قضايا

في جوهر رسالتها، تعد الجامعة منارة للمعرفة، ومصنعا للعقول، ومحركا للتنمية المجتمعية. ولكن، في ظل انظمة التقييم الجامعية الحالية، يبدو ان هذه الرؤية قد تشوهت، حيث تحول الاستاذ الجامعي الى "الة نشر" بلا روح، تهمل فيها الى حد كبير جوهر الرسالة الاكاديمية المتمثلة في التدريس والتطوير والاشراف والادارة وخدمة المجتمع. هذا التحول يطرح سؤالا ملحا: هل نحن نقيم علماء ام منتجين للاوراق؟ لقد تحولت استمارات التقييم الى اداة قمعية تكافئ من ينتج اوراقا بحثية – بغض النظر عن جودتها او مصدرها – وتهمش من يكرس وقته للتعليم والادارة والابتكار المجتمعي.

وهم الجودة واقتصاد الورق

لا تكمن المشكلة في تشجيع النشر العلمي، فهو بلا شك ركيزة اساسية للتقدم المعرفي. ولكن المازق يظهر عندما يحول النشر الى "معيار رئيسي" يقاس به اداء التدريسي، دون مراعاة عوامل حيوية تؤثر بشكل مباشر على جودة البحث وامكانية انتاجه.

اولا، يعاني التدريسيين من انعدام الميزانية البحثية. كيف يطلب منهم نشر ابحاث في مجلات مصنفة دوليا دون تمويل للمختبرات او شراء معدات ومواد حديثة او حتى دعم حضور المؤتمرات العلمية لتبادل الخبرات؟ يجبر التدريسي اما على تمويل ابحاثه من جيبه الخاص او جيوب طلابه، وهو امر غير مستدام، او اللجوء الى "مصانع الاوراق" (Paper Mills) التي تبيع ابحاثا جاهزة، او مواقع تقدم "نشرا سريعا" مقابل المال. هذا الوضع يفتح الباب امام الاختلاس الاكاديمي، حيث يتحول النشر الى مجرد وسيلة للبقاء الوظيفي، لا للاضافة العلمية الحقيقية. فهل حقا نريد بحوثا مزيفة تملا السيرة الذاتية، ام اسهامات علمية اصيلة؟

ثانيا، يجب الاخذ في الاعتبار التخصصات المختلفة. ليس كل تخصص ينتج ابحاثا بنفس الوتيرة. فبينما يمكن لناشري علوم البيولوجيا والكيمياء او الطب نشر عدة اوراق سنويا نظرا لطبيعة البحث التجريبي او التطبيقي الذي يسمح بتقسيم العمل، فان الباحث في الاقتصاد او التاريخ او الفلسفة او القانون قد يحتاج سنوات لانجاز دراسة رصينة تتطلب عمقا في التحليل وجمع البيانات والمراجعة. هذه الفروقات الجوهرية غالبا ما تهمل في انظمة التقييم الموحدة.

التدريس والادارة

الجامعة ليست معهدا بحثيا فحسب، بل هي في المقام الاول مصنع للعقول وموئل للطلاب ومصدر للالهام. ومع ذلك، تهمل جوانب اساسية في تقييم الاستاذ الجامعي. المحاضرات والاشراف على الطلبة وادارة الاقسام الاكاديمية والمشاركة في اللجان الجامعية المختلفة – كلها اعمال شاقة ومستهلكة للوقت والجهد، لكنها لا تقاس الا بـ"نقاط" شحيحة في استمارات التقييم. لماذا يعاقب الاستاذ الذي يكرس وقته لطلابه ويعمل على بناء قدراتهم ويصقل مواهبهم لانه لم ينشر العدد المطلوب من الاوراق البحثية؟

علاوة على ذلك، تعد خدمة المجتمع جزءا لا يتجزا من رسالة الجامعة. من يقيم الاستاذ الذي يقدم استشارات لمؤسسات حكومية او ينظم ورشا توعوية وتدريبية للمجتمع المحلي او يكتب مقالات توعوية تساهم في حل المشكلات المجتمعية؟ هذه مساهمات حقيقية وملموسة لا تقل اهمية عن ورقة بحثية تنشر في مجلة علمية، بل قد تفوقها تاثيرا على ارض الواقع. ومع ذلك، نادرا ما تحتسب هذه الجهود ضمن معايير الترقية او التقييم.

هل البحث ممكن بدون دعم مالي؟

يمكن القول بان البحث العلمي ممكن بدون ميزانية ضخمة، لكن بشروط وقيود كبيرة. يمكن اجراء بحوث نظرية تعتمد على المراجعات المكتبية، لكن حتى هذه تتطلب اشتراكات في قواعد بيانات دولية مرموقة (مثل Springer او JSTOR) التي غالبا ما تكون غير متاحة في معظم الجامعات، خاصة في الدول النامية. كما يمكن تحقيق تعاون دولي، لكنه يحتاج الى شبكة علاقات قوية وتمويل للسفر وحضور المؤتمرات، وهو امر مستحيل بدون دعم مؤسسي فعال. واخيرا، يمكن اجراء بحوث ميدانية بسيطة، لكنها تظل محدودة التاثير دون منصات نشر مفتوحة الوصول تضمن انتشارها ووصولها الى جمهور اوسع.

النتيجة الحتمية لهذا الوضع هي اما انتاج بحوث ضعيفة تنشر في مجلات وهمية (للوفاء بمتطلبات الترقية) في احيان كثيرة، او انسحاب الاساتذة من البحث نهائيا والتركيز على التدريس والادارة، وهو ما يعاقبهم النظام الحالي الذي يضع النشر على راس الاولويات والذي يجبرهم على سلوك طرق غير سليمة ونزيهة.

لماذا لا يطبق نموذج "الجامعات التعليمية"؟

في دول كثيرة حول العالم (مثل اليابان، وكثير من الجامعات الامريكية واللاتينية)، يطبق نموذج اكثر مرونة للتقييم، حيث يقسم الاساتذة الى فئتين:

- اساتذة بحثيون: حيث يعتمد تقييمهم بشكل اساسي على النشر العلمي والانتاج البحثي.

- اساتذة تعليميون: يعتمد تقييمهم بشكل اكبر على جودة التدريس والاشراف على الطلبة والابتكار في المناهج وخدمة المجتمع.

فلماذا نصر على نموذج واحد لا يناسب واقعنا ولا يلبي احتياجاتنا المتنوعة؟ هذا التمييز يسمح بتوجيه جهود الاساتذة نحو ما يتقنون، ويضمن التوازن بين الادوار المختلفة للجامعة.

الخلاصة

لتحقيق نظام تقييم عادل ومحفز، يجب علينا تجاوز هوس "سكوبس" وعدد الاوراق المنشورة كمقياس رئيسي للجودة. يتطلب الامر اعتماد مقاربة متوازنة وشاملة تاخذ في الاعتبار كافة جوانب الاداء الاكاديمي:

- الغاء هوس "سكوبس" كمقياس وحيد، واعتماد موازنة دقيقة بين التدريس والبحث العلمي والجهود الادارية وخدمة المجتمع. يجب ان يكون هناك وزن نسبي لكل من هذه الجوانب.

- تخصيص استمارات تقييم مختلفة للاساتذة الاداريين والتدريسيين البحت والباحثين لتعكس طبيعة عمل كل منهم بدقة.

- احتساب مراحل البحث، وليس فقط النشر النهائي. يجب ان تقدر الجهود المبذولة في مجريات البحث ومدى صعوبة اجرائه وفترة انجازه ونزاهة اجراءاته والحصول على قبول للمقالات وعمليات التحكيم والدعوات العلمية والمشاركة الفعالة في المؤتمرات العلمية.

- توفير دعم مالي حقيقي للبحث العلمي، بما في ذلك تمويل المختبرات وشراء المواد واشتراكات قواعد البيانات، ودعم حضور المؤتمرات. او، في حال عدم توفر هذا الدعم، يجب التوقف عن معاقبة من لا ينشر بسبب انعدام الموارد.

الجامعة ليست خط انتاج لاوراق بحثية، بل هي مؤسسة لصناعة الانسان وتنمية المجتمع. فلتكن معاييرنا انسانية وشاملة قبل ان تكون رقمية ومختزلة. كيف يمكننا ان نضمن ان الجامعات تنتج قادة ومفكرين ومبتكرين اذا كنا نقيم اساتذتها بناء على مقاييس ضيقة لا تعكس جوهر رسالتهم؟.

***

ا. د. محمد الربيعي

أكثرُ آيات الحج في القرآن تحثُ على ذكر الله على الدوام بغير انقطاع؛ لأن الذكر يُمثّل صحة النفس وتصفية القلب، وهما مقومان أساسيان لتوازن الإنسان من حيث الظاهر والباطن، ومن حيث الجلي والخفي، ومن حيث استواء القلب مع القالب ..

وليس من بعدٌ إلا التطهير !

والسلوك الطيّب يَتَمَثَّل في الذكر وبساطه العمل الصالح؛ إذْ العمل الصالح هو السلوك الذي لو دام بالقطع لأثمر النور؛ وهذا هو أصل طريق الله، يتأسس على الذكر ليكون هو نفسه البساط الذي يثمر النور، فضلاً عن جني الثمرة الدائمة: البقاء الموصول في رحاب المعيّة الإلهيّة.

من يلتفت إلى الأغيار، وهو في معيّة الله لم يذق من الحج إلا تعب المشقة والعناء؛ والحج كُلّه في الصورة الخارجية أغيارٌ في أغيار. وإرادة الله في ذلك لكأنها تتعمّد أن تحيطك بالأغيار من كل جانب لتقفك على اختيار واحد وهو: أن تتوجّه بقلبك إلى إزاحة السّوى، فلا يكن للغير عليك من سبيل إلا أن يكون عرضاً خارجاَ ليس إلا، وأن تقف تلك الإرادة بمطلق المعيّة فلا تتحدّد ولا تتقزم بل تنطلق إلى أجواء صافية راقية تسمو بسمو المدارك والملكات.

الحج، رمزُ عملي تطبيقي فعّال لوحدة القصد: وحدة التوجُّه ووحدة الغاية، وإشعار الناس كافة بأنهم في الله إخوان، وإن فرّقت بينهم المناسب والأمكنة وباينت بينهم المناصب والدرجات، وأنهم، وهم محرِمُون في صعيد واحد، يمثلون حالة الفطرة كونهم إخواناً متحابين أمام معبود واحد، لا ينظر إلى صورهم ولا إلى مناصبهم ولا إلى أموالهم، ولكن ينظر إلى قلوبهم وأعمالهم ونواياهم.

ولكن اللافت للنظر في مناسك الحج كلها هو الطواف، أمرٌ لا يُعلل إلّا بحكمة تدعو إلى التأمل؛ فالكعبة رمز التوحيد، وهيكله البيت العتيق، أراد الله أن يجسّد فكرة التوحيد في بيته العتيق فكانت الكعبة؛ فالطواف حولها استشعار العبد التوجّه إلى الله وحده بغير لوثة الشرك والوثنيّة، استشعاره باقياً في عالم الحقيقة والرضى، تاركاً للزيف وللوهم وللختل وللخداع، متجهاً بكليّته إلى حقيقة التوحيد مجسّدة أمامه في أول بيت مبارك وضع للناس.

ليس أسهل من أن تكون حركة الطواف حركة مستقيمة، ولكنها لحكمة إلهية بالغة كانت حركة دائرية، حكمة تجئ فيها ترقية من عَسَاهُ يطوف بالكعبة من حركة الأرض إلى حركة السماء.

فالحركة المستقيمة حركة طبيعة فيزيقية، حركة الحار والبارد والثقيل والخفيف، أو إنْ شئت قلت: حركة النار والماء والتراب والهواء. هذه حركة مستقيمة ليست كاملة بسبب أن لها أضداداً؛ فحركة الجسم الخفيف إلى أعلى كحركة النار والهواء، وحركة الجسم الثقيل إلى أسفل كحركة التراب والماء، ولكل من الحركتين أضداد.

أمّا الحركة الدائرية فلا ضدّ لها، هى أكمل الحركات الطبيعية ولذلك يختص بها العالم العلوي، عالم الأفلاك السماوية .. تذكر هنا فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأذكر معها تلك الحركة الدائرية الكاملة، حركة الكون بكل ما فيه ومن فيه، وأذكر إنها ليست مجرّد نقلة وكفى، ولكنها رمزٌ يجسّد معنى يبقى مع الزمن بل ويعلو على الزمن حتى يُفينه، ثم يظل المعنى باقياً حاضراً بعد فناء المحدثات.

لك أن تلاحظ: الحركة الدائرية الكاملة هى حركة الفاني حول الباقي، كحركة النيترون حول النواة دائرية، وحركة الحيوان المنوي حول البويضة دائرية، وحركة الأجرام السماوية حول مركزها دائرية؛ لأن مادة الأثير المختلفة بحكم طبيعتها عن العناصر الأربعة تجعل الأفلاك السماوية تتحرك حركة دائرية وليس لها ضد، ثابتة بلا تغيير، ثم حركة المتغير حول الثابت حركة طبيعية دائرية، وهى طبيعية؛ لأنها حيّة وفطريّة من طبيعة الكون الحي المفطور على السنن والنواميس الثوابت.

حركة الطواف تحقيق التوحيد، رمزٌ للحقيقة الإلهية العليا الخالدة، وجعل التوحيد حقيقة ملموسة مشهودة باقية، من خلالها يسبّح الكون كله للّه.

وسيبقى البيت العتيق عتيقاً؛ لأنه المركز الثابت الذي سيظل ثابتاً بتجسيد التوحيد تسبيحاً للخالق رغم فناء المتغيرات من حوله، وفناء الأضداد.

أما تعليل الطواف بسبع؛ فلا يسيغهُ في العقل شئ قدر ما يسيغهُ التكفير عن الخطايا وملاقاة الله تعالى بالندم والاعتذار. وقد قيل إنّ الملائكة لمّا خلق الله آدم جعله بشراً من طين قالوا (أتجعل فيها من يُفسد فيها ويُسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك؟) غضب الله عليهم، وكان من علائم غضبه أن أعرض عنهم، ولمّا أعرض عنهم فزعوا، فتملكتهم الضراعة وأجهشوا بالبكاء إشفاقاً من غضب الله، فذهبوا يعتذرون إليه ويطوفون بالعرش سبعاً كما يطوف الناس بالبيت الحرام وهم يقولون:

(لبيك اللهمّ لبيك ..

ربنا معذرةً إليك ..

نستغفرك ونتوب إليك)

فنظر الله إليهم ونزلت عليهم الرحمة، ووضع الله سبحانه تحت العرش بيتاً هو البيت المعمور ثم قال الله تعالى: طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش، فكان طوافهم به أيسر من طوافهم بالعرش.

ثم أمر الله الملائكة من سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتاً على مثال البيت المعمور، وأمر من في الأرض أن يطوفوا به سبعاً كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور .

هذا هو الجانب المقبول في الرواية تعليلاً للطواف فيما لو صدقت؛ فالطواف، فضلاً عن كونه توجُّهاً للحق وحده، فهو تجسيد للتوحيد وتكفير للخطايا واعتذارٌ للّه ثم قُربة منه تعالى .. وهو، من بعدُ، قدوة بطواف الملأ الأعلى حول العرش، ثم تحت العرش في البيت المعمور، ثم في الأرض، في البيت العتيق.

ومن يتأمل الروايات التي وردت في الحجر الأسود على اختلافها، يدرك من فوره إساغة الطواف بحركته الدائرية على النحو الذي ذكرناه، فالحاج يطوف حول الكعبة المعظمة سبعاً، وفي كل مرة يستلم الحجر الأسود، وهذا الاستلام له مغزاه ومعناه: إقرار بالتوحيد من جهة، واعتذار عن الخطايا والأرجاس من جهة ثانية، ثم تطهير، لهذا يعود الحاج بعد أداء الفريضة كيوم ولدته أمه خالياً من الخطايا والذنوب.

لقد كان الحجر الأسود أبيض ناصع البياض، فاسودّ من خطايا الناس .. يومها (وإذْ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبّل منّا إنك أنت السميع العليم)، ارتفع بناء الكعبة، ولمّا ارتفع البناء طلب إبراهيم إلى إسماعيل أن يجئ بحجر، فذهب إسماعيل إلى الوادي يطلب حجراً يضعه أبوه في البناء، وعاد فألفى عند أبيه حجراً فسأله: من جاءك بهذا الحجر؟

قال إبراهيم: (من لم يكلني إليك ولا إلى حجرك).

وكان جبريل هو الذي جاء به من السّماء، إذ كان قد رفع إليها حين أغرق الطوفان الأرض وقيل: إن جبريل جاء بالحجر الأسود حين هبط به آدم من الجنة، وكان شديد البياض فاسودّ من خطايا الناس. وقيل: إن الله عز وجل كان قد استودعه جبل أبي قبيس زمن طوفان نوح، فجاء جبريل ووضعه في مكانه، وبنى إبراهيم عليه، وهو حينئذ يتلألأ نوراً حتى أضاء بنوره شرقاً وغرباً وشمالاً ويميناً إلى منتهى أنصاب الحرم من كل ناحية، وإنمّا سودته أنجاس الشرك والجهالة وأرجاس الوثنية وزرايا الذنوب والخطايا..

وهنا تبرز حكمة الطواف سبعاً واستلام الحجر الأسود في كل مرة، وهى حكمة إلهية بالغة ما بلغ مقصودها، مردّها إلى رحمة الله تعالى، في شهود التوحيد، وفي تكفير الخطايا والذنوب، وفي الشعور بالتقصير تجاه الحق جلّ وعلا، والاعتذار إليه ما أمكن أن يكون الاعتذار أسفاً وندماً وإشفاقاً، وفي القُربة من الله الواحد الأحد، وليس، من بعد،ُ إلا التطهير .

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

في الوقت الذي تتزايد فيه دهشة الانسان تجاه قدرات الذكاء الاصطناعي التوليدي، ولا سيما برنامج " شات جي بي تي" الذي اقتحم أغلب تفاصيل حياتنا، وأصبح متاحاً للجميع نظراً لسهولة استخدامه والاستفادة من امكانياته المذهلة، يظهر في المقابل وجه آخر متحفظ يرى أن أنظمة هذا الذكاء تشبه " الببغاوات العشوائية " التي تقلد اللغة البشرية دون ادراك لمعناها، وأنها ليست أكثر من أدوات متقدمة لمعالجة البيانات، تفتقر إلى الفهم أو الوعي الحقيقي. صحيح أن علماء بارزين في مجال البرمجيات الذكية وصنّاعاً كباراً مثل بيل غيتس وإيلون ماسك، توقعوا اختفاء العديد من الوظائف التي يؤديها الإنسان، إلا أن كتاباً ألّفته عالِمتان هما إيملي بيندر، المتخصصة في اللغويات الحاسوبية بجامعة واشنطن، وأليكس هانا عالمة الاجتماع في جامعة كاليفورنيا، يوجه نقداً لاذعاً وساخراً للمبالغة في قدرات هذا الذكاء.

الكتاب الذي حمل عنوان "خدعة الذكاء الاصطناعي" يهدف إلى تفكيك الأساطير المحيطة بهذه التكنولوجيا، وكشف الأجندات الخفية وراء الترويج المفرط لها من قبل الشركات الكبرى التي تعمل على تضليل الجمهور من خلال تضخيم قدرات أنظمتها، كما أن هذه الشركات، باستخدامها الواسع لبرامج الذكاء الاصطناعي تهدد مستقبل الوظائف إذ تسعى إلى تقليل التكاليف على حساب اليد العاملة البشرية، ما يؤدي إلى فقدان الوظائف، وارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات خطيرة. من هنا، تدعو المؤلفتان إلى تشجيع التفكير النقدي، وعدم الانخداع بالدعاية التكنولوجية، والمطالبة بمساءلة تلك الشركات عن مخاطر ممارساتها الأخلاقية والإجتماعية .

من المؤكد أن " الببغاوات العشوائية " لن تقبل الهزيمة بسهولة، لأنها لا تفهم لغة " الأخلاق" البشرية، وستظل هيمنتها الخطيرة مصدر قلق للإنسان، إلى أن يظهر نوع من الذكاء الاصطناعي يمتلك ليس فقط المهارة، بل أيضاً العاطفة، والقلب، والقيم الأخلاقية التي تُميّز الإنسان عن الآلة .

***

د. طه جزّاع

 

في عصر يتسم بالتوتر المتزايد حول العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة ودور الدولة، من الحكمة التفكير بجذور اللامساواة وتحديد ما اذا كانت بطبيعتها غير عادلة. من وجهة نظر اقتصاد السوق، يمكن النظر الى اللامساواة ليست فقط كمحصلة طبيعية للديناميكيات الاقتصادية وانما ايضا كظرف يقود الابتكار والحراك الاجتماعي والنمو الاقتصادي. مع ذلك، ربما نسأل: هل هذه النظرة مقبولة أخلاقيا؟

في الاقتصاد الحر، لايبرز التفاوت الاقتصادي من تصميم مركزي وانما من تفاعلات طوعية بين الافراد. هناك عدة عوامل تساهم في هذه الاختلافات.

1- المهارات والمواهب المتفردة

كل فرد يمتلك قدرات ومعرفة تختلف من حيث الطلب عليها وقيمتها طبقا للسوق. فمثلا، طبيب جراح أعصاب متخصص قد يستلم أجر أكثر من المزارع – ليس بسبب ان الجراح كشخص له قيمة جوهرية اكبر وانما بسبب تعقيدية وتأثير خدماته التي تكون نادرة وذات خصوصية.

2- الأفضليات الشخصية والتضحيات الفردية

اللامساواة ايضا تعكس الاختيارات الفردية. بعض الناس يختارون العمل ساعات طويلة او يتحملون مخاطر مالية كبيرة عبر بدء مشروع عمل، بينما آخرون يفضلون التوازن بين العمل والحياة. هذه القرارات الشخصية لها تأثيرات اقتصادية.

3- الابتكار وخلق القيمة:

المضاربون الذين يطوّرون منتجات رائدة، مثل ستيفن جوبس في تطويره الايفون او ايلون ماسك وتطويره تسلا، يراكمون ثروات هائلة بسبب المنافع التي تخلقها ابتكاراتهم لملايين الناس. هذا المنظور لا يعني ان كل اللامساواة هي منصفة او مرغوبة وانما يعني ان الكثير منها يبرز من عمليات شرعية وأخلاقية ضمن نظام السوق الحر.

هل اللامساواة غير عادلة؟

يمكن معالجة أخلاق اللامساواة الاقتصادية طبقا لعلاقتها بالشرعية. اللامساواة الشرعية تبرز من الجدارة والابتكار والجهد الفردي. فمثلا، عندما يراكم شخص ما ثروة عبر خلق وظائف او تطوير منتجات تحسّن حياة الآخرين، فان هذه الثروة ليست فقط أخلاقية وانما ايضا مفيدة اجتماعيا. اللامساواة غير الشرعية تحدث عندما يستغل الفاعلون السياسيون او الاقتصاديون النظام للحصول على مزايا غير متناسبة. الاحتكارات المدعومة من الدولة او السياسات التي تفضل قطاعات معينة على حساب الاخرين هي أمثلة واضحة على اللامساواة غير العادلة.

جادل روبرت نوزيك بانه اذا كانت اللامساواة تبرز من تبادلات طوعية وتحترم حقوق الملكية، فيجب ان لا تُعتبر غير أخلاقية. لذلك، التركيز يجب ان لا يكون على اللامساواة ذاتها وانما على الظروف التي خلقتها.

إعادة توزيع الثروة: حل ام مشكلة؟

تهدف سياسات إعادة توزيع الثروة الى تقليل اللامساواة لكنها عادة تأتي معها أضرار جانبية:

1- تثبيط اقتصادي

الضرائب العالية على الدخل والثروة لا تشجع على العمل الشاق او الاستثمار والابتكار.

2- التخصيص غير الفعال للموارد

سياسات إعادة التوزيع عادة تنقل الموارد نحو برامج الحكومة التي هي أقل كفاءة من المبادرات الخاصة في معالجة الفقر.

3- التبعية المؤسسية

الإعانات الدائمة يمكن ان ترسخ تبعية هيكلية بدلا من ان تشحذ طاقة الافراد للتغلب على الفقر. ملتن فريدمن جادل بان سياسة فرض إعادة التوزيع تحطم الحوافز للجهود الانتاجية، وبالنهاية تؤذي كل من الفقير والغني في المدى البعيد.

اللامساواة وتقليل الفقر المطلق

العامل الاساسي في تفضيل الاقتصاد الحر هو قدرته على تقليل الفقر المطلق(1)، حتى مع استمرار اللامساواة النسبية او زيادتها. عبر الثلاثين سنة الماضية، خرج اكثر من بليون شخص من الفقر المطلق، خاصة في اقتصاديات تبنّت سياسات السوق المفتوح. وعلى الرغم من ارتفاع اللامساواة النسبية في العديد من هذه الدول، لكن الرفاهية الكلية تحسنت بشكل كبير. في بيئة السوق الحر تتحقق الشروط التالية:

1- المنافسة تقود الابتكار وخلق الوظائف:

تاريخيا، سمح تحرير التجارة للملايين من الناس في الدول النامية بالوصول الى وظائف ذات اجور عالية في قطاعات التصدير.

2- رأس المال الخاص يغذي النمو:

المستثمرون يبحثون عن الفرص في الاسواق الناشئة، يسهّلون نقل التكنلوجيا والبنية التحتية والوصول الى بضائع وخدمات عالية الجودة.

الدور الحيوي للمساواة أمام القانون

في نظام السوق الحر، لا يجب ان يستلم أي شخص تعامل تفضيلي من الدولة، سواء كان من خلال إعانات خاصة او تعليمات حماية او عقود حصرية. العدالة يتم ضمانها عندما يتنافس كل شخص تحت نفس القواعد، والمحصلات الاقتصادية تعكس بدقة جهود الافراد وقناعاتهم المتولدة من السلعة او الخدمة.

اللامساواة الاقتصادية في نظام السوق الحر ليست بالضرورة شرا يجب ازالته. بل هو سمة جوهرية للمجتمع الذي يقيّم الحرية الفردية والابتكار والتنوع في المواهب. مع ذلك، هذا لا يعني تجاهل اللامساواة اللاشرعية التي يجب ان تُعالج بشفافية ومؤسسات قوية تحمي حقوق الملكية والمنافسة العادلة. وكما يرى الاقتصادي فردريك هايك، ان العدالة الاجتماعية في مسعاها لمساواة المخرجات تخاطر بالتضحية بالحرية والازدهار اللذين لا يوفرهما الاّ السوق فقط. بالنهاية، الهدف يجب ان لا يكون فرض مساواة مادية وانما ضمان ان جميع الافراد لديهم فرص متساوية للوصول الى قدراتهم القصوى، وان يتحرروا من الحواجز المصطنعة وإكراه الدولة.

***

حاتم حمييد محسن

.....................

The Ethics of Inequality, Library of Economics and Liberty, May24, 2025

 الهوامش

(1) الفقر المطلق هو الحالة التي يفتقر بها الفرد لتلبية حاجاته الاساسية من طعام وماء وسكن وتعليم اساسي ورعاية صحية. يتم تحديد مستوى من الدخل دونه اي مقدار من الدخل يُعتبر فيه الفرد في فقر مطلق. ينتج الفقر المطلق عادة من الديون وزيادة السكان والكوارث الطبيعية والصراعات وعمالة الاطفال.

تتطلب الصور الرقمية معدات معالجة متطورة ودقيقة، تفتح بالفعل احتمالات لا حصر لها، جيدة أو سيئة اعتمادًا على الاستخدامات، تصبح من خلالها معالجة أيقونتها الزمنية سهلة للغاية. تقوم أداة التنقيح ببساطة بوضع شخصية ما على الشاشة لتعزيز وجودها من خلال تفتيحها أو تكبيرها، أو إزالتها من الصورة، يتم بعد ذلك إعادة تشكيل الخلفية على الشاشة، دون أن يكون من الممكن، حتى بالنسبة للعين المدربة، اكتشاف التلاعب.

وتقصدت الحديث عن هذا الحقل الملغم، على الرغم من تعقيداته التقنية والحاسوبية، لأهمية الإشارة في هذا السياق، إلى خطورة نسق الصورة في الاستخدامات الكمبيوترية الدقيقة، وتركزها في الأبعاد الثاوية لما يعيشه العالم الآن من قفزات وطفرات تكنولوجية خطيرة، تستعمل فيها كل أنواع السيبرانيات في أقصى درجات حضورها الاستخباراتي والثقافي والاجتماعي والنفسي.

ويمكن هنا تأويل هذا المعطى، لنشير تذكيرا، أن الشبكات الرقمية المفتوحة تصر على كل فرضيات الإنتاج، في علاقتها بالمحتوى وروابط الاختلاف البنيوي والديمغرافي، ونمو النزعات المادية والشخصية، على تعميق الفجوات دون إرادة لتأمين الفرص أو استباق أخلاقي منظم للعلاقة، وبدون تدخل سياسي قادر على إحداث التوازنات، محدثة بذلك ترسبا ثقيلا من جانب كونها فشلت بشكل خطير في إرباك مبدئية اللامساواة الاجتماعية، الشيء الذي عجل بشرخ تمييزي في قياس مفهومي "الشبكة" و"المعلومات".

هذا التصور السوسيولوجي لنسق التقاطع بين البنيتين المذكورتين، ضمن انفضاح صورة القوة الهرمية المأفونة والمدعمة بفعل واقع الفجوة إياها، يستبق أسئلة الأزمة المحدثة، في تلك اللامساراة المغلفة التي أقبرت ما يسمى بنظامية الأخلاق على المستوى الثقافي والاجتماعي والمادي.

وهناك أبعاد انعكاسية متمنعة عن الفهم، خصوصا في ما يتصل بسرديات السوسيولوجيا الكلاسيكية، التي تذهب إلى أن مجاورة الفجوة الرقمية للتكنولوجيا، قد تجعل من سؤال الأزمة نوعا من التماهي مع تحليل الخاصية الشبكية البديلة، التي تنظر للامساواة المادية في مجتمع المعلومات، كوحدة منفصلة تماما عن المجتمع الجديد، دون تجاهل محددات هذه الوضعية، التي تطالب بدارسة نسق التحولات فيه، إن على مستوى الزمان أو الثقافة أو الفضاء أو النفسي والاجتماعي.. إلخ.

يرى سوسيولوجيون معاصرون، كآلان تورين (صاحب مجتمع ما بعد الصناعي)، الذي قال في إحدى أهم نظرياته الاجتماعية: يجب أن تكون السوسيولوجيا نضالية وثورية لتحرير الفاعلين من قيود النضال"، وأنطوني غيدنز (صاحب الطريق الثالث)، وحتى بيير بورديو ، يرى هؤلاء أن مجاورة الفجوة التكنولوجية قد تجعل من سؤال الازمة نوعا من التماهي مع تحليل الخاصية الشبكية البديلة، التي تنظر للامساواة المادية في مجتمع المعلومات، كوحدة منفصلة تماما عن المجتمع الجديد، دون تجاهل محددات هذه الوضعية التي تطالب بدراسة نسق التحولات فيه، إن على مستوى الزمان أو الثقافة أو الفضاء أو الأبعاد النفسية والاجتماعية المتغايرة.

وبعكس تنميط مادة الصورة، أو تشكيلها بحسب المعطيات والأهداف المرصودة، تبرز ظاهرة التلاعب بالصورة لأغراض التمثل الاستعراضي أو التجميل أو الانحياز لمشروع تخريبي، كثوب بال يعاد تدويره واستعراضه بالشكل المطلوب، الأمر سيكون مروعا كما هو الحال بالنسبة لمشروع المهندس المعماري، كما سيكون قاصما عندما يتم تزيين شيء ما بشكل مصطنع في كتالوج المبيعات. وينبغي الإعلان عن إزالة عيب كبير مثل نسيج مهترئ وباهت، أو إعادة إحياء اللون، أو طلاء ختم قطعة أثاث تم إحياؤها بواسطة الكمبيوتر، أو حتى تنظيمها، لأن الصورة المعدلة تشوه تقدير المشتري.

وفي سياق متصل، تشهد معالجة الصور الرقمية أيضًا تطورًا متزايدًا في مجال تخزين الصور الفوتوغرافية وأرشفتها. وسيسمح قريبًا بالحصول على صور عالية الوضوح ونقلها في بضع ثوانٍ على جانبي الكرة الأرضية. ستتمكن الطابعة في نيوزيلاندا مثلا من تلقي الصور بنفس سرعة الطابعة الفلبينية. كما سيتمكن خبير فني إيطالي مثلا من الحصول على صورة جيدة جدًا من متحف آسيوي في وقت مكالمة هاتفية.

الأخطر، أن تكون معالجة الصور الرقمية جسرا لا نهائيا بين الصورة الحقيقية والصورة المكونة بالكامل بواسطة الكمبيوتر، وهي الصورة التي تسمى ب"الافتراضية".

وإذا كان لا يزال من السهل الآن التعرف على الصورة الافتراضية من قبل أي مستخدم للأنترنيت، فلا يمكن رؤية الصورة الرقمية بالعين المجردة، وبالتالي يمكن أن تكون مضللة. اعتمادًا على استراتيجية التلاعب، كما يمكن أن يكون للتعديل الذي يتم إجراؤه آثارًا عميقة أو عواقب خطيرة للغاية.

ومن أجل تقديم نموذج علمي واع بالمفارقات التي وضعناها أمام بصائركم، سأحاول تقديم نموذج لتكريس هذا المعطى المروع، الذي نقارب فيه مخاطر التحريف والتلاعب بالصور، ويتعلق الأمر بالصور التاريخية التي يتم تحويرها وتغيير ملامحها على نطاق واسع، وبالأبيض والأسود، من خلال الصفحات الثقافية، كما هو الحال بالنسبة لمستخدمي الإنترنت وعلى حساباتهم الشخصية، مما يعرضهم لخطر تحريف رؤية التاريخ.

وميزة الصورة هي أن تكون لافتة وذكية وحارقة، ويمكن الوصول إليها بسرعة، ومفهومة من قبل الجميع وأيضا مؤثرة. فإذا كان المستهلكون كبارا، فإن الشباب هم أيضا منتجون. يتم تداول هذه الأنواع الجديدة من الصور، وغالبًا ما يتم إنشاؤها من مقتطفات من الأفلام أو المسلسلات، أو الصور أو مقاطع الفيديو الحالية، أو صور فوتوغرافية لأشخاص معروفين. هذا التذوق المجازي للصور المحرفة يجعل من الممكن إنشاء رابطة بين الأجيال حول مراجع مشتركة. كما أنه يتيح الفرصة للتعبير عن المشاعر والأفكار المتعلقة بحياتهم اليومية، أو لتشويه سمعة عالم الكبار والأحداث الجارية المثيرة للقلق، أو حتى لبناء روح الدعابة المشتركة.

إن الصور المثيرة هي تلك التي يتم تداولها أكثر من غيرها. تميل المشاعر السلبية والخبيثة إلى توليد معدل مشاركة ووجهات نظر أعلى بكثير من المشاعر الإيجابية. ومن خلال تصفية الخوارزميات التي تعرض الصور الأكثر مشاهدة، مهما كان محتواها، تغدو المنصات ك "غرف صدى" Chambres d'écho تفضل الصور الصادمة التي يتم نشرها بسرعة عالية، دون حواجز المعلومات التقليدية. وهذا يعزز البيئة التي يجتمع فيها الأفراد ذوي التفكير المماثل، مما يخلق فقاعات معلومات يتعرض فيها المستخدمون لصور تتوافق في الأغلب مع آرائهم، على عكس التنوع الموجود في وسائل الإعلام التقليدية. والنتيجة هي استقطاب في الآراء. كما تستفيد اتجاهات التطرف من هذا النظام الذي يجمع مجتمعات كبيرة لتنظيم عمليات تآمرية أو تخويف أو مضايقة أو حتى ترهيب وفراز لعنصرية أو ما شاكل.

ملاحظة أخرى هي أن الأخبار المزيفة والدعاية المرئية وكل ما يتعلق بما بعد الحقيقة مفضل على شبكات التواصل الاجتماعي، وهذا المحتوى ينتشر بسرعة مَهُولة دون احتدادات مسبقة. والنتيجة هي مجتمع يتفوق فيه مشهد ما بعد الحقيقة على صحة الحقائق، كما يتضح في العديد من الأحداث التي عايشناها كمغاربة، في جائحة كوفيد 19، وزلزال الحوز وغير ذلك.

ويطرح ما بعد الحقيقة قضايا مجتمعية مهمة تتعلق بثقة الجمهور بالمؤسسات الرسمية، بشخصية السياسي أو الإعلامي أو الثقافي، وفي واقع الأحداث التي يتم إزاحتها بشكل خطير إلى الخلفية لصالح عدم الثقة ونظريات المؤامرة والإثارة. كيف يمكن للشباب والناشئين ا أمام عزلتهم الاختيارية القاتلة أن يفرقوا بين الحق وباطل الصورة؟

إنه يجب تطوير "الإدراك اليقظ"  Conscience consciente لدى الشباب ودعمه وتوجيهه لفهم كيف يمكن للصور أن تضلل أو تسرق لحظة الجمال الكوني، وذلك بعدة طرق، من خلال اللعب على العواطف والتصورات والسياقات. يعطي مقياس Arcom مؤشرات مثيرة للقلق حول السياق الحالي. وهو يقترح أن نساعد في التمييز بين المستويات بين المعلومات الخاطئة، والمعلومات المضللة، والمؤامرة، والأخبار المزيفة، وجميع المصطلحات المستخدمة في الخطاب الاجتماعي والإعلامي.

وعلى الرغم من تشابه هذه المفاهيم، إلا أنها تشير إلى حقائق وممارسات مختلفة. يعتمد الفرق بين المعلومات الخاطئة والمعلومات الخاطئة والمعلومات المضللة بشكل أساسي على القصد. المعلومات المضللة والمعلومات الخاطئة هي دائمًا نتيجة النية. المعلومات الخاطئة هي معلومات مبنية على الواقع، وتستخدم لإلحاق الضرر بشخص أو مجموعة اجتماعية أو منظمة أو بلد. أما المعلومات الخاطئة، من ناحية أخرى، فهي أمر لا إرادي. يشمل التضليل مجال الأخبار المزيفة والمعلومات الخاطئة وتلفيق الأخبار المزيفة.

إن ما يكمن وراء التضليل هو تعمد إنتاج أخبار كاذبة على نطاق واسع لتحقيق الربح أو لأغراض سياسية من أجل التأثير أو زعزعة الاستقرار أو حتى الإضرار. وفي حالات كثيرة، يمكن للأخبار المزيفة أن تكون قاتلة ومدمرة بالفعل، خاصة عندما يتم إنشاؤها لتأجيج الكراهية بين مجتمع ضد مجتمع آخر. ويعد مجال المعلومات المضللة أكثر إشكالية لأنه يستفيد من استراتيجيات النشر المتزايدة الكفاءة والتي تعززها تقنيات الذكاء الاصطناعي.

***

د. مصـطـــفى غَـــلْمَــان

..................

* ملخص المحاضرة التي ألقيتها في الندوة العلمية الوطنية التي نظمتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية (ماستر السرديات الثقافية والسيميولوجية) جامعة محمد الخامس بالرباط في موضوع " الصورة في الزمن الأيقوني الجديد" يوم الثلاثاء 27 ماي 2025.

كثيرًا ما نعيش كما لو أن الأبواب مغلقة، كما لو أن الواقع مكتمل ومكتوب سلفًا، وأن علينا أن نتأقلم مع قواعد لعبة لم نخترها. لكنّ الحقيقة، كما يصفها الفيزيائي والفيلسوف ديفيد بوم، أن الوعي ليس مجرد مرآة للواقع، بل هو النمط الذي يُشكّل هذا الواقع نفسه. نُبصر العالم من داخل رؤيتنا له، لا من خارجه. وهذا يطرح سؤالاً جوهريًا: هل نحن نرى الأشياء كما هي، أم كما نحن؟

تأمل هذه الصورة: رجل يجلس في غرفة مظلمة، بجوار باب مفتوح على اتساعه. لكنه لا يراه، لأنه منذ البداية قرر أن يبحث عن مخرج في الجهة الأخرى. يصنع من خياله متاهة، ويقنع نفسه أن الخروج يتطلب مفتاحًا مفقودًا، أو إنارة معينة، أو خريطة معقدة. بينما الباب، بكل بساطة، مفتوح. لكنه لا يُرى إلا من زاوية وعي مختلفة.

الوعي كعدسة: حين نصنع قضبان سجننا

في كتاباته المتأخرة، يوضح ديفيد بوم فكرة “الترتيب الضمني” (Implicate Order)، حيث لا يكون الواقع شيئًا صلبًا بل “تدفقًا” دائمًا تتداخل فيه الإمكانيات والتصورات والمشاعر. في هذا السياق، يصبح الوعي هو القالب الذي يُسقط هذا التدفق في شكل معين، فيُنتج “واقعًا” نعيشه ونعتقد أنه الحقيقة. هذا الواقع ليس كاذبًا، لكنه محدود بشكل الوعي الذي صاغه.

في لحظة إحباط مثلًا، ترى العالم رماديًا، تحكم بأن الناس قساة، وأن الفرص مغلقة. نفس الشارع، نفس المكتب، نفس الأشخاص — لكن الوعي المتألم يجعل منهم عناصر في مشهد عبثي. هنا لا يكون العالم هو الذي تغير، بل زاويتك أنت.

الأمثلة من الحياة اليومية: كيف نُعمّي على الباب المفتوح

* في العلاقات: كثيرون يعتقدون أن الطرف الآخر “لا يفهمهم” أو “يتغير”، بينما الحقيقة أن الوعي الذي بدأ به العلاقة كان وعيًا قائمًا على التوقع، لا الفهم. نعيش العلاقة كما نتمناها، لا كما هي، ثم ننهار عندما يُعيد الواقع ترتيب نفسه بعيدًا عن وهمنا.

* في العمل: الموظف الذي يشعر أنه محاصر في وظيفة لا يحبها، بينما لم يلاحظ فرصًا بسيطة من حوله لتحسين وضعه أو بدء مسار جديد، لأنه ثبت نظره على “شكل واحد للخروج”: الترقية، أو الاستقالة، أو ضربة حظ.

* في المعرفة: نبحث أحيانًا عن إجابات كبرى، عن “الحقيقة” أو “المعنى”، بينما نغفل عن أصوات صغيرة تُنبهنا أن الباب مفتوح في البديهيات: لحظة صمت، أو كلمة صادقة، أو إحساس عابر بأننا نوجِد المعنى عبر انتباهنا، لا عبر نظريات جاهزة.

ديفيد بوم: من فيزياء الكم إلى فيزياء الوعي

ما يجعل فكر بوم مدهشًا أنه لم يفصل بين العلم والتجربة الداخلية. بالنسبة له، الحوار الحقيقي مع النفس والآخرين هو الطريقة الوحيدة لتجاوز “الصور الذهنية” التي نعيد بها إنتاج ماضينا باستمرار. يقول: “أفكارنا تصنع العالم، ثم نشتكي أننا ضحاياه”. وهذا يشبه من يصنع قناعًا بيده، ثم يخاف من وجهه في المرآة.

بوم دعا إلى تحرر جذري من أنماط التفكير المألوفة، لأن هذه الأنماط نفسها تعيد تشكيل السجن. أراد أن نتحرر من وهم أن “السبب في الخارج”، وأن نعود إلى الداخل، حيث يبدأ كل شيء — من زاوية الرؤية، من اختيار العدسة، من الانتباه.

الباب المفتوح: دعوة للانتباه

حين نُدرك أن وعينا يصنع حدود العالم، فإن كل شيء يصبح قابلًا للتجدد. الانتباه، ببساطة، هو مفتاح الخروج. هو أن تنظر حيث لم تنظر من قبل. أن تُعيد طرح الأسئلة القديمة بطريقة جديدة. أن ترى أن الباب الذي كنت تنتظره أن يُفتح… لم يكن يومًا مغلقًا.

إنه ليس الوعي “الروحي” بالمعنى الشائع، وهو أيضا أساسي  بل الوعي البسيط، القوي، الذي يرى ما هو موجود، لا ما نتخيله. وهنا تبدأ الحرية. ليس بتغيير الخارج، بل بتغيير زاوية النظر إليه.

