قضايا

لقد عُدت العدة، وتم شحذ الهمة، وتكاتف السواعد والاقلام الفكرية والثقافية كما السياسية والعسكرية، غربياً وعربياً، لنهاية أسطورة الدولة العثمانية، التي كانت آخر الأمبراطوريات الحاكمة بإسم الإسلام، والإسلام السياسي على وجه التحديد، من خلال الاعتماد على فكرة الخلافة الإسلامية، التي لبس معطفها السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918م)، مدعياً خلافة المسلمين، ذلك الحاكم الذي كان مصدر قلق للغرب والشرق، والعرب والمسلمين، مما جعل التحرك للأطاحة به وبحكمه ودولته على قدم وساق، وقد تظافرت الجهود الغربية والعربية للعمل المستمر على سقوط الحاكم ودولته معاً، فبدأت عجلة الفكر والثقافة بالعمل على تلك الاطاحة وذلك السقوط المعد له في السيناريوهات السياسية الجديدة مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وقد أتى كتاب (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق (1888-1966م) الذي صدر عام 1925، ليضع المسمار الأخير على نعش الخلافة الاسلامية، ويمثل البداية الجديدة للحكم المدني وتكوين الدولة العلمانية الجديدة، الذي دشنته الدولة التركية الجديدة، بإقامة الجمهورية التركية، تلك الجمهورية التي تدين بالولاء والتكوين والدستور للفكر الغربي، بقيادة مصطفى كمال أتاتورك (1881-1938م)، وما كان لعلي عبد الرازق، القاضي والشيخ الأزهري في كتابه، إلا ليستنهض الهمم للاطاحة بملك مصر فؤاد الأول (1968-1936م)، وبحكم دولة الخلافة العربية في مصر، التي سعى لها الملك آنذاك، وسعى عبد الرازق لإقامة الدولة المصرية الوطنية المدنية الجديدة، من خلال كتابه الذي يعد البيان الرسمي الأول لإقامة الدولة المصرية على غرار الحكم التركي، وغلق مسألة الخلافة التي سعى لها الملك فؤاد الأول للحصول عليها بعد أن ترك الأتراك أمرها، كما كان من قبل عبد الرحمن الكواكبي (1855-1902م) قد سعى لرفد إقامة الخلافة العربية في نجد والحجاز في كتابه (أم القرى)، ومحمد رشيد رضا (1865-1935م) في كتابه (الخلافة) الذي ألفه عام 1922، دعماً لخلافة الملك فؤاد الأول، بعد تخلي السلطنة العثمانية عنها.

الذي نود تسليط الضوء عليه هو التوظيف الفكري والثقافي والديني لصالح السياسي، في تلك الفترة من الواقع السياسي والاجتماعي العربي والاسلامي، وصدامه مع الفكر السياسي الغربي الجديد وفكرة الدولة المدنية الحديثة، بين فريق مؤيد لقيام للدولة العربية الجديدة بثوب ديني قومي (الكواكبي)، وفريق يحبذ قيام الدولة الاسلامية الدينية (رشيد رضا)، وفريق ذهب مع قيام دولة وطنية عربية علمانية غير دينية (عبد الرازق)، تتخذ من التجربة التركية الجديدة نموذجاً لها في مصر، وقد نظّر عبد الرازق لذلك في كتابه الاسلام وأصول الحكم، الذي نفى فيه فكرة قيام دولة الرسول وفكرة الخلافة السياسية الدينية التي تولاها الخلفاء الراشدين الأربعة.  حيث يقول: (والحق أن الدين الاسلامى بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هياوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عز وقوة، والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة. وانما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم يذكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وانما تركها لنا، لترجع فيها الى احكام العقل، وتجارب الامم، وقواعد السياسة. كما أن تدبير الجيوش الاسلامية، وعمارة المدن والثغور، ونظام الدوواوين لا شان للدين بها، وانما يرجع الأمر فيها الى العقل والتجريب، او الى قواعد الحروب، او هندسة المباني وآراء العارفين. لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى، في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذى ذلوا له واستكانوا اليه، وان يبنوا قواعد ملكهم، ونظام حكومتهم، على احدث ما انتجت العقول البشرية، وامتن ما دلت تجارب الأمم على انه خير اصول الحكم.). الاسلام وأصول الحكم. ص 182.

فقد قدم عبد الرازق كل ما يملك من أدلة وحجج وبراهين دينية وعقلية وفكرية على أن النبي ليس بحاكم أو ملك، وانما هو نبي ورسول ووحي للأمة، فزعامة النبي للأمة (زعامة الدعوة الصادقة الى الله وإبلاغ رسالته، لا زعامة الملك. انها رسالة الدين، وحكم النبوة لا حكم السلاطين...ولاية الرسول على قومه ولاية روحية، منشؤها ايما القلب. وخضوعه خضوعاً صادقاً تاماً يتبعه خضوع الجسم، وولاية الحاكم ولاية مادية تعتمد اخضاع الجسم من غير ان يكون لها بالقلوب اتصال. تلك ولاية هداية إلى الله وارشاد اليه ، وهذه ولاية تدبير المصالح الحياة وعمارة الأرض. تلك للدين، وهذه الدنيا. تلك لله، وهذه للناس . تلك زعامة دينية، وهذه زعامة سياسية، ويا بعد ما بين السياسة والدين.) الاسلام وأصول الحكم. ص 157.

لقد حشّد عبد الرازق كتابه لدحض فكرة الخلافة الاسلامية التي كان رشيد رضا قد حشّد كل ما أستطاع اليه سبيلاً من شحذ كتابه (الخلافة) بالأدلة النقلية والعقلية لتأييد قيام دولة الخلافة الاسلامية، ونجد إن الصراع قائم على قدم وساق بين مؤيد دولة الخلافة وبين من يرفضها، وقد كان هنالك طرف ينظر الى ما تؤول اليه نتائج الصراع بين الأثنين ليخرج بنتيجة تنسجم وطروحاته وتوجهاته الأيديولوجية، وكانت القوى السياسية الخارجية تأخذ هذا الدور، وتشحذ الهمم وتغذي هذى على حساب ذاك، وتشجع ذاك على حساب هذا، وكأننا في حلبة صراع، الفائز كلاهما خاسر، والرابح الوحيد هو من يراهن على الفوز في تحقيق نجاحه على حساب الآخرين، بينما تبقى نار الصراع مستعرة بين جميع الاطراف دون تهدأة، ويبقى الناظر والمراهن سيد الأمور، وهذا ما نجده قائماً الى يومنا هذا، من خلال السير في ركاب الغرب دون أن ندركهم، وتخلينا عن هويتنا دون أن نحييها، ونبقى مذبذبين بين ذلك لا إلى هوؤاء ولا إلى هؤلاء. وها نحن بعد مضي مئة عام على تأليف كتاب الاسلام وأصول الحكم نعيش تناقضات وصراعات سياسية واجتماعية عربية واسلامية، زادت حجم الشقة بيننا، ولا نثق بأي مشروع سياسي يقدم لنا، والدول العربية مختلفة الولاء للغرب، بين تابع واقع في أحضان الغرب أسمه عربي ومساره غربي، وبين معاد للغرب متخلف يخدع شعبه بعداوته للغرب وهو يشارك في تأخر جماعته، وبين طرف ثالث يريد تحقيق حلمه بالأستقلال العربي دون تدخل الغرب، وطرف رابع يريد الجمع بين رأيي الفريقين (العربي الغربي)، وتبقى أحلامنا الرومانسية طاغية علينا لا تسمن ولا تغني من جوع، وها نحن بعد مئة عام من خطاب علي عبد الرازق لم نلج عالم العلمانية عربياً، وفشل المشاريع السياسية الوطنية، وبقي خطابنا السياسي المثالي الديني يغذي مجتمعاتنا بصورة متشنجة ونتقاتل فيما بيننا بين خطابات متهالكة تدل على بؤسنا السياسي والثقافي معاً. وبقي الغرب يتقدم أكثر ونحن نتأخر أكثر، دون أن ندرك خطاب نهضة أو تنوير جديد ينير لنا الطريق أو ندرك به سبيل النجاة.  

***

د. رائد جبار كاظم

 

كيف يتحول التطرف من فكرة أو موقف إلى مشروع تقاتل؟

لا إطمئنان مطلق لنوازع الذات البشرية، ولا استقرار يرتجى من القلق المصاحب للأفكار، ولا أمان يتحقق مع دافعية التطرف الذاتية الآنية أو المتبلورة!

هذه أركان أساسية لم يحد منها الوعي العقلاني بيقين ثابت. بل دائما ما تعزز تطورها السلبي إنشغالات ذاتية قد لا تظهر بشكل تراتبي بقدر ما تظهرها المفاجئات.

لا يمكننا الحديث هنا عن التطرف بوصفه فعل منقطع عن بدايته ونهايته، وهذه ما يخلقها الأتفاق، بل بوصفه مشروع رغبة وإرادة معلومة، يؤسس عليها ما يكون قاتلاً في الحين والمستقبل. وقد لا ينظر له كذلك من داخل هذا المشروع الا تحت مسميات خادعة لأتباع هذا المشروع، وهم في مرحلة اليقين بصحة ما ورد فيه وصدر منه. أما من يتوقع نتائجه أو ينظرها فله إن يمارس عليها نقداً لعله أن يُغير من توجه هذا المشروع من صيغته القاتلة الإقتتالية إلى صيغته المتوثبة أو صيغته الحوارية أو صيغته التصالحية.

والسؤال الذي يطرح هنا هل ممكن أن نظن بهذا المشروع التطرفي رجعة إلى ما نريده بناءاً على نقد متبنياته؟ أم أن المخاوف تدفعنا إلى أن نواجهه بما يصعد من التقاتلية المتقابلة؟ فحين تكون إرادة الحوار حاضرة، فمن الواجب الإحتياطي أن تكون التقاتلية حاضرة بالوزن نفسه. ولكن هل يفهم هذا الإستعداد التقابلي على إنه تطرف كامن في نوازع الطرفين إم إن الأخير هو مواجه فقط؟ ما نخشاه في دوافع هذه المواجهة أن تتحول من دافعية مشروعة إلى دافعية غير مشروعة متطورة إلى ما يعود بالتطرف كصفة متحصلة من عملية رد فعل لفعل التقاتل المتجانب.ومع شدة القتال تبرز صفة مشتركة بين المتقاتلين، ممثلين لمشروع واحد وهو مشروع التقاتل المتطرف.

قد نجد في المدارس السيكولوجية تفسيراً لبلورة مثل هذه المشاريع، ونجد كذلك تحليلاً فلسفياً لفكرة المشروع وتطوراته المعرفية التي تحاول أن تقنع الملايين من عناصر مشروع التقاتل وتشكيلاته. ومع ذلك لم تتوقف الأجندة السياسية من أستغلال هذه الروح الوثابة للتقاتل تحت أي ذريعة وحجة ودافعية، مثل ما فعلته أنظمة، وأحزاب في التعامل مع الحركات المتطرفة، لا سيما الحركات المتطرفة الناشئة في البيئات الهشة سياسياً وأمنياً في منطقة الشرق الأوسط، وقد يُغذي مثل هذه المشارع فتواي دينية تشجع على المضي بهكذا مشاريع وتدفع عبر الوصايا الإفتائية إلى تعزيز القناعات بمشروعية التقاتل من أجل غايات ماورائية أو غايات محدودة الهدف الإستراتيجي.

كثيراً ما نجد في بنية هذه المشارع غايات فردية أو غايات جماعية براكماتية، لا تراعي مصلحة الكافة من الناس، ولا تسند إلى مشروعية قانونية في القبول، بقدر سعيها إلى أهداف متخيلة، ما أن تجد نفسها في حدود مشروع التوسعية، حتى تجد نفسها عاجزة عن احداث أي من طموحاتها في التغيير أو في تسويغ الاقتتالية المُتبناة في مشروعها الأول. وهنا يتحول التقاتل من مشروع عقيدة متطرفة إلى مشروع تطرف في حماية المصالح، وتسويق أجندات، ورغبة في إدامة السلطة.

وهذا يعني إن التقاتل يبقى جوهر النشاط التطرفي في كل مراحل تحولاته من مشروع إبادة الخصوم إلى مشروع حكمهم.

***

د. رائد عبيس

غالبا ما ارتبط الفيلسوف والرياضي اليوناني فيثاغورس بمفهوم التناسخ، الى جانب العديد من المعتقدات الروحية والميتافيزيقية. ونظرا لأن فيثاغورس لم يترك بذاته أي عمل مكتوب، فان معظم المعلومات حوله تأتي من مصادر لاحقة، يفسرها الباحثون بمختلف الطرق. تُعزى لفيثاغورس وأتباعه أفكار أساسية متصلة بالتناسخ والروح، مركزين على خلود الروح ورحلتها الدورية عبر مختلف أشكال الحياة.

الجسد كمدفن للروح

معظم الكتاب القدماء يتفقون على ان فيثاغورس كان ابن منساخوس Mnesarchus. منساخوس وصل الى جزيرة ساموس لغرض التجارة اثناء موسم نقص المحصول. وبعد ان عرض الحنطة بسعر أقل قامت الدولة بتكريمه ومنحته الجنسية في ساموس. وبسبب ان فيثاغورس أظهر منذ شبابه قدرة متميزة في كل أنواع الدراسة، أخذه منساخورس الى مدينة تير و أطلعه على تعاليم الكلدانيين .

بعد ذلك، عاد فيثاغورس الى ايونيا. ارتبط أولا بفريسيدس pherecydes ولاحقا بهيرموداماس - الشاعر من ساموس. كان فريسيدس ذو تأثير كبير على فيثاغورس، وهو من أقدم الفلاسفة في تعليم خلود الروح. ونظرا لتحفز فيثاغورس بهذه التعاليم الى جانب التقاليد الاورفية ادّعى ان الروح إلهية وخالدة. هو اعتقد ان الجسد اعتقل الروح مشبّها الجسد بالمقبرة.

تناسخ الروح طبقا لفيثاغورس

اعتقد فيثاغورس في تناسخ الأرواح، وهو ما يُعرف أيضا بالتقمص. وهو الفكرة بان الروح خالدة، وعند الموت، تُعاد ولادتها في جسد جديد. هذه الدورة من الولادة والموت وإعادة الولادة تستمر حتى تحقق الروح الطهارة والتنوير. طبقا للمؤرخ ديوجين لايرتيوس، علّم فيثاغورس ان الروح تتألف من جزئين احدهما فان والأخر غير فان، وتستمر مسيرتها في التنقل من جسد الى آخر. في الفكر الفيثاغوري، يرتبط تطور الروح الأخلاقي والروحي بالتناسخ. الروح تطهّر ذاتها عبر السفر خلال حيوات مختلفة، تتعلم وتتحسّن وتنمو روحيا عبر مختلف الاشكال والتجارب.

فيثاغورس وأتباعه أكّدوا على الفضيلة وعيش حياة متناغمة. هم اعتقدوا ان أفعال الفرد وسلوكه في حياة واحدة تؤثر في طبيعة حيواته المستقبلية. عبر العيش أخلاقيا، وممارسة الانضباط الذاتي والسعي للحكمة، يستطيع الفرد الارتقاء بروحه الى مراتب عليا في الوجود. بتلك الطريقة هو سوف يتحرر بالنهاية من دورة إعادة الميلاد.

التناسخ كسبب للنباتية واحترام الحياة

علّم فيثاغورس طلابه ان يمتنعوا عن تناول اللحوم، رغم ان التفسيرات تختلف بشأن هذه المسألة. طبقا لديوجين لايرتيوس، احدى حجج فيثاغورس التي استُخدمت ضد استهلاك الحيوانات هو انها قد تكون من اقربائهم او اصدقائهم الذين تقمصت ارواحهم في اجسام حيوانية. هو اعتقد ان جميع الكائنات الحية  - وليس فقط الانسان – كانوا جزءاً من نفس دورة التناسخ. هذه العقيدة قادت الى دعوته القوية للنباتية، لأنه رأى الحيوانات كونها تمتلك ارواحا فهي قادرة على مباشرة إعادة الميلاد. وبالنتيجة، فان إيذاء او استهلاك لحم الحيوانات اُعتبر عملا غير أخلاقي.

الروح والعالم السماوي

نظر فيثاغورس للروح باعتبارها مرتبطة بعالم سماوي. النجوم، كونها إلهية وأبدية، هي من أقارب الروح. الهدف النهائي للروح هو العودة الى هذا التناغم السماوي بعد التطهير. هو رأى الكون كنظام حي موحّد حيث الروح والنجوم متشابكان بعمق. النجوم تمثل النظام الإلهي للكون، بينما الروح هي انعكاس مصغّر لهذا النظام. عبر عيش حياة فاضلة وتأمّل الطبيعة الرياضية والمتناغمة للكون، يمكن للمرء السمو بروحه وتحقيق الاتحاد بالإله.

الروح، كالنجوم، جزء من النظام الإلهي للكون. اعتقد فيثاغورس انه من خلال فهم تناغم الكون، يمكن للمرء ان يجعل روحه تتماشى مع هذا النظام الكوني. هو ربط مساكن الحياة الآخرة الهوميرية بالسموات. للإجابة على السؤال "ماهي الجزر المباركة؟" او كيف ستكون وجهتنا بعد الوفاة لو عشنا حياة جيدة؟، هو يجيب: "الشمس والقمر". ايضا، في قوله "الكواكب هي كلاب لبيرسيفون"، تعني ان الكواكب تعمل كوسائل للانتقام من اللاعدالة التي ترتكبها الارواح.

الاساطير الفيثاغورية والايمان الثيولوجي

تلك الاقوال، الى جانب عبارة "الأرواح لا يمكنها الصعود بدون موسيقا"، تسلط الضوء على مظهر هام لإيمان فيثاغورس الاخروي: روح أولئك الذين يلاحظون المبادئ الأخلاقية للإخوة تسمو فوق السماء وتستقر في الشمس والقمر.

اساطير فيثاغورية أخرى تصف التالي: الرعد يهدد أولئك الذين في تارتاروس، يخيفهم، الزلازل تنتج عن تجمّع الأموات، ربات الإلهام يعزفن على قيثارة الثريا، زحل يذرف الدموع التي تشكل البحر، ريا Rhea(ام الالهة) تمسك مجموعة نجوم في السماء (Great Bear). فيثاغورس ربط أيضا ارض الاحلام بمجرة درب التبانة.

فيثاغورس يتذكر حياته الماضية

طبقا للاسطورة، امتلك فيثاغورس مقدرة فريدة في تذكّر حياته الماضية. هذه العقيدة تتجذر في ممارساته الروحية وارتباطه المزعوم بالمعرفة الإلهية. فيثاغورس ادّعى انه عاش مجسدا يوفوريوس، المحارب الذي قاتل في حرب طروادة. طبقا لميثولوجيا اليونانية، يوفوريوس كان ابنا لبانثوس الشخصية الشهيرة في اليادة هوميروس. فيثاغورس ادّعى أيضا ان روحه باشرت عدة حالات من التناسخ وانه يستطيع تذكّر ليس فقط حياته كـ يوفوريوس وانما أيضا الاشكال الأخرى التي تقمصها. هو وصف الرحلة في العالم السفلي حيث تقيم الأرواح بين الحيوات، وكيف انه اكتسب الحكمة من تلك التجارب.

الروايات المنقولة عن المؤرخ ديوجين لايرتيوس:

"هيراكليوتوس البنطي وآخرون يشيرون الى ان فيثاغورس كان ابن منسارخوس Mnesarchus وانه سمي اول مرة ايثاليد كشخصية خيالية. كان الاعتقاد السائد انه كان ابن هيرمس وان هيرمس اخبره انه يمكنه اختيار أي هدية عدى الخلود. فيثاغورس اختار الاحتفاظ بذكرى ما حدث له في كل من الحياة والموت. بالنتيجة، في اثناء حياته، هو تذكّر كل شيء وعندما توفي احتفظ بنفس الذكريات".

"لاحقا هو ولد مرة أخرى كـ يوفوريوس Euphorbus بطل حرب طروادة وجُرح من جانب البطل اليوناني مينيلوس. ادّعى يوفوريوس انه كان شخصية خيالية واستلم هدية من هيرمس ذكرى تقمّص روحه، تفصّل كل الاشكال التي مرت من خلالها، نباتات وحيوانات، وما تحملته روحه في الهاوية (العالم السفلي) وما عانوه الآخرون هناك."

"بعد موت يوفوريوس دخلت روحه في هيرموتيموس (فيلسوف) الذي يرغب بتقديم دليل، ذهب الى برانشيداي (مكان الكهنة)، دخل معبد ابولو وحدد درع يوفوريوس الذي غنمه البطل اليوناني مينيلوس وقدمه الى ابولو. وبعد موت هيرموتيموس، ولد مرة أخرى على هيئة بيروس ، ملك في جزيرة ديلوس. أخيرا، بعد وفاة بيروس، اصبح على شكل فيثاغورس محتفظا بذكرى لكل تلك الأحداث.

***

حاتم حميد محسن

دأبت في نهاية كل عام على أن أقدم للقارئ العربي خلاصة لأهم المنجزات العلمية التي شهدها العالم، محاولة أن أضع بين يديه صورة بانورامية لما تحقق في ميادين الطب والفيزياء والطاقة والبيئة والتكنولوجيا. وهذا العام، أجد نفسي أمام حصيلة استثنائية تستحق أن تروى بتسلسل يليق بحجم التحولات التي حملها عام 2025، عام بدا وكأنه يكتب فصلاً جديداً في تاريخ العلم والابتكار.

في الطب، تصدرت الأخبار قصة العلاج الجيني الجديد لسرطان البنكرياس، ذلك المرض الذي ظل لعقود عصياً على العلاج. التجارب السريرية أظهرت نسب شفاء أولية غير مسبوقة، ما دفع بعض الباحثين إلى القول اننا نقترب من تحويل السرطان من حكم بالاعدام إلى مرض يمكن السيطرة عليه. وفي السياق ذاته، شهد العالم إطلاق لقاحات متعددة الاستخدامات تعتمد على منصات mRNA، قادرة على الوقاية من عدة فيروسات في آن واحد، وهو ما وصفته منظمة الصحة العالمية بأنه ثورة في الاستجابة للأوبئة. أما الطب الشخصي فقد دخل مرحلة جديدة بفضل الذكاء الاصطناعي، حيث أصبح بالإمكان تصميم بروتوكولات علاجية فردية بناءً على بيانات المريض الجينية والبيومترية، وهو ما اعتبره خبراء بداية عصر جديد في الرعاية الصحية.

أما في الفيزياء والفضاء، فقد أعلن العلماء في المصادمات الكبرى عن اكتشاف جسيمات دون ذرية جديدة قد تفسر بعض ألغاز المادة المظلمة، وهو اكتشاف يعيد صياغة فهمنا لبنية الكون ويفتح الباب أمام تطبيقات مستقبلية في الطاقة والاتصالات. وفي ميدان الطاقة النووية، سجل عام 2025 خطوة تاريخية حين تمكنت التجارب من انتاج طاقة اندماج نووي تفوق الطاقة المستهلكة بشكل تجاري تجريبي، وهو انجاز وصفته الصحافة العلمية بأنه الحلم الذي طال انتظاره. أما استكشاف الفضاء فقد شهد بعثات جديدة إلى أقمار المشتري وزحل، مع اكتشاف مؤشرات أولية على وجود بيئات صالحة للحياة الميكروبية، ما أعاد النقاش حول احتمالية وجود حياة خارج الأرض إلى واجهة الاهتمام العلمي والإعلامي.

في ميدان البيئة والطاقة، برزت ابتكارات في تطوير مواد كيميائية ذكية قادرة على اعادة التدوير الذاتي، وهو ما يقلل من النفايات الصناعية ويعزز الاقتصاد الدائري. كما شهد العام تقدماً في تقنيات التقاط وتخزين ثاني أكسيد الكربون من الجو بكفاءة أعلى وتكلفة أقل، وهو ما وصفه خبراء المناخ بأنه أداة أساسية في مواجهة التغير المناخي. ولم يكن الأمن الغذائي بعيداً عن هذه التحولات، إذ انتشرت أنظمة الزراعة العمودية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، ما سمح بزيادة الإنتاج الغذائي بنسبة ملحوظة مع تقليل استهلاك المياه والطاقة، وهو نموذج يعزز قدرة المدن الكبرى على مواجهة تحديات النمو السكاني.

أما التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي فقد شكلا محوراً رئيسياً في إنجازات العام. فقد ظهرت أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على التفكير متعدد المستويات، لتصبح شريكاً أساسياً في البحث العلمي نفسه، حيث ساعدت في اكتشاف مركبات دوائية جديدة وتصميم مواد مبتكرة. وفي المستشفيات، دخلت الروبوتات مرحلة جديدة من الاستقلالية، اذ أجرت عمليات جراحية معقدة بدقة تفوق الجراحين البشر، مما يعزز فرص العلاج في المناطق النائية ويقلل من الأخطاء الطبية. كما تم تطوير واجهات متقدمة بين الدماغ والحاسوب تسمح لذوي الاعاقات بالتحكم في الأجهزة عبر إشارات الدماغ مباشرة، وهو انجاز وصفته مجلة "نيتشر" بأنه نقلة نوعية في اعادة دمج ذوي الاحتياجات الخاصة في الحياة اليومية.

هكذا، ومع نهاية عام 2025، أجد نفسي أمام لوحة متكاملة من الإنجازات التي تداخلت فيها العلوم الطبية مع الفيزيائية والبيئية والتكنولوجية لتشكل ملامح عالم جديد يتشكل أمام أعيننا. هذه الانجازات ليست نهاية المطاف، بل بداية مسار طويل نحو مستقبل أكثر صحة واستدامة وذكاء للبشرية جمعاء، وهو ما يجعل من 2025 عاماً سيظل محفوراً في ذاكرة العلم كعام التحولات الكبرى.

انعكاسات الانجازات العالمية على واقع البحث العلمي العربي

يمكن القول ان انجازات 2025 العالمية تشكل مرآة تكشف عن الفجوة بين البحث العلمي العربي ونظيره العالمي. لكنها أيضاً تمثل فرصة لإعادة صياغة أولويات البحث في المنطقة:

- التركيز على الطب الشخصي واللقاحات لمواجهة الأمراض المستعصية والأوبئة.

- الاستثمار في الطاقة النظيفة والاندماج النووي لتجاوز الاعتماد على النفط والغاز.

- تبني تقنيات الزراعة الذكية لمواجهة شح المياه وضمان الأمن الغذائي.

- تسريع التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي لتقليص الفجوة مع العالم المتقدم.

اذا استطاعت الدول العربية أن تربط هذه الإنجازات العالمية بأجندة اصلاحية محلية، فأن انعكاسها سيكون إيجابياً، ليس فقط على البحث العلمي، بل على التنمية الاقتصادية والاجتماعية ككل. أما إذا بقيت هذه الانجازات مجرد أخبار تقرأ في الصحف دون ترجمة عملية، فأن الفجوة ستتسع أكثر، وسيظل البحث العلمي العربي في موقع المتلقي لا المشارك.

***

ا. د. محمد الربيعي

 بروفسور متمرس ومستشار دولي، جامعة دبلن

 

الوعي هو ببساطة إدراك الإنسان لذاته وللعالم المحيط به، لكن لا يوجد إجماع بين العلماء حول تعريف هذه الملكة، ويعود ذلك إلى صعوبة دراسة الوعي تجريبياً. كما أن إدراك الواقع الخارجي لا يمثل الواقع الحقيقي، بل يتشكل داخل المخ البشري تحت تأثير عوامل مختلفة، وكل مخ يروي قصة مختلفة لا تعكس الحقيقة.

أظهر تحليل وظائف المخ أن الوعي ظاهرة معقدة تعتمد علي شبكة عصبية تمتد من القشرة المخية في مقدمة المخ الي مؤخرته، وتشمل امتدادات طويلة المدى للخلايا العصبية. تُمكّننا هذه الشبكة من إدراك المعلومات الحسية ودمجها في أفعالنا، وتنظيم العديد من الوظائف الحيوية كالنوم واليقظة والمشي.

اقترح عالم الفيزياء الحائز على جائزة نوبل، روجر بنروز، وطبيب التخدير ستيوارت هاميروف، أن الوعي ينشأ من خلال الانهيارات الكمية داخل الأنابيب الدقيقة لخلايا المخ ثم يتدفق عبر الشبكات العصبية داخل المخ حيث يتم إدراكه. للتوضيح؛ توجد الجسيمات دون الذرية التي يتكون منها المخ في حالتين؛ إما موجية أو جسيمية، والانهيارات الكمية تعني انهيار حالة الجسيم إلى إحدى هاتين الحالتين. ووفقًا لروجر بنروز، فإن الحالة الموجية تنهار تلقائيًا وتؤدي إلى الوعي.

اشار بعض العلماء الي أن العقول الفردية قد تكون جزءًا من شبكة معلومات أكبر، وأن الأحداث الكمومية في المخ متشابكة مع الجسيمات دون الذرية عبر الفضاء فيما يسمى "الوعي الكوني". ومع ذلك، يرفض العديد من علماء الأعصاب استخدام النظريات الكمومية لتفسير الوعي، كما أنهم يرفضون فكرة "الوعي الكوني" باعتبارها فرضيات غير قابلة للإثبات. ولكن هناك تعاطف مع نظريه المجال الكمومي للعقل او "حقل العقل" ، كنموذج للوعي، من خلال اعتبار الوعي حقلًا متصلًا بأنماط تحفيزية، وان العقول الفردية أنماط محلية في مجال العقل الركيزة المستمرة.

يستمد مفهوم حقل العقل بنيته من سمات نظرية الحقل الكمومي كالاستمرارية، والشمولية، والأنماط الاستثارية. وللتوضيح، يتكون الحقل الكمومي من حقول تملأ المكان والزمان (الزمكان)، وان الجسيمات دون الذريه هي مجرد اهتزازات في هذه الحقول ولكل نوع من الجسيمات حقله الخاص؛ فهناك حقل الإلكترون، وحقل الفوتون الكهرومغناطيسي، وحقول الكواركات، وحقل هيجز لبوزون هيجز الذي يعطي الجسيمات كتلتها. ويمكن تخيل الكون كمحيط شاسع، والمحيط هو حقول كمومية، والأمواج على السطح هي جسيمات، والماء الساكن هو الحقول في أدنى مستويات طاقتها، اي عندما يبدو المحيط ساكنًا، يبقى الماء موجودًا ويعني استمرار المجال الكمومي.

لا يدّعي نموذج مجال العقل أن الوعي حقل كمومي، ولا يفترض وجود مجال فيزيائي جديد، بل يستخدم نظرية المجال لفهم ظاهره الوعي والتقاليد التأملية مثل الصوفية والبوذية والتجارب الروحيه . يوضح نموذج مجال العقل ان المخ لا يُنتج الوعي، ويطرح توافق بين العقل والمادة وانهما جانبان لعملية أساسية أعمق. وقد اوضح الفيلسوف العظيم راسل فكره أن الوعي متأصل في المادة، ورفض ثنائية العقل والمادة، وانجذب إلى نظرية ”الواحدية المحايدة“ التي تفترض أن الطبيعة الأساسية للواقع ليست عقلية ولا مادية، بل هي مادة "محايدة" وأن العقل والمادة ليسا مختلفين جوهريًا، بل هما ترتيبات مختلفة لنفس "الجوهر" الأساسي، وإن الوعي ينشأ من هذه القاعدة المحايدة.

تم طرح نظريه الكوسموسايكيزم (Cosmopsychism) التي تفسر الخبرات الروحيه والصوفية، وتفترض أن الوعي ليس ظاهرة محلية تنشأ في المخ، بل هو نمط محلي داخل وعي كوني أشمل، وان المخ لا “يصنع” الوعي، بل يستقبل عمليات كونية واعية، وإن التشابك الكمي يكشف عن ترابط بين الأنظمة، ويعمل النظام المتشابك ككيان واحد مهما تباعدت مكوّناته. هناك ابحاث حديثة تطرح أن التشابك الكمي يحدث داخل المخ، وهناك تزامن بين الشبكات العصبية المتباعدة ليصنع حالة واعية واحدة .فالتشابك هو جسر بين الشخصي والكوني، والانسان ليس “جزيرة وعي” معزولة بل نمط محلي داخل حقل أوسع وأن التجربة الروحية للفرد يمكن ردّها مباشرة إلى التشابك الكمّي.في المقابل، يرى أغلب العلماء أن هذا التفسير ليس استنتاجًا علميًا، بل هو بالأحرى تفسير فلسفي لإمكانية وحدة الوعي. ولا يزال الدليل القاطع على أن التشابك الكمي كافٍ لتفسير الوعي غير متوفر؛ ومعظم هذه النظريات مجرد تكهنات وليست حقائق مثبتة.

هناك ايضا تساؤل عن التخاطر بين العقول والتشابك الكمي، الذي يسمح لنظامين منفصلين عن بعضهما بمسافات شاسعه التصرف كوحدة واحدة. مع ذلك، لا ينقل التشابك الكمي المعلومات والأفكار، بل يربط فقط نتائج القياسات. لذلك يُطلق الفيزيائيون على "التخاطر الكمومي" اسم التخاطر الزائف، ولا يوجد دليل علمي يدعم التشابك الكمي كآلية للتخاطر النفسي. قد يتوافق التشابك الكمي مع التجارب الروحية للفرد، ولكن هذا ليس فيزياء، انها ميتافيزيقا مستوحاة من الفيزياء.

في الختام، يتميز الإنسان بالشعور والتأمل في أفكاره وتجاربه في الوجود، ويتشكل الوعي الإنساني من خلال الأحاسيس الجسدية والحالات البيولوجية. في المقابل، يفتقر الذكاء الاصطناعي، وهو ظاهرة حديثة فرضت نفسها بقوة على حياة الإنسان، إلى القدرة على التأمل والوعي الذاتي، كما أنه يفتقر إلى فهم معنى الضمير.

هذه الخصائص هي التي تميز الانسان عن جميع الكائنات الحية الاخرى، وفي الوقت نفسه تمثل تحديًا للعلم في فهم هذه الخصوصية والوصول إلى جذورها الحقيقية.

***

ا. د. سامح مرقس

 

لم يكن المفكر الروماني إميل سيوران متشائمًا على النحو الذي كان عليه آرثر شوبنهاور أو فيليب ماينلاندر وغيرهما. بل إن نظرته تدعونا إلى مواجهة الهاوية وجهًا لوجه، وإلى قبول أن الحياة لا تمتلك سببًا يتجاوز تحققها الذاتي، وأن ننخرط فيها بشغف، من دون انتظارٍ فارغ أو آمالٍ موهومة.

في أحد نصوصه الأقل قراءة والأكثر غموضًا، "نافذة على العدم"، كتب المفكر الروماني إميل سيوران (1911–1995) شذرة لا تُنسى، شديدة الكثافة، تلخص بوضوحٍ باهر جوهر قناعاته:

«كل ما فينا عظيم يميل إلى قهر الألم. لكننا لا نكون عظماء حقًا إلا بقدر ما نعجز عن ذلك - أي بقدر ما نواصل القتال».

هكذا اختزل سيوران وجودنا في نوع من البطولة التراجيدية، قوامها قول “نعم” كبيرة للحياة، رغم كل شيء ورغم الجميع. رغم الكآبة واليأس، ورغم المعاناة وكل ظرفٍ ثقيل: دائمًا في قلب هاوية اللا معنى ومن داخلها.

لقد صُنّفت أعمال سيوران على أنها متشائمة، بل وُصم أحيانًا - خطأً - بأنه مدافع شرس عن الانتحار. غير أن قراءة متأنية لكتبه الغنية تكشف عن مفكر منشغل قبل كل شيء بتحليل ومعايشة أكثر الألغاز الإنسانية استعصاءً: الفناء والموت، التعالي والروحانية، الحزن واليأس، عذاب الوعي والقلق أمام الماضي والمستقبل. وهي مشاعر واجهها عبر القوة الخلاصية للموسيقى والمشي، أو عبر البلسم الذي تمنحه السخرية والفكاهة، سعيًا إلى التغلغل فيما سماه هو نفسه «الأصل العميق للحياة».

لم يكن سيوران متشائمًا على طريقة شوبنهاور أو ماينلاندر أو إدوارد فون هارتمان أو يوليوس بانسن، ولا حتى على طريقة ألبرت كاراكّو أو ديفيد بيناتار المناهض للإنجاب. فقد صرّح في مقابلات عديدة أنه لا يرى نفسه مفكرًا متشائمًا، بل مفكرًا في اللا معنى، في اللامؤسس، في ما لا سند ولا تبرير له. فالحياة تفتقر إلى قاعدة أنطولوجية–ميتافيزيقية تُقام عليها؛ إنها محض تجربة جارية في ذاتها، وكل واحد منا - كائن فردي معرّض لكل أشكال التقلب - مطالب بأن يعيشها في عزلة قصوى (وأحيانًا مؤلمة). وقد كتب:

«كم من العزلة يلزم لامتلاك روح! وكم من الموت في الحياة وكم من النيران الباطنية!».

في كتابه الأول في ذرى اليأس (1934)، يدعونا سيوران إلى أسلوب حياة خاص سماه «شغف العبث». فبرغم مرارات الوجود واختباراته المتعددة، تبقى دائمًا حجة للاستمرار. وهذه الحجة هي… اللاحجة نفسها: أي أنه «لا توجد أسباب للعيش». يعرّينا سيوران أمام الحياة، بلا درع ميتافيزيقي ولا قناعات متعالية، ويؤكد أن الاستمرار لا يكون ممكنًا إلا إذا احتضنّا العبث، «وأحببنا اللاجدوى المطلقة»، لأن «من خسر كل شيء في الحياة، لا يبقى له سوى شغف العبث».

لا يمكن لمفكر متشائم أن يتحدث بهذه اللغة. بل إن سيوران، إذا أُحسن فهمه، يبدو متفائلًا على نحوٍ شاذ. فكيف، وقد عانى منذ شبابه من أرقٍ قاتل، ومن ميلٍ سوداوي، ومن علاقة مضطربة بأمه، ومن ازدراء الأوساط الأكاديمية، ومن شعور باللاجدوى، ومن أحقاد وحسد… كيف كان يمكنه البقاء؟ لقد ناشد سيوران فينا قوة بطولية أسماها «منهج الاحتضار».

لم يدافع قط عن الانتحار، لكنه دافع عن «الرؤية الخلاصية للموت». قال بسخرية نافذة:

«أعيش فقط لأنني أستطيع أن أموت متى شئت؛ لولا فكرة الانتحار لكنت قتلت نفسي منذ زمن».

وقال أيضًا:

«الرغبة في الموت كانت شغلي الشاغل؛ تخلّيت من أجلها عن كل شيء، حتى عن الموت».

إن كسب الحياة يكون في تقبّلها الكامل وتأكيدها الصلب. ففكر سيوران يمنحنا وضوحًا لا يبعث على الخوف، بل على الطمأنينة، ويجعلنا نستقر في يقين أن لا شيء يُحسم في الحياة: وهل نحتاج إلى يقينٍ آخر؟

نحن نحتمل الحياة لأن الموت يظل دائمًا إمكانية، رؤية تقودنا إلى «تحول كوني، جوهري». وعندما نصاب بالحيرة أمام تناقضات الوجود، ندرك - وقد استُنفدنا - أن الحياة نفسها هي المادة التي تُصاغ منها «قوة لا تُقاوم» تدفعنا إلى الاستمرار. وقد كتب:

«أن تعيش بلا إحساس بالموت هو أن تعيش غفلة الإنسان العادي، الذي يتصرف كأن الموت ليس حضورًا أبديًا مقلقًا».

وذلك لأن «التخلّص من الحياة هو حرمان النفس من متعة الضحك عليها».

ينظر سيوران إلى الهاوية في عينيها، وجهًا لوجه، ويقبلها، ويمنحها شرعية في يومياته. فالوعي باللا معنى يعني «أن تكون أبعد من الدموع والشكوى، أبعد من كل تصنيف أو شكل». وهو يسخر ممن يظنون أنهم قادرون على تفسير كل شيء بصيغ نظرية أو تصنيفية، كما لو كانت الحياة مسألة جبرية. فالحياة لا تُحبس في صيغ. المطلوب إذن تطوير «بطولة مقاومة» صحية، لا بطولة فتحٍ أو قهر. ليست استقالة رواقية أمام الحتمي، بل اعترافًا بغياب الأساس أو العلة الأخيرة للوجود، ومع ذلك الاستمرار بلا مواربة.

عندما نفهم أن الحياة لا تمتلك سببًا سوى جريانها ذاته، نسلّم أنفسنا لها بشغف، بلا آمالٍ جوفاء ولا معتقدات معسولة. البطولة الحقة هي الجرأة على العيش بلا أمل، بلا وعود بالخلود أو الاكتمال، مع وعيٍ بأن كل شيء مفقود، ولهذا بالذات يستحق أن نؤكد ذواتنا - بروح الدعابة - في قلب اللا معنى. كتب سيوران في شذرات المرارة:

«عندما نتعلم الشرب من ينابيع الفراغ، نتوقف عن الخوف من المستقبل».

وفي مقابلة متأخرة سُئل لماذا يواصل العيش إذا كانت الحياة، في نظره، بلا معنى. فأجاب بهدوء ولطف أنه، رغم شعوره الدائم بالوحدة، لا يمكنه أبدًا أن يهجر «البشر، رفاق كوابيسي».

هنا يتحول فكر سيوران إلى نزعة إنسانية توحّدنا في المعاناة، في قلب الألم الوجودي ذاته. فمخاوفنا الفردية متصلة عبر سلسلة لا نهائية من الأجيال التي عانت وخافت من الموت ومن قسوة الحياة مثلنا تمامًا. ولهذا، حتى وإن عشنا آلامنا في عزلة، وحتى وإن كانت بعض أوجاعنا غير قابلة للتواصل، تبقى لدينا إمكانية فهم ألم الآخر. وعندما ندرك أن العزلة والمعاناة هما قدر الإنسان، تبدأ في التشكل جماعة تسعى إلى «قهر عدمية الزمن».

قلّما كُتبت في تاريخ الفكر الغربي عبارات بجمال ما نجده في الكراس الوجداني لسيوران، عبارات تستحق أن تُعلّق وتُقرأ كل صباح كترتيل:

«في هول اتساعه، يفرّ الإنسان مذعورًا من نفسه، بحثًا عن جيران يتقاسمون معه فزعه. كل فرد هو رفيق شقاء».

فنحن - كما يقول - نتصافح لنسير معًا «بتواطؤ بين عزلتين».

وفي مواجهة الرسائل العاطفية السكرية التي تحاول بها «ديكتاتورية النجاح والسعادة» المعاصرة التلاعب بنا («ستحقق ما تريد»، «آمن وستنجح»)، أكد سيوران أن ما يُبقينا أحياء ويدفعنا نحو المستقبل حقًا هو فراغاتنا ونقائصنا، افتقارنا إلى أساس، وعينا بأننا كائنات هاوية، ناقصة، في صراع مع العبث.

«ورغم كل شيء، نواصل الحب؛ وهذا الـ(رغم كل شيء) يغطي لانهاية كاملة»، كما كتب في شذرات المرارة.

يا لها من فكرة جميلة أن أستمر، رغم كل شيء استمر في بطولة مؤلمة، لأنه لا يوجد شيء لنكسبه أو نغزوه، إلا ربما وعينا بهزيمتنا، ثم، ننظر في عيون بعضنا البعض، لنقول لأنفسنا، كما قال سيوران أيضا: "تهدئني بدموعك وأنت في دموعي."

***

محمد إبراهيم  الزموري

 

ماذا لو إستخدمنا الكلمات بدلاً من الألوان؟!

الكلمات هي ليست مجرد وصف للأشياء، بل هي وسيلة لخلق صورة ذهنية داخل العقل، وفي عالم الفن والألوان، يعتبر الرسم هو وسيلة للتعبير عن الأفكار والأحاسيس، ولكن ماذا لو إستخدمنا الكلمات بدلاً من الفرشاة والألوان؟!

نزار قباني وديوان الرسم بالكلمات

أول من إستخدم مصطلح (الرسم بالكلمات)، هو الشاعر نزار قباني، حيث ألف ديواناً بعنوان (الرسم بالكلمات)، يتضمن مجموعة من القصائد، التي تُعبر عن إسلوبه الفريد في التعبير عن المشاعر والأفكار وتحويلها الى صورٍ حية ماثلة في الذهن، حيث تميز نزار قباني بِلغةٍ شعريةٍ عذبة و واضحة ومؤثرة، لدرجة أنه كان يًشكل بالكلمات صوراً تُعبر عن الحالة التي يتحدث عنها، وقد أصبح ديوان "الرسم بالكلمات" أحد اشهر أعماله الأدبية.

يُعد نزار قباني أحد أبرز الشعراء والكُتاب في الأدب العربي الحديث، وقد كتب الكثيرون عن تجربته الإبداعية في الشعر، فهو من الشعراء القلائل الذين جمعوا بين النثر والشعر، وحصلت كتاباته على إهتمام واسع من العامة والمثقفين، لقد كانت بصمته واضحة في عملية التجديد دون أن يُنكر الماضي الحضاري للتراث العربي الشعري، لقد كان ومازال قامة شعرية مميزة، يردد أشعاره الناس وكأنها سمفونية عذبة، تُريح النفوس المُتعبة.

الفلسفة والرسم بالكلمات

الرسم بالكلمات هو عملية إبداعية، تستخدم الكلمات لتوصيل الأفكار والمشاعر، وإستحضار الصورٍ الذهنية لمخيلة القارىء، تماماً مثل الرسم بالفرشاة، ويمكننا إستخدام الكلمات لوصف منظر طبيعي، أو شخصية، أو حتى حالة نفسية، أو فكرة فلسفية، حيث أن الكلمات تستطيع أن تكون قوية جداً في إنشاء صور ذهنية، وإستحضار الأفكار على هيئة صور متحركة، تجعل القارىء يشعر بأنه جزء من المشهد.

الرسم بالكلمات هو ليس مجرد وصف للأشياء، بل هو أيضاً وسيلة لإنشاء صور ذهنية ومعاني فكرية جديدة، بعيدة عن التعقيد، حيث يمكننا إستخدام الكلمات لتكوين صور ورموز وإشارات حاضرة في الذهن ، تستحضر المشهد بكل عنفوانه كما لو أنه يحدث الآن، الرسم بالكلمات يتطلب مهارةً وحساً فنياً عالياً، وقدرة على تحويل الكلمات الى صور متحركة في الذهن، وكأنها مشهد حي يستحضره الكاتب في خيال القارىء، الرسم بالكلمات هو سيلة قوية للتعبير عن الأفكار والأحاسيس، ويمكننا إستخدامها كطريقة فعّالة لترسيخ فكرة،أو شرح مبدأ فلسفي، أو إستحضار موقف معين، إن الكلمات إذا إستطاع الكاتب توظيفها بشكل جيد ،لتخدم الفكرة التي يريد تصويرها، قد تصبح أداة فعالة، ليس فقط في الشعر والأدب والروايات، بل في التربية، والتعليم، والفلسفة، فهي بمثابة تشجيع على التفكير الإبداعي الخلاق، وتوظيف للخيال في خدمة العلم، ولا يجب ان ننسى أن كل فكرة و نظرية قد بدأت  بصورة ذهنية في عقل إنسان مبدع، قبل أن تتحول الى واقع ملموس.

***

شيماء هماوندي

سؤالٌ لا يشبه ما سواه، خصوصا حين يتزامن طرحه مع نهاية العام، رغم أن البدايات ليست مرهونةً بباكورة الأعوام، إذْ يمكن أن تتخيّر أي لحظة لتنطلق منها نحو وجهتك الجديدة، ولكن بواكير السنوات تمنحنا نوعًا من التهيّؤ النفسي لبدايات مختلفة، وعَوْدًا على بَدْء، فسؤال: أَعلى قيد الحياة أنت أم على قيد الحلم؟! يوقفنا على حقيقة مُرّة، وهي أن مرور الأيام علينا ونحن بالكاد نتنفس ونتعاطى على وجه الاعتياد مع موائدنا وأَسِرّتنا لا يعني بالضرورة أننا نعيش، فهذا لا يعدو أن يكون شبه حياة ندفن تحتها احتمالات لا نهائية من فرص الازدهار، إلا إن قصدنا بمفهوم العيش معناه البيولوجي لا غير.

ودعوني هُنا أستدعي تصنيفًا ثنائيًا للناس، وإن كنتُ أُكِنُّ خصومةً شخصية شرسة ضد التقسيمات الثنائية، إذْ إن منطق إما أبيض وإما أسود(Black-and-White Perspective) يمجُّه التنوع الذي يكتظ به الواقع، ولكن من باب تقريب الفهم خطوةً أُولى؛ بُغْية التمهيد، فيمكن القول إنّ البشر ينضوون تحت إحدى مظلتين واسعتين، فريق يكون يومُه مكررا لأمسِه، وغدُه تكرارًا ليومه، ليس على صعيد الإنجاز، وإنما على مستوى الاحتياجات البيولوجية من أكل وشرب ونوم وما يتخلّل ذلك من روتين يومي باهت يكفل له احتياجاته تلك كالوظيفة، يفعل ذلك عن رضى وقناعة تامّين، وهكذا تمر عليه السنون سنةً تِلْو الأخرى ولا يتقدم قِيْد أُنْمُلة، ولا يجدّ جديد في حياته، إن صحّ لنا وصف حياته بالحياة!

وفي الضفّة المقابلة نجد الفريق الآخر، الذي وإن كان لا ينكر ضرورة توفير أساسيات الحياة المذكورة آنفًا، لكنه لا يستغرق عمره فيها، ولا يجعلها شغله الشاغل، بل يضيف عليها طبقة أخرى من الحياة، أعمق مستوى وأكثر كثافة، كتلةً من الطموحات والأحلام والأهداف والسعي الحثيث، مركزُها إرادة صارمة تمنحنا تفسيرا وجيها ونبيلا عن: لماذا تطور الإنسان بخلاف السلالات الحيوانية الأخرى، إنه - بإيجاز - يُضفي على حياته معنى! ويمنحها بُعدًا لا يستوعبه كثيرٌ من بني جنسه.

مقالي لا يتطرق - بطبيعة الحال - إلى الفريق الأول، ففي النهاية من حق كل أحد أن يعيش حياته كما يشاء وبالمقاس الذي يلائمه، فَلِعَيش الحياة طرائقُ قِدَدٌ، كما أنّي لا أتحدث عن الفريق الثاني، وماذا عساني أن أتحدث عن فريق رسم لنفسه لوحة حياة متسامية، تتجلى فيها أسنى مستويات الإنسانية؟ وإنما أودّ الإشارة إلى فريق يؤمن بمسار الفريق الثاني، إلا أنّه ما زال حتى اللحظة مسحوقًا تحت أسلوب حياة الفريق الأول!

هذه الظاهرة التي يمتطي أصحابُها صهوة جياد يأنفون منها، ويتخذون شكل حياةٍ لا يشبههم، لها دوافعها بلا ريب، ولعل عامل الخوف يأتي في صدارة القائمة، الخوف في أشكاله كافة، الخوف من مغادرة منطقة الراحة، والخوف الاجتماعي، والخوف من عدم القدرة، والخوف من العواقب الوخيمة المحتملة، والخوف من الخسارة، أكانت مادةً أم علاقات أم أدوارا اجتماعية أم مصالح شخصية.

تناولُ الخوف عملية معقدة، ولست أبالغ إن ادّعيت أنه حاضر في جميع مشاهد حياتنا، كما أن المنسوب المعقول منه هو مطلب صحي - مع اعترافي التام بأنّ وصف (المعقول) نسبي لا يمكن قياسه على وجه الدقة - إلا أن الإفراط فيه حدّ الهَوَس يفوّت علينا حَيَوات كثيرة للغاية.

الخوف في عمقه هو مجرد وَهْم لا وجود له إلا في أدمغتنا - وميكروبات أمعائنا كذلك (Gut Microbiome)، وهذا ربما أُفْرِدُ له مناسبة أخرى للإطناب في الحديث عن دماغنا الثاني! - هذا الوهم هو سيناريو مستقبلي ألّفنا حبكته - من هواجس غير واقعية غالبًا - ثم آمنّا به، وأخذنا نجترّه ليل نهار، حتى أصبح في نظرنا حقيقة خرجت من رحم الواقع لا مِراءَ فيها.

