قضايا

نحو تعزيز للكفاية القرائية والتواصلية

لا يرتبط هذا الموضوع بصعوبة القراءة وتهجية الحروف، عند تلاميذ المرحلة الثانوية، فهذا العائق اللغوي واللساني يمكن أن يُطرح في المرحلة الأولية والابتدائية، فأين يتجلى إذن عُسر القراءة لدى التلاميذ؟ وماهي أسبابه؟

إن القراءة التي نقصدها هنا هي القراءة التي تتبناها نظرية التواصل وتحليل الخطاب، إنها القراءة التحليلية البسيطة لمختلف البلاغات، والبيانات التي تقصد الإخبار لا غير، وأما الفهم؛ فهو مرتبط بمؤشرات القراءة التحليلية، ودرجات الفهم المتحصل عليها. يعرف البلاغيون البلاغة بالإبانة، والقدرة على إيصال المعنى، ويتحدث اللسانيون عن الرسالة لكونها حلقة تواصل بين المرسل والمرسل إليه، بينما يؤكد التربويون، على ضرورة تحقيق التواصل بين الذات والموضوع في إطار بث الخبر/ الرسالة/ المحتوى. من هذا المنطلق يستفسر أحيانا بعض التلاميذ عن مضمون بلاغ معين بعد انقضاء أجله، أو يتساءلون بسذاجة بالغة مثلا: الدراسة توقفت ليوم السبت هل ستتوقف يوم الاثنين؟، علما أن البلاغ كان بسيطا في صياغته، يحدد بخط عريض عن توقيف الدراسة ليوم واحد فقط. إن سؤال هؤلاء التلاميذ لا ينبغي أن نمر عليه، دون الانتباه إلى خطورته ولا ينبغي اعتباره سؤالا طبيعيا، قد يرى البعض بأنها مبالغة في الطرح، مادام عينة قليلة اختلط عليها الأمر، وتشابهت عليها البلاغات واستشكلت. إن الموضوع يرتبط بمسؤولية كبيرة، مسؤولية الأطر التربوية والإدارية والأسرة، والإعلام.

لا شك أن التلميذ لم يتوصل إلى قراءة البلاغ، ولم يهتد إلى فهم مضمونه، أو أن سؤاله يضمر سؤالا آخر: هل هناك بلاغ جديد يفيد بتوقيف الدراسة ؟ في جميع الأحوال فإن السؤالين يكشفان عن ضعف قراءة التلميذ للبلاغات، وضعف تتبعه للمستجدات، الأول نصنفه ضمن الكفاية القرائية، والثاني يقع ضمن الكفاية التكنولوجية التواصلية، هذه التي تحدثت عنها بإسهاب "العلوم الرقمية".

كيف إذن يتم تحقيق هاتين الكفايتين على مستوى المؤسسات التعليمية ؟ لا يمكن لحيز هذا المقال الإحاطة الشاملة بالسؤال ولكن حسبنا آثرنا إشكالية معرفية وتربوية، وسوف نقدم بعض المقترحات العملية، لعلها تضيء الإشكال.

ـ أولا: ضرورة التعامل مع النصوص والصور بوصفها محفزات للسؤال، وليست محتويات جاهزة يتم تحديد عناصرها ويجب على الأستاذ تحفيز المتعلم لفهم وقراءة النص/ الصورة عبر استثارة أسئلة منهجية إشكالية.

ـ ثانيا: تجميع الأفكار والأسئلة وصياغتها ضمن مضمون واحد، ومناقشة الاختلافات بينها.

ـ ثالثا: وضع التلميذ في وضعية مشكلة بسؤال مثلا ماذا ينقص النص/ الصورة لكي تكون على جانب من القراءة والفهم.

ـ رابعا: اعتماد المقارنة بين النصوص والصور.

ـ خامسا: استحضار النصوص/ البلاغات الموازية وقراءتها.

ـ سادسا: اعتماد مهارة البحث عبر مواقع التواصل، ومواقع الأنترنيت للوصول إلى الخبر.

ـ سابعا: الدعوة إلى صياغة النصوص والصور وترك حرية للتلاميذ للتعبير عنها عبر مجموعات صفية.

ـ ثامنا: انفتاح مجالس الأقسام على الإدارة التربوية، لمناقشة الإعلانات/ البلاغات وجدواها.

ـ تاسعا: مشاركة التلاميذ في صياغة المحاضر، وتقارير مجالس المؤسسة وإعلاناتها.

ـ عاشراً: الاهتمام بنوادي القراءة، وتطوير المهارات الذاتية والمعرفية.

هذه بعض الاقتراحات نحسب أنها تستجيب لمختلف الكفايات، والمقاربات التي تحرص عليها البيداغوجيا الحديثة وهي الكفاية التواصلية، المهارية، المنهجية، التكنولوجية، المعرفية، المقاربة بالخطأ، بالمشروع...، وتعد رهانات تربوية ينبغي أن تسهر على استحضارها المناهج، والمقررات الدراسية، والممارسات التعلمية التعليمية بشكل يضمن تفعيلها، ويعزز من قيمتها.

***

د. عبد المجيب رحمون

من المُسلمة المنهجية أن التفكير المنطقي ليس بالأمر الهين السهل. فمن الوضعيات الاستعراضات البينية أن نفكر بِكُنه المنطق وبمرات متقطعة، ومن الصعوبة بما كان الاستدامة حتى النهاية بنفس النسق والعزم البنيوي. لذا قد نكون ممن يستنفذ حدود الممكن في تمرير جسور الحياة بين تلك (التناقضات التي لا تتقلص حتما). قد نكون نواجه بُكرة وعشية منطق عيش التلاشي -(المتناقضات غير الارتباطية)- الذي قد يحاصرنا بالعصف والترويض (المُفبرك). قد نكون نقسو بَعْضا من الحال على الذوات (العلوية)، وبلا تعريفات ممكنة مع الآخر (الغائب)، وقد نعيش استثناء انتكاسة من المرض الفكري التعس، الذي لا يمكن توقيفه حتى بغرف الإنعاش العالية الدقة، حينها لن نقدر على معاودة بناء وتوجيه المشاريع الحياتية، ومحاصرة التلاشي بدون صناعة وجه بريق حياتي جديد ولَمَّاع.

لا جدوى إذا في أن يقول المرء الحقيقة، ويبيت غير قادر عن حصاد أثر التغيير والمتغيرات الآلية، لأن المشكلة الركيزة تتمثل في زيادة انتعاشة عبثية الفكر والتفكير، وفقدان الثقة في المستقبل، والانزواء السلطوي خلف عيش العدمية القهرية. فالعيش وفق نمط التساكن مع الكليات (المتناقضة: "الولادة والموت"...) بالطبع ليس بالمتناول السهل للجميع. لأن النتيجة الحتمية تبقى سببا ثابتا بنهايات الموت الحتمي (المشكلات) وبداية حياة جديدة (الحلم والأمل). فمن بين المسوغات الرديئة عند من ينهون حياتهم بالانتحار، يقرون أن الحياة لا تستحق أن تُعاش ضمن صمامات من صمت القلوب وضياع الحقيقة، وتلك هي:(الثغرة التي تفصل بين الرغبة والغلبة).

من الأسباب الرديئة كذلك، أن الإنسان بات يعرف نفسه بالانخداع والمظلومية والاتكالية البخسة، ولا يقدر على تحمل مسؤولياته المنطقية والحقيقية. نعيش نوعا من الشعور المضلل (بهلوانية المنطق !!!)، وحينها قد يحدث الطلاق بين الإنسان وحياته، وبداية العيش بشعور اللاجدوى من الحياة (النهايات الحتمية المتسارعة نحو الموت !!!). فكثيرا ما تحدث رُزمة من المواقف والوضعيات المضحكة غير المألوفة، وقد تحدث في أي مكان بالصدفة، وحتى بمتناقضات الفزع والضحك والبكاء، وفي ظروف مُعينة بالتناسق (التركيب الزمني/ التآلف المكاني). كثيرا من القصص الجميلة وغيرها، تحدث بلا مقدمات ولا سياقات متراكبة، ومنها كذلك بعث الحقائق غير العادية، لكنا في نفس الاتجاه قد نعيش نوعا من الضجر والقلق والتعب في خط وصول النهايات.

من الصعب أن نسكن مواقع الضجر بالاستدامة، لأن الحياة ستعدو نوعا من الإسهال والغثيان غير الآمن. من المعتاد أن الزمن يحملنا بالسرعة والاستهلاك الفوضوي. لكن، لتكن مواقفنا النهائية ترنو نحو حفز المتغيرات الإيجابية، ومحاصرة الضجر، وحمل الزمن نحو المستقبل (الحلم والثقة في المتغيرات). من الصعب أن نقاط القوس لبناء الغد (المريح) غير عادلة بالانحناءة وانطلاقة السرعة، لنترك إذا السلوكات اللابشرية طلاقا ثلاثيا، ونبقى ضمن معادلة البشر (أمانة الخلافة في الأرض)، ونجعل من الحركات الخرساء متعة تُنعش ركح مسرح الحياة، ولما لا نُكسر ظل مرآة (اللاجدوى والعبثية) التي تخنق كل الأحلام والأمل.

نعم، الموت لا تجربة له في الواقع (لأنه ليست هنالك في الواقع تجربة موت !!!)، فجميع التجارب التي نتحدث عنها ناتجة رؤيا وصفية أو مشاهد أليمة من الموت والفقد (تجربة موت الآخرين !!!). من تم، لنتخلص من الزمن العبثي الذي يصنع المشكلة بالتنظير، ولا يفكر في الحل، وتلك هي (الحلقة المفقودة عندنا !!!). بحق الله، قد نمتلك كل شيء، وبنفس القدر لا نستطيع التخلص من اللاشيء !!! وهي القضية التي تستوجب منا الحكمة، وتعيين اللحظة المضبوطة للإدراك وبناء الحلول، والخروج بنباهة التطوير من قصة (حي ابن يقظان).

من إشكالات منطق التفكير الحديث، صعوبة التمييز بين الأشياء الصحيحة والزائفة، في ظل (أسطورة الذكاء الاصطناعي !!!)، لأن فوضى المتناقضات تحكمنا بالروابط الآلية الخالية من المشاعر، وبمعايير الفواصل والتقابلات غير المنطقية واللامرئية. هنا كيفما ما كانت النتيجة النهائية فإنها (ستدمر نفسها بنفسها آليا). بدا مُتكررا، فقد لا نحتاج إلى بيان حقيقة معاكس يومها، بل فقط يجب أن نثبت بأننا نعيش خارج تصنيف (نحن (هو) الوحيد غير الزائف !!!). هنا بالتمام ستكون بداية الخروج من مدوخة المتناقضات غير الارتباطية. 

***

محسن الأكرمين

عندما يبحث الإنسان في الوجود، لا ينحصر هذا البحث في المرئيات أو ما يسمى عالم الشهادة، بل يجد هذا العالم مرتبطا ارتباطا عضويا بعالم آخر، هو عالم الغيب أو اللاوجود، الذي يُعبر عن الميتافيزيقي بالنسبة للفيزيقي، مما يثير في الإنسان التساؤلات حول الحياة والموت، الحضور والغياب، الفعل ومآل الفعل، والله وعالم الغيب الذي نجهله إلا ما أخبرنا به الدين في الكتب السماوية، لا في الحواشي والملحقات على النصوص الأصلية. فهل نعيد قراءة هذا الوجود من جديد أم نستمر في تأمل القديم؟ هل نقرأ امتداد الموجود في اللاوجود؟ وكيف؟

في أواخر العمر، حينما ترسم نسمات الغياب ملامحها الرقيقة على وجه الإنسان، وتلامس الجسد علل النسيم القادم من عالم الضباب، وحين يخف الصوت العالي للطموح وتبهت أصداء العالم من حوله، ويصبح الجسد أخف، وظلا يرتاح من أعباء الماضي، يتأمل الإنسان في ما كان وما سيكون من وراء نافذة المساء، ويبدأ في البحث عن ذاته مجددا، لا تلك التي شكلتها مرايا الآخرين، ولا تلك التي تقمصتها الألقاب والمواقع وهالة الناس، بل ذاته الأصلية، العميقة، الصفية، النقية، الطاهرة مثل ميلاد جديد ونسمات الحياة الأولى، قبل أن تتشكل الذات وتذوب في مياه عوالم الشهادة.

هنا، يحدث انقلاب التأمل، ويبدأ الإنسان في إعادة قراءة نفسه، حيث يتحول بحثه من الخارج إلى الداخل، ومن المرئي إلى الخفي، ومن المحسوس إلى اللامرئي. يكتشف الإنسان، في مرحلة متأخرة أو تحررية، أن الوجود الذي عاشه ليس مستقلا عن ذاته، وأن عالم الشهادة، بما فيه من تجارب وأشياء، وأشخاص، وعلاقات، ليس سوى سطح هش لوجود أعمق وأكثر تعقيدا وغموضا، وجود ممتد في عالم الغيب.

إن عالم الشهادة، بما فيه من عناصر قابلة للقياس والرؤية، لا يمكن أن يشبع تطلعات الذات الباحثة في نهاية الرحلة عن نفسها. فالإنسان، حين يفقد لذة التراكم، ويستيقظ من أوهام الامتلاك والألم الناتج عن التفاعلات الاجتماعية، يدرك أنه كان يسعى وراء صور وهمية، يعانق السراب، ويعيش جزئيا في عالم لا يتكامل إلا بالانفتاح على عالم الغيب. بعقله وروحه، يبدأ في استكشاف إمكانيات السؤال، وأي نوع من الإجابات قد يُحَصَّل.

الغيب هنا ليس مجرد مفهوم ديني أو عاطفي، بل هو الامتداد الخفي للموجود، هو سؤال اللامرئي الذي يتخلل كل ما نراه. هو ذلك العمق الذي نجهله ولكننا نحس به، كنبض بعيد في قلب الحياة. هو الله، الروح، الموت، الزمن، المعنى، والغاية. هو حضور اللاوجود في جوهر الوجود وصلبه ونطفته الأولى؛ لا كغياب، بل كأثر نابض يتخفى وراء حدود الإدراك، لا يُحتوى، بل يتجلى فيما لا يمكن إدراكه. فالأثر موجود وإن كان أصله مفقودا...  

