قضايا

"كن أنت التغيير الذي ترجو حدوثه في العالم" (غاندي)

"ما عييتُ إلاّ أمام من سألني، من أنت؟ (جبران خليل جبران)

جَرَّبْنا الهمس والصراخ، جربنا الصمت والكلام، جربنا الحزن كلما انكسرنا ـ وانكساراتنا كثيرة ـ او خبت فينا جذوة البداية، جرّبنا الخيانات حين خُنّا شرف الكلمة والمواقف، وحين وقفنا متفرجين حين سار العالم جريا إلى الأمام، جربنا الوقوف في وجه بعضنا بغضاً كراهية..

لم لا نجرب المحبّة؟

لعلّها تكون ورقتنا الرابحة، لعل أمام محرابها نندهش، ننبهر، ننفعل، نترك لإنسانيتنا أن تنساب شفَّافة تمحو ما علق بدواخلنا من ألم وبُغْض وحقد وانكسارات وخسارات، ونفتح بالمحبّة للأمنيات كفّا على أعتابه ترتاح البسمات، ونطوي صفحاتِ ذواتٍ تُجيد احتراف التواطؤ والخيانة والكُره.

"المحبّة هي الحرية الوحيدة في هذا العالم، لأنها ترفع النفس إلى مقامٍ سامٍ لا تبلغه شرائع البشر وتقاليدهم، ولا تسوده نواميس الطبيعة وأحكامها"[1].

المحبّة، فعلٌ للمقاومة، ضدا على القهر والغبن والألم والكراهية البغيضة.

المحبّة، حتى لا نفقد عادة الابتسام، ولا نعطي للكراهية والتباغض فرصة أن تُسقط أسناننا ونحن نَعْبر زمن الخوف والقُبح والظلم والانكسارات.

لا بابٌ يُقرع للدخول ولا عسس، "فالمحبّة التي لا تنبع كل يوم، تموت كل يوم"[2] إنّها بداية القطر وأول الهطل، وضوْءٌ يمتد في القلب اتساعا يُرجع صدى السكون والحبّ والسلام.

لم لا نجرب المحبّة، بعد أن أفرغنا دواخلنا منّا، من إنسانيتنا؟

المحبّة، وتنْفرِطُ سُبْحة الألم فينا ويتداعى الحزن، وتنْأى بنا المطارات والوداعات الحزينة ودموع الاغتراب المنسوج بأيدينا، نُلبِسُها، أميرةً، تاجَ الحكم والحِكمة، لتعلو الوجوه الحزينة، والأفواه المزمومة خوفا، ابتسامات وقوة تُمزّق تذاكر السفر الحزين، وتُشعل نحو المدى هالات النور والحب والسلام.

المحبّة، قيمةٌ لا تُنتظر، بل تُعاش، تسير إليها النفوس الباحثة عن الاطمئنان، المحبّة لا تضرب للحب مواعيد، إنها الموعد. فمتى نرفع عن دواخلنا مقاصل الوأد، ونفتح المدى امتدادا للمحبّة؟

هل نمشي للمحبّة أم ننتظرها في محطات الأحزان البئيسة؟ فالمحبّة لا تُنتظر، وقلَّما تضرب للسلام مواعيد.

للمحبّة، حضور الضياء، فلماذا لا نسكن الضياء؟

لماذا لا نسكن المحبّة؟ لم لا نُجرّب؟ نسكنها علّها تسكن فينا.

المحبّة فعلٌ للمساكنة والمعايشة، "فهي الطريقة التي من خلالها تتلاشى المسافات وتنقشع الحجُب"[3]، يكفي ما في هذا العالم من كُره وألم، ذاك مقامُ التّدنّي والسقوط، لكن "المحبّة هي الغاية القصوى من المقامات، والذروة العليا من الدرجات، فما بعد إدراك المحبّة مقام"[4].

للمحبّة مقامات، مقام التجاوز أساسها، إذ لا يُدرك لذّتها إلاّ من خرج من ذاته وصخبها، وأسرى بروحه إلى مدارج التسامح والتجاوز، واغتسل بماء الصبر، وعوَّد القلب على الغفران وعدم المآخذة والحساب، إذ "وحده السمُوّ بالروح يحرّرك من وسخ الأرض" فتنتفض وتشتعل، وتتحرّر من فخاخ الحقد، فتسمو النفس كلما مشينا إلى المحبّة، فتفرد أجنحتها وتحلّق عاليا تُنشد الهدوء والسكينة والسلام.

مقام الحرية أوسطها، نصنعها بنهارات تُشرق داخل الصدور، تتفجَّر ألواناً بيضاء مُشعّة بخلْطات تتجانس حين تلامس القلب والروح، لتعيش إلى آخر العمر هنيّة مطمئنّة، تورّثُ للآخرين، الآتين خلفنا سرّ المحبّة، الباحثين عن ما يُطفئ جمْر الخوف والحقد، فتلفّهم سكينة القدّيسين والدراويش والمتصوّفة والمؤمنين، كأنها أيقونة الكنائس، أو نور يشعّ هلالا، أو شطحات تضرب في الأرض حتى التوحُّد، تستنزل ما علق بالروح والجسد من أدران وأحقاد، أو ذكرٌ يناجي الله في سماواته، يذوب في الوجود مرتفعا واصلا إلى الجوهر والنقاء، ممتلأً بالحياة، قويّاً خفيفا، يوشك أن يُحلّق مالكا وُسع الفضاء والمدى، مقتربا من الحقيقة، حقيقة المحبّة. إح

المحبّة، قلبٌ متوضّئٌ بالحب، طاهرٌ بالشّوق، عامرٌ بالتسامح والتجاوز، يمدّ جسور التواصل لترطيب يباس الروح، فتشتعل الذات حبّاً، فيحترق الشّوق إلى اللقيا، وتتواشج الأرواح وتتآلف، وتتوحّد الكلمات إحساساً ولو اختلف منطوقها.

المحبّةُ، صورة جديدة للإنسان في علاقته بالآخر وبالكون والأشياء، في بحثه في الأقاصي الغامضة في الذات والروح والعالم عن القبح والظلم والألم لمحوه، وزرع ما يبعث الاخضرار في زوايا الروح الباردة.

مقام الاحتراق أخرها، فالمحبّة، فعلُ احتراق، فكيف تبعث الحياة فيما تراه مواتاً؟

"الإنسان لا يكون ذاته إلاّ بقدر ما يكون الآخر"[5]، كيف فقدَ الإنسان معناه الصحيح، الإنساني، وأصبح أقل قيمة من أي شيء لا قيمة له؟ لم يعد له ما يشغله إلا تلطيخ جدار الآخر بكل ساقط، تافه لا إنسانية فيه. الإنسان أعمق من ذلك، وأكبر من أن يُخندق نفسه في حروب لا توصل إلا للعبودية والذل والندم.

الإنسان قلبٌ ونبْض، حلمٌ ومخيّلة، فنٌّ وأسئلة تُقلق وتدفع للصمود والتغيير، إنسانٌ إذا فتح للقلب أبوابه ليعانق المعنى، ويخلق لكل شيء معناه إلى ما لا نهاية، والمحبّة تُتيح للإنسان أن يخلق عالما جماليا نقيّا، يكون في مستوى الكائن وفي مستوى الكينونة لإضاءة الحياة الإنسانية.

المحبّة، طاقة يجبُ أن تظلّ يقظة تتجاوز كل عرقلة أو مناورة تدعو للحقد، تفتح آفاق وأعماق مسكونة بالنور والضياء، وهي وحدها، حين تحترق، كفيلة بان تُحَوِّل الإنسان من مجرّد كائن يعيش في العالم إلى كائن يخلق العالم باستمرار، لأن الإنسان في حقيقته النقية المفطورة على الحب، نصٌّ مكتوب بوضوح، لوحةٌ مرسومة بألوان زاهية، تحفةٌ منقوشة بأزاميل من ذهب، سمفونيةٌ مُغنّاة بأعذب الأصوات، يسعى إلى مستقبل يطلع من الغيب شاهدا على نقائه، تنبتُ على جوانبه الأزاهير وتحفُّه؛ فالمحبّة، تخلق إنسانا جديدا، كاملا غير مستنسخ، كونياً يتجاوز ذاته كما يتجاوز شبيهه، إذ تُحوّله من مجرد رقم أو اسم أو هوية أو انتماء، إلى تشكُّلٍ آخر جديد، تشكُّلٍ يتكون باستمرار غير خاضع لقانون السكون والثّبات.

المحبّة تاجٌ فوق رؤوس المحبّين، لا يراه إلاّ العاشقون، ليس الذين يُحنّطون العالم والإنسان في رقم لا يُحسن إلا الاستهلاك والكُره وتضخيم الأنا، ولا الذين يغوصون عميقا حدّ تصنيف الناس حسب المعتقد واللون والجنس والعقيدة.. وهم يحسبون أنهم بهذا، أفضل منهم جنسا، ولا الذين يزرعون الكراهية والحقد أينما حطّت خُطاهم يبنون الخراب يرصّونه لبنة لبنة، لا يدرون أن هذا البنيان خراب في حقيقته، تتآكل أساساته، فلا يبقى منه، حين يبقون وحدهم تتقاذفهم أحقادهم، لا تِبْنٌ ولا حَجَر، في حين تتعزّزُ عُرَى الحبّ والجمال في الإنسان، بالمحبّة الحقّة التي لا تعترف بدين أو لون أوجنس، لأنها كلّ هذا، إنسانية، بداية ومُنتهى.

المحبّة قولٌ وفعلٌ وإيمان، فلا تقلْ أنا وبعدي الطوفان والهلاك، ولكن المُحبّ من يقول، أنا والإنسان على طريق واحد نحو بوّابة الإنسانية، ضد الميْز والتّعصُّب والكراهية التي خلّفها الاستعمار، إنسانية تسعى لأن يكون الإنسان قيمة، مشتركا في مصير جماعي يطمحُ لسُمُوّ الفرد وارْتِقائه وبما يتبع ذلك من ارتقاء بالآخر في كُلّيته، وفي ظل قيم تنبني على التسامح والمحبّة التي هي غاية جامعةٌ لا تُفرّق، في غير خنوع أو خضوع أو اتباع أو تنازل، فهي صنوُ المساواة ضدّ تكريس تعالي ثقافة على حساب أخرى. فالإنسان، اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، في أمسّ الحاجة إلى إنسانيته ليكون، إنسانية كاملة في غير تجزيء، إذ، لا عالم بدون إنسان، الإنسان الذي لا يغيب، الذي يولد دائما، إنسان يعني الذّات والآخر، إذ الوعي بالذات يعني الوعي بالآخر.

وبعد، تأسيسا على هذا الوعي، فالإنسان قيمة وليس كائنا حيا فقط، بل ذاتا بالمحبّة يسمو، ويعي العالم ويسعُه، وتجعله يسع الإنسانية في منظورها الشمولي الجامع للقيم السامية فيرى نفسه كما يرى الآخر، يسعى إلى رفاهيته واحترامه، بعيدا عن الحسابات الضيقة وبعيدا عن السيطرة والهيمنة والاضطهاد والظلم والميز.

إن الاعتراف بإنسانية الإنسان، والوعي به في إطار المحبّة والتّضامن، يُحقّقُ التّطلّعات لبناء مجتمع أخلاقي يتطوّر ويتقدّم، يقاوم الفكر الوصولي التخريبي والانتهازي المُشيِّء لحقيقة الإنسان وغاياته في هذا العالم.

والمحبّة بمفهومها العام، تعطي معنى للحياة، ودافعية إلى التفكير في العالم والإنسان، وطرح أسئلة وجوده المتكافئ للجميع بعيدا عن التمييز والعنصرية والكراهية، في زمن ضاع منّا فاسِحاً مجالا أرحب للعولمة المتوحّشة والأنانية، إذ بالمحبّة نستطيع أن نوجد معنى جديد للوجود، قد تكون المحبّة الأفق الذي ينبجس منه النّور المُضيء الذي لا يوفّره العلم ولا السّياسة، بل النّور الذي يشعُّ من إنسان يؤمن بالإنسان محبّة.

***

ذ. عبد الهادي عبد المطلب - المغرب

.......................

[1] ـ الأجنحة المتكسرة، جبران خليل جبران، مؤسسة خليل هنداوي، 2012. ص 19.

2 ـ جبران خليل جبران رمل وزبد، ت: انطونيوس بشير. مؤسسة هنداوي. 2020. ص 40

[3] ـ جلال الدين الرومي

[4] ـ أبو حامد الغزالي. إحياء علوم الدين.

[5]  ـ أدونيس. موسيقى الحوت الآزرق (الهوية، الكتابة، العنف).دار الآداب بيروت. ط 2. 2011. (ص342).

 

يعتبر التاريخ مجرد خدعة سردية*، حيث يتم تصويره كطبقات من الهيمنة المغلفة بالخطاب. هذا يجعل من الصعب تصديق السرديات الكبرى التي تعكس تعقيداته وتحدياته اذ يتم تقديمه كطبقات تتفوق فيها سرديات معينة على حساب أخرى، وبالتالي يعكس انحيازات ثقافية وسياسية، السرديات الكبرى التي تدعي الشمولية او السرديات التي تُظهر تجارب البطولة الفردية، هذه بمجملها تتجاهل الأصوات المهمشة ولا تعكس تعدد الأصوات والتجارب، مما يجعل من الصعب بناء سردية واحدة شاملة، تتأثر السرديات التاريخية بالسياق الثقافي والسياسي مما يؤدي إلى تشكيل روايات تخدم مصالح مجموعة معينة. يسعى المفكرون الى فحص وتفكيك تلك السرديات السائدة التي تظهر التاريخ وكأنه يمر عبر مسار خطي مستقيم من الحاضر الى الماضي رغم انه في حقيقته مليء بالتحولات والانقطاعات، هذا يضيف صعوبة في تصديق السرديات المهيمنة. تدفع هذه الفكرة إلى إعادة التقييم، ويتم البحث عن سرديات بديلة تعكس تجارب متنوعة وشاملة. تاريخ الفكر يُظهر كيف أن السرديات التاريخية ليست مجرد حقائق ثابتة، بل هي نتاج تفاعلات معقدة بين الثقافة، السياسة، والتجربة الإنسانية.  يلعب النقد دورًا حاسمًا في كشف جذور الهيمنة ويُساعد في اختبار الروايات التاريخية السائدة، مما يفتح المجال أمام وجهات نظر بديلة تكشف عن الانحيازات الموجودة و التركيز على كيفية تشكيل السلطة لمفاهيم التاريخ، مما يُبين كيف تُستخدم السرديات لتأكيد الهيمنة الثقافية والسياسية بعيدا عن تجارب ومواقف الجماعات المهمشة،  بتغليف الخطاب السردي برمزيات ميتافيزيقية  لا تعطي صوتًا لأولئك الذين تم تجاهلهم كما ان النقد يُظهر كيف أن مفاهيم مثل الحضارة والتقدم قد تكون مشبوهة بعد ان يعيد تقييم معانيها في سياقات مختلفة، ويساهم في فهم كيف تؤثر البنى الاجتماعية والاقتصادية على كتابة التاريخ، مما يكشف عن العلاقات المعقدة بين (القوة والمعرفة). كذلك يساعد التفكير النقدي الأفراد على استجواب السرديات التاريخية وفهم تأثيرها على الحاضر، وقد يصبح أداة قوية لكشف الهيمنة السلطوية في السرديات التاريخية، مما يُسهم في بناء فهم أكثر شمولية وتعقيدًا للتجربة الإنسانية.

دور الفلسفة الواقعية

 الفلسفة التي تعترف بالواقع القاسي دون تزيين تعتبر أكثر أهمية من تلك التي تهدف لإرضاء الناس. المعرفة الحقيقية قد تؤدي إلى شعور بالقلق والفلسفة التي تعترف بالواقع القاسي دون تزيين تحمل أهمية خاصة. انها  تعكس حقيقة الحياة كما هي، مما يساعد الأفراد على مواجهة التحديات والألم بدلاً من الهروب منه، الاعتراف بالواقع القاسي يعزز الصراحة والشفافية، ويُساهم في فهم أعمق للوجود،  حيث يدرك الفرد تعقيدات الحياة والموت والمعاناة، الفلسفة التي تتجاوز محاولات إرضاء الناس، مُعتبرة أن الهروب من الواقع يُؤدي إلى جهل ذاتي في مواجهة القسوة التي تُعوق النمو الشخصي والتطور، حيث من خلال القسوة والمواجهة يتعلم الفرد كيفية التكيف مع الظروف الصعبة مما يساعد  في البحث عن معنى أعمق في الحياة، بعيدًا عن القيم السطحية أو التوقعات الاجتماعية، و تعزز القدرة على فهم الواقع وتزيد من قدرة الفرد على اتخاذ قرارات مستنيرة في مواجهة التحديات بشكل أفضل، يُعتبر الاعتراف بالواقع القاسي جزءًا أساسيًا من الفلسفة التي تسعى إلى تحقيق معرفة حقيقية، ومواجهة الحياة بصدق وشجاعة.

تاريخ الفكر وتاريخ الفلسفة

تاريخ الفكر يُعتبر في بعض الأحيان خدعة سردية لأنه يُستعرض كمسلسل من الأفكار التي تتراكم عبر الزمن، هذا التقديم يمكن أن يُخفي التعقيدات الحقيقية، يُمكن أن يتم تصوير بعض الأفكار أو الفلاسفة كأكثر أهمية أو تأثيرًا من الآخرين، مما يعكس هيمنة ثقافات معينة على السرد التاريخي، يتم استخدام اللغة والخطاب السلطوي  لتأطير الأحداث والأفكار بطريقة تخدم مصالح معينة، مما يُعزز من رؤى محددة على حساب أخرى حيث يتم استبعاد أو تهميش أصوات وأفكار أخرى، و  يُظهر ان تاريخ الفكر  أكثر تجانسًا مما هو عليه في الواقع، تاريخ الفكر هو في الواقع مجموعة من النقاشات والتفاعلات المتعددة. فالأفكار تتداخل وتتفاعل بطرق معقدة، مما يتطلب فهمًا أعمق، بالتالي يُعتبر السرد التاريخي للأفكار كطبقات من الهيمنة ومحاولة لتبسيط وتعزيز رواية معينة، بينما يُغفل عن التعقيدات والتنوع الحقيقي للفكر البشري، دور السياق الاجتماعي والسياسي في تشكيل تاريخ الفكر هو دور محوري، الأحداث السياسية والاجتماعية، مثل الحروب والثورات، تؤثر بشكل كبير على الأفكار الفلسفية والدينية.  كانت فترة النهضة الأوروبية مليئة بالتغيرات السياسية والاجتماعية التي أثرت في الفكر العلمي والفلسفي، الأيديولوجيات التي تهيمن على فترة معينة، مثل الاشتراكية أو الليبرالية، تؤثر في كيفية تطور الأفكار. تُعزز هذه الأيديولوجيات بعض الأفكار وتُهمش أخرى. يتشكل السرد التاريخي بشكل كبير منه نتيجة التبادل الثقافي بين الشعوب والأمم. التفاعل بين الثقافات المختلفة ويمكن أن يؤدي إلى ولادة أفكار جديدة أو إعادة تفسير أفكار قائمة كما تساهم الطبقات الاجتماعية في تشكيل الفكر، حيث تختلف اهتمامات ورؤى الأفراد بناءً على مواقعهم الاجتماعية والاقتصادية. هذا يؤدي بالتالي إلى تنوع الأفكار ووجهات النظر. ممارسة الرقابة على الفكر، تؤثر على قدرة المفكرين عن التعبير، ويمكن ان يُؤدي القمع إلى إلهام حركات فكرية جديدة مثل حركات الاحتجاج والتغيير الاجتماعي والتي غالبًا ما تُنتج أفكارًا جديدة تتحدى السرد السائد، مما يساهم في إعادة تشكيل تاريخ الفكر بالتالي يؤثر على تاريخ الفلسفة وان السياق الاجتماعي والسياسي ليس مجرد خلفية، بل هو عامل فاعل يؤثر في ظهور وتطور الأفكار والفلسفات عبر الزمن.

البراغماتية الجديدة

البراغماتية الجديدة تُعتبر منهجًا فلسفيًا يركز على النتائج العملية للأفكار التي تؤيد  ان تاريخ الفكر في هذا السياق يُمكن أن يُنظر إليه كخدعة سردية لكنها لا تظهره كطبقات من الهيمنة، كون البراغماتية تركز على كيفية تطبيق الأفكار في الواقع باختلاف سياقاته، و تدعو إلى إعادة تقييم الأفكار بناءً على فاعليتها في السياقات الاجتماعية والسياسية، مما يُظهر كيف أن السرد التاريخي يمكن أن يكون مُضللًا لان الأفكار لا تتطور في فراغ، بل تتفاعل مع الظروف الاجتماعية والسياسية، وتشير الى أن كل طبقة من الفكر قد لا تبنى على سابقتها في كل السياقات ، ان الاعتراف بأن التاريخ مليء بالتفاعلات بين الأفكار والظروف الاجتماعية والسياسية، و ليس منصة للأفكار والأصوات التي تم تهميشها في السرد التقليدي، مثل النساء والأقليات العرقية، تحاول البراغماتية دمج مختلف مجالات المعرفة، مثل العلوم الاجتماعية، والأنثروبولوجيا، والفلسفة، لفهم السياقات بشكل أعمق يساعد في قبول  تفسيراتها التاريخية و يمكن أن تتغير مع الوقت، وأن هناك دائمًا مساحة لإعادة التفكير في الأحداث والأفكار.

دور الاستشراق

رؤيتنا لتاريخ الفكر تنطلق من تسليط الضوء على التعقيدات والأبعاد المختلفة التي تغفل عادة دور الاستشراق في تشكيل السرديات الغربية عن العالم العربي يتضمن هذا عدة جوانب رئيسية، ساهم الاستشراق في بناء صور نمطية عن العالم العربي، حيث تم تصويره كعالم غريب ومختلف، مما أدى إلى تعزيز الفكرة بأن العرب يمثلون الآخر، استخدم الاستشراق كأداة لتعزيز الهيمنة الثقافية، حيث تم تقديم الثقافة الغربية كثقافة فوقية، مما أدى إلى تهميش ثقافات الشعوب العربية، أنشأ المستشرقون معرفتهم من خلال دراسات وأبحاث غالبًا ما كانت تفتقر إلى الفهم العميق للسياقات الاجتماعية والسياسية، مما أسهم في تشكيل سرديات مشوهة، استُخدمت هذه السرديات الاستشراقية لتبرير الاستعمار، حيث تم تصوير الشعوب العربية غير قادرة على الحكم الذاتي، مما ساعد في تبرير السيطرة الغربية، أثرت السرديات الاستشراقية على كيفية رؤية العرب لأنفسهم، مما أدى إلى صراعات هوية داخلية وتحديات في إعادة تعريف الثقافة العربية، ساهم الاستشراق في إنتاج أعمال أدبية وفنية تعكس رؤى غربية عن العرب، مما أثر على التصورات العامة وأصبح جزءًا من المخيلة الثقافية الغربية في الوقت نفسه، أدى الاستشراق إلى ردود فعل نقدية من المفكرين العرب، و ساهم في خلق سرديات جديدة تحاول ان تعكس واقع التاريخ العربي من خلال التشبث بأسطورة العصر الذهبي بشكل أكثر دقة بالتالي انتجت التطرف الاصولي، يمكن القول إن الاستشراق لعب دورًا مركزيًا في تشكيل السرديات الغربية عن العالم العربي، لكنه أيضًا أثار ردود فعل أكثر تعقيدًا ورجعية للثقافة العربية.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

.......................

* ميشيل فوكو: يرى أن المعرفة التاريخية ليست محايدة، بل تتشابك مع قوى السلطة. التاريخ يُكتب من وجهة نظر معينة تعكس مصالح معينة، مما يعني أن السرد التاريخي يمكن أن يُستخدم لتعزيز السلطة أو السيطرة.

يقف وطننا على مفترق طرق حاسم، فبينما نتطلع الى سماء المستقبل، لا يمكننا ان نغض الطرف عن الغيوم الداكنة التي تخيم على واقعنا التعليمي. ان التحديات العميقة والمشاكل العالقة قد ادت الى تدهور ملحوظ في جودة التعليم، وفتحت الباب امام ممارسات تهدد اسس بناء جيل واعٍ ومثقف. لقد ان الاوان لتجاوز حالة الركود، فمستقبلنا ليس مجرد امنية معلقة، بل هو مسؤولية نحملها اليوم بغرس بذور العلم والمعرفة في تربة نظامنا التعليمي، لكي تنمو وتزدهر اجيال قادرة على النهوض بوطننا.

لكن هذه البذور تواجه افات الفساد وتحديات الهيمنة من قبل اعداء العلم والمعرفة. ان معركتنا اليوم تتطلب نظاما تعليميا قويا ونزيها، ينبض بالحياة ويتجاوز هذه العقبات، نظاما يواكب تطورات العصر ويستلهم من قيمنا الاصيلة ليصنع لنا مستقبلا يليق بتضحياتنا وتطلعاتنا. من هذا السياق، نتقدم بمقترح مشروع 'المجلس الأعلى للتربية والتعليم في العراق' ليتبوأ موقع القيادة في اصلاح منظومتنا التعليمية، ساعياً الى اقتلاع جذور المشاكل التي تعيق تقدمها، وأرساء دعائم مستقبل تعليمي مشرق ومستدام لأبنائنا.

رؤية المشروع:

الارتقاء بالمنظومة التربوية والتعليمية في العراق الى مصاف الانظمة العالمية المتميزة، وتمكين اجيال المستقبل بالعلم والمعرفة والمهارات اللازمة لمواكبة تحديات العصر وتحقيق التنمية المستدامة لوطننا العزيز.

اهداف المشروع:

1. تطوير مناهج تعليمية حديثة ومتكاملة، تستجيب لمتطلبات سوق العمل والتطورات العلمية والتكنولوجية.

2. تحسين جودة التدريس وتاهيل الكوادر التعليمية وتطوير قدراتهم المهنية باستمرار.

3. تعزيز بيئة تعليمية محفزة وامنة وداعمة للابداع والابتكار.

4. تطوير اليات فعالة لتقييم الاداء التعليمي وضمان الجودة والمساءلة.

5. تعزيز الشراكة بين المؤسسات التعليمية والمجتمع وقطاعات الدولة المختلفة لتحقيق تكامل الجهود.

6. الحفاظ على الهوية الوطنية والقيم الانسانية وتعزيزها في المناهج والانشطة التعليمية.

7. توسيع فرص التعليم العادل والشامل لجميع فئات المجتمع.

8. استخدام التكنولوجيا الحديثة ومنها الذكاء الاصطناعي في تطوير العملية التعليمية وادارة المؤسسات التربوية.

اهمية المشروع ومبرراته:

انطلاقا من ادراكنا العميق للتحديات التي تواجه مسيرة التعليم في وطننا، والتي تتطلب رؤية استراتيجية موحدة وجهودا منسقة، يبرز مشروع "المجلس الاعلى للتربية والتعليم" كضرورة وطنية ملحة. ففي ظل الحاجة الى نظام تعليمي عصري يواكب التطورات المتسارعة ويستجيب لطموحات شعبنا، ياتي تاسيس هذا المجلس ليضع حجر الزاوية في بناء مستقبل مشرق لاجيالنا القادمة. سيكون المجلس بمثابة مظلة وطنية تجمع الخبرات والكفاءات، وتوحد الرؤى والاستراتيجيات، وتضمن اتخاذ القرارات الصائبة التي ترتقي بالتعليم الى اعلى المستويات.

وتتضح اهمية المشروع في:

1. الحاجة الى جهة مركزية تخطط للسياسات التعليمية على المستوى الوطني.

2. ضرورة وجود مرجعية علمية وتربوية عليا لتطوير المناهج والمعايير.

3. اهمية تنسيق الجهود بين مختلف الجهات المعنية بالتعليم (وزارة التربية، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مؤسسات المجتمع المدني، القطاع الخاص).

4. الحاجة الى ضمان جودة التعليم والمساءلة في جميع المراحل التعليمية.

5. ضرورة مواكبة التطورات العالمية في مجال التعليم وتبني افضل الممارسات.

هيكل المجلس المقترح:

يقترح ان يتكون "المجلس الاعلى للتربية والتعليم" من:

1. رئيس المجلس: شخصية وطنية مرموقة ذات خبرة واسعة في مجال التعليم او الادارة العامة.

2. اعضاء دائمون: ممثلون رفيعو المستوى من:

- وزارة التربية.

- وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.

- وزارة التخطيط.

- وزارة المالية.

- مستشارو التربية والتعليم العالي في الوزارات المعنية ورئاسة الوزراء

- نقابة المعلمين.

- نقابة الاكاديميين العراقيين.

3. اعضاء غير دائمين:

- خبراء تربويون واكاديميون متخصصون في مختلف المجالات التعليمية.

- ممثلون عن القطاع الخاص ذي الصلة بالتعليم والتدريب.

- ممثلون عن منظمات المجتمع المدني العاملة في مجال التعليم.

- طلبة متميزون (في مراحل متقدمة).

4. امانة عامة: جهاز تنفيذي دائم يتولى ادارة اعمال المجلس وتنسيق فعالياته.

مهام المجلس الرئيسية:

1. اقتراح السياسات والاستراتيجيات الوطنية للتربية والتعليم ورفعها للجهات المختصة لاعتمادها.

2. اعتماد الاطار العام للمناهج التعليمية والمعايير الاكاديمية لجميع المراحل التعليمية.

3. الاشراف العام على جودة التعليم وتقييم الاداء المؤسسي للمؤسسات التعليمية الحكومية والاهلية.

4. تطوير اليات ومعايير لاعتماد المؤسسات التعليمية والبرامج الاكاديمية وضمان جودتها.

5. تشجيع البحث العلمي والابتكار في مجال التعليم وتوفير الدعم اللازم لذلك.

6. تقديم الاستشارات والتوصيات للحكومة والجهات المعنية في القضايا المتعلقة بالتربية والتعليم.

7. عقد المؤتمرات والندوات وورش العمل لمناقشة القضايا التعليمية وتبادل الخبرات.

8. بناء شراكات وتعاون مع المؤسسات التعليمية والمنظمات الاقليمية والدولية ذات الصلة.

9. متابعة تنفيذ السياسات والخطط التعليمية وتقييم اثرها وتقديم التوصيات اللازمة لتطويرها.

10. اعداد تقارير دورية حول وضع التعليم في العراق وتقديمها للجهات المعنية والراي العام.

الاليات التنفيذية:

سيعتمد "المجلس الاعلى للتربية والتعليم" في تحقيق مهامه على:

1. تشكيل لجان متخصصة وفرق عمل لدراسة القضايا التعليمية المختلفة وتقديم التوصيات.

2. اجراء الدراسات والبحوث العلمية والتربوية لجمع البيانات وتحليلها واتخاذ القرارات المستنيرة.

3. تنظيم ورش عمل ودورات تدريبية لتطوير قدرات العاملين في القطاع التعليمي.

4. اطلاق مبادرات ومشاريع تجريبية لتطبيق افكار جديدة وتقييم فعاليتها قبل تعميمها.

5. وضع مؤشرات اداء رئيسية (KPIs) لقياس التقدم المحرز في تحقيق الاهداف.

6. استخدام التكنولوجيا الحديثة في ادارة اعمال المجلس وتسهيل التواصل وتبادل المعلومات.

7. اقامة حوارات ونقاشات مفتوحة مع جميع الاطراف المعنية بالتعليم.

المخرجات المتوقعة:

من المتوقع ان يؤدي انشاء "المجلس الاعلى للتربية والتعليم" الى تحقيق العديد من المخرجات الايجابية، من اهمها:

1. نظام تعليمي اكثر جودة وفعالية يستجيب لاحتياجات المجتمع وسوق العمل.

2. مناهج تعليمية حديثة ومتطورة تواكب التطورات العلمية والتكنولوجية.

3. كوادر تعليمية مؤهلة ومتمكنة قادرة على تقديم تعليم عالي الجودة.

4. بيئة تعليمية محفزة للابداع والابتكار وتشجع على التفكير النقدي.

5. تحسين مخرجات التعليم ومستوى الخريجين وزيادة قدرتهم التنافسية.

6. تعزيز مكانة التعليم العراقي على المستوى الاقليمي والدولي.

7. زيادة ثقة المجتمع بالنظام التعليمي ومشاركته الفعالة في تطويره.

8. المساهمة في تحقيق التنمية المستدامة والنهضة الشاملة في العراق.

خاتمة:

ان مشروع "المجلس الاعلى للتربية والتعليم في العراق" ليس مجرد هيكل تنظيمي، بل هو تجسيد لطموحاتنا في بناء مستقبل مشرق لاجيالنا القادمة. انه دعوة للعمل المشترك، وتوحيد الجهود، واستثمار الطاقات من اجل الارتقاء بالتعليم في وطننا العزيز. وكما نامل ان تثمر البذرة من خلال هذا المجلس نظاما تعليميا رائدا، يضيء سماء العراق بالعلم والمعرفة، ويحقق احلامنا في غد افضل واكثر ازدهارا. ان تاسيس هذا المجلس يمثل خطوة حاسمة نحو تحقيق نهضة تعليمية شاملة تليق بتاريخ وحضارة العراق وتطلعات شعبه.

***

د. محمد الربيعي

 بروفيسور متمرس ومستشار تربوي دولي

في لحظةٍ عبثية من هذا الوجود، تعثّرت ذرة غبار بأخرى، فسقطت مجرةٌ من مكانها، وانعطف كوكب، وولد شاعرٌ في حانة. هذه هي الصدفة. أو هكذا على الأقل نقول كي لا نصاب بالجنون.

لكن ما هي الصدفة حقًا؟ أهي غلطة في شيفرة الكون؟ أم اختراع إنساني للتملّص من تفسير ما لا يُفسَّر؟ يقول الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو: "العبث هو صراع الإنسان مع صمته ولامبالاة الكون."، والصدفة هي لحظة هذا الصراع حين يرتطم الرأس بالجدار وتضحك الجدران.

نقول "بالصدفة" حين نعجز عن رسم الخريطة التي قادتنا إلى هذه اللحظة. التقيت بها "بالصدفة"، وفزت في اليانصيب "بالصدفة"، وسقطت الدول، وقُتل الناس، وسقطت الكراسي الوزارية – كلها "بالصدفة". لكن كما يقول سارتر، لا توجد صدفة، بل يوجد جهلنا بالأسباب.

في الواقع، نحن نحبّ الصدفة لأنها تُبرّئنا من التورط. تُريحنا من سؤال "لماذا؟"، وتمنحنا عذرًا مجانيًا. الصدفة هي الأم الرحيمة للفوضى، والأب الحنون للفن.

لو كانت الصدفة أنثى خفيفة الظل، فالسبب هو عجوز ثقيل الظل، يرتدي نظارات سميكة ويمسك دفتر ملاحظات. "لماذا فعلت ذلك؟"، يسأل. "ما السبب؟"، يكرر. وكأننا دومًا ملزمون بتفسير كل صرخة، وكل قبلة، وكل انتحار.

السبب هو ما يجعل الشرطي يدوّن محضرًا، ويجعل الطبيب يكتب وصفةً، ويجعل الفلاسفة يتعاركون حول المفاهيم. لكنه ليس دائمًا شريفًا. أحيانًا، هو مجرد صدفة حصلت على تعليم عالٍ.

قال أرسطو: "السبب هو المبدأ الأول لأي شيء." جميل. لكن ماذا عن الأشياء التي تحدث لأننا لم نكن نعرف ماذا نفعل؟ ماذا عن القرارات التي اتخذناها لأن البيت كان باردًا؟ أو لأن الرسالة لم تصل؟ أو لأن الحذاء كان ضيقًا؟ هل هذا سبب؟ أم نكتة كونية؟

في عالم يتسابق فيه العقل لتفسير كل شيء، يغدو السبب حبل مشنقةٍ نربط به أعناق اللحظات البريئة. نحتاجه، نعم. لكنه – ويا للعجب – لا يحتاجنا.

الضرورة ليست الصدفة، وليست السبب. إنها القاضي الذي ينزل الحكم ثم يبتسم لك ويقول: "كان لا بدّ أن يحدث هذا." الضرورة هي صوت القدر حين يتحدث بلغة رياضية باردة، تخلو من النكتة والندم.

قال هيجل: "الحرية هي وعي الضرورة." عظيم. لكن ماذا لو لم نرغب في الوعي؟ ماذا لو أردنا فقط أن نحيا دون خريطة، دون أصفاد الأسباب، ودون دفتر حضور الضرورة؟

الضرورة تعني أن ما حدث لا يمكن إلا أن يكون. إنها فلسفة العزاء المسموم. وهي أيضًا أم التاريخ. كم من مجازر ارتُكبت باسم الضرورة؟ كم من استعباد، من اضطهاد، من كذب أُلبس ثوب " لا مفرّ منه"؟

لكن دعونا لا نظلمها. أحيانًا تكون الضرورة رفيقة الإنسان حين يُفكر في حريته. كما كتب كانط، فإن الحرية لا تعني أن نتصرف دون سبب، بل أن يكون سبب فعلنا نابعا منّا، من إرادتنا الأخلاقية، لا من ضغوط الخارج.

هل نحن أحرار؟ أم أن السؤال نفسه خطأ مطبعي؟

أنا حرّ حين أرفع يدي فجأة، بلا سبب. أو هكذا أظن. ثم أدرك أني فعلت ذلك فقط كي أقنع نفسي أني لست آلة. لكن هل هذا سبب؟ ألم تكن "رغبتي في الحرية" سببًا كافيًا لإلغاء حريتي؟

"أنا أفكر، إذن أنا موجود"، قال ديكارت، لكنه نسي أن يضيف: "وأنا أختلق الأعذار، إذن أنا بشر." نحن نعيش في وهم الاختيار، نقف عند مفترق طرق، نظن أننا نختار، بينما تسير أقدامنا حيث كُتب في الرواية أن نذهب.

وفي لحظة ضعف، نردد مع سيوران: "لو كان لي الخيار، لما اخترت أن أولد."

في مجتمع عادل، تُمارَس الحرية دون أن تدهس حرية الآخرين. هذا هو الحلم الجميل. لكن في الواقع، نعيش بين مطرقة الضرورة وسندان قوانين السوق. الحرية تُباع اليوم بالمتر، وتُقاس بعدد "اللايكات". كل شيء مسيّر، بما في ذلك تمردنا.

والمجتمع الذي لا يربّي الإنسان على احترام الطبيعة – داخله وخارجه – مجتمع فاشل، مهما أطلق على نفسه من ألقاب. لقد نسينا الطبيعة، التي كانت يومًا إلهة، فحوّلناها إلى مكب نفايات. وكما كتب إدواردو غاليانو: "نحن نعيش في عالم يأكل فيه البشر كل شيء... إلا الجوع."

في النهاية، الصدفة هي اسم مستعار للجهل، والسبب هو اسم مستعار للندم، والضرورة هي اسم مستعار للعجز. كل شيء يحدث لأسباب لا نفهمها، وننسبه إلى الصدفة. كل شيء نندم عليه نبحث له عن سبب. وكل شيء نفشل في تغييره نسميه ضرورة.

أضحك، أيها القارئ الكريم، وأنت تبكي. فالحياة لا تفسَّر، بل تُعاش، وغالبًا... تُندب.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

تروم الابحاث والدراسات الجديدة، التي تقارب اشكاليات راهنة، تتعلق بمنظورات سيكولوجيا عالم التواصل الاجتماعي، وقابلياتها في فهم الديناميكيات النفسية والعصبية الاجتماعية المتساوقة مع الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي، تروم الكشف عن مجمل التأثيرات وعلاقتها بوضعيات المستعملين المتنامية على مستوى الاضطرابات والسلوكيات المحايثة.

من مخاطر بروز هذا النوع من الطفرات التخصصية، في مجال حديث الولادة والظهور، المحاولات الاقتدارية لعلماء النفس، في البحث عن مظاهر وخلفيات الافتتان والتحجج بالخطابات المستنتجة من احتياجات التفاعل البشري مع المنصات الرقمية، في درجات تأسيسها البنيوي الداخلي ليوطوبيات الانتماء والتواصل والتقدير وعلو الأنا المخاطبة، ما يكرس حدودا مطلقة تعكس ارتطامات سلوكية باطنية، تتجذر في الوعي اللا ارادي، لتصبح أداة طيعة لإفرازات تؤدي الى القلق والشك والادمان والاكتئاب والترفع عن الواقع!

لا يستعصي على المهتمين بالأسئلة المطروحة، إيجاد روافد سوسيولوجية وثقافية محضة، لهذا النوع المثير من تأثيرات الرقمي على واقع الحال البشري. فالإدمان عليه، يوفر هامشا من التحول البين لاستهداف الهوية مباشرة دون عناء. إذ إن مصاحبة آليات الجذب الثقافية والترويجية، واغمارها بمرموزات وعلامات استراتيجية، تخلق بالتتابع معرفة بحياة أخرى " مثالية وطوباوبة ربما", تستنكف الذوات المبخرة في أعالي الفضاء الازرق، وتستثير قدراته النفسية والاجتماعية، للانخراط فيها دون وعي او احتمال عواقب.

ويثير السوسيولوجي الايرلندي سياران ماهون (1) في مؤلفه " سيكولوجية وسائل التواصل الاجتماعي"، جزءا من العقيدة السيكولوجية لتبدلات الأفراد والجماعات ضمن سياقات توتر بين الحقيقي والافتراضي، مضمنا قيم العزلة والالهاء وقتل الوقت، كعناصر مشتتة للوعي ومحاصرة لمقدرات الذات وقدرتها على الصمود .

ويبارز ماهون مثالب الانقلاب على الطبيعة الإنسانية، الواعية بالزمان وموجوداته وانماطه وتوتراته، مؤسسا جانبا من حدود ثاوية من خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي، القائمة على تحفيز وتشجيع الممارسات الإدمانية من خلال تقديم محتوى يتوافق مع توقعات المستخدمين.

إن روابط تلك الممارسات المنفلتة تعمل على محاصرة المبحرين داخل فقاعات المعلومات، معرضة اياهم لمزيد من التشويش والاغراق الذهني، مشروب بكم هائل من المعلومات المضللة.

وفي السياق، يمكن التدليل ايضا بإسهامات شبكات التواصل الاجتماعي في استقطاب ما يمكن توجيهه على اعتباره آراء ووجهات نظر حرة؛ بيد أنها تشكل فقاعات طافقة تشجع الانقسامات، وتؤدي إلى الرفض والخوف من الآخرين.

إن المواقف الدقيقة أو المعتدلة ليست شائعة. كما أن الاعتبارات القريبة من بناء التفكير واستقصاء التأملات، بكيفية التعامل مع الكائنات الافتراضية، يكاد يكون منعدما ورافضا لمبدئية التعميم القيمي وأخلاق القيمة.

ومن المخاطر الأخرى التي تفرضها وسائل التواصل الاجتماعي هو التماهي مع معايير لا يمكن بلوغها: يقول المحلل النفسي الفرنسي المتخصص في الادمان والتكنولوجيا الرقمية(2) إنه "في السنوات الخمس أو الست الماضية، كان الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عاماً هم الأكثر لجوءا إلى الجراحة التجميلية لكي يشبهوا مرشحات إنستغرام أو صورهم الرمزية الرقمية. ما هي المرآة التي تحملها هذه المنصات؟ ما هي الصورة الذاتية التي يعكسونها؟" يتساءل الباحث، مبديا غرابته المشروعة، تجاه بروز مظاهر اجتماعية أخطر في المجتمع، ترتقي لتكون الاكثر شذوذا في الدورة الزمنية السيكولوجية.

يضيف متفاعلا ومنفعلا: " أنا مقتنع أيضًا بأننا يجب أن نعالج ذكاء المراهقين، بدلًا من محاولة السيطرة على عاداتهم. ومن خلال التساؤل معهم حول مثالية المجتمع، وعبادة الأداء، والاستهلاك، والأمر بالتقيد بالمعايير التي تنقلها الشبكات، فإننا نساعدهم على تطوير منظور نقدي. يتعين علينا أن نكون حذرين حتى لا نجعل الشاشات هي المتهم المثالي: إذ يمكن للتكنولوجيا الرقمية أيضاً أن تكون حليفاً تعليمياً وفكرياً هائلاً".

***

مصطفَى غَلْمَان

......................

(1) "الشبكات الاجتماعية: كيف نحمي الشباب؟" مكائيل ستورا، info.gouv.fr، 30 ابريل 2024

(2) "سيكولوجية وسائل التواصل الاجتماعي " سياران ماهون، ترجمة عمر فتحي، المحروسة للنشر مصر، ط1/ 2024

العزلة عند سيوران، الوحدة عند ابن عربي والولادة عند المعري

تجربة العزلة لدى (سيوران) ليست مجرد اختيار، بل هي نتيجة طبيعية لفهم عميق للوجود، حيث يتجلى ذلك  كشعور بالغربة عن الذات والعالم، هذا الفهم يقود إلى انفصال عن الألفة وهو شعور مستمر تغذيه  تجربة العزلة، لدى (إميل سيوران) تتمثل تلك الحالة بشكل معقد تتجاوز الاختيار الشخصي وهي  نتيجة طبيعية لفهم عميق للوجود، (إميل سيوران) يرى أن الفهم العميق للوجود يقود إلى إدراك عدم الاستقرار والعبثية مما يعزز شعور العزلة، هذا الفهم يمكن أن يؤدي إلى انفصال عن الهوية الذاتية، حيث يشعر الانسان بأنه غريب عن ذاته وتزداد معاناته عندما يصبح الوعي بالوجود عميقا وبالتالي  يمكن أن يؤدي ذلك إلى فقدان الألفة مع العالم، ما يغذي  شعور العزلة هو ان يعيش الانسان في حالة من الاغتراب المستمر، حيث تتداخل مشاعر الارتباط والانفصال، يسعى (سيوران) لفهم المعاني العميقة للحياة، هذا بطبيعته يخلق شعورًا بالضياع في عالم يبدو بلا معنى بدلاً من أن تكون العزلة خيارًا، تصبح  جزءًا من تجربة الحياة،، مما يعكس تحديات الوجود الإنساني  و يتيح له استكشاف هويته الحقيقية، عندما ينفصل الانسان عن مفهومه التقليدي للذات، يمكنه استكشاف أفكار جديدة وتجارب متعددة،  تعزز النمو الشخصي، الانفصال عن الذات يمكن أن يؤدي إلى تقبل عدم اليقين في الحياة، و يحرر الانسان من الضغوط المرتبطة  بتوقعات معينة حيث يتمكن  من رؤية نفسه من منظور جديد، بعيدًا عن الأفكار المحدودة في بعض الفلسفات، يُعتبر الانفصال عن الذات خطوة نحو تحقيق حالة من الوعي الروحي أو الاتحاد مع الكون مما يسمح للفرد بالتعبير عن نفسه بشكل أكثر صدقًا، رغم أن الانفصال عن الذات قد يكون مصحوبًا بشعور من الغربة، إلا أنه يمكن أيضًا أن يُعتبر تجربة تحررية تسهم في التطور الشخصي .

الزمن فلسفيا

الزمن في الفلسفة يُعتبر عبئًا ثقيلًا، خصوصًا في سياق تجربة العارف. يُنظر إلى الماضي كشيء يتلاشى، مما يجعل الذكريات تبدو بعيدة وغير ذات معنى، مما يساهم في شعور الفقد، المستقبل لا يحمل أي وعود،  تجعل العارف يشعر بعدم الأمان والقلق، و يفقد الأمل في التغيير أو التحسن، هذا الوعي بالزمن يمكن أن يؤدي إلى شعور عميق بالعزلة، حيث يشعر العارف بأنه محاصر بين الماضي المتفكك والمستقبل الغامض،  عندما يصبح الزمن موضوعًا للتأمل الفلسفي،  يسعى العارف لفهم كيف يتداخل الزمن مع الوجود والمعنى مع عدم قدرة الآخرين على فهم هذه التجربة الزمانية والمكانية، يشعر العارف بالعزلة، مما يزيد من شعوره بالفراق عن العالم، ويصبح الزمن دافعًا للبحث عن معنى أعمق للحياة،  يدفعه  إلى التأمل في حالته الوجودية ويتحدى  مفهوم الاستمرارية الزمانية، هذا يجعله يعيد التفكير في كيفية تأثير الزمن على التجربة الإنسانية، تظهر هذه الديناميات كيف أن الزمن، بدلاً من أن يكون مجرد إطار ، يصبح عنصرًا سياقي معقدًا يُضيف عمقًا لتجربته ، مما يعكس التوتر بين الوجود والزمن.

الشعور بالعبء

يمكن اعتبار الشعور بالعبء الزمني نوعًا من المعاناة الوجودية عند ابن عربي، في رؤياه يعكس الزمن مفهومًا عميقًا يتعلق بالوجود والعدم، حيث يبرز الصراع بين اللحظة الحالية وما يتجاوزها، ابن عربي يتناول الزمن كحالة من التحول المستمر، مما يخلق شعورًا بالقلق وعدم الاستقرار ايضا. هذا الشعور يمكن أن يؤدي إلى تأملات حول معنى الحياة والوجود، يمكن ربط الشعور بالعبء الزمني بالفناء عند ابن عربي. في رؤياه يعتبر الفناء مفهومًا مركزيًا يرتبط بالتحول والانتهاء، الزمن بصفته عنصرًا حيويًا في تجربة الإنسان، يبرز الفكرة أن كل شيء في العالم موقت وعابر، ابن عربي يعتبر أن الفناء هو الطريق للوصول إلى البقاء الحقيقي في الوحدة، في هذا السياق، يمكن أن يُفسر الشعور بالعبء الزمني كنوع من الوعي بالزوال، مما يدفع الفرد للتأمل في طبيعة وجوده وعلاقته بالكون رغم ان هذا العبء الزمني يمكن أن يؤدي إلى شعور بالقلق، لكنه أيضًا يفتح أبوابًا للتصوف والتقرب إلى الله، حيث يسعى الإنسان لتجاوز  المظاهر الزمنية نحو الجوهر الأسمى. مفهوم الفناء في "فصوص الحكم" عند ابن عربي يرتبط بتجاوز العبء الزمني والفناء ويُعتبره عملية تحرر من القيود الزمانية والمكانية. عندما يختبر الشخص الفناء، يتحرر من مشاعر القلق المرتبطة بالزمن والوجود، مما يتيح له الوصول إلى حالة من السكون والهدوء، الفناء يُفضي إلى تجربة الوحدة مع الله والكون. في هذه الحالة، يُدرك الفرد أن الزمن ليس سوى وهم، مما يُعزز الإحساس بالاتحاد مع كل ما هو موجود، الفناء يساعد في تجاوز الازدواجية بين الذات والعالم الخارجي، من خلال تجربة الفناء، يُمكن للفرد أن يتجاوز الشعور بالانفصال ويتيح للفرد أن يدخل في تجارب روحية عميقة، حيث يُمكنه أن يشعر بوجوده في اللحظة الازلية، بعيدًا عن الهموم المتعلقة بالماضي أو المستقبل، يُعزز الفناء في "فصوص الحكم" من قدرة الفرد على تجاوز العبء الزمني، مما يفتح له آفاقًا جديدة من الوعي والاتحاد مع الوجود. عندما يشعر الفرد بأنه جزء من الكون، تقل مشاعر القلق والتوتر وتفتح الأبواب لتجارب روحية تعزز من حالة السكون، حيث يُمكن للفرد أن يختبر اللحظة الحالية بالكامل، بعيدًا عن الضغوط الزمنية، من خلال الفناء يُمكن للفرد أن يتواصل مع ذاته الحقيقية، مما يُؤدي إلى شعور بالطمأنينة والهدوء الداخلي بهذا الشكل، يرتبط الفناء بحالة السكون والهدوء بشكل عميق، حيث يُعتبر وسيلة للتخلص من الضغوط الزمنية وتحقيق السلام الداخلي.

 عبء الولادة عند سيروان وابن عربي والمعري

الشعور بعبء الولادة عند سيروان وابن عربي والمعري يشمل موضوعات عميقة تتعلق بالوجود والمعاناة (سيروان) يعبر عن شعوره بالعبء من خلال تصوير الألم والفراق، حيث يرى الولادة كعملية تحمل في طياتها معاناة جديدة. يستعرض التوتر بين الفرح والحزن، ويعكس مشاعر القلق حول المستقبل، ابن عربي من خلال الصوفية، يتناول الولادة كمرحلة من مراحل التحقق الروحي. يرى أن المعاناة جزء من رحلة الروح نحو الكمال، حيث إن الولادة تعني بداية جديدة تحمل فيها الروح عبء التجربة الإنسانية بينما المعري، بشعره المليء بالتشاؤم، ينظر إلى الولادة كعبء ثقيل. يعبر عن فكرة أن الحياة مليئة بالآلام، وأن الولادة ليست سوى بداية لمشقة مستمرة. استخدامه للغة القاسية يعكس إحباطه من الوجود.

السياق التاريخي

سيروان يتعامل مع الولادة كعبء شخصي وعائلي، حيث يرتبط ذلك بالمسؤوليات التي تقع على عاتق الأفراد في زمن الاضطرابات. يتجلى فيها الصراع بين الأمل والقلق، ابن عربي عاش في عصر الازدهار الفكري والديني في الأندلس، حيث كانت الصوفية في أوجها، يرى الولادة كجزء من رحلة روحية نحو الكمال. يستمد أفكاره من الطرق الصوفية، حيث يعتبر المعاناة فرصة للتطور الروحي، مما يعكس تأثير البيئة الروحية التي عاش فيها في حين المعري ينتمي إلى فترة من الشك والقلق الفكري، حيث انتشرت أفكار التحدي للسلطات التقليدية والدينية، يعبر عن تشاؤم عميق تجاه الحياة، ويرى الولادة كعبء ثقيل، مما يعكس إحباطه من الفساد والمعاناة التي يراها في المجتمع. يستخدم لغة قاسية للتعبير عن موقفه من الوجود يمكن ان نستنتج ان الشعراء والفلاسفة تتأثر رؤاهم بشكل ملحوظ بالظروف السياسية، حيث تعكس تجاربهم الشخصية والبيئية. كل شاعر يتفاعل مع واقعه بطريقة تعكس قلقه وآماله، مما يزيد من عمق معانيهم حول عبء الولادة، العزلة والوحدة.

***

غالب المسعودي

في طفولتي المشرقة كلمبة سقطت من سقف الحضارة، كنت أقضي وقتي في مراقبة النمل. أجل، النمل. ذاك الشعب الكادح بلا نقابات، بلا إضرابات، بلا خطب عصماء عن العدالة الاجتماعية. كنت أجثو كعملاق صغير يطل على كوكبٍ مُصغّر، أشاهد بأعجوبة كيف يسير هؤلاء العمال الصغار ذهابًا وإيابًا، كأنهم موظفو حكومة مصغّرة في يوم استلام الرواتب.

لم يكن لديّ آنذاك ما يكفي من الفلسفة أو علم الاجتماع لأفهم فيروموناتهم أو تقسيم عملهم، ولكنني كنت مدفوعًا بفضولٍ لئيم. وفي لحظة من التجلي السادي، غرزت غصنًا في عشهم. فجأة، اختفى النظام الظاهري ليحلّ محلهُ فوضى منظمة—نعم، هناك ما يشبه الذعر، لكن دون صراخ، دون سبٍّ أو شماتة، فقط عمال يركضون ويصلحون، بترتيب أشبه بما يدّعيه وزراء الطوارئ في المؤتمرات الصحفية.

كان درسًا مبكرًا في "السلوك تحت الضغط"، أو كما كان سيقول فوكو لو كان طفلًا في التسعينيات: "السلطة الحيوية تبدأ من الغصن."

نعود الآن، بقفزة زمنية أنيقة، إلى باريس 1976. هناك، كان ميشيل فوكو يعاني أزمة هوية فكرية، يتنهد أمام طلابه في كوليج دو فرانس كما يتنهد الشاعر أمام بيتٍ لم يستقم وزنه. لكن، كما يحصل دائمًا مع الفلاسفة المتعبين، خرج من الأزمة بمفهوم قد يغيّر العالم: السياسة الحيوية.