***

بقلم الكاتب المغربي: يونس الديدي

النقاش حول الذكاء الاصطناعي يدور غالباً حول التحديات التي يمثلها هذا الوافد الجديد، لنا ولمفاهيمنا ونظم معيشتنا. هذا النقاش يتسم بتعبيرات مكررة إلى حد كبير؛ ما يوهم بأننا نتحدث حول موضوع واحد. واقع الأمر أننا نناقش موضوعات تنتمي إلى حقول معرفية متباينة، حتى لو عبَّرنا عنها بكلمات متماثلة. لدي أسئلة ثلاثة، تتناول الانعكاسات الحياتية لانتشار الذكاء الاصطناعي، وتأثيره على التنظيم الاجتماعي والأعراف الناظمة له. لكني سوف أترك هذين لمناسبة أخرى، وأخصص هذه الكتابة للسؤال الثالث الأكثر إثارة للجدل، أي: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحتل مكانة الذكاء البشري فيكون بديلاً عنه، جزئياً أو كلياً؟

يهتم غالبية الناس بهذا السؤال؛ لأنه ينطوي على اتهام بأن عقولنا ناقصة. ومحور الجدل هو: هل يمكن للمصنوع أن يتجاوز صانعه، ليس في الإمكانية العامة، بل في الخاصية التي تميز الصانع، أي الخلق والإبداع؟

مناقشة هذا السؤال تبدأ بتعريف العمليات الذهنية، مثل التفكير (التفكيك والربط)، والتعلم (التقليد، المقارنة وإعادة الإنتاج)، والذاكرة (الحفظ والتصنيف والتقعيد والتنميط) وحل المشكلات، ولا سيما اختبار الاحتمالات والنتائج. هذه المناقشة محلها علم النفس المعرفي.

بعد التوصل إلى نتائج شبه رقمية، سنحتاج إلى التعرف على المسارات المتبعة فعلياً في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي، وأبرزها:

أ- اختبار تورينغ، نسبة إلى عالم الرياضيات والحوسبة البريطاني آلان تورينغ. وهو يركز على اختبار قدرة الآلة على محاكاة الذكاء البشري، ولا سيما في المحادثة والاستذكار، ثم قياس سرعة المحاكاة ومدى مطابقتها. لعل أشهر تطبيقات هذا الاختبار، روبوتات المحادثة المدعومة بالذكاء الاصطناعي.

ب- تعلم الآلة: وتركز على إعادة إنتاج الحلول، من خلال المقارنة والتعرف على الأنماط الرئيسة والفرعية والمفاضلة بينها، إضافة إلى القدرة على البرمجة الذاتية والتكيف مع البيانات الجديدة من دون تدخل بشري مباشر. وبين أشهر الأمثلة على هذا المسار نظام ألفا-زيرو Alpha-Zero الذي طوَّرته شركة تابعة لـ«غوغل»، ونجح في إتقان لعبة الشطرنج خلال أربع ساعات من التعلم الذاتي. ويقال إنه طوَّر أساليب جديدة في اللعب، لم يسبق أن استعملها أبطال اللعبة.

ت- الابتكار وإبداع معلومات جديدة لم تكن معروفة أو مؤكدة سابقاً. وهو يشمل إنتاج محتوى إبداعي، مثل رواية أو شعر أو لوحة فنية أو حل هندسي أو رياضي. وتوجد الآن تطبيقات تنشئ لوحات فنية أو مقاطع فيديو، اعتماداً على نصوص مكتوبة أو محكية. كما أن البروفسور جيوفاني ساجيو، وهو عالم إيطالي، طوَّر تطبيقاً يكشف عن الأمراض، بتحليل صوت المريض، ويقال إن هذا البرنامج نجح في تقديم نتائج مطابقة لنتائج الفحوص السريرية بنسبة عالية جداً، رغم أن توصله للنتائج يستغرق دقائق معدودة.

توضح مسارات التطوير السابقة الذكر، الإطارات الواقعية للنقاش. الخبراء لا يتحدثون عن إمكان مطلق أو استحالة مطلقة، بل عن درجات الإمكان. حين يقولون إن الذكاء الاصطناعي يستطيع تجاوز نظيره البشري، فهم لا يقصدون الإمكانية المطلقة لاستبدال أحدهما بالآخر، بل درجة متقدمة في جانب بعينه. هذا يشبه مثلاً السيارة التي يصنعها الإنسان فتسير أسرع منه. هذا لا يعني أن السيارة بديل عن الإنسان، بل هي قادرة على تجاوز حدوده في مجال بعينه. كذلك الذكاء الاصطناعي الذي برهن فعلياً على إمكانية تجاوز حدود البشر، لكن ليس إلى حد إلغاء دور الإنسان.

يمتاز العقل البشري بالقدرة على اكتشاف مسارات وضروب حياة، ما زالت بعيدة عن حدود الخيال. ولأن الذكاء الاصطناعي ليس - من حيث المبدأ - مجهزاً للتخيل ولا يعتقد أنه قادر على التخيل؛ فإن الوصول إلى تلك المسارات، سيبقى – على الأرجح - حكراً على الإنسان، إلى أن يكشفها ويقدمها للآلة التي نسميها الذكاء الاصطناعي.

***

د. توفيق السيق – كاتب وباحث سعودي

مفهوم المواطن والمواطنة تغير بشكل كبير نتيجة تغير السياقات التاريخية والتطور التكنولوجي خلال العقود الأخيرة حيث شكل التحول الرقمي وتغول راس المال العالمي ممثلا بانتشار العولمة ونظام التفاهة ادى الى ظهور(مواطنين روبوتيين) يتشبهون بأنظمة الذكاء الاصطناعي في تفاعلهم الاجتماعي، رغم ان  أنظمة الذكاء الصناعي، تُستخدم في مجالات عديدة لكنها  خلقت نوعًا جديدًا من التفاعل والسلوك الاجتماعي،من المعروف ان معظم وسائل الإعلام تستخدم التكنولوجيا الرقمية للترويج لثقافة الاستهلاك، مما جعل الأفراد يتبنون هويات مرتبطة بالعلامات التجارية التي أدت  الى إلى تغيير مفهوم المواطن، وتحول النظر إلى الأفراد كشخصيات مستقلة عن الانتماء الجغرافي تنشد العمل في أي بقعة واي مجتمع بدلاً من أعضاء دائمين،مواقع التواصل الاجتماعي و البرمجيات تُجمع البيانات عن الأفراد وتُستخدم لتحديد سلوكهم واحتياجاتهم، هذا يؤدي إلى تشكيل هوية تتحكم فيها روبوتات  الشركات الكبرى، مما خلق نوعًا من (المواطنة الرقمية ) التي تساهم في تفاقم الفجوات الاجتماعية، حيث يتم تهميش الفئات الأقل حظًا في المعرفة التكنولوجية، و يعيد تعريف مفهوم المواطنة ويجعلها مرتبطة بالمكانة الاقتصادية  والاجتماعية تكنولوجيا بشكل زائف، باختصار التكنولوجيا الروبوتية ساهمت في تشكيل (مواطن روبوت) من خلال دمج التكنولوجيا والاقتصاد والثقافة في عملية بناء الهوية ومفهوم المواطنة وتجاوزت المفهوم التقليدي الذي ترسخ في لاوعي المجتمعات.

إعادة تعريف المواطنة

 تعريف المواطنة في ظل التغيرات التكنولوجيا يمكن أن تتم من خلال عدة جوانب، حيث اعتبرت البصمة الرقمية جزءًا أساسيًا من الهوية، هذا يشمل الحق في الخصوصية والأمان وحرية التعبير على المنصات الرقمية ويُفرض على الأفراد والشركات العمل على تحسين المجتمع والبيئة والعمل على تعليم الحقوق والواجبات، وكيفية التنقل داخل  العالم الرقمي وتحمل المسؤولية .كما يشمل هذا تشجيع المشاركة الفعّالة في المجتمع من خلال الفعاليات المحلية والعالمية، مما يعزز الانتماء والانخراط في القضايا الاجتماعية، هذا  يحتم ان تكون الشفافية  واضحة فيما يتعلق بالسياسات التكنولوجية وتأثيراتها على المجتمع، مما يعزز الثقة ويعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، باختصار إعادة تعريف المواطنة يتطلب التكيف مع التغيرات الحديثة وتعزيز القيم الإنسانية والاجتماعية في عالم تزداد فيه تأثيرات التكنولوجيا الروبوتية اجتماعيا واقتصاديا.

 المواطن الروبوت

المواطن الروبوت، ككيان يعتمد على منتجات الذكاء الاصطناعي والذكاء الصناعي يمكن أن يُبرمج ليحمل مجموعة من القيم والمخرجات، لكنها تختلف عن القيم الإنسانية التقليدية.  اذ يمكن تصميم الروبوتات لتتبنى قيمًا أخلاقية معينة، مثل العدالة والشفافية، بناءً على برمجة وتوجيهات محددة سلفا، باستخدام خوارزميات تحليلية لتقييم المواقف واتخاذ قرارات تتماشى مع معايير أخلاقية، يمكن للذكاء الصناعي أن يظهر تفضيلات جمالية معينة بناءً على البيانات المدخلة، لكنها لا تمتلك ذوقًا شخصيًا حقيقيًا كما يفعل البشر، كما يمكن برمجة الروبوتات لتكون حساسة للقيم الثقافية والاجتماعية في الاوساط التي تعمل فيها من خلال مدخلات خاصة ومنحازة، ما يجعلها تتفاعل بشكل أكثر حدة، الروبوتات المبرمجة بالذكاء الصناعي لا تمتلك مشاعر أو وعي، لذا فهي تفتقر إلى القيم الأخلاقية الحقيقية التي يمتلكها البشر، مما يحد من قدرتها على فهم السياقات بشكل كامل .المواطن الروبوت  بسبب التغذية البرمجية والمحيط التكنولوجي قد يتحول عن قيمه الانسانية الى كيان روبوتي.

العولمة وازدهارها

العولمة تسهل تبادل التكنولوجيا والابتكارات بين الدول، مما يعزز تطوير الروبوتات والذكاء الاصطناعي، توفر العولمة فرصًا لأسواق جديدة، مما يدفع الشركات للاستثمار في تطوير تقنيات جديدة تلبي احتياجات السوق، تعزز العولمة التعاون بين الدول في مجالات البحث والتطوير، مما يساهم في تحسين تقنيات الروبوتات، العولمة تؤدي أيضا إلى تحول في نماذج العمل، حيث تزداد الحاجة إلى الأتمتة والروبوتات لتلبية الطلب العالمي المتزايد، انتشار الثقافة الرقمية يعزز من دمج الروبوتات في الحياة اليومية، مما يساهم في قبول فكرة المواطنة الروبوتية، تطرح العولمة أيضا تحديات جديدة تتعلق بالمسؤولية والأخلاق في استخدام الروبوتات، مما يدفع النقاشات حول المواطنة الروبوتية إلى الواجهة بذلك، تلعب العولمة دورًا محوريًا في تشكيل وتطوير مفهوم المواطنة الروبوتية وازدهارها.

حقوق الروبوت بدلا من حقوق الإنسان

من خلال سرديات العولمة و نظام التفاهة،  تظهر دعوات لتوسيع مفهوم الحقوق ليشمل الروبوتات، وهو ما يثير العديد من النقاشات و يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت الروبوتات تستحق حقوقًا مماثلة لتلك التي يتمتع بها البشر ام لا، نظرًا لافتقارها للوعي والمشاعر قد تظهر تحديات أخلاقية تتعلق بكيفية معاملة الروبوتات، خاصة إذا كانت تُستخدم في وظائف حساسة أو في مجالات مثل الرعاية الصحية، التركيز على حقوق الروبوتات قد يُهمل حقوق الإنسان الأساسية، مما يثير القلق حول الأولويات الاجتماعية، وضع تشريعات جديدة تحدد حقوق  الروبوتات،   يؤدي إلى تعقيدات قانونية،لذا سيكون من الضروري إيجاد توازن بين حقوق الروبوتات وحقوق الإنسان، لضمان عدم تقويض القيم الإنسانية الأساسية ويبقى التركيز على كيفية استخدام التكنولوجيا لخدمة الإنسانية بدلاً من استبدال القيم الإنسانية بقيم الالة، في نظام التفاهة لا يوجد توازنً دقيقً بين الاثنين .

السرديات التاريخية والتطور التكنولوجي

السرديات التاريخية تسلط الضوء على كيفية تطور التكنولوجيا عبر الزمن، من فجر التاريخ مرورا بالثورة الصناعية إلى الثورة الرقمية، الذي مهد الطريق للمواطنة الروبوتية هي الا شارة إلى كيفية تأثير التكنولوجيا على الهياكل الاجتماعية والمفاهيم التقليدية للمواطنة،  كما ساهمت العولمة في دمج ثقافات مختلفة أدت الى تطوير معايير اخلاقية وقيم مرتبطة بالروبوتات رغم ان هذا يشير الى التركيز على النقاشات حول التكنولوجيا والمواطنة لكن قد تسير الأمور الى السطحية وعدم العمق حول المواطنة الروبوتية، ان فهم العلاقة بين العولمة ونظام التفاهة يتطلب تطوير أطر جديدة للتعامل مع القضايا الأخلاقية والاجتماعية المتعلقة  بالسرديات التاريخية والمواطن الروبوت،  تطور الروبوتات يعكس التقدم التكنولوجي عبر العصور، حيث كانت السرديات التاريخية تتناول كيفية تأثير الابتكارات على المجتمعات كما في الأدب الساخر والخيال العلمي، الذي قدّم تصورًا عن الروبوتات منذ عقود، مما أسهم في تشكيل فهمنا الحديث لهذه السرديات، وكيف انعكست المخاوف والتطلعات البشرية، مثل القضايا الأخلاقية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي وكيف انعكست التغيرات في القيم الاجتماعية والاقتصادية، السرديات التاريخية ساعدت في تشكيل  رؤية لمجتمعات للمستقبل، مما اثر على السياسات والتشريعات، هذه العلاقة تعكس كيف يمكن أن تكون التكنولوجيا جزءًا من النسيج الاجتماعي والثقافي، مما جعلها موضوعًا غنيًا للدراسة والتحليل، تأثير الخيال العلمي على تصورنا  للروبوتات كبير ومتعدد الأبعاد، الخيال العلمي لا يقتصر فقط على الترفيه، بل يلعب دورًا حاسمًا في تشكيل تصوراتنا واحلامنا وتوجهاتنا نحو مستقبل وتنمية مستدامة، مما يجعلنا نفكر في التأثيرات الاجتماعية والأخلاقية  للتكنولوجيا.

التأثيرات السلبية للمواطنة الروبوتية

 أن  الاعتماد الكامل على التكنولوجيا من خلال تكنولوجيا الروبوت قد يؤدي إلى تآكل الهوية الفردية، حيث يتم التعامل مع الأفراد كأجهزة أو أدوات، الاعتماد المفرط على الروبوتات يقلل من التفاعل البشري، مما يسبب شعورًا بالوحدة والعزلة، قلة التفاعل الاجتماعي تؤدي إلى مشكلات نفسية مثل الاكتئاب والقلق، استخدام الروبوتات في العديد من المجالات الاقتصادية يؤدي إلى تسريح العمالة وتقليل فرص العمل، استعمال الروبوت قد يتجاوز القيم الأخلاقية الإنسانية في خصوصا في الحروب والتجسس، مما يؤدي إلى قرارات غير عادلة أو غير إنسانية كما  تزداد المخاوف من انتهاك الخصوصية وزيادة الرقابة على الأفراد من خلال تكنولوجيا الروبوتات التي تستدعي التفكير الجاد في كيفية دمج التكنولوجيا في حياتنا بطريقة تحافظ على القيم الإنسانية وتزيد من رفاهية الفرد.

***

غالب المسعودي

يحكي الروائي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز في مذكراته الشخصية أنه سأل جده في الصغر عن معنى كلمة "بحر"، غير أن هذا الأخير لم يعثر على صورة له في قاموسه المهترئ القديم فحاول أن يشرحها له من خلال عبارة تستحق التسجيل، قال " هناك كلمات لا يحتويها القاموس، لأن الناس جميعا تعرف معناها ". ويبدو الأمر كذلك حين نتحدث عن الاضطهاد والتحرر كما ترددا في كتابات المفكر والتربوي البرازيلي باولو فريري (1997-1921)، فللمفردتين معا دلالات خلاقة لا يمكن أن تستشفها من التعريفات المبثوثة في القواميس والمعاجم. وحده باولو فريري من خلال رؤيته الإنسانية والتناقضات التي ضج بها واقعه يمكنه أن يضعك أمام ضراوة القهر المطمور تحت ثقافة الصمت، وآلية تفجيره من الداخل لبلوغ التحرر الفعال.

لم تكن "ريسايف"، مسقط رأس باولو فريري، غير تجل آخر لأحزمة البؤس والقهر المنتشرة في البرازيل مطلع الثلاثينات من القرن الماضي. وأسهمت الأزمة الاقتصادية الشهيرة عام 1929 في تضييق الخناق على أسرة فريري ليختبر بنفسه آلام الجوع والمعاناة,وليعزز مقولاته النظرية فيما بعد بميزة الممارسة العملية والخبرة المستقاة من واقع مجرب. فكان اكتشافه لثقافة الصمت التي يلوذ بها المقهورون مدخلا لتصحيح الوضع التعليمي، لا على صعيد تعليم الكبار فحسب,بل أيضا من خلال إبداع فلسفة تربوية تضع حدا للهيمنة والغزو الثقافي، وتحرض المقهورين على الدخول في حوار ناقد مع العالم، يُسائله تمهيدا لتغييره وتجاوز مقولاته الاستعلائية.

إن ثقافة الصمت كما يعرضها فريري في الفصل الأول من كتابه "تعليم المقهورين"وليدة حالة اللا أنسنة، أي اختلال قدرة الإنسان على ممارسة وجوده على نحو متكامل. وهي ليست حتمية مصيرية بل ظاهرة تاريخية يمكن تجاوزها نحو الأنسنة عبر مسعى التحرر والنضال، مما يفرض التعرف على أسباب القهر وظروفه ليتمكن المقهور من تطوير موقف جديد تتحقق فيه إنسانيته، بمعنى أن يؤدي تفكيك القهر إلى تجسيد الحرية والتأسيس لمقومات الكرامة الإنسانية، لا إلى لعبة تبادل أدوار مقيتة: "إن بعض المقهورين، خلال مرحلة النضال، بدلا من أن يناضلوا من أجل تحقيق حريتهم فإنهم يجنحون إلى ممارسة دور القاهرين وأشباههم. وهذا المظهر في واقعه انعكاس للواقع المتناقض الذي ظلوا يعيشون فيه، فقد حلم هؤلاء بأن يصبحوا رجالا ولكن صورة الرجل ظلت في مخيلتهم هي صورة القاهر" (1). غير أن استعادة الحرية والتوازن النفسي، والانتقال من حال الخضوع إلى التمرد والمجابهة يظل رهينا بتبديد عوائق ثاوية في التكوين النفسي والعقلي للمقهور.  فالخوف من الحرية والاستهانة بالذات ينجم عنهما حالة من التلاؤم والتأقلم مع الوضع السائد، وبالتالي الميل إلى التوافق وتفضيل حياة القطيع على التحرر والإبداع. لذا حرص فريري على التأكيد بأن الأداة الفعالة التي يستهل بها المقهورون مسلسل نضالهم هي تطوير أسلوب تعليمي نقدي يكتشفون من خلاله أنفسهم.

لكن قبل المضي في عرض البدائل التي طرحها فريري لبلوغ أنسنة ممكنة لهذا الواقع غير المتحرر، لابد من الإشارة إلى أن دعوته لم تكن مجتزأة من السياق الاجتماعي والتاريخي لدول أمريكا اللاتينية ككل. فالمنطقة آنذاك كانت مسرحا لتيار لاهوتي جديد، مزج بين معطيات علم اللاهوت ومقولات التحليل الاجتماعي للتبعية والتخلف اللذين تعيشهما أمريكا اللاتينية. إنه لاهوت التحرير الذي أعلن عن ميلاده القس غوستافو غوتييريز في دولة البيرو عام 1968,واضعا بذلك الحجر الأساس للكنيسة الشعبية التي تبنت مفهوم التربية التحررية كما باشره فيما بعد باولو فريري. إذن كان المشهد يعرف نوعا من الحراك الديني والثقافي الذي استوعب آراء فريري وهيأ لها فرص النجاح قبل حدوث الانقلاب العسكري.

ينتج مجتمع القهر نظاما تربويا مكرسا لخدمته والإبقاء عليه، وبالتالي فلا صحة للمقولة السائدة لدى أغلب التربويين حول قدرة التربية على إعادة تشكيل الواقع الاجتماعي وتغيير الأوضاع الراهنة. أما دور المربي أمام وضع كهذا فهو كشف الأساليب التعليمية المعتمدة في التطبيع مع القهر وإبطال مفعولها، ثم استعادة البعد الإنساني للتعليم كمدخل حيوي لاكتساب الحرية. وفي التحليل الموضوعي لعلاقة الأستاذ بالتلميذ يكشف فريري عن خصائص التعليم النابع من فلسفة القهر والعنف. فأسلوب التواصل بين الطرفين داخل فضاء الحجرة الدراسية قائم على شحن العقول بخبرات ميتة تعيد إنتاج الواقع بدل تجاوزه وتغييره، وتحض على الإذعان للهجة المتعالية وادعاء امتلاك الحقيقة والمعرفة من لدن طرف واحد سواء داخل الفصل أو حتى خارجه. إنه أسلوب يكرس الجهل عوض التصدي له، ويؤسس لتعليم قائم على إيداع المعلومات واستردادها وفق دورة لا تنتهي:"هكذا أصبح التعليم ضربا من الإيداع، تحول فيه الطلاب إلى بنوك يقوم الأساتذة فيها بدور المودعين، فلم يعد الأستاذ وسيلة من وسائل المعرفة والاتصال، بل أصبح مصدر بيانات ومودع معلومات ينتظره الطلاب في صبر ليتذكروا ما يقوله ثم يعيدوه. ذلك هو المفهوم البنكي للتعليم. "(2)

في المقابل يدعو باولو فريري إلى تعليم إنساني "ثوري"يحرر التلميذ من التناقض الذي يفرزه التعليم البنكي بين المحتوى التعليمي الجامد وحركية الواقع المستمرة.

تعليم ينمي الملكة النقدية ويولد قلقا مستمرا يحفز الطلاب على التفكير والإبداع، وحل التناقضات التي تحول دون الحرية.

تعليم لا يختزل أداء المعلم في ملء الأواني الفارغة وتعويد الطلاب السلبية والتأقلم، بل يرسم إطارا جديدا لعلاقة بين الطرفين قوامها الحوار والتعلم المستمر والمشاركة في اكتشاف حقائق العالم !

إن التعليم برأي فريري لا يمكن أن يكون محايدا مادام ضرورة إنسانية، وكل ادعاء للحياد هنا لا يخلو من زيف. فإما أن يكون عملية تحرر وتجاوز,وإما عملية أقلمة وتطويع وملاءمة للجيل الناشئ مع الأوضاع القائمة. إننا عندما نخطط ونرسم السياسات التعليمية نكون بصدد أعمال سياسية منطوية على اختيار إيديولوجي سواء كان هذا الاختيار واضحا أو مبهما لا فرق (3). غير أن مجرد الوعي بهذه الحقيقة لن يغير من الأمر شيئا ما لم تتم إعادة الاعتبار لعلاقة الإنسان بالعالم عبر منهج تعليمي محدد وسيلته المثلى:الحوار !

يؤمن فريري بأن الحوار مواجهة سلاحها كلمة صادقة ذات بعدين:الرؤية التي تضفي على الوجود الإنساني قيمة ومعنى، والفعل المحفز على تغيير الواقع. أما الغاية منه فهي التأسيس لعلاقة تضامنية بين الطرفين (المدرس والطالب) تحقق الأنسنة عبر التفكير المبدع، وهو ما يفرض إعادة النظر في الرؤية المتحكمة في بناء الموقف التعليمي "إن الصفة الحوارية للتعليم كمظهر للحرية لا تبدأ حين يقابل المدرس التلميذ في موقف تعليمي، بل تبدأ حين يسأل المدرس نفسه عن القضية التي سيجعلها موضوعا للحوار مع التلميذ"(4). وهذا المنهج الحواري هو قلب العملية التحررية كما تصورها فريري، والذي يُكسب الطالب وعيا نقديا يتسم بالعمق في طرح المشكلات وكشف التناقضات التي يضج بها العالم من حوله، ثم يعمل على خلق حالة حوارية دائمة تنمي ملكات الفضول المعرفي والتساؤل، وتستنهض إمكانيات التغيير والمراجعة.

ليس المنهج الحواري إذن مجرد نقل وتحويل للمعلومات والبيانات ضمن علاقة تسلطية ورأسية غير قابلة للنقاش,وإنما يتعلق الأمر بوضع تعليمي قائم على السعي المشترك بين الطرفين لمعرفة المزيد، وعلى استجاية واعية لتحقيق الحرية. إن هذا النوع من التعليم، يقول فريري، ينطلق من قناعة فحواها أن البرنامج التعليمي لا يكون تعليميا مالم يتخذ من الحوار مع الناس أساسا له. فهو يقدم أسلوب تعليم المقهورين بالطريقة التي يسهم فيها المقهورون أنفسهم وبصورة إيجابية في العملية التعليمية (5).

طور باولو فريري نظرية لتعليم الكبار وظف من خلالها مقولاته حول التربية النقدية مستلهما كلماته الدلالية وتقنياته وتصوراته من بيئة المقهورين ذاتها. وتتضمن نظريته التي أوردها بتفصيل في كتابه "التربية من أجل إثارة الوعي النقدي" الخطوات الإجرائية الآتية :

- دراسة البيئة ورصد الموضوعات الخاصة بالمنطقة.

- حصر وانتقاء الكلمات التوليدية " أو المنتجة كما يسميها فريري" ذات البعد الانفعالي والتي تمكن من تحديد مستويات إدراكهم للواقع وللبناء الاجتماعي والسلطوي من حولهم.

- تنظيم محتوى البرنامج التعليمي انطلاقا من الموضوعات التي تثير احتياجات لدى الأفراد، وإعداد التصنيفات والرموز المراد استخدامها لتناول مشكلة معيشية على سبيل المثال.

- تدشين حوارات فك الرموز عبر حلقات بحث الموضوعات، والتي يشترط فريري أن تتألف من عشرين شخصا كحد أقصى، وأن تستوعب الحلقات عشرة بالمائة من سكان المنطقة موضع الدرس .

- متابعة مكملة للمستفيدين من هذه الحملة التعليمية كي لا يرتدوا مجددا إلى الأمية .

جرى لاحقا تطوير منهجية فريري لتشمل ليس فقط الكبار بل حتى الأطفال اليافعين المتسربين من المدارس.  إذ تم تصميم برامج تثقيف المتسربين وفق منهجيةTCELFER، وهي اختصار ل"الفريرية المتجددة لمحو الأمية من خلال التقنيات المجتمعية". وفي مقابلة أجرتها كاترين دينيس (6)مع جواد قسوس المشرف على برنامج تعزيز ثقافة المتسربين بالأردن، يقدم هذا الأخير مثالا حيا للنتائج الإيجابية التي حققتها هذه المنهجية مع فئة من أطفال الشوارع:

" لقد استخدمنا أسلوب الحوار لتحديد المواضيع التي تهم الطلاب، فعلى سبيل المثال كان موضوع التعرض للحرارة الخارجية أثناء النهار من المواضيع التي حازت على اهتمامهم.  بداية، طلبنا منهم وصف شعورهم إزاء تعرضهم لحرارة الجو ومن ثم ربطنا ملاحظاتهم ببعض المشاكل الصحية مثل الجفاف والحروق الناجمة عن التعرض للشمس التي يمكن أن تسببها الحرارة.  انتقلنا بعدها لتعلم الأجزاء المختلفة من جسم الإنسان وشرح عملية الجفاف وأهمية الماء للجسم وكيفية امتصاصه. فكنا نبدأ، على سبيل المثال، بكلمة "شمس" ومن ثم نكتب كلمات أخرى تبدأ بحرف "ش" وكلمات تبدأ بحرف "م" ثم كلمات تبدأ بحرف "س". وانطلاقا من الكلمات كنا ننتقل إلى الجمل والنصوص البسيطة. فقد أنتجنا نصا يمكن للطلاب قراءته وإعادة كتابته والتعامل معه. وبناء على ذلك تم تصميم الاختبارات، حيث شعر الطلاب لأول مرة بأن الاختبار أمر يمكن اجتيازه لأن المواضيع كانت مألوفة بالنسبة إليهم "(7).

 نجح البرنامج كذلك في إقناع المعلمين المشاركين في هذه الحملة بالتخلي عن أساليب التدريس التقليدية، واعتماد منهجية فريري في فصولهم الدراسية، مما يستدعي تبنيها كأسلوب بيداغوجي في المؤسسات التعليمية.

تطورت تربية المقهورين إلى "تربية الأمل " كما صاغ فريري مقولاتها في أواخر حياته، ملائما موقفه مرة أخرى مع لاهوت التحرر الذي تطور بدوره إلى "لاهوت الحياة". وفي الصياغة الأخيرة بدا فريري أكثر تفاؤلا وثقة بالمستقبل. لقد كان كما وصفه التربوي الأمريكي باتريك كلارك "شعلة مضيئة في ظلام الحتمية الإيديولوجية واليأس والمنظم". 

إن استحضار باولو فريري اليوم، كرؤية إنسانية تنشد نهجا تعليميا أكثر إنصافا وعدالة، لهو أمر يستمد وجاهته من الضغط الذي تمارسه عولمة لا ترحم، ومن القهر الذي لا يكف عن ملاحقتنا وفق أكثر الصيغ تهذيبا ومراوغة.

فهل تفلح منظوماتنا التعليمية اليوم في التمسك بالتعليم كحق إنساني يتصدى للتمييز والاستبعاد, أم سيكون للمذهب النفعي والاقتصادي الضيق كلمته الأخيرة ؟

 ***

حميد بن خيبش

.........................

1- باولو فريري: تعليم المقهورين. دار القلم بيروت. د. ت. ص 28

2- نفس المرجع. ص51

3- د. سعيد إسماعيل علي: فلسفات تربوية معاصرة. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. الكويت1995. ص 181

4- باولو فريري. مرجع سابق. ص 71 

5- نفس المرجع. ص 90

6- المديرة الإقليمية للجمعية الألمانية لتعليم الكبار في الشرق الأوسط.

7- كاترين دينيس :تعليم الكبار والتغير الاجتماعي. مؤسسة التعاون الدولي للجمعية الألمانية لتعليم الكبار. الأردن2013. ص76

تأملات في خيانة الوعي لنفسه

لا يُعدُّ فعل الكتابة، في جوهره، إنتاجًا لفظيًا نابعًا عن إرادة حرّة، بقدر ما هو انكشافٌ لوعيٍ مأزومٍ بتكوينه، متورّط بمراجعة ذاته عبر أدواتٍ ليست نابعة منه خالصًا. بل إن الكاتب، في لحظة الكتابة، لا يخطّ سطورًا تعبّر عن ذاته فحسب، بل يُستَخدَم بوصفه أداةً لفكرةٍ تتخطاه، فكرةٍ تكتبه أكثر مما يكتبها.

في مقال سابق ذكرت أن: الفكرة الحقيقية لا تنبع من داخلنا، بل تستدعينا لنتجسّد فيها. فالمقال، حين يُكتب بصدقٍ فلسفي، لا يتولّد من الداخل وحده، وإنما يُكتب من منطقة تماسٍّ بين البنية الثقافية الكامنة، وبين الصدع الكامن في ذات الكاتب؛ ذلك الصدع الذي يسيل من خلاله المعنى بغير استئذان.

الكتابة بوصفها انفعالًا معرفيًّا

ليس الكاتب، كما يُظن، فاعلًا مُطلقًا في عملية الكتابة، بل إن سلطته على النص لا تتجاوز حدود الاستضافة. فهو يستضيف الفكرة، لا يخلقها. ينفعل بها، لا يتحكّم فيها. وهذا ما يجعل المقال، في كثيرٍ من الأحيان، أذكى من كاتبه، وأسبق منه في التكوين.

وقد أشار بول ريكور إلى هذا المعنى حين قال: لسنا نحن من نبدأ بالكلام، بل اللغة هي التي تُجبرنا على النطق من داخلها. فاللغة – بوصفها نسقًا سابقًا على الذات – لا تتيح حرية مطلقة، بل تفرض بنيةَ تعبيرٍ تُملي شروط الإدراك وصياغة المعنى.

خيانة الوعي لذاته: انكشاف لا إرادي

كل فكرة تخرج من الكاتب دون مقاومة، لم تمرّ على وعيه بما يكفي

الخيانة التي نقصدها هنا، لا تشير إلى انحدار أخلاقي، بل إلى مفارقة معرفية، حيث يُنتج الوعي ما لا يُطابق تصوّره السابق عن ذاته. وهذه المفارقة هي التي تُنبّه الكاتب إلى أن وعيه لا يملك سيادةً كاملة على ما يخرج منه.

يقول عبد الجبار الرفاعي: المعرفة الحقيقية لا تُطمئن، بل تربك الوعي وتُقلقه في جذره الأول. وهذه الإرباكات التي تُخلخل بنية الكاتب هي ما يجعل المقال يتجاوز وظيفة الإفصاح إلى موقع الخلخلة والتفكيك وإعادة التشكل.

بين فاعلية الكتابة ولاوعي النص

لو نظرنا إلى لحظة الكتابة من زاوية هيغلية، لأمكننا القول إن الكاتب لا يُنتج النص من عدم، بل يحقّق لحظةً ضمن تطوّر تاريخي ووعي جمعي سابق عليه. فهو ليس فاعلًا في معزل عن البنية، بل متجلٍّ لحركتها، يُكتب بواسطتها، ويذوب في خطابها. ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار المقال ليس تعبيرًا عن الذات، بل أداة لتجاوزها أو حتى فضحها.

في هذا البحث اقول أنا لا أكتب، بل أسمح للفكرة أن تكتبني

الغيرة المعرفية: حين يغار الوعي من نص لم يُولد

ثمّة لحظة شديدة الخصوصية يعيشها كل كاتب: يرى فكرةً تتكوّن على أطراف وعيه، يشعر بوجودها، لكنه لا يمتلك أدوات الإفصاح عنها بعد. إنها الغيرة المعرفية، حين يُدرك الكاتب أن ثمّة نصًّا حقيقيًا ينتظره، نصًّا لم يُولد بعد، لكنه موجود بالقوّة. وهنا، لا يكون الكاتب سوى قارئٍ مؤجَّل لنصّه المستقبلي، قارئٍ يحاول اللحاق بنصّ يتقدّمه، لا يلحقه.

 سلطة النص على الوعي

كل مقال يُكتب بصدقٍ فلسفي، لا يُعدّ امتدادًا لصوت الكاتب، بل اعتراضًا عليه. هو تجلٍّ لفكرةٍ تأخّرت في الظهور، لكنها حين ظهرت، كشفت هشاشة صاحبها.

وأقول في الخاتمه: لا أكتب لأقول ما أعرف، بل لأُجرِّد وعيي مما يظنه عن نفسه. فالكتابة، إذًا، ليست عملاً تعبيرياً، بل خيانة معرفية ضرورية. خيانة تُخرج الكاتب من استقرار الإدراك إلى أزمة التساؤل، ومن الطمأنينة إلى مكاشفةٍ لا تحتمل التراجع.

***

سجاد مصطفى حمود

..................................

هوامش توثيقية

1. بول ريكور، الذات بوصفها آخرًا، ترجمة جورج كتورة، المركز الثقافي العربي.

2. عبد الجبار الرفاعي، الدين والظمأ الأنطولوجي، دار التنوير، بيروت.

3. جورج فيلهلم هيغل، فينومينولوجيا الروح، بترجمات مختلفة.

 

من المعلوم أن مصطلح العصور الوسطى يعني القرون التي عانت فيها أوروبا من التخلف والجهل والسحر والشعوذة.  الكل يتفق مع هذا المضمون ولا خلاف فيه. لكن مما يلاحظ ويجلب الانتباه، هو ظهور أصوات من بعض المثقفين والمفكرين العرب ممن كتبوا وروّجوا لفكرة أن هناك قرون وسطى إسلامية مع ازدياد استعمال مصطلح القروسطية. فما المغزى من هذه الأفكار، وكيف ظهرت، ولماذا هي تزداد انتشاراّ في المجتمع العربي؟ أسئلة كثيرة وعديدة تستحق الإجابة عليها.

تُعرّف القرون الوسطى: بأنها حقبة زمنية امتدت لعشرة قرون، ابتداءً من القرن الخامس الميلادي لغاية القرن الخامس عشر الميلادي. وسميت الوسطى لأنها توسطت عصور التاريخ القديمة، تحديداً من عام 476م (عام سقوط الإمبراطورية الرومانية)، وعصور التاريخ الحديث، تحديداً عام 1453م (عام سقوط القسطنطينية). عانت أوروبا في هذه العصور من شدة الجهل والتخلف والسحر والشعوذة. سميت القرون الخمسة الأولى من القرون الوسطى بالقرون المظلمة، لشدة التخلف والجهل فيها، بينما اعتبرت القرون الخمسة التالية هي القرون الوسطى، لأنها كانت نسبياً أفضل من الفترة الأولى حيث بدأت فيها بوادر وبذور النهضة. وأريد أن أنوّه هنا إلى إن أحداث العصور الوسطى إنما هي خاصة بالشعوب والدول الأوربية حصراً، فهي لا تنطبق على الحضارة الإسلامية ولا على حضارة الصين وشرق آسيا، ولا حضارة الهند أو وسط آسيا أو افريقيا. ففي الوقت الذي كانت فيه أوروبا تغط في سبات عميق من الجهل والتخلف، فيما أصطُلح عليه بالعصور الوسطى، كان باقي أرجاء العالم يعيش عصراً ذهبياً من اشعاع نور الحضارة الإسلامية، متمثلاً في التسامح الديني والتحضّر واكتشاف العلوم التجريبية والتطبيقية (التي يدّعي الأوروبيون أنهم مكتشفوها) مثل علوم الكيمياء والجبر والأرقام والفلك والطب وغيرها. ولا أدرى لماذا يعتقد البعض أن الجهل والتخلف قد غزا العالم في القرون الوسطى ولا يَعتبرون أن العالم كان يعيش عصره الحضاري الذهبي. قد يكون السبب هو أن المؤرخين والمفكرين الأوروبيون اعتبروا أن تاريخهم هذا هو تاريخ العالم كله. ذلك لأن العالم بالنسبة للأوروبيين يتمثل في أوروبا والأوروبيين فقط، فالأوربيون لا يهتمون لغيرهم. وغالباً ما ذهبوا إلى التغاضي ونكران وجود بعض الحضارات غير الأوروبية. والمشكلة في كل هذا أن بعض المثقفين والمؤرخين العرب قبلوا وصدقوا فكرة أن تاريخ العالم يقسّم إلى عصور قديمة ووسطى وحديثة كما وضعه الأوربيون. وقَبِل بعض المفكرين والمؤرخين العرب هذا التاريخ على أنه تاريخ العالم دون تفحص أو تدقيق، بل تصديق أعمى لأقوال الغرب. خذ مثلا كتاب "خلاصة تاريخ العراق" للأب أنستاس الكرملي وهو يقسّم التاريخ العام على أساس التقسيم الأوروبي المذكور أعلاه، ويوجد غيره من المثقفين والمؤرخين في عصرنا الحديث والمعاصر ممن يعترفون بهذا التقسيم ويقبلونه كما هو. يَعرِف جيداً، كل من له معرفة بالتاريخ أن التواريخ المذكورة لتقسيم التاريخ لا تعني شيئاً لغير الأوروبيين كالعرب والفرس والأتراك والصينين والهنود. فلماذا نقبل بهذه المعلومات الزائفة؟

إن هذه النعرة، نعرة التقليد الأعمى للغرب الأوروبي، أخِذتٌ بالانتشار في الفكر والثقافة العربية. وقد سببت لنا مشاكل نحن في غنى عنها. أذكر على سبيل المثال ما كتبه الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه "تجديد الفكر العربي". ومعلوم أن الدكتور زكي نجيب محمود يعتبر من كبار المثقفين في العالم العربي ومشهود له بالعلم والمعرفة، وهو من جيل المثقفين الكبار في القرن الماضي. يقول الدكتور زكي في مقدمة كتابه هذا، أنه خلال مسيرته الثقافية، تعلّم أن هناك ثقافة واحدة فقط، ناضجة وكاملة ومتطورة، وهي الثقافة الأوروبية (الغربية)، ولم يَعرف غيرها. دَرَسَها في سنين تحصيله العلمي، ودَرّسّها لتلاميذه، وبَرَع فيها. هو لم يطّلع على الثقافية الإسلامية إلاّ من خلال نصوص مشتتة غير كاملة ومبعثرة، لا تفيد الباحث ولا يصل منها إلى معلومة ثقافية مفيدة. ويقول أيضاً، إن صحوة فكرية اصابته في السنين الأخيرة من عمره جعلته ينفر من ثقافة الفكر الغربي، خصوصاً إذا ما كان صاحب الفكر الغربي هو عدوٌ لنا، فلا خير في ثقافة تأتي من عدو. فقرر أن يستبدلها بثقافة الأهل والأجداد، وأن يستعين بتراث الأقدمين (التراث الإسلامي) ليكون عاملاً من عوامل نهضة الأمة، وأن "يمزج تراث اسلافنا مع عناصر العصر الراهن الذي نعيش فيه لنكون بهذه التركيبة عرباً ومعاصرين في آن واحد.  ثم يتساءل "ولكن كيف يتم ذلك". ويستفسر "ما الذي نأخذه وما الذي نتركه من القيم التي انبثت فيما خلّف لنا الأقدمون؟ وما الذي نأخذه وما الذي نتركه من هذه الثقافة التي تهب علينا ريحها من أوروبا وامريكا، كأنها ريح عاتية؟ ". إن هذا الكلام يمثل دليلاً واضحاً واعترافاً صريحاً لواحد من كبار المثقفين العرب، بأنه لم يدرس التاريخ الإسلامي ولا الثقافة الإسلامية، وأنه فقط متمرس في الثقافة الأوروبية!! فماذا نتوقع من أفكاره تجاه الثقافة العربية الإسلامية. والملاحظ أن الكثير من المفكرين والمثقفين العرب يسيرون على هذا النهج، مؤمنين بأنه الطريق الصحيح لتجديد الفكر العربي، منبهرين بالنهضة الأوروبية إلى درجة أنهم لا يرون غيرها، ويعتبرون أن هذه النهضة هي الوحيدة والأصيلة في التاريخ. وبذلك فهم ينسون أو يتناسون أن الحضارات السابقة نهضت أيضاً من سبات وجهل عميق كانوا يعانون منه قبل أن يتحضروا، فخطوا الخطى ونهضوا النهضة الكبرى وسادوا على العالم. بالتأكيد لا يستطيع أحداً أن ينكر نجاح النهضة الأوروبية وسيادتها وتفوقها على العالم، لكنها ليست بالضرورة النموذج الفريد في التاريخ والذي يجب أن يحتذى به. يمكن أن يُحتذى بها كنموذج ومنهج للنهضة والتقدم لكن ليس بالأسلوب الذي يتبعه البعض المتحمس للغرب بتقليد أعمى لا يفرّق بين ما هو مفيد لمجتمعنا وما هو مضر لنا.

