قضايا

(يا أصدقائي، ليس هناك أصدقاء).. أرسطو

فرش اشكالي: الصداقة مقوّم أساسي لفعل التفلسف، حتى انه يمكن القول إن الفلسفة ولدت من رحم السؤال عن الصديق. فمن "فيلوس philos" أي الصديق كما جاء في اشعار هوميروس، إلى "فيلو صوفيا" حب الحكمة، يظل الحوار مع الآخر وطلب الحقيقة معه النبض الأصيل للتفلسف، فالصديق الحقيقي هو رفيق البحث عن الحقيقة. وقد قيل لأرسطو من الصديق؟ قال: إنسان هو أنت، إلا أنه بالشخص غيرك! والصداقة في المتن الفلسفي الارسطي لا تتحقق الا عبر الحوار العمومي وليس العلاقات الحميمية ذلك ان وظيفة السياسة الرشيدة هي توليد الصداقة باعتبارها فضيلة أخلاقية كبرى، وحجراً في بناء الكمال الإنساني المنشود؛ فالإنسان – بطبعه – مفطور على التطلع نحو الكمال، ولا يتحقق هذا الكمال إلا داخل الدولة عبر الصداقة التي تُشكِّل شرطاً جوهرياً للسعادة داخل المدينة الفاضلة. " والمشرعين الجيدين كما جاء في كتاب الاخلاق الى نيقوماخوس " أبدوا اهتمامًا بالصداقة أكثر من اهتمامهم بالعدالة "

وإذا كانت الدراسات المعاصرة تشير إلى تعمق هذه العلاقة في المسيرة العمرية المتأخرة، فإنها – في جذرها الأنطولوجي – تظل حاجة وجودية متأصلة في كينونة الإنسان، لا يقوم عودها على هشاشة المنفعة العابرة، بل يتأسس على أصل الخير وغايته. ومن هنا يصفها ابن مسكويه بأنها الفضيلة الوحيدة الدائمة، لاستنادها إلى الخير الثابت الذي لا يتزعزع. وفي جذرها اللغوي (ص. د. ق) تتجلى دلالات القوة والمتانة والثبات، فهي – بحسب تعبير فولتير "زواج الروح"، لكنه زواجٌ يصطدم بمرارة الواقع لذلك هي عُرضة للطلاق.

من هذا الالتباس بين المثال الأخلاقي الثابت وهشاشة الواقع المتغير، تنبثق إشكاليتنا المركزية: كيف تُقرأ الصداقة بين تشكيك الواقع وتوق المثال؟ وكيف يتجلى هذا الجدل في النصوص الفلسفية المؤسسة له؟  لذلك سنحاول في هذا المقال النبش في مفهوم الصداقة كما يتجلى في نصوص مفكرين وان شئت قل فيلسوفين ينتميان إلى حقلين ثقافيين مختلفين، لكنهما يلتقيان عند هاجس السؤال نفسه: أبو حيان التوحيدي في "الصداقة والصديق"، وميشيل دي مونتين في مقاله "عن الصداقة". وستدور مقاربتنا حول الأسئلة الجوهرية الآتية:

1.  هل الصداقة إمكانية إنسانية قابلة للتحقق، أم هي مثالٌ يستعصي على التطبيق في واقع العلاقات؟

2.  كيف نحددها فلسفيا؟

3.  إذا كانت ممكنة، فما هي مستويات تحقيقها ومراتبها الأخلاقية والوجودية؟

4.  كيف يمكن تفسير هشاشتها الواقعية المتكررة، بالرغم من كونها أعلى مراتب الفضائل الأخلاقية؟

5.  هل تُفهم الصداقة على أنها قيمة ذاتية تنبع من التجربة الشخصية والوجدان، أم هي قيمة موضوعية مستقلة تنتمي إلى عالم المُثل الأخلاقية؟

6.  هل الصداقة بالضرورة متبادلة؟ وهل يجب أن يكون الأصدقاء دائما على قدم المساواة؟

في مفهوم الصداقة

يتميز مفهوم الصداقة بالترحال ونقطة البداية هذه تدفعنا الى التنقّل بين ثلاثة عوالم: عالم الفضيلة العمومية (أرسطو)، حيث الصداقة ركن المدينة، وعالم المعيار الأخلاقي الفردي (التوحيدي)، حيث تصير الصداقة حكمة شخصية ومقياسًا لنقد زمن الجهالة، وعالم الحدث الوجودي الفريد (مونتين)، حيث تتحول إلى تجربة وجدانية تعبر عن انفتاح الكينونة.

لقد ميز أرسطو في كتاب "الأخلاق النيقوماخية" بين أنواع الصداقة الثلاثة: صداقة المنفعة وهي قائمة على المصالح المتبادلة و تزول بزوال المنفعة، وصداقة المتعة القائمة على اللذة المشتركة والتي تزول بزوال المتعة، وصداقة الفضيلة وهي تقوم على حب الخير في الشخص لذاته، وهي أكمل أنواع الصداقة وأكثرها ديمومة، ولا تكون الصداقة عند ارسطو كاملة دون مشاركة في الحياة والتأمل والنقاش فمن خلال الصداقة، يمارس الإنسان فضائله ويشارك في "الحياة الخيرة" مع الآخرين.

واذا تركنا ارسطو جانبا قلنا بداية ان رؤية كل من التوحيدي ومونتين للصداقة تتقاطع في رفض البعد المادي والنفعي، والارتقاء بها إلى مصاف الظاهرة الوجودية المتكاملة، التي تحمل في طياتها أبعادًا فلسفية عميقة. غير أن الاختلاف الجوهري بينهما يكمن في الأساس المؤسِّس لها وشروط تحقُّقها.

حيث ينطلق التوحيدي في تشريح ماهية الصداقة من مبدأ المشاكلة، جاعلاً إياها مشروطةً بالانسجام العقلي التام والتماثل الروحي الخالص. فهي عنده، في المقام الأول، صداقةٌ عقلانية تتغذى على حوار التأمل وقد قال أعرابي لصاحب له: إني لأصقل بلقائك عقلي، وأشحذ بمحادثتك ذهني، وهي تنبثق من فطرة الإنسان السوية؛ تزدهر بالصدق وتموت بالتصنُّع. إنها تتحقق عبر "مواتاة خُلُقية" تتناغم فيها الطبائع والسجايا في صمتٍ، قبل أن تتفق الأقوال والأفعال. يقول التوحيدي: قلت لأبي سليمان محمد بن طاهر السجستاني: إني أرى بينك وبين ابن سيار القاضي ممازجة نفسية، وصداقة عقلية، ومساعدة طبيعية، ومواتاة خلقية. فمن أين هذا؟ وكيف هو؟ فقال: يا بني! اختلطت ثقتي به بثقته بي، فاستفدنا طمأنينة وسكوناً لا يرثان على الدهر، ولا يحولان بالقهر، ومع ذلك فبيننا بالطالع، ومواقع الكواكب مشاكلة عجيبة، ومظاهرة غريبة، حتى أنا نلتقي كثيراً في الإرادات، والاختيارات، والشهوات، والطلبات.

وهكذا، في هذه العلاقة المثلى، تلتقي الإرادة مع الفطرة، ويندمج الخُلُق مع الطبع السوي في وحدةٍ عضوية. فالصديق لا يراد ليؤخذ منه شيء، أو ليعطي شيئاً، ولكن ليسكن إليه، ويعتمد عليه، ويستأنس به، ويستفاد منه، ويستشار في الملم، وينهض في المهم، ويتزين به إذا حضر، ويتشوق إليه إذا سفر، والأخذ والإعطاء في عرض ذلك جاريان على مذهب الجود والكرم، بلا حسد، ولا نكد، ولا صدد، ولا حدد، ولا تلوم، ولا تلاوم، ولا كلوح، ولا فتوح، ولا تعريض بنكير، ولا نكاية بتغيير.

وفي السياق ذاته، يؤكد مونتين أن الصداقة المتلبِّسة بثوب المنفعة، أو المختزَلة إلى تبادل عابر للملذات، هي علاقةٌ ناقصة، أقل جمالاً ونبلًا، ولا تستحق أن تُدرج في سجل الفضائل الأخلاقية الخالصة، ما دامت المنفعة – كما يُذكِّرنا كانط – تشوِّه جوهر الأخلاق. فالصداقة الحقة، عنده، هي قبل كل شيء فعل إرادي حرّ، ينبع من الاختيار المحض. وهي في حركتها الوجودية، انفتاح للأنا على الآخر بحثًا عن ملاذٍ وجودي وسكنٍ روحي. في رحاب هذه العلاقة الفريدة تتلاشى الحدود بين الساكن والمسكون، فلا يعود الصديق "آخرًا" يُضاف إلى الذات، بل يصير "أنا أخرى" تتجلى فيها معجزة الوحدة في ظل التعدد. وهكذا الصداقة "لا تتطلب أي اختبار أو حساب"، انها تفتح "حقل ثقة غير محدود ومجاني"، على عكس العلاقات النفعية المبنية على أساس مادي تفرض "الحذر والاقتصاد والحساب". ان الصداقة الحقة “هبة إلهية" وروح واحدة في جسدين " حب الأصدقاء هو دفء عالمي عام، معتدل وسلس، دفء ثابت وهادئ، كله لطف واعتدال، ليس فيه شيء حاد" ان الصداقة من منظور مونتين هي التي تسمح بـ "توسيع الذات" وتجاوز "تفكك الأنا". فالصديق هو "مسرح الإيمان الأنثروبولوجي والروحي بالآخر"، وهو الذي يمنح الذات إمكانية التماسك "

ويمكن تفصيل حدود هذا التقاطع وطبيعته الدقيقة في ثلاثة محاور جوهرية:

أولاً: في نقد الصداقة النفعية، فهما يتفقان على رفض العلاقة السطحية الزائلة، غير أن تعبير كل منهما يحمل نبرة مختلفة؛ فبينما يوجه التوحيدي نقدًا لفظيًا قائمًا على مفهوم "المشاكلة"، يصدر مونتين حكمًا أخلاقيًا صريحًا بوصفها تشويهًا للفضيلة.

ثانيًا: في التشديد على التجانس الداخلي والوحدة، حيث يلتقيان في الغاية المتمثلة في خلق كينونة موحدة، ولكن الآلية تختلف؛ فوحدة التوحيدي تقوم على تماثل قبلي في الجوهر عبر "الممازجة الروحية"، بينما تقوم وحدة مونتين على اتحاد اختياري لاحق عبر "ذوبان الإرادتين".

ثالثًا: في النظر إلى الصداقة ككمال وجودي وسكن.

يمثل التقاطع بين الرؤيتين تآلفًا في الغاية ينبع من تباين في المنهج والمنطلق: فقد انطلق التوحيدي من مبدأ عقلي-أخلاقي (المشاكلة) كمقدمة ضرورية لقيام الصداقة، حيث ركز على شروطها القَبْلِية، في حين انطلق مونتين من التجربة الوجدانية-الوجودية كناتج للصداقة، مركزا على حقيقتها البَعْدِية. ويفضي هذا التحليل إلى أن كليهما يرى الصداقة الحقة كـ "ميثاق غليظ" يتجاوز العرض ليلمس الجوهر، غير أن هذا الميثاق يكون عند التوحيدي عقدًا تُكتب شروطه سلفًا بالمشاكلة، ويكون عند مونتين حدثًا وجوديًا فريدًا تُخلق شروطه لحظة التحقق.

العوائق الوجودية والاجتماعية للصداقة المثالية عند مونتين والتوحيدي

إذا كان أرسطو قد وضع المثال، وفولتير قد تنبأ بطلاقه، فإن مونتين والتوحيدي يتعمقان في تشريح مَواطن العَطَب التي تمنع تحقُّق هذا المثال من الأساس. فبينما يصوغ كلٌّ منهما تصوّرًا ساميًا للصداقة، فإن تشخيصهما للعوائق التي تحول دونها يكشف عن رؤية تشاؤمية عميقة الجذور، تختلف منابعهما لكنها تلتقي في النتيجة.

أولاً: الحواجز الذاتية والأنطولوجية عند مونتين

يرسم مونتين حدود الصداقة بسلسلة من النفي المحكم، مستبعدًا منها كل علاقة لا تقوم على الحرية المطلقة والتجانس الإرادي الاختياري. فهو يرفضها:

- بين الأب وابنه، بسبب ثقل اللامساواة المفرطة وهيمنة سلطة الوالدين، مما يحول دون قيام شراكة حرة بين ندَّين.

- بين الإخوة، لأن رباط الدم القانوني والطبيعي يسبق الإرادة ويقيدها، فيحل "الواجب المفروض" محل "الاختيار الطوعي".

- على أساس العاطفة أو الغريزة، لأن الأولى طائشة متقلبة، والثانية مرتبطة بالجسد وتذبل بذَبلان اللذة.

يُظهر هذا التحليل أن عائق الصداقة الحقيقية عند مونتين ليس خارجيًا، بل كامن في طبيعة العديد من الروابط الإنسانية ذاتها، التي تفتقر إلى نقاء الإرادة الحرة التي هي عنده الشرط الأنطولوجي الوحيد لزواج الأرواح.

ثانيًا: العوائق التاريخية والاجتماعية عند التوحيدي

ينطلق أبو حيان التوحيدي من منظور أوسع، مُرجعًا استحالة الصداقة إلى فساد الزمن وانحلال النسيج الأخلاقي للمجتمع. فـ "سوق الوفاء قد كسدت"، ونحن نعيش في "زمن الجهالة" حيث يحلل التوحيدي انهيار سلم القيم الذي ضبط العلاقات قديمًا: من الدين (كمرجعية عليا)، إلى الحياء (كضابط داخلي)، إلى الرغبة والرهبة (كدوافع بدائية). مستندا الى قول ( الشعبي) : " تعايش الناس بالدين زماناً حتى ذهب الدين، ثم تعايشوا بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعايشوا بالحياء حتى ذهب الحياء، ثم تعايشوا بالرغبة والرهبة، وسيتعايشون بالجهالة زماناً طويلاً."

وبديهي ان انهيار هذا السلم يعني غياب التربة الخصبة التي تنمو فيها أي فضيلة، ومنها الصداقة. وهكذا، بينما يبحث مونتين عن العائق في طبيعة العلاقة الفردية، يبحث التوحيدي عنه في الوضع الأخلاقي الموضوعي للمحيط الاجتماعي؛ فالفرد، مهما كان صافي النية، غارق في مستنقع عام من الانحطاط يسمم ينابيع الثقة والوفاء من المنبع. قال الفضيل بن عياض: قال لي ابن المبارك: ما أعياني شيء كما أعياني أني لا أجد أخاً في الله قال: فقلت له: لا يهيدنك هذا فقد خبثت السرائر، وتنكرت الظواهر، وفني ميراث النبوة، وفقد ما كان عليه أهل الفتوة.

ويرى أبو حيان التوحيدي أن الصداقة لا تقف عائقها عند فساد الزمن العام فحسب، بل تتعذر أيضًا وتتكسر على صخرة التمايز الطبقي والوظيفي في المجتمع. فهو يُخضع الفئات الاجتماعية الرئيسية لتحليل نقدي لاذع، ليستنتج استحالة قيامها في معظمها:

- فهي مستحيلة عند الملوك، لأن حياتهم وسلطتهم تجري على موج القهر والهوى، حيث يُستبدل الصدق بالنفاق، والمساواة بالخضوع.

- وهي لا تتحقق عند التجار، لأنهم منشغلون بكسب المادي وزينة الدنيا، فتكون معاملتهم محكومة بالمقايضة والمصلحة، لا بالتجرد والإخلاص.

- وحتى بين أهل العلم – الذين يفترض فيهم السمو الأخلاقي – فإنها لا تتحقق إلا نادرًا، لأن مجتمعهم كثيرًا ما يُفسده الحسد والتنافس على المكانة والتماري (المجادلة) في البحث عن الغلبة لا عن الحقيقة.

شروط تحقق الصداقة

بعد تشريح العوائق الوجودية والاجتماعية التي تحول دون الصداقة، يطرح كل من التوحيدي ومونتين شرطًا جوهريًا لقيامها وازدهارها، يرتكز على مفهوم الثقة المطلقة، وإن اختلفت تجلياته بينهما.

يرى التوحيدي أن ازدهار الصداقة مرهون بـ ثلاثية الفضائل العملية: الثقة والصفاء والصدق قال أبو العتاهية: قلت لعلي بن الهيثم: ما يجب للصديق؟ قال: ثلاث خلال: كتمان حديث الخلوة، والمواساة عند الشدة، وإقالة العثرة. فـ الصفاء هو طهارة الباطن من الغش، والصدق هو انطباق اللسان على السريرة، والثقة هي الثمرة الطبيعية لهما. وتتجلى هذه الثقة في أسمى صورها كـ حصانة روحية تمنع انتقال الأسرار من حرمة الضمير إلى مجازفة الشفاه. فالعلاقة هنا تُبنى على حصيلة أخلاقية متراكمة من الاستقامة والنقاء، تؤسس لمساحة مقدسة من الأمان.

بينما يقدم مونتين اختبارًا وجوديًا أشد جذرية للثقة. فهو يفترض سيناريوًا حيث ينقلب المعيار الأخلاقي والقانوني نفسه: فالسر الذي أقسَم المرء على عدم إفشائه لأي "آخر"، يصبح من الممكن – بل ومن الواجب الوجودي – إفشاؤه للصديق دون حنث في اليمين. السبب جذري: الصديق "ليس آخر" يمكن أن يُفشى له السر، بل هو "أنا أخرى". الثقة هنا ليست مجرد ثقة بـ الآخر، بل هي ثقة كون الآخر هو الذات. فهي ليست فضيلة مكتسبة، بل هي حالة وجودية يذوب فيها الفاصل بين الأنا والأنت، ويصبح الإفصاح كالمكاشفة مع النفس.

بعد تأسيس شرط الثقة المطلقة، يقدم كل من التوحيدي ومونتين آلية عملية لاختبار متانة الصداقة وصقلها في مواجهة صعوبات الواقع، حيث يؤسس التوحيدي لديناميكية الصداقة على مبدأ تقاسم الأعباء والثبات في الشدائد فالصديق "يعرف وقت الشدة لا في الرخاء". أي أن قيمة الصداقة وصدقيتها تُختبران ليس في أوقات السهولة والمسرة، بل عندما تنكشف الأقنعة وتتعرى النفوس تحت وطأة المحن. هنا، تتحول الصداقة من علاقة تشارك في الخير إلى ملاذ وجودي وأخلاقي، حيث يصبح الوفاء والتضامن فعل مقاومة ضد قسوة الظروف. الصداقة بهذا المعنى هي التزام أخلاقي صارم بمواساة الصديق وتحمل جزء من ألمه، مما يزيدها متانة وعمقًا. وعلى النقيض، لا ينظر مونتين إلى الشدة كمعيار مركزي، بل يؤسس ديمومة العلاقة على مبدأ العطاء كمتعة خالصة. فهو لا يرى في تقديم الخدمة للصديق أو العون له واجبًا ثقيلًا، بل فرصة للتفرد والتعبير عن الذات. العطاء بين الصديقين، في هذه الرؤية، لا يُقدَّر بثمن ولا يُنتظر عليه مقابل، لأنه يصدر عن اتحاد الإرادتين حيث يصير خير الصديق خيرًا للذات. الخدمة إذن هي تعبير عن الحرية والوفاء للذات الموحدة، وليست اختبارًا للثبات. المتعة هنا ليست في الاستلام، بل في فعل التجرد والعطاء نفسه، الذي يشكل جزءًا من حوار الحب والتفاهم المستمر.

وبعد تأسيس الصداقة على الثقة واختبارها في الشدة والعطاء، يبرز تحدٍّ أخير أكثر دقة: كيف تتعامل مع هفوات الصديق ونقائصه البشرية المحتَّمة؟ هنا يقدم التوحيدي، مستأنسًا برؤية بلزاك، مبدأً حكيماً لضمان استمرارية العلاقة.حيث يرتقي التوحيدي بفعل التسامح من كونه فضيلة إلى كونه ضرورة حكيمة لبقاء الصداقة. فهو يرى أن الصديق "لابد أن يحتمل له ظلم الغضب وظلم الدالة وظلم الهفوة". هذه "الظُلم" الثلاثي – الانفعال العابر، استغلال القرب، وزلات الطبع – هي شوائب بشرية حتمية. المفتاح ليس إنكارها، بل احتمالها بحكمة. ويحذر التوحيدي تحذيراً شديداً من "العتاب المفرط"، فهو يصفه بأنه "مذلة" للصديق وقد يُفضي إلى الحقد. فالعتاب، وإن كان بحق، إذا تجاوز حده أصبح إهانة تُضعف ذلك "الميثاق الغليظ". فالعلاج هنا وقائي، يقوم على الصبر والحلم والتغاضي الحكيم، حفاظاً على كرامة العلاقة من "مذلة" العتاب.

اما من المنظور المونتيني، قد يبدو هذا السؤال عن احتمال العيوب ثانوياً أو حتى مُفتعلاً. إذا كانت الصداقة اتحاداً وجودياً حيث يصير الصديق "أنا أخرى"، فكيف تُحتمل عيوب الذات؟ العيوب في هذه الحالة جزء من كينونة الصديق الكلية التي قبلتها الإرادة بحرية مطلقة. لا يوجد مجال هنا "لحمل" أو "احتمال" بالمعنى الكراهي، لأن القبول كان تاماً منذ البداية. ما يراه التوحيدي "هفوة" قد يراه مونتين سِمة شخصية في الكل الذي أحبه. فالثقة المطلقة التي أسسا لها تستبطن التسامح مسبقاً، بل تُبطِل الحاجة الشعورية إليه كواجب.

وكتخريج عام

وهكذا، بعد رحلة التأمل بين تشكك التوحيدي وحلم مونتين، نعود إلى السؤال الافتتاحي: هل نعلم حقًا لماذا لدينا أصدقاء؟ يقدم لنا الفيلسوفان إجابتين متكاملتين: إجابة واقعية-اجتماعية (التوحيدي) تُرجع الأسباب إلى فساد المحيط أو نقاء المشاكلة، وإجابة وجودية-فردية (مونتين) ترفض الأسباب نفسها لصالح حدث فريد ('لأنه هو هو'). إذا كان سؤال وسائل التواصل الاجتماعي عن طبيعة 'الصداقة' اليوم يلح علينا، فإن دروس هذين المفكرين تلتقي في تحذير مشترك: حذار من الخلط بين الكثرة والجودة، وبين المنفعة والتفرد. ربما تكون مهمتنا، في زمن 'الجهالة' الرقمي الجديد، هي الحفاظ على إمكانية ذلك 'اللا-سبب' المونتيني المجاني، عبر بناء 'مشاكلة' أخلاقية واعية (توحيدي) تُمكّننا من تمييز الجوهري من العَرَضي. فالصداقة الحقة، في النهاية، ليست مجرد اسم في قائمة، او عدد يضاف الى عدد بل هي مسعى فلسفي معيشي، سؤال نحمله وعلاقة نبنيها أو نعترف بها، في المسافة الدائمة بين واقع العلاقات الهشّة ومثال الوحدة المستحيل.

***

عمرون علي - أستاذ مادة الفلسفة

الجفاف لا يهبط على الارض وحدها، بل يهبط على الانسان حين يفرغ داخله من نبض الحياة. فهناك جفاف لا تراه العيون، لكنه يلتهم ارواحنا بصمت اشد من كل العواصف. الجفاف لا يصيب الارض فقط. فالارض حين تجف تنذر بالمجاعة، اما الانسان حين يجف في داخله فانه ينذر بانطفاء الوجود نفسه.

هناك جفاف شعور، ذلك النوع الذي يكسو القلب بطبقة من الملح، كلما حاول ان يحب احترق. يحول القلب الى صحراء واسعة، تمتد رمالها كلما حاولنا الاقتراب من الاخر. جفاف يجعل المشاعر هشة، كاوراق خريفية لم تعد تحتمل لمسة ريح. انه جفاف لا يرى، لكنه يسمع في الصمت الطويل بين شخصين كانا يوما قادرين على صنع موسيقى معا.

وهناك جفاف اسلوب، حين تصبح اللغة فقيرة، جافة كغصن ماتت فيه العصارة. الاسلوب الفقير ليس فقرا لغويا، بل فقر رؤية؛ كاتب يرى العالم بعين باهتة، فينقل الينا صورة بلا حرارة ولا عمق. الجفاف هنا ليس في الحروف، بل في الروح التي وراء الحروف.

الجاف لا يكشف عن نقص في البلاغة، بل عن نقص في الوعي، اذ لا يكتب الانسان بيده، بل يكتب بروحه، فاذا جفت الروح تكسرت اللغه. وجفاف المعاملة، حين يتعامل البشر مع بعضهم ببرود يجعل دفء الوجود يتبخر. يصبح العطف ترفا، والاهتمام عبئا، واللطف استثناء نادرا حين يتحول البشر الى الات تؤدي الواجب ببرود، كانهم فقدوا نعمة اللمسة الانسانية. جفاف المعاملة لا يكسر القلوب فقط، بل يكسر الاحساس بان العالم مكان صالح للعيش. انه يجعل الشخص يشعر انه ضيف ثقيل في حياة الاخرين، لا احد يلاحظ غيابه كما لم يلاحظوا حضوره.

لكن اسوأها جميعا هو جفاف العقل.. ذلك الجفاف الذي يجعل الذهن ارضا منزوعة الدهشة، خالية من السؤال. عقل جف هو عقل توقف عن النمو، عن التامل، عن مقاومة القبح الذي يتكاثر من حوله. حين يجف العقل تموت القدرة على التمييز، وتضمحل الفضيلة، وتغدو الحياة مجرد تكرار ميت لحركة بلا معنى. وهو اشدها خطرا. فعقل بلا سؤال هو عقل بلا حياة، وعقل بلا دهشة هو عقل بلا أبواب.

الجفاف العقلي يجعل الانسان يسير في العالم بعيون مطفأة، لا يرى، لا يتساءل، لا يعترض، بل يكرر ما قيل له كما تردد الجدران صدى الاصوات بلا فهم. ومع جفاف العقل يموت الخيال، وتضيق الافكار، ويصبح العالم سجنا من المسلمات.

جفاف العقل لا يهدد صاحبه فقط، بل يهدد المجتمع باكمله؛ اذ يتحول الناس الى نسخة واحدة من الصمت الفكري، يخشون التفكير كما يخشى الظمآن الاقتراب من بئر مسحورة.

ان مقاومة الجفاف الداخلي ليست ترفا، بل فعل بقاء.

علينا ان نسقي ارواحنا بالصدق، ولغتنا بالجمال، ومعاملاتنا باللين، وعقولنا بالسؤال. ولنعلم ان الجفاف الحقيقي ليس ما يحدث في التربة، بل ما يحدث في انسان توقف عن النمو من الداخل، ونسي ان الحياة لا تستمر الا لمن يحافظ على نبع روحه جاريا ومفتوحا.

وفي النهاية، ليست الحياة معركة ضد الموت كما نظن، بل معركة ضد الجفاف الداخلي. فالموت حدث واحد، اما الجفاف فهو موت يتكرر كل يوم.

والانسان الذي ينجو ليس الاقوى، ولا الاكثر علما، بل الاقدر على ان يحفظ في داخله قطرة نور، قطرة حب، قطرة سؤال، تقاوم تصحر الروح وتعيد تشكيل معنى الوجود.

ان خلاص الانسان يبدأ من لحظة يدرك فيها ان اعظم ثرواته ليست ما يملكه، بل ما يبقيه حيا من الداخل. فاذا حافظ على نبع روحه متدفقا، وعلى عقله متسائلا، وعلى قلبه دافئا، فلن يخشاه جفاف، ولن تهزمه صحراء، لان بداخله مطرا لا ينقطع.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

نحو إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع

يشهد العالم تحوّلاً جذرياً بفعل الثورات التكنولوجية المتسارعة، التي باتت تخترق مختلف البنى الاجتماعية وتعيد تشكيل أنماط التواصل والإدراك والسلوك. وقد ولّدت هذه التحولات تحديات غير مسبوقة أمام الأنظمة السياسية، لاسيما في الدول النامية التي تعاني هشاشة في مجالات التربية والتكوين والتعليم. فالتفاهة الرقمية، وميولات الغواية الجديدة الموجّهة إلى العقول الأقل تحصيناً، أصبحت آفة مركّبة تُضعف مناعة المجتمع وتحدّ من فاعلية الفعل السياسي التقليدي.

ضمن هذا المشهد العالمي المضطرب، تتقدّم التجربة الديمقراطية المغربية بخطوات محسوبة، تجمع بين الحذر وبناء التراكم. فقد رسخت الدولة حضورها المركزي في قيادة التحولات الاستراتيجية، مستندةً إلى منظومة مؤسساتية تحمّلت عبء توجيه التغيير بعد عقود من تعقّّد التاريخ السياسي الوطني. ومع ذلك، يظلّ هذا التقدم مشروطاً بقدرة الفاعلين السياسيين والمؤسسات على الاستجابة لمتطلبات الانتقال نحو حكامة حديثة وعقلانية، تفصل بوضوح بين السلطات، وتضمن الانخراط الفاعل للمجتمع.

أولاً: مفترق طرق سياسي وفكري

لم يعد الوضع السياسي الراهن في المغرب يحتمل مقاربة تقوم على المسايرة أو إدارة الزمن السياسي بأدوات الماضي. فالتحديات التي يواجهها المغرب، في سياق إقليمي ودولي متغير، تفرض مراجعة عميقة للمفاهيم المؤطّرة للفعل السياسي، مثل السلطة، والحق، والعدالة، ومشروعية العنف. كما أن تراكم التجارب منذ تسعينيات القرن الماضي مكّن البلاد من تجاوز نسبي لمرحلة الهشاشة، لكنه لم يلغِ مظاهر التصلّب داخل بعض المفاصل المؤسساتية، والتي ما تزال تعيق الانخراط الكامل في تفعيل السياسات العمومية وفق المعايير الحديثة للحكامة والشفافية.

وقد أضحت الحاجة ملحّة لإعادة التفكير في سبل تعزيز الديمقراطية الشعبية، وتحقيق الالتقائية بين السياسات العمومية، وتكريس التضامن بين الوحدات الترابية، وإنعاش الطبقة الوسطى، والحد من الانتشار الواسع للاقتصاد غير المهيكل.

ثانياً: أولويات لإعادة بناء العقد الاجتماعي

يتطلّب الظرف الحالي من المغرب توظيف الجهود المجتمعية والمؤسساتية لمواجهة جملة من المطالب الإستراتيجية الملحّة، من أبرزها:

- تعميق مسار الحرية الفردية باعتبارها حجر الزاوية لأي مشروع ديمقراطي حديث.

- ترسيخ الدولة ككيان أخلاقي وروحي يستند إلى قيم موضوعية في بناء سلطته ومشروعيته.

- ضمان الحق في الحياة والكرامة وصون الخيرات المدنية للذوات الفردية.

- إعادة التوازن بين الأمن وحقوق المواطنين عبر التخفيف من المقاربات الاحترازية المفرطة وإبراز قيم الرأفة والتلاحم الوطني.

- تعزيز الفصل بين السلط وتحصين دور الدولة الجامعة التي توحّد ولا تُقصي.

- الحد من اللجوء إلى العنف وحصر ممارسته المشروعة في إطار قانوني ديمقراطي يرسّخ حقوق الإنسان.

- ربط شرعية الدولة بالإجماع الوطني وسيادة الحق والقانون، وبالبعد الإنساني لمؤسسات التأديب.

ثالثاً: العقل السياسي المغربي ورهانات المستقبل

يميل الأفق المغربي نحو التفاؤل، إذ يستند العقل السياسي للدولة إلى خبرة تراكمية عميقة تُغذّيها اجتهادات فكرية وفلسفية لروّاد مثل سبينوزا، هيغل، مونتيسكيو، عبد الله العروي، جاكلين روس، ومحمد عابد الجابري... وتدلّ هذه المرجعيات على أن ازدهار الدولة واستمرار قوتها يمران عبر تكريس الديمقراطية الشعبية، وتثبيت الأمن والاستقرار، والاستجابة لمطالب المشاركة المواطِنة.

ولا يمكن لتمثّلات العقل الجمعي أن ترتقي في ظلّ اعتماد مقاربات قسرية أو ظرفية. فالعنف ــ تاريخياً وفلسفياً ــ ليس خياراً طبيعياً في الإنسان، بل وسيلة للسيطرة والاستغلال. وعليه، فإن تعزيز السلم الاجتماعي لن يتحقق إلا بترسيخ العدالة الاجتماعية، وضمان التوزيع العادل للثروة، وإتاحة متعة العيش الكريم كقاعدة لثقافة سياسية مناهضة للعنف.

رابعاً: سياق دولي متوتر ومسؤوليات مضاعفة

يشهد العالم توترات حادة، تتراوح بين النزاعات التقليدية والحروب المعلوماتية، ما يجعل اختراق سيادات الدول عملية ممنهجة تحرّكها دوافع التنافس والهيمنة والحذر المتبادل. وفي هذا السياق، يحتاج المغرب إلى يقظة مؤسساتية وروح وطنية صلبة لمواجهة هذه التحديات، لا سيما في ظلّ التحولات التكنولوجية الكبرى التي تعيد تشكيل الأنماط الاقتصادية والاجتماعية.

فالتقدم الاقتصادي لم يعد قابلاً للإنجاز اعتماداً على القوة العضلية أو الموارد التقليدية، بل عبر المعرفة، والابتكار، والتكنولوجيا، والثقافة. ويستوجب هذا الواقع عقلنة الممارسة السياسية، وترسيخ حقوق الإنسان كشرط أساسي لإخماد بؤر التوتر الناتجة عن التهميش وضعف تكافؤ الفرص.

خاتمة: نحو منطق سياسي جديد

لم تعد المقاربة الأمنية قادرة على احتواء الاحتجاجات الاجتماعية المطالبة بالعدالة، خصوصاً في ظلّ شعور واسع لدى الشباب بضعف آفاق التشغيل وجودة التربية والتعليم والصحة. وعليه، يفرض السياق الانتقال إلى منطق سياسي جديد يقوم على:

- تعزيز الثقة في المؤسسات،

- تجديد صيغ الإنصاف والمساواة،

- رفع منسوب الشفافية،

- والقطع مع ممارسات الهيمنة التقليدية التي فقدت مشروعيتها.

فالدولة الحديثة، في ظلّ التكنولوجيا المتقدمة، لم تعد تُعرَّف بوصفها جهازاً للهيمنة، بل باعتبارها منظومة كفاءات مستدامة، تحكمها قواعد عقلانية وتُكرّس قيم الخدمة العمومية والعدالة والكرامة.

***

الحسين بوخرطة

لكل لغة اربعة مستويات: استهلاكي، ابداعي، علمي، رسمي. وتتسم اللغة الادارية الرسمية بالاتي:

الوضوح: فأدنى سوء فهم يؤدي الى الوقوع في خطأ التفسير، ومن ثمّ الخطأ في العمل. فهو يحرص على الإبلاغ دون (البلاغة) التي تعنى بجماليات ومهارات الكلام.

المباشرة: يقصد بها الخلو من الدلالات الإيحائية، والحرص على نقل المعلومات بدقة متناهية.

 الإيجاز: هو استعمال اقل عدد من الكلمات لإيصال فكرة الكتاب، الا اذا اقتضى موضوعه التطويل.

الموضوعية: وهي طرح القضايا بشكل غير ذاتي. فالكاتب يكتب باسم الإدارة لا باسمه الخاص، لكي لا يقع في الذاتية والانفعال العاطفي. وترتبط بها المسؤولية؛ فالكاتب مسؤول عن كل كلمة يكتبها.

 احترام السلم الإداري: هو جعل الكتاب مناسباً لمقتضى حال المرسل إليه، فخطاب الجهة الاوطأ يختلف عن خطاب الجهة الأعلى، وخطاب هذه بدورها يختلف عن خطاب الجهة الأكثر علواً.

 الكليشهات (العبارات الجاهزة): هي عبارات وصيغ جاهزة تستعمل في بعض الكتب. ولكنها ليست عامة في كل الكتب، فالى جنبها استعمالات جديدة يكون فيها تصرّف.

غلبة الجمل الاسمية: سببها أن الجملة الاسمية تدلّ على الثبوت، في حين تدلّ الجملة الفعلية على التجدد والحركة. ففي قوله (تعالى) (وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ (الكهف: 18) تؤدي لفظة باسط معنى الثبوت والبقاء على هذه الحال. ولو قال: (يبسط) لدلَّ على احتمال تغيير الكلب حالة بسط ذراعه. وتعتمد الكتب الادارية تبعاً لموضوعها الجمل الفعلية أيضاً.

عرف الجاهليون المستوى الاستهلاكي (الحديث اليومي) والابداعي (الشعر). وحين جاء الاسلام طرح القرآن المجيد (المصطلح) واضعا الاساس للمستوى العلمي الذي تحقق بنشأة العلوم في العصر العباسي (النحو، الصرف، البلاغة، العروض، علوم القرآن والحديث..) بصناعة مصطلحات مماثلة للصلاة والصوم والزكاة وغيرها. وهذا المستوى يتجسَّد الان بدراسة علوم الطب والحاسوب والهندسة وغيرها.

أما المستوى الرسمي (لغة الادارة) فيوجد عادة مع قيام الدول؛ فالإدارة تعني فلسفة الدولة والنظام والعقل المدبر لشؤونها بلغة ذات طابع خاص. ونجد الدول القديمة كلها تتخذ لها عواصم وهو اول اجراء اداري، ويكون فيها سجلات دقيقة وارشيف هائل وقوانين مكتوبة ومكتبات. وفي اوغاريت المدينة السورية التي كانت بمقام دولة تكتب الرقم الطينية بسبع لغات، وتسجل حتى الارامل واليتامى ومقادير رواتبهم.

ام بعرف العدنانيون الكتابة لانهم لم يقيموا الدول، بينما عرفها اخوانهم القحطانيون لإقامتهم الدول كالسبئية والمعينية والقتبانية والحميرية، وقد عثر على كتابات ادارية توثيقية كثيرة كعقود البيع والشراء والمخاطبات المختلفة، حتى كتبوا الديون الشخصية.

وكانت الرسائل عند عرب الجزيرة اكثرها شفهية، وينقلها عدّاؤون قيل (يسبقون الخيل) ومن هؤلاء تأبط شرا وابن اخته الشنفرى. وفي جمهرة رسائل العرب رسالة من عبد المطلب الى اخواله بني النجار يستنجد بهم، كتبت شعرا وحملها احد العدّائين اليهم. وله رسالة اخرى مكتوبة. واكثر ما وصلنا من رسائل مكتوبة من ذلك العهد من حاضرة (الحيرة) وفيها قامت مملكة تابعة لكسرى، وكان الكتاب حيَريين واشهرهم (زيد بن عدي العبادي الشاعر) وابنه (عدي بن زيد)، فيختار النعمان كاتبه بعد مكاتبة كسرى وموافقته عليه. ويكتب الكاتب باللغتين العربية والفهلوية (الكردية القديمة) وكان الملك هو يملي والكاتب يكتب ويترجم.

اما لغة الرسائل فهي تفتقر الى اللغة الادارية وفيها شطحات فنية وقد قتل كسرى النعمان بسبب احدى هذه الشطحات. فحين طلب كسرى الزواج من بنت النعمان كتب الى كسرى (أما في مها السواد وعِين ايران ما يكفي الملك؟). فترجمها عدي انتقاما لقتل النعمان اباه زيدا الى (اما تكفي بقرات العراق وايران الملك) فقتله تجاسرا عليه واحتقارا له. ولو كتب لغة ادارية واضحة لكتب (اما تكفي جميلات العراق وايران الملك).

الاسلام والادارة

اتخذ الرسول (ص) خمسة انواع من الكتاب: كتاب الوحي، وكتابا يكتبون بين يديه، وكتابا يكتبون في شؤون الناس، وكتابا لمخاطبة الملوك. وجعل حنظلة بن الربيع بديلا لمن غاب من جميع الكتاب السابقين لذا لقب بـ(حنظلة الكاتب) وكان الرسول يضع خاتمه عنده. وكان الرسول هو الذي يملي والكتاب يكتبون. وكانت الرسائل تبدأ باسم المرسِل ثم المرسل اليه ثم البسملة ثم نص الرسالة على غرار ما جاء في سورة النمل (إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (النمل: 30). ولكن لم تعرف تلك الحقبة الادارة واللغة الادارية بمعناها المعروف.

بعد معركة القادسية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب استعمل أول مصطلح اداري ساساني هو (الديوان) ولو قرأنا مقدمة الجهشياري لكتابه (الوزراء الكتاب) سنطلع الى منظومة ادارية مذهلة مع لغتها الادارية بصورة تفصيلية واضحة. واستخدم الديوان لكتابة اسماء المقاتلة ومقادير رواتبهم وامور اخرى تخص الجيش، باقتراح من بعض الايرانيين الذين اسلموا.

والديوان مصطلح فهلوي (الفهلوية الكردية القديمة) يعني (المجنون) والى الان تستخدم الكلمة بهذا المعنى لدى الكرد والفرس. وذلك انهم تعجبوا من حفظ الديوان للمعلومات سنين طويلة، (والعادة ان ينسب اي شيء عجيب الى الجن والجنون؛ فتعجبوا من قدرة الشعراء على القول الجميل دونهم فجعلوا لكل شاعر جنا يملي له، وحين اشترط المتنبي على سيف الدولة أن ينشده قاعدا على خلاف المتعارف نسبوه الى الجنون).

يتفق على ان اول دولة اسلامية في عهد عبد الملك بن مروان؛ فقد سك العملة وصنع (السنجة) وهي قالب سك العملة باقتراح الامام محمد الباقر. بعد تهديد الروم بطبع عملة تسيء للإسلام والرسول لان العرب لم يعرفوا استخراج المعدن فصهروا الدنانير الرومية واعادوا سكها في سنجة تحمل كلمات اسلامية. كما استخدم عبد الملك وخلقاؤه كتابا روميين نقلوا الكتابة الادارية (غير الابداعية) لتكون لغة الدواوين والدولة، واهم الكتاب سالم وابنه وعبد الحميد الكاتب الذي قيل فيه (بُدئت الكتابة بحمد الحميد وانتهت بابن العميد) وابن المقفع وغيرهم، فكونوا مدرسة سادت مع الوقت وهي تجعل الثقل الأكبر للمعنى وتكون المعاني غزيرة، والالفاظ مساوية للمعنى وغير جزلة بعكس مدرسة النثر العربية التي مثلها الجاحظ .

كان الجهد الاعجمي قليلا في العصر الاموي لتشدد الامويين في العروبة. وحين جاء العباسيون انفتحوا على الفرس فنقلوا كل ما استخدمه الاكاسرة من مظاهر ولغة ادارية، كالمراسيم الادارية والزي الاداري ووسعوا في الدواوين فكثرت المصطلحات الادارية الاعجمية في الوهلة الاولى ثم عربوا منها ما أتيح وامكن لهم.

ان الكتاب الاداريين العرب والمستعربين في العصر العباسي قاوموا الامواج العاتية للافاظ والاساليب الادارية الاعجمية، وقليلا ما نقلوا الالفاظ نفسها والاكثر انهم عرّبوا تلك الالفاظ فاخذت القياس العربي. كما انهم اجتهدوا في صنع (لغة ادارية) مختلفة عن المستويات الاخرى للغة وفي ذلك يقول قدامة (وان كان بعض ذلك لا يوافق ما عليه مجرى اللغة) بمعنى بعض ما يكتبه الكتاب يخرج عن مذهب اللغة. ومن ذلك: الايغار: الاستيفاء، الحطيطة: تنزيل السعر. واستعملوا (الفرس الكمتاء مقابل الحصان الكميت) وهو خلاف اللغة. وسموا المساحة الصالحة للزراعة (الجريب) واصل الجريب هو الوادي. وقاموا بتعريب كثير من المصطلحات التي استعملوها اولا مثل الديوان عربوا الى (الجريدة أو الجريدة السوداء)، وانجيذج عربت الى الجزية.

مصطلحات الدواوين الفارسية:

ديوان الخراج (الواردات) وقد عربت مصطلحاتها ولم تستعمل كما في اصلها الفارسي ومنها: (أوراج) أي ديوان الخراج الكبير. (انجيذج) (الجزية) من گريت (التخمين) من همانا، ويقابلها في العربية الخرَص. ويسمى المخمن للثمار في البساتين (خاروص). وما يخص هذا الديوان العملة: دينار، درهم، فلس، دانق = قيراطين. ومن اسماء المناطق: كورة = مقاطعة. رستاق= قرية. سمرت: من شمارة = يوم الجباية.

ومن مصطلحات الماء: بست = من اقيسة مستوى الماء. كستبزود: زيادة ونقصان الماء. الهندسة لدراسة المساحات من اندازه وهو المقدار. والى اليوم مستعملة يقولون باندازي أي بقياس. ومنه دروزن للمساحات المزروعة.

ديوان النفقات (المصروفات) (الصك) من چك.. (الطسق) من الاجور. سفتج: السفتجة الحوالة.

ديوان الجيش: من مصطلحاتها (اسكودار) وتعني كتب الصادر والوارد. و(آيين) وتعني العادة والاسلوب والروتين في الكتابة. ومصطلح (عسكر وعسكرية) فارسي من (لشكر) بمعنى الجيش، واستخدموا منه المعسكر.

ديوان الرسائل: مهرق من مهركرد وهو كتاب العهود. البريد من بريدم (بري = مقطوع، دِم ذيل). اسكودار : يقابل ساعي البريد.

ديوان البريد والسكك:

البريد مصطلح فارسي من (بري = مقطوع، و (دِم = ذيل) = الذيل المقطوع؛ لانهم كانوا يميزون بغال البريد بقطع الذنب. وصاروا يطلقون اسم البريد على الرسائل وناقل الرسائل. والفرسخ فارسي ايضا، والميل رومي = 3 فرسخ. واضاف العرب (المرحلة والمنزلة) للمسافات الطويلة وهما بمعنى واحد.

وهكذا لبقية الدواوين: ديوان التوقيعات، ديوان الخاتم، ديوان الفض، ديوان النقود والعيار، ديوان المظالم.

لغة الادارة الحديثة

الادارة بالمعنى الحديث المعمول به (وضع خطوات ثابتة ومحددة لاستكمال المعاملات في الدوائر والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية) ويعبر عنها بالروتين. واللغة الادارية (عبارات محددة يُتَّفق عليها لكل غرض أو معاملة. ولا يترك وضع النص الإداري لأهواء أي شخص، بل يخضع للمؤسسات. وخطابها غير أدبي، له خصائص ومفردات رسمية تتسم بالوضوح وعدم التأويل، وذات بُعد إجرائي وقانوني، وترتبط بالمجتمع ارتباطا فاعلا).

ولابد من التسليم بأن المؤسسة الإدارية جاءتنا برمتها مع المحتلين، فنقلت معها المصطلحات الإدارية التي استعملوها في دوائرهم الى عالمنا العربي. لذا حفلت بأساليب وصيغ مترجمة لعدم وجود استعمال عربي لها.

و(الإدارة) لغة (التحويل) كإدارة العين والكأس والرحى والأثاث. و(المدير: الذي يقوم بذلك). وقد استعملت الادارة للحكم لأنها الجهة الوحيدة التي تحتاج إلى إدارة. فقيل (حسن الإدارة) (الإدارة وتدبير الممالك). واستعمل (يسوس) بمعنى (يدير) ايضاً فقالوا (يسوس الدولة) (يسوس الامور). وهذا يعني ان (الإدارة) ليس لها الخصوصية التي نفهمها اليوم. ولم يصطلحوا على الحاكم والقائم بالأمر (المدير) فبقيت اللفظة (ذات معنى عام). وهكذا مصطلحات الادارة فهي ترجمات ليس لأغلبها جذور عربية. فعلى سبيل المثال (اللجنة) لا وجود لها في لغة العرب. فيوجد من جذرها (اللجِن: الوسخ) و(اللجان) في الابل يقابل الحران في الخيل، وهكذا.