ثمّة حكمة بليغة في القصة المشهورة للرجل الذي تأمّل مشهد كلب يحاول الارتواء من بركة ماء وكلما هَمّ بالشرب رأى انعكاس صورته، فإذا به يتراجع؛ فَرَقًا مما يراه، وظل على هذه الحال حتى قرر أن يرتمي في الماء، فشرب حتى ارتوى، مكتشفا أن ذلك التردد في المرات السابقة لم يكن سوى تضييع وقت كاد أن يهلكه، هنا أدرك الرجل درسا عظيمًا مُؤدّاه أنّ أنجَعَ معالجة للخوف هو أن نرتمي فيما نخاف منه، وما إنْ يحدث ذلك حتى يتلاشى الخوف بلا رجعة.

أرجو ألّا يُفهم من طرحي أنني أدعو إلى المجازفات غير المسؤولة وغير محسوبة العواقب بدعوى الشجاعة، فهذه ونظيراتها كثيرا ما تؤول إلى نهاية قاسية كقضبان السجن أو أن يلقى المرء حتفه أو سقوط مُدَوٍ لا نهوض بعده ونقطة سوداء لا رجعة بعدها.

ما أريد لفت النظر إليه هو ضرورة اتخاذ خطوة الإقدام بإرادة ذاتية جادّة، ثم دراسة حيثيات الاختيار بالتحليل الفردي أو استشارة المتخصصين، وما يلزم من سبل الحيطة والحذر؛ لأن الكفّ عن الفعل بداعي خوف غير مبرَّر هو من أشنع الجرائم التي نرتكبها بحق حياتنا، ولستٍ بمُغالٍ إن ادّعيت أن خلف أغلب الحيوات الباهتة رغم إدراك أصحابها بأنهم يتخذون مسارات مغلوطة في نمط حياتهم، إنما يكون الخوف هو المتهم الأول في سبب ذلك! وعادة ما يكون مصحوبا بتبريرات باردة لا أساسَ متينًا لها.

ولتكامُلِ الفهم خليقٌ بي أن أشير إلى أنه لا خطوة للإمام بلا تضحية، وهذا ما يجب أن نتوقعه ونوطّن أنفسنا عليه قبل أي مغامرة نَلِجُ إليها وتمخُر سفنُنا عُبابها، ومع ذلك فإنه يمكن أن نختزل التضحية في جوهرها في التضحية بكل ما له علاقة بنسختنا الذاتية الراهنة التي لم تعد تشبهنا ولا تليق بنا بعد الآن! ولكن نسختنا الذاتية التي نريد أن نكونها تستحق هذه التضحية، فنحن المضحِّي والمضحَّى به!

إنّ الصراخ المحموم الذي يجثم على صدور أولئك الذين يعيشون حياة غير التي يريدونها، هو صراخ داخلي ينهشهم ببطء بلا هَوادَة، فليس ثمّة ما هو أكثر إيلامًا من أن نجد أنفسنا على مسرح الحياة نؤدي أدوارًا ليست لنا ولا تشبه أعماقنا ولا تمتّ إلينا بأي صِلَة، ولكن الحقيقة القاسية هي أن هذه الشريحة من المجتمع ذواتُهم هي العائق الأول وراء تجرّعهم هذه المعاناة!

ما الخوف سوى مشاعر تولّدها أفكارٌ نسجناها بحُرّ أيدينا، وتعززها هرمونات كالأدرينالين لتتفاعل معها أجسامنا، وهذه المشاعر بدورها تعزز أفكار الخوف، وهكذا في عملية تضخيمية دائرية، وقطع هذه الحلقة المكررة يكون بإجراء تعديلات على تصوّرنا وتَمثُّلنا لجانب ما من حياتنا الذي تَمَلّكنا الخوف إزاءَه، ثم تتكفّل أدمغتنا بالباقي! وهذا يتطلب وعيًا بكيفية إعادة تأطير المشهد (Labeling) فالعقبة تغدو فُرصة والخوف يصبح فضولا، ليس لأنه كذلك؛ وإنما لأنّنا عمدنا إلى بؤرة التركيز وقمنا بإزاحة واعية، إزاحة إلى ما يكون في صفّنا، ويصبّ في مصلحتنا.

فالمهارة التي تثير فينا خوفا اجتماعيا، تصبح مصدر دخل كبير، والعلاقة التي نخشى التورّط فيها تستحيلُ طوق نجاة لاستقرار نفسي استثنائي، والمشروع الذي يُحْدث فينا رهبةً قد يلفت انتباهنا لنقطة ضعف فينا يجب أن نوليها اهتمامنا بدل الاستسلام لمشاعر الخوف، والقرار المحوري الذي نهلع من بذل التضحيات الهائلة التي تتضافر حوله، قد يكون منعطفا لحياة رحبة لا تتسع لما نضحي به، إذْ تكون البدائل ألصق بما يليق بنا، وعلى قدر الإقدام يعظُم ما ننالُه من مَرام.

ليس مهما - ما دمتَ تشعر بالرضى - أن تكون على قيد الحياة أم على قيد الحلم، ولكن من المهم بمكان ألا تكون على قيد الحياة، وصدرك مكبوتٌ فيه ألفُ حُلم!

***

محمـــد سيـــف

انتهينا في مساقٍ سابقٍ إلى أنَّ (عِلم نقد العُلماء)- نعني من نحو ما اصطُلح عليه قديمًا بالجرح والتعديل- لو أُخِذ به في ثقافتنا العَرَبيَّة كافَّة، لكفانا مؤونة الصدمات المعرفيَّة والفكريَّة، حينما نقرأ لأعلام تراثنا اللُّغوي. ولَقاربْنا الاهتداء إلى مَن نأخذ عنه لُغتنا وعلومها، محاولةَ الاهتداء إلى مَن يُؤخَذ عنه الدِّين. وفوق هذا، لربما تخفَّفنا من تركة هذا التراث الثقيلة، التي ما تزال أجيالٌ بعد أجيال تجترُّها، وتزكم بها العقول؛ إذ تستأنف ترَّهاتها العتيقة جذعةً، كلما ظنَّنا أنْ قد أفاق بنا صبحٌ جديد من الوعي بالإنسان واللُّغة. قلتُ لمُحاوري (ذي القُروح):

- إذا تخطَّينا بقايا العقل الخرافي تلك، التي تجسَّدت في جماجم بعض الناس، خلال القرن الثالث الهجري، ماذا نجد؟

- سنُدرك أنَّ عمليَّة التوثيق المعلوماتي قد مرَّت بمراحل عبر التاريخ البَشَري. فكانت المشافهة وسيلتها، قبل الكتابة. بل حتَّى بعد ظهور الكتابة وسيلةً معرفيَّة، ظلَّ هنالك من يعوِّل على الرواية في التوثيق، فأُثِر عن العَرَب، من الرعيل الأوَّل في الثقافة الإسلاميَّة، قولهم- في انتقاص الاعتماد على الكتابة-: «فلانٌ عِلْمه في قراطيس!»  أي أنَّه لا يعتمد على الذاكرة؛ ولذلك لا ثِقة بعِلْمه، لديهم.  على حين يتضاغَى اليوم في بعض الأوساط البحثيَّة مَن يشكِّك في مرويَّاتٍ تراثيَّة، لغياب وثائقها المكتوبة.  ومن المتوقَّع أن يشهد الأمر مستقبلًا تشكيكًا في الوثائق المكتوبة نفسها، بدعوَى أنها مجهولة الكيفيَّة في وجودها، فوق كونها عُرضةً للخطأ، تصحيفًا، أو تطبيعًا، أو تزويرًا.

- وعندئذٍ ستكون المطالبة بالوثيقة المسجَّلة صوتًا وصورةً فقط، وإلَّا فلا ثقة في النصوص المكتوبة.

- وبذا ستؤوب الرحلة التوثيقيَّة إلى الرواية الشفويَّة، لكن موثَّقةً بصُوَرٍ حيَّة، هذه المرَّة.  وعندئذٍ سيعود الإيمان بتفوُّق الرواية الشفويَّة على الكتابيَّة، كما كان يَرَى القدماء، وكأنَّه إنَّما كان أَعْوَز القدماء حفظُ تلك الوثائق الشفويَّة لمن جاء بعدهم بوسيلة أكثر تطوُّرًا من تقييدها بالتدوين. 

- الحقُّ أنَّ هذه الوسيلة الشفويَّة، أو القائمة على المشاهدة المباشرة، هي ما تعتمد عليها المحاكم القضائيَّة في كلِّ عصرٍ، وتَعُدُّها أقوى الأدِلَّة، اعترافًا أو شهادةً أو بيِّنة.

- وما نخلص إليه من هذا هو أنَّ مسألة التوثيق تظلُّ مسألةً نِسبيَّة، لا يصحُّ القطع فيها بإطلاق، ولا التشكيك فيها بإطلاق.  وإنَّما ينبغي نقد الأسانيد والرُّواة، ونقد المتون والقرائن، لترجيح أحد الاحتمالين: الصِّحَّة أو عدمها.  وهي الآليَّة التي كان يأخذ بها المحقِّقون في تراثنا العَرَبي الإسلامي، ولا سيما في مدرسة (الحديث النبوي).  وذاك أقصَى ما يمكن أن يأخذ به باحثٌ في تحرِّي الحقائق. 

- من هنا يبدو من السَّفهِ- من وجهةٍ عِلْميَّة- التشكيك في بعض معطيات التراث وأدواته بحُجَّة أنها لم تصلنا في وثائق مكتوبة عن أصحابها. 

- وليس يصحُّ في الأذهان شيءٌ من الماضي، باتِّباع هذا المنهاج.  وإنَّما للباحث الجاد، بل من الواجب عليه، نقد التراث بأدواتٍ عِلْميَّة يُعتدُّ بها، لتمحيص صحيحه من زائفه، وَفق شروط تلك الأدوات. 

- ومن نماذج هذا العَتَه البالغ أقصاه قول أحد الموصوفين جُزافًا ب-(المفكِّر العَرَبي العفيف الأخضر)- وقد انتهى به المطاف الفكري إلى الانتحار أو محاولة الانتحار في أحضان عاصمة الاستعمار القديم والحديث (باريس)-: «لا أجزم ب-(لم)؛ لحاجة العَرَبيَّة إلى الحروف الصوتيَّة الفقيرة فيها»!(1)

- وأمَّا أنا، فأجزم أنَّ هذا المفكِّر الدَّعِيَّ لا يجزم لأنَّه، ببساطة، أُمِّيٌّ؛ فهو يحاول تبرير عِيَّه وجهله، بأنَّه مُجدِّد للُّغة العَرَبيَّة.

- بل لعلَّه يرى نفسه مستدرِكًا على العَرَب في لُغتهم!

- من طالَع مؤلَّفات هذا المفقِّر، دهش لمقدار ما فيها من جهل مخجل باللُّغة والتاريخ والأدب.

- لا غرو، فكلُّ إناء بما فيه ينضح. ولعلَّك تلحظ هنا الفارق العلمي والحضاري بين هذا الأخضر وباحث عِلمي رصين كالياباني (توشيهيكو إيزوتسو Toshihiko Izutsu، -1993)، مؤلِّف كتاب «الله والإنسان في القرآن: عِلم دلالة الرؤية القرآنيَّة للعالَم»، الذي يجيد أكثر من ثلاثين لُغة، منها العَرَبيَّة، وترجم «القرآن» إلى اليابانيَّة، ولم يضق بحكاية (الجزم)، ولم تلفته حاجة العَرَبيَّة إلى الحروف الصوتيَّة!

- شتان بين الثَّرى والثُّريَّا! وليس (الأخضر) ببدعٍ في مثل هذا الادِّعاء العرباني، الذي ينبثق عادةً عن عُقَد اجتماعيَّة أو حضاريَّة؛ فلقد زُعِم من قبل أنَّ الجهل بعَروض الشِّعر العَرَبي، مثلًا، أو عجز الموهبة عنه، هو تجديدٌ لا يُشَقُّ له غبار للشِّعر العَرَبي، تمخَّض عنه شِعر التفعيلة أوَّلًا ثمَّ قصيدة النثر أخِرًا.

- ومن هنا أصبحنا على العَرَب وقد صاروا من المحيط إلى الخليج جميعًا شعراء!

- بالطبع، فبإسقاط الشَّرط العَروضي فُتِح سَدُّ يأجوج ومأجوج لكلِّ المتشاعرين! وما كان للجاهل أن يجدِّد شيئًا سِوَى جهله! وإنَّما التجديد وليد العِلم الراسخ ومن ثَمَّ التجاوز للتراث إلى ما هو أرقى.

- وهكذا، فإنَّ (العفيف الأخضر) جنَّنه الجزم والرفع والنصب، فقرَّر ترك كل قواعد اللُّغة العَرَبيَّة. وحتى لا يفتضح جهله، سيقول: «إنَّما أوتيته عن عِلم عندي، وعن سبق إصرار وترقُّد لتجديد اللُّغة العَرَبيَّة»، كما فعل الشعراء الذين جنَّنتهم بحور الشِّعر العَرَبي، فقالوا: «لندع وجع هذا الدماغ، ونسمِّي هذا تجديدًا للشِّعر العَرَبي!»

- ولقد شهِد (الأخضر) على نفسه بنفسه؛ حيث قال ما تقوله أنت هنا. وهذا كلامه: «لُغة الفِصام هي دائمًا جديدة؛ «كآبة باريس»، أسَّسَ بها (بودلير) قصيدة «النثر». اللَّا مبالاة بالقواعد النحويَّة والصرفيَّة واللُّغويَّة السائدة، هي عَرَضٌ للفِصام، كما يشخِّصها الطِّب النفسي!»(2)

- وشهِد (الأخضر) على نفسه بالفِصام كما يشخِّصه الطِّبُّ النفسي!

- ومن ضروب التشكيك في الموروث- على سبيل النموذج- التشكيك في شِعر العَرَب قبل الإسلام وفي نثرهم.  فلئن صحَّ القول بالانتحال في بعض الشِّعر الجاهلي، وصحَّ القول بضياع معظم النثر العَرَبي قبل الإسلام، فإنَّ الحديث عن أنَّ كلَّ ذلك التراث الأدبي إنَّما انتُحل بعد الإسلام حديث خرافة، يا أُمَّ عمرو! 

- لماذا، يا أبا عمرو؟! 

- لأنَّ مَن يزعم هذا الزَّعم إمَّا أنَّه لا يفكِّر في ما يقول، وإمَّا أنَّه يتمتَّع بخيالٍ مريض، يُخيِّل إليه أنها قد نشأت في القرنين الأوَّل والثاني الهجريَّين جيوشٌ جرَّارة، لا شُغل لها إلَّا تأليف الشِّعر، والخُطَب، والأخبار، والقصص، وعزو ذلك إلى العَرَب!  وهو تصوُّرٌ لا يخطر في بالٍ سَوِيٍّ، مهما كانت الأسباب وراءه والدوافع. غير أنَّ كثيرًا ممَّن يناقشون هذه القضايا كثيرًا ما يقعون في الخلط بين مسألتين.

- وهما؟

- المسألة الأُولى أنَّ الكتابة هي غالبًا أكثر من الرواية حفظًا للنصوص زمنيًّا، والمسألة الثانية أنَّ الرواية الشفويَّة لا معوَّل عليها البتة في حفظ النصوص. 

- فإذا هم ينتهون من التسليم بالمسألة الأُولى إلى التسليم بالثانية. 

- نعم. مثَلهم كمن يسلِّم بأن «ليس الذَّكر كالأُنثى»، فيحفظ النصَّ ويردِّده بلا فهم؛ لينتهي به الضَّلال إلى أنَّ الأُنثى لا وجود لها.

- أو قل: لا قيمة لوجودها! 

- والحقُّ أنَّه لا يفهم مثل هذا إلَّا مَن يفهم أنَّ الحياة لونٌ واحد، وإلَّا فلا. 

- وما يفهم مثل هذا مَن يفهم الحياة أصلًا. 

- وبالقياس يمكن القول: أنْ ليست الكتابة كالرواية، فلها ميزات نوعيَّة، كما أنَّ للرواية ميزات نوعيَّة.

- ورُبَّ رواية كانت أحفظ للنصِّ من كتابة. 

- صحيح. وما حدثَ في رحلة الأدب العَرَبي، بشِعره ونثره، عبر ثلاثة قرون تقريبًا، بين منشئيه قبل الإسلام إلى مدوِّنيه بعد الإسلام، ليس بالأمر المستغرَب في ثقافات الشعوب. ولنا في تراثنا الشَّعبي خير برهان؛ فكم من الشِّعر، والأخبار، والقصص، تناقلتها الأجيال، عن الآباء والأجداد، مشافهةً، فبقيت قرونًا! 

- على الرغم من تجاوز المجتمع غالبًا عصور المشافهة والرواية، إذا ما قيس حاله إلى ما كان عليه الحال قبل خمسة عشر قرنًا. 

- نعم، يعتور النصوص المرويَّةَ الخطأُ، والنسيان، والزيادة والنقصان، لكنَّ مادَّتها، وأعرافها الفنِّ-يَّة، وخصائص لُغتها، كلّ أولئك تبقى إجمالًا.  كيف وقد كان الشِّعر العَرَبي عِلْم العَرَب، ومَنَّهم وسلواهم، وفنَّهم الوحيد، وسِجِلَّ تاريخهم، وديوان ثقافتهم، ولغتهم اليوميَّة، وما كانوا ليَدَعوه حتى تَدَع الإبل الحَنين؟! 

- ولن تَدَع الإبل الحَنين، ولن يَدَع العَرَب الشِّعر وثقافته!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

........................

(1) الأخضر، العفيف، (2014)، من محمَّد الإيمان إلى محمَّد التاريخ، (كولونيا- بغداد: منشورات الجمل)، 28. 

(2) م.ن، 203.

 

لم تعد كرة القدم في عالمنا المعاصر مجرّد لعبة تُمارَس للتسلية أو طقسا رياضيا بريئا يُقاس بعدد الأهداف والانتصارات، بل تحوّلت ـــ خصوصا في المجتمعات العربيةــــ إلى ظاهرة رمزية كثيفة الدلالة، تكشف بوضوح عن بؤس عميق في علاقة الشعوب بأحلامها وبالسلطة وبذاتها وفيما بينها فيما صار الملعب فضاء بديلا عن الساحة السياسية، وصارت المدرجات تعويضا عن المنابر، وغدا الهدف الكروي بديلا مشوّها عن الأهداف التاريخية الكبرى التي عجز الواقع عن تحقيقها.

حين فشلت الشعوب في بلوغ غاياتها الأساسية من حرية، عدالة، كرامة، وعيش الكريم، لم تختفِ غريزة الهدف من الوعي الجمعي، بل هاجرت من المجال السياسي والاجتماعي إلى مجال الفرجة والامتاع البصري الذي يشبه المخدر. فالإنسان لا يستطيع أن يعيش بلا غاية، وإذا أُغلقت أمامه الأبواب الكبرى، تعلّق بأصغر منفذ. هكذا انتقل الحلم من التاريخ إلى المرمى، ومن الفعل إلى التصفيق، ومن التغيير إلى الاحتفال المؤقت. الهدف في كرة القدم واضح، مرئي، سريع التحقّق، لا يحتاج إلى تضحيات ولا يفرض أثمانا باهظة، بعكس الأهداف الواقعية المؤجلة والملتبسة والخطيرة.

في هذا السياق، لم تعد كرة القدم مجرّد لعبة، بل صارت سياسة بلا خطاب، وأيديولوجيا بلا كتب، وهوية بلا تعريفات. إنها سياسة الجسد لا سياسة البرامج، وسياسة الانتماء الغريزي لا المشروع الواعي. اللاعبون هم الأبطال الجدد، لا لأنّهم غيّروا شروط الحياة، بل لأنّهم منحوا الجماهير لحظة انتصار رمزي في زمن الهزيمة الواقعية. فالهدف الكروي لا يحرّر أرضا ولا يرفع ظلما، لكنّه يمنح إحساسا آنيا بالإنجاز، وهذا وحده يكفي في عالم حُرم فيه الإنسان من الشعور بالفاعلية. وليس من قبيل الصدفة أن تُضخّ مليارات خيالية في كرة القدم في زمن تتآكل فيه الطبقات الوسطى، وتنهار فيه أنظمة التعليم، وتتراجع فيه الخدمات الأساسية. هذا السخاء الرياضي لا يعكس حبّا بريئا للّعبة بقدر ما يكشف عن استثمار ذكي في الإلهاء الجماعي. فالفرح المؤقت أقلّ كلفة من العدالة الدائمة، والمهرجان أرخص من الإصلاح، والاحتفال أسهل من المواجهة. حين يشتد الغضب الاجتماعي، تُرفع جرعة الفرجة، وحين يقترب الانفجار، تُفتح الملاعب وتُضخ الأموال وتُصنع الأساطير الرياضية كي يفرغ الغضب ويحوّل الاهتمام.

في هذا الإطار، يتحوّل اللاعب النجم إلى جهاز سياسي متنقّل، وإلى نموذج النجاح الوحيد المتاح في زمن انسداد الأفق، نجاح بلا فكر، بلا موقف، بلا تاريخ، وبثروة فلكية. فتغدو الرسالة الصامتة التي تُبث يوميًا للجماهير واضحة وخطيرة (إن أردت النجاة، لا تناقش، لا تعترض، لا تحلم… العب، فقط إلعب). وهكذا يُعاد توجيه الغضب الشعبي من مساءلة البنى العميقة للظلم إلى صراعات وهمية حول حكم المباراة، أو حظ الفريق، أو خيانة لاعب.

ولعلّ أخطر مفارقة في هذا المشهد كلّه تتجلّى في العلاقة المختلّة مع مفهوم اللّعب ذاته. ففي الوقت الذي تُفتح فيه خزائن الدول والأسواق من أجل لعب الكبار، ويُضخّ المال والرمزية لإسعاد الجماهير أو إسكاتها أو إلهائها، يُحرَم الصغار من اللّعب باسم الجِدّ والحزم والانضباط. فيُقال للأطفال إن اللّعب مضيعة للوقت، وإن المستقبل لا يُبنى إلّا بالصرامة والحفظ والطاعة، فتُختزل المدرسة في الامتحان، والمعرفة في الإجابة النموذجية، ويُجرَّد الطفل من حقّه الطبيعي في اللّعب بوصفه مدخلا أساسيا للفهم والإبداع وتشكّل الوعي لديه.

يا للمفارقة القاسية!  يُسمَح للكبار باللّعب لأنهم فشلوا في تحقيق أهدافهم الحقيقية، ويُمنَع الصغار من اللّعب كي لا يفشلوا مستقبلا! وكأنّنا نُعيد إنتاج الفشل نفسه، لكن بأدوات أشد قسوة. لأنّ اللّعب الممنوح للكبار هو لعب مُسيَّس، مضبوط، ومؤطَّر ضمن فرجة استهلاكية لا تهدّد النظام القائم، أما اللّعب الممنوع عن الصغار فهو اللّعب الحرّ، الخلاّق، الذي يعلّم السؤال قبل الجواب، والتجريب قبل الامتثال، والخيال قبل الطاعة. فمن المؤسف أن نمنع اللّعب حيث يجب أن يكون، ونحتفي به حيث يتحول إلى أداة إلهاء. فنقتل اللّعب بوصفه تربية، ونستثمره بوصفه فرجة. هذه ليست مفارقة ساذجة، بل علامة على خلل عميق في تصورنا للإنسان، وللتعليم، وللمستقبل. كرة القدم هنا لا تُدان بوصفها لعبة، بل بوصفها مرآة لبؤس جمعي، تكشف هشاشتنا وحاجتنا إلى المعنى وعجزنا عن تحويل الغضب إلى فعل تاريخي واعٍ.

ومع ذلك، لا تزال المفارقة مفتوحة على احتمال آخر. فالملعب يمكن أن يكون مقبرة للأهداف، لكنه قد يصبح أيضا مختبرا للوعي إذا امتلكنا شجاعة السؤال بدل الاكتفاء بالهتاف. ماذا لو سألنا بعد كل هدف، لماذا نحتاج إلى هذا الفرح؟ ماذا ينقصنا خارجه؟ ولماذا نقبل أن تكون لحظة الانتصار الوحيدة في حياتنا مرتبطة بقدم لاعب لا يعرف أسماءنا؟

إن المشكلة ليست في كرة القدم، ولا في اللّعب في حد ذاته، بل في الطريقة التي جُرِّد فيها اللّعب من بعده الإنساني والتربوي، وحُوِّل إلى أداة سياسية ناعمة ملهية. إذ أنّ أخطر ما يمكن أن يحدث للشعوب ليس القمع المباشر، بل الإلهاء المستمر. فحين يُترك اللّعب حكرا على الكبار في الملاعب، ويُحبَس الصغار في أقفاص الجِدّ القسري، نكون قد حكمنا على الأجيال القادمة بإعادة إنتاج البؤس نفسه. وحدها استعادة اللّعب بوصفه حقا، وفضاء للتفكير، ومدخلا للتفلسف، يمكن أن تفتح أفقا مختلفا، تُستعاد فيه الأهداف خارج المرمى، ويعود الحلم إلى مكانه الطبيعي وهو الحياة نفسها.

***

ليلى تبّاني ــــ الجزائر

 

لسنا منسيين لأن أحدا نسي أسماءنا، بل لأن العالم لم يتعلم بعد كيف ينصت إلى ما لا يصرخ. النسيان هنا ليس فعل إهمال، بل نتيجة طبيعية لعالم لا يعترف إلا بما يعرض، ولا يصدق إلا ما ييستهلك، ولا يمنح الوجود شرعيته إلا لمن يجيد الأداء. أما نحن، فنقيم في منطقة رمادية بين الظهور والغياب؛ أحياء بلا احتفال، حاضرون بلا تمثيل، نمارس وجودنا كفعل داخلي لا يحتاج إلى شهود.

نحن لا نعاني الوحدة بوصفها نقصا في الآخرين، بل باعتبارها فائضا في الوعي. فكلما اتسعت الرؤية، ضاق الجمع، وكلما تعمق السؤال، تراجع القطيع.

 لسنا غرباء عن العالم، بل أكثر التصاقا به مما يحتمل؛ نلتقط هشاشته قبل أن تتجمد في وقائع، ونسمع أنينه قبل أن يتحول إلى خطاب. لهذا ننسحب إلى الصمت، لا هربا، بل حفاظا على ما تبقى من معنى لم تدنسه البلاغة الجوفاء.

نحن المنسيون لأننا لا نطلب الاعتراف، ولا نجيد التفاوض على ذواتنا. نعيش كما لو أن الوجود سؤال مفتوح لا إجابة نهائية له، وكأن الإنسان تجربة غير مكتملة لا يجوز اختزالها في دور أو تعريف. بين العبث والمعنى، بين الألم والوعي، اخترنا أن نقيم في المسافة، حيث لا يقين يريح، ولا وهم يخدر، بل صدق متعب، وحقيقة لا تقال إلا همسا.

 نمشي بخطى خفيفة كأننا نعتذر للرصيف عن ثقل أفكارنا، ونحمل في صدورنا قلوبا تعمل أكثر مما ينبغي، فتتعب أسرع مما ينبغي. لسنا حزانى بالمعنى الساذج للحزن، نحن فقط نرى أكثر؛ نرى الشقوق الصغيرة في جدران المعاني، ونسمع الصرير الخافت للأشياء حين تتكسر في صمت. لهذا نبدو متعبين، ولهذا نُنسى.

نحن أبناء الأسئلة التي لا تصلح للمجالس، وأحفاد الصمت الذي يحمل في داخله الكثير من الكلام. نحن أولئك الذين اعتادوا السهر دون سبب واضح.. من لا نملك مبررا للتأمل في السقف.. في السماء.. في متابعة أشكال النجوم.. وقد نخلق من أشكال السحاب رفقاء لنا.. نحن أصحاب الأدمغة العتيقة التي تفشل المهدئات في سكونها. نحن أولئك الذين يتعكر مزاجهم بكلمة عابرة.نحن أصحاب المزاج المتغير بشكل متواصل ونوبات البكاء والحزن المفاجئ

نحن أصحاب الأسئلة الوجودية التي لا إجابة لها.. من اعتادوا الصمت في أشد المواقف التي تستدعي الحديث.. نحن من لا تؤخذ كلماتنا على محمل الجد أبدا.. نحن من نخلق الحجج لنعتذر عن حضور الحفلات والتجمعات.. نحن أصدقاء الجميع ولا صديق لنا.. نحن أولئك الذين اتخذوا الموسيقى والكتب رفيقا لهم.. نحن كل الأشخاص الذين يسيرون في الشوارع وقت هطول المطر.. من يبكون في غرفتهم مساء ويستيقظون في الصباح كما لو أنهم لم يبكوا لساعات، نحن أصحاب الرسائل التي لم ترسل والوجع الذي لا ينطق والأمنيات التي لم تتحقق.. نحن المزيفين امام الناس والصادقين أمام أنفسهم.

نحن المنسيون لأننا لا نجيد التسويق لأوجاعنا، ولا نتقن لعب دور الضحية. نؤمن أن بعض الألم يفقد قيمته حين يستعرض، وأن بعض الجراح تشفى فقط حين تُترك في الظل. لذلك نتقن الصمت في اللحظات التي يتوجب فيها الكلام، لا عجزا، بل لأن الكلمات كثيرا ما تخون الحقيقة. نحن أصحاب العقول التي لا تنام، والقلوب التي تتعثر في التفاصيل الصغيرة: نبرة صوت، كلمة عابرة، نظرة غير مكتملة.

نحن المنسيون، لكننا لسنا فارغين. في داخلنا مدن كاملة لم ترسم على الخرائط، وأرواح تعرف كيف تكون مسالمة دون أن تكون ضعيفة. لا نؤذي أحدا لأننا نعرف شكل الألم حين سكن في إنسان. وحين يساء فهمنا نختار الصمت لا عجزا، بل وفاءا لصورة أعمق عن الكرامة. نحن لا نطلب أن يلتفت إلينا، يكفينا أن يترك لنا حق الوجود كما نحن: هشين بوعي، أقوياء بلا استعراض

نحن الوحيدون جدا، نعم، لكن وحدتنا ليست فراغا؛ إنها مساحة للتأمل، ومختبر للأسئلة، ومأوى للأحلام التي لم تجد لغة بعد. نحمل الوجع كمعرفة، والوحدة كاختبار، والحزن كحكمة وإن كنا الوحيدين جدا، فنحن وحدنا لأننا نرى أبعد، ونشعر أعمق، ونرفض أن نكون نسخا قابلة للاستهلاك. نحن الطفل الذي ما زال يسأل، وما زال يندهش، ومازال رغم كل شيء قادرا على الحلم

نحن المنسيون ولكننا لم نكن خارج التاريخ، بل كنا في طبقاته الخفية؛ في الشقوق التي يتسلل منها المعنى، وفي اللحظات التي يتكون فيها الوعي. وإن بدا أننا وحدنا، فذلك لأننا اخترنا طريقا لا يسلكه الكثيرون: طريق النظر إلى الداخل حين ينشغل الجميع بالخارج وطريق الصدق حين يصبح التزييف شرطا للقبول.

لم نخسر العالم، نحن فقط رفضنا أن نربحه بثمن ذواتنا. وحين تألمنا، لم نحمل الألم سلاحا، بل حولناه الي معرفة، وحين انكسرنا، لم نصرخ، بل تعلمنا كيف نقف على شظايانا دون أن نجرح أحدا

نحن المنسيون، لكننا شهود. شهود على هشاشة الإنسان، وعلى قسوة المعنى، وعلى جمال الروح حين تترك لتكون كما هي.

لسنا نهاية الحكاية، بل صوتها الخافت الذي يبقى بعد أن ينتهي التصفيق. وإذا كان العالم لا يرانا، فذلك لأنه ينظر بسرعة، أما نحن فنبقى… لأننا تعلمنا أن الوجود لا يحتاج إلى اعتراف بقدر ما يحتاج إلى صدق

نحن المنسيون، نعم، لكن في هذا النسيان تكمن حريتنا الأخيرة: أن نكون، لا كما يريد العالم، بل كما نريد نحن أن نكون نحن المنسيون.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

درج العراقيون أبناء وادي الرافدين في وسط وجنوب العراق على دمج أكثر من كلمة لسهولة النطق ولأن غاية اللغة في نهاية المطاف هي إيصال المعنى المطلوب بشكل مباشر.

إن هذه الوسيلة منتشرة بشكل كبير ومتعدد الأشكال في اللغة العراقية في حين إن هذا الأمر غير ممكن في العربية الفصحى إلا بحدود قليلة جدا وغير مرغوبة ومقحم أحيانا في حين أن التداول المحكي سلس وتلقائي ويأتي في السياق تماما.

سنحاول تقسيم الموضوع لعدة أجزاء حسب طبيعة الدمج وكالتالي:

1.دمج حروف الجر مع الاسم المجرور

أ. حرف الجر على

- دمج حرف الجر على وهذا الدمج انتقائي أي باختيار المتكلم فنقول

عالرف وعلى الرف

عالبال وعلى البال

عالماشي وعلى الماشي

- وهناك دمج خاص للحرف (على) مع الاسم الموصول الذي (على الذي) لتصبح الكلمة (علّي) كقولنا (العتب علّي خربط الشغلة).

- وهناك دمج خاص بالحرف (على) مع (من) (على من) لتصبح (عَلَمنْ) لتحور إلى عْليمَنْ وعَليمَنْ المستخدمة بكثرة في اللغة العراقية ويقول الشاعر ويغني المغني

عليمن يا ﮔلب تعتب عليمن

هويت وجربت وأمنت بيمن

- وهناك دمج خاص للحرف (على) مع (ما) (على ما) لتصبح الكلمة الجديدة (عَلْما) وهي زمنية قريبة من (لمّا) و(حتى) الفصيحتين كقولنا

انتظر علما أجي

علما اجيت لكيت كلشي خلصان

وهناك استعمال آخر مختلف ل (علما) في اللسان العراقي لتصبح أداة نفي كقولنا

يتعارك عاليسوه وعلما يسوه

- دمج حرف الجر (على) مع الأفعال والمعروف أن على لا تدخل مطلقا في الفصحى على فعل لأنها مختصة بالدخول على الأسماء لكننا نقول في بلساننا

الأمر ينطبق عاليدري والما يدري ونقول العتب عاليحرس البيت

- تدمج على مع الاسم (أبو) لتصبح (عَلَبو) ويتحول معناها بالكامل إلى (على أساس) أو (بحجة) مثل قولنا

ما قِبل أبويا نروح للسينما علبو الفلم مو لعمرنا

- يستخدم العراقيون (عَلَوّا) كثيرا بمعنى (يا ليت) ولابد أن أصلها هو دمج على مع كلمة أخرى جرى حذف جزء منها مع طول الاستعمال وأظن أنها كانت (على واهس) ونحتت مع الزمن إلى (علوّا)

- يستخدم العراقيون (علمود) بمعنى لأجل وأن أصلها هو دمج (على) مع كلمة مود الآرامية التي تعني شأن، كيف (1)

- يستخدم العراقيون عالبرّة وعالجوّة وكلاهما أي برّة وجوّة آراميتان للتعبير عن الاتجاه إلى الخارج أو إلى الداخل ومن الواضح أنهما دمج (على) مع الكلمتين فنقول كرّادة عالجوّة وكرّادة عالبرّة.

- ينتشر دمج (على) بالكلمات في اللغة العراقية عند تأليف الأبوذية

لأنها تعطي معنى مضافا يحتاجه الشاعر للوصول للمعاني الثلاثة

المطلوبة لكلمة واحدة والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها

علامك تحمس بروحي عليمر (على جمر)

أهيم وصار مشروبي علي مر (عليَّ مرّاً)

يوم إنساك مضعونك على مَر (مرَّ عليَّ)

غدت شمس الضحى ظلمة عليّه

ب. حرف الجر (من)

- تدمج (من) مع أين فنقول (منين)

- تدمج (من) مع ضمير الغائب (هو) لتصبح كلمة جديدة شهيرة بعد حذف الهاء هي (منو)

- تدمج هنا وهناك بحرف الجر من (من هنا ومن هناك) لتشكل الكلمتين العراقيتين (منّا ومنّاك) ولأننا نستخدم (هنانه) فقد جرى إلصاق (من (بها لتصبح (منّانه)

فنقول روح منا مو منّاك ونقول إجينه منّانه

ج. حرف الجر إلى: من الواضح أن حرف الجر (إلى) اختفى تماما من الإستخدام كحرف جر منفصل وجرى دمجه على النحو التالي:

- مع الضمائر المتصلة والمنفصلة فنقول الي وإله وإلك وإلكم وإلنا وإلهم وإلهن

- تلصق مع (مَن (لتكوّن (إلمن) لتحل محل (لمن) الفصيحة

د. حرف الجر(الباء): ينتشر دمج حرف الجر (الباء) مع ما بعده

- بهداي: أي بهدوء

- بالراض أو براضة محورة من بالرضا ومنها الأغنية الشهيرة بالراض امش بالراض ﮔتلك دريض والأغنية الأخرى براضة امشي براضه براضة امشي براضة

- بسكوت: أي بسكوت وهدوء

- بلابوش: محرفة عن بلا بوشي أي بلا ستر أو غطاء أو بمعنى بلا حياء من دمج حرف الباء مع لا مع بوش المحرفة عن بوشي.

- بلاهوش: أي بلا وعي أو إدراك والفعل من هاش يهوش

- بساع: أي بسرعة وهي دمج الباء مع ما هو مقتطع من كلمة ساعة.

- بطرﮒ: أي بدون أي شيء عدا شيء واحد مثل إجا بطرﮒ الدشداشة

وغير ذلك كثير

2.دمج ظروف الزمان والمكان

- جرى تحوير استعمال ظرف الزمان (كيف) ليستعمل كاسم يدل على الحالة فنقول

كيفك

شلون كيفك

شلون كيفكم

كما نربطه بحرف الجر الباء لنقول بكيفك وبكيفي وبكيفنا وبكيفهن أي كما تشاء وكذلك تضاف له (أل) التعريف فنقول بالكيف أي حسب الاختيار

- جرى في اللغة العراقية جمع ظرف المكان (بين) إلى (بينات) ونستخدمه في اللسان العراقي بالقول ﮔاعد بيناتنه أو خلّيها بيناتنه بدلا عن الفصيح بيني وبينك بيننا. ونقول بيناتهم وبيناتنا وبيناتهن.

- جرى دمج ظرفي المكان (جوّه) و(برّه) الآراميين مع حرف الجر (على) لتقرأ عالجوّه وعالبرّه.

- نضيف (لي) إلى ظروف المكان مثل (ﻟﻳﮕدام) و(ليوره) و(ليفوﮒ) و(ليجوه) والأصل لام حرف الجر

3. دمج الأفعال:

ينتشر دمج وإدخال أل التعريف على الأفعال بشكل متأصل في جسم اللغة مما يوضح مدى استقلالية اللغة العراقية عن العربية الفصحى واعتبار الاسم الجديد بمثابة اسم فاعل مثل اليدري واليعرف والينام وكأنك تقول الداري والعارف والنائم ويحلل البعض هذه الأل بأنها ليست أل التعريف وإنما هو دمج اسم الموصول الذي مع الأفعال أي أن (الذي) نحتت إلى (اللي) ثم إلى (إل) التعريف (كقولنا الذي يدري ونحتناها إلى اليدري) والأمر سيان لأن الأمرين لا يجوزان في الفصحى.ثم أدخلنا أداة النفي(ما) ودمجنا الكل فقلنا (المايدري والمايعرف)

إن هذا الإستخدام يأتي بأشكال متنوعة أهمها:

- في بداية الجملة: اليدري يدري والمايدري ﮔضبة عدس أو

اليثرد يدري والياكل ما يدري

- في وسط الجملة: راحوا اليقرون وظلوا اليخرون أو

الشاطر اليعبي بالسلة ركي

- في آخر الجملة: خوفك من اليغافلك

مع ملاحظة أن بعض مناطق العراق الوسطى والجنوبية تلفظ (اللي) منفصلة عن الفعل فنقول اللي يسوكه مرضعة سوك العصا ما ينفعه

- إضافة الجار والمجرور إلى آخر الفعل المضارع والأمر والماضي:

يقرالي ويقرالكم ويقرالنا ويقرالجن ويقرالهن

إشتريلي وإشتريلنا وإشتريلهن

بقالي وبقالك وبقالنا وبقالهن وبقالهم وبقالجن

دمج (ما) مع الأفعال وتأتي بأكثر من شكل

- مباشر مثل

مندل دلوني

متروح إلا وآنه وياك

ميخالف

- مدمجة مع إل فنقول إنت تعرف اليصير والما يصير

- مدمجة مع (إش) التي هي أصلا تعني أي شيء فنقول شمدريني والتي تتجزأ إلى

(إش ما أدري أنا)

- مدمجة مع (على) المنحوتة إلى (عل) فنقول (علما توصل لهنا الله كريم)

دمج (دا) مع الأفعال المضارعة لتفيد الاستمرارية

دتتشاقه ، دنتعارك

دمج حرف الدال(د) مع أفعال الأمر

فنقول دروح أو دولّي وربما هي آرامية

4. إش المنحوتة من (أي شيئ) ثم إلى (أيش) ثم إلى إش

ينتشر في اللغة العراقية بشكل واسع منقطع النظير دمج (إش) مع الأسماء والأفعال وإليكم الأمثلة الشهيرة فقط وهناك عشرات غيرها:

- لصق (إش) إلى أول الكلمات:

الأصل إشلون للسؤال عن الصحة فنقول اشلونك واشلونج واشلونكم واشلونجن

- نضيف (إش) إلى راح لتكوّن (اشراح) للاستفسار عما ستعمل

- نضيف(إش) إلى (ﮔد) المنحوتة أصلاً من (قدر) لتصبح (إﺷﮔد) للسؤال عن القيمة أو الكمية و(إﺷﮔد) تختصر جملة أي شيئ قدر بكلمة واحدة ومثلها كلمة (إشكثر)

- ندمج (إش) مع مالك لتكون (إشمالك) بمعنى ماذا حصل لك

- ندمج (إش) مع (ﭽان) أي كان لتقرأ (إﺷﭽان) لتعبر عن جملة (أي شيء كان)

- نربط (إش)مع عِدّه وعدي وعدك وعدنا وعدهم وعدهن للاستفسار بمعنى ماذا لديه مثل اشعده واشعدهم مع ملاحظة حذف النون لأن الأصل هو عند

- نضيف (إش) للأفعال فنقول اشسويت

- دمج (إش) في نهايات الكلمات

- ليش بمعنى لماذا متألفة من حرف الجر اللام وأي شيئ

- ندمج (بِكَمْ) للاستفسار عن سعر الحاجة مع أيش فنسأل بيش؟

- ندغم (على إي شيء) فنسأل عليش؟

- ندغم (من أي شيء) فنسأل منّيش؟

- ندغم (بلا أي شيء) فنقول بلاش تعبيرا عن كون الشيء لا قيمة له ونقول بلاش ما ينحاش

ندغم (ما من شيئ) فنقول مامش ويقول الشاعر:

يا مامش بمامش وترخص وأغلّيك وأحبك

5. دمج حرف الشين إلى الأفعال والأسماء

ينتشر في اللسان العراقي بشكل واسع منقطع النظير دمج حرف الشين مع الأفعال والأسماء مثل شجابك وشجاك

(بلاش)

ناجمة عن دمج أربع كلمات هي حرف الجر(الباء)وحرف النفي (لا) و(أي) و (شيء) وهي (بلا أي شيء)

م.هناك كلمات كثيرة في اللغة العراقية تكونت نتيجة دمج كلمتين وإليكم بعضاً منها

شكرلمه، حامضحلو، داوركيسة، قارشوارش، شكرلي، عجيربحاس

ﭽمدوب، خردهفروش، قدمكاع، سفرطاس، طخماخ، بيعار

هستوه هستوني هستوهم هستوهن هستونا من دمج هسّه مع

توه والحقيقة أنه دمج ثلاثي لأن هسّه أصلاً ناتجة عن

جمع هذه+الساعة وبهذا فإن هستوّه ناتجة من دمج

هذه+الساعة+تواً الفصيحات

6. دمج الجمل الكاملة وأشباه الجمل بكلمة واحدة:

يتداول العراقيون الكثير من الجمل الكاملة وأشبه الجمل مدغمة بكلمة واحدة لأسباب كثيرة أهمها

أولا: استجابة التركيب لفكر العراقيين أبناء الحضارة الرافدينية العراقية التي تمتلك خزينا لغويا هائلاً خصوصا وأن عملية الإدغام والدمج تتضمن بشكل واضح فكرة اللصق أي لصق كلمة أو ضمير أو حرف جر بكلمة أخرى كما مبين في عشرات بل مئات الأمثلة التي تعج بها اللغة العراقية والتي بينا جزء يسيرا منها أعلاه، علما أن السومرية لغة لاصقة وليت لغة متصرفة. إن ذلك يعني ضمن ما يعني أن اللغة العراقية الجنوبية كانت ولازالت وستبقى الجسر الخالد المتطور بين لغات العراق القديم (السومرية- الأكدية- الآرامية) والعربية الوافدة من شبه الجزيرة.

ثانيا: الاختلاف الواضح لآيدولوجية اللغات العراقية القديمة وهي لغة المدن أساساً، تطورت ونمت واكتملت في جو المدن والأراضي الخضراء الخصبة اللين المنفتح وبين فكر العربية الفصحى الصحراوي المتزمت المقيد بالقوانين الصارمة التي سيجت اللغة فصبغتها بالصبغة القاسية المعروفة الواضحة المعالم التي يستعصي فيها التغيير والتطوير والتعديل وبالتالي الدمج والإدغام واللصق الخ من الأساليب التي تتصف بها اللغة العراقية وحين أصبحت الفصحى اللغة المقدسة للعرب بنزول القرآن تسيجت بسياج القداسة الأبدي الذي يصعب تماما تجاوزه.

ثالثا: تبقى النقطة الثالثة التي تناولناها مراراً وهي أن الإدغام والدمج واللصق في اللغة العراقية يحقق أعلى قدر ممكن من التعمية والإبهام ويجعل اللغة مستغلقة على الفهم لغير أبناء وسط وجنوب العراق.

وإذا أردنا تعداد وحصر الجمل وأشباه الجمل التي اختصرها العراقيون بكلمة واحدة فلربما نحتاج لتعداد الكثير منها ولهذا سنأتي بنماذج فقط:

عالبالسيارة: على الذي في السيارة

المايمشي: الذي لا يمشي

عليش: على أي شيئ

هنيالك: هنيئاً لك

المايعرف: الذي لا يعرف

إشمدريني: ما أدراني

بالليصرفله: بالذي يروق له

خيعونك: الله يعينك يا أخي

دروح: والدال من أصل آرامي

 ***

فهيم عيسى السليم

.......................

المصادر

1. معجم المفردات المندائية في العامية العراقية للدكتور قيس مغشغش ص 330 تحت باب مود.

New

 

اعتقد أننا في حاجة ماسة لمراجعة بعض مفاهيم بعض المصطلحات التي طالما نرددها في أحاديثنا عن العقل الجمعي والرأي العام القائد ألا وهي الهويّة الثقافية، وكذا دلالات الولاء والانتماء والانضواء والتميز بينها في التطبيق والممارسة، وذلك للإجابة عن السؤال المطروح كيف نجح الفلاسفة المسلمون في بناء نسق أخلاقي متين تأسست على نهجه تعاليمهم التربويّة وتطبيقاتهم السياسية، وذلك في ظل تعدد هوياتهم الجنسية وولاءاتهم العقدية وانتماءاتهم العرقية والمذهبية، ومع ذلك التنوع نجد العقل الجمعي المسؤول الأول عن تشكيل الرأي العام في الثقافة الإسلامية ينضوي بإرادته الحرة إلى الثوابت المستقاة من القيم القرآنية، وما صح من الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته التي اجتهد في غرسها في من آمن بدعوته في صدر الدعوة حتى أتمّ، صلى الله عليه وسلم رسالته وبعثته (في إتمام مكارم الأخلاق).

فالواضح من قرائتنا المتأنية للتراث الفلسفي الإسلامي حيال قضية الكذب وضرورة معالجته بالصدق أن هويتهم الفلسفيّة في هذا السياق جاءت مطبوعة بالطابع العقدي، وقد استعان بعضهم بتراث الأغيار لتدعيم النسق القرآني وليس العكس بل وربطوا النظر بالعمل والمقصد بالتطبيق وذلك لاستحالة العملية التربوية والسياسية إلى نهوج تستمد شرعيتها من الهويّة العقديّة.

وإذا ما حاولنا مقابلة ما أوردناه بأحدث الدراسات التي تناولت مفهوم الهويّة في الفكر المعاصر سوف نجد أنها لم تعد وليدة العادة أو التبعية أو العواطف التي تولد الولاء والانتماء لدى الافراد لتذوب في النسق الجماعي فيصبح الكل في واحد أي كيانًا واحدًا فترى عالمة الاجتماع والسياسة الفرنسية المعاصرة "كاترين هالبيرن" أن الهوية أصبح من العسير فهمها بوصفها معطى جوهريًا أو ثابتًا يولد مع الانسان، بل أضحت بناءً مستمراً يتشكل عبر التجربة والممارسة والتطبيق فتتداخل الهويات المتعددة (القوميّة، الدينيّة، والمهنيّة) لتنشئ الانسان المعاصر بجوانبه المتعددة أي أن الانسان المعاصر على حد تعبير الوجودين هو الصانع الأول لهويّته.

ولعل هذا التعريف يتوافق تمامًا مع البنية الفلسفية الأخلاقية الإسلامية التي عبر عنها فلاسفة الإسلام في عصر نضج وقوة الحضارة الإسلامية ويعني ذلك أن ظهر الحضارة الإسلامية قد عبر بوضوح عن شمس هويتها الأخلاقية التي بنيت على العقل والنزعة العملية تلك التي شيدوا عليها الإصلاح وبناء الانسان على أسس قيميّة متينة وثابتة، وبمعنى آخر أن العقلية العلمية التجريبية التي توصف بالحداثة في الثقافة الغربية هي التي اتّسمت بها الحضارة الإسلامية التي لم ترتد في انتخابها للنافع إلى أساطير الأمم الغابرة، ولا لسياقية الديانات السابقة عليها أي أنها لم تصبوا إلى الديانات الوضعية أو اليهودية أو المسيحية لانتخاب منها أدوية لعلاج آفة الكذب سواء في التربية أو السياسة.

وخلاصة القول أن فلاسفة الإسلام قد انضووا تحت عباءة الاخلاقيات القرآنية ورغبهم في ذلك ثلاثة دفوع:

أولها: الزخم المعرفي الذي استقوه من ثقافاتهم المتباينة قبل دخولهم في الإسلام.

وثانيها: أن ولائاتهم لتراثهم الماضي لم يكن يحقق لهم القدر الكافي من حرية الفكر والقناعة في صلاحية النسق الذي ينتمون إليه في التطبيق.

أمّا ثالثها: أنهم وجدوا في بنية الهويّة الإسلاميّة وثبات وأصالة النسق القرآني البنية العقلية الجامعة بين النظر والعمل.

ولعلهم أدركوا هذه الحقيقة قبل فلاسفة القرن العشرين ومنهم المستشرق الياباني "توشيهيكو إيزوتسو" (1914: 1993 م) الذي بين في كتابه "المفاهيم الأخلاقية الدينية في القرآن" أن النسق القرآني في الأخلاق والتربية هو أفضل أنموذج للعقلانية الحرة الشاملة التي لا تقيد الانسان في اختياراته لأقوم السبل لتحقيق السعادة للإنسان وهي أفضل الفلسفات العملية لتطبيق القيم الروحية وتهذيب السلوك الإنساني دون أدنى تعصب أو شيفونية جنسية أو عرقية أو قومية الأمر الذي جعل النسق الأخلاقي القرآني هو الأجدر أن يصبح دستورًا للإنسانية.

ويكفيه أنه جعل الصدق شرطًا للإيمان بالملة ومن ثم بات الكذب هو عتبة فساد النفس الإنسانيّة والمجتمع الذي ينشد السعادة التي عبرت عنها آيات القرآن بأنها المقصد الإلهي.

