
من غيبة آليات المعقول إلى الارتياب في قداسة المنقول
من تداعيات استياء وأسف جل المبدعين الحقيقيين؛ وسيما أصحاب الأقلام، عدم الشعور بأدنى صدى أو أثر لإبداعاتهم في مجتمعاتهم (استحسان - نقد - مدح - قدح - استهجان)؛ وكأن ما لفظته أقلامهم قد ضاع سُدى أو لم يلاقٍ سوى تجاهل من الذين جعلوا صوالحهم مقصدهم وغايتهم، والأمثلة عديدة على مر تاريخ حركة الإبداع الإنساني (الأدب والفلسفة بل والعلم أيضاً)، ولا سيما في الحقبة التي نتحدّث عنها، ألا وهي ثقافة العصر الوسيط، فما أكثر المؤلفات التي أهملت أو حرقت أو ضاعت أثناء الحروب الدينية أو الخلافات المذهبية أو النزاعات الاستعمارية؛ وحدث ولا حرج عن التصانيف التي حُرّفت بأقلام المدلسين أو حرفت مقاصدها من جراء تأويلات المتعصبين أو قصفت أقلام أصحابها، وصفعت رؤوس أربابها من قبل الساسة المتجبرين أو الغرباء المتآمرين أو العاجزين الحاقدين ..
وسوف نتعرض إلى تلك القضية عند حديثنا عن الجانب الآخر من فلسفة العصر الوسيط التي ذاعت عقب ظهور الإسلام، وبالتحديد منذ القرن الثاني الهجري مع أوائل المتكلمين الفلاسفة تلك الحقبة التي انتشرت فيها الشائعات والأكاذيب وعطلت تمامًا غرابيل الكذب التي تنشد الحقيقة عن العمل.
***
أمّا عن آخر انتقادات وطعون المتفلسفة الشكاك فيما جاء به اللاهوتيون المسيحيون الأوائل في العصر الوسيط فيتمثلا في قضيتين أعتقد أنه لم يرد عليهما في تاريخ الفلسفة حتى الآن وهما...!
أن أصحاب الدين الجديد قد اطلقوا على أسفار التوراة التي يبلغ عددها تسعة وثلاثون سفرًا؛ والعهد الجديد الذي يبلغ عدد أسفاره سبعة وعشرون سفرًا (الكتاب المقدس) في حين أنه لا يخلو من مواضع عديدة تناقض بعضها بعضًا بل إن هناك أسفاراً لا ينبغي أن يطلق عليها صفة القداسة نذكر منها: الأسفار الخاصة بسلوك بني إسرائيل في حروبهم مع الفلسطينيين بخاصّة، وجيرانهم من الأقوام الأمنة بعامة. وقد ذكر ذلك العنف والإجرام الوحشي بتوجيه من الرب على حد ما ذُكر في هذه الأسفار (سفر التثنية، الإصحاح 20 وما بعده من 1:20) (سفر يشوع الإصحاح الثاني عشر) (سفر العدد الإصحاح 17) (سفر صموئيل الأول، الإصحاح 15).
ذلك فضلًا عن الأسفار التي تتحدث باستفاضة عن الجماع والوطأ المحرم، والاغتصاب والعهر وذلك في : (سفر صموئيل الثاني، الإصحاح الخامس من 10:13) (سفر الملوك، الإصحاح الأول) (سفر التكوين، الإصحاح 38) (سفر استير، الإصحاح الثاني) (سفر هوشع، الإصحاح الأول).
وهناك أسفار يصعب تأويلها على نحو يليق بالقداسة مثل ما جاء في (سفر نشيد الإنشاد، الإصحاح الأول وما بعده) ناهيك عن حديث الرب مع اليهود الذي يعنفهم فيه لمعصيته ومخالفة تعاليمه والكفر بنعمه.
واعتقد أن ما جاء في هذه الأسفار يجب أن يُدرج ضمن أكاذيب (يهود الخزر) الذين كان لهم السبق في ظهور هذه الأسفار بلغتها القديمة فتعد أقدم نسخة موجودة من التوراة في إيطاليا باسم مخطوطة توراة بولونيا والتي يرجع تاريخها إلى نحو عام (1225:1155 م) في حين أن هناك مخطوطات مهمة من نصوص التوراة بمدريد في أسبانيا وتوليدو ولكنها ليست كاملة مثل مخطوطات البحر الميت التي توجد هناك أيضًا ومختلف على زمن ظهورها.
