قضايا

دور المعلّم في تحقيق التعليم الشامل داخل الصفوف الدامجة

يشكّل التعليم الشامل أحد أبرز التحوّلات التربوية في العقود الأخيرة، إذ لم يعد التعليم مجرّد عملية نقل للمعرفة، بل أصبح التزامًا أخلاقيًا واجتماعيًا يهدف إلى ضمان فرص التعلّم لجميع الأطفال دون استثناء، مهما اختلفت قدراتهم أو خلفياتهم أو ظروفهم. فالمدرسة الدامجة لم تعد مكانًا لتلقي الدروس فحسب، بل فضاءً يحتضن التنوع، ويحتفي بالاختلاف بوصفه مصدرًا للثراء الإنساني والتربوي.

غير أن نجاح هذا التحوّل لا يتحقق عبر السياسات والخطط وحدها، بل يتوقف على العامل البشري الأكثر تأثيرًا في الميدان: المعلّم. فهو الذي يترجم مبادئ الدمج إلى ممارسات واقعية داخل الصف، وهو الذي يخلق البيئة الصفية القادرة على احتضان جميع المتعلمين. ومن هنا تبرز أهمية التساؤل: كيف جعل المعلّم الدمج التربوي حقيقة ملموسة داخل الصفوف؟ وما المصادر التي تعينه على أداء هذا الدور الحيوي؟

إن الإجابة عن هذه التساؤلات تقود إلى بحثٍ أعمق في طبيعة الدور التربوي للمعلّم داخل الصفوف الدامجة، وفي سبل دعمه من قبل المدرسة والمشرفين التربويين، بما يضمن أن يتحول الدمج من شعارٍ إلى ممارسةٍ فعليّة تعكس جوهر التعليم الشامل القائم على الإنصاف والمشاركة.

التعليم الشامل بين المفهوم والتطبيق

يُعدّ التعليم الشامل رؤية تربوية تسعى إلى إتاحة فرص التعلّم لجميع الأطفال في بيئة واحدة، بحيث تُزال الحواجز التي تحول دون مشاركتهم الكاملة في الحياة المدرسية. فهو لا يقتصر على دمج الطلبة ذوي الإعاقة في المدارس العادية، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة تنظيم النظام التعليمي بحيث يستجيب لتنوّع المتعلمين واحتياجاتهم المختلفة.

في هذا الإطار، يُنظر إلى الصف الدامج باعتباره بيئة تعليمية يتفاعل فيها جميع المتعلمين بصورة متكافئة، حيث تتنوّع طرق التدريس ووسائل التقويم بما يضمن مشاركة فاعلة لكل طالب. ومع ذلك، فإن الفرق بين الدمج الشكلي والدمج الحقيقي ما يزال يمثل تحديًا جوهريًا؛ فالأول يقتصر على وجود التلاميذ المختلفين في المكان ذاته دون تفاعل حقيقي أو تكييف للمناهج، أما الثاني فيقوم على إعادة تصميم العملية التعليمية لتستجيب بمرونة لحاجات كل متعلم.

ويلعب اتجاه المعلّم نحو الدمج دورًا حاسمًا في هذه المعادلة، إذ لا يمكن تحقيق تعليم شامل من دون قناعة راسخة لدى المعلّم بأن كل طفل قادر على التعلّم إذا أُتيحت له الوسائل المناسبة. فالمعلّم المؤمن بقيمة التنوع يدرك أن الاختلاف ليس عبئًا، بل فرصة لبناء خبرات تعلم غنية ومتبادلة داخل الصف. وهنا تبدأ الممارسة الفعلية للتعليم الشامل، عندما يتحوّل المعلّم من ناقل للمعرفة إلى ميسّر للتعلّم، ومن مراقب للانضباط إلى قائد لبيئة تشاركية تحترم الاختلاف وتستثمره.

المعلّم صانع الدمج الحقيقي

يُعتبر المعلّم المحرك الرئيس لنجاح الصفوف الدامجة، فهو الذي يترجم سياسات التعليم الشامل إلى أفعال يومية داخل الصف. يكمن التحدي الأكبر في كيفية التعامل مع تنوع القدرات والاحتياجات الفردية للمتعلمين، وتكييف أساليب التعليم والتقييم بحيث يشعر كل طالب بالمشاركة والاعتراف بقدراته. هنا يظهر دور المعلّم ليس فقط كمرشد علمي، بل كمنظّم بيئة تعليمية داعمة وموجّه يسهّل التفاعل بين جميع المتعلمين ويحوّل الصف إلى فضاء يتكامل فيه التنوع مع التعلم الفعّال.

لكي يحقق المعلّم الدمج الحقيقي، يعتمد على مجموعة من الأساليب التعليمية التي تتيح لجميع المتعلمين فرصة المشاركة الفاعلة، مثل تنويع طرق الشرح والأنشطة التعليمية لتناسب مستويات وقدرات مختلفة، وتشجيع التعلم التعاوني حيث يعمل الطلاب معًا لتحقيق أهداف مشتركة، بالإضافة إلى إدراج أنشطة تفاعلية ووسائط تعليمية رقمية تتيح لكل طالب التعلم بطريقته الخاصة.

لا يقتصر نجاح هذه الاستراتيجيات على التخطيط وحده، بل يحتاج أيضًا إلى إدارة صفية مرنة، حيث يقوم المعلّم بموازنة الانضباط والتحفيز، مع تكييف التعليم وفق احتياجات كل طالب، واعتماد أساليب تقويم متعددة تعكس التقدم الفردي بدلاً من معيار موحد لكل المتعلمين. كما يسعى المعلّم إلى بناء مناخ صفّي داعم يشجع على احترام الاختلافات، وتقدير مهارات كل طالب، وتعزيز الثقة بالنفس، وتهيئة بيئة تشجع المشاركة والانخراط في التعلم الجماعي.

بهذه الطريقة يصبح المعلّم صانع الدمج الحقيقي، إذ يتحول الصف الدامج إلى مجتمع مصغر يعكس قيم التعليم الشامل ويحقق مبدأ الإنصاف والمساواة بين جميع المتعلمين، مما يجعل الدمج أكثر من مجرد سياسة تعليمية، بل ممارسة يومية حقيقية يمكن ملاحظتها وتقييم أثرها في نمو وتقدم كل طالب.

مصادر الدعم التي يستعين بها المعلّم

لا يتحقق الدمج الحقيقي داخل الصفوف الدامجة بمجرد وعي المعلّم أو مهارته الشخصية فقط، بل يحتاج أيضًا إلى مصادر دعم متعددة تساعده على مواجهة تحديات التنوع داخل الصف. من أهم هذه المصادر يأتي التدريب والتأهيل المستمر للمعلّمين، سواء من خلال الدورات المتخصصة في التربية الخاصة أو ورش العمل حول استراتيجيات التعليم الشامل وأساليب التدريس المتمايز. هذا التدريب لا يزود المعلّم بالمعرفة فحسب، بل يمنحه الثقة والقدرة على التعامل مع المواقف الصعبة والمتنوعة في الصف.

إلى جانب التدريب، يلجأ المعلّم إلى التعاون مع فريق الدعم المدرسي الذي قد يشمل أخصائيي التربية الخاصة، والمستشارين النفسيين، ومرشدي الصف، وحتى أولياء الأمور. يوفر هذا التعاون رؤية شاملة لكل متعلم، ويساعد على تصميم أنشطة تعليمية مناسبة، وحل المشكلات الصفية بشكل جماعي، كما يسهّل رصد تقدم الطلاب وتعديل الخطط التعليمية بما يلبي احتياجاتهم الفردية.

أصبح الاعتماد على التقنيات التعليمية والوسائل المساعدة جزءًا لا يتجزأ من دعم المعلّم، سواء تمثّل ذلك في أدوات تكنولوجية لتسهيل التعلم، أو تطبيقات رقمية تتيح للطلاب التفاعل مع المحتوى بطرق متنوعة، أو موارد تعليمية مرئية وصوتية تُسهم في تبسيط المعلومات وتقديمها بأسلوب جذّاب وفعّال. إنّ توظيف هذه الوسائل يجعل المعلّم أكثر قدرة على تحويل الصف الدامج إلى بيئة تعليمية فعّالة تستجيب لتنوّع الطلاب وتعزّز مشاركتهم ونجاحهم.

دور المدرسة والمشرفين التربويين في دعم الدمج

لا يقتصر نجاح التعليم الشامل على جهود المعلّم وحده، بل يعتمد بشكل كبير على البيئة المدرسية والإشراف التربوي الذي يحيط به. فالمدرسة تمثل الإطار المؤسسي الذي يوفّر الموارد، ويهيّئ المناخ المناسب لتحقيق الدمج، من خلال دعم القيادات المدرسية للتعلّم التعاوني بين المعلّمين، وتوفير الأدوات والوسائل التعليمية اللازمة، وتنظيم برامج وأنشطة تشجع على المشاركة لجميع الطلاب دون استثناء. وجود ثقافة مدرسية تشجع على التعاون والاحترام المتبادل بين أعضاء الفريق التعليمي يعزز من قدرة المعلّم على تطبيق ممارسات إدماجية فعّالة.

كما يلعب المشرف التربوي دورًا محوريًا في تمكين المعلّم من أداء مهمته على أفضل نحو، من خلال المتابعة الميدانية، وتقديم التوجيهات المهنية، ومساعدة المعلّم على تطوير استراتيجيات التدريس والتقويم، بما يتوافق مع مبادئ التعليم الشامل. إضافة إلى ذلك، يوفّر المشرف الدعم المعنوي، ويشجع على تبادل الخبرات بين المعلّمين، ويعمل على رصد النجاحات والتحديات داخل الصفوف الدامجة، مما يخلق شبكة دعم متكاملة تعزز من فرص نجاح كل متعلم.

بهذا التعاون بين المعلّم، والمدرسة، والمشرفين التربويين، يتحوّل الدمج من مجرد مفهوم نظري إلى ممارسة حقيقية يمكن ملاحظتها داخل الصف، بحيث تصبح كل خطوة تعليمية مدروسة ومصممة لتعظيم استفادة جميع الطلاب، وتحقيق المساواة التعليمية والإنصاف التربوي.

***

المعلّم هو قلب العملية التعليمية داخل الصفوف الدامجة، ونجاح الدمج يعتمد على قدرته على تحويل التنوّع إلى فرصة للتعلّم المشترك، وليس فقط على تطبيق استراتيجيات محددة. المدرسة والمشرفون التربويون يوفّرون البيئة والدعم، لكن الدمج الحقيقي يبدأ عندما يصبح المعلّم قائدًا للتجربة الصفية، يبني مناخًا يقدّر الاختلاف ويعزز مشاركة الجميع، ويحوّل كل درس إلى فرصة لتطوير مهارات الطلاب وتحقيق شعورهم بالانتماء والإنجاز. هذه البيئة التفاعلية والدامجة لا تعكس فقط نجاحًا أكاديميًا، بل تعكس فهمًا حقيقيًا لقيمة كل طالب، وتجعل من التعليم الشامل ممارسة ملموسة تنبض بالحياة داخل الصفوف، وتؤكد أن الدمج ليس مجرد فكرة نظرية، بل تجربة يومية ملموسة يحققها المعلّم بتفاعله ووعيه وإبداعه.

لكي يصبح الدمج حقيقة يومية، يحتاج المعلّم إلى فهم طبيعة اختلاف الطلاب وتنوّع احتياجاتهم داخل الصف. فهناك من الطلاب يختلف في قدراته الأكاديمية ومستوى فهمه ومعالجة المعلومات، ويحتاج هؤلاء إلى تكييف أساليب التدريس واستخدام التعليم المتمايز. وهناك طلاب يعانون من احتياجات خاصة مثل صعوبات التعلم أو إعاقات جسدية أو حسية، فيتعين على المعلّم توفير وسائل مساعدة، وتعديل الأنشطة، وتقديم دعم فردي لهم. كما يختلف الطلاب في خلفياتهم الاجتماعية والثقافية، من لغات وعادات وتقاليد، ويتطلب الأمر من المعلّم تعزيز الانتماء واحترام التنوع ودمج الثقافات داخل الصف. أما الفروق النفسية والعاطفية، مثل الشخصيات المختلفة ومستوى الثقة بالنفس والدوافع، فتستدعي من المعلّم بناء مناخ داعم، وتشجيع المشاركة، وتحفيز الطلاب بطرق متنوعة. وأخيرًا، تختلف اهتمامات وميول الطلاب، ما يحتم على المعلّم تنويع الأنشطة لتلبية هذه الاهتمامات وجعل التعلم أكثر جذبًا وفاعلية لكل طالب.

***

الأستاذ الدكتور هاني جرجس عيّاد

 أستاذ علم الاجتماع - كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة – الجامعة الإسلاميّة في منيسوتا- الولايات المتحدة الأمريكيّة

مفتتح: هناك مفارقة عميقة تطبع تاريخ المجتمعات المستعمَرة:، حيث تحتفل هذه المجتمعات برفع رايات الاستقلال وخروج آخر جندي أجنبي من أراضيها، يبقى استعمار أعمق وأخطر قائماً في العقول والأرواح. هذا الاستعمار الخفي الذي لا يحتاج إلى دبابات ولا جنود، بل يتغلغل في البنية الثقافية والنفسية للمجتمع، هو ما يُعرف بـ الاستدمار الثقافي كما اسماه المفكر الجزائري الدكتور مولود قاسم نايت بلقاسم- ذلك المصطلح الذي يتجاوز مفهوم الغزو الثقافي إلى عملية ممنهجة من المسخ والفسخ والنسخ تستهدف تدمير الهوية الأصلية وإحلال هوية المستعمِر محلها.

 الاستدمار ليس مفردة نظرية في قاموس الدراسات الثقافية، بل هو واقع معيش نختبره حين نجد أجيالاً من المتعلمين أصبحوا غرباء عن ثقافتهم، ينظرون إلى لغتهم الأم كعائق أمام التقدم، ويتبنون قيم المستعمِر كأنها الحقيقة الوحيدة في التاريخ. إنها حالة من الاغتراب الحضاري تتطلب فهماً عميقاً لآلياتها وأهدافها، وبناء استراتيجيات واعية لمواجهتها.

1- تأصيل المفهوم وتحديد المعالم:

الاستعمار التقليدي ظاهرة خارجية، يحتل الأرض بالقوة العسكرية ويستنزف الثروات بالآلة الاقتصادية، لكنه يبقى قابلاً للمقاومة المادية والطرد النهائي. أما الاستدمار الثقافي فهو عملية جوانية أعمق أثراً وأبعد مدى، تستهدف البنية العقلية والنفسية للإنسان، وتحوله من كائن مقاوم إلى أداة طوعية للهيمنة دون أن يشعر بذلك.

المفهوم يقوم على ثلاث مراحل متتالية تشكل في مجموعها منظومة التدمير الحضاري:

م1: هي المسخ، حيث تُشوَّه الهوية الأصلية وتُصوَّر كمتخلفة ورجعية وعائق أمام التحضر. فاللغة العربية تصبح "لغة الماضي"، والقيم الإسلامية تصبح "عوائق أمام الحداثة"، والتاريخ الوطني يُكتب كسلسلة من الظلمات تقطعها "نور الاستعمار".

م2: هي الفسخ، وتعني تفكيك الروابط التاريخية بين الأجيال، وقطع الصلة بين الحاضر والجذور الثقافية والروحية. فالجيل الجديد يُعزل عن تراثه، ويُقدَّم له على أن ما قبل الاستعمار كان "عصراً مظلماً" لا يستحق الاهتمام أو الدراسة.

م3: فهي النسخ، وهي الأخطر: استبدال شامل للقيم والمعايير الثقافية والمرجعيات الفكرية. هنا لا يكتفي الاستدمار بتشويه الهوية الأصلية أو فصل الأجيال عنها، بل يحل محلها منظومة كاملة من القيم والأفكار والمعايير المستوردة تصبح هي المرجعية الوحيدة في الحكم على الأشياء.

هذه المراحل الثلاث لم تأت بعشوائية أو عفوية، بل كانت استراتيجية مخططة بدقة، خصوصا لدى فرنسا العجوز وما ارتكبته من جرائم مادبة وغير مادبة في مستدمراتها وخاصة بالجزائر،حيث الاستراتيجية استهدفت كل مكونات الهوية: اللغة التي حوربت وهُمشت، الدين الذي صُوّر كعدو للتقدم، التاريخ الذي أُعيدت كتابته من منظور المستعمِر، القيم التي قُدمت كعوائق اجتماعية، وحتى طريقة التفكير نفسها التي أُعيد تشكيلها وفق قوالب غربية.

2- التعليم الاستدماري كأداة للهيمنة:

إذا كان الاستدمار الثقافي منظومة متكاملة، فإن التعليم كان محركها الأساسي وأداتها الأكثر فاعلية. السياسة التعليمية الاستعمارية لم تكن تهدف إلى نشر المعرفة - كما يُروَّج لها - بل كانت تهدف إلى تدجين العقول وترويضها لخدمة المشروع الاستعماري.

المنهجية كانت واضحة: فصل النخبة المتعلمة عن ثقافتها الأصلية، وإشباعها بثقافة دخيلة تجعلها أداة طيّعة في يد الاستعمار. الطالب الذي يدخل الجامعة متمسكاً بهويته العربية والإسلامية، يخرج منها بعد سنوات وقد أصبح غريباً عن ثقافته، ينظر إليها بعين الاحتقار، معتبراً اللغة الفرنسية لغة العلم والحضارة واللغة العربية مجرد رمز للماضي هذه النتيجة لم تكن صدفة، بل كانت الهدف المقصود من العملية التعليمية برمتها.

والأخطر من ذلك أن السياسة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر اعتبرت تدريس القرآن والدين الإسلامي نوعاً من "المقاومة الثقافية" التي يجب محاربتها بكل الوسائل. فقد كانت الحياة الثقافية قبل الاستعمار مزدهرة، وكان أغلب المواطنين متمكنين من القراءة والكتابة بالعربية، لكن الاستعمار عمل بمنهجية على محو هذا الموروث الثقافي وزرع الأمية الحضارية محله.

الدرس الذي تعلمه الاستعمار مبكراً هو أن السيطرة على التعليم تعني السيطرة على المستقبل. فالجيل الذي يُصنع في مدارس الاستعمار وجامعاته سيكون هو الجيل الذي يقود المجتمع بعد الاستقلال، وإذا كان هذا الجيل مقطوع الصلة بثقافته الأصلية، متشبعاً بثقافة المستعمِر، فإن الاستعمار يكون قد حقق هدفه الأسمى: استعمار دائم لا يحتاج إلى جنود.

3- استلابات الاستدمار الثقافي:

الاستدمار الثقافي ليس غاية في حد ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق هدف أعمق: صناعة إنسان مسلوب الهوية يتبنى قيم المستعمِر ويدافع عنها، ويصبح امتداداً للمشروع الاستعماري حتى بعد الاستقلال السياسي.

هذا الإنسان المسلوب يؤدي وظيفة خطيرة في المعادلة الاستعمارية: فهو يحمل جنسية وطنية لكنه يفكر بعقلية استعمارية، يتكلم لغة المستعمِر ويتبنى رؤيته للعالم، بل ويصبح - في كثير من الأحيان - أكثر حماساً في الدفاع عن ثقافة المستعمِر من المستعمِر نفسه.

أما عن الاستلابات الاستراتيجية فإنها تتمحور حول ثلاثة محاور جوهرية:

- تفكيك الوعي الجماعي عبر تشويه التاريخ الوطني وتقديمه كسلسلة من الهزائم والانحطاط، مقابل تمجيد التاريخ الاستعماري كمسيرة من التقدم والحضارة.

- تحطيم الروابط الاجتماعية التقليدية التي تمثل مناعة ثقافية للمجتمع، واستبدالها بروابط فردانية تجعل الإنسان معزولاً وسهل الاختراق.

- خلق تبعية دائمة تجعل النخب المحلية في حالة احتياج مستمر للمرجعية الغربية في كل شيء: في التعليم والثقافة والسياسة والاقتصاد بل وحتى في تعريف الذات.

هذه الاستلابات تتكامل لتنتج حالة من التبعية الحضارية، لا تحتاج إلى قوة خارجية لفرضها، لأنها تصبح نابعة من الداخل، من قناعات النخب المتعلمة التي أصبحت تؤمن بأن التقدم يعني الذوبان في الآخر، وأن الأصالة تعني التخلف.

4- إدارة الأزمة ومواجهة الاستدمار

مواجهة الاستدمار الثقافي تتطلب:

 أولاً، وعياً عميقاً بحقيقة المشكلة وأبعادها. فالكثيرون يعانون من آثار الاستدمار دون أن يدركوا أنهم ضحايا له، بل قد يدافعون عنه باعتباره "حداثة" أو "انفتاحاً" على العالم. لذلك، فإن المرحلة الأولى من إدارة الأزمة هي التشخيص الدقيق لمظاهر الاستدمار في واقعنا المعاش: من اللغة المستخدمة في الإدارة والتعليم، إلى القيم المتبناة في السلوك الاجتماعي، إلى المرجعيات الفكرية التي تحكم نظرتنا للعالم.

ثانيا، المقاومة الثقافية الفاعلة لا تعني الانغلاق على الذات أو رفض كل ما هو أجنبي - فهذا موقف ساذج وغير واقعي - بل تعني الانتقاء الواعي الناقد القائم على معايير واضحة تحمي الهوية وتعززها دون انغلاق. والتجربة التاريخية أثبتت أن المقاومة الثقافية نجحت حين اندمجت مع المجتمع ولم تنعزل عنه، وحين قدمت بديلاً حضارياً واضحاً وليس مجرد خطاب دفاعي رافض.

ثالثا، الاستراتيجية الفاعلة تعمل على ثلاثة مستويات متكاملة:

1. المستوى الفردي عبر بناء وعي نقدي يميز بين الاقتباس الحضاري المثمر والتبعية المدمرة.

2. المستوى المؤسسي عبر إصلاح شامل للمنظومة التعليمية يحررها من التبعية الثقافية ويجعلها أداة لتحرير العقل لا لتدجينه.

3. المستوى الوطني عبر سياسات ثقافية واضحة تعيد الاعتبار للغة العربية والثقافة الأصيلة كمنطلق للإبداع الحضاري.

 5- الخطاب التنويري والمبادرة الحضارية

الخطاب المطلوب في مواجهة الاستدمار الثقافي يجب أن يتجاوز الموقف الدفاعي إلى موقف المبادرة الحضارية، فالخطاب الذي يكتفي برفض الغزو الثقافي دون تقديم بديل حضاري مقنع يبقى خطاباً ضعيفاً غير فاعل، لأنه يُفهم كنوع من النكوص الخائف على الذات. المطلوب هو خطاب يؤسس لسؤال النهضة الفكرية، خطاب يقدم رؤية حضارية متماسكة تجمع بين الأصالة والمعاصرة.

الأصالة هنا لا تعني التقوقع في الماضي أو رفض الحاضر، بل تعني الارتباط الواعي بالجذور الثقافية والروحية كمنطلق للإبداع الحضاري. والمعاصرة لا تعني التبعية العمياء للغرب أو الذوبان فيه، بل تعني الاستفادة النقدية من المنجزات الإنسانية وفق رؤية تحفظ الخصوصية الحضارية

و بالتالي المشروع النهضوي يقوم على مبدأ واضح: ثورة العقل هي الثورة الحاسمة في زمننا، فالأمة التي تملك عقولاً متحررة واعية تستطيع أن تواجه كل التحديات، أما الأمة التي عقولها مستدمرة فهي - حتى لو امتلكت كل الثروات - أمة ضعيفة قابلة للاختراق. ومعادلة النهضة تكتمل بتحقيق الاستقلال الثقافي مقابل الاستقلال السياسي، فالاستقلال السياسي وحده - كما أثبتت التجربة - لا يكفي إذا بقيت العقول تائهة والهويات قاتلة ومتقاتلة.

 نحو استقلال حقيقي

المجتمعات التي مرت بتجربة استعمارية تواجه اليوم استمراراً للاستدمار الثقافي في ثوب جديد: العولمة الثقافية التي تخترق المجتمعات من خلال ثقافتها وفكرها، وتنشر منظومة قيم ومعتقدات تقضي على التميز الثقافي الوطني. هذا الواقع يتطلب يقظة حضارية دائمة وبناء استراتيجيات طويلة المدى.

المقاربات الاستراتيجية تتطلب:

- تعميم اللغة العربية وجعلها لغة العلم والإبداع لا مجرد لغة التراث،

- إصلاح شامل للمنظومة التعليمية بحيث تصبح أداة لتحرير العقل،

- بناء وعي نقدي قادر على التمييز بين الاقتباس الحضاري المثمر والتبعية المدمرة،

- تطوير خطاب ثقافي يخاطب الأجيال الجديدة بلغة العصر ويربطها بجذورها بشكل واعٍ ومبدع

الاستدمار الثقافي ليس من ماضٍ انقضى، بل هو مؤامرة واستراتيجية مستمرة تتطلب وعياً عميقاً وإرادة حضارية قوية. فالأمة التي تخسر ثقافتها تخسر وجودها، حتى لو امتلكت كل أشكال الاستقلال السياسي والاقتصادي. والتحدي الحقيقي اليوم هو بناء جيل واعٍ بهويته، معتز بثقافته، منفتح على العالم دون ذوبان، قادر على الإبداع الحضاري انطلاقاً من خصوصيته لا من محاكاة الآخر. هذا هو الطريق الوحيد نحو استقلال حقيقي: تحرير العقل وتجديد الخطاب واستشراف المصير.

***

أ. مراد غريبي

الفن ليس زينة تعلق على جدار الحياة ولا مجرد ترف جمالي يمر مرور العابرين بل هو مرآة داخلية تعكس اعمق ما في الانسان من ارتعاشات الروح وهمسات النفس. ان الوعي النفسي حين يفتح نوافذه على الفن فانه لا يبحث عن الجمال المصقول وحده بل عن التجربة التي توقظ فيه احساسا ما؛ احساسا قد يكون حزنا او نشوة او قلقا او حتى صمتا مبللا بالدهشة.

الفن بهذا المعنى ليس ترفا بل ضرورة لانه لغة الروح حين تعجز اللغة العادية عن البيان. ولعل اسمى ما يمنحه الفن هو تلك القدرة على ان يجعلنا نصغي الى انفسنا بعمق ان نتعرف على المشاعر التي نسكنها ونخشى الاعتراف بها ان نمد ايدينا الى مناطق في وعينا لم تطأها خطوات العقل بعد.

ان الوعي النفسي الذي يتذوق الفن هو وعي متجاوز لا يقف عند ظاهر الشكل او الاطار بل يسعى الى ما وراءه الى الرموز الى الدلالات الى المعنى الذي يتجاوز ذاته. فالفن حين يهزنا انما يكشف ان فينا شيئا كان ينتظر تلك الرعشة ليبعث من جديد.

ولهذا ليس مطلوبا من الفن ان يكون جميلا بالمعايير المألوفة بل ان يكون صادقا بقدر ما يوقظ فينا شيئا يوقظ الحي من الميت والصوت من الصمت والنور من الظلمة. ومن لا يتأثر بالفن لا لانه لم يعجبه بل لانه لم يشعر بشيء امامه انما يكشف عن فراغ في داخله عن جدار سميك يحجب صوته الداخلي عن سماع نفسه.

‏لطالما آمنت أن الأدب والشعر والفنون الإنسانية تهذب أخلاق الإنسان وتجعله أكثر رقة، وعاطفة، وإحساسا بالأشياء، واستشعارا لجماليات الحياة ومآسيها على حد سواء.. إذ أن ذلك المكان العميق في الإنسان لا يلمسه سوى أشياء غير مادية تخاطبه على متن الإحساس والشعور

‏الفن لا يقتصر على اللوحات والمسارح، الفن هو الألوان التي تراها دون اكتراث كل يوم، ستراه في الغروب أو في غيمة تعانق جبل، في اخضرار الشجر ورقص الزهور على أنغام النسائم، في غموض البحر وزرقة السماء ورهبة مشهد النجوم في المساء

أمعن النظر وستجد أن الفن يتجلى في كل شيء حولك، وفيك أنت ايضا

فالفن اذن ليس مجرد وسيلة للتسلية او التزيين بل هو اختبار للوعي امتحان لمدى قدرتنا على التواصل مع ذواتنا وقياس لحجم المسافة بيننا وبين اعماقنا. ومن يملك حسا فنيا حيا يملك نافذة مفتوحة على سر الوجود ذاته.

‏ظنوا أن الفن مجرد زهرة قرنفل في عروة الجاكت الرسمي

مظهر لطيف ووسيلة تسلية

وظنوا أن الفن هو أخبار المشاهير ووسيلة ربح تجارية

وظن غيرهم أن الفن حرام

كل هذه الظنون تحطم كل يوم جزءا من الساق الثانية لأي حضارة بعد أن تم بتر الأولى. وساقا الحضارة.. العلم والفن

للأسف نحن نعيش في زمن وحشية الاستهلاك لا على مستوى المادة بل حتى مستوى الوعي والمشاعر الإنسانية،

السلعة صارت معيارا  لكل شئ: الإنسان، القيم، الفن، المشاعر، التعليم، الثقافة، حتى الدين نفسه تحول مع شيوخ السبوبة إلي سلعة

كل شيء قابل لأن يستبدل او حتى يفقد القيمة وذلك هو سبب تصحر أرواح الناس حيث لم يعد الجمال والمعنى يكمن في الأعماق بل في الصورة الحسية ولذلك قد يتحول الإنسان التافه إلى ايقونه ونموذج

للأسف ‏شوارعنا ينقصها البهجه.. ينقصها الألوان والجمال والفن والحب، ينقصها العازفون والرسامون والمبتسمون، ينقصها أناس لا يتدخلون في شؤون غيرهم ..

شوارعنا كئيبة، جافه، ومعقدة وذات أنوف طويلة جدا. تتدخل فيما لا يعنيها

شوارعنا حزينة رغم زحمتها كقلوبنا تماما

 الفن ليس ترفا اذن، بل امتحان للوعي ونافذة على سر الوجود. من يملك حسه يمتلك طريقا الى ذاته، ومن يغلق قلبه دونه يعيش في صحراء بلا ماء، حتى لو امتلك كل مظاهر الغنى.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

فيورباخ:- تقول عنه الكتب الفلسفية بانه فيلسوف الماني مادي ملحد، وقد عاصر فيورباخ الفيلسوف الألماني (هيجل) وتذكر المصادر ان هيجل قبل وفاته باعوام انه قبل في عداد تلاميذه ببرلين شابا كان لاهوتيا يدعـى (فيورباخ) حيث انتمى الى مدرسة هيكل عام 1824 م بعد ان خاب ظنه من دراسة اللاهوت، غير ان هذا التلميذ كلما سمع استاذه يتحدث يرى في كلامه تناقضاً بين النظرة المثالية للإنسان وبين ما تقرره (البيولوجيا). ومن هذا المنطق اخذ ينتقد فلسفة هيجل بشدة وصرح قائلاً.. (.. فاذا قالت الفلسفة الهيغلية ان العقل هو وحده الحقيقي الموجود فعلاً قالت الفلسفة الحديثة عكس ذلك لان الانسان هو وحده العقل، الانسان مقياس العقل..) الله في الفلسفة الحديثة: كولتز ص 338 .

وقد تعلم ماركس هذا الدرس من فيورباخ وكتب (انجلز) عن ذلك يقول:- (.. كان الحماس عاماً فصرنا جميعاً فيورباخيين دفعة واحدة..) وكان نشوء وتطور الانسان السمة المميزة لمادية فيورباخ، وهكذا تفوق التلميذ على استاذه عند ماوضع فلسفة تتوافق مع الروح العلمية.

فيورباخ والموقف من الدين

لقد استطاع فيورباخ ان يفسر الدين والله بالرجوع الى الطبيعة الإنسانية وميولها وقال: (ان ما يميز الانسان عن الحيوان هو قدرته على ان يدرك بتفكيره لا الفرد وحده بل النوع بأكمله فالانسان هو بنفسه الاله الحقيقي والوحيد) الله في الفلسفة الحديثة. ص 0339

لقد أراد اذا ان يجري عملية جراحية لاستئصال فكرة الله واراد ايضاً ان يحصر الدين داخل الاطار الالحادي ودعا الى دين انساني يخلو من الله. نفس المصدر ص 240.

وهو بهذا المنطق قد قطع كل علاقة له مع دياليكتيك هيجل واستحوذ عليه بقوة المنطق حيث قال.. (.. ان المادية بالنسبة لي هي أساس بناء الكيان الإنساني واساس المعرفة الإنسانية..) المادية والمثالية مهدي الحافظ ص7.

لقد قطع فيورباخ شوطاً كبيراً في ابتعاده عن الفلسفة الهيغلية (فقد كان من الذين فضحوا طبيعة الدين اللاعلمية وفي رد جذورها الى جهل الشعب وقلة معارفه) المعجم الفلسفي المختصر رؤية ماركسية – ص54 دار التقدم موسكو.

 كما انه طرح فكرة الانسان نقيضاً الفكرة والروح وهما المفهومان السائدان في المثالية السائدة في عصره.

تاثير فيورباخ على ماركس

يبدو ان تأثير فيورباخ على كارل ماركس واضحاً كل الوضوح في نظرته الى الدين عندما اعلن فيورباخ.. (.. ان محور الدين ليس الله بل الانسان وان الدين من ابتكار الانسان وان الصفات المميزة للطبيعة الإنسانية هي العقل وما الله سوى وهم خلقه الانسان لنفسه..) لهذا اعتبر ماركس فيورباخ بانه (لوثر الثاني) من حيث تحرير الناس من الوهم ولكن ماركس اعطى للجانب الاقتصادي تفسيراً للدين حيث قال (.. ان الطبقة الشعبية المسحوقة ابتكرت الله والسماء والحياة الثانية لمحاولة للخلاص من وضعها المتخلف.). العلمانية والدولة الدينية ص 19

تحويلات فيورباخ.. لماذا..؟

لقد ذكرت في بداية هذا المقال ان فيورباخ بدأ حياته لاهوتياً ثم تحول الى المذهب الهيغلي واعتنق ديالكتيك هيغل واصبح عضواً في الشباب الهيغلي الا انه انتقد أراء هيغل بشدة وهجرها الى المذهب المادي، ان هذا التحول لم يأتي اعتباطاً لقد كانت هناك عوامل ذاتية وموضوعية وراءه.

والحقيقة ان فيورباخ كان معاصراً لثلاث أكتشافات مهمة هي:-

1 – اكتشاف الخلية 2 – تحول الطاقة 3 – نظرية التطور المسماة باسم دارون.

 في الوقت نفسه كانت أوضاع المانيا أوضاع مؤسفة جعلت كراسي تدريس الفلسفة يحتلها التافهون وكان فيورباخ يقبع في قرية صغيرة).. المادية والمثالية – مهدي الحافظ ص 12

لقد ظل فيورباخ وفياً للمبادئ حتى وفاته 1872م، وختاماً فان المتتبع لمسيرة هذا الفيلسوف العظيم يرى انه قد لخص أراءه بهذا الكلمات المضيئه بقوله: (.. يؤمن الانسان بالألهة لانه يتمتع بالخيال، ويؤمن بالكائن السعيد لانه لدية فكرة عن السعادة، ويؤمن بالكائن الفاضل لانه يتطلع الى الكمال، ويؤمن بالكائن الخالد لانه يرفض الموت..) الماركسية في اطارها التاريخي، يتودور وايزرمن، ص 25-26.

***

غريب دوحي

 

  في مدونة الأحوال الشخصية التي سميت بالجعفرية والتي كتبت على عجالة منقطعة النظير، والتي أقرت في مجلس النواب العراقي في ٢٧/ ٨ / ٢٠٢٥، والتي عدها البعض نصرا للشيعة بعد ستين سنه من الاختطاف الفقهي في الأحوال الشخصية، نجد أنها قد استنسخت الأحكام الفقهية من كتب الرسائل العملية ووضعتها في مدونة لم تُقرأ مطلقا قبل التصويت عليها، فهم افترضوا مادام المرجع " الأعلى" هو من دونها في كتبه، أو بضعة مراجع قدماء كتبوها، فهي أذن صالحة لكل زمان ومكان ولأي فرد من الأفراد، ولأن التعديل للقانون ١٨٨ لسنة ١٩٥٩ وجلب مدونة فقهية،كان بأيادي قانونيين، فهم ربما لم يدركوا الفرق بين الحكم الشرعي الذي هو ظني وبين الحكم القانوني الوضعي الذي يراعي دستور الدولة المقر مجتمعيا عبر انتخابات رسمية موثقة.

الحكم الفقهي موجه للفرد المتدين الذي يريد تطبيق دينه كما يرى هو موضوعه بحسب مدرسته الفقهية، وهوحكم مرن ومتغير، أن تحويل الفتاوى الى قوانين يعني تقديس الاجتهاد البشري وتثبيته، واعتبار رأي الفقيه حكما وضعيا عاما مع أنه حكم ظني بطبيعته يفيد النجاة الأخروية، فهو لم يخصص لبناء عالم إنساني يراعي مصالح البشر الدنيوية بقدر إعطاء المعذرية الأخروية، والنجاة يوم القيامة وإبراء الذمة، هذه الذمة التي شُغلت بالتكليف منذ البلوغ الشرعي.

وهذا يدعونا الى الانتقال من فقه الضبط والتقييد الى فقه المعنى والمصلحة الإنسانية، فالشريعة جاءت لحفظ مصالح الإنسان في دينه وعقله وماله وكرامته، لكن الأحكام حين تتحول الى منظومة إلزام شكلي، تغيب الغاية الأخلاقية للنص،ويتقدم الشكل على المضمون والمعنى، وتمتهن كرامة الإنسان وحريته باسم حماية الحكم الشرعي، وتصادر إنسانية الفرد لصالح فتوى ظنية،ونصل الى نتيجة : فقه بلا روح، وقانون بلا عدالة.

إن الإنتقال الى فقه الإنسان يعني اجتهاد متجدد ينطلق من قيم شرعية قرآنية كبرى كالعدل والكرامة والمساواة، والحق والحرية والفردانية وعدم اتباع الآباء والأجداد وحفظ النظام، وأن يكون الاجتهاد في إطار سياقي يرعي سياقات العصر الحالي وماتجدد فيه من ظهور لذات المرأة واعتبارها ذاتا إنسانية فاعلة في الحياة،أي المطلوب التحول الى فقه يلتفت الى إيجاد ومعرفة المصالح ومراعاة مقاصد وغايات الشريعة التي من أجلها جاءت الشريعة.

أن تحويل الفقه التقليدي إلى قانون هو تحويل للمعرفة الدينية إلى سلطة قسرية تهمل الإنسان.

أن الفتوى متغيرة تبعا لظروف الزمان والمكان، أما القانون فيفترض فيه الثبات النسبي، لذا نقل النص الفقهي الى نص قانوني دستوري يعني إهدار مرونة الشريعة وتعطيل آلية الاجتهاد التي هي روح الفقه.

وهنا يظهر سؤال هل تشريع القوانين هو لحماية العقيدة أم سنَّ ليحمي الإنسان؟ فأن غاب الإنسان في أفق الشريعة أو القانون فلن يبقى لهما من معنى!..

***

د. بتول فاروق الحسون

المقدمة: في عالمٍ ترتفع فيه الأصوات أكثر مما تُسمع القلوب، يصبح الحديث عن التسامح ليس مجرد فضيلةٍ أخلاقية، بل فعلَ تحرّرٍ من ضجيجٍ يُهدّد إنسانيتنا. ولذلك، حين يحتفل العالم في السادس عشر من نوفمبر من كل عام بـ"اليوم العالمي للتسامح"، لا أراه يومًا يُذكّرنا بالآخرين  فحسب، بل هو أيضًا مرآة تُعيدنا إلى أنفسنا، لنراجع ما تراكم في أعماقنا من أحكامٍ وغضبٍ وصمتٍ مؤلم.

وبوصفي باحثًا في الفلسفة، لا أستطيع أن أمرّ على هذا اليوم مرورًا عابرًا، لأنني أؤمن أن التساؤل هو جوهر الفهم. فكلما جاء هذا اليوم، يتردّد في ذهني سؤال لا يفارقني: هل نحتاج فعلًا إلى يومٍ واحدٍ لنغفر فيه؟ وهل يُعقل أن نؤجّل الصفح إلى موعدٍ محدّد، ثم نعود إلى قسوتنا في اليوم التالي كما لو أن الغفران طقسٌ سنويٌّ لا روح له؟

ومن هنا، أرى أن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير؛ فاليوم العالمي للتسامح لا يُطلب فيه منّا أن نغفر فحسب، بل أن نتذكّر. وأن نتذكّر أن التسامح ليس لحظة انفعالٍ عاطفيٍّ مؤقتة، بل وعيٌ مستمرٌّ يعيد تعريف إنسانيتنا في زمنٍ أصبحت فيه المشاعر تُوزن بالمصلحة، والعلاقات تُقاس بما نكسبه لا بما نفهمه.

وإنه، في نظري، ليس يومًا نمارس فيه الغفران، بل يومًا نمارس فيه إعادة اكتشاف أنفسنا.

وهو يومٌ يجعلنا نتوقف وسط الزحام، لا لنسأل مَن أخطأ في حقّنا، بل كم مرة أخطأنا نحن حين نسينا أن نغفر.

- حين يعلّمنا الواقع معنى الفلسفة:

كثيرًا ما كنت أظن أن الفلسفة تسكن بين دفّتي الكتب وحدها، حتى أدركت مع الوقت أنها تتنفس في تفاصيل الحياة اليومية. ففي كل مرة غادرت فيها مكانًا أحببته بسبب كلمةٍ قاسية، وفي كل مرة كبر في داخلي خلاف صغير حتى تحوّل إلى جدارٍ بيني وبين من أُحب، كنت أتعلم درسًا جديدًا لا تمنحه القاعات ولا المحاضرات. ولقد فهمت أن الفلسفة لا تُمارس في النصوص، بل في تلك اللحظة التي نختار فيها الهدوء بدل الانفعال، والفهم بدل الرد، والرحمة بدل القسوة.

وحين أهدأ بعد غضبٍ كان يوشك أن يشتعل، أكتشف أنني أفكر أكثر مما كنت أرغب أن أنتقم، فأشعر بأنني أمارس الفلسفة دون أن أقصد. فالتسامح في جوهره ليس مجرد تصرف أخلاقي، بل هو أعمق أشكال التفكير، لأنه يجعلنا نرى الإنسان قبل الموقف، والنية قبل الخطأ، والظروف قبل الإدانة.

وقد تعلّمت من تأملات سبينوزا أن الحرية الحقيقية لا تتحقق بالرد أو المقاومة، بل بالفهم. وبالمعنى نفسه، وأدركت أن التسامح ليس ضعفًا كما يظن البعض، بل هو فهمٌ عميق لدوافع الآخر بدل أن نحاكمه. فالبشر لا يولدون قساة، وإنما تصقلهم التجارب وتربّيهم الجراح وسوء الفهم، وكلما ازداد فهمنا لذلك، اقتربنا خطوة من المعنى الإنساني الذي تتحدث عنه الفلسفة منذ نشأتها.

- بين الفلسفة والحياة اليومية:

في حياتنا اليومية لا يأتي اختبار التسامح على هيئة مواقفٍ كبرى أو قراراتٍ مصيرية، بل يتخفّى داخل التفاصيل البسيطة التي نمر بها كل يوم. ويحدث حين يتأخر أحدهم عن موعدٍ ننتظره، أو ينسى وعدًا ظننّاه مهمًا، أو يقول كلمةً غير مقصودةٍ تترك فينا أثرًا عميقًا. هناك، بين الفعل وردّ الفعل، يبدأ الامتحان الحقيقي: هل نغضب ونتسرّع في الحكم، أم نتأنّى ونفكر؟

كم من خلافٍ صغيرٍ اشتعل لأن أحد الأطراف اختار الغضب بدل الفهم، وكم من علاقةٍ انكسرت لأننا لم نمنح الآخر فرصة للتبرير. وهنا تكمن الفلسفة في أبسط صورها؛ إذ تدعونا إلى أن نفكر قبل أن نحاكم، وأن نفهم قبل أن نحكم. فالتسامح ليس في جوهره غفرانًا آليًا، بل عملية وعيٍ عميقةٍ تُعيد ترتيب علاقتنا بالإنسان وبأنفسنا.

