قضايا

إذا كان التفكير الناقد المعني بفحص بنية الثقافة الغربية في العصر الوسيط يقودنا إلى ضرورة تحليل الملابسات والوقائع والعوامل التي ساهمت مساهمة جادة في ذيوع الكذب بين الاتجاهات الفلسفيّة التي كانت تمثل قادة الرأي في هذه الحقبة؛ فإنّ المراجعة المنهجية الديكارتية وضوابط الاستقراء التي وضعها فرنسيس بيكون سوف ترشدنا إلى وجوب عدم إغفال الحلقات والروابط الداخلية التي تشكل الرحم الذي يلفظ الكذب في القضايا المطروحة وتحليله جينيًا للإحاطة الكاملة بمواطن الكذب وأسباب ظهوره.

أي أن تثاقف الاتجاهات والنزعات المتباينة لا ينبغي اعتباره العلة الوحيدة لذيوع الكذب وانتشاره خلال المصاولات والمناظرات الجدلية التي اتخذت من الكذب آلية وسلاح لنقض المخالفين في ميدان الجدل الدائر بين المتعارضين، بل إنِّ جوهر القضايا المطروحة للتثاقف والنقاش والجدل هي التي تحمل جراثيم غير مرئية للإفك والاجتراء والدَّس والتلبيس والخيانة والغش ولاسيما خلال القناة الواصلة أو الجسر الرابط بين النَّص الإلهي ومقاصده، والفكر الإنساني ومبرراته ودوافعه؛ ذلك الجسر الذي يمثله التأويل والتحقيق من جهة والأيادي الخفيّة التي تثير الشقاق والصراع  في الثقافة التي ارتضت الانضواء تحت راية واحدة ولاسيما عقب اشتغال العقل القائد بأمور الحكم والسياسة من جهة أخرى (أعني الثقافة الإسلامية التي تفشى الكذب في عقلها الجمعي)؛  فانقسمت على أثره إلى شيع ومذاهب وجماعات وأحزاب ونحل وعصبيات بدّدت الصدق الذي ارتضته هذه الشريعة دستورًا لها؛ فباتت تعاني من تفشي الكذب في كل مباحثها النقلية والعقلية (الفقه، علم الكلام، الفلسفة، التصوف) ولم ينقذ هذه الثقافة مما آلت إليه بنية الفكر في الفلسفة الغربية من جهل ونقوص وفساد أخلاقي (واستبداد سياسي) سوى عاملين أولهما: عدم الخلط بين  دائرة البحث العلمي والنّص المقدس وفتح باب الاجتهاد للتوفيق بين الدين والعلم. وثانيهما: اتساع رقعة التسامح العقدي لاستيعاب الأغيار والاحتكام إلى العقل في الحكم على الوافد من المعارف والمذاهب والآراء ولاسيما في صدر الإسلام وفجر دولته قبل ظهور الفتنة الكبرى في الثقافة الإسلامية ثم في ظُهر تلك الحضارة في كنف العقلانية والاشتغال بالعلم وانتصار الحكام؛ لتصور المدينة الفاضلة وعالمية الإسلام، وحرصهم على حماية الرعية، واحترام قادة الرأي والتمسك إلى حد كبير بالأخلاق الشرعية، وتفعيل مقاصدها إلى مرحلة أفول نجم هذه الحضارة وتفشي كل أشكال الكذب في صلب دستورها وحلول الرذائل مكان الفضائل وارتفاع رايات الأباطيل وانتشار بيوت اللهو والمواخير، فأهملت صروحها العلميّة وضعفت أصولها العقديّة وانطفئت مصابيح الحريّة  واستبدل التفكير بالتكفير وانصرف حديث أمراء المنابر عن التفكير في الاجتهاد والتجديد، إلى البحث في شروط انعقاد الإمامة وقتال المخالفين ودركات الالحاد وعقوبة الردة وقتل الكافرين.

وقد أردنا من ذلك الاستهلال تبرير حرصنا على الاستعانة بغرابيل الفلاسفة الناقدة لإثبات علة ما كان، وأسباب الانكسار والانتصار في هذا العصر الكذوب.

وسوف نكشف في السطور التالية عن أهم الاتجاهات العقليّة التي تصلح غربلتها لانتقاء النافع من أفكارها وتصوراتها والحلول التي قدمتها لمجابهة معوقات واقعها والكشف عن الدخيل الذي كان ينبغي عليها استبعاده أو معالجته حتى لا تؤول إلى ما آلت إليه.

***

ولمّا كان من العسير الفصل بين الاجتهادات العقلية في القضايا الفقهية والمقاصد الإلهيّة، فسوف نحتكم إلى مباحث المشتغلين بتأصيل ثوابت الفكر الإسلامي - تلك التي تعبر عن جوهر فلسفة المسلمين - التي عنيت بدراسة الكذب وأشكاله وما يترتب على ذيوعه في شتى الميادين الحياتية؛ ومن ثم سوف نبدأ بمباحث الفقهاء وتحليلاتهم وأساليبهم في مواجهة خطره وسبل الحد من شره.

فالكذب عند الفقهاء مُحرّم في ذاته؛ وذلك بمقدار نقده أو مخالفته لمفهوم الصدق والحق، ومختلف درجات اليقين أو كل ما يترتب عليه من صور مسايرة للشيطان وضلالاته واقترابه من الشرور النقلية والعقليّة.

أمّا العقوبات المصاحبة للكذب، فتقدر بنتائج تطبيقاته وأثرها على سلامة العقيدة وخيريّة المجتمع وصلاحه مثل استحلال المحرمات والترغيب في المكروه من العادات والأقوال والمعتقدات وهي تنقسم إلى قسمين.

القسم الأول: (عقابات جنائيّة مثل التشكيك في الثوابت العقدية أو انتهاك الحدود): ولاسيما إذا كان الغرض من الكذب هو الإضلال أو الخيانة أو الخداع أو الاجتراء على ثابت عقدي أو الدّس والتلبيس والتدليس في أمور تفسد العقيدة، وغير ذلك من الآثام المترتبة على ذيوعه في المجتمع، والمخاطر التي ينجم عنها شرورًا تتعارض مع المقاصد الشرعيّة للصدق.

أمّا القسم الثاني من العقوبات؛ فيتعلق بالعبث في الأحكام المتعلقة بالكذب المباح والمندوب التي تتوقف على تقديرات الفرد في جوازه التلبيس أو تزوير الوقائع لمعالجة مشكلة أو حل قضية فُرضت عليه ويحدّد مقدار عقوباتها الحاكم، أو ولي الأمر تبدأ باللوم وتشدّد بالتعاذير غير المنصوص عليها.

ولتفصيل ذلك قسم الفقهاء الكذب إلى خمسة أحكام: -

أولها: الكذب الواجب: إذا ما دفعت إليه الضرورة في المنافع العامة أو إفشاء تدابير الحروب وفي أمور السياسة التي تستوجب كتمان الحقائق أو في الخلافات الزوجيّة الحادة، والخصام بين الأشقاء وفي مجالس الصلح والعتاب بغرض الوئام والمحبّة أو لتهدئة العوام الغاضبين في الأزمات أو دفع قهر من متجبر؛ على أن يكون الكذب في كل هذه الأحوال هو "الخير" أو هو المعروف الذي حث عليه الشرع في مقاصده.

وثانيها الكذب المباح: وهو يجوز في المسامرة والمؤانسة والمناجاة بين الأزواج والمحبين والضحك الذي لا يخدش الحياء وفي المعاملات دون الشهادة في مجلس القضاء أو في القسم لإثبات الحدود والجنايات، أو في الوقائع التي تدنو من طمس الحقائق أو مساندة الجور.

وثالثها الكذب المندوب: إذا كان الغرض منه دفع ضرر متوقع حدوثه وهو فعل أو قول يستحب صاحبه ولا يعاقب تاركه ولا سيما في المواقف الترجيحية التي يصعب الفصل فيها بين الحسن والقبيح مثل المجاملة والمدح بالقدر الفاصل بين النفاق والرياء.

ورابعها الكذب المكروه: في الأمور التي تتعلق بالتربية والإرشاد والتعليم والأخبار وترويج الشائعات.

أمّا خامسها فهو الكذب المحرم: وهو إذا ما ترتب على فعله جناية تستوجب عقوبة أو حد أو خيانة وهو لا يعالج بالتوبة أو بالاعتذار مثل ضوابط عقد الزواج أو الطلاق أو قذف المحصنات أو الاتهام بالشبهة والظن، ويستثنى من ذلك الكذب الذي تتلوه توبة نصوحًا أو جهل صاحبه أو الخوف المرضي أو لغو الصغار والسفهاء.

***

وإذا ما حاولنا تحليل الخطاب الفقهي حيال الكذب فسوف نجد مضمونه يجمع بين صحيح المنقول وصريح المعقول (مقدمًا الثابت من القرآن، إذ وردت لفظة الكذب ومشتقاتها في نحو 220 آية، وصحيح السنة على المتغير من اجتهادات الفقهاء وآرائهم وذلك على نحو تطبيقي صالح لنفع المجتمع وتهذيب أخلاقه وتقويم عوائده وسلوك أفراده وذلك تبعًا لقناعات العقل الجمعي بهذا النهج التربوي وحكمة وإخلاص القائمين على تربية النشأ والتوعية والإرشاد على تنفيذه ونقله من طور الالزام إلى طور الالتزام حتى يصبح الصدق من مشخصات المنتمين للمجتمع المسلم - ولا يجانبنا الصواب عندما ندرج المباحث الأخلاقية الواردة في الخطاب الفقهي حيال قضية الكذب - ضمن النماذج الرائعة الممثلة لفلسفة المسلمين الخالصة التي لم تتأثر بأفكار السابقين أو المعاصرين من الحكماء أو الفلاسفة؛ الأمر الذي يبرر إدراج الشيخ مصطفى عبد الرازق (1947:1885 م)  وتلاميذه أمثال علي سامي النشار (1980:1917 م)  ومحمد يوسف موسى (1963:1899 م) علم الفقه وأصوله على رأس العلوم العقليّة الإسلامية التي تعبر عن فلسفة المسلمين الخالصة والطابع العملي في تفكيرهم وذلك لجمع آرائهم بين صحيح المنقول كما ذكرنا وصريح المعقول المتمثل في اجتهادات الفقهاء والمصلحين والمجددين الذين تمعنوا في فحص وصحة المنقول واستيعاب مقاصده الربانية الواردة في الوحي والحكمة النبوية التي جاءت في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم من جهة، وامعنت العقل في دراسة طبائع البشر ومدركاتهم ونزعاتهم وانفعالاتهم ودوافعهم للكذب وعلله، وما يترتب عليه من مدار وما يمكن الحكم على بعضه بالاستحسان والنفع من جهة أخرى، محتكمين في النصف الأخير في تشكيل بنية اجتهاداتهم للواقع وما فيه من أحوال وأوضاع وتحولات ومن أهم أقوالهم في هذا السياق قول الفقيه عبد الله بن عتبة (ت نحو 86  هـ: 705 م) في كتاب "تاريخ التشريع الإسلامي" (إن الكذب في الخبر حتى لو كان للمفاخرة فهو غش وخداع ويقول اتقي الكذب وما أشببه، فالخبر يعتقده الناس على غير حقيقته وإن كان الغرض هو المفاخرة).

 وذهب أبو حامد الغزالي (ت 1111 م:505 هـ) في كتابه "إحياء علوم الدين" (إلى أن الكلام وسيلة إلى مقصد من المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعًا، فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان حقن دم محرم يتوقف على الكذب على ظالم يتعقبه فذلك الكذب واجب وإذا كان مقصود الحرب لا يتم، أو إصلاح ذات البين، أو استمالة المجني عليه إلا بكذب، فالكذب مباح. ويقول أيضًا أن للمرء أن يتحرز من ذلك الكذب ويتأثم فيه جهد استطاعته؛ لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه خيف أن يستطرد إلى ما يستغنى عنه، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة؛ فيكون الكذب حرامًا في الأصل إلا للضرورة).   

كما أن جميعهم قد حذر من تقليد اجتهاداتهم باعتبارها ثوابت واجبة التطبيق؛ بل بينوا أن ما أفاضت به قرائحهم مرتبطة بزمانها ومن ثم يمكن تجديدها وتطويرها أو العدول عنها وتغيرها تبعًا لحاجة العصر في الثقافة السائدة. أمّا القسم الأول منها المتعلق بصحيح المنقول فيمكن الاجتهاد فيه أيضًا عن طريق التفسير والتأويل شريطة التزام المجتهدين بوجهة المقصد الشرعي الذي أشارت إليه الآيات أو الأحاديث الصحيحة ونذكر منها: قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم (من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار) (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا. وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا).

تلك كانت رؤية الفقهاء للكذب وعلى الرغم من ضوابط الخطاب الفقهي سواء في العرض أو المعالجة؛ فإن مردوده كان محدودًا وذلك لارتباطه بما نطلق الضمير أو قوة إيمان الفرد، أو وازعه الديني؛ فضغوط الحياة المدنية رغبت ضعاف النفوس عن المثالية الواقعية وانصرفت إلى اللذات الحسية والمنافع المادية فاستحلت من أجلها الكذب ذلك فضلًا عن إهمال معالجة هذه الآفة في التربية وسلوك العوام والخاصّة أيضًا بل عند المتظاهرين بحماية الخطاب الديني وعلماء الأمة فما برحنا نراهم جالسين في مصاف العلماء يزيفون ويتأولون ويفتنون ويدارون، ويصانعون على مرأى ومسمع من أرباب غرابيل الكذب، ومن ثم يجب أن نعترف بأن النصوص الدينية إذا لم تنتقل من الفقيه، لتسكن في القلوب وتفعل في السلوك فلا طائل منها حتى ولو كانت على لسان الأنبياء.

وللحديث بقيّة عن مبحث آخر من مباحث الفكر الإسلامي.  

***

 بقلم: د. عصمت نّصار

 

أهمية تركيز الفلسفة المعاصرة على الإنسان

إن تركيز الفلسفة على الإنسان ومشكلاته الحياتية وهمومه المجتمعية من شأنه أن يساهم في مساعدة الإنسان على فهم نفسه ومجتمعه بشكل أفضل، وتوجيهه نحو حل المشكلات بدلاً من الحزن والقلق بشأنها، من خلال الإهتمام بمشكلاته، والسعي الفعال لإيجاد حلول عملية لها، إن دور الفلسفة المعاصرة لا يقتصر على الإرشاد والتوجيه فحسب، بل هو دور (إصلاحي وتعليمي)، يحدد المشكلة بدقة عالية، ويعمل بشكل فعال على علاجها مستخدما كل ادواته الفلسفية، من أجل مجتمع سعيد ومتطور.

إن الفلسفة  بطبيعتها هي علم يبحث في الوجود والمعرفة والأخلاق، وكانت الفلسفة قديماً (أم العلوم)، وقدم الفلاسفة في مختلف العصور العديد من النظريات في قضايا تخص الوجود، والأخلاق، والمعرفة، والميتافيزيقا، ولكن بعد الثورة الصناعية، والتكنولوجية، التي أدت الى تطور البيئة والمجتمع الذي يعيش في الإنسان، ومن ثم  أعقبها تغير  في نوع وطبيعة المشكلات التي يعاني منها الإنسان، وإختلاف طبيعة الأسئلة التي يبحث الإنسان عن أجوبتها، لذلك صار لزاماً على الباحثين في الفلسفة والأقلام الفلسفية أن تواكب هذا التطور الحاصل في نوع المشكلات وطبيعة تفكير الإنسان المعاصر، فلم يعد الخوف من المجهول هو الموضوع الوحيد الذي يُقلق الإنسان ويثير مخاوفه، بل أصبح يتسائل كيف يواكب التطور الجنوني والسريع الحاصل في الذكاء الإصطناعي، وعالم الروبوتات الذي بدا يغزو الأسواق والمجتمعات، وكذلك الأخلاق الطبية، والبيئية، والهندسة الوراثية وتبعاتها الأخلاقية وكيفية التعامل الأخلاقي معها، وصار من الضروري تجديد وتطوير الخطاب الفلسفي) لكي يواكب هذا التطور التكنولوجي ويضع الأسس الأخلاقية التي تؤطره وتنظمه، من أجل أن تتناسب التوصيات الفلسفية مع متطلبات وواقع الإنسان والمجتمع المعاصر، وبسسب هذه التحديات الكثيرة التي يواجهها المجتمع الإنساني مقابل مجتمع الآلات والذكاء الإصطناعي، صار من الضروري أن تهب الأقلام الفلسفية الى الكتابة والبحث والتأليف وفق منظور (واقعي وعلمي عملي) يحدد بشكل واضح المشكلات المعاصرة وسبل التعامل معها، ويعطي حلول عملية واقعية بإستخدام الأدوات الفلسفية من أجل  توليد أفكار جديدة ومفاهيم ونظريات تواكب المشكلات المعاصرة وتكون قادرة على التعامل معها وتقديم الحلول لها، و كذلك تحفيز العقل البشري من خلال التحليل المنطقي، والتفكير النقدي الإبداعي، ويجب أن لايكتفي الباحثون في المجال  الفلسفي بعرض المشكلات بل يجب أن يتمحور دور الأقلام الفلسفية المعاصرة في إعطاء حلول محددة لكل مشكلة بذاتها، مع مراعاة ان لكل مشكلة حلول عملية مختلفة عن غيرها، ومايصلح لمشكلةٍ ما قد لايكون مناسباً لمشكلة أخرى، وما يناسب  فرداً أو مجتمعاً بعينه، قد لايصلح لفردٍ أو لمجتمع آخر، لذلك يجب الحرص على تقديم حلول تتناسب مع الإنسان  وطبيعته، وطبيعة المجتمع والبيئة التي يعيش فيها، لذلك فإن الفلسفة في المجتمع المعاصر اذا أرادت أن تستعيد دورها التاريخي بوصفها آداة من أدوات الإصلاح الإجتماعي صار لِزاماً عليها التعامل مع مشكلات الإنسان والمجتمع بمرونة وواقعية أكثر في سبيل إيجاد حلول عملية للأزمات الإنسانية والمجتمعية المعاصرة.

***

شيماء هماوندي

أستاذة الفلسفة والعلاج الفلسفي

أربيل/ جامعىة صلاح الدين/ كلية الآداب/ قسم الفلسفة

«السياسة بوصفها حرفة» رسالة صغيرة الحجم، وهي في الأصل محاضرة مطولة ألقاها عالم الاجتماع المعروف ماكس فيبر، أمام اتحاد الطلبة بجامعة ميونيخ في 1919. نالت الرسالة شهرة واسعة في النصف الثاني من القرن العشرين، مع بروز الدراسات المكرسة لتفسير الفعل السياسي وأخلاقياته. ويظهر أن فيبر استهدف في تلك المحاضرة تعزيز الاتجاه العقلاني في مواجهة الميول المثالية التي تشيع عادة بين الطلبة الجامعيين. وكان هذا ضرورياً عقب الهزيمة المذلة لألمانيا في الحرب العالمية الأولى، حيث شاع اتجاه قومي متطرف، يُقال إنه وفّر -لاحقاً- أرضية ثقافية استثمرتها تيارات سياسية شعبوية، مثل التيار النازي الذي تزعمه أدولف هتلر.

الرسالة الداخلية لتلك المحاضرة هي: من يريد احتراف العمل السياسي عليه أن يستوعب الفوارق الجوهرية بين الوعظ والسياسة. ممارسة السياسة شيء مختلف تماماً عن الكلام السياسي. كما أنه مختلف عن الحرف الأخرى. إن أردت المحافظة على أخلاقيات بسيطة، فإن السياسة ليست المكان المناسب، فهي مكان للأخلاقيات المركبة، حيث يجد المرء نفسه أمام خيارات عسيرة بين السيئ والأسوأ، وليس بين الحسن والسيئ، وهو في كل حالة مضطر إلى اتخاذ قرار، وإلا فقد دوره في هذا المجال.

جوهر السياسة -يقول فيبر- هو ارتباطها بأدوات الجبر والعنف. حين تكون في دار العبادة ستسمع تحذيراً من الأعمال التي تُصنّف في خانة الإساءة للغير، أو ظلم الضعيف أو تخريب البيئة وأمثالها. وسيخبرك الواعظ أن هذه الأفعال تستدعي غضب الله والعقاب في الآخرة. وإذا كنت في المدرسة فسوف يخبرك الأستاذ أن مخالفة أنظمة المرور والبناء وأمثالها قد تؤدي إلى احتمال غرامات وخسائر، وربما السجن. في كلتا الحالتين يركز المتحدث على إرشاد المستمعين، وإقناعهم بتجنب الأفعال التي تعرّضهم للأذى. أما رجل السياسة فلا يصرف وقتاً في إقناع أحد، بل يتخذ قرارات توضح بجلاء أن من يخالفها سوف يتعرض للعقاب. الفارق إذن بين رجل السياسة وغيره، أن هذا يهدد بالعنف المباشر وهو يملك أدواته. أما الواعظ والأستاذ فدورهما يقتصر على «لفت نظر» المستمعين إلى العواقب المحتملة لأفعالهم.

بعبارة أخرى، إن جوهر العمل في المجال السياسي هو إلزام الناس بما يريده رجل السياسة ومنعهم مما لا يريده. قد تتوافق هذه الأوامر مع إرادات الناس في بعض الأحيان، لكنهم في معظم الحالات، يفعلون ما يأمرهم رجل السياسة خوفاً من العقاب.

ما الذي يدعو ماكس فيبر إلى هذا الحديث؟ أشرت في المقدمة إلى رغبته في معالجة الميول المثالية التي تلبس ثوب الأخلاق الكاملة. مع أنها في حقيقة الأمر بعيدة جداً عن واقع الحياة وحاجاتها. بعبارة أخرى، إننا جميعاً نتمنى الخلاص النهائي من الجبر والخشونة في المعاملات كافّة: المعاملات بين الآباء والأبناء، بين الأصدقاء والجيران، بين التجار والمستهلكين، بين رجال الدولة والمواطنين، أو بين مواطني هذه الدولة وغيرهم من مواطني الدول الأخرى. هذه أمنية. لكن في واقع الحياة، يستحيل إدارة البلاد من دون التلويح بأدوات الجبر، في بعض الأحيان، بل في غالب الأحيان.

هذا أمر لا أظن عاقلاً ينكره. لكن العاقل سيخشى الانزلاق من «التلويح» بالعنف إلى استعماله بشكل مبتذل، أي تحويله من أداة في الخلفية إلى أداة وحيدة للتعامل مع الناس. من ذلك مثلاً أن تترك الحديث مع الناس، إلى تهديدهم بالسجن والتغريم وغير ذلك، في كل صغيرة وكبيرة.

على الجانب الآخر، فإنه ليس متوقعاً أن يلبس السياسي ثوب الواعظ، أي أن يتخلى عن حل المشكلات ولو بالعنف، لأنه إن فعل ذلك فقد فرّط في دوره الرئيس، أي إدارة البلد، ولا أظن أحداً يريد أن يرى حاكماً منصرفاً إلى الوعظ بدلاً عن ممارسة الحكم، حتى لو كان العنف مضموناً له.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

يظن بعض الناس أنهم مبرؤون من الأخطاء والزلات والعثرات، يتحدثون عن الكمال كما لو كان صفة لازمة فيهم، ويتحدثون عن المواقف السليمة وكأنهم وحدهم من يجسدها وتصدر من أفعالهم، وعندما يتناولون النواقص والعثرات يتحدثون بضمير الغائب، فيشيرون إلى البشر وكأنهم ليسوا منهم وقد جاءوا من عوالم أخرى بعدية عن الأرض وساكنيها. ترى أحدهم يتحدث ساعات عن تقصير الناس وعيوبهم وتناقضاتهم ومشاكلهم، لكنه لا يذكر نفسه بكلمة وكأنه فوق الخطأ والنقيصة، أو كأن الكمال خلق لأجله دون سواه من الخلق.

هذه الحالة ليست سوى صورة من صور الوهم النفسي ووهنها وضعفها، وآلية دفاعية يسقط فيها الإنسان عيوبه على من حوله حتى يبرئ نفسه من المحاسبة والتقييم والوقوف عليها بموضوعية وشفافية ووضح، فهو ينجو بجلده من تأنيب الضمير. فهي محاولة للهروب من مواجهة الذات والوقوف على مستواها وواقعها ومآلها، لأن مواجهة النفس تحتاج إلى شجاعة نادرة وصدق. حين يرى الإنسان العالم بعيون ناقمة وناقدة سلبية، لا يرى في مرآته إلا صورة مصقولة لا تشوبها شائبة، فإنه يعيش في خداع داخلي يقتله ببطء دون أن يشعر بفكره وذهنيته.

قمة الإفراط في السذاجة أن نرى الآخرين بملء العين ولا نرى أنفسنا القريبة منا، أن نتحدث عن أخطاء الناس دون أن نراجع أنفسنا، أن نحاسب غيرنا على الهفوات بينما نتغاضى عن الزلل في داخلنا. من ينكر عيوبه يقتل في داخله فرصة النمو والنضج والتعديل والتطوير. أما من يقف وقفة صادقة أمام ذاته فيرى الخلل، ويقر بالخطأ، ويعتذر حين يخطئ، فهو الذي يسير في طريق الارتقاء الإنساني الحقيقي.

كم من موظف يكثر من نقد زملائه ويتحدث عن ضعف إنتاجهم، بينما هو نفسه لا يراجع تقاريره ولا يطور من أدائه. وكم من مدير يتحدث عن الانضباط والالتزام، لكنه ينسى مواعيده ويتأخر في إنجاز مهامه. وكم من أب يلوم أبناءه على الغضب أو التسرع، بينما هو يثور لأبسط الأسباب وأقلها شأناً. هذه المفارقات تكشف أن الخلل ليس في البشر، بل في مرآتنا التي لا نجرؤ على تنظيفها وتنقيتها والاعتراف بها أساساً.

في المقابل، ترى الإنسان المتزن لا يضخم ذاته ولا يزكيها، بل يعترف بحدوده وأفعاله، ويتحدث عن نفسه بصدق دون تجميل أو مبالغة. إذا أخطأ لا يبرر، بل يتراجع ويعتذر، وإذا أصاب لا يتفاخر، بل يشكر. يعيش التواضع سلوكاً لا شعاراً، ويتعامل مع الآخرين بوعي أن كل إنسان قابل للخطأ والتعلم. هو يدرك أن الكمال لله وحده، وأن الاعتراف بالنقص ليس ضعفاً بل بداية القوة والشجاعة.

في بيئة العمل، يظهر الفرق بين من يبحث عن اللوم والتجريح وذكر النواقص والأخطاء وبين من يبحث عن الحل والنماء والبناء، بين من يرفع صوته ليثبت أنه على حق لا يهمه من يحادثه أو يتصرف أمامه، ومن يصمت قليلاً ليتأمل دوره في حل المشكلة. الموظف الناضج لا يسقط أخطاءه على زملائه، بل يسعى لإصلاح نفسه أولاً ويسهم في بناء غيره. إن مناخ الثقة لا يبنى على النقد، بل على الصدق والاعتراف والتقبل والاحترام قبل كل شيء، ولا يتشكل في ضجيج الاتهامات ورفع الصوت والانفعال والعصبية، بل في سكون الهدوء والمراجعة بلطف وكياسة.

وما أجمل أن نصل إلى مرحلة نرى فيها الخطأ في سلوكنا فرصة للتعلم لا مناسبة للدفاع والتبرير وإتهام الآخر، فنراجع أنفسنا قبل أن نحاكم غيرنا ونجلده. حينها نصبح أكثر إنصافاً وعدلاً ورحمة، لأننا نذوق طعم الصدق الداخلي وشفافية النفس التواقة للشعور بالرفاه النفسي والاستقامة الذاتية، ونرى بعيون البصيرة لا بعيون الغرور والتفاخر والتعالي.

الناس لا يتذكرون ما قلناه عنهم، بل يتذكرون كيف جعلناهم يشعرون بأنفسهم ويسرون من حديثنا وسلوكياتنا معهم، وحين يشعرون بالصدق فينا، يتسع أثرنا في قلوبهم فتسكن المحبة والمشاعر الدافئة فيهم. والذين يعيشون في حالة ادعاء الكمال يعيشون غرباء عن أنفسهم ومن حولهم، لأنهم يهربون من مواجهة حقيقتهم. أما الذين يتصالحون مع ذواتهم فهم أكثر الناس طمأنينة وسلاماً، لأنهم يقبلون النقص فيهم كجزء من إنسانيتهم.

نحن لا نكبر حين نخفي أخطاءنا، بل حين نعترف بها. ولا نرتقي حين ننتقد الآخرين، بل حين نصحح مسارنا. وكل خطوة نحو الصدق مع الذات هي خطوة نحو صفاء القلب وسمو الروح. فليكن كل منا مرآة لنفسه قبل أن يكون ناقداً لغيره، لأن الإنسان الذي يرى نفسه بوضوح لا يحتاج إلى تجميل صور الآخرين، بل يراهم بعيون المحبة والتسامح والوعي.

***

بقلم: د. أكرم عثمان

  12-11-2025

الفلسفة بوصفها علاجاً لمشكلات الإنسان المعاصر

غالباً ماترتبط الفلسفة بالترف الفكري والقوانين النظرية في ذهن الإنسان البسيط، خاصة أولئك البعيدين عن المجال الفلسفي، وقد يراها البعض مجرد  نظريات وأفكارغير مجدية، ولكن في الحقيقة، فإن الفلسفة بصيغتها الواقعية الجديدة مهمة للسبب ذاته، لأنها تعرفنا على أفكار الفلاسفة ونظرياتهم في مختلف العصور، وتدفعنا الى التأمل والتحليل والتفكير النقدي، والسعي وراء المعرفة، وفي الواقع أن دراسة الفلسفة لا تقتصر على تنمية مهارات مثل التحليل المنطقي، والتفكير النقدي فحسب، بل تمثل علاجاً لمشكلات الإنسان الفكرية، وهمومه اليومية، وتتيح لنا الفلسفة أيضا فهم أنفسنا وحياتنا وبالتالي العمل على تحليل أسباب مشكلاتنا بأنفسنا، والعمل على إيجاد الحلول المناسبة لها، ويتحقق ذلك من خلال النظر في أسئلة جوهرية هي من صميم الحالة الإنسانية، من بين هذه الأسئلة: من نحن؟ ماهو دورنا في المجتمع المعاصر؟ وماهي مشكلاتنا ومخاوفنا وماهي أسبابها ؟ وماهي الحياة الواقعية وكيف نعيشها؟

هذه الأسئلة وغيرها تدفع المتأمل فيها الى البحث عن أجوبة وحلول لمعاناته ومشكلاته، من خلال التعرف على أفكار الفلاسفة ونظرياتهم، والإستفادة من تطبيقاتها العملية في حل المشكلات المعاصرة، وفي مد يد العون للإنسان المعاصر، ومساعدته على مواصلة التقدم في الحياة، ومواجهة المشكلات والمخاوف اليومية، وإيجاد حلول لها، كذلك فإن الإستعانة بالفلسفة في حل المشكلات الحياتية اليومية هو ليس بالموضوع الجديد، بل إن الفلاسفة القدماء إهتموا بهموم الإنسان وحاولوا إيجاد حلول لمشكلاته الفكرية، وأزماته النفسية، وإهتموا بالجانب العملي من الفلسفة ليطبقوا أفكارهم الفلسفية في صورة حلول واقعية للمشكلات الإنسانية، فنجد أن سقراط وآرسطو يؤكدان ان المعرفة فضيلة والجهل رذيلة ، ويشير آرسطو في كتابه (الأخلاق النيقوماخية) الى أن السعادة تنبع من الفضيلة، ويشير الى ضرورة التعلم من الأخطاء، وعدم الوقوع فيها من جديد.

كيف تساعدنا الفلسفة على تغيير حياتنا؟

إن الإنسان المعاصر مرهق ومثقل بهموم العمل والسعي الى المكانة الإجتماعية، والقلق حول الوضع الإجتماعي والمادي ومواكبة التكنولوجيا، وبالرغم من أن الحياة في ضل التقدم التكنولوجي أصبحت أسهل اليوم، إلا أن المنافسة أصبحت أكبر وأصعب، والرغبة في مواكبة التطور ترهق الإنسان فكرياً وجسدياً، وتؤثر سلباً على قدراته العقلية، والنفسية، والجسدية، وقد يؤدي فرط إستخدامه للتكنولوجيا الى تراجع قدراته الفكرية، لذلك فإن مهمة الفلسفة الأساسية في عصرنا الحالي هو الحفاظ على قدرات الإنسان الفكرية والإبداعية، والعمل على إعادة صلة الإنسان بذاته ومجتمعه، والوعي بوجوده والعيش في الحاضر، والتحرر من القلق حول المستقبل، حيث إن دراسة الفلسفة ومناقشة المسائل الفلسفية تعمل على تحفيز وتنشيط التفكير الإبداعي  لدى الإنسان المعاصر، وتساعده على تنمية مهارات  التحليل المنطقي، والتفكير النقدي والإبداعي.

 إن دور الفلسفة   في المجتمع المعاصر يتمثل في تقديم أدوات التحليل المنطقي والتفكير النقدي لمساعدة الإنسان في تحليل المشكلات، والوصول الى الحلول، وإن تغيير الأفكار يعقبه تغيير العادات اليومية والتي يؤدي تغييرها الى تغيير الواقع الذي يعيش فيه الإنسان وتغير حياته للأفضل، حيث ان تبني الأفكار الإيجابية و وجهات النظر الجديدة يؤدي الى تغيير  نظرة ورؤية الإنسان لعالمه ولواقعه وحتى مشكلاته،  ويساعده كل ذلك على التخلص من التوتر والقلق ،ويتيح له فرصة للعيش بطريقة أفضل، وتساعد الفلسفة الانسان في تغيير أفكاره السلبية وإستبدالها بأفكار إيجابية،  فالتفكير المنطقي يساعد الإنسان في الوصول الى حلول واقعية لمشكلاته اليومية ، وبالتالي التخلص من كل ما من شأنه أن يعكر صفو حياته، وكذلك تساعد الفلسفة الإنسان على تغيير العادات السلبية من خلال جعل الفلسفة نمط حياة، وفناً للعيش بحكمة وسعادة. 

***

شيماء هماوندي - أستاذة الفلسفة والعلاج الفلسفي

أربيل / جامعة صلاح الدين / كلية الآداب \ قسم الفلسفة

العقل كجريمة مُعلنة: بين السرّ والضوء

ليس في الكون ما يظهر خارقًا للوهلة الأولى سوى حقيقة النفس الغارقة في سرّها، والوعي الذي يغرق في ضوء مزدوج، نور يحرّر وظلام يقيد. نحن نظن العقل أداة للاكتشاف، لكنه غالبًا مرايا متشابكة، كل وجه منها يعكس جزءًا من الحقيقة ويخفي ألف وجه آخر. المعرفة التي نحملها ليست لنا، بل ضيف عابر على صرح الذات، يعلّم ما لم نطلبه ويستر ما نحتاج أن نراه.

في رحاب الفكر، يعلن المنطق جريمته بصمت، فيسجن الروح في سجون المسلمات الموروثة، وتصبح اللغة قيودًا على الحرية قبل أن ندرك أننا أفكار. كل كلمة نتفوه بها، كل مفهوم نبتكره، جزء من شبكة خداع نسميها وعيًا. نمشي في متاهة بلا بداية ولا نهاية، حيث يسبق السياق الاجتماعي الفكرة ويختنق المعنى قبل أن يُولد.

لكن، حين يحس القلب بالانكشاف وتشرق شمس السرّ على النفس، يتضح أن الحرية ليست في الفكر وحده، بل في إدراك أسراره. هنا، بين السرّ والضوء، القيد والتحرر، يولد الإنسان حقيقة نفسه، ليس كعاقل متسلط على المعرفة، بل كروح تدرك أنها جزء من شبكة أزلية أكبر، لا تُرى، ولا تُحاكم، ولا تُقاس بمعايير المنطق البشري.

المعنى الضائع: حين يسبق السياق الاجتماعي الفكرة نفسها ويقتلها قبل ولادتها

في رحاب الوجود، يولد الفكر من سرّ لا يدركه العقل العادي، لكنه غالبًا يُسجن قبل أن يلمس النور. الفكرة التي يظنّ المرء أنها حرة، تكون في واقعها رهينة شبكة الرموز والمظاهر الاجتماعية، لا تولد إلا إذا سمح لها السياق، وإذا رفضها اختنقت قبل أن تشهد الوجود. اللغة، كما يقول محي الدين بن عربي، مرآة الروح، قد تكون سجنًا يحيط بالمعنى قبل أن يولد، فتصبح الكلمات سجلات للممنوع والمغيّب أكثر من كونها أدوات للفهم.

الفكرة الضائعة ليست مجرد فكرة محجوبة، بل دليل أن الوعي الاجتماعي يسبق الفرد. كل اعتقاد، كل مفهوم، يتشكل وفق قوالب لم يخترها صاحبه، بل استقبلها كروح تتلقى نظامها الخفي. وهنا يظهر التناقض العظيم: الإنسان يظن أنه يبتكر، بينما الروح محكومة بنسيج مسبق من القيود الرمزية.

كما قال الرومي: لا تكن عبدًا للكلمات، بل اجعل الكلمات عبدًا لك. قليلون من يصلون إلى هذا التحرر، لأن المجتمع غالبًا يسبق الفكرة، يقيّدها، ويحوّلها إلى صدى لماضٍ لم يعد موجودًا، فتضيع الحرية قبل أن تولد. المعنى الحقيقي لا يُخلق إلا حين يتحرر العقل من قيود الظاهر، حين يصبح الفكر قادرًا على رؤية اللامرئي، على إدراك ما لا يدركه الآخرون، على الإبحار في بحر الروح دون خشية القيود.

وهكذا، تصبح المعاني الضائعة شاهدة على أن الكون لا يعطي الحرية إلا لمن يعرف حدود الأسرار، لا لمن يظن أن المعرفة تبدأ بالمنطق وحده. فالحرية الفكرية ليست القدرة على الاختيار، بل القدرة على إدراك سرّ القيود المفروضة، وإطلاق الفكر في فضاء لا يعرف الحدود، حيث يولد المعنى بلا سياق مسبق، بلا انتظار، بلا حكم مسبق من العقل الجمعي.

بوذا قال: إنك لن تعرف العالم حتى تعرف نفسك. المعرفة الحقيقية تتطلب التحرر من القوالب الموروثة، من التصنيفات، من اللغة التي تختنق بها الفكرة. حينها فقط تنكشف الحقيقة في صمت الروح، ويولد المعنى بعيدًا عن القيد، بعيدًا عن السياق الذي يسبق الفكرة ويقتلها قبل ولادتها، فيصبح الفكر نافذة إلى ما وراء الوجود، حيث لا شيء يمكن اختزاله، ولا شيء يمكن السيطرة عليه.

في سكون الروح، حيث لا يصل النظر إلا إلى ما وراء المظاهر، يولد الفكر من سرّ أزلي لا يمكن اختزاله بالكلمات أو بالإدراك العادي. لكن هذا السر غالبًا يُختنق قبل أن يلمس النور، لأن السياق الاجتماعي يسبق الفكرة، يحيط بها، يفرض عليها قيودًا لا تراها العين، ويقتل أي احتمال للحرية قبل أن تولد. اللغة ليست وسيلة للتواصل فقط، بل صرح معقد من الرموز والقيود، تلتف حول المعنى قبل أن يولد، فتصبح الكلمات حواجز وليست جسورًا.

الفكرة الضائعة ليست مجرد فكرة مفقودة، بل شهادة على أن الإنسان يسير غالبًا في متاهة من القيود المفروضة سلفًا. كل ما نعتقد أننا نختاره، كل مفهوم نبتكره، في الغالب استنساخ لموروثات لم نختَرها، ونكاد نصبح أسرى شبكة دقيقة من التصنيفات الاجتماعية، اللغة، العادات، والأعراف. وهنا تكمن المأساة: نحن نظن أننا نفكر، بينما الروح نفسها محكومة بنظام خفي من القيود الرمزية، فلا ندرك أن الفكر الأصلي، الذي يحمل الخروج من المعتاد، غالبًا يُقتل قبل أن يولد.

كما يقول محي الدين بن عربي: من عرف نفسه فقد عرف ربه. كيف يعرف الإنسان نفسه إذا كانت أفكاره وأحاسيسه محتجزة داخل سجون لا يراها؟ الفكرة الضائعة، المعنى الذي لم يولد بعد، يكشف أن الوعي الجمعي يسبق الفرد، وأن المجتمع غالبًا يسبق أي محاولة للفهم الحر. حين تشرق شمس السرّ على الروح، فإنها لا تمنح الحرية للفكر وحده، بل تفرض مواجهة كل ما اعتقدنا أننا نعرفه، مع كل التصنيفات الموروثة، وكل اللغة التي خنقت المعنى قبل أن يرى النور.

الخطورة ليست في الكلمات، بل في إدراك أن كل تفكير، كل اعتقاد، جزء من شبكة خفية أكبر، تجعل من الحرية مجرد وهم، ومن المعرفة صدى ماضٍ يسيطر على الحاضر. يقول الرومي: لا تكن عبدًا للكلمات، بل اجعل الكلمات عبدًا لك. قليلون يملكون الشجاعة ليطلقوا الفكر في فضاء بلا قيود، ليولد المعنى دون رقابة، دون حكم مسبق، ودون خوف من المجتمع الذي يسبق كل فكرة.

بوذا قال: كل ما نكون عليه نتيجة ما فكرنا به. معظم ما نفكر به ليس اختيارنا، بل انعكاس القيود الاجتماعية، الحواجز اللغوية، الشبكة الرمزية التي تكبح الابتكار. إدراك هذا، مواجهة حقيقة أن الحرية الفكرية غالبًا مجرد وهم، هو الصدمة التي يختبرها القارئ. يكتشف أن المعنى الذي يظنه ملكًا له غالبًا ضائع قبل أن يولد، وأن كل فكرة تحمل عبء مواجهة الحقيقة المزدوجة: معرفة الذات ومواجهة الأسرار التي يفرضها السياق الاجتماعي قبل أن يسمح للوعي بالتحرر.

المعنى الحقيقي يولد حين يختار الإنسان مواجهة الظلام داخل ذاته، حين يجرؤ على تجاوز اللغة، التصنيفات، كل ما يسبق الفكرة ويقتلها، ليكتشف أنه ليس مجرد مفكر، بل روح تشهد على أسرار الكون، ما لا يُرى، ما لا يُحكم عليه، ما لا يمكن للمنطق البشري أن يحدده. هنا يصبح الفكر جريئًا، المعنى حيًا، والوعي حرًا، ولو للحظة واحدة، في عالم يسعى دائمًا لقتل المعنى قبل أن يولد.

إذا تأملنا النفس البشرية، نجد أن الفكر ليس مجرد حدث داخلي، بل مسرح تتشابك فيه القوى الخفية: اللغة، العرف، الموروث، والخوف من الطرد الاجتماعي. كل فكرة تولد في هذا المسرح ليست حرة، بل محاصرة بين جدران غير مرئية، بين إرادة الفرد والهيمنة الجمعية. وهنا يظهر الضياع الحقيقي: الإنسان يحمل الحقيقة في قلبه، لكنه لا يستطيع التعبير عنها، لأن المعنى يُسجن قبل أن يرى النور.

الوجود، وفق الصوفية، ليس سوى مرآة مزدوجة: المرآة التي نرى فيها أنفسنا، والمرآة التي يخفي فيها الكون أسراره. يقول محي الدين بن عربي: الحقائق العظيمة غالبًا لا تُفهم إلا في صمت الروح. لكن المجتمع يمنع الصمت، يفرض صوت المألوف، يجعل من كل محاولة لفهم المعنى رحلة محفوفة بالمخاطر، حيث قد تُقتل الفكرة في مهدها.

بوذا أكد أن الحرية الحقيقية تبدأ بمعرفة الذات: إنك لن تعرف العالم حتى تعرف نفسك. المعرفة الحقيقية للنفس تتطلب مواجهة القيود التي يفرضها السياق، تجاوز اللغة، التصنيفات، كل ما سبق الفكرة. المعنى الضائع هنا ليس مجرد ضياع الابتكار، بل صرخة من الروح تخبرنا أن الحرية الفكرية غالبًا وهم، وأن كل محاولة للابتكار تضربها قوى خفية قبل أن تولد.

وهكذا، القارئ أمام مواجهة مزدوجة: مع العالم الخارجي الذي يسبق الفكرة ويقتلها، ومع العالم الداخلي الذي يخاف مواجهة ذاته. الفكرة الضائعة تحمله إلى حافة الصمت والشك، حيث كل معنى محتمل يصبح امتحانًا للروح: هل ستختار الإفصاح عن فكرتك، حتى لو رفضها المجتمع؟ أم ستظل صامتًا، جزءًا من شبكة تتحكم فيها القوى الخفية قبل أن يدركها عقلك؟ ليست نهاية، بل نقطة انطلاق. الفكرة الضائعة دعوة للتأمل: هل يمكن أن يولد المعنى حقًا، إذا لم يكن الإنسان مستعدًا لمواجهة ذاته، السياق الذي يسبق الفكر، والخوف الذي يختبئ خلف كل كلمة؟ كل سؤال يفتح بابًا لتساؤلات جديدة، كل إجابة رحلة في بحر الرموز، السرّ، الضياع.

في صمت الليل الداخلي، حيث لا يصل إلا الصمت المهيب، تظهر الروح على حقيقتها: حاملة المعاني، لكنها محاصرة بين أسوار غير مرئية. كل فكرة تحاول الفرار من سجن العقل الاجتماعي تصطدم بجدار الموروث، بالعادات، بالعقائد غير المعلنة التي تتحكم بما يُسمح لنا التفكير فيه. المعنى الضائع ليس صدفة، بل شهادة على أن الروح لا تولد إلا في مواجهة القيود، وأن الحرية الفكرية تبدأ حين نكتشف الأسوار قبل أن نحاول تجاوزها.

كما يقول محي الدين بن عربي: من عرف القيود عرف الحرية. الحرية ليست غياب القيد، بل وعي بالقيد، إدراكه، ثم التحرر منه. المجتمع لا يسمح بهذا الوعي بسهولة. يسبق الفكرة، يقيّدها، يجعلها تتلاشى، ويترك الفرد يعتقد أنه حر، بينما يسير في متاهة مبرمجة مسبقًا.

بوذا أضاف بعدًا آخر: كل المعاناة تنبع من التعلق. الفكرة التي لم تولد تصبح ضحية تعلقنا بالقبول، بالمعايير، بالصور النمطية. نخشى رفض المجتمع أكثر من فقدان الحقيقة. الضياع ليس مجرد فقدان للمعنى، بل ناتج عن خوف عميق مخفي في الروح: خوف مواجهة ما لا يفهمه الآخرون، وخوف مواجهة أنفسنا.

لكن في قلب الظلام، يظهر بريق الحقيقة لأولئك الذين يجرؤون رؤية ما لا يراه الآخرون. المعنى الضائع يولد إذا تجاوزنا اللغة، التصنيفات، وكل ما سبق الفكرة. هنا يصبح الفكر جريئًا، الروح مستعدة للاختراق، والوعي يتحرر من قيود المجتمع والذات.

الرومي يقول: لا تقتل الفكرة قبل أن تكتشف سرّها. الفكرة الضائعة ليست موتًا، بل رحلة، امتحان للروح: هل يمكن للإنسان رؤية الحقيقة خارج المألوف، خارج التصنيفات، خارج كل ما يفرضه السياق الاجتماعي؟ المعنى الحقيقي يولد حين يتحرر العقل، حين يصبح قادرًا على مواجهة الصمت الداخلي، مواجهة الخوف الذي يكتم الابتكار قبل ولادته.

هنا يصبح القارئ مشاركًا في ولادة الفكرة، ليس مجرد متلقٍ لها. يصبح حاضرًا في مواجهة القوى الخفية التي تتحكم بالوعي، ويكتشف أن الحرية الفكرية ليست مجرد القدرة على الاختيار، بل القدرة على إدراك القيود قبل تطبيقها، إطلاق المعنى قبل أن يُقتل، الإبحار في بحر الرموز والسرّ، حيث يولد الفكر بلا سياق مسبق، بلا حكم مسبق، بلا خوف.

وفي النهاية، المعركة مستمرة: بين الروح والمجتمع، بين الفكر واللغة، بين السرّ والضوء، بين الضياع والولادة. وكل من يقرأ يصبح شاهدًا على الحقيقة الخفية: المعنى الحقيقي غالبًا ضائع، لكنه ينتظر الجرأة لتولده، الوعي ليحمله، الروح لتدعمه.

الذات الممزقة بين الانعكاس والخداع: قراءة في الخيانة الذاتية للوعي

في بحر الوجود، حيث يتشابك الظاهر بالباطن، وتغدو كل صورة انعكاسًا لمرايا غير مرئية، تنكشف الذات كما لم تُعرف من قبل: ممزقة بين ما يظهر وما يخفيه السرّ. الروح، في عمقها، تعرف الحقيقة، لكنها غالبًا تغرق في خديعة العقل، في وهم الفهم، في خيانة ما أرسله الله فيها من نور. كل محاولة إدراك الذات تصطدم بمرايا متعددة، كل منها يعكس شيء من الحقيقة ويخفي ألف سر آخر، هنا يولد الانقسام العميق: الذات التي نعتقد أننا نعرفها ليست إلا قناعًا من الظلال.

محي الدين بن عربي يقول: الحقائق العظمى لا يُدركها إلا من انكسر قلبه أمام سرّ الذات. الانكسار ليس ضعفًا، بل مفتاحًا، يكشف أن الإنسان غالبًا يساهم في خيانة ذاته بدافع الخوف، بمحاولة إعادة إنتاج ما فرضه العالم الخارجي من حدود، قيود، تصنيفات. العقل يظن أنه يقود الروح، لكنه غالبًا أداة خفية لخداعها، يجعلها تؤمن أنها حرة، بينما هي أسيرة تكرار ما لم تختره.

بوذا قال: الوعي هو مرآة تتطلب صفاء النفس لتكشف ما وراء الظل. الصفاء قليل، لأن الروح تصارع الانعكاسات المستمرة، تصارع الأصوات التي تقول: أنت تفكر، أنت تعرف، وأنت حرّ. كل فكر قد يكون صدى لموروث، كل إدراك انعكاس مشوه للواقع، وكل حرية وهم يتسلل بين قيود الذات والمجتمع.

في الامتزاج بين الانعكاس والخداع، تولد الذات الممزقة. تعرف الحقيقة لكنها تخونها، ليس بإرادتها، بل بتقليد الظلال، بمحاولة فهم ما لا يمكن فهمه بالكلمات، بمحاولة تكييف نفسها مع ما يفرضه الواقع الاجتماعي واللغة والتقاليد. هنا يظهر السؤال الصادم: هل يمكن للوعي أن يكون صادقًا إذا كانت الذات جزءًا من شبكة خفية من الخداع الداخلي؟

الرومي يقول: من عرف الظل عرف النور، ومن عرف النور عرف الظل. الذات الممزقة تحمل النور والظل معًا، تسكن في حدّ بين الحقيقة والخيال، المعرفة والخداع، الإرادة والقدر الموروث. كل لحظة وعي، كل شعور بالتحرر، كل فكر جديد، يصبح اختبارًا: هل يرى الإنسان ظل ذاته ويواجهه قبل أن يغرق في خداع الانعكاسات؟

الخيانة الذاتية ليست مجرد خطأ، بل تجربة صوفية وجودية: اختبار للروح لتعرف حدودها، مكانها بين الانعكاس والخداع، لتعرف أن الحرية الفكرية والوعي الصادق لا يولدان إلا حين تجرؤ الذات على مواجهة ما تخفيه عن نفسها، ما يخفيه العالم، ما يفرضه الظل. من يقرأ يصبح شاهدًا على صراع الوعي مع ذاته، على محنة الفكر الذي يسعى للحرية وسط قيود خفية، وعلى سرّ الروح التي تعرف الطريق لكنها تُرغم على السير في متاهة الانعكاسات والخداع قبل أن تصل إلى النور الحقيقي.

