قضايا

klepto cracy كليبتو كراسي أو الكليبتوقراطية، إصطلاح ظهر في بدايات القرن التاسع عشر يصف النظام السياسي الذي يستولي على صناعة القرار فيه أشخاص يعتمدون منهج الفساد المالي والفساد الإداري، يعملون على توظيف صلاحيات السلطة في تسهيل وصول الفاشلين والفاسدين الى المناصب الإدارية المهمة والمناصب السياسية المتقدمة. هذا يعني وجود خلل وإنحراف في هيكلية الواقع السياسي للسلطة. يظهر هذا الإنحراف في أجندات عمل مؤسسات الحكومة من قبيل تضمين الخطاب الحكومي الرسمي آيات قرآنية وأحاديث نبوية وحكم وعبارات المواطنة والإنسانية ولغة الحوار والمدنية والتثقيف وعبارات (القانون فوق الجميع) و(استقلال العدالة ونزاهة القضاء)، وإنصاف المظلومين، وتقديم الخدمات للمواطنين وتخفيف معاناة الفقراء، وتوفير فرص العمل، وحق التعليم وحرية التعبير، وإقامة مهرجانات وندوات ومحاضرات حكومية لمكافحة الفساد، وتوجيه الوعي العام للمواطنين، وتحذيرهم من عمليات الإحتيال والابتزاز، ونشر ارقام للخطوط الساخنة، واطلاق اسماء شخصيات تاريخية وطنية اتصفت بالنزاهة والشجاعة والابداع والمبدئية على هذا الشارع وتلك البناية وذاك المجمع.
يقابل ذلك ملفات فساد ضخمة لمسؤولين كبار في الحكومة، وهدر مقنن لمبالغ طائلة في ميزانية الدولة، وخروج ميسر لمسؤولين متهمين بقضايا فساد من البلاد، وغياب واضح لمصير أموال مسروقة، وظهور مئات الأشخاص من ذوي الثراء الفاحش مقابل ملايين الفقراء والعاطلين، مشاريع وهمية، صفقات مشبوهة، صفقة القرن، عقود فضائية، رواتب مزدوجة، منح ونثريات شكلية، وتدخل للمزاجية الرسمية في إستقطاع نسب من رواتب الموظفين والمتقاعدين.. و.. و..
وكلما كبرت هذه القضايا وكثرت ملفات الفشل والفساد، اشتغلت الماكنة الإعلامية الرسمية لتعلن عن مبادرة حكومية لمكافحة الفساد وعن تشكيل لجان لتقصي الحقائق، وإستصدار أوامر إعتقال بحق موظفين فاسدين، وإجراء إتصالات ومشاورات مع جهات معنية لسد الثغرات، وإستضافة شخصيات ومنظمات مدنية لتشكيل منطقة عمل مشتركة مع الحكومة لتحسين أداء مؤسساتها، وغيرها من عمليات ترقيع ذلك الإنحراف في هيكلية السلطة. منها عرض مفهوم الحياة مقابل مفهوم العدالة بحيث يتم تضييع إهتمام الناس بتطبيق العدالة في إشغالهم بمشاريع تحسين حياتهم بشراء منزل جديد وسيارة حديثة ومشاريع عمل في السوق العالمية المفتوحة وتوفير قروض ميسرة وفرص عمل ووظائف. هكذا ينصرف الناس الى شؤونهم الحياتية الخاصة حتى صاروا يسمعون ويقرأون ويشاهدون عبر شاشات الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي عن حجم الفساد المالي والفساد الإداري للحكومات المنتخبة، واقتصر رد الفعل عند كثيرين على إستياء وانفعال وقتي يزولان بعد اختفاء الخبر السيء، ويعودان مع ظهور خبر آخر، وهكذا، حتى ادمن كثير من الناس هذا الحال السيء الذي حوّل بدوره احزاب سياسية متسلطة الى قوى كبيرة غير صديقة للمجتمع تسحق كل من يواجهها.
أمام هذا التورم المتعاظم في قوة السلطة الفاشلة والفاسدة، بدا حضور قوة المؤسسة الدينية ضعيفاً في تفاصيل المشهد الحياتي للبلاد، عندما اقصرت المؤسسة الدينية دورها على تقديم النصح والإشارة الى مكامن الخلل، فما كان منها بعد قولها (بح صوتنا) إلا ان أدارت ظهرها لهذا التورم في قوة السلطة السياسية واعلنت رفضها إستقبال المسؤول الحكومي الفاشل والفاسد. واعطت لصلاة الجمعة حيث الخطبة السياسية، إجازة مفتوحة حتى بعد زوال المؤثر الذي تسبب في تعليق صلاة الجمعة وهو وباء كورونا.
وبعد ان ضمنت حكمة المرجعية الدينية قوة وقدرة حسمها للقضايا المصيرية الكبيرة كما حصل في فتوى الجهاد الكفائي وظهور الحشد الشعبي . اصبح المجتمع العراقي أمام تحديات كثيرة وخطيرة تتعلق في التفاصيل الدقيقة وفي طريقة حياة الناس والنظام الإجتماعي وانماط السلوك التي يتعامل بها الناس مع بعضهم في شؤونهم الخاصة من جهة، ومع الحكومة من جهة اخرى، وهذه التحديات في إعتقادي لا تقل خطورة عن القضايا المصيرية الكبيرة. تتأتى خطورتها من كون النظام السياسي العراقي اليوم مصاب بواقع منحرف في هيكليته، كما ذكرنا في بداية الحديث، نتج عن هذا الواقع المنحرف قلق مستمر أصاب الشخصية العراقية المتصفة بالصبر والتحمل طيلة اكثر من عشرين سنة من بداية القرن الواحد والعشرين وحتى اليوم، والذي راح ينذر بإنفجار كبير، لا يبدو من واقع حال الحكومة انها منتبهة لهذا القلق، أو مكترثة له، أو انها تدرك حجم هذا الإنفجار النفسي وحجم الأضرار التي يمكن ان يلحقها بالبناء الإجتماعي. لأنها لا تزال تستخدم لغة قديمة من شأنها ان تقضي على حركة العملية السياسية، هي لغة شتم وإهانة وإعتقال متظاهرين مدنيين يطالبون بحقوق أو خدمات و.. و.. وتهديم دور وإزالة تجاوزات اغلبها كان لأناس مدنيين فقراء. كما انها لا تزال ماضية في مشاريعها المالية، فبعد ان بدا العجز واضحاً في ميزانية الدولة بسبب حجم الأرقام المخيفة للأموال المسروقة من قبل سياسيين ومن يعمل بمعيتهم، راحت تبحث في سبل إستحصال أموال من الناس عن طريق رفع رسوم المعاملات الشخصية في دوائر الدولة وزيادة الضرائب وابتداع سبل حجز أموال الناس وإرغامهم على إنجاز شؤونهم المالية الخاصة عن طريق المصارف الحكومية والدوائر الرسمية على وفق ضوابط وقوانين وتعليمات وضعية تخدم تضخيم عائدات الحكومة المالية اكثر من استهدافها خدمة المواطن.
أمام هذا المشهد الحياتي الذي تبرز فيه قوة المؤسسة السياسية في حماية المال لصالحها، وتبرز فيه قوة المؤسسة الدينية في حماية مصير الصالح العام. اصبح المجتمع أمام قوتين إحداهما قوة غير صديقة تدخل في التفاصيل الدقيقة هي قوة المؤسسة السياسية، وقوة اخرى صديقة لا تدخل في التفاصيل الدقيقة هي قوة المؤسسة الدينية. لذا اصبح من الضروري جداً ظهور قوة صديقة تدخل في التفاصيل الدقيقة للمشهد الحياتي للمجتمع، هذه القوة ينبغي ان تكون قوة الثقافة، بالفهم الإنثروبولوجي لكلمة الثقافة، حيث لا يزال المواطن يكتنز كثيراً من القيم العليا والأخلاق، وكثيراً من طاقة الأمل في تغيير الواقع السيء، لأنه يمتلك مقومات وجود ذلك الأمل عبر الموروث التاريخي واحداثه، وعبر خبرته من خلال تجارب الواقع، تجعله يتمتع برصيد كافٍ لإعادة البناء الإجتماعي، يحتاج فقط الى قوة صديقة قادرة على استثمار هذا الرصيد. هنا تبرز مسؤولية المثقف الحقيقي في وعي المرحلة القادمة من عمر البلاد التي يراد لها ان تكون امتداداً للواقع المنحرف في هيكلية الجهات المتنفذة حالياً. وهذا واضح من خلال الخطوات التحضيرية للعملية الانتخابية القادمة.
الثقافة اليوم معنية بإصدار ما اصطلح عليه بـ حكم الثقافة. تحدد فيه ملامح التكوين الجديد للقادم من الأيام وتعين المواطن على قراءة ما بين السطور وتثير وعيه بقيمة صوته، وتحفظه من التحول الى كتلة بشرية مادية قابلة للاستهلاك والاستغلال والإستغفال.
***
د. عدي عدنان البلداوي

مما لا شك فيه، أن الناس في عالم اليوم يمرون بحالة غير مسبوقة وهائلة من الكذب والخداع الإعلامي وقلب الحقائق، وهذا ما يسمى بالتضليل الإعلامي. لقد أصبحنا اليوم نعيش في فوضى إعلامية، اختلطت فيها الحقائق بالأباطيل، وشوّهت الحقائق.
يهدف التضليل الإعلامي إلى خلق حالة من الفوضى الفكرية التي تؤدي إلى بلبلة عقول الناس عن طريق تشويه الحقائق أو قلبها، وبالتالي يمكن تطّويع عقول الناس وتغيير أفكارهم بما يتناسب مع أهداف حملة التضليل. من الأمثلة الحديثة التي عاشتها المجتمعات البشرية، جائحة كرونا. فبمجرد انتشار فايروس الكرونا في دول العالم، ظهرت في وسائل الإعلام، أصوات تكذّب اخبار الجائحة، وتوحي إلى أنها مؤامرة مفّتعلة من الحكومات بالتواطؤ مع شركات الأدوية. انقسم العالم بين مؤيد ومعارض، وشوّهت الحقيقة، ودخل الشك إلى قلب الحقيقة. وما زال التناقض في الآراء قائم لحد الآن. ونعيش اليوم حالات الخداع والتضليل الإعلامي في جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي يمارسها الجيش الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، ولا يوجد مُنصف ولا نصير. هذه أمثلة واضحة على تأثير الإعلام على عقول الناس. وفي مثل هذا الوضع السائد حالياً، من تضارب في المعلومات وتشويه في الحقائق، يقف الناس في حالة من التشظي الفكري والعقائدي!! فما هو السبيل إلى معرفة الصدق وتجنب الكذب؟
ظهر في أوروبا، في ستينيات القرن الماضي، مصطلح التضليل الإعلامي، ويسمى بالإنكليزية (Disinformation) ليشير إلى التسريب المقصود والمتعمد للمعلومات المفبركة أو الكاذبة. واستُعمل مصطلح (Misinformation) ليشير إلى تسريب المعلومات الخاطئة. وتختلف المعلومات المضَلِّلة عن المعلومات الخاطئة في، أن التضليل يكون متعمداً وله أهداف محددة، بينما لا يوجد عامل التعمد في المعلومات الخاطئة، بل هي غالباً ما تحصل بحسن نية وبدون قصد أو تعمد.
تتفق معظم المصادر التي تبحث في موضوع التضليل الإعلامي على تعريف التضليل الإعلامي: بأنه عملية نشر معلومات كاذبة، مُضلِّلة أو مفبرَكة، أو قلب الحقائق أو اجتزائها وتغييرها، بقصد خداع الناس والسيطرة على عقولهم، بهدف نشر آراء أو أفكار معينة، لأغراض سياسية أو دينية أو عسكرية، أو غيرها من الأهداف المقصود إملائها على الناس، من خلال الإيحاء بواقع مزيّف وغير حقيقي، يكون مقنعاً ومحبوكاً حبكة عالية لكي يصّدقه الناس على أنه الحقيقة بينما هو وهم. وقد يكون التعريف أكثر دقة إذا ما قلنا "أن التضليل الإعلامي هو استعمال وسائل الإعلام المنتشرة عالمياً للتأثير على، أو السيطرة على عقول الناس وأفكارهم وعقائدهم، عن طريق نشر معلومات كاذبة أو تشويه الحقائق أو اجتزائها وحذف جزء منها، وجعلها خاضعة لما يريدون ترّويجه بما يتماشى مع مصالحهم الخاصة، وذلك على فرضية أن (عامة الناس لهم مدى محدود من الانتباه). والملاحظ، ولسبب غير معروف، أن أكثرية الناس يميلون إلى تصديق الشائعات ورفض الحقائق مهما كانت مبررة ومنطقية.
من الأهداف المعروفة للتضليل الإعلامي، هو العمل على كسر أو إحباط الحالة النفسية للخصم جيشاً وشعباً، عن طريق نشر أو تصوير أخبار أو أفلام كاذبة تبين قوة الجيش المحارب والقتل الوحشي المروِّع ليخاف الناس ويرتدعوا.
الخِداع والاحتيال هما إحدى الطرق المستعملة في التضليل الإعلامي. يتم ذلك بنشر خبر أو تقرير في وسائل الاعلام، على أن يكون الخبر كاذباً أو مفبركاً، ويكون قابلاً للتصديق، ومحبوك بحرفية أو تقنية عالية جداً. من الأمثلة الشائعة على أسلوب الخِداع هو نشر فيديوهات مفبركة أو فيديوهات قديمة عن حوادث معينة كانفجارات أو مظاهرات أو اجتماعات أو غير ذلك، حدثت في وقت سابق وفي مكان ما، وبهدف معيّن، وتكون مصوّرة بدقة عالية فيصدقها عامة الناس على الرغم من كونها غير صحيحة. وقد برعت أمريكا في أسلوب الخداع والتحايل لتضليل الرأي العام. مثال ذلك:
في فترة حكم الرئيس بوش الاب، عام 1990، واثناء احتلال الجيش العراقي للكويت، أدلت فتاة تبلغ من العمر 15 عاماً بشهادتها امام مجلس الشيوخ الأمريكي، وقالت إنها شاهدت جنود عراقيون دخلوا مستشفى كويتي وسرقوا الحاضنات وألقوا الأطفال الخدّج على الأرض ليموتوا. تناقلت وسائل الإعلام هذه الشهادة، وانتشر الخبر بسرعة، وأيّدت القصة منظمة العفو الدولية فاكتسب مصداقية عالية، واستُغلت الشهادة لتجريم أفعال الجيش العراقي. بعد ذلك اتضح أن الشهادة كاذبة وأن القصة مفبركة. فالحاضنات لم تسرق، وإن الأطفال ماتوا بسبب هرب الممرضين والأطباء من المستشفى، والقصة اختلقتها المخابرات الأمريكية لتبرر تدميرهم للجيش العراقي.
لم يخجل الامريكان من فعلهم هذا ولم يتعظوا. ففي شباط 2003، فترة حكم الرئيس بوش الابن، كَذَبَ الامريكان مرة أخرى على العالم عندما ظهر كولن باول، وزير خارجية أمريكا، في مجلس الأمن حاملاً انبوبة صغيرة تحتوي على مسحوق أبيض (يقصد جرثومة الجمرة الخبيثة)، وعرض صوراً قال إنها من الأقمار الصناعية تمثل شاحنات كبيرة تحمل في داخلها مختبرات كاملة، متطورة ومتنقلة لإنتاج الجراثيم القاتلة، مؤكداً على امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل استناداً إلى معلومات استخبارية مؤكدة. وكان هذا هو المبرر القوي لغزو العراق. بعد الغزو واحتلال العراق تبيّن أن العراق لا ولم يمتلك أي نوع من أسلحة الدمار الشامل وإن هذه القصة كلها كذب وافتراء لتنفيذ خططهم الإجرامية.
من الأساليب الأخرى المعروفة والمستعملة كثيراً لتضليل الناس هو أسلوب التكرار. ويعتمد هذا الأسلوب على تكرار نشر الخبر الكاذب بصورة مستمرة إلى أن يتقبله الناس فيصدقونه ويعملون به، عملاً بمقولة وزير الدعاية في حكومة هتلر (جوزف غوبلز) التي قال فيها "اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس" وأضيفَ إليها "ثم اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى تُصَدق نفسك". وهذا ما يفعله الامريكان والأوروبيين في الوقت الحاضر، فهم أصبحوا يُصَدقون اكاذيبهم التي ينشرونها على إنها حقائق، ولا يصدقها الناس في انحاء العالم الأخرى. فهم يقولون (وهم يُصَدّقون ما يقولون) أنهم يلتزمون بالقانون الدولي، والكل يعلم أنهم يتنكرون لجرائم الحرب والتطهير العرقي التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، ومثل ذلك قولهم عن حقوق الانسان والديمقراطية. ونذكّر هنا بمقولة إبراهام لنكولن "تستطيع ان تخدع كل الناس بعض الوقت، أو بعض الناس كل الوقت، لكن لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت".
من الأمثلة التي نعيشها حالياً على اعتماد الاعلام الغربي لأسلوب التكرار بهدف التضليل، هو ربط تهمة الإرهاب بالإسلام. يعمد الإعلام الغربي بكل أنواعه على توصيف العمل (الانتحاري أو التفجيرات أو الدهس وغيرها) بأنه عمل إرهابي إذا كانت له صلة مباشرة أو غير مباشرة بالإسلام، وتزدحم الاخبار والتحليلات عن الحادث كونه عمل إرهابي، بينما لا تطلق صفة الإرهاب على الحوادث المشابهة لمثل هذه الأفعال إذا لم تكن لها علاقة بالإسلام، وغالباً ما يوصف الفاعل بالمريض النفسي، ويمر الحادث مرور الكرام في القنوات الإخبارية، على الرغم من أن مثل هذه الحوادث تقتل أعداداً كثيرة من الأبرياء وتكون أشد قسوة وبشاعة من غيرها. في أمريكا مثلاً، دخل شاب أمريكي أبيض إلى كنيسة للسود أثناء أداءهم القداس وقَتَل أثني عشر أمريكياً أسود ولم يعتبر الحادث إرهابياً، ولم يأخذ الخبر حيزاً مهما في وسائل الإعلام. وفي مناسبة أخرى، دخل شاب أمريكي أبيض إلى معبد لليهود أثناء أدائهم العبادة وقتل أثني عشر يهودياً ولم يعتبر حادثاً إرهابياً. في المقابل دخل شاب أمريكي مسلم من أصول عربية إلى حانة للمثليين وقتل أثني عشر شخصاً منهم فاعتبر الحدث إرهابياً وقامت الدنيا ولم تقعد. وباستعمال استراتيجية تكرار ربط الإرهاب بالإسلام، تطبّعت عقول الناس على مثل هذه الاخبار بحيث أصبح الآن بمجرد ذكر كلمة الإرهاب تبرز في عقول الناس شخصية الإرهابي كشاب مسلم وملتحي. ومع الأسف تطابقَ هذا مع عقولنا نحن العرب المسلمين وأصبحنا نصدق تهمة الإرهاب وربطها بالمسلمين.
تاريخياً، تذكر بعض المصادر أن التضليل الإعلامي تم استخدامه منذ القرون البعيدة. فقد استخدمه اليونانيون في حروب أثينا وإسبارطة، وكذلك الرومان. وفي العصر الحديث، يُذكر أن ستالين استعمل التضليل الإعلامي للتحكم بالمعلومات. واستخدمه هتلر اثناء الحرب العالمية الثانية لكسر أو تحطيم الإرادة لأعدائه. إلّا أن هذه المعلومات لا تَصِف بدقة مفهوم التضليل الإعلامي، لأن التضليل الإعلامي يعتمد بالأساس على توفر وانتشار وسائل الإعلام لغرض التأثير على الرأي العام في ترسيخ المعلومة الكاذبة أو قلب الحقائق. وحيث أن وسائل الاعلام لم تكن بالوفرة أو الانتشار الذي هي عليها الآن، لذلك فان تأثيرها يكون محدوداً على فئة معينة وقليلة من الناس، أو لفترة زمنية محددة، وغالباً ما كانت تمارس لأهداف عسكرية. أما في تاريخنا المعاصر فقد ابتدأ استغلال التضليل الإعلامي، كما نصفه اليوم، في تسعينيات القرن الماضي. وتحديداً، تزامن ذلك مع انتشار الآلاف من القنوات الفضائية وسهولة الحصول عليها، مع انعدام الضوابط أو سلطة الرقابة عليها، فأخذت تبث مختلف الآراء والأفكار وتنشر الدجل والفساد. وفي نفس الحقبة الزمنية ظهرت الانترنت وأصبحت متوفرة لعامة الناس، وجرى عليها ما جرى على القنوات الفضائية، بل يمكن القول إنها فاقت القنوات الفضائية من حيث التأثير المضلل على الرأي العام.
وفي بداية القرن الحالي، ظهرت مواقع التواصل الاجتماعي، التي انتشرت بين الناس في جميع انحاء العالم بسرعة وبصورة مذهلة، بحيث أصبح من الصعب الآن أن تجد شخصاً لا يستعمل أو لا يتفاعل مع وسائل التواصل الاجتماعي. وأصبحت الوسيلة الإعلامية الأولى، الأكثر انتشاراً وتداولاً بين الناس، والأكثر قبولا عند الناس، وذات مصداقية كبيرة. على الرغم من أنها تعتبر الآن من أكثر الوسائل الإعلامية استعمالاً للكذب والتضليل الإعلامي. والسبب في ذلك هو سهولة الحصول عليها، وانعدام الضوابط والرقابة على محتوياتها، ويمكن لأي شخص أن ينشر فيها ما يريد بدون عائق أو محاسبة.
تعرّف مواقع التواصل الاجتماعي: بأنها تطبيقات أو برامج تكنولوجية تسمح بنقل أو تبادل المعلومات بين الافراد بسهولة، مع إمكانية العثور على، والاتصال المباشر مع، اشخاص أو مجموعات بشرية لها اهتمامات مشتركة. ظهرت مواقع التواصل الاجتماعي في نهاية تسعينيات القرن الماضي. ظهر اولاً الفيسبوك عام 2003، ثم ظهر اليوتيوب عام 2005 في ولاية كاليفورنيا، ثم اشترته شركة غوغل عام 2006 بمبلغ 1.6 مليار دولار. بعدها ظهرت منصة تويتر (حالياً تسمى x) في عام 2006. وأخيراً توّجت مواقع التواصل الاجتماعي بظهور الذكاء الاصطناعي، والذي من المتوقع ان يتفوق وبامتياز على كل وسائل الإعلام لما له من الإمكانيات التقنية العالية في الفبركة والتزييف، والتي يصعب جداً الكشف عنها.
والعجيب أن الناس يصدقون، وبشدة، الأخبار والمعلومات التي تنشر في مواقع التواصل الاجتماعي حتى إنهم يدافعون عنها ويؤكدون على صحتها، على الرغم من أن معظمها تنشر أخباراً كاذبة ومُضلِّلة.
حديثاً، ظهر ما يسمى بالذباب الالكتروني أو الجيش الالكتروني، وهو عبارة عن مجموعة كبيرة من الحسابات الوهمية ينشئها مجموعة من المبرمجين المحترفين التابعين للأجهزة الامنية للدول. تنشر هذه الحسابات الوهمية مئات الآلف من الصور والفيديوهات والأخبار الكاذبة والمضللة، بما يتماشى مع أهداف الدول التي تستعمل هذا الأسلوب للتأثير على عقول الناس. وتنتشر وتتداول هذه الرسائل بسرعة بين الناس. ومن المعلوم أن المعلومات الكاذبة والأكثر تضليلاً هي تلك التي تُبنى على جزء من الحقيقة، لكي يتم تحويرها أو تغيرها بما يتناسب مع أهداف التضليل، لكي تصبح أكثر قبولاً للتصديق من قبل الناس ثم يعاد نشرها لتبدوا كأنها معلومة جديدة على الرغم من انها قديمة جداً.
وقد برعت الولايات المتحدة وإسرائيل في إنشاء غرف الكترونية متطورة جداً للتضليل ونشر الأكاذيب المفتعلة بهدف التلاعب بأفكار الناس وقيمهم وعاداتهم.
ويحق لأي شخص أن يتساءل " هل هناك تأثيرات سلبية للتضليل الإعلامي على الثقافة والفكر العربي؟" الجواب نعم. فقد حدثت تغيّرات جوهرية في الثقافة والفكر العربي!! فعلى سبيل المثال، انتشار الفكر الطائفي المتعصب والتكفيري المدمّر في تاريخنا المعاصر بما لم يكن له مثيل في تاريخنا القديم والحديث. فقد ترسخت الأفكار الطائفية بمختلف وجوهها في المجتمعات العربية. وأدّت إلى صراعات عنيفة داخل المجتمعات. وظهرت أيضاً اجتهادات وتأويلات تمس أركان الدين وتشريعاته مما زعزع ثقة بعض الناس بدينهم واخذوا يشككون بأحكامه. وكذلك تصديق بعض الناس لما يروّج له من أن التاريخ مزيّف ومشوّه، وأن التراث لا أهمية له. وغير ذلك الكثير مما يمكن ملاحظته على طبيعة تفكير أفراد المجتمع التي أصبحت متناقضة مع واقعه الشرقي الأصيل.
والرسالة الختامية من كل ما تقدم: ماذا علينا أن نفعل في التعامل مع التضليل الإعلامي؟
علينا أولاً أن نعي ونفهم بصدق أن مواقع التواصل الاجتماعي التي أنشأت بهدف التواصل والتعارف بين الافراد والمجتمعات ونشر الأفكار والثقافات، قد تمّ استغلالها للتحايل والابتزاز والتزوير، وانتهاك خصوصيات الافراد والتشهير بهم. المهم ان يعلم الجميع، ويتأكدوا، أن معظم ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي من فيديوهات أو وثائقيات أو مقالات، هو كاذب ومضلل ومبني على جزء من الحقيقة ليصدقه الناس، وأنه في الحقيقة يحتوي على معلومات مفبركة محبوكة بتقنية عالية جداً قد يصعب كشفها من قبل عامة الناس.
وثانيا: عليناً أن نعوّد أنفسنا على عدم تقبل أي معلومة تصلنا من وسائل الإعلام على إنها صحيحة ومقبولة، إلّا إذا كنّا على علم بالمعلومة ومتأكدين منها. وبغير ذلك فعلينا أن نتحرى صحة المعلومة من مصادر أخرى معروفة وموثوقة. فإن لم نجد ما يؤيدها، فإنها تكون موضع شك لحين التأكد من صحتها. وكقاعدة عامة: فإن كل خبر يصدر من شخص أو جهة غير معروفة، يجب التعامل معه بالحذر والتشكيك في مصداقيته. وإذا ما عوّدنا أنفسنا على توخي الحذر والشك في تصديق المعلومات، سنكون قادرين على كشف الخداع والتضليل، فنتجنبه ونأمن شرّه.
***
د. صائب المختار

 

من أجل عالم بلا أسرار حققت السلطة الرابعة ثورة فعلية، بكشفها عن أسرار وجرائم ذوي الياقات البيض، من سياسيين ومسؤولين حكوميين ورجال أعمال، ظلت انحرافاتهم وتجاوزاتهم غائبة عن أدبيات علم الاجتماع، بسبب ندرة المعلومات أو صعوبة الحصول عليها.
يعود الفضل بالأساس لثورة المعلومات التي لا تجامل مطابخ الأسرار الملوثة، ليتمكن الناس من رؤية الحقيقة كما هي لا كما تقررها الأنظمة. وهذا الكم المفجع من الفضائح التي تنكشف بوتيرة غير مسبوقة، يعزز الحاجة إلى إرساء حقل جديد في علم الاجتماع، يدرس الخروقات والتجاوزات التي تشوش على استقرار المجتمع وقواعده الضبطية.
كان عالم الاجتماع الأمريكي وليام سون William Son أول من دعا إلى العناية بهذا الحقل المعرفي، وضرورة تدخل الباحث الاجتماعي لتحليل وتأويل ردود الأفعال إزاء الفضائح، ورصد الآليات التي تعمل على توحيد الأحكام القيمية بشأنها. إلا أن هذا التقصي والبحث ينبغي أن يتم ضمن المتعارف عليه بشأن مسؤولية الباحث العلمي، وتجرده أثناء دراسة المعضلات الاجتماعية، لأن الهدف ليس هو التشهير وإنما تحرير المجتمع من العاهات والتقرحات التي تعيق استشرافه للمستقبل.
تنشأ الفضيحة حين يفشل المرء في التفاوض مع المعتقدات الاجتماعية الراسخة، والتزام المبادئ التي يفرضها المجتمع. وهي في عمقها جزء من طبيعة البشر" التلصصية" التي تتطلع لإطلاق الأحكام على الغير؛ لكنها في الوقت ذاته تحفز ميكانيزمات المجتمع على استئصال الفاسدين، لإضرارهم بالمؤسسات، وزعزعة الثقة بالقوانين والآداب العامة.
ولا يتخذ الحدث شكل الفضيحة إلا إذا تضمن جملة من الأركان يحددها المؤلف بنحو خمسة عشر، أهمها:
- كونه مناف للأخلاق والأعراف والقواعد القانونية.
- تستر فاعله عليه خوفا من انكشاف أمره.
- احتماؤه بمبررات تسويغية.
- لا يكشف أمره زمن حدوثه بسبب التعتيم والتكميم الذي يفرضه منصب الشخص.
- وصمته أقسى من أية عقوبة سجنية، لأن له تأثيرات علائقية ونبذية مجتمعيا..
للفضيحة إذن دور اجتماعي في تنقية المجتمع من عناصر الفساد، وإعادة التوازن لحياته التنظيمية. ويتميز العصر الحال بميلاد تنظيمات وهيئات مدنية، تعمل في جو من الحرية الفكرية والاستقلالية عن المؤسسات الحكومية، مما يتيح لها العمل كمصفاة مدنية تكشف الممارسات المجافية للأخلاق والقانون قبل استفحالها.
ترتبط الفضيحة بالشهرة، أي بالسمعة الاعتبارية المتميزة التي يحققها المرء بفضل أدائه المهني، أو نتيجة إعجاب شريحة واسعة من الناس بتألقه في أحد المناشط الاجتماعية التي تحظى باهتمامهم. لكن الشهرة تقيد حركة الشخص وتمنعه من التصرف على سجيته، وأحيانا أخرى قد تسبب الغرور والتعالي مما يؤدي إلى فقدانها. بينما يميل البعض الآخر إلى تفضيل السمعة على الشهرة، لكونها رديفة الاحترام والتقدير، حتى وإن كانت أضيق نطاقا من الشهرة.
ولا يعني كشف السلوك المفضوح دوما رغبة في تنقية المجتمع من المارقين على قواعده التنظيمية، إذ يعرض عالم الفن والرياضة عشرات الفضائح التي كانت سببا في شهرة مرتكبيها، ونحت مسارهم إلى النجومية. يتعلق الأمر هنا بطبيعة الضوابط الاجتماعية التي قد تكون متشددة، وتدفع بالتالي إلى الاستنكار وانسحاب المفضوح من موقعه تحت تأثير ما يمكن اعتباره إعداما اجتماعيا، أو غير متشددة، مثلما هو الشأن بالنسبة للمجتمع الفرنسي والإيطالي، فتعتبر الواقعة حدثا شخصيا، يمكن تبريره بمسوغات عقلية أو أعراف تقي من الوصمة الاجتماعية، لذا لم تمنع التحقيقات القضائية، واتهامات الفساد التي لاحقت رئيس الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو برلوسكوني إبان حكمه، من إعادة انتخابه أكثر من دورة!
تنعقد الفضيحة بتوفر ثلاثة أركان: الجاني، والضحية، والسلطة الرابعة إلى جانب منظمات المجتمع المدني. وقد يكون الجاني ضحية انحرافه عن المعايير، أو ضحية بعض أشكال التكسب الإعلامي والمهني التي يثيرها التنافس حول المناصب ومواقع القرار. وتدفع المرأة ثمنا اجتماعيا ونفسيا أبلغ حدة مقارنة بالرجل، خاصة في ظل التطور التقني الذي أسهم في تحويلها إلى سلعة للمقايضة والاستثمار المؤقت، وتدنيس وظيفتها الاجتماعية داخل الأسرة وخارجها.
إن الفضيحة هي أقسى تعبير عن الممارسات المعيبة التي يزلزل انكشافها مكانة الفرد، ويؤثر على علاقاته بمن حوله. غير أن الثقافة الاجتماعية في بعض البلدان العربية على سبيل المثال، تفصح عن ازدواجية مريبة في تأكيد الوظيفة الثقافية لبعض الممارسات الموروثة التي تندرج تحت مسمى الفضيحة الاجتماعية، من قبيل: الاحتفال المصاحب لختان الإناث، أو لسروال العروس ابتهاجا بالعذرية، وإدراج بعض أشكال العنف ضد المرأة ضمن السلوكيات المقبولة اجتماعيا.
تخلّف الفضيحة أثرا اجتماعيا صادما ومحفزا في الآن ذاته، فهي من جهة تكشف الخروقات والانحرافات التي مست آليات الضبط الاجتماعي، ومن جهة أخرى تحفز على مراجعة القواعد المخترقة، وجعلها أكثر دقة ومحاسبة. وهنا يكمن دور الباحث الاجتماعي في كشف التشريعات والقوانين الضعيفة، وتتبع جدية تنفيذ القرارات المعرّضة لأساليب احتيالية والتوائية متعددة.
وفي المقابل تنشط بنية الفساد للتستر على الفعل المنافي للضوابط قبل افتضاحه، وتفعيل أشكال التضليل والتمويه التي تحمي الصورة الاجتماعية للفاعل وتُجنبه المساءلة. وسواء كان التستر صادرا عن فرد أو حزب أو حكومة، فإن آلياته المتعددة تسلط الضوء على الطبيعة المؤسسية للفساد، ودورها في تفريخ النماذج الفضائحية. هكذا تتم مقاومة الفضيحة أو منعها من خلال:
- آلية التجنب: بالابتعاد عن تناول الموضوع المتستر عليه لئلا يثير الانتباه.
- آلية التسويغ: بالحديث عن تدني الدخل الشهري للموظف، وغلاء المعيشة وغيرها..
- آلية التمييع: بإهمال الشكاوى المتعلقة بها.
- آلية الإنكار: برفض الحديث عن الموضوع كليا.
- آلية التمويه: من خلال تبني سلوك مغاير، أو ادعاء المثل العليا والاستقامة.
على الرغم من سلبياتها، والدوي الذي تُحدثه بكشفها للممارسات المعيبة، إلا أن الفضيحة تقدم خدمة للمجتمع على المدى البعيد، فهي بتعريتها للعناصر الفاسدة في النظام، تُعزز الرقابة الإعلامية على مفاصله النسقية، وتُدين دوافع الانحراف المعياري التي تهدد قيم المنافسة الشريفة، والموضوعية في الترقي للمناصب والحفاظ عليها.
تقدم الفضائح السياسية المحلية أو الدولية، مثالا للممارسات غير الطبيعية التي يغذيها الشعور بتهديد المنافس، والرغبة في بالبقاء بالمنصب، والتمتع بمزايا النفوذ والسلطة. أما فضائح رجال الدين الذين يُفترض بهم السهر على التنشئة الدينية، والاستقامة الأخلاقية، وتقوية الرباط الروحي للأفراد، فإنها تنعكس بشكل خطير على الهوية الذاتية والاجتماعية، وتسلب الدين مهمته الجليلة والسامية، باعتباره دستور الحياة الذي لا يمكن للفرد أن يستمر في العيش بدونه. يظهر الأمر جليا من خلال ردود الأفعال التي أعقبت فضائح الاستغلال الجنسي للأطفال على يد قساوسة الكنائس الكاثوليكية، والتي وثقت الراهبة السابقة ماري ديسبينزا جزءا من فظائعها في كتاب "انقسام: طفل، وقس، والكنيسة الكاثوليكية".
وصرّح البابا فرانسيس لوسائل الإعلام بأن نحو ثمانية آلاف قس من مجموع أربعمئة وأربعة عشر ألفا في أنحاء العالم، يتحرشون بالأطفال. كما أقرّ بشناعة هذه الجرائم طالبا الغفران من الضحايا، ومعلنا أنه مثل المسيح، سيستخدم العصا ضد القساوسة المولعين جنسيا بالأطفال. وترتب عن سلسلة الفضائح تلك تخلي أزيد من تسعين ألف مواطن عن المذهب الكاثوليكي في إنجلترا وحدها.
على امتداد ستة فصول من كتابه (علم اجتماع الفضائح) راهن الدكتور معن خليل العمر على تأكيد فاعلية الحقل الجديد في الارتقاء بعلم الاجتماع من مستوى وصفي-سردي إلى مستوى نقدي-إصلاحي، وذلك بجعل الفضيحة مادة بحثية ناقدة، تكشف عن آليات تكسير النسق الاجتماعي، وصور تجاوزات المسؤولين وصناع القرار التي ظلت غائبة عن أدبيات علم الاجتماع لزمن طويل.
والدكتور معن خليل العمر عالم اجتماع عراقي، حاصل على شهادة الدكتوراه من جماعة واين ستيت الأمريكية عام1976، وتولى التدريس بعدد من الجامعات داخل العراق وخارجه. ويعد من أنشط الباحثين في علم الاجتماع العربي وأغزرهم إنتاجا، حيث تجاوزت مؤلفاته ستين كتابا، بالإضافة إلى قائمة طويلة من البحوث والدراسات التي أكدت حسه السوسيولوجي العميق في رصد وتحليل الظواهر الاجتماعية، خاصة علم الإجرام، والمشكلات الاجتماعية، والاتجار بالبشر.
ومن أهم إصداراته المنشورة:
- نحو علم اجتماع عربي،1984
- علم اجتماع المعرفة، 1991
- جرائم الاحتيال،2006
- علم ضحايا الإجرام،2008
- الجريمة المنظمة والإرهاب،2013
- حقول مستحدثة في علم الاجتماع المعاصر،2017
- علم اجتماع الفقر، 2019..
***
حميد بن خيبش