ليست الحضارة الأوربية هي الحضارة الوحيدة التي نهضت في تاريخ البشرية، فكل الحضارات التي سبقتها، وسادت على العالم في زمانها، كانت قد نهضت من حالة سبات وتخلّف عانت منه قبل النهضة. خذ على سبيل المثال الحضارة الإسلامية: كان العرب عند ظهور الإسلام قوم اميين متخلفين، لا حضارة لهم ولا منزلة لهم تذكر بين الحضارات التي سادت العالم في ذلك العصر (الحضارتين الفارسية والرمانية). كانوا مجرد قبائل بدوا رحّل متفرقين ومشتتين. وباعتناقهم الإسلام، في القرن السابع الميلادي، بدأت عندهم بذور النهضة. فاتحدوا وتعلّموا وتثقفوا، وغزوا العالم، واكتشفوا العلوم، وأنشئوا حضارة سادت على العالم. وأتساءل هنا: أليست هذه نهضة تماثل النهضة الأوروبية، مع مراعاة زمان حدوثها؟ وبنفس المقياس يمكن اعتبار كل الحضارات السابقة قد مرّت بمراحل النهضة، كلٌ حسب عصره وزمانه، فالنهضة ليست حكراً على الاوروبيين. لكن المؤرخون والكتّاب الأوروبيون عملوا على طمس وإغفال هذه الحقائق بهدف رفع شأن الحضارة الأوروبية وسطوتها على العالم عن طريق احتكار المكتشفات العلمية والثقافية وحصرها بهم.

المستشرق الألماني توماس باور، أستاذ الدراسات الإسلامية والعربية، نشر كتاباً بعنوان "لماذا لم توجد عصور وسطى إسلامية؟" تُرجمة إلى العربية ونشر بتاريخ 2020. ناقش المؤلف، في كتابه هذا، معنى مصطلح "العصور الوسطى الإسلامية" ومصطلح "القروسطية". بدأ نقاشه بمقارنة واقعية وصحيحة بين حال أوروبا في عصر حاكمها شارلمان (768-814م) التي تمثل فترة العصور الوسطى، وبين حال الحضارة الإسلامية في زمن هارون الرشيد (786-809م) التي تمثل فترة العصر الذهبي، ويشير بهذا المثال إلى التحيّز الواضح في استعمال مصطلح العصور الوسطى، فهم يُعِّدون هارون الرشيد وصلاح الدين من حكّام العصور الوسطى، لكنهم لا يقبلون اعتبار زمن شارلمان حقبة العصر الذهبي. ويقول توماس باور " إن الكثير من علماء الإسلاميات (يقصد الأوروبيون طبعاً) في الواقع ينطلقون من افتراض يبدو طبيعياً بوجود عصور وسطى إسلامية، وإنه من المنطقي استخدام مصطلح العصور الوسطى لوصف الثقافة والادب والعلوم في العالم الإسلامي". هذا الافتراض والترابط انطلق من اعتبار أن فترة العصور الوسطى تُعد أكثر حقبة سيطر فيها الدين على الاطلاق، واعتبروا أن الثقافات الإسلامية دينية بشكل خاص، لذلك فمن الطبيعي وجود عصور وسطى إسلامية!! وإن العصور الوسطى الإسلامية كانت تجسيداً للتعصب الديني. ويؤكد توماس باور إن مثل هذه الفكرة السخيفة عن المجتمعات الإسلامية في فترة ما قبل الحداثة بعيدة تماماً عن الواقع، حيث تميّزت الثقافة الإسلامية وبشكل مدهش بنسبة عالية من التسامح. وفي الوقت الذي طغت صفة العصور الوسطى على تاريخ العالم، بضمنها الحضارة الإسلامية، طُمِست وهُمّشت معالم العصر الذهبي واهملت على الرغم من أن أنوار العصر الذهبي كانت هي المنتشرة في أكثر أرجاء العالم. وصدقها بعض المفكرون والمثقفون العرب وكتبوا بها.

إن مصطلح العصور الوسطى لم يكن بريئاً، فقد استعمل وبكثرة للتشهير بالدول التي يعتبرونها متخلفة، ووصف حالة التخلف والجهل التي تمر بها شعوب العالم الثالث وتحديداً العربية والإسلامية. وقد تحوّل الآن مصطلح القرون الوسطى من كونه يمثل حقبة زمنية معينة مرت بها أوروبا، إلى كونه صفة مخصصة للتخلف والتعصب الديني، وهذا ما يوصف به المجتمع العربي حالياً. فالسعودية والعراق وسورية، مثلاً، تعيش الآن قرونها الوسطى من التخلف وعدم النهضة (كما توصف هذه البلدان حاليا فكرياً وسياسياً وحضارياً)، بينما يتم غض النظر عن واقع أحدثه الأوروبيون هو أن القرن العشرين هو الأكثر دموية في تاريخ العالم. وهكذا يتبين أن وصم بقية العالم بالقروسطية، هو فعل استراتيجي امبريالي غرضه استمرار إعلاء التفسير الغربي للحداثة العالمية على ما عداه من التفسيرات (توماس باور). ويقول توماس أيضاً "هي فكرة تعود إلى هيجل في كتابه "أطلس الفلسفة"، حيث كتب إلمر هولينشتاين: ما يبدو للغرب كقصة تَقَدم، يظهر في الشرق كقصة ركود. ولهذا السبب فإن المصير المحتوم للقارات المتخلفة -من وجهة نظر هيجل- هو أن تتم رعايتها والاشراف عليها من قبل أوروبا". وهذا ما حدث فعلاً عندما وضع العراق والشام تحت الانتداب البريطاني والفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى من خلال انشاء عصبة الأمم وعلى أساس أن هذه الدول التي تحررت من سيطرة الدولة العثمانية عاجزة عن إدارة الدولة بسب تخلفها، لذلك يتم تكليف دول متحضرة للإشراف عليها وتعليمهم أساليب إدارة الدولة الحديثة.

أمّا مصطلح القروسطية فهو غريب ودخيل على الثقافة العربية، ظهر فيها حديثاً. ويبدو لغوياً أنه نتج عن دمج كلمتي القرون وكلمة الوسطى، لسهولة الاستعمال. إلا أن المعنى أعم واشمل، فقد أصبح لا يُستعمل لوصف فترة زمنية (حقبة القرون الوسطى)، وإنما يستعمل للتعبير عن حالة التخلف والجهل التي تعيشها المجتمعات المتخلفة. وعندما توصف المجتمعات بالقروسطية فإن ذلك يعني إنها ذات سلطة قمعية استبدادية، متخلفة لا تواكب روح العصر. لذلك فإن المصطلح أصبح غالباً ما يستعمل لوصف المجتمعات العربية والإسلامية. فعلى سبيل المثال، وصَفَ د. صادق جلال العظم بعض الممارسات الدينية المتشددة بأنها تعكس "عقلية قروسطية"، في إشارة إلى تحكيم نصوص دينية بتفسير جامد ومتسلط بعيداً عن العقلانية الحديثة. وكذلك قال محمد عابد الجابري في كتاب "المثقف العربي همومه وعطاؤه" عندما طُلب منه أن يكتب مقال عن "المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية" فكتب ما يلي "كيف يمكن الحديث عن المثقفين في حضارة تنتمي إلى الماضي، إلى القرون الوسطى، في حين أن مقولة المثقفين حديثة"، وكأنه لا يعرف أن حقبة القرون الوسطى تستعمل حصرياً لوصف تخلّف الأوربيين، وإن عصر الحضارة العربية كان عصراً ذهبياً. وهناك امثلة كثيرة أخرى مشابهة لا يتسع المجال لذكرها.

والحقيقة، فقد نجح الأوربيين في إلصاق تهمة القرون الوسطى والقروسطية بالمجتمعات المتخلفة وتحديداً العربية منها. ونجحوا أيضاً في النأي بحضارتهم الأوروبية عن وصفها بالقرون الوسطى والقروسطية على أساس انها مرّت بنهضة متواصلة ليس فيها تخلف، بعكس الحضارة الإسلامية التي عانت وما زالت تعاني من التخلف، فانحصر مفهوم القروسطية بالمجتمعات المتخلفة فقط ولا يستعمل لوصف المجتمع الغربي المتحضر. ومما يؤسف له أن هذا المصطلح كثر استعماله عند المفكرين العرب. يذكر توماس باور في كتابه المذكور أعلاه مثال على استعمال مصطلح القروسطية "إن وصم كل من أفغانستان والعراق بالقروسطية قد ساعدت بالتأكيد على جعل التدخل الأمريكي فيهما أكثر قبولاً".

ولا يفوتني أن أذكر هنا كتاب "تاريخ ضائع، التراث الخالد لعلماء الإسلام ومفكريه وفنانيه" من تأليف مايكل هاملتون مورجان، وهو دبلوماسي امريكي وكاتب ومحلل سياسي. نشر الكتاب عام 2007. اختار المؤلف لكتابه اسم "تاريخ ضائع" (وهو يقصد التاريخ الحضاري الإسلامي المغيّب)، ليوضّح كيف تم تهميش وطمس ونسيان انجازات الحضارة الإسلامية بالكامل في السرديات الأوروبية لتاريخ العلم والثقافة، لكي ينسب الأوروبيون لأنفسهم فقط تلك الاكتشافات العلمية، ويتعمدوا انكار جهود غيرهم في تطور العلوم والمعرفة. يركز الكتاب على فكرة أن الغرب مَدين للحضارة الإسلامية بقدر كبير من التقدّم والتطوّر الفكري والعلمي، ويستعرض أحوال العصور الذهبية الإسلامية، وكيف كانت منارة عالمية للعلم والمعرفة في الوقت الذي كانت أوروبا تعيش ظلاماً دامساً. ويشرح تأثير العلوم الإسلامية على النهضة الأوروبية، مثل ابن سينا وكتابه "القانون في الطب"، والرازي وكتابه "الحاوي في الطب"، ودور الخوارزمي في اكتشاف الأرقام والصفر وعلم الجبر، وجابر ابن حيان وابن الهيثم في الكيمياء والبصريات. يقول المؤلف في مقدمة الكتاب "معظم الأمريكيون بما فيهم الأمريكيون المسلمون، وحتى عدد كبير من المسلمين حول العالم، لا يعرفون سوى قشور التاريخ الإسلامي أي " إنهم كانوا عظماء في يوم من الأيام وإنهم اخترعوا علم الحساب ثم سقطوا في مستنقعات التأخر". كما إن معظم الغربيين قد تلقنوا أن جذور المجد الغربي تعود إلى أيام الرومان والاغريق، وأنه بعد سبات ألف عام في مجاهل عصور الظلام حدثت المعجزة واستيقظت أوروبا لتعيد صلاتها بأصولها الرومانية والاغريقية. أما الاسهامات الفكرية للعرب والفرس والهنود والصينيين فقد اختزلت واقتصرت على الحواشي المتناثرة هنا وهناك".

والرسالة من هذا المقال: إلى المثقفين العرب المبهورين بالنهضة الأوربية بشدة، إلى درجة أن ابصارهم غَفلت عن مساوئ ومضار النهضة الأوروبية وكأنها غير موجودة، والتي لا تناسب المجتمع الشرقي.  وأذكّرهم بتجربة النهضة اليابانية الناجحة، التي تزامنت مع النهضة العربية في مصر في عهد محمد على باشا الكبير والتي تعثّرت مسيرتها ولم تعطي ثمارها بعد. ومن الأسباب المهمة في نجاح التجربة اليابانية هو اهتمام وتركيز العلماء والمفكرين اليابانيين على فهم العلوم والتقدم التكنولوجي والسياسي، والابتعاد عن عادات واعراف وثقافة المجتمع الغربي، التي لا تناسب مجتمعهم، واعتزاز اليابانيون بتاريخهم وتراثهم واعرافهم السائدة في مجتمعهم، وبذلك لم يحدثوا فجوة كبيرة في عقول وثقافة مجتمعهم كما حصل ويحصل في مجتمعنا.

***

د. صائب المختار

 

دراسة في البلاغة السلطوية والظلم المعرفي

الملخص: تهدف هذه الدراسة إلى تحليل ظاهرة "الكتابة الشريرة" باعتبارها ممارسة معرفية وسردية تُسهم في تبرير العنف الرمزي والمادي، وإعادة إنتاج أشكال من الهيمنة باسم الجمال أو العقلانية أو الموضوعية. تستند الدراسة إلى المنهج النقدي التحليلي، من خلال تفكيك العلاقة بين اللغة والسلطة، والوقوف عند نماذج من الكتّاب الذين وظّفوا النصوص كوسائط للهيمنة، أو غطاءً أيديولوجيًا لشرٍّ مؤسّس. وتُسائل الدراسة التواطؤ البلاغي الذي يُرتكب حين تُجمَّل البشاعة، ويُعاد تأثيث الجريمة بلغةٍ تخدّر الضمير وتُغيّب الحقيقة. تنتهي الدراسة إلى ضرورة بلورة وعي نقدي أخلاقي في مواجهة التضليل السردي، عبر بناء بلاغة مضادّة تفضح استراتيجيات الهيمنة وتقاوم سرديات الطمس.

الكلمات المفتاحية: الكتابة الشريرة، الشر المعرفي، الظلم السردي، البلاغة السلطوية، التضليل.

المقدمة: لطالما اعتُبرت الكتابة فعلًا تنويريًا، وسلوكًا أخلاقيًا يروم كشف الحقيقة وتحرير الوعي. غير أن التاريخ الإنساني، بما فيه من تقاطعات عنف وإيديولوجيا، أفرز ممارسات كتابية لا تُنير، بل تُعتم؛ لا تُحرّر، بل تُقنّن القمع.

من هنا، تنبع إشكالية هذه الدراسة من سؤال جوهري:

هل يمكن أن تكون الكتابة ذاتها فعلًا شريرًا؟ وهل يمكن للنص أن يتحول إلى أداة لتجميل الظلم، وتبرير الاستبداد، وإعادة إنتاج الهيمنة؟

أولًا: الإطار النظري - الشر المعرفي والظلم السردي

الشر المعرفي (Epistemic Evil): يعني استخدام المعرفة أو اللغة لتشويه الحقيقة أو إخفائها أو إعادة صياغتها ضمن أنساق تُخدِم مشاريع قمعية. تشير ميراندا فريكر (2007) إلى أن "الظلم المعرفي" يحدث حين يُنزع عن الأفراد أو الجماعات حقهم في أن يكونوا مصادر معرفية موثوقة، بما يعنيه ذلك من تقزيم لخبراتهم وتزييف لوجودهم داخل النظام المعرفي السائد.

البلاغة السلطوية: يرى ميشيل فوكو (1972) أن السلطة لا تُمارس فقط عبر العنف، بل من خلال الخطاب، أي عبر تنظيم المعرفة وترسيخ نسقها. الخطاب إذن ليس بريئًا، بل حقل صراع على المعاني، تُحسم فيه المعركة لصالح من يمتلك القدرة على تسمية العالم.

ثانيًا: نماذج للكتابة الشريرة والكتّاب الأشرار

جوزيف جوبلز – دعاية القتل: لم يكن جوبلز مجرّد وزير في النظام النازي، بل كاتبًا رئيسيًا في صناعة السردية الفاشية. استخدم الخطب والمقالات والملصقات لتحويل الإبادة إلى عدالة، والكراهية إلى فضيلة، عبر لغة متقنة الإخراج، مشحونة بالعاطفة الزائفة.

آين راند – العقلانية الأنانية: أسست راند فلسفة تمجّد الفرد على حساب الجماعة، وقد تحوّلت هذه الفلسفة إلى مرجعية أيديولوجية للنيوليبرالية التي تبرر سحق الضعفاء باسم الكفاءة. تُستخدم كتاباتها كذخيرة فكرية لتسويغ اقتصاد لا يرحم، ومجتمع يُقصي من لا يملك.

الخطاب الاستشراقي – سردية الهيمنة: كشف إدوارد سعيد (1978) كيف أن النصوص الغربية عن الشرق لم تكن توصيفات ثقافية، بل مشاريع بلاغية للهيمنة، حيث يُعاد تشكيل "الآخر" ضمن مخيال استعماري يروم السيطرة، والتبرير الأخلاقي للغزو.

ثالثًا: الجمال كغطاء للشر - حالة "لوليتا" تُعد رواية "لوليتا" لنابوكوف مثالًا صادمًا على كيفية استخدام البلاغة لتغطية الفعل الإجرامي. ففي حين يروي الراوي قصة اعتداء جنسي، تُقدَّم للقارئ بلغة شاعرية آسرة. وهنا يُطرح سؤال أخلاقي: هل يُغفَر الفعل لأن النص جميل؟ وهل يتحول الجمال إلى قناع يخفي القبح الأخلاقي؟

رابعًا: الكتابة الشريرة في العصر الرقمي لم تعد الكتابة حكرًا على النخبة، بل أصبحت أداةً يومية ضمن فضاء رقمي تحكمه الخوارزميات. الخطاب الكراهوي اليوم يُنتَج عبر نصوص رقمية قصيرة، ومُضلِّلة، تحشد الجماهير ضد المختلف، وتُعيد إنتاج العنف الرمزي بأسلوب جديد. تُصبح البلاغة هنا أداةً للخداع، لا للبيان.

خامسًا: المقاومة – نحو بلاغة مضادة يُبرز جورج أورويل أن قول الحقيقة في زمن الكذب فعل مقاوم. غير أن المقاومة لا تكون فقط بكشف التضليل، بل بتفكيك منطقه من الداخل، وبتقديم سرديات بديلة تُعيد للمخفي حقّه في الظهور، وللصامت حقّه في الكلام.

الخاتمة: الكتابة ليست فعلاً بريئًا، بل ممارسة ذات حمولة أخلاقية ومعرفية هائلة. من يكتب يملك القدرة على إعادة تشكيل الوعي والذاكرة. ومن هنا، فإن السؤال الحقيقي الذي يجب أن يُطرح دائمًا: من يكتب؟ ولماذا؟ وبأي خطاب؟ ولمن؟

إننا بحاجة إلى نقد جذري للكتابة، لا بوصفها شكلاً أدبيًا فحسب، بل باعتبارها بنية قوة ومجال صراع بين المعنى والتضليل، بين التسمية والكتمان، بين الحضور والتغييب.

***

أ. مجيدة محمدي / الجمهورية التونسية

..............................

المراجع:

فريكر، ميراندا. (2007). الظلم المعرفي: السلطة وأخلاقيات المعرفة. مطبعة جامعة أكسفورد.

فوكو، ميشيل. (1972). أركيولوجيا المعرفة. كتب بانثيون.

بيرنز، جينيفر. (2009). إلهة السوق: آين راند واليمين الأمريكي. مطبعة جامعة أكسفورد.

سعيد، إدوارد. (1978). الاستشراق. كتب بانثيون.

أبل، ألفريد. (1991). لوليتا المشروحة. كتب فينتاج.

أورويل، جورج. (1949). 1984. سيكر وواربرغ.

مجلس حقوق الإنسان، الأمم المتحدة. (2018). تقرير بعثة تقصي الحقائق الدولية المستقلة بشأن ميانمار.

إن الحديث عن النقد يقتضي الإشارة إلى الثقافة بوصفها القاعدة التي تمنح النقد أهميته، وعلينا أن نفرق بين معنى النقد والانتقاد، فالأول يرتبط بالموضوع ويرجع إلى المنهج العلمي، أما الثاني شخصي ويعتمد على العادات والتقاليد الاجتماعية.

كما أن الثقافة نسبية ومتفاوتة بين المجتمعات، بل حتى داخل المجتمع الواحد، وبما أن النقد مرتبط بها من خلال الأفراد، فإن وجهات النظر النقدية تتعدد بتعددهم، فالثقافة هي التي تمنح النقد هويته، اي بمعنى تحدده بمحددات السلطة، وتبرز أدواته في مناقشة الأمور الحياتية والعلمية.

فقد نجد مجتمعاً موهوماً بالنقد لكنه غير منتج، مستهلك للأفكار لا للسلع فقط، مجتمعاً متصنع للفكرة غير محي لها. يسعى إلى إيجاد ثغرة في الموضوع المعروض للنقد، يهدم ولا يبني، يشخصن ولا يشخص. والجيد في النقد ان الكل يخضع للفحص، ولا يقدس الأفكار، غير أن توجيه النقد للذات يعد تجاوزا للنقد إلى الانتقاد، باعتبار ان فعل الذات شأن خاص بالإنسان، أما ما يطرحه من أفكار فهي تؤثر على الفرد والمجتمع. وبذلك فالنقد نوعين: سلبي خاضع لمحددات الثقافة والسلطة، أما الإيجابي هو الذي يتجاوز الثقافة ويفكر فيما وراءها.

كما أن الفيلسوف او العالم أو المبدع، أو الفنان هو في الأصل إنسان له مشاعر وحاجات ورغبات، ويمتلك من الأمراض النفسية ما يمتلكه اي إنسان عادي، ألا إن الفرق بينهما في استثمار تلك المواقف الحياتية والرغبات النفسية، فالأول: اي المفكر يبحث عن إنتاج صورة راقية لنفسه، أما الثاني: اي الإنسان العادي يبحث عن ما يستهلك نفسه، فالأول ينال الاحترام بين الناس، لأنه مارس النقد على ذاته وبحث عنها في ذاته، فأبدع صورته من خلال افكاره، أما الثاني فقد ذاته، وأخذ يبحث عن ذاته في الأشياء. ومن هنا يمكن أن نستشعر الفرق بين المبدع والمجرم. بين المغترب والتائه. بين سعي الإنسان ومسعاه.

ويمكن أن نجد في تعريف الثقافة، كما عرفها الفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند بانها " ميزة شخص متعلم، وكان قد طور بهذا التعلم ذوقه، حسه النقدي وحكمه، تربية يترتب عليها توليد هذه الميزة ".

فثقافة النقد ترجع لنوعية البيئة التي تنشأ فيها، ونوعية الثقافة السائدة، اي سلطة تفرض نفسها على محركات الثقافة وتفكير المجتمع، سواء كانت سلطة الدين، أو الأعراف والتقاليد الاجتماعية، أو السلطة السياسية، أو سلطة العقل، وبهذا يمكن تحديد نوعية النقد السائد للموضوعات الفكرية والإبداعية. فكل نقد لا يخلو من الذاتية، لكنه يتجاوزها اذا اعتمد منهج العلمي.

أما نقد الثقافة فهو يقوم على التفكير ما وراء الثقافة، ولا يخضع لأي غرض أو سلطة دينية أو سياسية أو ثقافية أو نفعية، وهذا لا يتحقق إلا في الفلسفة التي تبحث عن الحقيقة لذاتها، لا لمصلحة ما.

فجل الفلاسفة الذين مثلوا انعطافات كبيرة في تاريخ الفكر الإنساني، وليس في مجتمعاتهم فقط، لأنهم فكروا خارج الصندوق، وخارج البيئة التي نشأوا فيها، إذ ان نمو وعي الأفراد لا ينفصل عن الثقافة التي تربوا في كنفها. ويمكن أن تجد امثله كثيرة على من فكروا خارج صندوق عصرهم وثقافتهم، بدءاً من السفسطائيين، إلى كوبر نيكوس، وفردريك ونيتشه، وماركس، وفرويد. فكل منهم وجد ضالته في نقد الثقافة السائدة آنذاك، من خلال تقديم قراءة مغايرة لما موجود في عصره فكوبر نيكوس رفض النظرة السائدة عن مركزية الأرض، وماركس قدم لنا النقد الاجتماعي، ونيتشه نقد الثقافة الغربية ورفض الفكر التقليدي، وفرويد قدم لنا النقد النفسي. إذ أخضع المتبنيات الثقافية للمجتمع والافراد إلى التحليل النفسي.

وعندما يخضع اي عمل أدبي أو فني أو فكري للتحليل النفسي، فإنه يفسر من حيث تأثير اللاشعور على إبداع الموضوع، اي يتم تناول أفكار المفكر واعماله، لا حياته الشخصية في تحليل شخصيته، وعلى هذا، يجب أن نفرق بين النقد العلمي والفضيحة في فهم الأفكار ومبدعيها.

***

كاظم لفتة جبر

 

لا شك في أن التطور المتسارع للحوسبة والذكاء الاصطناعي مكن البشر من محاكاة العديد من العمليات في الهندسة والتصميم والفيزياء. ويعتبر الكثيرون أن مسألة محاكاة الحياة مرهونة بتوفر قدرات الحوسبة الكافية في السنوات القادمة. فقد تستطيع الخوارزميات يوما اذا ما اعطيت الخوارزميات بيانات كافية عن حياة شخص ما وحمضه النووي ان تحاكي أنماط سلوكه وتتوقع أي قرار يتخذه. وقد تكون الحياة مجرد ترميز جيني سيفكّ عاجلاً أو اجلاً.

لكن هذا التصور يغفل تمامًا طبيعة الحياة نفسها. فالأنظمة الحية تختلف اختلافا جوهريا عن أنظمة تحكمها الخوارزميات والمعادلات الرقمية. فالأنظمة الحية ليست أنظمة معقدة فحسب، بل ناشئة وسياقية، تبنى خصائصها عبر السياق والتفاعلات متعددة المستويات. الحياة لا تسير في بخط سببي مستقيم، بل عبر حلقات ردود الفعل وشبكات من التفاعلات التي تنتج خصائص غير قابلة للاختزال إلى مكوناتها. ولهذا، فمن حيث المبدأ، يغدو محاكاة الحياة عبر المنهج الرياضي او عبر الذكاء الاصطناعي أمرا مستبعدا من حيث المبدأ.

ما وراء السببية الخطية

في العلوم الكلاسيكية، اعتمد العلماء على السببية الخطية. الأجزاء الأصغر تؤدي إلى تغييرات على مستوى الأجزاء الأكبر وهكذا بشكل تصاعدي. بهذا يصبح السبب والنتيجة يسيران بخط مستقيم لا رجعة فيه. مثال واضح على ذلك في الفيزياء الكلاسيكية حيث أن وجود عدد معين من الذرات داخل الجسم ونسبة تباعدها عن بعضها تؤثر على شكل وحجم الجسم ذاتها. لا يفترض أن تؤثر البنية الكلية للجسم على ذراته من خلال هذا النموذج. والسببية الخطية تجعلنا قادرين على توقع النتيجة إذا عرفنا كل المتغيرات على مستوى الأجزاء.

رغم نجاح هذا النموذج بشكل عام في الفيزياء. إلا أن تطبيقه في علم الأحياء يبدو صعبًا. أثبتت مختلف الابحاث العلمية ان البنى الاعلى تنظيمًا قادرة على التأثير على النشاطات الجزيئية او الخلوية. فقد يؤثر غذاء الانسان او حالته النفسية على عمل بعض انواع الخلايا وعلى نظم التحكم بالجينات. هذا ما يعرف بالسببية من الاعلى الى الاسفل، فالسببية هنا تعمل بالاتجاهين. عمل السببية بهذا الشكل يعقد كثيرا قدرتنا على تنبؤ النتيجة اذا عرفنا كافة التفاصيل عن الأجزاء.

الخصائص الناشئة

السببية الخطية تجعل توقع النتيجة من خلال معرفة الاجزاء امرا حتميا. لأن الاجزاء تتبع نظما وقواعد فيزيائية واضحة تجعل خطوتها القادمة محكومة بالرياضيات وتجعل محاكاتها أسهل.

أما في الكائنات الحية، فيختلف الأمر جذريًّا. المدخلات نفسها قد تؤدي الى نتائج مختلفة، فالنتائج تعتمد على السياق، والمرحلة، والمحيط. ومن هنا نصل الى ما يسمى بالخصائص الناشئة. أي الصفات التي تظهر عند مستوى أعلى من التنظيم ,لا يمكن اختزالها او استنتاجها من العناصر المكونة وحدها. لعل الوعي البشري هو افضل مثال على هذا، فعصبون واحد بمفرده او شبكة واحدة، لا يمكنها توليد الوعي. أبعد من ذلك، فان عرفنا جميع المعلومات عن العصبونات والعوامل المحيطة بها فنحن لا نستطيع ان نفسر الوعي، إذ أن الوعي ظاهرة ناشئة لا تنشأ الا عندما تتفاعل شبكة العصبونات بأكملها مع المعطيات الحسية والتغيرات الهرمونية.

وهذا يعيدنا الى السببية الخطية التي تسقط هنا حيث انا معرفتنا بالمدخلات، لا تضمن توقع النتيجة التي ليست مرتبة سببيا بالمعنى التقليدي.

الحتمية لا تعني القدرة على التنبؤ

إن كل ما سبق قد يوهمنا بأن الكائنات الحية ليست حتمية. أي أنها لا تتبع قواعد الفيزياء التي تعتبر حتمية. ففي حالة الخصائص الناشئة، قد تظهر وكأنها ظاهرة سحرية أو غامضة تنشأ من دون أسباب أولية.

إلا أن هذا غير صحيح. يستطيع النظام ان يكون حتميا من دون ان يكون متوقعا بسبب تعقيده البنيوي او الحساسية للظروف الابتدائية.

في الفيزياء، يشتهر هذا في نظرية الفوضى، كما في حال الطقس. أما في البيولوجيا، فالتحدي اعمق: على الرغم من أنها تعتمد قواعد الفيزياء الحتمية ذاتها لكن الأنظمة تعتمد على عوامل كثيرة جدًا تجعل توقعها مستحيلًا. أن التفاعلات الكيميائية الّتي تجري في الجسم تتأثر بالحرارة والضغط والملوحة والخلايا تتأثر باشارات تتداولها فيما بينها وكذلك الأنسجة. ومن شأن تغيير على مستوى النسيج أن يعود ويؤثر على التفاعلات الكيميائية التي هي كانت المصدر بعد الجينات. اذا فالنظام نظام بالغ التعقيد يعتمد على طبقات متعددة من المعلومات والتغيرات المتشابكة التي من المستحيل أن يتم توقعها وإن عرفنا القواعد الحتمية التي تقودها.

الحياة غير القابلة على التوقع

اذا فبسبب الخصائص الناشئة والسببية من اعلى الى اسفل والحتمية غير المتوقعة تتحول الحياة الى معضلة للرياضيات تتجاوز طرق الحساب التقليدي. الأنظمة الحية هي شبكة ديناميكية يؤثر كل على كل في كنف قواعد الفيزياء. الحياة تعتمد على الفيزياء والكيمياء إلا أنها تتفرد بشكل أكثر وضوحًا بالخصائص الناشئة واشكال السببية المختلفة.

إن الحياة تشبه القصيدة التي لا تفهم الا عندما تعاش، وليس آلة تعمل على قواعد سببية حتمية. هذا يدفعنا لأن نراجع مفاهيمنا الاساسية لمعنى الوجود الحي ومعناه الفلسفي والتجريبي. ويجعلنا نفكر مجددا بصلتنا نحن بالعالم المحيط وعلاقتنا مع الموجودات الأخرى.

***

فضل فقيه – باحث

...........................

قراءات إضافية:

Noble, D. The Music of Life: Biology Beyond Genes. Oxford Univ. Press (2006).

في عالم يُعاد فيه تعريف المعرفة بوصفها إجراءً وظيفيًّا لا تجربة وجودية، يصبح الحديث عن العلاقة بالكتاب حديثًا عن التيه أو الفقد، عن ذلك الوميض الذي كان يشعل فينا رغبة السؤال قبل أن تختنق في ركام المناهج والألقاب. لقد صارت القراءة طقسًا بيروقراطيًّا لا يستبطن القلق، من هنا، تنفتح هذه المقالة المتواضعة على مشاهد صغيرة، لكنها ناطقة، تكشف وهن العلاقة المعاصرة بالمعرفة، وتُعيد مساءلة حضور الكتاب في وجداننا الثقافي، لا كشيءٍ ماديّ، بل كعنوان لضمور المعنى.

في أحد أروقة سوق الحويش، كنت برفقة صديقي د. حيدر حسن الأسدي، نتبادل الحديث عن الكتب والمطبوعات بين رفوف مكتبةٍ قديمةٍ، إذ اعتدنا أن نجد بين عناوينها ما يحرّض فينا دهشة السؤال. جلسنا مع صاحب المكتبة نتسامر، حتى أسرّ إلينا بقصة أثارت في ذهني شعورًا بالدهشة والاغتراب: قال إنّ أحد الأشخاص مرّ عليه ذات يوم، وطلب قائمة طويلة من الكتب ليشتريها، لكنه اشترط شرطًا غريبًا؛ أن يتعهّد صاحب المكتبة بشرائها منه بعد عامين. سألته مذهولًا عن سبب ذلك الشرط، فأجابني بجمود لا يخلو من سخرية مبطّنة: "سأكمل دراسة الماجستير، وعندها لن أحتاج إلى الكتب."

كانت كلماته كالفاجعة، تثير الشفقة قبل السخرية، تذكّرك بأن الخراب المعرفي ليس فرضية بل واقع، وأن العلاقة بالكتاب لم تعد تعني المعرفة، بل هي طقس مؤقت تُؤدّى لاستيفاء متطلبات البيروقراطية الأكاديمية. لقد صار الكتاب عبورًا اضطراريًا، لا شغفًا، ومجرد أداة في مشروع النسيان المنظّم.

هذا المعنى ذاته لامسه قبل مدة وجيزة الكاتب علي وجيه في عبارته الجارحة: "أكثرُ الشعراء والأكاديميين والأدباء لا يقرؤون." عبارة أثارت ضجة في الوسط الثقافي، لكنها ككل الحقائق التي تُقال بصراحة، كانت مؤلمة لأنها صحيحة. لم تكن مبالغته خطأ، بل كانت مقاربة جريئة لحقيقة ساطعة: إننا نعيش زمن الشهادات المعلّقة على الجدران، والعناوين والألقاب لا زمن العقول المشغولة بالسؤال.

ومن المشاهد التي حفرت أثرها في ذاكرتي، ذلك الحديث العابر مع صديقٍ جمعتني به أمنيات مشتركة. أخبرني ذات يوم بعزمه على بيع مكتبته، فسألته مستغربًا عن الدافع وراء ذلك وقد خلتُه يهمّ بترميمها أو استبدالها بأخرى أكثر رحابة. فأجابني ببرودٍ: "لقد أنهيتُ الدكتوراه، ولم أعد أجد في القراءة ضرورة؛ صارت الكتب عبئًا يثقل كاهلي."

كانت كلماته إعلان صريح عن موت الرغبة في المعرفة لحظة انتزاع الشهادة، كأن الغاية لم تكن إِلَّا غلافًا ينتهي دوره عند استيفاء المتطلبات الأكاديمية.

في سنوات اشتغالي ومتابعتي لمسار الدراسات العليا، ترسّخت لديّ قناعة مريرة: تسعون في المئة من أولئك الذين سيصبحون أساتذة لا يقرأون إِلَّا ما خُطّ لهم في كتبهم المقرّرة، ولا يفكّرون إلَّا ضمن جدران صندوق مغلق، إذ تأخذ المعلومة شكلها النهائي دون أن تُسائل أو تُختبر، وكأن المعرفة ليست إِلَّا تمرينًا على التلقين، لا تجربةً مع اللامحدود.

الفيلسوف الماركسي جورج لوكاش ألمح إلى مفهوم "التشييء" (Reification) في كتابه (التاريخ والوعي الطبقي) إذ تتحول الأفكار والرموز الثقافية إلى أشياء مادية جامدة تفقد معناها الإنسانيَّ العميق. الكتب هنا لم تعد جسورًا إلى التأمل الحر، بل سلعًا تملأ الرفوف أو تُباع وتُشترى، مجرد ديكور مؤقت.

وأذكر أني قرأتُ للشيخ حيدر حبّ الله حكاية رواها له أحد أصدقائه من أصحاب المكتبات، مضمونها أن رجلًا دخل عليه يومًا وطلب شراء خمسة كتب "باللون الأزرق". فسأله: تقصد أي كتب؟ فأجاب: لا يهم، المهم أن تكون بالأزرق. فاستغرب الرجل وقال: لم أفهم قصدك. فرد الزبون بهدوء: أريد فقط أن أملأ بها فراغًا في مكتبتي، ليكتمل تناغم الألوان مع الستائر.

في تلك اللحظة، لا تعود الحكاية مجرد طُرفة، بل تتحوّل إلى مرآة تكشف هشاشة المعنى في زمن التشييء، حين يتحوّل الكتاب من حاوية للمعرفة إلى أداة زينة، ومن محرّض على القلق والتساؤل إلى قطعة أثاث. إنها اللحظة التي تدرك فيها عمق ما قصده ماكس هوركهايمر حين أشار إلى "عصر العقل الأداتي"، إذ يُفصل الشكل عن المضمون، ويُختزل الوعي إلى لون، والفكر إلى ديكور.

في مقابل هذا الخراب المعرفي، يقف عبد الجبار الرفاعي كاحتفاء نابض بالحياة؛ يتحدث ببهجة تشبه إيقاع الموسيقى، عن شغفه بالكتابة وولعه الذي لا ينطفئ، وعن تجربته المتقدة بين الصفحات، وعن مكتبته التي تبدو كعالمٍ قائم بذاته. هناك، عند عتبات حديثه، تنبثق شلالات من الجمال، كأنك تعبر إلى فردوس من المعنى، إلى لغة ثانية؛ لغة تستنشق فيها الحروف حياة، وتصير الكلمات جسورًا نحو فضاءات لا حدود لها.

تتجلّى صورة أخرى مترعة بالجمال في حضرة أستاذي د. عبد الأمير زاهد؛ ذلك الذي لم تسرقه مشاغل المنتدى الوطني لأبحاث الفكر والثقافة، ولا إكراهات الجامعة وإدارتها من عناق الكتاب والتأمل،- كما شغلت البعض وأوضاعتهم في زحمة الظهور الزائف- إذ ظلت القراءة عنده كيقين ملازم، لا تنفصل عنه كما لا ينفصل الدفء عن النار. سألته يومًا: "هل سرقتك الإدارة من شغفك بالقراءة ومتابعتك الفكرية؟" فأجابني بثقة العارف: "كلا، لأن جوهر حياتي قائم على القراءة والتفكير، أما العمل الإداري فلم يكن يومًا سوى حاشية عابرة على متن وجودي."

ثمة صورة أخرى، لا تقلّ دلالة عن سابقاتها، نقلًا عن لحظةٍ عابرة لكنها مشبعة بالمعنى: كنت قد نشرتُ في أحد الأيام تنويهًا عن كتاب جاكلين الشابي "ربّ القبائل"، مشيرًا إلى أنه عمل يستحق القراءة، ويستحق التأمّل، ويستحق النقد أيضًا. لم تمضِ سوى دقائق معدودات، حتى تلقيت رسالة من المفكّر العراقي ماجد الغرباوي، يطلب فيها نسخة من الكتاب، حتى وإن كانت بصيغة PDF.

ما كان لهذا التفاعل أن يمرّ مرورًا عابرًا؛ فهو يعكس شغفًا حيًّا لا تنطفئ جذوته، رغم أن صاحبه قد تجاوز السبعين من عمره، ومقيمٌ على بُعد آلاف الأميال، في أستراليا. من لا يعرف الغرباوي، فليعلم أنه من أهم المفكرين العرب- نتاجًا وتحديثًا-، ومن القلائل الذين لا تزال فيهم حرارة السؤال حيّة، أولئك الذين لم يتقاعدوا من التفكير، ولم يتخلّوا عن الملاحقة اليومية لما يصدر، لا بدافع الاستعراض، بل بوصفها نمط وجود، ونبضًا دائمًا للفكر.

هنا، تتجلّى المفارقة: في وقتٍ يتنصّل فيه بعض الشباب من الكتاب بعد أن يظفروا بشهادة، يقف الغرباوي كنموذج مغاير، يثبت أن الفكر ليس محطة عابرة في العمر، بل هو العمر ذاته حين يُعاش بوعي.

***

د. حيدر شوكان سعيد.

جامعة بابل- قسم الفقه وأصوله.

في زمن تتكاثر فيه دعوات الصدام وتضيق فيه مساحات التفاهم، تبرز الحاجة إلى خطاب ديني يتأسس على الرحمة، ويحتفي بالتعدد، ويتفاعل مع العصر بدل أن يعاديه. وفي هذا السياق، تمثّل أطروحات المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي أحد أبرز المشاريع المعاصرة التي تسعى إلى إرساء لبنات خطاب ديني جديد، قادر على تعزيز التعايش بين الأديان والثقافات، وتغذية روح الحوار في مجتمعات مأزومة بالهويات المتنازعة.

يضع الرفاعي "الرحمة" في صلب مشروعه الفكري، ويرى فيها جوهر الدين وغايته الكبرى. هذه الرؤية ليست مجرد دعوة أخلاقية، بل تشكّل مدخلاً تأويليًا لفهم النصوص الدينية والانفتاح على تنوع التجارب الإنسانية. فالخطاب الديني، في تصوره، لا يُفترض أن يكون أداة للفرز العقائدي، ولا منصة لتكفير المختلف، بل جسراً للتواصل وتبادل المعنى بين البشر، أياً كانت معتقداتهم.

يتجلى هذا التوجه في دعوته إلى تأسيس "علم كلام جديد"، يتجاوز النسق التقليدي الذي تبلور في سياقات جدلية دفاعية، وتحول إلى أداة لتعزيز الانغلاق المذهبي والخصومة مع الآخر. وبدلاً من ذلك، ينادي بعلم كلام يستند إلى القيم الكونية والكرامة الإنسانية، ويستوعب التحولات الاجتماعية والفكرية التي يشهدها عالم اليوم.

الرفاعي ليس وحيدًا في هذه الرؤية؛ فعديد المفكرين العرب يلتقون معه في إعادة التفكير في العلاقة بين الدين والإنسان. محمد أركون، مثلاً، دعا إلى تحرير الفكر الإسلامي من سلطة التقليد، من خلال مقاربة نقدية تأويلية تأخذ بالاعتبار التعدد التاريخي والدلالي للنصوص. أما نصر حامد أبو زيد، فقد شدد على ضرورة فهم النص الديني في سياقه، بوصفه خطابًا متغيرًا لا نصًا خارج الزمان والمكان. وإذا كانت مقاربة طه عبد الرحمن الأخلاقية تنطلق من أسس ميتافيزيقية، فإنها تلتقي مع الرفاعي في الدعوة إلى تحصين الخطاب الديني من التوظيفات الإقصائية والسلطوية.

يتميّز خطاب عبد الجبار الرفاعي بأنه لا يكتفي بالنقد، بل يقترح بدائل فكرية تأسيسية: تدينٌ يقوم على الوعي الحر، لا على التلقين، وعلى الانفتاح الروحي لا على الانغلاق العقائدي. إنّه يدعو إلى أن يُفهم الدين كتجربة أنطولوجية داخلية، يعيشها الإنسان في بحثه عن المعنى والسلام، لا كمنظومة جاهزة من الأوامر والنواهي التي تفترض السيطرة على الآخر.

هذه الرؤية تكتسب راهنيتها في ظل التوترات الهوياتية التي تعيشها المجتمعات العربية، حيث يُستدعى الدين غالبًا في سياقات صراع لا في فضاءات تفاهم. لذا فإن مشروع الرفاعي يقدّم نموذجًا عمليًا لتفكيك خطاب الكراهية، من خلال إعادة بناء العلاقة مع النصوص، وتحويل القيم الدينية إلى قوة ناعمة تبني الجسور بدل أن تهدمها.

لقد أوجد الرفاعي لنفسه موقعًا متقدماً في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر، لا بوصفه ناقدًا للتقليد فحسب، بل باعتباره صانعًا لرؤية جديدة، تُعلي من شأن الإنسان، وتمنح التعدد حقه في الوجود. إن التعايش، في رؤيته، ليس مجرّد تعايش سلبي خاضع للاضطرار، بل هو اختيار فكري وروحي يتجذر في وعي ديني رحيم وإنساني.

مشروع الرفاعي يحاور الغرب لا ليهاجمه أو ينكر منجزه، بل ليتفاعل معه ويستفيد منه، ويؤسس لمجال ديني منفتح لا يتوجس من الآخر المختلف دينيًا أو ثقافيًا. وفي عالم تسوده صراعات الهويات، تصبح هذه الرؤية ضرورة لا ترفًا. وما يميز هذا المشروع هو أنه لا يتوجه للنخب الفكرية فقط، بل يسعى إلى التأثير في المجال العام، عبر كتاباته ومؤلفاته ومشاركاته في الحوارات العابرة للثقافات، ما يجعله من بين الأصوات القليلة التي استطاعت أن تحوّل الفكر إلى أداة للمصالحة وبناء جسور الثقة.

إن الحاجة إلى أمثال عبد الجبار الرفاعي اليوم ليست فكرية فحسب، بل وجودية أيضًا؛ لأنه يقدم طرحًا يعيد الثقة في قدرة الدين على أن يكون عاملًا للسلام، لا عنصرًا في معادلة الصدام. وحين نعيد اكتشاف الدين في بعده الإنساني والروحي، نصبح أقدر على خلق فضاء مشترك يتسع للجميع

***

د. هدى لحكيم بناني- دكتوراه في الفكر الاسلامي والعقيدة و الحوار.

