قضايا
محمد سيف: تحيّز الإدراك المتأخر.. لعنة المستقبل!
خطورة المفاهيم تكمن في أن تكون حقيقتها على خلاف ما نرسمه في أذهاننا، فكم من مفهوم عوّلنا عليه، ولبثنا دهرا ونحن نظن فيه خيرا، وهو لا ينفكّ يقوّض جوانب عدة من حياتنا، ونحسب أننا نحسن صنعا.
والأنْكى أنه كلما تنامى يقيننا بها ازدادت توغّلا واستفحل ضررها، فما نسدل عليه ستار الثقة العمياء أشد خطرا مما نَفْرَق منه من المفاهيم المأبونة التي نحاول جاهدين الابتعاد منها وحتى أن تكون بيننا وبينها صلة سطحية، في حين إننا غارقون إلى الأذقان فيما حقه المجافاة.
ومما يندسّ تحت عباءة اليقين، ما يكون ناتجا من الإدراك المتأخر، وهو ما يُصطلح عليه بتحيّز الإدراك المتأخر (Hindsight Bias) وهو في صورته الأساسية يعني أن نظن أننا كنا نتوقع جزما وندرك حتما مآل حدثٍ ما بعد وقوعه! فلو استحضرنا بعض المشاهد في حياتنا التي يتجلى فيها هذا الانحياز لوجدناها قائمة طويل الذيل، فكم من مرة صرخنا متيقنين: لقد كنتُ أعلم أنّ ذلك سيحدث، قلبي كان يحدثني: إن ذلك آتٍ لا محالة، لقد كانت الدلائل كلها تشير لذلك، إلى آخر تلك العبارات التي تصب في مصب واحد، وهو أن صيرورة الحدث لتلك النهاية لم يكن احتمالا من بين احتمالات شتّى، بل كان حتمية لا محيص عنها، والحقّ أنه ليس كذلك، فوقوعه لا ينفي عنه صفة الاحتمالية فيما سبق، وتوهّم حتميته لم يكن حاصلا من قبل.
تتخذ قرارا مدروسا للاستثمار في مشروع ما، مصطفيًا إياه من بين جملة من الخيارات المتاحة ووفق المعطيات الآنيّة، وبعد أمد تؤول الصفقة لنهاية مأساوية، لتنتصب قائلا: لقد كنت متيقنا من ذلك، لقد كانت القرائن طافحة، ومن ذلك كيت وكيت…إلخ تلك المزاعم التي تدور في فَلك واحد، وهو أن النهاية المأساوية كانت حتمية ولم تكن احتمالا، وأن هذه الحتمية مدرَكة من قِبلك من قبل، والأمر ليس كذلك بالمرّة.
وهُنا يطفح تساؤل مشروع: أين مسوّغ التجنّب في سياق الخطورة الذي استهلّ به الحديث، والحال أنّ الاعتقاد بحتمية حدوث ما حدث بعد أن حدث لا يغير من المعادلة شيئا؟ وهذا التساؤل رغم رصانته إلا أنه ناظرٌ للماضي، ولذلك تكاد تكون الخطورة مجرد زوبعة في فنجان، إلا أن سياق الخطورة الذي نتحدث عنه هُنا مرتبط بالمستقبل! كيف ذلك؟
إن تكرار هذا اليقين بإدراك حتمية حدوث ما حدث بعد أن حدث يبني فينا اتّكالا جازما بأن لدينا القدرة على التنبّؤ بمصير ما نلج فيه من شؤون حياتنا، لتدفعنا هذه الجرعة الزائدة من الثقة لتضخيم إمكانياتنا في توقّع مسار الخيارات المتاحة لموضوع ما آخر؛ الأمر الذي يُحدِث تشويها واسعا في التوقع وتاليا التقييم، ثم ما تؤول إليه تلك القرارات التي بُنيت على وهم اليقين، ولو كان الأمر كما نتوهمه، فلماذا إذن يستمر مسلسل النهايات البائسة لكثير من قراراتنا؟ ببساطة لأن ما اعتقدناه يقينا لم يكن إلا محض وهْم تخفّى في هيئة يقين.