في عالم ما بعد الحداثة، حيث تتفكك الهويات الثابتة وتنسف الرؤى التقليدية للمعرفة، يصبح التحرش ليس مجرد فعل مادي يحدث في الشارع أو مكان عام، بل هو أيضًا بنية معرفية تخلق التفرقة بين “الذات” و”الآخر”. هو ثمرة لحقب تاريخية حملت في طياتها اختلالات فكرية جعلت من الجسد الأنثوي ساحة للصراع الرمزي، بين ما هو مقدس وما هو مدنس، وبين ما يُقبل وما يُرفض. فالتوترات بين الجنسين ليست مجرد صراع بيولوجي، بل هي صراع ثقافي مرتبط بالعلاقات الاجتماعية التي تعيد إنتاج نفسها على مدار الزمن.
من خلال هذه الفكرة، يظهر الجسد الأنثوي ليس ككيان ذاتي يُعبّر عن حرية الفرد، بل كفضاء يُخضع لسلطة ثقافية، حيث يُنظر إليه كجسم للاستهلاك، التسلية، أو حتى كأداة للسيطرة. وعليه، يصبح التحرش بكل أشكاله ليس فقط سلوكًا فرديًا أو تصريحًا كلاميًا، بل هو أسلوب لتأكيد الوجود في نظام اجتماعي يدافع عن امتيازات طبقية وذكورية قديمة، حتى وإن تغيرت أشكالها. هذا السلوك يعكس ضرورة وجود الآخر ليظل المُهيمن في مكانه، وبالتالي فإن التحرش يصبح أداة لصيانة الهياكل الاجتماعية التي تقوم على الهيمنة الذكورية، وهو ما يعزز من استمرار هذه الأنماط القمعية.
العقل الذي يعرض هذه الظاهرة يتأثر بعوامل عديدة، منها البناء الاجتماعي والتاريخي، حيث يتم تجسيد الهويات من خلال الرموز والممارسات اليومية. أما في نظر علماء النفس، مثل سيغموند فرويد، فإن التحرش يعبر عن نزاع داخلي في النفس البشرية بين رغبات مكبوتة وأعراف اجتماعية تضغط على الفرد لكي لا يعبّر عن هذه الرغبات بشكل علني. هنا، يصبح التحرش ليس فقط فعلًا ضارًا للجسد الأنثوي، بل هو أيضًا علامة على خلل أعمق في البنية النفسية للمعتدي، وهو ما قد يعكس اضطرابًا في العلاقة مع الهوية الشخصية والسلطة. هذا الجانب النفسي يرتبط بتصورات الفرد حول الجسد والسلطة، حيث إن الشخص الذي يمارس التحرش قد يكون في الواقع يعبر عن هشاشة داخله وتوتره النفسي الذي يترجم إلى محاولة الهيمنة على الآخرين، بما في ذلك الجسد الأنثوي الذي يُعتبر رمزيًا جسد السلطة وموضوع السيطرة.
عندما ننظر إلى هذه الظاهرة من منظور كل من لويس ألتوسير وميشيل فوكو، يمكننا أن نرى أن التحرش هو جزء من عملية “التشكيل الأيديولوجي” للمجتمع. في هذا السياق، يرى فوكو أن السلطة لا تقتصر على المؤسسات القمعية فقط، بل هي موجودة في كل جانب من جوانب حياتنا اليومية، بما في ذلك الطريقة التي ننظر بها إلى الآخر وكيف نحدد مساحات الجسد والمكان. فالجسد الأنثوي في هذا السياق هو ساحة للصراع بين الأيديولوجيات التي تستمر في تهميش وتقييد النساء، مما يخلق ديناميكيات قمعية تظل محورية في الثقافة المعاصرة.
التفسير الفوكوي لهذه العلاقة بين الجسد والسلطة يُظهِر كيف أن التحرش ليس مجرد حالة فردية للعدوان، بل هو نتاج لبنية اجتماعية أوسع، حيث يتداخل الذكاء الاجتماعي مع الذكورية السامة التي تُعيد إنتاج نفسها من خلال الإعلام، التربية، والعلاقات الاجتماعية اليومية. التحرش، في هذه الحالة، لا يُفهم فقط باعتباره سلوكًا منحرفًا، بل جزءًا من دائرة السيطرة التي تُمثلها هذه البنى الثقافية المستمرة.
هذا التفسير يكشف عن كيفية تجذر التحرش في بنية مجتمعية تشجع على تبني النماذج التقليدية للجنس والسلطة، والتي تُصر على تعزيز الذكورية السامة عبر أطر تربوية وتعليمية تجعل من الجسد الأنثوي هدفًا للتسلط والهيمنة الرمزية.
وبينما نجد أنفسنا في عالم مليء بالتغيرات السريعة والتحولات الفكرية التي تعيد تشكيل هوياتنا، يجب أن نتساءل: كيف يمكن فهم التحرش في ظل هذه الفوضى المعرفية؟ هل يمكننا حقًا وضع إطار ثابت لفهمه؟
في عالم ما بعد الحداثة، تصبح الإجابة على هذه الأسئلة متشابكة، حيث لا توجد إجابة واحدة، بل تعدد للحقائق. إن التحرش، بما هو كائن ثقافي واجتماعي، يمكن أن يظهر في صورة أشكال متعددة: من الاعتداء اللفظي في الشوارع إلى تصرفات سلوكية في الأماكن العامة، وكل ذلك يشكل شبكة من الأفعال التي تُعيد تأكيد الأدوار التقليدية. هذه الأشكال المتعددة لا تنفي أنها مرتبطة ببنية فكرية وثقافية معقدة، تستمر في إنتاج آليات القوة التي تحدد “المكان” و”الحق” في التعبير عن الذات، وتؤكد على الهيمنة الذكورية في المجتمع.
ومن هذا المنظور، لا يُمكن أن يكون التحرش مجرد فعل فردي، بل هو تجسيد لثقافة من التسلط تتجذر في الفكر الاجتماعي والنفسي للأفراد. هذا التسلسل من الأفعال يحمل في طياته تناقضات معمارية في المجتمع الذي لا يزال يراهن على الهويات الثابتة للذكورة والأنوثة، ويستمر في تكرار أنماط القمع الرمزية والجسدية. يُصبح التحرش إذاً ليس مجرد حالة من الفوضى الجنسية، بل هو عملية منتجة لقوى اجتماعية وثقافية تعمل على استمرارية الهيمنة وتثبيت الفوارق بين الجنسين. كما أن هذا التكرار للممارسات القمعية لا يقتصر على الأفراد، بل يمتد إلى المؤسسات والأنظمة التي تعزز هذه الفوارق وتعزز من منطق “الآخرية” لدى النساء، مما يعيد إنتاج السياسات الاجتماعية التي تساهم في تفشي التحرش على المستوى المجتمعي.
وعليه، فإن التقليل من أهمية هذه الظاهرة أو محاولة تقليصها إلى مجرد “أفعال فردية” هو تهرب من المسؤولية الاجتماعية التي تتحملها المؤسسات الثقافية والنفسية في إعادة تشكيل هذه الهويات. لا يمكن أن تكون الحلول للقضاء على التحرش محدودة بالقوانين التي تُعاقب الفعل فقط، بل يجب أن تشمل أيضًا إعادة بناء ثقافة كاملة تُعيد التفكير في مسألة الجسد، السلطة، والهوية. لذلك، يجب أن تكون المعالجة أكثر شمولًا بحيث تتضمن تغييرًا بنيويًا في طريقة فهمنا للجسد والعلاقات بين الجنسين. وهذا يتطلب جهدًا جماعيًا يشمل المجتمع المدني، والمؤسسات التعليمية، ووسائل الإعلام، التي تستطيع إعادة تشكيل الفكر الجماعي تجاه الجنس والسلطة.
هذه الثورة الثقافية والمعرفية، إن تمت، ستكون مدخلًا للتحرر الحقيقي من التسلط، وسيبدأ المجتمع في فهم التحرش ليس فقط كحالة تضر بالنساء، بل كجزء من جرح أعمق في بنية السلطة الاجتماعية التي تستمر في تكريس هيمنة الذكور على الفضاءات العامة والخاصة.
إن التحليل العميق للتحرش باعتباره بنية ثقافية واجتماعية يُبرز ضرورة مواجهة هذه الظاهرة من جذورها، وليس فقط معالجة أفعالها الظاهرة. فالتصدي للتحرش يتطلب أكثر من مجرد تطبيق قوانين ردعية، بل يستدعي تغييرًا ثقافيًا حقيقيًا يعيد تشكيل فهمنا للجسد والسلطة. علينا أن نعيد التفكير في طريقة تربية الأجيال القادمة، في كيفية بناء هوياتهم الجنسانية والاجتماعية بعيدًا عن الأنماط التقليدية التي تساهم في تعزيز الهيمنة الذكورية.
فإذا كانت السلطة المجتمعية قد عملت على تكريس هذه الهياكل القمعية على مدار عقود، فإن الطريق إلى التحرر يتطلب جهدًا جماعيًا يشمل التغيير في بنية الفكر الاجتماعي والنفسي. الثورة الثقافية والمعرفية التي نتحدث عنها ليست مجرد رفاهية فكرية، بل هي شرط أساسي لإرساء مجتمع أكثر عدلاً، حيث يُحترم الجسد البشري، ويُعاد تحديد العلاقات بين الأفراد وفقًا لقيم الحرية والمساواة.
عندها فقط، ستتمكن الأجيال القادمة من العيش في بيئة لا تحكمها قوة هيمنة أو ثقافة قمعية، بل بيئة تشجع على احترام الآخر وتقديره بعيدًا عن التصنيفات الجندرية الجامدة.
***
إبراهيم برسي – باحث سوداني

 

مدخل إلى شخصية ابن طفيل وتكوينه الفكري

حين نقترب من سيرة ابن طفيل، لا نرى مجرد فيلسوف من فلاسفة الأندلس، بل نواجه مشروعًا متكاملًا لشخص نذر نفسه لفهم الوجود وإضاءة طريق العقل. وُلد أبو بكر محمد بن عبد الملك بن طفيل في وادي آش بالأندلس مطلع القرن الثاني عشر الميلادي، وامتدت حياته بين غرناطة ومراكش، في فضاء ثقافي شهد تلاقح العلوم، وتصارع الرؤى، وخصوبة التجربة الروحية. جمع في تكوينه بين الطب والفلك، وبين القضاء والشعر، لكنه اختار أن يعبّر عن أعمق أفكاره من خلال الفلسفة، مستلهمًا روح القصة الرمزية التي مهّد لها من قبله ابن سينا، ومكمّلًا مسارها برؤية أكثر اكتمالًا واتساعًا.
ما ميّز ابن طفيل لم يكن مجرد اطلاعه على الفلسفة الإسلامية واليونانية، بل قدرته على تطويعها ضمن سياق يزاوج بين التجربة العقلية والتأمل الوجودي. لم يكن معنيًّا ببناء نسق نظري مغلق، بقدر ما كان مهتمًّا بتجسيد إمكانيات المعرفة الذاتية، وبناء جسر بين الإنسان والعالم من خلال العقل الحر، لا عبر التلقين أو التبعية. هذه الرؤية لم تكن حبيسة المقولات المجردة، بل اختار لها ابن طفيل قالبًا سرديًّا فريدًا، جسّده في عمله الأشهر: حي بن يقظان.
قصة “حي بن يقظان” بوصفها تجربة وجودية
ليست قصة “حي بن يقظان” مجرد سرد لحياة شخص نشأ في عزلة، بل هي إعادة تمثيل فلسفية لميلاد الوعي. تبدأ الحكاية من جزيرة خالية من البشر، حيث يظهر طفل مجهول الأصل، يتربى بين أحضان الطبيعة، فيتعلّم كل شيء من خلال ملاحظته الحسية وتجاربه اليومية. شيئًا فشيئًا، يبدأ الطفل “حي” في إدراك الظواهر من حوله، ثم يتأمل في الحياة والموت، ويتوصل بنفسه إلى وجود مبدأ أول خالق ومنظم.
لا يعتمد حي في اكتشافه على معلم أو نصوص، بل يرقى في مدارج الفهم عبر مزيج من الحدس والتجريب. هذا المسار الرمزي يرسم صورة حية لمسيرة العقل البشري حين يكون متحررًا من القيود. وحين يلتقي حي لاحقًا بالعابد “أبسال”، تتضح مفارقة عميقة: فـ”حي” الذي لم يتلقَ أي تعليم ديني، توصّل إلى نفس جوهر الحقيقة التي عرفها أبسال عن طريق الوحي. إلا أن حي، بفطرته الحرة، سرعان ما يصطدم بالمجتمع، حين يقرر الذهاب مع أبسال إلى الناس، فلا يستطيعون تحمّل رؤيته الفلسفية العميقة، ويفضّلان عليه الشكل الظاهري للدين.
القصة إذن ليست مجرد مغامرة فكرية، بل دعوة إلى تأمل العلاقة بين الإنسان والمعرفة، بين الروح واللغة، وبين الفرد والمجتمع. ابن طفيل يصوغ في هذا النص أطروحة عن قدرة العقل البشري على إدراك الحقيقة، لكنه في الوقت نفسه يعترف بحاجات العامة إلى الرموز والشعائر، ما يفتح مجالًا لفهم الدين كمنظومة تربوية لا كإجبار معرفي.
تأثير القصة ورمزيتها في تاريخ الفلسفة
لم يلبث أثر “حي بن يقظان” أن تجاوز حدود الثقافة الإسلامية، فحين تُرجمت القصة إلى اللاتينية عام 1671، استوقفت العديد من فلاسفة أوروبا في عصر النهضة والتنوير. رأى فيها جون لوك مثالًا حيًا على مفهومه في أن العقل يولد كصفحة بيضاء تُشكّلها التجربة، وهو ما يشكل صدى مباشرًا لما فعله حي في الجزيرة. كما أُعجب بها دانييل ديفو، الذي بنى في روايته “روبنسون كروزو” صورة قريبة لشخصية الفرد المعزول الذي يكتشف ذاته في مواجهة الطبيعة.
أما في السياق الإسلامي، فقد أثارت القصة تفاعلات مختلفة، أبرزها رد ابن النفيس في “الرسالة الكاملية”، حيث اقترح مسارًا مختلفًا لنشوء المعرفة، أكثر ارتباطًا بالمجتمع واللغة. غير أن ابن طفيل ظل مميزًا في اختياره للعزلة طريقًا للتطهر المعرفي، وفي جعله من التأمل طريقًا للترقي الروحي. القصة لم تكن دفاعًا عن الفلسفة ضد الدين، بل كانت سعيًا لتجاوز هذا التعارض، عبر تقديم نموذج إنساني يُجسّد المعرفة لا كمجموعة مفاهيم، بل كرحلة وجدانية عقلية تصل في نهايتها إلى الصمت المملوء باليقين.
خاتمة
“حي بن يقظان” ليس مجرد نص أدبي أو فلسفي، بل علامة بارزة في تاريخ الفكر الإنساني، تجسّد كيف يمكن أن تتجسد الفلسفة في صورة سرد حي. عبر شخصية ابن طفيل، نلمس اتساعًا في الأفق العقلي، وعمقًا في الرؤية الوجودية، وتجسيدًا نادرًا لتحالف العقل مع الروح. من خلال القصة، نُعيد التفكير في علاقتنا بالمعرفة، في جدوى العزلة، وفي حتمية البحث عن المعنى. وربما يكمن سحر هذا العمل في قدرته على أن يظل حيًا، يقظًا، كلما أعدنا قراءته.
***
خالد اليماني - باحث

أول الأسئلة، هل هناك من ازمة...؟ وماهي تداعياتها على الواقع الحضاري...؟ وهل هناك مفهوم حقيقي لسلطة الأسطورة في الثقافة ...؟ يبدو ان هناك خارطة دهليزية تعمل في الخفاء، مهيمنة ومرتكزة على تفتيت المكان والزمان وتعمل كحاضنة اجتماعية، تبلور استراتيجيات الهيمنة وتحاول بكل جهد البرهنة على صحة المقولات بعد ان يوصم الاخر بالمدنس وارتداء عباءة المقدس للوصول الى الأهداف تستغلها خفافيش الثقافة المعترشة على موائد التخلف، هذا يعكس كيف يمكن أن تستفيد بعض الأفكار من الانقسامات في مجتمعات تتطارح فيها الأيديولوجيات و السياسات التي تروج للجهل، تكتسب قوة ونفوذًا من خلال ضعف الوعي الثقافي للموروث الأسطوري الذي له دور كبير في هيمنة خراب الثقافة. رغم ان الأساطير تساهم في تشكيل الهوية الثقافية والجماعية، ما يمكن أن يؤدي إلى تعزيز الانتماء، ولكن يمكن ان تؤدي أيضًا إلى الانغلاق، الأساطير تحمل قيماً وعبرًا يمكن أن تؤثر في سلوك الأفراد والمجتمعات، مما يدعم أنماط التفكير التقليدية ويمكن أن تُصبح الأساطير أدوات للحفاظ على الوضع الراهن، مما يعوق التغيير الثقافي والاجتماعي، سرديات الأساطير تُستخدم في الفنون والأدب، مما يعزز من استمرارية الأفكار والمعتقدات القديمة، بالتالي يمكن أن يعزز الموروث الأسطوري من هيمنة بعض الثقافات أو الأفكار على حساب الأخرى، و يسهم في التخلف الثقافي.
الصراع بين التقليد والحداثة
يمكن أن يحدث صراع بين القيم التقليدية المستمدة من الموروث الأسطوري والرؤى الحديثة. بينما يسعى البعض للحفاظ على الهوية الثقافية، يسعى آخرون لتبني قيم جديدة، تساهم وسائل الإعلام والتكنولوجيا في نشر الأفكار والتوجهات الجديدة، مما يؤدي إلى تفكيك بعض المعتقدات التقليدية، ولكن يمكنها أيضًا تعزيز الأساطير من خلال إعادة تقديمها في سياقات جديدة، مع زيادة الوعي النقدي يبدأ الأفراد في إعادة تقييم الأساطير والتقاليد، ما يؤدي إلى تفكيك بعض الأفكار القديمة وإعادة تفسيرها لتتناسب مع القيم المعاصرة، الحركات التي تسعى للعدالة الاجتماعية والمساواة قد تتحدى الأساطير التقليدية وتعزز من سرديات جديدة تتماشى مع التغيرات الاجتماعية مع تزايد التنوع الثقافي، يمكن أن تتداخل الأساطير من ثقافات مختلفة، مما يؤدي إلى تشكيل هويات جديدة تعكس مزيجًا من الموروثات القديمة والحديثة. بعض المجتمعات تسعى للحفاظ على الموروث الثقافي في ظل التغيرات الاجتماعية، مما يؤدي إلى جهود لإعادة إحياء الأساطير والتقاليد، ولكن بطريقة تتناسب مع السياقات الحديثة، بشكل عام تتفاعل هذه العوامل بشكل ديناميكي تؤدي إلى تأثيرات متبادلة بين الموروث الثقافي والتغيرات الاجتماعية الحديثة.
هل نحن بحاجة الى اساطير جديدة؟
السؤال عن الحاجة إلى الأساطير في العصر الحالي، خاصة بعد الثورة التكنولوجية، هو موضوع مثير للتفكير. الأساطير تقدم تفسيرات للوجود، وتعطي معنى للأحداث والتجارب، مما يساعد الأفراد على فهم العالم من حولهم، تلعب الأساطير دورًا في تشكيل الهوية الثقافية، مما يسهم في تعزيز الانتماء إلى مجتمع معين خاصة في أوقات التغيير تستخدم الأساطير كوسيلة للتواصل بين الأجيال، مما يعزز من الروابط الاجتماعية ويساهم في نقل الحكمة الجماعية تلهم الأساطير الفنون والأدب، مما يساهم في الإبداع ويعزز من التجارب الإنسانية في ظل التغيرات السريعة، يشعر الأفراد بالقلق وعدم اليقين، هنا تأتي الأساطير لتوفير شعور بالأمان والاستقرار التكيف مع التغيرات، يمكن أن تساعد الأساطير في تفسير التغيرات الجديدة، مما يسمح للمجتمعات بالتكيف معها بشكل أفضل على الرغم من التقدم التكنولوجي، تظل الأساطير تلعب دورًا مهمًا في الحياة الإنسانية، حيث توفر إطارًا لفهم التجارب والمشاعر، وتعزز من الروابط الثقافية والاجتماعية.
تتغير الأساطير مع التطور التكنولوجي
تتغير الأساطير بشكل ملحوظ مع التطور التكنولوجي، وهذا التغيير يمكن أن يُفهم من خلال عدة جوانب، يتم إعادة تفسير الأساطير التقليدية لتتناسب مع السياقات الحديثة، مما يؤدي إلى ظهور سرديات جديدة تعكس التحديات المعاصرة تساهم وسائل الإعلام والتكنولوجيا في نشر الأساطير بشكل أوسع، مما يمنحها أشكالًا جديدة، مثل الأفلام، الألعاب، والمحتوى الرقمي، مع تزايد التواصل العالمي، تتداخل الأساطير من ثقافات مختلفة، مما يؤدي إلى ظهور أساطير جديدة تمزج بين العناصر التقليدية والتكنولوجية. في عالم سريع التغير، تسعى المجتمعات للاحتفاظ بهويتها الثقافية من خلال الأساطير، مما يؤدي إلى تجديدها لتظل ذات صلة تعيد التكنولوجيا تشكيل كيفية سرد القصص، حيث يمكن أن تتضمن الأساطير عناصر تفاعلية، مع تطور التكنولوجيا، تتغير القيم والمعتقدات، مما يؤثر على كيفية فهم الأساطير وتفسيرها بالتالي تتفاعل الأساطير مع التطور التكنولوجي بشكل ديناميكي، مما يؤدي إلى تجديدها وتكييفها لتظل ذات صلة في عالم متغير.
دور الذكاء الاصطناعي في خلق أساطير جديدة
يلعب الذكاء الاصطناعي دورًا متزايد الأهمية في خلق أساطير جديدة بطرق متعددة. يمكن للذكاء الاصطناعي توليد سرديات جديدة من خلال تحليل الأنماط في الأساطير القديمة ودمجها بأساليب حديثة، مما يؤدي إلى خلق أساطير جديدة يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل اهتمامات الأفراد وتقديم قصص وأساطير تتناسب مع تفضيلاتهم، مما يجعل الأساطير أكثر تفاعلية وشخصية من خلال تطبيقات الذكاء الاصطناعي، يمكن للجمهور التفاعل مع الأساطير بشكل جديد، مثل الأساطير التي تعتمد على الخيالات المتعددة، مما يعزز من تجربة السرد، يساعد الذكاء الاصطناعي في إنشاء شخصيات جديدة تحمل سمات وأساطير تتناسب مع العصور الحديثة، مما يضيف عمقًا للسرد يمكن للأساطير التي يُنتجها الذكاء الاصطناعي أن تعالج قضايا معاصرة مثل التغير المناخي، الهوية الرقمية، والأخلاقيات التكنولوجية، مما يجعلها ذات صلة بالواقع الحالي يمكن للذكاء الاصطناعي دراسة وتحليل مجموعة واسعة من الأساطير القديمة، مما يساعد في فهم الأنماط الثقافية والتاريخية التي يمكن استخدامها لخلق أساطير جديدة، يفتح الذكاء الاصطناعي المجال أمام كتّاب وفنانين جدد لتجربة أفكار وأساليب سرد جديدة، مما يعزز من الإبداع الفني. من خلال هذه الأبعاد، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يسهم بشكل كبير في خلق أساطير جديدة تعكس التغيرات الثقافية والتكنولوجية في العصر الحالي ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يخلق أساطير فريدة تتناسب مع خصائص كل ثقافة، مما يساعد في التعرف على الأنماط الرمزية والموضوعات الشائعة، يمكن للذكاء الاصطناعي إنشاء قصص جديدة بناءً على العناصر الثقافية المحددة، مثل القيم، التقاليد، والرموز، مما يجعل كل أسطورة تعكس خصوصيات ثقافة معينة، يمكن إنشاء أنظمة ذكاء اصطناعي تفاعلية تسمح للجمهور بالمشاركة في خلق الأساطير، مما يعزز من الإبداع الجماعي ويجعل الأساطير أكثر ارتباطًا بتجارب الأفراد، يمكن للذكاء الاصطناعي دمج عناصر من الفولكلور المحلي، مثل الشخصيات الأسطورية، الأحداث التاريخية، والمعتقدات، مما يؤدي إلى إنشاء أساطير فريدة تتناسب مع الثقافة المستهدفة .استجابة للتغيرات الاجتماعية، يمكن للذكاء الاصطناعي تصميم أساطير تعكس التحديات والقضايا الحالية التي تواجه الثقافة، مما يجعلها ذات صلة ومعاصرة، يمكن للذكاء الاصطناعي العمل بعدة لغات، مما يسمح بخلق أساطير في لغات مختلفة، وبالتالي تعزيز التنوع الثقافي، يمكن للذكاء الاصطناعي أيضًا تسهيل تبادل الأفكار بين الثقافات المختلفة، مما قد يؤدي إلى خلق أساطير جديدة تمزج بين العناصر الثقافية المختلفة، بهذه الطرق يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساهم في خلق أساطير فريدة تعكس التنوع الثقافي وتلبي احتياجات المجتمعات المعاصرة.
الأسطورة عبر التاريخ
عبر التاريخ استخدمت الأنظمة الحاكمة الثقافة والاساطير لتعزيز سلطتها، مما أدى إلى تهميش الثقافات الأخرى وتدمير الهويات .بعض الفلاسفة استخدموا أفكارهم واساطيرهم لتعزيز أنظمة اجتماعية أو سياسية معينة، مما قد يؤدي إلى تبرير الظلم أو الاستبداد، عندما تُفرض أفكار أو معتقدات ثقافية معينة على الشعوب، يُمكن أن تؤدي إلى فقدان الهوية الثقافية وتدمير التراث، استخدم المستعمرون الثقافة والتعليم كوسائل لتبرير الاستعمار، مما أدى إلى تدمير الثقافات المحلية، يمكن أن تؤدي الفلسفات أو المعتقدات الضيقة إلى الصراعات والحروب، حيث يُستخدم الاسطورة كأداة لتبرير العنف. استخدمت الأسطورة تاريخياً كوسيلة لتبرير العنف والاستعمار حيث استخدم المستعمرون أساطير تتعلق بتفوقهم الثقافي أو العرقي لتبرير احتلال أراضٍ جديدة. اعتبروا أن غزوهم للأراضي الجديدة هو جزء من خطة إلهية لنشر الدين، مما أدى إلى تبرير العنف ضد من لا يعتنقون ديانتهم، تظل الأساطير أداة قوية في تشكيل الرأي العام وتبرير الأفعال، وقد استخدمت عبر التاريخ كوسيلة لتبرير العنف بشكل فعّال.
***
غالب المسعودي

تلقيت رسالة من أحد الأصدقاء، وهو أكاديمي في إحدى الجامعات العربية متسائلًا وناقدًا:" ألم يقتضب التشيع في إيقاعات احتفالية تستعاد دوريًا؟ ألم يتحول التشيع في الوعي المعاصر إلى طقوس ومأتم وزيارة الأربعين وو؟
ثم طلب مني التعليق، أقول: إن هذا الاختزال الذي يمارسه بعضهم هو استلاب مزدوج، يتجلى أولًا في تجريد التشيع من حمولته الفكرية العميقة، وثانيًا في إعادة صياغته كظاهرة احتفالية جوفاء، لا تمتد جذورها إلى الحراك النقدي والاجتماعي الذي ميزه في التاريخ. هذه الرؤية، التي تسجن التشيع في إطار الشعيرة وحدها، ليست مجرد سوء فهم بريء، بل هي عدسة تشويهية تُسقط من الحساب التحولات الفكرية التي أسهمت في هندسته كقوة حضارية فاعلة.
ولست هنا في مقام تحليل معمق للخطاب الشيعي وطقوسه وتحقيبه، ولا في سياق تفكيك التصورات السائدة فيه عبر تراكماته فذلك له مجاله وأدواته من الانثروبولوجيا التاريخية ومنهجياتها النقدية التي قد تستدعي قلب المفاهيم رأسًا على عقب. ما يعنيني هنا هو الإلماح إلى رفض اختزال المنظومات بطريقة متسرعة، متجاهلة التداخلات المعقدة بين الممارسة والفكر، بين الرمزي والسياسي.
إن التاريخ لا يُوثق بسطحية العناوين ولا بتحليل الاستهلاك العاطفي، بل هو انبثاقٌ لحركة الفعل الإنسانيَّ في صراعه مع الوجود، إذ يتخطى التشيعُ بُعدَه الطقوسي ليتجلى كدينامية حضارية، يتقاطع فيها الجهاد بالمعرفة، والبذل بالتأمل. فليس التشيع محض انتماء مذهبي، بل هو مدرسة معرفية أنجبت العباقرة، وناضلت، انطلاقًا من رؤية كونية تدرك أن المواجهة ليست ضد الآخر الديني أو المذهبي أو السياسي بقدر ما هي صراع مع القوى المهيمنة والأنظمة القامعة التي عملت على تدجين الفكر وسلب الإرادة الفاعلة.
إن التشيع، في جوهره، لم يكن يومًا مجرد ممارسة طقوسية، بل كان دائمًا رؤية نقدية للحكم والمعرفة والتاريخ، واستمرارًا لمسار من المراجعة والنظر والتحدي لمراكز السلطة والهيمنة. لذا، فإن أي محاولة لاختزاله في الشعائر وحدها ليست سوى تفريغ ناعم لمضامينه الكبرى، وجعل الفكر حبيس الأداء، في تجاهل صارخ لأثره في بنية الدولة والمجتمع والفكر الإسلاميَّ ككل.
لا يمكن إنكار أن التكرار المفرط للطقوس والممارسة الشعائرية المكثفة لا تبقى مغلقة داخل فضائه الداخلي، بل تُعيد تشكيل صورة التشيع في وعي الآخر، إذ تتقلص التجربة إلى بعد نمطي واحد، فتُقرأ من خلال مرآة الطقس لا من خلال عمقها الفكري وتضاريس التاريخي فيها. من ثَّم، نرى أن المؤسسات الدينيَّة أمام مسؤولية تاريخية ومعرفية تقتضي إعادة النظر في حجم هذه الممارسات وتوجيهها نحو وعي أكثر اتزانًا، يضمن ألا يُختزل التشيع في مظهره الاحتفالي وحده.
إن العالم اليوم أشبه بقرية كونية صغيرة، تخضع للمراقبة المستمرة عبر عدسة مكبرة، إذ لا يمكن لأي تجربة أن تعيش في عزلة عن أعين المراقبين والمتأملين، سواء بحسن نية أو بسوء تأويل. لذا، فإن مسؤولية إنتاج وعي حضاري متجاوز لثغرات الطقس تقع على عاتق الفاعلين في المشهد الدينيَّ،" ومديري شؤون التقديس فيه"، ليس من باب الانفصال عن الموروث، بل من باب إعادة هندسة حضوره، ليكون جسرًا نحو فهم أعمق للتشيع، لا حاجزًا يحصره في أفق ضيق من الشعائر وحدها.
إن التجربة التاريخية للمجتمعات والملل الكبرى تكشف أن إعادة النظر في الموروث، بممارساته وصوره، لم تكن يومًا فعلًا ترفيًا، بل ضرورة وجودية فرضتها ديناميكيات التحول الحضاري. فالأمم التي امتلكت الجرأة على تحليل ذاتها ونقد موروثها، لم تفقد هويتها، بل وسّعت أفقها، وأعادت إنتاج صورتها بوعي أكثر عمقًا ومسؤولية.
هذا يعني أنّ الطقس الديني لا بد أن يخضع لميزان النقد والمعايرة، لا من منطلق الرفض، بل من منطلق إعادة تعريف وظيفته داخل المنظومة الفكرية والاجتماعية. إذ إن الطقوس التي لا تثمر استقطابًا معرفيًا، ولا تحرك حراكًا فكريًا، تظل ممارسات خاملة، تستدعي الغربلة والزحزحة من خلال قراءة علمية متأنية، تعيد ضبط العلاقة بين الشكل والمضمون، بين الممارسة والمعنى.
وتاريخ التشيع، بامتداداته العميقة، ليس غريبًا عن هذه الحركة النقدية؛ فهو تاريخ متحرك، لا ساكن، تاريخ مراجعة وتحدٍّ، لا جمود واستكانة. وكل لحظة فارقة فيه كانت وليدة نقد الذات قبل نقد الآخر، ما يجعل من النقد ونقد النقد في الطقوس امتدادًا طبيعيًا لمنهجه التاريخي، لا خروجًا عنه.
***
أ. م. د. حيدر شوكان سعيد
جامعة بابل/ قسم الفقه وأصوله

يمكن تعريف الثقافة على انها سلوك اجتماعي ومعيار موجود في المجتمعات البشرية، وتعد مفهوماً مركزياً في حقل الدراسات الانثروبولوجية... ويقول الدكتور قاسم جمعة في بحثه عن (ثقافة الجمهور): إن الثقافة لا تنحصر دلالتها وفق القاموس العنصري، بل هناك تعدد هوياتي وفقاً للرؤية الانثروبولوجية. من ذلك نفهم تعريف (ريموند وليم)، الذي اعتبر مصطلح الثقافة من أكثر المفردات تعقيداً في اللغة الانكليزية، فهي تنطبق على عدة معان وترتبط بأكثر من ميدان، حيث ترتبط بالحضارة، وهل الحضارة من تؤسس الثقافة؟ أم أن الحضارة هي مجموعة من الثقافات؟. وبما أنها مرتبطة بالحضارة، فهي ترتبط من وجوه أخرى بالفرد والمجتمعات واحساسهم الفني ووعيهم.
ويشير المؤلف البريطاني (تيري إيغلتن) إلى مدى التعقيد والالتباس الذي يطرأ مفردة الثقافة، وينتهي إلى أربعة معانٍ رئيسة للثقافة، فقد تعني تراكماً من العمل الفني والذهني، وقد تعني: الصيرورة التي يحصل بها الإرتقاء الروحاني والذهني، وقد يعني بها، القيم والعادات والمعتقدات والممارسات الرمزية التي يوظفها الرجال والنساء في الحياة، أو هي الطريقة الكلية المعتمدة في الحياة... ويؤكد (إيغلتن) إلى أن الثقافة بالمعنى الفني والذهني للمفردة، قد تشمل على أوجه الإبتكار السائدة، في حين أن الثقافة كطريقة في الحياة هي في العموم مسألة عادات، فتصبح الثقافة في هذا السياق: هي ما فعلته أنت مراراً من قبل؛ بل وحتى ما فعله أسلافك لملايين المرات، ولكي تكون أفعالك صالحة للإنضمام في هذا السياق الثقافي، يلزمها أن تكون متساوية ومتناغمة مع أفعال الأسلاف... فالثقافة في السياق الفني يمكن أن تكون حالة طليعية؛ أما كطريقة للحياة فهي في مجملها مسألة عادات وحسب؛ ولما كانت الثقافة الفنية نخبوية، فهي تختلف عن الثقافة باعتبارها صيرورة تطورية والتي قد يراها المرء موضوعة أكثر ارتباطاً بمتطلبات المساواة والعدالة البشرية. على أن (إيغلتن) يذهب إلى إن اعتبار الثقافة الطريقة الكلية في عيش الحياة قد تكون أكثر صواباً عند تطبيقها على المجتمعات القبائلية أو ما قبل الحديثة بأكثر مما هو الحال مع المجتمعات الحديثة.
وفي الوقت الذي يشير فيه (هوركهايمر) و(أدورنو) في كتاب (جدل التنوير) إلى ما يسموه بقطاع الثقافة، ويقصد بهذا المصطلح: استخدام الأفلام والإعلانات والبرامج والمجلات، كأدوات لإنتاج ثقافة شعبية. نستخدم نحن مصطلح قطّاع الثقافة، وهي تسمية قرينة بتسمية قطّاع الطرق، ونقصد به: تلك النخبة المسيطرة على بعض المعارف، والتي تسعى من خلالها إلى تدجين الذوات الاجتماعية تحت طوعهم وسطوتهم، وتعمل على إقصاء ونبذ كل من تجرأ على الخوض في بحار تلك المعارف، لأنها حكر على النخبة وليست متاحة للجميع. هكذا تضمن النخبة أن لا يمس أطرافها بأدنى أذى، ما دامت تحتمي بالسلطة، ودعنا نسميها بسلطة الزور.
ومما تجدر الإشارة إليه، أن مصطلح النخبة قد يدل على مثقفٍ واحد أو مجموعة من المثقفين ينتمون إلى توجهات أيديولوجية محددة، فمن هو المثقف؟ وهل له أنواع؟ نستطيع الإجابة عن هذا التساؤل من خلال منجزين كبيرين ورائدين في مجال الدراسات المهمومة بإشكالية المثقف، وهما (انطونيو غرامشي) و(ميشيل فوكو).
يستخدم غرامشي مصطلح المثقف بشكلٍ عريض، ليشير إلى كل أولئك الذين لديهم دور تنظيمي، ثقافي أو ايديولوجي في المجتمع... وهو هنا يؤمن بوجود نوعين متمايزين من المثقف، المثقف العضوي والمثقف التقليدي، ويتضح مفهوم الأخير بتعريف الأول، يعرف غرامشي المثقف العضوي بأنه المثقف الذي ينتمي إلى طبقته ويمنحها وعياً بمهامها، ويصوغ تصوراتها النظرية عن العالم، ويفرضه على الطبقات الأخرى من خلال الهيمنة، ويدافع عن مصالحها، ويقوم بالوظائف التنظيمية والأداتية لضمان تقسيم لعمل الاجتماعي داخل الطبقة، ومن ثم استمرارها... ومن خلال هذا التعريف تتبين النوايا الماركسية.
أما (فوكو)، فيستفيد من تفرقة (غرامشي)، ليؤسس لثنائية المثقف الكوني والمثقف المتخصص، على أن الكوني عند (فوكو) يقابل التقليدي عند (غرامشي)، والعضوي عند الأخير يقابل المتخصص عن (فوكو)، إلا أن (فوكو) يعزو المثقف الكوني إلى الماركسية والوجودية، فينطلق فوكو من قول: انتهاء عصر المثقف المالك للحقيقة، فيقول: لقد مرت تلك الحقبة الكبرى من الفلسفة المعاصرة، حقبة (سارتر ) و(ميرلوبونتي)، حيث كان على نص فلسفي، أو نص نظري ما، أن يعطيك معنى الحياة والموت، ومعنى الحياة الجنسية، ويقول لك هل الله موجود أم غير موجود، وما هي الحرية، وما ينبغي عمله في الحياة... من هنا يتضح أن المثقف الكوني عند (فوكو) هو المثقف النسقي، أما المتخصص فهو الذي يقطع نهائياً مع دعوى الشمولية والكونية والفلسفات النسقية، ليهتم بتقويم أدوات للعمل ومناهج للتحليل، على أنه غير مرتبط بجهاز الانتاج، بل مرتبط بجهاز المعلومات.
***
د. حيدر عبد السادة جودة

منذ زمنٍ بعيد، والإنسان يحاول أن يقول ما يشعر، أن يُخرج من داخله ما يفيض به، أن يجعل ما في قلبه مرئيًا للآخرين. هذا الميل قديم، عميق، فطري ربما. وكلما عظُمت التجربة، زادت الحاجة للقول، للبوح، للعثور على الكلمات التي تُشبه ما عايشه في الداخل. لكنّ هذا المسعى لم يكن سهلًا أبدًا. هنالك دومًا شيء يتفلت من العبارة، شيء يبقى على الحافة، لا يُقال، ولا يستقر في لفظٍ أو جملة.
ذلك أن اللغة، رغم عظمتها، ليست بابًا مفتوحًا إلى الأعماق، بل نافذة تطلّ منها الرؤية من جهة واحدة. ليست مرآة صافية تعكس التجربة كما هي، بل سطحًا يلتقط ما يمكن الإمساك به، ويترك خلفه كل ما لا يُطابق الشكل أو النظام أو القالب. فما نقوله ليس دائمًا ما نعيشه، وما نصفه ليس أبدًا ما شعرنا به تمامًا. والكلمات، مهما اقتربت، تبقى إشارات.. لا مساكن.
فاللغة لا تُمسك جوهر الأشياء، بل تدور حوله، تُلامس أطرافه، تنسج صورًا من خارجه. نحن لا نُسمّي الشيء كما هو، بل كما بدا لنا، كما عرفناه ضمن تصورٍ سابق، أو كما وافقَ ذائقتنا وخيالنا. وهي، في هذا الدور، تؤدي مهمتها النبيلة: تجعل التواصل ممكنًا، تُقرّب الفهم، تضع علاماتٍ في الطريق. لكنها لا تهبط إلى عمق الكينونة. لا تُقيم هناك، ولا تنقل لنا النبض الخفيّ الذي لا يُوصَف.
وحين نُدرك هذا، يتغيّر موقفنا من اللغة. لا نُعاديها، ولا نعبدها. بل نصغي لها بصبر، ونعرف أنها تضيء زوايا وتترك أخرى في الظل، وأنها تُفسّر أحيانًا، لكنها تُربك أحيانًا أكثر. لأن في التجربة الحية ما لا يُضبط، وما لا يقبل التكرار، ولا يُعاد بنفس اللفظ، ولا يُحكى بنفس الطريق. إنها أوسع من القول، وأعمق من التعريف، وأصدق من الترجمة.
ولهذا، حين نبحث عن معنى الوجود، عن الحب، عن الفقد، عن الحضور، ونظن أن اللغة ستُعطينا إياها جاهزة في جملٍ منمقة أو تعريفاتٍ دقيقة، نُصاب بخيبة. لأن اللغة لا تُعطي، بل تلمّح. لا تُفصح، بل تُشير. وحتى إشاراتها محكومة بمنطقها، لا بمنطق الشعور. فما نعيشه في لحظة صدق، لحظة تأمل، لحظة دهشة أو حزن أو حضور، لا يُعاد بالكلمات، بل يُبتلع في الداخل، ويُكتفى بتأمله دون محاولة نقله إلى العبارة.
ثمّ إننا حين نُراكم في حياتنا مئات الكلمات، ونحفظ آلاف العبارات، لا نكون بالضرورة قد اقتربنا أكثر من الحقيقة. بل قد نكون قد ابتعدنا عنها، واستبدلنا الحضور بالفهم، والصمت بالشرح، والتجربة بالقاموس. كأننا استبدلنا الموسيقى بالنوتة، والغابة بالخريطة، والحياة نفسها بوصفها فقط.
وفي النهاية، لا يُلام الإنسان على حبّه للكلمات، ولا على محاولته المستمرة للقول، لكنه يُلام إن ظنّ أن ما قاله هو كل ما في الأمر. لأنّ الحياة، كما هي، لا تُختصر، ولا تُودَع في لغةٍ مهما بَلغت فصاحتها.
***
خالد اليماني - باحث

أسطورة الحرية وعبودية النظام

في وعي المجتمعات العربية، يظل المثقف ذلك الكائن الذي يُفترض به أن يتجاوز حدود الأفق الضيق، ليحمل راية التغيير والتجديد في وجه السلطة. لكن ماذا يحدث حينما يتحول هذا المثقف، الذي كان ينبغي أن يكون أداة نقد وعقلٍ يقظ، إلى جزء من النظام نفسه؟ ماذا يحدث حينما يصبح التفكير ذاته خاضعًا لمنطق الاستهلاك والريعية؟ هذا التساؤل يُشَكِّل محكًّا فلسفيًا يتطلب إعادة النظر في دور المثقف العربي المعاصر وكيفية تفاعله مع منظومة السلطة، حيث تبدو الفكرة النقدية شبه معدومة، ويغيب الفكر المستقل، ليحل محله فكر يستهلك الأفكار بدلًا من إنتاجها.
المثقف العربي في مشهدنا المعاصر لم يعد مجرد شاهد على تطور الواقع أو منفصلًا عن الهياكل التي تحكمه، بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من هذه الهياكل. تحول المثقف إلى “منتج فكري”، يستهلك ما توفره له السلطة السياسية أو الاقتصادية من أفكار مريحة، يعيد إنتاجها وتكرارها في سياقات موجهة. في هذه الحالة، يصبح الفكر ذاته سلعًا تجارية، لا تخلق تغييرًا حقيقيًا، بل تكرس الواقع القائم. وهذا ما يمكن تسميته بـ “التفكير الريعي”.
الفكر الريعي لا يقتصر على اقتصادات المواد الخام أو الثروات المادية فقط، بل يمتد ليشمل الفكر نفسه. الفكرة في هذا السياق هي كما الثروة الريعية: شيء يمكن استهلاكه دون أن يُنتج من جهد حقيقي أو إرادة مستمرة لتغيير الواقع. يتحول المثقف العربي هنا إلى مجرد مستهلك للأفكار، أو بالأحرى إلى وسيط بين السلطة والجماهير. بدلاً من أن يتحدى هذه السلطة من خلال طرح أسئلة نقدية جدية، يعمل على تجميل الواقع وتبرير الوضع الراهن. يتحول إلى أداة في يد الأنظمة، لا لانتقادها، بل لاستمرارها. “الفكر الريعي” هو استهلاك للأفكار دون إعادة صوغها أو اختبارها في صراع حقيقي، وهو تكرار لما تم قبوله دون تفكير نقدي.
هذه الظاهرة ليست ظاهرة عربية بحتة، فهي تُظهر نمطًا عالميًا معاصرًا في مجتمعات العولمة، حيث يتم تحويل كل شيء إلى سلعة، بما في ذلك المعرفة. يزعم المثقف الريعي، في كل بيئة ثقافية أو سياسية، أنه يعبر عن تفكير حر ومستقل، بينما هو في الواقع يعيد إنتاج الأفكار التي تروج لها السلطة أو السوق الفكرية. وهذا يتماشى مع ما ذكره الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في قوله: “السلطة لا تتمثل فقط في القمع، بل أيضًا في تحديد معايير المعرفة”. إن المثقف الذي يعيش في الفكر الريعي لا يسعى لتحرير الفكر، بل يخضعه لنظام مستمر من الاستهلاك دون أي تفكير نقدي حقيقي.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هذه الأزمة الفكرية لا تقتصر على المثقف وحده. فالدور الريعي الذي يلعبه المثقف ينعكس بشكل مباشر على المجتمع ككل. مع غياب الفكر النقدي، يتوقف الحوار المجتمعي الجاد ويتراجع الإنتاج الثقافي الفاعل. يتعرض المجتمع لاحتكار الفكر من قبل سلطات تأمل في الحفاظ على الوضع الراهن، مما يؤدي إلى تعميق الأزمة الثقافية والسياسية. إن المثقف الذي لا يتعامل مع الفكر كأداة لتحدي الواقع، بل كأداة لتجميله، يكون في الواقع أداة لتعزيز الاستهلاك الفكري، الذي لا يعيد تشكيل المجتمع، بل يعيد تدوير ذات الأفكار البالية التي لا تشبع حاجة الحرية والتغيير.
في هذا السياق، يظهر الدور الذي يمكن أن يلعبه المثقف في العمل على خلق فضاء ثقافي مستقل بعيد عن تأثيرات السلطة. كان من الممكن أن يكون المثقف العربي حجر الزاوية في بناء هذه المساحة، لكن الواقع يختلف. أصبح هذا الفضاء محاصرًا، والمثقف محاصرًا أيضًا في دائرة الفكر الريعي التي تستهلكه أكثر مما تتيح له الفرصة لإنتاج أفكار جديدة ومتجددة. ومن هنا، يصبح السؤال: هل يمكن للمثقف العربي أن يتحرر من هذا الفكر الريعي؟ وهل يمكنه أن يستعيد مكانه كمنارة فكرية حقيقية في وقت يحتاج فيه المجتمع إلى نقد بنّاء وإلى فكر قادر على أن يواجه التحديات بكل جرأة؟
التحرر من الفكر الريعي يتطلب جهدًا جماعيًا يعيد النظر في الأسس التي يقوم عليها الفكر العربي المعاصر. يجب أن تتحقق العودة إلى عقلية فكرية قادرة على خوض معركة حقيقية ضد الأفكار الجاهزة التي تحاول فرض نفسها على الوعي الجمعي. إن الفكر النقدي الحقيقي يمكن أن يولد من هذا التحدي. يجب أن يرتبط المثقف العربي اليوم بتفكيك الأيديولوجيات التي تروج لها الأنظمة، ويُفترض به أن يكون قادرًا على إبداع فضاءات حرة تُنتج الفكر بعيدًا عن قيود السلطة أو المال.
المثقف الذي لا يجرؤ على طرح الأسئلة الجذرية، الذي لا يفكر خارج الأطر المرسومة له، يصبح مجرد آلة لإعادة إنتاج النظام. لا يقتصر هذا على مسألة استهلاك الأفكار بل يشمل العقل ذاته الذي أصبح يستوعب المفاهيم التي تروج لها الأنظمة السياسية أو الاقتصادية من دون التحقق منها. إن التغيير الذي يحتاجه المثقف العربي يجب أن يبدأ من الداخل، من فكر جديد يقاوم الجمود ويعيد تعريف الحرية. كما قال إرنست بلوخ: “من لا يحلم لا يبدع، ومن لا يبدع لا يتحرر”. إذا كان المثقف العربي عاجزًا عن الحلم في ظل هذا النظام الفكري، فإنه سيفقد قدرته على الإبداع والتغيير.
في نهاية المطاف، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يستطيع المثقف العربي أن يتجاوز هذا الفكر الريعي، ويستعيد دوره كأداة تحرر وإلهام؟ إن الإجابة على هذا السؤال لا تتوقف على المثقف وحده، بل تتعلق بالمجتمع الذي يقرع الأبواب لتغيير ما هو سائد. التحول الفكري لا يمكن أن يحدث إلا من خلال التفكير النقدي، الذي ينقض الأفكار الجاهزة ويعيد صياغتها بما يتوافق مع متطلبات الحرية والعدالة.
***
إبراهيم برسي – باحث سوداني

