتحام منازلهن وتعرضن للاعتداء الجسدي، وأحيانًا تم تجريدهن من ملابسهن لتحديد أعمارهن لأغراض الضرائب. تعرضت نساء السوق لمصادرات من قبل الشرطة لمنتجاتهن دون تعويض أو بأسعار أقل من تلك التي حددتها الإدارة الاستعمارية.

على الرغم من تلقي بعض التعاطف من بعض الرجال ومؤسسات أخرى يقودها الرجال، استمرت النساء في أبيوكوتا في المعاناة. ومع ذلك، لم يكن بالإمكان تحريك الإدارة المحلية. لقد جلبت نساء السوق في أبيوكوتا مرارًا وتكرارًا شكاواهن إلى الحاكم التقليدي المحلي، العلكي لأيجبالاند، أدامولا الثاني، ومجلس الإيجبا، دون أي نتيجة. كان لا بد من إيجاد وسيلة أخرى لسماع شكاواهن وفهمها.

هنا تبدأ قصة صعود رانسم كوتي كمدافعة عن حقوق النساء حقًا. لأولئك الذين يعرفون تاريخ نيجيريا، غالبًا ما يُختصر قصتها في أمرين: كونها أول امرأة في البلاد تقود سيارة وكونها أم الفنان الأسطوري فيلا كوتي. لكن تأثير رانسم كوتي في نيجيريا كان دائمًا وأستمر في كونه أكبر من هذين الأمرين من حياتها. باعتبارها مؤسسة نادي نساء أبيوكوتا، الذي أعيد تأسيسه لاحقًا كاتحاد نساء أبيوكوتا (AWU)، قادت رانسم كوتي حركة مقاومة نسائية ضد الضرائب غير العادلة التي فرضتها الحكومة الاستعمارية البريطانية على نساء السوق. في فيلمها الوثائقي الجديد عن الناشطة السياسية، "فوميلايو رانسم كوتي"، تظهر المخرجة الكينية والكاتبة بولانلي أوستن-بيترس جانبًا آخر من حياة رانسم كوتي، حيث أن إرثها وعملها أثرا بشكل كبير على بداية حركة استقلال نيجيريا ودخول النساء في ذلك الصراع.

الفيلم عبارة سلسلة من الومضات الزمنية التي ترويها رانسم كوتي الأكبر سنًا (التي تؤدي دورها الممثلة المخضرمة جوك سيلفا) لصحفي فرنسي وهي ترقد في سرير المستشفى بعد أن ألقيت من نافذة في الطابق الثاني بواسطة جنود مسلحين اقتحموا مجمع ابنها فيلا، وهي حادثة حدثت في عام 1977 وأدت في النهاية إلى وفاتها في العام التالي عن عمر يناهز 77 عامًا. تروي الحلقات حياة رانسم كوتي من أيام طفولتها كواحدة من أولى الفتيات اللواتي حضرن مدرسة أبيوكوتا الثانوية إلى قيادتها لثورة نساء أبيوكوتا في عام 1946.

تبدأ رانسم كوتي الأكبر سنًا، المولودة في عام 1900، قصتها بأخذنا إلى أيام طفولتها، حيث يخبرها والدها، الرئيس دانيال أولوميويوا توماس، أنه لديه أحلام لها تتجاوز ما هو متوقع من فتاة شابة تعيش في أبيوكوتا في ذلك الوقت. ويقنع الإدارة في المدرسة بقبول رانسم كوتي الصغيرة في عام 1914، حيث تظهر وعدًا فكريًا كبيرًا. خلال سنوات دراستها الثانوية، تلتقي بزوجها المستقبلي، إسرائيل أولودوتون رانسم كوتي، ابن رجل دين. غالبًا ما يتم تقليص رحلة علاقتهما إلى الخلفية، وهي خطوة من أوستن-بيترس تتيح لحياة رانسم كوتي أن تتكشف بطريقة تركز على نشاطها، على الرغم من أن دعم زوجها يظل حاضرًا.

وفقًا لشيريل جونسون-أوديم، مؤرخة ومشاركة في تأليف "من أجل النساء والأمة: فوميلايو رانسم كوتي من نيجيريا"، فإن حقيقة أن رانسم كوتي وزوجها كانا يتشاركان في السياسة بشكل مشابه كانت نادرة للغاية في ذلك الوقت.

قالت جونسون-أوديم لصحيفة نيو لاينز. " لقد كان ناشطًا أيضًا"، "كان مؤسس اتحاد المعلمين النيجيريين وأيضًا يساريًا للغاية. دعمها، ولا يوجد الكثير من الرجال الذين كانوا سيسمحون لها بأن تكون في طليعة ما تحتاج إلى القيام به." بطريقة ما، لم يكن دعم زوجها يمنح رانسم كوتي الحرية لتكون نشطة فقط، بل عزز أيضًا جهودها، مع العلم أن لديها شريكًا يتشابه عمله وأخلاقه مع عملها. بين والدها وزوجها، كان لدى رانسم كوتي حليفين ذكرين حاسمين في حياتها عندما يتعلق الأمر بالنضال ضد النظام الأبوي وتعزيز المساواة بين النساء في نيجيريا.

بعد إكمال دراستها الثانوية، بدأت رانسم كوتي رحلتها للدراسة في إنجلترا، حيث تم توثيق أنها لم تستمتع بوقتها هناك بسبب العنصرية والتمييز. ومع ذلك، كانت هذه الفترة هي التي اكتشفت فيها الاشتراكية ومعاداة الاستعمار. بالإضافة إلى ذلك، بدأت تنشط في بلدتها. عندما عادت إلى أبيوكوتا في عام 1922 للعمل كمعلمة، أصبحت أيديولوجيات رانسم كوتي وأخلاقياتها أكثر وضوحًا. يظهر ذلك بشكل واضح في مشهد حيث تكون رانسم كوتي الشابة على العشاء مع عائلة إسرائيل (زوجها)  وتدخل في محادثة متوترة مع والده حول التعليم والدين. بينما يعتقد والد إسرائيل أن المدرسة ليست ضرورية للجميع وأن البريطانيين جلبوا المسيحية إلى نيجيريا وقد كان هذا شيئًا جيدًا، تتحداه رانسم كوتي قائلةً إن الآباء يجب أن يسمحوا لأطفالهم باستكشاف إمكانياتهم التعليمية قدر الإمكان وتسأل، "لماذا يجب علينا أن نعتقد أن الطريق الوحيد للخلاص هو عبر المسيحية البيضاء؟" على الرغم من اختلافاتهما، أكدت رانسم كوتي لاحقًا أن العلاقة بينهما كانت رائعة في النهاية.

في عام 1932، أسست رانسم كوتي نادي نساء أبيوكوتا، وهي منظمة مكونة من نساء من الطبقة المتوسطة تركزت بشكل رئيسي على العمل الخيري وتقديم دروس تعليم الكبار. بحلول الأربعينيات، بعد أن طلبت منها صديقة أمية أن تعلمها القراءة، اتخذت المنظمة موقفًا سياسيًا واضحا. من خلال تقديم دروس محو الأمية لمجموعة من نساء السوق، تعلمت رانسم كوتي المزيد عن الظلم الذي تتعرض له هؤلاء النساء من قبل الحكومة الاستعمارية. في الفيلم، تكون أول مواجهة لرانسم كوتي مع معاناة النساء أثناء زيارتها للسوق للحديث مع والدة طالبة لم تحضر إلى المدرسة ذلك اليوم. هناك، شهدت كيف كانت النساء يعاملن بشكل غير عادل وعنيف من قبل حراس "الألاكي"، الذين ظهروا دون سابق إنذار لأخذ وتدمير بضائعهن.

لكن هنا، أخذ الفيلم بعض الحرية الفنية. في الواقع، كانت نساء السوق هن اللائي ذهبن إلى رانسم كوتي طلبًا لمساعدتها وأخبرنها عن وضعهن. قد يُفسر هذا التعديل في السرد على أنه خلق صورة المنقذة لرانسم كوتي، لولا أن الفيلم يظهر باستمرار - كما كان الحال في الحياة الواقعية - أن رانسم كوتي كانت دائمًا حازمة في أن هذه كانت صراعًا تحرريًا جماعيًا ضد حكومة استعمارية تختبئ خلف "الألاكي" لتنفيذ سياساتها القمعية. لكن عند الحاجة، كان استعداد رانسم كوتي لمواجهة العلكي ومجلسه الذي يتكون من الرجال فقط نيابة عن النساء، خاصة في بيئة كان فيها القيادة السياسية النسائية شبه معدومة، مرحبًا به ومدعومًا من قبل نساء السوق.

بحلول أواخر الأربعينيات، كانت الحكومة الاستعمارية قد تبنت عدة سياسات صارمة تتعارض مع مصالح نساء السوق. وفقًا لجونسون-أوديم، في مقالها “‘من أجل حرياتهن’: النشاط المناهض للإمبريالية والفميني الدولي لفوميلايو رانسم كوتي من نيجيريا”، فرضت الحكومة ضوابط أسعار على جميع السلع المباعة في السوق، وطلبت من النساء تسليم حصص من السلع للحكومة لتعويض النقص الناتج عن الحرب العالمية الثانية وفرضت ضرائب إضافية على النساء. تم اتخاذ هذه الإجراءات دون أي تمثيل نسائي في أي من الهيئات الحكومية الاستعمارية. كانت هذه السياسات غير الشعبية والقيود مفروضة على هؤلاء النساء من خلال العلكي ومجلسه، الذي كان يعمل كامتداد للحكم الاستعماري.

لم تقتصر هذه السياسات على استمرار إقصاء النساء في بيئة كانت فيها حقوق النساء محدودة بالفعل، بل أضاءت أيضًا التباين الشديد بين حياة نساء السوق وحياة النساء من الطبقات المتوسطة والعليا. كانت الأولوية الأصلية لنادي النساء هي العمل كجمعية خيرية، وكانت العضوية مقتصرة على النساء من فئات سكانية معينة. لكن الأمور تغيرت عندما فهمت رانسم كوتي أنه لم يكن كافيًا فقط تقديم دروس للنساء من خلفيات اجتماعية واقتصادية أخرى، خاصة نساء السوق: كن بحاجة للعمل معًا.

كان إعادة تسمية النادي رسميًا إلى اتحاد نساء أبيوكوتا في عام 1946 تعكس هذا التغيير في الأيديولوجية. ليس موثقًا ما إذا كان هناك اعتراض داخل نادي النساء على هذا التغيير. لكن الفيلم يقترح هذا في مشهد حيث تقول رانسم كوتي إن النادي يجب أن يُحل ويُعاد تشكيله ليشمل جميع النساء، لكن بعض الأعضاء يقاومون. تسأل إحدى النساء، "تريدني ... أنا ... أن أختلط بالكتلة الجماهيرية؟ أن أتنفس نفس الهواء؟" هذا المشهد هو اختيار إبداعي من أوستن-بيترس لإظهار أن ليس الجميع تقبلوا التضامن الذي رأته رانسم كوتي ضروريًا للصراع.

في نفس العام، قادت رانسم كوتي اتحاد نساء أبيوكوتا في أول احتجاج لها ضد الضرائب غير العادلة على النساء، مما مهد الطريق لثورة نساء أبيوكوتا (المعروفة أيضًا بانتفاضة ضرائب إيجبا)، التي استمرت حوالي ثلاث سنوات. حضر آلاف النساء الاحتجاجات الجماهيرية. وفقًا لجونسون-أوديم، نظمت رانسم كوتي أيضًا جلسات تدريب حيث علمت النساء كيفية حماية أنفسهن من الغاز المسيل للدموع وشجعتهن على التقاط قناني الغاز المسيل للدموع وإلقائها على الشرطة. كان اتحاد نساء أبيوكوتا والنساء اللواتي انضممن إلى الاحتجاجات يحيطون بمنزل أو مكتب رجل وينشدون أغاني الاحتجاج. في عدة مناسبات فعلوا الشيء نفسه في قصر أدامولا، حيث تعرضوا للغاز المسيل للدموع، والضرب من قبل الحراس، وتم اعتقال بعضهم. يعيد تصوير الفيلم إحياء هذه اللحظة المهمة في تاريخ النساء الأفريقيات.

ما يفتقر إليه أوستن-بيترز، مع ذلك، هو أن الثورة تجاوزت الصراع ضد الضرائب. كانت رانسمو-كوتي مناهضة للاستعمار بشدة، وقد تساءلت علنًا عن طبيعة الحكم الاستعماري البريطاني وكيف أثر ذلك على العلاقات الاقتصادية والاجتماعية للنساء مع الدولة. كما اعترضت رابطة نساء أبيوكوتا على عدم وجود نساء في الهيكل السياسي المحلي وعلى مبدأ فرض الضرائب دون تمثيل. وقد ناضلت رابطة نساء أبيوكوتا ورانسمو-كوتي من أجل أن تحمي الدولة مصالحهن ورفاههن، سواء كان ذلك يتعلق بالضرائب أو الرعاية الصحية أو التعليم. إن نظرة أكثر شمولية لعمل رانسمو-كوتي مع رابطة نساء أبيوكوتا كانت ستوفر للجمهور فهمًا أعمق لكيفية تأثير حياة النساء الشخصية على عملهن وعمل الآخرين.

على الرغم من أن ابن رانسمو-كوتي الشهير، فيلا، معروف بتأثير موسيقاه على الخطاب الاجتماعي والسياسي وانتقادها لتأثير الاستعمار في نيجيريا، فإن القليل كتب عن الطريقة التي كانت بها والدته وعملها مع النساء في السوق مصدرًا كبيرًا للإلهام لعمله. تكتب عالمة الإثنو-موسيقى ستيفاني شونيكان في مقال بعنوان "أسس فيلا: دراسة الأغاني الثورية لفونميلايو رانسمو-كوتي وحركة نساء أبيوكوتا في غرب نيجيريا في الأربعينيات" أنه لفهم فيلا، من الضروري التركيز على نضالات رانسمو-كوتي ونساء سوق أبيوكوتا.

وفقًا لجوديث أ. بايفيلد، أستاذة التاريخ الإفريقي والكاريبي في جامعة كورنيل، لم تكن النساء في السوق مدفوعات للانضمام إلى رابطة نساء أبيوكوتا والصراع ضد الضرائب غير العادلة لأنهن كان لديهن طموحات للوصول إلى نفس مستوى النساء النخبة في المنظمة؛ بل ناضلن من أجل تحسين حياتهن كما كانت.

قالت بايفيلد لمجلة "نيو لاينز": "كن يرغبن في اكتساب المهارات التي ستساعدهن على التنقل في مجالاتهن المهنية المختارة. كن يرغبن في التعليم لأنفسهن ولأطفالهن ليصبحن أفضل في إدارة أعمالهن".

انتهت ثورة النساء في عام 1949، مع تنازل أديكولا، وتعليق الضريبة الثابتة على النساء، وقبول النساء في المجلس المحلي. على الرغم من أن بعض هذه النجاحات تم عكسها في النهاية — حيث عاد الألاكي إلى السلطة بعد عامين وأعيد فرض الضريبة — فإن الثورة كانت مهمة في إظهار ما يمكن أن تفعله النساء من جميع الفئات الاجتماعية في مواجهة القمع. كما عززت من إرث رانسمو-كوتي باعتبارها "أسد" حقوق النساء في نيجيريا.

حتى وفاتها في عام 1978، واصلت رانسوم-كوتي عملها كمعلمة وسياسية وناشطة في مجال حقوق النساء. قالت جونسون-أوديم: "أعتقد أن أحد الأشياء التي لا يتحدث عنها الناس بما فيه الكفاية هو التأثير الذي كانت لها على نضالات النساء حول العالم". من جنوب أفريقيا إلى غانا وحتى إنجلترا، أثرت أعمال رانسمو-كوتي مع رابطة نساء أبيوكوتا على العديد من حركات حقوق النساء، خصوصًا في القارة وخصوصًا في نيجيريا. أوضحت جونسون-أوديم: "أخذت رابطة نساء أبيوكوتا من كونها شيئًا محليًا إلى إنشاء رابطة النساء النيجيريات". "كانت تتلقى رسائل من النساء في الشمال يتحدثن عن نضالهن من أجل حق التصويت، لأن النساء في الجنوب حصلن على حق التصويت قبل النساء في الشمال".

كما أكد تفانيها في تحدي ومقاومة القيم الاستعمارية الراسخة ومشاركتها في حركة الاستقلال النيجيرية على الطرق المهمة التي كانت النساء نشطات بها في التنظيم السياسي. من خلال سرد قصة رانسوم-كوتي في الفيلم، تقدم أوستن-بيترز للجمهور فرصة لفهم أن النساء الأفريقيات كان لديهن دائمًا القدرة على سرد قصصهن الخاصة.

تقول أولولادي فانيي، طالبة دكتوراه في قسم دراسات المرأة والجندر والجنس في جامعة إيموري والمؤلفة المشاركة للمقالة العلمية "التحالف النسائي في نهاية SARS: استكشاف استمرار حركات النساء عبر الأجيال النسوية" مع الباحثة والفيلسوفة شارون أديتوتو أوموتوسو، إن هناك رابطاً وُراثياً ومرادفاً بين العمل الذي قامت به رانزوم-كوتي مع اتحاد نساء أبيوكوتا والعمل الذي تقوم به المنظمات النسوية المعاصرة في نيجيريا اليوم. بنفس الطريقة التي أدت بها تغيير الأهداف إلى تحول نادي نساء أبيوكوتا إلى الاتحاد النسائي، فإن منظمات مثل التحالف النسوي (المعروف أيضاً باسم FemCo)، وهو تجمع من النسويات النيجيريات الشابات اللاتي يهدفن إلى تعزيز المساواة بين الجنسين في جميع جوانب المجتمع النيجيري، قد تكيفت أيضاً أهدافها الأولية بناءً على احتياجات مجتمعها خلال حركة نهاية SARS 2020. كانت نهاية SARS حركة اجتماعية وسلسلة من الاحتجاجات الجماهيرية ضد وحشية الشرطة، وبشكل محدد ضد وحدة مكافحة السرقة الخاصة، التي حدثت أساساً في أكتوبر 2020.

وبالمثل، فإن فهم  فهم رانسوم-كوتي للتقاطع بين الطبقات، خاصة عند الاحتجاج ضد الدولة أو الحكومة، هو أمر حاسم لنجاح الحركة الاجتماعية. في مقالهم، يكتب أوموتوسو وفانيي أن وعد الطعام والترفيه قد يكون قد أثر على قرارات الأفراد من ذوي الدخل المنخفض للمشاركة في احتجاجات المنظمة، "لكن مشاركتهم المستمرة عكست وعيًا متزايدًا وتضامنًا مع المتظاهرين الآخرين"، حيث بدأوا في التعرف على المشاكل النظامية في نيجيريا التي كانت تؤثر على جميع الناس.

"قالت جونسون أوديم: "إن مفهومها للصراع الطبقي وحق المرأة في اتخاذ القرارات بشأن نفسها لا يزال يشكل أكثر أشكال النسوية تقدمًا". وعلى الرغم من أن رانسوم-كوتي كانت متقدمة جدًا على عصرها، وخاصة في أدوارها في المجال السياسي، إلا أن نيجيريا لم تشهد بعد امرأة تتنافس بجدية على رئاسة الحكومة. في عام 2022، نزلت النساء إلى الشوارع في أبوجا للاحتجاج على رفض التعديلات الدستورية المقترحة التي كانت ستعزز المساواة بين النساء والمشاركة السياسية في البلاد. وفي أغسطس 2024، عاد النيجيريون إلى الشوارع للاحتجاج على الصعوبات الاقتصادية تحت هاشتاج #EndBadGovernance. لا تزال الصراعات النظامية التي خاضتها رانسوم-كوتي واتحاد نساء أبيوكوتا تتردد صداها بطرق مختلفة.

تضيف جونسون-أوديم: "أعتقد أن هناك العديد من الطرق التي تكون فيها مواقف رانسمو-كوتي التقدمية ذات صلة إيجابية، وفي بعض الجوانب، للأسف ذات صلة."

لقد قدم فيلم "فونميلايو رانسوم-كوتي" نظرة مرضية لحياة وعمل أيقونة لا يزال تأثيرها مهمًا في الطرق التي يواجه بها النيجيريون عدم المساواة في سياق معاصر.على الرغم من وجود مجال لدفع القصة إلى أبعد من ذلك، فقد أظهر الفيلم ما يمكن فعله عند سرد القصص القوية للنساء الإفريقيات.

وأضافت جونسون-أوديم: "من الضروري للغاية أن ندرك أن فكرة النساء اللواتي يناضلن من أجل النساء وحقوق النساء ليست شيئًا له جذور فقط في الغرب. هناك أشياء يمكن أن تعلمها النساء الأفريقيات 'التاريخيات' لحركات النساء في نيجيريا اليوم."

(تمت)

***

..............................

الكاتبة: لاين سيدوني تالا مافوتسينج /  Line Sidonie Talla Mafotsing صحفية مستقلة كاميرونية تقيم في مونتريال، كندا.

https://newlinesmag.com/essays/how-funmilayo-ransome-kuti-championed-womens-rights/

المفاهيم والآراء والأفكار التي تطرح كمشاريع ثقافيَّة أو بديل ثقافي، ظاهرة صحية تستحق العناية والتأمل، وإن جاءت بمتبنيات عراقيَّة الآن،  فتلك الأطر النظرية تناولها مفكرون عرب (عبد الله العروي، الجابري، طرابيشي، ادونيس، اركون) وغيرهم، كانت لهم أفضليَّة الريادة في صياغة رؤاهم عبر نظريات جديدة في ميداني الفكر والثقافة، لاقت قبولاً ايجابياً وانتشاراً سريعاً في الأوساط الثقافيَّة، لأنَّها تصدت للظواهر الثقافية وواجهت بضرواة اساليب مصادرة العقل، لذا تأتي المحاولات  في الاتجاه نفسه، امتداداً لتلك المحاور المعرفيَّة التي شغلت المثقف لعقود من الزمن وما تزال في تشكيل وعي الإنسان وتحقيق ذاته ووجوده، من دون خضوع لتأثيرات أيديولوجية.

نحن إذن بإزاء إرادة إنسانيّة تسعى الى تغيير واقع ما، ذاتاً أم مجتمعاً، وإزاء معطيات فكريّة ذات ارتباط بحقل المعرفة يراد بلورتها كمنطلقات نحو الإصلاح.

هذه المحاولات في محاورها المختلفة، وخطاباتها المتعددة تستجيب إلى سؤالين: سؤال عن ماهيةالثقافة، وآخر عن الذات سواء على مستوى الفكر، والفلسفة والسياسة، والتاريخ، أو الإبداع أم في مناقشة الأفكار بوعي نقدي مختلف. لأنّنا بالسؤال نختبر حيوية المعرفة، وفي تعدد الأسئلة يكون الجدل اللانهائي في مفاهيم أخرى: الأصالة والمعاصرة، الذات والأنا والهوية، التراث والتجديد.

القراءة المتأملة للأفكار تدعو منذ البدء الى عدم التسرّع في اطلاق الأحكام، إنّما واقع الحال يقتضي مناقشتها بنظرة واعية وعميقة، فكثيرة هي المشاريع الثقافيّة والفكريّة والنقديّة التي حاولت البحث في أسباب أزمة الثقافة.

والمثقف كونه مبدع القيم والأفكار لا يختبر المقولات فحسب، انما يختبرها في حركة الثقافة في الذهنية الثقافية، وتحولات المجتمع، نعني الاحتكام الى الواقع، لأنه في هذين المختبرين يكتشف فاعليته وأثره ومدى استجابة "مشروعه" لتحولات الواقع وحركة التاريخ. المثقف ذاته أحد وجوه الازمة، حين يظن انه يقبض على المعنى، أو يمتلك مفاتيح الحقيقة، وحده لاشريك له، في امتلاك الحلول للاصلاح، أعني تحديداً المثقف المتألّه، الواقع فريسة نرجسيته.

باعتقادي ان محاولة حصر تفكيرنا فيما يسمى بمشاريع هي محاولة للتأطير كذلك، بينما ينبغي أن يترك الفكر حراً طليقاً من دون قيود.

ولما كان الخطاب الإصلاحي غالباً ما يبحث عن معادل موضوعي له في صميم الحياة المجتمعيَّة، فإنّه يتوجه الى أزمة الثقافة في بداية الأمر. والمثقف أولاً. لأن مفهوم الازمة ملازم لمفهوم الثقافة، وموضوعة الاصلاح هي موضوعة فكرية - فلسفية، تتطلب دائماً بناءً عقلياً يصوغ الرؤى التي تنشد تغيير الواقع الذاتي للإنسان وتغيير المجتمع الذي ينتمي اليه، وقصدنا المثقف لان وعيه يجعل تفكيره خارجاً عن إطار ما هو متحقق بالفعل، بل ان المثقف كان في معظم العصور خارجاً عن إطار القيم الشائعة، هذه الأزمة مزدوجة بطبيعتها، فهي من جهة تعبّر عن عجز الواقع من مسايرة الفكر، وربما بالضد من هذا المعنى حين يكون الواقع هو الأسرع تطوراً من الفكر، في المجتمعات سريعة التطور، ونتيجة لهذا التعارض تتلاحق الازمات الثقافية، وتتخذ في كل جيل شكلاً جديداً، او تطرح مفاهيم جديدة.

المهم في الأمر أن مفهوم الازمة ينتج عن التصادم بين الفكر والواقع، ويبدو أنه ملازم للتطور الحضاري للإنسان، بل ربما كان علامة صحيَّة تدلّ على يقظة الوعي الإنساني ورهافة إحساسه بالظروف المحيطة به.

ولكن للأزمة معنى آخر أشدّ مضاءً، تكون فيه تعبيراً عن مرض أو اختلال، يتمثل في القيود الشديدة على حرية التعبير بوجه عام، أو أن توكل الثقافة الى الجهلة الذين يتعمّدون تخريبها، أو نشر التفاهة، ان جزءاً من هذه الأزمة في بلداننا العربيّة ينتمي الى هذا النوع الأخير. وغالباً ما تكون مقدمات أسباب فشل مشاريع الثقافة هي في إحالتها الى عناصر وإدارات تقف بالضد من الثقافة.

هنا يتبين لنا أنّ العلاقة بين الثقافة والسلطة هي التي تتحكم الى حد بعيد في ازدهار الثقافة أو وضع المعوقات في طريقها، والأخطر في هذا النهج أن يكون المثقف الوجه الآخر للسلطة السياسية في ارتكاب المفاسد والمساوىء

ويبتعد ممثلوه عن أداء مهماتهم الحقيقية، في الهرولة نحو السلطة، حينذاك يفقد هؤلاء  استقلاليتهم المهنيّة وتتفاقم الأزمة وتتعقد حين يتفق اطراف المعادلة جميعاً على إبعاد المثقف الحقيقي عن أداء دوره الفاعل، المؤثر في المشهد الثقافي، واقصائه عنه بشتى الوسائل والأساليب، فتضيع المعايير، والرؤى الوطنية المسؤولة، ويتسلل أولئك الهامشيون ، ..الطارئون ، البعيدون عن الهمّ الابداعي الحقيقي  إلى ادارة تلك المؤسسات، لتحقيق منافع شخصية، ومكاسب وامتيازات من أجل البقاء . من البديهي أن لا يمضي الطارئ بخديعته الى النهاية.

تتعدد وجوه الأزمة في الشرط الأول للإبداع هو الحرية، كيف للمثقف أن يتنفّس هواء الحرية وهو مكبّل بقيود سلطات :  سياسية ودينية .والأمضى حين يكون هناك قيد آخر يفرضه الجمهور الجاهل، فالمثقف الحقيقي يتجنّب المساس بهذه الجماعات التي تترصّد أي فكر مجدد يخرج عن إطارها الخاص، أو معارض ومختلف معها، وحتى الرأي الآخر يصبح تهمة تهدد   صاحبه. بمعنى آخر أن رجل الشارع الجاهل يصبح رقيباً أكثر شراسة من رقابة السلطة.

هذا التعارض مرتبط من دون شك بالتخلّف الثقافي، وغياب الوعي، وحين تكون النخب وحدها القادرة على تذوق الأعمال ذات المستوى الرفيع، وتكون الغالبيّة عاجزة عن الاستمتاع إلّا بالأعمال السطحيّة المبتذلة، في مثل هذه الأوساط، تتخذ هذه المشكلة صيغة حادة، يكون فيها الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام المزيفين لخداع الناس بثقافة سطحيّة تتملق غرائزهم وعواطفهم، أو تشلّ عقولهم وتغيّب  وعيهم.

الخلاصة،  أن البحث في أوضاع المثقف والمثقفين يقتضي إبداء اهتمام أكبر بنوع العقل الذي يراد تكوينه للإنسان، وهل هو عقل مشدود الى الخلف؟ أم جامد في مكانه؟ أم هو عقل قادر على التطلع بأمل إلى مستقبل أفضل؟.

***

د. جمال العتابي

 

من الملاحظ إن التدين الذي نراه في واقعنا، ونلمسه في حياتنا، هو تدين على نوعين: تدين شكلي (ظاهري)، وهو تدين بلا روح يَختصر رؤيته بالممارسة الشكلية، وغالباً ما تكون موسمية، وأقرب ما تكون كمظهر كرنفالي، متعدد الدوافع والغايات، وهي بالطبع دوافع لا علاقة لها بالتعبد، وحياة الروح والتي تتراوح بين العادة والتقليد، ومنها ما يكون ذو نزعة ذات مردود شخصي نفعي، وهناك تدين يتسم بالروح والحياة، غايته التسليم لله وتعمير الحياة الروحية، وتهذيب المشاعر الإنسانية، وهو تدين يشمل باطن وظاهر الإنسان، ويملء عليه كل حركاته وسكناته، الحركة الجسدية وما ينطوي عليه الضمير من قيم وأخلاقيات، وما تضمر النفس من أهداف، والعقل من تطلعات، وهو تدين يستحضره صاحبه في كل لحظة، وفي كل مكان، في حركته وسكونه، في ظاهره، وفي باطنه، وللأسف النوع الأول واسع الأنتشار، وهو من لونَ التاريخ بلونه، وهو المهيمن في الصورة العامة لحركة التدين عند الناس، وصوته أصدح، ورنينه أعلى، وبريقه ألمع، وبسبب ذلك ما جعل للدين معناً ومحتوى، وهو على النقيض من دين الحق الخلاق، الذي يدفع بحالة من الحركة التصاعدية  باتجاه تكاملي، وبصيرورة أيجابية . حين بدأ  الأفتراق ما بين الشكل والمضمون حدثت الفاجعة التي عانت بالأمس وتعاني الإنسانية اليوم معاناة هذا الأفتراق، بسبب البون الشاسع بينهما ، وهكذا ترى وراء كل ظاهرة علة تنتهي أليها أسباب ظهورها . النوع الأول هو بالحقيقة تفريغ مروع لمعنى الدين، وانحراف لوظيفته الحقيقة في تقويم أخلاق الإنسان، وتشكيل ضميره الإنساني، وبالتالي ترشيد حركته، وذلك بجعلها حركة بنائية،  ذات توجه أرتقائي، تضفي على الوجود الإنساني معناً متقدماً يستحق عليه لقب خليفة الله في أرضه، أما أنزواء المعنى الثاني وتقهقره أمام المعنى الأول، فهو بالحقيقة أطفاء لشعلة التدين التي عمل الأنبياء على أشعالها، لتنور على البشرية بأنوارها الساطعة، ولذلك يكون التدين الشكلي هو حركة مضادة لحركة كل الأنبياء، واتجاه معاكس لجهودهم الحثيثة طوال الزمن، وتشتيت لمنجزاتهم العظيمة . اليوم هناك قوى دولية، وبحركة دؤوبة  تُستعمل بها كل الأسلحة، الخشنة والناعمة بالوصول لهذا الانحراف لنهايته، والمجيء بدين جديد تضع هذه المراكز الدولية أبجديته ليصنعوا عالماً يقبضون عليه من تلابيبه،  ويقودونه حيث شاءوا هم، وعلى أيديهم ينهي التاريخ فصوله الأخيرة، كما صوره السياسي الأمريكي فرانسيس فوكوياما، عند مخطط نهاية التاريخ والإنسان الأخير، الذي تُهيمن بها حضارتهم الليبرالية في ظاهرها، واليهودية - الصهيونية في باطنها على العالم أجمع حسب زعمهم، وما يخططون له .