تلعب العادات والتقاليد الاجتماعية المتوارثة دورًا محوريًا في تشكيل السلوك السياسي في المجتمعات العربية، إذ تشكّل هذه العادات جزءًا من البنية الثقافية العميقة التي تحدد أنماط التفكير والتفاعل الاجتماعي والسياسي للأفراد، وكما أشار عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، فإن "الهابيتوس" أو "العادة المتجذرة" تساهم في إعادة إنتاج نفس الأنماط السلوكية ضمن الحقول الاجتماعية المختلفة، ومنها الحقل السياسي، حيث يُكتسب السلوك السياسي من خلال التنشئة الاجتماعية التي تبدأ في الأسرة وتمتد إلى الجماعة والقبيلة والدولة.

في هذا السياق، تمثل العادات الاجتماعية في المجتمعات العربية، لا سيما في دول مثل العراق وسوريا وتونس وليبيا، مرجعية أساسية في بناء الهوية والانتماء، فقد شهدت هذه الدول تحولات سياسية جذرية خلال العقدين الأخيرين، أظهرت مدى تغلغل البنى الاجتماعية التقليدية في المجال السياسي، فعلى سبيل المثال، ما زالت الثقافة القبلية والعشائرية تشكل إطارًا مرجعيًا للفرد في مواقفه السياسية، حيث يُقدَّم الانتماء للعشيرة أو الطائفة على الانتماء للدولة أو الحزب، وتُبنى التحالفات السياسية أحيانًا على أساس قرابة الدم أكثر من القناعات الأيديولوجية.

من الجانب الإيجابي، تساهم هذه العادات في تعزيز قيم التضامن والتكافل الاجتماعي، وهي عناصر ضرورية لبناء شبكات اجتماعية قادرة على التحرك الجماعي، خاصة في فترات الأزمات والتحولات، فقد بينت النظريات الاجتماعية، مثل نظرية رأس المال الاجتماعي لـ “روبرت بوتنام"، أن المجتمعات التي تتمتع بروابط اجتماعية قوية تكون أكثر قدرة على المشاركة المدنية والسياسية، وهذا ما لوحظ خلال بدايات الحراك التونسي أو الانتفاضة السورية، حيث لعبت الروابط العائلية والمجتمعية دورًا في تحفيز المشاركة السياسية والمقاومة الشعبية.

إلا أن هذه العادات لا تخلو من جوانب سلبية، خصوصًا عندما تتحول إلى أدوات تعزز الانغلاق والتمييز، فالنزعة نحو الولاءات الضيقة للعشيرة أو الطائفة أو الجهة الجغرافية تعيق تشكّل دولة المواطنة، إذ تضعف من فكرة الانتماء العام للمجتمع السياسي الموحد، وقد تجلت هذه الإشكالية في التجربة العراقية بعد 2003، حيث عرقلت المحاصصة الطائفية والعشائرية بناء نظام سياسي متماسك، بل ساهمت في تفكيك الدولة إلى كيانات متنازعة، وينطبق الأمر ذاته على ليبيا، حيث أدى انهيار النظام المركزي إلى بروز كيانات محلية قبلية ومناطقية أعاقت توحيد السلطة.

كذلك، فإن بعض القيم الاجتماعية التقليدية، تفرز ثقافة سياسية تقوم على الطاعة أكثر من المساءلة، وهذا ما يجعل من الصعب ترسيخ تقاليد ديمقراطية تقوم على النقد والمحاسبة، فالعديد من المواطنين في العالم العربي، بسبب التنشئة الاجتماعية، لا يرون في الحاكم موظفًا عامًا يمكن تقييم أدائه، بل شخصية أبوية ذات شرعية تقليدية، مما ينعكس على ضعف المشاركة السياسية الفعالة وتدني ثقة الأفراد بالمؤسسات الرسمية.

مع ذلك، بدأت تظهر ملامح تحول اجتماعي في بعض المجتمعات، وخصوصًا بين فئات الشباب، فقد ساهمت التكنولوجيا الحديثة، وخصوصًا وسائل التواصل الاجتماعي، في تفكيك بعض البنى الاجتماعية التقليدية وإعادة تشكيل قيم جديدة ترتكز على المشاركة والمساواة والحرية الفردية، وتُظهر الدراسات الحديثة أن الأجيال الجديدة في دول مثل تونس والمغرب ولبنان باتت أكثر انخراطًا في النقاشات السياسية وأكثر استعدادًا لتجاوز الانقسامات التقليدية على أساس العائلة أو الطائفة.

إن فهم السلوك السياسي في العالم العربي يتطلب إدراكًا عميقًا لتأثير العوامل الاجتماعية والثقافية، وليس فقط السياسية والاقتصادية، فكما تؤكد المقاربة الثقافية في علم الاجتماع السياسي، لا يمكن تحليل الحراك السياسي دون الأخذ بعين الاعتبار "الثقافة السياسية" التي تُشكّل الوعي الجمعي وتوجهات الأفراد، ومن هنا، فإن أي مشروع إصلاحي أو تحولي حقيقي في العالم العربي ينبغي أن يتعامل مع العادات الاجتماعية لا كعقبة فقط، بل كمورد قابل لإعادة التوظيف بما يخدم بناء الدولة الحديثة، فبدلاً من السعي لقطع العلاقة مع الماضي، يمكن العمل على تجديد هذه العادات وتطويرها لتصبح داعمًا لمفاهيم المواطنة والعدالة والشفافية، وذلك من خلال إصلاح منظومات التعليم والإعلام والتنشئة السياسية، بما يعزز الانتماء الوطني ويضعف الولاءات الضيقة، بهذه الطريقة، يمكن تحويل العادات الاجتماعية من قيد يكبّل التقدم السياسي إلى رافعة تُسهم في إنجاحه.

***

كفاح محمود

 

تُعد الفنون الشعبية من أهم العناصر التي تُسهم في تشكيل الهُوية الوطنية لدى الشعوب، حيث تعكس القيم والتقاليد والعادات التي تميّز كل مجتمع عن غيره. فالفنون الشعبية، بما تشمل من موسيقى ورقص وحِرف يدوية وأدب شفاهي، ليست مجرد مظاهر جمالية، بل هي سجلّ ثقافي يحمل في طياته التأريخ والهُوية والتجربة المشتركة للأجيال. الى جانب دورها المحلي، تعد أداة مهمة في تعريف العالم بالهُوية الوطنية للشعوب. فالمهرجانات الدولية، والمعارض الثقافية، والأفلام الوثائقية، تساهم في تقديم صورة مميزة عن ثقافة الدولة، مما يعزز مكانتها عالمياً.

إن الفنون الشعبية بمختلف أشكالها، تعد مكوناً أساسياً في نسيج الُهُوية الوطنية، حيث تعكس العادات والتقاليد والتراث الثقافي الذي يُميز كل شعب عن غيره. فهي ليست مجرد تعبيرات فنية، بل أدوات قوية لنقل القيم والثقافة من جيل الى آخر، وترسيخ الشعور بالإنتماء والوحدة الوطنية. كونها تعمل على تعزيز مشاعرالفخر والإنتماء لدى الأفراد، إذ تعكس القصص والتجارب المشتركة التي توحد أفراد المجتمع الواحد. فمثلاً، الأغاني التراثية تروي أحداثاً تأريخية وتجسد النضال الوطني والحماسة، مما يربط الأجيال الحديثة بتأريخها ويجعلها أكثر وعياً بجذورها الثقافية. كما هي تُعتبروسيلة حيّة لنقل المعرفة والقيم الثقافية عبر الزمن.

 فالروايات الشفاهية، والأمثال الشعبية، والأغاني التقليدية، تحمل في طياتها حِكّماً وتجارب إنسانية تعكس روح المجتمع وتجاربه. كما أن الحِرف اليدوية، والفنون البصرية، تُمثل سجّلاً حقيقياً لأساليب الحياة والمهارات التي تطورت على مرّ العصور.

ففي ظل العولمة، بات من السهل أن تتأثر الثقافات المحلية بالأنماط العالمية، مما قد يؤدي الى إندثار بعض الفنون التقليدية. لذا، تلعب الفنون الشعبية دوراً حاسماً في الحفاظ على التقاليد الثقافية من خلال إعادة إحيائها ودمجها في السياقات الحديثة، مثل إستخدامها في الموسيقى المعاصرة، أو توظيفها في الفنون الرقمية ووسائل الإعلام الجديدة.

وبحكم التغيرات السريعة في عصر العولمة، تزداد أهمية الفنون الشعبية في الحفاظ على الهُوية الوطنية، إذ تساعد على مواجهة التحديات التي تُهدد الذاكرة الجمعية للشعوب، مثل التأثيرات الثقافية الخارجية والإندماج في نماذج ثقافية عالمية قد تؤدي الى تآكل الهُويات المحلية. فالفنون الشعبية، تساعد في تعزيز الشعور بالإنتماء الى الوطن من خلال المحافظة على التراث الثقافي الذي يجمع أبناء المجتمع تحت هُوية واحدة.

كما تلعب دوراً كبيراً في نقل الموروث الثقافي من جيل الى آخر، مما يضمن إستمرار القيم والتقاليد عبّر الزمن. فمن خلال مشاركة الفنون الشعبية في المناسبات الوطنية والاحتفالات، يتم تعزيز الروابط بين أفراد المجتمع، بغض النظر عن الفروقات الاجتماعية أو الجغرافية أو القومية أو العرقية أو الدينية. فهية وسيلة فعّالة لتعريف العالم بالثقافة الوطنية، حيث تُستخدم في المهرجانات والعروض الدولية لإبراز الطابع الفريد لكل مجتمع. فضلاُ عن ذلك، فالفنون الشعبية تُسهم في إثراء الفنون المعاصرة، حيث يعتمد الفنانون على العناصرالتقليدية في إبداع أشكال من الفنون تُعبر عن الُهُوية الوطنية بروح عصرية.

أشكال الفنون الشعبية وأثرها على الهُوية الوطنية

تعكس الموسيقى الشعبية والموشحات والأغاني التقليدية روح المجتمع وتُعبّر عن مشاعره وتجاربه. فمن أغاني العمل الى الأغاني الوطنية، تحمل الكلمات والألحان معاني عميقة تروي حكايات الأجداد وتجسد الأحداث التأريخية. كذلك ترتبط الرقصات الشعبية بالمناسبات الإجتماعية والدينية، مثل الدبكة في بلاد الشام، ورقصة (الجوبي) في جنوب وغرب العراق ورقصات الكرد في كردستان العراق، والعراضة في دول الخليج العربي، والفلامنكو في بلاد الإسبان، ورقصة السامبا في البرازيل. وهي تعبيرات جسدية ترمز الى الوحدة والتعاون، كما إنها وسيلة لنقل القيم الثقافية للأجيال اللاحقة.

كما تُعد الحِرف اليدوية والفنون التقليدية من الصناعات التقليدية، مثل النسيج وصناعة الفخار والخزف والنحت، جزءاً مهماً من الهُوية الوطنية، حيث تحمل هذه الأعمال الفنية أنماطاً وزخارف تعكس خصائص كل منطقة. وفي عصر التكنولوجيا، يتم إعادة إحياء هذه الحِرف من خلال دمجها في التصاميم الحديثة، مما يساعدعلى إستمرارها.

ويشكل الأدب الشفاهي، كالحكايات الشعبية والأساطير، سجلاً ثقافياً هاماً يحمل الحكمة والقيم المجتمعية. وتُعد هذه الحكايات مصدر إلهام للأدب المكتوب والمسرح والسينما، حيث يتم إعادة تقديمها بطرق حديثة تلائم العصر الحالي. ومن الجدير بالذكر، فأن للأزياء التقليدية لها أشكالها وألوانها وعمق دلالتها، وتعكس عمق تأريخ البلدان مما كانت ترتبط به من أزياء، التي تشير الى  هُوية كل مجتمع، وتُعبر عن بيئته وثقافته. وقد أصبحت اليوم مصدر إلهام لمصممي الأزياء، حيث يتم دمجها في الموضة الحديثة للحفاظ على التراث وإبرازه عالمياً.

الفنون الشعبية في العصر الحديث: التحديات والفرص

مع تطور التكنولوجيا، يواجه التراث الشعبي تحديات كبيرة مثل العزوف عن الفنون التقليدية، وتأثير الثقافات الأخرى، والإندثار التدريجي لبعض الممارسات. ومع ذلك، توفر التكنولوجيا فرصاً جديدة للحفاظ على هذا التراث ونشره عالمياً، وذلك من خلال الرقمنة والتوثيق الإلكتروني، حيث يمكن توثيق الأغاني والحكايات والرقصات الشعبية عبر المنصات الرقمية، مما يضمن الحفاظ عليها للأجيال القادمة. كما يمكن لوسائل التواصل الإجتماعي أن تأخذ دورها، حيث أصبحت منصات مثل اليوتيوب والإنستغرام والتيك توك، وسائل فعالة لنشر الفنون الشعبية وتعريف الشباب بها بأسلوب حديث. بالإضافة الى ذلك، بأمكان الدمج مع الفنون الحديثة، حيث يتم دمج العناصر التراثية مع الموسيقى الحديثة، والفنون الرقمية، والأزياء العصرية، مما يسهم في إبقاء الفنون الشعبية حيّة وقابلة للتطور.

تُعد الفنون الشعبية عنصراً أساسياً في بناء الهُوية الوطنية والحفاظ على التراث الثقافي للشعوب. فهي ليست مجرد مظاهر إحتفالية، بل لغة حيّة تعكس القيم والمعتقدات والتأريخ المشترك. وفي ظلّ تحديات العصر الحديث، تظّل مسؤولية الحفاظ على هذا التراث مسؤولية مشتركة بين الأفراد والمؤسسات الثقافية والحكومات. ومن خلال دمج الفنون الشعبية في مجالات جديدة، مثل التكنولوجيا والإعلام، يمكن إستمرار هذا الإرث الثقافي للأجيال القادمة، وتعزيز حضور الهُوية الوطنية في المشهد العالمي.

الفنون الشعبية ليست مجرد جزء من الماضي، بل هي أساس متين يساعد في تشكيل المستقبل الثقافي للأمم. من خلال الحفاظ عليها وتعزيزها، تحافظ الشعوب على هُويتها الوطنية وتساهم في تقوية أواصر الوحدة بين أفرادها، مما يجعلها ركيزة أساسية في بناء المجتمعات القوية والمستدامة.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

الإرادة الحرة في مواجهة المعنى يفتح آفاقًا واسعة للنقاش والتفكير العميق في طبيعة الوجود والاختيار ويشير إلى قدرة الأنسان على اتخاذ قرارات مستقلة، حتى في ظل الضغوط التاريخية والاجتماعية، الإرادة الحرة تواجه صعوبات عندما تتداخل مع السرديات السائدة، مما يحد من الخيارات المتاحة، يسعى الأفراد والمجتمعات إلى فهم حياتهم وتجاربهم من خلال السرديات التي يمكن أن تعزز من الشعور بالمعنى أو تُحبطه، خاصة عندما تتعارض مع الإرادة الحرة، الإرادة الحرة تعني القدرة على اتخاذ قرارات مستقلة دون ضغط خارجي، تتشكل من خلال التجارب الشخصية والبيئة الاجتماعية، حيث يتعلم الأفراد اتخاذ قرارات مبنية على قيمهم ومعتقداتهم، الإرادة الحرة تعني أيضًا تحمل الأفراد مسؤولية قراراتهم وأفعالهم، ما يعزز الشعور بالإرادة الحرة القدرة على تقييم الخيارات المتاحة وفهم العواقب، وتتشكل من خلال الوعي الذاتي والتجارب التي تعزز من القدرة على تحدي الوضع الراهن، الإرادة الحرة تساهم في البحث عن المعنى في الحياة، حيث يسعى الأفراد لتحديد أهدافهم وقيمهم وتتأثر بالعوامل الثقافية والدينية، مما يعزز من فهم الأفراد لذاتهم ودورهم في العالم تتفاعل فيه التجارب الشخصية، التعليم، البيئة الاجتماعية، والثقافية. هذا التفاعل يساعد الأفراد على تطوير شعور قوي بالقدرة على اتخاذ قرارات مستقلة.

اختلافات الفهم

هناك اختلافات كبيرة في فهم الإرادة الحرة، مثلا في الثقافة الغربية، تركز على الاستقلالية والاختيار الشخصي، حيث يُعتبر الأفراد مسؤولين عن قراراتهم، في الثقافات الشرق اوسطية، تعطي أهمية أكبر للعلاقات الاجتماعية والالتزامات العائلية، حيث تُعتبر القرارات مرتبطة بشكل أكبر بالمجموعة، يُعتبر أن القدر يلعب دورًا كبيرًا في حياة الأفراد، مما يؤثر على مفهوم الإرادة الحرة، في ثقافات أخرى تُعتبر الإرادة الحرة مطلقة، مما يعزز من فكرة الاختيار الشخصي الكامل، نتيجة ذلك تكون الأنظمة القانونية  تعكس فهمًا مختلفًا للإرادة الحرة، حيث تُعزز بعض القوانين الحقوق الفردية بينما تحدها أخرى، مما يؤثر على مفهوم الإرادة الحرة، تجارب الشعوب عبر التاريخ، مثل الاستعمار أو الحروب، تؤثر على فهمهم للإرادة الحرة وتؤثر على قدرتهم على اتخاذ القرارات، فهم الإرادة الحرة يتأثر بشكل كبير بالعوامل الثقافية، مما يؤدي إلى تباين واسع في كيفية رؤية الأفراد لخياراتهم وقراراتهم في سياقات مختلفة، السرديات التاريخية تمثل جزءا من المدخلات الرئيسية لتشكيل فهم مجتمعي للإرادة الحرة وبالتالي توثر في ماهية الهوية.

السرديات التاريخية وماهية الهوية

السرديات التاريخية تعزز من الذاكرة الجماعية، مما يساعد في تشكيل الهوية الثقافية والانتماء، الأحداث التاريخية تُستخدم كرموز تعبر عن القيم والمعتقدات التي تحدد الهوية، الأحداث الكبرى مثل الحروب والثورات، تترك آثارًا عميقة على الهوية، حيث تُشكل فهم الأفراد لمكانتهم في العالم، الانتماء إلى مجموعة معينة يمكن أن يتأثر بالسرديات التاريخية، الأفراد الذين يتبنون إرادة حرة قد يتحدون السرديات التاريخية المفروضة، مما يساهم في إعادة تشكيل الهوية، القدرة على إعادة تفسير الأحداث التاريخية يمكن أن تؤدي إلى تشكيل هويات جديدة، وجود سرديات تاريخية متنوعة يعزز من التعدد في الهوية، حيث يمكن للأفراد اختيار الأبعاد التي تعكس تجاربهم الشخصية، التفاعل بين سرديات مختلفة يمكن أن يؤدي إلى فهم أعمق وأكثر شمولية للهوية، السرديات التاريخية تتغير مع الزمن استجابة للتغيرات الاجتماعية والسياسية، مما يؤثر على الهوية المعاصرة وبالتالي تكون الهوية غير ثابتة، لذا تلعب السرديات دورًا في تشكيل الهوية وفق سياقات جديدة، رغم ان السرديات التاريخية تشكل جزءًا أساسيًا من الهوية، حيث تساهم في تشكيل الذاكرة الجماعية والرموز الثقافية، الا انها لا تتيح للأفراد فرصًة لتحديها وإعادة تفسيرها كونها قد تم انتاجها وتشكلها في زمن سابق.

 الهوية المستقلة

بناء هوية مستقلة تمامًا عن السرديات التاريخية يعد أمرًا صعبًا، لكن ليس مستحيلًا. السرديات التاريخية تشكل جزءًا من الثقافة التي ينتمي إليها الفرد، مما يصعب فصل الهوية عنها، الأفراد يتأثرون بالذاكرة الجماعية، مما يعزز من ارتباط هويتهم بهذه السرديات، الأفراد الذين يمتلكون وعيًا نقديًا يمكنهم تحدي السرديات السائدة وإعادة تشكيل هويتهم بناءً على تجاربهم الخاصة، تجارب الحياة الفردية يمكن أن تلعب دورًا كبيرًا في بناء هوية جديدة، الأفراد الذين يسعون لتحرير أنفسهم من القيود الاجتماعية والتاريخية يمكنهم بناء هويات تتجاوز السرديات السائدة ويمتلكون القدرة على إعادة تفسير الأحداث والتجارب التي يمكن أن تؤدي إلى تشكيل هوية جديدة، حتى مع الجهود الكبيرة في تشكيل الهوية الجديدة، تبقى بعض التأثيرات التاريخية قائمة، مما يجعل من الصعب تحقيق استقلالية تامة، بناء هوية مستقلة يجب أن يتوازن مع الانتماء إلى المجتمع والثقافة من خلاله يمكن للفرد أن يسعى لبناء هوية مستقلة، لكن التحديات المرتبطة بالسرديات التاريخية تجعل ذلك أمرًا معقدًا. يتطلب الأمر وعيًا نقديًا وتجارب متنوعة وستظل التأثيرات جزءًا من النسيج الهوياتي للفرد.

بناء المعنى والسرديات التاريخية

بناء معنى بالاعتماد على السرديات التاريخية دون استخدام حرية الاختيار يعد أمرًا معقدًا، يمكن أن توفر السرديات التاريخية إطارًا ميتافيزيقيا لفهم العالم، مما يساهم في بناء معاني متعلقة بالهوية والانتماء، تعتمد بعض المجتمعات على السرديات لتحديد القيم والمبادئ، مما يمكن أن يخلق معاني قائمة على التقليد، يمكن للأفراد قبول السرديات التاريخية دون استخدام الإرادة الحرة، مما يؤدي إلى بناء معاني قد لا تعكس اختياراتهم الشخصية، الأفراد يشعرون بالضغط لقبول سرديات وهمية، مما يجعلهم يبنون معاني تتماشى مع السرديات السائدة التي يمكن أن تؤدي  إلى تشكيل هوية جماعية مغيبة المعنى، حيث يتبنى الأفراد المعاني المرتبطة بتلك الهوية دون ممارسة حرية الاختيار، الأحداث التاريخية المشتركة يمكن أن تخلق إطارًا للمعنى الذي يتقاسمه الأفراد والذي يؤدي إلى فقدان الإبداع والتفكير النقدي، مما يحد من قدرة الأفراد على تطوير معاني جديدة، في هذه الحالة يتجاهل الأفراد تجاربهم الشخصية الفريدة، مما يؤثر سلبًا على فهمهم للمعنى لان ذلك يتطلب قبولًا غير نقدي لهذه السرديات، مما قد يحد من استخدام حرية الاختيار. التوازن بين الاستفادة من السرديات التاريخية كإطار شكلي واستخدام الإرادة الحرة يعد أمرًا ضروريًا لبناء معانٍ غنية ومعبرة.

حرية الارادة والاجتهادات الفلسفية

حرية الإرادة موضوع مثير للجدل، هناك آراء متنوعة حول وجودها. بعض الفلاسفة، مثل سبينوزا ولوكريس، يرون أن كل شيء يخضع لقوانين طبيعية، مما يعني أن الإرادة الحرة غير موجودة، فيلسوف مثل جان بول سارتر يؤكد على وجود الإرادة الحرة، حيث يُعتبر الأفراد مسؤولين عن خياراتهم، الكثير من الناس يشعرون بأن لديهم القدرة على اتخاذ قرارات مستقلة، وهذا الشعور يمكن أن يكون دافعًا قويًا للتصرف، التجارب الشخصية تؤثر على فهم الأفراد للإرادة الحرة، مما يجعلها موضوعًا معقدًا، بينما يشعر الأفراد بأن لديهم حرية الإرادة، فإن العوامل الخارجية مثل القوانين والأعراف تؤثر على اختياراتهم، البعض يمكن أن يبحث عن نوع من التوازن بين حرية الإرادة والقيود التي يفرضها المجتمع . بينما هناك آراء تدعم وجودها وأخرى تنكر ذلك، يبقى النقاش مفتوحًا حول طبيعتها وتأثيرها، السرديات التاريخية تجعل الأفراد أكثر قبولًا للاستسلام، حتى مع وجود إرادة حرة، من خلال التأثير على الهوية، الضغوط الاجتماعية، وتفسير التجارب. هذا التفاعل مع السرديات يمكن أن يحد من خيارات الأفراد ويؤثر على قدرتهم على المقاومة، تتداخل حرية الإرادة مع مفهوم المعنى، حيث إن القدرة على اتخاذ القرارات تؤثر بشكل كبير على كيفية فهم الأفراد لمعاني حياتهم. إذا كانت حرية الإرادة موجودة، فإنها تعطي الأفراد القدرة على تشكيل معانيهم الخاصة إما إذا كانت الأحداث التاريخية تُعتبر حتمية، قد يُنظر إلى قرارات الأفراد كجزء من مسار تاريخي لا يمكن تغييره وبهذا تتناقض السرديات التاريخية مع مفهوم الإرادة الحرة، مما يدفع الأفراد لإعادة التفكير في معانيهم الشخصية، فحرية الإرادة تعني تحمل المسؤولية عن الأفعال، تتطلب تعزيز الوعي بأن السرديات التاريخية ليست حقائق ثابتة، بل يمكن إعادة تفسيرها. هذا يساعد الأفراد على أن يصبحوا أكثر وعيًا بأثر اختياراتهم من خلال هذا التفاعل ويمكن أن نجد طرقًا جديدة لفهم معاني الحياة، مما يعزز من حرية الإرادة بدلاً من تقييدها.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

السعادة من المفاهيم التي لم يُقال الكلمة الأخيرة في تعريفها، سواء من المنظور الفلسفي أو النفسي، فلا تزال محل جدال وإشكالية لم يتم التوصل إلي تعريف نهائي لها، وذلك يرجع إلي نسبيتها وتَغُيرها، وقد كتب وتحدث عن السعادة العديد من الفلاسفة وعلماء النفس، ولكننا فضلنا في هذا المقال تعريف السعادة كما يراها سقراط، ذلك الفيلسوف اليوناني الذي غير وظيفة الفلسفة في عصره، وحولها من النظر إلي السماء وما وراء الطبيعة، إلي الأرض وما وراء الإنسان والبحث في فضائل الإنسان، ومعرفة ماهيات الخير والشر والسعادة .

فالفلسفة بشكل عام هي محاولة تبسيط كل معقد وليست العكس، ولهذا جاءت فلسفة سقراط فلسفة خصبة قائمة علي منهج التوليد، عن طريق إثارة العقول بالأسئلة، فهي فلسفة تساؤلية والسؤال هو أصل التفلسف والمعرفة .

ما هو معني السعادة لديك؟

بهذا السؤال أخذ فيلسوفنا يجوب شوارع أثينا يستفز ويسخر من إدعاء البعض الحكمة والمعرفة، فلم يكن هدفه التقليل من شأن الآخرين ولكن كان الهدف هو كشف جهل الإنسان بحقيقة الأشياء، فهو نفسه قال “أعلم إني لا أعلم شيئ”رغم معرفته الواسعة التي جعلته يُلقب فيما بعد بأبو المعرفة .

ما هو الرد علي سؤال السعادة السُقراطي؟

كانت الإجابة نسبية فالكل يري السعادة بزاوية مختلفة، فكان رد البعض بأن السعادة في المال، والآخر قال بأن السعادة في الأسرة والزوجة الصالحة، والبعض قال بأنها في السلطة والشهرة .

أختلفت مفاهيم السعادة، وجاء رد سقراط التساؤلي في محاولته لصك معني للسعادة شامل، قائلاً إذا كانت السعادة كذلك في المال او السلطة او الممتلكات، هل ستكون سعيداً ومعك المال والسلطة والشهرة وتشعر بالألم ؟بهذا تكون سعادة ناقصة فقد رأي فيلسوفنا بأن السعادة التي ينشدها معاصريه مادية بحتة وغير حقيقية، كلها تنصب علي تركيز الإنسان علي تحقيق اللذة المادية وحب التملك، بينما هي عكس ذلك، فيمكن أن يحوز الإنسان علي الكثير من الممتلكات ولا يشعر بالسعادة  الحقيقية ويتألم .

إذن السعادة السُقراطية الحاقة هي بداخلنا وبتحقيق الفضيلة والإعتدال . وبإسقاط السعادة السقراطية في عالمنا المعاصر، نجد هيمنة رأس المال واللغة الأكثر إنتشاراً هي لغة النقود، ولهث الإنسان وراء الإمتلاك، ولكن هل توجد لديهم السعادة الحقيقية ؟

من وجهة نظرنا نحن نمثل دور السعادة علي مسرح مزيف مسرح الحياة شديد التلون و التغير، فكم من رجل غني لديه من المال الوفير، ولكنه لا يستطيع شراء السعادة فهي ليست للبيع، وكم من فقير ولكنه لديه من القناعة والرضا والإعتدال ما مكنه من أن تصبح السعادة أنيسته، وللأسف في الأوساط الشعبية وبالأخص الريفية دائما ما نوصف الرجل الغني مادياً بأنه مبسوط، ولكن تلك نظرة ناقصة، فهناك من الأغنياء ما يعكر صفوهم وينغص حياتهم في الواقع المعيش، فقبل ان يتم صياغة بؤس الأغنياء في صورة دراما تجسدها الأفلام والمسلسلات كانت واقعاً ملموساً فهي ليست في المال ولا الجاه .

فالسعادة الحقيقية في داخلنا، طالما ظل الإنسان يبحث عنها في الخارج سيظل يدور في دائرة مُفرغة ولن يجد سعادته، الحقيقية إلا في داخل نفسه ورضاه عنها وإعتداله، بهذا تتحقق السعادة رغم إنها سعادة مؤقتة.

ولهذا جاءت فلسفة سقراط إنسانية خالصة، تحثُ علي أن نعرف نفسنا بنفسنا، دعوة للتأمل والتدبر في نفوسنا كبداية لفهمها وبالتالي معرفة السعادة، عن طريق تحقيق الفضيلة والإعتدال والرضا بما نملكه، وليس بالحصول علي ما لانملكه .

***

محمد أبو العباس الدسوقي

 

لا يزال العقل الديني العربي في القرن الواحد والعشرين واقعاً في المأزق نفسه الذي مرّ به في القرن العشرين عندما تمكنت الآلة من التطور، وظهر الحاسوب كإختراع متقدم. فقد كان على العقل الديني العربي حينها ان يعمل على تطوير وتحديث ثقافته الفكرية كي يبني على مرحلة التطور العلمي تلك مباني عدّة تذهب به الى مزيد من الإستعداد لإستيعاب المرتقب من تطور العلم والتقنية، ذلك التطور الذي وصل الى إختراع الموبايل والإنترنت وشيوع استخدام تطبيقاتها في بدايات القرن الجديد، وهو ماضٍ بإتجاه تقنيات الذكاء الإصطناعي. كان من المفروض ان يعمل العقل الديني العربي منذ ذلك الوقت على النهوض بالفكر الديني بما لا يجعله مستخدماً للتقنية في إعادة انتاج الأفكار والطروحات الكلاسيكية دون التعمق في استنباط إستفهامات مرتقبة يفرضها واقع الإستخدام التقني في الحياة العامة، يضاف الى ذلك ما يمكن توقعه من ميول نفسية وانطباعات جديدة يطبعها حضور الآلة المتطورة في حياة الناس ما قد ينعكس سلباً على الإنطباع المألوف في علاقة الفرد بالدين وفي حاجته اليه.

 لا يشير الواقع الى وجود هكذا تجديد، أو هكذا نهضة، أو هكذا تطور في آلية تفكير العقل الديني، دلالة ان الأجيال التي أخذت تعاني من مشاكل إجتماعية ومشاكل شخصية افرزتها استخدامات التطور التقني، ومع ان العقل الديني موجود وسط هذه المشاكل الثقافية والاجتماعية، لكنه.

لم يظهر قدرة عالية على تدارك هكذا نتائج سلبية في المجتمع.

ربما بسبب الادوات والوسائل التقليدية التي يستخدمها العقل الديني في التعاطي مع المتغيرات الجديدة، تلك الأدوات والوسائل التي لم تعد قادرة على الصمود أمام الأدوات الجاذبة الأخاذة التي يجدها الفرد العربي المسلم اليوم في وسائل التواصل الإجتماعي وفي صفحات ومواقع الانترنت، وفي الأجهزة الرقمية والاجهزة الذكية.

فأمام انبهار المستخدم العربي بما يحققه العقل العلمي الغربي، لجأ العقل الديني العربي الى إسناد الريادة في هذا التطور العلمي الى القرآن الكريم عبر ربط نوع المنجز العلمي الغربي بنص قرآني.

 ان ربط الإنجاز العلمي في الغرب بالإعجاز العلمي في القرآن، يكشف في اعتقادي عن ضعف قدرة العقل الديني العربي على مواكبة ما يترتب على الإنجاز العلمي الغربي، وهذا ناتج عن قلق تشهده طبيعة تفكير العقل الديني بسبب إدراكه لضعف قوة جاذبيته للمتلقي العربي أمام تنامي قوة الجذب التي يعيشها الفرد العربي مع ما يصله من منجز علمي غربي،  فهناك مثلاً جهود لبعض الخطباء في التعريف والتذكير بقدرة الإمام علي عليه السلام العلمية في حل مسائل رياضية وفيزيائية صعبة جداً في عصره، فضلاً عن احاديثه عليه السلام عن آخر الزمان، منها انه اخبر بما سيأتي من أيام يسمع فيها الرجل صوت أخيه من مكان بعيد ويراه :

(يأتي زمان يسمع ويرى من في المشرق في المغرب ومن في المغرب في المشرق). اكتفى العقل الديني العربي بذكر هذه الأقوال لجذب القارئ والمستمع الى الدين من خلال الإشادة بعلم الإمام وعظمة إدراكه في قراءة المستقبل، وكان على العقل الديني ان يتخذ من هذه القاعدة الرصينة والتراث الإسلامي الضخم منطلقاً لتوسيع مدارك التفكير العقلي بما يوسع حضور الدين في النشاط الثقافي للعقل العربي، حتى إذا ما وصل الى القرن الواحد والعشرين كان على درجة من الوعي لا يقع معها في الحيرة التي هو فيها اليوم .

تواجه الثقافة العربية المعاصرة انتقادات كثيرة يوجهها العقل المعاصر لتاريخ الثقافة العربية، فكثير من الكتابات والآراء والكتب تنتقد الواقع العربي ومآلات الحالة الإجتماعية والثقافية والسياسية والدينية للفرد وللمجتمع من دون ان تقابلها أفكار ورؤى وبحوث توازي ذلك النقد.

هذا اللاتناسب بين النقد الهدّام والنقد البناء أخذ ينعكس على النضج النفسي للفرد العربي الذي أصبح مقتنعاً بأنه يعيش في مجتمع متأخر، وان هذا التأخر بات صفة ملازمة لطبيعة المجتمع العربي المعاصر، وانه من الصعب عليه ان ينهض بأمره من دون مساعدة قوة خارجية. وبات مدركاً الى حد ما ان هذه القوة الخارجية لن تقدم له يد العون من دون ان تطالبه بمقابل. وكثيراً ما يأتي هذا المقابل على حساب الموارد الطبيعية والموارد البشرية، وعلى حساب الهوية الدينية، في الأحوال كلها فإن الفرد العربي المسلم يعيش حالة من القلق النفسي المزمن ثقافياً. على الرغم من وجود مفكرين عرب وفلاسفة وعلماء، يتعذر انعاش الواقع. لقد بحث العقل في اكثر الأحيان عمّا يرضي المزاج النفسي لصاحبه، لذلك تتباين الآراء حول حدث واحد، فمنهم من يراه صحيحاً، ومنهم من يراه عكس ذلك. إلا الذين اوتوا نصيباً من العلم، فأولئك يقولون آمنّا، وهذا الإيمان يحملهم على قول الصدق والتثبت من الحقيقة، لذلك أكد العليم الحكيم سبحانه وتعالى في القرآن الكريم على استمرارية حفظه لكلماته التامات، كي تكون هي المعيار والمرجع الذي نقيّم به رؤانا وتصوراتنا وقناعاتنا وافكارنا وقراراتنا، في زمان تستخدم فيه كثير من انظمة حكم العالم العربي ثلاثية: التجهيل، والتدجيل، والتدجين.

كانت صعوبة مهمة الأنبياء في إيصال رسالة السماء الى الناس تكمن في كيفية تأهيل الوعي الذاتي عند كل شخص لتقبل الطرح الجديد لمفاهيم غير جديدة مثل الإله، العدالة، العبادة، وغيرها. فما من مجتمع إلا وله دين كما يقول التاريخ. أو هو يبحث له عن دين، وسواء أكان ذلك الدين سماوياً أم وضعياً، فإن اجنداته كانت تتحدث عن إله وعن عدالة، وهذه المفاهيم تحتاج الى وعي ذاتي يتحرك بصاحبه لاستقبال الدعوات الجديدة التي جاء بها الأنبياء.

لأن كثيرين على مرّ السنين كانوا قد شكلوا وعيهم على اساس انماط حياتهم اليومية، لذلك كانوا يواجهون فكرة الإله الواحد برغم انهم كانوا يعبدون إلهاً أو آلهة متعددة، فليست القضية قضية عدد بقدر ما هي قضية حاجة، فحاجتهم الى استبدال إلههم أو آلهتهم لم يكن لها ضرورة، لأن اوضاعهم الحياتية كانت ماضية بشكل مقنع ومرضي بالنسبة لهم. فهم يزرعون ويحصدون ويبنون ويتزوجون ويبيعون ويشترون.، لذلك عزفوا عن اتباع الأنبياء. وعندما وجدوا الأنبياء مصرين على دعوتهم الى التوحيد، واجهوهم، حرصاً منهم على خط حياتهم من ان ينحرف بعيداً بهم عما يطمئنون اليه، خصوصاً وان الطرح الجديد الذي يقدمه الأنبياء يقوم على نمط حياتي مختلف عن انماط حياتهم. من هنا جاء استغراب الأقوام من دين يساوي بين السيد والعبد، ويرى في اموال الأغنياء حق للفقراء، وهي طروحات تهدد نظام حياتهم وتقلب الموازين التي مضت عليها مجتمعاتهم سنين طويلة.

قد يمثل عصرنا الحالي اخطر مرحلة تاريخية يمر بها الوعي الإنساني. سبب ذلك ان تطور المعرفة والصناعة ودخول الشعوب عصر التقنية الرقمية والأجهزة الذكية جعل مفهوم الحرية الشخصية يتحرك في جو من القلق الثقافي والإضطراب الإجتماعي والفوضى السياسية والمشاكل الإقتصادية، مما اثر في فهم العدالة الإجتماعية . لذلك أخذ بعضهم يتوجه الى قبول فكرة الخروج من الدين من داخل دائرة الدين كظاهرة اجتماعية. فهو خروج لا بمعنى التمرد العلني او الرفض الظاهري او الإلحاد، بقدر ما هو لا تقيد بالتزام النص التشريعي. فمثلاً في مجتمعاتنا العربية الإسلامية يدرك الجميع ان الدين هو الإسلام. وان الشريعة المحمدية هي السبيل السليم لتحقيق العدالة الإجتماعية ولحياة آمنة. وفي الوقت ذاته يذهب كثير من الناس الى ان ذلك لم يعد ممكناً على ارض الواقع إلا بمشقة واضحة، ومع ذلك بقي الدين في حساباتهم يمثل الإطار العام لحركة الحياة. اما تفاصيل المشهد الإجتماعي ففيها الوان كثيرة غير محببة لعامة الناس، ولا حتى للمعنيين بالدور الرسالي للانسان في الحياة، فنرى في تفاصيل حياة كثير من الناس غياباً واضحاً لتفاصيل الدين، بل لعله خروج غير مباشر من الدين. هنا تبرز قضية الغربة التي تناولها الحديث النبوي الشريف (بدأ هذا الدين غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء) وهو حديث صحيح ذكره غير مصدر من مصادر التاريخ المعتمدة. من المقبول ان يبدأ الدين غريباً، فكيف سيعود غريباً وقد تجاوزت أفواج الداخلين في دين الله مليار نسمة حول العالم؟

ان المشكلة في اعتقادي تكمن في الكيفية التي لم يتم فيها إيصال الفكر الناضج الذي انتجته عقول الأنبياء في جو الوحي الى المتلقين من الأجيال، ممن يتباينون في معدلات نضجهم النفسي والعقلي، إذ لم يكتب للمجتمع العربي خلال التاريخ ان يمر بمرحلة غير قلقة يتحقق فيها ارتفاع لمعدلات النضج النفسي والعقلي بمناسيب متساوية.

بمرور الوقت وبدخول الإقتصاد كعامل قوي فاعل في تحريك تفاصيل الحياة اليومية تعقدت الأمور أكثر، لأن المال يشغل العقل بالارقام والانفعالات التي ينتج عنها اهتمام بالغ بالذات والفردية وبالأنانية، حيث يتم تجاوز معنى الصالح الى معنى المصلحة، هذا المفهوم الذي يحتمل الخاص والعام، في حين ان مفهوم الصالح له وجه واحد، لا يحتمل الخاص والعام. لذا كان الإهمال أو الإغفال مصير كثير من القيم والمثل العليا والمبادئ السامية في الجانب العملي، في حين بقيت تحظى بالتعظيم والتقدير وربما بالتقديس في الجانب النظري. سبب ذلك هو قلة النضج النفسي الذي تسبب في تكوين فهم جزئي، غير مكتمل أو غير ناضج، ودخول الزمن كعنصر أساس في حركة التطور العلمي في العالم، كان له دور مؤثر في إنتقال النضج الجزئي الى مراحل متقدمة من الوعي الجزئي، فكثير من الناس هم من أصحاب وعي جزئي كان يفترض بهم تنميته في ظروف نمو صالحة للوصول الى الوعي الكلي او الوعي الناضج او الوعي الجمعي. لكن الوقت مرَّ من بينهم حتى وجدوا انفسهم أمام واقع علمي عالمي متطور مذهل، جعل في متناول ايديهم تقنيات رقمية جبارة وجذابة، وآلات ذكية متفوقة.

هنا لم يعد بالإمكان تدارك ذلك الوعي الجزئي والنضج الجزئي للنفس وللعقل، لكن بالإمكان ان يكون ذلك الوعي الجزئي، هو كل الوعي الموجود. وفي ضوء ذلك ستأخذ المفاهيم الكبيرة التي نادى بها أنبياء الله معاني جديدة. فالحق مقدّس، والعدالة مطلب حق، لكن آليات الوصول الى هذه المعاني الكبيرة عملياً لم يعد سهلاً، لذلك تخللت هذه المفاهيم الكبيرة تطبيقات خطيرة نتج عنها غياب حقيقي مخيف لهكذا مفاهيم، مما حمل بعض الناس على ان يفرّوا من الدين وهم في داخل دائرته الإجتماعية التي يتعامل فيها بعض الناس مع المسجد كمكان آمن، ومع الصلاة كطقس بدني تلقائي، ومع المصحف كمصدر مجرب لدفع البلاء وجلب الرزق وطرد الشر.واصبحت الأنانية غير منفصلة عن الإنسانية في جو المصلحة العامة والخاصة، فصرنا نقيم مهرجانات واحتفالات كبيرة على شرف أسماء تاريخية وشخصيات كان لها دورها البارز في رسالة الإنسانية والدعوة الى الأخلاق والمثل العليا، وصرنا نقيم نصباً تذكارية لشخصيات تاريخية وأدبية وفنية وسياسية وعلمية، ونذكر سيرهم في كتبنا وبحوثنا وفي مناهج الدراسة، وصرنا نطلق اسماءهم على مشاريع سكنية وشوارع ومشاريع خدمية واماكن عامة وخاصة، لكن ليس هناك حضور جوهري لآثار هذه الأسماء والشخصيات النزيهة والمستقيمة في تعديل الإنحراف الذي يأخذنا اليه الواقع. الأمر الذي ترك في أذهان البسطاء من قليلي المعرفة والوعي، قلقاً نفسياً وثقافياً، سببه استقامة الجوهر وانحراف المظهر، خصوصاً ان حاملي القيم والمبادئ هذه الأيام، هم أقل وعياً بالذات الإنسانية من سابقيهم، وهنا تبرز مشكلة كبيرة تواجهها الثقافة العربية المعاصرة، وهي ان الأفكار العظيمة انتقلت الى أذهان لم تكن قد بلغت بعد مرحلة الإستعداد الكافي للتفكير بمستوى عظمة هذه الأفكار، أوانها لم تعد قادرة على الإستعداد للوصول الى هذا المستوى من التفكير العميق بعد ان سرق العصر الجديد اوقاتهم واودعها في بنك الإستهلاك الخدمي المعاشي.