فوكو لم يكن من أنصار "السلطة كقمع"، بل رأى أن السلطة دخلت عقر دار الحياة، لا لتقتلنا، بل لترعانا بطريقة تشبه رعاية الشركات لموظفيها في اليوم الأخير من كل شهر. نحن، حسب فوكو، لم نعد مجرّد "حيوانات ناطقة" كما أراد أرسطو، بل "حيوانات قابلة للتنظيم والتعقّب والمساءلة والتلقيح الموسمي."

هنا، دعونا نقفز ثانية، لكن هذه المرة إلى القرن الواحد والعشرين، حيث الحياة تبدو كحلقة طويلة من برنامج "الأخ الأكبر"، لكن بنكهة فوكوية. لقد أصبحنا، بفضل الأوبئة، نُحاصر في بيوتنا كما تُحاصر قطة مشاكسة في علبة كرتون. نتحرك وفق تعليمات دقيقة، نشتري ورق التواليت كأننا نستعد لحصار بيزنطة، ونتعقب بعضنا بعضًا عبر تطبيقات الهاتف بتواطؤ مدهش بين شركات الاتصالات والدولة.

في هذا المشهد، تظهر السياسة الحيوية بأبهى حلّتها: السلطة لم تعد جلادًا يحمل سوطًا، بل نظامًا يرتدي بدلة أنيقة، يبتسم لك ويقول: "ابقَ في البيت من فضلك، وإلا...".

 تسأل: لماذا كل هذا؟ أقول لك: لأن العلاقة بين وعي المواطن وتدخل الدولة تشبه العلاقة بين طهو الأم ومطاعم الوجبات السريعة. كلما زاد الوعي، قلّت الحاجة إلى القوانين المطبوخة على عجل. كلما نضج حسّنا المدني، قلّت حاجة الدولة إلى سحبنا من آذاننا.

كان فوكو يحب التنظيم أكثر من القوانين، وكان يرى أن الأنظمة تفضّل دفعك نحو السلوك المرغوب دون أن تجرّك من ياقة قميصك. السلطة الذكية لا تقول لك "افعل"، بل تخلق ظرفًا لا يمكنك فيه أن تفعل غير ما تريد هي.

نعود للنمل—نعم، النمل مرة أخرى. لم يكن هناك مرسوم نمل-دستوري رقم 4 بشأن ترميم العش، ولا مجلس طوارئ أصدر تعليمات. كانت هناك فقط غريزة جمعية أقرب ما تكون إلى "الفطرة السياسية". وها نحن، على خلافهم، نحتاج إلى قانون لكيلا نحضن بعضنا البعض في عز الوباء، ونحتاج إلى لائحة وزارية كي لا نتجمهر أمام محل دونات مغلق.

كما قال إيمانويل كانط: "التنوير هو خروج الإنسان من حالة القصور التي وضع نفسه فيها." لكن يبدو أن كثيرين منا استراحوا في هذا القصور، بل زيّنوه بستائر من إيكيا.

الخلاصة؟ لو كنا أكثر قليلاً مثل النمل، وأقل كثيرًا مثل مذيعي نشرات الأخبار، لما احتجنا إلى دولة تذكرنا يوميًا بأن "الخروج من المنزل يعرضك للمساءلة." وربما، فقط ربما، كنا سننجو من الطوارئ دون أن نتحوّل إلى مجرّد خانات في جدول بيانات حكومي.

فليكن شعارنا إذًا، كما كتب سارتر ذات مرة وهو لا يعلم أنه يخدم النمل من حيث لا يدري: "الوجود يسبق التنظيم، لكنه بحاجة إلى قليل من الحس السليم."

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

كم هو مخيف الصمت الأبدي لهذا الفضاء اللامتناهي. نحن نعيش الآن في كون مؤلف من بلايين المجرات. وفي أغلب الاحيان، نحن نادرا ما نفكر في هذا الأمر، نواصل حياتنا كما فعل الناس في الماضي. مع ذلك، ربما فكّر أحد منا في ضخامة الكون عندما زار القبة السماوية، او عندما شاهد فيلما وثائقيا، او حتى عندما نظر في ليلة ما الى ضوء اصطناعي قوي جدا لدرجة شعر بالدوار. تلك التجربة هي رعب كوني، إحساس يجعلك تشعر في وقت واحد بكل من الضحالة وبالارتباط في كُل هائل . حالما ندرك ضخامة الكون المترامي الاطراف، واننا بقعة صغيرة جدا فيه، سنحتاج الى تغيير طريقة التفكير بأنفسنا. نحن نحتاج ان نجد معنى وأهمية في كوننا نقطة صغيرة في هذا الكون. وكما سنجادل هنا، ان الخيال العلمي يساعدنا للتوافق مع هذا الرعب الكوني، كما يبيّن ذلك تاريخ الفلسفة. الخيال العلمي كشكل أدبي نشأ أصلاً في التأمل الفلسفي حول الكون ومكاننا فيه.

شهدت القرون الماضية توسعا مطردا في رؤيتنا للكون. من القرن الثامن عشر حتى العشرينات من القرن الماضي، كان العلماء يناقشون ما اذا كانت مجرة درب التبانة هي المجرة الوحيدة ام ان السُدم البعيدة التي لمحوها بالتليسكوبات هي ايضا مجرات تحتوي كل واحدة منها على ملايين النجوم. الفيلسوف كانط كان مؤيدا للنظرية الأخيرة في عمله عام 1755(التاريخ الطبيعي الكوني ونظرية السماوات)، وفي عمله نقد العقل المحض عام 1781 كتب كانط: "هي ليست مجرد فكرة وانما عقيدة قوية اراهن على صحتها واستفيد منها كثيرا في الحياة بان هناك ايضا سكان لعوالم اخرى".

قبل القرن السادس عشر، كان شائعا النظر الى العالم ككرة كثيفة مدمجة من كرات متداخلة بدقة. هناك القمر حول الارض، الكواكب والنجوم تدور في رقصة بطيئة ومهيبة، كل واحد منها ارتبط بمجاله البلوري الخاص به. النجوم تضيء السماء في الليل من مواقعها الثابتة كالجواهر الثمينة لكنها في النهاية جواهر طيّعة. مركزية الارض هذه، المتجسدة بكتاب المجسطي لبطليموس سمحت للقدماء بتوضيح نطاق واسع من الظواهر الفلكية. وكما لاحظ كوبرنيكوس في (حول الثورة في الأفلاك السماوية، 1543)، ان علماء المسلمين في القرون الوسطى مثل محمد بن جابر البتاني و ابو اسحق البطروجي وابن رشد وجدوا ثغرات في فقاعة مركزية الارض، ولن يستغرق الامر وقتا طويلا حتى انفجرت تلك الفقاعة.

اما مركزية الشمس فهي تحمل في طياتها بذور كون هائل، بسبب مشكلة حركة النجم. كنظرية للكون، واجهت مركزية الشمس صعوبة لأنها تنبأت بإختلاف موقع النجم، وهو وهم بصري يبدو فيه الشيء البعيد يتحرك عندما يغير المراقب الموقع. ماذا يوضح الإختلاف في الموقع؟ جادل كوبرنيكوس بان الكون هائل، وان النجوم بعيدة جدا. المؤلفون اللاحقون افترضوا ان كل نجم احتوى على نظامه الشمسي الخاص به، او "عالم". الراهب الدومينكي الايطالي والفيلسوف جيوردانو برونو كان من بين الأوائل الذين أدركوا الدلالات المقلقة لهذه الصورة. عندما اُحرق الراهب على العمود عام 1600، لم يكن ذلك بسبب تبنّيه مركزية الشمس، وانما بسبب الهرطقة. مع ذلك، ادرك برونو الأهمية الفلسفية لمركزية الشمس، متوقعا ان الكون لم يكن هو العالم (نظام شمسي)، وانما الكون كان لامتناهيا، "تلك النجوم المتلألئة والأجسام المضيئة التي تشكل عوالم مأهولة بالسكان ومخلوقات رائعة وآلهة عظيمة. تلك العوالم التي تبدو كذلك، هي عوالم لاتُعد ولا تحصى و لا تختلف كثيرا عن العالم الذي نجد أنفسنا به".

وبينما استطاعت التلسكوبات ان تبيّن ان المشتري له قمر، هي لم تكن قوية بما يكفي لإثبات وجود كواكب خارج النظام الشمسي او حياة فضائية ذكية. الناس الحديثون الأوائل نظروا الى القمر بتوق شديد – انه قريب جدا لكنه لايمكن الوصول اليه. للتعويض عن هذا، هم اخترعوا قصصا خيالية عن الحياة في القمر. الفلكي جوهان كبلر كتب رواية قصيرة بعنوان (حلم) نُشرت بعد وفاته عام 1634، تصف الساحرة الايسلندية فيولنهيلد وابنها دوراكوتوس الذين يزورون القمر وعالمه الغريب من خلال التواصل مع الشياطين. بعد ذلك مباشرة نُشر كتاب (رجل في القمر عام 1638) لفرنسيس غودون و كتاب (ثلاث روايات تدور أحداثها على القمر، 1657) لكيراندو بيرغارس. كيراندو انتبه كثيرا الى الجوانب العملية للوصول للقمر. القاص وايضا اسمه كيراندو يربط بجسمه زجاجات ندى، وبالنهاية ينجح باستخدام نوع من صاروخ فضائي.

مؤلفو القرن الثامن عشر ايضا أطلقوا العنان لخيالهم. فيليبو مورغن، 1783 تصوّر مختلف المشاهد في مجتمع قمري مثل القرع "الفاكهة الكروية ذات الغطاء الصلب المستخدمة كمساكن للحماية من الحيوانات المفترسة". في هذا العالم الغريب الأطوار، فاكهة عملاقة صالحة للسكن. في الفضاء العميق، الحدود الوحيدة هي حدود خيالنا.

على حافة المعرفة العلمية والأسئلة الفلسفية التي تثيرها، يبرز الحافز للخيال العلمي. البشر حاليا زاروا القمر، لكن لغز العوالم البعيدة لايزال كما هو، مثلما وجود الحياة الغريبة. وبينما اعتقد كانط انه من المحتمل جدا وجود زائر فضائي غريب، لكن وجود حياة فضائية يبقى ملتبسا. العلم ايضا يقدم الكثير من الألغاز الاخرى مثل حدود وامكانات الذكاء الصناعي، الهندسة الوراثية، وغيرها. سنراجع الآن بعض الأمثلة عن الأعمال المبكرة التي هي في تقاطع مع الخيال العلمي والفلسفة لكي نبيّن الاصول الفلسفية لهذا النوع الادبي. وكما سنرى، الخيال العلمي هو بطبيعته فلسفي لأنه يتنبأ بحدود معرفتنا العلمية.

من الأعمال الشهيرة المبكرة للخيال العلمي هي كتاب الفرنسي برنارد بوفييه دي فونتينيل، 1686 بعنوان محادثات حول تعددية العوالم . هذا الكتاب صُمم ليغطي خمسة مساءات، كل مساء يصف حوارا بين فيلسوف مجهول الاسم وأحد اللوردات حينما يمضيان نزهة في حديقتها ينظران الى النجوم ويتأملان المضامين الكلية للصورة الفلكية الجديدة للعالم. نقطة البدء في حديثهما هو تأمل من جانب الفيلسوف بان "كل نجم يمكن ان يكون عالما. انا سوف أقسم بصحة هذا، لكني أعتقد بهذا لأن هذا التفكير يسرّني (ص10). اللورد الذي هو ذكي لكنه جاهل كليا في علم الفلك، يلح على الفيلسوف ليقول أكثر وعندما يبدو حذراً يسأل "هل تعتقد اني غير قادر على تذوق المُتع الفكرية؟" وكما يلاحظ الفيلسوف، "كل الفلسفة هي مرتكزة على شيئين فقط : الفضول وسوء البصر، اذا كان لديك بصر قوي انت ترى بشكل جيد جدا سواء كانت النجوم ام لم تكن أنظمة شمسية، واذا كنت أقل فضولا سوف لن تهتم حول المعرفة"(ص11). مع امتلاكنا لحواس جيدة نحن بإمكاننا النظر الى الأعلى ورؤية شكل هذه الأنظمة الشمسية. لكننا لا نستطيع، لذا نحتاج الى تأمل فلسفي.

في المساءات اللاحقة، تختبر الشخصيات النظام الشمسي وإمكانية الحياة على القمر والكواكب. بالنهاية، هم يتركون النظام الشمسي ليتأملوا إمكانية الحياة في أنظمة شمسية اخرى. وعندما يستوعب اللورد الدلالات الكاملة لهذه الصورة، يعبّر عن رعب كوني: "هنا كون كبير جدا لدرجة انا اشعر بالضياع، انا لم أعد أعرف أين انا، انا لا شيء. كل نجم سيكون مركزا لدوامة، ربما بحجم دوامتنا؟ ... هل عدد الفضاءات هناك يساوي عدد النجوم الثابتة؟ هذا شيء محيّر ومخيف". مع ذلك، يجيب الفيلسوف، "هذا يجعلني اشعر بالراحة. عندما كانت السماء فقط هذه القبة الزرقاء، مع نجوم مسمّرة فيها، بدا لي الكون صغير وضيق، انا شعرت بالضيق منه . الآن... يبدو لي انا أتنفس بحرية، انا في هواء أكبر". في الصفحات الأخيرة من هذا العمل القصير، يناقش الفيلسوف واللورد مجرة درب التبانة ويدركان انها تتألف من مليارات النجوم. ومثلما القمر يشبه الارض، فان نجوم مجرة درب التبانة كل واحدة تشبه شمسنا كما مبيّن في الصفحة الاولى من الكتاب.

التجارب الخيالية للفيلسوف واللورد تشير الى قوة الخيال العلمي في تعريفنا بالأشياء الغريبة تماما. التأمل في الظاهرة الفلكية يمنحنا إحساسا بالرعب الكوني، ويجعلنا نتضاءل الى مستوى الضحالة. لكن فونتيل يحوّل الرعب الكوني الى عالمية متفائلة: نحن بين العديد من المخلوقات المحتملة التي تسكن كونا عجيبا.

التيلسكوبات لم تكن الاختراع العلمي الوحيد الذي حفز على التأمل الفلسفي والخيال العلمي بسبب قدرتها على إثارة الرعب الكوني. المكروسكوبات، من خلال منحنا احساسا بالضآلة، عملت نفس الشيء تقريبا. في القرن السابع عشر لم تكن لدى الناس امكانية استخدام المكروسكوبات بسهولة كما نحن اليوم وتكبيرها لحجم الاشياء كان متواضعا مقارنة بمستويات اليوم. مع ذلك، منحت الكتب المصورة إحساسا بعالم الاشياء الدقيقة لتبدو ضخمة في تعقيديتها كما لو ان الحشرات الصغيرة في بيئتنا اليومية من براغيث وقمل تشبه الثدييات الضخمة. المحفز كان كتاب روبرت هوك الشهير بعنوان صورة مجهرية، عام 1665 الذي نشرته الجمعية الملكية محتويا على صور كبيرة فاخرة للبراغيث وأشياء الحياة اليومية مثل شفرة الحلاقة وثقب الإبرة.

الرياضي والفيلسوف باسكال نظر في دلالات كل من التلسكوب والمكرسكوب. هو يدعوا لنتصور ان كل ذرة ستؤوي اكوانا لامتناهية، كل واحد مع سماؤه وكواكبه وارضه في نفس النسبة كما في العالم المرئي، ولايزال يجد في الاكوان الاخرى نفس الشيء بدون نهاية وبدون توقف. انها عجائب مذهلة في صغرها كما الاخرى في اتساعها. لانزال يمكننا ان نستعيد شيئا ما من قلق باسكال عندما ننظر الى العالم الكوانتمي، عالم غريب حقا، قاد الفيزيائيين لإفتراض رؤى راديكالية للواقع مثل فرضية العوالم المتعددة او التراكب الكمي. الميكروسكوبات والتيلسكوبات تسبب لنا الدوار.

مكان البشرية في الطبيعة

عندما نفكر بالهائل والضحل، ذلك يقود حتما الى تأمل ذاتي: ما هو مكان البشرية في الطبيعة؟ يبدو ان البشر محشورون بين ما أسماه باسكال "هاويتا اللامحدود والعدم". دعانا باسكال ان "نتأملهما بصمت" بدلا من "اختبارهما بافتراض". لكن اذا كان هناك شيء لا يجيده البشر، فهو ان يتأملوا بصمت. الخيال العلمي يقدم لنا طريقة للخروج من الرعب الكوني. شكل الخيال العلمي يمنحنا قوة تجاه ضخامة الفضاء وحدود العلم. نحن نستطيع ان نرى هذا بوضوح في مقدمة فونتيل للمحادثات. كتب فونتيل بانه اراد المساعدة في تعليم المرأة علم الفلك. لكي يعوّض افتقار النساء السابق للتعليم الرسمي، هو اراد ان يكتب باسلوب أدبي ممتع استعاره من الرواية السايكولوجية La princesse d cleves عام 1678 التي نُسبت الى مدام دي لافايتي. وهكذا، خدم الخيال العلمي كطريقة لنشر العلوم بين النساء. من الصعب تضخيم شعبية كتاب المحادثات حول تعددية العوالم. انه اعيد طبعه وترجمته عدة مرات. في أعقابه تأسس نوع حقيقي من أعمال الخيال العلمي التعليمي بما في ذلك كتاب نيوتنية فرانسسكو الغاروتي للنساء، او حوار حول الضوء واللون عام 1737. في شكل خيالي ممتع، يصبح الرعب الكوني قابلا للفهم وربما نصبح كالفيلسوف – قادرين على التنفس بحرية أكثر وبهواء أكبر.

الخيال العلمي لا يسمح لنا فقط بالتوافق مع الرعب الكوني، هو ايضا يسمح لنا للانخراط النقدي مع العلم واستنتاجاته. لنأخذ مثلا قصة (عالم مشتعل، عام 1666) للكاتبة المسرحية الانجليزية مارغريت كافيندش. هذه القصة تصف يوتوبيا نسوية مثيرة للاهتمام، مجتمع يعيش في انسجام في ظل حكم امبراطورة متنورة. مختلف الحيوانات المجسمة (الرجال الدببة، الرجال القردة، رجال الديدان، رجال السمك، رجال الطيور) يعملون كخبراء علميين للامبراطورة. ينظر رجال الدببة من خلال التلسكوبات والمكروسكوبات في فحوصاتهم للعالم المشتعل. كافيندش (وشخصيتها الرئيسية الامبراطورة) غير معجبين بهذه الأدوات. هي تعتقد انها غير مفيدة معلوماتيا، وتسبب الكثير من الإنقسام. هي تقول للرجال الدببة: "نظاراتكم كاذبة، وبدلا من اكتشاف الحقيقة، هي تضلّل حواسكم، لذا انا انصحكم بتحطيمها وترك الرجال الدببة يعتمدون فقط على عيونهم الطبيعية، ويفحصون الأجرام السماوية بواسطة حركة حواسهم وعقولهم".

الرجال الدببة يؤمنون بان نظاراتهم تعوّض عن محدودية بصر الانسان وعقله، مجادلين ان "الامبراطورة لا تعرف فضيلة تلك المكروسكوبات: لأن هذه لا تخدع أبدا، وانما تصحح وتبلغ الحواس". في هذا هم صدى لروبرت هوك، الذي جادل في مقدمته لـ Micrographia بان المكروسكوبات والتلسكوبات تساعدنا للحفاظ على قدراتنا، التي اعتقد انها تأثرت سلبيا بالسقوط من جنة عدن. عبر انتقاد ذلك الموقف، كافيندش سبقت غيرها من المؤلفين اللاحقين مثل برير دوهم او باس فان فراسون الذين بيّنوا ان قرائتنا للوسائل العلمية ليست واضحة وانما دائما تتطلب تفسيرات من جانب الشخص الذي يستعمل الوسيلة.

عمل كافنديش يذكّرنا بدورآخر للخيال العلمي ذلك اننا نرى من مقدمتها ان هناك في بداية الفترة الحديثة فرصة لتصوّر مختلف العوالم والمجتمعات، وبهذه الطريقة، نتحدى طرقنا الخاصة في الحياة. ليس صدفة ان الخيال العلمي المبكر امتزج مع نوع آخر حديث مبكر وهو اليوتوبيا. نحن نرى اليوتوبيا في نطاق واسع من الفترات، لكنها اصبحت شعبية منذ عصر النهضة فصاعدا، متجسدة برواية تحمل نفس الاسم لتوماس مور(1515). اليوتوبيا استعملت حبكة الرواية كوسيلة للسفر الى أماكن بعيدة لمساعدتنا في تصوّر إمكانات سياسية.

تقريبا كما اليوم، الموقف السياسي للناس في الحداثة المبكرة كان في الغالب جمود سياسي، او اضطراب سياسي لا يبشر بخير، كما في انجلترا في ظل عدم الاستقرار السياسي، تصبح جمهورية ومن ثم تتحول مرة اخرى الى الملكية اثناء حياة كافيندش. في مثل هذا العالم، يصبح تصوّر مختلف التجمعات السياسية في قصص خيالية هو نوع من التحدي. عالم مشتعل لـ مارغريت كافنديش هو مثال واضح لمثل هذه اليوتوبيا: انها تتكهن مجتمعا فيه تقسيم مثالي للعمل العلمي حيث المرأة يمكن ايضا ان تكون خبيرة وحاكم متنور. يوتوبيا اخرى تركز على الخبرة العلمية هي رواية فرنسيس باكون غير المكتملة بعنوان اطلنطا الجديد والتي نُشرت بعد وفاته عام 1626. الخيال العلمي يساعدنا لننخرط خياليا مع اللمحات التي يقدمها العلم. تلك هي لمحات لعالم مختلف – ربما أفضل او أسوا، كما نتصور اليوم في أعمال الخيال العلمي للمجتمعات الحضرية المسيّرة بتكنلوجيا الكومبيوتر cyberpunk .

ماذا يعني الخيال العلمي اليوم لنا وللفلسفة؟

 في عام 1686 أعلن فونتينيل بثقة : "ان فن الطيران وُلد توا، سيتم إتقانه وفي يوم ما سنذهب الى القمر". هذا كان مجرد زعم، نظرا لأن الطيران الميكانيكي كان جنينيا في تلك الفترة. وبفاصل 350 سنة بيننا، يمكننا ان نفكر بعناية في تلك التكهنات للخيال العلمي المبكر. فمن جهة، فونتيل كان صائبا. ما نظر اليه اشخاص مثل كبلر و فونتيل وكيرانو كخيال بعيد أصبح واقعا قبل وقت مضى. ومن جهة اخرى، هناك التفاؤلية اللامحدودة التي تتخلل عمل فونتيل تبدو الآن غريبة لنا. لم نعد نتصور، على سبيل المثال، السيارات الطائرة ( فهي تبدو وكأنها فكرة سيئة جدا) .

ماذا حدث لرؤية فونتيل للتقدم العلمي المترافق مع فضائل التنوير بما في ذلك التعليم للجميع؟ نحن لانزال لدينا تفاؤل تكنلوجي بمواعظ ايلون ماسك وبل غيت حول عجائب التقدم العلمي في محادثاتهما على TED. لكن مع رعب تقلبات المناخ والاوبئة والاسلحة النووية والعنف المسلح، وصعود اللامساواة الى عتبة دورنا، من الصعب استعادة تفاؤل واسع حول العلم وخلق عوالم أفضل. في هذه الصورة القاتمة، من المفيد النظر الى الخلف في ذلك الخيال العلمي. هذا الخيال كُتب في فترة تدفق مجتمعي مكثف، مع عوائق هائلة حتى بالنسبة لمبادرات مساعدة المرأة في التعليم. الخيال العلمي الفلسفي كسر الحدود وساعدنا لتوسيع تصورنا. عندما نشعر بجمود عقلي، يقدم لنا الخيال العلمي على الاقل امكانية للخروج، كما لاحظ الكاتب الامريكي يورشل لي جن Ursula Le Guin، ان كتّاب هذا النوع الادبي هم "واقعيون لواقعية أكبر". هذا واقع احتضن بالكامل إمكانات وقوة تصورنا.

Cosmic horror and the philosophical origins of science fiction, published online by Cambridge university press: 28June 2023

***

حاتم حميد محسن

إنَّ المَنْفَى لَيْسَ مَحصورًا في إطارٍ زَمَانيٍّ، أوْ حَيِّزٍ مَكَانيٍّ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ تأثيرِهِ العَمِيقِ في الشُّعُورِ والوِجْدَانِ، واشتمالِهِ عَلى آلامِ الغُربةِ وَالحَنِينِ إلى الوَطَنِ، واحتوائِهِ عَلى مَعَاني الاستلابِ والاغترابِ، رُوحًا ومَادَّةً، فِكْرًا ومُمَارَسَةً. وَالمَنْفَى لا يَحْمِلُ فَلسفةَ الانتقالِ في الزَّمَانِ فَحَسْب، بَلْ أيضًا يَصْنَعُ زَمَانَهُ الخاص الذي يَقُومُ عَلى صُوَرِ الذاكرةِ المُحَاصَرَةِ. وَالمَنْفَى لا يُمَثِّلُ فِكْرَةَ الاقتلاعِ مِنَ المَكَانِ فَحَسْب، بَلْ أيضًا يَصَنَعُ مَكَانَه الخاص الذي يَقُومُ عَلى أحلامِ الوَطَنِ المَفْقُودِ. وهَكذا يُصبح المَنْفَى هُوِيَّةَ مَنْ لا هُوِيَّة لَه، ويُصبح التاريخُ عِبْئًا عَلى الحَضَارةِ، وتُصبح الحَضَارَةُ إعادةَ تأويلٍ للتاريخ. فالتاريخُ الشَّخْصِيُّ للفَرْدِ يَطْرَحُ تَساؤلاتٍ عَن قِيمَةِ الإنسانِ بِدُون وَطَنٍ، والتاريخُ العَامُّ للمُجْتَمَعِ يَطْرَحُ تَسَاؤلاتٍ عَن مَعْنَى الزَّمَانِ بِلا مَكَانٍ. لذلكَ صَارَ المَنْفَى نَوَاةً مَركزيةً في الشِّعْرِ والفِكْرِ عَلى حَدٍّ سَوَاء، فالشاعرُ الفِلَسْطِينيُّ محمود دَرْويش (1941 _ 2008) وَظَّفَ المَنْفَى في شِعْرِهِ كَقِيمَةٍ لُغويةٍ وَحَقيقةٍ مُتَشَظِّيَةٍ. يَقُولُ درويش في قصيدته (رسالة مِنَ المَنْفَى): (مِنْ أيْنَ أبْتَدِي؟ / وَأيْنَ أنْتَهِي؟ / وَدَوْرَةُ الزَّمَانِ دُونَ حَد).

صَارَ المَنْفَى عَمليةَ دَوَرَان في حَلْقَةٍ مُفْرَغَةٍ، لا تُعرَف البِدَايةُ، ولا تُعرَف النِّهَايَةُ. إنَّهُ مَتَاهَةٌ وُجودية، والإنسانُ فِيهَا ضَائعٌ وحَائِرٌ، وَدَوْرَةُ الزَّمَانِ مَفتوحةٌ بِلا حُدُودٍ، وَتَضْغَطُ عَلى المَشاعرِ والأفكارِ، وَالوَقْتُ دائمًا طَوِيلٌ عَلى الشخصِ المُعَذَّبِ، حَيْثُ إنَّهُ يُعَاني في كُلِّ لَحْظَةٍ، وَيَتَمَنَّى لَوْ يَمَرُّ الوَقْتُ سريعًا وَيَنْقَضِي كَي يَرتاحَ مِنَ الألَمِ والعَذابِ، فالثَّوَاني بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَالدَّبَابيسِ المَغروسةِ في جِلْدِه. وَشِدَّةُ الوَخْزِ تَمْنَعُهُ مِنَ الاستمتاعِ بِعُمْرِهِ، وَشِدَّةُ الألَمِ تَجْعَلُهُ عَاجِزًا عَن قَضَاءِ الوَقْتِ مَعَ أحْبَابِه. حَتَّى هَؤلاء الأحباب لَيْسَ لَهُمْ وُجُود في الواقعِ، فَهُمْ غَائبونَ أوْ مُغَيَّبُون. وَالمَنْفَى قَادِرٌ عَلى تَوليدِ الاغترابِ بشكلٍ مُستمر في الإطارِ الزَّمَانيِّ، وإنتاجِ الغِيَابِ بشكلٍ دائم في الحَيِّزِ المَكَانيِّ. لذلك، كانَ المَنْفَى هُوَ الغِيَاب الذي لا يَغِيب، والمَاضِي الذي لا يَمْضِي.

يَقُول درويش: (مَاذَا جَنَيْنَا نَحْنُ يَا أُمَّاه؟ / حَتَّى نَمُوتَ مَرَّتَيْن / فَمَرَّةً نَمُوتُ في الحَيَاةِ/ وَمَرَّةً نَمُوتُ عِنْدَ المَوْتِ !).

إنَّ المَنْفَى صِنَاعَةٌ مُستمرة لِلْمَوْتِ، فَالمَنْفِيُّ يَمُوتُ في الحَيَاةِ، وحَيَاتُهُ مَوْتٌ في انتظارِ المَوْتِ النِّهَائيِّ الحَاسِمِ، لذلكَ كانَ عُمْرُهُ مَوْتًا مُتَّصِلًا بلا انقطاعٍ، وَفَنَاءً مُتَوَاصِلًا بِلا وُجُودٍ، وغِيَابًا دائمًا بِلا حُضورٍ.

يَقُولُ درويش: (مَا قِيمَةُ الإنْسَانِ/ بِلا وَطَنٍ/ بِلا عَلَمٍ/ وَدُونَمَا عُنْوَان/ مَا قِيمَةُ الإنْسَانِ؟).

يَسْتَمِدُّ الإنسانُ قِيمَتَهُ مِنْ أرْضِهِ وَوَطَنِهِ وَرُمُوزِ دَوْلَتِه، فَهِيَ التي تَمْنَحُ الشَّرعيةَ الوُجوديةَ لَه، وَهِيَ التي تُوَفِّرُ لَهُ المَشروعيةَ الأخلاقيةَ كَكَائِنٍ حَيٍّ وحُرٍّ، قادرٍ عَلى الحَيَاةِ والتَّفكيرِ والإبداعِ.

وَعَلى الصَّعيدِ الفِكْرِيِّ نَجِدُ أنَّ المَنْفَى صَارَ حُضُورًا مَركزيًّا وَوَعْيًا قائمًا بِذَاتِه، فَالمُفَكِّرُ الفِلَسْطِينيُّ الأمريكيُّ إدوارد سعيد (1935 القُدْس _ 2003 نيويورك) في سِيرته الذاتية (خارج المكان) قامَ بِأنْسَنَةِ المَاضِي في اللامَكَان، وَتَحويلِ أحلامِ الطفولةِ السَّحيقةِ إلى تَيَّارِ وَعْيٍ دَائِمِ الجَرَيَانِ، وَدَمْجِ المَنْفَى الداخليِّ معَ المَنْفَى الخارجيِّ. المَنْفَى الداخليُّ هُوَ الغُرْبَةُ عَن العَناصرِ المُحيطةِ، وَالغَرَقُ في مُحْتَوَى الذاتِ والهُوِيَّةِ، وَتَكْوينُ رُؤيةٍ وُجوديةٍ للعَالَمِ تَخْتَلِفُ عَن السَّائِدِ. وَالمَنْفَى الخارجيُّ هُوَ الانفصالُ عَن التاريخِ والجُغرافيا، وَمُغَادَرَةُ حُدودِ الزَّمَانِ والمَكَانِ في مُحاولةٍ لإيجادِ فَضَاءٍ مَفتوح بَيْنَ الانتماءِ والذاكرةِ، وَصِناعةِ أُفُقٍ وَاسعٍ بَيْنَ الأرضِ السَّلِيبةِ وَوُجُوهِ الضَّحَايا.

أعادَ سعيد بِنَاءَ تَجْرِبته الشَّخصية الشُّعُورية في الكَلِمَاتِ باعتبارها وَسيلةً ثقافيةً للاندماجِ بالأرضِ البَعِيدَةِ (الفِرْدَوْس المَفقود)، وطَريقةً مَعنويةً لِجَمْعِ شَظَايا المَكَانِ المَنثورةِ في ضَبَابِ الطُّفُولَةِ، ومَنهجيةً مَعرفيةً لِوِلادةِ الإنسانِ مِنْ نَفْسِه، ومُوَاجِهَةِ مَصِيرِه وَحِيدًا.

ومَشروعُ سعيد قائمٌ عَلى إعادةِ صِياغةِ المَنْفَى بِوَصْفِه أرشيفًا هُلاميًّا للأحلامِ المَنْسِيَّةِ والذكرياتِ المَقموعةِ والأزمنةِ الوِجْدَانِيَّة الضائعة، مِنْ أجْلِ رَبْطِ المَكَانِ بالإنسانِ، فالمَكَانُ كِيَانٌ وُجوديٌّ مُستقِر في كَينونةِ الإنْسَانِ، وَلَيْسَ وَاقِعًا مَادِيًّا مُنْفَصِلًا عَن الوَعْي وَالحُلْمِ والفِكْرِ.

وإذا كانَ سعيد يَتَعَذَّبُ شُعوريًّا وِوِجْدَانِيًّا خارجَ المَكَانِ،فَإنَّهُ اكْتَشَفَ مَكَانًا جَدِيدًا في ذَاتِهِ الإنسانيةِ وَهُوِيَّتِهِ الحَضَارِيَّةِ. وَهَذا المَكَانُ الجَدِيدُ يُحَاوِلُ تَطهيرَ المَنْفَى مِنْ حُدُودِ الجُغرافيا، وَتَنْقِيَةَ المُدُنَ الأسْمَنْتِيَّةَ الكَئيبةَ مِنْ شَوَائبِ النظامِ الاستهلاكيِّ الماديِّ الذي يَكْسِرُ رُوحَ الإنسانِ، وَيُحَوِّلُهُ إلى سِلْعَةٍ ضِمْنَ ثُنائيةِ العَرْضِ والطَّلَبِ. وَالمَنْفَى رِحْلَةُ اكتشافِ الذاتِ بِكُلِّ تَنَاقُضَاتِهَا، وإعادةُ تأويلِ بَرَاءَةِ الطُّفُولِةِ وَبَكَارَةِ الأفكارِ وطَهَارَةِ الأمْكِنَةِ.

وَشُعُورُ المَنْفِيِّ بِأنَّهُ في غَيْرِ مَكَانِهِ يَفْرِضُ عَلَيْهِ أنْ يُعِيدُ اختراعَ المَكَانِ وَتَرْمِيمَ الذاكرةِ بَعِيدًا عَن الهُوِيَّاتِ المُزَوَّرَةِ والأيديولوجيَّاتِ المُزَيَّفَةِ. ولا شَكَّ أنَّ إحساس سعيد بالاقتلاعِ مِنَ المَكَانِ، وعَدَم القُدرة على العَوْدَةِ إلَيْه، قَدْ سَبَّبَ لَهُ شُعورًا بأنَّهُ وَحِيدٌ وأعْزَل، وأنَّ الوَقْتَ يَتَسَارَعُ ويَضْغَطُ عَلَيْه بِلا نِهَايَةٍ. لذلك لَيْسَ غريبًا أن تَكُونَ سِيرَتُهُ الذاتيةُ استعادةً لِتَجْرِبَةِ المُغَادَرَةِ وَالفِرَاقِ وَالشُّعُورِ بِالخَسَارَةِ: (وَلَمَّا كُنْتُ قَدْ عِشْتُ في نيويورك بإحساسٍ مُؤقَّت عَلى الرَّغْمِ مِنْ إقامةٍ دَامَتْ سبعة وثلاثين عامًا، فَقَدْ فَاقَمَ ذلك مِنْ ضَياعي المُتَرَاكِم، بَدَلًا مِنْ مُرَاكَمَةِ الفَوائدِ).

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

السرديات التاريخية تعكس التجارب الإنسانية، وتساهم في بناء الهوية الجماعية. مع ذلك، يمكن أن تؤدي إلى شعور بالاغتراب، خاصة عندما تُستخدم لتبرير الهويات الضيقة أو لتهميش التجارب الأخرى أو عندما تتمركز حول رواية واحدة فقط، تجعل الأفراد الذين لا تتوافق تجاربهم مع هذه الرواية يشعرون بالانفصال، السرديات التي تركز على فئة معينة تؤدي أيضا إلى تهميش الفئات الأخرى، مما يزيد من الفجوات الاجتماعية ويمكن أن تؤدي إلى تشويه الحقائق التاريخية، مما يؤثر على فهم الأجيال القادمة لتاريخهم، لذا يكون العارف دائمًا في خطر بسبب وعيه الذي يهدد بنية الزيف التي يعيش فيها الآخرون، كون المعرفة تؤدي إلى الوعي العميق والوعي العميق عزلة، مما يجعل العارف منفيًا في عالمه الذي يعيشه والذي يعكس عمق الصراع بين الوعي والجهل، عندما يمتلك الانسان معرفةً عميقة، يشعر بالانفصال عن الآخرين الذين يعيشون حالة من الزيف أو وهم المعرفة. هذا الوعي يمكن أن يكون أحيانا عبئًا، حيث يواجه العارف تحديات التقبل والعزلة، كما أنه قد يصبح منفيًا، ليس جسديًا فقط، بل نفسيًا أيضًا، ويجد صعوبة في التواصل مع من حوله. النفي الروحي عند العارف هو نتيجة الزيف والوهم الذي يعيشه الاخرون وبالتالي يعكس صراعًا داخليًا عميقًا عندما يدرك أن العالم من حوله مليء بالأوهام والزيف. هذا الانفصال يمكن أن يؤدي به إلى ان يصبح غريبًا في مجتمعه ويجد صعوبة في التفاعل مع الآخرين الذين لا يرون الحقيقة كما يراها هو بسبب الجهل. كلما سعى إلى إيجاد معنى أعمق للحياة، ازداد شعوره بالوحدة في رحلة البحث، رغم ذلك يمكن ان يكون هذا النفي الروحي مصدرًا للتحرر، حيث يتجاوز القيود الاجتماعية التي تعوق التأمل في الذات وفهم الدوافع والأفكار بشكل أعمق، فقدان المعنى والهدف نتيجة الصراع بين المعرفة والجهل تسهم في نمو مشاعر القلق، وبما ان العارف هو إنسان يمتلك وعيًا عميقًا وفهمًا للحقيقة ويكون أكثر حساسية لتناقضات الحياة والمجتمع، هذا قد يخلق لديه شعورًا بالانفصال عن الآخرين.

تقبل الاغتراب

 تقبل الواقع يمكن أن يكون أقل معاناة بالنسبة للعارف مقارنة بالبحث عن مجتمع داعم. تقبل الواقع يمنح العارف شعورًا بالسلام الداخلي، يتقبل الأمور كما هي بدلاً من مقاومة ما لا يمكن تغييره، عندما يتقبل العارف الواقع يقل التوتر الناتج عن التوقعات تجاه الآخرين أو المجتمع، العارف يركز دائما على نموه الشخصي بدلاً من البحث عن القبول من الآخرين هذا يسهم في تقليل شعور الاغتراب عن طريق فهم أن الاختلاف في الرؤى هو جزء من التجربة الإنسانية ويساعد في تعزيز وعي العارف بواقعه، مما يمكنه من التفاعل مع العالم بشكل أكثر فعالية بينما البحث عن مجتمع داعم قد يكون مهمًا، إلا أنه يتطلب جهدًا ووقتًا، مما يسبب شعورًا بالإحباط في بعض الأحيان. بينما يبدو الاستغراق في الذات كعزلة، إلا أنه في الواقع يمكن أن يكون وسيلة قوية للنمو والتطور الشخصي. لكن التوازن يعزز من النمو الشخصي والعلاقات تطبيق اليقظة الذهنية أثناء التفاعل مع الآخرين، مما يساعد على الاستماع الفعال وفهم المشاعر تعلم كيفية تحديد الحدود الشخصية في العلاقات، مما يسمح للعارف الحفاظ على سلامه الداخلي أثناء التفاعل واستخدام التجارب الخارجية كمصدر للتعلم والنمو، مع الحفاظ على وعي الذات، ان التواصل من خلال الأفكار والمشاعر بشكل صادق مع الآخرين يعزز من الاتصال ويقلل من الشعور بالانفصال، التأمل بعد التفاعلات الاجتماعية لفهم المشاعر والأفكار الناتجة عن تلك التفاعلات تمكن للعارف الاستغراق في ذاته مع الحفاظ على تواصل صحي وفعّال مع العالم الخارجي.

الشعور بالعبء

يمكن اعتبار الشعور بالعبء الزمني نوعًا من المعاناة الوجودية، الزمن يعكس مفهومًا عميقًا يتعلق بالوجود والعدم، حيث يبرز الصراع بين اللحظة الحالية وما يتجاوزها، تناول الزمن كحالة من التحول المستمر يخلق شعورًا بالقلق وعدم الاستقرار. هذا الشعور يمكن أن يؤدي إلى تأملات حول معنى الحياة والوجود، مما يعكس معاناة وجودية تتعلق بالبحث عن الذات والهدف في عالم متغير، مفهوم الفناء مرتبط بشكل وثيق بحالة السكون والهدوء، الفناء يعني التحرر من الأنا والمشاعر المرتبطة بالزمن، مما يؤدي إلى تقليل الهموم والضغوط النفسية. هذا التحرر يُسهم في الوصول إلى حالة من السكون الداخلي عند الفناء، يتجاوز الفرد الصراعات الداخلية المتعلقة بالماضي والمستقبل. هذا التجاوز يسهم في خلق بيئة هادئة تسمح بالتأمل العميق. الفناء يُسهل تجربة الاندماج مع كل ما هو موجود، مما يؤدي إلى شعور بالهدوء والسلام الداخلي. عندما يشعر الفرد بأنه جزء من الكون، تقل مشاعر القلق والتوتر، الفناء يفتح الأبواب لتجارب روحية تعزز من حالة السكون، حيث يُمكن للفرد أن يختبر اللحظة الحالية بالكامل، بعيدًا عن الضغوط الزمنية، من خلال الفناء، يُمكن للفرد أن يتواصل مع ذاته الحقيقية، مما يُؤدي إلى شعور بالطمأنينة والهدوء الداخلي، بهذا الشكل يرتبط الفناء بحالة السكون والهدوء بشكل عميق، حيث يُعتبر وسيلة للتخلص من الضغوط الزمنية. الفناء في المطلق يمكن أن يُعتبر وسيلة للتخلص من ضغوط الزمن، حيث يُعبر عن حالة من التحرر من القيود الزمكانية. في الفلسفات الميتافيزيقية، يُرى الفناء كوسيلة للوصول إلى حالة من السكون الداخلي والانسجام مع الكون، الفناء يُمكن أن يُساعد الأفراد على الهروب من مشاعر القلق المرتبطة بالماضي أو المستقبل من خلال التأمل، يمكن للأشخاص أن يصلوا إلى حالة من الوعي الحاضر، مما يؤدي إلى تقليل الضغوط الزمنية، العديد من الفلسفات مثل البوذية تتحدث عن الفناء كوسيلة للوصول إلى النيرفانا، وهي حالة من التحرر من المعاناة، بعض الأفراد يشعرون بالتحرر من الزمن خلال لحظات مكثفة من الإبداع أو التأمل، حيث يبدو أن الوقت يتوقف، الفناء في المطلق قد يوفر وسيلة للتخلص من ضغوط الزمن، لكنه يعتمد على التجربة الشخصية والطريقة التي ينظر بها الأفراد إلى الزمن والفناء في سياقات مختلفة.

الفناء في السياق الديني

يُعتبر الفناء في العديد من الديانات وسيلة للوصول إلى الإله أو الحالة الروحية المثلى يُرى الفناء كعملية للتخلي عن الأنا والهوى، مما يؤدي إلى الإتحاد مع الله أو الحقيقة المطلقة في التصوف، مثلاً، يُعتبر الفناء (مثل الفناء في الله) مرحلة مهمة تسبق الوصول إلى المعرفة الروحية، الفناء غالبًا ما يرتبط بالتعاليم والشرائع التي تحدد كيفية الوصول إلى هذه الحالة.

الفناء في السياق الفلسفي

الفناء الفلسفي يُستكشف بشكل أكثر تحررًا وموضوعية، حيث يُعتبر مفهومًا فلسفيًا يتناول موضوع الوجود والمعنى، يهتم الفلاسفة باستكشاف مفهوم الفناء كجزء من التجربة الإنسانية ككل، بما في ذلك الموت وفهم الزمن، كل فلسفة تقدم رؤية مختلفة حول الفناء، مثل الفلسفة الوجودية التي تركز على حرية الفرد وعبثية الحياة الفناء في السياق الفلسفي لا يرتبط بأي معتقد ديني، بل يعتمد على التحليل الشخصي والتأمل بشكل عام، الفناء في السياق الديني يرتبط بالروحانيات والإيمان، بينما في السياق الفلسفي يُعتبر موضوعًا للتحليل والتفكير النقدي حول الوجود والمعنى.

الصمت والتجاوز

فهم العالم بشكل عميق يخلق مسافة بين العارف والمجتمع، فهم العالم بشكل عميق يمكن أن يخلق نوعًا من التباعد بين الفرد والمجتمع. عندما يتعمق الشخص في المعرفة والتحليل، قد يشعر بأنه مختلف أو غير متوافق مع آراء ومعايير المجتمع. باستخدام الصمت والتأمل، يمكن العارف أن يجد طرقًا جديدة للتواصل مع نفسه ومع معاني الحياة، مما يساعد في تجاوز شعور الانفصال الناتج عن الفهم العميق، اللغة لا تعبر بشكل كامل عن المفاهيم المعقدة التي يدركها العارف، مما يخلق فجوة بين ما يشعر به وما يمكنه قوله، هذا الانفصال قد يدفع العارف للبحث عن معانٍ جديدة أو بديلة، مما يؤدي إلى تجارب فريدة لكنها قد تعزز شعور الوحدة وقد تكون أيضًا فرصة للتواصل مع الذات واستكشاف أعمق للوجود، رغم ما قد تسببه من شعور بالانفصال وقد يعاني العارف خطر الاغتراب.

***

غالب المسعودي

الأسباب والحلول

في السنوات الأخيرة، انتشرت بين بعض الشباب العراقي موجة من الإحباط واليأس وفقدان الأمل في المستقبل، مما دفع الكثيرين للتساؤل عن أسباب هذه الحالة النفسية والاجتماعية الخطيرة، وسبل الخروج منها. فالشباب، الذين يُفترض أن يكونوا عماد التغيير والبناء، باتوا يعانون من مشاعر العجز والضياع، والرغبة في الهجرة بأي ثمن، أملاً في مستقبل أفضل في مكان آخر من هذا العالم.

ما أسباب انتشار اليأس بين الشباب العراقي؟

1. البطالة وغياب الفرص الاقتصادية

يعاني الشباب العراقي من معدلات بطالة مرتفعة، حيث تُشير الإحصاءات إلى أن نسبة كبيرة من الخريجين عاطلون عن العمل بسبب غياب الفرص التي تتلاءم مع تخصصاتهم. وحتى عند توفر فرص العمل، فهي غالباً غير عادلة أو غير مستقرة. كما أن الفجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل تُفاقم المشكلة. وتشير تقارير أواخر 2024 وبداية 2025 إلى أن نسبة البطالة بين الشباب تتجاوز 36%، وقد تصل إلى أكثر من 50% في بعض المحافظات الجنوبية كالمثنى وذي قار والبصرة.

2. الفساد المالي والإداري

يُعد الفساد المستشري في مؤسسات الدولة أحد أكبر العوائق أمام تمكين الشباب. تراجع الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والماء والتعليم يُفقدهم الثقة بقدرة النظام القائم على الإصلاح والتطوير.

3. غياب العدالة الاجتماعية

يعاني المجتمع العراقي من تفاوت طبقي كبير، حيث تتركز الثروة في أيدي قلة، بينما تعاني الغالبية من ظروف اقتصادية صعبة. هذا التفاوت يُعزز مشاعر الظلم والإحباط، خصوصاً عندما يشعر الشباب أن النجاح لا يتحقق بالكفاءة أو الجهد، بل بالمحسوبية والفساد.

4. الأزمات السياسية وانعدام الاستقرار

العنف المستمر، والاضطرابات السياسية، والتدخلات الخارجية جعلت من العراق بيئة غير مستقرة، أثّرت سلبًا على نفسيات الشباب، الذين يرون أن مستقبلهم مهدَّد في بلد لا يوفر لهم مقومات العيش الكريم.

5. ضعف النظام التعليمي وعدم مواكبة سوق العمل

كثير من الخريجين يكتشفون بعد التخرج أن ما درسوه لا يتناسب مع سوق العمل. ويعاني التعليم من تدهور البنية التحتية وضعف المناهج، ما يُنتج جيلاً غير مؤهل للمنافسة محلياً أو دولياً.

كيف يمكن استعادة الأمل؟

رغم التحديات، فإن استعادة الأمل ليست مستحيلة، بل تتطلب إرادة جماعية وجهودًا متكاملة:

1. تعزيز التعليم والتدريب المهني

يُفترض بالشباب تطوير مهاراتهم بأنفسهم عبر الدورات التدريبية والتعلم الذاتي، خصوصاً في المجالات المطلوبة مثل البرمجة، اللغات، والتسويق الرقمي، والتي تفتح فرص عمل حتى عن بُعد.

2. دعم المبادرات الشبابية والمشاريع الصغيرة

يمكن للشباب الاتجاه نحو ريادة الأعمال بدلاً من انتظار الوظائف الحكومية، والاستفادة من القروض والبرامج الداعمة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة.

3. المشاركة في التغيير السياسي والاجتماعي

على الشباب رفض الاستسلام والمشاركة الفعالة في الحياة السياسية والاجتماعية، عبر النضال السلمي والإعلامي لمحاربة الفساد وتحقيق الإصلاح.

4. الدعم النفسي والتوعية

من المهم إدراك أن مشاعر الإحباط طبيعية، لكن تجاوزها ممكن من خلال التوعية النفسية، تبادل التجارب الإيجابية، والانخراط في النشاطات الثقافية والاجتماعية.

5. التمسك بالأمل رغم كل شيء

التاريخ يُثبت أن الشعوب القوية تنهض من أصعب الأزمات. والعراق غني بإمكاناته وشبابه، والتغيير يبدأ بقرار فردي بعدم الاستسلام.

خاتمة

اليأس ليس خياراً، والشباب العراقي قادر على صناعة التغيير إذا آمن بقدراته. فالأمل ليس مجرد كلمة، بل إرادة وعمل مستمر، وبداية الطريق تبدأ بالخطوة الأولى.

ومن الله التوفيق.

***

د. سعد عبد المجيد ابراهيم

السلطة التي تسمع سخرية الناس منها ولا تفهمها، تمشي نحو الهاوية المحتومة.

الانتماء الحزبي حين يصير شتيمة، تكون اللعبة السياسة قد لفظت معناها الأخلاقي.

الضحك المرير هو آخر لغة يملكها المقموع.

إليكم التفصيل.

من تراجيديا الوعي السياسي أن الأحزاب، ولا سيَّما الحاكمة - في البيئة العربية، رغم أنها تغرق في ضجيج السخرية اليومية، لا تلامس جذر الألم في هذا الضجيج. إنها تُصغي لا لتفهم، بل لتُقنع نفسها بأن ما يُقال عنها محضُ صدى جانبيّ للسلطة، لا نُذُرُ انهيار داخليّ وتصدع آخذٌ في التشكل. كأن السخرية ليست لغة المقموع، بل نشاز عابر في سيمفونية الاستقرار. إنهم لا يدركون أن الضحك المرير هو اللغة الأخرى للاحتجاج.

في تضاريس الوعي الجمعي، تحوّلت الشتيمة السياسية إلى مرآة مقلوبة للمشهد الحزبي. يُقال في الذم الشعبي العراقي لمن أُريد به الذمّ: "فلان بعثيّ". لا تُستخدم كلمة "بعثيّ" كوصف انتماء سياسي فقط، بل كـ"رمز سلبي" يحمل دلالات القمع، والاستبداد، والعنف، والفساد، المستمدة من تجربة حكم حزب البعث، وخاصة في عهد صدام حسين. إذن، الشتيمة هنا ليست عابرة، بل تُفعّل ذاكرة جمعية مملوءة بالخوف والخسارات.

فعندما يُقال "فلان بعثي"، لا يُطلق حكمًا فرديًا فقط، بل يُمارس شكلًا من أشكال الحذف الجمعي، بوصف الآخر جزءًا من الماضي الذي يجب ألا يعود. وهنا تتحوّل الشتيمة إلى أداة تطهير رمزي. أما اليوم، فإن اللعنات الجديدة تُصبّ على رؤوس من "ارتموا في أحضان الأحزاب"، بوصفهم رموزًا للانبطاح والخنوع. لقد استحال الانتماء السياسي من شارة هوية إلى وصمة عار، ومن موقف نضاليّ إلى رمز للانتهازية القميئة. لم تعد صفة "الحزبي" في المخيال العراقي تُشير إلى الالتزام، بل باتت علامة على التكسّب والانتهاز. بعد 2003، أمست الحزبية تُثير السخرية: "هو مدعوم من الحزب الفلاني"، وهي تُشير بذلك إلى التذلل والمدارة المرفوضة. هنا تظهر ما أسماه غرامشي بـ"انهيار الهيمنة الأخلاقية": حين تفقد السلطة قدرتها على الإقناع الأخلاقي، وتبقى ممسكة فقط بعصا القوة.

في شوارع العراق ووسائل تواصله الاجتماعي، لم تعد الثورة في الشارع، بل في النكتة، في المقطع الساخر، في الهمهمة التي تمر كجملة عابرة تقلب المعنى رأسًا على عقب. تمامًا كما يُشير بورديو إلى ان العنف الرمزي هو حين يُفرض القمع لا عبر الرصاص، بل عبر اللغة، عندما يُعاد إنتاج القهر بلسان الضحية نفسه، عبر ضحكته المريرة.

لكن هذه المفارقة الرمزية لا تخص العراق وحده. فالحالة المصرية بعد 2011 قدّمت نموذجًا موازيًا. إذ سرعان ما تحوّلت السخرية إلى سلاح جماعي يُشهر في وجه السلطة، سواء تمثلت في العسكري أو الإخواني أو الليبرالي. كانت تجربة "باسم يوسف" تجسيدًا للمثقف العضوي الغرامشي في بدايتها، قبل أن يُقصى الخطاب الساخر ويُخضع لمنطق الطاعة أو النفي. لقد تم تدجين السخرية، ونُزعت عنها إمكاناتها السياسية، لتصبح مجرد تنفيس في فضاء خاضع للرقابة.

وفي تونس، ورغم مناخ الحرية النسبي، لم تنجُ الأحزاب من التهكّم الشعبي الذي يُترجم فقدان الثقة في المشروع السياسي نفسه. باتت الانتماءات الحزبية تُلفظ بتهكم: "نهضاوي"، "حداثي"، "يساري"، لا كتوصيفات فكرية بل كأقنعة للمصالح والصفقات. حتى الانتخابات، التي كانت رمزًا للتمكين الشعبي، غدت موضوعًا للتندر: "كله تمثيلية". كأن السياسة تحوّلت إلى عرض ساخر، تفقد فيه الكلمات معناها الأصلي، وتصبح المشاركة فعلًا بلا طائل.

كل هذا يُشير إلى ما يمكن تسميته بـ"التهكم الجديد": تهكم لا يُحرّك الشارع، بل يُعيد تعريفه. إنه سلاح مزدوج: أداة ممانعة حين يُحافظ على بعده الواعي، وأداة تخدير حين يُبتلع في ماكينة الترفيه الجماهيري.

المفارقة أن كثيرًا من أولئك "المجاهدين العباد" السابقين، حين وصلوا السلطة، خسروا الكثير من رصيدها الرمزي، وباتوا يُشتمون كمن سبقهم. إن رأس المال الرمزي، كما يُسميه بورديو، لا يُشترى ولا يُفرض، بل يُبنى على الثقة، وهذه قد تآكلت حتى الذوبان. فالسياسي الذي لا يُصدّقه أحد، وإن ملك كرسيّه، فقد شرعيته الحقيقية.