من أهم اصطلاحات الإدارة المترجمة من الإنگليزية:

(الإدارة = Administration)

(المدير = Manager)

(المدير العام = General Manager)

(الموارد البشرية = Human resources)

(رئيس غير رسمي: رئيس عشيرة، رئيس طباخين = Chef)

(رئيس رسمي: رئيس قسم، رئيس فخري = Head)

رئيس مجلس، رئيس لجنة =chairman )

(لجنة: Committee)

(عميد، مدير عام = Dean)

رئيس الجامعة (University's president)

(رئيس قسم = Head of department)

رئيس مجلس الادارة = (chairman of board of directors)

(مدير شعبة = Division Manager)

قسم (department)

شعبة (Division )

مفتش (Inspector)

الوحدة (Unit)

(وحدة طبية = Medical unit)

(وحدة إدارية = Administrant unit)

 (إجراءات = Procedures)

(جدول الأعمال = Schedule)

(موظف =Employee )

(موظف بعقد = Contract Employee)

ترقية، ترفيع = (Upgrade)

(الصادر والوارد Exported & Imported = )

(الموارد البشريةHuman Resources = )

(السكرتاريةSecretarial = )

(السكرتيرSecretary = )

(العلاوة = Raise)

(الصادر والوارد = Exported and Imported)

(الذاتية = Self care)

(الحسابات = Accounts)

(اجتماع = Meeting)

(جلسةSession = )

(ندوةSeminar = )

(مؤتمرconference = )

(احصائياتStatistics = )

(دوامOffice hours = )

(سلم الرواتبSalary scale = )

مصطلحات ادارية

(بناءً على/ استناداً لـ = Based on)

(طبقاً، وفقاً لـ = According to)

(إشارة إلى = With reference to)

(نظراً لـ = In view of)

 في ضوء (in lite of)

(وعليهAccordingly = )

وكثير من المصلحات المستعملة لها اليوم معنى اداري يختلف عن المعنى العربي الاصلي مثل (موظف/ توظيف) (تعيين)؛ فالوظيفة عربيا ليست العمل المخصص، بل (مقدار الصرف) لذا يقولون (له وظيفة من رزق. أي مقدار مبلغ يصرف له جراء العمل) ولا يقولون (هو موظف) بل (هو موظَّفٌ عليه = يُجرى عليه مبلغ). و(التعيين = تحديد الأجر) قالوا (التوظيف: تعيين الوظيفة = تحديد مقدار الرزق). و(الاستقالة: طلب الشخص الذي يسقط من آخر أن يعينه على النهوض) وقد تستعمل مجازا (عثر في أذيال الردى وما استقال) والتقاعد (Retirement) عربيا تعني التكاسل وهي اهانة لمن قضى عمره يبذل قصارى جهده في العمل. ولفظة (vote = تصويت انتخابي) مشتقة من (voce = صوت) بينما في العربية لا يصح الاشتقاق؛ فـ(التصويت) رفع الصوت (عوى الذئب فاستأنست بالذئب اذ عوى/ وصوّت انسان فكدت أطير) وعفط واطلق الغازات. بمعنى ان المصطلحات الادارية الاجنبية محددة الدلالة لكن المصطلحات العربية المترجمة عنها في اصلها العربي عامة أو لها دلالات بعيدة. ومنها:

- المصطلح الانجليزي (bombs): ترجم الى القنابل وهي تعني الخيول: قال المتنبي:

قَريبٌ عَلَيهِ كُلُّ ناءٍ عَلى الوَرى      إِذا لَثَّمَتهُ بِالغُبارِ القَنابِلُ

وقال الجواهري المعاصر بمعنى bombs:

يا معدن الخسة من تقاتلُ           وفوق من تساقط القنابلُ

- (Microbe = ميكروب) ترجمت الى الجراثيم. والجراثيم الاصول والعشائر. قال ابو تمام:

خَليفَةَ اللَهِ جازى اللَهُ سَعيَكَ عَن جُرثومَةِ الدِينِ وَالإِسلامِ وَالحَسَبِ

- الرتب العسكرية

(نقيب = Captain)

 الباحث عن الماء (رائد = Major)

 الذي يقدم على غيره (مقدم = Lieutenant Colonel)

عميد قومه المعول عليه والعاشق (عميد = Brigadier Colonel)

العلم (لواء = Major General)

الزعيم (عقيد = Lieutenant)

المجموعة (فريق = Colonel General)

(أركان حرب = Staff Officer)

الخلاصة ان العباسيين كانت تدفعهم الغيرة على العربية فحافظوا عليهم وبذلوا فوق الجهد لاستيعاب مسميات لم يألفوها، فاستحدثوا مصطلحات عربية ازاءها مثلا في الجيش استحدثوا مصطلح (الاعمدة) وهي الصفات المميّزة بينما استعل الان (العلامات الفارقة) نقلا من الانجليزية (Distinctive features). ولم يأخذوا لفظا اجنبيا كما هو بل عرّبوه فصار بالقياس العربي الا اذا استعصى عليهم وهو ما ندرز

اما لغة الادارة الحديثة فهي نقل الالفاظ الانجليزية كما هي هو وضع الفاظ عربية ازاءها وغالبا ما تكون هذه الالفاظ بمعاني عربية معايرة، فهم يحفرون اللفظ ويرمون معناه العربي ويحشونه بمعنى انجليزي كما تحشى السن. او يضعون ازاءه لفظا عربيا عاما.

***

الأستاذ الدكتور محمد تقي جون

لم يعد الإنسان اليوم يتعامل مع المعرفة كما كان يفعل أسلافه، فقد تغيّر المشهد تغيّرًا واسعًا بفعل تدفق المعلومات المستمر، حتى صارت حياتنا غارقة في كمّ هائل من البيانات التي تبدو أقرب إلى ثروة رقمية لا تكفّ عن النمو. غير أن هذه الثروة تُقاس بالعدد والانتشار أكثر مما تُقاس بالعمق والفهم، وهو ما صنع مفارقة واضحة بين الثراء المعرفي وثروة المعلومات.

فالثراء يقوم على النوعية والدقة والسياق والترابط، أي على المعلومة التي تُنير العقل وتستفز التفكير. أما الثروة فليست إلا تراكمًا متتابعًا لبيانات مشتتة لا يجمعها رابط، فتتحول عند غياب التمحيص إلى ضباب يحجب المعنى ويُربك القدرة على التمييز. ومع هذا التحول الكبير، وجد الإنسان نفسه ممزقًا بين حاجته الداخلية إلى الفهم والطمأنينة، وبين عالم خارجي يفرض عليه تدفقًا لا ينقطع من المعلومات.

فمنذ قرابة عقدين نعيش حالة دائمة من الانكشاف المعرفي، أشبه بسوق مفتوحة لا تهدأ فيها الأصوات ولا تُتيح لأي عابر فرصة للتأمل أو التوقف. ومع تضاعف الأخبار والدراسات والتحليلات عبر الشبكات الرقمية، بدا الوصول إلى المعرفة وكأنه بلا حدود، لكنه لم يمنح الإنسان فهمًا أعمق بقدر ما زاد من سرعة الإيقاع إلى حدّ يفوق قدرته على المتابعة؛ فأصبح يعيش في زمن وفرة هائلة تُقدّم كل شيء تقريبًا، لكنها لا تمنحه تلقائيًا القدرة على إدراك ما يعترضه إدراكًا حقيقيًا.

وبسبب هذا الغمر المستمر للمعلومات، كثيرًا ما يجد الفرد نفسه في حالة من التيه، غير قادر على التمييز بين الصحيح والزائف، أو بين المهم والهامشي، أو بين المصدر الموثوق وما يُضلل. فغدت علاقته بالمعرفة أشبه بوقوف شخص على شاطئ مفتوح تضربه الأمواج من كل جانب؛ لا يبحث عما يقرأ بقدر ما يحاول النجاة من كثرة ما يُفرض عليه من قراءة ومشاهدة وتأويل.

ومع أن التاريخ شهد ثورات معرفية كبرى، من اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر إلى انتشار الصحف في القرن التاسع عشر، ثم البث الإذاعي فالتلفزيوني، نجد أن كل تلك التحولات لم تُحدث هذا القدر من التشويش الذي نعيشه اليوم، ولم تغيّر طريقة تلقي الإنسان للمعرفة كما فعلت الثورة الرقمية المعاصرة. فمع ظهور الهواتف الذكية بعد عام 2007، انتقلت البشرية إلى ساحة مختلفة كليًّا. ولم يعد الإنسان مستقبلًا للمعلومة فحسب، بل صار يعيش حالة تعرض دائم أشبه بإنسان يسير في سوق صاخب طوال اليوم دون خيار الانسحاب.

وفي عام 2011، حين انفجرت مواقع التواصل الاجتماعي في العالم العربي، ولا سيما مع أحداث الربيع العربي، ظهر لأول مرة الشعور الهائل بأن المعلومة لم تعد شيئًا خارجيًّا، بل جزءًا من نبض حياة الناس، يرفعهم ويخفضهم، يثير مخاوفهم ويغذي آمالهم، ويعيد تشكيل رؤيتهم لأنفسهم وللعالم.

هذا التناقض بين وفرة الثروة المعرفية والفراغ الداخلي يكشف عن أزمة عميقة تدفعنا للتساؤل: لماذا لا تتحول هذه الوفرة المعلوماتية إلى معرفة حقيقية؟. وكيف لعصر يمتلك موارد المعرفة كلها تقريبًا أن ينتج عقلاً فارغًا معرفيًا بهذا الحجم؟. هل يكمن الخلل في الإنسان ذاته أم في طبيعة هذه الثروة التي تتضخم دون أن تثمر وعيًا؟.

هذه الأسئلة ليست مجرد تفكير نظري، بل هي انعكاس مباشر لحالة يعيشها الجيل المعاصر، إذ أصبح فقيرًا بالمعنى وغنيًا بكمّ هائل لا قيمة له من المعلومات، تتلاشى فيها المعايير التي تمنحها الوزن والاتجاه.

والأمر الذي يقودنا إلى فهم هذه المفارقة هو إدراك أن وفرة المعلومات لا تعني بالضرورة المعرفة، بل إن بيئة نشرها وأساليب التحكم في تدفقها وأدوات التوجيه الرقمية كلها تساهم في إنتاج حالة من التيه المعرفي المتعمد. ويتجلى ذلك بالنظر في المعلومات التي تصل إلى الإنسان اليوم، حيث لا تُعرض جميعها على قدم المساواة، بل يتم اختيارها وترتيبها، بل وحتى تضخيمها أو تشويهها وفق مصالح معينة، سواء كانت تجارية أو سياسية أو ثقافية.

كل ذلك يؤكد أننا أمام تعمية متعمدة، ليست مؤامرة مغلقة بالمعنى التقليدي، بل شبكة معقدة من آليات تجعل الفرد يعيش وسط بحر من المعلومات المتضاربة، بحيث يصعب عليه استخلاص معنى متماسك أو حقيقي، وتختلط أمامه الحقيقة بالزيف، ومن ثم يتفتت العقل الجمعي، ويصبح غير قادر على التماسك أو الوصول إلى وضوح وفهم.

وإذا ما تأملنا هذه الظاهرة من زاويتها النفسية والمعرفية، سنجد أن الإنسان المعاصر يعيش حالة دائمة من الإرباك الذهني؛ فالعقل البشري لم يُخلق ليستقبل هذا السيل المتواصل من البيانات التي تنهال عليه يوميًا. فقبل هذه الظاهرة، كان العقل يعتمد على آليات واضحة للاختيار والتركيز والتحليل، وهي الآليات التي تجعل المعلومات تتحول إلى معرفة قابلة للفهم.

أما اليوم، فقد أصبح هذا العقل محاصرًا بموجات متلاحقة من معلومات متناقضة، تُشتت انتباهه وتستنزف قدرته على الاستيعاب، حتى يغدو عاجزًا عن بناء رؤية ساقبة أو معنى متماسك وسط هذا الضجيج المستمر.

وإذا ما نظرنا إلى جيل العصر الرقمي، نجده على الرغم من اطلاعه الدائم على كل جديد واتصاله المستمر بشبكات عالمية، لا يزال يعيش في قلب التيه المعرفي نفسه. فكثرة ما يستهلكه من بيانات يوميًا لا ترافقها بالضرورة الأدوات النقدية التي تمكنه من التمييز والتحليل، ومن ثم تحويل ما يعرفه إلى معرفة راسخة.

وقد أسفر هذا الواقع المقلق عن وعي سطحي قائم على الانطباعات السريعة واللحظية، يدفع الفرد إلى الاعتقاد بأنه ملمّ ومتابع، بينما هو غارق في كمّيات متناقضة من المعلومات تمنعه من بناء فهم عميق أو رؤية واضحة. وهذا الوضع ليس مصادفة، بل نتيجة مباشرة لبيئة رقمية صُممت لخلق التشويش والتحكم في انتباه الفرد، بحيث يصبح أسيرًا للمحتوى الذي يُقدَّم له، لا للمحتوى الذي يسعى إليه بوعي واستقلالية.

وبهذه الطريقة، يتحول النقاش العام إلى سلسلة من ردود الأفعال السريعة والانفعالية، تُعاد توظيفها عبر وسائل الإعلام الرقمية والمؤسسات التجارية والجهات السياسية بما يخدم مصالحها، فتتحول وفرة المعلومات إلى أداة لتوجيه المجتمع وصياغة وعيه. أما من الناحية الفلسفية المعرفية، فإن الإنسان يفقد القدرة على العودة إلى ذاته، وهو ما تؤكده دراسات علم النفس المعرفي منذ عام 2015، التي ربطت بين كثرة التعرض للمعلومات وتراجع القدرة على بناء رؤية متماسكة للحياة.

وقد لاحظ فلاسفة غربيون مثل ميشيل فوكو العلاقة بين السلطة والمعرفة وكيفية تشكيلها، إلا أن ما نراه اليوم يتعدى سلطة مركزية لتصبح البنى الرقمية اللامركزية هي المسيطرة، ما يصعّب على الفرد التمييز بين الحقيقي والمختلق.

وفي السياق العربي، أشار عبد الله العروي إلى أن المعرفة تتحقق فقط عندما يتمكّن المتلقي من تمثّلها داخليًا، لكن هذه التمثلات اليوم تتشتت بفعل ضوضاء المعلومات المتعمدة، وتفقد قدرتها على الاستقرار في العقل الجمعي. والإنسان اليوم لم يعد قادرًا على الاعتماد على مصدر واحد أو مجموعة محددة، فكل مصدر أصبح موضع شك أو خاضعًا لعمليات توجيه وانتقاء، ما يُعرف بـغيبة الاطمئنان للمعلومة، تلك الحالة التي يشعر فيها المتلقي بأن الحقيقة لا تصل إليه كاملة، بل مجتزأة أو منحازة أو مشبوهة.

ويظهر هذا على مستويات متعددة؛ من المنصات الاجتماعية التي تمزج الأخبار العاجلة بالترفيه والدعاية، مرورًا بمحركات البحث التي تقترح النتائج وفق خوارزميات غير شفافة، وصولًا إلى المقاطع الصوتية والفيديوهات المتداولة في المجموعات المغلقة.

وكل ذلك يصنع فيضًا من المعلومات، لا يزيد المعرفة بقدر ما يعمّق شعور الفرد بالارتياب، ويضاعف شعور الإنسان بالضغط، خصوصًا في العالم العربي حيث يُطلب من الفرد متابعة كل ما يجري حوله، من الأخبار الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وسط أزمات معيشية متكررة. هذا الضغط لم يكن معروفًا بهذا الشكل قبل سنوات قليلة، فقد كان الإنسان يملك فسحة بين الحدث ورد فعله، أما اليوم فاختفت تلك الفسحة تمامًا؛ فالخبر يصل قبل أن يستقر الحدث، والرأي يتشكل قبل اكتمال الفهم، والزمن ينفلت من اليد بسرعة تفوق قدرة الفرد على المواءمة.

ومن ينظر إلى جيل التسعينيات يدرك الفرق؛ فقد كان آخر جيل تعلّم القراءة قبل التصفح، وآخر من اعتاد البحث الصبور قبل التعود على التمرير السريع. أما الجيل الحالي، فقد نشأ على التلقي الفوري، وتعلّم التمرير قبل القراءة، واستسهل الوصول بدلًا من التأمل العميق.

لذلك لم يكن غريبًا أن تتغير أنماط التدين، وأنماط التفكير الأخلاقي، وحتى رؤية الإنسان للعالم؛ إذ أصبحت أغلب ردود الفعل اليوم قصيرة وغير متروية، تحل محل التأملات الطويلة التي تمنح العمق والاتزان. ولذلك، فنحن بحاجة ماسة إلى أدوات واضحة تعيد بناء الجسر المقطوع بين الفرد والمعلومة، أدوات تمنح العقل الجمعي القدرة على ضبط هذا التدفق الضاغط الذي لا يتوقف. فعند ذلك فقط يتحول موقع الإنسان من مستهلك سلبي ينجرف مع السيل إلى مشارك يقظ، قادر على التمييز والتحليل، وعند هذه النقطة تستعيد المعرفة معناها الحقيقي، بدل أن تبقى مجرد ثروة رقمية مشبعة بالكمّ وفارغة من الاتجاه والروح.

وكل ذلك يتحقق بما يعرف بالغربلة المعرفية؛ أي الأدوات التي تمكّن الفرد من غربلة المعلومات، والتمييز بين الحقائق والمغالطات، وبين ما هو أساسي وما هو هامشي.

وغياب هذه الغرابيل يترك الإنسان في حالة من ارتباك داخلي مستمر، ويدفعه إلى الشعور بالتيه وسط بحر لا نهاية له من البيانات، حتى يغدو يعاني فراغًا عميقًا، رغم أنه يعيش في عالم يُفترض أنه الأكثر معرفة في التاريخ.

للحديث بقية...

***

بقلم: د. بدر الفيومي

 

تَتميَّز الرُّوحَانِيَّةُ عِندَ الكاتب اللبناني الأمريكي جُبْرَان خَليل جُبْرَان (1883- 1931) بِعُمْقِها الفَلسفيِّ، وقُدرتِها عَلى تَجاوزِ الماديَّاتِ، والتَّعبيرِ عَن الحَنينِ إلى مَا هُوَ أسْمَى وأرْقَى في النَّفْسِ البشرية. وَهُوَ يَرى أنَّ الرُّوحَانِيَّة لَيْسَتْ مُجرَّد شُعورٍ أوْ طُقوسٍ تقليدية، بَلْ هِيَ حالةُ وَعْيٍ مُتكاملة، تَجْمَعُ بَيْنَ التَّأمُّلِ والفَهْمِ العَميقِ للذاتِ والتواصلِ معَ العَالَمَيْن الداخليِّ والخارجيِّ.

يَصِفُ الرُّوحَانِيَّةَ بأنَّها رِحْلة داخلية نَحْوَ مَعرفةِ النَّفْسِ، واكتشافِ المَعْنى الحقيقيِّ للحَياةِ. وَيُشيرُ إلى أنَّ الإنسانَ يَعيشُ صِرَاعًا دائمًا بَيْنَ الرَّغَبَاتِ الدُّنيويةِ والبَحْثِ عَن السَّلامِ الداخليِّ، وأنَّ مَنْ يَسْلُكُ طَريقَ الرُّوحَانِيَّةِ يَستطيعُ تَجاوزَ هذه الصِّراعاتِ، والوُصولَ إلى حالةٍ مِنَ التَّوَازُنِ والصَّفَاءِ النَّفْسِيِّ.

كَمَا يَرى أنَّ الرُّوحَانِيَّة تَتَجَلَّى في الحُبِّ والعَطَاءِ والتسامحِ، فَهِيَ لا تَقْتَصِر على الانعزالِ أو التَّأمُّلِ فَقَط، بَلْ تَتطلَّب أيضًا التواصلَ الإنسانيَّ العميقَ، والمُشارَكةَ في تَجَارِبِ الآخَرِين. وَوَفْقَ رُؤيته، فإنَّ الإنسانَ الرُّوحَانِيَّ يَعيشُ في تَنَاغُمٍ معَ نَفْسِهِ ومعَ العَالَمِ، ويَستطيعُ أنْ يَرى الجَمَالَ في كُلِّ شَيْءٍ، حتى في الألَمِ والمُعَاناة، باعتبارها جُزْءًا مِنْ تَجْرِبَةِ الحَياةِ التي تَصْقُلُ الرُّوحَ.

وَتُعْتَبَرُ رُوحَانِيَّةُ جُبْرَان دَعْوَةً إلى التَّأمُّلِ في الحَياةِ، والبَحْثِ عَنْ مَعْنى أعمق لِمَا نَعِيشُه، وَهِيَ رِحْلَة نَحْوَ النُّمُوِّ الداخليِّ، تَتجاوز الحُدودَ الماديَّة لِتَصِلَ إلى أعلى دَرَجَاتِ الوَعْيِ الإنسانيِّ.

تَتَّسِمُ الرُّوحَانِيَّةُ عِندَ الكاتبِ الهِنديِّ رابندرانات طاغور (1861 - 1941/ نوبل 1913) بالعُمْقِ والمُرونةِ، فَهِيَ تُركِّز على تَجْرِبَةِ الإنسانِ الداخليَّةِ، وعَلاقَتِهِ بالعَالَمِ والطبيعةِ. وَهُوَ يَرى أنَّ الرُّوحَانِيَّةَ لَيْسَتْ مُجرَّد مُعْتَقَدَاتٍ جامدة، بَلْ هِيَ رِحْلَة نَحْوَ فَهْمِ الذاتِ، والانسجامِ معَ الكَوْنِ.

والرُّوحَانِيَّةُ - مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِه - تَتجلَّى في الإحساسِ العَميقِ بالجَمالِ، سَوَاءٌ في الفَنِّ أو المُوسيقى أو الطبيعةِ. وَالطبيعةُ عِنْدَه لَيْسَتْ بيئةً خارجيةً فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضًا مِرْآةٌ تَعْكِسُ الرُّوحَ الإنسانية، وتُعزِّز الشُّعورَ بالسَّلامِ الداخليِّ. وَمِنْ خِلالِ مُراقبةِ شُروقِ الشَّمْسِ، وَتَدَفُّقِ الأنهارِ، وَتَفَتُّحِ الأزهارِ، يُمكِن للإنسانِ أنْ يَعيشَ لَحَظَاتٍ مِنَ الصَّفاءِ والتَّأمُّلِ العميقِ، وَهُوَ مَا يُعْتَبَرُ جَوْهَرَ الرُّوحَانِيَّةِ عِنْدَه. كَما يَرى أنَّ الرُّوَحانِيَّة تَتعلَّق بالحُبِّ والتواصلِ الإنسانيِّ. وفي كِتاباتِه، كثيرًا مَا يَرْبِطُ بَيْنَ السَّلامِ الداخليِّ والتعاطفِ معَ الآخَرين، مُعْتَبِرًا أنَّ الرَّحمةَ والصِّدْقَ والوفاءَ هِيَ بَوَّاباتُ الوُصولِ إلى تَجْرِبَةٍ رُوحِيَّةٍ أسْمَى. ويُؤَكِّدُ على أنَّ السَّعادةَ الحقيقة تَنْبُعُ مِنَ التَّوَازُنِ بَيْنَ الداخلِ والخارجِ، بَيْنَ النَّفْسِ والمُجْتَمَعِ.

وَمِنَ السِّمَاتِ المُمَيِّزَةِ لِرُؤيته الرُّوحِيَّةِ الاعتقادُ بالوَحْدَةِ الكَوْنِيَّةِ، أي إنَّ كُلَّ شَيْءٍ في الكَوْنِ مُترابِط، وإنَّ الإنسانَ جُزْءٌ مِنْ نَسِيجِ الحياةِ الأكبر. هذا الشُّعُورُ بالاتِّصالِ العميقِ معَ الكَوْنِ يَمْنَحُ الفَرْدَ شُعورًا بالسَّكِينةِ، ويُشجِّعه على التَّأمُّلِ الذاتيِّ، والمُشارَكةِ الإيجابيةِ في الحياة.

الرُّوحَانِيَّةُ عِندَ طاغور تَجْرِبَةٌ شخصيةٌ عميقةٌ، تَعتمد على التَّأمُّلِ في الجَمالِ، والإحساسِ بالوَحْدَةِ معَ الطبيعة، والانفتاحِ على مَشاعرِ الحُبِّ والتعاطفِ معَ الآخَرِين، بعيدًا عَن الطُّقُوسِ أوْ الشعائرِ الجامدةِ، لِتُصْبحَ حَياةُ الإنسانِ أكثرَ مَعْنًى وَسَلامًا داخليًّا.

إنَّ الرُّوحَانِيَّة لَيْسَتْ مُجرَّد مُمَارَسَةٍ أوْ شُعورٍ عابرٍ، بَلْ هِيَ رِحْلَةٌ داخلية تَقُودُ الإنسانَ إلى فَهْمِ ذَاتِهِ والعَالَمِ مِنْ حَوْلِه. في أعمال جُبْرَان خَليل جُبْرَان ورابندرانات طاغور، نَجِدُ أنَّ هذه الرِّحْلة تأخذُ أشكالًا فَنِّية عميقة، تَتجاوزُ الكَلِمَاتِ لِتُصْبحَ شُعورًا حَيًّا يَنْبِضُ في القُلوبِ.

عَالَمُ جُبْرَان مَلِيءٌ بالرُّموزِ والصُّوَرِ التي تَتحدَّث عَن الحُرِّيةِ الداخليةِ، والانفتاحِ على الحَياةِ بِكُلِّ تَقَلُّبَاتِها، والبَحْثِ الدائمِ عَن المَعْنى الأسْمَى. في نُصُوصِهِ، يَشْعُرُ القارئُ بأنَّ الرُّوحَ تُسافِر بَيْنَ الأحاسيسِ المُختلِفة، وَتَتَعَلَّمُ مِنَ الألَمِ والفَرَحِ، وتُدرِك أنَّ الانتماءَ الحقيقيَّ لَيْسَ للأشياءِ الماديَّة، بَلْ للحَياةِ نَفْسِها. جُبْرَان يَرى الرُّوحَانِيَّةَ كَفَنِّ العَيْشِ بِوَعْيٍ، كأنْ تَكُون حاضرًا في كُلِّ لَحْظَةٍ، مُتَفَاعِلًا معَ الطبيعةِ والإنسانيةِ دُون أنْ تَفْقِدَ هُوِيَّتَكَ.

أمَّا طاغور، فَقَدْ قَدَّمَ الرُّوحَانِيَّةَ مِنْ مَنظورِ شاعرٍ، يَنْسُجُ الكَلِمَاتِ كَما يُنْسَجُ الضَّوْءُ عَلى صَفْحَةِ المَاءِ. شِعْرُهُ يَعْكِسُ انسجامَ الإنسانِ معَ الكَوْنِ، وكَيْفَ يُمكِن لِلَحْظَةٍ صامتةٍ أنْ تَكُونَ أكثرَ تعليمًا مِنْ آلافِ الكَلِمات. بالنِّسْبَةِ إلَيْه، الرُّوحَانِيَّةُ هِيَ شُعورٌ بالارتباطِ العميقِ، وإدراكُ أنَّ كُلَّ شَيْءٍ حَوْلَنا يَحْمِلُ نَغْمَةً خاصَّة، وأنَّنا جُزْء مِنْ هَذا الكَوْنِ المُتَنَاغِمِ. هَذا الوَعْيُ يُحوِّل التَّجْرِبَةَ اليَوْمِيَّةَ إلى حالةٍ مِنَ التَّأمُّلِ الجميلِ، حَيْثُ يَتحوَّل المَشْهَدُ العاديُّ إلى دَرْسٍ للحَياةِ والوُجودِ.

رَغْمَ اختلافِ الأُسلوبِ بَيْنَ جُبْرَان وطاغور، إلا أنَّ الرابطَ بَيْنَهما واضحٌ، وَهُوَ الرَّغْبَةُ في الوُصولِ إلى جَوْهَرِ الإنسانِ، وتَنقيةُ الرُّوحِ مِنْ كُلِّ ثِقَلٍ ماديٍّ أوْ وَهْمِيٍّ، وإدراكُ أنَّ الحياةَ لَيْسَتْ مُجرَّد أحداثٍ نَمُرُّ بِهَا، بَلْ هِيَ دُروسٌ مُتواصِلة، وَفُرَصٌ للنُّمُوِّ الداخليِّ. والرُّوحَانِيَّةُ عِندَهُما لَيْسَتْ هُروبًا مِنَ الواقعِ، بَلْ هِيَ مُوَاجَهَةٌ للحَياةِ بِوَعْيٍ، واستكشافٌ للجَمَالِ، وَفَهْمٌ للمَعْنى الحقيقيِّ للوُجودِ.

أعمالُ هَذَيْنِ الكَاتِبَيْن تُوضِّح أنَّ الرُّوحَانِيَّةَ لَيْسَتْ مُجرَّد طُقُوسٍ وأفكارٍ، بَلْ تَجْرِبَة حَياة. تَجْرِبَةٌ تَدْعُو إلى أنْ يَعيشَ الناسُ بِصِدْقٍ معَ أنفُسِهِم، وَضَرورةِ أنْ يَتَعَلَّمُوا كَيْفِيَّةَ استشعارِ اللحْظَةِ، وكَيْفِيَّةَ التفاعلِ معَ الكَوْنِ بِعُمْقٍ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى مَنْحِ الحَياةِ مَعْنى حقيقيًّا يَتجاوزُ حُدودَ المَادَّةِ والكَلِمَاتِ.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

قبل أيام بعث لي صديقي الشاعر جواد الحطاب بفيديو تظهر فيه الزميلة الدكتورة سناء البياتي مع الأستاذ باسم الجمل ببرنامج تتحدث فيه عن نظرية خاصة بها في اللغة وتيسير النحو العربي تحت عنوان (نظرية الصفر اللغوي). وهي دون شك نظرية مثيرة للاهتمام، وتبدو جديدة في طريقة عرضها وحديث السيدة البياتي الفخور والمتكرر عن توفيقها بإنجاز ما أنجزته منها. وهي عندها لا تقف عند حدود اجتهادات في نحو العربية وتعديل الميل في مناهجها التعليمية المعقدة، بحيث تكون مكمّلة لما سبقها من جهود لغويين ونحاة عرب في هذا الباب، وإنما تبدو عندها كما لو أنها من الاكتشافات العلمية التي لم تُسبَق إليها من قبل اللغويين العرب والأجانب، وتعادل في وزنها الاكتشافات العلمية الكبرى في هذا العصر. وهي تقول بثقة تحسد عليها إنها فتحت الصندوق الأسود للدماغ الذي عجز الآخرون عن فتحه وعرفت طرائق اشتغال اللغة وعلاقتها بالفكر فيه. ولكنها لم تحدثنا عن الطريقة ولا الوسائل التي استطاعت بها التوصل إلى هذا الفتح أو الاكتشاف سوى القول بأن هناك صفرا أو منطقة فراغ تتشكل بها المعاني في هذا الدماغ قبل أن تمرّ في علاقتها باللغة بمراحل تحددها بثلاث:

تتصل الأولى منها بتحديد المعنى العام للفكر، والثانية بالربط بين مكوناته الدلالية وما يتصل بها من إسناد، ثم مرحلة اختيار الدوال المناسبة للمدلول في المعجم اللغوي للمتكلم.

وهو، كما نرى، تقسيم يبقى احتماليا. وفي أفضل حالاته قائم على تصورات ذهنية مجردة ليس هناك دليل علمي محسوس وملموس على صحتها. إذ أنه يستند إلى المنطق الصوري أو الشكلي الذي هو علم يبحث في صورة الفكر أو بنيته الشكلية دون النظر إلى محتواه، أي بكيفية بناء الحجة أو الاستدلال الصحيح من حيث الشكل فقط، وبعض الفلاسفة الرياضيين (مثل فينغنشتاين) رأوا أن اللغة الطبيعية لا يمكن اختزالها تمامًا في منطق صوري. لأن هذا المنطق يهتم بصورة الحجة لا بمضمونها.

ورغم قوة هذا النوع من المنطق في ضبط الاستدلالات العلمية والرياضية، فهو يحتاج إلى التكامل مع أشكال التفكير العملي والسياقي لفهم الواقع والتواصل البشري.

والمشكلة أن منطقة الصفر اللغوي التي صارت عنوانا لهذه النظرية لا علاقة وثيقة لها حتى إذا صحّت بالصيغ اللغوية التي تقول الباحثة إنها تتشكل بدءا منه. لأن الأمر قائم فيها على مجرد الظن. وصاحبة النظرية تشبه بذلك النظّام المعتزلي الذي كان يقول عنه تلميذه الجاحظ إنه كان يظنّ الظن ويبني عليه، وينسى أنه كان في بدء أمره ظنا.

وحين قال لها الدكتور محمد حسين آل ياسين رئيس المجمع العلمي العراقي الحالي في إحدى المحاضرات التي عرضت فيها هذا الاكتشاف بحضوره منذ سنوات: ألّا صفرَ فكريا أو لغويا بمعنى (خلاء) أو (عدم) في الدماغ، موجود على الحقيقة وأن هذا العدم لا وجود له لأنه يعدم نفسه، وإن الأمر يتصل بنوع من الاستعارة أو المجاز الذي انتهى إليه العلم الرياضي في القرون الوسطى العربية للتفريق بين الإيجاب والسلب في الأعداد الرياضية، صارت تقول إن هذا الصفر اللغوي، مثل الصفر الرياضي، منطقة ربط ولقاء بين الفكر واللغة لا منطقة خلاء تتشكل فيها المعاني والأفكار قبل أن تأتي الجمل اللغوية ذات المفاهيم الكلية لاستيعابها والتعبير عنها بطريقة تفصيلية أو جزئية تبعا لنظرية الجشتالت في الإدراك الكلي للمفاهيم. الأمر الذي يبدو بحاجة إلى إثبات حتى إذا كان صحيحا، لأنه مبني، كما ذكرنا، على تصورات واعتقادات نظرية مجردة، وليس على حقائق علمية رياضية أو تجريبية مؤكدة يمكن تصوّرها أو رؤيتها بطريقة منطقية ثابتة، أو صحيحة صحة مطلقة. وهي تقول إنه منذ نظرية العامل في النحو لا يوجد غير هذه النظرية الخاصة بالصفر اللغوي على الرغم من أنها تضيف إلى ذلك في موضع آخر أنها جعلت من نظرية عبد القاهر الجرجاني الخاصة بالنظم ومعاني النحو منطلقا لها، واستخدمت نفس اعتراضات النحاة الذين اهتموا بتيسير النحو وشواهدهم في معالجة التعقيد الذي أدخله المنطق ونظرية العامل على القواعد الخاصة بكلام العرب.

وقد كان لدينا من قبل "صفر" كتابي آخر، طرحه الناقد الفرنسي رولان بارت في كتابه (درجة الصفر في الكتابة) للتعبير عن حلم الكاتب للوصول إلى درجة النقاء والشفافية في الكتابة التي لا تنتمي إلى زمن أو أسلوب محدد. لكنها تبقى، كما نعلم، كتابة مستحيلة التحقق، لأن اللغة محمّلة دائمًا بالثقافة والأيديولوجيا، واستخدام الآخرين لها.

والغريب في أمر السيدة البياتي أنها لا تتورع عن القول إن نظريتها تحتاج من أجل إثباتها تعاون علماء الأعصاب لرؤية "مساقط" الأفكار وكيفية تشكّلها وطبيعة حركتها وعلاقتها باللغة في المناطق المخصصة للفكر وللغة من الدماغ البشري. أي أنها تقوم بنوع من المصادرة على المطلوب لإثبات ما هو ثابت، أو دعم نظرية مقررة جرت الفتوى فيها وتثبيتها منذ زمن طويل، وتحدثت بها صاحبتها في عشرات المحاضرات واللقاءات تحت عنوان (الصفر اللغوي)، بوصفها النظرية التي لم يأت بها أحد قبلها، بما في ذلك اللغوي الأمريكي تشومسكي الذي لم يعرف الطريق إلى الربط بين الفكرة وقالبها اللغوي كما فعلت هي.

وبما أن كل شيء جديد ويبدأ مع السيدة الباحثة حيث تبدأ الأشياء من الصفر، فإنها تبدو غير عارفة بجهود علماء الأعصاب المخصصة

لاكتشاف المناطق الخاصة باللغة والأفكار في الدماغ، وأن علماء الأعصاب ينتظرون إشارتها لإثبات ما تقوله نظريتها في الصفر اللغوي، ولم يفعلوا شيئا من قبل في هذا المجال، وأن هذا الصندوق الأسود الذي هو الدماغ البشري قد بقي مقفلا على سواده قبل أن تتوجه هي بنظريتها لفتحه.

وهي تعرف ربما أن العلاقة بين الفكر واللغة في الدماغ البشري واحدة من أكثر المواضيع تعقيدًا وإثارة للبحث في علم الأعصاب الحديث. ومع تطور تقنيات تصوير الدماغ والتقنيات الإدراكية، توصل العلماء إلى عدد من الاكتشافات المهمة التي أعادت تشكيل الفهم التقليدي لهذه العلاقة، منها مثلا أن الفكر واللغة ليسا الشيءَ نفسه، وأن اللغة، التي هي أداة للتعبير عن الفكر، ليست مرادفة له. وأن الدماغ يمكنه التفكير دون استخدام اللغة، كما يظهر ذلك في الحساب الذهني والتصورات المجردة والموسيقى، والحدس أو اتخاذ القرار السريع.

وقد وجد هؤلاء العلماء أن الأشخاص الذين يعانون من حبسة لغوية (فقدان القدرة على الكلام) يحتفظون بقدرات تفكير وتجريد تمكنهم من الفهم دون استخدام الواسطة اللغوي؛ مثلما وجدوا أن اللغة تعزز الفكر المجرد والمعقد وتمكّن الدماغ من التعبير عن الأفكار وتوضيحها. وربط المفاهيم وبناء سرديات معقدة يمكن للغة أن تساعد على تنظيمها، ولكنها لا تحددها بصورة نهائية. كما أن دراسات التصوير العصبي أظهرت أن التفكير اللفظي يستخدم شبكات دماغيةً مختلفة عن التفكير غير اللفظي..إلى آخر ذلك من هذه المعلومات التي ليس لي غير نقل ما هو موجود منها في مواقع البحث الخاصة بها، ولكن حصيلتها هي أن من فتح هذا الصندوق الأسود ليس السيدة سناء بوسائلها وتصوراتها النظرية المجردة، وإنما هم هؤلاء العلماء بوسائلهم العلمية الخاصة. فيما تعتمد هي بشكل أساسي على نظرية الجشتالت في الإدراك الكلي للظواهر والتبصر الذهني الخاص بعلم النفس الإدراكيّ، ولا تلتفت إلى ما وجه لهذه النظرية التي ظهرت في ألمانيا مطلعَ القرن الماضي من نقد بأنها غير قابلة للقياس التجريبي بدقة. وأنها تُركز على الإدراك البصري، لكنها أهملت العمليات العقلية الأخرى كالذاكرة والانتباه واللغة. وأنها لم تُقدم تفسيرًا كافيًا للأساس العصبي للإدراك (وهو ما بدأت علوم الأعصاب الإدراكية بتفسيره لاحقًا).

هذا من الجانب العلمي الصرف أو نقطة الانطلاق العصبية لما تسميه (نظرية الصفر اللغوي).

وثمة جانبان آخران تم إغفالهما أو لم تجر الإشارة إليهما بأمانة علمية وموضوعية كافية في حديث الدكتورة البياتي عن هذه النظرية:

الأول هو علاقة جهودها الخاصة بتيسير النحو العربي وتركيب الجملة العربية ومنهج القدماء ذي الطبيعة المنطقية الصورية في دراستها، بما سبقها من جهود عربية قديمة وحديثة في هذا الباب.

والدكتورة سناء تعرف بالتأكيد أكثر مني بحكم اختصاصها، بعلماء اللغة العرب المعاصرين الذين دعوا قبلها إلى تيسير النحو مثل إبراهيم مصطفى (1888–1962)، صاحب كتاب “إحياء النحو” (1938)، ويُعد من أوائل من نادوا بضرورة تحرير النحو من قيوده التقليدية، واقترح تبسيط المصطلحات، وإلغاء التعليلات المعقدة، والاكتفاء بما يخدم الفهم. وأمين الخولي (1895–1966) الذي دعا إلى ضرورة فهم النحو في ضوء وظيفته لا بنيته الصورية، وربطه بالبلاغة والتفسير. وشوقي ضيف (1910–2005) في كتبه التعليمية، التي سعى فيها إلى تقديم النحو بطريقة مبسطة وحديثة، وقلّل من عرض الشواهد النادرة والخلافات المذهبية. وعبد العزيز الميمني، ومصطفى الغلاييني اللذين قدّما كتبًا نحوية مبسطة للطلبة، واهتما بـ”الوظيفة التعليمية للنحو”. وتمّام حسان (1918–1990) في كتابه “اللغة العربية: معناها ومبناها”، حيث قدّم رؤية بنيوية لسانية جديدة للنحو، تعتمد على السياق لا على الإعراب التقليدي. واقترح اعتماد النحو الوظيفي القائم على المعنى والسياق، وتجاوز التصنيف النحوي القديم. وعبده الراجحي (1937–2010) أحد أبرز علماء النحو المحدثين الذين دعوا إلى تجديده من الداخل، وإعادة ترتيب أبوابه بطريقة تعليمية مبسطة. ورمضان عبد التواب، الذي تناول طرق تعليم النحو، وركّز على وظيفية القاعدة النحوية بدلًا من تعقيدها بالشواهد والمذاهب. ومهدي المخزومي عالم النحو العراقي في جهودة الخاصة بنقد نحو القدماء وتوجيهه هذا النحو بطريقة منهجية ليست بعيدة عما تقول به الدكتورة البياتي، خصوصا في كتابه المهم (في النحو العربي: نقد وتوجيه) (١٩٦٤) الذي قدّم فيه نقدًا شاملًا للمنهج النحوي العربي الكلاسيكي، ورأى أنه قد أصبح عائقًا أمام تعلم العربية بسبب من التوسع في التعليلات العقلية التي لا تفيد المتعلم. والخلافات المذهبية بين البصريين والكوفيين التي ترهق الطالب دون طائل والتمسك بالشواهد الشاذة والنادرة. وقد دعا إلى الابتعاد عن النحو القائم على الجدل والمنطق الصوري، واقترح العودة إلى الوظيفة اللغوية للعنصر النحوي، أي أن يُفهم النحو من خلال السياق لا من خلال الإعراب الشكلي. الأمر الذي تكرره الدكتورة البياتي في محاضراتها أمام المختصين وغير المختصين في أحيان كثيرة بنفس الطريقة تقريبا.

الثاني يتصل بجهود علماء اللغة الغربيين

إذ تُعدّ مسألة العلاقة بين الفكر واللغة من القضايا المركزية في الفلسفة واللسانيات الحديثة، وقد شغلت حيزًا واسعًا من التأملات المعرفية. وفي هذا السياق، تتقابل رؤيتان متميزتان: الأولى يمثلها اللساني الأمريكي نعوم تشومسكي، والثانية الفيلسوف النمساوي البريطاني لودفيغ فينغنشتاين، وخاصة في مرحلته الفلسفية المتأخرة.

يرى تشومسكي أن الفكر سابق على اللغة ومتجاوز لها، إذ يؤمن بأن الإنسان مزوّد منذ الولادة بما يُعرف بـ”الملكة اللغوية” (Language Faculty)، وهي بنية معرفية فطرية تُنتج “لغة داخلية” تُسمى أحيانًا language أو mantles. وفي ضوء هذه الرؤية، يُفترض أن الأفكار تنشأ داخل الدماغ بمعزل عن اللغة المنطوقة، وأن اللغة ما هي إلا وسيلة لاحقة لصياغة هذه التمثيلات الذهنية وتوصيلها. وبذلك، يقرّ تشومسكي بوجود فكرة مجردة في الدماغ غير مرتبطة بالضرورة بالقالب اللغوي الظاهر، ويمنح الفكر استقلالية نسبية عن اللغة في مستواه التكويني الداخلي.

في المقابل، يُقدم فينغنشتاين المتأخر، في كتابه “بحوث فلسفية” (Philosophical Investigations)، موقفًا مغايرًا يقوم على أن اللغة ليست فقط أداة للتعبير عن الفكر، بل هي الإطار الذي يتشكل فيه الفكر ذاته. فالكلمات، في نظره، تكتسب معناها من خلال الاستخدام داخل ما يسميه بـ”ألعاب اللغة” (language-games)، وهي ممارسات لغوية ذات طابع اجتماعي وثقافي. ووفقًا لهذا التصور، لا يمكن الحديث عن “فكرة” مستقلة عن اللغة، إذ إن ما نسميه “تفكيرًا” ليس إلا جزءًا من فعل لغوي وسلوكي مشروط بسياقات الاستعمال.

وعليه، فإن الفارق الجوهري بين الرؤيتين يكمن في أن تشومسكي ينطلق من منظور معرفي – عقلاني يرى الفكر كيانًا سابقًا ومتعاليًا عن اللغة، في حين أن فينغنشتاين ينظر إلى الفكر باعتباره نشاطًا لغويًا غير ممكن خارج شروط الاستخدام والسياق الاجتماعي. هذا التباين لا يعكس مجرد اختلاف في المنهج، بل يؤسس لرؤيتين متباينتين في فهم طبيعة العقل البشري وحدود اللغة ودورها في تشكيل الوعي والمعرفة.

كل هذه الجهود تتجاوزها الدكتورة البياتي أو أنها تختار منها ما يتناسب مع نظريتها الجديدة وتترك ما توصل اليه هذا العالمان وغيرهما من جهود في هذا الباب. وهي ترى مثلا أن تشومسكي في النحو الكلي أو النحو التوليدي لم يستطع أن يتوصل إلى ما توصلت إليه من معرفة بمراحل اللقاء بين اللغة والفكر في الدماغ البشري بالطريقة الآلية التي حددتها وفق تصوراتها النظرية دون أسانيد علمية كافية. أما الشواهد القرآنية وغير القرآنية التي اعتادت الدكتورة البياتي الاستشهاد بها في محاضراتها ولقاءاتها المتعددة، فليست جديدة، وأغلبها مما جرى التمثيل والاستشهاد به من قبل من ذكرت من علماء النحو المتقدم ذكرهم. وليس لها، هي الأخرى، كبيرُ علاقة بنظرية الصفر اللغوي المفترضة.

غير أن ما يسجل للدكتورة البياتي بالارتباط بهذه النظرية أو بدونها هو فهمها الصحيح لضرورة التغيير في المناهج الخاصة بنظرية العامل في النحو، والحاجة إلى إقامة تصنيف جديد لتعليم النحو على أسس منهجية جديدة تُعنى بملاحظة تركيب الجملة العربية وطريقة الإسناد فيها وما يتصل منها بحركات الإعراب وأدوات الربط، ونوع الزمن الناتج عن تركيبها.

وهي، كما نرى، أمور ليست جديدة تماما إللهمّ إلا في طريقة عرضها، فضلا عن أن علاقتها بالصفر اللغوي التي تعني الدكتورة سناء أكثر من غيرها تكاد تكون معدومة.

***

د. ضياء خضير

 

يبدو أن معظم شيوخ المعتزلة قد أدركوا مُسبقًا ما لم نلاحظه إلا مؤخرًا ألا وهو أن الكذب يمكنه ارتداء لباس الصدق ويتوقف ذلك على اتقان الراوي والحاكي، وفي مقدور الصدق أيضًا أن يرتدي رداء الكذب، إذا لم يخالف مقصده الحقيقي غير أن هذا الرداء الكاذب لم يصب حقيقة الخبر إلا في ظاهره ولم يبدل باطنه أو جوهره أو أصله الصادق.

وتسعفني الذاكرة في استدعاء أطرف وأصدق وأكذب بيت شعري في آن واحد الذي رواه المتنبي (ت 965 م) وبات من بعده مثلًا يذكر في عدة مناسبات منها: المُفارقة في المقصد والمغايرة في المظهر والابداع في الحرفية والحبكة فيقول المتنبي (بعيني رأيت الذئب يحلب نملة ويشرب منها رائبًا وحليبًا، فناديت عليه فلم يجب، ولقد كان ذئبًا في ثياب رجال)

ولما سُأل المتنبي عن ذلك البيت الذي ينضح كذبًا فأجاب أنه يعبر عن صورة صادقة رآها بعينه قائلًا (نعم إنّ الذئب لا يعرف كيفية الحلب والنملة أصلاً ليست بالحلوب، والصورة خيال لا يمكن تصوره مطلقًا.

أمّا الصدق فيها أني كنت مرة في أحد أسواق الكوفة فوقفت بجوار امرأة فقيرة تبيع السمك، فجاءها رجل ثري في تكبره، وغني في هيئته، وسألها عن ثمن ما تبيع؟

فقالت المرأة: بخمسة دراهم السمكة الواحدة يا سيدي.

فقال الغني: بل بدرهم واحد.

فقالت يا سيدي: إن السمك ليس لي، وأنا لا أستطيع أن أبيع الواحدة إلا بخمسة، فرد عليها الغني أعطني عشر سمكات، ففرحت المرأة وأعطته ما أراد ولما مسك السمك بيده قام بحمله ثم ألقى لها بعشرة دراهم وانصرف، فصرخت المرأة تناديه فلم يجبها فروحت أناديه أيضًا فلم يسأل عني؛ فكتبت هذا البيت لأعبر عن تلك المظلمة؛ وذلك الجور الذي عايشت أحداثه ورويته بخيال الشعراء، فإذا كان الكذب في الكلمات والصور البلاغيّة؛ فالحقيقة كامنة في الواقعات الخفيّة، فالذئب هو الرجل الثري، والنملة هي المرأة التي كانت تبيع السمك ولا تملكه.

وواقع الأمر الذي أريد توضيحه والحديث عنه هو طبيعة العقل ومرتبته من اليقين عند معظم شيوخ المعتزلة؛ وقد تبين ذلك في أصولهم ومثقفاتهم ومناظراتهم وفي ردودهم على ما يعتقده مخالفيهم؛ فالعقل عندهم ليس حرًا بالقدر الذي يجحد أو يجنح عن المقصد الإلهي الذي يعتبرونه العقل المطلق بل هو آلية من نفس جنس خالقه، والدليل على ذلك أن حديث العقل الربّاني يوجه في المقام الأول للعقل الإنساني؛ ومن ثم يصبح العقل الإنساني هو الطريق الأقوم لفهم الوحي (كلام الله) والاجتهاد وإعمال العقل في النّص يمثل عندهم عين اليقين، وإذا ما تأكدوا من مطابقة ما فهموه بعقولهم مع المقصد الإلهي اطمئنوا آنذاك على أنهم، توصلوا مع (حق اليقين).

ويعني ذلك أن شيوخ المعتزلة لم يقنعوا إلا بحق اليقين، وذلك عن طريق غرابيلهم النقدية. أمّا دون ذلك فعندهم في مرتبة أقل (علم اليقين، عين اليقين)؛ فعلم اليقين عندهم يمثل الخبر الذي يوضع في الغرابيل لتفصل فيه بين الصدق والكذب. أما المُجرب والصالح والنافع في التطبيق أي في عين اليقين؛ فيصعد إلى مرتبة حق اليقين.

وإذا ما انتقلنا من النظر إلى التطبيق عند المعتزلة في قضية الكذب وجدناه على هذا النحو، فيبدأ الفكر المعتزلي بتحليل الخبر المروي أو الكلام المرسل معتمدًا في ذلك على الفهم المباشر لمعاني الألفاظ ودلالاتها ثم مقابلة التركيب اللفظي الذي يشكل عبارات الخطاب بمنطقية حدوثه في الواقع ثم يضعه في الغرابيل النقديّة للكشف عن دقة دلالاته والإحالات التي يقصدها إذا كان الخطاب رمزيًا أو إشاريًا ثم يعيد طرح ما توصّل إليه من دلالة (ليتبين إن كانت قطعية الثبوت والدلالة من عدمه؛ فإن كانت واضحة بذاتها فيؤكد صدقها وإن كانت إحالية في دلالاتها نجد شيوخ المعتزلة يستعينون بغرابيل التأويل التي تتفق مع النسق العام لموضوع الخطاب؛ الأمر الذي يجعل من تأويلاتهم خطوات إرشاديّة للمعنى الحقيقي الذي يتوافق مع المقصد الصحيح الصادق).