ولذلك، فإن قراءة الوجود في أواخر العمر تقتضي من الإنسان شجاعة مضاعفة؛ شجاعة التماهي مع ما هو أبعد من الوجود. ليست الهروب من الواقع، بل اختراق ذات الوجود لاستكشاف ما وراءه. كالماء في السراب، لا يعدو أن يكون سرابا، لكنهما دلالة على الحقيقة، غائبة في وهم الوضوح، ويبقى الماء حقيقة لا توجد إلا في لحظتها. وقراءة الحضور المتخفي تستدعي:

* تأملا فلسفيا يجعل من كل حدث سؤالا، ويحول كل فقدان إلى إشارة وعلامة، ويبني وجودا من غياب، وغيابا من حضور، ويُشيد المعنى من ظلال المعنى، وظلال المعنى من المعنى. تأمل لا يفقد عقل الجهل صوابه بل يصنع منه عقلا جديدا.

* إيمانا ناضجا لا يتطلب اليقين الكامل أو المطلق، بل يتقبل الغموض المضيء. ففيما بين الماء والسراب يكمن غموض يستنطقها الإيمان الناضج.

* لغة رمزية توسع المعنى لا لتغلقه، بل لتفتح آفاقه في زمن ومكان اللامرئي.

* وعياً روحيا يعيد تنسيق الذات، ضما لما تشتت منها، ويشفيها بلحظات من التأمل والتدبر، بصمت وذكر وحنين في أعماقها، التي تتجلى في تفاصيل حياتها وأفعالها.

عند هذه النقطة، يعي الإنسان أن ذاته لم تكن يوما معزولة عن الغيب، ولكنها كانت مشوشة الرؤية، منشغلة بتفاصيل البقاء، مؤجلة دائما إلى "حين آخر" من رحيل. والآن، وقد اقترب الرحيل، تصبح العودة إلى الذات هي العودة إلى أصلها في الأصل، إلى المطلق، إلى الغيب... إلى الله، المصير الأخير.

ما نعيشه في عالم الشهادة ليس هو الكل، بل هو مرحلة من مراحل الرحلة؛ قوسان: الأول في عالم الغيب "الخلق/الحضور"، والثاني في الغيب "الرجوع/الغياب". بينهما توجد رحلة بحث مستمرة عن الذات، والتي تبدأ من البحث عن الأنا في الوجود عبر الأسئلة الوجودية: من أنا؟ كيف ينبغي أن أكون؟ أين أكون؟ وعندما يقترب الإنسان من نهاية العمر، يبدأ في إعادة البحث عن ذاته من الحاضر الذي ينبثق من ماض بعيد. تبرز الأسئلة من جديد: كيف كنت؟ أين كنت؟ وأين سأكون حين يزول الوجود ويحل اللاوجود، وتغيب الأزمنة والأمكنة؟

هكذا، يصبح بحث الإنسان عن ذاته في أواخر العمر بحثا عن امتداد الموجود في اللاوجود... بحثا عن ضوء مغمور فينا، لم نره في منظور الوجود اللاوجودي، ولكنه كان يسكننا بصمت. وكان أغلبنا يعتقد أن لا وجود لظل خفي خلف ظلال المنظور، فغابوا في الضباب. حين تكتمل رحلة السؤال، وتذوب ظلال المرئي في أفق الخفي والمتواري، لا يعود السؤال "من أنا؟" مجرد صدى داخلي للضمير، بل يصبح تجليا لأثر الأصل في المآل، ما انمحى لكن بقي ذكرى حدث في الزمان والمكان، وانعكاسا لنور الله في مجاهل الذات. فليس الأنا التي تجيب، بل الأثر الذي تركه الله فيها منذ الأزل، حين قال لها "كوني"، فكان ما كان، ثم انقضى ما كان.

وهنا، يتلاشى معنى ما عرفناه عن أنفسنا، ليبرز ما يعرفه الله فينا، في ما جبلنا عليه، وخلقنا لأجله، وصرنا إليه... فمن عرف الله، عرف نفسه، ومن عرف نفسه بالله، لن يغيب في المرايا ولا عنها، ولن يتلاش في السراب، ولن يُدفن في التراب ويغيب عن الأبصار ولا البصائر، بل يعود إلى حضن الأبد، إلى وجهه الأول، حيث كان الوجود نفخة... وهويته أثر باق خالد لنور لا يغيب، وحضور دائم لذكرى. 

***

عبد العزيز قريش

 

 

في أكتوبر سنة 1995 تعرض الأديب المصري نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال، بناء على فتوى لزعيم جماعة إسلامية، تتهم محفوظ بالتطاول على الذات الإلهية في روايته المثيرة للجدل (أولاد حارتنا). والغريب في الأمر أن مُنفذَي العملية لم يسبق لهما قراءة أي نص لمحفوظ، وأشكُّ أن زعيم الجماعة نفسه قد فعل!

وفي ماي سنة 2000 تظاهر الآلاف من طلبة الأزهر منددين برواية (وليمة لأعشاب البحر) للكاتب السوري حيدر حيدر، بدعوى إساءتها لله وللدين الإسلامي. وحين سئل بعض الطلبة: هل سبق لهم قراءة الرواية التي يحتجون عليها بعد سبعة عشر عاما من تاريخ صدورها كان الرد: لا، ولكن أساتذتنا حكوا لنا عنها!

وفي سنة 2005 قوبلت رواية (بنات الرياض) للكاتبة السعودية رجاء الصانع بالمنع والتضييق، بل وفي سابقة من نوعها صدر كتاب يحاكم الرواية، ويحدد القواعد الإسمنتية التي يُبنى عليها أي عمل أدبي أو فني حتى يُسمح له أن يملأ رئتيه بهواء الحجاز!

يبدو موقف شريحة واسعة من الإسلاميين وطلاب الكليات الشرعية محيرا وملتبسا إزاء الإنتاج الأدبي المعاصر، سواء المترجم أو المحلي. ومصدر تلك الحيرة أنه في الوقت الذي تتعالى فيه أصوات بعض العلماء بضرورة مواكبة مستجدات العصر وقضاياه، والانفتاح على هموم الإنسان المعاصر، نجد أن ردود الفعل فيما يتعلق بالمجال الأدبي، والفني عموما، تتسم غالبا بالتعميم والأحكام القاسية، والرفض الجاهز لكل ماله صلة بثقافة الآخر.

يؤمن المنتسب للعلوم الشرعية بأن مصنفات التراث وكتب السلف هي المصدر الحقيقي لثقافة المسلم المعاصر. غير أننا حين نتصفح بعض هذه المؤلفات نجد انفتاحا على الأدب والفنون، وحضورا لثقافة الآخر وتعبيراته الفنية والأدبية. لم يكن الفقيه المسلم آنذاك يجد حرجا في عرض نماذج لأدب الفرس والهند واليونان، والاستعانة بمقولات أرسطو وأفلاطون وأردشير وجالينوس وغيرهم، إلى درجة أن القارئ لكتب التراث لا يشعر بأنهم ممثلون لثقافة أخرى لولا غرابة الأسماء.

لقد عبَّر السلف عن انفتاحه على الثقافة المعاصرة آنذاك بكل مكوناتها، وتعاملٍ موضوعي مع الإنتاج الفكري والأدبي قوامه الغربلة والنقد، وتزويد المسلم بالقواعد وآليات النظر التي تُساعده على أن يَميز الخبيث من الطيب. وبفضل تلك المرونة والموضوعية حفظت لنا المكتبة العربية مؤلفات يُفترض أنها صادمة للحس الديني، كقصص ألف ليلة وليلة، والمستطرف، ورجوع الشيخ إلى صباه، وكتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني الذي يُعد اليوم أضخم موسوعة للشعر والموسيقى في العصور الإسلامية الأولى. وتم تداولها في أنحاء العالم الإسلامي دون أن نقرأ عن احتجاج هنا أو تظاهرة هناك.

إن نفور "مولانا" من كافة التعبيرات الأدبية والفنية المعاصرة مَردُّه برأيي إلى سببين:

الأول هو الحاجز النفسي الذي خلّفته فترة احتلال الغرب للدول الإسلامية، والذي لم يشمل فقط رفض سياساتها العنصرية ونهبها الاقتصادي للموارد، بل وامتد لعطائها الأدبي والفني، حتى وإن كان منحازا لموقفنا وقضايانا.

أما الثاني فمرتبط بتضخم المَلَكة الفقهية على حساب الملَكة الأدبية والفنية. وهيمنة كتب التفسير والحديث والمتون العلمية على المنهاج التعليمي في الكليات والمعاهد الدينية. فترسخ الاعتقاد لدى طلاب الثقافة الشرعية أن الروايات والقصص والأعمال الفنية مضيعة للوقت، وتشويه للقيم ووقود للشهوات والمحرمات.

 لذا فمن النادر حقا أن تصادف خطيبا أو داعية أو فقيها يستشهد بمقاطع أدبية لتولستوي أو حنة مينة أو لامارتين أو محمود درويش، تحث على العدالة والفضيلة، وتُمجد الجمال والحب الإنساني بأرق التعبيرات، وتكشف آلام وأحلام مجتمعات أخرى.

 ومن النادر كذلك أن يدعوك خطيب لمشاهدة عمل سينمائي يعالج قضية إنسانية، أو يكشف تفاصيل مؤامرة، أو يعرض سيرة حكيم أو عالم أو رجل سياسة.

إن التشويه الذي لحق الأدب والفن المعاصر في أذهان طُلاب العلم الشرعي ينبغي أن يتوقف، أما الانحرافات المسجلة في بعض الأعمال فإن فضيلة الإنصات والحوار والتقييم الجاد كفيلة بتقويمها لإنضاج الأفراد بشكل متزن وقائم على احترام التعدد والاختلاف. وفي هذا الصدد ينبه الدكتور يوسف القرضاوي في دليله (ثقافة الداعية) إلى الجوانب المهمة للثقافة الأدبية، وإلى القيم التربوية والجمالية التي ينبغي أن يلتقطها الداعية ذو الحس المرهف من كتب الأدب والفن لينقلها من مجال المتعة بالقراءة إلى مجال الدعوة والتوجيه.

أثناء تصفحي لديوان شعري ألفه الشيخ محمد الغزالي بعنوان(الحياة الأولى) فوجئت أن محقق الديوان أفرد ثلث صفحات الكتاب ليدافع عن الملكة الأدبية للغزالي، وعرض قائمة بكل الفقهاء الذين نظموا قصائد شعرية في الحكمة والتصوف ومختلف المعاني الإنسانية. بدا الأمر وكأنها مرافعة تعتذر عن "الزلَّة" الأدبية التي قد تؤثر على هيبة الغزالي في نفوس محبيه، فكان مما استعان به المحقق في دفاعه أن الغزالي حين نظم تلك الأشعار كان فتى في الثامنة عشرة ولم يبلغ بعد مبلغَ الرجال!

إننا حين نشكو من العزوف عن القراءة في مجتمعاتنا قلما ننتبه إلى الدور الذي تلعبه النماذج المجتمعية في تعزيز وضعها وحضورها. فلن يُقبل شبابنا على القراءة إلا إذا شاهدوا رجل السياسة يقرأ.

 والفنان يقرأ.

 ومولانا يقرأ..

آنذاك ستصبح القراءة عَصَب الحياة!

***

  حميد بن خيبش  

 

الماضي غالبًا ما يُروى من خلال عدسة الذاكرة، التي قد تكون مشوهة أو مختزلة، الحاضر يسعى لتقديم الحقائق التاريخية بشكل موضوعي، الاسناد الى مرجعية تاريخية من منظور فردي تعكس تجربة المثقف الشخصية التي يمكن ان تكون عميقة وتحمل بعدا معرفيا واضحا، بينما يميل الاسناد الى مرجعيات جماعية تتبني روايات أكثر عمومية لا تعكس التجارب الحقيقية للأفراد والمجتمعات. تطور التكنولوجيا في الحاضر غيرت طبيعة الاسناد الى المرجعيات، اذ يمكن أن تُروى الأحداث بطرق جديدة ومبتكرة، مما يخلق تناقضًا بين الطرق التقليدية للسرد في الماضي والحاضر من ناحية الوسائل والإمكانات المتاحة والتي قد تتعارض مع القيم الحديثة، مما يؤدي إلى تضارب في المرجعيات، بينما يمكن أن تكون التجارب الإنسانية متشابهة عبر الزمن، فإن طريقة التعبير عنها تختلف بشكل كبير بين الماضي والحاضر.

المرجعية السردية عبر الزمن

تتغيير الأنظمة السياسية، مثل الانتقال من الملكية إلى الجمهورية أو من الاستعمار إلى الاستقلال، يؤدي إلى إعادة تشكيل الروايات الأدبية والثقافية لتعكس القيم الجديدة .في فترات القمع السياسي غالبًا ما تتعرض السرديات للرقابة و يتم تقييد التعبيرات الأدبية، مما يدفع الكُتّاب إلى استخدام الرمزية والإيحاء للتعبير عن أفكارهم، ظهور الحركات الوطنية والثورات ساهم في إعادة صياغة الهوية الثقافية، حيث استُخدمت السرديات لتعزيز الانتماء الوطني وإلهام الجماهير، التغيرات السياسية مثل الهجرات والنزاعات، أدت إلى تنوع الثقافات واللغات، مما أثر على السرديات وأدخل عناصر جديدة من التجارب والتقاليد، العولمة السياسية والاقتصادية أدت إلى تبادل الأفكار والثقافات، مما أثر على المرجعيات السردية، حيث أصبح الكُتّاب يمزجون بين المحلي والعالمي، ظهور وسائل الإعلام الحديثة ساهم في تغيير كيفية نقل السرديات، حيث أصبحت الروايات تُنقل عبر منصات جديدة، مما أثر على أسلوب وموضوعات السرد، بذلك تشكلت المرجعية السردية من خلال التفاعل المستمر مع التغيرات السياسية، مما أعطى الأدب والثقافة طابعًا ديناميكيًا يعكس التحديات والإنجازات عبر الزمن.