وتظهر هنا ملامح "المثقف العضوي" كما صاغه غرامشي، لا في صالات المؤتمرات، بل في الشباب الذين يصنعون من فيديو ساخر سيفًا، ومن كلمة نابية مقلاعًا رمزيًا ضد الأصنام السياسية. هؤلاء، الذين يتهكّمون، لا يسلّون أنفسهم، بل يؤدّون دورًا سياسيًا لا شعوريًا: يسحبون البساط من تحت أقدام الشرعية الزائفة.

الأنظمة تُخدّر ذاتها بوهمٍ مستقر: أن الصمت الشعبي دليل طاعة، وأن سكون الشوارع علامة رضا. غير أنّها تغفل عن أن أعمق أشكال الرفض لا تُدوّي في الساحات، بل تتسلل في التهكّم الخفي، في تعابير الوجه، في الضحكة المكبوتة. التمرّد الجديد لا يطرق الأبواب، بل يسكن الأرواح. وفي هذا السياق الملتبس، نستعيد صوت محمد مهدي الجواهري، لا كذكرى شعرية بل كأداة نقدٍ وجوديّ، إذ قال مخاطبًا هاشم الوتري وساخطًا على نوري السعيد:

كذبوا، فملء فمِ الزمان قصائدي

أبداً تجوبُ مشارقًا ومغاربا

*

أنا حتفُهم، أُلْجُ البيوتَ عليهم

أغري الوليدَ بشتمهم والحاجبا

هكذا تتحوّل القصيدة إلى فعل مقاومة يتسلل إلى البيوت، والضحكة إلى لغم ثقافي، والسخرية إلى "نقد مسلح" لا تملكه الأحزاب، بل تصنعه الأرواح الجريحة.

***

د. حيدر شوكان سعيد

جامعة بابل/ قسم الفقه وأصوله.

لا سبيل للخلاص من البحث في إشكالية المثقف ما لم يكن المفهوم المشار إليه مضغوطاً بين خيارين، العضوي والتقليدي، الكوني والمختص... أو قد يكون مفهوم المثقف حاملاً لمحمولٍ آخر، كما نقول: مثقف السلطة، المثقف الرأسمالي، المثقف الاشتراكي وغير ذلك الكثير.

وما نُريد البحث فيه لا يخرج عن قماشةِ ما تمَّ ذكره، فنحن بصدد الكشف عن هوية المثقف الشعبوي. لكن لا يمكن لنا أن نبتَّ الرأي فيه ما لم نضعه تحتَ طرفي تضاد مع مفهوم آخر، ولكي تتقعد القواعد نقول المثقف الشعبوي والمثقف الأكاديمي. والأخير عبارة عن تصنيف إجرائي، فلا نريد الإشارة به إلى فئةٍ معينة، لأن كثير من الأكاديميين قد لا يصلحون في أن يكونوا مثقفين شعبويين أصلاً، ولكننا نودُّ من هذا التضاد للتعريف بشخصية المثقف الشعبوي، والإنهاء إلى الشروطِ الواجب توافرها لكي تكون لنا القدرة في ردم هوة الشعبوية بالمثال الأكاديمي.

على إننا، وكما أشرنا، لا نجعل الاكاديمية شرطاً ابداعياً لجعلِ المثقف مثقفاً، فهي قد تنمّي القدرة الإبداعية وتفتح آفاق المعارف أمام العقل لبلوغ غاية الحكمة، إلا إنها ليست صكّاً حقيقياً لمهنة المثقف، فقد يكون المثقف غير أكاديمي، لكنه قد يفوق ما تنتجه الأكاديمية بطوال رحلتها.

المثقف الشعبوي، هو ذلك الذي تتسع في ذاكرته ملكة الاستيعاب والإنصات، وتلقي النصوص وحفظها، أما المثقف الأكاديمي، فهو الذي يمتلك قدرة انتاج النصوص على النصوص المقروءة، فقد يفتقر إلى ملكة الحفظ والتلقي، لكنه مدعوم بملكة الكتابة والتدوين، لذلك فإن عمله مُناط بالقدرة الكتابية وإنتاج النصوص على ركام النصوص الأخرى، بينما يكون عمل المثقف الشعبوي مرهوناً بالشفاهية، ومقيداً بالكيفية التي يتم فيها نقل ما سمعه أو حفظه إلى الغير، وغالباً ما يكون أميناً بنقله، لأنه لا ينقص عمّا سمعه ولا يزيد، وهو بعبارة أخرى: أداة لاستنطاق النص المحكوم على الورق، والعمل على الخروج به، كما ورد تماماً، إلى الآخر. بينما يدخل المثقف الأكاديمي مدخل الصراع مع النص المقروء، لينتهي إلى الإنتاج بعد رحلة عصيبة مع التأويل والتحليل والتركيب والتفكيك.

يستند المثقف الشعبوي في بناء مشروعه وتطوير مهاراته على وسائل الإعلام بمختلف ألوانها وأشكالها، سمعية كانت أو مرئية، لأنه يستند بالأساس على الثقافة الشفاهية، بينما يبقى المثقف الأكاديمي رهين دور النشر، لأنه أكيداً محكوم بالثقافة الكتابية، ولا يمكن له أن يجد ما ينقذه سوى دور النشر المعنية بطباعة الكتب والمجلات. لذلك نجد العقل عند المثقف الأكاديمي، هو الأداة المصدرية في الإنتاج، بينما يعتمد المثقف الشعبوي على اللسان بعدّه الفعل التواصلي الذي ينقل به ما قرأه من نصوص.

وفي طبيعة الحال سنجد أنَّ القاعدة الجماهيرية واسلوب التلقي من المثقف الشعبوي، يفوق كثيراً ما يمكن أن يتلقاه الجمهور من المثقف الأكاديمي، لان القاعدة الجماهيرية في أغلب صورها إنما هي ثقافة سماعية أو مرئية، تودُّ أن تجد من يفكر بالنيابة عنها، وتمنّي النفس في سماع ما قاله الفيلسوف الفلاني في كتابه الفلاني، ونراها تبتعد كل البعد عن ثقافة مطاردة الفكرة المختبئة بين أروقة النصوص الموجودة بين دفتي كتاب.

لذلك تجد الذي أنتج مجموعة كبيرة من النصوص يرتكن إحدى زوايا بيته، يقرأ نصاً معيناً، وبانتظار أن يستفزَّ الأخير عقله لينتج نصّاً على ركام ما قرأه، فيذهب به بعد ذلك إلى أصحاب دور النشر، فتحصل الموافقة بعد الحديث عن الذي لك والذي لي، وأبرز حدثٍ في ذلك إنك ستجد اسم كتابك معروضاً على (غوغل) أو مُمدّداً في شوارع المتنبي أو الرشيد ويباع بثمنٍ بخس.

أما المثقف الشعبوي، فتنهال عليه القنوات والإذاعات، وبعقود عالية ومغرية، وتتقدم له دعوات المشاركة في المعارض والمؤتمرات المحلية والعالمية، لا لمنجزٍ يُذكر، بل لأجل قوله (يقول علي الوردي في كتابه وعاظ السلاطين…). بينما يقتضي أن يُنتِجُ نصاً على ما قرأه، لا أن يبلّغ الآخرين بما قرأهُ.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

تشير الليبرالية الجديدة إلى مجموعة من السياسات التي أصبحت سائدة في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين. وتشمل هذه السياسات إلغاء القيود التنظيمية والخصخصة وخفض الإنفاق الاجتماعي. غالبًا ما يتم الترويج لهذه السياسات على أنها طرق لزيادة النمو الاقتصادي والازدهار. مع ذلك، غالبًا ما يكون لها تأثير سلبي على حياة الناس العاديين .

العولمة والليبرالية الجديدة

العولمة والليبرالية الجديدة هما ظاهرتان متشابكتان بعمق. يمكن اعتبار الليبرالية الجديدة بمثابة الأيديولوجية الاقتصادية التي سهلت ودفعت العولمة، بينما يمكن اعتبار العولمة بمثابة المسرح الذي تتكشف فيه السياسات النيوليبرالية على نطاق عالمي. ساهمت السياسات النيوليبرالية، مثل تحرير التجارة وإلغاء القيود على حركة رؤوس الأموال، في تسريع العولمة. أدت هذه السياسات إلى زيادة التجارة والاستثمار عبر الحدود، وربط الاقتصادات بشكل أوثق، من ناحية أخرى، عملت العولمة على تضخيم تأثيرات الليبرالية الجديدة. أدت المنافسة العالمية المتزايدة إلى الضغط على الشركات لخفض التكاليف، مما أدى غالبًا إلى استغلال العمال وتدهور البيئة. كما أدت العولمة إلى زيادة قوة الشركات متعددة الجنسيات، مما سمح لها بالتأثير على السياسات الحكومية بطرق تفيد مصالحها.

الأهمية المعاصرة لنقد النيوليبرالية

النقد النيوليبرالي للسرديات التاريخية يكتسب اهميته المعاصرة من فهم تأثير السرديات الوهمية المنضوية تحت ظل تاريخ السرديات التاريخية العام، إن النقد النيوليبرالي للسرديات التاريخية يحمل أهمية معاصرة كبيرة، خاصة في فهم تأثير ما يمكن تسميته السرديات الوهمية. النيوليبرالية غالبًا ما تعيد كتابة التاريخ لتبرير سياساتها الحالية، مثل الخصخصة وتقليل دور الدولة. هذا يشمل تضخيم دور السوق الحرة في تحقيق التقدم وتجاهل أو التقليل من أهمية تدخل الدولة في تحقيق العدالة الاجتماعية، النيوليبرالية تميل إلى التركيز على الفردية والمصلحة الذاتية، مما يقوض الهويات الجماعية القائمة على التاريخ المشترك والنضالات الجماعية. تتجاهل النيوليبرالية العوامل الهيكلية التي تساهم في عدم المساواة، مثل التمييز والفقر، رغم ان السرديات الوهمية التي تروج لها النيوليبرالية يمكن أن تكون مقنعة للغاية، خاصة إذا كانت مدعومة بوسائل الإعلام ونظام تعليمي ستؤدي هذه السرديات إلى قبول الوضع الراهن حتى لو كان غير عادل، وتثبيط الجهود الرامية إلى تغييره، النقد النيوليبرالي للسرديات التاريخية لا يسمح بفضح السرديات الوهمية وكشف الأيديولوجيات الكامنة وراءها و يمكن أن يساعدنا على فهم أفضل للتحديات التي تواجه المثقف في بناء سرديات بديلة أكثر عدلاً ودقة، باختصار فهم النقد النيوليبرالي للسرديات التاريخية أمر ضروري لفهم كيفية استخدام التاريخ لتبرير السياسات الحالية وتقويض الحركات الاجتماعية، كما يساعد على كشف السرديات الوهمية التي تتبناها النيوليبرالية .ان تأسيس نقد مبني على معرفة سياقية، يجب التركيز على فهم السياق التاريخي والاجتماعي والاقتصادي الذي نشأت فيه هذه السرديات الوهمية وتحديد الجهات الفاعلة الرئيسية التي ساهمت في نشرها، مثل المؤسسات المالية الدولية، الأحزاب السياسية، مراكز الأبحاث، ووسائل الإعلام كما يجب تحديد التحيزات الأيديولوجية الكامنة في السرديات النيوليبرالية الوهمية، مثل تجاهل الحقائق التاريخية التي تتعارض مع الأجندة النيوليبرالية، تقييم الأدلة التاريخية التي تستند إليها السرديات النيوليبرالية، التحقق من مدى دقتها واكتمالها، وتحديد الثغرات في السرديات النيوليبرالية، مثل تجاهل العوامل الهيكلية التي تساهم في عدم المساواة، و التقليل من أهمية تدخل الدولة في تحقيق العدالة الاجتماعية، كما يتوجب علينا بناء سرديات بديلة تأخذ في الاعتبار السياق التاريخي والاجتماعي والاقتصادي بشكل كامل، تتضمن وجهات نظر مختلفة مع إبراز دور الدولة في تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وتقديم أمثلة تاريخية على نجاح تدخل الدولة في تحقيق هذه الأهداف، و التأكيد على أهمية الهويات الجماعية والنضالات الجماعية في تحقيق التغيير الاجتماعي، مما يساعد على فهم أفضل للتحديات ودمج منظور ما بعد الاستعمار يضيف بُعدًا حيويًا لفهم أعمق لكيفية تشكيل هذه السرديات وتأثيرها على المجتمعات التي عانت من الاستعمار.

النيوليبرالية والسياسات الاستعمارية

ان تحليل كيف مهدت السياسات الاستعمارية الطريق لتبني السياسات النيوليبرالية، مثل فتح الأسواق، قمع الصناعات المحلية، وتشكيل هياكل اقتصادية تخدم المصالح الاستعمارية، إظهار كيف أن النيوليبرالية تمثل استمرارًا للاستغلال الاستعماري بأشكال جديدة، مثل الديون، شروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والشركات متعددة الجنسيات وكذلك نقد السرديات الوهمية التي تصور النيوليبرالية كأداة للتنمية في دول العالم الثالث، وفضح كيف أن هذه السياسات غالبًا ما تؤدي إلى تفاقم الفقر وعدم المساواة وتحليل كيف أن فرض الأسواق الحرة على الدول النامية تقوض الصناعات المحلية وتجعلها عرضة للمنافسة غير العادلة من الشركات الأجنبية، كما ان فحص كيف يتم استخدام هذه المفاهيم لتبرير تدخل الدول الغربية في الشؤون الداخلية للدول النامية، وفرض سياسات نيوليبرالية عليها.ان تسليط الضوء على أشكال المقاومة المحلية للسياسات النيوليبرالية، وإظهار كيف أن هذه المقاومة تشكل تحديًا للسرديات النيوليبرالية الوهمية المهيمنة وفحص كيف تروج لثقافة عالمية موحدة تهيمن عليها القيم الغربية، وتقوض الهويات الثقافية المحلية وكيف يتم تحويل الثقافة والتراث إلى سلع تجارية، مما يؤدي إلى فقدان الأصالة والتشويه، ان نقد مفهوم الفردية النيوليبرالية، وإظهار كيف أنه يتجاهل أهمية العلاقات الاجتماعية والتضامن في المجتمعات التي عانت من الاستعمار يتحدى مفهوم التقدم النيوليبرالي الزائف، و كيف أنه غالبًا ما يؤدي إلى تدهور البيئة وتفاقم عدم المساواة.

السرديات التاريخية وعدسة النيوليبرالية

نظرة النيوليبرالي للسرديات التاريخية تأتي من زاوية رؤية العالم من خلال عدسة السوق الحرة، والخصخصة، وتقليل تدخل الدولة، والفردية. هذا غالبًا ما يتحدى أو يعيد تفسير السرديات التاريخية السائدة. السرديات التاريخية غالبًا ما تبرز دور الدولة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، البنية التحتية، وتوفير التعليم والرعاية الصحية، وتنظيم الأسواق. النيوليبرالية تميل إلى التقليل من أهمية هذه الأدوار، والتركيز بدلاً من ذلك على دور القطاع الخاص والمبادرة الفردية. قد يتم تصوير تدخل الدولة على أنه معيِق للنمو الاقتصادي، ويتم التركيز على فشل الدولة كمثال على عدم كفاءة التدخل الحكومي، النيوليبرالية تميل إلى تمجيد السوق الحرة باعتبارها المحرك الرئيسي للتقدم والازدهار، لذا فان السرديات التاريخية التي تنتقد الرأسمالية أو تبرز عيوب السوق الحرة يتم تجاهلها أو إعادة تفسيرها، و قد يتم التركيز على قصص النجاح الفردية في ظل الرأسمالية، وتجاهل أو تهميش القصص الأخرى التي تظهر الاستغلال أو عدم المساواة، النيوليبرالية تركز على الفردية والمسؤولية الشخصية، وتقلل من أهمية الجماعة والتضامن الاجتماعي.. يتم التركيز على قصص الأفراد الذين حققوا النجاح وتجاهل أو تهميش العوامل الهيكلية التي قد تعيق تقدم الآخرين، السرديات التاريخية التقليدية غالبًا ما تنتقد الاستعمار والإمبريالية باعتبارهما سببًا في التخلف والفقر في العالم النامي. النيوليبرالية تحاول إعادة تفسير هذه الأحداث، والتركيز على الجوانب الإيجابية للاستعمار...!، مثل نشر الحضارة أو جلب التكنولوجيا. قد يتم تبرير الاستغلال الاقتصادي على أساس أنه كان ضروريًا لتحقيق النمو الاقتصادي العالمي، في الوقت عينه يتم تصوير السرديات التاريخية التي تبرز عدم المساواة والظلم الاجتماعي على أنها مبالغ فيها. يتم التركيز على النمو الاقتصادي باعتباره الهدف الأسمى، وتجاهل أو تهميش الآثار الاجتماعية السلبية للنمو غير المتكافئ، بشكل عام، النيوليبرالية تهدف إلى تبرير الوضع الراهن وتعزيز الأيديولوجية النيو ليبرالية. ويتم استخدام التاريخ بشكل انتقائي لدعم السياسات النيوليبرالية، وتجاهل أو تهميش الأدلة التاريخية التي تتعارض مع هذه السياسات.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

 

في عالمٍ عربي مأزوم، تتصارع فيه الهويات والولاءات، وتُختزل فيه قضايا الدين في شعارات أو مؤسسات تقليدية، يبرز فكر الدكتور عبد الجبار الرفاعي كمشروع فلسفي وإنساني يسعى إلى إعادة بناء العلاقة بين الإنسان والدين على أساس الرحمة، والتسامح، والكرامة الإنسانية. غير أن هذا الفكر، رغم عمقه واتساقه، قُدِّر له أن يُستقبل بحفاوة في فضاءٍ ثقافي دون آخر. فبينما لقي قبولًا وتفاعلًا واسعًا في المغرب العربي—رغم أن هذه المنطقة تضم عددًا من المفكرين البارزين في مجال التنوير وتجديد الخطاب الديني، من خلال نقد التراث والانفتاح على العلوم الإنسانية والدعوة إلى قراءة جديدة للدين تتلاءم مع متغيرات العصر—بقي هذا الفكر محدود الانتشار إلى حد كبير في المشرق العربي، وتحديدًا في بيئته الأصلية “العراق”، التي كان الأجدر أن تحتضنه.

يرجع هذا التباين في التلقي إلى جملة من الأسباب العميقة. فثقافة المغرب العربي، تاريخيًا، أكثر انفتاحًا على الفلسفة والأنثروبولوجيا ومقاربات الفكر الديني الحديثة. هناك، لا يُنظر إلى التجديد الديني بعين الشك، بل يُعتبر ضرورة لمواكبة العصر وتحقيق التوازن بين الإيمان والعقل. لذلك، كان لفكر الرفاعي، الذي يدعو إلى “لاهوت رحماني” يُحرّر الدين من أسر النصوص المغلقة والقراءات العنيفة، وقعٌ إيجابي لدى النخب الفكرية والجامعات والمؤسسات الثقافية في المغرب.

أما في المشرق، فالوضع أكثر تعقيدًا. إذ يرزح تحت وطأة صراعات طائفية وسياسية مزمنة، اختلط فيها الدين بالهوية والانتماء، حتى أصبحت كل دعوة إلى تجديد الفكر الديني تُقرأ في ضوء الانقسام لا الإصلاح. في بيئة كهذه، لا يجد مفكر مثل الرفاعي مكانًا رحبًا، لأنه لا ينتمي إلى المؤسسة الدينية التقليدية، ولا يهادن السلطة، بل يطرح رؤية معرفية تهدم الأسس الجامدة وتعيد بناء العلاقة مع الدين من منظور إنساني وأخلاقي.

يقدّم الرفاعي، عبر كتبه ومجلته قضايا إسلامية معاصرة، طرحًا جريئًا لمسألة الإيمان، يتجاوز منطق الفروض والحدود، ليبحث عن الله في أعماق التجربة الإنسانية. وهو ما جعل صوته مسموعًا في مجتمعات تبحث عن خطاب ديني جديد، غير دوغمائي، يُخاطب العقل والروح معًا.

لقد آن الأوان للمشرق العربي، وخصوصًا العراق، أن يعيد النظر في فكر مفكريه، وعلى رأسهم الدكتور عبد الجبار الرفاعي، وأن يتبنى أفكارهم التنويرية التي تتماشى مع روح العصر—عصر الذكاء الاصطناعي والنهضة الرقمية—دون الخوف من قوة ما يحملونه من تحولات تهدد السائد والجامد. فمثل عبد الجبار الرفاعي لا يُقاس حضوره الجغرافي، بل بتأثيره في ضمير الأمة.

***

د. سعد عبد المجيد ابراهيم

 

من سوء حظ الإنسان أنه لم يُخلق زنبقاً. فلو كان كذلك، لما تورط في هذه المهزلة الكونية التي نسميها "الازدواجية". نعم، نحن الكائنات التي ابتُليت بالعقل، نجد أنفسنا دائماً بين شيئين: بين ما نحن عليه وما نظن أنه يجب أن نكونه، بين "أنا" الواعي و"أنا" المشتت بين صور الإنستغرام وتحليلات كارل يونغ.

الإنسان، هذا الكائن المأسور في منتصف الطريق بين جوهره وغايته، يلوك الزمن كمن يلوك لبانة فقدت طعمها منذ القرن الرابع قبل الميلاد، عندما جلس بارمنيدس تحت شجرة زيتون وقرر أن "الوجود واحد" — ونحن منذ ذلك الحين نحاول أن نثبت له أنه مخطئ.

لكن مهلاً، لماذا لا نكون مثلا زهوراً؟ على الأقل الزهرة لا تقلق بشأن الغد، ولا تراجع بريدها الإلكتروني قبل النوم، ولا تدخل في نوبة قلق وجودي لأن صديقاً لم يُعجب بصورتها الأخيرة! كيركجارد، الفيلسوف الدنماركي ذو المزاج الميلانكولي، فهم المسألة جيداً، وكتب ذات مرة في نشوة غريبة: "دعونا نتعلم من الزنبق... الزنبق لا يقول ’أنا‘". وهذا وحده كافٍ ليجعلنا نشعر بالنقص أمام نبتة لا عقل لها ولا طموحات، لكنها أكثر انسجاماً مع الكون منّا.

الرغبة، في رأي كيركجارد، اختراع شيطاني ابتدعه اليأس كي يحافظ على مكانته بين البشر. الزهرة لا ترغب، الزهرة تزهر. ببساطة. أما نحن، فنريد أن نكون سعداء، مبدعين، ناجحين، محاطين بالإعجابات، وأن ننقذ الكوكب في عطلة نهاية الأسبوع. قال نيتشه ذات مرة: "كل رغبة هي قيد"، ونحن بلا شك مقيّدون إلى درجة أن الزنابق تضحك علينا في سرّها.

في الحقيقة، لو توقفنا عن قول "أنا" في هذه الضوضاء الوجودية، ربما وجدنا السلام. لكننا نعيش في زمن يجعل من الصمت تهديداً أمنياً، ومن السكوت عن الذات جريمة ضد السيرة الذاتية. وحتى حين نحاول أن نصمت، نضع صوراً لذلك على "ستوري" الإنستغرام مصحوبة بهاشتاغ: #تأملات_عميقة.

ما يدعونا إليه كيركجارد ليس الهروب إلى كهف ولا اعتناق الزهد الرقمي، بل ببساطة أن نصغي للحياة بصمت، أن نشارك في الوجود دون أن نحاول تصحيحه. ألا نسأل الزهرة عن سبب تفتحها، ولا الطير عن موعد هجرته. أن نحيا كمن يقول: "كفى"، مثلما كتب ألبير كامو، "أن يوجد الإنسان فقط، هو فضيحة كافية بحد ذاتها".

جيل دولوز تساءل ذات يوم: "ما الذي يمكن أن يفعله الجسد؟"، سؤال يبدو كمزحة غليظة على مسامعنا المثقلة بالمسؤوليات والبطاقات البنكية المنهكة. لكن ربما في هذا السؤال يكمن الخلاص: أن نكتشف ماذا يمكن لأجسادنا أن تفعل بعيداً عن لغة المواعيد والتقويمات والأهداف. أن نعيش اليوم لأنه "اليوم"، وليس لأنه الجمعة أو نهاية الشهر.

الزنبق لا يطرح أسئلة، لا ينظر إلى الأعلى ويتساءل: "هل أنا كافٍ؟"، بل يزهر حتى في التربة الفقيرة، في الريح، في الغبار، لأنه لا يعرف معنى الفشل أو المقارنة. كتب كيركجارد: "انظر إلى العشب في الحقل، كما هو اليوم". وهو دعوة لأن نكون "اليوم"، لا كفكرة مجردة، بل ككائن حي يتنفس الحياة ولا يضطر لتفسيرها.

إن الفرح ليس شعوراً، بل موقف وجودي، حالة من الامتزاج اللحظي مع اهتزاز العالم. أن تكون فرِحاً، يعني أن تكون الآن، تماماً، بلا شروط، بلا تفسيرات. وهذا ما تفعله الزهرة.

وبالتالي، لعلّ الحل في كل هذا الهوس المعرفي والقلق الوجودي ليس أن نفهم الحياة، بل أن نكفّ عن التشويش على إيقاعها. ألا نحاول إصلاح الذات كما لو كانت مشروعاً هندسياً معيباً. أن نكتفي — ويا لها من شجاعة! — بأن نكون مثل الزنبق: صامتين، مزهرين، متصالحين مع أن "الوجود... يكفي".

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

ترجمة: د. هاشم نعمة

ستند مفهوم الدولة-الأمة على ثقافة عامة تطورت منذ الثورة الفرنسية، وعلى عمل المنظرين الألمان مثل هيغل. وهو يفترض تماثل باللغة والمعتقدات، وليس بالضرورة بالدين. في أوروبا وآسيا، تدعم الأساطير التاريخية فكرة أن الأمة تطورت على مدى قرون عديدة، وانتصرت على كثير من الأعداء، وطورت طرقا فريدة لعمل أشياء معينة، قد تكون هذه بسيطة أو معقدة مثل امتلاك لغة فريدة من نوعها.

دخلت الأساطير والتقاليد واللغة التي يُزعم أنها أعطت شكلاً للدولة القومية (تُترجم الدولة-الأمة إلى الدولة القومية في اللغة العربية، المترجم) في صراع مع التنوع الثقافي كونه طريقة لدمج المهاجرين الوافدين أو الأقليات الإثنية الأخرى، وهو ما يثير بالتالي الاستياء. إذ يُفضل الاستيعاب أو الذوبان على المستوى الرسمي وعلى مستوى غالبية الجمهور. قد يجد أولئك الذين هاجروا من دول قومية أخرى، من الصعب عليهم تقبل ذلك. لذلك فإن التنوع الثقافي لديه الكثير ليقدمه لهم. وينطبق الشيء نفسه على الأقليات الأصلية التي قد يكون لديها وطن إثني في المجتمع الأكبر. يمكن أن يكون لدى هاتين المجموعتين الاجتماعيتين استراتيجيات مختلفة للتعامل مع الاغتراب عن الثقافة المهيمنة. قد يسعون إلى تفويض السلطة داخل الوطن إذا كانوا من السكان الأصليين أو يمكن أن يفضلوا التواصل الاجتماعي مع أبناء البلد إذا كانوا من المهاجرين الوافدين. توجد على نطاق واسع كلا الاستجابتين في أوروبا، وتُدعم أحيانا من الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، في الماضي، غالبا ما تم رفض كلتا المجموعتين الاجتماعيتين، واعتبارهما مثيرتين للانقسام وانتقاد رعاياهما، وعزلهم أو في الحالات القصوى طردهم تماماً. وكان الشكل الأكثر تطرفا للإصرار على الثقافة المشتركة الموحدة تمثّل في ألمانيا النازية. يعكس الكثير من الدعم الأوروبي للتنوع الثقافي الرغبة في رفض هذا التاريخ. لكنه غالبا ما يعكس القيم الديمقراطية الليبرالية التي تؤمن بأن الأشخاص يجب عليهم أن يختاروا قيمهم وأسلوب حياتهم بأنفسهم. يتوفر التنوع الثقافي على تأثير كبير كأسلوب إداري لدمج المهاجرين الوافدين في الدول الإسكندنافية. أما الاستيعاب أو الذوبان في الدولة-الأمة فقد كان له تأثير أكبر في اليونان والنمسا وبولندا وهنغاريا. حديثا، بدأ منهج الاستيعاب في الإتحاد الأوروبي يثير تحديا للتوافق بشأن التنوع الثقافي. فقد قلل انتخاب الحكومات المحافظة من دعم التنوع الثقافي في دول مثل السويد، كما حدث في كندا وأستراليا في وقت سابق.

إدارة التنوع الثقافي

معظم بلدان الدولة-الأمة متنوعة ثقافيا ودينيا، وأصبحت بشكل متزايد على هذا النحو بسبب سهولة السفر وحجم الهجرة. لم يأخذ حق تقرير مصير الأمم القائم على افتراض الوحدة الإثنية بنظر الاعتبار وجود أقليات ضمن الأمة أو الجدوى الاقتصادية لحق تقرير المصير. وقد واجهت أيضا كثير من الدول نزاعات إثنية وحركات قسرية للسكان في داخل حدودها، مما أدى إلى ظهور فئة اللاجئين لدى الأمم المتحدة للأشخاص النازحين داخليا. أطلق تحرك الفقراء نحو المجتمعات الغنية والمضطهدون نحو ملاذات أكثر أمنا العنان لتغييرات كبيرة في البلدان التي استقبلت هؤلاء الأشخاص. كان الهدف بشكل أساسي هو إدارة تأثير هذه التغييرات التي اطلقت عليها السياسات بصورة عامة مصطلح "التنوع الثقافي" والتي جرى اعتمادها في العديد من الديمقراطيات المتطورة منذ سبعينيات القرن العشرين.

تستند معظم الدول-الأمم على أساطير الثقافات المشتركة والمعتقدات والمُثُل والإرث. ومن المثير للاهتمام، لا يجري اعتبار الدين دائما عاملا مهما للتوحيد. مع ذلك، شهد في الواقع معظم الدول-الأمم في الآونة الأخيرة درجة من التفتت الثقافي بعد قيام العديد من الدول الجديدة ما بعد الاستعمار التي لديها تراث متنوع، وكذلك نتيجة زيادة تنوع البنية الإثنية للسكان والتي نشأت من الهجرات الكبيرة. وقد واجهت الحكومات مهمة إدارة هذا التنوع، باعتبارها حارسة المُثل الوطنية وتحافظ على التماسك الاجتماعي.

تتباين إدارة التنوع على نحو كبير باختلاف قوانين السلطات الإدارية. ففي ألمانيا والولايات المتحدة وأستراليا وجنوب أفريقيا وكندا ونيوزلندا ربما كان العرق عاملاً رئيسا في تحديد الحقوق المدنية، ولكن لم يكن هذا الحال في المملكة المتحدة أو فرنسا. فاللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية في فرنسا ولا توجد لغة أخرى تتمتع بهذا الوضع، بينما في جنوب أفريقيا والتي حجم سكانها مشابه لفرنسا توجد أحدى عشرة لغة رسمية. فقط العامل المشترك في السياسات اللغوية في الديمقراطيات هو تمتع اللغات "الأصلية" بوضع رسمي (الويلزية، الإيرلندية، الفريزية، الباسكية)، لكن لغات "المهاجرين" (البنجابية، البنغالية، التاميلية، الغوجاراتية، الصينية) لا تتمتع بهذا الوضع على الرغم من أنه يجري غالبا التكلم بها من قبل عدد كبير من الأشخاص. وقد يُجرى امتحان المهاجرين باللغة الرسمية قبل حصولهم على الجنسية. ولا تشكل عادة امتحانات الدين قاعدة لـلحصول على الجنسية، وقد حُضرت دستوريا في الولايات المتحدة وفرنسا وأستراليا.

بغض النظر عن العامل الإثني واللغة، تشمل العوامل الأخرى التي يمكن التعامل معها في الديمقراطيات المتنوعة ثقافيا في أوروبا، وفي أماكن أخرى، الولاءات الخارجية والتقاليد والممارسات والمبادئ القانونية. يُدار التنوع غالبا من خلال سياسات الجنسية والتي تختلف في الدرجة التي يحافظ بها المواطنون على هويتهم الثقافية. وقد سُمح بالجنسية المزدوجة للمواطنين في الولايات المتحدة وأستراليا فقط في بداية القرن الحادي والعشرين، وكان مسموحا بها دائما بالنسبة إلى البريطانيين. واستنادا إلى تشريع يعود تاريخه إلى عام 1911، تستند الجنسية الألمانية على الأصل الألماني، وفقط حديثا أصبحت متاحة بسهولة للأخرين.

التنوع الثقافي، الاندماج، الاستيعاب أو الانصهار

يتمثل الملمح الأساسي للتنوع الثقافي الذي يتميّز عن الأساليب الأخرى لإدارة التنوع الإثني باعترافه باستمرار تأثير التنوع الإثني ورعاية ذلك في تقديم الخدمات وحماية الحقوق، وعادة ما يتم ذلك بالتشاور مع المتضررين. هذا المنهج يرفض مفهوم استيعاب أو انصهار المهاجرين الوافدين بثقافة الأغلبية في مجرى الحياة. فهو يتوافق بشكل مريح مع مفهوم المساواة الإثنية، ولكن ليس مع النسبية الثقافية، لأنه منهج ليبرالي في الأساس. يذهب هذا المنهج أبعد من الليبرالية الكلاسيكية في الحفاظ على لغات وأديان وثقافات الأقليات، شريطة أن تعتبر الدولة أن هذه الأمور متوافقة مع التماسك والانسجام الاجتماعيين. وتتمثل النسخة المتطرفة من التنوع الثقافي في قيام اللامركزية أو الفيدرالية على أساس ثقافي، كما في الهند. وكان النموذج الأصلي قد طُبق في الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وانهار مع نهاية الأنظمة الشيوعية .ونادرا ما يكون الجانب الديني أساسا لمثل هكذا لامركزية. ولا يزال مثال واحد باقيا في إيرلندا الشمالية، والذي أنشأ عام 1921 لحماية الأقلية البروتستانتية من سيطرة إيرلندا الكاثوليكية.

يستخدم المعارضون للتنوع الثقافي على نحو متكرر شبح الفدرالية الإثنية أو الانفصال، وبأنه يهدد تماسك الدول-الأمم الموجودة. لكن الفدرالية الإثنية أو الانفصال تحتاج عادة إلى أساس جغرافي قابل للتطبيق، في حين يتوزع المهاجرون الوافدون على مدن مختلفة. وقد اعتمد انفصال كيوبك (لم تستقل كيوبك بعد، المترجم) في كندا والفدرالية السويسرية على مبدأ "الوافدون الأوائل" وليس على الهجرة الوافدة الحديثة.

تبنت الديمقراطيات التنوع الثقافي منذ سبعينيات القرن العشرين عندما كانت أغلبية السكان من المسيحيين، رغم كون هذا التبني إسميا فقط. وجرى تعريف الإثنية عادة على أساس علماني، وخاصة المصطلحات اللغوية. وحتى هذا الوضع قد يكون مزعجا سياسيا، كما في بلجيكا، ولكن في الغالب جرى حل ذلك عبر تبني ثنائية اللغة (كما في كندا وإسبانيا وويلز ونيوزيلاندا وفنلندا وسويسرا). لم تكن توجد قبل سبعينيات القرن العشرين، أي ديمقراطية غربية تتوفر على عدد مهم من السكان غير المسيحيين قائم على أساس جغرافي، حيث جرى تعريف قضايا الأقليات في دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وهولندا بمصلحات عنصرية أو إثنية. لكن هذا الوضع تغير بسرعة وأحيانا على نحو دراماتيكي في الفترة بين 1970 و2000.

***

.....................

الترجمة عن كتاب:

Juliet Pietsch and Marshall Clar, (eds.), Migration and Integration in Europe, Southeast Asia, and Australia, Amsterdam University Press, 2015, pp. 57-60.

إنّ هذا الزمن الذي يفيض بالمعلومات ويضجّ بالتحليلات، ننسى فيه أحيانًا أن المعرفة ليست مرادفًا للحكمة، وأن العقل، رغم عظمته، قد يتحوّل إلى أداة تهديم إذا لم تسكنه الرحمة. لقد أصبح بإمكان الإنسان أن يعرف كل شيء تقريبًا، لكنه ما زال يجهل أهم شيء: أن يكون إنسانًا.

المعرفة، حين لا تؤدي إلى المحبة، لا تختلف كثيرًا عن الجهل؛ إنها مجرد جهل مقنّع بلغة أنيقة. هذا هو لبّ القول، وهو ما أدركه الصوفيون حين قالوا: “العلم قيد، والحب حرية، فلا علم يُنقذ إلا إذا سار في طريق الحب.”

من المعرفة إلى المحبة: لماذا يُختبر العقل بالقلب؟

حين كتب ابن عربي أن “العلم لا ينفع إن لم يُثمر محبة”، لم يكن يفصل بين العرفان والعقل، بل كان يقول ضمنًا إن المعرفة التي لا تُنتج سلامًا داخليًا وخارجيًا هي خيانة للمعنى. كل فكرة لا تُحرّر، لا تُرحم، لا تُحبّ، هي فكرة ميتة، مهما كانت دقيقة ومنهجية. فالفكر إذا لم يحمل أثر القلب، يتحوّل إلى آلة؛ والقلب إذا لم يتغذَّ على نور العقل، ينقلب إلى عاطفة عمياوية.

ولهذا كان الصوفيون يربطون بين العلم والمحبة، لا ليُلغوا العقل، بل ليُعيدوا له طهارته الأولى: أن يعرف لا ليُسيطر، بل ليُشارك؛ أن يفهم لا ليُدين، بل ليعذر؛ أن يكتشف لا ليحتكر، بل ليُهدي. “ليس العالِم من كثرت معارفه، بل من رقّت رحمته.”

الجهل المقنّع: حين تصبح المعرفة أداة للتفريق

انظر من حولك، في السياسة، في الإعلام، في الفضاء الرقمي: كم من عارف يتحدث بلغة تقسّم، تُقصي، تحتقر؟ كم من مثقّف يُغذّي الحروب الرمزية، ويعيد إنتاج العنف باسم “الحقائق”؟

في هذه اللحظة، نكتشف أن المعرفة ليست محصّنة ضد الكراهية. بل إن أخطر أوجه الجهل هي تلك التي تتسلّح بلغة علمية ومنطقية لتمرير البغضاء.

إن الحروب لم تكن لتقوم لولا جهل الناس بالآخر.

والاستعمار لم يكن ليستمر لولا جهل المستعمِر بإنسانية المستعمَر.

والعنصرية لم تكن لتُخلق لولا جهل الإنسان بوحدة الأصل الإنساني.

كلّ كارثة كبرى في التاريخ يمكن أن نُرجعها إلى شكل من أشكال الجهل الذي يرتدي قناع المعرفة.

الحب كأعلى مراتب المعرفة

من قال إن الحب عاطفة فقط؟ في العرفان الصوفي، الحب هو أعلى درجات الإدراك. لأنك حين تُحب، فأنت ترى الإنسان في ضوءه لا في عيوبه، في احتماله لا في ماضيه، في ما يمكن أن يكون لا ما هو عليه الآن.

ابن عربي يقول: “مذهبنا مبني على المحبة، وكل من لم يكن محبًّا لا مذهب له عندنا.”

أما جلال الدين الرومي، فقد كتب آلاف الأبيات ليقول شيئًا واحدًا: المعرفة الحقيقية ليست في العقل بل في القلب الذي يعرف بعين الله. فكل معرفة لا تُفضي إلى التسامح، لا تستحق أن تُدعى معرفة. وكلّ فكر لا يُنتج تعاطفًا، فهو شكل متقدّم من اللاوعي.

السلام كثمرة ضرورية للمعرفة الحقة

إذا كانت المعرفة لا تؤدي إلى السلام، فهي ليست معرفة، بل أداة تقنية بلا روح. السلام لا يُولد من موازنات القوى فقط، بل من الإيمان العميق بأننا نُشبه بعضنا أكثر مما نختلف، وأننا نحتاج بعضنا أكثر مما نتصارع.

لقد تحوّلت كثير من الجامعات إلى مصانع للمعلومات، لكن دون أن تُنتج إنسانًا أكثر تواضعًا، أكثر لطفًا، أكثر استماعًا.

والسؤال الجوهري: ما جدوى أن تعرف كل شيء، إذا لم تُحب شيئًا؟

وما نفع أن تفهم القوانين الفيزيائية للكون، إذا لم تستطع أن تُنصت لطفل يبكي، أو أن تسامح من جرحك، أو أن تتأمل زهرةً تنمو بصمت؟

الختام: نحو أخلاق معرفية جديدة

نحتاج اليوم إلى ما يمكن أن نسمّيه أخلاق المعرفة. لا يكفي أن نعرف، يجب أن نعرف لنعين، لا لنُدين.

يجب أن نعيد بناء الإنسان العارف لا باعتباره موسوعة تمشي، بل قلبًا حيًّا يرى في الآخر مرآته. المعرفة الحقيقية ليست قوة، بل أُخوة.

وإذا لم نُعد ربط المعرفة بالمحبة، فإننا نسير نحو حضارة هائلة المعرفة، ولكن منعدمة الإنسانية.

وهذا، في النهاية، هو الجهل الأكبر.

***

يونس الديدي - كاتب مغربي

 متخصص في الشؤون الاجتماعية والسياسية

السرديات التاريخية يمكن أن تكون مفيدة في توضيح الأبعاد الإنسانية للأحداث، دوافعها وتأثيراتها على المجتمعات، كما تساعد في تقديم تفسيرات عن كيفية تطور المجتمعات والأفكار عبر الزمن، مما يعمق من الفهم للوجود الإنساني، يلعب السياق التاريخي دورا مهما في تمييز السرديات المعرفية من السرديات الوهمية مع ألأخذ بعين الاعتبار العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أثرت في تكوينها وفي احداثها أيضا، ان دراسة السرديات بعمق يساعد على فهمها انطلاقا من عمق التميز في الإجابة خلال الإجابات على الأسئلة التي طرحتها المجتمعات ومن خلال الصراعات الوجودية، تشكل الإجابات المريحة نقطة انطلاق لفهم أعمق في كيفية تشكل عقيدة الثبات والانسجام في وعي المجموعات الانسانية، يمكن ان يرجع في اكثر الأحيان الى ان الناس تبحث عن إجابات بسيطة ومريحة لتخفيف القلق أو التوتر. لان الأسئلة المعقدة تفتح النافذة على طرح أسئلة جديدة تحتاج الى إجابات اكثر تعقيدا بذلك تكون الإجابات المريحة كافية لتلبية حاجات معينة دون تعقيد الأمور، ويمكن أن تظل لها قيمة في سياقات معينة، الأسئلة المعقدة تحاول ان تكشف عن جوانب غير مفهومة أو مثيرة للجدل، مما يدفع المجموعات الى البحث عن إجابات أكثر عمقًا التي تؤدي إلى طرح أسئلة إضافية، وهذا يفتح المجال لمناقشات أوسع حول موضوع ما، كذلك عندما يتفاعل الأشخاص مع أسئلة معقدة قد تدفعهم للتفكير بشكل أعمق في الموضوعات المرتبطة مع النقاشات الناتجة عن الأسئلة المعقدة تؤدي إلى تطوير أفكار جديدة أو تحسين الفهم العام للموضوع، كما ان طرح سؤال معقد يتطلب الأمر من المشاركين الاستماع جيدًا للردود، مما يعزز التفاعل والمشاركة، بهذه الطريقة يمكن للأسئلة المعقدة أن تكون نقطة انطلاق لنقاشات غنية وملهمة التي لا تخدم سرديات اريد بها ان تكون جاهزة للتطبيق بتقنية الإجابات المريحة.

الإجابات المريحة والمعنى

الاجابات المريحة لا تحمل دقة المعنى و سيكون هناك احتمال التشويه اعلى وتأثيرا سلبيا على الوعي العام، عدم دقة المعنى تؤدي الى عدة مخاطر ويمكن أن تؤدي إلى تشويه الفهم العام للأحداث أو القضايا و تعزيز الصور النمطية بتكريس المفاهيم الخاطئة عن المعنى والغاية، مما يعيق التفاهم والتعاطف، التركيز على الإجابات المريحة يمنع الأفراد من استكشاف القضايا بشكل أعمق، مما يحد من قدرتهم على التفكير النقدي، ويؤدي إلى تقليل النقاشات المعرفية، مما يساهم في انغلاق الآراء وعدم تقبل وجهات النظر المختلفة، تشجيع التفكير النقدي والبحث عن معلومات دقيقة وشاملة يمثل بديلا من الاعتماد على الإجابات المريحة ويعزز وعيًا عامًا أكثر نضجًا وواقعية لذا يمكن اعتبار بعض الإجابات السردية المريحة سرديات ضارة بالوعي الإنساني. بعض السرديات من خلال الإجابات المريحة تعزز من القوالب النمطية أو الكراهية، التي تؤدي إلى تعزيز الانقسامات الاجتماعية وزيادة التوترات كون الاجاب تتناغم مع الانحيازيات الاثنية او العرقية او الطائفية للمجموعات، يمكن أن تحتوي بعض الإجابات المريحة على سرديات مضللة، مما يؤثر على فهم الناس للواقع والحقائق وقد تلجأ بعض السرديات إلى تقديم رؤى مثالية أو غير واقعية، مما يؤدي إلى ضعف مواجهة التحديات الحقيقية في الحياة، بعض الإجابات المريحة تُستخدم كأداة للتلاعب بالناس، مما يؤدي إلى فقدان القدرة على التفكير النقدي والاستقلالية، تُروى الإجابات السردية المريحة قصص تبرر العنف، مما يؤثر سلبًا على السلوك الاجتماعي، لذا من المهم أن نقدّر أجوبة السرديات بعقل مفتوح ونكون واعين لتأثيراتها المحتملة على الوعي والفهم الإنساني.

دور الخيال في تعزيز فعالية السرديات

الخيال يلعب دورًا حيويًا في تعزيز فعالية السرديات واجاباتها المريحة، يمكن للخيال أن يفتح أبوابًا لأفكار وتجارب جديدة، مما يساعد الأفراد على التفكير خارج نطاقهم المعتاد، استخدام عناصر خيالية يساعد في تبسيط المفاهيم المعقدة، مما يسهل على الناس فهمها واستيعابها وترسيخها، يمكن للقصص الخيالية أن تجعل الأفراد يتعاطفون مع شخصيات مختلفة، مما يعزز التعاطف العميق لمشاعر وتجارب الآخرين، يشجع الخيال الأفراد على التفكير بشكل غير واقعي، مما يمكنهم من إيجاد حلول مريحة وجديدة لمشكلات معقدة، تساعد الاجابات الخيالية من خلال السرديات في تقديم نماذج بديلة للحياة، مما يمكّن الناس من التفكير في إمكانيات جديدة من خلال استكشاف سيناريوهات تتميز بيوتوبيا المكان والزمان، يمكن ان تعطل تطوير مهارات التفكير النقدي، من خلال تحليل هذه التداعيات يمكن للقصص الخيالية أن تشغل الأفراد عن التحرك نحو التغيير الاجتماعي أو الشخصي، من خلال رؤية ممكنات خيالية جديدة، يعزز الخيال فعالية الإجابات المريحة من خلال توفير أدوات مريحة لفهم العالم ولا يسهم في تنمية الوعي، لكن استخدام الخيال في السرديات له حدود، ومنها يجب أن تكون السرديات مرتبطة بالواقع لتجنب تضليل الجمهور. الخيال المفرط قد يجعل الرسالة غير قابلة للتصديق ويجب أن يكون هناك توازن بين الخيال والحقائق. إذا كان التركيز على الخيال فقط، يفقد مصداقية السرد ويحتاج إلى توضيح لتجنب سوء الفهم. يمكن أن يؤدي استخدام الخيال إلى تعزيز تحيزات معينة أو قوالب نمطية إذا لم يتم التعامل معه بحذر . الخيال الذي يروج لأفكار سلبية أو ضارة ما يمكن أن يكون خيالا مقبولًا في ثقافة معينة وقد لا يكون كذلك في أخرى، قد يتسبب التركيز الزائد على العناصر الخيالية في إبعاد الانتباه عن القضايا الأساسية التي تحتاج الى نقاش حولها، تجاوز هذه الحدود يتطلب وعيًا وفهمًا عميقًا للموضوع والسياق.

دور التنوع الاثني والثقافي في تطويع اجابات السرديات التاريخية

يلعب التنوع الإثني والثقافي دورًا حيويًا في تطويع إجابات السرديات التاريخية، التنوع الثقافي يساهم في تقديم زوايا متعددة حول الأحداث التاريخية، مما يعزز من فهم السياقات المختلفة تضمين أصوات وثقافات متنوعة يساعد في تصحيح التحيزات التي قد تظهر في السرديات الأحادية الجانب، مما يوفر صورة أكثر شمولية، تجارب الشعوب المختلفة تُثري السرديات التاريخية، مما يُضيف عمقًا وتعقيدًا للأحداث التاريخية، يمكن أن تساهم السرديات المتنوعة في تسليط الضوء على تجارب مجتمعات معينة، مثل الأقليات، التي قد تُهمل في الروايات التقليدية من منظور ثقافات معينة، يمكن أن تؤدي السرديات من خلفيات متنوعة إلى تحدي الروايات السائدة، مما يفتح المجال لمناقشات جديدة حول الأحداث التاريخية، التنوع الثقافي يساعد في إعادة تقييم الأحداث من وجهات نظر مختلفة، مما يغير من فهمنا للأسباب والنتائج، السرديات التاريخية المتنوعة تساهم في تشكيل هويات جماعية، مما يعزز من الشعور بالانتماء والفخر الثقافي من خلال احتضان التنوع الإثني والثقافي يمكن السرديات التاريخية من أن تصبح أكثر دقة وشمولية، مما يساعد في بناء مجتمع أكثر فهمًا وتسامحًا. السرديات التاريخية تعتبر وسيلة فعالة لفهم الأحداث المعقدة والتفاعلات الإنسانية عبر الزمن، دورها في تقديم إجابات مريحة على الأسئلة المعقدة يساعد في فهم الأسباب والنتائج، يسهل على الناس استيعاب الأحداث و التعبير عن العواطف والتجارب الإنسانية، يجعل الأحداث أكثر قرباً للناس، تلهم السرديات التاريخية الأفراد من خلال تقديم نماذج لشخصيات تاريخية واجهت تحديات مشابهة لكنها من خلال المعلومات الدقيقة تعزز من مصداقية الروايات التاريخية، مما يساعد على الثقة في المحتوى، دقة المعلومات تضمن أن الأجيال القادمة تتعلم من الحقائق التاريخية بدلاً من الأساطير أو المفاهيم الخاطئة مما يسهم في تطوير المعرفة التاريخية، السرديات الدقيقة تعزز من الهوية الثقافية وتساعد المجتمعات على فهم تاريخها بشكل صحيح، يمكن استنتاج دروس مستفادة من الماضي تُستخدم في صنع القرار في الحاضر والمستقبل بالتالي، دقة المعلومات ليست مجرد مسألة أكاديمية، بل هي أساس لفهم التاريخ وبناء مستقبل أفضل.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

تغدو العولمة في مطالع هذا القرن الحادي والعشرين أكثر من مجرد ظاهرة آنية أو سياق اقتصادي متحوّل؛ إنها مشهد كوني بالغ التعقيد، يعيد رسم خرائط الوعي والثقافة، ويهزّ أسس الهوية على نحوٍ لم تشهده المجتمعات من قبل. ولعل أول ما يستوقفني هو المفارقة المضمرة في المصطلح ذاته؛ إذ يوحي ظاهره بالانفتاح والاتصال والتكامل، لكنه يُخفي في عمقه حمولات تاريخية وسياقات قوى لم تكن دوماً عادلة أو حيادية.

العولمة، في تعريفها الاصطلاحي، تُحيل إلى سيرورة شاملة يتم من خلالها توسيع نطاق التفاعلات الإنسانية، لتشمل العالم بأسره، سواء في الاقتصاد أو السياسة أو الثقافة أو المعرفة. وهي مشتقة من الجذر اللاتيني globus الذي يعني "الكرة" أو "الكرة الأرضية"، ومن هنا جاءت مفردة "globalization" بالإنجليزية، والتي دخلت التداول الأكاديمي بشكل لافت منذ سبعينيات القرن العشرين، مع بروز نظم الاتصال الحديثة، وتسارع حركات السوق العابرة للحدود. إلا أن جذور العولمة أعمق من ذلك، إذ يمكن تتبع مظاهرها الأولى منذ بزوغ عصر الاكتشافات الجغرافية في القرن الخامس عشر، حين بدأت أوروبا تمدّ جسور تجارتها وثقافتها صوب ما وراء البحار، متبوعة بعصور الاستعمار، ثم الثورة الصناعية، وصولاً إلى حقبة التكنولوجيا الرقمية والإنترنت.

مقتضيات العولمة كثيرة، ولكن أبرزها يكمن في إلغاء الحدود التقليدية، وتسريع التبادل المادي والرمزي بين الشعوب، وإحداث تحوّل نوعي في مفاهيم السيادة والثقافة والاقتصاد. فبفضلها، باتت المعلومة تنتقل في أجزاء من الثانية، وأصبحت الأسواق تتداخل، واختلطت أنماط الحياة، وتشابهت المدن الكبرى في عمرانها، ومظاهرها، وخطابها الاستهلاكي. غير أن هذا الانفتاح لم يكن دائمًا ذا طابع متكافئ؛ فقد رافقته موجات من الاختراق الثقافي، وتفكيك الخصوصيات، وهيمنة خطاب أحادي يسعى لتسويق نموذج حضاري معيّن باعتباره "العالمي"، بينما يتم تهميش البدائل الأخرى، لا سيما المنبعثة من السياقات الثقافية غير الغربية.

وهنا تتبدى إحدى أهم المفارقات التي أفرزتها العولمة؛ فهي تدّعي الكونية، لكنها في كثير من تجلياتها تعكس مركزية ثقافية واقتصادية صارمة. ففي الوقت الذي تعلن فيه شعارات التعدد والانفتاح، نجدها تنزع نحو التجانس المفرط، وتُفرغ الثقافات من مضامينها العميقة، لتستبدلها بأنماط استهلاكية سطحية. وليس أدلّ على ذلك من سيادة اللغة الإنجليزية في مجالات العلم والإعلام، وتراجع استخدام لغات أخرى في التداول العالمي، مما يشير إلى اختلال في ميزان القوة الرمزية. كما أن العولمة، بينما تَعِدُ بإتاحة الفرص للجميع، كثيرًا ما تُعمّق الفجوات، وتُعزز التبعية الاقتصادية والسياسية، وتُضعف القدرة المحلية على التحكم في المصير التنموي والثقافي.

وبوصفي باحثة في الحضارة العربية، فإن موقفي من العولمة ينبع من وعي نقدي يُثمّن فرص التفاعل الحضاري، لكنه يتحفّظ إزاء الانبهار غير المشروط، والذوبان اللاواعي في ما يُسوّق كونه "المعيار العالمي". إن الحضارة العربية، بما تحمله من إرث معرفي وروحي وإنساني، ليست نقيضًا للعولمة، بل يمكنها أن تُسهم فيها إن تمكّنت من استعادة ذاتها، وتحديث أدواتها، ومساءلة موقعها من العالم بلغة الندية لا التبعية. فالعولمة لا تُلغى، ولكن يمكن تفكيك خطابها، وإعادة تشكيله على نحوٍ يُنصف التنوع، ويعترف بثراء التواريخ والهويات.

وفي هذا السياق، ينبغي التمييز بين "العولمة" كواقع تقني وتاريخي لا مفر منه، و"التموضع" داخله كخيار حضاري يستوجب الوعي والتخطيط. فنحن لا نختار أن نكون داخل العالم، لكننا نختار كيف نكون فيه. والمستقبل ليس حكرًا على الأقوى، بل على الأوعى: الأوعى بجذوره، والأنضج في تعامله مع متغيراته.

في الختام، تظل العولمة مرآة عاكسة لحالة الإنسانية المعاصرة: متقدمة في التقنية، لكنها في كثير من الأحيان تائهة في المعنى. وبينما تسير البشرية نحو مزيد من الاندماج، فإن الحاجة إلى صوت حضاري متزن، قادر على استحضار القيم دون الجمود، والانفتاح دون التنازل، تبقى أشدّ إلحاحًا. فالعولمة، كما أراها، ليست نهاية للتاريخ، بل بداية لسؤال جديد: كيف نبني عالمًا مشتركًا لا يُلغي أحدًا، ولا يستثني أحدًا، بل يحتفي بالاختلاف بوصفه ثراءً، لا تهديدًا.