أمّا الترجمة السبعينية وأسفار العهد القديم فهي أيضًا من الأكاذيب الكبرى التي ما زال المعنيون بفلسفة اللاهوت وتاريخ الأديان يشككون في متونها، وما جاء فيها، تلك التي يرجع تاريخها إلى القرن الثالث قبل الميلاد. ويضيف الدكتور علي قاسم وهو من أكثر الباحثين المصريين عنايةً بدراسة فلسفة اللاهوت وتاريخ الأديان المعاصرة، (أن هذه الطعون تعد من أكبر وأخطر القضايا الفلسفية التي أعيت التحليليين والمؤولين والنقاد العلمانيين ذلك فضلًا عن عجز اللاهوتيين المعاصرين عن تبريرها.
أمّا القضية الثانية؛ التي آثارها المتفلسفة الشكاك فهي : أن أصحاب الدين الجديد قد اتخذوا موقفًا عدائيًا من كل العقليين والفلاسفة والمجترئين من العلماء بحجة أنهم جميعًا هراطقة يخالفون حق اليقين الذي يقفون في كنفه، ولا يسمحون لغيرهم الدخول من بابه.
فقد كفروا بكل التراث الفلسفي الإغريقي، ومن حاكى معارفه، كما اشترطوا على من يستشهد بأقوالهم أن يكيفوا آرائه على نحو يوافق ما تعتقده الكنيسة، كما قاموا بحرق وقتل والتنكيل بمن اجترئ على نقض الكتاب المقدس.
أمّا أكثر جرائم اللاهوتيين في العصر الوسيط يتمثل في محاكم التفتيش التي انتشرت في أوربا نحو عام (1184 م) وكانت بمثابة مقصلة العلماء.
ويضيف متفلسفو الشكاك أن ضعف البنية اللاهوتية للكنيسة في العصر الوسيط كان وراء ظهور مئات الهراطقة والمجترئين والملاحدة، وكان معظمهم من الذين تناولوا ما تدعو إليه الكنيسة عن طبيعة الإله تناولًا عقليًا مع العلم أن كان بعضهم من المؤمنين بتعاليم المسيح الأخلاقية مثل أريوس (نحو 336:250 م) أبيون بلستونيكس (20 ق.م: 48 م ) نسطورس (451:381 م) وغيرهم الكثير إلى ظهور ما نطلق عليه عصر الإلحاد في منتصف القرن الثامن عشر قبيل عصر النهضة.
ويرى الدكتور محمد أبو المجد وهو من أفضل المتخصصين الشباب في فلسفة اللاهوت في العصر الوسيط (أن هناك أفكاراً وآراءً رائعة قد أنتجها اللاهوتيون في الفترة الممتدة من القرن الثاني الميلادي إلى القرن الرابع عشر، غير أن عزوف أصحابها عن النسقية الفلسفية والمناهج العقلية والوجهة النقدية في قراءة النصوص المقدسة قد أقعدتهم عن مزاحمة الفلاسفة العلمانيين والعلماء المجددين المؤولين إلى درجة أن بعض الفلاسفة المسيحيين قد ترددوا مرارًا في البوح بآرائهم والتصريح بنظرياتهم مخافة مقصلة الكنيسة).
***
ولعل أفضل ما ندفع به اتهامات أعداء المسيحية هو ما كتبه اللاهوتيون الأوائل الذين حاولوا الجمع بين المسحة العقلية في العرض، والوجهة الأخلاقية في المعالجة، والرد على بعض الاتهامات التي جاءت في بشارتهم بالدين الجديد وتعاليم يسوع.