ولا يفوتنا التنبيه على أن فلاسفة الإسلام وفي مقدمتهم "ابن سينا"(ت 1037 م) كان لهم السبق إلى إثبات حقيقة مفادها أن العقل النقدي ( الترسندالي: transcendental ) لم يفلح وحده في دفع الضمير الإنساني لتحويل الإلزام العقلي في الأخلاق والتربية إلى التزام عملي نابع من جوانيّة الأنا المؤمنة، بأن الواجب وليس الهوى هو الطريق الأمثل لبلوغ السعادة بل اليقين الديني والروح العقدي هو الذي في إمكانه الوصول لهذا الهدف، أي أن علم تاريخ الأفكار يثبت بأن ابن سينا كان أسبق من الفيلسوف الألماني (كانط) للوصول إلى تلك الحقيقة فها هو كانط (ت 1804 م) يصرح في كتابه "الدين في حدود العقل" (أن الدين ليس سياقًا ثانويًا في البنية الأخلاقية العقلانية بل هو ركن أساسي فيها ليستمد منه الواجب المجرد عن الكهنوت والطقوس الشكلية والنصوص الملغزة التي لا يستطيع العقل الناقد قبولها) ولعل كانط يقصد بذلك الدين المقصد الإلهي أو العلم الربّاني أو صريح المعقول الذي تتقبله النفس العاقلة وكأنه الرحم الذي لفظها  ليدفعها دومًا إلى الخير النافع بمنأى عن الأهواء الكاذبة،  أو اللذائذ المادية المضللة.

وصفوة قول كانط في الدين أنه المرجعية العاقلة التي تمكن الانسان الحر للوصول إلى السعادة ليس عن طريق الورع ولا في العزوف عن الطمع بل بالتفكير الناقد الفاحص لجوهر الدين مجردًا عن الملل والنحل والعصبيات والتفاسير المتباينة.

ولعل هذه القراءة للفلسفة الكانطية لا تختلف عن حديث ابن سينا ولاسيما في نظرية اتصال النفس الإنسانية بالعقل الفعال خلال نظرية المعرفة أو دليل خلود النفس المعلقة في الفضاء.

وتجدر بنا الإشارة إلى أن نهجنا في سرد أخبار الفلاسفة وأحاديثهم عن الكذب ينقسم إلى دربين: الأول: - يتمثل في إيراد حرفية قول الفيلسوف في الكذب مشفوعًا بتحليل موجز لتوضيح نهجه ومنهاجه والطابع العام لفلسفته في ضوء آراءه العملية الأخلاقية والسياسية والتربوية وكذا معالجته لهذا الموضوع الشائك.

أمّا الدرب الثاني: هو استنباط أو استقراء مفهوم الكذب عند الفيلسوف وذلك وفق قياس الغائب على الشاهد أو تطبيق منطق المحاكاة أو نظرية المتشابهات والأضداد (المحاسن والأضداد) وجميعها يمكن قراءته لاستنباط أو استقراء مفهوم الفيلسوف للكذب - ذلك إذا لم نجد قول يفيد استخدامه للفظ (الكذب) أو أحد مشتقاته واشكاله.

أمّا عن مجمل آراء فلاسفة الإسلام حيال قضية الكذب وأبعادها الأخلاقية والسياسية والتربوية، ومآلات الإفك على الفرد والمجتمع، وأشكال التدليس وما تحويه من شرور وآثام والمباح من ألوانه وعللها وضرورياتها؛ فسوف نجمله استنادًا على تكرار حديث الفلاسفة عن ماهيته ونقائضها ثم نتطرق بعد ذلك للمشهور من تلك الآراء التي تشير إلى مدى اهتمام صاحبها بشرح أبعاد هذه القضية.

فالكذب عند جلهم ليس خطاب موجه للآخر، بل يمكن أن يكون حديث مع الأنا الكذوب، وهي سمة الأفّاق الذي يكذب ويصدق أقواله التي صنعها.

ويعاني محترفو الكذب من الاضطراب النفسي وضعف الشخصية والقلق والارتياب والتردد، الأمر الذي يدفعهم إلى تجميل القبح في الحديث مع ذواتهم لتبرير كل ألوان الشر حتى يسكتوا تأنيب ضمائرهم أو يخدروها أو يميتوها فيصف هؤلاء النفاق على سبيل المثال، والمداهنة والرياء والخداع بالمجاملة واللباقة والملاطفة. والكذوب: هو البارع في التلفيق والدّس والتزوير واختلاق الأخبار والوقائع والأحداث وحبك الأضاليل.

أمّا أخطر أنواع الكذب فتبدو في ثلاثة أشكال:

أولها: الاجتراء على الباري سبحانه وتعالى، وعلى أنبيائه والتأول عليهم، وإلصاق بهم من الصفات ما ليس فيهم.

وثانيها: الغش في الارشاد والتربية والتعليم والنصح.

وثالثها: التلبيس والتشويش والريبة والسكوت عن الحق وإخفاءه وطمس الأدلة ونقض البراهين وخرص ألسنة الصدق وجميع ذلك قاتل للتراحم بين الناس ومبدد للأمن والإيمان والأمان عند حكماء الإسلام.

ويحاكي الفلاسفة نهوج الفقهاء والمتكلمين في عنايتهم بتوضيح دلالة الالفاظ التي تدخل تحت مظلة الكذب؛ ومنها المكر الذي يعني الخداع وإظهار الأمر على النقيض من حقيقته وهو عندهم شكل من أشكال الدهاء المحمود إذا وجه لمحاربة الشر أو لإحباط مخططه وكيده وذلك مصداقًا للمعنى المستنبط من القرآن فقد قال تعالى في سورة آل عمران الآية 54 " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين" وقوله تعالى في سورة النحل الآية 45" أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض"

أما المكر المذموم؛ فهو خداع الأمنين للإيقاع بهم فيما يكرهون فقد قال تعالى في سورة فاطر الآية 10 " والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور"، وجاء في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المكر والخديعة في النار" أما المكر بمعنى التحايل لإنقاظ الانسان من شر يدفعه إليه هواه، أو ترغيبه في خير يتباه الجاهل أو المعاند الأحمق فهو مُباح.

ويرى بعض الفلاسفة المتفقهين أن الغدر لا يختلف عن الكذب بل هو درب من دروبه؛ لأن فيه من الخيانة ونقضه للعهد والخداع وهو خلاف الوفاء ويعرف الحكيم الترمذي بالمداراة؛ وهو الخبر المتناقض الذي لا يخلو من الكذب فتارة يأتي في صورة القدح وأخرى في صورة المداهنة وكلاهما مذموم لأنه يصف شيئًا على خلاف الحقيقة ويضيف أن الحكم على المداراة عسير لأنه يتوقف على نية وضمير المداري؛ فالتمويه أو التهويل في وصف المنكر مخالف لمن يقصد الإصلاح للفرد أو المجتمع فالقرح في الجسم لا يصلح فيها مداراة الصديد أو إخفاءه بل يجب تطهيره قبل مداواته، وإن تسبب في ذلك ألمً أو وجعً فالمصارحة أفضل من تجميل المكروه، ولاسيما في التربية والنصح ويؤكد أن أشنع أشكال المداراة هو مداراة الحاكم الظالم أو الولي الفاجر أو المعلم الجاهل. وصفوة القول عنده (أن المداراة وادً عميق لا يمكن استقصاء تفسيره إلا بالملاحظة والمراجعة والمتابعة شأن الاستقصاء الأمبريقي في الملاحظة العملية وللمداراة وفق هذا التحري شكلان أن تسكت عند رؤية المنكر إبقاءً على دينك ودين صاحبك، حتى لا يزداد فهذا من أجل الله عز وجل، أو أن تسكت عنه فتستحيل المداراة إلى مداهنة إبقاءً على دنياك وجاهك وقدرك وأحوال نفسك فهذا من أجل نفسك وهذا الأخير هو المذموم.

وللحديث بقية عن النزعة العلمية في الاخلاق عند فلاسفة الإسلام في الاحاديث المطولة عن الصدق في صورة الصديق والكذب في صورة العدو الغادر.

***

بقلم: د. عصمت نصار

نظرية سلوكية تغطي جميع مظاهر النشاط الإنساني ذات صلة بعلم الإجتماع وعلم النفس وعلم الإجرام. تفسر اسباب الإنحدار نحو السلوكيات الخاطئة وعدم الانضباط الاجتماعي وتحلل القيم الاجتماعية والمرفقية نتيجة الإهمال البسيط. وضعها عالما الاجتماع جيمس كيو ويلسون وجورج إل. كيلينج عام 1982، بناءً على تجربة نفسية شهيرة لعالم النفس فيليب زيمباردو*. (انظر الهامش)

وجوهر النظرية مبني على مبادئ علم النفس وتفرعاته الذي يرى بأن الإنسان لديه القابلية على الانضباط والالتزام بالقوانين والآداب العامة متى ما توفرت له البيئة المشجعة على ذلك، وسرعان ما يتحلل من هذا الإلتزام متى ما رأى الانفلات من حوله.

ويقول الباحثون في هذا المجال ان "مبدأ النظرية بسيط ولكنه عبقري في تقنينه ثم جعله أُنموذجاً قابلاً للتطبيق على أرض الواقع". ومفاد ذلك أن المظاهر البصرية للفوضى والإهمال والتقاعس وغض النظر ، مثل النوافذ المكسورة او الأبواب المفتوحة التي تترك بلا إصلاح أو ترك العناية بالأموال العامة او الخاصة وعدم الرقابة عليها او ضعفها، أو غض النظر عن اخطاء المرافق العامة او اهمال معالجة الفساد المالي والإداري وغض النظر عن الرشاوى البسيطة او المقنعة تشجع على المزيد من الجرائم والسلوكيات السيئة وتفاقمها تدريجياً لأنها توحي بغياب النظام والقانون وعدم الإهتمام ممن يتولاها، مما يؤدي إلى تفاقم المشاكل الصغيرة إلى جرائم أكبر، على خلاف ذلك يؤدي إصلاح هذه المظاهر السلوكية الصغيرة إلى خلق بيئة صحية تشجع على السلوك الإيجابي.

النظرية يمكن تعريفها ببساطة بأمثال تذهب الى (أن الكبائر تبدأ بالصغائر)، أو (أن عظيم النار من مستصغَر الشرر) او (المال السائب يعلم الناس السرقة). ويرى المنظّران أن الجريمة هي نتاج الفوضى وعدم الالتزام بالنظام في المجتمعات البشرية.

يقول واضعو النظرية انه إذا حطم أحدهم نافذة زجاجية في الطريق العام، وتُركت هذه النافذة دون إصلاح، فسيبدأ المارة في الظن بأنه لا أحد يهتم، وبالتالي فلا يوجد أحد يتولى زمام الأمور، وستبدأ نوافذ أخرى تتحطم على ذات المنوال من باب العبث، وستبدأ الفوضى تعمّ البيت المقابل لهذا النافذة، ومنه إلى الشارع، ومنه إلى المجتمع كله.

لا تقتصر النظرية على النوافذ المحطمة التي هي اساس فكرة النظرية، فهي تشمل جميع مظاهر الإهمال البسيط الذي يتطور لاحقاً ليصبح ظاهرة اجرامية عامة. ومن امثلة ذلك على سبيل التعداد لا الحصر:

* انتشار الفساد المالي والإداري وخاصة الرشوة والاختلاس، اذا لم تكافح مظاهرهما البسيطة الأولى فوراً وبحزم.

* خذلان الشعور الوطني العام اذا فشل الساسة في ضبط النظام وفرضه على الجميع بدون استثناء ولو بشكل محدود والفشل في تحقيق الآماني والرغبات الوطنية المشروعة في الحياة الحرة الكريمة فإن هذا الفشل سينتقل الى جميع مرافق الدولة وتعم الفوضى فيها، وتصبح الأنانية الشخصية هي السائدة بدل الشعور الوطني.

* عدم تطبيق القوانين العقابية على الجرائم والتي تشمل المخالفات التي تبدو بسيطة فان الامر سيتطور تدريحياً الى انواع اخرى من الجرائم الخطيرة

من ذلك ظاهرة (شخط) سيارات المواطنين من قبل عابثين وحاقدين فإنها انتشرت على مستوى الدولة نتيجة تهاون اصحاب تلك العجلات في تقديم شكاوى للسلطات.

وكذلك افتعال الحرائق والفرهود وغير ذلك

* التهاون في محاسبة الموظفين المهملين او المتقاعسين عن اداء واجباتهم او المتغيبين بحجة (خطية) يقود في النهاية الى اشاعة الفوضى في نظام الوظيفة العامة على مستوى عموم البلد.

* التهاون في تطبيق الضوابط في المدارس والجامعات ولو على امور بسيطة يؤدي في النهاية الى انخفاض مستوى التربية والتعليم بل وتدهورهما وتكرار الغياب وانخفاض رغبات الطلاب بالتفوق وانجرار الطلبة نحو سلوكيات منحرفة تتسع لاحقاً نتيجة ضعف الرقابة والمحاسبة والتهاون في التقييم العلمي والوساطة والتمييز.

* انخفاض مستوى الرعاية الطبية وعدم الثقة بالمستشفيات العامة لأسباب تتعلق بالتهاون في الرقابة والإهمال وعدم الإهتمام الجدي وإنعدم النظافة مما يجعل من هذه الأمور تتوسع تدريجياً لتعم عموم البلد

والتشجيع على التوجه للمستشفيات والعيادات الخاصة التي بدروها قد تنعدم فيها الضوابط وتحقق مستويات من الجشع والاتفاقات غير المشروعة، التي تنمو وتعم جميع انحاء الدولة.

* عدم الإلتزم بالتعليمات البلدية قد يتطور الى كارثة بيئية فقد يقوم احدهم برمي القمامة في غير محلها المخصص لها او بجانبها او ترك مخلفات الأطعمة والأكياس في الحدائق العامة فيتبعه اخرون فتصبح ظاهرة عامة تحتاج الى جهود قوية لمعالجتها وإعادة الوضع الى نصابه.

* اهمال تصحيح الوالدين لسلوكيات اطفالهم العدوانية ولو بدت بسيطة ترتب اثار واسعة على سلوكهم المستقبلي وتؤثر على نموهم الاجتماعي والنفسي، وصعوبة تكوينهم لعلاقات صحية مثل التنمر على الأقران، مشاكل أكاديمية، بالإضافة إلى احتمالية تطور مشاكل سلوكية أكبر في المستقبل، مثل الانخراط في سلوكيات إجرامية، مع عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع.

وهناك أمثلة كثيرة اخرى تتعلق بقوانين المرور والبناء والنقل وإحترام الجيرة ومراقبة الاسعار والموازين والمظاهر غير المحتشمة في الاماكن العامة ونشر المحتوى الهابط وعدم الرقابة الدقيقة على التجار واصحاب المصانع والمحلات التجارية التي تمارس احتيالاً على المواطنين من حيث انخفاض الجودة وادعاء الضمان ...

فقد تكون البداية هي مشكلات بسيطة نسبياً تركت دون معالجة، لكنها في الواقع تمثل دعوات إلى المزيد من المخالفات والجرائم الخطيرة.

فكم من شئ بدأ كمشكلة بسيطة ثم تطورت في تعقيدها الى عدد من المراحل والدوائر لتصبح نقطة تحول لنوع من الجرائم الخطيرة المنظمة، فيجب أن تردع تلك الأفعال من البداية قبل تفاقمها

آثار هذه النظرية

هذه النظرية قلبت الموازين في العقد الماضي، وغيرت في قوانين الإدارة عموماً وفي الإدارة المدنية خصوصاً، فعلى مستوى المدن الأمريكية مثلا فُرضت الضرائب على كل من يرمي المخلفات في الشوارع مهما صغر حجمها، ونُظفت الجدران يوميا من كل ما يكتب عليها، وغُسلت وسائل المواصلات يوميا ونظفت، فأحسّ الناس أن من واجبهم المساهمة في الحفاظ على هذا الإنجاز الحضاري، وعلى مستوى المرور فُرضت الضرائب على كل مخالفة صغيرة (مهما صغرت) فقلّت المخالفات الكبيرة واختفت الحوادث. وعلى المستوى الأمني تحوّلت نيويورك تلك المدينة المعروفة بالإجرام والسطو والفوضى في حقبة الثمانينيات - بعد تطبيق هذه النظرية - إلى مدينة أكثر أمناً ونظافة وترتيباً.. ثم تبنّت الإدارات الحكومية والمؤسسات الخاصة هذه النظرية كأساس مهم في فن الإدارة لتطوير العمل ورفع الإنتاجية والارتقاء بالمنتج"

التطبيق العملي: تم تطبيقها بنجاح في مدينة نيويورك في التسعينيات، حيث أدت معالجة المخالفات البسيطة (مثل التسول، والتخريب، وعدم دفع أجرة المواصلات) إلى انخفاض كبير في الجريمة بشكل عام، بعد أن ركزت الشرطة على هذه "النوافذ المكسورة".

التطبيقات في مجالات أخرى

الإدارة: تستخدم لتطوير بيئات العمل، حيث إن معالجة المشاكل الصغيرة ترفع الإنتاجية وتحسن الأداء.

التعليم: تطبيقها يركز على بيئة المدرسة لمنع السلوكيات المنحرفة بين الطلاب.

الحياة الشخصية: يمكن تطبيقها على المشاكل اليومية، حيث إن تجاهل الخلافات الصغيرة قد يؤدي إلى مشاكل أكبر.

قام فيليب زيمباردو بوضع عجلتين متشابهتين احدهما في حي فقير واخر حي اغنياء وترك ابوابهما مفتوحة الى جانب سيارات المواطنين الاخرى المغلقة أبوابها. في الحي الفقير لاحظ ان السيارة سرقت جميع محتوياتها وتحولت الى هيكل خلال ثلاث أيام. اما في حي الاغنياء فقد بدأ المارة بالتوقف والنظر بتردد فقام العالم بإجراء اضافي هو كسر احد زجاج نافذة السيارة بعدها تحولت الى هيكل خلال ثلاث ايام ايضاً.

***

فارس حامد عبد الكريم

عرفت الدراسات الشرقية في إيطاليا خلال العقود الثلاثة الأخيرة نقلةً بارزةً، تمثّلت في اتّساع رقعة المهتمّين باللغة والآداب العربية، بعد أن كانت محصورة في دائرة ضيقة من الدارسين والمستشرِقين ورجال الدين الكاثوليك، ناهيك عن مستجدات في صلب المنهج والمقارَبات. وفي ظلّ هذه التحولات باتت تتوزّع انشغالات المعنيين، في الراهن الحالي، على أربعة حقول أساسية: حقل الدراسات الأدبية بشقّيها القديم والحديث، وحقل الأبحاث التاريخية، وحقل القضايا السياسية الحديثة والمعاصرة، وحقل الإسلاميات. تأتّى ذلك في أعقاب مراجَعات حصلت داخل الاستشراق الغربيّ عامة، لم تدخّر جهدًا في انتقاد المنزع الإيديولوجي، مع تنبيه لتفادي سقطات الاختزال والتعميم. وهو ما يمكن الحديث معه عن تحوُّلٍ جارٍ من عموم الاستشراق إلى تخصّص الاستعْراب، بالانكباب حصرًا على قضايا الدراسات العربية، التي باتت تُعرَف في الوسط الأكاديمي الإيطالي بالاستعراب "Arabismo"، ويُطلق على المختص في المجال مستعرِبا "Arabista"، قياسا على لفظتيْ اِستشراق ومستشرِق.

هيمنة النسق الاستشراقيّ

لا يخفى أنَّ الدراسات العربيّة في إيطاليا هي دراسات وليدة تقاليد مزدوَجة كَنَسيّة واستشراقيّة، تعود أصولها إلى عهد البابا كليمنت الخامس (1264-1314م)، الذي حرص على تدريس اللغة والآداب العربية. ما وطّدَ الصلة، منذ المنشأ، بين تلك الدراسات والتراث الكتابيّ وأبقاها تحت تأثير القراءة الكاثوليكية. وهو ما حدا بالمستعرِبين، في الفترة المعاصرة، إلى النزوع نحو الاستقلال المنهجيّ بقصد التخلّص من وطأة التوظيف الإيديولوجيّ. روتْ لي إيزابيلا كاميرا دافليتو، أستاذة الأدب العربي في جامعة روما، أنها حين أزمعت الالتحاق بالمعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية، محجّ رهبانية الآباء البيض في روما، لدراسة العربية لم تحظَ بالقبول بموجب عدم انتمائها للسلك الكَنَسيّ. فقد بقي تدريسُ العربية وتعليمها في روما حكرًا على المؤسسات الكَنَسية حتى مطلع الستينيات من القرن الماضي.

وتبعًا للتطوّرات الحاصلة، شهدت الدراسات العربية توسّعًا ملحوظًا، لا سيما في العقود الأخيرة، يعود الفضل في ذلك إلى كوكبة نشيطة من الأساتذة مثل فرانشيسكا كوراو، وإيروس بلديسيرا، ومونيكا روكو، وماريا أفينو، ووسيم دهمش، وفتحي مقبول، وسالفة الذكر إيزابيلا كاميرا دافليتو، حتى غدت حاضرة في كبريات الجامعات الإيطالية، في ميلانو وفلورنسا وبادوفا وجنوة وترييستي وكالياري وساساري ومِسّينا وكاتانيا وليتشي وريجيو كالابريا وفي مدن أخرى، وهو ما يرتقي أحيانا إلى أقسام جامعية مستقلّة، على غرار ما نجده في "الأورِيِنْتالي" في نابولي، وفي "لاسابيينسا" في روما، وفي"كافوسكاري" في البندقية؛ ولكنّ هذا لا يعني أنّ المنهجَ تخلّصَ من إرثِ الماضي ومن وطأة الرؤى الاستشراقية المثقَلة بالمركزية الغربية. فما فتئت هذه الدراسات تشكو من هنات في بيداغوجيا التدريس، فحين يُدرَّس الأدب العربي، أو الفقه الإسلامي –تحت مسمّى ما يُعرَف بالقانون الإسلامي "Diritto Islamico"-، أو تُدرَّس الوقائع السياسية للبلاد العربية وما شابهها، تُقدَّم جميعها باللغة الإيطالية ومن منظور غربي خالص. والأنكى أنّ العربية كلغة، تُدرَّس وتُقدَّم بالإيطالية أيضا، حيث النحو العربي وبنية الجملة العربية، ومداخل اللهجات العربية يُدرَّس جميعها بلغة دانتي. وهو منهجٌ استشراقيٌّ، ما انفك يتعامل مع العربية بمنهج دراسة اللغات الميّتة والمنقرضة من الاستعمال الحيّ، مما يحدّ بشكل واسع من إلمام الدارس الغضّ ويخلّف في ذهنه تصوّرات مشوَّشة.

فالحكم المجحف على الفصحى كونها لغة مهجورة بين أهلها، وأنّ الدارجة هي السائدة، بتفاوتٍ نسبيٍّ، دفَعَ في السنوات الأخيرة إلى اعتماد اللهجات الشامية والمغاربية في التدريس، وتكليف أساتذة عرب بالشأن، وأحيانا اعتماد لغة وسطى بين المحكية والفصحى.

العربية لغة المستقبل

في ظلّ هذه التحولات الأكاديمية تحوز العربية وآدابها المرتبةَ الرابعة بعد الصينية واليابانية والكورية، من حيث أعداد الطلاب الذين يختارون الدراسات الشرقية في المراكز الجامعية الكبرى في روما ونابولي والبندقية. وقد تخطّت العربية اللغات المذكورة على مدى سنتيْن متتاليتيْن في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001. ولا يعود هذا التصدر السائد للصينية واليابانية إلى عوامل براغماتية أو إلى أسباب حضارية، بل مردّه إلى أنّ الأجواء المحيطة بالتكوين الجامعي في الدراسات الشرقية غالبا ما تحول دون اختيار العربية. حيث يأتي الطالب الإيطالي مدفوعًا بحماسٍ عفويٍّ لتعلّم العربية كونها لغة المستقبَل، ليصطدم بأساتذة يدرِّسونها ولا يتكلّمونها. وفي إيطاليا يقدّم كثيرون أنفسهم أنّهم مختصون في الشؤون العربية والإسلامية، ولكن يعزّ أن تجد بينهم من يعبّر بلسان عربيّ مبين. أذكر الزميلة إيزابيلا كاميرا دافليتو، التي شهرتها تفوق معرفتها في الدراسات العربية، والتي غالبا ما استعانت بي لكتابة رسائلها بالعربية، أثناء ردّ على رسالة من مسؤول عربيّ، أوردتُ أمام اسمها صفة "الأستاذة"، فقالت لي منبّهة: اكتب للعرب "البروفيسورة" فإنّ القوم يغويهم هذا اللّقب.

وربما ما يسبّب نفورَ هؤلاء المتطلّعين للدراسات العربية شيوع مقولة صعوبة العربية. ناهيك عن محدودية رعايتهم، لنقص التعاون والتنسيق مع البلدان العربية، ولا تجد هذه الشريحة المتعطّشة للإلمام بحضارة العرب ولغتهم سندًا سوى التعويل على إمكانياتها الذاتية، بخلاف ما تُقدِّمه من عونٍ دول شرقية أخرى تروّج للغاتها وآدابها. وصحيح أنّ بعضَ المؤسسات أو الهيئات العربية قد اشترت بعض الكراسي العلمية في الجامعات الإيطالية غير أنّ أثرها ضئيل.

لكنّ ذلك الشغفَ الذي أشرنا إليه لدى المتطلّعين للدراسات العربية، تشوبه في غالب الأحيان رؤى متداخلة عن العالم العربي، باعتباره عالم المتناقضات والتبايُنات، وأحيانا العنف والعسف. وهي تصوّرات يساهم الإعلام في ترسيخها، ولا سيما التلفزيون، بشكل فعال ومؤثر. كان قد رصد هذا التأثير القوي مؤلَّفٌ هامّ صدر منذ العام 1993 في روما بعنوان: "التلفزيون والإسلام. المشاهِد والأفكار المسبقة في وسائل الإعلام الإيطالية" من إعداد كارلو مارليتي.

دراسات عربية تعوزها المرجعيّة العربيّة

علاوة على ما ذكرنا، تبقى المرجعية العربية في الدراسات الإيطالية ضئيلة، ولا تفي بالغرض في الأبحاث الجامعية، في وقت يتمّ فيه الاشتغال على وقائع وأحداث ومفاهيم متعلّقة بالثقافة العربية. حيث اعتماد التقليد السائد في الاستعراب على مرجعية غربية، تدعمها نصوص مترجَمة قليلة، مع تميُّزٍ نسبيٍّ في مجال الدراسات الأدبية التي تستأنس بالمرجعيةَ العربية باحتشام. وإن كان يُفترَض أن تلعبَ الجامعة دورًا طليعيًّا في تحرّر الدارس والباحث من الأحكام المسبَقة والادّعاءات المغرِضة، فالواقع أنّ المنهجَ السائد يشكّل أحيانا سندًا لترسيخ المغالَطات. وبالإضافة إلى أنّ المرجعيّةَ التي يَستقي منها الباحث رؤاه هي مرجعية غربية، فإنّ تحصيله من العربية لا يسمح له بالاطلاع على الأعمال المدوَّنة بتلك اللغة، ولا الإحاطة بوقائع المجتمعات العربية. الأمر الذي أورث خلَلا في التكوين الاستعرابيّ، لم يسمح بعدُ ببلورة رؤى نقدية وموضوعية عمّا يروج من أفكار عن العالم العربي وعن الثقافة العربية في الغرب، وبما يجعل السواد الأعظم يعيد إنتاج ما هو سائد وإعطائه سندا أكاديميا.

وبرغم النزوع للتحرّر من النسق الاستشراقيّ مع الاستعراب، ثمة سياج دغمائيّ يحول دون ذلك الانعتاق، يجد دعامة في المناخ السياسيّ السائد. فما إن شرع الاستعراب، الحديث المنشأ، في تأسيس مقارَبَة مستقلّة وشبه محايِدة حتى اصطدم باختبار منهجيّ، تحت ضغط موجة الإرهاب والأصولية المعولمة، ما أثار لديه حساسية إيديولوجية في التعاطي مع الشأن الثقافي العربي. فهيمنت عناوين في أوساط المستعرِبين، مثل انتهاك حرية المرأة، ووقوع الثقافة العربية في قبضة الفقيه، وانحصار هامش الحرية الأكاديمية، حتى حجبت غشاوةُ الأصولية الرؤيةَ السليمةَ للحضارة العربية وانحرفت بالوعي صوب مسارات مرتبِكة. فحين نُشِر مؤلَّف "الحضور العربي الإسلاميّ في المطبوعات الإيطالية" (2000)، من قبل وزارة الثروة والأنشطة الثقافية، تمّ حذف القسم الحاوي للبيبليوغرافيا الإيطالية من النسخة العربية، تحت مبرّر تضمّنه لعدد هائل من الكتابات التي تنتقد الدين الإسلاميّ وشخص النبيّ محمّد، وأخرى تستعرض غياب الديمقراطية، كلّ ذلك تفاديا لإثارة الحزازات مع الأطراف العربية المزمع ترويج النسخة المعرّبة بينها.

إذ لم يكن الاهتمام الأكاديميّ، في العقديْن الأخيرين، علميًّا صرفًا، بل محكوما بهواجس إيديولوجية في الغالب، فضلا عمّا استبطن كذلك من حمولة سياسية جرّاء هواجس الإرهاب، والخشية من الإسلام، وضغط الهجرة، وهو خلاف ما نجده في الأوساط المحيطة بالدراسات الصينية واليابانية والكورية والهندية.

مساوئ تتربّص بحقلٍ واعدٍ

توجَد في أقسام الدراسات الشرقية هرميةٌ أكاديميةٌ، على غرار ما نجده في غيرها من الأقسام، لا تستندُ إلى الكفاءة العلمية دائمًا، ولكن إلى سطوة "البارونات" (المتنفّذين). يماثل انغلاق تلك الشلّة الطوق المافيوزي، وهي عاهة مستفحِلة في الوسط الأكاديميّ. ما دفع بوزيرة التعليم والبحث العلمي السابقة، مارياستالا جلميني، إلى خوض إصلاحات حازمة في الجامعة، لم تفلح في ذلك إلّا قليلا. ضمن تلك الأجواء الأكاديمية الموبوءة غالبا ما أُلحِق أساتذة من أصول أجنبية بأقسام الدراسات الشرقية، مع حصرهم في مراتب دنيا دون تثبيت أو ترقية، بشكل يمكن نعته بالميز الأكاديمي الناعم، وإن توفرت الشروط العلمية لذلك وحملوا جنسيات البلد المضيف. لكن ذلك ينبغي ألّا يخفي أيضا حقيقة أنّ شقًّا واسعًا، من الملحَقين بتدريس اللغات واللهجات والآداب الشرقية من أصول أجنبية في الجامعات الإيطالية، لا يحوز المؤهّلات العلمية اللازمة. وهم بمثابة خليط من حَمَلة الشهادات العلمية وشهادات العلوم الإنسانية. فغالبا ما يكون لرؤساء الأقسام الكلمة الفصل في إلحاق الأجانب بسلك التدريس، ولا يعود الأمر إلى مناظَرات أو كفاءة علمية.

جانب آخر على صلة بالدراسات العربية يتعلّق بمجال الترجمة. حيث يُسرّ الكاتب العربي أيما سرور بنقل عمله إلى لغة أوروبية، ظنّا من البعض أنّ باب العالمية يُفتح على مصراعيه بمجرد الترجمة. والحال أنّ ترجمة النص العربي إلى الإيطالية محفوفة بجملة من المساوئ نوجزها في التالي: أنّ النص المترجَم ولا سيما منه النص الإبداعي، الشعريّ أو الروائيّ، يوكل به في غالب الأحيان إلى طلاب مبتدِئين أو مترجِمين يفتقرون إلى متانة اللغة، ما جعل الكثير من النصوص المهمّة في العربية تتحوّل إلى نصوص مبتذَلة في الإيطالية، وهي بالكاد تتخطى طبعتها الأولى (ترجمات نجيب محفوظ إلى الإيطالية على سبيل المثال). حيث قلّة من دور النشر الكبرى تراهن على الكاتب العربي، وعادة ما تتولى دورُ نشرٍ صغيرة نقلَ الأعمال العربية. دون أن نغفل كذلك عن أنّ عملية ترويج الكتاب في الغرب، ولا سيما الرواية، يأتي بفعل تضافر عوامل عدّة، تشتغل بمثابة العمل الرتيب المتسلسل (دعاية، وترويج، ولقاءات، وحوارات، وعروض، وومضات إشهارية)، وهو ما لا يفوز به الكاتب العربي، لأنّ المؤسسة التي رشّحت عمله تعوزها الإمكانيات والقدرات. ليبقى الجوّ العام السائد في الترجمات العربية، وهو البحث والانتقاء للغرائبي والمؤدلَج، مع إيثارٍ ملحوظ للمنتوج المسيحي العربي، ليس بموجب ملامحه الإبداعية بل لهوى يمليه مخيال دينيّ مستحكِم.

كثيرا ما أسألُ طلابي عن دواعي اختيارهم الدراسات العربية، بقصد تفهّم عوامل تطوّر هذه الدراسات، بعيدا عن الإجابات الجاهزة في سوسيولوجيا الثقافة، فأظفر بإجابات متكرّرة تحوم حول: العربية لغة جميلةٌ، وهي أداة عمل في المستقبَل، والعالم العربي يسحر. فأقول في نفسي ثقافة تغري بهذا الشكل، ماذا لو توفّرت قوة دفع من أهلها بمثل هذا الحجم؟

***

عزالدّين عناية

أستاذ تونسي بجامعة روما- إيطاليا

لم يكن ما قاله الدكتور محمد عثمان الخشت صدمة للفكر الديني، بل صدمة للجمود الذي اعتاد أن يتخفى وراءه. فالرجل لم يأتِ بشعارات، ولا مارس استفزازا مجانيا، بل قدم رؤية عقلانية متماسكة لإصلاح الفكر الديني، تنطلق من قراءة تاريخية دقيقة، وتستند إلى فهم عميق لأزمات التعليم ومنهجية التفكير، وإلى إدراك واع لتحديات العالم العربي والإسلامي في زمن تتغير فيه الأسئلة قبل الأجوبة.

الخشت لا يهدم التراث، بل يعيد ترتيب العلاقة معه. ولا يستفز الإيمان، بل يستفز الكسل العقلي الذي طالما احتمى باسم المقدس.

ولهذا تحديدا، لم يكن غريبا أن يتحول حديثه إلى ساحة هجوم شرس، لا لأن أفكاره ضعيفة، بل لأنها أصابت منطقة محرمة لم يسمح طويلا بالاقتراب منها.

وهنا يفرض السؤال نفسه بإلحاح:

لماذا كل هذا الغضب؟ ولماذا كل هذا الهجوم؟

الجواب واضح لمن يقرأ المشهد بوعي: لأن الخشت تجرأ على نقد الغزالي. نقد لم يكن تجريحا ولا إسقاطا، بل مساءلة فكرية. لحظة تاريخية كان لها أثر بالغ في تشكيل علاقتنا بالعقل والفلسفة. غير أن مجرد الاقتراب من الغزالي كفيل بإطلاق صفارات الإنذار، وكأننا أمام نص مقدس لا مفكر تاريخي قابل للنقد.

الهجوم على الخشت لم يكن دفاعا عن الغزالي بقدر ما كان دفاعا عن إرث طويل من الخوف من الفلسفة، ومن الشك في البرهان، ومن الارتياب في العقل الحر. إرث ارتاح إليه كثيرون لأنه يعفيهم من عناء التفكير، ويمنحهم يقينا جاهزا لا يُسأل. ولهذا تشن المعارك لا بالحجج، بل بالتخوين. ولا بالنقاش، بل بالتحريض. فكل محاولة لإعادة الاعتبار للعقل تقابل بوصفها خطرا وكل دعوة للفلسفة تستقبل كتهديد، لأن العقل إذا استيقظ، سقطت الوصاية. ولهذا كتبت هذا المقال لا دفاعا عن شخص، ولا خصومة مع تراث، بل دفاعا عن حق العقل في أن يفكر، وحق التاريخ في أن يقرأ، وحق الدين في أن يتحرر من الخوف

لم يكن الجمود قدرا مكتوبا على العقل الإسلامي، بل اختيارا تاريخيا جرى تبريره باسم اليقين.

وحين نعود إلى لحظة الغزالي، لا نعود إليها بوصفها تراثا معصوما، بل بوصفها منعطفا حاسما، لحظة غلبت الطمأنينة على المغامرة، والسلامة على السؤال.

فمن وجهة نظري، ترك لنا الغزالي إرثا ثقيلا من الارتياب في الفلسفة والبرهان، إرثا جعل العقول من بعده تميل إلى الحذر بدل المغامرة، وإلى السلامة بدل الجرأة. ألقى بظلال كثيفة على مساحات التفكير الحر، وحول الفلسفة إلى شبهة، والفيلسوف إلى متهم، فترسخ الخوف من الحرية الفكرية، واستبدلت شجاعة السؤال بطمأنينة التقليد.

لقد امتلك الغزالي أداة الشك، لكنه لم يحررها. حول الشك إلى سلاح، غير أنه وجهه إلى صدور الفلاسفة، لا إلى المسلمات التي كبلت العقل وأغلقت أفقه. وفي «تهافت الفلاسفة» لم يكتف بالنقد العلمي، بل مارس ما يشبه نزع الشرعية الفكرية عن الفلسفة ذاتها، فانتقل بها من فضاء معرفي مشروع إلى تهمة أخلاقية يُخشى الاقتراب منها. كان يمكن للغزالي أن يكون جسرا بين النص والبرهان، بين الإيمان والعقل، لكنه اختار أن يكون سورا

كتب «التهافت» كما لو أنه سكب ماء على نار كانت توشك أن تتوهج، فصارت رمادا في أروقة الفلسفة.

أطفأ جذوة السؤال في زمن كانت الأسئلة فيه حياة، وأورث العقول عادة الانكماش على يقين صغير، بدل التطلع إلى أفق واسع.

لقد صنع مناخا جعل أجيالا كاملة من المفكرين تخشى الاقتراب من الأسئلة الكبرى، وأخضع التفكير الحر لرقابة مزدوجة: رقابة النص حين يساء فهمه، ورقابة السلطة حين تتوارى خلفه. وهكذا لم يعد العقل شريكا في الفهم، بل تابعا ينتظر الإذن.

من هنا، فإن نقد الغزالي اليوم ليس ترفا فكريا ولا نزوة ثقافية، بل فعل تحرير للوعي من أثر قرار تاريخي كبل العقل باسم الدين.

وكما جرؤ الغزالي على تفكيك الفلاسفة، يجب أن نجرؤ نحن على تفكيكه هو؛ لا كفرد ولا كقيمة روحية، بل كحالة ذهنية كرّست الطاعة وخافت الحرية، ومجّدت اليقين الجاهز وضيقت الخناق على السؤال.

فالشجاعة الفكرية لا تكون في ترديد ما قيل، بل في مساءلته

الغزالي ليس نبيا ولا نصا مقدسا، ومن حوله إلى منطقة محرمة على النقد فقد صادر العقل باسم الدين.

أما الخشت، فلم يفعل أكثر من أن أعاد فتح باب أغلق عمدا: باب السؤال، وباب الفلسفة، وباب الثقة في قدرة العقل على الفهم دون وصاية

أما اتهامه بالمساس بالثوابت، فليس إلا رد فعل تقليدي لكل عقل يشعر أن أرضه تهتز.

فكل دعوة إلى الفلسفة تقابل باتهام، وكل دفاع عن العقل يوصم بالانحراف، لأن العقل الحر أخطر على السكون من أي خصم خارجي

الخشت لا يسحب البساط من تحت الدين، بل من تحت الكسل الفكري الذي عاش قرونًا متحصنًا وراء أسماء كبيرة.

وكل هجوم عليه هو اعتراف غير مباشر بأن مشروعه أصاب موضع الألم

مشروع الخشت استعاده لروح الاجتهاد، لا التلقين. روح السؤال، لا الاتهام. روح العقل الشجاع، لا العقل المرتجف.

نقد الغزالي ليس إسقاطا للتاريخ، بل تحريرا منه. والتمسك به كيقين نهائي ليس وفاءا له، بل خيانة لروحه التي ادعت الشك ثم أغلقت بابه. فإن كان العقل عندكم تهمة، فلتعلنوا ذلك صراحة. وإن كانت الفلسفة خطرا، فقولوا: نحن نخافها. لكن لا تختبئوا خلف الدين لتبرير خوفكم من الحرية.

في النهاية، ليست المعركة حول الغزالي، ولا حول الخشت، بل حول صورة العقل الذي نريده لمستقبلنا.

عقل يكرر أم عقل يفكر؟

عقل يحتمي بالأسماء أم يواجه الأسئلة؟

إن تحويل المفكرين إلى أيقونات معصومة هو أول خطوة في قتل الفكر، لأن العقل الذي يُمنع من مساءلة الكبار يُمنع تلقائيًا من ابتكار الصغار.

والتراث الذي يقرأ بوصفه خاتمة، لا بوصفه بداية، يتحول من طاقة حية إلى عبء ثقيل.

مشروع محمد عثمان الخشت لا يطلب أكثر من حق بسيط وخطير في آن:

أن نفكر دون خوف، وأن نقرأ تاريخنا بلا قداسة زائفة، وأن نعيد وصل ما انقطع بين الإيمان والعقل، بين النص والحياة.

ومن يهاجم هذا المشروع لا يدافع عن الدين، بل يدافع عن صورة جامدة له، صورة لا تحتمل السؤال لأنها لم تختبر.

أما الغزالي، فسيظل مفكرا وله ما له وعليه ما عليه، لكنه .

واحترامه الحقيقي لا يكون بتحنيطه، بل بامتلاك الشجاعة التي امتلكها هو نفسه: شجاعة النقد.

فمن حق كل جيل أن يعيد النظر في القرارات الفكرية التي شكلت مصيره، خاصة تلك التي كتبت في لحظة خوف أكثر منها لحظة ثقة بالعقل.

العقل الذي يخاف من الفلسفة، عقل لم يصالح نفسه بعد.

والدين الذي يحتاج إلى إسكات السؤال كي يبقى، دين لم يُمنح الفرصة ليبرهن على قوته.

لهذا، فإن الرهان الحقيقي ليس على إسكات الأصوات الجريئة، بل على توسيعها.

فالتاريخ لا يتقدم بالصمت، ولا بالإجماع القسري، بل بالاختلاف الخلاق.

والمستقبل لن يكون لمن يحرس الأسوار، بل لمن يجرؤ على فتح الأبواب.

***

ابتهال عبد الوهاب

الخوارزميات والتطرف الديني.. قراءة تحليلية في آليات الاستقطاب الرقمي

ذكرنا في المقال السابق أن الإنسان اليوم يعيش داخل تدفق مستمر من المعلومات، لا يملك غالبًا السيطرة على سرعته أو مصادره، ما غيّر جذريًا علاقة الفرد بالمعرفة والواقع، وجعل المجال الرقمي مهيأ لإعادة برمجة الانتباه وتوجيه الإدراك بما يخدم أهدافًا لا تكون بالضرورة بريئة أو محايدة.

والأمر الذي يبرز حجم الخطر الحقيقي الذي يهدد المجتمعات هو أن دولًا كاستراليا أدركت هذه المخاطر، فمنذ أيام قليلة لاحظت استراليا أن أدوات الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي تؤثر بشكل واضح على وعي الشباب وتشتت انتباههم وسط كم هائل من المعلومات المتناقضة، ما يجعل التمييز بين الحقيقة والزيف أمرًا صعبًا. لذلك فرضت الحكومة الاستراليا قيودًا صارمة على محتويات الذكاء الاصطناعي ومنصات التواصل، إضافة إلى تحديد سن الاستخدام، لحماية المراهقين من تأثيرات رقمية قد لا تبدو خطيرة في ظاهرها، لكنها تترك أثرًا عميقًا مع الوقت.

وفي الاتجاه نفسه، نجد أن الصين قد سبقت بخطوات عملية، بإطلاق نسخة محلية من تطبيق تيك توك تخضع لرقابة مشددة وساعات استخدام محددة، لضمان أن يظل الشباب أكثر وعيًا وتحكمًا في تجربتهم الرقمية، وتقليل التأثير السلبي للتصفح المفرط. ولم تقتصر هذه الإجراءات على هاتيك الدولتين، فقد بدأت عدة دول أخرى تدرك خطورة التأثيرات الخفية للعالم الرقمي على الأجيال الجديدة، فاتخذت سياسات مشابهة للحد منها.

وإذا ما انتقلنا إلى فحص دور العالم الرقمي الخوارزمي في استقطاب الشباب أو المستخدمين للتطرف، نجد أنه يبرز بوصفه أحد أخطر الفواعل في صناعة التطرف الديني والاستقطاب العقدي في عصرنا. فالمنصات الرقمية لم تعد مجرد وسائط محايدة لنقل الأفكار، بل غدت بنى خفية تتحكم في ترتيب الأولويات، وفي إبراز بعض المضامين وتهميش أخرى، وفي تحديد ما يبدو مقبولًا أو متطرفًا داخل الوعي الجمعي.

وذلك النهج الذي تقوم عليه الخوارزميات لا يستهدف نقل المعرفة بقدر ما يهدف إلى إدارة السلوك، وتحويل المستخدم من فاعل واعٍ إلى كيان قابل للتوجيه وإعادة التشكيل ضمن مسارات محددة سلفًا. هذه العملية تبدأ بجمع البيانات السلوكية الدقيقة، حيث تتحول كل حركة رقمية يقوم بها المستخدم إلى مؤشر قابل للتحليل والتصنيف. والمشاهدة العابرة، والتفاعل الإيجابي أو السلبي، والتعليق، أو المشاركة، بل وحتى الصمت أو التوقف عند محتوى معيّن، كلها تتحول إلى وحدات بيانات تدخل في بناء صورة رقمية معقّدة عن الفرد.

ومع تراكم هذه البيانات، تبني الخوارزميات ملفات نفسية وسلوكية دقيقة للمستخدم، لا تهدف بالأساس إلى فهم الإنسان في ذاته، بل إلى التنبؤ بتصرفاته المستقبلية وإمكانية التأثير فيها. وفي هذا المناخ، يجد المغرضين من صناع المحتوى المتطرف بيئة مثالية لتوظيف الدين خارج سياقه المقاصدي والروحي، وتحويله إلى أداة تعبئة وانقسام. كل ذلك يتم غالبًا عبر تبديد المثاقفين للمعنى الديني العميق، أي تفريغه من أبعاده الأخلاقية والإنسانية، وتسطيحه في خطابات قصيرة مشحونة بالانفعال، وسهلة التداول، سريعة الانتشار، وقابلة للاستثمار الخوارزمي.

بهذا الأسلوب، يتحول الدين إلى شعارات مختصرة، وتُختزل النصوص في مقاطع مجتزأة، وتُبسَّط القضايا المعقدة إلى ثنائيات حادة. ومع تكرار هذا النوع من الاستخدام الرقمي، تتكوّن ما يُعرف بـ(الفقاعات المعرفية)، وهي دوائر مغلقة يُعاد فيها تداول الأفكار نفسها دون أي احتكاك حقيقي بآراء مختلفة. وفي هذا الجو، لا يعود النقاش الديني مجالًا للفهم وتبادل الرأي، بل يتحول إلى صراع حول الهوية، يتقدّم فيه الخطاب الصدامي والإقصائي، بينما يتراجع الصوت الهادئ والعقلاني. ومع الوقت، يلجأ بعض المدافعين عن الدين إلى ردود أفعال عاطفية تفتقر إلى التحليل، فتزيد من حدّة الاستقطاب بدل أن تسهم في احتوائه.

وقد يتساءل البعض: كيف يستقطب الذكاء الاصطناعي الشباب نحو التطرف؟، والإجابة أن الذكاء الاصطناعي لا يعمل كمحرّض مباشر، ولا يستخدم خطابًا أيديولوجيًا صريحًا لصناعة متطرفين. وذلك لأن قوته الحقيقية تكمن في أنه يعيد تشكيل طريقة تفكير الفرد قبل أن يتبنى الفكرة المتطرفة نفسها. فهو لا يقول للمستخدم كن متطرفًا، بل يجعله يرى العالم بطريقة لا تترك أمامه سوى التطرف كخيار يبدو منطقيًا، بل وأحيانًا أخلاقيًا.

وأول طرق استقطاب الذكاء الاصطناعي تكمن في مطابقة المحتوى مع مشاعر القلق الداخلي لدى المستخدم. فمثلًا، شاب يبحث عن معنى في حياته أو عن تفسير للظلم أو الفشل أو الإحباط، يلاحظ الذكاء الاصطناعي هذه اللحظة ويعرض له محتوى مبسّطًا وواضحًا، لا تحليلات فلسفية أو اجتماعية معقدة، بل تفسير واحد شامل لكل شيء. الأمر الذي يجعل المتلقي يشعر وكأن هذا المحتوى كُتب خصيصًا له، ثم يبدأ الاستقطاب بشكل طبيعي، دون أن يلاحظ أنه أصبح داخل دائرة مؤثرة على وعيه.

الزاوية الثانية هي (التساجل الخفي) بين المحتوى المتشابه. فالذكاء الاصطناعي لا يقدّم فكرة واحدة فقط، بل يعرض نفس الفكرة مرات عديدة بصيغ مختلفة، وأصوات ولهجات متعددة، وأحيانًا بواجهات تبدو مختلفة. هذا يجعل المتلقي يظن أنه يشاهد نقاشًا متنوعًا، بينما في الواقع كل المحتوى يدور حول نفس الفكرة. وبهذا الشكل يختفي الشك، لأن الشك يحتاج إلى اختلاف حقيقي، وليس مجرد تغييرات شكلية على نفس الرسالة.

أما الزاوية الثالثة فتكمن في تحويل النقد إلى طاقة تدفع نحو التطرف، فعندما يشك المستخدم أو يعترض على فكرة ما، لا تتجاهله الخوارزمية، بل تعرض له محتوى يوضّح له رد الشبهات أو فضح المؤامرات أو كشف زيف المثقفين. وهنا يحدث تحول مهم، حيث تنتقل من مجرد نقد الفكرة إلى نقد النقد نفسه، ومن مجرد قراءة لفهم المحتوى إلى قراءة تركز على حماية السردية. وفي هذه المرحلة، يشعر المتلقي أنه لم يعد متابعًا فقط، بل يصبح مدافعًا عن الفكرة، وهي لحظة حاسمة في تشكيل وعيه للمتطرف.

الزاوية الرابعة هي تقديم المتصاولين على حساب المثاقفين. فالذكاء الاصطناعي يفضّل المحتوى السريع والانفعالي والواضح جدًا. المفكر المتزن، الذي يشرح الأمور بدقة ويستدرك ويحذر، يخسر أمام من يتكلم بثقة عالية ومباشرة. مع الوقت، يقلّ ظهور الصوت العلمي ويبرز صوت مغاير، للذين يعتمدون على خطاب تعبوي وليس معرفي. بهذا الشكل، يتعلم المتلقي أن العمق ضعف، والتعقيد خطأ، والتبسيط الحاد هو الشجاعة.

وأخيرا غربلة الواقع عبر غرابيل إفك رقمية. (أي تقطيع الواقع وإعادة عرضه بطريقة مغلوطة). فالذكاء الاصطناعي لا يعرض الأمور كما هي، بل يختار أجزاء معينة تناسب القصة التي يريد إيصالها. كحدث معقد قد يُختصر في مشهد واحد، أو تصريح صغير يُحوَّل إلى دليل، وواقعة نادرة تُعامل كقاعدة عامة. ومع تكرار هذه الطريقة، يصبح المتلقي غير قادر على رؤية الصورة كاملة، ويقبل التفسيرات المتطرفة بسهولة لأنها تبدو وكأنها تشرح كل شيء.

ولفهم آلية الاستقطاب الرقمي نضرب مثالا حيا على ما يشهده الفكر العربي والإسلامي المعاصر اليوم من انتشار واسع لما يمكن تسميته بـ(الفرية المتجددة حول الإمام الغزالي)، حيث نجد أن الإمام الغزالي يُقدَّم في بعض المحتويات الرقمية المختزلة في هذه الآونة على أنه عدو العقل، وكأن كل مشروعه الفكري يسعى لتقويض التفكير النقدي والاجتهاد. ومن هذه الصورة المبسطة تُبنى دعوات لقطيعة معرفية كاملة مع التراث، لتصبح القراءة التقليدية أو الدراسة المتأنية غير مرغوبة أو مشكوك فيها. بعد ذلك، تُقدّم أفكار أكثر راديكالية على أنها تحرير للعقل، وكأن رفض التراث هو السبيل الوحيد للوصول إلى العقل المستنير.