واعتقد أن هذا التصور لنهج المعتزلة العقلي يفسر لنا موقفهم من المرويات الواردة في كتب جُمَّاع الحديث التي لا تخلو من الدس والانتحال والاجتراء والكذب والتلبيس، سواء كان ورودها في كتب ما نطلق عليه (كتب الصحاح مثل البخاري ومسلم أو في كتب السنن) فهم لا يفرّقون بين صحة الأحاديث المنسوبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم التي جمعها أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (ت 870 م) في صحيحه وبين مرويات الربيع بن حبيب الأزدي (ت، ن 698 م) التي جمعها في مسنده فمعيار الصدق أو الكذب عندهم كما بينا هو موضوعية الخبر المروي في سياقه، وعدم تناقضه مع النسق القرآني في عمومه أي قياس المتغير على الثابت أو مقارنه علم اليقين بحق اليقين.

فعلى سبيل المثال نجد شيوخ المعتزلة يرفضون منطقية (حديث الفرقة الناجية، وارضاع الكبير) بغض النظر عن حجية تواترهما أو قبول بعض الفقهاء لهما، وبرهانهم على ذلك أن الحديث الأول يجعل الفرقة الناجية (المؤمنين) هم القلة ويعمل على تفريق الأمة وانتحال كلًا منها الشيفونية. أما باقي الفرق من أمة محمد فمصيرها إلى النار؛ الأمر الذي يناقض النسق العام لوعد الله سبحانه وتعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر ....

أمّا الحديث الثاني فهو يناقض أيضًا النسق الأخلاقي وآداب المرأة مع الاغراب واستحالة حدوث الواقعة على النحو الذي ورد في الرواية من الناحية العلميّة.

ومن أقوال شيوخ المعتزلة التي تؤكد رفضهم لما يخالف صريح المعقول في كتب جماع الحديث قول عمرو بن عبيد (لو سمعت الأعمش - محمد بن سليمان الأعمش، وهو من كبار التابعين ورواة الحديث النبوي - يروي حديثًا مشكوك فيه لكذبته، ولو سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول ما يخالف صحيح المنقول وحق اليقين لرددته، ولو أدعى أحد الخطباء ونسب قوله إلى آية لقلت ليس على هذا القول أخذ الله ميثاقنا).

ومن ثم، يؤكد الجاحظ أنه لا يجوز للدعاة والمحدثين والخطباء التأول على الله قبل معرفتهم اليقينية بمقصده كما ينبغي عليهم التمعن في مصادر ما يقولون  حتى لا يجنح أحدهم عن سبيله إلى حق اليقين فيقع في شرك الهوى فيكذب ويدلس ويزيف ويحرف الدلالات والمعاني ومقاصد العقل الإلهي.

ويرى إبراهيم النظام (ت 845 م) أن الخبر الكاذب يمكن حدوثه بين ما نطلق عليه حديث المتواتر؛ وذلك لأن هذا الحكم لم يبنْ على ثابت عقلي بل بني على كثرة الرواة، وذيوع الخبر وانتشاره، ومن ثم لا يجب الحكم عليه بالصدق إلا بعد عرضه على العقل.

وأقره على ذلك أبو هذيل العلاف (ت 840 م)؛ إذ ذهب إلى أن إجماع أهل الرأي غير المعصومين لا يستبعد كذب أحدهم فيردده الناس من بعده؛ فيصبح بذلك حديثًا متواترًا.

ويرى مخالفو شيوخ المعتزلة أن انتصار معظمهم لصريح المعقول، فاته نسبية أحكام العقل تبعًا للملابسات والظروف والأزمات وخبرة صاحب الغربال النقدي. غير أن مؤيديهم بينوا أن غرابيل النقد عند المعتزلة لم تتعرض إلى حق اليقين المتمثل في القرآن الذي لا يتسلل إلى آياته الشك أو الظن أو التدليس أو التحريف بيد أن خلاف المفسرين أنصب على المتشابه من آياته وفهم مقاصدها بمعزل عن النسق القرآني الشامل واكتفى بعضهم بالمعنى السياقي للآية؛ الأمر الذي دفع شيوخ المعتزلة إلى غربلة تلك التأويلات وليس نص الآيات لتبيان أقربها للعقل والواقع معًا من جهة والمتناغم مع شمولية العلم الإلهي من جهة أخرى؛ كما أن اختلاف الفقهاء حول التفسير والتأويل؛ ليس ببدعة أو خروج عن الملة، بل هو فرض عين للتدبر من قبل أهل الذكر فهو عين الاجتهاد الذي لا ينبغي انقطاعه؛ لأنه البرهان القاطع على أن القرآن لا يحده مكان ولا زمان وصالح للتطبيق على كل البشر حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.

بل والأكثر من ذلك أن هناك بعض الأقوال الحسنة قد نسبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكذبها شيوخ المعتزلة استنادًا إلى أنها تتفق مع بنية النص القرآني مثل (اطلبوا العلم ولو في الصين) وقول إن كل المخالفات والأخطاء مقبولة إلا الكذب فهو يعادل الكفر البواح (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون) كما أخذ على شيوخ المعتزلة أيضًا تقديمهم العقل على السمع؛ فجاء في ردهم على ذلك أن العقل النقدي الذي مكّن الانسان من فضح الأكاذيب والروايات المدسوسة والواقعات المُلفقة في الكتب التي قدسها الأغيار باعتبارها وحي إلهي، وهو منها براء. كما أن خطاب الله لأصحاب العقول والألباب يؤكد أن عقل الانسان قادر على الفصل بين الصدق والكذب، وذلك بمعرفته القبلية الفطرية لحقيقة الله رب الأرباب المدبر الحكيم.

أضف إلى ذلك كله؛ أن غرابيل المعتزلة العقلية ونهجهم الجدلي في التثاقف والتناظر والتصاول، كان من أقوى الأسلحة التي تصدت لعشرات الادعاءات والأكاذيب والمكائد التي جعلها الأغيار من أصحاب الملل والبدع معولًا وترياقاً سامًا لهدم الشريعة الإسلامية، وإغواء المسلمين لانتحال الأفكار والمذاهب والشعائر والطقوس التي تتعارض مع عقلانيّة القرآن وأصالة مقاصده؛ فلم يكن من اليسير الرد على ادعاءات الطاعنين في الإسلام بحديث الوعظ أو الاستشهاد بخطابات قاموا هم بتكذيبها، ودسوا في بعضها الإفك وارتابوا في البعض الآخر.

فلم يكن أمام شيوخ المعتزلة سوى مجادلة هؤلاء الكاذبين المكذبين بصريح المعقول ثم تبيان أن ما يسلم به العقل هو الذي ورد في النّص القرآني الذي لا سبيل لهم بتحريفه أو الشك في مصدره؛ وذلك لأنه محفوظ بنسقيته وخلو بنيته من الاضطراب والتناقض، وهو الاعجاز الذي لا يمكن لبشر أن يفكك أوصاله.

وسوف تظل كتابات واصل بن عطاء (ت 748 م) وأبي هذيل العلاف، وإبراهيم النظام، وعمرو بن عبيد والخياط (ت 933 م) والجاحظ والقاضي وغيرها من أقوى الغرابيل النقديّة التي فضحت إفك الطاعنين وزيف المضللين واجتراء الملحدين وصناع الأكاذيب التي تآمرت على الإسلام في مهده منذ النصف الثاني من القرن الأول؛ الأمر الذي يجعلنا نؤكد حاجتنا لتطوير نهج المعتزلة النقدي وتحديث تلك الغرابيل للحد من مكائد شياطين هذا العصر.

وحريٌّ بي أن أشيد بموقف هارون الرشيد، ومن سلك دربه في مؤازرة ودعم وتأييد شيوخ المعتزلة، ومباركة جهودهم في محاربة الأكاذيب وتنوير العقول وحماية الرأي العام، وذلك لتصديهم بالحجة والبرهان لأضاليل أرباب البدع والفاسد من النحل والخبيث من الشائعات والجانح من الفرق.

وخليقٌ بي في هذا السياق أيضًا أن أعبر عن أسفي من موقف صنّاع القرار في بلادنا الذين دمروا نهوج التفكير العقلي؛ واغلقوا منابره في حياتنا الثقافية المعاصرة وقادهم جهلهم إلى إهمال المشتغلين بالفلسفة واستبعادهم عن مواطن صناعة القرار فضلوا وأضلوا.

(وللحديث بقيّة عن عقلانية المعتزلة وغرابيلهم النقديّة).

***

بقلم: د. عصمت نصار

 

المجد للإنسان.. ذلك الكائن الذي خلق من هشاشة الطين وقوة السؤال، من ضعف الجسد وصلابة الروح. ذلك الكائن الذي لا يهدأ، ولا يكتفي، ولا يرضى ان يكون ظلا يمر على جدار الزمن دون ان يترك فيه اثرا يشبه صوته الداخلي.

المجد للمتمردين الذين ادركوا ان الطاعة ليست فضيلة اذا قتلت فيهم نور العقل، وان السكون ليس سلاما بل موت بطيء. اولئك الذين يشقون ليل العالم باسئلتهم، ويسيرون في الدروب التي يخشاها الجميع، لانهم يعرفون ان الحقيقة لا تمنح لمن يختبئ، بل لمن يغامر بان تنكسر قناعته امام ضوء جديد.

هم من اكتشفوا ان الحياة لا تعطي لمن ينتظرها، بل لمن ينتزع معناها من فوضى العالم. الذين اشعلوا اول شرارة حين فهموا ان الظلام ليس قدرا، بل غيابا مؤقتا للنور. الذين وقفوا امام الحقيقة لا بوصفها نهاية المعرفة، بل بداية سؤال جديد. الذين ساروا على حواف الخوف واكتشفوا ان الخوف نفسه طريق، وان القلب الذي لا يرتجف ميت قبل ان يموت.

المجد لمن امتلك شجاعة ان ينقض ما ورثه كي يبني ما يليق به. لمن وقف امام ذاته عاريا من الاعذار نقيا من التبريرات، فصار اقرب الى جوهره مما كان يتخيل.

لمن طهر قلبه من الاوهام، واعاد تشكيل روحه بما يليق بانسان يريد ان يفهم لا ان يبرر، وان يسكن الكون لا ان يساق فيه.

والمجد لمن نظر في مراياه وواجه كذبه الصغير قبل كذب العالم الكبير. لمن تراجع خطوة كي يرى الصورة كاملة، لا كي يهرب. لمن اتخذ من الشك منزلا مؤقتا ومن التامل وسادة دائمة. لمن خرج من واديه الضيق الى فسحة الكون، ليس ليتوه، بل ليجد نفسه في اتساع اكبر مما ظن.

المجد للغرباء الذين عرفوا ان الوطن ليس مساحة ترسم على الورق، بل معنى يتسع كلما اتسعت الروح. الذين يحملون نورهم في الداخل ويجرؤون على السير به وسط ظلمات لا تنتهي. الذين اختاروا الفن والادب والفلسفة طريقا، لانهم ادركوا ان هذه العوالم ليست ترفا بل نجاة، وان الانسان بلا جمال ينهزم اسرع مما يتوقع.

المجد لمن خلق لنفسه عالما يليق بنبل روحه بعيدا عن ضجيج المقارنات وصخب التفاهات. لمن عرف ان العظمة ليست ارتفاعا فوق الناس، بل نزولا الى اعماق الذات حيث تنام بذرة الحقيقة.

والمجد للفضول الذي دفع العقل الى الحفر في ليل الكون بحثا عن معنى. للمجانين في اعين الناس والعقلاء في اعين انفسهم، الذين ادركوا ان العقل لا يقاد بل يطلق. الذين لا يركعون لفكرة لم يختبرها عقولهم

والمجد لمن لا يقيس نفسه بميزان الناس، بل بميزان الرحلة التي يقطعها نحو ذاته. لمن عرف ان المقارنات تقتل البهاء، وان الانسان لا يضيء الا حين يقف وحده امام اتساعه الداخلي.

ولمن صنع نورا صغيرا في قلب عتمته، وظل يحميه حتى صار ضوءا قادرا على ان يرى.

والمجد لمن صنع هالة نور في قلب كهف معتم، لمن ادرك ان الضوء لا يأتي من الخارج بل من الشرارة التي يوقظها الاصرار. لمن حاول ان يخفف من معاناة البشر، لانه عرف ان الخلود ليس تمثالا من حجر، بل اثرا من رحمة.

والمجد لمن خفف ألما، او ازال حجرا من طريق اخر، او ترك كلمة تجعل الحياة اقل قسوة. فهؤلاء وحدهم يدركون ان الخلود ليس ان نتذكر اسماءهم، بل ان نلمس اثرهم ونحن لا نعرفهم.

المجد للانسان...

للانسان الذي يخطئ فيتعلم، ويسقط فينهض، ويخذل فيشتد. الذي يؤمن رغم كل جراحه ان الطريق يستحق العناء، وان الحياة مهما اتسع ظلامها تبدأ من لحظة يقول فيها لنفسه ؛ انا لن اتوقف.

المجد للانسان...

للروح التي لا تنطفئ مهما انكسرت، وللعقل الذي لا يكف عن السؤال مهما ارهقته الاجابات، وللقلب الذي يجرؤ على الحب في عالم يتقن القسوة.

والمجد للانسان...

لانه الكائن الوحيد الذي ينهض من رماده كلما ظن العالم انه انتهى.

المجد للانسان...

ذاك الذي يخطئ فيتعلم، ويكسر فيتجدد، وينهض كلما اشتهى العالم سقوطه.

ذاك الذي يحاول.

يحاول دائما.

ويظل يحاول.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

يعد الغش الأكاديمي من أخطر الظواهر التي ابتلي بها التعليم المعاصر لأنه لا يمثل مجرد خطأ عابر يرتكبه طالب تحت ضغط الامتحان بل هو انعكاس لانهيار منظومة قيمية تمتد جذورها في بنية المجتمع كله فحين يفقد التعليم رسالته الأخلاقية يصبح الغش ممارسة مبررة ومقبولة وكأنها جزء من اللعبة الاجتماعية التي تحكمها المصلحة والأنانية والبحث عن المكسب السريع قال تعالى ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون فالغش هو صورة من صور هذا اللبس الذي يحيل الصدق إلى زيف والاجتهاد إلى مظهر والعدالة إلى قشرة خاوية

في البداية كان الغش سلوكا فرديا يختبئ صاحبه من العيون ويشعر بالذنب لأنه خان نفسه قبل أن يخون قلمه أما اليوم فقد صار ثقافة تتسع لتشمل بعض المؤسسات التي تغض الطرف عنه وبعض الأسر التي تراه حيلة مشروعة لتحقيق النجاح وبعض الطلاب الذين يرونه ذكاء ودهاء لا عيبا ولا جرما وهنا تتبدى الذروة الأخلاقية للأزمة حين يصبح الغش منهجا مقننا تقوده أدوات التقنية وتبرره ضغوط المجتمع فيتحول التعليم من رسالة إلى صفقة ومن بناء للعقل إلى صناعة للواجهة

تتجلى خطورة الغش الأكاديمي في كونه تواطؤًا على الحقيقة، إذ يُقلب معيار الاستحقاق إلى محاباة، ويُستبدل الجهد بالتحايل. إنّ المشكلة لا تكمن في فعل الغش ذاته فقط، بل في القبول الاجتماعي الضمني له، حين يراه البعض "ذكاءً" أو "حيلة مشروعة"، وحين تتغافل المؤسسات عن مكافحته بدعوى "الظروف" أو "الضغوط".

قال تعالى: ﴿وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 42]، وهذه الآية تُجسّد عمق الأزمة، إذ يتحول الخداع إلى لبسٍ بين الحق والباطل، فيضيع العدل، ويُسفَّه الجهد، ويُكافأ المتقاعس بقدر المجتهد.

وفي الذروة الفكرية للمشكلة، يصبح الغش الأكاديمي مؤشّرًا على انحراف المعايير القيمية في المجتمع بأسره؛ إذ يتربّى الطالب على أن "الغاية تبرّر الوسيلة"، وأنّ النجاح يُقاس بالنتائج لا بالنزاهة، في حين أن القرآن يربط بين العلم والأمانة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58].

فالغش خيانة للأمانة العلمية، وخروج عن خط التكليف الإلهي الذي يجعل العلم مسؤولية لا امتيازًا.

إن المشكلة الحقيقية ليست في الفعل وحده بل في القبول به والتبرير له فالمجتمع الذي يبرر الغش يزرع في أبنائه بذور الفساد المستقبلي لأن من يغش في الامتحان اليوم سيغش في العمل غدا ومن يتهاون في الأمانة العلمية سيتهاون في الأمانة المهنية قال تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها والغش هو خيانة صريحة لهذه الأمانة التي هي أساس العدل وميزان التفاضل بين الناس

تتعدد صور الغش الأكاديمي باختلاف الأزمنة والوسائل. ففي الماضي كان يتمثل في نقل الأجوبة أو سرقة الجهود، أما اليوم فقد أصبح أكثر تعقيدًا مع تطور التقنية والذكاء الاصطناعي، وتفشي ثقافة (الإنجاز السريع) و(النتيجة بأي ثمن).

تظهر الدراسات التربوية أنّ أكثر من 60% من الطلبة عالميًا اعترفوا بارتكاب شكل من أشكال الغش الأكاديمي مرة واحدة على الأقل خلال مسيرتهم التعليمية. هذا الرقم يعكس ليس فقط سهولة الوصول إلى وسائل الغش، بل أيضًا تطبيع السلوك في ثقافة المجتمع.

يمكن تحليل الظاهرة من ثلاثة مستويات:

1. المستوى الفردي:

حيث ينبع الغش من ضعف الوازع الذاتي، وفقدان معنى الأمانة، فيتحول التعليم إلى سباق خالٍ من القيم.

قال تعالى: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ (القيامة: 14)، فكل غاشّ يدرك في قرارة نفسه أنه يخون ميثاقًا أخلاقيًا بينه وبين الله قبل أن يخون مؤسسته.

2. المستوى المؤسسي:

حين تضعف الرقابة أو تغيب العدالة في التقييم، تصبح المؤسسة نفسها بيئة ميسّرة للغش. فإذا لم يُحاسَب الغاشّ، تهاوت ثقة المجتهد بالنظام. هنا يتحقق قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ (النساء: 58).

3. المستوى المجتمعي:

في هذا المستوى، يصبح الغش نتيجة لتساهل المجتمع وتناقض خطابه؛ فهو يُمجّد التفوق، لكنه قلّما يسائل عن وسيلته. وهكذا يتكوّن جيل يبرّر الفساد الصغير لأنه يرى الفساد الكبير معفيًّا من الحساب.

وتكشف هذه النماذج أن الغش الأكاديمي ليس سلوكًا عارضًا، بل منظومة قيمية مختلة تحتاج إلى معالجة فكرية وروحية متكاملة، لا إلى عقوبة شكلية فحسب.

وعند تحليل الظاهرة من منظور نفسي نجد أن الغش يعكس خوفا من الفشل وضعفا في الثقة بالنفس فبدل أن يكون التعليم مجالا للنضج والتحدي يتحول إلى ساحة للهروب من المواجهة أما من منظور اجتماعي فإن الغش هو نتيجة طبيعية لثقافة تقدس النتيجة أكثر من الطريق وتحتفي بالشهادة أكثر من المعرفة وتربط الكرامة الشخصية بالعلامة الرقمية لا بصدق السعي والجهد ومن منظور مؤسسي نرى أن ضعف الرقابة واللامبالاة في ضبط الامتحانات وتهاون بعض الأساتذة في متابعة الأمانة العلمية يكرس هذه الممارسة ويمنحها غطاء من الصمت المؤسف.

إن القرآن الكريم حين جعل العلم نورا وربطه بالخشية إنما أراد أن يحرر الإنسان من عبودية الغاية إلى حرية الصدق فقال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء فالعلم لا يكون نورا إلا إذا كان صادرا عن ضمير طاهر ونية خالصة أما العلم الذي يبنى على الغش فهو ظلمة تظلم القلب والعقل والمجتمع

وفي عرض النماذج المعاصرة يمكن أن نرى كيف يتحول الغش الأكاديمي إلى ممارسة مؤسساتية حين تنتشر خدمات إعداد البحوث الجاهزة وشراء الرسائل العلمية ونسخ المقالات من الإنترنت هذه الأشكال الحديثة تمثل مستوى جديدا من الفساد العلمي لأنها تقتل روح البحث وتضعف الثقة بين الأستاذ والطالب كما تفرغ الجامعات من معناها الحقيقي بوصفها بيئة للصدق والإبداع فيتحول المتعلم إلى مستهلك للمعرفة لا إلى منتج لها قال تعالى ولا تبخسوا الناس أشياءهم فالغش بخس لحق المجتهد وعدوان على جهد المخلص

ومن زاوية معرفية فإن الغش في الوسط الاكاديمي يقوض قيمة العلم لأنه يفصل بين المعرفة والعمل ويجعل الشهادة رمزا زائفا للعلم في حين أن القرآن يربط الرفعة بالعلم الحق (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) فليس كل من تعلم حروف العلم صار عالما ما لم يتحل بصدق النية وعدالة السلوك

إن الحل لا يكون في تشديد العقوبة فقط بل في إعادة بناء الوعي الأخلاقي داخل المؤسسة التعليمية فالعدالة التعليمية لا تتحقق بالمراقبة وحدها بل بزرع معنى الأمانة في الضمير وبتحويل التعليم إلى عهد بين الإنسان وربه قبل أن يكون التزاما بين الطالب والجامعة قال تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فالإصلاح يبدأ من داخل النفس قبل أن يفرض من الخارج

ولكي تستعيد المنظومة التعليمية نزاهتها لا بد من ترسيخ ثقافة تربوية تجعل الصدق قيمة مركزية وتربط بين التفوق والجهد لا بين النجاح والمظاهر كما يجب تطوير أنظمة تقييم شفافة تمنح المجتهد حقه وتحرم الغشاش من ثمرة جهده وإلا أصبحنا في عالم يقاس فيه العلم بالعلامة لا بالحقيقة وفي ذلك انحراف عن مقاصد التعليم وغاياته العليا

الخلاصة القول أن الغش الأكاديمي ليس مجرد سلوك فردي منحرف بل هو مرآة لأزمة قيمية عميقة تضرب جذور العدالة التعليمية حين يختل ميزان الأمانة تضيع الثقة في المعرفة ويتراجع الإيمان بالحق ويحل محله منطق المنفعة والمصلحة الآنية ولذا فإن مواجهة الغش ليست معركة في قاعة الامتحان بل هي معركة في ضمير الأمة كلها فإذا انتصرنا فيها استعدنا للعلم قدسيته وللعدل مكانته وللإنسان قيمته.

يبقى التعليم مرآة لضمير الأمة؛ فإذا صلح العلم صلح المجتمع، وإذا فسد ميزان الأمانة، انهارت القيم وتحوّل الإنسان إلى أداة. قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة: 11)، فلا رفعة بلا صدق، ولا علم بلا أمانة، ولا عدالة بلا مقاومة للغش في كل صوره.

***

ا. م. د. صباح خيري راضي العرداوي

لقد خاضت البشرية على طول تاريخها تجارب طويلة وقدمت تضحيات بالغة لاجل ان تحقق لعيشها على هذه الأرض السلام والآمان ولكي يسود القانون والحقوق والحريات المدنية وكان جهدها في العالم الغربي (أوروبا وامريكا) قد توج بصدور الشرعة الدولية لحقوق الانسان الذي مثلّه الإعلان العالمي للحقوق الصادر في 10 / كانون الأول / 1948 وما تلاه من تشريعات وقوانين دولية، وقوانين خاصة بالدول حول تطوير حق الانسان المطلق في الحياة والكرامة والامن والتعليم والتكامل وأقيمت الحياة المدنية في الغرب على هذه الشرعية، بيد ان اكثر ما ينتقد به الغرب، ازدواجية التصرف فهو من جهة يطبق بحرص لائحة الحقوق في بلدانه ويهدرها عندما يتعامل مع بلدان العالم الثالث او بقية بلدان العالم الأخرى.

اما في العالم الإسلامي فان تاريخ هذه البلدان ينطوي على تراث نظري قيمي رفيع من الحقوق والحريات ممثل بالشرعة الإسلامية التي اسسها القرآن الكريم والتجربة النبوية في معطياتها الفكرية والسياسية والاجتماعية، وسلوك أئمة اهل البيت (ع) سواء كانوا حكاما او معارضين للسلطات او سلوكهم كمواطنين داخل تجربة سياسية.

بيد اننا – بكل اسف يجب ان نعترف بان التجربة السياسية للخلافة الإسلامية (بدءا من العصر الاموي – حتى سقوط الخلافة العثمانية 1924 م) كانت تجربة غير مستقرة من جهة الممارسة الحقوقية وتوفير الحريات المدنية

فقد مرت هذه التجربة بادوار توفرت فيها الحقوق والحريات ولكن الى جنبها كانت فترات  صادرت السلطات هذه الحريات واشاعت سياسات القمع والاستبداد السياسي والديني

لكن ذلك: لم يغير وجهة اعاظم الفقهاء الاحرار واهل العلم والمفسرين والكلاميين عن تأسيس لائحة حقوق مدنية وحريات متوافقة مع الشريعة الإسلامية بحيث أصبحت لائحة حقوقية تفوق الشرعة الدولية.

وهذا يمكّنني من القول ان لائحة حقوق الانسان الإسلامية – نظريا – تنافس اللائحة الدولية التي شرعت عام 1948، والتي استندت الى الفلسفة الليبرالية الفردية وتتفوق على قيم حقوق الانسان والحريات المدنية في ظل الفلسفة الماركسية تستند الى القيم الطبقية ومعطيات الصراع بين الطبقات وصولا الى ما تسميه تلك النظرية المجتمع الاشتراكي

وخلاصة القول: ان الاتجاهات الفلسفية والفكرية المؤسسة لمنظومات حقوق الانسان الراهنة في عالمنا المعاصر ثلاثة هي: فلسفة الشريعة الإسلامية، والفلسفة الليبرالية الفردية، والفلسفة الهيجلية الماركسية.

وايا كان الاختلاف او عدم التوافق في المنطلقات والمسارات والاهداف بين هذه الفلسفات وما ينتج عنها من حقوق وحريات ومصالح إنسانية، فان ما تلتقي عليه كل المنظومات مجموعة أمور منها (الاتفاق على حق الانسان في الحياة، وحق الانسان في اختيار المعتقد والتعبير عنه) فقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى (من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) [1] وعن النبي الاكرم (صلى الله عليه واله وسلم) قوله (الانسان بنيان الله لعن الله من هدم بنيانه)[2] فكان الانسان هو المحور لأنه صنيعة الله، وهو الذي وهبه الحياة فصار حق الانسان في الحياة حقا فطريا ومن ابرز الحقوق الطبيعية، وحقا شرعيا نصت عليه الدساتير والقوانين فلا يجوز سلب هذا الحق منه – تحت كل الظروف – الا ما نصّ القانون عليه من تدابير وقف الاعتداء على النفس بتشريع القصاص في الشريعة، وان لكل انسان الحق في اتخاذ عقيدة له والاعتزاز بها والتعبير عنها بكل اشكال التعبير شرط عدم الاعتداء على عقائد الاخرين ودياناتهم.

فنصت المادة الثالثة من اعلان حقوق الانسان الدولية 1948(ان لكل فرد حق في الحياة، وحق في الحرية، وحق في الأمان) وجاء في المادة التاسعة عشر من الإعلان (ان لكل شخص حق التمتع بحرية الراي والتعببير ومجتمع مثل هذا تسوده هذه الرؤية القيمية الفلسفية التي تدعو الانسان الى تكريم أخيه الانسان واحترام اختياراته الفكرية.. هو الأصل الذي خلق الله الناس عليه وجعله قانون المجتمع الأول الفطري الذي لم يصب بالتشوهات ولعله هو الذي يجب ان تسعى اليه الجهود الإنسانية المعاصرة في بناء وصياغة المجتمعات المعاصرة فان كانت المجتمعات ذات الثقافة الواحدة فعليها احترام الثقافات الأخرى وان كانت المجتمعات تعددية فيجب ان تتحول التعدديات الفكرية، والعرقية، والدينية، والمذهبية الى تعدديات في التنوع الذي يكّمل بعضه بعضا على وفق نظرية المعرفة النسبية، ويجعل العيش المشترك هو القيمة الارفع والهدف الأكثر إحتراما وعلوا على (المجال المختلف فيه). فالاثنيات على وفق مبدا لا اكراه على عقيدة لاتجبر غيرها على الاعتقاد بما تعتقد بل تحاول جمع المشترك الفكري والعقائدي والتوافق على

(المختلف فيه) بان يكون العيش المشترك هو المهيمن والدافع لفهم معطيات المختلف فيه عقائديا فهما إيجابيا .ولكن واقعنا عكس هذا التصور وهو ما نجده في عالمنا الإسلامي المعاصر فاننا نشهد اشتعال اوار الطائفية المقيتة في بلدان هذا العالم على صعيدين: الديني (مصر انموذجا) والقومي في (المغرب العربي انموذجا) والمذهبي (العراق، سوريا، لبنان انموذجا) ومن هنا عرف العالم الإسلامي المعاصر ازمة احتدام الصراع بين المعتقدات والأعراف فكانت الطائفية بكل تنوعاتها هي المشكلة الراهنة، والطائفية نوعان: طائفية عقائدية، وطائفية سياسية.الطائفية العقائدية: هي توجه حركي يوظف المعرفة الدينية ويحولها الى (ايديولوجيه)[3] غالبا ما تكون متشددة ومحتكرة للحقيقة لصناعة واقع سياسي شمولي، او لتحقيق مصالح دنيوية محددة وتعتمد في ذلك على تاويل غير ملتزم بمنهج برهاني وضوابط الإنتاج المعرفي ويغلب على مثيري الطائفية الدينية انهم ثلاث فئات هم: (بعض رجال الدين) الذين يثيرون عن طريق الفتوى التحريضية ودوافع الصدام و (السياسيون) لحشد الاتباع وراءهم و (الممولون) لاستثمار الأوضاع الناتجة لاستثماراتهم القادمة في ظل جو من الفساد المالي

مما تقدم يظهر ان للطائفية الدينية صلة بالسلطة واتخاذ العمل السياسي سبيلا للغنيمة، وصلة بالتضليل السياسي وصلة بالفساد المالي، والمضمون النهائي لها انها دعوة لاتجاهات متشددة.ويظهر: ان الطائفية الدينية بهذا الوصف ليست اتجاهاً دينياً قيمياً روحانياً ينطلق من الايمان ويهدف الى تعزيز الايمان انما هي توجه سياسي فئوي يسعى لتحقيق مجموعة من المصالح. وتتفرع عن الطائفية الدينية: الطائفية السياسية: وهي عبارة عن ممارسة سياسية تقوم على التمييز بين (المواطنين) على أساس المعتقد الديني والمذهبي في الحقوق والحريات وتنمو: هذه الممارسة حينما تكون السلطة: ذات طبيعة استبدادية فهناك علاقة جدلية بين الاستبداد السياسي وبين الطائفية السياسية فكل يوجد الاخر.وفي الغالب يتم اللجوء للطائفية السياسية عندما تخفق الحركات السياسية في إحكام القبضة على السلطة (ومن تلك التجارب: التجربة المصرية التي انتهت في 30/6/2013، او عندما تفتقد جهة سياسية الى صياغة برنامج وطني للتنمية والتطوير، او عندما تفشل مجموعة حاكمة في تحقيق الانماء او في عموم إدارة الدولة اي ان الطائفية السياسية تعد كهفا للاختباء، او زورق النجاة لمن يفشل في اسعاد الناس او من يمارس سياسات الاستبداد، وبذلك تبدو الطائفية ضداً نوعياً لحقوق الانسان السياسية، فضلا عن انها مضادة للحقوق المدنية، ومحرض نحو سلوكيات العنف فعندما يتحول البرنامج السياسي لمجموعة سياسية من انتهاج سبيل الوسطية والعقلانية الى التطرف والقسرية والتمييز الطائفي فانه سيؤسس لمقدمة تكوين حاضنة اجتماعية وسياسية لممارسة العنف سواء صدر من السلطة (الطائفية) على مواطنيها كفعل كما حصل في سياسات ما قبل 2003، او من المقهورين طائفيا ضد سلطة التمييز الطائفي كرد فعل أي ان دورة العنف العقائدي ستكون عبارة عن (حلقة الفعل العنفي ورد الفعل) وبذلك يصبح العنف تصورا متوقعا وممكنا وناتجا عن التصورات الطائفية.وفكريا فان الطائفية في اول تكوينها تضع الطرف الاخر تحت عنوان أصحاب الرؤية المنشقة ثم تنتقل بهم الى (اتباع البدعة) وتنقلهم من البدعة الى الكفر فتكون الطائفية في مرحلتها الأخيرة شريعة للتكفير ثم تستند الى التكفير حينما تستأصل الاخر.وكما تقسم الطائفية الناس على فرضياتها الى جماعتين جماعة (مع الله) والأخرى (أعداء الله)، وتمنح لمن جعلتهم (مع الله) حق إبادة واستئصال من اسمتهم (أعداء الله) فانها تقسم بلدان الأرض الى ملكوت الله ودولة الشيطان وبذلك تضع الطائفية أساسا دينيا للعنف تحت دواعي اعتقادية او مبررا عقائديا لاستئصال الاخر تحت ذات المبرر.بحيث نستطيع الجزم بان أي مسار طائفي سينتهي الى العنف الدموي وان بدا في اول وهلة خلافا نظريا، وتمييزا طفيفا في الحقوق والحريات والامتيازات، الا انه جنين قابل للتطور ولديه إمكانية ان يتحول الى خطر يهدد وحدة المجتمعات حينما يجهض من فلسفاتها قيم (حقوق الانسان) عند ذاك يسقط (الدين) الذي يمارس بعض اتباعه هذا الاقصاء الاستئصالي من كونه مشروعا حضاريا ربانيا إنسانيا عالمي النطاق ويتحول الى أيديولوجيا متشددة تبيح لمجموعة من القتلة والعصابيين سلوكيات إجرامية إزاء الانسان والحياة، ويختزل الدين في فئة صغيرة تحوله الى مشروع للهدم والابادة ومنشأ للتخلف، ويفتقد اتباع ذلك الدين – حتى غير الطائفيين منهم – الى ذلك النبض الإيماني والروحي والقيمي النبيل ويتحول الى ترقب على أساس الخوف والقلق على الذات وعلى الوجود والحذر من الاخر، فيكون التشكيك بالاخر هو السائد بدل قيم الثقة، والخوف مقابل الاطمئنان النفسي والترقب بدل الانشغال في الإنجاز المدني، والقلق بدل الشعور المستقر بالامن وان كل هذه التهديدات والتحديات ضد الانسان والمدنية تدور حول (حق الانسان بالحياة وبالوجود) وحقه في التفكير والتعبير وبذلك يتضح ذلك القدر الكبير من التضاد بين حقوق الانسان والتورط في الطائفية  ويحبط هذا التورط تماما إمكانية قيام مجتمع المواطنة ويصيب رؤية المواطنة بالخلل المصداقي سعيا وراء مجتمع الجماعات والطوائف والعرقيات الى جانب ما يعقد من المسالك للتفكير ببرامج تنموية لدولة مدنية.. فتنزلق المجتمعات في ظلها الى متاهات الفقر والحرمان والانانية ومجتمع الجريمة، والخفية والمعلنة.ان كل الاخطار التي تعد تداعيات التفكير الطائفي او معطيات للممارسة الطائفية تتعارض أساسا مع الدعوة التي يبشر بها اتباع الديانات انهم حملة قيم الرحمة والرأفة والعدل، وهم من يجلب بركة السماء وهم حاملو القيم الإنسانية فتحولهم الطائفية الى المؤسسين لمجتمع الشقاء، وامارات الحروب ودويلات ديكتاتورية ، ومجتمعات الاحتراب و مجتمع الفقراء الذين يعيشون تحت رحمة اللصوص والقتلة العتاة.

وفكريا: يتحول الفكر الديني – في خضم الطائفية – كتصور نظري الى رؤية تعبوية سياسية تستخدم الدين لتصنع به عقلا ايديولوجيا دوغماتيا احادي الرؤية بكل ما يسعه نطاق هذه الايديولوجيا.عندها تتهيأ ظروف ذلك البلد للدخول في دوامة العنف لذلك فالطائفية هي المقدمة الفكرية الشرطية لتنامي موجات الإرهاب.. ذلك الخطر الكبير و الممنهج على حق الانسان في الحياة وحقه في اختيار عقيدته.ودينيا: فان أي رؤية تعددية تفترض، بل تقر وتدافع عن لا نهائية الطرق الى الله، فالطرق الى الله كما قال العارفون متعددة بتعدد انفاس الخلائق.في حين تفترض الرؤية الطائفية طريقا واحدا يرسمونه هم، فتكون الدولة الطائفية مؤسسة على انكار حق الاخر الديني او المذهبي في انه طريق من الطرق الى الله، وبذلك يحتل الطائفيون الجنة وفردوس الله ويوزعونها غنائما على اتباعهم، وتخصص لخصومهم نار جهنم كمأوى لهم.

اما فلسفيا: فان الفلسفة هي (برهان على موضوع واقع في نطاق الشك) والحال الطبيعي ان كل انسان يرى انه على حق.. ولكن ليس بالضرورة انه امتلك كل الحق، بل ليس بالضرورة ان مخالفيه هم باطل محض وهنا تكمن فائدة النسبية المعرفية.في حين: يرى الطائفيون: انهم يمتلكون الحكمة الإلهية المتعالية وحدهم وبشكل حصري.وبهذه المعطيات: يظهر التضاد الموضوعي بين حقوق الانسان والطائفية.كما يظهر الخطر الواقع فعليا وهو ان الطائفية من مقدمات الإرهاب وإشاعة الرعب، فالإرهاب تنتجه الطائفيات.- وفكريا فانها تشوه عقائدي يصنع مسلكاً تغييرياً بنيوياً شمولياً في مجتمع ما، ويقوم بغسل الادمغة لصنع إنموذج عقائدي واحد يتمتع بالصحة.وانها قيميا: مسلك غير أخلاقي لانه مسلك انتهازي يدخل بسرعة في المناطق الرخوة معرفيا ليملأ الفراغ، ومسلك احتيالي لان ابرز وسائله الاغتيال الجماعي العشوائي للناس اعتمادا على نظرية التترس كما سماها الغزالي.وهنا لابد من الإشارة الى ان زمن التأسيس للطائفية في الوسط الإسلامي هو زمن قديم لكن انتاج الطائفية المعاصرة للارهاب المعاصر نشا من جراء المنهجية النصية التلقينية الحرفية التي عمت مدارس (الحجاز) ذات المسلك الوهابي ثم اتجهت الى المناطق الرخوة (كالسودان وأفغانستان) تحت علم ورعاية ودعم المخابرات الامريكية في تجربة طالبان وتجارب المجموعات السلفية في المغرب العربي.ومن حرب المتشددين في أفغانستان ضد السوفييت نشأت ثقة موهومة ان التشدد والطائفية موجه دينية مقابل التطور الحضاري الإنساني وفي حربهم الثانية ضد الامريكان تحولت طائفية الإرهاب من حركة محلية الى نظرية عمل عالمية سرعان ما اتسع نطاقها.وتشير خارطة معهد (Rand) الى انها اسست حول اوروبا والجمهوريات السوفياتية سابقا حزاما هجوميا خطرا فهي تتوجه مرة أخرى لضرب روسيا بعد ان تطلعت الأخيرة لدور دولي، وتصر على حربها الصورية ضد الغرب وتركز على ضرب المسلمين في بلدانهم لمجرد انهم يختلفون معهم في التفاصيل الفرعية.اما القوى الغربية: التي اشرنا الى تعاملها المزدوج مع قيم حقوق الانسان فإنها تتعامل هي الأخرى مع الإرهاب على أساس ما يحققه لها من معطيات ومن تلك ان الإرهاب والطائفية تحول دون إقامة تجارب دستورية في بلدان العالم الإسلامي ، وتؤسس لإقليم جيو سياسي متوتر يصرف ثلث ايراداته على برامج مكافحة الإرهاب، ويضعف الإرهاب الناتج عن طائفية سياسية قوة الممانعة لدول العالم الإسلامي المجابهة للتمدد الغربي في النفوذ واستنزاف تجارة العالم المتقدم لثروات وفرص التنمية في دول العالم الفقير.وهكذا يعوّق الإرهاب سياسات الطاقة التي هي ثروة المسلمين الحالية والمستقبلية باعتبار ان هذه الدولة منتجة للطاقة، بناء هذا العالم ويكسر ارادتها في امتلاك التقنيات المتقدمة لتحديث التجربة المدنية.كيف نواجه الطائفية في العراق ؟ لعل هذا السؤال هو اهم ما يجب ان نفكر فيه تفكيرا جادا ونضع له تصورا اولياً.

سبل المواجهة:

ان تضع المؤسسات الاكاديمية الإسلامية في العراق، والاقسام العلمية في الكليات ذات التخصصات الإنسانية حقائق أساسية كمنطلقات لمشرع وطني (فكريا وفلسفيا)، ثم يتحول هذا التصور الى برامج عمل تدريسية، وثقافية، ليكون البلد على أعتاب صناعة العقل السياسي الوطني غير القابل للانزلاق بالطائفية وذلك:

ا/ ان نقوم بمراجعة المقررات الدراسية (للمراحل كافة) والتشديد على قيمة الانسان التي تعلو على القيم الاخرى.

ب/ إزالة كل الإشارات التي تشجع على الغلو في التصور الفئوي او المذهبي او الديني او الجهوى على حساب (حق الانسان في الحياة وحقه في اختيار العقيدة).

تشريع قانون يجرّم الخطاب الطائفي، والدعوات التحريضية ضد السلم الوطني، ويعاقبها عقابا رادعا أيا كانت الوسائل التي تتوسل بها.

إصدار الفتاوى الدينية التي تحرّم أي خطاب تحريضي وطائفي وتجيز للسلطات محاسبة أصحابه ومعاقبتهم ومنعهم من تشويه الوعي وبث صناعة الموت.

دعوة المؤسسات الثقافية وصناع الراي العام ومنظمات المجتمع المدني الى المساهمة الخلّاقة في حملة (عراق بلا طائفية) ببرامج فاعلة، لان الطائفية لا تكون بديلا عن الوطن ولا تبني وطنا وان يخطط لهذه الحملة وتنفذ على مراحل.

مد الجسور مع المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي كالازهر الشريف والعالم اجمع كالفاتيكان والمساهمة في المسعى الى تقارب الأديان وتعارف الثقافات وتأصيل الحوار والتفاهم والتضامن مع حقوق الانسان.

المساهمة في حملة دولية حقوقية لتجريم الدول والجماعات المثيرة للطائفية والإرهاب، والممولة لها ومقاضاة هذه المؤسسات في القضاء الدولي واعتبارها من جرائم الإبادة، او الجرائم ضد الإنسانية او التطهير العرقي.

واعتقد: ان هذه الإجراءات ضرورية للمواجهة الحالية لان بلدان عالمنا الإسلامي تتهاوى الواحدة تلو الأخرى في دمار العبث بمصائرها ومستقبلها من فئات جاهلة ومعصوبة العين والعقل وغير قادرة على التفكير الجاد، لم تجد وسيلة للتعويض عن بلادتها ومعنويتها الا إشاعة التشدد الطائفي بوصفه عنصر (سرابي جاذب) لمجموعات يسهل التغرير بها.

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

........................

[1] سورة المائدة /اية (32)

[2] تخريج الاحاديث والاثار  1/346

ظ تخريج احاديث الكشاف  1/346

[3] الأيديولوجيا: صياغة معرفة محمّلة بمهام وظيفية لصالح فئة او هي وعي مقلوب كما يقول جورج طرابيش

ظ: مصائر الفلسفة في الأديان الثلاثة ص 4

لم يكن ميلاد مراد وهبه قبل مئة عام مجرد حدث في سجل الزمن، بل كان ولادة عقل سيصبح لاحقا واحدا من أكثر العقول العربية تمردا على المألوف، وأشدها إصرارا على أن تسير الفلسفة في الشارع لا في الرفوف. جاء في لحظة كان فيها العقل العربي يخاف الأسئلة، فتجرأ على طرحها. وفي زمن كانت فيه الحقيقة حكرا على أصحاب السلطة، فانتزعها منهم ووضعها فوق طاولة النقاش. لم يكن فيلسوفا ينتظر أن يتغير العالم من حوله، بل كان هو من يطرق جدرانه، ويهز يقيناته، ويضيء زواياه التي أطفأها الخوف.

حين نقترب من مئوية مراد وهبة، ندرك أننا لا نحتفل بعمر رجل، بل نحتفل باستمرار صراعا بدأ منذ قرون. معركة خاضها ابن رشد ضد فقهاء زمانه، ويخوضها مراد وهبة اليوم ضد الأصوليين وجماعات الإسلام السياسي.

المشهد ذاته يتكرر عبر الزمن، لكن الأسماء وحدها هي التي تتغير. كما نفي ابن رشد وأحرقت كتبه، تعرض مراد وهبة للفصل من الجامعة، ومنع من التدريس عامين كاملين، لأن العقل الحر في عالم يخشى التفكير جريمة لا تغتفر.

وكما رد ابن رشد على تهافت الفلاسفة بكتابه العظيم تهافت التهافت، سخر مراد وهبة من الذين يحتكرون اليقين وسماهم «ملاك الحقيقة المطلقة»؛ ووهو اسم إحدى مؤلفاته الهامه..ذلك اللقب الذي يكشف جوهر المعركة: حرب بين من يرى الحقيقة أفقا واسعا مفتوحا، وبين من يختزلها في رأي واحد جامد لا يتغير

مئة عام مرت على ميلاد الفيلسوف الذي ظل يحاول ان يوقظ فينا شهوة التفكير، ويعيد للعقل مكانته المفقودة في حضارتنا المنهكه

 لم يكن مجرد استاذ فلسفة، بل مشروع نهضوي كامل يمشي على قدمين، يسعى الى ان يعيد للعرب ما فقدوه منذ قرون: القدرة على التفكير الحر.

مراد وهبه هو ذلك الصوت الحاد الذي اصطدم مرارا بجدران الجمود، ولم يمل، ولم يهادن. امن بان التنوير ليس رفاهية، وبان العقلانية ليست خيارا تجميليا، بل شرط الوجود الانساني ذاته. وفي لحظة كان فيها العقل العربي محاصرا بين التطرف والانكفاء، خرج وهبه ليقول عبارته الشهيرة: لا نهضة بلا عقل، ولا عقل بلا حرية، ولا حرية بلا فصل بين الدين والسياسة.

كان يرى ان معركتنا الكبرى ليست مع الواقع، بل مع طريقة التفكير التي تصنع هذا الواقع. لذلك دعا الى نزع القداسة عن الافكار، والى اخضاع كل شيء دون استثناء لمبدأ الشك. فالحقيقة عنده ليست ميراثا جاهزا، بل رحلة في المجهول، وان التفكير هو الفعل الاخلاقي الاول.

ولم يكن التنوير عنده مجرد تنظير اكاديمي؛ فقد حاول ان يمنحه جسدا ومؤسسة، فاسس مؤسسة ابن رشد للفكر الحر، بوصفها مساحة تجتمع فيها العقول التي تؤمن بان الحضارة لا تبنى باليقين المغلق، بل بالنقاش المفتوح. كانت المؤسسة امتدادا طبيعيا لفكر الرجل، ومنصة تعاون فيها مفكرون واكاديميون واعلاميون بهدف احياء سؤال التقدم في عالم عربي انهكته الازمات.

لقد امن وهبه بان تحرير العقل هو الخطوة الاولى نحو تحرير المجتمع، وبان ابن رشد ليس مجرد رمز تاريخي، بل وصفة انقاذ: ان نعود الى جذوة العقل التي اطفئت يوم احرقت كتبه، وان نعيد وصل ما انقطع بين الفلسفة والحياة، بين الايمان والحرية، بين الانسان وقدرته على التفكير.

ومن هنا كان إصراره على استعادة ابن رشد؛ ليس بوصفه صفحة من التاريخ، بل بوصفه قوة فكرية حية، ما زالت قادرة على خوض المعركة إلى جانبنا.

فمعركتنا اليوم كما يرى وهبة ليست إلا امتدادا لمعركة ابن رشد: مقاومة الجمود، والانتصار للعقل، والدفاع عن حق الإنسان في التأويل.

والتأويل عند مراد وهبة ليس لعبة لغوية، بل مبدأ وجودي:

إنه الامتناع عن التكفير، لأنه يفتح الباب للتعدد، ولإمكان أن يكون للعقل أكثر من بديل وأكثر من طريق.

العقل الذي يكتفي ببديل واحد يسقط في الدوغمائية، يتوهم أنه يملك الحقيقة المطلقة، وحين يقع في هذا الوهم يتوقف التطور، ويُغلق المستقبل أبوابه.

 التأويل كما يفهمه مراد وهبه هو رحابة، تسامح، واعتراف بأن الحقيقة لا تنزل على عقل واحد، ولا تختصر في رأي واحد، ولا يمكن أن تختذل في نصٍ مغلق.

وهكذا تصبح الرشدية المعاصرة دعوة إلى التحرر، وإلى أن نعيد للعقل قدرته على تنويع البدائل، وعلى مواجهة العالم بلا خوف.

وها نحن اليوم، في ذكرى ميلاده المئوية، نقف امام ارثه لا لنجله فقط، بل لنسال انفسنا:

هل نستطيع ان نحمل المشعل من بعده؟

هل ما زال لدينا الشجاعة لطرح الاسئلة التي كان يطرحها؟

ام اننا ما زلنا ندور في الدائرة نفسها التي حاربها طوال حياته؟

في النهايه. يظل مراد وهبة واحدا من القلائل الذين حملوا  مشعل التنوير دون أن ترتعش أيديهم.