ومن هذا المنظور يمكن أن نفهم ما أشار إليه سقراط حين رأى أن الإنسان لا يفعل الشر عن قصد، وأن وراء كل سلوكٍ قاسٍ دافعًا خفيًا أو جرحًا غير مرئي. وكذلك فأن الغضب لا يمنحنا قوة، بل يسلبنا حريتنا من الداخل، بينما التسامح لا يبرّئ الآخر دائمًا، لكنه يحرّرنا نحن من أسرِ الخيبة المتكرّرة، ويمنحنا قدرةً أرحب على الفهم والتوازن والسلام.

- التسامح كتحرر داخلي:

من خلال تأملاتي في الحياة، أدركت أن التسامح ليس ضعفًا ولا تنازلًا عن الكرامة، بل هو في جوهره إعادة تعريفٍ للقوة. فالقوة الحقيقية لا تكمن في سرعة الرد، بل في عمق الفهم، ولا في أن تنتصر على غيرك، بل في أن تنتصر على نفسك. وفي كل مرة يتملكني الغضب من موقفٍ أو كلمةٍ قاسية، أكتشف أن أكبر معركةٍ أخوضها ليست مع الآخر، بل مع ذاتي. فالغضب، في حقيقته، نارٌ داخلية تأكل صاحبها قبل أن تمسّ غيره، والتسامح هو الماء الذي يطفئها برفقٍ ووعي.

كثيرون يظنون أن التسامح يُغيّر الآخرين، بينما هو في الواقع يغيّرنا نحن أولًا. إنه لا يُصلح الماضي الذي حدث، لكنه ينقذ الحاضر من التآكل، ويفتح بابًا للمستقبل كي يُكتب من جديد. وكل مرة أختار فيها الفهم بدل الحكم، أو الصمت بدل الجدال، أشعر بخفةٍ غريبة، كأن عبئًا من الغبار انزاح عن صدري. عندها أُدرك أن التسامح لا يُنسينا الألم، بل يُعلّمنا كيف نحمله دون أن يثقلنا، وكيف نحيا بسلامٍ أكبر مع أنفسنا ومع العالم.

- الفلسفة كمدرسة للتسامح:

لقد تعلّمت من الفلسفة أن الحقيقة ليست ثابتة كما نظن، بل إنها تتعدد وجوهها بتعدد الزوايا التي نراها منها، ولذلك فإنّ النظر إلى الحق من زاويةٍ واحدة قد يحجب عنّا أعمق معانيه. ومن هذا المنطلق، فإن الفلسفة الحقيقية لا تطلب منك أن تتنازل عن حقك، بل تدعوك إلى أن تراه من منظورٍ أوسع وأكثر إنصافًا.

وعلى هذا الأساس، يصبح التسامح في جوهره ليس نقيض الغضب، بل تهذيبه، لأن الغضب في حد ذاته طاقة إنسانية يمكن أن تدمّر أو تُنقذ، بينما تمنحنا الفلسفة البصيرة الكافية لاستخدام هذه الطاقة في الاتجاه الصحيح.

ومن ناحية أخرى، نمارس الفلسفة في حياتنا الواقعية أكثر مما نظن؛ إذ إننا نفعل ذلك كلما اخترنا الهدوء بدل الانفعال، أو قلنا في لحظة ضيق "ربما لم يقصد" بدل أن نرد بحدّة، أو أكملنا حديثنا بابتسامةٍ رغم الألم. وهكذا، تُصبح تلك اللحظات الصغيرة من الوعي أعمق الدروس الفلسفية، لأنها تذكّرنا بأنّ الحكمة لا تُقاس بما نحفظه من النظريات، بل بما نمارسه من اتزانٍ في لحظات الغضب. فالتسامح، في نهاية المطاف، هو الفلسفة التي تتحرك في الحياة لا تلك التي تُكتب في الكتب، لأنه يجعل الفكر سلوكًا، ويحوّل المعرفة إلى فعلٍ إنسانيٍّ حيّ.

- ولماذا نحتاج يومًا للتسامح؟:

قد يرى البعض أن التسامح قيمة نحتاجها كل يوم، وأن تخصيص يومٍ واحدٍ له أمر لا مبرر له، غير أنني أرى أن الأيام العالمية ليست احتفالًا بقدر ما هي تذكيرٌ بما نكاد ننساه وسط انشغالنا بالحياة. فكما نحتفل بيوم الأم كي لا نغفل عن فضلها في زحام الأيام، نحتفل بيوم التسامح كي لا نغفل عن إنسانيتنا التي تتآكل بصمت بين الغضب والعجلة واللامبالاة.

وفي خضم هذا الزحام، نحن بحاجة إلى إشارات توقظ القلب من غفوته وتدعوه إلى أن يتوقف قليلًا، ليفكر في من قسونا عليه دون قصد، أو في من ينتظر منا كلمة تداوي ما انكسر. ومن هنا، فإن اليوم العالمي للتسامح لا يدعونا إلى النسيان، بل إلى التذكّر الواعي؛ تذكّر أن في داخل كل إنسانٍ ظلًا وخطأً وجانبًا مظلمًا يحتاج إلى الرحمة أكثر مما يحتاج إلى الإدانة. إنه يومٌ يضعنا وجهًا لوجه أمام أنفسنا، يومٌ يحثنا على أن نعيد التفكير، لا في الآخرين فقط، بل في ذواتنا وفي العالم الذي نصنعه بتصرفاتنا الصغيرة كل يوم

- توصياتي كباحث في الفلسفة:

انطلاقًا من تجربتي كباحث في الفلسفة، أرى أن التسامح ليس موقفًا يُمارس لحظة الغضب، بل طريقة في العيش تحتاج إلى تدريبٍ طويلٍ على الفهم والصبر وضبط النفس. ولذلك، أوجه حديثي أولًا إلى من أثقلته الذكريات، وأقول له: لا تنتظر اعتذارًا لتغفر، فالتسامح لا يبدأ من الآخرين، بل منك أنت. وأتوجه ثانيًا إلى من يرى التسامح ضعفًا، مذكّرًا بأن القوة الحقيقية ليست في الرد، بل في القدرة على كبح الرد، وأن أعظم الانتصارات أحيانًا هي أن تختار الصمت وأنت قادر على الصراخ. أما من يسعى إلى الحكمة، فعليه أن يتعلم أن يفكر مرتين قبل أن يحكم، وأن يرى الإنسان لا الموقف، وأن يتذكر أنه هو أيضًا أخطأ يومًا ما. وللمربين والمعلمين، أقول إن عليهم أن يغرسوا في نفوس أبنائهم أن التسامح ليس ضعفًا، بل وعي، وأن قول كلمة "أنا آسف" شجاعة، وأن قبول الاعتذار قوة، وأن الجدال لا يربح شيئًا إن خسر الاحترام. وأخيرًا، أوجّه حديثي إلى الإنسان في عصر الشاشات الرقمية، ذاك الذي يكتب كلماته بسرعةٍ قد تجرح أكثر مما يتخيل، وأدعوه أن يتذكر أن وراء الشاشة الرقمية إنسانًا له قلب وعائلة وليلٌ طويل، فربما يكون التسامح في زمن الإنترنت أصعب وأعمق أشكال الفلسفة التي نحتاج أن نتعلمها اليوم.

- الخاتمة:

إن يوم التسامح العالمي ليس دعوة إلى النسيان، بل دعوة إلى وعيٍ ناضج بالذاكرة، لأننا حين نتذكر بصدق لا نُعيد الألم، بل نُعيد ترتيب قلوبنا. فالتسامح لا يعني أن نمحو ما جرى، بل أن نتعلم كيف نحمله دون أن يثقلنا. ومن هنا نفهم أن الإنسان لا يكتمل إلا حين يتسع للآخر، وأن الفلسفة ليست في الجدل حول الحقيقة بقدر ما هي في القدرة على العيش بسلامٍ مع ما لا نفهمه بعد.

لقد علّمتني الفلسفة أن التسامح لا يغيّر من أخطأ، لكنه يغيّرنا نحن أولًا، إذ يجعلنا أهدأ، أنقى، وأكثر إنسانية. وكلما غفرت، شعرت أنني أقترب خطوةً من فهم العالم، لأن الغفران لا يحتاج إلى عقلٍ كبير فحسب، بل إلى قلبٍ شجاع يتّسع لما هو أبعد من الألم.

وفي النهاية، أقول إننا لا نحتاج إلى عمرٍ طويلٍ لنفهم الحياة، بل إلى لحظة صفاءٍ واحدة نغفر فيها بصدق، لأن من يغفر يفكر كما يفكر الفلاسفة، ويعيش كما يحلم الحكماء. فربما تكون أرقى درجات الفلسفة هي أن نحب رغم الخذلان، وأن نسامح رغم القدرة على الإدانة.

***

أ.د/ علي محمد عليان  عبد الرازق الخطيب

أستاذ ورئيس مجلس قسم الفلسفة – كلية الآداب- جامعة المنيا- جمهورية مصر العربية

يدين باحثو الدراسات العلمية والنفسية في مجال الإنفعالات بالفضل للفلسفة ومفاهيمها ونظرياتها، وبالأخص فلاسفة عصر التنوير، فقد كتب كل من ديفد هيوم، وآدم سميث، وتوماس ريد، بإسهاب عن المشاعر والعواطف، وقد إعتقد هؤلاء المفكرون أن الإنفعالات ضرورية لبقاء الفرد والمجتمع، ولم يؤسس "سميث" علم الإقتصاد فحسب، بل ساهم في" تأسيس علم المشاعر" ، أو مايسمى (علم نفس الإنفعالات)، ففي كتابه الأول" نظرية المشاعر الأخلاقية"، المنشور في عام 1759م، ذهب "سميث" الى أن الإنفعالات هي الخيوط التي تشكل نسيج المجتمع، وقد إعتبر هؤلاء الفلاسفة أمثال: (ديفد هيوم، وتوماس ريد، وآدم سميث) أن إختبار العواطف هو أمر عقلاني، وأن أي علم يدرس العقل لايكتمل دون أن يبحث في المشاعر أيضاً، على الرغم من إعتقادٍ قديمٍ عند بعض الفلاسفة والمفكرين أن الإنفعالات في جوهرها متعارضة مع المنطق ، إلا أن الإهتمام العلمي بالإنفعالات عاد من جديد في تسعينيات القرن العشرين، وظهر الرأي القائل بعدم تعارض الإنفعالات في جوهرها مع العقل، وأنها حليف العقل وليس عدواً له، حيث أن (الفعل الذكي) هو نتاج مزيجٍ متناغمٍ من الإنفعالات والعقل، وأن إنساناً بلا إنفعالات سيكون أقل عقلانيةً وليس العكس، وعلى الرغم من ذلك فإن هنالك أوقات ومواقف معينة يُستحسن فيها الإستماع الى إملاءات العقل بدلاً من القلب، فمعرفة متى نتبع مشاعرنا ومتى نتجاهلها هي موهبة يُطلق عليها في عصرنا إسم (الذكاء الإنفعالي).

ديكارت وبكاء الكمبيوتر

إن أحدث التخصصات التي إستخدمت المفاهيم الفلسفية وبالأخص مفهوم (الإنفعال) هو الذكاء الإصطناعي، فمنذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، إزداد إهتمام علماء الكمبيوتر ببناء آلات إنفعالية، وأحرز العاملون في مجال الروبوتات بالفعل تقدمات ملموسة في هذا المجال، وتُجرى الآن الأبحاث الأكثر إثارة حول الإنفعالات من قبل الباحثين وعلماء الكمبيوتر، وليس الفلاسفة، أو علماء النفس، أو الإنثروبولوجيا، حيث يسعى المجال الجديد المعروف بإسم (الحوسبة الوجدانية) أو مايطلق عليه حالياً إسم (الذكاء الإصطناعي الإنفعالي)، الى بناء أنظمة وأجهزة قادرة على التعرف على الإنفعالات البشرية، ومحاكاتها، بل تنبأ بعض الباحثين بأن الآلات قد يصبح لها إنفعالاتها الخاصة، في يوم من الأيام، حيث وجد الباحثون أنه يمكن توظيف أجهزة الكومبيوتر وجعلها قادرة على التعرف على الإنفعالات البشرية، والإستفادة من هذه التقنية في أغراض متنوعة،حيث أصبحت هذه التقنيات قادرة على إستخلاص معلومات إنفعالية من معطيات بشرية مختلفة، مثل الصوت، وتعابير الوجه، والملامح، والبيانات الفسيولوجية، حيث يتم تصنيف الإنفعالات تحت مسمى محدد مثل: الغضب والخوف ، أو الحزن، والسعادة، على سبيل المثال، مما يتيح للأجهزة الذكية مراقبة وتحليل العلامات الحيوية، وتكوين فكرة عن المعلومات الإنفعالية للإنسان، ومن ثم محاكاتها، ودمجها مع الذكاء الإصطناعي، ويتم دمج كل ذلك داخل نظام إحداثي (ديكارتي )، يعتمد في الأساس على النظرية الديكارتية التي يتبناها ديكارت في تصنيف الإنفعالات.

إن المفهوم الديكارتي لتصنيف الإنفعالات يعود الى الفيلسوف الفرنسي (رينيه ديكارت)، ونظريته حول الإنفعالات التي كان (يفصل فيها بين العقل والجسد)، ويعتقد ديكارت ان العقل هو المكان الذي توجد فيه هذه الأفكار والإنفعالات، ولقد إستفاد علماء وباحثوا الذكاء الإصطناعي من المفهوم الديكارتي حول الإنفعالات، وقاموا بناءاً على ذلك بتصميم إنفعالات الكمبيوتر، والروبوتات، والذكاء الإصطناعي.

 ونظراً لسرعة تطور الأبحاث في هذا المجال، فإن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة في عصرنا هو: هل ستنجح التكنولوجيا في بناء روبوتات تمتلك مشاعر مثلنا تماماً؟ وماهي العواقب الأخلاقية المحتملة لمثل هذه التكنولوجيا؟ ومما لاشك فيه أن دراسة الإنفعالات من منظور (فلسفي- نفسي، وعلمي) هو أمر ضروري في خضم التطور التكنولوجي الكبير والسريع، ولكن كل مانتمناه هو أن يتم توظيف هذا التقدم والتطور العلمي لخدمة الإنسان، وأن تكون التكنولوجيا سببا في سعادته وليس تعاسته.

***

شيماء هماوندي

الإختصاص\ الفلسفة والعلاج الفلسفي

أربيل/ جامعة صلاح الدين/كلية الآداب /قسم الفلسفة

(العقل البشري يستطيع أن يتجاوز حدوده ظاهريًا، لكنه يضلّ حين يفعل ذلك دون نقد)... كانط

(المعرفة ليست مجرد بناء عقلي، بل هي تموضع جسدي للعقل داخل العالم)... مرلوبونتي

لم يعد الجهل، في الفلسفة المعاصرة مجرّد نقيض للمعرفة، بل غدا بنية إبستمولوجية قائمة على سوء الفهم، وعلى غياب الوعي بالجهل نفسه. فمنذ سقراط الذي جعل من الاعتراف بعدم المعرفة أولى خطوات الحكمة، ميز الفكر الفلسفي بين جهل بسيط يعترف صاحبه بالقصور، وجهل مركّب يتوهّم فيه الإنسان أنه عالم، بينما هو غارق في تمثلات زائفة للمعرفة.

في مستوى كهذا، يتحول الجهل من وضع معرفي إلى مأزق وجودي. فليس الإنسان جاهلًا فحسب، بل هو غافل عن جهله، وهذه الدرجة من العمى المعرفي هي ما يجعل الأفراد، بل والمجتمعات أكثر عرضة للخطأ، وأكثر استعدادًا لإعلاء الوهم إلى مرتبة الحقيقة.

وإذا كانت الحداثة قد وعدت بالتحرر من الجهل عبر العلم والتقنية، فإنها أنتجت أشكالًا جديدة من الجهل. جهلًا تتكفل التقنية نفسها بصناعته، لأنه لا يقوم على نقص في المعطيات، بل على فرط في تدفقها، وعلى إيهام الإنسان بأنه يمتلك المعرفة لمجرد أنه يلامس واجهاتها الرقمية. هنا يظهر ما يشبه "الجهل الرقمي المركّب"، حيث تزداد الثقة الذاتية بازدياد الأدوات، ويقلّ الوعي بازدياد الاعتماد عليها.

فالجهل لا يُفهم إلا داخل حقل المعرفة، كما أن المعرفة لا تكتمل إلا بوعيها بحدودها. هذا ما شدّد عليه كانط حين جعل من "حدود العقل" شرطًا لفهم إمكاناته، ثم عمّقه كارل بوبر بإقراره أن قابلية الخطأ هي جوهر الموقف العلمي. فالمعرفة ليست حالة رسوخ، بل حركة يقظة بين الشكّ والاختبار والتصحيح. أمّا حين تتوقف عن مساءلة ذاتها، فإنها تنقلب إلى أيديولوجيا: نظام مغلق يبرّر ذاته ذاتيًا ويحوّل معتقداته إلى حتميات.

من هنا تبرز الحاجة إلى إعادة تأسيس إبستمولوجيا نقدية تجعل من المعرفة فعلًا إنسانيًا لا تقنية صمّاء، وتفصل بين التفكير والتقليد، وبين الفهم والاستهلاك. نحن بحاجة إلى عقل يدرك أنه محدود، وإلى فكر يمارس الشكّ باعتباره منهجًا للحماية من الوهم، لا كحالة عدميّة.

إن "الجهل الواعي"، أي إدراك المرء لجوانب ما يجهله، ليس نقيضًا للمعرفة، بل شرطها الأول. فمن لا يعرف حدود معرفته، يظلّ عرضة للتحول إلى مجرّد مستهلك للأفكار، لا إلى صانع لها. والإبستمولوجيا الجديدة التي يحتاجها العالم اليوم ليست تلك التي تَعِد بحقيقة كاملة، بل التي توفّر أدوات دائمة للتساؤل، للحفر في المعنى، ولتفكيك ما يبدو بديهيًا.

ليست خطورة الجهل في غيابه، بل في قدرته على التسرّب إلى أنماط التفكير اليومية دون أن يعلن عن نفسه. فمجتمع المعرفة الحقيقي ليس من يملك أكبر قدر من المعلومات، بل من يمتلك القدرة على تحويل هذه المعلومات إلى وعي نقدي. ولذلك، فإن المعركة المعرفية الكبرى للإنسان المعاصر ليست بين الجهل والمعرفة، بل بين الوهم والحقيقة. بين منطق الاستهلاك ومنطق الفهم. بين إنسان يفكر كي يوسّع أفق وجوده، وإنسان توقف عن السؤال فصار أسيرًا لما يُملى عليه.

إن المعرفة التي لا تنتج سؤالًا ليست معرفة حيّة، والجهل الذي لا يُفضي إلى وعي حدوده يتحوّل إلى استعمار صامت للعقل. هكذا يصبح مستقبل الفكر مرهونًا بقدرتنا على التمييز بين ما نعرفه حقًا، وما نظن أننا نعرفه.

***

د. مصـطـفــى غَـــلمـان

هل آن الأوان أن نعيد الاعتبار للإنسان؟ لا بوصفه ظلا لطائفة، ولا حارسا لعقيدة، ولا مجرد رقم في قطيع، بل ككائن حر، ينبض بالمحبة، ويزدهر في فضاء الاختلاف، ويتوق إلى آفاق يتعذر اختزالها في يقين واحد؟

لقد طال بالإنسان زمن التشييء. تقاذفته الأنظمة، وغربته الأيديولوجيات، وسجنته الهويات في قوالب ضيقة صلبة، حتى غدا يخاف ذاته، ويستبدل أسئلته الحارقة بأجوبة جاهزة، ويكتم حدسه العميق خوفا من العزلة أو الاتهام. ففي مجتمعات تقدس الانتماء على حساب الفرد، تصبح الحرية تهمة، ويصبح الاختلاف جريمة. لكن، أليس في جوهر الإنسان ما يسمو على هذا كله؟ أليس في الكائن البشري نفحة من اللامحدود، من المحبة التي لا تعترف بالحدود، ومن العقل الذي يرفض أن يختصر في سردية واحدة؟

 أليس في جوهر الإنسان ما يسمو على هذه القيود؟ أليس هو الكائن الوحيد القادر على أن يشك في يقينه، وأن يحب المختلف عنه، وأن يمد الجسور نحو ما لا يشبهه؟

لقد آن للثقافة، إن أرادت أن تستعيد نبضها، أن تتخفف من أثقال الحراس والمفسرين، وأن تعود إلى ما يجعلها جديرة باسمها: إلى السؤال، إلى الانفتاح، إلى الجمال. فالثقافة، في أنبل تجلياتها، ليست سلاحا في يد سلطة، ولا مرآة لطائفة، بل هي لقاء بين الذوات، وبحث لا ينتهي عن المعنى، ومجال يتسع لتعدد الأصوات.

وإذا كانت الحضارات تنهض حين يمنح الإنسان حقه في أن يكون حرا، فإن الانغلاق لا ينتج إلا العنف، والخوف، والتقوقع. إن الإنسان لا يختصر في لونه، أو جنسه، أو عقيدته، ولا يقاس بمقدار ولائه للهوية. الإنسان كائن عبور، لا قرار له في الجمود، ولا خلاص له إلا في الترحال بين الأسئلة. ولعل أجمل ما فيه أنه قابل للحوار، وللمسامحة، وللاعتراف بالآخر، لا بوصفه خصما، بل مرآة تعكس ذاته في اختلافها.

لم يصنع الفكر الإنساني نهضته إلا حين احتفى بالاختلاف، واحتضن الحرية، وآمن بأن الحقيقة لا يمكن أن تصادر باسم يقين واحد

نعم، نستطيع أن نعيد الاعتبار للإنسان. ليس هذا حلما طوباويا، بل ضرورة أخلاقية وفكرية. فالمجتمع الذي لا يرى في الفرد أكثر من تابع، يعد مشروعا للقمع المؤجل. والثقافة التي تخاف من الحرية، تخفي في طياتها نداء للاستعباد. أما حين نصغي للإنسان لا كناطق باسم جماعة، بل ككائن يفتش عن ذاته، عندها فقط تشرق الثقافة بوجهها الكوني، وتستعيد اللغة عذوبتها، والفكر نُبله، والعالم روحه.

إنها دعوة إلى تحرير الإنسان من الأغلال التي صنعها لنفسه، أو فرضت عليه باسم الخلاص. دعوة لأن نحب لا على الرغم من الاختلاف، بل بفضله. لأن نختار التفكير لا التكرار، وأن نجعل من الثقافة احتفالا بالمعنى، لا مرآة للخوف

فهل نجرؤ؟

***

ابتهال عبد الوهاب

 

 

لقد دفع التقدم العلمي والثورة الصناعية وأفكار فلاسفة التنوير عجلة التطور الاجتماعي في أوروبا الغربيه إلى الأمام لبناء أنظمة ديمقراطية ليبرالية حديثة تلتزم بالعقلانية والموضوعية والمعرفة العلمية.

قبل أن نستعرض بعض فلاسفة عصر التنوير، لا بد أن نذكر شخصين يعتبران من أهم الشخصيات المبكرة في عصر التنوير: سبينوزا وابن رشد، اللذين استطاعا تحقيق التناغم بين العلم والدين والفلسفة، وضرورة استخدام العقل والمنطق لفهم النصوص.

إيمانويل كانط: (ولد في 22 أبريل 1724 - توفي في 12 فبراير 1804)

يعتبر كانط أحد أبرز المفكرين في عصر التنوير، وتبني أفكاره العقلانية رينيه ديكارت، والتجريبية فرانسيس بيكون. ويُعد كتابه "نقد العقل المحض" الذي نُشر في عام 1781، من أبرز الأعمال الفلسفية، حيث اوضح كانط فيه دور العقل البشري في تكوين المعرفة، ومحدودية القدرات العقليه في فهم بعض المسائل الميتافيزيقية.

كان كانط فيلسوفًا عقلانيًا وأخلاقيًا، وفي كتابه "أساسيات ميتافيزيقا الأخلاق"، اقترح أن الأفعال يجب أن تُقيَّم بناءً على نية الفاعل وليس فقط على نتائج الفعل.

ميخائيل باكونين (ولد في روسيا عام 1814 - توفي في برن، سويسرا عام 1876)

اشتهر ميخائيل باكونين بنظريته الفوضوية، وأن البشر يجب أن يتمردوا ضد السلطة من أجل أن يكونوا أحرارًا. رفض باكونين سلطة اي عقيده تجعل الإنسان يعيش في حالة خوف دائم. أشار باكونين إلى أن هدف الدولة الاستبدادية هو إبقاء الشعب في حالة من الطفولة الدائمة معتمدًا على الحكومة كمعلم ومرشد. كما أوضح باكونين أن آلية الطاعة هي آلية الإلغاء، وتزيف الواقع، وتجعل الأفراد يعتقدون أنهم يعملون من أجل الصالح العام بينما هم في الواقع يعيشون ما أسماه ماركس "الوعي الزائف“.

فريدريك نيتشه (ولد في 15 أكتوبر 1844 - توفي في 25 أغسطس 1900، ألمانيا)

طرح نيتشه فكرة "موت الإله" لتعبر عن انهيار القيم الدينية المسيحية التقليدية في أوروبا الحديثة، وكان يدرك أن فكرته عن "موت الله" سوف تسبب فراغًا أخلاقيًا وروحيًا قد يؤدي إلى "العدمية". ولكنه اعتبرها فرصة لمواجهة الواقع بشجاعة، وطرح فكرة "الإنسان الأعلى" الذي يستطيع خلق نظام أخلاقي جديد من خلال قوته الذاتية وإرادته والإبداع الشخصي.

اعتبر رجال الدين إعلان نيتشه عن "موت الله" بمثابة هجوم قوي على المبادئ الدينية ودعوة إلى الفوضى الأخلاقية.

سيجموند فرويد (ولد في 6 مايو 1856، فرايبرغ، النمسا - توفي في 23 سبتمبر 1939، لندن، إنجلترا)

ابتكر فرويد التحليل النفسي، وكان يعتقد أن المفاهيم الدينية انتقلت إلينا من أسلافنا الأوائل دون إثارة أي تساؤل حول صحتها، وأن الأديان ممارسة لـ"اضطراب الوسواس القهري".

شرح في كتابه "مستقبل الوهم" (1927) أن الإيمان بالله هو إسقاط لرغبات طفولية في التشبث بوجود الأب الحامي القدير، وان الاديان تقدم إجابات سهله لألغاز الكون، ومعنى الوجود، والحياة بعد الموت، وتوفر الأمان النفسي للانسان. كما أوضح فرويد أن القلق والتوتر والشعور بالذنب الذي يعاني منه الانسان سببه الصراع الداخلي بين القانون الإلهي والرغبة، وأنه صراع لا مفر منه، وأنه لا يمكن القضاء على الرغبة، ويمكن احتواؤها فقط.

ألبرت كامو (ولد في الجزائر 7 نوفمبر 1913 - توفي في فرنسا 4 يناير 1960)

حصل ألبرت كامو على جائزة نوبل للآداب في عام 1957، وهو في الرابعة والأربعين من عمره. وقد عبر في كتاباته عن عزلة الإنسان في عالم غريب، ومشكلة الشر، والحاجة إلى الدفاع عن قيم مثل الحقيقة والاعتدال والعدالة.

نشر كامو في عام 1942 مقالاً فلسفيًا مؤثرًا بعنوان "أسطورة سيزيف"، حيث حلل فيه العدمية المعاصرة والشعور بـ"العبث" في الكون غير المبالي. استخدم كامو في هذا المقال الأسطورة اليونانية "لسيزيف"، الملك الذي حكمت الآلهة عليه بدحرجة صخرة إلى أعلى التل، لتتدحرج الصخرة إلى أسفل كلما وصل إلى القمة. ويرمز هذا الصراع الأبدي إلى الحالة الإنسانية، حيث يسعى الأفراد إلى إيجاد المعنى في عالم لا يقدم أي معنى.

كان كامو متشائما، ورأى أن الكون لا معنى له، ويجب على الناس أن يتقبلوا الطبيعة العبثية للحياة،واعتبر الانتحار حلًا طبيعيًا لعبثية الحياة.

برتراند راسل (ولد في 18 مايو 1872 في ويلز - توفي في 2 فبراير 1970 في ويلز)

كان راسل مناضلًا من أجل السلام وكاتبًا مبدعًا في المنطق وفلسفة الرياضيات وفي الموضوعات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، وحصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1950.

اهتم راسل بالتعليم والقيم الأخلاقية في الزواج والممارسات الجنسية. نشر راسل عام (1945) كتابه الموسوعي "تاريخ الفلسفة الغربية"، الذي كان أكثر كتب راسل انتشارًا وحقق مكاسب مالية كبيرة حررته من أي ضغوط مادية.

كان راسل يؤمن بأن الدين يعزز الخوف والاتكالية، وسعي بجديه من اجل إيجاد نظرة عالمية علمية وإنسانية لمساعدة البشر في رحلة الوجود.

صمويل بيكيت (ولد في 13 أبريل 1906، دبلن، أيرلندا - وتوفي في 22 ديسمبر 1989 في باريس، فرنسا)

يعتبر بيكيت من أهم الكتاب في القرن العشرين، وحصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1969. وكانت أشهر مسرحياته "في انتظار جودو " 1952 التي تعد استكشافًا بارعًا للحالة الإنسانية، وعبثية الحياة، والتذبذب بين الأمل واليأس، والميل البشري إلى التشبث بالأمل حيث ينتظر البشر بلا نهاية شيئًا قد لا يصل أبدًا. أدرك بيكيت أيضًا أهمية الروابط الإنسانية في توفير العزاء في وجود قاتم يكافح فيه الإنسان لفهم الحقيقة في عالم غير مبالٍ تتكرر فيه الأفعال والمحادثات.

ختامًا، إن الثقافة السائدة حاليًا في مجتمعاتنا العربية تعيق التقدم والتنوير، ولا بد من مواجهتها بشجاعة من أجل الأجيال القادمة. وذلك بنشر الثقافة العلمية والمعرفة الموضوعية، والتمسك بقيم الحداثة، لدفع عجلة التقدم من جديد، والخروج من كهف التخلف والركود الفكري ووهم المعرفة.

***

بقلم استاذ دكتور سامح مرقس

الزبائنية كآلية هيكلية لتدمير ثقافة القبول وحقوق الإنسان الشاملة

مقدمة: المواطنة في عين العاصفة، أو الوهم الكبير

صوت يرتفع ضدّ الأوهام

في عالمنا العربي - وغير العربي -، كثيراً ما نتحدّث عن "الاختلاف والتنوع" وكأنها ميداليات فخرية نعلّقها على صدورنا. ونُطلق الشعارات الرنانة حول "قبول الآخر"، ونتغنى بقدسية "حقوق الإنسان" كأنها منجزات راسخة لا يمسّها سوء. ونُقيم المؤتمرات عن "المواطنة" ونكتب عنها أضخم المجلدات.

ولكن، مهلاً! دعونا نتوقف عن هذا الهذيان المريح.

إن هذه المفاهيم النبيلة – التنوع، الحقوق، المواطنة – ليست سوى أكاذيب مزخرفة إذا ظلت حبراً على ورق، أو مجرد ترف فكري يمارسه النخبة في أروقة مغلقة. هذه المفاهيم تعيش اليوم حالة اغتيال صامت، لا بسلاح الديكتاتورية المباشر كما قد نتخيل، بل بـ "فيروس الزبائنية" الخبيث الذي تسلّل إلى أعمق شرايين المجتمع والدولة، ليحوّل العقد الاجتماعي كله إلى سوقٍ مظلم للمنافع والولاءات.

إن هذه الدراسة ليست عن كيفية تحقيق التنوع المثالي، فهذا قد كُتب عنه ما يكفي. بل هي إعلان حرب فكرية على الآلية الهيكلية الأكثر فتكاً التي تمنع التنوع الحقيقي من الازدهار، والتي تحوّل المواطن صاحب الحق إلى مجرد "عميل" أو "زبون" ينتظر الإحسان والمنّة: إنها الزبائنية (Clientelism).

الزبائنية: السرطان الذي يأكل المواطنة من الداخل

فلنسمي الأشياء بأسمائها: الزبائنية ليست مجرد فساد عابر أو محسوبية هنا وهناك. إنها نظام حكم موازٍ، وهيكل اجتماعي بديل يستبدل سلطة القانون بسلطة العلاقات، ويستبدل مبدأ الكفاءة بمبدأ الولاء والانتماء.

في ظل المواطنة الحقيقية، أنت تمتلك حقك في التوظيف، في العلاج، في العدالة، لأنك إنسان و مواطن، وهذا استحقاق عالمي وغير قابل للتجزئة (Universal Entitlement).

لكن الزبائنية تأتي وتصفع هذا المفهوم ببرود قاتل. تقول لك الزبائنية: "حقك غير موجود، لكن خدمتك موجودة... إذا عرفت كيف تصل إلى 'الراعي' أو 'الشفيع' المناسب، وإذا أثبتّ له ولائك القبلي أو الطائفي أو الحزبي."

هذا هو الجوهر المشاكس لأطروحتنا: الزبائنية لا تُبقي على مفهوم حقوق الإنسان إلا كـ صدقة تُمنح وكأنها امتياز، وتُفرّغ المواطنة من محتواها الأخلاقي والسياسي لتصبح مجرد هوية إجرائية بلا قيمة فعلية، حيث لا يوجد تكافؤ أمام القانون ولا تكافؤ في الفرص، بل مجرد تنافس محموم على كسرة خبز تُرمى من مائدة الزبائنية.

خيانة التنوع وقبول الآخر

والسؤال الفج الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن لمجتمع أن يدّعي قبول الآخر وهو في جوهره لا يقبل إلا من يدخل تحت مظلة شبكة النفوذ المهيمنة؟

التنوع الحقيقي يتطلب مؤسسات حيادية، تضمن تكافؤ الفرص بغض النظر عن الانتماء. لكن الزبائنية تحوّل التنوع إلى محاصصة سياسية، حيث تُقسم الكعكة الوطنية بين "شيوخ الزبائنية" بمختلف ألوانهم، ليقوم كل شيخ بتوزيع "حقوق" جماعته الخاصة، ويصبح من لا ينتمي إلى هذه الشبكات مواطناً من الدرجة الثانية، أو حتى مواطناً "غير مرئي" تماماً.

- عندما يُعيّن شخص بناءً على قرابته، هل هذا قبول للتنوع أم خنق للكفاءة؟

- عندما تُنجز معاملات فرد بناءً على وساطته الحزبية، هل هذه مواطنة أم رشوة مقنّعة؟

إن الزبائنية تصنع غرباء داخل الوطن، ليس بسبب اختلافاتهم الفكرية أو الدينية، بل لأنهم خارج دائرة الولاء المُنتفع. قبول الآخر في ظل الزبائنية هو مجرد هدنة تكتيكية تُفرض حتى يتمكن اللاعبون الكبار من إدارة حصصهم، وليس قناعةً بمساواة جوهرية.

المنهجية: تشريح العدو وإعادة بناء الوعد

إن هذه الدراسة تنطلق من مبدأ أننا يجب أن نُعيد الاعتبار إلى المفاهيم النبيلة عبر مواجهة خصمها الشرس.

نحن سنرفض اللغة الوردية والتحليلات السطحية. سنذهب إلى حيث يكمن الألم:

1. سنُفكك هيكل المواطنة الشاملة (الفصل الأول) لنُثبت مدى الجمال والنظام الذي كان من الممكن تحقيقه.

2. سنُشرّح آليات الزبائنية (الفصل الثاني) لِنُظهر كيف تعمل كـ "آلة تدمير" صامتة للعقد الاجتماعي.

3. سنربط هذا التدمير مباشرةً بـ تآكل ثقافة القبول والتنوع (الفصل الثالث)، مُبرهنين على أن الانحطاط الأخلاقي في التعامل مع الآخر ما هو إلا نتيجة حتمية للانحطاط المؤسسي.

وفي الختام، لن نكتفي بالتشخيص، بل سنُقدّم خارطة طريق للمواجهة (الفصل الرابع)؛ خارطة طريق لا تتحدث عن مجرد "مكافحة الفساد" الشكلي، بل عن تفكيك نظام الزبائنية نفسه واستبداله بـ مواطنة مؤسسية شفافة وغير قابلة للاختراق.

إنها دعوة إلى التمرد الفكري. لن ينجو التنوع ولا حقوق الإنسان ولا المواطنة من هذا المستنقع إلا إذا اعترفنا جميعاً بأن العدو ليس خارجنا، بل هو ذلك النظام الموازي الذي يبيع حقوقنا في الخفاء تحت غطاء "الخدمة" و"الشفاعة".

فلنبدأ هذا العمل الجراحي المؤلم..

الفصل الأول: الأساس النظري: وعد المواطنة الجامعة وحقوق الإنسان (الخيار الوحيد)

تمهيد: المأساة في أن نُبرّر وجودنا

لنتفق على أمرٍ جوهري قبل البدء: هذا الفصل ليس مجرد استعراض لطيف للمفاهيم المثالية، بل هو بيان دستوري وأخلاقي نُشهره في وجه الخراب القائم. إنه يمثل "المدينة الفاضلة" التي يجب أن نُقارع من أجلها، لنتمكن في الفصل القادم من كشف زيف "المدينة الزبائنية" التي نعيشها.

إن المأساة الكبرى في عالمنا اليوم ليست في غياب التنوع، فالخالق قد أبدعه فينا. المأساة تكمن في أننا ما زلنا نضطر إلى كتابة فصول كاملة للدفاع عن حق الإنسان في أن يكون مختلفاً، وعن واجب المؤسسات في أن تكون محايدة. هذه الحاجة المُلحّة في حد ذاتها دليل إدانة على أننا سقطنا في فخ الأنانية القبلية والزبائنية الهيكلية.

إننا هنا لنُعيد بناء الإطار النظري الذي يجب أن يكون هو الخيار الوحيد لأي مجتمع يدّعي التحضّر: إطار المواطنة الشاملة التي لا تعرف المساومة، والحقوق العالمية التي لا تقبل التجزئة. فإما أن نكون مواطنين بالكامل، أو أن نعود إلى كهوف الولاء الضيقة. لا يوجد حل وسط، ولا يمكن أن يكون هناك حياد تجاه حقوق الإنسان.

المبحث الأول: الاختلاف والتنوع: المورد الاستراتيجي لا العبء الإداري

لقد جرت العادة في كثير من بلداننا، للأسف، على النظر إلى التنوع (العرقي، الديني، الثقافي، الفكري) بوصفه قنبلة موقوتة يجب إدارتها بالتهدئة والاحتواء، أو كمشكلة مزمنة يُمكن "مكافحتها" بالتنميط القسري. يا له من إفلاس فكري وإداري! إن هذا المنظور السلبي هو أول خرق لوعد المواطنة الجامعة.

في المقابل، يجب أن نرفع التنوع إلى مصاف "المورد الاستراتيجي". فالتنوع يعني تعدد زوايا النظر، يعني حلولاً أكثر ابتكاراً للمشكلات المعقدة، ويعني ثراءً حضارياً يرفد الهوية الوطنية بدلاً من أن يهددها. إن المجتمع المتنوع الذي يحترم أطيافه هو المجتمع الأكثر قدرة على الصمود في وجه التحديات، لأنه يمتلك آليات تكيف أوسع وقاعدة عريضة من الخبرات المختلفة (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، الإعلان العالمي حول التنوع الثقافي، الوثيقة الرسمية، 2001، ص 1).

إن القبول بالتنوع ليس مجرد فضيلة أدبية؛ إنه ذكاء اجتماعي. إن المجتمع الذي يخشى تنوعه هو مجتمع خائف من ذاته، يحكم على نفسه بالعقم والجمود. وعندما تُسخّر المؤسسات قوتها لإخفاء هذا التنوع أو قمعه، فإنها لا تُحقق الاستقرار، بل تُشيّد جدراناً من الهشاشة الداخلية التي سرعان ما تنهار عند أول عاصفة.

المبحث الثاني: قبول الآخر: من منّة الشفقة إلى واجب المؤسسة

نتحدث كثيراً عن "قبول الآخر" وكأننا نتصدق عليه ببعض التعاطف. إن هذه اللغة في حد ذاتها مُهينة وتفترض العلاقة العمودية بين السيد والخاضع. قبول الآخر ليس عملاً خيرياً يُثاب عليه الفرد، بل هو واجب مؤسسي وشرط أساسي لشرعية الدولة الحديثة.

إذا أردنا أن نخرج من وهم "الشفقة الطائفية" وندخل في فضاء "المواطنة العادلة"، يجب أن نُقر بأن: قبول الآخر هو في جوهره الالتزام بحقه الكامل في أن يكون مساوياً لك تماماً أمام القانون، بغض النظر عن انتمائه.

يُشير المفكرون في الفلسفة السياسية إلى أن هذا القبول المؤسسي يرتكز على مبدأ "الاحترام العام" (Public Reas-n)، حيث لا يجوز للدولة أن تفضل منظومة قيمية معينة على حساب أخرى. هذا الاحترام يجب أن يكون إلزامياً وغير قابل للتفاوض، ويجب أن يترجم إلى آليات دستورية وإدارية تضمن:

1. الوصول المتساوي إلى الخدمة العامة: يجب أن تكون المؤسسة "عمياء" تجاه انتمائك، تخدمك لأنك مواطن (الجابري، محمد عابد، قضايا في الفكر المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2000، ص 59).

2. التمثيل العادل: حيث تُكفل المشاركة السياسية دون تهميش، ولكن ليس بناءً على نظام "المحاصصة الزبائنية" الذي يُكرّس التقسيمات، بل بناءً على الكفاءة والتنافس الشريف.

إن مجرد "التحمل السلبي" للآخر ليس قبولاً؛ إنه استسلام اضطراري. أما القبول الحقيقي فهو احتضان إيجابي للاختلاف كجزء أصيل من النسيج الوطني، وتجريم أي خطاب أو ممارسة تؤدي إلى الإقصاء.

المبحث الثالث: حقوق الإنسان: استحقاقات عالمية لا امتيازات ملوكية

هنا يجب أن نرفع صوتنا بحدة: حقوق الإنسان، كما نص عليها الإعلان العالمي (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الأمم المتحدة، 1948، المادة 1)، هي حقوق متأصلة في الطبيعة البشرية؛ تُمنح بمجرد الميلاد، ولا تُنزع إلا بانتهاك القانون. إنها ليست هبات من حاكم كريم، ولا مُنحاً تُصرف بمرسوم خاص.

إن اللعبة القذرة التي تُمارسها الأنظمة التي تتغذى على الزبائنية، هي محاولة تقزيم هذه الحقوق وتحويلها إلى "امتيازات" يتمتع بها المقرّبون، أو "خدمات" تُقدم للولاة، بينما يُجرد منها المُعارضون أو المُهمّشون. هذا هو التزييف الأخطر لوعد المواطنة.

علينا أن نؤكد بقوة على مبدأين جوهريين تُحاول الزبائنية قتلهما:

1. العالمية والشمولية (Universality): حقوق الإنسان لا تتغير بتغير الحدود أو الأنظمة السياسية، ولا يجوز للدولة أن تبتدع تعريفاً خاصاً للحقوق يتماشى مع مزاجها أو مصالحها. هي قائمة على فكرة أن كل إنسان هو غاية في حد ذاته (Kant، Immanuel، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة: حنّا مخول، دار التنوير، بيروت، 2004، ص 45).

2. الترابط وعدم التجزئة (Indivisibility): لا يمكن تجزئة الحقوق إلى "حقوق اقتصادية" يُسمح بها، و"حقوق سياسية" تُمنع. الحق في العمل مرتبط بالحق في التعبير، والكرامة الإنسانية لا تتجزأ. إن محاولة فصل هذه الحقوق عن بعضها البعض هي خطة منهجية لتركيع المواطن وجعله يعيش في حالة دائمة من التبعية المُذلة.

إن أي نظام يمارس الفصل بين الحقوق السياسية والاجتماعية، أو بين مواطن وآخر بناءً على انتمائه، هو نظام خارج عن منظومة حقوق الإنسان حتى لو ادّعى ذلك زوراً. فالحقوق ليست طعاماً شهياً يُقدم للبعض فقط؛ إنها الهواء الذي يتنفسه الجميع وإلا اختنق المجتمع كله.