هنا يظهر دور الذكاء الاصطناعي بشكل واضح؛ فهو لا يصنع هذه الأفكار من البداية، لكنه يعيد تكرارها وتضخيمها ويمنحها حضورًا دائمًا على المنصات الرقمية. ومع كل مرة تظهر فيها الفكرة، يزداد إحساس المتلقي بأنها صحيحة وبديهية، لأنه يراها بصور مختلفة، ومن مصادر متعددة. ومع الوقت، تتحول الفكرة المضللة إلى جزء طبيعي من فهمه للدين والتراث، ولا تعود مجرد محتوى عابر على الإنترنت، بل تصبح طريقة تفكير كاملة تسيطر على وعي الشاب الباحث عن إجابات، دون أن يشعر بأنه يتعرض لتوجيه رقمي مقصود.

فأخطر ما في الذكاء الاصطناعي أنه يستقطب دون أن يتكلم بلغة التطرف هو يصنع بيئة نفسية ومعرفية تجعل التطرف نتيجة، لا مقدمة. فيجعل العالم يبدو ثنائيًا؛ معنا أو ضدنا، حق أو باطل، نور أو ظلام. وحين يصل الفرد إلى هذه الرؤية، لا يحتاج إلى تنظيم، ولا إلى داعية أو قائد؛ بل يصبح هو نفسه أداة إعادة إنتاج لهذه الأفكار.

وقد أظهرت الدراسات في علم الاجتماع الرقمي وعلم النفس السلوكي أن هذه الفقاعات لا تتشكل عشوائيًا، بل بطريقة محسوبة، حيث يبدأ المستخدم بمحتوى ديني عام، ثم تنتقل به الخوارزميات تدريجيًا إلى محتوى أكثر حدة، فيترسخ في ذهنه تقسيم العالم إلى معسكرين متقابلين؛ الحق المطلق والباطل المطلق. الأمر الذي يحول تجاوز النقاش العلمي الرصين، إلى منطق التعبئة والتحشيد، وهو ما دفع المتأولين إلى تحميل النصوص ما لا تحتمل، وفتح المجال أمام المجدّفين والمجترئين على النص الديني، إلى التلاعب والترويج لأفكارهم، مستفيدين من غياب السياق، وسرعة التلقي، وضعف الجانب النقدي لدى قطاعات واسعة من الجمهور.

فنظرة بعمق، نجد أن هذه الظاهرة ليست مجرد أحداث عشوائية، بل جزء من نظام رقمي منظم. هذا النظام يعيد تشكيل العلاقة بين الدين والمعرفة، بحيث تتحول العقيدة من منظومة متكاملة قائمة على التوحيد والعدل والأخلاق، إلى شعارات قصيرة ومجزأة تُستَخدم لجذب الناس والتأثير فيهم، بعيدًا عن مقاصد الدين الحقيقية وأخلاقه الأصيلة.

ولا يقتصر تأثير النسق الرقمي على الأفراد، بل يشمل جماعات رقمية متطرفة، حيث تتقاطع الفقاعات المعرفية للأفراد، وتتكون شبكات مغلقة تتبادل نفس السرديات والخطابات، مما يعيد تصوير الآخرين كخطر وجودي، وفي بعض الحالات، قد تصل الأمور إلى تبرير العنف ، كالاعتداء على أشخاص أو ممتلكات بسبب اختلاف ديني أو فكري. وهكذا يُصوَّر الآخرون كتهديد وجودي، وتُصاغ خطابات تشرعن الإقصاء، بل وتسوغ الأذى باسم حماية الهوية أو العقيدة.

وفي هذا السياق، تنتشر سرديات زائفة تعتمد على افتراءات المتآمرين من الخارج، وتُقدَّم وكأنها حقائق مخفية يعرفها فقط الصفوة. وهذه السرديات تنتشر بسرعة على المنصات الرقمية دون تحقق علمي أو تمحيص، بسبب غياب الغربلة المعرفية. ومع ذلك، تتحول هذه المنصات إلى مصانع لإعادة إنتاج الوهم، حيث يُكافأ المحتوى الأكثر تطرفًا لأنه يجذب الانتباه ويحقق أعلى تفاعل، حتى لو كان مضللاً تمامًا.

وإذا ما انتقلنا إلى آلية مواجهة ظاهرة التطرف الديني الرقمي نجد أنها لا تقتصر على إجراءات أمنية أو رقابية فقط، بل يجب الانتقال إلى مستوى أعمق من الفهم والتحليل، ويتمثل هذا المستوى في نقد النقد أو قراءة القراءة، أي تفكيك الخطابات التي تساهم في إنتاج التطرف، وكشف المناهج وآليات اشتغالها، ومساءلة الأطر المعرفية التي تُقدَّم من خلالها النصوص الدينية داخل الفضاء الرقمي، لضمان إدراك أثرها على الوعي وسلوك المتلقي.

يتطلب هذا المسار بناء وعي رقمي نقدي، بحيث يستطيع الأفراد التمييز بين المحتوى المعرفي والمحتوى التعبوي، وتعلّم تحليل ما يُعرض عليهم بدل الاكتفاء باستهلاكه. كما يحتاج إلى سياسات تعليمية وإعلامية طويلة المدى، تعيد الاعتبار إلى التفكير البطيء، وإلى قيم التعدد والاختلاف المشروع، بوصفها أدوات لمواجهة الاستقطاب الحاد الذي تغذيه الخوارزميات.

كما أن استعادة الاستقلال المعرفي في العصر الرقمي تتطلب أن يتعلم الأفراد كيفية عمل المنصات، وكيف تُصنَّف البيانات، وكيف تُقدَّم التوصيات، حتى لا يصبحوا فريسة لآليات خفية. فالمستخدم الذي يفهم هذه العمليات يصبح أكثر قدرة على مقاومة الانغماس في الخطابات المتطرفة، وعلى إعادة فهم الدين كمصدر للقيم والمعنى، بدل أن يتحول إلى أداة للصراع والإقصاء.

وصفوة القول، أن الخوارزميات لم تخلق التطرف الديني من الصفر، لكنها وفرت له بيئة خصبة للنمو والانتشار. فهي تعيد تشكيل الوعي الديني في مسارات محدودة، وتعزز النزعات الإقصائية، وتضعف الصوت النقدي العقلاني. فمواجهة هذا الواقع لا تكون بالهروب من العالم الرقمي، بل باستعادة الإنسان لوعيه النقدي وقدرته على الفهم والاختيار، في عالم تُدار فيه الأفكار قبل الأفعال، ويُبنى فيه الوعي قبل أن تتشكل المواقف.

وللحديث بقية

***

بقلم: د. بدر الفيومي

 

يقول الواقع أن "النخبة" Elite في بعض الأحيان هي من يصنع الفوضى، فوضى في الأفكار وفوضى في الممارسات وفوضى في القرارات، هذه النخبة التي تريد أن تفرض منطقها على الآخر، تريد أن تكون هي المسيطر، تنظر إليه نظرة متعالية وكأنها تريده أن يختفي من الساحة، الفردية تؤدي إلى العنف الهمجيّ، هناك من يعمل بنظام الكبار big men  ونجده يرى المحيطين بها صغار، فإن كانت النخبة غير قادرة على النهوض بالأمة فكيف لها أن تبني حضارة؟ كان لمالك بن نبي رأي خاص حول "النخبة" خاصة عندما تفقد موهبة النقد الذاتي، فكأنها حققت الفشل دون أن تسعى في تفهم أسبابه، فالصراع صراع أفكار، والصراع  الفكري عادة ما يصطدم مع صراع المصالح، أي صراع الجماعات المتناوئة التي تحاول أن تفرض نفسها كأطراف فاعلة في المجتمع ولهذا السبب فشل المشروع الفكري في الجزائر

لقد حذّر كثير من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسة، من "الفردية"  لأنها تنحدر بسرعة إلى نوع من العنف الهمجي، كانت هناك تجارب عديدة نتيجة ثورات وحروب أهلية وقعت في العالم العربي الإسلامي انتهت بأصحابها بالفشل، لأنهم عملوا بنظرية الفوضى والهمجية، فالظروف التي عاشتها الجزائر طيلة الحرب الأهلية سببه غياب العقلاء أو رجل الإجماع إن صح التعبير l'Homme de consensus الذي بمقدوره أن يطفئ نيران الغضب ويهدئ النفوس ويوقف عمليات التمرد، التي تركت  آثار سلبية وعدم استقرار، هكذا يقود التنظيم الذاتي من دون ضوابط إلى الضعف وبالتالي يكون نظاما محكوما عليه بالفشل، لأن التراكمات التي خلفتها الصراعات  بين رجال الإصلاح والإندماجيين، خلقت العدائية  بين الجزائريين، ومن أجل النهوض من جديد كان من الضروري أن تكون هناك تحالفات.

 تقول الدراسات أن التحالف رغم سلبيته، قد يفيد في تعويض نقائص نمط حياة ما، فالحلفاء رغم توحّدهم حول مشروع ما، يظلون منافسين لبعضهم البعض وتجمعهم علاقة تتسم بخطاب ملوّن بالكذب والنفاق والغدر والخيانة، لأن المصلحة الذاتية هي الأهم وهي القاعدة الأساسية في نمط الحياة، ومثل هذه التحالفات تخلق بيئة مضطربة سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا وحتى في الجانب الديني (التعددية المذهبية) يكون ذلك بتعدد الفتاوى التي أحيانا تفرق وتشتت أكثر من أن تجمع وتوحد، يكون ذلك عن طريق تكفير الآخر ووصفه بالمتطرف، فالأمّة التي تتوازن فيها انماط الحياة تكون أقل تعرضا للمفاجآت وتكون أكثر استجابة للمواقف المستجدة وهذا طبعا يتوقف على رؤية الناس للأشياء، لكن وكما يقور محللون تختلف رؤى الناس وأفكارهم من شخص لآخر، فهناك من يدقق في سلوكات  الغير وكلامه والعكس، وهناك العاقل وهناك المزاجي،  إذن العملية مرتبطة بعملية "التأويل" للأقوال والأفعال خاصة إذا تحول الشفهي إلى مكتوب، والتأويل إما أن يكون إيجابيا وإمّا يكون سلبيا وهذا الأخير لا يحقق النماء.

النخبة الإندماجية تهاجم "ج .ع. م. ج " إعلاميا

المشكلة طبعا ليست في نقل الأفكار بشكل فعّال للغير، بل ترقيتها وترجمتها إلى أفعال حقيقية تجسد في الميدان، كما أن الأمر متعلق بطريقة التعايش مع الآخر، فالحديث عن جماعة  النخبة كأنموذج ومشروعها الإندماجي الذي رمزها والناطق باسمها الطبيب الدكتور بلقاسم ولد أحميدة بن التهامي ( 1880-1910)،  كانت جريدة التقدم وكذلك جريدة كوكب أفريقيا لسان حال هذه الجماعة، كان عملها الساسي تحقيق الاندماج والتجنيس والنشر الواسع للغة الفرنسية، من ابرز عناصرها :  قايد حمود (محامي) والصادق دندن من مناضلي حركة الشباب الجزائري المتشبع بالثقافة الفرنسية، وهذه الحركة أنشأتها جماعة النخبة، عمل الصادق دندن في قطاع الصحافة وأنشا جريدة  الإسلام باللغة الفرنسية وهي جريدة اندماجية، ونقرأ عن جريدة الراشدي، والعنصر الثالث هو عبد العزيز قسوس  (حقوقي) أسس بمعية بن جلول جريدة الوفاق الفرانكو إسلامي، ثم جريدة المساواة، تمت تأسيسها  بدعم من فرحات عباس، وقد تفطن الشيخ الطيب العقبي، لهذا المخطط الخبيث لضرب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، حيث بادر بتأسيس جمعية الإصلاح في سيدي عقبة بسكرة قبل أن ينتقل إلى العاصمة لإدارة نادي الترقي، ومن نادي الترقي أسس جريدة الإصلاح 

النخبة من منظور بنّابي

الحقيقة، أن الكثير من يجهل المعنى الحقيقي لمفهوم النخبة ويعتقدون أن النخبة هي فئة المثقفين أو السياسيين فالمعني الحقيقي للنخبة هم الذين اصطبغوا بالثقافة الفرنسية رغم معرفة بعضهم بالثقافة العربية ولغتها، يتبنون أفكار الغرب والأوروبيين وطريقتهم في الحياة ويتمثلون بثقافتهم، يقول عنهم المؤرخ الجزائري ابو القاسم سعد الله : إنهم كانوا يشعرون بعقدة الكمال أمام المجتمع الجزائري، وفي نفس الوقت يشعرون بالنقص أمام المجتمع الفرنسي فضاعوا بين المجتمعين، يرى مالك بن نبي أن النخبة عندما تفقد موهبة النقد الذاتي على وجه الخصوص، فكأنها حققت الفشل دون أن تسعى في تفهم أسبابه، وإنما تتمنى أن تكون قد شعرت بالفشل حين لم يكن لندائها صدى يُذْكَرُ، تذكرنا مواقف مالك بن نبي بمقال له عنونه بـ" "تفاهات جزائرية" ورد هذا المقال في كتابه "في مهب المعركة" ضم الكتاب مجموعة من المقالات كتبها مالك بن نبي في باريس في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، نشرها في صحيفتين ناطقتين بالفرنسية وهما الشباب المسلم والجمهورية الجزائرية، أسقط فيه الأقنعة وكشف الزيف الثقافي الجزائري (كشخصية العالم الثالث)؛ وقد دعا مالك بن نبي في مقاله بعض من تملكهم الغرور وعملوا بنظرية الـ" بيغ مان" el-big men إلى الرجوع للنفس بالنقد الذاتي، لفحص أيُّ قطعة محددة من نشاطهم الاجتماعي، كانت رسالة موجهة إلى النخبة المثقفة والنخبة السياسية في الجزائر.

يقول مالك بن نبي إن النخبة عندما تفقد موهبة النقد الذاتي على وجه الخصوص، فكأنها حققت الفشل دون أن تسعى في تفهم أسبابه، وإنما تتمنى أن تكون قد شعرت بالفشل حين لم يكن لندائها صدى يُذْكَرُ، ويضيف بالقول: “لو أن النخبة درست هذا الفشل لاستفادت منه أكثر مِمَّا يفيدها نصف نجاح خداع، لأنها تدرك من خلال تلك الدراسة حقيقة الأمر، هذا الفشل – كما يقول هو- يتضمن جانبا سيكولوجيا وجنبا فنيا، أي النقص في التنظيم وفي التخطيط وفي توجيه العمل المشترك..، وهذه العناصر تعتبر عمود القضية، ليس محليا فقط، وإنما بالنسبة لحركات الإصلاح في العالم الإسلامي كله، هذه الحركات التي فشلت كلها، لأنها كما قال لم تدرس أرضيتها قبل الشروع في العمل، فكانت سببا في فقدان الجمهور الثقة والأمل..، ويرجع مالك بن نبي هذه التفاهات إلى الموقف الاجتماعي السلبي، الذي لا يتسم بالإرادة المتصلة والجهد المتواصل، وإذا ما أخضع هذا الجهد إلى التحليل فهو في نظره متفككُ الأجزاء كأنه مركب على صورة الخط المُنَقَّط، الخط الذي يمر من نقطة إلى أخرى دون أن يصور شيئا، والمتأمل في موقف مالك بن نبي ورؤاه الفلسفية التحليلية التي شخص فيها واقع المجتمع (الفكري/الثقافي) يقف على حقيقة أن الذين يتحدث عنهم هم في الحقيقة باعة السياسة وباعة الثقافة وهم باعة الإبداع وهم…وهم…وهم…، بل هم باعة الحضارة في كل صورها وأشكالها.

عندما يصطدم الصراع الفكري بصراع المصالح

لقد كان مالك بن نبي براديغم إسلامي حضاري،  استطاع به  أن يضع حوضا معرفيا وهو يواجه أصعب المواقف لإعادة البناء الحضاري للمسلمين في العالم الإسلامي، والبراديغم  le paradigme كما يعرّبه مفكرون  هو مجموعة من المكونات الفكرية المعرفية التي يقوم عليها أيّ نموذج، توجيهي كان أو إرشادي، وعرّفه آخرون بأنه مجموعة من الإتجاهات والقيم والاجتهادات والبُنى المعرفية، أي البحث في الدور الحركي الحيوي للإنسان في بيئته الاجتماعية والعلمية ضمن سياق البناء المجتمعي،  فالصراع الفكري عادة ما يصطدم مع صراع المصالح، أي صراع الجماعات المتناوئة التي تحاول أن تفرض نفسها كأطراف فاعلة في المجتمع وكقِوىَ مُسَيْطِرَة على الرغم من كون الصراع قد يكون مرابطا بالأفكار والدين، وهذا يشترك فيه الجميع دون استثناء ودون إقصاء، فيكون هناك تبادل أفكار ورؤى، والمثقف ما لم يكن ملتزما فلن تكون له الطاقة الإيجابية لمواجهة تجار الفكر من الداخل الذين تبنوا الفردانية في مناقشة أيّ فكرة وعدم السماح للآخر مناقشتها  أو إثرائها ؟

 يُعرّف البعض الفردانية بأنها شذوذ وانسحاب من مجالات التغيير التي تقتضيها الحركة وماهية الفرد  إذا لم تندمج في حركية الجماعة تغدو قوة سلبية،، فعندما تُحْتَكَرُ الفكرة عند شخص واحد دون إثرائها لمعرفة الرأي الآخر يتعذر عليها زرعها في التربة المناسبة لأن الفردية تعمل على قتل العقل الآخر، وتفقد المرء قيمته، ولا يقوم بهذه السلوكات إلا "مستبدٌّ"، من الواجب هنا أن نطرح السؤال التالي: من هي النخبة؟ وممّا تتشكل؟ هل تتشكل من مجموعة من المثقفين؟ والسؤال يفرض نفسه لمعرفة من هو المثقف؟ هل هو المفكر؟ هل هو العالِم؟ هل النخبة يشكلها مجموعة من الفنانين (الموسيقي، المغني، المسرحي، السينمائي؟، هل يشكلها الكتاب والشعراء والروائيون والناشرون؟ أم يشكلها رجال السياسة؟ أم رجال المال والأعمال؟ أم رجال الدين؟، أم الأطباء والمحامون؟ فهذي صفة مهنية لكل واحد، نحن إذن أمام تعددية نخبوية اجتمعت لتحقيق مصالحها، في كل الأحوال نقول أن هذه النخبة خلقت الطبقية في المجتمع، الكلام ليس موجه للنخبة الحاكمة فقط، بل التي جعلت أفراد المجتمع يتصارعون ويتقاتلون فظهر التطرف وظهرت الآفات الاجتماعية وكل اشكال الفساد، لأنها لم تغير نفسها ففشلت في عملية التغيير والبناء.

***

علجية عيش

.....................

* للمقال مراجع

منذ أن طرح سؤال النهضة في العالم العربي في أعقاب الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، لم يزل هذا السؤال يؤرق الوعي الجمعي، ويعود في كل لحظة تعثر حضاري. وفي هذا السياق، تبرز المقارنة بين التجربتين المصرية واليابانية في القرن التاسع عشر كواحدة من أكثر المقارنات دلالة على مفارقات التحديث في الشرق. لماذا نجحت اليابان في أن تصبح قوة صناعية في أقل من خمسين عامًا، بينما تعثرت مصر رغم بداياتها المبكرة؟

 لقد دوت مدافع نابليون على أسوار الإسكندرية، هنا استفاق الضمير المصري على سؤال لم يبرح ساحته: كيف نعاود النهوض؟ سؤال ظلت الإجابات عنه تتعثر بين محاولات طموحة وواقع يأبى الانفكاك من إرث التخلف. فبينما بقيت مصر تتأرجح بين المطرقة والسندان، تكشف المقارنة مع تجربة اليابان في القرن التاسع عشر عن مفارقة صارخة: ضفتان بدأتا من نقطة زمنية متقاربة، لكن مصيريهما افترقا على نحو درامي.

فما الذي جعل إصلاحات "ميجي" تؤسس لنهضة مستدامة، بينما انطفأت شعلة محمد علي مع خفوت ظله؟ إنها ليست مجرد مسألة وقائع تاريخية، بل معضلة تتعلق بالبنى العميقة التي تشكل وعي الأمم وتوجه اختياراتها في لحظات المصير.

الباشا: تحديث بإرادة فردية

في عام 1805، اعتلى محمد علي باشا السلطة في مصر، وبدأ مشروعًا طموحًا لتحديث مؤسسات الدولة، مستلهمًا النموذج الفرنسي في الإدارة والتعليم والصناعة. أرسل بعثات إلى أوروبا، أسس مدارس متخصصة، وبنى جيشًا حديثًا. غير أن المشروع، بحسب الباحث خالد فهمي، ظل مرتبطًا بإرادة الحاكم ولم يتجذر في بنية المجتمع. فالمجتمع المصري ظل خارج دائرة الفعل، وكانت عمليات التحديث تدار مركزياً لخدمة السلطة، لا المواطن.

 نعم كان محمد علي رجلاً حاد الذكاء، مغامرًا بطموحٍ سلطوي، رأى في مصر أرضًا بكرًا تصلح لبناء مجده الشخصي؛ لقد بدأ من الجيش، ظنًا منه أن القوة تصنع الدولة، فاستقدم الخبراء الفرنسيين، وشكل جيشًا حديثًا، لكن فاته أن الجيوش لا تبني أوطانًا إن لم يسندها شعب حر. انقلبت آلة التحديث إلى جهاز تجنيد قهري، وأصبح "السفر برلك" كابوسًا للفلاحين، الذين صاروا يهربون من أرضهم خوفًا من الابتلاع القسري في آلة الدولة.

اليابان والغرب: لحظة التحول

في المقابل، واجهت اليابان تهديدًا مباشرًا من الغرب عام 1853، عندما أجبر الأسطول الأميركي بقيادة كومودور بيري اليابان على فتح موانئها. حينها أدرك اليابانيون أن العزلة لم تعد ممكنة، فقرروا تبني نهج إصلاحي جذري، تجسد في ما عرف بـ"إصلاحات ميجي" (Meiji Restoration) عام1868 . بحسب المؤرخ "جون داور" (John W. Dower) فإن السر لم يكن فقط في استيراد التكنولوجيا، بل في إعادة بناء العلاقة بين السلطة والشعب، وتحويل التحديث إلى خيار وطني جماعي.

  لقد أدرك اليابانيون، في مواجهة تهديد الغرب، أن التحديث ضرورة وجودية لا مجرد أداة للسلطة. لم يكن الإمبراطور ميجي وحده من يقود المسيرة، بل اجتمع حوله الساموراي العائدون من البعثات، ليصوغوا رؤية وطنية جماعية: "فلنتعلم من الغرب، لنظل نحن."

لم تكن نهضتهم مشروعًا فرديًا، بل عقدًا جديدًا بين الحاكم وشعبه، وصل إلى حد أن الإقطاعيين تخلوا طوعًا عن امتيازاتهم!

التحديث بين المظهر والجوهر

أنشأ محمد علي المصانع واستورد الآلات وطبع الكتب، نعم فعل؛ لكنها كانت أشبه بمعارض للصناعة. وظلت مصانع النسيج والورق والذخيرة معتمدة على الخبراء الأجانب، ولم تنتج طبقة عمالية أو صناعية محلية قادرة على استدامة هذه الصناعات. جلب المطابع، لكنها طبعت ما يخدم الدولة لا ما ينير العقول. أرسل البعثات التعليمية إلى أوروبا، لكنها كانت محدودة العدد، مقصورة على من يخدمون أجهزة الحكم، ولم تتحول إلى سياسة منهجية للدولة.

 لم ينشئ محمد علي بهذا المنطق السلطوي عقلًا صناعيًا أو فكريًا مستقلًا. ظل التحديث قشرة فوق سطح مجتمع لم يمس جوهره. حتي الأزهر كمنارة علمية ودينية ظل على هامش مشروعه، بينما احتكرت المعرفة داخل نخبة منعزلة عن الشعب.

 لعل أحد أبرز الاختلافات بين تجربة مصر واليابان تمثلت في الاستثمار في التعليم. ففي اليابان، أصبح التعليم إلزاميًا في كل أنحاء البلاد بحلول عام 1872، أي بعد أربع سنوات فقط من بدء عصر ميجي. ترجموا الكتب الغربية، لكنهم لم يستوردوا الأفكار جاهزة، بل هضموها وأعادوا صياغتها بما يتناسب مع قيمهم، وكان الهدف "بناء مواطن حديث" وليس فقط موظفًا للدولة. كانوا يعرفون أن التقدم لا يقاس بعدد الآلات، بل بمدى تحول الإنسان إلى مركز الفعل والإبداع. في المقابل، ظل التعليم في مصر محدودًا بالنخبة، ولم تنشأ منظومة تعليمية شعبية شاملة إلا في فترات متأخرة.

الزراعة: من القهر للمشاركة

الزراعة أيضًا شهدت تباينًا واضحًا. ففي حين صادر محمد علي الأراضي من الفلاحين، وفرض نظامًا احتكاريًا أرهقهم بالضرائب، قامت حكومة ميجي بمنح الفلاحين ملكية أراضيهم، وأصدرت قانونًا ضريبيًا جديدًا شجع الإنتاج وزاد من استقلاليتهم. ووفقًا لدراسة "يوجي هوريكاوا" (Yuji Horikawa)، فإن هذا التحول في البنية الزراعية كان حاسمًا في تمويل الصناعات اليابانية الناشئة. هكذا أطلق اليابانيون طاقات الفلاحين بتحويلهم إلى ملاك حقيقيين، ضمن قانون ضريبي عادل صدر عام 1873. كانت الفكرة واضحة: لا نهضة من دون قاعدة اجتماعية راسخة. دعمت الدولة الصناعات الصغيرة، ولم تتعجل قطف الثمار، بل راهنت على التراكم البطيء، العادل والشامل.

على الناحية الأخرى نعرف كيف صادر محمد علي الأرض من الفلاحين، وأخضعهم لنظام احتكاري حولهم إلى عبيد لخدمة اقتصاد الدولة. زرع القطن لا لإثراء الأمة، بل لتمويل الحروب والقصور، فيما جرى خنق روح المبادرة الفردية، وقتل إمكانات التراكم التنموي من الجذور.

مفترق الطرق: مصر واليابان

على المستوى السياسي، ظلت مصر خاضعة لتوازنات استعمارية معقدة، انتهت بالاحتلال البريطاني عام 1882. أما اليابان، فاستطاعت أن تبقي الغرب على مسافة، ونجحت في هزيمة روسيا القيصرية عام 1905، وهو حدث كان له وقع صادم في العقل الأوروبي، ودفع العديد من المفكرين العرب، مثل عبد الرحمن الكواكبي وشكيب أرسلان، إلى التساؤل: لماذا تقدمت اليابان وتأخرنا نحن؟

 لقد انتهى مشروع محمد علي بغيابه عن المشهد، لأنه لم يكن مشروع أمة بل مشروع حاكم. ذاب الحلم في ركام الديون والاحتلال، وتحولت إنجازاته إلى أطلال.

أما اليابان، فانتقلت من دولة مغلقة إلى قوة كبرى خلال جيلين. هزمت روسيا، وفرضت احترامها على الغرب، وأصبحت رمزًا آسيويًا لنهضة متزنة، جمعت بين الحداثة والهوية.

الفارق الجوهري أن محمد علي أراد تحديثًا يكرس سلطته، بينما أرادت اليابان تحديثًا يعبر عن إرادة أمة. الأول استورد الشكل دون الجوهر، والثاني هضم الجوهر وصنع الشكل.

فشل الأول لأنه فرض نهضته من فوق، بينما نجح الثاني لأنه بنى نهضته من الجذور.

والدرس هنا خالد باق: لا يمكن لأمة أن تنهض بأوامر النخبة الحاكمة وحدها، بل بحاجة إلى وعي جمعي يحول النهضة إلى ثقافة. النهضة لا تورث، ولا تفرض، بل تخلق بإجماع الداخل، لا بإعجاب الخارج. وإن كانت اليابان قد نجحت في صنع معادلتها الخاصة، فإن مصر ومعها العرب ما زالوا في انتظار نهضة حقيقية، تنبع من الذات، لا تستورد من الآخر.

***

د. عبد السلام فاروق

من المعتاد ان تجد الأبن يسير على خطى والده في تتبع خطى فن معين، ولكن ليس من السهل ان تجدهما مفكرين مجددين منهمكين بهم اقصى واحد لموضوع إشكالي كمبحث (الهوية) وبمنهجين مختلفين. انهما الرفاعي الأب عبد الجبار والابن محمد حسين. 

ينطلق المفكر عبد الجبار الرفاعي في كتابه الموسوم (الهوية في شراك الأيديولوجيا) بدون عنوان ثانوي وبعبارات واضحة وأسلوب سهل يتوجه به كما في مقدمته بوصية (ألى الأبناء من الجيل الجديد) بالافتخار بوطنهم العراق.  بداية يستعرض عبد الجبار الرفاعي في مقدمة كتابه همه الأقصى الذي دفعه للخوض فيه ومعانته من غياب شكل واضح للهوية الوطنية العراقية.

ففي بيان مفهوم (الهوية) يبدأ عبد الجبار الرفاعي (الفصل 1) بعوان لافت "الهوية في حالة صيرورة وتشكل". ويمكن اعتباره بيان عام لرؤيته التي يسعى اليها على شكل إشارات مكثفة، وبعد ذلك يفصل رؤيته في الفصول الأخرى بأسلوب سلس وتفصيل لهذا التكثيف. فالهوية التي يطرحها هي الهوية (المثالية) بكونها ما ينبغي ان تكون عليه لا بكونها الهوية الواقعية المأزومة. بينما ينطلق الباحث (محمد حسين الرفاعي) من واقع الهوية المجتمعية ليفككها. هذا الاختلاف يكمن لا في طبيعة المنهج فقط ولكن بشكل اعمق يتعلق بوظيفة المثقف لدى كل منهما.

وهنا انطلق من تصنيف الباحث محمد حسين الرفاعي للمثقف في علاقته (بالمعرفة والمجتمع والسلطة) الى ثلاث أصناف (الموسوعي، الغرامشي، واليوتيبي) ويمكن ان اضيف صنف رابع هو المثقف النقدي، لأن التقسيم ليس حصريا بل استقرائيا.

في كتابه (الهوية في شراك الأيديولوجيا) يسعى عبد الجبار الرفاعي كمثقف بوصفه عقل (ألأمة-الملة) ومُعلِمها، الذي يسعى الى بناء (ما يجب ان يكون) بعد بيانه. الى بيان ما يجب ان تكون عليه "الهوية المثالية " الوطنية العراقية في الفصول (1-4)، وينتقد الهوية المغلقة التي تغتال الهوية الوطنية كما يوضحها في الفصول (5-10). فقد شغلته الهوية الوطنية العراقية منذ عودته من المنافي، ولشعوره باضطراب الهوية الوطنية او تلاشيها، وبكونها من اخطر الأزمات التي يكابدها العراق، فقد شعر بالحاجة الماسة الى غرس الهوية الوطنية في الضمير ووجوب تغذية حضورها للأبناء والعبور بهم من مضايق الهويات الجماعاتية (الضيقة)، وهويات ايدولوجية مستعارة الى مسار أعم وأشمل، لذا فهو يرسم معالم هوية وطنية عراقية بكونها ما يجب ان تكون عليه تجسيد لوظيفته الفكرية التوعوية. فهو يدعو الى فهو تأويلي للهوية بوصفها كينونة تنمو في التفاعل لا جوهرا منغلقا على ذاته، يتيح تجاوز النزعات الاقصائية ويفتح أفقا للإنسانية تتسع وتعدد. بشكل عام تمتاز الهوية لدى الرفاعي الأب بكونها:

1. علائقية بطبيعتها أي تتكون من:

- شبكة علاقات متبادلة.

- تُعاد صياغتها.

- ليس لها معنى أبدي ساكن بذاته.

- تكتسب معناها من هويات مقابلة.

2. ديناميكية حية:

- تتفاعل وتنفتح.

- تستقي من غيرها وتسقي غيرها، تأخذ وتعطي.

- يعاد بناؤها على الدوام بالاستيعاب والتمثل والتأويل.

- تتشكل بفعل التفاعل الخلاق مع الآخر، وبتأثر التحولات في البيئة والثقافة والتاريخ.

- الهوية افق مفتوح يعيد تعريف ذاته.

3. الهوية كائن اجتماعي لغوي ديني سياسي ثقافي متحول:

- بنيتها مركبة عميقة متنوعة الوجود.

- تتألف من طبقات متداخلة ومكونات متنوعة.

- تسارع تحول الهوية يعيد تعريف الإنسان.

فالهوية الوطنية التي يدعو لها هي جامعة لا تقبل الإنغلاق على مكون واحد ولا تسمح باحتكار الوطن لجماعة دون سواها. هوية تتسع للمختلف وترى ان العيش المشترك لا ينهض إلا بالاعتراف بالاختلاف في إطار كيان سياسي واحد، وشراكة الجميع في بناء الوطن وحمايته. وتتسم الهوية لدى "المثقف المعلم" الحالم بما يجا ان تكون عليه الهوية الوطنية، بما يلي:

1. انتماء الى رقعة جغرافية ومصير واحد ومصالح يلتقي عليها الجميع.

2. تاريخ مشترك وذاكرة جمعية يتجسد في ثقافة جامعة ورموز مشتركة.

3. سردية تستحضر منعطفات نشأة الوطن وتؤرخ تحولاته وتعيد وصل حاضره بجذوره الممتدة في الزمن.

4. تتجلى الهوية الوطنية في الشخصيات المؤسسة وكل شخصية استثنائية تركت بصمة مضيئة في مسيرة الوطن على المستويات كافة واسهمت في بناء كيانه السياسي والعلمي والثقافي الرمزي والديني والقيمي والاقتصادي والفني والأدبي والرياضي.  

5. تنعكس الهوية الوطنية في اللغة والآداب والفنون السمعية والبصرية والأديان والمعتقدات والأمثال والأساطير والعلوم والمعارف المتنوعة، والشعار الرسمي للدولة والنشيد الوطني والمناسبات والأعياد والفلكلور والأماكن الأثرية والمعمارية التي تستفيق فيها الذاكرة وتمنح ما هو جميل في الماضي حضورا مستأنفا.

6. وتظهر الهوية الوطنية في المطبخ وأنواع الأطعمة واللباس والأزياء والأذواق والرياضة بكب أنواعها، وكل ما يسهم في توليد الشعور بالاستمرارية التاريخية ويغذي الإحساس بالارتباط الوجداني العميق بالوطن. 

تعيش الهوية لدى "المثقف المعلم" عبد الجبار الرفاعي في عالم تتفاعل وتتصادم فيه هويات متعددة ومتنوعة. وإدراك الهوية بوصفها صيرورة مفتوحة يتيح تجاوز التصورات المغلقة التي ترى فيها جوهرا ثابتا لا يتغير ويفتح المجال لفهم اكثر إنسانية وقبولا للمختلف. فالوعي بالهوية لديه دعوة للتفكير الصبور والتوغل في طباقتها، وتحليل عناصرها وقراءة تحولاتها وما يتعاقب عليها من تمثلات جديدة. واذ يتبع منهجا بنائيا في كتابه كهرم مقلوب. يعطينا فكرة عامة مختصرة وشاملة في البداية ثم يعيد توضيحها وبيان تفرعاتها واشكالاتها والعوائق التي تعترض رؤيته لبناء هوية وطنية (بما يجب ان تكون عليه)، فهو بهذا يتوجه بها لكل شرائح المجتمع من المختص سياسيا الى المثقف المنهم بالهوية الوطنية الى القارئ الحيصف الى المواطن البسيط، ينطلق بذلك من وظيفته بكونه (مثقفا معلما) والتي قضى جل حياته النضالية والفكرية في سبيل تحقيقها. وهو لا يذهب الى الأزمة بما هي ازمة ليفككها، بل ليتجاوزها الى بناء ما يجب ان تكون عليه. وهنا يأتي دور الرفاعي الأبن.

الدور الذي لم يذكره (الباحث محمد حسين الرفاعي) دور "المثقف النقدي" في كتابه الموسوم (أزمة الهوية والأخلاق في الفعل المجتمعي الجديد) وبعنوان ثانوي (دراسة في الأتيقيا المجتمعية). من العنوان الى متن الكتاب ترى الاختلاف الواضح في المنهج والرؤية في تناول مفهوم "الهوية الوطنية العراقية". فهو ينطلق من لحظة تعتبر مفصلية في بيان ازمة الهوية الوطنية الا وهي "لحظة تشرين" بكونها حركة مجتمعية وضعت المثقف العراقي "منكشفا" امام تفجر لأزمة مجتمعية. هذا الانكشاف للمثقف في وظيفته الواقعية وضعته امام مسارين كلاهما يعمق ازمة الهوية؛ فإما مثقف في خدمة الجماعة "الهووية"، او مثقف في خدمة نفسه. انه إنكشاف مرعب ذلك الذي يجعلنا امام ازمة عميقة للهوية لا يمكن تجاوزها بسهولة. حيث السقوط المجتمعي الكلي ضمن الجماعات "الهووية" التي تقوم على هوية مغلقة. أي ان المثقف في مسارات تعميق ازمة الهوية اصبح عقبة في بناء المجتمع. فالباحث (محمد حسين الرفاعي) يتناول الهوية بواسطتها كمدخل لفعل أخلاقي مجتمعي. أي لا يمكن بناء هوية وطنية دون فعل أخلاقي يسهم في بناء المجتمع.

من هنا ينطلق لتفكيك "وظيفة المثقف" بكل العنوانين الفاعلة في المشهد والتي لا تساعد على حلحلة الأزمة المجتمعية. ولكي يفعل ذلك يفكك المعرفة التي تؤسس لطبيعة الفعل الأخلاقي القائم على الفكر الى اخلاق مجتمعية (ايدولوجية\ واقعية، يوتيبية\ رسولية، واخلاق دستوبيا\ الهدم) وتصبح كل هذه المعارف فائضة عن اللزوم عندما تفقد وظيفتها التي وجدت من جلها. فالمجتمعية الأيدولوجية عندما تفقد موقعها وقوتها المجتمعية تصبح فائضة عن اللزوم، والمجتمعية اليوتوبية عندما تفقد معناها وقوتها وإمكان بناء مجتمع بواسطتها عند مستوى الفرد والمجتمع تصبح فائضة عن اللزوم، والمجتمعية الديستوبية عندما ينكشف زيفها وقدرتها التدميرية تصبح فائضة عن اللزوم انها (عقبة السلطة امام المجتمع).

وهنا يتجذر الإشكال المعرفي الأهم الذي يسعى الباحث محمد حسين الرفاعي للكشف عنه، أي الكشف عن (المصدر المعرفي الذي به تفقد المفاهيم علميتها النظرية وجدواها العملية في اللحظة التي تتحول الى مرجعيات قبلية يتوقف الفهم عندها). فالبحث هنا يتتبع الأصل المعرفي "ابستمولوجيا" في كشف "التابع" الذي ينقل معرفة قبلية (حداثية او تقليدية)، ولا ينتجها. فالتابع عندما ينقل معرفة هي بالذات لواقع هو غير واقعه الذي يعيش، لأنه لا يتلفت الى المكونات الأساسية لفهم واقعه. فالمثقف في بحث دائم عن مبررات لموقف فكري اصبح "فائضا عن اللزوم" على الصعيد المجتمعي بمستوياته الثلاث المذكورة سابقا، فنجد غياب للموضوع الواقعي والمنهج الذي يحتاج، فيتم استدعاء القبليات المرجعية لتبرير الأزمة المجتمعية لا في البحث عن الحل. ولا حل الا عندما يكون الواقع موضوعا للفهم وان نعيه بكونه احداث تحصل في الواقع مؤطرة ب(الزمان والمكان)’ فهو يحلل بعمق هذا المأزق المعرفي بعين الباحث الحصيف بدقة وصبر كبيرين، ليشخص لنا ان الأزمة المعرفية تكمن "بأدلجة الفهم" الذي يفضي الى (حماية المؤسسة المجتمعية وكذلك الحفاظ على ايدولوجيا السلطة). فنحن هنا امام ثالوث "هووي" خطير يتكون من (حراس الفهم، ومؤسسة مجتمعية، وهوية). وهذا الثالوث هو الذي يحدد في كل مرة طبيعة المعرفة التي يجب ان تكون سائدة. وهذه المعرفة بطبعتها احتفائية هوياتية بالغالب، نحتفي بذات انفسنا الضاربة في جذر التاريخ المجتمعي، قائمة على تصورات سابقة تعيد تحديد علاقتنا بأنفسنا والعالم من حولنا.

 هذا الاحتفاء "بالهوية" بقدر ما يمجدها فهو يحجب العالم، أي ان هنالك علاقة عكسية بين (الاحتفاء بالهوية المجتمعية الملية)، والانفتاح على العالم، لأنها بدء التحديد النهائي للذات الفاعلة، لانها بذلك تعمل على تسكين الذات وتعطيل الفعل. فالتساؤل الجذري لبنية الهوية ووظيفتها لا بد ان يضعنا مباشرة امام إمكانيات تجاوز عقبات الماضي ولأن نكون منفتحين على العالم. فبناءا على ذلك "لابد من تفكيك البنية المعرفية، وتفكيك الوظيفة" لانغلاق الهوية معرفيا. 

اول خطوة في ذلك هو الفهم الواقعي، وان ندرك ان العالم الذي نعيش غير العالم الذي نعرف. فانغلاق الهوية يجعل الهوة عميقة بيننا بين العالم من حولنا. لكن شئنا ام أبينا فالعالم يأتي الينا عبر الفضاء فغدا المواطن عالميا بقدر ما هو محلي، حيث يتداخل المحلي بالعالمي في معظم مجالات الحياة، اقتصادية، ثقافية، ميديا، سياسية...الخ. فهنالك هوية عالمية منفتحة وفاعلة لا يمكن تجاهلها، بل تجد صداها في "الدولة" بكونها بينة عابرة للهويات الملية المنغلقة ومتفاعلة مع الآخر على الصعيد "الوطني" في نظام يفترض انه ديموقراطي.

في هذا المفصل يقترب الباحث النقدي "محمد حسين الرفاعي" الأبن مع الأب المفكر المثقف المعلم (عبد الجبار الرفاعي). فيقترح ان الدولة بوصفها تجسيدا لهوية عالمية لابد ان تتسم بأربع سمات:

1. الوطنية، وفكرة المواطنة. أي القبول بالتعدد والمختلف والتنوع بين الجماعات المحلية.

2. وان يتم وضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.

3. وان يتم اتباع سياسات اقتصادية تتعلق بالتنمية، والقضاء على الفساد، والحفاظ على قيمة العملة الوطنية.

4. علاقات خارجية مع دول الجوار من جهة والقوى العالمية من جهة أخرى، ـاخذ بمصلحة البلد كقيمة عليا.

فرغم الاختلاف المنهجي بين المفكر المعلم والباحث النقدي في تناولها لأزمة الهوية الوطنية ونقدمهما الشديد لانغلاق الهوية المحلية، فهما يشتركان بهم اقصى اسمه (العراق) وطنا تكون فيه الجماعات متجذرة الانتماء الى هويتها الوطنية مع ضرورة الانفتاح والتفاعل مع الآخر. 

***

د. سليم جوهر

العديد من الناس قلقون من تصاعد الاستبداد Authoritarianism والاوتوقراطية Autocracyعلى مستوى العالم. هذه الهياكل السياسية تخلق مناخا من الخوف وعدم اليقين والتوتر. الأنظمة السلطوية يمكنها بسرعة ان تفككك البرامج المفيدة للشعوب والبيئات، تاركة المواطنين في حالة من العجز واكثر عرضة للتدهور البيئي. ان فهم سايكولوجية الاستبداد تساعد في خلق الوضوح الذهني المطلوب للمقاومة وتعزيز الرفاهية وتصوّر وبناء مستقبل مستديم.

القلق من اللايقين

عندما يتكلم البعض عن "جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، ذلك يشير الى وعد بالشعور بالعظمة ثانية – إعادة ترميم الهوية، والأمن والمكانة في عالم سريع التغيير. بالنسبة لأولئك الذين تُركوا  في الخلف بفعل التحولات الاقتصادية والثقافية، تأتي هذه الرسالة لأنها تستغل الحاجة العاطفية العالمية للاحترام واليقين والانتماء. غير ان تلك الراحة تأتي معها تكاليف. هذا الوعد باليقين الذي يستخدم التنمر والقوة يمكنه ان يهمش أي شخص، انه لا يحترم الخبرة من جميع الأنواع ويشوه الحقائق ويلهب الاستقطاب. المتنمر الذي يعكس الديناميكية الاجتماعية لساحة المدرسة، هو وحلقته المقّربة يطلبون الولاء، بينما المارة يبقون صامتين لتجنب ان يصبحوا هدفا. الأتباع ربما يشعرون بالحماية لكنهم أيضا يعيشون في خوف من الطرد.

علماء النفس يسمون هذه الحالة "تعلّق مصحوب بقلق شديد" – يقظة مستمرة للحفاظ على الارتباط بشخص قوي لا يمكن التنبؤ به. انهم ليسوا فقط اشخاص خارجيين يدفعون الثمن، وانما كل منْ يقع في دائرة الخوف والامتثال وضياع الأصالة. كل من يقع في هذه الديناميكية يبدأ يرى العالم بعبارات صارخة من الأبيض والأسود يُنظر من خلالها لأولئك الذين يفكرون بطريقة مختلفة باعتبارهم خطرين. هذا التقسيم السايكولوجي يخدم برامج السلطوية بشكل جيد: حالما يُنظر للجانب الاخر ليس فقط كظالم وانما شرير، عندئذ حتى الأفعال المتطرفة ضده يمكن عقلنتها.

كلفة الصحة الذهنية

العيش في ظل توتر سياسي دائم يأخذ مقدارا عميقا من الصحة الذهنية. في المجتمعات السلطوية، الافراد يجب ان يفحصوا ويراجعوا موقفهم باستمرار، يخلقون حالة من التوتر الدائم. يصبح من الصعب التنبؤ بالحياة، يتم التحكم بها ليس بمبادئ متفق عليها ديمقراطيا وانما عبر الأهواء المتغيرة لقائد قوي. العديد من المرضى وأعضاء الجالية يصفون الشعور كما لو انهم انزلقوا الى علاقات "وضع يسبب الجنون" – حيث الواقع ذاته يبدو غير مستقر ومشوه. السلطوية تستغل الميول السايكولوجية الراسخة عميقا في الانسان. في تجارب ستانلي ميلجرام Stanley Milgram، المشاركون كانوا يرغبون بإدارة ما اعتقدوا انه صدمات كهربائية مؤذية للآخرين فقط بسبب ان شخصية سلطوية أمرتهم للقيام بهذا (ميلجرام،1963). عمل ميلجرام يكشف عدم مقاومة طاعة السلطة حتى عندما تنتهك قيم المرء الخاصة. السايكولوجي روبرت التمير(1996) وجد انه في ظروف تأثير الاستبداد، الافراد عادة يتنازلون عن تفكير معقد ومستقل. بدلا من ذلك، هم يتبنون أحكام الأبيض والأسود، يستبدلون التمييز الشخصي بعواطف جمعية. حين تصبح تابعا في مثل هذا النظام تستبدل عبء المسؤولية الشخصية بوهم راحة اليقين، والأمان المتخيل والتفوق.

احدى اهم التكتيكات الضارة في أدوات الاستبداد هي التلاعب النفسي. هذا الاستغلال النفسي يجعل الناس في حالة معتمدة من رد الفعل، يفقدون السيطرة على قيمهم الشخصية، وغير قادرين على الثقة بتصوراتهم او غرائزهم، وغير مكترثين حول ما تكون عليه الحقيقة.

سايكولوجية القيادة الاوتوقراطية

اذا كانت السلطوية توجد في مستوى منهجي، فان القيادة الاوتوقراطية عادة ما تتجلى اكثر قوة في المستوى الشخصي، تصوغ الحياة النفسية للمواطنين. القائد الاوتوقراطي يحتفظ بسيطرة مطلقة، يحدد المشاركة ويفرض الولاء من خلال الخوف وعدم إمكانية التنبؤ والاعتمادية. المواطنون يصبحون محاصرين بغيبوبة نفسية: يقاومون ويخاطرون بالعقوبة او يمتثلون ويستسلمون لشخصية معينة. وبمرور الزمن، هذا يؤدي الى خدر عاطفي، وانفكاك أخلاقي، وضياع الأصالة الذاتية. حتى المؤيدون للنظام يتأثرون، لأن الضغط المستمر للإمتثال لرؤية القائد يحول دون الأمان السايكولوجي الحقيقي.

غرس الديمقراطية من الأسفل

يمكن مقارنة السلطوية بالتدهور النباتي. انها تنزع من التربة الحيوية، تستبدل التنوع بزراعة أحادية، والتعقيدية بالامتثال، والاستدامة الطويلة الأمد بالهيمنة قصيرة الاجل. تحت سطح القوة الظاهرة يكمن استنزاف للناس والمؤسسات، والقوة والتربة الأخلاقية التي تعتمد عليها الديمقراطية. مع ذلك، فهم الإغراء النفسي للاوتوقراطية يساعد المواطنين في مقاومة جذبها وبناء خيارات هادفة – فضاءات حيث تتم تلبية حاجة الانسان الحقيقية للمعنى والارتباط والأمن بدون التضحية بالفكر المستقل.

الاستجابة للاستبداد تتطلب عملا في أنظمة الحكومة القائمة وكذلك في المعارضة السلمية للمظاهر المدمرة لتلك الأنظمة. المناخ الاجتماعي والمدني هو التربة الصحية لمثل هذه الاستجابات. حتى في البيئات الاستقطابية او السلطوية، هناك ميادين يتم السعي ضمنها للحريات الفردية (القدرة على التفكير والتحدث والتصرف طبقا لقيم الفرد) ويتم الحفاظ على جاليات داعمة، هذه الميادين:

1-  جماعات مدنية تعالج التحديات المحلية بدءا من تحسين الصحة العامة الى تطوير استدامة بيئية.

2-  جماعات مرتكزة على الايمان تعبّر عن عواطفها من خلال رعاية الناس والاشراف على الكوكب.

3-  منظمات طوعية تبني جسورا عبر زراعة الأشجار وتنظيف الممرات المائية والاستجابة لحاجات الناس.

4-  رعاية متبادلة تجسد نموذج العائلات.

ضمن هذه الانشغالات، يؤدي صمود الفرد والجالية الى غرس أنظمة سياسية ديمقراطية وطرق صحية لخلق عواطف وعقل متوازن، واحتضان التعقيدية بدلا من السقوط في تفكير ثنائي، والعثور على قوة في المرونة بدلا من الصلابة.

هذه القيم تقف في تضاد مباشر مع حاجات السلطوية الى كبش فداء، تفكير مبسط "ابيض واسود"، والانشغال مع قائد لا يمكن التنبؤ به. على المستوى الشخصي، المقاومة تتطلب الصدق حول القيم الشخصية والشجاعة والجالية. هناك أربعة طرق تطبيقية للتعامل والمقاومة:

1-  التركيز على المعنى: تتحدث عن الحقائق بوضوح، تقف بثبات حول ما هو صحيح، وغرس قيم الجالية من خلال علاقات مهنية وشخصية بالإضافة الى انشغال مدني.

2-  التعامل من خلال التركيز على العواطف: تبنّي رعاية الصحة الذهنية للمرء بعناية ذاتية وشبكات دعم موثوقة.

3-  التركيز على المشكلة: الرد بأفعال استجواب صغيرة ودفاع، اعتمادا على مخاطرة المرء، وحماية الخصوصية الرقمية باستعمال أدوات آمنة مثل الرسائل المشفرة وشبكات VPNs(مصادر مثل المرشد المضاد للاوتوقراطية يقدم ارشادا حول تقييم المخاطرة الشخصية في ظروف استبدادية وتفصيل أفعال طبقا لذلك).

4.- تفكير مستقبلي: ان تعرف هناك العديد من أشكال المستقبل المحتمل وتكون راغبا بالتفكير فيها والتخطيط لها. عبر غرس هذه العادات، نحن لا نحمي فقط رفاهيتنا وانما أيضا نساعد الديمقراطية والجالية وازدهار الكوكب حتى في أصعب الظروف.

***

حاتم حميد محسن

........................

The psychological pull of Authoritarianism and Autocracy, psychology today,Sep 25,2025

المصادر:

1-  التماير Altemeyer،B(1996). شبح السلطوية. مطبوعات جامعة هارفرد.

2-  Lipman-Blumen., J،(2005). جاذبية القادة السامّين: لماذا نتّبع زعماء مدمرين وسياسيين فاسدين، وكيف يمكننا النجاة منهم، مطبوعات جامعة أكسفورد.