 

صوت الفناء يجلجل في عالمنا وتهوي الاطياف والاحلام ولا خيار لنا عندما تكون الافاق مسدودة الا ان نؤمن بان الماضي لم يكن ذهبيا في ظل تردي الواقع المعاش ان الانسان المعاصر تعطلت فيه جميع مغريات الوجود لان هناك اشباحا تتراقص في اللاوعي وهي أصل المحنة، اللاوعي هو مساحة افتراضية من العقل يحوي الأفكار والمشاعر والذكريات التي لا تكون في متناول الوعي، ولكنها تؤثر على سلوك الفرد، و يمكن اعتبار (الحضيرة) مساحة رمزية تضم كلا من الوعي واللاوعي، يتفاعل هذان العنصران بشكل دائم، حيث الوعي يحاول فهم وتنظيم ما هو موجود في اللاوعي. سيغموند فرويد اعتبر أن اللاوعي يلعب دوراً مهماً في تشكيل الشخصية والسلوك، وبالتالي فإن فهم هذا التفاعل يمكن أن يُعزز من الوعي الذاتي. يُعد الوصول إلى حالة من التوازن بين الوعي واللاوعي أمراً مهماً لتحقيق النمو الشخصي، باستخدام مقاربة هيرمينوطيقية لفهم كيفية تشكل الوعي من خلال التجارب والمواقف، يمكن دراسة التأثيرات الثقافية والاجتماعية على تكوين الوعي واللاوعي، تعد مساحة الحضيرة التي تتسع للوعي واللاوعي مجالاً غنياً للتأمل الفلسفي، حيث يُمكن من خلاله فهم الذات الإنسانية بعمق أكبر.
التفاعلات في الحضيرة
يمكن اعتبار الحضيرة كمساحة رمزية تؤثر في العديد من سلوكياتنا في العلاقات والعواطف والأفكار اللاواقعية، فهم هذه الجوانب يمكن أن يساعد على تحسين التفاعلات في الحضيرة ،يجب أن يكون هناك توازن بين الاحتياجات المختلفة والصراعات والتفاهمات المتبادلة ،القدرة على التكيف مع التغيرات تعكس مرونة الحضيرة، مما يسمح للأفراد بالتعامل مع التحديات بشكل فعال. يمكن أن تُعتبر الحضيرة كرمز للوعي الذاتي، والتوازن، مما يعزز من فهمنا للعلاقات ويساعد على تحسينها. من خلال استكشاف هذا المفهوم، يمكن للأفراد بناء علاقات أكثر صحة واستدامة، مفهوم التوازن في الحضيرة يعد أساسياً لفهم العلاقات الإنسانية، مما يساهم في بناء علاقات صحية ومستدامة، من خلال العمل على تحقيق هذا التوازن، يمكن للأفراد أن يخلقوا بيئة تعزز من النمو الشخصي والعاطفي. توسع مساحة الحضيرة دون تكثيف تقنيات الفهم دلالة رمزية على بقاء الانسان يرعى في حضيرة اللاوعي من خلال الموروث بامتداد تأثير الافكار البالية المتراكمة فيه، الأفكار الموروثة والبالية، تشكل في الحضيرة مساحة افتراضية داخل عقل الانسان تحتويه في إطار من الأمان، لكن هذا الأمان يصبح مقيدًا إذا كانت الأفكار والمعتقدات غير متجددة.
الاحتواء والامان
الاحتواء والأمان يشيران إلى كيفية تأثير هذه المفاهيم على الأفراد أو المجتمعات عبر الأجيال الجديدة، حيث تُنقل الأفكار والقيم عبر الزمن وكيفية تمثُل تلك المعتقدات والتصورات التقليدية التي قد لا تكون مفيدة أو ملائمة للعصر الحديث، والتي يمكن أن تشمل التحيزات الاجتماعية، والمعتقدات الثقافية، والمعايير الأخلاقية التي تتجاوز السياق الحالي. تعمل هذه الأفكار في خلفية الحضيرة، مما يؤثر على سلوك الأفراد وقراراتهم دون وعي تام، هذا يؤدي إلى إعادة إنتاج الأنماط القديمة في العلاقات والسلوكيات. ان تجاوز الأفكار البالية يتطلب وعيًا ذاتيًا ورغبة في التغيير، الأنسان في حالة تساؤل دائم عن المعتقدات السائدة ويحاول فحص مدى توافقها مع القيم الحالية لذا تمثل مساحة الحضيرة رمزًا مهمًا يعكس تأثير الأفكار الموروثة على سلوك الأفراد، من خلال الوعي النقدي والرغبة في التغيير، يمكن للأفراد تجاوز هذه القيود وبناء هويات جديدة تعكس قيمهم الحقيقية، تؤثر المعتقدات المسبقة على كيفية تفسير المعلومات وتقييمها، الأفراد يميلون إلى البحث عن المعلومات التي تؤكد معتقداتهم الحالية، الضغط الاجتماعي والتوقعات الثقافية يمكن أن تعزز من الأفكار المسبقة وتمنع التفكير النقدي، انتشار المعلومات المضللة أو الأخبار الكاذبة يمكن أن يعيق قدرة الأفراد على تقييم المعلومات بموضوعية، إن اتساع مساحة الحضيرة بالزبد يعد رمزًا للتراجع في التفكير النقدي، مما يؤدي إلى الغرق في هوة التخلف. يتطلب التغلب على هذه العقبة وعيًا جماعيًا ورغبة في التغيير، بالإضافة إلى تعزيز التعليم والتفكير النقدي كقيم أساسية في المجتمع .ان تعبير (الحضيرة) يمكن ان يحمل رمزا لفكرة الانغلاق الفكري ويمكن ان يحمل معاني عميقة تتعلق بكيفية تأثير التفكير التقليدي على الأفراد والمجتمعات، على الرغم من أن الحضيرة قد تتسع، مما يوحي بزيادة المعرفة أو المعلومات، إلا أنها تظل في نطاق معين لا يتجاوز الأفكار الموروثة أو التقليدية ،هذه المساحة تعكس حدودًا فكرية تمنع الأفراد من استكشاف أفكار جديدة أو تحدي المعتقدات القائمة رغم اتساع الحضيرة رمزياً، وتظل حضيرة فكرية تعكس قيود التفكير التقليدي. يتطلب التغلب على هذه القيود وعيًا ذاتيًا ورغبة في استكشاف آفاق جديدة، مما يسهم في تطوير الفكر الشخصي والاجتماعي.
فقاعات المعلومات
فقاعات المعلومات هي ظاهرة تحدث عندما يتعرض الأفراد لمعلومات وآراء تتماشى مع معتقداتهم الحالية والسائدة، مما يؤدي إلى انغلاق فكري. على صعيد المحتوى الرقمي، يتم تصميم خوارزميات لعرض محتوى يتناسب مع اهتمامات المستخدمين وتفضيلاتهم، مما يؤدي إلى عدم رؤية آراء أو معلومات تتعارض مع وجهات نظرهم، الانضمام إلى مجموعات أو منتديات عبر الإنترنت تركز على موضوعات محددة يؤدي إلى التعرض لوجهات نظر أحادية، مما يعزز الانغلاق الفكري، الاعتماد على مصادر إخبارية تميل إلى تغطية الأحداث بشكل يتماشى مع آراء معينة، يمنع الحصول على معلومات موضوعية، تاثير فقاعات المعلومات في المجموعات الإثنية المغلقة تشير إلى المجتمعات التي تتكون من أفراد يشاركون خلفيات ثقافية أو عرقية مشابهة، وغالبًا ما يتجنبون التفاعل مع مجموعات أخرى، فقاعات المعلومات هي بيئات معرفية تعزز المعلومات التي تتماشى مع معتقدات الأفراد الحالية، مما يمنعهم من التعرض لوجهات نظر أو معلومات تتعارض معها، مع ظهور الصحافة في القرن التاسع عشر، بدأت بعض الصحف في تبني مواقف سياسية معينة، مما أدى إلى تشكيل فقاعات معلومات مبكرة، مع انتشار الإنترنت، أصبحت فقاعات المعلومات أكثر وضوحًا، الخوارزميات المستخدمة في وسائل التواصل الاجتماعي تعزز المحتوى الذي يتماشى مع اهتمامات المستخدمين، مما يزيد من الانغلاق الفكري، المجموعات الإثنية المغلقة تعزز فقاعات المعلومات، حيث يميل الأفراد في هذه المجتمعات إلى استهلاك المعلومات التي تتوافق مع ثقافاتهم ومعتقداتهم مع مرور الوقت، يمكن أن تؤدي فقاعات المعلومات إلى تعزيز الانغلاق الثقافي، حيث يزداد الأفراد تعلقًا بمعتقداتهم دون التعرض لوجهات نظر جديدة، تاريخ المجموعات الإثنية المغلقة وفقاعات المعلومات يعكس كيف يمكن أن تؤثر العوامل الاجتماعية والثقافية على التفكير واللاوعي.
المجموعات الاثنية والهوية الوطنية
تأثير فقاعات المعلومات على المجموعات الإثنية المغلقة وعلى تطور الهويات الوطنية كان له دور كبير في تشكيل المجتمعات على مر الزمن، العزلة التي تعيشها المجموعات الإثنية المغلقة تعزز من الشعور بالانتماء إلى مجموعة معينة، مما يؤدي إلى تعزيز الهويات الإثنية على حساب الهوية الوطنية الأوسع هذه المجموعات غالبًا ما تسعى للحفاظ على تقاليدها وثقافتها، مما يؤدي إلى تشكيل هويات قوية تعكس تاريخها وقيمها، فقاعات المعلومات تمنع الأفراد من التعرض لوجهات نظر متنوعة، مما يؤدي إلى تشكل هويات وطنية ضيقة تقتصر على مجموعة معينة من المعتقدات والأفكار، عندما تستهلك المجتمعات معلومات تتماشى مع معتقداتها فقط، فإنها قد تتجاهل أو ترفض الهويات الوطنية الأخرى، مما يزيد من الانقسامات داخل المجتمع .
مقاربة هيرمونوطيقية
كما لم يجد البدائي تفسيرا لوضعه في العالم فان صورة الوعي الثقافي تخندقت في لحظة بلورتها داخل نسق لا زماني امتد الى التربة المكانية داخل نسق ميثولوجي غير متعين بجغرافية الجسد الفاني، لذا تعتبر المقاربة الهيرمونوطيقية بين (حضيرة اللاوعي) و(فقاعات المعلومات) موضوعًا مثيرًا للاهتمام ويمس عدة مجالات تعنى بتفسير المعاني والسياقات، وتعتبر وسيلة لفهم كيف تتشكل الأفكار والعواطف بالتفاعل مع المعلومات المحيطة ، قد تؤثر العوامل اللاوعية على كيفية استجابة الأفراد للمعلومات الجديدة، مما يؤدي إلى مقاومة التغيير أو الانفتاح على وجهات نظر مغايرة من خلال هذا التحليل، يمكن استنتاج أن العلاقة بين حضيرة اللاوعي وفقاعات المعلومات هي علاقة معقدة تتطلب دراسة متعمقة لفهم تأثيرها على الأفراد والمجتمعات.
***
غالب المسعودي

 

لا يمكن الإقرار بوجود صورةٍ مُنفردةٍ من الثقافة، ويكاد أن يكون الحديث عن ثقافة منعزلة عن ثقافات الدول الأخرى مستحيلاً، على اعتبار أن الثقافة تكمن في التفاعل الإيجابي والتواصل الخلاق مع المحيط الداخلي والخارجي بآنٍ واحد، فهي تدخل نفق الانحلال والاندثار إذا ما قررت بقائها بمعزلٍ عن باقي الثقافات…
وللتفاعلِ والتواصل صور كثيرة، هاملين أكبرها، والمتمثلة بالتواصل الاجتماعي، لما انتجه من نتائج مدمرة للمجتمع، كونه قد تصدّر بيدِ مجموعة من المراهقين والمنفلتين أدباً وأخلاقاً وفكرا…
أما الصورة الأولى من صور التواصل بين الثقافات، فدائماً ما نقرأ ونسمع بأهمية التبادل التجاري في توشيج أواصر الحوار بين الثقافات، وقد يعود ذلك إلى أن البضائع لا تنفكُ عن ثقافة البلد المُنشأ لها، فالأمم المُستهلكة قد تشتري البضاعة وثقافة مُنتِجها معاً، مما يعني أن حُسن الثقافة ومدى تطورها وازدهارها يعكس بصورة ضرورية جودة البضائع وتفردها عن غيرها، والعكس صحيح تماماً…
أما الصورة الأخرى، فهي وإن كانت ذات مقدمات سلبية، إلا أن الشواهد التاريخية تشهد بثمرتها، وتتمثل بخلق استجابات ناجحة لمجمل التحديات المتأتية عن طريق الاحتلال والاستعمار الاستيطاني، فالتاريخ يشهد أن من وراء الاحتلال الفرنسي لمصر سنة ١٧٩٨، سبباً رئيساً لنشوءِ ما يُعرف بالنهضة العربية، والتي كانت مصر منبتها الرئيس، ولم تكاد أن تحقق النهضة ما حققته، وإن لم يكن بحجم الطموح، لو لا الرحلات الاستكشافية التي أمر بها (محمد علي) إلى فرنسا، فعاد المُستكشفون وهم يحملون بوادر الثقافة الفرنسية، ورفاعة رافع الطهطاوي على رأسهم، فكتب على إثر ذلك كتابه الشهير (تلخيص الإبريز في تلخيص باريز)… ولما تقدم شاهدٌ آخر على أهمية تحقيق الاستجابة الناجحة للتحدي الراهن، والمتمثل في احتلال فرنسا للجزائر سنة (١٨٣٠)، والذي من ثمراته أن الفكر المغاربي إلى اليوم يُنتج عقولاً سابقة على كثيرٍ من عقول وأفكار دول المنطقة، ويعود ذلك إلى أثر الثقافة الفرنسية التي نجح الجزائريون والمغاربة في فكِ شفراتها عن طريق تمكنهم من اتقان اللغة الفرنسية، أدى ذلك إلى اتساع دائرة التلقي عن الفكر الغربي بشكلٍ مباشر، دون وساطات المترجمين…
هذا الأمر يقودنا إلى صورة أخرى، تتمثل في أثر اللغة في كشف ثقافة البلد الناطقين بها، فلا زال العراق، أكثر الدول العربية، يحتفي بحرف الضاد، ويتباهى بالإرث اللغوي لكبار النحويين وعلماء اللغة، غافلين عن كون اللغة المحلية اليوم، لا ترقى لان تكون سبباً في ايجاد الحلول لمجمل المشكلات التي يعاني منها الواقع، بقدر ما تحاول أن تصفه بمجموعة من المفردات المتلونة والاستهلاكية التي تستخدم اليوم في مختلف انواع الشعر والأدبيات الصبيانية…
أما فيما يتعلق بموقف واقعنا العراقي من جميع ما تقدم، فهو يفتقر إلى عملية تصدير الثقافة، لكونه يفتقر بالأساس الى عمليات تصدير البضائع المحلية، وكلنا نعلم بان العراق في ذيل الدول الصناعية…
ومن جهةٍ أخرى، نجده من أكثر الشعوب إهمالاً لصناعة الاستجابات الناجحة للتحديات التي طرحها الاحتلال الأمريكي، فلا نفع سوى الخراب والتدمير، في احتلال دولة ما لدولة اخرى، إلا باقتباس الدولة التي وقع عليها فعل الاحتلال من ثقافات الدولة التي قامت بالاحتلال… وخير طريقٍ إلى ذلك يكمن في السيطرة على اللغة الانگليزية، والتي عن طريقها يجدر بنا الدخول الى انواع الثقافات المتاحة في الغرب، فضلاً عن المباحث العلمية الهائلة والمواكبة للتطور الكوني…
وبالأخير نقول:
يتفق الجميع على ان المفتقر للغة الانگليزية، في المجتمعات العربية تحديداً، لا يمكنه مقاومة التغيرات الاجتماعية والبيئية المحيطة، وبالتالي فهو اعمى يسير في مجتمع لا يعيش به سوى من له القدرة على النظر… وبصورةٍ أخرى، ان الافتقار الى اللغة الانگليزية ينتج عنه مجتمع لا يملك ادنى مسالك التطور، خصوصاً ونحن نعيش في عصر العولمة والثورات الفكرية الكبرى.
***
د. حيدر عبد السادة جودة

 

من فيلم ماتريكس إلى الواقع

القرن الحادي والعشرون، بعد 6000 عام من الحضارة، أصبح الوعي البشري يسافر عبر الزمن ويتجاوز المادة، بحيث أصبح قادراً على صناعتها وتطويرها كما يشاء. من العصر الحجري القديم إلى العالم الحديث، يتغير الوعي ويتطور ليظل على قيد الحياة في جميع الظروف.
يظل تعريف هذا الوعي لغزاً، بين كيان بدائي مندمج في الإنسان وبين تطور العقل البشري الذي لم نفهم حتى الآن من أين جاء، من إنسان عادي شبيه بالحيوان إلى بشر واعٍ ومفكر. حتى اليوم، لم يتمكن العلم من تقديم تعريف مادي حقيقي لهذا الكيان المسؤول عن تفوق الإنسان على باقي المخلوقات منذ آلاف السنين. الفلاسفة والعلماء يحاولون باستمرار العثور على أدلة ملموسة، ولكن النتيجة دائماً سلبية. فما السبب وراء هذا البحث المستمر؟ لماذا هذا السعي الدائم؟
الإجابة الأقرب للمنطق هي الرغبة في العثور على جوهر الحياة التي نعيش فيها. لكن هل سيصل الإنسان إلى هذه الإجابة يوماً ما؟
الفيلم الشهير "ماتريكس" من إخراج الأخوين واتشوفسكي قدّم لنا تصوراً حول هذا الموضوع عبر طرح الذكاء الاصطناعي والروبوتات كجواب غير مباشر على هذا التطور غير العقلاني للعقل البشري الذي قد يؤدي إلى هلاكه. لكن هذه تبقى مجرد نظرية مستقبلية. الجوهر الذي حاول الفيلم توصيله يعتمد على الفلسفة العدمية لشوبنهاور ونيتشه، حيث ترى هذه الفلسفات أن الحقيقة هي مجرد وهم، وأن كل ما نعيشه هو مجرد مزيج من الأحاسيس المبرمجة التي لا معنى لها.
في هذا السياق، يأتي اقتباس فيلم "ماتريكس" 1999 الذي يلخص تقريباً مفهوم الوعي البشري الحالي: "كيف يمكنك أن تعرف الواقع؟ ما تشعر به أو تراه أو تتذوقه أو تتنفسه ليس سوى نبضات كهربائية يفسرها دماغك كما يحلو له." هذا الاقتباس يعكس فكرة أننا نعيش في واقع يمكن أن يكون مجرد بُعد من أبعاد أخرى، لكن وعينا يقيدنا ويجعلنا نعتقد أننا في البُعد المطلق. هذا يخلق لنا خوفا من الموت ورغبة مستمرة في التمسك بالحياة، رغم أننا في النهاية نعيش حياة محدودة، تحت سيطرة غرائزنا التي لا نفهم حقيقتها.
أما في الجزء الثاني من فلسفة أفلام "ماتريكس"، نرى التقنية والمكننة في خدمة الوعي الغير المتكامل.
في هذا السياق، نتذكر أطروحة ديكارت حول سيادة الإنسان على الطبيعة، وكذلك معضلة "السيد والعبد" عند هيغل. هنا يظهر التداخل بين البشر والآلات كعبيد وأسياد لبعضهم البعض. الآلات التي صنعها الإنسان يمكن أن تستحوذ عليه وتتفوق عليه، بحيث تتحول إلى جزء من الحضارة الجديدة التي قد تهيمن على الأرض، مثل الحضارة الثانية في مقياس كارداشيف.
ومع ذلك، هل ستكون الآلات قادرة على تطوير نفسها بما يكفي لتصبح مستقلة عن الإنسان؟ هل يمكن أن يكون ذلك نهاية الإنسانية كما نعرفها اليوم؟ إذا تخلّصنا من الإنسان، هل ستستمر الآلات في العمل؟ في فيلم "ماتريكس"، يظهر ذلك بوضوح عندما يواجه مستشار مدينة زيّون الحقيقة القاسية: لا يمكن للآلات أن تعمل دون الإنسان. لكن مع مرور الوقت، قد تتطور الآلات لتسيطر على الأمور، في مسار مشابه للديالكتيك الهيغلي: من خلال العمل، يهيمن العبد على السيد، لأنه بدون العمل لا يمكن للسيد أن يصل إلى ما يريد.
في النهاية، تبين لنا أفلام "ماتريكس" العلاقة التكاملية بين البشر والآلات، حيث لا يمكن لأي منهما الوجود دون الآخر. عندما تصبح الآلات أكثر تقدماً، قد يفقد البشر سيطرتهم، لتتحول الآلات إلى الكائنات المسيطرة. لكن في الوقت نفسه، إذا تطور البشر إلى نقطة يتمكنون فيها من التحكم في الآلات، فقد يعود البشر ليكونوا الأسياد. وهكذا، تستمر الدورة الأبدية بين العبيد والأسياد، وتظل حقيقة جوهر الحياة غائبة.
خلاصة
لا تطور للإنسان دون آلات، ولا وجود للآلات دون إنسان.
***
الكاتب: حبيب مرگة

 

مشبَّع بالسببية
بقلم: مارييل جودو
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
لدى البشر قوة خارقة تجعلنا قادرين بشكل فريد على التحكم في العالم: وهي قدرتنا على فهم العلاقة بين السبب والنتيجة.
***

الفهم السببي هو القدرة الإدراكية التي تمكّنك من التفكير في كيفية تأثير الأشياء على بعضها البعض وتأثرها ببعضها. إنه مفهومك عن الصنع، والفعل، والتوليد، والإنتاج — أي التسبب — الذي يتيح لك إدراك كيف أن القمر يسبب المد والجزر، وكيف يُمرضك الفيروس، ولماذا تؤثر التعريفات الجمركية على التجارة الدولية، وما هي العواقب الاجتماعية لزلة لسان، وكيف يقود كل حدث في قصة إلى ما يحدث بعده.
الفهم السببي هو أساس كل الأفكار التي تبدأ بـ "لماذا"، و"كيف"، و"لأن"، و"ماذا لو".
عندما تخطط للغد، أو تتساءل كيف كان من الممكن أن تسير الأمور بشكل مختلف، أو تتخيل شيئًا مستحيلًا (مثل: كيف سيكون الشعور بالطيران؟)، فإن فهمك السببي يكون في حالة عمل.
في الحياة اليومية، يضفي الفهم السببي على ملاحظاتك للتغيرات في العالم نوعًا من التوليد والضرورة. إذا سمعت صوتًا، تفترض أن شيئًا ما قد أحدثه. إذا وجدت انبعاجًا في السيارة، تعلم أن شيئًا — أو شخصًا — لا بد أنه تسبب فيه. أنت تعرف أن هطول المطر سيبللك، لذا تضغط على مقبض المظلة لتفتحها وتتجنب البلل. تراقب بلوطة تسقط من شجرة وتحدث تموجات في بركة ماء.
إن قدرة البشر على رؤية العلاقة بين السبب والنتيجة كجزء من "الواقع الموضوعي" (فكرة مثقلة بالإشكالات الفلسفية، لكن لنقل مؤقتًا: العالم الخارجي المستقل عن الذهن) هي قدرة أساسية وتلقائية لدرجة يصعب معها تخيل تجربتنا من دونها. تمامًا كما أنه من شبه المستحيل رؤية الحروف والكلمات كأشكال مجردة على صفحة أو شاشة (جرّب ذلك!)، فإنه من الصعب للغاية ملاحظة التغيرات في العالم دون أن ننسبها إلى أسباب. نحن لا نرى مفتاحًا يختفي في ثقب المفتاح، أو يدًا تتحرك، أو بابًا يتأرجح ليفتح. بل نرى شخصًا يفتح الباب. لا نرى البركة، ثم البركة مع تموجات وبلوطة؛ بل نرى البلوطة تُحدث رشقة ماء.
معظم الناس لا يدركون أن كل هذا إنجاز إدراكي. لكنه في الواقع أمر غير اعتيادي على الإطلاق. لا يوجد أي حيوان آخر يفكر في السببية بذلك الشكل فائق الموضوعية والتعميم كما نفعل نحن. وحدنا — نحن البشر البالغون — من يرى العالم مشبّعًا بالسببية. ونتيجة لذلك، لدينا قدرة لا مثيل لها على تغييره والتحكم فيه.ومن ثم فإن فهمنا السببي بمثابة قوة خارقة.
القصة العلمية لكيفية تطوّر عقولنا السببية تكشف عن قوة خارقة أخرى: الطبيعة الاجتماعية للبشر. فحساسيتنا الفريدة تجاه الآخرين هي ما يسمح لنا باكتساب هذا الفهم السببي المميز. وهذه القصة تطرح أيضًا أسئلة عن "العقول الأخرى": إذا كان فهمنا السببي هو الاستثناء وليس القاعدة، فكيف يبدو العالم للكائنات الأخرى؟ وإذا حاولنا تعليق الضرورة السببية التي تنظّم جزءًا كبيرًا من تجربتنا، فماذا يتبقى؟
سأقترح أن ما يتبقى هو تجربتنا في الفعل — منظور شخصي، تقييمي، وتفاعلي بطبيعته.ففي هذا "موضع الفعل" المنخرط والمشارك — في مقابل وجهة النظر الموضوعية المنفصلة — تبدأ بذور الإدراك الأعلى في التكوّن. إن تقدير أن منظورنا الأصلي موجّه نحو الفعل والهدف يمكن أن يساعدنا أيضًا في فهم أوجه القصور فينا — وكيف يمكننا تغييرها.
يُوجَّه البحث النفسي في الفهم السببي إلى حدٍّ كبير من خلال إطار يُعرف باسم "التدخّلية" (Interventionism). فكّر في حالتين تحدثان معًا: تشرق الشمس، ويصيح الديك.هل تسبّب شروق الشمس في صياح الديك؟ أم أن الديك هو من تسبّب في شروق الشمس؟
ليس من الصعب اتخاذ قرار في هذه المسألة.
لكن، كما هو الحال في كثير من المساعي الفلسفية، فإن الحقيقة التي تبدو بسيطة للوهلة الأولى تصبح صعبة التعبير عندما نحاول شرحها بدقة.
(ماذا تقصد حين تقول إن شروق الشمس "يُسبّب" صياح الديك؟ "أعتقد أن ضوء الشمس ينشّط الساعة البيولوجية للديك، أو شيء من هذا القبيل."
ماذا تقصد بـ"ينشّط"؟ "أم… لا أعلم بالضبط… ربما يؤثّر على الهرمونات؟"
ماذا تعني بـ"يؤثّر على"؟ "آه… يطلق؟ يُحفّز؟ يُولّد؟"
لكن ما المقصود بـ"إطلاق"، أو "تحفيز"، أو "توليد"؟…)
تقدم التدخّلية طريقة أنيقة لتعريف "السبب" تُسهم في تنظيم المفهوم. هناك خطوتان:
أولًا، يُنظر إلى الأسباب والنتائج على أنها متغيّرات ذات قيم يمكن أن تتغير.فموقع الشمس يمكن أن يكون "طالعة" أو "غير طالعة"، وصوت الديك يمكن أن يكون "صياح" أو "لا صياح".
ثانيًا، تُعرَّف العلاقة السببية من خلال التدخلات — أي التغييرات المُوجَّهة. تخيّل أننا نبقي كل شيء كما هو، ونغيّر فقط ما إذا كانت الشمس ستشرق أم لا. إذا لم تشرق الشمس، فهل سيصيح الديك؟ والآن جرّب العكس: إذا بقي الديك صامتًا، فهل ستشرق الشمس؟
إذا كان تغيير حالة الشمس يؤدي إلى تغيير في سلوك الديك، لكن تغيير سلوك الديك لا يؤثر في شروق الشمس، فهذا يعني أن الشمس هي السبب، وأن الصياح هو النتيجة.
تُعرف هذه الطريقة التدخّلية في تعريف السببية غالبًا باسم "إحداث الفرق" (difference-making). وذلك لأن "السبب" هو شيء يُحدِث فرقًا في شيء آخر: إذا حركت السبب، فإن النتيجة تتحرك أيضًا.هذا التعريف لا يُرضي المتشككين تمامًا — (ماذا تعني بـ"إحداث الفرق"؟) — لكنه يقدّم لنا طريقة أكثر دقة للحديث عن العلاقات السببية. كما يوضح مثال الشمس والديك، فإن التدخلات لا يجب أن تكون ممكنة فعليًا. الفكرة الأساسية هي ببساطة: إذا غيّرنا السبب، فإن ذلك سيُحدث فرقًا في النتيجة.
التعلم التدخلي هو التعلم بالممارسة. ينتج عنه معرفة سببية، ويمنحنا القدرة على التحكم.
طريقة أخرى للتفكير في الفهم السببي هي تقدير الفرق بين التنبؤ والسيطرة — أو الفرق بين التعلُّم الإحصائي والتعلُّم التدخلي.
فكّر في التسلسل التالي:
#@mb!#@mb!#@mb!#@mb!
ما الذي يأتي بعده؟
وماذا عن هذا:
أحمر أحمر، أخضر أخضر، بنفسجي بنفسجي، أزرق…
ما هي الكلمة التالية؟
إن البشر والحيوانات الأخرى بارعون في التقاط الأنماط. هذا يُسمى التعلُّم الإحصائي (أو الترابطي)، وهو يؤدي إلى معرفة إحصائية — أي معرفة بالارتباطات. نحن نمارس هذا النوع من التعلُّم بشكل سلبي وتلقائي، وهو يمنحنا القدرة على التنبؤ. فكّر في المعرفة الإحصائية كما لو كنت تستمع إلى أغنية مألوفة على الراديو: أنت تعرف ما المقطع التالي دون أن تبذل جهدًا.أما التعلُّم التدخلي، فعلى العكس، هو تعلُّم نشط — تعلُّم من خلال الفعل.وهو يؤدي إلى معرفة سببية، ويمنحنا القدرة على التحكم.
إليك السيناريو التالي لتوضيح الفكرة:
تخيّل أنك واقف عند مدخل متجر للأدوات، تتكئ على الباب بينما تنتظرني لأدفع. (للمساعدة في التصور: أنا امرأة بيضاء في منتصف الثلاثينيات من عمري، بشعر وردي).
تشاهد السيارات تمر في الشارع. خلفك، يتحدث الناس مع بعضهم البعض أثناء وقوفهم في الطابور. بين الحين والآخر، يرنّ جرس.
تتراجع قليلًا بينما يمرّ أحدهم مسرعًا ومعه منصة مليئة بالنباتات.
ثم أقول وأنا آتي إليك:
" مهلًا، لماذا تدق هذا الجرس؟"
فترد: "ماذا تقصدين؟ أنا فقط واقف هنا."
أقول وأنا أشير إلى أعلى رأسك.
"ذلك الجرس!"
وبالفعل، هناك جرس صغير مثبت على الباب الذي كنت تتكئ عليه.
فتقول: "لم أكن أعلم أنني أُرنّ الجرس!"
لكنّك تحاول تحريك الباب ذهابًا وإيابًا، ويتضح أن الأمر صحيح: تحريك الباب يجعل الجرس يرنّ، وكان الباب يتحرك قليلًا أثناء اتكائك عليه.
المشهد الذي تخيّلناه للتو مأخوذ من مشهد قصير في كتاب "النية" (Intention، 1957) للفيلسوفة جي. إي. إم. آنسكومب.في تحليلها، تُعدّ "الأفعال" من نوع الأشياء التي ينطبق عليها معنى خاص لسؤال "لماذا؟" — وبالتحديد، ذلك النوع من "لماذا؟" الذي نوجّهه للناس عندما نسأل عن غايتهم أو هدفهم أو نيتهم (مثل: "لماذا تُرنّ هذا الجرس؟").
عندما رننت الجرس من دون أن تدري، تقول آنسكومب، لم يكن ذلك فعلًا.
أما عندما حرّكت الباب عمداً لتُصدر رنين الجرس — عندما كنت تعرف ما الذي تفعله — فحينها أصبح فعلاً.
يعتمد تطوّر الفهم السببي على هذا "المنظور الداخلي" لأفعالك — أي معرفتك لهدفك، ولما تسعى إلى تحقيقه من خلال الفعل.
سأسمي هذا المنظور: موضع الفعل (your point of do).
كثير من الحيوانات تمتلك موضع فعل (point of do). فهي تتعلّم بسهولة العلاقات السببية بين الأفعال (مثل ضغط رافعة) والنتائج المرغوبة (مثل الحصول على طعام).لكن تعلّمها السببي غالبًا ما يكون محدودًا بسياقات معينة وبفترات زمنية قصيرة. فإذا تعلّمت حمامة أن نقر الرافعة يُنتج طعامًا من الموزّع، فعلى الأرجح أنها ستحتاج إلى إعادة التعلّم في بيئة جديدة. وإذا تم إدخال تأخير زمني بين النقر والحصول على الطعام، فلن تدرك العلاقة كذلك.
الفهم السببي لدى الحيوانات غير البشرية هو في الغالب أناني التمركز (egocentric).
إنه سببية من نوع "أنا" أو "لي" — أي مقتصر على التغيرات التي تُنتجها أفعالها الخاصة، ويعتمد على أهداف تُركّز الانتباه على متغيرات بعينها.حتى الحيوانات الذكية غير البشرية، مثل القِرَدة والجرذان والغربان، لا تتعلّم العلاقات السببية عادةً إلا إذا كانت تسعى بنشاط للحصول على مكافأة (مثل الطعام) أو تجنّب عقوبة (مثل صدمة كهربائية).وعندما يكون السبب شيئًا جامدًا، أو نشاط حيوان آخر، أو حتى حركة غير مقصودة من الحيوان نفسه، فإنها غالبًا لا تتعلّم العلاقة السببية.
ومع ذلك، هناك بعض الأدلة على أن القِرَدة يمكنها تعلُّم بعض العلاقات السببية من خلال مشاهدة الآخرين. لكن البشر يُشكّلون حالة استثنائية تمامًا. ففي عمر ثلاثة أشهر فقط، يبدو أن الرُضَّع لا يمتلكون فهمًا سببيًا من منظور شخصي ("أنا أُسبّب") فحسب،
بل أيضًا فهمًا سببيًا من منظور الغير ("هم يُسبّبون").
ولأننا نفسّر باستمرار حركات الآخرين على أنها أفعال موجهة بهدف، فإننا نرى الأسباب التي يتحكم بها الآخرون، والنتائج التي يسعون لإنتاجها، على أنها قابلة للتحكم والإنتاج بالنسبة لنا أيضًا.في الأسابيع الثمانية إلى الاثني عشر الأولى من الحياة، يسمح الفهم السببي "الذاتي" للرضيع بأن:
- يبكي بطريقة موجهة لجذب الانتباه،
- ويتعلم تحريك الألعاب المعلّقة عن طريق الركل برجليه.
كما يتعلم أن الهمهمة وإصدار تعابير الوجه تُولّد استجابات من مقدّمي الرعاية — وهو شيء لا يبدو أن الرئيسيات الأخرى تفعله.
وبحلول عمر تسعة أشهر، يظهر الفهم السببي "الغيري" بقوة:
- يمكن للرضع تقليد أفعال الآخرين على لعبة، مثل الضغط على زر لإصدار صوت.
- وعند بلوغهم أربعة عشر شهرًا، يستطيعون تكرار أفعال غير مألوفة لم يسبق لهم القيام بها، مثل استخدام رؤوسهم لتشغيل ضوء.
يؤدي التفاعل والملاحظة والتصنيف باستمرار إلى جلب متغيرات وعلاقات سببية جديدة إلى وعي الأطفال.
عند الوصول إلى سن الطفولة المبكرة، يبدأ الأطفال بتعميم العلاقات السببية انطلاقًا من أفعال الآخرين. فإذا رأوا شخصًا يضع مكعبًا أحمر مثلث الشكل على آلة ما فيؤدي ذلك إلى تشغيل الموسيقى، بينما لا يؤدي وضع مكعب أزرق مثلث إلى نفس النتيجة، فإنهم سيختارون بأنفسهم مكعبًا أحمر مربعًا (جديدًا) لتفعيل الآلة.
كما أنهم يلتقطون كلمات سببية تُستخدم في مواقف متعددة. فقد يستخدم الطفل الصغير كلمة "خلاص" (allgone) للإشارة إلى آثار أفعال مختلفة — مثل فرقعة فقاعة، أو الانتهاء من زجاجة الحليب، أو البحث عن لعبة غير موجودة.
هذه الأنشطة الاجتماعية — التفاعل، الملاحظة، والتسمية — تُدخل باستمرار متغيرات وعلاقات سببية جديدة إلى وعي الطفل. والنتيجة هي نوع من التنشيط المستمر للانتباه — كما لو أن أحدهم يشير إلى الجرس على الباب: ("هل ترى هذا الشيء هناك؟ انظر، يمكنك التحكّم به!").
وفي بعض الثقافات، يقدم البالغون أيضًا تفسيرات سببية عفوية، مثل:
- "أكل البروكلي يجعلك كبيرًا وقويًا."
- "دعنا نضع الكعكة في الفرن كي تصبح منفوشة!"
- "هل تذكر لماذا لا نركض على الزلاقة؟ ماذا حدث في المرة السابقة؟"
هذا التنوع والعمومية والعدد الهائل من العلاقات السببية التي يستطيع حتى الطفل بعمر السنتين أن يفهمها يفوق بكثير ما يمكن للحيوانات غير البشرية تعلّمه — سواء من حيث عدد المجالات أو امتداد الزمن. والتفاعل مع الأدوات — من الخشخيشات إلى مفاتيح الإضاءة إلى أجهزة الآيباد — يساهم على الأرجح في بناء إحساس بأن هناك "أسبابًا محتملة في كل مكان"، وبأن العالم مفتوح للإنتاج والتحكّم. وكأن البيئة الاجتماعية تبرمج الطفل على أن يفكر باستمرار: ماذا يمكنني أن أفعل؟ ماذا يمكنني أن أفعل؟ ماذا يمكنني أن أفعل؟
لكن هناك قيدًا مثيرًا للاهتمام: فحتى سن الرابعة تقريبًا، يظل الفهم السببي لدى الأطفال مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالأفعال الموجهة نحو هدف، سواء أفعالهم أو أفعال الآخرين. في إحدى الدراسات، شاهد أطفال في عمر سنتين وثلاث وأربع سنوات لعبة سيارة تتحرك نحو جدار، وعندما تصل إليه، تبدأ دوّارة (مروحة صغيرة) بالدوران على مسافة منها. أظهر الأطفال من جميع الأعمار نوعًا من التعلّم الإحصائي (التنبؤي): فبعد فترة من المشاهدة، أصبحوا ينظرون نحو الدوّارة عندما تقترب السيارة.
ظهر الاكتشاف اللافت عندما قام الباحثون بتغيير عاملين: أولًا، كيف تحركت السيارة، وثانيًا، كيف تصرف الأطفال عندما طُلب منهم إحداث نفس التأثير بأنفسهم.
رأى بعض الأطفال شخصًا يدفع السيارة نحو الحائط. في هذه الحالة، عندما قيل لهم إن "دورهم" قد حان لجعل المروحة تدور، قام الأطفال من جميع الأعمار بتكرار الفعل. ولكن كانت الأمور مختلفة إذا رأوا السيارة تتحرك من تلقاء نفسها. في هذه الحالة، فقط الأطفال الذين يبلغون أربع سنوات قاموا بشكل منتظم بأخذ السيارة ولمس الحائط لجعل المروحة تدور.
ليس من الواضح تمامًا ما الذي يدفع تطوير الفهم غير الشخصي و"السببي" - التحول من فهم سببي قائم على الأفعال إلى فهم موضوعي حيث يُنظر إلى السببية كجزء من العالم نفسه. (هذا هو الفهم السببي الذي يجعلك تنظر إلى الشجرة فوق سيارتك للتحقق مما إذا كان بإمكان البلوط أن يسبب الانبعاج). ومع ذلك، في سن الرابعة تقريبًا، يطور الأطفال أيضًا "نظرية العقل" (تقدير أن معتقدات الناس قد تفشل في مطابقة الواقع)، واتخاذ المنظور البصري (فهم أن شيئًا أزرق بالنسبة لي سيبدو أخضر لك وأنت ترتدي نظارات صفراء)، ويتسامحون مع "التسمية المزدوجة" (أنت تقول شجرة، أقول شجيرة؛ يمكن أن نكون على حق كلانا). والجدير بالذكر أن كل هذا يتضمن الاحتفاظ بفكرتين حول نفس الشيء في الاعتبار في وقت واحد. ربما تتطلب فكرة "الإمكانات السببية" التي تستمر حتى عندما لا يغير أحد الأشياء "تمثيلًا مزدوجًا" أيضًا.
مهما كان السبب النهائي وراء الفهم السببي البشري الفريد من نوعه في عموميته ولا شخصانيته، فمن الواضح أن الحيوانات الأخرى تعيش باستمرار ضمن منظور "أنا-السببي" — نقطة الفعل (point of do). إنها لا تصل أبدًا إلى وجهة النظر الموضوعية التي تُعد فيها السببية جزءًا من كل شيء.
كيف يبدو العالم لهم؟ هكذا أفكر فيه. عندما تشاهد فيلمًا ثلاثي الأبعاد، فإن ارتداء نظارات ثلاثية الأبعاد يجعل الأشياء "تبرز". من خلال عدسة "السببية الذاتية"، أتخيل نوعًا من لوحة تحكم ريفية - ما يعادل في البرية الرافعات والمفاتيح والأقراص. قد تبرز عصا كوسيلة لاستعادة فاكهة بعيدة المنال. قد تبرز شفرة عشب طويلة كأداة لاستخراج وجبة من كومة نمل أبيض.
لكن هذه الدعائم "القابلة للتدخل" من أجل الفعل ستكون قليلة. وستظهر بشكل رئيسي في مواقف تشبه إلى حد كبير مواقف أخرى سبق أن تصرفت فيها. كل شيء آخر سيكون مجرد تباين – مثل الأشكال المتغيرة في شاشة توقف الكمبيوتر المحمول. بعض التغييرات ستكون غير ضارة (مثل العشب المتمايل في حقل عاصف). وقد يرتبط البعض الآخر بدلالات عاطفية – مثل حفيف مفاجئ في الأدغال ("أوه!")، أو نداءات أفراد من نفس النوع من بعيد ("أصدقاء!")، أو رائحة شريك محتمل ("واو!"). لكن هذه الإدراكات والأنماط والإيقاعات ستكون نوعًا من الموسيقى الهيومية: مألوفة، متوقعة، وموثوقة، ولكنها ليست مسببة أو قابلة للتحكم أو قابلة للتفسير.
إليك طريقة أخرى للتفكير في الأمر. كوليد جديد، قبل أن يتحول عقلك من خلال التعلم الاجتماعي واللغة، كنت محاطًا ببيئات ذات معنى، لكل منها ميولها الخاصة ذات الدلالة. في سريرك، كانت الهزازة (الجذابة) فوقك تميل إلى التمايل. في حوض الاستحمام، كان الصنبور يميل إلى إصدار صوت "ششش". كان هناك رطوبة سميكة حولك ونعومة أسفلك. الوالدان – اللذان كانا غير واضحين بسبب عينيك غير المكتملتين – كانا يميلان إلى التحرك في اتجاهات عديدة، ووضع أشياء جيدة في فمك، والهمس، وهزك، واحتضانك عن قرب.
يتّسم الفعل لدى غير البشر بقدر أقل من السيطرة، وبقدر أكبر بشيء أشبه بالتعاون.
في الوقت نفسه – وبإرشاد من الأحداث التي أوليتها قيمة – اكتشفتَ قدرتك على الفعل. فالابتسامات تحدث أكثر عندما أبتسم أنا أيضًا (مذهل!). الإمساك بالبطانية وتحريك ذراعي يجعلني أشعر بالبرد (فظيع!). سحق البازلاء يغيّر شكلها (رائع! دعونا نعيد التجربة). من خلال التفاعل، انفتح لك العالم، وبدأ يتّضح كحقل من الإمكانيات للفعل.
وهناك أمر آخر جدير بالانتباه: البيئات البشرية مُصمّمة – بأيدينا – لتدعم التلاعب والسيطرة بسلاسة. فأنت تعيش في عالم من الأسطح المستوية، ومقابض الأبواب، وغيرها من "المعدّات" (لنستخدم هنا مصطلح مارتن هايدغر). أما الحيوانات الأخرى، فليست لها هذه الرفاهية. تقضي إناث إنسان الغاب معظم وقتها في الغابات الكثيفة، تفاوض الأغصان؛ بعضها يمكن دفعه جانبًا، وبعضها يرتدّ، وبعضها الآخر لا يتحرّك إطلاقًا – لا بدّ من الالتفاف حوله. فقمة القطب الشمالي تكابد بأسنانها ومخالبها لصنع ثقوب في الجليد القاسي الذي لا يرحم. وطائر القطرس يضبط جسمه بمهارة مع تيارات الرياح التي تسرّع انزلاقه، لكنه لا يستطيع التحكم بها.
إن الفعل لدى غير البشر يتّسم بقدر أقل من السيطرة، وبقدر أكبر بما يشبه التعاون. إنه نمط من الوجود يكون فيه "الفعل" مرادفًا للعمل مع البيئة، لا السيطرة عليها. الفعل أشبه بدعاء السكينة: امنحني السكينة لتقبّل ما لا يمكن تغييره؛ والشجاعة لتغيير ما يمكن تغييره؛ والحكمة لتمييز الفرق بينهما. تخيّل نفسك تسبح في المحيط حين تقترب منك موجة كبيرة؛ يمكنك أن تختار أن تعبر من فوقها أو أن تغوص تحتها، لكنك لا تستطيع أن توقفها – عليك أن تسير مع التيار.
لقد كان هذا التصوّر للعالم يومًا ما تصوّرنا نحن أيضًا. قبل أن يظهر لنا العالم كشيء قابل للتلاعب والسيطرة، مهيّأ ليُطوّع لإرادتنا، كان حاضرًا بطريقة ديناميكية. كان هناك كدَفعة – أحيانًا تساند، وأحيانًا تعارض. كان قوة لا بد من أخذها بالحسبان، تفرض نفسها على أفعالنا وتستدعي انتباهنا.
وهذا ما تُمكننا "قوّتنا الخارقة" من تجاوزه – ومن نسيانه.
عندما أفكّر في الفهم السببي لدى البشر، كثيرًا ما أتذكّر فيلم "تلميذ الساحر" (The Sorcerer’s Apprentice). إنه فيلم قصير من إنتاج ديزني، ضمن الأنطولوجيا الموسيقية "فانتازيا" (1940)، ويستند إلى قصيدة تحمل الاسم نفسه من تأليف غوته. في هذا الفيلم، يظهر ميكي ماوس – مرتديًا قبعة الساحر الزرقاء ورداءً أحمر – كتلميذ مشاغب في مدرسة السحر. يسرق كتاب التعويذات الخاص بمعلمه، ويسحر مكنسة لتؤدي عمله: ملء قدر كبير بالماء. تنبت للمكنسة ذراعان، وتحمل دلاء ميكي، وتبدأ في التحرك جيئة وذهابًا. تجلب الماء وتسكبه في القدر. ثم تعيد الكرّة… مرة بعد مرة بعد مرة. يمتلئ القدر ويفيض، ويبدأ ميكي في الذعر. فيقطع المكنسة بفأس – لكن كل شظية سحرية تتحوّل إلى مكنسة جديدة! وسرعان ما يظهر جيش كامل من المكانس، يواصل ملء القدر دون توقف. وعندما يأتي الساحر أخيرًا لإنقاذه، يكون ميكي متشبثًا بكتاب التعويذات، يطفو على طوف وسط فيضان عارم.
إن فهمنا السببي هو الأساس الذي قامت عليه العلوم والهندسة. لقد منحنا أنظمة الصرف الصحي، والكهرباء، والتعقيم؛ والدراجات، والأنفاق، والصواريخ؛ واللقاحات والعلاج الكيميائي. وهو أيضًا الأساس للتقنيات الاجتماعية مثل المساءلة الأخلاقية، والاتفاقيات التجارية، وقوانين المرور. إنه ما يتيح لنا التخطيط، وسرد القصص، وتخيّل إمكانيات جديدة. لكن هذا الفهم يمكن أن يكون سحرًا مظلمًا أيضًا. فقوّتنا الهائلة في التلاعب ببيئاتنا المادية والاجتماعية أنتجت ملوّثات صناعية تغيّر المناخ؛ وميكروبلاستيك يتسرّب إلى أدمغتنا، وخصانا، وحليب ثدى الأم؛ والمزارع الصناعية والمبيدات السامة؛ وأطعمة معالجة مُسببة للإدمان؛ ومخدّرات مُدمّرة؛ وأسلحة دمار شامل؛ وخوارزميات صُمِّمت عمدًا لتوجيه قراراتنا وسرقة انتباهنا.
بوسعنا أن نوظّف فهمنا للسببية للتأثير الواعي في سلوكنا وتوجيهه وفق ما نريد.
قدرتنا الجماعية على اتخاذ قرارات جديدة بشأن كيفية استخدام هذه القوة الهائلة التي نملكها هي ما سيُحدّد مصير نوعنا البشري. وما يجعل الأمر مخيفًا ومحبطًا وصعبًا هو أنه يبدو خارج نطاق سيطرتنا؛ إنه أكبر من أي فردٍ منا، وأبعد من المدى الذي تطوّرنا عليه لتوجيه أفعالنا نحو أهداف محددة.
لكن إليك ما يجعلني متفائلًا: أعتقد أننا نستطيع استخدام فهمنا للسببية للتدخّل في سلوكنا وتغييره. أولًا، نحن نعلم أن هذا الفهم يتميّز بمرونة عالية. فحتى الأطفال في المرحلة الابتدائية يمكنهم أن يتعلّموا العلاقات السببية المعقّدة في النظم البيئية، وسلاسل الغذاء، وعدم المساواة البنيوية – وهذا يفتح المجال لتوظيفه في التعليم، وكتب القصص، ووسائل الإعلام الموجّهة للأطفال.
كما نعرف قوة الجانب الاجتماعي – قوة لفت الانتباه إلى المتغيرات لبعضنا البعض. فالأصدقاء والعائلة يشكّلون مصدرًا مؤثرًا في ترسيخ العادات المتعلّقة بالعوامل السببية التي تؤثّر في صحتنا (مثل التمارين، والنظام الغذائي، والملوّثات الدقيقة)، وفي صحة كوكبنا (مثل تناول اللحوم، والتسميد، والممارسات الاستهلاكية المستدامة). وكلما زاد الحديث بيننا عن هذه العوامل الفارقة، زادت فرص تكرار هذه الأفعال وانتشارها على نطاق النوع البشري بأكمله.
وأخيرًا، فإن فهمنا للسببية متجذّر – في الأصل – في القيم التي نؤمن بها، وفي الأشياء التي نرغب بتحقيقها. فالتعلّم السببي الأكثر بدائية يحدث عندما نسعى وراء ما نريد حدوثه. وهذا يعني أن الاقتراحات المتفائلة والموجّهة نحو الفعل من المحتمل أن تكون أكثر تأثيرًا من الخطاب المتشائم واليائس.
من الأمثلة المفضّلة لديّ في خيالنا السببي الإنساني كتاب ماذا لو نجحنا؟ (2024) لعالمة الأحياء البحرية والناشطة المناخية أيانا إليزابيث جونسون. تدعونا جونسون في هذا الكتاب إلى تخيّل المستقبل الذي نريد أن نعيش فيه، والسعي نحوه – كلٌ منا بطريقته، وفي مجتمعه الخاص. تقول: لدينا بالفعل الكثير من الحلول، وما نحتاجه هو التوسيع والانتشار والتطبيق. بهذا المنظور، أعتقد أن هناك أملًا. فبين "ماذا لو نجحنا؟" و"ماذا يمكنني أن أفعل؟" مجرد خطوة صغيرة.
هيا بنا نبدأ في العمل!
(انتهت)
***
........................
الكاتبة: مارييل جودو/ Mariel Goddu: طالبة دكتوراه في الفلسفة بجامعة ستانفورد، كاليفورنيا. عملت كعالمة معرفية ممارسة بين عامي ٢٠١٢ و٢٠٢٢، حيث تركز أبحاثها على التفكير السببي في مرحلة الطفولة المبكرة. حصلت على أول درجة دكتوراه لها في علم النفس التنموي من جامعة كاليفورنيا، بيركلي، عام ٢٠٢٠. يتقاطع عملها الفلسفي مع فلسفة الفعل، وعلم الأحياء، والعقل.