المبحث الرابع: المواطنة الجامعة: العقد الاجتماعي غير القابل للفسخ

المواطنة الجامعة هي التتويج لكل ما سبق. إنها العقد الاجتماعي الوحيد المقبول في العصر الحديث. هي ليست مجرد جنسية أو وثيقة هوية، بل هي منظومة حقوق وواجبات متساوية، حيث الدولة هي "مؤسسة خدمة عامة" لجميع مواطنيها على قدم المساواة، والمواطن هو "صاحب سيادة" فيها.

إن المواطنة التي ندعو إليها هي مواطنة تُبنى على ركيزتين لا تنفصلان:

1. المساواة القانونية المطلقة: لا فرق بين غني وفقير، قوي وضعيف، الأغلبية والأقلية. فالقانون هو السقف الذي يحمي الجميع وهو السيف الذي يُطبق على الجميع بنفس الحدّة (الريس، محمد، الحقوق والواجبات في الإسلام، دار الشروق، القاهرة، 1995، ص 115).

2. المساواة في الفرص والإتاحة (Equity): يجب على الدولة أن تتدخل بشكل إيجابي لإزالة العوائق الهيكلية التي تمنع الفئات المُهمشة من الوصول إلى الخدمات والفرص، لضمان أن المساواة القانونية لا تبقى مجرد شعار أجوف.

إن المواطنة الجامعة ترفض بحدة أي شكل من أشكال "المواطنة الطبقية"، بما في ذلك ما يُسمى "المواطنة الزبائنية". فالمواطنة الزبائنية ليست مواطنة على الإطلاق؛ إنها نظام ولاء متبادل بين الراعي والزبون، يحوّل الحقوق إلى مُقايضات، ويُبقي المواطن رهينة لتبعية مُذلة.

عندما نُدافع عن هذا الإطار المثالي، فنحن لا نحلم بيوتوبيا مستحيلة، بل نُطالب بالحد الأدنى من الكرامة والعدالة التي نصت عليها دساتيرنا وأعرافنا الإنسانية.

هذا الفصل، إذاً، هو بمثابة بيان الاتهام الموجه ضد كل من يحاول إفساد هذا الوعد. لقد وضعنا المعايير؛ وفي الفصل القادم، سنرى كيف أن "الزبائنية" هي التحدي الأكبر الذي يضرب هذه المعايير في مقتل، مُحوّلاً التنوع إلى فتنة، وقبول الآخر إلى رياء، وحقوق الإنسان إلى سِلعة تُباع في سوق النخاسة السياسية.

الفصل الثاني: تشريح التهديد: آليات عمل "الزبائنية" (الإطار الموازي لإنتاج الفساد)

تمهيد: الوجه الآخر للسلطة

أهلاً بكم في المنطقة المُظلمة من البحث. لقد انتهينا من رسم صورة "الجنة المفقودة" للمواطنة، وحان الوقت لِنُشعل ضوءاً كاشفاً على "الجحيم الذي صنعناه بأيدينا".

هذا الفصل هو عملية جراحية بلا تخدير، لـ تشريح التهديد الأكبر الذي يواجه مجتمعاتنا: الزبائنية.

 لا يمكننا مكافحة ما نرفض تسميته أو نفهم آلياته

.في الفصل الأول، أشرنا إلى أن حقوق الإنسان والمواطنة هي نظام عمودي مُنظَّم بالقانون، يضمن المساواة بين الجميع. لكننا هنا سندخل إلى النظام الموازي والأفقي والمُختبئ؛ النظام الذي لا يظهر في الدساتير، لكنه يحكم الواقع: إنه "نظام الزبائنية".

الزبائنية (Clientelism) ليست مجرد كلمة في قاموس الفساد، إنها اقتصاد سياسي كامل يرتكز على تدمير مفهوم "المواطن المستقل" واستبداله بـ "الزبون التابع". إنه ليس سوء إدارة، بل هو إدارة استراتيجية للتبعية.

إذا كانت المواطنة هي وعد بالحرية والاستحقاق، فإن الزبائنية هي وعد بالنجاة مقابل التنازل عن الكرامة والحرية. إنها نظام يعمل في وضح النهار معتمداً على تواطؤ الضحية، ونحن هنا لنفضح هذا التواطؤ.

المبحث الأول: تعريف وتفكيك "الزبائنية": نظام المقايضة القذرة

الزبائنية، في أبسط تعريف لها، هي تبادل خدمات وموارد مقابل دعم سياسي أو اجتماعي أو ولاء شخصي غير رسمي. إنها علاقة غير متكافئة بين "راعي" يمتلك الموارد والسلطة (الطرف الأقوى)، و "زبون/عميل" يفتقر إليها (الطرف الأضعف) [cite: سكوت، جيمس سي، الاقتصاد الأخلاقي للفلاح: الثورات والحرب الخفية للطبقات الدنيا، ترجمة: أسامة الغزالي حرب، دار العين، القاهرة، 2010، ص 41].

الجوهر المشاكس هنا هو أن الزبائنية تستهدف المؤسسات الديمقراطية وتفرغها من محتواها:

1. الولاء مقابل الخدمات: يشتري الراعي ولاء الزبون عبر تقديم خدمة أو مساعدة (وظيفة، ترخيص، تساهل قانوني). هذه الخدمة هي حق أصيل للمواطن، لكن الزبائنية تُحولها إلى "هبة شخصية".

2. المحاصصة والمحسوبية: تستبدل الكفاءة بالانتماء، حيث تُوزع المناصب والثروات على شبكات الولاء (العائلة، الطائفة، الحزب) كنوع من "أجرة الولاء"، وليس بناءً على الاستحقاق الوطني. إنها تقسيم للسلطة والثروة لا لخدمة الدولة، بل لـ "رضاء المُنتمين" [cite: الحنفي، حسن، اليمين واليسار في الفكر الديني، دار التنوير، بيروت، 1989، ص 175].

3. تبادل المنفعة غير المتكافئ: العلاقة ليست تبادلاً نزيهاً، بل هي إدامة للتبعية. الزبون يحصل على منفعة عاجلة، لكنه يدفع ثمناً باهظاً على المدى الطويل: صوته، استقلاليته، وحقه في الاعتراض.

إننا لا نتحدث عن رشوة فردية؛ نحن نتحدث عن منظومة ثقافية تُعلّم الأجيال أن القانون لا يحميهم، بل الواسطة والشفيع. الزبائنية هي التي تقول للمواطن بصوت خافت: "لا تضيع وقتك في الإجراءات الرسمية النظيفة، اذهب مباشرة إلى الرجل الذي بيده مفتاح الخزنة".

المبحث الثاني: الزبائنية ضد المواطنة: اغتيال الاستحقاق

هنا يكمن التدمير الأكثر إيلاماً. المواطنة، كما أسلفنا، هي وضع قانوني يضمن ويعطي الحقوق بمجرد الانتساب إلى الوطن. أما الزبائنية، فتجعل الحقوق مرهونة بـ "الانتساب إلى الشبكة".

1. تحويل الحق إلى منّة وامتياز: الهدف الاستراتيجي للزبائنية هو تفريغ القانون من قدسيته. عندما يضطر المواطن للذهاب إلى "النائب" أو "الشيخ" ليحصل على تصريح بناء أو ليُعالج ابنه في مستشفى عام (وهو حق من حقوقه)، فإن "الراعي" السياسي يُظهر نفسه كـ "مُحسِن" وليس كـ "موظف عام" يقوم بواجبه. هذا الفعل ينسف كل مفهوم للمساءلة والمسؤولية [cite: الشرايبي، عبد القادر، الزبونية السياسية والسلطة في المجتمعات العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2005، ص 70].

2. خلق حالة "الاعتمادية المُذلة": الزبون الذي حصل على الخدمة بـ "واسطة" يشعر بالامتنان الشخصي لـ "الراعي"، وليس بالامتنان للدولة ومؤسساتها. هذا يرسخ في وعيه فكرة أن النظام الرسمي لا يعمل، وأن نجاته مرهونة بـ إدامة ولاءه للشبكة. هذا التبعية هي نقيض الحرية التي هي جوهر المواطنة الحقة.

3. قتل المواطنة الفاعلة: لماذا يشارك المواطن في الانتخابات أو يراقب أداء حكومته إذا كان يعلم أن وصوله إلى حقوقه لا يعتمد على الإجراءات الديمقراطية الشفافة، بل على همسة في أذن مسؤول؟ الزبائنية تُحوّل المواطن من فاعل سياسي مُطالب إلى متسول صامت لا يُسمح له بالصوت إلا في لحظة الولاء (الاقتراع للراعي).

إننا أمام عملية اغتيال ممنهج لوعد المواطنة، حيث تتحول الديمقراطية إلى مسرحية شكلية تُمارس لإضفاء الشرعية على شبكات التبادل السرية.

المبحث الثالث: إنتاج اللامساواة: المواطنون "الأشباح" والطبقات الزبائنية

الزبائنية لا تُنتج الفساد فحسب، بل تُنتج طبقات اجتماعية وقانونية غير رسمية داخل المجتمع. المواطنون يُقسمون قسراً إلى مجموعتين لا علاقة لهما بالجهد أو الكفاءة:

1. المواطنون "الأصلاء" (الزبائن): وهم الذين ينتمون إلى شبكات النفوذ، يحصلون على فرص التعليم والوظائف والعدالة بسهولة نسبية. بالنسبة لهم، النظام يعمل... ولكن ليس وفقاً للقانون، بل وفقاً للولاء.

2. المواطنون "الأشباح" (الضحايا): وهم الذين يعتمدون على القانون، يرفضون الدخول في لعبة الزبائنية، أو ببساطة لا يملكون "الواسطة" اللازمة. هؤلاء يُعاقبون ببطء ووحشية: يتعطل علاجهم، تُركل ملفاتهم، تُرفض طلباتهم رغم استحقاقهم. [cite: إدوارد سعيد، تأملات في المنفى، ترجمة: عبد الكريم الزياني، دار الآداب، بيروت، 2004، ص 101]. إنهم موجودون في السجلات لكنهم غير موجودين في معادلة الوصول إلى الحقوق.

هذه اللامساواة الزبائنية هي قنبلة موقوتة تُهدد كل مفهوم للتنوع وقبول الآخر. كيف يمكن للشباب، على سبيل المثال، أن يؤمن بقبول الآخر، إذا كان الآخر هو الذي يسرق فرصته في التوظيف بسبب انتمائه الطائفي أو القبلي لشبكة الراعي؟ الزبائنية هي التي تُنتج الكراهية والتقسيمات الاجتماعية عبر توزيعها الجائر للموارد.

المبحث الرابع: الزبائنية وقمع التفكير: العقل المُعلّق للزبون

وهنا نضيف مبحثاً رابعاً ليكتمل التشريح، وهو يتعلق بأخطر آثار الزبائنية على التكوين الفكري للمجتمع. الزبائنية لا تُفسد المؤسسات فحسب؛ بل تُفسد طريقة التفكير وتُعلق عمل العقل النقدي.

1. موت العقل النقدي: في نظام الزبائنية، لا يُشجع الزبون على النقد أو التفكير المستقل أو حتى المطالبة بالإصلاح. لماذا؟ لأن بقاءه مرهون بالصمت والطاعة للراعي. النقد هو تهديد للعلاقة، والمطالبة بالشفافية هي خيانة لـ "الشفيع" الذي أنقذه. هذا الوضع يُنتج أفراداً غير قادرين على التفكير بمنطق المواطنة الجامعة.

2. استبدال القانون بـ "الرغبة": بدلاً من أن يكون القانون هو المرجعية النهائية، تصبح "رغبة الراعي" أو "مزاج الشبكة" هي المرجعية. هذا يدمر مفهوم الثقة في المؤسسات ويجعل التوقع واليقين القانوني مستحيلاً. كل شيء يصبح مرهوناً بـ "من تعرف" و "كم أنت قريب" [cite: ميكيافيلي، نيقولو، الأمير، ترجمة: خليل أحمد خليل، دار الفارابي، بيروت، 2004، ص 89، حيث يُشير إلى أهمية النفوذ الشخصي على القانون].

3. إدامة الخرافة الاجتماعية: الزبائنية تُعزز فكرة أن "الناس لا يمكنهم حكم أنفسهم" وأنهم بحاجة دائمة إلى "زعيم" أو "عرّاب" يحميهم ويجلب لهم الحقوق. هذا يُعيد إنتاج التبعية الأبوية ويقضي على أي محاولة لترسيخ الحكم الذاتي والمساءلة الديمقراطية.

هكذا، يتبين أن الزبائنية ليست ظاهرة هامشية، بل هي الهيكل الحاكم الفعلي الذي يلتهم كل آمالنا في المواطنة، ويحول مفاهيم التنوع وقبول الآخر إلى مجرد قناع يخفي وراءه نظاماً كاملاً من التمييز والاضطهاد. لقد كشفنا عن ماهية التهديد؛ وفي الفصل التالي، سنرى كيف يترجم هذا التهديد إلى دمار فعلي لنسيج المجتمع.

الفصل الثالث: الآثار المدمرة: الزبائنية وتدمير ثقافة القبول (النتائج الكارثية للتبعية)

لقد رسمنا في الفصل الأول لوحة المواطنة السامية، ثم شرّحنا في الفصل الثاني آلية تدميرها: الزبائنية. الآن، حان وقت النظر إلى الحطام. هذا الفصل هو عن النتائج الحتمية والمُدمرة للنظام الزبائني على النسيج الاجتماعي والإنساني.

نحن هنا لنُثبت أن الزبائنية ليست "طريقة عيش" يمكن التعايش معها، بل هي مُدمرة للقيم، ومُفجرة للاستقرار، وقاتلة لأي فرصة حقيقية لقبول الآخر

تمهيد: الوجه القبيح للمحسوبية

إذا كان هدف أي مجتمع متحضر هو بناء جسور الثقة والتعاون بين أفراده، فإن الزبائنية تعمل كـ "مدفعية" لتدمير هذه الجسور. إنها تُحوّل الاختلاف إلى مادة خام للاستقطاب، وتُحوّل المنافسة الشريفة على الموارد إلى حرب بقاء قذرة بين شبكات الولاء.

إن هذا الفصل لن يتحدث عن "الآثار الاجتماعية العامة" للفساد، بل عن تأثير الزبائنية المباشر والنوعي على مفاهيمنا التي بدأنا بها: التنوع، وقبول الآخر، والمواطنة الفعالة. لنكتشف كيف أن ثقافة المحسوبية ليست مجرد ظلم فردي، بل هي إعادة هيكلة للوعي تُجيز التمييز وتُشرعن اللامساواة.

المبحث الأول: تضييق مساحة القبول: إنتاج "الآخر" المُهمّش

الزبائنية، بطبيعتها، هي عملية استقطاب وحماية ذاتية تقوم على مبدأ "نحن مقابل هم". كل شبكة ولاء زبائنية تعمل على احتواء أعضائها (In-gr-up) عبر تقديم الخدمات والموارد، وفي المقابل، فهي تعمل على إقصاء وتهميش الآخر (-ut-gr-up) الذي لا يتبع لها.

هذا الإقصاء ليس عابراً؛ إنه إقصاء هيكلي يُكرّس مواطنة الدرجة الثانية:

1. المواطن "الزبون" مقابل المواطن "الضحية": المواطن الذي يجد فرصته في التوظيف أو العلاج عبر شبكة الزبائنية يشعر بالانتماء، بينما المواطن الذي يُرفض طلبه لأنه لا يمتلك "الواسطة" يشعر بأنه غريب في وطنه. هذا التهميش يولد شعوراً عميقاً بالظلم والغضب، ويقضي على أي قناعة بثقافة القبول .

2. تشويه مفهوم الكفاءة والعدالة: عندما يرى الفرد أن من هم أقل كفاءة منه يحصلون على أعلى المناصب لأنهم ينتمون لشبكة نفوذ معينة، يصبح لديه دافع قوي لـ رفض تلك الشبكة وأفرادها، حتى لو كانوا ينتمون إلى تنوع ثقافي أو ديني هو في الأصل يحترمه نظرياً. هنا، يتحول الاختلاف من ثراء إلى سبب للريبة والاتهام، لأن كل مجموعة ترى أن الأخرى تسرق حقها عبر الوسائل غير المشروعة.

إن الزبائنية ترفع جدراناً غير مرئية بين المواطنين. ليس قبول الآخر هو ما يتآكل فحسب، بل الثقة الأساسية في أن كل الأطراف تلعب وفقاً للقواعد ذاتها.

المبحث الثاني: تسييس التنوع: تحويل الاختلاف إلى أداة للصراع

هنا تُظهر الزبائنية وجهها الأكثر دهاءً وشراً. إنها لا تكتفي بتضييق مساحة القبول، بل تستغل التنوع الموجود أصلاً (الطائفي، العرقي، المناطقي) وتحوّله إلى أداة لإدارة الصراع والبقاء في السلطة.

نظام "المحاصصة" الطائفي أو العرقي، على سبيل المثال، ليس اعترافاً بالتنوع، بل هو تطبيق استراتيجي للزبائنية على مستوى الدولة:

1. المحاصصة كآلية زبائنية: يُقسم النظام المناصب والثروات على زعماء المكونات الرئيسية (الأطراف الزبائنية القوية). كل زعيم من هؤلاء يصبح "الراعي الأكبر" لجماعته، ويقوم بتوزيع المنافع والوظائف عليهم، مُلغياً بذلك مفهوم "المواطنة المباشرة" بين الفرد والدولة .

2. إدامة التقسيم وبث الكراهية: هذا النظام يُجبر الأفراد على التشبث بهويتهم الأولية (الطائفة/القبيلة) كطريق وحيد للنجاة، بدلاً من الانخراط في هوية وطنية جامعة. وفي كل مرة يحدث فيها صراع على الموارد، يتم تأطيره فوراً كصراع طائفي أو عرقي، بينما هو في حقيقته صراع بين شبكات زبائنية تتنافس على "حصة الزعامة". هذا التسييس للتنوع يقتل أي إمكانية للعيش المشترك الحقيقي، ويجعل كل مجموعة تنظر إلى الأخرى كـ "خصم سياسي أبدي" يسعى لسرقة حقوقها.

3. تجريد التنوع من العمق الفكري: بدلاً من أن يكون التنوع مصدراً للتعددية الفكرية والسياسية، تحوّله الزبائنية إلى مجموعة من الكتل المتجانسة داخلها (كل طائفة أو عرق)، تخضع لزعامة واحدة وتتبع أوامرها بشكل أعمى، مما يقتل الحوار البنّاء ويُعزز الانقسام الجاهز .

المبحث الثالث: تآكل الثقة والمواطنة الفعالة: ثمن التنازل

لقد رأينا كيف تُلغي الزبائنية مفهوم الحق وتستبدله بمفهوم المنّة. الأثر المدمر الأخير، والأكثر خطراً، هو تآكل الثقة الذي يضرب العلاقة بين المواطن والدولة، وبين المواطنين أنفسهم، مما يُشلّ القدرة على المواطنة الفعالة.

1. موت الثقة في المؤسسات: عندما يرى المواطن أن المؤسسة الحكومية لا تحكمها الكفاءة بل الواسطة، وأن القضاء قد يتأثر بالانتماء، وأن القوانين تُطبّق على الضعفاء وتُعطّل من أجل الأقوياء، فإنه يفقد الثقة تماماً في فكرة الدولة الحديثة. هذا الانهيار في الثقة يدفع الناس نحو الانكماش على الذات، والبحث عن "الراعي" كملجأ أخير، مما يُعزز دورة الزبائنية الخبيثة.

2. شلل المطالبة بالحقوق المستقلة: إن عملية "شراء" ولاء المواطن عبر خدمات زبائنية (وإن كانت حقاً له) تضع المواطن في موضع الضعف الأخلاقي والسياسي. كيف يمكن للزبون أن يطالب بالشفافية والمساءلة من "الراعي" الذي أنقذه من براثن البيروقراطية؟ هذا يضمن أن المواطنين يتنازلون عن واجبهم في النقد والرقابة مقابل الحصول على خدماتهم. وهذا هو سر بقاء الزبائنية: قمعها لصوت المواطن المستقل.

3. إنهاء مفهوم الصالح العام: المواطنة الفعالة تتطلب أن يرى الأفراد أن مصلحتهم الشخصية تتقاطع مع المصلحة العامة. لكن الزبائنية تُعّلمهم العكس: مصلحتي الشخصية تكمن في الولاء لشبكتي الخاصة، حتى لو كان ذلك على حساب المصلحة العامة. هذا التفكير يُحوّل أي مشروع وطني ضخم (تعليم، صحة، بيئة) إلى مجرد "غنائم" تُقتسم بين الشبكات، مما يُدمّر مفهوم التضامن الوطني وينذر بالانهيار المجتمعي في النهاية.

لقد اكتملت ملامح الصورة القاتمة. الزبائنية ليست مجرد سوء إدارة؛ إنها أيديولوجية قائمة على إدامة التبعية والتمييز. لقد رأينا كيف تقتل التنوع، وكيف تحطم الثقة، وكيف تجعل من كل مواطن لا يتبع الشبكة الحاكمة "شبحاً" في وطنه.

السؤال الملحّ الآن: هل نحن محكومون بهذا النظام المدمر؟ أم أن هناك سبيلًا لمواجهة هذه الآفة القاتلة وإعادة إحياء العقد الاجتماعي الضائع؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في الفصل الأخير.

الفصل الرابع: خارطة طريق للتمرد: من المواطنة الزبائنية إلى الجمهورية النظيفة

تمهيد: جراحة جذرية لإنقاذ الوطن

لقد انتهى زمن الوعظ والإصلاحات الجزئية. المواطنة لا يمكن أن تنمو في بيئة مُلوثة بالزبائنية. إن نظامنا الحالي أشبه بمريض يحتاج إلى جراحة استئصال لجزء فاسد. إن لم ننزع سلاح الزبائنية السياسي والاقتصادي، فإن كل حديث عن حقوق الإنسان وقبول الآخر سيظل مجرد نكتة سمجة.

إن خارطة الطريق هنا ليست مجموعة من التوصيات، بل هي بيان ثوري من ثلاث محاور، يهدف إلى نسف مُبررات وجود الزبائنية نفسها.

المبحث الأول: نسف السلاح الاقتصادي: الإصلاحات التشريعية لـ "تجفيف المنفعة"

الزبائنية تزدهر عندما تكون الخدمات العامة (التعليم، الصحة، التوظيف) نادرة، أو عندما تكون عملية الوصول إليها معقدة. إننا بحاجة إلى تشريعات تُجفف المنفعة التي يبيعها "الراعي" السياسي:

1. الشفافية الراديكالية في التوظيف العام (القضاء على "سوق النخاسة"):

- التوظيف عبر المنصات الرقمية الموحدة: يجب حظر التوظيف المباشر بقرار إداري. يجب أن يكون التقديم للوظائف الحكومية على جميع المستويات (بما في ذلك الوظائف العليا غير السياسية) حصراً عبر منصة رقمية موحدة، تضمن العمى الكامل تجاه هوية المتقدم (لا أسماء، لا صور، لا عشيرة) حتى مرحلة المقابلة النهائية.

- فرض عقوبات "الخيانة العامة": يجب أن يُنظر إلى أي تدخل سياسي أو شخصي في عملية التوظيف كـ "خيانة للجمهورية"، وتُفرض عليها عقوبات جنائية قاسية على كل من "الراعي" المتدخل و "المسؤول" الذي نفذ التوصية. هذا ينسف مبرر وجود "الواسطة" أصلاً.

2. ضمانة "جودة الخدمة كحق دستوري" (إلغاء حاجة الشفيع):

- تفعيل مبدأ "المحاسبة المباشرة": يجب سن قوانين تضمن أن أي تأخير أو تعقيد في إنجاز خدمة عامة مستحقة (جواز سفر، رخصة، علاج) خارج الإطار الزمني المعلن، يمنح المواطن حقاً قانونياً مباشراً في مقاضاة المسؤول أو الإدارة المسؤولة، مع فرض غرامات تدفعها الإدارة كتعويض. هذا يحول الخدمة من منّة إلى حق يمكن الدفاع عنه بقوة القانون.

- "الخدمة الفورية" كحق أساسي: يجب على الدولة تبسيط الإجراءات بشكل قسري وراديكالي عبر الأتمتة الكاملة، بحيث لا يحتاج المواطن إلى التفاعل مع موظف فاسد أو راعٍ لإنهاء معاملته.

المبحث الثاني: تعزيز سلطة القانون: تحصين القضاء ضد "فيروس النفوذ"

إن أخطر ما في الزبائنية هو قدرتها على ترويض القضاء والجهات الرقابية. القضاء ليس مجرد أداة لتطبيق القانون؛ بل هو الضمانة الوحيدة للمواطنة الجامعة. لا يمكن للإصلاح أن ينجح إلا إذا كان القانون فوق الجميع، بمن فيهم واضعو القانون.

1. استقلال القضاء المطلق (تفكيك الحماية الزبائنية):

- قطع التمويل والإدارة عن السلطة التنفيذية: يجب أن يكون تمويل القضاء، بما في ذلك أجور القضاة والبنية التحتية، مستقلاً تماماً عن ميزانية الحكومة التنفيذية، لضمان عدم وجود أي ورقة ضغط عليها.

- إقرار "قانون من أين لك هذا" المُجرّد: يجب تفعيل تشريعات تُلزم كبار المسؤولين بتقديم كشوفات ذمة مالية شاملة، لا تكون مجرد إجراء شكلي، بل تخضع للتحقيق من قبل هيئات رقابية مستقلة ومخوّلة، مع افتراض الفساد إذا لم يتمكن المسؤول من تبرير الزيادة في ثروته [cite: خوري، إلياس، تجربة الإصلاح الإداري في العالم العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2008، ص 142].

2. تطبيق القانون على رموز الزبائنية (كسر هيبة "الراعي"):

- المحاكمة العلنية للفساد الكبير: يجب أن يتمتع القضاء بالشجاعة لتطبيق القانون على الرؤوس الكبيرة في شبكات الزبائنية، وتكون محاكماتهم علنية وشفافة. إن كسر هيبة "الراعي" الفاسد هو أبلغ رسالة للمجتمع بأن عصر "النجاة بالواسطة" قد انتهى. هذا ينسف اعتقاد الزبائن في حصانتهم ويُعيد الثقة في مبدأ "سيادة القانون".

المبحث الثالث: الإصلاح الوجودي: بناء وعي "التمرد النظيف"

الإصلاح القانوني والاقتصادي لا يكفي؛ يجب أن يواكبه تمرد ثقافي ضد عقلية التبعية. الهدف هو بناء مواطن يرفض أن يكون زبوناً، ويصر على أن يكون صاحب حق.

1. التعليم كـ "تطهير فكري":

- إدراج "ثقافة المواطنة والمساءلة" كمادة أساسية: يجب أن تُدرَّس المواطنة الفعالة وحقوق الإنسان كنقد مباشر لآليات الزبائنية والفساد، وأن يتعلم الطالب أن "الواسطة" ليست شطارة، بل سرقة جماعية لفرص الآخرين. التعليم يجب أن يزرع فكرة أن المطالبة بالحق هي واجب، وأن التنازل عن الحق مقابل خدمة هو خيانة للجيل القادم.

2. إعلام "الشراكة الوطنية" لا "الولاء الزبائني":

- حماية ودعم الإعلام المستقل: يجب دعم الإعلام الاستقصائي الذي يلاحق شبكات الزبائنية ويكشف المستور، وتوفير الحماية القانونية للصحفيين والنشطاء الذين يقومون بهذا الدور. يجب أن يكون الإعلام هو صوت "المواطن الشبح" المظلوم.

- إطلاق حملات "أنا لست زبوناً": يجب على المجتمع المدني والمنظمات الدولية (مثل الأمم المتحدة) العمل على حملات إعلامية تربوية تُفكك ثقافة "الامتنان المُذل" للراعي، وتُعلم الناس كيف يطالبون بحقوقهم بشكل مؤسسي ومستقل، وليس عبر قنوات الولاء.

خاتمة الفصل: نحو جمهورية الكرامة

إن هذه الخارطة ليست مُجرد أمنيات. إنها الحد الأدنى المطلوب لجراحة إنقاذ جذرية. المطلوب هو تحويل المجتمع من مجتمع "الراعي والزبون" إلى جمهورية الكرامة، حيث يكون القانون هو الشفيع الأوحد، وحيث المواطنة الجامعة هي الحقيقة الوحيدة.

***

خليل إبراهيم الحمداني

 

غازي القُصَيْبي (1940 - 2010) أديب وسفير ووزير سُعودي. يُعتبَر أحدَ أبرزِ المُفكرين والقِياديين السُّعوديين الذينَ تَركوا بَصْمةً مُميَّزة في الفِكْرِ الإداريِّ العربيِّ، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ التَّنظيرِ والمُمارَسة، وَلَمْ يَكُنْ مُجرَّد كاتب أو شاعر، بَلْ كانَ إداريًّا ناجحًا تَوَلَّى مَناصب قِيادية عديدة في مَجالات مُختلفة، مِمَّا جَعَلَ رُؤْيَتَه في الإدارةِ مَزيجًا فريدًا مِنَ الفِكْرِ والتَّجْرِبة.

كانَ يَرى أنَّ الإدارةَ لَيْسَتْ عِلْمًا جامدًا أوْ مَجموعة مِنَ القوانين الصارمة، بَلْ هِيَ فَن يَقُوم على التعامل مع الإنسانِ قبل التعاملِ معَ الأرقامِ والأنظمة. والقائدُ الإداريُّ في نَظَرِه هُوَ مَنْ يَسْتطيع فَهْمَ دوافعِ الأفراد، وتَحفيزَهم، واستثمارَ قُدراتهم لِخِدمةِ الأهدافِ المُشترَكة. وَقَدْ عَرَّفَ الإدارةَ بأنَّها القُدرة على تَحريكِ الناسِ نَحْوَ هدفٍ مُحدَّد، مُؤكِّدًا على أنَّ الجانبِ الإنسانيِّ هُوَ جَوهر العملية الإدارية الناجحة.

رَكَّزَ على مَبدأ الكَفاءةِ بِوَصْفِه الأساس الذي تُبنَى عَلَيه الإدارة السليمة، فَهُوَ يَنْتقد البيروقراطيةَ وَالمَحْسوبية، ويَدْعو إلى تَمكينِ الكَفاءاتِ بِغَضِّ النظرِ عَن الانتماءاتِ أو المَصالحِ الشَّخصية.

وَمِنْ خِلال تَجْرِبته الطويلةِ في الوِزاراتِ والسَّفَاراتِ، شَدَّدَ على أنَّ المُدير الناجح هُوَ مَنْ يَخْتار الأكفأ لا الأقرب، لأنَّ العَدالة في التَّعْيين تَخْلُق بِيئةَ عَمَلٍ مُنتِجة ومُخلِصة.

وَآمَنَ بأنَّ القائدَ الإداريَّ الحقيقي يجب أنْ يَكُون قُدوةً في الالتزامِ والانضباطِ والأخلاق. فَهُوَ لا يَطلُب مِنْ مُوظَّفيه مَا لا يُطبِّقه على نَفْسِه. وَيَرى أنَّ القُدْوةَ هِيَ أبلغُ وَسيلةٍ للقِيادة. وَقَدْ كانَ مِثَالًا على ذلك في حياته العملية، حَيْثُ اشْتُهِرَ بانضباطِه وتَواضعِه وَقُرْبِه مِن مُوظَّفيه، مِمَّا أكْسَبَه احترامَ الجميع.

يَجْمَع مَفهومُ الإدارةِ عِندَه بَيْنَ الصَّرَامةِ في التَّنظيمِ والمُرونةِ في التَّفكير، فَهُوَ يَرفُض الجُمودَ الإداريَّ، وَيَدْعُو إلى فتحِ المَجالِ أمامَ المُبادَراتِ الفرديةِ والإبداعِ المُؤسَّسِي. والمُؤسَّسةُ الناجحةُ في رأيه، هِيَ التي تَجْمَع بَين التَّخطيطِ المُحكَمِ والقُدرةِ على التَّكَيُّفِ معَ المُتغيِّرات.

لَمْ تَغِب القِيَمُ الأخلاقيةُ عَنْ فِكْرِه الإداريِّ، فَقَدْ رَأى أنَّ النجاح الإداريَّ لا قِيمة له إذا جاءَ على حِسابِ القِيَمِ والمَبادئ. وكانَ يُؤَكِّد على أنَّ الأمانة والإخلاص في العمل هُما الرَّكيزتان الأسَاسِيَّتَان لأيَّة إدارة ناجحة، وأنَّ غِياب الأخلاق يُؤَدِّي إلى الفَسادِ الإداريِّ مَهما بَلَغَت الأنظمةُ مِنَ الدِّقَّة.

وَيُمكِن القَوْل إنَّ مَفهوم الإدارة عِنده هُوَ مَفهوم شامل يَجْمَع بَيْنَ العقلِ والإنسانِ، وبَيْنَ النِّظامِ والإبداعِ، وبَيْنَ الكَفاءةِ والأخلاقِ.

بيتر دراكر (1909 - 2005) كاتب اقتصادي أمريكي مِنْ أصلِ نَمْساوي، يُعتبَر الأبَ الرُّوحي للإدارة. قَدَّمَ خِلال مسيرته الفِكرية الطويلة رُؤى ثَوْرية غَيَّرَتْ طريقةَ فهمِ المُؤسَّسات لِمَفهومِ القِيادةِ، والتنظيمِ، واتخاذِ القَرار. وأثرِ الإدارةِ في التَّنمية الاقتصادية والاجتماعية.

كانَ يَرى أنَّ الإدارة لَيْسَتْ مُجرَّد مَجموعة مِنَ القواعدِ أو التِّقْنيات، بَلْ هِيَ فَن وعِلْم في آنٍ معًا. والإدارةُ في نظره، تَعتمد على مَهارةِ المُديرِ في فهمِ الناسِ وتَحفيزِهم، مِثْلما تَعتمد على القُدرةِ على التحليلِ والتخطيطِ والتنظيم. وَهِيَ عملية دِيناميكية تتفاعل فيها المَعرفة العِلْمِيَّة معَ الخِبْرَةِ الإنسانية. لذلك، فإنَّ المُدير الناجح لَيْسَ فقط مَنْ يَعرِف " ماذا يَفْعَل "، بَلْ أيضًا مَنْ يُدرِك " كيف " و " لماذا " يَفْعَل ذلك.

ويُؤَكِّد على أنَّ الإدارة لَيْسَتْ مَحصورةً في قِطاعِ الأعمال فقط، بَلْ أيضًا تَشْمَل جَميعَ مَجالاتِ النَّشَاطِ الإنسانيِّ المُنظَّم : المدارس، المُستشفيات، الجَمْعيات، وحتى المُؤسَّسات الحُكومية. فالإدارةُ هي الأداة التي تَجْعَل الناسَ قادرين على العملِ معًا لتحقيق هدف مُشترَك بِكَفاءةٍ وفَعَالِيَّة.

مِنْ أبرزِ أفكارِه أنَّه جَعَلَ الإنسانَ في قلبِ العملية الإدارية. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيه بعضُ النظريات الإدارية الكلاسيكية تُركِّز على الآلَةِ أو الإنتاجِ الماديِّ، جاءَ لِيُؤَكِّد على أنَّ الناسَ هُمْ أعظمُ مَوْرِدٍ تَمْتلكه أيَّة مُؤسَّسة. ورأى أنَّ مُهِمَّة الإدارة هي تَمْكين الإنسانِ مِنَ الأداءِ الأفضل، وَجَعْلُ نِقَاطِ قُوَّتِه مُثمِرة، وتقليلُ أثرِ نِقَاطِ ضَعْفِه.

وَهُوَ يَعْتقد أنَّ المُدير الناجح هُوَ الذي يَعرِف كيفَ يَستثمر طاقاتِ الأفراد، وَيُحوِّلها إلى إنجازات مَلْموسة. فالإدارةُ عِندَه لا تَتعلَّق بالسَّيطرةِ على الآخَرين، بَلْ بِتَوْجيههم، وتَحفيزِهم، وَتَوفيرِ البيئة التي تُتيح لَهُم الإبداعَ. ولهذا السبب، كانَ مِنْ أوائل مَنْ تَحَدَّثوا عَنْ مَفهوم " الإدارة بالتَّحفيز " و " القِيادة بالخِدْمة "، أي إنَّ القائدَ الحقيقي يَخدِم فَريقَه لا العَكْس.

وكانَ مِنْ أوائل مَنْ صاغَ مَفهومَ "الإدارة بالأهداف "، وَهُوَ مَبْدأ أصبحَ حَجَرَ الأساسِ في الفِكْرِ الإداريِّ الحديث. وَيَقُوم هَذا المَفهومُ على أنَّ النَّجَاح الإداريَّ لا يُقَاس بالأنشطة، بَلْ بالنتائج المُحَقَّقَة، فالمُديرُ الفَعَّال هُوَ الذي يَضَع أهدافًا واضحة، وقابلة للقِيَاس، ثُمَّ يَعْمل على تحقيقها مِنْ خِلالِ التعاون معَ فريقه.

رَغْمَ اختلافِ السِّياقِ الاجتماعيِّ والثَّقَافيِّ، إلا أنَّ بَيْنَ القُصَيْبي ودراكر جُسورًا فِكرية عميقة، فَكِلاهُما يَرى أنَّ الإدارة الحقيقية تبدأ مِنَ الإنسانِ، وتَنتهي بِه. وكِلاهُما رَفَضَ فِكْرةَ الإدارةِ السُّلْطوية، وَدَعَا إلى التَّمكينِ بَدَل السَّيطرة، والتَّحفيزِ بَدَل التَّهديد. لكنَّ القُصَيْبي رَكَّزَ على القِيَمِ والمَشاعرِ والضَّميرِ، بَيْنما دراكر رَكَّزَ على النِّظامِ والكَفاءةِ والمُؤشِّرات.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

قبل البدء نطرح السؤال التالي: لماذا سمّى مالك بن نبي مذكراته بالعفن ولم يعطها اسما آخر؟ هل يعود ذلك إلى حالة التعفن التي عاشها المجتمع الإسلامي في العالم الإسلامي كله؟ أم هي وصفٌ لحالة مجتمع العالم الثالث وبخاصة الجزائر وما يعانيه من التخلف والانحدار والانهيار في النظم التربوية، الأخلاقية والسياسية وحتى الدينية  لأنها بلغت مرحلة "التعفن" ، بعيدا عن الجانب العلمي (وما تقوم به الفطريات متعددة الخلايا)، فالتعفن من العفن وهو يشكل خطرا على الصحة النفسية والعقلية للإنسان، خاصة في عالمنا الرقمي، عالم نستهلك فيه كل الأفكار دون أن نعرف مصدرها وماذا يراد بها، الحديث إذن عن العفن الفكري وماهي الأضرار التي تعود على الإنسان ومحيطه، ففيما يتعلق بالأفكار، فالعفن الفكري  يرادُ به غياب المقدس، وغياب المقدس  له تأثيرات سلبية، إذ يسبب صراعا مدمرا، صراع الإنسان مع نفسه، ومع الأخر، وقد يؤدي به إلى الإجرام، (القتل) أي العنف عندما تنغلق كل أبواب الحوار وسبل الوصول إلى التفاهم، خاصة إن تعلق الأمر بالدين .

 والعفن هو وصفٌ للفساد والانهيار الأخلاقي في المؤسسات السياسية  (الأحزاب) والاجتماعية، والدينية، هو وصف للقابلية للاستعمار، وهي واحدة من الظواهر التي تتسبب في شقاء الإنسان وتهدد أمنه واستقراره، وتجعله يعيش حياة العبودية، حينها يصعب عليه تنظيم أفراده، ويصعب عليه كذلك  تشكيل حاضنة فكرية للبناء والتقدم، إن السلطة كآلية لتنظيم المجتمع كما يقول ميشال فوكو بحاجة إلى السلم والاستقرار وبناء علاقات إنسانية بين الأفراد ومن ثمّ  تحرير المجتمع من قيود التخلف والجهل والتبعية،  فإن مارست السلطة الضغوطات على الأفراد وأظهرت بطشها تجاههم من أجل فرض عليهم الطاعة والانصياع لأوامرها، وإن كانت هناك قابلية للاستسلام،  فنحن إذن إزاء الحديث عن مجتمع العفن، مجتمع  تطغى عليه السلبية ويرضى بالانهزامية، لقد عبّر الشعب الجزائري عن رفضه لكل هذه السياسات العفنة،  البداية كانت بمواجهته الاستعمار الفرنسي، ثم مواجهته السلطة بعد الاستقلال، بدءًا من الربيع الأمازيغي 1980، إلى أحداث أكتوبر 1988 ثم العشرية السوداء التي يمكن وصفها بمرحلة "العفن" في أعلى مستوياته، حين جَمَّدَ الخطاب الديني العقل والتقى السلاح  مع السلاح، انفجر البركان،  وكسّرت المعارضة الصّمت وخرجت إلى الشوارع باسم "الجهاد"، فقدت السلطة كل وسائل التحكم.

هي عشرية سوداء حملت كل ألوان العفن والركود الأخلاقي، اتخذت المعارضة من الجهاد شعلة مقدسة، وقالت إنه العنف المقدس، نقوده لنحصل على الشهادة،  هي الحرب الأهلية التي عاشها الجزائريون، وقد فسرها البعض بأن المجتمع الجزائري بعيد عن مجتمع الرفاهية والوفرة لذلك  انتفض وكثرت فيه نزعات العنف  ووصلت به الأمور إلى حالة العفن، وهذه نظرية  مغلوط فيها أو أن طارحوها أرادوا أن يغلطوا الرأي العام، فما حدث في الجزائر عنف سياسي تطور حتى تعفن، لأن مجتمعات الرفاهية والوفرة  كما نراه في الدول الأوروبية كفرنسا مثلا كانت ولا تزال تحمل نزعة العنف تجاه الشعوب، ليس لأنها  بحاجة إلى الرفاهية والوفرة عن طريق الاستيلاء على ثوراتها النفطية فحسب، بل  لتغريبها وطمس هويتها ومحاربة عقيدتها، كذلك هي الحرب على الإسلام التي تقوم بها الأنظمة الغربية واللوبي الصهيوني، ونسيت أن النزعة السلمية pacifisme  للعيش المشترك ضرورية،  دون اللجوء إلى القمع والتجويع والتقتيل.

 والعيش المشترك لا يعني أن يتخلى شعب أو يتنازل عن دينه وأرضه وثقافته وهويته، إن ما يحدث في غزة مثلا هي حرب دينية تريد إسرائيل ومَن وراءَها إلغاء فلسطين من خريطة العالم  لتحقيق حلم العودة  وجعل القدس عاصمة لها، وإن كانت هذه الحرب هي حرب بين دولة ودولة مزعومة اسمها إسرائيل، فمن المفارقات أن يقوم العنف بين أفراد داخل دولة واحدة، مثلما حدث في الجزائر، فالدافع لم يكن اقتصاديا كما زعم البعض،  كما لم يكن عقائدي من أجل بناء الدولة الإسلامية، كما توهمه البعض، ففي مخيل كل طرف أن ما يقوم به  هو عنف "مقدس"،  إن انتشار الفساد الفكري والسياسي  في البلاد العربية لا يعبر عن التخلف أو الدفاع عن المقدسات، وإنما كان صراع على السلطة والحكم، وكان الصراع سببا في تعفن الوضع، وهذا هو العفن الذي أراد مالك بن نبي أن يوصله إلى القارئ العربي.