***

أياد الزهيري

 

جحودي لك تقديس

وظني فيك تهويس

*

وقد حيرني حب

وطرف فيه تقويس

الحلاج

***

انتشر التصوف الاسلامي في القرنين الثالث عشر و الرابع عشر الميلاديين وحركه التصوف طارئة على البلاد العربية آنذاك فقد ان ذكرت كتب التاريخ ابراهيم بن ادهم هو اول متصوف في الاسلام وانه من مدينة (بلخ) التابعة الى افغانستان اليوم وانتقل منها الى العراق والحجاز والشام وقد لاقت افكاره تأييدا في العراق في ظل الدولة العباسية الاستبدادية حيث دشنت الخلافة هذه بلقب (السفاح) من قبل اول خليفة لها ثم تلاه (المنصور) الذي افتتح برنامجه السياسي بقوله ..(ايها الناس انما انا سلطان الله في الارض..) وقد سار خلفاء بني العباس على نهجه حتى سقوط اخر خليفة (المستعصم بالله) تحت حوافر جيش هولاكو، لذلك اتخذ التصوف منحنى المعارضة للسلطة العباسية كما ان الفقهاء اكدوا للخليفة انه غير مسؤول عن اعماله الدنيوية امام الله في الاخرة وان دخوله الجنة امر حتمي لانه ظل الله على الارض.

معرفة الله عند المتصوفين

يرى المتصوفة ان الله لا تدركه حواس الانسان وان العقل له طاقة محدودة لا يستطيع ان يتجاوزها ولكن القلب يتسع لمعرفة الحقيقة، فالله يدرك عن طريق القلب او مايسمى بالحب الالهي وقد عبرت المتصوفة رابعة العدوية عن هذا الاتجاه شعرا بقولها:

 احبك حبين حب الهوى ..وحل لانك اهلا لذلكا

كما يرى المتصوفة ان الانسان عندما يبتعد عن ملذات الحياة: المأكل والمشرب والجنس ويخلص الى الله يصبح جوهرة نقية تتحد روحه مع روح الله وقد عبر الحلاج عن هذا بقوله .. (مزجت روحك في روحي كما..تمتزج الخمرة بالماء الزلال

فاذا مسك شيء مني .. فاذا انت انا في كل حال

وقد ادعى بعض المتصوفة الالوهية، مثل: البسطامي والتستري والحلاج

*الحلاج: سيرة ومسيرة

ذكر المؤرخون ان الحلاج ولد في مدينة (البيضاء) في بلاد فارس عام 244هـ وان جده كان مجوسيا ثم انتقل الى واسط ومنها الى بغداد والبصرة ومكة وقد تتلمذ على يد (التستري) ثم الجنيد وعاش طوال فترة تنقله في حالة عدم استقرار حتى استقر اخيرا في بغداد وقضى فترة من الزمن متنقلا بين سجن وسجن في ظل الخليفة العباسي المقتدر وشاعت اخباره بين الناس فاختلفوا في امره فمنهم من قال انه زنديق ومنهم من قال انه ساحر ومنهم من رماه بالكفر والالحاد حتى حوكم وحكمت عليه المحكمة العباسية بالصلب فصلب عام 309 هـ .

شطحات الحلاج وخوارقه

اهتم المستشرق الفرنسي (لويس ماسنيون) بالحلاج واخباره وكتب عنه مؤلفا اسماه (اخبار الحلاج) ذكر فيه شطحاته وصلبه،  وقد ذكر احدى شطحاته في ص155من كتابه قال .. (دخل بعض الرجال الى الحلاج في السجن لامتحانه فسلمنا عليه وقال احدهم له: اريد منك رمانة فنظر الي بعين الغضب ثم حرك شفتيه واذا بشجرة رمانة قد نبتت في السجن فقطع منها عشرة رمانات ثم قال لها اذهبي فذهبت الشجرة .

اما انصاره ومؤيدوه فقد ذكروا له خوارق كثيرة منها قولهم: انه ساعة يمشي على الماء وساعة يطير في الهواء وانه يحيي الموتى وانه يأتي باثمار الصيف في الشتاء واثمار الشتاء في الصيف .

صلب الحلاج

في صلب الحلاج قال ماسينون  في كتابه (اخبار الحلاج) عندما اتي بالحسين بن المنصور ليصلب راى الخشبة والمسامير فضحك كثيرا حتى دمعت عيناه ثم التفت الى القوم فرأى صديقه (الشبلي) فقال له يا ابا بكر هل معك سجادتك فقال بلى يا شيخ قال افرشها لي ففرشها فصلى الحسين بن منصور عليها ركعتين فقرأ في الاولى فاتحة الكتاب وقوله تعالى (لنبلونكم بشيء من الخوف والجوع) وفي الثانية (كل نفس ذائقة الموت) وفي رواية اخرى ان الحلاج ضرب الف سوط وبعد ذلك قطعوا يده اليمنى ورجله اليمنى ويده اليسرى ورجله اليسرى ثم ربطوه الى اعلى الخشبة الى اليوم الثاني وبعد ذلك قطعوا راسه وحرقوا جسده حيث تحول الى رماد وقد ذروا رماده في نهر دجلة ونصبوا راسه على الجسر حتى يراه اتباعه وانصاره وقد طافوا براسه في الشوارع والمحلات التي يتواجد فيها انصاره واتباعه ويكون لهم عبرة يعتبرون بها ويقطعون املهم بالحلاج .

موقف انصاره

اما انصاره فقد قالوا ان الحلاج لم يصلب وان الذي صلب هو شبيه له ولم يكتفوا بهذا القول بل قالوا نحن رأينا الحلاج بعد ثلاثة اياما من صلبه وهو يركب على ظهر بقرة ويقول للناس ان الذي صلب هورجل يشبهني واني ساعود اليكم ان ظاهرة (الشبيه) ظاهرة قديمة –حديثة: فقد انكر القران صلب المسيح وان الذي صلب شبيه له كذلك قال بعض المؤرخين ان الذي نفي الى جزيرة (سانت هيلانه) ومات فيها ليس نابليون بونابرت وانما شبيه له وان الذي انتحر ليس هتلر وانما شبيه له وان هتلر استقل طائرته الخاصه وهرب الى الارجنتين وانطبق هذا الامر على صدام حسين بعد اعدامه حيث ذكر انصاره ان الذي اعدم ليس صدام حسين بل شبيه له المسيحي ميخائيل رمضان .فهذه الشائعات وجدت لها مناخا ملائما لتنبت وتنمو وتنتشر وتصدق لملائمة الظروف  السياسية والدينية لتصديقها فقد تعددت الاشباه والموت واحد.

***

غريب دوحي

 

التجربة السنغافورية

سنغافورة، دولة صغيرة تقع في أقصى جنوب شبه جزيرة الملايو، تُعرف بتنوعها الثقافي والعرقي، حيث يعيش فيها مزيج من المالاويين والصينيين والهنود وغيرهم. تتمتع سنغافورة باقتصاد قوي ومزدهر، يعتمد بشكل كبير على التجارة والخدمات المالية. كما انها تُعتبر واحدة من اكثر الدول امانا ونظافة في العالم، بفضل القوانين الصارمة والبنية التحتية المتطورة.

لا أخفي سرا اذا قلت إنني من أشد المعجبين بنظام التعليم السنغافوري، وكثيرا ما كتبت عن هذا الموضوع وشرحت تفوق هذا النظام على الأنظمة التربوية العالمية الأخرى. وبسبب ارتباطي الكبير بهذه الجزيرة لسنوات عديدة، والذي بدأ في بداية التسعينات من القرن الماضي، حيث ساهمت بشكل فعال في تطوير علم البيولوجيا التطبيقية ومساعدة جامعة سنغافورة الوطنية في بناء القاعدة العلمية لانتاج العقاقير الطبية. وقد أشار إلى ذلك "لي كوان يو"، مؤسس سنغافورة الحديثة، حيث قال ان سنغافورة قامت "بتأسيس المعهد العالي للجينات البيولوجية، واستقدمت خبراء من بريطانيا والسويد واليابان، وعملوا معهم بجد ومثابرة على مستوى دولي، مما أدى إلى تطوير صناعة متقدمة للعقاقير الطبية". هذه إشارة واضحة إلى العمل الرائد الذي ساهمت به في تلك السنوات (راجع مقالنا: سنغافورة صرح كبير للعلم والتكنولوجيا، 2014).

مميزات نظام التعليم السنغافوري

- نظام التعليم في سنغافورة هو بلا شك الأفضل في العالم. في الواقع، إن الطلاب السنغافوريين هم الأفضل أداءً في جميع أنحاء العالم والذين يسجلون باستمرار درجات عالية في التقييمات الدولية مثل برنامج تقييم الطلاب الدولي (PISA) ودراسة الرياضيات والعلوم الدولية (TIMSS)، مما يعكس فعالية النظام التعليمي في إعداد الطلاب لمواجهة التحديات العالمية.

- بالإضافة للتفوق الأكاديمي، يولي نظام التعليم في سنغافورة أيضا أهمية كبيرة لتعليم القيم الانسانية وتنمية الشخصية وتعزيز المهارات المهمة للقرن الواحد والعشرين مثل التفكير النقدي والتعاون والإبداع.

- تضع سنغافورة قيمة عالية على استقطاب وتطوير والاحتفاظ بمعلمين عاليين الجودة. يخضع معلمون في سنغافورة لتدريب شاق وتطوير مهني لضمان أنهم مجهزون لتقديم تعليم عالي الجودة للطلاب.

- تم تصميم المنهج الدراسي في سنغافورة بعناية لتزويد الطلاب بأساس قوي في المواد الأساسية مثل الرياضيات والعلوم واللغة. يتم مراجعة وتحديث المنهج الدراسي بانتظام لضمان بقائه ذو صلة وتلبي احتياجات عالم متغير.

- يشدد نظام التعليم في سنغافورة على أهمية التعلم مدى الحياة والتحسين المستمر. يتم تشجيع الطلاب على اعتناق نمط العقل التوسعي ومتابعة فرص التعلم خارج الفصول الدراسية.

- تستثمر سنغافورة بشكل كبير في التعليم، وتوفر للمدارس مرافق حديثة وتكنولوجيا محدثة ومجموعة واسعة من الموارد لدعم التدريس والتعلم.

- يتمتع نظام التعليم في سنغافورة بشراكات قوية مع الصناعة والجهات الحكومية والمنظمات المجتمعية لتوفير للطلاب تجارب تعلم عملية وفرص للتدريب العملي والإرشاد المهني.

ماذا يمكن أن يكون السبب في أن نظام التعليم في سنغافورة هو الأفضل في العالم؟ وما هي الدروس التي يمكن أن نتعلمها منهم؟

تهدف وزارة التعليم السنغافورية إلى "تطوير شغف التعلم لمساعدة الطلاب على تحقيق إمكاناتهم الكاملة واكتشاف مواهبهم ومساعدتهم على التفوق". وقد اختارت منهجا فريدا من نوعه للتعليم مع التركيز الأساسي على ضمان نمو الفرد النفسي والاجتماعي. يعتمد تعليم سنغافورة على  الأساليب المهنية النوعية والماهرة، وهذا هو سبب إنفاق 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على التعليم.

جودة التعليم السنغافوري فريدة من نوعها من حيث طرق التدريس والتعلم وتميز نفسها عن البلدان الأخرى من خلال التركيز على جودة التعليم بدلاً من كميته.

رواتب المعلمين سخية وليس عليهم أن يتحملوا وطأة السياسات الاقتصادية القاتلة للحكومة. يتم منحهم مكانة أكثر شرفاً في المجتمع من أي مسؤول حكومي آخر. من النادر العثور على أي خطأ في المدرسة فالمرافق مجهزة بأفضل التجهيزات، ونسبة الطلاب إلى المدرسين هي 15: 1 في المرحلة الابتدائية و 11: 1 في المرحلة الثانوية، اما معدل التسرب فهو لا يكاد يذكر ونظام القبول صارم للغاية. وسيلة التدريس هي اللغة الإنجليزية فقط ويعد "التعلم المبهج" و"الإحساس بالوطنية" لدى الأطفال و"تعلم أقل لتعلم المزيد" من السمات المهمة لنظام التعليم في سنغافورة.

إذا تحدثنا عن المنهج، فقد اعتمدت الدولة منهجا يمكن مواطنيها من مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. على الرغم من أن هذه الدولة كانت تحت الحكم البريطاني لفترة طويلة، إلا أنها لم تتبنى نظام التعليم الغربي بالكامل. يركزون على قراءة وتدريس الرياضيات والعلوم واللغة الأم من المستوى الابتدائي والى المستوى الاعدادي، وتم تبني المواد المهنية الأكثر توجهاً عملياً بدلاً من الموضوعات التقليدية في سنوات الثانوية وما بعدها فمعظم المدارس في سنغافورة هي مدارس موجهة للتطوير المهني. ومن ثم، يوجد حد أدنى لعدد ساعات التدريب المهني لكل معلم.

يعتبر عدم قيام الوالدين بإرسال أطفالهم إلى المدرسة جريمة جنائية بموجب قانون الحق في التعليم لعام 2010. والتي بموجبه يمكن معاقبتهم أو تغريمهم. كما يجب توفير "التعليم المنزلي" والموافقة عليه بصورة خطية من إدارة التعليم. لأن الحكومة هناك ملتزمة ومسؤولة عن التطوير النوعي لمواطنيها.

وفي مقابلة مع صحيفة الفاينانشيال تايمز اللندنية، قال رئيس الوزراء السنغافوري "لي هسين لونج": "إن نظام التعليم مصمم لتدريب الطلاب على الوظائف التي يمكنهم شغلها. ولهذا السبب، عندما يتخرج الطلاب، يحصلون على عمل على الفور."

ولكن هذا ليس إلا غيض من فيض، حيث يوجد الكثير لنتعلمه من التعليم في سنغافورة. ومنه ما يلي:

- يعلم المنهج مهارات حل المشكلات والتفكير الإبداعي.

يهتم التعليم السنغافوري بالجوهر الحقيقي للتفكير النقدي ويدرب الطلاب على تعزيز مهاراتهم بشكل كامل لحل مشاكل مكان العمل ذات الصلة، بالإضافة إلى ايجاد الحلول بفعالية. ويقدم مجموعة متنوعة من أساليب التفكير التي يمكن الطالب من استخدامها لصالحه. ويكتسب الطلاب من خلاله نظرة ثاقبة حول كيفية تقييم عبارات المشكلة المختلفة بشكل فعال وتقديم استنتاجاتهم بطريقة منطقية ومقنعة.

- يركز منهج سنغافورة على تعليم الطلاب مهارات إبداعية وحل المشكلات.

- يتم تعليم الطلاب موضوعات محددة توفر المعرفة العملية والمهارات التي تمكنهم من حل تحديات العالم الحقيقي.

- بالإضافة إلى ذلك، يقوم جميع أصحاب المصلحة في مجال التعليم بتقييم وتحسين النظام المدرسي باستمرار لتحسين الأداء.

معايير التعليم العالي للمعلمين

- قبل أن يتم توظيف المرشحين من الحاصلين على شهادات جامعية في التعليم بشكل كامل، يتم اخضاعهم لتمرين وفحص صارم.

- يتم أيضا تأهيل المعلمين وتطويرهم بكفاءة قبل تلقي التدريب.

- بمجرد اختيار المرشحين لمنصب معلم، يتم نقلهم إلى تدريب مهني كامل أوصى به المعهد الوطني للتعليم.

- بعد الانتهاء من التدريب، يأخذ المعلمون المرشحون دورة تدريبية في التطوير المهني تستغرق 100 ساعة.

برنامج إنكليزي لا مثيل له

أنشأت هيئة التعليم في سنغافورة برنامج تعلم وقراءة اللغة الإنجليزية في عام 2006 لمساعدة الطلاب متعددي اللغات على تعلم اللغة الإنجليزية والتي هي اللغة الاولى في البلاد، ويشتمل البرنامج على تقنيات الدراما ولعب الأدوار لتحسين المهارات اللغوية للطلاب.

مناهج الرياضيات الرئيسية

على الرغم من أن الرياضيات هي أصعب موضوع للعديد من الطلاب حول العالم، إلا أن نظام التعليم في سنغافورة ينتج أفضل الطلاب في الرياضيات في جميع أنحاء العالم. وهذا يرجع إلى النهج الكفء للمؤسسة التعليمية الذي يشجع الطلاب على تعلم الرياضيات باستخدام الوسائل البصرية والعملية مثل المخططات الشريطية والكتل وما إلى ذلك.

مسارات تدريب مختلفة

نجاح سنغافورة كدولة، يعود إلى كون السياسات الاقتصادية والتربوية براغماتية، وليس أيديولوجية بحيث تؤكد دائما على أهمية الجهود ومعايير الجودة. وتؤكد سياسات التعليم على تحقيق الجدارة في مواضيع ثلاث رئيسية وهي العلوم والرياضيات واللغة الإنكليزية. أما في التعليم العالي فتؤكد سياساتها على التعليم التكنولوجي والمهني في معاهد تقنية وبولي تكنيك. وهناك خمس جامعات تضم 27% فقط من الطلبة المؤهلين لولوج التعليم العالي.

يوفر النظام التعليمي في سنغافورة للطلاب مسارات و تفصيلات تعليمية مختلفة. وتم تصميم نظام التعليم لتشجيع الطلاب على إيجاد شغفهم واهتماماتهم.

يحصل الطلاب السنغافوريون على مسارين للتدريب المهني، وكليات الفنون التطبيقية، وكليات المبتدئين التي تؤدي إلى التعليم الجامعي.

تم تصميم النظام المدرسي لتعزيز قدرات التعلم ونقاط القوة لدى الموهوبين مع إنه يمنح جميع الطلاب فرصًا متساوية في العالم الحقيقي.

الخلاصة

نظام التعليم في سنغافورة يتميز بعدة جوانب تجعله من بين الأفضل في العالم. تستثمر سنغافورة حوالي 20% من ميزانيتها الوطنية في التعليم، مما يعكس التزام الحكومة بتوفير تعليم عالي الجودة لجميع الطلاب. يركز النظام التعليمي في سنغافورة على تطوير مهارات وقدرات كل طالب بشكل فردي، مما يساعد في تنمية مواهبهم الفريدة وتوجيههم نحو المجالات التي يبدعون فيها. يتم تدريب المعلمين بشكل مستمر لضمان أنهم يستخدمون أحدث الأساليب التعليمية وأكثرها فعالية، مما يضمن أن الطلاب يحصلون على أفضل تعليم ممكن. بالاضافة الى ذلك، المدارس في سنغافورة مجهزة بأحدث التقنيات التعليمية، مما يساعد في توفير بيئة تعليمية محفزة وممتعة للطلاب.

اخيراً، لا يسعنا إلا التأكيد على أن سنغافورة تتمتع بأفضل نظام تعليمي بسبب نظام التربية والثقافة من الدرجة الأولى في البلاد. وليس سراً أنه يمكننا تعلم الكثير من سنغافورة فيما يتعلق بأساليب التعليم والتعلم لتحسين قطاع التربية والتعليم العالي في بلداننا العربية.

***

ا. د. محمد الربيعي

.......................

ملاحظة: هذه المقالة مبنية على مقالة للكاتب نشرت لاول مرة في 7.4.2023 بعنوان "لماذا تفوقت سنغافورة في التعليم؟".

مقالات سابقة في هذه السلسلة:

1) التجربة البريطانية:

https://www.almothaqaf.com/qadaya/976386

2) التجربة الصينية :

https://www.almothaqaf.com/qadaya/977101-2

3) التجربة الكورية:

https://www.almothaqaf.com/qadaya/977233-3

ـ الضرورة الوجودية القصوى.. صحوة العراق:

يفصل بين المحطتين والزمنين "الانسايواني" الانتقالي، و "الانسان" الغاية والمقصد الوجودي، فاصل على مستوى الادراكيه والوعي البشري، موضوعه المحوري مكان من المعمورة يحتل موقع الابتداء على مستوى التبلور المجتمعي في ارض سومر جنوب ارض الرافدين حيث مجتمعية الازدواج النهري والمجتمعي، والكينونة اللاارضوية اللاكيانيه الكونيه المتعدية للوطنيات وللدولة، ولمجمل التفارقية البشرية المجتمعية، وهو مايظهركابتداء منطو على وحدة الكائن البشري خارج التباينات الموضعية المحلية الكيانيه، ودولة التمايز، تحول دون تحققه في ساعته، وطاة الانتاجية "اليدوية" الموافقة للارضوية الكيانيه ومجمل بناها، ماديا، يضاف له النقص الادراكي العقلي،  وحدود اعقال الوثبة الاولى  المنطلق غير المكتمل العناصر، بانتظارالتاريخ الارضوي في تفاعليته المديده، وايهاميته الجسدوية الارضوية، الى ان  تتوفر الاسباب الضرورية بناء على الانقلاب الالي/ العقلي.

على مدى الطور اليدوي، يتعذر على العقل البشري الاحاطة بسبب القصور كينونة، باللاارضوية السومرية الرافدينيه،  بما في ذلك ضمن حدودها هي بالذات، وهو مايبقى ساريا على مدى الطور اليدوي الكيانوي، مكرسا الغلبة النموذجية الارضوية بنمطها البدئي النيلي المقابل المتوافق كليا مع اشتراطات الانتاجوية اليدوية، بما هي حال انتكاس موافق للاشتراطات الغالبه ابتداء، واقعا وعقلا، مع مايحايثها من قصور ونقص موضوعي مانع للانتقال الى مابعد ارضوية، ومابعد "انسايويانيه".

وقتها، وعلى مدى تاريخ ارض اللاارضوية يتعذر على المكان منطوى الهدف من المجتمعية ادراك ذاتيته،  وان هو عبر عنها بما متاح له في حينه، وخلال مسارات تاريخه المحكوم للدورات والانقطاعات، باشكال من التعبيرية الاولية الدنيا، من قبيل النبوية الحدسية الاولى الابراهيمه، او الانتظارية والقرمطية وصولا للمهدوية التي ختمت الدورة الثانيه العباسية القرمطية باحالة المطلوب الى دورة قادمه ثالثة،  مع انتهاء الزمن النبوي الحدسي من ساعتها، فالقصورية العقلية الموضوعية حاضرة هنا ايضا، وتفعل فعلها وان باختلاف يضعها بموضع النمطية الاخرى غير الارضوية وبمقابلها، محققا الازدواج مع اختراقه الشامل لبنية الارضوية ومجتمعاتها خارج ارضها، ويبقى الامر محكوما لاشتراطات التعذر والنقص، فلا ارض رافدين واعية بذاتها، الى ان تدخل زمن التحولية العظمى المواكبة، والتي تبدا مع الانتقال من اليدوية الى الالية.

ان ابرز مايرافق الانقلاب الالي، واخطر مايتولد عنه، حال التوهمية الكبرى اليدوية المغلفة بغلاف الالة، وهو مايكون حصة الانقلابيه المستجدة  بناء لوقوعها كابتداء في الكيانيه الارضوية الاعلى ديناميات ضمن صنفها ونمطيتها، اوربا ببنيتها  الازدواجية"الطبقية" مادون المجتمعية، والتي تعرف بمناسبة انتقالها الافتتاحي الى الالة، منظورا وممكنات محدودة حكما وبنيويا بحدود ممكنات الرؤية والادراكية الارضوية، مولدة طبعة اخرى من تلك اليدوية المتقدمه خطوة، والتي تكرر وتؤكد ممكنات وموضوعات واستهدافات اليدوية السابقة، من دون انتباه او مجرد تحسس بالاحتمالية الانقلابيه المستجده  مع الالة مجتمعيا، من الارضوية الى اللاارضوية،  وعمليا من الجسدية، الى العقلية، وهنا تستعاد مرة اخرى وطاة القصورية العقلية والنكوص التاريخي المديد ازاء الظاهرة المجتمعية، طبيعتها ومنطوياتها وسيرورتها التاريخية.

دخل العالم مع الاله وحضورها الاستثنائي، ليس عصر التحول من اليدوية وتكرارها نوعا مع تغير الوسائل،  بل لحظة وعصر الانتقال من "الانسايوان" الى "الانسان"، وحكما من المجتمعية الارضوية الغالبة، الى اللاارضوية السماوية الوطن/ كونية، وهو مالم يكن واردا التحول اليه بين ليلة وضحاها، ومن دون حضور لاجمالي التراكمات المترسبة والمتراكمه من النقص والقصور التاريخي، يكرسها نوع المجتمعية التي تنبجس  بين ظهرانيها الالة   بمايتيح  لوطاة الماضي الطويل ان تحضر بصيغة بداية ايهامية، ومفتتح يعززه مستوى القصور طويل الامد وفعله  التاريخي والراهن.

تحضر الاله مع القرن السابع عشر بينما يكون الطور اللاارضوي الازدواجي الثالت بدا قبلها  ومع طلائعها بالانبعاث في ارض سومر التاريخيه، بعد بضعة قرون من الانقطاع، تستمر من الثالث عشر 1258 مع انهيار الدورة الثانيه العباسية القرمطية المهدوية بسقوط عاصمة الامبراطورية الازدواجية الثانيه بعد بابل، مع دخول هولاكو بغداد المركز الكوني ضمن الازدواج المجتمعي بدورته الثانيه بعد الاولى السومرية البابلية الابراهيمه المنتهية، وهكذا  تتهيأ عمليا وابتداء خارج الملاحظة والمعلوم، اسباب التوافقية الالية بصيغيتها التكنولوجية العليا مع اللاارضوية العقلية، كهدف ومنتهى للانقلاب الالي، بينما تبدا العملية المذكورة ابتداء وبحكم الواقع المعاش، ودعم القصورية العقلية، حالة كبرى من التوهميه تعززها الممكنات التي تتيحها الاله وتمنحها كمصدر قوة هائلة للبنى الارضوية الطبقية الاوربية، فلايرد على الاطلاق بحكم الكينونة  القصورية العقلية الموروثة في البال، لاداخل ارض الوطن/ كونية نفسها، ولا بالطبع ضمن موضع انبجاس الاله، اي اعتبار لممكنات واحتمالات ومستوى اثر وفعالية الاله الفعلي وليس المباشر الاني، وهكذا يفعل القصور الموروث فعله، ويتسبب باحتدامات كبرى وتناقض واقعي ادراكي هائل الاثار على المجتمعات والعالم وصولا لمنتهيات تفاقم الخطر التفارقي العقلي الواقعي الحاصل اليوم ومن هنا فصاعدا.

وليس ماتقدم بالاحرى خارج الديناميات والسياقات التحولية التاريخيه الاصطراعية الكبرى الارضوية اللاارضوية، فالغلبة النموذجية والتصورية الغربية، وماتتمتع به بفعل الالة من تسارع استثنائي في الديناميات المجتمعية ومايواكبها من تعد للكيانيه "الوطنيه" الى  الامبراطوريات، وحكم راس المال وبنيويته الاستغلالية التسلطية  المكرسه للتبعية كخاصية ملازمه، ليست بدون اثر، او هي  غير منطوية على اسباب تحريك محفز للانقلابيه العقلية الملائمه للعصر، تلك  الالية الفعلية والانتهائية، وليس الافتتاحية التوهمية الغربية ومبالغاتها الارضوية ومنها ادعاءات العلمية والعقلية، فالغرب اذ يشمل ارض الرافدين المتشكله منذ القرن السادس عشر مع ظهور "اتحاد قبائل المنتفك" مترسمه قانون تشكلها التاريخي، ويمارس مهمة الافناء والسحق النموذجي عليها بالفبركة الاكراهية ل" الدولة" الكيانيه الوطنيه على النموذج والنمطية الغربية المكرسة، فانه انما يؤجج الاسباب الضرورية للانتقال الى التعبيرية الكونية الثانيه العظمى المنتظرة، بعد تلك الحدسية الاولى الابراهيمه والتوسطية المهدوية، حيث فك الازدواج المجتمعي، وبداية تبلور  المنظور اللاارضوي العلّي السببي،  الذاهب بالكائن البشري من "الانسايوان" الى " الانسان"، المنتظر منذ الوثبة العقلية الاولى الى اليوم.

يتبع: الغرب التوهمي والصحوة  اللاارضوية العظمى.

***

عبد الامير الركابي

 

تُشكل الثقافة في قيام الدول وبناؤها أساساً هاماً في استقرار الشعوب، وتشخص بأن لها حدود ومعالم، وماضٍ وحاضر، وآمال وطموحات تسهم في تمليك شعوبها الثقة والعلم في صناعة الواقع وتقدمه، وعلى ترسخ حسن العلاقات بين الدول المختلفة، والكيانات الحادثة، التي باجتماعها ومواقفها وتحضرها تزدهر الأمم، ويعلو البناء،والحكومة المخلصة تشرف في إدارة شؤونها، وترفع راية عزتها ونهضتها و' تشكل الثقافة العمق الوجداني في حياة الشعوب والأمم، وإذا كانت التنمية في جوهرها تعمل على تعزيز مستويات العيش المشترك بين الناس، والنهوض بحياة الأفراد في المجتمع، فإن الجهود التنموية لا يمكنها أبدا أن تنفصل عن التكوينات الثقافية للمجتمع، والثقافة تؤدي دورا محوريا في العملية التنموية، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان في الميدان التنموي المعاصر بالنسبة للباحثين والمختصين'.

ان الدولة بتكامل سمات ثقافتها التي تعني كيان قائم، فاعل، ومنظومة حضارية لتحكيم مصالح الأمة فتكون اعمالها متقدمة ومنظمة، وذلك من خلال الحكومة المدركة لمصالحها التي تشرف عليها، وتتابع إدارتها للمؤسسات السياسية والثقافية المختلفة، ولا ترقي الحضارات، وتتقدم الشعوب إلا من خلال الدولة ونظام حكومي واعي والاستقلال السياسي الكامل الغير منقوص.

ان للثقافة التي تعني مجموعة من السمات المادية والفكرية والعاطفية ولغة وتاريخ وتراث وانتاجات فكرية وعاداة وانماط فكرية وسلوك تلك الدول 'التي تتميز بها باتجاهاً عاماً ينعكس على ارتقاء الأذواق والتقدم الحضاري، والتمثيل الصادق لعادات المجتمع وتقاليده وعقائده وديانته، وتراثه وواقعه بما يكشف النقاب عن الآمال والطموحات، التي تأخذ كلَّ أمة من خلالها مركزها ومكانتها، وتقدير الشعوب الأخرى لها، وذلك هو التطور المشاهد في فعاليات المجتمع الدولي، الذي يعبر عنه ويكشف عن بعض تفاصيله: الإعلام والمؤتمرات، وتوصيف مقدار السبق والبروز، وحدود التقدم الحضاري الذي أخذت الدول الناهضة تنشده وتسعى إليه؛ حتى لا تتراجع من المقدمة إلى المؤخرة، أو من الأمام إلى الخلف.

لا احد يشك من كون ان الثقافة هي قوة مؤسسة وداعمة في البناء، وتوطين البشرية المستدامة، وخالقة المجتمعات المسلمة القائمة على مبدأ المساواة والحقوق والواجبات، إضافة إلى إسهامها في الحفاظ على النمو الاقتصادي وبالتالي القضاء على الفقر. ولهذا فإن الثقافة تُعد اليوم لها الركيزة الأساسية لتنمية المجتمعات، وبناء القدرات، وتعزيز الروابط والعلاقات بين القطاعات التنموية المختلفة، لأنها تحمل أبعادًا اجتماعية واقتصادية وبيئية وإذا أردنا تحقيق الأهداف التنموية الوطنية المستدامة علينا العناية بالثقافة ودعمها، وتمكين الصناعات الإبداعية، التي تُعد اليوم الملاذ الآمن للاقتصادات الواعدة في المستقبل، ولن تتمكن من ذلك سوى بتقييم واقع هذه الصناعات وكيفية النهوض بها في ظل التطور الهائل في منظومة التقنية وتنمية الابتكار، ويمكن للتكنولوجيا الرقمية الحديثة الدور الأسرع بعد ما أصبحت أداة رئيسية مكتشفة في العقود الاخيرة للتعبير الفني والثقافي والإبداعي وتحديات الفجوة الرقمية وتبدو وكأنها تتجاوز الجوانب التقنية، ومن ثم توضع في منظورها الاختلافات الاقتصادية والاجتماعية . اذاً للثقافة كما يقول الفيلسوف الألماني عمانويل كانت ' مجموعة من الغايات الكبرى التي يمكن للإنسان تحقيقها بصورة حرة وتلقائية، انطلاقا من طبيعته العقلانية وهي أعلى ما يمكن للطبيعة أن ترقى إليه'.