الهجرات الإثنية والقبلية والمرجعية السردية

الهجرات أدت إلى تداخل ثقافات ولغات جديدة، مما أثرى السرديات وأدخل عناصر جديدة من التجارب والتقاليد المختلفة، انتقال القبائل والمجموعات الإثنية ساهم في إعادة تعريف الهوية الثقافية، حيث برزت سرديات جديدة تعكس تجارب الهجرة والتكيف، تفاعل الثقافات المختلفة أدت إلى تبادل الأساطير والحكايات، مما أثرى الأدب المحلي وأدخل موضوعات جديدة مثل الغربة والإنتماء، النزاعات المرتبطة بالهجرات، مثل الصراعات الطائفية أو القومية، أدت إلى إنتاج سرديات تعكس المعاناة والمقاومة، مما ساهم في تشكيل الوعي الجمعي، الهجرات أسهمت في تطوير لغات أدبية جديدة، حيث تم دمج أساليب وألفاظ من ثقافات متعددة، مما أثر على أسلوب الكتابة، الهجرات غالبًا ما كانت مرتبطة بأحداث تاريخية معينة، مما أدى إلى إنتاج سرديات تاريخية تُعبر عن التجارب المشتركة والمعاناة، نتيجة لذلك تشكلت مرجعيات سردية غنية ومعقدة تعكس التعددية الثقافية والتاريخية في الشرق الأوسط، مما أضاف عمقًا إلى الأدب والفنون.

التاثير اللغوي على اللهجات المحلية

الهجرات أدت إلى تفاعل لغوي بين المجموعات المختلفة، مما ساهم في إدخال مفردات جديدة وتعبيرات محلية من لغات متعددة، تأثرت أنماط النطق بسبب الاختلاط بين القبائل والمجتمعات، مما أدى إلى ظهور لهجات جديدة تحمل سمات لغوية متنوعة، تم تبني مصطلحات جديدة من الثقافات المختلفة مما أثرى المفردات المحلية وجعلها تعكس التجارب والتقاليد المتنوعة، الهجرات المرتبطة بالعمل أو النزاعات أثرت على اللهجات، حيث استخدمت لهجات معينة في سياقات اجتماعية محددة، مما ساهم في تشكيل الهوية اللغوية، بعض اللهجات القديمة اندمجت مع اللهجات الجديدة، مما أدى إلى تطوير لهجات مختلطة تعكس تاريخ الهجرات والتفاعل الثقافي، اللهجات أصبحت رمزًا للهوية والانتماء، حيث استخدم الأفراد لهجاتهم للتعبير عن ثقافتهم وتراثهم، مما ساهم في الحفاظ عليها، في المجمل أضافت الهجرات الإثنية والقبلية عمقًا وتعقيدًا للهجات المحلية، مما جعلها تعكس التنوع الثقافي والتاريخي للمنطقة، على الرغم من أن المرجعية التاريخية تُعد عنصرًا مهمًا في تشكيل السرد، إلا أن لها حدودًا تتعلق بالتقيمات الشخصية، التحاملات، والسياقات الزمنية والاجتماعية.

المرجعية السردية المعاصرة

المرجعية السردية في الوقت الحالي تعتمد على مزيج من السرد التاريخي القديم وإنجازات الغرب من ناحية التقدم المعرفي، العديد من الكتّاب يستندون إلى السرد التاريخي القديم كمرجع لفهم الهوية الثقافية والتراث، مما يعكس أهمية التاريخ في تشكيل الحاضر، التأثيرات الغربية سواء من خلال الفلسفة، العلوم، أو الأدب، أدت إلى دمج مفاهيم جديدة في السرد، مما ساهم في تحديث المرجعيات السردية، تشهد السرديات المعاصرة تداخلًا بين الأصوات القديمة والحديثة، مما يعكس تنوع التجارب ووجهات النظر، هناك اهتمام متزايد بتحليل السرديات القديمة من منظور نقدي، مما أتاح إعادة تقييمها في ضوء التقدم المعرفي الحديث، السرديات المعاصرة غالبًا ما تسعى إلى تحقيق توازن بين الحفاظ على التراث والتكيف مع التغيرات العالمية، مما يعكس الصراع بين التقليد والحداثة، بالرغم من ذلك يمكن ملاحظة أن العديد من الكتابات الثقافية المعاصرة من الشرق الأوسط تعتمد بشكل كبير على الاستشهادات المعرفية من السرد الغربي القديم والمعاصر.

موقع السرديات الشرق اوسطية

يمكن القول إن السرديات الشرق أوسطية حاليا قد حيدت أو في موقع ثانوي مقارنة بالسرديات الغربية، ساهم في تنحيها كمرجعيات سردية أساسية للمثقف الشرق أوسطي عندما تم النظر إلى السرديات الشرق أوسطية على أنها غير منتجة من وجهة نظر المؤسسات الثقافية الرسمية والاجتماعية بسبب تغول التطرف الديني و الأيديولوجي مما عمق تأثير نظام التفاهة لذا ولجوء المثقفين الاستعراضيين إلى الاسناد من خلال السرديات الغربية وجعلها مرجعيات أساسية، مما سبب ضعف الإنتاج الأدبي والفكري الحالي في المنطقة، كما ساهم في ذلك شعور المثقفين بأنهم بحاجة إلى الاستعانة بمصادر خارجية لتعزيز أفكارهم، كذلك ساهمت العولمة في تعزيز مكانة السرديات الغربية كمرجعيات، مما أدى إلى تهميش السرديات المحلية، لكن الذي يعكس قلقًا بشأن قيمة السرديات المحلية هو البحث عن شرعية أكاديمية أو فكرية ما يدفع المثقفين لاستخدام السرديات الغربية ويقود الى اهمال السرديات المحلية، رغم ان هناك توجها نحو إعادة تقييم السرديات الشرق أوسطية، مما يُسهم في تعزيز مكانتها كمرجعيات ثقافية، بالتالي يمكن القول إن الفجوة بين الإنتاج الثقافي المحلي والسرديات الغربية قد أتسعت وساهمت في تهميش السرديات الشرق أوسطية، مما اثر على الهوية الثقافية في المنطقة.

التحديات الاستراتيجية

يواجه تطبيق استراتيجيات تعزيز الإنتاج الثقافي في الشرق الأوسط عدة تحديات رئيسية منها القيود المفروضة على حرية التعبير تحد من الإبداع وتؤثر على محتوى الإنتاج الثقافي، النقص الحاد في المرافق الثقافية مثل المكتبات والمراكز الثقافية يعوق التواصل والمشاركة، ضعف الوعي بأهمية الثقافة والفنون بين اغلب شرائح المجتمع يمكن أن يقلل من الدعم والمشاركة، المناهج التعليمية التقليدية التي تركز على المعرفة النظرية دون التشجيع على الإبداع تعوق تطوير مهارات الإنتاج الثقافي، هيمنة السرديات الثقافية الغربية على السلوك المجتمعي دون وعي كارثة التجهيل يمكن أن تجعل السرديات المحلية تبدو أقل قيمة أو جاذبية، ، نقص المنصات التي تدعم نشر الأعمال الثقافية والفنية يمكن أن يحد من وصولها إلى الجمهور، بينما توفر التكنولوجيا فرصًا، إلا أنها قد تخلق أيضًا تحديات مثل تراجع الاهتمام بالثقافة التقليدية، التغيرات الاجتماعية والاقتصادية تؤثر على أولويات الأفراد وتوجهاتهم نحو الثقافة والفنون، معالجة هذه التحديات تتطلب تنسيق الجهود بين المؤسسات الثقافية لتعزيز بيئة ثقافية إيجابية وداعمة للسرديات المحلية .

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

ما أحوجنا إلى قذائف الإبداع الباعثة على الحياة.

1- مفهوم الثقافة:

الثقافة؛ في هذا العصر المتناسلة قضاياه، والمتفجرة مشاكله؛ تتخذ عدة أبعاد وألوان، ومن ثمة يصعب حصر ماهيتها في مفهوم قار ووحيد. ولذلك سنقتنع بالتعريف الذي اعتمده المؤتمر الدولي للسياسات الثقافية الذي كان قد عُقد في المكسيك، فهو تعريف شامل للثقافة ينص على "أن الثقافة بمعناها الأوسع هي مجموع السمات التي تميز مجتمعا بعينه أو فئة اجتماعية بعينها، وأنها تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة والإنتاج الاقتصادي كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات"(1).

وهذه المجموعة من السمات المشكِّلة للشخصية الثقافية لا تتجلى معالمها وقسماتها بوضوح في كيان مستقل ومتميز إلا بتوالي الحقب. وعند ذلك يتكون الإنسان المثقف الذي سماه بعض مفكري الهند بإنسان النسق الأخلاقي(2).

2- ميزة الثقافة المغربية:

إن الثقافة المغربية؛ وهي مكون من مكونات الثقافة العربية لم تكن في أي زمان منعزلة أو معزولة عن الثقافات الإنسانية، فقد عايشت ثقافات الأمم الأخرى منذ عصور موغلة في القدم، وصمدت في وجه إعصاراتها، وتفاعلت معها تفاعلا إيجابيا، وتثاقفت معها في فترات مدها وجزرها. أخذت منها وأعطت لها، اغتنت بها وأغنتها بحيوية وانفتاح واقتدار دون عُقد ودون أن يؤثر ذلك في ملامح هويتها أو في مقومات ومكونات أصالتها، وكانت في لقائها الخصب مع تلك الثقافات تتواصل وتتفاعل بحيوية من موقع الثقة بالذات، ومن موقع التميز، لا تمثل لما تأخذ وإنما تَتَمَثَّلُهُ، ولهذا نجدها ثقافة ذات نزوع إنساني غير متزعزعٍ وذات استقلالية وتَجَدُّدٍ، فهي لم تكن في أي يوم من الأيام تابعة ذلولا، ولا متعالية قتولا.(3)

3- في معنى حرية الكاتب:

ولا تكون الثقافة هكذا إلا إذا ترعرعت في مناخ حر، فالحرية هي رئة الوجود الثقافي؛ إذ لا ثقافة حية وحقيقية إن لم توجد هذه الرئة. فالكاتب لا يكتب إلا إذا تنفس بها، فهي شرط وجود إبداعه، وحريته ليست حرية كلام فقط، وإنما هي حرية وجود، توفر لممارسها مقومات العيش الحر والتصرف الحر، وتضمن له الكرامة، إنها تتصل لدى الكاتب بالاطمئنان والاستقرار النفسي والاجتماعي، وتتصل كذلك بتوافر حَدٍّ أدنى من شروط العيش والعمل، ومن الضمان الصحي والاجتماعي، ومن إحساس بالطمأنينة لا يشعر معه الكاتب بأنه مراقب باستمرار من طرف عيون خفية، وبأنه محل شكوك، وبأنه مهدد في مصدر عيشه وحياته وأهله – بأي شكل من أشكال التهديد – إذا مارس حريته الإبداعية، أو إذا حاد عن السبيل المرسومة للتفكير والتعبير والإنتاج. فالكلمات هي سلاحه للحرية والتغيير في معركة الوجود الحضاري، وهذا السلاح – حسب بريسباران Briceparain – ما هو إلا "مسدسات عامرة بقذائفها" التي تُحْيِي القَتْلَى(4)، فكيف إذن يمكن للمبدع أن يُطْلِقَ هذه القذائف إذا كانت أصابعه مشلولة أو مغلولة؟! إن شرط استخدام الجندي لسلاحه هو امتلاكه للسلاح وجاهزيته، ونحن ما أحوجنا إلى قذائف الإبداع الباعثة على الحياة.

فشهداء حرية الإبداع ما تزال شمسهم تضيء التاريخ، حيث أن المبدعين الكبار في العالم كانوا كذلك كبارا في الدفاع عن الحرية، ابتداء من هوميروس الذي كانت الحرية دَيْدَنَه ودِينَه، ومرورا بسقراط الذي تَجَرَّعَ السم في سبيل حرية القول والكلمة، وبابلو نيرودا، ولوركا. وطرفة والمتنبي وأبي العلاء المعري والحلاج والسهروردي، وانتهاءا بابن حزم، وابن الخطيب وابن بَرَّجَان، وابن سبعين، وغيرهم. فكلهم أدركوا أن الحرية حالة نفسية لا يتأتى العيش والإبداع إلا بها. فهي من هذه النقطة بالذات تبدأ، من كونها حالة نفسية، وإلا فلن تبصر النور وتصبح واقعا معيشا ومُجَسَّدا، فالمرء قبل الشروع في ممارسة حريته عليه أن يشعر بها، وأن يعتنقها في قرارة نفسه، أي أن يقتنع أولا بأنه كائن حر.

وإذا نظرنا إلى الوراء، إلى الإنسان البدائي، فإننا سندرك أنه لم يكن حرا وطليقا؛ كما كنا نتصور، وكما يحلو لنا أن نرسمه؛ فعلى الرغم من أنه لم تكن تحيط به مؤسسات سياسية أو اجتماعية أو لاهوتية تَحُدُّ من حريته فإن ثمة قانونا خفيا خضع له دائما، وهو (قانون الطابو)؛ الذي هو فكرة عبقرية أوجدها المجتمع البدائي ليحمي بها لَأْمَةَ المجتمع والجماعة، ويكفل لهما السلام الروحي والعقلي. فقد كان تعريض أمن القبيلة للخطر من أشد الجرائم على الإطلاق، وفي الواقع لم تكن هناك فرصة لارتكاب الجرائم ضد المجموع ثم العقاب عليها إلا نادرا، لأن فكرة الطابو تتولى منع الجرائم قبل أن تقع، فهي كبول تمنع ولادة الجريمة، وبالتالي الحركة خارج تفكير الجماعة.