***

علجية عيش

 

بفك الارتباط بالمركزية الغربية وتغيير محاور التحالفات

مقدمة: في عصر يشهد إعادة تشكيل النظام العالمي بوتيرة متسارعة، يبرز مفهوم القرار الأنطولوجي كأداة تحليلية عميقة لاستيعاب التحولات الجذرية التي تطرأ على هويات الشعوب والحضارات. هذا القرار، الذي يتجاوز الاختيارات الاستراتيجية السطحية ليغوص في جوهر الكينونة الجماعية، يُحدد بالضرورة في فك الارتباط بالمركزية الغربية كبنية هيمنة معرفية وسياسية، وفي تغيير محاور التحالفات نحو شراكات تعكس استقلالية وجودية حقيقية. ينطلق هذا التحليل الشامل من رؤية متعددة التخصصات تجمع بين الفلسفة الأنطولوجية، والنظرية السياسية ما بعد الاستعمارية، والدراسات الجيوسياسية، والتحليل المعرفي للهيمنة، ليكشف عن الآليات الدقيقة التي تحول هذا القرار من مجرد إعلان سياسي إلى فعل تأسيسي يُعيد صياغة الذات الحضارية والعلاقات الدولية. فهل يمكن اعتماد الأنطولوجيا السياسية كمدخل لفهم التحولات الاجتماعية والصدامات الحضارية؟

الإطار النظري:

القرار الأنطولوجي هنا ليس حدثاً عابراً، بل هو لحظة وجودية حاسمة تُشبه "الانقلاب الكوبرنيكي" في الفكر، حيث تنتقل الذات الجمعية من موقع التابع المُعرّف من الخارج إلى موقع الفاعل المُعرّف ذاتياً. هذه اللحظة تتطلب قطيعة معرفية جذرية مع المركزية الغربية، التي لم تكن يوماً مجرد تفوق مادي، بل بنية أنطولوجية تُحدد ماهية الوجود البشري انطلاقاً من مرجعيات أوروبية-أمريكية، مما يُحول الآخر إلى كيان ناقص يُقاس دائماً بمعيار الغرب. فك الارتباط، إذن، هو عملية تحررية متعددة الأبعاد تشمل المجالات المعرفية والاقتصادية والثقافية والسياسية، بينما يُمثل تغيير محاور التحالفات الجانب الإبداعي لهذا التحول، حيث تُبنى علاقات جديدة تعكس تعددية الكينونات الحضارية وتُنهي عصر الهيمنة الأحادية.

البعد الأنطولوجي: رفض الوجود كتابع واستعادة السيادة على الوجود

في صميم الفلسفة الأنطولوجية، يُعرف الوجود بوصفه السؤال الأول والأخير عن ماهية الكينونة. عندما نتحدث عن قرار أنطولوجي للذات الجمعية، فإننا نتحدث عن رفض جذري للوجود المفروض، أي رفض للكينونة كما تُشكلها المركزية الغربية عبر آليات الاستعمار، ثم الاستعمار الجديد، ثم العولمة النيوليبرالية. هذه المركزية ليست مجرد نظام سياسي-اقتصادي، بل هي بنية أنطولوجية تُحدد ما هو "حقيقي" و"عقلاني" و"تقدمي" انطلاقاً من تجربة تاريخية محددة، مما يُحول الذوات غير الغربية إلى هامش أو استثناء يُطالب دائماً باللحاق.

يُشبه هذا الرفض مفهوم "القطيعة الإبستمولوجية" عند غاستون باشلار، لكنه مُطبق على مستوى الجماعة: قطيعة مع الإبستمي الغربي كمعيار وحيد للمعرفة. فالذات الجمعية، سواء كانت الأمة العربية أو الحضارة الإسلامية أو الجنوب العالمي ككل، لم تُمنح يوماً الفرصة لتعريف وجودها بمصطلحاتها الخاصة. بدلاً من ذلك، وُصفت دائماً بوصف نقص: "متخلفة"، "غير ديمقراطية"، "لاعقلانية". فك الارتباط الأنطولوجي يعني، إذن، استعادة الحق في تعريف الذات، ورفض الوجود كـ"آخر" للغرب. في هذا السياق، يُصبح القرار الأنطولوجي فعلاً تأسيسياً يُشبه "الولادة الثانية" للذات الحضارية. يتطلب هذا الفعل شجاعة وجودية جماعية، حيث تُدرك الذات أن حريتها الحقيقية تبدأ من رفض التعريف الخارجي. كما يُذكرنا مارتن هايدغر بأن الوجود البشري هو دائماً وجود في العالم، فإن الذات الجمعية لا تستطيع أن تكون حرة إلا إذا أعادت تعريف عالمها بمصطلحاتها. هذا يعني بناء أنطولوجيا بديلة تستمد مفاهيمها من تراثها الحضاري: من ابن خلدون في فهم العمران، إلى غاندي في مفهوم الاكتفاء الذاتي، إلى مالك بن نبي في فكرة "القابلية للاستعمار" كحالة نفسية-وجودية يجب تجاوزها.

البعد المعرفي: فك الارتباط كقطيعة إبستمولوجية

لا يمكن فهم فك الارتباط دون التركيز على بعده المعرفي، إذ إن المركزية الغربية هي في الأساس هيمنة معرفية تُحدد ما يُعتبر "علماً" و"حقيقة". هذه الهيمنة تتجلى في سيطرة المناهج الغربية على الجامعات، والمؤسسات البحثية، والنشر الأكاديمي في الجنوب العالمي، مما يُنتج نخباً محلية تُفكر بمصطلحات غربية حتى عندما تنتقد الغرب. فك الارتباط المعرفي يعني، إذن، بناء إبستمي بديل يستمد شرعيته من التراث المحلي مع انفتاح نقدي على العالم.

هذا البناء يتطلب عدة خطوات عملية:

أولاً، إعادة كتابة التاريخ من منظور داخلي، بعيداً عن الرواية الاستعمارية التي تُصور الحضارات غير الغربية كـ"راكدة" قبل الاستعمار.

ثانياً، إحياء اللغات المحلية كأدوات للتفكير الفلسفي والعلمي، إذ إن اللغة ليست مجرد وسيلة تواصل، بل هي بنية لتشكيل الواقع.

ثالثاً، تطوير مناهج تعليمية تُدمج التراث المحلي مع العلوم الحديثة، كما في تجارب الصين في دمج الكونفوشيوسية مع الماركسية، أو الهند في إحياء الآيورفيدا كعلم طبي موازٍ.

رابعاً، بناء مؤسسات بحثية مستقلة لا تخضع لتمويل غربي مشروط، مما يُتيح حرية البحث دون ضغوط أيديولوجية.

في السياق العربي، يُعد مشروع "نقد العقل العربي" لمحمد عابد الجابري نموذجاً لهذا التحول المعرفي. الجابري لا يرفض العقلانية الغربية، بل يسعى لاستعادة العقلانية العربية-الإسلامية كما تجلت في ابن رشد والفارابي، مما يُتيح بناء معرفة حديثة متجذرة في التراث. هذا النهج يُظهر أن فك الارتباط ليس رفضاً للغرب، بل رفضاً للهيمنة، مع انفتاح على الحوار بين الحضارات على قدم المساواة.

البعد الاقتصادي-السياسي: من التبعية إلى الشراكة المتكافئة

على المستوى الاقتصادي، يُمثل فك الارتباط رفضاً لنموذج التبعية الذي فرضته نظرية التحديث في القرن العشرين، والتي رأت في الغرب النموذج الوحيد للتنمية. هذا النموذج أنتج اقتصادات هامشية تعتمد على تصدير المواد الخام واستيراد التكنولوجيا، مما جعل الدول النامية رهينة لتقلبات السوق العالمية. فك الارتباط الاقتصادي يعني بناء نماذج تنموية بديلة تعتمد على التكامل الإقليمي، والاستثمار في التكنولوجيا المحلية، والتنويع الاقتصادي.

تجارب مثل البريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا) تُظهر إمكانية هذا التحول. هذه المجموعة لم تكتفِ برفض الهيمنة المالية الغربية، بل أسست بنك التنمية الجديد كبديل عن البنك الدولي، وطورت عملات محلية للتجارة البينية، مما قلل الاعتماد على الدولار. كذلك، مبادرة الحزام والطريق الصينية، رغم انتقاداتها، تُمثل نموذجاً للشراكة الجنوب-جنوبية يعتمد على البنية التحتية المشتركة بدلاً من الاستثمار الاستغلالي.

أما تغيير محاور التحالفات، فيتجاوز التحالفات العسكرية ليشمل الشراكات الثقافية والتكنولوجية. على سبيل المثال، تعاون روسيا مع دول إفريقيا في مجال الطاقة النووية، أو شراكة الهند مع دول الخليج في الذكاء الاصطناعي، تُظهر كيف يمكن للتحالفات الجديدة أن تُنتج قيمة مضافة مشتركة دون شروط سياسية مهينة. هذه المحاور ليست مجرد تحالفات براغماتية، بل هي تعبير عن رؤية عالمية بديلة ترى في التعددية القطبية ضماناً للاستقرار والعدالة.

البعد الثقافي-النفسي: مواجهة الاستلاب واستعادة الكرامة

على المستوى الثقافي، يتجلى فك الارتباط في مواجهة الاستلاب النفسي الذي أصاب الذات الجمعية جراء قرون من الاستعمار. هذا الاستلاب يُظهر نفسه في تفضيل المنتجات الغربية، واعتبار اللغات الأجنبية علامة على التحضر، وتقييم الذات بمعايير خارجية. استعادة الكرامة الثقافية تتطلب إحياء الروايات المحلية، وتعزيز الفنون والآداب الوطنية، وتطوير إعلام مستقل يُروج للقيم المحلية. في السياق العربي، تُعد حركة اليقظة العربية في القرن التاسع عشر محاولة أولية لفك الارتباط الثقافي، لكنها بقيت أسيرة للإعجاب بالغرب. أما اليوم، فإن منصات رقمية عربية، أو المسلسلات التركية التي تنافس هوليوود، تُظهر إمكانية بناء صناعة ثقافية مستقلة. كذلك، إحياء التراث الموسيقي والأدبي في إفريقيا وآسيا يُسهم في بناء هوية جماعية متماسكة.

التحديات والمخاطر: بين التحرر والعزلة

رغم أهميته، يواجه هذا القرار تحديات جوهرية.

أولاً، خطر الوقوع في النمطية أو الرومانسية الحضارية، حيث تُصور الذات الجمعية ككيان متماسك خالٍ من التناقضات.

ثانياً، صعوبة بناء بدائل اقتصادية في ظل الترابط العالمي، مما يتطلب استراتيجيات انتقالية مدروسة. ثالثاً، مقاومة النخب المحلية المرتبطة بالمركز الغربي، والتي قد تُفسر فك الارتباط كتهديد لمصالحها. رابعاً، التنوع الداخلي للذات الجمعية، الذي يتطلب حواراً ديمقراطياً شاملاً لتجنب الإقصاء.

خاتمة:

في التحليل النهائي، يُمثل القرار الأنطولوجي الحاسم بالنسبة للذات الجمعية لحظة تاريخية نادرة تُتيح إعادة تأسيس الوجود على أسس أصيلة ومستقلة. فك الارتباط بالمركزية الغربية ليس فعلاً سلبياً أو انعزالياً، بل هو عملية إبداعية تُتيح للذات الجمعية أن تُعيد اكتشاف ذاتها، وأن تُسهم في بناء عالم متعدد الأقطاب يعكس تنوع الكينونات البشرية. تغيير محاور التحالفات، من جانبه، هو التعبير العملي لهذا التحول، حيث تُبنى شراكات جديدة تعتمد على الاحترام المتبادل والمنفعة المشتركة. هذا القرار ليس خياراً بين خيارات، بل هو ضرورة وجودية في عصر تتآكل فيه الهيمنة الغربية تدريجياً، وتبرز فيه قوى جديدة تُطالب بحقها في تعريف العالم. إنه مشروع حضاري مستمر يتطلب شجاعة، ووعياً، وصبراً، لكنه في الوقت نفسه وعد بمستقبل أكثر عدلاً وتنوعاً، حيث تُصبح الذات الجمعية ليست مجرد مشارك في التاريخ، بل صانعة له. فكيف يمكن تحويل هذا القرار الأنطولوجي الى مشروع حضاري مستمر؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

إذا كان التفكير الناقد المعني بفحص بنية الثقافة الغربية في العصر الوسيط يقودنا إلى ضرورة تحليل الملابسات والوقائع والعوامل التي ساهمت مساهمة جادة في ذيوع الكذب بين الاتجاهات الفلسفيّة التي كانت تمثل قادة الرأي في هذه الحقبة؛ فإنّ المراجعة المنهجية الديكارتية وضوابط الاستقراء التي وضعها فرنسيس بيكون سوف ترشدنا إلى وجوب عدم إغفال الحلقات والروابط الداخلية التي تشكل الرحم الذي يلفظ الكذب في القضايا المطروحة وتحليله جينيًا للإحاطة الكاملة بمواطن الكذب وأسباب ظهوره.

أي أن تثاقف الاتجاهات والنزعات المتباينة لا ينبغي اعتباره العلة الوحيدة لذيوع الكذب وانتشاره خلال المصاولات والمناظرات الجدلية التي اتخذت من الكذب آلية وسلاح لنقض المخالفين في ميدان الجدل الدائر بين المتعارضين، بل إنِّ جوهر القضايا المطروحة للتثاقف والنقاش والجدل هي التي تحمل جراثيم غير مرئية للإفك والاجتراء والدَّس والتلبيس والخيانة والغش ولاسيما خلال القناة الواصلة أو الجسر الرابط بين النَّص الإلهي ومقاصده، والفكر الإنساني ومبرراته ودوافعه؛ ذلك الجسر الذي يمثله التأويل والتحقيق من جهة والأيادي الخفيّة التي تثير الشقاق والصراع  في الثقافة التي ارتضت الانضواء تحت راية واحدة ولاسيما عقب اشتغال العقل القائد بأمور الحكم والسياسة من جهة أخرى (أعني الثقافة الإسلامية التي تفشى الكذب في عقلها الجمعي)؛  فانقسمت على أثره إلى شيع ومذاهب وجماعات وأحزاب ونحل وعصبيات بدّدت الصدق الذي ارتضته هذه الشريعة دستورًا لها؛ فباتت تعاني من تفشي الكذب في كل مباحثها النقلية والعقلية (الفقه، علم الكلام، الفلسفة، التصوف) ولم ينقذ هذه الثقافة مما آلت إليه بنية الفكر في الفلسفة الغربية من جهل ونقوص وفساد أخلاقي (واستبداد سياسي) سوى عاملين أولهما: عدم الخلط بين  دائرة البحث العلمي والنّص المقدس وفتح باب الاجتهاد للتوفيق بين الدين والعلم. وثانيهما: اتساع رقعة التسامح العقدي لاستيعاب الأغيار والاحتكام إلى العقل في الحكم على الوافد من المعارف والمذاهب والآراء ولاسيما في صدر الإسلام وفجر دولته قبل ظهور الفتنة الكبرى في الثقافة الإسلامية ثم في ظُهر تلك الحضارة في كنف العقلانية والاشتغال بالعلم وانتصار الحكام؛ لتصور المدينة الفاضلة وعالمية الإسلام، وحرصهم على حماية الرعية، واحترام قادة الرأي والتمسك إلى حد كبير بالأخلاق الشرعية، وتفعيل مقاصدها إلى مرحلة أفول نجم هذه الحضارة وتفشي كل أشكال الكذب في صلب دستورها وحلول الرذائل مكان الفضائل وارتفاع رايات الأباطيل وانتشار بيوت اللهو والمواخير، فأهملت صروحها العلميّة وضعفت أصولها العقديّة وانطفئت مصابيح الحريّة  واستبدل التفكير بالتكفير وانصرف حديث أمراء المنابر عن التفكير في الاجتهاد والتجديد، إلى البحث في شروط انعقاد الإمامة وقتال المخالفين ودركات الالحاد وعقوبة الردة وقتل الكافرين.

وقد أردنا من ذلك الاستهلال تبرير حرصنا على الاستعانة بغرابيل الفلاسفة الناقدة لإثبات علة ما كان، وأسباب الانكسار والانتصار في هذا العصر الكذوب.

وسوف نكشف في السطور التالية عن أهم الاتجاهات العقليّة التي تصلح غربلتها لانتقاء النافع من أفكارها وتصوراتها والحلول التي قدمتها لمجابهة معوقات واقعها والكشف عن الدخيل الذي كان ينبغي عليها استبعاده أو معالجته حتى لا تؤول إلى ما آلت إليه.

***

ولمّا كان من العسير الفصل بين الاجتهادات العقلية في القضايا الفقهية والمقاصد الإلهيّة، فسوف نحتكم إلى مباحث المشتغلين بتأصيل ثوابت الفكر الإسلامي - تلك التي تعبر عن جوهر فلسفة المسلمين - التي عنيت بدراسة الكذب وأشكاله وما يترتب على ذيوعه في شتى الميادين الحياتية؛ ومن ثم سوف نبدأ بمباحث الفقهاء وتحليلاتهم وأساليبهم في مواجهة خطره وسبل الحد من شره.

فالكذب عند الفقهاء مُحرّم في ذاته؛ وذلك بمقدار نقده أو مخالفته لمفهوم الصدق والحق، ومختلف درجات اليقين أو كل ما يترتب عليه من صور مسايرة للشيطان وضلالاته واقترابه من الشرور النقلية والعقليّة.

أمّا العقوبات المصاحبة للكذب، فتقدر بنتائج تطبيقاته وأثرها على سلامة العقيدة وخيريّة المجتمع وصلاحه مثل استحلال المحرمات والترغيب في المكروه من العادات والأقوال والمعتقدات وهي تنقسم إلى قسمين.

القسم الأول: (عقابات جنائيّة مثل التشكيك في الثوابت العقدية أو انتهاك الحدود): ولاسيما إذا كان الغرض من الكذب هو الإضلال أو الخيانة أو الخداع أو الاجتراء على ثابت عقدي أو الدّس والتلبيس والتدليس في أمور تفسد العقيدة، وغير ذلك من الآثام المترتبة على ذيوعه في المجتمع، والمخاطر التي ينجم عنها شرورًا تتعارض مع المقاصد الشرعيّة للصدق.

أمّا القسم الثاني من العقوبات؛ فيتعلق بالعبث في الأحكام المتعلقة بالكذب المباح والمندوب التي تتوقف على تقديرات الفرد في جوازه التلبيس أو تزوير الوقائع لمعالجة مشكلة أو حل قضية فُرضت عليه ويحدّد مقدار عقوباتها الحاكم، أو ولي الأمر تبدأ باللوم وتشدّد بالتعاذير غير المنصوص عليها.

ولتفصيل ذلك قسم الفقهاء الكذب إلى خمسة أحكام: -

أولها: الكذب الواجب: إذا ما دفعت إليه الضرورة في المنافع العامة أو إفشاء تدابير الحروب وفي أمور السياسة التي تستوجب كتمان الحقائق أو في الخلافات الزوجيّة الحادة، والخصام بين الأشقاء وفي مجالس الصلح والعتاب بغرض الوئام والمحبّة أو لتهدئة العوام الغاضبين في الأزمات أو دفع قهر من متجبر؛ على أن يكون الكذب في كل هذه الأحوال هو "الخير" أو هو المعروف الذي حث عليه الشرع في مقاصده.

وثانيها الكذب المباح: وهو يجوز في المسامرة والمؤانسة والمناجاة بين الأزواج والمحبين والضحك الذي لا يخدش الحياء وفي المعاملات دون الشهادة في مجلس القضاء أو في القسم لإثبات الحدود والجنايات، أو في الوقائع التي تدنو من طمس الحقائق أو مساندة الجور.

وثالثها الكذب المندوب: إذا كان الغرض منه دفع ضرر متوقع حدوثه وهو فعل أو قول يستحب صاحبه ولا يعاقب تاركه ولا سيما في المواقف الترجيحية التي يصعب الفصل فيها بين الحسن والقبيح مثل المجاملة والمدح بالقدر الفاصل بين النفاق والرياء.

ورابعها الكذب المكروه: في الأمور التي تتعلق بالتربية والإرشاد والتعليم والأخبار وترويج الشائعات.

أمّا خامسها فهو الكذب المحرم: وهو إذا ما ترتب على فعله جناية تستوجب عقوبة أو حد أو خيانة وهو لا يعالج بالتوبة أو بالاعتذار مثل ضوابط عقد الزواج أو الطلاق أو قذف المحصنات أو الاتهام بالشبهة والظن، ويستثنى من ذلك الكذب الذي تتلوه توبة نصوحًا أو جهل صاحبه أو الخوف المرضي أو لغو الصغار والسفهاء.

***

وإذا ما حاولنا تحليل الخطاب الفقهي حيال الكذب فسوف نجد مضمونه يجمع بين صحيح المنقول وصريح المعقول (مقدمًا الثابت من القرآن، إذ وردت لفظة الكذب ومشتقاتها في نحو 220 آية، وصحيح السنة على المتغير من اجتهادات الفقهاء وآرائهم وذلك على نحو تطبيقي صالح لنفع المجتمع وتهذيب أخلاقه وتقويم عوائده وسلوك أفراده وذلك تبعًا لقناعات العقل الجمعي بهذا النهج التربوي وحكمة وإخلاص القائمين على تربية النشأ والتوعية والإرشاد على تنفيذه ونقله من طور الالزام إلى طور الالتزام حتى يصبح الصدق من مشخصات المنتمين للمجتمع المسلم - ولا يجانبنا الصواب عندما ندرج المباحث الأخلاقية الواردة في الخطاب الفقهي حيال قضية الكذب - ضمن النماذج الرائعة الممثلة لفلسفة المسلمين الخالصة التي لم تتأثر بأفكار السابقين أو المعاصرين من الحكماء أو الفلاسفة؛ الأمر الذي يبرر إدراج الشيخ مصطفى عبد الرازق (1947:1885 م)  وتلاميذه أمثال علي سامي النشار (1980:1917 م)  ومحمد يوسف موسى (1963:1899 م) علم الفقه وأصوله على رأس العلوم العقليّة الإسلامية التي تعبر عن فلسفة المسلمين الخالصة والطابع العملي في تفكيرهم وذلك لجمع آرائهم بين صحيح المنقول كما ذكرنا وصريح المعقول المتمثل في اجتهادات الفقهاء والمصلحين والمجددين الذين تمعنوا في فحص وصحة المنقول واستيعاب مقاصده الربانية الواردة في الوحي والحكمة النبوية التي جاءت في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم من جهة، وامعنت العقل في دراسة طبائع البشر ومدركاتهم ونزعاتهم وانفعالاتهم ودوافعهم للكذب وعلله، وما يترتب عليه من مدار وما يمكن الحكم على بعضه بالاستحسان والنفع من جهة أخرى، محتكمين في النصف الأخير في تشكيل بنية اجتهاداتهم للواقع وما فيه من أحوال وأوضاع وتحولات ومن أهم أقوالهم في هذا السياق قول الفقيه عبد الله بن عتبة (ت نحو 86  هـ: 705 م) في كتاب "تاريخ التشريع الإسلامي" (إن الكذب في الخبر حتى لو كان للمفاخرة فهو غش وخداع ويقول اتقي الكذب وما أشببه، فالخبر يعتقده الناس على غير حقيقته وإن كان الغرض هو المفاخرة).

 وذهب أبو حامد الغزالي (ت 1111 م:505 هـ) في كتابه "إحياء علوم الدين" (إلى أن الكلام وسيلة إلى مقصد من المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعًا، فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان حقن دم محرم يتوقف على الكذب على ظالم يتعقبه فذلك الكذب واجب وإذا كان مقصود الحرب لا يتم، أو إصلاح ذات البين، أو استمالة المجني عليه إلا بكذب، فالكذب مباح. ويقول أيضًا أن للمرء أن يتحرز من ذلك الكذب ويتأثم فيه جهد استطاعته؛ لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه خيف أن يستطرد إلى ما يستغنى عنه، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة؛ فيكون الكذب حرامًا في الأصل إلا للضرورة).   

كما أن جميعهم قد حذر من تقليد اجتهاداتهم باعتبارها ثوابت واجبة التطبيق؛ بل بينوا أن ما أفاضت به قرائحهم مرتبطة بزمانها ومن ثم يمكن تجديدها وتطويرها أو العدول عنها وتغيرها تبعًا لحاجة العصر في الثقافة السائدة. أمّا القسم الأول منها المتعلق بصحيح المنقول فيمكن الاجتهاد فيه أيضًا عن طريق التفسير والتأويل شريطة التزام المجتهدين بوجهة المقصد الشرعي الذي أشارت إليه الآيات أو الأحاديث الصحيحة ونذكر منها: قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم (من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار) (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا. وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا).

تلك كانت رؤية الفقهاء للكذب وعلى الرغم من ضوابط الخطاب الفقهي سواء في العرض أو المعالجة؛ فإن مردوده كان محدودًا وذلك لارتباطه بما نطلق الضمير أو قوة إيمان الفرد، أو وازعه الديني؛ فضغوط الحياة المدنية رغبت ضعاف النفوس عن المثالية الواقعية وانصرفت إلى اللذات الحسية والمنافع المادية فاستحلت من أجلها الكذب ذلك فضلًا عن إهمال معالجة هذه الآفة في التربية وسلوك العوام والخاصّة أيضًا بل عند المتظاهرين بحماية الخطاب الديني وعلماء الأمة فما برحنا نراهم جالسين في مصاف العلماء يزيفون ويتأولون ويفتنون ويدارون، ويصانعون على مرأى ومسمع من أرباب غرابيل الكذب، ومن ثم يجب أن نعترف بأن النصوص الدينية إذا لم تنتقل من الفقيه، لتسكن في القلوب وتفعل في السلوك فلا طائل منها حتى ولو كانت على لسان الأنبياء.

وللحديث بقيّة عن مبحث آخر من مباحث الفكر الإسلامي.  

***

 بقلم: د. عصمت نّصار

 

أهمية تركيز الفلسفة المعاصرة على الإنسان

إن تركيز الفلسفة على الإنسان ومشكلاته الحياتية وهمومه المجتمعية من شأنه أن يساهم في مساعدة الإنسان على فهم نفسه ومجتمعه بشكل أفضل، وتوجيهه نحو حل المشكلات بدلاً من الحزن والقلق بشأنها، من خلال الإهتمام بمشكلاته، والسعي الفعال لإيجاد حلول عملية لها، إن دور الفلسفة المعاصرة لا يقتصر على الإرشاد والتوجيه فحسب، بل هو دور (إصلاحي وتعليمي)، يحدد المشكلة بدقة عالية، ويعمل بشكل فعال على علاجها مستخدما كل ادواته الفلسفية، من أجل مجتمع سعيد ومتطور.

إن الفلسفة  بطبيعتها هي علم يبحث في الوجود والمعرفة والأخلاق، وكانت الفلسفة قديماً (أم العلوم)، وقدم الفلاسفة في مختلف العصور العديد من النظريات في قضايا تخص الوجود، والأخلاق، والمعرفة، والميتافيزيقا، ولكن بعد الثورة الصناعية، والتكنولوجية، التي أدت الى تطور البيئة والمجتمع الذي يعيش في الإنسان، ومن ثم  أعقبها تغير  في نوع وطبيعة المشكلات التي يعاني منها الإنسان، وإختلاف طبيعة الأسئلة التي يبحث الإنسان عن أجوبتها، لذلك صار لزاماً على الباحثين في الفلسفة والأقلام الفلسفية أن تواكب هذا التطور الحاصل في نوع المشكلات وطبيعة تفكير الإنسان المعاصر، فلم يعد الخوف من المجهول هو الموضوع الوحيد الذي يُقلق الإنسان ويثير مخاوفه، بل أصبح يتسائل كيف يواكب التطور الجنوني والسريع الحاصل في الذكاء الإصطناعي، وعالم الروبوتات الذي بدا يغزو الأسواق والمجتمعات، وكذلك الأخلاق الطبية، والبيئية، والهندسة الوراثية وتبعاتها الأخلاقية وكيفية التعامل الأخلاقي معها، وصار من الضروري تجديد وتطوير الخطاب الفلسفي) لكي يواكب هذا التطور التكنولوجي ويضع الأسس الأخلاقية التي تؤطره وتنظمه، من أجل أن تتناسب التوصيات الفلسفية مع متطلبات وواقع الإنسان والمجتمع المعاصر، وبسسب هذه التحديات الكثيرة التي يواجهها المجتمع الإنساني مقابل مجتمع الآلات والذكاء الإصطناعي، صار من الضروري أن تهب الأقلام الفلسفية الى الكتابة والبحث والتأليف وفق منظور (واقعي وعلمي عملي) يحدد بشكل واضح المشكلات المعاصرة وسبل التعامل معها، ويعطي حلول عملية واقعية بإستخدام الأدوات الفلسفية من أجل  توليد أفكار جديدة ومفاهيم ونظريات تواكب المشكلات المعاصرة وتكون قادرة على التعامل معها وتقديم الحلول لها، و كذلك تحفيز العقل البشري من خلال التحليل المنطقي، والتفكير النقدي الإبداعي، ويجب أن لايكتفي الباحثون في المجال  الفلسفي بعرض المشكلات بل يجب أن يتمحور دور الأقلام الفلسفية المعاصرة في إعطاء حلول محددة لكل مشكلة بذاتها، مع مراعاة ان لكل مشكلة حلول عملية مختلفة عن غيرها، ومايصلح لمشكلةٍ ما قد لايكون مناسباً لمشكلة أخرى، وما يناسب  فرداً أو مجتمعاً بعينه، قد لايصلح لفردٍ أو لمجتمع آخر، لذلك يجب الحرص على تقديم حلول تتناسب مع الإنسان  وطبيعته، وطبيعة المجتمع والبيئة التي يعيش فيها، لذلك فإن الفلسفة في المجتمع المعاصر اذا أرادت أن تستعيد دورها التاريخي بوصفها آداة من أدوات الإصلاح الإجتماعي صار لِزاماً عليها التعامل مع مشكلات الإنسان والمجتمع بمرونة وواقعية أكثر في سبيل إيجاد حلول عملية للأزمات الإنسانية والمجتمعية المعاصرة.

***

شيماء هماوندي

أستاذة الفلسفة والعلاج الفلسفي

أربيل/ جامعىة صلاح الدين/ كلية الآداب/ قسم الفلسفة

«السياسة بوصفها حرفة» رسالة صغيرة الحجم، وهي في الأصل محاضرة مطولة ألقاها عالم الاجتماع المعروف ماكس فيبر، أمام اتحاد الطلبة بجامعة ميونيخ في 1919. نالت الرسالة شهرة واسعة في النصف الثاني من القرن العشرين، مع بروز الدراسات المكرسة لتفسير الفعل السياسي وأخلاقياته. ويظهر أن فيبر استهدف في تلك المحاضرة تعزيز الاتجاه العقلاني في مواجهة الميول المثالية التي تشيع عادة بين الطلبة الجامعيين. وكان هذا ضرورياً عقب الهزيمة المذلة لألمانيا في الحرب العالمية الأولى، حيث شاع اتجاه قومي متطرف، يُقال إنه وفّر -لاحقاً- أرضية ثقافية استثمرتها تيارات سياسية شعبوية، مثل التيار النازي الذي تزعمه أدولف هتلر.

الرسالة الداخلية لتلك المحاضرة هي: من يريد احتراف العمل السياسي عليه أن يستوعب الفوارق الجوهرية بين الوعظ والسياسة. ممارسة السياسة شيء مختلف تماماً عن الكلام السياسي. كما أنه مختلف عن الحرف الأخرى. إن أردت المحافظة على أخلاقيات بسيطة، فإن السياسة ليست المكان المناسب، فهي مكان للأخلاقيات المركبة، حيث يجد المرء نفسه أمام خيارات عسيرة بين السيئ والأسوأ، وليس بين الحسن والسيئ، وهو في كل حالة مضطر إلى اتخاذ قرار، وإلا فقد دوره في هذا المجال.

جوهر السياسة -يقول فيبر- هو ارتباطها بأدوات الجبر والعنف. حين تكون في دار العبادة ستسمع تحذيراً من الأعمال التي تُصنّف في خانة الإساءة للغير، أو ظلم الضعيف أو تخريب البيئة وأمثالها. وسيخبرك الواعظ أن هذه الأفعال تستدعي غضب الله والعقاب في الآخرة. وإذا كنت في المدرسة فسوف يخبرك الأستاذ أن مخالفة أنظمة المرور والبناء وأمثالها قد تؤدي إلى احتمال غرامات وخسائر، وربما السجن. في كلتا الحالتين يركز المتحدث على إرشاد المستمعين، وإقناعهم بتجنب الأفعال التي تعرّضهم للأذى. أما رجل السياسة فلا يصرف وقتاً في إقناع أحد، بل يتخذ قرارات توضح بجلاء أن من يخالفها سوف يتعرض للعقاب. الفارق إذن بين رجل السياسة وغيره، أن هذا يهدد بالعنف المباشر وهو يملك أدواته. أما الواعظ والأستاذ فدورهما يقتصر على «لفت نظر» المستمعين إلى العواقب المحتملة لأفعالهم.

بعبارة أخرى، إن جوهر العمل في المجال السياسي هو إلزام الناس بما يريده رجل السياسة ومنعهم مما لا يريده. قد تتوافق هذه الأوامر مع إرادات الناس في بعض الأحيان، لكنهم في معظم الحالات، يفعلون ما يأمرهم رجل السياسة خوفاً من العقاب.

ما الذي يدعو ماكس فيبر إلى هذا الحديث؟ أشرت في المقدمة إلى رغبته في معالجة الميول المثالية التي تلبس ثوب الأخلاق الكاملة. مع أنها في حقيقة الأمر بعيدة جداً عن واقع الحياة وحاجاتها. بعبارة أخرى، إننا جميعاً نتمنى الخلاص النهائي من الجبر والخشونة في المعاملات كافّة: المعاملات بين الآباء والأبناء، بين الأصدقاء والجيران، بين التجار والمستهلكين، بين رجال الدولة والمواطنين، أو بين مواطني هذه الدولة وغيرهم من مواطني الدول الأخرى. هذه أمنية. لكن في واقع الحياة، يستحيل إدارة البلاد من دون التلويح بأدوات الجبر، في بعض الأحيان، بل في غالب الأحيان.

هذا أمر لا أظن عاقلاً ينكره. لكن العاقل سيخشى الانزلاق من «التلويح» بالعنف إلى استعماله بشكل مبتذل، أي تحويله من أداة في الخلفية إلى أداة وحيدة للتعامل مع الناس. من ذلك مثلاً أن تترك الحديث مع الناس، إلى تهديدهم بالسجن والتغريم وغير ذلك، في كل صغيرة وكبيرة.

على الجانب الآخر، فإنه ليس متوقعاً أن يلبس السياسي ثوب الواعظ، أي أن يتخلى عن حل المشكلات ولو بالعنف، لأنه إن فعل ذلك فقد فرّط في دوره الرئيس، أي إدارة البلد، ولا أظن أحداً يريد أن يرى حاكماً منصرفاً إلى الوعظ بدلاً عن ممارسة الحكم، حتى لو كان العنف مضموناً له.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

يظن بعض الناس أنهم مبرؤون من الأخطاء والزلات والعثرات، يتحدثون عن الكمال كما لو كان صفة لازمة فيهم، ويتحدثون عن المواقف السليمة وكأنهم وحدهم من يجسدها وتصدر من أفعالهم، وعندما يتناولون النواقص والعثرات يتحدثون بضمير الغائب، فيشيرون إلى البشر وكأنهم ليسوا منهم وقد جاءوا من عوالم أخرى بعدية عن الأرض وساكنيها. ترى أحدهم يتحدث ساعات عن تقصير الناس وعيوبهم وتناقضاتهم ومشاكلهم، لكنه لا يذكر نفسه بكلمة وكأنه فوق الخطأ والنقيصة، أو كأن الكمال خلق لأجله دون سواه من الخلق.

هذه الحالة ليست سوى صورة من صور الوهم النفسي ووهنها وضعفها، وآلية دفاعية يسقط فيها الإنسان عيوبه على من حوله حتى يبرئ نفسه من المحاسبة والتقييم والوقوف عليها بموضوعية وشفافية ووضح، فهو ينجو بجلده من تأنيب الضمير. فهي محاولة للهروب من مواجهة الذات والوقوف على مستواها وواقعها ومآلها، لأن مواجهة النفس تحتاج إلى شجاعة نادرة وصدق. حين يرى الإنسان العالم بعيون ناقمة وناقدة سلبية، لا يرى في مرآته إلا صورة مصقولة لا تشوبها شائبة، فإنه يعيش في خداع داخلي يقتله ببطء دون أن يشعر بفكره وذهنيته.

قمة الإفراط في السذاجة أن نرى الآخرين بملء العين ولا نرى أنفسنا القريبة منا، أن نتحدث عن أخطاء الناس دون أن نراجع أنفسنا، أن نحاسب غيرنا على الهفوات بينما نتغاضى عن الزلل في داخلنا. من ينكر عيوبه يقتل في داخله فرصة النمو والنضج والتعديل والتطوير. أما من يقف وقفة صادقة أمام ذاته فيرى الخلل، ويقر بالخطأ، ويعتذر حين يخطئ، فهو الذي يسير في طريق الارتقاء الإنساني الحقيقي.

كم من موظف يكثر من نقد زملائه ويتحدث عن ضعف إنتاجهم، بينما هو نفسه لا يراجع تقاريره ولا يطور من أدائه. وكم من مدير يتحدث عن الانضباط والالتزام، لكنه ينسى مواعيده ويتأخر في إنجاز مهامه. وكم من أب يلوم أبناءه على الغضب أو التسرع، بينما هو يثور لأبسط الأسباب وأقلها شأناً. هذه المفارقات تكشف أن الخلل ليس في البشر، بل في مرآتنا التي لا نجرؤ على تنظيفها وتنقيتها والاعتراف بها أساساً.

في المقابل، ترى الإنسان المتزن لا يضخم ذاته ولا يزكيها، بل يعترف بحدوده وأفعاله، ويتحدث عن نفسه بصدق دون تجميل أو مبالغة. إذا أخطأ لا يبرر، بل يتراجع ويعتذر، وإذا أصاب لا يتفاخر، بل يشكر. يعيش التواضع سلوكاً لا شعاراً، ويتعامل مع الآخرين بوعي أن كل إنسان قابل للخطأ والتعلم. هو يدرك أن الكمال لله وحده، وأن الاعتراف بالنقص ليس ضعفاً بل بداية القوة والشجاعة.

في بيئة العمل، يظهر الفرق بين من يبحث عن اللوم والتجريح وذكر النواقص والأخطاء وبين من يبحث عن الحل والنماء والبناء، بين من يرفع صوته ليثبت أنه على حق لا يهمه من يحادثه أو يتصرف أمامه، ومن يصمت قليلاً ليتأمل دوره في حل المشكلة. الموظف الناضج لا يسقط أخطاءه على زملائه، بل يسعى لإصلاح نفسه أولاً ويسهم في بناء غيره. إن مناخ الثقة لا يبنى على النقد، بل على الصدق والاعتراف والتقبل والاحترام قبل كل شيء، ولا يتشكل في ضجيج الاتهامات ورفع الصوت والانفعال والعصبية، بل في سكون الهدوء والمراجعة بلطف وكياسة.

وما أجمل أن نصل إلى مرحلة نرى فيها الخطأ في سلوكنا فرصة للتعلم لا مناسبة للدفاع والتبرير وإتهام الآخر، فنراجع أنفسنا قبل أن نحاكم غيرنا ونجلده. حينها نصبح أكثر إنصافاً وعدلاً ورحمة، لأننا نذوق طعم الصدق الداخلي وشفافية النفس التواقة للشعور بالرفاه النفسي والاستقامة الذاتية، ونرى بعيون البصيرة لا بعيون الغرور والتفاخر والتعالي.

الناس لا يتذكرون ما قلناه عنهم، بل يتذكرون كيف جعلناهم يشعرون بأنفسهم ويسرون من حديثنا وسلوكياتنا معهم، وحين يشعرون بالصدق فينا، يتسع أثرنا في قلوبهم فتسكن المحبة والمشاعر الدافئة فيهم. والذين يعيشون في حالة ادعاء الكمال يعيشون غرباء عن أنفسهم ومن حولهم، لأنهم يهربون من مواجهة حقيقتهم. أما الذين يتصالحون مع ذواتهم فهم أكثر الناس طمأنينة وسلاماً، لأنهم يقبلون النقص فيهم كجزء من إنسانيتهم.

نحن لا نكبر حين نخفي أخطاءنا، بل حين نعترف بها. ولا نرتقي حين ننتقد الآخرين، بل حين نصحح مسارنا. وكل خطوة نحو الصدق مع الذات هي خطوة نحو صفاء القلب وسمو الروح. فليكن كل منا مرآة لنفسه قبل أن يكون ناقداً لغيره، لأن الإنسان الذي يرى نفسه بوضوح لا يحتاج إلى تجميل صور الآخرين، بل يراهم بعيون المحبة والتسامح والوعي.

***

بقلم: د. أكرم عثمان

  12-11-2025

الفلسفة بوصفها علاجاً لمشكلات الإنسان المعاصر

غالباً ماترتبط الفلسفة بالترف الفكري والقوانين النظرية في ذهن الإنسان البسيط، خاصة أولئك البعيدين عن المجال الفلسفي، وقد يراها البعض مجرد  نظريات وأفكارغير مجدية، ولكن في الحقيقة، فإن الفلسفة بصيغتها الواقعية الجديدة مهمة للسبب ذاته، لأنها تعرفنا على أفكار الفلاسفة ونظرياتهم في مختلف العصور، وتدفعنا الى التأمل والتحليل والتفكير النقدي، والسعي وراء المعرفة، وفي الواقع أن دراسة الفلسفة لا تقتصر على تنمية مهارات مثل التحليل المنطقي، والتفكير النقدي فحسب، بل تمثل علاجاً لمشكلات الإنسان الفكرية، وهمومه اليومية، وتتيح لنا الفلسفة أيضا فهم أنفسنا وحياتنا وبالتالي العمل على تحليل أسباب مشكلاتنا بأنفسنا، والعمل على إيجاد الحلول المناسبة لها، ويتحقق ذلك من خلال النظر في أسئلة جوهرية هي من صميم الحالة الإنسانية، من بين هذه الأسئلة: من نحن؟ ماهو دورنا في المجتمع المعاصر؟ وماهي مشكلاتنا ومخاوفنا وماهي أسبابها ؟ وماهي الحياة الواقعية وكيف نعيشها؟

هذه الأسئلة وغيرها تدفع المتأمل فيها الى البحث عن أجوبة وحلول لمعاناته ومشكلاته، من خلال التعرف على أفكار الفلاسفة ونظرياتهم، والإستفادة من تطبيقاتها العملية في حل المشكلات المعاصرة، وفي مد يد العون للإنسان المعاصر، ومساعدته على مواصلة التقدم في الحياة، ومواجهة المشكلات والمخاوف اليومية، وإيجاد حلول لها، كذلك فإن الإستعانة بالفلسفة في حل المشكلات الحياتية اليومية هو ليس بالموضوع الجديد، بل إن الفلاسفة القدماء إهتموا بهموم الإنسان وحاولوا إيجاد حلول لمشكلاته الفكرية، وأزماته النفسية، وإهتموا بالجانب العملي من الفلسفة ليطبقوا أفكارهم الفلسفية في صورة حلول واقعية للمشكلات الإنسانية، فنجد أن سقراط وآرسطو يؤكدان ان المعرفة فضيلة والجهل رذيلة ، ويشير آرسطو في كتابه (الأخلاق النيقوماخية) الى أن السعادة تنبع من الفضيلة، ويشير الى ضرورة التعلم من الأخطاء، وعدم الوقوع فيها من جديد.

كيف تساعدنا الفلسفة على تغيير حياتنا؟

إن الإنسان المعاصر مرهق ومثقل بهموم العمل والسعي الى المكانة الإجتماعية، والقلق حول الوضع الإجتماعي والمادي ومواكبة التكنولوجيا، وبالرغم من أن الحياة في ضل التقدم التكنولوجي أصبحت أسهل اليوم، إلا أن المنافسة أصبحت أكبر وأصعب، والرغبة في مواكبة التطور ترهق الإنسان فكرياً وجسدياً، وتؤثر سلباً على قدراته العقلية، والنفسية، والجسدية، وقد يؤدي فرط إستخدامه للتكنولوجيا الى تراجع قدراته الفكرية، لذلك فإن مهمة الفلسفة الأساسية في عصرنا الحالي هو الحفاظ على قدرات الإنسان الفكرية والإبداعية، والعمل على إعادة صلة الإنسان بذاته ومجتمعه، والوعي بوجوده والعيش في الحاضر، والتحرر من القلق حول المستقبل، حيث إن دراسة الفلسفة ومناقشة المسائل الفلسفية تعمل على تحفيز وتنشيط التفكير الإبداعي  لدى الإنسان المعاصر، وتساعده على تنمية مهارات  التحليل المنطقي، والتفكير النقدي والإبداعي.