الزمن كراوية: كيف يخدعنا الماضي ليُسيطر على مستقبل أفكارنا؟

الزمن ليس خطًا مستقيمًا، ولا مجرد تسلسل للأحداث. الزمن في أعماق الروح كراوية خفية، ينسج فيها الماضي خيوطًا تخدع الحاضر، وتفرض على المستقبل قيودًا لا تراها العين. كل ذكرى، تجربة، لحظة مضت، تصبح جزءًا من شبكة دقيقة تتحكم في إدراكنا، فتقود أفكارنا كما يشاء قبل أن نملك نحن حق القرار. محي الدين بن عربي يقول: الزمن للروح مرايا متلاحقة، تعكس ما كان وما سيكون في آن واحد. الماضي ليس مجرد ذاكرة، بل قوة حية تتحكم بالمفاهيم، تحدد الممكن والمستحيل، وتبني تصوراتنا عن ما يمكن أن يكون. نحن نعتقد أننا نخطط، نبتكر، والمستقبل لنا، بينما في الواقع…

الخاتمة

في آخر المرايا، حيث يذوبُ النور في ظلاله، ويصيرُ السرّ مرئيًا بقدر ما يتخفّى، يقف الوعيُ على حافّة وجوده، متسائلًا: أأنا من يرى، أم أنا ما يُرى بي؟ كلُّ ما كان يومًا وضوحًا، عاد غبشًا، وكلُّ ما ظننّاه يقينًا، تبيّن أنّه صورةٌ تتذكّر نفسها في الماء.

العقلُ هنا لا يُفكّر، بل يُفكَّر به. يُستعمل كأداةٍ في يدِ المعنى، يُقادُ إلى السؤال كما يُقاد الأعمى إلى الضوء. فمنذ متى كان النور خلاصًا؟ أوليس هو الوجه الآخر للاحتراق؟

قال بوذا: «من رآني لم يرَني»، وكأنّ المعرفة لعنةٌ على من ظنَّ أنه امتلكها، إذ لا يرى إلا مرآةَ نفسه في ما يراه. وقال نيتشه: «احذر من أن تُحدّق في الهاوية، فالهاوية تحدّق فيك»، لكن صاحب السِّرّ يُعلّق ساخرًا: وأيُّ هاويةٍ أعظم من أن تحدّق فيك نفسك؟

في هذا الوجود الملتبس، لا تُقاس الحقيقة بظهورها، بل بقدرتها على الاختفاء. فكلّ شيءٍ يُشرق، يَخلق ظلّه. والظلّ لا يفارق النور، بل يسكن فيه. كأن الكون كلّه لعبةُ مرايا يتبادل فيها الوجود والأثر وجهيهما، حتى يغدو السؤال ذاته مرآةً لا تعكس سوى سؤالٍ آخر.

يقول ابن عربي: «العين لا ترى إلا نفسها في كلّ شيء»، وكأنّه أراد أن يقول إننا لا نُدرك العالم، بل نُعيد تأويل أنفسنا فيه. فالمعرفة ليست كشفًا، بل نسيانٌ مقدّس، إذ لا يصل إلى النور إلا من احترق فيه.

الزمن — هذا الكائن الغامض الذي يسير نحونا أكثر مما نسير إليه — يراقبنا بصمتٍ لا يُحتمل. ليس الوقتُ ما نمضي فيه، بل هو ما يمضي فينا، يكتبنا في دفاترٍ غير مرئية، ثم يُعيد ترتيب الحكاية قبل أن نعي أننا كنا فيها. في كل لحظةٍ، يولد موتٌ صغير، وكل موتٍ يفتح بابًا لحياةٍ لم تُكتب بعد.

سأل الحلاج وهو يُصلب في مرآة الغيب: «أأنا الذي أهوى، أم أنا الذي أُهوى بي؟»، فكان الجواب صمتًا يشبه المعنى. فالروح، حين تشتدّ غربتها، لا تعود تبحث عن الله، بل عن أثر الله فيها. وفي كل صرخةٍ من صرخاته، كان يسمع نداءً واحدًا: إن الطريق إلى الوجود يمرّ من الهاوية.

إن كل فكرةٍ تولد، تُنجب ضدّها، وكلّ يقينٍ يكتب وصيّته منذ اللحظة الأولى. فالحقيقة ليست حجرًا في معبدٍ، بل سيلٌ يجرف من ظنّ أنه أمسكه. وأشدّ أنواع الضياع قُدسيةً، أن تتيه وأنت في قلب الطريق.

قال بوذا: «لا تسأل عن النور، كن أنت الظلّ الذي عرفه». وقال هيدغر: «الكينونة تُخفي نفسها لتُعرّف نفسها». أمّا صاحب السِّرّ فيقول:

إن السرّ الذي يُكشف ليس سرًّا، وإن النور الذي يُرى ليس نورًا، وإن الطريق الذي يُسمّى طريقًا ليس طريقًا، بل وهمٌ يتنكّر باسم الحقيقة.

العقل في نهايته لا يكتشف، بل يُكتشَف به. والروح لا تصل، بل تُساق إلى نفسها كما يُقاد الغريب إلى وطنٍ لا يعرفه. هناك فقط، في العتمة التي تعقُبُ النور، تتجلّى البدايات على هيئة نهايات، وتعود الأسئلة إلى صمتها الأول.

في النهاية، لا يُدرك السرّ من يُفكّكه، بل من يضيع فيه. فكلّ معرفةٍ تُكتب هي موتٌ مؤجَّلٌ للحقيقة، وكلّ صمتٍ يُحافَظ عليه هو نجاةٌ من وضوحٍ يقتل.

وهكذا، يظلّ الوعيُ في نفيٍ دائمٍ لذاته، يبحث عن مَن يبحث عنه، وينسى أنه هو من بدأ السؤال.

***

صاحب السِّرّ. سجاد مصطفى حمود

 

ليس أخطر على الأمم من أن تفقد وعيها بنفسها، أو تُسلِّم عقلها لمن يفكر عنها ويختار لها ما تراه وتريده. فالهزيمة العسكرية، مهما كانت فادحة، يمكن للأمة أن تتعافى منها بمرور الزمن، أما الهزيمة الفكرية فهي التي تخلع عنها روحها وتبدل معاييرها حتى تغدو كيانًا آخر لا يشبه ذاته.

ولعلّ هذا ما يجعل الغزو الفكري أخطر أشكال الصراع الإنساني، لأنه لا يكتفي بالهيمنة على الأرض بل يسعى إلى الهيمنة على الإنسان ذاته، فيعيد تشكيل وعيه ومعاييره ومقاييسه في الخير والشر، والحق والباطل، والجمال والقبح. إنّها معركة الوعي التي تدور بلا ضجيج، ويخرج منها المهزوم وهو يظن أنه منتصر. لقد عبّر رينيه ديكارت (1596–1650م) عن مركزية الفكر في الوجود الإنساني بقوله الشهير، (أنا أفكر إذن أنا موجود)، وهي عبارة تبدو فلسفية مجردة، لكنها في جوهرها إعلانٌ أنّ الوجود الإنساني لا يُقاس بما يملك الإنسان من ثروةٍ أو سلاح، بل بما يملك من وعيٍ قادرٍ على التمييز والنقد والاختيار.

ومن ثمّ فإنّ السيطرة على الفكر ليست مجرد هيمنةٍ معرفية، بل هي نوع من إعادة التكوين للإنسان نفسه وفق مقاييس الغالب، حتى يصبح المقهور نسخةً عن الغازي في سلوكه وتفكيره، وإن ظلّ يحمل اسمه ولغته.

وحين نتتبع المسار التاريخي للعلاقة بين العالم الإسلامي والغرب الحديث، ندرك أن مفهوم الغزو الفكري لم يكن اختراعًا طارئًا، بل وُلد من رحم الاحتكاك الحضاري العنيف الذي شهده الشرق في نهاية القرن الثامن عشر، حين حلّت الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798م. فالحملة لم تكن مجرد حملةٍ عسكرية؛ كانت مشروعًا سياسيًا وثقافيًا يهدف إلى إعادة تشكيل وعي المنطقة وفق النموذج الغربي.

وقد أدرك مفكرو النهضة الأوائل أن المدافع سترحل، لكن الأفكار التي خلفتها الحملة ستظل فاعلة في العقول. ومنذ تلك اللحظة بدأت الأمة تطرح سؤالها المصيري؛ كيف ننهض؟، أبانسلاخنا عن تراثنا؟، أم بعودتنا إليه؟ أباتباع الغرب أم بمقاومته؟. سؤال لم يُغلق إلى اليوم.

 وأمام هذا التحدي الحضاري الجسيم، وما خلّفه من صدمة فكرية وانقسام في الوعي الجمعي، برز تياران متناقضان من رواد الفكر والتجديد في العالم العربي والإسلامي في مواجهة هذا السؤال. تيارٌ رأى في الغرب نموذجًا للمدنية الفاضلة والعلم ينبغي استنساخه مهما كلف الأمر، وتيارٌ آخر رأى أنّ نهضة الأمة لا تكون إلا من داخلها، باجتهادٍ يعيد قراءة التراث ويستنطق قيمه الحيّة، دون ارتهانٍ للوافد أو انغلاقٍ على الماضي. وكان الصراع بين التيارين صورةً مكثفةً لما يمكن أن نسميه اليوم جدلية «الانبهار والممانعة».

أما التيار الأول؛ فقد انبهر بإنجازات الغرب العلمية والتنظيمية، وعدّها المقياس الوحيد للتقدّم، فراح يستوردها كما هي دون أن يتفكر في جذورها أو مقاصدها. فرفاعة الطهطاوي (1801–1873م)، مثلاً، رأى في فرنسا صورة للمدينة الفاضلة الحديثة، حيث دعا إلى نقل نظمها التعليمية والإدارية إلى مصر، مؤمنًا أن النهضة لا تقوم إلا بالاحتذاء بتجربتها. وجاء بعده علي عبد الرازق (1888–1966م) في الإسلام وأصول الحكم، ليتبنى فكرة فصل الدين عن الدولة على غرار النموذج الأوروبي، وهو فصل لم يعرفه تاريخ الإسلام، إذ لم يكن في حضارته كهنوتٌ يحتكر الدين أو سلطةٌ كنسية تقيد العقل. وسار سلامة موسى (1887–1958م) في الاتجاه ذاته حين دعا إلى (أوربة الشرق)، معتبرًا أن التقدّم لا يتحقق إلا بالخروج من عباءة التراث والتخلي عن موروث العادات والتقاليد. وشاركهم في هذا النزوع فرح أنطون (1874–1922م)، الذي رأى العلمنة شرطًا للنهوض، وشبلي شميل (1850–1917م) وإسماعيل مظهر (1891–1962م) حين أدخلا الفكر المادي الدارويني إلى الساحة العربية، مؤكدَين أنّ التمدن لا يقوم إلا على أسسٍ علميةٍ خالصة. ثم جاء طه حسين (1889–1973م) في مرحلة «الشعر الجاهلي»، ليطبق المناهج الغربية النقدية على التراث العربي، ففتح الباب لجدلٍ واسع حول حدود التجديد وموقع الدين في المشروع الثقافي.

ومهما اختلفت دوافع هؤلاء الرواد، فقد جمعهم تصورٌ واحد مؤداه أنّ الحضارة الغربية نموذجٌ كوني يجب اللحاق به. لكنهم أغفلوا أن أوروبا حين فصلت الدين عن الدولة لم تفعل ذلك إلا بعد صراعٍ مرير مع الكنيسة التي احتكرت تفسير النص وادعت العصمة، وهو وضع لم تعرفه حضارتنا الإسلامية في أي مرحلةٍ من مراحلها.

فالإسلام منذ بداياته جعل الاجتهاد مفتوحًا أمام كل من امتلك أدواته، ولم يعرف سلطةً دينية تفكر نيابة عن الناس، بل عرف عقولًا تناقش وتجتهد وتختلف في إطار النص والمقصد. ومن هنا كان خطأ التيار المنبهر أنه استورد أزمة لم يعشها، وجاء بحلولٍ لمشكلٍ لم يعرفه. على الضفة المقابلة، كان هناك من أدرك خطورة هذا الانبهار، فحاول أن يوازن بين الإفادة من الغرب والحفاظ على الذات. خير الدين التونسي (1810–1890م) في كتابه أقوم المسالك كان من أوائل من نبهوا إلى أن النهضة لا تكون بتقليد الغير، بل بإصلاح الداخل وتقويم مؤسسات الحكم والتعليم، مع الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى دون تفريط في الثوابت. وجاء جمال الدين الأفغاني (1838–1897م) داعيًا إلى مقاومة الاستعمار الفكري والسياسي، فبعث الوعي في الأمة وأعاد الثقة إلى نفسها. ثم تبعه محمد عبده (1849–1905م) الذي سعى إلى تحرير الفكر الديني من الجمود، وجعل الإصلاح العلمي والديني وجهين لمشروعٍ واحد يهدف إلى إحياء روح الاجتهاد. وفي مطلع القرن العشرين وقف مصطفى صادق الرافعي (1880–1937م) يدافع عن اللغة العربية بوصفها رمزًا للهوية ووعاءً للفكر، قائلاً: «ما فقدت أمة لغتها إلا فقدت نفسها».

ومن الشرق الإسلامي قدّم محمد إقبال (1877–1938م) رؤيته الفلسفية التي مزجت بين الإيمان والعقل والإرادة، مؤكدًا أن الإسلام ليس عقيدةً جامدة بل طاقة روحية خلاقة. ثم جاء أبو الحسن الندوي (1914–1999م) ليذكّر بأنّ انحطاط المسلمين لا يضرهم وحدهم، بل يُفقد العالم توازنه الروحي والحضاري.

وتواصلت المسيرة في القرن العشرين مع أنور الجندي (1917–2002م) ومحمد محمد حسين (1912–1974م)، اللذين فضحا آليات الاستشراق ومظاهر التغريب، ليصل الفكر المعاصر إلى جيلٍ جديدٍ من المفكرين كطه عبد الرحمن (1944م ) وعبد الوهاب المسيري (1938–2008م) وفهمي جدعان (1940م) ومحمد عابد الجابري (1935–2010م)، الذين حاولوا أن يعيدوا التوازن بين الحداثة والأصالة، بين نقد الذات ونقد الغرب. فطه عبد الرحمن دعا إلى حداثةٍ أخلاقية تُستمد من روح الإسلام، والمسيري حذّر من العلمانية الشاملة التي تفصل الإنسان عن قيمه، والجابري وضع مفهوم النقد المزدوج الذي يراجع التراث والوافد معًا ليقيم توازنًا معرفيًا لا يميل إلى أحد الطرفين.

وإذا ما انتقلنا من التاريخ إلى الواقع، وجدنا أن الغزو الفكري قد غيّر أدواته من المدفع إلى الشاشة، ومن البعثة التبشيرية إلى المنصات الرقمية. فوسائل الإعلام الحديثة وشبكات التواصل تؤدي اليوم الدور نفسه الذي أدته المدارس والمطبوعات الموجهة في القرنين الماضيين، لكنها تفعل ذلك بذكاءٍ ونعومةٍ أكبر. فهي لا تفرض الفكرة بالقهر، بل بالإغراء، ولا تهاجم الهوية علنًا، بل تذيبها تدريجيًا في بحرٍ من الصور والمضامين السريعة التي تشدّ الانتباه وتسرق الزمن. لقد صار المتلقي يظن أنه يختار ما يشاهد، بينما الحقيقة أن خوارزمياتٍ ذكية تختار له ما ينبغي أن يراه، وتُشكّل له رأيه بطريقةٍ ناعمةٍ لا يشعر بها. وهكذا تحوّلت المعركة من مواجهةٍ مباشرة إلى عملية اختراقٍ بطيئةٍ للعقل، تتسلل إلى الوجدان باسم الحرية والانفتاح والتسلية.

إنّ أخطر ما في هذا الواقع الجديد أنه يصنع إنسانًا يعيش في زمن السرعة والنسيان، إنسانًا تستهلكه الصور وتطارده الإعلانات فلا يجد وقتًا للتأمل أو التساؤل. ومع غياب التفكير العميق تتحول المعرفة إلى معلومة، والمعلومة إلى خبرٍ عابر، والخبر إلى انفعالٍ مؤقت، فتضيع القدرة على النقد والتمييز. وهكذا يتحقق الغزو بأهدأ الطرق؛ بأن تفقد الأمة قدرتها على التفكير المستقل، وأن ترى العالم بعيون غيرها.

ولئن حاول البعض مواجهة هذه الموجة بالانغلاق والتشدد، فإنّ الانغلاق لا يصنع وعيًا، بل يضاعف الغربة. فالمطلوب ليس رفض العالم بل فهمه، وليس الهروب من الحداثة بل استيعابها بميزانٍ أخلاقيٍّ راسخ. فالإسلام الذي شجّع على العلم وأطلق حرية البحث لم يربط النهضة بالتقليد الأعمى، بل بالتفكير والاجتهاد، وهو ما يجعل الدفاع عن الهوية لا يكون بالجمود على الماضي، بل بإحياء روح النقد فيه. فالعقل الذي لا يسأل ولا يناقش يفقد حريته حتى وإن ظن أنه يدافع عنها.

ومن هنا، فإنّ معركتنا اليوم ليست معركة شعارات ولا بيانات، بل معركة على الإنسان نفسه: كيف يفكر؟، وبأيّ قيمٍ يقيس الأمور؟، وكيف يحدد موقعه في هذا العالم المتغيّر؟، إنّ أخطر ما يمكن أن يصيب أمةً هو أن تفقد قدرتها على إنتاج الأفكار، وأن تكتفي بترديد ما يُلقى إليها من الخارج، لأنها حينئذٍ تفقد حقها في الوجود الحضاري، مهما امتلكت من ثروةٍ أو قوة. فالمعركة على العقول لا تُحسم بالقوة، بل بالوعي، ولا تُكسب بالصراخ، بل بالبحث والتعليم والإبداع.

وإذا ما أردنا أن نستخلص العبرة من كل ما مضى، فسنجد أن الأمة التي تريد أن تصون نفسها من الغزو الفكري عليها أن تبني إنسانها من الداخل؛ من خلال تحصن لغته، وتربّي ذوقه، وتغرس فيه روح النقد والمسؤولية، وأن تجعل من المدرسة مصنعًا للعقل لا مستودعًا للمعلومات، ومن الجامعة فضاءً للحوار لا ساحةً للحفظ، وأن تقدم الدين في صورته الرحبة التي تجمع بين الإيمان والعقل، بين الروح والعمل، حتى لا يكون التدين قشرةً جامدة ولا الفكر انفلاتًا بلا ضابط. وإذا فعلت ذلك استقامت لها شخصيتها واعتدل ميزانها بين الانبهار والممانعة، بين الانفتاح الواعي والتمسك الأصيل.

فالأمم لا تموت حين تسقط جيوشها، بل حين تذبل عقولها، والإنسان الذي يترك لغيره أن يفكر عنه، لا يختلف كثيرًا عمن سُلبت حريته، ولعلّ ما تحتاجه أمتنا اليوم ليس أن ترفع شعارات الرفض أو التبعية، بل أن تستعيد عقلها المفكر، وأن تجعل من الوعي سلاحها الأسمى في معركةٍ لا تُدار في الميدان بل في الأذهان، فإذا وُجد هذا العقل الرشيد، انكسرت موجات الغزو الناعم، وبقيت للأمة بصيرتها التي تهديها مهما تكاثرت العواصف.

وللحديث بقية...

***

بقلم: د. بدر الفيومي

 

المقدمة: الفلسفة ليست في الكتب وحدها

كثيرون يظنون أن الفلسفة كلام معقد لا علاقة له بالحياة، وأنها تكتب للعقول لا للقلوب، لكن الحقيقة أن الفلسفة تولد أحيانًا من أبسط لحظة إنسانية؛ من نظرة عابرة، أو ابتسامة صادقة، أو قبلة صغيرة تحمل في داخلها درسًا عميقًا في الوجود والحب والحرية. ومن بين هذه اللحظات التي غيرت فيّ الكثير، كانت لحظة صغيرة مع ابنتي خديجة ذات الثلاث سنوات والنصف، حين قالت لي بكلماتها البريئة: "حب أبوكا يا بابا."

في تلك اللحظة لم تكن خديجة تدرك أنها تقدم لي درسًا فلسفيًا لم أتعلمه في الكتب ولا في قاعات المحاضرات. فقد فتحت أمامي نافذة على معنى الحب الطبيعي والاختيار والحرية، كما لم يشرحها أفلاطون ولا كانط. عندها أدركت أن الفلسفة لا تسكن النصوص وحدها، بل تتجلى في تفاصيل الحياة اليومية، في المواقف البسيطة التي تمس القلب قبل العقل. وأننا لا نحتاج إلى مفاهيم معقدة لنتأمل الحياة، بل إلى قلب قادر على أن يرى الفلسفة في كل ما هو إنساني.

ولأن الفلسفة حين تخرج من الكتب تتحول إلى تجربة، فقد وجدت نفسي أعيشها فعلًا في أبسط مشهدٍ جمعني بخديجة. ومنذ تلك اللحظة بدأت رحلتي معها، ومع الفلسفة كما تُعاش في بساطة الحياة، لا كما تُدرّس في صفوف الدرس والنظريات.

تمهيد: الفلسفة تولد أحيانًا من لحظةٍ تمس القلب قبل العقل

أحيانًا لا تولد الفلسفة من الكتب أو قاعات الدرس، بل من لحظة بسيطة تُعيد ترتيب المشاعر قبل الأفكار، لحظة تُنصت فيها الروح إلى ما لم يقله المنطق بعد. وكانت تلك اللحظة بالنسبة لي حين قالت لي ابنتي خديجة، ذات الثلاث سنوات والنصف، بصوتها الطفولي الدافئ: حب أبوكا يا بابا. جملة قصيرة، لكنها كانت كافية لتوقظ في داخلي إنسانًا كان يقرأ الحب بعقله وينساه بقلبه.

كنت قد كتبت من قبل عن خالد حين علّمني الشجاعة والخيال، وعن سُجى حين فهمت معها الرقة وعمق الإحساس، واليوم أكتب عن خديجة، لا لأميزها، بل لأستكمل ما بدأته معهم جميعًا. فلكلٍّ منهم نافذة مختلفة أطلّ منها على معنى الوجود والحرية والحب.

وخديجة تهمس لي كثيرًا حب أبوكا يا بابا وتضمني بصدقٍ يذيب تعب الأيام، لكنها حين ترى أمها تكرر نفس الجملة بنفس الدفء والحماس، وكأنها لم تقلها من قبل. وفي كل مرة نسألها نحن الاثنان: تحبي تروحي مع بابا ولا ماما؟ تجيب فورًا: ماما.

وكانت خديجة حين تقول لي حب أبوكا يا بابا لا تقصد الإخبار، بل كانت تحاول أن تقول بطريقتها الطفولية أنا أحبك يا أبي، وتؤكد حبها بعبارةٍ تكررها كما لو أنها تطمئن نفسها والعالم معًا. ومع ذلك، كلما خيّرتها بين الجلوس معي أو مع أمها، تختار أمها دون تردد، وكأنها تُعلّمني دون أن تدري أن الحب لا يُقاس بالاختيار، بل بالإحساس الذي يسكن القلب حتى وإن ذهب الجسد إلى مكانٍ آخر.

في البداية تسللت إلى قلبي غيرة أبوية خفيفة، لكن سرعان ما تبددت حين أدركت أن خلف هذا الموقف البسيط فلسفة كاملة في الحب والاختيار. وخديجة لا تختار ضدّي، بل تختار وفقًا لما يمنحها الأمان في اللحظة. فهي تحب بلا ترتيب، وتختار بلا خوف، وتعيش الحرية كما هي قبل أن تتلوث بالمجاملات أو الواجب.

ومن هنا فهمت أن الأطفال لا يعيشون الفلسفة نظريًا، بل يجسدونها في سلوكهم اليومي دون وعي. فهم لا يفكرون في معنى الحب، بل يعيشونه. ولا يبحثون عن الحرية، بل يمارسونها بالفطرة. إن الطفولة في جوهرها هي الحالة الأولى للحب الصافي والحرية الصادقة قبل أن يتدخل العقل ليقيس ويوازن ويقارن.

المحور الأول: الحب قبل المفاضلة

ومن هذه التجربة الصغيرة بدأت أرى أن ما تفعله خديجة لم يكن مجرد تصرف عابر، بل انعكاس لحكمة الطفولة في الحب. فالأطفال لا يعرفون المفاضلة في المشاعر، فهم يحبون لأن الحب بالنسبة لهم هو الأصل لا النتيجة. ولا يقيسون من أعطاهم أكثر، ولا من بادر أولًا، بل ينجذبون ببساطة إلى من يشعرون معه بالأمان والدفء في اللحظة نفسها.

وخديجة تحبني كما تحب أمها، لأن قلبها ما زال يقيم في منطقة النقاء الأولى، حيث لا توجد مقارنة ولا ترتيب، وحيث الحب لا يحتاج إلى مبررات ولا مقابل. أما نحن الكبار، فقد فقدنا هذه الفطرة حين بدأنا نحب بعقلٍ يحسب ويوازن ويقيس، حتى صار الحب عندنا معادلة تبحث عن نتيجة، بينما هو في جوهره إحساس لا يُبرر ولا يُثبت، يكفي أن يُعاش كما يعيشه الأطفال: عفويًا، صافيًا، ومن غير شرط.

المحور الثاني: حرية الاختيار الفطرية

وكما أن حب الأطفال فطري وبريء، فإن اختياراتهم كذلك تنبع من الصدق ذاته. فحين تختار خديجة أن تذهب مع أمها، فهي في الحقيقة تمارس أولى تجارب الحرية الإنسانية الصادقة. فالحرية عند الطفل لا تأتي في صورة تحدٍ أو رفض، بل تظهر كأقصى درجات الصدق مع الذات. وتختار خديجة ما تريده في اللحظة التي تعيشها، دون خوف من أن تغضب أحدًا أو تُرضي آخر، لأنها ما زالت متصالحة مع نفسها ومع مشاعرها.

وهنا تكمن المفارقة التي نعيشها نحن الكبار؛ إذ نقضي أعمارنا نحاول استعادة تلك الحرية التي فقدناها وسط زحام التوقعات الاجتماعية والخوف من نظرات الآخرين. وخديجة لا تعرف فلسفة كانط عن الإرادة الحرة، لكنها تعيشها بفطرتها النقية، وتختار لأنها تريد، لا لأنها مطالبة بأن تختار "الاختيار الصحيح"، وكأنها تقول لي دون وعي: إن الحرية الحقيقية ليست في أن نختار ما يرضي الآخرين، بل في أن نختار ما يُشبهنا.

المحور الثالث: الأبوة بين الامتلاك والمشاركة

وحين تأملت اختياراتها المتكررة، اكتشفت أن الحرية التي تعيشها ليست درسًا لها وحدها، بل لي أنا أيضًا، لأفهم نفسي كأبٍ في مرآة طفلته. فكنت أظن أن الأبوة تعني أن أكون الأول دائمًا، وأن أُختار قبل الجميع في كل موقف، لكن خديجة علّمتني أن الأبوة الحقيقية ليست منافسة على القلب، بل مشاركة في بنائه وتكوينه.

وأدركت أن الأبوة لا تعني أن تُختار في كل مرة، بل أن تظل حاضرًا في حياة أبنائك حتى حين لا تكون بجوارهم، وأن تمنحهم شعور الأمان في غيابك كما في وجودك، لأن الأب الحقيقي هو من يبقى أثره مطمئنًا حتى حين يغيب صوته. ومع الوقت فهمت أن الحب لا يُثبت بالاحتواء ولا يُقاس بالقرب، بل بالثقة التي تزرعها في قلب من تحب، وأن الطفل لا يحتاج إلى أبٍ كامل لا يخطئ، بل إلى أبٍ صادق يظل صوته الداخلي يقول له: أنا هنا دائمًا، حتى حين تختار غيري.

المحور الرابع: ما لم يقله الفلاسفة وقالته الطفولة

وهكذا، من خلال هذه التجربة الصغيرة، وجدت أن ما عشته مع خديجة يعيدني إلى جوهر ما تحدّث عنه الفلاسفة عبر العصور. فرأيت في طفلة صغيرة لا تعرف القراءة ما حاول الفلاسفة شرحه قرونًا طويلة. ورأيت فيها فكرة روسو عن الطبيعة الأولى التي يولد فيها الإنسان نقيًا، وملامح ما قصده الوجوديون حين قالوا إن الوعي يبدأ بالدهشة قبل أن يعرف الخوف.

وكانت خديجة تجسد أمامي تلك البراءة الأولى، البراءة التي تسبق المعرفة، حيث لا يحتاج الحب إلى منطق يبرره ولا الحرية إلى تعريف يضبطها، بل يكفي صدق اللحظة لتمنح للحياة معناها الأبسط والأجمل. كما رأيت في ملامحها الفلسفة وقد تخلت عن لغتها المعقدة لتتكلم بلغة القلب.

الفلسفة حين تتحول إلى حياة

وبعد كل ما تأملته، فهمت أن الفلسفة ليست مجرد أفكار تُقال، بل حياة تُعاش مع من نحب. فكل ما تعلمته من الكتب والمحاضرات بدا صغيرًا أمام ما تعلّمته من لحظة صادقة أو نظرة طفلة ترى العالم بعين الدهشة. ومن هنا وجدت نفسي أكتب هذه السطور، لا كفيلسوف يفسر الحياة، بل كأبٍ يحاول أن يفهمها من خلال أطفاله. وإلى خديجة حين تكبرين، قد تبتسمين وأنت تقرئين هذه الكلمات وتظنين أني كتبت عنك كما كتبت عن خالد وسجى، لكن الحقيقة أنكم جميعًا جزء مني، وكل واحد منكم علّمني شيئًا مختلفًا عن الآخر. فخالد علّمني الشجاعة والخيال، وسجى منحتني رقة الإحساس ودفء الحنان، أما أنت يا خديجة فقد جعلتِني أرى الحب في صورته الأولى: بسيطًا، صادقًا، وحرًّا.

لقد فهمت منكم جميعًا أن الحب الحقيقي لا يُقاس بالردود ولا يُحكم بالعقل، بل يُعاش كما هو: نقيًا، صادقًا، لا يطلب شيئًا في المقابل. وأن علينا أن نترك لمن نحبهم مساحة يختاروننا فيها أو يبتعدون، لأن الحب الذي يُفرض يتحول إلى عبء، أما الحب الذي يُترك ليختار طريقه فيكبر بحرية. ففي تلك المسافة بين القرب والاختيار تنمو إنسانيتنا وتزدهر حريتنا.

أما أنتم يا صغاري، فاحفظوا قدرتكم على الحب العفوي، ولا تسمحوا لأحد أن يجعل من قلوبكم موازين للردود، فالقلب لا يُقاس بما يأخذ، بل بما يعطي. واختاروا كما تختار خديجة، بصدق اللحظة لا بخوف النتيجة، لأن صدق اللحظة هو ما يمنح للحياة معناها الأجمل.

ولنا نحن الكبار أن نتعلم من الأطفال أن الحب لا يحتاج إلى تفسير، وأن الحرية لا تُستعاد إلا حين نرجع إلى تلك الفطرة الأولى التي لا تعرف الزيف. فلعلنا حين ننظر إلى العالم بعين طفل، نكتشف أن الفلسفة لم تكن يومًا علمًا بعيدًا عن الحياة، بل طريقة أصدق لفهمها، وربما طريقة أجمل لنحبها.

وأخيرًا أقول: لعلنا حين ننظر إلى العالم بعين طفل، ندرك أن الفلسفة لم تكن يومًا علمًا بعيدًا عن الحياة، بل طريقة أصدق لفهمها، وربما طريقة أجمل لنحبها... فربما لا نحتاج إلى عمرٍ طويل لنفهم الحياة، بل إلى قلبٍ صغير يعلّمنا أن نحب كما لو كنا أطفالًا من جديد .

***

أ. د. علي محمد عليان الخطيب

أستاذ ورئيس مجلس قسم الفلسفة- كلية الآداب- جامعة المنيا- مصر

"التعليم هو أقوى سلاح يمكنك استخدامه لتغيير العالم".. نيلسون مانديلا

"يجب تعليم الأطفال كيفية التفكير، وليس ماذا يفكرون".. مارجريت ميد (خبيره الأنثروبولوجيا الثقافية)

يشجع التعليم الجيد على التفكير النقدي، والفضول العلمي، وحب التعلم مدى الحياة، ويعزز ايضا قبول التنوع، والتأمل الأخلاقي. كما يُهيئ الطلاب لخدمة المجتمع ومواجهة تحديات الحياة.

التعليم الناجح ينتج متعلمين مثقفين يتمتعون بالشجاعة الفكرية، والانفتاح، وينظرون إلى كل فكرة جديدة كفرصة للنمو وليس تهديدًا للذات.

يتطلب التعليم الجيد مناهج دراسية تعمل على تنمية العقول، ومعلمين أكفاء قادرين على الموازنة بين الاحترام والاستقصاء في الفصل الدراسي، مع القدره علي استخدام أساليب التعليم والتقييم الحديثة. كما ان المشاركة الأسرية الفعالة أمر ضروري لتحقيق النجاح التعليمي.

يُعدّ التعليم الابتدائي بالغ الأهمية لأنه يُنمّي المهارات الأساسية في القراءة والكتابة والرياضيات، وحب الفنون والموسيقى. وهو المكان الذي يبدأ فيه نمو عقل الطفل وشخصيته وادراكه باهميه التمسك بالأخلاق الحميدة والنظافة الشخصية، وتناول الاطعمة الصحية وممارسه النشاط البدني. وينبغي تعليم الاطفال من خلال اللعب ورواية القصص والأنشطة التفاعلية، وليس من خلال الحفظ. فالهدف من التعليم الجيد هو إثارة الفضول، وليس إخماده

يُعتبر نظام التعليم الابتدائي في فنلندا الأفضل عالميًا بسبب نهجه الإنساني والمتوازن، وأدراكهم ان التعلم يزدهر على أكمل وجه عندما يسير وفق إيقاعه الطبيعي، دون أن يشعر الطفل بأن التعليم عبء يُثقل كاهله، بل هو أيضًا وقت للعب والمرح واكتساب معارف جديدة. التعليم في فنلندا مجاني، وتوفر المدرسة وجبات صحيه مجانية.

يعاني التعليم التقليدي من الاعتماد علي التلقين وحث الطلاب علي حفظ المقرر لضمان النجاح، وهذا يُنتج طلابًا غير مثقفين، بارعين في الحفظ، لكنهم ضعفاء في التفكير النقدي والإبداع، ويُعانون من التنافر المعرفي والانحياز التأكيدي، فيبحثون عن المعلومات التي تُعزز معتقداتهم ويتجاهلون كل ما يُناقضها، مما يجعلهم منغلقين فكريا وثقافيا.

لذلك، ينبغي ان يكون هدف التعليم هو انتاج متعلمين مثقفين يتمتعون بالشجاعة الفكرية والانفتاح الذهني والقدرة على مساءلة الواقع وتقبل الاختلاف.

بلا شك، يؤثر الوضع الاجتماعي والاقتصادي المنخفض علي الحصول على تعليم جيد. وغالبًا ما تعاني المدارس في المناطق ذات الدخل المنخفض من نقص التمويل، مع وجود عدد أقل من المعلمين المؤهلين، كما أن الصعوبات الاقتصادية تزيد من احتمالية التسرب المبكر من المدرسة. ومن ثم، فإن الفقر يؤدي إلى انخفاض المستويات التعليمية، مما يؤدي بدوره إلى ضعف فرص الحصول على وظائف جيدة، وإلى حلقة مفرغة من الفقر المستمر.

لذلك، يُعدّ التعليم المجاني أمرًا بالغ الأهمية لأنه يعزز المساواة بإزالة الحواجز المالية، مما يؤدي إلى حراك اجتماعي ومواطنة أكثر وعيًا وتفاعلًا. ومع ذلك، فإن فعالية التعليم المجاني تعتمد على الالتزام بمعايير الجودة العالية، و يجب أن يقترن بموارد كافية لتقديم تعليم جيد لضمان اكتساب الطلاب المهارات اللازمة للحياة والعمل.

يواجه نظام التعليم في بعض الدول الناميه مشاكل خطيرة، منها اكتظاظ الفصول الدراسية، مما يعيق التفاعل والتعلم الفعال. كما تعاني العديد من المدارس من نقص في المعدات والأدوات التعليمية الأساسية، ويُقدم التعليم بطريقة غير جذابة وبجدية مفرطة، مما يقلل من رغبة الطلاب في الالتحاق بالمدرسة.

كما يعاني اسلوب التعليم من كل سلبيات التعليم التقليدي، بما في ذلك تكدس المناهج وعدم تطويرها لمواكبة التطورات العلمية الحديثة واحتياجات سوق العمل. إضافةً إلى ذلك، يفتقر بعض المعلمين إلى المؤهلات الكافية ويتقاضون رواتب متدنية، مما يضطرهم إلى الاعتماد على الدروس الخصوصية. كما يوجد نقص كبير في معلمي المواد الأساسية.

وقد أدت هذه المشاكل إلى فقدان الثقة في التعليم العام بالدول الناميه، وتوسع التعليم الخاص، وانتشار الدروس الخصوصية في جميع مراحل التعليم. كما ارتفعت معدلات التسرب المدرسي، لا سيما في المناطق الريفية، بسبب الفقر وتدني جودة التعليم.

فيما يتعلق بالتعليم الديني في المدارس، ينبغي أن يقوم به معلمون مدربون على تقديم الدين بأسلوب تعليمي غير طائفي، يحترم الهوية، ويعزز الأخلاق الحميدة، ويتجنب استخدام التعليم الديني لترسيخ خطاب سياسي ديني.

في مصر قبل عام ١٩٥٢، كان الدين يُدرّس فقط في المرحلة الابتدائية، ثم استُبدل بعلم الأخلاق في المرحلة الثانوية، حاليا التعليم الديني إلزامي. أدخلت الحكومة المصرية حديثا نظام الكتاتيب الذي يوجد عليه تحفظات، إذ إن المناهج لن تُهيئ الطلاب لمهارات القرن الحادي والعشرين، كما أن الالتزام بالحفظ والتلقين يتعارض مع أساليب التعليم الحديثة.

في الختام، يجب ان يلتزم التعليم بروحه الأصيلة في تنميه العقل واكتساب معرفه جديده، وليس مجرد وسيلةٍ لاجتياز الامتحانات. اصبح التعليم في بعض الدول الناميه سوقٍ تُستنزف فيه الدروس الخصوصية الطلاب، وتحول التعليم الي منتج قابل للتسويق، والطلاب إلى مستهلكين، والشهادات إلى سلع. ويأتي هذا على حساب الأهداف الاجتماعية والثقافية للتعليم، وهي تنشئة أجيال متعلمة ومثقفة قادرة على خدمة المجتمع وتنميته.

علينا أن ندرك أن أخطر ما يواجه التعليم ليس نقص الموارد، بل فقدان المعنى؛ عندما يصبح الهدف النهائي الشهادة والدرجات، وليس العقل القادر على التفكير والإبداع.

***

بقلم استاذ دكتور سامح مرقس

 

الملخص: هذه رؤية فلسفية شخصية تنبثق من تجربة إنسانية عميقة بين أب وابنته، حيث تحولت قطعة حلوى صغيرة إلى درس في الفلسفة العملية، وإلى مرآة ترى فيها الروح معناها الأول في الخير والعطاء. ففي موقف يومي بسيط أدركت أن الفلسفة لا تكمن في السؤال عن ماهية الخير بقدر ما تتجلى في ممارسته دون وعي نظري، وأن الطفل قادر على أن يجسد الفضيلة في سلوكه البريء قبل أن يتعلم اسمها في الكتب. لقد علمتني ابنتي سجى، التي تقترب من عامها التاسع، أن الفلسفة ليست علمًا للكبار ولا حكرًا على النخبة، بل هي حياة تُعاش بالحب والصدق، وأن أفعال الطفولة الصغيرة تختزن في بساطتها أعمق دروس الحكمة والإنسانية.

التمهيد: حين تولد الفلسفة من الحنان

كنت أظن أن الفلسفة حوار بين العقول، حتى اكتشفت أنها في حقيقتها حوار بين القلوب. وتولد الفلسفة حين يسأل الإنسان عن المعنى، لكنها تزدهر حين يحب بصدق. وفي بيتي الصغير، ووسط انشغالات الحياة اليومية، كانت ابنتي سجى بقلبها النقي وضحكتها التي تملأ المكان تعيدني كل يوم إلى الدهشة الأولى، دهشة الفيلسوف الذي يرى العالم بعين طاهرة كما يراه الطفل. لقد وجدت في تصرفاتها البسيطة فلسفة عميقة، كأنها تقول لي بصمتها إن الحكمة لا تُلقن بل تُحس. ومنذ ذلك اليوم أدركت أن الأبوة ليست مجرد رعاية للجسد، بل رحلة مشتركة في اكتشاف المعنى.

المحور الأول: فلسفة الحلوى.. حين يصبح العطاء درسًا في الوجود

لم أكن أتخيل أن أعظم دروسي في الفلسفة سوف أتعلمها من طفلة صغيرة تحمل في يدها قطعة حلوى وتضحك بخفة وهي تقول: غمض عينيك يا بابا. كنت أبتسم وأغلق عيني، فأجد في فمي قطعة من السكر وفي قلبي حلاوة لا يذيبها الزمن. لم تكن سجى تعرف أنها في تلك اللحظة تمارس درسًا في الفلسفة العملية، وأنها تجسد بمحبتها فكر أرسطو حين قال إن الخير هو ما يفعل لأجل ذاته لا انتظارًا لمكافأة. وفي تلك اللفتة البسيطة أعادت تعريف العطاء لا كتصرف اجتماعي، بل كمعنى وجودي يربط بين الحب والكرم والإنسانية. وكنت أرى في فعلها الصغير ضوءًا خفيًا يذكرني بأن الفلسفة ليست فكرًا يتعالى على الحياة، بل حياة تضيء الفكر.

المحور الثاني: سجى وميلاد الخير الفطري

كانت سجى تمتلك عادة لا تشبه عادات الأطفال الآخرين. فكلما اشترت شيئًا من الحلوى أو الطعام تركت لي قطعة صغيرة منه. ولم تكن تفكر في الواجب ولا في الثواب، بل كانت تمنح من فطرتها الأولى، من نبع صاف لا يعرف الحساب. وكنت أختبر نفسي وأقول في سري: ربما هذه المرة سوف تنساني، لكنها لم تفعل قط. وكانت تأتي مبتسمة تمسك بيدي الصغيرة في يدها وتقول: بابا، غمض عينيك. وما إن أفعل حتى أجد في فمي قطعة حلوى، وفي قلبي يقينًا بأن الخير يسكن الفطرة قبل أن يسكن التعليم. وفي تلك اللحظات كنت أشعر أنني أنا التلميذ وهي المعلمة، وأن الأبوة ليست سلطة تمارس، بل درس في التواضع أمام نقاء الطفولة.

المحور الثالث: من البراءة إلى الفلسفة

لم تكن تلك اللفتة مجرد سلوك طفولي بريء، بل كانت إعلانًا صغيرًا عن حضور الفلسفة في الحياة اليومية. فلقد كتب الفلاسفة عن الفضيلة والأخلاق، لكن سجى جسدتها بصدقها دون أن تعرف أسماءها. فهي لم تتحدث عن الخير لكنها عاشت معناه، ولم تشرح مفهوم الحب لكنها عبرت عنه دون كلمات. وكنت أراها تمارس الفلسفة ببراءتها، فتجعلني أؤمن أن الفكر لا ينفصل عن الفعل، وأن أجمل الدروس تقال بقطعة حلوى صغيرة تقدم في صمت. ومن هنا فهمت أن الفلسفة ليست تنظيرًا للعالم، بل طريقة في أن نحيا فيه بصفاء وعدل ومحبة.

المحور الرابع: الجمال الذي يسكن البساطة

في تصرف سجى أدركت أن الجمال لا يقاس بالزينة ولا بالألوان، بل بالنية التي تضيء الفعل. وما يجعل الهدية جميلة ليس حجمها ولا ثمنها، بل روح من يقدمها. وكانت سجى تمارس فلسفة الجمال بعفويتها وتعلّمني أن الجمال الأخلاقي هو أسمى أنواع الجمال لأنه يخرج من قلب محب لا من رغبة في المديح. ولقد ربطت بين الحب والفكر، بين القلب والعقل، بين الفعل والمعنى، بطريقة لم يدركها كثير من الكبار. ومنها تعلمت أن الجمال لا يسكن الأشياء، بل يسكن الطريقة التي نحب بها الآخرين.

المحور الخامس: البيت.. أول مدرسة فلسفية

لقد علّمتني ابنتي أن الفيلسوف لا يولد في الجامعة، بل في البيت، حيث تبدأ الأسئلة الأولى وتولد الدهشة الأولى. وأن كل لحظة نعيشها مع أطفالنا يمكن أن تكون درسًا في الفلسفة لمن يتأمل بعين القلب لا بعين الفكر وحدها. وكانت سجى تمارس فلسفة الأخلاق ببراءتها، وفلسفة الجمال بعفويتها، وفلسفة الوجود بحضورها الدافئ. وهي لم تتحدث عن معنى الحياة لكنها جعلتني أعيشه معها. ومنها أدركت أن التربية الفلسفية الحقيقية لا تبدأ بتلقين القواعد بل بإشعال الوعي في القلب. وإن الطفل الذي يحب بصدق هو أول الفلاسفة لأنه يرى العالم كما هو بلا تزييف ولا أقنعة.

أوصي من خلال تجربتي مع ابنتي سجى، أولًا: للأطفال أقول لهم يا صغاري، إن قطعة الحلوى التي تقدمونها اليوم قد تزرع في قلوب من تحبونهم درسًا لا يُنسى. وإن العطاء لا يقاس بحجمه، بل بروحه، والمحبة الصادقة لا تنتظر مقابلًا، وإنكم حين تشاركون غيركم ما تحبون فأنتم تمارسون الفلسفة دون أن تعلموا، لأن الفلسفة هي أن تكونوا بشرًا بقلوب مفتوحة على الحب.

أما توصيتي للكبار فتكمن في أنني تعلمت من ابنتي أن الأطفال لا يحتاجون إلى دروس في الفلسفة، بل إلى من يصغي إلى حكمتهم الصامتة. وعليكم بمراقبة تصرفاتهم ففيها من المعنى ما يعجز عنه كثير من الكتب. ودعوا أطفالكم يعيشون براءتهم بحرية، ففيها الفطرة الأولى التي تنبع منها الفلسفة: حب الخير، والتساؤل، والمشاركة. فحين يعطي الطفل بلا مقابل، يذكّرنا أن الفلسفة تبدأ من القلب قبل أن تصل إلى العقل، وأن الأبوة ليست تعليمًا للآخر، بل تعلم من الآخر.

الخاتمة: قطعة الحلوى التي صارت درسًا في الوعي

وهكذا فهمت أن الفلسفة لا تسكن القاعات الجامعية ولا تحفظ في الكتب، بل تسكن قلب طفلة تقسم قطعة الحلوى على اثنين وتحتفظ بنصيب لوالدها. وإنه في فعل صغير كهذا تختبئ أسئلة الوجود الكبرى: ما الخير؟ ما الجمال؟ ما الحب؟ ولقد أجابت ابنتي سجى عنها جميعًا بالفعل لا بالقول، حين جعلت من المشاركة طريقًا للسعادة، ومن الحب معنى للمعرفة. وأن الفلسفة في جوهرها هي أن نحيا بوعي وامتنان، وأن نرى في الأشياء الصغيرة ما يذكّرنا بعظمة الإنسان. وإن ابنتي سجى لم تشرح لي ذلك بل جعلتني أعيشه. ولهذا أقول بثقة وامتنان عميق إن قطعة الحلوى التي وضعتها سجى في فمي كانت أحلى دروس الفلسفة التي ذقتها في حياتي.

***

أ. د. علي محمد عليان عبد الرازق الخطيب

أستاذ ورئيس مجلس قسم الفلسفة- كلية الآداب- جامعة المنيا- مصر

 

اللامنتمي كائن يقف على حافة العالم، لا داخله ولا خارجه، كأنه شاهد على مسرح لا يشارك في تمثيله، بل يكتفي بتأمل عبث أدواره وتكرار مشاهده.

هو ليس متمردا بمعناه الصاخب، بل نغمة شاذة في لحن جماعي لا يحتمل الاختلاف. يسمع ما لا يقال، ويرى ما تخفيه الملامح، ويشم رائحة الزيف في العطر المنمق للحقيقة.

اللامنتمي كائن يسكن تخوم الوعي، يقف بين العالم وظله، لا ينتمي إلى الجموع ولا يخاصمها، بل يتأملها من مسافة لا يقطعها سوى الحنين إلى معنى أعمق.

هو ذلك الذي رأى كثيرا حتى أعمته الرؤية، وأحس بما يفوق طاقة القلب على الإحساس، فعاش كمن يحمل في صدره عينا لا تنام.

العالم بالنسبة إليه ليس مسرحا للعيش، بل مشهدا للفهم. يرى البشر وهم يركضون في دوائر الطمأنينة الزائفة، يلهثون وراء ما يسكت السؤال لا ما يجيب عنه.

بينما هو، كلما لامس يقينا، انفتح أمامه فراغ جديد من الشك، فيغدو الوعي عنده لعنة البصيرة لا نعمة الفهم.

اللامنتمي لا يختار غربته، إنها تلتصق به كما يلتصق الظل بالجسد، لأنها نتيجة وعي يفيض عن طاقة الاحتمال. حين يرى ما وراء الكلمات، ويدرك أن البديهي ليس بريئا، وأن العادي ليس سوى قناع للخواء، تبدأ مسافة الصمت بينه وبين العالم تتسع، حتى يصير الكلام عبئا، والمخالطة تمثيلا، والسكوت عزاء مؤقتا.

هو ليس ضد الناس، بل ضد البلادة التي تسمى انسجاما. لا يحتقر الجموع، بل يشفق عليها لأنها تلوذ بالألفة من خوفها من الحقيقة. يرى الزحام في الطرقات دليلا على وحدة أعمق، ويرى الضحك الجماعي ستارا للهشاشة الجماعية.

اللامنتمي لا يعادي المجتمع، لكنه يعجز عن أن يذوب فيه. فالحياة حوله مسرح للتماثل، والاختلاف جريمة تغفر فقط إن كانت بلا وعي.

أما هو، فاختلافه وعي ناصع، لذلك ينفى لا بجسده بل بروحه.

يحيا بين الناس جسدا، لكن قلبه معلق على حافة الغياب، يبحث عن صدى يشبهه، فلا يجد إلا رجع أفكاره يعود إليه أكثر وحدة مما خرج.

إنه لا يبحث عن معنى، بل يتألم من فرط المعنى. فكل لحظة عنده تطل على سؤال، وكل جمال يوقظ في قلبه ندبة من الوعي بأن هذا الجمال زائل.

هو مثل مرآة صافية في عالم يكره الانعكاس الصادق. لا يمكن خداعه، لكنه يدفع ثمن بصيرته عزلة باردة، وصدقا لا يحتمل دفء الكذب.

اللامنتمي إذن ليس غريبا عن العالم، بل غريبا عن التواطؤ معه. إنه لا يختار عزلته، بل تختاره هي، كما تختار الحقيقة من يجرؤ على النظر في وجهها بلا قناع.

وحين يختلي بنفسه، لا يفعل ذلك زهدا في الناس، بل توقا إلى الصدق، إذ يعرف أن الزيف لا يضج فقط في الأسواق، بل في الضمائر أيضا.

هو الذي يرى التصدع في جدار العادي، ويصغي إلى صمت الحقيقة وهي تدفن تحت ضجيج الرأي العام.

إنه شاهد لا يصدق، وضمير لا ينام، وروح تتعذب لأنها ولدت في زمن لا يحتمل الوعي.

هو ابن الحيرة، وسليل السؤال، وصديق الضوء حين يخنق الليل المعنى.

يرى الجمال في الصدع، والاكتمال في النقص، والمعنى في التناقض.

فهو لا يهرب من الحياة، بل من ضيقها، لا يكره الواقع، بل يخشى أن يصبح مثله.

ولذلك، لا ينقذ اللامنتمي سوى الكتابة، فهي وطنه المؤقت، صمته الناطق، ووسيلته الوحيدة ليقول للعالم:

لم أخطئ حين رأيت أكثر مما ينبغي، لكني دفعت الثمن غربة بحجم الحقيقة.

اللامنتمي ليس هشا كما يظن العابرون، بل شفاف إلى حد الألم، يرى ما وراء الوجوه والعبارات، ويدرك هشاشة ما يسمى الطبيعي.