***

نجوى لزرق

 

لا يستطيع طالب الفلسفة الاستغناء عن علاقة شخصية وحميمة ومستمرة مع النصوص الفلسفية من حيث انها تشكل الطريق الملكي للشروع في التفلسف فهي تبدو للوهلة الأولى وكأنها وسيلة " للمعرفة الفلسفية"، على اعتبار ان ميراث الفلاسفة العظماء امثال (أفلاطون، أرسطو، الغزالي، ابن رشد، ديكارت، هيجل....) مكتوب هناك في نصوصهم ومن الطبيعي أن يكون لهذا "الكنز العظيم" خريطة تحدد أماكنه- جغرافيته-  وأزمنته -تسلسله الزمني- ومن هنا نفهم كيف ان هذه النصوص تشكل ميراث الفلسفة وكنزها المفقود لذلك ليس من السهل الاقتراب منها والتعامل معها كمعرفة جاهزة فالمعرفة الفلسفية ليست معرفة عادية يمكن أن "نتعلمها" دون أن نخترقها ونخترق أنفسنا بها. وسيكون من العبث النبش والحفر فيها دون خريطة نسترشد بها، وكل محاولة تستهدف تزويد عقل التلميذ المبتدئ الجاهل بمبادئ الفلسفة بنصوص لا تتوافق مع طبيعته او التعامل مع نصوص لا نعرف كيف تمت صياغتها هي محاولة ساذجة وغبية، من شأنها أن تثقل كاهل الروح وتسحقها.

ان النصوص الفلسفية ليس متجراً جاهزاً، ندخله لنشتري من الملابس ما هو معروض على الرفوف وارغام التلاميذ على ارتدائها لأننا سنحول التلميذ في النهاية الى دمية أو فزاعة. وبدلا من أن تخدم المعرفة الفلسفية فكر التلميذ وتفتح لها افاقا واسعة للتحرر من جهله فإنها تصبح عقبة عند البعض ومدار سخرية وتهكم لدى البعض الاخر فالتفكير فعل لا يمكن تعلمه ولا يستطيع أحد اكتشاف الطريق الصحيح وهو يسير مغمض العينين. تماما مثلما يحاول البعض المنتسبين الى تدريس الفلسفة عندنا التفكير نيابة عن الآخرين.

ان تدريس الفلسفة من خلال قراءة النصوص الفلسفية وتحليلها تعني الدخول في علاقة مع الأفكار الفلسفية التي حدثت بالفعل، من أجل اختراقها وجعلها خاصة بالتلميذ. فعند قراءة أفلاطون أو ديكارت مثلا، سنحاول ان نفكر مثل أفلاطون أو ديكارت. اننا لا نفكر من خلالهم فقط، بل نفكر فيهم والقراءة الفلسفية للنصوص ليست في المقام الأول وسيلةً للمعرفة، بل هي تمهيدٌ للفكر الصحيح. حيث يجب أن نتعرف على ميراث هؤلاء الفلاسفة العظماء لأجل ان نفكر كما فعلوا، لا أن نعرف لمجرّد المعرفة.

دعونا نتذكر الرحلة التمهيدية التي وصفها أفلاطون في امثولة الكهف، في الكتاب السابع من الجمهورية: السجين المحرر حديثًا، "المتحول" إلى الفلسفة، يبدأ باعتبار النجوم الأكثر غموضًا نجومًا مبهرة. ونحن نفهم، أنه غير قادر في البداية على النظر في سطوع الشمس التي ترمز الى الحقيقة. إن هذه الرحلة تكشف لنا ان البدء في تعلم الفلسفة يتطلب رحلة طويلة وصعبة.

وإذا كان من السهل قراءة مقال صحفي، فمن الصعب اختراق نص فلسفي. فما المقصود بالنص الفلسفي الذي ندعي انه يصعب اختراقه؟  وكيف نقرأ النصوص الفلسفية بطريقة صحيحة؟ وما هي النصوص التي يجب قراءتها؟ ما موقع النصوص على اختلاف اصنافها من درس الفلسفة؟  وماهي الخطوات التي ينبغي اتباعها أثناء الاشتغال عليها؟ وماهي مبادئ شرح النص الفلسفي وتحليله وتأويله؟ كيف يمكننا اتقان فن الاقتراب من النص وفي نفس الوقت ترك مسافة لمساءلته وتقييمه؟ وكيف يمكن الانتقال من التفسير الى التحرير؟

كيف نقرأ النصوص الفلسفية؟

لكي تقرأ النصوص الفلسفية، يجب عليك أولاً أن تمتلكها. إن هذه الحقيقة البديهية تغطي ضرورة تميل للأسف إلى التلاشي من قائمة الاهتمامات عند الأستاذ والتلميذ على حد السواء. لقد اعتدنا في كثير من الأحيان على الاستفادة من المقتطفات المصورة ونسخها. إن مثل هذه الممارسة لا تحل بأي حال من الأحوال محل القراءة المباشرة للنصوص في شكلها الطبيعي، أي في شكل الكتاب.

لذلك يجب أن تصبح المكتبات التي يمكن للأساتذة والطلاب الوصول إليها أماكن مألوفة. يتعين عليهم التعود على البحث عن المراجع في رفوفها، والتعود على تخطيط الأرفف. يتعين عليهم تصفح الكتب للتعرف بسرعة على محتواها، واستعارتها (وإرجاعها!) بانتظام.

العادات موجودة هناك في المكتبات، كما هو الحال في كل مكان وإذا كنت لا تقوم بزيارة المكتبة (المكتبات) بشكل منتظم، فأنت لا تستخدمها، أو نادرًا ما تستخدمها. إذا كنت تشعر بالراحة هناك، يمكنك المجيء والذهاب دون أي جهد. ينبغي أن تصبح زيارة المكتبة طقسًا.

ولكن لا يمكن لأي من طرق الوصول إلى النصوص المذكورة أعلاه أن تحل محل امتلاك الأعمال المتاحة دائمًا، والتي يمكن للمرء أن يتأمل فيها مطولًا، والتي يمكن للمرء أن يكتبها ويعلق عليها كما يشاء وبطبيعة الحال، فإن الحصول على مكتبة شخصية يمثل ميزانية. ولكنه استثمار ضروري لكل أستاذ ولكل تلميذ محب للحكمة.

- سنقوم تدريجيا ببناء صندوق من النصوص الأساسية داخل كل مخبر للفلسفة على غرار العلوم التجريبية في كل ثانوية هناك ستكون رفوف لكتب فلسفية للفلاسفة العظماء: أفلاطون، أرسطو.... وخرائط وبطاقات ... الخ. ومن الضروري أيضًا الحصول على بعض النصوص في لغتها الأصلية، وتشجيع التلاميذ على الاشتغال عليها خاصة اقسام اللغات الأجنبية.

ما هي النصوص التي يجب قراءتها؟

1/ النصوص الفلسفية وغيرها

بمجرد أن نحصل على النصوص، فمن الواضح أننا يجب أن نقرأها ومن السهل التعرف على نصوص الفلاسفة من خلال هذا المعيار: أن يكون النص خاضعًا تمامًا لرسالة فلسفية يجب توصيلها، وأن تكون الرسالة نفسها قابلة للاختزال تمامًا إلى مشكلة تستدعي فكر عقلانيً نقدي للتعامل معها. وإذا كان هناك أي شك حول الطابع الفلسفي من خلال تحليل النص، يمكننا إجراء الاختبار المضاد التالي: أن نسأل أنفسنا ما إذا كان الخطاب المقدم قابلاً للاختزال إلى الفهم الفلسفي أم لا؟ فإذا كان محتوى الخطاب يقاوم العملية، ويبدو مشروطًا ببيانات "إيجابية"، أي تم الحصول عليها من خلال العمل على بيانات من التجربة لا يمكن اختزالها إلى مفاهيم، فذلك لأننا نتعامل مع "العلوم الإنسانية" - التاريخ، وعلم النفس، وعلم الاجتماع.

ونرى على الفور أن الفلسفة ليست "علماً إنسانياً"، على عكس ما تشير إليه التسميات التي تُلصق بجامعاتنا (والتي تسمى عموماً "الآداب والعلوم الإنسانية")، أو الإشارة إلى "العلوم الإنسانية" المرتبطة بالدرجة التي يحصل عليها طلاب الفلسفة تقليدياً. ومع ذلك، هناك العديد من النصوص التي ليست "فلسفية" بشكل مباشر ولكنها مع ذلك يمكن أن تكون موضوع القراءة الفلسفية.

كل هذه النصوص التي يمكن اعتبارها متوسطة أو "عابرة" يمكنها، بل وينبغي لها، أن تستحوذ على اهتمام طلاب الفلسفة، وأن تكون موضوع قراءة دؤوبة، وأن تؤدي إلى إنشاء ملفات. ولا ينبغي لنا أن ننسى أن ممارسة الفلسفة، التي يمكنها التشكيك في أي موضوع، تكتسب المزيد من الدقة والأهمية عندما تكون مصحوبة بثقافة عامة حقيقية من خلال القراءة المنتظمة للأعمال الأدبية أو التاريخية أو النفسية أو المتعلقة بالعلوم الطبيعية وما إلى ذلك.

2/ النصوص المصاحبة

لا يشكل جزء كبير من النصوص أي مشكلة في الاختيار: فهذه هي النصوص التي يطلب المعلمون قراءتها أو يوصون بها. بفضل تواصلهم المباشر مع طلابهم، فهم يعرفون أكثر من أي شخص آخر ما هو الضروري قراءته، والتي تكون في البداية دائمًا تمهيدية.

وبطبيعة الحال، سيكون هناك عدة طرق. بالنسبة لبعض الناس، سيكون المجال المفضل هو الفلسفة القديمة. بالنسبة للآخرين، ستكون الفلسفة الكلاسيكية أو الحديثة. بالنسبة للآخرين، ستكون دروسًا موضوعية (الميتافيزيقيا، الأخلاق، السياسة، وما إلى ذلك). ولكن سيكون هناك دائما نصوص للقراءة. ولكي نتقدم، هناك قاعدة ذهبية واحدة فقط: أن نتدرب بانتظام على القراءة الفلسفية، عدة مرات في الأسبوع على الأقل، كل يوم إذا أمكن.

ومن الأفضل بالطبع أن نعرف مسبقًا أن التنشئة الفلسفية الحقيقية تستغرق عددًا غير محدد من السنوات. ولكي يتعامل المبتدئ مع النصوص دون تحيز، يجب عليه أولاً أن يعمل على تحسين موقفه لتجنب عقبتين أوليتين: تضخيم الصعوبات وخداع نفسه بسبب السهولة الظاهرة.

القراءة في الممارسة

إن كل الإرشادات التي قدمناها للتو ستكون غير فعالة، ولن تكون مفهومة حقًا ومناسبة، إذا لم ننتقل إلى الممارسة الفعلية للقراءة، فمن خلال قراءة النصوص نتعلم قراءة الفلاسفة. ومن الناحية العملية، تقع كل قراءة بين قطبين: القراءة السريعة، والقراءة المتعمقة التي تميل إلى التفسير الفوري للنص.

وللبدء من الجيد أن تطبق نفسك على هذين الشكلين المتطرفين، اللذين يكملان بعضهما البعض، من أجل شحذ قدراتك في القراءة "العادية"، وهي نقطة التوازن التي تسمح بالتأمل، وإثراء الثقافة، وتترك آثارًا. ل/ القراءة السريعة

دعونا نبدأ بالقراءة السريعة، وهي أداة نفعية أكثر بكثير من "القراءة" بالمعنى الفلسفي للمصطلح.

"القراءة السريعة" بالمعنى الدقيق للكلمة هي تقنية حقيقية، والتي يمكن تعلمها وتنميتها. يتم استخدامه في جميع أنواع البيئات، للنصوص من مختلف الأنواع (من الصحف إلى الملفات، بما في ذلك الروايات والمقالات). ورغم أنه من غير الوارد استخدامها على هذا النحو في الفلسفة، فإنه من المثير للاهتمام مع ذلك الاستلهام منها لتسهيل بعض المهام الأساسية.

إن القراءة المتأنية للنصوص الفلسفية هي قراءة بطيئة، بطيئة للغاية، مما يؤدي إلى نوعين من العيوب:

- الأول نفسي، لأننا نشعر بأننا لا نتحرك إلى الأمام، أو حتى لا نبقى في مكاننا. في حين أن قراءة رواية قصيرة تستغرق ساعتين، فإن قراءة نص فلسفي مكون من مائة صفحة قد يستغرق أسبوعًا من الجهد من المبتدئ. ومن ثم يحق لنا أن نسأل أنفسنا ما إذا كانت حياة كاملة ستكون كافية لتغطية حياة اثنين أو ثلاثة من المؤلفين الرئيسيين.

- أما الثاني فهو فلسفي، لأن التعمق في النص كما ينبغي يُعرّض القارئ لخطر الغرق في تفاصيل تشغل كل المساحة. فبمجرد أن يغرق المرء في بحر الأفكار، يُخمد الشغف بالتحليل روح التوليف. لقد فقدنا رؤية الأسئلة، والقضايا، والغاية المنشودة، والخطة، والمسار.

وللتغلب على هذا، فمن المفيد أن نتدرب على قراءة جزء من كتاب بأكمله، باستخدام الضربات ذهابًا وإيابًا مثل ضربات الاستكشاف، حسب الحاجة، وبكل حرية تقريبًا.

مثل هذا التمرين ليس مفيدًا كتعويض فحسب، بل إنه مفيد أيضًا:

-  فهو يسمح لك بالتعرف على العمل بأكمله؛

-وهو يسهل مراجعة هذا النص أو ذاك في البرنامج؛

من الضروري البحث عن الوثائق اللازمة لإنجاز عمل ما، وتحديد الكتب المطلوبة على رفوف المكتبة. وعند تطبيق هذه الطريقة على النصوص الفلسفية، فإنها تكون أكثر "انتقائية" من "السرعة"، وأكثر انقطاعاً من التسرع. ولكنها مع ذلك تفترض أن المبادئ الأساسية للقراءة السريعة قد تم اكتسابها:

- التقاط "الصور الفوتوغرافية" لصفحات النص، من خلال النظر فقط، من خلال تدريب الذات على عدم نطق ما تقرأه داخليًا. في الواقع، النطق الداخلي الصامت هو العامل الرئيسي للبطء. يجب عليك أن تعرف ذلك. أما العين فهي أسرع بكثير.

يجب أن نولي عناية خاصة لقراءة وفهم الملخص، وجدول المحتويات، وكل ما يسمح لنا بفهم أفضل للخطة الشاملة للكتاب، وتقدم الأفكار والموضوعات وتوضيحها، وبالتالي توجيه أنفسنا بشكل أفضل في النص، وتحديد هذا المقطع أو ذاك الذي يثير اهتمامنا أكثر، إلخ. وفي كثير من الحالات، سيتم أيضًا إيلاء اهتمام خاص للمقدمة، وحتى التمهيد، وقبل كل شيء للخاتمة (التي غالبًا ما تستحق القراءة قبل الكتاب نفسه، لفهم الأطروحة والقضايا بشكل أفضل). في الفلسفة، من الأفضل دائمًا إتقان ترتيب الكتاب واتجاهه، حتى نكون أكثر انفتاحًا على فهم تفاصيل الحجة، وهذا ما يميز القراءة الفلسفية عن قراءة الرواية، حيث تأتي المتعة، على العكس من ذلك، من الجهل بالنتيجة.

2/ القراءة المتعمقة

إنها قراءة مكثفة، حيث يكرس المرء كل انتباهه، للبحث عن الكلمات لاكتشاف المفاهيم، والجمل للكشف عن الأطروحات، والفقرات لإخراج القضايا، والافتراضات، والحجج والآثار المترتبة على ذلك.

وهذه هي القراءة الفلسفية الحقيقية بالمعنى الكامل للكلمة.

هذه المرة، عليك أن تأخذ وقتك وتحدد مجالًا محدودًا للغاية. على سبيل المثال: نصف ساعة لصفحة، وعشر دقائق لجملة مهمة. الهدف هو كسر عظم النص لاستخراج النخاع الجوهري.

في البداية على وجه الخصوص، يجب علينا أن نتخذ موقف شرح النص. نحن نختار مقطعًا بحرية، ونتصرف كما لو كان علينا شرحه لاختبار مدرسي (شفويًا أو كتابيًا).

3/ التدريب المختلط

من الجيد أن تمارس عدة أنواع من القراءة على النص الذي تعمل عليه.

على سبيل المثال، سنحاول أن نقرأ سريعًا بعض المقاطع من أجل الحصول على رؤية شاملة. ثم ننتقل إلى قراءة "عادية" لنفس النص، مع التركيز على النقاط المهمة، ثم ممارسة القراءة المتعمقة. وفي وقت لاحق، سنعود إلى القراءة السريعة عندما تكون هناك حاجة أكاديمية معينة، للتركيز مرة أخرى على ما هو الأكثر أهمية.

1/ لماذا البطاقات؟

يمكن إثبات الأهمية الحاسمة للبطاقات على العكس. ما عليك إلا أن تفكر في التجربة، مهما كانت غير سارة وعادية، المتمثلة في نسيان النصوص التي تقرأها ببطء وبشكل مؤلم، إذا لم تحتفظ بآثار مكتوبة من عملك. لا ينبغي إلقاء اللوم على الذاكرة بحد ذاتها إذا لم "نتذكر" نصًا فلسفيًا مثل فيلم أو رواية. في الواقع المكان الحقيقي الذي تودع فيه الأفكار هو الورق. وهذا ينطبق على الفيلسوف الخبير والمتدرب على حد سواء. إن الوقت الذي نقضيه في قراءة النصوص، والذي لا يتم ترجمته إلى ملفات، هو في الواقع وقت ضائع.

ولذلك فإن البطاقات ضرورية للغاية. ومن خلالهم يمكننا تكوين فكرة دقيقة، شاملة ومفصلة، عن النصوص الفلسفية ومؤلفيها. هذه هي الأشياء التي تحتاج إلى المراجعة أولاً قبل الاختبار. إن ما هو "مفيد" في الثقافة الفلسفية .

هذا العمل ليس ضروريًا لزيادة الثقافة الفلسفية فحسب، بل إنه أيضًا "مفيد" للغاية لجميع أنواع التمارين. النصوص التي نقرأها هي منجم يجب استغلاله بشكل مباشر. لا ينبغي لنا أن نحرم أنفسنا منه.

كيف افعل ذلك؟

من الناحية المادية، يعود الأمر لكل شخص لتنظيم نفسه حسب تفضيلاته، باستخدام البطاقات أو الدليل، مفضلاً التصنيف حسب الترتيب الأبجدي.

ومن الناحية المنهجية، من المهم أن نعرف أننا سنواجه ثلاثة أنواع رئيسية من المصطلحات:

يتضمن النوع الأول مصطلحات ليست فلسفية بحتة، ولكنها يمكن أن تأخذ معنى فلسفيا. على سبيل المثال: "الحس السليم"، "الحدس"، "الحرية"، "العالم"، "الطبيعة"؛ يتضمن الثاني المصطلحات الفلسفية المستخدمة عالميًا (على سبيل المثال: "الجوهر"، "المادة"،

"الفكرة"، "السبب")، ولكنها تكتسب معاني مختلفة حسب الفترة، أو السياق العقائدي، أو المؤلف؛ أما الثالث فيتضمن مصطلحات محددة تماماً، ولا يمكن إخراجها من سياقها دون المخاطرة بالضرر؛ سوء التفسير (على سبيل المثال: "المتعالي" عند كانط).

ومن وجهة نظر الروح الفلسفية للعملية، لا بد من قياس الفرق مقدمًا بين دفتر المفردات والقاموس - وهو أداة خطيرة بالنسبة للفيلسوف المتدرب الذي قد يستخدمها دون احتياطات.

في الواقع، يشير القاموس لكل مصطلح إلى تعريف واحد أو أكثر، موثقة باللغة. وبما أن هذه الأداة تعمل على مبدأ السلطة، فمن المغري أن ننسخها بثقة. ولسوء الحظ، فإننا لا نرى أن ما يسمى بـ "تعريفات" الكلمات وفقًا للاستخدام تغطي في أغلب الأحيان أطروحات فلسفية تتعلق بـ إننا في هذا الكتاب نركز على المفاهيم، بينما نتجاهل السياق، والمقدمات، والمناقشات، والفحص النقدي، وجهود الإنتاج العقلاني. لذلك فإن تعريف القاموس هو "خذها أو اتركها".

أما فيما يتعلق بالتأمل الفلسفي، فعلى العكس من ذلك، لا ينبغي لنا أبداً التعامل مع المفاهيم الفلسفية باعتبارها كيانات معزولة. إن المصطلح الفلسفي ليس نقطة بداية مقدمة مسبقًا، تفرض معناها دون نقاش، بل هو نتيجة لعملية عقلانية مع افتراضاتها، وتفاصيلها. باختصار، كل مصطلح يؤدي "وظيفة" في حركة فكرية متماسكة. ومعناها ينشأ من هذا الوضع، وليس العكس. لذلك نحن لا نبدأ أبدًا من اتجاه، بل نصل إليه. المعنى هو النتيجة.

وإذا نظرنا إلى الأمر من خلال الطرف الضيق من التلسكوب، فإن هذه الحالة تسمح لنا بفهم هذا اللوم. من الشائع أن يقال عن الفلاسفة أنهم يتكلمون لغات مختلفة وأنهم غير قادرين على فهم بعضهم البعض. ومع ذلك، ما الذي يمكن أن يكون أكثر طبيعية؟ على سبيل المثال، كيف يمكننا أن نحدد مصطلح "الفكرة" مرة واحدة وإلى الأبد، عندما نعرف ماذا يعني "الفكرة" عند أفلاطون، وديكارت، وهيوم، وهيجل؟ وكيف يمكننا أن نعرف مصطلح "الحرية" في حد ذاته، ونحن نعلم أننا نحيط في الوقت نفسه بفلسفة الحرية بأكملها؟

ومن هنا يمكننا أن نرى الأهمية الحيوية لدفتر المفردات المصنوع من القراءات المباشرة. ستتلقى المفاهيم معنى محددًا، في سياق معين، من مؤلف معين. سيوفر هذا عناصر أساسية محددة وموثوقة تمامًا، والتي ستكون موضع ترحيب في تمارين متعددة - شرح أو تعليق أو أطروحة.

مبادئ شرح النص

إن شرح النص ليس مجرد تمرين آخر، أكثر صعوبة من غيره، بل هو أفضل طريقة للوصول مباشرة إلى أفكار الفلاسفة وقبل أن تكتب مقالاً، وقبل التعليق، عليك أن تعرف ماذا قال المؤلفون حقًا. قبل أن يفكر الإنسان بنفسه، لكي يفكر بنفسه، عليه أن يبدأ بمساعدة أفكار الفلاسفة . ولهذا السبب فإن تفسير النص يتحدد، من حيث المبدأ، بالقراءة التقديرية، التي هي القراءة الفلسفية بامتياز. ولشرح نص ما، لا بد من الاهتمام بالكلمات، وتحولات العبارات، وكل تلك العلامات ذات الصلة التي تشكل المعنى. ولكن بمجرد أن نجعلها تقنية ميكانيكية قابلة للتطبيق على أي نص، فإن الترجمة كلمة بكلمة تصبح تدميراً منهجياً للمعنى. لذلك يجب هنا ان نفرق بيت التفسير والتعليق ويمكننا القول إن تفسير النص يسعى إلى معرفة ما قاله المؤلف حقًا في مقطع معين، في حين أن التعليق هو استجواب مسلح (مع المراجع، على وجه الخصوص) حول ما قاله ان كان صحيحًا. ومن حيث المبدأ، يعتبر شرح النص أبسط عملية موجودة. فهو كما يشير اسمه، عبارة عن بيان ما هو موجود في نص معين، لا أكثر ولا أقل. إن التفسير هو الكشف عما هو مكشوف، ومفترض، ومضمر، مُضمَر فيه أو مر عليه في صمت من قبل مؤلف محدد، في مكان محدد جيدًا.

نحن نقيس الاختلافات على الفور من خلال إعادة الصياغة: التفسير لا يكتفي بتطريز ما يظهر، بل يبرز ما هو مخفي، ويسلط الضوء على التعبيرات الأكثر تحميلاً بالمعنى، ويبرز كل ما هو موجود في الخلفية، ويصنف العناصر حسب أهميتها لحركة النص.

كيف أفسر النص؟

أثناء إعداد التفسير، ينبغي الحرص على احترام المبادئ التالية، والتأكد من وضعها جميعًا موضع التنفيذ عند الكتابة النهائية. هذه هي المتطلبات العامة التي تشكل برنامج العمل، والتي من المفيد حفظها عن ظهر قلب لتكون في الأذهان دائمًا. ولكي نأخذ الأمور في ترتيب منطقي، يجب أن نشتغل في التفسير على:

تحديد الموضوع (ما يتناوله النص) والأطروحة (ما يدعمه المؤلف)، وتسليط الضوء على قضاياه؛ من خلال تحديد الحركة العامة للنص، ولحظاته الخاصة، وتعبيراته.

كيف نتعامل مع النص؟

لكي تقترب من نص ما، يجب عليك أولاً أن تضع نفسك في الموقف المطلوب، أي في موقف الاستقبال. وفي المرحلة الأولية من العمليات، أول جهد يجب بذله هو القضاء على متطلبات الذاكرة.

في الواقع، لقراءة نص حقيقي، يجب على المرء أن يضع نفسه أمامه بسذاجة، من دون تحيزات من أي نوع، ومن دون توقعات، ومن دون معرفة مسبقة - أو ذكريات المعرفة. ومن ثم يتعين علينا أولاً أن نضع جانباً ما نعرفه حتى نكتفي بما نقرأه.

على سبيل المثال، يكفي أن نتأمل نصاً لأرسطو ونكرر في أنفسنا أن هذا الفيلسوف "تجريبي" و"بيولوجي"، لكي يتم تفسير أدنى إشارة على الفور على أنها تأكيد، وبالتالي لن يتم حتى أخذ العناصر التي لا تتناسب مع هذا التوقع في الاعتبار.

وهنا يجب علينا أن نراهن على أمرين: رهان المعنى ورهان قدراتنا الخاصة.

- الرهان على المعنى: يجب أن ننطلق من مبدأ أن النص له معنى. إذا لم يظهر الأخير (سواء ككل أو في أجزاء معينة)، فهو موجود على أي حال. ومن ثم فإن صعوبات النص لها حلولها في النص. إذا لم نرى شيئًا، فذلك لأننا نظرنا بشكل سيء، أو أغفلنا مصطلحًا مهمًا، أو نسينا مقارنة اقتراح بآخر. علينا بعد ذلك أن نقرأ، ونعيد القراءة، ونفحص بلا كلل، من طرف النص إلى الطرف الآخر، ذهابًا وإيابًا، مقتنعين مسبقًا بوجود الحل، وأننا نملكه أمام أعيننا، حتى ولو لم نتمكن بعد من اكتشافه - بسبب عدم وجود الاهتمام الكافي أو بسبب العوائق التي تمنعه.

وفوق كل ذلك، لا ينبغي لنا أن نتصور أن الحل موجود في مكان آخر، في صفحات أخرى، أو في نصوص أخرى، أو بين المعلقين. ومن الناحية المنهجية، يجب أن نلتزم بهذه القاعدة: المعنى موجود، وهو معطى حتى لو كان محجوبا.

وأخيرا، يجب علينا بكل وضوح أن نمتنع عن التفكير في أن الصعوبات تأتي من المؤلف، الذي لو كتب أي شيء، لما كان يعرف ما يقوله أو لم يتمكن من التعبير عنه بشكل صحيح.

الرهان على القدرات الشخصية: هو عكس ما سبق. علينا أن نفترض أن كافة العقبات يمكن إزالتها من خلال النظر إلى النص بعناية أكبر. لا ينبغي لنا أبدًا أن نلوم أنفسنا على عيوبنا مقدمًا ونقول لأنفسنا إننا لن ننجح أبدًا. وهذا ليس مجرد تمرين بسيط في إقناع الذات، يليق بأسلوب كوي، بل هو نتيجة منطقية للموقف المتبع. إذا قاتلت، ستفوز. وتثبت التجربة ذلك باستمرار.

تحديد المشكلات والأسئلة التي تعترض الباحث أو تستنتجها ضمنا

بأسلوب استفهامي دائما من أجل تقدم البحث.

على أية حال، فإنه يتعين علينا أن نبحث داخل النص نفسه عن عناصر التوضيح والرد.

-  من خلال توضيح الوصلات وتطويرها، وهو ما لا يفعله المؤلف عادة، أو بطريقة سريعة جداً وتلميحية. يجب التعامل مع المصطلحات المفصلة (إذا، إذن، لذلك، إلخ) بأقصى درجات العناية.

- النص الأصلي يتطلب منا أن نطرح في كل لحظة جديدة السؤال الذي يكمن وراء الأفكار التي سيتم تطويرها، والذي يجب أن يُفهم كإجابة على سؤال لا يصاغ عادة في النص (انظر، على سبيل المثال، ما يعطيه هذا فيما يتصل بنص لديكارت - راجع العمل العملي، الفصل الأول، الفقرة الثانية).

كل هذا يسمح لحجة المؤلف بالظهور، وهي عملية أساسية في التفسير.

- اشرح الأمثلة عندما تكون موجودة، لأنها دائمًا قطع مختارة، والتي حكم المؤلف بأنها ذات أهمية كبيرة. وسنستمر على هذا المنوال، على مراحل متتالية، حتى نهاية النص، دون أن ننسى أن الجملة الأخيرة هي في بعض الأحيان الأكثر أهمية أو الأكثر تنويراً.

فن البقاء بالقرب من النص

عندما تكتب، يجب عليك مراقبة النص باستمرار بدلاً من تركه جانبًا. هذه هي الطريقة الوحيدة لتجنب الانزلاق، أو تصحيح خطأ أو سهو. ولكن لا ينبغي لنا أبدًا أن نستسلم للإغراء المريح المتمثل في نسخ مقاطع طويلة من النص، لإظهار أننا كنا منتبهين. لذا يتعين علينا أن نكتفي بالاقتباسات الضرورية للغاية. وأخيرا يجب عليك تجنب الانغماس في إشارات السطور والفقرات، مما يعقد القراءة دون داع، حيث أن النص معروف للمصحح.

التعليق على النص

كما يشير اسمه فإن هدف التعليق يختلف كثيرا عن هدف الشرح والتوضيح. هذه المرة، لم يعد الأمر يتعلق فقط بكشف ما قاله المؤلف حقًا في نص معين، بل ببدء حوار معه، من أجل إعطاء النص الذي نفكر فيه وظيفته في الإطار الذي استخرج منه، وتقدير دوره في الفكر الفلسفي للمؤلف.

ومن الطبيعي أن يؤدي هذا الأسلوب إلى مناقشة أوسع، حيث تلعب التأملات الشخصية للمعلق وأفكار المؤلفين الآخرين دوراً، وأحياناً يكون هذا الدور مهماً للغاية. ان هدف التعليق هو التشكيك في ما اعتبره المؤلف صحيحاً. وفي ظل هذه الظروف، يبدو التعليق ممارسة أوسع وأكثر طموحا من الشرح والتوضيح. ومع ذلك، فإنه لديه حدوده أيضًا، لأنه يقع في المقام الأول في سياق تاريخ الفلسفة. وهذا هو السبب في أنه يظهر عمومًا كتمرين محدد جيدًا، محصور في برنامج محدد مسبقًا، كنتيجة للعمل الذي تم تنفيذه طوال عام من التحضير.

وعلى النقيض من التفسير، الذي يمكن أن يتم ببراعة على مؤلف لا نعرف عنه إلا القليل أو لا شيء على الإطلاق، فإن التعليق يفترض بالتالي معرفة دقيقة، يتم اكتسابها ببطء واستيعابها بشكل جيد. ويتطلب الأمر أيضًا العمل الدؤوب على نصوص المفسرين.

ومن هنا نستطيع أن نرى أن التعليق يتأرجح بين قطبين: المعرفة والتأمل.

ومن الواضح، في الواقع، أن أساس التعليق هو التعلم الفلسفي نفسه، والذي يحيلنا إلى المادة التي يدرسها الطالب والعمل الشخصي الذي يقوم به. ولا توجد منهجية للمحتوى الفلسفي، بالمعنى الدقيق للكلمة. أما فيما يتعلق بما درسه الطالب فهي مسألة تربوية. أما بالنسبة للعمل الشخصي فهو مسألة تنظيم. لذا فإن الأمر يتعلق في الأساس بتطبيق الثقافة الفلسفية الخاصة بالفرد.

وبالتالي فإن التعليق سوف يؤكد المستوى الفلسفي لطالب معين، والذي اتبع مثل هذا المسار، وقام بمثل هذه القراءات، واستوعب كل ذلك بشكل جيد إلى حد ما. هناك العديد من العوامل المحددة التي لا تسمح باقتراح منهجية واحدة تناسب الجميع.

ولا يمكنك التعليق على نص قبل معرفة ما يتعلق به. وفي الممارسة العملية، يتعين علينا أن نحاول العمل على عدة أوراق في وقت واحد ــ أو على عدة أعمدة ــ حتى نتمكن أولاً من تدوين ما يشكل جزءاً من التفسير نفسه، ثم الانتقال أفقياً إلى الاعتبارات التي تنتمي إلى التعليق.

على سبيل المثال، في العمود الأول نضع العناصر التوضيحية (الموضوع، الأطروحة، المفاهيم، الخ) وسنضع في المقابل، في العمود الثاني، الإشارات إلى العمل، إلى العقيدة وإلى تاريخ الأفكار.

إذا كان سياق التمرين يتطلب ذلك، فسوف يكون لدينا في العمود الثالث عناصر تفكير أكثر شخصية، من أجل إعداد المناقشة.

الصعوبات النظرية والعملية

يمكن تصنيف الصعوبات التي يواجهها التلاميذ إلى نوعين:

1/ العوائق الواضحة: وهي ترجع إلى نوع النص (رسالة، حوار، أسطورة، الخ.)، أو إلى وضعه التاريخي (قديم، حديث، معاصر)، أو إلى بيئته الثقافية (مألوفة أو أجنبية)، أو إلى غموض اللغة أو تقنيتها، أو إلى الشروط المسبقة المطلوبة والافتراضات.

يمكن أن تؤثر هذه الصعوبات على بعض المؤلفين، والنصوص، والمقاطع المحددة، والمقترحات، والمفاهيم، والأمثلة أيضًا.

ونجدهم بدرجات وعناوين مختلفة عند أرسطو، وسبينوزا، ولايبنتز، وكانط، وهيجل، وهوسرل، وهايدجر.

2/ العوائق غير المرئية: تنشأ هذه المرة من الشفافية الكامنة في الطابع الأدبي للنص، والذي قد يبدو للوهلة الأولى غامضاً وتلميحياً، أو على العكس من ذلك، ثرثاراً، ومكرراً، وفيراً وفارغاً.

إن هذه الصعوبات، التي لا تظهر، أو تظهر بشكل سيئ للغاية، نجدها عمومًا عند روسو، وهيوم، وبرغسون، وأحيانًا أفلاطون، ونيتشه أيضًا.

وأخيرا، لا يجب أن ننسى النصوص (أو المؤلفين) الذين يجمعون كل هذه المشاكل: باسكال أو نيتشه، من بين آخرين...

ومن خلال الجمع بين كل هذه العوامل، نحصل على عدد معين من "أنواع النوع". على سبيل المثال:

النص المعروف لمؤلف مألوف؛ النص القديم؛ النص الشفاف الزائف؛ نص الفخ؛ النص في الحوار الثابت، النص الذي يخبر عن الأسطورة؛ النص الذي يشير إلى نص آخر؛ نص مؤلف معروف بصعوبته؛ النص على هامش الفلسفة؛ ....إلخ

الخاتمة

إن عملية الاستنتاج هي عملية حساسة وخطيرة في نفس الوقت. في العادة، مع اندفاع الوقت، نميل إلى كتابة أي شيء، مطيعين لردود أفعال مدرسية مجربة منذ فترة طويلة، ولكنها سيئة.

لتجنب أي خطر، فمن المستحسن أن تكون رصينًا للغاية. وفي الختام، من الضروري:

-  القيام بمراجعة الأسئلة الأساسية بشكل مختصر والاجابة عنها إذا كان هناك إجابة في النص.

-  اتخاذ القرار بشأن المناقشة، إذا كان ذلك ممكنا، مع العلم أن هذا هو المكان الذي يكون فيه خطر خروج الأمور عن السيطرة أعظم. في الواقع، يجب على المرء أن يكون حريصًا على البقاء داخل إطار النص الخاص به، حتى لو كان ذلك يعني الذهاب إلى أبعد من ذلك قليلاً إذا كان يلعب دورًا مهمًا وواضحًا داخل العمل، أو في المناقشة العامة للأفكار. إذا تم طلب التعليق، فيمكننا المضي قدمًا وإغلاق المناقشة (قدر الإمكان).

***

عمرون علي – تخصص فلسفة

 

ولد الاسلام دينا موحدا خاليا خالصا من الشوائب والادران ولكن بمرور الزمن لصقت به الخرافات والبدع وكانت الحروب الأهلية والفتن انتاج هذه البدع والانقسامات التي لايزال المجتمع الاسلامي يئن منها الى يومنا هذا ومن هذه البدع التي جاء بها الغلاة (التناسخ) ويرى اصحاب هذا الاتجاه ان الارواح خالده لا تموت وانها تتناسخ وقالو ا ان هو رد الروح الى بدن غير البدن الاول... يقول الخوارزمي (ان فكرة) التناسخ تعود الى اصول هنديه.... ثم انتشرت هذه الفكرة الى بلاد فارس والعراق والشام ومصر وبلاد اليونان ومن الذين امنوا بفكرة التناسخ الفيلسوف (فيثاغورس)

انواع التناسخ

يقسم اصحاب هذا المبدأ التناسخ الى اربع انواع:.

(النسخ: خروج الروح من جسم ادمي الى جسم ادمي اخر

المسخ: خروج الروح من جسم ادمي الى جسم حيوان

الفسخ: خروج الروح من جسم ادمي الى جسم حشرة

الرسخ: خروج الروح من جسم ادمي الى الشجر والنبات)

(الغلو والفرق الغالية في الحضارة السلامية: د/ عبد الله سلوم السامرائي ص 120 ) م/ المصدر

فالمسخ يرمز الى القدرة على تحويل الانسان من وضع اعلى الى وضع ادنى (وضع حيواني) (فاذا هم جميعا قد مسخوا قردة) سورة البقرة 65 فصار الشباب قردة والشيوخ خنازير حسب مفسري هذه الآية.

وانتقلت فكرة التناسخ الى تراثنا الشعبي في الأساطير الشعبية التي كنا نسمعها من اهلنا ايام زمان في ليالي السمر: ان الروبيانة كانت خياطة فسرقت الخيوط فمسخت. وان الفارة كانت طحانة فسرقت الطحين فمسخت وان الثعبان كان في صورة جمل فمسخه الله: وان (ابو بريص) كان اجداده ينفخون النار على النبي ابراهيم وينقلون الحطب فامر الله بقتله بعد ان مسخه من حجم بقدر حجم التمساح الى حجم صغير.

شطحات الصوفية

من الامور التي طرأت على الساحة الفكرية نتيجة اضمحلال الفلسفة هو التصوف فقد ذكرت المصادر الاسلامية ان (ابراهيم ابن ادهم) اول متصوف في الاسلام وهو من مدينة (بلخ) الواقعة في افغانستان اليوم ثم انتشر في سائر البلدان الاسلامية حيث وجد مناخا ملائما لنموه وانتشاره وقد جاء بمبادئ خطيرة تمس الذات الالهية علنا بدأ بادعاء النبوة ثم ادعاء الألوهية (حيث صرح الكثير من المتصوفة في شطحاتهم المعروفة بان الله حال فيهم او انهم والله شيء واحد قال الحلاج (ما في الجبة الا الله) وقال البسطامي (انا ربي الاعلى) (سبحاني ما اعظم شأني) وقال العطار صراحة (انا الله انا الله) المصدر خوارق اللاشعور. د. علي الوردي ص 44.

والشطح هو (تعبير عما تشعر به النفس حينما تصبح لأول مرة في حضرة الالوهية فتدرك ان الله هي وهي هو ويأتي نتيجة وجد عنيف لا يستطيع صاحبه كتمانه) شطحات الصوفية، د.عبد الرحمان بدوي ص10. وزعم بعض الصوفية ان الشخص اذا سما في درجة القرب من الله سقطت عنه التكاليف والشرائع كلها من الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك وحلت له المحرمات كلها من الزنا والخمر وغير ذلك وهذا ما اسماه المتصوفة بـ(الاتحاد) وقالوا ان الانسان اذا ترك جميع ملذات الحياة من الاكل والشرب والجنس فان روحة تصبح روحا صافية وبذلك تتحد مع روح الله ويكون معه شيئا واحدا فتسقط عنه التكاليف ويعفى من جميع العقوبات في الدنيا والاخرة ولا يُسأل امام الله في يوم الحساب عن اعماله مهما ارتكب من موبقات ويدخل الجنة بدون حساب.

ناهيك عما جاء به ابن عربي بما اسماه (وحدة الوجود) التي تاثر بها بعض المتصوفة با الاضافة الى احد فلاسفة الغرب وهو (سبينوزا) الذي تبنى هذه المسألة وأيدها من خلال مؤلفاته.

***

غريب دوحي

في السرديات التاريخية، تحمل (الأصنام) دلالات رمزية متعددة ومعقدة، تختلف هذه الدلالات باختلاف الثقافات والسياقات التاريخية. غالبًا ما تُستخدم كتمثيل مادي للآلهة أو القوى الروحية التي يعبدها الناس. من خلال (الأصنام)، يمكن للمؤمنين بها التواصل مع هذه القوى الروحية وتقديم القرابين والصلوات ويمكن أن تكون رموزًا قوية للهوية الثقافية والدينية لمجموعة معينة من الناس، ويمكن أن تمثل التاريخ والمعتقدات والقيم المشتركة في بعض الحالات، كذلك يمكن أن تكون رموزًا للسلطة والقوة، سواء كانت سلطة دينية أو سياسية. تستخدم السلطات الحاكمة (الأصنام) لتعزيز شرعيتها وقوتها في بعض السرديات التاريخية، خاصة تلك التي تكتب من منظور ديني أو ثقافي مختلف، في سياقات اخرى يمكن أن ترمز الأصنام إلى الجهل والتخلف والانحراف عن الدين الصحيح وغالبًا ما ترتبط (الأصنام) بالوثنية، وهي ممارسة عبادة الأوثان وغيرها من الأشياء المادية. لذلك يمكن أن تكون الوثنية رمزًا للانحراف عن التوحيد أو الدين الصحيح بشكل عام. الدلالة الرمزية للأصنام معقدة ومتعددة الأوجه، وتعتمد على السياق الثقافي والتاريخي المحدد، بالإضافة إلى الدلالات التاريخية والدينية، يمكن أن تشير كلمة (أصنام) أيضًا إلى محددات العقل أو العوائق التي تقف في طريق استخدام التفكير النقدي وهذا مستوحى من الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون، الذي استخدم مصطلح (أصنام) العقل*.

(الاصنام) والتفكير النقدي

عندما نتحدث عن (الأصنام) في سياق التفكير النقدي، فإننا نشير إلى هذه المحددات العقلية التي تعيق قدرتنا على التفكير بشكل موضوعي وعقلاني. من محددات التفكير النقدي هو الميل إلى تفضيل وجهة نظر معينة على أخرى بناءً على العواطف أو التجارب الشخصية وقبول الأفكار والمعتقدات دون فحصها أو التفكير فيها بشكل نقدي نظرا الى الميل و التوافق مع آراء المجموعة، حتى لو كانت خاطئة ورفض قبول وجهات نظر مختلفة أو التفكير فيها، كذلك يمكن ان تلعب السلطة دورا هاما في الترويج الى قبول المعلومات أو الآراء لمجرد أنها قادمة من شخصية ذات سلطة. التغلب على هذه (الأصنام) في التفكير النقدي مهمة شاقة ومعقدة لان كثير من دوافعها ذات بنى عميقة في تاريخ الانسان التطوري، سنحتاج الى التعرف على التحيزات الشخصية وكيفية تأثيرها على التفكير، فحص السرديات والمعتقدات بشكل نقدي. كما ان طرح الأسئلة، والبحث عن الأدلة والانفتاح على وجهات نظر مختلفة، يمثل استعدادا لتغيير الرأي إذا كانت الأدلة تشير إلى ذلك، يتطلب هذا التفكير بشكل مستقل، الاستقلالية وعدم الاعتماد على آراء الآخرين دون تفكير يمثل الجزء الصعب من القضية، ان استخدام مصطلح (الأصنام) للإشارة إلى محددات العقل في التفكير النقدي هو استعارة قوية تذكرنا بأهمية التفكير بشكل وموضوعي لتجنب الوقوع في الأخطاء التي يمكن أن تعيق فهمنا للعالم.

التمييز بين التحيز والتفسير الموضوعي

لا توجد طريقة مضمونة تمامًا للتمييز بين التحيز والتفسير الموضوعي في السرديات التاريخية. مع ذلك، من خلال فحص المصادر، تحليل اللغة، البحث عن وجهات نظر بديلة، تقييم الحجج، والوعي بالتحيزات الشخصية، يمكننا أن نصبح أكثر وعيًا للسرديات التاريخية وأن نطور فهمًا أكثر دقة وتعقيدًا للماضي، ونتذكر أن التاريخ ليس مجموعة من الحقائق الثابتة، بل هو سلسلة من التفسيرات التي تتغير باستمرار مع ظهور أدلة جديدة، تتطلب تغير وجهات النظر في التعامل مع التحيز الضمني في السرديات التاريخية الذي يمثل تحديًا خاصًا لأنه غالبًا ما يكون غير واعٍ وغير مقصود. التحيز الضمني هو عبارة عن مواقف أو قوالب نمطية غير واعية تؤثر على فهمنا وأحكامنا وقراراتنا من خلال الاعتراف بأن التحيز الضمني موجود ويمكن أن يؤثر على الجميع، ان التعرف على الأنواع الشائعة من التحيزات الضمنية، مثل التحيز العرقي، والتحيز الجنسي، والتحيز الطبقي تستمر كمحددات للعقل في التأثير على تفكيرنا في العصر الحديث. على الرغم من التقدم العلمي والتكنولوجي يمكن ان يرجع هذا الى عدة أسباب بعض التحيزات متأصلة في الطبيعة البشرية نفسها اذ يميل الانسان إلى البحث عن أنماط لتأكيد معتقداته الموجودة، و تفضيل مجموعته الخاصة، هذه الميول كانت مفيدة في الماضي التطوري، لكنها يمكن أن تؤدي إلى أخطاء في التفكير في العصر الحالي، من المعروف ان التفكير النقدي يتطلب جهدا لكن من الأسهل قبول المعلومات التي تتوافق مع المعتقدات الحالية بدلاً من تحدي هذه المعتقدات كما اننا نحن نعيش في عصر وفرة المعلومات، مما يجعل من الصعب تقييم مصداقية المعلومات وتحديد ما هو صحيح وما هو خاطئ لكن مع زيادة التخصص في المعرفة، أصبح من الصعب على أي شخص أن يكون خبيرًا في كل شيء، هذا يجعلنا أكثر عرضة للاعتماد على آراء الخبراء، حتى لو كانوا متحيزين حيث سمحت لنا وسائل التواصل الاجتماعي بالاتصال بأشخاص يشبهوننا في التفكير.

غرف الصدى

هي بيئات معلوماتية حيث يواجه الأفراد بشكل أساسي آراء ومعتقدات تتوافق مع الآراء والمعتقدات الخاصة، مما يعزز هذه الآراء ويقلل من تعرضها لوجهات نظر مختلفة أو معارضة. هذا يمكن أن يؤدي إلى الاستقطاب، وتصلب الآراء، وصعوبة الفهم أو التعاطف مع وجهات نظر الآخرين، تجنب غرف الصدى يتطلب جهدًا واعيًا ومستمرًا من خلال تنويع مصادر المعلومات، والتحقق منها، والتفاعل مع الآخرين، لغرض توسيع آفاق الفهم .غالبًا ما تجذب المؤسسات الدينية أشخاصًا يشتركون في نفس المعتقدات والقيم، يساعد في خلق (غرفة صدى )حيث يتم تعزيز هذه المعتقدات والقيم بشكل مستمر، بينما يتم تجاهل أو انتقاد وجهات النظر الأخرى، تلعب (غرف الصدى) دورًا معقدًا وحاسمًا في تشكيل الذاكرة الجماعية، تعمل على تضخيم الروايات والأفكار السائدة بالفعل في المجتمع. عندما يسمع الأفراد نفس الرسائل مرارًا وتكرارًا من مصادر متعددة داخل الغرفة، فإنهم يميلون إلى الاعتقاد بصحتها وتقويتها في ذاكرتهم من خلال تكرار نفس المعلومات، تقلل (غرف الصدى) من الشك أو التساؤل حول صحة هذه المعلومات، يؤدي هذا إلى ترسيخها كجزء لا يتجزأ من الذاكرة الجماعية، تقوم (غرف الصدى) بفلترة المعلومات التي لا تتوافق مع الروايات المهيمنة، هذا يعني أن الأصوات والقصص البديلة أو المعارضة يتم استبعادها وتهميشها، مما يمنعها من الوصول إلى الذاكرة الجماعية، من خلال تضخيم الروايات المهيمنة وتهميش الروايات البديلة، تساهم (غرف الصدى) في خلق الانقسام والاستقطاب في المجتمع. هذا يمكن أن يؤدي إلى صراعات وتوترات اجتماعية، وتساعد على تعزيز الانتماء إلى مجموعة معينة من خلال مشاركة نفس الروايات والقيم. ويعزز شعورًا بالهوية الجماعية المنحازة والمشتركة، في الوقت نفسه، تساعد على تحديد (الآخر) من خلال استبعاد وتهميش الروايات البديلة، من خلال تضخيم الروايات المهيمنة، يمكن (لغرف الصدى) أن تمنع المراجعة النقدية للتاريخ. هذا يؤدي إلى تجميد التاريخ في شكل معين، مما يمنع المجتمع من التعلم من أخطائه. في بعض الحالات، يمكن (لغرف الصدى) أن تشوه الحقائق التاريخية من خلال تضخيم بعض الأحداث وتجاهل أخرى. هذا يمكن أن يؤدي إلى فهم خاطئ للماضي باختصار، تلعب (غرف الصدى) دورًا حاسمًا في تشكيل الذاكرة الجماعية من خلال تضخيم الروايات المهيمنة، وتهميش الروايات البديلة، وتشكيل الهوية الجماعية، وتجميد التاريخ، فهم هذه الآليات أمر ضروري لفهم كيف تتشكل المجتمعات وكيف تتذكر ماضيها يمكن ربط رمزية ودراسة الماضي وتأثيره على الحاضر، اذ تمثل الأصنام الماضي، وغرف الصدى تمثل كيف يتردد هذا الماضي في الحاضر ويمكن ربط الرمزيتين من خلال فكرة من التغيير الى الثبات. تدمير الأصنام يمثل التغيير، بينما غرف الصدى تمثل الثبات والتمسك بالماضي.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

.........................

أصنام بيكون الأربعة

- أصنام القبيلة (Idols of the Tribe)

- أصنام الكهف (Idols of the Cave)

- أصنام السوق (Idols of the Marketplace)

- أصنام المسرح (Idols of the Theatre)

ذات يوم استيقظت مدينة هاملن الألمانية على غزو للفئران بأعداد مهولة. دب الخوف والفزع في السكان، وحاولوا بكل الوسائل أن يقضوا عليها، لكن جميع محاولاتهم باءت بالفشل، فقرر أغلبهم أن يتركوا البلدة ويهاجروا إلى مدن أخرى. وفي مسعى أخير لإنقاذ المدينة أعلن رئيس بلديتها عن مكافأة قدرها 10 آلاف قطعة ذهبية لمن يُخلص الناس من هذه الآفة. وبعد أيام قليلة حضر للبلدة عازف ناي بملابس المهرجين، وادعى أنه قادر على إنقاذ البلدة. سخر منه الناس في البداية، ثم أصابتهم الدهشة حين رأوا الفئران تخرج من كل مكان على وقع ألحانه السحرية وتجتمع حوله، ثم سار بها إلى نهر كبير خارج البلدة لتغرق عن آخرها.

طبعا فرح السكان بالتخلص من هذه الكارثة، لكن لما طالبهم عازف الناي بمكافأته رفضوا أن يُعطوه شيئا، فقرر أن ينتقم؛ وبينما كانوا مجتمعين في دار العبادة صباح اليوم التالي لإقامة حفل ديني، وقف عند بوابة المدينة، وأخرج نايه ليعزف ألحانا سحرية، كان لها أثر عجيب على أطفال البلدة الذين تبعوه إلى قلب مغارة كبيرة، حيث اختفى الجميع للأبد، وعاشت البلدة مأساة كبيرة.

 لا يحتاج الإنسان اليوم أن يعزف على ناي سحري. يكفي أن يكون مشهورا حتى يتبعه آلاف المعجبين والمعجبات، يحاكون كلامه وحركاته، ويقلدون تسريحة شعره، ويتابعون أخبار زواجه وطلاقه، متوهمين أن أسلوب حياته هو مصدر للسعادة. إن صورة الفئران وهي تغرق بفعل الناي السحري مؤلمة حقا حين تتحول إلى نموذج لما يجري في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي باتت تغمر الناس بصورهم وأخبارهم، بعد أن انتقل دورهم من صناعة الإعلان والترويج للمنتجات إلى صناعة نمط حياة وأفكار، والاستحواذ على درجة عالية من وعي المشاهد وانتباهه، والتأثير على مواقفه وقراراته.  

كانت الممثلة البريطانية Lilie langtry أول شخصية مشهورة تخوض تجربة الإعلانات، حين ظهرت على ملصق إعلان لصابون Pears سنة 1893. ومنذ ذلك التاريخ صارت الشركات تنفق مليارات الدولارات سنويا على المشاهير في الإعلانات، وتستغل مصداقيتهم لدى الجمهور لإقناعه باستهلاك منتج، أوالانحياز لعلامة تجارية في مقابل أخرى. وصارت مداخيل النجوم من الإعلانات أضخم من أية جائزة يربحونها أو تظاهرة يشاركون فيها؛ فلو أخذنا مثلا لاعب الغولف الأمريكي الشهير تايغر وودز.. فقد حصل مقابل فوزه بثلاث بطولات دولية على مليون دولار، لكنه أبرم عام 2000 عقدا مع شركة نايك لمدة خمس سنوات مقابل 125 مليون دولار.

وحتى يؤثر المشاهير في متابعيهم، ويحفزوا رغبتهم في شراء المُنتج، لابد أن يتمتعوا بمصداقية تعتمد على الجاذبية والثقة والخبرة، ويكونوا أصحاب موهبة في مجالهم. لكن مع السوشيال ميديا صارت الشهرة أن تعرض ذاتك، وتحول جزءا من حياتك إلى سلعة يستهلكها المتابعون، مقابل زيادة نسب المشاهدة، وتحقيق أهداف إعلانية وتسويقية.

هؤلاء المؤثرون الجدد يضعون اليوم مقاييس جديدة للعلاقات العامة. ونظرا لسهولة وصول الناس إليهم وقربهم منهم، عكس مشاهير الفن والرياضة، فإن جاذبيتهم ترتفع، وتعزز الشعبية ميلهم إلى بناء صورة مثالية لا تعكس الواقع؛ الشيء الذي يؤثر سلبا على نظرة الإنسان لذاته وثقته بنفسه. ويسود القلق من تأثيرهم حين يتجاوز دورهم الترويج للإعلانات إلى بث حياتهم الوهمية وتصوراتهم عن العلاقات الإنسانية.

"زواج المشاهير لعنة" هكذا عبّرت زوجة فنان مصري بعد أن طلبت الطلاق منه، وسبب هذه اللعنة أن عليها أن تظهر مثالية طوال الوقت لتحافظ على صورة زوجها. وأكدت في رد على أسئلة متابعيها أن الحياة الزوجية عشرة وتفاهم، وليست مجرد صور تنشر على الانترنيت.