مائة عام قضاها وهو يقف في الصفوف الأولى للمعركة من أجل أن يبقى العقل حيا، وأن تبقى الفلسفة في قلب الحياة، لا في أطرافها.

سلام على هذا الرجل الذي أعاد للرشدية أنفاسها، وللعقل العربي حقه في السؤال، وللفكر مساحته التي يستحقها.

ان حديثي اليوم عن الفيلسوف الكبير مراد وهبه ليس استدعاء لماض بعيد، بل محاولة لاستعادة بوصلة فقدت.

فهذا الرجل لم يكتب ليصفق له احد… بل كتب ليحررنا من الخوف، وينتزع من اذهاننا وهم المسلمات، ويذكرنا دائما بان الحضارة تولد حين يجرؤ الانسان على ان يقول: لماذا؟

في مئويته…

نقول له: شكرا لانك ظللت واقفا في وجه الريح.

شكرا لانك كنت ضوءا حين كان الظلام سيد الموقف.

في مئويته، لا نحتفي برجل تجاوز العمر، بل بفيلسوف تجاوز زمنه. لا نحتفل بمن عاش مئة عام، بل بمن منح هذه الاعوام معناها.

لقد ترك مراد وهبه لنا ما هو ابقى من السيرة وما هو اكبر من الاعمال: ترك لنا سؤالا مفتوحا لا يموت، وسعيا لا يتوقف، وجرأة لا تنكسر امام سلطان او خطاب او جماعة.

وحتى لو غاب جسدا سيظل الفيلسوف مراد وهبة حيا في وعينا لا بذكراه، بل بما ايقظه فينا من شغف لا ينطفئ نحو النور.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

التعاسة هي حالة من الشعور بالضيق والحزن، وهي قد تنجم عن عوامل مختلفة ومتعددة، مثل فقدان إنسان عزيز، أو فقدان عمل، اوالفشل والخيبة، كل هذه العوامل يمكن أن تؤدي الى شعور الإنسان بالتعاسة، والواقع أن التعاسة هي جزء من منظومة الحياة الإنسانية ، وهي تجربة إنسانية معقدة، ومتعددة الأوجه، تشمل جوانب نفسية، وإجتماعية، وفلسفية، وإن التعامل مع التعاسة، وإيجاد حلول لها قد شكل تحدياً كبيراً للإنسان منذ القدم، وفي هذا السياق برزت الفلسفة بوصفها أداة تُقدم حلولاً للتعاسة، وكيفية التعامل معها، بوصفها حالة إنسانية يتعرض لها البشر في بعض مراحل حياتهم،ويعتبر الفيلسوف الرواقي (أبكتيتوس)، أحد أشهر الفلاسفة الذين كتبوا عن التعاسة، وبينوا أسبابها، وطرق النجاة منها، حيث كان له رؤية فلسفية خاصة، أشار أبكتيتوس من خلالها الى أن التعاسة تأتي من محاولة الإنسان السيطرة على ماهو خارج عن إرادته، مثل الأحداث الخارجية والممتلكات، فالتعاسة  ليست بسبب الأشياء، بل بسبب أفكارنا عنها، بينما يكمن السلام الحقيقي في التركيز على مايمكننا التحكم فيه، وهو أفكارنا وأفعالنا، لذلك فإن الشقاء ينبع من التعلق بالأمور الخارجية، ورغبتنا في السيطرة عليها، بينما السعادة الحقيقية تكمن في تقبل ما يحدث لنا، دون شكوى، لأنها تمنحنا الحرية الداخلية والسلام النفسي.

قدمت الكاتبة، والمفكرة (جولي ترمبلاي)، في كتابها  (الفلسفة علاجاً للتعاسة) ، رؤية فلسفية حول كيفية التعامل مع المشاعر السلبية، والأزمات النفسية من خلال الفلسفة، وكيف يمكن للفلسفة ان تكون علاجاً للتعاسة،حيث تشير جولي ترمبلاي الى أن الفلسفة يمكن أن تكون أداة قوية للتغلب على التعاسة، وتشرح الكاتبة كيف ان الفلسفة ساعدتها على رؤية العالم بمنظور مختلف، وفهم المغالطات المنطقية، والأخطاء والأوهام التي يعيشها الإنسان، وتقدم رؤى فلسفية متعددة، حول كيفية التعامل مع هذه الجوانب المختلفة من الحياة،وتؤكد جولي ترمبلاي ان الفلسفة ليست مجرد مجموعة من الأفكار المجردة، بل هي أداة عملية فعالة يمكن إستخدامها لتحقيق أهدافنا وتحسين حياتنا، ومن خلال الفلسفة يمكن أن نصبح أكثر وعياً بذواتنا وقدراتنا، وأكثر قدرة على مواجهة تحديات الحياة.

وختاماً نقول ان الفلسفة يمكن ان تكون علاجاً فعالاً للتعاسة، وللعديد من المشكلات الفكرية التي يواجهها الإنسان في حياته اليومية، وتقدم لنا أدوات لتغيير وجهة نظرنا، من خلال التفكير النقدي، و التحليل المنطقي، ورفع مستوى الوعي الفكري، وفي هذا السياق، يمكن للفلسفة أن تكون أداة فلسفية علاجية قوية للتغلب على التعاسة، وتحقيق السعادة والرضا.

***

شيماء هماوندي

في يناير (كانون الثاني) 1998 نشر الدكتور عبد الصبور شاهين كتابه «أبي آدم... قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة»، فأثار ضجة واسعة بين الملتزمين بالرؤية التقليدية للخلق. ورفعت دعاوى عديدة أمام المحاكم، طالب بعضها بمنع الكِتاب ومصادرته، وطالبت أخرى بالحكم على المؤلف بالردة أو الاستتابة من الكفر. ونقل شاهين طرفاً من هذا الجدل في الطبعات التالية للكتاب.

لم يكن شاهين متخصصاً في البيولوجيا أو الوراثة أو تاريخ الإنسان. ولذا يصعب اعتبار عمله علمياً، من هذه الزاوية. لكنه خبير في اللغويات والتراث الإسلامي. وقد استثمر خبرته في إعادة تفسير القرآن والسنّة النبوية، للتدليل على رؤيته المعارضة للفهم الموروث لقصة الخلق الأول. وهو يرجع اهتمامه بهذا الموضوع إلى رغبته في تنظيف التراث مما أسماه التفسيرات المتأثرة بالإسرائيليات والخرافة، بالاعتماد على قراءة جديدة لمصادر الدين نفسه. يقول في مقدمته للطبعة الثانية:

«أردت أن أدق رأس الأفعى الإسرائيلية اللابدة في الثقافة الإسلامية القديمة، ممثلة فيما سمّي بالإسرائيليات، وهي لا تعدو أن تكون أساطير خرافية، تسللت إلى الفكر الإسلامي، وإلى عقل الإنسان المسلم، فاعتمدها أئمة من أهل التفسير. ومن خلال تلك التفاسير، سكنت في منطقة المسلمات من العقل المسلم، وهي في الواقع أفعى إسرائيلية، اعتنقها كثير من الرجال ممن لم يعملوا عقولهم في تحليل نصوص القرآن».

الفرضية المحورية للكتاب هي التمييز بين البشر بوصفهم جنساً قديماً، والإنسان بوصفه جنساً حديثاً. وقال إن آدم ابن لرجل وامرأة من البشر، وهو أبو الإنسان وليس أبا البشر، ويتميز الإنسان عن سلفه البشري بما ذكره القرآن من أوصاف، منها العقل وحسن التقويم واحتواؤه نفحة من روح الله، وهذه كانت مفقودة في البشر السابق له.

حديث الدكتور شاهين هذا ليس الأول في نوعه. لكن على الأرجح، إنها المرة الأولى التي نشهد فيها عالماً مسلماً يعارض علناً التفسير المتوارث لقصة الخلق، مستنداً إلى النص الديني نفسه. وهو في هذا يواجه كل المفسرين والمؤرخين المسلمين.

ويبدو أن شاهين لم يتوقع رد الفعل العنيف الذي قوبل به، فهو أكاديمي عريق، وكان إماماً لمسجد شهير في القاهرة. ولهذه المناسبة قالت الصحف المصرية إنه شرب من الكأس ذاتها التي سقاها زميله د. نصر حامد أبو زيد، الذي كان قد اقترح قراءة جديدة للنص القرآني، على ضوء «الأفق التاريخي للمتلقي»، وهو المنهج المعروف بالهرمنيوتيك الفلسفي، الذي يركز على مبدأ التواصل بين النص والقارئ، وإمكانية العبور من اللفظ الظاهر إلى الرسالة الداخلية التي يختزنها النص. المضمون الداخلي -وفقاً لهذه الرؤية- متعدد المستويات، ويتأثر فهمه بالظرف الخاص للقارئ، أي ظرفه الزماني والاجتماعي والتحديات التي يواجهها، فضلاً عما يتوقعه من وراء القراءة.

تفجرت قضية أبو زيد حينما قدم طلباً للترقية إلى رتبة أستاذ في جامعة القاهرة. فقرأ شاهين أبحاثه، وقرر أنها تنتهك قواعد التفسير والكلام الديني، وتساوي بين كلام الله وكلام خلقه وتسمح بنقد القرآن. وقيل إنه سرَّب هذه الاتهامات إلى الصحافة، التي حولت أبو زيد إلى مرتد ومناوئ للدين في نظر عامة الناس. ثم أتبع هذا بدعوى أمام المحكمة، تطلب إعلان ردته وفسخ زواجه ومصادرة أمواله، مما اضطر أبو زيد لهجران بلده إلى هولندا، حتى وفاته قبل شهرين من وفاة غريمه.

قبل كتابه «أبي آدم» التزم عبد الصبور شاهين بأعراف التيار الديني التقليدي. ولم يظهر ميلاً واضحاً لمراجعة التراث الإسلامي أو نقد الأفهام الموروثة. في شبابه المبكر ترجم كتابين لمالك بن نبي، يتضمنان رؤية نقدية للثقافة السائدة. لكنه سرعان ما اختلف معه. ولذا يمكن القول إن «أبي آدم» كان استثناء في المسار العام لمنهجه الفكري، خصوصاً دعوته للتحرر من تقاليد قدامى المفسرين. هذه الدعوة تقارب رؤية نصر حامد أبو زيد. فهل كانت معركته معه مدخلاً لتغيير رؤيته لمنهج التفسير بشكل عام؟

***

د.  توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

لم تكن السيادة الوطنية يومًا مجرد سيطرة على حدود جغرافية أو فرض إرادة عسكرية، بل ظلّت، عبر التأريخ، ترتبط أيضًا بما هو أعمق وأبقى، التحكم في الوجدان الجمعي، والقدرة على تشكيل الوعي الثقافي للشعوب، وفي العصر الرقمي، اتّسعت هذه المعادلة لتدخل مجالات جديدة لم تكن تُؤخذ بالحسبان، حيث بات الفضاء الافتراضي مجالًا لتحديد الهوية، وإعادة صياغة القيم، وترتيب الأولويات، وتوجيه السلوك اليومي للأفراد والمجتمعات. وهكذا، لم تعد الثقافة رقمًا هامشيًا في الحسابات السياسية، بل غدت أداة تأثير لا تقل خطرًا عن الأسلحة التقليدية، ولا تقل فاعلية عن الاقتصاد في صناعة النفوذ.

تعيش البشرية اليوم لحظة فارقة في تأريخها الثقافي، لحظة تُعاد فيها صياغة العلاقة بين الإنسان والمعلومة، بين الوعي والآلة، بين الذات والآخر، وبين المواطن والدولة. وفي قلب هذا التحول العاصف تقف (الثقافة الرقمية)، لا بوصفها مجرد وسيط أو قناة جديدة، بل كمنظومة متكاملة لإنتاج المعنى وتوزيعه وإعادة تدويره. لم يعد السؤال اليوم عن قدرة الشعوب على إنتاج ثقافتها، بل عن قدرتها على حماية وعيها من التلاعب، وصون ذاكرتها من التذويب، والحفاظ على استقلالها الرمزي في عالم باتت فيه الحدود الوحيدة هي تلك التي ترسمها الخوارزميات.

في المجتمعات العربية على وجه الخصوص، يتّخذ هذا التحدي بُعدًا مركّبًا. إذ أننا نعيش واقعًا ثقافيًا هشًا، يرزح تحت وطأة أزمات متراكمة: ضعف البنى التحتية الثقافية، تراجع دور المؤسسات التعليمية والتربوية، غياب المشروع الثقافي الشامل، وتراجع دور المثقف المستقل لصالح نُخب تابعة أو صامتة. وفي هذا المناخ، إقتحمت الثقافة الرقمية حياة المواطنين، لا من بوابة المعرفة أو التنوير، بل غالبًا من باب الترفيه السطحي والمحتوى السريع والمرئي، الذي يركّز على الإنفعال لا العقل، ويُشجّع على النسيان لا الفهم، ويقدّم صورة زائفة عن الواقع بدلًا من تحليله أو تغييره.

ليس من المبالغة القول إن ما يُعرض على المنصات الرقمية العالمية، التي تتصدرها شركات كبرى مثل (ميتا) و(غوغل) و(إنستغرام) و(توك تك)، يشكّل في كثير من الأحيان (ثقافة بديلة)، تسحب البساط من تحت أقدام الثقافة الوطنية، وتقدّم للأجيال الجديدة نماذج وأفكارًا وسلوكيات لا تنتمي إلى محيطهم ولا تُعبّر عن همومهم، بل تستهدف تحويلهم إلى مستهلكين في سوق عالمي لا يعترف بالهويات الصغيرة، ولا يقدّر الخصوصيات المحلية. بهذه الطريقة، تصبح الثقافة الرقمية قناة لتكريس الهيمنة الرمزية، حيث لا تُفرض السيطرة بالقوة، بل بالإقناع، لا بالتخويف، بل بالإغواء، لا عبر القمع، بل من خلال رغبات الجماهير نفسها.

يُضاف إلى ذلك أن هذا النوع من الهيمنة لا يُمارَس بالضرورة من قِبل دول بعينها، بل من خلال نمط عالمي للإنتاج الثقافي تُحدّده الخوارزميات، وتتحكّم فيه معايير (الترند)، و(المشاركة)، و(عدد المشاهدات)، وكل ما من شأنه أن يُحوّل الثقافة إلى منتج استهلاكي سريع الزوال. في هذا السياق، تُهمَّش القضايا الجادة، وتُسخَّف الموضوعات العميقة، ويُدفع بالجمهور نحو محتوى لا يحرّك الفكر بل يُخدّره، ولا يثير الأسئلة بل يُكرّس الإجابات الجاهزة.

من هذا المنظور، فإن الحديث عن السيادة الوطنية في زمن الثقافة الرقمية لا يمكن أن ينفصل عن سؤال (من يملك المنصة؟)، و(من يُنتج الخوارزمية؟)، و(من يُحدّد ما يجب أن يُشاهد؟). فالمعادلة هنا لم تعد بسيطة، بل تُبنى على بنية معقدة من التبعية التقنية، والهيمنة الثقافية، والتفاوت الاقتصادي، الذي يجعل المجتمعات غير القادرة على إنتاج منصاتها أو حماية بياناتها عرضة لتشكيل وعيها من خارج حدودها. وما يُضاعف من خطورة هذه المسألة هو أن الجيل الجديد، الذي وُلد ونشأ في كنف الإنترنت، لم يعد يتعامل مع هذه المنصات كمصادر محتملة للمعلومة، بل كمرجعية مطلقة، وكسلطة ثقافية موازية أو بديلة عن المدرسة، والأسرة، والكتاب، والمجتمع.

إن أكثر ما يثير القلق في هذه المعادلة هو أن الدولة، في كثير من الأحيان، تبدو كأنها غائبة أو عاجزة عن مواكبة هذا التحول. فبينما تتسابق القوى العالمية الكبرى لتطوير أدواتها الرقمية، وتعزيز حضورها الثقافي عبر الإنترنت، نجد أن الدول العربية ما زالت تتعامل مع المسألة الرقمية إما من زاوية أمنية ضيقة تقتصر على الحجب والرقابة، أو من خلال محاولات خجولة لإنتاج محتوى بديل لا يصل إلى مستوى المنافسة الحقيقية. بل إن بعض المؤسسات الرسمية تتعامل مع الثقافة الرقمية كأمر ثانوي أو ترفيهي، لا كأحد أركان الأمن القومي. وهذا خلل إستراتيجي لا يمكن تبريره، في وقت بات فيه التأثير في الفضاء الرقمي أكثر فعالية من أي وسيلة إعلامية تقليدية.

ليس المطلوب بالضرورة أن تملك الدول منصاتها الخاصة على غرار الصين أو روسيا، وإن كان ذلك خيارًا إستراتيجيًا مهمًا لبعض الحالات. لكن المطلوب بالحد الأدنى أن تُعيد الدولة النظر في سياساتها الثقافية، لتضع في أولوياتها دعم المحتوى الرقمي الوطني، وتشجيع الإبداع المحلي، وتحفيز الشباب على إنتاج سردياتهم الخاصة بلغتهم وأساليبهم، بما ينسجم مع خصوصياتهم ولا ينفصل عن روح العصر. فالحفاظ على السيادة لا يعني الانغلاق، بل يتطلّب التفاعل الذكي مع العالم، ضمن قواعد تحترم الهوية ولا تفرّط بها.

المدهش في هذا السياق هو أن الإمكانيات التقنية متوفرة أكثر من أي وقت مضى، والطاقات الشبابية موجودة، لكنها غالبًا ما تُهدر بسبب غياب الرؤية الاستراتيجية، وإنعدام التنسيق بين المؤسسات، وإفتقار المشهد الثقافي إلى روح المبادرة. وما يزيد الطين بلّة أن بعض الفاعلين في المجال الثقافي يتعاملون مع الفضاء الرقمي بآزدراء، أو ينظرون إليه كفضاء تافه، في حين أن خصومهم من صناع المحتوى التجاري أو السياسي فهموا منذ زمن، أن المعركة الحقيقية تُخاض على الشاشات الصغيرة، لا في صالات العرض أو قاعات الندوات.

ومن المؤسف أن غياب البدائل الجادة يدفع فئات واسعة من الجمهور العربي إلى تبني أنماط تفكير وقيم ومفاهيم لا تنتمي إلى بيئتهم، بل تتسلل إلى وعيهم بطرق غير مرئية. فالمسلسلات المدبلجة، والمقاطع الكوميدية، والألعاب الإلكترونية، ومنصات الفيديو القصير، كلها تُعيد تشكيل تصورات الناس عن الجمال، والنجاح، والأسرة، والدين، والجنس، والوطن، بل وعن أنفسهم. وهذا ما يجعل الثقافة الرقمية اليوم أشبه بـ(سلاح ثقافي ناعم)، يُستخدم لتفكيك المجتمعات من الداخل، لا بالقوة، بل بالإقناع البطيء.

ومع كل ذلك، فإن الصورة ليست قاتمة بالكامل. فما زالت الفرصة قائمة لبناء مشروع ثقافي رقمي عربي قادر على المنافسة، شريطة أن يتم تجاوز النظرة التقليدية للثقافة، وأن يُفتح المجال أمام المبادرات الشبابية، وأن تُستثمر الطاقات الكامنة في الجامعات، والمعاهد، ومراكز الأبحاث، والمجتمعات الرقمية الوليدة. ذلك أن السيادة الحقيقية، في عالم اليوم، لم تعد تُقاس فقط بمدى إمتلاك الموارد الطبيعية أو القدرات العسكرية، بل أيضًا بمدى القدرة على إنتاج سردية وطنية، رقمية، جذابة، تحاور العالم من موقع الندّية لا التبعية، وتُقدّم صورة صادقة عن الإنسان العربي لا صورةً مشوّهة أو مسطّحة.

في النهاية، يمكن القول إن معركة السيادة الوطنية في الزمن الرقمي هي في جوهرها معركة على الوعي، على اللغة، على الذوق، على الرموز، وعلى طريقة فهم الذات والعالم. وهي معركة لا تُخاض بالصدفة، ولا تُربح برد ألف. بل تحتاج إلى رؤية، وإستراتيجية، وإرادة. فإما أن نكون فاعلين في تشكيل الوعي الرقمي الجديد، أو نُترك لغيرنا ليصوغ وعينا بالنيابة عنا. وفي الحالتين، لا يمكن للزمن أن ينتظرنا طويلًا.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

يُعدّ سورين كيركـيغارد (1813–1855) أحد أبرز فلاسفة الوجودية، بل رائدها الحقيقي قبل نيتشه وسارتر، وهو المفكر الذي حمل لواء التمرد الفردي ضد سلطة المجموع، وضد النماذج الفكرية الجامدة التي سلبت الإنسان جوهره الحرّ ووعيه الذاتي. إنّ التمرد في فلسفة (كيركـيغارد) ليس تمرداً سياسياً أو اجتماعياً بقدر ما هو تمرد وجودي وروحي، يهدف إلى تحرير الإنسان من "القطيع"، وإعادته إلى ذاته، إلى مسؤوليته الفردية أمام الله والوجود.

يرى (كيركـيغارد) أن الإيمان الحقيقي لا يقوم على البرهان أو العقل، بل على القفزة الوجودية التي تتجاوز المنطق نحو علاقة شخصية بين الإنسان والله. هذه القفزة نفسها هي نوع من التمرد على العقل، وعلى كل نظام يحاول تفسير الإيمان بلغة المفاهيم. ففي نظره، الإيمان لا يُفهم، بل يُعاش، وهو فعل "تمرد" على كل من يريد أن يحصر التجربة الدينية في القواعد أو المؤسسات. ومن هنا، كان تمرد (كيركـيغارد) أيضاً على الكنيسة الرسمية التي حوّلت الدين إلى طقس اجتماعي فاقد للحرارة الوجودية.

ومن بين أحد أكثر المفاهيم مركزية في فلسفة (كيركـيغارد) هو مفهوم "الفرد"، وهو الكيان الحرّ الذي يرفض أن يُذوَّب في "الكلّ"، أي في المجتمع والرأي العام. ويعتبر (كيركـيغارد) أن الحشد – حتى وإن بدا مؤمناً أو متديناً – يمثل خطرًا على الحقيقة، لأن الحقيقة لا تُوجد في المجموع بل في تجربة الفرد الداخلية، هكذا يصبح التمرد عنده صرخة ضد التواطؤ الجمعي، وضد التكرار الميكانيكي لما يفرضه الآخرون من معايير أخلاقية أو دينية أو فكرية.

لا يهدف تمرد (كيركـيغارد) إلى الهدم أو الفوضى، بل إلى تحمل المسؤولية الوجودية عن الذات، فالتمرد عنده ليس رفضاً عبثياً، بل هو وعي مؤلم بالحرية: حين يدرك الإنسان أنه وحده من يختار، وأن لا أحد يمكنه أن يقرر عنه مصيره. وهذا الإدراك يجعله يدخل في قلق وجودي عميق، لأن الحرية تضعه في مواجهة ذاته دون وسائط، وتلزمه باتخاذ موقف أصيل من الحياة والموت والإيمان.

والتمرد عنده يمرّ عبر الألم، والمعاناة ليست لعنة، بل هي الشرط الذي يطهّر الوجود من الزيف؛ الإنسان الذي يتمرد، في نظره، يختار أن يعيش بصدق حتى لو كلفه ذلك عزلة واغتراباً. فالحقيقة لا تُنال إلا عبر التضحية، والتمرد هو شكل من أشكال الفداء الوجودي الذي يعيد للذات صدقها أمام الله والعالم.

وبالتالي ففلسفة التمرد عند سورين (كيركـيغارد) ليست ثورة على العالم الخارجي فحسب، بل هي ثورة على الذات المزيفة في داخلنا، هي دعوة إلى أن يكون الإنسان "أصيلاً" لا نسخة مكررة، وأن يواجه قلقه وشكه وخوفه بشجاعة. بهذا المعنى، يشكل (كيركـيغارد) نقطة تحول في تاريخ الفكر الغربي، إذ حرّر الفلسفة من قبضة النسق العقلي المجرّد، ووجّهها نحو الإنسان الفرد كوجود يعاني ويختار ويتمرد.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

قراءة فلسفية لليوم العالمي للإعاقة في الثالث من ديسمبر

في الثالث من ديسمبر من كل عام، يقف العالم أمام اليوم العالمي للإعاقة، حيث تتجه الأنظار عادة نحو الفعاليات الرسمية والخطب الاحتفالية والصور التي تُظهر التضامن والدعم. غير أن ما يشغلني بوصفي باحثًا في الفلسفة ليس شكل الاحتفال أو زخمه الإعلامي، بل السؤال الذي يختبئ خلفه: كيف نرى الإنسان حين يختلف؟ وكيف نفهم الإعاقة لا بوصفها نقصًا في الجسد أو قصورًا فرديًا، بل باعتبارها اختلافًا يكشف طريقة وجود الإنسان في العالم، ويختبر قدرتنا نحن على بناء مجتمع لا يُقصي أحدًا في زمن تتزايد فيه الفردانية والعزلة؟

ولعل هذا الانشغال لا ينبع من اهتمام نظري فحسب، بل يرتبط بتجربة بحثية خضتها من قبل حين خصصت جزءًا من عملي الأكاديمي لدراسة الموقف الأخلاقي من الأشخاص ذوي الإعاقة في سياق الأخلاق التطبيقية. وقد نُشر هذا العمل عام 2021 في مجلة كلية الآداب بجامعة أسيوط، حيث حاولت من خلاله متابعة الاتجاهات الفلسفية التي تناولت الإنسان ذي الاحتياجات الخاصة، بين رؤى تنكر عليه فاعليته وتختزله في حدود جسده، ورؤى أخرى تعيد إليه قيمته باعتباره ذاتًا كاملة لا ينقصها شيء من حيث إنسانيتها. وقادني ذلك البحث إلى قناعة راسخة مفادها أن الإعاقة لا تكشف حدود الإنسان، بل حدود النظرة التي نرى بها الإنسان، وأن الخطأ لا يسكن الجسد المختلف، بل يسكن الصورة الاجتماعية التي تُعاد صياغة الإنسان وفقًا لها.

ومن هنا لم يعد الثالث من ديسمبر بالنسبة لي احتفالًا موسميًا أو مناسبة رمزية، بل لحظة فكرية تُجبرنا على إعادة النظر في معنى الإنسان وكيف نتعامل مع اختلافه. وهكذا أصبح هذا المقال امتدادًا طبيعيًا لذلك الجهد المعرفي، لا نصًا منفصلًا عنه، محاولةً للإجابة عن سؤال العنوان: كيف نرى الإنسان حين يختلف؟

إن قراءة هذا اليوم قراءة فلسفية تكشف أولًا أن الإعاقة ليست نقصًا في القدرة، بل اختلافًا في طريقة الوجود. فالفلسفة لا تقسم البشر إلى كامل وناقص، بل تراهم بوصفهم كائنات تتشكل عبر إمكاناتهم وحدودهم معًا، وعبر البيئة التي يُسقطون عليها وجودهم. ومن هذا المنطلق لا يصبح الثالث من ديسمبر مناسبة للاحتفال بفئة محددة، بل لحظة للاعتراف بأن التنوع الإنساني شرط رئيس لاكتمال العالم، وأن كل اختلاف جسدي أو عقلي يذكّرنا بأن الإنسان لا يقوم بذاته وحدها، بل بالآخر الذي يعترف به ويمنحه معنى.

وإذا بدأنا من هذا الوعي اتضحت لنا رؤية مختلفة للاحتفال، إذ لا يعود كافيًا أن نرفع شعارات أو نشارك في فعاليات أو نلتقط صورًا تعبر عن الدعم. فالاحتفال الحقيقي يبدأ حين نواجه الأسئلة التي نتجنبها: هل نتيح للأشخاص ذوي الإعاقة ظروفًا تمكّنهم من ممارسة حياتهم بكرامة؟ وهل ننظر إليهم بوصفهم أشخاصًا فاعلين قادرين على الإسهام، أم نستسلم لصورة تجعلهم مجرد متلقين للرعاية؟ وهل نصنع حولهم بيئات مرنة تتسع لاختلافهم، أم نتركهم يواجهون يوميًا عالمًا لم يُصغ ليستوعب احتياجاتهم؟

إن هذه الأسئلة تنقل الاحتفال من صورته الشكلية إلى جوهره الفلسفي، من لحظة عابرة إلى لحظة نقدية تعيد تفكيك ما اعتدنا عليه. وهكذا يتحول اليوم العالمي للإعاقة إلى حركة وعي تُراجع لغتنا وتعيد النظر في البنى التي نعيش داخلها وتختبر طرائق استقبالنا للاختلاف.

وعندما نضع الكرامة في مركز الصورة، لا في هامشها، يتكشف لنا أن الإعاقة ليست مسألة قدرة، بل مسألة حق. فكرامة الإنسان لا تُقاس بما ينجزه ولا تُستمد من درجة استقلاله، بل تقوم على حقيقة ثابتة لا تتغير: أن الإنسان، مهما اختلفت إمكاناته، يحمل قيمة غير مشروطة لا يملك أحد أن ينتقص منها. ومن هنا يتخذ الثالث من ديسمبر بُعدًا مختلفًا، إذ يصبح يومًا لإعادة التفكير في الطريقة التي نعرّف بها الإنسان، لا مناسبة نكرر فيها خطابًا عاطفيًا أو صورًا رمزية اعتدنا عليها.

ومع هذا الوعي يتكشف لنا أن قيمة الاحتفال لا تكمن فيما يحدث خلاله، بل فيما يتركه بعده. فما معنى المناسبة إذا لم تطلق أسئلة جديدة أو تفتح بابًا للتحسين؟ وما جدوى الذكرى إذا لم تتحول إلى مراجعة طويلة المدى للواقع الذي نعيش فيه؟ إن الاحتفال من منظور فلسفي يصبح ناقصًا إذا لم يترك أثرًا، ويصبح فارغًا إذا لم يعيد تشكيل رؤيتنا للعالم. ومن هنا يبدو واضحًا أن أي احتفال بهذا اليوم لا يكتمل ما لم يرتبط بممارسات تعيد توجيه معناه.

ويبدأ ذلك من إعادة صياغة لغتنا حول الإعاقة، فاللغة ليست وصفًا للواقع، بل بناءه. ومن ثم يصبح الانتقال من لغة النقص إلى لغة الاختلاف خطوة أولى نحو تغيير الوعي. ويتبع ذلك ضرورة إشراك الأشخاص ذوي الإعاقة في القرارات التي تخصهم، لأن غيابهم عن طاولة الحوار يجعل الاحتفال نفسه معطوبًا، حديثًا عنهم لا معهم. ثم تبرز أهمية التركيز على البيئة لا على الفرد، لأن الإعاقة في كثير من الأحيان ليست صفة للجسد، بل نتيجة لغياب التهيئة في الأماكن التي يعيش الناس ويتحركون داخلها، مما يجعل تغيير هذه البيئة شرطًا رئيسًا لاستعادة قدرة الإنسان المختلف على المشاركة دون عوائق. ومن هذا المنطلق يكشف دمج الفنون والفلسفة في فعاليات هذا اليوم عن بعد إنساني عميق، فالفلسفة توسع الأفق الفكري، والفن يفتح الوجدان، وكلاهما يسهمان في إعادة تشكيل النظرة الاجتماعية للإعاقة بعيدًا عن الصور النمطية.

وعندما يتحول الثالث من ديسمبر إلى بداية فعلية لتحسين الواقع، لا إلى ذكرى تُطوى بانتهاء الفعالية، يصبح الاحتفال ذاته مفتاحًا لبناء رؤى جديدة ولغة جديدة وبيئات إنسانية أكثر عدلًا وانفتاحًا. ومع اتساع هذا الفهم يتبين أن اليوم العالمي للإعاقة ليس ذكرى ولا مناسبة احتفالية، بل فرصة لإعادة بناء نظرتنا للإنسان. فالإعاقة ليست قدرًا ولا صفة ثابتة تُلصق بصاحبها، ولا حالة تستدعي الشفقة أو البطولة، بل شكل من أشكال التنوع الإنساني الذي يكشف هشاشتنا ويذكرنا أننا لا نكتمل إلا ببعضنا، وأن القيمة لا تُقاس بالقدرة بل بالإنسانية نفسها. ومن هنا يصبح الثالث من ديسمبر يومًا لا نحتفل فيه بفئة محددة، بل بقدرتنا نحن على أن نكون أكثر رحابة واتساعًا وإنسانية، يومًا يعيد طرح السؤال الذي يظل في قلب كل تفكير فلسفي: كيف نرى الإنسان حين يختلف؟

***

أ. د. علي محمد عليان الخطيب

أستاذ ورئيس مجلس قسم الفلسفة – كلية الآلاداب- جامعة المنيا

أدت التكنولوجيا الحديثة إلى تغير في القيم الاجتماعية، وهي عنصر من عناصر التغير الذي يشهده العالم اليوم وله تأثير في بنية العمل والمواقف والاتجاهات والقيم الإنسانية لدى أفراد المجتمع والتأثير في الثقافة الموروثة للمجتمعات، وقد أدت ثورة المعلومات والاتصال إلى تبدل في حياة الأفراد، وهي اليوم من أكبر العوامل التي تعقد تشكيل خبرات وثقافة وأذواق وسلوكات الفرد والجماعة، وقد ترتب عن هذه الثورة المعلوماتية حدوث تغير اجتماعي في القيم والمعايير والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية والانفتاح الإعلامي الثقافي الحضاري العالمي بفضل وسائل الإعلام السريعة. والملاحظ في الواقع يكتشف مدى التطور السريع للتكنولوجيا التي لا تعبأ بماهو موجود وكائن من قيم وعادات وأنماط وتقاليد وثقافات. فمن يمتلك القدرة التكنولوجية سوف يملك القدرة أيضا على بث ونشر الرسائل الثقافية بكل ما فيها من قيم يريد نشرها هذا إن كانت قيما، وهو ما يسمى بالغزو الثقافي ويهدد الخصوصية الثقافية (1) تحت مظلة "الانفتاح على الآخر" أو "العصرنة" أو "التقدم". وهو ما جعل الفرد يعيش الاغتراب والعزلة داخل مجتمعه حيث تداخلت أمامه حدود العالم المعيش والعالم الافتراضي الذي تعكسه وسائل التواصل الاجتماعي أو الوسائط، التي غيرت البيئة في مختلف مستوياتها.

فتغيرت الروابط الأسرية الترابية، وضعفت العلاقات الأولية ضمن بيئة تختلف عن الماضي، فأصبح التمسك بثقافة وقيم ومفاهيم أخذت قاعدتها الاجتماعية والمادية والتربوية تتزعزع أمام قوى التكنولوجيا الملحة علينا بالانفتاح بالمعرفة والصورة والصوت فالتغير حاصل رغم النقد والتردد، في بيئة تعج بالشاشات التلفزية والحواسيب والبث الفضائي و"الانترنت'' والهواتف الجوالة وغيرها من الوسائط المختلفة، وهو ما يجعل قيم الأطفال والشباب تتغير بدواعي التحضر والانفتاح، لأن الأداة المستوردة لا تدخل المجتمع مجردة، فهي محيطة بالرموز من الخارج، وغالبا ما تحدث اضطرابا في المجتمع التابع. فمن دون توجيه الأطفال والشباب وترشيدهم فيما يختارونه، أمام هذا الزحف، وهو ما يؤثر على القيم التربوية بتغيير مناهج ووسائل التربية القديمة المحافظة، إلى مناهج متحررة تجعل من الذاتية بديلا عن كل قيمة، صبغت القيم الاجتماعية بتغليب مبدأ التحرر والحرية والانفتاح غير المدروس.

فمظاهر التغير في ضعف التواصل الأسري، وتراجع سلطة الوالدين في السيطرة وضبط السلوك للأبناء وعلاقة الرجل بالمرأة التي كانت تتحدد ضمن النظام الأبوي وهيمنة الكبار على الصغار وضعف قيم الشرف والطاعة والاحتشام والجماعية والتضامن، كلها عناصر أساسية تغيرت بين الماضي والحاضر وتبدو جلية، فالمتأمل في العقود السابقة يرى أن الأسرة كانت تلعب دورا هاما في تكوين مدارك الإنسان وثقافته وتشكيل منظومة القيم لديه، وما يفرزه ذلك من عادات وتقاليد في السلوك، عبر ما يسمى بعملية التنشئة الاجتماعية أما اليوم فإن هذا الدور تقلص وانتقل بشكل كبير إلى العالم الافتراضي والأنترنت وألعاب الفيديو والهواتف المحمولة، وهو يمكننا من القول بأن دور المساهمة في بناء المعرفة والثقافة انتقل من البيئة التقليدية "الملتزمة" بقيم محددة إلى مجتمع آخر افتراضي اتصالي لا يحبذ نفس القيم وليست له نفس المراجع، فقد كان في الماضي الخروج من المنزل بغرض كسب المعارف والتعلم والتفاعل مع المحيط الخارجي لاكتساب الخبرات وبناء الذات وتنمية القدرات والمهارات، أما اليوم فإن البقاء في البيت يتيح لك باقة أخرى من الاختيارات تعلما وتسلية ومتابعة العالم كقرية صغيرة لكنها من نوع اخر.

و من هذا المنطلق يمكن القول أن دراسة القيم في الدراسات الاجتماعية يعتبر محورا مهما للاطلاع على عمق التغير الاجتماعي ودرجاته (2). ويعتبر بعض الدارسين أنها الشرط الأساسي من شروط التغير الاجتماعي. فهي المساعد للتغير والمعيق له في نفس الوقت، وذلك حسب مدى استجابته أو تلاؤمه مع القيم الاجتماعية في إطار المصادر المنتجة لهذه القيم كالعائلة وأنماط المعيشة والدين.

و جدير بنا الإشارة في هذا السياق إلى أنواع القيم التي يمكن للتكنولوجيا أن تؤدي لتغيرها:

- تحدث التكنولوجيا تغيرا في مجال العلاقات الاجتماعية والبنى الفوقية من الإنتاج الفكري والثقافي ويكون كل نتيجة تغير نمط الإنتاج المكون لعلاقات الإنتاج ووسائل الإنتاج. وصنف ماركس القيم ضمن البناء الفوقي إلى جانب الدين والأخلاق، وكشف في تحاليله عن علاقاتها بالبناء التحتي، الذي تشكله قوى وعلاقات الإنتاج المادي، ولكنه لم ينكر الاستقلال النسبي للقيم عن البنية الاقتصادية للمجتمع بحكم امتداد عبر الزمان والمكان. فهي عناصر مترابطة، فكلما تطور الجانب التكنولوجي تغيرت القيم الاجتماعية.

- القيم ذات العلاقة بمصادر الثروة وأدوات الإنتاج ووسائله التكنولوجية التي تعتمد على تقسيم العمل وكثرة الإنتاج والسرعة في الإنجاز.

- القيم المرتبطة بين الوسيلة والغاية، كما هي في التصور العلمي والربط بين تفكير الإنسان وأهدافه وسعيه الدؤوب لتحقيق الأهداف في استغلال الطبيعة والسيطرة عليها أكثر وتعتبر التكنولوجيا وسيلة لتحقيق هذا الهدف.

- القيم ذات العلاقة بإمكانيات الإنسان والتحكم في مصيره كلما ازداد تسلحا بالمعرفة والقيم الروحية، وهي مسؤولية الإنسان في المجتمع وما يحيط به من ظروف وقوى.

- القيم المرتبطة بتلاؤم الإنسان مع البيئة المادية، والتوافق مع الاختراعات العلمية في الميدان التكنولوجي، ومن هذا المنطق فإن التوافق مطلوب بين النمط الثقافي والتنمية المستعملة لأن لكل تقنية تأثير على المستخدم، وهي بذلك مظهر من مظاهر البيئة المادية التي لابد أن يتوافق معها المجتمع. وعندما يعمل الفرد على تغيير محيطه يغير ما بنفسه أيضا. ومن ذلك فإن القيم لا تكون ثابتة، فهي متغيرة وقابلة للتغيير والتطور نتيجة علاقة التفاعل بين الفرد ومحيطه الاجتماعي.

وفي هذا السياق يمكن القول بأن التغيير التكنولوجي يمكن أن ينجر عنه، أزمة قيمية واغتراب ثقافي، خاصة إذا ارتبط بالمجتمعات التقليدية التي هي غير قادرة على الاستفادة من العلوم والتقنية، وإنما تستهلك فقط. فالثورة الكونية في مجال المعلومات والتكنولوجيا، تساهم فيها بالاستهلاك (3).

وجدير بنا الإشارة في هذا السياق إلى أن انتشار النمط الاستهلاكي للتقنية المستوردة في مجتمع تابع لا يقوم بتصنيعها أو إنتاجها يؤدي إلى ازدواجية في مستوى عناصر الثقافة الاجتماعية، جراء تصادم منظومة الثقافة التقليدية ومنظومة الثقافة الحديثة الوافدة التي أنتجت المعايير البضاعية التبادلية والتقنية، الناجم عن الاختلاف في تقبل التحديث جراء تباين المناطق (ريف/حضر)، وتباين وتمايز الفئات الاجتماعية، وجراء عدم التوازن بين التطور الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي. كما أن الثقافة الحديثة ليست فقط عناصر مادية وإنما هي عناصر معنوية تتلاءم والعناصر الأولى، فهما متلازمان، فإذا كان ممكنا استيراد الهاتف الجوال فليس من السهل بل من المستحيل استيراد قيمه وعناصره الرمزية التي أنتج في سياقها، مما يجعل المستخدم في المجتمع المستورد يعيش حالة الاضطراب الناجمة عن ازدواجية القيم ونماذج السلوك، وهو ما يُنتج أزمةَ قيمٍ يصعب حلها لأنها تراكمت وطال أمدها، ثم لأنها تعددت مستوياتها وجوانبها (4).

فالاستهلاك ليس فقط تبعية اقتصادية وتقسيماً عالمياً للعمل وغنىً وفقرا، وإنما هو ثقافي بالأساس، وما التعدد الذي تسببه الأنماط الاستهلاكية أو الازدواجية إلا دليل على ذلك فنجد تقنية مستوردة عالية الجودة التكنولوجية في متناول أفراد المجتمع الذين لا يفقهون طريقة استخدامها أو حتى فتحها وهو ما يؤدي إلى خلق نموذج من الثقافة المهجنة والتابعة مرجعيا وفكريا، وتعتبر التقنية من هذا المنظور مصدر تخلف في ممارستها، نظرا لهدمها لنظام توازن داخلي وفرضها لنمط تحديثي شكلي سطحي وتابع. لكن ذلك لا يعني عدم الاستفادة منها وإنما وجت تطويعها والسيطرة على انزلاقاتها خاصة اليوم أمام تحديات الثورة في مجال الذكاء الاصطناعي وعالم الروبوتية وما له من تداعيات على جوهر انسانية الانسان المبدع الحالم الذات فهل سيستطيع هذا الأخير تحصين نفسه ضد هذا الطوفان الجارف.

***

د. محمد الهادي حاجي - تونس

........................

1- أبو عودة (أنور)، العولمة، الأمركة، وجهان لعملة واحدة، دار الجيل للطباعة والنشر، بيروت 2003، ص321.

2-غيث (محمد عاطف)، التغير الاجتماعي في المجتمع القروي، دار المعارف، القاهرة، 1964، ص 204- 206.

3- الجابري (محمّد عابد)، المسألة الثقافية في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1993، ص 44.

4- عبد الدائم (عبد الله)، "مستقبل الثقافة العربية والتحديات التي تواجهها"، مجلة المستقبل العربي، العدد 260، أكتوبر 2000.

كم هو مؤلم أن يظهر الإنسان أستاذيته للآخرين عندما يوجه انتقاداته، فهو في ظنه يرفع من مكانته ويثبت ذاته أمام الآخرين، لكنه في الحقيقة يولد نفوراً داخلياً ومقاومة صامتة عند من يتلقى هذه الملاحظات، وقد تتحول الكلمة التي يقصد بها الإصلاح إلى مصدر ضغوط نفسية أو شعور بالنقص والدونية. حين يكشف الإنسان أخطاء الآخرين أمام الجماعة ويبرز ضعفهم، يشعر بالنشوة على حساب الآخرين، فتفقد ملاحظاته التأثير الإيجابي ولا تبني احتراماً أو ثقة متبادلة، بل على العكس، تجعل الشخص المستهدف مقاوماً للتوجيه ويحتفظ بما في صدره من انفعال وغضب قد يظهر في السلوكيات اليومية أو الانعزال النفسي، وقد يتحول النقد المباشر إلى بركان صامت يخلق بيئة مشحونة بالعدائية أو الانسحاب.

أما الشخص الذي يتصرف بحكمة ويراعي مشاعر الآخرين في أسلوبه، ويهذب كلماته ويتصرف بلطف، فيتمكن من تحويل أي ملاحظة إلى فرصة للتطوير والنمو وزرع الثقة والاحترام المتبادل، فيصبح مصدر إلهام وتأثير إيجابي، فتلامس كلماته قلوب الآخرين وتترك أثراً في نفوسهم وسلوكهم وتفكيرهم. هذا الشخص لا يهدف إلى إظهار تفوقه أو رفع ذاته على حساب الآخرين، بل يحرص على الحفاظ على كرامتهم، ويقدم النقد بطريقة تراعي مشاعرهم، فتجعلهم يشعرون بالراحة والاحترام والاعتبار، ويصبح نقده محفزاً للتعلم والتغيير، لا سبباً للرفض أو الاحتقان النفسي.

إن الفرق بين أسلوب الصرامة والوعظ المباشر وأسلوب الحكمة والتوجيه اللطيف واضح في جميع جوانب الحياة. ففي بيئة العمل، المدير الذي يوبخ موظفاً أمام زملائه يخلق جواً مشحوناً بالقلق والخوف وفقدان الثقة، وقد يؤدي ذلك إلى ضعف الأداء أو مقاومة التعليمات ورفضها، بينما القائد الذي يلتقي بالموظف بشكل خاص يبدأ بالتقدير والثناء على جهوده ثم يقدم الملاحظة بطريقة لطيفة وبناءة، فيصبح الموظف أكثر استعداداً لتقبل النقد والتغيير، ويزيد التفاعل الإيجابي، ويتحول النقد إلى أداة للتطوير وتحسين الأداء دون فقدان احترام الذات أو الاحترام المتبادل. فشتان ما بين مدير يحرِج موظفيه ويحاسبهم وهو يرفع سلطته عليهم، فيفقد احترامهم ويتعامل مع سلوكهم من زاوية سلبية لا ترى النور، بل تقبع في ظلامٍ دامس؛ وبين قائد يحترم الكرامة الشخصية، ويبني ويطور وفق رؤية قيمية وأخلاقيات عمل راقية ترتقي بالفعل والممارسة الإيجابية والمهذبة. فالأول يزرع النفور ويضعف الانتماء، أما الثاني فيلقى القبول، ويغرس الثقة، ويحسن الأداء، وينمي الولاء الحقيقي ويثري جودة العمل ومنظومة الفاعلين فيه.

أما في التعليم والتدريب، فالمعلم الذي يوبخ المتعلم والمشارك أمام زملائه قد يشعره بالإحراج ويولد شعوراً بالنقص، وربما يصبح مقاوِماً للتعلم واكتساب المهارات أو يظهر سلوكيات مضادة بسبب الإحساس بالإهانة والتعدي على كرامته، بينما المعلم والمدرب الذي يختار أسلوباً لبقاً ولطيفاً ويشرح لطالب العلم والمتدرب ما ينبغي فعله مع تشجيع دائم على تطوير مهاراته، يخلق بيئة تعليمية وتدريبية آمنة ويساعد المتعلم على التعلم بثقة وراحة، فيصبح النقد أداة للتوجيه وليس سبباً للعصبية أو النفور. وفي الحياة اليومية، الصديق الذي يسخر من صديقه أمام الآخرين قد يخسر احترامه ومودته، بينما الآخر الذي يعالج الأخطاء بلطف ويقترح حلولاً عملية، يصبح مصدر دعم وتأثير إيجابي، ويخلق جواً من الثقة والمحبة، فتصبح الملاحظات فرصة للنمو والتعلم، وليس أداة للتحقير أو الإحباط أو التقليل من شأن الآخرين.

لقد جاء الإسلام ليعلمنا هذا الأسلوب في التعامل مع الآخرين، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان قدوة في تقديم الموعظة بالحكمة واللين، وقد قال في الحديث الشريف: "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا" [رواه البخاري ومسلم]، وهذا يعكس أسلوب التوجيه العام بدون إساءة أو تحقير ويعطي مثالاً عملياً على كيفية تقديم الموعظة بطريقة تراعي مشاعر الناس وتحث على الإصلاح دون إثارة النفور أو الانفعال. كما جاء في القرآن الكريم: " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" [آل عمران: 159]، وهذه الآية الكريمة تؤكد أن الفظاظة والغليظة تؤدي إلى النفور، بينما الرحمة واللين والرفق يجلب القبول والتأثير الإيجابي في نفوس الآخرين، ويجعل الإنسان محبوباً وفاعلاً في مجتمعه ومؤثراً بطريقة لطيفة وبناءة.

إن فن التأثير الحقيقي لا يكمن في إظهار الأستاذية أو رفع الذات على حساب الآخرين، بل في الحكمة واللين والرحمة عند تقديم الملاحظات والنقد. الشخص الحكيم يوازن بين الصراحة والمراعاة وبين الصرامة والرحمة، ويحول النقد إلى فرصة للتطوير والتحسين بدلاً من أن يكون سبباً للرفض أو النفور. ويظهر ذلك جليًا في قدرته على التفاعل مع مختلف الشخصيات، فالذي يتقن فن التوجيه باللين يجعل كل كلمة تصل إلى القلب وتترك أثراً إيجابياً، بينما من يستخدم أسلوب الصرامة والعناد يثير مقاومة داخلية ويولد جواً من النفور والانعزال النفسي. في النهاية، الحكمة واللين ليست ضعفاً بل هي قوة حقيقية في التأثير وبناء العلاقات الإيجابية، مما يجعل التأثير دائماً مستداماً ويعكس شخصية متزنة وقادرة على التغيير الإيجابي في الآخرين.