يُمكنُ عدُّ الهوية بأنها عبارة عن مجموعة من السمات التي تسمح لنا بتعريف موضوعٍ معين، فهوية المركب الكيميائي تتحدد بالعناصر الأولية المكونة له، والعلاقة الأساسية التي تقوم بين هذه العناصر، وبالنسبة التنظيمية الخاصة بالمركب. ويعرف (كارديني) الهوية على أنها: نظام من الفعل وعمليات التكيّف مع الوسط الذي يحيط بالفرد، وهو الذي يشكل المصدر الأساسي للقلق الذي يجب على الفرد أن يتجنبه ويدفه عن نفسه، فالفرد كما هو الحال بالنسبة للجماعة الثقافية يبذل جهوداً للتكيّف مع المخاطر التي تواجهه وذلك لخفض درجة قلقه وتوتره.
وتكمن هوية فرد أو جماعة أو ثقافة في رسم الإجابة عن السؤال التالي: من ذلك الفرد، أو هذه الجماعة، أو هذه الثقافة؟ ويمكن للإنسان المعني نفسه بالسؤال أن يجيب، إذ يمكن للإنسان أن يحدد لنفسه صورة هويته وذلك هو نمط الهوية المعلنة ذاتياً، كما يمكن للإجابة أن تعلن بوساطة أحد الشركاء وتلك هي الهوية المعلنة بواسطة الآخر.
وبذلك تتألف الهوية الاجتماعية من مجموعة المعايير التي تسمح بتعريف فرد ما أو جماعة ما على نحو اجتماعي، وهي بالتالي المعايير التي تسمح للفرد باستحواذ وضعيته الخاصة في إطار مجتمعه، وبعبارة أخرى تعني الهوية الاجتماعية السمات والخصائص التي تضفي على الفرد من قبل عدد كبير من الأفراد الآخرين والجماعات الأخرى في المجتمع، ويمثل ذلك إحدى مؤشرات تماسك الهوية الثقافية، وهي هوية اجتماعية معروفة من قبل ممثلها الذي يوافق ويشارك في الحياة الاجتماعية عبر انتماءاته الاجتماعية المتنوعة.
ويتحدث إليكس شيللي في كتابه (الهوية: ترجمة: علي وظفة) عن الهوية المظهرية الشكلية، ويؤكد على أنها عبارة عن هوية يقترحها الفرد أو الجماعة من أجل الآخرين، وهي صورة للهوية تعد بطريقة أكثر أو أقل تطابقاً مع الهوية الحقيقية... وتعد هذه الهوية هوية اجتماعية، أي أنها معدة من أجل الأعضاء المشاركين في إطار الحياة الاجتماعية، ووفقاً لهذه الصيغة يمكن امتلاك عدة أنواع من الهويات المظهرية، صورة منها تعد لجماعات الانتماء، وعندما تعرض هذه الهوية على الآخرين فإنها (كما هو حال أية هوية)، تقتضي نوعاً من السلوك الذي يناسب صورتها، وعندما تكون صورة الهوية المظهرية قائمة على تضمنات الاحترام عموماً فإنها تتطلب سلوكاً يقوم على أساس الاحترام والتقدير والذي يجعل صورة هذه الهوية في مأمن من المفاجآت الممكنة.
فإن السمات التي تحدد الهوية المظهرية هي في أغلب الأحيان سمات عادية متوافقة ونموذجية، وتكمن مهمة الهوية المظهرية واقعياً، في إخفاء الصورة الحقيقية أو الحد من النظرة النقدية للآخرين، ومن أجل ذلك لا يوجد ما هو أفضل من التوفق المبتذل مع المعايير الثقافية الجارية.
***
د. حيدر عبد السادة جودة

(النقطة أصل كل خط، والخط كله نقط مجتمعة. فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط. وكل خط مستقيم أو منحرف فهو متحرك عن النقطة بعينها. وكل ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين. وهذا دليل على تجلي (الحق) من كل ما يشاهد وترائيه عن كل ما يعاين..).. الحلاج
يُسام الفقر بالحاجة. ولولا عفاف الناس وكرامتهم، لما أوعزت إليهم ذات اليد وقلة الحيلة، الوقوع في محظور الشر أو الاقتراب من المعصية الدنية.
ولو كان لخلق الفاقة من دليل، لكفاها أن قيمة النفس الكافية بأخلاقها والصامدة في وجه الملمات والنوازع الشهوانية والغريزية، تعبر كل شديدة وكربة، فوق ما تستطيع وتستوحش. وقد قال الحكماء، "أن الفقير إذا بات في عقارب تلدغه خير له من أن يبيت ومعه المعلوم". كناية على المقدور مما تدبره إرادة العيش، على منحى الموجود والواجد. فهو أبقى لنفسه ولنفسه، من كل لادغة أو فاجعة.
وأعود لتجربة الحلاج مرة أخرى، عند تقاطع طريق الحق مع الصبر على الفقر. وفيه أن الشيخ الرائي كان يوتر الاستبانة بالحق على كل ما يظهر للمخلوق، فيبصر الكفاية بالله والاصغاء إليه بالمحبة والتعبد، ارتقاء بميسم الحق ونبوغه البصيري. ولعله في قوله: " إذا استولى الحق على قلب أخلاه عن غيره، وإذا لازم أحدا أفناه عمن سواه، وإذا أحب عبدا حث عباده بالعداوة عليه، حتى يتقرب العبد مقبلا عليه"، يحدد بالتدقيق مرامي الاحساس بالأمان عند الابتلاء. فالحق قوة خفية مستلهمة، والعقل اقتدار على تحقيق نبل الحقيقة. والاستيلاء لا يتجرد من الهيمنة ولا يبلغها مهما وطأته العداوة، ليتلمس بذلك وعاء الحق قيمته في السعادة الخلقية قبل الخلقية.
ويتساءل الرائي قائلا:" فكيف لي ولم أجد من الله شمة، ولا قربا منه لمحة، وقد ظل الناس يعادونني."، فمهما جرت الوسيلة، زاد التقرب، ومهما بلغت الحيلة اغضى البين أو الشك في الاعتبار وكاشفه الحيز المحذور عتمة المصير والعاقبة.
فحتى معاداة الناس مهما برحت أو طالت، فإننا هي من سعة الحق ونفاذ الحيلة وانقطاع الرجاء. والقيمة المثلى لهذه الدائرة الغامضة، التكشف للحق بالحق، والتقرب لله بالحق، والتشبث بالاقتدار عند باب الخالق.
أما همة المرء عند مجابهة الفقر، فهي الأولى بأسا والاوفر إقبالا عند الصابرين القابضين على الجمر، إذ لو إن مسلك السقم والعلة لا ينثني سوى بالمكابدة والترفع عن الجهل ومغالبة النفس والاقرار بالموجود. يقول الامام علي:" ... وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً، والشر فيه إلاّ إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً.. اضرب بطرفك حيث شئت من الناس: هل تبصر إلا فقيراً يكابد فقراً؟ أو غنياً بدل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً؟ أو متمرداً كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقرأ ..".
فهل تكون للفقر أوبة لمنازلة البدل والعطاء بالإخلاء والتمرد؟ أم تشفع للمكبودين الذين شق عليهم الحال وضيق، آثام التحول المجدور بين من يستبصر بنعمة المآل وتجسد القناعة، ومن يؤاخذ الزمن ويداهنه، ويستعير صفات البخل وأورامه؟.
وعلى هذا المنحى، يصير السؤال مجازا للتوارد بين الناس، فلا يعاب على من يمد اليد لسد الجوع أو يكسر الفاقة، وإن بذل غير راض أو فداحة عيب يعيبها المجتمع ويرفضها. وفي ذلك يقول سيد الخلق: "إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لذي فقرٍ مُدْقِعٍ، أو لذي غُرمٍ مفظعٍ، أو لذي دمٍ مُوجعٍ".
بل إن أكبر من الوازع المجتمعي وبنية الأخلاق فيه، يوجد الإكراه المؤثر على الإرادة، والإذعان القاطع لدورة القدر، حتى إن الرسول الكريم قرن الكفر بالفقر؛ بل إنه قد يسبب الكفر، إذا لم يقترن بإيمان قوي. وهذا الإيمان القوي هو ما عبر عنه الحلاج سابقا "بالحق الذي يجلب الأنس والوحشة" عوض "القبض والحبس"، يقول في ذلك:


أقلب قلبي في سواك فلا أرى
سوى وحشتي منه وأنت به أنسي
*
فها أنا في حبس الحياة ممنع
عن الأنس فاقبضي إليك من الحبس
***

د مصـطـــفَى غَـــلْمَــان

 

هي توطئة لجدل ينعقد بسبب شعور بالكبت وانشطار وعي الازمة، هناك من يعيد الصفة الأسطورية للكلام وتجريد المرموز من ثوبه الكلاسيكي الخادع وإعادة تأهيله في عصر اسلمت السياسة فيه مكانها للاهوت باعتباره مركز اهتمام بشري وجوهر الصراعات، التوسع في التأويل يمثل انسجاما بين العتبة الموضوعية والعتبة الذاتية، لان الماضي هو عتمة في منافذ الفهم، وبهذا يكون العقل المسيطر وبمشيئته هو الذي يضع الانسان في ساحة الاختبار باعتبارها احدى ضرورات الحياة، الامر سيكون متشابكا و لغة التأويل تتجسس على طيفه، في حالة من التشبث والبعثرة في الهويات المتأرجحة، تثير مسارات النقصان في الفهم، والشذرات المتعلقة بالقلق الوجودي والهم الميتافيزيقي تبقى موضوعات متداخلة تتناول الأسئلة العميقة حول الوجود والمعنى، هو شعور بالخوف أو القلق المرتبط بالوجود نفسه، وغالبًا ما ينشأ من التفكير في الموت، العزلة، والحرية ويمكن أن يظهر في البحث عن الهوية أو الهدف في الحياة، مما يدفع الفرد للتساؤل عن معنى وجوده، هذا يتعلق بالمسائل الفلسفية التي تتجاوز التجربة الحسية، مثل طبيعة الواقع، الوجود، والزمن، نستكشف من خلال الأسئلة ما إذا كان هناك واقع مستقل عن وعينا، وكيفية فهمنا للكون وقد يشير إلى تراجع أو فقدان الدلائل أو المفاهيم التي تساعد في فهم هذه الأبعاد. في عالم سريع التغير، يشعر الأفراد بفقدان الإرشادات التقليدية التي توجههم، هذا الاسترجاع يمكن أن يؤدي إلى شعور بالضياع أو عدم اليقين، حيث يصبح من الصعب إيجاد إجابات عن الأسئلة الوجودية والميتافيزيقية، وتتداخل هذه المفاهيم لتشكل تجربة إنسانية معقدة، حيث يمكن أن يؤدي القلق الوجودي إلى تساؤلات تؤدي إلى غموض أكبر في الفهم.
التطور البيولوجي
ساعد التطور البيولوجي الإنسان على التكيف مع بيئات مختلفة من خلال تطوير صفات وراثية ملائمة، مثل القدرة على تحمل درجات حرارة متباينة أو العيش في ظروف قاسية، تطورت بعض الصفات الجسدية مثل القدرة على المشي على قدمين، مما ساعد في تحسين القدرة على التنقل والبحث عن الغذاء، تطور الدماغ البشري وزيادة حجم القشرة الدماغية ساعدا في تحسين القدرة على التفكير، حل المشكلات لكن ليس كل المشكلات...!، والتخطيط، مما ساهم في تطوير أدوات وتقنيات جديدة تطورت القدرات اللغوية والاجتماعية، مما ساعد في تعزيز التعاون والتفاعل بين الأفراد، وهو ما يعد أساساً لبناء المجتمعات وساهم التطور في تعزيز قدرة الإنسان، التنوع الجيني يوفر مجموعة واسعة من الصفات التي يمكن أن تساعد في البقاء في ظل الظروف البيئية المتغيرة، مما يزيد من فرص النجاة بشكل عام، ساهم التطور البيولوجي في تحسين قدرة الإنسان على التكيف مع التحديات البيئية والاجتماعية، مما كان له تأثير كبير على استمرارية النوع البشري، أثر التطور على حجم دماغ الإنسان مقارنة بالحيوانات الأخرى بطرق عدة، يتمتع الإنسان بحجم دماغ أكبر نسبيًا مقارنة بحجمه الجسماني وفيما يتعلق بالتعلم، والتخطيط تطورت مناطق معينة في دماغ الإنسان، مثل القشرة الدماغية، التي تلعب دورًا حاسمًا في الوظائف المعرفية العليا مثل اللغة، الذاكرة والإبداع التفاعل الاجتماعي المعقد الذي يمارسه الإنسان تطلب تطوير أدمغة أكبر وأكثر تعقيدًا، حيث يساعد ذلك في فهم العلاقات الاجتماعية والتواصل مع الآخرين، زيادة حجم الدماغ وتعقيده ساعدا الإنسان على تطوير قدرات فريدة في حل المشكلات، والتكيف مع البيئات المتغيرة بشكل أفضل من معظم الحيوانات التغيرات في النظام الغذائي، ساهمت في دعم نمو الدماغ وتطوره بشكل عام، ساهمت هذه العوامل في جعل دماغ الإنسان واحدًا من أكثر الأنظمة العصبية تطورًا، مما أعطى الإنسان ميزة في التكيف والتفاعل مع البيئة المحيطة به ومواجهة تحدياتها. قدرة الإنسان على التفكير المجرد، التخطيط، وحل المشكلات المعقدة تتجاوز بكثير ما هو موجود لدى معظم الرئيسيات الأخرى، مما يدل على تطور أعلى في الوظائف المعرفية، التطور الاجتماعي المعقد لدى الإنسان يتطلب دماغًا قادرًا على فهم العلاقات الاجتماعية والتواصل، وهو ما يختلف عن الأنماط الاجتماعية الموجودة لدى الرئيسيات الأخرى، تطور دماغ الإنسان ساعده على التكيف مع بيئات اجتماعية بشكل أفضل، مما أدى إلى تطوير أدوات وتقنيات جديدة، وبقيت تحديات الطبيعة هي الشاهد على التكيف الاسطوري مع بيئته.
الدماغ البشري مقارنة بالرئيسيات
اختلافات تطور دماغ الإنسان مقارنة بالرئيسيات الأخرى أثرت بشكل كبير على تطور اللغة والكلام وتعزز القدرة على تكوين الجمل وفهم المعاني .التعقيد المعرفي في الدماغ البشري يمكن الأفراد من التفكير في مفاهيم مجردة، مما يساعد على طرح أسئلة استباقية عن الوجود والمعنى و تطوير لغات تحتوي على معاني معقدة ومجردة، زيادة سعة الذاكرة والتعلم في دماغ الإنسان تعزز القدرة على استيعاب وتذكر المفردات والقواعد اللغوية، مما يساهم في تطوير مهارات التواصل، تطور القدرات الاجتماعية والقدرة على فهم الإشارات غير اللفظية جعلت التواصل أكثر تعقيدًا وثراءً، مما ساعد على تطور اللغة كوسيلة للتفاعل الاجتماعي وتطوير الهيكل الفريد للجهاز الصوتي لدى الإنسان، بما في ذلك الحنجرة واللسان، الذي يسمح بإنتاج مجموعة متنوعة من الأصوات، مما يسهل تطوير لغات غنية ومختلفة، تطور اللغة كان مرتبطًا بالتطور الثقافي وطرح الأسئلة الوجودية الكبرى، حيث استخدمت اللغة لتبادل المعرفة والخبرات، مما أدى إلى تحسين التعاون والتفاعل بين الأفراد القدرة على نقل المعرفة والخبرات من جيل إلى آخر عبر اللغة، هذه الاختلافات في التطور البيولوجي والعقلي ساهمت في جعل اللغة والكلام جزءًا أساسيًا من الهوية البشرية وساهم في التراكم المعرفي وصياغة التحديات، ساهمت الاختلافات في تطور دماغ الإنسان وقدراته اللغوية والاجتماعية بشكل كبير في عدم انقراض البشر ومن خلال اللغة والتأمل، طرح الانسان أسئلته عن الطبيعة والوجود والغاية والتحديات، وكانت الميتافيزيقيا .
دور الصدفة في بقاء البشر عبر التاريخ
دور الصدفة في بقاء البشر عبر التاريخ يمكن أن يُفهم من خلال عدة جوانب التغيرات المناخية المفاجئة مثل الجفاف أو الفيضانات قد تؤثر على الموارد الغذائية. بعض المجتمعات كانت قادرة على التكيف بشكل أفضل مع هذه التغيرات، مما ساهم في بقائها، العديد من الابتكارات والتقنيات تم اكتشافها عن طريق الصدفة، مثل استخدام النار أو الزراعة، مما أثر بشكل كبير على تطور البشرية، انتشار الأمراض قد يكون له تأثيرات غير متوقعة على السكان، بعض المجتمعات كانت قادرة على تطوير مناعة أو طرق علاج، مما ساعدها على البقاء، بعض الهجرات كانت نتيجة للصدفة، مثل البحث عن موارد جديدة، مما أدى إلى استكشاف مناطق جديدة وتحقيق فرص جديدة للبقاء، الصدفة في اللقاءات بين الثقافات المختلفة أدت إلى تبادل الأفكار والتقنيات، مما ساعد في تحسين فرص البقاء والتكيف اكتشاف موارد جديدة، مثل المياه أو الأراضي الخصبة، قد يحدث بشكل غير متوقع، ويؤدي إلى نجاح مجتمعات معينة، بعض التغيرات الجينية التي حدثت بالصدفة ساهمت في تطوير صفات جديدة، مثل القدرة على تحمل ظروف معينة، مما زاد من فرص البقاء بشكل عام، تفاعل الصدفة مع العوامل البيئية والاجتماعية والثقافية ساهم في تشكيل مسار تاريخ البشرية، مما جعلها أكثر تعقيدًا وتأثيرًا على بقاء الإنسان.
التدجين ومنع انقراض الانسان
التدجين هو عملية تم خلالها ترويض الحيوانات والنباتات لتلبية احتياجات البشر. هذا ساعد في تأمين مصادر غذائية مستقرة، مما ساهم في استقرار المجتمعات البشرية وزيادة عدد السكان من خلال تدجين الحيوانات مثل الأغنام والماعز والأبقار، وتطوير الزراعة، استطاع البشر تأمين الغذاء بشكل أفضل، مما ساعد على تعزيز البقاء وتجنب المجاعات، التدجين ساهم في تحسين قدرة البشر على التكيف مع بيئاتهم، مما زاد من فرص البقاء في مواجهة التغيرات البيئية. التطور البشري يعود إلى تفاعلات طبيعية مع البيئة، والتكيف مع التحديات، وليس إلى تدخل كائنات خارجية، البشر استخدموا قدراتهم العقلية والاجتماعية لتطوير الزراعة والتدجين بأنفسهم، مما يعكس قدرة الإنسان على الابتكار والتكيف بشكل مستقل. تشجيع التأمل والفهم الداخلي في المعتقدات التي تعكس الهوية الفردية يمكن أن يساهم في استعادة الإحساس بالدهشة والارتباط بالعالم التأمل يمكن أن يثير تساؤلات وجودية جديدة تمكن الأفراد والمجتمعات مواجهة المعنى بالزهد الفردي واستعادة فهم أعمق للوجود والمعنى.
***
غالب المسعودي

لا يولد الإنسان في عزلة عن محيطه، بل يفتح عينيه على عالم مشبع بمعانٍ مسبقة، وأفكار جاهزة، ومفاهيم مغروسة في اللغة والسلوك والعلاقات. منذ لحظاته الأولى، يدخل في نسيج من القيم والتصورات التي لا يختارها، بل يرثها كما يرث الاسم والجسد. هذه الشبكة التي تحيط به وتوجه إدراكه وتكوّن مشاعره، ليست شيئًا منفصلًا عنه، بل تشكّل جزءًا من تكوينه الداخلي.
إنها الثقافة، الحاضرة بصمت، كاللاوعي الجمعيّ، وروح الجماعة التي تؤثر فينا أكثر مما نتصور.
الثقافة لا تسكن في الكتب ولا في الشعارات فقط، بل في ترتيب الأولويات، في نوع الخوف الذي نشعر به، في شكل الطموح الذي نركض إليه. لهذا يصعب الخروج منها، لا لأنها تقيدنا بالسلاسل، بل لأنها متغلغلة فينا بعمق لا نراه. قد يظن المرء أنه تحرر من ثقافته، لكنه لا يدرك أنه فقط بدّل ترتيب قناعاته ضمن السياق نفسه. حين تقول “أنا مختلف”، فأنت في معظم الحالات تقولها بلغة ثقافتك، لا بلغة آخر.
ومع ذلك، هنالك من يجرّب الخروج. يعلن انفصاله عن الدين، أو عن التقاليد، أو عن مفاهيم ترسخت في مجتمعه منذ قرون. لكن حتى هذا الفعل نفسه، لا يتجاوز ثقافته تمامًا. فالإلحاد - مثلًا - لا يولد من لا شيء، بل غالبًا ما ينشأ كردّ فعل. وغالبًا ما لا يكون موجّهًا إلى “الإيمان” كحالة وجودية، بل إلى النسخة التي عاشها المرء في بيئته: نسخة قاسية، أو متحجرة، أو مثقلة بالتناقضات. فيتخذ موقفًا منها، لا من الإيمان ذاته، ويرفع صوته في وجهها، دون أن ينتبه أن صراخه ذاته يستمد لغته منها. الموقف إذًا، قائم داخل الدائرة، لا خارجها.
هذا لا يعني أن لا أحد يمكنه التفكير خارج الصندوق، لكن الصندوق أحيانًا يكون شفافًا. نتحرك، نظن أننا أحرار، لكن الخطوط ما تزال ترسم حدود رؤيتنا. وعليه، فالحكمة ليست في ادعاء التحرر الكامل، بل في فهم محدوديتنا: في أن نعي أن الانتقال من قناعة إلى أخرى، لا يُخرجنا من الحاجة إلى الإيمان بشيء، بل فقط يغير اسم الشيء الذي نؤمن به.
ليس العيب في أن نتبنى أيديولوجيا، بل في أن نظن أنها الخلاص. الإنسان بطبعه كائن يبحث عن معنى، عن بنية، عن طريق يضع فيه نفسه. وكل أيديولوجيا، مهما بدت شاملة، لا تحيط بالحقيقة كلها. فكل منظومة فكرية تحمل في داخلها نقصًا ما، أو زاوية ظل لا تصلها الكلمات. وهذا لا يقلل من قيمتها، بل يجعلها أداة جزئية في فهم العالم، لا مرآة كاملة له.
لذلك، فإن كثيرًا من محاولات “التحرر الجذري” التي نشهدها ليست سوى تعبير آخر عن رغبة دفينة في التمركز. فالخروج من دين، أو من تقليد، لا يعني الخروج من الحاجة إلى الانتماء. وبدلًا من البدء من العدم، من المجازفة بصنع فكر من الصفر، يمكن للمرء أن يبدأ مما لديه. من الثقافة التي نشأ فيها، من اللغة التي شكلت وعيه، من المفاهيم التي شبّ عليها، وأن يعمل على تنقيتها، تهذيبها، رفعها إلى مستوى يرضي عقله ويطمئن قلبه.
أن تحافظ على ثقافتك لا يعني أن تستسلم لها، بل أن تنضج معها. أن تنظر إليها بعين ناقدة، لا أن تخلعها كما يُخلع الرداء. فالثقافة ليست لباسًا خارجيًا، بل نسيجًا من الداخل. وإن جاز القول: الحكيم لا يترك ماضيه، بل يفهمه، ويصالحه، ويعيد صياغته بما يليق بكرامته العقلية والوجدانية.
وفي النهاية، فإن المرء لا يخسر حين يبقى في ثقافته، بل يخسر حين يظن أن الخلاص في النفي وحده. إذ ليس كل ما يُهدَم يستحق الهدم، ولا كل ما يُبنى من الصفر يكون أفضل. البعض ينشغل طوال عمره في محو ما تلقّاه، وينسى أن يضيف عليه ما يُضيئه.
***
خالد اليماني

في عالمٍ تتشابك فيه الخيوط الخفية بين الثقافة والسلطة، حيث تلتقي الأيديولوجيا بالمنظومات الاجتماعية، تظهر المنابر الثقافية كأمواج بحرٍ هادئ. تسرّب في أعماقها التوجهات التي تخلق واقعًا موازياً. هي ليست فقط مساحات تعبير أو فرص للمبدعين، بل هي أيضًا مسارح للتدجين الفكري واللغوي. تأخذ هذه المنابر شكلها في الكلمة المكتوبة والصوت المسموع، وفي الأفكار التي تُعلن وتلك التي يُتجاهل وجودها تحت مسميات التنوير والتطوير. هي في الحقيقة رقعة شطرنج، يلعب فيها المثقفون كقطعٍ معدّة مسبقًا، ما بين حركات مؤثرة وضغوط هائلة. هذا الواقع لا يُختصر في المجال الأدبي والفني فقط، بل يمتد ليشمل المجال الاجتماعي والسياسي، مما يجعل المنابر الثقافية بوابات تمهد للقبول أو الرفض بناءً على مفاهيم فكرية وأيديولوجية قد تُحكم بأطر ضيقة، ساعية لتشكيل الوعي الجمعي بما يخدم المؤسسات التي تقف وراءها.
تبدو هذه الهيمنة الناعمة، التي تظهر كالشمس المشرقة، وكأنها منارة للحرية الفكرية. ولكن تحت هذه الأنوار الزائفة، تسكن الأسلاك المشدودة التي تقيد الأرواح المبدعة. إنها الفخ الهادئ الذي يتسلل عبر البوابات التي اعتقدنا أنها مفتوحة للمغامرة الفكرية، لكننا نكتشف أن كل نافذة محاطة بجدران غير مرئية، تمارس العنف على الفكر قبل أن تجرؤ كلماتنا على الخروج. بل إن هذه الجدران تتسلل إلى أعماق الوعي، لتزرع فينا الخوف من تجاوزها.
يُفرض على المثقف أن يتقيد بالحدود المفروضة، مما يجعله يُشجع على الانغماس في رتابة الفكر السائد الذي يتم تبجيله. وهكذا، تصبح الحرية الفكرية نفسها عنصرًا مائعًا، غير قابل للتحقق. يتخللها شعور دائم بالمراقبة والرقابة الذاتية، مما يعطل قدرة المثقف على التعبير بصدق أو على التحرر من القيود التي فرضتها المؤسسات الثقافية.
المثقف العضوي، الذي لا يرضى أن يكون مجرد تابع لمؤسسة أو منبر، يصطدم دائمًا بهذه الحقيقة المرة. فهو يسعى دائمًا للهروب من أسر هذه المنابر التي تبدو وكأنها مشغولة بتشكيل العقل الجمعي ليتناسب مع الأيديولوجيات السائدة. يقول غرامشي، الذي عاش هذا الصراع عن كثب: “إن المثقف العضوي هو الذي يرتبط مباشرةً بجماهيره، لا بكتابة أو أفكار محفوظة، بل بمعركة الفكر ضد الهيمنة”. إن هذا المثقف ليس مجرد فردٍ مبدع، بل هو محور تحدٍ جوهري في مواجهة الهياكل التي تفرض علينا خطابات مستهلكة وخططًا تهدف لتصفية الأصوات التي تحمل فكرًا نقديًا حقيقيًا. المثقف العضوي هنا لا يعكس فقط فكره الشخصي، بل هو الرابط الحيوي بين الوعي الفردي والجماعي، رافضًا الانزلاق إلى فخ “المثقف المدجن”، الذي يُقيد حريته في مساحة محدودة ومؤطرة بأطر ثقافية تحجم أفكاره وتوجهاته.
لكن، في صمتٍ بين الجمل والشعارات، يبرز السؤال: هل يمكن لهذا المثقف العضوي أن يبدع في فضاءٍ من هذا النوع؟ أم أن الفضاءات الثقافية المُشتركة في تخليق الرموز تصبح مؤسسات طاردة للحرية؟ وهنا، يلمع من بعيد، مثل شعاع ضوء في الظلام، قول ميشيل فوكو: “السلطة ليست فقط في يد الحكومة، بل تتناثر في شظايا عبر المساحات الاجتماعية والثقافية”. هذا التفتيت للسلطة يظهر كيف أن كل منبر ثقافي هو جزء من شبكة أوسع من الأيديولوجيات التي تعمل على صياغة “الخطاب المقبول”. وهكذا، تجد المحاولات الحقيقية للخلق، تلك التي تزعزع الركائز الهشة للثقافة السائدة، نفسها خارج سياقات القبول العام. في كثير من الأحيان، يُجبر المثقف على الاختيار بين الخضوع للسلطة الثقافية السائدة أو العيش على هامش تلك الثقافة. كأن الانزلاق إلى الفضاء الثقافي السائد يتطلب التنازل عن الأصالة والانحراف عن قيم الإبداع الحر، فتصبح المساحات الممنوحة للمثقف داخل هذه المنابر ثقوبًا ضيقة يصعب التنفس منها.
المثقف العضوي، في هذا السياق، يصبح صوته الداخلي المتعدد، سعيه المستمر للهروب من الدائرة المغلقة التي تفرض عليه كلمات محدودة وأفكار متشابهة. هل يمكن له أن يعيش في هذه المتاهات الثقافية ويظل كما هو؟ لا شك أنه سيواجه معركة دائمة بين فرديته وبين محاولات تطويعه لجعل صوته ينسجم مع اللحن الذي تفرضه المؤسسة الثقافية. الإبداع الحقيقي في هذه المساحات ليس سهلاً، بل هو مواجهة مستمرة مع الزمن والأفكار الجاهزة، إذ يصبح الابتكار صراعًا مريرًا ضد معايير مفروضة. لكن رغم ذلك، يجد المثقف العضوي نفسه مضطرًا أحيانًا، رغم محاولات التحرر، للركض في حلبة تلك المعايير، محاولًا التسلل منها بطرق مبتكرة. هذا النضال المستمر ليس فقط من أجل الظهور في هذه المنابر، بل أيضًا من أجل الحفاظ على كينونته الفكرية من الانحلال أو التذويب في الثقافة الرسمية التي تسعى لقمع الصوت الفردي.
وهكذا، يبقى السؤال قائمًا: هل يستطيع المثقف العضوي أن يستمر في تقديم الإبداع الحُر في فضاءٍ ثقافي مُسطح؟ أم أن الفضاء نفسه هو الذي يقيد إبداعه، محيلًا إياه إلى سجين داخل جدرانٍ غير مرئية؟ ما يطرحه هذا السؤال ليس فقط عن الحرية، بل عن الشكل الذي تتخذه هذه الحرية داخل هيكل ثقافي مترابط، حيث يظل الصوت الفردي همسًا، ضائعًا وسط زمجرة الصخب المؤسسي. في هذا المجال، يظل لسان الفيلسوف الأرجنتيني هوغو غوتيريز حيًا: “الإبداع هو المقاومة؛ والتقيد هو الخضوع”. هذا القول، الذي يربط بين الإبداع والمقاومة، يضع المثقف في موقع دائم التحدي ضد الهياكل الثقافية السائدة. لا يجب أن تكون المقاومة على شكل رد فعل، بل كحركة متجددة نحو التجديد، حيث يظل الصوت المبدع مستمرًا رغم محاولات العرقلة، والحرية تتجسد في هذا التمرد المستمر على الأطر الضيقة التي تصوّب نحو قمع الفكر والتعبير.
من هنا، يتضح أن المثقف العضوي، في معركته الفكرية هذه، لا يعيش في عزلة عن الواقع، بل هو في قلبه. يتنفس من خلاله، يخلق ويمزج بين ما هو فردي وما هو جماعي. لكنه يظل في صراع دائم من أجل تلوين هذه الفضاءات الثقافية بألوانه الخاصة، التي ترفض الانصياع للترتيب الذي يفرضه المجتمع أو الثقافة المؤسسية. وبالتالي، لن تظل هذه المنابر مجرد مساحات لتعبير حر، بل تتحول إلى محيطات هائلة من الدوائر التي تتحكم في مجريات الفكر. وتظل القدرة على الإبداع هي القوة الوحيدة التي ترفع الأصوات خارج الحواجز المرسومة.
***
إبراهيم برسي

الفن ضحية.. والمجتمع شريك!