إذن نحن إزاء إشكالية فكرية جسيمة تعززها عملياتنا الذهنية المعتادة، وعدم معالجتها تكلّفنا ثمنا باهظا، لا لشيء سوى أننا وضعنا يقيننا في غير موضعه، وعليه؛ يمكن الزعم بقوة: إن انحياز الإدراك المتأخر هو حرفيا فن صناعة القرارات المدمرة!
هذا لا يقتصر على الحياة الفردية أو الشؤون اليومية بل ينسحب على قرارات المنظمات والحكومات، ويمس جميع الأصعدة كالاقتصادية والسياسية، والقائمة تطول، فتؤدي إلى انتكاسات مالية وتخبّطات إدارية وحروب طاحنة ومشكلات بيئية كبرى، وقس عليها كل ما يمكن أن يتم اتخاذ قرار حياله، وهو حرفيا كل شيء!
وفي هذا الصدد ثمّة العديد من الحلول المطروحة، ولعل أبرزها - مما يمكن اعتباره بداية صلبة لتفكيك هذا الوهم - ما يقترحه البعض من ضرورة تدوين حيثيات القرار الذي تعتزم اتخاذه، مقرونا بالخيارات الأخرى، بالإضافة إلى الأسباب الداعية لاتخاذه دون ما سواه. إنّ من شأن ذلك أن يقِيم سدا منيعا في وجه الانجرار وراء وهم اليقين حينما يؤول الأمر لنتيجة مختلفة، وإن شئت فقل: إنه أشبه بتسجيل يذكرك بما جرى قبل أن يصيبك تحيّز الإدراك المتأخر بالزهايمر! على أن يصحب ذلك التدوين تقييم فاحص ومتأنٍ ومراجعة ذاتية حازمة، مع إشراك أهل البصيرة قدر المستطاع؛ للوقوف على زوايا أخرى للنظر يُحتمل أنها قد عميت عليك من جهة، وللتأكّد من عدم الانسياق وراء تضخيم إمكانياتنا الذاتية في تقييم الخيارات المتاحة وتوقّع مساراتها المستقبلية من جهة أخرى.
وأثناء تلك العملية الحاسمة، ينبغي لنا أن نتصالح مع فكرة أنه ليس بالضرورة أن تؤول الأمور كشبيهاتها من المواقف التي حدثت في الماضي، فملابسات كل موضوع وإن تشابه مع غيره، مختلفة عن أشباهه، وبالتالي فالاحتمالات غير محدودة، وليست مكررة، هذا المنطلق يقينَا من تشوّه توقّعاتنا المستقبلية؛ لفرط ثقتنا بقدرتنا على توقع مجريات الأمور بدقة؛ نتيجةً لتحيّز الإدراك المتأخّر.
قد يُفهم من هذا الطرح أنه يتجنّى على حقيقة الحدس، وهو غير مُراد، خصوصا حين نتكلم عن الحدس قبل أن تستوي الأمور على جوديّ النهايات، أما ما بعد ذلك، فالشبهة كبيرة في أنه ليس إلا فخّ تحيّز الإدراك المتأخر.
وأود أن أترككم مع هذه اللفتة.. لربما يجدر بنا التفريق بين القرارات السيئة وبين النتائج السيئة! فتحمّل مسؤولية القرارات يعني أن نحاول صنعها بما هو متاح لدينا من موارد وإمكانيات، والاستفادة الواعية بأقصى ما يمكن من أخطائنا الماضية، وما ينتج بعدئذ لا يجب أن نتحمّل تبعات وقوعه من حيث المبدأ، فنتاطعى معه بوعي لا بإلقاء اللوم على أنفسنا، فما يحدث خاضع لعوامل شتى، ونحن لا نملك زمام كل الأمور، فضلا عن أنه واردٌ جدا أن تخرج بعض التفاصيل عن السيطرة؛ وعليه فلا داعي للركون لوهم حتمية الوقوع بعد الوقوع!.
***
محمد سيف – كاتب عُماني