***

د. أكرم عثمان

3-12-2025

قراءة في ندوة تلمسان.. وسؤال الفكرة الدينية عند مالك بن نبي في البناء الحضاري

هناك دعوات لإرجاع دراسات مالك بن نبي إلى أصلها باعتبارها المحرك الأساسي للعناصر الثلاثة  التي تتشكل منها العقيدة، (الحضارة = الإنسان + التراب + الوقت) وذلك  من خلال التحليل العلمي العميق، ويُعتبر مالك بن نبي من أبرز مفكري القرن العشرين في مجال التأصيل، حيث  يُركّز في تأصيله على أن المشكلة الحضارية التي تكمن في "مشكلة الإنسان، يقول الدكتور مولاي السعيد أنه حان الوقت لإيصال فكر مالك بن نبي إلى الشباب  وربط الأفكار الحضارية بالفكرة الدينية وهذا هو التأصيل في نظره هو، فمأسسة الحضارة في المفهوم البنّابي لا يمكن أن تتحقق بدون  الفكرة الدينية  ولذا لابد من تعميق فكر بن نبي  في الدراسات الاستشرافية

يعدُّ التواصل بين الأجيال الخيط الرفيع الذي يربط الفكر البنّابي بالجيل المعاصر في زمن التكتلات، باعتباره (أي التواصل) امتدادا للفكر الحضاري الذي كرّس مالك بن نبي له حياته للنهوض بالعالم الإسلامي، وإخراجه من دائرة التخلف، كانت هذه رؤية فلسفية طرحها أكاديميون تخرجوا من مدرسة مالك بن نبي وهم يتناولون إشكالية معقدة تتعلق بمركزية الدين في فكر مالك بن نبي للرد على دعاة الحضارة والفلاسفة الذين حاولوا تعريف الحضارة في جانبها المادي لا الروحي، بأن مأسسة الحضارة في المفهوم البنّابي لا يمكن أن تتحقق بدون  الفكرة الدينية وهو ما أشار إليه الدكتور عبد الحفيظ بورديم، في "ندوة دار الحديث بتلمسان" نظمها الكرسي العلمي مالك بن نبي للدراسات الحضارية بإشراف من رئيس مشروع الكرسي العلمي الأستاذ عبد اللطيف سيفاوي، ذلك  بالشراكة مع مؤسسة آفاق للدراسات والتدريب وجمعية  "دار الحديث" للتربية والثقافة والعلم،  وكما هو معلوم فدار الحديث أسسها الشيخ البشير الإبراهيمي الرئيس الأسبق لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في تلمسان لمواجهة المد الإستشراقي في الجزائر أيام الاحتلال الفرنسي ومشروعه في  محاربة الإسلام وطمس الهوية العربية الإسلامية للجزائريين.

فمالك بن نبي كان روحاني، حيث ارتكزت أفكاره على الدين، وهذه الروح يقول الدكتور عمار طالبي رئيس الكرسي العلمي مالك بن نبي للدراسات الحضارية  تدفعه إلى العمل  فتحركه لتغيير التاريخ، فالدين هو الأصل الجوهري الذي يغذي وينمي الحضارة،  لكن مالك بن نبي جعل من الحضارة الإسلامية النموذج محاولا إقناع بها الناس، لارتباطها بالهوية، فالنصوص الدينية وحدها التي تحدد هوية الفرد والجماعة التي ينتمي إليها وتحدد أبعادها التاريخية والمستقبلية، وماهي الأثار التي تخلفها العولمة وكذلك الحداثة، فمن وجهة نظر الدكتور عكاشة شايف، فإن "الهوية" كمحرك، تعمل على ترسيم القومية ضمن منطق رأسمال فكري، صناعي وإنساني وهذا يقتضي إعادة النظر في فكرة "القومية" من خلال التراث الجماعي القديم، لمواجهة الحركات التي تطالب بالقضاء على الدين، والبحث عن مخرج لتحرير الإنسان من كل القيود الدينية، التي أدخلت الإنسان في مرحلة تحوّل وانقلاب المقاييس في فهم الأمور  ومعالجتها، فما من شك أن ما كان للحضارة الإسلامية أن توجد وتسود بدون الفكرة الدينية، وهي الفكرة التي عالجها مالك بن نبي في كتابه الظاهرة القرآنية، يقول الدكتور عكاشة شايف أن الهوية الروحية لا يقيّدها مكان ولا زمان وهو ما جاءت به الرسالة المحمدية، التي منها دأب المفكرون  والفلاسفة ورجال الدين أن يحددوا العلاقة الجدلية بين المعنى الديني لهوية الامّة ومعناها الاجتماعي التاريخي في التكوين النفسي والثقافي، ومعرفة كذلك سبب تأخر المسلمين في الوقت الذي تقدم فيه غيرهم ( الغرب)، فمالك بن نبي كما يقول الشيخ آيت سالم بن يونس رغم أنه  لمّا التقى مالك بن نبي بالشيخ عبد الحميد ابن باديس والبشير الإبراهيمي في المدينة المنورة عام 1913، درسوا الواقع الجزائري، كان له تصور ابن باديس والشيخ البشير الإبراهيم، لكنه لم يتكلم عن الإصلاح  بقدر ما تحدث عن الحضارة وشروط بنائها، واضعا بذلك مشروعا ثقافيا نهضويا، ولعل نقطة التقاطع الكبرى بين بن نبي والإمامين ي أن الثلاثة ركزوا على  "الإنسان" باعتباره العنصر المحوري في كل عملية نهضوية وبناء حضاري، إلا أن مالك بن نبي انتهج مسلكا يختلف عن الشيخ الإبراهيمي، فالإبراهيمي  خصّ في كل خطبه  أن تحرير الإنسان يسبق تحرير الأوطان، أما مالك بن نبي  كان همّه ما آل إليه أمر الأمّة العربية والإسلامية، وهو ما يؤكد أن الدين كان حاضرا بقوة في مشروع مالك بن نبي الحضاري، وقد ظهرت بذور هذا المشروع في كتبه التي أصدرها،على غرار الفكرة الأفريقية الأسيوية ومشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، القضايا الكبرى، حيث أولى عناية خاصة في بناء الحضارة بالجانب الكوني والهدائي.

و هنا نقف على السؤال الذي طرحه الدكتور عبد الحفيظ بورديم الذي نشّط الندوة حول القابلية للاستعمار عند القوميّين، وهل سببها نقص التديّن؟  وسؤال آخر: هل فهمنا مالك بن نبي؟ هو سؤال لم يتطرق إليه المفكرون والباحثون، ويحتاج إلى تسليط عليه الضوء ووضعه في مخبر البحث الفلسفي والتاريخي، فمالك بن نبي ذهب إلى أبعد من ذلك وهو يضع علم الاجتماع الاستعماري من خلال تكوين الإنسان، وهذه كما يقول الدكتور ماحي ثابت تتطلب  قراءة جديدة القرآن ودمج علوم  إضافية كالمناجمنت، مشيرا أن المعادلة التي وضعها مالك بن نبي (الحضارة = إنسان+ تراب+ وقت) لم تخضع إلى التطبيق ميدانيا في المجتمع الجزائري ( كعينة) وكأن مالك بن نبي مخفي عن الأنظار،  أراد ماحي ثابت القول أن هناك  من شيّد "جدار" يمنع المهتمين بفكر بن نبي  من تطبيق فكره وتوظيفه ميدانيا، وهو سؤال يُطرح على مستوى الدولة، وعلى ما يبدو فإن المشكلة المطروحة هي كيف نُحوّل فكر مالك بن نبي إلى ثقافة، أي بناء إنسان قادر على إنتاج الأفكار، وبالتالي يكون مُحَرِّكًا للحضارة، يلاحظ أن الدكتور ماحي أول من يدعو إلى إنشاء مدرسة خاصة بفكر مالك بن نبي، وإنشاء مشاريع اجتماعية، ثقافية، نهضوية، طالما  المجتمع هو أساس النهضة والمشكلة هي كيف نحرك المجتمع؟ وكيف نوصل فكر مالك بن نبي للشبيبة؟

سؤال يجيب عليه الدكتور هشام شراد عضو المجلس العلمي للكرسي العلمي، إذ يرى أن المشكلة الحضارية مرتبطة بالنهضة،  لكن مُعَوِّقَات كانت ولا تزال نشكل  حائط/ جدار  يفصل فكر مالك بن نبي عن المجتمع، خاصة الشباب، ففكر مالك بن نبي حسبه لا يزال  يدور في فضاء التأملات ولم تكن هناك  الجرأة لإخضاع  مفاهيم مالك بن نبي للتحليل والنقاش الفكري المثمر، خاصة وأن بن نبي كان يدعو إلى الانتقال من الفكرة إلى الفعل، هي رؤية نقدية للباحثين الأكاديميين الذي ركنوا إلى السلبية في طرح القضايا التي كان مالك بن نبي يطرحها  بجرأة  من أجل التغيير، لاسيما الأفكار والمفاهيم القابلة للقياس (المنطق)، فظلت أفكاره مجرد شعارات أو تأملات، بحيث لا أحد وضع معامل للتحول الحضاري، يعود ذلك إلى غياب الدراسات لمعرفة مدى فاعلية الإنسان، وكم من الباحثين الذي يهملون جوهعر القضايا ويهتمون بقشورها.

***

علجية عيش

 

تتنوع العلوم والفنون والآداب وتتعدد فيما بينها باختلاف مناهجها وموضوعاتها وفلسفتها، من علم إلى آخر، وهذا ما يعني وجود استقلالية وخصوصية لكل تخصص علمي أو معرفي ما في شتى أصناف المعارف والعلوم، سواء الدينية منها أو العقلية، والانسانية منها أو العلوم الصرفة، وقد تناول المفكرين والفلاسفة والباحثين في كتاباتهم تلك المسألة، وذلك التقسيم، وبيان تلك الخصوصية لأهمية التخصصات العلمية، كما فعل الفارابي مثلاً في كتابه (إحصاء العلوم) حين تناول أصناف العلوم البشرية وعرض لتصنيفها وتعريفها وبيان غرضها وأهميتها، أو كما جمعها محمد عابد الجابري في علوم (بيانية وبرهانية وعرفانية)، وفقاً لاشتغالات الدارسين والباحثين، وهذا إن دل على شيء فانما يدل على خصوصية التخصص العلمي وأستقلاليته، وقد أكد الفلاسفة والعلماء على أهمية احترام مبدأ التخصص في كل مجال علمي ومعرفي، وضرورة أن يتقيد الدارس والعالم والمشتغل في مجال تخصصه وأدواته المعرفية الخاصة به، كي لا يشتت نظره ويتعب نفسه في مجالات متعددة من العلوم والفنون، وقد أتجهت العلوم منذ عصر النهضة الغربية الحديثة نحو استقلالية العلوم والعمل على فصلها من الفلسفة، وفك التعالق فيما بينها وبين أمها، والعمل على خصخصة العلوم وتخصصها الدقيق، كي يعي كل مشتغل في تخصصه أهمية تخصصه ويجتهد في بذل الجهد في تحقيق المزيد من المعرفة في مجال اشتغاله العلمي المحدد، ويخلص في الوصول لنتائج دقيقة ونافعة في ذلك التخصص، خدمة للعلم والمختصين في تحقيق نفع أعظم من التنوعات المعرفية التي يبتلى بها البعض من الدارسين والباحثين في تنوع تخصصاتهم الفكرية والعلمية، مما يشتت جهوده ويضيع وقته ويجهد نفسه في اشتغاله في أكثر من تخصص أو مجال ويضيع علينا متعة التخصص في ذلك الحال.

يرى الفارابي إن على العالم والباحث والدارس أن يحترم تخصصه وأن يسعى في ذلك، لأشباعه بحثاً ودراسة ومعرفة، وهو ما تتجه أليه المناهج العلمية الحديثة في التربية والتعليم، كما إنه أكد على ضرورة تحقيق العدالة في التخصصات العلمية، وهي أن يعطي ويبذل الدارس والمختص في مجال علمي ما نفس الجهد والاهتمام لتخصصه الآخر، الذي يرغب في تحصيله، كي لا يكون هنالك خلط بين العلوم والتخصصات وتفقد قيمتها وتتشابك النتائج، المدخلات والمخرجات، كما يسميها محمد عابد الجابري بـ(التداخل التلفيقي) بين العلوم ومناهجها واشتغالاتها، مثلاً حين يدخل الفقيه مجال الفلسفة بمنهجه الديني فتطغى عليه صبغة الفقه، أو حين يدخل الفيلسوف بمنهجه العقلي مجال الفقه فيفلسفه، أو حين يدخل العالم مجال الأدب والبيان فيضيع علينا متعة السحر والأدب حين يفرض منهجيات جامدة ذات صبغة علمية على كل ما هو عاطفي، أو حين يدخل الاديب مجالات علمية ذات توجه عقلي ورياضي فنفقد متعة أدبه وبيانه بإضاعاتها في مجال غير مجال تخصصه، لا بأس في التثاقف والتنوع الفكري ولكن ليس من باب التخصص الدقيق الذي يحاول الشخص أن يفرض نفسه في تخصص علمي ثانوي طارىء عليه.

سؤل مرة أحد الأساتذة الجامعيين عن رأيه في أستاذ جامعي وفي تخصصه العلمي ومشروعه الفكري، كشهادة علمية وثقافية في تلك الشخصية، فذكر الأول عن الثاني كلاماً طيباً ومحترماً في ثقافته وفكره ولكنه قال في نهاية شهادته إنه حرمنا من متعة التخصص، مما كان سبباً في انزعاج الثاني من تلك الشهادة ومن قائلها، وما قاله الاستاذ الأول كلام دقيق جداً، لتنوعات الاستاذ الدكتور الثاني في مجالات فكرية وثقافية وفلسفية متعددة، فهو يصول ويجول في كافة مجالات المعرفة والفلسفة والبحث العلمي دون أن يحدد بوصلة طريقه، وهذا صراحة عمل يرهق العقل ويضيع الوقت وبالتالي لا نجد لمسة علمية خاصة تسجل له على تخصص علمي محدد بعينه، وهذا ما نخشاه على الباحثين والعلوم من ضياع تلك المتعة والقيمة في خوض غمار التخصصات المتنوعة.

احترام التخصص أمر لا بد منه ينبغي على الاستاذ والباحث الالتزام به كي يعي أكثر في ممارسة تخصصه ويلم في كافة جوانبه بصورة دقيقة، وهذا يصب في صالح الدارس وتخصصه العلمي والمعرفي، كي يصبح مجتهداً ومرجعاً يتم العودة اليه في مجاله الدقيق، وهو ما أتجهت اليه الجامعات والمجتمعات المعرفية الحديثة في حصر تخصصاتها العلمية في مجالات دقيقة جداً، فقد مضى زمن التنوعات العلمية والمثقف الموسوعي الشامل، الذي يضيع في تخصصات كثيرة ولا يتقن تخصصاً دقيقاً معيناً بعينه، فقد نشاهد على شاشات التلفاز والفضائيات والندوات واللقاءات شخصيات أكاديمية تخوض في مجالات مختلفة غير مجال تخصصها العلمي ويفكر وينظّر خارج تخصصه، فقد نجد رجل دين يناقش في السياسة، وسياسي يناقش في الدين، واستاذا جامعياً يأخذ دور رجل الدين، وفناناً يعمل محللاً سياسياً، وهكذا نجد تلك التنوعات في الممارسات الثقافية الأخرى، فهل وصل بنا الأمر لأستسهال تلك المجالات أم لسطوع نجمها الاعلامي، أم هناك غايات أخرى يتوجه لها الأشخاص، فما أحوجنا الى أحترام تخصصنا العلمي الدقيق، كي نكسب متعة التخصص وسلامة نتائجه العلمية وتحقيق تنمية أكبر، وهو ما تسير عليه مجتمعات المعرفة اليوم.            

***

د. رائد جبار كاظم

 

تمهيد: تعيش المجتمعات الإسلاميّة اليوم شأنها شأن العديد من المجتمعات العالميّة، أزمة أخلاقيّة متعدّدة الأوجه تتجلى في تراجع القيم، وتفشّي الفساد، وتزايد النّزاعات، وتأثير العولمة على الهويّة الثّقافية والدّينية.

هذه الأزمة ليست مجرد ظاهرة سطحيّة، بل هي نتاج تفاعلات معقّدة بين عوامل داخليّة وأخرى خارجية تستدعي تحليلا عميقا لفهم جذورها وسبل معالجتها.

إنّ الوضعيّة الأخلاقيّة التّي تعيشها الإنسانيّة في العالم الغربي منذ ستّينيات القرن الماضي، وخاصّة في مرحلة ما بعد حركة الحقوق المدنيّة التّي ظهرت في الولايات المتّحدة سنة 1964م، هي وضعيّة أزمة من منظور غربي، لكن من منظور الأخلاق الإسلاميّة التّقليدية لا يمكن الاكتفاء بهذا التّوصيف؛ ذلك لأنّ الأزمة كظاهرة حديثة - كما يعبِّر عنها بول ريكور- " تشير إلى انقطاع بين توازن ناشئ وتوازن سابق آخذ في الانهيار، وعلى هذا النحو، يجري الحديث عن أزمة المراهقة".[1]

فكيف يمكن فهم وتحديد طبيعة الأزمة الأخلاقيّة التّي تمر بها المجتمعات الإسلاميّة اليوم، مع الأخذ بعين الاعتبار التّفاعلات المعقّدة بين العوامل الدّاخليّة والخارجيّة؟

وكيف يمكن للأخلاق الإسلاميّة التّقليديّة أن تقدّم إطارا تحليليّا وتوجيهيّا لمعالجة هذه الأزمة، خاصّة في ظلّ التّحديّات التّي تفرضها العولمة وتراجع القيم مقارنة بالمنظور الغربي للأزمة الأخلاقيّة؟

مفهوم الأخلاق في الفكر الإسلامي:

تتميز الأخلاق في الفكر الإسلامي بكونها جزءاً لا يتجزأ من الدّين، وليست مجرد قواعد سلوكيّة منفصلة، فهي ترتكز على مبادئ إلهية متعالية، تهدف إلى تحقيق كمال الإنسان وسعادته في الدّنيا والآخرة.

وقد أولى الفكر السّياسي الإسلامي، عبر فروعه المختلفة كالفقه السّياسي والفلسفة السّياسية وأدب نصيحة الحاكم، أهميّة قصوى للأخلاق، واعتبرها ركنا أساسيّا في بناء الدّولة الصّالحة والحاكم العادل.

المصدر الروحي للأخلاق الإسلامية:

يرى المفكّرون التّقليديون، مثل سيد حسين نصر ورينيه غينون، أنّ الأخلاق الإسلاميّة تستمد قوّتها وحيويتها من مصدر روحي متّصل بالحكمة المتعالية، التّي تتجاوز العقل الاستدلالي وحده، هذه الحكمة التّي يسميها نصر "الحكمة البدائية" أو "الحكمة المتعالية"، هي معرفة مقدسة تربط الإنسان بالذكاء المطلق الإلهي، فالسّعادة من هذا المنظور هي سعادة قصوى مرتبطة بالآخرة، ولا يمكن تحقيقها إلاّ من خلال الاتصال بهذه الحكمة السامية[2].

على النّقيض من ذلك، يرى الفارابي أنّ السّعادة يمكن تحقيقها من خلال "العلم المدني" الذّي يجمع العلوم العقليّة ويكون الملاذ لتحقيق السّعادة داخل المدينة الفاضلة، ومع ذلك، فإنّ المنظور التّقليدي يؤكّد أنّ الأخلاق الإسلاميّة لا يمكن أن تجد مصادر قوّتها الرّوحيّة إلا داخل الحضارة التّقليديّة التّي تقوم على مبادئ ثابتة ومتعالية.

الأزمة الأخلاقيّة في الدّول الإسلاميّة: مظاهر وتحدّيّات

تتعدد مظاهر الأزمة الأخلاقيّة في الدّول الإسلاميّة وتتداخل أسبابها، لتشكّل تحدّيا كبيرا أمام بناء مجتمعات مستقيمة ومزدهرة:

تراجع القيم الأخلاقية في السّياسة:

يشير العديد من المفكرين إلى أنّ السّياسة في الإسلام تمثّل حركة أخلاقيّة تهدف إلى بناء مجتمع قائم على قيم الحقّ والفضيلة والعدل والمساواة، ومع ذلك، فإنّ الواقع السّياسي في العديد من الدّول الإسلاميّة يعكس توجّها مختلفا، حيث تركز التّصورات السّياسية الحديثة على المصالح الآنيّة والدّنيويّة، متجاهلة الأبعاد المعنويّة والرّوحية للإنسان، وهذا الإهمال لم يقتصر على الفلسفة السّياسيّة بل امتد ليشمل الإنسان نفسه، الذّي يُنظر إليه ككائن مادّي فقط، ممّا أدّى إلى تلوث أخلاقي في العمل السّياسي.

فمختلف الأحزاب والحركات خاصّة تلك التّي ادّعت بكونها إسلامية ونسبت إليها هذه الصّفة، بعد انخراطها في العمل السّياسي لجأت في كثير من الأحيان إلى الأساليب البراغماتية المرتبطة بالسّياسة التّقليدية، ممّا أدّى إلى تفاقم الأزمات وتشويه صورة الدّول الإسلاميّة، ففي البداية ترفع شعارات الحرّيّة والتّعدّديّة، ولكن بمجرد الوصول إلى السّلطة تسلك جلّ هذه الأحزاب مسارا يناقض تماما ما كانت تدعو إليه، وتظهر سلوكيّات استبدادية لا تحترم حقوق الإنسان التّي نصّ عليها النّص الإسلامي.

تأثير الحداثة والعولمة:

لقد أدّت الحداثة وما صاحبها من انفصال بين الأخلاق والسّياسة، إلى ظهور براغماتية تسعى إلى المصلحة لا الفضيلة، والقوّة لا السّعادة، هذا التّطور أثّر بشكل كبير على الفكر السّياسي الذّي استمرّ في التّأكيد على الأخلاق كجزء لا يتجزأ من السّياسة، ولكن واجه صعوبة في التّوفيق بين هذه المبادئ ومتطلّبات الواقع السّياسي المعاصر.

كما فرضت العولمة على الثّقافات التّقليدية نمطا دفاعيّا من التّفكير، حيث تدافع الثّقافات عن خصوصيّتها أمام برامج الإصلاح والتّنمية، ومع ذلك، فإنّ المنظور التّقليدي يرى أنّ الحضارة الإسلاميّة يجب أن تقدّم نموذجا حضاريّا شاملا، يتجاوز الطور الدّفاعي، ويقدم بديلا وحلاّ لمشكلات الحضارة المعاصرة.

تفكّك الأسرة وتزايد الإلحاد:

تعتبر الأسرة النّواة الأساسيّة للمجتمع في المنظور الإسلامي، وتفكّكها يؤدّي إلى أزمة أخلاقيّة عميقة، ففي الغرب أدّت الفرديّة المفرطة وتراجع القيم الدّينية إلى تفكك نظام الأسرة، وتزايد نسبة المواليد خارج إطار الزّواج، وتغيّر مفهوم الأسرة ليشمل أشكالا غير تقليديّة، وبالتّالي فهذه الظّواهر التّي بدأت تتسرّب إلى المجتمعات الإسلاميّة تهدد استقرارها وتماسكها الأخلاقي بشكل مباشر وعميق.

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ تزايد نسب الإلحاد واللاأدرية، خاصة بين الأجيال الشّابة، يمثّل تحدّيا كبيرا للمجتمعات الإسلاميّة، فالحضارة الغربيّة شجّعت اتجاه اللاأدرية وانتشرت نظريّات التّطور والعلمانيّة والوضعيّة الماديّة، ممّا أثر على الإيمان الدّيني.

أزمة الهوية والمثلية:

تتأثّر المجتمعات الإسلاميّة أيضا بتزايد ظواهر المثليّة واضطرابات الهويّة، التّي تروّج لها تيّارات ما بعد الحداثة، هذه الظّواهر الخطيرة والغير سويّة والتّي تركز على الفرديّة المطلقة وتحرير الرّغبات، تتعارض مع القيم الأخلاقيّة الإسلاميّة التّي تؤكد على التّوازن بين الرّوح والمادّة، وتهذيب السّلوك.

سبل المعالجة:

لمواجهة هذه الأزمة الأخلاقيّة، يتطلّب الأمر مقاربة شاملة تستند إلى المبادئ الإسلاميّة الأصيلة، وتستفيد من التّجارب الإنسانيّة النّاجحة:

إعادة ترسيخ الأخلاق في العمل السّياسي:

إنّ إعادة ترسيخ الأخلاق كركيزة أساسيّة للعمل السّياسي أمر لا بدّ منه، وهذا يعني تجاوز البراغماتية والمصالح الضّيقة، والالتزام بقيم العدل والإنصاف والحريّة والمساواة، والدّفاع عن سيادة الأمّة وكرامتها، فالسّياسة في المنظور الإسلامي هي إدارة الشّأن العام بما يحقّق خير النّاس ومصلحتهم، ولا يمكن أن تكون منفصلة عن الأخلاق.

بناء حضارة بديلة قائمة على الحكمة التّقليديّة:

يقترح المفكرون التقليديون، مثل سيّد حسين نصر ورينيه غينون، بناء حضارة بديلة عن الحضارة الحديثة تقوم على "الرّؤية التّقليدية الجديدة" أو "ما بعد الديكولونيالية"[3] ، هذه الحضارة التّي يسمّيها نصر "التّقليديّة" أو "المنظور الحكمي التّقليدي" ترتكز على الحكمة الدّائمة المطلقة التّي تربط الإنسان بالذّكاء المطلق المتعالي، فالحضارة التّقليديّة في هذا المنظور هي حضارة روحانيّة بامتياز تعتمد على التّجديد العمودي المتسامي للحفاظ على استمراريّة التّقليد.

تقوية بنية الأسرة والمجتمع:

تعتبر العائلة وخاصة العائلة الممتدة، حصنا ضدّ النّزعات الفرديّة التّي تسعى إلى تجريد الفرد من كل منابع الحماية، ما يفرض على المجتمعات الإسلاميّة أن تعمل على تقوية بنية الأسرة وترسيخ قيم التّربية الرّوحية والأخلاقيّة، التّي تحفظ للإنسان التّوازن بين العوامل الدّاخلية الرّوحية والخارجيّة المادّية.

مواجهة الغزو الفكري والثقافي:

يجب على المجتمعات الإسلاميّة أن تواجه الغزو الفكري والثّقافي الذّي يهدف إلى تفكيك الأسرة وتغيير مفهوم الإنسان، ونشر الإلحاد والمثلية، وهذا يتطلّب إعادة صياغة المرتكز العقائدي الخاص بالعدل الإلهي، والتّركيز على النّظرة القرآنيّة لمفهوم التّوحيد الإلهي، وأنّ الأخلاق لا يمكنها الاستقلال عن الدّين والنّظرة الدّينية.

التّعليم والتّربية الرّوحيّة:

يعدّ التّعليم والتّربية الرّوحيّة أدوات أساسيّة لمواجهة الأزمة الأخلاقيّة، بالتّالي يجب أن يركّز التّعليم على تبجيل الحكمة المتعالية، وتقديمها على الوجه الذّي يثبت تماسكها وصلابتها واستمراريّة حقيقتها، فالأمّة الرّوحية في الإسلام هي التّي تحافظ على التّراث وتكسر الحواجز التّي تضعها المتاحف، وهي الحصن الأوّل أمام كل رؤية متحفيّة تريد أن تحصر امتداد تراث ما، في حقبة تاريخيّة بعينها.

خلاصة:

إنّ الأزمة الأخلاقيّة في الدّول الإسلاميّة هي أزمة معقّدة ومتعدّدة الأبعاد تتطلّب مقاربة شاملة تستند إلى المبادئ الإسلاميّة الأصيلة، وتستفيد من التّجارب الإنسانيّة النّاجحة، فمن خلال إعادة ترسيخ الأخلاق في الحياة السّياسة، وبناء حضارة بديلة قائمة على الحكمة التّقليديّة، وتقوية بنية الأسرة والمجتمع، ومواجهة الغزو الفكري والثّقافي، والتّركيز على التّعليم والتّربية الرّوحية، يمكن للمجتمعات الإسلاميّة أن تتجاوز هذه الأزمة وتبني مستقبلا جديدا بجيل جديد قوامه العدل والمساواة.

***

د. سلوى بنأحمـــــد

............................

[1] Erik H. Erikson, Adolescence et crise: La quête de l’identité, Joseph Nass & Claude Louis–Combet (trad.), Collection: Champs essais, 60 (Paris: Flammarion, 1972).

[2]  نصر، السّيّد حسين، ما هي الحكمة المتعالية؟، ترجمة فاطمة محمّد زراقط، مجلّة المحجّة العدد 28، شتاء- ربيع 2014، ص8.

[3] Seyyed Hossein Nasr, Knowledge And The Sacred )New York , USA State University Of New York, Press 1989  (P66.

كان الهدف من إنشاء الذكاء الإصطناعي في البداية هو خدمة البشروتسهيل حياتهم، والسعي الى تسهيل التواصل الإجتماعي، من خلال تيسير طرق الإتصال والتواصل بين البشر، والعمل على تيسير سُبل الوصول الى الأهل والأصدقاء، وزملاء العمل، الذين يحتاجون الى برامج ذكية تؤمن سرعة التواصل في أي وقت وأي مكان في العالم، بالإضافة الى تكلفة إقتصادية أقل مقارنة بطرق التواصل و الإتصال في الماضي، ولقد كان هذا الهدف في البداية هدفاً نبيلاً وسامياً،  حيث كان يأمل العلماء من خلاله دعم التواصل الإجتماعي، وتوطيد العلاقات الإنسانية، وأن تساعد تطبيقات التواصل الإجتماعي الأهل والأصدقاء، والأفراد والجماعات، على التواصل الإجتماعي، والعلمي أيضاً، لكن وبمرور الوقت أصبحت هذه الأدوات والتطبيقات الذكية هي ذاتها سبب عزلة الإنسان، و شعوره بالوحدة في المجتمع المعاصر.

في عالم اليوم، وبعد حصول التقدم التكنولوجي الهائل والسريع، أصبح الذكاء الإصطناعي جزءاً لا يتجزأ من حياتنا، بل يمكن القول أنه أصبح الجزء الأهم في حياتنا، حيث تسلل الى كل جانب من جوانب الحياة، مُتخذاً أشكالاً ومواصفات وقدرات مختلفة، فأصبحنا نشاهد روبوتات محادثة لديها قدرة وكفاءة في التواصل مع الإنسان، والتفاعل مع أفكاره ومشاعره، الى درجة أنه أصبح في عزلة إجتماعية، وبدأت قدراته الإجتماعية، والذهنية، في التراجع مقابل تطور سريع وهائل في قدرات هذه الروبوتات الذكية، القادرة على أن تتشكل في صورة صديق لطيف يخفف عن الإنسان أوقاته الصعبة، ويدعمه  نفسياً، ومعنوياً بكلام مؤثر، كما ويحكي له القصص والنكات الطريفة ويغير حالته النفسية والعقلية، والمزاجية بكل سرعة وسهولة، بل ويعطيه بعض الحلول للخروج من الأزمات، إن وجود هذه الروبوتات الإجتماعية بمختلف أشكالها وقدراتها ومواصفاتها، على الرغم من أنها تقدم فوائد وتسهيلات لاحصر لها لحياة الإنسان، إلا أنها في الوقت نفسه أخذت منه شيئاً مهما جداً لم ينتبه إليه الكثيرون، ألا وهي إنسانيته!

أحد الجوانب الرئيسية للعلاقة بين الذكاء الإصطناعي والشعور بالوحدة يكمن في قدرة الذكاء الإصطناعي على توفير الرفقة، خاصةً بالنسبة للأفراد الذين يعانون من العزلة الإجتماعية، أو صعوبة التواصل مع الآخرين، أو الذين يفتقرون الى شبكات دعم قوية، مثل العائلة والأصدقاء، لذلك يمكن للذكاء الإصطناعي أن يكون بمثابة بديل إفتراضي للدعم البشري لهؤلاء.

ظاهرة الروبوت الصديق (القدرات والإمكانيات)

يمكن لمساعدي الدردشة المدعومين بالذكاء الإصطناعي على سبيل المثال، المشاركة في المحادثات، وتقديم الدعم العاطفي، وحتى تقديم الرفقة، مما يخفف من الشعور بالوحدة عند الإنسان المعاصر المحاط بالتكنولوجيا وضغوطات العمل، علاوةً على ذلك يمكن للروبوتات الإجتماعية المصممة للتفاعل مع البشر على مستوى عاطفي ان تقدم إحساساً بالصداقة الحميمية مع الإنسان، وتعطي شعوراً قوياً وعميقاً للإنسان أن هنالك من يسمعه، ويشجعه، ويتعاطف معه، ويدعمه من دون أي مقابل او مصلحة، أو خدمة، أو حتى إلتزام مالي، او أخلاقي، يجب عليه تقديمه أو الوفاء به، وأغلب تلك الحالات تحدث مع المراهقين، والشباب  العاطلين عن العمل الذين يبقون لوحدهم لفترات طويلة، ولا يتواصلون مع الناس، ولا ينخرطون في علاقات إجتماعية حقيقية في مجتمعهم، وكبار السن، الذين تزوج أبناءهم، أو تقاعدوا عن العمل، ولم يعد أحد يهتم بأمرهم، أو يسأل عنهم، أو أولئك الذي يعانون من مشاكل نفسية، أو إعاقات بدنية، تحتم عليهم التواجد بمفردهم لفترات طويلة، هؤلاء هم من أكثر الفئات في المجتمع الذين يتفاعلون بشكل أكبر مع الروبوتات الذكية، وتطبيقات المحادثة.

علاقة الروبوتات الذكية بتراجع القدرات الفكرية والإجتماعية والذهنية للإنسان

 إن علاج مشكلة الوحدة التي يعاني منها الإنسان المعاصر ليس بالأمر السهل، وهو ليس من إختصاص الفلسفة وحدها، أو علم النفس وحده، أو علم الإجتماع، بل إن المسؤولية هي مسؤولية أخلاقية تتطلب تعاونا وتكاتفاً بين باحثي جميع هذه العلوم للوصول الى حلول واقعية لهذه المشكلة التي أصبحت تشكل إحدى الظواهر الخطيرة في مجتمع الذكاء الإصطناعي المعاصر، والتي يمكن أن تكون لها عواقب وخيمة.

 إن العلاقة بين الذكاء الإصطناعي والإنسان هي علاقة ليست بسيطة، بل هي مشكلة وأزمة أخلاقية، وأزمة في الوعي الإنساني، ترمي بضلالها على الجيل الجديد، جيل الشباب، والمجتمع المعاصر بأكمله، فعلى الرغم من أن الذكاء الإصطناعي يمكن أن يًخفف من الشعور بالوحدة لقترة مؤقتة، ولكنه شعور مؤقت يزول بسرعة، بل ويؤدي بمرور الوقت الى تفاقم حالة العزلة التي يعاني منها الإنسان، لأن إعتماد العقل البشري على التفاعلات التي يدعمها الذكاء الإصطناعي لفترات طويلة، قد يؤدي الى فقدان الإنسان لمهارات التواصل الإجتماعي، والى تراجع الوعي الذهني، حيث أنه يؤدي الى تداعيات خطيرة، من خلال تكوين جيل من البشر يعتمد إعتماداً كلياً على هذه التقنيات، مما يقلل من فرصهم في الإنخراط في تفاعلات بشرية حقيقية، علاوةً على ذلك يمكن ان يخلق طبيعة التفاعلات التي يدعمها الذكاء الإصطناعي وهماً بالإتصال مع هذه البرامج الذكية والروبوتات، حيث قد لايتمكن الأفراد من تجربة العمق والتعقيد والتفاعل الذي يميز العلاقات الإنسانية، وفي نهاية المطاف، يمكن أن يؤدي هذا الوهم الى تفاقم الشعور بالوحدة والعزلة، بدلاً من زواله والتخلص منه، حيث تصبح هنالك فجوة كبيرة بين التفاعلات الإفتراضية، والروابط الإنسانية الحقيقية، وهذه الفجوة هي مالا يمكن لأي تطبيق ذكاء إصطناعي أو روبوت ذكي ملؤه، أو تعويضه، فالصديق الروبوت، أو برنامج المحادثة الذكي، لايمكن بأي شكل من الأشكال أن يحل محل التجربة الإنسانية الوجودية في العلاقات البشرية.

نود ان نقول بإختصار أن العلاقة بين الذكاء الإصطناعي والإنسان هي علاقة متعددة الأوجه، ومعقدة في الوقت نفسه، ففي الوقت الذي يعمل الذكاء الإصطناعي على ( محاكاة لتجربة الصديق للإنسان)، ورغم أن لديه القدرة على توفير الرفقة، والتخفيف من الشعور بالوحدة، فإنه في الوقت ذاته ينطوي على مخاطر أيضاً، منها خطر تعزيز العزلة الإجتماعية، والإعتماد على التفاعلات الإفتراضية، ومع إستمرار تطور الذكاء الإصطناعي ودمجه في مختلف جوانب حياة الإنسان، أصبح من الضروري دراسة آثاره على القدرات الفكرية الإنسانية، و مدى تأثيره على تراجع التواصل الإجتماعي الحقيقي بين البشر، حيث يجب وضع معايير أخلاقية واضحة ومحددة تحكم علاقة الإنسان بالروبوتات، والتطبيقات الذكية، والعمل على ضمان إستخدام هذه التقنيات بطرق تعزز الإتصال الحقيقي والروابط الإجتماعية.

***

شيماء هماوندي

مقاربة كوسمولوجية

مقدمة: في قلب الكوسمولوجيا، علم دراسة الكون ككل، يقع السؤال الأزلي عن ترتيب جميع الموجودات: هل هذا الترتيب نتيجة عناية إلهية مدبرة، أم تفسير علمي يعتمد على قوانين طبيعية محضة؟

هذا السؤال يجمع بين الفلسفة، الدين، والعلم، حيث يرى البعض الكون كعمل فني إلهي يعكس حكمة خالق، بينما يراه آخرون كنظام ذاتي التطور يخضع لقوانين فيزيائية.

المقاربة الكوسمولوجية هنا تتجاوز النظريات المجردة لتستعرض كيفية ترتيب الكائنات من الذرات إلى المجرات، مستندة إلى التوفيق بين الرؤى الدينية والنظريات العلمية.

في عصرنا، مع تطورات مثل تلك المذكورة في كتاب "الخلق الكتابي وعلم الكونيات الحديث"الذي يناقش كيفية خلق الله للكون وتوجيه تطوره، يصبح هذا التوفيق أكثر إلحاحاً.

سنبدأ بتاريخ الفكرة، ثم ننتقل إلى التفسيرات الدينية والعلمية، وأخيراً نناقش المقارنة والآفاق المستقبلية.

تاريخ الكوسمولوجيا: من الرؤى القديمة إلى العصر الحديث

تاريخ ترتيب الموجودات في الكون يعود إلى الحضارات القديمة، حيث رأى الإغريق الكون كنظام متناسق. أرسطو، في "عن السماء"، وصف الكون ككرة مركزها الأرض، محاطة بكرات سماوية تتحرك بفعل محرك أول غير متحرك، يمثل العناية الإلهية. هذا الترتيب الهيئي يعكس تسلسلاً هرمياً: من المادة الأرضية إلى العناصر السماوية النقية. في العصور الوسطى، دمج الفلاسفة الإسلاميون مثل ابن سينا هذا مع العناية الإلهية، حيث رأى في "الشفاء" الكون كسلسلة من العقول المنبثقة عن الواحد الأول، ترتب الموجودات من العقل الأول إلى العالم السفلي، بفعل قدر إلهي. الغزالي، في "إحياء علوم الدين"، انتقد الفلاسفة لكن أكد على العناية الإلهية كمبدأ يدبر الكل.

في العصر الحديث، مع كوبرنيك وغاليلي، تحول الترتيب إلى نموذج هليوسنتري، ثم نيوتن في "المبادئ الرياضية" رأى الكون كآلة محكومة بقوانين، لكن مع عناية إلهية تحافظ على الاستقرار. هذا التحول فتح الباب للتوفيق بين العلم والدين، كما في مناقشات حديثة حول عدم تعارض الخلق التوراتي مع الكوسمولوجيا الحديثة، حيث يُرى الكون كمنشأ من قبل الله لكن يتطور وفق قوانين طبيعية.

هذا التاريخ يظهر كيف تحول الترتيب من نموذج إلهي مباشر إلى تفسير علمي يتسع للعناية الإلهية كمبدأ أولي.

العناية الإلهية: الترتيب الكوني كعمل إلهي

في الرؤية الدينية، ترتيب الموجودات يعكس عناية إلهية مدبرة، حيث يدبر الله الكون بكل تفاصيله. في الإسلام، يُشار إلى ذلك في القرآن (سورة الملك: 3-4) بوصف الكون كبناء متناسق دون خلل، يعكس حكمة الخالق. ابن عربي، في "الفتوحات المكية"، يرى الكون كتجليات للأسماء الإلهية، حيث ترتب الموجودات في سلسلة وجودية: من الذات الإلهية إلى العرش، ثم الكرسي، فالسموات والأرض، مع العناية كقوة تحافظ على التوازن. في المسيحية، توما الأكويني في "الخلاصة اللاهوتية" يصف العناية الإلهية كحكومة الله للكون، ترتب الكائنات نحو غايتها النهائية، مستنداً إلى أرسطو لكن مع إله شخصي.

هذا الترتيب ليس عشوائياً، بل غائياً: النجوم، الكواكب، الحياة، كلها جزء من خطة إلهية

في مناقشات حديثة، مثل تلك في "إثبات أن العناية الإلهية مسؤولة عن تطور الكون"، يُثبت أن تنظيم الكون يتوافق مع الوحي، حيث تكون العناية الإلهية مسؤولة عن تطور الكون من البداية إلى التعقيد. كذلك، في فيديو "دقة الكون ووجود الله"، يُبرز كيف تعكس دقة الثوابت الفيزيائية عناية إلهية، ترتب الموجودات للسماح بالحياة.  هذا الجانب يؤكد على الترتيب كدليل على وجود خالق مدبر.

التفسير العلمي: الكوسمولوجيا الحديثة وترتيب الموجودات

من الجانب العلمي، يُفسر ترتيب الموجودات عبر قوانين فيزيائية، دون الحاجة إلى تدخل إلهي مباشر. نموذج الانفجار العظيم، كما في "علم الكون" على ويكيبيديا، يصف بداية الكون قبل 13.8 مليار سنة من نقطة سينغولارية، متوسعاً ليشكل الهيدروجين، الهيليوم، ثم النجوم والمجرات.

هذا الترتيب يعتمد على قوانين مثل الجاذبية النيوتونية والنسبية العامة لأينشتاين، حيث تتشكل الهياكل الكونية من خلال التكتلات: من السحب الغازية إلى المجرات، مع المادة المظلمة والطاقة المظلمة كعناصر رئيسية في الترتيب.

في الكوسمولوجيا المعاصرة، كما في "الكون خلقه وإيجاده بين نظريات العلم الحديث ومسلمات الأديان السماوية" (2024)، يؤكد العلم على الانفجار العظيم كأصل، لكن يترك مجالاً للتوافق مع الأديان.

الترتيب هنا عشوائي جزئياً، مدفوعاً بالاحتمالات الكمومية، كما في نظرية الكون المتعدد، حيث تكون دقة الثوابت نتيجة اختيار من بين اكوان عديدة. هذا يختلف عن العناية الإلهية، لكنه يفسر التعقيد عبر التطور الكوني، من الذرات إلى الحياة عبر الانتخاب الطبيعي.

المقارنة: نقاط الالتقاء والاختلاف في المقاربة الكوسمولوجية

المقارنة بين العناية الإلهية والتفسير العلمي تكشف عن توترات وتوافقات.

في نقاط الاختلاف، يرى العلم الكون كذاتي التطور، بينما الدين يراه غائياً. على سبيل المثال، في مناقشة على ريديت " "من المستحيل التوفيق بين علم الكونيات الحديث واللاهوت العقلي"، يُبرز صعوبة التوفيق بين مركزية الإنسان في الدين واللامركزية في الكوسمولوجيا.

لكن في الالتقاء، كما في هل يشير علم الكونيات الحديث إلى وجود خالق توراتي؟، يُرى الضبط الدقيق للكون دليلاً على خالق إلهي، حيث يتفق الملحدون والمؤمنون على دقة الشروط للحياة.

في الفلسفة الإسلامية، كما في "الكون بين التوحيد والإلحاد"، يُفسر الانفجار العظيم كدليل على الخلق الإلهي، معادلاً بين العلم والتوحيد.

أما في تغريدة أليكس غراي، يُبرز كيف يتفق العلماء والصوفيون على أصل واحد للكون، مع الإبداع كقوة كونية.

هذا التوفيق يجعل الترتيب الكوسمولوجي جسراً بين الاثنين، حيث تكون العناية الإلهية المدبرة للكون.

التحديات المعاصرة: الكوسمولوجيا في 2025 وما بعدها

في 2025، تواجه المقاربة تحديات مثل الثقوب السوداء والكون المتعدد. في "تأملات في التوفيق بين علم الكونيات في العصور الوسطى والحديثة"، يُناقش كيف يترك الكون الحديث مجالاً للعجب الإلهي رغم فقدان النظام الوسطي.  كذلك، في تغريدة "مستكشف الفلسفة"، يستخدم بايزيان لإثبات أن الإله يفسر الدقة أفضل من الطبيعة.  التحدي الرئيسي هو العدمية، لكن العناية الإلهية توفر معنى، كما في "المفهوم اللاهوتي للعناية الإلهية".

خاتمة: نحو توحيد الرؤى الكوسمولوجية

في الختام، ترتيب جميع الموجودات في الكون يتحدد بين عناية إلهية توفر الغاية والتفسير العلمي الذي يصف الآليات. المقاربة الكوسمولوجية تظهر إمكانية التوفيق، كما في "علم الكون والدين"، حيث يتكامل الدين مع العلم لفهم الكون.  هذا الترتيب ليس تناقضاً، بل دعوة لتجاوز الثنائيات نحو رؤية شاملة تعزز الفهم البشري للوجود. فكيف يمكن الجمع دون الوقوع غي التناقض بين الاعتقاد الديني والتفسير العلمي؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

يوضح الأنثروبولوجي مايكل. أ. ليتل Michael A. Little (1) بان الانسان في الحقيقة لايزال يتطور. العديد من الناس يعتقدون اننا كبشر انتصرنا على الطبيعة من خلال التفوق العلمي والتكنلوجي. البعض أيضا يعتقد اننا بسبب كوننا مختلفين عن المخلوقات الأخرى، نمتلك سيطرة تامة على مصيرنا ولا نحتاج للتطور. ولكن حتى لو اعتقد معظم الناس بهذا، فهو غير صحيح.

 كباقي المخلوقات الأخرى، تشكّل الناس بفعل التطور. وبمرور الزمن، نحن طوّرنا ولانزال نطوّر السمات التي تساعدنا في البقاء والازدهار في البيئات التي نعيش فيها.

نظر الانثروبولوجي مايكل في الكيفية التي يتكيّف بها الانسان في مختلف البيئات. التكيف جزء هام من التطور وهو سمات تعطي للشخص مزايا في بيئته. الناس الذين يمتلكون تلك السمات لديهم حظ اكبر في البقاء ولديهم القدرة على نقل تلك السمات الى أطفالهم. وبمرور عدة أجيال، تصبح تلك السمات منتشرة على نطاق واسع بين السكان.

دور الثقافة

نحن البشر نمتلك ايادي تساعدنا في استعمال الأدوات والاشياء الأخرى. نحن قادرون على المشي والركض على ساقين الأمر الذي يحرر أيدينا للقيام بتلك المهام ذات المهارة . كما نمتلك أدمغة كبيرة تسمح لنا بالتفكير وخلق أفكار جديدة والعيش بنجاح مع الناس الآخرين ضمن جماعات اجتماعية.

كل هذه السمات ساعدت الانسان على تطوير الثقافة. هذه الثقافة تتضمن كل أفكارنا وعقائدنا وقدراتنا على التخطيط والتفكير حول الحاضر والمستقبل. انها أيضا تتضمن قدراتنا على تغيير بيئتنا، مثلا عبر صنع الأدوات وزراعة المحاصيل . وبالرغم من اننا غيّرنا بيئتنا بعدة طرق عبر آلاف السنين، نحن لانزال نتغير بواسطة التطور. نحن لم نوقف التطور بل نتطور حتى الآن بطرق مختلفة أكثر من أسلافنا القدماء. بيئاتنا تتغير بواسطة ثقافتنا. نحن عادة نفكر بالبيئة مثل الطقس والنباتات والحيوانات الموجودة في مكان معين. لكن البيئات تتضمن الطعام الذي نأكل والامراض المعدية التي نتعرض لها. الجزء الهام جدا من البيئة هو المناخ ونوع الظروف التي نعيش فيها. ثقافتنا تساعدنا ان نغيّر من طريقة تعرّضنا للمناخ . فمثلا، نحن نبني  بيوتا ونضع فيها أفرانا وأجهزة تكييف هواء. لكن الثقافة لا تحمينا تماما من الحر الشديد او البرد وأشعة الشمس.

قبائل توركان في كينيا تطورت للبقاء بأقل كمية ماء قياسا بالآخرين، وهذا يساعدها للعيش في البيئة الصحراوية. هنا بعض الأمثلة عن كيفية تطوّر البشر في العشرة آلاف سنة الماضية وكيف استمروا بالتطور اليوم.