ولأنه يرى الحقيقة عارية، يصاب بما يشبه العمى من شدة الضوء.

اللامنتمي شاهد أخير على أن الوعي، مهما كان موجعا، هو أقدس أشكال الوجود.

اللامنتمي ليس نهاية، بل سؤال مفتوح:

هل تحتمل الحقيقة بلا وهم؟

وهل يمكن للوعي أن يعيش بلا قناع؟

ربما لا يملك الإجابة،

لكنه يظل الدليل الوحيد على أن الإنسان، مهما غرق في العادة،

ما زال قادرا على أن يستيقظ ولو وحيدا في وجه الحقيقة.

ولأنه لم يجد في العالم مكانًا يليق بوعيه، صار يبحث عن وطن في داخله،

وطن لا تحده الجغرافيا، بل يخلقه الحبر والفكر والصمت

.ولست أتحدث عن اللامنتمي من بعيد، بل عنه فيّ، لأنني أنا ذلك الكائن اللامنتمي الذي اخترته وطنا لذاتي يسكنني واسكنه

كل ما كتبته عنه إنما هو سيرة الوعي في داخلي، فأنا اللامنتمي الذي يمشي على حافة الضوء. وكلما حاولت تعريفه، ازددت يقينا أنني هو.

***

ابتهال عبد الوهاب

مقاربة تحليلية لكتاب "جماليات المكان" لغاستون باشلار

بين الشعر والفلسفة والعلم نقطة اهتزاز كوني، نقطة يشعر فيها الإنسان أنه لا يقف في غرفة، ولا في وطن، بل على حافة بين الوجود والعدم، ذلك الوقوف الذي يجعلنا نرى جمالية المكان وشعريته ومداه .

إنّه و في العتبة الأولى التي يلج منها الوعي باب الفهم، لم يكن المكان سوى ارتعاشة في صدر الوجود، مجرد ظلّ يبحث عن كتف يسنده. ومن تلك العتبة دخل غاستون باشلار يمشي بين جدران الذاكرة، يلمس البيت كما يلمس كاهنٌ حجرا مقدّسا، ويعرف أن المكان ليس شكلا هندسيا، بل حنينا مضغوطا في زاوية. في كتابه الارائع " جماليات المكان " كان يؤمن أنّ العليّة تصعد بنا لا لأن درجها مرتفع، بل لأن الذاكرة تخفّ حين تبتعد عن الأرض، وأن القبو لا يُظلم لأنه بلا نوافذ، بل لأنّه يحفر في الطبقات الرطبة للروح. المكان عنده حيوانٌ يتنفس، كائنٌ لا يفصح عن سرّه إلا حين نصغي إليه من الداخل، وحين ندرك أن الطفولة هي المعمار الحقيقي لكلّ الغرف، وأن الإنسان، في لحظة صدقه الأخيرة، ليس إلا بيتا يسير على قدمين في لحظة استذكار باذخة ..

يتغيّر المشهد حين يدخل محمود درويش من الباب ذاته، إذ يحمل المكان لا كجغرافيا، بل كجرح مفتوح. يدخل كمن يعود إلى بيت يعرف أنه لم يعد قائما، وكأنّ العالم كله لا يحتاج إلى خارطة بقدر ما يحتاج إلى ذاكرة. في شعره، لا يصبح البيت مأوى بل صدى، ولا تصبح النافذة ضوءا بل منفى، ولا تصبح الأرض وطنا بل سؤالا متكررا: من أين يبدأ المكان حين ينتهي الزمن؟ درويش لا يبحث عن المكان، بل يبحث عن أثره حين يُنتزع، عن تلك الفراغات التي تترك حفرة في الصدر كأنّها حفرة ضوء، عن المفتاح الذي لا يفتح بابا بل ماض مرتبك يركض في الحلم، وعن وطن يتقلّص حتّى يصبح قصيدة، ثمّ تتّسع القصيدة حتى تغدو وطنا بديلا. في عالم درويش، لا شيء يُسكن، لا شيء يُمسك، لأن كل شيء مُهدّد بالتحوّل إلى ذكرى، وكل ذكرى مهدّدة بالتحوّل إلى جرح، وكل جرح مهدّد بالتحوّل إلى لغة.

وما إن يشتد هذا الاشتباك بين المكان كحلم عند باشلار، والمكان كفقد عند درويش، حتّى يدخل أينشتاين كطرف ثالث يمجّد الثبات، يرمي نظريته فيغيّر المفاهيم البشرية كلها. فجأة لا يعود المكان مكانا ولا الزمن زمنا، بل يصبحان نسيجا واحدا، يتلوى، ينحني، يتمدد، كأن الكون رقعة مطاطية والنجوم أثقال تُشوّه سطحه. في لحظة واحدة، تتكسر الجدران الفلسفية القديمة، و يسحب المكان من تحت أقدامنا، ويضعنا في كون لا مركز له، لا أعلى، لا أسفل، لا شرق، لا غرب، بل حركةٌ دائمية تُعيد تعريف كل شيء، البيت حدث، الخطوة حدث، القصيدة حدث، كل شيء لا يقوم بذاته، بل بتوتره مع الزمن. وهنا يبدأ الاندماج والتداخل الحقيقي، الاندماج اللذيذ، التداخل الذي لا يَفرّق بين الشعر والفلسفة والعلم. باشلار يحاول أن يعيدنا إلى الركن الدافئ، إلى رائحة الدولاب القديم، إلى السرير الذي يحتفظ بأثقال أحلامنا الأولى، فيما يسحبنا درويش إلى الظلّ، إلى الحصان الهارب، إلى القرية التي لا تزال تتكوّن كلما انطفأت المصابيح، إلى المكان الذي ينزف كلما حاولنا تذكّره بينما يجرّنا أينشتاين خارج الغرفة كلها، خارج الزمن نفسه، ويجعلنا ننظر إلى المكان كما ينظر الضوء إلى جسده: بلا وزن، بلا ذاكرة، بلا توقف . ومع ذلك، فإن الثلاثة، رغم اختلاف مساراتهم، يتقاطعون عند خط واحد لا يُرى، فيصبح المكان عن ثلاثتهم ما ليس يُرى بالعين، بل ما يُمسك بالقلب . عند باشلار، هو حلم متوارٍ يتسلّل من شقوق الجدران؛ عند درويش، هو وطن مكسور يبحث عن جسده، عند أينشتاين، هو تموّج في فراغ أكبر من كل القصائد. ومع هذا، لا يستطيع أحدهم أن يلغي الآخر، لأن الإنسان يحتاج الثلاثة ليبقى، يحتاج حلم باشلار كي لا يدفىء دواخله، ويحتاج جرح درويش كي لا يحدث قطيعة ابدية مع الظلم، ويحتاج ضوء أينشتاين كي يعرف أن وجوده ليس صدفة بل ارتعاشة كونية محسوبة.

لندرك في النهاية، أن المكان ليس جدارا يُسندنا، ولا وطنا يحمي اسمنا، ولا مسافة تقيس خطواتنا. إنه الكهف الذي خرجنا منه، والجرح الذي نمشي به، والضوء الذي نذوب فيه. إنه حوار مستمر بين الحلم والذاكرة والسرعة، بين البيت الذي نحمله، والوطن الذي يحملنا، والكون الذي لا يبالي بأي منا.

***

ليلى تبّاني ــــ الجزائر

قصة مستوحاة من تجربة واقعية مع ابني خالد، البالغ من العمر عشر سنوات، الذي علّمني كيف أرى العالم بعين الدهشة من جديد.

* ملخص القصة.

هذه القصة مستوحاة من تجربة واقعية مع ابني خالد، ابن العاشرة، الذي لا يملّ من السؤال ولا يتوقف عن البحث عن المعنى، إذ تولدت من بين أسئلته البريئة فكرة فلسفية عميقة مفادها: كيف يمكن لطفل صغير أن يرى العالم بعين الفيلسوف دون أن يدري. ففي لحظةٍ من الدهشة تخيّل خالد حقيبة شفافة يضع فيها كل سؤالٍ لم يجد له جوابًا، حتى استيقظت الحقيبة ذات ليلة وفتحت له بابًا إلى عالمٍ جديدٍ من الدهشة والتأمل، حيث اكتشف أن أسئلته يمكن أن تُحكى وتُرى وتُسمَع: سؤال المعرفة، وسؤال الخير، وسؤال الجمال. ومن خلال هذا الحوار الجميل بين الطفل وأسئلته، تعلّم خالد أن الحقيقة لا تأتي دفعةً واحدة، بل تُكتشف بالتأمل والتجربة، وأن الجمال والخير والمعرفة وجوهٌ متعدّدة لحكمةٍ واحدة. وهكذا لم تكن هذه القصة خيالًا للتسلية، بل تجربة إنسانية صادقة تُظهر أن الفلسفة تبدأ حين يسأل الطفل بصدق، وأن كل سؤالٍ صغيرٍ هو في جوهره بدايةُ وعيٍ كبيرٍ بالعالم. 

* البداية: حين تسكن الفلسفة بيتًا صغيرًا.

كنت أظن أن الفلسفة حديث الكبار وحدهم، حتى اكتشفت أنها تسكننا منذ الطفولة، منذ تلك اللحظة التي يبدأ فيها الطفل بالسؤال: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟

وفي إحدى الليالي جلس ابني خالد بجانبي يسأل بلا توقف عن الشمس التي تغيّر مكانها، وعن الله الذي لا نراه، وعن الحيوانات التي قد تحلم مثلنا. لكنّ أسئلته لم تتوقف عند حدود الفضول اليومي، بل بدأت تقترب من عمقٍ وجودي يدهشني كل مرة.

كان يقول لي بهدوء المتأمل: لماذا أرى الناس من حولي ولا أستطيع أن أرى نفسي إلا في المرآة؟ كيف أكون موجودًا دون أن أرى نفسي؟

ثم يعود ليسأل ببراءةٍ تحمل نضجًا مبكرًا: لماذا يجب أن يحصل الأول دائمًا في الامتحان على500 درجة من 500 درجة؟ أليس من الممكن أن يكون هناك من هو الأول في أشياء أخرى غير الدرجات؟ إن بعض الناس لم يكونوا أوائل في المدارس، لكنهم أصبحوا مبدعين في مجالاتهم، فهل التفوق مجرد رقم؟

كانت تلك الأسئلة الصغيرة التي يطرحها خالد تُدهشني وتحرك فيّ شيئًا عميقًا، لأنها صادرة عن عقلٍ بريءٍ يتأمل الوجود والعدالة والحياة بطريقته الخاصة. ومن هنا وُلدت فكرة هذه القصة، إذ لم تكن نزهةً في الخيال أو تسليةً عابرة، بل تجربةً حقيقيةً عشتها مع ابني خالد، جعلتني أوقن أن الفلسفة ليست علمًا للكبار وحدهم، بل شعلةً تسكن عقل الطفل حين يسأل وتنير طريقه نحو الفهم. لقد علّمتني تجربته أن كل سؤالٍ صادقٍ يطرحه الطفل هو خطوةٌ أولى في طريق النور، وأن الفضول الذي يسكنه ليس مجرد تساؤلٍ عابر، بل بدايةُ وعيٍ حقيقيٍّ بالعالم.

المحور الأول: الطفل الذي يرى العالم بعين الدهشة.

كان خالد عاشقًا للأسئلة أكثر من اللعب، يعيش يومه في صحبة الدهشة، ويستيقظ وفي ذهنه سؤال جديد، وينام وفي صدره تساؤل لم يجد له جوابًا بعد. في المدرسة يسأل عن الظل الذي يتغيّر، وفي البيت يسأل عن الشمس التي تختفي، وفي الطريق يتأمل وجوه الناس كأنه يبحث في ملامحهم عن سرٍّ خفي. لم يكن سؤاله رغبة في الجدال، بل شوقًا إلى الفهم، كأن عقله الصغير لا يهدأ حتى يكتشف منطق الأشياء. بعض الكبار كانوا يبتسمون له، وبعضهم كان يضيق بأسئلته، لكنه لم يتوقف يومًا، لأن قلبه كان يخبره أن لكل شيء سببًا، ولكل لحظة لغزًا ينتظر من يكتشفه.

وذات مساءٍ صافٍ جلس عند نافذته يتأمل السماء الممتدة فوقه، والنجوم التي تلمع في صمتٍ بعيد، وشعر بأن أفكاره تتزاحم كأنها تريد مكانًا لتسكن فيه. قال في نفسه إن أسئلته كثيرة ولا يعرف أين يضعها، فهي تتبعثر في رأسه مثل أوراقٍ بلا ترتيب. ومع هذا التأمل، ولدت في خياله فكرة عجيبة: أن يصنع حقيبة شفافة يحمل فيها كل سؤالٍ لم يجد له جوابًا، حقيبة ترافقه في رحلته بين اليقظة والحلم، بين الواقع والخيال. ومن تلك اللحظة بدأت رحلته الحقيقية نحو عالمٍ جديدٍ من النور والفكر، رحلةٍ سوف تعلّمه أن السؤال ليس حيرةً بل بداية الطريق إلى الفهم.

* المحور الثاني: ولادة الحقيبة التي تحمل الضوء.

أغمض خالد عينيه، وغاص في عالمٍ من الخيال الطفولي العميق. تخيّل حقيبة شفافة خفيفة تطير فوق كتفه مثل غيمةٍ صغيرة، تتراقص في الهواء كلما تحرّك. شعر بأن هذه الحقيبة سوف تكون رفيقة دربه، تحفظ أفكاره كما تحفظ الأم أسرار طفلها، وقال في نفسه إنه سوف يضع فيها كل سؤالٍ لم يجد له جوابًا، حتى لا يضيع أي تساؤلٍ من ذاكرته الصغيرة.

ومنذ تلك اللحظة صار كل سؤالٍ بلا إجابة يتحوّل في خياله إلى ورقةٍ مضيئةٍ تطير ببطءٍ حتى تدخل الحقيبة وتستقرّ داخلها بهدوء، كأنها نجمة وجدت مكانها في السماء. ومع مرور الأيام بدأت الحقيبة تمتلئ شيئًا فشيئًا، وصار نورها يزداد تألقًا في خياله كلما أضاف إليها سؤالًا جديدًا. أحسّ بأنها لم تعد مجرد حقيبة، بل صارت عالمًا صغيرًا يحمل في داخله كل ما لا يعرفه بعد، وكل ما يريد أن يفهمه يومًا. ومع الوقت بدت له كأنها تحمل أسرار الكون في ضوءٍ صغيرٍ على كتف طفلٍ عاشقٍ للمعرفة، يمشي في دروب الحياة، وقلبه مفتوحٌ على الدهشة.

* المحور الثالث: ليلة استيقظت فيها الحقيبة.

 في ليلةٍ ساكنةٍ غمرها صمتٌ دافئ، كان خالد يستعد للنوم حين سمع همسًا خفيفًا يقترب من وسادته، كأن الهواء نفسه صار يتكلم. فتح عينيه ببطءٍ فرأى الحقيبة التي كانت ترافقه في خياله تلمع عند طرف السرير كنجمةٍ حيّةٍ تنبض بضوءٍ خافتٍ وجميل. شعر بأن قلبه يخفق بقوةٍ بين الخوف والفضول، حتى سمعها تهمس له بصوتٍ حنونٍ قريبٍ من قلبه، تخبره بأنها امتلأت بأسئلته، وأن الوقت قد حان ليفتحها ويرى ما تخبئه في داخلها من أسرار.

مدّ يده الصغيرة بتردّدٍ ودهشة، كأنّه يلامس سحرًا لا يعرف مداه، وما إن فتح الحقيبة حتى اندفع منها نورٌ ملوّنٌ دافئ انتشر في الغرفة كلها، يغمر الجدران والوسادة والهواء نفسه بألوانٍ متراقصة. وبين خيوط الضوء المتناثرة بدأت تتكوّن مخلوقاتٌ صغيرةٌ مجنّحة، تتلألأ كالكلمات حين تخرج من الفم بصدق، تسبح في الهواء بخفةٍ ورشاقة. وكل مخلوقةٍ منها كانت تمثّل نوعًا من الأسئلة التي كانت تملأ قلبه الصغير: أسئلة المعرفة، وأسئلة الخير، وأسئلة الجمال. كان المشهد كله يبدو كحلمٍ حيٍّ يولد أمام عينيه في أول لحظةٍ من لحظات الوعي.

* المحور الرابع: حوار مع سؤال المعرفة.

اقترب من بين المخلوقات نورٌ أزرق صافٍ كأعماق البحر، وتقدّمت نحوه مخلوقةٌ جميلةٌ يعلو رأسها رمز استفهامٍ مضيءٍ يشبه الهلال في تمامه. كانت ملامحها هادئةً وعيونها تشعّ بحكمةٍ عميقة، وحين تحدّثت بدا صوتها كهمس الموج في ليلةٍ صافية. قالت له إنها سؤال المعرفة، ثم جلست أمامه بهدوءٍ وسألته: كيف تعرف يا خالد أن ما تراه أو تسمعه صحيح؟

تردّد قليلًا، وأخذ يفكّر في معنى السؤال، ثم همس في نفسه أن ما تراه العين قد يخدع، وما يسمعه من الكبار قد يخطئ، وما في الكتب قد يكون ناقصًا أو غير كامل. شعر أن الحقيقة لا تُمنح للإنسان جاهزة كما تُمنح الهدايا، بل تُكتشف شيئًا فشيئًا، بالتجربة والملاحظة والسؤال. في تلك اللحظة شعر أن شيئًا من الضوء الأزرق الذي يحيط بالمخلوقة قد انتقل إليه، كأنها وهبته جزءًا من معناها، فأدرك أن المعرفة لا تسكن الكتب وحدها، ولا تُختزل في الإجابات، بل تنبت في كل عقلٍ يسأل بشجاعةٍ ولا يخاف من الخطأ.

* المحور الخامس: ميزان الخير في قلبٍ صغير.

وبينما كان خالد يتأمل المخلوقات المجنّحة التي تملأ الغرفة بنورها، اقتربت منه مخلوقة خضراء يشعّ من كتفيها ضوءٌ لطيف، وتحمل ميزانًا صغيرًا يتأرجح في هدوءٍ كأنه يقيس نَفَس العالم. كانت خطواتها واثقة وصوتها مملوءًا بالحنان، وقالت له إنها سؤال الخير. نظرت إليه بعينٍ ودودة وسألته إن كان كل ما يريده في حياته يكون خيرًا له ولغيره.

تردّد قليلًا، ثم ابتسم بخجلٍ كمن يواجه نفسه، واعترف بأنه أحيانًا يغضب ويصرخ ثم يندم، وأحيانًا يفضّل اللعب على أداء واجباته. شعر أن السؤال يمسّ شيئًا عميقًا في داخله، ففكّر طويلًا حتى أدرك أن الخير لا يُقاس بالرغبة اللحظية ولا بالمتعة العابرة، بل بما يتركه الفعل في القلب من طمأنينةٍ وسلام، وما يزرعه في الآخرين من فرحٍ وأمان. ومن تلك اللحظة بدأ خالد يفهم أن الفعل الطيب يحتاج إلى تفكيرٍ قبل التنفيذ، وأن الخير الحقيقي ليس اندفاعًا بالعاطفة، بل اختيارٌ يصنعه الوعي بحبٍّ ومسؤولية.

* المحور السادس: ألوان الجمال ومعناه المختلف.

وبينما كان خالد ما يزال مأخوذًا بما سمعه من سؤال الخير، أشرق في أرجاء الغرفة نورٌ ذهبيٌّ ناعم، وظهرت مخلوقة صفراء لامعة تحمل بين يديها لوحةً واسعة وألوانًا كثيرة تتراقص في الهواء كفراشاتٍ من الضوء. كانت ابتسامتها تشبه إشراق الصباح، وقالت له إنها سؤال الجمال. جلست أمامه في هدوءٍ وسألته بصوتٍ رقيقٍ كالنغمة: لماذا يختلف الناس في ما يرونه جميلًا؟

توقّف خالد لحظةً يتأمل السؤال، ثم تذكّر اختلافه الدائم مع أسرته: فهو يحب البحر واتساع أفقه، بينما تحب أخته الزهور بألوانها الكثيرة، ويحب هو القصص الخيالية التي تطير في العقول، في حين يعشق والده القصص القديمة التي تحفظها الذاكرة. ابتسم وهو يفكر في هذا التنوع وقال في نفسه إن الجمال ربما يشبه السماء، يراها كل إنسانٍ من مكانه بلونٍ مختلف، ومع ذلك تظل السماء واحدة. عندها شعر أن الاختلاف لا يعني التناقض، بل هو اتساع للعالم واتساع للقلوب التي تتأمل جماله من نوافذ متعددة. وهكذا أدرك أن الجمال لا يُرى بالعين فقط، بل يُحسّ بالقلب الذي يعرف كيف يندهش.

* المحور السابع: لحظة النور التي تسكن القلب.

حين انتهى الحوار بين خالد والمخلوقات الصغيرة، عادت تلك الكائنات المضيئة إلى الحقيبة الشفافة في هدوءٍ كأنها تعود إلى موطنها الأول، لكن الغرفة لم تعد كما كانت، فقد بقي فيها نورٌ هادئٌ يتسلل إلى كل زاويةٍ منها كأن الأسئلة نفسها تضيء المكان. جلس خالد صامتًا يتأمل ذلك الضوء الذي يملأ عينيه وقلبه معًا، وشعر أن الأسئلة التي كانت تثقله من قبل قد تحوّلت إلى طاقةٍ من طمأنينةٍ ووضوح، كأنها وجدت معناها حين تحوّل القلق إلى فهم.

ولأول مرةٍ لم يخَف من الجهل أو الغموض، بل أحبهما لأنهما صارَا الطريق إلى المعرفة. أحسّ أن الرحلة التي تقوده نحو الفهم أجمل من أي إجابةٍ جاهزة، وأن السؤال لم يعد ظلمةً بل نورًا يفتح أمامه أبواب التأمل. في تلك اللحظة أدرك أن المعرفة لا تبدأ عندما نصل إلى الحقيقة، بل حين نؤمن أن الطريق إليها هو في ذاته الحقيقة الأولى، وأن من يسأل بصدقٍ لا يضيع، لأن النور يسكن قلب من يبحث.

* المحور الثامن: حين أصبح السؤال صديقًا.

في صباحٍ جديدٍ مملوءٍ بالصفاء، استيقظ خالد وهو يشعر بأن شيئًا تغيّر في داخله. لم يعد السؤال يثقله كما في الماضي، بل صار يملأه قوةً وفضولًا جميلًا. نهض من فراشه، وابتسم وهو يعلّق على باب غرفته ورقة كتب عليها بخطٍّ صغيرٍ وواثق:  مسموح بطرح الأسئلة. شعر أنه بدأ فصلًا جديدًا من حياته، يعيش فيه السؤال لا كعبءٍ يخيفه، بل كصديقٍ وفيٍّ يرافقه في كل مغامرةٍ فكريةٍ صغيرة.

وفي المدرسة، رفع يده كعادته ليسأل، لكنه هذه المرة لم ينتظر الجواب من المعلمة، بل التفت إلى زملائه وقال بحماسٍ طفوليٍّ صادق: ما رأيكم أن نحاول جميعًا الإجابة عن هذا السؤال معًا؟ تبادل الأطفال النظرات وبدأت الأفكار تتساقط بينهم مثل المطر الخفيف، تنبت في عقولهم حواراتٌ صغيرة، وضحكاتٌ مليئةٌ بالدهشة. احتار بعضهم وضحك بعضهم، لكن الجميع شعروا أن الحصة أصبحت مختلفة، أكثر دفئًا، وأكثر قربًا من قلوبهم.

وحين عاد خالد إلى فراشه تلك الليلة، أحسّ بأن الحقيبة قد عادت إلى كتفه خفيفةً كما كانت، لكنها هذه المرة مليئةٌ بالنور والأحلام. فنظر إلى السماء المضيئة بالنجوم، وشعر أن الكون كلّه يبتسم له، وقال في نفسه إنه لا يخاف إن لم يجد كل الأجوبة، فالمهم أن يواصل السؤال، وأن يعيش مع دهشته بسعادةٍ تشبه ضوء الحقيبة التي لا تنطفئ.

* المحور الأخير: العبرة التي تضيء الطريق.

لم تكن هذه القصة تمرينًا في الخيال، بل تجربةً حقيقيةً غيّرت نظرتي إلى التربية وإلى الفلسفة معًا، وجعلتني أتعلم من ابني خالد أكثر مما ظننت أنني أعلّمه. لقد أدركت من خلاله أن الطفل لا يحتاج إلى إجاباتٍ جاهزة تُغلق عليه أبواب التفكير، بقدر ما يحتاج إلى من يصغي إليه ويشاركه دهشته، ويمنحه الأمان ليفكر بحريةٍ دون خوفٍ من الخطأ.

علّمني خالد أن الفلسفة ليست كلماتٍ معقدة تُقال في القاعات الجامعية، بل أسلوب حياةٍ بسيطٍ يرى في السؤال معنىً للوجود، وفي الاختلاف جمالًا يثري الحياة، وفي التفكير طريقًا إلى الخير والمعرفة. ومن أسئلته عن نفسه، وعن التفوق، وعن معنى النجاح، تعلمت أن قيمة الإنسان لا تُقاس بالأرقام ولا بالدرجات، بل بما يبدعه من فكرٍ، وبما يملكه من فضولٍ وصدقٍ في البحث عن الحقيقة.

وهكذا أيقنت أن كل طفلٍ يسأل هو فيلسوف صغير يحمل بذرة الوعي في قلبه، وأن كل أبٍ أو معلمٍ يصغي إليه لا يعلّمه فحسب، بل يشارك في بناء وعيٍ جديدٍ للعالم، ويمدّ جسورًا بين الدهشة الأولى والمعرفة التي لا تنتهي. عندها فهمت أن السؤال ليس مجرد طريقٍ إلى الجواب، بل هو الحياة نفسها، في أبسط صورها وأعمق معانيها.

خاتمة

وهكذا تنتهي رحلة خالد مع حقيبته العجيبة، لكنها في الحقيقة ليست نهاية القصة، بل بداية رحلةٍ جديدة يعيشها كل طفلٍ يملك شجاعة السؤال، وكل كبيرٍ يتعلّم من حوله أن يصغي بصدقٍ ودهشة. فقد أدركنا من خلال هذه التجربة أن الحياة ليست سلسلةً من الإجابات الجاهزة التي نحفظها، بل طريقٌ طويلٌ من الأسئلة المضيئة التي تنير عقولنا كلما سرنا فيها. فالسؤال هو الرفيق الذي يجعلنا نكبر بالعقل، ونحيا بالقلب، ونقترب من جوهر إنسانيتنا في كل لحظةٍ من لحظات البحث عن المعنى.

وأخيرًا، أوصي الأطفال أن يتذكّروا دائمًا أن السؤال هو مفتاح المعرفة، وأن كل فكرةٍ تولد من فضولٍ صغيرٍ يسكن أعماقهم. وأقول لهم، اسألوا ولا تخافوا، فكل سؤالٍ تطرحونه هو خطوة جديدة نحو اكتشافٍ يخصّكم وحدكم. ولا تتعجلوا الإجابات، بل استمتعوا بالرحلة الجميلة التي تقودكم إليها الأسئلة. وفكّروا بقلوبكم كما تفكرون بعقولكم، لأن الفهم الحقيقي لا يكتمل إلا حين يجتمع المنطق مع الإحساس، ولا تخشوا الخطأ، فهو ليس نهاية الطريق بل بدايته، ومنه يولد الفهم والنضج.

أيضًا، أوصي الكبار، من آباءٍ ومعلّمين، ألا يُطفئوا شرارة الفضول في عقول الصغار، فهي النور الأول في طريق المعرفة. وأقول لهم، استمعوا إلى أسئلتهم كما تستمعون إلى موسيقى الحياة، فكل سؤالٍ يحمل في داخله عقلًا يبحث عن النور وقلبًا صغيرًا يتعلم أن يفهم العالم على طريقته الخاصة. وساعدوهم على أن يفكروا بأنفسهم لا أن يكرروا ما يسمعونه، وامنحوهم حرية البحث بدل الخوف من الخطأ. وتذكّروا أن الفلسفة ليست مادةً تُدرَّس في الكتب فقط، بل أسلوب حياةٍ يزرع فيهم المعنى، ويعلّمهم أن العقل والرحمة جناحان لا تكتمل إنسانيتنا إلا بهما.

***

د. علي الخطيب

 

يعاني الإنسان المعاصر من العديد من المشكلات الفكرية والأزمات الوجودية، التي تؤدي به الى الخوف والقلق والتوتر، وتعيق تقدمه في الحياة، وتؤثر على حياته، وصحته النفسية والجسدية،  فالإنسان المعاصر هو إنسان مرهق فكرياً، والعلاج الدوائي لايكون دائما هو الحل الأمثل للأشخاص الإصحاء الذين يعانون من مشكلات فكرية، لأن كل مايحتاجه الإنسان المرهق فكرياً هو فهم مشكلته، وتحليلها، ومعرفة جذور المشكلة، وأسبابها، ومن ثم إيجاد الحلول المناسبة لها، من أجل الوصول للسعادة والهدوء والطمأنينة والسلام، وتعد الفلسفة  منذ القدم من أهم الأدوات التي تساعدنا على فهم الحياة، وتحقيق السلام النفسي، ولقد تحدث العديد من الفلاسفة القدماء مثل (سقراط، أفلاطون، آرسطو، أبيقور، والرواقية) عن دور الفلسفة في معالجة مشكلات الإنسان الحياتية، ومد يد العون له، من أجل الوصول للسعادة والسلام النفسي والفكري، فالفلسفة هي البحث عن الحكمة والمعنى، وهي تساعدنا على فهم أنفسنا والعالم من حولنا بشكل أفضل من خلال تطوير الوعي الذاتي، والقدرة على فهم أنفسنا ومشاعرنا وأفكارنا، لأننا عندما نكون أكثر وعياً بأنفسنا، وبوجودنا، نكون أكثر قدرة على التحكم في حياتنا، ومعالجة مشكلاتنا الحياتية، وإتخاذ القرارات التي تتناسب مع قيمنا وأهدافنا، وتطوير القدرة على التفكير النقدي والتحليلي.

ومن أبرز الحلول التي تقدمها الفلسفة هي (التقبل)، حيث تساعدنا الفلسفة على تقبل الحياة كما هي، وتقبل وجودنا فيها، دون مقاومة أو رفض، هذا التقبل يساعدنا على تحقيق السلام النفسي، لأنه يزيل القلق والتوتر الذي يأتي من محاولة تغيير الأشياء التي لايمكن تغييرها.

وتساعدنا الفلسفة على إيجاد (المعنى في الحياة)، حيث أن الإنسان عندما يجد المعنى في حياته، ويدرك دوره في الحياة  ويشعر بأهمية وجوده، يصبح أكثر سعادة ورضا، فالفلسفة تساعدنا على فهم أن الحياة لها معنى.

إن العلاج الفلسفي لمشكلات الإنسان المعاصر، هو ليس علاجاً بالمعنى الحرفي لكلمة علاج ، بل هوعملية تطوير للفكر الإنساني وتحفيزه لتغيير الأفكار السلبية، والتخلص منها وإستبدالها بافكار إيجابية تساعده على التخلص من التوتر، والقلق، والخوف، والحزن، وبالتالي الوصول الى السلام النفسي، فالفلسفة تعمل على تحقيق السلام الداخلي، والنفسي، من خلال تطوير الوعي الذاتي، والتقبل، وإيجاد المعنى، والتحرر من الخوف الداخلي، فالفلسفة هي رحلة نحو الإكتفاء الداخلي، والتحرر من الإضطرابات الفكرية و المخاوف الوجودية، وهي تساعدنا على فهم أنفسنا والعالم من حولنا، وعندما نطبق الفلسفة في حياتنا نكون أكثر سعادة ورضا، ونكون أكثر قدرة على تحقيق أهدافنا.    

الفلسفة والتحرر من الخوف

يعد (الخوف) من أكبر العوائق التي تمنعنا من تحقيق السلام النفسي، ولقد كان دور الفلسفة منذ القدم هو مساعدتنا على فهم أن الخوف هو نتيجة الجهل، فالإنسان بطبيعته يخشى مايجهله، لذلك كان الفيلسوف اليوناني (سقراط ) من أوائل الذين كانوا ينادون بالمعرفة، بإعتبارها فضيلة وقوة، ومقولته الشهيرة (إعرف نفسك) إنما هي دعوة لنبذ الجهل والسعي وراء المعرفة، وإدراك ضرورة أن يبدأ الإنسان أولاً بمعرفة نفسه، و حدود فهمه وإدراكه، وأن يسعى لتطويرها، قبل أن يسعى لفهم العالم، إذ أن إدراك الإنسان لذاته ومعرفة حقيقتها هو طريق لمعرفة العالم من حوله، والسعي وراء المعرفة هو فضيلة، وقوة، تمكن الإنسان من التغلب على الخوف، والتحرر من القلق، وبالتالي تحقيق السعادة، والوصول الى السلام النفسي.  

***

شيماء هماوندي - أستاذة الفلسفة والعلاج الفلسفي

أربيل/ جامعة صلاح الدين/ كلية الآداب/ قسم الفلسفة

لم يكن الموقف الاقتصادي غائباً أو بعيداً عن الذين يدعون إلى إقامة الحاكمية الله على الأرض. وذلك لإيمانهم المطلق بأن ما رسمه النص المقدس في هذا الاتجاه (القرآن والحديث)، هو الأكثر فاعليّة في تحقيق العدالة والمساواة بين الناس من جهة، مثلما هو المشروع الذي سيؤمن لهم العيش الرغيد ويكفل لهم عدم الحاجة والعوز من جهة ثانيّة، متخذين من تجربة الخليفة "عمر بن عبد العزيز" أنموذجاً يقتدى به، وهو الذي حقق عبر تطبيق أسلوب الزكاة على مسلمي عصره كما تذكر بعض كتب التاريخ مالم تحقق كل الأنظمة السابقة واللاحقة لعصره. متناسين أو هم على جهل برأيي بطبيعة وأساليب تشكل (تراكم وتمركز الرأسمال) عند الطبقة المالكة في أي عصر من العصور، وما وجود الفقر والتفاوت الطبقي الحاد، إلا نتيجة هذه الأساليب القذرة في جوهرها والقائمة على الفش والاحتكار ورفع الأسعار واستغلال عمل غير المالكين أي المنتجين. علماً أن هناك نصوصاً مقدسة تشير إلى هذه الأساليب القذرة، وقد حذر النص المقدس من الاشتغال عليها . ويل للمطففين – ما احتكر إلا خاطئ – الذين يطففون في الكيل والميزان.. التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين.. وغير ذلك الكثير إن كان من حيث الاشارة إلى عمليات الفساد بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، دون إدراك لأهمية هذه الأساليب غير المشروعة في نشر الفقر والجوع والحرمان بين الناس وبالتالي مجيئ الدعوات إلى اتخاذ أساليب تدخل في نطاق القيم والأخلاق القائمة على الإحسان في توزيع الثروة للتخفيف من حدّة نتائج تفاوت توزيعها، فجاءت الزكاة والصدقات وتوزيع الغنائم، وفي أموالهم للسائل والمحروم. وغير ذلك...

إن الايمان المطلق بما جاء به النص المقدس من قبل دعاة الحاكميّة حول المسألة الاقتصاديّة وتحقيق العدالة الاجتماعيّة، أفقدهم القدرة على فتح النص المقدس ذاته على قضايا العصر وما أفرزته هذه القضايا من حلول منطقيّة يمكن أن تتخذ من الزكاة والصدقات وسائل تساهم مع الوسائل الحديثة في تحقيق الغاية المطلوبة.

لا شك إن توظيف الزكاة والصدقات في مشاريع تنمويّة تحقق العمالة للفقراء والمحرومين والأقربين منهم، هي أفضل بكثير من تقديمها بشكل شخصي لهم من قبل من أنعم الله عليهم كما يقولون، فتقديمها بشكل شخصي لها آثارها النفسيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة على حياة الفرد والأسرة، وبالتالي على المجتمع الذي تقدم فيه هذه الأموال.

عموماً نقول: نحن لا ننكر الدور الكبير الذي تحققه الأعمال الخيريّة في المجتمع الأهلي، والزكاة والصدقات هي من الوسائل التي تدخل في هذا الاتجاه، بيد أن الأهم هو توظف هذه العطايا الخيريّة توظيفاً عقلانيّاً يدخل في مضمار التنمية المستدامة التي تؤسس لبناء قاعدة اقتصاديّة تخدم الفرد والمجتمع على المدى الطويل بل والمستمر.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

تخضع مجتمعاتنا العربية والإسلامية لسلطاتٍ متنوّعة: فكرية ودينية وسياسية، ويتأكد هذا الخضوع ضمن إطار هذه السلطات، ويتجلّى عبر ما نطلق عليه الوعي الزائف، الذي لا يرى نفسه في حالة استلاب، بل يظنّ أنه حرّ، غير أنّه في حقيقة الأمر لبنةٌ في بناءٍ أشمل لمنظومةٍ تعيد إنتاج ما تم إنتاجه سابقًا من طاعةٍ عمياء وتبعيةٍ مطلقة في مفاصل الحياة المختلفة.

وتكون نتائج ذلك واضحة في التربية داخل البيت والجامع والمدرسة والإعلام، إذ تتأسس على القبول بما يُقال دون نقاشٍ أو مساءلة، ويترسّخ بمرور الزمن حتى يصبح جزءًا من ثقافة السلطة، ويُتعامل معه بوصفه قدرًا أو تشريعًا مقدّسًا لا يجوز نقضه.

ولا يعكس الوعي الزائف جهل الإنسان أو المجتمع، بل هو في أحسن الأحوال ثقافة مغشوشة تُقدَّم على أنها حقائق ومسلمات مطلقة غير قابلة للنقاش، وتُدسّ كالسموم في أذهان الناس منذ الطفولة عبر المؤسسات الاجتماعية المختلفة: المدرسة، والجامع، والإعلام، والعائلة. وبهذا يُروَّض العقل ليقتنع تمامًا بما لديه، ويكفّ نهائيًا عن فضول المعرفة ومساءلة ما يُزوَّد به من أفكار. ومن ثمّ يقود هذا كله إلى الطاعة، بمعنى أنّه لا يُطلَب من الناس أن يفكروا، بل أن يُعيدوا ويكرّروا ويُطيعوا ويحفظوا المتون ويعيدوا إنتاج ما تم إنتاجه منذ مئات السنين، في إعادةٍ للثبات وترسيخٍ لأركان النظام القائم.

ولعلّ أخطر ما في الوعي الزائف أنه يجعل من الاستكانة والخضوع مظهرًا من مظاهر الحرية، وكأنها اختيارٌ حرّ، فالطالب لا يسأل، بل يتلقى المعرفة باستسلامٍ وخضوعٍ تامين، والمواطن لا يحتجّ لأنه يُسلّم تسليمًا كاملًا بما تفرضه ثقافة السلطة عليه، والمؤمن يلتزم بالاستسلام وبقدر الله، فلا يناقش، بل يتماهى في سلبيةٍ تامة كالجالسين في الجامع في خطبة الجمعة. إنهم جميعًا يعتقدون أن ما يقومون به هو الصواب والاختيار الحرّ لإرادتهم. ويرجع ذلك إلى أنّ ثقافة السلطة وتعليمات مشايخ الدين تكافئ التلقي السلبي المستسلم وتعاقب من يتساءل أو يعترض، لأن الثقافة المطلوبة هي ثقافة الطاعة الصامتة.

إنّ المدرسة تؤكد أهمية التلقي السلبي، فالإبداع فيها لا يعني اكتشاف الجديد، بل استرجاع ما حفظه الطالب. ولا بد لهذا التلقي أن يقترن بقدرٍ كبير من الانضباط، ولهذا تُعلِّم المدرسة التلقي ولا تُعلِّم التفكير. أما الخطاب الديني فيزرع الخوف في قلوب المؤمنين، ولا يقبل منهم الحوار أو النقاش، ولا يفسح مجالًا للشكّ، فيتحول إلى ثقافةٍ تزرع في نفوس الأطفال الطاعة العمياء والتسليم المطلق لما يتلقونه من تعليماتٍ وأفكارٍ وتصورات.

وتنبثق عن هذا المشروع التربوي شعارات ومقولات تُعمّق ثقافة الخضوع، مثل: احترام الكبير، وطاعة وليّ الأمر، وعدم الجدال في الدين، والفتنة أشدّ من القتل، واسأل بأدبٍ ونفّذ بتسليم، ويد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ إلى النار. وهذه الصيغ كلها تؤكد أهمية السكون والتسليم المقدس، وكأنّ الإنسان يعيش في قفصٍ ذهنيٍّ لا يرى قضبانه، ومع ذلك يشعر بالسعادة فيه، غافلًا عن أنه يقيده ويحجزه ويسلبه حريته وشخصيته وإرادته.

إنّ الخضوع هنا صناعةٌ لا تُفرض على الناس بالقوة، وإنما تأتي عبر تقنياتٍ ناعمة وآلياتٍ سلسة. لذلك يُربَّى الإنسان على الشعور بالذنب إن سأل، ويُتَّهم بالوقاحة إن ناقش، وبالكفر إن شكّ، ويُنبذ من الجماعة ويُقصى خارجها إذا حاول التفكير بصوتٍ عالٍ أو تجرّأ على رفض عادةٍ بالية أو تقليدٍ قديم.

وهذا ما يُمكّن الأنظمة المستبدة ـ حكوماتٍ ومشايخَ وقساوسةً ـ من تثبيت الحياة والمجتمع، وترسيخ السلطتين السياسية والدينية، حتى يغدو الاستبداد مبرَّرًا ومطلوبًا، ويُعَدّ وسيلةً للأمان والاستقرار. بل إن المجتمع نفسه يهاجم من يرفض الاستبداد ويسعى إلى التغيير، ويُعيد صياغة حاضره في ضوء الماضي وقوانينه وشرائعه.

أما الحاكم المستبدّ فيتحول إلى ضرورةٍ تجب طاعته، وإن جلد ظهرك وسلب مالك وهتك عرضك. كما يصبح الفقر اختبارًا للإيمان لا دافعًا للثورة، ويُعدّ الصمت قيمةً إيجابية ونوعًا من التقوى. والغاية من كل ذلك هي تعليم الناس ألّا يسألوا، بل ألّا يفكروا حتى في السؤال.

إنّ هذه البنية الصارمة لا تتغيّر بتبدّل رئيس السلطة أو إمام الجامع، لأن القادم لا يختلف عن الذاهب، وإنما يبدأ التغيير من تحرير الذهن وإعادة صياغة العقل الإنساني من جديد، بحيث يكون التعلم حرًا، ويُتاح للإنسان حقّ التساؤل وحرية الشكّ. فالسؤال لا يُعدّ خروجًا عن الجماعة أو طريقًا إلى الفتنة، بل هو طريق الإيمان الحقّ والسعي نحو كرامة الإنسان.

إننا نولد أحرارًا لا خاضعين بالفطرة، لكننا نتعلم الخضوع ونقدسه بمرور الزمن بفعل الوعي الزائف الذي نشأنا عليه. لذا ينبغي أن نتعلم ونعلم الآخرين أن يسألوا ويراجعوا أفكارهم بقراءةٍ نقدية، وأن يجاهروا بما يرونه حقًّا، وإن كان صادمًا. فهذه هي البداية الحقيقية للتحرر.

***

د. كريم الوائلي

 

لا يمكن ابدا فهم التاريخ بشكل كامل من خلال أسئلة "ماذا لو"، لكن لا يوجد شيء مثير للاهتمام بالنسبة للحضارة الغربية اكثر من النقاش الفلسفي بين ديموقريطس وارسطو. هذان الفيلسوفان الكبيران تصادما حول طبيعة المادة ذاتها وهو الخلاف الذي أثّر على العلم قرابة 2000 سنة.

ديموقريطس تصوّر الكون باعتباره مؤلف من ذرات غير مرئية تتحرك في فراغ، اما الثاني ارسطو نظر الى عالم مؤلف من عناصر ملموسة ومستمرة. في النهاية، منْ ساد كان هو الأكثر شهرة بين الفيلسوفين، وانتصاره حدد بعمق مسار الفيزياء والمعرفة الإنسانية.

نظرية ديموقريطس مقابل المنطق البديهي لأرسطو

النقاش بين ديموقريطس وارسطو دار حول سؤال يبدو بسيطا وهو: ممّ صُنع العالم حقا؟

في احدى الزوايا وقف المفكر ديموقريطس من مدينة ابديرا القديمة في تراقيا. وفي وقت ما من القرن الخامس ق.م هو حقق قفزة مذهلة في المنطق – وبالخصوص في دراسة العقائد الواسعة في ذلك الوقت. هو جادل انك اذا تستمر في تجزئة الشيء الى قطع أصغر وأصغر فانت سوف تصل في النهاية الى نقطة لا يمكن فيها التجزئة . هو سمى هذه العناصر الأساسية غير القابلة للتجزئة بـ "atoma" في اليونانية "غير قابلة للقطع".

وفق رؤيته، يتألف الكون من هذه الذرات التي تتحرك من خلال فضاء فارغ تتصادم وتتشابك لتخلق كل ما نراه من أشياء. هذه كانت رؤية مذهلة وحديثة للكون لم تتطلب آلهة او اسطورة لتوضيحها.

لنتصور كم كان هذا الاتجاه مبتكرا وشجاعا في زمن وثق فيه الناس فقط في عيونهم وحواسهم.

وفي الزاوية الأخرى من هذا النقاش الفلسفي يقف ارسطو. كتلميذ لافلاطون ومعلم للإسكندر الأكبر، كان تأثيره هائلا. هو فحص نظريات ديموقريطس ولم يكن امامه الا التحقق منها. فكرة "الفراغ" صدمته واعتبرها مستحيلة منطقيا. نظرية ارسطو الخاصة تأسست على ما يمكن ان تتصوره الحواس، او على ما يراه الانسان ويشعر به. هو دافع عن فكرة ان كل الأشياء مؤلفة من أربعة عناصر: الأرض والماء والهواء والنار. انه كان نظاما بديهيا وأنيقا في توضيح العالم بشكل تام، وما هو اكثر أهمية، كان منطقيا بالنسبة لمتوسط الأشخاص. انت يمكنك ان ترى الخشب (ارض) يتحول الى لهب ودخان (نار وهواء) وتشعر ان الماء يتحول الى بخار. انها عملية مبسطة. بالنسبة لأرسطو، هناك هدف ومكان لكل شيء.

فكيف اذن اشتهرت نظرية ارسطو الأقل دقة – وفق ما نعرفه اليوم - وسحقت كليا الفكرة العلمية الدقيقة والمدهشة للذرات؟ الجواب يكمن في النفوذ والايديولوجيا. عمل ارسطو احتُفظ به لقرون واعتُبر من قبل العديد من الناس الحقيقة النهائية حول كيفية عمل العالم. كتاباته أصبحت أساس التعليم في الإمبراطورية الرومانية وجرى استيعابها لاحقا من جانب العلماء المسلمين والمسيحيين. رؤيته التيلولوجية (الغائية) بان لكل شيء غرض متأصل  - تنسجم بشكل رائع مع المعتقدات الثيولوجية التي هيمنت على اوربا في القرون الوسطى. الكون الذي عُرّف بالهدف (تيلوس)، وخُلق بفعل كائن الهي، كان فهمه أسهل من الايمان بالذرات العشوائية والفوضوية المتراقصة في فراغ افترضه ديموقريطس.

النظرية الذرية جرى رفضها بشكل واسع ليس فقط لأنها خاطئة وانما لأنها ملحدة وخطيرة. وبالتالي، كتابات ديموقريطس ضاع معظمها او كُبحت ليتبقى منها فقط هوامش في أعمال منتقديه بمن فيهم ارسطو.

العلوم أغلقت حصراً في الاطار الارسطي، والذي كما نعرف الان كان معيبا في الأساس. لعدة قرون، توقفت التحقيقات الجادة في تركيب المادة . الكيميائيون أمضوا اجيالا محاولين تحويل الرصاص الى ذهب بالارتكاز على أفكار ارسطو في تغيير العناصر، بينما الحقيقة الثورية للذرات لم تنل الاهتمام وبقيت دون تحقيق. انها اخذت قرونا حتى جاءت تجارب مفكري النهضة وعلماء القرن التاسع عشر مثل جون دالتون لتكتسح في النهاية الدوغما القديمة وأحيت الروح العلمية لديموقريطس.

عندما نتأمل في هذا المسار الطويل والمختلف في الفهم، سنرى كيف ان التقدم العلمي يمكنه ان ينحرف وينقلب بمرور الزمن. النصر النهائي للنظرية الذرية يذكّرنا بانه في بعض الأحيان يتضح ان أشد الأفكار راديكالية وغرابة يثبت في النهاية انها صحيحة.

***

حاتم حميد محسن

 

المعرفه وحدها لا تصنع الوعي إنما حضور العقل الفاعل والنقدي ليفرز ويراجع ماتم سكبه في ملفاته ومقاربتها مع تطور الواقع وتحولاته

الوعي ليس ذاكرة بل يقظة. ليس تجميعا بل مراجعة. ليس تكرارا بل انبثاقا جديدا. ومن لا يغامر بالخروج من مألوفه لا يخرج من غفلته مهما حمل من شهادات أو أحاط من مصطلحات.. إن حضور العقل النقدي يشبه لحظة تنفلت فيها الروح من قيود العادة. لحظة تتعرى فيها الأفكار من أقنعتها فينكشف جوهرها. هناك فقط تبدأ المعرفة أن تتحول إلى وعي.

واعتقد ان الوعي فعل تحرير أما المعرفة بلا نقد فهي حشو وتخدير. وفي زمن تتضاعف فيه المعلومات وتتناقص فيه الجرأة على التفكير يصبح الخروج من المألوف شرطا أخلاقيا وفلسفيا معا.. أن يكون العقل يقظا. فاعلا. يزن ويختبر ويهدم ويبني كي لا تظل المعرفة أصفادا مذهبة بل تتحول إلى أفق جديد تتسع فيه حرية الإنسان ومسؤوليته.

التاريخ نفسه شاهد حي على ما أقول . سقراط، الذي علم الناس في شوارع أثينا أن يسائلوا كل شيء، لم يكن يضيف لهم محفوظات جديدة بل يوقظ فيهم عقلا نقديا لم يألفوه. ابن رشد، حين واجه التراث لم يكن يكتفي بالشرح بل كان يحاكم الأفكار إلى العقل ويستخرج منها إمكانات جديدة. غاليليو حين رفع منظاره إلى السماء، لم يكتف بما ورثه من خرائط النجوم بل كسر خريطة العالم القديمة ليبني تصورا جديدا للكون. ومثلهم اليوم علماء ومفكرون ومصلحون يجرؤون على مساءلة ما يقدم لهم بوصفه يقينا في السياسة، في الدين، في العلم، في الأخلاق، فيعيدون للعقل مكانه وكرامته

إن الوعي في الحياة اليومية قد يبدأ بلحظة بسيطة: عامل يرفض التوقيع على عقد مجحف لأنه قرأه بعين فاحصة، مواطن يرفض خطابا دعائيا لأنه يعرف كيف يسائل الأرقام، شاب يقرأ التاريخ فلا يكتفي برواية واحدة بل يبحث عن مصادر أخرى. كل هذه أمثلة صغيرة لكنها تجسيد عملي للوعي باعتباره فعل تحرر لا مجرد كلام جميل.

هكذا وحده يصبح الإنسان سيد معارفه لا عبدها، ويغدو قادرا على أن يحول تراكم المعلومات لديه إلى بصيرة، وأن ينقل الوعي من حيز الكلام إلى حيز الفعل، فلا يبقى سجين الماضي ولا أسير حاضر مستهلك، بل صانع معنى لمستقبل أرحب. لأن الوعي هو القفز خارج السرب، تحطيم دائرة الطاعة العمياء، والانفتاح على أفق أوسع من كل ما حفظناه. عندها فقط تتوقف المعرفة عن كونها حملا على الظهر أو زخرفا على الجدران، وتصير فعلا مؤثرا.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

في عصر الفيض المعلوماتي الذي نعيشه، حيث تتدفق البيانات من كل اتجاه، أصبحت الإشاعة كالسيل الجارف الذي يغزو العقول ويقتحم القلوب قبل أن يخضع لمحك العقل والتمحيص. إنها الكلمة التي تلقى في عَجَل، فتنمو كالنار في الهشيم، تلتهم الحقائق وتُزهق الثقات، وتترك وراءها حطام اليقين وخراب المصداقية.