وفي استبيان أجرته يومية "الوطن"، رفض 69% من المشاركين فكرة الزواج من أحد مشاهير السوشيال ميديا. وتراوحت الأسباب بين الغيرة وانتهاك الخصوصية، وصعوبة التقيد بمعايير تفرضها الشهرة.

من خلال حياة وهمية منشورة على حساباتهم، وسعادة مفبركة تفضحها أخبار الطلاق والمشاكل القضائية، يُلحق المشاهير ضررا بالعلاقات الاجتماعية، ويؤثرون على مفاهيم الحياة الزوجية والاستقرار، ومواصفات الارتباط العاطفي بين الشريكين، خاصة حين يتم التفاعل مع المتابعين باعتبارهم طرفا ثالثا في العلاقة، ومنحهم الشعور بأنهم عائلة ثانية.

النقطة الثانية هي تأثيرهم على الذوق العام، وتوجيه اختيارات المتابعين نحو أسلوب معين في طريقة العيش، دون مراعاة الأضرار النفسية والاجتماعية. مثلا قام متجر Lord&  Taylor باختيار 50 مؤثرا على السوشيال ميديا لارتداء فستان من تصميم المتجر وعرض الصور على متابعيهم. وفي نفس اليوم تم اختفاء جميع القطع المعروضة من الأسواق.

كيف يكون لهؤلاء المشاهير تأثير على الحياة الزوجية، وعلى أفكار وتصورات المقبلين على اختيار شريك للحياة؟

يقع أغلب مشاهير السوشيال ميديا فيما يسميه عالم الاجتماع إرفينغ غوفمان بعرض الذات أمام الجماهير؛ حيث يقوم الشخص بتصدير صورته حين يكون في حضور الآخرين تماما كما يحدث على خشبة المسرح، بالشكل الذي يتوافق مع مصلحته الذاتية. وهو ما يتحقق تماما مع الاهتمام بالمظاهر على حساب الحياة الواقعية. فالزوج قد يترك زوجته المريضة في فراشها بلا اهتمام، لكنها حين تتعافى وتفتح حسابها على فيسبوك، ترى منشورا لزوجها يقول: سلامتك يا حبيبة القلب. هنا يصبح الحب العلني بديلا للحب الواقعي والمواساة التي يُعبر عنها الزوج بالبقاء إلى جانبها، أو إعداد كوب ليمون.

المشكلة الثانية التي يتسبب بها المشاهير تتعلق بمفهوم السعادة الزوجية. فأمام سحر السوشيال ميديا تصبح صورنا ونحن نضحك أهم من السعادة الحقيقية والسلام النفسي. تقول الإعلامية رانيا بدوي. وإذا كانت هناك صور حقيقية فهي ضئيلة، بينما يعكس الباقي حالة هروب من واقع مؤلم، ونادت بأن يهتم الفرد بتطوير علاقته بشريك حياته وبعائلته، وبعدها يلتقط ما يشاء من صور. وقتها ستكون صورا حقيقية.

والمشكلة الثالثة التي يُرسخونها بتصرفاتهم هي انتهاك الخصوصية، حيث يتساهل الشباب في نقل مجريات حياتهم الشخصية على صفحات العالم الافتراضي، فيُحطمون بذلك شعور الأمان الذي تدور حوله مجمل علاقاتنا الإنسانية.

معظم البيوت اليوم فقدت خصوصيتها، وصارت وجبة الطعام مخصصة للانستغرام، والملابس لإثارة المعجبين؛ بل حتى الخلافات الزوجية صارت تنقل على المباشر ليستمتع بالتطفل عليها كل من هب ودب. يتساءل ريموند واكس في كتابه (الخصوصية): أليست الخصوصية في الأساس اهتماما بحماية المعلومات الحساسة؟ وعندما نتألم لضياعها، ألسنا نحزن لفقدان السيطرة على حقائق شخصية بشأن أنفسنا؟ إن جوهر هذه السيطرة هو الممارسة الصريحة للاستقلال فيما يتعلق بتفاصيل حياتنا الشخصية، سواء تلك التي يتطفل عليها الآخرون، أو التي تُنشر على الملأ دون مبرر.

أما المشكلة الأخيرة التي يعززها مشاهير السوشيال ميديا ولو بشكل غير مباشر، فهي زيادة انشغال الأزواج بالهاتف، واندماجهم المفرط في العالم الافتراضي. وينتج عن ذلك أضرار تلحق العلاقة الزوجية، منها غياب الحوار، وتبلّد المشاعر، وإهمال الشريك مما يتحول إلى قتل معنوي للحياة المشتركة، ثم الطلاق العاطفي بحيث يصير لكل طرف عالمه الخاص، وتنهار العلاقة الحميمة بين الزوجين.

 قائمة طويلة من الدراسات حول تأثيرات السوشيال ميديا تؤكد جميعها على أن ما يفعله بنا المشاهير ينطبق عليه المثل القائل: "كثرة الظهور تكسر الظهور"؛ والسؤال الذي يفرض نفسه في الأخير هو: كيف نحمي علاقتنا الزوجية من تأثير المشاهير؟

ما هي الوصفة التي تساعد على تحديد المسافة بين حياتنا الخاصة وحاجتنا للتفاعل مع منصات السوشيال ميديا؟

لدينا جميعا حاجات عاطفية لإشباعها: الحاجة للشعور بالأمان، والشعور بالحب، والشعور بالانتماء. ولكي نحققها يجب أن نبحث عن الرضا في تفاعلنا الإنساني الحقيقي مع شريك الحياة.

نبدأ أولا بتوسيع الاهتمام، ونبحث عن أشياء جديدة نعملها أو أشخاص نقابلهم، أو نستغل الانترنيت في استكشاف مواضيع جديدة. ولا بأس أن نخبر شريك الحياة أو العائلة بأننا نحاول القيام بشيء جديد، فربما يعطينا الآخرون اقتراحا لم يخطر على البال.

ثانيا: نبحث عن التوازن في حياتنا بأن نحدد المدة التي نقضيها على مواقع التواصل الاجتماعي، ونُبعد الأجهزة التي تُذكرنا بها؛ فهذا يقلل من الأفكار والمشاعر المرتبطة بها، ويساعد على خلق مسار جديد.

ثالثا: ننضم لمجموعات عمل أو تطوع، فهذه أفضل وسيلة للتخلص من القلق الذي ينتابنا حين نبحث عن التغيير، ومن المعروف أن مساعدة الآخرين تحقق شعورا جيدا.

وأخيرا استمتع بحياتك بدل أن تشاهد أشخاصا يفعلون ذلك؛ فالحياة لا تُعاش إلا مرة واحدة. وابتعد عن السوشيال ميديا فهذا الأمر يعزز الاستقرار النفسي، ويُخلص من الصفات السيئة وعلى رأسها الحسد والحقد. هذا ما توصل إليه بحث أجرته جامعة كوبنهاجن على متطوعين قضوا أسبوعا بدون سوشيال ميديا.

في الثامن من ديسمبر سنة 1980 أطلق مارك شابمان خمس رصاصات على جون لينون، أحد أعضاء الفرقة الغنائية الشهيرة "البيتلز" أمام شقته، ثم جلس بهدوء قرب الجثة حتى وصول الشرطة. وحين سُئل لماذا فعل ذلك، كان رده: لأنه مشهور جدا!

إنها ضريبة الشهرة التي يدفعها النجوم بسبب تأثيرهم، كما يدفعها المعجبون من وقتهم وحياتهم.

يدفعنا مشاهير السوشيال ميديا إلى الاستغراق بعيدا عن حياتنا الواقعية، ويبثون رسائل مزيفة عن السعادة وتقدير الذات، ليتحول كل منا إلى ألونسو كيخانو، بطل رواية دون كيشوت الذي فقد عقله من قلة النوم والطعام والقراءة المفرطة لقصص الفرسان، فخرج من بيته ليحارب طواحين الهواء، معتقدا أنها وحوش تهاجم الفلاحين فيحاربها ويهزمها في خياله؛ بينما العالم من حوله يحترق، والامبراطوريات تسقط، وحبيبته تموت.

***

حميد بن خيبش

نحن نعيش اليوم في عالم معاصر يُجسّد التعدّدية، لكن دون أي عمق نقدي أو تحليل اختياري. وهذا بالتحديد ما يُثير قلقا فلسفيا جديدا: سهولة الوصول إلى المعلومات تُضعف قدراتنا الإدراكية على الإبداع والتفكير. وهذا ما كان ليُزعج كانط لو عاش في عصرنا الحالي.

فربما كان ليغضب بسبب سرعة التغيّرات عكس أسلوبه النقدي المتأني الذي يأخذ كامل وقته للتمحيص في فكرة كيفما كانت، وعند عدم توفّر الشروط والسياق اللذين يسمحان له بتطوير أحكامه يخلق مجالا خاصا به ويعاود الكرة حتى يصل مبتغاه. لقد عاش في كونيغسبرغ في القرن الثامن عشر، مع التكنولوجيا المتاحة آنذاك والتشكيك العلمي الناتج عنها هذه العناصر كانت كافية بحيث مكنته من الوصول إلى استنتاجات واضحة ومتقدمة أصبحت أساسًا لتحليل حالتنا الإنسانية.

يمرّ الزمن ولا تكاد السرديات ترتكز على نقطة ثابتة. إنها تتجدّد باستمرار، لكن هذا يتوقّف دائمًا على الطريقة التي نتناولها بها. من الضروري تجنّب التفكير اللحظي والسريع، داخل السياق أو خارجه. إن القدرة على الرؤية من وراء الحجاب بتمعن دقيق امتياز جعل كانط ينفرد لوحده بمشعل الإبيستمولوجيا في قرن روسو وفولتير وقرن الفلسفة السياسية بامتياز، ولكن رؤية الأمور بشكل واضح جدًا أمامنا دون الحاجة لرفع ستار العقل، جاهزة للاستهلاك، مطبوخة سلفًا، تُعدّ لعنة قد يمقتها كانط وكل الفلاسفة.

يتخيل جيل دولوز أن جميع التيارات الفلسفية قبل كانط تعرضت لصفعة من هذا الألماني، فكل تيار فلسفي يجلس على كرسيه، في انتظار أن يُحكم عليه بناءً على ما فعله، وما استنتجه، وما نقله من مفاهيم، لعل ذلك ما ميز كانط عن تاريخ الفلسفة كله، مساءلة العقل الفلسفي وليس التفلسف في ذاته فقط.

إن مقولات الفهم عند كانط، رغم أنها تفرض إطارًا منظّمًا للتفكير، تهدف قبل كل شيء إلى تنظيم معرفتنا بالعالم وتقييد ما ينتمي إلى الخيال، باعتباره ميتافيزيقي أو غير واقعي. هذه المقولات هي أدوات ضرورية للفكر الإنساني من أجل فهم العالم كظاهرة، لكنها تعمل في الوقت ذاته كأدوات تحدّ من المعرفة، إذ تحدد ما يمكن معرفته وكيفية معرفته. بهذا المعنى، حتى العقل، وهو الأداة الأساسية للذهن البشري، يحتاج إلى إطار ليعمل ضمنه. وهذا الإطار يصبح كأنه مشهد أو خلفية تتشكل فيها أوعية تضم قابلية لحمل الفكرة

وهكذا، فإن كل اختيار أو فكرة أو رغبة نقوم بها، تصبح مرتبطة مباشرة بهذه المقولات، أو بمزيج منها، في تدفّق ديناميكي يتغيّر ويتداخل باستمرار. هذا المسار يُفضي إلى نتيجة دقيقة: فكر يخرج من الذات ليُصبح جزءًا من الوعي الجمعي. وهذه العملية مُدهشة، رغم أنها جامدة وغالبًا ما تبقى أسيرة البُنى المسبقة. يبدو أنها تفتقر إلى تحرّر فعلي من تلك المقولات، خاصة عند أخذ البُنى الاجتماعية المُسبقة في الحسبان، والتي تؤثر بحد ذاتها في تطور هذه المقولات داخل الوعي البشري وتُعيد تعريفها. فالأدوار الاجتماعية، مثلًا، قادرة على إعادة تشكيلها، بل وربما تغييرها مع مرور الزمن.

لكن، بحسب كانط، تبقى هذه المقولات ثابتة وغير قابلة للتغيير. فهي تشكّل بنية العقل البشري نفسه، وتُعدّ، من وجهة نظره، شروطًا ضرورية لكل تجربة ممكنة. وتغييرها يعني التلاعب بجوهر الفكر البشري، وهو ما اعتبره كانط أمرًا مستحيلًا من الأساس.

***

حبيب مرگة

مقتطف مترجم من كتاب القادم بعنوان محاولة في فهم تطور الوعي البشري

 

سؤالُ يصعب علينا تجاوزه واجتيازه

حول قضايا الإيمان والإلحاد كتب أحمد زكي أبو شادي كتاب (لماذا أنا مؤمن)، وكتب إسماعيل أدهم كتاب (لماذا أنا ملحد)، وكتب محمد فريد وجدي مقال (لماذا هو ملحد)، وكتب عبد المتعال الصعيدي كتاب (لماذا أنا مسلم)، وكتب عبد الرحمن العيسوي كتاب (لماذا أنا مسلم).

وحول قضايا السياسة والاجتماع والإسلام كتب عبد المتعال الصعيدي كتاب (من أين نبدأ)، وكتب خالد محمد خالد كتاب (من هنا نبدأ)، وكتب محمد فريد وجدي كتاب (ليس من هنا نبدأ)، وكتب محمد الغزالي كتاب (من هنا نعلم) وكتاب (الطريق من هنا)، وكتب سيد قطب كتاب (معالم في الطريق)، وكتب علي ابن نايف كتاب (هذا هو الطريق)، وكتب أبو مصعب مجدي كتاب (أختاه.. أين تذهبين؟ هذا هو الطريق)، وكتب أحمد مصطفى راغب كتاب (الطريق هو الطريق).

ونخلص من ذلك كله إلى أن السؤال الفلسفي كان بمثابة حجر الزاوية الذي يربط بين العصف الذهني والتساجل من ناحية، وحرية الفكر والنقد والتناظر من ناحية أخرى، وذلك لإيجاد أصوب الحلول وأقرب الرؤى والتصورات للتطبيق والعمل على حل المشكلات والقضايا كما أشرنا فيما سبق، الأمر الذي يُثبت أصالة السؤال الفلسفي في بنية التفلسف منذ نشأته.

 (5) عودُ على بدء، حيث السؤال الفلسفي الذي عنونا به هذا المقال وبيّنا أنه من العسير تجاوزه أو اجتيازه، وكررنا عبارة (الخطب جلل) وذلك للتفسير والتبرير.

فنحن اليوم أمام قضية وجودية مفادها: نكون أو لا نكون، وقد آن الأوان لمصارحة أنفسنا بالضعف والوهن والتردي الذي آلت إليه مُجتمعاتُنا، بداية من هُويتنا الضبابية، وانحطاط قيمنا الأخلاقية، وهشاشة عقائدنا، وتفكك وحدتنا، وفساد أحوالنا الاجتماعية والسياسية، وبرامجنا التعليمية، وباتت ثرواتنا وأراضينا وأوطاننا لقمة سائغة أمام الطامعين من الأغيار الذين استهانوا بقوميتنا الغائبة، وهويتنا الزائفة، فبتنا حيارى تتقاذفنا أهواء بعضنا، وتخدعنا الأنانية، ومؤامرات الأغيار، وخيانات المؤجّرين، وأوهام الحالمين.

وبات حال معظمنا قريب الشبه من حديث عبد الرحمن بن خلدون في وصفه للأمم المحتضرة التي أوشكت على الموت والفناء، فجاء في مقدمته إذ يقول: "إذا فسد الإنسان في قدرته على الأخلاق، فسد في جميع شؤونه، وإذا فسدت الدولة في سياستها، فسد الناس في معاشهم وأخلاقهم، وانحدروا إلى حضيض الجهل والذل والمهانة".

وفي موضع آخر يقول: "إن المغلوب مولع أبدًا بتقليد الغالب، في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده".

وهذا النص يشير إلى أن فساد المجتمعات لا يكون فقط داخليًا، بل أيضًا حين تفقد الأمة هويتها وتُقلّد غيرها من دون وعي أو حكمة.

كما يُحذّر ابن خلدون من أن الترف والركون إلى الراحة يؤديّان إلى زوال الثقافات، وذلك في قوله: "إذا بلغ الترف بالناس مبلغه، أفسد أخلاقهم، وأوهن عزائمهم، وجعلهم عالة على غيرهم، فتنهار الدولة وتضمحل الحضارة".

إنّ الأمة إذا غُلِبَت وصارت في مُلك غيرها أسرع إليها الفناء، والسبب في ذلك - والله أعلم - ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا مُلِك أمرها وصارت بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليهم، فيقصر الأمل ويضعف التناسل، والاعتمار إنما هو عن جِدة الأمل وما يحدث عنه من النشاط في القوى الحيوانية، فإذا ذهب الأمل بالتكاسل، وذهب ما يدعو إليه من الأحوال، وكانت العصبية ذاهبة بالغلب الحاصل عليهم، تناقص عمرانهم، وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم، وعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم بما خَضَدَ الغلبُ من شوكتهم، فأصبحوا مغلوبين لكل متغلب، وطُعمةً لكل آكل، سواء أكانوا قد حصلوا على غايتهم من الملك أم لم يحصلوا.

وفي هذا السياق يقول الإمام الحافظ أبو يوسف ابن عبد البر القرطبي: (أعجب لهذا الزمان، النساء ترجلت، والرجال تأنثوا، والأخلاق فسدت، والصلاة تُركت، وطاعة الله نُسيت، ولحظة الموت اقتربت، وعلامات الساعة ظهرت، والمساجد أُخليت، والملاعب مُلئت، ودُول الإسلام تفرقت، والأمانة فُقدت، والفتن انتشرت، والحرب ازدادت، والقيم أُهملت، والمبادئ نُسيت، والعلاقات تشتت، والمساوق كثرت، والحياة أصبحت كألغاز لا يُدرى مآلها).

وبين فحيح الأفاعي وأشباح الموت، آنَ لنا أن نستمع لنحيب عقولنا، يهمس بسؤالٍ عجز اللسان عن النطق بالمسكوت عنه فيه: (من ذا الذي يسأل عن البداية وهو يجهل مقصد الطريق وعلامات النهاية، وفاته أن يسأل: كيف؟ متى؟ لماذا؟ وأين الجماعة؟)

وإذا أردت الجواب، عُد من حيث كنت، وكان كتابك وقلمك، لتعي وتعلم أن جواب السؤال عندك، فابحث عنه في داخلك!!

 فعمد رواد النهضة العربية الحديثة إلى تجديد أسلوب الخطابة، وتحديث فن المقامة، وتطويع المسرح والقصة والرواية لخدمة مقاصدهم التنويرية؛ ذلك فضلًا عن تنظيمهم المجالس الأدبية، والحلقات العلميّة، والمساجلات الفكريّة، لتعينهم على تخطيط مشروع النهضة، وانتخاب آلياته، وتوعية الرأي العام، وإيقاظ العقل الجمعي للتنفيذ والتطبيق.

وكان السؤال الفلسفي هو نقطة الانطلاق المركزيّة في جل هذه الأعمال، بدايةً من الاعتماد على الحوار الفلسفي في المدارس والمعاهد التعليمية، ومنابر التثقيف، وصحافة الرأي، وتحرير المقالات والأبحاث، ومعظم المصنفات الأدبية والسياسية والاجتماعية، ناهيك عن الكتب التي حملت عناوينها هذا المنحى التحريضي على النقد والعصف الذهني والتفكير الفلسفي، نذكر منها:

كتاب "لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟" لشكيب أرسلان، وكتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" لأبي الحسن الندوي، وكتاب "أسئلة التنوير والعقلانية في الفكر العربي المعاصر" ليوسف بن عدي.

والجدير بالإشارة في هذا السياق، الحديث عن الاستفتاءات الصحفية التي انتحلت الخطاب الفلسفي لطرح القضايا والمشكلات على النخب الواعية من قادة الرأي لإيجاد الحل والاسترشاد بآرائهم وتوجهاتهم لمعالجة القضايا الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، لترقية الرأي العام، ونقد الفاسد من عاداته وسلوكياته، وتوحيد الرؤى والتصورات للتصدي لمزاعم الأغيار وطعونهم، والحملات التغريبية التي ترمي إلى هدم المشخصات وثوابت الهويّة.

ولعل مجلة الهلال، والمقتطف، والرسالة، والثقافة؛ من أهم الدوريات التي اضطلعت بهذه الرسالة.

ومن أهم القضايا التي تناولتها النهضة الشرقية الحديثة، كان السؤال عن موقف نهضة الشرق العربي وموقفه بإزاء المدنية الغربية، وذلك في عام (1922م)، وقد شارك في هذا الاستفتاء: مخائيل نعيمة، سلامة موسى، محمد لطفي جمعة، طه حسين، وغيرهم...

واستفتاء الهلال أيضًا عن مستقبل اللغة العربية، واستفتاء عن المرأة الشرقية: ماذا يحسن أن تستبقي من أخلاقها التقليدية، وماذا يحسن أن تقتبس من شقيقتها الغربية.

واستفتاء المقتطف عن موقف الفكر العربي من البرامج التعليمية الغربية الحديثة عام (1936م).

ولا يفوتنا ذكر أهم الكتب التي أثارت أخطر القضايا العقدية والسياسية في العصر الحديث، نذكر منها: مقال "لماذا أنا ملحد؟" لإسماعيل أدهم؛ ذلك المقال الذي تبعه عشرات الردود الفلسفية الواعية لأكابر المفكرين العرب. نذكر منهم: مقال "لماذا أنا مؤمن؟" لأحمد زكي أبو شادي، مقال "لماذا هو مؤمن؟" لمحمد فريد وجدي، كتاب "لماذا أنا مسلم؟" لعبد المتعال الصعيدي، وكتاب "لماذا أنا مسلم؟" لعبد الرحمن العيسوي.

ومن أهم القضايا السياسية: كتاب "من أين نبدأ؟" لعبد المتعال الصعيدي، وذلك ردًا على كتاب "من هنا نبدأ" لخالد محمد خالد، مقال "ليس من هنا نبدأ" لمحمد فريد وجدي، كتاب "الطريق من هنا" وكتاب "من هنا نعلم" لمحمد الغزالي، وكتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب.

ولا ريب بأن هذه الكتابات التي استشهدنا بها تؤكد أهمية السؤال الفلسفي في النهضة العربية الحديثة، ورسالة التجديد التي يعمل على إحيائها المعهد الذي ننتمي إليه في هذه الأمسية الرمضانية.

أجل، إن سؤال اليوم لا يختلف عن ما طالما رددناه في العقود الستة الأخيرة التي تعيشها أمتنا من أزمات وكآبات وانكسارات وإخفاقات. فعلينا أن نعيد السؤال: "من أين نبدأ؟" فكل الاختيارات لا يميز بعضها عن بعض سوى ترتيب مكانتها في درك الهزيمة والانكسار والركود والانحطاط واليأس.

علينا الاختيار بينها ما دمنا في وهن وحيرة وعماء وجهل، وما زلنا نسأل: "من أين الطريق؟".

الأول هو: طريق صاعد لا يخلو من المخاطر والمعوقات، وهو طريق أرنولد توينبي، وهو طريق التحدي والاستجابة (لإزالة المعوقات وتهيئة الرأي العام لحمل مسؤولية اتخاذ القرار). فقد حان الوقت لتصبح الشعوب العربية هي سيدة القرار، وتبيت أمتنا هي التي تملي على قياداتها رغبتها للطاعة، وعمل ما يلزم للتنفيذ.

غير أن ما يمنعنا من السير فيه إلا عجزنا وعجزنا وغياب آليات المجاهدة والصعود، فليس لدينا شجاعة التحدي، ولا نبل وإخلاص الاستجابة، ولا حسم القائد، ولا إرادة اتخاذ القرار الموحد.

أما الطريق الثاني فهو: طريق منحدر يؤدي إلى الفناء والهلكة والمذلة، وهو سبيل الراقدين الذين استملحوا الذل والمهانة.

وهذا عسير أيضًا، لأن عظام أسلافنا وما تبقى من أصولنا تأبى السير فيه وترفضه بعين الحسرة والمذلة والأسف على جيل الأسافل الذين راق لهم اليوم الرقص والغناء على أنقاض دورهم، وسكتوا على سفك دماء نسائهم وأطفالهم.

والطريق الثالث هو: طريق الخيانة والأنانية والشتات الذي استلهمه رواده من فلسفة مكيافيلي وأصحاب الفلسفات المادية النفعية حيث الجموح والشتات، وهو أيضًا عصي على عوام شعوبنا التي ما زالت تحلم بالخلاص على يد المهدي المنتظر، وتطلب الخلاص من الله ليزول الغمة، ويرتفع النقمة، ويقتص من الظالمين.

أما الطريق الرابع والأخير، فهو: درب اللاعودة الذي تحدث عنه ابن خلدون في وصفه لاندحار الثقافات وانكسارها، وموت الحضارات وفنائها قبيل اندثارها وتلاشيها من الوجود، أعني تلك الحالة التي نعيشها الآن.

فهل في إمكانكم وأنتم عقول تلك الأمة المنكوبة الإجابة عن سؤالي: "من أين نبدأ؟".

(وليس للحديث بقيّة)

***

بقلم: د. عصمت نصار

بين التحولات الثقافية والعدوى الاجتماعية

 شهد المجتمع السعودي في السنوات الأخيرة تحولات ثقافية واجتماعية جذرية انعكست بشكل مباشر على حياة المرأة، وأثرت على العلاقات الأسرية، وخاصة العلاقات الزوجية. ومن أبرز الظواهر التي انتشرت ظاهرة طلب النساء كبيرات السن للطلاق أو الخلع رغبة في الاستقلال بحياتهن بعد سنوات من الصبر والتضحيات.

تُعرف هذه الظاهرة ب" الاستقلالية المتأخرة"، وهي ليست مجرد حالة فردية، إنما تعبر عن رغبة النساء في استعادة السيطرة على حياتهن الشخصية، وتحقيق ذاتها. في هذا المقال سنتناول هذه الظاهرة من زوايا مختلفة، لمحاولة فهم ما إذا كانت هذه الظاهرة تشوّه نفسي أم فجوة ثقافية.

أولًا: دوافع الاستقلالية المتأخرة

1-  الوعي المتزايد بحقوق المرأة

مع الانفتاح الثقافي والاقتصادي الذي شهدته المملكة، أصبحت المرأة أكثر وعيًا بحقوقها القانونية والاجتماعية، هذا الوعي دفع كثيرًا من النساء إلى إعادة النظر في حياتهن الزوجية، خاصة إذا كانت مليئة بالتحديات أو العلاقات السامة.

2-  التحولات في دور المرأة

في الماضي، كان دور المرأة محصورًا في المنزل، تعتمد اعتمادًا كليًا على الرجل اقتصاديًا واجتماعيًا، ومع دخول المرأة سوق العمل وتحقيقها قدرًا من الاستقلال المالي، أصبحت قادرة على اتخاذ قرارات أكثر جرأة، بما في ذلك طلب الطلاق أو الخلع.

3- الرغبة في تحقيق الذات

مع تقدم العمر، تشعر بعض النساء أنهن قضين سنوات طويلة من التضحية من أجل الأسرة، وغالبًا ما تنتهي أدوارهن كأمهات ومربيات مع استقلال الأبناء، تدفعهن هذه المرحلة إلى التفكير في احتياجاتهن الشخصية، والبحث عن حياة تتسم بالهدوء النفسي والكرامة.

ثانيًا:

الخلع كظاهرة اجتماعية يمثل نمطًا من أنماط السلوك الذي أصبح شائعًا في المجتمع السعودي نتيجة للتحولات الهيكلية والثقافية، وهي ليست قرارًا فرديًا، بل ممارسة تحمل بُعدًا اجتماعيًا، يتأثر الفرد بالسياق الثقافي العام وبالتجارب المحيطة. وسواء كانت ثابتة أو متغيرة تمارس تأثيرًا ملحوظًا على الأفراد، وهو ما يبدو جليًا في حالة الخلع. حيث أصبح من المقبول اجتماعيًا أن تتخذ المرأة قرارًا كان في السابق يُعتبر جريئًا أو مرفوضًا.

ثالثًا: التحليل الاجتماعي لظاهرة الخلع

بحسب نظرية عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم تُعد ظاهرة الخلع من القضايا الاجتماعية اللافتة التي يمكن تفسيرها في سياق التحولات الثقافية والاقتصادية التي يشهدها المجتمع. تعد هذه الظاهرة انعكاسًا لتغيرات جوهرية في البنية الاجتماعية، وتبدل الأدوار التقليدية، حيث لم تعُد المرأة خاضعة تمامًا للقيود المجتمعية التي كانت تحد من قدرتها على تحقيق استقلالها واتخاذ قرارات جريئة. فعرّف الظاهرة الاجتماعية بأنها:" أنماط سلوكية أو ممارسات تنتشر بين أفراد المجتمع نتيجة تأثير المجتمع ذاته." وأشار دوركايم إلى أن الظاهرة تمتاز بطابعها القهري، إذ تمارس ضغطًا قويًا على الأفراد وتجبرهم بشكل غير مباشر على التفاعل معها أو التكيف مع تأثيراتها باعتبارها قوى مجتمعية تعيد تشكيل السلوكيات والبُنى الاجتماعية. بناء على ذلك يمكن اعتبار ظاهرة الخلع شكلًا من أشكال العدوى المجتمعية التي يؤدي التفاعل الاجتماعي إلى انتشارها. خاصة عندما ترى النساء نماذج لنساء أخريات اتخذن قرار الخلع واستعد الشعور بالإيجابية من خلال تقدير الذات، مما يشجع على اتخاذ قرارات مشابهة ويُسهم في انتشار الظاهرة على نطاق أوسع، وخلق حالة من الجدل والانتقاد.

على الجانب الآخر، يعاني بعض الرجال خاصة الأكبر سنًّا، من صعوبة في التكيف مع هذه التغييرات، فقد نشأ الكثير منهم في بيئة مجتمعية تعزز مفهوم السلطة الذكورية المُطلقة، إذ يتوقع من المرأة أن تستمر في التحمل والخضوع التام وعدم كسر العادات التي نشأ عليها. وعندما تطلب الزوجة الستينية الطلاق، فإن ذلك يعد صدمة نفسية واجتماعية للرجل، خاصة إذا كان ينظر إلى الزواج على أنه عقد دائم، لا يتغير مهما كانت الظروف، فقد يشعر الرجل بالإهانة أو الخيانة، بدلا من الاعتراف بمسؤولياته، أو محاولة فهم دوافع زوجته، وتقبل أدوار المرأة الجديدة كجزء من المجتمع المتغير.

رابعًا: التأثير النفسي أو الاجتماعي

هل يكون الخلع تشوّهًا نفسيًا أم فجوة ثقافية؟

ليس بالضرورة أن يكون الخلع تشوهًا نفسيًا، حين يكون تعبيرًا عن حالة مُلحّة لتحقيق السلام الداخلي. ومع ذلك قد يكون هناك بعض الحالات التي تنطوي على أزمات نفسيّة أو اجتماعية، سواء للمرأة أو الرجل، نتيجة الظروف التي رافقت الزواج أو الحياة المشتركة. لكن العامل الأكبر في هذه الحالة هو الفجوة الثقافية التي أحدثتها التغييرات السريعة في المجتمع السعودي، خاصة فيما يتعلق بتمكين المرأة، وخلق تحديات لم تكن موجودة من قبل.

إن هذه التحولات في المجتمع مازالت تخطو نحو الانفتاح ورفاهية الحياة، ومنها السفر للسياحة وارتياد المطاعم كنوع من الرفاهية، كثقافة انتشرت وكانت في الماضي مرفوضة. كما أن التغييرات خلقت فجوة ثقافية بين الأجيال، إذ تجد الفئات الأكبر سنًا صعوبة في فهم واستيعاب التغيير الذي طرأ على الأدوار في المجتمع. في المقابل، لايزال بعض أفراد المجتمع ينظرون إلى الطلاق أو الخلع كوصمة اجتماعية، خاصة إذا كانت المرأة هي الطرف المبادر. مما يخلق تصادم بين القيم التقليدية والمعايير الحديثة، فتتنج حالة من الجدل والانتقاد.

خامسًا: الحلول الممكنة

قد يكون تعزيز الحوار بين الزوجين من أهم العوام التي تعيد كيفية التواصل بينهما بشكل أفضل، والتعبير عن احتياجاتهم ومخاوفهم. سواء في أجواء عائلية، أو ضمن مراكز تقدم استشارات نفسية وسلوكية لهم، لمساعدتهم على التكيف مع التغييرات التي تطرأ على حياتهم في مراحل عمرية مختلفة.

بالنسبة للخطاب الإعلامي، إن تخفيف الانتقاد أو مهاجمة النساء سيعطي حلولًا أفضل لتفهم الأسباب الحقيقة لهذه الظاهرة والتعامل معها بموضوعية. طالما ثقافة الاحترام تنبع من صميم الخلاق وديننا الحنيف. وكي يتاح للأجيال القادمة احترام الآخرين، الرجل والمرأة على السواء، وعد الحكم عليهم بناء على المعايير التقليدية فقط.

في الختام، طلب الطلاق أو الخلع من قِبل كبيرات السن ليس ظاهرة تستحق الإدانة او السخرية، بل هو انعكاس لتحولات اجتماعية وثقافية عميقة يمر بها المجتمع السعودي. يحتاج الرجل والمرأة والمجتمع ككل إلى التكيف مع هذه التغيرات بطرق إيجابية، مع التركيز على تحقيق التفاهم والاحترام المتبادل.

فالزواج الناجح لا يُقاس بمدى استمراره، بل بمدى تحقيقه للراحة النفسية والسعادة التي تنطوي تحت الّسّكِينة، كما جاء في قوله تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الروم: 21).

ليس من مطلب أعظم من الاستقرار والسكينة اللذين يمثلان جوهر العلاقة الزوجية، ومتى فقدت العلاقة هذا الجوهر، يصبح من الطبيعي البحث عن حلول تحقق الكرامة والراحة النفسية لكل طرف.

***

ريما آل كلزلي

.......................

الهوامش:

1-  دوركايم، إميل (1885): قواعد المنهج السيسيولوجي. ترجمة: عبد السلام بن عبد العالي. دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت 1988م.

 

كتبت إحدى طالباتي في الكلية التي أنتظم فيها، منشورا على صفحتها الافتراضية، على تطبيق "الفيسبوك" تُبدي فيه مشاعر الفرح بإكمالها شوطها العلمي بنجاح، وتشكرُ مشرفها على البحث، فمباركٌ لها ما أنجزته من بحث أحَسّتْ فيه أنّها حقّقت ذاتها، بما بذلته من جهدٍ يُحسَب لها في هذه المرحلة، في ظلِّ تخبُّط الكثير الكثير من زُملائها، بين مكاتبٍ استغلّ أصحابُها جهل الطلبة، فراحوا يجلدونهم جلدًا بالأموال التي يُرهقون بها كاهل أولياء أمورهم، فضلا عما في عملهم "الطباعي" من أخطاء، ولقد أخبرتني إحدى طالباتي وهي قد التقت بأحدهم، بعد سؤاله عن بحثها وعن مشرفها، فقال لها بعد أن عرفني مشرفًا: إن مشرفكم يضع لكم عنوانات بحوث صعبة لا نستطيع الخوض فيها، نعم وهذا ما أبتغيه: أنْ أضيّع الفرصة على هؤلاء الذين يستغلون ضعف الطلبة العلمي، بكتابتهم البحوث لهم، وهم في الحقيقة لا يكتبونها، بل يسطون على بحوث منشورة هنا على مواقع الانترنت، ويأخذون من هذا ومن ذاك، وكأن البحث لديهم "خلطة عطّار".. !! وفي الوقت نفسه أبتغي من وضع عنوانات البحوث أن أُحرِجَ الطالبَ بتعلم خطوات الكتابة المنهجية للبحث، وذلك من خلال اختياري متنا من المتون الشعرية الجديدة التي من الطبيعي أن تكون الدراسات النقدية عنها قليلة جدا، كذلك من عادتي اختيار أسماء لأدباء من محافظتي بابل، لأجل أن يعرف الطالب - على أقل تقدير - أن فلانا وفلانا وفلانا من محافظته التي يقطنها، وبالنتيجة سيتم الترويج لهؤلاء الأدباء المحترمين، من خلال هؤلاء الطلبة، وهو ما أُسمّيه بـ"الترويج الناعم" إذ من واجب الأستاذ الأكاديمي الذي يحب اختصاصه، أن يِمرّرَ ذلك الولع أو الشغف المعرفي أو الثقافي، لطلبته ومُريديه، عبر أدوات ذكيّة، تنفع الطالب في الدرجة الأساس، وتؤهِّلُهُ لمرحلةٍ علميّةٍ أعلى وأعمق، في الوقت نفسه يساهم في التعريف بأدباء بلدته، وقد تكون تلك بدايةً لذلك الطالب في محاولة أن يكون أحدهم، وقد لا أخفي عليكم - سادتي - مشاعر الغبطة على وجه أحد طلبتي حين التقى بأحد الأدباء الذين كلّفتُه بدراسة منجزه الشعري، كان هذا الطالب لاول مرة في حياته يلتقي بأديب ويحاوره، ويسمع منه، ويقوم ذلك الأديب بإهدائه نسخةً من مجموعته الشعرية.. كل هذا يعمل في وعي هذا الطالب ولاوعيه على إشعاره بالاهتمام والاحترام، وبيان أن من يكتب عنه حيٌّ يُرزق، وهذا لعمري حقٌّ من أبسط حقوق أدبائنا علينا، حين نُشعِرهم بالاهتمام "العلمي"، و "الثقافي" في حياتهم، وأن نصوصهم مدار حديث أساتيذ الجامعة، وهي بمعرض الاهتمام البحثي لدى طلبتهم، وهذا لا يعني بحال، أن الدراسة ينبغي أن تكون تربيتًا على أكتاف هذا الأديب أو ذاك، هذا ما لا علاقة له بمنطق البحث العلمي في الدراسات النقدية؛ لأن البحث لا بد أن تتوفر فيه شروطه الناجزة، وأهمّها: الموضوعية، بمعنى أن يكون الباحثُ محايدًا لا يلوي عنق النصوص لتماشي أهواء فلان من الأدباء، أو تغض النظر عن الهفوات الفنية التي وقع فيها ذلك الأديب، إذ للعلم قولتُهُ التي لا يحيدُ عنها.. ومعنى ذلك أن مثل هكذا بحوث لا يعني أنها تُزكّي أصحابها من الأدباء، وتجعلهم ملائكةً فوق مستوى البشر، أو تُسوّغ لهم ما هو مرفوض من أفعال، فهذا شيء وذلك شيءٌ آخر، وعلينا أن نفصل - إن كنّا ندّعي الموضوعية - بين البحث العلمي عن منجز شخصية من الشخصيات العلمية أو الأدبية أو الفكرية.. الخ من توجهات، وبين ما يتوصل إليه الباحث من نتائج من خلال تطبيقه الصحيح - لا العشوائي - لأدوات البحث.. وإلا تنسلخ العملية التعليمية والبحثية من مضمونها، وتنحدرُ أيّما انحدار في ظل هذا التخادم المصلحي الذي نجد بعضا من آثاره في بعض الأوساط الأدبية التي تقوم باستكتاب فلان وفلان من النقّاد، عن منجز أو ظاهرة فنية، في مؤتمرٍ تُبذل من أجله الأموال، وقد لا يتوفر في كثيرٍ من هذه الدراسات شرط "الموضوعية" بقدر ما يتوفر فيها شرط "المُجاملة" و "التربيت على الأكتاف" ليس إلا.. ! أو بعضهم يستعرض ما كُتِبَ عن منجزه الأدبي حين تأتي الانتخابات، من مقالات أو دراسات، وكأنّه يريد أنْ يوصل فكرة عبر هذا الخطاب الاستعراضي، أنّه شخصٌ مهِمٌ وله ثِقلُهُ الإبداعي الذي يؤهِّله لكسب ثقة الآخرين من أدباء، فلا بد من انتخابه..!!

المفرح في الأمر، أني بعد يوم من إكمال مناقشة هذا الطالبة، طلبتْ منّي طالباتٌ لي في المرحلة الثالثة، أنْ أكونَ مشرفًا عليهنَّ في المرحلة الرابعة، حقيقةً كم أفرحني هذا الطلب، بالقدر نفسه كم أشعَرَني بالمسؤولية إزاء جيل من الشباب يريد أنْ يرتقي بمستواه العلمي والفكري، ويسمع ممّن قبله من الطلبة عمّا كنتُ عليه من حرصٍ ومتابعة لطلبتي قد تُزعِج بعضهم، لاسيّما ممن لم يكن اختيارهم الشخصي في أن أكون مشرفًا عليهم، ولكن بعضهم يرغب بأنْ يأتي بجهدٍ يُحمَد عليه ويُحقِّق فيه ذاته، ويجعله مثار استحسان أساتيذهم، هؤلاء حقًّا، أرى فيهم البذرة الصالحة للتغيير للأفضل، ممّن لا يرضون أنْ يبقوا على ما هم عليه من مستوىً علمي، بل يطمحون لتحقيق الأفضل، وحين يبحثون عن من يشدّ على أياديهم، ويدفعهم بالاتجاه الصحيح، وإنْ كان ذلك مُرهقًا لهم.

أقول: هذه الثلة من المجتمع، لو يكثر سوادُها لما وجدنا من ينتخب الفاسدَ المفسِدَ في كل انتخابات، وكأنّهم لا يرون إخفاقاتهم المُريعة في كل دورة انتخابية، وكأنّهم لا يتضرّرون بسوء إدراتهم الفاشلة، وهم لولا من ينتخبهم لما كان لهم أنْ يفوزوا دورةً بعد أخرى، ولكان لنا الخلاص باندحارهم من المشهد السياسي إلى الأبد، بفضل وعي الناخب الذي يبحث عن من يُحقِّق له الأفضل في كل مرفق من مرافق الحياة، وأنْ لا يثرى على حساب مصلحة المواطن، ولا يقبل بمن يتهاون معه في واجبه؛ لكون ذلك التهاون يتماشى ومصلحته الشخصية، أو يغضّ عن مخالفاته، فالطالب الجيّد الذي يبحثُ عن أستاذٍ يرى فيه الحرصَ والمسؤولية، مستقبلا لن يُقبِلَ على انتخابِ مُرشّحٍ لأنه فقط من أبناء جلدته، أو من منطقته، أو من مذهبه، أو من قوميّته، أو يتساهل معه في أمورٍ غير قانونية، مثلما شاهدنا بعض النوّاب وهم يُدافعون عن مطالب فيها من الترهّل والتماهل والغضّ من المستوى العلمي الشيء الكثير، مثل مطالبهم بالدور الثالث للصفوف المنتهية أو لغيرهم من المراحل الدراسية. أو غيرها من مطالب تعبّر عن تهاونٍ كبير بالجانب العلمي؛ لأجل أنْ يكسبوا أصوات هؤلاء. فمنطق "الغنيمة" هو السائد عند هؤلاء المُرشّحين، وكيف لا تكون الغنيمةُ منطقهم، وأحدُ دعاياتهم الانتخابية تبدأ بقول عريف الحفل:

إذا هَبَّتْ رِياحُكَ فاغتَنِمْها ... فعُقبى كُلِّ خافِقةٍ سُكونُ

***

د. وسام حسين العبيدي

أفق جديد للتفكيك والإصلاح

في عصر يشهد تسارعاً غير مسبوق في التقدم التكنولوجي، يعيد الإنسان اكتشاف ذاته من خلال أدوات ذكية تتجاوز كونه مجرد مستخدم لها، لتؤثر فيه بعمق وتساهم في إعادة تشكيل العالم من حوله، بما في ذلك القيم والأفكار والمفاهيم الفلسفية والروحية. في هذا السياق، يُطرح سؤال أساسي: ما موقع الفكر الديني في هذا العصر الجديد؟ وهل يمكن للذكاء الاصطناعي، باعتباره لغة العصر وفلسفته، أن يساهم في تطوير مفاهيمنا الدينية؟ وكيف يمكن، من خلال استخدامه كأداة نقدية وتحليلية، مراجعة التراث الديني، وطرح بدائل تأويلية متجددة لنصوصه ومروياته؟

يجادل هذا المقال بأن التوظيف العلمي والنزيه للذكاء الاصطناعي يمكن أن يُسهم بفعالية في تحرير الدين من هيمنة المؤسسات التقليدية، وفي تفكيك التراكمات التاريخية والسياسية والثقافية التي تعيق فهم النص الديني ضمن سياقه الأصلي، الزماني والمكاني والإنساني، وكذلك السياق المتغيّر الذي يُعاد فيه تلقّيه وتأويله اليوم. كما يمكن، عبر المنهج الذكائي، تطوير مقاربات بحثية عابرة للتخصصات في تناول المجال الديني، ورؤى فلسفية معمقة للتعامل مع العقائد والغيبيات والمعاني الروحية، فضلاً عن توفير حلول مبتكرة للإشكاليات التراثية وانعكاساتها المعاصرة.

الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية، بل هو عقل "تشاركي" جديد، يمكنه معالجة النصوص وتحليلها وتأويلها واستنباط الأنماط الكامنة فيها، دون أن يكون أسيراً لسلطة تقليدية أو محظوراً عليه الخوض في المسكوت عنه. وهنا تكمن إمكاناته المذهلة في سياق الفكر الديني، الذي طالما حوصر في قوالب فقهية ومذهبية مغلقة. وتتيح الطبيعة "التشاركية" للذكاء الاصطناعي بناء فضاء تحاوري يؤدي إلى توليد قراءات متنوعة تزاحم القراءة الأحادية، ما يسهم في تحريك الفكر الراكد، وفتح الطريق لمساءلة البُنى الذهنية والثقافية السائدة، وتحرير العقل الديني من النزعات اليقينية والإجماعية، ودفعه نحو تقبّل الاختلاف والتعدّدية.

لقد ظلّت المؤسسة الدينية تحتكر تفسير النصوص، وتفرض قراءتها بوصفها القراءة الوحيدة الصحيحة، مغلقةً الباب أمام الاجتهاد، ومجمدةً النصّ في قوالب تاريخية لا تتيح له الحركة أو التحوّل. لكن الذكاء الاصطناعي، عبر تقنياته المتقدمة في تحليل اللغة والنصوص، يمكن أن يكسر هذا الجمود، إذا تم استخدامه بصورة نزيهة علمياً، فيعيد قراءة التراث بعيون غير منحازة لقناعات مسبقة، ويقارن التأويلات المختلفة، ويكشف التناقضات والاحتمالات، بل ويعيد هيكلة الأسئلة والأفكار، وحتى القيم التأسيسية، بما يتناسب مع الواقع المعاصر.

ولكن ينبغي الانتباه إلى أن الذكاء الاصطناعي ليس محايداً تماماً، لأنه يتغذى على البيانات التي نُدخِلها إليه، ويعكس افتراضاتنا المسبقة ومنهجياتنا البحثية. فإذا جاءه سؤال من باحث ديني التوجّه، فسيُحاكي توجّهه الديني في توليد الردود، بينما لو جاءه السؤال نفسه من باحث علماني التوجّه، فستكون له نتائج وتحليلات مختلفة جذرياً.

وهنا مكمن القوة والضعف معاً، فقوة الذكاء الاصطناعي تتجلى في قدرته على محاكاة زوايا نظر متعددة، وتقديم مقاربات متنوعة. أما ضعفه فيظهر في إشكالية أن استخدامه إذا لم يُضبط منهجياً، فقد يعيد إنتاج تحيّزات الباحث بدل أن يساعده على تجاوزها. لذلك، من الأفضل، في توظيفه النقدي، أن نتعامل مع الذكاء الاصطناعي لا كمؤيد ضمني، بل كشريك تحليلي نختبر به فرضياتنا، ونتحداه كما نتحدى المعرفة التقليدية ومسلّماتها من خلاله.

وفي هذا السياق، تبرز إمكانات الذكاء الاصطناعي في اعتماد النهج التكاملي في تفكيك التراث الديني ونقده، من خلال توظيف طيف واسع من العلوم الإنسانية كعلم النفس، والأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، وعلم الاجتماع، والتاريخ، واللسانيات، والفلسفة، في مقاربة السرد الديني التقليدي. فبدلاً من قراءة النصوص الدينية من زاوية لاهوتية ضيقة، يُمكن للنماذج الذكية أن تربط بينها وبين أنساقها الاجتماعية والثقافية والسياسية، وتعيد تأويلها على ضوء نظريات حديثة كالتأويل "الهرمنيوطيقي" (مقاربة تركّز على تفسير النص بناءً على سياقه وظروف إنتاجه وتلقّيه، وليس فقط المعنى الحرفي أو الظاهري)، أو النقد "التفكيكي" (تفكيك سلطة النص، وخاصة عندما يُستخدم كأداة لإقصاء أو تهميش أو قمع، وكشف الآليات اللغوية والسلطوية التي تجعل تفسيراً معيناً يبدو "مقدساً" أو "نهائياً")، أو حتى قراءة "فوكوية" للنصّ (يمكن أن يركّز توظيف نهج ميشيل فوكو هنا على تحليل البُنى السلطوية والمعرفية التي أنتجت السرديات التراثية، كونه يهتم بكيفية التحكّم في إنتاج وتأويل النصوص وتصنيع "الحقائق" لصالح سلطة معينة). بهذه الطريقة، يتحوّل الذكاء الاصطناعي إلى معبرٍ نحو فهم ديني متعدد الطبقات، أكثر عمقاً، وانفتاحاً، وتحوّلاً، وديناميكيةً.

وكمثال تطبيقي، يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي في تفكيك النزعة الذكورية في القراءة التقليدية لقصة "آدم وحواء"، وإعادة قراءتها بعدسة "جندرية"؛ أي عبر منظور يفحص "الأدوار الاجتماعية" لكل من الرجال والنساء، وما يرتبط بها من توقّعات مجتمعية وإكراهات ثقافية وتنميطات سلوكية، والطريقة التي صاغها بها التفسير التقليدي؛ ففي العديد من التفاسير التراثية للقرآن، تُعرض شخصية "حواء" بوصفها السبب المباشر في معصية الأكل من الشجرة، مما يؤدي إلى تحميل الأنثى تاريخياً مسؤولية الخروج من الجنة. هذه القراءة كرّست تصورات جندرية غير متكافئة (تمييزية بين الذكر والأنثى)، انعكست في البنية الفقهية والاجتماعية ضمن المجتمعات الإسلامية. ويمكن للذكاء الاصطناعي التدخل هنا من خلال المهام التالية:

1- إجراء تحليل تاريخي لغوي للتفاسير: يمكن تدريب نموذج ذكاء اصطناعي على معالجة مجموعة ضخمة من التفاسير الإسلامية، من مختلف العصور والمدارس، للقيام بتحليل أنماط اللغة المستخدمة في وصف النساء، والمفردات السلبية المكرّسة حول الجندر (المسائل المتعلّقة بالذكورة والأنوثة)، وتكرار الربط بين المرأة والخطيئة أو الفتنة.

2- استخراج الفروق بين النص الأصلي والتفسير البشري: باستخدام أدوات المقارنة النصية، يمكن للنموذج أن يميّز بين ما يقوله النص القرآني بدقة لفظية (مثل استخدام ضمير التثنية في: "فأزلهما الشيطان")، وما تم تحميله له من دلالات في التفاسير، خاصة تلك المتأثرة بروايات وأساطير تاريخية.

3- توليد قراءات بديلة غير منحازة جندرياً (غير إقصائية للنساء لصالح الرجال أو العكس): يمكن للذكاء الاصطناعي، بناءً على قواعد التأويل غير الذكوري (مثل مقاربات النسوية أو الهرمنيوطيقا النقدية)، أن يُنتج مقاربات جديدة تتعامل مع "آدم" و"حواء" ككائنين متساويين في المسؤولية، دون افتراض مسبق للتفوق الذكوري أو التبعية الأنثوية.

4- ربط النتائج بالتحليل الثقافي المُقارِن: يمكن توظيف النموذج الذكائي لمقارنة التفسيرات الإسلامية بمثيلاتها في ثقافات أخرى، مما يسمح بتحديد التأثيرات المتبادلة والمصادر المشتركة في تشكيل الصور الجندرية (المتعلّقة بالنوع الاجتماعي ذكراً كان أم أنثى)، دون تفضيل ثقافة على أخرى.

بهذا الشكل، يصبح الذكاء الاصطناعي أداة نقدية تفتح المجال لتفكيك السرديات الذكورية لا عبر مهاجمة النصوص، بل عبر مساءلة الطبقات التأويلية التي تراكمت فوقها، ومن خلال توليد بدائل معرفية قادرة على كسر مركزية الرجل في المخيال الديني.

إن ما يوفره الذكاء الاصطناعي من إمكانات الحفر المعرفي العميق في التراث الديني ينبّهنا إلى أن توظيفه في هذا المجال لا ينبغي أن ينحصر في بعده الأداتي أو الوسائلي، كأن يُستعمل فقط لتسريع الوصول إلى المعلومة أو ترتيب المحتوى الديني أو استدعاء الإجابات الجاهزة. لأن في ذلك إشكالية مضمرة تتمثل في استخدام أدوات حديثة لإعادة إنتاج الإرث التقليدي، لا لتفكيكه أو تجاوزه.

إن المطلوب هو استلهام فلسفة الذكاء الاصطناعي ذات الطابع التوليدي والتحاوري والتشاركي، بما يجعله شريكاً في إعادة التفكير، لا خادماً لإعادة التلقين. فبدلَ أن نُسخّره لترسيخ ما هو جاهز وموروث، علينا أن نفتح المجال أمامه ليصبح طرفاً في إنتاج معرفة جديدة، نقدية، مفتوحة، وقابلة للتجدّد.

لا يعِدنا الذكاء الاصطناعي بمستقبل خالٍ من الدين أو المعنى الروحي، بل ربما بمستقبل يتسع فيه الوعي الديني ليكون أكثر انسجاماً مع كرامة الإنسان، وأكثر عقلانية واستدامة وحيوية، وأقل ارتهاناً للأدوات القديمة التي كانت تُستخدم لضبطه وتقييده. وهذا هو الأفق الذي يستحق أن نُراهن عليه.

***

همام طه

.....................

تنويه: هذا المقال هو حصيلة جهود مشتركة بين الكاتب وأداة الذكاء الاصطناعي (ChatGPT). حيث تمَّ تقديم الدعم في بلورة الأفكار والبناء اللغوي وتطوير النصوص وصياغة المثال التوضيحي، مع الحفاظ على حرية الكاتب في توجيه النقاش، وبشكل يسعى لتسليط الضوء على جوانب متعددة في التفاعل بين الفكر الديني ومعطيات العصر الرقمي.

 

السرديات التاريخية هي الوسيلة التي نرى بها الماضي، وتشكل فهمنا للحاضر والمستقبل. غالبًا ما تركز السرديات التقليدية على النخب السياسية والعسكرية والاقتصادية، وتتجاهل تجارب وقصص الفئات المهمشة، يوفر النقد الفلسفي أدوات تحليلية لفحص السرديات التاريخية، وتفكيك المفاهيم الأساسية مثل السلطة والحقيقة والتقدم. يمكن للنقد الفلسفي أن يكشف عن التحيزات والأيديولوجيات التي تشكل السرديات التاريخية. التاريخ من الأسفل هو منهجية تاريخية تركز على تجارب وقصص الفئات المهمشة في المجتمع، مثل العمال والفلاحين والنساء والأقليات العرقية والدينية، يهدف التاريخ من الأسفل إلى تحدي السرديات التاريخية التقليدية، وتقديم صورة أكثر شمولية للماضي.