رمضان لا يأتي فقط بالمسلسلات والضجيج، بل يحمل معه أسئلة تشق جدران الواقع، تُحركها دراما تلامس المسكوت عنه. هذه المرة، عادت فتوى "تجسيد الصحابة" لتُحيي نقاشًا قديمًا أشبه بصراعٍ بين نصٍّ متحجِّر وعقلٍ يحلمُ بالتحليق. ليست هذه المرة الأولى التي تُعلن فيها الهيئات الدينية حربًا على الفن، ففي تسعينات القرن الماضي، أُطلقت فتوى غريبة: "مشاهد الزواج في الدراما زواجٌ شرعي"! وكأن محمود ياسين إن نطق بـ "أوْجبتِ" أمام مأذون وهمي، أصبحت نجلاء فتحي زوجةً شرعيةً تُورَث وتُطلَّق!
العلماء الذين أصدروا هذه الفتاوى ليسوا أشرارًا، بل هم – كما يصفهم البعض – "حراسٌ مخلصون" لمعبد يخشون انهياره. استندوا إلى حديث يُحذِّر من استهانة البشر بثلاثة أمور، أحدها الزواج. لكن هل يعقل أن تتحول الكوميديا بين طالبين في الجامعة إلى عقدٍ شرعي لمجرد تلفظهما بكلمة؟ هنا يتحول الدين إلى لعبة "أحاجي منطقية" تُمارس في الفراغ، بمعزل عن روح النص ومقاصده.
المعضلة ليست في الفتوى ذاتها، بل في العقلية التي تنتجها: عقليةٌ ترفض أن ترى العالم إلا من ثقب المفتي. إنها رؤية تختزل الحياة في حروف النص، وتُلغِي السياق، والنية، والواقع المتغير. هؤلاء "المحافظون المتجمدون" – كما يُسميهم النقاد – يسكنون قلوبًا خائفةً من أن تتحول الشريعة إلى كيانٍ مرنٍ يتنفس مع العصر. هم أبناء مدرسة ابن حنبل التي انتصرت للنقل على حساب العقل، وأغلقت باب الاجتهاد منذ قرون، وكأن الزمن توقف عند لحظة تاريخية قرر فيها "الكيان الغامض" المسمى بـ"الأمة" أن يتحول الدين إلى متحف تُحفظ نصوصه في فورميكا!
المفارقة الساخرة أن هذه الفتاوى تتحدث عن "حماية الشريعة" بينما تترك الشريعة الحقيقية تُداس في واقعٍ يعج بالظلم الاجتماعي والاقتصادي. لماذا لا نسمع صوت هيئة كبار العلماء مرتفعًا حين تُنتهك حقوق النساء في المحاكم، أو حين تُنهب أموال اليتامى، بينما يتحولون إلى "فيلق خارق" لمحاربة مشهد زواجٍ درامي؟
الدراما هنا ليست مجرد مسلسلات، بل مرآةٌ تكشف ازدواجية الخطاب الديني الرسمي. فبينما يُصر الفقهاء على حرفية النص، يعيش العالم في عصرٍ صارت فيه الصورة لغة العصر، والخيالُ جسرًا لفهم الواقع. كيف يمكن لدينٍ أن يبقى حيًا إذا رفض التعبير عنه إلا بلغة القرون الوسطى؟ إن إغلاق باب الاجتهاد يعني تحويل الإسلام إلى دينٍ أحفوري، يُقدس الماضي ويخاف من المستقبل.
نحن أمام معركة وجودية: هل الدين نصٌ يُراد منه التحكم في البشر، أم رسالةٌ تُحررهم؟ حين يتحول الحب في الدراما إلى جريمة، والزواج إلى إشكالية فقهية، فإننا ندفع بجيلٍ كامل إلى الهروب من الخطاب الديني برمته. الفتاوى المتشددة لا تحمي الدين، بل تجعله سجنًا بدلًا من أن يكون حديقةً للروح.
ربما حان الوقت لكي نعيد الاعتبار إلى "المسرح الإلهي" الذي نحن جميعًا ممثلون فيه. مسرحٌ لا يُحركه خوفٌ من الله، بل حبٌ للحياة، وإيمانٌ بأن الفن – كالدين – يمكن أن يكون جسرًا نحو السماء.
لا يكتمل الحديث عن صدام الفتوى مع الفن دون الغوص في أعماق الهُوية الممزقة بين قداسة النص وضرورات العصر. فالصراع ليس مجرد خلاف على مشهد زواج أو تجسيد شخصية تاريخية، بل هو معركة وجودية حول من يملك حق تشكيل وعي الجمهور: هل هو الخيال الحر الذي يلامس الأسئلة المُعقَّدة، أم سلطةٌ ترفض إلا أن ترى العالم من خلال نصوصٍ جامدة؟
رمضان، بوصفه موسمًا ثقافيًّا تتصادم فيه كل التناقضات، يتحول إلى مرآة عاكسة لصراعٍ أعمق. فالمسلسلات التي تُنتقد لـ"خروجها عن المألوف" ليست سوى جزء من سؤالٍ أكبر: مَن يُمسك بمفتاح تفسير "المألوف" ذاته؟ حين تُدان دراما لأنها تجسِّد الصحابة، أو لأنها تقدم الحب كعلاقة إنسانية طبيعية، فإن السؤال الحقيقي هو: هل يُسمح للفن أن يعكس تنوع الحياة، أم يجب أن يتحول إلى خطابٍ وعظي منمط؟
هنا تبرز مفارقةٌ مأساوية: فبينما تُحارب بعض الفتاوى مشهدًا دراميًّا عن حب أو زواج، تُهمَل قضايا اجتماعية حقيقية كزواج القاصرات أو التحرش الجنسي، وكأنَّ "الخطيئة" الوحيدة هي ما يظهر على الشاشة، لا ما يحدث خلف الأبواب المغلقة.
الفتاوى المتشددة ليست نتاج اجتهادٍ ديني بقدر ما هي تعبير عن عقلية حبيسة التاريخ. فإغلاق باب الاجتهاد منذ قرون - تحت ذريعة "حماية الدين" - حوَّل الفقه إلى فقاعةٍ معزولة عن تحولات الواقع. لو كان ابن حنبل أو الشافعي بيننا اليوم، لربما اختلفت تفسيراتهم جذريًّا، لكنَّ الخوف من المرونة جعل "القديم" مقدسًا، و"الجديد" مُشبوهًا.
هذه العقلية لا تُحارب الفن وحده، بل تُحارب الإنسان ذاته. فحين يُختزل الدين في حُكمٍ فقهي، ويُحظر النقاش حول مقاصد الشريعة، تُسرَق الروح الإنسانية من الدين، ويُحوَّل إلى مجموعة أوامر تُنفَّذ بلا وعي.
المأساة الأكبر أن هذه الفتاوى تلقى رواجًا اجتماعيًّا لا يُستهان به. فجزء من الجمهور - بفعل التربية الدينية السطحية -يرى في الفن تهديدًا لأمنه الروحي، لا تعبيرًا عن أسئلته الوجودية. هذا التحالف غير المُعلَن بين "الخطاب الديني المتشدد" و"الوعي الجمعي الخائف" يخلق بيئةً خصبةً لتصوير الفن كعدو، بدلًا من اعتباره حليفًا في معركة بناء إنسانٍ متكامل.
هل هناك مخرج؟
لا يكفي انتقاد الفتاوى؛ فالنقد وحده لا يبني بديلًا. المخرج الحقيقي يبدأ بإعادة الاعتبار إلى "المقاصد" بدلًا من "النصوص"، وإلى "الروح" بدلًا من "الحروف". فالدين لم يُخلَق ليكون سجنًا للخيال، بل نورًا يُضيء طريق الإبداع.
علينا أن نتذكر أن الإسلام العظيم استوعب في تاريخه أقصى درجات التنوع: من تصوف ابن عربي الذي حلَّق في سماوات الخيال، إلى فلسفة ابن رشد التي انصهرت مع العقل اليوناني. فلماذا نسمح اليوم لخطابٍ مُتحجِّر أن يختزل هذا التراث الهائل في فتاوى تُحاصر الفن؟
ربما يكون الفن -بجرأته - هو الدعوة الأقوى لإعادة فتح باب الاجتهاد، ليس عبر مواجهة الدين، بل عبر إحياء جوهره الإنساني الذي يجمع بين الأرض والسماء. فالفنانون - مثل الصوفية --يبحثون عن الحقيقة عبر أسئلةٍ لا تُجيب عنها الفتاوى، لكنها تُحرك الروح نحو آفاقٍ أرحب.
الخوف على الدين لا يحميه، بل يُحنِّطه. أما الخوف على الإنسان — بإنسانيته — فهو الجدار الوحيد الذي يستحق أن نرفعه.
***
د. عبد السلام فاروق

من معوقات تكوين وتمكين أي مشروع ثقافي لإنسنة الوجود البشري في المجتمع العربي المعاصر، هو ان العاطفة في الشخصية العربية هي التي تهيئ للعقل أجواء التفكير، وهي ذاتها التي تكتب القرار العقلي بعد تهدئة الإنفعال ودخول مرحلة الموضوعية.
والموضوعية مادة غير متوفرة بما يكفي في نظام العلاقات الإجتماعية، عدا نفر من العقلاء الذين لا يشكلون سوى نسبة بسيطة في مجتمع تُعرض عليه يومياً أنواع السلع والأفكار والخدمات والثقافات، بحيث لا يسع الإنسان الإعتيادي ان يتعامل مع هذه العروض بغير العاطفة والإعتقاد الذي يتولد عنده جرّاء تعامله مع هذه الفكرة، وإستخدامه لتلك السلعة.
فهل الوعي العاطفي مجرد تجربة ذاتية؟
وفي عصر التقنية الرقمية، هل يهمنا ما إذا كانت المشاعر التي نتبادلها مع بعضنا حقيقية أم هي مجرد محاكاة؟
هل يمكن هندسة الوعي العاطفي رقمياً بطريقة تجعل الناس يتفاعلون معه كما لو كان حقيقياً؟
قد يكون هناك مشروع لأتمتة المشاعر، وقد ينجح هذا المشروع في المستقبل، ليس لأن الآلة لها مشاعر بل لأن الإنسان المعاصر، الواقع تحت ضغوط الحياة اليومية المادية الصعبة، سيكون أكثر إستعداداً لقبول وهم الآلة العاطفية.
في ضوء ذلك، هل ستصبح الآلة الرقمية جزءاً من التجربة العاطفية اليومية للإنسان في زمان يعلو فيه صوت التفاهة؟
يحتاج كل إنسان في علاقته بمحيطه الإجتماعي وفي علاقته بالسلطة الحاكمة الى الشعور بالأمان والشعور بإحترام الذات. في حال عدم إستقرار هذين الشعورين تحديداً لأسباب يرتبط معظمها بسياسة السلطة الحاكمة وبنظامها الإداري، فإن الثقافة تواجه مشكلة كبيرة جداً تتمثل في مدى قدرتها على تهيئة أجواء مناسبة لنمو هذين الشعورين عند كل شخص. يكمن حجم المشكلة الكبير في ان الحكومات لا تنظر الى هذه الحاجة عند المواطن من موقع المسؤولية والحكمة بقدر ما تنظر اليها من موقع السيطرة والتحكم، فهي تفرض العقوبات على من يهدد الأمن، وتعاقب من يسيء إحترام الآخر. في مثل هكذا جو لا تنمو ثقافة طبيعية في المجتمع، لكن قد تنمو طباع جديدة وعادات جديدة وبالتالي تظهر جراء ذلك ثقافة جديدة، يأتي ضررها في إحتمالية أنها لا تحفز على نمو وتكوين الشخصية ومداراتها من الناحية النفسية بقدر ما تحفز على تقبل الوضع الراهن، في هذا الجو من تقبل الواقع تظهر مشاريع تستثمر حاجة المواطن الى تحقيق هذين الشعورين، فنسمع عن أجندات ثقافية لحركات ومنظمات سياسية تروج لنفسها إعلامياً وتركب موجة المشاعر الجماهيرية للوصول الى شواطئها الخاصة التي كثيراً ما تكون بعيدة عن مسار طبيعة المجتمع، فتظهر نتيجة ذلك حالة من عدم الرضا عند الناس ينجم عنها فقدانهم الشعور بالأمان وبالتالي إفتقادهم الى الشعور بإحترام الذات، وهنا تصبح ميول الناس أقرب الى الدين كونه قوة فاعلة تراعي هذين الشعورين، أما الثقافة فإنها لم تفلح لحد الآن في أن تكون قوة بموازاة قوة الدين وقوة السياسة.
لعل ما يفسر عدم ظهور الثقافة كقوة حاضرة الى جانب حضور قوة السياسة وقوة الدين في المجتمع العربي، هو ان الثقافة لم تنجح لحد الآن في إكتشاف الطريقة الأقرب الى تفاعل الجماهير وتحريكهم في إتجاه وعي واقعهم وإثارة حسهم المسؤول في النهوض بهذا الواقع. من ذلك مثلاً ان التظاهرات والإحتجاجات الشعبية كثيراً ما تنطبع بطابع تقليدي مرتبط بالحاجات الخدمية أكثر من إرتباطها بالحاجات الثقافية. بمرور الوقت تمكنت قوة السياسة من إحتواء مضامين تلك الإحتجاجات والتظاهرات، إذ لم تعد التظاهرات قادرة على تغيير الواقع السيء. هذا من الناحية الميدانية في علاقة الناس بالسلطة الحاكمة، أما من ناحية علاقة الناس ببعضهم
فإن منظومة القيم والأخلاق والمثل العليا لم تعد مطلقة كما في السابق. فهي اليوم نسبية في ظل نظام عالمي يسلّع كل شيء. هنا تكمن معاناة المجتمعات العربية المعاصرة، لأنها لا تزال تنظر الى القيم والأخلاق نظرة مطلقة، بينما تضطرهم تفاصيل الحياة اليومية الى إعتماد نسبيتها.
بالنظرة الأفقية للتفكير البشري في عصر الآلة، فإن التسليع ماضٍ، وهو يتطور الى الحد الذي يتدهور فيه الإنسان تماماً. عندها ستصبح الآلة الرقمية صديقة له، بل لعله يستبدل بها أصحابه ومقربيه في جو المعنى الرقمي للصداقة الذي تشيعه المواقع الالكترونية للتواصل الإجتماعي.
وسيستمر النظام العالمي في تسليع كل شيء الى ان يتحول الإنسان الى مستهلك ( بكسر اللام) ومستهلك ( بفتح اللام) في آن واحد، بحيث تتآكل العلاقات الإنسانية النقية ، عندها ستكون الآلة بديلاً أكثر مقبولية. وسيصبح طرد عائلة فقيرة لا تملك سكناً في وطنها بسبب فقرها المدقع، من منزل شيدته على ارض تعود ملكيتها لإحدى مؤسسات الدولة، إجراءً قانونياً سليماً تنفذه قوة عسكرية أمام صراخ وبكاء النساء والأطفال دون تقديم بديلٍ عاجل وآمن لهم.
مما يعرقل دور الثقافة العربية المعاصرة في تنقية الجو الإجتماعي، هو تلوث الجو العام لمناخ العالم العربي سياسياً وإقتصادياً وأمنياً، وهو ما يضطر أبناء المجتمع الواحد الى التأثر بهذا الجو الملوث، هذا يعني ان الجو الثقافي الذي نعيشه اليوم ليس نقياً وصافياً بالقدر الكافي الذي يسمح للناس بأن يتنفسوا ما يملأ صدورهم فهماً وعلماً ووعياً وثقافة. إن أكثر ما يلوث الجو العام لأي مجتمع هو التضارب والتصارع بين أفراده على المكاسب والمناصب وتركهم السعي وراء النضج العقلي والنضج النفسي والعدالة الإجتماعية.
لعلي لا ابدو متشائماً اذا ما ذهبت الى إن تحقيق النضج العقلي والنضج النفسي في أيامنا هذه قد لا يجعل من مهمة الثقافة المعاصرة في تحديث الواقع وتصحيح أخطائه مهمة ميسرة، ذلك لأن قوة المال اليوم تفرض حضورها وقدرتها على إصطناع ثقافة من شأنها أن تبتلع مفهوم الإنسانية بإجراءات قانونية تنفذها قوة المال بغطاء سياسي وبمزاجية رسمية.
تواجه الثقافة العربية المعاصرة محنة شديدة ترتبط بجوهر عملها الإنساني، فماذا تستطيع فعله أمام قوة العصر الجديدة وهي المال المتنفذ الذي بات يشتري كل شيء، ويقدم عروضاً مغرية لمن يبيع إنسانيته وضميره وذمته وأخلاقه ودينه. يبدو من خلال واقع حال المجتمعات العربية ان دور الثقافة المعاصرة دور معقد للغاية، لأن الإيمان بقدرة العقل البشري على التطوير ، بات يرافقه شك في سلامة التفكير في ما يتعلق بتزكية هذه الجهود، هل إنها تصب في صالح إنسانية الإنسان، وانها لا تمضي به الى عالم الأشياء الذي يتساوى فيه الكائن الحي مع الموجودات والأجهزة الآلية والرقمية.
***
د. عدي عدنان البلداوي

انشغل الإنسان عبر العصور بتأمل ظواهر إرادة البقاء لدى الموجودات من أوجه متعددة: علمية، فلسفية، سيكولوجية، بل وحتى دينية ووجودية، ساعيًا لفهم هذا الميل العميق الذي يشترك فيه كل كائن حي. شوبنهَور، الفيلسوفُ الألماني، مثال بارز. كتبَ عن الإرادة، والشهوة، والغريزة، وكذلك فعل الكثير من الفلاسفة والعلماء الذين تناولوا هذه الظاهرة وكيف تؤثر على سلوك الإنسان وطريقة تفكيره، والقيمة التي يُضفيها على ذاته.
رغم كثرة المقاربات التي تناولت إرادة البقاء، يبدو لي أن سؤالًا جوهريًا ظلّ بعيدًا عن مركز الاهتمام: لماذا تميل الموجودات أصلًا إلى البقاء؟ ولماذا تتشكّل هذه الغريزة بهذا النحو دون غيره؟ أو لأطرح السؤال بشكل مختلف: لماذا لا تتشبث الموجودات بالعدم؟ لماذا الإرادة – التي تشمل غريزة البقاء – هي الأصل، والفعل الأكثر ثباتًا في كلّ الوجود؟
تاريخيًا، وجدت حجج أنطولوجية عديدة تثبت وجود مصدرٍ رئيس، وباعث، وواجب لهذا الوجود. لكنها غالبًا ما تجاوزت جوهر المسألة: سؤال الوجود بما هو وجود، وتشبّث الموجودات به.
هذه الأسئلة أفسدت علي سكينتي لسنوات. وفي كل مرة، كان عقلي الفطري يوبّخني: ما هذه الحماقة؟ "لماذا الوجود وإرادته؟'، لكنني وجدتُني أكتب أخيرًا ما كان يعصر ذهني.
أدركت أن السؤال أعمقُ من سائر الأسئلة الفلسفية الأخرى المتعلقة بموضوع الوجود والعدم من حيث كنههما، لا من حيث التجربة الإنسانية فقط، رغم أن التجربة الإنسانية هي أقوى تجلٍّ لهذه الإرادة، وأسطعها: إرادة الخلود!
هنا بدأت تتبلور لديّ فكرة مفادها: أن الميل إلى البقاء لا يُفسِّر من الناحية المادية الغريزية فقط، بل هو تعبير عن جوهر الوجود، الذي نحن انكشافاتٌ له في فضاء العالم.
أي: ما نسمّيه غريزةً بلغة العلم الحديث، إنما هو – في أحد أوجهه – إعلانٌ عن أسبقيّة الوجود على العدم؛ عن أحقية الحضور في أن يكون الأصل. العدم، مهما بدا واقعياً، كونُ كلَّ شيءٍ إلى الفناء، يظل حبيس تجربة الوجود، لأن لا معنى للعدم والموت دون وجود يسبقه.
قولنا إنّ "العدم أصل"، كقولنا إنّ الظلَّ يسبق النور؛ فالعدم، شأنه شأن الظل، لا يظهر فاعلًا في الواقع، بل تصوّرٌ ذهنيّ يُدرك بنقيضه–الوجود.
ويمكن الاصطلاحُ على هذه الفكرة بـ «مبدأ بقاء الوجود»، لكن هنا دلالة الكلمة مختلفة مثلما أشرنا فيما سبق، فهي ليست استدلالًا منطقيًا صرفًا، بل هي حجّة عقلية، أقرب إلى البداهة، تخرج من تجربة الإنسان في العالم وتأملها، والكل متأمل، لكن القليلَ من يتأمّلون في تأمُّلهم!
هذه الحجّة – إن شئتم – لا تدل على أسبقيّة الوجود من الناحية الزمنية، ولا تدل على حدوث العالم، بل هي تذهب أبعد من ذلك، إلى بناء شبكة مفاهيم تعبر وتشير إلى أن الحياة بما هي حياة، شيئًا مثيرًا للدهشة منذ انبثاقها.
ولا نقف عند هذا الحد، بل نذهب إلى أبعد من ذلك، في التأمل في إرادة البقاء والغريزة وإرادة الخلود، التي نعرف أن العلم أخذ شوطًا مُعمَّقًا في فهمها. لكن أؤمن بأن الأسئلة تسبق المعرفة وتوجّهها. وهذا السؤال – بسبب طابعه الفلسفي، والذي لم يُطرق له من الزاوية التي أشرنا إليها – يُعدّ ولادةً لمفهوم دلالي جديد: أن الوجود، بإرادته المتأصّلة، هو الأصل، لا العدم.
وهذه الإرادة ليست خوفاً من الموت، أو الفناء أو العدم، بل هي تعبيرٌ جليٌّ عن انسجام الموجودات مع الأبد!
***
خالد اليماني

قبل بضعة عقود، كنا نقرأ الكتب بتمعن، نخوض نقاشات طويلة دون مقاطعة، ونجد متسعًا للتأمل في صمت. أما اليوم، فقد أصبحت حياتنا سريعة، متشظية، ومُستباحة. في قلب هذا التحول تقف شركات التكنولوجيا العملاقة: غوغل، فيسبوك، وأمازون. هذه الشركات لم تكتفِ بتحويلنا إلى مستخدمين، بل جعلتنا وقودًا لآلة اقتصادية ضخمة، تحوّل كل لحظة من حياتنا إلى بيانات تُباع وتشترى.
لكن الأمر لا يقتصر على مجرد جمع البيانات أو انتهاك الخصوصية، فهذه الشركات تعيد تشكيل وعينا وسلوكنا بطرق أكثر عمقًا مما نتصور، كما أشار المفكر الألماني العميق بيونغ تشول هان، الذي يرى أن هذه العولمة الرقمية تسطّح الفكر، وتقتل التأمل، وتحوّل الإنسان إلى كائن متعب، غارق في بحر من المعلومات المبعثرة، دون قدرة على الغوص في المعنى الحقيقي للحياة.
تجزئة العقل وفقدان العمق
قبل عصر الإنترنت، كان الإنسان قادرًا على التركيز لساعات، سواء في قراءة كتاب، أو في كتابة مقال، أو حتى في تأمل الطبيعة. أما الآن، فنحن نقفز بين عشرات النوافذ والتطبيقات، ننتقل من إشعار إلى آخر، نقرأ الأخبار في عجالة، ونستهلك المحتوى كما لو كان مجرد وجبات سريعة.
غوغل، بفلسفتها القائمة على سرعة الوصول إلى المعلومة بدلًا من فهمها، جعلتنا نبحث عن إجابات جاهزة بدلًا من طرح الأسئلة العميقة. أما فيسبوك، فقد حول حياتنا إلى سلسلة من المنشورات السطحية، تغذي الحاجة إلى الإعجاب أكثر من الحاجة إلى الفهم. وأمازون، فبإغرائها الدائم لنا بالاستهلاك الفوري، جعلت كل شيء متاحًا بكبسة زر، لكنها في المقابل جرّدت الأشياء من قيمتها العاطفية، وأفقدتنا متعة الانتظار والتطلع.
الإنسان المستباح: حين تصبح حياتنا منتجًا
إن كان القرن العشرون قد شهد تحوّل الإنسان إلى ترس في آلة الإنتاج الصناعي، فإن القرن الحادي والعشرين جعله مجرد منتَج رقمي، تُستخرج منه البيانات ليعاد بيعها. فيسبوك لا يقدم لك منصة مجانية للتواصل بقدر ما يحوّلك إلى مُنتَج يبيعه للمعلنين، أما غوغل، فهي تعرف عنك أكثر مما تعرفه عن نفسك، وأمازون، فتراقب عاداتك الشرائية بدقة تجعلك مكشوفًا بالكامل.
كما يحذّر بيونغ تشول هان، فإننا دخلنا مرحلة جديدة من “الرأسمالية الرقمية”، حيث لم نعد نعمل لصالح رؤسائنا فقط، بل أصبحنا نعمل بلا وعي لصالح خوارزميات ضخمة، تستهلك طاقتنا العقلية، وتجعلنا متصلين دائمًا، غير قادرين على الانفصال أو الاستراحة.
مرضى العصر الرقمي: إجهاد مستمر دون راحة
إنسان اليوم ليس فقط متعبًا، بل يعاني من إرهاق لا مرئي. نحن لم نعد نعيش وفق إيقاع الطبيعة، بل وفق إيقاع الإشعارات والتنبيهات والرسائل الفورية. كل لحظة صمت تبدو وكأنها “وقت ضائع”، وكل محاولة للابتعاد عن الشاشة تُشعرنا بالذنب.
منصات التواصل الاجتماعي لا تمنحنا سعادة حقيقية، بل تدفعنا إلى سباق لا ينتهي من المقارنات، حيث نرى حياة الآخرين كأنها أكثر إشراقًا، فيما نشعر بأن حياتنا ناقصة. أما الإدمان على التسوق الإلكتروني، فقد حوّلنا إلى كائنات تلاحق التخفيضات دون حاجة حقيقية، فيما تزداد المخلفات الإلكترونية والتلوث البيئي.
هل يمكن الهروب من هذا الفخ؟
قد يبدو العالم الرقمي قدرًا لا مفر منه، لكن الوعي بهذه المشكلة هو الخطوة الأولى لمقاومتها. لا أحد يطلب منا أن نهجر الإنترنت تمامًا، لكن علينا أن نستعيد العمق المفقود:
1. القراءة ببطء: بدلًا من التهام الأخبار بسرعة، حاول أن تقرأ كتابًا بتمعن، بعيدًا عن التشتيت.
2. تقليل الإشعارات: أعد ضبط هاتفك ليعمل لصالحك، لا لصالح الشركات التي تلاحق انتباهك.
3. التواصل الحقيقي: استبدل بعض محادثاتك الرقمية بلقاءات وجهاً لوجه.
4. التأمل والفراغ: لا تخف من لحظات الصمت، فهي ضرورية لإعادة ترتيب أفكارك.
5. التحكم في استهلاكك: فكر مرتين قبل أن تشتري شيئًا لمجرد أنه ظهر لك في إعلان.
العالم الرقمي ليس شرًا مطلقًا، لكنه مصمم ليسلبنا انتباهنا ووقتنا. وإذا لم ننتبه، فقد نصبح كائنات متعبة، متصلة دائمًا، لكنها فارغة من الداخل.
الآن، السؤال لك: هل ستسمح لهذه الشركات أن تحدد كيف تفكر وتعيش؟ أم أنك ستستعيد السيطرة على حياتك؟
***
ذ. يونس الديدي - كاتب مغربي متخصص في تحليل الخطاب

 

بين نقد السلطة وإعادة تفكيك أساطير السياسية والثقافية

في خضم الصراع السوداني المستمر منذ 15 أبريل 2023، بين قوات مليشيا السريع ومليشيا الجيش السوداني المستلب من الجبهة الإسلامية، يجد المثقف السوداني نفسه في مأزق تاريخي يكشف عن عمق أزمته، لا بوصفها أزمة موقف فحسب، بل بوصفها جزءًا من البنية الكلية التي أنتجت هذا الصراع.
لقد أصبح المثقف، الذي كان يُنتظر منه أن يكون مرشدًا للوعي، جزءًا من معارك فكرية جانبية لا تزيد المشهد إلا تشرذمًا، مما يكشف عن هشاشة التصورات التي تحكم وعيه السياسي والاجتماعي.
إذا كان أنطونيو غرامشي قد رأى في المثقف العضوي ذاك الذي يتصل بالجماهير ويعيد تشكيل وعيها، فإن المثقف السوداني، في هذه اللحظة، يبدو وكأنه قد استقال من دوره التاريخي، أو بالأحرى، قد أُجبر على أن يكون امتدادًا لصراعات السلطة بدلًا من أن يكون ناقدًا لها.
لكن هذه الاستقالة ليست مجرد خلل فردي أو ضعف في الإرادة، بل هي نتاج تاريخ طويل من التشظي الأيديولوجي، ومن انخراط المثقف في شبكات السلطة، سواء عبر سياسات الاحتواء أو عبر إقصائه من المجال العام.
وهنا تبرز أسئلة أعمق: هل كان المثقف السوداني يومًا ما خارج هذه الدوامة أصلًا؟ أم أن مفهوم “المثقف المستقل” ذاته هو مجرد بناء مثالي لا وجود له في واقع تتحكم فيه بنى الدولة العميقة؟
إن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في انحياز المثقفين إلى أحد طرفي الصراع، بل في كيفية تحولهم إلى أدوات خطابية داخل هذا الصراع نفسه.
فالعديد من المثقفين الذين كانوا يحلمون بوطن ديمقراطي، وجدوا أنفسهم في لحظة ما أمام خيانة العسكر للشراكة الهشة مع القوى المدنية، مما أصابهم بإحباط عميق جعلهم يتنقلون بين مواقعهم الفكرية دون وعي نقدي.
ومن جهة أخرى، هناك من تحركه دوافع تاريخية للثأر من المركز، متجاهلًا أن العدو الحقيقي هو التحالف بين الجبهة الإسلامية والانتهازيين الذين التفوا حولها، وحركات الكفاح المسلح التي تحولت إلى مشاريع ارتزاق، لا مشاريع تحرر.
إن هذا التوزع الفكري لا يمكن فهمه دون العودة إلى تاريخ طويل من إعادة إنتاج الهيمنة في السودان.
فمنذ الاستعمار البريطاني، مرورًا بالحكومات العسكرية المتعاقبة، ظل المثقف في موقع المتلقي أكثر منه في موقع الفاعل.
إن أحد أبرز الإشكالات التي واجهها المثقف السوداني هو كونه لم يمتلك يومًا سلطة معرفية مستقلة؛ فقد كانت الدولة، سواء في عهد الإسلاميين أو ما قبلهم، قادرة على دمجه داخل آلياتها، سواء عبر استقطابه إلى أجهزتها الثقافية أو عبر تهميشه إلى حد يجعله خارج أي تأثير حقيقي.
ومن هنا، يمكن قراءة أزمة المثقف السوداني في ضوء ما طرحه بيير بورديو حول “إنتاج المعرفة”، حيث يظل المثقف محكومًا بعلاقته مع الحقل السياسي، لا بوصفه فاعلًا حرًا، بل بوصفه جزءًا من شبكة المصالح التي تحدد موقعه وإمكانية تأثيره.
لكن هذا لا يعني أن المثقف السوداني مجرد ضحية، بل هو، في كثير من الأحيان، جزء من آليات إنتاج الهيمنة التي يدّعي معارضتها.
فخطاب الهوية الذي يرفعه بعض المثقفين اليوم ليس سوى امتداد لخطاب السلطة نفسه، حيث يتحول النقد إلى إعادة إنتاج لثنائية “المركز والهامش” دون تفكيك البنية العميقة التي تجعل هذه الثنائية ممكنة.
وهنا يمكن استدعاء مفهوم ميشيل فوكو عن السلطة، بوصفها ليست مجرد قمع من الأعلى، بل علاقات قوة معقدة تتغلغل حتى في الخطابات التي تبدو معارضة لها.
فحين يتبنى المثقف خطابًا يرى في المركز عدوًا مطلقًا، دون وعي نقدي لمسألة أن السلطة ليست حكرًا على المركز، بل تمتد إلى الهامش نفسه عبر أدوات أخرى، فإنه يقع في إعادة إنتاج نفس البنية التي يسعى إلى هدمها.
وإذا كان المثقف السوداني قد عانى تاريخيًا من القمع والتهميش، فإنه في اللحظة الحالية يعاني من شيء أكثر تعقيدًا: أزمة المعنى.
فمع التحولات المتسارعة، ومع سقوط المشاريع الكبرى، لم يعد هناك خطاب متماسك يمكنه أن يقدم أفقًا للخروج من هذه الدوامة.
هنا، يمكن الاستشهاد بإدوارد سعيد، الذي يرى أن المثقف يجب أن يظل في موقع “المنفي”، لا بمعنى النفي الجغرافي فقط، بل النفي المعرفي الذي يبقيه في موقع المساءلة المستمرة لكل الخطابات السائدة.
لكن أين يقف المثقف السوداني اليوم؟ هل هو في موقع النقد، أم أنه قد تحول إلى مجرد صدى للأحداث، يتحرك وفق ديناميات الصراع لا وفق رؤية نقدية مستقلة؟
إن هذا المشهد يجعل من الضروري إعادة التفكير في دور المثقف، لا بوصفه مجرد معلق على الأحداث، بل بوصفه فاعلًا في إعادة تشكيل الوعي الجمعي.
لكن هذا الدور لا يمكن أن يتحقق دون تفكيك العلاقة المعقدة بين المثقف والسلطة، ودون إدراك أن الانحيازات العاطفية والسياسية ليست بديلًا عن التحليل النقدي العميق.
إن أزمة المثقف السوداني ليست فقط في مواقفه، بل في بنيته الفكرية ذاتها، التي تجعل من الصعب عليه أن يكون خارج دائرة الاستقطاب.
وهنا تكمن المعضلة الكبرى: كيف يمكن للمثقف أن يكون جزءًا من الواقع، دون أن يكون أسيرًا له؟ كيف يمكنه أن ينخرط في الصراع، دون أن يصبح مجرد امتداد لأحد أطرافه؟ وكيف يمكنه أن يعيد تعريف دوره، دون أن يقع في فخ المثالية التي تجعله معلقًا بين السماء والأرض؟
ربما يكون الحل في تجاوز النموذج التقليدي للمثقف، ذلك الذي يرى نفسه فوق الصراع، إلى نموذج أكثر ديناميكية، يعي أن المعرفة ليست محايدة، لكنها أيضًا ليست مجرد سلاح في معركة سياسية آنية.
إن إعادة بناء دور المثقف السوداني تتطلب تفكيك الأوهام التي تحيط به، والاعتراف بأنه ليس مجرد ضحية، لكنه أيضًا جزء من البنية التي أنتجت هذا الواقع.
عندها فقط، يمكن للمثقف أن يستعيد دوره، لا بوصفه مجرد ناقد، بل بوصفه فاعلًا في إنتاج واقع جديد، يتجاوز ثنائية السلطة والمعارضة، نحو أفق أكثر رحابة، حيث يكون النقد ليس مجرد رد فعل، بل ممارسة مستمرة لإعادة تعريف العالم.
بالنظر إلى التحولات التي يشهدها السودان اليوم، فإن المثقف السوداني أمام فرصة جديدة لإعادة تشكيل دور أكثر تفاعلًا مع التغيرات الاجتماعية والسياسية.
عليه أن يطور أدوات معرفية وأيديولوجية تتجاوز الانقسام بين المركز والهامش، وتتحرك نحو بناء أرضية مشتركة تسهم في تقديم رؤية أوسع للمستقبل.
من خلال مشاركة أعمق في قضايا المجتمع، وليس فقط في القضايا السياسية، يمكن للمثقف أن يسهم في تجديد الأمل وإعادة بناء الوعي الجماعي، الذي قد يساهم في الخروج من الأزمة الحالية.
ربما يكون الطريق إلى هذا التغيير عبر التفكك من النموذج التقليدي للمثقف، الذي يتخيل نفسه فوق الصراع السياسي، ليأخذ موقعًا أكثر انسجامًا مع الحركات الاجتماعية القائمة على أرض الواقع.
فهذا التحول يتطلب تحولًا في الوعي المعرفي، بأن المعرفة ليست محايدة، ولا مجرد أداة في معركة، بل هي وسيلة لبناء أفق جديد وواقعي.
***
إبراهيم برسي

التطهير، الهاربيات، الهامارتيا، وغيرها
ناتاشا بولي تتحدث عن كلماتها اليونانية المفضلة
بقلم: ناتاشا بولي
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
مؤلفة ترنيمة إلى ديونيسوس تستكشف تقاطع المعاني في اللغات
***