وايضا في زمنٍ تتدفق هذه التكنلوجية غدت الإشاعة سيلًا جارفًا يقتحم العقول قبل الأسماع، ويغزو الوعي قبل أن يُمحّص في ميزان العقل. إنّها كلمة تُلقى بلا روية، فتتحول في فضاء التواصل إلى نارٍ تلتهم الحقيقة، وتترك وراءها رماد الثقة وخراب اليقين.

وإنّ ثقافة الإشاعة لا تنشأ من فراغ، بل تُغذّيها النفوس الضعيفة التي تجد في الغموض لذّة، وفي تضخيم الأحداث سلطة وهمية. ولذا فإنّ التصدي لها لا يكون بالمنع فقط، بل بإحياء ثقافة الوعي، وزرع قيمة التثبّت في عقول الناشئة. فحين يتعلّم المتعلم أن يسأل «من قال؟» قبل أن يقول «يُقال»، يكون قد وضع قدمه على طريق الحكمة.

أما أثر الإشاعة على سلوك المتعلم، فهو أثر خفيّ لكنه عميق؛ إذ تزرع في نفسه القلق، وتربك ميزان إدراكه بين الصواب والظن. فإذا شاع بين الطلبة خبر لا أصل له، اضطربت الثقة بينهم وبين معلميهم، وانقلبت بيئة العلم إلى ساحة شكّ ومخاوف. إنّ الإشاعة تفسد جوّ التعلم كما يفسد السمّ الماء الصافي، فلا تُبقي أثرًا للعقل إلا وقد غبّر عليه غبار الريبة.

وما أحوجنا اليوم إلى تربيةٍ تحصّن الفكر، لا تكتفي بنقل المعرفة، بل تُنبت في النفوس مناعة الوعي؛ وعيٌ يفرّق بين المعلومة والظن، وبين الخبر والحكاية. فبقدر ما ينتشر الوعي، تنحسر الإشاعة، وبقدر ما يُكرَّم العقل، تذبل الأوهام وتزهر الحقيقة.

ولمواجهة هذه الثقافة المضلّلة، لا بد من امتلاك آليات معرفة الإشاعة قبل أن نُصاب بعدواها. وأول هذه الآليات التحقق؛ فالمتعقّل لا يكتفي بما يسمع، بل يسأل عن المصدر، ويمحّص الدليل، ويزن القول بميزان العقل لا بالعاطفة. وثانيها التحليل النقدي، إذ ينبغي أن يُدرَّب العقل على كشف التناقض، وتمييز الخبر الذي يخدم الحقيقة من ذاك الذي يُغذّي الفتنة. وثالثها الوعي الإعلامي، فالإشاعة لا تعيش إلا في الظلّ، فإذا أُضيء عليها بنور المعلومة الموثوقة، تلاشت كما يتلاشى السراب عند الظهيرة.

أما في الجانب المقابل، فإنّ إشاعة المعرفة هي الدواء الذي يشفي المجتمع من سموم الإشاعة. فحين تنتشر الكلمة الصادقة، والعلم الموثوق، والفكر الواعي، تُخنق الشائعة في مهدها. نشر المعرفة عمل نبيل، يُبنى به الوعي، وتُحصَّن به العقول، وتُقام به الحصون المعنوية للمجتمع.

إنّ التصدي للإشاعة لا يكون بالصمت عنها، بل بكلمةٍ أصدق وأوضح وأقوى؛ كلمة تُقال بعلمٍ، وتُكتب بوعي، وتُتداول بنية الإصلاح لا الإثارة. فالإشاعة تُطفأ بالمعرفة، والظلام لا يبدده إلا نور الحقيقة.

جذور الإشاعة ومنابعها فهي لا تنبعث الإشاعة من العدم، بل تتغذى من منابع عدة، أبرزها:

1. النفوس الواهنة التي تتلذذ بإثارة الغموض

2. العقول الكسولة التي ترفض عناء التحقق

3. النفوس الحاقدة التي تبحث عن الإفساد

4. آثار الإشاعة المدمرة على المتعلم

وقد تمتد آثار الإشاعة إلى البنية السلوكية للمتعلم بشكل عميق، فنجد:

1. اهتزاز الثقة بين المتعلم والمعلم

2. اضطراب البيئة التعليمية وتحولها إلى ساحة شك وريبة

3. تشويه عملية التواصل التربوي الفعال

4. إعاقة بناء الشخصية المتزنة الواثقة

اما استراتيجيات المواجهة والوقاية تحتاج منا مواجهة هذه الآفة، لابد من تبني استراتيجيات متكاملة هي:

1. الوقاية الفكرية وتنمية الوعي النقدي لدى المتعلم

2. تعزيز ملكة التمييز بين المعلومة والظن، أي ترسيخ قيم الصدق والموضوعية.

فالآليات العملية:

أ. التحقق والمصادقة: تعليم المتعلم أن يسأل "من أين؟" قبل أن يقول "يُقال"

ب. التحليل النقدي: تدريب العقل على كشف التناقضات والثغرات

ج. التثقيف الإعلامي: تنمية القدرة على قراءة ما بين السطور

 اما الاليات الروحية بناء المناعة المجتمعية:

1. إشاعة ثقافة الصدق والشفافية

2. تعميم المعرفة الموثوقة

3. تعزيز الثقة المتبادلة بين أطراف العملية التعليمية

 وفي الختام لابد من بيان رؤية مستقبلية تضعنا امام بناء جيلٍ قادر على مواجهة الإشاعات يتطلب تطوير مناهج تعليمية تركز على بناء الشخصية الناقدة، إعداد المعلم القادر على غرس قيم النزاهة الفكرية، كما إنشاء بيئات تعليمية تشجع الحوار الموضوعي، تعزيز الشراكة بين المؤسسات التعليمية والأسر.

فإن معركتنا مع الإشاعة هي معركة مصيرية تحدد هوية مجتمعاتنا وتمسك بمستقبل أجيالنا. إنها ليست مجرد مواجهة عابرة، بل هي مشروع حضاري متكامل لبناء إنسان واعٍ، قادر على تمييز الحق من الباطل، والحقيقة من الوهم.

لقد أثبتت التجارب أن المجتمعات التي تنتصر فيها ثقافة التحقق والتثبت، هي المجتمعات التي تبني مستقبلها على أسس متينة من الثقة والمعرفة. وإن مسؤولية التصدي للإشاعة ليست مقصورة على فرد دون آخر، بل هي مسؤولية جماعية تشارك فيها الأسرة والمدرسة والمؤسسات الإعلامية والمجتمع بأسره.

ولنتذكر دائماً أن الإشاعة تموت حين نرفض أن نكون أدوات لنقلها، وحين نختار أن نكون حراساً للحقيقة. فالكلمة الطيبة صدقة، والكلمة المسؤولة أمانة، والكلمة الصادقة نور يضيء الطريق للأجيال القادمة.

***

ا. م. د. صباح خيري راضي العرداوي

صعود الجماعات المرنة والقبائل المعاصرة

فيما تحدث أنتوني غيدنز عن هيمنة "الفردانية الحديثة المتأخرة"، مستحضرا فواعل العولمة والتكنولوجيا على الذاتية الفردية، باعتبارها شبكة من التفاعلات الاقتصادية والثقافية والسياسية على نطاق عالمي، تعمل على توسيع الأفق الشخصي وزيادة فرص الاختيار والوعي بالقضايا الكونية، فإن ثمة تأثيرات تكنولوجية على الذاتية الفردية، خاصة على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي، حيث تتآكل بفعل عوامل الضغط والإدمان الرقمي والتعرض للرصد والمراقبة.

في السياق عينه، ركّز أولريش بيك على الفردانية في المجتمعات المخاطرة وكيف يمكن أن تتراجع عند مواجهة أزمات عالمية. ما يسهم في بروز مفهوم "الفردانية السائلة" وكيف يزداد تأثير الشبكات الاجتماعية والتغيرات الاقتصادية على الذات الفردية. ما يعني أن الأفراد مُجبرون على اتخاذ قراراتهم بأنفسهم في مواجهة المخاطر، بالتوازي مع تراجع دور الهياكل التقليدية (الدولة، الأسرة، المجتمع) في حماية الفرد، مما يزيد الاعتماد على الذات الفردية. فهل يعيش هذا النموذج الإنساني المعاصر توازنًا بين الحرية والمسؤولية، حرية أكبر في اتخاذ القرار، أو مسؤولية كبيرة لمواجهة المخاطر بنفسه.

أكيد أن الفردانية هنا هي أقرب إلى الفردانية "المرنة" أو "السائلة" كما وصفها بعض الباحثين المعاصرين، فهي تتغير حسب مستوى المخاطر والتحديات المحيطة. إذ إنه على الرغم من زيادة الاستقلالية، فإن المخاطر اللامحدودة تجعل الاختيارات الفردية منكمشة أحيانًا بسبب تأثير العوامل البيئية أو الاقتصادية. فالفرد في هذا السياق ليس حرًا بالكامل، بل عليه أن يتكيف باستمرار مع المخاطر الجديدة.

إن "تراجع الفردانية الحداثية" يشير إلى الظاهرة الاجتماعية والثقافية التي تتمثل في انخفاض الاهتمام بالقيم الفردية المستقلة أو الذاتية التي كانت مهيمنة خلال مرحلة الحداثة، واستبدالها بتركيز أكبر على الجماعة، التضامن الاجتماعي، أو الروابط المجتمعية.

ولا حاجة إلى التذكير أن من بين أهم أسباب وعوامل تراجع الفردانية الحداثية صيرورة الأزمات الاقتصادية والسياسية، كالأزمات الكبرى مثل الركود الاقتصادي العالمي، الحروب، أو الصراعات السياسية التي تجعل الأفراد يلجؤون إلى التضامن الاجتماعي بدلاً من الاعتماد على الذات فقط. وأيضا عامل التغيرات التكنولوجية ووسائل التواصل الاجتماعي، التي رغم تعزيزها لقيم التواصل والاتصال، فإنها غالبًا ما تؤدي إلى خلق شبكات جماعية وتأثيرات ضغط اجتماعي تجعل الفرد جزءًا من مجموعات أكبر، بدلًا من التفرد المطلق. فيما يأتي الوعي البيئي والاجتماعي، كقضايا مثل تغير المناخ، الصحة العامة، والفقر تجبر المجتمعات على التعاون الجماعي، كسبب رئيس في تراجع الأولوية المطلقة للفرد. على أن فلاسفة معاصرون يرون أن الفردانية المفرطة أدت إلى عزلة اجتماعية وانحلال الروابط المجتمعية، ويدعون إلى إعادة التوازن بين الفرد والمجتمع. من بينهم ايميل دوركايم، الذي يرى أن الفردانية المفرطة قد تؤدي إلى "انتحار اجتماعي نتيجة ضعف الروابط الاجتماعية والعزل، وأن الفردانية المطلقة غير الصحية تؤدي إلى ضعف الروابط الاجتماعية والعزلة. مقترحا إيجاد توازن بين حرية الفرد وتكامل المجتمع.

إذا كان الفكر الحداثي، باعتباره وحدة مستقلة ذات عقل وإرادة حر، بل صانع التاريخ والمركز الذي تبنى حوله العلاقات الاجتماعية والمؤسسات. فإن هذا النموذج التقليدي للفرد تراجع أو انهار في سياق ما بعد الحداثة. إذ لم يعد محور العالم الاجتماعي، ولم يعد الذات المستقلة هي الفاعل الأساسي في بناء التاريخ، بحسب نظر ميشيل مافيزولي، ومن نتائج ذلك، تحول الفردانية المفرطة إلى نوع من الجماعية العاطفية (الهويات المحلية والقبلية)، فما بعد الحداثة لا تلغي الفردية بالكامل، لكنها تعيد توجيهها داخل مجموعات مرنة ومؤقتة تتقاسم قيمًا ومشاعر معينة. وهذا يفسر ظهور القبائل الرقمية والثقافات الفرعية وارتباط الأفراد بمجتمعات متخصصة أو جماعية على الإنترنت ووسائل التواصل.

إن تراجع الأيديولوجيات الكبرى التي كانت توفر هوية جماعية واسعة، وضعف المؤسسات العقلانية التقليدية، دفع الأفراد للبحث عن الشعور بالانتماء والمعنى داخل مجموعات صغيرة ومتخصصة. وهكذا، لم تُلغَ الفردية في مرحلة ما بعد الحداثة، بل أعيد توجيهها داخل هذه "القبائل الرقمية" والثقافات الفرعية، التي توفر روابط وجدانية ورمزية تعوض عن غياب الهيمنة الكاملة للعقلانية والمؤسسات. هذا التحول يوضح أن الفرد المعاصر يعيش حالة من التوازن الديناميكي بين الاستقلالية والانتماء، بين الحرية الشخصية والمسؤولية الاجتماعية.

***

د. مصـطـفــى غَـــلمـان

 

يُعدّ موضوع التعريب من اكثر الموضوعات اللغوية التي نالت اهتمام القدماء والمحدثين في مجال اهتمامهم باللغة العربية ورعايتها، ضمن قانون الاقتراض اللغوي الذي تتبادل في إطاره اللغات المجاورة والمتصلة ببعضها البعض بما تقرضه حيناً وتقترضه حيناً آخر من الالفاظ التي هي بحاجتها لمسايرة الحركة الحضارية الجديدة، وكعامل من عوامل النمو والتوسّع اللغوي كما اهتموا بوضع ضوابط لمعرفتها وأحكاماً لإخضاعها للنطق والبناء العربيين ومن الطرق والوسائل التي تمت من خلالها تنمية الثروة المعجمية العربية بالألفاظ المعربة:

1- الاشتقاق: وهو أكثر الطرق حيوية ومرونة ومساعدة على إثراء اللغة العربية وتنميتها، وهو أحد تقنيات التعريب - وذلك باقتطاع لفظ من لفظٍ آخر أجنبي معّرب يوجد بينهما توافق على مستوى الاصوات والدّلالة ولم يتوقف عمل اللغويين على اشتقاق مواد جديدة من الكلمات القديمة المعرّبة بنفس معانيها بل تعّداه إلى إعطاء بعض الاشتقاقات منها دلالات جديدة تتناسب والمفاهيم العصرية المتداولة والشائعة في استعمالاتهم ومن ذلك قولهم:

أ- البرمج-ة: بمعنى إعداد البرامج والفعل(برمج) أيضاً بمعنى أعدّ ووضع برنامجاً، وقيل برمج يبرمج برمجة فهو مبرمج والمفعول مبرمَج أُخِذَ من الكلمة المعربة قديماً(برنامج).

ب - النمذجة: بمعنى صياغة النموذج والمثال و(نمذج) الفعل الرباعي المشتق منها على وزن (فعلل) اشتقاق من المعرب القديم (نموذج).

ج- - أكسد، يؤكسد، أكسدة، مؤكسد اشتقاق من المصطلح الاجنبي المعرب (أكسيد).

د- تلفن، يتلفن، تلفنة، متلفن اشتقاق من المصطلح الاجنبي المعرب (تلفون).

2- المجاز: المقصود به استعمال لفظ عربي معين في معنٍ جديد مستمد من كلمة اجنبية معّربة بخلاف المعنى الذي استعمل به أول مرّة في المعاجم العربية القديمة، وقد كثرت الكلمات المحدثة مجازياً في المعاجم العربية المعاصرة كثرة نوعية تحيل بضخامة الموروث اللغوي وقوة ايحاءاته المعنوية من جهة، وتوحي بحمل مصطلح التعريب لمفهوم الترجمة عند المحدثين في حالة تعذّر تعريبه لفظياً وهو ما يسمى (التعريب بالمرادف) من جهة أخرى.

وللمجاز دور وأهمية في الوضع المصطلحي في قوله " يتحرك الدال، فينزاح عن مدلوله، ليلامس مدلولاً قائماً أو مستحدثاً. وهكذا يصبح المجاز جسر العبور تمتطيه الدوال بين الحقول المفهومية. فالقضية دائرة على محور الحركة الذاتية إذ يمد المجاز أمام الفاظ اللغة جسوراً وقتية، تتحول عليها من دلالة الوضع الأول إلى دلالة الوضع الطارئ"(1)، ومما عرّبه المحدثون من الالفاظ الاجنبية مجازاً:

أ - تعريب كلمة (الأسانسير) بالمصعد، وكلمة (صالون) بالبهو، وكلمة (بنسيون) (بالمثوى).

ب - تعريب كلمة (راديو) بمذياع وكلمة (مكروفون) بمجهاز.

3- النحت: تُعدّ ألية النحت إحدى التقنيات التطبيقية لعملية التعريب، وأصلاً من أصول الوضع الصحيحة في اللغة فعّدها بعضهم ضرباً من ضروب الاشتقاق بل ضرورة علمية لنقل حقائق جديدة كانت اللغة العربية في حاجتها، وذلك نظراً لما تحققه هذه الاداة من اختزال في التعبير بغرض السهولة اللفظية وخفة النطق. ونعني بالنحت تشكيل كلمة واحدة (المنحوت) من مجموعة حروف كلمتين أو أكثر (المنحوت منه) يكون بينهما توافق في اللفظ والمعنى، ومن امثلة المعرّبة المنحوتة نجد على سبيل المثال:

- افرو آسيوي نحتا من الكلمتين (افريقيا) و(آسيا)

- بتروكيمياوي نحتا من الكلمتين (بترول) و(كيماوي)

- كهرطيس نحتا من الكلمتين (كهرباء) و(مغناطيس)

***

اعداد: الاستاذ ليلى مناتي محمود

 جامعة بغداد - كلية اللغات

....................

المصادر:

1- قاموس اللسانيات (عربي - فرنسي / فرنسي - عربي، عبد السلام المسدّي، ص44 -45 .

 

ثمةَ كتبٌ يكون لهَا وقعُ الصَّدمة، حين تعيد توجيه الحراك الفكري، نحو غايات تخالف ما اعتاده النَّاسُ من قبل. أظنُّ أنَّ كتابَ جون رولز «نظرية في العدالة» هو واحدٌ من هذه الكتب، فقد أطلق موجاً من النقاش في الفلسفة السياسية، ما زال مستمراً حتى اليوم. وذكر في «غوغل سكولار»، وهو وعاء يجمع الاستشهادات العلمية للباحثين، أنَّ هذا الكتاب قد أُشير إليه أكثرَ من 100 ألفِ مرة في كتب ومقالات محكمة، فضلاً عن مئات الكتب والمقالات التي دارت بشكلٍ أساسي حول نظرية رولز في العدالة. لهذا السبب على الأرجح قال أشدُّ ناقديه، الفيلسوف الأميركي روبرت نوزيك، إنَّ أي كتابة حول العدالة لا بدَّ أن تبدأ من رولز، أو تنتهيَ به أو تدورَ حوله، يمكن أن تتبنَّى رؤية مضادةً تماماً لجون رولز، لكن لا يمكن أن تتجاهلَ تأثيره في حقل الفلسفة السياسية.

أظنُّ أنَّ التأثير الواسع لنظرية رولز يرجع إلى أنها وضعت كي تطبق فعلياً في إطار الحياة السياسية القائمة، ولم تسجن نفسها في المثالية الأخلاقية، كما فعلت نظريات سابقة.

ولأنَّها نظرية سياسية، فقد حصر رولز تطبيقاتها في إطار محلي، أو ما سمَّاه: «مجتمع سياسي حسن التنظيم» ولم يستهدفِ العمل الاقتصادي الدولي. ولتلافي هذا النقص، أصدر رولز كتابه «قانون الشعوب» الذي لم يلقَ الترحيب المتوقع، لأنَّه أهمل – كما أظن - جانب العدالة التوزيعية، الذي تميز به الكتاب الأول. العدالة التوزيعية هي الوسيلة الأكثر فاعلية لجعل الإنصاف قاعدة للنظام الاجتماعي والعلاقة بين الأفراد.

حين طرح رولز رؤيته حول العدالة التوزيعية، ثم العدالة على مستوى عالمي، لم تكن الهجرة بين الدول مشكلة بارزة، خصوصاً لجهة كونها نموذجاً للتوزيع المنصف للثروة، بين المجتمعات المتباينة في الموارد. الواقع أن هذا المفهوم لم يكن محورياً حتى نهاية القرن العشرين. ولذا عولج موضوع هجرة الأيدي العاملة من زاوية حقوق الإنسان في المقام الأول.

مع تفاقم نقص اليد العاملة في الدول الصناعية، خصوصاً بسبب تراجع معدل الخصوبة، وفق ما شرحت الأسبوع الماضي، فإنَّ مسألة الهجرة من الدول الكثيفة السكان باتت عنصراً ضرورياً في أي خطة اقتصادية. لا بد من الإشارة هنا إلى أن الهجرة غير المنظمة، ولا سيما غير الشرعية التي عرفناها منذ 2010 عبر البحر المتوسط، قد ألقت ظلالاً كثيفة، حجبت الجانب الاقتصاديَّ في المسألة، وأبرزتِ التحديات الأمنيةَ والأخلاقية، التي تواجه المجتمعات الأوروبية التي يستهدفها المهاجرون. ولهذا على الأرجح، أمست موضوعاً للتنازع السياسي في هذه المجتمعات.

مع ذلك، فإنَّ العالمَ يحتاج إلى مطالعة شمولية للموضوع، ولا سيما النظر لانتقال اليد العاملة بين الدول، باعتبارها نوعاً من توزيع الثروة بين من يملكها ومن يفتقر إليها. لا بدَّ أيضاً من التشديد على أنَّ المقصود بالثروة هنا ليس المال فقط، فاليد العاملة، سواء أكانت ماهرة أم عادية، هي الأخرى ثروة، بالنظر لقيمتها الاقتصادية في البلدان التي تحتاجها. ولولا وجود قوة العمل المهاجرة، ما تمكنت المجتمعات من ترجمة إمكانات الثروة إلى ثروة فعلية. بل إنَّ الثروة الفعلية مهددة بالتلاشي إن لم يتواصل تحديث الاقتصاد وتعزيز مصادره، ولا سيما قوة العمل الشابة. إنَّ اليدَ العاملة التي تصدرها الدول الفقيرة وسيلة لا غنى عنها لصناعة الثروة والتقدم والرفاه في البلدان الغنية، ولهذا فهي جزء من عملية التوزيع، وإن انتقالها تطبيق فعلي للعدالة التوزيعية على مستوى عالمي.

هذه دعوة للاقتصاديين، للتفكير في مسألة الهجرة كجزء من عملية النمو الاقتصادي والتوزيع المتقابل للحاجات والفرص بين المجتمعات، بدل الاقتصار على التفكير الأمني والحقوقي، وهو ضروري، لكنه قد يحجب جوهر الموضوع، أي ضرورة الهجرة لاستمرار النمو على مستوى عالمي.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

على مر التاريخ، واجه قاده وعلماء التنوير انتقادات وهجمات من الكهنوت الذي راى ان افكارهم تمثل تهديدا لثوابتهم العقائديه وتزعزع تسلطهم علي المجتمع.

وقبل الخوض في تفاصيل المقال، لا بدّ من توضيح ان مصطلح الكهنوت يشير الي اشخاص معينين للقيام بالخدمات والطقوس الدينيه؛ في اليهودية، رجال الدين هم الحاخامات، وفي المسيحية الكهنة، وفي الإسلام يُعتبر الشيوخ رجال دين، مع أن الإسلام لا يعترف بالكهنوت.

حُسم الصراع بين العلم والكهنوت في أوروبا في العصر الحديث لصالح العلم بعد مواجهات عديده مثل محاكمة جاليليو أمام الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى بسبب ادعائه أن الأرض ليست مركز الكون وأنها تدور حول الشمس، وهجمات رجال الدين على نظرية داروين في التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي في القرن التاسع عشر.

في هذا المقال سنعرض ثلاثة أمثلة مهمة للصراع بين الكهنوت والعلم في مصر وهم حسب الترتيب الزمني؛ الدكتور طه حسين، الدكتور لويس عوض، والدكتور نصر حامد أبو زيد.

نبدأ بقصة محاكمة الدكتور طه حسين في عشرينيات القرن الماضي وإصداره كتابًا عن الشعر الجاهلي قال فيه أن كثيرًا من الشعر الجاهلي كُتب بعد ظهور الإسلام لأسباب دينية وسياسية. رفض علماء الأزهر تحليله، معتبرين إياه اعتداءً على الثوابت الدينية، وأرسل شيخ الأزهر آنذاك خطاباً إلى النائب العام يتهم فيه كتاب "في الشعر الجاهلي" بتكذيب القرآن الكريم.

قام بالتحقيق محمد نور رئيس نيابة مصر المعروف بتدينه وثقافته الواسعة. وبعد دراسة شاملة لجميع جوانب القضية، قرر حفظ القضية إدارياً استناداً إلى أحكام دستور 1923 الذي ينص على أن حرية الاعتقاد والرأي مطلقة، ولكل إنسان الحق في التعبير عن رأيه في حدود القانون، وأن الدكتور طه حسين لم يقصد الإساءة إلى الإسلام، وأن ما قاله كان لأغراض البحث العلمي.

وبينما أنصفت النيابة العامة طه حسين وحرية البحث العلمي في عشرينيات القرن الماضي، فإن القانون لم ينصف لويس عوض ونصر حامد أبو زيد في ثمانينيات القرن العشرين، تحت تأثير الفكر الديني السلفي في تلك الحقبة المؤسفة من تاريخ مصرالحديث.

اتُهم الدكتور لويس عوض بمهاجمة الإسلام والتراث العربي بعد نشره كتابه الموسوعي "مقدمة في فقه اللغة العربية" عام 1980 الذي تتطلب عشرين عامًا من البحث الدقيق، واستخدام المنهج العلمي الحديث لدراسة اللغة العربية. اوضح الكتاب أن اللغة العربية هي أحدث فروع اللغات السامية التي انبثقت من شجرة اللغات الأفروآسيوية، وان هناك كلمات كثيره من لغات أخرى في اللغة العربية، وان فكرة اعجاز اللغه العربيه ظهرت بعد الفتوحات الاسلاميه، لدعم تفوق العرب ولغتهم على البلاد التي تم غزوها. أثارت قدسية واعجاز اللغة العربية جدلاً بين الأشاعرة والمعتزلة. اعتبر المعتزلة اللغة العربية لغةً مخلوقةً كسائر اللغات، ودعوا إلى استعمال العقل. في المقابل، رأى الأشاعرة أن اللغة العربية لغةٌ مقدسة، وليست مخلوقةً كسائر اللغات.

رفض مجمع البحوث الإسلامية تحليل الدكتور لويس عوض للغة العربية، وأرسل مذكرة في سبتمبر 1981 إلى مباحث أمن الدولة، طالب فيها بمصادرة الكتاب واستجواب مؤلفه، وحُدِّدَت جلسةٌ في محكمة جنوب القاهرة للتحقيق في هذا الاتهام الذي رفضه محامي لويس عوض وطلب رأي من مجمع اللغة العربية، لأن القضية تتعلق بفقه اللغة العربية، وليس بالدين. إلا أن الأزهر رفض ذلك وأكد أن مجمع البحوث الإسلامية هو الجهة المختصة. رضخت المحكمة لطلب الأزهر تفاديًا لردود فعل غير محسوبه في الشارع المصري في فترة توتر تشهدها البلاد بعد اغتيال انور السادات. وفي ظل هذه الظروف، قضت المحكمة بمصادرة الكتاب، ما جعل مجمع البحوث الإسلامية طرفاً وحكماً في نفس الوقت وهذا انتهكا لأبسط مبادئ العدالة في القانون. علاوة على ذلك فإن حكم القاضي يخالف القانون رقم 10 لسنة 1967 ولائحته التنفيذية لسنة 1975، اللذين لا يعطيان الأزهر بجميع هيئاته أي حق في طلب مصادرة أي كتاب أو عمل فني. وعلق الكاتب يوسف القعيد على الحكم قائلاً إن أسلوب الحكم عفا عليه الزمن، ومنع نشر الكتاب مأساة متكاملة، ولا يمكن معالجة الكتابة بأمن الدولة ولا بمجمع البحوث الإسلامية.

تعرض الكتاب ايضا لانتقادات من المفكرين الإسلاميين، الذين اتهموا لويس عوض بتجاوز حدود النقد الأكاديمي إلى التشكيك في مكانة اللغة العربية كعنصر ديني وثقافي، وان استخدام المناهج الغربية في تحليل اللغة العربية لا يتناسب مع خصوصيتها الثقافية والدينية.

امتد النقد إلى الهجوم الشخصي على الدكتور لويس عوض والسخريه من اسم لويس، الذي له أصول فرنسية، ووصفه بأنه مفكر صليبي، وهذا المصطلح له دلالات عدائية مرتبطة بتاريخ الحروب الصليبية. ومن الشائعات السخيفة ان لويس عوض كتب المقدمة فقط، وأن جميع فصول الكتاب كتبها باحثون من الكنيسة، وعلى رأسهم الأب جورج قنواتي، الراهب الدومينيكي الذي يعد من أهم المفكرين المصريين .

التزم الدكتور لويس عوض بالصمت تجاه النقد والاتهامات قائلاُ قولته الشهيرة " أنا لا أناقش من هم دوني، وليسوا لي أنداداً ”.

على العكس من ذلك، حظي الكتاب بإشادة واسعة من الأكاديميين البارزين في فقه اللغة العربية، الذين اعتبروه موسوعة فكرية ولغوية واسعة. واتفق معظمهم على أن هدف المؤلف ومنهجه هو تطبيق القوانين العلمية الحديثة على اللغة العربية، وليس مهاجمة الدين الإسلامي.

نختتم المقال بقصة الدكتور نصر حامد أبو زيد، الذي حوكم في تسعينيات القرن الماضي، وفقًا لنظام الحسبة، وهو نظام قانوني، يُعطي الحق لأي شخص باللجوء إلى القضاء واتهام أي مسلم بالردة . وهذا أسلوب يخضع للتاويل وتفسير النصوص الدينية بما يتجاوز ظاهرها. وقد تسبب التاويل في اختلافات بين المدارس الفكرية المختلفه، فالمدرسة السلفية تعتمد على التفسير الحرفي الظاهري، وكان لها تأثيرٌ بالغ في محاكمة ابوزيد، ومدرسة الأشاعرة تتبني نهجًا وسطًا بين التأويل والظاهر، ومدرسة المعتزلة التي تتميز باعتمادها على التأويل العقلي للنصوص وفقًا للمنطق والفلسفة.

كانت جريمه الدكتور أبو زيد انه سعى الي تقديم قراءة جديدة للنصوص الدينية، معتمدا علي علم التأويل (الهرمنيوطيقا)، موضحا أن فهم القرآن يجب أن يكون تاريخيًا وسياقيًا، وليس جامدًا أو حرفيًا، وأن النصوص الدينية جزء من المنظومة الثقافية والتاريخية التي نشأت فيها. أدت هذه الأفكار إلى اتهامه بالإلحاد، ورفض ترقيته إلى أستاذ بجامعة القاهرة. وكان للدكتور عبد الصبور شاهين، عضو اللجنة العلمية التي راجعت أبحاث أبو زيد للحصول على الأستاذية، والخطيب بجامع عمرو بن العاص، دورٌ رئيسي في اتهام أبو زيد بالإلحاد وتشويه سمعته في الشارع المصري. وادي ذلك الي رفع دعوى ”حسبة“ تتهمه الدكتور ابوزيد بالردة عن الإسلام ووجوب طلاق زوجته. وفي 5 أغسطس 1996 أصدرت محكمه النقض برئاسة المستشار محمد مصباح شرابية، حكمًا بتفريق ابوزيد عن زوجته الدكتورة ابتهال يونس، أستاذة الأدب الفرنسي، واستند الحكم إلى الشريعة الإسلامية، ودستور الدولة الذي ينص على أن دين الدولة هو الإسلام، وأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. وفي أعقاب قرار المحكمة، اضطر أبو زيد إلى الفرار من مصر إلى هولندا مع زوجته، حيث واصل أبحاثه الأكاديمية في جامعة ليدن.

بعد سنوات من قضيه الدكتور ابوزيد، شعر النظام القضائي في مصر بهشاشة وثائق الحسبة، ولذلك رفض دعوى الحسبة.

***

بقلم استاذ دكتور سامح مرقس

في البدء كانت الفكرة.. ومن قال إن الفكرة ولدت صدفة؟

إنها الشرارة الأولى التي توقظ فينا رغبة السؤال، وتفتح في جدار العادة نافذة على المجهول. تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها كالماء حين يلامس الصخر، يبدأ وديعا ثم يشق طريقه عميقا في القلب والعقل معا.

لكن الفكرة، ما لم تتأمل، تظل سطحا لامعا يخفي عمقا مجهولا.

وحين تتأمل الفكرة، تتحول إلى مرآة؛ مرآة لا تعكس وجهك كما هو، بل تعريك من أقنعتك، وتريك ما لا تراه في ضوء العادة.

إنها لا تريك وجهك فحسب، بل ما وراء وجهك، ما تحاول إخفاءه عن نفسك قبل غيرك.

تُريك ما لم تكن تريد أن تراه، وتجبرك على أن تصبر ما لم تكن قادرا على تسميته.

إنها لحظة صادقة بينك وبين ذاتك، حين يتوارى الضجيج، ويعلو صوت الوعي الهامس: “من أنت؟ وما الذي يراك وأنت تفكر؟”.

في المرآة يبدأ الانكشاف، تسقط الصور المصطنعة، وتتهاوى الأقنعة التي طالما احتميت بها. تدرك فجأة أن المعرفة ليست إضافةً لما تعرف، بل انتزاعًا لما توهّمت أنك تعرفه.

ليس الانكشاف معرفة جديدة، بل سقوط الحجب التي كانت تفصل بينك وبين ما هو قائم فيك منذ الأزل.

تكتشف أن ما كنت تراه خارجك كان صدىً لما في داخلك، وأن ما كنت تحاربه في الآخرين لم يكن إلا امتدادا لظلك الشخصي.

في لحظة الانكشاف تلك، يصير العالم كله مرآة ممتدة، ويصير الوعي نافذة تطل على ما وراء الظاهر

هناك، في صمت الانكشاف، يولد الخوف والدهشة معا؛ الخوف من الفراغ، والدهشة من اتساعه. لكن الوعي لا يكتمل إلا عبر التجرد. ذلك المعبر الصعب، الذي لا يقطع بالمعرفة وحدها، بل بالتحرّر منها.

والتجرد هو أن تخلع عنك ثياب المفاهيم والعقائد والتصنيفات، أن تنزل إلى جوهر الوجود عاريًا إلا من الصدق. هو لحظة الفناء الجميل، حين تسلم نفسك لعري الفهم، وتترك عنك كل تعصب وانتماء، كل فكرة مسبقة أو هوية مكتسبة. التجرد ليس إنكارا للذات، بل تحرر منها لتبلغ حقيقتها الأولى، كالنهر حين ينساب إلى منبعه ليجد ذاته في الأصل.

ثم تأتي المواجهة، وهي أعنف المراحل وأجملها. مواجهة الذات حين ترى نفسها بوضوح تام، بلا زخرف ولا أعذار. تسقط الأقنعة، وتبقى أنت أمام حقيقتك المجردة. عندها تفهم أن الوعي ليس راحة بل امتحان، وأن الحقيقة لا تمنح نفسها إلا لمن يملك الشجاعة على النظر في هاويته الخاصة.

وعند المواجهة تبلغ الوعي ذروته: مواجهة الذات بالذات، والوعي بالوعي، والنور بالظل. هناك لا مهرب، لأنك تنظر في أعماقك بعيون الحقيقة، وتدرك أن كل ما حولك لم يكن إلا إسقاطا لما فيك.

وحين تصمد أمام المواجهة، تتجلى الحقيقة. لا كفكرة تضاف إلى أفكارك، بل كحضور يشملك، كنور لا يرى بالعقل وحده، بل يحس بالقلب الذي تطهر من زيفه. عندها، لا تعود تبحث عنها خارجك، لأنها تصير أنت… وأنت تصيرها

وحين تمرّ النار ويصفو المعدن، تتجلى الحقيقة. لا كفكرة في كتاب، بل كحضور يملؤك. تدرك أن الوعي ليس غاية، بل عودة: عودة إلى النور الأول الذي انبثق منه كل شيء. هناك، في تلك اللحظة، تصمت الكلمات، لأن الحقيقة لا تقال، بل ترى... تعاش... تصبح أنت.

هكذا هو مسار الوعي: فكرة توقظ، فمرآة تكشف، فانكشاف يطهر، فتجرد يحرر، فمواجهة تنقي، فحقيقة تتجلى.

رحلة من الظاهر إلى الجوهر، من الكلمة إلى الصمت، ومن الإنسان إلى ما يتجاوز الإنسان. وحين يكتمل المسار. تخفت الأصوات في الداخل.

وتتراجع الأسئلة التي كانت تملأ الأفق ضجيجا.. يكتشف الإنسان أنه لم يكن يسير نحو الحقيقة. بل كانت الحقيقة تسير نحوه منذ البدء. تنتظر لحظة استعداده لأن يراها. هناك، في أعمق نقطة من الصمت، يدرك أن الفكرة كانت سلما، والمرآة كانت امتحانا.. والتجرد عبورا. والمواجهة ولادة ثانية.

وفي النور الأخير، لا يعود الوعي سعيا ولا معرفة، بل حالة حضور كاملة، يشعر فيها الإنسان أنه لم يعد شيئا منفصلا عن الوجود، بل صار هو الوجود نفسه —هادئا، صافيا، أبديا، كأن الحقيقة لم تكن سوى نفسه وقد أشرقت أخيرا.

***

ابتهال عبد الوهاب - مصر

 

مفتتح: يمثل النقد الفلسفي ممارسة معرفية جوهرية قوامها الاستجواب المنهجي والفحص الدقيق للافتراضات الكامنة والبنى المعرفية. غير أن هذه الممارسة تواجه انحرافاً نظامياً معاصراً حيث تتحول من فعل بنائي موجه نحو الكشف عن الحقيقة إلى أداة تفكيكية موجهة نحو الهيمنة والإقصاء.

هنا تتحدد الإشكالية المحورية في السؤال الإبستيمولوجي الآتي: كيف يمكن للنقد، الذي يستمد شرعيته من الرغبة في الاستكشاف المشترك للحقيقة، أن ينقلب إلى آلية للتدمير الرمزي والنفي الكلي للآخر المعرفي؟

هذا التساؤل يعكس توتراً أساسياً يخترق التراثين الفلسفيين الغربي والإسلامي على السواء، كاشفاً عن التناقض بين الحافز المعرفي النزيه والنزعات الذاتية التي قد تفسد المسار النقدي.

 حول الانحراف النقدي

لاحظ الفيلسوف والمنطقي ماريو بونج (Mario Bunge) تمييزاً أبستيمولوجياً جوهرياً بين طبيعة الممارسة النقدية في حقل العلوم الطبيعية حيث يسود النقد البنائي التشاركي، وفي الحقول الإنسانية حيث يميل النقد نحو التفكيكية المحضة. هذه الملاحظة، وإن كانت قابلة للمناقشة، تحيل إلى حقيقة بنيوية تتعلق بطبيعة الكائن المعرفي ذاته: في المجالات العلمية يقبل الباحثون مقدمات معيارية مشتركة حول الحقيقة والبرهان، بينما في المجالات الإنسانية يتنازع المفكرون حول المقدمات الأساسية ذاتها، مما يحول النقد إلى صراع إيديولوجي حول الشرعية المعرفية والسلطة التفسيرية.

لقد عرف الفكر الإسلامي الكلاسيكي، وخاصة عبر منهجية الإمام الغزالي (Al-Ghazali)، نموذجاً متطوراً للرد الفكري يتجاوز هذا الانحراف. في كتابه "تهافت الفلاسفة"، لم يكتفِ الغزالي بتفكيك الموقف الفلسفي، بل سعى إلى استعادة التناسق المنطقي والاتساق المفاهيمي من خلال الاعتراف بقيمة الافتراضات الأساسية للخصم. وهذا يشير إلى أن الانحراف النقدي لا ينجم عن حتمية بنيوية بل عن الانحراف الأخلاقي عن الغاية الأساسية أي تحول الباعث من السعي المشترك للحقيقة إلى الرغبة في الانتصار الإيديولوجي.

وبالتالي ينكشف الانحراف على ثلاثة مستويات متشابكة: أولاً، على مستوى الخطاب الإبستيمي، حيث يفترض الناقد موقع اليقين المطلق دون الانفتاح على إمكانية مراجعة فرضياته الخاصة؛

ثانياً، على المستوى الأنطولوجي، حيث يُقصى الآخر من دائرة الذات المعتبرة، محولاً إياه إلى موضوع مجرد من الكينونة الفاعلة؛

ثالثاً، على المستوى الجدلي، حيث تتلاشى إمكانية الحوار المتبادل وتحل محله ديناميات الخصومة و التسقيط.

تأسيس الممارسة النقدية

لإعادة توجيه النقد نحو مساره النزيه، يتطلب الأمر استعادة المعايير الأخلاقية والإبستيمولوجية التي تحكم الممارسة النقدية الرشيدة. تتمثل هذه المبادئ في:

مبدأ سلامة الباعث الإبستيمي: يقتضي هذا المبدأ افتراضاً أولياً بصدق الخصم وصحة اهتماماته المعرفية، مع السعي الجاد لفهم السياق الإدراكي الذي يوجه فكره. لا يعني هذا التساهل مع الأخطاء الظاهرة، بل تعميق النقد من خلال البحث عن شروط إمكانيتها وأساسها المنطقي. هذا النهج يميز بين رفض الفكرة ورفض الفاعل المعرفي.

مبدأ الاعتراف المتبادل: وفقاً لجدلية الاعتراف عند هيغل (Hegel)، لا يمكن للنقد أن يحقق غايته الحقيقية إلا إذا اعترف بالآخر كذات فاعلة متساوية في الحقوق المعرفية، وليس كموضوع سلبي للمحاكمة. هذا يستدعي قبول قيمة الاختلاف الفكري كفرصة للنقاش المتبادل.

مبدأ التعدد الإبستيمي: يقتضي هذا المبدأ الاعتراف بشرعية التقاليد المعرفية المختلفة والمستقلة. الفكر الإسلامي الكلاسيكي والحضارات الأخرى لم تكن نسخاً ناقصة من الحداثة الغربية بل تمثل رؤى معرفية متكاملة ومستقلة. إدوارد سعيد (Edward Said) في كتابيه " الاستشراق" و "الثقافة و الامبريالية" أظهر كيف أن النقد المنحرف يمارس شكلاً من الاستعمار المعرفي حيث يُختزل الآخر إلى موضوع دراسة يحكمه منطق الهيمنة.

مبدأ المنهج الموضوعي: يتطلب النقد الرشيد الفصل بين الحجة الموضوعية والهجوم الشخصي. إن استخدام حجج وتقنيات الإذلال الرمزي لا يضعف الموقف المعارض فقط، بل يفقد النقد ذاته شرعيته المعرفية. قال كارل بوبر (Karl Popper) إن صرامة النقد الذاتي للعالم يجب أن تسبق أي نقد موجه للآخر.

 الممارسة النقدية بين الحقيقة والسلطة

اشار ميشيل فوكو (Michel Foucault) إلى أن النقد المنحرف غالباً ما يكون تعبيراً عن صراع على السلطة المعرفية أكثر من كونه بحثاً عن الحقيقة. عندما يتحول النقد إلى أداة للهيمنة، يفقد صلته بالوظيفة الأساسية للفكر النقدي: تحرير الوعي من الأوهام والتحيزات. والفيلسوف الفرنسي بول ريكور (Paul Ricoeur) أكد على ضرورة ما سماه "الفهم المتبادل" بين التقاليد المعرفية المختلفة، حيث يتعاون الطرفان على توسيع آفاق الفهم بدلاً من محاولة فرض أحدهما رؤيته على الآخر.

ومن الأهمية بمكان ان جوهر الممارسة النقدية الرشيدة في إدراك أن النقد والنقد الذاتي عمليتان جدليتان متلازمتان، ما دام الناقد يتهم غيره بالخطأ دون أن يخضع موقفه هو نفسه للفحص المستمر، فإنه يتجاهل الطبيعة الانعكاسية للمعرفة الإنسانية. هذا هو ما يميز النقد البنائي عن النقد الاستدماري: الأول يعترف بحدود معرفته ويسعى للتعاون، الثاني يدعي المعرفة المطلقة ويسعى للهيمنة.

 نحو ممارسة نقدية تعاونية

لابد من تأسيس الممارسة النقدية على أسس معيارية سليمة تتطلب تحولاً جذرياً في الفهم: من النقد كممارسة سلطوية إلى النقد كممارسة تحاورية تعترف بتعددية المسارات المعرفية. هذا لا يعني التخلي عن الدقة أو الصرامة الفكرية، بل إعادة توجيهها نحو البناء المشترك و التعاوني للمعنى.

فالحكمة الفلسفية العملية (phronesis)، سواء أكانت يونانية الأصل أم إسلامية في صيغتها (hikma)، تقتضي القدرة على التمييز بين الحجة الموضوعية والهجوم الإيديولوجي، وبين الاختلاف الفكري والعداء الشخصي.

في ظل واقع يعج بالانقسامات والصراعات الفكرية، تبرز الحاجة الملحة إلى إعادة استكشاف معايير النقد الأخلاقية والإبستيمولوجية.

فكانط (Immanuel Kant) دعا إلى استخدام عقلنا بشجاعة دون موجه؛ لكن هذه الشجاعة يجب أن تقترن بالتواضع المعرفي والاعتراف بأن الحقيقة لا تملكها جهة او مدرسة او جماعة او فرد دون ٱخر، بل هي ثمرة حوار مستمر بين الذوات المعترف بها فيما بينها.

***

بقلم: أ. مراد غريبي

في الطابع العملي للتفكير الناقد

كثيرا ما أرى أن هناك انطباعا يترسخ في أذهان الكثيرين من الناس، مفاده أن الفلسفة مجال نظري منفصل تماما عن الواقع الذي يعيشونه، أو بالأحرى لا علاقة لها بمشكلات الحياة اليومية مطلقا. غير أني أكاد أجزم - بناء على تأملي - بأن القراءة المتأنية في موضوع التفكير الناقد، بوصفه أحد الموضوعات المهمة في الفلسفة، قد كشفت لي عن أمر مغاير تماما لما يعتقده هؤلاء الناس؛ إذ تتمحور قناعتي في أن الفلسفة لا تقتصر على التنظير المجرد كما يتوهمون، بل تهتم – في جوهرها – بتمكين الإنسان من التفكير السليم، واتخاذ الحكم الرشيد، والتعامل الواعي مع الأدلة والحجج.

ومن هذا المنطلق، أرى أن التفكير الناقد يمكن أن يصبح ممارسة إنسانية لا يقتصر وجودها على المتخصصين في الفلسفة فحسب، بل تتجلى - بدرجات متفاوتة - في كل إنسان يستخدم عقله في فهم ما حوله.

ولعل ما يؤكد ما أزعمه أننا لو نظرنا إلى الرجل العادي لوجدناه يربط بين ظاهرة وأخرى، أو يفسر موقفا بناء على قرائن، فيمارس نوعا من الاستدلال العقلي، حتى وإن لم يدرك أنه يستخدم بنية التفكير الفلسفي نفسها. والجدير بالذكر أن أبرز تجليات التفكير الناقد يمكن أن تظهر بوضوح في بعض المهن التي تتطلب تحليل الأدلة، واستنتاج النتائج، وتفنيد الاحتمالات، ولعل من أبرزها مهنة رجال الشرطة؛ أي مهنة التحري من أجل التوصل إلى كشف ملابسات الجريمة.

وهذا يعني أنني أريد أن أقول إننا لو نظرنا إلى رجل الشرطة، فسوف نجد أنه يشبه الفيلسوف الذي يتفلسف تفلسفا عمليا. وبكل تأكيد، عندما يسمع البعض حديثي، سيسارعون إلى التساؤل: كيف يحدث ذلك؟ وسؤالهم هذا - في حقيقة الأمر - نابع من إغفالهم لأهمية الفلسفة، لا من خطأ في الفكرة ذاتها.

ومهما يكن من أمر، فإنني أرد على المتسائل قائلا: إننا كثيرا ما نسمع أحد رجال الشرطة يقول بثقة: "وضعت خطة متخرّش الميّة حتى وصلت للمجرم." ومن يتأمل هذه العبارة يجدها في حقيقتها تصف عملية استدلال فلسفية متكاملة؛ إذ يبدأ رجل الشرطة بجمع المعطيات (الملاحظات)، ثم يصوغ منها فرضيات، ويختبرها في ضوء الوقائع، ويستبعد الفروض التي لا تصمد أمام الأدلة.

وهذا هو ما نسميه في الفلسفة استخدام العقل بطريقة ناقدة في صورته الأنقى: عقل لا يقبل بالظاهر، بل يفتش في الأعماق، ويزن الأقوال بالأفعال، والنية بالنتيجة.

وبالتالي، إذا تأملنا سير عمل المحقق أو رجل الشرطة، لوجدناه يتبع الخطوات نفسها التي يسير عليها الفيلسوف أو المنطقي:

1-  الملاحظة الدقيقة للوقائع.

2-  صياغة فرضيات تفسيرية متعددة.

3-  اختبار الفرضيات بالأدلة الواقعية والمقارنة بينها.

4-  الوصول إلى استنتاج مبرر، مبني على الترجيح العقلي.

هذه هي المراحل نفسها التي يقوم عليها التفكير الفلسفي الاستدلالي. فالشرطي - من حيث لا يدري - يمارس ما يعرف في الفلسفة بـ"المنهج الاستنباطي" عندما يفسر السلوك بناء على قواعد عامة، و"المنهج الاستقرائي" حين يشرع في بناء قاعدة عامة من خلال تتبع الجزئيات.

ومن ثم يمكننا أن نتعلم من هذا التقاطع أن التفكير الناقد، كما تكشفه هذه المقارنة، ليس نشاطا تجريديا، بل أداة لفهم الواقع واتخاذ القرار السليم. وإن رجل الشرطة الذي يمارس الاستدلال للوصول إلى الحقيقة، والفيلسوف الذي يمارس النقد لاختبار صدق الفكرة، كلاهما يجتهد في خدمة قيمة واحدة: الحقيقة. وإذا كانت الفلسفة قد منحتنا الإطار النظري للتفكير الناقد، فإن التطبيق الميداني في حياة الناس - كعمل رجال الأمن أو القضاء أو الطب وغيرهم - يبرهن على أن الفلسفة حاضرة في تفاصيل الحياة، حتى وإن غابت تسميتها.

لذلك، وفي خاتمة رؤيتي وتأملي الشخصي، أوصي ببعض التوصيات، وأنا على علم تام بأن كثيرا من المؤسسات قد بدأت بالفعل بالاهتمام بالتفكير الناقد منذ فترة؛ غير أني أعيد التأكيد على ضرورة تضمين مهارات التفكير الناقد في التعليم المهني، وخاصة في كليات الشرطة والقانون والإعلام، بحيث يدرك المتدربون أن التفكير العقلي المنظم هو أداة نجاحهم الأساسية. كما أوصي بالربط بين الفلسفة والممارسة العملية في المناهج الجامعية، لتجاوز الصورة النمطية عن الفلسفة بوصفها ترفا ذهنيا، وإبراز بعدها التطبيقي.

وأدعو كذلك إلى تشجيع البحوث البينية التي تربط بين علم الفلسفة ومجالات مثل علم الجريمة والتحليل السلوكي، لإثراء فهمنا لآليات التفكير في الممارسة الواقعية. وأخيرا، ينبغي نشر ثقافة التفكير الناقد في المجتمع عبر الإعلام والتعليم، لترسيخ قيم التريث، والتحقق، واحترام الدليل.

خلاصة القول: إن التفكير الناقد، في جوهره، ليس ملكا للفلاسفة وحدهم، بل هو ملكة إنسانية يعيش بها الإنسان بوصفه كائنا عاقلا حرا. ومن ثم يمكنني القول بكل اطمئنان: إذا كان الفيلسوف يبحث عن الحقيقة في الكتب، فإن رجل الشرطة يبحث عنها في مسرح الجريمة، وكلاهما - في نهاية المطاف - يسيران في طريق واحد، هو المنهج الذي يتبعه العقل في بحثه عن إدراك الحقيقة كما هي (الصدق) ومحاولة فهم مغزى الوجود والأفكار والقيم (المعنى) بوصفهما غاية المعرفة والتفكير الفلسفي.