3-  ميليجرام Milgram,S(1963). دراسة سلوكية للطاعة. مجلة علم النفس الاجتماعي وغير الطبيعي،67 (4)،ص371-378.

 

من الهيمنة النسقية إلى الثورة على الفضاء الكارتيزي

أركيولوجية الهيمنة التراتبية: الشجرة كبنية فوقية للسلطة

 في سياق تشريح البنية العميقة للثقافة الغربية، يتكشف النموذج الشجري بوصفه البنية الفوقية الأيديولوجية التي تشرعن علاقات الإنتاج السلطوية. إن هذا النموذج، الممتد من الميتافيزيقا الأفلاطونية وصولاً إلى العقلانية الحداثية، يعمل كآلية لضبط "فائض المعنى" تماماً كما يضبط رأس المال فائض القيمة. فلسفياً، تتأسس الشجرة على ثنائية "الجذر/الفرع"؛ حيث تمارس الحقيقة المركزية (الأصل/الجذر) هيمنة وجودية على الفروع. هذا النسق التراتبي ليس بريئاً؛ إنه انعكاس لنمط إنتاج يرفض التعددية إلا إذا كانت خاضعة لمركز واحد. وبذلك، تصبح المعرفة الشجرية أداة لتكريس الهيمنة التي تضمن إعادة إنتاج علاقات القوة القائمة.

عبر تحليله لـ "الصورة الدوغمائية للفكر"، يكشف دولوز عن التواطؤ الخفي بين الفلسفة التقليدية والسلطة. هذه الصورة ليست مجرد أخطاء معرفية، بل هي ما أسماه لويس ألتوسير "جهازاً أيديولوجياً للدولة". إنها مجموعة المسلمات المسبقة التي تؤدلج الوعي وتوجه الفيلسوف قبل أن يشرع في التفكير، مُحولةً الفلسفة من أداة للنقد إلى أداة لـ "التعرّف" وإعادة إنتاج الموجود. يتجلى "الازدراء الفلسفي" هنا كآلية دفاعية طبقية؛ فالنسق الفلسفي (عند كانط أو هيغل) يشيد حصوناً معرفية لحماية "العقل البرجوازي" من تهديد "الخارج" (قوى العمل غير المقيدة، الجسد، الجنون، والفكر البدوي)، حيث يتم إقصاء هذا الخارج وتصنيفه كـ "فوضى" أو "خطأ". إن هذا الإقصاء هو الوجه المعرفي لعملية "التشيؤ"، حيث يتم تحييد القوة الثورية للاختلاف الصرف عبر استيعابها في "الجدل" وتحويلها إلى مجرد "سلب" يخدم تطور الروح المطلق.

الجذمور كأبراكسيس ثوري:

 (المبادئ الستة للمقاومة) في مقابل الشجرة، يطرح دولوز وغوتاري "الجذمور" ليس كنموذج بديل فحسب، بل كاستراتيجية مادية للتحرر من "سلعنة المعرفة". ويمكن تلخيص مبادئه كالتالي:

مبدأ الاتصال: يكسر الجذمور تقسيم العمل المعرفي الصارم. في البراكسيس البحثي الجذموري، يجب أن تتصل أي نقطة بأي نقطة أخرى؛ إنه رفض للتخصص الضيق الذي يفرضه نمط الإنتاج الرأسمالي لعزل الحقول المعرفية.

مبدأ التغاير: بخلاف الفكر النسقي الذي يسعى للتجانس لضمان السيطرة، يربط الجذمور بين أنظمة متباينة (سلاسل لغوية، تدفقات مالية، شفرات بيولوجية)، كاشفاً عن الطبيعة المادية المتشابكة للواقع.

مبدأ التعددية: التعددية هنا ليست "الكثرة" العددية التابعة للواحد، بل هي جوهرية ونوعية. إنها تشبه مفهوم الجموع عند نيجري وهارت؛ قوة حية تتغير طبيعتها كلما زادت أبعادها، ولا تحتاج إلى "وحدة قياس" متعالية لتستند إليها.

مبدأ القطيعة غير الدالة: الجذمور يقاوم الفناء؛ فإذا حاولت أجهزة الدولة قطعه، فإنه يعاود النمو عبر خطوط هروب جديدة. هذه الخاصية تجعل الفكر الجذموري عصياً على القمع؛ فإذا حظرت الرقابة كتاباً، تحول الفكر إلى أغنية أو "غرافيك". إنه تجسيد لقدرة الطبقات المقهورة على إعادة تنظيم صفوفها.

مبدأ رسم الخرائط: الجذمور خريطة تصنع الواقع، وليس "أثراً" ينسخه. "الأثر" هو إعادة إنتاج أيديولوجي للواقع المفروض، بينما الخريطة مشروع مفتوح قابل للتعديل، مما يمنح الباحث دور "المناضل الثوري" الذي يرسم مسارات جديدة بدلاً من الاكتفاء بتفسير العالم.

مبدأ الديكالكومانيا: وهو رفض القوالب الجاهزة؛ فالجذمور يقاوم إسقاط النماذج المتعالية والنسخ الجامدة على الواقع المادي الحي.

الجيوفلسفة.. صراع آلة الحرب وجهاز الدولة:

 يقدم دولوز مفهوماً يتجاوز الماركسية التقليدية، ولكنه يتكامل معها "آلة الحرب". آلة الحرب ليست الجيش، بل هي "تجميعة" من البشر والأدوات والأفكار تتحرك في "فضاء أملس" وتقاوم التخديد الذي تفرضه الدولة. من منظور المادية التاريخية، يمكن قراءة هذا الصراع كالتالي، الدولة (ممثلة لمصالح الطبقة السائدة) تسعى دائماً لممارسة "الأسر" على آلة الحرب، لتدجين طاقة الإبداع والعمل وتحويلها إلى قوة عمل مأجورة خاضعة للقانون. التاريخ، إذن، ليس سرداً خطياً لتطور الدول كما يرى هيغل، بل هو جدلية الصراع بين "جهاز الدولة" الذي يفرض النظام الشجري لتأمين الملكية والتراكم، و"آلة الحرب" البدوية التي تبتكر "خطوط الهروب" لتقويض هذا النظام.

من "السياسة الكتلية" إلى "الثورة الجزيئية":

 نحو اقتصاد سياسي للرغبة لا تكتمل القراءة المادية للجذمور دون الاشتباك مع المعضلة التي أرقت الماركسية الغربية طويلاً. لماذا تحارب الجماهير من أجل عبوديتها وكأنها تحارب من أجل خلاصها؟ هنا، ينقل دولوز وغوتاري الصراع من المستوى "الكتلي" مستوى الصراع الطبقي التقليدي، الأحزاب، والنقابات إلى المستوى "الجزيئي أي مستوى الاقتصاد الليبيدينالي".

المادية ومسألة الرغبة:

 خلافاً للماركسية الأرثوذكسية التي قد تختزل الرغبة في "بنية فوقية"، أو التحليل النفسي الذي يسجنها في "مسرح العائلة" (أوديب)، يؤكد دولوز في ضد-أوديب أن الرغبة جزء من البنية التحتية؛ إنها "إنتاج" وليست "نقصاً". الرأسمالية لا تكتفي باستغلال قوة العمل في المصنع، بل تقوم بـ "تخديد" الرغبة لضمان أن العامل يستهلك، ويطيع، ويتماهى مع النظام.

الفاشية كمنتج جزيئي:

 إن "المايكرو-سياسة" ليست سياسة "صغيرة" بالحجم، بل هي سياسة تعمل على مستوى التدفقات والذرات الشعورية. الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في استيلاء ديكتاتور على الدولة (مستوى كتلي)، بل في "الفاشية المجهرية" التي تعشش في تفاصيل الحياة اليومية. الثورة التي تغير شكل الدولة دون أن تفكك "الفاشية الجزيئية" في نفوس الثوار، تنتهي حتماً إلى إعادة إنتاج القمع البيروقراطي.

نحو إيتيقا مادية للجذمور:

 بناءً على ما سبق، فإن الثورة الجذمورية لا تلغي ضرورة التنظيم الطبقي، لكنها تشترط أن يرافقه "تحول جزيئي" وتفكيك لشيفرات الخضوع. إن الانتقال من الفضاء الكارتيزي (المخطط والمسيطر عليه) إلى الفضاء الأملس (المفتوح للاحتمالات) هو ضرورة إيتيقية وسياسية. لقد أدى "الازدراء الفلسفي" والمركزية الشجرية إلى كوارث إنسانية عبر فصل الإنسان عن الطبيعة. لذا، فإن الثورة على الفضاء الكارتيزي تعني استعادة القدرة على "التوهان الخلاق" ورسم خرائطنا الخاصة في عالم لا تحكمه حتمية الأرباح، بل تحكمه إمكانات الصيرورة. وكما يؤكد دولوز: "نحن لا نكتب لكي نمثل العالم، بل لكي نصبح شيئاً آخر غير ما نحن عليه"؛ أي لكي نغير العالم.

***

غالب المسعودي

....................

المصادر والمراجع

المصادر العربية والمترجمة

ألتوسير، لويس. الأيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية. بيروت: دار الطليعة.

دولوز، جيل. الاختلاف والتكرار. (ترجمة وفاء شعبان). بيروت: المنظمة العربية للترجمة.

دولوز، جيل، وغوتاري، فيليكس. ألف هضبة: الرأسمالية والفصام 2. (ترجمة ومراجعة نقدية).

دولوز، جيل، وغوتاري، فيليكس. ضد-أوديب: الرأسمالية والفصام 1. بيروت: دار الطليعة.

دولوز، جيل، وغوتاري، فيليكس. ما هي الفلسفة؟ (ترجمة مطاع صفدي). بيروت: مركز الإنماء القومي.

غرامشي، أنطونيو. كراسات السجن. (ترجمات مختلفة).

ماركس، كارل، وإنجلز، فريدريك. الأيديولوجيا الألمانية.

هارت، مايكل، ونيجري، أنطونيو. الجموع: الحرب والديمقراطية في عصر الإمبراطورية.

ثانياً: المراجع الأجنبية (English References) 9. Byrne, T. (n.d.). The Dogmatic Image of Thought. Medium. 10. Internet Encyclopedia of Philosophy. Gilles Deleuze (1925–1995). 11. Protevi, J. (n.d.). The Image of Thought. Retrieved from [protevi.com]. 12. Taylor & Francis Online. (n.d.). Rhizomatic America and Arborescent Culture. 13. Rhizomatic vs Arborescent Systems. (n.d.). Retrieved from jzhao.xyz.

 

ربَّما لم يُعرف، ويشتهر مذهب المعتزلة، تاريخاً ومبادئ وأفكاراً ومواقفَ، مثلما عُرف أصحابه، ويأتي عمرو بن بحر الجاحظ(255هج) في المقدمة، وذلك لشهرته في الكتابةِ والبلاغةِ، حتَّى أُخذ مَن يُجيد الصنعة يُدعى بالجاحظ الثَّاني، ورداً على الخصوم كتب مدافعاً عن الاعتزال بعنوان «فضيلة المعتزلة»، فنقضه أحمد بن يحيى الشَّهير بابن الرَّاوندي (نهاية القرن الثالث الهجري) في كتاب سماه «فضيحة المعتزلة»، لكن على ما يبدو لم يجرِ هذا في حياة الجاحظ، فكتب الأخير جاءت خالية مِن ذكرٍ لابن الراوندي، والجاحظ لا يترك من ينقضه بلا نقض.

«فضيلة المعتزلة»، وفضيحة المعتزلة «عنوانان متناقضان تماماً، ومِن بعد ابن الراوندي تلقف العنوان-«فضيحة» -مؤرخو الملل والنحل مِن خصوم المعتزلة، فجاء كتاب عبد القاهر البغداديّ(429هج) مليئاً بـ«فضائح» شيوخ المعتزلة، بداية مِن مؤسسي الاعتزال، واصل بن عطاء(131هج)، وعمرو بن عبيد الباب(144هج)، ومنها فضائح الجاحظ، وكذلك نقل البغدادي وغيره مِن «فضيحة المعتزلة» مقالات مِن وضع ابن الرّاوندي، والأخير كان «معتزلياً» وتمرد على الاعتزال، وهو نفسه عند خصوم المعتزلة يُعد مِن الزنادقة، فأذيع «زنادقة الدنيا أربعة: بشَّار بن بُرد، وابن الرَّاوندي، وأبوحيان التَّوحيدي، وأبوالعلاء المعرّي» (الحنبلي، شذرات الذهب)؛ لكن مع ذلك صار (الزّنديق) ابن الرَّاوندي مصدراً ضد المعتزلة في كتب مَن شهدوا بزندقته.

كان التَّضاد واضحاً بين الفضيلة والفضيحة، فإذا اعتبر نفي القدر ونفي الصفات، وخلق القرآن، فضائل في كتاب الجاحظ، صارت فضائح في كتاب ابن الرَّاونديّ، لكن جوهر نقض ابن الراوندي على أصحابه السَّابقين هو دفاعه عن التشيع، وخصوصاً في قضية الإمامة، وللجاحظ كتاب في هذا الشّأن عنوانه «العثمانيَّة».

قد يسأل سائل: وهل وصلنا كتابا الفضيلة والفضيحة، كي نفهم ما كتبه الجاحظ، ونقيضه ابن الراونديّ؟ الجواب لم يصلنا أي من الكتابين، فهما مِن المفقودات، مثل الكثير مِن الكتب لم تصلنا غير عناوينها، بفضل كتب الفهارس، وكتب تراجم الرّجال. لكن ما يخص كتاب الفضيحة وصلنا الغالب منه في كتاب «الانتصار والرّد على ابن الراوندي الملحد»، لشيخ الاعتزال في زمنه أبو الحُسين عبد الرّحيم الخياط؛ الذي خدم خصمه ابن الرّاوندي في نقضه فقرة فقرة، يأتي بالفقرة ويرد عليها، ومنها وصلنا شيء مِن كتاب «فضيلة المعتزلة».

يعطينا ما كتبه الجاحظ مِن فضائل المعتزلة، وما كتبه ابن الرَّاوندي مِن فضائح، تصوراً على التّطرف في الصراعات الفكريَّة، وغياب التوسط والحوار فيها، فلا يوجد حوار أو تفاهم ما بين الفضيلة والفضيحة، كيف تشتد الخصومة، إلى درجة أن ابن الراوندي صار يوصف بالملحد مِن قِبل المعتزلة، وهو في الأمس كان مِن أعيانهم، وما الذي دفع الجاحظ يكتب تحت عنوان«فضيلة المعتزلة» غير الردود العنيفة على مذهبه الفكريّ؛ فالمعتزلة اعتبروا بشار بن برد، وهو صاحبهم السابق ملحداً وأفتوا بقتله، وخصوم الجاحظ قالوا في كتبه: «بِلا معنى، وَاسم يهول، وَلَو عرفُوا جهالاته فى ضلالاته»(البغداديّ، الفرق بين الفرق).

صحيح أنَّ المعتزلة اشتهروا كروّاد للحريَّة الفكريَّة، لقدرتهم على المناظرة، قياساً بزمنهم، لكنهم لم يكونوا كذلك مع خصومهم؛ فعلى ما تبدو، وإلى يومنا هذا، الحرية الفكريَّة كلمة فضفاضة المعنى، الكل يدعيها وينشدها، وهذا ليس في الفكر فقط، فهناك قصص كثيرة عن قمع الأدباء وإقصائهم بعضهم بعضاً، والأمثلة كثيرة، ناهيك عما يجري مِن تربص بالخصومة بين الشعراء والفقهاء؛ منها ما جرى بين الفقيه الشّافعي عبد الكريم السّمعاني(562هح) والفقيه الحنبلي أبي الفرج ابن الجوزيّ(597هج)، والعلة مذهبيّة لا شخصية، وكذلك ما حصل بين أبي الفرج الأصفهاني وأبي سعيد السّيرافي، وأبي نواس وشعراء عصره(الجهشياري، الوزراء والكُتاب)، إنكار الموهبة والجدارة. بمعنى أن مفهوم الفرقة النَّاجية لم يسود بين المذاهب الدِّينية فقط، إنما ساد مجالات الفكر والثَّقافة كافة؛ فلو ذكرناها سنجد مثالها بين فضائل وفضائح.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في عام 1513 وفي لحظة شديدة الاضطراب والتوتر، صدر كتاب (الأمير) لمؤلفه الإيطالي الشهير (نيكولو ميكافيلي)، وهو من أشهر الكتب السياسية المعمّرة، حيث لا زال يشكّل مرجعاً سياسياً وأساسياً مهماً لمعرفة اصول الدولة وآليات تشكلّها. وقد كان مليئاً بالجديد، لذلك يُعد ثورة في مجال الحكم والحاكم، حيث فصل ما بين الأخلاق والسياسية وانتقل من “ما يجب أن يكون” إلى “ما هو كائن”، رافضاً المعايير الأخلاقية في الحكم على الدولة، فلا وجود للغايات الأخلاقية في الدولة، لأن وجودها يمثل فضاءً أخلاقياً بحدِّ ذاته. فذهب إلى أن المعيار الحقيقي في الحكم على الحاكم لا يتمثل في كونه فاضلاً أو ورعاً، بل في قدرته على قراءة الواقع واستخدام القوة والدهاء والسيطرة على كافة المتغيرات وكبح جماح الطارئ.

من أجل ذلك، قال قولته الشهيرة “الغاية تبرر الوسيلة”. وأطلق كذلك سؤاله الشهير “هل الأفضل أن يُحب الأمير؟ أم يُخاف؟”. ويذهب إلى أن الأمير الذي يُخاف ويُهاب أكثر ضماناً في صيانة الدولة وديمومة نظامها. والغاية الأخلاقية من وجهة نظر (ميكافيلي) تتمثل في حفظ الدولة بمعزلٍ عن الآليات التي يتبعها الأمير، فحفظ الدولة غاية أخلاقية، وإنّ انهيارها شرٌ أعظم من استخدام القوة لحمايتها، لذلك فمن الممكن أن يضحّي الأمير بوعوده وصدقه إذا شاءت الظروف، وبهذا المنطق تصبح السياسة فنّاً استراتيجياً لا علاقة له بالقيم المطلقة ولا بفضائل الفلاسفة ولا بقيم الكنيسة.

وبالرغم من وجهات النظر النقدية التي واجهت كتاب (الأمير) باعتباره يشرعن لمعالم العنف ويفضل الاستبداد والتفرد على حساب المعايير الأخلاقية ويبرر الخداع والكذب ونكث العهود والمواثيق؛ إلا أنه ما زال يمثّل مرجعاً رئيساً في السياسة والفلسفة السياسية، كونه يعيد الفهم حول الكيفية التي تُدار بها السلطة، ويعمل على ايقاظ شعلة الخطابات لدى المتمرسين، فضلاً عن كونه مصدر إلهام لمن يودُّ صياغة القرارات الصعبة والصحيحة.

إلى أن وصل الأمر بمواطنه المعاصر (أنطونيو غرامشي)، حيث صدر له كتاباً بعنوان (الأمير الحديث)، نُشر باللغة الانجليزية عام 1957، ويتضمن مقتطفات من (دفاتر السجن) التي كتبها بين 1929-1935، ونشر في دار الطليعة عام 1970 بترجمة: زاهي شرفان وقيس الشامي.

والأمير الحديث، وإن كان ثورة في النظام السياسي والفلسفة السياسية، إلا أنه لا يُعدُّ ثورة على ما كتبه (ميكافيلي)، مع كونه انقلابا جذريا على (الأمير)، إلا أننا نفهم من (الأمير الحديث) عبارة عن إعادة انتاج لمعنى مضمر في كتابات (ميكافيلي)، فهو أشبه بطروحات (ماركس) على ما انتجه (هيغل). فجوهر ما أراده (غرامشي) في أميره الحديث، أن يعيد موضعة (الأمير) بجعله يقف على قدميه، بدلاً من الوقوف على رأسه.

 فالأمير الحديث ليس فرداً قائداً وحاكماً كما تصور (ميكافيلي)، بل هو حزب سياسي وجماعة منظمة تمتلك وعياً عالياً، تعمل على قيادة المجتمع نحو التحول التاريخي وتتخلى عن النخبوية في قبال ما يسمى بـ(المجتمع الجماهيري) وتعتمد على صياغة صراع طبقي يعتمد على التثقيف لا السيوف، وتعمل على انتقال القيادة من الفرد إلى التنظيم، وتسعى بالأخير إلى تقديم رؤية شاملة للسلطة بوصفها علاقة تكاملية بين الدولة والمجتمع المدني.

وبعكس (ميكافيلي) والذي بالغ في فصل الأخلاق عن السياسة، يعيد (غرامشي) ربط السياسة بالأخلاق، فالسياسة في رأي الأخير لا يمكن لها ان تنال نجاحاً بمعزل عن الأخلاق الجماعية، فمن شأن الأخيرة أن تُنتج ثقة الشعب بالحزب الحاكم، والأمير لا يكون أميراً بالقوة والحيلة والخداع، بل بالانضباط الأخلاقي والمسؤولية. مع ذلك، فإن مفهوم الثورة من وجهة نظر (غرامشي)، يعدّ الغاية الحقيقية لولادة الأمير الحديث، بينما يشكل مفهوم “الاستقرار” الغاية الرئيسة لحكومة الأمير.

ويناور (غرامشي) في مسألة تحقيق القبول وإنتاج الثقة، فإذا كانت القوة والخداع بمثابة البوابة الرئيسة في تحقيق الأمير لسيطرته، فإن القبول الاجتماعي والثقافي هو المبدأ الرئيس لسيادة الأمير الحديث، فالأمير ليس قائداً سلطوياً، بل مثقفٌ جمعيٌّ يعمل على تنظيم الإرادة الجماهيرية ويحقق رؤية مشتركة للمستقبل ويعمل على صناعة “كتلة تاريخية” تجمع الاقتصاد والثقافة والسياسة.

وبذلك يعيد (غرامشي) اعادة فهم وتركيب مفهوم “الهيمنة”، فهي عنده لا تمثّل فعلاً قمعياً، بل قوة معنوية يُعاد انتاجها بوساطة الثقافة والتعليم والإعلام، وهي تعني أن ينجح الحزب أو التنظيم في جعل رؤيته عن العالم مقبولة شعبياً، وان تصبح أفكارها موضعاً للتسليم والقبول.

وبالأخير، فإن الأمير الحديث عند (غرامشي) يعمل على اعادة بناء مفهوم القيادة السياسية، ليس على القوة والاخداع والإكراه، بل على الوعي والثقافة والتنظيم وصناعة الإجماع وتحويل الأفكار إلى قوة اجتماعية، وهذا ما يختزله الفيلسوف الإيطالي (انطونيو غرامشي) في نظام الحزب الشيوعي آنذاك.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

لا ينجح التنوير حين يظل فكرة نخبوية محاصرة في الكتب والمنصات المغلقة ولا حين يتحول الى شعار ثقافي يردده القليلون بينما تعيش الاغلبية خارج اثره. التنوير فعل اجتماعي شامل لا يكتمل الا حين تنتقل المجتمعات من رشدية تكرس الطاعة الى رشدية تؤسس العقل ومن وعي يستمد اخلاقه من الخوف الى وعي يبنيها على الكرامة الانسانية.

الفرق بين رشدية عبد الله رشدي ورشدية ابن رشد ليس فرقا بين شخصين بل بين منطقين في التفكير ومنهجين في فهم الدين والحياة. الفرق ليس فرق أسماء، بل فرق عصور وطرائق نظر إلى الإنسان والعالم.

 في الاولى تسود سلطة النص المعزول عن مقاصده وتختزل الاخلاق في طقوس شكلية ويقاس الايمان بدرجة الامتثال لا بعمق الفهم. وفي الثانية يتقدم العقل بوصفه اداة للفهم لا خصما للنص وتستعاد الاخلاق باعتبارها جوهرا انسانيا قبل ان تكون اوامر ملزمة.

اخلاق الطقوس تنتج انسانا مطيعا لكنه غير حر ومتدينا شكليا لكنه خائف وواعيا بالمحرم اكثر من وعيه بالعدل. اما الاخلاق الانسانية فتصنع فردا مسؤولا يرى في القيم فعلا يوميا لا واجبا موسميا وفي العدالة التزاما لا شعارا وفي الرحمة ممارسة لا خطابا. هنا يصبح الدين افقا اخلاقيا مفتوحا لا نظام ضبط مغلقا.

وسلطة النص حين تنفصل عن سلطة العقل تتحول الى اداة قمع مقدس اما حين يساندها العقل تصبح طاقة تحرير. فالسؤال الحقيقي ليس ماذا قال النص فقط بل لماذا قال وكيف يفهم في سياق انسان يتغير وتاريخ يتحرك. بهذا المعنى يكون العقل حارسا للمعنى لا متمردا عليه.

من هنا يبدأ التنوير الحقيقي: حين نغادر أخلاق الطقوس إلى أخلاق الإنسان، حيث العدالة ليست شعارا بل ممارسة، والرحمة ليست موعظة، بل بنية تفكير.

عندما نسأل عن النص كيف يُقرأ في سياق إنساني متغير. فسلطة النص حين تنفصل عن سلطة العقل تتحول إلى قمع مقدس، أما حين يتكئ النص على العقل، يصبح قوة تحرير.

وليس الانتقال من “اضربوهن” إلى “حرروهن” مجرد تبديل لغوي أو مزايدة أخلاقية، بل انقلاب في الوعي. هو الانتقال من رؤية المرأة كموضوع للضبط إلى الاعتراف بها كذات كاملة، عاقلة، حرة، مسؤولة عن حياتها ومصيرها. هو التحول من ثقافة الوصاية إلى ثقافة الشراكة، ومن منطق السيطرة إلى منطق الكرامة الإنسانية.

  ان تحرير المرأة ليس قضية فرعية بل معيار اخلاقي لمدى تحرر المجتمع كله.

لا يتحقق التنوير حين تتكلم النخبة لغة لا يفهمها الناس، بل حين يتعلم الناس أن يسألوا، أن يشكوا، أن يربطوا بين القيم وواقعهم. وحين يصبح العقل ممارسة يومية، لا ترفا فكريا، والأخلاق اختيارا واعيا، لا امتثالا أعمى.  ممارسة يومية. عندها فقط نغادر رشدية تخاف الحرية الى رشدية تصنعها ومن اخلاق الطاعة الى اخلاق الانسان.

وحين تنتصر رشدية ابن رشد لا بوصفها اسما تاريخيا بل ممارسة يومية يتحرر النص من الاحتكار ويتحرر الانسان من الوصاية ويعود الدين ظاهره انسانيه لا اداة ضبط. عندها فقط تسقط قداسة العنف ويتحول المقدس من سيف مرفوع الى ضمير حي ومن سلطة تفرض الى معنى يقنع.

فالتنوير في وجهه نظري لا يكتمل حتى تصبح الحرية حقا مشتركا والعقل عادة اجتماعية والمرأة انسانا كاملا لا موضوعا للتأديب. هنا فقط يتجاوز التنوير حدوده النظرية ويصبح فعلا حضاريا حين تختار المجتمعات ابن رشد طريقا لا رمزا وتدرك ان العقل ليس خصم الايمان بل شرط نجاته وان الانسان ليس وسيلة لتمجيد النص بل غايته الاخلاقية العليا.  تلك هي لحظة التنوير الحقيقية حين ينتصر الانسان فينا جميعا

***

ابتهال عبد الوهاب

 

إنّ الوعي الثقافي العربي ليس حديث العهد، بل إنّه يمتد إلى نظريات ودراسات الغزالي والفارابي وابن رشد وابن عربي وابن سينا، وغيرهم كثير ممّن عملوا في مجال المعرفة والوعي والثقافة، وخاصّة مناهجهم في مجال المسائل الفكرية.

الثقافة العربية غنيّة في مناهجها منذ القدم وعلى مستويات مختلفة، إن كان على مستوى الأدب والعلوم والصرف والنحو والبيان والبلاغة والنقد، إضافة إلى الفلسفة والمنطق وعلوم الفيزياء والرياضيات والكيمياء والطب، وعلوم الفلك والموسيقى والإيقاع، وعلوم الفقه.

وبسبب الأزمات الداخلية وغزوات الإحتلال الخارجية تعرّض الوعي الثقافي العربي لنكبات متعددة.

تماماً كما حدث في بغداد عام 1258 إثر سقوطها على يد المغول، حيث تم إتلاف وضياع الناتج الثقافي، ومن ثُمّ الحروب الصليبية المتكررة، والتي أدّت إلى تدمير الأمّة وتفكيكها، ومن ثُمّ جاء دور الأتراك العثمانيين الذين عزلوا الأمّة العربية لفترةٍ زمنية طويلة قاربت أربعة قرون، وأجهضوا اللغة العربية، وجعلوا اللغة التركية هي الرسمية في البلاد، كما صادروا كل المهرة، وكلّ ما يُلامس الإبداع، وتمّ نقلهم إلى " الآستانة " العاصمة في ذلك الوقت، فتخلّفت اللغة العربية من كلّ جوانبها فكرياً واجتماعياً وفنّياً، فعمّ الاهتمام بكلِ شيءٍ سطحي، الذي أبقى الأمور على حالها بعيداً عن أي تقدمٍ أو تطور.

إلى أن جاء دور الإستعمار الغربي، وقسّم العالم العربي، وجاءت سايكس بيكو، وزرع الجسد الصهيوني على الأرض الفلسطينية المغتصبة، وزرع جذور تبعية المنطقة ووعيها وثقافتها وفكرها للغرب، والتي لا زلنا نعاني منها منذ ذلك الوقت.

ولعل من أقسى النكبات الداخلية التي عانى منها الوعي الثقافي العربي ولا يزال، هي الفتنة الكبرى بحق " علي وعائلته وسلالته " ونشوء الفرق الإسلامية مع بداية العهد الأموي، وأزمات أخرى في العهد العباسي أبرزها الزندقة التي انتشرت أكثر في عهد ثاني الخلفاء العباسيين " المهدي "، وتمت إعاقة أي مسيرة نحو الأمام بالوعي الثقافي العربي، واتهام المجددين بتهمٍ ساقطة، وانتشرت حركات التكفير وإلى يومنا هذا، وهي تحمل في أبعادها إثارة الحروب والفتن، والقتل المجاني إنتصاراً لعقيدةٍ أحادية دخيلةٍ ومشوّهة، مثل حركة داعش وتنظيمات إرهابية تكفيرية أخرى.

ومن أخطر المؤثّرات السلبية تراجع الوعي الثقافي وغياب العلمية والتقنية والمنهجية، وتراجع المستوى العام للعلم والتربية، وضحالة الإنتاج الفكري، والسقوط في مستنقع ثقافة القشور، وهيمنة الظاهر على الجوهر، وبالتالي غياب الإبداع وإهمال المبادرات الملتزمة والهادفة لمحاولة إستعادة الثقافة العربية أو إعادة بنائها، وهيمنة رأس المال على كل شيء، حتّى على الإبداع الفكري والثقافي والعلمي.

طبعاً لا ننكر بأن القرن الماضي شهد حركات التحرر من الاستعمار ومن ثُمّ كانت هناك جهود مؤكّدة لإعادة بناء الوعي الثقافي العربي من جديد، كما شهدت بعض العواصم العربية إزدهاراً في مجال النشاط الفكري والثقافي ممّا كان له أثراً كبيراً في إيقاظ وتطوير الفكر الثقافي في البلدان العربية الأخرى.

ولكن سرعان ما جاءت نكسة 1967 ليشهد الميدان العربي إحباطاً لا نظير له، في مجال الفكر القومي، والوعي الثقافي.

في بدايات القرن الحالي شهدت المنطقة تراجعاً واضحاً لكل ما يمسّ التحالف العربي والمشاريع القومية، حتّى المشاريع الوطنية فيما يخص كل دولةٍ، وانتشرت أكثر التنظيمات المسلحة الإرهابية التكفيرية المتطرفة في أكثر من مكان، وأصبحت هي سيدة الموقف.

وحصل خلل فاضح في المجال الفكري والمالي والاقتصادي والتربوي، نتج عنه اضطرابات تعذّر على الجميع التكهن بمدّتها كما نتائجها. وانتشرت سياسة وثقافة المجتمع المستهلك بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى.

كثرت المحاولات للتخلّص من هذا الواقع والتخفيف من آثاره، ومحاولات العودة إلى الماضي من عاداتٍ اجتماعية وتقاليد التي يرى فيها الوعي الثقافي نفسه من خلال الملمح الأساسي الدال عليه وعلى هويته، بعيداً عن إبتكار منظومة جديدة من القيم تتأقلم مع واقع الحياة الحالية.

آخذين بعين الإعتبار أن الوعي الثقافي العربي انتبه الآن لأهمية الدراسات التي تنظر للمستقبل بشكلٍ علمي، ولكن بشكلٍ خجول، ويُحذّر من مخاطر الواقع بالنسبة للمستقبل، ويؤكّد بأن هناك سيناريوهات متوقعة لقضايا الأمّة وواقعها.

لا بُدّ لنا إلاّ أن نؤكّد بأن غنى الثقافة عند العرب لا يكفي بمفرده لضمان الاستمرارية والسمو بالوعي الثقافي، ما لم يرافقه وعلى الدوام وعي متجد وعلى مختلف المستويات، قادراً على حماية الهوية الثقافية والهوية الحضارية للمجتمع العربي وحمايتها من الانهيار والتلاشي والتآكل في ثقافات أخرى لها مصالحها في الإقليم.

الجميع يشهد في بعض الدول العربية مبادرات ثقافية من خلال مهرجانات أدبية أو فنية أو ثقافية، إلاّ أن الوعي الثقافي العربي يُعاني كثيراً من القصور وعدم الإهتمام، لنأخذ القراءة على سبيل المثال وليس الحصر، فإنّنا نلاحظ تراجعاً كبيراً في هذا المجال وخاصّة عند فئة الشباب، كما نلاحظ إقبالاً كبيراً من نفس الشريحة " الشباب " على مواقع التواصل وعلى محتوياتها السطحية والضبابية.

ومن ناحية أخرى نلاحظ أيضاً تراجع المستوى التعليمي والمناهج المدرسية، والتي تفتقد بناء عقلٍ مُبدع، وبناء مستوى ثقافي وتعليمي وتربوي لدى الطلبة.

مع ملاحظة أن الدعم المادي والمعنوي للفاعلين والمؤسسات الثقافية والقائمين عليها، وعلى مختلف مدارسهم إن كانوا فنانين أو مؤسسات أدبية، أو مؤسسات تعليمية، أو جهات إعلامية، وبنفس الوقت غياب دور ومسؤولية الدولة في مراقبة ودعم هذه المؤسسات وهذه الجهات التي هي بالأساس تعمل تحت غطاء الدولة.

لا بُدّ من التنويه بأن العديد من المجتمعات العربية يسيطر عليها بشكلٍ أو بآخر خطاب ديني متطرف ومتشدد، وخطاب سياسي قمعي، وهذا من شأنه أن يُحاصر أي وعي ثقافي ويفرغه من محتواه أو مضمونه، ويضعه في قوالب ضيّقة ومشوّهة، وهذا بحد ذاته أن يكسب المجتمع المزيد من الإنغلاق والتطرف ورفض كل ما يُخالف السلطة الدينية أو السلطة السياسية.

من خلال المتابعة نُدرك بأن هناك محاولات للنهوض بالوعي الثقافي في مجتمعاتنا العربية، من قِبل جهات شبه رسمية وحكماء ومفكرين، ولكن كل هذه المحاولات تصطدم بشكلٍ مباشر ومفصلي بعدةِ تحديات تحجب هذه المحاولات التي تهدف إلى تنمية الوعي الثقافي كواقعٍ يُعاني من الانغلاق والتشتت.

وإذا تناولنا أبرز هذه التحديات التي تواجه الوعي الثقافي العربي، نرى أن المؤسسات التعليمية في الإقليم تعتمد بشكلٍ مباشر على خاصيّة التلقين، بعيداً عن التفكير والنقد والحوار، كل الدول المتقدمة تستخدم الأساليب التعليمية المتطورة، التي تسمح للطالب بالوصول إلى المعلومة بشكلٍ مُبسّط ورائع، وتجعل منه مُبدعاً في مجاله.

كما أن غياب الإعلام الهادف عن الساحة العربية، حال كونه رهينة آراء مراكز القرار في الأنظمة العربية، وفق مصالحهم ومكاسبهم وأجنداتهم المعمول بها، وهذا ممّا يُغيّب الوعي الثقافي الجاد عن المجتمع وكل مواطن.

إضافة إلى ثقافة تجّار المواقف وترويج الثقافة الإستهلاكية التي من شأنها نشر وترويج سلوكياتٍ مستوردة بعيداً عن قيم وثوابت المجتمع، كي تسود الثقافة المهترئة والضبابية.

آخذين بعين الإعتبار الفجوة الثقافية المتباينة بين فئة الشباب وكبار السن، حيث ينظر الشباب إلى ثقافة كبار السن بأنها لا تُمثّلهم، وبنفس الوقت ينظر كبار السن إلى ثقافة الشباب بأنها مُريبة، وهذا من شأنه أن يخلق خللاً ثقافياً في أطياف المجتمع الواحد.

إنّ مسألة الوعي الثقافي العربي هي ليست عملية مُستوردة أو مُسبقة الصنع، كما أنها ليست ترفاً، بل هي ضرورة ملحّة بالنسبة للوطن وللإنسان وللأمّة.

لذا لا بُدّ من وضع برامج جادةٍ لإصلاحِ المؤسسات التعليمية وبتر الفساد فيها، لتصبح هذه المؤسسات منارة للثقافة والفنون والتربية والعلوم، ومركزاً جاداً لتنمية كل المواهب والمهارات والإبداع في مجال التفكير الحر والنقد البنّاء.

كما لا بُدّ من بذلِ كلّ الجهود المثمرة بهدفِ تمويلِ كلّ أشكال الفنون والمكتبات والفنون لتأخذ دورها كاملاً، وتشجيع كلّ مجالات الإنتاج الإبداعي لدى الشباب بشكلٍ خاص.

والارتقاء بالمؤسسات الإعلامية والثقافية وبتر تبعيتها العمياء للسلطة، لتكون فعلاً متخصّصة في كل مجالات الوعي الثقافي وتنميته، وتنتج المحتوى الجذّاب الملتزم والهادف الذي يُخاطب كلّ مُكوّنات وأطياف المجتمع.

وبالتالي سينتج عن هكذا مسار ولادة ثقافة الحوار بين كلّ أفراد المجتمع، وكذلك الحوار الخارجي مع الثقافات الأخرى، بهدفِ بناء ركيزةٍ أساسية لبناء ثقافة الحوار والتسامح والتعايش والانفتاح الإيجابي مع الآخر وعلى الآخر.

ومن الضرورة بمكان التوظيف الإيجابي والفعلي للأدوات الرقمية لنشر الثقافة بشكلٍ شاملٍ وواسع ليكون سهل الوصول لكافة أفراد المجتمع، وبشكلٍ خاص فئة الشباب.

إنّ الوعي الثقافي هو بمثابة خط المواجهة الفعلية، وخط الدفاع الأول والأساسي بهدفِ الحفاظ على الهوية الوطنية، وهو البوصلة والضمانة الأساسية والحقيقية لكل خطوةٍ تنموية أو حضارية، فيما إذا كانت الدول العربية أو المجتمعات العربية تتطلّع وبكل طموح للعب دورٍ حقيقي وفاعل في هذا العالم المتغير على الدوام وفق مصالحه ورؤيته.

لذا لا بُدّ من أن نخطو الخطوة الأولى التي تبدأ بعملية بناء الإنسان الواعي ثقافياً، وتحرير العقل العربي، والفكر العربي، الذي يُدرك تاريخه ويتواصل مع حاضره ويطمح لمستقبله الأفضل.

لا بُدّ من مساءلة النفس البشرية، ومراجعة موروثاتها، وتحليل أبعادها، وامتلاك مهارات التفكير السامية، لتتوفّر لدينا المرونة بالتفكير، وتجاوز حالة التطرف والتشدد الفكري التي تحيل دون تطور الإنسان وفكره الإنساني.

التحدّي أمامنا الآن، فيما إذا كُنّا نستطيع تحويل تراثنا إلى قوة فكرية ثقافية تملك القدرة على المنافسة بكلِ مهارةٍ وإبداع، حينها فقط نكون قد ملكنا مفاتيح مستقبلنا المنشود.

***

د. أنور ساطع أصفري

في أفريقيا جنوب الصحراء.. قراءة تحليلية في البيان الختامي للمؤتمر الدولي للغة العربية بالكاميرون

مدخل: يتشكل المشهد اللغوي في القارة الإفريقية كفضاء سيميائي معقد، تتداخل فيه الأبعاد الهوياتية بالرهانات الجيوسياسية. وفي هذا السياق، لم تعد اللغة العربية في إفريقيا مجرد وعاء للطقوس، بل تحولت إلى ركيزة أساسية في مشروع النهوض الحضاري للقارة.

يأتي هذا البحث ليتناول بالتحليل المنهجي مخرجات المؤتمر الدولي الأول للغة العربية بجامعة في الكاميرون (ديسمبر 2025)، بوصفه لحظة فارقة دشنت انتقال اللغة العربية من "الحيز الوجداني" إلى "المجال الاستراتيجي".

إن الوثيقة الختامية لهذا المؤتمر لا تقف عند حدود التوصيات الأكاديمية التقليدية، بل تمثل "مانيفستو حضاري" يسعى لفك الارتباط بين العربية والارتهان التاريخي للغات الاستعمارية، مكرسةً مفهوم "العربية التنموية". ومن هنا، تسعى هذه الورقة إلى تفكيك المسارات التي رسمها المؤتمر، بدءاً من رقمنة المخطوطات (الأدب العجمي) وصولاً إلى مأسسة اللغة في النظم التعليمية، وذلك لاستشراف دور العربية كأداة للدبلوماسية الثقافية والتكامل الإفريقي في أفق العقد القادم."

أساسيات البحث

لإضفاء الصبغة العلمية على ورقتك، يجب إدراج العناصر التالية عقب المقدمة مباشرة:

1. مشكلة البحث

تكمن المشكلة في وجود فجوة بين القيمة التاريخية للغة العربية في إفريقيا جنوب الصحراء وبين واقعها المؤسسي والقانوني المعاصر. ويسعى البحث للإجابة على التساؤل الرئيس: كيف يمكن لمخرجات مؤتمر نغاوندري 2025 أن تشكل خارطة طريق لتمكين اللغة العربية مؤسساتياً وتنموياً في القارة؟

2. أهداف البحث

تأصيل القيمة: تبيان التحول النوعي في وظيفة اللغة العربية من "لغة تعبد" إلى "لغة تنمية واقتصاد معرفي".

تحليل المسارات: استعراض الآليات العملية (أكاديمياً وسياسياً) لتنفيذ توصيات المؤتمر.

استشراف المستقبل: وضع تصور لدور الشراكات الدولية في تعزيز حضور العربية في الفضاء الإفريقي.

3. منهجية البحث

المنهج التحليل الوصفي: لتحليل بنية البيان الختامي للمؤتمر وتفكيك مضامينه.

المنهج الاستشرافي: لمحاولة قراءة مآلات تطبيق هذه التوصيات على المدى المتوسط والبعيد.

4. أهمية البحث

تستمد الدراسة أهميتها من كونها تواكب حدثاً علمياً آنياً (مؤتمر 2025)، وتقدم إطاراً نظرياً لصناع القرار في المؤسسات التعليمية والدبلوماسية لإعادة دمج العربية في النسيج الرسمي للدول الإفريقية.

المحور الأول: التعليق العلمي (أنسنة البحث العلمي وإحياء التراث العجمي).

يمثل "إعلان المؤتمر الدولي للغة العربية بالكاميرون" خارطة طريق عملية لتمكين اللغة العربية كرافعة للتنمية والأمن السلمي في القارة السمراء، مما يجعل جامعة نغاوندري قطباً أكاديمياً ريادياً في قيادة هذا التحول الحضاري.

وثيقة استراتيجية تؤسس لمرحلة جديدة من "الدبلوماسية الثقافية واللغوية" في القارة الإفريقية:

تُعد مخرجات مؤتمر جامعة نغاوندري بالكاميرون (ديسمبر 2025) وثيقة استراتيجية تؤسس لمرحلة جديدة من "الدبلوماسية الثقافية واللغوية" في القارة الإفريقية. فيما يلي تعليق علمي وقراءة تحليلية استشرافية لهذا البيان:

أولًا: التعليق العلمي (القيمة الأكاديمية والحضارية)

- يأتي هذا البيان ليعيد الاعتبار للغة العربية ليس بوصفها "لغة وافدة"، بل كجزء أصيل من النسيج الهوياتي لإفريقيا جنوب الصحراء.

- التحول من "اللغة التعبدية" إلى "اللغة التنموية": ركز البيان على ربط العربية بالتنمية المستدامة والاقتصاد المعرفي، وهو انتقال ذكي يخرج اللغة من حيز الدراسات اللاهوتية أو التاريخية الضيقة إلى رحاب العلوم الاجتماعية والاقتصادية.

- أنسنة البحث العلمي: دعوة المؤتمر إلى "التجرد المعرفي" وتجنب القراءات الطائفية تعكس وعيًا عميقًا بالتحديات السوسيولوجية في إفريقيا، حيث يسعى المؤتمر لتقديم العربية كأداة "سلم اجتماعي" وتواصل حضاري عابر للاختلافات العرقية والدينية.

- السيادة المعرفية: الحث على جمع وتحقيق المخطوطات الإفريقية المكتوبة بالعربية (العجمي وغيره) يمثل خطوة نحو استعادة "السيادة المعرفية" لإفريقيا، وتصحيح السردية التاريخية حول إسهام القارة في الحضارة الإنسانية.

ثانياً: القراءة التحليلية الاستشرافية:

بناءً على توصيات وقرارات مؤتمر "نغاوندري 2025"، يمكن استشراف المسارات التالية:

1. مؤسسة التعاون "الأكاديمي-الإفريقي" (الشبكة العلمية):

يُتوقع أن يؤدي قرار إنشاء "شبكة علمية إفريقية" إلى كسر العزلة بين الباحثين في دول الساحل وغرب إفريقيا مع نظرائهم في شمال إفريقيا والعالم العربي. استشرافياً، قد تتحول هذه الشبكة إلى "مرصد إفريقي للغة العربية" يشرف على معايير الجودة في المناهج التعليمية وتوحيد المصطلحات.

2. التحول الرقمي والتراث المخطوط:

- التوصية بجمع التراث العلمي ستدفع نحو مشاريع "الرقمنة الشاملة". نتوقع في السنوات الخمس القادمة ظهور منصات رقمية كبرى.

- تتيح المخطوطات العربية الإفريقية للباحثين حول العالم، مما سيفجر ثورة في "الدراسات البينية".

3. تعريب "التنمية" والوساطة الثقافية:

من خلال التأكيد على دور العربية في الإعلام والاقتصاد، يتجه الاستشراف نحو ظهور جيل من المهنيين الأفارقة (دبلوماسيين، تقنيين، ورجال أعمال) يستخدمون العربية كـ "لغة عمل".

4. التعددية اللغوية كصمام أمان:

القراءة التحليلية تشير إلى أن المؤتمر يتبنى نموذج "التعدد اللغوي المتناغم". العربية هنا لا تصادم اللغات المحلية، بل تتكامل معها (مثل السواحيلية، الهوسا، والولوف). هذا التوجه سيقلل من حدة الصراعات الهوياتية ويخلق فضاءً ثقافياً مشتركاً يدعم "ثقافة التعايش" التي دعا إليها البيان.

ثالثًا: متطلبات التنفيذ (خارطة طريق)

لتحويل هذه التوصيات إلى واقع ملموس، يتطلب الأمر:

- تفعيل "اللجنة العلمية للمتابعة": لضمان عدم بقاء التوصيات حبيسة الأدراج، وربطها بجداول زمنية وميزانيات محددة.

- الشراكات الدولية: الانفتاح على الجامعات العربية المرموقة لتمويل كراسي علمية متخصصة في "الأدب العربي الإفريقي" بجامعة نغاوندري.

- الاستثمار في الترجمة: إطلاق حركة ترجمة واسعة من العربية إلى اللغات المحلية الإفريقية وبالعكس، لتعزيز التفاعل الثقافي الحي.

المحور الثاني: القراءة الاستشرافية

القرارات الختامية:

أولاً: التعليق العلمي (القيمة الأكاديمية والمؤسسية)

- تجاوزت قرارات مؤتمر نغاوندري 2025 الإطار التقليدي للمؤتمرات العلمية التي تنتهي بانتهاء جلساتها، لتنتقل إلى "مأسسة الفعل الثقافي العربي" في الكاميرون والمنطقة، ويتجلى ذلك في:

- الاستدامة الدورية: تحويل المؤتمر إلى "تقليد علمي دوري" ينفي صفة الموسمية عن الجهود الأكاديمية، ويضمن تراكم الخبرات البحثية بين الجامعات الإفريقية.

- المرجعية الوثائقية: اعتماد "بيان نغاوندري" كمرجعية علمية يحول مخرجات المؤتمر من مجرد توصيات إلى "وثيقة سياسات لغوية" يمكن الاحتجاج بها في المحافل الأكاديمية والدولية.

- آلية التنفيذ: تشكيل لجنة علمية للمتابعة يعكس إدراكاً عميقاً بضرورة الربط بين البحث العلمي والواقع التطبيقي، لضمان عدم بقاء التوصيات حبيسة الأدراج.

ثانياً: القراءة التحليلية الاستشرافية (آفاق المستقبل)

تستشرف هذه القرارات مستقبلاً واعداً للغة العربية في القارة الإفريقية، يمكن قراءته عبر المسارات التالية:

1. مسار القيادة الأكاديمية (التناوب الجامعي):

إن إقرار مبدأ "التناوب مع جامعات إفريقية أخرى" يستشرف تشكيل "شبكة أكاديمية إفريقية للغة العربية". هذا التوجه سيؤدي إلى تذويب العزلة بين الأقسام العلمية في دول الجوار (مثل تشاد، نيجيريا، والنيجر)، مما يعزز من مكانة جامعة نغاوندري كقطب إشعاع حضاري في عمق القارة.

2. مسار التمكين والشرعنة (الرفع للجهات الرسمية):

استشرافياً، تهدف هذه الخطوة إلى إدماج اللغة العربية بشكل أعمق في المنظومات التعليمية والسياسية بصفة العربية "لغة تنمية وتعايش" لا لغة طقوس دينية فحسب. هذا سيفتح الباب مستقبلاً أمام اعترافات رسمية أوسع بالشهادات الجامعية العربية وتوظيف خريجيها في سلك الدبلوماسية والإدارة.

3. مسار الهوية والوعي المجتمعي (الدور الإعلامي):

التركيز على وسائل الإعلام يشير إلى استراتيجية "تطبيع" وجود اللغة العربية في الفضاء العام الإفريقي. التوقع المستقبلي هنا هو كسر الصورة النمطية للعربية، وتقديمها كأداة للتواصل الحضاري والبحث العلمي الحديث، مما يزيد من إقبال الأجيال الشابة (غير الناطقة بها أصلاً) على تعلمها.

4. مسار السلم الاجتماعي (ثقافة التعايش):

ربط اللغة العربية بقيم "التعايش السلمي والتنمية" في البيان الختامي هو قراءة استباقية للتحديات الأمنية في منطقة الساحل وجنوب الصحراء.

إن العربية هنا تُطرح كـ "لغة وسيطة" قادرة على تعزيز الحوار وتفنيد خطابات الغلو، مما يجعل استقرار المنطقة مرتبطة جزئياً بتمكين لغة الحوار والحضارة.

***

د. خليل حمد الأزهري - مدينة ماروا-الكاميرون

 

(إنْ كُنَّا صادقين!)

في لقاءٍ حواريٍّ أجراه معي المذيع (الأستاذ ماجد العمري)- في برنامج «الثقافة اليوم»، بُثَّ مساء الخميس 26/ 2/ 1436هـ، عبر (القناة الثقافيَّة)، بمناسبة (اليوم العالمي للُّغة العربيَّة)- كنتُ أرى أنَّ المناسبة قد باتت أشبه ببكائيَّةٍ تأبينيَّةٍ للعَرَبيَّة؛ حتى إذا انفضَّ السامر، لم ينتج له من تأثيرٍ عمليٍّ للنهوض بسيِّدة اللُّغات. وتمنَّيتُ يومها تحويل (مركز الملك عبدالله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللُّغة العَرَبيَّة) إلى مجمعٍ للُّغة العَرَبيَّة، طال انتظاره. وهو ما تحقَّق بعد ستِّ سنوات، بتأسيس (مجمع الملك سلمان العالمي للُّغة العَرَبيَّة)، في 13 محرم 1442هـ. كأنَّما لأُعيد النظر في الزعم بأنَّ (اليوم العالمي للُّغة العَرَبيَّة)، لا يعدو تأبينًا للعَرَبيَّة، لا يُلمَس له من تأثيرٍ عملي.