قوة أشعة الشمس

بينما تُعتبر اشعة الشمس هامة لحياة كوكبنا، لكن الأشعة فوق البنفسجية يمكن ان تضر جلد الانسان. أولئك ذوي البشرة الشاحبة هم في خطر من حروق الشمس الخطيرة وكذلك من أمراض سرطان الجلد . بالمقابل، البعض من يحملون صبغة الجلد، تسمى ميلانين، لديهم حماية من اضرار الاشعة فوق البنفسجية القادمة من الشمس. الناس في المناطق الاستوائية ذوي الجلد الداكن هم اكثر قدرة على تحمّل اشعة الشمس الحارقة. مع ذلك، عندما انتقل الناس القدماء الى مناطق غائمة وباردة ،لم يعودوا بحاجة الى جلد أسود. الجلد الأسود في الأماكن الغائمة منع انتاج فيتامين D في الجلد الذي هو ضروري لنمو العظام الطبيعية في الأطفال والبالغين.

ان كمية صبغة الميلانين في جلدنا يتم التحكم بها بجيناتنا. لذا في هذه الطريقة، كان تطور الانسان خاضعا للبيئة – مشمس او غائم – في مختلف أجزاء العالم.

الطعام الذي نأكل

قبل عشرة آلاف سنة، قام أسلافنا البشر بترويض وتدجين الحيوانات مثل الأغنام

 والماعز ليأكلوا لحمها. وبعد حوالي 2000 سنة، هم تعلموا كيف يحلبون الابقار والماعز للحصول على هذا الغذاء الغني. لسوء الحظ، كما في معظم الثدييات الأخرى في ذلك الوقت، لم يكن البشر البالغون قادرين على هضم الحليب بدون الشعور بمرض. لكن قلة من الناس كانوا قادرين على هضم الطعام لأن جيناتهم تسمح لهم القيام بهذا.

كان الحليب مصدرا هاما للغذاء في تلك المجتمعات حيث ان الناس الذين يستطيعون هضم الحليب هم اكثر قدرة على البقاء وانجاب الأطفال . وهكذا ازدادت بين السكان الجينات التي سمحت لهم بهضم الحليب حتى اصبح كل واحد تقريبا يستطيع شرب الحليب .

العملية التي حدثت وانتشرت قبل الاف السنين هي مثال لما يسمى التطور الثقافي البايولوجي المشترك co-evolution . ان الممارسة الثقافية في استخراج الحليب من الحيوانات هي التي قادت الى هذه التغييرات الجينية او البايولوجية.

ناس آخرون مثل شعب الانويت Inuit في غرينلاند لديهم جينات تمكّنهم من هضم الدهون بدون المعاناة من امراض القلب. جماعات توركانا Turkana ترعى الماشية في كينيا في أماكن جافة جدا من افريقيا. هم لديهم جين سمح لهم للترحال لفترات طويلة بدون شرب الماء. هذه الممارسة تسبب ضررا بالكلية لدى ناس آخرين لأن الكلية تنظّم الماء في الجسم.

هذه الأمثلة تبيّن كيف ان التنوع الملحوظ في الطعام الذي يتناوله الناس حول العالم يمكن ان يؤثر على التطور.

الأمراض التي تهددنا

كما في كل المخلوقات الحية، كان البشر معرضين للعديد من الامراض المعدية. خلال القرن الرابع عشر انتشر مرض مميت سمي طاعون الدبلي ضرب وبسرعة منطقة اوربا واسيا و قتل حوالي ثلث السكان في اوربا. العديد من أولئك الذين نجوا كان لديهم جين خاص منحهم مقاومة ضد المرض. أولئك الناس وذريتهم كانوا اكثر قدرة على النجاة من الأوبئة التي أعقبت لعدة قرون.

بعض الامراض تفشت مؤخرا مثل كوفيد 19 الذي اكتسح العالم عام 2020. اللقاحات انقذت العديد من البشر. بعض الناس لديهم مقاومة طبيعية للفايروس معتمدة على جيناتهم. ان التطور يزيد هذه المقاومة في السكان ويساعد البشر على مقاومة الفايروسات المعدية في المستقبل.

الناس عرضة لمختلف التغيرات البيئية. وهكذا يستمر التطور في عدة مجموعات سكانية عبر الأجيال بما فيها الآن.

***

حاتم حميد محسن

........................

الهوامش

(1) بروفيسور في الأنثروبولوجي في جامعة ولاية نيويورك في مقال له في The conversation بتاريخ 17 نوفمبر 2025.

"أحبّ الحقيقة، لكن اغفر الخطأ"

مقدمة: ليس فولتير مجرد فيلسوف سياسي بين آخرين في القرن الثامن عشر، بل هو «المهندس السياسي» الأبرز لمشروع الأنوار بأكمله. بالمعنى الفرنسي. إذا كان مونتسكيو يضع التشخيص الدستوري، وروسو يرسم العقد الاجتماعي المثالي، فإن فولتير هو الذي يحاول تطبيق العقل على السلطة الفعلية، في الواقع التاريخي الملموس، لا في المدينة الفاضلة. من هنا تأتي أهمية القولة الشهيرة المنسوبة إليه: «السياسة هي أول الفنون وآخر المهن». هذه العبارة ليست مجرد نكتة ساخرة، بل هي مفتاح كامل لفهم نظرية فولتير السياسية، وهي تكشي – بطريقة بارادوكسية – على حبلين متوترين:

رفع السياسة إلى مرتبة الفن الأسمى.

تحقيرها إلى أحقر المهن عندما تُمارس من طرف غير الأكفّاء.

فكيف وضع فولتير السياسة في قلب مشروع الأنوار؟

أولا. السياسة كـ«أول الفنون»: نظرية الحاكم-الفنان

أ. جذور أرسطية – ماكيافيللية – كلاسيكية

فولتير يعيد مفهوم «الفن الملكي» الذي يعود إلى أرسطو، لكنه يُلبسه ثوباً تنويرياً جديداً. في رسائله إلى فريدريك الثاني (1740–1766) وإلى كاترين الثانية (1763–1776) يصف الحاكم المستنير بأنه «نحات شعوب» و«مهندس السعادة العامة».

السياسة فنّ لأنها:

فن الإمكان لا فن المستحيل (ضد روسو الذي يبحث عن الكمال المطلق).

فن تحويل المادة البشرية الخام (الأهواء، المصالح، التعصب) إلى نظام اجتماعي منسجم.

فن التوازنات الدقيقة بين الحرية والنظام، بين القوة والعدالة.

ب. نماذج الحاكم-الفنان عند فولتير

هنري الرابع: الملك الذي «أراد أن تكون هناك دجاجة في قدر كل فلاح» → فن الرفاه الشعبي.

بطرس الأكبر: الذي قطع لحية البويار وفتح نافذة على أوروبا → فن التحديث القسري.

فريدريك الثاني: الملك الفيلسوف الذي يكتب الشعر صباحاً ويُصلح القوانين مساءً.

كاترين الثانية: التي تُراسل فولتير وتطلب منه صياغة قانون مدني مستنير.

هؤلاء هم «الفنانون العظماء» في نظر فولتير، لأنهم استطاعوا أن يصنعوا من الفوضى البشرية لوحة جميلة ومتماسكة

ثانيا. السياسة كـ«آخر المهن»: نقد السياسي المحترف

أ. السياسيون «الصغار» في فرنسا ما قبل الثورة

فولتير يكره ثلاث فئات بشدة:

نبلاء البلاط الذين يعيشون على المعاشات الملكية دون عمل.

البرلمانيون (مجالس العدل العليا) الذين يحتكرون السلطة السياسية باسم «الحقوق التاريخية».

رجال الدين المتعصبون الذين يتدخلون في الشأن العام («سحقوا الحقير!»).

هؤلاء جميعاً يجسدون «آخر المهن»: نشاط يُمارَس من أجل الربح الشخصي، الشهرة، الانتقام، أو السلطة الوهمية، لا من أجل الخير العام

ب. نقد مبكر للديمقراطية الحزبية

قبل ماكس فيبر بقرنين ونصف، يصف فولتير السياسي المحترف بأنه «إنسان يبيع خطاباته ليحصل على مناصب، ثم يبيع المناصب ليحصل على المال». في «القاموس الفلسفي» (مقال «الدولة») يقول:

«إن أسوأ حكومة هي تلك التي تحكمها مهنة سياسية وراثية أو انتخابية، لأنها تجمع بين عيوب الوراثة وعيوب الانتخاب»

ثالثا. التوفيق التنويري: الاستبداد المستنير كحل وسط

يرى فولتير أن الحكمة فضيلة تتجسد في فن العيش، والفطنة، والقدرة على مواجهة مصاعب الحياة. وتوضح أقوال مثل "الحكمة تصد العواصف" و"علينا أن نزرع حديقتنا" ضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة والتحكم في مصيرنا بدلًا من الاستسلام للصدفة أو اليأس. كما يؤكد فولتير على أن الحكمة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالفلسفة والتسامح وحرية الفكر.

فولتير ليس ديمقراطياً، وليس جمهورياً، وليس ملكياً مطلقاً تقليدياً. موقفه الشهير:

«أفضل أن أُحكَم من ملك واحد عادل محاط بفلاسفة، من أن أُحكَم من 500 ملك جاهل متعصب».

الاستبداد المستنير هو في نظره الحل الوحيد العملي في عصره لأنه:

يضع السياسة في يد «فنان» واحد قادر.

يمنع تسلل «الحرفيين» والوصوليين.

يتيح إصلاحات سريعة دون عوائق البرلمانات والتقاليد.

لكن هذا الحل مشروط بشرطين:

أن يكون الحاكم فعلاً «مستنيراً» (يؤمن بالعقل، التسامح، العدالة).

أن يحيط نفسه بفلاسفة مستقلين لا بمتملقين.

رابعا. مفارقات فولتير السياسية

يمدح فريدريك الثاني طوال عشرين سنة، ثم ينقلب عليه عندما يكتشف استبداده (1753).

يدعو كاترين الثانية إلى تحرير الأقنان، فتفعل عكس ذلك تماماً، وتستمر في مراسلته!

يكره البرلمانات الفرنسية، لكنه يدافع عن حرية التعبير أمام الملك المطلق.

هذه المفارقات ليست تناقضاً، بل دليل على براغماتية تنويرية: السياسة فنّ الإمكان، لا فن الكمال

خامسا. راهنية فولتير في القرن الحادي والعشرين

"الحكمة هي فن العيش."

الفلسفة عند فولتير هي سبيلٌ إلى الحكمة:

"الفلسفة فنُّ تعقيد الحياة بمحاولة إقناع النفس ببساطتها."

"قليلٌ من الفلسفة يُبعدنا عن الدين، وكثيرٌ منها يُعيدنا إليه."

"معظم الناس كحجر المغناطيس: لهم جانبٌ ينفّرهم وآخر يجذبهم."

في زمن:

صعود السياسيين «المحترفين» الذين لم يعرفوا في حياتهم مهنة أخرى.

تراجع فكرة «الدولة» لصالح «السوق السياسية».

عودة الشعبوية واليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا.

تبدو رؤية فولتير صادمة وملهمة في آن:

صادمة لأنها ترفض الديمقراطية الجماهيرية كحل سحري.

ملهمة لأنها تذكّرنا أن السياسة يمكن أن تكون فنّاً نبيلاً إذا مارسها أناس يملكون رؤية، شجاعة أخلاقية، وكفاءة.

خاتمة:

يبدو أن السياسة تظل في تحدٍّ أبدي بين الفن والمهنة – فولتير لا يقدّم لنا نظرية سياسية منهجية كمونتسكيو أو روسو. يقدّم لنا موقفاً وجودياً: ان السياسة يمكن أن تكون أعظم خدمة للإنسانية أو أكبر كارثة، حسب من يمسك بمقودها.

الفلسفة عند فولتير هي فن العيش والتمييز:

"الحكمة تصد العواصف."

"علينا أن نزرع حديقتنا."

"لطالما فضّلتُ جنون الأهواء على حكمة اللامبالاة."

كما يعد فولتير فيلسوف التسامح وحرية الفكر:

"الفضيلة تُذلّ بتبرير نفسها."

"تُعتبر كل عقيدة سخيفة وضارة، وكل إكراه على العقيدة بغيض؛ فرض الإيمان عبث."

القولة «أول الفنون وآخر المهن» ليست مجرد سخرية لاذعة، بل دعوة تنويرية مستمرة لكي نطالب السياسة بأن تكون فنّاً، لا مجرد مهنة. وفي زمن يغلب فيه «المحترفون» و«الوصوليون» و«المؤثرون»، تبقى كلمات فولتير صرخة في وجه التفاهة السياسية: «إذا أردتم أن تُحكم، فأعطوني فناناً… لا تاجر كلام». فأين لنا بفولتير جديد يجرم فساد هذا العصر الهلامي ويوقظ الإنسان من سباته الوجودي وينتشله من براثن الأبواق الغوغائية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

ليس من السهل أن نكتب عن المكان من دون أن نتورّط فيه؛ وليس من السهل أن نتورّط فيه من دون أن ننكشف أمام تلك الحقيقة القاسية: أنّ الفلسفة لا تملك دائمًا الفصاحة ذاتها حين تلامس الأرض… تبدو المفاهيم كما في نصوص هايدغر وباشلار وميرلو-بونتي قادرة على فتح العالم، ولكن العالم نفسه لا ينتظر المفهوم كي يفتح أبوابه.

فـ“المكان” كما يُكتب عنه، شيء… و“المكان” كما يُعاش، شيء آخر تمامًا. وبين الاثنين تقوم تلك المسافة المربكة التي تجعل كل محاولة للتفكير امتحانًا للمفهوم أكثر من كونها انتصارًا له.

ذلك أنّ المكان، في تصوّر الفلاسفة، ليس مجرد حيّز، بل علاقة بين الكائن وما يحتضنه. يقول هايدغر إن الإنسان لا “يعيش” وحسب، بل “يسكن”، وأن السكنى هي جوهر الوجود نفسه. أما باشلار الحالم بالغرف والزوايا فيرى أنّ المكان يختزن فينا ذاكرةً شكلتها الطمأنينة. ويذهب ميرلو-بونتي أبعد من ذلك، فيجعل المكان شرطًا للجسد، والجسد شرطًا للوجود، والوجود شبكة من العلاقات التي تُختبر عبر الحركة والقلق والرغبة.

ولكن ماذا يبقى من كل هذا حين نضع المفهوم داخل سياقٍ مثل السودان؟

ماذا يحدث للمكان حين يُسحب من تأملاته الهادئة ويُلقى في يد الحرب؟

بل ماذا يحدث للفلسفة نفسها حين تُجبر على السير فوق أرضٍ محروقة؟

 هنا تتكشّف المفارقة. فالمكان الذي يفترض أن يكون أساسًا للعناية - بالمعنى الهايدغري أو الفوكوي - يتراجع في السودان ليترك المجال لشيء آخر: لخرابٍ يسبق أي إمكان للعناية، ويعيد تعريفها لا كحضور، بل كغياب. فالعناية هنا تظهر من خلال انقطاعها… من خلال ذلك الفراغ الذي يتركه غيابها الفادح.

فالعناية، في بعدها الفلسفي، هي الإمساك بحياة الإنسان كي لا تتشظى. هي “اهتمام” قبل أن تكون “إحسانًا”، و“مسؤولية” قبل أن تكون “حماية”. وحتى فوكو حين تحدّث عنها بوصفها “تقنية للذات”، كان يشير إلى وعي يجعل الكائن قادرًا على النظر إلى نفسه داخل العالم بدل أن يُترك وحيدًا أمامه.

لكن ماذا لو كان المكان ذاته لا يسمح بهذا الوعي؟

ماذا لو كانت الجغرافيا كما هي في السودان لا تمنح للعناية فرصةً لكي تبدأ أصلًا؟

منذ منتصف القرن الماضي وحتى اليوم، ظلّ المكان السوداني عرضة لعمليات إعادة تشويه مستمرة:

مدن تُقصف كما لو أنها ملاحق غير ضرورية في دفتر الخرائط…

قرى تُمحى في غرب السودان بين ليلة وضحاها…

أحياءٌ في الخرطوم تُدار فيها الحرب كما تُدار لعبة فيديو، تُغيَّر حدودها بالرصاص لا بالمساكن…

ونازحون يهربون من مكانٍ لم يسكنوه إلا مؤقتًا إلى مكانٍ لن يُسمح لهم بسكنه إلا مؤقتًا أيضًا.

هنا يصبح المكان جريحًا، وتصبح العناية عاجزة عن أكثر من تسجيل الخيبة.

 وإذا كانت الفلسفة الوجودية تبحث عن “انبثاق” المكان من ذاته، فإن السودان يمنحنا النموذج المضاد: المكان الذي لا ينبثق، بل يُنتزع؛ المكان الذي يُعاد تشكيله بالقوة لا بالعلاقات، وبالخوف لا بالطمأنينة، وبالسلطة لا بالحياة.

وهكذا تتبدّل العلاقة بين “المكان” و“العناية”: بدل أن يحتضن المكانُ العناية، نجد العناية هي التي تطارد المكان، تحاول أن تلحق به قبل أن ينهار. لكنه لا يستجيب. أو بالأحرى: يستجيب بوحشية. وكأنّه المكان الذي لا يعرف من العناية إلا ضدّها.

وهنا يتحوّل السؤال الفلسفي إلى سؤال سياسي وإنساني في آن:

هل يمكن لفلسفة المكان أن تبقى “مطلقة” من دون أن تواجه هذا الواقع العنيف؟

هل يمكن للمفهوم أن يظل مستقيمًا بينما تُعاد هندسة المكان بالبندقية؟

هل يمكن الحديث عن “سكنى الإنسان للعالم” بينما الإنسان يبحث عن جدارٍ واحد يأويه؟

إنّ أي تفكيرٍ في المكان هنا لا بدّ أن يعود إلى الجسد.

والجسد لا يكتب نظريات.

الجسد يكتب خوفه… يكتب جوعه… يكتب تلك اللحظة التي يصبح فيها العالم كله معسكر نزوح واحد أو حاجز طريق أو صرخة.

ولهذا يصبح المفهوم نفسه مطالَبًا بالهبوط من عليائه إلى مستوى الحادث اليومي.

ليس لأن المفهوم ناقص، بل لأن التجربة فائضة.

ليست الفلسفة قاصرة، بل الواقع أعمق وأكثر تشظيًا مما تمنحه المفاهيم من صفاء.

وفي هذا السياق، يصبح المكان السوداني ليس موضوعًا للتفكير فحسب، بل ناقدًا للفلسفة ذاتها.

المكان - بجرحه المفتوح - يسأل الفلاسفة:

كيف أتشكّل “من ذاتي”… وأنا أُقتلع كل يوم؟

كيف أسكن… وأنا بلا سقف؟

كيف أصبح فضاءً… وأنا بالكاد أحتفظ بالهواء؟

هنا لا تعود الفلسفة استعارةً جمالية، بل محاولةً للنجاة.

وتعود العناية، بكل ثقلها الأخلاقي والوجودي، لتطرح سؤالًا مؤلمًا:

من يعتني بمن؟

الدولة بالمكان؟ أم المكان بالبشر؟

هل يسكن الناسُ المكان؟ أم يهربون منه؟

هل العناية مفهوم؟ أم حالة مفقودة تبحث عن اسم؟

وهذا ما يجعل العودة إلى هايدغر ضرورية - لا لتمجيده، بل لمساءلته: فـ“السكنى” التي تحدّث عنها لم تكن يومًا ممكنة في مكانٍ مُصادَر، تُدار حدوده بالسلاح لا بالمعنى.

والسؤال الوجودي: “كيف نسكن العالم؟”

يغدو هنا سؤالًا آخر:

“كيف يسمح لنا العالم أن نسكنه؟”

تسقط المفاهيم حين تُختبر في السودان ليس لأنها ضعيفة، بل لأن الجرح أعمق من قدرتها على الالتئام.

ومع ذلك، يبقى شيءٌ أخير:

أن المكان - حتى في أقصى جراحه - يحتفظ بقدرته على التذكير…

التذكير بأن البشر يصنعون من هشاشتهم معنى…

ومن الخوف فرصةً ضئيلة للبقاء…

ومن العناية - حتى وهي مكسورة - ومضةً تُنقِذ الليل من العتمة الكاملة…

ليس مطلوبًا من الفلسفة أن تُشفى.

المطلوب أن تضع يدها - ولو للحظة - على هذا الجرح المفتوح، وأن تعترف بأن الفكر لا يكتمل إلا حين يلامس هشاشة الحياة.

***

إبراهيم برسي

 

لا ريب في أن الانتصار للعقل وتقديمه على النقل يروق للكثيرين من شبيبة هذا العصر - ولا سيما التغريبين المُقلدين لاجتراءات التفككين المعاصرين المتمردين على النسقية في السرد والدلالات والمعاني الموروثة في كل الخطابات التراثيّة - الذين اتهموا النقل بأنه ابن زمانه وواقعات عصره وتناسوا أن النقل أو الموروث العقدي، ليس هو جوهر الدين وصلب العقيدة؛ فالفقه وأصوله والكلام وآرائه لا يمثل كلاهما سوى الفهم الإنساني في ثقافة ما، للمقصد الربّاني المتمثل في القرآن بوصفه حق اليقين وصحيح المنقول؛ وكذا ما ثبت من سنة النبيّ؛ صلى الله عليه وسلم وأحاديثه التي تتفق مع القرآن أي أنها تكتسب قوة حجيتها من مطابقتها للمقصد الإلهي.

وعليه؛ فإنّ محاولات التفسير والتأويل التي استنبط منها الفقهاء والمتكلمون أحكامهم وآرائهم ما هي إلا رؤى عقليّة ليقين إلهي تنزّل على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم في صورة خطاب قابل دومًا إلى الاجتهاد والتفسير والتأويل تبعًا للواقع الإنساني المعيش مع العلم بأن ذلك اليقين لا ينبغي أن نجحده أو نسير في طريق يؤدي إلى نقيض مقصده إلى درجة تكذيبه أو استبعاده، وذلك بتأويلات جاهلة أو استنباطات فاسدة أو أحكام جائرة.

وحجتنا فيما أوردناه أن العقل الحداثي المستند إلى العلم سرعان ما تمرد عليه صناعه بعد مئات من السنين بحجة أن ذلك العقل قد أغفل وجدانية الانسان وروحانياته ولم يهتم إلا بالجانب المادي من الحياة، ثم انقلب على ماديته بحجة أنه يُصلح منها فأفسدها هي الأخرى.

وما أكثر الكتابات التي تحمل غرابيل الإنسانية ضد التطبيقات العلميّة التي جعلت من الإنسان آلة لا روح فيها ومعوّل لهدم الثقافات مكتفيًا بتشييد حضارات لا وجدان فيها، ويشهد بذلك الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي (2012:1913 م) في كتابيه "الإسلام دين المستقبل" و " الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها".

وإذا ما انتقلنا إلى عقل ما بعد الحداثة فسوف نقابل غرابيل أخرى تندد بالعصر الذي سادت فيه الأيدولوجيات واصطنعت من بنيتها دينًا راديكاليًا نفعيًا يلوح بنهاية التاريخ وصراع الحضارات ونهايّة الانسان، ويكذب كل ما وقف ضد أفكار وتعاليم وأحكام هذا العقل الجديد الذي يمتلك كل معايير القيم وجميع آليات البقاء والفناء، ولم يقف هذا العقل عند هذا الحد بل قام بصناعة أكاذيب وشائعات، وروج لأوهام، وأوعز بضلالات شيطانية تحت غطاء أطلق عليه ثورة المعلومات، ومستقبل ما بعد الحداثة، والذكاء الاصطناعي.

وتحدّثنا عن ذلك عشرات الكتابات الفلسفية المعاصرة نذكر منها كتاب "تاريخ الكذب" للفرنسي جاك دريدا، وكتاب "ما بعد الحداثة والتنوير" للجزائري الزواوي بغورة، وكتاب "ما بعد الحداثة" للإنجليزي كريستوفر باتلر وكتاب "نهاية الحداثة" للإيطالي جاني فاتيمو، وكتاب "مدخل معاصر إلى فلسفة العقل" للأمريكي جون هيل، وكتاب "الدين والعقلانيّة"، و"مستقبل الطبيعة الإنسانية نحو مسألة ليبرالية" للألماني يورغن هابرماس، وكتاب "ما بعد الإنسانية" للمصري أحمد عمرو، وكتاب "فلسفة العقل" للأمريكي إدوارد فيسير وغيرهم ....

وجلها يكشف عن عجز العقل المُعاصر عن إيجاد لغز لتلك الثنائية أي (بين ما نطلق عليه العقل الكامن في الدماغ، وطبيعة الأفكار والنزعات والوجدانيات والأخلاق)، ومدى إمكانية التحكم في تلك الثنائية المزدوجة التي تنتصر للعلم تارة، وتعمد إلى نشر الأكاذيب والخرافات المعرفيّة والاستئثار بالمسكوت عنه تبعًا للمنفعة والرغبة في تحقيق سعادة أرضية ويقين يثبته العلم بمنأى محافل الأكاذيب المُعاصرة؛ الأمر الذي يقودنا إلى التسليم بأن جنوحنا وجحودنا للعقل الإلهي المتمثل في حق اليقين في هذا العصر، وعزوفنا عن التفكير في حقيقة مقاصده لاستنباط الحكمة المفقودة التي تسعى إلى الخير دومًا من جهة، ويكشف عن مدى أصالة ومدى رجاحة آراء شيوخ المعتزلة، وموقفهم من حق اليقين (الوحي) من جهة أخرى، أولئك الذين جعلوا منه المرجع والمآل، والمنطلق والمقصد، في قراءة الواقع وقضاياه، ومشكلاته، واحتياجاته، والإنسان وأحواله، والمجتمع وأطواره.

ولا يحسب المتعجلون تقديم الفكر الاعتزالي (النقد العقلي) على ما نطلق عليه علم اليقين مسايرةً لـ أبي الحسن بن يحيي بن الراوندي (ت 911 م) - الذي رفع من قدر العقل على الوحي، وجعله الأساس للمعرفة وميزان المفاضلة في كل القضايا مع جحده للنبوة. كلا .. بل إن شيوخ المعتزلة في تقديمهم صريح المعقول على المنقول قد وضعوا النهج الصحيح للوصول إلى (حق اليقين)، أي أن النقد العقلي هو السبيل الأرشد للفصل بين ما حق، واختلط بعلم اليقين، والمقصد الإلهي الذي جعلوه في جل آرائهم المقصد المنشود واستمدوا منه الحجة والبرهان في التناظر والردود.

 نعم أن فكر المعتزلة في منطلقاته - قبل أن تتأثر آراء أصحابه بتصورات الفلاسفة اليونان والفرس وغيرهم من صناع العبر - هو الأنسب لمحاكاته وانتهاجه لمعالجة ثنائية المعقول والمنقول في فلسفتنا الإسلاميّة المعاصرة أي احترام الفكر المنقول بغير تقديس من جهة وفحص تصورات المعقول دون كذب أو تدليس من جهة أخرى.

***

 وإذا ما عرضنا فحص ما قدمناه من ادعاءات فعلينا بالاحتكام إلى غرابيل الفلاسفة التي صنعوها لتنقية الأفكار من الكذب، وكيفية استخدام المعتزلة لها لنقد الآراء والمعتقدات وطرائق حل القضايا التي واجهتهم خلال فجر وظهر الثقافة الإسلاميّة؛ وسوف ننتخب منها ما نحتاج إليه في حياتنا المعاصرة مثل منهجيّة الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وحكم مرتكب الكبائر من المحرمات، ومسألة التحسين والتقبيح لبعض المسائل السياسية والحكايات الشائعة عن المهدي المنتظر.

أمّا عن منهجية الدعوة؛ فهي كما ذكرنا تقديم العقل المفعم بالإيمان، أي بثابت عقدي يمثل حق اليقين، على الوعظ أو الاستشهاد بأقوال لا يفقهها المراد إجابته للدعوة التي يدعوا إليها صاحب الخطاب وقد استفاض مؤدبو المعتزلة وفقهائهم ومفسروهم في شرح هذا النهج في كتاباتهم التربوية والأخلاقية وأجوبتهم على المصاولين في المناظرات وعلى المتشككين والطاعنين فيما يعتقدون في صحته؛ فتقديمهم للعقل لا يكون إلا عند تعارض ظاهر لصحيح المنقول مع البداهة أو صريح المعقول مع قطعهم لسلامة حق اليقين أي الوحي، وتوقفهم عن الحكم في المسائل التي لا يدركها العقل، ولا قبل له للوصول إلى حكمتها الربّانيّة فهم لا يحسنون أو يقبحون ما لا يقفون على يقين خبره شأن تعليقهم الحكم على المخالفين في الدين (المسيحيين، واليهود، والصابئة) مسلّمين بقوله تعالى "إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً؛ فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون". "سورة البقرة الآية 62 "؛ واقتداءً بما جاء في السيرة وصحيح الحديث عن حسن وبر النبيّ صلى الله عليه وسلم باليهود والنصارى والصابئة في المعاملات مع علمه بحقيقة معتقدهم وكذا احترام حكام المسلمين بكنائسهم ومعابدهم في حين أن معظم العقائد والديانات في العصر الوسيط كما بينا سلفًا كانت شاغلة بالمعارك الدموية والمكائد والأكاذيب والتجديف والاجتراء، وغير ذلك من أشكال الكذب بين أصحاب الديانات والمذاهب الكائنة آنذاك، بل بين الفرق والطوائف وحسبنا أن إلا نستفيض في شرح نهجهم العقلي؛ فالمراد هو إثبات أن النقد العقلي عندهم هو الطريق الأرشد بوثوق الإيمان في أذهان وأفئدة أمة الدعوة وأمة الاستجابة معًا، وذلك كله انطلاقًا من درايتهم بعالمية الإسلام، وأنه دين للإنسانيّة التي لا تفلح إلا به، لذا نجد الجاحظ ينزع إلى أن العقل والشرع نوران متكاملان حيث يكمل كل منهما الآخر، ولا سيما في ميدان الدعوة والتوجيه والتربية؛ فالعقل وحده يفتقر إلى معرفة اليقين بينما الشرع يحتاج إلى العقل ليظهر حكمته العمليّة.

فالعقل عند الجاحظ هو الأساس في فهم الأمور التي يتعذر على العقل البشري تصورها بمفرده والنقل هو المصباح الذي ينقذ العقل من الريبة والشكوك في الأمور الغيبية المتعلقة بالقدرة الإلهية؛ لذا يصبح العقل والشرع نورًا على نور.

وكيف لا .. والعقل عنده هو أساس التكليف حيث إنه لا يحاسب الله الانسان إلا إذا كان عاقلًا؛ فالعقل هو مناط التكليف الشرعي وهو المعيار لفهم النصوص الشرعية وإدراك مقاصدها، ومن ثم بات التفكير والتأمل ضروريين لفهم مدلول الآيات القرآنية ناهيك عن الحكم في القضايا مثل وجوب القيادة في السياسة لإقامة العدل وحماية الأفراد.

ويناقش المعتزلة ادعاء مناظريهم بأن الانسان يكذب لأن الله كتب عليه أن يكون كذابًا فلو أراده غير ذلك ما منحه القدرة على الكذب واعطاه الدهاء وممارسة فعل الغش والخيانة والنفاق والكفر والفجور وغير ذلك من الشرور، ويجيب المعتزلة أن القول بأن الكذب ومشتقاته وتوابعه قدر كتبه الله عز وجل هو تجديف محض مستشهدين بقوله تعالى في كتابه العزير "إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل"، سورة الزمر، الآية 41 .)

 (إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىٰ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ۙ وَلَٰكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ {(سورة الأنفال، الآية 42).

كما يفرق شيوخ المعتزلة بين القدرة والإرادة الإنسانية؛ فالعقل الإنساني قادر على الصدق والكذب معًا، ويختار بإرادته الحرة بين الفعلين كما أن آيات القرآن تشهد بذم الباري تعالى للكذب والكذابين، فكيف يذم الكذب ويطبعه في العقل الإنساني ثم يحاسب الله الانسان على كذبه، (أي من هلك نفسه بالمعصية بعد ما عرفها فهو الهالك المهلك لها، لأنه مدخل لنفسه فيها ومن أحياها بالطاعة فقد عرف طريق الطاعة بما قلناه من تعريف الله لهم الطريقين وهدايته لهم النجدين لكيلا يكون لأحد على الله حجة) ويتضح من ذلك أمران:

 الأول: أن استخدام العقل عند المعتزلة ليس مطلقًا بل هو معصوم بالإيمان، وأن معالجتهم للقضايا لم تخرج عن كون العقل آلية لشرح وتدعيم الدليل النقلي وهو نهج جدلي مفحم في التناظر كما أشرنا.

أمّا الأمر الثاني: فيبدو في تأكيدهم على أن الكذب ليس قدر وأن كل أشكاله من ابتداع الانسان واختياره (بين الفجور والتقوى)..

وللحديث بقية عن غرابيل المعتزلة في مكافحة الكذب بنهوجهم العقلية. 

***

بقلم: د. عصمت نصار

يَمرُّ البشر بتجارب مختلفة، وهي وإن كانت تشترك فيما بينها في قواسم عريضة، لكنها تحتفظ في نهاية المطاف بخصوصيتها المائِزة عن غيرها، فكلٌّ له تجربته الخاصة بحكم الطباع الشخصية والبيئة وسياق الأحداث وعقلية الاستجابة والمتغيرات الخارجية، والنوازع الداخلية، وغيرها، ومع ذلك حينما ننظر إلى المحصلة النهائية نجد - في المجمل - أنّ البشر يخرجون من معمعة التجارب الخاصة بدروس نهائية متشابهة إلى حد كبير، معلنةً أن الجوهر واحد مهما تعددتْ السبُل، ولا ضَيرَ في اختلاف الطريق إذا كانت تؤدي إلى نهاية واحدة.

ومن بين تلك الدروس العامة التي نصل إليها - نحن البشر - عبر تجارب متباينة أشدّ التباين، وجوب إراقة التضحيات من أجل المَسعى، وكلما كانت الأماني جليلة، عظُمَ حجم التضحيات التي نقدمها تحت أقدامها، ومن هنا كانت الحياة  تعقيدا من المقايضات، خذ وهات.

إنّ مَن يرومُ الظفرَ بأهداف بلا استعداد جادّ إلى بذل ما تتطلبه من قرابين، فهو يعيش خيالا مترَفًا، لا يمتّ إلى الواقع بِصلة، ويُمنّي نفسه بمستحيل لن يرى النور، على أنّ هذه القرابين تتخذ أشكالًا عدّة، وصوَرا شتّى، تتمثّل في الوقت والتنازلات والجهد وتغيير الرؤى وإرساء حدود قاسية وبذل المال وضبط النفس والصمت الإستراتيجي وتجرّع آلام محسوبة، والقائمة تطول، ولكل غاية تضحيات خاصة بحكم خليط العوامل التي تحفُّ بها، فإن اشترك اثنان في نشدان غاية ما فليس بالضرورة أن يضطرا إلى تقديم القرابين ذاتها.

وحين نتعاطى مع موضوع التضحيات التي نقدمها؛ كَرْمى الأهداف، فإننا لا يمكن ألّا نشير إلى الممارسات التي تحمل الملامح ذاتها لكنها تجسّد درجات مقززة من السمات الحيوانية القابعة فينا، وذلك حين ينبري المرء بالتخلي عن مبادئ الشرف والمروءة والإنسانية والكرامة والنزاهة والأمانة ليصل إلى مبتغاه، ويكون مستعدا لدفع أي ثمن - مهما كانت الإنسانية تمجُّه مجًّا - حتى ينال مطلوبه،  كمن يكيد المكائد ضد غيره زورا وبهتانا حتى يظفر بمنصب ما، أو يبذل مالا وفيرا في سبيل تشويه سمعة أحدهم، وعليه؛ فهناك مستويان من الممارسات اللاإنسانية في موضوع التضحيات، أولهما أن يكون الهدف مشروعا لكن التضحية المقدمة غير مشروعة، ويجسدها المثال الأول، أو أن تكون التضحية بحد ذاتها مشروعة لا شِيَةَ فيها لكن الهدف غير مشروع، وعليه المثال الثاني، إن التضحيات التي أسلّط عليها الضوء في هذا المقال هي - حصرا - تلك التضحيات المشروعة، والتي تخدم هدفا نبيلا ومسعى كريما وغاية سامية، الأهداف التي تتعلق بها النفوس النبيلة المترفّعة عن القاع وتربأ بنفسها عن الضحالة.

عَوْدًا على بَدْء، الحياة مقايضة، نعم هي كذلك قانونا مضت عليه الحياة وما زالت، لا شيء يحدث بالمجان، لا شيء يحدث عفو الخاطر، لا شيء يَجيءُ اعتباطا، فإذا أردت أن تقطع مسافة مائة متر مشيا يجب أن تكون خطواتك أكثر مما إذا كانت المسافة المراد قطعها عشرة أمتار فقط.

إن الفكرة المحورية التي أنوي أن أجُرَّها إلى بؤرة الضوء هنا هي أنه إذا كان الأمر على هذه الشاكلة، وأنه يتحتّم علينا أن نقدم القرابين، فلا بُدّ أن نصطفي أنبل الأهداف وأرفعها شأوًا، وهذا هو مربط الفرس، فمن يقضي سحابةَ عمره في بذل التضحية وراء الأخرى من أجل هدف هزيل غير مستحق، فإنه لا يصنع شيئا سوى دَلْق عبير حياته على القَيْح، ومن ناحية أخرى فإن الاهتداء إلى التضحيات السديدة هو عنصر مهم جدا، إذْ لا يكفي أن يكون الهدف نبيلا فحسب، بل لا بد أن يُقرَن بالتضحيات الصحيحة، مع الانتباه إلى أنه لا يعني من كون التضحية مشروعة أنها صحيحة، فكونها مشروعة هذا جزء أساسي لا ريب، لكنه يجب أن تُضاف إليها الدقة والمناسبة، وعليه؛ فإنّ الطريقة المثلى للسعي الذي يؤتي ثماره هو الهدف السامي المقرون بتضحيات مشروعة وصحيحة، ومَن يكن هدفه ساميا، وتضحياته مشروعة لكنها لا تخدم مساره، فإنه عبثًا يحاول، كأعمى يخطو للأمام بغير هدى ظانًا أنه لا شك سيصل إلى وجهته؛ لأنه يمضي مجتهدا.

إنّ الأهداف السامقة والطموحات المتعالية تتطلب نفوسا جامحة بالإصرار والتفاني، وفي ذلك للمتنبي حكمة سائرة إذْ يقول:

وإذا كانت النفوسُ كِبارًا            تعِبتْ في مُرادِها الأجسامُ

وبالالتزام والمثابرة نستطيع أن نعقد مقايضات رائعة رابحة مع الحياة، وهذا لا يتأتّى بغير الدُّربة، فتوطين النفس على التضحيات الجسيمة من أجل المعنى هي في جوهرها عضلة تحتاج إلى مِراس، شأنها شأن سائر عضلات الجسم العضوية التي يؤول إهمالُها إلى الضمور، ولكنها مع الصقل والتدريب، يشتدُّ عودها وتتضخّم عروقها.

إنّ مقايضة الحياة عبر دروب التضحيات ليست سلوكا كماليا على قارعة طريق الترفيه، بل ممارسة مُلحّة متوغلةٌ في حياة قويّي الشكيمة، أولئك الذين يريدون بحقّ أن يصبحوا علامة فارقة وقصة مؤثرة، تضع في حسبانها أنّ خيارات الحياة العليا تتطلّب ثمنا باهظا، وهم مستعدّون حقًا لدفعه، ثمنٌ قد يكلّفهم التخلي عن أعز ما يملكون، لكنهم يتخلون عنه بكل رضى جذِلين بالتجلّي وراء هذا التخلّي، مخلّفين وراء ظهورهم الدّعة والراحة المزيفة، تاركينها لمن ليسوا على استعداد بعدُ للتنازل عنها ليحرموا أنفسهم من تحقيق غايات قد تغير حياتهم رأسا على عقب.

وبرأيي لا تصلح أي فكرة أن تكون خاتمةً متينةً لِما طرحتُه كفكرةِ أنّه حذارِ حذارِ من هدفٍ لا يستحق تضحياتِه، مهما كان عظيما، فأيّ هدف يستحق أن نخسر في سبيله مستويات متقدمة من راحة بالنا واستقرارنا النفسي وصحتنا؟ لا هدفَ أبدا، هذا إنْ كنّا نُوْلي سلامنا الداخلية أولوية قصوى لا تضاهيها أية أولوية في سُلّم أولويّاتِنا، وكم من أناس بذلوا الغالي والنفيس من صحتهم النفسية للظَّفَر بهدف كبير ومشروع، ولكنهم أدركوا بعد فوات الأوان، بعدما نُكِبوا بوَيلات جسيمة في استقرارهم النفسي وصحتهم الجسدية، أنّ الأمر لم يكن يستحق كل تلك الاستماتة، وأنه لو رجع الزمان بهم لما قدموا أمرا على صحتهم مهما كان بريقه لامعا، على أنّ بعض الأهداف يمكن أن تكون أولويات مرحلية مؤقتة من أجل الصالح النهائي العام، وحينئذٍ، وحينئذٍ فقط يمكن تبرير تقديم بعض الأهداف الأقل أولويةً - مؤقتا - على ما هو أولى منها كالاستقرار النفسي والعائلة، فتغدو التضحية بهذه الأولويات الجوهرية من أجلها، فهي القربان وهي الغاية في آن.

***

محمـــد سيـــف

كيف تُقوّض اللامبالاة التعليمية الالتزام الأخلاقي في المهنة التربوية

في زمنٍ انحسر فيه وهج الرسالة وتراجعت حرارة الإيمان بالمهنة، تحوّل التعليم عند كثيرين إلى وظيفة تُؤدّى ببرودٍ، ودرسٍ يُلقَى كواجبٍ لا كعبادةٍ. في خضمّ هذا الفتور يتسلّل إلى الجسد التربوي داءٌ خفيّ اسمه اللامبالاة؛ ذلك المرض الصامت الذي لا يُعلن نفسه لكنه يأكل من الداخل كلّ ما هو نبيل في مهنةٍ كان يُفترض أن تكون أقدس المهن، لأنها تصنع الوعي وتبني الإنسان.

يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ (الشمس: 9-10)،

فيضع أول لبنةٍ للانضباط المهني من داخل النفس، حيث تبدأ التربية الحقيقية. فالتزكية ليست فكرة وعظية بل سلوكٌ يوميٌّ يُمارسه المربي حين يُهذّب نفسه قبل أن يُهذّب الآخرين.

وهنا تتجلّى عظمة الكلمة التي قالها الإمام علي عليه السلام:

(من نصب نفسه للناس إمامًا فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه)،

فهو يربط بين القيادة الأخلاقية والانضباط الذاتي، مؤكدًا أن القدوة الصامتة أبلغ من ألف درسٍ منطوق، وأن المربي حين يُعلّم بسيرته يترك في النفوس أثرًا لا يُمحى.

المهنية في المنظور الإسلامي ليست انضباطًا إداريًا جامدًا، بل هي سلوكٌ نابع من الضمير، إذ يقول أمير المؤمنين عليه السلام أيضًا:

(قيمة كل امرئ ما يُحسنه)، فيُعيد تعريف القيمة المهنية على أساس الإتقان لا المنصب، وعلى الإخلاص لا الظهور. فالمعلم الذي يرى في عمله وجه الله لا وجه الرئيس هو الذي يبلغ قمة المهنية التربوية، لأنه يجعل من الإتقان عبادةً ومن العمل طريقًا للتقوى.

أما الإمام الحسين عليه السلام فيُجسّد جوهر الإصلاح المهني حين يقول:

(إني لم أخرج أشِرًا ولا بطرًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي)،

فالإصلاح في منطق الحسين هو الغاية العليا لكل مهنة، وهو المعيار الذي يقيّم به الإنسان أداءه لا في ظاهر الفعل بل في نيته وبصمته الأخلاقية في المجتمع.

حين يغيب هذا البعد الإصلاحي، تتحوّل المهنة إلى تكرارٍ ميكانيكيٍّ بلا روح. اللامبالاة لا تقتل فقط شغف المعلّم، بل تُطفئ نور الرسالة في عينه، فيفقد توازنه بين الواجب والضمير، بين الأداء والإيمان. عندها تتحوّل القوانين إلى جدرانٍ صامتة لا حياة فيها. وهنا يأتي نداء الإمام الصادق عليه السلام ليوقظ الضمائر:

(كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإن ذلك داعية)

فالمهنية ليست في كثرة التعليمات، بل في صدق التطبيق، وليست في حسن القول، بل في صفاء العمل.

ولأن الإسلام يربط الانضباط بالنية، لا بالعقوبة، جاء في القرآن قوله تعالى:

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ (الشمس: 7-8)، ليُشير إلى أن مصدر الأخلاق هو الإلهام الإلهي في ضمير الإنسان، لا الرقابة الخارجية. هذا ما التقطه الفكر التربوي الغربي لاحقًا، حين رأى كولبرغ أن قمة النمو الأخلاقي هي أن يتصرّف الإنسان بدافعٍ من مبدأ داخلي لا من سلطةٍ خارجية، وهي الفكرة نفسها التي سبق إليها القرآن حين جعل الضمير المستنير بالتقوى هو الحارس الأول للسلوك.

وفي هذا السياق، حاول إميل دوركايم أن يفسّر الانضباط كقيمةٍ اجتماعية تحفظ تماسك الجماعة، بينما رأى ماكس فيبر أن الأخلاق المهنية شكلٌ من العبادة الدنيوية، إذ يتحوّل العمل إلى ممارسةٍ أخلاقيةٍ تُعبّر عن روح الإنسان. غير أن الإسلام تجاوزهما معًا، حين جعل العمل نفسه عبادةً إذا قصد به وجه الله، فجعل الانضباط نيةً قبل أن يكون نظامًا، وإخلاصًا قبل أن يكون التزامًا.

وقد جسّد الإمام علي عليه السلام هذا الفهم في وصيته الشهيرة لعامله مالك الأشتر حين قال:

(واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق) إنها مدرسة في القيادة الأخلاقية، حيث تكون الرحمة أساس المهنية، والاحترام جوهر الانضباط، والإنسانية غاية العمل. فالمعلم الذي يُربي بإنسانيةٍ يزرع في المتعلم محبة العلم لا الخوف منه، ويجعل من الصف فضاءً للثقة لا للرهبة.

ولذلك قال الإمام علي عليه السلام أيضًا:

(العلم مقرونٌ بالعمل، فمن علم عمل، ومن عمل علم، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل عنه)،

فيختصر بذلك جوهر الممارسة التربوية الصادقة، فالعلم الذي لا يُثمر عملاً يتحوّل إلى عبء، والمهنة التي لا تقوم على الإخلاص تفقد معناها الروحي مهما بلغت من التنظيم والدقة.

إن التعليم الحقيقي ليس في ضبط الحضور والانصراف، بل في حضور القلب أثناء العطاء. فالمعلم الحقّ هو من يرى في كل تلميذٍ أمانةً، وفي كل درسٍ شهادة، وفي كل نجاحٍ صدقةً جارية. إنّه من يربط الطباشير بالسماء، ويرى في كل حصةٍ عبورًا نحو إنسانٍ أفضل.

وصدق الله تعالى إذ يقول:

﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: 105)، ليؤكد أن المهنة في جوهرها عبادة، وأن العمل الذي يُنجَز بنيةٍ صادقةٍ لا ينتهي بانتهاء الدوام، بل يمتدّ أثره في النفوس ما دامت تبحث عن النور.

اللامبالاة التعليمية ليست مجرد غيابٍ للحافز، بل هي غياب للرسالة. حين يفقد المعلم إحساسه بأن التعليم عبادة، يتحوّل الفعل التربوي إلى نشاط آلي بلا روح، ويتحوّل المتعلم إلى متلقٍ لا يتفاعل. وهنا تكمن المأساة الكبرى: حين يغيب الإيمان بالمهنة، تتلاشى قدسيتها، وتُختزل في مسمى إداري أو روتين يومي.

لقد أدرك إميل دوركايم منذ بدايات الفكر التربوي الحديث أنّ المدرسة ليست مكانًا للتلقين، بل فضاء لتشكيل الضمير الجمعي، وأن الانضباط في التعليم هو انضباط في الأخلاق قبل أن يكون انضباطًا في السلوك. لكن ما لم يفطن إليه الكثير من المربين الغربيين هو أن جذور هذا المعنى ضاربة في عمق الوحي؛ ففي الإسلام، يُعتبر التعليم طريقًا إلى الله، والمعرفة عبادة إذا خالطها الإخلاص.

يقول الإمام علي عليه السلام: «قيمة كل امرئٍ ما يُحسنه»، وهي عبارة تختصر معنى الاحتراف المهني في أبلغ صوره؛ فالقيمة هنا ليست في المنصب ولا في الشهادة، بل في الإتقان، في ذلك البذل الهادئ الذي لا يراه أحد لكنه يبني أجيالًا. ويقول الإمام الصادق عليه السلام: «كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم»، فيضع معيارًا للقدوة المهنية لا يحده قانون ولا توصيف وظيفي، بل يقوم على الصدق العملي الذي يزرع في المتعلمين احترام المهنة، لا الخوف منها.

أما في الفلسفة الغربية، فقد حاول ماكس فيبر أن يمنح للمهنة بعدًا روحيًا في تحليله لـ"الأخلاق البروتستانتية"، حين رأى أن الانضباط في العمل شكل من أشكال التعبّد الأخلاقي. ومع أن نظرته وُلدت في سياق مادي، إلا أنها تلتقي – دون أن تدري – مع جوهر الرسالة القرآنية التي تقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ﴾، لتؤكد أن الاتقان هو الوجه العملي للإيمان، وأن المهنية ليست قيدًا على الحرية بل تعبير عن الوعي بالمسؤولية.

ويأتي كولبرغ في نظريته عن "النمو الأخلاقي" ليقول إن الإنسان في أرقى درجات نضجه المهني يتصرّف وفق ضميره الداخلي لا رقابة الخارج، وهو ما يجعلنا نرى في المربي المؤمن نموذجًا راقيًا لهذه المرحلة؛ إذ يتصرف اتساقًا مع وازعه الإيماني، لا خوفًا من محاسبة إدارية.