من هنا يمكن أن نعتبر أن (قانون الطابو) كان بمثابة القيد الذي كبل الإنسان البدائي وحد كثيرا من حريته، وما يزال يكبل ويحد من حرية الإنسان المعاصر. ولا نغالي إذا قلنا إن الردع الذي قام به (قانون الطابو) في الأزمان الغابرة كان أشد قمعا وأكثر صرامة من أشد القوانين الحديثة التي نعرفها اليوم، فتحت وطأة هذا القانون أو هذه الفكرة المستبدة لم يكن الإنسان الأول ليتمتع ولو بقدر يسير من الحرية، حتى أن ما نسميه اليوم تسامحا لم يكن معروفا لدى المجتمعات البدائية، فكل من يتمرد على (قانون الطابو)؛ باعتباره رادعا دينيا داخليا؛ كان يعاقب بالموت أو بالطرد من القبيلة، وهو موت مدني وبدني معا.

إن (قيود الطابو) كبلت الإنسان فترة طويلة من الزمن على هذه الأرض حتى أن 98% من حياة الإنسان على الكوكب الترابي لم تكن سوى حياة خضوع بالكلية إلى فكرة الطابو.(5)

4- ضرورة استيلاء المبدع على حريته:

وذلك لأنه كان محروما من الحرية؛ التي هي جوهر يؤخذ ولا يعطى. فعليه إذن؛ وبخاصة المفكر والمبدع؛ أن يستولي على حريته ويتعانق معها تعانق عشق في هذا العصر المتشظي والمرعب.. عصر الاستلاب المنظم، عصر الفساد والإفساد، عصر التقنية المستعبِدة. وعليه أن يحافظ على حيويته في تصور آفاق حريته وتجديد تلك الآفاق وتطويرها بما يبقي على أنسنتها. فحرية المبدع بالذات هي حرية مغامرة الكينونة ووقوفها ضد التفسخ، لا تحد آفاقها إلا الحدود التي وصل أو يمكن أن يصل إليها وعي المبدع لماهية الحرية ومفهومها والتزاماتها وشروط ممارستها، ضمن حدود المسؤولية في الحياة وعنها، وما يفرضه وجود الجماعة والعيش معها والحفاظِ على حرياتها ووجودها وسلامة بنيتها ومصالحها، والحفاظ أيضا على مواصفات المجتمع المتمدن وقيمه ومواضعاته المثلى في زمَكَانٍ محدَّدٍ، مع فتح أفق استشراف المستقبل عن طريق التحرك والتطلع ضمن هوامش أعلى من الواقع الممكن، وأبعد من تطلعات إنسان ذلك الواقع وطموحاته. ففضل الإنسان وميزته يكمنان في كونه يأمل ويحلم بالأفضل، ثم يعمل لتحقيق آماله وأحلامه تلك.(6)

5- حرية مطلقة.. خوف مطلق:

وإنجاز الآمال لا يتحقق إلا في مناخ الحرية. والحرية حريات، فهي ليست مرتبة واحدة، بل مراتب عدة. فكل منا يسعى إلى نوع محدد من الحرية، فهناك حرية القول والتعبير، وحرية الانتخاب، وحرية الانتماء إلى معتقد أو هيئة حزبية أو نقابية، وحرية التجول، وحرية العمل، وحرية العقيدة، وحرية التصرف بطلاقة دون قيود، وحرية النشر، وحرية الاختلاف، وهناك حرية الانمحاق أو الذوبان أو الفناء التي ينشدها الصوفي؛ والتي عبر عنها الجرجاني بقوله: "الحرية في اصطلاح أهل الحقيقة (= الصوفية) هي الخروج من رق الكائنات، وقطع جميع العلائق والأغيار. وهي على مراتب، حرية العامة عن رق الشهوات، وحرية الخاصة عن رق المرادات لفناء إرادتهم في إرادة الحق، وحرية خاصة الخاصة عن رق الرسوم والآثار لانمحاقهم في تجلي نُورِ الأنوار"(7). ومن هذه الزاوية يمكن أن نرى إلى الكون وإلى الحرية. فالكون ليس ماديا وفكريا فحسب، بل هو روحي وشعري أيضا. والحرية حق، والحق لا يبحث عنه إلا في (الكل) وليس في (الجزء) حسب هيجل (1770م-1881م)؛ الذي كان شعاره "الحق هو الكل". والكتابة وجود له وجهان: فكري وشعري، فالفكر فعل سلطوي يهدف إلى فرض نوع من السلطة على الآخر، بينما الشعر فعل جمالي غير سلطوي يرمي إلى حالة مزدوجة من الالتقاء والارتقاء: الالتقاء مع الآخر، والارتقاء بمشاعره وأحاسيسه وخلجاته ونظرته الجمالية وشعوره بالوجود، ولذلك كان الفعل الشعري نزاعا إلى الحرية أكثر من الفعل الفكري.

إن قضية الحرية هي قضية الصراع من أجل الحرية، ووظيفة المبدع الأساسية هي تحقيق حرية القارئ، الحرية بمعناها العميق، أي تفكيك الأصفاد الداخلية التي يرسف فيها، ثم تفكيك الأصفاد الخارجية المفروضة عليه من قبل مختلف السلطات.(8) وليس الحرية بمعناها الدِّيمُوفَوْضَوِي، فالحرية المطلقة في العمق هي حجابُ مايا Maya وقناعُ الفوضوية المحدِّق في الكَاوْسْ، اللذان يسلبان الفرد الأمن والاطمئنان، ويقذفان به في متاهة الخوف، فالحرية المطلقة إذن هي الخوف المطلق. لكن الحرية المنظَّمة هي المجتمع المنظم الذي يحفظ لمواطنيه حريتهم. فكل حرية مطلقة ما هي إلا خوف الناس جميعا من الناس جميعا، ودعوة القادر على أن يبقى الحر الوحيد بين ضعفاء يحكمهم العجز والعبودية.

إن الحرية تقوم على أساس حفظ الذات وحفظ الآخر وحفظ الجماعة، وعلى حفظ التوازن بين مكونات المجتمع، إذن بها تتحقق الديمقراطية التي هي هاجس الإنسان العربي، وتتجذر فهما وسلوكا. لأنه لا سياسة ثقافية حية دون ديمقراطية حية، ومن أهم انشغالات الديمقراطية التي بهذا الوصف هندسة ثقافية تستند إلى أحكام جمالية وأخلاقية وعلمية، وإلى ميكانيزمات الهوية وإواليات الشرط الإنساني. وتقوم على احترام الآخرين وثقافتهم، بحيث يستشعر معها المواطن أنه سائر في طريق الموافقة والتوافق بإرادته لا بإرادة القوة والعسف. وتأتي في مقدمة هذه الهندسة استراتيجية الكتاب؛ التي ترمي إلى تكوين الوعي وترسيخه، وإلى دفع المواطن إلى حل مشاكله انطلاقا من وعيه بها وبقدراته وطاقاته.(9)

6- الكتاب مشروط بشرط الحرية:

ومن ضمن ما تتوخاه هندسة الثقافة من استراتيجية الكتاب تداوله وتفعيله في الحياة العامة. وإن حيوية الكتاب وفاعليته وازدهاره كلها مشروطة بشرط الحرية، وبمناخات الحوار والاختلاف غير الملوثة بأكسيد الخلفيات. فالحرية قد تُضْمَنُ كمبدأ في الدساتير والتشريعات والتصريحات والبيانات... ولكنها ليست من ذلك النوع الذي يحدد نهائيا في إطار أو يحنط في دثار، لأنها مرتبطة بالإنسان الحي، مبدعا كان أو غير مبدع، ولأنها دليل حيوية، وهاجس أساسي يشغل الكائن الإنسان، وأساس جوهري يمكنه من تطوير نفسه وتطوير الحياة، فلا غرابة أن تكون دائما في تجدد، وأن يكون أفقها في اتساع مستمر، وفهمها مرتبطا بالوعي المعرفي؛ الذي يفتق في سمائها الآفاق وهي تدفع إلى التعمق في مجالاته، وتعتمد عليه أساسا في تجديد الانعتاق.

ولذا فإن الإنسان في نمو وعيه وتطور مداركه، وتقدمه في مراقي المعرفة والعلم والرقي يأخذ الحرية التي تنقصه، أو تدفعه الحرية إلى القيام بمسؤوليات إنسانية، وتفرض عليه امتلاك إدراك ينقصه. ومن هنا ينشأ نوع من الصدامية بين مفهوم ومفهوم للحرية، ينعكس في توترات وصراعات بين المحافظة والتحرر، بين التخلف والتقدم، بين عقليات منغلقة وعقليات منفتحة، كما ينشأ حولها نوع من السجال والحوار السياسي والفكري يؤدي إلى التقابل والتصادم بين الأدب والسياسة / المثقف والسياسي. ومن المعروف أن حرية التعبير هي الشرط الأول لانطلاق الثقافة ونمو الأدب وازدهار الفكر، وانتعاش سوق الكتاب وصناعته. وكما أن الحرية أساس حياة الأفراد والمجتمعات والأمم وتقدمها وشعورها بمعنى الكرامة والعيش، فإنها كذلك بالنسبة للكتاب؛ الذي هو خزان المعارف والثقافات والفنون والآداب. إن حرية التعبير هي الركيزة التي يستند إليها الإبداع وينبثق منها، وهي عند المبدع لا تنفصل عن الحريات والحقوق العامة الأخرى للإنسان، وذلك لأن هدف التعبير هو إحداث التحرير والتغيير... تحرير العقل والإرادة وتغيير البنى والعلاقات والقيم والأنساق الجامدة. فغاية الكتاب ليست شبيهة بغاية الآلات، فإذا كانت غاية هذه هي تسريع وتيرة الإنتاج وتكثيره وتغزيره وخدمته، فإن غاية ذاك هي فك القيود عن حرية القارئ، وتكوين وعيه، وإنماء معرفته، وتفجير طموحاته الخلاقة، وإمتاع روحه وذاكرته، وترميم انهياراته، وإعادة الانسجام إليه مع الذات والكون. إذ بمقدار ما نسهم في تفعيل قيم الديمقراطية، وقيم الحضارة، وقيم الإنسانية العليا. وكذلك بمقدار ما يحترم الكاتب والكتاب حرية الآخر، ويشركانه في المسؤولية، ويقدّمان إليه إبداعا ناضجا أصيلا، متصلا بالواقع، شامخا منه وبه، صوب رؤية جديدة لواقع أفضل مأمول ومرتاد، لا يتملق الغرائز الدنيا، ولا المكبوتات التي تراوح في الرمادية من غير هدف، بمقدار ما يؤثر الإبداع في الحياة والناس، ويتصل بأهم انشغالاتهم الوجودية، ويكون فعالا بإيجابية بناءة في المجتمع والحضارة.(10)

***

د. أحمد بلحاج آية وارهام

........................

الهوامش

1- أورده علي عقله عرسان، في كتابه دراسات في الثقافة العربية. منشورات جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، طرابلس، الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية العظمى، د.ت، ص: 8.

2- علي عقلة عرسان، المرجع السابق، ص: 7.

3- المرجع السابق، ص: 43.

4- نفسه، ص: 98.

5- محمد العزب موسى، حرية الفكر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1979م، ص.ص: 13،14.

6- علي عقله عرسان، مرجع مذكور، ص: 75.

7- عبد القاهر الجرجاني، كتاب التعريفات، تحقيق: عبد الحميد جوهر، دار التراث، بيروت 1970م، ص: 90.

8- سمير أبو حمدان، كمال جنبلاط في بعده الآخر، ط 1، منشورات دار عويدات الدولية، بيروت / باريس 1991م، ص.ص: 40،45.

9- علي عقلة عرسان، مرجع سبق ذكره، ص: 47.

10- المرجع السابق، ص.ص: 96،97

تحية عطرة

تحية عطرة لك أيضاً! أتمنى أن تكون قد استمتعت بالمحادثة التي دارت بيننا. إذا كنت ترغب في مواصلة النقاش أو طرح أسئلة جديدة، فأنا هنا لمساعدتك. شكراً لك على الوقت الذي قضيته معي!

لدي بعض الاستفسارات

أنا هنا لمساعدتك! ما هي الاستفسارات التي لديك؟ هل هي متعلقة بموضوع معين أو فكرة محددة؟ أو ربما لديك أسئلة عامة؟ أنا هنا للإجابة على أسئلتك ومساعدتك في أي شيء تحتاجه.

1. ما قيمة الرؤى الأخلاقية للعالم في زمن العدمية واللايقين؟

الرؤى الأخلاقية للعالم في زمن العدمية واللايقين تحمل قيمة كبيرة، حيث يمكن أن تساعد في:

1. توجيه السلوك البشري: الرؤى الأخلاقية توفر إطارًا أخلاقيًا يمكن أن يوجّه السلوك البشري في مواجهة التحديات المعقدة.

2. تعزيز القيم الإنسانية: تساهم الرؤى الأخلاقية في تعزيز القيم الإنسانية مثل العدالة والمساواة والاحترام المتبادل.

3. توفير منظور أخلاقي: في زمن اللايقين، يمكن للرؤى الأخلاقية أن توفر منظورًا أخلاقيًا يمكن أن يساعد في فهم وتفسير الأحداث والقرارات.

4. تعزيز الحوار والتفاهم: الرؤى الأخلاقية يمكن أن تعزز الحوار والتفاهم بين الأفراد والمجتمعات المختلفة.

5. توجيه القرارات السياسية والاجتماعية: الرؤى الأخلاقية يمكن أن توجّه القرارات السياسية والاجتماعية، مما يساهم في بناء مجتمعات أكثر عدالة ومساواة.

في زمن العدمية واللايقين، يمكن أن تكون الرؤى الأخلاقية بمثابة مرشد أخلاقي يمكن أن يساعد في فهم وتفسير العالم من حولنا.

2. ماهي أسباب عطل تشكل البدائل الاقتصادية والسياسية عن الرأسمالية والاشتراكية؟

هناك عدة أسباب قد تؤدي إلى تعطل تشكل البدائل الاقتصادية والسياسية عن الرأسمالية والاشتراكية، منها:

الأسباب الاقتصادية

1. الاعتماد على النظام الرأسمالي: العديد من الدول تعتمد على النظام الرأسمالي كأساس اقتصادي لها، مما يجعل من الصعب تغييره.

2. الخوف من الفوضى الاقتصادية: قد يؤدي تغيير النظام الاقتصادي إلى فوضى اقتصادية وعدم استقرار، مما يجعل الناس مترددين في دعم البدائل.