لا تقف فعاليّة الثّقافة في مساراتها المحلية بل تتجذر وتأخذ فعاليتها وتقوى في قلب المجتمعات العابرة للقارات، أي في عمق الحياة الثقافية للعالم على مختلف تشعباتها وامتداداتها. ويتم هذا التفاعل الثقافي في المستوى العالمي بتأثير التكامل الفعال بين التنوعات الثقافية والبيولوجية في العالم، وهو نوع من التفاعل الذي لا يمكن أن تنفصم عراه. وقد تشكل هذا التكامل الثقافي من خلال عمليات التكيف الثورية المستمرة بين الإنسان ووسطه الطبيعي عبر التاريخ.

من المخاطر التي تهدد هي إن أية ثقافة أو لغة تتعرض للانقراض أو تهدد بالزوال هي خسارة للبشرية وللإرث البشري وأن وعي البشر يتشكل من خلال المعطيات اللغوية أولا. من هنا اختلاف الوعي البشري وتنوعه الذي هو مصدر غني للبشرية،لكن هناك وعيًا بذلك الخطر ودلالاته المستقبلية، ونحن نعتبر مسألة الاختراق الثقافي حقيقة جلية في هذا العصر، عصر الثورة المعلوماتية والاتصال الرهيب، ولكن المواجهة وعدم القبول بكل ما يفد إلينا، ليس والتقوقع والانعزال بل بالفرز والانتقاء والاستعداد والتكيف مع الواقع والدعوة إلى الخصوصية الحضارية والتمايز الثقافي والفكري، مع الانفتاح على الآخر والتفاعل مع الجديد المفيد

***

عبد الخالق الفلاح - باحث واعلامي

ذكرت في مقال الأسبوع الماضي أن عقل الإنسان ليس مرتبة واحدة. فثمة عقل عملي يدير حياتك اليومية، وثمة عقل نظري يتأمل حقائق الأشياء ويفكك معانيها.

هذا التقسيم ليس جديداً، فقد شاع في كتابات الفلاسفة اليونانيين، ومنهم انتقل إلى علماء المسلمين، على يد أبي نصر الفارابي، كما أظن. واشتُهر الفارابي بلقب «المعلم الثاني» مقارنة بأرسطو المعروف باسم المعلم الأول، وقد جمع تعريفات العقل من مختلف كتب أرسطو، ورتّبها بإيجاز في رسالته المعروفة باسم «رسالة في العقل».

وثمة مؤشرات إلى أن هذا التقسيم، إضافة إلى القول بالعقل الفطري، كان معروفاً في عصر الإسلام الأول، قبل تعرف المسلمين على الفلسفة اليونانية، حيث تظهر نصوص صريحة وإشارات قوية للمستويات الثلاثة في روايات عن النبي محمد - عليه الصلاة والسلام - وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وآخرين، وجميعها منشورة، ومنها ما هو قوي الإسناد ومنها الضعيف.

وأشارت الروايات إلى العقل الفطري باسم عقل الطبع أو العقل المطبوع، أي السابق للتجربة. وأشير إليه في الفلسفة المعاصرة باسم «المبادئ القبلية». وهي – في الأصل - مجموعة القواعد التي يولَد الإنسان وهو مجهَّز بها تكوينياً، وتعدّ لازمة كي يخطو خطواته الأولى في الحياة، ومنها الغرائز الضرورية للبقاء على قيد الحياة، ومنها التمييز بين البشر (الأم والأب مثلاً) وبين الجمادات. وكذا طريقة التعبير عن الفرح والألم، وأمثال ذلك. لكن الفلاسفة أضافوا إليها أيضاً قضايا عقلية بحتة، مثل إدراك العقل لاستحالة اجتماع المتناقضات وربطه بين الحدث وسببه، وأمثال ذلك. والمفهوم أن هذه القضايا، وإن أدركها الإنسان بالحدس، إلا أنها لا تتبلور وتتضح قبل سن الرشد. ورفض الفلاسفة التجريبيون مثل جون لوك وديفيد هيوم هذا الرأي؛ بناءً على أن كل المسائل العقلية نتاج للتجربة، ولم يكن في العقل قبل ذلك سوى الغرائز البحتة، التي لم يعدّوها عمليات عقلية بالمعنى المتعارف.

ثم نأتي إلى التقسيم الثنائي بين العقلين النظري والعملي. أما العقل العملي فهو الذي يستعمله الناس كافة من دون استثناء. ولا أظن أحداً لا يستعمل هذا المستوى، فهو يحتاج إليه في كل جزء من أجزاء حياته، من المأكل والملبس إلى الوظيفة والعلاقة مع الناس وغيرها. وحين نتحدث عن خضوع الإنسان لإملاءات الجماعة وانسياقه مع الحشد (سلوك القطيع)، فإننا نتحدث عن هذا المستوى من التعقل، أي التعقل المستعمل عادة في تدبير الحياة اليومية المنتظمة، وهو – بالتعريف – محدد في إطار العلاقة مع المحيط الطبيعي أو الاجتماعي، انفعالاً بمقتضياته أو تفاعلاً معها.

أما العقل النظري، فإنه يستعمل في أبسط مستوياته عند غالبية الناس، حين يواجهون مشكلات فيسعون للبحث عن حلول، من خارج الصندوق كما يقال، أي حلول غير معتادة أو متعارفة، لمشاكل حياتية أو وظيفية أو معرفية، حين يجب على الإنسان أن يتخلص من تناقضات في فكرة أو في موقف.

أما في المستويات الأعلى، فلن تجد إلا «زبدة الزبدة» كما يقول الفرنسيون، أي زبدة العلماء والمخترعين والمكتشفين والفنانين والفلاسفة والخبراء ورجال المال والسياسة.

إن تميز هذه الفئة القليلة عن عشرات الملايين من أصحاب العقول في شرق الأرض وغربها، لم يأتِ اعتباطاً ولا لأنهم يملكون واسطة قوية، بل لأنهم نجحوا في اختراق جدار المألوف والمعتاد، وطرحوا أفكاراً جديدة تسهم في تغيير مسار الملايين من الناس وتحسين حياتهم. وجود هذه الفئة على وجه الخصوص، ووجود المبدعين وأهل العلم عموماً، دليل على القيمة العظيمة للعقل ودوره في تغيير الحياة، وهو دعوة لكل عاقل كي يثق في العقل وقدرته على تغيير الحياة، وهو – بطبيعة الحال – رد على أولئك المرتابين في قابليته لإدارة المجتمع البشري وإصلاحه.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

يوما بعد يوم تَتَّسِعُ الفَجوة وتَزداد الهُوة بينك وبين الآخرين، تتساءل أنتَ «لماذا؟»، لماذا أنتَ دون الآخرين، لكنك لا تَدري شيئا.. لا تَدري كيف وصلتَ إلى هذه الحقيقة الْمُرَّة التي لا تَستكثرها عليكَ تجربتُكَ في الحياة.

الحياة هذه التي تَسلبك حقك في الحياة ما أشقاها ما أشقاها! وأنتَ الواقف فيها على قدم واحدة تنتظر لحظة سقوطك الحقيقية بعد أن سَقَطْتَ من عين الأغلبية دون أن تُضْمِرَ حِقدا أو تُبَيِّتَ نِية.

نِيةُ الغَوْغَاء والرِّعَاع والهَمَج الذين يَزحفون على أرضك زحفا نهايتُها الطمع في مَسحك من الوجود عن إصرار، وأنتَ لا تدري لِمَ هذه الضغينة التي تَجعلك غير مرغوب فيه، بل تَجعلك بطلَ الرفض الاجتماعي.

الرفض الاجتماعي نتيجة، أما السبب الخَفِيّ فلا يخرج عن البطولة المطلقة التي يَلعبها واقعيا هُواةُ نَقْلِ الكلام الذين يُجَنِّدُونَ نُفوسَهم الأمَّارة بالسوء وقلوبَهُم التي أعماها الحِقد، يُجَنِّدُونَها للمَجزرة التي تُذْبَحُ فيها أنتَ وإحساسك، يُجَنِّدُونها للمحرَقة الكبرى التي يُحْرَقُ فيها قلبك وعيناك الباحثتان عن شيء مِن العدل لإنصافك في غير زمن العدل الذي صَنَعَ الأبطال.

أبطال لُعبة نَقْلِ الكلام يَتَسَلَّوْنَ بِمَضْغِ إحساسك ليَزْرَعُوا الفتنة الأكبر من القتل وهُمْ يُفَجِّرُون المشاكل الْمُفْتَعَلَة بينك وبين الآخرين ويَقطعون العلاقات بينك وبين الآخرين ويُعَبِّئُون ضِدَّك (بالبُغض) قلوبَ الآخرين لِتَحْدُثَ القَطيعة.

القطيعة تَبْدَأُ مِن حيث انتهى نَقْلُ الكلام الذي لا يُؤَدِّي إلى غير الحرب الباردة والخصام، وإذا بكَ تسأل نفسك: أينَ هُم مِن مَداخِل العِزَّة وتَحصين النفس؟! أين هُم من قاعدة «لا أرى، لا أَسمع، لا أتكلم» التي يُنْتَظَرُ مِن المسلِم أن يَعمل بها وهو الذي يَجْدُرُ به أن يُسَلِّمَ أمره لله حتى يَسْلَمَ.

يَسْلَمُ حقيقةً من سَلِمَ لسانُه وعيناه وأذناه، يَسلَم من نأى بنفسه عن أن يكون من صُنَّاع نَقْل الكلام، يَسلم من لا تَستدرجه عيناه إلى مُسْتَنْقَع الهَمْز واللَّمْز رغبة في السخرية والانتقاص من سواه (ويل لكل هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)، يَسلم من لا يُسَلِّمُ أذنيه لغيره وهو يَجتهد في تفصيل القِيل والقال طلبا لإعفاء مَن لا يستحق مِن حقه في التقدير والاحترام سواء.

سواء بالـ«كوليرا» أم «الطاعون» أم «سارس» أم «كورونا» أم بالفقر الملعون، فإننا كُلنّا إلى الله راجعون.. راجِعٌ إلى الله أنتَ وليس في انتظارك أكثر مِن حُفرة، حُفرة تَتَمَدَّد فيها وحدَك: لا مال ولا «عيال» ولا ذَوات الحُسْن والجَمال ولا ذهب أصفر ولا أسود.. وحدَها حَسَنَاتُك تُضيء قبرَك المعتَّم إن لم تَسبقك إليه ذُنوبك ومعاصيك لتَفْتَرِشَها وتَلْتَحِفَها وتَتَوَسَّدَها مِن حيث تدري أو لا تدري.

نافِذَةُ الرُّوح:

- «بَريق الدنيا كاذِب».

- «كُنْ أكثرَ صلابة مِن الأرض التي تَقف عليها حتى تَصمد في وجه الأيام».

- «مَعتوه مَن يرى جَنَّتَه في إحراق سِواه».

- «شَتَّانَ بين الورد واليَد الخَشِنَة التي لم تَتَعَلَّمْ كيف تُحافظ عليه!».

- «بين شَفَتَيْن موتُك أو حَياتُك».

- «نَسِيتَ أنْ تُرَتِّبَ حُجراتِ عَيْنَيْكَ بعد جريمةِ قَتْلٍ لَمْ تَنَمْ».

- «الإِبَادَةُ الحقيقيةُ بَطَلُهَا فَمُكَ».

***

د. سعاد درير

 

في قلب الكون البعيد، حيث تتناثر النجوم كحبات اللؤلؤ على ثوب الليل، يكمن سر الحب، ذلك الإكسير الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان. الحب هو اللحن الأصيل الذي يترنم به كل كائن، يعزف على أوتار الروح بديع الألحان، ويشعل في القلوب شعلة من الأمل والحنين.

أفلا ترى أن الحب هو تلك اللحظة التي تتلاقى فيها الأرواح في عمق فوضى الوجود؟ هو التصاقٌ خفي بين الأنفاس، حيث يذوب الزمان وتختفي الحدود. في كل نبضة قلب، ينسج الحب خيوطه البراقة، ينسج من الحلم سجادةً نعبر عليها نحو الغد، ومن الفراق حكايةً نبني بها قصور الأمل في سماء الوجود.

ولكن، كيف يمكننا تفسير هذا السر الغامض؟ هو ليس مجرد شعور عابر، بل هو روح متجددة تتغلغل في كل زاوية من زوايا الذات.  هو الفوضى التي تضع النظام في كل شيء، هو الإلهام الذي يبعث القوة في الضعيف، والهدوء في العاصفة. هو الغوص في عمق البحر المظلم، ثم العودة إلى السطح مع كنز من الإضاءات الروحية.

وفي كل مرة نتحدى فيها الموت بأحلامنا، نجد الحب مرشدنا. في كل لحظة نرتب فيها أفكارنا، يكون هو النور الذي يقودنا نحو الفهم. هو الثقب الذي نرى منه نور الحقيقة، وأحيانًا هو الضباب الذي يغطي عيوننا ليسمح لنا بالبحث والابتكار.

الحب، إذن، ليس فقط تواصلًا بين قلوب، بل هو فلسفة تعيد تعريف وجودنا، وتمنح للحياة معنىً أعمق. في النهاية، هو قوة تُشعرنا بإنسانيتنا، تُجدد فينا الإيمان بأننا، رغم كل التحديات، قادرون على بناء عالم أكثر نورًا، عالم يحتضن كل الأحلام.

لكنه يحمل في طياته ألم الفراق، هو ذاك الشوق الذي يشتعل في الليل البهيم، ويترك القلب وحيدًا في بحر من الذكريات، يهيم على وجهه بين طيات الماضي والحاضر. في كل دمعة تذرفها عيون العاشقين، يختبئ الحب كما يختبئ القمر خلف السحاب، ينير الطريق للحظات، ثم يختفي ليترك النفس تائهة في ظلمة الوجد.

 هو ذاك الانصهار بين الفرح والحزن، بين البدايات والنهايات. هو رقص الأرواح في مشهد سرمدي، حيث لا مكان ولا زمان. ولكن في النهاية، الحب هو القصة التي نحياها ونكتبها، هو القلم الذي يخط على صفحات العمر كلمات تحمل في طياتها كل المعاني، معاني لا تنضب ولا تذبل مع مرور الأيام.

في أعماقه، نجد أنفسنا نعانق المجهول بشغف الأطفال، نتخلى عن يقيننا لنخوض في بحر من التساؤلات، علنا نجد في الحب إجابة لكل ما يثير فينا الحيرة والقلق.  هو المرآة التي تعكس ضعفنا وقوتنا، هو المراوغة التي تخفي حقيقتنا، ولكنه أيضًا الحقيقة الوحيدة التي لا يمكننا الفرار منها.

في حضرته، تصبح الحياة أكثر وضوحًا، والعالم أكثر إشراقًا، حتى وإن كانت أيامنا تغمرها غيوم الشك والخيبة. ولكنه أيضًا هو الامتحان الذي نواجه فيه أنفسنا، نختبر في ضوءه مدى قدرتنا على التسامح والتضحية، على العطاء بلا حدود، وعلى الاستمرار رغم كل ما يعترض طريقنا.

ففي النهاية، الحب ليس فقط ما نأخذه، بل هو ما نعطيه. هو الزهرة التي نزرعها في أرض قاحلة، ونرويها بدموعنا حتى تزهر بألوان الأمل. في قلب الحب، نكتشف أن الحياة ليست مجرد رحلة، بل هي تجربة عميقة للفهم والإحساس، للنمو والاكتمال. الحب هو المدرسة التي نتعلم فيها أن نكون بشرًا، بكل ما في الكلمة من معنى.

***

عبد الرحيم طالبة - المملكة المغربية

 

تشغل مسألة بناء وتنظيم المجتمع إهتمام العقل الإنساني الثقافي، وتصل الى درجة من الصعوبة تجعلها من أصعب مشكلات عصر التقنية اليوم، فمعطيات الواقع تفيد بأن التغييرات الإقتصادية والتطور التقني والتحولات الإجتماعية والميول الشخصية تتحرك بشكل أسرع من قدرة الثقافة على اللحاق بها. وتكمن مضار ذلك في أن تلك التغييرات قد تتمكن من التدخل في إعادة هيكلة البناء الإجتماعي بما يسمح بإدراج ثقافات جديدة تحددها التغييرات المتسارعة المحكومة بالسوق الإستهلاكية، وبالمشاريع السياسية العالمية، ومشاريع الاقتصاد الصناعي التقني، لذا أخذت بعض السلوكيات الغريبة والطارئة على المجتمع تنتشر بين الناس بسرعة اكبر اذا ما قورنت بسرعة انتشار فكرة هادفة، أو نظرة موضوعية.

عندما أتاحت وسائل التواصل الإجتماعي ومواقع الإنترنت في ظل المتغيرات العالمية، حرية التعبير دون ضوابط ثقافية وأطر أخلاقية ومسارات أدبية للنشر، دخلت شركات استثمارية تقنية على خط الحرية الرقمية فوظفت المال لتنمية تلك الحريات، مما حمل كثيرين على النزول بمحتويات سلبية تنوعت ما بين تافهة وهابطة وفاشلة، ومحتويات إيجابية تنوعت ما بين نافعة وقيّمة وناجعة. وأعطت حق تقييمها لجمهور المتلقين عبر إعجاباتهم وكثرة مشاركاتهم وعديد مشاهداتهم من خلال وسائل التواصل الإجتماعي، فكانت أعداد المتابعين معياراً لتزكية المحتوى حتى وان كان ذلك المحتوى بعيداً عن الضوابط الثقافية المتعارف عليها فكرياً ولغوياً وانسانياً وأدبياً وإجتماعياً. بسبب ذلك استطاع بعض منشئي المحتويات الرقمية فرض حضورهم على المشهد الإعلامي ثم الثقافي في المجتمع بقوة جمهورهم الداعم والمشجع والمتابع. وسواء أكان ذلك الجمهورعلى قدر كافي من الوعي بما يقوم به من مسؤولية في التقييم أم لا، فإن النتيجة صارت لصالح كبسة زر يقوم بها هذا المستخدم وذلك المتابع، دون الأخذ بنظر الإعتبار ما إذا كانت تلك الكبسة قد تمت بتأثير إنفعال عاطفي أو مرحلي أو تفاعل موضوعي. المهم ما يسجله عدّاد الشاشة الرقمية، لذلك لم يعد بوسع الثقافة ان تتطور، بل هي في اعتقادي قد تأكل بعضها في السنوات القادمة وتتحول من مشروع رسالي الى نشاط جمالي يضفي على صاحبه بعض اللمسات الإجتماعية والتمظهر الحضاري.

أزمة الثقافة في عالمنا العربي في عصر التقنية المتطورة ومشاريع الذكاء الإصطناعي أكثر تعقيداً مما كانت عليه ثقافة الدول الصناعية في القرن التاسع عشر وهي تواجه صعوبة في التوفيق بين الجانب المادي المتمثل بالعلم المجرد والجانب الروحي المتمثل بالإبداع الثقافي. واذا كانت الثقافة قد احتاجت الى نصف قرن لكي تميل بالمجتمع الغربي الى الواقع المادي بعدما استطاع العلم ان يوفر اجوبة مقنعة لكثير من اسئلة الناس خصوصاً الشباب منهم فيما يتعلق بشؤون حياتهم التي كانت الكنيسة قد فرضت قوالب جامدة إزاءها خصوصاً ما تعلق منها بشؤون المرأة وغيرها. فإن ثقافة مجتمعنا العربي اليوم تواجه أزمة عميقة تتمثل في ان المجتمعات العربية لم تصنع تطورها العلمي والتقني، ولم تشهد مرحلة انتقالية تسمح لها بترتيب الأولويات، فضلاً عن إن البعد الديني عند العربي يتمدد على خارطة حياته الشخصية والإجتماعية والثقافية والنفسية.

بالاضافة الى ان النظام السياسي العربي فشل في مختلف الظروف تقريباً في توفير أجواء آمنة لظهور ثقافة قادرة على فهم التغيير الذي يمر به المجتمع والمتعلق بالتغيير الحاصل في النظام العالمي، لذا لم يتمكن المثقف لوحده من اللحاق بركب التطور المتسارع للتقنية ولم تتمكن انظمة الحكم المسؤولة عن بلدان العالم العربي من توفير مستلزمات ذلك اللحاق، كما لا ننسى ان للعادات والتقاليد والأعراف العشائرية حضور أقوى من حضور الثقافة بمعناها المتمدن، ومن شأن هذا ان يقيد الثقافة كرسالة تنمية في المجتمع، فقد نجد كثيراً من المتعلمين والمثقفين وهم بمارسون انماطاً سلوكية لا تختلف كثيراً عن تلك التي يمارسها من هم أقل نصيباً منهم في التعليم والمعرفة والثقافة والمكانة الإجتماعية، وقد نجد أستاذاً أكاديمياً وطبيباً ومهندساً ومعلماً في صف واحد مع الآخرين أمام سلطة العرف العشائري.

إذا كان المجتمع الغربي قد تجاوز النقد الهدّام الذي أودى في القرن التاسع عشر بحياة كثير من العلماء والمجددين مثل غاليلو، فإن العالم العربي لا يزال الى يومنا هذا ونحن في القرن الحادي والعشرين، لم يتجاوز مرحلة النقد الهدّام وقد نجد مصداق ذلك فيما تواجهه بعض شخصيات المفكرين والكتّاب والمثقفين من نقد لاذع وتسقيط خطير ونيل يطال الكرامة ويهدد الحياة.

يعاني المجتمع العربي عموماً وخلال فترة غير قصيرة من عمره من انه لم يفسح له المجال للتمكن من الأدوات التي تلائم طبيعته وفلسفته للحياة، تجعله أو تساعده على تحويل تعلقه بالماضي الى تجربة حياتية يستثمرها في حاضره لكي لا يغدو الحاضر نسخة جامدة عن الماضي، والأغرب من كل هذا ان في مجتمع اليوم من يعمل على تمكين الماضي من الحاضر اذا توفرت لديه القوة اللازمة لذلك، فمنهم من يرى في الزمن الماضي ما هو اجمل من الحاضر على الرغم من الفارق الكبير بين أدوات الماضي البسيط وأدوات الحاضر المتطور. ذلك لأن مخرجات عصر التطور التقني لم تتمكن من الدخول الى حياة الناس في العالم العربي دخولاً يبعث على الطمأنينة وراحة البال، بل على العكس فقد كان الموقف مضاداً، خصوصاً بعد أن وظفت السلطة السياسية هيمنتها على القرار توظيفاً أضرّ بسلامة البناء الإجتماعي عندما أعطت للحرية الشخصية مساحة أكبر من طبيعة الشخصية العربية والمجتمع العربي، فقد صار العربي المسلم من حيث يرضى ولا يرضى، ومن حيث يدري ولا يدري، يرى صوراً ومقاطع فديو ويقرأ أفكاراً غريبة بعيدة عن احتياجات واقعه، ينشرها أشخاص لا يعرف شيئاً عن حقيقة ثقافتهم وسلامتها، يستخدمون حق النشر وحرية النشر عبر تطبيقات الكترونية توفرها شركات إنتاج رقمية غربية تجارية هدفها كثرة عدد المتابعين والمشاركين ومستخدمي مواقعها الإفتراضية.

اختلف الناس في تعاطيهم مع التغيير الحاصل في عصر التقنية بين الشرق والغرب من حيث ان التعريف العملي للحكومة في كثير من بلدان الغرب هو السلطة بينما هو التسلط في كثير من بلدان العالم العربي، وهذا الإختلاف في التعريفين عوّق جهود نهضة المجتمعات العربية المسلمة وتسبب في حرمان ثقافتها من التطور، فمما لا شك فيه ان الثقافة تتقاطع مع كل ما هو لا إنساني أو مع كل ما يعرض الإنسان للإستهلاك وللإستثمار والتسليع، أو للإستحمار كما قال المفكر الإيراني علي شريعتي. فالعربي وان كان مستهلكاً لمنتجات الغرب، فبوسعه ان يستخدم تلك التقنية لتطوير ثقافته فيما لو تنازلت الحكومة في بلاده عن مفهوم التسلط لصالح مفهوم السلطة، وقد نجد ذلك واضحاً حين مارست السلطة السياسية نشاطات ثقافية في العالم العربي من خلال وزارة الثقافة أو من خلال أي نشاط ثقافي تقوم به دوائرها ومؤسساتها المتنوعة. لقد فشلت ثقافة السلطة السياسية في تمكين المجتمع ثقافياً واقتصرت أدوارها وأنشطتها على مهرجانات ومؤتمرات وندوات ونشرات وصحف ومجلات خاضعة بشكل كبير لروتين وأجندات سياسة السلطة الحاكمة، فقد صار وزير الثقافة ناطقأ باسم الحكومة، وصار الشاعر مستشاراً ثقافياً للرئيس، وصار الأستاذ الجامعي لساناً حزبياً أكاديمياً. يضاف الى ذلك ان المجتمع العربي عموماً مرّ بفترة اضطراب سببتها أحداث الربيع العربي ثم موجة الإرهاب، الأمر الذي صرف إهتمام ثقافة المجتمع الى البعد الأمني حفاظاً على البعد الحياتي لوجود الناس، وتهددت ثقافة الجيل الجديد من الشباب بعد اجتياز تلك المحن، فهي اليوم ثقافة قلقة متوترة متمردة، استطاعت باضطرابها أن تتجاوز نوعاً ما على سلطات دينية وعشائرية وأسرية باستخدامها تقنيات عصر التطور الرقمي في التعريف والتعبير عن ذلك التجاوز، فصرنا نسمع عن تطاول على رموز دينية وثقافية واجتماعية بمساعي يقوم بها اشخاص ينتمون أو يدّعون انتماءهم الى الوسط الثقافي والاجتماعي، وقد نجد في مواقع التواصل الإجتماعي كثيراً من الفديوهات التي يظهر فيها أشخاص وهم ينالون من هذا المفكر وذلك الكاتب تحت عنوان حرية التعبير وحرية الرأي وحرية النشر وحرية التفكير وحرية النقد.

مشكلة الثقافة في عالمنا العربي متعلقة بثلاث سلطات: دينية، وحكومية، وعشائرية، وقد انقسم الوسط الثقافي الى قسمين: قسم يريد إحداث تغيير أو تحديث في سلطة الدين بما يتوافق مع قوة التطور العلمي وتوسعه في مناخ سياسي يتناغم مع تسلط الحاكمين. وقسم آخر يريد تحريك التطور العلمي والنظام السياسي في إطار سلطة الدين، وبينما لا تزال هذه المشكلة قائمة أخذت مشاكل الناس الشخصية والإجتماعية تكثر وتكبر، وأخذ الضغط النفسي يزداد على المواطن العربي المسلم، فهو في طبيعته يريد ان يصل الى حالة اتزان في جوانب شخصيته الروحية والمادية والسلوكية والنفسية والاخلاقية ويبحث في بيئته عن كل ما يمكنه من ذلك.

في داخل الوسط الثقافي تظهر مشكلة الثقافة في نوعين من التفكير، نوع خاضع لإرادة سلطة الحكومة، ينظر بعين الإعتبار الى الوظيفة الثقافية كنشاط إبداعي فردي لا يتعدى حدود الشكر والإشادة، والتكريم و.. ونوع آخر مضاد، يرى في الثقافة مشروع مجتمع ينبغي له أن يتجاوز كل حدود منع تمكينه ثقافياً. الثقافة الرسمية التي ترعاها السلطة السياسية تؤدي ادواراً داعمة لجهود أعضاء رسميين في مؤسساتها، فهي تطبع كتبهم وتنمحهم الألقاب والأوسمة والهدايا والتكريمات وتنشر مقالاتهم في صحفها الرسمية وتعقد لهم المهرجانات والمؤتمرات وتنظم لهم الندوات واللقاءات، لكننا لا نرى كل ذلك إنجازاً ثقافياً بالبعد الأعمق الذي يمتع الثقافة بحق معالجة الواقع وانقاذه من التراجع.

لا شك ان هذا الكلام سيكون موضع انتقاد المثقف الرسمي، لأنه يرى ان الثقافة فيما تقوم به هي موضع تطور وازدهار مثلما وصف بعضهم العصر العباسي بالعصر الذهبي مقارنة له بعصور خلت لم تشهد فيه الثقافة ما شهدته من اهتمام سياسي بلغ في عهد هارون الرشيد تأسيس بيت الحكمة الذي تقول المصادر عنه ان مكتبته ضمت قرابة 300 الف كتاب. كل ذلك كان الى جانب الإعتقالات والإغتيالات وركود الثقافة الحرة في المجتمع فقد كانت الثقافة ثقافة الحكومة التي رأت في ثقافة الإمام موسى بن جعفر ما يضرها فألقت به في مطامير السجون ثم قتله فيما بعد.

الحكومة العربية اليوم لا ترى في نفسها عائقاً أمام الثقافة، فهي تشيد بالثقافة والمثقف وتدعم نشر الكتاب وتحث على البحث والتعلم وتحفز على التطور. لكن أي نوع من العقل أرادت هذه الحكومات صناعته في المجتمع العربي ؟ انه العقل المادي الروتيني الذي يقرأ الكتاب ويشكر الحاكم ويشيد بحكمته ورعايته للثقافة، وفي احسن حالاته ينتقد الحكومة دون ان يكون لنقده اذناً واعية في أروقة السلطة، والمشهد العراقي حافل بكثير من الكتابات النقدية البناءة والأفكار المتطورة على مدى عشرين عاماً من بداية القرن الحالي، لكنها لم تستطع ان تغير شيئاً في الواقع الذي يتراجع اكثر واكثر في الوقت الذي تشهد فيه انشطة المؤسسة الثقافية الرسمية عقد مهرجانات وافتتاح معارض ومكتبات وإلقاء محاضرات وإقامة مسابقات و... هذا هو العقل الذي تريد السلطة الحاكمة صناعته في مؤسساتها الثقافية الرسمية. انه عقل حر في حدود القيود التي تضعها مصلحة الحكومة في التسلط. هكذا عقل لا يمكنه ان يفرق بين التطوير والتبرير. هو عقل قادر على رسم ملامح المستقبل الذي ترسمه اجندات تلك الحكومات، وليس عقلاً حراً بالقدر الذي يصنع في صاحبه ذاتاً ثائرة متمردة قادرة على تغيير واقعها السيء، عارفة بقيمة الكلمة وبدورها في نهضة الامة.

في الواقع يمكن ان نشخص نوعين من العقل الثقافي العربي، عقل يعمل بآلية الولاء الفكري، وعقل يعمل بآلية التجرد الفكري.

ينجذب كل من العقل الديني والعقل السياسي الى العقل الثقافي ذو التفكير الولائي، فنجد الحكومة تقرب اليها المثقفين الذين يشيدون بها، ويبررون لها، خاضعين تماماً لروتينها الإداري القائم على المظهر الإعلامي الذي يقدم الحقائق للناس بالصورة التي تظهر وجه الحكومة أبيضاً ناصعاً في جميع الأحوال. كذلك العقل الديني، فالمؤسسة الدينية تقرب اليها المثقفين الذين يحملون ايديولوجيتها ويتكلمون بعقيدتها.

قبل عصر التقنية كانت الحصة الأكبر في الاختيار بين الانفتاح أو الإنغلاق، بين التراث أوالمعاصرة، من نصيب القوة الأكثر غلبة في ساحة الحياة العامة في المجتمع العربي الاسلامي.

وكان العقل الديني هو الأكثر قوة، فقد كان الخليفة والحاكم والامير ظل الله على الأرض، وعلى هذا الإعتقاد مضت المجتمعات، فالحاكم هو ولي الأمر واليه يرجع الأمر كله كونه الأدرى بمصلحة العامة. أدى هذا الإعتقاد الى منع تطور الثقافة في عالمنا العربي، خصوصاً بعد أن تمكن العقل السياسي من إحتواء العقل الديني وإيهام الناس بأنه يفكر بعقل ديني. اكتشف الناس ذلك الوهم عندما شاهدوا دائرة الظلم تكبر في محيط ديني يحكمه عقل سياسي يُقسم أمام الجماهيرعلى ان الإسلام دينه ومنهجه ودستوره ومصدر تشريعه. المشكلة تكمن في ان المجتمع العربي حين اكتشف هذه الحقيقة المزيفة لم يكن يتمتع بقوة مواجهتها مواجهة رادعة.