خلال الجائحة، بدأتُ بكتابة كتاب عن الإله اليوناني ديونيسوس. لطالما رغبتُ في ذلك، لأنني أعتقد أنه لا يحظى حتى بنصف الاهتمام الذي يستحقه مقارنةً بجميع الآلهة الأخرى التي نراها في روايات الأساطير... ناهيك عن أنه إلهٌ لأشياء رائعة (تحذير: ليس النبيذ فقط).
لكن رغم أن جميع النصوص عنه قد تُرجمت إلى الإنجليزية، شعرت أنني لا أرى سوى صورة جزئية له وللعالم الذي أتى منه. فالإنجليزية لغة غريبة ومتنوعة، ويمكن أن تكون الترجمات الإنجليزية للنصوص اليونانية خادعة، مليئة بأنواع مختلفة من الأخطاء غير الدقيقة التي لا تصل إلى حد كونها أخطاء ترجمة صريحة، خاصة إذا كانت الترجمة قد أُنجزت منذ زمن طويل. لذلك، اشتريت بعض الكتب الدراسية، وتعلمت ما يكفي من اليونانية الكلاسيكية لقراءة بعض مصادري في لغتها الأصلية. قيل لي إن هذا ليس سلوكًا طبيعيًا، لكنني أحببته.
أحد الأسباب التي جعلتني أستمتع بذلك كثيرًا هو أنه عندما تبدأ في مقارنة الكلمات التي تحمل المعنى نفسه عبر لغتين، يحدث شيء مذهل حقًا. فرغم أن الكلمات التي تصف أشياء مادية، مثل "قطة" أو "تل"، تتطابق تمامًا، إلا أنه عندما يتعلق الأمر بالأفكار أو المشاعر أو الألوان أو أي شيء آخر يقع على طيف من المعاني، فإنها نادرًا ما تتطابق بنفس الدقة.
ما تجده في الواقع هو أشبه بمخطط فنّي للمعاني، حيث يوجد تداخل يدركه متحدثو اللغتين... لكن هناك ظلالًا جانبية لا تتطابق تمامًا على أي من الطرفين. وعندما أتعلم لغة جديدة، فإن أكثر ما يسعدني هو البحث عن تلك الكلمات. غالبًا، تكون هذه الظلال غير المتطابقة هي الكلمات التي قد تجعلك تبكي وحدك ليلًا، لكنها أيضًا الأكثر كشفًا، لأنها توضح أمرًا بالغ الأهمية: الفرق في الأولويات بين اللغات المختلفة، وبالتالي الطريقة التي تشجع بها متحدثيها على التفكير.
إليك بعضًا من كلماتي اليونانية المفضلة:
التطهير: (Catharsis)
أحب هذه الكلمة، لأنني أحب كل ما يتعلق بديونيسوس، والتطهير هو جوهر ما يمثله. بشكل تقريبي جدًا، تعني شيئًا مثل "التحرر"... لكن هذا الوصف قد يكون مضللًا في الإنجليزية. فهي تعني أيضًا "التنقية" أو "التطهر" بمعنى طبي، ديني، أو شعائري، وقد عانى المترجمون دائمًا مع هذه الكلمة لأن معناها غامض وواسع الدلالة فى ذات الوقت .
تلعب هذه الكلمة دورًا محوريًا في المسرح والسرد القصصي. في كتابه فن الشعر، يقول أرسطو إن الوظيفة الأساسية للمأساة هي تحقيق التطهير. ومن المثير للاهتمام أن المهرجان الأثيني العظيم للمسرح كان يُسمى ديونيسيا، وكانت المسرحيات تُقدَّم تكريمًا لِديونيسوس. هناك خلاف بين الباحثين حول السبب، لكن الأمر يبدو منطقيًا بالنسبة لي. السكر، الجنون المؤقت، المسرح، الجنس... جميع هذه الأشياء مرتبطة بديونيسوس، وجميعها تدور حول فكرة التحرر: ذلك الإحساس بأنك تتخلى عن شيء ما، وتُبعث من جديد بفضل ذلك.
الهاربي (Harpy):
لقد سمع كثير منا عن الهاربيات، تلك النساء المجنحات المرعبات ذوات المخالب. يُعتقد أن الكلمة مشتقة من الفعل اليوناني harpazien، الذي يعني "يخطف"، ولذلك يمكن ترجمة harpy إلى "الخاطفات". لكن الأمر الرائع هو أن الكلمة تُستخدم أيضًا للإشارة إلى الزوابع الهوائية. عندما يذكر بعض الكُتّاب، مثل هيرودوت أو لوقيان الساموساتي، أن البحّارة رأوا الهاربيات تعصف فوق البحر، فإنهم في الواقع يشيرون إلى الأعاصير. ارتبطت الهاربيات بالعواصف والرياح العاتية بسبب عنف طيرانها، مما أدى إلى استخدام الكلمة نفسها لوصف كل من الظاهرة الجوية والمخلوقات الأسطورية.
الدراخما (Drachma):
كانت الدراخما وحدة نقدية ثم أصبحت عملة معدنية، لكن معناها الحرفي هو "حفنة" أو "قبضة". في الأصل، كانت تشير إلى حفنة من الأوبولوي—وهي رماح معدنية صغيرة مصنوعة من البرونز أو الحديد أو النحاس، كانت تُستخدم كعملة. كان هذا النظام غير عملي للغاية، وربما كان ذلك متعمدًا. على الأقل في سبارتا، يبدو أن هناك شكًا جادا في جدوى أي نوع من العملات الموحدة، رغم أن التعاملات المالية الأوسع في البحر الأبيض المتوسط كانت تُجرى غالبًا باستخدام التالنت—وحدة وزن—من الفضة. قد يكون جعل المال صعب الاستخدام إحدى الاستراتيجيات التي اعتمدتها بعض الدول اليونانية للحد من انتشار الاقتصاد النقدي.
الهامارتيا (Hamartia):
عادة ما نتعلم في المدارس أن الهامارتيا تعني "العيب القاتل"، لكنها كلمة خادعة. في اليونانية الكلاسيكية، هي مصطلح ضمن مصطلحات رياضة الرماية، وتعني حرفيًا "الإخفاق"، أي أن تخطئ الهدف—وبالتالي، فهي تشير إلى خطأ أو سوء تقدير.
في الإلياذة، تتمثل هامارتيا أخيل—أي خطؤه—في أنه يعلن الإضراب عن القتال ولا يدرك أن باتروكلُس سيأخذ مكانه. قد يكون ذلك تصرفًا غبيًا بعض الشيء، لكنه ليس عيبًا قاتلًا في شخصيته؛ بل هو سوء تقدير.
لكن هناك منعطفًا غير متوقع: بعد خمسة قرون، بحلول زمن العهد الجديد، تغيّر معنى الكلمة. في الكتاب المقدس، أصبحت hamartia تعني "الخطيئة". من المغري جدًا إسقاط هذا المعنى على النصوص الكلاسيكية... لكن كبرياء أخيل لا يُصوَّر كخطيئة في الإلياذة، كما أن جهل أوديب بحقيقة مولده لا يُعتبر خطيئة في حد ذاته. إنها مجرد أخطاء يمكن تفهمها، لكنها تؤدي إلى عواقب مروعة.
خالكوس (Khalkos):
تعني هذه الكلمة البرونز أو النحاس، لكنها أيضًا اللون الذي استخدمه الإغريق لوصف السماء. لا توجد كلمة محددة تعني "الأزرق" في اليونانية القديمة. وهذه نقطة رائعة توضح كيف ترسم اللغات حدود الألوان بشكل مختلف.
في اليابانية القديمة، كانت كلمة aoi تُستخدم للإشارة إلى الأخضر والأزرق معًا، كلون عام يعبر عن الطبيعة. في الروسية، هناك تمييز واضح بين الأزرق الداكن والفاتح، تمامًا كما تفرق الإنجليزية بين الأحمر والوردي. أما في بعض اللغات، مثل اليونانية الكلاسيكية، فقد كان الأولوية لتحديد درجة السطوع أو العتمة أكثر من تحديد اللون نفسه. لا يعني هذا أن الناس كانوا يرون الألوان بشكل مختلف، بل فقط أنهم كانوا يفكرون فيها بطريقة مختلفة.
كانت هناك كلمة في اليونانية القديمة تُستخدم أحيانًا لما نسميه بالأزرق في الإنجليزية، وهي kyanos، والتي اشتُقت منها كلمتنا الحديثة "cyan" (السماوي). لكنها كلمة غامضة. فقد استُخدمت لوصف حجر اللازورد، ولكن في ترنيمة إلى ديونيسوس الهومرية، توصف عيون ديونيسوس بأنها kyanos... وكذلك شعره! ما لم يكن شعره أزرق اللون (وهذا غير مرجح، للأسف)، فإن الكلمة كانت تعني ببساطة لونًا غامقًا وعميقًا.1255 my word

كتاب "ترنيمة ديونيسوس" للكاتبة ناتاشا بولي متوفر لدى دار بلومزبري.
***

......................
الكاتبة: ناتاشا بولي/ Natasha Pulley: ناتاشا بولي: الكاتبة الأكثر مبيعًا عالميًا لروايات "ترنيمة ديونيسوس"، و"صانع ساعات شارع فيليجري"، و"أكوام المهجورة"، و"مستقبل بيبرهارو المفقود"، و"الممالك"، و"نصف حياة فاليري ك". فازت بجائزة بيتي تراسك، ورُشِّحت لجائزة نادي المؤلفين لأفضل رواية أولى، وجائزة إنكور من الجمعية الملكية للآداب، وجائزة ويلبر سميث للكتابة المغامرة، ورُشِّحت أيضًا لجائزة والتر سكوت. تعيش في بريستول، إنجلترا.

 

مسلسل معاوية بن أبي سفيان الّذي يعرض في رمضان هذا العام، والّذي من إنتاج إم بي سي؛ أحدث جدلا في الأوساط المعرفيّة والدّينيّة والمذهبيّة، وتعدّدت القراءات حوله، بين مؤيد ومعارض، ومحرّم ومشجع، ولكل وجهته ونظرته، فمعاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ) من أكثر الشّخصيّات الجدليّة في تأريخنا الإسلاميّ، فكونه عاش في الشّام، وكان واليا عليها؛ استطاع تكوين مملكة أكثر انفتاحا على الثّقافات الأخرى، واتّساعا جغرافيّا، ولكون غالب تأريخنا كتب بعد العهد الأمويّ، ولأن التّأريخ يكتبه المنتصر عادة، فطبيعيّ أن تختزل هذه الفترة من الحكم الأمويّ في صراعات سلبيّة، لتصبح العديد من الرّوايات التّأريخيّة أشبه بالمسلّمات القطعيّة، والّتي يتصارع حولها العقل المسلم حتّى اليوم، فتشكلت في آراء لاهوتيّة كلاميّة مدارها التّعصّب للشّخوص والتّأريخ.
لا أريد الحديث عن الجدل الفقهيّ حول تصوير بعض الشّخصيّات التّأريخيّة كالصّحابة أو حتّى الأنبياء، فهو جدل متكرّر منذ فلم الرّسالة (1976م) وحتّى اليوم، وسبق أن كتبت عنه أثناء الضّجيج حول مسلسل عمر بن الخطّاب (2012م)، بيد أنّ الدّراما أقوى بكثير، فلم تعد تنتظر فتوى تبيح له أو تمنع، ولم يعد المشاهد يعتني بها كثيرا، وكثيرا ما يتجاوزها الواقع بعد ضجيجها، وقد تتغيّر رؤيتها هي ذاتها بعد عرض المسلسل، ما أريده هنا التّركيز حول هذه المسلسلات أو الأفلام التّأريخيّة وقضيّة تقديس الشّخوص والتّأريخ.
إنّ المتأمل في العديد من صراعاتنا اليوم تدور حول تقديس الشّخوص والتّأريخ، ومثل هذه المسلسلات والأفلام اتّفقنا ابتداء في أحداثها ووقت عرضها، أم اختلفنا معها، تكشف لنا هذين الأمرين، وقد شكّلا لنا الدّين التّأريخيّ، والّذي أخذ قداسة تأريخيّة أكثر منه جانبا نصيّا أوليا، على أنّ ثقافتنا في الدّين التّأريخيّ اليوم هي ثقافة عبّاسيّة، وقد تشكلت فيها العقليّة اللّاهوتيّة عند أغلب المذاهب الكلاميّة الإسلاميّة، وظهرت فيها النّزعة العلويّة، والّتي ترى لها خصوصيّتها في البيت القرشيّ، لتتحول مع وضع النّصّ الثّاني إلى قضيّة نصيّة لاهوتيّة مغلقة، لتدخل هذا التّأريخ في دائرة المقدّس، أو الدّين التّأريخيّ.
عندما ينزع المرء هذا الدّين التّأريخيّ من عقليّته، ويبدأ قليلا ينزوي مع النّصّ الأول أي القرآن، يجد القرآن ذاته ينزع القداسة عن الشّخوص والتّأريخ، ويجعل مدار الدّين يدور حول الإله ذاته، بعيدا عن إشراك أيّ مخلوق معه ولو كان ملكا أو رسولا، فنجد القرآن يتطرّق مثلا إلى الأنبياء، بيد أنّك لا نجد تلك القداسة كما في العقل الجمعيّ اللّاهوتيّ {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا، أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرقان: 7 – 8]، وقال حكاية عن نبيّه محمّد – عليه السّلام – مع قومه: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ، قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 90 – 93]، وعاتب نبيه في مواضع منها {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التّوبة: 43]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التّحريم: 1].
وفي السّياق التّأريخيّ أسهب القرآن مثلا في ذكر تأريخ بني إسرائيل في مصر، وصراعهم مع فرعون، وما أحدثوه مع نبيّهم موسى – عليه السّلام – من بعد الخروج، وحتّى مرحلة التّيه، كما في بدايات سورة البقرة، ومع هذا ختم تلك الآيات التّأريخيّة بقوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134]، وعلّق الهداية بما تحويه قصصهم وسيرهم من مثل وعبر، ولم يعلّق ذلك على شخوصهم، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، ومع ذكر القرآن للعديد من الأنبياء بيد أنّه لم يتطرّق إلى ذواتهم وأشكالهم ولباسهم وطعامهم وحركات نومهم ويقظتهم إلّا في مدار العبرة، ولم يجعلهم شركاء معه لتضفى إليهم قداسة لاهوتيّة مغلقة أوصلها بعض الغلاة من الأخباريين نتيجة روايات النّصّ الثّاني إلى الشّراك التّكوينيّ في التّصرّف بالكون ذاته.
والمتأمل في غالب المذاهب الكلاميّة الإسلاميّة اليوم يجد عكس النّهج القرآنيّ تماما، فتشكلها بدأ منذ حادثة السّقيفة وحتّى مقتل عثمان، فالجمل والنّهروان وصفّين وكربلاء لاحقا، جميع هذه الأحداث السّياسيّة قطعا حدثت بعد وفاة الرّسول، وبعد إنزال النّصّ الأول، فهي حالة تأريخيّة تشكلت لاحقا لا يمكن جعلها في زاوية النّصّ المقدّس، وإلّا كان النّصّ الأول ناقصا ليس كاملا، ولا معنى لآية إكمال الدّين؛ لأنّه لم يكتمل بإنزال النّصّ، ولم يصبح المدار هنا هو الله المطلق، بل أصبح المدار هم ما دونه من الشّخوص والمخلوقات.
على أنّ هذه الحوليّات غالبها دونت متأخرا، وركزت بشكل كبير على الصّراعات السّياسيّة، والّتي نقلت حسب رؤية المدون المذهبيّة، أو السّياسة الّتي ينتمي إليها، ليختصر ما يقارب نصف قرن في صراعات سياسيّة قبليّة مدارها ابتداء بين الأنصار المتمثلين في الأوس والخزرج، والمهاجرين المتمثلين في قريش، ثم صراع المهاجرين في بطون قريش ذاتها، ثمّ من له قرابة بالنّبيّ في مجاله الأوسع كعمّه العبّاس، أو الأضيق في البطنين، ليهمل التّأريخ - كطبيعة الحوليّات - الجوانب الحضاريّة والثّقافيّة، وبهذا يصورون لنا أنّ هذا الدّين كان من أعظم نتائجه وبعد وفاة النّبيّ ذاته هذه الدّماء، وهذه الصّراعات القبليّة، وجميعهم يرجعون إلى ذات المنزع، وكانوا أقرب النّاس إلى النّبيّ – عليه السّلام -، لأنّ المنتصر لاحقا، بعقليّته اللّاهوتيّة والسّياسيّة المغلقة، أراد أن يكون التّأريخ هكذا، ومن زاوية مغلقة لأجل انتصارات مذهبيّة وسياسيّة، كما غيّب تأريخ أمم أخرى لا علاقة لها بالحجاز ومنطقة الصّراع، وكانت أكثر ثراء واستقرارا، لتضيق ثقافة هؤلاء جميعا لاحقا، ويعيشوا رهين صراعات هذه الفترة في هذه المنطقة بالذّات من عالمهم الجغرافيّ الأوسع حينها، وكأنّه لا وجود لهم، واختفوا من لحظة التّأريخ.
هذه الصّراعات التّأريخيّة – للأسف – شكلّت الدّين التّأريخيّ الّذي نرى نتائجه اليوم، ومداره لا يتجاوز تقديس الشّخوص والتّأريخ، ولأجلهما صيغت الرّوايات، وفسّر النّصّ الأول، واستخدم حتّى المنطق والفلسفة لتغلق كلاميّا لأجل صراعات تأريخيّة، شكلت هذا المقدّس التّأريخيّ لأكثر من ألف عام، والّتي أصبحت أقوى من النّصّ الأول، فخضع المطلق للنّسبيّ، والقيم للتّأريخ، لنعيش هذا التّأريخ في أجوائه الكلاميّة والمذهبيّة المغلقة، وطبيعيّ ما نراه من جدل حول مسلسل معاوية بن أبي سفيان، فهو إمّا أن يرهن لغايات سياسيّة ومذهبيّة مسبقة، لتكون الدّراما السّينمائيّة اليوم مكان الرّوايات الحديثيّة والتّأريخيّة بالأمس، أو أن يتجاوز العقل المعرفيّ والدّراميّ ويشكّل مرحلة جديدة في قراءة التّأريخ من خلال الدّراما، لا علاقة لها بالمقدّس أو تكريس قداسة التّأريخ، وأن تكون غاياتها نهضة الإنسان المسلم اليوم.
***
بدر العبري – سلطنة عمان

 

سرمدية هي المسافات من العماء الأول الى الانتشار الزماني، من خلال الكلمة أيدينا تكتب وليس هناك فاصل بين عصر المدافن وعصر الانحطاط، تصورنا عن ماهية الاسبقيات ...! اللغة هل هي صوت ام كتابة...؟ هل كانت اللغة واحدة تكب بحروف مختلفة ام كانت هناك لغة السلطة ولغة العامة...؟ الكلمات لا تتطابق لكن اللغة تبقى تأويلية في الخطاب المنقول، كون البناء الفني للغة يحمل طاقة الغموض ويعلن تدخلاته في فضاء اللغة، يحترم استقلالية القارئ، بذلك يكون الاحتباس الثقافي ظاهرة يتم فيها تقييد الثقافة داخل حدود معينة، مما يؤثر على تطورها وتفاعلها مع ثقافات أخرى موازية. على الاغلب يكون الاحتباس ناتجًا عن عوامل اجتماعية، سياسية، أو اقتصادية، تُفرض قيود على التعبير الثقافي والفني تؤدي إلى طغيان ثقافة معينة على أخرى، مما يهدد التنوع الثقافي الذي بدوره يمنع التبادل الثقافي ويعزز الانغلاق وتنشا عنه سيادة ثقافية محددة، بالتالي عقدة بروكوست المستمدة من الأسطورة اليونانية، بروكوست كان يقوم بتعديل طول ضيوفه لتناسب سريره، سواء بتطويلهم أو بقطع أطرافهم ويعمل على إعادة الترتيب طبقا لمقارباته الخاصة ، هذا المفهوم يُستخدم للدلالة على التكييف القسري، حيث يُجبر الأفراد أو الثقافات على التكيف مع معايير أو أفكار محددة، مما يعوق التنوع والاختلاف ويؤدي إلى رفض الأفكار أو التوجهات الجديدة لمجرد أنها لا تتناسب مع المعايير السائدة ،هذا المفهوم يعكس الصراعات الثقافية والفكرية في المجتمعات ذات الثقافة المؤد لجة فكريا ،هذه المفاهيم تتطلب التفكير نقديا حول كيفية تعزيز الحوار الثقافي وتقبل الاختلافات، مما يسهم في تطوير المجتمع بشكل أكثر شمولية وحرية.
العوامل والأسباب
الرقابة والقمع، فرض قيود على حرية التعبير والإبداع، يمنع ظهور أفكار جديدة ،أنظمة الحكم التي تروج لفكر واحد تمنع التنوع، التعصب الديني أو القومي والتحامل ضد ثقافات أو ديانات أخرى، يؤدي إلى تهميشها ،فرض قيود على الممارسات الثقافية للأقليات تؤدي إلى طغيان ثقافة معينة على اخرى، مما يؤثر سلبًا على التنوع الثقافي، تحويل الثقافة إلى منتج تجاري تحت تأثير نظام التفاهة، مما يقلل من عمقها ومعناتها، نقص الوعي الثقافي النقدي يؤدي إلى عدم تقدير الثقافات الأخرى وفهمها، التعليم المحدود و عدم وجود فرص للتعليم الشامل ،التحيز الإعلامي يروج صور نمطية أو أحادية الجانب عن ثقافات معينة، مما يسهم في تعزيز الاحتباس، الرقابة على المحتوى ومنع نشر الأفكار أو الثقافات التي لا تتناسب مع قيم السلطة السائدة ،الصراعات والحروب تؤدي أيضا إلى تدمير التراث الثقافي وتعطيل التبادل الثقافي، كذلك النزوح القسري يمكن أن يؤدي إلى فقدان الهوية الثقافية. تتفاعل هذه العوامل مع بعضها البعض، مما يؤدي إلى حدوث الاحتباس الثقافي ويؤثر على تطور المجتمعات.
عقدة بروكوست وتعددية الدلالة
عقدة بروكوست رمزيا تشير إلى فرض نموذج واحد أو معيار معين على الأفراد أو الثقافات، مما يؤدي إلى تقييد التنوع والاختلاف، السياق الثقافي يمكن أن يعني فرض أسلوب أو نوع معين من الكتابة على جميع الكتّاب ونمذجة النصوص، مما يحد من التعبير الأدبي. السيمائيات الكتابية التي تهتم بدراسة العلامات والدلالات في النصوص وتعددية الدلالة تشير إلى وجود تفسيرات ومعاني متعددة لنفس النص ، هذه التعددية تعكس كيف يمكن لنص واحد أن يُفهم بطرق مختلفة حسب خلفية القارئ، تجربته، وسياقه الثقافي ،عقدة بروكوست تعكس محاولة فرض نموذج أحادي على التفسير، بينما تعددية الدلالة تدعو إلى الاحتفاء بالتنوع والتعدد في الفهم والتفسير ،هذا يبرز أهمية تنوع الأصوات والأساليب الأدبية في تعزيز الفهم الثقافي.
توسيع الأفق الثقافي
من خلال التفاعل مع النصوص متعددة الدلالات، يمكن للقارئ أو الكاتب تجاوز القيود التي تفرضها عقدة بروكوست، ما يعزز الحرية الإبداعية ويدعو إلى استكشاف معاني جديدة قد تكون غير متوقعة ،كما تؤدي الى إعادة تعريف الهوية الثقافية ،النصوص التي تحتمل تعددية الدلالة تسمح للأفراد بإعادة تعريف هويتهم الثقافية بناءً على تجاربهم الشخصية ودراسة النصوص من منظور سيميائي وفهم التعددية الثقافية وتحدي النماذج السائدة ، تعزيز التفكير النقدي في كيفية قراءة النصوص وتفسيرها بناءً على الخلفيات المتباينة تمثل تفاعلًا معقدًا بين القيود الثقافية وحرية التعبير من خلال فهم هذا التفاعل، يمكن تعزيز ثقافة تعكس التنوع وتحتفل بالاختلاف.
تاريخ الاحتباس الثقافي
الأحداث الكبرى مثل الحروب والثورات تؤثر على كيفية كتابة النصوص وتفسيرها. قد تعكس النصوص مشاعر الخوف، المقاومة، أو الأمل المرتبطة بتلك الأحداث، التحولات في القيم والمعتقدات نتيجة للتغيرات التاريخية تؤثر على كيفية فهم النصوص، الكلمات والمعاني تتغير مع الزمن. فهم السياق التاريخي يساعد في إدراك المعاني الأصلية والتغيرات التي طرأت عليها، بعض التعبيرات قد تكون لها معانٍ خاصة في فترات زمنية معينة، مما يتطلب فهماً دقيقاً للسياق النصوص قد تحتوي على إشارات إلى شخصيات تاريخية، أحداث، أو مفاهيم فلسفية، فهم هذه الإشارات يساعد في تفسير المعاني المتعددة والتأثيرات الأدبية السابقة التي تلعب دوراً في تشكيل النصوص الجديدة، مما يعزز من تعددية الدلالات، الفهم المعاصر للنصوص يمكن أن يختلف اعتمادًا على السياقات التاريخية. القارئ اليوم يتفاعل مع النصوص بشكل مختلف عما كان عليه في الماضي ،القيم والمعتقدات المعاصرة تؤثر على كيفية تفسير النصوص الأدبية، مما يفتح المجال لتفسيرات جديدة، السياق التاريخي يمكن أن يساهم في تشكيل هوية جماعية أو فردية، مما يؤثر على كيفية فهم النصوص، الأفراد من خلفيات ثقافية مختلفة قد يفسرون النصوص بطرق متباينة .تلعب التأثيرات الاستعمارية أو الثقافات المهيمنة دورا مهما في تعقيد فهم النصوص وتضيف طبقات من الدلالة، منها تعددية الدلالة في النصوص من خلال تزويد القارئ بأبعاد ثقافية واجتماعية وسياسية التي ترسخ دلالات النصوص. هذا الفهم يساعد في استكشاف المعاني العميقة والمتعددة، مما يثري التجربة القرائية ويعزز من التفاعل مع النصوص، دراسة الخطاب التاريخي أداة مهمة لفهم تعددية الدلالة في النصوص، حيث تسلط الضوء على العلاقة بين النص، والسياقات التاريخية، والاجتماعية، والثقافية. التحليل الأيديولوجي، يكشف عن كيف تعكس النصوص الأيديولوجيات السائدة وكيف يمكن أن تُستخدم لتعزيز أو تحدي التفاعل بين النص والسياق. ما يعزز من تعددية الدلالة في دراسة الخطاب التاريخي توفر إطارًا لفهم السياقات الثقافية والسياسية والاجتماعية التي تشكل النصوص. التحليل التاريخي للخطاب التاريخي يوفر إطارًا لفهم النصوص ضمن سياقاتها، بينما التأويل يعزز من إمكانية قراءة تلك النصوص بطرق متعددة، معًا، تساهم هذه الأدوات في توفير فهما أعمق للمعاني الثقافية والتاريخية التي تحملها النصوص. يتطلب هذا مواجهة العديد من التحديات، بما في ذلك المقاومة الثقافية، نقص الموارد، تحديات التواصل، والسياسات الحكومية. التغلب على هذه التحديات يتطلب تعاونًا لتطوير استراتيجيات فعالة ومتكاملة.
التاريخ يمكن أن يتضمن لحظات من الصراع والمنافسة بين الثقافات المختلفة، مما يساهم في تشكيل الهوية الثقافية، تلعب العلاقات الاجتماعية والطبقات الاجتماعية دورًا كبيرًا في الاحتباس الثقافي، الأقليات قد تواجه تحديات في التفاعل مع الثقافة السائدة، مما يؤدي إلى احتباس بعض التعبيرات الثقافية، يمكن أن يؤثر المكان الذي تعيش فيه مجموعة معينة على كيفية تطوير ثقافتها. فالثقافات التي تعيش في مناطق نائية قد تحتفظ بتقاليد معينة، بينما تتأثر الثقافات الحضرية بالتنوع والتغير السريع، الاقتصاد له تأثير مباشر على الثقافة. الموارد المتاحة أو نقصها يمكن أن تحدد ما إذا كانت ثقافة معينة قادرة على البقاء أو التطور، الاحتباس الثقافي هو ظاهرة معقدة تتأثر بعدة سياقات فلسفية. الفهم العميق لهذه العوامل يساعد على تعزيز الحوار الثقافي والتسامح، مما يتيح للثقافات المختلفة التعبير عن نفسها بشكل أكثر حرية والذي يستدعي عدم الاستبعاد وإبقاء ما هو مرتب كرونولوجيا واركيولوجيا وان كان النص لا يستجيب يجب استبعاده الى حطام الغرور.
***
غالب المسعودي

في كل عمل أدبي عظيم، تتقاطع الفلسفة مع السرد، والميتافيزيقا مع اليومي، والحياة مع الأسطورة. وفي عوالم غابرييل غارثيا ماركيز، كان الدين حاضرًا دائمًا، لكنه لم يكن إيمانًا خالصًا ولا إلحادًا مطلقًا، بل كان جزءًا من نسيج الحكاية الكبرى التي ينسجها الكاتب، حيث تتداخل المعتقدات والخرافات مع السلطة والقمع، واللاهوت مع المجاز، والطقوس مع السحر.
لكن يبقى السؤال الفلسفي مفتوحًا: هل وقع ماركيز في فخ النزعة الدينية، أم أنه كان يستخدمها بوعي نقدي لتفكيك بنيتها السردية والاجتماعية؟ أم أن الدين في عوالمه لم يكن أكثر من أداة ضمن أدواته الأدبية الكثيفة، شأنه شأن الزمن الدائري، والموت المؤجل، والقدرية التي تتكرر بلا انقطاع؟
في مئة عام من العزلة، يتجلى الدين بوصفه مؤسسة، لكنه لا يظهر كجوهر روحي، بل كأحد تجليات السلطة. الأب نيكانور رينا، الذي يصل إلى ماكوندو لنشر التعاليم الكاثوليكية، لا يملك حججًا قوية سوى استعراض المعجزات، مثل شربه الشوكولاتة الساخنة بينما يطفو في الهواء. هذا التصوير الكاريكاتيري ليس سخرية محضة، بل يكشف كيف يتحول الدين في بعض السياقات إلى أداة للإقناع القسري، وليس بحثًا عن الحقيقة.
لكن المفارقة تكمن في أن المعجزات في هذا العالم ليست مستحيلة، فكما يطفو الأب نيكانور في الهواء، كذلك يولد الأطفال بذيل خنزير، ويعيش الرجال لعقود دون أن يموتوا، وتتكرر الحروب بنفس الطريقة العبثية. في هذا السياق، لا يكون الدين أكثر عبثية من أي شيء آخر، بل يصبح مجرد عنصر آخر في هذه الدوامة الكونية التي لا تقدم خلاصًا ولا تترك مساحة للخروج.
المؤرخ الأدبي جوزيف كامبيل، في كتابه البطل بألف وجه، يتحدث عن دور الطقوس الدينية في إعادة إنتاج الهياكل الاجتماعية، وهو ما نراه بوضوح في عوالم ماركيز، حيث لا تنفصل المؤسسة الدينية عن النظام الأبوي أو السياسي. فالكنيسة في خريف البطريرك تتواطأ مع الاستبداد، وتتحول إلى جزء من آلة السلطة التي تُطيل عمر الطغاة، عبر منحهم غطاءً روحانيًا يُبرر استبدادهم.
هذه العلاقة بين السلطة والدين ليست جديدة، لكنها في سرد ماركيز تفقد مركزيتها الأخلاقية، حيث لا يعود الدين ملاذًا للمقهورين، بل يتحول إلى أداة في يد القاهرين. ليست المسألة هنا مجرد نقد اجتماعي، بل هي إعادة صياغة فلسفية لسؤال قديم: هل الدين في جوهره أداة تحرر، أم أنه قيد آخر ضمن قيود الوجود الإنساني؟.
لكن الدين في أعمال ماركيز ليس فقط سلطة، بل هو أيضًا فضاء أسطوري، عنصر من عناصر الواقعية السحرية. في الحب في زمن الكوليرا، يظهر القديسون واللعنات، وتتحول فكرة الحب نفسها إلى تجربة ميتافيزيقية تتجاوز الجسد. بينما في وقائع موت معلن، يُطرح السؤال عن القدرية الدينية: هل كان مقتل سانتياغو نصيبًا مقدرًا، أم أن المجتمع هو من صنع هذه الحتمية الوهمية؟.
في هذا المستوى، لا يعود الدين مجرد مؤسسة، بل يصبح لغة رمزية يتحدث بها الوجود، نوعًا من الغموض الأبدي الذي لا يفسر شيئًا لكنه يظل معلقًا فوق رؤوس الشخصيات كقدرٍ محتوم. هنا، يتقاطع ماركيز مع ألبير كامو الذي في أسطورة سيزيف يناقش العبثية وسؤال الإيمان، حيث يصبح الإنسان محاصرًا بين حاجته لمعنى كوني وبين صمت الوجود.
ماركيز بدوره لا يُقدم إجابات حاسمة، بل يترك الشخصيات في صراع دائم بين الإيمان والخرافة، بين السحر والعقل، بين الحتمية والاختيار، مما يجعل أعماله اختبارًا فلسفيًا للأسئلة التي لم تُحسم بعد في تاريخ الفكر الإنساني. وكأن الرواية في جوهرها ليست إلا محاولة متكررة للإجابة على سؤال غير قابل للإجابة، حيث تظل الشخصيات تدور في حلقات من الشك واليقين، لكنها لا تصل إلى يقين كامل، كما لو أن الحياة نفسها ليست سوى متاهة بلا مخرج.
إدواردو غاليانو، في تحليله لأعمال ماركيز، يصفه بأنه “كاتب كاهن دون كنيسة”. فهو يستخدم مفردات الدين، لكنه لا يبشّر بها، بل يخلق منها عالمًا مفتوحًا على التأويل.
هذا ما يجعلنا نتساءل: هل كان ماركيز ضحية لاشعورية للنزعة الدينية، أم أنه كان يوظفها كأداة سردية فقط؟ هل كان الدين بالنسبة له هو اللاوعي الجمعي الذي لا يمكن تجاوزه، حتى لو لم يكن يؤمن به؟ أم أنه كان مجرد أداة لتكثيف التجربة البشرية، تمامًا كما استخدم التاريخ واللغة والسحر؟
هنا يمكن استدعاء رؤية جان بول سارتر عن “الالتزام الأدبي”، حيث يرى أن الكاتب يجب أن يكون واعيًا بأدواته الإيديولوجية والسردية. ماركيز لم يكن مؤمنًا بالمعنى الديني، لكنه أيضًا لم يكن ملحدًا دوغمائيًا، بل كان كاتبًا يدرك أن الدين، كمفهوم سردي، هو مادة خصبة للتحليل الاجتماعي والنفسي والفلسفي.
إضافة إلى ذلك، لا يمكن تجاهل دور شخصية مرسيدس بارتشا، زوجة ماركيز، التي تحمل اسم القديسة مرسيدس. وعلى الرغم من أن اسمها قد يبدو مجرد صدفة، فإن تأثيرها الخفي على كتابات ماركيز يستحق التأمل.
في ظل العلاقة العميقة بين الزوجين، يمكننا رؤية كيف أن ماركيز كان يحبها بطريقة غير شعورية، وكيف أن هذا الحب قد ترك بصمته على نصوصه. مرسيدس كانت شاهدة على مراحل حياته الأدبية المختلفة، ودائمًا ما كانت ملهمة له.
قد يبدو أن اسمها، الذي يتشابه مع اسم القديسة مرسيدس، قد حمل بعضًا من تأثير الدين على حياة ماركيز، ليس بالمعنى التقليدي للإيمان، بل بمعنى التقديس غير الواضح، حيث كان ينظر إليها باعتبارها مصدرًا للثبات والطمأنينة في عالمه الأدبي المتقلب.
ذا التقديس الغير مباشر ربما أثر على رؤيته للحب في روايته الحب في زمن الكوليرا، حيث يعكس الحب بين فيرمنيا وفيديريكو التزامًا طويل الأمد يشبه الخلاص، لكنه يتم في إطار إنساني غير مثالي. من خلال مرسيدس، تجد أعمال ماركيز نوعًا من التوازن بين الحياة اليومية والرمزية الدينية، مما يشير إلى وجود تأثير غير مباشر لهذا الاسم على فكرته عن الحب والقداسة والخلود.
إذا كان هناك “فخ” وقع فيه ماركيز، فهو ليس فخ النزعة الدينية، بل فخ استخدام الدين كوسيلة للتعبير عن العبث الإنساني، دون القدرة على الخروج منه تمامًا. الدين في أعماله ليس حقيقة مطلقة، لكنه أيضًا ليس وهمًا بحتًا، بل هو جزء من التاريخ الجمعي، من اللاوعي الثقافي، من الحلم والكوابيس التي تشكّل تجربة الإنسان في هذا العالم.
وربما يكون هذا هو التناقض الأكبر في أعمال ماركيز: أنه في الوقت الذي يحاول فيه تفكيك الدين، لا يستطيع التخلي عنه تمامًا، لأنه جزء من البنية العميقة للحكاية نفسها.
وكأنه يقول لنا إن العالم، بكل عبثيته ولا معقوليته، لا يزال بحاجة إلى قصص تشرح وجوده، حتى لو لم تكن هذه القصص حقيقية. في النهاية، ماركيز لم يكن كاتبًا دينيًا، لكنه كان كاتبًا في عالمٍ لا يزال الدين يشكّل جزءًا من بنيته العميقة. ومن هنا تأتي عبقريته: ليس في تقديم إجابات، بل في صياغة الأسئلة التي تظل مفتوحة، كأنها قدرٌ مكتوب في صفحات رواياته، وكأنها صلاة لم تُستجب بعد.
***
إبراهيم برسي

كثيرًا ما نقرأ نصوصًا تبدو مكتملة من الخارج: اللغة سليمة، الفكرة واضحة، والاستدلال متماسك. لكنها، رغم كلّ ذلك، لا تمسُّنا. تمرّ بنا وكأنها عبورٌ صامتٌ لا يترك أثرًا. لا تُغضب، ولا تُبهج، ولا تُثير فينا شيئًا. كأنها كُتبت لتُنجَز، لا لتتجسَّد.
في المقابل، هناك نصوصٌ متواضعة الشكل، متعثّرة أحيانًا في دقتها أو خالية من الزخارف اللفظية، لكنها تترك أثرًا يصعب محوه. تُفصح عمّا يشبهنا، وتقول ما لم نستطع نحن أنفسنا أن نبوح به.
هذا الفرق لا يعود إلى جودة الفكرة وحدها، بل إلى ما هو أعمق: الصِّدق، الحضور، الصَّوتُ الجوانيُّ أو ما أحبّ أن أسمّيه: «الكتابة القلبية».
الكتابةُ القلبيةُ تنشأ من المسافة بين التّجربة واللغة، من ذلك الفراغ الذي يتكثّف حين يعجز التعبير العادي عن احتواء ما يمرّ به الإنسان. ليست مشروعًا أدبيًا، ولا انفعالًا عابرًا، بل نوعٌ من الإنصات الداخليَّ الطويل، حيث تتكوّن الكلمات ببطء، كأنها تُصغى قبل أن تُقال. في لحظاتها الأصدق، لا تكون الكتابةُ اختيارًا، بل ضرورة، كما لو أن اللغة لم تأتِ لتُضيف شيئًا، بل لتكشف عمّا كان مطمورًا خلف الصِّمت.
في هذا النوع من الكتابة، لا يبدو الكاتبُ مشغولًا بالجمال ولا بالدِّقّة، بل بالحضور. إنَّه يحاول أن يكون هناك، في الجملة، كما كان تمامًا في تلك اللحظة التي ولَّدت الحاجة إلى القول. ولهذا كثيرًا ما تأتي عباراته مشبعة بالتردّد أو الوضوح الفجّ، لا لضعف في الأسلوب، بل لأن الحقيقة حين تخرج من الداخل، نادرًا ما تأتي مُهندسة.
وربما لهذا السبب تحديدًا، تبدو هذه الكتابة أكثر عُسرًا، لأنها تتطلَّب صدقًا لا تحميه نظرية، وتجرّدًا لا يتكئ على بلاغة. إنّها تمرينٌ على الإصغاء للذات قبل مخاطبة الآخر.
لو تأملنا أعمال بعض الكتّاب والفلاسفة الذين تركوا أثرًا عميقًا لا يُمحى، لوجدنا أن سرّ كتاباتهم لم يكن في صرامة الأسلوب ولا تعقيد الفكر، بل في صدق التّجربة التي كُتبت منها.
دوستويفسكي بخاصة، سلك بالكلمة دروبًا موحشة في أعماق النفس البشرية، كأنّه يستخرج المعنى من قاع الروح. لم يكن فيلسوفًا يُلقي أطروحات، بل إنسانًا يكتب من شدّة ما عاشه. في رواياته، لا نقرأ فكرة، بل نواجه وجودًا مضطربًا، يبحث عن الله، عن الخلاص، عن ذاته. الكتابة عنده لم تكن فعلًا أدبيًا، بل ضرورة وجودية.
الكتابة القلبية إذن، هي المقام الذي تُولد فيه الكلمة من أعماق الكينونة، لا أداةً للتعبير، بل شكلًا من أشكال الوجود. هي الإنصات لما لا يُقال، والاقتراب مما لا يُحاط به. هناك فقط، تبدأ اللغة في أن تكون أكثر من لغة: أن تكون حضورًا.
***
خالد اليماني

 