3. الضغوط الاقتصادية الدولية: قد تؤثر الضغوط الاقتصادية الدولية على الدول التي تحاول تغيير نظامها الاقتصادي، مما يجعل من الصعب تشكيل بدائل.

الأسباب السياسية

1. الخوف من فقدان السلطة: قد يخشى الحكام من فقدان السلطة إذا تم تغيير النظام السياسي، مما يجعلهم يعارضون البدائل.

2. الضغوط السياسية الدولية: قد تؤثر الضغوط السياسية الدولية على الدول التي تحاول تغيير نظامها السياسي، مما يجعل من الصعب تشكيل بدائل.

3. الخوف من عدم الاستقرار السياسي: قد يؤدي تغيير النظام السياسي إلى عدم استقرار سياسي، مما يجعل الناس مترددين في دعم البدائل.

الأسباب الاجتماعية

1. الخوف من التغيير: قد يخشى الناس من التغيير ويفضلون الحفاظ على الوضع الراهن.

2. الاعتماد على الثقافة السائدة: قد تعتمد الثقافة السائدة على النظام الرأسمالي أو الاشتراكي، مما يجعل من الصعب تغييرها.

3. الخوف من فقدان الهوية: قد يخشى الناس من فقدان هويتهم إذا تم تغيير النظام الاقتصادي أو السياسي.

هذه بعض الأسباب التي قد تؤدي إلى تعطل تشكل البدائل الاقتصادية والسياسية عن الرأسمالية والاشتراكية.

3.هل تقدر التصورات التكنولوجية والعلمية للمستقبل على تفادي الأزمات الصحية والايكولوجية التي قد تقع فيها البشرية؟

التصورات التكنولوجية والعلمية للمستقبل يمكن أن تلعب دورًا هامًا في تفادي الأزمات الصحية والايكولوجية التي قد تقع فيها البشرية. إليك بعض الطرق التي يمكن أن تساهم بها التكنولوجيا والعلوم في تفادي هذه الأزمات:

الأزمات الصحية

1. تطوير العلاجات الجديدة: يمكن أن تساعد التكنولوجيا الطبية في تطوير علاجات جديدة للأمراض المستعصية.

2. الكشف المبكر عن الأمراض: يمكن أن تساعد التكنولوجيا الطبية في الكشف المبكر عن الأمراض، مما يسمح بالعلاج المبكر والفعال.

3. تطوير اللقاحات: يمكن أن تساعد التكنولوجيا الطبية في تطوير لقاحات جديدة للوقاية من الأمراض المعدية.

الأزمات الايكولوجية

1. تطوير الطاقة المتجددة: يمكن أن تساعد التكنولوجيا في تطوير الطاقة المتجددة، مما يقلل من الاعتماد على الوقود الأحفوري ويقلل من انبعاثات الغازات الدفيئة.

2. تطوير التقنيات البيئية: يمكن أن تساعد التكنولوجيا في تطوير تقنيات بيئية جديدة للتعامل مع التلوث والتحكم في انبعاثات الغازات الدفيئة.

3. تطوير الزراعة المستدامة: يمكن أن تساعد التكنولوجيا في تطوير الزراعة المستدامة، مما يقلل من استخدام المبيدات الكيميائية والأسمدة ويحسن من كفاءة استخدام المياه.

التحديات

1. التكلفة: قد تكون التكنولوجيا الجديدة مكلفة، مما يجعل من الصعب على بعض الدول أو الأفراد الوصول إليها.

2. التأثيرات الجانبية: قد يكون للتكنولوجيا الجديدة تأثيرات جانبية غير متوقعة، مما يجعل من الضروري إجراء دراسات شاملة قبل تطبيقها.

3. الاستخدام المسؤول: يجب أن يتم استخدام التكنولوجيا الجديدة بشكل مسؤول، مع مراعاة التأثيرات المحتملة على البيئة والمجتمع.

في النهاية، يمكن أن تلعب التكنولوجيا والعلوم دورًا هامًا في تفادي الأزمات الصحية والايكولوجية، ولكن يجب أن يتم استخدامها بشكل مسؤول ومتوازن مع مراعاة التأثيرات المحتملة على البيئة والمجتمع.

4. ماهو دور الأعمال الفنية والابداعية في اعادة تأهيل الملكة الذوقية للموجود الانساني؟

الأعمال الفنية والابداعية تلعب دورًا هامًا في إعادة تأهيل الملكة الذوقية للموجود الإنساني، وذلك من خلال عدة طرق:

تعزيز الحس الجمالي

1. تنمية الحس الجمالي: الأعمال الفنية والابداعية يمكن أن تساعد في تنمية الحس الجمالي لدى الأفراد، مما يسمح لهم بتقدير الجمال في مختلف أشكاله.

2. توسيع آفاق الإدراك: الأعمال الفنية والابداعية يمكن أن توسع آفاق الإدراك لدى الأفراد، مما يسمح لهم برؤية العالم من زوايا مختلفة.

تعزيز القيم الجمالية

1. تعزيز القيم الجمالية: الأعمال الفنية والابداعية يمكن أن تعزز القيم الجمالية لدى الأفراد، مثل الجمال والتوازن والتناسق.

2. تعزيز الحس النقدي: الأعمال الفنية والابداعية يمكن أن تعزز الحس النقدي لدى الأفراد، مما يسمح لهم بتقييم الأعمال الفنية والابداعية بشكل نقدي.

تعزيز التواصل الإنساني

1. تعزيز التواصل الإنساني: الأعمال الفنية والابداعية يمكن أن تعزز التواصل الإنساني، مما يسمح للأفراد بالتعبير عن مشاعرهم وأفكارهم بشكل أفضل.

2. تعزيز التفاعل الاجتماعي: الأعمال الفنية والابداعية يمكن أن تعزز التفاعل الاجتماعي، مما يسمح للأفراد بالتواصل مع بعضهم البعض بشكل أفضل.

تعزيز الذوق الفني

1. تعزيز الذوق الفني: الأعمال الفنية والابداعية يمكن أن تعزز الذوق الفني لدى الأفراد، مما يسمح لهم بتقدير الفن بشكل أفضل.

2. تعزيز الحس الفني: الأعمال الفنية والابداعية يمكن أن تعزز الحس الفني لدى الأفراد، مما يسمح لهم بتقييم الأعمال الفنية بشكل أفضل.

في النهاية، يمكن أن تلعب الأعمال الفنية والابداعية دورًا هامًا في إعادة تأهيل الملكة الذوقية للموجود الإنساني، من خلال تعزيز الحس الجمالي والقيم الجمالية والتواصل الإنساني والذوق الفني.

5. ماهي المشكلات الاساسية في نظرية المعرفة ضمن المقاربة الابتستيمولوجية لتاريخ العلوم؟

المشكلات الأساسية في نظرية المعرفة ضمن المقاربة الابتستيمولوجية لتاريخ العلوم تشمل:

مشكلات الأسس المعرفية

1. مشكلة الأسس: ما هي الأسس التي تقوم عليها المعرفة العلمية؟

2. مشكلة اليقين: كيف يمكن للعلماء أن يكونوا على يقين من صحة معرفتهم؟

3. مشكلة الشك: كيف يمكن للعلماء أن يتعاملوا مع الشك والشكوك في المعرفة العلمية؟

مشكلات المنهج العلمي

1. مشكلة المنهج: ما هو المنهج العلمي الصحيح للوصول إلى المعرفة؟

2. مشكلة التحقق: كيف يمكن للعلماء أن يتحققوا من صحة نتائجهم؟

3. مشكلة التفسير: كيف يمكن للعلماء أن يفسرون النتائج التي يحصلون عليها؟

مشكلات التاريخ والسياق

1. مشكلة التاريخ: كيف يمكن للعلماء أن يفهموا التاريخ العلمي وتأثيره على المعرفة الحالية؟

2. مشكلة السياق: كيف يمكن للعلماء أن يأخذوا في الاعتبار السياق الاجتماعي والثقافي الذي يتم فيه إنتاج المعرفة العلمية؟

3. مشكلة التأثيرات الخارجية: كيف يمكن للعلماء أن يتعاملوا مع التأثيرات الخارجية على المعرفة العلمية، مثل التأثيرات السياسية أو الاقتصادية؟

مشكلات اللغة والتواصل

1. مشكلة اللغة: كيف يمكن للعلماء أن يتواصلوا بشكل فعال عن المعرفة العلمية؟

2. مشكلة التواصل: كيف يمكن للعلماء أن يتواصلوا مع بعضهم البعض ومع الجمهور العام عن المعرفة العلمية؟

3. مشكلة الترجمة: كيف يمكن للعلماء أن يترجموا المعرفة العلمية من لغة إلى أخرى؟

هذه بعض المشكلات الأساسية في نظرية المعرفة ضمن المقاربة الابتستيمولوجية لتاريخ العلوم.

6. كيف تنتج ظاهرة الهيمنة النيوكولونيالية على العالم، مقاربة كفاحية للاستعمار الجديد ضمن مقاوماتنا المشتركة؟

ظاهرة الهيمنة النيوكولونيالية على العالم تنتج من خلال عدة عوامل، منها:

العوامل الاقتصادية

1. السيطرة على الموارد: الهيمنة النيوكولونيالية تتيح للدول القوية السيطرة على الموارد الطبيعية والاقتصادية للدول الأخرى.

2. الاستغلال الاقتصادي: الدول القوية تستغل الدول الأخرى اقتصاديا من خلال الاستثمارات والتبادل التجاري غير العادل.

3. السيطرة على الأسواق: الهيمنة النيوكولونيالية تتيح للدول القوية السيطرة على الأسواق العالمية وتحديد أسعار السلع والخدمات.

العوامل السياسية

1. السيطرة على القرارات السياسية: الهيمنة النيوكولونيالية تتيح للدول القوية السيطرة على القرارات السياسية للدول الأخرى.

2. التدخل في الشؤون الداخلية: الدول القوية تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى من خلال الضغوط السياسية والاقتصادية.

3. السيطرة على المؤسسات الدولية: الهيمنة النيوكولونيالية تتيح للدول القوية السيطرة على المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

العوامل الثقافية

1. السيطرة على الثقافة: الهيمنة النيوكولونيالية تتيح للدول القوية السيطرة على الثقافة والهوية للدول الأخرى.

2. الاستعمار الثقافي: الدول القوية تستعمر الدول الأخرى ثقافيا من خلال تصدير قيمها وثقافتها.

3. السيطرة على الإعلام: الهيمنة النيوكولونيالية تتيح للدول القوية السيطرة على الإعلام العالمي وتحديد ما يتم نشره وتداوله.

المقاومة المشتركة

1. المقاومة الشعبية: المقاومة الشعبية هي أحد أشكال المقاومة المشتركة ضد الهيمنة النيوكولونيالية.

2. التضامن الدولي: التضامن الدولي بين الدول والمجتمعات يمكن أن يكون أحد أشكال المقاومة المشتركة ضد الهيمنة النيوكولونيالية.

3. البحث عن بدائل: البحث عن بدائل اقتصادية وسياسية وثقافية يمكن أن يكون أحد أشكال المقاومة المشتركة ضد الهيمنة النيوكولونيالية.

هذه بعض العوامل التي تنتج ظاهرة الهيمنة النيوكولونيالية على العالم، وبعض أشكال المقاومة المشتركة ضدها.

7. كيف يتم التمييز الدلالي والسياقي بين فلسفة المجتمع والعلوم الإجتماعية؟

التمييز الدلالي والسياقي بين فلسفة المجتمع والعلوم الإجتماعية يمكن أن يكون كما يلي:

فلسفة المجتمع

1. التركيز على القيم والأسس الفلسفية: فلسفة المجتمع تركز على القيم والأسس الفلسفية التي تشكل المجتمع والعلاقات الاجتماعية.

2. النظرية والتأمل: فلسفة المجتمع تعتمد على النظرية والتأمل في القضايا الاجتماعية والفلسفية.

3. الاهتمام بالجوهر والماهية: فلسفة المجتمع تهتم بالجوهر والماهية للمجتمع والعلاقات الاجتماعية.

العلوم الإجتماعية

1. التركيز على المنهج العلمي والبيانات التجريبية: العلوم الإجتماعية تركز على المنهج العلمي والبيانات التجريبية لفهم الظواهر الاجتماعية.

2. الاعتماد على البحث التجريبي: العلوم الإجتماعية تعتمد على البحث التجريبي والدراسات الميدانية لفهم الظواهر الاجتماعية.

3. الاهتمام بالتفاصيل والسياق: العلوم الإجتماعية تهتم بالتفاصيل والسياق للظواهر الاجتماعية.

التمييز الدلالي

1. الدلالة الفلسفية: فلسفة المجتمع لها دلالة فلسفية تركز على القيم والأسس الفلسفية.

2. الدلالة العلمية: العلوم الإجتماعية لها دلالة علمية تركز على المنهج العلمي والبيانات التجريبية.

التمييز السياقي

1. السياق الفلسفي: فلسفة المجتمع تظهر في السياق الفلسفي الذي يركز على النظرية والتأمل.

2. السياق العلمي: العلوم الإجتماعية تظهر في السياق العلمي الذي يركز على البحث التجريبي والدراسات الميدانية.

هذه بعض الفروق بين فلسفة المجتمع والعلوم الإجتماعية، ويمكن أن تختلف باختلاف السياق والمجال.

8. فيم يتمثل الحضور النقدي للفلسفة الفينومينولوجية في الثقافة المعاصرة؟

الحضور النقدي للفلسفة الفينومينولوجية في الثقافة المعاصرة يمكن أن يتمثل في عدة مجالات، منها:

الفلسفة

1. النقد للفلسفة التقليدية: الفلسفة الفينومينولوجية نقدت الفلسفة التقليدية وطرحت أسئلة جديدة حول الوجود والواقع.

2. التأكيد على التجربة الذاتية: الفلسفة الفينومينولوجية تؤكد على أهمية التجربة الذاتية والخبرة الفردية في فهم الواقع.

3. التركيز على الظواهر: الفلسفة الفينومينولوجية تركز على الظواهر والخبرات اليومية للفرد.