***

د. علي الخطيب - مصر

 

إن الإستشارة الفلسفية بصيغتها المعاصرة هي تطويع النظريات والمناهج الفلسفية، لمعالجة مشكلات الإنسان والمجتمع المعاصرة، وهي مد يد العون للإنسان المعاصر لتجاوز مشكلاته الفكرية وأزماته الوجودية التي لايستطيع حلها بمفرده،  فيلجا الى مستشار فلسفي ذو خبرة في الفلسفة، ليساعده في إيجاد الحلول المناسبة لها، وهو ممارسة فلسفية تقدم للأفراد والجماعات والمؤسسات والشركات، وإن الإستعانة بالإستشارة الفلسفية هو تحول نحو الحكمة وإرتباطها بالمعنى، والتوجه المستقبلي، ورؤى الحياة، ونطاق الأفكار أو القناعات، وهدف هذا التحول هو مساعدة الإنسان على تطبيق الرؤى  التي يكتسبها عن نفسه  بشكل عملي على الصورة الشاملة لحياته، لدمج كل الرؤى في نظرة متماسكة وعملية للحياة،  تساعده في في تجاوز مشكلاته وعدم الوقوع فيها من جديد، وهي ليست علاحأ للمرضى بل هي علاج للإصحاء الذين يعانون من مشكلات حياتية، فإذا كان جذر مشكلتك فلسفيًا، فلن يمنحك أي دواء في صيدلية راحة دائمة، فالشفاء يتطلب تغيير العالم الخارجي وإطار المعنى، بالإضافة إلى تفسير الأحداث، ويتطلب الشفاء أكثر من مجرد الإنصات والتحدث بتعاطف (التعبير اللفظي)، بل يتضمن أيضًا تغييرات نموذجية وتنمية موقف فلسفي عملي تجاه وضع الإنسان، فبدلًا من الخوض في سؤال: كيف تشعر؟ تطرح الاستشارة الفلسفية الأسئلة التالية: ما هو إطارك لحياة ذات معنى؟ ما المعنى أو الهدف أو القيمة المُتضمنة؟ ما الذي يدفعك لاتخاذ قرار بشأن اتجاه محدد للغاية أو هدف محدد؟ كيف تتخيل النتيجة المحتملة وما هي الخيارات الواقعية؟ ما هي العوامل التي تمنعك من التصرف وفقًا للهدف النهائي؟ ما الذي ترجوه؟، ولا يمكن فصل كل هذه الأسئلة عن سياقها الفلسفي، الذي تحدده مخططات التفسير وأنماط التفكير المختلفة، إن نماذج الإستشارة الفلسفية وطرق الإرشاد الفلسفي المختلفة والمتنوعة، هدفها تطويع الفلسفة لتصبح إسلوب حياة، يساهم في حياة أفضل ويسعى الى وصول الإنسان المعاصر الى الهدوء والسكينة، ويقدم له العون لإكمال حياته والمضي قدماً وتجاوز الأزمات.

يمكن وصف الاستشارة الفلسفية بأنها إهتمام بتعزيز رفاهية الإنسان، وهي تفسير و استقصاء فلسفي ومتسامٍ في نظرية الشخص أو نموذجه أو رؤيته للعالم، وتحديدًا إيجاد حلول للمشكلات الفكرية، والمعاناة الإنسانية وفي هذا يأتي توجهّ الاستشارة الفلسفية بوصفها أسلوبًا لمساعدة الناس على العيش والنظر إلى العالم بواقعية أكثر، ويهدف إلى الجمع بين تطوير إسلوب حياة الشخص بالفعل، وبين طرق الحياة الفلسفية التي يمكن ان يسترشد بها لعلاج ازماته في المجتمع المعاصر من جهة أخرى، جيث إن أهمية الاستشارة الفلسفية  تكمن في الرعاية والعون الذي تستطيع أن تقدمه للإنسان في تجاوز أزماته الفكرية والوجودية، أي  أنها  تساعد الشخص على التدريب على طرق العيش السعيد وهي (النهج المتفائل)، الذي يمنح خيارات لغرس أملٍ حيّ في حياة واقعية من وجهةٍ نظر فلسفية.

إن الإرشاد الفلسفي،  يدعو الى تغيير الإفكار السلبية للإنسان، وتغيير نظرته للحياة، من خلال التركيز على الجوانب الإيجابية، وتطويرها، فهو يدعو الى تغيير الأفكار النمطية، وتحفيز التفكير النقدي الإبداعي، وهو الأسلوب الذي يُفسر به المرء تحديات الحياة  التي يعاني منها ويحاول مواجهتها والتغلب عليها، وفي هذا الصدد يستكشف الإرشاد الفلسفي فن عيش الحياة اليومية بسلام وطمأنينة، واتخاذ القرارات الحكيمة، إن الإرشاد الفلسفي تطبيق عملي لما كان في معظمه مسعى أكاديمي، ورعاية وعلاج لمشكلات الإنسان والمجتمع بطريقة فلسفية معاصرة تهدف إلى التعامل مع ما يُهم الناس فعليًا في حياتهم اليومية، وإعادة ترسيخ النظريات الفلسفية  كأداة مفيدة لممارسة فلسفية أسمى، وهي  فن عيش الحياة بحكمة وإتقان.

***

شيماء هماوندي - أستاذة الفلسفة والعلاج الفلسفي

أربيل/ جامعة صلاح الدين/ كلية الآداب/ قسم الفلسفة

إن تعزيز الثقافة العلمية يعني ترسيخ قيم العلم وأساليبه في نسيج المجتمع، وجعل فهم العلوم متاحاً للجميع. وتساهم الثقافة العلمية في مكافحة المعلومات المضللة، وتساعد الناس على التمييز بين الحقائق القائمة على الأدلة والعلوم الزائفة أو نظريات المؤامرة. كما أنها تساعد المواطنين على اتخاذ قرارات مستنيرة في مجالات مختلفة مثل الصحة والبيئة والتكنولوجيا. إضافةً الي ذلك، فهي تعزز الفضول الفكري وتشجع التفكير النقدي وتُهيئ المواطنين للتعامل بشكل أفضل مع تحديات الحياة.

يمكن نشر الثقافة العلمية بفعالية بطرق متنوعة، مثل استخدام القصص لجعل الأفكار المعقدة مفهومة. كما أن دمج العلوم في الأفلام والألعاب والفنون البصرية يساعد في الوصول إلى جمهور أوسع. وتُعد المحاضرات والمهرجانات والمشاريع العلمية التفاعلية أدوات قيّمة في هذا الصدد أيضًا. علاوة على ذلك، فإن ترجمة الكتب المهمة حول الثقافة العلمية وحياة العلماء الذين حققوا إنجازات علمية كبيرة، مثل نيوتن وأينشتاين وداروين وغيرهم، إلى اللغات المحلية يساعد على تعزيز الاهتمام بالمعرفة العلمية.

إن نشر الثقافة العلمية لا يقتصر على الحقائق فحسب، بل يشمل أيضاً بناء رؤية موضوعيه تُقدّر الأدلة، وتتقبل الشك، وتسعى إلى الحقيقة من خلال البحث عن مصادر المعرفة العلمية والثقافية والفلسفية مع استخدام التحليل النقدي.

إن أفضل الأشخاص لنشر الثقافة العلمية ليسوا العلماء أنفسهم، بل هم الكتاب والمترجمون المتخصصون في نشر المعرفة العلمية وجعل العلوم في متناول الجميع. يلعب المعلمون أيضًا دورًا مهمًا في تشكيل عقول الشباب، وغرس حب الاستكشاف لديهم، وتشجيعهم على استخدام التفكير العلمي في سلوكهم اليومي. أما الصحفيون، فعليهم دمج الثقافة العلمية في الخطاب العام، ومواجهة المعلومات المضللة، وتوضيح الطابع الإنساني في الاكتشافات العلمية.

يلعب الفنانون أيضًا دورًا مهمًا في نشر المعرفة العلمية من خلال الرسوم التوضيحية البسيطة للمفاهيم العلمية المعقدة، والأعمال الدرامية التي تصور حياة العلماء والمفكرين العظماء.

يجب على المثقفين ربط العلم بالفلسفة والأخلاق والتغيير الاجتماعي لما فيه مصلحة الجمهور. وينبغي على السياسيين والمنظمات غير الحكومية ضمان استخدام العلم في عملية صنع القرارت المتعلقة بالصحة والمناخ والتكنولوجيا.

ينبغي استخدام أسلوب لغوي واضح وسهل الفهم عند نشر المعلومات العلمية لبناء الثقة مع الجمهور وإثارة فضولهم. قال عالم الفيزياء الأمريكي ريتشارد فاينمان، المشهور بتدريس الفيزياء بطريقة تأسر الطلاب "تزدهر الثقافة العلمية عندما لا يُنظر إلى المعرفة على أنها مجرد أداة نفعية، بل كبوابة لفهم أعمق للكون".

إن العلاقة بين نشر الثقافة العلمية وتنوير المجتمع عميقة ومؤثرة. لا تقتصر الثقافة العلمية على الحقائق والمعادلات فحسب، بل تشمل أيضًا تنمية عقلية متجذرة في العقل والبرهان والفضول والتفكير الأخلاقي. عندما تتغلغل هذه الثقافة في المجتمع، فإنها ترسي الأساس لشكل حديث من أشكال التنوير. تعمل الثقافة العلمية على تعزيز التنوير المجتمعي من خلال تنمية التفكير النقدي والتشكيك، وتعزيز الاستقلال الفكري، واستبدال الخرافات بالفهم القائم على الأدلة.

تشجع الثقافه العلميه التواضع، والقدرة على التكيف، والتقدم من خلال التصحيح الذاتي. كما توسع الآفاق إلى ما هو أبعد من الرؤى المحلية أو القبلية، نحو وعي عالمي وكوني، وربط المعرفة بالمسؤولية الاخلاقيه.علاوه علي ذلك تؤدي الثقافه العلميه الي دمقرطة المعرفه، وتمكين المواطنين من المشاركة في تشكيل مستقبلهم.

يُوضح التاريخ أهمية الثقافة العلمية وكيف ازدهرت أوروبا تحت تأثير الثورة العلمية بعد أن عانت من التدهور خلال العصور الوسطى، عندما تم قمع البحث الحر بسبب القيود الدينية والاجتماعية. وقد اعتمد رواد عصر التنوير في أوروبا على المبادئ العلمية لتحدي النظام الملكي والسلطة الدينية والظلم الاجتماعي، وشجعوا على استخدام العقل ومقاومة المعلومات المضللة واحتضان التعددية والحرية الفكرية.

من بين أهم الثورات العلمية في التاريخ الأوروبي، نذكر الثورة الكوبرنيكية التي نقلت مركز الكون من الأرض إلى الشمس؛ والثورة الداروينية التي نقلت البشر من قمة ميتافيزيقية إلى موقع عضوي داخل الطبيعة، وان الإنسان ليس مخلوقاً متفرداً في جوهره، بل نتيجة لسلسله من التطورات تشاركه فيها الكائنات الحية الأخرى؛ والثورة الفرويدية التي كشفت عن محدودية قدرة الذات على التحكم في أفعالها وأفكارها. وقد غيّر هذا المنظور مفاهيم الإرادة الحرة والمسؤولية الأخلاقية ومعنى الهوية الإنسانية.

اوضح فيلسوف العلم كارل بوبر ان العلم ليس استقراء بل استنتاج نقدي، أي أننا نصوغ فرضية عامة ثم نختبرها بالتجارب، فإذا صمدت زاد قبولها، وإذا انهارت نستبدلها. وما يميز

العلم عن اللاعلم انه قابل للاختبار والتكذيب بينما التفسيرات الغير علميه مثل التنجيم أو التحليل النفسي غير قابلة للتكذيب، وان معيار العلم ليس "التحقق" بل "القابلية للتكذيب”. العلم عند بوبر ليس عملية تراكم يقيني، بل هو سلسلة من المحاولات الجريئة التي تخضع للنقد والاختبار. وهكذا فإن التقدم العلمي مشروط بالإقرار بإمكانية الخطأ والانفتاح على التصحيح المستمر. وللعلم دور مزدوج: فهو يهدف إلى تفسير الظواهر الطبيعية وايضا التحكم فيها. ويستخدم العلم الرموز والمعادلات كوسيلة لتوصيل المعرفة بدقة.

في الختام، الثقافة العلمية هي محرك التنوير الحديث، فهي لا تقتصر على إنارة العالم فحسب، بل تعلمنا أيضًا كيفية الاستمرار في طرح أسئلة أفضل في عصر تغير المناخ وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، والتحديات الصحية العالمية.هذه الثقافة ليست ترفاً، بل ضرورة. كما أنها تُظهر أن العلم لا يقتصر على تفسير الظواهر فحسب، بل يغير أيضاً الصورة الذاتية للانسان وتصوره لمكانته في العالم.

والتفكير العلمي كما قال الدكتور خالد منتصر مزعج للأشخاص الكسالى الذين يريدون حلولاً جاهزة تسقط عليهم من السماء، ولكنه مبهج لأولئك الذين يستمتعون بطرح الأسئلة ويسعون جاهدين لصياغتها وحماية من يطرحونها.

***

بقلم استاذ دكتور سامح مرقس

استاذ الاشعه التشخيصية السابق، جامعه شفيلد، انجلترا

 

ان الانسان كثيرا ما ينخدع ببريق المعرفة الشكلية مئات الكتب التي يقرأها او الشهادات الممهورة باختام جامعات عريقة او المكانة الاجتماعية التي يحوزها او المنصب الوظيفي الذي يتكئ عليه غير ان كل هذه المكاسب تظل بلا قيمة حقيقية اذا لم تتحول الى جوهر يغني الروح ويهذب الضمير ويعمق القدرة على التمييز الاخلاقي والمعرفي والشعوري

المعرفة في ذاتها ليست ضمانا للفضيلة بل قد تكون احيانا حجابا يحجب الانسان عن ذاته اذا لم تصقل بالوعي النقدي ولم تصف بالممارسة الاخلاقية فما جدوى عقل واسع الاطلاع ان كان اسيرا لرغباته الضيقة وانفعالاته اللحظية وما نفع ثقافة مترامية الاطراف اذا كانت عاجزة عن تحرير صاحبها من اسر التعصب والانحياز لقناعات مسبقة لا تفعل سوى اعادة انتاج الجهل في صورة اخرى

ان الامتحان الحقيقي لكل ما يراكمه الانسان من معرفة يكمن في مدى قدرته على بناء انسان اكثر عدلا ورحمة اكثر تبصرا وحيادا اقل انقيادا لسطوة الاهواء ومن هنا فان القيمة الاخلاقية والمعرفية لا تستمد من حجم ما نقرأ او ما نمتلك من القاب بل من الكيفية التي تعيد بها هذه المعارف تشكيل وعينا وتهذب بها قدرتنا على الحكم على العالم وتحررنا من ضيق الذات نحو افق الانسانية الرحب

الارتباط بين المعرفة والقيمة الاخلاقية شرطا ضروريا لبناء انسان متوازن يدرك ان المعرفة ليست امتيازا شخصيا يتباهى به بل امانة في عنقه وان الاخلاق ليست شعارات براقة بل ميزان يزن به اختياراته وافعاله. فالمعرفة الحقيقية هي التي تزرع في صاحبها حس المسؤولية والعدل والرحمة والاخلاق الاصيلة هي التي تجعل من العلم جسرا الى خدمة الانسانية لا سلما الي النفوذ والألقاب

واخيرا إن قيمة الإنسان لا تقاس بكم الكتب التي التهمها، ولا بعدد الشهادات الممهورة بختم الجامعات، ولا بارتفاع موقعه الاجتماعي أو لمعان منصبه الوظيفي؛ فكل ذلك يظل أدوات خاوية إذا لم يفضِ إلى جوهر أرقى، يتمثل في القدرة على التمييز الأخلاقي والمعرفي والشعوري

ولهذا تغدو الفلسفة بما هي مشروع نقدي متواصل ليست مجرد ترف عقلي او زخرفة فكرية بل دعوة ملحة لاعادة تعريف انسانيتنا وتذكير دائم بان قيمة الانسان لا تختبر فيما يحفظه بل فيما يصبح عليه.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

ليس من المبالغة القول إنّ سيرة الشيخ محمد عيّاد الطنطاوي تمثّل واحدة من تلك السير التي لا يُدرك معناها إلا بمفعولٍ رجعي؛ إذ لم تعش في وعي زمنها كما تستحق، ولم تُقرأ بعد زمنها كما ينبغي، حتى غدا الرجل ـ على فرط حضوره في البدايات ـ غائباً في نتائج النهايات. ولو أردنا توصيف حاله بمصطلحٍ فلسفي دقيق لقلنا: إنّ التاريخ استخدمه شرطَ إمكانٍ دون أن يمنحه اعتراف النتيجة. والظاهرة حين تُستخدم دون أن تُفهم، تتحوّل إلى مرآة لخلل الوعي الجمعي لا لنقص في صاحبها.

وُلد الطنطاوي سنة 1810م بمدينة طنطا في مصر، ونشأ في بيئةٍ أزهريةٍ مبكّرة، حفظ القرآن صغيراً، وتتلمذ على شيوخ الأزهر حتى تشرّب علوم العربية والفقه والمنطق، في زمنٍ كان يقف على العتبة الفاصلة بين الدولة المملوكية الراحلة ومشروع محمد علي التحديثي. فتكوّن وعيه في لحظةٍ انتقالية لم ينكسر فيها التقليد بعد ولم تكتمل شرعية التجديد، فحمل سمات العالم الكلاسيكي بعقلٍ مفتوحٍ على أسئلة الحداثة.

لكنّ الحدث الذي حوّل مساره من فقيهٍ محلّي إلى مفصلٍ حضاري لم يكن كتابًا ألّفه، بل استدعاءً معرفيًا نادرًا، حين طلبت روسيا من مصر إرسال عالمٍ يعلّم العربية في جامعاتها، في زمن كانت فيه الإمبراطورية تبحث عن الشرق لا لتغزوه بل لتفهمه. فدخل الطنطاوي بطرسبرغ لا بوصفه مبعوث الشرق التائق إلى الاعتراف، بل بوصفه المعلّم الذي تستدعيه قوّةٌ كبرى لتبني من علمه صورة الشرق في وعيها. وبهذا تحوّل من فردٍ في مؤسسة إلى حدثٍ إبستمولوجي يؤشّر إلى لحظة نقلت العرب من موقع المجهول إلى موقع المعلوم في المخيال الأوروبي.

ولم يكن حضوره في روسيا حضوراً فولكلوريًا بلباسٍ ولهجة، بل حضور العالم الذي يحمل منهج الأزهر ذاته إلى فضاءٍ أكاديمي أجنبي. وبذلك كسر الطنطاوي الحلقة التي كانت تجعل الغرب يقرأ الشرق بأدواته هو، فصار الروس يتلقّون العربية من لسان عالمٍ عربيٍ أصيل. ومن زاوية النقد ما بعد الكولونيالي، ومثّل هذا انتقالاً نوعياً، فالمستشرق لم يعد المصدر الوحيد للمعرفة عن الشرق، بل صار يتلقّاها من صاحبها الأول.

غير أنّ هذا الحدث المعرفي لم يترجم ـ في الذاكرة العربية ـ إلى وعيٍ مؤسسي، بل اختُزل في جملةٍ هامشية «أول من درّس العربية في روسيا». وكأنّنا أمام طرافةٍ تاريخية لا بنية تأسيس. وهذه المفارقة تكشف خللاً في وعينا قبل أن تكشف نقصاً في إرثه، فالعرب لم يؤسسوا علماً بذاته لظاهرة الاستعراب الروسي، ولم يقرؤوا تجربته بوصفها تأسيساً لتاريخٍ جديدٍ للمعرفة.

لقد رأى الطنطاوي في اللغة العربية أكثر من نحوٍ وصرف، رأى فيها أداة تكوين أمة، ولهذا لم يكن يعلّم قواعدها بقدر ما كان يعلّم حدودها الحضارية. وعندما ألّف كتابه تحفة الأذكيا في أخبار بلاد روسيا، لم يكتبه بعين الجغرافي أو الرحالة، بل بعين المصلح المقارن، الذي ينقل الخبر لا ليتسلى به القارئ، بل ليضع أمامه مرايا الفارق الحضاري، كيف تُدار الدولة بالعقل والنظام، فيما تكتفي الأمة الإسلامية بخطاب الوعظ والتكرار.

بهذا المعنى كان الطنطاوي واحداً من أوائل الذين أدخلوا إلى العقل العربي فكرة المقارنة الحضارية قبل أن تُنشأ أقسام الأنثروبولوجيا المقارنة بقرنٍ كامل. فالتجديد عنده لم يكن وعظًا داخليًا بل إيقاظًا بالألم الخارجي؛ أن ترى ما عند الآخر فتدرك نقصك أنت. ولذلك يمكن القول إنّ إصلاحه لم يكن إصلاح الخطاب، بل إصلاح المرآة.

ومع كل ذلك بقي الرجل مغمورًا، لأنّه عاش في العتبة، قبل أن تنشأ المدرسة الروسية في الاستعراب، وقبل أن يتبلور وعيٌ عربيٌ قادرٌ على تقويم عمله. فالتاريخ لا يعترف إلا بما يجد له حقلًا نظريًا جاهزًا، فإذا غاب الحقل، دُفنت الظاهرة وبقيت نتائجها. وقد كانت مأساة الطنطاوي أنّ الروس استفادوا من أثره المنهجي، بينما لم يدرك العرب أنّ أحد أبنائهم هو من وضع حجر الأساس.

وكان يمكن له أن يكون اسمًا مؤسِّسًا في الفكر العربي لو أنّ العقل العربي قرأ البدايات قراءةً تأويليةً لا خبرية. لكنّ وعينا التاريخي لا يعترف بالقيمة إلا بعد أن تتجسّد في الآخرين. وهنا مأساة الوعي العربي، أنّه يرى ذاته متأخرةً في مرايا الآخرين.

كتب الطنطاوي روسيا من داخلها، لا من وراء زجاج الاستشراق. لم يكن مبهورًا ولا مبهتًا؛ بل تساءل؛ كيف تُنتج أمةٌ غير مؤمنة نظامًا عقلانيًا متماسكًا، وتعجز أمة مؤمنة عن إنتاج النظام نفسه؟، وكان هذا السؤال عنده جرحًا إبستمولوجيًا، لا يهزّ العقيدة بل يفضح الفجوة بين الإيمان وبنيته العيانية. ولذلك تجاوز وصف روسيا بوصفها الآخر إلى جعلها مِخبرًا للمقارنة لا موضوعًا للتنديد أو الإعجاب.

ومع أنّه لم يقدّم مشروعًا نظريًا مكتملًا، فإنّه قدّم الشرط الضروري لكل مشروع لاحق؛ ففتح الباب ولم يسر فيه. وهذه هي طبيعة الروّاد في منطق التاريخ؛ يضعون المقدّمة ويغيبون قبل اكتمال النتيجة. فالقيمة في مثل هذه التجارب لا تُقاس بما بُني، بل بما جُعل ممكنًا أن يُبنى.

وتكمن القيمة الفلسفية لتجربته في كشفها العلاقة بين المعرفة والقوّة: فالإمبراطورية التي تمتلك القوّة كانت تملك الحساسية لطلب المعرفة، بينما الشرق الذي فقد القوّة فقد معها الحساسية للمعنى. ومن هنا نفهم كيف استدعته روسيا لا لتستعمره بل لتتعلّم منه، وكيف عجز العرب عن استدعاء أمثاله ليتعلّموا من أنفسهم.

وموت الطنطاوي في روسيا لم يكن خاتمة مأساةٍ شخصية، بل إشارة رمزية كثيفة، فالرجل الذي نقل الإسلام والعربية إلى داخل الإمبراطورية لم يعد إلى بلده، كأنّ التاريخ ختَم عليه أن يكون رسول معرفةٍ لا عابر تجربة. فدفنه هناك جعل جسده نفسه جسرًا نهائيًا بين عالمين، ظلّ معلقًا بين الاعتراف والنسيان، بين حضور الفعل وغياب الاسم.

وتُقدّم سيرته اليوم اختبارًا لثلاث قضايا مركزية في فكرنا العربي:

- القضية الأولى: كيف تُصنع صورة الآخر عنا، ومن يملك حق الإمداد الأول بمادتها؟.

- القضية الثانية: كيف يحافظ العالِم، وهو داخل سياق هيمنة، على نقاء تمثيله دون أن يتحوّل إلى أداة دعاية؟.

- القضية الثالثة: لماذا يفقد العرب أسماء روّادهم بينما يحتفظ الآخر بثمراتهم؟.

ففي الأولى نرى أنه كان المادة الأولى التي بُني عليها الاستعراب الروسي، وفي الثانية نلمس نزاهته في تمثيل الإسلام دون تملّقٍ أو تحريف، وفي الثالثة نواجه عجزنا المزمن عن قراءة القيمة في وقتها. فالعرب لم يحتفوا بالرجل لأن أثره لم يكن صاخبًا، بل كان وقائيًا، حيث منع التشوّه قبل وقوعه، وصان صورة الإسلام في لحظة التأسيس. وأثر المنع لا يُرى، ولهذا يُنسى.

ولذلك فإن إعادة كتابة سيرته اليوم ليست عملاً أرشيفياً، بل فعلاً استرداديًا للوعي. فاستعادة اسمه تعني إعادة ترتيب سلسلة الأسباب في تاريخ المعرفة بين الإسلام والغرب؛ إذ لم تدخل روسيا إلى الإسلام عبر مترجمين أو مبشّرين، بل عبر درسٍ أزهريٍ أصيل. وهذه الحقيقة وحدها تكفي لتصحيح موضع العرب في خريطة الوعي الكوني.

وقد مثّل الطنطاوي في عمق تجربته نزاهة الواسطة؛ فلم يجمّل الإسلام ليُرضي المضيف، ولم يُشوّه الغرب ليُرضي الجمهور، بل سلّم المعرفة كما هي، دون وساطة خطابٍ دعوي أو اعتذاري. وهذا الموقف، الذي قد يبدو بسيطًا، هو ما حمى صورة الإسلام من التحريف في لحظةٍ حاسمة. فلو كان أول من درّس العربية في روسيا أقلّ علمًا أو أضعف خُلُقًا، لانحرف مسار الاستعراب الروسي لعقودٍ طويلة.

ومن ثمّ فإنّ قيمته لا تُقاس بعدد طلابه ولا بانتشار كتبه، بل بقدر ما منع من تحريفٍ معرفيٍ مبكّر. فقد كان تأثيره سلبياً بالمعنى الفلسفي لا بالمعنى القيمي، أي أنّه منع الانحراف ولم يُنشئ البناء. لكنّ هذا الدور الوقائي لا يقلّ عظمة عن البناء نفسه، بل قد يسبقه رتبة؛ لأنّه يحفظ إمكان المعرفة من الفساد قبل ظهورها.

وفي ضوء ذلك يصبح الطنطاوي نموذجاً لظاهرةٍ حضارية تتجاوز التاريخ الشخصي، ظاهرة الرائد الذي يعمل قبل أن يُدرك زمانه حاجته إليه، فيُنسى اسمه ويُخلّد أثره في غيره. فالرجل لم ينقل اللغة إلى روسيا فحسب، بل نقل الإسلام من موقع «الموضوع الموصوف» إلى موقع "المصدر المعلِّم"، وهو تحوّل في ترتيب المعرفة لم يُقدّر له أن يُقرأ في حينه.

فكتابة سيرته اليوم ليست احتفاءً بماضٍ منسي، بل محاولة لترميم فجوةٍ في وعينا، وللبرهنة على أن تخلفنا لم يكن يومًا نقصَ رجالٍ بل نقصَ وعيٍ بالرجال. وأنّ الأمم لا تُقاس بما تملك من العلماء، بل بما تملك من قدرةٍ على التعرف إليهم حين يحضرون.

فمحمد عيّاد الطنطاوي شاهدٌ دالّ على أن التاريخ لا يحاسب الأمم على من غاب عنها، بل على عجزها عن رؤيته وهو حاضرٌ فيها. حيث أسّس المعنى وغاب عن السرد، لأنّ السرد العربي لا يرى من الروّاد إلا من يصيحون، بينما يظلّ الصامتون الذين بنوا المعنى في الظلّ، مادةً لاكتشاف متأخّر واعتذارٍ متأخر عن تأخرنا نحن.

***

بقلم: د. بدر الفيومي

 

في اللحظة التي بدأ فيها العالم الغربي يراجع يقينيات الحداثة، ويشكك في مركزية العقل، ويفكك السرديات الكبرى التي حكمت القرون الأخيرة، كان العقل العربي لا يزال يحاول أن يضع قدمه الأولى في طريق لم تُمهد له بعد. تلك الفجوة الزمنية ليست مجرد تأخر تقني أو تفاوت في مستويات التنمية، بل هي في جوهرها فجوة معرفية، فكرية، نفسية، بلغة أدق، فجوة في الوعي التاريخي. ففي حين قطعت المجتمعات الغربية شوطًا في مساءلة الذات والواقع، لا يزال العقل العربي موزعًا بين دهشة الحداثة وخوف الموروث، بين الإعجاب بالنموذج الأوروبي والارتياب منه، بين التعلق بالهوية والخشية من الذوبان، بين الرغبة في التغيير والخوف من الفقد.

ولعل البداية المثلى لهذا التأمل أن نتساءل: ماذا نعني بالحداثة أولًا؟ لقد كانت الحداثة، كما عرفها الغرب، مشروعًا عقلانيًا ضخمًا تأسس على الإيمان بقدرة الإنسان على السيطرة على العالم، وتفسير الظواهر، وإنتاج المعرفة، وفرض النظام. قامت الحداثة على مركزية العقل، وعلى فكرة التقدم، وعلى تجاوز المرجعيات الغيبية لصالح تفسير علمي ومنطقي للوجود. غير أن هذا المشروع، ورغم ما أنجزه من تقدم علمي هائل، حمل في داخله بذور أزماته، إذ أنتج مجتمعات مادية، فردانية، نفعية، وشهد خلال القرن العشرين أكثر الحروب تدميرًا في التاريخ. جاءت ما بعد الحداثة كرد فعل على هذا المسار، لتعلن تفكك السرديات الكبرى، وانهيار المطلقات، وصعود النسبية، والشك، وتفكيك السلطة، سواء كانت دينية أو سياسية أو علمية أو لغوية.

هذا الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة لم يكن مجرد تغير في المصطلحات، بل زلزال فكري ومعرفي أعاد تشكيل الوعي الغربي من جذوره. والسؤال الآن: في أي موقع يقف العقل العربي وسط هذا التحول العنيف؟ الواقع أن الإجابة ليست سهلة، لأنها تقتضي مراجعة صريحة وعميقة لتجربة العقل العربي مع الحداثة نفسها قبل أن نتحدث عن تجاوزها.

إن من يتأمل السياق العربي يجد أن العلاقة مع الحداثة كانت ملتبسة منذ البداية. لم تكن الحداثة لدينا نتاج تطور داخلي طبيعي، بل جاءت غالبًا في صورة استعمارية، أو في صورة تقليد لنماذج جاهزة من الخارج. تلقيناها عبر النخبة المتعلمة، التي كانت معزولة عن البنية التقليدية للمجتمع، فظل التحديث شكليًا، محدودًا، موجهًا من الأعلى، يغير المظاهر ولا يمس الجوهر. لم تُطرح الأسئلة الحداثية في سياقها التاريخي، بل قُدمت كحلول سريعة لأزمات معقدة، وكان من الطبيعي أن يُقابل هذا المسار بالمقاومة، لا لأن المجتمعات العربية ترفض التغيير، بل لأنها لم تشارك في صياغته.

ولذلك بقي العقل العربي في مفترق الطرق، لا هو اندمج في مشروع حداثي أصيل ينبع من داخله، ولا هو احتفظ بمرجعيته التقليدية في صورتها الحية. أصبح العقل مأزومًا، مُشوّشًا، عاجزًا عن اتخاذ موقف واضح، تائهًا بين خطابين: خطاب يرفع لواء العودة إلى الأصول ويُدين الحداثة باعتبارها خيانة للذات، وآخر يتبنى الحداثة دون شروط، ويُدين الماضي باعتباره عائقًا أمام التقدم. كلا الخطابين قاصر، لأنهما لا يعكسان فهمًا حقيقيًا لتعقيدات الواقع، ولا يقدم أحدهما مشروعًا متماسكًا للمستقبل. وهنا يتجلى الإشكال العميق: هل يمكن للعقل العربي أن يتجاوز هذه الثنائية المفرغة؟ وهل يمكنه أن يتموضع بشكل مستقل في زمن ما بعد الحداثة؟

إن ما بعد الحداثة، بتفكيكها للمفاهيم الكبرى، تضع العقل العربي أمام تحدٍ مضاعف. فهو لم ينه بعد جدله مع مفاهيم الحداثة ذاتها مثل التنوير، والعقلانية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، فإذا به يواجه تيارًا جديدًا يُشكك في كل هذه المفاهيم نفسها. وهنا تكمن المفارقة المؤلمة: نحن نواجه نقدًا لحداثة لم نختبرها بالكامل، ونُطالب بتجاوز منظومة فكرية لم نستوعبها بعد، وكأننا نُجبر على مغادرة بيت لم نسكنه أصلًا.

ولذلك فإن تعاملنا مع ما بعد الحداثة كثيرًا ما يكون سطحيًا، انتقائيًا، يقوم على استعارة المصطلحات دون فهم خلفياتها، وعلى تمجيد التفكيك دون بناء، وعلى تسويق الحيرة بدل مساءلتها. في بعض الأوساط الثقافية، أصبح الشك هو الموقف الوحيد، والنقد غاية في ذاته، والفوضى دليلاً على التحرر. لكن هذا النزوع ما هو إلا شكل آخر من الاغتراب، اغتراب عن الذات، وعن المجتمع، وعن الواقع، في لحظة نحن في أمسّ الحاجة فيها إلى تأسيس خطاب نقدي جاد، لا يقع في التبعية ولا ينزلق إلى الفوضى.

لعل أهم ما يجب أن يُقال هنا هو أن الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة لا يعني القطيعة مع كل ما هو عقلاني أو تنويري، بل هو دعوة لإعادة التفكير في الحدود التي رسمتها الحداثة لنفسها. وهذا ما يمكن أن يستفيد منه العقل العربي، بشرط أن يتم التفاعل مع هذه التيارات من موقع الفاعل، لا من موقع المتلقي. لكن هذا الشرط لن يتحقق ما لم يُعِد العقل العربي النظر في أدواته، ومناهجه، ومرجعياته، وما لم يخرج من أسر التقديس، سواء للتراث أو للغرب.

لكي نجيب بصدق عن سؤال أين يقف العقل العربي؟، علينا أن نعترف أولًا بأنه لا يقف في مكان واحد. فالعقل العربي ليس كتلة واحدة، بل هو فسيفساء من المواقف والتوجهات. هناك عقل محافظ، تقليدي، يخشى كل جديد ويقدّس القديم، وهناك عقل تغريبي، منبهر بالغرب إلى حد الذوبان، وهناك عقل نقدي، يحاول أن يشق لنفسه طريقًا ثالثًا، يدمج بين التحديث والأصالة، بين النقد والعمق، بين الشك والإيمان، بين التراث والتجاوز. هذا الأخير، وإن كان أقل حضورًا في المشهد العام، هو الذي نحتاج إلى تقويته، لأنه وحده القادر على التفاعل الخلّاق مع الأسئلة التي تطرحها الحداثة وما بعدها.

العقل العربي، في هذا الزمن المربك، يحتاج إلى شجاعة لا تقل عن تلك التي امتلكها مفكرو النهضة في بدايات القرن الماضي، يوم تجرأوا على مساءلة التراث من داخل المنظومة الثقافية، ويوم طرحوا أسئلة لم يكن المجتمع مستعدًا لها بعد. اليوم، نحن في لحظة أكثر تعقيدًا، تتطلب شجاعة مضاعفة، لأن المساءلة لم تعد تخص الماضي فقط، بل تشمل المستقبل أيضًا. نحن بحاجة إلى عقل لا يكتفي بإعادة إنتاج الخطاب السائد، بل يعمل على خلخلته، وتفكيكه، وإعادة تركيبه، عقل لا يخاف من الحيرة، ولا يهرب من السؤال، ولا يكتفي بإجابات جاهزة تُعيده إلى دائرة الراحة الفكرية.

وإذا كان العقل الغربي قد انتقل إلى ما بعد الحداثة عبر نقد ذاته وتجربته، فإن على العقل العربي أن يخوض تجربته الخاصة، من دون استعجال، ومن دون تقليد، بل بروح نقدية عميقة تتعامل مع التراث والحداثة كمواد أولية لبناء مشروع جديد. مشروع لا يكرر ما مضى، ولا يُقلد ما هو قائم، بل يُبدع من قلب التوتر، ويُصوغ هوية فكرية نابعة من همومه وأسئلته.

ربما يكون السؤال الحقيقي ليس أين يقف العقل العربي، بل إلى أين يريد أن يذهب؟ هذا هو التحدي الذي نواجهه اليوم. ولسنا مضطرين لا إلى العيش في الماضي، ولا إلى الانصهار في الآخر، بل يمكننا أن نختار طريقًا ثالثًا، صعبًا، لكنه ضروري: طريق الوعي، والتأمل، وإعادة البناء.

***

د. عصام البرّام

لقرابة أربعة قرون، كان الاقتصاد العالمي في مسار من التكامل المستمر لم تتمكن حربان عالميتان من إخراجه من مساره. هذه المسيرة الطويلة من العولمة غذّتها الزيادة السريعة في مستويات التجارة الدولية والاستثمار مقترنة بحركة الناس الواسعة عبر الحدود القومية والتغيرات الدراماتيكية في النقل وتكنلوجيا الاتصالات.

طبقا للمؤرخ الاقتصادي برادفورد ديلونج Bradford DeLong، ارتفعت قيمة الاقتصاد العالمي (مقاسة بالسعر الثابت لعام 1990) من 81.7 بليون دولار امريكي عام الى 1650الى 70.3 ترليون دولار امريكي عام 2020 بزيادة 860 ضعفا. الفترات الأكثر كثافة للنمو توافقت مع فترتين عندما كانت التجارة العالمية ترتفع بسرعة: الأولى اثناء "القرن التاسع عشر" بين نهاية الثورة الفرنسية وبداية الحرب العالمية الأولى، ومن ثم عندما اتسع تحرير التجارة بعد الحرب العالمية الثانية، من أعوام الخمسينات الى الازمة المالية العالمية عام 2008.

حاليا هذا المشروع الكبير هو في تراجع. العولمة ليست ميتة لكنها تموت. هل هذا سبب للاحتفال ام للقلق؟ وهل تتغير الصورة مرة أخرى عندما يغادر ترامب البيت الأبيض وتغادر معه تعريفاته الكمركية المقلقة؟ كمراسل اقتصادي للبي بي سي من واشنطن ولفترة طويلة يعتقد ستيف شيفير Steve Schifferes الباحث في مركز بحوث الاقتصاد السياسي في جامعة لندن ان هناك أسباب تاريخية حقيقية للقلق حول مستقبل خال من العولمة – حتى حالما يغادر ترامب منصبه.

التعريفات الكمركية لترامب فاقمت مشاكل العالم الاقتصادية لكنها ليس السبب الأصلي لها. في الحقيقة، اتجاهه يعكس حقيقة كانت تبرز لعدة عقود لكن الإدارات الامريكية السابقة وحكومات أخرى كانت تتحفظ في الإعتراف بها: وهي، انحدار الولايات المتحدة باعتبارها المحرك الاقتصادي الأول للنمو في العالم.

في كل عصر من عصور العولمة منذ أواسط القرن السابع عشر، سعت دولة واحدة لتكون القائد العالمي – تحدد قواعد الاقتصاد العالمي للجميع. في كل حالة، هذه القوة المهيمنة امتلكت القوة العسكرية والسياسية والمالية لفرض تلك القواعد – وأقنعت الدول الأخرى بعدم وجود مسار مفضل للثروة والقوة. لكن الان، وفي ظل انزلاق الولايات المتحدة في عهد ترامب الى الانعزالية، لا توجد قوة أخرى جاهزة لتأخذ مكانها وتحمل الشعلة في المستقبل المنظور. البعض يختار الصين التي تواجه العديد من التحديات الاقتصادية، بما فيها افتقارها لعملة دولية – وكدولة حزب واحد ولا تمتلك تفويضا ديمقراطيا للحصول على القبول كقوة جديدة مهيمنة في العالم.

وبينما أنتجت العولمة دائما العديد من الخاسرين بالإضافة للرابحين – من تجارة العبيد في القرن الثامن عشر الى إزاحة عامل المصنع في غرب وسط أمريكا في القرن العشرين يبيّن التاريخ ان عالما منزوع العولمة ربما اكثر خطورة وسيكون مكانا غير مستقر. المثال الأقرب جاء اثناء سنوات الحروب الداخلية، عندما رفضت الولايات المتحدة ارتداء عباءة العولمة التي تُركت بعد انحدار بريطانيا كقوة مهيمنة في القرن التاسع عشر. في عقدين بدءً من 1919 انحدر العالم الى فوضى اقتصادية وسياسية. انهيار سوق الأسهم وفشل النظام المصرفي العالمي قاد الى بطالة واسعة وزيادة في عدم الاستقرار السياسي، مما خلق ظروفا لصعود الفاشية. التجارة العالمية انكمشت بشدة عندما وضعت الدول حواجز تجارية وبدأت حروب عملة منهزمة ذاتيا في أمل عبثي لإعطاء دفعة لصادرات دولهم، لكن ما حصل هو على عكس ذلك حيث توقف النمو العالمي.

وبعد قرن، اصبح عالمنا المجرد من العولمة هشا مرة أخرى. ولكن لمعرفة ما اذا كان هذا يعني اننا محكوم علينا مستقبل فوضوي وغير مستقر، علينا أولا استكشاف ولادة ونمو والأسباب الكامنة وراء الزوال الوشيك لهذا المشروع العالمي الاستثنائي.

النموذج الفرنسي: المذهب التجاري، النقود والحرب

في أواسط القرن 1600 برزت فرنسا كأقوى قوة في اوربا، وكانت فرنسا هي اول منْ طوّر نظرية شاملة لكيفية عمل الاقتصاد العالمي لمصلحتها. وبعد أربعة قرون، انتعشت عدة مظاهر لـ "التجارية" mercantilism تحت إدارة ترامب، والتي يمكن تسميتها (كيف تسيطر على الاقتصاد العالمي عبر إضعاف منافسيك). نسخة فرنسا للتجارية كانت مرتكزة على فكرة ان الدولة يجب ان تضع عوائق تجارية لتقييد مقدار ما تبيعه الدول الأخرى لها، بينما تدفع بقوة صناعاتها الخاصة لتضمن انها تستلم نقودا (على شكل ذهب) اكثر مما تدفع.

إنجلترا وهولندا تبنّيتا سلفا بعض هذه السياسات التجارية، أسستا مستوطنات حول العالم تدار بواسطة شركات احتكارية قوية سعت الى تحدي واضعاف الإمبراطورية الاسبانية التي ازدهرت بعد الاستحواذ على الذهب والفضة في أمريكا. مقابل هذه الامبراطوريات البحرية، امتلكت الامبراطوريات الأكبر في الشرق مثل الصين والهند الموارد الداخلية لتوليد عوائدها الخاصة، بما يعني ان التجارة الدولية – رغم انتشارها الواسع – لم تكن حاسمة لازدهارها.

لكن فرنسا كانت اول من طبق التجارية منهجيا عبر مجمل سياسات الحكومة – بقيادة وزير المالية القوي جان بابتيست كولبيرت(1661-1683) الذي مُنح سلطات غير مسبوقة لتقوية مالية الدولة الفرنسية في ظل الملك لويس الرابع عشر. اعتقد كولبيرت ان التجارة ستطور خزائن الدولة وتقوي اقتصاد فرنسا بينما تُضعف الدول المنافسة لها:

انه ببساطة، غياب او وفرة النقود لدى الدولة هو الذي يصنع فرقا في قوتها وعظمتها.

وفق رؤية كولبيرت، التجارة لعبة صفرية. كلما زادت فرنسا من فائض التجارة مع الدول الأخرى، كلما زادت سبائك الذهب التي تحصل عليها ويصبح منافسوها أضعف لو حُرموا من الذهب. في ظل إدارة كولبيرت، ابتكرت فرنسا الحمائية وضاعفت الرسوم الكمركية على الواردات ثلاث مرات لكي تجعل السلع الأجنبية باهضة الثمن. وفي نفس الوقت، هو قوّى صناعات فرنسا المحلية عبر تقديم اعانات ومنحها احتكارات. المستعمرات والشركات التجارية للحكومة كانت تأسست لضمان استفادة فرنسا من التجارة المربحة للسلع مثل التوابل والسكر والعبيد.

أشرف كولبيرت على التوسع الفرنسي في الصناعات لتمتد الى مجالات مثل صناعة الأقمشة المطرزة والزجاج، واستيراد الحرفيين المهرة من إيطاليا ومنح هذه الشركات الجديدة احتكارات. هو استثمر كثيرا في البنية التحتية مثل قناة دو ميد وزاد من حجم الاسطول الفرنسي والبحرية التجارية ليتحدى منافسيه بريطانيا وهولندا.

كانت التجارة العالمية في هذا الوقت استغلالية للغاية، تستلزم الاستيلاء القسري على الذهب ومواد الخام الأخرى من أراضي مكتشفة حديثا مثلما كانت تفعل اسبانيا مع مستعمراتها الجديدة في العالم الجديد في أواخر القرن الخامس عشر. ذلك كان يعني أيضا الاستفادة من التجارة في البشر، مع مكاسب ضخمة جرى الاستيلاء عليها وارسالها الى الكاريبي والمستعمرات الأخرى لإنتاج السكر والغلات الأخرى. في هذا العصر من التجارية، قادت الحروب التجارية في الغالب الى حروب واقعية شُنت عبر العالم للسيطرة على طرق التجارة والاستيلاء على المستعمرات. بعد إصلاحات كولبيرت، بدأت فرنسا صراعا طويلا لتحدي الامبراطوريات البحرية المنافسة لها، بينما انخرطت أيضا في حروب الفتح في اوربا القارية. فرنسا في الأساس تمتعت بالنجاح في القرن السابع عشر في كل من الأرض والبحر ضد الهولنديين. لكن في النهاية، لم تكن شركتها المملوكة للدولة في جزر الهند الفرنسية منافسا قويا لمنافسيها الهولنديين والبريطانيين - شركات الهند الشرقية - التي حصدت أرباحا هائلة لمساهميها وحققت عوائد لحكوماتها.

في الحقيقة، ان الأرباح الهائلة التي حققها الهولنديون من تجارة التوابل في الشرق الأقصى يوضح لماذا لم يترددوا بتسليم مستعمرتهم الامريكية الصغيرة مقابل طرد البريطانيين من موقعهم الصغير في جزر التوابل الخاصة بهم والتي تسمى الان اندونيسيا. في عام 1664 اعيدت تسمية ذلك الموقع بـ نيويورك.

وبعد قرن من الصراع، نالت بريطانيا تدريجيا الهيمنة من فرنسا، في الاستيلاء على الهند واجبار منافسيها الكبار التنازل عن كندا عام 1763 بعد حرب السبع سنوات. فرنسا لم تنجح ابدا في مواجهة القوة البحرية البريطانية. الهزيمة المدوية للأساطيل بقيادة هوراشيو نيلسون في بداية القرن التاسع عشر، مترافقة مع هزيمة نابليون في واترلو من جانب تحالف القوى الاوربية رسمت نهاية زمن فرنسا كقوة اوربية مهيمنة.

لكن بينما فشل النموذج الفرنسي للعولمة في النهاية في محاولته السيطرة على الاقتصاد العالمي، ذلك لم يمنع الدول الأخرى – والان الرئيس ترامب – من اعتناق مبادئه.

فرنسا وجدت ان الرسوم الكمركية وحدها لا تكفي لتمويل حروبها ولا النهوض باقتصادها. نسختها الواسعة للتجارية قادت الى حروب لا متناهية انتشرت حول العالم، عندما انتقمت الدول اقتصاديا وعسكريا وحاولت السيطرة على الأقاليم.

لاحقا وبعد اكثر من قرنين، ظهرت نسخة موازية غير مريحة في عهد ترامب وما رافقها من حروب التعرفة الكمركية. انها أيضا تبيّن ان المزيد من الحماية كما اقترحها ترامب سوف لن تكون كافية لانعاش الصناعات الامريكية المحلية.

النموذج البريطاني: تجارة حرة وامبراطورية

ان أيديولوجية التجارة الحرة صيغت لأول مرة من جانب الاقتصادي البريطاني ادم سميث وديفيد ريكاردو مؤسسا الاقتصاد الكلاسيكي. هما جادلا بان التجارة ليست لعبة محصلتها صفر، كما اقترح كولبيرت، وانما كل الدول يمكنها الاستفادة المتبادلة منها. طبقا لكتاب سمث الكلاسيكي، ثروة الأمم 1776: "اذا استطاع البلد الأجنبي تجهيزنا بسلعة ارخص مما نستطيع صنعه بأنفسنا، فمن الأحسن شرائها منه بجزء من منتجاتنا المصنعة، والتي يتم استخدامها بطريقة تجعلنا نتمتع ببعض المزايا".

بريطانيا باعتبارها اول بلد صناعي خلقت في عام 1840 قوة اقتصادية مرتكزة على التكنلوجيا الجديدة لقوة البخار، نظام المصنع، وسكك الحديد. سمث وريكاردو جادلا ضد خلق احتكاريات الدولة للسيطرة على التجارة، واقترحا أقل مستوى من التدخل في الصناعة. منذ ذلك الوقت، أثبتت عقيدة بريطانيا في منافع التجارة الحرة قوتها وانها اكثر استدامة من أي قوة صناعية كبيرة حين تجسدت بعمق في كل من السياسة والخيال الشعبي.

هذا الالتزام الصارم وُلد من الصراع السياسي المرير في أعوام 1840 بين المصنّعين ومالكي الأرض حول قوانين الذرة الحمائية. مالكو الأراضي الذين سيطروا تقليديا على السياسة البريطانية دعموا الضرائب العالية التي حققت لهم المنافع لكن أدت الى أسعار عالية للسلع الرئيسية مثل الخبز. ان الغاء قانون الذرة عام 1846 غيّر راديكاليا السياسة البريطانية، بما يعني تحوّل السلطة الى الطبقات المصنعة – وفي النهاية الى اتحاد طبقتهم العاملة حالما حصلوا على حق التصويت.

في ذلك الوقت، دعوة بريطانيا لحرية التجارة اطلقت العنان لقوتها التصنيعية للسيطرة على السوق العالمي. التجارة الحرة تم تأطيرها كطريقة لرفع مستوى معيشة الفقراء (على النقيض تماما من ادّعاء ترامب انها تؤذي العمال) وامتلكت دعم الطبقة العاملة القوية. عندما طرح المحافظون فكرة التخلي عن التجارة الحرة في الانتخابات العامة عام 1906، عانوا من هزيمة مرة هي الأسوأ الى عام 2024.

بالإضافة الى التجارة، كان العنصر الأساسي في دور بريطانيا كقوة عالمية مهيمنة جديدة هو صعود مدينة لندن كمركز مالي عالمي. العنصر كان احتضان بريطانيا لنظام الذهب الذي وضع عملتها الباوند في قلب النظام الاقتصادي العالمي الجديد عبر ربط قيمته الى كمية ثابتة من الذهب، بما يضمن عدم تغيير قيمته . وهكذا، اصبح الباوند الوسيط العالمي للتبادل.

هذا شجع على تطوير قطاع مصرفي قوي مدعوم من بنك إنجلترا كمقرض ملاذ أخير جدير بالثقة في الازمات المالية. النتيجة كانت طفرة كبيرة في الاستثمار العالمي، فتح مدخلا الى الاسواق الأجنبية لمصلحة الشركات البريطانية والمستثمرين الافراد.