منهجية التاريخ من الأسفل

على الرغم من أهمية منهجية التاريخ من الأسفل في إعادة كتابة التاريخ من منظور الفئات المهمشة، إلا أنها واجهت بعض الانتقادات الهامة، غالبًا ما تكون مصادر التاريخ من الأسفل محدودة ومشتتة، مما يجعل من الصعب تجميع صورة كاملة عن حياة وتجارب الفئات المهمشة و قد تعتمد بشكل كبير على المصادر الشفوية، التي يمكن أن تكون عرضة للتحريف أو النسيان، يرى البعض أن التاريخ من الأسفل يميل إلى تجميل صورة الفئات المهمشة، وتجاهل جوانبها السلبية، قد يتم تصوير هذه الفئات على أنها ضحايا أبرياء، مما يقلل من قدرتها على الفعل والتغيير، وقد يؤدي التركيز على التجارب الفردية أو المحلية إلى فقدان الصورة الكبيرة، وإهمال القوى الهيكلية التي تشكل حياة الفئات المهمشة، يصعب أحيانا ربط القصص الفردية بسياقات أوسع من التغيير الاجتماعي والسياسي، بعض المؤرخين الذين يتبنون منهجية التاريخ من الأسفل قد يكونون عرضة للتحيز الذاتي، حيث يميلون إلى التركيز على القصص التي تدعم وجهات نظرهم الخاصة، يكون من الصعب الحفاظ على الموضوعية عند التعامل مع قضايا حساسة مثل التحولات الكبرى في الأيديولوجيات، يرى البعض أن التركيز المفرط على الفئات المهمشة قد يؤدي إلى إهمال دور النخب في تشكيل التاريخ، لذا يكون من الضروري فهم دوافع وأفعال النخب لفهم كيفية عمل السلطة والهيمنة، كما يكون من الصعب تعميم النتائج المستخلصة من دراسة حالة معينة على سياقات أخرى، تختلف تجارب الفئات المهمشة بشكل كبير من مكان إلى آخر ومن فترة زمنية إلى أخرى .على الرغم من هذه الانتقادات، لا تزال منهجية التاريخ من الأسفل ذات قيمة كبيرة في فهم الماضي. من المهم الجمع بين التاريخ من الأسفل وتحليل القوى الهيكلية ودور النخب لتقديم صورة كاملة عن الماضي.

بناء السرديات التاريخية

غالبًا ما تركز السرديات التقليدية على قادة الحركات الاجتماعية، والأحداث الرئيسية، والأهداف المعلنة. يجب تحليل هذه السرديات بشكل نقدي لفهم كيف تم بناءها، وما هي التحيزات المحتملة التي قد تحتويها. كما يجب التركيز على تجارب وقصص المشاركين في الحركات الاجتماعية من مختلف الخلفيات. هذا يعني دراسة حياة العمال والفلاحين والنساء والأقليات العرقية والدينية الذين شاركوا في هذه الحركات، وفهم دوافعهم وأهدافهم وتحدياتهم ويمكن تحليل ديناميكيات السلطة داخل الحركات الاجتماعية نفسها، هل كانت هناك اختلافات في السلطة بين القادة والتابعين؟ هل كانت هناك صراعات داخلية بين الفصائل المختلفة؟ هل تم تهميش بعض المجموعات داخل الحركة؟ يجب تحليل الأيديولوجيات والمفاهيم الأساسية التي قامت عليها الحركات الاجتماعية، مثل العدالة والمساواة والحرية وكيف تم تعريف هذه المفاهيم من قبل المشاركين المختلفين في الحركة؟ هل كانت هناك اختلافات في التفسير؟ كيف تطورت هذه المفاهيم مع مرور الوقت؟ يجب وضع الحركات الاجتماعية في سياق أوسع من التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي و ما هية القوى الهيكلية التي ساهمت في ظهور هذه الحركات؟ وما هي العوامل التي أدت إلى نجاحها أو فشلها؟ كيف أثرت هذه الحركات على المجتمع ككل؟ يجب تحليل تأثير الحركات الاجتماعية على الفئات المهمشة التي شاركت فيها، هل حققت هذه الحركات أهدافها المعلنة؟ هل أدت إلى تحسين حياة المشاركين؟ هل كان لها آثار سلبية غير متوقعة؟

التاريخ من الأسفل وأهمية في فهم الثورات

الثورات ليست مجرد أحداث سياسية أو عسكرية تقودها النخب، إنها أيضًا تجارب اجتماعية وثقافية عميقة تؤثر على حياة الناس العاديين، التاريخ من الأسفل يسمح لنا بفهم كيف أثرت الثورات على حياة العمال والفلاحين والنساء والأقليات، وكيف ساهم هؤلاء الناس في تشكيل مسار الثورات، غالبًا ما تركز السرديات السائدة على الدوافع المعلنة للثورات، مثل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ولكن التاريخ من الأسفل يكشف عن الدوافع الحقيقية للمشاركين في الثورات، والتي قد تكون أكثر تعقيدًا وتنوعًا. على سبيل المثال، قد يكون بعض الناس مدفوعين بالرغبة في تحسين ظروفهم الاقتصادية، أو الانتقام من الظلم، أو الحصول على المزيد من السلطة الثورات وهي ليست مجرد صراعات بين النخب الحاكمة والمعارضة، إنها أيضًا صراعات داخلية بين الفصائل المختلفة في المجتمع، التاريخ من الأسفل يسمح لنا بفهم ديناميكيات السلطة داخل الحركات الثورية نفسها، وكيف تم تهميش بعض المجموعات أو استبعادها، التاريخ من الأسفل يمكن أن يتحدى السرديات السائدة حول الثورات، ويكشف عن التحيزات والأيديولوجيات الكامنة فيها، على سبيل المثال، قد يكشف التاريخ من الأسفل عن أن بعض الثورات لم تكن بالضرورة تقدمية أو تحررية، بل أدت إلى قمع جديد أو استبداد، من خلال دراسة التاريخ من الأسفل يمكننا أن نتعلم من نجاحات وإخفاقات الثورات السابقة، واستخدام هذه الدروس لبناء مجتمعات أكثر عدلاً وحرية في المستقبل، على سبيل المثال، يمكننا أن نتعلم كيف نتجنب العنف، وكيف نحمي حقوق الأقليات، وكيف نبني مؤسسات ديمقراطية قوية تسعي لتمثيل أكبر قدر ممكن من وجهات النظر، في أي بحث وخاصة في التاريخ من الأسفل، رغم انه هدف نبيل ومهم، ولكنه في الواقع العملي يواجه تحديات تجعله هدفًا مثاليًا أكثر منه واقعًيا قابلاً للتحقيق بشكل كامل.

اهمية التاريخ من الأسفل في النقد الفلسفي

يسمح التاريخ من الأسفل للنقد الفلسفي بالنظر إلى مجموعة أوسع من المصادر والتجارب، مما يؤدي إلى فهم أعمق للسلطة والهيمنة، ويساعد في تفكيك المفاهيم السائدة حول التقدم والتحديث والتنمية، من خلال الكشف عن آثارها السلبية على الفئات المهمشة، كما يساهم في إعادة كتابة التاريخ من منظور الفئات المهمشة، التاريخ من الأسفل يسعى لتفكيك السرديات التاريخية الكبرى والمهيمنة التي غالبًا ما تركز على النخب السياسية والاقتصادية والثقافية. من خلال التركيز على الأسفل، يكشف هذا المنهج عن التنوع والاختلاف في التجارب التاريخية، مما يوضح أن التاريخ ليس قصة واحدة متجانسة، بل هو مجموعة من القصص المتداخلة والمتناقضة التاريخ من الأسفل يساهم في إعادة تقييم مفهوم السلطة، حيث يظهر كيف أن السلطة لا تمارس فقط من الأعلى إلى الأسفل، بل أيضًا من الأسفل إلى الأعلى، من خلال المقاومة والتحدي والتفاوض من خلال إعطاء صوت للفئات المهمشة، يساهم التاريخ من الأسفل في إضفاء الشرعية على تجاربهم ومعاناتهم، ويساعد على فهم أفضل للتحديات التي واجهوها وكيف تغلبوا عليها من خلال الكشف عن الظلم والاستغلال الذي تعرضت له الفئات المهمشة في الماضي، كما يساهم التاريخ من الأسفل في تحقيق العدالة التاريخية، ويساعد على تصحيح الأخطاء التاريخية، باختصارالتاريخ من الأسفل هو أداة قوية في النقد الفلسفي للسرديات التاريخية، لأنه يساعد على تفكيك السرديات المهيمنة، والكشف عن التنوع والاختلاف، وإعادة تقييم السلطة، وإضفاء الشرعية على الأصوات المهمشة، وتحقيق العدالة التاريخية. إنه يساهم في فهم أكثر شمولية وتعقيدًا لتاريخ السرديات التاريخية.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

 

سلسلة "نساء غيّرن التاريخ". رقم 2.

في يوم يحتفل فيه العالم بنضال الطبقة العاملة، يبرز اسم روزا لوكسمبورغ كرمز لا يُنسى... امرأة اختزلت في شخصها الفكر الثوري، والجرأة الفكرية، والالتزام الوجداني الكامل بالقضية. أستهلّ مناسبة يوم 1 أيار، عيد العمال العالمي، باختيار روزا لوكسمبورغ من سلسلة "نساء غيّرن التاريخ". رقم 2.

في هذا السياق، نادرًا ما نجد شخصية تجسّد بعمق روح امرأة مناضلة، بفكر ماركسي حادّ، وناقد، وبقلب أممي لا يعرف المساومة، كما تجسّدها روزا لوكسمبورغ. لم يكن فرانز مهرينغ، كاتب سيرة كارل ماركس، مبالغًا حين وصف روزا بأنها "العقل الثاني بعد ماركس"، وأنا أضيف بأنها العقل الأول كامرأة فهمت الرأسمال، والصراع الطبقي، والنضال من أجل عالم اشتراكي أفضل للبشرية.

كما كتبت عنها صديقتها المقربة المناضلة والمفكرة الكبيرة كلارا زيتكن في نعيها: كانت الفكرة الاشتراكية تملأ قلب وعقل روزا لوكسمبورغ، وشكلت شغفها الخلاق ومهمتها الكبرى: تمهيد الطريق للثورة الاشتراكية. كانت تجربة الثورة والمشاركة في معاركها قضيتها الكبرى. بإرادتها الصلبة قناعتها الكاملة، كرست حياتها بالكامل للاشتراكية، ليس فقط بوفاتها المأساوية، بل بكل لحظة من حياتها ونضالها الطويل، كانت المناضلة والشعلة الحية للثورة.

فمساهماتها لم تكن مجرّد إضافات على النظرية الماركسية، بل كانت نارًا تنبض في قلب الحركة الثورية. روزا لم تكتب فقط، بل عاشت نضالها. منحت قضيتها قلبها، وعقلها، وإرادتها، بل حياتها كلها. لم تكن تهادن، ولم تقبل أنصاف المواقف، بل كانت تجسيدًا حقيقيًا لماركسية ثورية لا تعرف التراجع.

روزا لوكسمبورغ: من بولندا إلى ساحات الثورة

وُلدت روزا لوكسمبورغ عام 1871 في بولندا، وانخرطت في العمل الثوري منذ سن السادسة عشرة، ضمن صفوف حزب "بروليتاريا" الذي تميّز بتنظيم الحركة العمالية، بعيدًا عن النزعات الفردية والمغامرات الإرهابية. بعد قمع الحزب، غادرت إلى سويسرا لدراسة الاقتصاد والعلوم، وسرعان ما أصبحت من أبرز الأصوات الفكرية المعارضة في صفوف المهاجرين الثوريين.

منذ بداياتها، تميزت روزا بجرأة فكرية نادرة، ووقفت ضد التيارات القومية داخل الحركة الاشتراكية البولندية، دفاعًا عن النضال الطبقي الأممي. وفي ألمانيا، التحقت بالحركة العمالية، وأصبحت من أبرز منظّري الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وشاركت في تحرير العديد من الصحف وتقديم الخطابات الجماهيرية، رافعة راية الثورة.

الثائرة التي لم تهدأ ومناضلة لم تعرف التراجع أو السكون

انحازت دوما روزا إلى الجماهير الكادحة، وتسللت سرًا إلى بولندا عام 1905 للمشاركة في الانتفاضة، ثم عادت إلى ألمانيا، حيث واصلت كتاباتها وتحريضها ضد الإمبريالية والحرب. شاركت في تأسيس عصبة سبارتاكوس، نواة الحزب الشيوعي الألماني، إلى جانب كارل ليبكنخت.

في كتابها النظري الأهم - تراكم رأس المال-، شرّحت العلاقة بين الرأسمالية والإمبريالية، واعتُبر عملها أحد أبرز الإسهامات الماركسية بعد ماركس نفسه. خلال الحرب العالمية الأولى، وقفت بكل وضوح ضد النزعة القومية والحرب، فاعتُقلت أكثر من مرة، لكنها واصلت النضال حتى من داخل الزنازين.

روزا لوكسمبورغ لم تكن فقط منظّرة ماركسية، بل كانت ضميرًا حيًا لحركة تحرر الإنسان. في كتاباتها، كما في نضالها، جسّدت الطموح نحو الاشتراكية. وها هي، بعد أكثر من قرن، لا تزال تلهم كل من يؤمن بالبديل الاشتراكي وعالم أفضل للبشرية.

"الحرية دائمًا هي حرية من يفكر بشكل مختلف"، ضد الإصلاحية والبيروقراطية.

الحرية الحقيقية هي حرية من يجرؤ على التفكير المختلف... في مواجهة الإصلاحية والبيروقراطية.

لم تكن روزا لوكسمبورغ فقط مناضلة في الشوارع والساحات، بل كانت أيضًا من أبرز من خاضوا المعارك الفكرية داخل الحركة الاشتراكية نفسها، وخصوصًا ضد التيار الإصلاحي الذي أخذ يتسلل إلى صفوفها.

كان أبرز هذه المعارك سجالها مع إدوارد برنشتاين، المنظّر الأبرز لما سُمّي بـ"الاشتراكية التدريجية"، حيث رأت فيه روزا خطرًا حقيقيًا على جوهر الماركسية وروحها الثورية.

في كتيبها الشهير إصلاح أم ثورة؟، أكدت أن الإصلاح لا يُغني عن الثورة، وأن النضال البرلماني، مهما بدا ضروريًا، لا يكفي لبناء مجتمع اشتراكي، لأن النظام الرأسمالي لا يمكن إصلاحه من الداخل، بل لا بد من تجاوزه كليًا.

لكنّ نقدها لم يتوقف عند الإصلاحيين.

روزا واجهت أيضًا لينين و تروتسكي، ليس من موقع العداء، بل من موقع الرفيقة الذي ترى خطر البيروقراطية المركزية على الروح الديمقراطية للثورة. اختلفت معهم حول بنية الحزب، وعارضت النموذج الهرمي المغلق الذي اعتبرته خطرًا على العلاقة العضوية بين الحزب والجماهير. لم تكن تخشى قول الحقيقة، حتى في وجه الحلفاء وأقرب الرفاق.

وكتبت في إحدى رسائلها من السجن:

"الحرية دائمًا هي حرية من يفكر بشكل مختلف."

عبارة اختزلت فيها ليس فقط موقفها من البلاشفة، بل موقفها من كل سلطة تُقصي التعدد والتنوع، حتى لو كانت سلطة اشتراكية ثورية. بالنسبة لروزا، لم يكن النضال من أجل الاشتراكية منفصلًا عن النضال من أجل الحرية والديمقراطية. فأي اشتراكية لا تُبقي مجالًا للصوت المختلف، هي نفيٌ لروح الثورة ذاتها.

لحظة الثورة... ولحظة الغدر

حين اندلعت الثورة الألمانية عام 1918، لم تتردد روزا لوكسمبورغ لحظة. بعد خروجها من السجن، التحقت برفاقها ورفيقاتها في قلب العاصفة وفي الميدان الجماهيري. لم تكن الثورة بالنسبة لها مجرد حدث سياسي، بل كانت لحظات مصيرية يتجلّى فيها جوهر الإنسان في أقصى درجات وعيه وشجاعته. وفي خضم تلك الأيام العاصفة، كتبت، حرّضت، نظّمت، ناضلت، وظلّت وفيّة لقيمها حتى النهاية. وخاضت معركتها الأخيرة بصلابة لا تلين. كانت تعرف أن الثمن قد يكون حياتها، لكنها لم تساوم.

قالت في إحدى رسائلها:

"لقد كنت، وسأبقى، ما أنا عليه: مناضلة في صفوف الاشتراكية."

وفي 15 يناير 1919، وقعت لحظة الغدر. اعتُقلت روزا مع رفيقها كارل ليبكنخت، واقتيدا من قبل ميليشيات الثورة المضادة. لم تكن هناك محاكمة، لم يكن هناك قانون؛ فقط رصاصة في الرأس، وضرب حتى الموت، ثم جسد مُلقى في قناة برلين.

كان ذلك اغتيالًا لجسد، لا لفكرة. فجسد روزا غاب، لكن افكارها لم تُدفن.

لقد كانت، وظلّت، ضميرًا حيًا لحركة تحرّر الإنسان، صوتًا لا يُخمد، ونداءً دائمًا نحو عالم اشتراكي أكثر عدلًا.

إن موتها لم يكن نهاية، بل بداية لمرحلة جديدة في الذاكرة الماركسية الثورية، حيث تُقرأ كلماتها اليوم ليس كتاريخ، بل كراهن وكأفق اشتراكي مفتوح.

أهم كتب وإصدارات روزا لوكسمبورغ:

تراكم رأس المال (The Accumulation of Capital) – 1913

تجادل روزا أن الرأسمالية لا يمكن أن تعيش فقط على الأسواق الداخلية، بل تحتاج باستمرار إلى التوسع في مناطق غير رأسمالية (مثل المستعمرات) لبيع منتجاتها واستغلال الموارد. هذا التوسع يؤدي إلى الإمبريالية والحروب، وهو شرط لاستمرار النظام، لكنه في النهاية يقود إلى أزمته وانهياره.

الإصلاح أم الثورة؟ (Reform or Revolution) – 1899

تنتقد أفكار إدوارد برنشتاين الذي دعا إلى الإصلاح التدريجي داخل النظام الرأسمالي بدلاً من الثورة. ترى روزا أن الإصلاحات لا يمكنها تغيير النظام الرأسمالي الجوهري، وأن الحل الحقيقي يكمن في ثورة شاملة تنهي الاستغلال الطبقي وتؤدي إلى بناء مجتمع اشتراكي.

الإضراب الجماهيري، الحزب، والنقابات (The Mass Strike, the Political Party and the Trade Unions) – 1906

تؤكد على أهمية الإضراب الجماهيري كأداة ثورية لتحريك الجماهير ضد النظام. ترى أن الإضراب يجب أن يكون سياسيًا وليس مجرد احتجاج اقتصادي، كما تؤكد على ضرورة أن يرتبط الحزب الثوري عضويًا بالجماهير، مع بقاء النقابات جزءًا أساسيًا من الحركة العمالية.

حول الثورة الروسية (The Russian Revolution) – 1918

تدعم الثورة البلشفية عمومًا، لكنها تنتقد قيادة البلاشفة لإلغائهم الديمقراطية الداخلية بعد الثورة. تؤكد على ضرورة وجود حرية ديمقراطية حقيقية داخل الثورة الاشتراكية، وترى أن القمع السياسي يشكل تهديدًا لها.

رسائل من السجن (Letters from Prison)

مجموعة رسائل كتبتها خلال فترة سجنها أثناء الحرب العالمية الأولى، تعكس رؤيتها السياسية والفكرية، وتكشف عن جوانب إنسانية وشخصية، من حبها للفكر والفن، إلى معاناتها مع العزلة.

***

بيان صالح

.......................

المصادر:

- روزا لوكسمبورغ: سيرة فكرية وسياسية – تأليف: جي. بي. نيتل

- روزا لوكسمبورغ: قلب ثوري وعقل ناقد – موقع: الاشتراكي

- روزا لوكسمبورغ – موسوعة المعرفة

4.      The Rosa Luxemburg Reader – Edited by Peter Hudis & Kevin B. Anderson

5.       Rosa Luxemburg: A Revolutionary Life – By J. P. Nettl

6.       Rosa Luxemburg – Stanford Encyclopedia of Philosophy

ساهمت الثقافات من جميع أنحاء العالم في تشكيل المجتمعات بشكلها الحالي. ولا تعكس الثقافة ظلالها على القيم والمعتقدات فحسب، بل وتؤثر أيضًا على السلوك الفردي والجماعي. وهناك انعكاسات مختلفة للثقافة على المجتمع، فضلا عن تعددية وجهات النظر في فهم وتقدير التنوع الثقافي. والثقافة ركيزة أساسية للمجتمع، تؤثر في كل جانب من جوانب الحياة، من الاقتصاد إلى التعليم وسوق العمل. ومن خلال الاعتراف بالتنوع الثقافي وتقديره، يمكن للمجتمعات الاستفادة من رؤى جديدة ومبتكرة، مما يعزز تنميتها وقدرتها للبقاء على قيد الحياة.

إن النشاط الحياتي للمجتمع متعدد المجالات من بينها العمل، والسياسة، والاقتصاد، والأخلاق، والقيم الجمالية، والقانون، والأسرة، والدين، إلخ، وكل مجال من مجالات حياة المجتمع يتناسب مع مستوى معين من الثقافة التي حققها المجتمع كميزة نوعية لنشاطه الحياتي. ويتمثل ذلك، قبل كل شيء، في أن الثقافة تعمل كوسيلة لتراكم وتخزين ونقل الخبرة الإنسانية. وكما أشار اندرييف في كتابه" الشخصية والثقافة": إن الثقافة هي التي تجعل الإنسان شخصية. ويغدو الفرد عضوًا في المجتمع، شخصية، بقدر ما يكون اجتماعيا، أي يتقن المعرفة واللغة والرموز والقيم والمعايير والعادات والتقاليد الخاصة بشعبه ومجموعته الاجتماعية وكل البشرية. ويُحدد مستوى ثقافة الفرد من خلال التربية الاجتماعية –  وامتلاكه لناصية التراث الثقافي، فضلاً عن درجة تطور قدراته الفردية. وترتبط الثقافة الشخصية عادة بالقدرات الإبداعية المتطورة، والمعرفة، وفهم الأعمال الفنية، والطلاقة في اللغات الأصلية والأجنبية، والأناقة، واللباقة، وضبط النفس، والأخلاق العالية، وما إلى ذلك. ويتحقق كل هذا في عملية التربية والتعليم

والثقافة ترص صفوف أعضاء المجتمع وتدمجهم وتضمن وحدة المجتمع. ولكن من خلال توحيدها بعض الناس على أساس بعض الثقافات الفرعية، فإنها تضعهم في معارضة مع الآخرين، وتقسم المجتمعات والطوائف. وقد تنشأ داخل هذه المجتمعات والطوائف نزاعات ثقافية. وعلى هذا النحو، يمكن للثقافة أن تؤدي أيضا وظيفة تفكيكية، وغالبًا ما تؤدي هذه الوظيفة بالفعل في سياق إضفاء الصفة الاجتماعية على القيم.

ويرى ارنولد ارنولدوف في دراسته عن علم الثقافة إن المُثُل والمعايير وأنماط السلوك تغدو جزءًا من الوعي الذاتي للشخصية. فهي تصوغ سلوكها وتنظمه. وبميسورنا القول أن الثقافة عموما تحدد تلك الأطر التي يمكن للشخص أن يتحرك ضمنها. فالثقافة تنظم سلوك الإنسان في الأسرة والمدرسة والعمل والحياة اليومية وما إلى ذلك عن طريق وضع نظام من التوجيهات والمحظورات. ويؤدي انتهاك هذه التوجيهات والمحظورات إلى فرض عقوبات يضعها المجتمع وتدعمها قوة الرأي العام وأشكال مختلفة من الإكراه المؤسسي. والثقافة، كنظام إشارات معقد، تنقل الخبرة الاجتماعية من جيل إلى جيل، ومن عصر إلى عصر. وبصرف النظر عن الثقافة، ليس لدى المجتمع آليات أخرى لتركيز ثروة الخبرة التي راكمها الناس. لذلك، ليس من قبيل المصادفة أن الثقافة تعتبر الذاكرة الاجتماعية للبشرية.

إن الثقافة، التي تركز على أفضل الخبرات الاجتماعية لأجيال عديدة من الناس، تكتسب القدرة على تجميع أغنى المعارف حول العالم وبالتالي خلق فرص مواتية لاستكشافها وتطويرها. يمكن القول إن المجتمع يكون مثقفًا إلى الحد الذي يتمكن فيه من الاستفادة الكاملة من أغنى المعارف الموجودة في الجينات الثقافية للبشرية. وتختلف أنماط المجتمعات التي تعيش على الأرض اليوم بشكل كبير، أولاً وقبل كل شيء، على هذا الأساس. وتؤثر الثقافة في مجال العمل، والحياة اليومية، والعلاقات الشخصية، والثقافة، بطريقة أو بأخرى، على سلوك الناس وتنظم تصرفاتهم، وحتى اختيار بعض القيم المادية والروحية. إن الوظيفة التنظيمية للثقافة مدعومة بأنظمة معيارية مثل الأخلاق والقانون. وكما أوضحت آنّا ماركوفا في دراساتها فإن الثقافة، باعتبارها تمثل نظامًا إشاريًا معينًا، تفترض المعرفة بهذا النظام وإتقانه. ومن دون دراسة أنظمة العلامات المتقابلة، فمن المستحيل إتقان إنجازات الثقافة. فاللغة (الشفوية أو المكتوبة) هي وسيلة للتواصل بين الناس. وتعتبر اللغة الفصحى بكل تجلياتها ومجالات استعمالها الوسيلة الأهم لإتقان الثقافة الوطنية. إن فهم عالم الموسيقى والرسم والمسرح يتطلب لغات محددة. للعلوم الطبيعية لديها أيضا أنظمة علامات خاصة بها. إن الثقافة كنظام معين من القيم تشكل احتياجات وتوجهات قيمية محددة للغاية لدى الإنسان. وفي أغلب الأحيان، يحكم الناس على درجة ثقافة شخص معين بمستواه ونوعيته. ويشكل المضمون الأخلاقي والفكري، كقاعدة عامة، معيارًا للقيم المتقابلة. ونستنتج من كل ذلك إن النظام الثقافي ليس معقدًا ومتنوعًا فحسب، بل إنه أيضًا متحرك للغاية. إنه عملية حية، ومصير حي للشعوب، في حركة دائمة، وتطور، وتغير. الثقافة جزء لا يتجزأ من حياة المجتمع ككل وموضوعاته مترابطة بشكل وثيق: الأفراد والمجتمعات الاجتماعية والمؤسسات الاجتماعية.

إذا لم يكن لدى الشعوب التي تسكن منطقة جغرافية معينة ماضيها الثقافي والتاريخي المتكامل، أو حياتها الثقافية التقليدية، أو مقدساتها الثقافية الخاصة، فإنهم (أو حكامهم) يواجهون حتمًا إغراء تبرير وحدة دولتهم بكل أنواع المفاهيم الشمولية، والتي تصبح أكثر قسوة ولاإنسانية كلما قل تحديد سلامة الدولة بالمعايير الثقافية. الثقافة هي الشيء المقدس للشعب، والشيء المقدس للأمة.

إن قيم أي مجتمع متجذرة بعمق في ثقافته، وهي تُشكل الأساس الذي تُبنى عليه المعايير والسلوكيات المقبولة. على سبيل المثال، تُقدّر العديد من المجتمعات الغربية الفردية والحرية الشخصية، مما يؤثر على جوانب مثل التشريع والتعليم، وحتى سوق العمل. في المقابل، تُركز الثقافات الجماعية على الانسجام والتضامن الاجتماعي، مما يُوجه التفاعلات الشخصية وهياكل المجتمع.

وتلعب الثقافة دورًا محوريًا في التنمية الاقتصادية للمجتمعات. فالشركات التي تُدرك الممارسات الثقافية المتنوعة وتُدمجها تميل إلى أن تكون أكثر ابتكارًا ومرونة. بل إن التنوع الثقافي داخل فرق العمل يُعزز الإبداع وتبادل الأفكار، مما يؤدي إلى حلول أكثر ابتكارًا وأداء مؤسسي أفضل إن ثقافة مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص هي أساس النجاح وتحاج دائما إلى تعزيز ثقافة الشمول والاحترام، مما يحفز النمو والتنمية المستدامة.

وفي محاضراته عن البعد الثقافي في أنشطة المجتمع يعتبر سكلوف إن التعليم هو المجال الذي يتجلى فيه تأثير الثقافة بشكل واضح. فكثيراً ما تعكس أنظمة التعليم القيم والأولويات الثقافية للمجتمع. على سبيل المثال، في البلدان التي يُركّز فيها التركيز على المنافسة والنجاح الفردي، يميل النظام التعليمي إلى تقدير الأداء الأكاديمي والتصنيفات. من ناحية أخرى، في الثقافات التي يُعدّ فيها التعاون والمساعدة المتبادلة أمرين أساسيين، تُعطى الأولوية لأساليب التدريس الشاملة والتعاونية.

الثقافة في مكان العمل. وفي عصر العولمة، تتزايد تعدد الثقافات في المجتمعات. ويمثل هذا التنوع تحديًا وفرصة في آنٍ واحد. ولجني ثمار هذا التنوع، من الضروري تعزيز ثقافة الشمول التي يشعر فيها كل فرد بالتقدير والاحترام. وعلى الشركات والمؤسسات التعليمية والحكومات جميعًا دورٌ في بناء مجتمعات شاملة وعادلة.

وينغي على الدولة أيضا دعم كافة أشكال المؤسسات في مسيرتها نحو الشمول. وتعاون خبراءها في مجال الموارد البشرية بشكل وثيق مع الإدارات لتطوير استراتيجيات إدارية تعزز التنوع والشمول، مما يساهم في بناء مجتمع أكثر عدلاً وازدهاراً.

***

د. فالح الحمــراني

أرى أن تبلور مفهوم «الفردية» ولاحقاً مبدأ «الفردانية» هو الحجر الأساس لمبدأ «حقوق الإنسان» الذي يعرفه عالم اليوم. لا ينبغي – طبعاً – تناسي الخلافات الواسعة حول مبدأ «الفردانية» في المجتمعات الليبرالية والتقليدية على السواء، لا سيما مع ربطه - إنصافاً أو تكلفاً – بالميل الطبيعي عند بني آدم للاستئثار بالمنافع قدر إمكانهم. ونعرف أن المجتمعات قد تعارفت منذ نشأتها، على مراعاة الجماعة، والتضامن بين أعضائها، واعتبروا هذه من الأخلاقيات الضرورية للعيش السليم.

عموماً، فإن الموازنة بين الفرد والمجتمع في الحقوق والتكاليف، كانت موضع جدل على امتداد التاريخ. في مختلف الأزمان، كان الفرد مطالَباً بغض الطرف عن حقوقه ورغباته، وبالاندماج في الكتلة الاجتماعية؛ كي يكسب لونها وهويتها. وفي المقابل، كانت ثمة محاولات لأفراد، أرادوا الانعتاق مما اعتبروه قيداً متكلفاً على حياتهم أو تطلعاتهم.

إنني مقتنع تماماً برؤية الفيلسوف المعاصر جون رولز، التي تدعو إلى موازنة حاسمة بين حقوق الفرد والجماعة. لكنني أعتقد أيضاً أن الفردانية بصفتها مبدأً وفلسفة، ضرورة للتقدم والحياة الكريمة، لا يمكن الاستغناء عنها، وأن مكانتها وأهميتها لا تقلان عن الحرية والمساواة، لا سيما في المستويين السياسي والتطبيقي.

كان آدم سميث، الاقتصادي الاسكوتلندي المعروف (1723 - 1790) قد تحدث في كتابه المرجعي «ثروة الأمم» عما أسماه «اليد الخفية». هذه الفكرة تعالج مسألة في عمق الجدل السابق الذكر، أعني بها الدوافع الشخصية، الأنانية في بعض الأحيان، وتأثيرها على الاقتصاد المحلي، وقدَّم رؤية عميقة جداً رغم بساطة عرضها، في بيان أن المبادرات المنبعثة من مصلحة شخصية، ضرورية لتحريك عجلة الاقتصاد.

وفقاً لهذه الرؤية، فإن المصلحة الشخصية هي الباعث وراء الغالبية الساحقة من تعاملاتنا مع الآخرين، في الأعمال والسوق وغيرها. ولو أردنا مراقبة النوايا، فإن غالبية الأفراد ينطلقون من نظرة ضيقة، أنانية نوعاً ما. لكن هذا التعامل، أياً كان دافعه، يؤدي بالضرورة إلى منفعة عامة. خذ على سبيل المثال شخصاً دخل المتجر لشراء معطف يقيه البرد. سوف يختار هذا الشخص المعطف الأنسب لحاجته وقدرته الشرائية، بغض النظر عن حاجات البائع أو ميول الجماعة. لكن البائع سينتفع من هذا التبادل، حتى لو لم يكن مقصوداً من جانب الشخص الذي أنشأ المعاملة. لا يقتصر الأمر على البائع، فالخياط الذي صنع المعطف والفلاح الذي أنتج المواد الخام، وعامل النقل الذي جلب هذه المواد، ثم جلب المعطف إلى المتجر، والحكومة التي تفرض ضرائب على المشتريات والدخل، سينتفعون جميعاً، بقدر قليل أو كثير، مع أنهم لم يكونوا مقصودين بالمنفعة، بل لم يكونوا أصلاً في ذهن الشخص الأول أو الثاني اللذين اشتركا في تلك المعاملة.

«اليد الخفية» ببساطة، أشبه بالحجر الصغير الذي ترميه في بركة كبيرة، فيحرك موجة تتسع كلما ابتعدت عن نقطة البداية. ذلك الحجر هو المبادرة الشخصية المدفوعة بمصلحة خاصة لفرد واحد، أما البركة فهي الاقتصاد الوطني، والموجات هي مجموع التبادلات التي تتولد نتيجة لتلك المعاملة الصغيرة. إنها خفية لأن أحداً لم يقصدها، مع أن المخططين وقادة الاقتصاد، يعلمون تماماً أنها ستحدث على هذا النحو، بل ويستطيعون تقدير حجمها وأثرها.

الواقع أن هذا يشبه تماماً دور الفرد الذي يحاول أن يصنع شيئاً لنفسه، لإشباع فضول أو صناعة ثروة أو مجد. لكنه – من وراء هذا – يضع لبنة جديدة في عمارة التقدم وعمران العالم. لو نظرنا إلى أبرز التطورات التي عرفها البشر، سنجد أنها نتاج مبادرات أفراد أرادوا منفعة أنفسهم، لكنهم أغنوا حياة البشر جميعاً.

الفردانية، رغم وصمها بالأنانية، قد لا تكون سيئة دائماً، بل لعلي لا أبالغ لو قلت إن قتلها وتحجيمها كان طالع سوء في أغلب الأحيان.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

"الطفل يعرف الأشياء ولا يعرفها مادام يجهل الحكاية".. رضوى عاشور

تمهيد:

ـ بلغني أيها الأمير السعيد...

وماذا بعد؟

أين اختفت الحكاية؟

استوقفني الطفل الذي يسكنني متسائلا، لماذا لم تعُد الجدات والأمهات اليوم، يجلسن في حلقات مع أولادهن وأحفادهن للحكي وغزل جميل الكلام ونسج عوالم الأسرار؟

هل في زحمة الحياة وبهرجتها الكاذبة، ضاعت الحكايات وانقضى زمنها؟

هل شَحَّ خيال الجدات والأمهات، بعد أن كُنّ حكّاءاتٍ بارعات يعرفن كيف تُنسج خيوط الحكايات والأحاديث اللذيذة وحلو الكلام؟

هل حين تخلّت الجدات والأمهات، والحكواتيون، والمؤسسات التربوية عن دورهم، هؤلاء بالتهافت على العمل والبحث عن لقمة العيْش المُرّة، وأولئك بتمرير الممجوج والمعطوب من البرامج الرخيصة التي لا تصنع رجالا أسوياء لمستقبلٍ ينهضُ على المغامرة والحلم والإبداع، فُتِحَ البابُ على مصراعيه أمام تُجّار الصورة والعنف والقتل، الباحثين عن الربح، لصُنع حكايات من صور وألوان تُمَجِّدُ القتل والغش والإرهاب؟

هل، لم تعد حكايات الجدات والأمهات مُقْنِعة في زمنِ هجْمةِ الوسائط التكنولوجية وسلطان الصورة؟

كيف يمكن ردُّ الاعتبار للحكي والحكايات التي توارت من حياتنا خلف جدار النسيان والإهمال، وسكنتْ ظِلاّ باردا بنت عليه العنكبوت عشها؟[1]

سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة انطلاقا من المحاور الآتية:

أولا: الطفل ذلك الأمير السعيد

الطفل، هذا الكائن الصغير البريء، القوي الضعيف، الغِرُّ الذّكي، الباكي المُبْتسم، السّاكنُ دفء الجوانح، القِطْعةُ من الكَبِد...

الطفل، هذا الذي يحْضُن العالم في بسمة، ويختزله في لُعبة، هذا الذي يُلوّن الوجود بضحكاته العذْبة الرائعة، هذا الذي حين نُناديه يبتسم فيخضرُّ أديم الأرض ويسْعد...

الطفل عالَمٌ وحده، على امتداد طفولته يصنع الوجود ويُشكّلُ الموجودات بخياله الجامح الذي لا تحُدّه الحدود ولا توقفُه الحواجز والعوائق، يُحيل الخيال مطِيَّةً للسفر البعيد والقريب، «فيجعل من العصا حصانا يسابق به الريح، ومن قطعةِ خشبٍ مُهْملَةٍ مُسدّسا أو سيفا يُحاربُ به عدوّاً يتربّص به الأماكن المظلمة والزوايا المنسية في غرفة نومه أو في أزقة الحي وردهاته، ومن سِلكٍ سيّارةً أو دراجةً يُسْمع أزيزها من بعيد وهي تقطع المسافات جيئة وذهابا، ومن وسادته صديقا يتجاذبُ معه أطراف الحديث، فيبُثُّه أحزانه وهمومه الصغيرة وأمنياته»[2]..

الطفل عالَمٌ وحده، معقَّد، مليءٌ بالأسرار والعجائب والأمنيات التي لا تنقضي، هو بكلِّ بساطةِ العالمِ وعفويته، حكايةٌ تتعددُ حِبْكاتُها.

الطفل.. هذا الذي قيل عنه أنه "مالئ الدنيا وشاغل الناس"، والذي أقام الفكر ولم يقعده لحد الآن،  والذي دفع ببعض المهتمين به إلى الكلام عن "عقيدة جديدة هي عقيدة الطفولة"، هذا الذي يُحْتفى به وبأعياده على امتداد السنة، هذا الذي تُنَظّمُ من أجله الأيام والأسابيع والمهرجانات..

أين هو؟

إنّه "يريد الوصول إلى القصر المسحور الزاخر بالأمنيات والأحلام الوردية المُفعمة سعادة ونشوة ودهشة، يسمع وقع خطاه على الحصى، يلفُّه ظلام الليل البهيم، والصمْت المُخيف فيُسلم قلبه الصغير للوساوس والخيالات.. هنا سيطل العفريت بوجهه البشع المخيف، وهنا سيخرج المارد الجبّار يحيل الوجود جمادا... هنا وهنا...

تتزاحم الصور في رأسه الصغير، يتشجَّع، يستجمعُ قواه ويُسرع الخطى نحو باب القصر الكبير، يقف عند عتبته، يرفع عينيه إلى الرقم الكبير، هو ذا باب القصر المسحور.. يدق...

يسمع صدى دقاته كأنها تطلع من بئر عميقة لا قرار لها، يُفتَح الباب.. يدخل..

يجد في استقباله شخصيات حكاياته القديمة والجديدة التي كانت جدته ترويها له وهو في فراش النوم، شهرزاد، شهريار، جحا، سندباد، احديدان، الشاطر حسن، علي بابا وآخرون، شخصيات يعرفها جيدا ويُحبّها.

تحضُنه شهرزاد أميرة الحكي، تُقبله وتسرد له الحكاية..

ـ بلغني أيها الأمير السعيد..."[3]

السؤال الآن، أين اختفى هذا الأمير السعيد وأين اختفت حكاياته؟

إن الدخول إلى العالم المعقد والسحري والعجائبي والفانتازي للطفل، يفرض علينا* أن نطرح سؤالا على أنفسنا، أين الطفل الذي يسكننا؟ هل ذاك الطفل المتواري فينا ما يزال حيا فينا ينبض بالحياة؟ وهل يمكننا التعامل مع الطفل في غياب طفل يسكننا؟

ثانيا: الطفل الذي يسكننا

إن دخول هذا العالم البسيط والمعقد في نفس الآن، يحتم علينا وبالضرورة، أن نُحرّر الطفل الذي بداخلنا، ونمدّه بأسباب الحياة لأنه الشرارة والجذوة التي تُبقينا على اتصال دائم بهذا العالم الشفاف العامر بالأسرار، وغياب هذا الطفل أو تغْييبُه أو إلْباسُه لبوس الراشد العاقل المتعقّل، يجعل أحكامنا وتعاملنا لا ينطلق من أرضية صلبة متماسكة تنهض على الوعي بالطفل وعالمه المحيط بالهموم الصغيرة والأمنيات الكثيرة، وتأخذ من كل جوانب المحيط لتحقيق الهدف للوصول به إلى الغايات المنشودة والكفيلة بصناعة المستقبل.

كيف لمن لا يدري عن الطفل الذي يسكنه شيئا، أن يفتح للآتي نوافذ يدخل منها النور والدفء، ومدارج السمو نحو الجمال والبحث والاكتشاف والمغامرة والسؤال؟ وكيف يبني طريقاً من لا يملك خريطة طريق واضحة المعالم والحسابات؟ وكيف يُرشِد من أضاع خريطته ومعالمه؟

عالم الطفل عالم رفيف شفّاف، لا يدخله إلا من ملك مفاتيحه، وإلا من نظر إلى داخله وجسَّ نبط الطفل الذي يسكنه، وإلاّ جاء ما يقدمه للطفل أعرجا كسيحا لا يستند إلى سر من أسرار الطفولة ولو مَلَكَ من المعرفة وزُخرُف الكلام ما يمْلأ الكتب والمصنّفات، لأن الطفل قبلاً، روحٌ شفيفةٌ تسكن شِغاف القلب وسُوَيداء الكبد، تبني عالما بالحب أولا ثم تُشَكِّل خاناته لبِنَة لبنة نحو المستقبل.

وبما أن "الطفل مشروع وجودي يسعى لأن يتحقق من خلال نمو إمكاناته وطاقاته ضمن الفرص التي يوفرها المجتمع"[4] ولحظات الدهشة الهاربة التي يسعى للقبض عليها والتي توفرها الحكايات وأدب الطفل عموما، كانت الحكايات حِرْزا وتميمةَ حِمايةٍ للطفل من كل اغتراب علني أو مبطّن بالألوان والإيقاعات والحركات التي تُغريه وتُزين له عالما ليس عالمه، وفي نفس الوقت تهدده وتهدد مستقبله في غياب شبه تام للحكايات  ـ ولأدبه بصفة عامة من مسرح ومجلات وألعاب وإذاعة...ـ التي تؤسس لأرضية صلبة متينة، تمنحه الثقة والمناعة والانطلاقة الواثقة، لكن في غفلة منا ومؤسساتنا الموكول لها حماية المستقبل ـ لأن الطفل هو المستقبل ـ وهذا ما فطن له "الآخر" الذي يعلم يقينا ما للحكايات من تأثير على حياة ومستقبل الأطفال، فتصدّى لها بِفيْضٍ من حكايات مضادة أكثر إثارة وجذباً، لتغريب عقليتهم وإبعادهم عن ثقافتهم وهويتهم ولغتهم ودينهم، وهنا نطرح السؤال، هل أطفال الوطن العربي محصّنون من الحكايات التي تبثّها الأجهزة الإلكترونية والحاملة للكراهية والغضب والتعصب..؟

نحن أمام هجمة شرسة تفرض الوعي بأهمية الحكايات ودورها في صناعة جيل سليم أولا، وثانيا إحياء ورَدِّ الاعتبار للحكايات إذا نحن أردنا "للمجتمع وللمستقبل أن يُحافظ على تماسكه الذهني والعاطفي والقيمي وتوجهه الوجودي"[5]، لأن الحكايات هدفها "تقديم نماذج من السلوك والمثل العليا المرغوب تمَثُّلُها ومحاكاتها لإشباع حاجات (الطفل) والإجابة على تساؤلاته، وتقديم الحلول لمآزم وتحديات الحياة، كما تُقدم للطفل النماذج المُفضّلة من السلوك والقيم مُجَسّدةً في أشخاص/أبطال، يشكلون في خصائصهم وتصرفاتهم وأدْوارِهم، المُثل العُليا المطلوب تعزيزها من ناحية، وأشخاص آخرون يمثلون على النقيض من ذلك الاستجابات المطلوب إطفاؤها أو صدُّها، أي يُمثّلون القيم المضادّة"[6]، وهي بالتالي ، كما تقول جوليا كريستيفا، تأخذنا إلى حافة الوجود، حيت تدعو مَشاهدها المُتخيّلة، القارئ والسامع، إلى أن يُصبح مسافرا مملوءا بالدهشة، بما فيها من مشاهد عجيبة، تُذكي الخيال وتُحرّك السؤال.

ثالثا: لماذا الحكاية في زمن الصورة؟

في زمن الصورة، وهجمة الصورة، وخبث الصورة، وعلى مرأى ومسمع من العالم، تتعرّض حكايات الأطفال لمحاولات مسخٍ صادمة وهدّامة تروم أولا وأخيرا، الهيمنة لطمس أثرها، وتفتيت صروحها، وتعطيل آليات بنائها، وتقويض أسباب الحماية التي تمنحها بالضرب في الأصل، لتبني على أنقاض غيابها وتراجعها، حالات من التبعية البليدة، مُستخدمة أكثر الأسلحة فتكا وخطورة، الصورة، لأنها السُّمّ في العسل، وما تحمله من إمكانات هائلة تعتمد على تقنيات تتطور كل يوم، بل كل ساعة، وتتسارع لضرب الأهداف النبيلة التي تبنيها الحكايات، مانحة الغلبة للصورة وسلطانها على المحكي والمكتوب، وبما أن الطفل "مستهلك لكل ما يقدمه له المحيط من إمكانيات، وباحثٌ نشِطٌ عنها"[7]، وفي غياب الحكاية، تنبعث الصورة من رمادها كمارد يعرف كيف يستميل ضحاياه، وكَسَهْم لا يُخطئ ضرْبته، ويتفنن الآخر، مالك الصورة وسلطانها، في شد انتباه الطفل، بل الدفع به إلى الإدمان المرضي للصورة، عبر الحركات والإيقاعات والألوان، بدون تسرع، وبتخطيط يعرف مكامن الإصابة، وينتظر بصبر، حين تشرئب  نفس الطفل التّوّاقة للحكاية، للتعلم وبناء الذات، وتثبيت قدمه لينطلق قويا إلى الأمام، فينْبري له هاجما، مانحا إياه أسباب الانكفاء والسقوط والدمار فيُخرّب ذاته وعوالمه البكر البريئة بيديه، ويصنع له حكايا جديدة تخزن في طياتها سمّاً قاتلا.

خاتمة كإطلالة على الآتي المُرتجى

تأسيسا على ما تقدّم، نعتبر الحكاية، بل أدب الطفل عموما، وبكل تنويعاته، ـ إذا أعطيناه الاهتمام اللازم ـ الوسيلة الفعالة والضامنة لحماية الطفل من كل تدخل تغريبي وتخريبي يروم تشويه ذاته وهويته، وطمس معالمها البريئة التوّاقة إلى التفتّح الدائم لاحتضان العالم. كما نعتبر الحكاية ورشة بنائية تظهر نتائجها بعد وقت يطول، وقد تصاحبه العمر كله، لأنها لا تحمل إليه المعرفة فقط، بل "تساعده على المران في تنمية قدراته، وتتيح له المتعة والترفيه، كما تحمل إليه إجابات على تساؤلاته وتوضيحا للألغاز الوجودية التي تجابهه، وحلولا للمآزم التي يمر بها على صعيد حياته".[8]

لا نريد لزمن الحكايات أن يختفي ويندثر أو ينقضي، ولا أن ينقطع أثرها، بل نريدها أن تحيى في صدور الجدّات والأمهات وكتب المدارس، وعلى ألسنة الحكواتيين، نريدها شُعلة تتّقد ولا تنطفئ جذوتها، ولا يخبو أوارها، وحصنا يدفع عن حمى الطفولة براثن التغريب والتشويه والتبعيّة والتفتيت.

لا نريد لجدار الصّمت أن يعلو شاهقا بالخوف والاستسلام والخنوع للصورة وجبروتها، ولا صيدا سهلا مسْتساغا لتُجّار الصورة وفتنتها.

نعم، في زمن العولمة والانترنيت والتواصل الاجتماعي، نريد أن تحضُر الحكاية قوية، تأخذ من الصورة فتنتها، ومن الكلام والحكي قوته، ومن لَمَّة ليالي السمر حمايته وأمْنَه، لأنها دفءٌ عائلي، وتَتَبُّعٌ للطفل من الزوغان والتلاشي والذوبان في ذات الآخر، ـ لأنه بهذه اللَّمّة ـ يكون تحت نظر وحراسة الحكواتي أو الجدة أو الأم أو المربي، ومن المغامرة أجوبة يبني بها عوالم قوية تتساوق والتي يعيشونها فاعلين ومؤثّرين، لا متفرّجين يُحسنون الضحك والتصفيق وإحصاء الخسارات والإحباطات بل منتبهين ومحصّنين.. وهنا لابد من تقديم تحية إكبار وإجلال للحكواتين المرابطين على خط السرد والقص، ماسكين على جمْر المواجهة يحْمون ثغر الحكايات، وللجدات والأمهات حارسات الحكايات اللواتي ما زِلْن يُحْيين فينا، جمال وعشق الحكايات بسردها وتوثيقها وتحصينها، رغما عن الهجوم القوي لسلطان الصورة، يحاربْن إلى جانب الحكواتيين والمهتمين بالشأن الحكائي والثقافة الشعبية، الطواحين التي تدهس وتطحن الأخضر واليابس، حيث لا تُبقي ولا تذر..

***

عبد الهادي عبد المطلب / المغرب

.....................

[1] عبد الهادي عبد المطلب ـ ساحة الكلام، نصوص مسرحية للأطفال (الجزء الثاني) الناشر صوماكرام 2018 بدعم من وزارة الثقافة (ص 10)

[2] نفس المرجع ـ ص 9.

[3] عبد الهادي عبد المطلب ـ المرآة ـ نصوص مسرحية للأطفال (الجزء الأول) ـ دار النشر المغربية 2005 (ص 15).

* على المهتمين بعالم الطفل: اسرة، مربون بالمؤسسات التربوية والمخيمات، صحافة، تلفزة...

[4] مصطفى حجازي مع مجموعة من الاختصاصيين. ثقافة الطفل العربي بين التغريب والأصالة. منشورات المجلس القومي للثقافة العربية 1990 ـ ص 46.

[5] نفس المرجع.

[6] نفس المرجع. ص 46

[7] نفس المرجع

[8] نفس المرجع ص 168

 

في رواية "سدهارتا" للألماني هرمان هسه، يصل راهب في مظهر متسول الى المدينة ويقع في حب فتاة جميلة، وعندما حاول استمالتها سألته: ماذا يمكنك أن تفعل؟ فأجاب: أنا اعرف اصوم وأتامل وانتظر. ولكن ما فائدة التفكير والانتظار والصيام، إن لم تكن حياتك سعيدة؟ يتأمل " سدهارتا " في سؤال الجميلة " كاملا " ويتساءل: هل حقا فقد سعادته؟. يكتب عالم النفس فيكتور فرانكل في كتابه " الإنسان والبحث عن المعنى " ان القوة التحفيزية الاولى للبشر هي النضال لإيجاد معنى لحياتهم: " لا ينبغي للإنسان أن يسأل عن معنى حياته، بل عليه أن يدرك أنه لا يمكنه أن يرد على الحياة إلا من خلال الإجابة عن حياته الخاصة " – الإنسان والبحث عن المعنى ترجمة عبد المقصود عبد الكريم -

وصل فكتور فرانكل إلى فلسفة معنى الحياة نتيجة لتجارب حياتية مرعبة، فقد كان سجيناً في معسكرات الاعتقال النازية، فقد زوجته ووالديه، هناك وجد نفسه مجرد رقم في معسكر يسير الناس فيه بأجساد تغطيها خِرق بالية، يعيش الواحد منهم على رغيف يابس: " لم أكن سوى الرقم 119 و104، ولم نكن نحمل أي وثائق، فيكفي كل فرد أن يملك جسده ورقمه " – سؤال الحياة ترجمة احمد الزناتي - عام 1945 يتم تحرير فرانكل من معسكر الاعتقال ليعود الى مدينته فينا وهو يحمل معه سؤال طارده اثناء فترة اعتقاله: " لماذا لم ينتحر برغم كل ما تعرض له من مآسي والآلام، فقد جميع افراد عائلته، تعرض لشتى صنوف التعذيب والمهانة؟. في البيت الذي ولد فيه، وشهد شغفه بالقراءة، جلس السجين السابق فكتور فرانكل وقد بلغ من العمر الآن " 40 " عاما، ليكتب تجربته عن النجاة والبقاء على قيد الحياة، وعن المعاناة التي تعرض لها، وعن مصادر قوته من أجل البقاء على قيد الحياة، ونجده وهو يتحدث عن تجربته في كتابه الشهير " الإنسان والبحث عن المعنى " يستشهد بكلمات نيتشه التي يقول فيها: " من لديه سبب للحياة يمكن أن يتحمل أي شيء تقريبا مهما يكن ". يرى فرانكل ان اعظم مهمة لأي شخص في الحياة تتمثل في أن يجد معنى في حياته. وقد رأى فرانكل ثلاثة مصادر لمعنى الحياة: في القيام بعملك باخلاص وتفاني، في الحب والاهتمام بالآخرين، في الشجاعة اثناء الاوقات العصيبة، وهذه المصادرة الثلاثة هي التي تمنحنا السعادة. يكتب سينيكا: " حتى العيش يمكن أن يكون تصرفاً شجاعاً ". اعتاد علماء النفس جعل السعي وراء السعادة محور نظرياتهم التي تتعلق بالسلول الإنساني. كتب سيجموند فرويد: " لقد طرحت مسألة الغاية من حياة الإنسان مرات لا تحصى ولا تعد. غير انها لم تصل إلى اجابة شافية.. لهذا دعونا ننتقل إذن الى السؤال الأقل طموحاً والمتعلق بما يظهره البشر من سلوك يعكس هدفهم وغايتهم من الحياة ويتمنون تحقيقه؟ إن الإجابة عن هذا لا جدال فيه، إنهم يسعون وراء السعادة، ويرغبون أن يصبحوا سعداء دائما " – الموجز في التحليل النفسي ترجمة سامي محمد علي –

بعدما خرج فيكتور فرانكل من المعتقل، ظل يطرح على طلبته سؤال: " لماذا يتمكن البعض من النجاة ؟ ولماذا يعجز آخرون عن ذلك؟، ما الذي حدث في داخلي كي اخوض هذه الرحلة الطويلة للخروج من الجحيم؟. يجيب فرانكل: " كل يوم كل ساعة تتاح لك فرصة لاتخاذ قرار، قرار يحدد ما إذا كنت ستخضع أو لا لتلك السلطات التي تهدد بسلب ذاتك، حريتك، قرار يحدد ما إذا كنت ستصبح العوبة في يد الظروف ام لا، متخلياً عن الحرية والكرامة.. يبقى لديك خيار واحد ان يتحكم في موقفك الداخلي تجاه الحياة. قد نجد معنى في مجرد وجودنا، وتلك سعادة لا يمكن لأحد أن يسلبنا إياها " – صرخة من اجل المعنى ترجمة عبد الكريم عبد المقصود -.

نميل، عموما إلى الاعتقاد أنه ينبغي علينا، لكي نكون سعداء، ان نتجنب المعاناة، لكن يبدو ذلك حلماً غير قابل للتحقيق. من المستحيل أن نكون بمنأى عن المعاناة، بيد انه يمكننا تحرير إدراكنا لها. يؤكد فيكتور فرانكل انه اكتشف سعادته الحقيقية من خلال البحث عن معتى لمعاناته. يحاجج بأن البشر يمكنهم تحمل المعاناة مهما بلغت، إذا كانت هذه المعاناة تحمل معنى، أو بالأحرى إذا استطعنا أن نضفي عليها معنى. من السهل رؤية المعاناة على انها عائق امام حياة سعيدة ومزدهرة، ولكن كما يقول فرانكل: " من دون معاناة، لا يمكن للحياة البشرية أن تكتمل ". فالكفاح في الحياة هو الذي يصوغ لنا سعادتنا الشخصية.