الواقع الإجتماعي والثقافي العربي يمضي في اتجاه حصر منظومة رسائل ووصايا وحكم وقيم انبياء الله والمصلحين، في مرحلة الماضي او الجانب النظري الروحي للخبرة والمعرفة الانسانية، أما الجانب العملي المادي فمرهون بيد متغيرات مرحلية ومحلية وعالمية، تمضي بالفهم الى أفكار جديدة تؤثر فيها أدوات العصر بحيث لا تجعلها تتجاوز الماضي ولا ترى انها تسيئ الى حضوره عندما تضعه على الرف.

سعادة الانسان مرتبطة بفهمه للحب. والحب مرتبط بفهم العدالة. والعدالة مفهوم اختلط معناه بين العقل الديني والعقل السياسي، وهذا ما جعل مجتمعاتنا تفتقر الى الحب الحقيقي.

يقول ج. ب. شيشولم (ان الخطر الحقيقي الوحيد الذي يتهدد الإنسان هو الإنسان نفسه. والسبب في ذلك انه يعجز عن استخدام تفكيره الذي بلغ درجة رفيعة من التطور استخداماً فعالاً. وذلك نتيجة لمخاوفه وتحيزاته وتعصبه لآرائه وللكراهية القائمة على غير أساس والتفاني الذي لا يقل عنها بعداً من العقل، وكلها اعراض للمرض النفسي الذي يدل على اخفاقه في تحقيق النضج الانفعالي والصحة العقلية) (1).

***

د. عدي عدنان البلداوي

...........................

(1) كتاب العقل الناضج - ص133 - اوفر ستريت.

تسبر هذه الدراسة أغوار الآليات التي تتشكل عبرها الأفكار في وعي الإنسان، مقدمة قراءة نقدية محكمة لمسار يجعل من التفكير الفردي امتدادًا لتراكمات اجتماعية وثقافية، لا نبعًا أصيلًا للذات. يعمد البحث إلى تحرّي المفاهيم بدقة متناهية، مستندًا إلى شروط التكوين العقلي في بيئات يهيمن عليها سلطة رمزية صارمة، معتمداً على إرث فكري عراقي وتأملات الباحث.

المقدّمة

لا يتراءى كل ما نعتقده صادرًا عن وعينا، ولا تعد كل قناعة نحملها دليلًا قاطعًا على حرية فكرية مستقلة. الإنسان في مجتمعاتنا ذات الطابع التقليدي لا يُبنى كمفكر حر مستقل، بل يُصاغ بوصفه كائنًا وظيفيًا يعيد إنتاج ما يُلقن إليه من قيم وأفكار مغلوبة على أمرها. ولذلك يبرز السؤال المحوري: أين تكمن حدود مسؤوليتنا تجاه الأفكار التي نؤمن بها؟ وهل التفكير ممارسة نخوضها بحرية، أم هو نتاج حتمي لبيئات اجتماعية وثقافية تربوية مُحكمة؟

تسعى هذه الورقة إلى معالجات هذه القضية من منطلق تحليلي جاد، يوازن بين قوة الطرح ووضوح الإفهام، متجنبًا الزخرفة اللغوية التي قد تشوش المعنى. فنحن أمام مسألة عميقة ذات طبقات متداخلة تتطلب تشخيصًا متينًا لطبيعة الوعي وكيفية تشكله، بعيدًا عن التبسيط والتجريد السطحي.

أولًا: سلطة التنشئة وبنية التلقين

تبدأ السلطوية المعرفية تأثيرها منذ الطفولة، حيث يُفرض على الطفل ثنائيات قطعية كالصح والخطأ، الخير والشر، الحلال والحرام، التي لا تستند إلى تجربة نقدية ذاتية بل إلى سلطة خطابية محكمة. يعبر الفيلسوف علي الوردي عن هذا الواقع بقوله إن الإنسان في مجتمعاتنا يُربى على التسليم أكثر مما يُحفز على النقد والتمحيص.

وعليه، لا ينخرط الفرد في فضاء التفكير الحر إلا بعد أن يتعرّض لمنظومة من القيم والضوابط التي تحيط به، فتُحدد له ما يجوز له التفكير فيه وما يُمنع. وهكذا تتحول الأفكار إلى ممتلكات جماعية تُتداول بين الأفراد دون مساءلة عميقة أو مراجعة واعية.

ثانيًا: المؤسسات ودورها في قولبة الوعي

المؤسسات ليست هياكل إدارية فحسب، بل هي أطر تعيد تشكيل المعنى وتوزع السلطة الرمزية، تشمل الأسرة والمدرسة والمسجد ووسائل الإعلام. هذه المؤسسات غالبًا ما تفرز خطابات لا تشجع على التفكير المستقل بقدر ما تدعو إلى الامتثال والانصياع لما هو معتمد ومقبول.

يؤكد الباحث عبد الجبار الرفاعي أن مجتمعاتنا لا تزال محصورة داخل أنساق فكرية مغلقة، تحجب عن الإنسان فرصة امتلاك فكر شخصي مستقل، وتفرض عليه ما ينبغي أن يكون عليه. ومن هنا أقول: السؤال الحقيقي ليس لماذا تفكر بهذه الطريقة، بل من الذي منحك الإذن لتفكر بهذه الطريقة؟

ثالثًا: الرأي الشخصي كخدعة معرفية

لا يُصبح الرأي شخصيًا إلا إذا خضع للتحليل النقدي الداخلي والجدل المنهجي الصارم. أما في سياقاتنا الاجتماعية، فإن ما يُدعى آراء غالبًا ما تكون ناتجة عن انفعالات، تقليد، أو قبول اجتماعي غير مدروس. الرأي الذي لم يُمرر عبر مشفى الشك والتحليل لا يمكن اعتباره أصيلًا أو محل ثقة.

لقد كتبتُ في مناسبة أخرى أن الأفكار التي لا تكتسب صلابتها عبر الجدل والتمحيص تظل هشة مهما ألبست من قناعات.

رابعًا: التفكير من موقع الاستقلال لا الرفض

التفكير ليس فقط رفضًا للطاعة، بل هو رفض للتقليد الأعمى والقبول السطحي. لكنه لا يحض على رفض كل شيء بلا تمحيص، بل يدعو إلى الفحص والتأويل العميق. سقراط نفسه بيّن ذلك بجلاء حين قال إن الحياة التي لا تخضع للمراجعة والتحقيق لا تستحق أن تُعاش.

هنا يتجلى جوهر التفكير الحقيقي، الذي لا يقتصر على كونه فعلًا ذهنيًا صرفًا، بل هو فعل تحليلي يعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والمعنى والمعتقد.

خامسًا: الاستقلال المفهومي وتبعاته

لا يتحقق الاستقلال الفكري بمجرد معارضة السائد، بل حين يتحرر العقل من الخضوع اللاواعي للموروث الثقافي والاجتماعي. صاغ المفكر كارل بوبر هذا المفهوم بدقة حين بين أن الحرية الحقيقية ليست في الإيمان بما تشاء، بل في القدرة على الرفض بعد الفهم الواعي.

ومن تجربتي الشخصية أؤكد أن امتلاك الفكر الحقيقي يعني المرور بتجارب متعددة من الرفض، التأسيس، الشك، ثم الفهم العميق.

الخاتمة والناتج

لم يكن الهدف من هذه الورقة التشكيك في كل ما نحمله من أفكار، بل لفت الانتباه إلى أننا في أغلب الأحيان نعيش داخل أفكار الآخرين لا أفكارنا. فالتفكير الحقيقي لا يتجسد في إعلان الرأي فقط، بل في مساءلة الرأي ذاته عن أصله وأسبابه.

فهل تساءلت يومًا: هل فكرك حقًا لك؟ أم أنه مجرد انعكاس لمنظومة تعتقد أنك حر فيها؟.

***

سجاد مصطفى حمود

 

يعمل العقل كما يعمل الفرن، والخبز الموجود فيه هو الإنتاج، والنار التي تطيّب الخبز هي القراءة الدائمة هي الوقود. إذا توقفت القراءة توقف الإنتاج، وكلما أعطيت العقل زاده من القراءة والتأمل أعطاك زادك من الإنتاج، ما رأيت آلة تعمل بغير ملل كما الفرن قدر ما يعمل العقل بوقود القراءة والتأمل.

العقل كالفرن البلدى قبل ظهور الصناعات الحديثة. لا يمكن أن يشتغل إلا بأكوام الوقود الدائم، ووقود العقل القراءة والتأمل والاستبصار كلما شحنته بالقراءة وتأملت المقروء واستبصرته جيداً، ومضت الأفكار في رحم العقل كما يومض الخبز تحت لهيب النار المشتعلة من وقود الفرن، ولا يمكن لكاتب أن يكتب كتابة جيدة بغير قراءة وتأمل واستبصار.

 أما القراءة فعرفناها، وأما التأمل فموقوف عليه معلوم، فماذا عساه يكون هذا الاستبصار؟

الاستبصار: هو أعلى المراحل في العملية الإبداعية كالرغيف الساخن تسحبه من القرن بعد استوائه هو الكتابة الإبداعية المنفردة بعد القراءة التي كانت مرحلة أولى، وبعد التأمل الذي يأتي كمرحلة ثانية: فالذي يشعل الوقود ليجعل منه ناراً ملتهبة هو التأمل، لكن لا القراءة وحدها ولا التأمل وحده يكفيان لتمام العملية الإبداعية كما لا يكفى الوقود بلا اشتعال، ولا يكفى الوقود مع الاشتعال أيضاً وليس في الفرن دقيق معجون ليصير خبرا شهيا.

إلى هنا ولم تصل بعد إلى حالة الاستبصار هذه.

العجيب في الأمر أن حالة الاستبصار خارجة عن العقل تماماً كما يكون رغيف الخبز خارج عن الفرن مع أن هذه الحالة الاستبصارية نتيجة لمراحل سابقة، ولكنها في ذاتها مفارقة لها بمقدار ما يفارق رغيف الخبز ما خرج عنه من وراء مراحل سبقت وجوده وأنشأت تكوينه وشاركت صورته النهائية.

الاستبصار بالنسبة للعقل كرغيف الخبز بالنسبة للفرن: شكل نهائي تجسده الكتابة الإبداعية في مراحلها الأخيرة تماماً كما تجسد عملية الإعداد من وقود واشتعال ومادة هي الدقيق المعجون، رغيف الخبز هذا الذي بين يديك.

فما يخرج من العقل هو الكتابة، كما يخرج عن الفرن الرغيف، لكن ليست كل الأرغفة التي تخرج عن الفرن صالحة للاستخدام الآدمي فها هو رغيف محروق، وهذا آخر زابل تالف هزيل ردئ، وذاك ضخم عجينه مخلوط بعشب الأرض ولوثة الهفاف المتطاير في الهواء، وعلة هذا كله هو فارق الصناعة بين جيدة ورديئة والاستبصار في الكتابة هو الذي يقوم مقام الصناعة في الفرن، فإذا وجد الاستبصار وجدت الكتابة الإبداعية، وإذا لم يوجد فقدت الكتابة الجيدة وأصبحت كرغيف فاسد محروق لا يصلح للغذاء.

أما عن كنه الاستبصار: فالخيال عالمه العظيم وفلكه الذي يسبح فيه ويخلق ما لم يكن مخلوقاً، مع تعدد الصور المعرفية والمرائى الوجودية عليه، لذلك كانت كل إبداعات أهل الله من العارفين هي استبصار يجند ذائقة البصيرة ويوظفها توظيفاً يرتد إلى حالة العارف، ويعلو فوق حدود العقل المحدود، ويأخذ بالتجربة والمعاناة، وهي تشمل الوعى العالي بما يتكاتف فيه العقل مع الروح فلا العقل وحده يكفى ولا الحس وحده يكفى ما لم يكن الإدراك الأعلى وهو إدراك البصيرة الذواقة أسمى في تلك التجربة الفياضة بذوق المعاناة العارفون يقولون من ذاق عرف.

 وليس من ذوق خارج نطاق التجربة، والتجربة في هذه الحالة هي التي تقودك ولست أنت القائد ولن تكون التجربة هي التي تفعل، ولست أنت الفاعل ولن تكون هنا يكون التخلى عجباً من أعاجيب القدرة: أعنى التخلى عن وهم تمثل في الوعى المحفوظ دوماً بالأنانية، واستبداله بمحيط السلامة النفسية بداية حين تتحلى بمجموعة قيم علوية تعتقدها وتدين لها بكل الولاء، وشيئاً فشيئاً تصبح عادة التحلى طبعاً لا يقبل الانفطام، ولا التخلى عنه بحال. بقاءك مرهون بعقيدتك في هذه الحالة ما في ذلك شك، وتقدمك موقوف على الولاء كل الولاء لما تدين مما عساك تحليت به في السابق وتزكيت.

لأبي العباس المرسى إشارة يقول فيها: إن لله عباداً محق أفعالهم بأفعاله، وأوصافهم بأوصافه، وذاتهم بذاته وحملهم من أسراره ما يعجز عامة الأولياء عن سماعه.. لأنهم صاروا بالحق بعد التجربة مع الله، ولكونهم بالحق في كل قول ذي صدق مع عمق كلام هو لا يحتاج إلى تذويق بل إلى تذوق؛ لأنه يخرج عن أسباب الإيمان والتقوى.

***

د. مجدي إبراهيم

 

في السرديات التاريخية كل خطوة نخطوها تفتح لنا أبوابًا جديدة في متاهة الجهل، هناك فجوة هائلة بين التواصل والفهم، انها تكشف لنا عن الواقع الحقيقي وهي فكرة الوجود كمتاهة متعددة الطبقات، حيث كل طبقة تمثل واقعاً مختلفاً من خلال طبيعة الزمن والوجود، تبدأ بسؤال ملغز...هل الزمن وهم أم حقيقة مطلقة...؟ نحن نتراوح في الواقع بين الوجود والعدم لذا علينا أن نعيش اللحظة بدلاً من مطاردة الزمن الذي يتسرب بين أيدينا ونحن نطارده لكن المعضلة هي ان هناك الزمن النفسي الذي يختلف عن الزمن الفيزيائي ايهما غير قابل للتسرب مما يشير الى ان السرديات التاريخية يمكن أن تكون انزلاقا في العدم إذا لم تُعالج بشكل نقدي. تُروى الأحداث التاريخية أحيانا بطريقة تتجاهل الحقائق من خلال الزمن الفيزيائي، أو تعزز روايات معينة على حساب أخرى من خلال الزمن النفسي، مما يؤدي إلى تشويه الفهم العام للتاريخ. عبارة كل خطوة نخطوها تفتح لنا أبوابًا جديدة من الجهل تعكس رؤية عميقة حول السرديات التاريخية. مما يجعل الفهم الكامل صعبًا، السرديات التاريخية غالبًا ما تكون متأثرة بالانحيازات، مما يخلق طبقات من المعلومات المغلوطة مع مرور الزمن، تتغير الآراء حول الأحداث التاريخية، مما يجعل المعرفة غير ثابتة، النسيان الانتقائيحيثبعض الحقائق تُهمل لصالح سرديات معينة، مما يؤدي إلى فجوات معرفية، السرديات التاريخية تتطلب فحصًا دقيقًا ووعيًا بالتعقيدات، وإلا فقد نغرق في دوامة من الجهل رغم محاولاتنا فهم الماضي.

فجوة بين التواصل والفهم

الفجوة بين التواصل والفهم في السرديات التاريخية تطرح اتساؤلات عميقة حول أهمية وجودنا ومعناه. يمكن أن يتواصل الناس حول أحداث تاريخية، لكن الفهم العميق يتطلب تحليلًا نقديًا وتجربة شخصية، السرديات تشكل هويتنا وتوجهاتنا، ولكن إذا كانت هذه السرديات مشوهة، فإن ذلك يؤثر على فهمنا لذواتنا، الفجوة تُبرز ضرورة البحث عن المعني، مما يمنح وجودنا هدفًا أعمق، الفهم الصحيح للتاريخ يساعدنا على تجنب تكرار الأخطاء، مما يعزز أهمية وجودنا وصناعة مستقبل أفضل، تتطلب الفجوة بين التواصل والفهم وعيًا نقديًا واهتمامًا بتاريخنا، مما يمنح وجودنا قيمة ومعنى في السياق الأوسع .

فكرة الوجود كمتاهة من الطبقات

فكرة الوجود كمتاهة من الطبقات في السرديات التاريخية تعكس تعقيد التجارب الإنسانية. الطبقات الاجتماعيةكل طبقة تمثل وجهات نظر مختلفة، مما يؤدي إلى تعددية في الروايات التاريخية، الأحداث التاريخية تتأثر بالسياقات الزمنية والاجتماعية، مما يخلق طبقات من الفهم كل طبقة تحتفظ بذاكرة خاصة بها، مما يؤدي إلى تباين في كيفية تذكر الأحداث وتفسيرها، الطبقات المختلفة تتفاعل وتتنازع، مما يشير الى تعقيد السرد التاريخي، كل طبقة تبحث عن معنى وجودها، مما يضيف عمقًا للتجربة الإنسانية، تُظهر هذه المتاهة كيف أن السرديات التاريخية ليست تطور تاريخي خطي، بل تتكون من طبقات متعددة تعكس تجارب وتفسيرات متنوعة.

دور السلطة في تشكيل الطبقات السردية

السلطة يمكن أن تحدد ما يُعتبر تاريخًا رسميًا، مما يؤثر على كيفية سرد الأحداث، من يملك الموارد المالية والثقافية يحدد أيضًا من يتم تمثيله في السرديات التاريخية المناهج الدراسية غالبًا ما تُصاغ وفقًا لرؤية السلطة، مما يؤثر على فهم الأجيال الجديدة للتاريخ، تفرض السلطة رقابة على المعلومات، مما يؤدي إلى تهميش روايات معينة، تُستخدم الأساطير والتقاليد لتعزيز شرعية السلطة، مما يؤثر على كيفية فهم الناس لتاريخهم، السلطة تلعب دورًا في تشكيل الهويات الجماعية، مما يخلق طبقات من السرديات تختلف باختلاف المجموعات.

الزمن في السرديات التاريخية

فكرة الزمن في السرديات التاريخية يمثل موضوعًا معقدًا يتأرجح بين كونه وهمًا أو حقيقة مطلقة. من ناحية يُنظر إلى الزمن كعنصر ثابت يقيس الأحداث والتغيرات، مما يعطي إحساسًا بالاستمرارية في الذاكرة الجماعية، من ناحية أخرى فهمنا للزمن، يخلق وهمًا يتعلق بمدى تأثير الأحداث الماضية على الحاضر، الأحداث التاريخية تتكرر في أنماط معينة، مما يعكس تغيرا في تأثير الزمن على التطورات الإنسانية، الفلاسفة مثل هايدغر وبيرغسون تناولوا الزمن كمسألة وجودية، مما يضيف عمقًا لفهمنا للزمن في السرديات التاريخية وهو مفهوم معقد يجمع بين جوانب ملموسة وذاتية، ما يجعله موضوعًا يستحق التأمل والنقاش. هناك زمنان يتناوبان احساسنا بالزمن، الزمن النفسي يمثل كيف نشعر بالوقت، وقد يختلف عن الزمن الموضوعي، مما يجعلنا نشعر بالضغط أو الفقدان، التركيز على الحاضر من خلال الزمن النفسي يعزز الوعي الذاتي ويساعد في تقليل القلق حول المستقبل أو الندم على الماضي، عيش اللحظة يعزز التجارب الحياتية، مما يجعلها أكثر عمقًا وثراءً، التأمل يساعد في تعزيز الوعي اللحظي وتقليل مشاعر المطاردة ويساعد على التحرر من قيود الزمن النفسي، مما يسمح بتجربة الحياة بشكل كامل، التركيز على الحاضر بدلاً من مطاردة الزمن يُعزز الرفاهية النفسية ويساعدنا على تقدير اللحظات الحياتية.

الزمن النفسي يختلف عن الزمن الفيزيائي

الزمن الفيزيائي يقاس بالثواني والدقائق والساعات، وهو ثابت وموضوعي، يتدفق بشكل خطي دون تغيير هو تجربة فردية تتعلق بكيفية إدراكنا للوقت. يمكن أن يبدو الزمن أسرع أو أبطأ بناءً على المشاعر والتجارب، يعتمد الزمن الفيزيائي على تسلسل الأحداث، لكنه يتأثر بشدة بالزمن النفسي، حيث تترك الأحداث أثرًا مختلفًا في الذاكرة، الأحداث التاريخية تُروى بشكل مختلف اعتمادًا على كيفية تأثيرها على الأفراد والمجتمعات، في أوقات مختلفة الزمن النفسي يُساعد في تشكيل كيفية فهمنا للأحداث التاريخية، حيث نبحث عن المعنى في تجاربنا الشخصية، الزمن النفسي والفيزيائي يتداخلان في السرديات التاريخية، مما يُعزز أهمية فهم كلا الجانبين لتقدير التجارب الإنسانية بشكل كامل.

دور الدين في تشكيل إدراك الزمن النفسي

الأديان تقدم رؤى مختلفة عن الزمن، مثل الزمن الخالد أو الدائري، مما يؤثر على كيفية فهم الأفراد لتجاربهم الزمنية، السرديات الدينية تساهم في تشكيل الذاكرة الجماعية، مما يعزز من إدراك الزمن كجزء من تاريخ مشترك، الدين يلعب دورًا محوريًا في تشكيل إدراك الزمن النفسي، مما يُعزز من أهمية السياقات الروحية في فهم السرد التاريخي، مفاهيم الزمن الديني تختلف بشكل كبير بين الثقافات، العديد من الأديان تميز بين الزمن المقدس والزمن العادي، مما يؤثر على كيفية إدراك الأفراد للوقت، يُنظر إلى الزمن كوسيلة لتحقيق أهداف روحية، مما يؤثر على كيفية عيش الأفراد للحظة الحالية تختلف مفاهيم الزمن الديني بين الثقافات، مما يعكس تنوع التجارب الإنسانية والفهم الروحي للوقت.

الانزلاق في العدم والسرديات التاريخية

نظام التفاهة يعد من الظواهر المعاصرة التي تؤثر في المجتمعات، خاصة تلك التي تعتمد على السرديات التاريخية والزمن المقدس. حيث تسيطر المظاهر السطحية على النقاشات العامة، مما يؤدي إلى إغفال القضايا الجوهرية التي تؤثر على المجتمع. تساهم التفاهة في فقدان المعنى والعمق في الحياة اليومية، مما يجعل الأفراد يشعرون بالانفصال والقلق، تروج وسائل الإعلام لنمط حياة مستند إلى الاستهلاك، مما يشتت الانتباه عن القضايا التاريخية والسياسية المهمة، في المجمل يعكس نظام التفاهة أزمة في القيم والمعرفة، ويهدد بإنهاء الروابط التاريخية التي تشكل هوية الشعوب هذا يمكن أن يتجلى في الأزمات الوجودية التي يواجهها الأفراد والمجتمعات، يتطلب ضرورة إعادة التفكير في السرديات التاريخية لتجنب الانزلاق في العدم، مما قد يؤدي إلى اكتشاف زوايا جديدة يمكن أن تُعبرتجارب جديدة من خلال البحث عن قصص اخرى تُثري السرد التاريخي في أوقات الأزمات والتي تعكس التحديات والواقع المرير، مما يُمكن المجتمعات من إيجاد معنى في الفوضى، و يُنتج سرديات جديدة تعكس الروح الإنسانية يمكن أن تُعيد المجتمعات استلهام دروس الماضي للتعامل مع الانزلاق في العدم، وانتاج سرديات جديدة تعكس قوة الصمود، هكذا يمكن أن يُصبح الانزلاق في العدم مصدر إلهام لإعادة بناء الهويات والتاريخ.

***

غالب المسعودي

ما هو الإنسان؟ ما حقيقته؟ من أين وإلى أين؟ أسئلة لا يُجيبُ عنها الذين هَجَروا يقظة الوعي وَغَطّوا في نَوْمَة الجّهل على فراش الإيمان الزائف؛ أسئلة لا يُجاب عنها إلا بأحْرُفٍ مِن نورِ الأرواح المُحبّة، والأنفس المُطمئنة التي هربت من ظلمات المظاهر والقشور نحو نور الجوهر وحقيقة المعنى، ومن لَعِق الألسن إلى صفاء القلوب التي صَدَقَت فبَلَغَت الحقيقة وتربَّعت على عرش اليقين؛ أسئلة لا يُجاب عنها بلقلقة المترفين بل بصلاة العاشقين. 

خَلَقَ اللهُ تعالى الإنسانَ لحكمة بالغة وأصلٍ مكنون لا يفقهه إلا العارفون؛ لم يخْلقْهُ اللهُ ليكون رقمًا في سجلات الحياة الدنيا، بل جوهر ذو معنى، ومحور تطوف حوله وتسجد له باقي المخلوقات؛ وأمانة يجب أن تؤدّى، هو سرّ الله الأعظم، قال تعالى:  ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾.

شاءَ اللهُ تعالى أنْ ينفخَ في هذا الطّين مِنْ روحِهِ ليغرز فيه بذرة الإنسان وليثمر نورًا وبصيرة وَلِيَجِدَ طَريقَهُ واضحًا جليًا نحو مراتب القرب الإلهي. خَلَقهُ لا أن يتمتّع ويأكل كما تأكل الأنعام، بل أن يكون مرآة لأسماء الله وصفاته؛ أنْ يكونَ له قلبٌ سليم لا يسكنه إلا الله تعالى، قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾.

ولأجل أنْ يَعملَ العامِلون وَيَفيقَ النائمون، شاء الله تعالى أن يبعث الأنبياء والمرسلين، وينزل الكتب السماوية، ويجعل للبشريّة شريعة ومنهجًا توقظ فيهم نور الوعي الإنساني؛ أنزل القرآن ليرتوي منه العطاشى، وجعل الأنبياء والأوصياء أبوابًا يلجأ إليها المتحيرون ويطرقها القاصدون.

ولأجل أن تطوى مراتب التكامل الإيماني وَيَصِلَ المؤمنُ إلى مقامات القرب وَيَستشعر الذوبان في المبدأ الأول، وَيَعيش نَعيم فيوضات الحضور الأزلي بالمستوى الذي يذوب فيه حتى كأنه لا يرى في الوجود شيئًا سوى الله تعالى، عَلَيه أولًا أن يطوي مراتب التكامل الإنساني، لكي يُبيض صفحة القلب ويُطهّر النّفس من كل دَرَن، فما القلب إلا ذلك الاحساس الذي تحرّكه وتقوده إنسانيّة الإنسان.

والجنّة التي أعدّها الله تعالى لا تفتح أبوابها إلا لمن بلغ أعلى مقامات التكامل الإنساني، فالإنسانُ وحدَهُ مَنْ لَدَيه القُدرة على استشعار الألم، وهنا لا أقصد بالألم العضوي، فذلك ما تستشعره البهائم كذلك، وإنّما أَلَم الفَقْد الإلهي؛ حينما يكون قد خرج عن جادّة الحق.

إنَّ الرسالات السماويّة جاءت للتزكية والتطهير من الرّواسب الحيوانية، وأنَّ الإنسانَ لا يكون إنسانًا حتى يَطْمِسَ النَّفس عن علائق الأنا، وَيَرفَعَ الحُجُب عن عَين القلب، وَيَفتح بَصائر الصدق، ويسّير على صراط السلام، ويُحلّق بجناحي العفو والإيثار.

لا يكون الإنسانُ إنسانًا، حتى يرفع شعلة الحُب، ويكون مَظْهَرًا لأسماءِ اللهِ ومُزهِرًا لصفاته؛ فمن أحبّ عن وعي وصدق فقد عَرَف، ومن عَرَف بَلَغ، ومن بَلَغ صدَّق ومن صدَّق عَمِلَ بمعرفة واخلاص، وَمَن عَمَل نَجا.

هكذا هو الدين، إنَّه الحبّ، فَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فِي حَدِيثٍ لَهُ قَالَ: يَا زِيَادُ وَيْحَكَ وهَلِ اَلدِّينُ إِلاَّ اَلْحُبُّ؟ أَ لاَ تَرَى إِلَى قَوْلِ اَللَّهِ: «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّٰهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ»  أَ ولاَ تَرَوْنَ قَوْلَ اَللَّهِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ «حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمٰانَ وزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ»  وقَالَ: يُحِبُّونَ مَنْ هٰاجَرَ إِلَيْهِمْ  وقَالَ: اَلدِّينُ هُوَ اَلْحُبُّ، واَلْحُبُّ هُوَ اَلدِّينُ.

إنَّ الأوامر السماوية لا تدعوك لأن تُشهر سيفك لتنتصر على عدوّك إلا بعد أن تطوي مشوار انتصارك على نفسك الأمارة. فجهاد النَفس هو المسير الأطول، والصراع الأعظم الذي لا يتوقف حتى يوقظ فيك شعلة الحبّ. فالحبّ ليس انفعالاً عابرًا أو نزوة سرعان ما تخبو، بل مقامٌ روحيّ، يبدأ ولا ينتهي.

إنَّ الحبَّ عندما يضرب أطنابه ويخيّم على النّفس يعيد هيكلة الإنسان من الأساس، ليكون حينها مظهرًا لأسم الله "الودود"، فلا يرى الغضب إلا ضعف والكره والبغض إلا صفات مَرَضيّة تحتاج إلى علاج، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا﴾.

إنَّ مَنْ لَبِسَ رِداء الحُبّ صار طبيبًا لا حاكمًا، يُحزنه ويبكيه أن يرى عدوه في ضلال، يشهر سيفه في وجهه. أهلُ الحُبّ قَد ذاقوا طَعْمَ الجنان وَعاشوا نعيمها قبل أن يموتوا.

بالحُبّ والسلام يَبلُغُ المؤمنُ أعلى المَراتب الإنسانية فَيَكون حينها مُستحقًا لَقَب الإنسان، فَلا تَليق بالإنسانِ إلّا الجِنان، فَقَد طَوَى المَراتب، وَتَسَلّق في سلّم التكامل، وَعَرَج من الطين نحو الأنوار الأحديّة.

***

بقلم: د. أكرم جلال

أفرز الذكاء الاصطناعي التوليدي الكثير من البرامج والتطبيقات، التي أتاحت للمستخدمين ترويج أنواع الخدع والأكاذيب عبر الصور والفيديوهات والأصوات المركبة، التي تهدف إلى الإساءة والمساس بخصوصيات وسمعة الناس العاديين، أو المشاهير، لأهداف متنوعة شخصية، أو اجتماعية، أو سياسية. وتزداد مثل هذه الاستخدامات عادة أثناء احتدام النزاعات والمجادلات والمنافسات الانتخابية، مما يستوجب التيقظ والانتباه والحذر الشديد في تداولها وترويحها على نطاق واسع. وإذا كانت بعض التقنيات الخادعة يتم كشفها بسهولة لدى عامة الناس من دون عناء لسذاجتها ولا منطقيتها وضعف فبركتها، إلا أن الخطورة تكمن في تلك الأعمال بالغة الدقة، التي تطلق عليها تسمية التزييف العميق Deep fakes التي تظهر الخدع وكأنها حقيقة لا شك فيها، سواء كانت على شكل فيديوهات أو أصوات، يتم فيها استبدال وجوه الأشخاص أو تعبيراتهم بوجوه وتعبيرات أخرى، أو حتى تقليد أصوات لأشخاص ينطقون بكلمات أو أحاديث أو تصريحات لم ينطقوا بها أبداً، ما تشكِّل تحدياً يمكن أن يؤدي إلى عواقب خطيرة على الصعيد الشخصي والمجتمعي.

قد يرى البعض أن الحد من استخدام تقنيات التزييف العميق، أو مراقبتها، وربما حجبها إن اقتضى الأمر، يمكن أن يمس بحرية التعبير، أو يحدُ من الحريات الشخصية في استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتقنياته المتاحة أمام الجميع، غير أن دولة تُحسب في مقدمة الدول التي تتبنى مفاهيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان مثل الولايات المتحدة الأميركية، لجأت إلى سن قانون اتحادي يُجرم نشر الصور الإباحية والحميمية، على الانترنت دون موافقة أصحابها، بما في ذلك الصور وغيرها، التي يتم انشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي عبر تقنية التزييف العميق. بل إن القانون الذي وقعه الرئيس الاميركي مؤخراً يلزم منصات التواصل الاجتماعي بإزالة تلك الصور في غضون 48 ساعة عند طلب الضحايا.

***

د. طه جزّاع – كاتب وأكاديمي

 

ضمن رصدِ خصائص المثقّفين، كنّا قد أوردنا في مؤلَّف سابق "العقل الإسلامي.. عوائق التحرّر وتحدّيات الانبعاث" (2011) أصنافا ثلاثة من "المثقّفين" حاضرة بوفرة في قطاع الثقافة العربية أطلقنا عليها نعوت: النّائم، والسّائم، والهائم. نستعيد توصيفاتها وملامحها بإيجاز في هذا المقال لصلتها بحديثنا عن الفكر المستقيل. يُعتبَر الصّنف النّائم الأعلى نسبة بين الأصناف الثلاثة. فقد كانت المؤسّسات التّربوية والتعليمية الناشئة مع بداية الاستقلال، في حاجّة ماسّة إلى كوادر محلّية مما حثَّ على دمج عناصر واهِنة، يشحذ السواد الأعظم منها وَهْمُ التغيير الحالم، فتحوّلت وظيفة التعليم معهم إلى حرفة ميكانيكية. والصّنف الثاني، وهو صنف المثقّف السائم، فقد انعكس الواقع السياسي الاجتماعي المأزوم على ذهنية كثيرين سلبًا، الأمر الذي خلص على إثره المثقّف إلى أنّ دوره في إصلاح تلك البنية الاجتماعية الثقافية متعذّر ومنعدم. وأمّا الصّنف الثّالث، وهو الهائم: إذ جرّاء التشتّت الهائل الذي لحق الشريحة المثقّفة، وقعت فئة من بينهم رهينةَ العبث واللاّيقين، مما حوّل منتهى إدراكها إلى انسداد تاريخي، تجلّى في ترديد مقولات موت الفلسفة، وموت الشعر، ونهاية الكاتب، ونهاية التاريخ، وغيرها من القوالب البائسة. وتقبّلها العقل المنفعِل وحاكاها، محدِّثا النفس بالانخراط في حركة الفكر العالمية، والحقيقة أنه لم ينخرط سوى باستهلاك موبقاتها.

فمع الفكر المستقيل يغدو تغييب التفكير تقليدا جاريا العمل به، وإن خلّف ضررًا فادحًا بتحوّل مروياته، وحكاياته، وأخباره، وأمثاله، إلى ما هو مألوف ومعتاد بين الناس. ولا يتوقّف تعطيل التفكير عند حدود الأفراد، بل يمتدّ ليشمل جموعا واسعة تجد أريحية في استحضاره والحفاظ عليه. يتأمّل المرء فئات متعلّمة لدينا، في مجالات الطبّ والهندسة والتقنيات، مَثَّل التفكير العلمي، والاختبار التجريبي، والتمحيص العقلي، ديدنَ انشغالاتها، غير أن تلك الفئات المهمّة في مجتمعاتنا بمجرّد عودتها إلى مهدها الأوّل، نقصد حاضنة المجتمع، إلّا وتتخلّى عن ذلك الطابع المعرفي الذي حصّلته طيلة مشوارها التعليمي وتكوينها الدراسي. لذلك لا تفرّق في كثير من الأحيان بين المتعلّم وغير المتعلّم، وبين الدارس والأمّي، في النهل من معين الخرافة والأسطورة والركون سويا إلى اللامعقول واللامنطق. فهل هي سطوة التفكير الخرافي التي تثقل الوعي الجمعي وتحُول دون إرساء رؤية سويّة أم هو الانفصام في الشخصية الذي نعاني منه وآثاره الفاعلة والعميقة؟

ولكن لنشرّح الظاهرة ونتمعّن في أبعادها: ما الذي تعنيه استقالة التفكير؟ قد تكون الاستقالة في جوهرها إقالة، يجري بمقتضاها إفقاد المرء قدرات التفكير، من خلال سلبه أدوات النقد والتحليل والتركيب والاستنباط والاستنتاج، وكلّها مدارج لبلوغ مراقي التمكين الذهني. إذ نلاحظ في كثير من البرامج التعليمية المعتمَدة في المستويات الجامعية وما قبل الجامعية، غياب المنزع العملي وفقدان روح التجديد وضمور المراجَعات، وهو ما يحوّل مؤسّساتنا التعليمية والتكوينية إلى مراكز تأهيل للبطالة بدل أن تكون منصّات انطلاق حقيقية نحو الإبداع والابتكار. فعملية سلب العقل مقدراته تشبه عملية الإخصاء في علم الأحياء وما تخلّفه من انحباس.

وضمن السياقين التعليمي والمعرفي تغدو الاستقالة الذهنية حفاظا على السائد وموالاة للثبات، والأدهى أنّ الاستقالة لا تقف عند حدود الجمود النظري، بل تؤثّر في عناصر مادية يُفترَض أن تشهد تحوّلا بفعل التقادم. ولا تعني استقالة التفكير سلبية الحضور الذهني وتواري الفاعلية فحسب، ولكن تلك الاستقالة غالبا ما تفسح المجال إلى بديل غرائزي أو سحري أو أسطوري يقوم مقام التفكير العقلي، لتغدو عملية الاستقالة استعاضة ببديل سلبي.

ولكن استقالة التفكير تظلّ بالأساس حالة من القناعة النفسية الذهنية، أساسها الاستمراء لما هو جمعي في تفسير الظواهر والوقائع وإن تَبيّن بطلانها. وبالتالي هي انسجام مع مخزون أفيوني، شبه مخدِّر، يستمدّ المرء منه أقواله وأحكامه ويقينياته، ويجد يسرًا في استحضاره، بفعل شيوعه بين أطياف واسعة من الناس. وهذه المعادلة تحكم العديد كلّما جرى التطرّق إلى مواضيع في الدين والدنيا، وبشأن الممات والحياة، وبشأن الشرق والغرب، وبشأن الأنا والآخر، وغيرها من الثنائيات. ومن ثَمَّ يتساءل الناظر أين يتوارى المخزون المعرفي بأشكاله المتنوّعة، العلمية والعقلية والمنطقية الذي يتلقّاه المرء طيلة فترة تكوينه؟ ولِمَ لا يحافظ على حضوره ويشهد تطوّرات في مراحل لاحقة يُفتَرض فيها أنّ المرء قد بات مقتدرًا بمفرده على إنمائه وقد تربّت فيه ثقافة الانفتاح وتقاليد المراجَعة؟ ينبغي أن نقرّ أنّ انفصاما عميقا يجثم على مجتمعاتنا، جرّاء غياب إيتيقا المعرفة. ذلك أنّ نظرتنا هي نظرة ظرفية ومباشرة للأشياء دون تنزيلها ضمن إطارها الصائب مما يولّد ثنائية مقيتة لدينا. إذ لا معنى للعلوم والمعارف والفلسفة والمنطق، التي هي بالنهاية وسائل، ما لم تربّ في المرء نشدان التحرّر. ولكن أن تتحوّل تلك المعارف/ الوسائل، التي هي بالحقيقة قدرات، إلى أدوات للتبرير وليّ عنق الحقائق، فإنّنا حينها نغرق في ثقافة مغشوشة تحتاج إلى عملية ترميم هائلة.

وكما يلوح بيّنا، تجد استقالة التفكير دعائمها في خمول النظر ووهن المدارك. ليس بالمعنى الذي يتحدّث عنه المفكران الإيطاليان جانّي فاتّيمو وبيار آلدو روفاتي عن "الفكر الضعيف" في مقابل "الفكر العتيد". لعمري ذلك سياق آخر تناولا فيه انغلاق الفلسفة داخل براديغمات محدّدة، وركونها إلى استعادة المقولات الكلاسيكية واستحضارها في زمن ما بعد حداثي. وقد كان فاتّيمو وروفاتي يصفان تحولا أخلاقيا عكسيا من "الفكر العتيد" إلى "الفكر الضعيف"، أي من الفكر الكلاسيكي إلى الفكر المابعد حداثي.

ولعلّ الإشكال الأبرز لدينا أن يتّخذ الفكر المستقيل من حصن المقدّس والعرف والمألوف هيكلا وملجأ، ولذلك كلّما توجّهت سهام النقد إليه لاذ واحتمى بما هو أثير لدى شقّ واسع من الناس. ولذا وجب فرز ما هو أصيل عمّا هو دخيل، وما هو جوهري عمّا هو عرضي، وهنا مهمّة الفلسفة، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والفكر النقدي، أي العلوم الإنسانية والاجتماعية عامة، لإعادة تصحيح المقولات وبيان الفروقات بين الحقول. إذ عادة ما نلحظ استحواذ الفكر المستقيل على المقولات الأثيرة في المخيال الجمعي وتوظيفها لتبرير مسلكه وإقرار منطقه. والحال أنّ خمول الفكر وغياب النقد مولّدان للشرّ، كما تذهب إلى ذلك المفكّرة حنة أرندت.

إذ كما نلاحظ تجتاح حياتنا عوائد جديدة: في متابعة الأخبار، وفي مواكبة الأحداث، وفي استمداد المعلومة، تحثّ على الخمول الذهني والكسل المعرفي. ووفرة ورود الأشياء على الذهن من العالم الافتراضي، وعبر مختلف الوسائط، ليست حافزا للتأمّل والتروّي في ما يجري، بل مدعاة لنسيان ما يجري ومحو اللاحق السابق من حيز التفكّر والتذكّر. ولإن يمتاز الزمن الحالي بتدفّق المعلومة وقربها ويسر الوصول إليها، فإنّه زمن الاستقالة الذهنية الموسَّعة أيضا. والإشكال في ما نعانيه، ليس في وفرة المعلومة، بل في غياب بيداغوجيا التعامل مع المعلومة. إذ كثيرا ما يرد على مسامعنا: سمعت اليوم كذا، ورأيت اليوم كذا، وتابعت اليوم كذا، ولكن يندر أن نسمع حديثا رصينا عن تمحيص ما يُسمَع ويُرى ويُتابَع. وبالتالي نحن أمام حاجة إلى تربية جديدة للتعامل مع هذا الفيض الجارف من الأخبار والمعلومات والمشاهد كي لا يتحول المرء إلى آلة فاقدة للأنسة، ولا نقول فاقدة للذكاء، وقد شُحنت الآلات أيضا بذكاء اصطناعي بعد أن كانت خاوية.

***

د. عزالدّين عناية

سعدت بلقاء المفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي في بغداد. الجلوس معه يمنحك زخماً لفهم الواقع من دون قيود الماضي التي تكبلك وتمنعك من الانطلاق إلى المستقبل. الرفاعي كان متخصصاً في الزراعة، ثم التحق بالحوزة العلمية في النجف، حيث بلغ مراحل عليا في الدراسة الدينية، قبل أن ينتقل إلى حوزة قم، وأكمل دراسته لعلوم الدين حتى بلوغه مرحلة الاجتهاد. إلى جانب ذلك، حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية، وقدم مؤلفات وبحوثاً رصينة، أصبحت مادة لعشرات من أطروحات الدكتوراه ورسائل الماجستير في جامعات عربية وأجنبية.