في أواخر القرن التاسع عشر، هيمنت مدينة لندن على الاستثمار المالي العالمي في كل شيء من خطوط السكك الأرجنتينية وصناعة المطاط الماليزية الى مناجم الذهب في جنوب افريقيا. مستوى الذهب اصبح رمزا لقوة بريطانيا في الهيمنة على الاقتصاد العالمي.

ان دعائم الهيمنة البريطانية على الاقتصاد العالمي كانت قطاع تصنيع عالي الفعالية، والالتزام بحرية التجارة لحماية صناعتها في الوصول الى الأسواق العالمية، وقطاع مالي متطور جدا استثمر رأس مال حول العالم وحصد فوائد تنمية اقتصادية عالمية. لكن بريطانيا أيضا لم تتردد باستعمال القوة لفتح الأسواق الأجنبية – مثلا، اثناء حرب الافيون عام 1840، كانت الصين مجبرة لفتح أسواقها للتجارة المرفهة للأفيون من الهند المملوكة لبريطانيا.

وفي نهاية القرن التاسع عشر، دمجت الإمبراطورية البريطانية ربع سكان العالم، وبذلك وفرت مصدرا رخيصا للعمل وضمنت المواد الخام بالإضافة الى سوق كبير للسلع البريطانية المصنعة . لكن ذلك لم يكن كافيا لقادتها الجشعين: بريطانيا أيضا تأكدت ان الصناعات المحلية لم تهدد مصالحها – عبر اضعاف النسيج الهندي مثلا واستغلال العملة الهندية.

في الحقيقة، العولمة في هذا العصر كانت حول الهيمنة على الاقتصاد العالمي من جانب قلة من القوى الاوربية الثرية، بما يعني ان الكثير من التنمية الاقتصادية العالمية اختُزل لحماية مصالح تلك القوى. في ظل الحكم البريطاني بين 1750 و 1900، هبطت حصة الهند من مخرجات الصناعة العالمية من 25% الى 2%.

لكن بالنسبة لأولئك الذين هم في قلب الإمبراطورية البريطانية العالمية الرسمية، مثل مقيمي لندن من الطبقة الوسطى، كان هذا وقتا هادئا – كما أشار الى ذلك الاقتصادي البريطاني جون ما ينرد كنيز:

"بالنسبة للطبقة العليا والوسطى، الحياة مُنحت بأقل كلفة وبأقل ازعاج، راحة وهدوء، ووسائل مريحة تتجاوز نطاق الأثرياء . سكان لندن يمكنهم اجراء طلب عبر التلفون يرتشفون شاي الصباح وهم في السرير، مختلف المنتجات من كل الأرض، يتوقعون تسليمها مبكرا عند عتبة الباب."

نموذج الولايات المتحدة: من الحمائية الى الليبرالية الجديدة

بينما تمتعت بريطانيا بقرن من الهيمنة العالمية، اعتنقت الولايات المتحدة الحمائية لفترة طويلة بعد تأسيسها (عام 1776) اكثر من كل الاقتصادات الغربية الكبرى. ان ادخال التعرفة الكمركية لحماية ودعم الصناعات الامريكية الناشئة جرى تجسيده لأول مرة في عام 1791 من جانب اول وزير خزانة لأمة ناشئة وهو الاسكندر هاملتن – مهاجر كاريبي . حزب اليمين تحت حكم هنري كلاي وخليفته، والحزب الجمهوري، كانوا كلاهما داعمين لهذه السياسة في الشطر الأكبر من القرن التاسع عشر. وحتى عندما نمت الصناعة الامريكية لتطغي على كل الاخرين، احتفظت حكومتها بأعلى الحواجز الكمركية في العالم.

ارتفعت نسبة الكمارك الى 50% في أعوام 1890 بدعم الرئيس وليم ماكينلي، لمساعدة الصناعيين ودفع تقاعد سخي لـ 2 مليون من المحاربين القدماء وعوائلهم - جزء أساسي من ناخبي الجمهوريين. ليس صدفة ان الرئيس ترامب زيّن البيت الأبيض بصورة لهاملتون وكلاي وماكينلي – كلهم داعمون للحمائية والرسوم العالية.

جزئيا، كانت مقاومة أمريكا الطويلة لحرية التجارة لأنها لديها القدرة للحصول على التجهيز الداخلي للمواد الخام اللامحدودة، بينما نمو سكانها السريع المتحفز بالهجرة وفر اسواقا داخلية غذت نموها ولم تواجه منافسة اجنبية.

وفي أواخر القرن التاسع عشر، كانت الولايات المتحدة اكبر منتج للستيل واكبر نظام سكك حديد في العالم وكانت تتحرك بسرعة لاستغلال التكنلوجيا الجديدة للثورة الصناعية الثانية – المرتكزة على الكهرباء ومحرك الوقود والكيمياويات. مع ذلك كان فقط بعد الحرب العالمية الثانية ان تولت الولايات المتحدة دور القوة العظمى العالمية – جزئيا بسبب انها كانت البلد الوحيد على جانبي الحرب التي لم تعان من ضرر كبير في اقتصادها وبنيتها التحتية.

وفي اعقاب التدمير العالمي في اوربا واسيا، كانت هيمنة الولايات المتحدة سياسية وعسكرية وثقافية بالإضافة الى مالية – لكن رؤية الولايات المتحدة لعالم معولم كان فيها اختلاف هام عن سابقتها بريطانيا.

الولايات المتحدة تبنّت اتجاها عالميا مرتكزا كثيرا على القواعد و على خلق منظمات عالمية تضع تعليمات ملزمة وتفتح الأسواق العالمية للتجارة الامريكية والاستثمارات الوليدة. انها أيضا سعت الى السيطرة على النظام الاقتصادي الدولي عبر استبدال الباوند الإسترليني بالدولار الأمريكي في التعاملات العالمية.

خلال أسبوع من دخولها في الحرب العالمية الثانية، وضعت الخطط لتأسيس هيمنة مالية عالمية أمريكية. بدأ وزير الخزانة الأمريكي هنري مورغنتان Henry Morgenthan العمل لتأسيس صندوق للاستقرار بين الحلفاء – قواعد للترتيبات المالية لمابعد الحرب التي تكرس الدولار الأمريكي. هذا قاد الى خلق صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في مؤتمر برتن وودز عام 1944 في نيوهامشير – مؤسسات فرضت الهيمنة بواسطة الولايات المتحدة التي شجعت الدول الأخرى على تبنّي نفس النموذج الاقتصادي سواء في حرية التجارة او المشروع الحر. الدول الحليفة التي كانت في نفس الوقت تجتمع لتأسيس الأمم المتحدة لضمان السلام العالمي، كونها عانت من التأثيرات المدمرة للكساد الكبير والحرب، رحبت بالتزام الولايات المتحدة لصياغة نظام اقتصادي مستقر جديد.

وكاقتصاد هو الأكبر والاقوى، كانت هناك القليل من المقاومة لخطة أمريكا في نظام اقتصادي عالمي جديد وفق صورتها الخاصة. الدافع كان سياسيا بقدر ما هو اقتصادي: الولايات المتحدة ارادت اعطاء منافع اقتصادية لضمان الولاء لتحالفها الأساسي ومواجهة التهديد الشيوعي المتوقع – في تعارض تام مع رؤية ترامب التجارية الحالية بان جميع الدول "تخدع" الولايات المتحدة، وان قدرتها العسكرية تعني انها ليست بحاجة للتحالف.

وبعد ان انتهت الحرب، اصبح الدولار الأمريكي، مرتبطا بالذهب بسعر ثابت 35 دولار لكل اونسة لضمان استقراره، ليلعب دوره كعملة رئيسية للعالم الحر. استُخدم في تعاملات التجارة العالمية وأيضا احتُفظ به في البنوك المركزية كاحتياط عملة معطيا للاقتصاد الأمريكي امتيازا مفرطا. ان القيمة المستقرة للدولار أيضا جعلت من السهل للحكومة الامريكية بيع سندات الخزينة للمستثمرين الأجانب بحيث يمكنها بسهولة اكبر اقتراض النقود وإدارة العجز التجاري مع البلدان الأخرى.

الظروف تهيأت لعصر الهيمنة الامريكية السياسية والمالية والثقافية، حيث شهدت زيادة في المنتجات ذات الاعجاب العالمي مثل ماكدونالد وكوكا كولا بالإضافة الى طابع التسويق الأمريكي في شكل هوليود.

ان رؤية الولايات المتحدة للعولمة كانت أوسع واكثر تدخلا من النموذج البريطاني لحرية التجارة والامبراطورية. بدلا من امتلاك امبراطورية رسمية، ارادت فتح مدخلا لكل العالم الاقتصادي والذي سوف يزود الأسواق العالمية بالمنتجات الامريكية والخدمات.

ان الولايات المتحدة اعتقدت انها بحاجة لمؤسسات اقتصادية عالمية لحراسة هذه القواعد. لكن كما في الحالة البريطانية، منافع العولمة لاتزال غير متساوية. بينما ازدهرت دول اعتنقت النمو المنقاد بالتصدير مثل اليابان وكوريا وألمانيا، نرى دولا أخرى غنية بالموارد لكنها فقيرة برأس المال مثل نيجيريا التي بقيت في الخلف.

من الحلم الى اليأس

مع ان الأسطورة الامريكية نمت باستمرار، لكن في السبعينات اصبح الاقتصاد الأمريكي تحت ضغط متزايد وبالذات من المانيا واليابان الذين تجاوزتا اهوال الحرب وقامتا بتحديث صناعتهما.

الرئيس نيكسون وفي ظل هذه التهديدات والنمو في العجز التجاري، أعلن عام 1971 وبشكل مذهل عن خروج أمريكا من نظام الذهب مما اجبر الدول الأخرى على تحمّل كلفة التكيّف مع ازمة العجز في ميزان المدفوعات الأمريكي عبر إعادة تقييم عملاتها. كان لهذا اثر عميق على النظام المالي العالمي: خلال عقد، معظم العملات الكبرى تخلّت عن سعر الصرف الثابت واستبدلته بنظام عائم، مما انهى اتفاقية برتن وودز لعام 1944.

ان انهاء سعر الصرف الثابت فتح الباب لهيمنة الأسواق المالية financialization على الاقتصاد العالمي، والتوسع الهائل للاستثمار العالمي والاقراض – معظمه بواسطة شركات مالية أمريكية. هذا اعطى دفعا لحركة الليبرالية الجديدة التي سعت لإعادة كتابة قواعد النظام المالي العالمي. في أعوام 1980 و 1990 أصبحت هذه السياسات تُعرف بإجماع واشنطن: وهي مجموعة من القواعد تتضمن فتح الأسواق للاستثمار الأجنبي وتحرير الاعمال والخصخصة التي فُرضت على الاقتصادات النامية في الازمات مقابل استلام مساعدات من منظمات الولايات المتحدة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

في تلك الاثناء، أدت زيادة الاعتماد على التمويل وقطاعات التكنلوجيا العالية في الولايات المتحدة الى زيادة مستويات اللامساواة وتعميق الاستياء في أجزاء كبيرة من المجتمع الأمريكي. كل من الجمهوريين والديمقراطيين احتضنوا النظام العالمي الجديد، محددين سياسة أمريكية لتفضيل تحالفها المالي العالي التكنلوجيا. في الحقيقة، الديمقراطيون كانوا هم اللاعب الأساسي في إعادة تنظيم القطاع المالي في التسعينات.

في تلك الاثناء، تسارع انحدار الصناعات الامريكية، كما تصاعدت الفجوة بين دخول أولئك في المناطق النائية التي يتركز فيها التصنيع، والمقيمين في المدن الكبرى.

وفي عام 2023، كان ادنى 50% من المواطنين الأمريكيين استلموا فقط 13% من اجمالي الدخل الشخصي، بينما 10%(القمة) استلموا حوالي نصف (47%). فجوة الثروة كانت اكبر، الـ 50% في الأسفل يستلمون فقط 6% من اجمالي الثروة، بينما ثلث (36%) من الثروة يستلمها فقط 1% في القمة. ومنذ عام 1980 الدخل الحقيقي لمن هم اسفل 50% لم ينمو بالكاد لمدة أربعة عقود. النصف السفلي من سكان أمريكا كان يعاني من تصاعد "الموت بسبب اليأس" وهي العبارة التي صاغها الاقتصادي الفائز بجائزة نوبل انجوس ديتون Angus Deaton لوصف نسبة الوفيات العالية من تعاطي المخدرات والانتحار والجريمة بين الشباب من الطبقة العاملة الامريكية. ان ارتفاع تكاليف الإسكان والرعاية الصحية والتعليم الجامعي كله ساهم في المديونية العالية ونمو اللااستقرار المالي. وفي عام 2019، وجدت احدى الدراسات ان ثلثي السكان الذين قدموا طلبا على الإفلاس ذكروا قضايا طبية كسبب رئيسي.

ان انحدار التصنيع الأمريكي تفاقم بعد قبول الصين في منظمة التجارة العالمية، زيادة العجز التجاري الأمريكي وعجز الموازنة. النخب السياسية ورجال الاعمال كانوا يأملون من تلك الحركة ان تفتح أسواق الصين للبضائع الامريكية والاستثمارات، لكن التحديث السريع في الصين جعل صناعتها اكثر تنافسية من نظيرتها الامريكية في عدة حقول.

في النهاية، هذا العصر من التمويل الكثيف للاقتصاد العالمي خلق سلسلة من الازمات المالية المحلية والعالمية، مسببا الضرر لاقتصاديات العديد من دول أمريكا اللاتينية والاقتصادات الاسيوية. هذا بلغ ذروته في ازمة عام 2008 المالية، بفعل الإقراض المتهور من جانب المؤسسات المالية الامريكية. الاقتصاد العالمي اخذ اكثر من عقد للشفاء عندما صارعت دول مع النمو البطيء وانتاجية متدنية والقليل من التجارة قياسا بما قبل الازمة.

الانتقال من سيء الى أسوأ

ان ترامب اول رئيس امريكي حديث يفهم تماما العزلة المؤثرة التي شعر بها العديد من ناخبي الطبقة العاملة الامريكية الذين اعتقدوا انهم تُركوا خارج نمو الاقتصاد الأمريكي الهائل لما بعد الحرب والذي نفع كثيرا الطبقات الوسطى في المناطق الحضرية. اقوى المناصرين لترامب كانوا دائما ناخبين من الطبقة المتوسطة الدنيا من المناطق الحضرية الذين لم يحصلوا على تعليم جامعي. مع ذلك، سياسات ترامب الأساسية سوف لن تحقق لهم الكثير في النهاية. التعريفات الكمركية العالية لحماية الوظائف الامريكية وطرد ملايين المهاجرين غير الشرعيين وتفكيك الحمايات للأقليات عبر فرض برامج التنوع والمساواة والتضمين (DEI)، وخفض جذري لحجم الحكومة ستكون له نتائج اقتصادية سلبية في المستقبل، ومن غير المحتمل جدا إعادة الاقتصاد الأمريكي لموقعه المهيمن السابق.

وقبل وقت طويل من تقلده رئاسة الولايات المتحدة، كره ترامب العجز التجاري الأمريكي الكبير واعتقد ان التعريفات الكمركية ستكون سلاحا أساسيا لضمان استمرار الهيمنة الاقتصادية الامريكية.

الجزء الاخر الهام من ايديولوجيته في (أمريكا أولا) كان رفض الاتفاقات الدولية التي كانت جوهر سياسة أمريكا للعولمة بعد الحرب. في دورته الأولى للرئاسة (ترامب كونه لم يتوقع الفوز) كان غير مستعد للسلطة. لكن في الدورة الثانية أمضت مراكز أبحاث المحافظين سنوات تطرح سياسات مفصلة وحددت الموظفين الرئيسيين الذين يمكنهم تنفيذ تحولا راديكاليا في سياسة الاقتصاد الأمريكي.

وفي ظل حكم ترامب الثاني، رأينا عودة للرؤية التجارية التي تذكّرنا بفرنسا في القرنين السابع عشر والثامن عشر. إعلانه بان الدول التي حققت فائض تجاري مع الولايات المتحدة "كانت تخدع الولايات المتحدة" كان صدى للعقيدة التجارية بان التجارة لعبة صفرية (ما يكسبه طرف يخسره الاخر) بدلا من رؤية القرن العشرين التي صاغتها الولايات المتحدة في ان العولمة تفيد الجميع بصرف النظر عن التوازن الدقيق في التجارة.

ضرائب ترامب وخططه الكمركية التي امتدت لتمنح الاعفاء الضريبي للأغنياء جدا بينما تقلل المنافع للفقراء من خلال قطع المساعدات الاجتماعية والتضخم المندفع بالضرائب، سوف يزيد اللامساواة في الولايات المتحدة.

وفي نفس الوقت، كان تمرير قانون Big Beautiful Bill الذي شرعه الكونغرس يُتوقع ان يضيف 3.5 ترليون دولار لدين الحكومة الامريكية – حتى بعد الخفض في اقسام الحكومة التي ادارها ايلون ماسك والتي فُرضت على العديد من اقسام الإدارة، هذا يضيف ضغطا على سوق سندات الخزانة الامريكية في قلب النظام المالي العالمي، ويرفع تكاليف تمويل العجز الأمريكي الهائل بينما يُضعف تصنيفها الائتماني. ان استمرار هذه السياسات يهدد بإفلاس الولايات المتحدة والذي ستكون له نتائج مدمرة لكل النظام المالي العالمي. مع كل ما يشاع من تعظيم بطولي لترامب ومساعديه، فان سياسته الاقتصادية هي تجسيد للضعف الأمريكي وليس القوة. الرئيس يبدد بسرعة المصداقية الاقتصادية والقناعة التي بنتها الولايات المتحدة في سنوات ما بعد الحرب، بالإضافة الى هيمنتها الثقافية والسياسية. بالنسبة للناس الذين يعيشون في أمريكا وأماكن أخرى، هو يصنع موقفا سيئا واكثر خطورة – بما في ذلك للعديد من أنصاره المتحمسين.

قيل حتى بدون الاضطرابات المجتمعية والاقتصادية لترامب، فان نهاية عصر الهيمنة الامريكية سيحدث حتما. العولمة ليست ميتة لكنها تموت. السؤال المقلق الذي يواجهه الجميع الان، هو ماذا سيحدث بعد.

***

حاتم حميد محسن

........................

The conversation,28 oct 2025, The rise and fall of globalization: the battle to be top dog

* الجزء الثاني من المقال سيكون بعنوان: لماذا سيكون الانهيار المالي العالمي القادم أسوأ بكثير في ظل بقاء الولايات المتحدة على الهامش؟

 

من أبرز الملامح التي تكشف عن البنية الجوهرانية في الفقه الإسلامي التقليدي، هي تشابه موقع المرأة (الزوجة) بموقع العبد في فقه العبودية. هذا التشابه لم يكن دائمًا مقصودًا بوعي، لكون الذهنية حاكمة بشكل غير مدرك للمرء، لكنه تشكّل من خلال العقل الفقهي الذكوري الذي رسّخ مفهوم "الملكية" و"الطاعة" كأساس للعلاقة بين الرجل والمرأة، تمامًا كما استند في فقه الرِّق إلى علاقة "السيد بالعبد".

فالعبد الآبق في الفقه لا تُقبل عباداته ما دام عاصيًا لسيده، لأنه خرج عن طاعته وخالف النظام الذي يضبط العلاقة بين المالك والمملوك. ونجد صدى هذا التصور في فقه الأسرة؛ إذ يُروى في بعض المدوّنات الفقهية أن الزوجة إذا أغضبت زوجها أو خرجت من طاعته، لا تُقبل صلاتها أو عبادتها حتى يرضى عنها، في تشبيه صريح أو ضمني بـ”العبد الآبق”.[1]

هذا الإسقاط المفهومي لم يكن مجرد تشبيه بل تحوّل إلى منظومة قيمية وفقهية، إذ بُنيت أحكام الطاعة الزوجية على منطق “الحق المطلق للزوج”، لا على مبدأ المساواة في الكرامة والمسؤولية. فكما كانت طاعة العبد لسيده واجبًا دينيًا، جعلت طاعة الزوجة لزوجها واجبًا شرعيًا يرتبط بثوابها وعقابها الأخروي، حتى غُيّبت عنها ذاتها المستقلة، وتحولت إلى كيان وظيفي في خدمة الآخر.

وقد تسلّل هذا الفهم من خلال اللغة الفقهية ذاتها؛ فالمفردات التي استُخدمت لوصف العلاقة الزوجية مثل الطاعة، النشوز، الإباحة، التمكين، الاستمتاع، الإذن، الحق في الوطء، كلها تنتمي الحبس، إلى حقل لغوي سلطوي يشبه إلى حدّ بعيد لغة “الملك والعبودية”، وهي استعارة تحمل دلالة أن المرأة مملوكة من جهة الاستمتاع كما العبد مملوك من جهة العمل.

هكذا نُزعت عن المرأة صفة" الفاعل الأخلاقي الحر"، وصارت عبادتها مرتبطة برضا الرجل عنها، كما كانت عبادة العبد مرتبطة برضا سيده. هذا الفهم يعكس تداخلًا بنيويًا بين فقه الأسرة وفقه الرقّ، حيث كلاهما تأسس على منطق “السلطة الأبوية المطلقة” لا على منطق “الكرامة الإنسانية المشتركة”.

لقد أنتجت الجوهرانية في الفقه مفهومًا ساكنًا للإنسان لا يتغير بتغير الزمان، ولذلك ظلت الأحكام التي صيغت في مجتمع عبودي تُطبَّق في عصر انتهت فيه العبودية. فالمرأة التي شُبِّهت في فقه القرون الأولى بالعبد في الطاعة والتسليم، بقيت تحمل أثر هذا التشبيه في فتاوى العصور اللاحقة حتى اليوم، رغم تغيّر مفهوم الإنسان وحقوقه في المنظور الأخلاقي والقانوني الحديث.

من هنا يمكن القول إن الجوهرانية الفقهية أنتجت توازيا بين العبد والزوجة على المستويين:

الأنطولوجي: باعتبارهما كيانين ناقصين تابعين لجوهر أتمّ (السيد/الزوج).

الوظيفي: باعتبار أن كمالهما في الطاعة لا في الحرية، وفي الامتثال لا في الاختيار.[2]

هذا التوازي تسلّل إلى النصوص الفقهية عبر مفاهيم مثل التمكين، الطاعة، الإذن، حق الاستمتاع، النشوز، العصيان، الآبق، الحبس، التي تصف علاقة ذات بطرف مملوك. وهنا تظهر أخطر نتائج الجوهرانية: تحويل العلاقة الزوجية – وهي في أصلها ميثاق تراضٍ ومودة ورحمة – إلى علاقة سلطة وملكية تشبه الرِّقّ.

إن إعادة النظر في هذا التراث الفقهي تتطلب مساءلة عميقة للبنية التي ساوت بين الطاعة والإيمان، وبين الخضوع والعبادة، لأن تحرير المرأة في الفقه لا يتحقق بإصدار فتاوى جديدة فحسب، بل بتحرير المفاهيم التي شبّهت الزوجة بالعبد، والزوج بالسيد. فالعلاقة الزوجية في أصلها علاقة ميثاق، لا عقد تمليك كما يفترض، وعلاقة تكامل روحي، لا علاقة تبعية وجودية.[3]

إذا كان لايُسمح للإنسان شرعا بأقامة علاقة عاطفية بالجنس الآخر الا عبر الزواج، وحين يكون الزواج تراتبي: طائع ومطاع، فقد أُفرغت هذه العلاقة من سبب وجودها وهي الإشباع العاطفي القائم على الحب والشغف، والذي لايتحكم بهما قانون الطاعة والالزام . فالحب أما أن يأتي طواعية أو لايأتي أبدا .

ولذلك، فإنّ ما تُنتجه هذه الصيغة من الزواج الفقهي ليس علاقة حبّ متبادل، بل علاقة وظيفية تُدار بالواجب والحق، في حين يُقصى منها البُعد الشغفي الذي يشكّل جوهر التجربة الإنسانية بين الجنسين.

إن تشابه موقع المرأة في الفقه مع موقع العبد ليس مجرد صدفة، بل هو نتاج رؤية جوهرانية جعلت الطاعة مبدأً أعلى من الكرامة، والملكية أساسًا للعلاقة بين الرجل والمرأة لا المحبة.

ولأن الجوهرانية تفترض ثبات الطبائع، لم يُنظر إلى المرأة بوصفها إنسانًا يتطور ويمتلك إرادة، بل بوصفها طبيعة أنثوية مخلوقة لتُدار !.

***

د. بتول فاروق الحسون

النجف / جامعة الكوفة

.....................

١- اثنانِ لا تُجَاوِزُ صلاتُهما رؤوسَهُما: عَبدٌ أبَقَ من مَواليه حتَّى يرجعَ، وامرأةٌ عصَت زوجَها حتَّى ترجِعَ .

خلاصة حكم المحدث: صحيح

الراوي: عبدالله بن عمر | المحدث: الألباني | المصدر: صحيح الترغيب، الصفحة أو الرقم:1888

 التخريج: أخرجه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3628)، والحاكم (7330)

[2] - ظ: عبد الجبار الرفاعي: أنقاذ النزعة الإنسانية في الدين، مركز دراسات فلسفة الدين بغداد، ٢٠٢١، ١١٢

[3]- في منهاج الصالحين للسيد الخوئي، المسألة (١٤٠٧)

لا يجوز للزوجة أن تخرج من بيتها بغير إذن زوجها فيما إذا كان خروجها منافيا لحق الاستمتاع بها بل مطلقا على الأحوط فإن خرجت بغير إذنه كانت ناشزا ولا يحرم عليها سائر الأفعال بغير إذن الزوج إلا أن يكون منافيا لحق الاستمتاع.

منذ بدايات الفكر ظلت البشرية تسأل: لماذا تسقط الأشياء إلى الأسفل لا إلى الأعلى؟ ما هي الجاذبية أصلًا؟ لماذا يسبب الجوع الألم وليس الفرح؟ ولماذا توجد حدود لا يقدر العلم على تجاوزها؟

هذه الأسئلة تعبّر عن مفارقة دائمة: كلما كشف العقل سرًّا، وُلد بعده سرّ جديد. ومع ذلك، منذ قرنين، فرضت الحداثة الغربية، ومعها باقي العالم الذي تبنّاها من الصين إلى روسيا، (رؤيةً علموية: أي جعل العلم عقيدة مقدسة) إذ تعتبر أن العلم والعقل البشري هو الإله الجديد، وأن المجهول ليس إلا وقتًا مؤجّلًا. لكن في المقابل، ظلّ تيار فكري عميق يذكّر بأن كل معرفة محدودة، وأن وراء كل قانون لغزًا غيبيا لا يمكن للعقل وحده أن يفسّره.

موقف الثقافة الاوربية عبر التاريخ: ثنائية التيارين المادي والغيبي

انقسم الفكر الأوروبي، منذ بداياته اليونانية الرومانية حتى العصر الحديث، إلى تيارين متعارضين في التعامل مع هذه الاشكالية

أولًا، التيار الميتافيزيقي الغيبي: محدودية العلم والمعرفة البشرية

يرى هذا الاتجاه أن المعرفة البشرية، مهما بلغت، ناقصة ومحدودة، وأن وراء الظواهر قوة أو نظامًا متعاليًا لا يُدرك بالعقل وحده.

ـ سقراط (القرن 5 ق.م): «إني أعلم أني لا أعلم»، شعار الوعي بحدود الإنسان (1).

ـ أفلاطون: ميّز بين عالم الحس المتغيّر وعالم المثل الثابت، ورأى أن المعرفة الحقة لا تُنال بالتجربة بل بالتذكّر والتأمل في الحقائق العليا (2).

ـ أرسطو: اعتبر أن العلم معرفة بالأسباب، لكنه أثبت «المحرّك الأول» الذي يفسّر الوجود ولا يُفسَّر به (3).

ـ الرواقيون وسينيكا: رأوا أن العلم لا يُغني عن الحكمة الأخلاقية ولا يفسّر مصير الروح (4).

ـ في العصور الوسطى، عمّق توما الأكويني هذا الموقف بتأكيده أن العقل يخدم الإيمان ولا يُغنيه (5).

ـ في العصر الحديث، قال إيمانويل كانط إن العقل لا يعرف «الشيء في ذاته»، بل فقط الظواهر (6)

 ـ إسحاق نيوتن، اكد أنه يصف القوانين ولا يفسّر علّة الخلق قائلاً: «لا أضع فرضيات» (7).

ـ في القرن العشرين، حذّر (مارتن هايدغر) من أن التقنية حوّلت الوجود إلى «شيء محسوب» ونسيت معناه (8).

ثانيًا: التيار المادي الطبيعي (العلموي)

يقف هذا الاتجاه على النقيض، إذ يرى أن الإنسان والعلم قادران على كشف كل أسرار الكون دون حاجة إلى قوى متعالية غيبية.

في العصر اليوناني الروماني:

ـ ديموقريطس: اعتبر أن كل شيء يتكوّن من ذرات في فراغ، بلا حاجة إلى إله أو محرّك (9).

ـ أبيقور: قال إن الآلهة موجودة لكنها لا تتدخل في العالم، وإن الطبيعة تفسَّر بذاتها (10).

ـ لوكريتيوس في طبيعة الأشياء: «الطبيعة تعمل وفق الضرورة لا الغاية» (11).

في عصر النهضة والحداثة:

ـ فرنسيس بيكون جعل «المعرفة قوة» تُمكّن الإنسان من السيطرة على الطبيعة (12).

ـ ديكارت رأى أن العقل أساس كل معرفة، وأوغست كونت أعلن أن «المرحلة العلمية» هي نهاية تطور الفكر (13).

ـ مع داروين تحوّل التطور إلى تفسير شامل للإنسان والطبيعة (14)، ثم مع ماركس أصبح التاريخ نفسه خاضعًا لقوانين مادية (15).

ـ في القرن العشرين، اعتبر (ريتشارد دوكنز) و(ستيفن هوكينغ) أن الكون مكتفٍ بذاته، وأن العلم قادر في النهاية على تفسير وجوده دون الحاجة إلى خالق (16).

موقف الثقافة العربية عبر التاريخ: تيار جامع بين دور العقل البشري والاشراف الالهي

في التاريخ القديم لمعتقدات وحضارات شعوب العالم العربي السابقة للحضارة العربية الاسلامية، أي الوقعة عند الضفة الشرقية للبحر المتوسط (من سوريا والعراق مرورا بمصر، حتى قرطاجة والمغرب)، كان يسود كما في باقي العالم الاعتقاد الغيبي المعبر عنه بالاساطير والحكم والحكايات.

لكن منذ القرن الرابع ق. م، بعد (غزو الاسكندر) وسيطرة اليونان على العراق والشام ومصر، اصبحت هذه المنطقة الاولى في العالم بعد اليونان، التي تبنت الفكر التحليلي والفلسفي الممتزج بالرؤية الغيبية الروحية، باسماء مختلفة، مثل (العرفانية: الغنوصية) والهرمزية والمانوية، وغيرها، وقد بلغت ذروتها في  انبثاق (المسيحية) التي جمعت بين: (اقصى الروحانية الالهية الشرقية: معجزات المسيح)، و(اقصى المنطق الشكلاني اليوناني: الكلمة والتثليث).

اما في العصر العربي الاسلامي، فقد بلغ هذا (التيار الجامع: الغيبي ـ العقلاني) اقصى نضجه في الفلسفة والكلام والبرهان والتصوف. وهو مع تنوعه اتفق على الايمان الكامل بدور الله والوحي في المعرفة البشرية والعلم. حتى أكثر الفلاسفة عقلانية مثل (الكندي، الفارابي، ابن سينا، ابن رشد) كانوا يرون أن العقل وسيلة لفهم النظام الإلهي لا بديلاً عنه:

ـ ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا﴾ (سورة الإسراء: 85)، (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) (الحج: 54).

ـ الكندي: «يجب ألا نستحي من استحسان الحقّ واقتناءه من أين أتى» (17).

ـ الفارابي: ميّز بين العلم الطبيعي والعلم الإلهي، فجعل الأول وسيلة لفهم الثاني (18).

ـ ابن الهيثم: «نبتدئ بالبحث والاستقراء حتى نبلغ الحق» (19)، لكنه لم يدّعِ أن التجربة تكشف المطلق.

ـ الغزالي: «ليس الكشف العقلي يبلغ إلى حقيقة الأمور، بل نور يقذفه الله في القلب» (20).

ـ ابن رشد: «الشريعة حق والحكمة حق، ولا يضاد أحدهما الآخر» (21).

ـ ابن خلدون: رأى أن للعلم وظيفة ضمن «العمران»، لكنه لا يتجاوز حدود الطبيعة التي رسمها الله (22).

ومع ذلك، وُجد تيار تأويلي عقلاني مفرط عند بعض المعتزلة، وكذلك لدى (ابو بكر الرازي) الذين قالوا إن العقل قادر على إدراك الخير والشر بذاته. لكنهم لم ينكروا دور الله في العلم والمعرفة، وان العقل هو هبة إلهية للعالم (23). (25). لكن يبقى الاكثر شهرة هو (ابن الراوندي: ت 911م) الذي قال في الزمرد إن الأنبياء «أضرّوا بالعقول»، وإن العقل وحده كافٍ لمعرفة الحقيقة. لكنه بقى فردا معزولا ولم يشكل تيارا او اثرا فكريا واضحا(24).

الفكر العربي في العصر الحديث: يبدو ان الاجتياح الاستعماري والثقافي الغربي للعالم العربي، منذ اواخر الدولة العثمانية، وتشجيع نفوذ التيارات الغربية اليسارية والليبرالية، ادى الى تمزق الهوية الثقافية العربية، وفقدانها خصوصيتها التاريخية الجامعة بين دور العقل البشري والاشراف الالهي. واسوء تعبيرات هذا التمزق، الانقسام الى تيارين متناقضين متحاربين:

ـ التيار الغربي المادي الحداثي بمختلف مسمياته الليبرالية واليسارية. والذي تمكن بدعم غربي مادي علني وخفي من فرض سيطرته على الدول والمجتمعات والاحزاب وعموم المؤسسات الثقافية في العالم العربي.

ـ التيار السلفي الاسلامي، باشكاله الشيعية والسنية والتصوفية، المتعصب والرافض حتى للتراث الفكري والابداعي العربي الاسلامي.

نقد سيطرة التيار العلموي في الغرب المعاصر

كما رأينا، رغم وجود هذان التياران المتعارضان طيلة التاريخ الثقافي الغربي منذ اليونان والرومان حتى الوقت الحالي، الا انه في العصر الحديث ثمة عملية فرض لسيطر التيار العلموي المادي، في الثقافة السائدة والتعليم والاعلام، مع تعتيم مقصود على التيار السماوي، وذلك لغايات عقائدية سلطوية. هذه بعض المقولات الناقدة لهذه الهيمنة، لشخصيات فكرية معروفة، اوربية وعربية:

ـ بول فييرآبند: «العِلمُ إنما هو أيديولوجيا ضمن أيديولوجياتٍ متعددة، وينبغي فصله تمامًا عن الدولة كما فُصِل الدين عن الدولة.» (26).

ـ سي. إس. لويس: «سيظهرُ “مُكيِّفون” مسلّحون بدولةٍ قادرةٍ على كلِّ شيء وبـ“تقنيةٍ علميةٍ لا تُقاوَم”، يَصوغون الأجيالَ كما يشاؤون.» (27).

ـ يورغن هابرماس: ينتقد «الفهمَ العلمويَّ لذات العلم» بوصفه نزعةً تُحوِّل المعرفةَ العلمية إلى إيديولوجيا تُقصي أشكال الفهم الأخرى وتبرّر سلطةَ الخبراء. (28).

ـ هوركهايمر وأدورنو: «عقلُ التنوير حين يتحوّل إلى أداةٍ خالصةٍ للحساب والسيطرة يغدو أيديولوجيا للهيمنة باسم العلم والتقنية.» (29).

ـ جاك إيلول: «النظامُ التكنولوجي يَفرِض منطقَه على المجتمع والإنسان… ويُعيد تشكيلَ الحاجات والأولويات والسلوك اليومي» (30).

ـ أوستن ل. هيوز: «تحوّلت الدعوى القائلة إن العلوم الطبيعية هي الطريقُ الوحيدُ للمعرفة إلى أيديولوجيا.» (31).

ـ عبد الوهاب المسيري: «سطوةُ العلمِ الطبيعيِّ قد قُوِّضت في الغرب، بينما لا يزال بعضنا يتصوّرها المدخلَ الوحيدَ لفهم الإنسان.» (32).

ـ طه عبد الرحمن: ينتقد «الرؤيةَ الأحادية» التي تفصلُ القيمَ عن المعرفة وتؤدلجُ العلمَ ضمن منظورٍ علمانيٍّ يُقصي المتعالي. (33).

***

سليم مطر ـ جنيف

.......................

المصادر

(1) أفلاطون، الاعتذار، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، ص 42.

(2) أفلاطون، الجمهورية، ترجمة فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة، ص 179.

(3) أرسطو، الميتافيزيقا، ترجمة إسحق عبود، دار الأندلس، ص 15.

(4) سينيكا، الرسائل الأخلاقية إلى لوسيليوس، ترجمة جورج حنين، دار المدى، ص 210.

(5) توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية، ج 1، دار الفكر المسيحي، ص 31.

(6) إيمانويل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، المركز القومي للترجمة، ص 102.

(7) إسحاق نيوتن، الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية، ترجمة عبد الحميد صبرة، دار النهضة، ص 12.

(8) مارتن هايدغر، السؤال عن التقنية، ترجمة فتحي المسكيني، دار الجمل، ص 21.

(9) أرسطو، الميتافيزيقا، فقرة 985b4–20 (عن ديموقريطس).

(10) أبيقور، رسالة في السعادة، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، ص 15.

(11) لوكريتيوس، في طبيعة الأشياء، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، ص 42.

(12) فرنسيس بيكون، تأملات مقدسة، ترجمة فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة، ص 95.

(13) أوغست كونت، دروس في الفلسفة الوضعية، ج 1، دار الطليعة، ص 7.

(14) تشارلز داروين، أصل الأنواع، ترجمة إسماعيل مظهر، القاهرة، ص 25.

(15) كارل ماركس، رأس المال، ترجمة فالح عبد الجبار، ج 1، ص 11.

(16) ريتشارد دوكنز، وهم الإله، ترجمة حسان ميخائيل إسحق، ص 19.

(17) الكندي، رسالة في الفلسفة الأولى، تحقيق عبد الرحمن بدوي، القاهرة، ص 103.

(18) الفارابي، إحصاء العلوم، تحقيق عثمان أمين، القاهرة، ص 16.

(19) ابن الهيثم، كتاب المناظر، تحقيق عبد الحميد صبرة، بيروت، ج 1، ص 8.

(20) الغزالي، المنقذ من الضلال، دار المعارف، ص 22.

(21) ابن رشد، فصل المقال، دار الفكر العربي، ص 14.

(22) ابن خلدون، المقدمة، دار الفكر، بيروت، ص 435.

(23) القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، القاهرة، ص 55.

(24) الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، دار المعرفة، ص 86.

تمثل حالة ابن الراوندي نموذجًا لما يُعرف في الدراسات الحديثة بـ «الإلحاد الفردي» أو «الاعتراض الفكري المعزول»، فبرغم طابعه الجدلي وميله إلى انتقاد الأصول الدينية، فإن أفكاره لم تُنتج تيارًا فكريًا مستقلًا، ولم تؤسس مدرسة أو تلاميذ. وقد لاحظ المستشرق الألماني جوزف فان إس، المتخصص في علم الكلام، أن ابن الراوندي «ظل على هامش الجدل اللاهوتي الإسلامي، ولم يحظ فكره بأي امتداد مؤثر».

Theologie und Gesellschaft im 2. und 3. Jahrhundert Hidschra, Bd. 2, S. 628–630.

(25) الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 87.

(26) بول فييرآبند، ضد المنهج، عرض موقع الجزيرة، 15 تموز 2017.

(27) سي. إس. لويس، إلغاء الإنسان، عرض مؤسسة C.S. Lewis Institute.

(28) يورغن هابرماس، دراسات نقد النزعة العلموية، مجلة جامعة دمشق، ملف PDF.

(29) ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو، جدل التنوير، عرض الجزيرة الثقافي.

(30) جاك إيلول، المجتمع التكنولوجي، قراءات عربية.

(31) أوستن ل. هيوز، «حماقة العلموية»، The New Atlantis، خريف 2012.

(32) عبد الوهاب المسيري، الثقافة والمنهج، دار الشروق.

(33) طه عبد الرحمن، روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية، المركز الثقافي العربي.

 

منذ أن عرف الإنسان معنى التفكير والشعور، وهو يواجه مأزقاً لا ينتهي، يعيش بين صوتين متناقضين يسكنانه: العقل الذي يدعوه إلى المنطق والحكمة، والقلب الذي يقوده نحو الإحساس والمشاعر. وبين هاتين القوتين المتنازعتين في أعماقه تتشكل التجربة الإنسانية بكل ما فيها من تناقضٍ وتوازنٍ وألمٍ وجمال.

العقل هو أداة الفهم والتحليل والتمييز، به نزن الأمور بميزان المنطق، ونُدرك الصواب من الخطأ. أما القلب، فهو موطن الإحساس، ومنه تنبع المشاعر التي تمنح الحياة معناها الإنساني العميق. لكن المعضلة تبدأ حين ينفصل أحدهما عن الآخر؛ فالعقل بلا مشاعر يجعل الإنسان آلة باردة، والمشاعر بلا منطق تجعله أسير اندفاعٍ أعمى.

لقد تناول الفلاسفة هذا التناقض في رؤاهم منذ القدم، فرأى أفلاطون، أن النفس تتكوّن من ثلاث قوى: العقل والعاطفة والرغبة، وأن التوازن بينها هو مصدر الفضيلة والعدالة في النفس، فحين يسيطر العقل على العاطفة والرغبة بحكمة، يتحقق الانسجام الإنساني.

بينما جعل ديكارت العقلَ جوهر الوجود الإنساني بقوله الشهير: «أنا أفكر، إذن أنا موجود»، فحصر الإنسان في دائرة الفكر المجرد، متغافلًا عن عمق التجربة الوجدانية التي تمنح الفكر روحه.

ثم جاء ديفيد هيوم، ليقلب هذه الفكرة رأسًا على عقب، مؤكدًا أن العقل عبدٌ للعاطفة، وأن قرارات الإنسان لا تصدر عن تفكير منطقي بحت، بل عن انفعالات ورغبات هي التي تحرك إرادته وتوجّه أحكامه.

أما إيمانويل كانط، فقد حاول إيجاد توازن بين الطرفين، فرأى أن العقل يضع القوانين الأخلاقية، بينما العاطفة تمنحها دافعها الإنساني، فبدون الشعور لا قيمة للواجب، وبدون العقل لا معنى للمسؤولية الأخلاقية.

وفي العصر الحديث، رأى ويليام جيمس، مؤسس علم النفس الفلسفي، أن العاطفة ليست نتيجة الفكر، بل هي أصل الفعل، وأن الإنسان يتحرك بدافع شعوره قبل أن يتبنى فكرةً تبرر ذلك الشعور.

أما سبينوزا فكان يرى أن الفرح والحب هما أعلى أشكال الإدراك العقلي، فالعاطفة عنده ليست نقيضًا للعقل، بل نتيجة لفهمٍ أعمق للوجود.

ومن ناحيةٍ روحية، ذهب المتصوفة إلى ما هو أبعد من الفلاسفة العقليين، حين جعلوا القلب مركز الإدراك الأسمى، لأنه يرى بالحدس ما لا يراه العقل بالبرهان. يقول ابن عربي: «للقلب وجوهٌ كثيرة، منها ما يتجه إلى العقل، ومنها ما يتجه إلى الله.»

فالقلب عندهم ليس خصمًا للعقل، بل شريكٌ له في كشف الحقيقة، تمامًا كما يرى الغزالي أن نور القلب إذا اتحد بنور العقل أضاء طريق المعرفة الإلهية، لأن كليهما مظهران من مظاهر النور الإلهي في الإنسان.

إن العلاقة بين العقل والقلب ليست ميدان صراعٍ كما يتوهم البعض، بل هي ساحة تفاعلٍ خلاق، يتبادلان فيها الأدوار ليصنع الإنسان من مجموعهما كينونته الكاملة. فالعقل لا يكتمل إلا حين يمرّ عبر القلب، لأن المعرفة بلا شعور تتحول إلى جفافٍ فكري، والشعور بلا وعي يتحول إلى اندفاعٍ عاطفيٍّ أعمى.

العقل يرسم الطريق بخطوط المنطق والتمييز، بينما القلب يضيء تلك الخطوط بحرارة المعنى وصدق التجربة. فالأول يُرشدنا إلى الاتجاه، والثاني يمنحنا الدافع للعبور. من دون العقل قد نُخطئ الطريق، ومن دون القلب قد لا نجرؤ على السير فيه أصلًا.

حين يتصالح الاثنان داخل الإنسان، يصبح قراره أكثر حكمة، وموقفه أكثر توازنًا، لأن الحكمة الحقيقية ليست في إطفاء العاطفة بالعقل، ولا في تغليب الإحساس على المنطق، بل في خلق انسجامٍ داخلي يجعل كلًّا منهما يُكمل الآخر.

فالحياة لا تحتاج إلى عقلٍ يَحسب فقط، ولا إلى قلبٍ يَندفع فحسب، بل إلى روحٍ تُفكّر بإحساس وتَشعر بوعي.

ومن يصل إلى هذا التوازن النادر، يدرك أن العقل ليس عدوًا للقلب، بل هو بوصلته، وأن القلب ليس عبئًا على العقل، بل هو طاقته التي تمنح للمنطق روحًا، وللوعي حياة.

في حياتنا اليومية، هذا التوازن هو ما يجعلنا أكثر نضجًا واتزانًا.

نحتاج إلى القلب كي نحيا بصدق، وإلى العقل كي نحيا بوعي.

نحب بعقلٍ يحمي، ونفكر بقلبٍ يُلهم.

ومن فقد أحدهما عاش إمّا في برودٍ عقليٍ قاتل كأن آله تُسيره، أو في حرارةٍ عاطفيةٍ تحرقه.

في النهاية يبقى الإنسان كائنًا يتأرجح بين نور العقل ودفء القلب.

فالعقل هو ضوء الطريق، والقلب هو دفء السير فيه، ومن جمع بينهما أدرك معنى أن يكون إنسانًا كامل التوازن، لا حاكمًا بعقله فقط، ولا عبدًا لقلبه وحده.

***

م.م. ندى صباح أسد الله

كلية الآداب - جامعة بغداد

 

قبل أيام معدودات احتدم النقاش حول جنسية عربي فاز بجائز نوبل في الكيمياء، كل مجموعة تدّعي أنه من بني جِلْدتها، لم تكن الجائزة ولا أبحاثه العلمية ولا حيثيات البيئة غير العربية التي منحته عناصر التمكين حتى يسجّل اسمَه العلمُ، يَتسيّد المشهد، وهذا ما وَلَّدَ فِيّ - على غِرار مثيلاته من المواقف - تساؤلا عن الدافع الذي يحرّك مثل هذه الانزياحات في تعاطينا مع الأحداث العالمية من كُنه الحدث إلى نواة الانكفاء على الانتماء، هل لذلك رابطٌ برغبة دفينة في أنْ نضيف لحركة عالم اليوم باعتبارنا فاعلين أيضا لا منفعلين فحسب؟ وهل ما يحرّك مثل هذه الاستماتة هو المساهمة الجادة في خدمة الإنسانية أم هل المحرك الفعلي هو تسجيل حضور وَرَدّ اعتبار باسم انتماءاتنا؟ مع مفارقة أن بعض تلك الانتماءات لا دخل لنا فيها ولا فضل كالعِرق!

أيًا يكن الأمر، فهذا يجرنا إلى سؤال محوري: ماذا يمكن أن نضيف لعالَم اليوم؟!

لا يستهويني الانزلاق إلى هذا السؤال، ولكن أحب أن أوجّه النظر إلى سؤال يسبق السؤال الماضي في الرتبة الوظيفية: هل نون الجماعة للمتكلم في هذا السؤال مشروعةٌ حقا؟

لطالما تساءلتُ عن مشروعية الرغبة الجامحة لشعوب منطقتنا في أَنْ يعترف العالم حين نُقدّم إسهاما علميا أو حضاريا، بقوميّتنا وديانتنا ولغتنا وعِرْقنا وثقافتنا بل وجنسيّتنا وعشيرتنا وقبيلتنا ومنطقتنا، ليتقدّم اسمَنا وإنجازَنا، ونظلُّ نحتفي فَخارا بذلك وكأنّه الأسُّ الذي دار عليه إنجازنا، ولولاه لما جاء الإنجاز ولا راح!

هل الداعي لهذا الهوس هو عقدة نقص ننطوي عليها؛ لإثبات أنّنا بقوميتنا وما ذَكرتُ من تصنيفات لا تمتّ بصلة رئيسة للإنجازات الإنسانية، نمتلك كل المقوّمات لِأَنْ نقدم مثل ما يقدّم غيرنا، بل وبسبب تلك التصنيفات قد حُزْنَا المَزيّة الفُضلى؛ لأننا بسبب أو لآخر ندين لها بالفضل لإنجازنا هذا أو ذاك، زِدْ على ذلك أنه لا بد للعالَم أن يُقِرّ لنا بذلك، لا أعني الإنجاز، بل بما يَمُنّ عليه انتماؤنا إنْ الديني أو القومي أو غيره، ولكننا لا نجد إجابة تحترم العقل للإسهامات العالمية التي يقدمها الآخرون وما زالوا، من غير احتياج لانتسابٍ إلى ما ننتسب إليه! فضلا عن أنهم صنعوا التاريخ الحديث بينما نحن قد أخذنا إجازة تِلو الإجازة في أتون الانقلابات الحضارية!

ما أرمي إليه هل نحن بحاجة حقيقية لِأَنْ نَزُجّ بانتماءاتنا - أيًا كانت - فيما نقدمه من إنجازات للعالَم والإنسانية جمعاء، أكان محتاجا الكيميائي عمر ياغي ليحوز جائزة نوبل لشيء آخر أكثر من اختباراته العلمية؟! ألا يمكن أن نقدم للإنسانية باعتبار صفة واحدة ليس إلا: إنسان، بغضّ النظر عن الانتماء؟!

حين ننزع عنّا هذه النزعة الجنونية لإثبات الذات المشحون بها مخيالُنا الجمعي، فإنه شيء واحد حينذاك يؤرقنا: الإنسانية، باعتبارنا جزءا من كينونتها، وليس سلالة خاصة تمنح هِبات متفرّدة بسبب عرقها النقي الموروث!

عَبثًا أن نسأل: ماذا يمكن أن نضيف لعالَم اليوم؟! وكأنّنا نضفي على إنجازاتنا - ولو على المستوى الضمني - مسحةَ الفضل للجماعة المنتمين إليها، وإنما فليكن سؤالنا: ماذا ينقص إنسانيـــة اليوم؟! وحينها لا نضع وزنا لانتماءاتنا لا من حيث إنها بلا قيمة، وإنما من حيث إننا ننفض عما نقدمه أي علائق لا تمتّ له بأي صلة، فالعلم لا دين له ولا لغة ولا عِرق!

عندما أرجع خطوة للوراء، وأنظر لحركة إنسان اليوم، فأنا أكاد لا أرى غير إنسان يمشي على غير هُدى، مُسايِرا العالَم في اتجاهه الذي ينحوه، مفترضًا أن سبب ذلك هو عدم اكتراث الكثير - خاصة الجماهير المسحوقة - سوى بتأمين لقمة العيش، وأما أولئك الذين وَعُوا الطبقات العميقة مما يجري وكيف يجري، فهم مكبّلو الحَراك، مغلولو التصرف إزاء هذا التسارع الجماعي المخيف، ربّما للهاوية، من يدري؟ لا أحد يدري!