 إن دور الفلسفة   في المجتمع المعاصر يتمثل في تقديم أدوات التحليل المنطقي والتفكير النقدي لمساعدة الإنسان في تحليل المشكلات، والوصول الى الحلول، وإن تغيير الأفكار يعقبه تغيير العادات اليومية والتي يؤدي تغييرها الى تغيير الواقع الذي يعيش فيه الإنسان وتغير حياته للأفضل، حيث ان تبني الأفكار الإيجابية و وجهات النظر الجديدة يؤدي الى تغيير  نظرة ورؤية الإنسان لعالمه ولواقعه وحتى مشكلاته،  ويساعده كل ذلك على التخلص من التوتر والقلق ،ويتيح له فرصة للعيش بطريقة أفضل، وتساعد الفلسفة الانسان في تغيير أفكاره السلبية وإستبدالها بأفكار إيجابية،  فالتفكير المنطقي يساعد الإنسان في الوصول الى حلول واقعية لمشكلاته اليومية ، وبالتالي التخلص من كل ما من شأنه أن يعكر صفو حياته، وكذلك تساعد الفلسفة الإنسان على تغيير العادات السلبية من خلال جعل الفلسفة نمط حياة، وفناً للعيش بحكمة وسعادة. 

***

شيماء هماوندي - أستاذة الفلسفة والعلاج الفلسفي

أربيل / جامعة صلاح الدين / كلية الآداب \ قسم الفلسفة

العقل كجريمة مُعلنة: بين السرّ والضوء

ليس في الكون ما يظهر خارقًا للوهلة الأولى سوى حقيقة النفس الغارقة في سرّها، والوعي الذي يغرق في ضوء مزدوج، نور يحرّر وظلام يقيد. نحن نظن العقل أداة للاكتشاف، لكنه غالبًا مرايا متشابكة، كل وجه منها يعكس جزءًا من الحقيقة ويخفي ألف وجه آخر. المعرفة التي نحملها ليست لنا، بل ضيف عابر على صرح الذات، يعلّم ما لم نطلبه ويستر ما نحتاج أن نراه.

في رحاب الفكر، يعلن المنطق جريمته بصمت، فيسجن الروح في سجون المسلمات الموروثة، وتصبح اللغة قيودًا على الحرية قبل أن ندرك أننا أفكار. كل كلمة نتفوه بها، كل مفهوم نبتكره، جزء من شبكة خداع نسميها وعيًا. نمشي في متاهة بلا بداية ولا نهاية، حيث يسبق السياق الاجتماعي الفكرة ويختنق المعنى قبل أن يُولد.

لكن، حين يحس القلب بالانكشاف وتشرق شمس السرّ على النفس، يتضح أن الحرية ليست في الفكر وحده، بل في إدراك أسراره. هنا، بين السرّ والضوء، القيد والتحرر، يولد الإنسان حقيقة نفسه، ليس كعاقل متسلط على المعرفة، بل كروح تدرك أنها جزء من شبكة أزلية أكبر، لا تُرى، ولا تُحاكم، ولا تُقاس بمعايير المنطق البشري.

المعنى الضائع: حين يسبق السياق الاجتماعي الفكرة نفسها ويقتلها قبل ولادتها

في رحاب الوجود، يولد الفكر من سرّ لا يدركه العقل العادي، لكنه غالبًا يُسجن قبل أن يلمس النور. الفكرة التي يظنّ المرء أنها حرة، تكون في واقعها رهينة شبكة الرموز والمظاهر الاجتماعية، لا تولد إلا إذا سمح لها السياق، وإذا رفضها اختنقت قبل أن تشهد الوجود. اللغة، كما يقول محي الدين بن عربي، مرآة الروح، قد تكون سجنًا يحيط بالمعنى قبل أن يولد، فتصبح الكلمات سجلات للممنوع والمغيّب أكثر من كونها أدوات للفهم.

الفكرة الضائعة ليست مجرد فكرة محجوبة، بل دليل أن الوعي الاجتماعي يسبق الفرد. كل اعتقاد، كل مفهوم، يتشكل وفق قوالب لم يخترها صاحبه، بل استقبلها كروح تتلقى نظامها الخفي. وهنا يظهر التناقض العظيم: الإنسان يظن أنه يبتكر، بينما الروح محكومة بنسيج مسبق من القيود الرمزية.

كما قال الرومي: لا تكن عبدًا للكلمات، بل اجعل الكلمات عبدًا لك. قليلون من يصلون إلى هذا التحرر، لأن المجتمع غالبًا يسبق الفكرة، يقيّدها، ويحوّلها إلى صدى لماضٍ لم يعد موجودًا، فتضيع الحرية قبل أن تولد. المعنى الحقيقي لا يُخلق إلا حين يتحرر العقل من قيود الظاهر، حين يصبح الفكر قادرًا على رؤية اللامرئي، على إدراك ما لا يدركه الآخرون، على الإبحار في بحر الروح دون خشية القيود.

وهكذا، تصبح المعاني الضائعة شاهدة على أن الكون لا يعطي الحرية إلا لمن يعرف حدود الأسرار، لا لمن يظن أن المعرفة تبدأ بالمنطق وحده. فالحرية الفكرية ليست القدرة على الاختيار، بل القدرة على إدراك سرّ القيود المفروضة، وإطلاق الفكر في فضاء لا يعرف الحدود، حيث يولد المعنى بلا سياق مسبق، بلا انتظار، بلا حكم مسبق من العقل الجمعي.

بوذا قال: إنك لن تعرف العالم حتى تعرف نفسك. المعرفة الحقيقية تتطلب التحرر من القوالب الموروثة، من التصنيفات، من اللغة التي تختنق بها الفكرة. حينها فقط تنكشف الحقيقة في صمت الروح، ويولد المعنى بعيدًا عن القيد، بعيدًا عن السياق الذي يسبق الفكرة ويقتلها قبل ولادتها، فيصبح الفكر نافذة إلى ما وراء الوجود، حيث لا شيء يمكن اختزاله، ولا شيء يمكن السيطرة عليه.

في سكون الروح، حيث لا يصل النظر إلا إلى ما وراء المظاهر، يولد الفكر من سرّ أزلي لا يمكن اختزاله بالكلمات أو بالإدراك العادي. لكن هذا السر غالبًا يُختنق قبل أن يلمس النور، لأن السياق الاجتماعي يسبق الفكرة، يحيط بها، يفرض عليها قيودًا لا تراها العين، ويقتل أي احتمال للحرية قبل أن تولد. اللغة ليست وسيلة للتواصل فقط، بل صرح معقد من الرموز والقيود، تلتف حول المعنى قبل أن يولد، فتصبح الكلمات حواجز وليست جسورًا.

الفكرة الضائعة ليست مجرد فكرة مفقودة، بل شهادة على أن الإنسان يسير غالبًا في متاهة من القيود المفروضة سلفًا. كل ما نعتقد أننا نختاره، كل مفهوم نبتكره، في الغالب استنساخ لموروثات لم نختَرها، ونكاد نصبح أسرى شبكة دقيقة من التصنيفات الاجتماعية، اللغة، العادات، والأعراف. وهنا تكمن المأساة: نحن نظن أننا نفكر، بينما الروح نفسها محكومة بنظام خفي من القيود الرمزية، فلا ندرك أن الفكر الأصلي، الذي يحمل الخروج من المعتاد، غالبًا يُقتل قبل أن يولد.

كما يقول محي الدين بن عربي: من عرف نفسه فقد عرف ربه. كيف يعرف الإنسان نفسه إذا كانت أفكاره وأحاسيسه محتجزة داخل سجون لا يراها؟ الفكرة الضائعة، المعنى الذي لم يولد بعد، يكشف أن الوعي الجمعي يسبق الفرد، وأن المجتمع غالبًا يسبق أي محاولة للفهم الحر. حين تشرق شمس السرّ على الروح، فإنها لا تمنح الحرية للفكر وحده، بل تفرض مواجهة كل ما اعتقدنا أننا نعرفه، مع كل التصنيفات الموروثة، وكل اللغة التي خنقت المعنى قبل أن يرى النور.

الخطورة ليست في الكلمات، بل في إدراك أن كل تفكير، كل اعتقاد، جزء من شبكة خفية أكبر، تجعل من الحرية مجرد وهم، ومن المعرفة صدى ماضٍ يسيطر على الحاضر. يقول الرومي: لا تكن عبدًا للكلمات، بل اجعل الكلمات عبدًا لك. قليلون يملكون الشجاعة ليطلقوا الفكر في فضاء بلا قيود، ليولد المعنى دون رقابة، دون حكم مسبق، ودون خوف من المجتمع الذي يسبق كل فكرة.

بوذا قال: كل ما نكون عليه نتيجة ما فكرنا به. معظم ما نفكر به ليس اختيارنا، بل انعكاس القيود الاجتماعية، الحواجز اللغوية، الشبكة الرمزية التي تكبح الابتكار. إدراك هذا، مواجهة حقيقة أن الحرية الفكرية غالبًا مجرد وهم، هو الصدمة التي يختبرها القارئ. يكتشف أن المعنى الذي يظنه ملكًا له غالبًا ضائع قبل أن يولد، وأن كل فكرة تحمل عبء مواجهة الحقيقة المزدوجة: معرفة الذات ومواجهة الأسرار التي يفرضها السياق الاجتماعي قبل أن يسمح للوعي بالتحرر.

المعنى الحقيقي يولد حين يختار الإنسان مواجهة الظلام داخل ذاته، حين يجرؤ على تجاوز اللغة، التصنيفات، كل ما يسبق الفكرة ويقتلها، ليكتشف أنه ليس مجرد مفكر، بل روح تشهد على أسرار الكون، ما لا يُرى، ما لا يُحكم عليه، ما لا يمكن للمنطق البشري أن يحدده. هنا يصبح الفكر جريئًا، المعنى حيًا، والوعي حرًا، ولو للحظة واحدة، في عالم يسعى دائمًا لقتل المعنى قبل أن يولد.

إذا تأملنا النفس البشرية، نجد أن الفكر ليس مجرد حدث داخلي، بل مسرح تتشابك فيه القوى الخفية: اللغة، العرف، الموروث، والخوف من الطرد الاجتماعي. كل فكرة تولد في هذا المسرح ليست حرة، بل محاصرة بين جدران غير مرئية، بين إرادة الفرد والهيمنة الجمعية. وهنا يظهر الضياع الحقيقي: الإنسان يحمل الحقيقة في قلبه، لكنه لا يستطيع التعبير عنها، لأن المعنى يُسجن قبل أن يرى النور.

الوجود، وفق الصوفية، ليس سوى مرآة مزدوجة: المرآة التي نرى فيها أنفسنا، والمرآة التي يخفي فيها الكون أسراره. يقول محي الدين بن عربي: الحقائق العظيمة غالبًا لا تُفهم إلا في صمت الروح. لكن المجتمع يمنع الصمت، يفرض صوت المألوف، يجعل من كل محاولة لفهم المعنى رحلة محفوفة بالمخاطر، حيث قد تُقتل الفكرة في مهدها.

بوذا أكد أن الحرية الحقيقية تبدأ بمعرفة الذات: إنك لن تعرف العالم حتى تعرف نفسك. المعرفة الحقيقية للنفس تتطلب مواجهة القيود التي يفرضها السياق، تجاوز اللغة، التصنيفات، كل ما سبق الفكرة. المعنى الضائع هنا ليس مجرد ضياع الابتكار، بل صرخة من الروح تخبرنا أن الحرية الفكرية غالبًا وهم، وأن كل محاولة للابتكار تضربها قوى خفية قبل أن تولد.

وهكذا، القارئ أمام مواجهة مزدوجة: مع العالم الخارجي الذي يسبق الفكرة ويقتلها، ومع العالم الداخلي الذي يخاف مواجهة ذاته. الفكرة الضائعة تحمله إلى حافة الصمت والشك، حيث كل معنى محتمل يصبح امتحانًا للروح: هل ستختار الإفصاح عن فكرتك، حتى لو رفضها المجتمع؟ أم ستظل صامتًا، جزءًا من شبكة تتحكم فيها القوى الخفية قبل أن يدركها عقلك؟ ليست نهاية، بل نقطة انطلاق. الفكرة الضائعة دعوة للتأمل: هل يمكن أن يولد المعنى حقًا، إذا لم يكن الإنسان مستعدًا لمواجهة ذاته، السياق الذي يسبق الفكر، والخوف الذي يختبئ خلف كل كلمة؟ كل سؤال يفتح بابًا لتساؤلات جديدة، كل إجابة رحلة في بحر الرموز، السرّ، الضياع.

في صمت الليل الداخلي، حيث لا يصل إلا الصمت المهيب، تظهر الروح على حقيقتها: حاملة المعاني، لكنها محاصرة بين أسوار غير مرئية. كل فكرة تحاول الفرار من سجن العقل الاجتماعي تصطدم بجدار الموروث، بالعادات، بالعقائد غير المعلنة التي تتحكم بما يُسمح لنا التفكير فيه. المعنى الضائع ليس صدفة، بل شهادة على أن الروح لا تولد إلا في مواجهة القيود، وأن الحرية الفكرية تبدأ حين نكتشف الأسوار قبل أن نحاول تجاوزها.

كما يقول محي الدين بن عربي: من عرف القيود عرف الحرية. الحرية ليست غياب القيد، بل وعي بالقيد، إدراكه، ثم التحرر منه. المجتمع لا يسمح بهذا الوعي بسهولة. يسبق الفكرة، يقيّدها، يجعلها تتلاشى، ويترك الفرد يعتقد أنه حر، بينما يسير في متاهة مبرمجة مسبقًا.

بوذا أضاف بعدًا آخر: كل المعاناة تنبع من التعلق. الفكرة التي لم تولد تصبح ضحية تعلقنا بالقبول، بالمعايير، بالصور النمطية. نخشى رفض المجتمع أكثر من فقدان الحقيقة. الضياع ليس مجرد فقدان للمعنى، بل ناتج عن خوف عميق مخفي في الروح: خوف مواجهة ما لا يفهمه الآخرون، وخوف مواجهة أنفسنا.

لكن في قلب الظلام، يظهر بريق الحقيقة لأولئك الذين يجرؤون رؤية ما لا يراه الآخرون. المعنى الضائع يولد إذا تجاوزنا اللغة، التصنيفات، وكل ما سبق الفكرة. هنا يصبح الفكر جريئًا، الروح مستعدة للاختراق، والوعي يتحرر من قيود المجتمع والذات.

الرومي يقول: لا تقتل الفكرة قبل أن تكتشف سرّها. الفكرة الضائعة ليست موتًا، بل رحلة، امتحان للروح: هل يمكن للإنسان رؤية الحقيقة خارج المألوف، خارج التصنيفات، خارج كل ما يفرضه السياق الاجتماعي؟ المعنى الحقيقي يولد حين يتحرر العقل، حين يصبح قادرًا على مواجهة الصمت الداخلي، مواجهة الخوف الذي يكتم الابتكار قبل ولادته.

هنا يصبح القارئ مشاركًا في ولادة الفكرة، ليس مجرد متلقٍ لها. يصبح حاضرًا في مواجهة القوى الخفية التي تتحكم بالوعي، ويكتشف أن الحرية الفكرية ليست مجرد القدرة على الاختيار، بل القدرة على إدراك القيود قبل تطبيقها، إطلاق المعنى قبل أن يُقتل، الإبحار في بحر الرموز والسرّ، حيث يولد الفكر بلا سياق مسبق، بلا حكم مسبق، بلا خوف.

وفي النهاية، المعركة مستمرة: بين الروح والمجتمع، بين الفكر واللغة، بين السرّ والضوء، بين الضياع والولادة. وكل من يقرأ يصبح شاهدًا على الحقيقة الخفية: المعنى الحقيقي غالبًا ضائع، لكنه ينتظر الجرأة لتولده، الوعي ليحمله، الروح لتدعمه.

الذات الممزقة بين الانعكاس والخداع: قراءة في الخيانة الذاتية للوعي

في بحر الوجود، حيث يتشابك الظاهر بالباطن، وتغدو كل صورة انعكاسًا لمرايا غير مرئية، تنكشف الذات كما لم تُعرف من قبل: ممزقة بين ما يظهر وما يخفيه السرّ. الروح، في عمقها، تعرف الحقيقة، لكنها غالبًا تغرق في خديعة العقل، في وهم الفهم، في خيانة ما أرسله الله فيها من نور. كل محاولة إدراك الذات تصطدم بمرايا متعددة، كل منها يعكس شيء من الحقيقة ويخفي ألف سر آخر، هنا يولد الانقسام العميق: الذات التي نعتقد أننا نعرفها ليست إلا قناعًا من الظلال.

محي الدين بن عربي يقول: الحقائق العظمى لا يُدركها إلا من انكسر قلبه أمام سرّ الذات. الانكسار ليس ضعفًا، بل مفتاحًا، يكشف أن الإنسان غالبًا يساهم في خيانة ذاته بدافع الخوف، بمحاولة إعادة إنتاج ما فرضه العالم الخارجي من حدود، قيود، تصنيفات. العقل يظن أنه يقود الروح، لكنه غالبًا أداة خفية لخداعها، يجعلها تؤمن أنها حرة، بينما هي أسيرة تكرار ما لم تختره.

بوذا قال: الوعي هو مرآة تتطلب صفاء النفس لتكشف ما وراء الظل. الصفاء قليل، لأن الروح تصارع الانعكاسات المستمرة، تصارع الأصوات التي تقول: أنت تفكر، أنت تعرف، وأنت حرّ. كل فكر قد يكون صدى لموروث، كل إدراك انعكاس مشوه للواقع، وكل حرية وهم يتسلل بين قيود الذات والمجتمع.

في الامتزاج بين الانعكاس والخداع، تولد الذات الممزقة. تعرف الحقيقة لكنها تخونها، ليس بإرادتها، بل بتقليد الظلال، بمحاولة فهم ما لا يمكن فهمه بالكلمات، بمحاولة تكييف نفسها مع ما يفرضه الواقع الاجتماعي واللغة والتقاليد. هنا يظهر السؤال الصادم: هل يمكن للوعي أن يكون صادقًا إذا كانت الذات جزءًا من شبكة خفية من الخداع الداخلي؟

الرومي يقول: من عرف الظل عرف النور، ومن عرف النور عرف الظل. الذات الممزقة تحمل النور والظل معًا، تسكن في حدّ بين الحقيقة والخيال، المعرفة والخداع، الإرادة والقدر الموروث. كل لحظة وعي، كل شعور بالتحرر، كل فكر جديد، يصبح اختبارًا: هل يرى الإنسان ظل ذاته ويواجهه قبل أن يغرق في خداع الانعكاسات؟

الخيانة الذاتية ليست مجرد خطأ، بل تجربة صوفية وجودية: اختبار للروح لتعرف حدودها، مكانها بين الانعكاس والخداع، لتعرف أن الحرية الفكرية والوعي الصادق لا يولدان إلا حين تجرؤ الذات على مواجهة ما تخفيه عن نفسها، ما يخفيه العالم، ما يفرضه الظل. من يقرأ يصبح شاهدًا على صراع الوعي مع ذاته، على محنة الفكر الذي يسعى للحرية وسط قيود خفية، وعلى سرّ الروح التي تعرف الطريق لكنها تُرغم على السير في متاهة الانعكاسات والخداع قبل أن تصل إلى النور الحقيقي.

الزمن كراوية: كيف يخدعنا الماضي ليُسيطر على مستقبل أفكارنا؟

الزمن ليس خطًا مستقيمًا، ولا مجرد تسلسل للأحداث. الزمن في أعماق الروح كراوية خفية، ينسج فيها الماضي خيوطًا تخدع الحاضر، وتفرض على المستقبل قيودًا لا تراها العين. كل ذكرى، تجربة، لحظة مضت، تصبح جزءًا من شبكة دقيقة تتحكم في إدراكنا، فتقود أفكارنا كما يشاء قبل أن نملك نحن حق القرار. محي الدين بن عربي يقول: الزمن للروح مرايا متلاحقة، تعكس ما كان وما سيكون في آن واحد. الماضي ليس مجرد ذاكرة، بل قوة حية تتحكم بالمفاهيم، تحدد الممكن والمستحيل، وتبني تصوراتنا عن ما يمكن أن يكون. نحن نعتقد أننا نخطط، نبتكر، والمستقبل لنا، بينما في الواقع…

الخاتمة

في آخر المرايا، حيث يذوبُ النور في ظلاله، ويصيرُ السرّ مرئيًا بقدر ما يتخفّى، يقف الوعيُ على حافّة وجوده، متسائلًا: أأنا من يرى، أم أنا ما يُرى بي؟ كلُّ ما كان يومًا وضوحًا، عاد غبشًا، وكلُّ ما ظننّاه يقينًا، تبيّن أنّه صورةٌ تتذكّر نفسها في الماء.

العقلُ هنا لا يُفكّر، بل يُفكَّر به. يُستعمل كأداةٍ في يدِ المعنى، يُقادُ إلى السؤال كما يُقاد الأعمى إلى الضوء. فمنذ متى كان النور خلاصًا؟ أوليس هو الوجه الآخر للاحتراق؟

قال بوذا: «من رآني لم يرَني»، وكأنّ المعرفة لعنةٌ على من ظنَّ أنه امتلكها، إذ لا يرى إلا مرآةَ نفسه في ما يراه. وقال نيتشه: «احذر من أن تُحدّق في الهاوية، فالهاوية تحدّق فيك»، لكن صاحب السِّرّ يُعلّق ساخرًا: وأيُّ هاويةٍ أعظم من أن تحدّق فيك نفسك؟

في هذا الوجود الملتبس، لا تُقاس الحقيقة بظهورها، بل بقدرتها على الاختفاء. فكلّ شيءٍ يُشرق، يَخلق ظلّه. والظلّ لا يفارق النور، بل يسكن فيه. كأن الكون كلّه لعبةُ مرايا يتبادل فيها الوجود والأثر وجهيهما، حتى يغدو السؤال ذاته مرآةً لا تعكس سوى سؤالٍ آخر.

يقول ابن عربي: «العين لا ترى إلا نفسها في كلّ شيء»، وكأنّه أراد أن يقول إننا لا نُدرك العالم، بل نُعيد تأويل أنفسنا فيه. فالمعرفة ليست كشفًا، بل نسيانٌ مقدّس، إذ لا يصل إلى النور إلا من احترق فيه.

الزمن — هذا الكائن الغامض الذي يسير نحونا أكثر مما نسير إليه — يراقبنا بصمتٍ لا يُحتمل. ليس الوقتُ ما نمضي فيه، بل هو ما يمضي فينا، يكتبنا في دفاترٍ غير مرئية، ثم يُعيد ترتيب الحكاية قبل أن نعي أننا كنا فيها. في كل لحظةٍ، يولد موتٌ صغير، وكل موتٍ يفتح بابًا لحياةٍ لم تُكتب بعد.

سأل الحلاج وهو يُصلب في مرآة الغيب: «أأنا الذي أهوى، أم أنا الذي أُهوى بي؟»، فكان الجواب صمتًا يشبه المعنى. فالروح، حين تشتدّ غربتها، لا تعود تبحث عن الله، بل عن أثر الله فيها. وفي كل صرخةٍ من صرخاته، كان يسمع نداءً واحدًا: إن الطريق إلى الوجود يمرّ من الهاوية.

إن كل فكرةٍ تولد، تُنجب ضدّها، وكلّ يقينٍ يكتب وصيّته منذ اللحظة الأولى. فالحقيقة ليست حجرًا في معبدٍ، بل سيلٌ يجرف من ظنّ أنه أمسكه. وأشدّ أنواع الضياع قُدسيةً، أن تتيه وأنت في قلب الطريق.

قال بوذا: «لا تسأل عن النور، كن أنت الظلّ الذي عرفه». وقال هيدغر: «الكينونة تُخفي نفسها لتُعرّف نفسها». أمّا صاحب السِّرّ فيقول:

إن السرّ الذي يُكشف ليس سرًّا، وإن النور الذي يُرى ليس نورًا، وإن الطريق الذي يُسمّى طريقًا ليس طريقًا، بل وهمٌ يتنكّر باسم الحقيقة.

العقل في نهايته لا يكتشف، بل يُكتشَف به. والروح لا تصل، بل تُساق إلى نفسها كما يُقاد الغريب إلى وطنٍ لا يعرفه. هناك فقط، في العتمة التي تعقُبُ النور، تتجلّى البدايات على هيئة نهايات، وتعود الأسئلة إلى صمتها الأول.

في النهاية، لا يُدرك السرّ من يُفكّكه، بل من يضيع فيه. فكلّ معرفةٍ تُكتب هي موتٌ مؤجَّلٌ للحقيقة، وكلّ صمتٍ يُحافَظ عليه هو نجاةٌ من وضوحٍ يقتل.

وهكذا، يظلّ الوعيُ في نفيٍ دائمٍ لذاته، يبحث عن مَن يبحث عنه، وينسى أنه هو من بدأ السؤال.

***

صاحب السِّرّ. سجاد مصطفى حمود

 

ليس أخطر على الأمم من أن تفقد وعيها بنفسها، أو تُسلِّم عقلها لمن يفكر عنها ويختار لها ما تراه وتريده. فالهزيمة العسكرية، مهما كانت فادحة، يمكن للأمة أن تتعافى منها بمرور الزمن، أما الهزيمة الفكرية فهي التي تخلع عنها روحها وتبدل معاييرها حتى تغدو كيانًا آخر لا يشبه ذاته.

ولعلّ هذا ما يجعل الغزو الفكري أخطر أشكال الصراع الإنساني، لأنه لا يكتفي بالهيمنة على الأرض بل يسعى إلى الهيمنة على الإنسان ذاته، فيعيد تشكيل وعيه ومعاييره ومقاييسه في الخير والشر، والحق والباطل، والجمال والقبح. إنّها معركة الوعي التي تدور بلا ضجيج، ويخرج منها المهزوم وهو يظن أنه منتصر. لقد عبّر رينيه ديكارت (1596–1650م) عن مركزية الفكر في الوجود الإنساني بقوله الشهير، (أنا أفكر إذن أنا موجود)، وهي عبارة تبدو فلسفية مجردة، لكنها في جوهرها إعلانٌ أنّ الوجود الإنساني لا يُقاس بما يملك الإنسان من ثروةٍ أو سلاح، بل بما يملك من وعيٍ قادرٍ على التمييز والنقد والاختيار.

ومن ثمّ فإنّ السيطرة على الفكر ليست مجرد هيمنةٍ معرفية، بل هي نوع من إعادة التكوين للإنسان نفسه وفق مقاييس الغالب، حتى يصبح المقهور نسخةً عن الغازي في سلوكه وتفكيره، وإن ظلّ يحمل اسمه ولغته.

وحين نتتبع المسار التاريخي للعلاقة بين العالم الإسلامي والغرب الحديث، ندرك أن مفهوم الغزو الفكري لم يكن اختراعًا طارئًا، بل وُلد من رحم الاحتكاك الحضاري العنيف الذي شهده الشرق في نهاية القرن الثامن عشر، حين حلّت الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798م. فالحملة لم تكن مجرد حملةٍ عسكرية؛ كانت مشروعًا سياسيًا وثقافيًا يهدف إلى إعادة تشكيل وعي المنطقة وفق النموذج الغربي.

وقد أدرك مفكرو النهضة الأوائل أن المدافع سترحل، لكن الأفكار التي خلفتها الحملة ستظل فاعلة في العقول. ومنذ تلك اللحظة بدأت الأمة تطرح سؤالها المصيري؛ كيف ننهض؟، أبانسلاخنا عن تراثنا؟، أم بعودتنا إليه؟ أباتباع الغرب أم بمقاومته؟. سؤال لم يُغلق إلى اليوم.

 وأمام هذا التحدي الحضاري الجسيم، وما خلّفه من صدمة فكرية وانقسام في الوعي الجمعي، برز تياران متناقضان من رواد الفكر والتجديد في العالم العربي والإسلامي في مواجهة هذا السؤال. تيارٌ رأى في الغرب نموذجًا للمدنية الفاضلة والعلم ينبغي استنساخه مهما كلف الأمر، وتيارٌ آخر رأى أنّ نهضة الأمة لا تكون إلا من داخلها، باجتهادٍ يعيد قراءة التراث ويستنطق قيمه الحيّة، دون ارتهانٍ للوافد أو انغلاقٍ على الماضي. وكان الصراع بين التيارين صورةً مكثفةً لما يمكن أن نسميه اليوم جدلية «الانبهار والممانعة».

أما التيار الأول؛ فقد انبهر بإنجازات الغرب العلمية والتنظيمية، وعدّها المقياس الوحيد للتقدّم، فراح يستوردها كما هي دون أن يتفكر في جذورها أو مقاصدها. فرفاعة الطهطاوي (1801–1873م)، مثلاً، رأى في فرنسا صورة للمدينة الفاضلة الحديثة، حيث دعا إلى نقل نظمها التعليمية والإدارية إلى مصر، مؤمنًا أن النهضة لا تقوم إلا بالاحتذاء بتجربتها. وجاء بعده علي عبد الرازق (1888–1966م) في الإسلام وأصول الحكم، ليتبنى فكرة فصل الدين عن الدولة على غرار النموذج الأوروبي، وهو فصل لم يعرفه تاريخ الإسلام، إذ لم يكن في حضارته كهنوتٌ يحتكر الدين أو سلطةٌ كنسية تقيد العقل. وسار سلامة موسى (1887–1958م) في الاتجاه ذاته حين دعا إلى (أوربة الشرق)، معتبرًا أن التقدّم لا يتحقق إلا بالخروج من عباءة التراث والتخلي عن موروث العادات والتقاليد. وشاركهم في هذا النزوع فرح أنطون (1874–1922م)، الذي رأى العلمنة شرطًا للنهوض، وشبلي شميل (1850–1917م) وإسماعيل مظهر (1891–1962م) حين أدخلا الفكر المادي الدارويني إلى الساحة العربية، مؤكدَين أنّ التمدن لا يقوم إلا على أسسٍ علميةٍ خالصة. ثم جاء طه حسين (1889–1973م) في مرحلة «الشعر الجاهلي»، ليطبق المناهج الغربية النقدية على التراث العربي، ففتح الباب لجدلٍ واسع حول حدود التجديد وموقع الدين في المشروع الثقافي.

ومهما اختلفت دوافع هؤلاء الرواد، فقد جمعهم تصورٌ واحد مؤداه أنّ الحضارة الغربية نموذجٌ كوني يجب اللحاق به. لكنهم أغفلوا أن أوروبا حين فصلت الدين عن الدولة لم تفعل ذلك إلا بعد صراعٍ مرير مع الكنيسة التي احتكرت تفسير النص وادعت العصمة، وهو وضع لم تعرفه حضارتنا الإسلامية في أي مرحلةٍ من مراحلها.

فالإسلام منذ بداياته جعل الاجتهاد مفتوحًا أمام كل من امتلك أدواته، ولم يعرف سلطةً دينية تفكر نيابة عن الناس، بل عرف عقولًا تناقش وتجتهد وتختلف في إطار النص والمقصد. ومن هنا كان خطأ التيار المنبهر أنه استورد أزمة لم يعشها، وجاء بحلولٍ لمشكلٍ لم يعرفه. على الضفة المقابلة، كان هناك من أدرك خطورة هذا الانبهار، فحاول أن يوازن بين الإفادة من الغرب والحفاظ على الذات. خير الدين التونسي (1810–1890م) في كتابه أقوم المسالك كان من أوائل من نبهوا إلى أن النهضة لا تكون بتقليد الغير، بل بإصلاح الداخل وتقويم مؤسسات الحكم والتعليم، مع الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى دون تفريط في الثوابت. وجاء جمال الدين الأفغاني (1838–1897م) داعيًا إلى مقاومة الاستعمار الفكري والسياسي، فبعث الوعي في الأمة وأعاد الثقة إلى نفسها. ثم تبعه محمد عبده (1849–1905م) الذي سعى إلى تحرير الفكر الديني من الجمود، وجعل الإصلاح العلمي والديني وجهين لمشروعٍ واحد يهدف إلى إحياء روح الاجتهاد. وفي مطلع القرن العشرين وقف مصطفى صادق الرافعي (1880–1937م) يدافع عن اللغة العربية بوصفها رمزًا للهوية ووعاءً للفكر، قائلاً: «ما فقدت أمة لغتها إلا فقدت نفسها».

ومن الشرق الإسلامي قدّم محمد إقبال (1877–1938م) رؤيته الفلسفية التي مزجت بين الإيمان والعقل والإرادة، مؤكدًا أن الإسلام ليس عقيدةً جامدة بل طاقة روحية خلاقة. ثم جاء أبو الحسن الندوي (1914–1999م) ليذكّر بأنّ انحطاط المسلمين لا يضرهم وحدهم، بل يُفقد العالم توازنه الروحي والحضاري.

وتواصلت المسيرة في القرن العشرين مع أنور الجندي (1917–2002م) ومحمد محمد حسين (1912–1974م)، اللذين فضحا آليات الاستشراق ومظاهر التغريب، ليصل الفكر المعاصر إلى جيلٍ جديدٍ من المفكرين كطه عبد الرحمن (1944م ) وعبد الوهاب المسيري (1938–2008م) وفهمي جدعان (1940م) ومحمد عابد الجابري (1935–2010م)، الذين حاولوا أن يعيدوا التوازن بين الحداثة والأصالة، بين نقد الذات ونقد الغرب. فطه عبد الرحمن دعا إلى حداثةٍ أخلاقية تُستمد من روح الإسلام، والمسيري حذّر من العلمانية الشاملة التي تفصل الإنسان عن قيمه، والجابري وضع مفهوم النقد المزدوج الذي يراجع التراث والوافد معًا ليقيم توازنًا معرفيًا لا يميل إلى أحد الطرفين.

وإذا ما انتقلنا من التاريخ إلى الواقع، وجدنا أن الغزو الفكري قد غيّر أدواته من المدفع إلى الشاشة، ومن البعثة التبشيرية إلى المنصات الرقمية. فوسائل الإعلام الحديثة وشبكات التواصل تؤدي اليوم الدور نفسه الذي أدته المدارس والمطبوعات الموجهة في القرنين الماضيين، لكنها تفعل ذلك بذكاءٍ ونعومةٍ أكبر. فهي لا تفرض الفكرة بالقهر، بل بالإغراء، ولا تهاجم الهوية علنًا، بل تذيبها تدريجيًا في بحرٍ من الصور والمضامين السريعة التي تشدّ الانتباه وتسرق الزمن. لقد صار المتلقي يظن أنه يختار ما يشاهد، بينما الحقيقة أن خوارزمياتٍ ذكية تختار له ما ينبغي أن يراه، وتُشكّل له رأيه بطريقةٍ ناعمةٍ لا يشعر بها. وهكذا تحوّلت المعركة من مواجهةٍ مباشرة إلى عملية اختراقٍ بطيئةٍ للعقل، تتسلل إلى الوجدان باسم الحرية والانفتاح والتسلية.

إنّ أخطر ما في هذا الواقع الجديد أنه يصنع إنسانًا يعيش في زمن السرعة والنسيان، إنسانًا تستهلكه الصور وتطارده الإعلانات فلا يجد وقتًا للتأمل أو التساؤل. ومع غياب التفكير العميق تتحول المعرفة إلى معلومة، والمعلومة إلى خبرٍ عابر، والخبر إلى انفعالٍ مؤقت، فتضيع القدرة على النقد والتمييز. وهكذا يتحقق الغزو بأهدأ الطرق؛ بأن تفقد الأمة قدرتها على التفكير المستقل، وأن ترى العالم بعيون غيرها.

ولئن حاول البعض مواجهة هذه الموجة بالانغلاق والتشدد، فإنّ الانغلاق لا يصنع وعيًا، بل يضاعف الغربة. فالمطلوب ليس رفض العالم بل فهمه، وليس الهروب من الحداثة بل استيعابها بميزانٍ أخلاقيٍّ راسخ. فالإسلام الذي شجّع على العلم وأطلق حرية البحث لم يربط النهضة بالتقليد الأعمى، بل بالتفكير والاجتهاد، وهو ما يجعل الدفاع عن الهوية لا يكون بالجمود على الماضي، بل بإحياء روح النقد فيه. فالعقل الذي لا يسأل ولا يناقش يفقد حريته حتى وإن ظن أنه يدافع عنها.

ومن هنا، فإنّ معركتنا اليوم ليست معركة شعارات ولا بيانات، بل معركة على الإنسان نفسه: كيف يفكر؟، وبأيّ قيمٍ يقيس الأمور؟، وكيف يحدد موقعه في هذا العالم المتغيّر؟، إنّ أخطر ما يمكن أن يصيب أمةً هو أن تفقد قدرتها على إنتاج الأفكار، وأن تكتفي بترديد ما يُلقى إليها من الخارج، لأنها حينئذٍ تفقد حقها في الوجود الحضاري، مهما امتلكت من ثروةٍ أو قوة. فالمعركة على العقول لا تُحسم بالقوة، بل بالوعي، ولا تُكسب بالصراخ، بل بالبحث والتعليم والإبداع.

وإذا ما أردنا أن نستخلص العبرة من كل ما مضى، فسنجد أن الأمة التي تريد أن تصون نفسها من الغزو الفكري عليها أن تبني إنسانها من الداخل؛ من خلال تحصن لغته، وتربّي ذوقه، وتغرس فيه روح النقد والمسؤولية، وأن تجعل من المدرسة مصنعًا للعقل لا مستودعًا للمعلومات، ومن الجامعة فضاءً للحوار لا ساحةً للحفظ، وأن تقدم الدين في صورته الرحبة التي تجمع بين الإيمان والعقل، بين الروح والعمل، حتى لا يكون التدين قشرةً جامدة ولا الفكر انفلاتًا بلا ضابط. وإذا فعلت ذلك استقامت لها شخصيتها واعتدل ميزانها بين الانبهار والممانعة، بين الانفتاح الواعي والتمسك الأصيل.

فالأمم لا تموت حين تسقط جيوشها، بل حين تذبل عقولها، والإنسان الذي يترك لغيره أن يفكر عنه، لا يختلف كثيرًا عمن سُلبت حريته، ولعلّ ما تحتاجه أمتنا اليوم ليس أن ترفع شعارات الرفض أو التبعية، بل أن تستعيد عقلها المفكر، وأن تجعل من الوعي سلاحها الأسمى في معركةٍ لا تُدار في الميدان بل في الأذهان، فإذا وُجد هذا العقل الرشيد، انكسرت موجات الغزو الناعم، وبقيت للأمة بصيرتها التي تهديها مهما تكاثرت العواصف.

وللحديث بقية...

***

بقلم: د. بدر الفيومي

 

المقدمة: الفلسفة ليست في الكتب وحدها

كثيرون يظنون أن الفلسفة كلام معقد لا علاقة له بالحياة، وأنها تكتب للعقول لا للقلوب، لكن الحقيقة أن الفلسفة تولد أحيانًا من أبسط لحظة إنسانية؛ من نظرة عابرة، أو ابتسامة صادقة، أو قبلة صغيرة تحمل في داخلها درسًا عميقًا في الوجود والحب والحرية. ومن بين هذه اللحظات التي غيرت فيّ الكثير، كانت لحظة صغيرة مع ابنتي خديجة ذات الثلاث سنوات والنصف، حين قالت لي بكلماتها البريئة: "حب أبوكا يا بابا."

في تلك اللحظة لم تكن خديجة تدرك أنها تقدم لي درسًا فلسفيًا لم أتعلمه في الكتب ولا في قاعات المحاضرات. فقد فتحت أمامي نافذة على معنى الحب الطبيعي والاختيار والحرية، كما لم يشرحها أفلاطون ولا كانط. عندها أدركت أن الفلسفة لا تسكن النصوص وحدها، بل تتجلى في تفاصيل الحياة اليومية، في المواقف البسيطة التي تمس القلب قبل العقل. وأننا لا نحتاج إلى مفاهيم معقدة لنتأمل الحياة، بل إلى قلب قادر على أن يرى الفلسفة في كل ما هو إنساني.

ولأن الفلسفة حين تخرج من الكتب تتحول إلى تجربة، فقد وجدت نفسي أعيشها فعلًا في أبسط مشهدٍ جمعني بخديجة. ومنذ تلك اللحظة بدأت رحلتي معها، ومع الفلسفة كما تُعاش في بساطة الحياة، لا كما تُدرّس في صفوف الدرس والنظريات.

تمهيد: الفلسفة تولد أحيانًا من لحظةٍ تمس القلب قبل العقل

أحيانًا لا تولد الفلسفة من الكتب أو قاعات الدرس، بل من لحظة بسيطة تُعيد ترتيب المشاعر قبل الأفكار، لحظة تُنصت فيها الروح إلى ما لم يقله المنطق بعد. وكانت تلك اللحظة بالنسبة لي حين قالت لي ابنتي خديجة، ذات الثلاث سنوات والنصف، بصوتها الطفولي الدافئ: حب أبوكا يا بابا. جملة قصيرة، لكنها كانت كافية لتوقظ في داخلي إنسانًا كان يقرأ الحب بعقله وينساه بقلبه.

كنت قد كتبت من قبل عن خالد حين علّمني الشجاعة والخيال، وعن سُجى حين فهمت معها الرقة وعمق الإحساس، واليوم أكتب عن خديجة، لا لأميزها، بل لأستكمل ما بدأته معهم جميعًا. فلكلٍّ منهم نافذة مختلفة أطلّ منها على معنى الوجود والحرية والحب.

وخديجة تهمس لي كثيرًا حب أبوكا يا بابا وتضمني بصدقٍ يذيب تعب الأيام، لكنها حين ترى أمها تكرر نفس الجملة بنفس الدفء والحماس، وكأنها لم تقلها من قبل. وفي كل مرة نسألها نحن الاثنان: تحبي تروحي مع بابا ولا ماما؟ تجيب فورًا: ماما.

وكانت خديجة حين تقول لي حب أبوكا يا بابا لا تقصد الإخبار، بل كانت تحاول أن تقول بطريقتها الطفولية أنا أحبك يا أبي، وتؤكد حبها بعبارةٍ تكررها كما لو أنها تطمئن نفسها والعالم معًا. ومع ذلك، كلما خيّرتها بين الجلوس معي أو مع أمها، تختار أمها دون تردد، وكأنها تُعلّمني دون أن تدري أن الحب لا يُقاس بالاختيار، بل بالإحساس الذي يسكن القلب حتى وإن ذهب الجسد إلى مكانٍ آخر.

في البداية تسللت إلى قلبي غيرة أبوية خفيفة، لكن سرعان ما تبددت حين أدركت أن خلف هذا الموقف البسيط فلسفة كاملة في الحب والاختيار. وخديجة لا تختار ضدّي، بل تختار وفقًا لما يمنحها الأمان في اللحظة. فهي تحب بلا ترتيب، وتختار بلا خوف، وتعيش الحرية كما هي قبل أن تتلوث بالمجاملات أو الواجب.

ومن هنا فهمت أن الأطفال لا يعيشون الفلسفة نظريًا، بل يجسدونها في سلوكهم اليومي دون وعي. فهم لا يفكرون في معنى الحب، بل يعيشونه. ولا يبحثون عن الحرية، بل يمارسونها بالفطرة. إن الطفولة في جوهرها هي الحالة الأولى للحب الصافي والحرية الصادقة قبل أن يتدخل العقل ليقيس ويوازن ويقارن.

المحور الأول: الحب قبل المفاضلة

ومن هذه التجربة الصغيرة بدأت أرى أن ما تفعله خديجة لم يكن مجرد تصرف عابر، بل انعكاس لحكمة الطفولة في الحب. فالأطفال لا يعرفون المفاضلة في المشاعر، فهم يحبون لأن الحب بالنسبة لهم هو الأصل لا النتيجة. ولا يقيسون من أعطاهم أكثر، ولا من بادر أولًا، بل ينجذبون ببساطة إلى من يشعرون معه بالأمان والدفء في اللحظة نفسها.

وخديجة تحبني كما تحب أمها، لأن قلبها ما زال يقيم في منطقة النقاء الأولى، حيث لا توجد مقارنة ولا ترتيب، وحيث الحب لا يحتاج إلى مبررات ولا مقابل. أما نحن الكبار، فقد فقدنا هذه الفطرة حين بدأنا نحب بعقلٍ يحسب ويوازن ويقيس، حتى صار الحب عندنا معادلة تبحث عن نتيجة، بينما هو في جوهره إحساس لا يُبرر ولا يُثبت، يكفي أن يُعاش كما يعيشه الأطفال: عفويًا، صافيًا، ومن غير شرط.