غير أنَّ إنشاء المؤسَّسات اللُّغويَّة لا يُغني عن تفعيل قراراتها في الحياة الواقعيَّة العامَّة، ولا عن بثِّ الوعي، وفرض مقتضياته. وإلَّا فكم من المجامع والمراكز أقيمت في دولٍ عَرَبيَّةٍ، سبقتنا في هذا المضمار، وما برحت العَرَبيَّة فيها في انحدارٍ متواترٍ مُريع، إذا قارنت بين الحال فيها قبل عقودٍ فقط وحالها اليوم، أدركتَ هولَ الهاوية.

وإذا كانت للُّغة العَرَبيَّة قداستها، بوصفها لُغة «القرآن الكريم»، فإنَّ مفهوم قداسة اللُّغة ليس بالضرورة دِينيًّا فحسب، بل هو قوميٌّ وحضاريٌّ أيضًا. والأُمَّة التي لم تَعُد تشعر بهذا الشعور إزاء لُغتها أُمَّةٌ ميتة، أو قد فقدت عُذريَّتها، وشَرَفَها، واحترام وجودها.  نعم، هناك من يُروِّج لمقولةٍ فحواها: أنَّ مكانة اللُّغة رهينة مكانة أهلها، وأنَّ انحطاط العَرَب وراء انحطاط العَرَبيَّة؛ وإذن، فإنَّ حال العَرَبيَّة اليوم حالٌ طبيعيَّة، لا ينبغي أن نشكو منها، ولا أن ندعو إلى تغييرها؛ ما دامت لن تتغيَّر أصلًا حتى يُغَيِّر العَرَب ما بأنفسهم من تخلُّفٍ وتَبَعيَّة. ومن ثَمَّ فإنَّ علينا- بحسب رأي هؤلاء المرجئة- انتظار أن يُصبح العَرَب دولةً عُظمَى، ويومئذٍ ستُصبح لغتهم لغةً عظمى كذلك، هكذا تلقائيًّا. وهو ظاهر حقٍّ، ربما أريد به باطلٌ باطن، أو انطوى على ذلك الباطل، عن قصدٍ أو عن غفلة. ذلك أن جدليَّة اللُّغة والحضارة هي كجدليَّة البيضة والدجاجة، من العُقم البيزنطي في الجدال القولُ بأنَّ إحداهما أهمُّ من الأخرى، أو أسبق منها. من حيث إن ثَمَّة تفاعلًا بنيويًّا عضويًّا بين اللُّغة والحضارة؛ فلا لُغة ناهضة بلا حضارةٍ ناهضة، ولا حضارة ناهضة بلا لُغةٍ ناهضة. على أنَّه إنْ كان للمفاضلة بين هذين الركنين في البناء الاجتماعي من وجه، فسنجد في اللسانيَّات ما يؤيِّد أوَّليَّة اللُّغة على الفِكرة. بل القول: إنَّه لا فكرة بغير كلمة، وأنَّ الفكرة تتأثَّر تشكُّلًا بطبيعة الكلمة. ومن هنا لم يكن عبثًا أن يهتمَّ الوعيُ الحضاريُّ باللُّغة أوَّلًا، وإنْ كانت المعطيات الصناعيَّة، والأسباب التقنيَّة، والروافع الحضاريَّة، والمكانة العالميَّة ما تزال في الحضيض. لأجل ذلك أحيت دولةٌ كالدولة الصهيونيَّة، على سبيل المثال، اللغةَ العبريَّةَ، الميِّتة منذ آلاف السنين.. بل من المشكوك فيه أنها كانت لغةً حيَّةً أو سائدةً في المجتمع العبراني أو اليهودي حتى قبل آلاف السنين تلك. أحيتها الصهيونيَّةُ وفرضتها فرضًا داخلَ كيانها المحتل، ولم يُسعفها فلاسفتها اللغويُّون الكُثر- ككثرة صوت (الخاء) في الكلمات العبريَّة- بمثل ما يُسعفنا به بعض متحذلقي العُربان لإرجاء ذلك ريثما تصبح الدولة دولة عظمى! من حيث رأى العِبران- بخلاف العُربان- اللُّغةَ أساسًا أوَّليًّا في مشروعهم البنائي، أيديولوجيًّا وحضاريًّا.

وإذا كنَّا نتذرَّع في مواجهة ضعف اللُّغة العَرَبيَّة- المنكوبة بمَن يُفترض أنَّهم أولادها المعاصرون- مقارنة بغيرها في العالم المعاصر، قائلين إنَّ الحضارة الغربيَّة قد فرضت لُغاتها، ولا سيما الإنجليزيَّة والفرنسيَّة، بفعل التقنية والإعلام، فإنَّنا- نحن العَرَب في المقابل- لا نكاد نفعل شيئًا في خدمة العَرَبيَّة، سِوَى التغنِّي بالماضي، ورفع الشعارات الفارغة، التي يناقضها الواقع التطبيقي في تعليمنا وإعلامنا، فضلًا عن شوارعنا وأسواقنا وحياتنا العامَّة والخاصَّة، أفرادًا وجماعات ودُوَلًا. حتى إنَّ السياحة، التي يُفترض أنها فرصة للمثاقفة الإنسانيَّة، وتعريف الآخَر بما لدينا، إنَّما نستقطب من خلالها الآخَر إلى ديارنا لنُقَدِّم إليه ثقافته هو! وبلغته هو! وكأنَّنا لا نعدو خدمًا لثقافات الآخَرين ولُغاتهم! إلى درجة أنَّنا نُسمِّي للسائح الأماكن في بلداننا، والفعاليَّات المقامة، والمنتجات المختلفة بتسمياته هو! فأيَّة خيبة حضاريَّة مرَّت بالعَرَب كخيبتهم المعاصرة. لقد كان العَرَبيُّ الجاهليُّ- بفطرته- أكثر وعيًّا حضاريًّا، وبمراحل ضوئيَّة، من العَرَبيِّ المعاصر؛ فلم يأخذ من لغات غيره إلَّا لضرورةٍ وبتعريب. والسبب أنَّ العَرَبيَّ القديم كان إنسانًا طبيعيًّا، حُرًّا، مستقِلًّا ثقافيًّا، يستشعر انتماءه القومي، وتحدِّي القوميَّات المحيطة به، على حين أنَّ العَرَبيَّ المعاصر إنَّما يقتات على فتات الآخَر، ولا يستشعر خلال ذلك إلَّا بدونيَّته إزاء القُوَى الغالبة، وتبعيَّته الوجوديَّة والأبديَّة لذلك الأزرق العينَين؛ غاية طموحه في الحياة أن يرضى عنه، ويعترف بحضوره معه على الكوكب الأرضي، وبأيَّة كيفيَّة! لماذا؟ لأنَّ العربيَّ المعاصر بات مستلَبًا، وكائنًا مدجَّنًا، مستعمَرًا، عسكريًّا، وحضاريًّا، وثقافيًّا، ولُغويًّا، وقيميًّا. رضخ للتوجيه العتيق لجَدِّه (الحُطيئة):

دَعِ المكارِمَ، لا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِها

واقْعُدْ، فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الكاسِي!

-2-

حتى إذا التفتَّ إلى التعليم اللُّغوي وجدته من البؤس بحيث لا يعدو في أحسن أحواله وأرقاها ترديد السَّلَف عن الأسلف منهم. ولنضرب هنا مثالًا واحدًا نموذجيًّا من ذلك الباب العام في التوارث والترديد، وليكن من خلال تقليد (ابن هشام النحوي)، بترديده، واجتراره ما سلف، وشغفه بالإغراب، الذي لا ينكره لديه ولدى أضرابه إلَّا مكابر، أُشْرِب عِشق الموروث. ولقد تخطَّى هذا النموذج النحوي في الترديد الشواهد، والآراء، إلى اللُّغة والاصطلاح.  خذ مثالًا من جملة «سعيد كُرْز»، التي يكرِّرها في كتبه، في مواطن مختلفة، موروثًا عتيقًا عن (سيبويه، -180هـ)، صاحب «الكتاب»، أو راويه عن (الخليل).  وإنَّما يحمله على هذا، إضافة إلى ثقافة الترجيع عن السَّلف، إعجابه بمفردة (كُرْز) هذه.  وما زال النحويُّون يردِّدون هذا المثال إلى الآن، ويتنازعون في الإعراب من حوله، لأكثر من ألف سنة وقرنين.  وأذكر هنا كم شغلنا هذا (الكُرْز) الذي يمثِّل به النحويُّون، ونحن طلبة، ولاسيما في باب عطف البيان والبدل! كأنَّ العَرَبيَّة ضاقت بهم بما وسعت، فلم يجدوا عبر العصور كلمةً أخرى.  كنا نتساءل: أهذه كلمة عربية أصلًا؟ أم أعجميَّة؟  ومَن الأستاذ (سعيد كُرْز)، بسلامته، الذي شغلَ حيِّزًا من كلام النُّحاة، منذ «إمامهم الأكبر» حتى اليوم؟ وكان الأساتيذ لا يحيرون جوابًا، ومع ذلك يظلُّون يُردِّدون ويُردِّدون، كما يُرَدِّد العابد طقسًا دينيًّا، فَهِم أم لم يَفهم. والكُرْز: خُرْج الراعي. فما الذي منعهم أن يقولوا: «سعيد خُرْج»، إنْ كان لا بُدَّ من هذا المعنى؟!  لا شيء سِوَى التقليد الأعمى. ونحن نكاد لا نجد لمفردة (كُرْز) ذِكرًا في الشِّعر العَرَبي قبل الإسلام، إلَّا في قول (تأبط شرًّا):

وَجَدتُ ابنَ كُرْزٍ تَستَهِلُّ يَمينُهُ

ويُطلِقُ أَغلالَ الأَسيرِ المُكَبَّلِ

أو قول (هند بنت حذيفة الفزاريَّة):

لَقَد نالَ كُرْزٌ يَومَ حاجرَ وَقعَةً

كَفَتْ قَومَهُ أُخرَى اللَّيالي الغَوابِرِ

هذا نموذج. وقِسْ عليه ما شئت في تعليمنا اللُّغوي الجامعي أو ما قبل الجامعي. ذاك لأنَّ ديدن النُّحاة: الإغراب، والاجترار، مع هوسٍ بالتماس ما يُضفي هالة من الغموض على مادَّتهم، بأيَّة صُورة من الصُّوَر، بكُرْز وبغير كُرْز، وهو ممَّا يدهش له المرء في سلوكهم المتوارث. والنتيجة معروفة: ماثلة في نظرة الناس إلى العَرَبيَّة وعلومها، كافيك عن الإقبال عليها، أو حبِّها، ولا تَسَلْ عن تعلُّمها واستعمالها.

-3-

ثمَّ يأتي شأن الكتابة والإملاء، ويأتي إهمال ضبط الكلمات، ضِغثًا على إبَّالة. من آيات هذا، مثلًا، تلك الياءات المِصْريَّة، التي تُكتَب في كوكب الكنانة، حفظه الله، ألفًا مقصورة! ولا عزاء للقارئ العَرَبي ولا للُغته! حتى إذا جاء منهم من يُعجِمها، خلط بين الياء والألف، كما يخلط أرباب نطق الذال زايًا بين الحرفَين، فإذا هم ينطقون الزاي ذالًا.(1) مثال ذلك إعجام (أحمد محمَّد شاكر) و(عبدالسَّلام محمَّد هارون) الياء في «مفضَّليات» (الضَّبي)، وذاك حَسَن منهما، مع أنه نادرٌ أن يصدر عن مطبعةٍ مِصْريَّة نصٌّ فيه ياء معجمة. فلعلَّ طبعة (دار المعارف بالقاهرة، 1964) للمفضَّليات من نوادر المطبوعات المِصْريَّة التي تُنقَط فيها الياء! ويبدو أنَّ المحقِّقَين الكبيرين قد عانيا للتمرُّد على ذلك الواقع المرسَّخ في الإملاء المِصْريِّ؛ بدليل أنهما أحيانًا كانا يُعجِمان أيضًا الألف المقصورة، بعد أن تشابهت عليهم الحروف!  فتجد بيت (عَوف بن الأَحْوَص) هكذا:

مُلُوكٌ [علي] أَنَّ التَّحِيَّةَ سُوقَةٌ

أَلاياهُمُ يُوْفَـى بِها ونُذُورُهـا(2)

وقد صارت «على»: «علي»، (بالياء)!  أو في قصيدة أخرىٰ، حيث تقرأ:

كُفَّ خَدَّاهُ [علي] دِيبَاجَةٍ

و[على] المتْنَيْنِ لَوْنٌ قَدْ سَطَعْ(3)

وهذا مثال أيضًا، كمثال (كُرْز) السابق في عالم النحاة. هو بدَوره من شواهد المكابرة، والتنطُّع، والتمسُّك بما وُجِد عليه الآباء، من صائبٍ وخاطئ. وإلَّا لو كُتِب الحرفان هنا برسمَين مختلفَين، يميزان بين الألف والياء، كما هو الأصل، وكما يكتب العَرَب في سائر الأقطار العَرَبيَّة، لما وقعت الواقعة، ولا أشكلت كتابة مثل هذه الكلمات في كتاب «المفضَّليات»، ومن محقِّقَين عَبْلَين!

وليست من غايتنا الاستقصاء، ولكن لا تنس، ختامًا، الخلط الفاشي بين الألف الممدودة والألف المطويَّة، أو المقصورة. ولستُ أدري ما سِرُّ غرام المعاصرين بالألف المدودة؟ حتى إنَّ بعض النساء تكتب اسمها: (نورا)، وهي (نورة)! أو (غادا)، وهي (غادة)! أتلك محاكاة لمنطوق لغات أخرى؟! ثمَّ خذ، مثالًا، من غير أسماء النساء، من أسماء أحياء (الرِّياض)، وهو ما يُسمَّى (حي المَلْقَا).. فما معناه؟! وإنَّما هو (المَلْقَى)، بالألف المقصورة، لكنَّه الغرام الذي أشرنا إليه بالألف الممدودة، وكأنَّ الذي يكتب لنا الأسماء (الخواجة كرياكو)!  إذ يبدو أنَّ هذا المكان كان مَلْقَى أودية، أي ملتقاها. فالمَلْقَى، في اللُّغة، ملتقَى شيئين، عمومًا. جاء في اللُّغة، مثلًا: (المَلْقَى): ملتقَى الوعول من الجبال ومكان إقامتها، تستعصم به من الصيَّاد. وقيل: المَلْقَى: أعلى الجبل، والجمع الملاقي.  قال الشاعر، في هذا المعنَى:

ونِعْمَ مَلْقَى الرِّجالِ مَنْزِلُهُمْ

ونِعْمَ مَأْوَى الضَّرِيكِ في الغَبَسِ(4)

**

وهكذا حيثما وليتَ وجهك وجدت العَرَبيَّة التي يُشوِّهها مَن يُفترض أنهم أولادها ويُعوِّقوها، بدءًا من النقطة فالحرف، وصولًا إلى الكلمات فالجُمَل.

فما جدوَى الاحتفاء باليوم العالمي للُّغة العَرَبيَّة، الذي نجترُّه كلَّ عامٍ منذ سنين عددًا، ما لم يتمخَّض عن مراجعاتٍ جادَّة، في التعليم والإعلام والحياة الثقافيَّة والعامَّة، لمحاولة إصلاح ما أفسدته الدهور وأهلُها من سَويَّة لُغتنا العَرَبيَّة المجيدة، إنْ كنَّا صادقين؟!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.....................

(1)  لهذا تجد كلمة «جازع» قد صارت «جاذع»، في ديوان (أبي تمَّام، بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق: محمَّد عبده عزَّام، (القاهرة: دار المعارف، 1983)، 4: 39/ 8)، في بيته:

أَلَّا يُعَزَّى جَازِعٌ بِحَمِيمهِ

حتَّى يُعزَّى أوَّلًا بِعَزائِهِ

أمَّا لماذا لم تُقلَب الزاي ذالًا في «يُعزَّى بِعَزائِهِ»؛ فذلك لأنَّ الخلط لا يقع لدَى هؤلاء في جميع الكلمات الزائيَّة، ولكن في بعضها؛ فترى أحدهم يُخرِج لسانه للنُّطق بالذال، توقِّيًا لمغبَّة الوقوع في الخطأ اللَّهجي. ومثل هذا يقع لدينا في دول (الجزيرة العَرَبيَّة) و(الخليج العَرَبي) و(العراق) في الخلط بين نُطق الضاد والظاء.

(2)  الضبِّي، المفضَّل، (1979)، المفضَّليات، تحقيق وشرح: أحمد محمَّد شاكر وعبد السلام محمَّد هارون، (القاهرة: دار المعارف)، 178/ 14.

(3)  م.ن، 196/ 52.

(4)  يُنظَر، مثلًا: الزَّبيدي، تاج العروس، (لقي)، (غبس).

لم يعد البُعد اللغوي الذي نلاحظه بين جيل اليوم ولغته الأم مجرد ظاهرة لغوية بسيطة أو مسألة تعليمية يمكن حلها بتغيير مناهج أو إضافة دروس. فقد أصبح هذا الابتعاد ظاهرة اجتماعية وثقافية عميقة، تشكّل جزءًا من التحولات الكبرى التي يعيشها العالم المعاصر. وفي قلب هذه الظاهرة تقف اللغة العربية، التي كانت يوماً العمود الفقري للهوية والتعبير والمعرفة في المجتمعات العربية، فإذا بها تواجه الآن تحديًا وجوديًا حقيقيًا يتمثل في مشاركة لغات ولهجات وأساليب تواصل جديدة لها في الفضاء العام. والسؤال الذي صار يفرض نفسه على كل باحث ومربي ومثقف هو: لماذا يبتعد جيل اليوم عن لغته الأم؟ وهل هذا الابتعاد هو نتيجة تقصير، أم أنه تحوّل طبيعي في سياق سوسيولوجي جديد لا يمكن تجاهله؟

لقد شهدت العقود الأخيرة سلسلة من التحولات الاجتماعية التي أعادت تشكيل علاقة الأجيال باللغة. فالعائلة العربية التي كانت تُعَد أول مدرسة لغوية للطفل تغيّر دورها تدريجيًا. لم تعد جلسات الأمسيات العائلية التي يتداول فيها أفراد الأسرة الحكايات والأمثال والتعابير الشعبية موجودة بالشكل الذي كانت عليه. حلّت الشاشات محلّ الوعي اللغوي المباشر، وحلّت المشاهد المصوّرة محل اللغة المنطوقة، وتقلّصت مساحة الحوار داخل البيت. هذا الفراغ اللغوي العائلي انعكس بشكل مباشر على لغة الأجيال الجديدة، التي لم تعد تتلقى المدخلات اللغوية الغنية التي كانت سمة البيئات العربية التقليدية.

ثم جاءت التحولات المدرسية لتضيف عنصرًا جديدًا إلى المشهد. فالتعليم العربي المعاصر يعاني من ازدواجية لغوية واضحة بين لغات التدريس ولغة الهوية. ففي العديد من البلدان العربية، يتم تدريس العلوم والرياضيات والبرمجة بلغات أجنبية، غالبًا الإنجليزية أو الفرنسية. وهذا يعني أن الطفل يتعلم التفكير العلمي بلغة، والتعبير العاطفي بلغة أخرى، والتواصل الاجتماعي بلغة ثالثة. هذه الازدواجية لا تُنتج تراجعًا لغويًا فحسب، بل تُنتج انقسامًا ذهنيًا بين هويات لغوية متوازية لا تتكامل. ومع مرور الوقت، يصبح الطالب أكثر ميلاً إلى اللغة التي تمنحه فرصًا تعليمية ومهنية أكبر، وأقل ميلًا إلى لغته الأم التي يراها محصورة في الأدب أو المحادثة اليومية.

كما لا يمكن فصل ابتعاد جيل اليوم عن اللغة العربية عن التحول العالمي في وسائط التواصل. فقد أصبح جزء كبير من حياة الشباب يدور في فضاءات رقمية، من مواقع التواصل الاجتماعي إلى الفيديوهات القصيرة إلى الألعاب الإلكترونية. وهذه الفضاءات لا تعترف بالفصحى ولا تمنحها مكانًا مريحًا. إذ إن اللغة السريعة المختصرة، الممزوجة بالإنجليزية غالبًا، أصبحت هي اللغة السائدة في هذه العوالم. وهكذا نشأت لغة هجينة جديدة تبتعد كثيرًا عن العربية الفصيحة، وتميل إلى العاميات والتعابير الأجنبية والرموز. والمشكلة ليست في وجود هذه اللغة الهجينة في حد ذاتها، فكل مجتمع يصنع لغته الرقمية. المشكلة أن هذه اللغة أصبحت تشكّل النسيج اللغوي اليومي للجيل الجديد، بينما تراجعت الفصحى إلى المناسبات الرسمية أو الامتحانات أو البرامج الثقافية.

والواقع أن وسائل التواصل الاجتماعي قد غيرت وظيفة اللغة في المجتمع برمّته. لم تعد اللغة أداة للتفكير العميق والنقاش الطويل، بل أصبحت أداة سريعة للرد والتفاعل والمشاركة اللحظية. وكلما قلّ زمن التفاعل، قلّ منسوب العناية باللغة. فالمستخدم لا يفكر في قواعد الإملاء أو النحو أو البلاغة حين يكتب رسالة قصيرة أو تعليقًا سريعًا. وهكذا يتشكّل تدريجيًا جيل لا يرى في اللغة العربية أداة للعمق، بل عبئًا لا يتناسب مع إيقاع حياته.

ولا يمكن تجاهل العامل الاقتصادي في تفسير ابتعاد الجيل الجديد عن لغته. فالعالم اليوم لا يكافئ اللغة العربية في سوق العمل مثلما يكافئ الإنجليزية أو غيرها من اللغات العالمية. والشركات الكبرى، والمؤسسات التقنية، والجامعات الدولية، كلها تعتمد على لغات أجنبية في معاملاتها اليومية. لذلك ينمو لدى الشباب شعور بأن العربية لا تمنحهم مستقبلًا مهنيًا مشرقًا. وهذا الشعور، سواء كان صحيحًا أم مبالغًا فيه، ينعكس على موقفهم من اللغة نفسها. فاللغة التي لا تحقق مكاسب مهنية تبدو لهم أقل أهمية، مهما كان عمقها وجمالها وقيمتها الحضارية.

إضافة إلى ذلك، فإن التحولات السياسية والثقافية التي شهدها العالم العربي في العقود الأخيرة ضعّفت دور اللغة بوصفها مرجعًا جامعًا للهوية. ففي الماضي، كانت العربية رمزًا للوحدة الثقافية، وللتراث، وللقيم المشتركة. أما اليوم، فقد ازدادت الانقسامات الاجتماعية، وظهرت هويات فرعية جديدة، وازدادت التأثيرات الإعلامية الخارجية، وتراجعت الرموز المشتركة. ومع كل هذا التشتت، فقدت العربية جزءًا من مكانتها الرمزية التقليدية. وصار بعض الشباب يرى هويته الفردية والجماعية من منظور عالمي أكثر منه محليًا أو عربيًا، مما أدى إلى نوع من اللامبالاة تجاه الفصحى.

ومع ذلك، فإن الابتعاد عن العربية ليس ابتعادًا جذريًا أو نهائيًا، بل هو ابتعاد عن نمط معين من اللغة العربية، وليس عن اللغة بكاملها. فالشباب ما زالوا يستخدمون العاميات العربية بكثافة، ويبدعون فيها، ويطوّرون تراكيب جديدة وأساليب تعبيرية تتناسب مع ثقافتهم الرقمية. وهذا يعني أن اللغة ما زالت حيّة، لكنها تسير نحو اتجاهات جديدة ربما لا تُرضي علماء اللغة التقليديين. والظاهرة في هذا السياق ليست انقطاعًا، بل انتقالًا من لغة رسمية إلى لغة شعبية ثم إلى لغة رقمية. وكل انتقال لغوي ترافقه توترات بين القديم والجديد.

ومن منظور سوسيولوجيا اللغة، يمكن تفسير هذا الابتعاد بأنه نتيجة طبيعية لتحول المجتمع من مجتمع شفهي إلى مجتمع رقمي، ومن مجتمع يقدّس الكتاب إلى مجتمع يقدّس الصورة، ومن مجتمع يعتمد على التواصل المباشر إلى مجتمع تهيمن عليه الشاشات. وهذه التحولات لا يمكن إيقافها أو عكسها، بل يمكن فقط إدارتها وتوجيهها. فالمجتمع الذي يربط لغته بالماضي فقط يخسر المستقبل، بينما المجتمع الذي ينجح في تكييف لغته مع العصر يحتفظ بهويته ويضمن استمرار لغته الأم.

وقد يكون أخطر ما في هذه الظاهرة أن جيل اليوم لم يُمنح الفرصة الكاملة ليكتشف جمال لغته. فالكثير من المناهج التعليمية تزرع الخوف من الأخطاء، لا حب اللغة. والكثير من المعلمين يركزون على العقاب وليس على الإبداع. والكثير من المؤسسات الإعلامية تقدم محتوى فقيرًا لا يعكس جمال العربية وقدرتها التعبيرية. فإذا لم تتوفر بيئة لغوية جاذبة ومحفزة، فمن الطبيعي أن يبتعد الشباب ويبحثوا عن البديل الأسهل والأسرع.

ومع ذلك، فإن الأمل ما يزال قائمًا، بل وبارزًا في كثير من المبادرات الثقافية والتعليمية الحديثة. بدأنا نرى محتوى عربيًا يسارِع ليتخذ مكانه في المنصات الرقمية، وبدأت قنوات عربية تقدّم الفصحى بطريقة جديدة أكثر قربًا من الجيل الشاب. كما ظهرت مبادرات في الذكاء الاصطناعي تهدف إلى تعليم العربية عبر التطبيقات الذكية، ومشاريع لتجديد الخطاب اللغوي في المدارس، وحركات شبابية تدافع عن الفصحى باعتبارها لغة المستقبل وليست لغة الماضي فقط.

في النهاية، فإن ابتعاد جيل اليوم عن لغته الأم ليس نتيجة ضعف في اللغة، بل نتيجة ضعف في السياسات التي تدعم اللغة وتفتح لها أبواب المستقبل. وإذا كانت اللغة العربية قد صمدت أمام الغزوات العسكرية والفكرية والثقافية عبر التاريخ، فإنها قادرة أيضًا على الصمود أمام موجة العولمة والتقنية، بشرط أن نعيد تقديمها للجيل الجديد بطريقة تجعلها لغتهم الحقيقية لا لغة الامتحانات فقط. فالشباب لا يبتعدون عن العربية لأنها غير جميلة أو غير مناسبة للعصر، بل لأننا لم ننجح بعد في جعلها جزءًا طبيعيًا من حياتهم اليومية.

***

د. عصام البرّام

اُجبر ارسطو على الفرار من أثينا عندما اندلعت موجة من المشاعر المعادية لمقدونيا. بعد موت الاسكندر الأكبر عام 323ق.م، اكتسحت أثينا مشاعر ضد المقدونيين مما دفع ارسطو لمغادرة المدينة حفاظا على سلامته. كان فيليب الثاني ملك مقدونيا طلب من ارسطو تدريس ابنه الشاب الاسكندر في مدينة ميزا Mieza قرب بيلا Pella في مملكة مقدونيا اليونانية القديمة. وُلد ارسطو عام 384ق.م في ستاجيرا stagira شمال اليونان والتي كانت تحت سيطرة فيليب الثاني في مقدونيا عام 348ق.م. حالا ذاعت شهرة ارسطو اللامع في العالم اليوناني وبرز في النهاية كواحد من أشهر مفكري الفلسفة الغربية. في عمر 17 سنة التحق ارسطو بأكاديمية افلاطون حيث تلقّى التعليم على يد افلاطون في الاخلاق والعلوم والطب وحقول أخرى. مكث في أثينا لمدة عشرين سنة الى ان دُعي من جانب فيليب الثاني لتدريس ابنه الشاب الاسكندر عام 343ق.م

وبعد ان اصبح الاسكندر ملكا، عاد ارسطو الى أثينا واسس مدرسته (ليسيوم)Lyceumعام 335ق.م تحت حماية السلطة المقدونية التي سيطرت على اليونان بعد انتصار فيليب الثاني.

مدرسة الليسيوم وموت الاسكندر الأكبر

 لأكثر من عقد، درّس ارسطو وكتب وأشرف على البحوث في الليسيوم. طريقته المشائية في التدريس نالت شهرة في التحقيق التجريبي، حيث جمع ارسطو من حوله طلابا شاركوه شغفه في الدراسة المنهجية. كتب ارسطو مرة "جذور التعليم مرّة لكن الثمار حلوة" وهو الخط الذي يصف الانضباط المطلوب في الليسيوم.

لكن على الرغم من ان ارسطو يفضل الحياة المخصصة للتأمل، كانت الاحداث تضغط خارج المدرسة. حضوره في أثينا كما بالنسبة لغيرة من الشخصيات المرتبطة بمقدونيا، جرى التسامح معه فقط لطالما بقيت مقدونيا في الحكم. في عام 323ق.م منح الموت المفاجئ للإسكندر الأكبر في بابل أثينا الفرصة للثورة ضد سيطرة مقدونيا. وبين عشية وضحاها تحول المناخ السياسي نحو الشك والغضب والقصاص تجاه أولئك الذين اعتُبروا متعاونين او متعاطفين مع المقدونيين. ارسطو لم يكن استثناءً من هذه الكراهية.

وُجّه الى ارسطو اتّهام بالكفر في صدى للاتهامات التي وُجهت لسقراط قبل ثمانين عاما. التهمة برزت جزئيا من ارتباط ارسطو بمملكة مقدونيا ومن آرائه الفلسفية التي لا تتماشى دائما مع المشاعر الدينية التقليدية في أثينا. هو كتب ترنيمة في تمجيد صديقه هيرميناس الاتارنيوسي، وان بعض الأثنيين فسروا هذه الإشارة كرفع لشأن انسان الى مرتبة الالوهية مما يدعم مزاعم الكفر.

الدوافع السياسية

ان تلك الاتهامات الرسمية كانت تخفي تحتها استياءً سياسيا عميقا. المؤرخ تارن w.w Tarn لاحظ بانه"في أوقات الحماس الأهلي، كانت التقوى الاثنية سلاحا للانتقام السياسي"، وهي الحقيقة التي ادركها ارسطو جيدا. المؤرخ ديوجين لايرتيوس Diogenes Laertius كتب: "ارسطو اتُهم بالكفر من جانب الكاهن الأكبر يوريميدون" او، طبقا للفيلسوف الروماني فافورينوس " لم يغب عن بال ارسطو ان أثينا في أوقات الاضطراب السياسي توجّه قلقها نحو الفلاسفة". المؤرخ ديوجين لايرتيوس ذكر ان ارسطو أشار بعد توجيه الاتهام له "انه لا يسمح للمدينة ان تسيء للفلسفة مرة ثانية". هذا الخط سواء تحدّث به ارسطو شخصيا ام جرى تفسيره من المفسرين اللاحقين يحمل مزيجا من الاستسلام والتحدي. ارسطو اعترف بالخطر ورفض تكرار مصير سقراط. وكما يلاحظ الكلاسيكي الحديث اديث هول Edith Hall لم تكن لدى ارسطو الرغبة في تقديم أثينا شهيدا آخر، هو فضل الحياة واستمرار الدراسة على الموت المبدئي". صيغة أخرى تفسر الهروب من أثينا ترى ان ارسطو غادر لكي يمنع الاثنيين من الوقوع في الذنب تجاه الفلسفة مرتين، وهي ملاحظة تحمل كل من المرارة والوعي التاريخي.

الهروب الى خالكيزا Chalcis

 غادر ارسطو الى مكان ليس بعيدا، حيث قصد مدينة خالكيزا في جزيرة ايبوس Euboes الموطن الأصلي لامه. هناك وجد ملاذا ربما مؤقتا الى ان يستقر الوضع السياسي في أثينا. انسحابه لم يكن كرجل مهزوم وانما قرار مدروس من شخص يقيّم الأفق البعيد للحياة الفكرية مقابل الدراما المباشرة للمواجهات السياسية. "ان حياة الذهن أفضل وألطف" كما كتب مرة، وهي مشاعر توضح خياره بوضوح اكثر من أي حسابات سياسية. سنته الأخيرة في خالكيزا كانت قصيرة. ارسطو توفي هناك عام 322ق.م . بعد سنة من وفاة الاسكندر التي قلبت العالم اليوناني. طلابه استمروا بنفس عمله، واستمرت مدرسته لأجيال كمركز للتعليم . مع ذلك، رحيله من أثينا يبقى رمزا للعلاقات الملتبسة بين الفلسفة والمدينة – وهو التوتر الذي واجهه سقراط مباشرة بينما ارسطو تصرّف بحذر استراتيجي.

آراء العلماء المعاصرين حول هروب ارسطو من أثينا

الفيلسوف جوناثان بارنز Jonathan Barnes يقترح ان ارسطو "يفهم أفضل من أسلافه بان الفلسفة لا تُخدم بالاستشهاد وانما بالبقاء". في هذا التفسير، ارسطو يبرز كبرجماتي، شخص اعترف بان الافكار تعتمد على الناس للحفاظ عليها وان واجب الفيلسوف يتضمن العيش ليعلّم ويراجع ويحفظ المعرفة. علماء اخرون يرون ان رحيله عن أثينا يمثل تحذيرا لهشاشة المؤسسات الفكرية. اليسيوم خلافا لأكاديمية افلاطون كانت مرتبطة بقوة بقيادة ارسطو الشخصية. غيابه أجبر أعضاء المدرسة على التكيف بسرعة، وعلى الرغم من استمرار المدرسة بالبقاء، لكنها شهدت اضطرابا. وكما يذكر المؤرخ بيتر غرين، ان كفاح ارسطو "يكشف مدى هشاشة التحقيق الفلسفي امام رياح السياسة".

الكاتب الحديث مارثا نوسباوم Martha Nussbaum يجادل" الفلسفة تتحدد دائما ببيئتها السياسية، لكنها يجب أيضا ان تقف بعيدا عنها. ارسطو فهم ذلك التوتر وعند الضرورة تنحى جانبا للحفاظ على ما يستطيع". لذلك، فان هروب ارسطو من أثينا هو اكثر من هامش لسيرة ذاتية. انه يوفر نافذة للكيفية التي يبحر بها الفيلسوف في السياسة، كيف تتحمل الأفكار الاضطراب، وكيف يكون البقاء ذاته كفعل فلسفي. في مغادرته أثينا، ارسطو حمى ليس فقط نفسه وانما الميراث الفكري الذي صاغ قرونا من الفكر. مدرسته استمرت، كتاباته نُشرت ووُزعت، وتأثيره امتد بعيدا الى ما وراء المدينة التي وقفت يوما ضده. من خلال الحكمة وليس الموت، هو اطمئن ان "فاكهة" الفلسفة ستبقى متوفرة للأجيال القادمة.

***

حاتم حميد محسن

............................

 *GreekReporter.com. Dec8,2025

أسئلة عديدة يطرحها اللغويون إن كان الذكاء الاصطناعي بإمكانه أن يستوعب تعقيدات اللغة العربية؟ وما هي التحديات التي تواجه اللغة العربية في عصر الثورة الرقمية، حيث تولدت عنها مفاهيم ومصلحات جديدة مثل الأنجلة والعولمة اللغوية وماهي النتائج المترقب اكتشافها أو معرفتها أمام ما تعيشه الأمّة من تعدد لغوي وصراع لغويٍّ، أضحى يهدد مستقبل اللغة العربية، لما قد يحدثه هذا الصراع من تمزيق للبنية الاجتماعية، فالعولمة والرقمنة تخفي هيمنة لغوية ثقافية

هي أفكار وتساؤلات طرحها خبراء في ندوة مركز الشهاب للبحوث والدراسات بشرق الجزائر، الذي اعتاد على تقديم جهود جبارة ومتميزة للإسهام في علاج القضايا المطروحة في الساحة، وما تعلق  باللغة العربية وتعزيز قيمتها، في ظل ما يتردد في الساحة اللغوية  بأن العربية الآن لا مكانة لها وأنها مجرد لغة تراثية وقال البعض أنها لا تصلح إلا في المساجد، فهي الآن ليست لغة العلم ولا لغة الحضارة، رغم أنها صنعت مكانتها عالميا بعد اعتراف الأمم المتحدة بها باعتبارها من أكثر اللغات انتشارا في العالم، في ظل التطور التكنولوجي الرقمي، حيث فرضت اللغة العربية نفسها في مجال الرقمي، ناهيك عن كونها لغة مقدسة عند المسلمين وبها نزل القرآن الكريم، لكن خصومها وأعداؤها يريدون إقصاءها وهذا لأسباب سياسية وإيديولوجية، كذلك بسبب انهيار المنظومات التربوية والثقافية وحتى الجامعية، فجاءت هذه الندوة لتسلط الضوء على أهمية اللغة العربية ومدى تطورها  في عالم الرقمنة،  بعد أن أصبحت لغة جامعة وعالمية، وماهي الصورة التي يمكن رسمها عن اللغة العربية بعد ظهور الذكاء الاصطناعي، حيث بات حتميا  ربط هذا الأخير باللغة العربية.

فاللغة العربية اليوم تواجه  تحديات جوهرية في مجال الذكاء الاصطناعي،  هو سؤال أجاب عليه  المفكر الدكتور علي حليتيم رئيس مركز الشهاب للبحوث والدراسات  (سطيف الجزائر)  حين قال أن الخيانة  وراء  تعرّض اللغة العربية للهجوم من قبل خصومها وأعدائها، مشيرا أن الاستعمار الفرنسي في الجزائر (كعينة)   هو استعمار هوياتي، فقد كانت فرنسا تطلق على الرجل الجزائري اسم الإنسان البدائي primitif  وتنعته بالجهل والتخلف، وقال أن الجزائر هي ثاني بلد فرانكفوني في العالم،  ولذا ظلت الجزائر محتلة، والآن فرنسا تحتلنا سياديا  بعد 63 سنة استقلال، وقد عاد علي حليتيم إلى الوراء متحدثا عن الجرائم التي ارتكبتها فرنسا  ليس بإلغائها اللغة العربية وحل مكانها  اللغة الفرنسية وغلقها للمدارس والمساجد فحسب،  بل في معاملتها للجزائريين بوحشية وبخاصة النساء، من خلال مذكرات المجاهدة لويزة  إيغيل أحريز والمعاملة الوحشية التي تلقتها من قبل الفرقة العاشرة للمظليين بقيادة الجنرال ماسو، عام 1957، حيث كشفت في مذكراتها  تفاصيل التعذيب والاغتصاب،  ولا يزال مقر الفرقة العاشرة يقول الدكتور حليتيم إلى اليوم حيث استغلته السفارة الفرنسية مقرا لها، وهو بلا شك يُذَكِّرُ الجزائريين بجرائم فرنسا ووحشيتها .

حقيقة أخرى ذكرها الدكتور علي حليتيم  وهي قيام  المجمع اللغوي  العربي الذي تأسس في 1919 بحل اللغة العربية وإدخال الكلمات الدخيلة في المعاجم، مذكرا بالتجربة التركية التي  حاربت اللغة العربية إلى أن تقلصت وانكمشت، فأثرت سلبا على الهوية والثقافة العربية، هي طبعا جرأة  رجل "رسالي"، لا دينه ولا ضميره يسمح له  بإخفاء الحقائق، أو تغليط الناس من أجل إرضاء جهة معينة، خاصة إذا تعلق الأمر بالهوية واللسان، ففهم اللغة  مهم جدا  لإحداث التقارب  بين البشر وبناء جسور بينهم دون تحيّز، هو ما أكده الدكتور محمد قماري من جامعة بسكرة، حيث أبان على خصوصية اللغة العربية وما  يميزها عن اللغات الأخرى، فامتداد اللغة العربية جعلها قابلة للحياة عكس الفرنسية وهو ما سبب -على سبيل المثال- اختلاف في طريقة تدريس الطب باللغة العربية، حيث تحولت مجامع اللغة العربية كما يضيف إلى بيروقراطيات بحكم أن اللغة العربية فيها تنوع اللهجات وهي من الأمور التي ينبغي على المتخصصين تقريبها، لمعرفة ماذا يقدمه الذكاء الاصطناعي من نتائج .

 فموضوع اللغة العربية  في سياق التحولات التي يتعرض لها العالم في ظل العولمة، طرحت فيها قضية الهوية والثقافة وطغيان نمط معين لا ندري إن كان يناضل من أجل وجوده أم أنها تمحي الخصوصيات خاصة مع ظهور الهواتف النقالة،  فاللغة في العولمة تقول الدكتورة عائشة لصلج أستاذة الإعلام والاتصال من جامعة سطيف لم تعد محددا هامشيا، بل  استطاعت أن تحدد الهوية لاسيما وعالم اليوم يشهد تطورا في عالم الاتصال وفي الوسائط الرقمية،  وهنا وجب التفريق بين العالمية والعولمة سواء من حيث الحفاظ  على الخصوصية اللغوية في ظل التعدد اللغوي أو استخدام لغة ما  خارج بنيتها الرقمية، يبقى السؤال الأهم حول الترجمة الرقمية للنصوص والتدقيق اللغوي باعتبارها أداة لخدمة اللغة العربية وإثرائها، فالذكاء الاصطناعي بإمكانه تحريك الكلمات كيفما يشاء وبالطريقة التي يريدها  مثلما نقرأه في كلمة "حجري"، فالذكاء الاصطناعي يقرأها بطريقة معاكسة فهو يفهمها العهد الحجري أي العهد القديم وليس كلمة "حجر"  المراد قولها أو  ترجمتها.

لقد حان الوقت لتقريب وجهات النظر لتكون هناك خطوات عملية، في تطويع اللغة التقنية والأدوات الرقمية واستخدام اللغة الأمّ، وهو ما أشار إليه الدكتور أحمد خرصي باحث جزائري في مجال علوم الحاسوب، وعن طريق تقنية التحاضر عن بعد، فهو يرى أن اللغة العربية لم تجد من يخدمها بشكل جيد، ويشاطره الدكتور منير مهادي  أستاذ النقد الأدبي وهذا بسبب عدم امتلاك  الإرادة المعرفية والمؤسساتية وافتقادنا للعمل المؤسساتي، ويظل السؤال مطروحا إن كانت لنا الإرادة المعرفية والمؤسساتي لترقية اللغة العربية ونقلها من موقع التلقي إلى موقع الإنتاج، وإن كان الذكاء الاصطناعي ضرورة تقنية أم حضارية لابد من تفعيلها، وليس مجرد ترفا فكريا،  فإذا لم نُفَعِّلُ  اللغة العربية في مجال الذكاء الاصطناعي لن يكون لها مكانة في المستقبل.

***

تغطية علجية عيش

مقدمة: في كل عام، يُحتفل في الثامن عشر من ديسمبر باليوم العالمي للغة العربية، وهو تاريخ يعكس ليس مجرد احتفاء بلغة، بل بتراث حضاري يمتد جذوره إلى آلاف السنين. العنوان "لسان الضاد المسهاب: حال فكر الأمة المهترئة" يلخص جوهر هذا اليوم، حيث يُشار إلى اللغة العربية بلقب "لسان الضاد" لتميزها بحرف الضاد الفريد، الذي لا يوجد مثيله في لغات أخرى، ويُرى فيها "حال فكر الأمة" أي حالة أو وضع الفكر العربي الإسلامي، الذي شكلته اللغة كأداة للتعبير عن العقيدة، العلم، والثقافة والفلسفة. هذا اليوم، الذي أقرته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) رسمياً، يأتي ليذكر العالم بأهمية اللغة العربية كجسر بين الماضي والحاضر، وكعامل في تشكيل هوية الأمة العربية والإسلامية. في هذه الدراسة الأكاديمية، سنستعرض تاريخ هذا اليوم وأهميته، مع التركيز على كيفية انعكاس اللغة العربية لحال فكر الأمة، من خلال جوانب تاريخية، ثقافية، ومعاصرة، مستندين إلى التحديات والمبادرات التي تشكل مستقبلها حتى عام 2025. هذه المقاربة ليست مجرد سرد تاريخي، بل هي محاولة لفهم كيف تكون اللغة ليست أداة تواصل فحسب، بل حالة فكرية تعبر عن تطور الأمة وتحدياتها في عصر العولمة. فعماذا يتحدث لسان الضاد المسهاب عن حال فكر الأمة المهترئة؟ وكيف تمثل اللغة العربية مرآة لفكر الأمة في اليوم العالمي؟

تاريخ اليوم العالمي للغة العربية: من قرار الأمم المتحدة إلى الاحتفاء العالمي

يعود اختيار تاريخ 18 ديسمبر للاحتفال باللغة العربية إلى حدث تاريخي هام في عام 1973، عندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 3190، الذي أدخل اللغة العربية كلغة رسمية سادسة في المنظمة الدولية، إلى جانب الإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية، الروسية، والصينية.  كان هذا القرار نتيجة جهود دبلوماسية عربية مكثفة، تهدف إلى تعزيز حضور اللغة العربية في الساحة الدولية، خاصة في ظل الدور الثقافي والسياسي الذي لعبته الدول العربية في تلك الفترة. لم يكن هذا الإنجاز مجرد إجراء إداري، بل كان تأكيداً على قيمة اللغة العربية كوسيلة لنقل المعرفة والحوار بين الشعوب، وانعكاساً لحال فكر الأمة التي ساهمت في بناء الحضارة الإنسانية من خلال ترجماتها للعلوم اليونانية والفارسية إلى العربية في العصور الوسطى. مع مرور الزمن، تطور الاحتفال بهذا اليوم ليصبح مناسبة عالمية، حيث أقرت اليونسكو في عام 2010 الاحتفاء الرسمي به، مع التركيز على دور اللغة في تعزيز التنوع الثقافي والتعليم.   في السنوات اللاحقة، أصبح اليوم منصة لمناقشة قضايا مثل الحفاظ على التراث اللغوي، ودمج اللغة العربية في التكنولوجيا، ومواجهة التحديات الناتجة عن سيطرة اللغات الأجنبية في التعليم والإعلام. على سبيل المثال، في عام 2012، ركز الاحتفال على "اللغة العربية والتنمية"، مما يعكس كيف أصبحت اللغة جزءاً من خطط التنمية المستدامة للأمم المتحدة. هذا التطور التاريخي يبرز "لسان الضاد" كحال فكر الأمة، إذ أن اللغة لم تكن ثابتة، بل تطورت مع تطور الفكر العربي من عصر الجاهلية، مروراً بالعصر الإسلامي الذي جعلها لغة القرآن الكريم، إلى العصر الحديث حيث أصبحت أداة للتواصل العالمي. اليوم العالمي يذكرنا بأن اللغة العربية، التي يتحدث بها أكثر من 400 مليون شخص كلغة أم، ومليار مسلم كلغة دينية، هي ليست مجرد رموز صوتية، بل هي مخزن للفكر الفلسفي، العلمي، والأدبي الذي شكل هوية الأمة وحضارة اقرا.

دور اللغة العربية في تشكيل فكر الأمة: من التراث إلى المعاصرة

تُعتبر اللغة العربية "حال فكر الأمة" لأنها لم تكن مجرد وسيلة تواصل، بل كانت أداة لصياغة الفكر الجماعي والفردي. تاريخياً، ساهمت اللغة العربية في نقل المعارف من حضارات أخرى إلى العالم الإسلامي، كما في عصر الدولة العباسية حيث ترجمت أعمال أرسطو وأفلاطون، مما أدى إلى ازدهار الفلسفة العربية عند ابن سينا وابن رشد. هذا الدور يجعل "لسان الضاد" مرآة لفكر الأمة، إذ أن اللغة حملت مفاهيم مثل "العدل"، "الإيمان"، والـ"علم"، التي شكلت الأخلاقيات والقوانين في المجتمعات العربية والإسلامية. في العصر الحديث، أصبحت اللغة أداة لليقظة الفكرية، كما في حركة الإصلاح عند محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، الذين استخدموا العربية لنقد الاستعمار ودعوة للحداثة دون فقدان الهوية. معاصرًا، تظهر أهمية اللغة في فكر الأمة من خلال دورها في الثورات العربية، حيث استخدمت في الشعارات والأدب الثوري لتعبير عن الرغبة في التغيير. كما أنها لغة رسمية في 25 دولة، وتُستخدم في المنظمات الدولية، مما يعزز حضورها في الفكر السياسي العالمي. ومع ذلك، يعكس حال فكر الأمة تحديات مثل تراجع استخدام العربية في التعليم العلمي، حيث يفضل الكثيرون الإنجليزية، مما يؤدي إلى انفصال بين اللغة والفكر الحديث. هنا، يأتي اليوم العالمي ليذكر بأن الحفاظ على اللغة هو حفظ لفكر الأمة، كما في مبادرات مثل "اليوم العالمي للغة العربية" الذي يشجع على دمجها في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا لضمان استمراريتها.

بين التكلم عن معاناة الشعوب المضطهدة والنطق باسم الوجود الإنساني المغترب

تُعرف اللغة العربية بلقب "لغة الضاد"، وهو تسمية تعود إلى تفردها بحرف الضاد (ض)، الذي يُعد من أكثر الحروف صعوبة في النطق لغير الناطقين بها، مما يجعلها لغة فريدة في بنيتها الصوتية والدلالية. يرجع هذا اللقب إلى حديث نبوي يُشير إلى فصاحة العرب في نطق هذا الحرف، كما أنها اللغة الوحيدة التي تحتوي عليه بشكل أصيل.  هذه اللغة ليست مجرد أداة تواصل يومي، بل هي وعاء حضاري يحمل تاريخاً ثرياً من الأدب، الفلسفة، والتعبير عن الوجود الإنساني.

الضاد كصوت لمعاناة الشعوب المضطهدة

تاريخياً، لعبت اللغة العربية دوراً حاسماً في بناء الهوية الثقافية والحفاظ على التراث، خاصة في سياقات الاضطهاد والتهميش. تعتبر اللغة عنصراً أساسياً في تحديد هوية الشعوب، وتعكس تاريخها وثقافاتها، مما يجعلها حافظاً حياً للتراث الفكري.

 في العصور الوسطى، كانت العربية لغة العلم والفلسفة، حيث نقلت معارف ابن سينا وابن رشد، وساهمت في التواصل بين الحضارات. ومع ذلك، في العصر الحديث، واجهت اللغة تحديات مثل الإقصاء باسم عدم ملاءمتها للعلم والتقنية، مما أدى إلى تهميشها في بعض المجتمعات العربية.

في سياق معاناة الشعوب المضطهدة، أصبحت الضاد أداة للتعبير عن الظلم الاجتماعي والسياسي. على سبيل المثال، في الشعر الفلسطيني المعاصر، يستخدم شعراء مثل محمود درويش اللغة العربية لوصف الاحتلال والنكبة، حيث تتحول الكلمات إلى أسلحة مقاومة. درويش، في قصائده مثل "بطاقة هوية"، يعبر عن الاغتراب عن الأرض والوطن، لكنه يربط ذلك بمعاناة شعب مضطهد، مما يجعل اللغة جسراً بين الفردي والجماعي. كذلك، خلال الربيع العربي، استخدمت العربية في الشعارات والأغاني الثورية للتعبير عن رفض الاستبداد، كما في أشعار الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، الذي ألهم الثورات بقصيدته "إرادة الحياة". بالإضافة إلى ذلك، تساهم اللغة في الحفاظ على التراث الديني والشعبي، خاصة في مواجهة العولمة المتوحشة. القرآن الكريم، كمرجع لغوي، يحافظ على الفصاحة ويعزز الهوية الإسلامية، التي غالباً ما تكون مرتبطة بمعاناة الشعوب تحت الاستعمار أو الديكتاتوريات.

 في هذا السياق، تُعد القصص الشعبية مثل "ألف ليلة وليلة" تعبيراً عن معاناة الطبقات الفقيرة، حيث تكشف اللغة عن الظلم الاجتماعي من خلال الحكايات الساخرة والنقدية.