ها نحن أُوْلاء - مثلا - نعيش عصر الذكاء الاصطناعي، مدركين تماما كيف يتغلغل في جميع مفاصل حياتنا بإرادتنا وبغير إرادتنا، بجميله وقبيحه، برَونقه ومثالبه، ولكن هل قرر إنسان اليوم الدخول لهذا المضمار عن وعي حُرّ؟ أم هل كان انجرافه مع التيار؟ وما هي مساحة الفاعلية التي يتحرك فيها إنسان اليوم في تحديد تعاطيه مع أبعاد الذكاء الاصطناعي؟ وهل إنسان اليوم على دراية أو شبه دراية بما سيؤول إليه الأمر في قادم العقود في علاقته مع الذكاء الاصطناعي؟

إنْ كان جانبٌ ما دقيقًا في نظرية المؤامرة، فهو أنه ثَمّة مَنْ يقرر عنّا حقا، ونظنّ تبجّحًا أننا نختار ما نختار بحرية، لكننا - أأقررنا بذلك أم أنكرناه - واقعون تحت موجة اندفاع تشترك فيها الإنسانية جمعاء. ليس تلميحا لضرورة قطع صلتنا عن العالم، والتقوقع في عزلة عنه، والانكفاء على الذات، فهذا يزيد التعقيد ولا يحلّه، فالعالَم يمضي غير عابئٍ بمن يلوذ في الكهوف، وهو إذْ يمضي يجد ألف طريقة ليجرفنا نحوه، ولكن لَفْتَتي هي دعوة للتفكير مَليّا في الأدوار الممكنة التي يجب الاضطلاع بها لوقف هذا المدّ العاتي من الانخراط في هذا العَمَهِ.

وإجابةً عن السؤال، فلعل ما ينقص إنسانيتنا اليوم هو إرادة فردية حرة حقيقية تخلّصه بعيدا عن رِبقة التنويم الجماعي الإنساني، ولفعل ذلك لا بد من إبطاء وتيرتنا، فهذا التسارع المحموم هو ما يوجّه انتباهنا عن غير ما ينبغي أن يتوجّه إليه أصالةً، وينفرط عقد التحكم بزمام أمورنا من بين أصابع أعمارنا من حيث لا نشعر، ولئن كان الحشد أفيون الفرد، فإنّ الفرد هو صمام أمان الحشد! وبمقدور الفرد أن ينقذ الحشد من هذا التدافع اللامسؤول.

لا تروق لي فكرة أن يسكن هواجسَ الفرد السؤالُ الحماسي المستهلَك: كيف أغيّر العالَم؟ وإنما: كيف أحلّ معضلة عدم الاصطفاف مع حركة العالَم المتسارعة غير المسؤولة، بينما أعيش فردانيةً تضيف للإنسانية، فردانية تؤول بعد حين - طال الزمان أم قصُر - إلى عدوى إنسانية مهما كانت ضئيلة، فردانية تُطلّق انتماءاتها لا بمعنى التبرؤ، فَلِكُلٍ الحرية الكاملة في تقرير توجّهاته فيما يملك الاختيار فيه، وإنما بمعنى ألّا يجعلها هُويّة متحجّرة لا تتنفّس فيها الإنسانية إلا بقدر ما تغذّي غرورها بأَناها.

وحينما - حينما فقط - نضع الإنسانية نُصْبَ أعيننا، والفردانية المستقلة - لا المنفصلة - الفَلَك الذي نسبح فيه، فإنّ إنسانية الغد ستكون مختلفة عن إنسانية اليوم، ولن نُتِمّ نقصَنا - بمعنى تلبية الاحتياج لا الكمال - في الغد، إلا إذا اعترفنا بنقص اليوم، والاعتراف أولى خطوات التغيير، والتشخيص يسبق العلاج، وبغير ذلك فما ينقص إنسانية اليوم سيظل ينقص إنسانية الغد، في حلقة تِيْهٍ مُفرغة من الحرية والحياة، وإنْ كنّا نشعر أننا على قيد الحياة!.

***

محمـــد سيـــف

مصر تبتسم من جديد..

في صباح يوم السبت، الأول من نوفمبر 2025، اليوم الذي بدا كأنه فجر جديد لروح مصر، احتشد المصريون عند أطراف محافظة "الجيزة"، لا ليزوروا مبنى جديدا فحسب، بل ليحتفلوا بأنفسهم وبقدرتهم على استحضار التاريخ من عمق الزمن. كان افتتاح المتحف المصري الكبير حدثا يتجاوز الحجر والزخرفة إلى الإنسان نفسه، إذ بدا وكأنه لحظة وعي جماعي تعيد تعريف معنى الانتماء. فالمصريون لم يأتوا ليشاهدوا الآثار، بل ليشهدوا أنفسهم، وليقولوا للعالم إن الحضارة التي صنعت التاريخ لا تزال قادرة على أن تبتسم من جديد.

ومن هذه اللحظة المضيئة انبثقت البهجة بوصفها فعلا وجوديا أكثر من كونها إحساسا عابرا. فحين يقف المصري أمام تمثال صنعته يد أجداده لا يرى الماضي شيئا مضى، بل حقيقة ما زالت تسكن الحاضر. كأنه يقول في صمت مهيب: "ها أنا أشارك في كتابة التاريخ من جديد." وهنا تتجلى الفلسفة كما وصفها "هيدجر" بوصفها وعي الإنسان بوجوده في العالم. تلك الوقفة أمام أثر خالد هي لحظة انكشاف للمعنى، إذ يصبح الفرح نوعا من الإدراك بأن الإنسان كائن صانع للزمن لا محكوم به.

ومن هذا الإدراك يتولد جسر بين الماضي والحاضر؛ فالمتحف لم يكن مجرد افتتاح معماري، بل لقاء بين المصري وتاريخه الممتد آلاف السنين. وكما قال "سارتر" إن الإنسان ليس ما هو بل ما يمكن أن يكونه، بدا هذا اليوم درسا فلسفيا في الإمكان. فالمصريون أدركوا أن التاريخ ليس نصا جامدا، بل مشروعا للحياة يمكن استعادته وتجديده. وحين تتفتح القاعات وتلمع الكنوز الملوكية في ضوء النهار، يشعر الزائر أن الحجر نفسه يتنفس، وأن الزمن القديم يمد يده إلى الحاضر في مصالحة صامتة بين الإنسان وأصله. وإن الفرح هنا ليس بالمشهد وحده، بل بالمعنى الذي يوقظه في الوجدان.

ومن هذا الوعي بالزمن ينبثق بعد آخر للفرح، هو بعده الإنساني العميق. فالابتسامات التي غمرت الوجوه في ذلك اليوم لم تكن مجرد طقس احتفالي، بل كانت فعلا فطريا صادقا خرج من طيبة متجذرة في وجدان المصريين. لقد بدا المشهد وكأنه تأكيد على أن الفرح لا يحتاج إلى تكلّف، لأن أصالته تنبع من الشعور بالمشاركة. وكأن المتحف لم يُبن ليُزار فحسب، بل ليُعاش كرمز للعدالة الثقافية التي تحدث عنها "رولز"؛ فكل فرد شعر أنه جزء من الإنجاز، لا مجرد شاهد عليه، وهكذا تحوّل الفرح إلى فعل انتماء حقيقي، وتجسيد لقدرة المصري على تجاوز الصعاب بالحياة نفسها. ومن هذا الشعور الجماعي تولدت رؤية أعمق للفرح، إذ لم يعد مجرد احتفاء بالماضي، بل وعدًا بالمستقبل.

ومن هذا الإحساس الجمعي الذي كشف عن طيبة المصريين وقدرتهم على تجاوز الصعاب، تولدت رؤية أعمق للفرح، إذ لم تعد البهجة مجرد احتفاء بالماضي، بل وعدا بالمستقبل. ولأن الفرح لا يقف عند لحظة منتهية، امتدت البهجة إلى الغد، وكأن المصريين بضحكاتهم ودهشتهم قالوا إن الحضارة ليست ماضيا يُستعاد، بل مشروعا يُستكمل. لقد تحولت لحظة الافتتاح إلى تمرين على الأمل، فالمتحف لم يكن نهاية لإنجاز معماري، بل بداية لرحلة جديدة في التعليم والبحث والإبداع. وهنا يطل المعنى الذي تحدث عنه "كارل يونغ" في مفهوم "التضامن الرمزي": الذي ينص على أن الإنسان يشعر بأن فرحته الفردية جزء من فرح جمعي أوسع، وأن الفرح حين يُعاش جماعيا يتحول إلى طاقة قادرة على تشكيل المستقبل. وهكذا يصبح الفرح ذاته فعلا حضاريا؛ فهو لا يكتفي بالتعبير عن السرور، بل يفتح أفقا للتجدد، ويدعو إلى مشاركة الوعي لا مجرد المشاركة في الحدث.

ولم يكن التعبير عن الفرح مقتصرا على الشوارع والساحات؛ فقد امتد إلى "الفضاء الرقمي"، حيث غيّر آلاف المصريين صورهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، ووضعوا صور المتحف أو رموز الحضارة الفرعونية تعبيرا عن فخر واعتزاز وامتنان. كان ذلك الفعل البسيط أشبه بإعلان جماعي أن الفرح لا يُقال بالكلمات وحدها، بل يُمارس بالرمز والمشاركة. لقد كانت لحظة رقمية لكنها إنسانية بعمق، إذ امتزجت فيها التقنية بالوجدان، والعاطفة بالوعي، والفعل بالشعور.

وهكذا يتبين لي أن فرحة المصريين بالمتحف لم تكن حدثا ثقافيا فقط، بل "ظاهرة فلسفية" بالمعنى الأعمق للكلمة. فهي لم تعبّر عن لحظة انفعال جماهيري، بل عن "يقظة وجودية جماعية" تذكر الإنسان أن الفرح لا ينبع من امتلاك الأشياء، بل من إدراك ذاته وقدرته على أن يمنح للحياة معنى؛ فالحجارة تُبنى ثم تُنسى، أما الوعي فيظل شاهدا على الإنسان، وعلى قدرته الدائمة على أن ينهض من جديد.

والفلسفة، في هذه اللحظة المصرية النادرة، لم تكن "فكرة أكاديمية"، بل "روحا تسري في الحياة اليومية". فحين يبتسم المصري أمام المتحف، يعلن دون أن يدري أن الفرح أيضا فعل تفكير، وأن الحضارة ليست مجرد ذاكرة، بل وعد بالمستقبل.

ولعل ما يجعل هذه الفرحة مختلفة هو أنها جمعت بين الفكر والعاطفة، بين الجمال والمعنى، بين الزمان والإنسان. لقد عادت مصر لتبتسم من جديد، لا لأن حجرا أزيح أو بابا فُتح، بل لأن روحها القديمة نهضت في شكل حديث لتقول للعالم: "ما زلنا هنا، نصنع الفرح ونفكر فيه."

***

بقلم أ. د. علي محمد عليان عبد الرازق الخطيب

أستاذ ورئيس مجلس قسم الفلسفة- كلية الآداب –جامعة المنيا- مصر

إذا كانت منظومة العادات والقيم في مجتمع ما لا تفضي إلى تحقيق إنسانية الفرد، ولا تعين الجماعة على الرقي والسمو، فإنها لا تعدو أن تكون سلاسل تكبل الروح باسم القداسة، وأغلالا تزين بالأوهام حتى نظنها تيجانا من نور، وهي في جوهرها ظلام كثيف

فليست القداسة في القيم بما ورثت، بل بما تثمره من وعي وعدل وكرامة. وليست العادات شرفا في ذاتها، بل تصبح شرفا حين تنير الطريق إلى الإنسان الحر، لا حين تعيده عبدا لماض متحجر أو تقاليد عمياء. إن ما لا ينبت في الإنسان حرية التفكير، ولا يزرع فيه احترام المختلف، ولا يدفعه إلى الإبداع والبناء، فليس من القيم في شيء، وإن تلي في خطب، وتغنى به في المحافل

إن المجتمعات التي تقدس عاداتها دون مساءلة، تشبه من يحرس سجنه بإخلاص، ويعلق مفاتيح حريته على الجدار تذكارا. فالتقاليد حين تصبح أثقل من الإنسان، تفقد معناها، وتتحول من إطار للحياة إلى جدار يفصلها عنها. وما لم يجرؤ المجتمع على نقد ذاته، وتمزيق أقنعته الموروثة، فلن يولد فيه الإنسان الجديد، بل سيظل أسير الأطلال يتغنى بالماضي ويخشى الفجر

واعتقد ان القيم التي لا تخلق فينا القدرة على الحرية، ولا تزرع فينا شجاعة الرفض، ليست إلا مرايا مكسورة تعكس ماضيا ميتا. فليست الغاية أن نحمل القيم كأثقال مقدسة على ظهورنا، بل أن نجعلها جناحين نحلق بهما نحو إنسان أرقى، ووعي أصفى. لأن القيمة التي لا تنتمي إلى المستقبل، ليست إلا قيدا آخر صاغه الماضي بيد من ذهب ليخدعنا ببريقه.

إن القيم الحقة هي التي تربي فينا ضميرا حيا، لا طاعة صماء، وتغرس فينا الشجاعة على التساؤل، لا الخضوع للتكرار. وحين نفهم أن الكرامة الإنسانية هي المعيار الأعلى لكل منظومة أخلاقية، سندرك أن كثيرا مما اعتبرناه مقدسا لم يكن سوى خوف متوار في ثياب الحكمة. الإنسان الحر لا يسكن في العادة، بل في السؤال. إنه الكائن الذي يعيد ترتيب العالم في ذهنه كل يوم، لأنه يعرف أن الحقيقة لا تورث، بل تكتشف.

فلتكن قيمنا نابعة من إنسانيتنا، لا من رهبتنا. ولتكن عاداتنا جسورا نعبر بها إلى الغد، لا قيودا تربطنا بالأمس. إذ لا قداسة لما يطفئ نور العقل، ولا مجد لما يحطم روح الإنسان ووعيه  فالقداسة التي لا تلد الحرية ليست قداسة، والفضيلة التي لا توقظ الفكر ليست فضيلة.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

على المستوى الأيدلوجي والمعرفي في العالم العربي، ثمة نقاش حقيقي وجدي حول موقع الدين في الحياة العامة.. والذي يثير هذا النقاش ويعطيه طابع الجدية والحيوية هو وجود مجموعات بشرية في الحياة العامة العربية والإسلامية، تحمل شعار ومشروع الإسلام، وترتب مواقفها من الآخرين على ضوء بعدها أو قربها من الالتزام بالإسلام.. والمقصود بالالتزام هنا تبني المشروع السياسي والحركي لهذه الجماعات.. ومن الأهمية في هذا السياق أن نفرق بين الإسلام كدين وتشريعات سماوية، وكدين يدين به كل العرب إما اعتقادات أو ثقافة.. بمعنى أن الإنسان العربي المسلم، لا يمكن إخراجه من ربقة الإسلام، حتى لو لم يكن مؤمنا بالمشروع السياسي للإسلاميين.. كما أن المسيحيين العرب هم على المستوى الثقافي والحضاري مسلمون.. لذلك نتمكن من القول: أن كل العرب من المسلمين على النحوين المذكورين أعلاه.. وفي المقابل أو من ضمن هؤلاء ثمة وجودات متمايزة على مستوى القول والفعل تتبنى رؤية خاصة بالإسلام وتبني مشروعا سياسيا على ضوء مرجعية الإسلام..

 فليس كل المسلمون من جماعات الإسلام السياسي... ولا يمكن أن تقوم جماعات الإسلام السياسي من سلب الإسلام من كل العرب والمسلمين..

إننا نعتقد أن ه ذا التفريق المعرفي والاجتماعي ضروري على المستوى المنهجي والإجرائي، حتى لا يتحول الإسلام كدين إلى موضوع للمزايدة أو التراشق السياسي والاجتماعي والذي يساهم في إيجاد حالة الارتباك وبعض الاحتكاك في هذا السياق هو أن بنية المجتمعات العربية والإسلامية، لا يمكن أن تستغني عن الدين وقيمه في حياتها المختلفة. ولكن في ذات الوقت الذي نقر بأنه لا يمكن الاستغناء عن الدين ومبادئه في حياة العرب والمسلمين، وفي ذات الوقت نرى أن حضور الجماعات الإسلامية في الدولة انطلاقا من مشروعها الأيدلوجي و السياسي، أبان عن انقسامات عميقة في واقع الاجتماع العربي والإسلامي. لأن الجماعات الأيدلوجية بصرف النظر عن طبيعة وجوهر هذه الأيدلوجيا، هي نزاعة إلى استخدام مقدرات الدولة والسلطة لتعميم أيدلوجيتها وإدخال الآخرين المختلفين والمغايرين فيها.

و لكون هذه الجماعات وصلت إلى السلطة، فإنها استخدمت كل مقدرات الدولة والسلطة لتعميم أيدلوجيتها. وهذا بطبيعة الحال يقتضي الاندفاع باتجاه الهيمنة على كل المواقع والمناصب السيادية والسياسية، حتى يتسنى لها تنفيذ أجنداتها الأيديولوجية، ومن جهة أخرى حتى لا يتمكن الخصوم من العودة إلى الدولة والسيطرة عليها مجددا.

و هذه الاستراتيجية ستفرض على الجماعات الإسلامية تقديم أهل الثقة على أهل الكفاءة في تحمل المسؤوليات الوطنية الكبرى، مما يفضي إلى ارتكاب أخطاء وخطايا تزيد من اللا ثقة بين مجموع القوى والمكونات السياسية وهذا بدوره يفضي إلى المزيد من تشبث أهل السلطة الجديدة بسلطتهم في ظل واقع سياسي واجتماعي واقتصادي، يتطلب معالجات وحلول سريعة، لا تمتلك هذه الجماعات القدرة على إنجاز هذه الحلول. فتكون النتيجة الطبيعية نخبة أيدلوجية سياسية جديدة، تتمحور حول السلطة وتسعى إلى إدارتها، دون امتلاك كل مراكز القوى في هذه المؤسسة. ومجتمع بكل فئاته ينتظر حلول سحرية وسريعة لإخراجه من أزماته الأمنية والمعيشية والتنموية والسياسية والاقتصادية، وقوى سياسية شريكة للنخبة السياسية السائدة حديثا في مرحلة النضال السلبي، إلا أنها مستبعدة من شؤون الحكم والسلطة الجديدة.

و مع كل هذه القوى، ثمة قوى أخرى تنتمي إلى مؤسسات الدولة العميقة، تعمل بخبرتها ودهاءها وارتباطاتها وتحالفها الداخلية والخارجية، لإيقاف عجلة التغيير والإصلاح. في ظل هذه الأوضاع المتداخلة والمتشابكة في كل شيء، تأتي خطايا الجماعات الأيدلوجية الحاكمة حديثا دون امتلاك كل أدوات الحكم الفعلي، لكي توفر الغطاء أو المناسبة للعمل على إعادة وإنتاج الأنظمة الشمولية الاستبدادية بأسماء جديدة ومسوغات لها ما يؤيدها في الواقع الشعبي، من جراء اندفاع الأمور صوب إما خيار الفوضى والآمال المحطمة والخلافات السياسية والأيديولوجية التي لاتنتهي بين أطراف القوى السياسية الجديدة، أو خيار الأمن وإخراج الدولة ومؤسساتها من الفوضى التي بدأت تبرز في كل هياكلها ومؤسساتها. ولا ريب أن تقديم الأمن على الحرية، يفضي على المستوى العملي إلى عودة النخب السياسية والأمنية السابقة لسدة الحكم بزخم شعبي لاقى الويلات من الفوضى وآثارها المختلفة.

من هنا فإننا نرى وعلى ضوء متغيرات الساحة المصرية وإخراج النخبة السياسية الجديدة بفعل نزعة الاستحواذ والخطايا الكبرى التي ارتكبتها النخبة السياسية الجديدة، أن هذه المتغيرات أنهت إلى حد بعيد إمكانية وصول جماعات إسلامية أيدلوجية إلى السلطة في العالم العربي مجددا. وعلى كل حال من الضروري القول : إن المسالة الدينية بكل عناوينها وهواجسها، أضحت اليوم من المسائل الهامة والحيوية، والتي تحتاج إلى نقاشات عميقة ومستفيضة للوصول إلى توافقات أهلية حولها. وف هذا الإطار نود التأكيد على النقاط التالية:

1-  تعلم من التجارب السياسية والمعرفية في الفضاء العربي، إن الخيارات التي تؤسس إلى علاقة عدائية وصدامية ومتوحشة مع المسالة الدينية بكل عناوينها، لن تتمكن هذه الخيارات من انجاز مشروع النهضة والتقدم، فلا نهضة فعلية في كل البدان الإسلامية في ظل خيار عدائي للدين وقيمه، لأن هذا الخيار يؤسس لخلق المناخ والشروط الذاتية للاحتراب الداخلي بين فئات وشرائح المجتمع

2-  إن ترك الجماعات العنفية والتكفيرية تختطف الإسلام وتمارس أعمالها الإرهابية باسم الإسلام وتشريعاته، سيلقي بظله الثقيل على راهن العرب والمسلمين ومستقبلهم.لان ترك هذه الجماعات تمارس أفعالها الإرهابية والعنفية باسم الإسلام، سيخلق متواليات ثقافية واجتماعية خطيرة تهدد استقرار مجتمعاتنا وأمنها الذاتي والثقاف والحضاري.

3-إن ثروات الإسلام وكنوزه المعرفية والثقافية والإنسانية وبحاجة باستمرار إلى جهود علمية لتظهيرها وإبرازها، حتى تتمكن الرؤى والمعالجات الإسلامية من مواكبة العصر والحضارة الحديثة، وتقدي إجابات نوعية على ضوء هدى الإسلام تفيد الانسان ف راهنه ومستقبله.

***

محمد محفوظ

الوعي والحقيقة: رحلة في صرح الخفاء والظاهر

أيها القارئ، توقف قليلًا، وانظر داخل نفسك قبل أن تشرع في قراءة هذه الكلمات. فكل ما تعتقد أنك تعرفه عن وعيك، عن إدراكك، عن نفسك، ليس إلا وهماً متلألئاً يخفي خلفه صرحًا من الظلال والنور، صرحًا يمتدّ بين الخفاء والظاهر، بين ما تدركه وما يهرب منك، بين ما تعلن عنه روحك وما يخفيه الفكر. لقد اعتقد الإنسان منذ فجر وعيه أنه مفكر، وأن عقله نور يضيء له الطريق، لكنه في الحقيقة يظل سجّان نفسه، يقيّد ذاته بأوهام متراكمة، ويزين قيوده بخيوط براقة من المعرفة والفلسفة والدين. الوعي، الذي ظنّه البشر وسيلة للحرية، ليس سوى آلة دقيقة لصناعة عبيد لأنفسهم، وكل فكرة تراها صادقة هي جدار إضافي في صرح الخفاء والظاهر. إن العقل والروح هنا في رقصة مستمرة، رقصة الظل والنور، حيث كل فكرة وكل شعور وكل إدراك يحمل في طياته مرآة للذات، وساحة للاختبار الروحي. الفكر لا يكون نافذة على الحقيقة إلا حين يتحرر من قيوده الذاتية والاجتماعية، والروح لا تكون مرشداً إلا حين تتماهي مع السر الأعظم، مع الوحدة بين الظل والنور، حيث لا حدود للمعرفة ولا قيود للوجود. الحرية التي يحلم بها الإنسان منذ طفولته هي وهم معلق بين القضبان، والوعي الذي يفتخر به هو السجان الأكثر دقة لنفسه. كل محاولة لفهم الذات، وكل بحث عن الحقيقة، ليس إلا صدى لعصور من الضلال المنظم، وكل معرفة أو فلسفة أو علم أو مبدأ أخلاقي ما هي إلا طبقة جديدة على صرح السجن الداخلي، تُزيّنه بألوان براقة، لتوهم الإنسان أنه حر، بينما هو أسير وهمه. أيها القارئ، هناك فراغ خلف كل فكرة، وراء كل شعور، وخلف كل قرار تتخذه. ذلك الفراغ هو الحقيقة المخبأة، السر الذي أخفاه الإنسان عن نفسه، والوعي الذي ظن أنه نور، هو في الواقع الظلام الأعمق. الفكر والروح، الظل والنور، هما بوابة هذا الصرح، رقصة مستمرة تكشف لك أن الحقيقة ليست وجهة، بل رحلة بلا نهاية، وأن كل إدراك جديد يولد معه سؤال أعظم، وكل شعور نقي يحفر فيك البعد الأكبر للوجود. وهكذا يصبح الإنسان شاهداً على نفسه، على كل أوهام وعيه، وعلى كل خياناته الداخلية، حيث يكتشف أن الحرية ليست امتلاك قرار، ولا إدراك كل الظواهر، بل القدرة على تجاوز كل وعي وكل فكرة، على التحليق فوق الصرح الذي يضم الخفاء والظاهر، على التحرر من قيود الفكر والروح معاً. واقول حين يظن الإنسان أنه يكتشف ذاته، يكون في الحقيقة قد غرق في وهمه، وقد أصبح الصرح نفسه هو الحياة، والمفتاح وهم الحرية. بعد أن تأملت في صرح الخفاء والظاهر، يبرز أمامك سؤال محوري: هل الوعي ملكك أم أنه مجرد انعكاس لما يُغذّيه العالم من حولك؟. فالفكر الذي تعتقد أنه إبداعك، والقرار الذي تصوّره اختيارك الحر، ليسا إلا نوايا مستعارة، انعكاسات لأصوات المجتمع، للتقاليد، للغة، وللذاكرة الجمعية التي تشكّل وعينا قبل أن نفهم أنفسنا. الوعي إذن ليس كياناً منفصلاً، بل صرح مركب من تراكب الظلال والنور، من تداخل الذات بالآخر، ومن خيوط الخفاء التي تتحكم بصمت في مسار الفكر. في هذه الرقصة الغامضة بين الظل والنور، نجد أن الخيانة ليست خطأ أو صراعاً أخلاقياً فحسب، بل هي وظيفة أساسية للوعي ذاته. فالوعي يخون ذاته حين يظن أنه يعي الحقيقة، حين يصدق الأوهام التي ينسجها العقل أو التي يفرضها المجتمع. هذه الخيانة، رغم ألمها، هي المعلم الأعظم: إذ تكشف لك أن كل إدراك جديد ليس اكتشافاً، بل إعادة ترتيب لما اعتدت أن تصدقه، وأن الحقيقة لا تُفهم إلا حين تتجاوز كل محاولات التملك. أما الفكر والروح، فهما رقصة مستمرة، رقصة الظل والنور، حيث الفكر يرنو نحو المعرفة ويغرق في الأوهام، بينما الروح تصطف مع السر الأعظم، مع الوحدة الداخلية التي تجمع بين الخفاء والظاهر. الفكر يبحث عن الحدود، الروح تذوب في اللاحدود؛ الفكر يراقب، الروح تحيا؛ الفكر يقيم القوانين، الروح تحطمها. هنا تكمن صعوبة هذه الرحلة: أن تراقب نفسك وأنت في قلب وهمك، أن تشهد على خيانات وعيك بينما تتقدم نحو ما وراءه. وإذا تساءلت عن الحرية في هذا الصرح، فأعلم أنها ليست امتلاك قرار أو معرفة مطلقة، بل القدرة على الانفصال عن كل وعي محدود، عن كل فكرة متعالية، عن كل شعور متملّك. الحرية هي تجاوز الوعي ذاته، هي المرور من مرآة النفس إلى الفراغ الذي خلفها، حيث لا يقودك العقل، ولا يملأك الفكر، ولا يسجن الروح. هناك، عند حافة الظل والنور، يظهر السر الأعظم: وحدة كل شيء، وأن الظل لا معنى له بلا نور، وأن الظلام لا يكشف إلا ما يختبئ خلفه النور.

إن هذه الرحلة لا تنتهي، فهي صرح ممتد بلا حدود، وكل خطوة فيه تكشف أن الحقيقة ليست وجهة، بل حركة مستمرة، رقص دائم بين الإدراك والجهل، بين الظاهر والخفاء، بين ما نراه وما لا نستطيع رؤيته. وكلما ازددت وعيًا، اكتشفت أنك مجرد شاهد على لعبٍ أبدي، وأن كل إدراك جديد يولد سؤالًا أعمق، وكل شعور نقي يفتح أبواب المجهول أمامك. في نهاية هذه المرحلة من الرحلة، يصبح الإنسان مدركًا أن الوعي والحقيقة ليسا شيئًا يمكن امتلاكه أو تثبيته، بل رحلة في صرح الخفاء والظاهر، صرخة صامتة ما بين الظل والنور، حيث كل اكتشاف هو بداية لسؤال جديد، وكل معرفة هي بوابة لما وراء المعرفة. وفي هذه البوابة، حيث يلتقي الفكر بالروح، ويختلط الظل بالنور، يكون الإنسان قد بدأ يفهم أن الحقيقة ليست ما تراه العين أو يختبره العقل، بل ما يختبئ في صمت الروح، خلف كل خدعة وعين مفتوحة على سر الحياة الأعظم. لكن عندما افكر واكتب احد مقال اقول ليس الوعي الذي يظنه الإنسان نورًا، بل الظل ذاته، والحرية ليست امتلاك قرار، بل القدرة على تجاوز كل قرار، على التحليق فوق صرح الخفاء والظاهر، لتصبح شاهداً بلا قيود، حيًّا بلا امتلاك، حرًّا بلا وهم. حين تتجاوز الظل والنور، وعندما يزداد وعينا بحجم خداع العقل لنفسه، يظهر السر الأعظم، ذلك الذي لا يُقال ولا يُفهم بالعقل وحده، بل يُحس بالروح قبل الفكر. السر الأعظم ليس حقيقة يمكن أن تُثبت، بل شعور، لحظة من الانصهار التام بين كل ما هو ظاهر وما هو خفي. إنه النقطة التي يلتقي فيها كل تضاد، حيث يذوب الفكر في الروح، والوعي في اللاوعي، والزمان في الأزل، والمكان في اللانهائي. في هذا العبور ما وراء العقل، لا تكون المعرفة ملكًا لك، ولا يصبح القرار اختيارًا، بل كل شيء يصبح مرآة: مرآة تصرخ لك أن ما تظنه حقيقياً ليس إلا انعكاسًا، وأن كل اكتشاف هو بداية لإخفاء أعظم. هنا يدرك الإنسان أن الصمت ليس غيابًا، وأن الفراغ ليس نقصًا، بل مساحة تنكشف فيها الحقيقة على شكلها الأسمى: وحدة كل الأشياء في نسيج واحد، حيث الظل والنور ليسا متناقضين بل متكاملين، والحياة والموت ليسا مفصولين بل حلقة مستمرة من التجلي الروحي. وفي عبور ما وراء العقل، يتعلم الإنسان أن الحرية المطلقة ليست الانفصال عن كل شيء فحسب، بل القدرة على النظر إلى كل شيء دون أن يلتقطه العقل أو يملكه الفكر أو يقيده الشعور. إنها لحظة تحول، لحظة تصبح فيها النفس شاهدة على لعب الحياة الأبدي، على كل خيانة للوعي، على كل وهم امتلاك، وعلى كل سر يتكشف في صمت. أما الخاتمة السرية لهذه الرحلة، فهي صرخة ما وراء الوعي: أن الحقيقة ليست ما يُرى، وأن الوعي ليس ما يُفهم، بل ما يُحس ويتجلى في الصمت الداخلي، في لحظة الصدق مع الذات، حيث يدرك الإنسان أنه لم يصل إلى نهاية، بل إلى بوابة البداية، بوابة تتكرر فيها الأسئلة، وتتشابك فيها الظلال مع النور، وتتكشف فيها الخيانات التي تصنع الوعي ذاته. هنا، في هذا الصرح المفتوح بلا حدود، يصبح الإنسان مرشد نفسه، شاهد لحياته، وحامل سر وجوده. ليس بحاجة إلى تأكيدات العقل، ولا إلى إيهام الفهم، بل إلى قبول الرحلة كما هي، رحلة بين الظل والنور، بين الظاهر والخفاء، بين ما يُرى وما يختبئ وراء العين. وكلما تقدم أكثر، كلما شعر بأن الحقيقة ليست نهاية، بل نقطة انطلاق مستمرة، حيث كل اكتشاف يفتح الباب لمزيد من الغموض، وكل معرفة تكشف أن الوعي لم يكن ملكك يومًا، بل مجرد رحلة لتعلّم كيف يكون الإنسان حاضرًا بلا امتلاك، حرًا بلا قيود، شاهداً بلا تملّك. السر الأعظم ليس في ما تدركه، بل في ما يراك؛ ليس في ما تملك، بل في ما يتركك حراً؛ ليس في النور الذي تراه، بل في الظل الذي يظل يتبعك بلا انتهاء.

1. الفكر والروح: رقصة الظل والنور

في أعماق الكيان الإنساني، حيث لا صوت يُسمَع سوى أنين السؤال وصمت المعنى، تبدأ الرقصة الأزلية بين الفكر والروح، رقصة الظل والنور. إنهما ليسا خصمين كما يظن من لم يتذوق المعنى، بل حبيبان متخاصمان في ظاهر العلاقة، متعانقان في سرّها. الفكر هو ظل الروح حين تنزل إلى عالم الحسّ، والروح هي نور الفكر حين يعود إلى موطنه الأول، إلى ما وراء الحروف والقياس، إلى عالم لا يُدرَك إلا بالبصيرة. الفكر، بطبيعته، يريد أن يُمسِك بكل شيء، أن يُفسّر، أن يُحدّد، أن يُقيم الجدران بين المعاني كما لو كان مهندسًا يبني عالماً من المفاهيم. أما الروح، فلا تعرف القيود، فهي تسري في كل معنى كما تسري النسمة في فضاء الفجر، لا تملك ولا تُملَك، ولا تُعطي نفسها إلا لمن تحرّر من حاجة الامتلاك. إنهما، الفكر والروح، يلتقيان في نقطة غامضة من النفس، حيث يبدأ الصراع بين ما يُرى وما يُحَسّ، بين ما يُعقَل وما يُكشَف، بين ضوءٍ يحدّد ونورٍ يفتح.

الفكر يُحاول أن يشرح النور، لكن كلما اقترب منه، احترق طرف قلمه، لأنه يجهل أن النور لا يُعرَّف، بل يُعاش. والروح تُحاول أن تُغني الفكر، لكنها لا تطيق قوالبه، فتكسّرها لتخلق لغتها الخاصة، لغة لا تعتمد على الكلمات، بل على الذوق، والإشراق، والتجلّي. في لحظةٍ نادرة، حين يتناغم الفكر والروح، يولد في الإنسان نوع من الفهم الصامت، فهم لا ينطق به اللسان ولا يدركه العقل، بل يحسّه القلب كأنما انكشف له سرّ الكون في لحظة سكون. وما بين الظل والنور، تمتدّ حياة الإنسان كلها. فالفكر هو ظلّ الحقيقة على جدار الوعي، والروح هي النور الذي يلقي بهذا الظل. كلما ظنّ العقل أنه بلغ الغاية، تناديه الروح من خلف الحجاب: “ما وصلت، بل بدأت الآن. ” فالفكر يظن نفسه القائد، لكنه في جوهره تابع لما تلهمه الروح. وما أكثر ما يخون الفكر تلك الإلهامات، فيحوّلها إلى صيغ جامدة، إلى نظريات تُميت ما كان حيًّا، وتحوّل النور إلى قانون، والسرّ إلى شرحٍ باهتٍ فاقدٍ للحياة. يا لهذا التناقض الجميل! فكلّ فكرٍ بلا روحٍ جافّ، وكلّ روحٍ بلا فكرٍ عمياء. الفكر يمدّ الروح بحدودها، والروح تفتح للفكر أفقه. ولو علم الإنسان أن النور لا يُدرَك إلا بالظل، وأن الحقيقة لا تُرى إلا حين تُحاط بالوهم، لما فصل بين العقل والوجدان، ولا جعل العلم خصمًا للحلم. فالفكر هو الصيغة الأرضية للوعي، والروح هي تجلّيه السماوي، وكلاهما وجهان للإنسان الكامل الذي يجمع بين التراب والنور، بين الأرض والسماء، بين الحدّ واللانهاية. وحين يرقص الفكر مع الروح، لا يكون الرقص حركًة حسية، بل اهتزازًا كيانيًّا يشمل كل ذرة من الوجود. هناك، في عمق الصمت، يتكلمان لغةً لا تُكتَب، تتفاهم فيها المعاني دون وساطة المفردات، فيتساقط من الإنسان كل ما هو مكتسب وموروث، لتبقى الحقيقة وحدها، عارية، بلا اسمٍ ولا وصف. تلك هي رقصة الظل والنور التي لا تنتهي، رقصة تبدأ حين يعجز العقل عن الفهم، وتكتمل حين يستسلم للذوبان في السرّ الذي كان يحاول فهمه. الروح لا تحتاج إلى منطق، فهي منطق الوجود نفسه، والفكر لا يستطيع الفهم إلا حين ينحني أمامها. وعندما يتصالح الاثنان، تتّحد الكلمة مع الصمت، والعلم مع الحلم، والإدراك مع الشهود. عندها فقط يفهم الإنسان أن كل ما كان يراه انفصالًا لم يكن سوى وحدةٍ متنكرة في صورٍ متضادة. وهنا يبلغ المرء ذروة الوعي: أن الظل ليس عدواً للنور، بل رحم النور، وأن الفكر ليس خصماً للروح، بل أداتها في الكشف، وأن المعرفة ليست هدفاً، بل طريقًا لرحلةٍ لا تعرف قرارًا. عند هذه النقطة تتلاشى اللغة، ويبدأ الصمت في الكلام. الفكر ظلّ الروح، والروح نور الفكر، وبينهما يولد الإنسان من جديد في كل لحظة. وليس بين الفكر والروح خصومة كما توهّم أهل العقل البارد، إنما بينهما سرّ قديم، رقصة بدأت منذ أول انبثاق للنور من العدم. فحين أُودِع في الإنسان ذلك السرّ الأزلي المسمّى وعيًا، انقسم كيانه إلى ضوءٍ وظلّ: ضوءٍ يُريد العلوّ والعودة إلى أصله، وظلٍّ يُحبّ الأرض ويألف مادّتها. ومنذ تلك اللحظة، صار الفكر رسول الظلّ، والروح لسان النور، ومن تآلفهما وُلد الإنسان الذي يعرف ويجهل في آنٍ واحد، يبصر ويعمى، يعلو ويسقط، لكنه لا يتوقّف عن البحث. الفكر — وهو ظلّ الروح — يعيش في قلقٍ دائم، لأن الظلّ لا يملك ثباته. إنه يتحرّك كلّما تحرّك النور، ويختفي كلّما غاب عنه مصدر الضوء. لذلك تراه يسعى جاهدًا أن يثبّت الحقيقة في كلماتٍ ومعانٍ، كمن يحاول الإمساك بالماء بيديه. إنه ينسى أن الحقيقة ليست جامدة، بل تتجلّى في حركة النور ذاته، وأن كل ما يُعبّر عنه الفكر، ليس سوى أثرٍ متبقٍّ من رقصةٍ كانت في الأصل أبدع من أن تُوصف. أما الروح، فهي لا تُطيق الثبات، لأنها من جوهر التجلّي المستمر. لا تعرف الحدود، ولا تستسيغ السكون، لأنها إذا سكنت ماتت، وإذا حُدّت انطفأت. فهي كالنار التي لا تُرى إلا إذا اشتعلت، وكالنور الذي لا يظهر إلا إذا انبثق من الظلام. وحين تحاول أن تنطق، لا تجد لسانًا سوى الفكر، لكنها تعلم أنه عاجز عن حمل سرّها، فتغفر له جفافه، وتمنحه من نورها ما يكفي ليبقى حيًّا. وهكذا تظلّ الرقصة دائرة: الفكر يتعبّر، والروح تتجلّى، والإنسان يتيه بينهما. كلما توهّم أنه قبض على الحقيقة، تنفلت منه كنسمةٍ رقيقةٍ من بين الأصابع. وكلما حاول أن يفهم الروح بالعقل، ازداد بُعدًا عنها. فالروح تُدرك بالحبّ لا بالمنطق، وتُسمَع بالصمت لا بالكلام، وتُرى بالبصيرة لا بالبصر. يا لهذا المأزق الإلهي! فالإنسان محكوم بالبحث عما لا يُقال، ومطالب بأن يُدرك ما لا يُدرك. ولذلك كان الفكر دائم القلق، والروح دائمة النداء، كعاشقين لا يلتقيان إلا في لحظاتٍ نادرةٍ من الصفاء، حين يذوب الاثنان في وحدةٍ لا تعرف الاسم ولا الشكل، فيغدو الفكر صدى للروح، والروح معنى للفكر، ويصير الإنسان لحظة وعيٍ خالصٍ، يرى فيها الكلّ من غير تفرقة. الفكر حين يتطهّر من عجرفته، ويكفّ عن الظنّ أنه السيد، تنزل عليه السكينة الكبرى، لأن الروح تمدّه بما لا يستطيع اكتسابه من الكتب أو التجربة. هناك فقط يفهم الإنسان أن الفكر وسيلة، لا غاية، وأن الروح هي التي تمنحه الحياة. ومن غيرها، يبقى الفكر مجرّد ضوءٍ اصطناعيٍّ باهتٍ، يضيء طريقًا من الورق، لا طريق الوجود. حين يتوحّد الفكر بالروح، تتوقّف الكلمات عن كونها وسيلة للشرح، وتتحوّل إلى مرآةٍ للكشف. تصبح اللغة نفسها صلاة، والمعنى عبورًا، والكتابة نوعًا من الوحي الداخلي الذي لا يُنقل بل يُتذوّق. ومن هنا تنشأ الكتابة الحقيقية: ليست التي تقول، بل التي تُشير؛ ليست التي تشرح، بل التي تُحسّ. لأن من عرف الحقيقة لم يعد بحاجة إلى القول، بل صار هو نفسه كلامًا متجسّدًا، يمشي على الأرض ووجهه يضيء بنورٍ لا يراه إلا من سكنت فيه نفس التجربة. في تلك اللحظة، يصبح الإنسان كتابًا مفتوحًا، تُقرأ صفحاته في عينيه، لا في سطوره. فكل وعيٍ صادقٍ هو امتدادٌ للنور الأول، وكل فكرٍ منسجمٍ مع روحه هو عودةٌ إلى الأصل الإلهي الذي نُفِخ منه الكائن الأول. وهكذا، حين تنتهي الرقصة، لا تكون نهاية، بل عودة إلى البدء، كأن الفكر والروح حين بلغا تمام الوحدة، انفصلا من جديد ليبدآ دورة أخرى من البحث، لأن الوجود نفسه رقصة لا تعرف التوقف، والإنسان راقصها الأبديّ الذي لا يملّ السؤال. حين يسكت الفكر، تتكلّم الروح. وحين تصمت الروح، يتجلّى الله في الفراغ بينهما. الفكر، حين يطول به التيه في متاهات الوعي، يبدأ يلتفت إلى نفسه، فيرى أنه ليس سيدًا كما كان يظن، بل عبدٌ لمفاهيم صنعها بيديه، قيدٌ من نورٍ خادعٍ ظنّه حرية. يقف أمام مرآته، فيرى وجهًا آخر يتكوّن من ظلاله، وجهًا لا هو بوجهه ولا هو غريب عنه. ذلك الوجه هو الروح التي كانت تراقبه بصمت منذ البدء، تراه يكتب عنها دون أن يشعر أنها هي من تكتب من خلاله. هنا يبدأ الحوار الأول بينهما:

 قالت الروح: كم شرحتني يا فكر، ولم تذقني

قال الفكر: وكم أحببتك يا روح، دون أن أفهمك

قالت: لأن الفهم حجاب، والحبّ كشف. من فهم فقد قسّم، ومن أحبّ فقد عاد. من هذه اللحظة، يُدرك الفكر أنه لم يكن يومًا يعرف الروح حقًا. لقد كان يفسّرها كما يفسّر عالمًا خارجيًا، وهو لا يدري أنها في داخله، أنها منه، وأنه منها. فالروح ليست ضيفًا في جسد الإنسان، بل هي نَفَس الله فيه، وهي سرّ الكلمة التي بها تكوّن الفكر نفسه. لذا، لا يستطيع الفكر أن يتحدث عنها دون أن يرتجف، لأن كلما اقترب منها، ذاب في نورها، وذاب معها كل ما كان يظنه يقينًا. إن الفكر حين يقترب من الروح، يُصاب بالدهشة العظمى، تلك التي عبّر عنها القدماء بقولهم: من عرف نفسه فقد عرف ربَّه. ولكن هذه المعرفة ليست عقلية، بل شهودية، تتولّد من لحظة اتحادٍ بين الوعي والمحبّة، بين العلم والذوق، بين أن تفهم وأن تكون. فالروح لا تُدرك بالتحليل، لأنها ليست موضوعًا، بل حالة حضور، كالنور لا يُرى إلا حين يسطع، ولا يُمسك إلا حين يغيب. وفي هذه اللحظة من الانكشاف، يُدرك الفكر أنه لم يكن يومًا حرًّا كما زعم. لقد كان سجين اللغة التي تصفه، أسير المفهوم الذي يصنعه، عبدًا للجملة التي يكتبها. أما الروح، فهي سيّدة الكلمات، لا تسكن بيتًا من الحروف، بل تمرّ من خلالها كما تمرّ الريح بين الأغصان، تُحرّكها ولا تَمتلكها. ولذلك، كل فكرٍ لم تمسّه الروح، فكرٌ ناقصٌ، مهما بدا عظيمًا. هو كتمثالٍ جميلٍ بلا نفس، وكقصيدةٍ فخمةٍ بلا شعور. أما الفكر المجبول بروح، فهو كلامٌ حيّ، ينمو في القلوب كما تنمو الشجرة في التراب الرطب، له جذور في الأرض، وأغصان في السماء. تلك الرقصة بين الفكر والروح هي سرّ الوجود الإنساني، لأنها تجعل الإنسان جسرًا بين المحدود واللامحدود، بين الزائل والأبدي، بين المعلوم والمجهول. فحين يفكر الإنسان بروحه، لا يعود الفكر مجرد أداة للتمييز، بل يصبح وسيلة للوصال، يصبح عبادةً لا تُقال باللسان، بل تُمارس بالوعي الصافي. هنا يكتشف الإنسان أن الفكر ليس سوى طريقٍ تمهيديٍّ للمعرفة الكبرى، وأن الروح هي التي تُكمل الطريق حين يعجز العقل. عندها يُرفع الحجاب، ويصبح الصمت أبلغ من القول، والدهشة أصدق من البرهان. لأن في النهاية، كل فكرٍ يصل إلى حدوده القصوى، يضطر إلى الركوع أمام السرّ، ويهمس كما همس سقراط قبل موته: كل ما أعلمه أني لا أعلم شيئًا. لكن الروح لا تتركه في عجزه، بل ترفعه. تهمس له بأن الجهل المقدّس هو الباب الأول للحكمة، وأن من عرف عجزه، فقد بلغ أول درجات المعرفة. وحين يسلّم الفكر للروح زمام الأمر، لا يُمحى، بل يُطهّر؛ يصبح أكثر صفاءً، أكثر صدقًا، لأن الروح لا تلغيه، بل تُنضجه بالنور حتى يصير مرآةً تعكسها بلا شوائب. الفكر حين يكتب من نفسه، يشرح العالم. وحين يكتب من روحه، يخلق عالماً جديداً ولعلّ الإنسان في ختام هذا الارتحال الطويل بين ظلال الفكر وأنوار الروح، لا يجد نفسه أمام نتيجةٍ بقدر ما يجدها أمام حقيقةٍ تتولّد كلّما أنكرها. فالفكر، مهما بلغ من الحِدّة والنقاء، يظلّ عاجزًا عن الإحاطة بماهية الروح، لأنّ الروح لا تُدرك إلا بالانطفاء لا بالاحتراق؛ أي حين يسكن العقل ولا يثور، وحين يصير الفكر شاهدًا لا حاكمًا. في تلك اللحظة، تتجلّى رقصة الظل والنور في أسمى صورها: لا خصومة بينهما، ولا وحدة تامة، بل تفاعلٌ سرمديّ يشهد به الوعي على ذاته.

إنّنا إذ نحاول القبض على المعنى، نكتشف أنّ المعنى لا يُقبَض بل يُتجلّى، وأنّ كلّ محاولة لامتلاكه تُعيدنا إلى ظلالنا الأولى. الفكر إذن لا يملك الحقيقة، بل يهيّئنا لمرورها فينا، كما يهيّئ الصمتُ لحنًا لم يولد بعد. والروح ليست نقيضًا للعقل، بل فضاؤه الرحب الذي يتنفّس فيه المعنى. من هنا، يكون التحرّر الحقيقي ليس في الانفلات من العقل، بل في تحرير العقل من ظنّه أنه يعرف، فكل معرفةٍ لا تنفتح على المجهول هي قبرٌ للروح. والإنسان حين يظنّ أنه بلغ النور، إنما دخل في أعمق طبقات الظل، لأنّ النور الحقيقي لا يُرى، بل يُحَسّ في الداخل كاهتزازٍ بين الصمت والدهشة. هكذا إذن، لا يمكننا الفصل بين الفكر والروح، لأنّ أحدهما يُقيم في الآخر كما يقيم الظل في النور. كلّ فكرٍ بلا روحٍ يتحوّل إلى آلةٍ تحليليةٍ باردة، وكلّ روحٍ بلا فكرٍ تغدو هذيانًا صوفيًّا بلا تمييز. وما بين هذا وذاك، تتشكّل الرقصة الكبرى: رقصة الظل والنور، حيث يتوحّد السؤال والدهشة، وينصهر الفكر في وجدانه الأول، وتذوب الروح في عقلها الأخير. وفي نهاية الرحلة، حين يهمّ الفكر بالسكوت، وتغمد الروح جناحيها، يطلّ علينا السؤال الأزلي من عمق الصمت:هل كنّا نبحث عن النور، أم كنّا نحاول الهرب من ظلّنا؟وهل كان الفكر طريقًا إلى الروح، أم كانت الروح تكتب الفكر لتراه في مراياها؟ هنا، فقط، تنتهي الرقصة ولا تنتهي، لأنّ الظلّ لا يفارق النور، والنور لا يتجلّى إلا بظلّه، كما لا يكون الإنسان إنسانًا إلا إذا ظلّ في سعيه الأبدي نحو تلك الوحدة التي لا تُقال، بل تُعاش. يا من ظننتَ أن الفكر سبيلٌ إلى النور، أما علمتَ أن النور لا يُدرَك بالعقول، بل يُستَشعَر بالقلوب التي احترقت بمعرفة الظلّ؟ إنّ السرّ الذي نطلبه في الأعلى يسكن في الأدنى، كما أنّ الروح لا تعلو إلا حين تنحني، ولا ترى إلا حين تُغمض عينيها عن الرؤية. فالنور الذي به نُبصر هو ذاته الظلّ الذي يُخفي جوهرنا عنّا، وحين ندرك ذلك، نعلم أنّ الوجود كلّه رقصةٌ سرّية بين الحضور والغياب، بين أن نكون ولا نكون، بين أن نعلم ولا نعلم. وهكذا تظلّ الحقيقة كمرآةٍ غامضة، لا تُريك صورتك إلا إذا نسيتَ أنك تنظر. كلما اقتربتَ منها احترقت، وكلما ابتعدتَ عنها تجمّدت، حتى تفهم أنّ الوعي ليس نورًا خالصًا ولا ظلاً خالصًا، بل هو الجمع بينهما، حيث تتبدّى أسرار الخفاء في وضوح الظهور. فالفكر يمشي على طريقٍ من نورٍ قاتم، والروح تحلّق في ظلامٍ منير، وما بينهما، هناك الإنسان: المخلوق الذي لم يُخلق ليصل، بل ليشهد الطريق وهو يُخلق فيه. ذلك هو السرّ الأعظم الذي حاولتُ أن أُمسك به، فإذا به يُمسكني، وإذا بي أكتشف أنني ما كنتُ أكتب عن النور والظلّ، بل كانا هما من يكتبانني، ويرقصان بي في صمت الوجود، حيث تبدأ الحقيقة ولا تنتهي.