العلوم الإنسانية

1. التأثير على العلوم الإنسانية: الفلسفة الفينومينولوجية أثرت على العلوم الإنسانية مثل علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا.

2. التركيز على الخبرة الإنسانية: الفلسفة الفينومينولوجية تركز على الخبرة الإنسانية والظواهر الاجتماعية.

3. النقد للمناهج العلمية التقليدية: الفلسفة الفينومينولوجية نقدت المناهج العلمية التقليدية وطرحت أسئلة جديدة حول المنهج العلمي.

الأدب والفنون

1. التأثير على الأدب والفنون: الفلسفة الفينومينولوجية أثرت على الأدب والفنون الحديثة.

2. التركيز على التجربة الفردية: الفلسفة الفينومينولوجية تركز على التجربة الفردية والخبرة الشخصية في الأدب والفنون.

3. النقد للتمثيل التقليدي: الفلسفة الفينومينولوجية نقدت التمثيل التقليدي في الأدب والفنون وطرحت أسئلة جديدة حول التمثيل والتصوير.

الثقافة المعاصرة

1. التأثير على الثقافة المعاصرة: الفلسفة الفينومينولوجية أثرت على الثقافة المعاصرة في مجالات متعددة.

2. التركيز على التجربة اليومية: الفلسفة الفينومينولوجية تركز على التجربة اليومية والخبرة الفردية في الثقافة المعاصرة.

3. النقد للثقافة السائدة: الفلسفة الفينومينولوجية نقدت الثقافة السائدة وطرحت أسئلة جديدة حول الهوية والثقافة.

هذه بعض المجالات التي يمكن أن يتمثل فيها الحضور النقدي للفلسفة الفينومينولوجية في الثقافة المعاصرة.

9. بأي معنى يظل الفكر النقدي هو المحرك الرئيسي الأول للفعل الابداعي؟

الفكر النقدي يظل المحرك الرئيسي الأول للفعل الإبداعي في عدة معانٍ، منها:

التحدي والتمرد

1. التحدي للمعايير التقليدية: الفكر النقدي يتحدى المعايير التقليدية والموجودات المألوفة، مما يفتح المجال للإبداع والابتكار.

2. التمرد على القوالب الجاهزة: الفكر النقدي يرفض القوالب الجاهزة والنماذج المكررة، مما يسمح بالإبداع والتجديد.

البحث عن الجديد والمبتكر

1. البحث عن الجديد والمبتكر: الفكر النقدي يبحث عن الجديد والمبتكر، مما يفتح المجال للإبداع والابتكار.

2. الاستكشاف والتجريب: الفكر النقدي يستكشف ويجرب أفكارًا جديدة، مما يسمح بالإبداع والتجديد.

التفاعل مع الواقع

1. التفاعل مع الواقع: الفكر النقدي يتفاعل مع الواقع ويحلل الظواهر الاجتماعية والثقافية، مما يفتح المجال للإبداع والابتكار.

2. الاستجابة للتحديات: الفكر النقدي يستجيب للتحديات والمشاكل التي تواجه المجتمع، مما يسمح بالإبداع والتجديد.

تعزيز الإبداع الفردي

1. تعزيز الإبداع الفردي: الفكر النقدي يعزز الإبداع الفردي والتميز، مما يفتح المجال للإبداع والابتكار.

2. التشجيع على التجريب: الفكر النقدي يشجع على التجريب والاستكشاف، مما يسمح بالإبداع والتجديد.

الحفاظ على الهوية الثقافية

1. الحفاظ على الهوية الثقافية: الفكر النقدي يحافظ على الهوية الثقافية والتراث، مما يفتح المجال للإبداع والابتكار.

2. الاستفادة من التراث: الفكر النقدي يستفيد من التراث والثقافة، مما يسمح بالإبداع والتجديد.

هذه بعض المعاني التي تجعل الفكر النقدي المحرك الرئيسي الأول للفعل الإبداعي.الفكر النقدي يظل المحرك الرئيسي الأول للفعل الإبداعي في عدة معانٍ، منها:

التحدي والتمرد

1. التحدي للمعايير التقليدية: الفكر النقدي يتحدى المعايير التقليدية والموجودات المألوفة، مما يفتح المجال للإبداع والابتكار.

2. التمرد على القوالب الجاهزة: الفكر النقدي يرفض القوالب الجاهزة والنماذج المكررة، مما يسمح بالإبداع والتجديد.

البحث عن الجديد والمبتكر

1. البحث عن الجديد والمبتكر: الفكر النقدي يبحث عن الجديد والمبتكر، مما يفتح المجال للإبداع والابتكار.

2. الاستكشاف والتجريب: الفكر النقدي يستكشف ويجرب أفكارًا جديدة، مما يسمح بالإبداع والتجديد.

التفاعل مع الواقع

1. التفاعل مع الواقع: الفكر النقدي يتفاعل مع الواقع ويحلل الظواهر الاجتماعية والثقافية، مما يفتح المجال للإبداع والابتكار.

2. الاستجابة للتحديات: الفكر النقدي يستجيب للتحديات والمشاكل التي تواجه المجتمع، مما يسمح بالإبداع والتجديد.

تعزيز الإبداع الفردي

1. تعزيز الإبداع الفردي: الفكر النقدي يعزز الإبداع الفردي والتميز، مما يفتح المجال للإبداع والابتكار.

2. التشجيع على التجريب: الفكر النقدي يشجع على التجريب والاستكشاف، مما يسمح بالإبداع والتجديد.

الحفاظ على الهوية الثقافية

1. الحفاظ على الهوية الثقافية: الفكر النقدي يحافظ على الهوية الثقافية والتراث، مما يفتح المجال للإبداع والابتكار.

2. الاستفادة من التراث: الفكر النقدي يستفيد من التراث والثقافة، مما يسمح بالإبداع والتجديد.

هذه بعض المعاني التي تجعل الفكر النقدي المحرك الرئيسي الأول للفعل الإبداعي.

10. هل يؤدي رفع الرسوم الجمركية من طرف الدول المهيمنة هو بمثابة اعلان حرب تجارية على الاقتصاديات الهشة للدول الفقيرة؟

رفع الرسوم الجمركية من طرف الدول المهيمنة يمكن أن يكون له تأثيرات سلبية على الاقتصاديات الهشة للدول الفقيرة، ويمكن أن يُعتبر بمثابة إعلان حرب تجارية على هذه الدول. إليك بعض الأسباب التي تدعم هذا الرأي:

تأثيرات رفع الرسوم الجمركية

 ***

د. زهير الخويلدي

ترجمة: د. زهير الخويلدي

***

تمهيد: يؤمن العديد من علماء الأخلاق بالوحدانية، وهي النظرة القائلة بأن جميع الالتزامات الأخلاقية تنبع من مبدأ نهائي واحد. لكن التعدديين، مثل الفيلسوف البريطاني روس (1877-1971)، يرفضون هذه الوحدانية. رأى روس أن النظريات الأخلاقية الوحدانية، مثل النفعية والأخلاق الكانطية، تُبسط الأخلاق بشكل مُفرط وتتعارض مع البديهية. يقول النفعيون إنه يجب علينا دائمًا تعظيم السعادة الكلية. لكن تعظيم السعادة قد يتحقق أحيانًا بأفعال تبدو خاطئة تمامًا، مثل تعذيب أو قتل الأبرياء. يرى الكانطيون أنه يجب علينا دائمًا معاملة الناس باحترام وعدم إيذائهم أبدًا لتحقيق غايات حميدة. ولكن قد تكون هناك مواقف لا يمكننا فيها تجنب فعل شيء يبدو أنه يُسيء إلى شخص واحد على الأقل، على سبيل المثال، قد نضطر إلى الكذب أو إيذاء شخص ما لمنع حدوث شيء أكثر إهانة أو ضررًا. كمفكر تعددي، آمن روس بوجود مبادئ أخلاقية أساسية متعددة. أطلق عليها اسم "الواجبات البديهية". تُقدّم هذه المقالة نظرية روس، التي تُسمى غالبًا بالحدس.

1. الواجبات "الظاهرة"

يستخدم روس مصطلح "الواجب الظاهر" للإشارة إلى الأفعال التي لدينا مبرر أخلاقي للقيام بها (أو تجنبها). ويقتبس روس العبارة اللاتينية "prima facie" ("للوهلة الأولى") ليعكس فكرة أن هذه الواجبات تحمل دائمًا وزنًا أخلاقيًا، ولكن لا يُعطى أي واجب ظاهر أولوية على غيره.

يقترح روس القائمة التالية للواجبات الظاهرية:

الإخلاص: الوفاء بالوعود،

الجبر: التعويض عن الأفعال الخاطئة،

الامتنان: رد الجميل للآخرين الذين استفدنا منهم،

العدالة: توزيع المتعة أو السعادة على الفضل،

الإحسان: تعزيز مصلحة الآخرين،

تحسين الذات: تحسين أخلاقنا،

عدم الإضرار: عدم إيذاء الآخرين أو عدم إلحاق الأذى بهم.

يزعم روس أن هذه الواجبات البديهية بديهية: أي أن أي شخص ناضج وعاقل يتأمل هذه الأفكار يستطيع أن يدرك أن كل واجب بديهي يشير إلى سمة في الفعل تجعله صحيحًا: على سبيل المثال، إذا تضمن الفعل الوفاء بوعد، فإن ذلك يميل إلى جعله صحيحًا. يدرك معظمنا أن تقديم الوعد ينشئ مسؤولية الوفاء به. هذا هو جوهر الوعود. ولكن إذا تضمن الوفاء بالوعد ارتكاب ظلم أو إيذاء الآخرين، فإن هذه السمات تميل إلى جعل الفعل خاطئًا: ومن البديهي أيضًا أن معاملة الناس بظلم أو إيذاء الآخرين أمر لا ينبغي لنا فعله عمومًا.

2. تضارب الواجبات

أحيانًا تتعارض الواجبات الظاهرية. ما هو واجبنا الفعلي في مثل هذه الحالات؟

تخيل أنك وعدت صديقًا لتناول الغداء. وبينما أنت ذاهب إلى المطعم، اتصلت بك والدتك -التي تسكن بالقرب منك- لتخبرك أنها تعرضت لحادث وتحتاج منك أن توصلها إلى المستشفى. مع أن الوفاء بالوعود واجب ظاهري عليك، إلا أنه من المقبول تمامًا أن تنقض وعدك لصديقك بنقل والدتك إلى المستشفى: فهذه حالة طارئة! بالطبع، عند إخلالك بالوعد، سيكون عليك أيضًا واجب التعويض والاعتذار لصديقك عن تفويت الغداء. والآن تخيل مرة أخرى أنك وعدت صديقًا لتناول الغداء. اتصلت بك والدتك لأن سيارتها تعطلت وهي بحاجة إلى توصيلة إلى بنك طعام محلي، حيث تساعد في تقديم الغداء للمحتاجين. إذا أوصلت والدتك، فلن يكون لديك وقت للقاء صديقك. هنا تبدو الأمور أقل وضوحًا. قد يكون مساعدة الأم أكثر فائدة من لقاء صديقتك، لأنك ستساعدها على مساعدة الآخرين، لكنك وعدتها بلقاء صديقتك. أيهما أثقل وزنًا - واجب الإخلاص الظاهر أم واجب الإحسان الظاهر؟

في مثل هذه الحالات، يقول روس إنه يجب علينا دراسة الموقف بعناية لتكوين أفضل حكم ممكن حول واجبنا الفعلي. بمعنى آخر، يجب أن نعتمد على حدسنا، أو كما يقول روس غالبًا، "ما نعتقد حقًا" أنه الشيء الصحيح الذي يجب فعله. وهذا ما فعلناه أيضًا لحل الموقف عندما احتاجت الأم للذهاب إلى المستشفى؛ فقد جعلتنا حالة الطوارئ الطارئة نتخذ القرار الصحيح أكثر وضوحًا في تلك الحالة. ومع ذلك، يدّعي روس أنه لا يمكننا التأكد من واجباتنا الفعلية. فآراؤنا المدروسة ليست مثالية؛ فالتصرف بناءً على حدسنا يعني المخاطرة. ومع ذلك، لا يوجد ما هو أفضل من اتباع أحكامنا المدروسة بعناية.

3. نقد الحدس

من أبرز الانتقادات الموجهة لوجهة نظر روس أن استعانته بالحدس و"ما نعتقده حقًا" ليست جديرة بالثقة. قد يكون حدسنا متحيزًا أو غير أخلاقي، وغالبًا ما يتعارض مع حدس الآخرين. يعترض البعض على أن فكرة استخدام الحدس لتحديد المسؤوليات الأخلاقية الأساسية وحل النزاعات الأخلاقية تبدو غامضة وغير مبدئية. يرى روس أن الحدس ليس أكثر أو أقل من قدرتنا على التفكير العقلاني، وفهم الأفكار، وإصدار الأحكام؛ لا ينبغي أن نعتبره ملكة خاصة أو "حاسة سادسة" أخلاقية. إنه ببساطة يشير إلى آرائنا المدروسة. بعض هذه الآراء، مثل آرائنا حول الأهمية الأخلاقية للوعود والعدالة والإحسان، عميقة وراسخة؛ وقد تكون بعض الحدس الأخرى أكثر قابلية للمراجعة. كما ذُكر سابقًا، لا يعتبر روس الحدس معصومًا من الخطأ. فهو يُقر بأن البشر قد صقلوا أفكارهم حول الصواب والخطأ، ورفضوا أفكارًا وممارسات كانت تبدو مقبولة للكثيرين. ومع ذلك، فإن أفضل معلوماتنا عما هو صحيح حقًا تأتي من الحدس المدروس بعناية للأشخاص ذوي المعرفة الواسعة، والإدراك، والحساسية، والعقلانية. كما تحدد الواجبات البديهية القيم التي صمدت أمام اختبار التفكير، والخبرة، والزمن.أحيانًا يكون لدى الأشخاص المفكرين حدس متضارب بشأن القضايا المعقدة. ولهذا السبب، يقترح روس أن نتحلى ببعض التواضع تجاه آرائنا، وأن نكون على استعداد للنظر بعناية في وجهات نظر الآخرين.