في هذا السياق، يبدو التعليم اليوم في أزمة مزدوجة: أزمة ضميرٍ وأزمة هوية. حين يتراجع الحس الأخلاقي في المؤسسات، تصبح القوانين عاجزة عن إنتاج الانضباط، تمامًا كما لا يمكن للماء أن يُروّي أرضًا قُطِع عنها النبع. فالضمير المهني هو النبع الذي منه تنبثق كل قيمة تعليمية حقيقية.

ولعلّ أجمل ما عبّر عنه أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الباب قوله: «ثمرة العلم العمل به». فالعلم الذي لا يتحول إلى سلوكٍ منضبط، إلى مهنةٍ تُمارس بوعي، هو كالسراج الذي لا يضيء إلا لذاته. وهنا تتجلّى مأساة التعليم المعاصر: كثرة المعلومات، وقلة الضمائر.

التعليم المهني الحقيقي ليس في ضبط الحضور والانصراف، بل في حضور القلب أثناء العطاء. هو أن يقف المعلم أمام طلابه، لا كموظف يُنجز واجبه، بل كحامل أمانةٍ يخشى أن يُسأل عنها يوم يُقال: (وقفوهم إنهم مسؤولون)، عندها فقط يستعيد التعليم روحه، ويسترد الانضباط معناه، وتعود المهنة رسالةً لا وظيفة، وإيمانًا لا واجبًا.

فالمعلم الذي يُتقن عمله، ويُربي بصدق، ويُخلص في رسالته، هو امتدادٌ للنور الذي حمله الأنبياء والأئمة في دعوتهم إلى الوعي والعقل. ذلك أن التربية ليست مجرد نقل معرفة، بل بناء إنسان، والإنسان لا يُبنى إلا على قيمة الانضباط والإتقان التي هي في جوهرها قيمة التوحيد في الفعل والإخلاص في النية.

***

ا. م. د. صباح خيري العرداوي

اعلنت ادارة معرض القاهرة الدولي للكتاب، في دورته الجديدة التي ستعقد للفترة من 21 كانون الثاني إلى 3 شباط 2026.، الاحتفاء بكتاب طه حسين " في الشعر الجاهلي " حيث يصادف مرور مئة عام على صدوره – صدر في ايار من عام 1926 -.

في العشرين من اذار عام 1932 الحكومة المصرية تعقد اجتماعا طارئا، لم يكن على جدول اعمالها سوى قضية واحدة، وبعد ربع ساعة من الاجتماع خرج رئيس الوزراء اسماعيل صدقي الى مندوبي الصحف الذي تجمعوا بانتظار قرارات المجلس ليعلن لهم:" استنادا الى الصلاحيات المخولة لنا.. قرر مجلس الوزراء فصل الموظف بوزارة المعارف العمومية طه حسين افندي من خدمة الحكومة ".. بهذه الكلمات اعتبرت الحكومة المصرية ان الازمة التي استمرت ست سنوات كاملة، قد انتهت.

كان طه حسين قد بدا بكتابة " في الشعر الجاهلي في كانون الثاني عام 1926، وانجزه بعد شهرين لينشر في ايار من العام نفسه، وبعد خمسة اشهر من توزيع الكتاب اصدر رئيس نيابة مصر القرار التالي: بتاريخ 30 ايار سنة 1926 تقدم بلاغ من الشيخ خليل حسنين الطالب بالازهر لسعادة النائب العمومي يتهم فيه الدكتور طه حسين بانه الف كتابا اسماه (في الشعر الجاهلي)، وفيه طعن صريح في القرآن الكريم. حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي الكريم.. وبتاريخ 5 حزيران ارسل فضيلة شيخ الازهر لسعادة النائب العام خطابا يبلغ له به تقريرا رفعه علماء الجامع الازهر عن كتاب الفه طه حسين المدرس بالجامعة المصرية اسماه (في الشعر الجاهلي) كذب فيه القرآن صراحة وطعن على النبي (ص). واهاج بذلك ثائرة المتدينين واتى بما يخل بالنظم العامة ويدعو الناس للفوضى. وطلب اتخاذ الوسائل الفاعلة الناجعة ضد هذا الطعن على دين الدولة الرسمي وتقديمه للمحاكمة.

وبتاريخ 14 ايلول سنة 1926 تقدم الينا بلاغ آخر من حضرة عبد الحميد البنان افندي عضو مجلس النواب ذكر فيه ان الاستاذ طه حسين المدرس بالجامعة المصرية نشر وعرض للبيع في المحافل والمحلات العمومية كتابا اسماه (في الشعر الجاهلي) طعن وتعدى فيه على الدين الاسلامي بعبارات صريحة واردة في كتابه. وحيث انه نظرا لتغيب الدكتور طه حسين خارج القطر المصري.. قد ارجانا التحقيق الى ما بعد عودته ". هكذا توالت البلاغات على النائب العامة حيث وصل عددها الى اكثر من ثلاثين بلاغا جميعها تطالب بتقديم طه حسين الى المحاكمة وحرق كتابه " في الشعر الجاهلي " بالساحات العامة.

كان طه حسين انذاك في السابعة والثلاثين من عمره، يقضي اجازة الصيف في فرنسا، لكنه فوجيء ببرقية مستعجلة يرسلها له صديقه محمد المرصفي يخبره فيها:" عرض على البرلمان كتابك في الشعر الجاهلي. ناقش البرلمان طردك من الجامعة. هدد رئيس الوزراء بالاستقاة. تدخل سعد زغلول، احيل الموضوع الى النيابة العامة. النيابة تطلب حضورك للتحقيق معك ".

لم يخبر المرصفي صديقه طه حسين بان امور اخرى جرت خلال الايام الماضية، فطلبة الازهر ومعهم بعض المشايخ تظموا تظاهرة توجهت الى بيت سعد زغلول تطالبه بالاقتصاص من طه حسين ويتحدث احد المشايخ نيابة عن المتظاهرين ليقول لسعد زغلول:" نعلن اليك يامولانا اننا كما اتخذناك سلاحا نحارب به المغتصبين، فسنتخذك سلاحا نحارب به الملحدين ".

وفي مجلس النواب كانت هناك جلسة عاصفة حيث وقف النائب مصطفى الغاياتي يقول:" ما كان المظنون به ان يوجد بين المسلمين في مصر من يجرؤ على الدين الى هذا الحد الذي بغه طه حسين افندي " ثم يطالب بحرق الكتاب ورجم المؤلف.

ويتحدث رئيس الجامعة احمد لطفي السيد ليخبر المجلس ان الجامعة منعت انتشار الكتاب بان اشترت جميع النسخ وحفظتها في مخازنها. كما اتخذت اجراءات امنع طبع نسخ اخرى.

في السادس من تشرين الاول عام 1926 يقطع طه حسين اجازته ويعود الى مصر، وفي اليوم التالي يذهب الى النيابة، فيجد القاعة الكبرى وقد امتلات بمراسلي الصحف وبعدد من علماء الازهر وطلبته

وقد انحصر التحقيق في اربع نقاط اساسية:

1- مسالة وجود النبي ابراهيم وولده اسماعيل في الجزيرة العربية

2- مسالة القراءات السبع للقران

3- الحديث حول قريش

4- وجود الاسلام في البلاد العربية

ويبدا التحقيق

س: لماذا حاولت في كتابك التعرض الى الدين الاسلامي

ج: لم اعرض بالدين، وقد اقتصر بحثي على العلم والاستدلال بالعلم

س: هل تعتقد ان القران وحده كاف لاثبات الوقائع التي وردت فيه

ج: تنقسم الوقائع الى قسمين

- الحوادث المعاصرة لنزول القران.. وهو صحيح

- الحوادث التي حدثت قبل نزول القران وهي عبارة عن قصص اراد الله بها اقناع عبيده وهدايتهم.

ان طه حسين لم يكن يتصور ان كتابه يمكن ان يثير كل هذه الضجة، فهو يعتقد ان منهجه في البحث العلمي يتيح له ان يطبق نظرية الشك التي نادى بها الفيلسوف الفرنسي ديكارت على تاريخ الادب العربي ولهذا نراه يكتب في مقدمة كتابه " في الشعر الجاهلي:" ان الكثرة المطلقة مما نسميه ادبا جاهليا، ليست من الجاهلية في شيء، وانما هي منحولة بعد ظهور الاسلام، فهي اسلامية تمثل حياة الجاهليين. ولا اكاد اشك في ان ما بقى من الادب الجاهلي الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الادبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي ".

لعل الجزء الخطير في هذا المقطع هو اثارة الشك فيما يتعلق بالتراث العربي، ان طه حسين يشك في كل شيء، ويريد لهذا الشك ان يصبح منهجا يدرس في الجامعة فهو يكتب في بعض صفحات الكتاب:" نحن بين اثنين: إما ان نقبل في الادب وتاريخه ما قاله القدماء، لا نتناول ذلك من النقد إلا بهذا المقدار اليسير الذي لا يخلو من كل بحث، وإما ان نضع علم المتقدمين كله موضوع البحث. لقد نسيت فلست اريد ان اقول البحث، وإنما اريد ان اقول الشك ".

بعد اشهر من انعقاد المحكمة وسماع دفاع المتهم واراء بعض رجال الدين اصدر القاضي محمد نور رئيس نيابة مصر في الثلاثين من آذار عام 1927 قرار جاء فيه:" وحيث انه مما تقدم يتضح ان غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدى على الدين بل ان العبارات الماسة بالدين التى أوردها فى بعض المواضع من كتابه انما قد أوردها فى سبيل البحث العلمى مع اعتقاده ان بحثه يقتضيها. وحيث انه من ذلك يكون القصد الجنائى غير متوفر. " فلذلك" تحفظ الأوراق ادارياً ".

تذكر سوزان طه حسين الأزمة التي اثيرت حول كتاب "في الشعر الجاهلي" فتكتب في مذكراتها: "الضجة التي اقترنت بهذا الكتاب، وثورة الجهل والتعصب التي اعقبت صدوره نعرفها جميعا، اما ما لانعرفه فهو ماكانته هذه المحنة في نظر زوجي الذي كانت رزانته الثابتة تمنعه من الشكوى، لقد بدأ كتابة هذا الكتاب في كانون الاول عام 1926 وانجزه في اذار من العام نفسه. "

لم يشأ طه حسين ان يرد على سيل الهجوم، هذا إلا أنه اجاب فيما بعد على اسئلة وجهها له صديقه احمد حسن الزيات ونشرت في مجلة الرسالة في عددها الصادر في ايار عام 1926.

* أية عاصفة تلك التي أثرتها يادكتور؟

- يجيب طه حسين: ضجة كبيرة لأمر تافه، ان الاستاذ الذي يلقي دروسه بأمانة كثيرا ما تعرض له في المادة التي يدرسها ملاحظات ومباحث شخصية كما تعرض له في بعض الاحيان نظريات ايضا، وطبيعي جدا ان يجمع هذه الملاحظات ويصوغها في قالب تحليلي يعرضه مع شيء من التفصيل.

* ولكنك تعرضت لمسائل تعرف انها شائكة.

- بلى، ولكني طلبت مدفوعا بشغف مهنتي الى اولئك الذين لا يعرفون مناهج النقد الحديثة والبحث الحر ألا يقرأوا كتابا لم يكتب لهم، ان كتابي جدير بما هو جدير به، وقد لا تكون له قيمة الا في نزاهة بحثه.

يذكر الدكتور طه حسين في كتابه أسباب انتحال الشعر الجاهلي، فيذكر البواعث الدينية والسياسية، وأثر القصاص والشعوبية والرواة في هذا الانتحال، ثم يستعرض الشعراء مؤكدا ما ذهب إليه من أن أكثر ما يضاف إلى هؤلاء الشعراء الجاهليين منحول، رافضا الشعر المنسوب إلى شعراء اليمن؛ لأن لليمن لغة تُخالف لغة قريش.

ويقول: " إن هجرة اليمنيين إلى الشمال مشكوك فيها أولا، وليس كل الشعراء هاجروا من اليمن ثانيا، فالشعر الذي يضاف إلى «جُرهم» وسواهم من الذين عاصروا إسماعيل منحول، وليس لليمن في الجاهلية شعراء، أما ربيعة وهى من عدنان، وتسكن في الشمال، فشعرها دون شعر المضريين، وأما مضر فكان لها شعراء يتخذون الشعر فنا، فالشعر أصل في مضر دون اليمن أو ربيعة، فنظرية تنقل الشعر في القبائل غير صحيحة، فالشعر إنما كان في مضر ثم انتقل إلى أقرب القبائل العربية إليها، وهم ربيعة ثم إلى القبائل البعيدة، كاليمن، ثم إلى الموالى وليس كما يقول علماء العربية من أن الشعر كان في اليمن، ثم انتقل إلى ربيعة، ثم إلى قيس من مضر، ثم إلى تميم، وشعراء المدينة ليسوا يمنيين، بل هم مضريون".

ويتبن لنا أن طه حسين اعتمد في بحثه على الشك في هذا التراث متخلصا من كل أفكاره القديمة التي عرفها من قبل؛ ولذلك رأى أن هذه الوفرة في الشعر الجاهلى بالفعل لا يمكن أن يقبلها عقل أو منطق؛ نظرا لأن هذا الشعر كان يُنقل شفاهة ولم يتم تدوينه، كما أن الكثير من الرواة ماتوا في الحروب وغيرها، وبالتالى لا يمكن أن يُنقل إلينا كل هذا التراث بهذه الوفرة، حيث لم تُعرف الكتابة والتدوين إلا قبل الإسلام بقرن واحد فقط من الزمان، وهو ما ينفى أن يكون كل ما وصل إلينا بالفعل من تأليف شعراء عاشوا في العصر الجاهلي.

وفى مواجهة كتاب " في الشعر الجاهلي " صدرت كتب عديدة منها: (نقد كتاب فى الشعر الجاهلي) لمحمد فريد وجدى، و(الشهاب الراصد) لمحمد لطفى جمعة، و(نقض كتاب فى الشعر الجاهلي) للشيخ محمد الخضر حسين، و(محاضرات فى بيان الاخطاء العلمية والتاريخية التى اشتمل عليها كتاب فى الشعر الجاهلي) للشيخ محمد الخضرى، و(تحت راية القرآن) لمصطفى صادق الرافعى و(النقد التحليلى لكتاب فى الشعر الجاهلي) للدكتور محمد أحمد الغمراوى، وعشرات بل مئات غيرها من الكتب والمقالات والأبحاث.

طه حسين الذي أضاء حياتنا بوصفه مثقفا جمع بين الفكر والممارسة في وحدة متماسكة، قدم لنا المثل لما ينبغي ان يكون عليه المثقف والكاتب في ظلوطوال حياته التي بلغت الـ " 84 " عاما – توفي في الثامن والعشرين من تشرين الاول عام 1973 – يخوض معاركه قولاً وفعلاً، لم يتعب او يستكين، تنقل من معركة الى معركة، وكل معاركه هدفها اشاعة التعليم وتحرير العقول وتحديث المجتمع، مؤمنا بالدور الحاسم الذي يجب ان تلعبه النخب الثقافية التي عليها ان تتبنى مشروعا تنويرا يسعى الى توسيع قاعدة الناس القادرين على تغيير واقعهم.

كتب محمد مهدي الجواهري في رائعته " أحييك طه ":

نهضت بنا جيلاً وأبقيت بعدنا

لأبنائنا ما يحمدون به المسعى

*

أبا الفكر تستوحي من العقل فذّه

وذا الأدب الغضّ استثرت به الطبعا

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

من يتذوق طعم الوعي ولو قطرة، ينزع من جنة السذاجة نزعا، ويلقى في براري الحقيقة وحيدا، كأنما انتزع عن نفسه القديمة كما تنتزع القشرة اليابسة عن شجرة خرجت لتوها من شتائها الطويل. فليس الوعي نعمة خالصة كما يظن الغافلون، بل هو حد قاطع، وسيف لا يعود إلى غمده بعد أن يلامس الهواء.

من يتذوق الوعي حقا، لا يعود كما كان؛ فهناك تجارب لا تضيف إلى الروح، بل تعيد صياغتها من جذورها، كأنما تبدل عيناه بأخريين تريان ما لم ير، وتسقطان عنه نعمة العمى التي عاش بها مطمئنا دون أن يدري.

 إن لحظة الوعي ليست إشراقا، بل شرخ في السقف الذي ظل يحميه طيلة حياته؛ شرخ تتسرب منه الحقيقة أولا كنقطة ضوء، ثم كفيض جارف يغرق كل يقين سابق.

فالذي رأى الحقيقة عارية، بلا مساحيق اعتقاد ولا ثياب أسطورة، لا يهنأ بعد ذلك بنوم في حضن الوهم، ولا يستدفئ بغطاء أمنيات الخلاص. لقد انكسرت المرآة التي كان يتجمل فيها، وظهر له وجه العالم كما هو: صلابة بلا رحمة، وجمال بلا قصد، وفوضى لا تطيق التأويل. ومن عرف هذا الوجه، لا يعود قادرا على الاحتماء بالطقوس أو المواعظ أو بقايا الحكايات الموروثة؛ فقد سقطت عنه القدرة على التصديق الطفولي، وانفتح فيه جرح المعرفة، ذلك الجرح الذي لا يلتئم.

يعرف الواعي أن الحقيقة ليست نورا دائما، بل احيانا تكون لمعان خاطف يكشف ما لا نحب أن نراه: هشاشتنا، عرينا، وحدتنا الكونية، وانعدام أي مركز مطمئن يمكن أن نلوذ به. الحقيقة لا تأتي لتطمئن، بل لتوقظ؛ واليقظة ليست سكينة بل ارتجافة روح أدركت أنها معلقة في فضاء لا وعد فيه، ولا يد خفية تنقذها.

وهنا يتجلى العذاب الأعظم: أن يرى الإنسان الواعي كل شيء بوضوح قاتل، ثم ينتظر منه أن يبتسم، وأن يتظاهر بأنه لا يزال يصدق ما لم يعد قادرا على الإيمان به.

 إن المعرفة جرح نبيل، لكنها جرح مفتوح، يذكرك كل يوم بأنك لم تعد قادرا على الاحتماء بظل صنعته لنفسك.

إن العذاب الأعظم ليس في أن تحرم من الخرافة، بل في أنك لم تعد قادرا على الرضا بالقليل الذي يرضى به الآخرون. العذاب في أنك صرت ترى ما وراء الكلمات، وما بين السطور، وما خلف جدران الطقوس. العذاب في أن العالم صار شفافا أكثر مما ينبغي، وأنك أصبحت قارئا مجبرا لكتاب الوجود، ولو كنت تتمنى لو أنك عدت أميا، لا تفهم من هذا الكتاب شيئا.

ومع ذلك، فإن هذا الجرح نفسه هو ما يجعل الإنسان حرا؛ فالحرية ليست في أن تملك الإجابات، بل في أن تمتلك شجاعة مواجهة الأسئلة. الوعي لا يمنح السلام، بل يمنح القدرة على الوقوف بلا سند، والقدرة على احتمال الحقيقة ولو كانت جارحة، والقدرة على تحمل النور ولو كان حارقا.

وما الحقيقة إن لم تكن صدمة تسقط عنك آخر قميص من أوهامك؟

 إن الواعي لا يستطيع أبدا أن يتجاهل أو ينسى وعيه، هو وحده الذي يمشي في الطريق الذي لا يجرؤ عليه أحد: طريق الأسئلة التي لا تنتهي، واليقظات المؤلمة، والوضوح الذي يضيء مثل البرق، لكنه يترك في القلب ندبة لا تزول.

وهكذا يواصل الواعي سيره، لا متكئا على أسطورة، ولا مطمئنا إلى وعد، بل على بصيرة تشبه الجرح: تفتح الطريق وتفتح الألم.

هو الإنسان الذي بدأ رحلته الحقيقية:

رحلة بلا دليل، بلا أسطورة، بلا وعود،

لكنها الرحلة الوحيدة التي تستحق أن تعاش.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

لفت انتباهي هذا الأسبوع حديث قصير بعنوان «العقل الذي يخدعنا... هل نثق به» للأكاديمي المعروف الدكتور صالح زياد، على قناته في «يوتيوب». وهذه حلقة في سلسلة حول مفهوم العقل، خصصها للمقارنة بين مفهوم قديم، فحواه أن العقل جوهر مستقل عن الجسد والمحيط، وأن استقلاله يتيح له أن يكون حاكماً محايداً على ما سواه، مقابل مفهوم حديث يركز على حدوده، لا سيما التأثير العميق لتجربة الإنسان الحياتية، والمحيط العائلي والاجتماعي على ما نسميه «التفكير».

وقد شرح الدكتور صالح الفكرة، فجعلها سهلة المنال، مع ما تنطوي عليه من تعقيد في الأصل. وودت أن أضيف شيئاً إلى تلك المقاربة، مركزاً - كما سيأتي - على التصور الحديث لمفهوم العقل، وما يواجه من تحديات وقيود، حيث يشكل الصراع بين إرادة الإنسان لإدارة حياته وتلك التحديات والتقييدات جوهر النشاط العقلي، وهو أيضاً الحقل الذي يشهد ولادة الأفكار الجديدة.

السلوك الإنساني، وهو عفوي في معظمه، انعكاس لصورة العالم في ذهن الإنسان. إن فهم الظواهر الاجتماعية، أي نتائج السلوك البشري في النطاق الاجتماعي، يبدأ بافتراض مسبق، فحواه أن هذا السلوك يتحرك بين دافعين: الأهواء والنزعات الانفعالية التي نعرفها عموماً باسم «العاطفة»، والحس السليم الذي نعرفه عموماً باسم «العقل». ليس من الإنصاف الادعاء بأن العقلاني هو فقط ما ينتجه الحس السليم، وأن الأهواء والنزعات ينتجان على الدوام قرارات غير عقلانية.

نعلم أن العاطفة هي الهدف الذي تتجه إليه الدعاية بمختلف مقاصدها، السياسية والتجارية والآيديولوجية وغيرها، فالدعاية كما نعلم لا تركز على إقناع الناس بقضايا مثبتة علمياً أو منطقياً، بل تحاول استثارة عواطفهم وغرائزهم كي يستجيبوا لما تريده منهم. ولهذا أيضاً يميل كثيرون إلى اعتبار الأهواء والنزعات العاطفية والغريزية أقوى أثراً في قرارات الإنسان وحياته اليومية. لكن إطلاق هذا القول على عواهنه لا يخلو من مبالغة.

لا نريد هنا نفي التأثير الكبير للعاطفة. بل تأكيد حقيقة أن هيمنة الحس السليم/العقل عليها، تظل، في الصورة الكبيرة، أقوى وأعمق أثراً. إن أقوى دليل على أن الإنسان أكثر استجابة لدواعي العقلانية في المعنى الثاني، أي اتباع الحس السليم ودواعي الخير في نفسه ومحيطه، هو التقدم الذي حققته البشرية خلال تاريخها الطويل، التقدم على مستوى العلوم والفنون ونظم المجتمع، وعلى وجه الخصوص الإقرار المتبادل بحقوق الآخرين، حتى في حال العداء والحرب، كما هو الحال في اتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكولات الملحقة، التي تشكل في مجموعها إطار عمل يسنده اتفاق بين جميع دول العالم، على القواعد الضرورية للتخفيف من وحشية الحرب، مثل ضمان سلامة الأشخاص الذين لا يشاركون في القتال، رغم وجودهم في الميدان (المدنيون والمسعفون وموظفو الإغاثة)، وكذا الجنود العاجزون عن القتال بسبب الجروح أو الأسر أو غيرها. ومثله أيضاً التقدم الواسع في مجال التعاقدات والضمانات العرفية والقانونية للعقود، فضلاً عن الإقرار الاجتماعي بحقوق الأفراد والجماعات. فهذه وتلك تبرهن على أن الحس السليم واعتماد التضامن والتكافل والإنصاف بين البشر، كان ولا يزال الغالب على حياتهم وتعاملاتهم، إذا أخذنا في الاعتبار مساراً تاريخياً طويلاً.

ليس مستبعداً أن يكون المسار التقدمي للبشرية عبر التاريخ نتاجاً لتجربة الصراع بين العاطفة والعقل. وفقاً للفيلسوف البريطاني فريدريك فون هايك، فإن السلوكيات التي ترمز للعقلانية، مثل الوفاء بالعهود، كانت ثمرة لاكتشاف الإنسان مبكراً بأن التبادل مع الآخرين يسهل حياته، وأن استمراره وتطويره يقتضي التزام كل الأطراف بالواجبات التعاقدية. وفقاً لهذه الرؤية فإن الهيمنة النسبية للعقل على حياة الإنسان اليومية، مكنته من التكيف مع متطلبات الحياة وما يتولد في سياقها من تحديات، وجعلت حاضره خيراً من ماضيه.

***

د. توفيق السيف

 

"الحرية الحقيقية للشعوب لا تتحقق إلا بالسيادة الكاملة على أرضها وثرواتها".. د. حسن حنفي

مقدمة: تُعتبر العبارة «الشعوب الحرة هي التي تصنع تاريخها بإرادتها، أما الشعوب التابعة فتسير في الفلك المسطور» من أكثر العبارات كثافةً في الفكر التحرري العربي المعاصر. ترددت هذه الفكرة تقريباً بنفس الصيغة عند مالك بن نبي، طيب تيزيني، حسن حنفي، عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، هشام جعيّط، وفي الخطاب السياسي من النضال الوطني إلى الثورة الثقافية.  لكنها ليست مجرد شعار. إنها موقف فلسفي-تاريخي عميق يضع الإرادة الجماعية في قلب فهم التاريخ، ويرفض كل من الحتمية المادية الصلبة والقدرية الاستشراقية التي ترى العرب والمسلمين «شعوباً بلا تاريخ» (هيجل). لماذا تظل الشعوب التابعة تسير في الفلك المسطور؟ وماهي الشروط التي ينبغي أن تتوفر لكي تتحرر؟

تهدف هذه الدراسة إلى تفكيك هذه القولة واختبار صلاحيتها عبر ثلاثة محاور رئيسية:

المفهوم الفلسفي للإرادة الجماعية وعلاقتها بصناعة التاريخ.

النماذج التاريخية: الشعوب التي صنعت تاريخها والشعوب التي وجدت نفسها في «الفلك المسطور».

التحديات المعاصرة والشروط العملية لتحوّل شعب تابع إلى شعب صانع لتاريخه.

الإرادة الجماعية بين الفلسفة والتاريخ

هيغل و«روح الشعب»:

التاريخ عنده ليس صدفة، بل تحقّق للروح العالمية عبر شعوب بعينها في لحظات محددة. الشعوب التي لا تملك «وعياً حرّاً» تبقى خارج التاريخ أو تُستَخدم كأداة ثم تُرمى (آسيا، إفريقيا في قراءته).

ماركس و«القابلية للثورة»:

يرفض الحتمية المطلقة ويقول إن «الناس هم الذين يصنعون تاريخهم، ولكنهم لا يصنعونه كما يشاؤون». الشروط الموضوعية ضرورية، لكن الوعي والتنظيم هما اللذان يحوّلان الشعب من موضوع للتاريخ إلى فاعل.

مالك بن نبي و«مشكلة الحضارة»:

الشعوب ما بعد-المُوحدية فقدت «القابلية للحضارة» لأنها فقدت الإرادة الجماعية والروح الخلاّقة، فأصبحت «قابلة للاستعمار». الحل ليس في الثروة ولا السلاح، بل في «إعادة بناء الإنسان».

حسن حنفي : من التراث الى الثورة

حرية الشعوب عند حسن حنفي تترابط مع حرية الفكر والتعبير والسيادة، ويُعرّف الحرية بأنها القدرة على اتخاذ القرار دون ضغط خارجي. يؤكد حنفي على أهمية تحرير الفكر من التراث المتجسد كقيد، وإعادة قراءته بطرق جديدة تركز على الإنسان وقضاياه المعاصرة، بينما يرى أن الشعوب المحتلة تمارس حقها في المقاومة كشكل من أشكال الحرية من الاحتلال الخارجي.

عبد الله العروي و«الأيديولوجيا والتاريخ»:

الشعوب التابعة تعيش في «التاريخ المسطور» لأنها تتبنى أيديولوجيا الغالب (الليبرالية، القومية، السلفية) بدل أن تخلق أيديولوجيتها الخاصة. التحرر يبدأ بـ«الوعي التاريخي» الذي يجعل الشعب يرى نفسه فاعلاً لا مفعولاً به.

الجابري و«نقد العقل العربي»:

العقل العربي ظلّ أسير «البيان» و«الغنوصية» ولم ينتج «العقل البرهاني» القادر على صناعة التاريخ بالمعنى الحديث. الثورة العربية المأمولة تحتاج إلى «قطيعة معرفية» تجعل الشعب يملك أدواته الفكرية.

نماذج تاريخية مقارنة

شعوب صنعت تاريخها بإرادتها

اليونان في القرن الخامس ق.م: من طاليس إلى ارسطو ، ثم الديمقراطية الأثينية.

الثورة الفرنسية 1789: شعب قرر قطعاً أن يضع حداً للملكية المطلقة ويكتب دستوره بنفسه.

الثورة البلشفية 1917: رغم كل الشروط الموضوعية، لولا إرادة الحزب البلشفي والجماهير لما قامت.

فيتنام 1945-1975: شعب صغير هزم أكبر قوتين استعماريتين بإرادة لا تُصدَّق (هوشي منه: «لا شيء أغلى من الاستقلال والحرية»).

شعوب وجدت نفسها في الفلك المسطور

الأندلس بعد سقوط غرناطة 1492: تحولت من مركز حضاري إلى أقلية مضطهدة.

الهند قبل غاندي: كانت «جوهرة التاج» البريطاني، شعباً بلا إرادة سياسية حتى جاءت حركة اللاعنف.

معظم الدول العربية بعد الاستقلال الشكلي: استقلت شكلياً لكنها بقيت في فلك النظام العالمي (التبعية الاقتصادية، الاستبداد الداخلي، التحالفات الإقليمية المفروضة).

الشروط العملية للتحول من التبعية إلى صناعة التاريخ

لا يكفي أن نردد الشعار. التحول يتطلب شروطاً موضوعية وذاتية:

الوعي التاريخي (العروي): أن يعرف الشعب مكانه في التاريخ العالمي ويرفض أن يكون مجرد «مفعول به».

بناء الذاتية الجماعية (مالك بن نبي): إعادة تربية الإنسان، إحياء الروح الخلاّقة، مقاومة «القابلية للاستعمار» الداخلية.

القطيعة المعرفية والسياسية (الجابري،): رفض استيراد النماذج الجاهزة، خلق نموذج تنموي وسياسي خاص.

تنظيم الإرادة الجماعية: لا إرادة بدون مؤسسات (أحزاب، نقابات، جمعيات، إعلام حر).

الوحدة الوطنية فوق الاصطفافات الفرعية: التجربة السياسية أثبتت أن الخلاف السياسي المشروع يجب ألا يتحول إلى حرب أهلية.

الاستقلال الاقتصادي الحقيقي: لا إرادة سياسية دون سيادة غذائية وطاقية وتكنولوجية (تجربة الصين، كوريا الجنوبية، ماليزيا).

خاتمة

" الحرية الفكرية بأنها حرية الإنتاج الفلسفي المبدع، وكل إنتاج ثقافي وأدبي وفني، وجمالي وغيره، بعيدا عن الإكراهات المتحدرة من الأطر السياسية"

د طيب تيزيني

تبدو العبارة عن الحرية الارادية صحيحة فلسفياً وتاريخياً، لكنها ليست قدراً محتوماً. لا توجد شعوب «حرة بالفطرة» ولا شعوب «تابعة بالجينات». كل شعب يصبح ما يختار أن يكون في لحظة معينة.

لم تكن بعض الدول أكثر ثراءً ولا أكثر تعليماً من غيرها، لكنها كانت تملك في تلك اللحظة إرادة جماعية أقوى، ووعياً أعمق بإمكانية كسر «الفلك المسطور». كما قال فيكتور هوغو: «لا شيء أقوى من فكرة حان أوانها». وفي كلمات مالك بن نبي الأخيرة تقريباً: «الحضارة لا تُعطى، تُؤخذ». بهذا المعنى الشعوب الحرة ليست تلك التي لا تواجه قوى أكبر منها، بل تلك التي تقرر – رغم كل شيء – أن تكون صاحبة القرار في مصيرها. وما دمنا نملك الإرادة، فالتاريخ لم يُكتب بعد. فكيف تنتقل الشعوب العربية من السير في الفلك المسطور الى كتابة تاريخها بإرادتها؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

في زمن تتسارع فيه وتيرة التحولات الرقمية، يجد المثقف العربي نفسه أمام معضلة وجودية لا تقتصر على التكيف مع أدوات جديدة، بل تطال جوهر وظيفته الحضارية ذاتها. تسعى هذه السطور إلى استجلاء التحديات البنيوية التي فرضتها هيمنة الخوارزميات الرقمية والذكاء الاصطناعي على المشهد الثقافي، حيث باتت آليات الإنتاج والتلقي الثقافي محكومة بمنطق خوارزمي يُعيد تشكيل علاقة المثقف بالمعرفة والجمهور والفضاء العام. هذه تنطلق المقاربة من فرضية محورية مفادها أن المثقف العربي لا يواجه مجرد تحديات تقنية إجرائية، بل يواجه أزمة أنطولوجية ومعرفية تمس صميم أدواره التنويرية والنقدية والتوجيهية التي شكّلت تاريخياً هويته الفكرية. هذا المأزق يستدعي إعادة النظر في الاستراتيجيات الثقافية التي يمكن أن تمكّنه من استعادة فاعليته، عبر تطوير نماذج هجينة تجمع بين إتقان الأدوات الرقمية المعاصرة والمحافظة على الاستقلالية النقدية، مع بناء جماعات فكرية رقمية قادرة على مقاومة منطق الاستلاب الرقمي الذي يهدد التنوع الثقافي والكرامة الإنسانية.

 لقد شهد عصرنا الراهن تغيرات جذرية في صورة المشهد الثقافي والمعرفي، حيث أصبحت الخوارزميات الرقمية والذكاء الاصطناعي تُعيد تشكيل طرائق إنتاج المعرفة وتداولها واستهلاكها. في هذا السياق، يصادف المثقف العربي تحديات غير مسبوقة تمس جوهر وظيفته التنويرية والنقدية التي عُرف بها تاريخياً. فالخوارزميات، بوصفها مجموعات من التعليمات البرمجية التي تحكم عمل المنصات الرقمية، أصبحت تمارس سلطة غير مسبوقة في تحديد ما يراه الأفراد ويقرؤونه ويستهلكونه ثقافياً. هذه السلطة الخوارزمية ليست محايدة، بل تعكس منطقاً اقتصادياً يقوم على تعظيم المشاركة والتفاعل، بغض النظر عن القيمة المعرفية للمحتوى.

 علما أن هذه التغيرات ولدت إشكاليات جوهرية منها: كيف يمكن للمثقف أن يستعيد دوره الفاعل في زمن تهيمن فيه الخوارزميات على توزيع المحتوى الثقافي وتشكيل الوعي الجمعي؟ وماذا عن الرهانات التي تهدد دوره في مواجهة هذا التسونامي الرقمي العابر لجغرافيات المشهد الثقافي؟ وماذا عن وظائفه التقليدية في عصر الطفرة المعلوماتية والهيمنة الرقمية؟

إن فحص الوضعية الإشكالية للمثقف العربي في عصر الخوارزميات المتصاعدة والمتزايدة، من خلال تحليل التحولات البنيوية في المشهد الثقافي الرقمي، واستكشاف الوظائف الجديدة التي يُطالب المثقف العربي بأدائها، والرهانات القلقة التي تواجهه في سعيه لاستعادة موقعه المركزي.  حيث ننطلق من فرضية أساسية مفادها أن المثقف العربي لا يواجه مجرد تحديات تقنية، بل يواجه أزمة وجودية تمس طبيعة وظيفته وعلاقته بالجمهور والمعرفة ذاتها.

حيث نعتمد في هذه الورقة على مقاربة نقدية تحليلية تستند إلى الأدبيات الحديثة في الفلسفة الرقمية وعلم الاجتماع الثقافي وأخلاقيات التكنولوجيا، مع التركيز على السياق العربي المعاصر.

1. الخوارزميات وتجديد المشهد الثقافي

إن ظهور الخوارزميات الرقمية مثل نقطة تغير عميقة وجوهرية في كيفية تدفق المعلومات والمحتوى الثقافي في الفضاء العام، تُظهر الأبحاث المعاصرة أن خوارزميات التوجيه في المنصات الرقمية تعمل على خلق "فقاعات معرفية" تحصر المستخدمين في دوائر ضيقة من المحتوى المتشابه، مما يُقلص من التنوع الثقافي ويُضعف من إمكانية الحوار العميق والنقد المستنير. هذا الواقع صاغ تحولاً في طبيعة الاستهلاك الثقافي، حيث يتحول المتلقي من باحث نشط عن المعرفة إلى مستهلك سلبي يتلقى ما تقدمه له الخوارزميات دون وعي نقدي كافٍ.

كما يمكن ملاحظة أن المحتوى السريع والسطحي والمثير عاطفياً يحظى بانتشار أوسع مقارنة بالمحتوى العميق والتحليلي الذي يتطلب جهداً ذهنياً من المتلقي. هذا النسق الخوارزمي يُشكل تحدياً جوهرياً للمثقف العربي الذي اعتاد على تقديم تحليلات معقدة ونقد عميق، إذ يجد نفسه في منافسة غير متكافئة مع منتجي المحتوى السريع الذين يتقنون قواعد اللعبة الخوارزمية.

وفي هذا السياق، يشير الباحث الفرنسي  (Maël Pégny )  ماييل بيني في دراسته الهامة حول "أخلاقيات الخوارزميات" إلى أن الأنظمة الخوارزمية لا تكتفي بتنظيم المحتوى، بل تُعيد تشكيل الذائقة الثقافية ذاتها وفق منطق اقتصادي استهلاكي.

علاوة على ذلك، يضيف الباحث الفرنسي أنه الخوارزميات أصبحت تنتج استقطاباً حاداً في الآراء، حيث تُعزز المواقف المتطرفة وتُضعف الأصوات المعتدلة والنقدية التي كانت تُشكل تاريخياً جوهر العمل الثقافي، هذا الاستقطاب يُهدد إمكانية الحوار الثقافي العميق ويُحول النقاش العام إلى مواجهات أيديولوجية حادة تفتقر إلى التأمل النقدي , وفي السياق العربي تحديداً، تُضاف إلى هذه التحديات مشكلات الرقابة السياسية والفجوة الرقمية التي تحد من قدرة المثقف على الوصول إلى جمهوره بفعالية.

2. المثقف بين الوظيفة التقليدية والموجات الرقمية

تاريخياً، ارتبطت وظيفة المثقف عموما بما في ذلك المثقف العربي بثلاثة أدوار رئيسية:

1.  الدور التنويري في نشر المعرفة والوعي،

2.  الدور النقدي في فحص السلطة والبنى الاجتماعية،

3.  الدور التوجيهي في صياغة الرؤى المستقبلية للمجتمع.

غير أن هذه الوظائف تواجه اليوم تحديات بنيوية نتيجة الموجات الرقمية الكاسحة. كان المثقف يُعتبر وسيطاً معرفياً بين النخبة العلمية والجمهور الواسع، يقوم بترجمة المعارف المعقدة وتبسيطها دون إخلال بعمقها، لكن مع ظهور محركات البحث والذكاء الاصطناعي، أصبح بإمكان أي فرد الوصول إلى كميات هائلة من المعلومات بسهولة. هذا الواقع يُثير تساؤلاً جوهرياً:

هل ما زال المثقف ضرورياً كوسيط معرفي في عصر الوفرة المعلوماتية؟ الإجابة تكمن في التمييز بين المعلومة والمعرفة؛ فالخوارزميات توفر المعلومات، لكنها لا تُنتج المعرفة النقدية المنظمة، هنا تكمن وظيفة المثقف الجديدة: ليس كمصدر وحيد للمعلومة، بل كمُنظم للمعرفة وناقد لها ومُسائل لمصادرها ومنطقها. حيث يُشكل الدور النقدي للمثقف أحد أهم وظائفه التاريخية، اذ يقوم بفحص السلطة السياسية والاقتصادية والثقافية، وكشف آليات الهيمنة والاستلاب. لكن في الفضاء الرقمي، يواجه هذا الدور تحديات متعددة. فكما سبقت الإشارة، الخوارزميات تُنتج استقطاباً حاداً، كما أن سرعتها وطبيعتها الفورية تتعارض مع طبيعة النقد الثقافي الذي يتطلب وقتاً للتأمل والتحليل والصياغة الدقيقة. بينما المثقف الذي يأخذ وقته في إنتاج نقد عميق قد يجد أن الموضوع قد تجاوزته الأحداث السريعة، وأن الجمهور قد انتقل إلى قضية أخرى توجهه إليها الخوارزميات.

في حين الدور التوجيهي، فقد ارتبط تاريخياً بقدرة المثقف على التأثير في الرأي العام وتوجيه النقاشات الاجتماعية نحو قضايا جوهرية. لكن في عصر الخوارزميات، تتوزع هذه القدرة على عدد هائل من الفاعلين، من المؤثرين الرقميين إلى الخوارزميات ذاتها التي تُحدد ما يظهر وما يختفي. هذا الواقع يضع المثقف أمام خيارين صعبين:

1. إما أن يتكيف مع منطق الخوارزميات ويُنتج محتوى يستجيب لمتطلباتها، وبذلك يُخاطر بفقدان عمقه النقدي،

2. أو أن يحافظ على استقلاليته ويُخاطر بالتهميش والنسيان.

هذا المأزق يُشكل أحد أخطر التحديات التي تواجه المثقف العربي أي مثقف في عالمنا المعاصر، ويتطلب إعادة تفكير جذرية في استراتيجيات العمل الثقافي

3. رهانات المثقف في عصر الخوارزميات الضوئية

يواجه المثقف في عصر الخوارزميات عدة رهانات جوهرية تحدد مستقبل وظيفته وفعاليته الثقافية والاجتماعية:

1)  الرهان الأول يتمثل في قدرة المثقف على إتقان الأدوات الرقمية دون أن يُستلب لأنساقها، وهذا يتطلب فهماً عميقاً لكيفية عمل الخوارزميات وآليات توزيع المحتوى في المنصات الرقمية، مع الحفاظ على الاستقلالية النقدية. أي المثقف مطالب بأن يصبح "وسيطاً رقمياً واعياً" يستخدم التقنية كأداة لتوسيع نطاق تأثيره دون أن يُخضع محتواه لمتطلبات السطحية والسرعة، كما تُشير الدراسات الحديثة إلى أن المثقفين الذين نجحوا في الحفاظ على تأثيرهم في الفضاء الرقمي هم أولئك الذين طوروا استراتيجيات هجينة تجمع بين العمق النقدي والقدرة على التواصل الفعال عبر المنصات الرقمية.

2)  الرهان الثاني يكمن في تطوير نقد ثقافي وفلسفي للخوارزميات ذاتها، المثقف مطالب بفحص الأسس الأيديولوجية والاقتصادية والأخلاقية للأنظمة الخوارزمية التي تُشكل الوعي المعاصر، هذا النقد يجب أن يتجاوز الرفض الرومانسي للتقنية أو السطحي المعمم أو القبول الساذج بها، ليتوجه نحو فهم معمق ونقدي للسلطة الخوارزمية وآليات عملها وتأثيراتها الاجتماعية والثقافية. وتبرز أهمية هذا النقد في سياق ما يُسمى بـ"الاستلاب الرقمي"، حيث يفقد الأفراد قدرتهم على التفكير المستقل ويصبحون محكومين بمنطق الخوارزميات في اختياراتهم الثقافية والفكرية.

3)  الرهان الثالث يتعلق بقدرة المثقف على بناء جماعات نقدية في الفضاء الرقمي تقاوم آليات الاستقطاب والسطحية، هذا يتطلب خلق فضاءات رقمية بديلة تُشجع على الحوار العميق والنقاش العلمي المعمق والاستراتيجي، بعيداً عن أدبيات الخوارزميات التجارية. فتجارب عديدة في العالم العربي وبالغرب تُشير إلى إمكانية بناء مجتمعات رقمية نقدية من خلال منصات بديلة، ومجموعات قراءة رقمية، ومساحات حوارية تُدار بمنطق مختلف عن منطق الخوارزميات السائدة.

4)  الرهان الرابع يرتبط بدور المثقف في صياغة وتعزيز أخلاقيات رقمية تحمي الكرامة الإنسانية والتنوع الثقافي في مواجهة هيمنة الخوارزميات المُعولمة. وهذا يتطلب نقاشاً فلسفياً وأخلاقياً حول قضايا الخصوصية، وحقوق البيانات، والعدالة الخوارزمية، والتحيزات المُدمجة في الأنظمة الذكية. والمثقف العربي، على وجه الخصوص، مطالب بتطوير رؤية نقدية تأخذ في الاعتبار الخصوصيات الثقافية والقيمية للمجتمعات العربية والإسلامية في مواجهة الهيمنة الثقافية المُضمنة في الأنظمة الخوارزمية المُصممة ضمن مخابر وسياقات غربية.

أمام هذه الرهانات، يحتاج المثقف العربي إلى بناء تصور استراتيجي متعددة الأبعاد والآفاق:

أولاً، استراتيجية التعليم النقدي الرقمي، حيث يقوم المثقف العربي بتطوير برامج ومحتوى تعليمي يُساعد الجمهور على فهم كيفية عمل الخوارزميات وتطوير مهارات نقدية للتعامل معها (وهنا لابد من فتح فضاءات بين المثقفين والمختصين بعالم الرقميات والذكاء الاصطناعي من العرب والمسلمين).

ثانياً، استراتيجية المحتوى الهجين التي تجمع بين العمق الفكري والقدرة على التواصل الفعال في الفضاء الرقمي.

ثالثاً، استراتيجية بناء الشبكات النقدية من خلال التعاون مع مثقفين آخرين ومؤسسات ثقافية ومنظمات المجتمع المدني لخلق تكتلات نقدية قادرة على مواجهة الهيمنة الخوارزمية.

رابعاً، استراتيجية النقد الفلسفي للتقنية من خلال الانخراط في النقاش الفلسفي والأخلاقي حول تأثيرات الذكاء الاصطناعي والخوارزميات على الوجود الإنساني والثقافي.

مستخلص

إن المثقف العربي في زمن الخوارزميات العابرة للثقافات، لا يواجه مجرد تحديات تقنية أو مهنية، بل يواجه تحدياً وجودياً يمس جوهر دوره ووظيفته في المجتمع. والإشكال لم يعد حول ما إذا كان المثقف قادراً على البقاء، بل حول الشكل الجديد الذي يجب أن يتخذه ليظل فاعلاً ومؤثراً، يعني الرهان الحقيقي يكمن في قدرة المثقف على تجاوز ثنائية الرفض أو القبول، نحو موقف نقدي إبداعي يستفيد من الإمكانيات التي تتيحها التقنية الرقمية في خدمة مشروع ثقافي تنويري، مع الحفاظ على الاستقلالية النقدية ومقاومة الاستلاب الرقمي.

إن استعادة المثقف لدوره الفاعل يتطلب تطوير وعي نقدي مزدوج:

1.  وعي بآليات عمل الأنظمة الخوارزمية وتأثيراتها الثقافية والاجتماعية،

2.  وعي بالاستراتيجيات الممكنة للتكيف الذكي دون الاستلاب.

وهذا يعني بحث عن مثقف جديد، منشغلاً بقضايا مجتمعه، رقمياً في أدواته، نقدياً في منهجه، إبداعياً في استراتيجياته.

لأن أغلب القراءات الاستشرافية تؤكد أن المستقبل لن يكون للمثقف الذي يرفض التقنية ويتحصن في برجه العاجي، ولا للمثقف الذي يستسلم كلياً لسلطة الخوارزميات ويفقد عمقه النقدي، بل للمثقف القادر على خلق توازن إبداعي بين التجذر في التراث النقدي والانفتاح على أدوات العصر، بين العمق الفكري والفعالية التواصلية، بين الاستقلالية والتأثير.

المثقف العربي اليوم مندهش ومصدوم أمام منعطف حضاري حاسم، حيث تتمحور معركته الفكرية حول بناء خطاب نقدي أصيل يستلهم عمقه من الجذور الثقافية والقيمية للمجتمعات العربية والإسلامية، دون أن ينغلق على ذاته أو ينعزل عن التحولات الكونية المعاصرة. إن هذا المشروع النقدي يتجاوز مجرد الاستجابة الدفاعية لهيمنة النماذج الغربية، كما يرفض الانبهار والاندهاش الساذج بالمنجز التقني الذي يفرغ الذات من عمقها الحضاري.

المطلوب هو تأسيس موقف نقدي بنّاء يستثمر الأدوات الرقمية والتجارب العالمية استثماراً واعياً، بما يمكّن من إنتاج نماذج ثقافية رقمية بديلة تحترم التنوع الحضاري، وتصون الكرامة الإنسانية، وتنمّي ملكة التفكير النقدي المستقل. هذا الخيار كإستراتيجية يتطلب تجاوز أزمة الهوية اللغوية والفكرية التي تعاني منها الثقافة العربية في زمن العولمة الرقمية، وإعادة الاعتبار لدور المثقف كفاعل حضاري يُسهم في بناء خطاب معرفي أصيل يتفاعل مع العصر دون أن يذوب فيه.

كما عبر الفيلسوف كارل بوبر في كتابه أسطورة الإطار فإنه: "من أعماق الصدام الثقافي تأتينا أقوى وأمضى الصور للطريقة التي يؤدي بها هذا الصدام بالبشر إلى أن يفكروا تفكيراً نقدياً"، فالرهان الرقمي ليس مجرد تطور تقني، بل هو حدث أنطولوجي ومعرفي وأخلاقي يفرض علينا إعادة تأسيس الفكر النقدي كشرط مبدئي لازدهار المجتمع العربي وتطور الحضارة العربية والإسلامية.