المحور الثاني: حرية الاختيار الفطرية

وكما أن حب الأطفال فطري وبريء، فإن اختياراتهم كذلك تنبع من الصدق ذاته. فحين تختار خديجة أن تذهب مع أمها، فهي في الحقيقة تمارس أولى تجارب الحرية الإنسانية الصادقة. فالحرية عند الطفل لا تأتي في صورة تحدٍ أو رفض، بل تظهر كأقصى درجات الصدق مع الذات. وتختار خديجة ما تريده في اللحظة التي تعيشها، دون خوف من أن تغضب أحدًا أو تُرضي آخر، لأنها ما زالت متصالحة مع نفسها ومع مشاعرها.

وهنا تكمن المفارقة التي نعيشها نحن الكبار؛ إذ نقضي أعمارنا نحاول استعادة تلك الحرية التي فقدناها وسط زحام التوقعات الاجتماعية والخوف من نظرات الآخرين. وخديجة لا تعرف فلسفة كانط عن الإرادة الحرة، لكنها تعيشها بفطرتها النقية، وتختار لأنها تريد، لا لأنها مطالبة بأن تختار "الاختيار الصحيح"، وكأنها تقول لي دون وعي: إن الحرية الحقيقية ليست في أن نختار ما يرضي الآخرين، بل في أن نختار ما يُشبهنا.

المحور الثالث: الأبوة بين الامتلاك والمشاركة

وحين تأملت اختياراتها المتكررة، اكتشفت أن الحرية التي تعيشها ليست درسًا لها وحدها، بل لي أنا أيضًا، لأفهم نفسي كأبٍ في مرآة طفلته. فكنت أظن أن الأبوة تعني أن أكون الأول دائمًا، وأن أُختار قبل الجميع في كل موقف، لكن خديجة علّمتني أن الأبوة الحقيقية ليست منافسة على القلب، بل مشاركة في بنائه وتكوينه.

وأدركت أن الأبوة لا تعني أن تُختار في كل مرة، بل أن تظل حاضرًا في حياة أبنائك حتى حين لا تكون بجوارهم، وأن تمنحهم شعور الأمان في غيابك كما في وجودك، لأن الأب الحقيقي هو من يبقى أثره مطمئنًا حتى حين يغيب صوته. ومع الوقت فهمت أن الحب لا يُثبت بالاحتواء ولا يُقاس بالقرب، بل بالثقة التي تزرعها في قلب من تحب، وأن الطفل لا يحتاج إلى أبٍ كامل لا يخطئ، بل إلى أبٍ صادق يظل صوته الداخلي يقول له: أنا هنا دائمًا، حتى حين تختار غيري.

المحور الرابع: ما لم يقله الفلاسفة وقالته الطفولة

وهكذا، من خلال هذه التجربة الصغيرة، وجدت أن ما عشته مع خديجة يعيدني إلى جوهر ما تحدّث عنه الفلاسفة عبر العصور. فرأيت في طفلة صغيرة لا تعرف القراءة ما حاول الفلاسفة شرحه قرونًا طويلة. ورأيت فيها فكرة روسو عن الطبيعة الأولى التي يولد فيها الإنسان نقيًا، وملامح ما قصده الوجوديون حين قالوا إن الوعي يبدأ بالدهشة قبل أن يعرف الخوف.

وكانت خديجة تجسد أمامي تلك البراءة الأولى، البراءة التي تسبق المعرفة، حيث لا يحتاج الحب إلى منطق يبرره ولا الحرية إلى تعريف يضبطها، بل يكفي صدق اللحظة لتمنح للحياة معناها الأبسط والأجمل. كما رأيت في ملامحها الفلسفة وقد تخلت عن لغتها المعقدة لتتكلم بلغة القلب.

الفلسفة حين تتحول إلى حياة

وبعد كل ما تأملته، فهمت أن الفلسفة ليست مجرد أفكار تُقال، بل حياة تُعاش مع من نحب. فكل ما تعلمته من الكتب والمحاضرات بدا صغيرًا أمام ما تعلّمته من لحظة صادقة أو نظرة طفلة ترى العالم بعين الدهشة. ومن هنا وجدت نفسي أكتب هذه السطور، لا كفيلسوف يفسر الحياة، بل كأبٍ يحاول أن يفهمها من خلال أطفاله. وإلى خديجة حين تكبرين، قد تبتسمين وأنت تقرئين هذه الكلمات وتظنين أني كتبت عنك كما كتبت عن خالد وسجى، لكن الحقيقة أنكم جميعًا جزء مني، وكل واحد منكم علّمني شيئًا مختلفًا عن الآخر. فخالد علّمني الشجاعة والخيال، وسجى منحتني رقة الإحساس ودفء الحنان، أما أنت يا خديجة فقد جعلتِني أرى الحب في صورته الأولى: بسيطًا، صادقًا، وحرًّا.

لقد فهمت منكم جميعًا أن الحب الحقيقي لا يُقاس بالردود ولا يُحكم بالعقل، بل يُعاش كما هو: نقيًا، صادقًا، لا يطلب شيئًا في المقابل. وأن علينا أن نترك لمن نحبهم مساحة يختاروننا فيها أو يبتعدون، لأن الحب الذي يُفرض يتحول إلى عبء، أما الحب الذي يُترك ليختار طريقه فيكبر بحرية. ففي تلك المسافة بين القرب والاختيار تنمو إنسانيتنا وتزدهر حريتنا.

أما أنتم يا صغاري، فاحفظوا قدرتكم على الحب العفوي، ولا تسمحوا لأحد أن يجعل من قلوبكم موازين للردود، فالقلب لا يُقاس بما يأخذ، بل بما يعطي. واختاروا كما تختار خديجة، بصدق اللحظة لا بخوف النتيجة، لأن صدق اللحظة هو ما يمنح للحياة معناها الأجمل.

ولنا نحن الكبار أن نتعلم من الأطفال أن الحب لا يحتاج إلى تفسير، وأن الحرية لا تُستعاد إلا حين نرجع إلى تلك الفطرة الأولى التي لا تعرف الزيف. فلعلنا حين ننظر إلى العالم بعين طفل، نكتشف أن الفلسفة لم تكن يومًا علمًا بعيدًا عن الحياة، بل طريقة أصدق لفهمها، وربما طريقة أجمل لنحبها.

وأخيرًا أقول: لعلنا حين ننظر إلى العالم بعين طفل، ندرك أن الفلسفة لم تكن يومًا علمًا بعيدًا عن الحياة، بل طريقة أصدق لفهمها، وربما طريقة أجمل لنحبها... فربما لا نحتاج إلى عمرٍ طويل لنفهم الحياة، بل إلى قلبٍ صغير يعلّمنا أن نحب كما لو كنا أطفالًا من جديد .

***

أ. د. علي محمد عليان الخطيب

أستاذ ورئيس مجلس قسم الفلسفة- كلية الآداب- جامعة المنيا- مصر

"التعليم هو أقوى سلاح يمكنك استخدامه لتغيير العالم".. نيلسون مانديلا

"يجب تعليم الأطفال كيفية التفكير، وليس ماذا يفكرون".. مارجريت ميد (خبيره الأنثروبولوجيا الثقافية)

يشجع التعليم الجيد على التفكير النقدي، والفضول العلمي، وحب التعلم مدى الحياة، ويعزز ايضا قبول التنوع، والتأمل الأخلاقي. كما يُهيئ الطلاب لخدمة المجتمع ومواجهة تحديات الحياة.

التعليم الناجح ينتج متعلمين مثقفين يتمتعون بالشجاعة الفكرية، والانفتاح، وينظرون إلى كل فكرة جديدة كفرصة للنمو وليس تهديدًا للذات.

يتطلب التعليم الجيد مناهج دراسية تعمل على تنمية العقول، ومعلمين أكفاء قادرين على الموازنة بين الاحترام والاستقصاء في الفصل الدراسي، مع القدره علي استخدام أساليب التعليم والتقييم الحديثة. كما ان المشاركة الأسرية الفعالة أمر ضروري لتحقيق النجاح التعليمي.

يُعدّ التعليم الابتدائي بالغ الأهمية لأنه يُنمّي المهارات الأساسية في القراءة والكتابة والرياضيات، وحب الفنون والموسيقى. وهو المكان الذي يبدأ فيه نمو عقل الطفل وشخصيته وادراكه باهميه التمسك بالأخلاق الحميدة والنظافة الشخصية، وتناول الاطعمة الصحية وممارسه النشاط البدني. وينبغي تعليم الاطفال من خلال اللعب ورواية القصص والأنشطة التفاعلية، وليس من خلال الحفظ. فالهدف من التعليم الجيد هو إثارة الفضول، وليس إخماده

يُعتبر نظام التعليم الابتدائي في فنلندا الأفضل عالميًا بسبب نهجه الإنساني والمتوازن، وأدراكهم ان التعلم يزدهر على أكمل وجه عندما يسير وفق إيقاعه الطبيعي، دون أن يشعر الطفل بأن التعليم عبء يُثقل كاهله، بل هو أيضًا وقت للعب والمرح واكتساب معارف جديدة. التعليم في فنلندا مجاني، وتوفر المدرسة وجبات صحيه مجانية.

يعاني التعليم التقليدي من الاعتماد علي التلقين وحث الطلاب علي حفظ المقرر لضمان النجاح، وهذا يُنتج طلابًا غير مثقفين، بارعين في الحفظ، لكنهم ضعفاء في التفكير النقدي والإبداع، ويُعانون من التنافر المعرفي والانحياز التأكيدي، فيبحثون عن المعلومات التي تُعزز معتقداتهم ويتجاهلون كل ما يُناقضها، مما يجعلهم منغلقين فكريا وثقافيا.

لذلك، ينبغي ان يكون هدف التعليم هو انتاج متعلمين مثقفين يتمتعون بالشجاعة الفكرية والانفتاح الذهني والقدرة على مساءلة الواقع وتقبل الاختلاف.

بلا شك، يؤثر الوضع الاجتماعي والاقتصادي المنخفض علي الحصول على تعليم جيد. وغالبًا ما تعاني المدارس في المناطق ذات الدخل المنخفض من نقص التمويل، مع وجود عدد أقل من المعلمين المؤهلين، كما أن الصعوبات الاقتصادية تزيد من احتمالية التسرب المبكر من المدرسة. ومن ثم، فإن الفقر يؤدي إلى انخفاض المستويات التعليمية، مما يؤدي بدوره إلى ضعف فرص الحصول على وظائف جيدة، وإلى حلقة مفرغة من الفقر المستمر.

لذلك، يُعدّ التعليم المجاني أمرًا بالغ الأهمية لأنه يعزز المساواة بإزالة الحواجز المالية، مما يؤدي إلى حراك اجتماعي ومواطنة أكثر وعيًا وتفاعلًا. ومع ذلك، فإن فعالية التعليم المجاني تعتمد على الالتزام بمعايير الجودة العالية، و يجب أن يقترن بموارد كافية لتقديم تعليم جيد لضمان اكتساب الطلاب المهارات اللازمة للحياة والعمل.

يواجه نظام التعليم في بعض الدول الناميه مشاكل خطيرة، منها اكتظاظ الفصول الدراسية، مما يعيق التفاعل والتعلم الفعال. كما تعاني العديد من المدارس من نقص في المعدات والأدوات التعليمية الأساسية، ويُقدم التعليم بطريقة غير جذابة وبجدية مفرطة، مما يقلل من رغبة الطلاب في الالتحاق بالمدرسة.

كما يعاني اسلوب التعليم من كل سلبيات التعليم التقليدي، بما في ذلك تكدس المناهج وعدم تطويرها لمواكبة التطورات العلمية الحديثة واحتياجات سوق العمل. إضافةً إلى ذلك، يفتقر بعض المعلمين إلى المؤهلات الكافية ويتقاضون رواتب متدنية، مما يضطرهم إلى الاعتماد على الدروس الخصوصية. كما يوجد نقص كبير في معلمي المواد الأساسية.

وقد أدت هذه المشاكل إلى فقدان الثقة في التعليم العام بالدول الناميه، وتوسع التعليم الخاص، وانتشار الدروس الخصوصية في جميع مراحل التعليم. كما ارتفعت معدلات التسرب المدرسي، لا سيما في المناطق الريفية، بسبب الفقر وتدني جودة التعليم.

فيما يتعلق بالتعليم الديني في المدارس، ينبغي أن يقوم به معلمون مدربون على تقديم الدين بأسلوب تعليمي غير طائفي، يحترم الهوية، ويعزز الأخلاق الحميدة، ويتجنب استخدام التعليم الديني لترسيخ خطاب سياسي ديني.

في مصر قبل عام ١٩٥٢، كان الدين يُدرّس فقط في المرحلة الابتدائية، ثم استُبدل بعلم الأخلاق في المرحلة الثانوية، حاليا التعليم الديني إلزامي. أدخلت الحكومة المصرية حديثا نظام الكتاتيب الذي يوجد عليه تحفظات، إذ إن المناهج لن تُهيئ الطلاب لمهارات القرن الحادي والعشرين، كما أن الالتزام بالحفظ والتلقين يتعارض مع أساليب التعليم الحديثة.

في الختام، يجب ان يلتزم التعليم بروحه الأصيلة في تنميه العقل واكتساب معرفه جديده، وليس مجرد وسيلةٍ لاجتياز الامتحانات. اصبح التعليم في بعض الدول الناميه سوقٍ تُستنزف فيه الدروس الخصوصية الطلاب، وتحول التعليم الي منتج قابل للتسويق، والطلاب إلى مستهلكين، والشهادات إلى سلع. ويأتي هذا على حساب الأهداف الاجتماعية والثقافية للتعليم، وهي تنشئة أجيال متعلمة ومثقفة قادرة على خدمة المجتمع وتنميته.

علينا أن ندرك أن أخطر ما يواجه التعليم ليس نقص الموارد، بل فقدان المعنى؛ عندما يصبح الهدف النهائي الشهادة والدرجات، وليس العقل القادر على التفكير والإبداع.

***

بقلم استاذ دكتور سامح مرقس

 

الملخص: هذه رؤية فلسفية شخصية تنبثق من تجربة إنسانية عميقة بين أب وابنته، حيث تحولت قطعة حلوى صغيرة إلى درس في الفلسفة العملية، وإلى مرآة ترى فيها الروح معناها الأول في الخير والعطاء. ففي موقف يومي بسيط أدركت أن الفلسفة لا تكمن في السؤال عن ماهية الخير بقدر ما تتجلى في ممارسته دون وعي نظري، وأن الطفل قادر على أن يجسد الفضيلة في سلوكه البريء قبل أن يتعلم اسمها في الكتب. لقد علمتني ابنتي سجى، التي تقترب من عامها التاسع، أن الفلسفة ليست علمًا للكبار ولا حكرًا على النخبة، بل هي حياة تُعاش بالحب والصدق، وأن أفعال الطفولة الصغيرة تختزن في بساطتها أعمق دروس الحكمة والإنسانية.

التمهيد: حين تولد الفلسفة من الحنان

كنت أظن أن الفلسفة حوار بين العقول، حتى اكتشفت أنها في حقيقتها حوار بين القلوب. وتولد الفلسفة حين يسأل الإنسان عن المعنى، لكنها تزدهر حين يحب بصدق. وفي بيتي الصغير، ووسط انشغالات الحياة اليومية، كانت ابنتي سجى بقلبها النقي وضحكتها التي تملأ المكان تعيدني كل يوم إلى الدهشة الأولى، دهشة الفيلسوف الذي يرى العالم بعين طاهرة كما يراه الطفل. لقد وجدت في تصرفاتها البسيطة فلسفة عميقة، كأنها تقول لي بصمتها إن الحكمة لا تُلقن بل تُحس. ومنذ ذلك اليوم أدركت أن الأبوة ليست مجرد رعاية للجسد، بل رحلة مشتركة في اكتشاف المعنى.

المحور الأول: فلسفة الحلوى.. حين يصبح العطاء درسًا في الوجود

لم أكن أتخيل أن أعظم دروسي في الفلسفة سوف أتعلمها من طفلة صغيرة تحمل في يدها قطعة حلوى وتضحك بخفة وهي تقول: غمض عينيك يا بابا. كنت أبتسم وأغلق عيني، فأجد في فمي قطعة من السكر وفي قلبي حلاوة لا يذيبها الزمن. لم تكن سجى تعرف أنها في تلك اللحظة تمارس درسًا في الفلسفة العملية، وأنها تجسد بمحبتها فكر أرسطو حين قال إن الخير هو ما يفعل لأجل ذاته لا انتظارًا لمكافأة. وفي تلك اللفتة البسيطة أعادت تعريف العطاء لا كتصرف اجتماعي، بل كمعنى وجودي يربط بين الحب والكرم والإنسانية. وكنت أرى في فعلها الصغير ضوءًا خفيًا يذكرني بأن الفلسفة ليست فكرًا يتعالى على الحياة، بل حياة تضيء الفكر.

المحور الثاني: سجى وميلاد الخير الفطري

كانت سجى تمتلك عادة لا تشبه عادات الأطفال الآخرين. فكلما اشترت شيئًا من الحلوى أو الطعام تركت لي قطعة صغيرة منه. ولم تكن تفكر في الواجب ولا في الثواب، بل كانت تمنح من فطرتها الأولى، من نبع صاف لا يعرف الحساب. وكنت أختبر نفسي وأقول في سري: ربما هذه المرة سوف تنساني، لكنها لم تفعل قط. وكانت تأتي مبتسمة تمسك بيدي الصغيرة في يدها وتقول: بابا، غمض عينيك. وما إن أفعل حتى أجد في فمي قطعة حلوى، وفي قلبي يقينًا بأن الخير يسكن الفطرة قبل أن يسكن التعليم. وفي تلك اللحظات كنت أشعر أنني أنا التلميذ وهي المعلمة، وأن الأبوة ليست سلطة تمارس، بل درس في التواضع أمام نقاء الطفولة.

المحور الثالث: من البراءة إلى الفلسفة

لم تكن تلك اللفتة مجرد سلوك طفولي بريء، بل كانت إعلانًا صغيرًا عن حضور الفلسفة في الحياة اليومية. فلقد كتب الفلاسفة عن الفضيلة والأخلاق، لكن سجى جسدتها بصدقها دون أن تعرف أسماءها. فهي لم تتحدث عن الخير لكنها عاشت معناه، ولم تشرح مفهوم الحب لكنها عبرت عنه دون كلمات. وكنت أراها تمارس الفلسفة ببراءتها، فتجعلني أؤمن أن الفكر لا ينفصل عن الفعل، وأن أجمل الدروس تقال بقطعة حلوى صغيرة تقدم في صمت. ومن هنا فهمت أن الفلسفة ليست تنظيرًا للعالم، بل طريقة في أن نحيا فيه بصفاء وعدل ومحبة.

المحور الرابع: الجمال الذي يسكن البساطة

في تصرف سجى أدركت أن الجمال لا يقاس بالزينة ولا بالألوان، بل بالنية التي تضيء الفعل. وما يجعل الهدية جميلة ليس حجمها ولا ثمنها، بل روح من يقدمها. وكانت سجى تمارس فلسفة الجمال بعفويتها وتعلّمني أن الجمال الأخلاقي هو أسمى أنواع الجمال لأنه يخرج من قلب محب لا من رغبة في المديح. ولقد ربطت بين الحب والفكر، بين القلب والعقل، بين الفعل والمعنى، بطريقة لم يدركها كثير من الكبار. ومنها تعلمت أن الجمال لا يسكن الأشياء، بل يسكن الطريقة التي نحب بها الآخرين.

المحور الخامس: البيت.. أول مدرسة فلسفية

لقد علّمتني ابنتي أن الفيلسوف لا يولد في الجامعة، بل في البيت، حيث تبدأ الأسئلة الأولى وتولد الدهشة الأولى. وأن كل لحظة نعيشها مع أطفالنا يمكن أن تكون درسًا في الفلسفة لمن يتأمل بعين القلب لا بعين الفكر وحدها. وكانت سجى تمارس فلسفة الأخلاق ببراءتها، وفلسفة الجمال بعفويتها، وفلسفة الوجود بحضورها الدافئ. وهي لم تتحدث عن معنى الحياة لكنها جعلتني أعيشه معها. ومنها أدركت أن التربية الفلسفية الحقيقية لا تبدأ بتلقين القواعد بل بإشعال الوعي في القلب. وإن الطفل الذي يحب بصدق هو أول الفلاسفة لأنه يرى العالم كما هو بلا تزييف ولا أقنعة.

أوصي من خلال تجربتي مع ابنتي سجى، أولًا: للأطفال أقول لهم يا صغاري، إن قطعة الحلوى التي تقدمونها اليوم قد تزرع في قلوب من تحبونهم درسًا لا يُنسى. وإن العطاء لا يقاس بحجمه، بل بروحه، والمحبة الصادقة لا تنتظر مقابلًا، وإنكم حين تشاركون غيركم ما تحبون فأنتم تمارسون الفلسفة دون أن تعلموا، لأن الفلسفة هي أن تكونوا بشرًا بقلوب مفتوحة على الحب.

أما توصيتي للكبار فتكمن في أنني تعلمت من ابنتي أن الأطفال لا يحتاجون إلى دروس في الفلسفة، بل إلى من يصغي إلى حكمتهم الصامتة. وعليكم بمراقبة تصرفاتهم ففيها من المعنى ما يعجز عنه كثير من الكتب. ودعوا أطفالكم يعيشون براءتهم بحرية، ففيها الفطرة الأولى التي تنبع منها الفلسفة: حب الخير، والتساؤل، والمشاركة. فحين يعطي الطفل بلا مقابل، يذكّرنا أن الفلسفة تبدأ من القلب قبل أن تصل إلى العقل، وأن الأبوة ليست تعليمًا للآخر، بل تعلم من الآخر.

الخاتمة: قطعة الحلوى التي صارت درسًا في الوعي

وهكذا فهمت أن الفلسفة لا تسكن القاعات الجامعية ولا تحفظ في الكتب، بل تسكن قلب طفلة تقسم قطعة الحلوى على اثنين وتحتفظ بنصيب لوالدها. وإنه في فعل صغير كهذا تختبئ أسئلة الوجود الكبرى: ما الخير؟ ما الجمال؟ ما الحب؟ ولقد أجابت ابنتي سجى عنها جميعًا بالفعل لا بالقول، حين جعلت من المشاركة طريقًا للسعادة، ومن الحب معنى للمعرفة. وأن الفلسفة في جوهرها هي أن نحيا بوعي وامتنان، وأن نرى في الأشياء الصغيرة ما يذكّرنا بعظمة الإنسان. وإن ابنتي سجى لم تشرح لي ذلك بل جعلتني أعيشه. ولهذا أقول بثقة وامتنان عميق إن قطعة الحلوى التي وضعتها سجى في فمي كانت أحلى دروس الفلسفة التي ذقتها في حياتي.

***

أ. د. علي محمد عليان عبد الرازق الخطيب

أستاذ ورئيس مجلس قسم الفلسفة- كلية الآداب- جامعة المنيا- مصر

 

اللامنتمي كائن يقف على حافة العالم، لا داخله ولا خارجه، كأنه شاهد على مسرح لا يشارك في تمثيله، بل يكتفي بتأمل عبث أدواره وتكرار مشاهده.

هو ليس متمردا بمعناه الصاخب، بل نغمة شاذة في لحن جماعي لا يحتمل الاختلاف. يسمع ما لا يقال، ويرى ما تخفيه الملامح، ويشم رائحة الزيف في العطر المنمق للحقيقة.

اللامنتمي كائن يسكن تخوم الوعي، يقف بين العالم وظله، لا ينتمي إلى الجموع ولا يخاصمها، بل يتأملها من مسافة لا يقطعها سوى الحنين إلى معنى أعمق.

هو ذلك الذي رأى كثيرا حتى أعمته الرؤية، وأحس بما يفوق طاقة القلب على الإحساس، فعاش كمن يحمل في صدره عينا لا تنام.

العالم بالنسبة إليه ليس مسرحا للعيش، بل مشهدا للفهم. يرى البشر وهم يركضون في دوائر الطمأنينة الزائفة، يلهثون وراء ما يسكت السؤال لا ما يجيب عنه.

بينما هو، كلما لامس يقينا، انفتح أمامه فراغ جديد من الشك، فيغدو الوعي عنده لعنة البصيرة لا نعمة الفهم.

اللامنتمي لا يختار غربته، إنها تلتصق به كما يلتصق الظل بالجسد، لأنها نتيجة وعي يفيض عن طاقة الاحتمال. حين يرى ما وراء الكلمات، ويدرك أن البديهي ليس بريئا، وأن العادي ليس سوى قناع للخواء، تبدأ مسافة الصمت بينه وبين العالم تتسع، حتى يصير الكلام عبئا، والمخالطة تمثيلا، والسكوت عزاء مؤقتا.

هو ليس ضد الناس، بل ضد البلادة التي تسمى انسجاما. لا يحتقر الجموع، بل يشفق عليها لأنها تلوذ بالألفة من خوفها من الحقيقة. يرى الزحام في الطرقات دليلا على وحدة أعمق، ويرى الضحك الجماعي ستارا للهشاشة الجماعية.

اللامنتمي لا يعادي المجتمع، لكنه يعجز عن أن يذوب فيه. فالحياة حوله مسرح للتماثل، والاختلاف جريمة تغفر فقط إن كانت بلا وعي.

أما هو، فاختلافه وعي ناصع، لذلك ينفى لا بجسده بل بروحه.

يحيا بين الناس جسدا، لكن قلبه معلق على حافة الغياب، يبحث عن صدى يشبهه، فلا يجد إلا رجع أفكاره يعود إليه أكثر وحدة مما خرج.

إنه لا يبحث عن معنى، بل يتألم من فرط المعنى. فكل لحظة عنده تطل على سؤال، وكل جمال يوقظ في قلبه ندبة من الوعي بأن هذا الجمال زائل.

هو مثل مرآة صافية في عالم يكره الانعكاس الصادق. لا يمكن خداعه، لكنه يدفع ثمن بصيرته عزلة باردة، وصدقا لا يحتمل دفء الكذب.

اللامنتمي إذن ليس غريبا عن العالم، بل غريبا عن التواطؤ معه. إنه لا يختار عزلته، بل تختاره هي، كما تختار الحقيقة من يجرؤ على النظر في وجهها بلا قناع.

وحين يختلي بنفسه، لا يفعل ذلك زهدا في الناس، بل توقا إلى الصدق، إذ يعرف أن الزيف لا يضج فقط في الأسواق، بل في الضمائر أيضا.

هو الذي يرى التصدع في جدار العادي، ويصغي إلى صمت الحقيقة وهي تدفن تحت ضجيج الرأي العام.

إنه شاهد لا يصدق، وضمير لا ينام، وروح تتعذب لأنها ولدت في زمن لا يحتمل الوعي.

هو ابن الحيرة، وسليل السؤال، وصديق الضوء حين يخنق الليل المعنى.

يرى الجمال في الصدع، والاكتمال في النقص، والمعنى في التناقض.

فهو لا يهرب من الحياة، بل من ضيقها، لا يكره الواقع، بل يخشى أن يصبح مثله.

ولذلك، لا ينقذ اللامنتمي سوى الكتابة، فهي وطنه المؤقت، صمته الناطق، ووسيلته الوحيدة ليقول للعالم:

لم أخطئ حين رأيت أكثر مما ينبغي، لكني دفعت الثمن غربة بحجم الحقيقة.

اللامنتمي ليس هشا كما يظن العابرون، بل شفاف إلى حد الألم، يرى ما وراء الوجوه والعبارات، ويدرك هشاشة ما يسمى الطبيعي.

ولأنه يرى الحقيقة عارية، يصاب بما يشبه العمى من شدة الضوء.

اللامنتمي شاهد أخير على أن الوعي، مهما كان موجعا، هو أقدس أشكال الوجود.

اللامنتمي ليس نهاية، بل سؤال مفتوح:

هل تحتمل الحقيقة بلا وهم؟

وهل يمكن للوعي أن يعيش بلا قناع؟

ربما لا يملك الإجابة،

لكنه يظل الدليل الوحيد على أن الإنسان، مهما غرق في العادة،

ما زال قادرا على أن يستيقظ ولو وحيدا في وجه الحقيقة.

ولأنه لم يجد في العالم مكانًا يليق بوعيه، صار يبحث عن وطن في داخله،

وطن لا تحده الجغرافيا، بل يخلقه الحبر والفكر والصمت

.ولست أتحدث عن اللامنتمي من بعيد، بل عنه فيّ، لأنني أنا ذلك الكائن اللامنتمي الذي اخترته وطنا لذاتي يسكنني واسكنه

كل ما كتبته عنه إنما هو سيرة الوعي في داخلي، فأنا اللامنتمي الذي يمشي على حافة الضوء. وكلما حاولت تعريفه، ازددت يقينا أنني هو.

***

ابتهال عبد الوهاب

مقاربة تحليلية لكتاب "جماليات المكان" لغاستون باشلار

بين الشعر والفلسفة والعلم نقطة اهتزاز كوني، نقطة يشعر فيها الإنسان أنه لا يقف في غرفة، ولا في وطن، بل على حافة بين الوجود والعدم، ذلك الوقوف الذي يجعلنا نرى جمالية المكان وشعريته ومداه .

إنّه و في العتبة الأولى التي يلج منها الوعي باب الفهم، لم يكن المكان سوى ارتعاشة في صدر الوجود، مجرد ظلّ يبحث عن كتف يسنده. ومن تلك العتبة دخل غاستون باشلار يمشي بين جدران الذاكرة، يلمس البيت كما يلمس كاهنٌ حجرا مقدّسا، ويعرف أن المكان ليس شكلا هندسيا، بل حنينا مضغوطا في زاوية. في كتابه الارائع " جماليات المكان " كان يؤمن أنّ العليّة تصعد بنا لا لأن درجها مرتفع، بل لأن الذاكرة تخفّ حين تبتعد عن الأرض، وأن القبو لا يُظلم لأنه بلا نوافذ، بل لأنّه يحفر في الطبقات الرطبة للروح. المكان عنده حيوانٌ يتنفس، كائنٌ لا يفصح عن سرّه إلا حين نصغي إليه من الداخل، وحين ندرك أن الطفولة هي المعمار الحقيقي لكلّ الغرف، وأن الإنسان، في لحظة صدقه الأخيرة، ليس إلا بيتا يسير على قدمين في لحظة استذكار باذخة ..

يتغيّر المشهد حين يدخل محمود درويش من الباب ذاته، إذ يحمل المكان لا كجغرافيا، بل كجرح مفتوح. يدخل كمن يعود إلى بيت يعرف أنه لم يعد قائما، وكأنّ العالم كله لا يحتاج إلى خارطة بقدر ما يحتاج إلى ذاكرة. في شعره، لا يصبح البيت مأوى بل صدى، ولا تصبح النافذة ضوءا بل منفى، ولا تصبح الأرض وطنا بل سؤالا متكررا: من أين يبدأ المكان حين ينتهي الزمن؟ درويش لا يبحث عن المكان، بل يبحث عن أثره حين يُنتزع، عن تلك الفراغات التي تترك حفرة في الصدر كأنّها حفرة ضوء، عن المفتاح الذي لا يفتح بابا بل ماض مرتبك يركض في الحلم، وعن وطن يتقلّص حتّى يصبح قصيدة، ثمّ تتّسع القصيدة حتى تغدو وطنا بديلا. في عالم درويش، لا شيء يُسكن، لا شيء يُمسك، لأن كل شيء مُهدّد بالتحوّل إلى ذكرى، وكل ذكرى مهدّدة بالتحوّل إلى جرح، وكل جرح مهدّد بالتحوّل إلى لغة.

وما إن يشتد هذا الاشتباك بين المكان كحلم عند باشلار، والمكان كفقد عند درويش، حتّى يدخل أينشتاين كطرف ثالث يمجّد الثبات، يرمي نظريته فيغيّر المفاهيم البشرية كلها. فجأة لا يعود المكان مكانا ولا الزمن زمنا، بل يصبحان نسيجا واحدا، يتلوى، ينحني، يتمدد، كأن الكون رقعة مطاطية والنجوم أثقال تُشوّه سطحه. في لحظة واحدة، تتكسر الجدران الفلسفية القديمة، و يسحب المكان من تحت أقدامنا، ويضعنا في كون لا مركز له، لا أعلى، لا أسفل، لا شرق، لا غرب، بل حركةٌ دائمية تُعيد تعريف كل شيء، البيت حدث، الخطوة حدث، القصيدة حدث، كل شيء لا يقوم بذاته، بل بتوتره مع الزمن. وهنا يبدأ الاندماج والتداخل الحقيقي، الاندماج اللذيذ، التداخل الذي لا يَفرّق بين الشعر والفلسفة والعلم. باشلار يحاول أن يعيدنا إلى الركن الدافئ، إلى رائحة الدولاب القديم، إلى السرير الذي يحتفظ بأثقال أحلامنا الأولى، فيما يسحبنا درويش إلى الظلّ، إلى الحصان الهارب، إلى القرية التي لا تزال تتكوّن كلما انطفأت المصابيح، إلى المكان الذي ينزف كلما حاولنا تذكّره بينما يجرّنا أينشتاين خارج الغرفة كلها، خارج الزمن نفسه، ويجعلنا ننظر إلى المكان كما ينظر الضوء إلى جسده: بلا وزن، بلا ذاكرة، بلا توقف . ومع ذلك، فإن الثلاثة، رغم اختلاف مساراتهم، يتقاطعون عند خط واحد لا يُرى، فيصبح المكان عن ثلاثتهم ما ليس يُرى بالعين، بل ما يُمسك بالقلب . عند باشلار، هو حلم متوارٍ يتسلّل من شقوق الجدران؛ عند درويش، هو وطن مكسور يبحث عن جسده، عند أينشتاين، هو تموّج في فراغ أكبر من كل القصائد. ومع هذا، لا يستطيع أحدهم أن يلغي الآخر، لأن الإنسان يحتاج الثلاثة ليبقى، يحتاج حلم باشلار كي لا يدفىء دواخله، ويحتاج جرح درويش كي لا يحدث قطيعة ابدية مع الظلم، ويحتاج ضوء أينشتاين كي يعرف أن وجوده ليس صدفة بل ارتعاشة كونية محسوبة.

لندرك في النهاية، أن المكان ليس جدارا يُسندنا، ولا وطنا يحمي اسمنا، ولا مسافة تقيس خطواتنا. إنه الكهف الذي خرجنا منه، والجرح الذي نمشي به، والضوء الذي نذوب فيه. إنه حوار مستمر بين الحلم والذاكرة والسرعة، بين البيت الذي نحمله، والوطن الذي يحملنا، والكون الذي لا يبالي بأي منا.

***

ليلى تبّاني ــــ الجزائر

قصة مستوحاة من تجربة واقعية مع ابني خالد، البالغ من العمر عشر سنوات، الذي علّمني كيف أرى العالم بعين الدهشة من جديد.

* ملخص القصة.

هذه القصة مستوحاة من تجربة واقعية مع ابني خالد، ابن العاشرة، الذي لا يملّ من السؤال ولا يتوقف عن البحث عن المعنى، إذ تولدت من بين أسئلته البريئة فكرة فلسفية عميقة مفادها: كيف يمكن لطفل صغير أن يرى العالم بعين الفيلسوف دون أن يدري. ففي لحظةٍ من الدهشة تخيّل خالد حقيبة شفافة يضع فيها كل سؤالٍ لم يجد له جوابًا، حتى استيقظت الحقيبة ذات ليلة وفتحت له بابًا إلى عالمٍ جديدٍ من الدهشة والتأمل، حيث اكتشف أن أسئلته يمكن أن تُحكى وتُرى وتُسمَع: سؤال المعرفة، وسؤال الخير، وسؤال الجمال. ومن خلال هذا الحوار الجميل بين الطفل وأسئلته، تعلّم خالد أن الحقيقة لا تأتي دفعةً واحدة، بل تُكتشف بالتأمل والتجربة، وأن الجمال والخير والمعرفة وجوهٌ متعدّدة لحكمةٍ واحدة. وهكذا لم تكن هذه القصة خيالًا للتسلية، بل تجربة إنسانية صادقة تُظهر أن الفلسفة تبدأ حين يسأل الطفل بصدق، وأن كل سؤالٍ صغيرٍ هو في جوهره بدايةُ وعيٍ كبيرٍ بالعالم. 

* البداية: حين تسكن الفلسفة بيتًا صغيرًا.

كنت أظن أن الفلسفة حديث الكبار وحدهم، حتى اكتشفت أنها تسكننا منذ الطفولة، منذ تلك اللحظة التي يبدأ فيها الطفل بالسؤال: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟

وفي إحدى الليالي جلس ابني خالد بجانبي يسأل بلا توقف عن الشمس التي تغيّر مكانها، وعن الله الذي لا نراه، وعن الحيوانات التي قد تحلم مثلنا. لكنّ أسئلته لم تتوقف عند حدود الفضول اليومي، بل بدأت تقترب من عمقٍ وجودي يدهشني كل مرة.

كان يقول لي بهدوء المتأمل: لماذا أرى الناس من حولي ولا أستطيع أن أرى نفسي إلا في المرآة؟ كيف أكون موجودًا دون أن أرى نفسي؟

ثم يعود ليسأل ببراءةٍ تحمل نضجًا مبكرًا: لماذا يجب أن يحصل الأول دائمًا في الامتحان على500 درجة من 500 درجة؟ أليس من الممكن أن يكون هناك من هو الأول في أشياء أخرى غير الدرجات؟ إن بعض الناس لم يكونوا أوائل في المدارس، لكنهم أصبحوا مبدعين في مجالاتهم، فهل التفوق مجرد رقم؟

كانت تلك الأسئلة الصغيرة التي يطرحها خالد تُدهشني وتحرك فيّ شيئًا عميقًا، لأنها صادرة عن عقلٍ بريءٍ يتأمل الوجود والعدالة والحياة بطريقته الخاصة. ومن هنا وُلدت فكرة هذه القصة، إذ لم تكن نزهةً في الخيال أو تسليةً عابرة، بل تجربةً حقيقيةً عشتها مع ابني خالد، جعلتني أوقن أن الفلسفة ليست علمًا للكبار وحدهم، بل شعلةً تسكن عقل الطفل حين يسأل وتنير طريقه نحو الفهم. لقد علّمتني تجربته أن كل سؤالٍ صادقٍ يطرحه الطفل هو خطوةٌ أولى في طريق النور، وأن الفضول الذي يسكنه ليس مجرد تساؤلٍ عابر، بل بدايةُ وعيٍ حقيقيٍّ بالعالم.

المحور الأول: الطفل الذي يرى العالم بعين الدهشة.

كان خالد عاشقًا للأسئلة أكثر من اللعب، يعيش يومه في صحبة الدهشة، ويستيقظ وفي ذهنه سؤال جديد، وينام وفي صدره تساؤل لم يجد له جوابًا بعد. في المدرسة يسأل عن الظل الذي يتغيّر، وفي البيت يسأل عن الشمس التي تختفي، وفي الطريق يتأمل وجوه الناس كأنه يبحث في ملامحهم عن سرٍّ خفي. لم يكن سؤاله رغبة في الجدال، بل شوقًا إلى الفهم، كأن عقله الصغير لا يهدأ حتى يكتشف منطق الأشياء. بعض الكبار كانوا يبتسمون له، وبعضهم كان يضيق بأسئلته، لكنه لم يتوقف يومًا، لأن قلبه كان يخبره أن لكل شيء سببًا، ولكل لحظة لغزًا ينتظر من يكتشفه.

وذات مساءٍ صافٍ جلس عند نافذته يتأمل السماء الممتدة فوقه، والنجوم التي تلمع في صمتٍ بعيد، وشعر بأن أفكاره تتزاحم كأنها تريد مكانًا لتسكن فيه. قال في نفسه إن أسئلته كثيرة ولا يعرف أين يضعها، فهي تتبعثر في رأسه مثل أوراقٍ بلا ترتيب. ومع هذا التأمل، ولدت في خياله فكرة عجيبة: أن يصنع حقيبة شفافة يحمل فيها كل سؤالٍ لم يجد له جوابًا، حقيبة ترافقه في رحلته بين اليقظة والحلم، بين الواقع والخيال. ومن تلك اللحظة بدأت رحلته الحقيقية نحو عالمٍ جديدٍ من النور والفكر، رحلةٍ سوف تعلّمه أن السؤال ليس حيرةً بل بداية الطريق إلى الفهم.

* المحور الثاني: ولادة الحقيبة التي تحمل الضوء.

أغمض خالد عينيه، وغاص في عالمٍ من الخيال الطفولي العميق. تخيّل حقيبة شفافة خفيفة تطير فوق كتفه مثل غيمةٍ صغيرة، تتراقص في الهواء كلما تحرّك. شعر بأن هذه الحقيبة سوف تكون رفيقة دربه، تحفظ أفكاره كما تحفظ الأم أسرار طفلها، وقال في نفسه إنه سوف يضع فيها كل سؤالٍ لم يجد له جوابًا، حتى لا يضيع أي تساؤلٍ من ذاكرته الصغيرة.

ومنذ تلك اللحظة صار كل سؤالٍ بلا إجابة يتحوّل في خياله إلى ورقةٍ مضيئةٍ تطير ببطءٍ حتى تدخل الحقيبة وتستقرّ داخلها بهدوء، كأنها نجمة وجدت مكانها في السماء. ومع مرور الأيام بدأت الحقيبة تمتلئ شيئًا فشيئًا، وصار نورها يزداد تألقًا في خياله كلما أضاف إليها سؤالًا جديدًا. أحسّ بأنها لم تعد مجرد حقيبة، بل صارت عالمًا صغيرًا يحمل في داخله كل ما لا يعرفه بعد، وكل ما يريد أن يفهمه يومًا. ومع الوقت بدت له كأنها تحمل أسرار الكون في ضوءٍ صغيرٍ على كتف طفلٍ عاشقٍ للمعرفة، يمشي في دروب الحياة، وقلبه مفتوحٌ على الدهشة.

* المحور الثالث: ليلة استيقظت فيها الحقيبة.

 في ليلةٍ ساكنةٍ غمرها صمتٌ دافئ، كان خالد يستعد للنوم حين سمع همسًا خفيفًا يقترب من وسادته، كأن الهواء نفسه صار يتكلم. فتح عينيه ببطءٍ فرأى الحقيبة التي كانت ترافقه في خياله تلمع عند طرف السرير كنجمةٍ حيّةٍ تنبض بضوءٍ خافتٍ وجميل. شعر بأن قلبه يخفق بقوةٍ بين الخوف والفضول، حتى سمعها تهمس له بصوتٍ حنونٍ قريبٍ من قلبه، تخبره بأنها امتلأت بأسئلته، وأن الوقت قد حان ليفتحها ويرى ما تخبئه في داخلها من أسرار.

مدّ يده الصغيرة بتردّدٍ ودهشة، كأنّه يلامس سحرًا لا يعرف مداه، وما إن فتح الحقيبة حتى اندفع منها نورٌ ملوّنٌ دافئ انتشر في الغرفة كلها، يغمر الجدران والوسادة والهواء نفسه بألوانٍ متراقصة. وبين خيوط الضوء المتناثرة بدأت تتكوّن مخلوقاتٌ صغيرةٌ مجنّحة، تتلألأ كالكلمات حين تخرج من الفم بصدق، تسبح في الهواء بخفةٍ ورشاقة. وكل مخلوقةٍ منها كانت تمثّل نوعًا من الأسئلة التي كانت تملأ قلبه الصغير: أسئلة المعرفة، وأسئلة الخير، وأسئلة الجمال. كان المشهد كله يبدو كحلمٍ حيٍّ يولد أمام عينيه في أول لحظةٍ من لحظات الوعي.

* المحور الرابع: حوار مع سؤال المعرفة.