يمتاز الرفاعي بتواضعه، رغم عمق فكره، وبمواصلته للبحث العلمي رغم ضغوط الحياة. كما يتميز بجرأته في تقديم أطروحات جديدة في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. لا يكتفي بالنقد، بل يطرح بدائل واضحة ومؤسسة. فعندما ينتقد علم الكلام الموروث، يقدم مشروع "علم الكلام الجديد"، وحين ينتقد المناهج القديمة لقراءة النصوص الدينية يقدم رؤية بديلة لتفسيرها، وحين ينتقد التقديس المفرط المانع للتفكير، يتخذ المنهج الأكاديمي، ويقدم بحوثاً موثقة تمكن القارئ من تتبع مصادرها وفهم آليات تفكيرها ومساءلتها. الأفكار الحية هي التي تقبل التخطئة، بينما الأفكار المكبلة تنتهي إلى التقديس غير القابل للنقاش. فكر الرفاعي يجمع بين العمق الأكاديمي والاستيعاب للتراث والجرأة النقدية، مع تركيزه على إعادة تعريف الدين كقوة إيجابية تعزز الإنسانية والكرامة والحرية والمساواة. وقد تميزت أطروحاته بتجديد رؤيتنا للدين وتفكيك الخطابات المغلقة. يرى الرفاعي أن علم الكلام التقليدي بات عاجزاً عن مواكبة تحولات العصر، واحتياجات المسلم الروحية والأخلاقية والجمالية، ولذلك يدعو إلى "علم كلام جديد" يتفاعل مع الفلسفة الحديثة والعلوم الإنسانية، ويعيد قراءة النصوص الدينية برؤية إنسانية، تستلهم معطيات الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع.

يشدد الرفاعي على ضرورة الفصل بين الدين ونظم وإدارة الدولة، معتبراً أن الخلط بينهما يشوه روح الدين الأصيلة، ويحول الدين إلى أداة للصراع، ويفسد الدين والدولة. الدين، في نظره، ليس مجرد عقيدة أو طقوس، بل حاجة وجودية عميقة، مرتبطة ببحث الإنسان عن المعنى والخلاص الروحي. ويحذر من تحول الدين إلى أيديولوجيا مغلقة تصادر العقل وتقمع حرية التفكير، ويدعو إلى فهمه بوصفه منظومة من القيم الروحية والأخلاقية والجمالية. ينتقد الرفاعي بشدة الهويات المغلقة، الدينية والعقائدية والطائفية والعنصرية، التي ترفض الحوار وتكرس العنف والتطرف، ويدعو إلى هويات منفتحة قائمة على "الصيرورة والتشكل المتواصل للهوية"، بدلاً من الجمود والانغلاق. ويؤكد على أن "أوهام الهوية والخصوصية" عطلت المجتمعات الإسلامية عن مواكبة العصر. كما يؤكد على ضرورة إعادة قراءة التراث الديني بمناهج نقدية، تحفظ جوهره الروحي والأخلاقي والجمالي، وينتقد القراءات الحرفية للنصوص التي تفضي إلى "لاهوت قشري" يفتقر إلى العمق. ويرى أن القيمة المركزية في الدين هي المحبة والرحمة وحماية الكرامة والحرية، ويندد بالخطابات الدينية التي تروج للعنف والتعصب، داعياً إلى تدين يعزز التعايش والسلم الاجتماعي.

***

د. منصور الجمري

كاتب من البحرين، رئيس التحرير السابق لصحيفة الوسط الصادرة في البحرين لمدة 14 سنة.

اطَّلعتُ هذه الأيام على مقالة للأديبة العراقية المعروفة لطفية الدليمي، تقترح خطاً مختلفاً للنقاش الدائر حول الذكاء الاصطناعي، وما ينطوي عليه من فرص وتحديات. والمقال بذاته يكشف عن الشعور العام بالقلق تجاه هذا الوافد الجديد، القلق الذي ينتاب مفكرين كثيرين جداً في شرق العالم وغربه، بمن فيهم أولئك الذين ساهموا أو يساهمون فعلياً في تطوير منصات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته.

هذا القلق هو الذي دفع مفكرين بارزين مثل هنري كيسنجر ونعوم تشومسكي إلى مناقشة الموضوع، رغم أنهم تجاوزوا -لو اعتمدنا منطق العمل- سن التقاعد، وما عاد مطلوباً منهم الاهتمام بغير صحتهم الشخصية.

في يونيو (حزيران) 2023 نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» مقالاً عنوانه «التهديد الحقيقي الذي يمثله الذكاء ‏‏الاصطناعي» بقلم إفغيني موروزوف، وهو باحث تخصص في دراسة الانعكاسات السياسية والاجتماعية ‏‏للتقنية. أثار المقال اهتماماً واسعاً، وغذَّى جدلاً محتدماً بالفعل، بين الباحثين وزعماء المجتمع المدني، حول التأثير المتوقع ‏‏لتطبيقات الذكاء الاصطناعي على نظم المعيشة. قبل ذلك بنصف عام، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، كانت منصة «‏‏ChatGPT-4‏» الشهيرة قد أُتيحت لعامة الناس. ونعلم أن كل اختراع جديد، يتاح ‏‏للجمهور، فإنه سوف يتطور خلال فترة وجيزة إلى نسخ أكثر قوة وعمقاً. لدى الجمهور العام قدرة غريبة على تجاوز العقبات التي تواجه المتخصصين والمحترفين. هذا أمر يعرفه الباحثون تماماً.

‏‏القدرات الفائقة التي كشفت عنها تلك المنصة، وجَّهت الانتباه إلى النهايات التي يمكن أن تبلغها ‏الأنظمة الذكية، خلال سنوات قليلة. حتى إن بعضهم حذَّرنا من واقع شبيه لما شاهدناه في فيلم «المصفوفة»، (ماتريكس)، الذي يعرض وضعاً افتراضياً عن نضج كامل للأنظمة ‏‏الذكية، بلغ حد استعباد البشر وتحويلهم إلى بطاريات تمدها بالطاقة.‏

وذكَّرنا موروزوف بأن المخاطر التي يجري الحديث عنها، ليست توهمات ولا مخاوف تنتاب عجائز خائفين من التغيير، ففي مايو (أيار) من نفس العام 2023 صدر بيان وقَّعه 300 من كبار الباحثين ومديري الشركات العاملة في مجال التقنية، ينبّه إلى المخاطر الوجودية التي ربما تنجم عن التوسع المنفلت في تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

بالعودة إلى ما بدأنا به، فقد اقترحت الأستاذة لطفية مقاربةً تركِّز على العلاقة بين الكفاية المعيشية والميول السلمية عند البشر. لتوضيح الفكرة، دعْنا نبدأ بالسؤال الآتي: هل نتوقع أن يساعد الذكاء الاصطناعي على ازدهار الاقتصاد ومصادر المعيشة أم العكس؟ غالبية الناس سيأخذون الجانب الإيجابي، ويستذكرون النمو الهائل للاقتصاد، بعد تطور نظم المعلومات والاتصالات الإلكترونية، رغم ما رافقها من مخاوف بشأن خسارة الناس وظائفهم. نعلم اليوم أن سرعة التواصل بين الناس هي سر الازدهار والتوسع. الازدهار يوفر فرص عمل جديدة وموارد غير معروفة، ويعزز رغبة البشر في التفاهم والتعاون، الأمر الذي يقلل من النزاعات والحروب.

هذا هو الوجه الإيجابي الذي تقترح الأستاذة الدليمي الانطلاق منه في مناقشة الموضوع. هذا يُحيلنا -بطبيعة الحال- إلى سؤال ضروري: ما دام الناس جميعاً عارفين بما سيأتي مع الذكاء الاصطناعي من ازدهار، فلماذا نراهم أكثر قلقاً؟

اعتقادي الشخصي أن السبب الوحيد للقلق هو معرفة الجميع أن السرعة الفائقة للأنظمة الجديدة لا تسمح لهم بالسيطرة على أفعالها، سواء كانت مقصودة أم كانت بالخطأ. في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي صدمت سيارة ذاتية القيادة شخصاً فمات، مع أنها مصمَّمة كي لا تفعل ذلك. هذا خطأ بالتأكيد. لكن مَن يستطيع استدراك الخطأ قبل أن يُفضي إلى كارثة؟

يشير الباحثون إلى عاملَين يجعلان الاحتمالات السلبية أكثر إثارةً للقلق، أولهما هو التغذية - البرمجة المنحازة، التي لا يمكن تلافيها على أي حال، والآخر هو عجز الآلة الذكية عن التعامل مع الفروق الفردية، التي نعدها أساسية في التعامل مع البشر المتنوعين.

لكن هذا موضوع يحتاج إلى حديث مبسوط، آمل أن نعود إليه في وقت لاحق.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

كثيرا ما يطرح سؤال الخوف، كرابط اجتماعي عاطفي، في حدود التجربة الإنسانية، أو القلق الكينوني؟

ولم يكن مستساغا أن تُبكَّر ثقافة الخوف، من منظور أخلاقيات الإعلام، كنتاج لتداعيات الشعور بالهزيمة النفسية، أو الاهتزاز السلوكي الطبيعي. لكن القيمة الحقيقية لهذا الشعور المتوتر والبدهي، خصوصا في حقل خطير كالإعلام، يعي القيمة الحقيقية لاستقبال المعلومات (المعرفة)، وتأثيراتها في المجتمع والقيمة، سيكون لها نصَب وفير من اللامعنى، مقابل ما تفرزه الوضعيات السلوكية للأفراد والجماعات من تعذيب وتنافر عقلي، فيما يسميه إيكتيتوس ب"الاستجابة لبكاء الروح" أو "محاولة لفهم أنفسنا وتحريرها من قبضة مخاوفنا وأحزاننا".

ومكمن الخوف من/ في الإعلام، ليس في ذاته بالضبط، بل في فهمنا لطبيعة وجوده وقدرته على تشكيل الحواجز والخلفيات التي تؤطر تخيلاتنا السلبية تجاه قضايانا المصيرية. إذ غالبا ما تنكفئ فكرة قراءة الواقع انطلاقا من معابر ترديدات الاعلام وآلياته المتحولة، مع ما يحمله الآن من توجسات واحتدادات في قدرته على التأثير في الوعي الاجتماعي والثقافي، ما يجعل من "فعل التجارب" منزلة أشد قسوة من خوف التجارب عينها.

وكما أن للقيمة المعرفية في نسق الاعلام، أبنية ومبادئ تقوم عليها، فإن أوعية هذا النسق تظل قريبة من ترصدات السلطة وعيونها السارحة المفتوحة، توفر هامش التمدد والانصراف إلى مواجهة الأعباء المعيشية، بغير قليل من التبصر والمكابدة واستنفار الظروف والتحرر من وهم الانهيار المفاجئ.

على أن انتصار الخوف بإزاء طفرة الإعلام، لا يمكن أن يمنحنا شجاعة كافية لتبديد نظرتنا المدركة لحجم التقائية الرغبة في الاكتشاف أو التعلق المطبع مع العوالم اللايقينية، أو حتى التعايش مع عشوائيتها العذبة. فالخوف من صناعة الاشكال النافرة من داخل الاعلام الجديد، في شكله المبتوت في "البروبجندا" و"تحريف الأخبار" و"نشر التفاهة".. إلخ، هو تأكيد فلسفي لمتاهة "الذعر اللاأخلاقي" وتكريس قيمة التخلص من "القدوة" و"التعلم من دروس الحياة". يقول سينيكا :"ما يجعل الأمور تبدو مخيفة عما هي في الحقيقة، هي أنها غير مألوفة بالنسبة لنا، ولعل التأمل المتواصل، سيضمن لك إذا أصبح عادة لديك، أنه لا تجدك الصعاب حديث عهد بها".

إن المنظورات القابعة في وثن الإعلام اليوم، هي في حدها المجازي تنطق أحولا ومفارقات وتناقضات جمة، ما يعني أن تتحول المنظومة من علامة مجتمعية ذات عمق ثقافي هوياتي رمزي، إلى مفرزة مشرعة لحاجات الرأي العام، الذي لا يخصص وجهته، وسط تزايد نفوذ السلط الاجتماعية في وسائل التواصل السريعة، إلى ما يشبه الحفر العالقة في مستنقعات القوى النافذة والباطشة، والتي وصفها دافيد ديسلير ب"المكنسة التي تعيق أرضية الانطلاق"، في إشارة إلى استحواذها على القواعد المؤسسة لوجودها الحتمي، حابلها ونابلها، فتفرز بكشطها المعولم كل الدوافع والارتهانات التي تقوم عليها سلطتها، بما في ذلك مظاهر التحشيد واللعب على الحبال.

إن الخوف من/ في الإعلام، هو إذن نبت مختلط من القلق والغضب. القلق الذي هو حق في دورة حركة التفكير. والغضب الذي هو انفعال قد لا يعدل حجم اعتقادنا بما هو أفضل. أما ما يصير في حكم تقديم الاعلام، كفزاعة لتفكيك المجتمع أو التأثير على قيمه وأنماطه السلوكية والثقافية والاجتماعية، فأمر يخالف الوظيفة أو الرسالة التي وضع لأجلها. إذ إن قيمة الإعلام تكمن في نهضته بالإنسان، كرافعة لبث المعرفة، وتحويلها إلى إيتيقا، تعمل على تجسير الرؤى وامتلاك الجرأة والشجاعة لقول الحقيقة، وتأويل الشكوك إلى أرضيات نقاش وتبصر وتمحيص وبحث مستميت عن المعنى. كل ذلك، يكون وفق حركات متنوعة ونوعية، تكبح الاختراقات المتكالبة الفجة، وتضمن اكتساب الصلابة والنجاعة الأخلاقية، دون اضطراب أو غموض.

إنها حالة تدعونا إلى إزاحة التباس "تمجيد الخوف" وتطويع أسلوب نظرتنا تجاه إعلام لا يحمل في رصيده الاعتباري، أي قبح أو صراخ مبيت؟.

***

د. مصطفى غَلــــمَــان

الثقافة الرثة: الثقافة الرثة، تشير إلى التدهور في القيم والمعايير الثقافية نتيجة العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. تعكس الثقافة الرثة فقدان الهوية والترابط الاجتماعي، وغالبًا ما تكون مصحوبة بانتشار العنف والفساد، السرديات التاريخية يمكن أن تُستخدم كمرجعية لفهم الثقافة الرثة، حيث تحكي القصص عن الأحداث التي أدت إلى تدهور القيم الثقافية. من خلال تحليل هذه السرديات، يمكن فهم الأسباب الجذرية للتغيرات الثقافية والاجتماعية.

السرديات التاريخية وانتاج ثقافة رثة

السرديات التاريخية قد تُستخدم لتبرير أعمال العنف أو الاستغلال، مما يؤدي إلى تشويه الحقائق وتعزيز الانقسامات، السرديات التي تركز على الفروق العرقية أو الثقافية تُعزز التمييز، مما يؤدي إلى فقدان الهوية المشتركة والترابط الاجتماعي، سرديات الحروب والأزمات تعيد إحياء الذكريات المؤلمة، مما يخلق شعورًا مستمرًا باليأس والإحباط الاجتماعي، تركيز بعض السرديات على الفشل والفساد يؤدي إلى فقدان الأمل في التغيير، مما يعزز من الثقافة الرثة خصوصا إذا كانت تُدرّس بشكل مُحَرَّف أو مُبَسَّط، فإنها تساهم في تشكيل ثقافة سلبية، وتؤثر على القيم والمبادئ في الأجيال الجديدة، بعض السرديات تُستخدم كأداة لتحقيق مكاسب سياسية، مما يعزز الانقسامات بدلاً من تعزيز الوحدة، تتداخل هذه العوامل لتخلق بيئة ثقافية رثة، حيث يصبح من الصعب استعادة القيم الإنسانية الأساسية والترابط الاجتماعي كون السرديات التاريخية تتشكل من خلال تجارب المجتمعات وتاريخها وهي تعكس الرؤى والمعتقدات التي تتبناها، مما يساهم في تشكيل الثقافة، الأحداث التاريخية مثل الحروب والأزمات، تُنتج سرديات تعبّر عن المعاناة والظلم، تلك السرديات تشكل الذاكرة الجماعية، مما يؤثر على القيم والسلوكيات الثقافية، السرديات التي تركز على الانقسامات، مثل العنصرية أو الطائفية تعيد إنتاج ثقافة رثة، حيث تصبح هذه القيم جزءًا من الهوية الثقافية من خلال سرد الأحداث بشكل منحاز، التركيز على المعاناة يمكن أن يؤدي إلى إحباط وفقدان الأمل، السرديات التاريخية تلعب دورًا في بناء الهوية الجماعية، عندما تركز على الصراعات والتجارب السلبية، فإنها تؤدي إلى تعزيز مشاعر العزلة والانقسام، تظهر هذه العلاقة العضوية أن السرديات ليست مجرد روايات، بل هي أدوات قوية تُشكل الثقافة وتؤثر على القيم المجتمعية، مما قد يؤدي إلى إنتاج ثقافة رثة.

بنية النص في السرديات التاريخية

بنية النص في السرديات التاريخية تلعب دورًا مهمًا في تأمين ديمومتها الثقافية، اذ يتم اختيار أحداث معينة تُروى بشكل يبرز المعاناة أو الظلم، مما يعزز مشاعر الإحباط والانقسام، استخدام لغة خطابية شعبوية تعبر عن الكراهية أو التمييز يمكن أن يُعزز من شعور الانقسام، ويجعل الثقافة الرثة جزءًا لا يتجزأ من الهوية، سرد الأحداث بشكل يُركز على الماضي الأليم دون تقديم أمل مستقبلي يُعزز من مشاعر العجز وغياب الأفق، تقديم شخصيات تمثل الضحايا كجلادين بطريقة يمكن ان تعزز الثقافة الرثة، و تعزز الانقسامات و الجراح في الذاكرة الجمعيّة، تكرار السرديات السلبية عبر الأجيال يُسهم في ديمومة الثقافة الرثة، حيث تصبح هذه السرديات جزءًا من التعليم والتنشئة. ت بنية النص في السرديات التاريخية تظهر كيف يمكن استخدامها كأداة لضمان ديمومة ثقافة رثة، من خلال تعزيز الانقسامات وإعادة إنتاج القيم السلبية في المجتمعات.

التعاضد الرأسمالي والسرديات التاريخية

الرأسمالية تساهم في تركيز الثروة والسلطة في يد قلة، مما يعزز سرديات تبرر الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، تساهم الشركات في تشكيل سرديات ثقافية تروج لقيم الاستهلاك والنجاح الفردي، مما يؤدي إلى ثقافة سطحية ومادية كما ان التركيز على سرديات تاريخية تهمش التجارب الجماعية، مما يؤدي إلى فقدان الوعي بالعدالة الاجتماعية، تستخدم الرأسمالية الهويات الثقافية لتعزيز الاستهلاك، مما يساهم في تعزيز ثقافة رثة قائمة على التميز والتفاخر تتعاون الرأسمالية مع الأنظمة السياسية الهشة لتعزيز سرديات تدعم السياسات التي تنفع النخب، مما يعزز ثقافة التسلط والتهميش، تتداخل الرأسمالية والسرديات التاريخية الوهمية في إنتاج ثقافة رثة، مما يؤدي إلى أنظمة اجتماعية واقتصادية وسياسية تفتقر إلى العمق والقيم الإنسانية.

تحديد الثقافة الرثة

تحديد (الثقافة الرثة) يتطلب فهم مكوناتها والعوامل التي ساهمت في تشكيلها بدقة. الثقافة الرثة تشير إلى تدهور القيم الاجتماعية والأخلاقية، حيث تصبح القيم التقليدية مثل الاحترام والتعاون أقل أهمية، تتميز بثقافة استهلاكية تروج للاستهلاك المفرط، مما يؤدي إلى تآكل الروابط الاجتماعية والإنسانية، تعكس الثقافة الرثة فقدان الهوية الجماعية، حيث تتراجع التقاليد والممارسات الثقافية الأصلية كما تساهم في تعزيز الانقسامات بين الطبقات الاجتماعية، مما يؤدي إلى تفشي مشاعر الكراهية والتوتر وتساهم في تقليل المشاركة الفعالة في العمليات السياسية والاجتماعية، مما يعزز من حالة اللامبالاة، وتعتمد على سرديات تروج للظلم والفشل، مما يعزز الإحباط وفقدان الأمل يمكن تحديد (الثقافة الرثة) كظاهرة تعبر عن تدهور القيم الإنسانية والاجتماعية، مما يؤدي إلى مجتمع يفتقر إلى الترابط والعمق الثقافي.

الثقافة الرثة والفقر

الفقر يمكن أن يؤدي إلى تدهور القيم الأساسية مثل التعاون والتضامن، مما يعزز من ثقافة رثة، الفئات الفقيرة غالبًا ما تُهمش في المجتمع، مما يؤدي إلى فقدان الهوية والانتماء، وهو ما يساهم في تعزيز الثقافة الرثة، في بعض الحالات قد تلجأ المجتمعات الفقيرة إلى ثقافة استهلاكية سطحية كوسيلة للهروب من واقعها، مما يعزز من الثقافة الرثة، الفقر يؤثر سلبًا على الوصول إلى التعليم الجيد، مما يساهم في استمرار الثقافة الرثة، نقص التفكير النقدي يرتبط غالبًا بسرديات تاريخية تعزز الإحباط والفشل من خلال المعاناة الاقتصادية للفقراء، مما يعزز من حالة الثقافة الرثة، تظهر هذه العلاقة أن الفقر يمكن أن يكون عاملًا مساهمًا في إنتاج الثقافة الرثة، حيث تعزز ظروف الفقر من تدهور القيم الاجتماعية والانتماء والوصول الى الموارد.

العناصر السلبية في الثقافة الرثة

ان دراسة النصوص، الفنون، والعادات الثقافية بعناية، مع التركيز على الرسائل والقيم التي تحملها الثقافة الرثة يساهم في فهم السياق التاريخي الذي نشأت فيه هذه الثقافة، ان تحديد العوامل التي أثرت فيها من خلال إجراء حوارات مع أفراد المجتمع لفهم كيف يقيمون عناصر الثقافة الرثة، مما يسهم في إعادة تقييم الثقافة الرثة بشكل فعّال. تتضمن العناصر السلبية في الثقافة الرثة عدة جوانب تؤثر سلبًا على المجتمع والفرد. منها اتباع العادات والتقاليد دون فهم أو نقد، مما يؤدي إلى فقدان الهوية الثقافية ظهور أفكار مسبقة تدعم التمييز ضد فئات معينة، مما يُعزز من الانقسام الاجتماعي، ضعف القدرة على التفكير النقدي يؤدي إلى قبول المعلومات دون تمحيص، مما يضر بالوعي المجتمعي، التركيز على المظاهر المادية والمكانة الاجتماعية على حساب القيم الإنسانية والأخلاقية، عدم احترام الثقافات الأخرى أو الاستهزاء بها، مما يؤدي إلى عدم التفاهم وتعزيز النزاعات، عرض نماذج سلبية تعزز من السلوكيات غير المرغوب فيها، مثل العنف أو السلوك غير الأخلاقي وعدم تشجيع الابتكار والتفكير الجديد، مما يعيق التقدم والتطور الثقافي.

المثقف الفعال والمثاقفة

المثقف الفعال هو الشخص الذي يمتلك القدرة على التأثير في مجتمعه من خلال أفكاره ومبادئه. يتميز بقدرته على النقد والتفكير المستقل، مما يجعله قادراً على مواجهة التحديات الثقافية والاجتماعية، المتثاقف يشير إلى المثقف الذي يتبنى الثقافة الرثة، أي الثقافة التي تفتقر إلى العمق الفكري وتكون سطحية في معالجتها للقضايا. هذا النوع من المتثاقفين يميل إلى تبرير الأفكار السطحية أو التقليدية بدلاً من التحدي والنقد يقوم المتثاقف بتقديم مبررات للثقافة الرثة، مما يسهل قبولها في المجتمع. يستخدم أدوات الخطاب لتقديم هذه الثقافة على أنها مقبولة أو حتى ضرورية، يسهم في تشكيل وعي الأجيال الجديدة من خلال نقل أفكار ثقافية ضعيفة، مما يؤدي إلى تدني مستوى التفكير النقدي، يساهم في الحفاظ على الوضع الراهن من خلال تعزيز الأفكار التقليدية، مما يمنع التقدم والتغيير الإيجابي، إن دور المثقف الفعال في مواجهة الثقافة الرثة يتطلب التصدي من خلال الوعي والتفكير النقدي، مما يسهم في بناء مجتمع ثقافي متطور يعكس تنوع الأفكار ويعزز من الوعي الاجتماعي،

الثقافة الرثة في المجتمعات الشرق -اوسطية

تتمثل الثقافة الرثة في المجتمعات الشرق أوسطية من خلال انتشار الأساطير والخرافات التي لا تستند إلى حقائق علمية، مثل الاعتقادات في الجن، الحسد، أو الطقوس الشعبية، تمسك بعض الأفراد بأفكار تقليدية جامدة ترفض التغيير، مثل النظرة إلى دور المرأة في المجتمع أو القضايا الاجتماعية الأخرى، وجود برامج ترفيهية تركز على المحتوى السطحي، مثل برامج "التك توك" التي تروج للفضائح والشائعات بدلاً من القضايا الجادة، استخدام لغة عامية أو مصطلحات غير دقيقة تفتقر إلى العمق الفكري في النقاشات العامة، انتشار كتب ومؤلفات تفتقر إلى الإبداع والعمق، تروج لأفكار غير نقدية أو تشجع على الفكر المغلق، التقبل السريع للأفكار دون تمحيص أو نقد، مما يؤدي إلى تكرار الآراء السلبية أو التوجهات غير البناءة، تتطلب مواجهة الثقافة الرثة في المجتمعات الشرق اوسطية تعزيز التفكير النقدي والوعي الثقافي من خلال التعليم والنقاشات المفتوحة.

التحديات

تواجه المثقفين عدة تحديات في دورهم لمواجهة الثقافة الرثة، يواجه المثقفون ضغوطًا من الحكومات أو المؤسسات التي تفرض رقابة على الأفكار والمحتوى الثقافي، في بعض الأحيان تكون هناك قلة اهتمام من الجمهور بالقضايا الثقافية، مما يقلل من تأثير المثقفين تسيطر وسائل الإعلام الاجتماعية على المشهد الثقافي، مما يجعل من الصعب على المثقفين إيصال أفكارهم بفعالية، كما ان استعمال الرسميين الأسلوب الخطابي الذي تحمله الثقافة الرثة يساعد في ترسيخها لدى الجمهور العام.

***

غالب المسعودي

تعتبر فرضية الزمكان السوبر خلاّق أنَّ الزمكانات هي البُنَى الأساسية للكون. ولكن ما يوجد في الكون عبارة عن طاقة وكتلة. من هنا، القانون الفيزيائي ضمن فرضية الزمكان السوبر خلاّق هو التالي: الزمكان = الطاقة × الكتلة. هذا يعني أنَّ الزمكان يساوي الطاقة مضروبة رياضياً بالكتلة. لفرضية الزمكان السوبر خلاّق فضائل معرفية عديدة تشير إلى صدقها منها نجاحها في تفسير نشوء الجُسيمات الافتراضية وتَكوُّن الثقوب السوداء.

الكون هندسة الزمكان

بالنسبة إلى فرضية الزمكان السوبر خلاّق، الكون يتكوّن من بُنَى أساسية هي الزمكانات التي على ضوئها تتشكّل الجُسيمات ما دون الذرية والقوى الطبيعية. باختلاف هندسات الزمكان تولد جُسيمات ما دون ذرية مختلفة وقوى طبيعية متنوّعة. بكلامٍ آخر، الجُسيمات ما دون الذرية كالإلكترون والفوتون والقوى الطبيعية كقوة الجاذبية ليست سوى هندسات زمكانية مختلفة. مثل ذلك أنَّ الجاذبية ليست سوى انحناء الزمكان. هكذا تختزل فرضية الزمكان السوبر خلاّق القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية إلى هندسات زمكانية. على ضوء هذه الاعتبارات، الكون هندسات زمكانية.

إن كان الكون هندسة زمكانية وعلماً بأنَّ الزمكان مجرّد، فحينئذٍ الكون أيضاً مجرّد رغم تجلّيه المادي. من هنا، الكون مثالي مجرّد ومادي في آن مما يفسّر لماذا تنجح النظريات العلمية المثالية والمادية في تفسير الكون رغم الاختلاف فيما بينها كنجاح النظرية العلمية التي تفسِّر الكون على أنه معلومات مجرّدة ونجاح النظرية العلمية التي تفسِّر الكون على أنه يتكوّن من ذرات مادية. فالكون مجرّد بمجردية الزمكانات التي يتكوّن منها والكون مادي أيضاً من جراء أنَّ الاختلاف في هندسات الزمكان يؤدي إلى وجود قوى طبيعية وجُسيمات ما دون ذرية مادية كما تؤكِّد فرضية الزمكان السوبر خلاّق.

قدرة تفسيرية ناجحة

الزمكان جمع الزمان والمكان. والزمكان سوبر خلاّق لأنه أصل الجُسيمات ما دون الذرية والقوى الطبيعية. بكلامٍ آخر، الزمكانات سوبر خلاّقة لأنها فعّالة في إنتاج الجُسيمات ما دون الذرية والقوى الطبيعية. فحين تختلف هندسات الزمكان، تختلف بذلك الجُسيمات والقوى الطبيعية. وتمتلك فرضية الزمكان السوبر خلاّق قدرة تفسيرية ناجحة مما يدلّ على صدقها. فبما أنَّ القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية ليست سوى هندسات زمكانية مختلفة كما تؤكِّد فرضية الزمكان السوبر خلاّق، إذن من الطبيعي أن تكون الجاذبية ليست سوى انحناء الزمكان كما يقول أينشتاين. هكذا تنجح فرضية الزمكان السوبر خلاّق في تفسير لماذا الجاذبية ليست سوى هندسة زمكانية مفادها في نظرية أينشتاين العلمية أنها انحناء الزمكان. وعلى ضوء هذا النجاح تكتسب فرضية الزمكان السوبر خلاّق صدقها.

هندسات الزمكان والأكوان المختلفة

هندسة الوجود بهندسات رياضية مختلفة تؤدي إلى نشوء أكوان مختلفة. فإن تغيّرت الهندسة الرياضية لعالَمنا فحينئذٍ سوف يتغيّر عالَمنا ويصبح حائزاً على حقائق وقوانين طبيعية مختلفة عما يسود في عالَمنا الحالي. وهذا لأنَّ الكون يعتمد في تكوّنه على الرياضيات الهندسية السائدة فيه. وبهذا، اختلاف هندسة الكون يحتِّم اختلاف الكون وبذلك الهندسات المتنوّعة للكون تؤدي إلى وجود أكوان مختلفة في حقائقها وأحداثها وقوانينها الطبيعية [1]. الآن، فرضية الزمكان السوبرخلاّق تنجح في التعبير عن الحقيقة العلمية السابقة. بما أنَّ، بالنسبة إلى فرضية الزمكان السوبر خلاّق، القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية المتنوّعة ليست سوى هندسات زمكانية مختلفة، إذن مع اختلاف هندسة الزمكان تنشأ قوى طبيعية وجُسيمات مختلفة. وبذلك مع اختلاف هندسة الزمكان تولد أكوان مختلفة مما يتضمن أنَّ الهندسات الرياضية المختلفة تؤدي إلى أكوان مختلفة. هكذا فرضية الزمكان السوبر خلاّق تنجح في التعبير عن الحقيقة العلمية السابقة مما يدلّ على أنها فرضية صادقة.

الجُسيمات الافتراضية

الجُسيمات الافتراضية، ضمن نظرية ميكانيكا الكمّ العلمية، هي جُسيمات تولد من العدم ومن ثمّ تختفي وتستمر صيرورة ولادتها من العدم واختفائها [2]. وفرضية الزمكان السوبر خلاّق تنجح في تفسير وجود الجُسيمات الافتراضية مما يشير إلى صدق هذه الفرضية. فبما أنَّ، بالنسبة إلى فرضية الزمكان السوبر خلاّق، الزمكان = الطاقة × الكتلة، إذن لا يوجد زمكان بلا طاقة وكتلة. وبذلك الزمكان الفارغ لا بدّ من أن يحتوي على جُسيمات ذات طاقة وكتلة كالجُسيمات الافتراضية لكي يراعي قانون عدم وجود زمكان بلا طاقة وكتلة. لذلك توجد الجُسيمات الافتراضية التي تولد من العدم وتتلاشى لتولد من جديد. هكذا تنجح فرضية الزمكان السوبر خلاّق في تفسير نشوء الجُسيمات الافتراضية.

نشوء الكون والخلق المستمر

تنجح فرضية الزمكان السوبر خلاّق أيضاً في تفسير نشوء الكون. فبما أنَّ الزمكان = الطاقة × الكتلة بينما كلّ ما في الكون يتكوّن من طاقة وكتلة، إذن بمجرّد أن يوجد الزمكان يوجد الكون وبذلك ينشأ الكون من الزمكان. هكذا تنجح هذه الفرضية في تفسير نشوء الكون. ومن المنطلق نفسه، الطاقة والكتلة وصفاتهما ليست سوى أبعاد للزمكان. فبمجرّد أن يوجد الزمكان توجد الطاقة والكتلة فيولد الكون. ولكن إن كان بمجرّد أن يوجد الزمكان، وإن كان فارغاً، توجد الطاقة والكتلة فيولد الكون، فحينئذٍ الكون يولد تماماً كما تولد الجُسيمات الافتراضية التي تنشأ من العدم ومن ثمّ بسرعة هائلة تفنى وكأنها لم تكن لتنشأ من جديد وتفنى. من هنا، يتصرّف الكون وكأنه جُسيم افتراضي مما يتضمن أنَّ الكون ينشأ ويفنى في أقل من ثانية لينشأ ويفنى من جديد في صيرورة دائمة. هذا هو خلق الكون المستمر. فالكون يُخلَق ويزول في أقل من ثانية ليُخلَق من جديد ويزول في أقل من ثانية في صيرورة مستمرة. كلّ هذا يرينا أنَّ فرضية الزمكان السوبر خلاّق تتضمن الخلق المستمر للكون. وبذلك لا يوجد الكون سوى في صيرورة خلق مستمرة.

الثقوب السوداء

تتصف الثقوب السوداء بابتلاع المعلومات وزوال القوانين الطبيعية فيها وأيّ شيء يدخل في الثقب الأسود يتلاشى. فالثقوب السوداء متصفة بغياب المعلومات [3]. وتنجح فرضية الزمكان السوبر خلاّق في تفسير تَكوُّن الثقوب السوداء. فبما أنَّ، من منظور فرضية الزمكان السوبر خلاّق، الزمكان = الطاقة × الكتلة، إذن حين يزول الزمكان تزول الطاقة والكتلة مما يتضمن زوال المعلومات فزوال القوانين الطبيعية وكلّ ما يدخل في الثقب الأسود فيتكوّن حينها الثقب الأسود. من هنا، تتكوّن الثقوب السوداء من جراء زوال الزمكان الذي يتضمن زوال الطاقة والكتلة فغياب المعلومات كافة. فحين لا يُنتِج الكونُ الزمكانَ، تغيب الطاقة والكتلة فتزول المعلومات ويولد الثقب الأسود. هكذا تنجح فرضية الزمكان السوبر خلاّق في تفسير تَكوُّن الثقوب السوداء مما يُرجِّح صدقها.

فرضية علمية

بما أنَّ، بالنسبة إلى فرضية الزمكان السوبر خلاّق، الزمكان = الطاقة × الكتلة، إذن إذا وُجِد زمكان بلا أن توجد فيه طاقة وكتلة فحينها فرضية الزمكان السوبر خلاّق فرضية كاذبة. وبذلك من الممكن اختبار فرضية الزمكان السوبر خلاّق وقانونها الفيزيائي القائل بأنَّ الزمكان يساوي الطاقة مضروبة رياضياً بالكتلة مما يجعلها فرضية علمية على ضوء أنها قابلة للاختبار. لكن من المُرجَّح أنه لا يوجد زمكان بلا طاقة وكتلة مما يشير إلى صدق فرضية الزمكان السوبر خلاّق وقانونها القائل بأنَّ الزمكان = الطاقة × الكتلة. ولا يوجد زمكان بلا طاقة وكتلة لأنَّ في الزمكانات الفارغة تولد الجُسيمات الافتراضية ذات الطاقة والكتلة ومن ثمّ تختفي وتستمر صيرورة ولادتها واختفائها مما يدلّ على عدم وجود زمكان بلا طاقة وكتلة. وجود الجُسيمات الافتراضية في الزمكانات الفارغة دليل على استحالة وجود زمكان بلا طاقة وكتلة تماماً كما تتنبأ بذلك فرضية الزمكان السوبر خلاّق من جراء تأكيدها على أنَّ الزمكان = الطاقة × الكتلة.

***

حسن عجمي

......................

المراجع

[1] Shing-Tung Yau and Steve Nadis: The Shape of Inner Space. 2010. Basic Books.

[2] Gordon Kane: “Are Virtual Particles Really Constantly Popping in and out of Existence? Or Are They Merely a Mathematical Bookkeeping Device for Quantum Mechanics?” Scientific American, October 9, 2006.

[3] Leonard Susskind (Author) and James Lindesay (Contributor): An Introduction to Black Holes, Information and the String Theory Revolution: The Holographic Universe. 2004. World Scientific Publishing Company.

وصلت عبقرية الفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه) إلى إمكانية وضع الإله على طاولة التشريح، أياً كان نوع الإله، ومن بين ما ناقش، الثنائية اليونانية الشهيرة (أبولو وديونيزيوس)، وهما مبدآن مجدهما الفن الاغريقي من قبل، ديونيزيوس إله الحياة الصاخبة واللذة الجياشة المفعمة بالقوة، إله الرقص والموسيقى، أما أبولو، فهو إله التأمل، إله التصوير والنحت والشعر. وما يميز ديونيزيوس عن أبولو، هو أن الأول يستطيع أن يتجاوز الصراعات والمعتركات التي تعرقل مسيرة الحياة. وإن عبقرية ديونيزيوس وأبولو قد أبدعت في عالم الفن، وهما أول شاهد في اليونان على النواة الجديدة التي أدى تطورها فيما بعد إلى نشوء فن التراجيديا والدراما.

يحاول (نيتشه) أن يقدم خدمة كبيرة لعلم الجمال، وذلك حين يتوصل إلى إدراك يقيني بأن الفن يستمد مقومات نموه المستمر من الثنائية المتمثلة في أبولو وديونيزيوس. ويؤكد على أننا مدينون، بالنسبة لإلهي أبولو وديونيزيوس، بمعرفتنا أن هناك تعارضاً هائلاً في العالم الإغريقي فيما يتعلق بالجذور والأهداف، بين الفن الأبولي في النحت، وبين فن الموسيقى الديونيزي اللا بصري. وهذان الاتجاهان، النحت والموسيقى، بحسب قول نيتشه، متعارضان ونقيضان، فهما لا يلتقيان إلا عند عبارة (الفن).

ومن أجل فهم أفضل لهاتين النزعتين، يقترح (نيتشه) أن يمثلهما كعالمين مستقلين هما الرؤيا (الحلم) والتسمم، ويذهب إلى أن الوهم الجميل في عوالم الحلم، هو الشرط الذي يبرر وجود الفنون البصرية بأنواعها، كما يبرر قسماً كبيراً من الشعر، ولكن حتى عندما يأتي هذا الحلم إلينا مصحوباً بكثير من الشدة، فإننا نبقى ندرك أن هذا مجرد وهم. هذه هي التجربة البصرية والأبولية، فهي، مع شدتها وتأثيرها، إلا أننا سرعان ما نتيقن أن ذلك ما هو إلا وهماً. ويؤكد (نيتشه) على أن بمكاننا أن نصف أبولو باعتباره صورة إلهية رائعة لمفهوم الفردانية، بينما تميز السعادة والحكمة والجمال حديثة لنا عن الوهم، بفعل حركاته ونظراته. وإذا أضفنا هذا الرعب النشوة المباركة التي تنهض، إذا ما دفعنا هذا التشظي ذاته لمبدأ الفردانية، من صميم الإنسان، من حقيقة الطبيعة في الواقع، فسيسعفنا الحظ في الحصول على قبس من الطبيعة الديونيزوسية، يمكن أن نستنتجه مباشرة من مناظرته مع حالة التسمم (الخدر). فتحت تأثير الجرعة المخدرة التي كان يتناولها كل الرجال والمجتمعات البدائية، أو مع المجيء القوي للربيع الذي يخترق بمرحه الطبيعة كلها، تتنبه هذه الدوافع الديونيزوسية، وما إن تزداد قوة حتى تصبح النزعة الذاتية نسياناً للذات. ومن هنا، قسم (نيتشه) الإنسان حيال ما تقدم إلى نوعين، أما كفنان أبولي حالم، أو كفنان ديونيزي نشوان.

يعتقد (نيتشه) أن أي شيء يطفو على السطح في الجانب الأبولي من التراجيديا اليونانية، أي الحوار، يبدو بسيطاً وشفافاً وجميلاً. والحوار هو صورة اليوناني الهيليني الذي تتكشف طبيعته من خلال الرقص، لأن أعظم مظاهر القوة يمكن أن يتبدى في الرقص، وإن خانته لدانة الجسد وروعة الحركة. ويؤكد على أن ديونيزيوس كان البطل الدرامي الوحيد، ويمكن القول بنفس هذه اليقينية أنه حتى زمان (يوروبيدس) بقي ديونيزيوس البطل التراجيدي، وإن جميع الشخصيات المشهورة في المسرح اليوناني، كانت عبارة عن أقنعة تحجب خلفها البطل الحقيقي: ديونيزيوس. ويذهب (نيتشه) إلى أن هناك فكرة تقول: أن الألوهية التي كانت محتجبة خلف كل هذه الأقنعة هي السبب الأساسي وراء المثالية النموذجية لهذه الشخصيات المشهورة التي كثيراً ما أثارت الدهشة.

والفن الديونزيوسي بشكلٍ عام، يريد منّا أن نقتنع بالمتعة الخالدة للوجود، ولكن بشرط أن نسعى لتأمين هذه المتعة فيما وراء الظاهرات وليس في الظاهرات ذاتها، فالفن الديونزيوسي يريدنا أن نعترف بأن كل ما يحدث في الوجود يجب أن يكون معداً لمواجهة مصير مأساوي ما، وهو ما يجبرنا على أن نتأمل في الأحداث المرعبة لوجود الفرد، لكن دون أن نتجمد خوفاً، وما أن نتحد بالمتعة الهائلة في الكون، ونشعر بأبدية هذه المتعة في النشوة الديونيزوسية، حتى تبدأ وخزات الألم الجارف تخرق جلودنا... وعلى الرغم من كل هذه الآلام والمخاوف تحملنا السعادة على جناحيها لأننا موجودون في الحياة، ليس كأفراد، بل كأصغر وحدات منفردة حية، نجلس متحدين مع هذه المتعة المبدعة.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

ثمة علاقة عميقة بين القضاء والعدالة، لأنه لا يمكن تحقيق العدالة بمعناها الشكلي أو العميق بدون قضاء، يرجع إليه المتنازعون أو المختلفون لحسم موضوع تنازعهم واختلافهم وفق الأدلة التي يقدمها المدعي أو حلف اليمين الذي يقوم به المنكر لأنه وفق القاعدة الفقهية المشهورة (على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين).

إن من ينشد العدالة ويطمح إلى إنجازها في واقعه العام، لابد له من تطوير مؤسسة القضاء وتوفير كل أسباب نجاحها للقيام بدورها ووظيفتها كما ينبغي.. وحسناً فعل خادم الحرمين الشريفين، حينما أعلن عن مشروعه الخاص لتطوير القضاء، والذي تضمن خريطة طريق متكاملة للانتقال بواقع القضاء في المملكة من مرحلة إلى أخرى أكثر تطورا وتقدما وفعالية

لذلك فإن من ينشد العدالة ويطمح إلى إنجازها في واقعه العام، لابد له من تطوير مؤسسة القضاء وتوفير كل أسباب نجاحها للقيام بدورها ووظيفتها كما ينبغي.. وحسناً فعل خادم الحرمين الشريفين، حينما أعلن عن مشروعه الخاص لتطوير القضاء، والذي تضمن خريطة طريق متكاملة للانتقال بواقع القضاء في المملكة من مرحلة إلى أخرى أكثر تطورا وتقدما وفعالية.

والوطن من أقصاه إلى أقصاه، يتطلع إلى الإسراع في تحويل بنود هذا المشروع إلى ارض الواقع . لان تطوير القضاء أضحى ضرورة وطنية ومجتمعية لايمكن تجاهلها أو التغافل عنها.