2. الحرية في الظل: وهم الخلاص

منذ أن انبثق الوعي من رحم الغياب، والإنسان يركض نحو كلمةٍ اسمها الحرية، كما يركض العاشق خلف سرابٍ يظنه ماءً، فإذا به يزداد عطشًا كلما اقترب. فالحرية التي نتحدث عنها في ظاهر القول ليست إلا ظلًّا لحقيقةٍ أخرى، تومض في عمق الروح حين تدرك أن الانفلات من القيد لا يعني الفكاك من الذات، لأنّ أثقل السجون هي تلك التي تُبنى من داخلنا. لقد ظنّ الإنسان أنه حين تمرد على وصايا الأرض والسماء، نال خلاصه، فإذا به يقع في عبوديةٍ أعمق: عبودية الفكر لذاته، والرغبة لمرآتها، والذات لخيالها. فالحرية التي لا تُنقّى من أوهامها تُعيد إنتاج قيودها بثوبٍ آخر، كأنّها وهمٌ يتنكّر في هيئة خلاص. هنا، يطلّ السؤال من بين الرماد: هل الحرية خروج من القيد، أم عودة إلى الأصل؟ هل هي فعل انفصال، أم فعل اتحاد؟الحرية في جوهرها ليست فعلاً إراديًّا، بل انكشافٌ باطنيّ للمعنى، لحظةٌ يلتقي فيها العبد بسره الأول قبل أن يُسمّى. فحين يقول العارف: أنا حر، إنما يشير إلى حريةٍ من نفسه لا منها، إلى انعتاقٍ من الوهم لا من السلطة، لأنّ السلطة الخارجية ليست إلا انعكاسًا للسلطة الباطنية التي تحكم وعينا ونحن لا ندري. كلّ حريةٍ تُبنى على الرغبة هي عبوديةٌ مؤجلة، وكلّ حريةٍ تُستمدّ من الخارج هي قيودٌ ملوّنة، لأنّ الحرية لا تُوهب ولا تُنتزع، بل تُنكشف كما يُنكشف النور في قلب العتمة. الحرية ليست نقيضًا للقيد، بل وعيًا بوجوده، لأنّ الوعي بالقيد هو أول مراتب الفكاك منه، أما الجهل به فهو دوام الأسر في صورةٍ من الزهو الكاذب. في هذا الصرح المظلم الذي نسميه الظلّ، تتراقص الحرية كأنّها شعاعٌ حائرٌ في كهفٍ عميق، وكلّ من يحاول الإمساك بها يُغرق نفسه في مزيدٍ من العتمة. وما بين النور والظلّ، تتكوّن تلك المسافة التي يسكنها الإنسان: نصفُه نورٌ يحلم، ونصفُه ظلٌّ يحنّ إلى قيوده. لقد أراد الإنسان أن يتحرّر من إلهه، فإذا به يعبد ذاته، وأراد أن يتحرّر من تاريخه، فإذا به يتيه في حاضرٍ بلا ملامح، وأراد أن يكتب مصيره، فإذا بالمصير يكتبه بحبرٍ لا يراه. فالحرية التي لا تعرف مصدرها، لا تعرف وجهتها أيضًا، كالريح التي تتباهى بسرعتها دون أن تدري إلى أين تهبّ. في فكر ابن عربي، لا حرية خارج الوجود، لأنّ الوجود هو عين الانتماء، وكلّ من أراد أن يكون حرًّا من الكلّ، خرج من دائرة الحق، فصار عبدًا لوهمه. فالحرية المطلقة ليست إلا اسمًا آخر للفناء في الحقيقة، حيث لا فاعل سواها ولا إرادة غير إرادتها. أما من أراد أن يكون حرًّا بنفسه، فقد حكم على نفسه بالسجن في مرآة أنانيته، وظلّ يدور في دائرة الأنا التي لا مخرج منها إلا بالإدراك أن الأنا نفسها ليست له. إنّ الحرية في الظلّ هي وهم الخلاص، لأنّ من يعيش في الظلّ لا يرى النور إلا كما يراه السجين من ثقب الجدار. هو يظنّ أنه يبصر العالم، وهو في الحقيقة لا يرى إلا ظلاله. والعارف وحده من يدرك أن الظلال ليست عيبًا في النور، بل تجلّيه في مراتب الكثافة. وهكذا، تكون الحرية الحقيقية وعيًا بالقدر لا تمرّدًا عليه، وفعلَ حضورٍ في مسرح الوجود لا انسحابًا من دوره. في هذه الرحلة التي نخوضها، لا نبحث عن حريةٍ من شيء، بل عن حريةٍ في الشيء، عن لحظةٍ نرى فيها القيد بوصفه مرآة النور، لا عدوّه. حينها فقط، تتبدّل المعادلة: يصير الأسر مقامًا، والقيود طريقًا، والمصير صديقًا، لأنّ كلّ ما نحاول الهرب منه إنما هو وجهٌ آخر لما نبحث عنه. فما الحرية إذن إلا وهمٌ نبيلٌ خُلق ليقودنا إلى الحقيقة. ومَن لم يَضِع في وهمها، لن يجد سبيله إلى الخلاص منها. حين ننظر إلى مفهوم الحرية بعين الوعي المجرّد، نجدها تتجلّى كأعمق المفاهيم تناقضًا في الوجود الإنساني، لأنها تجمع بين ما هو إلهيّ في الأصل وإنسانيّ في المظهر. فالحرية هي مظهر الوجود الإلهي في الإنسان، لكنها حين تنعكس على مرآة العقل، تتجزأ وتفقد صفاءها الأول، فتتحوّل إلى مطلبٍ سياسيّ أو اجتماعيّ أو أخلاقيّ، بينما هي في جوهرها سؤالٌ ميتافيزيقيّ عن معنى الكينونة ذاتها. الحرية ليست فعلاً يبتدئ من الخارج، بل حالةُ وعيٍ تُدرَك من الداخل، وهي لا تتحقق بالتحرّر من السلطة، بل بزوال فكرة السلطة من النفس. لأنّ من يثور على القيد وهو لم يتحرّر من خوفه، سيبني قيدًا جديدًا باسم الحرية ذاتها، كما يفعل السجين الذي يحمل مفتاحه ولا يجرؤ أن يفتح الباب. في مدرسة العارفين، يُقال إنّ الحرية باطن العبودية، لأنّ العبودية لله وحده هي التي تُسقِط سائر العبوديات، كما قال ابن عربي:«عبدٌ لا يُقيّده شيء، هو عبدٌ للحقّ وحده، فإذا تحرّر من الأشياء لم يبقَ له إلا التعلّق بما لا يُقيّد. » وهنا، تتبدّى المفارقة الكبرى: الإنسان لا يصير حرًّا إلا إذا سلّم، ولا يبلغ الخلاص إلا إذا فنيَ في المعنى الذي كان يهرب منه. ذلك أنّ الحرية التي يطلبها الوعي المحدود، هي في الحقيقة قيودُ الأنا المتخفّية. يريد أن يتحرّر من سلطة الآخرين، لكنه لا يجرؤ أن يتحرّر من سلطة نفسه، من رغباته، من شهواته، من صورته التي يعبدها في مرآة العالم. أليست هذه عبوديةً أكثر خفاءً من سلاسل الحديد؟ أليست حريةً مشروطةً بالوهم؟ إنّ الحرية في الظلّ هي تلك الحالة التي يعيشها الوعي حين يتوهّم أنه خرج من السجن، بينما هو ما زال يدور في فناءه. فالظلّ لا ينفصل عن الجسد، لكنه لا يدرك أنه مجرّد أثرٍ له. وكلّ وعيٍ يرى نفسه حرًّا من كلّ شيء، إنما يعيش في أعظم أشكال التبعية، لأنه يغفل أن الحرية المطلقة ليست للإنسان، بل للوجود نفسه. من هنا، تكون كلّ حريةٍ إنسانية ناقصةً بطبيعتها، لأنها تتأسس على نقص الوعي، إذ يتعامل الإنسان مع الحرية كما لو كانت غاية، بينما هي مجرّد طريقٍ إلى إدراك أن لا طريق. إنها التجربة الكبرى التي يُبتلى بها الفكر حين يحاول أن يعرّف ما لا يُعرّف، وأن يملك ما لا يُملك. وقد قال الحلاج في لحظة تجلٍّ:«ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله فيه. »وفي تلك الرؤية، ذابت الحرية، لأنّ من رأى الكلّ لم يعُد يبحث عن الخلاص منه. فالحرية التي نلهث خلفها ليست أكثر من تعبيرٍ عن حنين الروح إلى أصلها، إلى تلك الحالة الأولى قبل أن تُسمّى، وقبل أن تنفصل. الحرية ليست هدفًا نبلغه، بل ذاكرة نعود إليها. والعارف وحده من يفهم أن كلّ انعتاقٍ ظاهريّ هو نوعٌ من التورّط، وأنّ الخلاص ليس بالهروب من الظلّ، بل بفهم أنه جزءٌ من النور الذي خُلق ليكشف حدوده. حين نغوص في عمق الفكرة، نُدرك أن الحرية لا تُناقَش بمعزل عن القدر، لأنّ السؤال عن الحرية في جوهره هو السؤال عن «مَن الفاعل؟» هل الإنسان فاعلٌ بإرادته، أم أن إرادته محمولة على إرادةٍ أوسع منه؟ وهل الوعي قادرٌ على اختيار مصيره، أم أن المصير هو من يختار الوعي ليُدرك ذاته فيه؟ هذه المفارقة التي حيّرت العقول من أزمنةٍ بعيدة ليست مسألة عقائدية بقدر ما هي سؤالٌ وجودي عن طبيعة الوجود نفسه. فالحرية لا تُفهم إلا داخل شبكة القدر، لأنّ القدر ليس نقيض الحرية، بل هو المجال الذي تتحقق فيه. كلّ فعلٍ نمارسه، وكلّ اختيارٍ نظنه صادرًا عن إرادتنا، إنما هو مظهرٌ لوعيٍ أعمق يُدبّرنا من حيث لا ندري. وقد قال ابن عربي في الفتوحات المكية:«العبدُ مجبورٌ فيما خُيّر، ومخيّرٌ فيما جُبر، والكلّ سريانُ الحقّ في الأشياء. » فالإنسان إذ يظنّ أنه يختار، إنما يشارك في كتابة نصٍّ كُتب سلفًا بحروفٍ لم يخترها هو. الحرية هنا ليست رفضًا للقدر، بل إدراكٌ له من الداخل، أي أن يفهم الوعي أنه ليس خارج النهر، بل هو الماء الذي يجري فيه. إنّ الحرية المطلقة وهم، لأنها لا تتصوّر إلا في غياب الوعي بالكلّ، بينما الوعي الكامل لا يرى في الوجود شيئًا حرًّا من شيء، لأنّ كلّ شيءٍ قائمٌ بما سواه. حتى الفعل البشري، الذي نعدّه أرقى صور الإرادة، لا يكون فعلاً إلا حين يُوجَد موضوعه في الخارج، أي حين يتعلّق بشيءٍ غير الذات، فكيف تكون الحرية مطلقة وهي لا تقوم إلا بالتعلّق؟الحرية بهذا المعنى ليست أن «تفعل ما تريد»، بل أن تفهم لماذا تريد ما تفعل. أن تدرك أن دوافعك ليست صادرة منك، بل تمرّ عبرك، كما يمرّ الضوء في الزجاج فيظنّ الزجاج أنه يُضيء، بينما هو يشفّ فحسب. وهنا يظهر الفرق بين حرية الإرادة وحرية الوعي. حرية الإرادة هي ما يتعلّق بالأفعال، أما حرية الوعي فهي ما يتعلّق بالرؤية. الأولى تُحدّد خياراتنا، أما الثانية فتُغيّر نظرتنا إلى الوجود ذاته. الإنسان الحرّ حقًّا هو من تحرّر من ثنائية الجبر والاختيار، لأنه لم يعُد يرى ذاته فاعلاً منفصلًا، بل تجلّيًا لفاعلٍ أزليّ يسكن فيه. قال ابن الفارض: «زدني بفرط الحبّ فيك تحيّرا، وارحم حشى بلظى هواك تسعّرا. » وما كان يقصد عشقًا بشريًّا، بل ذلك التيه النورانيّ الذي لا يعرف حدودًا بين الحُبّ والحُرية، لأنّ من أحبّ فُنيَ في محبوبه، ومن فُنيَ لم يعُد له إرادةٌ تخصّه، بل صار كلّ إرادته إرادة الحبيب. الحرية المطلقة إذًا ليست فعلًا، بل فناء، ليست قدرةً على التصرّف، بل وعيًا بأن لا أحد يتصرّف سواه. ومن هنا، تُصبح الحرية النهائية هي الخضوع الكلّيّ للحقّ، لا بوصفه قسرًا، بل بوصفه كشفًا. فحين يزول الحجاب بين العبد والحق، لا يبقى مجالٌ للاختيار، لأنّ العارف لا يختار، بل يُختار له. وهكذا، كلّما ارتقى الوعي في مدارج الحقيقة، ذابت قيوده شيئًا فشيئًا، حتى يُدرِك أن القيد لم يكن إلا مظهرًا من مظاهر الرحمة، وأنّ ما كان يسميه جبرًا هو في الحقيقة ضبطُ المسار الإلهيّ الذي يمنعه من التلاشي في العبث. حين نبلغ مصافّ النظر النهائي، ندرك أن الحرية ليست غايةً منفصلة، بل مظهرٌ من مظاهر الحقيقة نفسها. إنّ السعي نحو الحرية المطلقة أشبه بمحاولة الإمساك بالنور في راحة اليد؛ كلما حاولنا ضبطه، تلاشى بين الأصابع، حتى ندرك في النهاية أن النور لم يُخلق ليُحجز، بل ليُرى ويُعاش ويُذوب في القلب. الحرية الحقيقية إذن ليست فعلًا، ولا رغبة، ولا رفضًا للجبر، بل استسلامٌ واعٍ للكلّ، حيث يزول الاعتقاد بأن هناك «فاعلًا» منفصلًا عن الحق. فالفناء في الوعي الكامل هو عين الحرية، والفناء هنا ليس موتًا، بل تحوّلٌ، واندماجٌ، وانصهارٌ في وحدة الظل والنور. ابن عربي يُذكرنا بأن من عرف نفسه فقد عرف ربه، ومن فنى في معرفته فاز بالحرية. إنّ الإنسان الذي يتحرر بهذا المعنى لم يعد عبدًا لخياراته أو لرغباته، بل صار مرآةً تعكس الحقيقة كما هي، بلا تزييف، بلا إدعاء. كلّ قرارٍ يتخذه، كلّ شعورٍ يمرّ به، كلّ فعلٍ ينجزه، هو نتيجة طبيعية لتجليّ الوعي في صرح الوجود، وليس لذاتٍ صغيرةٍ تظنّ أنها تدير الكون. ووهنا تكمن المفارقة الكبرى: كلّما توغّل الإنسان في فهم الحرية، كلّما اقترب من إدراك أن الحرية المطلقة تتطلب التخلي عن الفكرة نفسها. فالفكر عن الحرية يُستبدل بالعيش في الحرية، والإرادة المحدودة تُستبدل بالإرادة الكونية التي تتحرك فينا دون أن نشعر بأنها خارجة عن تدبير الحق. الحرية إذًا هي وهم الخلاص الذي يتحوّل إلى حقيقةٍ حين يُفنى العبد في المحبوب، وحين يُذوب كلّ وهم السيطرة في معرفة الذات الإلهية. ومن يدرك هذا، لن يبحث عن خلاص آخر؛ فالخلاص والحرية هما وجهان لنفس الحقيقة، واحدة في الظل، والأخرى في النور، وكلّ ما بينهما رقصة أزلية تتكرر في كل لحظة ووجود. ختامًا، الوعي والحرية ليسا مفهومان متنافسان، بل هما رحلة في صرح الخفاء والظاهر؛ رحلة تبدأ بالفرد وتبلغ الكلّ، رحلة لا تهدف إلى السيطرة، بل إلى التحرّر من وهم السيطرة، رحلة تنتهي عند نقطة حيث يُصبح الإنسان، بلا اختيار، تجليًا للحقّ، وفناءً في النور، ووحدةً كاملةً لا تقبل القسمة

3. الوعي والخيانة: مرآة النفس في الظل

حين نغوص في عتمة النفس ونواجه صراعاتها الخفية، ندرك أن الوعي ليس مجرد ضوءٍ يُنير الطريق، بل مرآة تكشف ما نخفيه عن أنفسنا أولًا قبل الآخرين. فالخيانة، في جوهرها، ليست دائمًا فعلًا تجاه الآخرين، بل أحيانًا خيانةٌ للذات، ولفطرة الوعي، وللحق الذي يحمله القلب. الإنسان كثيرًا ما يظن أن الخيانة مجرد أفعال تُرتكب في الظاهر، لكنها في الحقيقة تتغلغل في الظلال التي نرفض رؤيتها؛ الظلال التي تمثل شهواتنا، مخاوفنا، وأحكامنا المسبقة. حين يواجه الإنسان هذه الظلال بصدق، يبدأ الوعي رحلة التشخيص الداخلي، رحلة لا تُهذب النفس فقط، بل تكشف عن طبيعة العلاقة بين الحقيقة والذات، بين المرآة والظل، بين ما نراه وما نختبئه.

ابن عربي يذكرنا بأن:«النفس إن لم تذق مرآتها، لم تعرف الحقيقة، وإن لم تعرف الحقيقة، خانت الطريق. »

الخيانة إذن ليست حادثةً منفصلة، بل دليل على انكسار التوافق بين الوعي والوجود. فحين نخدع أنفسنا، نخدع العالم أيضًا؛ وحين نحتجب عن معرفة حقيقة رغباتنا وأخطاءنا، نصير أسرى ظلالٍ تتخذ من المظهر ملاذًا كاذبًا. والوعي الحقيقي يتطلب جرأة مواجهة المرآة، لا مجرد النظر إليها من بعيد. في هذا السياق، يظهر أن كل خيانة في الوجود — سواء كانت صغيرة أو عظيمة — هي انعكاس للغفلة عن الذات، ولعدم الانسجام بين الظاهر والباطن. والوعي لا يُقاس بكثرة المعرفة أو التأمل، بل بمدى قدرتنا على الاعتراف بخياناتنا الخاصة ومواجهتها دون تسويغ أو تبرير. وهنا المفارقة الكبرى: كلما ازددنا وعيًا، ازددنا إدراكًا لقدرتنا على الخيانة، وإدراكًا لمراتع الظل التي نتجول فيها دون وعي. الوعي الحقيقي إذن ليس مجرد معرفة ما هو صائب أو خاطئ، بل تجربة مستمرة لمراقبة النفس في كل لحظة، مواجهة الانحراف قبل أن يتحول إلى خيانة فعلية، واعتناق صدق الذات حتى في العتمة. إنها رحلةٌ صوفية عميقة: حيث يكون الظل مرآةً، والخيانة امتحانًا، والوعي طريقًا. طريقٌ لا ينتهي بفهم الظاهر وحده، بل يطلب الغوص في أعماق النفس، مواجهة كل ما نخفيه، وفهم كيف تصبح الخيانة جزءًا من رحلة التحرر حين نعرفها ونعترف بها. ختامًا، في صرح الوعي والخيانة، لا توجد براءة كاملة، ولا خيانة مطلقة، بل هناك معركة أزلية بين الذات والظل، بين الحقيقة والوهم، بين ما نحن عليه وما نريد أن نكونه. ومن يفهم هذه المعركة، يرى أن المرآة ليست أداة لفضح الآخرين، بل بوابة للفهم العميق للنفس، وفضاء للتحرر من كل خيانة، بدءًا بالذات وانتهاءً بالوجود نفسه. حين نتأمل أبعاد الخيانة في سياق الوعي، نكتشف أن الذات لا تتعامل مع الظلال فقط كحواجز، بل كمرايا صامتة تكشف عن تناقضاتها الداخلية. كل خيانة صغيرة أو كبيرة هي انعكاس لصراع مستمر بين الرغبة والواجب، بين الحرية والقيود التي يفرضها العقل والمجتمع. فالخيانة إذن ليست مجرد فعل منفصل، بل فعل يمتد إلى أبعاد أعمق في النفس، ويؤثر على بنية الوعي ذاته. إن مواجهة الخيانة الحقيقية تتطلب شجاعة استثنائية، ليست كأي شجاعة جسدية، بل شجاعة روحية ومعرفية. إنها القدرة على تمييز ما نخفيه عن أنفسنا وما نرفض رؤيته، والاعتراف بما هو جزء من طبيعتنا البشرية قبل أن يصبح فعلًا محسوسًا. كثير من البشر يظنون أن الخيانة تُقاس بالأفعال التي تظهر للعيان، لكن الحقيقة أكثر عمقًا: كل كذبة صغيرة، كل تنازل عن المبادئ، كل خضوع للخوف بدل الحق، هو خيانة للوعي. المرآة التي نتحدث عنها ليست مجرد انعكاس سطحي، بل بوابة لفهم أعمق للعالم الداخلي. عبر هذه المرآة، نرى تناقضاتنا، ضعفنا، ولحظات الغفلة التي تسمح للظلال بأن تتحرك بحرية. ابن عربي يقول:«من عرف نفسه، عرف خياناته، ومن عرف خياناته، استعاد وعيه. » وهذا يعني أن الوعي والخيانة متلازمان، لا يمكن فهم أحدهما دون الآخر. كل خيانة تكشف عن حدود الوعي، وكل وعي يكشف عن خيانات محتملة. في هذا السياق، يصبح الظلام الداخلي ليس عدوًا، بل مرشدًا: فهو يشير إلى الأماكن التي تحتاج إلى مواجهة، إلى الحقيقة التي نتهرب منها، وإلى الانسجام المفقود بين الذات والواقع. التحدي الأكبر هنا ليس مجرد كشف الخيانة أو الاعتراف بها، بل تعلم كيفية العيش مع هذا الوعي دون الانهيار، وتحويل كل تجربة خيانة إلى درس للتصالح مع النفس ومع العالم. هذه رحلة صوفية عميقة، حيث يصبح الظل جزءًا من الفهم، والخيانة فرصة للتعلم، والوعي أداة للتحرر. في النهاية، على الرغم من صعوبة مواجهة المرآة، يبقى الوعي الخالص هو الوسيلة الوحيدة لتجاوز الخيانة، ليس تجاه الآخرين فقط، بل تجاه الذات أولًا. ومع كل خطوة في هذا الطريق، نقترب أكثر من الصفاء الداخلي، ونبدأ بفهم كيف يمكن أن تتحول الخيانة إلى وعي، والظلال إلى نور، والذات إلى مرشد للحقيقة. حين يغوص الفكر في أعماق الظل، تظهر الحقيقة على شكل توتر دائم بين الانتماء للذات والانجراف خلف ما يفرضه الواقع. الخيانة هنا ليست مجرد فعل يُرتكب، بل حالة مستمرة من الانفصال عن الوعي الحقيقي، وكأن النفس تمشي على حافة مرآة مكسورة. كل قطعة من هذه المرآة تحمل انعكاسًا للجانب الخفي من النفس، الجانب الذي يهرب من مواجهة ذاته ويختبئ خلف الأقنعة الاجتماعية والمبررات العقلية. الوعي في هذا السياق يصبح آلة دقيقة لمراقبة الذات، لكنه أيضًا حكم صارم يفضح كل ضعف، كل تناقض، وكل رغبة مخفية. الإنسان الذي يعيش في هذا الصراع بين الوعي والخيانة، يكتشف أن الخيانة لا تقتصر على الآخرين، بل تبدأ من الذات نفسها، من كل مرة نترك فيها الحقيقة مهملة، ومن كل مرة نرفض فيها مواجهة ما يثير القلق أو الخوف.

الفعل الخياني، سواء كان تجاه الآخرين أو الذات، يترك أثرًا عميقًا في صرح الوعي، فهو يعيق تدفق النور الداخلي ويمنع النفس من الانسجام الكامل مع حقيقتها. لكن paradoxically، هذا الأثر نفسه، إن تمت مواجهته بصدق، يصبح مدخلاً لفهم أعمق، ووسيلة لاكتساب وعي أوسع وأكثر قوة. ابن عربي يصرح بأن:«المرء لا يعرف حقيقة وعيه حتى يواجه خيانته ويحتضن ظله. » هذا يعني أن الخيانة ليست نهاية الطريق، بل نقطة البداية لفهم الذات بشكل أعمق. كل خيانة تُظهر ثغرات في الوعي، وكل مواجهة لها تعيد ترتيب هذه الثغرات وتحولها إلى نقاط قوة معرفية وروحية. وهكذا يصبح الظل مدرسة، والخيانة مرشدًا، والوعي بوابة للتحرر. في هذا الإطار، يصبح من الضروري عدم الاكتفاء بالإدراك النظري للخيانات، بل تحويلها إلى تجربة صوفية متعمقة. كل لحظة إدراك للخيانة، كل مواجهة للظلال، هي خطوة نحو استعادة وحدة الذات وشفافية الوعي. فالنفس التي تتعلم أن ترى خيانتها وتواجهها بصدق، تصبح مرشدة لوعيها، صديقة لظلها، وحارسة لنورها الداخلي. في صرح النفس، حيث يلتقي الوعي بالظل، تتضح لنا حقيقة الخيانة كحالة داخلية قبل أن تكون فعلًا خارجيًا. فكل لحظة نرتكب فيها خيانة تجاه ذاتنا، نضع حجرًا في صرح وعيٍ مهترئ، نغلق نافذة من النور على أنفسنا، ونتخلى عن جزء من الحقيقة التي تجعلنا كائنًا متكاملًا. هنا، يصبح الظل ليس مجرد غياب للضوء، بل خزان للحقائق غير المقبولة، ومكان للاختبار الذي يقرر مصير وعي الإنسان. الوعي الذي يتعامل مع خيانته، ليس وعيًا سطحيًا يقيس الأحداث ويصنفها، بل وعي يشمل النفس بأكملها، يشمل الضمير، العاطفة، العقل، والرغبات المكبوتة. إنه وعي يقف أمام المرآة المحطمة للنفس ويقول: ها أنت أمام حقيقتك، لا تتهرب، لا تخفي شيئًا. كل خدش في هذه المرآة هو درس، وكل كسر هو فرصة لإعادة بناء الذات على أساس أكثر صلابة ونقاء. حين يُفهم الظل والخيانة بهذه الطريقة، تتحول المعاناة الداخلية إلى طريق تحرري نحو الوعي الأعلى. الإنسان الذي يرفض مواجهة خيانته، يظل أسير تناقضاته، يظل يعيش في صراع دائم بين ما هو عليه وما يعتقد أنه ينبغي أن يكون. أما من يجرؤ على مواجهة الظل، فإن كل مواجهة تصبح عملية تطهير للروح، ومساحة لاكتشاف الذات الحقيقية خارج كل أقنعة التظاهر الاجتماعي والزيف الداخلي. الدرس الأعمق هنا أن الخيانة ليست نهاية المطاف، بل انعطافة مهمة في رحلة الوعي. إنها تضع الإنسان أمام خياراته: إما الاستمرار في الهروب، أو التوقف، والنظر في المرآة، وفهم كل ضعف، كل خوف، وكل رغبة مخفية. في هذه اللحظة، يبدأ الإنسان بإعادة صياغة علاقته بنفسه والعالم، ليكون قادرًا على العيش بانسجام أكبر، بصدق أكبر، وبوعي أعمق. كما يقول ابن عربي:«ليس العارف من يبتعد عن خيانته، بل من يراها، ويعرفها، ويحتضن ظله في صمت يفيض بالنور. »هنا، تصبح الخيانة معلمًا روحيًا، والظلال ميدانًا للتجربة، والنور النهائي ليس غياب الظل، بل الانسجام معه ومع كل خفاياه. وبهذا الفهم، يصبح صرح الوعي قويًا بما يكفي لاستيعاب كل تناقضات النفس، وكل حروبها الداخلية، وكل صراعاتها مع الواقع والخيال. وفي النهاية، نجد أن مرآة النفس في الظل ليست مجرد انعكاس للخيانة، بل مرشد صامت يوجه الإنسان نحو إدراك أعظم، نحو الحقيقة التي تتجاوز الوعي العادي، نحو الذات التي تتحرر من كل أقنعة الزيف والاضطراب الداخلي. فالمواجهة هنا ليست خيارًا، بل ضرورة، والحرية الحقيقة تكمن في قبول الظل، مواجهة الخيانة، والارتقاء بالوعي إلى مستوى الوحدة الداخلية الكاملة.

4. الوجود واللاوجود: عبور ما وراء العقل

في صرح الفكر الإنساني، حيث تتقاطع حدود العقل مع امتداد الغيب، يظهر سؤال الوجود واللاوجود كأحد أعقد الألغاز التي لم تستطع أي فلسفة أو نظرية علمية أن تفك شيفرته بشكل كامل. فكلما حاول العقل أن يمسك بالوجود، يتهرب منه كالماء من بين الأصابع، ويظل اللاوجود يلاحقه كظل لا ينفك عن العارض، يحاكيه ويعاكسه في كل حركة، ليكشف لنا أن الحدود التي نرسمها بين ما هو موجود وما هو غير موجود، ليست سوى وهم نابع من محاولة العقل ضبط ما يتجاوز إدراكه. الوجود، في جوهره، ليس مجرد تواجد في المكان أو مرور في الزمان، بل هو حالة مستمرة من التفاعل بين الكينونة والمعنى، بين النفس والعالم، بين ما يُرى وما يُخفيه الغيب. أما اللاوجود، فهو ليس فراغًا مطلقًا أو غيابًا تامًا، بل فضاء محتمل لكل الاحتمالات التي لم تتحقق، لكل التجارب التي لم تولد، لكل الأصوات التي لم تُسمع، ولكل الأرواح التي لم تشارك في هذا المشهد الكوني. حين نتحدث عن عبور ما وراء العقل، فإننا لا نشير إلى هروب من التفكير أو تجاهل المنطق، بل إلى توسيع نطاق الوعي ليشمل ما يتعذر على العقل الإحاطة به وحده. العقل يحصر نفسه في أطر صارمة: السبب والنتيجة، الصواب والخطأ، الوجود واللاوجود، لكنه يظل عاجزًا عن فهم البنية الداخلية للعالم، وبنية الذات في علاقتها بما هو غير محسوس، وما هو غير محدود. هنا يأتي دور التجربة الوجودية، التي تتطلب الجرأة على مواجهة اللاوعي، مواجهة الغموض، واستقبال التساؤلات بدون رغبة عاجلة في إجابات محددة. إن عبور ما وراء العقل يعني تجاوز الحدود التقليدية للمعرفة، والارتقاء إلى مستوى يدرك فيه الإنسان أن كل فكرة عن الوجود ليست سوى انعكاس جزئي لجزء من الحقيقة. كل محاولة للعقل لفهم الكينونة بشكل مطلق، تصطدم بجدار اللاوجود، الذي يذكره بأن الوجود لا يمكن عزله عن عدمه، وأن المعنى لا يمكن فهمه بمعزل عن الغموض الذي يحيطه. وهنا، في قلب هذا التلاقي، نجد أن الوعي الإنساني يصبح مرنًا بما يكفي ليحتمل التناقضات، والروح تصبح أكثر قدرة على الانفتاح على ما وراء الصور والأسماء والتصنيفات. فالوجود بلا لاوجود يصبح جامدًا، واللاوجود بلا وجود يصبح فراغًا لا معنى له؛ لكن عندما يلتقيان، ينكشف سر التوازن الكوني، ويظهر النسيج الخفي الذي يربط بين كل ما هو محسوس وما هو محتمل، بين كل ما هو معلوم وما هو مجهول. كما يقول ابن عربي: «من فهم الوجود ولم يعرف اللاوجود، فقد فهم نصف الحقيقة فقط؛ ومن عرف اللاوجود ولم يعرف الوجود، فقد نظر إلى فراغٍ لا معنى له. أما من اجتمعا في قلبه، فقد وصل إلى وحدة كل شيء. » عبور ما وراء العقل ليس مهمة عقلية فحسب، بل رحلة روحية وفكرية تكشف للإنسان عن حدود ذاته، عن إمكانياته، وعن دوره في هذا الكون المعقد. إنها رحلة إلى ما وراء الكلمات والأفكار، إلى ما وراء الظاهر والباطن، إلى حالة من الإدراك المتسامي التي تتجاوز كل تصنيفات العقل التقليدية. وكل خطوة في هذا الطريق هي فتح لباب جديد من الحقيقة، واستدعاء لصوت الروح الذي يهمس بما لا يقوله العقل، ويكشف ما وراء كل وجود وكل لاوجود. إن عبور ما وراء العقل يتطلب إدراك طبقات الوجود المختلفة؛ فهناك الوجود الظاهر، الملموس، الذي نحسه بعقلنا وأحاسيسنا، وهو الذي نسميه الحياة اليومية، ونتعامل معه كما نتعامل مع الأشياء والأشخاص، ونحاول ضبطه وفق قوانين الطبيعة والمجتمع. لكن خلف هذا الوجود الظاهر، يمتد وجود آخر لا تقل أهميته، لكنه غامض ومتشظٍ، وجودٌ يخترق حدود الزمن والمكان، ويحتضن احتمالات لم تولد بعد، أو تجارب لم نشهدها بعد، أو أرواحًا لم تتجسد بعد. هذا الوجود الخفي هو ما يُسمى باللاوجود، لكنه ليس فراغًا بلا معنى، بل حقلٌ متماوج من الاحتمالات التي تنتظر وعي الإنسان لتكتمل وتتحقق. حينما يحاول العقل فهم هذا التباين، يكتشف أن كل محاولة لتحديد الواقع بوصفه مطلقًا، تصطدم بحائط اللاوجود الذي يذكّره بأن الحقيقة أوسع من إدراكه المحدود. اللاوجود هنا ليس غيابًا بمعناه السطحي، بل قوة كامنة، نسيج محتمل لكل ما لم يُخلق بعد، لكل قرارات لم تُتخذ، لكل لحظات لم تمر بعد، ولكل كيانات لم تكتشف بعد. ولذلك، كل تجربة بشرية، وكل فكرة نحتفظ بها، هي تقاطعات بين الوجود الظاهر واللاوجود المحتمل، بين ما هو واقعي وما هو ممكن إن عبور ما وراء العقل، إذن، ليس هروبًا من التفكير، بل توسيع للنطاق الإدراكي للإنسان، بحيث يتعلم كيف يوازن بين حدود الإدراك وما يتجاوزها. العقل التقليدي، بما يمتلكه من أدوات تحليلية ومنطقية، يظل عاجزًا أمام اللاوجود، لأنه يبحث دائمًا عن إجابات محددة، بينما اللاوجود يقدم أسئلة بلا حدود، ويترك المجال للروح لتستشعر، وللخيال أن يكتشف، وللإدراك أن يتجاوز نفسه. في هذا السياق، يصبح الإنسان رحّالة بين الظاهر والخفي، بين ما يلمسه وما يستشعره، بين ما يعرفه وما يجهله. هذه الرحلة، على الرغم من صعوبتها وتعقيدها، تمنح الإنسان قدرة فريدة على فهم الطبيعة العميقة للكون، وعلى اكتشاف أسرار ذاته التي تتجاوز حدود الوعي اليومي. فكل خطوة في عبور ما وراء العقل تكشف عن طبقة جديدة من الحقيقة، عن صوت الروح المخبوء بين خيوط الواقع والاحتمال، عن تفاعل الوجود واللاوجود في صياغة المعنى الذي لا يراه العقل وحده. ولذلك، لا يمكن للإنسان أن يفهم الوجود بمعزل عن اللاوجود، ولا أن يدرك اللاوجود بمعزل عن الوجود. الوجود واللاوجود هما وجهان لعملة واحدة، والوعي الحقيقي هو القدرة على إدراك هذين الوجهين في آن واحد، وفي تناغم مستمر. حين يحدث هذا التناغم، يدرك الإنسان أن الحقيقة ليست مطلقة ولا محدودة، بل هي فضاء متسع من التفاعل بين كل ما هو معلوم وما هو محتمل، بين كل ما هو ظاهر وما هو خفي، بين كل ما هو حي وما هو ممكن أن يكون. في هذه المرحلة من الرحلة، يصبح العقل أكثر مرونة، والروح أكثر انفتاحًا، والوجود أكثر ثراءً، واللاوجود أكثر حضورًا. فكل لحظة إدراك، وكل تأمل، وكل صمت داخلي، هو خطوة نحو فهم أكبر، نحو إدراك أعمق لما وراء الظاهر، نحو تجربة متكاملة للوجود واللاوجود معًا، كما لو أن الروح كانت تشارك الكون في نسج معناه الخاص، بعيدًا عن قيود العقل وحدوده.

حين يواصل الإنسان الرحلة بين الوجود واللاوجود، يكتشف أن كل فكرة وكل شعور وكل لحظة وعي، ليست مجرد حدث عابر، بل تفاعلٌ بين قوتين أساسيتين: ما هو موجود بالفعل وما يمكن أن يوجد. فالعقل يحاول ترتيب الأفكار، ويصنفها بحسب ما هو مألوف ومعروف، بينما الروح تدعوه للتجاوز، لتلقي الضوء على الماوراء، على ما يتعذر على المنطق استيعابه، وعلى ما يشكل خيوط الحقيقة المخفية خلف الستار اليومي للحياة. في هذا الامتداد، يصبح الصمت أداة للمعرفة. ليس الصمت مجرد غياب للكلام، بل مساحة تتسع فيها الوعي لتختبر حدود الإدراك، ومساحة تتلاقى فيها الحقيقة والخيال. كل لحظة صمت تمنح الإنسان فرصة لتدقيق النظر في ظلال وجوده، وفي إمكانية تحولات لا يمكن للعقل وحده توقعها. إنه صمت يحمل صدى اللاوجود، ويكشف عن حقيقة أن كل شيء مرن ومتغير، وأن الثبات مجرد وهم مؤقت. العبور ما وراء العقل، بهذا المعنى، يتطلب شجاعة فلسفية وروحية. الشجاعة ليست مجرد مواجهة الأفكار الصعبة، بل القدرة على التعايش مع الغموض، والقدرة على حمل تناقضات الحياة والوعي واللاوعي في آن واحد. فحين نفهم أن كل تجربة نعيشها هي تلاقي بين الممكن والحاضر، بين الحلم والواقع، بين الظاهر والباطن، ندرك أن فهم الكون لن يتحقق إلا حين نتخلى عن الرغبة في السيطرة المطلقة على المعرفة، ونسمح للروح أن تتجول بحرية في فضاء اللاوجود، محتضنةً ما لا نستطيع رؤيته، متصلةً بما هو أبعد من حدود الحس والإدراك. هنا، يصبح الوجود واللاوجود ليسا مجرد مفاهيم فلسفية، بل أدوات لاكتشاف الذات وفهم العالم. كل خطوة في هذا المسار تكشف عن طبقة جديدة من الحقيقة، عن معنى أعمق لما نعيش، عن قوة الروح في تحويل ما هو ممكن إلى تجربة شعورية حية، وعن قدرة العقل في تفسير الظاهر بما يتجاوز قدراته التقليدية. مع وصول الإنسان إلى حدود ما وراء العقل، يكتشف أن الحقيقة ليست هدفًا يُحَصَل عليه، بل تجربة مستمرة تتكشف في كل لحظة، في كل فكرة، في كل شعور، وفي كل صمت داخلي. فعبور ما وراء العقل يعني الاعتراف بأن كل شيء مؤقت، وأن كل يقين قابل للتغير، وأن كل إدراك هو جزء من شبكة أوسع لا تنتهي من الاحتمالات والكيانات والتجارب. يصبح الوجود واللاوجود شهادة على عمق الروح، وتجربة للوعي تتجاوز حدود الزمن والمكان، وتجعل الإنسان شريكًا في نسج المعنى الكوني. هنا، يكتشف أن كل شيء مترابط، وأن الحياة ليست فقط ما نراه، بل ما يمكن أن نراه، وما نشعر به، وما نعيشه في عوالم محتملة، وما نحمله في أعماقنا من إمكانات غير محدودة. وبهذا الإدراك، يصبح الإنسان رحّالة بين ما هو معلوم وما هو محتمل، بين الظاهر والخفي، بين الوجود واللاوجود، قادرًا على التعايش مع الغموض، مستنيرًا بنور داخلي يجعله يرى ما وراء الأشياء، ويختبر حقيقةً أعمق، وأوسع، وأشمل، وأصدق من أي معرفة سطحية. فالوعي الحقيقي هنا لا يقف عند حدود المنطق وحده، بل يتسع ليشمل كل إمكانيات الواقع، وكل إمكانيات اللاواقع، وكل ما يمكن أن يكون، وكل ما يمكن أن نعيشه. وهكذا، يصبح عبور ما وراء العقل رحلة متواصلة نحو الفهم الأعمق للوجود، نحو تواصل الروح مع خفايا الوعي، وإدراك أن الحقيقة ليست مطلقة، بل هي فضاء مفتوح يتسع لكل من يسعى خلفه بجرأة وحب، بوعي وانفتاح، بصمت وتأمل.

5. الوعي والخيانة: مرآة النفس في الظل

في صمت الوعي تتسرّب الخيانة كنسمةٍ لا تُرى، لكنها تقلب أركان النفس كما يقلب الزلزال وجه الأرض. ما من إنسانٍ إلّا ووقفَ يومًا أمام مرآته، لا ليرى وجهه، بل ليرى ما انكسر فيه، وما ظلّ يختبئ في أعماقه من خياناتٍ صغيرةٍ وكبيرةٍ، تجاه ذاته، تجاه أفكاره، وتجاه الحقيقة نفسها. إنّ الخيانة هنا ليست فعلاً أخلاقيًّا فحسب، بل هي انحرافٌ في بنية الإدراك، وانكسارٌ في مسار الوعي حين يخذل نفسه وينحاز إلى الظلّ بدل النور. إنّ أخطر أنواع الخيانة هي تلك التي لا ننتبه إليها، حين يتحوّل وعينا إلى عبدٍ لمعتقدٍ أو سلطةٍ أو موروثٍ يفرض عليه كيف يرى، وكيف يفسّر، وكيف يحكم. في تلك اللحظة، ينفصل الفكر عن ذاته، ويغدو مجرّد مرآةٍ عمياء تعكس ما يُلقى عليها من صورٍ زائفة. وهنا يصبح الوعي خائنًا، لا لأنّه كذب، بل لأنّه سكت. فالصمت أمام الزيف خيانة، والتصفيق للباطل خيانة، والسكوت عن سؤال الحقيقة هو الجريمة التي لا يعاقب عليها القانون، ولكنها تُميت الروح ببطءٍ أشدّ من الموت نفسه.

وحين نتأمل في خيانة الوعي، نرى أن جذورها تمتد إلى خوف الإنسان من مواجهة ذاته. فالنفس لا تخون إلّا حين تخاف. تخاف أن تفقد يقينها، أن تهتزّ صورتها أمام نفسها، أن تُجَرَّ إلى مناطق العراء العقلي حيث لا سند إلّا العقل الحرّ، ولا ملاذ إلّا الصدق. ولهذا فإنّ كلّ محاولةٍ للتحرّر من الخيانة هي في جوهرها محاولةٌ لمصالحة الذات، لإعادة بناء العلاقة بين الفكر والروح على أساسٍ من الصدق العاري، لا على رماد الأوهام. الخيانة لا تُقاس بحجم ما نفعل، بل بقدر ما نسكت عنه. فكم من مفكرٍ خان فكره حين ساوم على قناعاته! وكم من مؤمنٍ خان إيمانه حين جعل الدين أداةً لتبرير ضعفه! وكم من مثقفٍ خان وعيه حين جعل من الحقيقة سلعةً تُشترى بثمنٍ بخسٍ في سوق المصالح! إنّنا نخون حين نرتدي قناع الطهر ونحن نعلم أن في أعماقنا ظلاً لم نُواجهه بعد. ولعلّ أعمق الخيانات هي خيانة الوعي لنفسه حين يقنع ذاته بأنه حرّ. فالوهم بالحرية أشدّ من القيود نفسها. حين يقول الوعي: أنا أرى، وهو لا يرى إلّا ما سُمِح له أن يراه؛ وحين يقول: أنا أفكر، وهو لا يفكر إلّا ضمن الأسوار التي بُنيت حوله منذ الطفولة، عندها يبلغ الخداع ذروته، وتكتمل الخيانة الكبرى التي تتزيّن باسم الاستنارة. إنّ الوعي الصادق هو ذاك الذي يملك الشجاعة لاتهام نفسه قبل أن يتّهم غيره، والذي يجرؤ على النظر في المرآة دون أن يُصلح وجهه أولًا. هو الذي يسأل: من أنا حين أخلع كلّ ما ألبسني إياه الآخرون؟ من أكون إن لم أُعرِّف نفسي بما ورثته؟ هنا تبدأ رحلة التعرية الكبرى، حيث يصبح الفكر خالعًا لجلده القديم، باحثًا عن جوهرٍ لا يخون ولا يُخدع. ولذلك، فإنّ مرآة النفس في الظل ليست مكانًا مظلمًا كما يُظن، بل هي المختبر الذي يُختبر فيه صدق الإنسان مع ذاته. هناك فقط تُعرف الخيانة الحقيقية، وهناك فقط يمكن للوعي أن يولد من جديد بعد أن يحترق رماده. هل نحن قادرون على النظر في تلك المرآة؟ أم أننا نخاف أن نرى وجوهنا الحقيقية وقد تلطّخت بخياناتٍ صامتةٍ مارسناها كل يوم ونحن نحسبها حكمةً وصبرًا؟ الوعي لا يُطهِّره الإنكار، بل الاعتراف. ولا يُطهِّره الكلام، بل الصمت الصادق. فليست الخيانة أن نكذب، بل أن نعرف الحقيقة ونتجاهلها، أن نرى الطريق ونختار الظلّ لأن النور يُؤلم العين التي اعتادت الظلام إنّ خيانة الوعي لا تبدأ في لحظة، بل تتسلّل إلينا عبر الزمن، مثل سمٍّ يتقطّر في شرايين الإدراك ببطءٍ لا يُرى. يبدأ الإنسان بتنازلٍ صغيرٍ عن حقيقته، ثم يبرّر هذا التنازل باسم "الواقعية"، ثم يُسلم نفسه لمنطق "التكيّف"، ثم يتحوّل إلى ظلٍّ يتحرك بإرادة غيره وهو يظنّ أنّه ما زال حُرًّا. هذه هي الخيانة التي لا تُحدث صوتًا، لأنها لا تقع في الخارج، بل في الداخل، في أعمق طبقات الوعي، حيث يُصاغ معنى الوجود ومعنى الذات. إنّ أخطر ما في الوعي ليس الجهل، بل التواطؤ مع الزيف. فالمُضلَّل قد يُعذر، أما المُتواطئ فلا عذر له. إنّنا حين نصبح شهودًا صامتين على سقوط الحقيقة، نكون قد شاركنا في دفنها بأيدينا. كم من عالِمٍ خان علمه حين حنى رأسه للسلطة! وكم من فيلسوفٍ خان فلسفته حين جعلها تابعًا للهوى الجمعي! وكم من روحٍ خانت إشراقها حين آثرت راحة القطيع على وجع الحقيقة في كلّ خيانةٍ فكريةٍ أو روحيةٍ، هناك لحظةٌ واحدةٌ يُمكن فيها إنقاذ الذات، هي لحظة الاعتراف الداخليّ: أن تقول لنفسك لقد خنت. هذه الكلمة هي مفتاح التحوّل، لأنها تمزّق قناع النقاء المزيّف، وتكشف عمق الشرخ الذي تَخفّى تحت الألفاظ والأيديولوجيا والمُثل. فمن لم يعترف بخيانته لن يعرف أبدًا طريق الصدق. لكن ماذا يحدث حين يخون الوعي نفسه؟ حين يُصبح الفكرُ سجينًا في سجنٍ بناه بنفسه؟ عندها يتولّد نوعٌ جديدٌ من الخداع: الوعي الزائف، الذي يعيش فيه الإنسان مطمئنًا إلى كذبةٍ كبرى اسمها الحقيقة التي لا تُناقش. هناك، في تلك المنطقة الرمادية بين الإيمان والتسليم، بين الشكّ واليقين، تذوب الحدود، ويصبح الوهم أكثر راحةً من الحقيقة، والخيانة أكثر دفئًا من المواجهة. الوعي الخائن لا يعيش في الظلام، بل في الضوء المزيّف. إنه ذلك النور الذي يخدر البصيرة، ويمنح النفس شعورًا زائفًا بالسلام. وفي هذا الضوء الكاذب، يتحول الفكر إلى خادمٍ للعقيدة، والعقيدة إلى وسيلةٍ للهيمنة، والروح إلى أداةٍ في يد الخوف. وهكذا تُغتال الحقيقة باسمها، ويُدفن الصدق تحت أنقاض الكلمات التي ادّعت الطهارة. إنّ الخيانة لا تحتاج إلى خنجرٍ أو مؤامرةٍ، بل إلى لحظة ضعفٍ أمام الذات، إلى همسةٍ تقول في الداخل: دع الأمور تمضي، لا تُغضب أحدًا، لا تبحث كثيرًا، لا تشكّ". تلك الهمسة الصغيرة هي بداية كلّ سقوطٍ كبير، لأنّها تُسكت الضمير وتُصالح الكذب، فتتحوّل النفس إلى ساحةٍ تسكنها الأصوات المتناقضة دون أن تجرؤ على الصراخ. ولذلك، فإنّ مواجهة الخيانة لا تكون بالخارج، بل في الداخل، في لحظةٍ نقف فيها عُراةً أمام أنفسنا، دون أقنعة، دون مسميات، دون تبريرات. حينها فقط يُمكن للوعي أن يرى جرحه الحقيقي، لا كوصمةٍ بل كدعوةٍ للشفاء. فالوعي الذي لم يخن قط لم يُختبر بعد، لأنه لم يدخل بعد في الصراع مع ظله، ولم يعرف بعد كم هو هشّ أمام إغراء الزيف.

يا أيها الوعي، يا من تتفاخر بنورك، هل تعلم أنّ فيك ظلاً أكبر من الضوء الذي تدّعيه؟ وهل تدري أنّ كلّ معرفةٍ لم تُختبر في الألم ليست سوى ترفٍ عقليٍّ لا ينقذك حين تتفكك الحقيقة أمامك؟ إنّ خيانة الفكر ليست في الخطأ، بل في التجمّد، في التوقف عن البحث، في أن تُعلن لنفسك أنّك بلغت النهاية وأغلقت الأفق. فكلّ توقفٍ عن التساؤل هو خيانةٌ خفيّةٌ للمعنى، وكلّ يقينٍ مطمئنٍّ هو موتٌ بطيءٌ للروح. وهكذا، تظلّ مرآة النفس في الظل ساحة المعركة الكبرى بين الصدق والخيانة، بين ما نُعلن وما نُخفي، بين ما نؤمن به وما نفعله في الخفاء. هناك فقط يُعرف الإنسان حقًا، لا بما يقول، بل بما يهرب من قوله، لا بما يُفكّر، بل بما يُخفي عن فكره. في عمق كل إنسانٍ يسكن شاهدٌ خفيّ، لا ينام، ولا يُخدع، يرقب بصمتٍ ما تفعله الأنا حين تُساوم على حقيقتها. هذا الشاهد ليس ضميرًا بالمعنى الأخلاقي البسيط، بل هو جوهر النور الإلهي فينا، ذاك الجزء الذي لم يُدنّسه التبرير، ولم يُطفئه الكذب. غير أن هذا الشاهد يُحاصر في أغلبنا، يُطمر تحت رماد العادات، وتُسدل عليه ستائر المفاهيم، حتى يغدو الصوت الداخلي أشبه بهمسٍ بعيدٍ نكاد لا نسمعه إلا في لحظات الخوف أو الوحدة أو الفقد. وحين ينادي هذا الصوت، قلّة من الناس تجرؤ على الإصغاء. لأن الإصغاء له يعني مواجهة أنفسهم، مواجهة ما دفنوه طويلًا: نفاقهم، ضعفهم، رغبتهم في التصفيق أكثر من رغبتهم في الصدق. في لحظة الصدق هذه، يتهاوى كل ما ظنّه الإنسان وعيًا، وتتكشّف الحقيقة: أن الخيانة لم تكن يومًا فعلاً واحدًا، بل كانت طريقة حياة. الوعي الخائن لا يُعلن نفسه، بل يتخفّى خلف شعارات المعرفة والحرية والإيمان. هو كالسارق الذي يصرخ أمسكوا اللص كي يصرف الأنظار عن ذاته. ولهذا، فإنّ أخطر الخيانات هي تلك التي تُرتكب باسم النور. كم من فكرةٍ وُلدت من النقاء تحوّلت إلى صنمٍ لأن من حملها خاف أن يرى نقصها؟ وكم من عقلٍ رفض المراجعة، فعبد يقينه، ونصب على العتبة معبدًا لنفسه؟ من هنا، كانت الخيانة الكبرى ليست في كتمان الحقيقة، بل في ادّعاء امتلاكها. لأن من يظن أنه يملك الحقيقة يقتلها، ومن يتوهّم أنه بلغ الوعي يُطفئ نوره. فالحقّ ليس شيئًا يُمتلك

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

 

في المثقف اليوم