يؤكد شريعتي على أن أولى معارف الإنسان، معرفته لنفسه، فبدونها يستوعبنا نوع من اللاوعي الأسود، وهذا هو عين النقص الفجيع الذي حرم إنسان هذا العصر، من الفهم الصحيح لمعنى الحياة ومفهومه الوجودي، بالرغم من نجاحاته الباهرة في عالم العلم. وليس مبالغاً لو قيل، أن السبب الأساس في احباط جميع الجهود العلمية والاجتماعية والإيديولوجية المبذولة في سبيل سعادة الإنسان، أو على الأقل، اعطاءه نوع من الشعور بالسعادة، يكمن هنا، وهو أن الإنسان، الذي هو الموضوع الرئيس لكل هذه الجهود والنجاحات، قد بقي مجهولاً أو منسياً بشكل من الأشكال. وحتى بالنسبة للحياة، فيمكن للإنسان أن يعيش كيف ما يريد، ولكنه لا يعلم كيف؟ لأنه لا يدري لماذا؟. وشريعتي هنا يريد أن يبين افتقار الإنسان للهدف المنشود، فيبقى الإنسان عبثياً من حيث وجوده وأفعاله ما لم يكن هنالك هدف. ومن هنا يتبين لماذا عجزت الإيديولوجيات الحديثة، التي تسعى لتحل محل الأديان القديمة، عن تلبية احتياجات الإنسان الأساسية، وبالتالي إما أن وصل الإنسان إلى التفاهة، أو أنه أصبح رهين القيد. نتيجة هذا الإبهام، يبحث شريعتي في الأسس الرئيسة والمشتركة والمتفق عليها من قبل المدارس العلمية والدينية والاجتماعية الكبرى، ويجمعها شريعتي تحت أسم (أصالة الإسلام)، تحديداً في كتابه (الإسلام ومدارس الغرب)، ويحدّها بأنها: المدرسة التي تعلن عن أن هدفها الرئيس هو نجاة الإنسان وكماله، وتعتبر الإنسان موجوداً شريفاً، وأن الأصول التي تقترحها هي على أساس تلبية الاحتياجات الرئيسة التي تشكل النوعية الإنسانية. ويرجعها شريعتي إلى أربع مدارس فكرية كبرى، وبالرغم من اختلافاتها الرئيسة وتضادها مع بعضها، فإنها تشكل البحث عما أسماه شريعتي بـ (أصالة الإنسان). وهي: الليبرالية الغربية، الماركسية، الوجودية، الدين. تعتبر الليبرالية الغربية نفسها الوارث الأصلي لفلسفة أصالة الإنسان وثقافتها في التاريخ، وتعتبر ذلك تياراً فكرياً ثقافياً، بدأ من اليونان القديمة، ووصل إلى كماله النسب في أوربا المعاصرة. وتنطلق هذه النظرة من النظرية الخاصة لميثيولوجيا اليونان القديمة، التي تؤكد على وجود مسافة ومنافسة وتضاد بين السماء والأرض، بين عالم الآلهة وعالم الناس. وتقرر أن الآلهة هي قوى ضد الإنسان، وإن جميع جهودها وأحاسيسها تقوم على سلطتها الجبارة على الإنسان وتقييده بضعفه وجهله، لأنها تخشى وعي الإنسان، وحريته، واستقلاله وسيادته على الطبيعة. وعلى هذا الأساس، كانت أصالة الإنسان اليونانية، تسعى للوصول إلى أصالة الإنسان بجحودها للآلهة وإنكار سيادتها، وقطع حبل عبودية الإنسان-السماء. لذلك كان الاهتمام بتلك العناصر التي تبدع للإنسان السلطة واللذة. أما في القرون الوسطى، فقد أوجدت التضاد ما بين السماء والأرض، لكنها أظهرت الإنسان محكوماً جبرياً لمشيئة الله ووضيعاً في الأرض، لذلك ادعت أن طريق سعادة الآخرين الوحيدة هي التبعية العمياء والانتساب التقليدي الأعمى لهؤلاء، والانتماء للمنظمة الرسمية التي تدار بواسطة هذه المظاهر الرسمية لله في الأرض. ولهذا تُباد أصالة الإنسان في القرون الوسطى. أما ثاني الاتجاهات الفكرية، وهو الماركسي، الذي ذهب إلى أن الوصول إلى تفتح القابليات الإنسانية يتم عن طريق حرية الأشخاص والأفكار في التحقيق العلمي والمواجهة الفكرية والإنتاج الاقتصادي. والماركسية هنا تعرّف نفسها على أنها طريق لتحقيق الإنسان الكامل، إلا أن الإنسان في المادية الديالكتيكية، لم يكن له موطأ قدم، فهي فلسفة علمية تقوم على أساس التضاد الجبري في الحركة والتطور، وتبدل الكمية بالكيفية، والتي تعمل كالقوانين الجبرية الخارجة عن طاقة الإنسان، هي بنفسها، قبلت تحطيم النظام الرسمالي وتحقق المجتمع الشيوعي. يقول شريعتي: في مثل هذا الجبر المادي المطلق، أين نجد الاختيار الإنساني المستقل؟ أي معنى لهذا الاختيار، الذي هو الوليد الطبيعي الأبدي لمثل هذا الجبر، وأية مسؤولية له؟. أما الوجودية، فهي تدعي ذلك أكثر من المثالين السالفين، الليبرالية الغربية والماركسية، وكما يقول سارتر: الوجودية هي أصالة الإنسان، وبالطبع-على حد قول شريعتي- له الحق في هذا الادعاء أكثر من سَلَفيه. وتعرف الوجودية الإنسان بأنه نسيج في العالم، وجود ليس له أي خصلة أو خاصية معينة من قبل الله أو الطبيعة، فهو لديه القوة على الاختيار، فهو يصنع نفسه بنفسه ويبدعها. لهذا كان الإنسان ليس مخلوقاً لله، ولا هو مخلوق الطبيعة، ولا هو وليد آلات الإنتاج، بل هو-كما يقول شريعتي وفقاً لتصورهم- إله يخلق نفسه. أما رابع التيارات الفكرية الكبرى، الذي هو أقدم من هذه الثلاثة وأعمقها جذراً، هو النظرة الدينية للعالم. ولما كان كل دين يعلن أن أساس دعوتها هو هداية الناس للسعادة الأبدية، فلا بد له من فلسفة متميزة لمعرفة الإنسان، لأنه لا يمكنه التحدث عن سعادة الإنسان، ما لم يتضح له مسبقاً، المعنى المحدد للإنسان، وإذاً فإن جميع الأديان تبدأ بفلسفة التكوين وتكوين الإنسان. ففي الزرادشتية، يكون الإنسان زميل (أهورامزرد) وعضده، وحتى أنه يساعده وينصره في حرب التكوين الكبرى، من أجل انتصار الصلاح. وفي أديان وحدة الوجود العرفانية، يقوم الله والإنسان والحب بمؤامرة من أجل خلق عالم الوجود من جديد. أما في الإسلام، فتم تعريف الإنسان بأنه الموجود الوحيد في عالم الكون الذي له روح الله، والمسؤول عن أمانة الله، ويجب أن يأخذ لنفسه خُلق الله. ينتقل شريعتي بعد ذلك إلى الراديكاليون، الذين هم أبرز مفكري أصالة الإنسان، والداعين لها في أوربا القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. ففي بيان لهم نشروه سنة 1800م، قرروا فيه: أن ارفعوا الله عن قاعدة الأخلاق، وضعوا محله الوجدان، لأن الإنسان ذو وجدان أخلاقي أصيل، وهذا الوجدان الأخلاقي من وجهة نظرهم ينبع من جبلة الإنسان الذاتية، وهو ما تقتضيه طبيعته الإنسانية. وبعد ظهور عصر التحليل والتعليل العلمي، دبَّ الشك في هذا الأصل، فلم يعد الوجدان الأخلاقي يستمد جذوره من الطبيعة الذاتية للإنسان، بل أصبح ذو طبيعة اجتماعية، يستمد جذوره من طبيعة المحيط الاجتماعي المتغير جبراً. وبعد هذا العرض لأهم التيارات والمذاهب الفكرية لتحديد أصالة الإنسان، ينتهي شريعتي لوضع تصور عام عن أصالة الإنسان، وهي كما يلي: 1-الإنسان- وجود مستقل: أي له ذات مستقلة من بين جميع الموجودات الطبيعية والميتافيزيقية، وله جوهر نوعي شريف. 2-الإنسان- إرادة مستقلة: وهي أكبر قوة خارقة للعادة وغير قابلة للتفسير في الإنسان. والإرادة بهذا المعنى، هي: أن الإنسان، باعتباره العلة الأولية والمستقلة، يتدخل ويعمل في التسلسل الجبري للطبيعة، التي جعلت المجتمع والتاريخ تابعاً مطلقاً لها في تسلسل العلية. الحرية والاختيار، وهما من الصفات الإلهية، ومن أبرز مميزات الإنسان. 3-الإنسان- موجود واع: وهذه أبرز صفاته، ومعناه: أنه يفهم واقعية العالم الخارجي بقوة التفكير العجيبة والمعجزة، ويكتشف الخفايا المكنونة عن الحس، ويمكنه أن يحلل ويعلل كل حقيقة أو واقعة، دون أن يبقى في مستوى المحسوسات والمعلولات، وأن يطلع على ما وراء المحسوس، ويستدل على المعلول نحو العلة وهكذا. 4-الإنسان- موجود واعٍ ذاتياً: أي أنه الموجود الوحيد الحي الذي لا علم حضوري بالنسبة لنفسه. ويمكنه أن يدرس نفسه باعتباره موجوداً مستقلاً عن نفسه، يعللها ويحللها، ويعرفها، ويقيمها، وبالتالي يغيرها. 5-الإنسان- موجود مبدع: إن هذا الإبداع الممتزج بعمله، يجعله أمام الطبيعة تماماً وإلى جانب الله. هذا الإبداع هو الذي جعل له هذه القوة الخارقة للعادة التي تمكنه من اجتياز الحدود الطبيعية وإمكانياته المحدودة، ووهب له البعد الوجودي العجيب وغير المحدود، ومتّعه بما لم تمتعه به الطبيعة. 6-الإنسان- موجود ذو امنية، وإنه يعشق الأماني المثالية: بمعنى أنه لا يستسلم ولا يتوقف أمام ما هو كائن، بل يسعى لتغييره إلى ما يجب أن يكون، ولهذا يتفنن دائماً، ولهذا يرائي بأنه الموجود الوحيد الذي يصنع البيئة ولم تصنعه هي. ويؤكد شريعتي على أن طلب الأماني هو أكبر عامل لحركة الإنسان وتكامله، وهو يحرضه على ألا يكون ساكناً في الطبيعة والحياة، في نطاق الواقعية الموجودة الثابتة المحدودة. 7-الإنسان- موجود أخلاقي: أكد شريعتي على ضرورة البحث في معنى القيمة، فيعرفها بأنها: رابطة بين الإنسان وإحدى الظواهر التي يتوفر فيها دافع أفضل من الربح، ولهذا يمكن تسميتها بنوع من الرابطة القدسية. ويذهب شريعتي في مفهوم القيمة بعيداً، حين يقرر بأن الإنسان في هذه الرابطة يشعر بأنه حتى التضحية بوجوده وحياته، له ما يبرره. على أن التبرير هنا لا يكون تبريراً طبيعياً أو عقلياً أو علمياً، ويتمتع هذا الشعور بقبولٍ في جميع الأديان والثقافات وعلى طول التاريخ، باعتباره أسمى مظهر وجودي لنوع الإنسان. ومثلهم مثل الذي نسى حياته المادية في سبيل الأدب والفن والعلم، وشهداء الأديان، ومجاهدو الحقيقة، وأبطال الشعوب العظام. كل هؤلاء هم مبدعو القيم الإنسانية في حياة الإنسان.
***
د. حيدر عبد السادة جودة

 

(في معنى أن يكون الشعر امرأة جميلة..)

"كنت أمشي خلف الحلاج في سكك البيضاء، فوقع ظل شخص من بعض السطوح عليه. فرفع الحلاج رأسه فوق بصره على امرأة حسناء، فالتفت إلي وقال: سترى وبال هذا علي ولو بعد حين.." ـ رفيق الحلاج أبي ذر البيضاوي ـ
في معنى أن يكون الشعر حالة نفسية، لا تستعيد أثرها القيمي في الكينونة والوجدان، دون معرفة كامنة بالشريك الحاضر بالوعي والضرورة الاعتبارية؟.
لا يحتمل السؤال أكثر من وازع مفرد، يتجسد هذا الإدراك الحتمي الإنساني. هو نفسه الذي يجمعنا اليوم، وعلى أكثر من تأويل، ليبرر هذا الإلباس الايتيقي الجائل بين دروب الزمن ومتاهاته، ويحول المفكر فيه إلى واقع أدبي قائم الذات، أثر مفارق في الصيرورة النووية للرحم والدم والشعور بالانتماء للقلب الواحد والمصير الواحد.
لا توجد حياة دون رفيق/ رفيقة درب. ولا يوجد يوم نتنفسه، أو فجر ننتظر قدومه، أو قابلية للأشياء، مهما صغرت، دون أن نتعب قليلا في البحث عن ملاذ خاص وحضن استثنائي. هذه قيمة فوق العادة، لا نستثمرها فقط لنبوح بمكونها. بل هي طبيعة أقوى من أي مرتكز تدبيري لمدارة العمر وحصاده المفترض.
بيد أن انبعاث طاقة هذا الامتداد العاطفي، لا تستسيغه التجردات الهاوية، أو الانتقالات غير المبنية على تقييد الهواجس وتحويلها إلى انفعالات بديلة وإيجابية إلى حد ما. فالخلفية الثقافية والاجتماعية للعلاقة الزوجية، تؤثر بشكل كبير في مستقبل ذاك الأفق، وتلك المراهنة على افتئات الممكن وسردياته.
أن تكون هي ظلك المنبعث من روحك، الخيال المجنح الذي يقيك من أرياح السقوط، العطر الذي يأوي إلى فنارك، فينشر السعادة بين الأضلع والأسماء المديدة. هو شيء مختلف تماما، كما لو أنك تولد لمرة أخرى، دون أن يكسبك ذلك لذاذة هاربة أو نذرا لإعالة جديدة مقنعة أو غامضة.
عندما تكون أنت هو هي، بالمعنى الفيزيقي للكلمة، يصبح الفعل الوجودي هنا، بابا مفتونا بالتجلي، وما يرائيه عن كل ما يعاين. لا يقاس بقياس الإحساس الإني، ولا يشاهد بالقلب المجرد. فهو أشعر من شعر الأشياء المقولة، وأنور من نور الأمداء المقدورة، وأبلغ من بلاغة ثراء السنين والتجارب والأتون الثاوية.
فمن يصف خليلته بما أوحى له شعره، فلن يسع العقل أن ينطق إلا بما وعا في لحظة الانكتاب. فأنت أجرأ بالقول حينها، دونا عن الأعماق العميقة والأنساق السحيقة. فهل يكون ما بينك وبين شاعرتك، مجرد تحويم أو تعالق أو اقتراب أو تصميم ظرفي؟
لا يقوم هذا المعنى، دونا عن التمدد في البدل الفكري والوجداني، ودونا عن التفرد بأخلاق العيش أو نثر الأخلاق. على أن ذلك أيضا، لا يستحضر سوى بضعة من نتف وشتات، لا تختزل أدنى ارتقاء أو سلوك أو مماحكة استعارية.
ولكي أكون قديرا بهذا التماثل، أقول قول الحلاج في الحب، مهما اقتربت مناطاتهما أو اختلفت لا ضير: " كلمتان جرتا في الأبد كما جرتا في الأزل ". فالذي يوتر حبلهما ويشدده عبورهما في نفس المدى والامتداد. أبد يلزمه أزل، وأزل يتغذى على زخم صيرورة أبد منتظم ومكرس لطبيعة التكوين والتشكل.
إن فكرة الاحتفاء بهذا النوع من الإبداع الإنساني، بين روحين يحملان هما وبحثا مضنيا عن المغزى الحقيقي لأسئلة الحياة والوجود، هو حفر في ماهية لغة مغايرة، لغة تبحث عن خطاياها، بقوة التجريد المستباح، الخيال السادر المندس تحت قهرية حياة ذاعرة مرعبة، فلا شيء آخر غير الواقعي يدعو إلى تقمص أشيائنا الهاربة، المنتفضة من ركام السخافات واللاجدوى، وأيضًا التماثل المفضي إلى اكتناه حقيقة ذواتنا. بعبارة أخرى، بدون وجود مادي لمدركاتنا الموصومة الزائلة، لننتمكن من فهم علاقتنا بشريكة الحياة، التي هي في طبيعتها قصيدة شعرية، أرجوحة لمزهرية تتمرس على نشدان الجمال والبهاء والأثر الطيب.
***
د مصـطـــفَى غَـــلْمَــان

التلقين هو احد الاساليب التعليمية القديمة التي تعتمد على نقل المعلومات بشكل مباشر من المعلم الى المتعلم، دون اتاحة الفرصة للمتعلم للتفكير او التحليل او النقد. وعلى الرغم من ان التلقين قد يكون مفيدا في بعض الحالات، الا انه يعتبر بشكل عام احد الاسباب الرئيسية لتخلف التعليم.
كثيرا ما تنتشر مقاطع فيديو تتناول ما يعرف بـ"جراثيم التعليم"، والتي تزعم ان فنلندا تخلصت منها لتصبح في طليعة الدول الرائدة في التعليم ومناهجها الحديثة. هذه المقاطع تؤكد على ان التخلص من الواجبات المنزلية والاختبارات المرهقة وكثافة المواد والدروس الخصوصية هو سر نجاح فنلندا. ولكن في الحقيقة، لم تتخلص فنلندا من هذه الامور بشكل كامل، كما انها لا تزال متبعة في عدد من الدول الاخرى المتفوقة في التعليم، مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية والسويد وهولندا وغيرها من الدول المتقدمة. ما تشترك فيه هذه الدول هو اعتماد انظمة حديثة لتقييم الطلاب ورفع معايير اختيار المعلمين والتركيز على تطوير المناهج الدراسية خاصة في مجالات الرياضيات والعلوم. ومع ذلك، فان ما اغفلته هذه المقاطع هو ان السبب الرئيسي المشترك لنهضة فنلندا وبقية الدول المتفوقة هو نبذها للتلقين.
التلقين، بكونه اسلوبا تعليميا يعتمد على الحفظ والاسترجاع، يقيد العقل ويحد من القدرة على التفكير الابداعي والتحليلي، مما يؤدي الى جمود الفكر. كما ان المتعلم الذي يعتمد على التلقين لا يكتسب المهارات اللازمة لحل المشكلات بشكل مستقل، بل يعتمد على الحلول الجاهزة التي يتلقاها، مما يضعف قدرته على مواجهة التحديات. بالاضافة الى ذلك، يجعل التلقين التعلم عملية مملة وغير ممتعة، مما يقلل من دافعية المتعلمين ورغبتهم في التعلم، ويعزز السلبية والاعتماد على الاخرين، حيث لا يشجع الطلاب على طرح الاسئلة او التعبير عن ارائهم.
التفكير النقدي، في المقابل، كونه عملية تحليل المعلومات وتقييمها بشكل موضوعي واتخاذ القرارات بناء على الأدلة والحجج، يمثل بديلا قويا للتلقين، فهو يمكّن المتعلمين من فهم العالم من حولهم بشكل افضل من خلال تحليل وتقييم المعلومات بموضوعية، كما يساعدهم على اتخاذ قرارات مستنيرة بناء على الادلة والحجج بدلا من الاراء والمعتقدات الشخصية. بالاضافة الى ذلك، يساهم التفكير النقدي في حل المشكلات بشكل فعال من خلال تحليلها وتحديد الحلول الممكنة وتقييمها بموضوعية، واخيرا، يتيح التعبير عن الاراء بشكل فعال والدفاع عنها بالادلة والحجج.
تجارب الدول المتقدمة
لقد ادركت الدول الصناعية والمتقدمة منذ فترة طويلة ان التلقين يقيد الابداع والابتكار، وهما المحركان الاساسيان للتقدم والازدهار. لذلك، قامت هذه الدول باجراء تغييرات جذرية في انظمتها التعليمية، واستبدلت التلقين بالتفكير النقدي كركيزة اساسية لثورتها التعليمية. على سبيل المثال، في فنلندا، حيث يعتبر التعليم من افضل الانظمة التعليمية في العالم، يركز بشكل كبير على التفكير النقدي وحل المشكلات من خلال التعلم القائم على المشاريع والتعلم التعاوني، وتقييم الطلاب بناء على مهاراتهم في التفكير النقدي وحل المشكلات، وليس فقط على حفظ المعلومات. وفي كوريا الجنوبية، التي شهدت تحولا اقتصاديا هائلا في العقود الاخيرة، يلعب التفكير النقدي دورا حيويا في التعليم من خلال اسلوب التعليم القائم على المناقشة وتشجيع الابتكار والابداع. وفي اليابان، يتم التركيز على تعليم الطلاب كيفية التفكير بشكل منطقي وتحليلي، وكيفية استخدام هذه المهارات في حل المشكلات واتخاذ القرارات من خلال اسلوب التعليم القائم على حل المشكلات والعمل الجماعي. وقد اثبتت هذه الدول ان التفكير النقدي هو احد اهم العوامل التي تساهم في تحقيق التقدم والازدهار. فالمجتمعات التي تعتمد على التفكير النقدي تكون اكثر قدرة على الابتكار والتكيف مع التغيرات، وتكون اكثر قدرة على حل المشكلات المعقدة التي تواجهها.
ختاما، يتضح جليا ان التلقين يمثل عائقا حقيقيا امام تطور التعليم، بينما يفتح التفكير النقدي افاقا واسعة نحو المعرفة والابداع. هذا النهج ليس مجرد نظرية، بل هو واقع ملموس تجسد في تجارب الدول المتقدمة مثل فنلندا، وسنغافورة، وهولندا، والسويد، والمملكة المتحدة، وغيرها، التي وضعت التفكير النقدي في صلب انظمتها التعليمية.
ان تبني الانظمة التعليمية في العالم العربي للتفكير النقدي ليس خيارا، بل ضرورة ملحة لمواكبة تحديات العصر. يجب ان ننتقل من ثقافة الحفظ والتلقين الى ثقافة التحليل والابتكار، حيث يتم تشجيع الطلاب على طرح الاسئلة، والتفكير بشكل مستقل، وتطوير مهاراتهم في حل المشكلات واتخاذ القرارات.
بدون هذه الخطوة الحاسمة، ستظل الشعوب العربية حبيسة دائرة التخلف في مجالات الصناعة والابتكار. لن نتمكن من بناء اقتصاد قائم على المعرفة، ولن نستطيع المنافسة في عالم يتسم بالتغير السريع والتقدم التكنولوجي. ان الاستثمار في تنمية مهارات التفكير النقدي لدى ابنائنا هو استثمار في مستقبلنا ومستقبل اجيالنا القادمة.
***
محمد الربيعي
......................
* بروفيسور متمرس ومستشار دولي في التعليم

 

يطرح أفلاطون في كتابه "الجمهورية" مفهوم العدالة ويقترح فكرة المدينة المثالية التي يحكمها الفلاسفة. يعتقد أن المجتمع ينبغي أن ينقسم إلى ثلاث طبقات مختلفة، كل طبقة تؤدي دورها الخاص، ما يضمن الانسجام والعدالة. تتجلى فكرة الدولة المثالية في السعي لتحقيق العدالة والمساواة بين الأفراد. أفلاطون يشدد على أهمية التعليم والتربية في تشكيل الأفراد ليكونوا فضلاء. كما أنه يقدم مفهوم "الكهف"، الذي يوضح كيف أن معظم الناس يعيشون في ظلمة الجهل، بينما القليل منهم لديهم القدرة على رؤية الحقيقة.
يوتوبيا القرن العشرين
في القرن العشرين، ظهرت العديد من اليوتوبيات التي اقتبست من فكرة الدولة المثالية. استمرت هذه الأفكار لتتطور خلال القرن العشرين، مع التركيز على التحديات الاجتماعية والسياسية. يظل مفهوم الدولة المثالية مصدر إلهام للمناقشات الفلسفية حتى اليوم، وتعني أن الحكومات ينبغي أن تتألف من قادة ذوي معرفة عميقة بالقضايا الاجتماعية والسياسية في العصر الحديث. وفي الوقت الراهن، تعتبر الديمقراطية التي تتيح للجميع التصويت، والسعي لتحقيق العدالة والمساواة بين الأفراد عنصرًا أساسيًا في المجتمعات المعاصرة، بينما تحتوي أفكار أفلاطون على قيم يمكن أن تكون ملهمة، إلا أن التطبيق العملي لها يتطلب مراعاة السياقات الاجتماعية والسياسية المعقدة في العصر الحديث، ويتطلب توازناً بين المبادئ الفلسفية والواقع العملي.
الدولة في العصر الحديث
تقوم العديد من الدول على فكرة أن الحكومة يجب أن تعبر عن إرادة الشعب وأنها تعمل لخدمته، والعدالة ليست مجرد غياب الظلم وحسب، بل تشمل توزيع الموارد والفرص بشكل اعتدالي، وتتبنى الدول سياسات تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، مثل البرامج الاجتماعية والإصلاحات الاقتصادية، وتسعى الدول لتحقيق موازنة بين الحقوق الفردية والمصالح الجماعية، مع التركيز على العدالة والمشاركة والمساواة. أساسيات بناء الدولة تختلف من دولة إلى أخرى حسب السياقات الثقافية، والسياسية، والاقتصادية، وكيفية وقدرة الدول على تطبيقها في بناء الدولة بطرق تتوافق مع احتياجاتها وظروفها الخاصة واختلاف الاستراتيجيات، لكن الهدف النهائي يبقى السعي لتحقيق العدالة، والمساواة، والتنمية المستدامة. تشكل نظرية العقد الاجتماعي وعلاقتها بمفهوم الحرية الشخصية مبدأ مهم في بناء الدولة، رغم ان لها جوانب متعارضة، ولكن هذه المتعارضات تعتمد على كيفية تفسير وتطبيق كل منهما. يسعى العقد الاجتماعي إلى تحقيق موازنة بين الحرية الشخصية والأمان الجماعي. في الدول الديمقراطية، يتم وضع قوانين لحماية الحقوق الفردية، مما يعكس التزام المجتمع بالمحافظة على الحرية الشخصية. يُعتبر هذا التوازن تحديًا دائمًا في الفلسفة السياسية، ولا يزال موضوعًا للنقاش في المجتمعات الحديثة.
نظرية الحاكم بأمر الله
نظرية الحاكم بأمر الله، تشير إلى مفهوم أن الحاكم يمتلك السلطة المطلقة ويعتبر مصدر الحق والعدالة، يمكن تحليلها من زوايا مختلفة وعلاقتها بنظرية الدولة المثالية وحكم الفيلسوف، مثل أفكار أفلاطون حول الحكام الفلاسفة، يفترض أن الحاكم بأمر الله يتمتع بفهم عميق للعدالة والمصلحة العامة، ويعتبر الحاكم مسؤولا عن تحقيق العدالة في المجتمع، ما يعكس بعض جوانب الدولة المثالية، بينما يدعو أفلاطون إلى حكم الفلاسفة الذين لديهم المعرفة، إلا أن الحاكم بأمر الله يمنح نفسه سلطة مطلقة قد تؤدي إلى الاستبداد، في الدولة المثالية، يفترض وجود توازن بين القوى الحاكمة والمشاركة السياسية، بينما في نظرية الحاكم بأمر الله، قد تغيب هذه العناصر ويؤدي تركيز السلطة في يد فرد واحد إلى انتهاك الحقوق الفردية والحريات، ما يتعارض مع مبادئ الدولة المثالية الفلسفية. بينما تحمل نظرية الحاكم بأمر الله بعض العناصر المشتركة مع فكرة الدولة المثالية، إلا أنها تتعارض مع الفلسفات التي تدعو إلى المشاركة السياسية والعدالة المتوازنة. يعتبر تحقيق الدولة المثالية في السياقات المعاصرة تحديًا يتطلب توازنًا بين السلطة والحرية.
نقد أبستميولوجي
تطبيق نظرية الحاكم بفضل الله في الواقع يمكن أن يتجلى بأبعاد متنوعة، تختلف حسب السياق التاريخي والمكاني. حيث يمارس الحاكم سلطة مطلقة على كل مجالات الحياة السياسية والاجتماعية. تُعتبر قراراته نهائية ولا تُقابل عادةً بمناقشة أو نقد ،بعض الأنظمة السلطوية تنظر إلى الحاكم كرمز للعدالة والاستقرار، يُصدر الحاكم القوانين وفقًا لرؤيته الشخصية ، وقد لا تكون هذه القوانين دائمًا ناتجة عن عملية تشريعية ديمقراطية أو أنظمة قانونية ، حيث يُعتبر الحاكم هو المحقق والمنفذ للقوانين ،قد تُستخدم أساليب القمع والرقابة على وسائل الإعلام والمجتمع المدني لضمان عدم وجود معارضة، وجود أنظمة تُقيّد الحريات الشخصية وتفرض رقابة صارمة على النشاطات السياسية والاجتماعية، تروج للحاكم نفسه كحامي للمجتمع، وقد يستخدم الدين أو الأيديولوجيا لتعزيز مكانته ، ويستغل الحملات الدعائية التي تُظهر الحاكم كرمز للعدالة والاستقرار، حتى لو كانت هذه الصورة بعيدة عن الواقع. بينما يمكن أن يظهر تطبيق نظرية الحاكم بأمر الله جوانب من الحكم الفعال، فإنها غالبًا ما تؤدي إلى انتهاكات لحقوق الإنسان والحريات الفردية، يظهر تطبيق هذه النظرية التوتر بين السلطة المطلقة والحاجة إلى نظام حكم عادل ومشارك. هذه الانتقادات تشير الى أن نظرية الحاكم بأمر الله قد تكون غير فعالة في تحقيق العدالة والاستقرار في المجتمعات الحديثة وتدعو الحاجة إلى تبني نماذج حكم أكثر ديمقراطية وشمولية تضمن حقوق المواطنين وتعزز المشاركة الفعالة في صنع القرار.
الأسس الفلسفية
تستند نظرية الحاكم بأمر الله إلى مجموعة من الأفكار الفلسفية التي شكلت فهما معينا للسلطة والحكم. منها اعتمادها على فكرة منح الحاكم صلاحية الحكم من الله، ما يعني أن سلطته تأتي منه لا من الشعب. يعتبر الحاكم وكيلا لله على الأرض، ولديه الحق في اتخاذ القرارات دون الاستعانة بغيره أو الحصول على موافقات. تحتوي بعض عناصرها على أفكار أرسطو السياسية، حيث ينظر للحاكم كخبير أو حكيم يمتلك المعرفة الكافية للحكم. وهذا يفترض أن يكون الحاكم على دراية بالقضايا الاجتماعية والسياسية لتحقيق المصلحة العامة. كما يعتمد الحاكم على التاريخ والتقاليد لتأكيد شرعيته، ما يعزز اعتباره وارثا لنظام حكم معين، استنادا إلى أن العائلات الحاكمة أو السلالات جزء من التراث الثقافي والسياسي. هذه الأفكار الفلسفية أساس النظرية، حيث تتداخل المعاني الدينية والسياسية لتبرير السلطة المطلقة وتأكيد دور الحاكم كمدافع عن العدل والمصلحة العامة.
المخلص
نظرية الحاكم بأمر الله، التي تشير إلى فكرة الحكم المطلق والسلطة الإلهية، ترتبط بفكرة المخلص في نهاية الزمان في عدة جوانب دينية وثقافية. في فترات الأزمات السياسية والاجتماعية، يزداد البحث عن مخلص يرجع النظام ويحقق الاستقرار، يُعتبر المخلص بمثابة الأمل في تغيير الوضع الحالي، تُستخدم فكرة المخلص لتفسير الأحداث التاريخية الصعبة، حيث يُعتقد أن الفترات الصعبة هي تمهيد لظهور المخلص، يُعزز هذا الإيمان من قدرة المجتمعات على الصمود في وجه التحديات العديدة. العديد من الحكام الذين يتبنون نظرية الحاكم بأمر الله يستخدمون فكرة المخلص لتعزيز شرعيتهم، يعزز هذا من موقفهم كقادة روحيين قادرين على توجيه المجتمع نحو الخير، قد يستخدم البحث عن المخلص كوسيلة للهروب من الواقع المرير الذي يعاني منه الناس، يؤدي هذا إلى تعزيز الأمل في تغيير مستقبلي أفضل، تجعل هذه الأسباب من فكرة المخلص جزءاً من النظرية العامة للحاكم بأمر الله، حيث تعبر عن الأمل في تحقيق العدالة والطمأنينة في عالم مليء بالتحديات. يعتبر البحث عن المخلص تعبيراً عن الحاجة البشرية إلى الأمل والتغيير، يعتبر دور المخلص في تحقيق العدالة الإلهية محوراً مهماً في العديد من التقاليد الدينية والفلسفية. يعبر عن الأمل في مستقبل أفضل ويعمل على تعزيز القيم الأخلاقية والعدالة في المجتمع، مما يساهم في بناء عالم أكثر توازناً وإنصافاً، أن مفهوم المخلص يختلف من دين إلى آخر، لكنه يظل مرتبطاً بفكرة تحقيق العدالة والأمل في مستقبل أفضل. في جميع الأديان، يعتبر المخلص رمزاً للحق والخير، ويعبر عن تطلعات البشرية نحو السلام والعدالة. أفلاطون في جمهوريته يقدم مفهوم العدالة وكيفية بناء مجتمع مثالي، كذلك نظرية المخلص في آخر الزمان ونظريات اليوتوبيا تعكس السياقات الاجتماعية والسياسية في فتراتها، فالأزمات والتحديات في المجتمعات تدفع المفكرين للبحث عن حلول مثالية، يمكن القول إن هذه النظريات مترابطة تاريخياً، حيث تشترك في التأمل في طبيعة المجتمع والعدالة، وتظهر كيف تغيرت الأفكار عبر الزمن استجابة للتحديات الاجتماعية والسياسية. لكن تحقيق العدالة والاستقرار في المجتمعات الحديثة تدعو إلى تبني نماذج حكم أكثر ديمقراطية وشمولية تضمن حقوق المواطنين وتعزز المشاركة الفعالة في صنع القرار.
***
غالب المسعودي

في البدء، حين أراد فرديناند دي سوسير أن يشيّد تصورًا بنيويًا للغة، كان يدرك أنه يؤسس لمفهوم جوهري: الدال لا يرتبط بالمدلول إلا عبر اعتباطية متفق عليها داخل النسق الاجتماعي. غير أن هذا الاتفاق، الذي بدا وكأنه حقيقة بديهية، لم يكن سوى بناء هش، قابلاً للتشظي تحت وطأة التحليل النقدي الذي جاء لاحقًا ليخلخل سطوة المركزيات اللغوية. إن العلاقة بين الدال والمدلول لم تكن يومًا علاقة طبيعية أو جوهرية، بل هيمنوية بامتياز، تتحكم فيها سلطة المعايير والسرديات المهيمنة، حيث يتم تطويع المدلولات وفقًا لسياقات متغيرة، ليست بريئة من وقع الأيديولوجيا وصراعات السلطة. ففي كل لحظة، كان للغة دور في تشكيل الوعي الجمعي، لا كوسيلة محايدة للتواصل، بل كأداة تُعيد إنتاج الأنظمة السياسية والاجتماعية السائدة.
لم يكن جاك دريدا حين فجّر مفهوم “الاختلاف” يفعل أكثر من كشف هذا الزيف البنيوي، إذ أوضح أن المعنى ليس حاضراً ولا ثابتاً، بل هو دوماً مؤجل، منزاح، متوارٍ خلف سلسلة لا نهائية من الإحالات الدلالية التي تفكك أي ادعاء بالاستقرار. وهكذا، بدأ تشظي العلاقة بين الدال والمدلول، وصارت اللغة فضاءً مفتوحًا على احتمالات لا تنتهي، يتعذر اختزالها في يقين واحد أو دلالة قارة. فقد فقد الدال سطوته التقليدية، وانفلت من إساره البنيوي، متحولًا إلى طيف عابر لا يستقر في معنى بعينه، بل ينفتح على عمق اللامحدود من التأويلات. إن هذا التباعد المستمر بين الدال والمدلول قد جعل اللغة تتأرجح بين الممكن والمستحيل، بين التفكيك والتراكم، متكسرة تحت وطأة التساؤل، وممزقة بين سرديات متنافسة، لا تسعى للتوصل إلى حقيقة واحدة، بل إلى تقويض الأوهام التي كانت تُرسخ عن اليقين.
غير أن هذا التشظي لم يكن محصورًا في الخطاب الفلسفي وحده، بل سرعان ما انعكس على بنية الواقع السياسي والاجتماعي. إذ لم يعد للغة وظيفة وصفية محايدة، بل تحولت إلى أداة للهيمنة، حيث أُعيدت صياغة المعاني لتناسب مشاريع السلطة. الديمقراطية، الحرية، العدالة، باتت كلمات منزاحة عن دلالاتها الأصلية، مستنزفة في دوائر الدعاية، تُحمل من المدلولات ما ينسجم مع مصالح القوى المهيمنة، لا مع الواقع الفعلي لمن يعيشون في هامش السردية الكبرى. كلمات مثل “الحرية” و”العدالة” لم تعد مجرد مفاهيم مجردة، بل أصبحت مسلّحة تُستخدم كأدوات لتثبيت الأوضاع القائمة، تمارس وظيفة تطويعية للأفراد والجماعات على حد سواء. إن لعبة الدال والمدلول لم تعد مسألة لغوية صرفة، بل غدت فعلًا سياسيًا بامتياز، حيث يتم إنتاج المدلولات وفقًا لحاجات السوق، والإعلام، والدولة، في عملية محكمة لإعادة تشكيل الوعي الجمعي، عبر قسر الدال على الامتثال لسياقات سلطوية تحكمها المصالح لا الحقائق.
هذه العلاقة بين الدال والمدلول تجلت أيضًا في المجالات الثقافية والفنية، حيث كانت اللغة والعلامات تُستعمل في معركة أكبر من تلك التي تُخاض داخل الكتب والأدوات الفكرية. فإذا كانت الفلسفة قد عكفت على تفكيك البنى اللغوية وإظهار هشاشتها، فإن الأدب والفن قد تطرقا إلى تلك الهشاشة بصورة أكثر جسدية وملموسة. فمن تيار الوعي في الرواية، حيث تتفكك الحبكة ويتوارى السرد الخطي لصالح تداعيات سيالة للوعي، إلى التجريدية في التشكيل، حيث يتوارى الشكل لصالح اللاشكل، صار الفن تعبيرًا عن هشاشة العلاقة بين العلامة ومعناها. فالفن، بعنفوانه التجريدي، يتحدّث بلغة متشظية، لا تبحث عن معنى محدد، بل عن حرية في التعبير. لم يكن ذلك محض تجربة جمالية، بل كان استجابة لمأزق ثقافي عميق: إذا كانت المعاني غير مستقرة، وإذا كانت اللغة غير قادرة على القبض على الحقيقة، فما الذي تبقى للفن سوى الاحتفاء باللايقين والانفتاح على احتمالات التأويل؟ إن الفن، كما الفلسفة، يصبح أرضًا اختبارية يُقاس فيها هشاشة العلاقة بين ما يُقال وما يُراد قوله، بين الدال والمدلول في تفاعل مستمر لا يحاول تثبيت شيء بل يظل في حركة دائمة.
في السياق الراهن، ومع الطفرة الرقمية، جاء هذا الانهيار ليجد صدىً عميقًا في التحولات التي فرضها الزمن الرقمي. إذ بات الدال يتحرر كليًا من أي مدلول ثابت، متحولًا إلى محض ترميز رقمي، يتجلى في أشكال متعددة، لا يحكمه سوى تدفق المعلومات واستراتيجيات الخوارزميات. المعنى أصبح متقطعًا، عائمًا، يتم إنتاجه وفقًا للميكانيزمات الخوارزمية التي تحدد له مواضعه في فضاء رقمي لا مركزي. لم يعد المعنى مجرد كلمة أو فكرة يمكن فهمها بشكل ثابت، بل هو سلعة خاضعة لتحولات السوق الرقمية. يصير كل شيء تحت سيطرة التفاعلات الرقمية، حيث يصبح كل دال في حالة من اللامحدودية والتغير المستمر. كما أن المعنى أصبح عرضة للتشويه والانتقاء، حيث تتدخل خوارزميات ضخمة في تشكيل ما يُعرض لنا من معاني، وبالتالي يتحول الدال إلى أداة لتحقيق مصالح مهيمنة.
وقد تحوّل الفضاء الرقمي إلى ساحة تتسابق فيها السرديات المختلفة، كل واحدة تسعى لإنتاج معانٍ جديدة تتلاءم مع مصالح السلطة الاقتصادية أو السياسية. من خلال منصات التواصل الاجتماعي، على سبيل المثال، يمكن التحكم في ما يُقال ويُكتب، ويُشوه المعنى أو يُقلب وفقًا لمصالح ضيقة. في هذا السياق، لا يعود الحديث عن معنى أو مدلول ثابت، بل عن سطوة الخوارزميات التي تحدد ما يعبر عنه الدال في واقع بلا مرجعيات ثابتة. إن الأسئلة التي تطرحها هذه التحولات الرقمية أصبحت وجودية بامتياز: إذا كانت الكلمات قابلة للبرمجة، وإذا كانت السرديات تُصنع وفقًا لميكانيزمات التحكم الرقمي، فأين تقع الحقيقة في عالم تُعاد فيه صياغة الواقع وفقًا لما تقتضيه المصالح الاقتصادية والسياسية؟ ماذا يعني أن تكون هناك لغة في فضاء رقمي لا تملك فيه الكلمات أي مركز ثابت؟ وماذا يعني أن تكون المعاني مجرد مكونات قابلة للتغيير مع تدفق الخوارزميات؟
هكذا، لا يبدو أن الأمر مجرد تفكك لعلاقة الدال والمدلول، بل هو انهيار كامل للفرضيات التي كانت تؤطر مفهوم المعنى نفسه. لقد تجاوزنا مرحلة التأجيل الدلالي، ودخلنا في طور جديد: ما بعد المعنى، حيث لا يقين، ولا مدلولات قارة، بل فضاء مفتوح على احتمالات لا نهائية، تدور فيه اللغة حول ذاتها، بلا أفق واضح، وبلا سلطة حاسمة تحدد ماذا تعني الأشياء حقًا. وبذلك، تُصبح اللغة، في هذا السياق المعاصر، مجرد ركام من الإحالات المتداخلة التي تبتعد عن أي محاولة جادة للاقتراب من حقيقة ثابتة، بل هي تنبض بحرية محكومة فقط بالآليات التي تشكل الواقع الاجتماعي والسياسي في عصر المعلومات.
***
إبراهيم برسي