ومع ذلك، تواجه الضاد تحديات معاصرة، مثل التفكك السياسي والعولمة، التي تهدد بتهميشها. دراسة حديثة تشير إلى أن العربية تعاني من ظواهر سلبية في المجتمعات، مما ينتقص من وجودها اليومي.

 هنا، تبرز اللغة كأداة للمقاومة، حيث يستخدمها الكتاب لتوثيق معاناة الشعوب، كما في أدب السجون العربية وادب المقاومة، الذي يصف التعذيب والقمع بلغة حية تعكس الواقع المر.

الضاد كنطق للوجود الإنساني المغترب

من جهة أخرى، يتجلى دور الضاد في النطق باسم الوجود الإنساني المغترب، خاصة في الأدب العربي المعاصر الذي تأثر بالفلسفة الوجودية. يعود أدب الاغتراب إلى أفكار جان بول سارتر، الذي طرح أسئلة حول الوجود الإنساني والعدم، مما أدى إلى شعور بالقلق والحيرة.

 في الأدب العربي، يظهر الاغتراب كأزمة هوية، مرتبطة بالفقدان والانتماء، خاصة في أدب المهجر. شكل أدباء المهجر في بداية القرن العشرين، مثل جبران خليل جبران، حركة أدبية مهمة، حيث تحول الاغتراب إلى توطين ثقافي. جبران، في كتاباته مثل "النبي"، يتأمل الإنسان الباحث عن وطنه في الروح لا في الأرض، معبراً عن نزعة إنسانية عميقة.   هذا الأدب لم يسلم من تجربة المنفى، حيث شعر الشعراء بالبعد عن الوطن، مما أدى إلى تعميق الاغتراب الوجودي.

في العصر الحديث، يستمر الاغتراب مع الهجرات الناتجة عن الزلازل السياسية، كما في أعمال كتاب عرب مقيمين في أوروبا والغرب. على سبيل المثال، يصف الشاعر محمد زادة الاغتراب كظاهرة متعددة الأبعاد، حيث يؤدي إلى اندماج في الأدب المحلي مع فقدان الصفة الاغترابية.   كذلك، يشير نجم الدين سمان إلى حاجة اتحاد المبدعين لتجاوز السلبيات الموروثة من الوطن. هذا الاغتراب يتجلى في ثلاثة أبعاد: ميتافيزيقي (عن الكون)، اجتماعي (عن الجماعة)، وذاتي (عن النفس)، مما يعمق العزلة.

في الفلسفة العربية، تأثرت الضاد بأفكار الوجودية، كما في كتابات عبد الرحمن بدوي، الذي دمج الفلسفة الغربية مع التراث العربي، معبراً عن الاغتراب في ظل التقدم المادي والفقدان الروحي.

التقاطعات بين المعاناة والاغتراب

يتقاطع البعدان في الضاد كلغة تعبر عن الجماعي والفردي معاً. في أدب المهجر، مثلما عند المتنبي أو جبران، يتحول الاغتراب إلى تعبير عن معاناة شعوب مضطهدة، حيث يصبح المنفى رمزاً للقمع السياسي.  كذلك، في الشعر المعاصر، يربط الاغتراب بالهزائم العربية، مما يجعل اللغة أداة للثورة والعزلة معاً.   هذا التوازن يعزز دور الضاد في التواصل الحضاري، حيث تساهم في الاندماج بين الثقافات دون فقدان الهوية.

التحديات المعاصرة والمبادرات لتعزيز اللغة العربية

تواجه اللغة العربية في الحقبة المعاصرة تحديات تعكس حال فكر الأمة، مثل تأثير العولمة الذي يدفع نحو سيطرة اللغات الأجنبية في الإعلام والتجارة، مما يؤدي إلى تراجع استخدام العربية بين الشباب. كما أن التنوع اللهجي يشكل تحدياً في توحيد اللغة الفصحى، بالإضافة إلى نقص المحتوى الرقمي بالعربية مقارنة بالإنجليزية. هذه التحديات تجعل "لسان الضاد" حالاً لفكر الأمة الذي يعاني من التوتر بين التراث والحداثة. ومع ذلك، شهدت السنوات الأخيرة مبادرات هامة، مثل تلك التي تنظمها اليونسكو، التي تركز على دمج اللغة في التعليم والتكنولوجيا. على سبيل المثال، في عام 2023، ركز الاحتفال على "اللغة العربية والتعليم"، مع أنشطة تعليمية في المدارس لتعزيز الوعي بالتراث اللغوي. في عام 2025، يأتي الاحتفال تحت شعار "آفاق مبتكرة للغة العربية: سياسات وممارسات ترسم مستقبلاً لغوياً مستداماً"، مع فعاليات في مقر اليونسكو بباريس تركز على دور التكنولوجيا، الإعلام، والذكاء الاصطناعي في تعزيز اللغة.  هذه المبادرات تشمل ورش عمل حول تطوير تطبيقات رقمية بالعربية، ومناقشات حول سياسات التعليم اللغوي، مما يعكس جهوداً لجعل اللغة أداة للابتكار. كذلك، في الدول العربية، تنظم فعاليات مثل معارض الكتب والمسابقات الشعرية، لتعزيز الوعي باللغة كعنصر أساسي في فكر الأمة. هذه الجهود تؤكد أن اليوم العالمي ليس احتفالاً شكلياً، بل فرصة لإعادة صياغة حال فكر الأمة نحو مستقبل أكثر تماسكاً ثقافياً.

خاتمة

في النهاية، تظل الضاد لغة حية تجسد التوتر بين معاناة الشعوب المضطهدة والاغتراب الإنساني. من خلال أدبها وفلسفتها، تحافظ على التراث وتواجه التحديات، مما يجعلها أداة لليقظة. يتطلب الحفاظ عليها تعزيز تعليمها واستخدامها في التعبير عن الوجود المعاصر، لتبقى صوتاً للإنسانية في عالم متغير. في الختام، يمثل اليوم العالمي للغة العربية في 18 ديسمبر مناسبة للتأمل في "لسان الضاد" كحال فكر الأمة، حيث تعكس اللغة تطورها التاريخي، تحدياتها المعاصرة، وإمكانياتها المستقبلية. من قرار الأمم المتحدة عام 1973 إلى الاحتفالات في 2025، أصبح هذا اليوم رمزاً للحفاظ على الهوية في وجه العولمة. اللغة العربية، بغناها الدلالي والصوتي، ليست مجرد أداة، بل هي جوهر فكر الأمة الذي يحتاج إلى جهود مستمرة ليظل نابضاً. في عصرنا، مع تطور التكنولوجيا، يجب أن تكون اللغة جسراً للابتكار، مذكرة بأن مستقبل الأمة يعتمد على قدرتها على الحفاظ على لسانها كحال فكري حي. فكيف ترد اللغة العربية على التحديات الراهنة وترسم ملامح الاستراتيجيات المشتركة وتستشرف المستقبل لفكر الأمة؟

***

د. زهير الخويلدي

لَيْسَ الاستبدادُ حادثةً عابرةً في تاريخِ البَشَرِ، بَلْ بُنْيَة مُعَقَّدَة تَتكرَّر بأقنعةٍ مُختلفة، وَتُغَيِّر لُغَتَهَا دُونَ أنْ تُغيِّر جَوْهَرَها. إنَّه مَرَضُ السُّلطةِ حِينَ تنفصلُ عَن الإنسانِ، وَحِينَ يَتحوَّل الحُكْمُ مِنْ وَظيفةٍ لِخِدمةِ المُجتمعِ إلى آلَةٍ لإخضاعه.

بَيْنَ عبد الرَّحمن الكواكبي (1855 - 1902) المُفكِّر العربي الذي واجهَ الاستبدادَ مِنْ قَلْبِ الشَّرْقِ في أواخرِ القَرْنِ التاسعِ عَشَر، وَبَيْنَ جورج أورويل (1903 - 1950)، اسْمُه الحقيقي: إريك آرثر بلير، الروائي الغربي الذي حَذَّرَ مِنْ طُغيانِ الحَداثةِ السِّياسيةِ في القَرْنِ العِشْرين، تَتشكَّل خَريطةٌ فِكرية واحدة لِمَسارِ القَمْعِ، وإن اختلفت الجُغرافيا واللغةُ والأُسلوب.

الكواكبي لَمْ يَكْتُبْ عَن الاستبدادِ بِوَصْفِهِ فِكرة مُجرَّدة، بَلْ بِوَصْفِه تَجْرِبة مُعاشة. كانَ يَرى الطُّغيانَ مُتَغَلْغِلًا في تفاصيلِ الحَياةِ اليَوميةِ، في التَّعليمِ الذي يُفَرَّغُ مِنَ النَّقْدِ، في الثقافةِ حِينَ تُسْتَعْمَل أداةَ تَبريرٍ، في الاقتصادِ حِينَ يَتحوَّل إلى وسيلةِ إفقارٍ، في الأخلاقِ حِينَ تَمْدَحُ الطاعةَ العَمْيَاءَ، وَتَذُمُّ جُرْأةَ النَّقْدِ البَنَّاءِ.

في كِتاباتِه، لا يَبدو المُسْتَبِدُّ وَحْشًا أُسْطُورِيًّا، بَلْ إنسانًا عاديًّا تَضَخَّمَ ظِلُّهُ لأنَّ المُجتمعَ تَراجعَ. الاستبدادُ عِندَه عَلاقةٌ مُخْتَلَّةٌ بَيْنَ حَاكَمٍ يَخافُ شَعْبَه، وَشَعْبٍ يَخَافُ حَاكِمَه، والخَوْفُ هُوَ اللغةُ المُشترَكةُ التي تَضْبِطُ الإيقاعَ.

أورويل اختارَ طَريقَ السَّرْدِ لِيَكْشِفَ المَأساةَ نَفْسَها. في عَالَمِهِ الرِّوائيِّ، لا يَحتاجُ الطاغيةُ إلى سَوْطٍ دائم، يَكْفي أنْ يُعيدَ تَشكيلَ اللغةِ والذاكرةِ. السُّلطةُ هُنا لا تَكْتفي بالتَّحَكُّمِ في الحاضرِ، بَلْ تُعيدُ كِتابةَ الماضي لِتَصْنَعَ مُسْتَقْبَلًا بِلا مُقَاوَمَةٍ. والقَمْعُ يُصْبحُ نِظامًا فِكريًّا مُتَكَامِلًا، حَيْثُ يُرَاقَبُ الجَسَدُ،وَيُعَاد تَشكيلُ العَقْلِ، وَتُفَرَّغُ الكَلِمَاتُ مِنْ مَعْناها حتى تَفْقِدَ قُدْرَتَهَا على الاعتراضِ. وأورويل لا يَصِفُ الاستبدادَ كَما هُوَ فَقَط، بَلْ أيضًا كَما يُمكِن أنْ يَصِيرَ إذا تُرِكَ بِلا مُسَاءَلَةٍ.

الكواكبي وأورويل يَلْتقيان عِندَ نُقْطَةٍ جَوهرية: الاستبدادُ لا يَعيشُ بالقُوَّةِ وَحْدَها، بَلْ بالتَّوَاطُؤ. الكواكبي يَرى أنَّ الجَهْلَ هُوَ التُّربةُ الخِصْبَةُ للطُّغْيان، وأنَّ المُسْتَبِدَّ يَخَافُ مِنَ الشَّعْبِ الواعي. وأورويل يَذهَبُ أبْعَد، فَيُظْهِر كَيْفَ يُمكِن للوَعْيِ نَفْسِه أنْ يُخْتَرَقَ، وكَيْفَ يُصْبحُ الإنسانُ شريكًا في قَمْعِ ذَاتِه، حِينَ يَقْبَلُ الأكاذيبَ المُرِيحةَ، ويَتخلَّى عَن الأسئلةِ الصَّعْبة. في الحَالَتَيْن، الاستبدادُ لَيْسَ غَريبًا عَن المُجتمعِ، بَلْ يَخْرُجُ مِنْ هَشَاشته.

الكواكبي يَستخدمُ لُغَةً تحليلية مُبَاشِرَة أقرب إلى التَّشريحِ الاجتماعيِّ، كأنَّه يَضَعُ الاستبدادَ على طاولةِ الفَحْصِ، وَيُشرِّح أعضاءه واحدًا واحدًا: الخَوْف، الفَسَاد، تَقْديس الطاغية، تَحطيم الفَرْد.

أورويل، في المُقَابِلِ، يَتْرُكُ القارئَ يعيشُ التَّجْرِبَةَ، وَيَخْتنق معَ أبطالِه، ويَشْعُر بِثِقَلِ الرَّقَابة، وَيَرى كَيْفَ تَتحوَّل الشِّعاراتُ إلى قُيودٍ. الأوَّلُ يُخَاطِبُ العَقلَ، والثاني يُخَاطِبُ الوِجْدَانَ، لكنَّ النتيجة واحدة: كَشْف القُبْحِ المُسْتَتِرِ خَلْفَ خِطَابِ نِظَامِ الطاغيةِ.

في فِكْرِ الكواكبي، التَّحَرُّرُ يَبْدأ مِنَ الوَعْي، ويَنمو بالتَّعليم، ويَكتمِل بِكَسْرِ هَيْبَةِ المُسْتَبِدِّ الوَهْمِيِّةِ، هُوَ لا يَدعو إلى فَوضى، بَلْ إلى إعادةِ التوازنِ بَيْنَ السُّلطةِ والمُجتمعِ. أمَّا أورويل، فَيُقَدِّم تَحذيرًا قاتمًا: إنْ لَمْ يُحْمَ هذا التوازن، فإنَّ التكنولوجيا والبيروقراطية قادرتان على إنتاج طُغْيان أشد قَسْوَةً مِنْ أيِّ استبدادٍ تَقليديٍّ، هُنا يُصْبحُ الإنسانُ رَقْمًا، وَتَتحوَّل الحقيقةُ إلى قَرارٍ إداريٍّ.

رَغْمَ الفارقِ الزَّمنيِّ والثقافيِّ، فإنَّ قِراءةَ الكواكبي وأورويل معًا تَكْشِفُ أنَّ الاستبدادَ ظاهرةٌ كَوْنِيَّة، تتجاوزُ الشَّرْقَ والغَرْبَ. إنَّه يَتكيَّف معَ السِّياقِ، وَيَسْتعيرُ مِنَ الثقافةِ أدواتِها، وَمِنَ اللغةِ أقْنِعَتَهَا. مَرَّةً يَتحدَّث بِاسْمِ العاداتِ والتقاليدِ، وَمَرَّةً بِاسْمِ الأمْنِ والأمَانِ، وَمَرَّةً بِاسْمِ التَّقَدُّمِ والازدهارِ. لكنَّ جَوْهَرَه ثابتٌ: إلغاء الإنسانِ بِوَصْفِه ذَاتًا حُرَّةً.

تَفكيكُ الاستبدادِ لَيْسَ مُهِمَّةً سِيَاسِيَّةً فَقَط، بَلْ هُوَ أيضًا مَشروعٌ ثقافيٌّ طويل، يَبدأ مِنْ إعادةِ الاعتبارِ للعقلِ النَّقْدِيِّ، وَحِمايةِ اللغةِ مِنَ التَّزْييفِ، وَتَرميمِ العَلاقةِ بَيْنَ الفَرْدِ والمُجتمعِ على أساسِ الكَرامةِ لا الخَوْفِ. الكَواكبي يُوضِّح أنَّ الطُّغْيانَ يَنهارُ حِينَ يُسَمَّى بِاسْمِه، وأورويل يُذكِّر بأنَّ الصَّمْتَ عَن الكَذِبِ هُوَ أوَّلُ أشكالِ الهَزيمةِ.

بَيْنَ تَحليلِ الكواكبي وَسَرْدِ أورويل، تَتكوَّن مِرْآةٌ مُزْدَوَجَةٌ يَرى فيها القارئُ وَجْهَ الاستبدادِ بِوُضوحٍ مُخِيفٍ. مِرْآةٌ تَقُولُ إنَّ الحُرِّية لا تُمنَح، بَلْ تُبنَى، وإنَّ أخطرَ مَا في الطُّغْيانِ أنَّه يُقْنِعُ ضَحَاياه بأنَّه قَدَرٌ لا يُرَدُّ. وفي هذا الوَعْيِ تَحديدًا يَبْدأ التَّفكيكُ، وتَبْدأ أُولَى خُطُواتِ الخَلاصِ.

تَفكيكُ الاستبدادِ لَيْسَ حِكْرًا على ثقافةٍ ولا زَمَنٍ، بَلْ هُوَ هَاجِسٌ إنسانيٌّ يَتجدَّد كُلَّما تَغَيَّرَتْ أقنعةُ الطُّغْيانِ. الكواكبي، وَهُوَ يَكْتُبُ مِنْ قَلْبِ الشَّرْقِ الجَريحِ، واجهَ الاستبدادَ بِوَصْفِهِ عِلَّةً أخلاقية وفِكرية، تُفْسِدُ الدِّينَ والعقلَ والمُجتمعَ، فكانَ خِطَابُهُ مُبَاشِرًا إصلاحيًّا، يُرَاهِنُ عَلى وَعْيِ الأُمَّةِ واستعادةِ إرادتها. أمَّا أورويل، ابْنُ التَّجْرِبَةِ الغربيةِ الحديثةِ، فَقَد اختارَ طَريقَ الرَّمْزِ والتَّخْييلِ، كاشفًا كَيْفَ يَتحوَّل الاستبدادُ إلى مَنظومةٍ شاملة تُسَيْطِر على اللغةِ والذاكرةِ والحقيقةِ نَفْسِها، حَتَّى يَغْدُوَ القَمْعُ غَيْرَ مَرئيٍّ، لكنَّه أشدُّ فَتْكًا.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

أغرب ما قرأت سيرة شخصية يونانية تدعى سيكوندوس الصامت Secundus the Silent، ويصفه بعضهم بالفيلسوف الصامت. تختلط المعلومات القليلة المتاحة في المراجع حول حياة سيكوندس بما صنعه المتخيل. يقال إنه عاش في أثينا أوائل القرن الثاني الميلادي، ويرجح كونه معاصرًا للإمبراطور الروماني هادريان الذي حكم بين 117 و138 م، وقد اقترن اسمه بالصمت حتى غدا الصمت هويته الفلسفية ونمط وجوده في العالم. لا تقدم المصادر القديمة سيرة تفصيلية لحياته، إذ تحيط به طبقة كثيفة من الغموض والابهام، وما ورد عنه يرسم صورة اسطورية أو شبه اسطورية تبلورت في التراث الرهباني المسيحي المبكر، واستقرت في الذاكرة الروحية تجسيدًا للزهد المدهش ونذر الصمت. يرد ذكره في نصوص متأخرة من العصور القديمة والوسطى، خاصة في سرديات رهبان الصحراء وفلاسفة رأوا في الصمت طريقًا للحكمة، ويظهر فيها فيلسوفًا أو راهبًا اختار الصمت طريقًا للمعرفة، ورمزًا لمعنى يرى الحقيقة أعمق من أن تحاط بالكلام، ونموذجًا أخلاقيًا لا شخصية تاريخية محددة. لا تقدم المصادر أدلة موثوقة على وجوده بوصفه شخصًا بعينه، لذلك يرجح أغلب الباحثين كونه رمزًا روحيًا وأخلاقيًا، أو شخصية مركبة استلهمت من خبرات رهبان زاهدين عاشوا فعلًا، وتندرج حكايته مع أمه في الأفق الرمزي ذاته.

لم يكن سيكوندوس هو الوحيد الصامت، بل يتحدث التراث الغربي عن غيره، مثل يوحنا الصامت الذي كان راهبًا من القرن الخامس/السادس الميلادي، وولد في أرمينيا نحو سنة 454م وتوفي قرابة 558م، وكان في بداياته أسقفًا على مدينة كولونيا في أرمينيا الصغرى، ثم ترك الأسقفية سرًا هربًا من الصراعات الكنسية، واتجه إلى الحياة الرهبانية متخفيًا، متنقلًا بين فلسطين وصحراء سيناء، قبل أن يستقر في دير مار سابا قرب القدس. وتذكر سيرته كما نقلها كيرلس السكيثوبولي أنه التزم صمتًا صارمًا امتد سنوات طويلة، وتورد بعض السرديات الرهبانية أن هذا الصمت بلغ نحو خمس وعشرين سنة، بوصفه ممارسة روحية عميقة لا مجرد امتناع عن الكلام، هدفها تهذيب النفس، وبناء الذات، وانارة الوعي، والإقامة في حضور الله. وينبغي التمييز بينه وبين يوحنا الصوّام أو الصائم (John the Faster)، بطريرك القسطنطينية في القرن السادس، الذي اشتهر بالنسك والصيام ولا صلة له بنذر الصمت الطويل، إذ إن الخلط بين الشخصيتين يوقع في أخطاء تاريخية وجغرافية لا يسندها التراث الرهباني الموثوق.

تصور بعض الروايات سيكوندوس بأنه كان غارقًا في صمت أبدي، بعد إقدامه على موقف لاأخلاقي مؤلم ورط فيه أمه وتورط هو فيه، وانتهى بانتحارها، فعاقب نفسه بالصمت عن أية كلمة مهما بلغت أهميتها. تنقل هذه الروايات سبب صمته في سياق رمزي مرير، إذ كانت أمه أرملة في زمن تنظر فيه الثقافة الأثينية إلى الأرامل بوصفهن متشوقات جنسيًا، وكان اقتران ذلك بممارسة الجنس مقابل المال صادمًا للوعي الاجتماعي. لم يتوقف سيكوندوس عند ذلك، بل مضى في اختبار أخلاقي مثير، فتنكر في هيئة فيلسوف ساخر بشعر منسدل ولحية كثيفة، وعرض على أمه من دون أن تتعرف عليه ممارسة الجنس مقابل خمسين قطعة ذهبية، فجاءته الصدمة حين وافقت. تزينت له وأعدت العشاء وتناولاه معًا، وحين دخلا المضجع وسلمته جسدها، لم يقدم على شيء، وأحاطها بذراعه كما يفعل طفل بأمه، وحدق في الثديين اللذين تغذى منهما عندما كان رضيعًا، ثم استلقى حتى الصباح. عند بزوغ ضوء الفجر نهض سيكوندوس وتهيأ للخروج، غير أن أمه أمسكت به واستوقفته قائلة: لماذا امتنعت، وهل فعلت ذلك فقط من أجل إدانتي؟ فأجابها: لا يا أمي، امتنعت صونًا للمكان الذي خرجت منه إلى الحياة. فصاحت في فزع: من أنت؟ فقال: أنا سيكوندوس، ابنك. عندها عجزت الأم عن احتمال وقع الصدمة، ومع أنها لم تبلغ بفعلها حد الفاحشة في منظور ذلك المجتمع، فإن عذابها النفسي وشعورها العميق بالخجل والعار دفعاها إلى إنهاء حياتها، إذ شنقت نفسها. أما الابن فقد وعي أن ما اقترفه مع أمه لم يكن خطأ عابرًا، وإنما خطيئة لا تغتفر، فاستبد به الشعور بالذنب إزاء موتها، وقرر أن يلازم الصمت بقية حياته، طلبًا للتكفير أو استلهامًا للشرط الصارم الذي فرضته المدرسة الفيثاغورية على المبتدئين بالانخراط فيها، وهو الصمت التام خمس سنوات، غير أن سيكوندوس اختار الصمت مدى الحياة، وتحول هذا القرار إلى قدر وجودي صاغ هويته الفلسفية وأودع صمته معنى يتجاوز الكلام1.

ما وصلنا عن سيكوندوس يكشف عن اختيار واع للصمت بوصفه موقفًا أخلاقيًا وروحيًا، لا عجزًا جسديًا ولا انسحابًا مرضيًا. يروى أنه امتنع عن الكلام حتى حين استدعاه الإمبراطور وسأله عن سبب صمته، فكان الامتناع ذاته جوابًا، في إشارة إلى أن المعنى يتجلى بالفعل أعمق مما يتجلى بالقول. ينسب إلى سيكوندوس نص قصير تداولته الثقافة اللاتينية والبيزنطية لاحقًا، يعرف بتعريفات سيكوندوس، ويضم أقوالًا مكثفة تعرف الإنسان والحياة والكلام والموت والصمت تعريفًا موجزًا. المفارقة في أن هذا النص المنسوب إلى فيلسوف صامت يقوم على اقتصاد شديد في اللغة،كأن الكلمة ولدت من رحم صمت طويل. الصمت عند سيكوندوس لا ينفي العقل ولا يحتقر الكلام، وإنما يحرس المعنى من الابتذال، ويحتج على عالم يسرف في الكلام حتى يبدد الحكمة. هكذا يغدو الصمت طريقة للعيش، وموقفًا من الوجود، وفعلًا فلسفيًا قائمًا على التأمل، يمنح الفلسفة بعدًا أخلاقيًا وروحيًا عميقًا، يرى أن بعض الحقائق تفسد حين تقال، وأن الحكمة أحيانًا تسكن فيما لا يقال أكثر مما تسكن فيما يقال.

أكره هادريان Hadrian، إمبراطور روما الذي حكم بين 117 و138م، الفيلسوف الصامت على أن يكتب له إجابات عن مجموعة من الأسئلة، بعد أن أضرب سيكوندوس عن الكلام في حضرته. يئس الإمبراطور من نطقه، لم يكترث سيكوندوس حين أمر هادريان بذبحه، فاستلّ الجلاد السيف، وكان على وشك قتله، ومع ذلك ظل صامتًا لا ينطق. عندئذ تعجب هادريان من صلابة عزيمته وقوة إرادته، ونهض قائلًا: سيكوندوس، في التزامك بالصمت فرضت على نفسك نوعًا من القانون، ولم أتمكن من خرق قانونك هذا، الآن خذ هذا اللوح واكتب عليه وتحدث معي بيديك. أخذ سيكوندس اللوح وكتب قائلًا: من جهتي يا هادريان، لم أخف منك ولن أخاف بسبب الموت، لديك القدرة على قتلي، لأنك اليوم حاكم، لكن ليس لديك أية سلطة على كلامي، ولا على الكلمات التي اخترت أن أتحدث بها. قرأ هادريان هذا وقال: موقفك في الدفاع عن النفس جيد، لكن تعال وأجبني في عدد من الأمور الأخرى، لدي عشرون سؤالًا أطرحها عليك، وتوالت إجابات سيكوندوس2.

هذا هو النص الوحيد المنسوب إلى هذا الفيلسوف الغرائبي، ويقال إن ثمة دليلًا على وجود بردية تعود إلى القرن الثالث الميلادي. لا يوجد النص كاملًا إلا في مخطوطة واحدة من القرن الحادي عشر، فيما تقتصر المخطوطات اليونانية الأخرى على شيء من الأسئلة والأجوبة فقط. أحضر ويلياموس ميديكوس، الذي صار لاحقًا راهبًا في دير سان دوني، المخطوطة الكاملة من القسطنطينية إلى فرنسا عام 1167م، وترجمها إلى اللاتينية بعنوان Vita Secundi Philosophi، فانتشرت انتشارًا واسعًا، كما تكشف عنه كثرة النسخ المتداولة.

وقد أدرج فنسنت دي بوفيه نسخة مختصرة من هذه الترجمة في موسوعته الشهيرةSpeculum Historiale. بغض النظر عن الجدل حول هذه الشخصية، وكونها شخصية أسطورية، أو شبه أسطورية صاغها المتخيل عبر تركيبها من عدة شخصيات واقعية ومتخيلة، فقد أوردناها بوصفها مثالًا مدهشًا للصمت والتربية الروحية والأخلاقية الصارمة. أورد صياغة عربية لإجابات سيكوندوس على أسئلة الإمبراطور هادريان، وإن كنت أظن أن هذه الأسئلة والأحوبة مركبة من حكم معروفة في التراث الديني والثقافي الغربي والعالمي. أنقلها كما وردت في التراث المتأخر المنسوب إليه، بصيغة حكم وتأملات قصيرة، على نمط السؤال والجواب:

سأله هادريان: ما الإنسان؟ أجاب سيكوندوس: كائن يولد بلا اختيار، ويعيش بالوهم، ويموت بالضرورة. سأله هادريان: ما الحياة؟ أجاب سيكوندوس: حلم قصير، بين صرختين.

سأله هادريان: ما الموت؟ أجاب سيكوندوس: راحة لمن تعب، وخوف لمن أفرط في التعلّق.

سأله هادريان: ما الزمن؟ أجاب سيكوندوس: نهر يحمل كل شيء، ولا يحمل نفسه.

سأله هادريان: ما الصديق؟ أجاب سيكوندوس: نفس أخرى تسكن جسدًا غير جسدك.

سأله هادريان: ما العدو؟ أجاب سيكوندوس: صديق لم يعرف نفسه بعد.

سأله هادريان: ما الحكمة؟ أجاب سيكوندوس: أن تعرف مقدار جهلك، وتتصالح معه.

سأله هادريان: ما الجهل؟ أجاب سيكوندوس: أن تظن أنك وصلت.

سأله هادريان: ما الغنى؟ أجاب سيكوندوس: قلة الحاجات.

سأله هادريان: ما الفقر؟ أجاب سيكوندوس: شراهة لا تشبع.

سأله هادريان: ما الأمل؟ أجاب سيكوندوس: مرض جميل يطيل الحياة.

سأله هادريان: ما الخوف؟ أجاب سيكوندوس: ابن الجهل بالمصير.

سأله هادريان: ما السعادة؟ أجاب سيكوندوس: لحظة نسيان للذات.

سأله هادريان: ما الحزن؟ أجاب سيكوندوس: تذكّر زائد لما لا يمكن إصلاحه.

سأله هادريان: ما الصمت؟  أجاب سيكوندوس: لغة الحكماء حين تعجز الكلمات.

سأله هادريان: ما الكلام؟ أجاب سيكوندوس: ستار يخفي أكثر مما يُظهر.

سأله هادريان: ما الفيلسوف؟ أجاب سيكوندوس: من يسأل ليبقى حيًا، لا ليصل إلى جواب.

سأله هادريان: ولماذا اخترت الصمت؟ أجاب سيكوندوس: لأن أكثر الأسئلة لا تحتمل أجوبة، وأكثر الأجوبة تفسد الأسئلة.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

.......................

1- عثمان، صلاح، "سيكوندوس: الفيلسوف الصامت! 1-2"، موقع أكاديمية بالعقل نبدأ، 2024.

2- المرجع السابق.

 

حينما نتحدث عن النقد العراقي بين المنهج والأيديولوجيا وعلاقتهما بالجغرافية والسلطة، فإننا نواجه بالسؤال المركزي الذي يتناول والوضع الثقافي الراهن وأزمة الهوية الوطنية التي تعيش مأزقا خطيرا لم تعد فيه رابطة الانتماء إلى الوطن قادرة على الصمود في وجه الولاءات الأيديولوجية والقومية والدينية والطائفية التي تمزّق النسيج الوطني وتضع مثقفنا العراقي الحالي من جديد أمام السؤال القديم الجديد:

ما العمل؟ وتعيد إلى الأذهان التهمة القدمة الجديدة الخاصة بخيانة المثقف. وهي تشكّل واحدة من أهم القضايا التي شغلت الفكر الإنساني في العصر الحديث، لأنها تمسّ جوهر العلاقة بين المعرفة والسلطة، وبين الضمير والمسؤولية الشخصية، بين الجديد الوافد والقديم الراكد. فمنذ مطلع القرن العشرين، ومع التحولات الكبرى التي شهدها العالم من حروب وأيديولوجيات وصعود للدولة الحديثة، لم يعد المثقف يُنظر إليه بوصفه مجرد كاتب أو فيلسوف أو أكاديمي، بل كفاعل أخلاقي يمتلك سلطة الكلمة والتأثير على الرأي الرأي. وعندما يتخلّى صاحب الكلمة عن دوره في خدمة الحقيقة، أو ينحاز إلى القوة على حساب الناس، أو  يكتب أشياء لاعلاقة بالواقع الاجتماعي القائم تبدأ ما يسميه المفكرون بـ الخيانة، أي انهيار الوظيفة الأخلاقية للمثقف أمام إغراءات السلطة، أو ضغط الأيديولوجيا، أو إغواء السوق.

المثقف بين الالتزام والخيانة

هكذا، يبدو المشهد الثقافي العراقي اليوم محكوماً بقدر كبير من التمزق الهوياتي الذي خلّفته عقود من الصراع والتحولات العنيفة، وهو تمزق أصاب صورة الفرد في ذاته وفي علاقته بالجماعة والذاكرة والانتماء إلى الناس، عمومِ الناس. وفي ظل هذا الواقع، تتعاظم مسؤولية الأديب، لا بوصفه صانعاً لجماليات لغوية عابرة، بل بوصفه فاعلاً ثقافياً قادراً على إعادة بناء الوعي وترميم الهوية عبر سرديات تكشف الجروح المشتركة وتعيد الإنسان إلى مركز التجربة. غير أن هذا الدور لم يكن دائماً واضحاً في الساحة النقدية العراقية، حتى بعد التغيير الذي تخلص فيه هذا المثقف من الضغط السياسي وإملاءات النظام الشمولي؛ إذ شهد النقد العراقي في العقود الأخيرة تداخلاً ملتبساً بين تبنّي المناهج الحديثة—وخاصة البنيوية وما تفرّع عنها—وبين الالتزامات الأيديولوجية التي حملها بعض النقاد في سياقات سياسية مضطربة. فقد بدا أن اللجوء إلى البنيوية، بما تقدّمه من حياد منهجي وتقنية لغوية محايدة، كان أحياناً محاولة للابتعاد عن الخطاب الأيديولوجي المباشر، لكنه أدى في الوقت ذاته إلى تحويل النص إلى بنية مغلقة منفصلة إلى حد كبير عن الإنسان والتاريخ، وإلى إقصاء التجربة الحية التي تشكّل جوهر الأدب. ومع المبالغة في التمسك بالمفاهيم البنيوية، تحوّل النقد إلى ممارسة تقنية جافة لا تلامس الأسئلة العميقة المتعلقة بالهوية والعدالة والذاكرة، مما أنتج قراءات باردة تخلو من الحرارة الشخصية الحسّ الإنساني. وهكذا وجد بعض النقاد أنفسهم في موقع الهجنة والرطانة المنهجية: يستخدمون أدوات البنيوية وصرامتها المصطلحية، لكنهم في العمق مثقلون بأسئلة الواقع التي لا يسمح المنهج بطرحها صراحة. وقد ساهم هذا التوتر في إضعاف فاعلية النقد العراقي بوصفه أداةً للوعي، وعمّق الفجوة بين النص وبيئته، مما جعل الحاجة ملحّة إلى استعادة وظيفة الأدب بوصفه خطاباً إنسانياً قادراً على مواجهة التمزق الهوياتي لا عبر التزيين البلاغي ولا المحسنات اللفظية التي تتحول في حال المبالغة إلى مقبّحات، ولا عبر التجريد البنيوي، بل عبر مساءلة الواقع والإنسان بلغة تتجاوز الزخرفة والحياد الزائف معاً وهذا هو الذي يدعونا للحديث عن الخيانة.

لقد برز مصطلح (خيانة المثقفين) لأول مرة بصورة فكرية واضحة في كتاب الفرنسي جوليان بندا  «La Trahison des Clercs خيانة المثقفين أو الانتلجسيا عام ١٩٢٧، حيث اتهم باندا مفكري أوروبا بالتخلي عن رسالتهم الإنسانية حين انجرّوا وراء النزعات القومية المتطرفة التي قادت لاحقاً إلى الحرب العالمية الثانية. رأى بندا أن المثقف الحقيقي هو الذي يعيش من أجل "القيم الخالدة" مثل العدالة والعقل والحرية، وأنّ أيَّ انحياز إلى القوة السياسية أو العسكرية يُعدّ سقوطاً أخلاقياً. لكن هذا المفهوم لم يبقَ كما هو؛ بل اتسع لاحقاً ليشمل أنماطاً جديدة من الخيانة ظهرت مع تغيّر بنية النظام في أوربا والعالم.

بعد الحرب العالمية الثانية، دخل المثقف في سياق أكثر تعقيداً. فقد انقلب العالم إلى فضاء للصراع الأيديولوجي بين الشرق والغرب، وتحوّلت الأنظمة الشمولية إلى مؤسسات ضخمة تستثمر في الفكر والدعاية. ووجد كثير من المثقفين أنفسهم جزءاً من ماكينة السلطة، إما دفاعاً عن الشيوعية أو الليبرالية أو القومية، وفي كل تيار ظهرت نماذج مثقفين يبرّرون القمع باسم الثورة، أو التقدم أو الدفاع عن الأمة..

هنا لم تعد الخيانة مجردَ انحياز سياسي، بل أصبحت تضحية بالحقيقة لصالح الأيديولوجيا، وتحوّلَ المثقف إلى موظف يزيّن خطاب السلطة بدل أن يواجهه. وقد انتقد غرامشي هذا النوع من المثقفين، مميزاً بين "المثقف التقليدي" الذي يكرر خطاب السلطة، و"المثقف العضوي" الذي يحاول إحداث وعي نقدي في المجتمع.

ومع السبعينيات وما بعدها، تغيّر شكل الخيانة مرة أخرى. فمع صعود الإعلام الجماهيري والاقتصاد الرأسمالي الجديد، تحوّلت المعرفة إلى سلعة، وصار المثقف يواجه إغراءات من نوع مختلف: الشهرة، والظهور التلفزيوني، والجوائز، والارتباط بالمؤسسات الممولة. وفي هذا السياق، لم تعد الخيانة مقتصرة على خدمة السلطة السياسية، بل ظهرت خيانة من نوع ثقافي – تجاري، حيث يستبدل المثقف العمق بالسطحية، والتحليل العلمي بالشعارات الجاهزة، والجرأة النقدية بالإرضاء والترويج، وتطييب الخواطر. وقد وصف بيير بورديو هذا التحوّل بأنه بيع للعقل في السوق الإعلامي، حيث تُختَزل المعرفة إلى رأي سريع قابل للاستهلاك، يفقد قيمته الأخلاقية والبحثية الأساسية.

ولا بدَّ أن نذكر كذلك أن سلامة النوايا والضمير الإنساني الحي لا تكفي وحدها لتبييض ساحة المثقف ما لم يرتبط عنده كلُّ ذلك بشيء من العمق في الوعي والإدراك لضرورات السياق الاجتماعي والسياسي القائم.

-  الحقبة الرقمية

ومع دخول العالم الحقبة الرقمية، اتخذت خيانة المثقف شكلاً أكثر غموضاً. فالإعلام الجديد، وشبكات التواصل، وما يسمى بـ عصر ما بعد الحقيقة، جعلت المثقف في مواجهة تحدٍّ جديد: كيف يقول الحقيقة في عالم لا يهتم بالحقيقة؟ هنا تظهر الخيانة حين يتحول المثقف إلى جزء من ضجيج المعلومات، فيتبنى الشائعة، أو يروّج خطاباً شعبوياً، أو يستخدم سلطته المعرفية لتجميل الأكاذيب أو تضليل الرأي العام. وفي هذا النوع من الخيانة لا يكون المثقف تابعاً لسلطة سياسية فقط، بل تابعاً لـ خوارزميات ترفع ما هو رائج وتقني، بدلا مما هو صادق وإنساني.

أما في العالم العربي، فقد اتخذت خيانة المثقف أبعاداً خاصة. فالأنظمة السلطوية، وتداخل الدين بالسياسة، والحروب، والصراعات الطائفية، والاقتصاد الريعي، كلها عوامل دفعت بعض المثقفين إلى أداء أدوار تتراوح بين التبرير والصمت والمشاركة المباشرة في صناعة خطاب يدعم الاستبداد. فكم من مثقف تحوّل إلى مروّج لخطاب السلطة، أو إلى شاعر يمجّد الحاكم، أو أكاديمي يستخدم المعرفة لتطويع الناس بدل تحريرهم. وتزداد الخيانة وضوحاً عندما يصمت المثقف أمام الظلم خوفاً أو طمعاً، أو حين يُسخّر علمه لتجميل واقعٍ مأزوم، أو عندما يفقد حسّه النقدي ويتحول إلى جزء من البنية التي كان يفترض أن يواجهها.

ومع ذلك، لا يمكن النظر إلى مفهوم خيانة المثقف بصورة تبسيطية وواقعية تتجاوز صعوبات ما هو قائم . فالمثقف يعمل، كما نعرف في عالم مليء بالضغوط:

- رقابة

- فقر مؤسساتي،

- تهديدات،

- تشويه رقمي،

- وانهيار في البنى التربوية والأكاديمية والإعلامية.

ولذلك فإن كثيرين يرون أن المثقف المعاصر ليس خائناً بقدر ما هو ضحية منظومة أكبر. لكن هذا لا يلغي وجود نوع من الخيانة الإرادية التي تظهر حين يضحّي المثقف بواجبه الأخلاقي، ويختار الراحة أو المنفعة على حساب الحقيقة.

إن جوهر فكرة خيانة المثقف لا يتعلق بالموقف السياسي، بل بالوظيفة الأخلاقية للعقل. فالمثقف خائن عندما يتخلى عن دوره الطبيعي بوصفه ضمير المجتمع، وعندما يتحول من مقاومة الظلم إلى تبريره، ومن حماية الحقيقة إلى إخفائها، ومن الدفاع عن الإنسان إلى التحالف مع من يسحقونه. وكلما أصبحت الكلمة سلعة، والرأي أداةً، والموقف صفقة، اتسع مفهوم الخيانة، وانحسرت قيمة المثقف بوصفه حارساً للمعنى.

العالم المعاصر، بتعقيداته وقواه الهائلة، يحتاج إلى مثقف لا يكتفي بالقول بل بالمواجهة، لا يكتفي بفهم الواقع بل بفضحه، ولا يكتفي بالوعي بل بخلق وعي جديد. فما تزال وظيفة المثقف الأصيلة – رغم كل التحولات – هي الالتزام بالحقيقة في زمن يفقد فيه الناس بوصلتهم، والوقوف مع الإنسان الأعزل حين يتخلى الجميع عنه. وعندما يتخلى المثقف عن هذا الدور، فإنه لا يخون ذاته وحدها، بل يخون المجتمع بأسره

وضع المثقف العراقي الحالي

ونحن نعلم أن المجتمع العراقي يواجه في العقود الأخيرة أحدَ أشدّ أشكال الاضطراب والارتباك الثقافي وهو التصدّع الهوياتي؛ فترة انتقالية غير مستقّرة على كل الأصعدة الساسية والفكرية والأيديولوجية.  تمزق لا يصيب صورة العراقي في داخله، وانتمائه الوطني والاجتماعي، وموقعه في التاريخ الحديث. وهو لا يعود في أسابابه إلى عامل واحد، بل إلى تراكم الحروب الخارجية والأهلية، والتحولات السياسية العنيفة، وتفكّك البنى الاجتماعية التقليدية، وصراع القوميات والطوائف، وصولاً إلى التأثيرات العابرة للقوميات والمجتمعات التي أحدثتها التكنولوجيا والاقتصاد العالمي. وفي ظل هذا المشهد، لا يصبح الأدب ترفاً جمالياً، ولا مساحة للزخرفة اللفظية، بل شرطاً معرفياً وأخلاقياً لإعادة بناء الوعي.

إن مسؤولية الأديب اليوم تتجاوز إنتاج نصوص منسوبة إلى "الجميل" في حدود اللغة، إلى ممارسة دور ثقافي نقدي يُسهم في إعادة لحم العناصر المتباعدة في الهوية الوطنية ومواجهة التشظّي. فالهويات حين تتصدع لا تُرمَّم بالشعارات أو الخطابات السياسية، بل عبر سرديات قادرة على إعادة الإنسان إلى مركز التجربة، والكشف عن القواسم المشتركة التي تُنقذ المجتمع من التفكك. وهنا تتكثف وظيفة الأديب: أن يمنح المجتمع خطاباً جديداً للذات، وأن يعيد كتابة ذاكرة معاصرة ترفض الإقصاء وتمنح المختلفين مساحة ليكونوا جزءاً من الكُلّ.

هكذا، يحتاج العراق اليوم إلى أدب لا يقف عند حدود التزيين اللغوي أو المباهاة الأسلوبية، بل إلى نصوص تكشف هشاشتنا الجماعية، وتسمّي جروحنا المحلّيّة من دون خجل. فالجمال اللفظي الزائف، الذي يُزيّن الخراب بدل أن يُضيئه، يتحول إلى شكل من أشكال المشاركة في إدامة الأزمة. أما الجمال الحقيقي فهو ذاك الذي يملك الشجاعة لاقتحام المناطق المظلمة، ولتفكيك الأساطير التي تكرّس الانقسام، ولصياغة لغة تستوعب التجربة العراقية بما فيها من ألم وتمزّق، من غير أن تسقط في خطاب الكراهية أو التبرير، ولا التبسيط البعيد عن عمق الحساسية الجمالية.

إن مسؤولية الأديب، بوصفه حارساً للوعي الجمعي، تكمن في إنتاج سرديات تعيد ترتيب علاقتنا بالتاريخ وبالمدينة، وبالآخر المختلف. وهذا يتطلب من الشاعر أو الروائي أو المسرحي أن يتحرر من إغراء "التجميل البلاغي" الذي يستبدل الحقيقة بالأسلوب، الذي تلتقي فيه بعضُ المناهج النصية والأسلوبية الحديثة مع أسوء ما كان في تراثنا البلاغي من أداء لفظي وحرص على البيان والبديع الخاليين من عمق المحتوى ووجود المعنى والمضمون الإنساني. فالمطلوب في هذه المرحلة هو كيفية إيجاد أساليب أدبية مبسطة قادرة على أن تقترب من الإنسان الممزق، من اللاجئ والمهاجر، والضحية، والناجي بنفسه من المحرقة، وليس إحالته إلى رمز تجريدي، بل ليعيد إليه صوته الذي ضاع وسط ضجيج الأحداث العنيفة المتوالية . فالأدب حين يفقد حسّه الإنساني يتحول إلى صناعة لغوية لا أثر لها.

وهكذا يصبح الأديب، لا السياسي ولا الخطيب ولا الإعلامي، القادرَ على وضع المجتمع أمام مرآة صادقة، وعلى طرح أسئلة جوهرية:

كيف نرى أنفسنا بعد كل هذا الخراب؟

ما معنى أن يكون العراقي عراقياً اليوم؟

ما القيم المشتركة التي يمكن أن تجمع الأجيال الجديدة؟

هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عنها من دون خطاب أدبي جديد، يواجه الواقع كما هو، ويعيد للهوية دورَها بوصفها مساحة للتعايش، لا ساحة لصراع الانتماءات التي تتدخل فيها القومية والطائفة والعشيرة.

إن العراق بحاجة إلى أدب يساهم في بناء هوية مفتوحة تتجاوز الانغلاق الطائفي والقومي، وتؤسس لوعي نقدي يرى التعدد قيمة لا تهديداً. وهو دور لا  يتحقق ما لم يحمل الأديب شجاعة تجاوز النمط الاستعراضي الذي ساد زمناً طويلاً، ويستبدله بمسؤولية أخلاقية تجاه المجتمع. فالأديب الحقيقي ليس من ينسج الكلمات بإتقان، بل من يملك القدرة على إعادة الإنسان إلى مركز الكتابة، وعلى تحويل النص إلى فعل مقاومة ضد التفكك، وإلى أفق جديد لإعادة بناء الذات العراقية، الأمر الذي يبعد عن هذا الأديب شبح الاتهام بالخيانة.

***

الدكتور ضياء خضير

يتأصّل الجمال في طبيعة الإنسان فاللّه قد خلق الإنسان على صورته وهو جميل يحبّ الجمال. ولذا فالإنسان ميّال بطبعه إلى عشق الجمال نزاع إلى استجوابه ومناشدته حيثما وجد في الطبيعة، وفي الكلمة وفي الأشياء، وفي الإنسان نفسه. وإذا كان الإنسان جميلاً، فإنّ الطبيعة خصّت المرأة بالجمال الّذي يندر مثيله فـي الكون، فجعلت منها آية من آياتها وسرّاً من أسرارها فإذ هي جمال يتفتّق بالجمال، ويفيض بالسحر ويعبق بالجاذبيّة، وينضب بالمعاني الجميلة. ومنذ بدء التكوين والرجل يقف مسحوراً أمام جمال المرأة وفتنتها حيث وجد فـي سحرها وجمالها ينبوع الهامة فإذ به يستوحي جمالها في بناء جمال الأشياء الّتي تجسّدت فـي الأدب والفنّ والروائع والأحداث الجسام.

 كان جمال جسد المرأة يلعب وما زال دور أساسيّاً في إيقاظ الرجل على معاني الجمال وصـوره جميع الحضارات الإنسانيّة الأولى، ومنه انتقل الفلاسفة والمفكّرون والفنّانون إلى غيره من مظاهر الجمال في الطبيعة والنفوس والمنازل والأبنية (عبد اللطيف شرارة: 72).

فالجمال والحبّ توأمان لا يقوم أحدهما مـن غير الآخر، وفي ذلك إشارة إلى ما يفعله الجمـال فـي نفوس البشر، وإلى مدى تأثيره في قلوبهم. وها هو أفلاطون نفسه لا يميّز في كتابه "المائدة " بين الحبّ والجمال؛ إذ يقول" إنّ الحبّ هو التمتّع بالجمال لأنّ فكرة الجمال هي الحقيقة السامية (أوسفلد سفارتس: علم الجنس نفسه، ص. 145).

وإذا كان الحبّ هو أساس كلّ تقدّم إنسانيّ بما يوحيه من اندفاعات وتضحيات، فإنّ الجمال هو معيّن الحبّ وملهمه. فعالم الحبّ هو عالم النفس البشريّة في جملته، ومن استطاع أن يتذوّق جماليّاته [...] كان حرّيّاً به أن يدرك أسرار النفس الإنسانيّ (شرارة: ص.11).

لقـد قـدّر لشخصيّات التاريخ العظيمة من شعراء وأدباء وفنّانين أن تدرك لمحات الجمال وأن تستشعر عظمته "فامتازوا بقدرتهم العجيبة على الحبّ وتفرّدوا بذلك اللهب الداخليّ الّذي جعلهم لا يملّون الجهد من أجل غيرهم ومن أجل العطاء والإبداع " (شراة ص.16). وكان لجمال المرأة لدى كلّ شعب طراز يصفه شعراؤه، ويتغنّى به عشّاقه، ويرسمه مصوّروه وينحت له التماثيل مثّالوه وتجهد النساء في تحقيقه (شـرارة ص. 74). ففي اليونان القديمة كان مقياس الجمال الأنثويّ عند اليونان يتمثّل فـي المرأة الممتلئة قليلاً كما يلاحظ في التماثيل والرسوم اليونانيّة (خمّاش: ص.29).

كان إحساس العاشق بجمال عشيقته في الجاهليّة يتحوّل على يد الحبّ إلى ضـرب مـن العبادة [...] وكـان العرب الجاهليّون يرون في جمال المرأة محور أحاديثهم وأداة الوحي الكبرى لشعرائهم (شرارة). وقـد وجد ديون Dion سنة 1977 أنّ جاذبيّة الوجه تعدّ نقطة الارتكاز الأولى للجاذبيّة، وأنّها تساعد صاحبها أو المتعامل معه على إقامة علاقات اجتماعيّة أكثر استدامة ووفاقاً، كما أنّ لذلك أثراً بيّنّاً في توجيه السلوك نحو مسالك لا تتّسم بالضعف والعدوانيّة.

"وتبين الدراسات الجماليّة الجارية بشكل عامّ أنّ الأفراد الأكثر جاذبيّة من ناحية الشكل يملكون في نظر من يتعاملون معهم خصائص إيجابيّة، بعكس الّذين لا يملكون هذه الجاذبيّة، فينظر إليهم على أنّهم يحملون خصائص سلبيّة" (الخشت: ص 72).

وتتعـدّد وجهات النظر في تحديد شواخص الجمال عند المرأة فهناك من ينظر إلى الجمال الأنثويّ في رشاقة الجسم وانسيابه، بينما يركّز آخرون على تناسق الوجه وبهائه، في حين يجمع البعض في نظريّتهم بين اعتبار رشاقة الجسد وبهاء الوجه. وثمّة رجال يفضّلونها ممتلئة، وآخرون يرغبون فـي الرفيعة، وهناك من تعجّبهم معتدلات الجسم، كما أنّ بعض الرجال يتوقون إلى السمراء، وآخرون إلى الشقراء، وطائفة يحبّذون البيضاء. فللجمال الجسـديّ ألوان مختلفة وأنماط متعدّدة، وتؤكّد أحدث الدراسات الّتي وقعت عليها أيدينا تنوّعاً كبيراً في نظرة الرجال إلى الجوانب الجماليّة للجسد الأنثويّ.