غير أن ما يأخذ على هذه الخطابات المفعمة بالإيمان هو عزوفها عن قواعد المنهج الجدلي في التناظر القائم على الحجج العقليّة والأدلة النقديّة في الرد على الطعون أو الشبهات مثل تلك التي جاءت على ألسنة اليهود والمتفلسفة والشكاك؛ وها هي أشهر النماذج التي وردت في كتابات المتثاقفين:
فجاء عند يوستينوس الشهيد (165:100 م) في دفعه تهمة الكذب عن المبشرين وتأكيده على أن الخداع من الآثام والشرور المنهي عنها في الأناجيل كما أن اتهام اليسوعيين بنقض التوراة كذب أيضًا، وأن كفرهم بعبادة القيصر والأوثان دليل على إيمانهم بعقيدة المخلص؛ إذ ذهب إلى أن من يطلب تطبيق العدالة يجب عليه أن يتحرى الدقة في طلب الحق والخبر الصادق، واجتناب الكذابين ومُروّجو الشائعات الأفاقين؛ فالتقي هو الذي يتحرى الصدق من الأخبار سواء كانت على لسان من نعتقد في قداستهم من القدماء أو مت اشتهر عنهم الكذب من المحدثين؛ فالعدالة لا ينبغي أن تقوم على آراء ظنية أو حكايات مشكوك في صحتها وخاصة إن كانت تدور حول قضايا إجترائية لا تخلو من التجديف على النصوص المقدسة أو افتراءات على الأبرار والأتقياء من العباد المخلصين.
وعلينا جميعًا أن نتذكر أن الأهواء والخصومات الجائرة يتولد عنها بالضرورة أكاذيب وافتراءات يقودها الحقد والهوى وعليه يجب على المحققين توخي الدقة في التحري؛ لينكشف أمام أعينهم مواضع الصدق ومواطن الكذب، وهل يضير الحاكم أن يبذل قصاري جهده في التقصي قبل أن يصدر أحكامه بالقتل أو بالسجن أو ألقاء الاتهامات جزافًا ضد عباد مخلصين في الطاعة لأوامر الرب والسلطان معًا قبل أن يهوى في آتون الأكاذيب والمكائد الشيطانية والمؤامرات المغرضة من قبل صناع الفتن والخيانات.
وإذا لم تفعلوا؛ فلن يضير المظلوم إذا استشهد دفاعًا عن الصدق.
وعلى النقيض من ذلك، سوف يلقى المغرضون والقضاة الغشاشون مقام المفسدين والمنكرين لأبسط حقوق الرب المخلص فاتهامنا نحن المسيحيين بالكفر؛ لأننا لا نقدم قرابين للأوثان فإن مثل هذا الادعاء صادق، وإن كان على ألسنة الأعداء والجاحدين لنعمة المخلص والراغبين عن الإيمان به، ومع ذلك فأن كلامهم يحمل معه دليل براءتنا من تهمة الكفر والمروق؛ فمن ذا الذي يفضل الباطل ويتبعه ويبخس الحق ويعزف عنه؛ فصدقنا في عبادتنا للحق يدفعنا إلى الاعتراف بأننا نجحد الكذب والخيانة التي تدعي بأن عبادة الأوثان وتعظيم الأصنام خيرٌ يجب اتباعه.
ومن أشهر التربويين الوعاظ الذين اهتموا بترغيب الشباب في الصدق وترهيبهم من توابع الكذب ما نجده في نصائح إكليمنس السكندري (215:150 م) الذي استشهد بأقوال السيد المسيح عن البراءة وطهارة الأنفس باعتبارهما من أوضح صور الصراحة والصدق اللتين يمتاز بهما الأطفال في طور سذاجتهم قبل الوقوع في غواية وأهواء الشهوة والابتعاد عن طريق الحب والإخلاص في الهداية.
ومن أقوال أوريجانوس (254:185 م) في دفاعه عن الإيمان المسيحي وحقيقة العقيدة ضد ادعاءات اليهود أيضًا ( أننا نعبد الرب في السر والعلن؛ فالصدق لا يتوارى ولا يخجل ولا يخاف إذا عرف الناس مكانه واستدلوا عليه. أما الإفك والوشاية والافتراء فسبيله هو الدس والخبث والشائعات التي يرددها الأشرار كيدًا في خصومهم كما أننا لا نستعين بالشياطين ولا نستقوى بالسحر وذلك لأن كليهما من دروب الكذب.