اقترب من بين المخلوقات نورٌ أزرق صافٍ كأعماق البحر، وتقدّمت نحوه مخلوقةٌ جميلةٌ يعلو رأسها رمز استفهامٍ مضيءٍ يشبه الهلال في تمامه. كانت ملامحها هادئةً وعيونها تشعّ بحكمةٍ عميقة، وحين تحدّثت بدا صوتها كهمس الموج في ليلةٍ صافية. قالت له إنها سؤال المعرفة، ثم جلست أمامه بهدوءٍ وسألته: كيف تعرف يا خالد أن ما تراه أو تسمعه صحيح؟

تردّد قليلًا، وأخذ يفكّر في معنى السؤال، ثم همس في نفسه أن ما تراه العين قد يخدع، وما يسمعه من الكبار قد يخطئ، وما في الكتب قد يكون ناقصًا أو غير كامل. شعر أن الحقيقة لا تُمنح للإنسان جاهزة كما تُمنح الهدايا، بل تُكتشف شيئًا فشيئًا، بالتجربة والملاحظة والسؤال. في تلك اللحظة شعر أن شيئًا من الضوء الأزرق الذي يحيط بالمخلوقة قد انتقل إليه، كأنها وهبته جزءًا من معناها، فأدرك أن المعرفة لا تسكن الكتب وحدها، ولا تُختزل في الإجابات، بل تنبت في كل عقلٍ يسأل بشجاعةٍ ولا يخاف من الخطأ.

* المحور الخامس: ميزان الخير في قلبٍ صغير.

وبينما كان خالد يتأمل المخلوقات المجنّحة التي تملأ الغرفة بنورها، اقتربت منه مخلوقة خضراء يشعّ من كتفيها ضوءٌ لطيف، وتحمل ميزانًا صغيرًا يتأرجح في هدوءٍ كأنه يقيس نَفَس العالم. كانت خطواتها واثقة وصوتها مملوءًا بالحنان، وقالت له إنها سؤال الخير. نظرت إليه بعينٍ ودودة وسألته إن كان كل ما يريده في حياته يكون خيرًا له ولغيره.

تردّد قليلًا، ثم ابتسم بخجلٍ كمن يواجه نفسه، واعترف بأنه أحيانًا يغضب ويصرخ ثم يندم، وأحيانًا يفضّل اللعب على أداء واجباته. شعر أن السؤال يمسّ شيئًا عميقًا في داخله، ففكّر طويلًا حتى أدرك أن الخير لا يُقاس بالرغبة اللحظية ولا بالمتعة العابرة، بل بما يتركه الفعل في القلب من طمأنينةٍ وسلام، وما يزرعه في الآخرين من فرحٍ وأمان. ومن تلك اللحظة بدأ خالد يفهم أن الفعل الطيب يحتاج إلى تفكيرٍ قبل التنفيذ، وأن الخير الحقيقي ليس اندفاعًا بالعاطفة، بل اختيارٌ يصنعه الوعي بحبٍّ ومسؤولية.

* المحور السادس: ألوان الجمال ومعناه المختلف.

وبينما كان خالد ما يزال مأخوذًا بما سمعه من سؤال الخير، أشرق في أرجاء الغرفة نورٌ ذهبيٌّ ناعم، وظهرت مخلوقة صفراء لامعة تحمل بين يديها لوحةً واسعة وألوانًا كثيرة تتراقص في الهواء كفراشاتٍ من الضوء. كانت ابتسامتها تشبه إشراق الصباح، وقالت له إنها سؤال الجمال. جلست أمامه في هدوءٍ وسألته بصوتٍ رقيقٍ كالنغمة: لماذا يختلف الناس في ما يرونه جميلًا؟

توقّف خالد لحظةً يتأمل السؤال، ثم تذكّر اختلافه الدائم مع أسرته: فهو يحب البحر واتساع أفقه، بينما تحب أخته الزهور بألوانها الكثيرة، ويحب هو القصص الخيالية التي تطير في العقول، في حين يعشق والده القصص القديمة التي تحفظها الذاكرة. ابتسم وهو يفكر في هذا التنوع وقال في نفسه إن الجمال ربما يشبه السماء، يراها كل إنسانٍ من مكانه بلونٍ مختلف، ومع ذلك تظل السماء واحدة. عندها شعر أن الاختلاف لا يعني التناقض، بل هو اتساع للعالم واتساع للقلوب التي تتأمل جماله من نوافذ متعددة. وهكذا أدرك أن الجمال لا يُرى بالعين فقط، بل يُحسّ بالقلب الذي يعرف كيف يندهش.

* المحور السابع: لحظة النور التي تسكن القلب.

حين انتهى الحوار بين خالد والمخلوقات الصغيرة، عادت تلك الكائنات المضيئة إلى الحقيبة الشفافة في هدوءٍ كأنها تعود إلى موطنها الأول، لكن الغرفة لم تعد كما كانت، فقد بقي فيها نورٌ هادئٌ يتسلل إلى كل زاويةٍ منها كأن الأسئلة نفسها تضيء المكان. جلس خالد صامتًا يتأمل ذلك الضوء الذي يملأ عينيه وقلبه معًا، وشعر أن الأسئلة التي كانت تثقله من قبل قد تحوّلت إلى طاقةٍ من طمأنينةٍ ووضوح، كأنها وجدت معناها حين تحوّل القلق إلى فهم.

ولأول مرةٍ لم يخَف من الجهل أو الغموض، بل أحبهما لأنهما صارَا الطريق إلى المعرفة. أحسّ أن الرحلة التي تقوده نحو الفهم أجمل من أي إجابةٍ جاهزة، وأن السؤال لم يعد ظلمةً بل نورًا يفتح أمامه أبواب التأمل. في تلك اللحظة أدرك أن المعرفة لا تبدأ عندما نصل إلى الحقيقة، بل حين نؤمن أن الطريق إليها هو في ذاته الحقيقة الأولى، وأن من يسأل بصدقٍ لا يضيع، لأن النور يسكن قلب من يبحث.

* المحور الثامن: حين أصبح السؤال صديقًا.

في صباحٍ جديدٍ مملوءٍ بالصفاء، استيقظ خالد وهو يشعر بأن شيئًا تغيّر في داخله. لم يعد السؤال يثقله كما في الماضي، بل صار يملأه قوةً وفضولًا جميلًا. نهض من فراشه، وابتسم وهو يعلّق على باب غرفته ورقة كتب عليها بخطٍّ صغيرٍ وواثق:  مسموح بطرح الأسئلة. شعر أنه بدأ فصلًا جديدًا من حياته، يعيش فيه السؤال لا كعبءٍ يخيفه، بل كصديقٍ وفيٍّ يرافقه في كل مغامرةٍ فكريةٍ صغيرة.

وفي المدرسة، رفع يده كعادته ليسأل، لكنه هذه المرة لم ينتظر الجواب من المعلمة، بل التفت إلى زملائه وقال بحماسٍ طفوليٍّ صادق: ما رأيكم أن نحاول جميعًا الإجابة عن هذا السؤال معًا؟ تبادل الأطفال النظرات وبدأت الأفكار تتساقط بينهم مثل المطر الخفيف، تنبت في عقولهم حواراتٌ صغيرة، وضحكاتٌ مليئةٌ بالدهشة. احتار بعضهم وضحك بعضهم، لكن الجميع شعروا أن الحصة أصبحت مختلفة، أكثر دفئًا، وأكثر قربًا من قلوبهم.

وحين عاد خالد إلى فراشه تلك الليلة، أحسّ بأن الحقيبة قد عادت إلى كتفه خفيفةً كما كانت، لكنها هذه المرة مليئةٌ بالنور والأحلام. فنظر إلى السماء المضيئة بالنجوم، وشعر أن الكون كلّه يبتسم له، وقال في نفسه إنه لا يخاف إن لم يجد كل الأجوبة، فالمهم أن يواصل السؤال، وأن يعيش مع دهشته بسعادةٍ تشبه ضوء الحقيبة التي لا تنطفئ.

* المحور الأخير: العبرة التي تضيء الطريق.

لم تكن هذه القصة تمرينًا في الخيال، بل تجربةً حقيقيةً غيّرت نظرتي إلى التربية وإلى الفلسفة معًا، وجعلتني أتعلم من ابني خالد أكثر مما ظننت أنني أعلّمه. لقد أدركت من خلاله أن الطفل لا يحتاج إلى إجاباتٍ جاهزة تُغلق عليه أبواب التفكير، بقدر ما يحتاج إلى من يصغي إليه ويشاركه دهشته، ويمنحه الأمان ليفكر بحريةٍ دون خوفٍ من الخطأ.

علّمني خالد أن الفلسفة ليست كلماتٍ معقدة تُقال في القاعات الجامعية، بل أسلوب حياةٍ بسيطٍ يرى في السؤال معنىً للوجود، وفي الاختلاف جمالًا يثري الحياة، وفي التفكير طريقًا إلى الخير والمعرفة. ومن أسئلته عن نفسه، وعن التفوق، وعن معنى النجاح، تعلمت أن قيمة الإنسان لا تُقاس بالأرقام ولا بالدرجات، بل بما يبدعه من فكرٍ، وبما يملكه من فضولٍ وصدقٍ في البحث عن الحقيقة.

وهكذا أيقنت أن كل طفلٍ يسأل هو فيلسوف صغير يحمل بذرة الوعي في قلبه، وأن كل أبٍ أو معلمٍ يصغي إليه لا يعلّمه فحسب، بل يشارك في بناء وعيٍ جديدٍ للعالم، ويمدّ جسورًا بين الدهشة الأولى والمعرفة التي لا تنتهي. عندها فهمت أن السؤال ليس مجرد طريقٍ إلى الجواب، بل هو الحياة نفسها، في أبسط صورها وأعمق معانيها.

خاتمة

وهكذا تنتهي رحلة خالد مع حقيبته العجيبة، لكنها في الحقيقة ليست نهاية القصة، بل بداية رحلةٍ جديدة يعيشها كل طفلٍ يملك شجاعة السؤال، وكل كبيرٍ يتعلّم من حوله أن يصغي بصدقٍ ودهشة. فقد أدركنا من خلال هذه التجربة أن الحياة ليست سلسلةً من الإجابات الجاهزة التي نحفظها، بل طريقٌ طويلٌ من الأسئلة المضيئة التي تنير عقولنا كلما سرنا فيها. فالسؤال هو الرفيق الذي يجعلنا نكبر بالعقل، ونحيا بالقلب، ونقترب من جوهر إنسانيتنا في كل لحظةٍ من لحظات البحث عن المعنى.

وأخيرًا، أوصي الأطفال أن يتذكّروا دائمًا أن السؤال هو مفتاح المعرفة، وأن كل فكرةٍ تولد من فضولٍ صغيرٍ يسكن أعماقهم. وأقول لهم، اسألوا ولا تخافوا، فكل سؤالٍ تطرحونه هو خطوة جديدة نحو اكتشافٍ يخصّكم وحدكم. ولا تتعجلوا الإجابات، بل استمتعوا بالرحلة الجميلة التي تقودكم إليها الأسئلة. وفكّروا بقلوبكم كما تفكرون بعقولكم، لأن الفهم الحقيقي لا يكتمل إلا حين يجتمع المنطق مع الإحساس، ولا تخشوا الخطأ، فهو ليس نهاية الطريق بل بدايته، ومنه يولد الفهم والنضج.

أيضًا، أوصي الكبار، من آباءٍ ومعلّمين، ألا يُطفئوا شرارة الفضول في عقول الصغار، فهي النور الأول في طريق المعرفة. وأقول لهم، استمعوا إلى أسئلتهم كما تستمعون إلى موسيقى الحياة، فكل سؤالٍ يحمل في داخله عقلًا يبحث عن النور وقلبًا صغيرًا يتعلم أن يفهم العالم على طريقته الخاصة. وساعدوهم على أن يفكروا بأنفسهم لا أن يكرروا ما يسمعونه، وامنحوهم حرية البحث بدل الخوف من الخطأ. وتذكّروا أن الفلسفة ليست مادةً تُدرَّس في الكتب فقط، بل أسلوب حياةٍ يزرع فيهم المعنى، ويعلّمهم أن العقل والرحمة جناحان لا تكتمل إنسانيتنا إلا بهما.

***

د. علي الخطيب

 

يعاني الإنسان المعاصر من العديد من المشكلات الفكرية والأزمات الوجودية، التي تؤدي به الى الخوف والقلق والتوتر، وتعيق تقدمه في الحياة، وتؤثر على حياته، وصحته النفسية والجسدية،  فالإنسان المعاصر هو إنسان مرهق فكرياً، والعلاج الدوائي لايكون دائما هو الحل الأمثل للأشخاص الإصحاء الذين يعانون من مشكلات فكرية، لأن كل مايحتاجه الإنسان المرهق فكرياً هو فهم مشكلته، وتحليلها، ومعرفة جذور المشكلة، وأسبابها، ومن ثم إيجاد الحلول المناسبة لها، من أجل الوصول للسعادة والهدوء والطمأنينة والسلام، وتعد الفلسفة  منذ القدم من أهم الأدوات التي تساعدنا على فهم الحياة، وتحقيق السلام النفسي، ولقد تحدث العديد من الفلاسفة القدماء مثل (سقراط، أفلاطون، آرسطو، أبيقور، والرواقية) عن دور الفلسفة في معالجة مشكلات الإنسان الحياتية، ومد يد العون له، من أجل الوصول للسعادة والسلام النفسي والفكري، فالفلسفة هي البحث عن الحكمة والمعنى، وهي تساعدنا على فهم أنفسنا والعالم من حولنا بشكل أفضل من خلال تطوير الوعي الذاتي، والقدرة على فهم أنفسنا ومشاعرنا وأفكارنا، لأننا عندما نكون أكثر وعياً بأنفسنا، وبوجودنا، نكون أكثر قدرة على التحكم في حياتنا، ومعالجة مشكلاتنا الحياتية، وإتخاذ القرارات التي تتناسب مع قيمنا وأهدافنا، وتطوير القدرة على التفكير النقدي والتحليلي.

ومن أبرز الحلول التي تقدمها الفلسفة هي (التقبل)، حيث تساعدنا الفلسفة على تقبل الحياة كما هي، وتقبل وجودنا فيها، دون مقاومة أو رفض، هذا التقبل يساعدنا على تحقيق السلام النفسي، لأنه يزيل القلق والتوتر الذي يأتي من محاولة تغيير الأشياء التي لايمكن تغييرها.

وتساعدنا الفلسفة على إيجاد (المعنى في الحياة)، حيث أن الإنسان عندما يجد المعنى في حياته، ويدرك دوره في الحياة  ويشعر بأهمية وجوده، يصبح أكثر سعادة ورضا، فالفلسفة تساعدنا على فهم أن الحياة لها معنى.

إن العلاج الفلسفي لمشكلات الإنسان المعاصر، هو ليس علاجاً بالمعنى الحرفي لكلمة علاج ، بل هوعملية تطوير للفكر الإنساني وتحفيزه لتغيير الأفكار السلبية، والتخلص منها وإستبدالها بافكار إيجابية تساعده على التخلص من التوتر، والقلق، والخوف، والحزن، وبالتالي الوصول الى السلام النفسي، فالفلسفة تعمل على تحقيق السلام الداخلي، والنفسي، من خلال تطوير الوعي الذاتي، والتقبل، وإيجاد المعنى، والتحرر من الخوف الداخلي، فالفلسفة هي رحلة نحو الإكتفاء الداخلي، والتحرر من الإضطرابات الفكرية و المخاوف الوجودية، وهي تساعدنا على فهم أنفسنا والعالم من حولنا، وعندما نطبق الفلسفة في حياتنا نكون أكثر سعادة ورضا، ونكون أكثر قدرة على تحقيق أهدافنا.    

الفلسفة والتحرر من الخوف

يعد (الخوف) من أكبر العوائق التي تمنعنا من تحقيق السلام النفسي، ولقد كان دور الفلسفة منذ القدم هو مساعدتنا على فهم أن الخوف هو نتيجة الجهل، فالإنسان بطبيعته يخشى مايجهله، لذلك كان الفيلسوف اليوناني (سقراط ) من أوائل الذين كانوا ينادون بالمعرفة، بإعتبارها فضيلة وقوة، ومقولته الشهيرة (إعرف نفسك) إنما هي دعوة لنبذ الجهل والسعي وراء المعرفة، وإدراك ضرورة أن يبدأ الإنسان أولاً بمعرفة نفسه، و حدود فهمه وإدراكه، وأن يسعى لتطويرها، قبل أن يسعى لفهم العالم، إذ أن إدراك الإنسان لذاته ومعرفة حقيقتها هو طريق لمعرفة العالم من حوله، والسعي وراء المعرفة هو فضيلة، وقوة، تمكن الإنسان من التغلب على الخوف، والتحرر من القلق، وبالتالي تحقيق السعادة، والوصول الى السلام النفسي.  

***

شيماء هماوندي - أستاذة الفلسفة والعلاج الفلسفي

أربيل/ جامعة صلاح الدين/ كلية الآداب/ قسم الفلسفة

لم يكن الموقف الاقتصادي غائباً أو بعيداً عن الذين يدعون إلى إقامة الحاكمية الله على الأرض. وذلك لإيمانهم المطلق بأن ما رسمه النص المقدس في هذا الاتجاه (القرآن والحديث)، هو الأكثر فاعليّة في تحقيق العدالة والمساواة بين الناس من جهة، مثلما هو المشروع الذي سيؤمن لهم العيش الرغيد ويكفل لهم عدم الحاجة والعوز من جهة ثانيّة، متخذين من تجربة الخليفة "عمر بن عبد العزيز" أنموذجاً يقتدى به، وهو الذي حقق عبر تطبيق أسلوب الزكاة على مسلمي عصره كما تذكر بعض كتب التاريخ مالم تحقق كل الأنظمة السابقة واللاحقة لعصره. متناسين أو هم على جهل برأيي بطبيعة وأساليب تشكل (تراكم وتمركز الرأسمال) عند الطبقة المالكة في أي عصر من العصور، وما وجود الفقر والتفاوت الطبقي الحاد، إلا نتيجة هذه الأساليب القذرة في جوهرها والقائمة على الفش والاحتكار ورفع الأسعار واستغلال عمل غير المالكين أي المنتجين. علماً أن هناك نصوصاً مقدسة تشير إلى هذه الأساليب القذرة، وقد حذر النص المقدس من الاشتغال عليها . ويل للمطففين – ما احتكر إلا خاطئ – الذين يطففون في الكيل والميزان.. التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين.. وغير ذلك الكثير إن كان من حيث الاشارة إلى عمليات الفساد بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، دون إدراك لأهمية هذه الأساليب غير المشروعة في نشر الفقر والجوع والحرمان بين الناس وبالتالي مجيئ الدعوات إلى اتخاذ أساليب تدخل في نطاق القيم والأخلاق القائمة على الإحسان في توزيع الثروة للتخفيف من حدّة نتائج تفاوت توزيعها، فجاءت الزكاة والصدقات وتوزيع الغنائم، وفي أموالهم للسائل والمحروم. وغير ذلك...

إن الايمان المطلق بما جاء به النص المقدس من قبل دعاة الحاكميّة حول المسألة الاقتصاديّة وتحقيق العدالة الاجتماعيّة، أفقدهم القدرة على فتح النص المقدس ذاته على قضايا العصر وما أفرزته هذه القضايا من حلول منطقيّة يمكن أن تتخذ من الزكاة والصدقات وسائل تساهم مع الوسائل الحديثة في تحقيق الغاية المطلوبة.

لا شك إن توظيف الزكاة والصدقات في مشاريع تنمويّة تحقق العمالة للفقراء والمحرومين والأقربين منهم، هي أفضل بكثير من تقديمها بشكل شخصي لهم من قبل من أنعم الله عليهم كما يقولون، فتقديمها بشكل شخصي لها آثارها النفسيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة على حياة الفرد والأسرة، وبالتالي على المجتمع الذي تقدم فيه هذه الأموال.

عموماً نقول: نحن لا ننكر الدور الكبير الذي تحققه الأعمال الخيريّة في المجتمع الأهلي، والزكاة والصدقات هي من الوسائل التي تدخل في هذا الاتجاه، بيد أن الأهم هو توظف هذه العطايا الخيريّة توظيفاً عقلانيّاً يدخل في مضمار التنمية المستدامة التي تؤسس لبناء قاعدة اقتصاديّة تخدم الفرد والمجتمع على المدى الطويل بل والمستمر.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

تخضع مجتمعاتنا العربية والإسلامية لسلطاتٍ متنوّعة: فكرية ودينية وسياسية، ويتأكد هذا الخضوع ضمن إطار هذه السلطات، ويتجلّى عبر ما نطلق عليه الوعي الزائف، الذي لا يرى نفسه في حالة استلاب، بل يظنّ أنه حرّ، غير أنّه في حقيقة الأمر لبنةٌ في بناءٍ أشمل لمنظومةٍ تعيد إنتاج ما تم إنتاجه سابقًا من طاعةٍ عمياء وتبعيةٍ مطلقة في مفاصل الحياة المختلفة.

وتكون نتائج ذلك واضحة في التربية داخل البيت والجامع والمدرسة والإعلام، إذ تتأسس على القبول بما يُقال دون نقاشٍ أو مساءلة، ويترسّخ بمرور الزمن حتى يصبح جزءًا من ثقافة السلطة، ويُتعامل معه بوصفه قدرًا أو تشريعًا مقدّسًا لا يجوز نقضه.

ولا يعكس الوعي الزائف جهل الإنسان أو المجتمع، بل هو في أحسن الأحوال ثقافة مغشوشة تُقدَّم على أنها حقائق ومسلمات مطلقة غير قابلة للنقاش، وتُدسّ كالسموم في أذهان الناس منذ الطفولة عبر المؤسسات الاجتماعية المختلفة: المدرسة، والجامع، والإعلام، والعائلة. وبهذا يُروَّض العقل ليقتنع تمامًا بما لديه، ويكفّ نهائيًا عن فضول المعرفة ومساءلة ما يُزوَّد به من أفكار. ومن ثمّ يقود هذا كله إلى الطاعة، بمعنى أنّه لا يُطلَب من الناس أن يفكروا، بل أن يُعيدوا ويكرّروا ويُطيعوا ويحفظوا المتون ويعيدوا إنتاج ما تم إنتاجه منذ مئات السنين، في إعادةٍ للثبات وترسيخٍ لأركان النظام القائم.

ولعلّ أخطر ما في الوعي الزائف أنه يجعل من الاستكانة والخضوع مظهرًا من مظاهر الحرية، وكأنها اختيارٌ حرّ، فالطالب لا يسأل، بل يتلقى المعرفة باستسلامٍ وخضوعٍ تامين، والمواطن لا يحتجّ لأنه يُسلّم تسليمًا كاملًا بما تفرضه ثقافة السلطة عليه، والمؤمن يلتزم بالاستسلام وبقدر الله، فلا يناقش، بل يتماهى في سلبيةٍ تامة كالجالسين في الجامع في خطبة الجمعة. إنهم جميعًا يعتقدون أن ما يقومون به هو الصواب والاختيار الحرّ لإرادتهم. ويرجع ذلك إلى أنّ ثقافة السلطة وتعليمات مشايخ الدين تكافئ التلقي السلبي المستسلم وتعاقب من يتساءل أو يعترض، لأن الثقافة المطلوبة هي ثقافة الطاعة الصامتة.

إنّ المدرسة تؤكد أهمية التلقي السلبي، فالإبداع فيها لا يعني اكتشاف الجديد، بل استرجاع ما حفظه الطالب. ولا بد لهذا التلقي أن يقترن بقدرٍ كبير من الانضباط، ولهذا تُعلِّم المدرسة التلقي ولا تُعلِّم التفكير. أما الخطاب الديني فيزرع الخوف في قلوب المؤمنين، ولا يقبل منهم الحوار أو النقاش، ولا يفسح مجالًا للشكّ، فيتحول إلى ثقافةٍ تزرع في نفوس الأطفال الطاعة العمياء والتسليم المطلق لما يتلقونه من تعليماتٍ وأفكارٍ وتصورات.

وتنبثق عن هذا المشروع التربوي شعارات ومقولات تُعمّق ثقافة الخضوع، مثل: احترام الكبير، وطاعة وليّ الأمر، وعدم الجدال في الدين، والفتنة أشدّ من القتل، واسأل بأدبٍ ونفّذ بتسليم، ويد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ إلى النار. وهذه الصيغ كلها تؤكد أهمية السكون والتسليم المقدس، وكأنّ الإنسان يعيش في قفصٍ ذهنيٍّ لا يرى قضبانه، ومع ذلك يشعر بالسعادة فيه، غافلًا عن أنه يقيده ويحجزه ويسلبه حريته وشخصيته وإرادته.

إنّ الخضوع هنا صناعةٌ لا تُفرض على الناس بالقوة، وإنما تأتي عبر تقنياتٍ ناعمة وآلياتٍ سلسة. لذلك يُربَّى الإنسان على الشعور بالذنب إن سأل، ويُتَّهم بالوقاحة إن ناقش، وبالكفر إن شكّ، ويُنبذ من الجماعة ويُقصى خارجها إذا حاول التفكير بصوتٍ عالٍ أو تجرّأ على رفض عادةٍ بالية أو تقليدٍ قديم.

وهذا ما يُمكّن الأنظمة المستبدة ـ حكوماتٍ ومشايخَ وقساوسةً ـ من تثبيت الحياة والمجتمع، وترسيخ السلطتين السياسية والدينية، حتى يغدو الاستبداد مبرَّرًا ومطلوبًا، ويُعَدّ وسيلةً للأمان والاستقرار. بل إن المجتمع نفسه يهاجم من يرفض الاستبداد ويسعى إلى التغيير، ويُعيد صياغة حاضره في ضوء الماضي وقوانينه وشرائعه.

أما الحاكم المستبدّ فيتحول إلى ضرورةٍ تجب طاعته، وإن جلد ظهرك وسلب مالك وهتك عرضك. كما يصبح الفقر اختبارًا للإيمان لا دافعًا للثورة، ويُعدّ الصمت قيمةً إيجابية ونوعًا من التقوى. والغاية من كل ذلك هي تعليم الناس ألّا يسألوا، بل ألّا يفكروا حتى في السؤال.

إنّ هذه البنية الصارمة لا تتغيّر بتبدّل رئيس السلطة أو إمام الجامع، لأن القادم لا يختلف عن الذاهب، وإنما يبدأ التغيير من تحرير الذهن وإعادة صياغة العقل الإنساني من جديد، بحيث يكون التعلم حرًا، ويُتاح للإنسان حقّ التساؤل وحرية الشكّ. فالسؤال لا يُعدّ خروجًا عن الجماعة أو طريقًا إلى الفتنة، بل هو طريق الإيمان الحقّ والسعي نحو كرامة الإنسان.

إننا نولد أحرارًا لا خاضعين بالفطرة، لكننا نتعلم الخضوع ونقدسه بمرور الزمن بفعل الوعي الزائف الذي نشأنا عليه. لذا ينبغي أن نتعلم ونعلم الآخرين أن يسألوا ويراجعوا أفكارهم بقراءةٍ نقدية، وأن يجاهروا بما يرونه حقًّا، وإن كان صادمًا. فهذه هي البداية الحقيقية للتحرر.

***

د. كريم الوائلي

 

لا يمكن ابدا فهم التاريخ بشكل كامل من خلال أسئلة "ماذا لو"، لكن لا يوجد شيء مثير للاهتمام بالنسبة للحضارة الغربية اكثر من النقاش الفلسفي بين ديموقريطس وارسطو. هذان الفيلسوفان الكبيران تصادما حول طبيعة المادة ذاتها وهو الخلاف الذي أثّر على العلم قرابة 2000 سنة.

ديموقريطس تصوّر الكون باعتباره مؤلف من ذرات غير مرئية تتحرك في فراغ، اما الثاني ارسطو نظر الى عالم مؤلف من عناصر ملموسة ومستمرة. في النهاية، منْ ساد كان هو الأكثر شهرة بين الفيلسوفين، وانتصاره حدد بعمق مسار الفيزياء والمعرفة الإنسانية.

نظرية ديموقريطس مقابل المنطق البديهي لأرسطو

النقاش بين ديموقريطس وارسطو دار حول سؤال يبدو بسيطا وهو: ممّ صُنع العالم حقا؟

في احدى الزوايا وقف المفكر ديموقريطس من مدينة ابديرا القديمة في تراقيا. وفي وقت ما من القرن الخامس ق.م هو حقق قفزة مذهلة في المنطق – وبالخصوص في دراسة العقائد الواسعة في ذلك الوقت. هو جادل انك اذا تستمر في تجزئة الشيء الى قطع أصغر وأصغر فانت سوف تصل في النهاية الى نقطة لا يمكن فيها التجزئة . هو سمى هذه العناصر الأساسية غير القابلة للتجزئة بـ "atoma" في اليونانية "غير قابلة للقطع".

وفق رؤيته، يتألف الكون من هذه الذرات التي تتحرك من خلال فضاء فارغ تتصادم وتتشابك لتخلق كل ما نراه من أشياء. هذه كانت رؤية مذهلة وحديثة للكون لم تتطلب آلهة او اسطورة لتوضيحها.

لنتصور كم كان هذا الاتجاه مبتكرا وشجاعا في زمن وثق فيه الناس فقط في عيونهم وحواسهم.

وفي الزاوية الأخرى من هذا النقاش الفلسفي يقف ارسطو. كتلميذ لافلاطون ومعلم للإسكندر الأكبر، كان تأثيره هائلا. هو فحص نظريات ديموقريطس ولم يكن امامه الا التحقق منها. فكرة "الفراغ" صدمته واعتبرها مستحيلة منطقيا. نظرية ارسطو الخاصة تأسست على ما يمكن ان تتصوره الحواس، او على ما يراه الانسان ويشعر به. هو دافع عن فكرة ان كل الأشياء مؤلفة من أربعة عناصر: الأرض والماء والهواء والنار. انه كان نظاما بديهيا وأنيقا في توضيح العالم بشكل تام، وما هو اكثر أهمية، كان منطقيا بالنسبة لمتوسط الأشخاص. انت يمكنك ان ترى الخشب (ارض) يتحول الى لهب ودخان (نار وهواء) وتشعر ان الماء يتحول الى بخار. انها عملية مبسطة. بالنسبة لأرسطو، هناك هدف ومكان لكل شيء.

فكيف اذن اشتهرت نظرية ارسطو الأقل دقة – وفق ما نعرفه اليوم - وسحقت كليا الفكرة العلمية الدقيقة والمدهشة للذرات؟ الجواب يكمن في النفوذ والايديولوجيا. عمل ارسطو احتُفظ به لقرون واعتُبر من قبل العديد من الناس الحقيقة النهائية حول كيفية عمل العالم. كتاباته أصبحت أساس التعليم في الإمبراطورية الرومانية وجرى استيعابها لاحقا من جانب العلماء المسلمين والمسيحيين. رؤيته التيلولوجية (الغائية) بان لكل شيء غرض متأصل  - تنسجم بشكل رائع مع المعتقدات الثيولوجية التي هيمنت على اوربا في القرون الوسطى. الكون الذي عُرّف بالهدف (تيلوس)، وخُلق بفعل كائن الهي، كان فهمه أسهل من الايمان بالذرات العشوائية والفوضوية المتراقصة في فراغ افترضه ديموقريطس.

النظرية الذرية جرى رفضها بشكل واسع ليس فقط لأنها خاطئة وانما لأنها ملحدة وخطيرة. وبالتالي، كتابات ديموقريطس ضاع معظمها او كُبحت ليتبقى منها فقط هوامش في أعمال منتقديه بمن فيهم ارسطو.

العلوم أغلقت حصراً في الاطار الارسطي، والذي كما نعرف الان كان معيبا في الأساس. لعدة قرون، توقفت التحقيقات الجادة في تركيب المادة . الكيميائيون أمضوا اجيالا محاولين تحويل الرصاص الى ذهب بالارتكاز على أفكار ارسطو في تغيير العناصر، بينما الحقيقة الثورية للذرات لم تنل الاهتمام وبقيت دون تحقيق. انها اخذت قرونا حتى جاءت تجارب مفكري النهضة وعلماء القرن التاسع عشر مثل جون دالتون لتكتسح في النهاية الدوغما القديمة وأحيت الروح العلمية لديموقريطس.

عندما نتأمل في هذا المسار الطويل والمختلف في الفهم، سنرى كيف ان التقدم العلمي يمكنه ان ينحرف وينقلب بمرور الزمن. النصر النهائي للنظرية الذرية يذكّرنا بانه في بعض الأحيان يتضح ان أشد الأفكار راديكالية وغرابة يثبت في النهاية انها صحيحة.

***

حاتم حميد محسن

 

المعرفه وحدها لا تصنع الوعي إنما حضور العقل الفاعل والنقدي ليفرز ويراجع ماتم سكبه في ملفاته ومقاربتها مع تطور الواقع وتحولاته

الوعي ليس ذاكرة بل يقظة. ليس تجميعا بل مراجعة. ليس تكرارا بل انبثاقا جديدا. ومن لا يغامر بالخروج من مألوفه لا يخرج من غفلته مهما حمل من شهادات أو أحاط من مصطلحات.. إن حضور العقل النقدي يشبه لحظة تنفلت فيها الروح من قيود العادة. لحظة تتعرى فيها الأفكار من أقنعتها فينكشف جوهرها. هناك فقط تبدأ المعرفة أن تتحول إلى وعي.

واعتقد ان الوعي فعل تحرير أما المعرفة بلا نقد فهي حشو وتخدير. وفي زمن تتضاعف فيه المعلومات وتتناقص فيه الجرأة على التفكير يصبح الخروج من المألوف شرطا أخلاقيا وفلسفيا معا.. أن يكون العقل يقظا. فاعلا. يزن ويختبر ويهدم ويبني كي لا تظل المعرفة أصفادا مذهبة بل تتحول إلى أفق جديد تتسع فيه حرية الإنسان ومسؤوليته.

التاريخ نفسه شاهد حي على ما أقول . سقراط، الذي علم الناس في شوارع أثينا أن يسائلوا كل شيء، لم يكن يضيف لهم محفوظات جديدة بل يوقظ فيهم عقلا نقديا لم يألفوه. ابن رشد، حين واجه التراث لم يكن يكتفي بالشرح بل كان يحاكم الأفكار إلى العقل ويستخرج منها إمكانات جديدة. غاليليو حين رفع منظاره إلى السماء، لم يكتف بما ورثه من خرائط النجوم بل كسر خريطة العالم القديمة ليبني تصورا جديدا للكون. ومثلهم اليوم علماء ومفكرون ومصلحون يجرؤون على مساءلة ما يقدم لهم بوصفه يقينا في السياسة، في الدين، في العلم، في الأخلاق، فيعيدون للعقل مكانه وكرامته

إن الوعي في الحياة اليومية قد يبدأ بلحظة بسيطة: عامل يرفض التوقيع على عقد مجحف لأنه قرأه بعين فاحصة، مواطن يرفض خطابا دعائيا لأنه يعرف كيف يسائل الأرقام، شاب يقرأ التاريخ فلا يكتفي برواية واحدة بل يبحث عن مصادر أخرى. كل هذه أمثلة صغيرة لكنها تجسيد عملي للوعي باعتباره فعل تحرر لا مجرد كلام جميل.

هكذا وحده يصبح الإنسان سيد معارفه لا عبدها، ويغدو قادرا على أن يحول تراكم المعلومات لديه إلى بصيرة، وأن ينقل الوعي من حيز الكلام إلى حيز الفعل، فلا يبقى سجين الماضي ولا أسير حاضر مستهلك، بل صانع معنى لمستقبل أرحب. لأن الوعي هو القفز خارج السرب، تحطيم دائرة الطاعة العمياء، والانفتاح على أفق أوسع من كل ما حفظناه. عندها فقط تتوقف المعرفة عن كونها حملا على الظهر أو زخرفا على الجدران، وتصير فعلا مؤثرا.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

في عصر الفيض المعلوماتي الذي نعيشه، حيث تتدفق البيانات من كل اتجاه، أصبحت الإشاعة كالسيل الجارف الذي يغزو العقول ويقتحم القلوب قبل أن يخضع لمحك العقل والتمحيص. إنها الكلمة التي تلقى في عَجَل، فتنمو كالنار في الهشيم، تلتهم الحقائق وتُزهق الثقات، وتترك وراءها حطام اليقين وخراب المصداقية.

وايضا في زمنٍ تتدفق هذه التكنلوجية غدت الإشاعة سيلًا جارفًا يقتحم العقول قبل الأسماع، ويغزو الوعي قبل أن يُمحّص في ميزان العقل. إنّها كلمة تُلقى بلا روية، فتتحول في فضاء التواصل إلى نارٍ تلتهم الحقيقة، وتترك وراءها رماد الثقة وخراب اليقين.

وإنّ ثقافة الإشاعة لا تنشأ من فراغ، بل تُغذّيها النفوس الضعيفة التي تجد في الغموض لذّة، وفي تضخيم الأحداث سلطة وهمية. ولذا فإنّ التصدي لها لا يكون بالمنع فقط، بل بإحياء ثقافة الوعي، وزرع قيمة التثبّت في عقول الناشئة. فحين يتعلّم المتعلم أن يسأل «من قال؟» قبل أن يقول «يُقال»، يكون قد وضع قدمه على طريق الحكمة.

أما أثر الإشاعة على سلوك المتعلم، فهو أثر خفيّ لكنه عميق؛ إذ تزرع في نفسه القلق، وتربك ميزان إدراكه بين الصواب والظن. فإذا شاع بين الطلبة خبر لا أصل له، اضطربت الثقة بينهم وبين معلميهم، وانقلبت بيئة العلم إلى ساحة شكّ ومخاوف. إنّ الإشاعة تفسد جوّ التعلم كما يفسد السمّ الماء الصافي، فلا تُبقي أثرًا للعقل إلا وقد غبّر عليه غبار الريبة.

وما أحوجنا اليوم إلى تربيةٍ تحصّن الفكر، لا تكتفي بنقل المعرفة، بل تُنبت في النفوس مناعة الوعي؛ وعيٌ يفرّق بين المعلومة والظن، وبين الخبر والحكاية. فبقدر ما ينتشر الوعي، تنحسر الإشاعة، وبقدر ما يُكرَّم العقل، تذبل الأوهام وتزهر الحقيقة.

ولمواجهة هذه الثقافة المضلّلة، لا بد من امتلاك آليات معرفة الإشاعة قبل أن نُصاب بعدواها. وأول هذه الآليات التحقق؛ فالمتعقّل لا يكتفي بما يسمع، بل يسأل عن المصدر، ويمحّص الدليل، ويزن القول بميزان العقل لا بالعاطفة. وثانيها التحليل النقدي، إذ ينبغي أن يُدرَّب العقل على كشف التناقض، وتمييز الخبر الذي يخدم الحقيقة من ذاك الذي يُغذّي الفتنة. وثالثها الوعي الإعلامي، فالإشاعة لا تعيش إلا في الظلّ، فإذا أُضيء عليها بنور المعلومة الموثوقة، تلاشت كما يتلاشى السراب عند الظهيرة.

أما في الجانب المقابل، فإنّ إشاعة المعرفة هي الدواء الذي يشفي المجتمع من سموم الإشاعة. فحين تنتشر الكلمة الصادقة، والعلم الموثوق، والفكر الواعي، تُخنق الشائعة في مهدها. نشر المعرفة عمل نبيل، يُبنى به الوعي، وتُحصَّن به العقول، وتُقام به الحصون المعنوية للمجتمع.

إنّ التصدي للإشاعة لا يكون بالصمت عنها، بل بكلمةٍ أصدق وأوضح وأقوى؛ كلمة تُقال بعلمٍ، وتُكتب بوعي، وتُتداول بنية الإصلاح لا الإثارة. فالإشاعة تُطفأ بالمعرفة، والظلام لا يبدده إلا نور الحقيقة.

جذور الإشاعة ومنابعها فهي لا تنبعث الإشاعة من العدم، بل تتغذى من منابع عدة، أبرزها:

1. النفوس الواهنة التي تتلذذ بإثارة الغموض

2. العقول الكسولة التي ترفض عناء التحقق

3. النفوس الحاقدة التي تبحث عن الإفساد

4. آثار الإشاعة المدمرة على المتعلم

وقد تمتد آثار الإشاعة إلى البنية السلوكية للمتعلم بشكل عميق، فنجد:

1. اهتزاز الثقة بين المتعلم والمعلم

2. اضطراب البيئة التعليمية وتحولها إلى ساحة شك وريبة

3. تشويه عملية التواصل التربوي الفعال

4. إعاقة بناء الشخصية المتزنة الواثقة

اما استراتيجيات المواجهة والوقاية تحتاج منا مواجهة هذه الآفة، لابد من تبني استراتيجيات متكاملة هي:

1. الوقاية الفكرية وتنمية الوعي النقدي لدى المتعلم

2. تعزيز ملكة التمييز بين المعلومة والظن، أي ترسيخ قيم الصدق والموضوعية.

فالآليات العملية:

أ. التحقق والمصادقة: تعليم المتعلم أن يسأل "من أين؟" قبل أن يقول "يُقال"

ب. التحليل النقدي: تدريب العقل على كشف التناقضات والثغرات

ج. التثقيف الإعلامي: تنمية القدرة على قراءة ما بين السطور

 اما الاليات الروحية بناء المناعة المجتمعية:

1. إشاعة ثقافة الصدق والشفافية

2. تعميم المعرفة الموثوقة

3. تعزيز الثقة المتبادلة بين أطراف العملية التعليمية

 وفي الختام لابد من بيان رؤية مستقبلية تضعنا امام بناء جيلٍ قادر على مواجهة الإشاعات يتطلب تطوير مناهج تعليمية تركز على بناء الشخصية الناقدة، إعداد المعلم القادر على غرس قيم النزاهة الفكرية، كما إنشاء بيئات تعليمية تشجع الحوار الموضوعي، تعزيز الشراكة بين المؤسسات التعليمية والأسر.

فإن معركتنا مع الإشاعة هي معركة مصيرية تحدد هوية مجتمعاتنا وتمسك بمستقبل أجيالنا. إنها ليست مجرد مواجهة عابرة، بل هي مشروع حضاري متكامل لبناء إنسان واعٍ، قادر على تمييز الحق من الباطل، والحقيقة من الوهم.

لقد أثبتت التجارب أن المجتمعات التي تنتصر فيها ثقافة التحقق والتثبت، هي المجتمعات التي تبني مستقبلها على أسس متينة من الثقة والمعرفة. وإن مسؤولية التصدي للإشاعة ليست مقصورة على فرد دون آخر، بل هي مسؤولية جماعية تشارك فيها الأسرة والمدرسة والمؤسسات الإعلامية والمجتمع بأسره.

ولنتذكر دائماً أن الإشاعة تموت حين نرفض أن نكون أدوات لنقلها، وحين نختار أن نكون حراساً للحقيقة. فالكلمة الطيبة صدقة، والكلمة المسؤولة أمانة، والكلمة الصادقة نور يضيء الطريق للأجيال القادمة.

***

ا. م. د. صباح خيري راضي العرداوي

صعود الجماعات المرنة والقبائل المعاصرة

فيما تحدث أنتوني غيدنز عن هيمنة "الفردانية الحديثة المتأخرة"، مستحضرا فواعل العولمة والتكنولوجيا على الذاتية الفردية، باعتبارها شبكة من التفاعلات الاقتصادية والثقافية والسياسية على نطاق عالمي، تعمل على توسيع الأفق الشخصي وزيادة فرص الاختيار والوعي بالقضايا الكونية، فإن ثمة تأثيرات تكنولوجية على الذاتية الفردية، خاصة على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي، حيث تتآكل بفعل عوامل الضغط والإدمان الرقمي والتعرض للرصد والمراقبة.

في السياق عينه، ركّز أولريش بيك على الفردانية في المجتمعات المخاطرة وكيف يمكن أن تتراجع عند مواجهة أزمات عالمية. ما يسهم في بروز مفهوم "الفردانية السائلة" وكيف يزداد تأثير الشبكات الاجتماعية والتغيرات الاقتصادية على الذات الفردية. ما يعني أن الأفراد مُجبرون على اتخاذ قراراتهم بأنفسهم في مواجهة المخاطر، بالتوازي مع تراجع دور الهياكل التقليدية (الدولة، الأسرة، المجتمع) في حماية الفرد، مما يزيد الاعتماد على الذات الفردية. فهل يعيش هذا النموذج الإنساني المعاصر توازنًا بين الحرية والمسؤولية، حرية أكبر في اتخاذ القرار، أو مسؤولية كبيرة لمواجهة المخاطر بنفسه.