اما في عصر التقنية فقد تقلصت فاعلية قوة العقل السياسي واقتصرت على الجانب الأمني والجانب العسكري والجانب الإداري والمالي. واقتصرت قوة العقل الديني على قضايا المصير. أما شؤون الحياة الاجتماعية فلم يعد الخيار محدوداً بالعقل السياسي والعقل الديني. لقد صار لكل عقل بشري حرية الإختيار بين الولاء والعداء. بين الإتباع والإمتناع. بين القبول والعدول. لذلك كثرت مشاكل الناس وتأزمت الأمور كثيراً ودخل المستثمرون على خط الأزمات، وصاروا يروجون لبضاعتهم من خلال حاجة الناس، فمثلاً يعيش أغلب الناس في العالم العربي تحت ضغوط إجتماعية وإقتصادية كبيرة وكثيرة، فشل العقل السياسي في ازالتها أو تخفيفها لجهله أو لعدم اكتراثه بطبيعة المجتمع، الأمر الذي جعل الناس يبحثون في الإتجاه السلمي عن كل ما يمكنه أن يخفف عنهم هذه الضغوط الكبيرة، وكان من بين أقرب تلك الحلول هو السخرية أو الطرفة أو الترفيه اللفظي والحسي، فظهرت محتويات ثقافية كانت موضع قبول واقبال كثير من الناس وان كانت تلك المحتويات تنطوي على الفاظ شعبية غير مقبولة، أو تنطوي على غايات مريضة، أو تنطوي على عادات سيئة. مع كل ذلك وجدت من يتقبلها، بل ان كثيرين كانوا يروجون لها بمشاركتها على حساباتهم الخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي لمجرد انها محتويات مضحكة، مسلية، ساخرة. هنا تظهر الخطورة التي تواجهها الثقافة العربية المعاصرة، فعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي يبذلها كتاب ومفكرون صالحون ومصلحون لا تجد جهودهم تجاوباً جماهيرياً يرتقي بطروحاتهم الى مستوى المنهج العملي المؤثر، إلا في نطاقات محدودة جداً إذا ما قورنت بالتجاوب الكبير الذي يبديه كثيرون لمحتوى ضعيف أو تافه. وهنا أمر اخر، هو ان المجتمع ولشدة الضجر الذي يعيشه افراده بسبب فشل العقل السياسي في إنعاش الموقف، فقد صار كثير من الناس يمل من، أو يميل عن سماع النصيحة والحكمة ويعدّها سلعاً قديمة جميلة مكانها في رفوف المكتبات أوعلى الحيطان أو في صفحات الكتب، وليس في الواقع، لأن الواقع مريض الى الحد الذي تورم فيه جسم المجتمع، ومما يعمق المشكلة اكثر هو إظهار إعلام السلطة أورام المجتمع على انها عافية ومنجز يشيران الى حسن إدارة البلاد.

تواجه الثقافة اليوم مسألة تحوّل أزمة الفكر الى إشكالية، ودخول الوسط الثقافي مرحلة خطيرة من شأنها ان تلقي بالمجتمع خارج الوجود الإنساني وتحيله الى ركام حضارة، وبقايا دين، وتجمعات بشرية فاقدة لمعنى المجتمع ولمفهوم المجتمع. يبدو ان مشكلة ثنائية الدين والدولة تكمن في ان السلطة الحاكمة لا تعادي الدين بقدر ما تجد في مواقع التسلط قدرتها على تجاوز وحدة الإنسان التي هي هدف دين التوحيد، الى التعامل مع موضوع وحدة الانسان على انها حاجة وليست هدفاً وهي بذلك ترتكب الشرك في مناخ التوحيد، الأمر الذي تسبب في إرباك جو العقيدة في المناخ الاجتماعي والثقافي والسياسي، الأمر الذي دفع ببعض المثقفين الى تبني فكرة فصل الدين عن الدولة، او جعل الدين على هامش الحياة، وسط دعوات عالمية الى ثقافة كونية تذوب فيها كل الخصوصيات الثقافية في قالب أمركة الثقافة العالمية.

لعل بقاء الثقافة مرتبطة بالسياسة في ادارة الدولة حتى بعد انحراف السلطة عن مشروع الإمامة والقيادة الذي بدأه النبي الخاتم، قد أدى الى انقسام مصادر ثقافة المجتمع الى دينية وسياسية، الأمر الذي نتج عنه فشل حضور الدين كباعث للنهضة الثقافية في المجتمع العربي المعاصر واقتصار سعة الحضور الإجتماعي للدين على ممارسة الطقوس والعبادات. وفي الوقت نفسه فشلت السياسة في حضورها الإجتماعي كقوة حقيقية ساندة وداعمة ومحركة لمشروع تمكين المجتمع ثقافياً، واقتصار دورها في علاقتها بالمجتمع على تمشية وتنظيم امور الناس الحياتية اليومية في جوانبها الامنية والمعاشية.

ان من بين اسباب تأخر المجتمع العربي هو ان الصراع على السلطة يبدأ سياسياً ويستمر سياسياً حتى في جوانب الحياة الثقافية والاجتماعية والدينية و...

في المجتمع الإنساني لكي تتطور الثقافة ينبغي على السلطة التي تبدأ نشاطها سياسياً ان تستمر ثقافية، ولأن هذا الأمر غير متحقق في المجتمع العربي الإسلامي، لذلك تصيب الصدمة جيل الشباب العربي اليوم في عصر التقنية المتطورة والانفتاح على العالم، وهو يرى في بيئته العربية الإسلامية طبيباً بلا إنسانية، أو معلماً بلا ضمير، أو معمماً بلا قيم، أو أكاديمياً بلا اخلاق، أو موظفاً حكومياً بلا أمانة.

في القرن الثامن عشر، قال الكاتب والفيلسوف الألماني فولتير ان بمقدوره إحداث ثورة كبرى في العقول في ظرف سنتين او ثلاث اذا وجد الى جانبه خمس أو ست فلاسفة ومطبعة. أما اليوم ونحن في القرن الحادي والعشرين، عصر التقنية ومشاريع الذكاء الإصطناعي فيمكنني ان اقول ان بوسعنا احداث ثورة في العقول اذا تمكنا من فصل الثقافة عن سياسة الدولة ومنحها سلطة مستقلة.

***

د. عدي عدنان البلداوي

بقلم: أبيجيل تولينكو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كل من الحكايات الشعبية والفلسفة الرسمية تزعزعنا وتجعلنا نعيد التفكير في قيمنا الثمينة ونظرتنا للعالم.

كانت الحكاية الشعبية المجرية "الفتاة الجميلة إيبرونكا" تثير رعبي وتشويقي عندما كنت طفلة. ففي هذه القصة، يتعين على الفتاة إيبرونكا أن تربط نفسها بالشيطان بخيط من أجل اكتشاف حقائق مهمة. وفي هذه الأيام، كطالبة دكتوراه في الفلسفة، أشعر بالقلق أحياناً من أنني فعلت الشيء نفسه. ما زلت أؤمن بقدرة الفلسفة على البحث عن الحقيقة، ولكنني أدرك أنني قيدت نفسي بتراث أكاديمي مبتلى بشياطين هائلة.

تأتي شياطين الفلسفة الأكاديمية في أشكال مألوفة: التفرد، والهيمنة، والاستثمار في أسطورة العبقرية الفردية. وكما لاحظ عالم الأخلاق جيل هيرنانديز، كانت الفلسفة أبطأ في التغيير من العديد من التخصصات الشقيقة في العلوم الإنسانية: "قد يكون ذلك مفاجأة للكثيرين... نظرًا لأن اللاهوت، وبالتأكيد، الدراسات الدينية تميل إلى أن تكون شاملة، لكن الفلسفة في الغالب تقاوم تضمين الأصوات المتنوعة." وفي الوقت نفسه، أصبحت الفلسفة متخصصة بشكل متزايد بسبب الضغط من أجل الاحتراف. يركز الأكاديميون بشكل متزايد على موضوعات ضيقة لإنشاء مجالات فريدة من نوعها. وفي هذه العملية، فإن ما كان ذات يوم نظامًا يبحث عن إجابات لأسئلة الإنسانية الأكثر جوهرية، أصبح لغزًا مليئًا بالمصطلحات اللغوية لمجموعة ضيقة من المطلعين على بواطن الأمور.

في السنوات الأخيرة، أصبح "التوسع الفلسفي" موضوعًا ساخنًا، حيث وجد الفلاسفة على نحو متزايد أن حصرية هذا المجال تتعارض مع تطلعاته العالمية. وكما يشير جاي جارفيلد، فمن غير العقلاني "تجاهل كل ما لم يُكتب في الفضاء الأوروبي" كما هو الحال مع "قراءة الفلسفة التي تُنشر يوم الثلاثاء فقط". ومع ذلك، فقد فعلت الفلسفة الأكاديمية ذلك إلى حد كبير. فقط في العقود الأخيرة بدأ التيار السائد في التعامل بجدية مع أعمال النساء والمفكرين غير الغربيين. في كثير من الأحيان، يتضمن هذا الجهد النظر إلى ما هو أبعد من حدود ما كان يسمى تاريخيا "الفلسفة".

إن توسيع نطاق المجال الفلسفي بشكل عام ليس بهذه البساطة مثل إعادة ظهور أطروحة فلسفية معاصرة "قياسية" على طراز الذكور البيض والتي تصادف أن كتبها شخص خارج هذه الفئة الديموغرافية. يحدث هذا أحيانًا، كما في حالة مارغريت كافنديش (1623-1673)، التي حظيت أعمالها بتقدير أكبر في السنوات الأخيرة. لكن كافنديش كانت دوقة نيوكاسل، وهي من أنصار الملكية التي تنتقد نظريتها السياسية الحراك الاجتماعي باعتباره تهديدا للنظام الاجتماعي. كان بإمكانها الوصول إلى التعليمات التي كانت غير عادية إلى حد كبير بالنسبة للنساء خارج بيئتها، مما أعطى عملها أسلوبًا وهيكلًا "قياسيًا". للعثور على أصوات خارج هذه النخبة، يتعين علينا في كثير من الأحيان أن ننظر إلى ما هو أبعد من هذا الأسلوب والبنية.

إن النصوص التي صُنفت سابقًا على أنها لاهوتية بحتة كانت من بين النصوص الأولى التي جذبت اهتمامًا متجددًا كبيرًا. الكتابات الكاثوليكيات مثل تيريزا أفيلا أو الأخت خوانا إينيس دي لا كروز، اللائى تم تجاهل أعمالهن إلى حد كبير خارج الدوائر اللاهوتية، يعاد الآن فحصهن من خلال عدسة فلسفية. وبالمثل، تقوم أقسام الفلسفة تدريجيًا بتضمين المزيد من أعمال الفلاسفة البوذيين مثل ديجناجا وراتناكيرتي، اللذين كانت مساهماتهما المعرفية ذات أهمية خاصة في الآونة الأخيرة. يمكن لهؤلاء المفكرين الآن الجلوس في المناهج الدراسية جنبًا إلى جنب مع أوغسطينوس أو توما الأكويني، الذين، على الرغم من ميولهما اللاهوتية، اعتُبرا لفترة طويلة "جديرين" بالمشاركة الفلسفية.

فيما يتعلق بموضوع "الجدارة"، فأنا حذر من استخدام مصطلح "الفلسفة" باعتباره تشريفًا. من المهم للغاية أن اهتمامنا بتوسيع نطاق القانون لا يعني أن "الفلسفي" يجلب درجة معينة من الدقة إلى اللاهوتي والأدبي، وما إلى ذلك. إن القيام بذلك يعني الانخراط في نقاش قصير النظر وغير مثير للاهتمام حول الحدود الأكاديمية. سؤالي المحفز ليس ما يمكن أن تمنحه تسمية "الفلسفة" لهذه النصوص، بل ما يمكن أن تقدمه هذه النصوص للفلسفة. إذا كانت الفلسفة تسعى إلى الحصول على نظرة ثاقبة لطبيعة موضوعات عالمية مثل الواقع والأخلاق والفن والمعرفة، فيجب عليها أن تسعى للحصول على مدخلات من أولئك الذين يتجاوزون قلة محدودة. يعد التعامل مع اللاهوت بداية رائعة، لكن هؤلاء المؤلفين ما زالوا يمثلون إلى حد كبير نخبة ديموغرافية متعلمة، ويثيرون العديد من نفس المخاوف فيما يتعلق بالنزعة المهيمنة والحصرية والفردية.

وكما قال هيرنانديز ساخرًا: "نحن نعلم أن الرجال الغربيين البيض لم يحصروا السوق في أسئلة فلسفية إنسانية عميقة". "التحديق في السرة من أجل البقاء ... في وقت صعب على نحو متزايد بالنسبة للتخصصات الأكاديمية المتجانسة والحصرية. "في ضوء شياطيننا المذكورة أعلاه، يبدو أن الفلسفة في حاجة ماسة إلى طرد الأرواح الشريرة.

أقترح أن إحدى الطرق للمضي قدمًا هي العودة إلى الطفولة، إلى قصص مثل قصة إيبرونكا. يعتبر الفولكلور مستودعًا مهملاً للفكر الفلسفي المستمدة من أصوات خارج نطاق الشريعة التقليدية. وعلى هذا النحو، فهو يوفر نموذجًا للمناهج الجديدة التي تستجيب بشكل مباشر للمشاكل التي تواجه الفلسفة الأكاديمية اليوم. إذا وجدنا أنفسنا، مثل إيبرونكا، مقيدين بالشيطان، فقد تكون إحدى الطرق لفك تشابك أنفسنا هي تأليف قصة.

لقد نشأ الفولكلور وتطور شفهيا. فقد ازدهر لفترة طويلة خارج طبقات النخبة، ومعظمهم من الذكور، المتعلمين. يمكن لأي شخص لديه قصة يرويها ويستمع إليها صديق أو طفل أو حفيد أن ينشئ حكاية شعبية. وعلى الرغم من المخاطرة بذكر ما هو واضح، فإن "الشعبي" هو قلب الفولكلور. كانت النساء، على وجه الخصوص، تاريخياً المبدعات الرئيسيات والحافظات للفولكلور. في كتابها : من الوحش إلى الشقراء/ From the Beast to the Blonde (1995)، كتبت المؤرخة مارينا وارنر أن "النمط السائد يكشف أن النساء الكبيرات سنا ذوات المكانة الأدنى ينقلن المواد إلى الأشخاص الأصغر سنا".

يوجد الفولكلور بشكل ما في كل ثقافة، وقد أدى إلى ظهور المجموعات الممثلة تمثيلاً ناقصًا في كل ثقافة. وبينما نسعى إلى توسيع نطاق التراث الشعبي، يعد الفولكلور مصدرًا غنيًا للفكر حول موضوعات ذات أهمية فلسفية، مع إمكانية إحياء مجموعة واسعة من الأصوات التي استُبعدت إلى حد كبير.

الحكايات الشعبية لغز ومفاجأة وقنص. إنها تجعلنا نتساءل "لماذا؟"، وتدعونا إلى تخيل طرق جديدة للاستجابة

في قصيدته الساخرة «لغز ورش العمل» (١٨٩٠)، يصف روديارد كيبلينج أول رسم تخطيطي لآدم مخدوشًا بعصا في تراب عدن:

... [كان] فرحًا لقلبه العظيم،

حتى همس الشيطان خلف أوراق الشجر: "إنها جميلة، لكن هل هي فن؟"

ولذا قد نتساءل: قد يكون الفلكلور شاملا، لكن هل هو فلسفة؟

إن الإجابة على هذا السؤال تتطلب على الأقل تعريفًا فضفاضًا للفلسفة. إن تقديم هذا أمر شاق، لكن إذا ضغطت علي، فسأتوجه إلى أرسطو، الذي يقدم كتابه الميتافيزيقيا تلميحًا:" وبسبب دهشتهم، بدأ الناس الآن، وبدأوا في البداية، بالفلسفة." في رأيي، الفلسفة هي طريقة للمشاركة العجيبة، وهي ممارسة يمكن ممارستها في الأوراق الأكاديمية، وفي النصوص اللاهوتية، وفي القصص، وفي الصلاة، وفي محادثات مائدة العشاء، وفي التأمل الصامت، وفي العمل. وهذا الشعور بالدهشة هو الذي يجذبنا إلى تجاوز المظاهر ذات القيمة الاسمية والنظر إلى الواقع من جديد.

بالنظر إلى هذه العدسة، ليس من المستغرب أن يكون أحد الحلول لأزمة الفلسفة موجودًا في هواية الطفولة. في مرحلة الطفولة، نرى العالم حرفيًا بعيون جديدة؛ هنا، يتم الشعور بالدهشة بشدة. لقد سمعنا جميعًا طفلًا يسأل "لماذا؟"، وأدركنا ليس فقط أننا لا نعرف الإجابة، ولكننا نسينا كم كان السؤال محيرًا بشكل إعجازي في البداية. ترتبط العجائب والحكايات الشعبية بالمثل. Wundermärchen - الكلمة الألمانية الأصلية للحكاية الخيالية - تُترجم حرفيًا إلى "حكاية رائعة". ولعل هذا هو السبب وراء حب الأطفال للحكايات الشعبية. ولعل هذا هو السبب وراء حب الأطفال للحكايات الشعبية. في معظم الثقافات، تسبق الحكايات الشعبية الفروق الاجتماعية الواسعة بين ترفيه البالغين والأطفال. ولكن بما أن وسائل الترفيه الأخرى قد تجاوزت إلى حد كبير مجال البالغين، فقد حافظت الحكايات الشعبية على تأثيرها على الأطفال. يتحدثون لغة الطفل. إنهم يحيرون ويفاجئون ويطاردون. إنها تجعلنا نتساءل "لماذا؟" وتدعونا إلى تصور طرق جديدة للرد.

لم تكن رؤية أرسطو للفلسفة المبنية على الدهشة مقبولة من الجميع. رفض الراحل هاري فرانكفورت هذا التحليل لما يجعل السؤال فلسفيًا، حيث رد في كتابه أسباب الحب (2004):

وليس من المناسب وصف هذه الأشياء بأنها مجرد محيرة. إنها مذهلة. إنها عجيبة. لا بد أن الاستجابة التي ألهمتها كانت أعمق، وأكثر إثارة للقلق، من مجرد "التساؤل عما إذا كان الأمر كذلك"، على حد تعبير أرسطو. لا بد أنها اتسمت بمشاعر الغموض والغرابة والرهبة.

لكن العجب والخوف والرهبة أصدقاء قدامى. مثل أي تلميذ كاثوليكي، تعلمت أن "الخوف من الله" كان مجرد اسم آخر لـ "العجب والرهبة". ويبدو أن الفولكلور والفلسفة يلتقيان عند هذا التقاطع، حيث يلتقي العجب والخوف في شيء مقلق ورائع. كتبت عالمة الفولكلور ماريا تاتار أنه في عالم الحكاية الشعبية، "أي شيء من الممكن أن يحدث، وما يحدث غالبا ما يكون مذهلا للغاية ... لدرجة أنه غالبا ما يؤدي إلى هزة". تتطلب الفلسفة أن نواجه أعمق مخاوف البشرية وأشواقها. سواء قمنا بإخفائها باستخدام phis وpsis، فهي تهتم بشدة بارتجافاتنا وتنهداتنا. ولعل التراث الشعبي، بغاباته وأشباحه، هو المخزون التاريخي الأوسع نطاقًا لهذه المخاوف.

يذهب عالِم الفولكلور ريت هييمائي إلى حد القول إن "الخوف البشري" هو الذي "أدى إلى ظهور وتشكيل الظواهر الفلكلورية". الفلكلور هو محاولة خيالية لفهم ما لا يُفسر. من خلال التفاعل مع ما يخيفنا، نتعرف على هويتنا. وإذا أردنا أن نكتشف ما يخيفنا، فإن الغابة السوداء/ المظلمة هي أول مكان يجب أن نبحث فيه.

إن الفلسفة والفولكلور يثيران هذا الشعور بالخوف العجيب والرهبة المذهلة. كما يشتركان في هدف مزدوج، عبر عنه برونو بيتلهيم في في كتابه فوائد السحر/ The Uses of Enchantment (1976). بالنسبة له، فإن الغرض من الفولكلور هو مساعدتنا "ليس فقط على العيش لحظة بلحظة، ولكن في الوعي الحقيقي لوجودنا". وهنا، كما هو الحال في الفلسفة، هناك البحث عن الحقيقة، وهو الاهتمام بشكل هادف ببنى الواقع التي غالبًا ما نعتبرها أمرًا مفروغًا منه، وإدراك العالم على أنه أكثر من مجرد مشهد.

ثانياً، هناك هدف الحياة الطيبة، والرغبة في أن يخدم استقصاؤنا الفكري تجربتنا المعاشة، وأن نعيش ونتنفس فلسفتنا فضلاً عن التأمل فيها. والواقع أن التطبيق الفلسفي الأكثر وضوحاً للفولكلور يتلخص في الأخلاق. فمعظمنا على دراية بالدروس الأخلاقية الوداعية التي نجدها في نهاية حكايات الطفولة المألوفة. تقول وارنر إن أحد الجوانب الأكثر قيمة في هذا الوسيط هو تركيزه على الأصوات المهمشة في النقاشات الأخلاقية. تكتب أن "طرقًا بديلة لفصل الصواب عن الخطأ تحتاج إلى مرشدين مختلفين، قد يكونون غير موثوقين أو مهملين". إذا كانت الفلسفة في أزمة جزئيًا بسبب دائرة ضيقة من "المرشدين"، فإن الفلكلور هو مكان غني للبحث عن مرشدين جدد. يشير بيتلهايم أيضًا إلى أن الحكايات الشعبية محملة بالقيم على المستوى الجوهري العميق:

يقول تولكين في معرض حديثه عن سؤال "هل هذا صحيح؟": "ليس من الممكن الإجابة على هذا السؤال بتهور أو تكاسل".  ويضيف أن السؤال الأكثر أهمية بالنسبة للطفل هو: "هل كان طيبًا؟ هل كان شريرًا؟" أي أن الطفل يهتم أكثر بتوضيح الجوانب الصحيحة والخاطئة.

قبل أن يتمكن الطفل من التعامل مع الواقع، يجب أن يكون لديه إطار مرجعي لتقييمه. عندما يسأل عما إذا كانت القصة حقيقية، فهو يريد أن يعرف ما إذا كانت القصة تضيف شيئًا مهمًا إلى فهمه، وما إذا كانت تحتوي على شيء مهم لتخبره به فيما يتعلق بأعظم مخاوفه.

عند التمحيص في الفلكلور، من السهل العثور على قصص تتطابق بشكل جيد مع اهتماماتنا المعاصرة - العديد منها يعكس حتى بنية التجارب الفكرية الأخلاقية الأساسية. على سبيل المثال، في الحكاية الروسية التقليدية "إيليا مورومتس والتنين"، يجب على البطل أن يختار بين مساعدة ملك في بلد بعيد تعاني مملكته من هجمات التنانين، والعودة لخدمة وطنه، الذي يعاني من احتياج أقل. وفي هذه الحكاية، تبرز موضوعات التحيز والمجتمع والقومية. فهل تتغلب الحاجة الشديدة على تحيز المرء لأسرته أو أمته أو مجتمعه؟ يمكننا أن نرى أوجه التشابه في العديد من التجارب الفكرية المعروفة في الأخلاق المعاصرة. فسواء كان المرء يقفز من رصيف لإنقاذ امرأة تغرق، أو يقود عربة، أو يفسد حذائه الجديد في بركة لإنقاذ طفل، فقد كان الفلاسفة منذ فترة طويلة منشغلين بما إذا كانت التزاماتنا تجاه المألوف والغريب تتباعد وكيف تتباعد. وعندما يكون كل منهما متعارضاً، فهل ينبغي لنا أن ننقذ حياة صديقنا أم حياة شخص غريب؟

مثال قوي آخر يظهر في الحكاية الشعبية الهايتية "بابا الله والجنرال الموت". هناك أدب أخلاقي واسع يتناول طبيعة وقيمة الموت؛ حيث يقدم كتاب فريد فيلدمان "المواجهة مع المحصِّل" (1992) مقدمة شاملة لمختلف جوانب النقاش حول هذا الموضوع. هل الموت شر عظيم؟ هل هو نوع من الظلم؟ تقدم هذه الحكاية حججًا تدافع عن الموت. يزعم بابا الله أن الناس يحبونه أكثر من الموت لأنه يمنحهم الحياة، بينما الموت يأخذها فقط. ولإثبات صحة هذا الزعم، يطلب بابا الله من أحد السكان المحليين الماء. وعندما يعرف الرجل أن الطلب جاء من الله، يرفض أن يقدم له الشراب. وعند الاستفسار، يوضح الرجل أنه يفضل الموت على الله.

لأن الموت ليس له مفضلين. فالأغنياء والفقراء والشباب والكبار كلهم سواء بالنسبة له... الموت يأخذ من كل البيوت. أما أنت فتعطي كل الماء لبعض الناس وتتركني هنا على حماري لأقطع عشرة أميال من أجل قطرة واحدة فقط.

تقلب هذه القصة افتراضاتنا رأساً على عقب، وتجادل بوضوح ضد الافتراض الشائع بأن الموت شر أخلاقي. ففي عموميته، يشكل الموت في الواقع شكلاً من أشكال العدالة على نحو لا يمكن للحياة أن تكون عليه أبداً.

في العديد من الثقافات، يتمتع الفولكلور بأهمية أخلاقية أكبر. على سبيل المثال، يزعم الباحثان أولوول كوكر وأديسينا كوكر أن الفولكلور في ثقافة اليوروبا يلعب دورًا كبيرًا في "توليد القوانين التي تحكم العلاقات الشخصية والداخلية، والتماسك المجتمعي، والنظام الأخلاقي ونظام العدالة". ويطلقان على هذه العلاقة "القانون الشعبي"، موضحين أن الفولكلور يعمل كنظام أخلاقي يشبه القانون ويستند إلى الممارسات الاجتماعية. كما يؤكدان على أن الفولكلور هو "مسار للفلسفة الوجودية بين اليوروبا"، حيث يتم استكشاف المعضلات الأخلاقية في المقام الأول من خلال القصة. لطالما أخذ اليوروبا الفولكلور على محمل الجد كمصدر للتفكير الأخلاقي.

ما وراء الأخلاق، يتناول الفولكلور جميع فروع الفلسفة. فيما يتعلق بدلالته الميتافيزيقية، يوفر الفولكلور البوذي مثالاً بارزاً. عندما يُستوعب الدارما – أي، الطبيعة الأساسية للواقع – فإنه يُعلم بشكل طبيعي عبر القصص الشعبية: حكايات الجاتاكا في البوذية الكلاسيكية، والكوآنات في الزن، كما يكتب المعلم زن روبرت آيتكين روشي. يقدم الفيلسوفان جينغ هوانغ وجوناردون غانيري تحليلاً فلسفياً مثيراً لحكاية بوذية يبدو أنها تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، والتي ترجموها بعنوان "هل هذا أنا؟". يجادلان أن الحكاية تطرح معضلة ميتافيزيقية مشابهة لتجربة "سفينة ثيسيوس" التي قدمها بلوتارخ، مما يدفعنا للتساؤل عن طبيعة الهوية الشخصية.

تروي القصة حكاية لقاء غير سعيد لمسافر مع زوج من الشياطين، أحدهما يحمل جثة. بينما يقوم الشيطان الأول بتمزيق ذراع من ذراعي الرجل، يأخذ الشيطان الثاني ذراعاً من الجثة ويستخدمه كزراعة. تستمر هذه اللعبة حتى يتم استبدال جسم الرجل بالكامل، ممزقاً عضوًا تلو الآخر، بأجزاء من الجثة. ويبدأ الرجل في التساؤل: "ماذا أصبح مني؟"

هذه الحكاية تختبر حدسنا حول العلاقة بين أجزاء الكيان والكل. في أي نقطة تصبح كتلة الأجزاء هي الرجل؟ ما أنواع الاستبدال المادي التي تستدعي تغييراً في الهوية؟

لقد لعبت الحكايات القديمة دورًا محوريًا في تحدي الافتراضات المعرفية التي لم تكن موضع شك من قبل

إن خاتمة القصة تسلط الضوء على نهج بديل لنظرية المعرفة. فوفقاً لتقليد "المادياماكا" البوذي الذي يعتمد على "المعضلة الرباعية"، تحدد القصة أربع استجابات محتملة للمعضلة: هل الجسد المستبدل هو الإنسان الأصلي؟ 1) نعم، هو الإنسان. 2) لا، ليس الإنسان. 3) هو الإنسان وليس الإنسان في الوقت نفسه. 4) ليس هو الإنسان ولا ليس هو الإنسان. وتتقدم القصة لتكشف أن كلاً من هذه الخيارات يؤدي إلى قدر من العبث. وهذا يعمل كحجة اختزالية ضد مفهوم الهوية الشخصية برمته، مما يشير إلى أن المفهوم كان منذ البداية فارغاً أو مُعرَّفاً بشكل غير صحيح. وتؤكد حكايات أخرى الفكرة الأكثر تطرفاً والتي مفادها أنه من المنطقي رفض أو قبول جميع الاستجابات الأربع في وقت واحد.

لقد ألهم هذا النهج غير التقليدي في التعامل مع نظرية المعرفة عالم المنطق جراهام بريست مفهوم "الحوارية"، الذي يفترض تماسك "الحواريات" ـ وهي عبارة عن مقترحات مشتركة تتضمن بياناً ونفيه. ويقدم لنا تطور الحوارية مثالاً لحالة لعبت فيها الحكايات القديمة بالفعل دوراً محورياً في تحدي الافتراضات المعرفية التي لم تكن موضع شك من قبل. فما هي الأفكار الفلسفية الأخرى التي قد تكون مدفونة في الفولكلور؟ وما هي الأسئلة الجديدة التي قد تطرحها، وكيف قد تعمل على توسيع فهمنا لنطاق الإجابات المتاحة؟

ثم هناك مسألة المنهجية: عندما يواجه الفيلسوف المتعاطف حكاية شعبية، كيف يمكنه المضي قدمًا؟ فالحكايات عادة لا تقدم لنا حججًا جاهزة في شكل مقدمة ونتيجة. سنحتاج إلى بذل جهد تفسيري لفهم السمات السياقية والأسلوبية الضرورية لاستخلاص الرؤى الفلسفية. ستكون هناك حقائق تفسيرية وأدبية وأنثروبولوجية يجب أخذها في الاعتبار. ربما يكون الفلاسفة غير مجهزين بشكل كافٍ للقيام بهذا العمل بمفردهم – وهذا أفضل! فالتفاعل بين التخصصات يعزز نطاق بحثنا ويثري الجميع. كم سيكون رائعًا لو تعاونت الأقسام الأكاديمية بشكل أكبر، لو رأينا أوراقًا علمية مشتركة بين علماء الفولكلور والميتافيزيقا، لو تجاوز بحثنا عن الحقيقة الانقسامات البيروقراطية الأكاديمية وقادنا عبر مسارات القصص المتعرجة، تلك المسارات التي شاركناها في طفولتنا، ولكن طالما نسيناها.

لكن قبل أن نُبري أقلامنا للبحث عن البراهين، أدعو زملائي الفلاسفة إلى أن يكونوا منفتحين على أساليب بديلة للتعامل مع الأفكار الفلسفية. لا تفهموني خطأ، فأنا أحب شكل المقدمة والنتيجة بقدر الفتاة التالية (وربما أكثر بكثير، إلا إذا كانت الفتاة التالية أيضًا طالبة دراسات عليا في الميتافيزيقا). لكن سيكون من غير المنطقي تمامًا أن نفترض أن الفهم الفلسفي كله مسجل في هذا الشكل. (ونحن عشاق البراهين نكره اللاعقلانية بشكل مشهور).

في الحكايات الشعبية، قد لا نجد دائماً حججاً، على الأقل كما تُفسَّر عادة. وهذا ليس دليلاً على العجز الفلسفي. فالتحيز الأوروبي للنصوص التقليدية يميل إلى تفضيل بنية حججية معينة. ولكن القصص ليست جديدة على الفلسفة: فقد كان أفلاطون وفريدريك نيتشه وسورين كيركيجارد جميعاً من رواة القصص الأذكياء. واليوم، حتى الفلسفة التحليلية الأكثر صرامة من الناحية المنهجية ليست محصنة ضد إغراء السرد. ولنتأمل هنا وصف بيتلهيم لوظيفة الحكايات الخرافية، والذي قد يخطئ البعض في اعتباره وصفاً للتجربة الفكرية المعاصرة:

من سمات القصص الخيالية أنها تعرض معضلة وجودية بإيجاز وبشكل واضح ... [من أجل] التعامل مع المشكلة في شكلها الجوهري العميق  ...

إن السرد القصصي مرتبط بالتقليد الفلسفي، رغم تراجعه في العصور الحديثة. ولكن لا يقتصر مبرر السرد على سابقة التاريخ فقط. ربما يكون تأثير الفلكلور الأكثر فائدة في اختلافه عن الفلسفة. الفلكلور مليء بالتحولات السحرية، ويجب علينا أن نسمح لهذه التحولات بالتأثير علينا. أقوى توسع في الفلسفة لن يكون مجرد إضافة، بل من خلال تغيير المنهجية.