في السادس والعشرين من آذار عام 1905 ولد فيكتور إميل فرانكل في العاصمة النمساوية فيينا لعائلة من الطبقة المتوسطة ، الاب كان صارما في طباعه يصفه بانه " يسير وفق مبادئ لا يحيد عنها "، ينتمي لعائلة فقيرة استطاع ان يتفوق في دراسته ليحتل منصبا وظيفيا كبيراً، لكنه سيخسر وظيفته ويموت في احد معسكرات الاعتقال النازيه، ويتذكر فرانكل كيف انه شاهد والده سيادة المدير ياأكل قشور البطاطا التي كان يلتقطها من براميل القمامة في معسكر الاعتقال. اما امه فقد كانت تنتمي الى عائلة ارستقراطية من اصول تشيكية.. يخبرنا فرانكل انه ابصر نور الدنيا في مقهى زيللر الشهير في مدينة فيينا: " إذ جاءت امي آلام المخاض في ظهيرة يوم ربيعي مشرق "، وقد اجبرت الام ابنائها الثلاثة على ممارسة الطقوس الدينية، في المقابل كان الأب يعتنق الفلسفة الرواقية، فلم يكن يغضب بسرعة، يحاور ابناءه في الكثير من القضايا. كان الاب يريد لابنه الكبير ان يصبح رجل قانون، إلا ان شغف فرانكل بكتب الفلسفة منذ صغره جعلته يطمح ان يكون ان يكون رحالاً.

يتذكر الصبي شعور الأمان الذي كان يشعر به وسط عائلته: " لم يكن شعور الأمان الذي طوقني مبعثه التأملات والافكار الفلسفية بالطبع، بل المحيط الذي عشت فيه "، سيجد في مكتبة والده ضالته، كتب في الفلسفة وعلم النفس، وقد اخبره والده ان البيت المقابل لهم كان يسكنه عالم النفس الشهير " الفريد ادلر " مؤسس علم النفس الفردي. في الخامسة عشرة من عمره يلقي محاضرة عن " معنى الحياة " في مركز يهتم بتعليم الكبار، وقد ركزت المحاضرة على فكرتين: الاولى، يحب علينا ألا نسأل عن معنى الحياة: " فالسؤال موجه الينا نحن، ومنوط بنا تقديم جوابنا عن سؤال الحياة، وليست في مقدورنا الاجابة عن اسئلة الحياة إلا أن ناخذ على نفسنا مسؤولية وجودنا في الدنيا "، اما الفكرة الثانية التي طرحها فيكتور فرانكل فيذهب فيها الى أن: " المعنى النهائي للحياة يتجاوز طور مشاركتنا، أو لنقل، لا مناص من أن يتجاوزه وقصارى القول هو (المعنى الأسمى " كما اطلقتُ عليه، لكنه ليس أمراً خارقاً للمألوف، هو معنى لا يسعنا إلا الإيمان بوجوده او يجب علينا الإيمان بوجوده. في نهاية المطاف، إن كل واحدٍ منا يؤمن بوجود هذا المعنى، حتى لو كان إيماناً لا واعياً " – فرانكل سؤال الحياة ترجمة أحمد الزناتي –. اثناء الحرب العالمية الاولى تفرغ لقراءة اعمال الفيلسوف الالماني أوزوالد شبنجلر وخصوصا كتابه " تدهور الحضارة الغربية " واعمال عالم النفس التجريبي غوستاف فيشنر، يملأ دفتراً مدرسياً بالملاحظات وسيختار لما كتبه عنوان طموح " نحن وآلية طموح العالم ". ينهي دراسته الاعدادية، ينظم الى دروس ومحاضرات عن الطب النفسي، في المدرسة الاعدادية يقرر ان يبعث برسائل الى فرويد: " كنت احاول اجتذاب انتباهه، وكان فرويد يجيب على الفور عن كل خطاب أرسله اليوم ". بعد الاعتقال ستتم مصادرة مراسلاته وبعض الكتب بخط فرويد كان قد اهداها اليه. يلتقي فرويد لمرة واحدة عندما كان طالبا في الكلية، لكنه بعد ذلك سيقع تحت تاثير افكار الفريد ادلر الذي ساعده على نشر مقالاته عن علم النفس. بعد ذلك سينشيء مدرسة العلاج بالمعنى وهي المدرسة التي كانت تهدف الى معالجة مرض القرن، وهو شعور الناس بخلو الحياة من المعنى. فقد لا حظ فيكتور فرانكل ان هناك احوال متوهمة ومأزومة للوجود لا يرتبط أصلها باسباب عقلية او عضوية، إنما أسبابها تضرب بجذورها عمقاً في الأبعاد الروحية والفلسفية للفرد: " ان مهمة المعالج النفسي أن يعيد للمريض حب الحياة والنوايا الطيبة لمجتمعه، عبر مناقشات حساسة لقيمة العيش واهمية السعادة " فيكتور فرانكل الشعور بانعدام المعنى ترجمة آراك الشوشان -. عام 1938 السنة ضم فيها هتلر النمسا صدر قرار بابطال جواز سفره واغلقته عيادته الخاصة ، عام ١٩٤١، يتزوج من من تيلي جروسر، التي كانت تعمل ممرضة، يتم اعتقالها بعد تسعة اشهر من الزواج، لتموت في المعسكر. بعد اشهر يتم اعتقاله مع جميع افراد عائلته وينقلون الى معسكر أوشفيتز، يتوفى والده عام 1943 بسبب الجوع، وستلحقه والدته وشقيقه وحماته، وفقد اضافة الى ذلك مخطوطة النسخة الاولى من كتابه " الطبيب والروح ". بعد تحرره من معسكر الاعتقال في السابع والعشرين من شهر نيسان عام 1945 على يد القوات الأمريكية، تم تعينه في المستشفى العسكري المخصص للمهجرين. عمل هناك شهرين، حتى استطاع في صيف عام 1945 العودة الى فينا، ليبدأ باعادة تدوين كتابه " الطبيب والروح "، ويلقي محاضرات عن علم نفس معسكرات الاعتقال، في هذه السنوات يؤسس لمدرسة جديدة في العلاج النفسي وصفت بأنها المدرسة الفينيية الثالثة بعد مدرسة فرويد ومدرسة ادلر. مدرسة فرانكل تضع إرادة المعنى، والحرية، والكرامة، والمسؤولية، وسعادة الإنسان في قلب اهتماماتها: " إذا اردنا إبراز أمكانيات الإنسان في افضل حالاتها، يجب علينا في البداية أن نؤمن بوجودها وحضورها. وإلا فإن الإنسان سوف ينجرف. سوف يتدهور. ويجب ألا ندع إيماننا بالإمكانيات الإنسانية للإنسان يعمينا عن حقيقة ان البشر الإنسانيين أقلية، وربما سوف يظلون أقلية دائماً، ومع ذلك فإن هذه الحقيقة بالذات هي التي تتحدى كل واحد منا للإنظمام إلى الأقلية " – صرخة من اجل المعنى -.

واصل فيكتور فرانكل نشر العديد من الكتب التي سجل فيها خبراته الشخصية كما عاشها منذ لحظة اعتقاله حتى تحرره ونجاته، ورصد ما يجري داخل نفس الانسان عندما يتعرض لمحنة: " ينبغي ان لا ننسى ابداً اننا قد نجد أيضاً معنى في الحياة حتى حين نواجه وضعاً ميؤوساً منه، أو حين نواجه مصيراً لا يمكن تغييره. ما يهم إذن أن يكون المرء شاهداً على الإمكانية البشرية الفريدة في افضل حالاتها، أي تحويل ماساة شخصية إلى انتصار، ومأزق الإنسان إلى إنجاز إنساني. حين نكون قادرين على تغيير موقف، يكون أمامنا تحد لتغيير أنفسنا.

باعت كتب فيكتور فرانكل ملايين النسخ، عاش سنواته الاأخيرة في فيينا ورفع شعار المصالخة بدلاً من الانتقام، وقال ذات مرة: " لا أنسى اي عمل صالح قُدم إليَّ، ولا احمل ضغينة على عمل سيئ ". وقد ظل يعمل رئيسا لقسم الاعصاب في مستشفى فيينا حتى تقاعده، قال انه رأى معنى لحياته في ان يساعد الآخرين أن يروا معنى لحياتهم.

 توفي فيكتور فرانكل، نتيجة أزمة قلبية في الثاني من ايلول عام 1997، وعاش حياته التي تحاوزت التسعين عاماً، شغوفاً بفهم بالنفس البشرية والبحث عن عمّا يخفّف من آلامها ويرتقي بسعادتها

تجربة مريرة عاشها فرانكل كان فيها يسير، بشكل يومي، على خيط واهن بين الحياة والموت، وقد أجبره ذلك على البحث بشكل يائس عن مصادر للمعنى من شأنها أن تمنح الإنسان سببا للمواصلة والمضي قدما والاستمرار في المقاومة وقمع الرغبة الملحة في الاستلقاء والاستسلام ببساطة.

قاده بحثه داخل معسكر الاعتقال إلى اكتشاف إن سعادته الإنسان الحقيقية تكمن يمن خلال الحب، وفي الحب: " لقد فهمت كيف لرجلٍ لم يتبقَ له شيء في العالم ما زال يعرف معنى النعيم، حتى وإن كان للحظةٍ وجيزة، من خلال التأمّل في محبوبه " – الإنسان والبحث عن المعنى –

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

تحليل سيكولوجي

آخر حدث: أفاد مصدر أمني، يوم السبت (26 نيسان 2025)، بأن "طالبة في المرحلة الأولى بقسم القانون في جامعة (الإمام الصادق) ضمن محافظة النجف، أقدمت على الانتحار داخل الجامعة، بعدما رمت بنفسها من الطابق العلوي إلى الأرض".

وقبلها:

 اقدمت فتاة من مواليد 2004 على الأنتحار داخل منزلها في قضاء الزبير بمحافظة البصرة بسبب رسوبها في الأمتحان.

 قامت فتاة بعمر الـ 17 عاما بشنق نفسها بشال (قطعة قماش لغطاء الرأس)، كانت قد علقته في سقف حمام منزلها، بمنطقة سبع قصور شرقي العاصمة، بعد رسوبها في الامتحانات. وأكدت الشرطة أن “هذه الحادثة هي الثانية خلال 48 ساعة حيث اقدم طالب في الصف الثالث المتوسط ويسكن وسط قضاء الحويجة (55 كم جنوب غربي كركوك)، على الانتحار من خلال شنق نفسه بحبل داخل المنزل.

 افادت وسائل إعلام محلية أن شاباً تولد 2004 اقدم على شنق نفسه بواسطة حبل معلق بسقف غرفته داخل منزله ضمن قطاع 7 في مدينة الصدر، شرقي العاصمة بغداد، وأن طالباً تولد ٢٠٠٩ أطلق النار على نفسه من سلاح نوع مسدس يعود لوالده في منطقة الحرية.

 اقدم شاب تولد 2007 على الانتحار داخل منزله ضمن منطقة حسينية المعامل بتناوله مادة الزرنيخ لرسوبه سنة ثانية.

 انتحار الطلبة «يتفاقم».. تسجيل 7 حالات خلال الـ 72 ساعة الماضية في بغداد وكركوك (4 تموز 2024 مانشيت العالم الجديد).

وتفيد الأحصاءات بأن 2000 حالة انتحار حدثت في العراق خلال اربعة اعوام.. معظمها طلبة.

فلماذا؟

من عادتي انني استطلع الرأي في ظواهر خطيرة كهذه.. واليكم نماذج من اجابات اكاديميين وأعلاميين:

 الاعلامي جعفر يونس العقاد

الجامعات الأهلية تفقد كل أخلاقيات المهنة امام الاقساط تعامل الطلبة كانهم في سوق تجاري ومن لايملك المال يخرج مهانا.

 د. علا الجلاد

ضعف الروابط الاجتماعية والشعور بالوحدة وعدم الاستقرار السياسي وكذلك ضعف الإيمان قد يجعل الإنسان عرضة أكثر للشعور بالفراغ الوجودي (Existential Emptiness) أو اليأس (Despair)، مما قد يفتح باب التفكير بالانتحار خصوصًا عند تراكم الضغوط.

 أ. د. الكفائي

الطالبة تعرضت الى اهانة كبيرة من قبل رئيس القسم وامام زملائها لعدم دفعها اجور الدراسة وهي تعاني اساسا من الفقر والعوز المادي.

 د. صباح محسن كاظم

كلفة الأقساط الكبيرة بالجامعات لاتمكن العوائل الفقيرة من الدفع، مع التفاوت الطبقي بين الثراء- غير الشرعي- والرواتب المحدودة.. أحد تلك الأسباب.

 المحامي: يحيى الدلي حسين

معظم الجامعات العراقية تفتقر إلى برامج دعم نفسي أو إرشاد أكاديمي فعال ؛ كذلك عدم الاستقرار السياسي والعنف المستمر في العراق يُسبب شعورًا عامًا بعدم الأمان أو انعدام المستقبل.

 جليل الجشعمي

التدمير الممنهج للتعليم من قبل قوى سياسيه ظلاميه ماسكه بالسلطه والتي جعلت من طلبة الجامعات الفئه الأسوء بالوعي الوطني والمجتمعي لذلك تكون هذه الحوادث نتاج طبيعيه.لو تسأل اي طالب في اي مرحله (ما هي أمنياتك في المستقبل). دائما يكون الجواب.. ضحكه شارده/ بعدها صفنه/ بعدها لا يوجد جواب لشريحه المفروض أن تكون متقدمه بالوعي والفكر والثقافه

 طارق حسين

هناك معلومات تشير إلى تعرض الطالبة للضغط من قبل إدارة المدرسة ومنعها من دخول قاعة الامتحان وسحب الباج الجامعي منها بسبب عدم تسديدها لمبلغ الأقساط الفصلي الذي عجزت عن سداده كونها من عائلة فقيرة مما أدى بها للإنتحار..

 علاء الخزرجي

الطالبات يتعرضن لأنواع الضغوط في الجامعات العراقية أهمها ١-ابتزاز بعض ضعاف النفوس من التدريسيين وربما الاداريين لبعض الطالبات وخاصة الجميلات منهن. ٢-علاقات الحب وماينتج عنها من فراق أو خيانات وغيرها. ٣-المشاكل المادية لبعض الطالبات من العوائل الفقيرة مقارنة بغيرهن من الطالبات من العوائل الميسورة

 كريم حنتوش الموسوي

بشكل عام الضغط النفسي بسبب اليأس الذي يحصل عند الطلبة أما بشكل خاص هذه الطالبة تعرضت إلى صدمة افقدها التوازن في اتخاذ القرار المناسب لمواجهة الأزمة قد يكون خبر زواج حبيبها أو خبر رسوبها.

تحليل سيكولوجي

ثلاثة اسباب وراء ظاهرة انتحار طلبة الجامعة..

الأول: خلل في تركيبة شخصية المنتحر

تفيد الدراسات العالمية والعراقية أن هناك صنفين من الأفراد الذين يرتكبون الأنتحار، الأول.. وصولهم الى حالة اليأس المطلق فيلجأون الى الأنتحار كوسيلة للهرب، والثاني، النظر الى انفسهم انهم صاروا عبئا على الآخرين، فيعاقبون انفسهم بالأنتحار.

الثاني: مجهولية المستقبل:

اكثر ما يشغل الشباب هو التفكير بالمستقبل.. ما هو طموح الشاب؟ ماذا يريد ان يكون؟.. فأن كانت الظروف السياسية والاجتماعية والعلمية.. ليست لصالحه فانه يعيش حالة احباط تؤدي بالبعض الى اكتئاب شديد يجبره عى التفكير بالأنتحار كوسيلة للخلاص.

ويشير واقع الحال الى ان الشباب في العراق كانوا قد صبروا اربع سنوات بعد تشكيل الحكومة في 2006 التي رأسها السيد نوري المالكي، ثم اربعا أخرى في حكومة المالكي الثانية التي شاع فيها الفساد.. وضاقت بهم السبل فتفرقوا بين من هاجر وغادر الوطن، وبين من لجأ الى المخدرات هربا من الواقع وبين من انتحر وبين من صبر.

الثالث: تدني جودة التعليم العالي

كان التعليم العالي في العراق من اجودها على صعيد العالم العربي، وتراجع.. وتدهور بعد 2003 بتولي الوزارة عناصر غير كفوءة، بدءا من السيد علي الأديب وانتهاءا بالسيد نعيم العبودي. وحصل ان زاد عدد الجامعات والكليات الحكومية والأهلية الى (51جامعة حكومية (بضمنها 15 في إقليم كردستان) و91 جامعة وكلية أهلية (بضمنها 14 في إقليم كردستان)، وأكاديمية واحدة للشرطة – بحسب مصادر).وصار هدف معظمها.. هو الربح المادي.

الثالث: الأسرة

يعود السبب الرئيس لظاهرة انتحار الطلبة بسبب رسوبهم في الأمتحانات النهائية، الى طريقة تعامل الوالدين مع أبنائهم، وبخاصة الأب. وتشيع بين هذا النوع من الآباء أساليب التهديد والوعيد والتحقير. فقبل الآمتحان يهدد الأب ابنه قائلا: (شوف ولك.. اذا رسبت ما اريد اشوف شكلك)، ولا يدرك هذا الأب أن هذا التهديد يؤثر سلبا على حفظ ابنه للمادة، لأن فكره سينشغل بما سوف يعمله ابوه به. وأن رسب فأن ابوه سيسمعه عبارات التحقير(غبي.. ما تصيرلك جاره، الله ابتلاني بيك).

ولهذه الظاهرة وجه آخر يتعلق بهذا النوع من الطلبة، فرغم توفير كل الأجواء المناسبة لهم من تكييف في غرفهم ومدرسين خصوصي، فأن هناك تكاسلا عند بعض الطلبة وعدم الرغبة في الدراسة والاجتهاد، مقارنة بزمان آبائهم وامهاتهم يوم كانوا يتسابقون في النجاح وهم يدرسون على ضوء الفانوس واللالة، وما فكروا يوماً في الانتحار.

ونوضح نقطة مهمة.. ان التعنيف من قبل الأهل قد لا يؤدي وحده الى انتحار الطلبة، فكثير من ابناء جيلنا تعرضوا لهذا التعنيف وما انتحروا، ما يعني أن الأمر ارتبط الآن بدخول عامل جدديد رافق الضعط الأسري هو الغزو الثقافي الذي بدأ يعطي ثقافة الانتحار والتمرد على الأسرة والأهل ويصفها بالحرية الشخصية، وإيصال فكرة أن الانتحار عملية سهلة للتخلص من الضغوط!.. فضلا عن ان مواقع التواصل الأجتماعي اسهمت في ابعاد هؤلاء الشباب عن الدين، الذي ينبّه ويحذّر من أن الأنتحار حرام في الدين الأسلامي، وان مصير من يرتكبه هو جهنم.. بجريمة قتل النفس التي حرّم الله قتلها الا بالحق.

ما المطلوب سيكولوجيا؟

جهتان مسؤولتان عن الحد من ظاهرة انتحار الطلبة هما (الجامعة والأسرة).. في ان يعاد الأصلاح الى التعليم العالي والأرتقاء بجودة الأداء العلمي للجامعات العراقية الحكومية والأهلية، والثاني.. أن يكون تعامل الوالدين بتوفير اجواء نفسية مريحة لأبنائهم خلال أدائهم الأمتحانات النهائية، تنمي لديهم الثقة بالنفس والطموح في ان يكون مهما في المستقبل، و بعيدة بشكل مطلق عن لغة التهديد والوعيد والتحقير. والثاني.. ارشادهم الى كيفية استخدامهم لوسائل التواصل الأجتماعي التي صارت في هذا الزمان الأب الثالث لهم بعد ان كان الوالدان والمعلم هما الأبوان في زماننا.. وان يكون لوسائل الأعلام دور في نشر الثقافة النفسية بين الشباب تحديدا.. تشيع التفاؤل بين جيل سيتولى ادارة شؤون اجمل وطن في المنطقة!

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

تُكلِّمُ الناسَ مشافهةً أو رسْماً؛ وأنت تتقَصَّد الإيضاحَ والتأثيرَ من خلال الأسلوب الذي تنهجه وتكتب به، تحاول جهدَك إبرازَ أفكارك وترجمةَ عواطفك، وما يجول بخَلدك وخاطرك، تختار الألفاظ وتؤلِّف بينها بالصنعة التي تتقِنها. فكان النغم والرقص، وكان الرسم والنقش، وكان الشعر والنثر... وتلك كلها أساليب تعبيرية اختلفت أشكالها واتفقت غاياتها ومراميها. وقد انزوى كل ضرب من ضروب الإبداع وفنونه مُتحصِّناً في بُرجه، جاعلاً لفضائه حدودا معلومة، وقواعد لا ينبغي الزيغان عنها، فأضحى كل منتمٍ لفضاءٍ مختصّاً فيه، مُنافحاً عن حِماه. فأبدعواْ وبرعواْ وتفنّنواْ في الصّنوف الأدبية والإبداعية عبر كل العصور، وفي كل الحضارات. وصار الكلام رافديْن: شعراً ونثراً، واجتهد محترفوه في صقله وتبيانه، فنشأت الكتابةُ حرفةً، وتماهى العربي مع لسانه، فكان لسانُه أيامَه وديوانَه مما ينْظُمُه أو ينثُرُه. وازدادت نشْوتُه لما تقدّس هذا اللسان بالوحي من السماء، فراح ينتشي بتحديد قَدِّه وقِوامِه، أو تعديل حوَرِه، وتهذيب فلَجِهِ، فكان البيان والبديع والمعاني. لكن الحدود بين المملكتين الحصينتين – الشعر والنثر – ظلت مصونة ومحفوظة وإلى عهد قريب، إذ شرعت أرقام هاته الحدود تتكَسَّر وتغيب معالِمُها، فعُدّ ذلك الخروج والتجاوُز لوناً إبداعيّاً استساغته حضارتنا اليوم.

تزخر الساحة الإبداعية اليوم بأشكال إبداعية متنوعة، ولكل شكل قواعد. واحتضنت، كل شكل إبداعي، مدارس تتباين مناهجها وقواعدها؛ والتي بدورها عرفت تجاوزاً وتخطِّيّاً لضوابطها، فلم يعد الروائي العربي مقيدا بالبناء السردي التقليدي، ذلك أنه انفتح على ضروب فنية أخرى يؤثث بها عمارته. كما أن النص الأدبي تم تكسيرُ بنياته؛ وهو الشأن الذي دأب عليه الشاعر والمبدع اللبناني بول شاوول (1942م)؛ ذاك الذي قدّم لنص «على صهوة الكلام» للمفكر والروائي المغربي عبد الإله بلقزيز، علماً أن بول شاوول يشْغَب على الكتابة أيّاً كان مصدرها، وينْبِش في الهوامش الحياتية، وكتاباته، التي يعتمدُها، مشوبةٌ بقلق ملازم لفعلها وبأسئلة تستفيضُ عن المكان. وإذ يقدِّم لنص رصينٍ ومصنوعٍ بكل دقة وعناية، فمَبْعَثُ ذلك عائد إلى التقاطع مع صاحب هذا النص، إن في المعنى أو في الشكل.

شغب «على صهوة الكلام»

أحسب أن بول شاوول يتقاطع مع عبد الإله بلقزيز في الانزياح نحو النص المفتوح؛ انزياح يرتبط بنزعة تمرُّديّة على الجنس الأدبي الرتيب، والذي يتحصَّن بقوانين ويتخندق خلف قواعد لا يزيغ عنها. قواعد تمَّ التوافق والتواضع عليها؛ تُغلِّقُ الأبواب على من اقترب من هذا الجنس أو ذاك. وإذْ يتمرّدُ بول شاوول على قواعد الكتابة الكلاسيكية وعبد الإله بلقزيز، فمردُّ ذلك إيمانهما بأن التجريب يفسح المجال للنص لكي يمتح من جمالية مفتوحة؛ كما يسمح التجريب بالعبور من فضاء إبداعي إلى آخر، ويخلق النظرية العابرة لا الثابتة. فالتجريب هو مستقبل الكتابة وهو المجهول والسؤال، بينما النظرية هي المعلوم والجواب. من هنا يأتي شغب بول شاوول المتواصل على الكلام حين يتكلم أو يكتب، وهو المعتاد على النبش في الهامش الحياتي، يكتب بتقنية تسمح له بطرح أسئلة مصحوبة بقلق يرافقه في عملية الكتابة؛ يأتي المكانَ بعدما تمُرُّ العاصفة وقد دمّرت ومزّقت وقتّلت... ليقوم هو بإعادة البناء ويردم الصدع ويُحيِي الصورة من جديد، في هدية يقدمها للذين يموتون خلف أعمارهم. بناء يعجّ بكثافة المخزون البصري الذي توفره جغرافيا المكان، أو يستخلصه مما تقذفه دواليب المطابع من قصاصات أخبار وأحداث تصنعها أيادٍ آثمة بالوطن العربي، والقضية الفلسطينية في مقدمة هذه القصاصات.

أعمَلَ بول شاوول النظر في نصّ بلقزيز، فوَشّاهُ بتقديم تحت عنوان «السيرة ولعبة الكلام العالي»، حيث طوى في بِضْع صفحات كل ما سمح به البوْحُ في نصّ «على صهوة الكلام». وقد اعتبر فعل الكتابة أيّاً كانت سيرةَ صاحبِها: «أو ليست كل كتابة سيرة؟ هنا السيرة، مساكن مهجورة، بمواصفات محظورة، أو فائضة، أو خبيئة»[2]. لفَّ حول النصّ فاستوعبه، وقدَّمه في هذه الصفحات موجزاً، مع إحساس بأن النص يتفلّت ويجْمَح على أن يُتحكّم فيه بالرّسَن واللجام، الأمر الذي حدا بشاوول إلى سياسته والتهدئة من روْعه بعلامات ترقيم تكاد تنعدم في المتن المقدّم له وأخصّ نقط الحذف. استعمل نقط الحذف بمعدل علامتين في الصفحة؛ وللحذف في النص وظائف، من أهمها: السكوت عن كلامٍ نتعفّفُ أن نخدش مسامع القارئ به، أو اعتقاداً منّا أن الكلام المحذوف معروف لدى المتلقي، أو لفسح المجال للقارئ أن يعمل مخيلته في الموضوع ويتفاعل مع النص وأحداثه... وبول شاوول وظّف اسلوب الحذف لاستعصاء القبض على النص، هذه واحدة، أما الثانية، فيُحيل القارئ على المتن ليمْتَع بقرائته. كما أنه وظّف، للغاية نفسها، الجملة المكثفة في أقصى صورها من قبيل: «وعند عبد الإله فقدان مضاعف. لا أب. أو أم. بل ما يعوض عنهما: الجدة، الخالة...الحنان كأنما حقيقة الطفولة، وردم العزلة، والخسران»[3]؛ أو من قبيل: «إنها المعاني بامتياز. السيرة معنى. والجدة معنى. والشعر معنى. والموت معنى. لأنها سؤال»[4]. فكل مقطع من هذه المقاطع يمكن نشره في فقرات وصفحات. كما استعمل العلامات الثلاث: الفاصلة، والفاصلة المنقوطة، ثم النقطة. تهذيباً لسرعة القراءة، وإضفاءً لموسيقا ينتظم المزاج عليها.

على حدود المملكتين الحصينتين

اضطرته مطالعاته واحتكاكه بالكتاب والكتابة، وهو «الذي انغمست رأسُ[ـهُ] في أوحال القصيد، وما روى الرُّواةُ من أيام العرب»[5] وذلك منذ بداياته الأولى، إلى أن تواجد على تخوم «مملكتين حصينتين»؛ مملكة الشعر ومملكة النثر، يترنم بصوت حادي الحدود، يغازل النظم فيغرف منه معين اللفظ وشهي المعنى، ويداعب النثر فينهل منه حَسَن العبارة وجميل الفكر، أو يزاوج بينهما فيستطيب السرد والحكي، وتتراقص شذراته عذوبة وموسيقا؛ إنه في رحلة دائرية «على صهوة الكلام يعبر هذه المنامات بدونكيشوتية المغامر سابر الأغوار، ومحرك السادر، ومخلخل اليقين، والحقائق، وما يستتبعها من إرثها، وقوالبها، وعوالمها، وأشتاتها»[6]. وبهذه الغارات والمناورات، وعلى مشارف هاتَيْن القلعَتَيْن المنيعتَيْن، يقول: «بحثْتُ عن سرّ القصيدة في رِئتَيَّ؛ أستنشِقُ هواءً من شعرٍ ودخَان، أزفر الثاني ويضيع الأول في خبر كان. أستقبِلُ الشعرَ ولا أرسله، أفتح له طريق الذاكرة كي يرقد في هدوء، وأُغلِق عليه سبيل الهروب كما يُغْلق على السجين السجّانُ. لكنّ قريحتي قاحلة وإن أتيتُ القرضَ كثيراً، وأسهبْت في التمرين على النقائض والحماسة، على غزلٍ أبعثُه في رسائل بلا عنوان»[7]. وفي النثر قال: «؛ النثر صِنْوها حين يتبدّخُ في البلاغة وضُرَّتُها... كلّما تخيّرْتُ بينهما تحيّرْتُ، ومسَّني من اليقين القليل ما يشبه المحال. امرأتان تتبادلان التباهي، أمامي، بما ملكت أيمانهما من نفائس المعادن، وما ملَكَتَا، كلتاهما، من آيات الجمال»[8]. ثمّ يخلصُ بصريح العبارة إلى القول: «لا أكتب شعراً، حين أكتب، ولا أكتب نثراً؛ أعبر الحدود بين المملكتين مثلما يفعل المهرِّب سرّاً. أخشى على كلامي من الجمارك وحرّاس الحدود، وألعن في سرّي الدهاقين وسدنة المعابد؛ يزِنون، بأصدإ الموازين، متاع الروح واللسان، ويدقّون إسفيناً بين الترسّل والقصائد»[9]. فمَثَلُه في النزوع إلى النص المفتوح مَثَل مَن تتملّكه الرغبة في تطعيم نصّه الأدبي بفنون أخرى تكتسح المجال الإبداعي، وهو الذي «اكتشف، في ما بعد، أن دُرْبة السمع عند[ه] أشحذ من دُربة العين، وأنّ وقع الكَلِم في النفس أشدّ من خَدَر الصورة، تلك قِسْمتُ[هُ] من الطبيعة والثقافة [يـ]رتضيها من غير نكران، وإن ظلّ في الداخل قليل من حسرة يكفي للسؤال عن سرّ فقدان العدالة في الميزان»[10]. واستدعاءُ هذه الفنون وتوظيفُها يُكسب النص حركة أنيقة في نسجها، بديعة في سردها، تنتقل من همس الشفاه إلى طبل المسامع بلا رتابة مُمِلّة أو تنميط مُستَثْقل. يَخرقُ الصمتَ المضروبَ على هذا التجاوز، ثم يتصَعْلك ويثور على القبيلة وشيوخها، يقول حالماً في صحوه: «في ما تبقّى لي من الوقت، سأعلن في القبيلة أنّي عصيْت أمر الجماعة المأسورة بتعاليم الشيخ، وأحكام العصبية. لست سجين دمي أيتها القبيلة؛ فدمي ليس سلالة غير اللسان والأبجدية»[11].

لزوم ما لا يلزم في مضارب المعرّي

هي حلَقِيات ثلاثة[12] قدّمها بلقزيز، ومن خلالها قدّم سيرته الذاتية، والتي أعتقد، أنه لم يُنْهها بعد. تدخل باحة هذه النّصوص، فيسبح بك صاحبها في عالم الكلمة العذبة، كلمة تنساب في يسْرٍ، ويأخذك معه إلى فضاء يتشكّل من عناصر البناء السّردي الكلاسيكي: الزمان والمكان والأحداث ثم الشخصيات. يَمِيز هذه العناصر أنّها ذاتُ بُعدين: البعد الآني الذي يرسمه الكاتب للمحطات التي يختارها وينتقيها بعناية شديدة ممّا سمح به مستوى البَوْح عنده، أو تُسعِف به الذاكرة. والبعد الافتراضي، وهذا يطال كل العناصر؛ يصحبك فيه بلقزيز إلى أماكن وأزمنة وأحداث وشخصيات، مرّت وتركت الأثر؛ يمكن الاستغناء عنها في بناء النص، وهو إذ يستحضرها في نصوصه، فليس من باب التأثيث والزينة، وإن كان هذا الجانب حاضراً ومطلوباً؛ فإنه باستحضارها يفتح، من خلالها، خَوْخاتٍ ونوافِذَ للقارئ والمهتمّ علَّه يهتدي ويتلمّس المؤثرات التي انتقشت في ذاكرته، وساهمت في إنضاج طقس الكتابة عنده. لم يقدم في نصوصه كل تفاصيل حياته، بل يرحل بك، عبر هذه النصوص، فرسخاً بعد فرسخ ثم يحدثك بأسلوبه الجميل عن محطة من محطات حياته؛ والتي دفعتني إلى القول بأنها لم تكتمل بعد. الذاكرة، عنده، تصارع النسيان «العنيد في صمته، لكنه يربّي الخيال على وظيفته في اللعب بين شقوق الذاكرة»[13]. يطوّفُ بك ويُطِلق «الجنون من جنونه كي يتعقّل أكثر، [يستصحِبه] شعراً [ويُلجِمه] نثراً، [ويُعلِّبه] في لغة لا يبرحها لئلاّ تزند جذوته ويضيع هدْراً»[14]. يترجّل من على صهوة فرسه، فيُجلسك مع أدباء ومفكرين وفلاسفة؛ أولئك الذين لم يكتفِ بمعاشرتهم، منذ وقت ليس باليسير، بل جالسهم غير ما مرّة في الغياب، وبين مقابر نصوصهم: تصنّت إليهم وعليهم، وأخذ منهم وعنهم. لم تخُنْه الحيلة ولا طول الباع في السير على نهجهم؛ يتتبّع خطاهم، خطوة خطوة، قارئاً ودارساً، مُعارضاً وناقداً، مستوعباً وفاهماً... فناقَشَهُم وناظرهم، ثم أخذ عنهم وردّ عليهم، وطوّر ما قلّدهم فيه.

ألزم الكاتب نفسه في نص «على صهوة الكلام» ما لا يلزم، ألزم نفسه ألا يكتب شعراً مثلما هو محفوظ في جملة من الدواوين؛ لأن «الشعر ما كان القصيد في أوّل خلقه، قبل أن يرن رنين الذهب؛ الشعر ما قالت العرب في القفر، وما أوقد الحطب في زمهرير الليل، والشعر ما أعلى مقام النسب»[15]. أحبّ الشعر والأدب، وأحبّ الشعراء والأدباء من لم يتكسّب منهم أو يتملّق. كما أحب ّأن ينزل ضيفاً عليهم وينهل من معينهم، وأجده في هذا النص يحاكي رهين المحبسيْنِ في لزومياته. إذ بفلان تُقرن الصّعْبة في أمثال العرب.

أجد ذلك في هندسة الشكل المعماري للنص، اجتهد بلقزيز في حبكه بطريقة حسابية دقيقة، وهو المتأفِّفُ من «دروس الحساب البليدة»[16] التي كانت تعكّر عليه الجميل في رأسه زمن الدراسة، حيث وزَّع النصّ إلى ثلاثة أبواب، وهو عدد الكلمات المكوِّنة للعنوان «على صهوة الكلام»، وجعل لكل باب من الأبواب الثلاثة عنواناً، وردت تتْرى على الشكل التالي:

كلما وجدت إلى المعنى سبيلاً؛ (خمس كلمات)

بحثت عنك؛ (كلمتان)

في تفاصيل الغياب. (ثلاث كلمات)

مجموع كلمات هذه الأبواب عشرة، وهو نفسه عدد الفصول التي قسم إليها النص، وقد ضبطها بالرقم الروماني. وإذا جاريْتَ الكاتب وأنْجزْت تركيباً للجمل من خلال العناوين الثلاثة السالفة، تألّف باب رابع تحت عنوان: «كلّما وجدت إلى المعنى سبيلاً بحثت عنك في تفاصيل الغياب»؛ هذا الباب يشكل وحدة تختلف في بنيتها عن الأبواب السابقة؛ أو قلْ، خصّصه إجابة لما وصل إليه في بحثه في تفاصيل الغياب.

ألزم السارد نفسه أن يبدأ فقرات كل فصل من الفصول العشرة للنص بكلمة من الكلمات المكونة لعناوين الأبواب، وذلك حسب ترتيبها، إن في عنوان بابها، أو العنوان التركيبي للباب الرابع، وتمت الإشارة إلى ذلك ببدْءِ الفصل بالكلمة، بيت القصيد، مسوّدة ومضغوطة؛ وفي هذا خالف أبا العلاء المعري الذي شدّد على نفسه في القافية ورويها، أما بلقزيز فقد شدّد على نفسه في مطلع الفقرات.

يفترض الأسلوب السردي في مجال السيرة الذاتية أن يتحدّث الكاتب عن نفسه بوصفه سارداً بضمير المتكلم أو الغائب، ويكون ذلك بلسانه أو لسان غيره (سيرة ذاتية أو سيرة غيرية)، كما يعمد إلى المونولوج في تقديم شريط سيرته. لكن بلقزيز، في هذا النصّ، اختار أن يحوِّل المونولوج إلى حوار ثنائي – ديالوج-، حاور نفسه بنفسه وكلّمَتْ أناه أناه؛ أي أنّه أحدث انفصاماً بين السارد الحاكي والمحكي عنه. وأشعل حواراً داخلياً لكنّه مسموع ومُصوِّت.

حاشَت فقرات النص صيغاً صرفيةً متباينةً، تبدو في ظاهرها مألوفة ومتداولة، لكن تطبيقها على ألفاظ وعبارات ذات الجذر البسيط والسهل، وإيرادها بأوزان صرفية معروفة لكنها على غير المسموع بيننا اليوم؛ يندرج ضمن التفرُّد في توظيف هذه الأوزان وتطويع اللسان ليعبِّر عن المرغوب فيه بالشكل والنوع الذي يريده صاحب النص. من هذه العبارات: (قُدمة (108)، الطِّلْبة (163)، التّشرّر (113)، التقرّي (119)، التولّه (141)، الانظهار (173)، انقحطت (111)، يطّاحن (133)، استربت (145)، انداح (154)، أهتاب (156)، توثنت (183)، اشتجر....).

وفي السياق ذاته، ينزِع إلى المتضادات من الألفاظ ليخلق حيوية داخل النص، ويكسبه إيقاعاً يُبْعدُ عن المَلَل ويُخرجُ من "الكوْدرَة"؛ ومثال ذلك ما ورد في هذا الاقتباس: «كالعجاج المترَّب في عاصفة صيفية تجتاحني النوازع، وتتركني أغطّ في فوضاي، وأمدّ لشهوتي شهوتها؛ أتقشّف وأتبدّر، ألتدّ وأتنسّك، أتأمّل وأهذي، أُقدِمُ وأُحْجم، أصدّق وأكذّب، أتعجّل وأتريثُ، أرحل وأتلبّث»[17]. ومثل ذلك ما يذكر «في تفاصيلك ما تقول؛ ما تدري، وما ترى، وما تسمع، وما تمسح عيناك من شواهد الحِبْر عليه، وما في الخاطر يجول»[18]. وهو سياق يتماهى مع «لاعب النرد» للرفيق محمود درويش حين تراقصت عباراتُ نظْمِه: «أَمشي / أهرولُ / أركضُ / أصعدُ / أنزلُ / أصرخُ / أَنبحُ / أعوي / أنادي / أولولُ / أُسرعُ / أُبطئ / أهوي / أخفُّ / أجفُّ / أسيرُ / أطيرُ / أرى / لا أرى / أتعثَّرُ / أَصفرُّ / أخضرُّ / أزرقُّ / أنشقُّ / أجهشُ / أعطشُ / أتعبُ / أسغَبُ / أسقطُ / أنهضُ / أركضُ / أنسى / أرى / لا أرى / أتذكَّرُ / أَسمعُ / أُبصرُ / أهذي / أُهَلْوِس / أهمسُ / أصرخُ / لا أستطيع / أَئنُّ / أُجنّ / أَضلّ / أقلُّ / وأكثرُ / أسقط / أعلو / وأهبط / أُدْمَى / ويغمى عليّ /».[19]

تقْصُر فقرات النص فتجيءُ على شكل شذرات وتأملات. شذرات وتأملات ضمَّنَها مواقف فكرية وما ينتوي التنقيب فيه وعنه، أو ما حلَكَت رؤْيته عليه؛ وقد تكون رغبة منه في الدفع بالملتقي والدارس إلى الخوض فيها ورفع اللبس عنها. وأنت تقرأ هذه الشذرات ينتابك الإحساس بأنها تتزَيّا بزي الوعظ والإرشاد. وتتدثّر في لبوس الحكماء والعارفين؛ وتتساءل عن كنهها: أهي حِكم عطائية؟ أم وصايا لقمانية؟ أم تُراها إشارات إلهية؟ يمكن الوقوف على بعضها بالصفحات التالية: (85/89 – 170/174).

يعظك ويرشدك بالقول: «اذهب بعيداً في لعبة يتقنها الكبار كي يصعدوا فوق، اذهب وراءهم، معهم، بلا خوف ولا وجل؛ لك الذوق ميزان تقيس به الأشياء، ولك الجدل: أثمن ما في الجبّة مما ملكت يمينُك من العلل»[20]. وهو الذي تعلّم من السياسة الكياسة، تعلم كيف يصغي ويُصيخُ السمع للرياح القادمة.

سيرة أنثى من صورة امرأة

تحتلّ الأنثى مساحة تكاد تملأ كل فضاءات بلقزيز الإبداعية؛ فلها رمزية كبيرة إن في الحياة أو في الأدب. ولأنك لا تستطيع، كنت من كنت، أن تتخلّص من المساحة الوجدانية فيك، أو ترمي بالغلاف العاطفي الذي يدفِئُك من صرٍّ يخِزُ الفؤاد. ولَأَنْ يُهديَ نصّه «على صهوة الكلام» إلى الأمهات الثلاث: «إلى ذكرى زينب، وفتوحة، ورقيّة: أمّهاتي الثلاث»[21]: الأم المُطْفِل، والخالة المربّي، ثمّ الجدّة المؤدِّب؛ فهو إشارة قوية إلى الحضور الروحي للأنثى في حياة الكاتب المعيشة والإبداعية. الأنثى، الكائن المدخور بدفق عاطفي، يُركعك وأنت تطلب القربى منه، تنحت ما طاب لك من العبارات خِطبة لودّها. الأنثى التي عدّها شاوول: «الفرادة والتجربة والمزاج والبيئة والتاريخ»[22]. كما هي في نصّ بلقزيز «زمرده، في معصم الطبيعة، وكَوْن يهيم في لا نهايةٍ ليحصد قتلاه من الشعراء، ويوزع الأرق بالتساوي بين الأفئدة»[23]. هي الأمومة تحكم قبضتها على الرجل طفلاً صغيراً وكهلاً كبيراً؛ تسبِقه عبراتُه إذا ألّم بالأمهات ألمٌ، أو غادرنه بلا وداع، فهن عند بلقزيز «الماء في البيداء، والأمثولة الغرّاء»[24]. وهي الحبيبة التي يركب بحر الأهوال قاصداً ضفّتها.

«للذاكرة طريقة في التغليط مقصودة؛ تسألها عن غميسك القديم، فلا تمنحك منه غير المبهم، عساك تجرّب ثانية أن تقف بين يديها كما يقف أمام عشيقته المتيم»[25]. ومن هنا يصعب عليه أن يستحضر الذاكرة، التي تشحُّ عليه بالمعلومة، ويتعصّى عليه فعل التذكّر عندما تصبح «مساحة النسيان أوسع من حديقةِ المحفوظ، وأفْقَعُ من بياضِ الفراغ الذي لا يملؤُه نسْجٌ من خيال»[26]. أمام فعل التذكّر يتمثَّل «الذاكرة امرأة هاربة من شِباك صيدك المنصوبة في بلاهة، وحِرْباء تلبس لونك حين يأخذ لونك أصباغاً شاحبة»[27] التذكّر يُنازعه المواقع فيُحوِّل السؤال إلى أمه قائلاً: «هل تذكرين، أمي، حين عُدْت، وبين حِضْنَيْك ارتميتُ وأسدلتِ عليَّ الصفح؛ ما بكيْت عندها، حين بكيت، لأن ندماً من الهروب مسّني، ولكن لأنّي أحبّك وإن جار عليَّ من كلامك ما هدَّني»[28]. يرقُّ فؤادُهُ لنسيم يدغدغ وصلة شعرها، أو أزيز يوقظُ أمّه من غفوة تنتابها وهي تَحْنو عليه. يسمع صوتها رطباً عبر الهاتف من فاس فيغالب العبرات، يتمنّى الجناحين وبساط الريح ليدنُوَ من أمه؛ إنه إحساس رقيق ينأى به أن يكون فضّاً غليظاً أمام أمهاته؛ ويُقرُّ بالقول: «ما خفْتُ، أمي، على نفسي وأنا أُهدي المصير المجهول؛ خشيت المعاقَبَة في دموعك ودموع أختك والجدّة حين يخبرونَكُنَّ بما إليه أؤول، بين أيدي جلاوزة لا يعرفون، في الغلظة، فارقاً بين الحي والمقتول»[29]، فهو يريد السلامة من أجلها وأجلهنَّ. تلك هي الأم في عقيدة بلقزيز، يكْمُن «في الأم سرُّ أسرار الكون، وبين يديْها مفتاح الأبدية؛ هي هي لا تتبدَّل، ولا تبغي من الدنيا غيرَ ما تمنحها الطبيعة من دور»[30]. فقد حشْرَج وتحسّر، تألّم وكَلَم، ثم همس عميقاً: «لم تستفيقي كي أودّعك، مثلما اشتهيْت، أطلْتِ نومك، وأطلْتِ أرَقي، ولم أشعر أني انتهيتُ إلا حينما انتَحَبت بناتك بعد صرخة هزّت سقف البيت، ونثرت على حوافّ الحديقة مفردات النهاية»[31].

حظه ونصيبه أن يوجد بين يدَيْ أمهات أسْبَغْن عليه كل أنواع العطف والحنان؛ كل واحدة تعمل فيه بعمل الأنثى وحنكتها، وما يتواصَيْن به وهن يرقُبْن القادم من وراء المشربيات والشبابيك المغلقة بالرياض المراكشي. كان من الجدّة قريبٌ، وقريبةٌ منه كانت، «كتوأميْن لم تنجح الجراحة في فصلهما، أتنفّس برئتيْك، وتأكلين بفمي، وأرتمي في آخر الليل بين ذراعيْك لأحتميَ من شبح يُخيِّم على صباي»[32]. هي الجدّة التي أرادتْه أن يكون مثلَ بعْلِها؛ «أردتِهِ مثل جدِّه، زوجِك؛ هكذا قلت له مرّة حين رفع إليكِ مظلمةً، وأنَّبتِهِ على خوف لا يليق بأخلاق جدِّه، وسجايا البطولة في سيرة مجده»[33]. ونفس المسافة، كانت تفصله عن الخالة أو أضْيَق؛ عنها لم ينزع «الأمومة وإن لم توقعها برحِم ووحْم؛ [خرج] إلى الدنيا [ليلقاها] لابثةً [بقربه]، لا [تبرحه] وإن [تخطَّفَه] النوم»[34]. ملأت عليه الفضاء، وملأته حبّاً وحناناً، فهي قمر كلما أطلَّت عليه نثرت في صدره الأمن والأمان. ««فتوحة» امرأة جموح في الحب، والإحسان، والنكتة؛ أُحبّها وأَرهبها، وأضحك منها –أحياناً-حين تُغالي في الخرافة»[35]. لم يتذكّر في أي يوم ميّزها عن أمّه التي أطفلته، وعلم أنّ له أميْن اثنتيْن تُثلِّثُهما قرّة عيْنيْه الجدّة. جمعت «فتوحة» ممّا في الأم والجدّة؛ «في الخالة وداعة أمي والأريحية، وفيها بعض ما في الجدّة من الحزم؛ تخاصمني لتؤدبني، وتمعن في الهجر، ثم تطبع على جبيني قبلة في أول الفجر، كي تمسح بالحب ما تركت على سبورة قلبي من تعاليم الزجر»[36]. ويثقُل عليه الفراق، ويشتدُّ عليه المشهد لمّا انهزم أمام عنقود الأمهات حين أخطأت تَذَكُّره ولم تعرفه، ليرثيها بعد عامين: «يا امرأة تسكنني، وإلى المعارج ذكراها ترفعني؛ وإن انحنَيْت فلَكِ أنحني، كما تنحني للنهاية القِمم»[37]. ليس لك منها ولا من سحر أنوثتها فكاك، فهي «المريمية في صحوتها من نداء السماء، والأمّ وحدها تجثو أمام هيبتها مفردات الحبّ، وتسَّاقَط على حوافِّ ذكراها لغة الرثاء»[38].

هو ذا، بلقزيز شكّلت معالِمَه العاطفيةَ أنثى، وانتقَشَتها تنشئةٌ في وسط حميمي يكسر صمته حديث الأمهات، ويغرزن بَصَمات في ذاكرةِ مَن مرَّ بالمكان؛ بصمات الأمهات الثلاث غائرة في ذاكرته غوْرَ جُبٍّ ضنَّتْ عليه السماء بما يروي ظمأه، إذ له «منهن ما قدّمن من عبَق وحبَق ورَيْحان، ولهنَّ منّي ما تركت على اللسان من آثار ما محتها أطواري»[39]. وعلى مدارج اللسان، ينتظم غزل نوعي يشاغب به بلقزيز على الحبيبة. غابت الحبيبة ويسكن بين جنبات البيت غياب؛ «الغياب أن تستفيق صباحاً، فلا ترى من حولك إلا الفراغ: كتباً تملأُ الرفوف والجدران، وشاشة قلَّما تُمسك بأزرارها لتخرج من معزلك، ومطبَخاً لم تُزايِله رائحة الأمس، وخصاصة في الشعور بطعم الأمان»[40]. معادلة صعبة تلك التي تجعل الغياب ثم الفراغ طرفاً، والطرف الآخر الحبيبة والأمان. الحبيبة نوع ثان من الإناث اللائي طبعن حياته؛ وإنْ سمح له معدل البوح بالإفراج عن الأمهات الثلاث؛ فقد حال حائل بينه وبين أن يفرج عما يثوي خلف هذه العلاقة، وعلى استحياء يفتح ملفاً دون الإفصاح عن اسمها؛ علاقته بالحبيبة تلك التي اشتعلت جذوتها بفاس وظلَّت: «في الحلق مفردة متوحلة منذ زمان قديم»[41]؛ يصارع الذكرى ويقاوم النسيان لولا أن مفردته لم يعثر لها عن مرادف في القاموس ليخفّف من وطأة الحيرة وهو يتردّد على [جنان الحارثي]. «مفردتي حائرة ومُحيِّرة، ولا أدري أبِحُروف هي نقشت أم هي من مادة روح متصيرة؟»[42]. وإن كان عصاميا في الحُبّ هولامياً في العواطف وخصامياً مع مَن ينصحه، فإنّه ينأى ويبتعد عن ضوضاء الحبّ، وإن نصح بإخراج الحب من الغيب لإنضاج المعنى، لينغمس بين مقابر النصوص، يعاند الموتى ويعارض، يشاكس ويحاور؛ يستسلم للنوم ومع الصباح، حين يفتح عينيه ويتأهب لليوم الجديد بوجبة الفطور التي لها عنده «طقس لم يتبدل: فنجان قهوة مرّة وسيجارتين؛ واحدة لصدري الجائع للدخان، وأخرى لصورتك الضاحكة في صدر المكان»[43].

سلك الكاتب ذكاءً لطيفاً في الحديث عن المحبوبة وإليها في الغياب، من خلال بورتريه لها أو بورتريهات تَأثّثَت بها مرافق البيت. على طاولة السرير الجانبية، كانت قد وضعتها، أو وضعاها كلاهما؛ إشارة قوية كذلك إلى حفظ الذِّكرى والميثاق الغليظ. أن يغازلَ طيفها من خلال صورتها، والكلمات الواصفة لها تمتلئ صبابة؛ فهي «كأميرة تتفرج على أسراب الغجر»[44]؛ لعل في النفس بقية لم تكتمل. وفي الفؤاد خدْش يعود إلى القديم «في مطلع الثمانين احْتَرَبْنا، واقتربْنا، واحتبَبْنا، وسَرَت كهرباءَ ودٍّ في الخافقيْن. وفي آخر القرن انتَصَبْنا مُقابِليْن: لا شيء في الماضي شفع، ولا في جعبة الشعر ورسائل القلب النّديّة ما نفع»[45]. مسافة سطرين على سطح أبيض لخّص قصة حب نشأ، فكان التقارب ثم الفراق؛ فراق لم يحُلْ دونه دفء العينين، ولا لونهما منَع التباعد، ولا نهاه عن القول: «أنا لا أعاني الشعورَ بالخطيئة من ذبول عيْنَيْن تقولان ما تحملان من الحقيقة، لكنّي شقيّ من رؤية زهرة تتحلّل ورَيْقاتها، من عطش، في قلب اخضرار الحديقة»[46].

يحدث الصّدع والشقاق ثم الفراق، لكن يتأخر أن يسبر غوْرَ جرحها ولا دلالات نظراتها التي «مع الوقت، [يكتشف] أن ألوان [عينيها]تتبدّل مع الفصول، كما يتبدّل [مزاجها] بين الجبال وبين السهول»[47]. كم هو صعب عليك، أيّها القلب الوَالِه، حين تمتهن الحرفة الواحدة: «لا مهنة للقلب غير الحب»[48]؛ صالِح قلبك بشعر أو فكر، لاطِفه بنغم أو رقص، وحُلّ معادلَة: وما القلب إلا للحبيب الأول... الكلوم تبرأُ لكن الآثار تنغرس في كل المفاصل والتفاصيل، وتعبر حدود الوعي عبر الشرايين والشعيرات.

امتلأ القلب الذي مهنته الحبّ حتى رشح ضغطاً: أحبّ بلقزيز الأمهات الثلاث، وأحبّ الحبيبة التي لا زال طيفُها بالبيت، وأحبّ مَن عبرْنَ تُرَع القلب من الزائرات؛ وضاق الصدر بِتِيه من المعاني وهي كُثْر، حلّ لغزَ بعضِها واستشكل حلّ أخرى؛ واختنق الصدر بدخان سيجارة يطارده ما انطفأت جذوتها. و«في القلب منطقة عازلة، لا سلاح فيها تَمتَشِق؛ لا حبّ، ولا كره، ولا عاطفة من العواطف»[49].

لخّص مراحل عمره هكذا: «كان لي في صِبايَ ما أخاف عليه؛ عقابٌ يؤلمني، أو غيابٌ يوجِعني، أو خوفٌ يسكن الفؤاد ويؤجِّل الشجاعة إلى ما بعد موعدها. كان لي في شبابي ما أعضُّ الجمرَ عليه؛ مدينة فاضلة يسكنها العشّاق، وتُتلى ألواح شرائعها من قلوبٍ تودّع حَيْفَ الناس على الناس، وتقتلع الصراع إلى الأبد. أما الآن فلا أخشى من الأشياء غيرَ ذاكرةٍ تتملّص مني، وتودِعُني لرياح المتاهة تشرِّدني عنّي، وتحوّل بقايا الأول فيَّ إلى الأبد»[50]. يقطع كل هذه الأشواط من العمر، وقد أنْهَك الجسد وأعياه توعُّكات، وأخرى ورِثَها وهو ما يدافِعُه اليومَ؛ طنينٌ في الأذنين، وانسدادُ شرايين من دخان، أو بياضٌ يتهدّد المقلتيْن، «لي من بصمات أهلي في دميَ الكثيرُ، ولإخوتي منها ما لكلِّ مَن يرثُ الجينات من السلالة. لي ضغطيَ الدموي، وضِيقُ التّنَفُّس، والنُّقرُسُ، والغضبً السريع، والقليل من التقيةِ، والنُّفور من القطيع»[51]. لكنّه لو خُيِّرَ في العودة إلى الماضي، أو أُعيد إليْه؛ وتلك رغبة لديه كائنة امتنعت مع امتناع العوْدِ؛ لكان ما أرسل: «لو كان لي أن أعود إلى الماضي لقدّمْت اعتذاري لي على ما فعلت بنفسي: ما أدْرَرت من وقت لأقرأ العالم في فنجان نصّ مقفل؛ ما أدمنت من خوف لأشعر أني حي، وأنّ الموت مؤجّل؛ ما عبدت من الآلهة ليكون لي من اليقين ما يفوق المحصَّل؛ ما أحببت من النساء واستبدلت في البحث الرتيب عن الأجمل»[52].

