قضايا

يونس الديدي: أن أظل معك حتى في غيابي!

نميل، في حياتنا اليومية، إلى ربط “الحضور” بشيءٍ ملموس: أن يكون الآخر معنا في المكان ذاته، أو أن تصلنا منه كلمة مكتوبة أو صوت مسموع. بهذا المعنى السطحي، يصبح الحضور مجرد دليل فيزيائي على الوجود، أو رسالة تؤكد أننا لم نُنسَ بعد. لكن أي قراءةٍ أعمق للعلاقات الإنسانية، ولتجربة الكينونة نفسها، تكشف أن الحضور أوسع وأغنى من هذه الحدود؛ إنه ليس فقط مسافةً تُقطع أو رسالةً تُرسل، بل هو شكل من أشكال الوجود الذي يتجاوز الزمن والمكان، ويتغلغل في أعماق الذاكرة والوجدان.

الحضور بين الجسد والروح

منذ قرون، شغلت مسألة الحضور الفلاسفة واللاهوتيين والمفكرين. فعند الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، على سبيل المثال، ليس المكان مجرد فضاء هندسي، بل هو بيت للوجود، حيث تتداخل المادة بالخيال، والحس بالذاكرة. وعند مارتن هايدغر، الحضور (Dasein) هو أساس وجود الإنسان ذاته: أن تكون حاضراً معناه أن تكون منفتحاً على العالم، مشاركاً فيه، حتى في صمتك أو في غيابك الجسدي. بهذا الفهم، يصبح الحضور ليس مجرد “تواجد” بل “انكشافاً” لما هو أعمق: علاقة، أثر، إمكانية.

إننا نحضر في حياة الآخرين بطرقٍ متعددة، بعضها لا يحتاج إلى كلمات. نظرة عابرة، ذكرى محفورة، موقف كريم لم يُنسَ. الحضور هنا لا يُختزل في الجسد أو الرسالة، بل في الأثر النفسي والمعنوي الذي يظل حيّاً، حتى حين يغيب الشكل الفيزيائي.

الغياب كأحد وجوه الحضور

المفارقة أن الغياب نفسه قد يكون أحياناً شكلاً من أشكال الحضور. ففي قصيدة الشاعر الألماني ريلكه، يُصوَّر الغياب بوصفه مساحة يفيض منها الآخر فينا، كأنه يترك فراغاً مشعاً يذكّر بامتلائه السابق. الغياب، إذن، ليس فراغاً محضاً، بل طاقة صامتة تدفعنا إلى إدراك قيمة من نفتقد. هنا، يُعاد تعريف “الهجران” أو “الترك”: فقد يكون الآخر غائباً جسداً، لكنه ما زال يحضر عبر أثره فينا، عبر صدى صوته الذي نسمعه في ذاكرتنا، أو في طريقة تصرف نتبناها من غير وعي.

هذا الإدراك يمكن أن يغير جذرياً نظرتنا إلى العلاقات. فكم من سوء فهم ينشأ لأننا نحصر الحضور في الرسالة السريعة أو المكالمة المنتظمة، فنعتبر الصمت “إهمالاً” والغياب “تركاً”. بينما قد يكون الصمت أحياناً أرقى أشكال الحضور، لأنه يترك للآخر مساحة كي يكتشف ذاته، ويمنحه ثقة بأن العلاقة لا تحتاج إلى إثبات يومي كي تظل قائمة.

الحضور في زمن الاتصالات

في عصرنا المهووس بالتواصل اللحظي، صارت قيمة الحضور تُقاس بعدد الإشعارات والردود السريعة. الرسائل المتواصلة توهمنا أننا حاضرون، لكن هل يكفي هذا؟ أليست هذه السرعة في التواصل نوعاً من “الحضور المزيف” الذي يخفي فراغاً عاطفياً؟ إن الحضور الأصيل لا يقاس بالكمّ، بل بالكيفية: كيف يظل الآخر ماثلاً في وعينا حتى حين تنطفئ الشاشة؟ كيف نشعر بطمأنينة في علاقته بنا، حتى وإن طال الغياب؟

الكاتب الياباني هاروكي موراكامي يصف هذا المعنى في إحدى رواياته حين يقول إن بعض الأشخاص يبقون معنا مثل “موسيقى داخلية”، لا نحتاج إلى سماعها بصوت عالٍ كي نطمئن أنها موجودة. هذا الحضور الهادئ، الخفي، هو ما يمنح العلاقات قوتها وعمقها.

إعادة تعريف “الهجران”

حين نفهم الحضور بهذا الشكل الوجودي، سنعيد النظر جذرياً في الكثير من التصرفات. لن نقرأ الصمت كإهمال بالضرورة، بل كخيار للحفاظ على مساحة مشتركة أعمق من الكلام. لن نرى الغياب الجسدي هجراناً، بل ربما وسيلة ليتحول الآخر إلى جزءٍ من ذاكرتنا الداخلية، حيث يستحيل فقده تماماً. وسيصبح السؤال الحقيقي ليس: “هل الآخر موجود معي الآن؟” بل: “كيف يسكنني أثره حتى في غيابه؟”.

بهذا المنظور، نفهم أن “الهجران” الحقيقي لا يحدث حين يغيب الجسد أو الكلمات، بل حين ينقطع الأثر، حين يتوقف الآخر عن العيش في وعينا وفي امتداد ذواتنا. أما ما دون ذلك، فهو اختلاف في أشكال الحضور، وليس انقطاعاً له.

نحو ثقافة جديدة للحضور

إن إعادة تعريف الحضور ليست مجرد ترف فلسفي، بل ضرورة إنسانية. ففي عالمٍ يتسارع إيقاعه حتى يوشك أن يبتلعنا، نحن في أمسّ الحاجة إلى أن نعيد الاعتبار لما هو أعمق من الرسائل والإشعارات. علينا أن نتعلم كيف نثق بحضور الآخر حتى في صمته، وكيف نمنح أنفسنا شجاعة الصبر على غيابه. عندها فقط، يمكن لعلاقاتنا أن تتحرر من التوتر وسوء الفهم، وأن تصبح أكثر رسوخاً وامتلاءً.

فالحضور، في جوهره، ليس “أن نكون معاً” فحسب، بل أن نكون في صميم حياة الآخر، بأثرٍ لا تمحوه المسافة ولا الغياب. إنه فعل وجودي، يتجاوز الفيزياء واللغة، ليصير شكلاً من أشكال العيش المشترك، حيث نصبح، في نهاية المطاف، أكثر من مجرد أجساد أو كلمات: نصبح حضوراً متبادلاً في الذاكرة والوجدان.

***

يونس الديدي - كاتب مغربي متخصص في الشؤون الاجتماعيّة والسياسية.

في المثقف اليوم