يقدم الفولكلور نموذجًا جديدًا للاستقصاء يتمتع بالقدرة على تحويل التخصص بطرق مثيرة، وإعادة إحيائه من الداخل. كيف يمكن أن تبدو الفلسفة خارج افتراضات الأوساط الأكاديمية المعاصرة؟ كيف يمكن للفولكلور أن يلقي الضوء على طرق بديلة للتفكير، ويثير ألغازًا جديدة، ويوسع نطاق الإجابات في الأفق؟

زعم لودفيج إيدلشتاين،، الباحث في أفلاطون، أن رواية القصص تلعب دوراً تفسيرياً مهماً: فمن خلال القصص "نواجه السحر بالسحر". وهو يزعم أن البحث البشري عن المعنى يتحقق على أفضل نحو عندما نشارك طبيعتنا العقلانية والعاطفية. ولأن "الفيلسوف لابد أن يهتم بهذين الجزئين من الروح البشرية على قدم المساواة"، فإن القصص تشكل أداة قيمة لنقل الأفكار بأقصى قدر من التأثير.

إن هذه القيمة مفيدة في سعينا إلى توسيع نطاق الفلسفة إلى ما هو أبعد من قِلة متخصصة ضيقة. والفولكلور هو وسيلة للشمول الموسع ــ فهو يتجاوز الحدود الطبقية والتعليمية. وكما لاحظ كاتب الخيال كارل تشابيك: "الحكاية الخيالية الشعبية الحقيقية لا تنشأ عندما يدونها جامع الفولكلور، بل عندما ترويها الجدة لأحفادها". والغرض من هذه الحكاية هو إشراك واسع النطاق، وبنيتها المألوفة والممتعة تجعل الأفكار المعقدة في متناول مجموعة من الجماهير في مختلف التخصصات، وخارج الأوساط الأكاديمية.

من السمات البارزة الأخرى للفلكلور تركيزه على الجماعية. بالنسبة للكثيرين، تثير كلمة "الفلسفة" سلسلة من العباقرة: مثل أرسطو، وسارتر، وكانط. فقد مجّدت هذه التخصصات الأفراد بشكل مستقل، وصوّرت إسهاماتهم الثورية كأنها جاءت في فراغ. في السنوات الأخيرة، شكّك كثيرون في هذه الرواية. يصرح عالم الاجتماع سال ريستيفو: "إذا أعطيتني عبقريًا، فسأعطيك شبكة اجتماعية." هناك اتجاه متزايد نحو الاعتراف بأن التقدم هو نتاج تعاون، وليس ملكية فردية.

السرد القصصي يتعامل مع الفوضوي والواقعي بطريقة تعجز عنها الهياكل النقية للفلسفة.

للفولكلور تقليد طويل بهذه الروح. في كتابه "الجلوس عند أقدام الماضي" (1992)، وهو عبارة عن مجموعة مقالات عن الحكايات الشعبية في أمريكا الشمالية، كتب ستيف سانفيلد: "لا أحد يملك هذه القصص... إنها تتغير في كل مرة تُروى فيها". الحكايات جماعية بطبيعتها، وليس لها مؤلف واحد. يغير المستمعون القصص، ويخطئون في تذكرها، ويزينونها، ويغيرون معناها مع كل رواية. وبهذه الطريقة، فهو أسلوب في التفكير بشكل عبر الزمن، وهو بحث تعاوني يستمر عبر القرون.

يتناقض نموذج الفولكلور الجيلي أيضًا مع عمى الفلسفة الأكاديمية، المؤسف كثيرًا، عن تاريخها، وسياقها، واحتمالاتها. وكما لاحظ الباحث الأدبي كارل كرويبر في إعادة السرد/إعادة القراءة: مصير رواية القصص في العصر الحديث (1992):

جميع الروايات المهمة يُعاد سردها، ومن المفترض أن يُعاد سردها - على الرغم من أن كل عملية إعادة سرد هي بمثابة صناعة من جديد. وهكذا يمكن للقصة أن تحافظ على الأفكار والمعتقدات والقناعات دون السماح لها بالتحول إلى عقيدة مجردة. يسمح لنا السرد باختبار مبادئنا الأخلاقية في مخيلتنا حيث يمكننا إشراكها في حالات عدم اليقين والارتباك الناجمة عن الظروف الطارئة.

إن الفولكلور تاريخي بشكل واضح، وهو في حالة تغير مستمر. تتطور الحكايات مع مساهمات الرواة المتعاقبين، ومع ذلك، فيما يستمر، يمكننا أن نشهد عمليات فكرية تقترب من الرنين الخالد. يقدم هذا الأسلوب مزايا مقارنة بالنموذج الفلسفي الأوروبي، الذي يمكن أن يحجب التاريخ الأوسع للأفكار في إصراره على السعي المجرد والفردي إلى العالمية. لا يخشى سرد القصص التعامل مع السياق والفوضى وخصوصية الواقع بطريقة تكافح الهياكل الفلسفية الأصلية من أجل القيام بها. وعلى هذا النحو، فهو يوفر طريقًا تم فحصه بشكل أكثر شمولاً لما يمكن تسميته بالعالمي. إن الفولكلور هو في نفس الوقت انعكاس للحاضر الذي يُروى منه، كما أنه سجل لما يستمر عبر دهور من العصور المتعاقبة.وإذا استعرنا استعارة كرويبر، فإن الفولكلور يحافظ على الأفكار بهدوء. إنه وضع الزهور في مزهرية بدلاً من تجفيفها - السرد المائي يتحرك دائمًا، في حالة تدفق مستمر، لذلك تظل الأفكار خضراء ولا تصبح هشة.

لقد أثرت نهاية "الفتاة الجميلة إيبرونكا"  دائمًا في نفسي. تقف عند مقبرة القرية، فتاة صغيرة تواجه الشيطان متخفيا فى  صورة رجل مثقف.يتوقع المرء منها أن تصرخ، أو تركض، أو تقاتل. وبدلاً من ذلك، تروي له قصة تحتوي على الحقيقة. إنها تبدأ من بداية القصة، وتستولي على دور الراوي، مما يجعل القصة في حلقة مفرغة.. فقط عندما تفعل ذلك يُهزم الشيطان وتستعيد حياة ضحيته.

***

..................

الكاتبة: أبيجيل تولينكو/ Abigail Tulenko طالبة دكتوراه في الفلسفة بجامعة هارفارد. عندما لا تقرأ الحكايات الشعبية، تستمتع بالتصوير الفوتوغرافي والطباعة على النمط الأزرق والكتابة. يمكن العثور على المزيد من أعمالها على موقع abigailtulenko.com.

 

هو من المواضيع المعقده وقد تم دراسته من قبل الفلاسفه في نختلف المدارس الفكريه عبر التاريخ، والموت من وجهة نظر الفلسفه هو موضوع متعدد الأبعاد، وتتعامل الرواقية مع فكرة الموت بطريقة عملية وبلا أنفعال، حيث يرى الرواقيون أن الموت جزء طبيعي من الحياة، ويجب قبوله بلا خوف أو قلق، وبالنسبه لهم الموت ما هو إلا نهايه طبيعية ويبغي على الإنسان أن يعيش حياة فاضله بحيث لايخشى الموت عند قدومه. أما الابيقوريه فهي ترى الموت شيء يجب أن نخاف منه لأنه ببساطه نهاية الوعي، وهو غائب عن الشعور الإنساني. وسقراط يرى في الموت إنتقال إلى حاله من المعرفة الكاملة. ويقول سقراط في هذا الصدد أنه لايخشى الموت، لأن هناك أحتمالين، الأول هو أن الموت هو حاله من عدم الوعي كما في الأحلام. والثاني يمثل الإنتقال إلى عالم آخر حيث يمكنه مواصلة البحث عن الحقيقه. وفي كلتا الحالتين لا يوجد شيء يستحق الخوف. كما يرى أفلاطون أن الموت هو إنتقال من عالم مادي إلى عالم أكثر واقعيه وثبات، وهو عالم الأفكار أو الأرواح. ويرى أفلاطون أن الحياة البشرية ماهي لا مرحله من مراحل الوجود، والموت هو بوابة نحو حياة أسمى. وفي العديد من الفلسفات الدينية ينظر إلى الموت على أنه إنتقال إلى حياة أخرى، سواء كان ذلك من خلال التناسخ كما في الهندوسية أو البوذية، أو الحياة الأبديه التي يوجد فيهاجنه وجحيم كما في الديانات الإبراهيمية، حيث أن الموت ليس نهايه بل هو حياة جديده تختلف طبيعتها حسب سلوك الإنسان في الحياة الدنيا. أما الفلسفه الوجودية فهي تعتبر الموت جزءاً لا يتجزأ من تجربة الإنسان، مثال على ذلك الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر يعتبر أن وعي الإنسان بالموت يعطي لحياته معنى، حيث يدفعه لمواجهة حريته ومسؤليته في إختيار مصيره. والموت في الفلسفه الوجوديه يمثل الحد الذي يعرف حدود وجودنا ويجعلنا ندرك أهمية الحريه الشخصيه والاختيارات ألتي تقوم بها. والفيلسوف الديني بليز باسكال في رهان باسكال يقترح فكرة التعامل مع الحياة والموت من منظور الإيمان بالله، وهو يرى أن الإنسان في مواجهة عدم اليقين بشأن مايحدث بعد الموت، من الحكمه أن يراهن على وجود الله والحياة بعد الموت، أذا كان الله موجود، فإن المكافأه ستكون الأبدية، وأذا لم يكن موجود، فلن يخسر الشخص شيئاً.أما الفيلسوف هنري برغسون في كتابه الزمان والإرادة الحره، يعتبر أن الوعي البشري محكوم بالزمان، وأن هذا الوعي يتغير ويصبح معقداً بمرور الزمن. والموت يمكن أن ينظر إليه على أنه التحرر من قيود الزمن المادي، بحيث ينتقل الكائن من عالم الزمن إلى عالم أزلي أو ماوراء الزمن. أما في الفلسفه العدمية فالموت يمثل النهايه المطلقه، وأن الحياة خاليه من أي معنى وغاية، ومن هذا المنظور لايوجد شيء بعد الموت، وبالتالي يجب على الإنسان أن يقبل عدم وجود أي هدف نهائي للحياة.والفيلسوف فريدريش نيتشه هو أبرز من تحدثوا عن العدميه، وهي الفكره التي تعني أن الحياة لا معنى لها في ظل غياب القيم المطلقه أو الإلهية. والموت بالنسبه لنيتشه ليس مجرد نهاية الحياة، بل أنه يعكس الحاله التي تكون فيها القيم التقليديه للحياة قد تآكلت أو فقدة معناها، ويمكن أن يقود الوعي بالعدم إلى نوع من أعادة تقيم القيم، حيث يسعى الفرد إلى خلق معنى جديد للحياة في مواجهة غياب القيم الثابتة.أما الفيلسوف آرثو شوبنهاور يرى أن الحياة هي صراع مستمر للإرادة من أجل البقاء، والموت يمثل النهايه الحتميه لهذا الصراع، . مع ذلك يعتبر شوبنهاور أن الموت ليس بالضرورة شيئاً سلبياً.بل أنه يمكن أن يكون نوعاً من الراحة من معاناة الحياة. وفي النهاية فأن السؤال حول الموت هو سؤال شخصي وذاتي حسب وجهات النظر الفلسفه المختلفه، واطارها في التفكير ومعتقداتها الخاصه.

***

قائد عباس حمودي

نحن أمام صعلوك أسطوري أغريقي الأصل يدعى (أيسوب) رضع العبودية مع حليب أمه وعاش مفردات الظلم والقهر طيلة حياته. فقد قال يوماً ما: إن بطني لم تشبع ولو لمرة واحدة.

ناضل منذ نعومة أظفاره من أجل حريته فقد كان عبداً مملوكاً لأحد الإقطاعيين يعمل في حديقة قصره وكان مجرداً من كل حقوق المواطنة.

ولد أيسوب عام 700 قبل الميلاد وبدأ بكتابة خرافاته الشهيرة عام 620 قبل الميلاد. وقد تضمنت الكثير من الحكمة في الحياة والنصائح في السلوك وهي على بساطتها تعد من روائع الأدب العالمي وترجمت إلى مختلف لغات العالم. كتب أيسوب خرافاته على لسان الحيوانات وذلك بسبب طبيعة النظام الدكتاتوري السائد في اليونان في ذلك الوقت الذي يقوم على سياسة كم الأفواه فكان الناس يخشون التحدث صراحة خوفاً من العقاب. وقد نشأ نفس هذا النوع من القصص الحيواني في بلاد سومر وبابل والهند لنفس الأسباب. ولهذا نجد أصداء خرافات أيسوب في كتاب كليلة ودمنة الذي كتب في القرن الثالث الميلادي وهو عبارة عن كتاب في الإرشاد وفن السياسة ألفه حكيم هندي يدعى (بيدبا) وأهداه إلى ملك الهند وقد ترجمه ابن المقفع إلى الفارسية ومن ثم إلى العربية. كما نجد صدى خرافات أيسوب في الأدب الأوربي كما في رواية الكاتب (جورج أورويل) (1903-1950) وهو كاتب أنكليزي في روايته (مزرعة الحيوانات) وهي رواية ابطالها من الحيوانات التي تثور على الإنسان وتقوم بتاسيس مزرعة تديرها ذاتياً وقد أتخذت طابعاُ سياسياً حيث نجد أورويل قد أتخذ من الحيوانات جسراً إلى النقد السياسي.

لقد أصبح أيسوب شخصية عالمية حتى إن ملك بابل والذي يبدو إنه الملك الفارسي (كورش) الذي قام بإحتلال بابل عام 539 قبل الميلاد واصبح حاكماً عليها (طلبه ليكون مستشاراً وظل مدة (20) عاماً مستشاراً حتى تأمر عليه حاشية الملك فأضطر إلى الرجوع إلى اليونان) هذا ما ذكره كتاب (أيسوبوس الحكيم المظلوم) لمؤلفه (رعد صادق الحلي) (ثم اشتراه أحد فلاسفة اليونان فأعتبر هذا الحدث ميلاده الجديد وأخذ يحضر الجلسات الفلسفية والفكرية التي كان يقيمها هذا الفيلسوف وأصبح بمثابة صديق له وليس خادماً). نفس المصدر.

إن تاريخ العبودية يرجع إلى زمن بعيد وعرفته معظم المجتمعات كمرحلة من مراحل التطور المجتمع الإنساني فقد أدى تقدم الصناعة والعمل في بلاد الأغريق إلى الأيدي العاملة فأستوردوا الرقيق بأعداد كبيرة من آسيا وأفريقيا وأصبحت تجارة النخاسة مصدراً للربح وعلى الرغم من تقدم الديموقراطية اليونانية في القرن الخامس إلا إن الأنظمة السياسية بما فيها أفكار الفلاسفة تعتبر الرقيق أداة مهمة لرفاهية المواطن الأغريقي.

أما في روما فقد شهدت أكبر ثورة قام بها العبيد عام 73 قبل الميلاد حيث تصدى لزعامتهم رجل يدعى (سبارتاكوس) فقد كان جندياً في الجيش الروماني وقد ذاق مرارة العبودية وتعرض للإضطهاد والتعذيب في مستعمرات العبيد المصارعين ذلك إن أباطرة روما كانوا يدربون العبيد ويستخدمونهم في مصارعة الحيوانات المفترسة ليتسلوا بمنظر الدماء وهي تراق في ملاعب روما غير إن هذه الثورة أجهضت بعد حصار أستمر ستة أشهر وأنتهت بمقتل قائدها (سبارتاكوس) عام 72 قبل الميلاد.

كما عرف ألإسلام نظام الرق وورثه من العصر الجاهلي ولم يضع الإسلام حداً له وكان مصدره الحروب والشراء حيث أسواق النخاسة. كما أعتبر الرق في العصرين الأموي والعباسي مصدراً للرفاهية والجاه حيث أنتشر الرقيق الأبيض من الروم وغيرها في قصور الخلفاء والامراء الأغنياء.

مصرع أيسوب

بعد أن غادر ايسوب بابل توجه إلى مدينة (دلفي) اليونانية التي يوجد فيها معبد (دلفي) الشهير وحيث الكاهنة العذراء التي تقرأ طوالع الناس. في هذا المعبد الذي يحج إليه سنوياً آلاف الحجيج من مختلف أنحاء بلاد اليونان يوجد مئات من الكهنة الدجالين الذين يستغلون الناس بتعاويذهم وحركاتهم البهلوانية من أجل كسب الأموال من الناس البسطاء كما يحدث اليوم. ثار أيسوب ضد هؤلاء الكهنة وفضح أعمالهم فما كان منهم إلا أن تآمروا عليه فدبروا له مؤامرة وهي سرقة الكأس المقدس من ذلك المعبد وقد أخفوه في حاجاته بدون علمه وتنص عقوبة هذه السرقة على أعدام من يرتكبها وبذلك إودع أيسوب السجن ثم حكم عليه بالإعدام وكان إثناء مكوثه في السجن يقص على السجناء قصصه ومواعظه وعندما حانت ساعة إعدامه رماه أحد الكهنة من مبنى شاهق وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة تفوه قائلاً:

(أن بابل سوف تنتقم منكم لقتلي)

وأخيراً، فأن بعض المؤرخين من يقول إنه شخصية خيالية لا وجود لها رغم إن أسمه كان قد ذكر في كتابات المؤرخ اليوناني (هيروتدت) 484-425 قبل الميلاد. ولم تجمع أساطير أيسوب في كتاب واحد إلا بعد أربعة قرون من وفاته حيث جمعها أحد الفلاسفة اليونان وكتب سيرة حياته في كتاب واحد أودعه في مكتبة الأسكندرية ونشر في أيطاليا عام 1479 ميلادية باللغة الإيطالية.

***

غريب دوحي

بقلم: مايكل لاشمان وسارة ووكر

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

القطة على قيد الحياة، والأريكة ليست كذلك: نحن نعرف ذلك. لكن الأريكة أيضًا جزء من الحياة. نظرية المعلومات تخبرنا السبب.

على الأريكة في زاوية الغرفة، تخرخر قطة. يبدو واضحًا أن القطة هي مثال للحياة، في حين أن الأريكة نفسها ليست كذلك. لكن هل يجب أن نثق بحدسنا؟ خذ بعين الاعتبار ما يلي: افترض إسحاق نيوتن وقتًا عالميًا يتدفق دون تأثير خارجي، ووقتًا نسبيًا يُقاس بالساعات - تمامًا كما تخبرنا حواسنا. وبعد قرنين من الزمان، تخلى ألبرت أينشتاين عن مفهوم الوقت العالمي وقدم بدلاً من ذلك مفهومًا للوقت يُقاس محليًا فقط بالساعات.  من كان قبل أينشتاين يظن أن الوقت على الشمس، والقمر، وحتى على كل ساعة من ساعاتنا يمر بمعدلات مختلفة قليلاً - وأن الوقت ليس مطلقًا عالميًا؟ ومع ذلك، يجب على هواتفنا المحمولة اليوم أن تأخذ ذلك في الاعتبار حتى يعمل نظام تحديد المواقع العالمي (GPS).

لقد قطع العلم خطوات مذهلة، حيث كشف عن فهم عميق وغير بديهي في كثير من الأحيان للواقع المادي. نحن نفهم الكثير عن الذرات الموجودة في جسم الإنسان والنجوم في سماء الليل: أكثر بكثير مما نفهمه عن الإنسان الفردي كمثال للحياة. في الواقع، يواصل علماء الحياة مناقشة التعريف الدقيق للحياة. كان أرسطو هو أول من قال أن الحياة شيء ينمو ويتكاثر. لقد كان مفتونًا بالبغل، وهو خليط بين الحصان والحمار الذي يكون دائمًا عقيمًا. ولكن لمجرد أن البغل كان عقيمًا، فلا يمكنك تسميته ميتًا. الجدال لا نهاية له: يقول البعض أن الحياة يجب أن تتم عملية التمثيل الغذائي، أي أن تأخذ مركبات، وتحولها إلى طاقة، وتطلق بعض النفايات. لكن هل المحركات النفاثة مؤهلة؟ باختصار، لا توجد نظرية، وبالتالي لا يوجد جهاز قياس يمكنه تأكيد أو دحض افتراضنا بأن القطة على قيد الحياة والأريكة ليست كذلك، ولا حتى أنك على قيد الحياة عندما تقرأ هذا.

وهذا ليس بسبب عدم المحاولة. خطوة مهمة لفهم المبادئ الأساسية التي يمكن أن تفسر الحياة طرحها إيروين شرودنغر، أحد آباء فيزياء الكم. ربما يكون شرودنغر معروفًا بتجربته الفكرية لقطط تكون حية وميتة في نفس الوقت، وبالتالي توجد في حالتين في وقت واحد (تسمى التراكب في الفيزياء). لكنه يحظى أيضًا بتقدير كبير لسلسلة من المحاضرات التي ألقاها عام 1943 في معهد دبلن للدراسات المتقدمة تحت عنوان مثير للتفكير "ما هي الحياة؟"، نُشرت المحاضرات في شكل كتاب في العام التالي، واكتسبت شهرة كبيرة بسبب كتابه "ما هي الحياة؟". إلهام أجيال من العلماء لفهم الحياة على مستوى أعمق. والأكثر شهرة هو تأثيره على علماء الأحياء الجزيئية جيمس واتسون وفرانسيس كريك للبحث عن بنية الحمض النووي، والتي تنبأ بها شرودنغر على أنها "بلورة غير دورية تشكل المادة الوراثية".

في كتابه "ما هي الحياة؟"، أوضح شرودنجر عدم التوافق الواضح بين الحياة والقانون الثاني للديناميكا الحرارية، الذي ينص على أن الإنتروبيا أو الاضطراب في النظام الفيزيائي يتزايد دائمًا. كيف يمكن للحياة أن تزيد من نظامها بينما يجب على الكون دائمًا أن يقلل من نظامه، كما يتطلب القانون الثاني؟ وكان رد شرودنغر هو أن الحياة يجب أن تتغذى على "الإنتروبيا السلبية" أو الطاقة الحرة، وهو ما نسميه عادة الغذاء وضوء الشمس. ويقضي القانون الثاني بأن مقدار النظام الناتج عن ضوء الشمس الذي يتم تدميره عندما يسخن كوكبنا يجب أن يكون أكبر من مقدار النظام الناتج عن نمو النبات.

ومع ذلك، هناك فرق بين إظهار أن الحياة متوافقة مع قوانين الفيزياء وبين الادعاء بقوة أكبر بأن الحياة تفسر بها. كان شرودنجر على وجه الخصوص مفتونًا بكيفية تصرف الحياة بهذه الطريقة المنظمة على الرغم من التعرض المستمر للضوضاء المتأصلة في الديناميكيات الجزيئية، وهو الأمر الذي يظل سؤالاً بلا إجابة حتى يومنا هذا. والأصعب من ذلك هو شرح كيف تنشأ الحياة من اللاحياة.

كان شرودنجر نفسه في حيرة من مثل هذه الأسئلة وعلق عليها في نهاية كتاب ما هي الحياة؟ أنه ربما يكون هناك "نوع جديد من القانون الفيزيائي" ضروري لتفسير الحياة. في أكثر من 70 عامًا منذ نشر كتاب شرودنغر، كانت هناك محاولات عديدة لتعريف الحياة أو على الأقل تحديد خصائصها الرئيسية. لكن، حتى الآن، يظل من الصعب العثور على نظرية تفسيرية.

ربما يكون حدسنا للحياة خاطئًا، ومبنيًا على تصورات خاطئة لأننا لا نستطيع رؤية العلاقة بين القطة والأريكة بشكل مباشر. انطلاقًا من فكرة أن القواعد أو القوانين العالمية صحيحة في كل مكان، وليس فقط بالنسبة للقطط أو الأرائك أو الذرات أو المجرات، فإن الفيزياء لديها تاريخ طويل في اكتشاف البنية المخفية في عالمنا. لنأخذ على سبيل المثال قانون حفظ الطاقة: لا توجد عملية تخلق أو تدمر الطاقة، سواء كانت مجرة أو قطة. وكانت الخطوة المهمة في التعرف على هذا القانون هي إدراك إمكانية توحيد الطاقة الحركية والحرارة. عند محاولة تحديد فيزياء الحياة، يجب علينا أن ننظر بشكل أساسي إلى جميع أمثلة الحياة كجزء من نفس الظاهرة العالمية. وبخلاف ذلك، فإن "الحياة" ليست خاصية موضوعية، بل هي مجموعة من الحالات الخاصة. إذا كان "نوع جديد من القانون الفيزيائي" ضروريًا بالفعل لتفسير الحياة، وكيف نفكر، وكما اقترح شرودنجر، فنحن بحاجة إلى إعادة التفكير بشكل جذري ليس فقط في نهجنا في الحياة، ولكن أيضًا في الفيزياء. يجب أن تكون "قوانين الحياة" عالمية بنفس معنى قوانين الفيزياء. يجب أن نفترض أنها لا تنطبق على الحياة على الأرض فحسب، بل على عوالم أخرى أيضًا، وليس على علم الأحياء فحسب، بل أيضًا على الفيزياء بشكل عام.

إن الجدل الدائر حول ما إذا كانت الحياة محكومة بقوانينها الخاصة، أو ما إذا كانت نفس القوانين تنطبق داخل الحياة وخارجها، ليس بالأمر الجديد. زعم الفلاسفة الحيويون أن هناك شيئًا خاصًا يتعلق بالكائنات الحية -قوة حيوية- تفصل الحي عن غير الحي، وفي الكيمياء تفصل العضوي عن غير العضوي. كان من المفترض أن تفسر القوة الحيوية سبب عدم ظهور البكتيريا تلقائيًا في الأوساخ. في عام 1859، أظهر لويس باستور، الذي سُميت عملية البسترة باسمه، أن البكتيريا لا يمكن أن تتكاثر تلقائيًا. وكان استنتاجه أن كل أشكال الحياة يجب أن تنشأ من حياة أخرى.

لكننا نعلم اليوم أن الافتقار إلى القوة الحيوية ليس هو ما يمنع التولد التلقائي للبكتيريا. وبدلاً من ذلك، هناك شيء آخر مفقود: المعلومات. ونعني بهذا بنية الخلية البكتيرية، ومحتويات الجينوم الخاص بها. لقد تم الحصول على هذه المعلومات على مدى مليارات السنين من التطور ولا يمكن إعادة توليدها على الفور من أنظمة لا تحتوي على معلومات، بغض النظر عن كمية الأوساخ الموجودة لديك. بطريقة ما، هذه المعلومات هي القوة الحيوية الحقيقية: فهي ما يفصل الحي عن غير الحي. ومع ذلك، بدلًا من كونها قوة غامضة تمتلكها فقط أجزاء خاصة من المادة، فإنها تظهر عبر الزمان والمكان من خلال عملية الاختيار. لفهم أصل الحياة، يجب علينا أن نتعلم ما هي أجزاء المادة التي يمكنها الحصول على مثل هذه المعلومات، وكيف تفعل ذلك.

للإجابة على هذا السؤال، يتعين علينا أن نذهب إلى ما هو أبعد من أفكار كلود شانون، الذي قاد نظرية المعلومات في عام 1948 جزئيا من خلال تجاهل المعنى.على سبيل المثال، في دراسة إشارات الراديو أو الاتصالات الأخرى، لم يكن شانون مهتمًا بمحتوى الرسالة المرسلة. وبدلًا من ذلك، كان مهتمًا بمعرفة ما إذا كانت البتات/ bits ترسل قدرًا أقل من عدم اليقين في جهاز الاستقبال بشأن حالة المرسل.     ولتحقيق ذلك، كان يحسب الاحتمالات فقط. إذا كان من المحتمل أن يشهد الغد هطول أمطار أو سطوع الشمس، وكلاهما محتمل بنفس القدر، وشاهدت تقريرًا دقيقًا بنسبة 100% عن الطقس يقول إنها ستمطر، فإن عدد الاحتمالات ينخفض بمقدار الضعف. يمكنك الحصول على بت واحد من المعلومات. وينطبق الشيء نفسه إذا رميت عملة معدنية وتعرفت على الجانب المواجه للأعلى، أو إذا لاحظت ثقبًا أسودًا لترى ما إذا كان يدور إلى اليسار أم إلى اليمين.   في كل هذه الأمثلة، يمكنك الحصول على بت/ bit واحد من المعلومات من خلال ملاحظتك. المعلومات هي ببساطة تقليل عدد الاحتمالات المتوقعة، وفي جوهرها تقليل عدم اليقين. وهذا صحيح بغض النظر عما تقوله الرسالة، فمعنى الإشارة لا علاقة له بنظرية شانون.

إذا عثرنا على قطط مريخية ميتة، فسنكون قد وجدنا حياة على المريخ

لتطوير نظرية للحياة، نحتاج إلى إعادة المعنى الذي تجاهله شانون إلى المعلومات، وبالتالي إلى الفيزياء أيضًا. عندما تصطدم كرات البلياردو ببعضها البعض، فإنها تصبح مترابطة - يمكنك التنبؤ بشيء يتعلق بكرة واحدة من خلال النظر إلى الأخرى. هذه معلومات بمعنى شانون: إنها تتعلق فقط بتقليل عدد الحالات المحتملة التي يمكن أن تكون فيها الكرة الأولى بمجرد أن تعرف شيئًا عن الثانية. من ناحية أخرى، عندما تكتسب الحياة معلومات حول بيئتها، فإن هذه المعلومات لا تتعلق بالتنبؤ باحتمالات الحالات التعسفية. إنها ما نسميه "المعلومات الوظيفية" - معلومات حول كيفية البقاء على قيد الحياة بشكل أفضل في البيئة، وكيفية إعادة إنتاج هذه المعلومات في الجيل القادم.

نظر عالم موسوعي آخر من القرن العشرين إلى التكاثر ونقل المعلومات من منظور رياضي. كان جون فون نيومان رائدًا في العديد من المجالات، بما في ذلك التطوير المبكر لأجهزة الكمبيوتر ونظرية الألعاب والاقتصاد. لقد أدرك أن جعل الكائنات الحية أو الآلات التكاثرية - التي أطلق عليها اسم البنائين العالميين - لبناء نفسها يتطلب برنامجًا يخبرنا بكيفية القيام بذلك ووسيلة لنسخ تلك الخطة ونقل النسخة إلى الكيان الجديد. المصممون أكثر تطوراً من أشياء مثل الأرائك. لا يمكن إنشاء الأرائك إلا من خلال المعلومات، ولكن يمكن للمصممين أيضًا إنشاء أشياء جديدة عن طريق معالجة المعلومات (بما في ذلك الإصدارات المتحولة من أنفسهم والتي تسمح للتطور بالعمل في المقام الأول) - أي أنه يمكنهم استخدام المعلومات.وبهذا المعنى، فإن القطة عبارة عن مُنشئ قابل للبرمجة، وكذلك أنت، لكن الأريكة ليست كذلك. ومع ذلك، في جميع هذه الحالات (الأرائك والقطط، وما إلى ذلك) تكون عملية تطورية ضرورية لإنتاجها.

وبالتالي فإن نظرية المعلومات التي يمكنها تفسير الأنظمة الحية يجب أن تأخذ في الاعتبار جانبين من المعلومات - كيفية الحصول على المعلومات، وكيفية استخدامها. تم الحصول على هذه المعلومات عبر الزمن التطوري، على سبيل المثال من خلال الاختيار، عبر البقاء للأصلح. يتم استخدام المعلومات، كما أشار شرودنغجر، عن طريق استنزاف الإنتروبيا السلبية لتغطية تكاليف الزيادة في التنظيم الذي تحتاجه الكائنات الحية للبقاء على قيد الحياة، وهو ما يمكنها القيام به لأنها بنَّاءة ولديها معلومات حول كيفية إنتاج نفسها.

في هذه المرحلة، من المفيد التمييز بين مفهومين متعلقين بالحصول على المعلومات واستخدامها: سنشير إليهما باسم الحياة/ والبقاء على قيد الحياة / . على قيد الحياة يشير إلى الاستخدام المستمر للإنتروبيا السلبية. وهو عكس الميت. أثناء حياتها، يمكن للقط أن يستخدم الإنتروبيا السلبية التي اكتسبها في شكل طعام لتوليد النظام في خلاياه، ولبناء نفسه. الأشياء التي هي على قيد الحياة هي منشئون. القطة الميتة لم تعد قادرة على فعل ذلك بعد الآن. يتطلب البقاء على قيد الحياة عملية الحفاظ على التوازن، أي التغلب على الاضطرابات والحفاظ على توازن الكائن الحي بشكل عام.