ويضيف ترتليانوس (240: 155 م) أن المجدفين والكذبة والأفاقين، هم الذين يشككون في الوحي والناموس ويتخابثون بأسئلتهم المرتابة (لما وأين ومتى ومن أحق بكلام الرب) أي لما أختص الرب المسيح ليكون هو المخلص وأهمل ناموس موسى الذي هو الأكمل؟ وهل يجوز العدول عن الشريعة من أجل تعاليم وأقوال مشكوك في صحتها؟
أمّا القديس أوغسطين كما ذكرنا أهم وأفضل المتفلسفة المسيحيين الذين صاغوا خطاباتهم بمنحى فلسفي؛ وذلك لاطلاعه على معظم التراث الفلسفي الإغريقي والفارسي، وإلمامه بطعون الشكاك وأكاذيب اليهود، ذلك فضلًا عن دراسته الوافية بنصوص التوراة آنذاك؛ فها هو يبيّن أن المزيفين من المحتالين ومحترفي التزوير والتلفيق وقلب الحقائق؛ وخلط الكلام على نحو يشكك المؤمنين في صدق عقيدتهم لن يفلحوا في مقصدهم؛ لأن كلمات الرب واضحة بذاتها تراها البصائر بقوة إيمانها، وتنكر تلك الأضاليل الوقائع والأحداث التي دونها الأبرار في رسائلهم وأثبتتها أفعالهم.
واستطرد صاحب كتاب "مدينة الله" شارحًا دروب الكذب وأشكاله: إن للكذب ثمانية أنواع أولها: الكذب الذي يولده الخوف من الأذى الجسدي، وهو سلوك خسيس يصدر عن الأنفس الجبانة لأن إيذاء الجسد أو عطبه لا يكافئ سلامة الروح وطهارتها، والصورة الأخيرة هي التي سوف تظل صادقة؛ لأنها تعبر عن صدق محبة الرب؛ وذلك لأن الأعراض التي تلحق بالجسد أضعف من أن تصيب جوهر الإيمان الراسخ في النفوس والسرائر. أما الكذب الذي يلحق الضرر بالآخرين فهو اعتداء على الأغيار، وهو لا يجوز لأنه لون من ألوان الفتن وإلباس الباطل لباس الحق وإعلاء من شأن الزيف لطمس الوضوح.
أمّا الخداع والإضلال طلبًا لمصلحة قائله؛ فهو شكل من أشكال المكر الشيطاني الذي يصد الناس عما ينفعهم ليستأثر لنفسه النعمة دون غيره، وفيه شيء من الحسد المكروه، وهو يختلف عن الكذب الذي يرمي إلى إضلال من يصغى إليه، وهو أيضًا من عبث الشيطان الذي يضحك من جهل وحمق طالبيه.
أمّا الرياء والنفاق والمداهنة والمدح في غير محله في الذين لا يستحقوه؛ فهو كذب أيضًا حتى إذا كان في ثوب المجاملة.
أمّا النوعان اللذان لا يضعهما القديس أوغسطين ضمن قائمة الكذب الآثم فيتمثل أولها في إخفاء مكان المظلوم عن أعين الظالم حتى لا يقع الشخص الضعيف في شرك المتجبر.
والأخير؛ يتمثل في حماية التائب وستره بمنأى عمن يطلبون الثأر منه، أو معاقبته وحرمانه من الأمل الذي دفعه إلى الندم عما فعل.
ويستطرد أوغسطين أيضًا موضحًا أن ما جاء في الأحاديث القديمة المتواترة عن داء الكذب عند الإنسان لا يخلو من الحقيقة؛ ذلك إذا غلبت شهوات الإنسان على نفسه العاقلة التي تنشد العفة والطهارة دومًا عن طريق الحب الذي ليس فيه مكان لشيء دون الحقيقة الربانية؛ فالإنسان الصالح الصادق الصريح لا يكذب لأن نفسه قد خلقت طاهرة، وقد تميز أوغسطين بهذا التصريح عن أقرانه من الفلاسفة المسيحيين.
وللحديث بقيّة عن آراء ابنتنا المجتهدة نانسي مرقص، وهي من الباحثات الواعدات في ميدان فلسفة العصر الوسيط بجامعة الإسكندريّة.
***
د. عصمت نصار