ثمّة سكون فكري يعتري مجتمعاتنا منذ مدّة طويلة، ودراسة هذه الظاهرة تُعدّ عملية مفتوحة لا تنتهي، مهما كثرت مشاريع الإصلاح السياسي والثقافي ونقد التراث. كلّها تحاول فهم الظاهرة والإتيان بحلّ، دون تشخيص دقيق لأنمط التفكير أو (الرؤية الوجودية) (Worldview) لدى العقل العربي.
ولهذا، نجد أن أغلب الجهود المبذولة في نقد التراث ومحاولة إعادة بنائه، سواءً بأدوات عصرية أو بأدوات داخلية تراعي السياق، غالبًا ما تدور في دائرة مفرغة من إعادة إنتاج ما هو مألوف لدى ذهنيّة العربي دون أن تُقدّم قيمة نقدية جوهرية، فضلًا عن العجز عن صياغة حلول فعَّالة أو تطبيقها عمليًا. وهنا يتجلّى التحدي الحضاري الأكبر: كيف نُحدث تحولًا في بنية التفكير قبل أن نطمح إلى اصلاح ما ينبثق عنها؟
ومما لا شك فيه أن المجتمعات المنغلقة والمتأخرة، غالبًا ما تعيش حالة خوفٍ عام. من جهة هو خوف من أي تغيير ثقافي قد يهدد توازنها الموروث، ومن جهة اخرى، هو تمسّك قلق بالموروث ذاته، مدفوعًا بمحاولات دؤوبة لتبريره فلسفياً بدلًا من تشخيصه بعقل متجرد، يشعرنا بالمسؤولية تجاه ما شكل وعينا الجماعي. إن جوهر هذا الخوف، ليس الحفاظ على التراث، بل التمسّك العصابي به، إذ يحوّله إلى صنمٍ منزّه عن النقد، رغم النتائج المتردية التي باتت فادحةَ الوضوح.
عندما وصف المفكر عبد الله القصيمي العرب «كظاهرة صوتية»، يتحدثون أكثر مما ينصتون، ويجيدون التفوه لا الفهم. فالخطاب في هذا السياق، يُصبح وسيلة لتأكيد الهوية لا لتطويرها أو أختبار المجهول. رفضه للتراث لم يكن نابعًا فقط من اعتبارات إيمانية أو منطقية، بل من رفضه لتحوّل التراث إلى سجنٍ ناعم يمنع الانسان من الانفتاح على نفسه والعالم.
من ناحية أخرى، قدّم محمد عابد الجابري مشروعًا في نقد العقل العربي ودراسة بنيته، وخلص إلى تقسيمه إلى نظم معرفية: البرهانية (العقلانية)، العرفانية (الذوقية/الصوفية)، والبيانية (اللغوية/النقلية). وانتهى إلى أن البيان هو ما استقرّ عليه العقل العربي في النهاية، عقلٌ يبحث عن الاتساق مع المرويات والاخبار، على حساب التفكير العقلي واختبار الواقع. ويسعى إلى الانسجام مع الجماعة، لا إلى مواجهة الاسئلة الصعبة. فعند الجابري، يصبح الموروث هو المرجع الأعلى، بينما يُهمَّش العقل وتُقصى كل المناهج والأدوات الحديثة التي تعتبر نتاج العقل!
قد تختلف منطلقات ولغة القصيمي عن الجابري، لكن كليهما اشار إلى ملامح ازمة واحدة: الجمود عند حدود المألوف، وتقديس الماضي دون مسائلته. إنهما يلتقيان في تشخيص الحالة العربية التي، في العموم، تركن إلى فهم السلف على حساب إجتهاد المعاصرين، وترفض الاعتراف بأننا النتاج الحقيقي لهذا الموروث، كونه المدخل الأول الذي عشّش في اذهاننا منذ نعومة اظفارنا.
على ضوء ذلك، يمكن تشخيص الحالة بشكل أكثر شمولية على أنها «ظاهرة ماضوية»، أي حالة ذهنية ومعرفية تنطلق من الماضي، وتعود إليه. الماضوية ليست حنيناً للماضي أو مجرد فكر بحقبة زمنية كان عليها "أجدادنا"، بل موقفًا وجوديًا من الحياة يرفض أبسط ابجديات طبيعة الأشياء: التجدد والمغامرة والتطوّر. فحين يصبح الماضي هو المرجع الأول، لا العقل، تنغلق الذات داخل حلقة رتيبة من التكرار، ويصبح الحاضر إعادة تحضير الماضي بأشكال وأقنعة مختلفة لكن بنفس الجوهر. وبات التفكير مجرد أداة تزيينية للموروث على طريقة "أسلمة المعرفة". فالنتيجة: يُختزل الموروث من كونه مجالًا للفهم، إلى كونه سلطةً أولية تتحكم بوعي الإنسان وكينونته.
ليست المسألة في عيشنا الذهني في الماضي، بل في أن الماضي يعيش فينا! يُسيّر لغتنا، ويُشكل رؤيتنا لأنفسنا والعالم. والمشكلة لا تكمن في احترامنا للماضي، إنما عجزنا عن تشخيصه، وتحويله إلى مادة للفهم لا إلى معبدٍ للتقديس.
وحين يغيب السؤال، يغيب النمو. المجتمع الذي لا يجرؤ على مجاوزة أسلافه معرفيًا، لا يراكم خبرة، ولا يبتكر جديداً، ولا يصغي للعالم إلا من وراء حُجُب تحيل بينه وبين الفهم الحقيقي والتقدم.
وعليه فالعربي ليس مجرد ظاهرة صوتية، أو وعقلًا بيانيًا، إنما هو تمظهر حيّ لظاهرة ماضوية، تنظر إلى العالم بروح مشدودة إلى الوراء، وتعجز عن تصور المستقبل خارج أطر الموروث. أنها أزمة وعي مأزوم، يراكم الرماد ويحسبه جمراً، لذلك فإن كل محاوله للتجديد تُقابل بالريبة وتُصنف كخيانة، لا لأنها تُخطئ، بل لأنها تجرؤ على السؤال؛ سؤال المستقبل والوعي والحقيقة.
***
خالد اليماني

 

كنَّا قد انتهينا في المساق السابق إلى أنَّ اللُّغة يصعب الاحتجاج بها في شأن محاكمة أساليب العصور العَرَبيَّة؛ لأنَّ لُغة العَرَب واسعةٌ وتحتمل التعدُّد في اللهجات، وإنْ سعَى اللُّغويُّون إلى توحيدها في قوالب محدَّدة جامدة، كما أنَّها تحتمل الغلط في الرواية. ثمَّ ما يُدرينا: أكان النصُّ بصيغة مَن نُسِبَ إليه أم بصيغة راويه أو كاتبه. غير أنَّ الشِّعر أوثق في هذا المجال؛ لأن الشِّعر يَحكُمه البحر الشِّعري، ولا يَقبل التغيير كثيرًا. ولعلَّه لهذا اعتمد على الشِّعر النحويُّون واللُّغويُّون أكثر من اعتمادهم على النثر؛ لأنَّ بقاء النصِّ فيه كما قاله قائله موثوقٌ غالبًا، لضوابط الأوزان والقوافي. ثم أردفَ (ذو القُروح) بقوله:
ـ من شواهد هذا ما جاء في الخطبة الخامسة والتسعين بعد المئة، من الخُطَب المنسوبة إلى (عليِّ بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه)، في حديثه عن الرسول، صلى الله عليه وسلَّم: «ولقد واسيتُه بنفسي في المَواطن التي تَنْكُص فيها الأبطال.»(1) قال (الجوهري)(2): «واسَيْتُهُ لُغةٌ ضعيفةٌ.» فاللُّغة العالية: آسيته. إذ قيل: إنَّ أَصل واو (واسَى) الهمزة: (آسَى)، فقُلِبت واوًا تخفيفًا. ومعنى «يواسي فلانٌ فلانًا»: يُشاركه. والمواساة: المشاركة. وقيل: يواسيه: يصيبه بخير. قالوا: وكان في الأصل (يُؤاوِس)، فقدَّموا السِّين وهو لام الفعل، وأخَّروا الواو وهي عَين الفعل، فصار الفعل (يُؤاسِو)؛ فلمَّا لم تحتمل الواو الحركة، سكَّنوها، فصار: (يُؤاسِوْ)، وقلبوها ياء؛ لانكسار ما قبلها، فصار: (يُؤاسِي)، وهذا من المقلوب.
ـ يا ساتر، ما كلُّ هذه المعمعة والتقليب؟!
ـ هكذا كانت فرضيَّات اللُّغويين العجيبة! ونضيف أنَّهم قد يسهِّلون الهمزة، فيصير الفعل: (يُواسِي)، كما قالوا في (آسَى): (واسَى). وقيل: يجوز أن يكون غير مقلوب، فتكون صيغة (تفاعل من أسوت الجرح. وفي حديث (الحُدَيْبِية): «إنَّ المشركين واسَوْنا للصُّلْح»؛ جاء على التخفيف. وعلى الأَصل جاء الحديث الآخر: «ما أَحَدٌ عندي أَعْظَمُ يَدًا من (أَبي بَكر)؛ آساني بنفسه وماله.» وفي حديث (عَليٍّ): «آسِ بَيْنَهم في اللَّحْظَة والنَّظْرة.» ومن حِكَمه: «خيرُ إخوانك مَن واساك».(3) ومن المنسوب إليه، في القصيدة ذات المطلع:


باتُوا عَلَى قُلَلِ الأجْبَالِ تَحْرُسُهُمْ ::: غُلْبُ الرِّجَالِ فَلَمْ تَنْفَعْهُمْ القُلَلُ
البيت:
ما ساعَدُوْكَ ولا واساكَ أَقْرَبُهُمْ ::: بَلْ سَلَّـمُوكَ لَهَا يا قُبْحَ ما فَعَلُوا(4)

ويقال: هو يُؤاسِي في ماله أَي يُساوِي. ويقال: رَحِم اللهُ رَجُلًا أَعْطى من فَضْلٍ وآسَى من كَفافٍ.(5) هذا ما ذهب إليه اللُّغويُّون، فتنقَّلوا بالكلمة بين همزٍ وتسهيل. ولكن الأمر قد يكون أيسر من ذلك كلِّه؛ بأن يكون أصل (واسَى) (ساوَى)، أي: ساوَى غيره بنفسه، فقلَبوا. ولذا قالوا: «هو يُواسِي في ماله، أي يُساوِي». وهذا تعبير ما زال مستعملًا في بعض اللهجات، كلهجات (جبال فَيْفاء)، فيقولون: واسَى، يُواسِي، أي: شاركَ غيره في طعامٍ أو مالٍ أو غيرهما. ومن ذلك يصفون من يُعطي الآخَرين، ويشاركهم في ما هو من خالص ملكه، بصِفة (وَسْي)، فيقولون: «فلان وَسْي»، أي: مِعطاء.
ـ ثمَّ، مرَّة أخرى، ما يدرينا أكان النصُّ المنسوب إلى (عَليٍّ) بصيغة «ولقد واسيتُه بنفسي»؟ أم بصيغة «ولقد آسيتُه بنفسي»؟!
ـ ومن هنا قلتُ لك: لا حُجَّة في مثل هذا الملحظ اللُّغوي يمكن أن يُحتجَّ بها في أنَّ لُغة «النَّهْج» لا تُوافق اللُّغة المتوقَّعة من (عَليٍّ)، أو غيره من أهل عصور الاحتجاج، كما كانت تُسَمَّى.
ـ لكن الفيصل أن نجد استعمال «واسَى» في أساليب صدر الإسلام، وعندئذٍ يُلقَم (الجوهري) أحجارًا كريمة، بتخطيئه هذا الاستعمال!
ـ نعم. وستجد أنَّ الشاعر الجاهلي (قَيْس بن الحُدادِيَّة)(5) يقول:
يُواسـِي لَدَى المَحْلِ مَولاهُمُ ::: وتُكْشَفُ عَنْهُ غُمُومُ الكُرَبْ
ـ وبذا يسقط ما زعمه (الجوهري)، من أنَّ «واسَى» لُغةٌ ضعيفةٌ.
ـ صحيح؛ فالعَرَب تقول: واسَى، وآسَى، بمعنى.
ـ ألا يُحتمل أنَّ الشاعر قال: «يُؤاسِـي لَدَى المَحْلِ مَولاهُمُ»؟
ـ بلى. ويجوز هنا تسهيل الهمزة، على كلِّ حال. والوزن لا يختل في الحالتين. لكن ما أردتُ قوله، عمومًا، إنَّ لُغة «النَّهْج»، في ذاتها، لا تكشف عمَّا يُمكن أن يُتَّخَذ حُجَّةً في بطلان نِسبة نصوصه إلى (عَليٍّ)، بمقدار ما يتبدَّى ذلك في جانبَي الأساليب والمحتويات.
ـ لنعُد إلى منبثق هذا البحث!
ـ وهو؟
ـ هو- كما تذكر- زعْم (السيِّد القبانجي) أنَّ «نَهْج البلاغة» أبلغ من «القرآن الكريم»!
ـ أذكرتَني الطعنَ وكنتُ ناسيًا! ما ذلك (القبانجي) اللَّطيف من البلاغة في قليلٍ أو كثير، ولا في قبيلٍ أو دبير، ولا حتى من مذهبٍ إسلاميٍّ في شيء، شيعيٍّ أو غير شيعي. وكيف يتحدَّث عن «القرآن» مَن لا يعرف اللُّغة العَرَبيَّة، حتى إنه لا يعرف كيف يقرأ آيةً من «القرآن»، فيكاد لا يقرأ آيةً قراءةً سليمةً من الغلط؟!
ـ وهذا من أعجب العجب من مثقفٍ عَرَبيٍّ، فضلًا عن أن يكون معمَّمًا- وسَيِّدًا وحَصُوْرًا- يتصدَّر للمفاضلة بين بلاغات النصوص!
ـ وكذلك معظم هؤلاء القوم من المعمَّمين، في أخطائهم في آيات «القرآن».
ـ وهو أمرٌ لافت وغريب، يدلُّ على أنهم ليسوا بخيرٍ من غيرهم- في مدرسة المشاغبين الحديثة- في البُعد عن كتاب الله، على الرغم من الدَّعاوَى العِراض.
ـ تلك ظاهرةٌ فاضحة، تثير التساؤل أصلًا حول صِلة أحدهم بالكِتاب، وهو يتصدَّر الناس على أنه- لا ينتمي إليه فحسب- بل هو فوق ذلك إمامٌ متَّبعٌ، أو مَولًى ذو مريدين! أحد شيوخهم، على سبيل النموذج، في محاضرة «يوتيوبية» حول «فِقه التقيَّة»، جعل يقرأ الآية «وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ، وَلَا تَنَازَعُوا، فَتَفْشَلُوا، وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، وَاصْبِرُوا، إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»، فكان يقول: «ويَذهبُ ريحكم»- بتذكير الفعل مع المؤنَّث، ورفعه! وحين حاول أحد الحاضرين تصحيح نطقه، أصرَّ على أنها «ويَذهبُ ريحكم»، وظلَّ يعيدها كذلك. وحين اضطره ذلك المصحِّح إلى القول: «فتذهب»، جاراه بعد لَأْيٍ، غير أنه بقي يقول «وتذهبُ»، بالرفع!
ـ وعليه، فظاهرٌ أنَّ كثيرًا من هؤلاء عوامّ، جهلةٌ أدعياء، أو كأنَّ بينهم وبين نَصِّ «القرآن» جفوة.
ـ إنَّما يتسيَّدون على الناس غالبًا بالعمائم، لا بالعِلم! والخَوض في هذا أمرٌ يطول. والشاهد أن بضاعة هؤلاء، في الأعم، هي أبعد ما تكون عن تأهيلهم لمقاربة النصوص، أو فهمها، فضلًا عن تفسيرها، وتمييز بلاغيَّاتها.
ـ ‎ثمَّ إنَّ صاحبنا المعمَّم الوجداني إنَّما تراه يردِّد ادِّعاء مذهبٍ في العرفان، خاصٍّ به غير معروف، أوَّل استهلالاته إنكار بلاغة «القرآن»، وثانيها السخريَّة من (محمَّد بن عبدالله) ونبوَّته.
ـ إنَّه مذهب اللَّا مذهب، وادِّعاء الجمع بين الإيمان وضِدِّه، والقَدامة والحداثة، والولاء والبراء من كلِّ انتماء، تحت جُبَّةٍ واحدة، وعمامةٍ سوداء واحدة! وهيهات، فتلك شخصيَّةٌ تشكيليَّةٌ من كلِّ لون، وجُمجمة متحفيَّة من كلِّ الأفكار والاتجاهات، لم يسبق لها مثيلٌ عقلاني! هذا، ولقد أورد (شوقي ضيف) في كتابه «الفن ومذاهبه في النثر العَرَبي»(6)، كلامًا حول «نَهْج البلاغة»، وما قيل فيه. غير أنه أعرض بعدئذٍ إعراضًا عن التمثيل على خطابة (عَلِيٍّ)، من نحو ما استشهد على خطابة غيره من الخلفاء الراشدين، لا من «النَّهْج» ولا من غيره. وكان حريًّا أن يبين نصيًّا ما في المنسوب إلى عَلِيٍّ في «النَّهْج» من مباينةٍ أسلوبيَّةٍ لما يُمكن أن يُنسَب إليه، بالنظر إلى عصره وبيئته، وأن يقارن ذلك بما أشار إلى صحَّته ممَّا ساقه (الجاحظ)، أو غيره، ولا سيما أنَّ كتابه كتابٌ مختصٌّ في هذه القضايا. لكنه لم يفعل!
[وللحديث بقيَّة].
***
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي
........................
(1) الرَّضِي، الشَّريف، (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)،480.
(2) صحاح اللُّغة، (أسي).
(3) البيهقي الكيدري، قُطب الدِّين محمَّد بن الحُسين، (1999)، ديوان الإمام عَلي: المعروف بأنوار العقول، تحقيق: كامل سلمان الجبوري، (بيروت: دار المحجَّة البيضاء)، 334/ 1، 335/ 19. وفيه: «واسُوك»! ولا يستقيم. والقصيدة في هذا الديوان كثيرة الأخطاء.
(4) يُنظَر: الأزهري، التهذيب، (أوس)؛ ابن منظور، اللِّسان، (أسا).
(5) (صيف 1979)، شِعر قَيْس بن الحُدادِيَّة ، تحقيق: حاتم صالح الضامن، (مجلَّة المَورد، (العراق: وزارة الثقافة والإعلام)، م8، ع2، ص203- 220)، 206/ 10.
(6) (القاهرة: دار المعارف، 1983)، 61- 63.

 

عندما نغوص في عمق التجربة الإنسانية، نجد أن سؤال الحرية ليس مجرد محاولة للتخلص من القيود، بل هو صدام حتمي مع الفكرة الأولى للوجود. إن الحرية، في جوهرها، تتحدى الفهم البشري التقليدي للوجود، ما يجعل الإنسان دائمًا في مواجهة مع السلطة، سواء كانت تلك السلطة إلهية أو اجتماعية أو فكرية.
الإِلٰهُ، في بدايته، لم يكن سوى انعكاس للرغبة البشرية في النظام، في اليقين، وفي القوة التي تحمي الإنسان من عبثية العالم. كان الإِلٰهُ في صورته الأولية كائنًا محايدًا، لا يفرض قيودًا ولا يطلب خضوعًا. لكن مع ولادة الأنبياء، تغيرت المعادلة.
الأنبياء، بأقنعتهم المختلفة، جاءوا ليعلمونا الخجل. ليس الخجل هنا بمعناه السطحي المتعلق بالعري الجسدي فقط، بل بمعناه الرمزي الأعمق: إخفاء كل ما قد يجعلنا نشعر بالضعف أو النقص أمام أعين الآخرين. في هذا السياق، يمكننا أن نرى الخجل ليس فقط كأداة اجتماعية للاندماج، بل كأداة قوة تُستخدم لتحجيم الإنسان وتحويله إلى كائن خاضع ضمن معايير محددة.
الفلاسفة مثل سيغموند فرويد رأوا في هذا الخجل حاجة إنسانية للبقاء ضمن حدود الجماعة، بينما اعتبر ميشيل فوكو الخجل أداة للسلطة تُستخدم لتطويع الأفراد وجعلهم جزءًا من نظام اجتماعي أكبر. فجأة، أصبحت البراءة الأولى خطيئة، وأصبحت الحرية عبئًا، وأضحى الإِلٰهُ وسيلة لتبرير القيود، لا لتحرير الإنسان من عبثيته.
جان بول سارتر، في صميم مشروعه الفلسفي، كان مدركًا لهذا القيد. وعياً بفكرة الإِلٰهِ لم يكن مجرد رفض لمفهومه، بل مواجهة مع السلطة التي يمثلها في الوعي الإنساني. في كتابه “الوجود والعدم”، يُعرِّف الحرية كعبء، لأن الإنسان، كما يقول: “محكوم عليه بأن يكون حرًا، لأنه لم يصنع نفسه”. بالنسبة له، الحرية ليست هدية تُمنح، بل مسؤولية ثقيلة تُلقى على عاتق الإنسان الذي يجد نفسه عالقًا بين ضرورة الوجود وغياب المبرر السماوي.
لكن هذا الوعي نفسه يفضح تناقضات سارتر: هل يمكن التحرر الكامل من فكرة الإِلٰهِ إذا كانت الحرية التي يدعو إليها تنبني على نفس الهياكل التي أنشأها الإِلٰهُ في الذهن البشري؟ في حياته الشخصية، بدا أن سارتر لم يستطع التحرر من هذه القيود. علاقته الشهيرة مع سيمون دي بوفوار تكشف تناقضه كفيلسوف يدعو إلى الحرية المطلقة، ولكنه في ذات الوقت كان يتهرب من مسؤولياته العاطفية والاجتماعية.
سارتر لم يكن فقط يهرب من الإِلٰهِ، بل كان يعيد خلقه في صورة جديدة: سلطة فكرية يُخضع لها ذاته وذوات الآخرين. ربما لم ينجح سارتر أبدًا في قتل الإِلٰهِ، بل فقط استبدله بأنبياء جدد: العقل، المجتمع، وحتى ذاته التي أصبحت مركزًا جديدًا للسلطة. وهنا يكمن السؤال: هل كان سارتر ملحدًا حقًا، أم أن الإِلٰهَ ظل حاضرًا في وعيه، ليس ككائن غيبي، بل كظل يتسرب إلى كل قراراته وممارساته؟
فريدريش نيتشه، ذهب إلى أقصى الحدود في محاولته لقتل الإِلٰهِ. إعلانه الشهير: “لقد مات الإِلٰهُ، ونحن قتلناه”، لم يكن إعلانًا عن انتصار الإنسان، بل عن انهياره أمام هذا العبء الجديد. بغياب الإِلٰهِ، تُرك الإنسان وحيدًا، بلا قيم جاهزة أو نظام يبرر وجوده.
في الحرية، كما تصورها نيتشه، دعوة دائمة لإعادة خلق القيم وصناعة نظام جديد يقوده الإنسان الأعلى. ولكن الإنسان الأعلى، كما صاغه نيتشه، لم يكن سوى إعادة خلق لإِلٰهٍ مصغر، يأتي في صورة نبي جديد. الإنسان الأعلى هو التجسيد لفكرة القيادة الفوقية التي لا تتحرر من فكرة الإرشاد المطلق. وكما قال آلان باديو، فإن الإنسان الأعلى يحمل في جوهره تناقضًا لأنه يبني سلطته على رفض السلطة نفسها.
ومع ذلك، نجد شعوبًا عاشت حريتها دون الحاجة إلى إعلان موت الإِلٰهِ أو الوقوع في تناقضات الفلاسفة. في السودان، وتحديدًا في النيل الأزرق، نجد قبائل مثل البُرُونْ (Barun) والأَنْقَسْنَا (Angasna)، التي بنت حياتها على انسجام تام مع الطبيعة والآخر. بالنسبة لهذه القبائل، القوى الطبيعية ليست آلهة قاهرة بل شراكة وجودية. طقوسهم وأغانيهم ليست خضوعًا، بل احتفاء بالحياة، وتأكيد على أن الحرية ليست فكرة مجردة بل ممارسة يومية.
في أستراليا، تعيش قبائل السكان الأصليين، أو كما يُطلق عليهم الأبوريجينال (Aboriginals)، مثل الأَنَانْغُو (Anangu)، بفلسفة مشابهة. حيث الأرض ليست ملكًا لإِلٰهٍ، بل جزء من كيانهم الوجودي. طقوسهم تعبر عن وحدة الإنسان مع محيطه، عن حرية تُمارس بلا حاجة إلى آلهة أو أنبياء. بالنسبة لهم، تجاوزوا فكرة الإِلٰهِ كسلطة، ووجدوا في البساطة مصدرًا لتحررهم.
وفي أمريكا الشمالية، قبائل مثل اللاكُوتَا (Lakota) ترى في الطبيعة انعكاسًا للحرية. الحرية بالنسبة لهم ليست تمردًا، بل احترام للذات وللآخر. وفي أمريكا اللاتينية، قبائل مثل المايا (Maya) ما زالت تحتفظ برؤى تتجاوز ثنائية الإِلٰهِ والخضوع، لتؤكد أن الإنسان هو سيد مصيره.

هنا، تتقاطع هذه الفلسفات مع فكرة أن الحرية ليست مجرد تمرد على السلطة، بل بناء مستدام لعلاقة مع العالم دون الحاجة إلى قوة مهيمنة. إنها حرية في جوهرها تعيد تعريف علاقتنا مع الطبيعة، ومع الآخرين، ومع ذواتنا.
لكن لو عاد سارتر أو نيتشه اليوم، هل كان بإمكانهما الهروب من الآلهة الجديدة؟ في عصرنا الحالي، الآلهة لم تعد تأتي من السماء، بل من داخلنا، من رغبتنا في السيطرة واليقين. الشاشات، الخوارزميات، الهواتف المحمولة، كلها أصبحت رموزًا لآلهة حديثة تراقبنا وتتحكم فينا. الهاتف، الذي يُفترض أنه أداة حرية، أصبح رمزًا للرقابة الذاتية.
هذه الآلهة الجديدة لا تفرض سلطتها بالقوة، بل عبر رغباتنا، مما يجعلنا شركاء في قهر أنفسنا. وهنا، يظهر التناقض الأكبر: هل يمكن للإنسان أن يتحرر من سلطة صنعها بنفسه؟
المفارقة أن القبائل التي لم تؤمن يومًا بإِلٰهٍ مركزي تبدو أكثر قدرة على مقاومة هذه الآلهة الحديثة. بالنسبة لهم، الحرية ليست إعلانًا عن التمرد، بل حالة وجودية تُمارس يوميًا. قيمهم ليست قوالب جامدة، بل حياة متجددة تُعيد تشكيل نفسها مع كل جيل.
لكن هنا يظهر السؤال الأهم: هل نصب سارتر ونيتشه أنفسهم أنبياء علينا دون أن يدركوا؟ سارتر، في سعيه لتحرير الإنسان، خلق عبئًا جديدًا، حيث أصبحت الحرية قيدًا آخر لا يستطيع الجميع احتماله. ونيتشه، رغم محاولته هدم الأنبياء، خلق نبيًا جديدًا: الإنسان الأعلى.
المفارقة الساخرة هي أن الفلاسفة الذين دعوا إلى قتل الإِلٰهِ وجدوا أنفسهم يُنصبون كآلهة جديدة. أفكارهم أصبحت نصوصًا مقدسة، وأتباعهم حولوا فلسفاتهم إلى أديان حديثة.

وهنا تتجلى السخرية: سارتر ونيتشه، في محاولتهما تحرير الإنسان من الآلهة، أصبحا جزءًا من نفس النظام الذي أرادا تدميره. الحرية، في النهاية، ليست في قتل الإِلٰهِ، بل في قتل الخجل الذي زرعه الأنبياء والفلاسفة على حد سواء.
السؤال الذي يظل مفتوحًا: هل يمكننا أن نتحرر من هذه الآلهة الجديدة؟ وهل يمكننا أن نعيش كما ولدتنا الحياة، عراة من كل القيود التي فرضها علينا الأنبياء والفلاسفة؟
***
إِبْرَاهِيم بَرْسِي - باحث سوداني

إذا كان الإدراك الذاتي يتطلب انعكاسًا في عقل آخر، فإننا لا ندرك ذواتنا إلا عبر الآخر، وربما لا تكون لنا ذات أصلًا إلا بهذا التقاطع. هكذا تنكشف أمامنا طبيعة الوعي، ليس كجوهر مستقل، بل كحركة دائمة تتجسد في التفاعل. وكما أن مايكل أنجلو بيستوليتو استخدم المرايا لاستجواب ذاته، وكما صاغ فيتوريو غاليز مفهوم المحاكاة المتجسدة كأساس للذاتية التعددية، فإن العقل لا يتجلى إلا عبر علاقته بآخر.
لكن هذا يقودنا إلى إشكالية العلاقة بين العقل والمادة، وهي المعضلة الفلسفية التي أثارتها قرونٌ من الفكر الإنساني. كيف تتجسد الحكمة والوعي داخل عالم مادي؟ سؤالٌ يتردد في كتاب بيتر جودفري سميث "عقول أخرى: الأخطبوط والبحر والأصول البعيدة للوعي". وهذا النص، ليس مجرد دعوة لتجاوز مركزية الإنسان في النظام الحي، بل هو تحريضٌ على إعادة النظر في افتراضاتنا حول طبيعة الوعي نفسه.
إن الاكتشافات الحديثة التي تربط بين الدماغ والجهاز المناعي في تشكيل الوعي تدفعنا إلى التفكير في العقل كشبكة متكاملة، لا ككيان منفصل عن الجسد، حيث أن الإدراك ليس محصورًا في الحواس الخمس، بل هناك حاسة سابعة تكمن في جهاز المناعة ذاته، إذ يقوم برصد الكائنات الدقيقة وإبلاغ الدماغ بها. إن هذا الترابط بين الإدراك والبقاء يفرض علينا إعادة التفكير في مفهوم الذات، لا ككيان مستقل، بل كعلاقة تكوينية بين العقل والجسد والبيئة.
على مستوى أعمق، فإن العلاقة بين الإدراك والفعل لم تكن دومًا مركزية في الفلسفة، رغم أنها أساسية في تجربتنا اليومية. يوضح جودفري سميث أن أفعالنا تشكل رؤيتنا للعالم، وأن الإدراك لا ينفصل عن الحركة. بل إن التجربة الذاتية، في جوهرها، هي استيعاب للعالم من خلال الفعل، وهي ليست مجرد عملية حسابية عقلية، بل تفاعل عضوي مع المحيط. هنا تبرز أهمية الجهاز الحسي الحركي في تشكيل وعينا، حيث تصبح الحركات استجابات ديناميكية للواقع، لا مجرد انعكاسات سلبية له.
عندما ندرس سلوك الأخطبوط، فإننا لا نكتشف عالماً آخر فقط، بل نعيد اكتشاف ذواتنا عبر الاختلاف. الحدود بين الذات والبيئة، التي نراها واضحة في حياتنا اليومية، تصبح في حالة الأخطبوط أكثر ضبابية. إن حركة أذرعه، التي تتخذ قراراتها بشكل مستقل عن مركز الدماغ، تذكرنا بأن وعينا ليس وحدة متجانسة، بل فسيفساء من العمليات المتداخلة. وهذا يقودنا إلى استعارة الفرقة الموسيقية، حيث أن عمل الجهاز العصبي ليس مجرد توزيع للأوامر، بل هو أشبه بفرقة موسيقية تعزف بتناغم مرتجل، حيث كل عنصر يؤثر في الآخر دون سيطرة مطلقة.
قبل عشرين عامًا، لو سألنا أنفسنا: "ماذا يعني أن نكون بشرًا؟" لكنا قدمنا إجابة مختلفة عن تلك التي يمكننا تقديمها اليوم. تمامًا كما كان الاعتقاد طويلًا بأن الشمس تدور حول الأرض، بينما الواقع أن الأرض هي التي تدور حول الشمس، فإن تصورنا لوعينا يتغير مع الزمن. إن إعادة النظر في طبيعتنا، في علاقتنا بالآخرين، بالبيئة، بالكائنات المختلفة، هي خطوة ضرورية لإعادة تعريف ذواتنا، لا ككيانات منعزلة، بل كعقول تتشكل في شبكة الوجود الممتدة بين الأرض والبحر، بين الماضي والمستقبل، بين الذات والآخر.
***
الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

في هذا العصر.. تحوّلت الأماكن العامة إلى مصادر إزعاج تُخلّ بصفو الحياة وسلامة العقل. فحتى المقاهي، التي يُفترض أن تكون ملاذًا للاسترخاء، وتناول القهوة، والمذاكرة، وتأمل الأفكار، باتت تعجّ بالموسيقى الصاخبة، وتُسمَع في الخلفية موسيقى المحالّ المجاورة كذلك. في الأسواق التجارية الكبيرة، تتداخل الأصوات بلا هوادة، وكأنّ الصمت أصبح تهمة، والهدوء جريمة في حقّ الروح المعاصرة.
يُسرق الوعي من المرء.. ويُشتّت الانتباه عمدًا لأغراض تسويقية، على حساب كل شيء آخر، بما في ذلك صحته العقليّة والنفسيّة. وكأن الإنسان خُلق ليستهلك، لا ليحيا.
هي ماكينة الرأسمالية التي جعلت من الإنسان أداة شرائية، وربطت سعادته بكمّ المال والأغراض التي يمتلكها، حتى أصبح كائنًا مغيّبًا، منفصلًا عن كينونته الحقيقيّة.
إذا لزم المرء بيته، دون تواصل مع الآخرين، عُدّ في نظر البعض شخصًا غريبًا أو منطويًا أو حتى متكبرًا، وكأن في العزلة عيبًا. والواقع أن بنية المجتمع الجماعي المعاصر غدت سطحية، خاضعة «للرغبات السوقية»، وعاجزة عن إنتاج أيّ قيمة فكرية أو أخلاقية أصيلة.
وفوق كلّ هذا، كثيرًا ما يُجبر الإنسان على التملّق والنفاق ليضمن استمرار حياته بسلاسة. حتى أكثر الناس استقلالًا – فكريًّا وماديًّا – يبقى بحاجة إلى الآخر، محتاجًا إلى قدرٍ من "التواطؤ الاجتماعي" حتى لا يُسحق؛ فلا فكاك من روح العصر؛ تلك الروح التي قدّمت كل شيء، على حساب الإنسان، وسلبت منه محاولة فهم حقيقته، وتحرير روحه من كلّ الآلهة المزيفة!
النوم – ذاك العدوّ الطفولي – غدا اليوم ملاذًا مقدسًا، وغايةً في ذاته، لا يعلو عليه شيء. إنّه التجربة الأكثر أصالةً في وجودنا الحالي؛ الوقت الوحيد الذي فيه نكون على سجيّتنا، ونُطلق فيه العنان لحاجتنا في توقّف اغتصاب الأفكار، وتبدّد الفوضى التي تلتفّ حولنا من كلّ صوب.
لا عجب أن أغلب العقلاء في كل زمن آثروا البُعد عن العامة. ليس ترفعًا، وإن كان الترفّع في بعض الأحيان مستحقًا، بل من باب رحمة الذات واحترامها، وحمايتها من العذابات الوجودية كما فعل ابن باجه باختياره التوحّد على حياة السوق.
نحن نرتدي أقنعة لا تمثّلنا حين نكون بين الجموع، ونتقمّص أدوارًا زائفة فقط لننجو من معاناة أكبر: معاداة المُجتمع لنا. فـ«الجحيم هو الآخر»، على حدّ تعبير سارتر، رائد الوجودية الحديثة.
لستُ من أولئك الذين يريدون الهروب من الناس أصلًا، فأنا إنسان إجتماعي، وبطبيعتي علائقي؛ لدي حاجة فطرية للإتصال ببني آدم، لأني جزء منهم وهم جزءٌ مني، نحن أغصان في شجرةٍ واحدة. ومع ذلك، روح هذا العصر لا تُشبهني البتّة. ففي الجماعة أخسر ذاتي الداخليّة، ومع نفسي أشعر باغترابٍ تام، وكأنني معلّقٌ بين طرفي نقيض: الحاجة للانعتاق من روح الجماعة، والعجز عن التعايش مع الصخب الإنساني المفتعل.
والصخب الذي أعنيه لا يقتصر على الأصوات المرتفعة، بل هو أشمل وأعمق؛ أنه كلّ أشكال سرقة الوعي التي تُمارس يومياً: تشويش الفكر، وتقييد الإنسان داخل أنماط لم يخترها، إلى آخره.
ولبّ القول، ما يؤرقني حقًّا في هذه الحقبة من التاريخ، هو أن التفكير لم يعد ممكنًا في الفضاء العام؛ فكلّ مكان تحوّل إلى ملهى سمعيّ وبصريّ. الناس يركضون خلف الملهيات والاستهلاك بلا انقطاع، وكأنّ الانشغال الدائم غاية في ذاته. لعلّنا بحاجة إلى «فضاءات الصمت»"، أماكن يُمنع فيها الكلام والهواتف، لا للبيع، بل للسكينة، للتأمل، للانعتاق من سطوة التشويش المستمر.
المعارف اليوم حُوّلت إلى سلعٍ تُعرض، لا أدوات تنوير. وهذا هو الجوهر اعتراضي، حتى يُقدّر الناس فضيلة الصمت والتأمل، ستبقى الرداءة والتقليد سيّدا الموقف. لأنّ الإنسان – للأسف – تحكمه المدخلات، فهو، في الغالب، لا يُعالج أو يرفض أو يُقيّم تلك المفاهيم والأفكار، ولا مقاصدها، بل تستولي عليها التكرارات لا المعقولات.
***
خالد اليماني

 

يقدّم عبد الجبار الرفاعي في مشروعه الفلسفي تصورًا للدين لا يقتصر على العقائد والطقوس، بل يتجاوزه، ليصبح تجربة وجودية تمنح الحياة معنًى روحيًا وأخلاقيًا وجماليًا. فالدين، في رؤيته، ليس مجرد منظومة مغلقة أو مجموعة من الأحكام الفقهية، بل هو «حياة في أفق المعنى تفرضها الحاجة الوجودية لمعنى روحي وأخلاقي وجمالي في حياة الإنسان الفردية والمجتمعية»، كما يوضح في كتابه «الدين والظمأ الأنطولوجي». هذه الرؤية تجعل الدين حالة حية يعيشها الإنسان بكامل كيانه، بما يشمل العقل والوجدان والروح، بحيث يكون وسيلة تمنحه الطمأنينة، وتساعده على تجاوز القلق الوجودي الذي لازم الفلاسفة من كيركغارد إلى كامو، فالرفاعي يرى أن الإنسان كائن متعطش للمعنى، وغير قادر على تحمل العبث والفراغ الروحي، مما يجعل الدين ضرورة وجودية لا ترفًا فكريًا. وفي سياق إعادة تعريفه للدين، يرفض الرفاعي الرؤية الاختزالية التي تحصر الدين في منظومة اعتقادية أو نصوص جامدة، ويفتحه على أفق أوسع، حيث تصبح التجربة الروحية جوهر الدين، حيث يقول في «مقدمة في علم الكلام الجديد»: «الدين ليس خطابًا جامدًا أو نصوصًا معزولة عن سياقاتها، بل هو حياة تُعاش في أفق المعنى، إذ يشكّل وعي الإنسان بذاته، ويوجّهه نحو التسامي الروحي والتكامل الأخلاقي».
من هذا المنطلق، يصبح الدين، وفقًا للرفاعي، تجربة تمنح الإنسان السكينة وسط صخب الحياة، وتساعده على مواجهة الاغتراب الوجودي، وهو ما جعله يشدد على أن الدين لا ينبغي أن يكون مجرد إطار نظري، بل حالة شعورية وجدانية تتجلى في حياة الفرد اليومية. إذا كان الدين، عند الرفاعي، يمنح الإنسان أفقًا روحيًا، فإن هذا الأفق لا يبقى مجرد إحساس داخلي، بل ينعكس في السلوك الأخلاقي. الأخلاق، في رؤيته، ليست مجرد التزام اجتماعي أو قانوني، بل هي امتداد طبيعي للحالة الروحية التي يعيشها الإنسان. في «الدين والظمأ الأنطولوجي»، يؤكد الرفاعي: «الأخلاق الحقيقية لا تنبع من الخوف من العقاب، ولا من الرغبة في المكافأة، بل من إحساس داخلي بالمسؤولية تجاه الذات والآخر». هذه الرؤية تتجاوز التصورات التقليدية التي تفصل بين الإيمان والممارسة، حيث يرى الرفاعي أن الفضيلة ليست طاعة ميكانيكية لأوامر خارجية، بل ثمرة لنضج روحي يجعل الإنسان ينحاز إلى الخير بإرادته. وفي فلسفة الرفاعي، الدين ليس فقط تجربة عقلية أو سلوكية، بل هو أيضًا تجربة جمالية، حيث يُدرك الإنسان المعنى الروحي والأخلاقي من خلال الجمال، حيث يقول في «إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين»: «الدين في جوهره تجربة جمالية تُثير الدهشة وتحرّك أعماق الإنسان، وتفتح له أفقًا من التأمل في الجلال والجمال الكامن في الكون». الجمال هنا لا يقتصر على الفن أو الطبيعة، بل يمتد إلى القيم الإنسانية والعلاقات الاجتماعية، مما يجعل الإيمان أكثر حيوية وتأثيرًا. وهذا التفاعل بين الروحانية والجمال يعزز الأخلاق، حيث تصبح الفضيلة ممارسة تنبع من وعي جمالي بالحياة، وليس مجرد التزام جاف بالواجب. ينطلق مشروع الرفاعي من «أنسنة الإسلاميات» في رفض القراءات الاختزالية للدين التي تقتصر على البُعد الفقهي أو الأيديولوجي، داعيًا إلى إعادة تأصيل الدراسات الإسلامية بما يجعلها أكثر ارتباطًا بتجربة الإنسان المعاصر. ففي كتابه «إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين»، يوضح رؤيته قائلًا: «إن الإسلاميات الكلاسيكية، في كثير من الأحيان، انشغلت بالجدل العقائدي والتفريع الفقهي على حساب المعنى العميق للدين، مما أدى إلى تجريد الدين من أبعاده الروحية والإنسانية». من هنا، تأتي دعوته إلى «أنسنة الإسلاميات»، أي تحرير الدراسات الإسلامية من الجمود والانغلاق، وإعادة ربطها بأسئلة الإنسان وهمومه الروحية والأخلاقية والجمالية. ويرى الرفاعي أن الدين يمكنه مواكبة الحداثة إذا تم التركيز على جوهره الروحي والأخلاقي والجمالي بدلًا من الانشغال بالقضايا الشكلية والفقهية وحدها، حيث يقول في «مقدمة في علم الكلام الجديد»: «لكي يكون الدين فاعلًا في عصر الحداثة، يجب أن يستعيد روحه الحيّة بدلًا من أن يتحوّل إلى مؤسسات سلطوية تحاول فرض وصايتها على العقل». بهذا المعنى، لا يرى الرفاعي أن الحداثة تفرض القطيعة مع الدين، بل تدعو إلى قراءة جديدة للدين تجعله أكثر انسجامًا مع تحولات العصر دون أن يفقد جوهره الروحي. وفقًا لهذه الرؤية، يصبح الدين نسيجًا حيًا من التفاعل بين ثلاثة أبعاد مترابطة:
- البعد الروحي: يمنح الإنسان إحساسًا بالمعنى والطمأنينة.
- البعد الأخلاقي: يجعل الأخلاق نابعة من تجربة داخلية لا من إملاءات خارجية.
- البعد الأخلاقي: يجعل الأخلاق نابعة من تجربة داخلية لا من إملاءات خارجية.
- البعد الجمالي: يحوّل الدين إلى تجربة حية، مليئة بالإحساس والدهشة، بدلًا من أن يكون منظومة جافة من الأحكام.
وبالنتيجة نجد أن الرفاعي قدم تصورًا متكاملًا للدين، لا يختزله في التشريع أو العقيدة، بل يجعله تجربة إنسانية شاملة، تستجيب لحاجة الإنسان إلى المعنى، وتسهم في بناء عالم أكثر رحمة وإنسانية. يمكننا استحضار رؤية الفيلسوف اللاهوتي بول تيليش في هذا السياق، إذ يرى أن الدين ليس مجرد منظومة من المعتقدات الجامدة، بل هو تعبير عن «الاهتمام المطلق» للإنسان، أي بحثه الدائم عن المعنى العميق لوجوده، حيث يقول تيليش في كتابه «ديناميكية الإيمان»: «الإيمان ليس مجرد تصديق عقلي، بل هو حالة من الانخراط الكامل في تجربة المعنى، حيث يجد الإنسان طمأنينته وغاية وجوده». هذا التصور الكامل، الذي قدّمه عبد الجبار الرفاعي على مدى أكثر من أربعة عقود، يحثّنا على مواصلة التنقيب خلف فيلسوف المعرفة الدينية، الذي يرى الدين تجربة وجودية ممتدة لا تقتصر على الطقوس والتشريعات، بل تعكس توق الإنسان العميق إلى الروحانية والأخلاق والجمال كعناصر متكاملة في حياته.
***
عبد الإله عبد الله الطويان
كاتب سعودي

 

في المثقف اليوم