ومن ناحية أخرى، تشير الحياة إلى العملية التي تولد المعلومات المطلوبة. كما أنه يولد الأشياء الحية والمعلومات اللازمة لإنتاجها. وتتضمن الحياة أيضًا الحالات التي يتم فيها الحصول على المعلومات لتوليد أشياء غير حية، مثل الأرائك. هذه هي العملية التي تولد المعلومات التي يتم نسخها بمرور الوقت وعبر أشياء مادية مختلفة: من الوالدين إلى الأبناء أو بين الأفراد. تولد الحياة خيوطًا طويلة من المعلومات عبر الزمن - ما يسميه علماء الأحياء التطورية السلالات: سلالات القطط، بدءًا من أسلاف جميع القطط إلى القطة الجالسة على الأريكة؛ سلالات من المعلومات تمتد من المقاعد الأولى إلى الأريكة؛ والأنساب المؤدية من أصل الحياة إلى البكتيريا الموجودة في أمعاء القطة. هذه السلالات هي التي يسميها العلماء "ذات النهاية المفتوحة"، أي أنها مرشحة للتطور المستمر وتوسيع الحداثة. الحياة المعروفة هي محيطنا الحيوي، بما في ذلك جميع الأنساب التي كانت موجودة على الأرض والأنساب المستقبلية التي ستتطور منها. الأشياء الحية هي الأنظمة المولدة لتوسيع هذه العملية في المكان والزمان من خلال بناء إمكانيات جديدة. وبالتالي، فإن القطة والأريكة هما الحياة، ولكن القطة فقط هي التي على قيد الحياة.

لمعرفة سبب فائدة التمييز بين الحياة/ life والبقاء/ alive، يمكننا أن نتأمل في مثال شائع يستخدم في المناقشات حول تعريفات الحياة: الفيروسات. هناك خلاف في علم الأحياء حول ما إذا كانت الفيروسات حية أم لا. ليس لديهم آلية التوازن الخاصة بهم، ويعتمدون على آلية الخلايا المضيفة لاستعارة الآلات اللازمة لتوليد المزيد من الفيروسات. وفقًا للمعايير الشائعة، فإن الفيروسات ليست حية لأنها ليست بنَّاءة قادرة على إعادة إنتاج نفسها. لكن لا يزال بإمكانهم أن يكونوا الحياة.تظهر الفيروسات، مثل الخلايا أو القطط أو البشر، من خلال عملية طويلة تجمع معلومات وظيفية. إذا أردنا أن نفسر أصل الحياة، علينا أن نكون قادرين على شرح كيفية ظهور هذه العملية. القطة الميتة ليست على قيد الحياة، ولكنها حياة - لقد ظهرت أيضًا من خلال عملية طويلة من الحصول على معلومات وظيفية. إذا تمكنا من تفسير أصل القطط الميتة، نكون قد شرحنا أصل الحياة، وإذا وجدنا قطط مريخية ميتة، نكون قد وجدنا الحياة على المريخ. ومن ثم فمن المهم التمييز بين الكائن الحي، الشيء الحي، وبين العملية ــ الحياة ــ التي ولدت المعلومات التي يستخدمها.

من الممكن أنه في كل مرة تنشأ فيها الحياة في الكون، ستظهر أشياء يمكن أن نسميها حية، أو تشترك في بعض سمات ما نعتقد أنه كائن حي. من المحتمل أن يستخدموا المعلومات والإنتروبيا السلبية للحفاظ على أنفسهم.لكن ليس من الواضح على الإطلاق أن كل أشكال الحياة ستؤدي إلى أشياء حية في كل مكان توجد فيه الحياة، كما أنه ليس من الواضح ما هي سمات الحياة الضرورية للتطور المفتوح وتوسيع المحيط الحيوي.

تخيل أنك قمت ببناء طابعة ثلاثية الأبعاد متطورة تسمى أليس، وهي أول طابعة قادرة على طباعة نفسها بنفسها. كما هو الحال مع منشئ فون نيومان، فإنك تزوده بالمعلومات التي تحدد خطته الخاصة، وآلية نسخ تلك المعلومات: أصبحت أليس الآن منشئًا كاملاً لفون نيومان. هل خلقت حياة جديدة على الأرض؟

قد تكون السلالات البيولوجية، مثل سلالتنا التي يبلغ عمرها حوالي 4 مليارات عام، من أقدم الهياكل الفيزيائية على وجه الأرض لأنها تستمر في تجديد نفسها

لنفترض أنك قمت بعد ذلك بتجهيز أليس حتى تحصل (من خلال تصميمك) على المزيد من المعلومات: يمكنها استخدام الصخور والمعادن المشتقة منها كمواد خام لصنع طابعات ثلاثية الأبعاد جديدة. هل أصبحت أليس وذريتها (بوب وتشارلي وديزي وإيف) على قيد الحياة الآن؟ بعد أن شعرت بالانزعاج من الاضطرار المستمر إلى العثور على مواد خام لجميع الطابعات ثلاثية الأبعاد الصغيرة الموجودة حولك، قررت تزويد نسل واحد، إيف، بمزيد من المعلومات المكتسبة: الألواح الشمسية للطاقة التي تمكن إيف من الخروج بنفسها واستخدام تلك المعلومات المكتسبة للبحث عن المعادن. هل إيف الآن هي الحياة؟

بالنسبة لهذا التصميم الأخير، فقد اكتسبت شهرة كبيرة لهندسة أول طابعة ثلاثية الأبعاد ذاتية الإنتاج ومستقلة تمامًا ولا تتطلب إشرافًا. أنت تضع الكثير من المعلومات والبرمجة في صنع مُنشئك. على الرغم من اهتمامك العميق بإنشائك، إلا أن شركة التأمين الخاصة بك تشعر بالقلق بشأن الخسائر غير المواتية إذا استولت حواء على الأرض.

لذلك، تكتشف طريقة لإرسال طابعتك الصغيرة ثلاثية الأبعاد المستقلة في المهمة التالية إلى المريخ كمسافر خلسة. تخيل أن إيف تتمتع بوجود سعيد في واد مخفي على سطح المريخ، وتستمر في إنتاج العديد من النسخ من نفسها. تكتشف البشرية الوادي بعد بضعة ملايين من السنين لتجد أن عملية التطور على الطابعات ثلاثية الأبعاد قد أنتجت مجموعة واسعة منها تختلف تمامًا عن تصميمك الأصلي - صغيرة، وكبيرة، وزرقاء، وحمراء،، وتلك التي تبحث عن طابعات ثلاثية الأبعاد أخرى للحصول على الموارد، وما إلى ذلك.

قيمة هذه التجربة الفكرية هي أنها تسمح لنا بالتلاعب بمفاهيم الحياة وقيد الحياة. بشكل حدسي، نشعر أن الحياة قد ظهرت، أو ربما أن الروبوتات الجديدة لا تزال على قيد الحياة. هل أصبحت الطابعات ثلاثية الأبعاد هي الحياة؟ إذا كان الأمر كذلك، ففي أي نقطة أصبحت الحياة؟ هل هى على قيد الحياة؟

تشكل الطابعات ثلاثية الأبعاد سلالة. على المريخ، تم اكتشاف وظائف جديدة عبر التطور، وتفرعت سلالات جديدة، لكل منها وظائف مشتقة بشكل مستقل تم تطويرها من خلال الاختيار. لكن بالعودة إلى الأرض، كان أصل هذه السلالة هو هندستك. وأنت نفسك جزء من سلالة عمرها ما يقرب من 4 مليارات سنة تعود إلى أصل الحياة على الأرض. لاحظ أن نسب الطابعة ثلاثية الأبعاد ونسبك ليسا منفصلين حقًا. لم تكن الطابعات ثلاثية الأبعاد لتظهر بدون تاريخ طويل من تراكم المعلومات الوظيفية على الأرض، تمامًا كما لم تكن لتظهر بدون هذا التاريخ الطويل. ولهذا السبب، لكي ندرس أمثلة مستقلة للحياة حقًا، يجب علينا اكتشاف الحياة الغريبة وليس مجرد صنعها في المختبر.

من المستحيل أن نتخلص من قوتنا في محاولات خلق حياة اصطناعية: كل ما نصنعه هو جزء من سلالتنا وبالتالي يمثل نفس الحياة. قد تكون السلالات البيولوجية مثل سلالتنا، والتي يبلغ عمرها حوالي 4 مليارات سنة، من بين أقدم الهياكل الفيزيائية على الأرض لأنها تتجدد باستمرار. ليس هذا فحسب، بل إنها مدعومة أيضًا بالمعلومات للتوسع والتطور باستمرار.

ولكن دعونا نلقي نظرة على المعلومات الوظيفية التي تشكلنا. لقد تم اكتساب بعضها منذ حوالي 4 مليارات سنة عندما بدأت الحياة، ولكن تم اكتساب معظمها عبر الزمن التطوري. لقد تعلمنا كيفية بناء أجسامنا منذ حوالي 540 مليون سنة، وربما هضم الطعام المطبوخ في المليون سنة الماضية. نحن عبارة عن حزمة من المعلومات، نكتسبها في مراحل مختلفة، بعضها نكتسبه عن طريق البكتيريا الموجودة في أمعائنا، والبعض الآخر نكتسبه عن طريق الثقافة. من وجهة نظر السلالة، كانت الطابعات ثلاثية الأبعاد هي الحياة دائمًا، ولم يكن هناك انتقال بين اللاحياة والحياة في تجربتنا الفكرية. لكن شيئًا ما تغير على مدار تطورها - فقد اكتسبت معلومات وظيفية على مدى ملايين السنين على المريخ، وكانت قادرة على استخدام هذه المعلومات للقيام بأشياء جديدة - أي أنها اقتربت مما يمكن أن نطلق عليه الأحياء. وبهذا المعنى يمكننا أن نعتبر الطابعات ثلاثية الأبعاد بمثابة أمثلة جديدة للأشياء الحية، كل منها يولد إمكانيات جديدة للحياة.

هدفنا هو فهم الحياة على الأرض وفي العوالم الأخرى، وفهم أصلها. ولكن من أجل تحقيق ذلك قد يتعين علينا تغيير الطريقة التي نفكر بها في الحياة بشكل جذري. القطة هي مثال لكائن حي. ولكنها أيضًا سلالة عمرها 4 مليارات سنة من المعلومات الوظيفية المشتقة بشكل مستقل. إن السؤال حول ما إذا كانت قطة شرودنجر حية أم ميتة قد لا يكون هو السؤال الصحيح - وفي كلتا الحالتين، إنها الحياة.

في ركن الغرفة تجلس سلالة عمرها 4 مليارات سنة، وهي الآن على شكل قطة. هذه هي الحياة.

(انتهت)

***

........................

المؤلفان:

1- مايكل لاشمان / Michael Lachmann: أستاذ في معهد سانتا في في نيو مكسيكو. وهو مهتم بالتفاعل بين التطور والمعلومات، وخاصة أصول الحياة.

2- سارة ووكر /Sara Walke: عالمة أحياء فلكية وعالمة فيزياء نظرية في جامعة ولاية أريزونا، حيث تشغل منصب نائب مدير مركز بيوند للمفاهيم الأساسية في العلوم وأستاذة في كلية استكشاف الأرض والفضاء وكلية الأنظمة التكيفية المعقدة. وهي عضو في هيئة التدريس الخارجية في معهد سانتا في وزميلة في معهد بيرجروين.

الرابط على أيون:

https://aeon.co/essays/what-can-schrodingers-cat-say-about-3d-printers-on-mars

.

يشير الظلم في الخطاب الإجتماعي إلى مجموع الممارسات التي تخترق الفرد وتسلبه القدرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة لصالح الجماعة، مما يخلق تجاوزات عبثية داخل المجتمع.

فيمثل بذلك الظلم حدود كل فاعلية إنتاجية خلاقة وواعية ليؤثر بشكل سلبي على الحرية.

والظلم من هذه الناحية ضد كل فاعلية اجتماعية وقيمية لأنه يُحِدُّ حرية الأفراد ويشعر المظلوم بأنه عبد في يد الظالم، فيخلق التوتر والقلق والملل بين الأفراد من حيث كونهم أشخاصا مجردون.

وإرادة الظلم تكرس الاختلال بين قوى المجتمع، مما يتيح انعدام قبول واحترام حرية كل فرد ككيان مجرد، فيكرس بذلك لمجموعة من المفارقات والتناقضات التي توسع من تعارض الأفراد فيما بينهم.

ويحمل الظلم مجموعة من التقابلات تعكس مطاطيته وتعقيده. قوته وغناه: فهو يعبر عن الجهل والقسوة وعن القوة المؤسسة والمشروعية وعن الوضاعة، واليأس والخيبة والعنف والاحتيال والذاتية والاستبداد ... إلى آخره.

ويمكن إرجاع الظلم إلى حالة الطبيعة أو حالة التوحش أو يمكن كذلك اعتبار أن مستوى ثقافة المجتمع هي أفضل تعبير عن هواجسه وانشغاله الأساسي بالفاعلية الإنسانية.

فالظلم تعبير عن شيمة الشيم، وحقيقة إنسانية الإنسان التي يدعيها، ومظهر من مظاهر الحقارة والخضوع والخنوع والسفول  والخساسة والنذالة والمهانة والذل  والتذلل، ولهذا من الضروري دراسة أبعاده: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والقانونية ...

إن كل كلام عن الظلم هو كلام عن الإنسان لأن الحيوانات لا تظلم بعضها البعض من قريب أو من بعيد، لهذا من المنطقي إيثار نقاشات عن ما يحمله من أخطار ومعيقات، إن كل تفكير فيه لابد وأن يثير تساؤلات حول مصدر جاذبيته والأساس الميتافيزيقي الذي يقوم عليه، فالظلم كرذيلة الرذائل يشكل أصل كل الشرور الاجتماعية، إنه المحرك الأول للأفراد والمجتمع والدولة.

إن كل كلام عن الظلم إذن لا يستقيم، من وجهة نظر فلسفية، إلا في حدود ارتباطه بالإنسان وبما له علاقة به، يمكن في هذا الصدد النظر إلى علاقة الإنسان بالطبيعة والحيوان على أنها علاقة ظلم، وهذا ما أثار حفيظة المدافعين عن حقوق الحيوان، والبيئة.

إذا كان الشر كمبدأ قد أصبح مكسباً لا يثير أي جدال أو سجال، فلا يمكن اعتباره سوى دليلا قويا على بداوة الأمم، كما أن الأسس التي يقوم عليها تعكس القوى العمياء: الغرائز والنزوات والميولات والممارسات المشينة التي تتحكم فيه، وتتغير أوضاع الظلم بتغير ميزان القوى ولا يمكن للحرية المفرطة والظلم بهذا المعنى إلا أن يكونا مصدراً للشر.

إن الإنسان لا يعرف حقا غير قوة الظلم ولا يعرف ماهية وحقيقة العدل ولا رحمة الضعيف.

والشر المتأصل في الطبيعة الإنسانية يكمن في كون الفرد يتوهم الحرية في فعل كل ما في استطاعته للحفاظ على غريزته الخاصة حتى ولو كان ذلك على حساب الآخرين.

ولربما كان الظلم والأذى والاجحاف والاستبداد والإضرار والتجاسر والتحكم والتسلط والتعدي على الغير والتعسف وتعذيب الآخرين والحيف في الحقوق وشطط استعمال السلطة وضيم الناس وطغيان الرياسة وعسف الأفراد وغصبهم على الخضوع وقهرهم واهلاكهم، ... إلى آخره، غالباً على الطبيعة الإنسانية، لأن إعطاء الظالم الحرية في فعل ما يريد سرعان ما ستؤدي به أهوائه إلى اغتيال الناس واستمالة النساء والغلمان والاستيلاء على السلطة.

ليس الشر سوى رذيلة في نفوس الأفراد والظلم يرتكب عبر التاريخ حينما تتوفر شروط وظروف ارتكابه.

فكل فعل إنساني هو فعل يبحث عن مبدأ لتبريره ويكمن الظلم في الحرية التي يتمتع بها الإنسان في أن يفعل كل ما تقتضيه صيانة حياته ومصلحته، والتي ستؤدي بالضرورة إلى نشأة الحروب والصراعات بين الناس، فالإنسان قادر بقدرة قادر على إستعمال كل الوسائل والأدوات والمعارف والمباحث المتاحة لديه من أجل المحافظة وتحقيق غريزته الخاصة.

إن الإنسان وككل كائن عاقل يسلك في حياته طبقا للقوانين التي وضعها سلفا، والتي توفر له قدرات يكون الظلم بالنسبة للذات مطابقا لقدرتها، بحيث يتحدد الظلم في الذات بقدر ما له من قوة، ويجد الفعل الإنساني تبريره في فعل الذات ذاتها، ويكون الشر بالتالي غير قابل للتجاوز إذ يبقى هو الوحيد الذي يحكم حياة البشر، فكل ما يراه الإنسان شراً تكون له القدرة على فعله إلا الخير.

وهذا الفعل الظالم هو ما يهدد حياة الإنسان واستقراره على الدوام. كما يدفعه إلى التفكير في أن يحيا حياة مطابقة لمقتضيات العقل، والتنازل عن جزء من حريته في حدود ما يسمح به العقل والتعايش مع الآخرين.

لهذا يجب على الإنسان أن يدافع عن كيانه دون تعد على الغير، لأن كل تعد عليه ظلم، والتنازل عن قسط يسير من حريته، اختيار أنجع للدفاع عن مصالحه.

يتوق كل إنسان إلى العيش في أمن وأمان مما يضطره إلى تجاوز حالة الظلم الحالية وتقبل فكرة التعايش والتضامن مع الآخرين.

كما يدرك الإنسان مصالحه في حالة اختيار العيش طبقا لمقتضيات العقل، ولن يحدث هذا إلا في حالة تجاوز حالة الظلم، ولا ننسى المنفعة التي نتبادلها مع جميع الأفراد، وتخلي الإنسان عن قسط من مبادراته وحرياته لسلطة ذات سيادة ومتعالية على الأفراد مما تجعله يردع كل مغامرة ويمنع كل تهور.

ورغبة الإنسان في التعايش والاحتكام إلى سلطة العقل، نتج في الحقيقة عن حالة التوحش التي عاشها ولازال يعيشها، كون الفرد مجبولا على التفردن لكن فرض عليه التعايش مع الغير، وترتب عن هذا إفلاس كل خطاب عن زوال الظلم، لأنه متجذر في الطبيعة الإنسانية ولا يستقيم إلا على حياة الأفراد الخاصة، إنه يترجم محورية الذات وأنانيتها المطلقة مقابل تساكنها مع غيرها من الذوات.

ومن ثم يكون أساس كل ظلم اجتماعي هو كونه ظلم محايث لطبيعة المجتمع الذي يتميز بخاصية الجماعة، ولا يعوض الأفراد في الأضرار التي قد تلحقه من جراء عبث الغير وهي ظلمات قد تشتت قدرات جميع الأفراد وتشجع على الثورات والانقلابات الاجتماعية.

لأن الإنسان لم يلج المجتمع من أجل أن يتعرض للظلم والاقصاء الإجتماعي أو لتسوء أحواله الفردية ويتعرض لظلمات المجتمع ويعيش حالة التوحش والجهل وعنف الذات والآخرين.

ولعل أهم ما يكسبه الإنسان من حالته الراهنة هي القيود الأخلاقية والقيمية التي تحد من حريته وتجعله عبد نفسه وشهوته، وهذا دليل على استعباده وامتثاله للقوانين الظالمة التي هي ضد الطبيعة وتحرم حقه في الحياة وفي الكرامة.

يرتبط الظلم كذلك بالثقافة ومن ثم لا يستطيع المظلوم المساهمة في اتخاذ الإجراءات والقرارات والمبادرات الفاعلة لصالح المجتمع، كما يسبب الظلم الإجتماعي حرمانه وتهميشه واقصائه من الخدمات التي تقدمها الدولة.

يمثل الظلم معياراً أو نسقا تراتبيا يحتل المظلوم مكانة محددة لا قيمة لها إلا داخل هذا النسق، والظلم هو تعبير لصالح القوة والاختلال الديناميكي الذي يقوم عليه كل مجتمع، وقيام الحياة الاجتماعية على الظلم يعني عدم خضوعها لأي قانون أو ضابط يؤطر سلوكات وتصرفات وأفعال وأفكار الأفراد وعلاقاتهم الاجتماعية ويترجم الظلم إلى حالة قاهرة معيشة.

وينتج الظلم عن حرمان الأفراد من قدراتهم الفعلية على الحياة وفقا للعقل السليم، ومن ثم لا يستطيع المظلوم العيش طبقا لقوانين الذهن الصحيح.

إذ أن الظالم لا يقتصر تفكيره على قوانين العقل الإنساني ويعمل جاهدا على جلب الضرر الحقيقي للأفراد وتعريض حياتهم للخطر.

والواقع أن المظلوم يعيش في حالة قلق وسط العداء والكراهية والغضب والمخاتلة والخداع، ويواجه شقاءً عظيماً ويظل عبداً لضرورات الحياة إن لم ينمي عقله ويحرره من الاستبداد الذي يخضع له.

إن أقوى الناس لا يكون قويا بالشكل الذي يمكنه من أن يكون دائما سيدا على الآخرين ما لم يحول قوته إلى شر وظلم الآخرين، ويبتز في الوقت نفسه مصالح الأغيار من أجل التمهيد لاستعبادهم واستبدادهم، هكذا يفكر الظالم والطاغية، وينظر إلى الظلم والشر شيئا واحد، ويؤكد على أن القوة تخلق الظلم لهذا وجب على الكل الخضوع له.

يستطيع الظالم من خلال الكلام والخطاب أن يجلب الناس ويغويهم لصالحه، عبر إيهامهم أن الكثير من المشاكل سيعمل على حلها بواسطته، وبالتالي لا ولن يستطيعوا الاستغناء عنه، فيهرع جميع المظلومين إلى أغلالهم، وهم يعتقدون أنهم يضمنون بذلك حريتهم، لو كان لديهم اليسر القليل من العقل لأدركوا خطورة الظالم وثاروا عليه، والتضحية بكِسْرٍ من الحرية حفاظا على الحياة ما هو سوى استعداد قبلي لعيش حياة أبدية رغيدة بالظلمات.

وفي زمن الظالمين سجن الضعفاء وهم أحرار بقيود جديدة، ومنحت الظالم قوة وحرية جديدين، فاستحالة الحرية في عصر الظالمين استحالة نهائية، وامتد التفاوت بين الطبقات الاجتماعية، وتعرض المظلومين للاغتصاب اللبق في حقوقهم وحرياتهم، وخضعوا بالتالي إلى السجن الأبدي والعبودية المختارة والبؤس والتعاسة والشقاء الدائمين لصالح طموح وأطماع الظالم.

إن الظلم الوحيد فعلا هو ذلك الذي يكون ضداً لمقتضيات العقل القويم ويفرض على الأفراد انتهاكا لمصالحهم الشخصية.

إن الدولة الظالمة هي الدولة التي تمارس بشكل عنيف سلطتها على الأفراد، وتحد من الحريات مما يؤدي إلى اختلال النظام السياسي وانغلاقه على مجال الحريات العامة.

إن سلطة الدولة الظالمة تتخذ ملمح خرق قوانين المجتمع وظلم الأفراد، كما لا تفصل بين السلط ولا تفرق بينها في الأساس.

كما لا نجد للأفراد أي حقوق تذكر داخل النظم السياسية الظالمة، وتظل لصيقة السلطة الاجتماعية التي تمسها وتطغى عليها.

ونحذر من امتثال الأفراد للقوانين الظالمة لأنها قوانين استبدادية وأكيد سيؤدي هذا بالضرورة إلى الانقلابات الثورية والحاق الأضرار بالمجتمع.

إن حالة الإنسان الذي وصفه طوماس هوبز بحالة "حرب الكل ضد الكل" في كتابه الشهير الليفياثان يعكس واقع الدولة الظالمة أو الحاكم الظالم المستبد بالأفراد.

لقد مثل الظلم دائماً استحضاراً للعنف وتمثيلا له، فالعنف لا يمكن أن يوجد إلا داخل الظلم، ويحث على ضغينة الانتقام، ولهذا وجب أن يبدو غير قابل للخرق، وبهذا المعنى تصون العقوبات العنيفة كيان الظالم، وتبين مدى شراسته وشراهته الخصيبة، لا يسعى الظلم إلى السلم بقدر ما يسعى إلى التأصل والتجذر في طبيعة المجتمع.

النظام الظالم هو كل نظام لا يضمن الحرية الفردية، وهو يفترض وجود مبدأ يقول بأن الإنسان يجب أن يكون عبدا، إنه يفترض هذا المبدأ بكيفية مباشرة، فلا يضمن الأمن والأمان والاستقرار الإجتماعي التي تدفع الفرد إلى تفضيل الخضوع على الحرية الفردية.

لكل مجتمع ظالم مثل وقيم ومعايير تتساوى في ذلك مع المجتمعات المتوحشة التي هي مجتمعات حزينة وكئيبة تعجز عن ممارسة كل تفكير نقدي، وأكيد أنه بمجرد التساؤل عن قيمة معايير وقيم المجتمع الذي نعيش فيه، سرعان ما يثبت وجود شيء ما في الإنسان يرفض رفضا قاطعا كل ظلم.

كما أن الأهواء تلعب دوراً مهما في حث الانتقام في النفوس وتجمل صفو الظلم وصبغة التعسف لأن الظالم ينساق دائما إلى العواطف والدوافع الذاتية، وهكذا يكتسي الظلم الذي يتخذ شكل الانتقام بدوره صبغة إساءة جديدة، ويدرك كسلوك فردي يثير انتقامات لا تغتفر، وإلى ما لا نهاية له.

باختصار، الظلم لا بداية له ولا نهاية، ويتجسد في تصرف السيد الذي يسيء معاملة العبد، وفي الدولة الاستبدادية التي تحتقر مواطنيها أو في الاحتلال الصهيوني الذي نلحظه في قطاع غزة ويذل الناس.

ختاما، الظلم هو كل فعل قد يقوم به الظالم أو غيره كما لو كان وحده في المجتمع أو الدولة أو العالم، وكأن باقي العالم لا يوجد إلا ليستقبل ذلك الفعل، والقوة هي من تخلق الظلم وتجعل الظالم يسلك وفق شهواته وينساق إلى ميولاته.

***

بقلم: محمد فرَّاح – أستاذ فلسفة / المغرب

 

اللغة العربية أرقى اللغات وأسماها وأجلّها وأعلاها، وما زادها طيبة وعذوبة أنّ القرآن بها يُتلى، وأن الأذان بها يُرفع، وأن الصلوات بها تفتتح وتُختتم، لكن أرى نفسي في دولة لم تمكّن لغتها ولم تفعّلها، ولم تدخلها في لغة البرمجيات وفي جميع مفاصل الحياة كجزء من شخصية وطنية استقرت بسماتها وترسخت.

فوضعية اللغة العربية في عصرنا الحديث تطرح إشكالات مهمة ضمن منظومة التواصل، وهي وضعية تدفعنا للتساؤل عن كفاياتها من خلال النظر إلى المعاجم والقواميس كمصادر يمتح منها الدارس والمتعلم مفرداته وكمرجعٍ للكلم ودلالاته. لكن المفارقة العجيبة التي نستخلصها، هي أن المرء سيجد في اللغة العربية عشرات المفردات والأسماء لحيوانات الصحراء، ولكن لن يجد فيها أي من المفردات التي تروج في في عصرنا التكنولوجي والتي تتعلق بوسائل التكنولوجيا الحديثة، بهذا المعنى تصبح اللغة العربية فقيرة المفردات والتعبيرات، عاجزة عن اللحاق بالاختراعات وأسمائها التي أنتجها العالم الأول وما زال ينتجها في وفرة هائلة.

وبالتالي فاللغة العربية تواجه عدة تحديات منها التغيرات اللغوية، حيث تتعرض اللغة العربية للتغيرات اللغوية المستمرة، خصوصًا في اللغة العامية والمصطلحات الحديثة، مما يؤدي إلى التشوه في البنى اللغوية الأصيلة للغة العربية. كذلك الاستخدام الخاطئ، حيث يتم استخدام اللغة العربية بطرق خاطئة وغير مقبولة من قبل الناطقين بها، مما يؤدي إلى تأثير سلبي على اللغة ويجعلها أقل قدرة على التعبير بالشكل الصحيح. ونشير أيضا للتأثيرات الثقافية الأخرى، حيث إن اللغة العربية تتأثر بالثقافات الأخرى، خصوصًا فيما يتعلق بالمصطلحات الجديدة والكلمات الأجنبية، مما يؤدي إلى تأثير سلبي على فهم اللغة العربية واستخدامها.

ومن أهم التحديات أيضا التي تعيشها لغتنا العربية في المجتمع المغربي في عصر التكنولوجيا هو ثنائية اللغة أو الإزدواجية، بمعنى أن نتكلم لهجة نتداولها في التعامل اليومي، أي ما يعرف بالعامية، ولغة تدريس الآداب والعلوم، أي اللغة العربية؛ ما يميز هذه الثنائية وجود تقارب وتشارك بينهما، لكون العامية منها ما هو منحدر ومأخوذ من اللغة العربية في صيرورة تطورها، ومنها ما هو مستورد من لهجات محلية، إذ أغلب مفرداتها مستقاة مما ذكر، بها يعبر أفراد المجتمع عن حاجاتهم اليومية بعفوية وتلقائية وطلاقة، ويمكن القول بطريقة فطرية، كما أن للعامية نصوصاً أدبية شفوية وغنائية، وأمثال شعبية متداولة.

يعد هذا التقارب دعامة لما هو مشترك بينهما، مما يقوي الاشتغال الوظيفي لكليهما، أي وظيفة التداول العام الذي تؤديه العامية، ووظيفة الدرس اللغوي أو العلمي الذي تؤديه اللغة العربية.

هذا الواقع لم يلغ وجود لغة رسمية، هي اللغة العربية، لغة لها رصيدها اللغوي وقواعدها النحوية، ومعاجمها المتعددة، تدرس بها المواد الدراسية في المدرسة والجامعة، كما أنها تستخدم في أجهزة الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة، فضلاً عن استعمالها في الأجهزة الإدارية، والخطب الرسمية. هذا جانب فقط من الثنائية اللغوية التي يعرفها الواقع اللغوي بالمغرب كما تعرفها المجتمعات العربية.

تعد هذه الحالات من التعدد أو الازدواج اللغوي بمجملها جد طبيعية، تعرفها أغلب دول العالم، بآسيا وإفريقية وأمريكا اللاتينية، وحتى في بعض الدول الأوروبية، مثل إسبانيا وسويسرا وبلجيكا، وكندا ومنطقة الألنراس بفرنسا.

يمكن القول في ضوء الدراسات اللغوية السوسيولوجية والنفسية إن الثنائية أو الازدواجية اللغوية من شأنها تقوية مدارك الأفراد، وجعلهم متفتحين على مختلف الأنظمة اللغوية، لكنها قد تحدث اضطرابات لغوية رغم أنها عابرة، كما أن أشكالاً من الاضطرابات اللغوية قد تحدث حتى عند الأطفال الوحيدي اللغة.

فالدراسات اللسانية الحديثة تنظر إلى اللغة كأداة للاستعمالات المتنوعة، وفي سياقات تفرض أن تكون الحمولات الدلالية مبحثا تواصليا، يراعي خصوصية العلاقات التي تربط مستعملي اللغة كنظام من الأبنية الصوتية والتركيبية والدلالية سياقيا. هكذا يصبح الإنجاز فضاء للتواصل، يكون فيه المعجم وحدة  تؤطرها مجموع العلاقات الذهنية والنفسية والاجتماعية واللغوية التي تتقاطع كنظام تواصلي في تشكيلة زمنية متكاملة، تحقيقا للتوافق بين الباث والمتلقي حول مرجعية أساسها الكفاية التواصلية القائمة على سيرورة مختلف الاستعمالات المعجمية .

وإن حاولنا البحث باختصار في الحقب التي مرت بها العربية والأدب العربي؛  نبدأ بالعصر الجاهلي الذي ظهرت فيه المعلقات بأغراض شعرية عادية والتي أصبحت نهجا سار عليه الشعراء حتى يومنا هذا (الغزل، الرثاء، الهجاء، المديح، الوصف... الخ) وشعر الفروسية نتيجة الغزوات بين القبائل، وظهور الخطابة، وظاهرة الصعاليك...

وفي العصر الإسلامي جاء المديح النبوي كما عند حسان بن ثابت الانصاري، والشعر الديني، فتطورت الأغراض الأخرى.