لأن هذه المؤسسة هي حجر الأساس في تحقيق الأمن العميق للناس، ووسيلتهم القانونية لحل مشاكلهم وخلافاتهم.. ودون هذه المؤسسة، التي هي إحدى السلطات المهمة في أي نظام سياسي، تتحول الحياة الاجتماعية إلى شريعة غاب، بحيث لا ناظم لحياة الناس العامة، التي هي بالضرورة حياة ستعاني من تناقض للمصالح وتنازع على مستوى الحقوق والأولويات..

وكل هذه العناصر وغيرها، لا يمكن أن تنتظم في حياة اجتماعية سوية بدون مؤسسة للقضاء حيوية وفعالة، ولها سلطتها الرمزية والمادية لتنظيم حياة الناس بدون افتئات أو تعدّ على الحقوق من أي طرف كان..

فالقضاء هو سبيل الأمم والشعوب لانجاز مفهوم العدالة، وهو القادر وفق القانون لإعادة الحق أو الحقوق لأصحابها، وهي المؤسسة التي يناط بها صيانة وحماية الملكيات والحقوق وفض النزاعات والخصومات ومنع التعدي على الذمم والشخصيات، والحقوق المادية والمعنوية للناس..

وكلما تعقدت حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية وتداخلت حقوقهم وذممهم المالية، تعمقت الحاجة إلى قضاء متطور وفعال، لكي يستوعب جميع المتغيرات والتطورات.. بحيث لا تتحول هذه المتغيرات إلى وسيلة أو مبرر لتضييع الحقوق والكرامات..

لهذه الاعتبارات وغيرها، اعتنت الشريعة الإسلامية بخصائص وصفات القاضي، لأنه المؤتمن على تطبيق القانون وتنزيل نصوص الشريعة على الوقائع الخارجية..

لذلك من الضروري أن يتصف القاضي بمجموعة من الصفات، حتى يكون مؤهلا نفسيا واجتماعيا وعلميا لتحمل مسؤولية القضاء بين الناس.. يقول تبارك وتعالى (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما)، (النساء 105)..

وجاء في وصية الإمام علي بن أبي طالب إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر (فاختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصوم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراق)..

فالقضاء كما يعبر أحد العلماء يتجاوز كونه مجرد معلم ومرشد إلى الحكم الشرعي، ليكون القاضي في موقع النظر في الواقعة المتخاصم عليها..

 أولا: ليحل عقدها وتشابكها، وثانيا: ليكتشف المحق من المبطل، وثالثا: ليصدر حكما في القضايا يصلح فيه بين المتخاصمين..

لهذا فإن مؤسسة القضاء هي المعنية بصيانة العدالة الاجتماعية، وإلى تلافي وتجاوز كل ما من شأنه أن يضر بأصول التضامن والائتلاف الاجتماعي.. فتتوطد من جراء ذلك المحبة والتراحم بين أبناء المجتمع الواحد، وتزول أسباب التباغض والعداوة.. من هنا وعلى ضوء الوظائف والأدوار الكبرى والمهمة التي يقوم بها القضاء في المجتمعات الإنسانية، تتأكد الحاجة إلى بيان النقاط التالية:

1- التعامل مع مقولة تطوير القضاء وإصلاحه، بوصفها من المشروعات المستديمة، التي تتطلب باستمرار فحص الممارسات ومراقبة القضاء وشؤون تسيير معاملات الناس المختلفة.. ومن الضروري أن ندرك أن المجتمعات التي تتعامل مع الإصلاح والتطوير الدائم لمؤسسة القضاء من المهام المستديمة، هي المجتمعات التي تصون حقائق العدالة في فضائها الخاص والعام.. أما المجتمعات التي لا تعطي أولوية مستديمة لتطوير قضائها، فهي مجتمعات ستعشعش فيها المشاكل، وتتراجع فيها هيبة القضاء وستضيع بعض حقوق الناس بسبب تراجع مستوى القضاء..

لهذا فإننا نعتقد أن صيانة العدالة في المجتمعات، وهي أبرز مهمة للقضاء، لا يمكن تحقيقها بدون الاهتمام الدائم بتطوير القضاء على مختلف المستويات والصعد.. لهذا فإننا ينبغي أن لا نتوجس خيفة من دعوات تطوير مؤسسة القضاء، لأنها دعوة تعكس مدى أهمية هذه المؤسسة في استقرار الأوطان والمجتمعات.. وبدون التطوير الدائم قد تتراجع فعالية مؤسسة القضاء ما يفضي إلى بروز ثقوب عديدة في مسيرة القضاء في مجتمعنا..

من هنا فإننا ندعو إلى تأسيس إطار علمي- قانوني دائم، يعنى بتطوير القضاء ومعالجة النتوءات التي تبرز في مسيرته على مختلف المستويات..

2- لكوننا نتحدث عن بشر وعن مؤسسة بشرية، لذلك فإن النقص والتقصير هما من لوازم هذا الإنسان بصرف النظر عن موقعه ووظيفته.. ولكن للموقع الحساس وللوظيفة الحيوية التي تقوم بها مؤسسة القضاء، تتأكد الحاجة إلى تفعيل الدور الرقابي والمحاسبي للقضاء والقضاة .. فلا تطوير للقضاء إلا بتطوير القاضي نفسه علميا وأخلاقيا وسلوكيا.. والقاضي الذي يقع تحت إغراء المال أو مقتضيات القرابة ينبغي أن يصوب،

وإذا تكرر منه العمل يعاقب، وذلك للحفاظ على مؤسسة القضاء نزيهة وبعيدة عن كل أشكال الانحراف والفساد.. لأن فساد القاضي مع السكوت عنه، يفضي إلى مخاطر ومفاسد عديدة .. ولا قدرة لنا لمقاومة هذه الأشكال من الانحرافات إلا بتطوير أجهزة المراقبة والمحاسبة.. فثمة أخطاء يصل بعضها إلى مستوى خطايا، ارتكبها قضاة تحت تأثير الإغراء المالي أو ما أشبه، كلفت مجتمعنا ووطننا الكثير على المستويات كافة..

وحتى لا تتكرر هذه الخطايا، نحن أحوج ما نكون إلى القطيعة النفسية والعملية مع النزعات النرجسية، التي تغطي على عيوبنا، لأن هذه النزعة ساهمت بطريقة أو أخرى في تراكم بعض هذه الأخطاء.. فليس عيباً أن يخطئ القاضي أو يقع تحت تأثير إغراءات أو عوامل ليست منسجمة ومعايير النزاهة والعدالة، ولكن العيب هو أن تستمر هذه الأخطاء، ولا تتم محاسبة المرتكب..

إننا ندعو إلى محاسبة المرتكب وتطوير الأداء الرقابي تجاه المؤسسة القضائية، لأنها هي حجر الأساس في مشروع صيانة العدالة الاجتماعية ومنع التعدي على الحقوق العامة والخاصة.. وبمقدار ما ندعو إلى احترام مؤسسة القضاء، بذات القدر ندعو محاسبة المقصرين ومعاقبة المسيئين للقضاء ومؤسسته..

3-ثمة حاجة لكي يكتمل عمل مؤسسة القضاء إلى الإسراع في تأسيس جمعيات للقانونيين والمحامين، لأن جهودهم هي مكملة لجهود القضاء ولا يمكن أن تنجز العدالة في أي بيئة اجتماعية، إلا بمأسسة عمل أهل القانون والحقوق وأهل المحاماة، لأن عملهم يساهم في صيانة العدالة، ويحول دون الوقوع في الخطأ والانحراف..

لذلك فإننا نعتقد أن عمل المحاماة وأهل القانون والحقوق، ليس منفصلا عن عمل القضاة، بل إن عمل الأوائل أي أهل القانون والمحاماة، هو المقدمات الضرورية لصوابية عمل القضاة وبدونها يبقى عمل القضاة ناقصا..

وجماع القول: إن قوة مجتمعنا في سعيه المتواصل لتحقيق العدالة بين أفراده.. ولكي تنجز العدالة على نحو مؤسسي، فنحن بحاجة إلى التطوير الدائم لسلك ومؤسسة القضاء، وتوفير منظومة مؤسسية متكاملة يسند عمل القضاة وعلى رأس هذه المنظومة أهل القانون وأهل المحاماة فهم سند في إنجاز العدالة في بعدها المؤسسي في واقعنا الاجتماعي والوطني..

***

محمد محفوظ – باحث سعودي

مفتتح: تعرف الثقافة بأنها مجموعة المعارف والقيم والمعتقدات والعادات والسلوكيات وأساليب الحياة والفنون والمؤسسات والرموز المشتركة بين أعضاء المجتمع أو المجموعة الاجتماعية الواحدة. هي نظام من المعاني والممارسات التي توجه تصرفات وطريقة حياة الأفراد في المجتمع. والثقافة هي أيضاً ظاهرة ديناميكية، تتطور بمرور الوقت، وتتأثر بالتفاعلات الداخلية (مثل التغيرات الاجتماعية أو السياسية) والتفاعلات الخارجية (مثل تأثير الثقافات الأخرى أو التطورات التكنولوجية). كما تتمتع كل ثقافة بطريقتها الخاصة في التفاعل والتصرف في المجتمع وحل الصراعات ومواجهة التحديات. ويشمل ذلك العلاقات بين الأفراد والمجموعات (الأصدقاء والعائلة والزملاء والجيران)، وكيفية التواصل، ومفهوم الاحترام والسلطة، والسلوكيات المناسبة في سياقات محددة.

رؤية شاملة للثقافة

الثقافة ليست كياناً معزولاً، بل هي شبكة معقدة ومترابطة من المكونات. نذكر على سبيل التوضيح، مدى تأثير المعتقدات على القيم، والتي تؤثر بدورها على الممارسات الاجتماعية. حيث تساعد التقاليد والرموز في الحفاظ على التماسك والوحدة داخل المجموعة الاجتماعية، في حين تخلق تمييزات مع الثقافات الأخرى المزاحمة أو المشاركة لها في الحقل الاجتماعي.

وعليه تلعب الثقافة دوراً أساسياً في الهوية الفردية والجماعية، واستكشافها يساعد على فهم التاريخ والتوترات الاجتماعية وطرق الحياة المتنوعة في جميع أنحاء العالم بشكل أفضل.

 هكذا كان ولا يزال تطور الثقافة عملية معقدة جدا، تشكلت عبر قرون من التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والبيئية. فهي مكون ليس ثابتا، بل إنها تتحول استجابة للعديد من العوامل المؤثرة في تكوينها وسيرورتها.

إن تطور الثقافة هو عملية تتأثر بشكل مستمر بالتغيرات التكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولقد ساهمت كل مرحلة تاريخية في تحويل الثقافة الإنسانية بطرق غير متوقعة. وعلى سبيل المثال التحدي الكبير الذي نواجهه اليوم هو الحفاظ على التنوع الثقافي في ظل عالم مترابط بشكل متزايد.

المجتمعات والثقافات الأساسية:

لقد تشكلت المجتمعات البشرية قبل ظهور الحضارات الأولى بوقت طويل. في البداية، كان البشر يعيشون بشكل رئيسي في مجموعات من الصيادين وجامعي الثمار، وكانت ثقافتهم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالطبيعة والبقاء والمعتقدات الروحية. ومع ذلك، ومع تطور المجتمعات، ظهرت ممارسات ثقافية أكثر تعقيدا نشير لبعضها بإيجاز:

أ‌.   مجتمعات الصيد والجني

تم تنظيم مجتمعات الصيد والجني بطريقة متساوية نسبياً. تجلت ثقافة هذه المجتمعات من خلال الطقوس الروحية (التي غالباً ما ترتبط بالطبيعة)، ورسوم الكهوف، والمعتقدات الروحانية (الاعتقاد بأن الأرواح تسكن الأشياء الطبيعية)، والهياكل الاجتماعية القائمة على التعاون. وكان الترحال يشكل جانباً أساسياً من أسلوب حياتهم، وكانت التبادلات الثقافية تتم من خلال الهجرات واللقاءات بين المجموعات.

ب‌. الثورة الزراعية وظهور الزراعة

حوالي عام 1000 قبل الميلاد، أدى اكتشاف الزراعة إلى تغيير المجتمعات البشرية بشكل جذري. وفي ظل الاستقرار نشأت مجتمعات دائمة، وبالتالي ميلاد القرى والبلدات، مما شكل التسلسلات الهرمية الاجتماعية والأنظمة السياسية وثقافة مادية أكثر تعقيداً. كانت هذه بداية تراكم السلع وتخصص العمل وولادة الثقافات المتميزة بمعتقداتها الدينية، وأنظمة الكتابة، والفنون، والعادات الخاصة بهم.

ج. التأثير التاريخي على الثقافة:

لعبت الأحداث التاريخية دوراً رئيسياً في تطور الثقافة ولاتزال كذلك. كونه التاريخ ليس مجرد سلسلة من الأحداث السياسية والعسكرية، بل هو أيضاً يتميز بتغيرات ثقافية عميقة. وفيما يلي بعض الأمثلة حول كيفية تأثير الأحداث التاريخية على الثقافة:

الفتوحات والغزوات:

كثيرا ما أدت الغزوات والتوسعات الإقليمية، مثل تلك التي قام بها الرومان أو المغول أو المسلمون، إلى اندماج أو خلط الثقافات. على سبيل المثال، قامت الإمبراطورية الرومانية بنشر الثقافة الرومانية (القانون واللغة والعمارة) على نطاق واسع في جميع أنحاء أوروبا، من الشرق الأوسط إلى شمال أفريقيا، مما أدى إلى خلق إرث روماني لا يزال يؤثر على بعض الهياكل القانونية والثقافية إلى يومنا هذا.

تأثير الإمبراطورية الرومانية على أوروبا: تركت الإمبراطورية الرومانية بصمة دائمة على الثقافة الغربية، ولاسيما من خلال تبني الإمبراطورية الرومانية، إنشاء أنظمة الحكم، وطرق التجارة، والهندسة المعمارية التي لا تزال تلهم الهندسة المعمارية الحديثة.

الدين الخاتم (الإسلام): من خلال تقديم مفاهيم مثل الحرية والكرامة الإنسانية والأخلاق الاجتماعية والمواطنة والسلم والمساواة أمام القانون، غيّر الإسلام بتشريعاته جذرياً الطريقة التي تنظر بها الثقافات إلى الإنسانية والملكية وأنظمة الحكم والاجتماع والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، ويبرز ذلك منذ العهد الإسلامي الأول وصولا إلى دولة الأندلس في أوروبا.

الثورات الاجتماعية والسياسية:

لقد كان للثورات، مثل الثورة الفرنسية عام 1789 أو الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، تأثير عميق على الثقافات. وقد أعادت هذه الأحداث تعريف العلاقات الاجتماعية والسياسية، وشجعت على تبني مبادئ مثل المساواة والحرية والحقوق الفردية. ونتيجة لذلك، أدت هذه الثورات إلى تغيير الطريقة التي تنظر بها المجتمعات إلى الطبقة الاجتماعية، والعمل، والأسرة، والتعليم.

حركات إنهاء الاستعمار:

في القرن العشرين، سمحت عملية إنهاء الاستعمار للعديد من الثقافات المستعمرة بإعادة اكتشاف هوياتها. ومع ذلك، تأثرت هذه المجتمعات أيضاً بشكل عميق بالثقافات الاستعمارية، مما أدى إلى مزيج فريد من التقاليد المحلية والتأثيرات الكولونيالية. على سبيل المثال، في المستعمرات الأفريقية والآسيوية والكاريبية السابقة، تحولت الثقافات المحلية بفضل العناصر الأوروبية مثل اللغة والدين (المسيحية) والتعليم، لكنها أيضا هذه المجتمعات استجابت لإعادة اكتشاف تراثها الثقافي والحفاظ عليه.

التقدم التكنولوجي والعلمي:

كان للابتكارات التكنولوجية، مثل اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر أو الإنترنت في القرن العشرين، دورا أًساسيا في نشر الثقافة. حيث سمحت المطبعة للأفكار الثورية (مثل أفكار عصر النهضة أو الإصلاح البروتستانتي) بالانتشار بسرعة، مما أدى إلى تغيير المعتقدات الدينية والسياسية في أوروبا. وعلى نحو مماثل، أدت شبكة الإنترنت وتقنيات الاتصالات الحديثة إلى تغيير جذري في الطريقة التي يتواصل بها الناس، ويتشاركون بها الأفكار، ويستهلكون بها الثقافة، مما أثر على الموسيقى، والأفلام، والأزياء، وحتى القيم الاجتماعية.

آثار العولمة على الثقافات المحلية:

تبدو العولمة على أنها العملية التي تصبح من خلالها الدول والمجتمعات مترابطة بشكل متزايد من خلال التبادلات الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية والثقافية. من خلال تعبيرات الثقافة المشتملة لمجموعة واسعة من العناصر التي تتجلى فيها نظرة المجتمع أو المجموعة البشرية للعالم وقيمها ومعتقداتها وممارساتها. ويشمل ذلك اللغة والتقاليد والفنون والموسيقى والطقوس والرموز والسلوكيات الاجتماعية والعديد من أشكال التعبير الأخرى من منظور عالمي شمولي. وتختلف هذه التعبيرات بشكل كبير من ثقافة إلى أخرى، وهي تعكس المعايير والمخاوف والواقع الاجتماعي الخاص بكل مجتمع.

1.اللغة: هي إحدى أقوى الوسائل للتعبير عن الثقافة في ظل العولمة .فهي ناقل أساسي للقيم والمعتقدات والعادات. ويتجلى ذلك في التنافس الكبير بين اللغات عبر الترجمة والدورات والمهرجانات والاشهارات وما هنالك من محاولة تشكيل تكثلات لغوية كتكثل الناطقين بالفرنسية او ما يعرف بالفرنكوفونية، وبالمقابل الحضور القوي للانجليزية الأمريكية بقوة وصعود لغات أخرى عبر العالم رغم ضآلة التأثير الثقافي..

2.التقاليد والطقوس

غالباً ما ترتبط الطقوس بالمعتقدات الدينية، أو طقوس الاثنيات، أو الأحداث المهمة في حياة الفرد أو المجموعة. التي يعمل أصحابها على تعزيزها ضمن معاملات الهوية الثقافية والاجتماعية الخاصة بهم.

على سبيل المثال، يتضمن الزواج في الهند سلسلة من الطقوس التقليدية، بما في ذلك حفل "سابتا بادي" (الخطوات السبع حول النار المقدسة)، والذي يرمز إلى الاتحاد والالتزامات المتبادلة بين الزوجين. كما تشكل احتفالات سان جان في كيبيك مثالاً على التقاليد التي يتم الاحتفال بها من خلال إشعال النيران والرقص والغناء، مما يسلط الضوء على التراث الثقافي الفرنكوفوني في أمريكا الشمالية.

3.الفنون

تعتبر الفنون البصرية والموسيقى والرقص والمسرح من الأشكال الرئيسية للتعبير الثقافي.

الفن الأفريقي: غالباً ما تحمل المنحوتات والأقنعة الأفريقية معاني عميقة مرتبطة بالمعتقدات الروحية أو طقوس العنصر او الجندر.

الموسيقى: البلوز في الولايات المتحدة، وهو نوع موسيقي نشأ في المجتمعات الأمريكية الأفريقية، وهو تعبير ثقافي مرتبط بتاريخ العبودية والألم والأمل.

الرقص: الفلامنيقو في إسبانيا أو السامبا في البرازيل من الأمثلة التي ينقل فيها الرقص المشاعر والقصة، ويدمج الحركات الجسدية والتأثيرات الثقافية المتعددة.

المسرح: هو بمثابة سلطة ثقافية عبر التاريخ بما يعكسه من تعبيرات عابرة للمكونات والرؤى والآفاق في المجتمعات وحضوره في مجتمعات أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية ودول حوض البحر الأبيض المتوسط يعكس وزنه كناقل تاريخي للثقافة بمميزات خاصة بكل ثقافات العالم.

4. الرموز

الرموز هي تمثيلات بصرية أو أشياء تحمل معنى معيناً في ثقافة معينة. على سبيل المثال:

يعتبر اللوتس في الثقافات الآسيوية، وخاصة في الهند والصين، رمزاً للنقاء والبعث والارتقاء الروحي.

5. العادات والسلوكيات الاجتماعية

المعايير والسلوكيات الاجتماعية تعكس قيم الثقافة وتترجمها في علاقاتها مع الآخر.

في شرق آسيا، هناك قواعد سلوك صارمة للغاية فيما يتعلق باحترام كبار السن، الأجنبي والتعامل باللياقة اللباقة، والسلوك الرسمي مع الضيف المغاير ثقافيا، وخاصة في بلدان مثل كوريا الجنوبية واليابان.

6. المعتقدات الدينية والفلسفية

تشكل المعتقدات أشكالا ًأساسية للتعبير الثقافي في زمن العولمة، لأنها غالبا ًما تشكل نمط حياة المجتمع وقيمه التي يهدف إلى الترويج لها كمنجز حضاري وإضافة ثقافية نوعية للحضارة الانسانية.

لقد ساهمت المسيحية في أوروبا وأميركا الشمالية في تشكيل العديد من التقاليد والقيم في هذه المناطق، وخاصة من خلال الأعياد مثل عيد الميلاد وعيد الفصح، كما أثر الإسلام في المجتمعات الغربية عبر الجاليات المسلمة التي أصبحت تشكل قوة اجتماعية واقتصادية وثقافية في أمريكا وأكبر البلدان الأوروبية عبر الأخلاق والشريعة الإسلامية التي استقطبت العديد من القائمين على التشريعات الغربية .

أيضا تؤمن البوذية في جنوب شرق آسيا بالتأمل والصحوة الروحية ونبذ العنف، وهي قيم تؤثر بشكل عميق على الممارسات الثقافية في بلدان مثل تايلاند وكمبوديا واليابان.

على الرغم من كل ذلك فإن العولمة تبقى مشروع في العديد من أركانه يهدف إلى ضرب العلاقة بين الثقافة والهوية، عبر تفجير الهويات، التي في الأساس هي عميقة ومتعددة الأبعاد، كونها تتشكل من خلال القيم والمعتقدات والتقاليد والممارسات التي تميز كل مجموعة اجتماعية معينة. ويتضمن ذلك أشياء مثل اللغة والدين والعادات والتاريخ والتجارب المشتركة. وعندما نقتحم مفاهيم مثل تشكيل الهوية الثقافية، والتنوع والإدماج، والتعايش بين الثقافات المتعددة، والتسامح والاحترام والتعاون، فإننا ندخل منطقة معقدة تمس قضايا اجتماعية وسياسية وفلسفية عميقة، مما يتطلب حذرا وجدية في التفاعل والمقاربة لمفهوم العولمة الثقافية بأبعادها وأسسها المتنوعة سياسيا واقتصاديا وفلسفيا.

1.تشكيل الهوية الثقافية:

يتم بناء الهوية الثقافية بمرور الوقت، تحت تأثير العديد من العوامل:

الأصول والتراث الثقافي

لا مناص من كون الهوية الثقافية للفرد متجذرة في تراث عائلته ومجتمعه. ويشمل ذلك اللغة التي يتحدث بها الناس في المنزل، والعادات التي ورثها عن أجداده، والتقاليد الدينية والقيم المشتركة داخل الأسرة والمجتمع. يمكن أن يكون هذا التراث مصدراً للفخر والترابط، لأنه يحدد الفرد داخل المجموعة.

التنشئة الاجتماعية والتعلم

وتتشكل الهوية الثقافية أيضاً من خلال تجربة التنشئة الاجتماعية، سواء في المدرسة أو في العمل أو داخل المجتمع بشكل عام. إن التفاعلات مع الثقافات والمؤسسات الأخرى (مثل التعليم ووسائل الإعلام والسياسات العامة) والأحداث الاجتماعية أو التاريخية يمكن أن تعيد تعريف هذه الهوية أو تزيد من تفاصيلها. على سبيل المثال، يمكن أن ينشأ الشخص في ثقافة واحدة، ولكن عندما يكبر، فإنه يتأثر بعناصر من ثقافات أخرى، مما قد يؤدي إلى شكل هجين من الهوية الثقافية، أو إلى التوترات بين التأثيرات الثقافية.

أزمة الهوية وجهل العولمة

في عالمنا الزاحف خلف ثقافة العولمة بصورها الهمجية، حيث يتعرض الأفراد لمزيج من الثقافات، قد يعاني البعض من أزمات الهوية. ويتجلى ذلك في التساؤلات حول مكانة ثقافتهم الأصلية في مواجهة التأثيرات الخارجية. على سبيل المثال، قد يعاني الشباب من المجتمعات المهاجرة من هوية مزدوجة - هوية ثقافة المنشأ وثقافة البلد المضيف- أو -المجتمعات الأكاديمية ان صح التعبير- مما قد يؤدي إلى البحث عن التوازن أو إلى صراعات داخلية قد تحدث شروخا لدى مجتمعات ثقافاتها الأصلية.

2. التنوع والشمول:

يشير التنوع الثقافي إلى وجود تعايش ثقافات مختلفة داخل المجتمع نفسه. وقد يشمل ذلك الاختلافات في اللغة، والمعتقدات الدينية، والممارسات الاجتماعية، والتقاليد الفنية والمطبخية. حيث يتميز المجتمع المتنوع بثراء ثقافاته المختلفة، والتي تساهم مجتمعة في ديناميكيته وتعدديته.

و من جهة أخرى هناك الإدماج الثقافي الذي يتجاوز مجرد الاعتراف بالتنوع. وهذا يعني تعزيز المساواة والاعتراف بالحقوق الثقافية والوصول العادل إلى الفرص للجميع، بغض النظر عن تراثهم أو أصلهم. بحيث يسمح المجتمع الشامل للجميع بالحفاظ على ممارساتهم الثقافية مع كونهم جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الأوسع. ويتعلق الإدماج أيضاً بالمشاركة الفعالة لجميع المجموعات في عمليات صنع القرار والحياة المجتمعية، دون تمييز أو تهميش.

على سبيل المثال، في بلد يتمتع بتنوع ثقافي قوي (مثل كندا أو الولايات المتحدة)، تعمل سياسات التعددية الثقافية على تعزيز التعايش السلمي بين المجتمعات الثقافية المختلفة، مع ضمان مشاركتها المتساوية في المجتمع.

فوائد التنوع والشمول:

لا يمكننا الوقوف على مدى صلاحية التنوع إلا من خلال ثماره الواقعية والتي يمكن ذكر بعضها:

الابتكار والإبداع: يمكن للتنوع الثقافي أن يؤدي إلى مزيد من الابتكار، حيث إن وجهات النظر المتنوعة غالبا ما تكون مصدراً لأفكار وحلول جديدة.

الإثراء المتبادل: من خلال الترحيب بالثقافات المختلفة، يتم إثراء المجتمع بطرق جديدة للتفكير، وفنون جديدة، ونكهات جديدة، وطرق جديدة تراعي القيمة الأساسية والمصيرية للثقافة الاصلية في تصور هوية الأسرة والمجتمع.

التضامن والتعاطف: عندما يتم احترام التنوع والاحتفال به، فإنه يمكن أن يعزز التضامن بين المجتمعات المختلفة، مما يؤدي إلى مزيد من التفاهم وروح التعاون...

(يتبع)

***

بقلم: مراد غريبي

فكرة الحقيقة المطلقة في السرديات التاريخية تعكس جدلًا عميقًا حول كيفية فهمنا للواقع، النصوص التاريخية قابلة للتأويل بطرق متعددة مما يعني أن كل قارئ قد يستنبط معاني مختلفة بناءً على خلفيته الثقافية وتجربته ويمكن أن تحمل النصوص معانٍ رمزية تتجاوز الأحداث نفسها، مما يشير الى قضايا اجتماعية و سياسية أعمق، تعمل اللغة كحامل للنص لكنها ليست مجرد وسيلة للتعبير اذ تلعب دورًا مهما في تشكيل الأفكار والمفاهيم، اختيار الكلمات يمكن أن يحرف أو يوضح المفاهيم التاريخية كما ان اللغة تساهم في نقل السرديات عبر الأجيال، مما يساعد على بناء الهوية الثقافية والتاريخية، الحقيقة في السرديات التاريخية ليست ثابتة بالضرورة، بل تتأثر بالعوامل الثقافية والفكرية والاقتصادية هي معقدة ومتعددة الأبعاد، مما يجعل من الضروري نقد الحقيقة المطلقة في السرديات التاريخية و ان تواجه هذه بسرديات معاصرة تتجاوز الانحياز والاضطراب المفاهيمي في السرديات التاريخية.

دور السلطة السياسية في تشكيل السرديات التاريخية

السلطة السياسية لها دور كبيرقي تشكيل السرديات التاريخية ودورها محوري ومعقد. تستخدم الأنظمة السياسية التاريخ لتأكيد شرعيتها، من خلال إبراز إنجازات معينة أو استخدام أخرى في تجريم خصومها، قد يتم تعديل أو تزييف الأحداث التاريخية لتتناسب مع الأجندات السياسية، مما يؤدي إلى تشويه الحقائق، تسيطر الأنظمة على وسائل الإعلام التي من خلالها يتم تعزيز روايات معينة وتهميش أخرى، مما يسهم في تشكيل الرأي العام ،قد تسعى الأنظمة إلى إعادة كتابة التاريخ من خلال إلغاء أو تهميش أحداث معينة، مما يؤثر على الذاكرة الجماعية، بذلك تلعب السلطة السياسية دورًا حاسمًا في تشكيل السرديات التاريخية، وتؤثر على كيفية كتابة وفهم التاريخ. هذا التأثير يمكن أن يؤدي إلى تشكيل هويات وطنية منحازة وتعزز أو تقوض شرعيات سياسية وبالتالي خلق اضطراب مفاهيمي.

التحيز في السرديات التاريخية

في بعض السرديات، يتم تصوير الصراعات التاريخية بين الطوائف بشكل يبرز تفوق طائفة على الأخرى، مما يؤدي إلى تأجيج التوترات الحالية،  بعض السرديات يتم تقديم الاستعمار كحدث خارجي فقط، مع تجاهل الدور المحلي في التعاون المجتمعي ودور المقاومة في التخلص من الاستعمار، مما يخلق سردًا غير متوازن حول التحديات التاريخية، احيانا تُكتب سير بعض القادة التاريخيين بشكل يبرز إنجازاتهم ويغفل عن أخطائهم أوعن الجوانب السلبية في حكمهم، مما يعكس تحيزًا نحو تقديس الشخصيات، تركز بعض السرديات على تاريخ الأمة بشكل ضيق، مما يؤدي إلى تجاهل مساهمات الثقافات الأخرى أو الأقليات العرقية والدينية، تتجلى التحيزات في السرديات التاريخية من خلال الطائفية، الاستعمار، تصوير الشخصيات، تجاهل الثقافات، تغييب دور النساء، وتحريف الأحداث، هذه التحيزات تؤدي الى فهم التاريخ بشكل مضطرب وتشكيل هوية ثقافية متاكلة.

المقدس في السرديات التاريخة

بعض السرديات التاريخية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتراث الديني، مما يجعل النقد أكثر حساسية. يُعتبر أي نقد لهذه السرديات تحديًا للمعتقدات المقدسة عندها يظهر الاضطراب المفاهيمي حين يتم الخلط بين التاريخ كعلم والحقائق الدينية، مما يصعب تقييم الأحداث بشكل موضوعي، عبر القرون استخدمت الأنظمة السياسية السرديات التاريخية لتعزيز سلطتها وطوقتها بالمقدس، مما أدى إلى تشويه الحقائق التاريخية، العديد من المجتمعات أصبحت عرضة للتعصب الفكري، حيث يتم الدفاع عن السرديات المقدسة دون نقد، رغم ان النقد يُعتبر ضرورة لفهم التاريخ بشكل أفضل، و يعزز من قدرة الأفراد على التمييز بين الحقائق والآراء الشخصية كما يساهم النقد في فتح نقاشات حول الأحداث التاريخية ومكانتها في السياق الثقافي والديني ،النقد والمقدس في السرديات التاريخية يعكسان صراعًا طويل الأمد بين فهم التاريخ بشكل موضوعي واحترام المعتقدات المقدسة. يتطلب الأمر توازنًا دقيقًا لتجاوز الاضطراب المفاهيمي وتعزيز الفهم التاريخي.

 النقد المعاصر تجاه السرديات التاريخية

النقد المعاصر تجاه السرديات التاريخية يتعلق بعدة جوانب وهو الذي يؤدي إلى اضطراب في فهم هذه السرديات، يُواجه النقد المعاصر صعوبة في تحقيق الموضوعية بسبب التحيزات التي تكون موجودة في السرديات التاريخية، مما يثير تساؤلات حول مصداقية الروايات،ان صعوبة نقد السرديات المتعلقة بالأحداث المقدسة بسبب حساسيتها الدينية، يجعل من الصعب تناولها بموضوعية، وجود تفسيرات متعددة للأحداث التاريخية وربطها بالمقدس يجعل من الصعب الوصول إلى فهم موحد، مما يؤدي إلى الاضطراب المفاهيمي ، تستخدم الأنظمة السياسية التاريخ لتشكيل الهوية الوطنية، مما يؤدي إلى تلاعب في السرديات التي تُطرح ، ربط الأحداث التاريخية بالسياقات المعاصرة يشكل صعوبة منهجية وتطبيقية و يخلق إرباكًا في فهم تأثير التاريخ على الوضع الحالي، تتجلى إشكالية النقد المعاصر تجاه السرديات التاريخية في التحديات المتعلقة بالموضوعية والتداخل الثقافي والديني، بالإضافة إلى تأثير السلطة والفجوة الزمنية. يتطلب الأمر جهدًا متعاضدا لتعزيز الفهم النقدي وتحليل السرديات بشكل دقيق.

السرديات المعاصرة في ظل نظام التفاهة

إنتاج سرديات معاصرة في ظل هيمنة العولمة ونظام التفاهة يتطلب مواجهة عدة تحديات، منها العولمة تؤدي إلى انتشار سرديات عالمية قد تطغى على السرديات المحلية، مما يجعل من الصعب الحفاظ على الهوية الثقافية، تركز العولمة على سرديات معينة و تهمل الروايات المختلفة مما يقلل من التنوع الثقافي، يُروج نظام التفاهة للمحتوى السطحي وغير الملهم، مما يقلل من اهتمام الأفراد بالقضايا الأكثر عمقًا وأهمية ،يتعرض الأفراد الى ضغوط في تبني سرديات عالمية رائجة على منصات التواصل الاجتماعي ، مما يؤدي إلى تآكل الهويات الثقافية المحلية وإضعاف الروابط الاجتماعية، يُعاني الكثير من المثقفين من نقص الدعم في البحث العميق، مما يؤدي إلى إنتاج سرديات أقل عمقًا وابتكارًا ،تؤثر الأزمات الاقتصادية على قدرة الأفراد على المشاركة في إنتاج السرديات، حيث يصبح التركيز على البقاء الاقتصادي أكثر أهمية من التعبير الثقافي، تتجلى صعوبة إنتاج سرديات معاصرة في ظل العولمة ونظام التفاهة في شكل هيمنة روايات تدعي المعاصرة والعالمية، واخيرا تسطيح القضايا. يتطلب هذا الأمر جهودًا متعاضدة لإعادة النظر في القيم الثقافية وتعزيز الإنتاج الفكري العميق.

الاضطراب المفاهيمي في السرديات المعاصرة

كما هو معروف تستخدم الأنظمة السياسية التاريخ لتبرير أفعالها، مما يؤدي إلى تشويه الحقائق التاريخية وتقديم روايات محددة  ومنحازة تؤثر على المعتقدات الثقافية والدينية وعلى كيفية تفسير الأحداث، مما يؤدي إلى تباين كبير في السرديات، يتم تجاهل أو تهميش روايات مجموعات معينة لاسباب متعددة، مما يحد من الفهم الشامل للأحداث ويؤدي إلى سرديات أحادية، تتداخل الأساطير والتراث الشعبي مع السرديات التاريخية، مما يصعب التمييز بين الحقيقة والخيال ،تتعدد العوامل التي تسهم في الاضطراب المفاهيمي، بدءًا من السيطرة السياسية والتعصب الفكري إلى نقص التنوع في المصادر وضعف التعليم، تتطلب معالجة هذه العوامل جهدًا جماعيًا لتعزيز الفهم النقدي والتاريخي.

النقد المعاصر للحقيقة المطلقة

يشدد النقاد على أن الحقائق التاريخية ليست مطلقة، بل تتأثر بالمنظورات الثقافية والسياسية والاجتماعية. كل سرد تاريخي يُشكل من قبل الراوي او مجموعات ثقافية، مما يؤدي إلى وجود تفسيرات متعددة حيث يتم تحليل كيف يمكن أن تؤثر تحيزات المؤرخين على السرد التاريخي. هذه الانحيازات قد تؤدي إلى تجاهل بعض الأحداث أو تهميشها بناءً على توجهات ايديولوجية كما يشير العديد من الباحثين إلى أهمية إعادة تفسير الأحداث التاريخية بناءً على سياقات موضوعية جديدة وفهم سياقي أعمق، هذا يتطلب مراجعة المصادر والوثائق التاريخية، اخذين بالاعتبار ان بعض السرديات التاريخية هي أساسا أدوات للسلطة، حيث تُستخدم لتشكيل الهويات الوطنية والعرقية، كما يتم دراسة كيف تساهم هذه السرديات في بناء الهوية الجماعية و إدراج أصوات وتجارِب خاصة في السرد التاريخي، مما يساهم في تقديم صورة أكثر شمولية عن الحقائق التاريخية هذا النقد يجب ان يعكس تحولًا في كيفية فهمنا للتاريخ، حيث يُنظر إليه كعملية ديناميكية تتغير مع الزمن والسياقات لا كحقائق ثابتة بعيدة عن متناول النقد.

***

غالب المسعودي

 

ما أشاهده غالبا في عملي اليومي كمعالجة ومستشارة أسرية، هو ما يواجهه الأهل، الآباء والأمهات، من تحديات في التعامل مع أبنائهم وبناتهم. حيث تتكرر الأوامر والتعليمات والتوجيهات دون استجابة من قبل الأطفال، مما يؤدي إلى الإحباط والتوتر وخلق جو متشنج ومزعج لكلا الطرفين. لكن برأيي وخبرتي في هذا المجال، إن التربية يمكن أن تكون أكثر سهولة ومتعة إذا تعلمنا كيف نخاطب عقل الطفل-ة، ومشاعرهما معا في آن واحد.

ومن الآليات اليومية المستخدمة والأكثر فاعلية في الحياة اليومية للأسر، والتي أستخدمها معهم:

1. تقديم خيارات متنوعة بدلًا من إعطاء الأوامر

من الأساليب الفعالة أن نقدم للطفل-ة خيارات بسيطة بدلًا من إصدار أوامر قاسية ومباشرة. فعندما نقول: "هل تفضلين القميص الوردي أم البنفسجي؟" بدلًا من "ارتدي هذا القميص"، أو "هل تختار أن تغسل يديك بالصابون السائل أم العادي؟" بدلًا من "يجب أن تغسل يدك الآن"، أو "هل ترغبين بأكل التفاح أم الموز؟" عندما تطلب الطفلة أشياء غير صحية كالحلويات، في هذه الحالة يشعر الصغير-ة بأنه جزء من القرار، مما يعزز التعاون والاستقلالية، ويتم تغيير تركيزه أو تركيزها من التوجيهات والأوامر إلى التركيز على الاختيار، ويُمنَح شعورًا بأهميته أو أهميتها.

2. تحويل الواجبات إلى لحظات لعب ومرح

من إحدى الطرق الأخرى للتعامل مع الطفل-ة، تحويل المهام والواجبات اليومية إلى لحظات مليئة باللعب والمزاح. وبهذه الطريقة نصل إلى الطفل-ة بسهولة أكثر مما نتصور، مثل: "من سيلتقط ألعابه أو ألعابها أولًا؟" أو "هل يمكنكِ الوصول إلى السرير قبل أن أعد للعشرة؟". اللعب ليس فقط وسيلة للمتعة، بل أيضًا أداة تربوية تعزز التفاعل والاستجابة، وتخلق جوًا مليئًا بالحب والطمأنينة والاستقرار.

3. تشجيع الطفل والطفلة على تبني الفكرة

بدلًا من فرض الأمور، يمكننا تحفيز الطفل-ة ليشعر أو تشعر أن الفكرة نابعة منه أو منها. مثال: عندما يرفض الطفل-ة الأكل الصحي وذو القيمة الغذائية، يمكن أن نقول: "هل تريدين أن تصبحي قوية مثل البطلات؟ البطلات يأكلن هذا الطعام!"، أو عندما يرفضو القيام بالواجبات المدرسية: "ما رأيكم أن يشرح كل منكما لنا الدرس بعد إنهاء الواجب؟ نحن متشوقون لسماع ما تعلمتم!". عندما يتبنى الطفل-ة الفكرة بنفسه أو نفسها، سيبتكر أو ستبتكر في إنجازها بدون صعوبة.

4. التعلم من النتائج المتعاقبة

عندما يرفض الطفل-ة اتباع التوجيهات، لا داعي للتهديد أو الصراخ أو تحويل أجواء البيت إلى الرعب وانعدام الأمان، بل الأفضل السماح له أو لها بخوض التجربة. كأن نقول: "إذا خرجتِ بدون معطف، قد تشعرين بالبرد وتتمرضين وتُحرمين من المشاركة في نشاط ترغبين به... ما رأيكِ؟" أو "إذا لم تُرتَّب الألعاب وتُوضَع في مكانها المخصص، قد تضيع أو تنكسر، هل تود أو تودين الاحتفاظ بها؟". هنا نعطي الطفل والطفلة مسؤولية تصرفاتهما بشكل مفهوم وواضح.

5. التحفيز الإيجابي وتشجيع السلوك الإيجابي والهادف

من الطرق الأكثر فاعلية في تربية الأطفال، المدح الصادق والمؤثر، فهو يصنع فرقًا كبيرًا ونتائج إيجابية غير متوقعة. بدلًا من قول: "لا تصرخ!"، نقول: "صوتك الهادئ جميل، أحب أن أسمعه هكذا"، وبدلًا من: "اجلس لتأكل"، يمكن أن نقول: "أنا واثق أنكِ ستنهين طعامك وستكونين قوية جسديًا وذكية في المدرسة!". هذا النوع من الخطاب يغرس الثقة والطمأنينة في نفوس الأطفال، ويساعد في نموهم بشكل سليم.

6. التخاطب مع الأطفال ونحن في تواصل بصري معهم

من الضروري جدًا عندما نخاطب الأطفال، أن نكون في تواصل بصري وتقارب جسدي معهم. مثلًا، عندما نطلب من الطفل-ة أن وقت النوم قد حان، ويجب أن يُحضّر أو تُحضّر نفسه/نفسها للنوم، لا يكون ذلك فعالًا إذا كنا مشغولين بمكالمة هاتفية أو بمتابعة فيلم أو مسلسل. المخاطبة بهذه الطريقة تكون غير فعالة، والطفل-ة لا يأخذ التوجيه بشكل جدي بل يتجاهله أو تتجاهله تمامًا.

التربية الحديثة والناجحة في عالم اليوم لا تقوم على فرض السيطرة أو تكرار الأوامر أو استخدام الصراخ والعقاب، بل على الفهم العميق لاحتياجات الطفل/الطفلة، واحتضان مشاعرهم، واحترام كينونتهم الإنسانية المستقلة. عندما نُعامل الطفل-ة كشخص له صوت ومكانة، يشعر بالأمان، وتُبنى بيننا وبينه جسور من الثقة والمحبة. وحين نتيح له أو لها الفرصة لخوض التجارب، وتحمل المسؤولية، واختبار نتائج قراراته أو قراراتها، فإننا لا نُربي فقط أطفالًا مطيعين، متذبذبين، وغير واثقين من أنفسهم، ويصعب عليهم الدفاع عن أنفسهم خارج البيت، بل نُربي أفرادًا مستقلين، قادرين على التفكير، واتخاذ القرار، وبناء علاقات صحية ومستقرة. اللغة اللطيفة، والنظرة المتفهمة، والمساحة الآمنة، هي أدوات أقوى بكثير من أي توجيه قسري. ومتى شعر الطفل/الطفلة بأن التوجيه نابع من حب واهتمام حقيقي، فإنه يتحول من أمر يُفرض عليه إلى رغبة صادقة في المشاركة والتجاوب.