الخاتمة

يجيز روس تعديل هذه القائمة بالتوسع أو التبسيط؛ وفي كتابيه "الحق والخير" و"أسس الأخلاق"، يؤكد روس على الالتزامات الظاهرية بالإخلاص والتعويض والامتنان والإحسان وعدم الإيذاء، ويعامل العدالة وتحسين الذات كجزء من واجب الإحسان الظاهري للإضافة إلى الصالح العام. يقترح روس أن بعض الواجبات البديهية عادةً ما تكون لها الأولوية على غيرها: على سبيل المثال، بينما من الجيد القيام بأشياء تُسعد الناس (الإحسان)، لا ينبغي لنا عادةً القيام بذلك عن طريق إيذاء الآخرين (عدم الإيذاء، العدالة). يجب علينا سداد الديون (الإخلاص) قبل التصدق (الإحسان). يُجادل روس مُطولًا في كتابه "الحق والخير" بأنه ليس من البديهي أن نخلف وعدًا لمجرد أننا من خلال إخلالنا به، يمكننا القيام بشيء آخر يُنتج قدرًا ضئيلًا من السعادة الإضافية: فالوعود لها وزن أخلاقي لا يقتصر على إنتاج أقصى قدر من السعادة. حدسي الشخصي تجاه قضية والدتك وصديقتك هو أن عليكِ الوفاء بوعدكِ. مع ذلك، أفترض أن بنك الطعام سيُقدّم الغداء حتى لو لم تتمكن من الحضور في هذا اليوم تحديدًا. إذا تبيّن أن بنك الطعام لا يستطيع فتح أبوابه بدون والدتك، فسيبدو لي أن الإحسان أهم من الوفاء؛ في هذه الحالة، أنصحكِ بمساعدة والدتك والاتصال بصديقتكِ للاعتذار وإعادة جدولة موعد الغداء. أشجع القراء على محاولة ملء تفاصيل القضية بطرق مختلفة للتفكير في كيفية تأثير هذه التغييرات على وجود وقوة الواجبات الظاهرة المختلفة في كل شكل.  الهدف من هذه القائمة هو إبراز وجود واجبات بديهية متعددة، وليس نوعًا واحدًا منها فقط، مثل القيام بكل ما يُحقق أقصى قدر من السعادة. يشير روس إلى أن انعدام اليقين لا يُمثل مشكلة خاصة برأيه، لأن الحسابات النفعية، على سبيل المثال، تستند أيضًا إلى تنبؤات وقياسات أقل من اليقين. لاحظ أن هذه النقاط تتيح لنا التشكيك في حدس من يفتقرون إلى هذه الخصائص، وانتقاد حدس حتى أصحاب السلطة الأخلاقية الظاهرية الذين يتحدثون خارج نطاق تخصصهم أو الذين يتبين أنهم يعتمدون على معلومات غير موثوقة أو محدودة. بالطبع، قد يجد أصحاب المذهب الواحدي هذه الاستجابات غير مُرضية. ومن الاعتراضات النظرية الإضافية على رأي روس أنه لا يقدم سوى "مجموعة غير مترابطة من الواجبات" - أي قائمة عشوائية - تفتقر إلى أساس منهجي أو موحد. مع ذلك، يرد روس بأن قدرتنا العقلانية على إدراك صحة كل واجب من الواجبات الظاهرة هي الأساس الموحد. علاوة على ذلك، يُجادل روس، بعرضه قائمة الواجبات الظاهرة، بأنها تتوافق مع أدوار محددة (مثل الواعد أو المخطئ)، والعلاقات (الوالد، الصديق، المواطن)، وسمات العالم (أن الألم مؤلم، وأننا نستطيع التأثير على العالم بطرق إيجابية أو سلبية)، وفي هذا الصدد، فهي ليست عشوائية. لا يزال منظرو الأخلاق المعاصرون يعتمدون على الواجبات "البديهية". وبالتالي، ربما يكون هناك واجب بديهي بالامتنان لروس لتطويره هذه الفكرة، حتى لو اختلفنا مع عناصر أخرى من نظريته. فكبيف يمكن الاستفادة من هذه النظرية التعددية الايتيقية في اعادة التفكير في المسالقيمية في زمن عصفت فيه رياح الكوارثية بالمقاربة الأكسيولوجية؟

***

كاتب فلسفي

......................

المصادر والمراجع

Ross, W.D. (2002). The Right and the Good. Oxford University Press. Originally published in 1931.

Ross, W.D. (1939). The Foundations of Ethics. Oxford University Press.

Audi, Robert (2005). The Good in the Right. Princeton University Press.

McNaughton, David (1996). “An Unconnected Heap of Duties?” The Philosophical Quarterly 46(185): 433-447.

Simpson, David. “William David Ross (1877-1971).” Internet Encyclopedia of Philosophy. Last Accessed 6/13/2023.

Skelton, Anthony (2022). “William David Ross.” The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2022 Edition), Edward N. Zalta (ed.).

يقول فرويد في مقدمة الكتاب حين صدور النسخة الأولى من كتاب (الأنا والهو) الذي صدر عام 1954، أن مصطلحات التحليل النفسي لم تكن معروفة جيداً بين القراء، وأن مصطلح الأنا والهو قد يكون غامض على البعض منهم، لذلك أختار للكتاب عنواناً أخر تحت مسمى الذات والغرائز، والمقصود بالذات هو الأنا، والغرائز الهو.

كانت الحياة النفسية للأفراد قبل ظهور مدرسة التحليل النفسي تهتم بدراسة الظواهر العقلية الشعورية، ولم يكن هنالك دراية تامة للعمليات العقلية اللاشعورية، والتي تعتبر المحرك الأساسي لسلوكيات الإنسان، سواء كانت هذه السلوكيات سليمة او شاذة، ونتج عن ذلك أن ظل عصياً معرفة وتفسير السلوك الإنساني، وبفضل جهود فرويد، إستطاع الوصول إلى حقيقة أن جزء كبير من الحياة العقلية لاشعورية، وأن هذا الجزء اللاشعوري من حياتنا ذو تأثير كبير على السلوك سواء كان قويماً، أو شاذاً. وكانت هذه النتيجة هي نقطة الإنطلاقة لقيام مدرسة التحليل النفسي، الذي يعتبر فرويد مؤسساً لها، ومن الجدير بالذكر الإشارة الى أن فكرة اللاشعور كانت موجودة من قبل، ولكنها لم تكن واضحة. إلا أن فرويد نسب إليها الدور الدينامي المهم الذي وضح أساس العمليات النفسية في الإنسان. وقد أكتشف فرويد اللاشعور وأهميته حينما كان يدرس مرض الهستيريا مع جوزيف بروير، حيث إتضح لهما أن أعراض مرض الهيستريا تنشأ عن الذكريات المكبوتة في اللاشعور، وأن الأعراض تزول حينما يتذكر الذكريات ويفصح عنها أثناء العلاج.

يحدثنا فرويد أن في الجهاز النفسي ثلاث أقسام، وهي الشعور، ما قبل الشعور واللاشعور، والشعور: يتمثل في ذلك الجزء من العمليات النفسية التي ندركها ونشعر بها، وهي لا تكون متصلة، بل يوجد فيها كثير من الثغرات والفجوات، وتفسر هذه الفجوات رجوعاً للعمليات التي تظهر في ما قبل الشعور واللاشعور. أما ماقبل الشعور فهي تلك العمليات التي تحدث في النفس جميع الأثار التي تحدثها الأفكار العادية دون أن تكون شعورية، وتحتاج لجهد لكي تصبح شعورية، أما اللاشعور هو ذلك القسم الذي يحوي الدوافع الغريزية البدائية، الجنسية، والعدوانية التي تكبت في الأرجح بسبب المجتمعات المتحضرة بسبب الدين والمعايير الإجتماعية التي ينشأ فيها الأفراد. وهذه الأقسام الثلاث للحياة النفسية تأخذ وصفين، أولهما وصفي وهو المقصود به كيفية العملية النفسية من حيث شعورنا بها أو عدم شعورنا بها، أما الوصف الأخر (الطبوغرافي) يقصد به أقسام مختلفة أو أماكن محددة تكون مسرحاً للعمليات النفسية. وقد أطلق فرويد أسم الأنا على الشعور، والهو على اللاشعور، والأنا الأعلى هي ماقبل الشعور، وفي بداية الأمر كان يرى أن الأنا هو الذي يقوم بالكبت التي تمنع النزعات والغرائز من الظهور في الشعور، وهو الذي تصدر منه المقاومة أثناء التحليل، وهذه المقاومة كما ظهرت له لاشعورية في الغالب، إلا أنه عدّل عن هذه الأراء بعد وقت بوجود الشعور واللاشعور وماقبل الشعور، ومن الناحية الطبوغرافية أقر بأقسام جديدة للجهاز النفسي، وهي الأنا والهو والأنا الأعلى، موضحاً انه لايوجد تقابل مباشر بين الأقسام الثلاثة للجهاز النفسي وبين الكيفيات الثلاثة.

يتحدث فرويد عن الأنا واصفاً إياها بالرقيب، إذ هي التي تقوم بعملية الكبت ومنع غرائز الهو اللاشعوري من أن تنتقل إلى الشعور، وفي الأساس فإن الأنا هو ذلك الجزء من الهو الذي نما بسبب تأثيرات العالم الخارجي، وهو الذي يقوم بمهمة حفظ الذات، ويقاوم الرغبات التي تصدر من الهو، بما يتماشى مع الواقع الخارجي، وهو بذلك ( واقعي يمثل العالم الخارجي) أما الهو فهو جزء فطري في الإنسان وهو بذلك كل ماهو موروث وموجود منذ الولادة، وماهو ثابت في تركيب البدن، ويتبع مبدأ اللذة ويسعى دائماً للتخلص من الألم وتفريغ شحنته عن طريق الحصول على اللذة، وهو غير واقعي لايراعي المنطق أو الأخلاق، ويسود فيه اللاشعور. ويسعى لإشباع رغباته بأي شكل كان، وأخيراً الأنا الأعلى: الضمير، هو الذي يتكون في داخلنا منذ الطفولة، إبتداءً من رعاية ورقابة الوالدين الى المجتمع والمدرسة والمعلمين، والذين تتحول سلطتهم الخارجية الى سلطة داخلية تراقبه وتصدر اليه الأوامر، والأنا الأعلى لاعلاقة له بالواقع بل يسعى دائماً للكمال، ودائماً ما تكون الأنا في حالة وسيط لفض التصادم الدائم بين الأعلى وبين الهو، وهي بذلك تقوم بمهمة مراعاة العالم الخارجي والأنا الأعلى والهو، وفي حال سيطرت إحداهما على الأخر تنشأ الإضطرابات العصابية. وتنشأ العديد من الأمراض العصابية بسبب التصادم والصراع المستمر بين هذه القوى الثلاث مثل الوسواس القهري، الهستيريا، الرهاب الإجتماعي، القلق، الهلع و الإكتئاب ... الخ.

ويقرّ فرويد بأن الأنا الأعلى تكون نتيجة لعقدة أوديب (الأسطورة اليونانية لأوديب الذي قتل أباه وتزوج أمه من دون علمه بحقيقة إرتباطه بهما) فالطفل في مراحل نموه المبكر قد يشعر بالحب إتجاه أمه والتناقض الوجداني ما بين الحب والكره حيال أبيه، ويعتقد أنه العائق ما بينه وبين والدته، وفي هذه الحال يقوم الأنا بعملية الكبت، وذلك بإقامة عائق في الأنا نفسه، والإبقاء على خُلق الأب، وقد نشأت الأنا الأعلى بحسب فرويد بناء على الخبرات المستمدة من الأسطورة الطوطمية.

 ويشير الى هنالك نوعين من اللاشعور إحداهما كامن، والأخر مكبوت، والكامن يسمى (قبل الشعور) هو الذي يستطيع التحول الى الشعور بمساعدة بعض الصور اللفظية، مثلاً أن تتوجه الى تناول الطعام مباشرة بمجرد أنك شاهدت على التلفاز إعلان للوجبات السريعة، وذلك يعني ان فكرة الجوع موجودة في الجزء اللاشعوري وغائبة عن الشعور المباشر، ولكن بفضل الصور اللفظية أو الروابط (إعلان الوجبات السريعة) إستطاعت الفكرة أن تنفذ غلى الشعور، أما اللاشعور المكبوت فهو الذي لا يستطيع النفاذ إلى الشعور، والسبب في عدم ظهورها في الشعور، هو وجود قوة معينة تعمل على مقاومتها، وفي أثناء التحليل النفسي يعمل الطبيب على إزالة تلك المقاومة لتصبح الأفكار شعورية. ومن الجدير بالذكر ان كل كامن يمكن ان يصبح شعوري، ولكن لايمكن أن يصبح كل مكبوت كذلك.

في الجزء الأخير تحدث فرويد عن الغرائز قائلاً: أنه توجد نوعين من الغرائز، غرائز الحب أو الحياة (الأيروس) وغرائز الموت أو الهدم (ثاناتوس)، والأيروس تحتوي الأنا والغرائز الجنسية وكل ما يتضمن حفظ الذات، والمتعة والشعور بالرضا. أما ثاناتوس فهو يحوي الغرائز العدوانية والكره والإيذاء سواء كان نفسي أو موجه ضد الغير. وأختصر القول بأن السادية ممثلة لهذه الغريزة، وترتبط كل من هاتين الغريزتين بعملية فسيولوجية خاصة بعملية البناء وعملية الهدم، وتكون هاتين الغريزتين منفصلتان عن بعضهما البعض إما كلياً أو جزئياُ، ويحدث أن تكون الغريزتان متحدتين وممتزجتين الواحدة بالأخرى (السادية في الغريزة الجنسية مثال لإتحاد الغرائز الذي يؤدي لنتيجة مفيدة، والإنحراف الذي تصبح فيه السادية مستقلة بنفسها) وقد توصل فرويد الى أن غريزة الموت هي أهم أسباب الأمراض العصابية الشديدة.

ويوضح أيضاً أن بعض الدوافع الى الأعمال الإجرامية سببها أن الإحساس اللاشعوري بالذنب لدى البعض يكون كبيراً جداً قبل الجريمة، وهو بذلك يكون دافعاً لها.