أما العصر الأموي ظهر شعر الفتوحات والنقائض كما عند جرير والفرزدق والاخطل، ثم الشعر السياسي وشعر الغزل العذري،

وحديثنا عن العصر الأندلسي يذكّرنا بالموشحات والوصف بسبب طبيعة الأندلس، أما العصر العباسي فامتد على أكثر من خمسة عقود وظهر فيه الغزل الصريح والمقامات والفتوحات وشعر الحروب والوقائع الحربية، كما شهد رثاء الممالك والمدن بعد غزو التتار والمغول، فتطور غرض الفتوحات، وعند اقتراب انهيار الدولة ظهر الغزل الفاحش وشعر المجون والفتن والخلاعة وفي المقابل ظهر التصوف والزهد، وتطور فن الرسائل، وتطور حركتي الترجمة والتأليف.

وبخصوص العصر الحديث فقد شهد ظهور المعارضات بشكل أوضح، فجاء أدب المقاومة، الشعر المسرحي، أدب السجون، الأدب المهجري، مدرستا الإحياء والديوان، شعر التفعيلة (الشعر الحر)، الشعر الوطني والقومي وظاهرة الاغتراب، الأدب الشعبي...

فعلا مرت العربية بحقب زمنية عصيبة، لكن علينا أن نطوّرها أكثر، فيماذا تنفع هذه اللغة في عصرنا الرقمي الحالي، لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية الإلكترونية جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية.

وفي هذا السياق، فإن كل الدول وضمن مناهجها التربوية تعتمد سياسة لغوية واضحة المعالم، أي الانطلاق من اللغة الوطنية، والتدرج الدقيق لإدراج تعليم اللغات الأجنبية حسب أوصافها وقواعدها، ووفق المستويات الدراسية المطلوبة، مما يفرض بالضرورة اعتماد مقاربة دهنية ونفسية في علاقتها بالقدرات الذهنية للطفل.

يمكن القول أنّ اللغة العربية اليوم، تواجه خطرا يهددها في سياق التحولات التي يتعرض لها العالم العربي، بإقبال كُتّابه ومثقفيه ونسائه ورجاله على اللغات الأجنبية الأخرى، كاللغة الإنجليزية، نظرا لما تتيحه من مزايا متعددة، حيث إن أغلب البحوث العلمية على المستوى العالمي تصدر باللغة الإنجليزية ولغات أجنبية أخرى، وهذا الأمر ليس ناشئا عن خلل في اللغة العربية نفسها، وإنما سببه هو أن البحث العلمي والإنتاج الأدبي والثقافي بشكل عام يخضع لتحكم ذوي الاقتصاد القوي، وبما أننا في عصر اقتصاد المعرفة، فكل شيء صار له ثمن، وأصبحت المعلومات والبيانات أيضا بضاعة تباع وتشترى كسائر البضائع الأخرى.

في الختام، يظل دور كل فرد في المجتمع محوريًا في مواجهة ظاهرة الزوائف. من خلال التحري الدقيق والتفكير النقدي. لكن ومما لا شك فيه أن اللغة العربية في ظل الظروف الراهنة تعيش حربا مع التكنولوجيا ومع اللغات الحية الأخرى، بحيث إنه من المنظور الديني يلزمها البقاء، أما من المنظور الاجتماعي فأهلها تخلفوا معرفيا، بحيث إن الاعتماد على الأجنبي بديلا ولّدَ عجزا أمرض العقل العربي.

وتظل أي لغة انعكاسا للمستوى الحضاري لأي أمة من الأمم، ومرتبط وضعها بوضع أهلها الناطقين بها، وهي كذلك صورة حقيقية لهذا المستوى قوةً وضعفاً، وفاعلية وعجزاً وصعوداً وهبوطاً.

ولا بد من إجراءات أقترحها؛ إجراء دراسات أكثر تفصيلاً حول تأثير التكنولوجيا الحديثة على اللغة العربية، واستثمار التقدمات التكنولوجية واستخدام الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي إلى تحسين وتطوير دراسات اللغة العربية، كما يجب توفير قاموس لغوي حديث في كل مرحلة من مراحل التعليم العام.

***

ذ. فؤاد لوطة

 

مهما قيل في التأثير الهائل لأنظمة الدعاية الحديثة على تفكير الناس وميولهم، فلن تستطيع تحويل الإنسان إلى شبه آلة، تحركها تلك الأنظمة. بل أزعم أن التسليم المطلق بهذه الفكرة، يناقض الحكمة وتجربة البشر التاريخية. نعلم جميعاً أن التقدم المستمر كان سمة ثابتة في تاريخ البشرية. وما ينتجه البشر اليوم من المعارف والمنتجات المادية، دليل صريح على الفارق العظيم بين حالنا وحال البشرية قبل ألف عام مثلاً. تزيد العلوم التي ينتجها إنسان اليوم في عام واحد، عما كان ينتجه الأسلاف في عشرات السنين. وينتج من الغذاء ومصادر الطاقة ووسائل المعيشة، ما لم يصل إليه الأسلاف حتى في الخيال المجرد.

- حسناً... تأملوا معي في معنى التقدم، أليس جوهره هو التمرد على الأفكار السائدة والقناعات المعتادة والأعراف المعهودة.

تخيل أن نيكولاس كوبرنيكوس لم يتمرد على المبدأ الموروث، القائل بأن الأرض مركز الكون وأن الشمس تدور حولها، فهل كان علم الفيزياء والفلك سيقفز تلك القفزة العظيمة التي نعيش نتائجها اليوم، في حقل الاتصالات والطيران وتنبؤات المناخ وتطوير الإنتاج الزراعي... إلخ؟ في تلك الأيام كانت الكنيسة تعتمد نظرية الفلكي اليوناني القديم بطليموس، وفحواها أن الأرض مركز الكون. ولهذا جوبه كوبرنيكوس بالعزل والتكفير، فتردد كثيراً في نشر كتابه المتضمن نظريته الجديدة، حتى الأشهر الأخيرة من حياته.

تخيل أيضاً أن آلان تورينغ لم يتمسك بنموذج الحاسبة الذكية التي طوّرها في 1938 رغم إخفاقاته الأولية وسخرية زملائه وأرباب عمله، فهل سيكون لدينا الكومبيوتر والإنترنت التي باتت محرك حياة العالم في هذا الزمان؟ هذا وذاك، بل تاريخ البشرية كله، دليل على أن فطرة الإنسان الأولية، هي التمرد على السائد والمتعارف، وليس الانصياع له.

أقول هذا رغم أني - مثلكم - أنظر للحياة الواقعية الماثلة أمامي، فأرى غالبية الناس، تتأثر - كثيراً أو يسيراً - بتوجيه «الأيدي الخفية» التي تدير المسرح من وراء الستار.

- كيف نوازن إذن بين الاستنتاج المثبت علمياً، عن تأثير الدعاية والبيئة الاجتماعية على تفكير الإنسان وسلوكه، وبين رفضنا التسليم بهذا القول على نحو مطلق؟

لاستيضاح المفارقة، دعنا نستعن برؤية إيمانويل كانط، رائد الفلسفة الحديثة، حول الفارق بين حقيقة الأشياء وصورتها في الذهن.

أدرك قدامى الفلاسفة أن صورة الأشياء في الذهن، لا تطابق دائماً حقيقتها الواقعية. حين يخبرك شخص عن فرس سباق، فربما تتخيل صورة أجمل فرس رأيته. لكن حين ترى الفرس في الواقع، ستجده مختلفاً عن صورته في ذهنك.

أولئك الفلاسفة قالوا أيضاً إن معاينة الشيء تنهي تلك الازدواجية، حيث تتطابق الصورة الذهنية مع الواقع. وقالت العرب قديماً «فما راءٍ كمن سمعا». لكن إيمانويل كانط وجد أنك حين تنظر للشيء فإنك تراه من خلال الصورة التي في ذهنك، والتي غالباً ما تخالف الواقع قليلاً أو كثيراً. أي أن الفارق يبقى حتى لو رأيت الشيء بعينيك. هذه النقطة هي موضوع عمل الدعاية، التي تحاول تثبيت صورة ذهنية عن الأشياء، بغض النظر عن واقعها.

لكن كانط يقول أيضاً – وهو بالتأكيد صادق تماماً – إن عقل الإنسان ليس مرتبة واحدة. فهناك العقل العملي الذي يدير حياتك اليومية، وهناك العقل النظري الذي يتأمل حقائق الأشياء ويفكك معانيها، باحثاً عما وراء ظاهرها كي يتجاوزه، فيتحرر من الحاجة إليه، أو يستبدله بما يغني عنه. الدافع لاختراع الطائرة – مثلاً – كان شعور الناس بأن السيارة عاجزة عن تجاوز قيود الجغرافيا، مع أن أحداً ربما لم يتخيل يومذاك إمكانية أن يطير الحديد فوق الهواء. هذا العقل هو الذي يتمرد على تأثير الدعاية والتربية والبيئة ويختار طريقه المنفرد.

سوف أعود لهذا الموضوع في وقت لاحق. لكن يهمني التأكيد على لب الموضوع، أي وجود حالتين متوازيتين في واقع الحياة: سلوك القطيع ومسايرة الناس، مقابل الشك في هذا الواقع والتمرد على مسلماته. الأولى تكرّس النظام والراحة النفسية، والأخرى تؤكد قيمة العقل وكونه ماكينة التقدم الإنساني.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

علاقة اللغة العربية بالحاسوب من أحدث التخصصات المشتركة بين العلوم الإنسانية والعلوم الصرفة. ونشير هنا إلى حقيقتين تتعلقان بطرفي هذه المعادلة، أولهما:ـ المكانة التي تحتلها اللغة العربية في نفوسنا فهي ذاتنا، وعماد اصالتنا، وهويتنا التي نقدمها للعالم. والثانية:ـ المكانة التي يحتلها الحاسوب في هذا العصر، فالعالم يعيش في عصر المعلوماتية بمعناها الواسع. وتعدّ معالجة اللغة البشرية آليا احد المجالات التطبيقية للسانيات الحاسوبية.

اللسانيات: تعني الدراسة العلمية للغات. وتقوم على معرفة أصوات اللغة، وصفاتها، ومخارجها، والإحاطة بممفرداتها، ومعرفة دلالاتها، والقواعد المتعلقة بتركيب المفردات فيما بينها؛ لإنشاء جمل صحيحة، ودراسة الخطاب اللغوي من حيث الدلالة المباشرة، والدلالات السياقية الممكنة.

اما اللسانيات الحاسوبية: علم من العلوم البينية المستقلة المهمة، جوهره قائم على على ثنائية اللسان وعلوم الإنسان العربية والتعليمية، والحاسوب. يتطوّرهذا العلم بتطوّر الوسائل التكنولوجية الحديثة، وتعمل اللسانيات على تطوير استعمال اللغة العربية في مختلف مجالات الحياة العصرية، وترقيتها وبناء نظرية معرفية تساعد في معالجة القضايا اللغوية من خلال قولبة اللغة إلى رموز رياضية يفهمها الحاسوب؛ حتى يتأتى له القيام بأنشطة لغوية كثيرة يؤديها العقل البشري تسمى (مقاربات لغوية حاسوبية).

أول من نظّر لهذا العلم (الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح) إذ ربط التراث العربي باللسانيات الحديثة؛ فأبدع في إعادة قراءة التراث اللساني العربي ممّا تركه لنا اسلافنا.

تعدّ اللسانيات الحاسوبية مرحلة توصيف اللغة للحاسوب، أي وضع القواعد والقوانين اللغوية والحاسوبية لنمذجة اللغة ومن ثم توظيف هذه النمذجة للتحقق من صحة تلك الظواهر اللغوية، ثم تأتي المعالجة الآلية للغة التي تستمد إطارها النظري من اللسانيات الحاسوبية، وتقنيات الذكاء الاصطناعي؛ ليتم تصميم أنظمة آلية لمعالجة المعطيات تحليلا وتركيبا. أما من الناحية الحاسوبية: يعدّ هذا المجال أحد فروع علم الذكاء الاصطناعي، تتم فيه الاستفادة من مزايا معطيات الحاسوب؛ لتوظيف التطبيقات الذكية، منها: معالجة اللغات البشرية التي مفادها تصميم وإنجاز أنظمة حاسوبية تحاكي قدرة الانسان في التعامل مع اللغة الإنسانية،والتحقق من صحة الفرضيات النظرية الخاصة باللغة. أهمية اللسانيات الحاسوبية:ـ تعدّ من اهم العلوم الحديثة التي واكبت التقنيات وتتمثل أهميتها بآستثمار نتائجها في مجالات كثيرة منها: مجال التعريب، وصناعة المعاجم العامة والمختصة، والإحصاء اللغوي، والترجمة الآلية،والمعالجة الآلية وتعلم اللغات، وخدمة هذا العلم الحديث لعديد من مصطلحات اللغة الفنية لمختلف العلوم؛ مما أدى إلى إنشاء بنوك للمصطلحات تهدف إلى خلق مصطلحات أخرى معرّبة، ومن ثم توفيرها، وتوثيقها، وتوحيدها؛ من أجل الارتقاء باللغة البشرية من خلال الاسنفادة من مزايا الحاسوب ومعطياته وادواته المتاحة لتوظيف قواعد بيانات اللغة، والاستفادة من علوم أخرى كالرياضيات والمنطق.

البذرة الأولى للسانيات الحاسوبية على مستوى العالم زُرعت في تربة الحرب العالمية الثانية إذ أخذت شكل الترجمة الفورية بآلة تسمى (أنكما) أنجزتها المانيا في إطار منظومتها العسكرية لالتقاط رسائل دول الأعداء، وترجمتها الى الألمانية. أما في الوطن العربي، بدأ العمل بهذا العلم عندما عُقدت عدة مؤتمرات، وورش عمل، وندوات، أولها: الندوة الدولية لجمعية اللسانيات في المغرب العربي في العاصمة الرباط في سنة 1987بجامعة محمد الخامس، ناقشت موضوعات في اللسانيات النظرية والتطبيقية،وحصيلة البحث اللساني في اللغة العربية، ومشكلاتها الواقعية والنظرية.

مهام علوم اللغة الحاسوبية:

1ـ تقسيم النص الى كلمات.

2ـ معرفة نوع الكلمات.

3- الإعراب.

 4 ـ معرفة أسماء الاعلام، والتعبيرات الزمنية،والأحداث (اجتماع او مباراة مثلا).

 5- تحليل المشاعرفي النص مثل (هل الشخص مؤيد لفكرة معينة أم لا).

6ـ العلاقات بين الأشياء مثل (تحديد تاريخ عمل الشخص في شركة معينة من... إلى...).

7ـ الترجمة الآلية.

ـ في أحدث استعمالات توظيف الحاسوب في خدمة اللغة العربية نحتاج الى تصريف اللفظ بتصريفاته كلها. مثلا الفعل (ابتسم) ينبغي ذكر الأوجه التصريفية والاشتقاقية للفعل، وتفصيلات حالاته الاعرابية، ولواصقه (سوابقه ولواحقه) ثم نغذي الحاسوب بهذا الكم الهائل من التجريد والتصريف لبيان ماهية اللفظ؛ لان الحاسوب لا يمكنه معرفة المراد من لفظ (ابتسم) فقد يكون فعلا ماضيا، او فعل أمر، أو ماضيا مبني للمجهول. إذا لم يكن مشكولا (أي لم توضع عليه حركة اعرابية) لأننا لا نستطيع أن نجعل من الآلة (الحاسوب) ما يحاكي كلام الانسان. وبهذا نكون قد قدمنا نسخة من الذكاء الاصطناعي في التنظير اللغوي، والاستعمال الفصيح، وزوّدنا الحاسوب بثلاثة أمور:ـ الضبط الإملائيّ، والضبط الصرفيّ، والضبط النحويّ؛ لمعرفة ماهية اللّفظ. إذ يحل الحاسوب هذا الإشكال بما يمكن أن يبينه الضبط لتلك الأمور الثلاثة في توضيح معنى اللفظ. وكذلك الحال في لفظ (ذهب) هل هي اسم، ام فعل. نحتاج الى توضيحها للحاسوب؛ كي يزودنا بالمعلومات الصحيحة عنها.

ومن أوسع مظاهر التلاقح بين الحاسوب والتنظير اللغوي (علم العروض) فكأن هذا النظام العروضيّ مجهّز للتعامل مع كلّ مستجدات التطوّر الرقميّ، إذ ان الشعر العربيّ هندسيّ في تفعيلاته،يُبنى على المتحرك والساكن، بمعنى (ثنائية رقمية) فلو ادخلنا أي بيت شعري الى الحاسوب؛ سيخبرنا من أي بحر، وماتفعيلاته، وما ضربه، وما الزوائد والاشكالات فيه، بل سيخبرنا هل هذا البيت الشعريّ صحيحا ام مكسورا. ولظهور المقطع الصوتي في اللسانيات الحديثة أثر في إدخال البرامج الى الحاسوب (البرمجيات الصوتية) إذ نستطيع دراسة ظواهر الأصوات من خلال الخطوط البيانية التي يرسمها الحاسوب، فالسلسلة الكلامية يمكن تمثيلها بمخطط بياني تظهر فيه أكثر الظواهر الصوتية. فنعرف طول موجة الصوت أو قصرها،ومواطن النبر، ومقدار الخفة او الثقل في تلك الموجة، وشدّة الصوت كذلك.

- أهم الإنجازات المبهرة في هذا المجال: وسائل الاتصال الرقمي، الحواسيب، الروبوتات، السيارات ذاتية القيادة.

ـ اما الرسالة الأساسية للسانيات الحاسوبية: إثراء اللغة العربية من خلال تقديم مواد علمية باللغة العربية في مجال اللسانيات الحاسوبية. و انشاء تعليقات حاسوبية لمعالجة اللغة العربية. وتنمية المهارات في مجال اللسانيات الحاسوبية والبرمجة والمجالات النظرية والعلمية المتصلة بذلك، وانشاء قاعدة بحثية؛ لخدمة الجوانب الاكاديمية والتجارية.

ان اللغة العربية مقبلة بصدق على ما يسمى (الهوّة الرقمية) التي تفصل بين دول العالم المتقدم، والعالم النامي. ونعني بها قدرة العربية على الاستفادة من المعطيات المعاصرة، والتكنولوجبا الحديثة في البحث العلمي، وفي دراسة العربية وتدريسها. ـ من جانب اخر اذا نظرنا الى المساحة التي تحتلها لغتنا على شبكة المعلومات العالمية،نجدها ضئيلة لا ترقى الى مستوى العربية ومكانتها. إذا نظرنا الى هذه المساحة لأيقنا ان العربية مقبلة على مايسمى (الهوّة اللغوية).

فاللغة العربية لن تجد مكانا يناسبها، ويناسب تاريخها، وعدد المتكلمين بها على شبكة المعلومات العالمية، إذا لم نبدأ بشكل جاد وواضح في تقديمها بشكل يتناسب مع معطيات عصر المعلوماتية،من خلال حوسبة علومها بشكل صحيح وسريع، بل وسريع جدا. لاسيما ان المشكلات التي تواجهها العربية هي مشكلات ثقافية،وعلمية متولدة من أوضاع واحوال عالمية مثل: محاربة العربية وإبدالها بالعاميّة،وإدخال المصطلحات الأجنبية إليها. وفي الخاتمة: لابدّ من التأكيد على ضرورة الإيمان أن أي تقدم في أي علم ومن بينها علوم العربية، مرهون بقدرة المتخصص على استغلال الطاقات الإبداعية اللامتناهية للحاسوب، وتحديد أهم المشكلات التي تواجهه في مجال تخصصه،وقدرته على ابتكارالحلول والتطبيقات التي تمكنه من حلّ تلك المشكلات حاسوبيا. وإنّ معالجة اللغة تقنيا يُثبت بشكل واضح ان اللغة بخصائصها وميزاتها قادرة على تطويع قدرات الحاسوب،وأنظمته، وآلياته لمواءمتها بكافة مستوياتها، لاسيما ان الجيل الأخير من الحاسوب والأجهزة الذكية الأخرى تتواصل كلاميا مع الانسان، وهذا من أرقى أنواع التواصل وأنجعها وأسهلها على الاطلاق. ويأتي إدخال الحوسبة في خدمة العربية من جوانب متعددة في مقدمة المهمات العلمية المعاصرة والملحّة؛ لتواكب لغتنا العربية التطور العلمي ّ، العالميّ المتسارع. وما التدريس الألكترونيّ في مدارسنا وجامعاتنا، والتواصل بين سائر الناس على الرغم من بعد المسافات،في زمن (جائحة كورونا) إلّاشاهد ماثل إلى يومنا هذا على تأكيد العلاقة الوثيقة بين لغتنا العربية، والحاسوب الذي أصبح محورالحياة العلمية والعملية.

فللّه درّ لسان الضاد منزلة ً

فيها الهدى والندى والعلم َ ماكانا

***

م.د. بتول أحمد سليم

استرعى انتباهي منذ تسعينات القرن الماضي الصراع المحموم على تولي سلطة العشيرة ودار في بالي أن يكون هناك رأي للمثقف الحامل للشهادة، ‏ولكن قواعد لعبة القبائل تحول دون ذلك. ولم يكن في هذه القبيلة من حملة الشهادات العليا الا دكتور خالد سهر وكنت الثاني في الدخول الى هذا المعترك.

‏فعملت منذ نهاية التسعينات من القرن الماضي على تبني ودعم منهج طولي بالقياس إلى المنهج العرضي والذي يمثل الصراع المحموم على قيادة القبيلة، ‏بمعنى أن السير العرضي للمنافسات يقابله البناء الطولي والذي يتمثل به تنمية حملة شهادات العليا في القبيلة.واثارة الغيرة العلمية للسباق على الشهادات العليا وقمت بدعم كل فرد لديه رغبة الدراسات العليا ومن اي جهة كانت.

ويمكن لكل قبيلة في العراق استخدام هذه الالية وتبنيها وتطويرها، ‏على لا تكون القضية قضية صراع بين حملة الشهادات وبين تولي خدمة القبيلة، فشيخ العشيرة ليس أكثر من محامي يدافع عن من يقوم بتوكيله، ‏مع ارتباط ذلك بالإعلام،فالمنافسة هنا لا تشبه الصراع، والغاية الأساسية من ذلك هو تكوين إعلام طويل المدى وليس الاعلام القصير المدى،الذي ينتهي بنهاية الظهور الاعلامي لصاحبه، ونحن نريد ما يرتبط بالفكر ولا ينسى، ويمكن أن يكون نافعا للمجتمع فهو ليس ذاكرة مؤقته، يمكن نسيانها بعد سنوات نتيجة لتبدل الجيل، بل ذاكرة طويلة الأمد تحفظها المكتبات او المؤسسات العلمية المختلفة.اي الانتقال من ذاكرة الانسان بعلاقاته الاجتماعية ذات المصالح الدنيوية الى ذاكرة التاريخ العلمية ومن الذاكرة المحلية الى العربية والعالمية.عبر المنتج العلمي وعبر المكتبات العربية.

‏و كل فعل من شيوخ القبائل سوف ينسى بمرور الوقت، إلا فعل المنتج الثقافي أو الفكري، ولهذا لا يمكن لك نسيان المؤلفين او المفكرين او الكتاب والشعراء والروائيين الذين دون التاريخ منتجهم، وكان لهم المنتج الحقيقي وليس الوهمي، ‏معنى أنه منتج ثقافي يمكن الاطلاع عليه فيما بعد والاستفادة منه.

‏ولا يمكن اعتبار عملية تنظيم العلاقات الإنسانية في قبيلة ما، وحل مشاكلهم، والتواصل الاجتماعي فعلا فكريا تاريخيا يمكن أن يذكر فيما بعد ‏مثل كما يحدث في حل المشاكل الاجتماعية أو حتى القتالات الجانبية، ابدا ؛ لان ذلك يدرج ضمن نظام المعيشة وضمن الفعل الانساني الذي لا ميزة حقيقية فيه.

وورد عن سيد البلاغة علي ابن ابي طالب ‏"العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلمحاكم والمال محكوم عليه، هلك خزان الأموال وبقى خزان العلم، أعيانهم مفقودة وأشخاصهم فىالقلوب موجودة.

‏وهنا يمكننا السؤال، عن المنتج او الفعل الذي يدوم طويلا اكثر من وجود صاحبه، ولايموت هذا المنتج، سواء عند الله، او في ذاكرة التاريخ.

وسوف اتحدث على سبيل المثال عن منتج قبيلتنا وهو منتج يمكن أن يدوم طويلا أكثر من سيرة شيوخ القبيلة، الذين ستضمحل سيرتهم بمجرد تبدل جيل الى اخر لا ذاكرة لديه لتذكر ما مر قبل ١٠٠عام. وعلى سبيل المثال يبرز.

‏1-المنتج الخاص بالرواية ‏وبرع فيه الأستاذ احمد هاشم سالم ولديه عدد من الروايات المهمة التي طبعت في بيروت،منها ابنة الثلج الذي اراد منها ان يؤسس لثنائية بلاد الشمس وبلاد الثلج؛ وهي قراءة للإنسان الذي يقود لثقافة التقاطع والقتل، ولديه رواية ذاكرة التلاشي وايضا كتاب لا ادري، وكتاب ما قل ودل، ورواية نوارس هائمة،والموت ونصف مجنون.

2- كما برع د.خالد سهر رئيس قسم اللغة العربية في الجامعة المستنصرية، في الادب المقارن

وصدر له اﻟتداولية واﻟسرد،اﻟدراﺴﺎت اﻟثقافية مدخل تطبيقي وايضا كتاب ما وراء السرد في رواية الحمار الذهبي وترجمة كتاب معجم مصطلحات ما بعد الكولونيالية وكتاب التاثر والتاثير بين النص والنمط، وعشرات البحوث المنشورة.

3- ويبرز ايضا د.صباح عبد الكاظم، ويحمل لقب دكتوراه في القانون وهو مستشار وزير النفط السابق للشؤون القانونية ولديه كتاب دور السلطات العامة في مكافحة الفساد الاداري في العراق.وكتاب النظام القانوني لعقد التطوير والانتاج النفطي في العراق.

4- سامي حمادي علي وهو صاحب الرواية الشهيرة ليالي ابو غريب، والتي تدرج ضمن الادب السياسي او ادب السجون او الادب المقاتل، وتمثل مساحة مفتوحة من العواطف والوصف والالم والبقاء من اجل الحياة، وتحولت فيما بعد الى مسلسل عراقي.

5-الشيخ نديم الساعدي وله كتاب منية الصائمين، وهو كتاب فقهي يتماس والمجتمع العراقي، ايضا لديه اداب المسجد الحرام بما جاء من سيد الانام وايضا كتاب مسالتان فقهيتان وكتاب الربا القرضي والمعاملي.ولديه كتب اخرى مخطوطة.

6- د.رحيم محمد الساعدي، وفيما يخصني فقد حاولت التنوع في كتاباتي الفلسفية فكتبت في الاتجاهات الفكرية عند الامام علي - ودراسات في الفكر القراني - وكتاب مدخل الى علم الدراسات المستقبلية - والمستقبل في الفكر اليوناني والاسلامي - وكتاب فلسفة التاريخ بين علم الكلام والمستقبل - وكتاب فلسفة الخيال - وكتاب مدخل الى فلسفة الاخلاق التطبيقية - وكتاب بواكير المصطلح الاسلامي - وكتاب حضور الفلسفة اليونانية في الفلسفة الاسلامية - وترجمت كتاب حمل عنوان المسائل الفلسفية الكبرى - وكتاب حول سيدني هوك البطل والانثربولوجيا - وكتاب مشترك مع كتاب من امريكا الجنوبية - وكتاب اشعار من الفلكلور الجنوبي - ومجموعتان شعريتان، وعشرات الكتب المشتركة مع كتاب عراقيين وعرب طبع بعضها في هولندا وبيروت والجزائر وتونس بالاضافة الى عشرات البحوث العلمية.

7- د.عارف الساعدي، وهو مستشار رئيس الوزراء للشؤون الثقافية، وله العديد من الدووين الشعرية مثل مدونات وجرة اسئلة وادم الاخير وغيمة في قميص ورواية زينب و الكتب منها مسارات المعرفة الادبية وكتاب لغة النقد الحديث في العراق من المقالية الى النسقية.

8- د.فؤاد عجمي علي وله كتاب الشعور والاحساس، للمعاني اللغوية في سورة يوسف(ع)، وكتابه المهم النظير الصوتي في العربي دراسة في ضوء علم اللغة الحديثة.وكتاب

الاستنتاج في التواصل اللغوي قراءة في كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الاندلسي

9- د.بشار سعدون هاشم، وهو مستشار رئيس الوزراء وله كتاب الفكر السياسي عند سبينوزا وهو رسالته للماجستير و الفكر السياسي الديني الغربي في العصر الوسطي " أوغسطين أنموذجا"وهي اطروحة الدكتوراه.

10- الشيخ رياض عجم خلف:وله عدة مؤلفات في مسائل دينية مختلفة.

11- احمد الشيخ مزهر وله كتاب اطراف الرياحين في رثاء الامام الحسين (ع).

وبانتظار طباعة منتج حملة الشهادات العليا وهم كل من:

١- مصطفى اسامة: رسالته في علم الاقتصاد من ماليزيا.

٢- د. قصي مجبل شنون وكتب رسالة ماجستير في المسؤولية الدولية عن التحريض الإعلامي

٣- د.صفاء عائد حامد المتخصص في الفيزياء عن رسالة الماجستير

Design and Fabrication of Nano Structure Edge Filter Using PLD Technique

و اطروحة الدكتوراه

Improving of nano-compounds Lithium-Ion battery using graphene as additive to electrodes

٤- فادي حمود وكتب رسالة ماجستير في الفيزياء

٥- بهاء احمد هاشم ورسالته (الأبيات التي انفرد بها السمين الحلبي في عمدة الحفاظ على الراغب الأصفهاني في المفردات -دراسة لغوية-)

٦- ماجد علي طعمة رسالة ماجستير في القانون من لبنان.

٧- د.جلال علي طعمة

٨- عبد الامير حمادي وله رسالة ماجستير كتبها في كندا.

٩- د. رافد صباح وله رسالة ماجستير( أثر النظام الضريبي في تمويل النفقات العامة مع رؤية مستقبلية ).

١٠- احمد خيون هاشم ودرس الماجستير في الصين.

١١- حيدر نوري ويكتب في اللغة العربية.

١٢-يسرى صباح ولها رسالة ماجستير في الترجمة.

١٣- يقين عباس حمود ولها رواية مطبوعة بعنوان نوى.

١٤- ضحى رشيد محي.

١٥- اسيل فريد حمود وكتبت رسالة ماجستير في المحاسبة.

وهذا المنتج العلمي الفكري والثقافي، يدوم اطول من عمر صاحبه، وهو يرفع صورة صاحبه طويلا فهي علاقة تشاركية متبادلة، ولا يمكن مقارنته بالاموال او الصحة او المنصب، او مقارنته بوهم العلو في الارض، والتي لابد ان تنتهي في يوم من الايام كما اشار الامام علي.

***

ا. د. رحيم محمد الساعدي

ذكر المؤرخ العربي ابن عبد الحكم في كتابه "فتوح مصر والمغرب" في القرن التاسع الميلادي، في معرض حديثه عن "النيل"، أن لدى المصريين عادة إلقاء فتاة جميلة في مياهه لاسترضاء النهر كي يفيض ويعم عليهم بالخير في شتى مناحي الحياة اليومية. وقد أصبحت تلك الأسطورة، من أبرز الأساطير التي رُوّجت عن علاقة المصريين القدماء بنهر النيل، والتي تقول إنهم كانوا يلقون بعروس جميلة عذراء، ترتدي أفخر الثياب والحلي، ويزفونها إلى نهر النيل، بعد أن يُلقوها حية لتبتلعها المياه، وأن هذا التقليد أصبح متواترا للوفاء بفضل النيل على أرض مصر.

وعندما سمع  الخليفة الثاني " عمر بن الخطاب "، بتلك الأسطورة بادر على الفور بدحرها والقضاء عليها، وذلك حسب رواية ابن كثير  في كتابه (البداية والنهاية، المجلد 7، ص114-115(، والذي قال: " من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر: أما بعد، فإن كنت إنما تجري من قبلك ومن أمرك فلا تجر فلا حاجة لنا فيك، وإن كنت إنما تجري بأمر الله الواحد القهار، وهو الذي يجريك فنسأل الله تعالى أن يجريك "

وإذا كانت الأديان قد نشأت وارتبط مفهومها البشري بفكرة القرابين، وفق المعتقدات القديمة، فقد ظن الناس قديما كما قلنا أن القرابين بجميع أنوعها هي أقرب طريق لنيل رضا الإله ودفع الضرر عنهم، ولم تختلف الحضارة المصرية القديمة عن باقي الحضارات بهذا الأمر، وظلت هذه الفكرة ملاصقة لدى الكثيرين المهتمين بتلك الحضارة العريقة لتظهر من جديد مؤخرا في يومنا هذا .