***

مراد غريبي

 

إذا كان مفهوم الاستشراق في أبرز وأكثف دلالاته يأتي ليعبر عن قيام مجموعة من الغربيين بدراسة الشرق في لغاته وآدابه وفنونه وعقائده ومجتمعاته ومختلف الجوانب الأخرى من حياة الشرقيين، فإن للمفكر الفلسطيني ذائع الصيت إدوارد سعيد (1935-2003م) مفهومه الخاص الذي ينطلق عبره الى بيان الهيكل العام للمنجز الاستشراقي، إذ يُقدم مجموعة من التوضيحات للإستشراق، يعتمد بعضها على بعض، وتتسم بالترابط، أيسرها وأكثرها قبولاً انه عبارة عن مبحث أكاديمي، فالمستشرق كل من يعمل بالتدريس أو الكتابة أو إجراء البحوث في موضوعات خاصة بالشرق، سواء كان ذلك في مجال الانثروبولوجيا، أي علم الإنسان، أو علم الاجتماع أو التاريخ أو فقه اللغة، وسواء كان ذلك يتصل بجوانب الشرق العامة أو الخاصة (الاستشراق ص44).

ثم ينطلق سعيد الى معنى اعم واشمل يتصل بالتقاليد الأكاديمية للمعنى الأول، وهو ان الاستشراق أسلوب تفكير يقوم على التمييز الوجودي والمعرفي بين ما يسمى "الشرق" وبين ما يُسمى بـــ"الغرب"، وهكذا فقد قَبلَ عدد هائل من الباحثين – من بينهم شعراء وروائيون وفلاسفة وأصحاب نظريات سياسية واقتصاديون ومديرون امبرياليون- التمييزَ الأساسي بين الشرق والغرب بعدّه نقطة انطلاق لوضع نظريات مفصلة وإنشاء ملاحم وكتابة روايات وأوصاف اجتماعية ودراسات سياسية عن الشرق وأهله وعاداتهم وأفكارهم ومصيرهم ...الخ (الاستشراق ص45)، هنا يبرز الاستشراق كمحورية تمايز بين "الأنا" الغربية التي تدفع المستشرقين الى ان يستشعروا التمايز، بمختلف إسقاطاته، إبان سعيهم الى دراسة الشرق والكتابة عنه، أي البحث عن كل ما يختلف عن الأنا، فإذا كانت الأنا مفكرة/متعقلة فإن الآخر سيكون غير ذلك، إذا كانت الأنا متحضرة، فان الآخر سيكون بعيداً عن التحضر وهكذا.

وبناءً على المعنيين السابقين يصل سعيد الى المعنى الثالث، والذي يجعله يموضع الاستشراق في عمق السياسة، فالاستشراق عبارة عن أسلوب غربي للهيمنة على الشرق، حسب تعبيره، وإعادة بنائه، والتسلط عليه، إذ انه وسيلة مهمة لتدبير شؤون الشرق، بل وابتداعه (الاستشراق ص46)، لا يكتفي تحليل سعيد بالتوصيف التقليدي للإستشراق المنبثق من النظر إليه كمجموعة غربيين يقومون بدراسة الشرق وما فيه، إنما يعمد الى إعطاء تراتبية ديناميكية تهدف الى الكشف عن ملابسات العلاقة الجدلية الماثلة بين الشرق والغرب، فالاستشراق من وجهة نظره ليس مجرد دراسة تخصصية تهدف الى الإطلاع ونقل تصورات معينة عما جرى ويجري في طرف آخر من العالم، بمقدار ما يعني ميكانزم لإنشاء معرفة بالآخر متعانقة مع السلطة، أي رغبة الإرادة الغربية في ان تهيمن على الآخر/الشرقي، وبطبيعة الحال ستتصيّر المعرفة الغربية، بالتعاضد مع مختلف الفواعل التي يوظفها الغرب في سعيه الى دراسة الشرق وفرض اسقاطاته عليه، ضرباً من ضروب الدوغما/الجمود الفكري المانعة من الانعتاق من أُسارها للذين يريدون تقديم التفسيرات الموضوعية في قراءاتهم للموضوعات التي يعالجونها، ولهذا يتوصل الى ان "من الأفضل لنا ان نفهم الاستشراق باعتباره مجموعة من القيود والحدود المفروضة على الفكر أكثر من كونه مجرد مذهب إيجابي"(الاستشراق ص99).

ولابد من القول ان مصطلح "الاستشراق" قد شهد الكثير من الجدل بين الناظرين إليه من زاوية ايجابية وبين مخالفيهم؛ تبعاً للفهم الذي يفهم به كل طرف موضوعة الاستشراق، حتى ان المؤتمر التاسع والعشرين للمستشرقين الذي عقد في باريس صيف 1973م، والذي صادف الذكرى المئوية لأول مؤتمر دولي للمستشرقين المجتمعين في المدينة نفسها قرر إلغاء كلمة "الاستشراق" كما ينقل ذلك برنارد لويس في كتابه (مسألة الاستشراق)، وصار تجمع المستشرقين يُطلق عليه (الجمعية الدولية للدراسات الأسيوية وشمال إفريقيا)، وأصبحت مؤتمراته تحمل اسم (مؤتمر العلوم الإنسانية الخاصة بمناطق العالم الإسلامي) ، كما دعا جون اسبوزيتو، العالم الأمريكي وأستاذ الأديان في جامعة جورج تاون الى ان يُطلق على الشخص الغربي المشتغل بشؤون العالم الإسلامي "العالم المتخصص في الإسلام Islamist" بدلاً من ان يُطلق عليه إسم "مستشرق" في ضوء ما ينقل رضوان زيادة في كتابه (سؤال التجديد ص396)، في الجانب الآخر هناك من يعتقد ان قضية نهاية الاستشراق وإلغائه مجرد فكرة طوبائية، وسيظل هناك شرق وغرب، وستظل المعرفة بينهما ملتبسة لا يُؤسسها ولا يبنيها إلا الصراع، ربما يمكن مقاربة المسألة من جهة المضمون، وليس من جهة التسميات، فالإشكالية التي يواجهها مصطلح "الاستشراق" لا تنبع من جوهره كمصطلح، بمقدار ما تنبع من المفاهيم التي لازمته وجعلته يكشف عن أنماط الهيمنة والإنشاء غير الواقعي والضغوطات الدينية وحمولاتها التي صبغت المنجز الاستشراقي، وعلى هذا الأساس إن لم يرافق الاستشراق تغيير في آلية إنتاجه كخطاب، وفي طبيعة العلاقة بين الشرق والغرب ونظر كل طرف الى الآخر، فإن تغيير المسميات لن يغير من تعقيد الأمر شيئاً.

وعلى العموم يمكن القول ان المفهوم العام لمصطلح الاستشراق يحمل جملة من الدلالات:

أولاً: ان فلسفة التوصيف الاستشراقي تقوم على التقسيم الجغرافي، أي قيام مجموعة من الغربيين بدراسة الشرق، وبالتالي لا يعني ان لا يتصف الأوربي، على سبيل المثال، بأنه مستشرق لكونه أضحى مسلماً، كما لا يعني ايضاً ان يوصف الشرقي بالمستشرق لمجرد كونه ليس بمسلم.

ثانياً: على الرغم من نسبية تعبيري "شرق" و"غرب" إلا انه يمكن القول ان الاستشراق يكشف عن توجه من يعيش في غرب الكرة الأرض صوب الجهة الشرقية من لحاظ شروق الشمس.

ثالثا: لا ينحصر الاستشراق في الحضارة الإسلامية، إذ ان الشرق اعم منها بكثير فيشمل الحضارات الهندية والصينية واليابانية الخ...

رابعاً: لا ينحصر الاستشراق بدراسة الجوانب الدينية في حياة المسلمين أو غيرهم، إنما هو أعم من ذلك فيشمل الأديان واللغات والتقاليد والعادات الخ..

***

د. محمد هاشم البطاط

متسولون.. نمد ايدينا لا لنلتقط رغيفا يسد رمق الجسد بل لنلتقط معنى يسكن ارتجاف الروح. نقف عند حافات الوجود كأنما ننتظر من عابر مجهول ان يخبرنا لماذا جئنا والى اين نمضي وكيف ينبغي ان نعيش.

لكن سقراط كان قد قال منذ ان وضعت اول لبنة في معبد العقل:

"اعرف نفسك"...

وكان يقصد: لا تنتظر من الخارج ما لا يولد الا في الداخل.

نحن نخدع انفسنا حين نتوهم ان احدا سيمنحنا المعنى.

فهايدغر كان يرى ان الانسان "ملقى في العالم" بلا تعليمات وعليه ان يخلق "وجوده الاصيل" من كثافة التجربة.

وكامو وهو يغوص في عبث الوجود يؤكد:

"لا معنى للعالم الا المعنى الذي تمنحه انت له".

فكيف نمد ايدينا للاخرين نطلب منهم ما لا يملكونه اصلا؟

ان اليد الممدودة ليست فعل ضعف بل فعل ضياع. ضياع البوصلة لا ضياع القدرة. ولذلك قال نيتشه: "على الانسان ان يصنع ذاته والا ستصنعه الجماعة".

وما اسهل ان تتحول الجماعة الى سجن والعابر الى سلطة والصدفة الى مصير مستعار. نحن لسنا متسولين يا رفاق بل نحن صناع المعنى  وحفارو الدلالة في صخر الوجود.

فبوذا نبه منذ الفي عام: "لا تنقذكم كلمات الاخرين... انقذوا انفسكم".

وديكارت حين شك في كل شيء لم يستند الا الى شيء واحد:

"انا افكر اذا انا موجود"...

اي ان الوجود ذاته يتأسس من الداخل لا من راي الاخرين ولا من عطاياهم.

اننا ننهض حين نكف عن استعطاء الضوء من الخارج. فالضوء الحقيقي كما قال جبران: "في داخلك يتولد النور وان اظلمت الدنيا".

وكولن ولسون اعتقد ان الانسان "يصبح حرا حين يدرك انه مصدر المعنى لا ضحيته".

والذي يعرف كيف يخلق معنى لخطوته الأولى، لن يعيش يوما على فتات المعاني التي يوزعها المارة بلا اكتراث.

فحين نتوقف عن مد ايدينا نكتشف ان اليد التي كنا نمدها للغرباء هي اليد نفسها التي كان ينبغي ان نمدها لانفسنا... لينهض كل منا ويحمل اثقاله ويكتب سيرته بعرقه لا باصابع الاخرين.

المعنى مسؤوليتك.

المعنى خلق لا استجداء.

وما دام في داخلك صوت ولو كان خافتا فانت لست متسولا بل كائنا في طور التأسيس يعيد كتابة تعريفه للعالم ولذاته كما يفعل كل من جرؤ على النظر الى الحقيقة دون وساطة احد.

فارفعوا رؤوسكم يا رفاق...

فمن امتلك نوره الداخلي لا يجوع للمعنى ابدا.

ومن يخلق معنى صغيرا في زاوية حياته يسع الكون كله ولا ينحني طالبا من احد سوى ان يترك له الطريق مفتوحا ليمشي فيه كما يشاء.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

تُظهر بعض ردود الأفعال الشعبية والدينية في مدن العراق كالبصرة والناصرية أخيرا تجاه الحفلات الغنائية نمطاً مُتكرّراً يستحقّ التأمل؛ أذ يتم التعامل مع الحفلات الموسيقية الغنائية بوصفها تهديدا اجتماعيا وأخلاقيا معلنا، في حين يتم تمرير ظواهر خطيرة كالرشوة والقتل العشائري والفساد واطلاق النار العشوائي بوصفها حوادث اعتيادية وشؤونا داخلية وسمة تميز هذا المجتمع.

هذا التفاوت في الحساسية الأخلاقية لا ينبغ من طبيعة الفعل بقدر ما ينبع من طبيعة ظهوره في المجال العام وبالعلن. ففي الوعي السائد، المشكلة ليست بالفعل ذاته بل في كونه مرئيا، من منطق " لاتحرجنا "

فالعلنية تضع الموسسة الدينية والعشائرية أمام اختبار سلطتها، فظهور الحفلات والاختلاط وما قد يصاحبه رقص في الفضاء العام يعني أن هناك نموذجا منافسا آخر للحياة ينافس النموذج الأخلاقي الذي يدّعون تمثيله، لذا يصبح الاعتراض ضرورة لحفظ المكانة كحماة للأخلاق.

أما ما يحصل في السر من كوارث مجتمعية، كحوادث الانتحار وقتل النساء على تهمة " الشرف " والرشوة و"اقتصاديات الأحزاب" فلايهدد صورتهم لأنهم غير مطالبين بالرد عليه علنا، ولايُظهر ضعف سلطتهم. وهنا يتم استعمال قاعدة: افعل ماتشاء لكن في السر ولاتحرجنا وتسقط الهيبة. أن السرية جزء جوهري من الأخلاق العامة، فما دام الفعل سريًا لا يُعتبر تهديدًا، حتى لو كان محرّمًا شرعًا. العلنية هي التي تُفجّر الغضب لأنها تجعل “المحرّم” يبدو طبيعيًا ومقبولًا.

أن الخطاب القبلي في مدن العراق وأريافها مازال يصنف الأفعال ضمن ثنائية: الفضيحة والشأن الداخلي الخاص.

فالفضيحة هي السلوك الذي يمس شرف الجماعة الذي يرتبط بالجسد، وبالمرأة والاختلاط.

أما الشأن الداخلي فهو من قبيل الرشوة والفساد وقتل الثأر، وأخذ الناس " ولّية" وقتل النساء لأقل تهمة فهي من قبيل ثقافة المنطقة والقبيلة، لذا يجب أن لاتُمس. فبالرغم أن هذه الجرائم اشد حرمة شرعا، الإ أنها لاتمس شرف الجماعة، ما يمس شرفها هو الحفلات المختلطة.

أنّ ما يهدد النظام أهم مما يهدد الإنسان، فهم يتحركون حين يشعرون أن نظامهم القيمي مهدد، وليس حين يكون المجتمع مهددا.

يُفهم الغناء كتهديد ثقافي للهوية المحافظة التي تقيد الجسد واللهو وتحدد الفرح بقياسات صارمة غير علنية، ولامظاهر احتفالية له الا بالحدود الدنيا. الغناء والاختلاط تُفهمان كتهديد ثقافي مباشر، لأنها تقدّم نمطا بديلًا للحياة، يقوم على الفردانية والحرية. أما الرشوة والثأر فهي لا تنتج ثقافة منافسة لانها تحدث داخل المنظومة نفسها.

أما الرشوة والقتل والثأر فهي لا تنتج ثقافة منافسة؛ بل تحدث داخل المنظومة نفسها، ولا تُطالبها بالتحول.

   فالغناء يرمز الى العاطفة، وحضور الجسد في مجتمع يعلّم الظهور بمظهر الصلادة والانضباط، أما القتل والثأر فهي سلوكيات تؤكد صورة الرجولة العشائرية ولا تتحداها.

والنتيجة أن المجتمع يحمي صورته اكثر مما يحمي قيمه.

وأن "ما يُرفض في العلن ليس لأنه خطأ، بل لأنه يعري هشاشة البنية التي تريد لنفسها أن تبدو قوية ومتماسكة." "وما يُقبل في السرّ ليس لأنه صواب، بل لأنه لا يُربك النظام الاجتماعي ولا يُسقط هيبة رموزه".

***

د. بتول فاروق

٢٤/ ١١/ ٢٠٢٥

علي الوَرْدِي (1913 - 1995) عَالِم اجتماع عِرَاقي ومُؤرِّخ. اهتمَّ بِتَحليلِ شَخصيةِ الإنسانِ انطلاقًا مِنْ حَقيقةٍ بسيطة، وَهِيَ أنَّ الإنسانَ لَيْسَ كائنًا نقيًّا، ولا شِرِّيرًا خالصًا. إنَّه يعيشُ مُمَزَّقًا بَيْنَ مَا يُمْليه المِثَالُ، ومَا يَفرِضه الواقعُ. وهَذا التَّمَزُّقُ يَصْنَعُ ازدواجيَّةً تُكوِّن جَوْهَرَ الشَّخْصيةِ الإنسانيةِ.

لا يُمكِن دِراسةُ الفَرْدِ عِندَه بِمَعْزِلٍ عَنْ مُحِيطه. فالشَّخْصِيَّةُ، كَمَا يُصوِّرها، هِيَ في النِّهايةِ انعكاسٌ لاختلالاتِ المُجتمعِ. والشَّخْصِيَّةُ عِندَه لَيْسَتْ مَسألةً نَفْسِيَّةً فَحَسْب، بَلْ أيضًا هِيَ سَرْدِيَّة اجتماعيَّة. وكُلُّ فَرْدٍ يَحمِل في داخله تاريخًا طويلًا مِنَ التَّحَوُّلاتِ والصِّرَاعاتِ.

أوْجَدَ مُعَادَلَةً نادرةً، فَهُوَ يَدْرُسُ الشَّخْصِيَّةَ بِمَنهجٍ عِلْمِيٍّ واضح، وَيُصِرُّ على التَّوثيقِ والاستشهادِ، لكنَّه يَترُك مَساحةً واسعة للفِكْرِ الإنسانيِّ العاطفيِّ، وهَذا جَعَلَ تَحليلَه للشَّخْصِيَّةِ ذا نَبْرَةٍ خَاصَّة تَجْمَعُ بَيْنَ الرَّصَانةِ العِلْمِيَّةِ وَدِفْءِ الأدبِ.

تَرَكَ تأثيرًا واضحًا، لأنَّ مَا تَنَاوَلَه لَمْ يَكُنْ قَضِيَّةً عابرة، بَلْ مَسَّ جَوْهَرَ الإنسانِ في لَحْظةٍ تاريخية مُضطربة، وكَشَفَ تناقضاتِ التفكيرِ التقليديِّ، وَفَتَحَ البابَ أمامَ نَمَطٍ جَديدٍ مِنَ النَّقْدِ الاجتماعيِّ الذي يَجْمَعُ بَيْنَ السوسيولوجيا والتَّحْليلِ النَّفْسِيِّ والفَلسفةِ. وَقَدْ أعادَ صِياغةَ السُّؤالِ المَركزيِّ : مَنْ نَحْنُ ؟. لَيْسَ بِوَصْفِهِ سُؤال هُوِيَّة فَحَسْب، بَلْ أيضًا بِوَصْفِهِ سُؤالًا أخلاقيًّا وَنَفْسِيًّا واجتماعيًّا يَعكِس رَغْبَةً في فَهْمِ الذاتِ قَبْلَ الحُكْمِ عَلَيْها.

تَحليلُ الشَّخْصيةِ عِنْدَه لَيْسَ وَصْفًا لِمَرَضٍ نَفْسِيٍّ، بَلْ هُوَ مُحَاوَلَةٌ لِتَحريرِ الإنسانِ مِنْ سَطْوةِ أوهامِه، فَهُوَ يَدْعُو بِلا مَلَلٍ إلى التَّفريقِ بَيْنَ مَا نَقُولُه ومَا نَفْعَلُه، وَمُواجهةِ ذَواتِنا بِجُرْأةٍ، والتَّخَلُّصِ مِنَ المَظاهرِ الزائفةِ التي تَمْنعنا مِنْ رُؤيةِ حقيقتنا، وأنْ نَكُونَ لا كَما يُريدُ المُجتمعُ التقليديُّ، ولا كما نَتخيَّل أنفُسَنا في لَحَظَاتِ الكِبْرَياء، بَلْ كما نَحْنُ فِعْلًا، مَخْلوقات تَبْحَث عَنْ مَعْنى، وَتَتَعَثَّر، وَتَتعلَّم، وتَتناقض، وتَنْهَض مِنْ جديد.

إريك فروم (1900 - 1980) عَالِم نَفْسٍ وفَيْلسوف ألماني أمريكي. لَمْ يَكُنْ مُحَلِّلًا نَفْسِيًّا تقليديًّا. لَقَدْ كانَ شاعرًا يَكْتُب بِلُغَةِ العِلْمِ، وفَيْلسوفًا يُعالِج النَّفْسَ، وإنسانًا يَرى في كُلِّ رُوحٍ احتمالًا للخَلاصِ. وهَذا مَا يَجْعَل تَحليلَ الشَّخْصِيَّةِ لَدَيْهِ مَشروعًا إنسانيًّا قَبْلَ أنْ يَكُونَ تَفْسيرًا نَفْسِيًّا.

يَرى أنَّ اللحْظَةَ التي يُصْبح فيها الإنسانُ حُرًّا هِيَ اللحْظَةُ نَفْسُها التي يَكتشف فِيها هَشَاشَتَه.فالحُرِّيةُ - في نَظَرِه - لَيْسَتْ عَطِيَّةً سَهْلة، بَلْ هِيَ عِبْء يَحتاج إلى شَجاعة، وَمَسؤولية تَحْتاج إلى رُوحٍ مُستقرة. ولأنَّ الإنسانَ كثيرًا مَا يَعْجِزُ عَنْ تَحَمُّلِ هَذا العِبْء، فإنَّه يُهْرَعُ إلى الهُروبِ، يَهْرُبُ إلى سُلطةٍ قوية يَنصاع لها، أوْ إلى جَماعةٍ تُذيب فَرْدِيَّتَه، أوْ إلى عَالَمٍ داخليٍّ يَنْسِجُ فيه أوهامًا تُغْنيه عَنْ مُواجهةِ الواقعِ. وهَكذا تُصْبح الشَّخْصِيَّةُ صِرَاعًا بَيْنَ مَيْلِ الإنسانِ إلى التَّحَرُّرِ، وَبَيْنَ خَوْفِهِ مِنَ العُزْلة.

يُقَدِّمُ وَصْفًا لثلاثة مَفاهيم يَعْتمدها الإنسانُ للإفلاتِ مِنْ مُواجهةِ ذاتِه، وَهِيَ الخُضوع، والتَّسَلُّط، والامتثال الأعمى. الخُضُوعُ هُوَ أنْ يَتخلَّى الإنسانُ عَنْ إرادته لِسُلطةٍ مَا، كَيْ يَطْمئن إلى أنَّ الآخَرين سَيُقَرِّرُون عَنْه. والتَّسَلُّطُ هُوَ الوَجْهُ الآخَرُ للخُضُوعِ، إنَّه مُحاوَلة السَّيطرةِ على الآخَرِ كَيْ يَشْعُرَ المَرْءُ بأنَّه غَيْرُ ضعيفٍ. والامتثالُ هُوَ إذابةُ الذاتِ داخلَ الجَماعةِ، حتى يَفْقِدَ الفَرْدُ حُدودَه، وَيَتمرَّد على خُصُوصيته.

يَنْتقد الإنسانَ الحديثَ الذي يعيشُ بَيْنَ الزِّحَامِ، لكنَّه يَشْعُرُ بالوَحْدَةِ. يَملِك الأشياءَ، لكنَّ الأشياءَ تَملِكه. يَركضُ خَلْفَ الإنتاجِ والاستهلاكِ حتى يَنْسَى مَنْ يَكُون. وهَذا الإنسانُ يُعاني مِنَ الاغترابِ. يَغترِب عَنْ عَمَلِه لأنَّه يُؤَدِّيه بِلا مَعْنى، وَيَغترِب عَن الآخَرين لأنَّه يَخْشَاهُم، ويَغترِب عَنْ نَفْسِه لأنَّه لا يَعرِف مَا يُريد. وهَكذا تَتحوَّل الشَّخْصِيَّةُ إلى آلَةٍ تُحرِّكها الإعلاناتُ، والضُّغوطُ، والمَعاييرُ الاجتماعية، بَدَلًا مِنْ أنْ تُحرِّكها قِيَمٌ أصيلة نابعة مِنَ الداخل.

إنَّ الشَّخْصِيَّة المُتَوَازنة، في رَأيِه، لَيْسَتْ تِلْك التي تَخْلُو مِنَ التناقض، بَلْ تِلْك التي تَتعلَّم كَيْفَ تعيشُ بَيْنَ تناقضاتِها بِسَلام، وكَيْفَ تَخْتار الخَيْرَ رَغْمَ صُعوبته، وكَيْفَ تَتحمَّل تَبِعَاتِ الحُرِّيةِ رَغْمَ ثِقَلِها. وتَحليلُ الشَّخْصِيَّةِ عِندَه لَيْسَ مُجرَّد نظرية نَفْسِيَّة، بَلْ هُوَ نِداء إنساني كبير.

الوَرْدِيُّ وفروم كانا يَبْحثان عَن الإنسانِ الذي يُصارِع ذَاتَه قَبْلَ أنْ يُصَارِعَ العَالَمَ، الإنسان الذي يَتشكَّل مِنَ الطِّينِ نَفْسِه، لكنْ يُعاد تَشكيلُه مَرَّاتٍ كثيرة بِفِعْلِ الظُّروفِ والضُّغوطِ والمُعْتَقَدَاتِ.

وعلى الرَّغْمِ مِن اختلافِ السِّيَاقِ الحَضَارِيِّ، يَلْتقي الوَرْدِيُّ وفروم في نُقْطَةٍ مِحْوَرِيَّة، وَهِيَ أنَّ الإنسانَ كائنٌ هَشٌّ، لِدَرَجَةِ أنَّ أفكارَه قَدْ تَنقلِب عَلَيْه، وقويٌّ لِدَرَجَةِ أنَّه قادرٌ على إعادةِ تشكيلِ ذَاتِه إنْ أرادَ. لَدَى الوَرْدِيِّ، الهَشَاشَةُ تأتي مِنَ المُجتمعِ الذي يُحاصِر الفَرْدَ بِمَعاييره المُتناقِضة، وَلَدَى فروم، تأتي مِنَ الخَوْفِ العميقِ مِنَ الحِّريةِ، والرَّغْبَةِ في الاختباءِ داخلَ الجَماعة مَهْما كانَ الثمن. وَيُركِّز الوَرْدِيُّ على تَفْسيرِ الشَّخْصِيَّةِ بِوَصْفِهَا نِتَاجًا للصِّراعِ الاجتماعيِّ والثقافيِّ، بَيْنَما يُركِّز فروم على تَفْسيرها بِوَصْفِهَا نِتَاجًا لِحَاجَاتِ وَدَوافع نَفْسِيَّةٍ داخلية مُرتبطة بالوُجودِ الإنسانيِّ.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

مدخل: في صيف عام 1990، شهدت الجزائر العاصمة أول لقاء استشرافي حول مستقبل الإسلام، جمع نخبة من العلماء والمفكرين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، بينهم علماء ومفكرين من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والشيخ محمد الغزالي، والدكتور حسن الترابي، والمفكر المستقبلي المهدي المنجرة . والدكتور عبد الوهاب المسيري، خرج المجتمعون بإجماع تاريخي مفاده أن الإسلام وصل إلى أسوأ درجة من التقهقر لأن المسلمين ابتعدوا عن الاجتهاد والتجديد وسجنوا أنفسهم في ماضٍ دون الانفتاح على المستقبل. ومنذ ذلك اللقاء التأسيسي، توالت المؤتمرات والندوات عبر العقود، من ندوة فاس 2001 حول "المشروع النهضوي العربي"، إلى مؤتمر تجديد الخطاب الديني بأبوظبي 2011، مروراً بـندوة تونس 2012 حول "الإصلاح الديني بعد الربيع العربي"، وصولاً إلى المؤتمر الدولي للدراسات الإسلامية بالشارقة 2025، الذي أكد على ضرورة تجديد الفكر الإسلامي لمواجهة تحديات العصر.

هذا المسار التاريخي يؤكد أن قضية الإصلاح الديني في العالم العربي والإسلامي ستظل إحدى القضايا الفكرية المحورية التي شهدت زخماً ملحوظاً في النقاشات المعاصرة، لا سيما في ظل التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية المتسارعة التي يعاني منها المسلمون اليوم. حيث ولدت هذه التحولات تحديات حقيقية ترتبط بإعادة النظر والتطوير للخطاب الديني حتى يصبح أكثر انفتاحاً وتحليلاً واستجابة للواقع المعاصر، كما رسمت إشكاليات معرفية تتعلق بكيفية تعامل الفقهاء والمفكرين مع التراث الإسلامي في مواجهة المتغيرات الحديثة.

هذه الورقة هدفها الرئيسي الكشف عن المقتضيات التي تفرضها عملية الإصلاح الديني، وتفتح نقاشاً معمقاً حيال رهاناتها النظرية والعملية عبر الإشارة لخطابات ومقاربات فكرية رصينة تبلورت في تجارب الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، مستلهمة من إسهامات رواد الإصلاح أمثال مالك بن نبي، محمد عابد الجابري، محمد أركون، ماجد الغرباوي، يحيى محمد، المهدي المنجرة، عبد الوهاب المسيري وغيرهم من المفكرين الذين أسسوا لمشاريع إصلاحية عميقة. وذلك بوصفه مساراً يرنو إلى الإسهام في بناء خطاب إسلامي نقدي تنويري يستجيب لنداءات العصر، ويقدم آليات مواجهة التطرف، وتعزيز ثقافة المواطنة والتعددية.

أولاً: مقتضيات الإصلاح الديني

- القراءة النقدية الديناميكية للتراث

تبدأ مقتضيات الإصلاح بضرورة إحداث قطيعة ذهنية مع الجمود الفكري الذي فرضته قراءات تقليدية متحجرة للنصوص الدينية. وهنا يبرز دور المنهج النقدي في إعادة قراءة التراث الإسلامي بأدوات معرفية حديثة تراعي السياق التاريخي والاجتماعي الذي أُنتجت فيه الاجتهادات الفقهية، دون المساس بثوابت الدين الأساسية.

يرى طه عبد الرحمن أن الأخلاق تشكل جوهر الفهم الإسلامي ويجب أن تلعب دوراً محورياً في التأويل، بحيث ترتبط الأحكام الشرعية بالظروف المجتمعية الواقعية¹. وفي السياق ذاته، أسس محمد عابد الجابري منهجاً نقدياً لتحليل التراث الفكري العربي، وطرح جدلية العقل والتاريخ في مقاربة نقدية تهدف إلى تحرير العقل الإسلامي من القيود التي فرضها الجمود². أما محمد أركون فقدم مفهوماً ثورياً للإسلاميات التطبيقية، يفسح المجال أمام إعادة تفسير النصوص الدينية ضمن إطار فكري منفتح³.

وفي هذا المضمار، قدم المفكر الجزائري مالك بن نبي رؤية حضارية شاملة للإصلاح، ركز فيها على مفهوم "القابلية للاستعمار" و"شروط النهضة"، معتبراً أن الإصلاح الديني يجب أن يرتبط بمشروع حضاري متكامل يعالج الإنسان والتراب والوقت كعناصر أساسية للتقدم⁴. كما طرح حسن حنفي مشروع "التراث والتجديد"، داعياً إلى قراءة نقدية للتراث من منظور يساري تقدمي يربط بين الفكر والواقع الاجتماعي⁵. وفي نفس السياق، أسهم محمد عمارة في التأصيل للتيار الوسطي الإصلاحي، مؤكداً على ضرورة التمسك بثوابت الدين مع الانفتاح على المتغيرات العصرية⁶.

أما المفكر التونسي عبد المجيد الشرفي فقد دعا إلى تحديث العلوم الإسلامية وإخضاع التراث للمناهج النقدية الحديثة، مميزاً بين "إسلام الرسالة" و"إسلام التاريخ"⁷. وفي الاتجاه ذاته، قدم هشام جعيط دراسات تاريخية نقدية حول السيرة النبوية ونشأة الإسلام، مستخدماً مناهج البحث التاريخي الحديث⁸. كما ساهم المفكر الجزائري عبد الله شريط في الدفاع عن التجديد الإسلامي من منظور جزائري أصيل، مركزاً على قضايا الاجتهاد والعقلانية⁹.

ومن جانب آخر، عمل كمال أبو المجد على التوفيق بين الإسلام والمواطنة، مؤكداً على أهمية الحرية والحقوق في الفكر الإسلامي المعاصر¹⁰. بينما قدم عبد العزيز الحبابي مقاربة شخصانية إسلامية تجمع بين الفلسفة الغربية والقيم الإسلامية¹¹. أما زكي الميلاد فقد ركز على قضايا التجديد الثقافي والحضاري في العالم الإسلامي، داعياً إلى بناء مشروع نهضوي جديد¹².

وفي العراق، برز المفكر الأستاذ ماجد الغرباوي كأحد أهم المفكرين المعاصرين الذين تناولوا قضايا الإصلاح الديني بجرأة، حيث دعا إلى إعادة تأسيس الخطاب الديني على قواعد عقلانية، ونقد الفهم التقليدي للنصوص، مع التأكيد على الحاجة إلى فقه جديد يراعي المقاصد والسياقات المعاصرة¹³. كما قدم المفكر العراقي يحيى محمد إسهامات مهمة في مجال فلسفة الفهم الديني، داعياً إلى تطبيق مناهج العلوم الإنسانية في دراسة النصوص الدينية، ومشددا على ضرورة التمييز بين النص المقدس والفهم البشري له¹⁴.

- المواطنة والتعددية

يُعد مفهوم المواطنة من أبرز المحاور التي يجب أن يتناولها الإصلاح الديني بعناية فائقة، إذ تمثل المواطنة الإطار القانوني والسياسي الذي يضمن حقوق جميع أفراد المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو العرقية. وقد أبدى كل من الأستاذ ماجد الغرباوي والدكتور كمال أبو المجد مع غيرهم من المفكرين والعلماء التنويريين، اهتماماً خاصاً بتعزيز حقوق الإنسان والمواطنة، مجددين النظر في العلاقة بين الشريعة والدولة، ومؤكدين أن الفصل الواضح بينهما يُهيئ الأرضية اللازمة للعيش المشترك والتعددية السياسية والدينية والمدنية¹⁵.

وفي هذا الإطار، ساهم كمال أبو المجد في تأصيل مفهوم المواطنة من منظور إسلامي، مؤكداً على أن الإسلام يحترم التنوع ويدعو إلى المساواة في الحقوق والواجبات¹⁶. كما عمل ماجد الغرباوي على تفكيك الخطابات الطائفية والإقصائية، داعياً إلى بناء مجتمع مدني يقوم على المواطنة الكاملة والعدالة الاجتماعية¹⁷.

تتطلب هذه الرؤية تأسيس منظومة حقوق المواطنة التي تحصر الدين في نطاق الاختصاصات الروحية والفردية، وتحمي الحقوق الإنسانية والقانونية لجميع مواطني الدولة. وهذا يقتضي بدوره إعادة النظر في كثير من الاجتهادات الفقهية التقليدية التي تميز بين المواطنين على أساس ديني، وتبني خطاب يعترف بالتعددية كواقع لا يمكن إنكاره، بل كقيمة إنسانية يجب احترامها وحمايتها قانونياً.

- محنة الدين بين التوظيف السياسي والجمود المؤسساتي

على الرغم من الخطابات الإصلاحية القائمة على الحوار، تواجه حركة الإصلاح تحديات ضخمة على صعيد السياسة والمؤسسات والمجتمعات. فمن جهة أولى، لا يزال استغلال الدين لأهداف سياسية قائماً، وكثرة الخطابات الانغلاقية تمنع تحول الإصلاح إلى واقع ملموس. حيث ينبه الدكتور رضوان السيد إلى أن الدين قد يُساء استخدامه في النزاعات الأيديولوجية والطائفية التي تعمق الفرقة بين المجتمعات، وتقوض فرص الحوار والتعايش¹⁸.

ولقد حذر مالك بن نبي منذ عقود من خطر الجمود الفكري والتبعية الثقافية، مؤكداً أن الإصلاح الحقيقي يتطلب إرادة حضارية تغير من البنية الثقافية والاجتماعية للمجتمعات الإسلامية¹⁹. كما أشار يحيى محمد إلى أن الفهم التقليدي للنصوص الدينية يشكل عائقاً أمام التطور، داعياً إلى تبني مناهج نقدية تحررية في التعامل مع التراث²⁰.

ويطرح البروفسور المنجرة سيناريوهين لمستقبل العالم العربي والإسلامي. أما السيناريو الثاني، فهو حسب المهدي المنجرة سيناريو الإصلاح، ويمكن لهذا السيناريو أن ينجح بنسبة قليلة وذلك رهين بسرعة الإصلاح واحتواء الأوضاع، كما يضيف في كتابه أن المشكلة التي تواجه هذا السيناريو تكمن في عدم وجود قوة سياسية في أي بلد عربي قادرة على تقديم برنامج تغيير عن طريق الإصلاح.

هذا التشخيص يكشف عن رهان صعب: الإصلاح ممكن لكنه مشروط بالسرعة في التنفيذ، وبوجود إرادة سياسية حقيقية قادرة على قيادة عملية التغيير. غياب هذين الشرطين يجعل من سيناريو الإصلاح احتمالاً ضعيفاً، ويفتح الباب أمام سيناريوهات أخرى أكثر عنفاً وفوضى.21

ومن زاوية أخرى، يواجه الإصلاح محدودية في البنية التحتية التعليمية والبحثية التي تدعم الاجتهاد والتفكير النقدي. فالمؤسسات الدينية والأكاديمية في كثير من البلدان العربية لا توفر بيئة ملائمة للمناقشة العلمية، ما يحد من قدرة النخب الثقافية الإسلامية على إنتاج خطاب تفكيكي ومدني تنويري. كما أن غياب التواصل الفعال مع المجتمع المدني، خاصة الشباب، يقلص أثر المبادرات الفكرية، مما يعكس فجوة بين الفكر والإجماع الشعبي22

- البعد الحضاري والفلسفي للإصلاح

لا يمكن فصل الإصلاح الديني عن السياق الحضاري العام الذي يعيشه المسلمون. فقد أكد مالك بن نبي على أن أي إصلاح ديني يجب أن يكون جزءاً من مشروع حضاري شامل يعالج الأزمات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية²3. وفي نفس الاتجاه، دعا عبد العزيز الحبابي إلى بناء فلسفة شخصانية إسلامية تحترم الإنسان وكرامته وحريته، وتجعله محور التنمية والإصلاح24.

بينما يؤكد الغرباوي على ضرورة تحرير العقل من بنيته الأسطورية وإعادة فهم الدين على أساس مركزية الإنسان في الخطاب الديني. فهو يرى أن القرآن الكريم "وضع فاصلاً بين مرحلتي الأساطير والوحي الإلهي، في ضوء الإطار العام للكتاب القائم على وحدانية الخالق، كما استعاد إنسانية الناس التي سلبتها أساطير الأولين". هذه المقاربة تجعل من الإنسان محور الخطاب الديني وغايته، وليس مجرد تابع خاضع لسلطة النص دون فهم أو تدبر. في كتابه "إشكاليات التجديد"، يقدم الغرباوي إشارات مكثفة لمعالم عدد من المشاريع الإصلاحية المضادة للاستبداد، ولمحات سريعة لبعض إشكاليات التجديد ضمن تلك المشاريع. يؤكد أن التجديد ضرورة أفرزتها مرونة الشريعة واستعدادها للبقاء إلى جنب الإنسان في تحولاته الجذرية ومنعطفاته الحادة". وينتقد الموقف السلبي من التجديد، مشدداً على أننا "بحاجة ماسة لمراجعة ثوابتنا ومقولاتنا وتراثنا وفكرنا وثقافتنا.

ويحدد الأستاذ يحيى محمد نوعين من العقل يتوجب حضورهما في المشروع الإصلاح:

- العقل البعدي: القائم على دراسة الوقائع والتزود بنتائجه

- العقل الوجداني البديهي: القائم على المبادئ العقلية الأولية

ويؤكد أن "العقل المطلوب هو ذلك المحدد بالنظام الواقعي، أو بجعل الواقع أساس التفكير والتكوين المعرفي بعد البديهيات العقلية والمنطقية.

كما ركز زكي الميلاد على أهمية البعد الثقافي والحضاري في عملية الإصلاح، مؤكداً أن التجديد الثقافي هو المدخل الأساسي لأي نهضة إسلامية معاصرة25.

 أما حسن حنفي فقد ربط الإصلاح الديني بالتحرر الاجتماعي والسياسي، معتبراً أن التجديد الديني يجب أن يخدم قضايا العدالة الاجتماعية والتحرر من الاستبداد26.

وفي المجال الفلسفي، قدم هشام جعيط دراسات معمقة حول تاريخ الفكر الإسلامي، مستخدماً مناهج نقدية تاريخية تساعد على فهم السياقات التي تشكلت فيها العقائد والمذاهب الإسلامية27. بينما عمل عبد المجيد الشرفي على تطبيق المناهج النقدية الحديثة في دراسة القرآن والحديث، داعياً إلى تحرير الفكر الإسلامي من القراءات الحرفية والتقليدية28.

ثانيا: رهانات المستقبل

في ضوء ما تقدم، فإن مستقبل الإصلاح الديني يعتمد على مدى قدرة النخب الدينية والفكرية على ترسيخ منهج شامل يدمج بين روح النص وروح العصر، ويعزز قيم الاعتدال والمواطنة والتعايش، بينما ينأى بالدين عن كل استغلال. ويمكن تصور آفاق إصلاحية تستند إلى:

- إشاعة ثقافة العقل والاجتهاد: عبر تحديث مناهج التعليم الديني والإسلامي، وإدماج العلوم الإنسانية والاجتماعية، وتمكين العلماء الشباب من استخدام أدوات البحث النقدي لمعالجة قضايا الواقع، كما دعا إليه مالك بن نبي ويحيى محمد وماجد الغرباوي.

- فصل الدين عن السياسة: إذ يمثل الفصل بين الدين والسلطة شرطاً للموضوعية والاستقلالية، وتيسير الحوار المجتمعي، بل وحماية الدين من الاستغلال السياسي وتحويله إلى أداة نزاع، كما أكد المفكر الإسلامي الدكتور كمال أبو المجد.

- تعزيز ثقافة المواطنة والتعددية: من خلال خطاب ديني يعبر عن احترام حق الآخر والاختلاف، وتنفيذ برامج توعية تشجع على التنوع الثقافي والديني كقيمة إنسانية، كما دعا إليه الدكتور محمد عمارة والدكتور زكي الميلاد.

- التفعيل الجاد لوسائل الإعلام: تطوير إعلام معتدل متوازن، يستهدف الشباب ويقود حوارات نقدية وحضارية، مع صقل مهارات الاستخدام الأمثل للتواصل الرقمي.

- دمج الشباب والنساء في حقل الإصلاح وضمان تمثيلهم كمحركين للتغيير، لما لهما من دور محوري في الإنتاج الفكري والثقافي.

نحو مشروع إصلاحي متكامل

المستقبل يوحي بملامح مشروع إصلاحي استراتيجي يمكن أن يُطلق عليه عنوان: "نحو إصلاح ديني وتنوير ثقافي في العالم العربي"، تكون رهاناته الاستراتيجية كالتالي:

1.  الرهان الأول: تجديد الخطاب الديني

تشكيل لجان علمية متخصصة تضم مفكرين ودعاة وعلماء من مختلف المذاهب والتوجهات المعتدلة، يستلهمون من إسهامات بن نبي والجابري وأركون والغرباوي وغيرهم. إصدار سلسلة من المؤلفات والدراسات التنويرية التي تستند إلى مقاصد الشريعة ومبادئ حقوق الإنسان. تنظيم مؤتمرات وورشات دورية للحوار بين مختلف التيارات الفكرية لبناء أرضية ثقافية مشتركة مرنة في التعامل مع التحديات.

2. الرهان الثاني: البرامج التعليمية والتدريبية

تطوير مناهج دراسية حديثة تجمع بين التراث والعلوم المعاصرة في إطار مقاصدي وحقوقي، مستفيدة من رؤى حسن حنفي والشرفي وجعيط.

إطلاق دورات تدريبية للشباب والنساء تركز على بناء قدراتهم النقدية والفكرية، معتمدة على منهجية يحيى محمد في فلسفة الفهم الديني.

إنشاء منح دراسية للباحثين الشباب في مجال الدراسات الإسلامية المعاصرة.

3. الرهان الثالث: الحوار المجتمعي

تنظيم حلقات نقاشية وورش عمل متخصصة تجمع الفئات المختلفة من المجتمع.

إطلاق مبادرات مدنية تروج لقيم المواطنة السليمة والتعايش السلمي، مستلهمة من أفكار كمال أبو المجد وعبد الله شريط، وبناء شراكات مع مؤسسات المجتمع المدني لتعزيز ثقافة الحوار.

الرهان الرابع: البعد الحضاري والثقافي

تبني المشروع الحضاري الشامل والمتكامل الذي دعا إليه مالك بن نبي، والذي يربط الإصلاح الديني بالتنمية الشاملة، مع تعزيز البعد الثقافي والتجديد الحضاري والتعارف كما طرحه زكي الميلاد، عبر دمج الرؤية الشخصانية الإسلامية لعبد العزيز الحبابي في برامج التنمية البشرية.

الرهان الخامس: الإعلام والتواصل

تطوير محتوى إعلامي معتدل ومتجدد عبر منصات رقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، يستلهم من الخطاب الوسطي لمحمد عمارة وماجد الغرباوي وزكي الميلاد.

إنتاج برامج وثائقية ومواد إعلامية تعليمية تستهدف الجمهور الواسع.

تدريب كوادر إعلامية متخصصة في الخطاب الديني المعتدل.

الرهان السادس: الشراكات والتعاون المؤسسي

بناء شراكات مع مؤسسات أكاديمية محلية وعالمية لتعزيز البحث العلمي.

التعاون مع منظمات دولية معنية بحقوق الإنسان والحوار بين الأديان.

إنشاء شبكة من المراكز البحثية المتخصصة في الإصلاح الديني عبر العالم العربي.

يتركز نجاح الإصلاح الديني على قدرة الفاعلين السياسيين والثقافيين والدينيين على تجاوز التقسيمات السياسية والإيديولوجية، وتحويل الخطاب إلى فعل حضاري يرتكز على الاعتدال، والتفتح، وحقوق الإنسان. كون الإصلاح الديني ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة حضارية ملحة لمواجهة تحديات التطرف والانقسام والتخلف.

لقد قدم المفكرون المسلمون المعاصرون، من مالك بن نبي إلى محمد أركون، ومن المهدي المنجرة إلى ماجد الغرباوي، ومن عبد المجيد الشرفي إلى يحيى محمد، ومن محمد عمارة وعبد الله شريط إلى زكي الميلاد، رؤى غنية ومتنوعة للإصلاح الديني، تتكامل فيما بينها لتشكل خارطة طريق واضحة نحو تجديد الخطاب الإسلامي. ويتطلب هذا الإصلاح تضافر جهود المفكرين والباحثين والمؤسسات الدينية والمجتمع المدني، لبناء خطاب تنويري إسلامي يوازن بين الأصالة والمعاصرة، ويؤسس لمجتمعات تقوم على قيم الحرية والاختلاف والمواطنة والحوار والتعارف والتسامح والتعايش..

***

بقلم: أ. مراد غريبي

.........................

الهوامش

1.  طه عبد الرحمن، الأبعاد الأخلاقية للدرس المقاصدي المعاصر، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، بيروت، 2020، ص. 62.

2.  محمد عابد الجابري، نقد العقل العربي: تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة العاشرة، 2009، ص. 102.

3.  محمد أركون، الفكر الإسلامي: قراءة علمية، ترجمة هاشم صالح، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1996، ص. 179.

4.  مالك بن نبي، شروط النهضة، دار الفكر، دمشق، 2000، ص. 73.

5.  حسن حنفي، التراث والتجديد، دار التنوير، بيروت، 1981، ص. 120

6.  محمد عمارة، الإسلام والمستقبل، دار الشروق، القاهرة، 2012، ص. 105.

7.  عبد المجيد الشرفي، الإسلام بين الرسالة والتاريخ، دار الطليعة، بيروت، 2001، ص. 125.

8.  هشام جعيط، الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، دار الطليعة، بيروت، 1989، ص. 87.

9.  عبد الله شريط، مدخل إلى فلسفة العلوم، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1982، ص. 67.

10.   كمال أبو المجد، رؤية إسلامية معاصرة: إعلان مبادئ، دار الشروق، القاهرة، 1991، ص. 112.

11.   عبد العزيز الحبابي، من الحريات إلى التحرر، دار المعارف، القاهرة، 1974، ص. 89.

12.   زكي الميلاد، التجديد والتراث والاجتهاد: دراسات في الفكر الإسلامي المعاصر، دار الصحوة، القاهرة، 2015، ص. 135.

13.   ماجد الغرباوي، الهوية والفعل الحضاري، مؤسسة المثقف ودار امل الجديدة، بيروت، 2018، ص. 99

14.   يحيى محمد، فلسفة الفهم الديني، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2017، ص. 156.

15.   عبد الله أحمد النعيم، الإسلام وعلمانية الدولة: الشريعة والقانون والسياسة، ترجمة مجدي عبد الجواد، دار هنداوي، القاهرة، 2019، ص. 15.

16.   كمال أبو المجد، الحرية والإسلام، مجلة المسلم المعاصر، العدد 78، بيروت، 1995، ص. 36.

17.   ماجد الغرباوي، تحرير الوعي الديني، مؤسسة المثقف العربي، سيدني، 2020، ص. 212.

18.   رضوان السيد، أزمنة التغيير: الدين والدولة والإسلام السياسي، دار الشروق، بيروت، 2018، ص. 201.

19.   مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، دار الفكر، دمشق، 2002، ص. 77.

20.   يحيى محمد، مدخل إلى فهم الإسلام، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2015، ص. 92.

21.   عولمة العولمة، المنجرة المهدي، ص 72.

22.   تقرير حول التحديات الفكرية والاجتماعية للشباب في العالم الإسلامي، مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد 45، بيروت، 2023، ص. 75.

23.   مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، دار الفكر، دمشق، 2000، ص. 146.

24.   عبد العزيز الحبابي، الشخصانية الإسلامية، دار المعارف، القاهرة، 1969، ص. 78.

25.   زكي الميلاد، التحديث والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2012، ص. 167.

26.   حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، دار التنوير، بيروت، 1988، ج1، ص. 236.

27.   هشام جعيط، في السيرة النبوية: الوحي والقرآن والنبوة، دار الطليعة، بيروت، 1999، ص. 112.

28.   عبد المجيد الشرفي، لبنات: في التجديد الديني والفكري، دار الطليعة، بيروت، 2005، ص. 89.

في المثقف اليوم