 إحداثيات المكان بين النص والاستذكار

تُحيلك علاقة العنوان بالنص إلى العلاقة القائمة بين المبتدإ والخبر. العنوان مبتدأ والمتْنُ خبره. وإنْ كان المبتدأ يمتطي صهوة الكلام، فما عليك إلاّ أن تُسرِج فرسَك وتنْضمَّ لِسُرْبة الفرسان، وهم يتنافسون في صُنع الكلام. سُربة قِوامها الحروف الأبجدية؛ تصطفُّ زاهية لقطع المسافة بين المبتدإ والخبر؛ وكلما تبادلت المواقع في النصّ تغيّر المعنى، وازْدانت بها المتعة، وارتفعت هامات الفرسان وهم يقطعون المضمار.

بدءاً من العنوان، يضع بلقزيز ملامح المكان الذي سيكون فضاءً لنصّه: الصهوة والكلام والراكبُ متْنَهما؛ ثلاثة عناصر كلها حركة ودينامية. لا يليق أن تَرْكن في مكان واحد وتُحبَس فيه، خاصة وأن كل عنصر منها يستدعي أحداثاً ووقائع. سأحاول في هذه الفقرة، أن أحدّد إحداثيات المكان الذي يترنّح النص بين مضاربه؛ إذ للمكان في النصوص الإبداعية قيمة جمالية تتجاوز المجال الجغرافي والحدود الطبوغرافية؛ يتخطّى المكان الواقعي القائم والذي كانَهُ زمن الانتقاش بالذاكرة، إلى ما هو تاريخي وثقافي وتخيُّلي.

يبدأ المكان، في نص «على صهوة الكلام»، في الارتسام، منذ اللحظة الأولى التي خطرت خاطرة فكرة الكتابة. وهو في النص فضاءان:

الفضاء الأول: فضاء ارتسمت معالمه الأولى وهو يتقلّب في المخاض بمُخ صاحبه بين المادة الرمادية ومنعطفات الذاكرة؛ ثم تنْتصِب معالم هذا الفضاء وتبْرُزُ على ورق التسويد حين يتأسطر. ترتفع أرقام إحداثياتِه بقلم الحبر الجرماني الذي لا يجد عنه صاحبه مَحيداً لكتابة الكلمات ورصِّ اللّبِنات. يسترسل في الكتابة، ثم يتوقف عندما تشِحُّ عليه الذاكرة؛ أو يراوغ لمّا يتعذّر البوح، ساعة ما تكون «في الذاكرة فوضى تزدحم بالفوضى، وخطوط من ذهاب وإياب تتشابك في نسيج عبثي لا يعقله أحد»[53]. هي الخطوط الأولى للمكان قبل أن يُرْقن النص على الآلة. ينتقل النص إلى فضاء الآلة، وإن صاحبه من الجيل الورقي، فيُمَدَّد في المكان ويُقلَّص، ويصير النص في حلّة قشيبة كما تصوّرها صاحبه، أو مَن أوكِلَ له تفويض المشاهدة الجمالية؛ لحظتها يصبح النص مؤهّلاً للإبحار في العوالم الافتراضية والفضاء الأزرق. لكن، يُفضّل بلقزيز أن يُقْبِره في كتاب. مكان آخر يجد فيه النص قراراً، وهو شكل ثان يتمظهر فيه المكان؛ يحتل موقعاً على صفحات متوسطة الحجم، تميل إلى نعومة صفراء لا تُؤْذي البصر، ولعل اختيار الشكل هنا يكون بالاتفاق مع ناشره إن صحَّ الظّنّ.

يُجمَع النص، ويُحْصرُ بين دَفّتين. تحمل الأولى عنوان النص كعنوان البيت في أعلى الباب ويعلوه اسم صاحبه. صفحة هذه الدَّفّة تميل إلى الأزرق الشاحب المضمّخ بالرمادي المنبعث من غيوم المتن. وفي أسفلها أبجدية تغلي كغلي المِرْجل، يتطاير لَظاها ليرسم العنوان بالأحمر. والحُسنُ أحمرُ، هكذا قالت العرب. تُقلِّب الدّفة لتَلِج فضاء النص الداخلي. في الصفحة الأولى، تُطالعني، مع المودة، وقد وقعها بلقزيز على رأس الورقة؛ وهو على صهوة الكلام يسافرُ بك حتى تبلغ آخر المضمار، معه، من الكتاب / (الصفحة 189)؛ عندها تجد إشارة أخرى إلى المكان.

الفضاء الثاني: ترتسم حدوده بين الرباط وبيروت؛ هو ذاك المكان الذي اختاره بلقزيز. مكان يعرفه ويتماهى معه، يسكن المكانَ والمكانُ يسكنه؛ ويعُدّه سبيلاً أوْحد يُسعِف على التذكّر؛ «لا سبيل إلى التذكّر إلاّ باشتمام المكان، تبتعد عن المكان ولا يبتعد منك، هل أنت من تسكنه وترحل أم هو من يسكنك وإن ترحل؟ كظلّك يتبعك، أنى تكن، وإن هجرته لم يهجرْك. تخون ولا يخون، تحسه جغرافياً وهو تاريخ وسيرة ولسان»[54].

يبدأ المكان صغيراً ثم يأخذ في النمو والنماء والازدحام بالرموز والإحالات، يكبر مع أهله وذويه، وتشكله العلاقات الإنسانية والذاكرة البصرية التي تنشَدّ إلى اللامرئي، التي ترسخ في ذهن المرء وهو ينمو ويكبر. يكبر وكلما تقدّم في السن تتسع رقعة المكان عنده. يجنح المكان، عند بلقزيز، عن رحلتَيِ الرباط وبيروت الخطية فيتنكّر للحدود. ويرتمي في أحضان البحر المتوسط، يعتصر الذاكرة المكان بعدما ادلهمَّ الليل البهيم، يحاول الاستنارة بمنارات ضفاف هذا البحر، أمسك على ذات ألواح ودُسُر، يتعقب قراصنة المعنى والفكر من شطّ لآخر، ومن مَدَنية لأخرى. يقدم من هذه الأمكنة / المنارات للقارئ المشارب التي نهل منها وشكّلت فكره. أو قل، يتعقب خطى معلّميه الذين تلقى عنهم، في الربع الخالي أو بلاد الرافدين، في بلاد فنيقيا أو الإغريق، في أرض الفراعنة والروم، أو بلاد الغال والفردوس المفقود. فهو «في أثينا [يـ]بحث عن طريق المعلّم، مثلما [بحث] عن قبر حفيده في قرطبة»[55]، أو يتحسّس أصول جذوره التي بها ينطق، «في أثينا جذورك الأولى، كما في عصر «الجاهلية»»[56]. وإذ يستعرض هذه المواقع فلأنه منبهر بمن صنع الحضارة الإنسانية، وبدر فيها اللمسة البهية، «في باريس من الجمال العادل ما يُوزِّع الأقساط بالإقساط، لمن تذوق ألوان طيفِها وتبطّن رائحتَها كما يتبطّن الصورةَ الشاعرُ»[57]. ويحضره واجب تحية هؤلاء البناة الذين خلقوا الدهشة، وخلّدوا ما يأخذ بعقول البشر، «أحيّي روما على مجد خلّدته الحجارة»[58]، و«ما خط «ساحة إسبانيا» إلاّ من له الجدارة في صناعة الدهشة، مثلما صنعت أثينا دهشة السؤال في الزمن القديم»[59]. وفي كل هذا التّقَلُّب بين الضفاف والأمكنة، يراوغ الحنين إلى الماضي ويراجعه بحثاً عن التوازن والتماسك، يسجّل ولهه وعشقه لمراكش وفاس، وإن قرّ قراره بالرباط، «ففي بيروت صورة تتبع[ه] كالظلّ...لم [يـ]عقد مع المدينة ميثاقا لأن[ه] [يـ]رتاب كثيراً في وعود[ه]، ...بيروت حدود[ه]، حين تمر حدود[ه] بين مراكش والحجاز؛ وبيروت صبية غجرية تعبث ب[ه] حين [يـ]سلمها سلطة الكلام بالمجاز»[60].

ويظل بلقزيز «مقيم [اً] في مكان المكان؛ كما اللغة تقيم بين أصابع شاعر، أو يشيّد خصبها عبق من اللسان»[61]؛ لا يبرح أماكنه وقد حوّلها، من مجرّد خلْفية تقع عليها الأحداث أو تتحرك عليها وعبرها الشخصيات، إلى عنصر انضاف إلى الزمان ليشكّل بعداً جمالياً أكسب النص فسيفساء بديعة أطّرت مادته الحكائية ونظّم الأحداث. هو ذا المكان في نصوص بلقزيز، يتخذ دلالات تاريخية وسياسية وفكرية وفنية وجمالية، وتكبر قيمته داخل النص من خلال العلاقة التي تربطه بصاحب النص، إذ يتبادلان التأثُّر والتأثير في علاقة تشابكية، فلا هذا ينفصل عن هذا، ولا ذاك بمنفصل عن هذا. ويستحقُّ المكان في نصوص بلقزيز الثلاثة مقالة خاصة.

تيه المعنى في موسيقا النص

ذكرْتُ أن بلقزيز في نصوصه الثلاثة عموماً، وفي نصه «على صهوة الكلام» خصوصاً، يأخذك معه في رحلة ماتعة، تنتشي فيها بالكلمة العذبة والتركيب الرفيع. فإذا ما تساوَقَ ذوقُك مع ذوقِه، وكنت ممن يلهجون خلف الكلمة والمعنى، فإنك لا تحسّ المسافة التي تقطعها، حتى يُقال لك الخاتمة، توقف. يحكي لك عن حياته دونما تفصيل، لكنه يفْصِل بين حدث وآخر بفقرات قيعانُها مروج خُضْرٌ مزهرة. يتخلل هذه الفقرات والمقاطع عُرْمة من المعاني تؤثث فضاء النص وتكسيه حلّة قشيبة، تجعلك تفكر في المعنى أكثر مما تفكر في ترتيب حكايا السارد عبر الزمن. لا يُسلِمُك معنى إلا ليرميك في أحضان آخر. في المعنى، تكلّم في الغياب والخيال، في الكتابة واللغة، في الحب والجمال، في التاريخ والسياسة، في الموسيقا، وفي قضية القضايا فلسطين، وفي أشياء أخرى عفوْتُ عنها أو لم ينتبه لها بال.

يبدؤك القولَ عن الخيال، «ما أبهى الخيال حيث يعلو على درج البعيد، ويعرف طريق العودة من معراجه إلى الحقيقة»[62] التي عدها نسبية في تمظهُرِها إذ أنّك «تعلم ما تعلم اليوم بيُسْر، ويعسُر عليك كثير مجهول»[63]. فلعل الخيال من يجعل المرءَ يطلُّ على المستور والمكنون، وينزل به من العوالم البعيدة إذ «للخيال جناحان، والمدى اللانهائي ملعبُه ومضرب خيامه والمقصد، وللواقع ما ترسل الشمس من جدائلها على الرمال»[64]. يُرجِع البصر ويصوِّبه عبر عدسةِ مجهرٍ بعيدِ الرؤية، يبحث عن الخيال خوفاً من أن تنْقَحِط تربته وتصفرَّ سنابله فتعتل النفس باعتلاله؛ يتمهّل قليلاً بعدها قال: «بحثت عن الخيال في خيالي؛ لم أجد ما يكفي من شارات المرور لأمضي في الشظايا حتى آخر السبيل»[65]. ربما هو السبيل إلى الواقع، واقع يتزيّنُ بالصهباء المعتقة أو السوائل المخلَّلة منذ كانت طعاماً للأنبياء والعارفين. بحث «عن الخيال في الواقع، فوجد[ه] أمامـ[ه] ماثلاٌ في نثر الطبيعة والجمال. بين الواقع والخيال ألف مودّة حين يلتقيان على ورق، أو يندسّان في هدأة قيلولة مطولة. توأمان هما في الخاطر حين تنهار الحدود بين الصخر والسنبلة»[66]. ما وسّع الكون، ولا فسح فيه إلا الخيال. كما ما انتجع القوم إلا بعدما أجدبوا. عندها يروح الخيال يشيِّد كونه في مملكة البياض الحرّ؛ «حِبرها وعرشها وسادن المقامات والجمر. الخيال خمر تعتّق في جِرار الدهشة كالجمرة تحت رماد البركان»[67].

سأل بلقزيز المرحوم محمد درويش لمَاَّ عاد إلى فلسطين: كيف وجدت فلسطين؟ ردَّ محمود: فلسطين من بعيد أبهى، هي الفكرة، وليست المكان الحي الذي نراه.

معنى يفوق المعاني ك على صهوة الكلام، ص لَّها حين تكون فلسطينُ «شمعة في قلب اليافع انطفأت، ودمعة سُفحت على شال كوفية على المنكبين مُسْدله»[68] أو تكون قِبْلتَه وقُبْلتَه وخَيْلَه «أنتِ خيلي وركائبي وزاد الرحلة، وأنتِ سيْلي حين يتقحَّل داخلي من قَحطِ ما يُحوِّمُ حولي»[69]. زهرة المدائن هي، ومهرة سليلة أفراس حرة أصيلة؛ بكى أبو البقاء أخواتها وما أجدى بكاؤه؛ ويناديها بلقزيز متوسّلاً بها «يا ابنة شام وأندلس لا تمضي إلى غدك وحدك، فليس لك بدٌّ من أهلك، وإن تفرّقت بهم طُرُق، وتكسّر سيف الفروسية فيهم، واتسع الخرق على الشعر، واستطال الزمان. يوماً ما سيكتُبُك غيرنا واقفين مثل سَرْوٍ على ترابكِ، يرمي بالجذور في قاع الأرض، ويرسِل في المدى آيات العنفُوان»[70]. قضية القضايا العربية، وليس للعرب غيرها قضية «نقولُكِ باللسان، وفي الغِمد سيفٌ يصدأ من رقدته الطويلة، وفي الفرائص قُشَعْريرة من الخوف وفيض من هوان»[71]. ليس للعرب قضية غير فلسطين. استبشروا خيراً بربيع يُغيِّر ملامح الخريطة، وكانت المعالم قد خطّت من مرصد يُسيِّرُ المُزْن حيث شاء وكيف شاء؛ فتهتزُّ الأرضُ وترتجُّ، ويُخلق العُجبُ والعَجَب من بلاد «تبحث عن حرّيتها في الفناء، وتسلم رقابها إلى الخوارج، وترمي بتعاليم الله في الحطب!»[72]. إنه ربيع لا ربيع فيه: العماءُ والتيهُ والخواءُ والخرابُ؛ وحربٌ لا تبقي ولا تدر، ومدنٌ تخرُّ مُنْصاعةً، لا ترى شيئاً فيها، غير الاصفرار ومعالم الأجداد قد دُكّت، وحرائق في المنقوش والمكتوب شبَّت.

«هزائمنا مغانمنا، ونصرنا نسلِّفه لغيرنا لئلا يخدعنا فنألف الوقوف! مَن لنا غيرُ التواضع سجيةً أو جِبلّةً أو صهوة للتفسّح في داخلنا. ما أحدٌ يشبهنا في الطباع وحبِّ السلام، واقتناء الضياع، وإدمان الرَّيْع: في الطبيعة والحب، وعشق المتاع السهل»[73].

 ***

محمد رزيق مبارك

الدار البيضاء: 29 نيسان 2025

.......................................

[1] عبد الإله بلقزيز، على صهوة الكلام. منتدى المعارف، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2016.

[2] عبد الإله بلقزيز، على صهوة الكلام. ص 9.

[3] على صهوة الكلام، ص 10.

[4] على صهوة الكلام، ص 14.

[5] على صهوة الكلام، ص 28.

[6] على صهوة الكلام، ص 19.

[7] على صهوة الكلام، ص 117.

[8] على صهوة الكلام، ص 117.

[9] على صهوة الكلام، ص 17.

[10] على صهوة الكلام، ص 31.

[11] على صهوة الكلام، ص 154.

[12] رائحة المكان (2012)، ليليات (2014)، على صهوة الكلام (2016).

[13] على صهوة الكلام، ص 32.

[14] على صهوة الكلام، ص 27.

[15] على صهوة الكلام، ص 118.

[16] على صهوة الكلام، ص 44.

[17] على صهوة الكلام، ص 113.

[18] على صهوة الكلام، ص 162.

[19] محمود درويش، لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي. (بيروت: دار رياض الريس للنشر، 2009)، ص 25.

[20] على صهوة الكلام، ص 102.

[21] على صهوة الكلام، ص 5.

[22] انظر: https://www.nizwa.com بول شاوول، «الشاعر لا يصنع تاريخ المرأة وإنما هي تصنع الشاعر» (1 أبريل 2014)

[23] على صهوة الكلام، ص 67.

[24] على صهوة الكلام، ص 131.

[25] على صهوة الكلام، ص 139.

[26] على صهوة الكلام، ص 30.

[27] على صهوة الكلام، ص 140.

[28] على صهوة الكلام، ص 126.

[29] على صهوة الكلام، ص 126.

[30] على صهوة الكلام، ص 131.

[31] علة صهوة الكلام، ص 127/128.

[32] على صهوة الكلام، ص 123.

[33] على صهوة الكلام، ص 123.

[34] على صهوة الكلام، ص 128.

[35] على صهوة الكلام، ص 129.

[36] على صهوة الكلام، ص 130.

[37] على صهوة الكلام، ص 130/131.

[38] على صهوة الكلام، ص 132.

[39] على صهوة الكلام، ص 131.

[40] على صهوة الكلام، ص 172.

[41] على صهوة الكلام، ص 149.

[42] على صهوة الكلام، ص 150.

[43] على صهوة الكلام، ص 151.

[44] على صهوة الكلام، ص 150.

[45] على صهوة الكلام، ص 67.

[46] على صهوة الكلام، ص 68.

[47] على صهوة الكلام، ص 152.

[48] على صهوة الكلام، ص 62.

[49] على صهوة الكلام، ص 144.

[50] على صهوة الكلام، ص 142.

[51] على صهوة الكلام، ص 46.

[52] على صهوة الكلام، ص 94.

[53] على صهوة الكلام، ص 139.

[54] على صهوة الكلام، ص 99/100.

[55] على صهوة الكلام، ص 159.

[56] على صهوة الكلام، ص 159.

[57] على صهوة الكلام، ص 158.

[58] على صهوة الكلام، ص 159.

[59] على صهوة الكلام، ص 159.

[60] على صهوة الكلام، ص 156.

[61] على صهوة الكلام، ص 177/178.

[62] على صهوة الكلام، ص 107.

[63] على صهوة الكلام، ص 162.

[64] على صهوة الكلام، ص 110.

[65] على صهوة الكلام، ص 112.

[66] على صهوة الكلام، ص 112.

[67] على صهوة الكلام، ص 32.

[68] على صهوة الكلام، ص 132.

[69] على صهوة الكلام، ص 133.

[70] على صهوة الكلام، ص 134.

[71] على صهوة الكلام، ص 134.

[72] على صهوة الكلام، ص 155.

[73] على صهوة الكلام، ص 143.

 

منذ لحظة تذوق الإنسان للمعرفة، لم يعد كما كان. كتب آرثر ميلر عبارة تلخص هذا التحول العميق: "لا يمكن إعادة التفاحة إلى شجرة المعرفة؛ فعندما نبدأ في الرؤية، نُصبح محكومين ومُطالبين بأن نجد القوة لنرى أكثر، لا أقل."

يشير ميلر في قوله هذا إلى شجرة الحكمة في سفر التكوين في العهد القديم. عندما أكل آدم وحواء الفاكهة الممنوعة، حصلا على الحكمة والمعرفة بالخير والشر، وخسرا موقعهما في الجنة. للقصة جوانب عديدة، وأحدها أن الإدراك يغيرنا بلا عودة. متى رُفع الغطاء عن جهلنا، نفقد براءتنا ونصبح جشعين نريد المزيد. سأحاول هنا أخذ قول ميلر هذا وإسقاطه على تطورنا وإدراكنا العلمي والفلسفي المتسارع. التفاحة في العهد القديم هي التلسكوب اليوم، هي الميكروسكوب والخوارزميات والنظريات الفلسفية. والمعرفة المتأتية منها تغيّر أنفسنا ومجتمعاتنا بشكل سريع ومخيف في الوقت ذاته. والسؤال هنا: هل تؤدي المعرفة إلى ضياع الإنسان أم إلى تحرّره؟

عندما نظر غاليليو بمنظاره إلى السماء وقدم أدلة تجريبية على أن الأرض تدور حول الشمس، لم يغير وجه علم الفلك فحسب، بل غيّر أيضًا رؤيتنا للعالم وموقعنا فيه. بهذا الاكتشاف، تحدّى غاليليو الكنيسة ومن في السلطة. لقد كشف عن حقيقة مُرّة آنذاك للجميع: لسنا نحن مركز الكون، بل نحن جزء لا يتجزأ منه، لكنه لا يدور حولنا. إدراك هذه الحقيقة أضاف للعلم لمسة من التحدي وأشعل التفكير النقدي، لكنه في الوقت ذاته أنتج حالة من الخوف والنكران والتساؤل حول معنى الحياة والوجود. ومن غاليليو إلى اليوم، يكاد لا يمر يوم لا نرى فيه مقالات تتحدث عن الذكاء الاصطناعي ومستقبله وحدود تطوره. كثير من هذه المقالات تطرح مخاوف ووقائع حقيقية حول مدى تأثيره على حياتنا وتفكيرنا. إذاً، فمنذ الثورة العلمية، لم تعد المعرفة مجرد معلومات نتشرّبها، بل أصبحت عدسة ننظر من خلالها إلى أنفسنا وكل ما يحيط بنا.

ولكن، ماذا نرى من خلال هذه العدسة؟ للإجابة عن هذا السؤال، نعود إلى قول ميلر، حيث ذكر أننا نصبح "محكومين" لنرى أكثر. رؤية "الأكثر" هي كل الأشياء الجديدة التي تترتب على ما اكتشفناه. غالبًا ما تتحدى هذه الأشياء ثوابت وأعرافًا متجذّرة فينا وفي مجتمعاتنا. وهذا يجعلنا نُسائل أنفسنا حول صحة هذه الثوابت وموقعها في العالم الجديد. غالبًا ما يرافق هذه الأسئلة نزق وجودي، وقد يؤدي ذلك إلى الخوف والقلق، وأحيانًا إلى التمرد على الواقع الذي كان الفرد يعيشه، وعلى الأفكار القديمة. وهذا ما قد يؤدي إلى السقوط في فخ العدمية. وهكذا، كان لكل اكتشاف عظيم أثر مضاعف: توسيع حدود المعرفة، وتوسيع رقعة القلق الوجودي. فحسب فلسفة فريدريك نيتشه، عندما تنهار البديهيات والقيم القديمة، يفقد الإنسان مرجعيته ويتحول الوعي إلى عبء وجودي. ومن هنا، دعا نيتشه إلى مواجهة العدمية من خلال الإرادة القوية وخلق قيم جديدة.

لكن ليس الجميع يرى في المعرفة المتزايدة لعنة أو عبئًا وجوديًا. فعلى النقيض من العدمية النيتشوية، نجد في أقوال علماء كريتشارد فاينمان وكارل ساغان موقفًا مختلفًا جذريًا؛ موقفًا يرى في الجهل نفسه جمالًا. يقول فاينمان: "من الأفضل أن نعيش بلا معرفة، على أن نخدع أنفسنا بأننا نعرف." وساغان بدوره احتفى بحقيقة أن الكون لا يمنحنا أجوبة سهلة، بل يدعونا باستمرار إلى السؤال. هذا الموقف لا يتجاهل التيه، بل يحتضنه كتجربة إنسانية نبيلة. وهكذا، حيث يرى نيتشه في سقوط اليقين بداية أزمة معنى، يرى هؤلاء العلماء في هذا السقوط فرصة لبداية حقيقية: لا نحتاج إلى أوهام كي نصمد، بل نحتاج إلى شجاعة السؤال، إلى ما سماه ميلر "القوة لنرى أكثر". وكأن المعرفة ليست ما يقودنا إلى العدم، بل ما يساعدنا على تجاوزه، حين نقبلها كرحلة، لا كملاذ. بذلك، يصبح التساؤل المستمر هو ما ينقذنا من العدمية، وليس ما يوقعنا فيها.

إذاً، فالمعرفة والإدراك المتناميان يفرضان صراعًا حتميًا بين الخوف من المعرفة والاحتفاء بالشك. إننا، في النهاية، مثل آدم وحواء، لا نملك ترف الجهل بعد أن تذوقنا المعرفة، لكننا نملك ترف اختيار كيف نتعامل مع هذا الإدراك والأزمات المترتبة عليه: بالخوف أم بالمواجهة.

***

فضل فقيه – باحث

........................

قراءات اضافية:

Nietzsche, F. Thus Spoke Zarathustra. 1884.

Feynman, R. P. The Pleasure of Finding Things Out. (Perseus Books, 1999).

بعد يوم حافل بالأحداث المهمة، والأفعال الطيبة منها والآثِمة، تحاول أن تَشغل نفسك قبل النوم بكل الوسائل التي جادت بها التكنولوجيا؛ لكنك تشكو في الغالب من نفس الإحساس الذي انتاب ديكتاتور محمود درويش في إحدى خطبه الموزونة:

ضجَر..

ضجَر..

ألا تشعرون ببعض الضجر؟

 ثم تعبث أصابعك بالهاتف الذكي، فتشعر أنْ لا شيء من هذه التطبيقات المألوفة يُسلِّي وحدَتك! ويجُول بصرُكَ في أنحاء الغرفة، فيقع على كائن لطيف تركتَه يوما على مقاعد الدراسة أو خلف أسوار الجامعة. تُقلب أوراقَه بحسرة:

آه.. ما أجمل تلك الأيام!

كانت القراءة طقسَك اليومي، ونافذةً مُشرعَة على الأماني والأحلام.  لمّا يلفَحُكَ الواقع بشمسه وغباره، تُسرع إلى الكتاب لتنعَم بظله، وتحظى بين دفتيه بالنشوة والسكينة!

 وعندما تتذكر ما قاله "ليون" في رائعة (مدام بوفاري) للروائي الفرنسي غوستاف فلوبير:" هل هناك شيء في العالم أفضل من الجلوس بجوار مِدفأة برُفقةِ كتاب؟"، تقررُ العودة، لكن شيئا ما يعترض سبيلَك ويهمس في أذنك: لا يكفي أن تُمرِّرَ العقل والعين بحرص على السطور، فللقراءة أسرارُها التي تحقق لك المتعة والفائدة، وبهجة الانفعال. إذن لا بد من كشفها والتنقيب عنها في رفوف مكتبتك التي علاها الغُبار!

حين تقف أمام عشرات، وربما مئات، العناوين والأغلفة الزاهية والمثيرة، ينكشف السر الأول: إن عناوين الكتب مثل أسماء الناس، يقول أورهان باموق، الأديب التركي الحائز على جائزة نوبل عام 2006، فهي تساعدنا على تمييز الكتاب من بين مليون كتاب آخر يشبهه. لكن أغلفة الكتب مثل وجوه الناس: إما أنها تُذكرنا بسعادة عرفناها ذات يوم، أو أنها تَعِدُ بعالم مبارك مازال أمامنا أن نستكشفه.

وما إنْ تُلامسْ أناملُكَ غلافَ كتابٍ قرأتَه قبل سنوات، حتى تعود بك الذاكرة إلى يوم بعيد، تكورتَ فيه على مقعد الحديقة أو في أحد أركان الغرفة لتَلِجَ عوالمه المُخبأة، عندها ينكشف لك سر ثان مفادُه: بعض الكتب لا تشعر بدفئها إلا بعد قراءة ثانية وثالثة، فما يعنيك ليس هو المحتوى بل تلك الهندسة الخفية التي تنقلك من انفعال إلى آخر لتستعيد أشواق الطفولة، وشغب المراهقة وتلصُّصَها على عوالم الكبار. فَتقلب الصفحات بلهفة بحثا عن فقرة أرّخت لبعض أحلامك، وأخرى ارتطمت بها أمانيك لتتناثرَ هجرةً، وفراقاً، أو مغامرةً يائسة.

دعني أخبرك عن سر ثالث تغذي به القراءة بساطتنا في عالم شديد التعقيد، وضُعفَنا أمام تقلبات الحياة. إنه التعويض عما نلاقيه في الواقع من خيبة وعوائق. لقد كان العقاد في مرضه الشديد الذي ألمَّ به، تتجه يداه إلى نوعين من الكتب بينهما اختلاف واضح في الموضوع، النوع الأول تغلب عليه النزعة الجسدية والمُتَع المادية. والثاني يهتم بالبحث عما وراء الطبيعة، وسبرِ حقائق الروح وعالم الغيب. إلا أن الصلة التي تجمع بينهما هي التعويض النفسي: تعويض الكادح والمتعب في عالم الخيال بما لا يجده في عالم الواقع!

ولا شك أنك مثلي، لَقَّنوك في المدارس أن قراءة الكتب العظيمة تتم من أجل الفائدة لا المتعة. لم يرغبوا أن نكون قُراء، بل جرى تكييفنا لنخدُم من هم أقل حظا منا. وحين جرت مياه كثيرة تحت الجسر تَنبَّهنا إلى أن القراءة فعل اتصال بعالم متحرك لا يهدأ.  لذا تمتع دون أن تصدق كل ما تقرأ؛ ذاك هو السر الرابع المبثوث بدهاء في ثنايا آلاف الكتب، فحين تستعيد هِمَّتك القرائية تنمو في وعيك قناعاتٌ متضاربة، وآراء ومقولات متباينة، غيرَ أن حرصك على مواصلة القراءة يعزز قدرتك على الاختراق بدل العيش في خط مواز للسائد والمألوف. إن ثمة ثلاثة أنواع من القراء، يقول الأديب الألماني وُلفغانغ فون غوته في رسالته إلى يوهان روشيلتز: "النوع الأول يستمتع دون تقييم؛ والثالث يُقيم دون استمتاع؛ النوع الآخر في الوسط، يُقَيم اثناء الاستمتاع ويستمتع أثناء التقييم. الفئة الأخيرة تعيد حقا إنتاج عمل من الفن بشكل جديد." وبتعبير آخر لألبرتو مانغويل في (فن القراءة): "القارئ المثالي يُدمر النص، القارئ المثالي لا يأخذ كلمات الكاتب كحقيقة مُسلَّم بها!"

وعندما تنهمك في القراءة يزداد فهمك للنصوص وقدرتك على سبر أغوارها. وهنا تمنحك القراءة سرها الخامس: جرِّب أن تتذوق.. جرِّب تلك اللذة المتولدة عن فهم اللغة والمحتوى، ثم العمق الذي يكشف لك نفسية الكاتب، ومحيطه الاجتماعي والثقافي. بل إن بعضَ النصوص تأخذك إلى حدود الأعماق اللاشعورية، تماما كما فعل فرويد في تعامله مع نصوص أدبية كقصة ( جراديفا) لِجِنْسِن، وحكايات أوديب وهاملت والإخوة كارامازوف، حيث جعل منها مرجعيات جوهرية لأهم مقولاته وجهوده الخاصة بالتحليل النفسي. القراءة اكتشاف!

 من زاوية أخرى تعرض عليك القراءة آلاف الشخصيات التقية والآثمة لتُجردك من كبريائك. وذاك هو سرُها الآخَر وليس الأخير: أن تصبح إنسانا أفضل، لأن سحر القراءة يكمن في تحويل المعرفة والنصوص المتراكمة إلى تجربة، ثم إلى هوية شديدة التداخل مع شغفك اللاحق بالكتب.

عادة ما يكون الطيبون سببا في بلوغك هذه المرتبة. تقول دونالين ميللر في دليلها المميز (الهامسون بالكتب):" كانت أمي هي عالمي، وهي التي أدخلت القراءة إلى هذا العالم. وعندما أسترجع كيف قضيت طفولتي منكبة على قراءة الكتب على الدوام، أتساءل أحيانا إن كانت أمي قد ندمت على أنها حفزتني على القراءة في هذه السن المبكرة!"

في محيط يبدو فيه القارئ إنسانا غير اعتيادي، يُداهمك صدى بعض هذه الكلمات: لا تحتاج أن تقرأ مكتبة بكاملها، يكفيك الانتفاع بقدر من التوازن المناسب بين المعرفة والجهل! لكن حين تصبح شخصيتك مزيجا من آلاف الشخصيات المبثوثة في كتب أحببتها، تدرك أن من العسير عليك حقا قضاء حياتك مع شخص لا يقرأ!

***

حميد بن خيبش

اعتقدت حنة ارندت ان فلسفة القرن العشرين أصبحت سلبية جدا وتجريدية. هي دعت الى "تفكير نشط" يعدّنا لنعيش في العالم الواقعي. في عام 1964، أجرى الصحفي الالماني غونتر جاوس Gunter Gaus مقابلة مع حنة ارندت بدأها بالسؤال حول تجربتها في كونها امرأة فيلسوفة في مهنة لاتزال على الأغلب يسيطر عليها الرجال. لكن ارندت أخرجته عن مساره فورا. هي رفضت بهدوء ولكن بحزم قائلة انها لم تكن فيلسوفة ابدا، وانها لا تنتمي لدائرة الفلاسفة. الصحفي جاوس كان في حيرة واضحة لكنه استمر بإلإلحاح. بعد ذلك، توجهت ارندت لدراسة الفكر الفلسفي الالماني. هي درست مباشرة تحت اشراف مارتن هايدجر وكارل جاسبير، العقلان الشاهقان في القرن العشرين. هي ألّفت أعمالا مشهورة مثل (أصل الشمولية) و (الوضع البشري)، كُتب تنبض بالطاقة الفكرية لسقراط وكانط وهيجل وهسرل.

لماذا مفكرة متجذرة بعمق في هذا المجال الفكري تتبرأ منه رغم ان العديد يعتقدون انها فيلسوفة، وبدلا من ذلك هي تسمي نفسها منظّرة سياسية؟ هي صمدت في موقفها وأعلنت بشكل لا لبس فيه : "انا قلت وداعا للفلسفة مرة واحدة والى الأبد".

نحن ندرك حقيقة ان تمرّد حنة ضد اللقب لم يؤثر كثيرا في الطريقة التي يتم تذكّرها بها. هي لا تزال تُسمى فيلسوفة شاءت ام أبت. ولكن كلما ذهبنا عميقا في تضاريسها الفكرية كلما أصبح هذا الرفض مفتاحا لكشف اسلوب تفكيرها غير المعتاد. لم يكن الامر حذلقة حول الأصناف الاكاديمية. انه موقف في العالم، وصفْ للحياة تدور حوله كامل فلسفتها. قصة ارندت وحياتها الذهنية، كما سنرى، أثارت تحقيقا عاجلا: ماهو التفكير، ما الغاية منه، ماذا يعني الانخراط الحقيقي فيه، وماذا يجب ان يجرؤ عليه التفكير النقدي؟

لكي نفهم حقا طريقة ارندت في التفكير، يجب علينا ان نتتبعها ليس فقط من خلال الافكار وانما من خلال الأحداث الشخصية والتاريخية. تفكيرها لم يتكشف في عقم وصمت دراسة الفيلسوف. انها تحركت من خلال النفي، الأزمات، الانهيارات. هذا يلمّح الى نوع من التفكير الذي يرفض ان يطفوا فوق العالم. تحوّل ارندت لم ينطلق بفعل الهام شخصي، منفصل عن السياق. ذلك يتناسب تماما مع المفكرين التجريديين الذين سعت لإبعاد نفسها عنهم. تفكير ارندت تشكّل حينما ضغط التاريخ بقوة – بشكل فوضوي وعلني وواقع لا يمكن تجنبه.

الملك المخفي في عالم التفكير

ازدواجية ارندت نحو الفلسفة كشفت عن نفسها اولاً في ارتباطها بالمفكر الذي أثّر عليها مباشرة وهو مارتن هايدجر. لقائهما في جامعة ماربورغ كان مثيرا لدرجة انه كشف عن سر دام أربع سنوات بين بروفسور متزوج عمره 35 عاما وطالبة يهودية بعمر 18 عاما.

لكن ارندت لم تكن هي الوحيدة الساحرة. في عام 1924 كان هايدجر حسبما ذكرت في كلماتها "الملك المخفي الذي حكم في عالم التفكير". الطلاب المحتشدون في محاضراتها انجذبوا الى القول الشائع، "مرة اخرى، عاد التفكير الى الحياة". العديد من الناس، شعروا بما يشبه حدثا روحيا: "يوجد هناك معلم يستطيع تعليم كيفية التفكير". وبعد عقود، قبضت ارندت على ما اشتعل في تلك السنوات المبكرة. هي تكتب، التفكير كنشاط خالص يمكن ان يصبح عاطفة – ليس ذلك النوع الذي يحكم او يقمع وانما نوع ينظّم تماما ويسود من خلال جميع القابليات والمواهب الاخرى.

لكن ارندت أدركت تدريجيا ان عاطفتها للتفكير لا تنسجم بسهولة مع فكرة "التفكير كنشاط خالص" – وهي الفكرة التي بطريقة او باخرى تعرّف الفلسفة ذاتها. وبمرور الزمن، هي بدأت في التراجع عن ذلك النوع من التأمل الذي رأته في هايدجر: بريق معزول عن العالم، منغلق على ذاته. كلما طورت الكثير حول مسارها الخاص، كلما أزعجها كثيرا هذا المدار العقلي المنغلق على ذاته. بدا لها انه يتميز بـ "الأنانية المطلقة، الإنفصال الراديكالي عن جميع زملائها". مع ذلك، في هذا الوضع، الدوران في حلقات، هو نسيان لعالم لم يعد بالإمكان تلمّسه.

إهتمامها تغير. هي التفتت الى معلّم هايدجر، ادموند هسرل الذي دعا بسرعة الى ثورة: "عودة الى الاشياء ذاتها". في هايدلبيرغ، وبتوجيه من كارل جاسبير، هي شهدت نقطة تحوّل. هي كتبت "التفلسف واقعي لأنه يتغلغل في الحياة الفردية في لحظة معينة". التأمل، بالمقابل، عزل الروح وخدّرها تجاه نداء العالم. انه جعل الذات الداخلية تشبه أي شيء. وبالنظر رجوعا، رأت ارندت بوضوح : الانسحاب الى الداخل جذبها ذات يوم – لكنه كان خطئاً شبابيا تجاوزته لاحقا. وبالرغم من عدم وجود ربط سببي، كان دعم هايدجر العلني للنازية بدا يؤكد رؤية ارندت المؤلمة التي بدأت تتشكل سلفا: ان التفكير الفلسفي العميق لا يقود بالضرورة الى الوضوح الأخلاقي والانخراط في العالم.

هايدجر ذاته إعترف : "التفكير لايهبنا مباشرة قوة الفعل". هذا الانفصال بين الفكر والفعل ترك بصمة دائمة على ارندت. هي أصبحت ترى الاثنين عالمين منفصلين لا يوجد جسر فطري بينهما. بعد عشرين سنة من ذلك التوقف، هي سامحت هايدجر وجددت الصداقة معه التي استمرت حتى وفاتها عام 1975. لكنها لم تعد للايمان بان التفكير يجب ان يبقى ضمن نقاء الفلسفة. تلك العقيدة كانت تنتمي لشبابها . الان، تخلصت من ملجأ التأمل الداخلي، هي بدأت السير في مسار جديد: بعيداً عن التجريد، نحو تفكير متجذر في العالم ذاته.

اللحظة التي لم يعد فيها المرء متفرجا

التحول الأخير لأرندت لم يأت من كتاب او مرشد انما جاء من التاريخ ذاته، اصطدم بحياتها. "العالم الخارجي السيء"، الذي بدا ذات يوم بعيدا ونظريا، الآن اخترق و "تحرش" حسب تعبيرها بتفكيرها، مجبراً اياها الى نوع من الانخراط لم تتصوره ابدا.

وكما أخبرت الصحفي غونتر جاوس، ان عدم رغبتها المبكرة في السياسة والتاريخ بدأت تتحطم في بداية الثلاثينات، عندما وصل الحزب النازي للسلطة ونفد صبرها من المثقفين الذين استجابوا بصمت وتأمل عقيم. نقطة التحول جاءت عام 1933 بعد حريق الرايخستاغ وموجة الاعتقالات التي أعقبته. ومع اختفاء الناس في أقبية جهاز المخابرات (الغستابو) والمعسكرات، هي قالت، "لقد كانت صدمة كبيرة لي لدرجة شعرت بالمسؤولية بعد ذلك".

تلك الصحوة السياسية ترافقت فورا مع صحوة اخرى شخصية. عندما "حوّلت الوقائع السياسية العامة ذاتها الى قدر شخصي"، اكتشفت ارندت ان العديد من أصدقائها المثقفين كانوا يتعاونون. "هذه الموجة من التعاون"، حسب قولها "جعلتك تشعر محاطا بمساحة فارغة". منذ تلك اللحظة فصاعدا، هي تعهدت " كلا ابداً" لا مزيد من الانفصال، لا مزيد من "تاريخ الافكار". التأمل المجرد يمكن ان يصبح شكلا من أشكال التواطؤ حسب زعمها.

كان هذا عندما يلتقي التفكير بالفعل. مع ذلك هي كانت تدرس الهجرة، ارندت اختارت البقاء. هي فتحت منزلها في برلين لاولئك الفارين من النظام. لأول مرة شعرت بالرضا ليس من التفكير وانما من الفعل. تلك اللحظة من المقاومة ستصبح بذرة لمعظم رؤاها السياسية الأصلية. مع فقدان الايمان بالنزاهة الاخلاقية للمفكرين، بدأت ارندت البحث في مكان آخر عن فهم للشر – وعن الظروف التي في ظلها يبرز الحكم الصحيح والفعل الصحيح في العالم. هذا يمثل دخولها الى الميدان السياسي وحيث تبنّت موقفا سياسيا وتاريخيا واضحا. بالنسبة لها، الفلسفة فشلت. انها تجاهلت جوهر الوجود الانساني: الانسان ككائن فاعل. إنغماسها في التأمل الميتافيزيقي تركها غير قادرة على التحدث بشكل هادف الى عالم السياسة، وحيث الناس يلتقون ويحكمون ويعملون.

في فترة ما، تركت ارندت عالم الفكر كليا. هي هربت الى باريس وألقت بنفسها في مناهضة الحرب ودعم جهود اليهود والصهيونية. هي بدأت التفكير بطريقة جماعية وليست فردية. "عندما يُهاجم الفرد كيهودي"، "الفرد يجب ان يدافع كيهودي".

هويتها التي كانت خاصة في يوم ما، اصبحت الآن سياسية. هي رفضت الرؤية الأنانية في علم النفس وبدأت تحكي قصتها من داخل مجتمع تاريخي مشترك "نحن". الفردي كما ترى، تشكّل بالزمن والمكان وبالناس الذين ولد فيهم. مشاكل حياة الانسان لم تكن أبدا فقط شخصية انها هيكلية، سياسية.

بالنسبة لأرندت، أي تغيير حقيقي، أي تجديد واقعي كان يجب ان يحدث ضمن الميدان السياسي. الحركة التي فشلت في الدخول الى ميدان الفعل العام والتي لم تترجم ابدا مُثلها الى أهداف ملموسة، ستبقى خاملة. لكي يتصرف المرء في هذا العالم، عليه ان يبيّن أين صُنع التاريخ.

مولد التفكير النشط

التفكير يأتي في عدة أشكال. هناك النوع الخامل، المتحرك ببطء: أحلام اليقظة والتجوال الذهني. هناك الانسحاب الفلسفي الى أفكار عديمة الوزن، تنسى العالم كليا. هناك الاسلوب الاكاديمي الذي يشرّح الحجج ويطارد العيوب المنطقية. لكن ارندت أشارت الى شيء آخر: التفكير النشط، شكل من الفكر يبقى يقظا للعالم ويعدّنا لنعيش فيه. بالنسبة لها، التفكير لم يكن هروبا، انه كان انشغال. لتفكر بنشاط هو ان تفعل سلفا، ان تأخذ المسؤولية، تبقى حاضرا، تحكم بعناية. ارندت لم تهمل حياة الذهن. هي ببساطة طلبت منها العمل اكثر. هي سحبت التفكير نزولا من البرج العاجي للفلاسفة ووضعته بجانبنا، في التاريخ، في الكوارث، في الحياة.

ارندت اتخذت خطوتها الجريئة الاولى نحو توحيد الفكر والفعل بعد الهروب من فرنسا تحت الاحتلال النازي والعثور على مأوى في الولايات المتحدة. في (أصل الشمولية) استطلعت ماكنة الرعب في ظل النازية والستالينية، كاشفة عن ان الشمولية لم تهيمن فقط بل انها حطمت شروط التفكير.

الناس لا يحتاجون ليُجبروا على الخضوع، هم يمكنهم الإنزلاق الى الطيش بارادتهم. بالنسبة لأرندت، السياسة لم تكن حول مسؤولين يتفاوضون في غرف خلفية. انها كانت المساحة المشتركة حيث يفكر الناس ويحكمون ويتصرفون مع بعضهم. وعندما تنهار تلك المساحة سينتصر الشر. جوابها ليست ديمقراطية تقودها الاحزاب وانما مجالس تشاركية، تلقائية، جمعيات شعبية فيها يتخذ الناس المسؤولية دون الحاجة لتفويضها للقادة او المؤسسات.

في (الوضع البشري)، هي كثفت نقدها لإنسحاب الفلاسفة من العالم. الفلسفة والسياسة، كانتا ذات يوم متشابكتان في اليونان القديمة، أصبحا أقل صداقة. الفكر اتجه صعودا الى التجريد، بينما يحترق العالم في الاسفل. هي تجادل، ان الفلاسفة مجّدوا الإنفصال مقيّمين التأمل أعلى من الفعل، السلبية أعلى من المشاركة. ومنذ سقراط، كان هناك احتقار للسياسة بين المفكرين الذين سعوا لحماية الفلسفة من التدخلات الدنيوية.

هي تكتب "التفكير يهدف الى التأمل وينتهي فيه ... والتأمل ليس فعالية وانما سلبية". هي أرادت شيئا آخرا: لتجلب الفكر مجددا الى الارض، لتجعله يتحرك، يستجيب ويفعل خاصة في عالم تؤرقه الحروب والرعب والكوارث السياسية.

في زمن ارندت، بدا الحطام الذي تركته الستالينية والنازية يعلن عن "نهاية الايديولوجية"، ومعه، نهاية دور المثقفين. لكن ارندت لم تكن مستعدة للتخلي عن التفكير. هي أرادت ربط الفكر والعمل معاً مرة اخرى، لكي توحّد بين الفيلسوف والمواطن. هي اعتقدت ان التفكير الواقعي يمكن ان يشعل تغييرا حقيقيا اذا بقي قريبا من شؤون الانسان.

كان ذلك أمل الحياة النشطة: حياة المنشورات، حيث الناس يتحدثون ويحكمون. خلافا للعمل الانتاجي، الفعل يخلق اللامتوقع. لكن ارندت خشيت ان تتقلص هذه المساحة من الحرية ، وتحتجب بفعل التحكم في "العالم الاجتماعي" والانسحاب الى زوايا تأملية خاصة.

في أفكار ارندت السياسية يكمن شيء اكثر حميمية وهو فلسفة الحب. كان العنوان الأصلي لكتاب (الوضع البشري) هو Amor Mundi او حب العالم، تحدّي مباشر للتقليد القديم لإزدراء العالم. بالنسبة لها، الحقيقة لا تعيش في عزلة وانما في مساحات بين الناس. التفكير لم يكن ابدا منولوج خاص، انه كان دائما علائقيا، دائما على شكل محادثة مع العالم. ايمانها اعتمد ليس على النظريات العظمى وانما على "اللاّمؤكد والمترجرج وعلى ضوء ضعيف" اُشعل بفعل حياة الناس.

لاحقاً، في (حياة الذهن) هي التفتت الى الداخل ليس لتنسحب وانما لترسم تضاريس التفكير والحكم والرغبة. هذه، تشبه فروع الحكومة العادلة التي يجب ان تتوازن وتحقق الرقابة فيما بينها. بالنسبة لأرندت، ان يكون المرء في حوار صادق مع نفسه هو فعل سياسي. التفكير يعدّنا لمواجهة العالم كما هو – فوضوي، واقعي، مشترك. مواجهته بوضوح والحكم عليه جيدا، لا يقل عن فعل الحب.

أدولف ايخمان كاستعارة

ارادت ارندت انقاذ التفكير من ايدي الفلاسفة المهنيين واعادته للافراد لتجعله فعالا وطاقة حية. هي اعتقدت، في وقت عندما تنهار الهياكل الأخلاقية يجب ان يصبح التفكير الحر الملاذ الاخير لنا. لا ايديولوجية تستطيع ارشادنا، فقط السؤال الداخلي: هل سأكون قادرا على العيش مع نفسي بعد هذا؟

بالنسبة لارندت، الاخلاق وُلدت في ذلك الحوار الانفرادي حيث يتم تشكيل تجربة الماضي في المعنى، والقصص تُصنع ليُشارك بها. هي كتبت، التفكير يسمح للناس بضرب الجذور لكي لا يُجرفوا بأي شيء قادم. لكن اولئك الذين يخسرون هذه الطاقة يصبحون خطرا. مثالها الاكثر اثارة للجدل هو الضابط الالماني ادولف ايخمان الذي غطت محاكمته في ذي نيويوركر.

حتى ذلك الوقت، فحصت ارندت الشر نظريا – الشمولية كنظام. لكن محاكمة ايخمان أعطتها فرصة لملاحظة النظام عن قرب. مثل العديد من الناس، هي توقعت وحشا. "الشر الذي تعلمناه هو شيء شيطاني"، كما تقول. بدلا من ذلك، هي وجدت انسانا بلا عمق ابدا. "ذُهلت في الضحالة المتجسدة في الفاعل" هي لم تر الكراهية وانما الفراغ المؤلم – شخص لم يدرك ابدا ماذا كان يعمل.

ايخمان لم يكن أحمقا. هو أوقف التفكير، وهي تشاهده راجعت فكرتها عن "الشر الراديكالي" . انه لم يكن قوة مظلمة، انه كان غياب الفكر. حول تفاهة الشر هي حذرت: عندما نُسكت صوتنا الداخلي، يصبح من السهل انقيادنا للاوامر. هي كتبت "شيء واحد مؤكد"، " كل شخص يمكنه ان يقرر بذاته ليكون اما خيرا او شريرا في معسكر اوشفيتز". لكن ايخمان أغلق جوهر المقدرة التي تجعل هذا الخيار ممكنا. هو لديه دوافع تتجاوز المهنية، لا تفكير مستقل - فقط ولاء روبوتي للأوامر. بذلك هو فقط اتّبع رغبة الآخرين، هو صرح بان ذاته ليس شخصا ابدا. مع لا ذات، لن يكون هناك ذنب ولم يتبقى احد ليتسامح.

العديد وجدوا نغمة ارندت باردة لكنها اعتقدت ان الحكم (اطلاق الاحكام) يتطلب الوضوح، وليس الغضب. هذا بالنسبة لها شكّل بداية أخلاق سياسية جديدة: نحن ملزمون أخلاقيا لنفكر، نحكم، نقاوم الشر ليس في الايديولوجية وانما في التفكير. وبالنسبة لاولئك الذين يتجنبون الحكم من باب الحياء او الخوف، هي لها رد صادم: "عندما تقول لنفسك بهذه الطريقة: منْ انا لأحكم؟ فانت خسرت سلفا".

تفاهة اللاتفكير

في تلك الايام، العديد يشكون من ان أذهانهم "نشطة" جدا لكنهم يعنون ان افكارهم مزعجة، مضطربة، مشتبكة في حالة من القلق والاستياء. التأمل وتقنيات التنفس تعطي املا بالراحة، والهدوء الذهني يمكن ان يكون بلسما. لكن ارندت تدعو الى الحذر: لا تخلط بين ضوضاء الذهن والتفكير الواقعي. الخطر كما ترى، هو "هذا الغياب للتفكير الذي هو عادي جدا في حياتنا اليومية حيث من الصعب ان يكون لدينا الوقت، ناهيك عن الميول، لنتوقف ونفكر". معظم ما نسميه تفكير هو فقط انجراف ذهني.

علم النفس يتفق على ان الدماغ يفضل أقل جهدا، منخرطا في "سهولة معرفية". السرعة تعطي شعور بالصواب. الكسل يعطي شعور بالصحة. لكن هذا الذهن الباحث عن الراحة يصدر أحكاما ضحلة ويتبع الحشود. الخط الاحمر لأرندت واضح: عندما نتوقف عن التفكير لأنفسنا، نحن نتخلى عن جوهر انسانيتنا، ونستسلم ليس للافكار الشريرة وانما لأي فكرة.

وبينما كل فرد يرغب حاليا ان يرى نفسه كـ "فرد"، تذكّرنا ارندت بان الفردية الحقيقية تبدأ بتفكير ارادي. بدونه نحن نقع فريسة لـ "تأثير العربة" (انحياز سلوكي يتم فيه تبنّي فكرة لأن الاخرين تبنّوها)، نعمل ما يعمله الآخرون، متبنّين عقائدا لأنها شعبية وليس لأننا فكرنا بها. هذه ليس فقط عن كيفية تسلل الشر، وانما الكيفية التي يمكن ان تصبح بها الخيرية قديمة. حتى الافكار النبيلة مثل "حب جارك" يمكن ان تصبح روتينية دون فهم لأنها تتكرر دون تفكير.

ترى ارندت ان جميع الايديولوجيات حتى الأفضل من بينها تدفع العقل الى سلبية. حالما نتخذ "موقفا" نحن عادة نوقف التفكير كليا. ذلك يفسر لماذا هي رفضت كل من الوصفين الليبرالي والمحافظ مما اثار استياء أصدقائها النشطين. هي ايضا رفضت ان تخبر الآخرين بما يفكرون فيه. الحرية الواقعية كما ترى، تكمن في التفكير الطازج، مرة بعد اخرى. التخلص من الايديولوجية ليس كافيا، انه يتركنا بمهمة صعبة جدا: ان نحكم بأنفسنا، لحظة بعد اخرى، ما هو الشيء الصحيح للعمل.

نحن ربما نقرأ دروس ارندت من الحرب العالمية الثانية ونعتقد اننا نحكم بشكل صحيح، تصرّفنا بشجاعة، قاومنا المد. لكن تشخيصها هو اكثر حدة: غياب التفكير العادي، المألوف، غير المُلاحظ هو ما يجعل التواطؤ الصامت ممكنا. هذه الرؤى تتحدث مباشرة لفوضى اليوم: الايديولوجية تتكلس، الحقيقة تتهشم، الذكاء الصناعي يدعم الأحكام، السياسة تستقطب. هل نحن حقا نفكر ام فقط نمارس رد فعل او تكرار؟

تدعونا ارندت ليس لإسكات الصوت الداخلي وانما لرفعه عاليا، لنجعل حوارنا الداخلي يقاطع نشوة الإمتثال. هذا النوع من التفكير ليس انسحابا، انه استعداد أخلاقي. وكما هي سألت بعد ان شهدت محاكمة ايخمان، "هل مشكلة الخير والشر مرتبطة بقدرتنا على التفكير؟". المعرفة بذاتي وبواسطتها تتطلب ان نفكر، لأن فقط اولئك الذين يسمعون أنفسهم يفكرون يمكنهم الشعور بضمير سيء، واولئك الذين يشعرون هم فقط لازالت لديهم الفرصة للبقاء اناسا.

 ***

حاتم حميد محسن

Big Think, April24, 2025

في المثقف اليوم