ويتجسّد جمال المرأة الجاهليّ في القصيدة اليتيمة الّتي تمثّل إحدى اللوحات الرائعة لجمال المرأة في منظور الثقافة الجاهليّة وهي من أقدم اللوحات الفنّيّة، إذ لم تكن أقدّمها إطلاقاً. تقول القصيدة:

بيضاء قد لبس الأديم أديم = الحسن فهو لجلدها جلـــد

ويزيّن فوديــهاً إذ حسرة = ضافــي الغدائر فاحم جعد

فالوجه مثل الصبح مبيّـض = والشعر مثل الــليل مسوّدّ

ضدّان لمّـا استجمعا حسناً = والضدّ يظهر حسنه الضــدّ

وجبينها صلّت وحاجبـــها = شخط المخط أزج ممــــتدّ

فكأنّها وسنى إذ نظـــرت = أو مـدنّف لما يفق بــعد

بفتور عين ما بـها رمـد = وبها تداوى الأعين الرمد

وتريك عرنينا به شمّـــم = أقنى وخدا لونه الـورد

وتحيل مسواك الأراك علـى = رتل كأنّ رضـــابه الشهد

والجيّد منها جيّـد جؤزرة = تعطو إذا ما طالها المردّ

وامتدّ من أعضائها قصــب = فعمّ تلته مرافــــق درد

والمعصمان فما يرى لهما = من نعمة وبضــــاضة زند

ولها بنان لو أردت لــه = عقداً بكفّك أمكن الــعقد

كأنّما سقيت ترائبــــهـا = والنحر ماء الورد إذ تبدو

وبصدرها حقّان خلّتهــمـا = كافورتين علاهما نـــــدّ

والبطن مطويّ كما طويــت = بيض الرياط يصونه الملد

وبخصرها هيف يزيّنـــــه = فإذا تنوء يكاد يتّــقـد

والتفت فخذاها وفوقهمـا = كفل بجانب خصرها نهـــد

فتيامها مثنّى إذ نهضــت = من ثقله وقعودها فـــردّ

والساق خرعبة منــــعّمة = عبلت فطوق الحجـل مـنسدّ

والكعب ادغم لا يبيّن لـه = حجم وليس لرأسه حـــــدّ

ومشت على قدمين خصرتـا = والينتا فتكامل الــعقد

ما عابها طول ولا قصر = في خلقها، فقوامها قصــد

يقـول محمّد عثمان الخشت في هذا المقام:" احتلّ جمال المرأة مكانة خاصّة في الأدب العربيّ فطالما تحدّث الشعراء والأدباء عن مفاتن المرأة وبهائها" ( الخشت: ص. 76). وقـد ربط العرب منذ وقت مبكّر بين الجوانب الجماليّة الجسديّة في الأنثى ومجالات الإبداع في الأدب، وقد بلغ ذلك التعبير حدّاً من الروعة لا يقلّ عـن التعبير الإبداعيّ لحضارات أخرى لجأت إلى أساليب متنوّعة كالنحت والسيراميك في الحضارة اليونانيّة والرومانيّة، والرسم في الحضارة الرينساس والعصر الحـديث. فضلاً عن أنّها تتعادل في دقّتها أحدث الأبحاث المعاصرة في مقاييس الجمال الأنثويّ ( الخشت: ص. 76 ).

لقـد أبدع العرب وأيّ إبداع في وصف جمال العيون إذ غالباً ما ينجذب شعراء العرب إلى حوراء العينين: (شدّة البياض والسواد، ويقال الحور اسوداد المقلة كلّها كعيون المها ( البقر الوحشيّ). وفي ذلك قال جرير:

" إنّ العيون الّتي في طرفها حور = قتلتنا ثمّ لم يحيين قتلانا"

وهناك كثرة كاسرة من النصوص الأدبيّة النثريّة الرائعة الّتي تصف جمال المرأة ومنها ما قاله الأخوان عمرو وربيعة عندما سألهما أبوهما عن صفات أحبّ النساء إليهما فقال عمرو:

الهركولة.. اللفاء (1).. الممكورة(2).. الجيداء (3)... الّتي يشفي السقيم كلامها... ويبرّئ الوهيب إلهامها، الفاترة الطرف (4) الفلّة الكفّ.. العميمة الردف.

أمّا أخوه ربيعة فقال: الفاتنة العينين.. والأسيلة الخدّين (5)... والكاعب الثديين (6)... الردّاح الوركين (7)... الشاكرة القليلة... المساعدة للحليل... الرخيمة الكلام (8).

لقـد أرسـل الحارث بـن عمرو ملك كندة امرأة يقال لها عصام إلى ابنة عـوف لكي تتعرّف على أوصافها لما أخبره البعض بكمالها وجمالها وعندما عادت استنطقها بالقول المأثور: ما وراءك يا عصام".

فقالت:" رأيت وجهاً كالمرآة المصقولة... يزيّنها شعر حالك كأذناب الخيل، إن أرسلته خلّته السلاسل، وأنّ مشطته قلت: عناقيد جلاها الوابل، وحاجبين كأنّهما خطّا بقلم أو سوداً بحمم (1)... وبينهما أنف كحدّ السيف الصنيع... حفّت به وجنتان (2) كالأرجوان (3) في بياض كالجمان (4). شقّ فيه فم كالخاتم، لذيذ المبتسم، فيه ثنايا غرّ ( بيضاء )، ذوات أشرّ ( الأشر تباعد بين الأسنان)، تقلّب فيه لسان بفصاحة وبيان، بعقل وافر وجواب حاضر، تلتقي فيه شفتان حمراوان تجلبان ريقاً كالشهد إذ ذلك.. وفي رقبة بيضاء ركبت كدمية… وعضدان ممتلئين لحماً، مكتنزين شحماً، وذراعين ليس فيهما عظم يمسّ ولا عرق يجسّ… نتأ في صدرها ثديان كرمانتين يخرقان عليها ثياباً.. تحت ذلك بطـن طويّ كطيّ القباطي المدجّنة (5).. كسي عكنا(6) كالقراطيس المدرّجة، تحيط بتلك العكن بسرة(7) كمدّهنّ (8) العاج المجلوّ.. خلف ذلك ظهر فيه كالجندول (9) ينتهي إلى خصر، لولا رحمة اللّه لا نبتر... لها كفل (10) يقعدها إذا نهضت، وينهضها إذا قعدت كأنّه دعص(11) رمل تحمله فخذان لفـا كأنّهما نضيـد الجمان (12). تحتهما ساقان خدلتان (13)، كالبردتين وشيتا (14) بشعر أسود كأنّه حلق الزرد (15).. ويحمل ذلك قدمان كحذو اللسان; فتبارك اللّه كيف تطيقان حمل ما فوقهما. وما أن سمع ملك كندة هذه الأوصاف، حتّى أرسل من يخطبها له من أبيها وتزوّج بها (الخشت: ص82-83 ).

وخلاصة القول: إنّ الحبّ عند العرب كان ينبعث ويتحرّك في النفس عن تأثير الحواسّ بجسد المرأة وإشعاعاته. وكان الجاهليّ يعجب بتحرّكات المرأة ويلمس فيها الجمال وفي هذا يقول الشنفري:

ويعجبني أن لا سقوط خمارهـا = إذا ما مشت، ولا بذات تلـفّت

كأنّ لها في الأرض نسياً تقصّه = إذا ما مشت، وإن تكلّمت تبلّت

وهذا ما يقوله الأعشى في وصف مشيتها:

غراء فرعاء، مصقول عوارضها = تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل.

كأنّ مشيتها من بيت جارتهـا = مرّ السحــــابة لا ريث ولا عجـــــل

ومن أجمل ما قيل في المرأة قول خالد صفوان في وصفه وجهه إلى أبو العبّاس السفّاح: " وحسبك من جمالها أن تكون فخمة من بعيد مليحة مـن قريب أعلاها قضيب وأسفلها كتيّب كأنّها كانت في نعمة ثمّ أصابتها فاقة فأثّر فيها الغنى وأدّبها الفقر ( عن كتاب العقد الفريد: كتاب المرجانة الثانية في النساء وصفاتها).

" وقـد ظلّت هذه الصفات الجسمانيّة في المرأة مثال إعجاب العربيّ وموضوع غزله واهتمامه إلى يومه هذا فلم يختلف بذوقه عن الجاهليّ في شيء كثير، وما زال تراثه القديم في هذه الناحية يعمل عمله في نفسه عن وعي منه وغير وعي" ( شرارة: ص. 78).

سئل أعرابيّ عن النساء، وكان ذا تجربة وعلم فقال: أفضّل النساء أطولهنّ إذ قامت، وأعظمهنّ إذ قعدت، وأصدقهنّ إذ قالت، والّتي إذا غضبت حلمت، وإذا ضحكت ابتسمت، وإذا صنعت شيئاً جوّدت، الّتي تطيع زوجها وتلزم بيتها العزيزة فـي قومها الذليلة في نفسها، الودود الولود وكلّ أمرها محمود (شرارة:ص.79).

قال عبد الملك لرجل من غطفان " صفّ لي أحسن النساء " قال " خذها يا أمير المؤمنين: ملساء القـدمين، ردحـاء الكعبين(1) مملوءة الساقين، جماء الركبتين (2) لفاء الفخذين، مقرمدة الرفغين(3)، ناعمة الإليتين، بداء الوركين، مهضومة الخصرين، ملساء المتنين، فخمة الذراعين، منيفة المأكميّتين (4)، فعمّة العضدين (5) فخمة الذراعين، رخصـة الكفّين (6) ناهدة الثديين، حمراء الخدّي، كحلاء العينين، زجاء الحاجبين(7)، لمياء الشفتين (8)، بلجاء الجبين(9)، شـماء العــرنين (10) شنباء الثغر (11) حالكة الشعر(12)غيداء العنق (13) غيداء العينين (14) مكسّرة البطن ناتئة الركب. فقال " ويحك وأنّى توجد هذه " قال " تجدها في خالص العرب أو في خالص الفرس (السنّاد: ص. 170).

قال خالد بن صفوان لأبو العبّاس السفّاح واصفاً محاسن المرأة:" إنّ منهنّ يا أمير المؤمنين الطويلة الغيداء والبضّة البيضاء والعنيقة الإدماء والدقيقة السمراء والبربريّة العجزاء ولو رأيت يا أمير المؤمنين الطويلة البيضاء والصفراء والعجزاء والسمراء واللعساء، والمولّدات البصريّات والكوفيّات ذوات الألسن العذبة، والقدود المهفهفة والأوساط المخصّرة والأصداغ المزرنفه والعيون المكحّلة والثدي المحققة. (شرارة:ص.107).

ومن بدائع وصف الحسناوات ما تسجّله قصّة ألف ليلة وليلة حيث جاء في وصف منار السنا:

" صاحبة وجه مليح وقد رجيح أسيلة الخدّ قائمة النهد دعجاء العينين ضخمة الساقين بيضاء الأسنان حلوة اللسان طريفة الشمائل كأنّها غصن مائل بديعة الصفة حمراء الشفة بعيون كحال وشفايف رقاق على خدّها الأيمن شامّة وعلى بطنها مـن تحت سـرّتها علامة ووجهها منير كالقمر مستديرة وخصرها نحيل وردفها ثقيل وريقها يشفي العليل كأنّه الكوثر والسلسبيل، وبين فخذيها تخت الخلّاقة، وهي بنت الملك الأكبر (عبداللّه بوحديبة:" الإسلام والجنس ص.196).

وقد نظر خالد بـن صفوان إلى جماعة في المسجد في البصرة فقال ما هذه الجماعة؟ قالوا امرأة تدلّ على النساء. فأتاها فقال لها: أبغي امرأة قالت: صفها لي. قال:" أريدها بكراً كثيب، أو ثيّب كبكر، حلوة من قريب فخمة من بعيد، كانت فـي نعمة، فأصابتها فاقـة، فمعها أدب النعمة، وذلّ الحاجة. فإذا اجتمعنا كنّا أهل دنيا، وإذا افترقنا كنّا أهل آخرة. قالت المرأة: لقـد أصبتها لك. قال: وأين هي. قالت: في الرفيق الأعلى من الجنّة فاعمل لها. (محمّد عثمان الخشت: ص.87)

وإذا كان العرب قـد أجادوا في وصف محاسن المرأة وأسرار جمالها فأبدعوا فـي ذلك وفجّروا عبقريّتهم الشاعريّة فإنّ ملامح هذه الصورة الجماليّة ما زالت راسخة في العمق الوجدانيّ للإنسان العربيّ. يقول بوعلي ياسين:" نلاحظ أنّ المفهوم الجماليّ لدينا نحن العرب قد تأثّر بعلاقـة المرأة بالطبيعة والحضارة، فالرجل الأسمر الّذي لوحته الشمس جميل مثلما هي جميلة المرأة ناصعة البياض الّتي لم تر الشمس وجهها. " ولا أقول إنّ المرأة العربيّة هـي الّتي اخترعت هذا الفهم الجماليّ ولكنّها فـي الأحوال كلّها تتصرّف بمقتضاه" (بوعلي ياسين ص.112).

يقول نزار قبّاني في هذا الخصوص:" الانفعال بجمال المرأة كان صحراويّاً بمعنى أنّ أمير الشعراء شوقي لم يستطع أن يتحرّر وهو في باريس وإسبانيا وجارون سيبني من رنين خلاخل البدويّات ووسمهنّ وكحلهنّ وأوتاد خيامهنّ (قبّاني: ص.22).

بهذا يتبيّن لنا أنّ الأدباء العرب القدامى وأيضاً فقهاء اللغة وقـد نظروا إلى جمال المرأة على أسس تكامليّة بين جميع أعضاء الجسد ومكوّناته. وهذا يظهر وجه التشابه بينهم وبين نظرة اليونان إلى الجمال الأنثويّ، وإن كان كلّ منهم يلجأ إلى شكل مختلف من أشكال التعبير الفنّيّ. فإذا كان العربيّ القديم يلجأ إلى رسم لوحة شعريّة بالكلمات للأنثى الجميلة، فإنّ اليونانيّ القديم كان يلجأ إلى فنّ النحت، فينحت تمثالاً لـ (فينوس) يضع فيه أجمل وأروع ما رأته عيناه أو خطر بخياله مـن صفات الحسناوات.

تؤكّـد أحـدث الدراسـات عـلى أنّ العـامل الجسـديّ الشـكليّ هو أكثر العـوامل تـأثيراً في انجذاب الأطفال والفتيات بعضهم إلى بعض، فمن كان شكله جذّاباً منهم ذكر أو أنثى يحظى بقبول أكبر وحبّ أعظم. فقـد جاء في دراسة قام بها وجنز Wiggins سنة 1968م ودراسة أخرى قـامت بهـا سالي بك Sally Beck في جامعة بتلر بأمريكا سنة 1979: أنّ الفروق الفرديّة بين الرجال في اختيارهم للإناث تعكس خصائص شخصيّة الذكر وخلفيّته الاجتماعيّة والثقافيّة والحضاريّة، وهذا يتّضح كالآتي: إنّ الرجال الّـذين يختارون الأنثى البدينة هـم عادة غـير مستقرّين عاطفيّاً، واهتماماتهم قليلة بالتحصيل الأكاديميّ والأمور الجماليّة.

***

عليّ أسعد وطفة

......................

الهوامش:

(1) الهركولة مـن النساء: العظيمة الوركين واللفاء: الّتي ضاق ملتقى فخدّيهـا لكثرة لحمهـا.

(2) الممكورة: ذات الساق الغليظة المستديرة الحسـناء.

(3) الجيداء: الّتـي طـال عنقها وحسن.

(4) الطرف: العين. ويقال: طرف فاتر: فيه ضعفت مستحسن.

(5) الردف: العجز ومؤخّر كلّ شيء.

(6) (أسل) أسالة: ملس واستوى فهو أسيل. ويقال خدّ اسيل، وكفّ أسيلة الأصابع.

(7) (كـعبت) الفتـاة-كعوبـاً: مهد ثديها، أي برز وارتفع، فهو كعـاب وكـاعب.

(8) الـرداح الـوركين: أيّ ضخمة تردف سمينة الاوراك.

(9) الرخيمة الكلام: الّتي لان كلامها ورق ولطف.

(1) الحممـة: بـوزن رصيّة: ما أحرق من خشب ونحوه. والجمع بحذف الهاء ويقصـد كأنّمـا سـوداً بفحـم.

(2) الوجنـة مـا أرتفـع من الخدّين

(3) الأرجوان: شـجر مـن الفصيلـة القرنيّة له زهر شديد الحمرة حسن المنظر وليسـت له رائحة.

(4) الجمان: الفضّة.

(5) القباطىء: جمع قبطيّة ثياب من كتّان بيض رقاق كانت تنسج بمصر المدرّجة والملفوف في الملامسة.

(6) عكنت: الجارية: صارت ذات عكن، وتعكّن البطن: صار ذا عكن والعكنة: ما انطوى وتثنّى من لحم البطن سمناً.

(7) البسرة: واحدة البسـر، وهو الغضّ من كلّ شيء.

(8) المدهن: آلة الدهن وقارورته.

(9) الجـدول: النهـر الصغـير.

(10) الكفـل: الـردف أيّ مؤخّرة المرأة وعجيزتها.

(11) الدعص: الكثيب والمجتمع من الرمل المستدير.

(12) نضيـد: الجمان اللؤلؤ المنظوم الفضّة المنضدية الّتي يكون بعضها فـوق بعـض.

(13) حدلتــا: مملؤتــان.

(14) وشــيئاً: حليتــا وزينتا.

(15) الزرد: الدرع.

المراجع:

1- عبداللطيـف شرارة:" فلسفة الحبّ عنـد العرب "، مكتبة الحياة، بيروت،.1960

2-جـلال السـناد: "دراسة سوسيولوجيّة للأمثال الشعبيّة في دير الزور " أطروحة ماجستير، كلّيّة الآداب جامعة دمشق، دمشق،.1988

3-بـوعـلي ياسين:" أزمة المرأة في المجتمع الذكوريّ العربيّ "، دار الحوار، اللاذقيّة،.1992

 4- نزار قبّاني:" عـن الشعر والحبّ "، بيروت، دار العلم للملايين بيروت، 1976.

5- محمّد عثمان الخشـت:" المرأة المثاليّة في أعين الرجال "، مكتبة ابن سينا، القاهرة، 1988.

6- عبداللّه بو حديبة: " الإسلام والجنس "، تعريب هالة العوري، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1987.

7- سلوى خمّاش: " المرأة العربيّة والمجتمع التقليديّ "، دار الحقيقة بيروت،.1981

8- أوسـفلد شـفارتس:" علـم النفس الجنسـيّ "، تعـريب شعبان بركات، المكتبة العصريّة، صيداً، بيروت، 1972.

9- نور الدين العتر: " ماذا عن المرأة "، دار الفكر، دمشق 1979.

10- خـليل أحمد خليل:" المرأة العربيّة وقضايا التغيير: بحث اجتماعيّ في تاريخ القهر النسائيّ "، دار الطليعة، بيروت،.1985

11- صـلاح الدين المنجّد:" أمثال المرأة عند العرب: ما قالته المرأة العربيّة ومـا قيـل فيهـا "، دار الكتـاب الجديد، بيروت، لبنان.1981.

الاغتراب ليس عرضا طارئا في حياة الانسان الواعي، بل هو جرح وجودي عميق، يتفتح كلما اشتد الوعي واتسعت المسافة بين ما نحن عليه وما يراد لنا ان نكونه. انه ذلك الشعور الخفي بانك حاضر بجسدك، غائب بروحك؛ تمشي بين الناس لكنك لا تسكن معهم، تسمع لغتهم ولا تعثر فيها على صوتك، تشاركهم المكان وتفقد المعنى.

الاغتراب ان تجبر على التعايش في عالم لا يشبهك، ان تنفجر داخليا بافكار تعد فائضة عن الحاجة في نظر الاخرين، ان تتكلم فلا يسمع صوتك، او يسمع دون ان يفهم. هو ان تتحول ذاتك الى هامش، وحقيقتك الى عبء، فتعلم الصمت لا بوصفه حكمة، بل بوصفه ملجأ. هناك، في الزوايا المنسية من الحضور الاجتماعي، يولد الاغتراب بوصفه انسحابا انيقا من عالم لا يعترف بالاختلاف.

وفي لحظة صفاء موجعة، تهمس الذات لنفسها: انا لا انتمي الى هنا. ليس لان المكان طارد بالضرورة، بل لان الروح اوسع من الجدران، والفكرة اسبق من الزمن، والوعي غالبا يولد يتيما في مجتمعات تميل الى التماثل وتخشى الفرادة. وهنا يتداعى السؤال الفلسفي الجوهري:

هل الانتماء هو الذوبان في الجماعة؟ ام ان قوته الحقيقية تكمن في الحفاظ على الخصوصية دون ان تتحول الى عزلة قاتلة؟

اعمق اشكال الاغتراب ليس اغترابنا عن العالم، بل اغترابنا عن انفسنا. حين نتصرف بطرق لا نفهمها، حين نخاف مما نحن عليه، حين نرتدي وجوها ليست لنا، ونتكلم بلغات لا تعبر عن نبضنا. هناك يصبح الانسان غريبا حتى بين اقرب الناس اليه، ويحل الفراغ محل الامتلاء، والخواء محل المعنى، ويبدو العالم كانه مسرح بلا حقيقة.

وقد يولد الانسان في المكان الخطا، لكن مأساته الكبرى ان يولد في الزمن الخطا؛ ان يكون عقله سابقا لعصره، يرى ما لا يرى، ويحلم بما لم يخلق بعد. يقضي حياته يصف للاخرين عالما لا يستطيعون تخيله، بينما يعجز هو عن اغماض عينيه عن دهشته به. هنا يصبح الاغتراب قدر الوعي، وضريبة البصيرة.

في هذا المعنى، يتحول الاغتراب الى ازدواج قاس: ذات اجتماعية مفروضة، وذات داخلية تتاكل صمتا. يعيش الفرد ممزقا بين ما يحلم به وما يستطيع تحقيقه، بين ما يريد ان يكونه وما يسمح له ان يكونه. وحتى على مستوى الجماعات، تعيش مجتمعاتنا العربية اغترابا مركبا: بين ماض يرفض الرحيل، وحاضر يابى الحضور، فتتآكل الهوية في فجوة الزمن.

لقد تنبه الفلاسفة مبكرا الى هذه الماساة. رآها هيغل اغترابا للروح عن ذاتها، ورآها ماركس اغترابا للانسان عن عمله وعالمه، وقرأها اريك فروم بوصفها اغترابا نفسيا في حضارة تستهلك الانسان بدل ان تنقذه. اما الوجوديون، فقد جعلوا منها قدر الانسان الحديث في عالم فقد يقيناته. كافكا كتبها من جسده المريض، ونيتشه صرخ بها من صداعه الوجودي، وماركس حفرها في جلده وروحه. وحتى فان غوخ، لم ير جمال العالم الا حين انكسرت روحه الى اقصى حد.

يقول كامو ان الانسان لا يجد معنى لحياته الا في تمرده على العبث، ويصف لوكاش الاغتراب بانه احساس الانسان بان عالمه الذي صنعه بيديه لم يعد وطنه، بل سجنه. ويعلن نيتشه، مع موت الاله، انهيار القيم القديمة، تاركا الانسان وحيدا في مواجهة فراغ المعنى، عقلا متفوقا في عالم لا يطيق تفوقه.

لهذا، قد يكون الاغتراب مرحلة ضرورية للصحة العقلية في مجتمع مختل؛ عزلة مؤقتة تنقذ الذات من الذوبان، ومسافة تامل تحمي الانسان من المسخ. فالاغتراب، رغم قسوته، قد يكون بابا للبحث، ودافعا لاختراع زمن اخر، وفضاء ارحب من سجن الحاضر الخانق.

نحن، في جوهرنا، كائنات منفية. نحيا ونحن نعرف اننا سنموت، والموت اقسى اشكال الغربة. ناتي الى العالم غرباء، ونغادره غرباء، وبين الدخول والخروج نحلم بالعودة الى معنى لم نعرفه يوما. ولهذا، فان اشد ما يؤلم في الاغتراب ان تكون متصلا بواقع لا تستطيع تغييره، ولا تستطيع مغادرته.

ان اشد اشكال الاغتراب قسوة هو ذلك الذي يجعلنا نعيش حياة لا تشبهنا، ونؤدي ادوارا لا تعبر عنا، فنفقد انفسنا ونحن نحاول التكيف. وحين يصبح التكيف خيانة صامتة للذات، يتحول الاغتراب من وجع الى موقف، ومن عزلة الى شكل من اشكال المقاومة الداخلية.

لسنا مطالبين بالذوبان كي ننتمي، ولا بالانسحاب كي نحيا. انما نحن مطالبون بان نحفظ جذوة المعنى داخلنا، وان نصون اختلافنا بوصفه قيمة لا لعنة. فالعالم لا يتغير بالصخب وحده، بل بالوعي الذي يرفض ان يتحول الى نسخة مكررة.

قد لا نختار زمننا، ولا مجتمعنا، لكننا نختار الا نفقد ذواتنا داخلهما. نختار ان نكون غرباء بكرامة، لا مندمجين بلا روح. فالاغتراب، حين يعاش بوعي، لا يصبح نهاية الطريق، بل بدايته؛ طريق العودة الى الذات، الى الحرية، والى انسان لم يتصالح بعد مع الزيف، ولن يفعل.

فكيف نواجه تيهنا وهشاشتنا؟

ربما لا يكون الحل في الرحيل المكاني، بل في الرحيل الوجودي. ان نغادر كل ما يرهق الروح، ان نهجر ضيق العقول، وضجيج الكلمات المستهلكة، والسير خلف القطيع بلا تفكير. ان نرحل دائما الى حيث نجد ذواتنا، ولو كان ذلك في اعماقنا

هناك فقط، يتحول الاغتراب من لعنة الى وعي، ومن عزلة الى حرية صامتة، ومن جرح الى افق.

ذلك وحده خلاصنا الممكن في عالم يصر على ان يجعل من الانسان مسخا بلا ملامح.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

John Nosta

ترجمة: حاتم حميد محسن

***

في الشطر الأكبر من التاريخ الإنساني كان الذكاء نادرا، التفكير أخذ وقتا، والفهم العميق والبصيرة وصلا ببطء وتشكّلا بالتجربة المعاشة. الادراك وجد عقبات وهذه العقبات منحته جوهرا ووزنا. هذا الافتراض ينهار اليوم.

الذكاء الصناعي جعل الادراك غزيرا لكنه محفوفا بالمخاطر. الأجوبة تصل فورا والأنماط تظهر بسهولة تامة او بجهد قليل جدا. الحكم مغلّف تكنلوجيا ويُمنح بثقة تنافس ان لم تتجاوز ثقتنا. المسألة الرئيسية هنا هي ان هذا ليس مجرد تقدم تكنلوجي آخر وانما يجسد المرة الأولى التي يبدو فيها الادراك البشري نفسه على منحنى التقادم. نحن استبدلنا الأدوات السابقة، لكننا لم نستبدل ابدا التفكير. ذلك يفسر لماذا تبدو هذه اللحظة مختلفة جدا. الذكاء الصناعي لا يوسع جهد الانسان بنفس الطريقة التي توسع بها المكائن العضلات او السرعة. انه يشغل منطقة كنا نفترض انها متفردة للإنسان بما في ذلك الاستدلال والتركيب والتفسير. في عدة مجالات، يؤدي الذكاء الصناعي عادة وظائف اكثر كفاءة من الانسان. وهذا ادّعاء يرفضه العديد من الناس لأنه يتناقض مع الكيفية التي فهمنا بها التقدم – بطيء عموما ومتدرج وتتخلله تغيرات مفاجئة.

الذكاء الصناعي متفوق على الانسان في كل شيء بدءاً من تشخيص المشكلة الى الابتكار. هذه لم تعد حالات غير مألوفة او عروض توضيحية معملية وانما حقائق عملية مندغمة في حياتنا. وحتى الاخلاق التي لطالما عوملت على انها إنسانية آمنة، اثبتت انها اكثر قابلية للتنظيم الممنهج مما هو متوقع. القيود الأخلاقية يمكن كتابتها والمقايضات يمكن صياغتها بشكل رسمي، وحتى الممنوعات يمكن ادارتها . ما شُعر به يوما ما كإنسان غير قابل للاختزال يدخل وبشكل متزايد ضمن أنظمة الذكاء الصناعي. ربما الاكتشاف الغريب هنا ليس ان المكائن تفتقر للأخلاق وانما ان معظم ما نسميه تفكير أخلاقي كان اكثر إجرائية ورسمية مما نرغب الاعتراف به. السؤال لم يعد ما اذا كان الذكاء الصناعي سيصبح متفوقا معرفيا. في عدة وجوه، هو سلفا كان كذلك. السؤال الأعمق هو ماذا يحدث عندما يغير الذكاء ذاته الصنف. عندما يصبح الذكاء وفيرا، تتغير قيمته. ما يصبح نادرا ليس الادراك وانما الملكية. التحول الجوهري هنا هو من البصيرة والفهم العميق الى المسؤولية. وبعبارة أخرى، انه ليس الأجوبة وانما المسؤولية التي تحفز عليها تلك الأجوبة.

هذا هو عبء الذكاء

عندما يصبح الذكاء الصناعي اكثر قدرة، سترتفع كلفة الانفكاك عنه. التوصية المعيبة من نظام قوي تحمل عواقب اكثر من تلك التي تأتي من وسيلة اختيارية محدودة. وفي هذا السياق يصبح التفويض اكثر اغراءً في المكان الذي يكون فيه أكثر خطورة. كلما كان الذكاء الصناعي أذكى كلما كان التوقف والانفكاك أسهل، وبعمل كهذا يكون السعر أعلى .

هنا الحقيقية الرئيسية: الذكاء الإنساني لم يعد يُعرّف بواسطة انتاج أجوبة افضل. انه يُعرّف عبر تحمّل نتائج الأجوبة التي لا نفهمها بالكامل. العديد منا يشعر سلفا بهذا التحول حتى لو لم نسميه. عدم الارتياح الصامت الناتج من تأييد توصية غير مقتنعين بها. الدفاع المزعج عن استنتاج يبدو صحيحا لكنه جاء من مكان آخر. هذه اللحظة عندما تكون مخرجات الذكاء الصناعي ذكية ويصعب تحدّيها، وهي أيضا اللحظة التي تقع فيها المسؤولية علينا بشكل كامل. عدم الراحة تلك ليست فشلا. انها شعور بالذكاء دون تأليف.

هذا العبء ربما اكثر تحديا. انه يتطلب "حضورا معرفيا" في أنظمة صُممت لكي يبدو فيها حضور الانسان غير ضروري. انه يدعونا لنبقى مسؤولين في اللحظة التي تدعو بها الأتمتة الى الاستسلام. هذا قد يدفعنا نحو هامش صنع القرار، وهذا الهامش ليس تافها.

تلك هي النقطة التي تتصادم عندها القيم، ويتراكم الأذى، وحيث يكون انخراط الانسان في الأفكار غير التقليدية أقل اختيارا وأكثر ضرورة. الخطورة الواقعية للذكاء الصناعي ليست في ان المكائن سوف تفكر أفضل منا. هي في ان التفكير سيشعر انه تام بدوننا. اذا كان الادراك البشري يتضاءل فلا يمكن ان يكون رد الفعل فقط في فكرة لاحقة او حنينا الى الماضي. انه يجب ان يكون يقظة متحققة من خلال الرفض المستمر والجاد للانسحاب فقط بسبب ان الذكاء لم يعد يتطلب مشاركتنا. اليقظة ليست مشاهدة من مدرجات وانما ان تبقى حاضرا معرفيا داخل تكنلوجيات تعمل بشكل مثالي بدوننا.

ان مستقبل الذكاء ليس منافسة بين أذهان. انه اختبار لما اذا كان الناس يرغبون بالبقاء مسؤولين في عالم لم يعد فيه الذكاء يحتاجهم للعمل.

ان عبء الذكاء ليس حول الحفاظ على سيادة الانسان وانما حول رفض التخلي عن المسؤولية فقط لأن التفكير اصبح سهلا، ذلك العبء سوف لن يختفي مهما كانت درجة ذكاء أجهزتنا.

***

............................

The Burden of intelligence, psychology today Dec17,2025

John Nosta منظّر في الابتكار ومؤسس مركز Nosta Lab وهو مركز أبحاث تكنلوجي معترف به عالميا لرؤيته المحفزة للتحول الرقمي.

 

تأملات في اليوم العالمي للغة العربية (18 ديسمبر)

في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام، يُحتفى باليوم العالمي للغة العربية، وغالبًا ما يأتي هذا الاحتفاء في صورة خطاب احتفالي يستحضر جمال اللغة أو يؤكد بعدها الثقافي. غير أنني أعتقد أن هذا التناول، على أهميته الرمزية، لا يقترب بما يكفي من السؤال الجوهري الذي يستحق التوقف عنده في مثل هذه المناسبة. فالسؤال، في تقديري، ليس: كيف نحتفي باللغة العربية؟ بل: كيف نفهم موقع اللغة داخل عملية التفكير نفسها؟ ومن هنا، لا يعود الحديث عن اللغة شأنًا لغويًا خالصًا، بل طريقًا لفهم كيفية تفكير الإنسان.

 ومن هذا المنطلق، أرى أن التحول الذي شهدته الفلسفة المعاصرة في فهم اللغة ينسجم تمامًا مع خبرتنا اليومية. فاللغة لم تعد تُفهم بوصفها أداة محايدة تنقل أفكارًا جاهزة، بل بوصفها المجال الذي تتكوّن فيه الفكرة أثناء تشكّلها. ويتضح ذلك ببساطة حين أجد نفسي أشرح فكرة ما، ثم أكتشف أنني لم أكن أفهمها جيدًا قبل أن أبدأ في شرحها. في هذه اللحظة، لا تكون اللغة مجرد وسيلة نقل، بل طريقة للفهم ذاته. وبهذا المعنى، تصبح اللغة العربية جديرة بالاهتمام الفلسفي لا لأنها تراث عريق فقط، بل لأنها تكشف بوضوح عن العلاقة الوثيقة بين القول والتفكير.

وانطلاقًا من هذه العلاقة، ألاحظ أن تجربتنا اليومية تؤكد أننا لا ننتج أفكارًا مكتملة ثم نبحث لها عن ألفاظ مناسبة، بل إن الفكرة نفسها تتبلور أثناء التعبير عنها. فعندما يقول شخص: "خليني أرتّب كلامي"، فهو في الواقع يعبّر عن حاجة أعمق، هي ترتيب الفهم لا ترتيب الكلمات. ولذلك، لا يمكن النظر إلى اللغة باعتبارها مرحلة لاحقة للتفكير، بل باعتبارها جزءًا من بنيته الداخلية. وهذا ما يظهر بوضوح في العربية، حيث إن اختيار الفعل أو الاسم، أو تقديم كلمة وتأخير أخرى، لا يغيّر شكل الجملة فقط، بل يغيّر طبيعة المعنى المتكوّن. وهكذا، يصبح النطق نفسه لحظة من لحظات التفكير.

ومن هنا، نصل بشكل طبيعي إلى علاقتنا بالتجربة المعاشة. فأنا أعتقد أن الإنسان لا يعيش التجربة أولًا ثم يفهمها لاحقًا، بل يفهمها وهو يحاول التعبير عنها. فعندما أقول: "أنا متلخبط"، لا أكون بصدد وصف حالة ذهنية جاهزة، بل أقوم بتحويل شعور غير واضح إلى صيغة يمكن إدراكها والتعامل معها. ومن خلال هذا التحويل، تساعدني اللغة على بلورة تجربتي بدل أن تبقى غامضة ومبعثرة. وفي هذا الصدد، يتجلّى ثراء العربية في قدرتها على تشخيص الحالات الوجدانية الدقيقة، مثل: حيرة، ارتباك، تردّد، قلق خفيف، وعدم ارتياح. فالتسمية هنا ليست ترفًا لغويًا، بل أداة لإعادة صوغ التجربة وتحويلها إلى خبرة مفهومة قابلة للتداول. وانطلاقًا من هذا التنظيم الدقيق للتجربة، يمكن استنتاج أن اللغة العربية لا تتعامل مع الخبرة الإنسانية بمنطق الحسم أو القطع، بل بمنطق التدرّج. فنحن في حياتنا اليومية نادرًا ما نكون في حالة يقين كامل أو رفض مطلق، والعربية تعكس هذا الواقع بصدق. نقول: أفهم جزئيًا، مقتنع إلى حدّ ما، الصورة غير واضحة تمامًا، القرار لم ينضج بعد. هذا التدرّج لا يمثّل ضعفًا في التعبير، بل دقّة في التفكير؛ إذ يجنّب العقل الوقوع في أحكام نهائية متسرّعة، ويُبقي مساحة للمراجعة وإعادة الفهم. وبهذا المعنى، لا تخدم العربية البلاغة فحسب، بل تدعم التفكير الناقد في أبسط صوره اليومية.

ومن هذا التدرّج، نصل إلى مسألة المعنى. فالمعنى، في رأيي، لا يتكوّن داخل الفرد وحده، ولا يُختزل في الكلمات ذاتها، بل يتشكل داخل موقف تواصلي مشترك. فكثير من العبارات التي نستخدمها يوميًا لا يمكن فهمها بمعزل عن السياق، مثل: "واضح بس مش قوي" أو "مش مقتنع بس فاهم". فهذه العبارات لا تُفهم من خلال الكلمات فقط، بل من خلال النبرة، واللحظة، والعلاقة بين المتكلمين. ومن هنا، يتضح أن اللغة ليست نظامًا مغلقًا من القواعد، بل ممارسة يومية للفهم المشترك، وهو ما يفتح الباب للتفكير في سوء الفهم وحدود التعبير وإمكانات التواصل الإنساني.

وعلى هذا الأساس، أرى أن النظر إلى اللغة العربية من زاوية الاحتفال وحدها يُفقدها بعدها الأعمق. فالاحتفال، مهما تكرر في ديسمبر وتحديدًا في الثامن عشر منه، يظل ناقصًا إذا لم يُصاحبه وعي بدور اللغة في تشكيل التفكير. أما حين ننظر إلى العربية بوصفها شرطًا من شروط الفهم، فإننا ندرك أنها ليست مخزونًا لغويًا ساكنًا، بل أداة حية لصياغة التجربة الإنسانية. فاللغة لا تصف الواقع فقط، بل تساهم في تكوينه ذهنيًا، وبهذا تكون العربية شريكًا رئيسًا في التفكير، لا مجرد وعاء له.

وانطلاقًا من هذا الفهم لدور اللغة داخل عملية التفكير، يمكن صياغة عدد من التوصيات التي لا تهدف إلى إصدار أحكام، بقدر ما تسعى إلى لفت الانتباه إلى إمكانات اللغة العربية كما نعيشها في ممارساتنا اليومية.أولًا: أوصي بتجاوز النظر إلى اللغة العربية بوصفها موضوعًا للاحتفال فقط، والنظر إليها بوصفها أداة حيّة للتفكير. ففي مواقف التردّد ومحاولات الفهم وإعادة شرح ما نشعر به، تظهر اللغة بوصفها جزءًا من عملية التفكير نفسها. فعندما يتوقف شخص ليعيد صياغة كلامه، فإنه لا يبحث عن ألفاظ أجمل، بل يحاول الوصول إلى فهم أدق لما يفكر فيه. ثانيًا: أوصي بالتعامل مع التعبير اللغوي باعتباره ممارسة للفهم، لا مجرد نقل لأفكار مكتملة. فكثيرًا ما تتضح الفكرة أثناء شرحها لا قبل ذلك. ومن هنا، فإن تحسين القدرة على التعبير في الحياة اليومية ينعكس مباشرة على وضوح التفكير، سواء في الحوار أو في الكتابة. ثالثًا:

أوصي بالإنصات الجاد للغة الحياة اليومية بوصفها مصدرًا مشروعًا للفهم الفلسفي. فالتعبيرات البسيطة التي نستخدمها دون وعي، مثل: "مش مرتاح" أو "حاسس بحاجة بس مش واضحة"، تكشف عن وعي دقيق بالتجربة الإنسانية، ولا تقل قيمة عن المفاهيم النظرية المجردة.رابعًا: أوصي باعتماد منطق التدرّج في التفكير والتعبير، بدل السعي الدائم إلى الحسم السريع. فاللغة العربية تتيح صيغًا تعبّر عن الفهم الجزئي وعدم الاكتمال، مثل: "إلى حدّ ما" و"لسه محتاج أفكر". واستخدام هذه الصيغ لا يعكس ضعفًا، بل وعيًا بحدود الفهم الإنساني. خامسًا: أوصي بفهم المعنى بوصفه نتاجًا تواصليًا يتكوّن داخل لحظة التفاعل، لا خاصية ثابتة للكلمات وحدها. فكثير من العبارات اليومية لا يُفهم معناها إلا من خلال الموقف والنبرة والعلاقة بين المتكلمين، وهو ما يؤكد أن التواصل فعل مشترك لا مجرد تبادل ألفاظ. سادسًا: أوصي بتجاوز اختزال اللغة في القواعد والتصحيحات الشكلية، خاصة في الممارسات اليومية. فعندما يعجز شخص عن التعبير، يكون السبب غالبًا تعثرًا في الفهم لا نقصًا لغويًا. ومساعدته تبدأ بالإنصات لتجربته، لا بتصويب لغته. سابعًا: أوصي باستخدام اللغة لوصف التجربة كما تُعاش، لا كما يُراد لها أن تبدو. فالتمييز بين الحالات الشعورية الدقيقة ليس ترفًا لغويًا، بل وسيلة لفهم الذات بعمق أكبر. وكلما ازدادت قدرتنا على التمييز الدلالي، ازداد وضوح علاقتنا بتجاربنا اليومية.

ومن خلال هذه التوصيات، يتضح لي أن اللغة العربية لا تُستعاد عبر الخطاب الاحتفالي وحده، بل من خلال استخدامها اليومي بوصفها أداة للفهم، وشريكًا في التفكير، ووسيلة لتنظيم التجربة الإنسانية. ومن هذا المنظور، يصبح التعامل مع اللغة بوصفها قواعد فقط اختزالًا لطبيعتها الحقيقية. فعندما يقول شخص: "مش لاقي الكلمات"، فهو في الغالب لا يعاني نقصًا لغويًا، بل تعثرًا في الفهم. ولهذا، أرى أن تدريب الإنسان على التعبير عن تجاربه اليومية هو في جوهره تدريب على التفكير نفسه. كما أن اختيار الكلمات في الحوار ليس مسألة شكلية، لأن الفرق بين قول: "أنت غلطان" وقول: "أنا محتاج أفهم وجهة نظرك" هو فرق في طريقة بناء العلاقة وأفق الفهم، لا في الصياغة وحدها.

وأعتقد أن التعبير التأملي، سواء في الكتابة أو في الحديث، هو تمرين فلسفي عملي، حتى وإن لم نسمّه كذلك. فعندما يصف الإنسان شعوره بدقة، لا يكون بصدد تسجيله فقط، بل يعيد تنظيمه ذهنيًا. والتمييز بين التعب والإجهاد والإرهاق ليس ترفًا لغويًا، بل وسيلة لفهم الذات بدقة أكبر. فكلما ازدادت قدرتنا على التمييز الدلالي، ازداد وضوح تفكيرنا وقدرتنا على التعامل مع تفاصيل الحياة اليومية.

وفي الختام، أرى أن اللغة العربية تظل حيّة بقدر ما نستخدمها لوصف ما نعيشه فعلًا: لحظات الحيرة، صعوبة القرار، عدم اليقين، ومحاولات الفهم بعد تجربة مربكة. ففي هذه اللحظات، لا تكون اللغة مجرد وسيلة للكلام، بل أداة للتأمل. ولذلك، فإن الاحتفال باللغة العربية في يومها العالمي لا يكون لأنها جميلة فقط، بل لأنها تفكّر معنا، وتساعدنا على فهم أنفسنا والعالم من حولنا.

***

أ.د/ علي الخطيب

أستاذ ورئيس مجلس قسم الفلسفة- كلية الآداب- جامعة المنيا

 

في الجذور النفسية والاجتماعية والدينية لأقدم الانفعالات الإنسانية

يُعدّ الحسد واحداً من أكثر الانفعالات الإنسانية حضوراً في التاريخ الفكري والاجتماعي والثقافي. ورغم قدمه، فإنّ الدراسات الحديثة ـ في علم النفس والاجتماع والدين والأنثروبولوجيا ـ تكشف أنّ الحسد ليس ظاهرة بسيطة أو سطحية، بل حالة مركّبة تتشابك فيها البنية النفسية للفرد بالمحيط الاجتماعي والثقافي والقيمي الذي يعيش فيه ويشكّل الحسد نقطة تماس بين السلوك الانفعالي والوعي الأخلاقي وبين الدافع الغريزي والبناء الحضاري ومن هنا تأتي أهمية دراسته كظاهرة إنسانية تتجاوز حدود الأخلاق الشعبية لتصبح موضوعاً للبحث العلمي وسيتم نثر ذلك عبر الاتي:

أولاً: الجذور النفسية للحسد

1.الحسد في علم النفس المعاصر.

يعرّف علماء النفس الحسد بأنه حالة انفعالية مؤلمة تنشأ عندما يشعر الفرد بنقص أو تهديد ذاتي نتيجة امتلاك الآخرين لميزة أو إنجاز أو مكانة لا يمتلكها هو ويختلف هذا التعريف عن الحقد والغيرة، فالحسد يقوم على المقارنة السلبية، بينما تقوم الغيرة على الخوف من فقدان ما يملكه الفرد أصلاً.

2. الحسد بوصفه صراعاً داخلياً.

يرى علم النفس التحليلي أن الحسد ينشأ من صراع بين رغبة الفرد في التميز وبين شعوره بعدم الكفاية. ومع تراكم التجارب، يتحول هذا الانفعال إلى "عدسة" ينظر من خلالها الفرد إلى نفسه والعالم، فيرى الآخرين على أنهم تهديد دائم، ويُفسّر نجاحاتهم على أنها اعتداء ضمني على قيمته الذاتية.

3. الحسد وعلاقته بالهوية.

تشير الأبحاث الحديثة إلى أنّ الحسد يرتبط بضعف البنية الهوية؛ فالأشخاص ذوو الهوية المستقرة والأهداف الواضحة أقل عرضة للحسد من غيرهم ويبرّر علم النفس هذا الارتباط بأنّ الهوية القوية تمنح الفرد مساحة كافية لفهم معاني الإنجاز وتقبل الفروق الطبيعية بين البشر.

ثانياً: المحركات الاجتماعية للحسد

1. الحسد كنتاج للبيئة الاجتماعية.

تتسع ظاهرة الحسد في البيئات التي تكثر فيها المقارنات: داخل العائلة المؤسسات، المجتمعات الصغيرة، أو المحيط المهني فالتنافس الحاد وضعف الفرص وشعور الأفراد بغياب العدالة الاجتماعية كلها عوامل تغذّي نشوء الحسد.

2. ثقافة الاستعراض وتأثير الإعلام الاجتماعي.

مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح الأفراد يعرضون لحظاتهم المنتقاة بعناية: السفر، الطعام الفاخر، الإنجازات، الكتابة والصور المثالية وهذا الاستعراض المستمر يخلق بيئة خصبة للحسد لأنّه يضع الأفراد تحت ضغط المقارنة الدائمة ويعزّز فكرة أن الآخرين يعيشون حياة أكثر جمالاً وكمالاً.

3. الحسد بوصفه أداة للضبط الاجتماعي.

بعض الأنثروبولوجيين يرون أنّ الحسد، تاريخياً، كان آلية لضبط التفاوت الاجتماعي داخل المجتمعات التقليدية فالمجتمع الذي يُدين التفاخر ويحتقر المستعلين على الناس إنما يستخدم "الخوف من الحسد" ليمنع الفرد من تجاوز حدود المقبول اجتماعياً.

ثالثاً: البعد الديني للحسد

1. الحسد في التراث الإسلامي.

قدّم الإسلام رؤية عميقة للحسد، فجعله من ثغور النفس الكبرى التي يجب حفظها وأشار القرآن الكريم إلى خطورته في قصة قابيل وهابيل، كما جعل "الحاسد إذا حسد" أحد الأصناف التي يُستعاذ منها ويبرز هنا التمييز بين الحسد (تمني زوال النعمة) وبين الغبطة (تمني مثل النعمة دون زوالها)، مما يجعل الحسد فعلاً أخلاقياً منحرفاً.

2. الحسد في الديانات الأخرى.

يتكرر التحذير من الحسد في المسيحية واليهودية والبوذية، حيث يُنظر إليه بوصفه انفعالاً مُفسداً للعلاقات، مدمّراً للنفس ومخرباً للسلام الداخلي وفي أغلب الفلسفات الروحية يعدّ الحسد دليل ضعف روحي وافتقار للسلام الداخلي.

3. الحسد كخلل في وعي الإنسان بالنعمة.

من الزاوية الدينية، الحسد ليس مجرد انفعال، بل خلل في رؤية الإنسان للرزق حيث يُنكر نسب النعمة إلى الله ويتعامل معها كما لو كانت ملكاً شخصياً يجب أن يُقارن بالآخرين ومن هنا يصبح الحسد نوعاً من الاعتراض الضمني على الحكمة الإلهية.

رابعاً: الحسد في الفكر الفلسفي والأدبي

1. في الفلسفة اليونانية.

رأى أرسطو أن الحسد انفعال يعتري الأشخاص الذين يعتقدون أنهم يستحقون أكثر مما لديهم وأنه ينشأ من مقارنة الذات بآخرين يُنظر إليهم باعتبارهم متشابهين أما أفلاطون فقد اعتبر الحسد ضعفاً روحياً سببه اضطراب النفس ورغبتها في الامتلاك.

2. في الأدب العالمي.

تُجسّد الأعمال الأدبية الكبرى الحسد بوصفه قوة مدمّرة: عند شكسبير يظهر في “عطيل” و”الملك لير”، وفي الأدب الروسي لدى دوستويفسكي على شكل صراع داخلي ينتهي غالباً بالتحطيم الذاتي ويظهر في الروايات العربية الحديثة بوصفه انفعالاً يعكس التشوه الاجتماعي.

خامساً: الآثار السلوكية للحسد

1. على الفرد يؤدي الحسد الى انخفاض احترام الذات واضطرابات القلق والاكتئاب وفقدان القدرة على تطوير الذات وتشوه العلاقات وإضعاف الثقة بالآخرين.

2. على المجتمع يؤدي الحسد إنتاج ثقافة الخوف من النجاح وتعطيل العمل الجماعي داخل مؤسسات الدولة والقطاع الخاص وانتشار الخطابات السلبية والتنمر الإلكتروني وانكماش المبادرات الاجتماعية بسبب الخوف من "عيون الناس".

سادساً: ميكانيزمات العلاج والوقاية

1. على المستوى النفسي

تعزيز الثقة بالذات وإعادة تشكيل صورة الذات بعيداً عن المقارنات وتدريب النفس على الامتنان وتقدير ما هو متاح وممارسة التأمل وتمارين ضبط الانفعال.

2. على المستوى الاجتماعي بناء ثقافة وتشجع الإنجاز لا المقارنة والحد من مظاهر الاستعراض الاجتماعي وتعليم الأطفال مهارات الوعي بالذات وتقدير الفروق الفردية.

3. على المستوى الديني والأخلاقي واستحضار مفهوم الرزق والقدر والإكثار من الدعاء بأن يبارك الله للناس فيما أعطاهم والتحول من الحسد إلى الغبطة ومن المقارنة إلى العمل.

ختاما فان الحسد ليس مجرد شعور عابر ولا ظاهرة أخلاقية بحتة، بل هو انفعال معقّد يبدأ في النفس ويتضخم في المجتمع ويُعاد تفسيره ضمن دين وثقافة وحضارة ومع أنّ الحسد قديم قدم الإنسان، فإنه اليوم أكثر حضوراً بسبب ثقافة المقارنة التي تفرضها الحياة الحديثة. وما لم تبنَ لدى الفرد القدرة على إدراك قيمته الذاتية بعيداً عن أعين الآخرين، سيبقى الحسد عاملاً معطلاً للتنمية الشخصية والمجتمعية وإنّ فهم الحسد لا يهدف إلى إدانته فقط بل إلى تحرير الإنسان من دائرة الانفعال السلبي، وتحويله إلى دافع للعمل، والنمو والرقي.

***

د. رافد حميد فرج القاضي

في المثقف اليوم