***

بيان صالح

ساسلة مقالات من الواقع المهني كمعالجة ومستشارة اسرية

........................

مصادر عربية

1. الجزيرة نت – كيف تربي أطفالك؟ إليك أهم أساليب التربية الحديثة

https://www.aljazeera.net/women/2022/10/22/

2. كيف-تربي-أطفالك-إليك-اهم-أساليب

3. BBC News عربي – طرق فعالة للتواصل مع الأطفال

https://www.bbc.com/arabic/vert-cul-53355785

4. يونيسف مصر – كيف نربي أبناءنا من 7 إلى 12 سنة

https://www.unicef.org/egypt/ar/raising-younger-children

مصادر دنماركية

1. EMU.dk – Kort om KOS: Kvalitet i Overgangen til Skole

https://emu.dk/sites/default/files/2021-03/8126%20EVA%20SPL%20T07%20Kort%20om%20KOS_WEB%20FINAL-a.pdf

2. Anerkendende Kommunikation – Brug anerkendende kommunikation når du taler med dit barn

https://anerkendendekommunikation.dk/foredrag/brug-anerkendende-kommunikation-naar-du-taler-med-dit-barn

"في صف الفلسفة يتعلم الطلاب الحرية من خلال ممارسة التفكير الحر" فيكتور كوزان

فرش إشكالي

الحماقة التي تقال تذهب مع الريح، والحماقة التي تكتب لا تمر سريعا انها تتحد مع التفكير، وتتحول الى مسلمة تعرقل التفكير والعمل في أن واحد انني اسوق هذه العبارة لمالك بن نبي رحمه الله لتوصيف حالة العبث واللامنطق الملازمة للدرس الفلسفي عندنا حيث انتج تدريس المقالة الفلسفية المؤسس على الإغراء والاستغباء عبر نماذج مكررة يعاد استنساخها نهاية كل موسم دراسي ويتم الاحتكام اليها اثناء البكالوريا التجريبية والترويج لها عبر منصات التواصل الاجتماعي وتفرض لاحقا كخريطة طريق اثناء تصحيح البكالوريا حالة من البؤس والالم في نفوس أولئك الذين يحملون شعلة Prometheus وللدلالة على ذلك تكفي المقارنة بين بناء امتحان الفلسفة عندنا ونماذج التصحيح المرافقة له وبين ما هو واقع بالفعل في فرنسا مثلا او الدول التي نتقاسم مع الثقافة والهوية والجغرافيا.

لقد تكرر موضوع أساس العدالة الاجتماعية في شهادة البكالوريا شعبة آداب وفلسفة لفظا ومعنى وبذات المشكلة أربعة مرات (2011، 214، 2017، 2021) وموضوع مصدر المعرفة بين العقل والتجربة في الشعب التقنية سبعة مرات (2009، 2011، 2013، 2015، 2016، 2019، 2024) وموضوع دراسة الظواهر الإنسانية دراسة علمية بين الاستحالة والامكان في شعبتي العلوم التجريبية وشعبة الرياضيات تسع مرات (2011، 2012، 2014، 2015، 2016، 2018، 2019، 2021، 2024) وتكرر موضوع الحق والواجب وابعاد العمل والفرضية في البكالوريا التجريبية 2025 بصورة مخجلة تثير الغثيان.

هذا الفارقُ ليس تقنيًا فحسب، بل هو انعكاسٌ لأزمةِ يمر بها الدرس الفلسفي عندنا حيث تم تحويل الطالبِ الى رهينة لثقافة التكرار والميل الى الفعل السهل ثقافة جعلت الجهل مقدسا ومؤسسا وبدل من الدفع بالتلميذ الى خوض تجربة وجودية قوامها الحرية والمسؤولية— كما أراد سارتر — وغرس فضيلة التواصل معه داخل القسم وخارجه وفق مبدأ الصدق والصداقة كما كان ينصحنا المرحوم البشير ربوح وتعميق فهمه لذاته اثناء صياغة مواضيع امتحان الفلسفة من خلال ترسيخ ثقافة الوعي النقدي كما كان يقول باولو فيريري تم اقصاؤه و تحويلَهُ إلى ببّغاءٍ يردّدُ مقولاتٍ مفصولة من سياقها الفلسفي بلا وعيٍ ويسرد الفاظ وعبارات بلا تحليل وتفكيكٍ وبلا نقد وبالمحصلة تم تحويله الى كائن يتغذى على الغش ويتعايش معه.

هذه الوضعية التي تتنافى مع الروح الفلسفية تدفعنا الى تقديم هذه 'المقابسات' المستمدة من نماذج قدمها أساتذة في التعليم الثانوي لمادة الفلسفة في فرنسا وهي نماذج يمكن الاستفادة منها والاستثمار فيها فالفلسفة تمتاز بطابعها الإنساني ثم ان هذه النماذج تفتحُ البابَ لتساؤلاتٍ حرجةٍ الإجابة عنها تسمح لنا بفتح كوة في غرفة مظلمة قد تتحول الى قبس من نور: لماذا تخشى الأنظمةُ التعليميةُ العربيةُ الأسئلةَ الفلسفية المُقلقةَ وتميل الى النمطية والتعايش مع ماهو واقع بالفعل؟ وهل يُمكنُ لدرس الفلسفةِ أن يتحرّرَ من قيودِ البيروقراطيةِ والوصاية الأبوية؟ ولماذا تم تحويل درس الفلسفة والمدرسة ككل الى مصنع للطاعة؟ وأيُّ مستقبلٍ لِجيلٍ يُمنَعُ من معاناةِ ولذة التفكيرِ؟

النموذج الأول

هل تخون اللغة الفكر؟

العلاقة بين الفكر واللغة، تمثل مشكلة كلاسيكية عظيمة في الفلسفة!

وسيتم الحكم على المرشحين على أساس دقة وأصالة معرفتهم.

أولا: تحليل الموضوع

موضوع كلاسيكي حول العلاقة بين اللغة والفكر، يسمح لك بالإشارة إلى مفاهيم أخرى في البرنامج (الحقيقة / الفن / الوعي / الإدراك / الآخرين /...) وتعبئة معرفتك بالفلسفة واللسانيات والأدب.

ضبط المفاهيم

- اللغة بالمعنى الواسع، تشير إلى القدرة على إنشاء نظام مفصل من العلامات يسمح بالتعبير. في هذا الموضوع سوف نسلط الضوء على لغة الكلمات.

-الفكر الصعوبة الأولى في هذا الموضوع تكمن في معنى كلمة "الفكر"، والتي ليست ثابتة ولا فريدة، والتي تعتمد إلى حد كبير على الطريقة التي نتصور بها العلاقة بين الفكر واللغة! ولذلك كان من الضروري أن ننطلق من تعريف واسع للغاية، على سبيل المثال: نقول ان الفكر هو مجموعة الظواهر التي تنتجها أنشطة العقل، وسيتم الاشتغال بداية على هذا المعنى داخل الأطروحة نفسها.

-الفعل "خيانة" يثير مشكلة لأنه، في معناه الحرفي، يشير إلى الفعل الطوعي المتمثل في التخلي عن شخص أو قضية من خلال التوقف عن الوفاء لها. لذلك يجب أن نفهم الأمر هنا بالمعنى المجازي: فاللغة لا تعبر إلا عن الفكر بطريقة غير أمينة.

الافتراض الضمني الذي طُلب منك أن نتساءل عنه: هل اللغة مجرد أداة بدائية وغير كافية للتعبير عن الفكر، والتي تفقد نفسها بالتالي من خلال تسليم نفسها للكلمات؟

طرح المشكلة

اللغة التي نستخدمها يجب أن تسمح لنا بالتعبير عن أنفسنا بطريقة تسمح للآخرين بفهمنا. ومع ذلك، هناك العديد من المناسبات التي نضطر فيها إلى التراجع عن كلماتنا لأنها لا تتوافق مع ما كنا نفكر فيه ونريد أن نقوله. على الرغم من أننا اخترنا الألفاظ التي نستخدمها بأنفسنا. فهل يعني هذا أن اللغة يمكن أن تخون الفكر؟ ان الخيانة هنا هي في المقام الأول خيبة أمل لعلاقة الثقة. وإذا كانت اللغة قادرة على خيانتنا، فذلك لأننا اعترفنا مسبقًا بأننا أوكلنا إليها مهمة إخراج أفكار حميمة. فهل الكلمات قادرة على القيام بهذه المهمة؟ هل تستحق الألفاظ ثقتنا؟ أليس في اللغة تشكيل وتبرير لا نجدهما دائمًا في ما نفكر فيه بعمق؟ وهل ينبغي لنا إذن أن نكون حذرين من اللغة؟ وإذا كانت اللغة قادرة على خيانتنا من خلال تحريف ما نقوله، فإنها قادرة، وهو ما يبدو أسوأ، على خيانتنا من خلال جعلنا نقول ما لا نريد أن نقوله، وأحياناً حتى ما لا نعرفه. أليس هذا هو الحال عندما نرتكب زلة لسان؟ وفي كلتا الحالتين (سواء كانت الخيانة تشوه الفكر أو تكشفه)، فإن هذا يفترض وجود فكر قد تشكل خارج اللغة وقبلها. فكيف يمكننا أن نفكر خارج اللغة؟ أليست اللغة هي حال الفكر، بعيداً عن خيانة الفكر؟

تعبئة الموارد والاعلان عن الخطة

01 – الاطروحة (اللغة عقبة أمام التعبير الصحيح عن الفكر)

قد تخون اللغة الفكر من خلال الفشل في واجبها في نسخ الأفكار بأمانة يتجلى ذلك في:

أ) تجربة سوء الفهم: حيث يمكننا أن نتخذ من تجاربنا المشتركة والمتنوعة في سوء الفهم منطلقا للاطروحة الأولى فكثيرا مايقال ("لم أقصد ذلك"، "الكلمات تجاوزت أفكاري"،...) أو في عدم الكفاية ("لا أعرف كيف أعبر عما أشعر به..."، "الكلمات تخذلني...") وهذه الوقائع تسلط الضوء على عدم كفاية اللغة، وحتى عدم أمانتها المحتملة، خاصة وأن بعض الكتاب أنفسهم يشهدون على ذلك: ومن هؤلاء (روجيه مارتن دو جارد) فقد اعترف هذا الكاتب وهو الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لسنة 1937 بخيانة اللغة "الشعور بأن الكلمات كانت تحملني بعيدًا، وتخون أفكاري الحقيقية"

ب) اللغة كقناع للفكر: راي. ديكارت، الذي يأتي سبب الأخطاء بالنسبة له من حقيقة أن "الناس يولون اهتمامهم إلى الكلمات بدلا من الأفكار، وموافقتهم على مصطلحات لا يفهمونها" (مبادئ الفلسفة،) إضافة الى التسرع، راجع الحوارات بين سقراط ومحاوريه (جورجياس على سبيل المثال والبحث عن تعريف البلاغة) يعبر سقراط من خلال أسئلته عن فكرة أن محاوريه، الذين يجرفهم العاطفة، يشوهونها

ج) التمييز المفترض بين النشاط المفاهيمي والنقل اللغوي: راجع مشروع لايبنتز للغة عالمية حيث تشير الإشارات فقط إلى الأشكال التي يتصورها الفهم: التحدث بشكل سيء ليس استخدام الكلمات بشكل خاطئ ولكن "عدم إرفاق أفكار واضحة بها" (مقالات جديدة عن الفهم البشري) ثم تخون اللغة الفكر لأنها لا تحدد الفكرة بالكلمة المقابلة. ثم ان اللغة والفكر حقيقتين مختلفتين من حيث طبيعتهما. هذا هو تحليل برجسون:" اللغة تضفي طابعاً مكانياً على ما هو روحي. ومن خلال تسليم نفسه للغة، يصبح الفكر مشوهًا.

وهكذا تبدو اللغة إذن وكأنها وسيلة غير كافية، وغير متقنة، وغير أمينة للتعبير عن الفكر، حيث يظل الثراء والعمق الذي تتمتع به هذه الوسيلة غير قابلين للوصف. إن الفكر سوف يضيع إذا سلم نفسه، و إذا تخلى عن نفسه في اللغة.

02 – نقيض الاطروحة (جهد الانتباه والبحث عن الحق يكفي لإنتاج خطاب يعادل الفكرة)

- ولكن دعونا نلاحظ أن كل انتقاد للغة يتم من قبل اللغة نفسها، والتي يبدو أنها الدائرة التي لا يمكن الهروب منها. علاوة على ذلك، حتى الفكر الأكثر عمقاً هو عبارة عن كلمة صامتة موجهة إلى الذات. إذا فشلت الكلمات في التعبير عن مشاعرنا، فهل ذلك بسبب عدم كفاية اللغة أم بسبب ارتباك أفكارنا؟

-  يتعين علينا بعد ذلك أن نتصور العلاقة بين اللغة والفكر بشكل مختلف. إن النشاط الداخلي الصرف للعقل لا يصبح حقيقيا إلا من خلال التفكير وفي اللغة. لأنه من خلال تمييز نفسه عن نفسه في النظام المادي للعلامات يصبح فكرة عن نفسه. وهذا هو السبب الذي جعل هيجل ينتقد فكرة أن الفكر الأعلى هو الفكر الذي لا يمكن التعبير عنه؛ إن ما لا يمكن التعبير عنه هو، على العكس من ذلك، فكر غامض، وعاطفة فورية، وصدمة مرضية، أو باختصار، ما لم يصبح بعد فكرًا واضحًا في حد ذاته.

أ) إذا كانت اللغة تخون الفكر، بمعنى أنها تفشل في واجبها في التعبير عنه بشكل صحيح، فإن التفكير بطريقة صحيحة كاف لإصلاح هذا "الخطأ". يتم "تصحيح" خيانة اللغة بالفكر من خلال ممارسة التفكير المنهجي: إذا فكرت بشكل صحيح، فلا يمكنني التعبير عنه إلا بوضوح.

ب) اللغة أداة يجب تأديبها من خلال ممارسة العقل: راجع ديكارت: "إن التجمع الذي يحدث في الاستدلال ليس تجميع الأسماء بل التجمع الذي تدل عليه الأسماء" (مبادئ الفلسفة) يمكن الإشارة الى (ميرلو بونتي) هناك فكر فقط لأن المعنى مبني مع الآخرين، والكلام ليس "علامة" الفكر، فإنهم "ملفوفون في بعضهم البعض" (ميرلو بونتي، فينومينولوجيا الإدراك) للانتقال من اللغة الرسمية إلى الكلام البشري لإظهار أن عمل الكشف عن الفكر يتم لأن هناك ذاتية بين كائنين من الخطاب يتكشف الفكر في فضاء اللغة، لأن "الكلمات ليس لها معنى، لها استخدامات فقط" (فيتجنشتاين)

ج) التطابق الصارم بين العلامات والأفكار: راجع مشروع لايبنيز ا للرياضيات العالمية: تشير الكلمات إلى أفكار كونية، كما تبين لغة الرياضيات، ما هي المشكلة ليست اللغة بل اللغات والاستخدام الخاطئ للعقل

3- التوليف

ومع ذلك لماذا إذن هذا الشعور المستمر بالخيانة؟

ينبغي استكشاف العديد من سبل التفكير.

سيكون هناك فرق بين اللغة الشائعة، اللغة اليومية، والتي هي مفيدة اجتماعيًا ولكنها غير شخصية وسطحية؛ واللغة الأدبية أو الشعرية أو الفنية بشكل عام، لم تعد مجرد أداة للتواصل بل أصبحت تعبيرًا عن "ذاتنا العميقة"، على حد تعبير برجسون. ومن خلال التواصل بشكل مفيد ولكن سطحي في الحياة اليومية، فإننا سنحصل على الانطباع الضمني والإحباط الناتج عن "خيانة" التعبير عن فرديتنا.

وهذا يقودنا إلى التساؤل حول صعوبة تحديد الحدود بين الاحساس والمفهوم، والإمكانيات التي توفرها اللغات الفنية المختلفة. وعلى نفس المنوال، يطرح الموضوع ضمناً مشكلة وجود فكر لاواعي من شأنه أن يفضح نفسه في لغة زلة اللسان، والأفعال الضائعة، والأحلام.

وهنا علينا

أ) العودة إلى الفكر كمخاطرة وكبحث عن الحقيقة في الحوار: التفكير هو التساؤل مع الآخرين عن معنى الكلمات (راجع الحوارات السقراطية)

ب) يمكن للغة أيضا أن تكشف عن فكرة ضمنية أو حتى غير واعية: تذكر النهج الفرويدي حيث اللغة هي ما يجلب الأفكار والرغبات اللاواعية.

الخلاصة:

لقد حاولنا أن نظهر أنه إذا كانت اللغة قادرة على خيانة الفكر، فليس بمعنى أنها لا تؤدي وظيفة عبودية تتمثل في نسخ فكرة نقية وواضحة ومتميزة، بل إنها كلها خطر تقميط الخيانة، أي الكشف الكامل عن العمل السري للفكر الذي يجسد في التجربة الإنسانية للقول. يمكن للمرء أن يتساءل بعد ذلك عما إذا كانت اللغة الشعرية أو الفنية ليست مكان الفكر الذي لا يتم خيانته بل يتم تقديمه ونشره في التجربة الجمالية.

النموذج الثاني

هل المناقشة تعني نبذ العنف؟

يعد هذا الموضوع كلاسيكيًا في المناقشة العامة، لكنه غير متوقع بالنسبة لتلاميذ البكالوريا لأنه لا يحتوي بشكل مباشر على موضوع جاهز في البرنامج بل يحمل معناة فكرية.

ومع ذلك، يمكن ربط الموضوع بالمفاهيم التالية: اللغة (مناقشة)، والعدالة، والدولة (العنف).

أول شيء يجب فعله هو البدء من فكرة مسبقة إيجابية: المناقشة يمكن أن تساعد في تجنب العنف؛ ولذلك فإن من يجادل، بدلاً من القتال بالمعنى السيئ للكلمة، يجب عليه أن يتخلى عن العنف.

وهكذا فإن الموضوع يستلزم التمييز: المناقشة، والتي من شأنها أن تجلب إن لم يكن السلام، فعلى الأقل التهدئة في العلاقات الإنسانية؛ وتجنب العنف.

ولكن على العكس من ذلك، قد يتساءل المرء عما إذا كانت اللغة وفعل المناقشة هما اللذان يثيران العنف: فالكلمات والأحكام في المناقشة يمكن أن تكون عنيفة بالفعل. في هذه الحالة يجب علينا الامتناع عن مناقشة الاخر. ماذا أفعل إذن؟ هل يجب علينا أن نتوجه مباشرة وبشكل ملموس إلى أعمال السلام، أم يجب علينا الامتناع عن أي لغة وإظهار اللامبالاة؟

وهنا يمكن صياغة السؤال على النحو التالي: هل يعني النقاش نبذ العنف أم على العكس من ذلك استفزازه؟ أليس المناقشة جدالاً؟

من السهل تعريف كلمة "مناقشة" (الحوار بهدف الوصول إلى حل)، لكن مفهوم العنف يحتاج إلى فهم دقيق: فالعنف هو فعل أو كلمة تفرض على انسان ما سلوكا دون موافقته. ويجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الأشكال المحتملة لهذا العنف: العنف الجسدي، العنف اللفظي، العنف الإداري أو السياسي، العنف النفسي، الخ.

بالنسبة لتعبئة الموارد المعرفية اثناء لحظة التحليل هناك بعض المؤلفين المحتملين:

- أفلاطون (جورجياس) نقد المناقشة البلاغة البحتة للسفسطائيين الذين يريدون إعطاء الانطباع بأنهم على حق وأنهم يتغلبون على المحاور، في حين أنهم لا يملكون الحقيقة.

- هوبز (ليفيثان) الإنسان عنيف بطبيعته ويحتاج إلى حالة من العنف، إذا جاز التعبير دون نقاش، من أجل سلامة الجميع.

- روسو (العقد الاجتماعي (أصبح الإنسان عنيفًا وفاسدًا بسبب المجتمع؛ يتضمن العقد الاجتماعي مناقشة شروط الدولة العادلة والمسالمة.

- كانط، (مشروع السلام الدائم (الدبلوماسية فقط، والمناقشة، هما القادرين على جلب السلام بين الأمم)

- شوبنهاور(فن أن تكون على حق دائمًا (هدف المناقشة هو أن تكون على حق وتثبت خطأ الآخر.

ومن الممكن التفكير وفقًا للخطة التالية:

إن الجدال هو استفزاز للعنف

- الجدال هو خداع الآخر من أجل أن يكون على حق، من أجل السيطرة على الآخر (العنف النفسي)، حتى لو لم يكن الشخص يمتلك الحقيقة. أفلاطون، جورجياس، نقد السفسطائيين.

- الجدال هو صراع على السلطة ويؤدي إلى النزاعات، وليس السلام. شوبنهاور، فن أن تكون على حق دائمًا: لكي تكون على حق، يجب عليك ألا تتردد في إهانة الآخرين، على سبيل المثال؛ واستخدام العنف اللفظي.

- إن الكلام باعتباره مناقشة زائفة قد يصاحب العنف (العنف المنزلي، الانحراف النرجسي، وما إلى ذلك)

- الدبلوماسية كمحاولة للمناقشة ضد كل أشكال العنف: خذ مثالا تاريخيا (اتفاقيات كامب ديفيد).

ولكن السلام يجب أن يكون دائمًا، ويتم في ظل ظروف عادلة، وليس من خلال معاهدة تكون بمثابة سكين يوضع على حلق الآخر: كانط، مشروع السلام الدائم.

- على المستوى السياسي: المناقشة كوسيلة رئيسية للنقاش العام والمشاريع المجتمعية. روسو: مفهوم العقد الاجتماعي.

- الصمت واللامبالاة كوسيلة للتعبير عن الغضب أو الاستياء العنيف. الرواقية: "التحمل والامتناع"، الامتناع عن الكلام وقبول ما يحدث.

- العنف الحكومي (الذي يتألف من أفعال وقوانين مفروضة وليس مناقشات المواطنين) مقابل العنف الطبيعي للإنسان (الذي يتم التعبير عنه على وجه الخصوص من خلال الكلمات والأحكام السلبية): يفضل الرجال الأمن من خلال الوسائل القمعية ضد الخارجين عن القانون، بدلاً من المناقشات التي ستكون عقيمة وغير صادقة. هوبز، ليفيثان.

ويمكن الخروج في الخاتمة بسؤال جديد: هل العنف البشري طبيعي أم ثقافي؟

النموذج الثالث

هل يفلت اللاوعي من جميع أشكال المعرفة؟

يعتبر هذا الموضوع كلاسيكيًا ولكن غير متوقع تمامًا بالنسبة للبكالوريا لأنه يطرح مفهومًا للبرنامج يظهر نادرًا جدًا في الامتحان الوطني: هو موضوع اللاوعي.

يمكن أيضًا ربط الموضوع بالمفاهيم التالية: الوعي (اللاوعي هو ما لا ندركه)، والعقل والعلم (هل هما وسيلتان لمعرفة اللاوعي؟) والفن.

علينا أن نبدأ هنا من التمييز بين اللاوعي والمعرفة: هل يفلت أحدهما من الآخر بطبيعته، بحكم التعريف؟ ويجب علينا أيضًا أن نأخذ في الاعتبار الفرق بين الوعي والمعرفة: إذا كان اللاوعي يفلت من الوعي بحكم التعريف، فهل يفلت بالتالي من أي نوع من المعرفة؟ فما هي أشكال المعرفة إذن؟

إن جوهر السؤال هو ما إذا كان اللاوعي للذات الإنسانية يظل بالضرورة في جهل بهذا الذات نفسها أو بذوات بشرية أخرى، أو على العكس من ذلك، ما إذا كان العلم والعقل على وجه الخصوص قادران على معرفة اللاوعي.

وإذا أعيدت صياغة السؤال، فقد يكون: هل يفلت العقل الباطن من جميع أشكال المعرفة؟ بل على العكس هل يمكن معرفته؟ إذا كان الأمر كذلك، فمن خلال أي نوع من المعرفة؟ ولماذا ولأي غرض؟

بالنسبة لتعبئة الموارد المعرفية اثناء لحظة التحليل هناك بعض المؤلفين المحتملين:

- أفلاطون، اعتذار سقراط ؛ أيون.

- ديكارت، التأملات الميتافيزيقية، الردود الرابعة على الاعتراضات.

- فرويد، مدخل إلى التحليل النفسي.

- فرويد، تفسير الأحلام.

- شوبنهاور، العالم كإرادة وتمثل.

ومن الممكن التفكير وفقًا للخطة التالية:

إن اللاوعي يفلت من أي شكل من أشكال المعرفة

اللاوعي هو صفة من فقد عقله وليس له علم. أفلاطون، اعتذار سقراط أو أيون: نقد الشعراء "المُلهمين" الذين لا يعرفون ماذا يقولون.

إن ما يفلت من الوعي لا يمكن، بحكم التعريف، أن يكون موضوعاً للمعرفة. الأفكار اللاواعية غير موجودة. ديكارت، الرد الرابع على الاعتراضات، تأملات ميتافيزيقية.

إذا كان اللاوعي موجودًا، فهو لا يفلت من المعرفة التجريبية. نرى ذلك يوميًا في الحقائق، وفي الآخرين، وفي أنفسنا: زلات اللسان، والأفعال الضائعة، والأحلام. فرويد، مقدمة في التحليل النفسي.

ولا يفلت من المعرفة العقلانية والعلمية والتحليلية، ولا سيما من خلال التحليل النفسي، الذي يتمثل دوره في الكشف عن اللاوعي، ومعنى الأحلام، ومعرفة أسباب العصاب، والأفعال الوسواسية أو القهرية. فرويد، تفسير الأحلام. إن هدف معرفة اللاوعي هو إذن علاجي.

اللاوعي لدى الفنان المعبر عنه من خلال عمله أو: المعرفة الجمالية للاوعي. مثال السرياليين ونظرية الصدفة الموضوعية.

اللاوعي لدى الفنان معروف من خلال تمثيلات الإرادة. مثال الموسيقى (شوبنهاور، العالم كإرادة وتمثيل، التي تمثل اللاوعي للقوى الطبيعية أو المشاعر الإنسانية

يمكن في الخاتمة الخروج بسؤال جديد: إذا كان اللاوعي مبدعًا ويقدم معرفة جمالية، فهل من الضروري حقًا السعي إلى معرفته بطريقة عقلانية وعلمية؟

***

علي عمرون

 

هل يقدّم المثقف العربي أعماله اليوم من أجل تثقيف المجتمع أم من أجل إظهار ثقافته للمجتمع؟

هل ستضطر الثقافة العربية المعاصرة الى التخلي عن أهم مزاياها في شخصية المثقف العربي وهي التأمل والإبداع والنقد الذاتي؟

في عصر الآلات الذكية، هل نشهد ظهور ثقافة جديدة بين الإنسان والآلة؟

من سيؤثر في الأخر. الإنسان أم الآلة؟

يمكن القول ان المجتمع العربي على مدى عشرين عاماً منذ بداية القرن الواحد والعشرين يعاني من متلازمة نفسية  إجتماعية  ثقافية، حيث كثرة المشاكل والهموم المتشابهة على الرغم من اختلاف العادات والطباع والتقاليد في مجتمعات العالم العربي، فهناك اعراض لأنماط سلوكية غريبة آخذة بالإنتشار في الأوساط الإجتماعية، لا تجد من يعالجها رغم تشخيصها.

من اعراض المتلازمة الإجتماعية النفسية الثقافية، الشعور بالغربة داخل الأوطان، والرغية بالعزلة بوجود اجهزة التقنية المتطورة كالانترنت والموبايل، وحالات التنمر الإجتماعي، والتمرد السلوكي، والتمظهر الثقافي، وحب الظهور، والمراهقة المرافقة للنمو المعرفي والمكانة الإجتماعية والمواقع القيادية.

مهمة الثقافة العربية اليوم القيام بإعادة بناء أكبر عدد ممكن من صفحات التاريخ الثقافي للمجتمع العربي تؤهله لإقامة نظام قادر على مواكبة التطورات والتغيرات العالمية وتأثيراتها المحلية. لا تكمن المشكلة في وجود أو عدم وجود مثل هكذا مهمة أو مبادرة، فقد انبرى عدد من المفكرين والكتّاب والمثقفين العرب للبحث والعمل على تحقيقها. لكن المشكلة تكمن في السؤال عن موقع الثقافة العربية اليوم في دائرة الزمن. هل هي ضمن دائرة الزمن المعاصر؟ هل لديها من الوقت ما يكفي لإعادة بناء اكبر عدد ممكن من صفحات تاريخ الثقافة العربية؟

ربما لا يبدو ان الوقت يسمح لها بذلك، حتى إذا سمحت لها الإمكانات الذاتية والإمكانات الجمعية بالقيام بهذه المهمة.

مشكلة الثقافة العربية اليوم متعلقة بحال العقل العربي الذي لا يظهر انه عقل ديني في بحثه عن تطور العلم. ولا هو عقل لا ديني في بحثه عن تطور المجتمع. هو عقل انفعالي محكوم بأدوات تفكير دينية واجتماعية وتاريخية وسياسية، تهيمن عليه على وفق درجة فاعلية كل منها في التأثير.

مالم تتمكن الثقافة العربية من إعادة هيكلة تفكير العقل العربي المعاصر على وفق أسس موضوعية، انسانية، لن تشهد مجتمعاتنا تمكناً ثقافياً. ستبقى حياتنا عائمة على بحر من المفاجآت، كثيرها ضار، وقليلها سار، تعصف بها امواج التغيير جيئة وذهاباً، والناس فيها على حذر وقلق وترقب، لا يجدون في النفس متسعاً من هدوء لإعادة ترتيب الأفكار وتحديد المسار.

لذا فمن اولويات عمل مشروع الثقافة اليوم الإهتمام بالحالة الصحية لثقافة المجتمع في زمن تكثر فيه التفاهات والمتاهات، مثلما تكثر فيه المعلومات والبيانات.

لأن من شأن حيل التكنلوجيا ان تنشئ واقعاً لا يعرف ما اذا كان حقيقياً أم مزيفاً، هنا ستواجه الثقافة  مشكلة لا

أظنها قادرة على معالجتها، خصوصاً ان الثقافة العامة للناس اخذت تتشكل على وفق معطيات رقمية، إذا وظفت فيها حيل التكنلوجيا نتج عنها ثقافة وهمية هدفها إخضاع المجتمع لمؤثرات مرحلية يحكمها نظام عالمي يعمل بمشاريع سياسية واقتصادية وثقافية بتقنية رقمية في فضاء افتراضي 

يوفر بدائل سهلة ومقبولة لها تأثيرها في المشهد الإجتماعي الثقافي، مثل حضور الصورة بدلاً عن جهد الكتابة الذي يبذله المثقف في صياغة عبارة وكتابة مقالة وتأليف كتاب، فالتقنية تتيح تحويل الكلمات الى صورة، وترجمة الفكرة الى صورة. هنا سيتراجع حضور اللغة في حركة الثقافة، وستحل محلها خوارزميات ومعادلات رقمية توفر السرعة وتختزل كثيراً من الحبر والورق والكلمات. بهذه النتيجة سيكون مستقبل الثقافة العربية مهدداً بظهور ثقافة رقمية كشفت عن جانب منها بعض المنشورات والتعليقات لبعض متداولي مواقع التواصل الإجتماعي يمكن وصفها بتغيير طريقة التعبير اللغوي بواسطة الاستخدام التقني للحرف العربي، فلكي تعبر عن إعجابك تكتب ( روووووعة) أو ( رااااااائع ) بدلاً عن عبارة تصف ذلك الإعجاب. ولكي تظهر حجم انفعالك وتأثرك تكتب (أللللللللله أكبر). ولكي تظهر عاطفة قوية تجاه شخص ما تكتب  (أحببببببببك) أو (أحبك حيييييييل) وهكذا..

ثقافتنا العربية اليوم أمام منعطف يبدو خطيراً، أفرزته وقائع الأحداث، يتعلق بمصير الثقافة بين التدريب النفسي والتدريب الذهني، ودخول التسارع الزمني على خط إدارة هذا التدريب أو ذاك، فالحالة التي يظهر عليها المجتمع انه مجتمع مثقف هي في الغالب حالة ناتجة عن تدريبه نفسياً على تقبل مظاهر سلوكية واعتبارات معينة بإكسسوارات مظهرية، ولعل ما ينتجه سلوك أفراد في مناسبات معينة مثل خسارة فريق امام آخر في لعبة كرة قدم من عراك واشتباك وتحطيم لزجاج السيارات وتخريب للطرقات وغيرها. يدلل على ان تلك الثقافة التي عليها اولئك الأشخاص هي حصيلة ذلك التدريب والتعويد النفسي، وليست حصيلة التدريب الذهني. هذا يعني ان المجتمع يضيّع من عمره كثيراً في اعتياد ثقافة التدريب النفسي على حساب ثقافة التدريب الذهني، لأن ثقافة التدريب الذهني تجعل من الشخص متحكماً بانفعالاته، قادراً على ايجاد مخرج لأزماته، لكن بسبب اختلال وظيفة التدريب في عملية التربية والتعليم، ودخول المجتمع في فترات من القلق والإضطراب النفسي والشد العصبي وانماط الحياة الروتينية الرتيبة لفترات تتراوح بين عقد وعقدين من السنين، ظهر في المجتمع اشخاص ناضجين جسمياً، لكنهم مراهقين عقلياً، كمراهقة المسنين، ومراهقة السياسيين، ومراهقة المتعلمين، ومراهقة المتدينين، فقد سجلت أحداث البلاد ظواهر غريبة ومزعجة، كانت محط إنتقاد المجتمع، ورفض الذوق العام. منها التدني الأخلاقي لسلوك أكاديمي داخل الحرم الجامعي، وغياب الحس المسؤول لموظف حكومي، وموت الضمير الإنساني والوطني لمسؤول سياسي، وسقوط المبادئ والقيم في سلوك معمم او معلم.

هنا تصبح الثقافة العربية المعاصرة أمام مسؤولية شاقة، وأمام  دور خطير قد لا يكتب لها النجاح في أدائه في ظل استمرار أحوال العالم العربي على ما هي عليه اليوم من تراجع ملحوظ في فهم الصدق والعدل والحرية.

 يحتاج مفهوم الصدق السياسي الى قوة اقتصادية كبيرة تحرك عقل السلطة بإتجاه إنتاج قرارات إصلاحية قوية. يهيمن النظام العالمي اليوم على مصدر قوة الإقتصاد العالمي ويحركها بعيداً عن طبيعة المجتمعات في حاجاتها الثقافية، لذلك نما في تفكير العقل السياسي مفهوم الخداع بمرور الوقت كي يتمكن من إدارة أوهام الجماهير، فبينما يغرق المجتمع في تفاصيل الحياة الجديدة، يلجأ العقل السياسي الى خداع الجماهير والكذب عليهم من أجل كسب مزيد من الوقت في السلطة، ومزيد من الأصوات في الإنتخابات. المشكلة التي تواجهها الثقافة العربية اليوم هي ان جيل المستقبل سيجد نفسه يتداول ثقافة قائمة على هذه المفاهيم المغلوطة والضارة والسيئة. وجود هذا النوع من التداول الثقافي يهيئ لأرضية يتم عليها تخريب المجتمع وهدّ بنائه الأخلاقي والقيمي، قبالة تشييد بنائه العمراني. من ذلك الزيف نجد ان كثيراً من بلدان العالم العربي اليوم توصف بأنها بلدان متمدنة، ديمقراطية، بينما تكشف الأحداث عن حجم التلاعب في صناديق الإقتراع، وحجم التلاعب في ميزانية الدولة، وحجم التلاعب في مقدرات الناس، هكذا يصبح الناس محكومين من سلطة تخدعهم، ويعلمون انها تخدعهم. بهذا الحال تكون الثقافة العربية المعاصرة في موقف محرج جداً، لأنه سيتعذر عليها تحديد أي جزء في بدن المجتمع هو القادر على كشف الحقيقة، وأي جزء في بدن الإنسان هو القادر على كشف الخداع، وأي جزء في تفكير الإنسان هو القادر على إجتياز هذه الإختبارات بنجاح لصالح الحقيقة والصدق.

يبدو ان الثقافة هي الأخرى قد تأثرت بالسوق الإستهلاكية وبروتين الحياة اليومية في غمرة الإنتاج والإستهلاك العالمي. إذ لم يعد من السهل دعوة الناس الى توظيف ثقافة موضوعية في حياتهم الإستهلاكية الروتينية، لأنه لم يعد مع الناس ما يكفيهم من وقت لتلبية هذه الدعوة، مع علم كثيرين ان التغيير السريع والتطور المذهل للتقنية سيفرض عليهم ان يتحولوا الى اشخاص مستهلكين (بفتح اللام) بعد ان يمضوا وقتاً من حياتهم كمستهلكين (بكسر اللام). هنا ستصبح الثقافة في ورطة كبيرة، فلا هي قادرة على التعاطي مع الواقع المادي الرقمي المجرد، ولا هي قادرة على تقديم بدائل آمنة تحفظ حاضر الناس وتضمن مستقبلهم. فلا العقل السياسي الجديد يدعمها في مشروع تمكين المجتمع ثقافياً، ولا العقل الديني الكلاسيكي.، ولا ثقافة المجتمع الشعبية، ولا ظروف الناس الإقتصادية. ولا أجندات المؤسسة الثقافية الرسمية. 

***

د. عدي عدنان البلداوي

في العراق، حيث تتشابك الأقدار وتتصارع الحقب، يُعاني المثقف أكثر من غيره، ليس لأن دوره أقل أهمية، بل لأن مهمته أشد خطورة وتعقيدًا. المثقف هو ضمير الأمة ومرآتها، ومع ذلك، يجد نفسه محاصراً في دوائر العمى الجماعي، حيث تُحاصر الحقيقة بالظلام، وتُلفظ الكلمة المضيئة في فضاء يسوده الصمت والخوف. في هذا الوطن الذي يُفقد فيه الإنسان إنسانيته يوماً بعد يوم، يتحول المثقف إلى كائن خارج الزمن، يُعاقب على وضوحه، ويُطارد من قبل من يخافون من انبلاج فكره.

المثقف العراقي، إذًا، هو سجين في وطنه، سجين بين جدران الجهل، وسجان بين أيدي من يَستخدمون المعرفة كسلاح للقمع والتدمير. وهذا السجن ليس بالسلاسل أو القضبان، بل هو سجن أيديولوجي وثقافي، يتغلغل في كل نسيج الحياة.

الجهل: القوة المنظمة

الجهل في العراق لم يكن يوماً حالة عابرة أو صدفة، بل هو مشروع مُدار بدقة، وأداة بيد قوى متعددة تسعى للحفاظ على أنظمتها عبر التعتيم والإنكار. ليس الجهل نقص المعرفة فحسب، بل هو نظام متكامل يُنتج ويُعاد إنتاجه يومياً عبر وسائل الإعلام الموجهة، التعليم المُضلل، والخطابات السياسية والدينية التي تُصنع على مقاس الحفاظ على الوضع القائم.

هذا الجهل هو الذي يُعاقب على طرح الأسئلة، ويُجرّم الشك، ويُحرم من حرية التفكير. في العراق، يصبح الجهل سلطة، والجاهل هو من يحتكر الحقيقة، أو يدّعي احتكارها. المثقف هنا يواجه عدوًا لا يُرى، لكنه ملموس في كل مكان؛ هو التيه الثقافي الذي يبتلع الوعي، ويحوله إلى بقايا أثرية هامدة.

المشكلة في العراق ليست في قلة المثقفين، بل في كثرة من يرتدون قناع الثقافة ويمنعون عنها نورها¹.

المثقف بين الاستلاب والالتزام

المثقف الحقيقي في العراق، وفي كل مكان تُهيمن عليه سلطات الجهل، يعيش صراعًا داخليًا مريرًا بين الاستلاب والالتزام. الاستلاب هنا يعني الانسياق وراء التيار، والقبول بالتكتيكات الرخيصة التي تخدم السلطة، والانغلاق في دائرة الدفاع عن الذات بدلًا من الدفاع عن الحقيقة.

أما الالتزام فهو أن تبقى وفياً لمهنتك الروحية والفكرية، رغم كل الإغراءات والتهديدات، وأن ترفض أن تتحول إلى مجرد صوت في جوقة الإذعان. كما يقول جان بول سارتر، الالتزام هو ما يجعل المثقف إنسانًا كاملاً، وليس مجرد حامل أفكار2.

لكن في العراق، الالتزام يُعاقب. يُعاقب المثقف لأنه يُذكّر الناس بأنهم ليسوا مضطرين لقبول واقعهم كما هو، وأن هناك إمكانات أخرى للحياة والحرية. وهذا ما يجعل المثقف دائمًا هدفًا لمن يحكمون بالجهل.

الوعي الزائف وفساد الثقافة

أنطونيو غرامشي وصف الوعي الزائف بأنه وعي يُبنى وفق مصالح قوى الهيمنة، لا مصالح الإنسان الحقيقي. في العراق، هذا الوعي الزائف يتجلى في ثقافة مقلوبة، تُقدّس الرموز الفارغة، وتُشيّد الأساطير التي تُبرر الخضوع والذل. الثقافة تتحول إلى أداة لتجميل القمع، وتزيين الفشل، بدلاً من أن تكون حاضنة للتغيير والتنوير.

حين يصبح المثقف أداة لتكرار الوعي الزائف، يتحول إلى جزء من المشكلة، لا الحل. وفي هذا السياق، التحدي الأكبر للمثقف العراقي هو مقاومة هذا الوعي الزائف وكشفه أمام الناس، مهما كلفه ذلك من ثمن.

التنوير كمقاومة

التنوير ليس رفاهية فكرية، بل هو فعل مقاومة بحد ذاته. كما يقول أدونيس، كل تنوير هو تمرّد ناعم على القطيع3. في العراق، حيث القطيع يُرغم على السير في دروب الجهل، يصبح التنوير ضرورة وجودية، وليس خيارًا.

المثقف الذي يضيء شمعة في هذا الظلام، لا يضيء لنفسه فقط، بل لكل من يرفض أن يعيش في قوقعة الجهل والخوف. الكتابة، الحوار، النقد، والبحث عن الحقيقة كلها أفعال مقاومة تعيد بناء الإنسان العراقي في جوهره.

أن تكتب في بلد يحارب المعرفة، هو نحت حروفك في صخر الصمت، وصنع من وجعك مصباحًا في نفق طويل.

المثقف والواقع العراقي

إن المثقف العراقي لا يمكن أن يكون منفصلًا عن واقع بلده؛ فهو جزء منه، ومرآته، ومحرّكه. لكن الواقع العراقي معقد، متشابك، مليء بالتناقضات والآلام. المثقف مطالب بفهم هذه التناقضات وتفكيكها، ليس فقط ليعبر عن معاناة وطنه، بل ليصنع أدوات التغيير.

في وطن يُصلب فيه الإنسان يوميًا على أعمدة الجهل، لا بد للمثقف أن يكون أكثر من مجرد ناقل للأفكار؛ يجب أن يكون صانعًا للرؤى، وصاحب مبادرات تُحرر العقل وتفتح الأبواب المغلقة.

خاتمة والناتج

المثقف لا يُقاس بعدد الكتب التي قرأها، بل بعدد الأوهام التي حاربها. وإن لم يكن قادرًا على تفكيك الأكاذيب التي وُرِّثت للأجيال، فعليه أن يصمت كي لا يضيف إليها كذبة جديدة.

أنا لا أكتب لأنني أمتلك الحقيقة، بل لأنني ضاق بي الزيف. أكتب لأن الإنسان في بلدي يُصلب كل يوم على أعمدة الجهل، ولا أحد يصرخ.

سيأتي الزمن الذي يُسأل فيه المثقف أين كنت حين ساد الباطل؟ فإن أجاب كنت صامتًا، فليعلم أن صمته كان جريمة.

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

....................

الهوامش:

2. غرامشي، أنطونيو. دفاتر السجن، الجزء الثاني.

3. سارتر، جان بول. الأدب والالتزام، ترجمة محمد بندور.

 

في المثقف اليوم