أكيد أن الفردانية هنا هي أقرب إلى الفردانية "المرنة" أو "السائلة" كما وصفها بعض الباحثين المعاصرين، فهي تتغير حسب مستوى المخاطر والتحديات المحيطة. إذ إنه على الرغم من زيادة الاستقلالية، فإن المخاطر اللامحدودة تجعل الاختيارات الفردية منكمشة أحيانًا بسبب تأثير العوامل البيئية أو الاقتصادية. فالفرد في هذا السياق ليس حرًا بالكامل، بل عليه أن يتكيف باستمرار مع المخاطر الجديدة.

إن "تراجع الفردانية الحداثية" يشير إلى الظاهرة الاجتماعية والثقافية التي تتمثل في انخفاض الاهتمام بالقيم الفردية المستقلة أو الذاتية التي كانت مهيمنة خلال مرحلة الحداثة، واستبدالها بتركيز أكبر على الجماعة، التضامن الاجتماعي، أو الروابط المجتمعية.

ولا حاجة إلى التذكير أن من بين أهم أسباب وعوامل تراجع الفردانية الحداثية صيرورة الأزمات الاقتصادية والسياسية، كالأزمات الكبرى مثل الركود الاقتصادي العالمي، الحروب، أو الصراعات السياسية التي تجعل الأفراد يلجؤون إلى التضامن الاجتماعي بدلاً من الاعتماد على الذات فقط. وأيضا عامل التغيرات التكنولوجية ووسائل التواصل الاجتماعي، التي رغم تعزيزها لقيم التواصل والاتصال، فإنها غالبًا ما تؤدي إلى خلق شبكات جماعية وتأثيرات ضغط اجتماعي تجعل الفرد جزءًا من مجموعات أكبر، بدلًا من التفرد المطلق. فيما يأتي الوعي البيئي والاجتماعي، كقضايا مثل تغير المناخ، الصحة العامة، والفقر تجبر المجتمعات على التعاون الجماعي، كسبب رئيس في تراجع الأولوية المطلقة للفرد. على أن فلاسفة معاصرون يرون أن الفردانية المفرطة أدت إلى عزلة اجتماعية وانحلال الروابط المجتمعية، ويدعون إلى إعادة التوازن بين الفرد والمجتمع. من بينهم ايميل دوركايم، الذي يرى أن الفردانية المفرطة قد تؤدي إلى "انتحار اجتماعي نتيجة ضعف الروابط الاجتماعية والعزل، وأن الفردانية المطلقة غير الصحية تؤدي إلى ضعف الروابط الاجتماعية والعزلة. مقترحا إيجاد توازن بين حرية الفرد وتكامل المجتمع.

إذا كان الفكر الحداثي، باعتباره وحدة مستقلة ذات عقل وإرادة حر، بل صانع التاريخ والمركز الذي تبنى حوله العلاقات الاجتماعية والمؤسسات. فإن هذا النموذج التقليدي للفرد تراجع أو انهار في سياق ما بعد الحداثة. إذ لم يعد محور العالم الاجتماعي، ولم يعد الذات المستقلة هي الفاعل الأساسي في بناء التاريخ، بحسب نظر ميشيل مافيزولي، ومن نتائج ذلك، تحول الفردانية المفرطة إلى نوع من الجماعية العاطفية (الهويات المحلية والقبلية)، فما بعد الحداثة لا تلغي الفردية بالكامل، لكنها تعيد توجيهها داخل مجموعات مرنة ومؤقتة تتقاسم قيمًا ومشاعر معينة. وهذا يفسر ظهور القبائل الرقمية والثقافات الفرعية وارتباط الأفراد بمجتمعات متخصصة أو جماعية على الإنترنت ووسائل التواصل.

إن تراجع الأيديولوجيات الكبرى التي كانت توفر هوية جماعية واسعة، وضعف المؤسسات العقلانية التقليدية، دفع الأفراد للبحث عن الشعور بالانتماء والمعنى داخل مجموعات صغيرة ومتخصصة. وهكذا، لم تُلغَ الفردية في مرحلة ما بعد الحداثة، بل أعيد توجيهها داخل هذه "القبائل الرقمية" والثقافات الفرعية، التي توفر روابط وجدانية ورمزية تعوض عن غياب الهيمنة الكاملة للعقلانية والمؤسسات. هذا التحول يوضح أن الفرد المعاصر يعيش حالة من التوازن الديناميكي بين الاستقلالية والانتماء، بين الحرية الشخصية والمسؤولية الاجتماعية.

***

د. مصـطـفــى غَـــلمـان

 

يُعدّ موضوع التعريب من اكثر الموضوعات اللغوية التي نالت اهتمام القدماء والمحدثين في مجال اهتمامهم باللغة العربية ورعايتها، ضمن قانون الاقتراض اللغوي الذي تتبادل في إطاره اللغات المجاورة والمتصلة ببعضها البعض بما تقرضه حيناً وتقترضه حيناً آخر من الالفاظ التي هي بحاجتها لمسايرة الحركة الحضارية الجديدة، وكعامل من عوامل النمو والتوسّع اللغوي كما اهتموا بوضع ضوابط لمعرفتها وأحكاماً لإخضاعها للنطق والبناء العربيين ومن الطرق والوسائل التي تمت من خلالها تنمية الثروة المعجمية العربية بالألفاظ المعربة:

1- الاشتقاق: وهو أكثر الطرق حيوية ومرونة ومساعدة على إثراء اللغة العربية وتنميتها، وهو أحد تقنيات التعريب - وذلك باقتطاع لفظ من لفظٍ آخر أجنبي معّرب يوجد بينهما توافق على مستوى الاصوات والدّلالة ولم يتوقف عمل اللغويين على اشتقاق مواد جديدة من الكلمات القديمة المعرّبة بنفس معانيها بل تعّداه إلى إعطاء بعض الاشتقاقات منها دلالات جديدة تتناسب والمفاهيم العصرية المتداولة والشائعة في استعمالاتهم ومن ذلك قولهم:

أ- البرمج-ة: بمعنى إعداد البرامج والفعل(برمج) أيضاً بمعنى أعدّ ووضع برنامجاً، وقيل برمج يبرمج برمجة فهو مبرمج والمفعول مبرمَج أُخِذَ من الكلمة المعربة قديماً(برنامج).

ب - النمذجة: بمعنى صياغة النموذج والمثال و(نمذج) الفعل الرباعي المشتق منها على وزن (فعلل) اشتقاق من المعرب القديم (نموذج).

ج- - أكسد، يؤكسد، أكسدة، مؤكسد اشتقاق من المصطلح الاجنبي المعرب (أكسيد).

د- تلفن، يتلفن، تلفنة، متلفن اشتقاق من المصطلح الاجنبي المعرب (تلفون).

2- المجاز: المقصود به استعمال لفظ عربي معين في معنٍ جديد مستمد من كلمة اجنبية معّربة بخلاف المعنى الذي استعمل به أول مرّة في المعاجم العربية القديمة، وقد كثرت الكلمات المحدثة مجازياً في المعاجم العربية المعاصرة كثرة نوعية تحيل بضخامة الموروث اللغوي وقوة ايحاءاته المعنوية من جهة، وتوحي بحمل مصطلح التعريب لمفهوم الترجمة عند المحدثين في حالة تعذّر تعريبه لفظياً وهو ما يسمى (التعريب بالمرادف) من جهة أخرى.

وللمجاز دور وأهمية في الوضع المصطلحي في قوله " يتحرك الدال، فينزاح عن مدلوله، ليلامس مدلولاً قائماً أو مستحدثاً. وهكذا يصبح المجاز جسر العبور تمتطيه الدوال بين الحقول المفهومية. فالقضية دائرة على محور الحركة الذاتية إذ يمد المجاز أمام الفاظ اللغة جسوراً وقتية، تتحول عليها من دلالة الوضع الأول إلى دلالة الوضع الطارئ"(1)، ومما عرّبه المحدثون من الالفاظ الاجنبية مجازاً:

أ - تعريب كلمة (الأسانسير) بالمصعد، وكلمة (صالون) بالبهو، وكلمة (بنسيون) (بالمثوى).

ب - تعريب كلمة (راديو) بمذياع وكلمة (مكروفون) بمجهاز.

3- النحت: تُعدّ ألية النحت إحدى التقنيات التطبيقية لعملية التعريب، وأصلاً من أصول الوضع الصحيحة في اللغة فعّدها بعضهم ضرباً من ضروب الاشتقاق بل ضرورة علمية لنقل حقائق جديدة كانت اللغة العربية في حاجتها، وذلك نظراً لما تحققه هذه الاداة من اختزال في التعبير بغرض السهولة اللفظية وخفة النطق. ونعني بالنحت تشكيل كلمة واحدة (المنحوت) من مجموعة حروف كلمتين أو أكثر (المنحوت منه) يكون بينهما توافق في اللفظ والمعنى، ومن امثلة المعرّبة المنحوتة نجد على سبيل المثال:

- افرو آسيوي نحتا من الكلمتين (افريقيا) و(آسيا)

- بتروكيمياوي نحتا من الكلمتين (بترول) و(كيماوي)

- كهرطيس نحتا من الكلمتين (كهرباء) و(مغناطيس)

***

اعداد: الاستاذ ليلى مناتي محمود

 جامعة بغداد - كلية اللغات

....................

المصادر:

1- قاموس اللسانيات (عربي - فرنسي / فرنسي - عربي، عبد السلام المسدّي، ص44 -45 .

 

ثمةَ كتبٌ يكون لهَا وقعُ الصَّدمة، حين تعيد توجيه الحراك الفكري، نحو غايات تخالف ما اعتاده النَّاسُ من قبل. أظنُّ أنَّ كتابَ جون رولز «نظرية في العدالة» هو واحدٌ من هذه الكتب، فقد أطلق موجاً من النقاش في الفلسفة السياسية، ما زال مستمراً حتى اليوم. وذكر في «غوغل سكولار»، وهو وعاء يجمع الاستشهادات العلمية للباحثين، أنَّ هذا الكتاب قد أُشير إليه أكثرَ من 100 ألفِ مرة في كتب ومقالات محكمة، فضلاً عن مئات الكتب والمقالات التي دارت بشكلٍ أساسي حول نظرية رولز في العدالة. لهذا السبب على الأرجح قال أشدُّ ناقديه، الفيلسوف الأميركي روبرت نوزيك، إنَّ أي كتابة حول العدالة لا بدَّ أن تبدأ من رولز، أو تنتهيَ به أو تدورَ حوله، يمكن أن تتبنَّى رؤية مضادةً تماماً لجون رولز، لكن لا يمكن أن تتجاهلَ تأثيره في حقل الفلسفة السياسية.

أظنُّ أنَّ التأثير الواسع لنظرية رولز يرجع إلى أنها وضعت كي تطبق فعلياً في إطار الحياة السياسية القائمة، ولم تسجن نفسها في المثالية الأخلاقية، كما فعلت نظريات سابقة.

ولأنَّها نظرية سياسية، فقد حصر رولز تطبيقاتها في إطار محلي، أو ما سمَّاه: «مجتمع سياسي حسن التنظيم» ولم يستهدفِ العمل الاقتصادي الدولي. ولتلافي هذا النقص، أصدر رولز كتابه «قانون الشعوب» الذي لم يلقَ الترحيب المتوقع، لأنَّه أهمل – كما أظن - جانب العدالة التوزيعية، الذي تميز به الكتاب الأول. العدالة التوزيعية هي الوسيلة الأكثر فاعلية لجعل الإنصاف قاعدة للنظام الاجتماعي والعلاقة بين الأفراد.

حين طرح رولز رؤيته حول العدالة التوزيعية، ثم العدالة على مستوى عالمي، لم تكن الهجرة بين الدول مشكلة بارزة، خصوصاً لجهة كونها نموذجاً للتوزيع المنصف للثروة، بين المجتمعات المتباينة في الموارد. الواقع أن هذا المفهوم لم يكن محورياً حتى نهاية القرن العشرين. ولذا عولج موضوع هجرة الأيدي العاملة من زاوية حقوق الإنسان في المقام الأول.

مع تفاقم نقص اليد العاملة في الدول الصناعية، خصوصاً بسبب تراجع معدل الخصوبة، وفق ما شرحت الأسبوع الماضي، فإنَّ مسألة الهجرة من الدول الكثيفة السكان باتت عنصراً ضرورياً في أي خطة اقتصادية. لا بد من الإشارة هنا إلى أن الهجرة غير المنظمة، ولا سيما غير الشرعية التي عرفناها منذ 2010 عبر البحر المتوسط، قد ألقت ظلالاً كثيفة، حجبت الجانب الاقتصاديَّ في المسألة، وأبرزتِ التحديات الأمنيةَ والأخلاقية، التي تواجه المجتمعات الأوروبية التي يستهدفها المهاجرون. ولهذا على الأرجح، أمست موضوعاً للتنازع السياسي في هذه المجتمعات.

مع ذلك، فإنَّ العالمَ يحتاج إلى مطالعة شمولية للموضوع، ولا سيما النظر لانتقال اليد العاملة بين الدول، باعتبارها نوعاً من توزيع الثروة بين من يملكها ومن يفتقر إليها. لا بدَّ أيضاً من التشديد على أنَّ المقصود بالثروة هنا ليس المال فقط، فاليد العاملة، سواء أكانت ماهرة أم عادية، هي الأخرى ثروة، بالنظر لقيمتها الاقتصادية في البلدان التي تحتاجها. ولولا وجود قوة العمل المهاجرة، ما تمكنت المجتمعات من ترجمة إمكانات الثروة إلى ثروة فعلية. بل إنَّ الثروة الفعلية مهددة بالتلاشي إن لم يتواصل تحديث الاقتصاد وتعزيز مصادره، ولا سيما قوة العمل الشابة. إنَّ اليدَ العاملة التي تصدرها الدول الفقيرة وسيلة لا غنى عنها لصناعة الثروة والتقدم والرفاه في البلدان الغنية، ولهذا فهي جزء من عملية التوزيع، وإن انتقالها تطبيق فعلي للعدالة التوزيعية على مستوى عالمي.

هذه دعوة للاقتصاديين، للتفكير في مسألة الهجرة كجزء من عملية النمو الاقتصادي والتوزيع المتقابل للحاجات والفرص بين المجتمعات، بدل الاقتصار على التفكير الأمني والحقوقي، وهو ضروري، لكنه قد يحجب جوهر الموضوع، أي ضرورة الهجرة لاستمرار النمو على مستوى عالمي.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

على مر التاريخ، واجه قاده وعلماء التنوير انتقادات وهجمات من الكهنوت الذي راى ان افكارهم تمثل تهديدا لثوابتهم العقائديه وتزعزع تسلطهم علي المجتمع.

وقبل الخوض في تفاصيل المقال، لا بدّ من توضيح ان مصطلح الكهنوت يشير الي اشخاص معينين للقيام بالخدمات والطقوس الدينيه؛ في اليهودية، رجال الدين هم الحاخامات، وفي المسيحية الكهنة، وفي الإسلام يُعتبر الشيوخ رجال دين، مع أن الإسلام لا يعترف بالكهنوت.

حُسم الصراع بين العلم والكهنوت في أوروبا في العصر الحديث لصالح العلم بعد مواجهات عديده مثل محاكمة جاليليو أمام الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى بسبب ادعائه أن الأرض ليست مركز الكون وأنها تدور حول الشمس، وهجمات رجال الدين على نظرية داروين في التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي في القرن التاسع عشر.

في هذا المقال سنعرض ثلاثة أمثلة مهمة للصراع بين الكهنوت والعلم في مصر وهم حسب الترتيب الزمني؛ الدكتور طه حسين، الدكتور لويس عوض، والدكتور نصر حامد أبو زيد.

نبدأ بقصة محاكمة الدكتور طه حسين في عشرينيات القرن الماضي وإصداره كتابًا عن الشعر الجاهلي قال فيه أن كثيرًا من الشعر الجاهلي كُتب بعد ظهور الإسلام لأسباب دينية وسياسية. رفض علماء الأزهر تحليله، معتبرين إياه اعتداءً على الثوابت الدينية، وأرسل شيخ الأزهر آنذاك خطاباً إلى النائب العام يتهم فيه كتاب "في الشعر الجاهلي" بتكذيب القرآن الكريم.

قام بالتحقيق محمد نور رئيس نيابة مصر المعروف بتدينه وثقافته الواسعة. وبعد دراسة شاملة لجميع جوانب القضية، قرر حفظ القضية إدارياً استناداً إلى أحكام دستور 1923 الذي ينص على أن حرية الاعتقاد والرأي مطلقة، ولكل إنسان الحق في التعبير عن رأيه في حدود القانون، وأن الدكتور طه حسين لم يقصد الإساءة إلى الإسلام، وأن ما قاله كان لأغراض البحث العلمي.

وبينما أنصفت النيابة العامة طه حسين وحرية البحث العلمي في عشرينيات القرن الماضي، فإن القانون لم ينصف لويس عوض ونصر حامد أبو زيد في ثمانينيات القرن العشرين، تحت تأثير الفكر الديني السلفي في تلك الحقبة المؤسفة من تاريخ مصرالحديث.

اتُهم الدكتور لويس عوض بمهاجمة الإسلام والتراث العربي بعد نشره كتابه الموسوعي "مقدمة في فقه اللغة العربية" عام 1980 الذي تتطلب عشرين عامًا من البحث الدقيق، واستخدام المنهج العلمي الحديث لدراسة اللغة العربية. اوضح الكتاب أن اللغة العربية هي أحدث فروع اللغات السامية التي انبثقت من شجرة اللغات الأفروآسيوية، وان هناك كلمات كثيره من لغات أخرى في اللغة العربية، وان فكرة اعجاز اللغه العربيه ظهرت بعد الفتوحات الاسلاميه، لدعم تفوق العرب ولغتهم على البلاد التي تم غزوها. أثارت قدسية واعجاز اللغة العربية جدلاً بين الأشاعرة والمعتزلة. اعتبر المعتزلة اللغة العربية لغةً مخلوقةً كسائر اللغات، ودعوا إلى استعمال العقل. في المقابل، رأى الأشاعرة أن اللغة العربية لغةٌ مقدسة، وليست مخلوقةً كسائر اللغات.

رفض مجمع البحوث الإسلامية تحليل الدكتور لويس عوض للغة العربية، وأرسل مذكرة في سبتمبر 1981 إلى مباحث أمن الدولة، طالب فيها بمصادرة الكتاب واستجواب مؤلفه، وحُدِّدَت جلسةٌ في محكمة جنوب القاهرة للتحقيق في هذا الاتهام الذي رفضه محامي لويس عوض وطلب رأي من مجمع اللغة العربية، لأن القضية تتعلق بفقه اللغة العربية، وليس بالدين. إلا أن الأزهر رفض ذلك وأكد أن مجمع البحوث الإسلامية هو الجهة المختصة. رضخت المحكمة لطلب الأزهر تفاديًا لردود فعل غير محسوبه في الشارع المصري في فترة توتر تشهدها البلاد بعد اغتيال انور السادات. وفي ظل هذه الظروف، قضت المحكمة بمصادرة الكتاب، ما جعل مجمع البحوث الإسلامية طرفاً وحكماً في نفس الوقت وهذا انتهكا لأبسط مبادئ العدالة في القانون. علاوة على ذلك فإن حكم القاضي يخالف القانون رقم 10 لسنة 1967 ولائحته التنفيذية لسنة 1975، اللذين لا يعطيان الأزهر بجميع هيئاته أي حق في طلب مصادرة أي كتاب أو عمل فني. وعلق الكاتب يوسف القعيد على الحكم قائلاً إن أسلوب الحكم عفا عليه الزمن، ومنع نشر الكتاب مأساة متكاملة، ولا يمكن معالجة الكتابة بأمن الدولة ولا بمجمع البحوث الإسلامية.

تعرض الكتاب ايضا لانتقادات من المفكرين الإسلاميين، الذين اتهموا لويس عوض بتجاوز حدود النقد الأكاديمي إلى التشكيك في مكانة اللغة العربية كعنصر ديني وثقافي، وان استخدام المناهج الغربية في تحليل اللغة العربية لا يتناسب مع خصوصيتها الثقافية والدينية.

امتد النقد إلى الهجوم الشخصي على الدكتور لويس عوض والسخريه من اسم لويس، الذي له أصول فرنسية، ووصفه بأنه مفكر صليبي، وهذا المصطلح له دلالات عدائية مرتبطة بتاريخ الحروب الصليبية. ومن الشائعات السخيفة ان لويس عوض كتب المقدمة فقط، وأن جميع فصول الكتاب كتبها باحثون من الكنيسة، وعلى رأسهم الأب جورج قنواتي، الراهب الدومينيكي الذي يعد من أهم المفكرين المصريين .

التزم الدكتور لويس عوض بالصمت تجاه النقد والاتهامات قائلاُ قولته الشهيرة " أنا لا أناقش من هم دوني، وليسوا لي أنداداً ”.

على العكس من ذلك، حظي الكتاب بإشادة واسعة من الأكاديميين البارزين في فقه اللغة العربية، الذين اعتبروه موسوعة فكرية ولغوية واسعة. واتفق معظمهم على أن هدف المؤلف ومنهجه هو تطبيق القوانين العلمية الحديثة على اللغة العربية، وليس مهاجمة الدين الإسلامي.

نختتم المقال بقصة الدكتور نصر حامد أبو زيد، الذي حوكم في تسعينيات القرن الماضي، وفقًا لنظام الحسبة، وهو نظام قانوني، يُعطي الحق لأي شخص باللجوء إلى القضاء واتهام أي مسلم بالردة . وهذا أسلوب يخضع للتاويل وتفسير النصوص الدينية بما يتجاوز ظاهرها. وقد تسبب التاويل في اختلافات بين المدارس الفكرية المختلفه، فالمدرسة السلفية تعتمد على التفسير الحرفي الظاهري، وكان لها تأثيرٌ بالغ في محاكمة ابوزيد، ومدرسة الأشاعرة تتبني نهجًا وسطًا بين التأويل والظاهر، ومدرسة المعتزلة التي تتميز باعتمادها على التأويل العقلي للنصوص وفقًا للمنطق والفلسفة.

كانت جريمه الدكتور أبو زيد انه سعى الي تقديم قراءة جديدة للنصوص الدينية، معتمدا علي علم التأويل (الهرمنيوطيقا)، موضحا أن فهم القرآن يجب أن يكون تاريخيًا وسياقيًا، وليس جامدًا أو حرفيًا، وأن النصوص الدينية جزء من المنظومة الثقافية والتاريخية التي نشأت فيها. أدت هذه الأفكار إلى اتهامه بالإلحاد، ورفض ترقيته إلى أستاذ بجامعة القاهرة. وكان للدكتور عبد الصبور شاهين، عضو اللجنة العلمية التي راجعت أبحاث أبو زيد للحصول على الأستاذية، والخطيب بجامع عمرو بن العاص، دورٌ رئيسي في اتهام أبو زيد بالإلحاد وتشويه سمعته في الشارع المصري. وادي ذلك الي رفع دعوى ”حسبة“ تتهمه الدكتور ابوزيد بالردة عن الإسلام ووجوب طلاق زوجته. وفي 5 أغسطس 1996 أصدرت محكمه النقض برئاسة المستشار محمد مصباح شرابية، حكمًا بتفريق ابوزيد عن زوجته الدكتورة ابتهال يونس، أستاذة الأدب الفرنسي، واستند الحكم إلى الشريعة الإسلامية، ودستور الدولة الذي ينص على أن دين الدولة هو الإسلام، وأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. وفي أعقاب قرار المحكمة، اضطر أبو زيد إلى الفرار من مصر إلى هولندا مع زوجته، حيث واصل أبحاثه الأكاديمية في جامعة ليدن.

بعد سنوات من قضيه الدكتور ابوزيد، شعر النظام القضائي في مصر بهشاشة وثائق الحسبة، ولذلك رفض دعوى الحسبة.

***

بقلم استاذ دكتور سامح مرقس

في البدء كانت الفكرة.. ومن قال إن الفكرة ولدت صدفة؟

إنها الشرارة الأولى التي توقظ فينا رغبة السؤال، وتفتح في جدار العادة نافذة على المجهول. تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها كالماء حين يلامس الصخر، يبدأ وديعا ثم يشق طريقه عميقا في القلب والعقل معا.

لكن الفكرة، ما لم تتأمل، تظل سطحا لامعا يخفي عمقا مجهولا.

وحين تتأمل الفكرة، تتحول إلى مرآة؛ مرآة لا تعكس وجهك كما هو، بل تعريك من أقنعتك، وتريك ما لا تراه في ضوء العادة.

إنها لا تريك وجهك فحسب، بل ما وراء وجهك، ما تحاول إخفاءه عن نفسك قبل غيرك.

تُريك ما لم تكن تريد أن تراه، وتجبرك على أن تصبر ما لم تكن قادرا على تسميته.

إنها لحظة صادقة بينك وبين ذاتك، حين يتوارى الضجيج، ويعلو صوت الوعي الهامس: “من أنت؟ وما الذي يراك وأنت تفكر؟”.

في المرآة يبدأ الانكشاف، تسقط الصور المصطنعة، وتتهاوى الأقنعة التي طالما احتميت بها. تدرك فجأة أن المعرفة ليست إضافةً لما تعرف، بل انتزاعًا لما توهّمت أنك تعرفه.

ليس الانكشاف معرفة جديدة، بل سقوط الحجب التي كانت تفصل بينك وبين ما هو قائم فيك منذ الأزل.

تكتشف أن ما كنت تراه خارجك كان صدىً لما في داخلك، وأن ما كنت تحاربه في الآخرين لم يكن إلا امتدادا لظلك الشخصي.

في لحظة الانكشاف تلك، يصير العالم كله مرآة ممتدة، ويصير الوعي نافذة تطل على ما وراء الظاهر

هناك، في صمت الانكشاف، يولد الخوف والدهشة معا؛ الخوف من الفراغ، والدهشة من اتساعه. لكن الوعي لا يكتمل إلا عبر التجرد. ذلك المعبر الصعب، الذي لا يقطع بالمعرفة وحدها، بل بالتحرّر منها.

والتجرد هو أن تخلع عنك ثياب المفاهيم والعقائد والتصنيفات، أن تنزل إلى جوهر الوجود عاريًا إلا من الصدق. هو لحظة الفناء الجميل، حين تسلم نفسك لعري الفهم، وتترك عنك كل تعصب وانتماء، كل فكرة مسبقة أو هوية مكتسبة. التجرد ليس إنكارا للذات، بل تحرر منها لتبلغ حقيقتها الأولى، كالنهر حين ينساب إلى منبعه ليجد ذاته في الأصل.

ثم تأتي المواجهة، وهي أعنف المراحل وأجملها. مواجهة الذات حين ترى نفسها بوضوح تام، بلا زخرف ولا أعذار. تسقط الأقنعة، وتبقى أنت أمام حقيقتك المجردة. عندها تفهم أن الوعي ليس راحة بل امتحان، وأن الحقيقة لا تمنح نفسها إلا لمن يملك الشجاعة على النظر في هاويته الخاصة.

وعند المواجهة تبلغ الوعي ذروته: مواجهة الذات بالذات، والوعي بالوعي، والنور بالظل. هناك لا مهرب، لأنك تنظر في أعماقك بعيون الحقيقة، وتدرك أن كل ما حولك لم يكن إلا إسقاطا لما فيك.

وحين تصمد أمام المواجهة، تتجلى الحقيقة. لا كفكرة تضاف إلى أفكارك، بل كحضور يشملك، كنور لا يرى بالعقل وحده، بل يحس بالقلب الذي تطهر من زيفه. عندها، لا تعود تبحث عنها خارجك، لأنها تصير أنت… وأنت تصيرها

وحين تمرّ النار ويصفو المعدن، تتجلى الحقيقة. لا كفكرة في كتاب، بل كحضور يملؤك. تدرك أن الوعي ليس غاية، بل عودة: عودة إلى النور الأول الذي انبثق منه كل شيء. هناك، في تلك اللحظة، تصمت الكلمات، لأن الحقيقة لا تقال، بل ترى... تعاش... تصبح أنت.

هكذا هو مسار الوعي: فكرة توقظ، فمرآة تكشف، فانكشاف يطهر، فتجرد يحرر، فمواجهة تنقي، فحقيقة تتجلى.

رحلة من الظاهر إلى الجوهر، من الكلمة إلى الصمت، ومن الإنسان إلى ما يتجاوز الإنسان. وحين يكتمل المسار. تخفت الأصوات في الداخل.

وتتراجع الأسئلة التي كانت تملأ الأفق ضجيجا.. يكتشف الإنسان أنه لم يكن يسير نحو الحقيقة. بل كانت الحقيقة تسير نحوه منذ البدء. تنتظر لحظة استعداده لأن يراها. هناك، في أعمق نقطة من الصمت، يدرك أن الفكرة كانت سلما، والمرآة كانت امتحانا.. والتجرد عبورا. والمواجهة ولادة ثانية.

وفي النور الأخير، لا يعود الوعي سعيا ولا معرفة، بل حالة حضور كاملة، يشعر فيها الإنسان أنه لم يعد شيئا منفصلا عن الوجود، بل صار هو الوجود نفسه —هادئا، صافيا، أبديا، كأن الحقيقة لم تكن سوى نفسه وقد أشرقت أخيرا.

***

ابتهال عبد الوهاب - مصر

 

مفتتح: يمثل النقد الفلسفي ممارسة معرفية جوهرية قوامها الاستجواب المنهجي والفحص الدقيق للافتراضات الكامنة والبنى المعرفية. غير أن هذه الممارسة تواجه انحرافاً نظامياً معاصراً حيث تتحول من فعل بنائي موجه نحو الكشف عن الحقيقة إلى أداة تفكيكية موجهة نحو الهيمنة والإقصاء.

هنا تتحدد الإشكالية المحورية في السؤال الإبستيمولوجي الآتي: كيف يمكن للنقد، الذي يستمد شرعيته من الرغبة في الاستكشاف المشترك للحقيقة، أن ينقلب إلى آلية للتدمير الرمزي والنفي الكلي للآخر المعرفي؟

هذا التساؤل يعكس توتراً أساسياً يخترق التراثين الفلسفيين الغربي والإسلامي على السواء، كاشفاً عن التناقض بين الحافز المعرفي النزيه والنزعات الذاتية التي قد تفسد المسار النقدي.

 حول الانحراف النقدي

لاحظ الفيلسوف والمنطقي ماريو بونج (Mario Bunge) تمييزاً أبستيمولوجياً جوهرياً بين طبيعة الممارسة النقدية في حقل العلوم الطبيعية حيث يسود النقد البنائي التشاركي، وفي الحقول الإنسانية حيث يميل النقد نحو التفكيكية المحضة. هذه الملاحظة، وإن كانت قابلة للمناقشة، تحيل إلى حقيقة بنيوية تتعلق بطبيعة الكائن المعرفي ذاته: في المجالات العلمية يقبل الباحثون مقدمات معيارية مشتركة حول الحقيقة والبرهان، بينما في المجالات الإنسانية يتنازع المفكرون حول المقدمات الأساسية ذاتها، مما يحول النقد إلى صراع إيديولوجي حول الشرعية المعرفية والسلطة التفسيرية.

لقد عرف الفكر الإسلامي الكلاسيكي، وخاصة عبر منهجية الإمام الغزالي (Al-Ghazali)، نموذجاً متطوراً للرد الفكري يتجاوز هذا الانحراف. في كتابه "تهافت الفلاسفة"، لم يكتفِ الغزالي بتفكيك الموقف الفلسفي، بل سعى إلى استعادة التناسق المنطقي والاتساق المفاهيمي من خلال الاعتراف بقيمة الافتراضات الأساسية للخصم. وهذا يشير إلى أن الانحراف النقدي لا ينجم عن حتمية بنيوية بل عن الانحراف الأخلاقي عن الغاية الأساسية أي تحول الباعث من السعي المشترك للحقيقة إلى الرغبة في الانتصار الإيديولوجي.

وبالتالي ينكشف الانحراف على ثلاثة مستويات متشابكة: أولاً، على مستوى الخطاب الإبستيمي، حيث يفترض الناقد موقع اليقين المطلق دون الانفتاح على إمكانية مراجعة فرضياته الخاصة؛

ثانياً، على المستوى الأنطولوجي، حيث يُقصى الآخر من دائرة الذات المعتبرة، محولاً إياه إلى موضوع مجرد من الكينونة الفاعلة؛

ثالثاً، على المستوى الجدلي، حيث تتلاشى إمكانية الحوار المتبادل وتحل محله ديناميات الخصومة و التسقيط.

تأسيس الممارسة النقدية

لإعادة توجيه النقد نحو مساره النزيه، يتطلب الأمر استعادة المعايير الأخلاقية والإبستيمولوجية التي تحكم الممارسة النقدية الرشيدة. تتمثل هذه المبادئ في:

مبدأ سلامة الباعث الإبستيمي: يقتضي هذا المبدأ افتراضاً أولياً بصدق الخصم وصحة اهتماماته المعرفية، مع السعي الجاد لفهم السياق الإدراكي الذي يوجه فكره. لا يعني هذا التساهل مع الأخطاء الظاهرة، بل تعميق النقد من خلال البحث عن شروط إمكانيتها وأساسها المنطقي. هذا النهج يميز بين رفض الفكرة ورفض الفاعل المعرفي.

مبدأ الاعتراف المتبادل: وفقاً لجدلية الاعتراف عند هيغل (Hegel)، لا يمكن للنقد أن يحقق غايته الحقيقية إلا إذا اعترف بالآخر كذات فاعلة متساوية في الحقوق المعرفية، وليس كموضوع سلبي للمحاكمة. هذا يستدعي قبول قيمة الاختلاف الفكري كفرصة للنقاش المتبادل.

مبدأ التعدد الإبستيمي: يقتضي هذا المبدأ الاعتراف بشرعية التقاليد المعرفية المختلفة والمستقلة. الفكر الإسلامي الكلاسيكي والحضارات الأخرى لم تكن نسخاً ناقصة من الحداثة الغربية بل تمثل رؤى معرفية متكاملة ومستقلة. إدوارد سعيد (Edward Said) في كتابيه " الاستشراق" و "الثقافة و الامبريالية" أظهر كيف أن النقد المنحرف يمارس شكلاً من الاستعمار المعرفي حيث يُختزل الآخر إلى موضوع دراسة يحكمه منطق الهيمنة.

مبدأ المنهج الموضوعي: يتطلب النقد الرشيد الفصل بين الحجة الموضوعية والهجوم الشخصي. إن استخدام حجج وتقنيات الإذلال الرمزي لا يضعف الموقف المعارض فقط، بل يفقد النقد ذاته شرعيته المعرفية. قال كارل بوبر (Karl Popper) إن صرامة النقد الذاتي للعالم يجب أن تسبق أي نقد موجه للآخر.

 الممارسة النقدية بين الحقيقة والسلطة

اشار ميشيل فوكو (Michel Foucault) إلى أن النقد المنحرف غالباً ما يكون تعبيراً عن صراع على السلطة المعرفية أكثر من كونه بحثاً عن الحقيقة. عندما يتحول النقد إلى أداة للهيمنة، يفقد صلته بالوظيفة الأساسية للفكر النقدي: تحرير الوعي من الأوهام والتحيزات. والفيلسوف الفرنسي بول ريكور (Paul Ricoeur) أكد على ضرورة ما سماه "الفهم المتبادل" بين التقاليد المعرفية المختلفة، حيث يتعاون الطرفان على توسيع آفاق الفهم بدلاً من محاولة فرض أحدهما رؤيته على الآخر.

ومن الأهمية بمكان ان جوهر الممارسة النقدية الرشيدة في إدراك أن النقد والنقد الذاتي عمليتان جدليتان متلازمتان، ما دام الناقد يتهم غيره بالخطأ دون أن يخضع موقفه هو نفسه للفحص المستمر، فإنه يتجاهل الطبيعة الانعكاسية للمعرفة الإنسانية. هذا هو ما يميز النقد البنائي عن النقد الاستدماري: الأول يعترف بحدود معرفته ويسعى للتعاون، الثاني يدعي المعرفة المطلقة ويسعى للهيمنة.

 نحو ممارسة نقدية تعاونية

لابد من تأسيس الممارسة النقدية على أسس معيارية سليمة تتطلب تحولاً جذرياً في الفهم: من النقد كممارسة سلطوية إلى النقد كممارسة تحاورية تعترف بتعددية المسارات المعرفية. هذا لا يعني التخلي عن الدقة أو الصرامة الفكرية، بل إعادة توجيهها نحو البناء المشترك و التعاوني للمعنى.

فالحكمة الفلسفية العملية (phronesis)، سواء أكانت يونانية الأصل أم إسلامية في صيغتها (hikma)، تقتضي القدرة على التمييز بين الحجة الموضوعية والهجوم الإيديولوجي، وبين الاختلاف الفكري والعداء الشخصي.

في ظل واقع يعج بالانقسامات والصراعات الفكرية، تبرز الحاجة الملحة إلى إعادة استكشاف معايير النقد الأخلاقية والإبستيمولوجية.

فكانط (Immanuel Kant) دعا إلى استخدام عقلنا بشجاعة دون موجه؛ لكن هذه الشجاعة يجب أن تقترن بالتواضع المعرفي والاعتراف بأن الحقيقة لا تملكها جهة او مدرسة او جماعة او فرد دون ٱخر، بل هي ثمرة حوار مستمر بين الذوات المعترف بها فيما بينها.

***

بقلم: أ. مراد غريبي

في الطابع العملي للتفكير الناقد

كثيرا ما أرى أن هناك انطباعا يترسخ في أذهان الكثيرين من الناس، مفاده أن الفلسفة مجال نظري منفصل تماما عن الواقع الذي يعيشونه، أو بالأحرى لا علاقة لها بمشكلات الحياة اليومية مطلقا. غير أني أكاد أجزم - بناء على تأملي - بأن القراءة المتأنية في موضوع التفكير الناقد، بوصفه أحد الموضوعات المهمة في الفلسفة، قد كشفت لي عن أمر مغاير تماما لما يعتقده هؤلاء الناس؛ إذ تتمحور قناعتي في أن الفلسفة لا تقتصر على التنظير المجرد كما يتوهمون، بل تهتم – في جوهرها – بتمكين الإنسان من التفكير السليم، واتخاذ الحكم الرشيد، والتعامل الواعي مع الأدلة والحجج.

ومن هذا المنطلق، أرى أن التفكير الناقد يمكن أن يصبح ممارسة إنسانية لا يقتصر وجودها على المتخصصين في الفلسفة فحسب، بل تتجلى - بدرجات متفاوتة - في كل إنسان يستخدم عقله في فهم ما حوله.

ولعل ما يؤكد ما أزعمه أننا لو نظرنا إلى الرجل العادي لوجدناه يربط بين ظاهرة وأخرى، أو يفسر موقفا بناء على قرائن، فيمارس نوعا من الاستدلال العقلي، حتى وإن لم يدرك أنه يستخدم بنية التفكير الفلسفي نفسها. والجدير بالذكر أن أبرز تجليات التفكير الناقد يمكن أن تظهر بوضوح في بعض المهن التي تتطلب تحليل الأدلة، واستنتاج النتائج، وتفنيد الاحتمالات، ولعل من أبرزها مهنة رجال الشرطة؛ أي مهنة التحري من أجل التوصل إلى كشف ملابسات الجريمة.

وهذا يعني أنني أريد أن أقول إننا لو نظرنا إلى رجل الشرطة، فسوف نجد أنه يشبه الفيلسوف الذي يتفلسف تفلسفا عمليا. وبكل تأكيد، عندما يسمع البعض حديثي، سيسارعون إلى التساؤل: كيف يحدث ذلك؟ وسؤالهم هذا - في حقيقة الأمر - نابع من إغفالهم لأهمية الفلسفة، لا من خطأ في الفكرة ذاتها.

ومهما يكن من أمر، فإنني أرد على المتسائل قائلا: إننا كثيرا ما نسمع أحد رجال الشرطة يقول بثقة: "وضعت خطة متخرّش الميّة حتى وصلت للمجرم." ومن يتأمل هذه العبارة يجدها في حقيقتها تصف عملية استدلال فلسفية متكاملة؛ إذ يبدأ رجل الشرطة بجمع المعطيات (الملاحظات)، ثم يصوغ منها فرضيات، ويختبرها في ضوء الوقائع، ويستبعد الفروض التي لا تصمد أمام الأدلة.

وهذا هو ما نسميه في الفلسفة استخدام العقل بطريقة ناقدة في صورته الأنقى: عقل لا يقبل بالظاهر، بل يفتش في الأعماق، ويزن الأقوال بالأفعال، والنية بالنتيجة.

وبالتالي، إذا تأملنا سير عمل المحقق أو رجل الشرطة، لوجدناه يتبع الخطوات نفسها التي يسير عليها الفيلسوف أو المنطقي:

1-  الملاحظة الدقيقة للوقائع.

2-  صياغة فرضيات تفسيرية متعددة.

3-  اختبار الفرضيات بالأدلة الواقعية والمقارنة بينها.

4-  الوصول إلى استنتاج مبرر، مبني على الترجيح العقلي.

هذه هي المراحل نفسها التي يقوم عليها التفكير الفلسفي الاستدلالي. فالشرطي - من حيث لا يدري - يمارس ما يعرف في الفلسفة بـ"المنهج الاستنباطي" عندما يفسر السلوك بناء على قواعد عامة، و"المنهج الاستقرائي" حين يشرع في بناء قاعدة عامة من خلال تتبع الجزئيات.

ومن ثم يمكننا أن نتعلم من هذا التقاطع أن التفكير الناقد، كما تكشفه هذه المقارنة، ليس نشاطا تجريديا، بل أداة لفهم الواقع واتخاذ القرار السليم. وإن رجل الشرطة الذي يمارس الاستدلال للوصول إلى الحقيقة، والفيلسوف الذي يمارس النقد لاختبار صدق الفكرة، كلاهما يجتهد في خدمة قيمة واحدة: الحقيقة. وإذا كانت الفلسفة قد منحتنا الإطار النظري للتفكير الناقد، فإن التطبيق الميداني في حياة الناس - كعمل رجال الأمن أو القضاء أو الطب وغيرهم - يبرهن على أن الفلسفة حاضرة في تفاصيل الحياة، حتى وإن غابت تسميتها.

لذلك، وفي خاتمة رؤيتي وتأملي الشخصي، أوصي ببعض التوصيات، وأنا على علم تام بأن كثيرا من المؤسسات قد بدأت بالفعل بالاهتمام بالتفكير الناقد منذ فترة؛ غير أني أعيد التأكيد على ضرورة تضمين مهارات التفكير الناقد في التعليم المهني، وخاصة في كليات الشرطة والقانون والإعلام، بحيث يدرك المتدربون أن التفكير العقلي المنظم هو أداة نجاحهم الأساسية. كما أوصي بالربط بين الفلسفة والممارسة العملية في المناهج الجامعية، لتجاوز الصورة النمطية عن الفلسفة بوصفها ترفا ذهنيا، وإبراز بعدها التطبيقي.

وأدعو كذلك إلى تشجيع البحوث البينية التي تربط بين علم الفلسفة ومجالات مثل علم الجريمة والتحليل السلوكي، لإثراء فهمنا لآليات التفكير في الممارسة الواقعية. وأخيرا، ينبغي نشر ثقافة التفكير الناقد في المجتمع عبر الإعلام والتعليم، لترسيخ قيم التريث، والتحقق، واحترام الدليل.

خلاصة القول: إن التفكير الناقد، في جوهره، ليس ملكا للفلاسفة وحدهم، بل هو ملكة إنسانية يعيش بها الإنسان بوصفه كائنا عاقلا حرا. ومن ثم يمكنني القول بكل اطمئنان: إذا كان الفيلسوف يبحث عن الحقيقة في الكتب، فإن رجل الشرطة يبحث عنها في مسرح الجريمة، وكلاهما - في نهاية المطاف - يسيران في طريق واحد، هو المنهج الذي يتبعه العقل في بحثه عن إدراك الحقيقة كما هي (الصدق) ومحاولة فهم مغزى الوجود والأفكار والقيم (المعنى) بوصفهما غاية المعرفة والتفكير الفلسفي.

***

د. علي الخطيب - مصر

 

في المثقف اليوم