فقد فوجعت مصر بجريمة قتل طفل يبلغ من العمر 8 سنوات، حيث وُجد مذبوحا، ومبتور الكفين في جريمة كشفت تحقيقات الشرطة أنها مرتبطة بالتنقيب غير الشرعي عن الآثار في إحدى قري صعيد مصر .

وقد خيمت حالة من الغضب والحزن بعد  العثور على جثة الطفل، والتي وجدت في قرية الهمامية التابعة لمدينة البداري بمحافظة أسيوط في صعيد مصر، حيث عثر عليها الأب في أرض زراعية بعد غيابه عن المنزل لساعات معدودة .

الشرطة المصرية قالت في بيانا لها أنه تم القبض على مرتكبي الجريمة، وهم 3 أشخاص، واعترف الاثنان منهم بارتكابها بالاتفاق مع منقب شرعي عن الآثار، وتقول تحقيقات الشرطة أن الاتفاق بين الجناة والمنقب غير الشرعي يقضي بالحصول على كفي الطفل لاستخدامها كقربان تساعد المنقب للوصول إلى الآثار، وهذا  هو داقع ارتكاب الجريمة .

فُوجع المصريون أكثر حين علموا أن الجناة هم أبناء عم والد الطفل الضحية، وما زاد الطين بلة، أنهم مثلوا دور الحزن، وساعدوا والد الضحية وأهل القرية في البحث عن الطفل لإبعاد الشبهة عن أنفسهم، حتى كشفتهم الشرطة، وألقت القبص عليهم .

وبالبحث والتقصي تبين أن هذا النوع من الجرائم التي تتداخل فيها القسوة والجشع والخرافة، تقوم على طقوس خاصة، مفادها أن فتح أي مقبرة فرعونية للبحث عن التماثيل الفرعونية الصغيرة، يتطلب وجود شخص يدعي أنه شيخ متخصص في فك طلاسم فرعونية أساسية لفتح المقبرة، وهذا الشيخ يعرف لدينا في صعيد مصر بـ "شيخ العزيمة"، والعزيمة هي قراءة الطلاسم واستحضار الجن، الذي يحرس المقبرة .

ولتنفيذ هذه  المهمة يطلب الشيخ مبالغ مالية كبيرة، أو دماء طيور أو حيوانات، أو دماء بشرية أيضا؛ وخصوصا دماء الأطفال، وكلما وقعت جريمة من هذه النوع قد تبين أن شيخ العزيمة مجرد دجال لا أكثر .

وفي رحلة البحث عن الآثار تُفقد كثيرا من الأرواح، إما بخرافة قرابين آلهة، أو تورط في الجريمة، تلبية لطلبات "شيح العزيمة"، ـو حتى تُفقد الأرواح خلال التنقيب عن الآثار بشكل غير شرعي بسبب انعدام الخبرة والمعلومة والافتقار في الأدوات اللازمة للبحث ؛ فتحدث الإصابات القاتلة .

والقرابين البشرية والجريمة لم تكن حالة فريدة في مصر، ففي شهر أيلول في عام 2021، اهتزت مصر بجريمة ذبح شاب، وتقتطيع أوصاله، وتقديمه قربانا لفتح مقبرة أثرية بحسب اعتراف الجناة، والمفارقة أنهم أقارب الضحية أيضا، وهم عمه، وزوجة عمه، وابناؤهما وفق تحقيقات الشرطة .

وللأسف تستيقظ مصر كل فترة على جريمة مماثلة يكون ضحيتها في الغالب من الأطفال، ولاشك أن هذه الجرائم لا ترتبط بمصر القديمة، لأن المصري القديم بشهادة أستاذي " زاهي حواس" : لقد أخفى المصري القديم أماكن الدفن التي تحتوي على الأثاث والمتاع الجنائزي، يعيدا عن العيون بغرض تأمينها ضد السرقة، علاوة على أن المصري القديم لم يسخر جنا أو رصدا لحراستها، والدليل على ذلك المقابر التي نقوم باكتشافها وفتحها من خلال الحفائر العملية والتنقيب الأثري بدون قرابين أو إراقة دماء.. وللحديث بقية..

***

د. محمود محمد علي - كاتب مصري

 

التجربة الكورية

تجربة كوريا الجنوبية في التعليم تعتبر واحدة من أنجح التجارب العالمية فقد استطاعت أن تحقق قفزة نوعية في مسارها التنموي، فحوّلت نفسها من دولة فقيرة إلى قوة اقتصادية عظمى في غضون بضعة عقود. وسر هذا النجاح يكمن في رؤية ثاقبة اعتمدت على التعليم كركيزة أساسية لبناء المستقبل.

تعليم متميز

أولت كوريا الجنوبية اهتماما بالغا بقطاع التعليم، معتبرة اياه استثمارا في حاضر ومستقبل كوريا، فخصصت ميزانيات ضخمة لتطوير البنية التحتية المدرسية وتوفير أحدث الوسائل التعليمية، كما حرصت على تطوير المناهج الدراسية وطرق التدريس بشكل مستمر لتواكب التطورات المتسارعة في العالم ومن خلال المعهد الكوري للمناهج والتقويم الذي يرتبط مباشرة برئيس الوزراء. ويتم قبل اعتماد اي منهج جديد بتجربته في عدد من المدارس وتقييم نتائجه قبل تطبيقه على نطاق واسع ليتماشى مع التطورات العلمية والتكنولوجية والاجتماعية.  وما يميز التعليم الكوري هو اعتماد التعليم متعدد اللغات وذلك بتدريس اللغة الانكليزية بشكل مكثف بالاضافة الى لغات اخرى مثل الصينية واليابانية.

ولم تتوقف كوريا عند هذا الحد، بل ركزت على تحسين جودة التعليم، فاعتبرت المعلم أهم ركن في العملية التعليمية، وقامت بتدريبه وتأهيله بشكل مستمر، كما عملت على تهيئة بيئة تعليمية محفزة للإبداع والابتكار وركزت على تدريس الرياضيات واللغة الانكليزية. ولم تغفل عن دور التكنولوجيا في التعليم، فاستثمرت بكثافة في تطوير التعليم الإلكتروني وربط المدارس بشبكة الإنترنت وتوزيع الأجهزة الذكية على الطلاب والمعلمين، مما ساهم في رفع كفاءة العملية التعليمية. لم يتوقف الحد عند بناء نظام تعليمي متميز أكاديميا، بل امتد ليشمل تحويل العملية التعليمية نفسها إلى حاضنة للابداع والابتكار. فاصبح الطالب ليس مجرد متلقٍ للمعلومات، بل هو شريك في عملية بناء المعرفة.

صناعة العقول

امتدت الرؤية الاستراتيجية لكوريا الجنوبية لتشمل الاستثمار بقوة في البحث العلمي والتطوير، فخصصت جزءا كبيرا من ميزانيتها السنوية لدعم مشاريع البحث والتطوير الطموحة، التي تغطي مجالات واسعة كصناعة الرقائق الإلكترونية المتطورة والتكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا الكم وغيرها من المجالات الواعدة. وجعلت من الاستثمار في البحث والتطوير أولوية وطنية، فخصصت نسبة كبيرة من ناتجها المحلي الإجمالي لهذا الغرض، متجاوزة بذلك العديد من الدول المتقدمة حيث تستثمر حوالي 4.5% من ناتجها المحلي الاجمالي في البحث والتطوير، وهي نسبة اعلى بكثير من دول مثل الولايات المتحدة (2.7%) والصين (2.0%) وبريطانيا (1.7%). أسفر هذا الاستثمار الضخم عن نتائج مبهرة، حيث أصبحت كوريا الجنوبية قوة عالمية في مجال التكنولوجيا، وتتمتع بمكانة مرموقة في صناعة الشرائح الإلكترونية والاتصالات، وغيرها من الصناعات المتقدمة. وتخطط الحكومة لانفاق ما لايقل عن 4 مليار دولار في مشاريع البحث والتطوير مع شركاء اجانب خلال السنوات الثلاث المقبلة.

التعليم المهني وصناعة المهارات

وبشأن التعليم المهني تم انشاء شبكة واسعة جدا من المدارس الثانوية والجامعات المتخصصة في مختلف المجالات كالمدارس المهنية والجامعات التقنية والكليات المهنية، والتي توفر للطلاب تدريبا عمليا مكثفا إلى جانب المعارف النظرية. كما سعت إلى بناء شراكة قوية بين المؤسسات التعليمية والقطاع الصناعي، مما أتاح لها تطوير برامج تعليمية تواكب احتياجات السوق بشكل مستمر، وتضمن توظيف الخريجين في وظائف مناسبة. وامتدت الرؤية الاستراتيجية لتشمل تطوير العنصر البشري القائم، لذا تم توفير مجموعة متنوعة من البرامج التدريبية المدعومة، والتي تشمل دورات قصيرة وطويلة الأمد تغطي مختلف المجالات، كما أنشأت شبكة واسعة من مراكز التعليم المستمر التي تقدم برامج مرنة تناسب احتياجات العاملين. واستغل التطور التكنولوجي في خدمة التعليم، فتم الاعتماد بشكل كبير على التعليم الالكتروني، مما أتاح للجميع فرصة التعلم من أي مكان وفي أي وقت. وشجعت الشركات على توفير برامج تدريبية داخل أماكن العمل، مما ساهم في ربط النظرية بالواقع، وزيادة كفاءة العاملين.

تربية وطنية

لم تكتفِ كوريا الجنوبية ببناء نظام تعليمي متميز أكاديميا، بل امتدت رؤيتها لتشمل بناء مجتمع أخلاقي قويم، فآمنت بأن غرس القيم الأخلاقية في نفوس الأجيال الشابة هو الاستثمار الحقيقي في مستقبل البلاد. فقد دمجت التربية الأخلاقية في صميم النظام التعليمي، حيث أصبحت جزءا لا يتجزأ من المناهج الدراسية في مختلف المراحل التعليمية، بحيث يتعلم الطلاب القيم الأساسية كالأمانة والاحترام والالتزام والعمل الجماعي، ويتدربوا على تطبيقها في حياتهم اليومية.

استند النظام التعليمي الكوري الى القيم الكونفوشية التي تشدد على الانضباط والاجتهاد والاحترام، والتي غُرست في نفوس الطلاب منذ الصغر، وعززت من خلال الأنشطة المدرسية والتعامل اليومي بين المعلمين والطلاب. ولم تقتصر التربية الأخلاقية على الفصول الدراسية، بل امتدت لتشمل المشاركة في الأنشطة المجتمعية، حيث شجعت المدارس طلابها على التطوع والخدمة المجتمعية المجانية، مما ساهم في تنمية روح التعاون والتضامن لديهم.

ثورة تعليمية

أحدثت كوريا ثورة في المدارس، حيث حوّلتها من أماكن جامدة إلى بيئات مرنة تشجع على الحركة والتفاعل، مما يخلق جوا محفزا للابداع ويساعد الطلاب على اكتشاف قدراتهم الكامنة. كما استثمرت بكثافة في التكنولوجيا الحديثة، وجعلت منها اداة اساسية في العملية التعليمية، مما اتاح للطلاب التعلم بطرق مبتكرة وممتعة، ووسع آفاقهم المعرفية. ولم تقتصر على ذلك، بل شجعت على التفكير النقدي والابداعي، فدرست الطلاب على استخدام التفكير النقدي التصميمي لحل المشكلات، مما جعلهم قادرين على ابتكار حلول جديدة للتحديات التي يواجهونها. كما اعتمدت على منهجية التعلم القائم على المشاريع، حيث يتعلم الطلاب من خلال تطبيق المعرفة النظرية على مشاريع عملية، مما يعزز من مهاراتهم العملية ويشجعهم على العمل الجماعي. ولم تنسَ أهمية الاستقلالية، فمنحت الطلاب مساحة واسعة لاتخاذ القرارات وتطوير أفكارهم الخاصة، مما حفز روح المبادرة لديهم.

وبفضل هذه الاستراتيجيات المبتكرة، تمكنت كوريا الجنوبية من بناء جيل جديد من المبدعين والمبتكرين، القادر على مواجهة تحديات المستقبل، والمساهمة في دفع عجلة التنمية في بلاده.

الخلاصة

تعتبر تجربة كوريا الجنوبية في التعليم من أنجح التجارب العالمية، حيث حولت نفسها من دولة فقيرة الى قوة اقتصادية عظمى بفضل التعليم. استثمرت كوريا في تطوير البنية التحتية المدرسية وتدريب المعلمين وتعزيز التعليم الإلكتروني والتربية الاخلاقية، وتحديث المناهج وبالخصوص التركيز على التفكير النقدي والعلوم والتكنولوجيا والرياضيات والهندسة والفنون. كما ركزت على التعليم المهني والشراكة مع القطاع الصناعي، مما ساهم في توظيف الخريجين. بالإضافة إلى ذلك، دمجت القيم الأخلاقية في المناهج الدراسية، وشجعت على التطوع والخدمة المجتمعية، مما ساهم في بناء مجتمع صناعي وأخلاقي قويم. 

***

ا. د. محمد الربيعي

......................

تجارب اخرى:

1) التجربة البريطانية:

  https://www.almothaqaf.com/qadaya/976386 

2) التجربة الصينية:

  https://www.almothaqaf.com/qadaya/977101-2

لا تزال اللغة العربية احد أبرز عناصر هوية الأمة . وبإهمال الإرتقاء بها، وتدني مستوى حضورها في الاستخدام الفصيح في الحياة اليومية، وفي الكتابة، وفي الاعلام، بل وفي الأروقة العلمية، إنما يعرضها للتنحي، وتراجع أهميتها بين اللغات، إضافة مسخ أصالة الهوية وطمسها.

ولعل انتشار ظاهرة لغة ما بات البعض يصطلح على تسميته (بالعربيزي)، او(الفرانكو عربية)، بين الجيل الجديد من الشباب، وشيوعها بينهم في الاستعمال اليومي، في وسائط التواصل الاجتماعي، (بالسوشيال ميديا)، من خلال الفضاء الرقمي المفتوح في كل الاتجاهات بلا قيود، إنما يهدد فصاحة اللغة العربية بالرطانة، ويشوهها بالعجمة، حيث باتت الدردشة والمراسلات عبر الإنترنت، والهواتف الذكية، تجري من قبل أجيال الشباب باللغة الانكليزية، أو الفرنسية (بالفرانكو عربية)، وهي الدردشة المهجنة ببعض مفردات اللغة الانجليزية، المقحمة بالمفردة العربية، حيث شاع هذا النمط من التواصل في الاستخدام اليومي للأجيال العربية الشابة، على أوسع نطاق .

وهكذا باتت اللغة العربية الام، تواجه تحديات كبيرة لمسخها، بسبب هيمنة الثقافة الرقمية في التواصل، والتي تتمثل بطبيعة تقنيتها الاجنبية المتمركزة، في هيمنة مفردات اللغة الإنجليزية، وسيادة مصطلحاتها وايقوناتها، بدلالاتها التعبيرية باللغة الاجنبية، التي باتت شائعة الاستخدام في الساحة العربية، حتى جرت بعض ألفاظ اللغة الإنكليزية على ألالسنة في المحادثات، والدردشات اليومية، بصورة تلقائية، إذ اعتاد البعض ان يبادرك بالترحاب، بكلمة (هالو)، ويودعك بالسلامة، بكلمة(كود باي) دون أي حرج .

لذلك يتطلب الامر من الجميع، الانتباه بجدية، الى خطورة الحال بانعكاساته السلبية، في مسخ اللغة العربية، وطمس الهوية، والإهتمام التام باللغة العربية، وحث الجيل على اتقانها، وتداولها بالفصحى في كتاباتهم، ودردشاتهم، ورفع مستوى تلقيهم لعلومها، دون إهمال الإلمام باللغات العالمية الأجنبية الأخرى، باعتبارها نافذة الإطلال على ثقافة، وعلوم، وتقنيات الآخرين .

ولا بد من الإشارة في هذا المجال، إلى أن نهج مسخ اللغة العربية، من خلال اشاعة وهيمنة استخدام مفردات اللغة الأجنبية، والتساهل في استخدام العامية الركيكة، يصب في ذات أهداف استراتيجية العولمة الرقمية، بشيوع استخدام اللغات الأجنبية، والإنكليزية بالذات، في الفضاء الرقمي، وبكل ابعادها الثقافية والحضارية، التي بدأت تعبث باللغة العربية في كل مجالات الاستخدام، مثل حالة الاعتياد على كتابة لوحات اسماء المعارض، والمحلات التجارية، باللغة الإنجليزية، ونشر الإعلانات التجارية بها، ناهيك عن كونها لغة تدريس العلوم في المعاهد، والجامعات، إضافة إلى عولمة استخدامها في البرامجيات، وشبكة الإنترنت، والمواقع العنكبوتية، والقنوات الفضائيات، وغيرها، من وسائل الاتصال الإجتماعي، والفضاء المعلوماتي، مما يزيد الطين بلة، ويضاعف تداعيات المسخ والتشويه .

وإذا كان الأمر في ضوء تلك التحديات، يتطلب الانتباه إلى مخاطر تداعيات استخدام اللهجة العامية، والحذر من التأثيرات السلبية لوسائل العولمة المفتوحة على لغتنا العربية، التي تتجسد في فرنجة مقرفة، ورطانة لاحنة، تؤثر على سلامة اللغة، وتهدد فصاحتها، بالمسخ والتشويه، فلا بد إذن من اعتماد خطة عربية شاملة، تستهدف التوسع في دراسات علوم اللغة العربية، ونشر كليات اللغة العربية، ومعاهد تعليمها، وتشجيع الدارسين فيها، والعمل على وضع استراتيجية عربية مكملة لها في نفس الوقت، لتعريب الدراسة في الجامعات العربية، والتوسع في إنشاء المواقع الحاسوبية الخادمة للغة العربية، وإدخال مفرداتها في الإستخدام في التقنيات الرقمية، رديفا لنظيرتها في اللغة الإنكليزية.

***

نايف عبوش

(قراءة في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

يقول (ابن عبدربِّه)، في «عِقْده الفَريد»(1): «وكانوا يتمادحون بالموت قَعْصًا، ويتهاجون بالموت على الفِراش، ويقولون فيه: مات فلانٌ حَتْفَ أَنْفِه، وأوَّل من قال ذلك النبيُّ، عليه الصَّلاة والسَّلام...».  ثم أَعْقَبَ هذا بقوله: «وقال (السَّمَوْأَل بن عادياء):

ما مات مِنَّا سَيِّدٌ (حَتْفَ أَنْفِهِ)  :::  ولا طُلَّ مِنَّا حَيثُ كانَ قَتيلُ.»

فانظر كيف نقضَ غزله أنكاثًا من فوره، بعد ثلاثة أسطر.

هكذا استهلَّ بنا (ذو القُروح) مساقنا هذا.  فسألته:

- مَن الأوَّل؟  وكيف لنا أن نعرف أوَّل من قال قولًا؟!

-  ثمَّ إنَّ هذه العبارات التي تجري مجرى الأمثال لا تأتي تأليفًا فرديًّا، بل هي مأثورات شَعبيَّة متداولة، لا يُعرَف قائلها الأوَّل غالبًا؛ فإمَّا أن تكون الرواية الأُولى، التي تَنسِب إلى الرسول أنَّه أوَّل من قال «مات حَتْفَ أَنْفِه» غير صحيحة، وهو الراجح، وإمَّا أنَّ بيت (السَّمَوْأَل) غير صحيح النِّسبة. وبالرغم من هذا فإنَّ المؤلِّف، ومحقِّقي كتابه بعده، يَمضون هنا بلا توقُّفٍ أو تعليق!

- لكن...

- وكان ممَّن زعمَ أيضًا أنَّ تلك العبارة أوَّل من قالها الرسولُ: (الجاحظ)(2)، و(الثعالبي)(3).

- ثلاثة شهود عدول، «وشهادة كلِّ قضيَّة اثنان»! أتزعم، يا (ذا القُروح)، أنَّ هؤلاء لم يتنبَّهوا إلى ما تنبَّهتَ أنت إليه؟

- هؤلاء، يا صديقي، صُحفيُّون، غالبًا، حاطبو ليل، كما وصفهم (المسعودي)؛ لا يفكِّرون تفكيرًا نقديًّا في ما يروون ويتناقلون. على أنِّي وجدتُ- بعد تسجيل هذه الملحوظة- (الزَّبيديَّ)(4) قد تنبَّه إلى هذا، حيث قال: «قلتُ: وقد جاءَ في بَيْتِ السَّمَوْأَلِ أَيضًا، وهو يُخَالِفُ ما سبَقَ مِن قَوْلِ رَاوِي الحَدِيثِ: إِنَّهَا كلمةٌ لم يَسْمَعْها مِن أَحَدٍ مِن العَرَب قَطُّ قَبْلَ رسولِ الله، صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّم.  وأَجابُوا بأَنَّه لم يَسْمَعْهَا، أَو أَنَّ الرِّوَايَةَ ليْسَتْ كذلكَ، كما نَقَلَهُ شَيْخُنا، وفيه نَظَرٌ وتَأَمُّلٌ.»

- فالمسألة بدأت، إذن، بقائلٍ قال: «ما سمعتُ بهذا التعبير قبل سماعي إيَّاه من رسول الله»، فتناقلوا هذا، وإنْ أوردوا ما ينقضه على الصفحة نفسها، كما فعل (ابن عبدربِّه)!

- وطبيعيٌّ أن لا يكون أحدٌ قد سمع كلام العَرَب كلَّه. ثمَّ دار قول القائل بين الرُّواة على أنَّه تأريخ لمنشأ تلك العبارة! والشاهد أنَّ مَن تأمَّل شأن الرواية في تراثنا العَرَبي، وغفلةَ الناقلين، وجدَ العَجَبَ العُجاب، واقتضى منه ذلك التحرُّزَ كثيرًا قبل الأخذ من سُوقها المزجاة بشيءٍ ذي قيمة أو موثوقيَّة.

- وإشكال هذه «السوالف» التراثيَّة عامٌّ طامٌّ، في المراجع الدِّينيَّة، والتاريخيَّة، والأدبيَّة.

- نعم؛ لأنها، غالبًا، حكاياتٌ، وسوالف مجالس، وروايات رُكبان، دُوِّنت، وتوارثها الناس، ومن ثَمَّ دُرِّست لنا على أنها وقائع، وحقائق، ودرَّسناها لطلبتنا، وبُنِيت عليها الأحكام، والأطاريح. وتدور بنا تلك الدوائر إلى يوم الدِّين!

- ستُتَّهم بأنك تُشكِّك في علماء التراث، وعنهم أخذنا تراثنا، وإذا شككنا فيهم لم نعد نثق في شيء!

- من حَسَبَ لكلام الناس حسبانًا، فليعشْ شيطانًا أخرس! ولا عِلم حقيقيًّا بلا شك، بل هو حينئذٍ الاجترار والتقليد؛ فالشكُّ مفتاح الحقيقة، والعِلم، والعقل!

- الأغلاط الفرديَّة واردة في كلِّ زمان ومكان، وكُلٌّ يؤخَذ من كلامه ويُرد، والتعميم خطيئة!

- صحيح! غير أنَّ السؤال: لِـمَ يضطلع محقِّقٌ بتحقيق كتاب، ثمَّ لا تجد له إلَّا المقارنة بين ما ورد في نُسخ المخطوطات من اختلافات؟

- يقولون: إنَّ هذا هو الأصل في التحقيق؛ أن تُخرِج المخطوط في صورته الأقرب لوضع صاحبه، بلا تدخُّل؛ فالمحقِّق غير الدارس.

- لا تتدخل في المتن، لكن عليك التدخُّل في الحاشية. وإلَّا فإنَّ هذا يعني الإسهام في نشر الضَّلالات!  تلك مدرسة العَجَزة والكُسالى من المحقِّقين، أمَّا مدرسة التحقيق الحقيقي، فهي (مدرسة التحقيق النقدي)، التي يتوقَّف فيها المحقِّق، ويناقش، ويحلِّل، ويعلِّق، ولاسيما حينما تبدو المزالق أمامه من الوضوح بمكان.  خذ مثالًا آخَر شاهدًا من مجال الأدب:  فلقد نقل (مُحْيي الدِّين بن عَرَبي، -638هـ= 1240م) في كتابه «محاضرة الأبرار، ومسامرة الأخيار، في الأدبيَّات والنوادر والأخبار»(5) قوله: «حكَى لنا بعض الأدباء عن ابن الجهم، وكان بدويًّا جافيًا، لمَّا قَدِم على المتوكِّل، وأنشده يمدحه بقصيدته التي يقول فيها، يخاطب الخليفة:

أَنتَ كالكَلبِ في حِفَاظِكَ لِلوُ 

دِّ، وكالتَّيْسِ في قِرَاع الخُطُوبِ

*

أَنتَ كالدَّلْو، لا عَدِمتُكَ دَلْـوًا 

 مِن كِبَارِ الدِّلا كَـثيرِ الذنُـوبِ!

فعرفَ المتوكِّلُ قُوَّته، ورِقَّة قَصده [كذا!]، وخُشونة لفظه، فعرفَ أنه ما رأى سِوَى ما شبَّهه به لعدم المخالطة وملازمة البادية، فأمر له بدارٍ حَسَنةٍ على شاطئ الدجلة، فيها بستان حَسَن، يتخلَّله نسيمٌ لطيف، يغذِّي الأرواح، والجِسر قريب منه، وأمر بالغذاء اللَّطيف أن يُتعاهَد به، وكان يركب في أكثر الأوقات فيخرج إلى محلَّات بغداد، فيرى حركة الناس ولطافة الخضر [كذا! ولعلَّ الصواب: الحَضَر]، ويرجع إلى بيته، فأقام ستة أشهر على ذلك، والأدباء والفضلاء يتعهَّدون مجالسته ومحاضرته، فاستدعاه الخليفة بعد مدَّة ليُنشِده، فحضرَ وأنشد:

عُيُوْنُ المَهَا بَيْنَ الرُّصافةِ والجِسْرِ 

 جَلَبْنَ الهَوَى من حيثُ أدري ولا أدري

فقال المتوكِّل: لقد خشيتُ عليه أن يذوب رِقَّةً ولَطافة«.

- حكاية لطيفة!

- وما أفسد تراثنا شيءٌ كما أفسدته الحكايات المستلطفة والأقاصيص المستعذبة، الفارغة من حذق القَصِّ أصلًا! وقد فَشَتْ منذ ازدهار الأقاصيص على ألسنة الوُعَّاظ والإخباريِّين ومن شابههم في العصر الأموي. وتلقَّف هذه الأقصوصة بعض المتأخِّرين، ومنهم (عبدالملك بن حسين بن عبدالملك العصامي، -1111هـ= 1699م)، في كتابه «سِمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي»(6).  وهي- كما أرى- حكايةٌ واضحة الاختلاق من وجوه:

1- مهما قيل في بداوة الشاعر، فلن يبلغ به الأمر ذلك المبلغ من الفجاجة في الخِطاب في مقام المديح.  ودُونك شِعر الجاهليِّين، ففي معظمه من اللَّباقة ما ليس في شِعر بعض الإسلاميِّين.  لكنَّه التصوُّر المبالغ فيه عن البداوة وجفائها.  وإنَّما قد يقع الخروج ممَّا يناسب المديح إلى ما هو بالهجاء أشبه، جرَّاءَ فجاجة الطبع في الشاعر نفسه لا في بيئته، أو لتكلُّف الصنعة عند بعض الشُّعراء، لا بسبب البداوة وجفائها. ومن هذا، على سبيل النموذج، قول الشاعر الحَضَري المعتَّق (البحتري)(7)، في مدح الوزير (إسماعيل بن بُلبُل):

أَتعَبْـتَ شُـكْرِي فأَضـحَى مِنكَ في نَصَبِ  :::  فـاذهَبْ! فمـالِيَ فـي جَدْوَاكَ مِن أَرَبِ!

فكيف لشاعرٍ- يفطن إلى أنَّ لكلِّ مقامٍ مقالًا- أن يخاطب ممدوحه: بـ«اذهبْ!»، ثمَّ يقول له: «فمالِيَ في جَدْوَاكَ مِن أَرَبِ»؟!  هذا ما لا يليق بمقام المديح، مهما كان من بَعْدُ من تأويل.  وممَّا يؤكِّد جفاء (البحتري) في أمدوحته هذه إتْباعه ما سبق ببيته:

لَأَشْـــكُرَنَّكَ إِنَّ الشُّـــكْرَ نَـــائِلُهُ  :::  أَبقَـى عَلـى حالَـةٍ مِن نَائِلِ النَّشَبِ

ممتنًّا على الممدوح بشُكره إيَّاه!  ذاهبًا إلى أنَّ شُكره شِعرًا أبقَى من معروفه إليه. 

- قوله صحيح، لكنه لا يليق بالمديح. 

- حتى كاد الشاعر أن يخرج من مقام المديح إلى التعريض بالوزير، بل إلى هجائه!  ومهما يكن، فإنَّ من يوازن خِطاب البحتري الشِّعري بخطاب صنوَيه في الثلاثيِّ العباسي، أعني (أبا تمَّام) و(المتنبِّي)، يخيَّل إليه أنَّه كمن يوازن ثَمِلًا يترنَّح بعقلَين راجحَين!  أو قل: إنَّما هو «عَبَثُ الوَليد»، على حدِّ نعت (المَعَرِّي). وتلك مسألةٌ أخرى.

2- لا يمكن أن يتحوَّل أسلوب المرء اللُّغويُّ ذلك التحوُّل النقيض، الذي زعموه لدَى (ابن الجهم)، على كِبَر، وبالطعام، والنسيم العليل، والعيش في حاضرة، لمدة ستة أشهر! هذا تصوُّر ساذج حقًّا!  كما أنَّ عامل البيئة ليس إلَّا أحد العوامل في الأسلوب.  واقرأ شِعر (أبي تمَّام) أو شِعر (المتنبِّي)، لتلحظ ما في بعضه من حُزونةٍ وتوعُّر؛ لأسباب من الطبع والذِّهن، لا من البيئة وحدها. 

3- إنَّ لُغة الشِّعر أوسع وأعقد من أن تقاس بمقياس لغة الحياة اليوميَّة المتباينة بين لغة المجتمع الحَضَري والمجتمع البدوي. فبعيدًا عن حكاية (الكلب) و(التيس) و(المها)، وعن مسطرة اللائق وغير اللائق، فإنَّ الشاعر الحاذق مصوِّرٌ لآفاق الحياة، ومشاعر النفس البَشَريَّة، المتلوِّنة المتقلِّبة، وليس بناطقٍ رسميٍّ باسم مجتمع بعينة.  ومَن قاسَ بهذا المقياس، لا يفرِّق بين لغة الأدب- فضلًا عن لغة الشِّعر- وغيرها من اللُّغات. 

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.........................

(1)  (1983)، تحقيق: أحمد أمين؛ أحمد الزين؛ إبراهيم الإبياري، (بيروت: دار الكتاب العَرَبي)، 1: 101.

(2)  يُنظَر: (1975)، البيان والتبيين، تحقيق: عبدالسَّلام محمَّد هارون، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 2: 15.

(3)  يُنظَر: (1983)، التمثيل والمحاضرة، تحقيق: عبدالفتَّاح محمَّد الحلو، (القاهرة: الدار العَرَبيَّة للكتاب)، 1: 22.

(4)  يُنظَر: تاج العروس، (حتف).

(5)  (مصر: مطبعة السعادة، 1906)، 2: 3- 4.

(6)  (1998)، باعتناء: عادل أحمد عبدالموجود، وعلي محمَّد معوَّض، (بيروت: دار الكتب العلميَّة)، 3: 469.  وللباحث (غازي بن أحمد الفقيه) مقالٌ حول المؤلِّف والكتاب وطبعاته، بعنوان «سمط النجوم العوالي: هل تعرَّض للتزوير؟!»، صحيفة "الجزيرة"، السُّعوديَّة، الاثنين 21 سبتمبر 2020، على الرابط: https://bit.ly/2Rg76Fp

(7)  (1977)، ديوان البُحتري، تحقيق: حَسن كامل الصيرفي، (القاهرة: دار المعارف)، 120/ 10.

في المثقف اليوم