***

مودة جمعة

لم يكن إنسان النياندرتال يعلم، حين التقط حجرًا ووجهه نحو رأس أخيه، أنه كان يبتكر أكثر الظواهر البشرية فتكًا ووحشية: إنها الحرب، لعنة الإنسان الأزلية، والظلّ الأسود الذي يلاحق البشرية ويوصم تاريخها بالدماء. إذ لم تخلُ صفحات التاريخ البشري من الصراعات والحروب، سواء في شكلها البدائي من خلال نزاعات المجموعات والقبائل، أو في شكلها المنظّم في حروبٍ ومعسكراتٍ يقودها زعماء وتخوضها جيوش منظمة. وأمام هذه الذاكرة التاريخية المشوّهة، يلحّ في أذهاننا سؤالٌ جوهري: ما السبب وراء الحرب؟ وكيف فشل الإنسان، عبر تاريخه ورغم تطوره، في أن يعيش بسلام؟

الإنسان، الكائن الوحيد الذي يشن الحروب:

تخبرنا الدراسات الأنثروبولوجية أن الحرب ظاهرة بشرية خالصة؛ فإن وُجد العنف في مملكة الحيوان، إلا أنه عنف غير منظم، لا يتجاوز كونه دفاعًا عن النفس أو رغبة في الطعام. بينما يتميز العنف لدى البشر بطابعه التنظيمي، فهو يتجاوز العنف الطبيعي الموجود لدى الحيوانات، ويحمل أبعادًا ثقافية ودينية ورمزية.

جذور الحرب والعنف في التاريخ:

ظهرت الحروب والنزعة للعنف والقتل منذ فجر التاريخ البشري، حيث لم يكف الإنسان عن اختراع وسائل جديدة لقتل أخيه الإنسان؛ بدءًا من العصي والحجارة والسكاكين البدائية، وصولًا إلى أسلحة الدمار الشامل. وتروي لنا الحفريات والمكتشفات الأثرية في مناطق مثل شمال السودان وأوروبا وجود صراعات عنيفة قامت في لحظات مبكرة من التاريخ بين قبائل وجماعات مختلفة ثقافيًا، وهو ما يعني أن هذه الصراعات كانت واسعة النطاق، ومرتبطة بظهور الزراعة وتكوّن المجتمعات الزراعية وصراعها على الأراضي الخصبة والموارد الطبيعية لكن، هل هذه الدوافع هي المحرك الوحيد لآلة الحرب؟

الدوافع النفسية: نزعة العنف كما يراها فرويد:

عندما سُئل سيغموند فرويد (بالألمانية: Sigmund Freud)‏ (6 مايو 1856 – 3 سبتمبر 1939) مؤسس التحليل النفسي، في أعقاب الحرب العالمية الأولى من قِبل ألْبِرْت أينْشتاين (بالألمانية: Albert Einstein) (14 مارس 1879 – 18 أبريل 1955)٠ عن: "ماذا يمكن فعله لحماية الجنس البشري من الحرب؟ وهل نظريته في التحليل النفسي قادرة على إيقاف التدمير والعنف في المجتمعات البشرية؟"، أجاب فرويد بكل سوداوية:

"للأسف، هذا مستحيل، لأنني رأيت جذور الحرب في طبيعة الإنسان نفسه".

تأتي هذه الإجابة كنهاية بحث علمي لتشريح ظاهرة العنف لدى الإنسان كما أجراها فرويد، حيث يقوم العنف لدى الإنسان، حسب فرويد، على ثنائية: إيروس (الرغبة في الحياة) و ثاناتوس (قوة الموت). فالأولى تقوده نحو الحياة والحب والمتعة، بينما تقوده الثانية نحو التدمير والعنف والحرب. والعنف هو السلوك الذي يُعبّر من خلاله الإنسان عن الصراع الداخلي بين هاتين الرغبتين. ووفقًا لفرويد، فإن سبب العنف ناجم عن أن الحضارات البشرية تقوم على أساس قمع رغبات الإنسان، خاصة الجنسية، ولا يعتبر الكبت قضاءً على هذه الرغبات، بل قمعًا لها، وقد تنفجر في أية لحظة في شكل ممارسات عنيفة.

وبهذا المعنى، تمثل الحروب تجسيدًا لصراع بين قوتي الخير والشر في الإنسان، وهي محاولة فاشلة في التوفيق بين حاجة الشعوب إلى السلام ورغبتها في التدمير، نتيجة لدوافع مكبوتة. فالعنف والنزوع إلى القتل، سواء بشكله الجماعي أو الفردي، جزء لا يتجزأ من التركيبة العميقة للنفس البشرية، التي تتكون من قوى لاشعورية ورغبات مكبوتة. ولعل هذا ما يفسر إقدام شخص في حالة الغضب الشديد على قتل فرد من عائلته، ثم يردد أنه فعل ذلك "دون وعي". فالغضب هو تجلّي ثاناتوس، وتحرير الوحش الذي يسكن الإنسان من سجنه. لقد قدم فرويد طرحًا نفسيًا لمشكلة العنف الإنساني، ليستقر بين ثلاثي القرن العشرين الذين بحثوا في مشكلة العنف؛ حيث كشف كارل هانريش ماركس (بالألمانية: Karl Marx) تُلفظ بالألمانية 5 مايو 1818 – 14 مارس 1883)؛ البنية الاقتصادية له، وأظهر فريدريش فيلهيلم نيتشه (بالألمانية: Friedrich Nietzsche) ‏(15 أكتوبر 1844 – 25 أغسطس 1900) البنية الأخلاقية، بينما اهتم فرويد بكشف البنية النفسية لظاهرة العنف البشري.

الدوافع الدينية للحروب، العنف المقدس:

لقد كانت الأديان جزءًا من الصراع البشري، حيث استُخدمت النصوص والرموز الدينية لتبرير العنف والقتل، وشرعنة الحرب باسم الإله.

والعنف، حسب الفيلسوف الفرنسي رينيه جيرارد (بالفرنسية: René Girard)‏ (25 ديسمبر 1923- 4 نوفمبر 2015)  في كتابه "العنف والمقدس"، لم يكن مجرد سلوك بشري عبثي، وإنما طقس مقدّس، تُقدَّم فيه القرابين ككبش فداء، بحيث يُحمَّل فرد أو جماعة معينة مسؤولية العنف الجماعي، فتُقدَّم التضحية بها لضمان الاستقرار والنظام.وبالتالي، ترتدي الجريمة والعنف رداء القداسة.وإن التاريخ شاهد على ظاهرة الحرب المقدسة؛ من الحروب الصليبية، إلى حرب الثلاثين عامًا، إلى حروب السنة والشيعة. كما تعبّر  مسلة النصر "لنارام سين" المنحوتة على حجر الديوريت الوردي، والتي يعود تاريخها إلى العهد الأكادي، عن الحرب المقدسة؛ حيث تُظهر الملك الأكادي وهو يدوس جثث الأعداء تحت حماية الآلهة. مما يدل على أن الشعوب والحضارات الغابرة فهمت أن الحرب تحتاج إلى شرعية أكبر من الأسباب الدنيوية، فلجأت إلى خلق جدلية السلطة والإله، التي استغلتها الشعوب التي جاءت من بعد.

الدوافع السياسية والاقتصادية: أطماع الهيمنة والأسواق:

مع تطور المجتمعات البشرية، ظهرت دوافع جديدة للحرب تجاوزت الدين والثقافة، وهي الدوافع السياسية والاقتصادية. فقد أصبحت الحروب وسيلة لإعادة رسم خرائط النفوذ، والسيطرة على الموارد والأسواق. فالأنظمة السياسية تستغل الحرب كأداة لترسيخ سلطتها، بينما تسعى القوى الاقتصادية إلى تأمين مصالحها من خلال التدخل العسكري المباشر أو غير المباشر.

وهكذا تحوّلت الحروب الحديثة إلى صراعات مصالح مموّهة بشعارات التحرير والديمقراطية، فيما تكمن خلفها رغبات السيطرة والهيمنة. وهو ما أشار إليه كارل ماركس الذي اعتبر الحروب امتداد لصراع الطبقي، حيث تتحكم البرجوازية العالمية بمصير الشعوب الضعيفة وتقحمها في بوتقة الحرب لضمان التحكم فيها والاستفادة من مواردها الطبيعية ومواقعها الاستراتيجية وهو ما فعتله الولايات المتحدة الأمريكية عندما تدخلت في العراق وافغنستان بدعوى نشر الديمقراطية والحرية، إلا أن غايتها الحقيقية كانت تأمين مصادر النفط وتغير خارطة الشرق الأوسط بما يخدم مصالحها.

الثورة الصناعية: عصر الآلة والموت الجماعي

 مع اختراع البارود وتدشين عصر الآلة، تغيّر وجه الحرب من صراع تقليدي بالسيوف والرماح إلى جحيم تقني يُدار من المعسكرات والمصانع، وينتج الموت على نطاق واسع. ٠وقد تُرجم هذا التحول في الحرب العالمية الأولى (1914–1919)، التي وُصفت بأنها أول حرب ميكانيكية في التاريخ؛ حيث شكلت المدافع، والدبابات، والغازات الكيميائية، وحروب الخنادق، رموزًا جديدة لقتل مبرمج جاء نتيجة تغوّل الآلة، يقول الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين (15 يوليو 1892-26 سبتمبر 1940)،: "الحرب الحديثة هي النتيجة الحتمية لتقنية لم تعد تخدم الإنسان، بل تسيطر عليه."

لم يمضِ وقت طويل على انتهاء الحرب الأولى، حتى انفجرت شرارة الثانية ببارود ألماني نازي، وبتوقيع أدولف هتلر، الذي أعاد شبح الحرب على أساس الانتقام التاريخي لألمانيا، والقومية المتطرفة، والانتصار للعرق الآري. لتتكرر المأساة بشكل أكثر وحشية ودمارًا، كُتبت سطورها الأخيرة في عام 1945، عندما أُلقيت قنبلة نووية بحجم كرة القدم على مدينتي هيروشيما وناجازاكي، فسوتْهما بالأرض، ليصمت العالم في صدمة أمام الرعب النووي.

القرن الواحد والعشرون: الحروب اللامرئية

لقد أصبحت الحروب في القرن الواحد والعشرين لامرئية، إذ فقدنا حتى القدرة على رؤية قاتلنا في لحظاتنا الأخيرة، بسبب تقنية الطائرات بدون طيار، التي تُدار من قواعد تبعد آلاف الكيلومترات عن ساحة المعركة. كما ظهر نوع جديد من الحروب: الحروب السيبرانية، التي تستهدف البنية التحتية الرقمية، والبيانات الدولية والشخصية، وهو ما يعيد تشكيل وجه الحرب في عصر ما بعد الحداثة.

تلك الحرب التي أصبحت أكثر "نظافة" في ظاهرها، فقد تخلّص المتحكمون في تقنيات الذكاء الاصطناعي والأقمار الصناعية من الدماء التي تُسببها المواجهة المباشرة، لكنهم في المقابل أغرقوا ضحاياهم في شلالات من الدماء لا آخر لها.

مثلما يحدث الآن في مدينة غزة الفلسطينية، التي أصبحت منطقة منكوبة، ومختبرًا دمويًا مفتوحًا يُجرَّب فيه الأسلحة الحديثة وتقنيات الذكاء الاصطناعي في تحديد الأهداف البشرية، تحوّل بمقتضاه الغزاويون إلى مجرد إشارات حمراء على شاشة، وأرقام في سجلات الموتى. والأكثر بشاعة من ذلك كله أنه يُبرر هذا العنف تحت شعار "الحرب على الإرهاب"، ذلك الشعار الفضفاض الذي تستخدمه القوى العظمى والاحتلال الصهيوني لتبرير الحرب على غزة والشرق الأوسط، بينما يختبئ خلفه قتل ممنهج تُديره خوارزميات وتبرره أهداف استعمارية.

في الختام، لقد أصبح الإنسان، المحكوم بثنائية إيروس وثاناتوس حسب فرويد، يمتلك أقوى الأسلحة وأشرسها، والتقاء السلاح مع غريزة الشر والتدمير، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى مزيد من الدمار والقتل. فالحروب عبر التاريخ، بمختلف أشكالها وأسبابها وأسلحتها، مرورًا بالعصا وصولًا إلى الطائرات المسيرة، ما هي إلا الوجه الآخر للبشرية، الوجه الأكثر وحشية وظلامًا، تتحكم فيه نوازع الشر والهيمنة والرغبة في التملك والسيطرة.

لكن، لا يزال بالإمكان التخفيف من وطأتها، عبر تأسيس أرضية للحوار، وتعزيز القيم الإنسانية، والإيمان بالمصير البشري المشترك.

***

آية مصدق- تونس

 

يبدو ان قانون تثبيت اللحظة لا زال هو المعيار المسيطر على العقلية الثقافية المعاصرة، تهاوت في مواجهته كل اشكال الحداثة وترسخت امتداداته الماضوية بأثر رجعي في بداية الالفية الثالثة، أصبح الحاضر والمستقبل نمطا ممتدا الى ازمنة تكريس سلطة الاستبداد عندما تجاوزنا دور السياق الزمكاني في التحول العميق والمنطقي الذي ساعد في رفع الالتباس عن المعميات وثوابت الماضي. الزمان والمكان عنصران حيويان في فهم الأحداث التاريخية وتأثيرهما الاجتماعي والاقتصادي ، وهما متغيران سياقيان يؤثران بشكل كبير على السرديات التاريخية المؤسسة، الأحداث التاريخية تُفهم بشكل أفضل عندما تُوضع في سياق الابعاد الزمانية والمكانية مع التغيرات الاجتماعية الناتجة عنها، الماضي لا يمكن ان يكون صالحا في كل الفترات ، لكنه حاضر زمكاني يتطور فهمه مع الزمن ،كون الزمكان له دور كبيرًا في تشكيل الأحداث السياسية والاجتماعية التي تؤثر على كيفية تطور الثقافات المختلفة التي تؤدي إلى التنوع مما يُثري السرديات التاريخية ،من خلال التغير الزمكاني يمكن فهم الديناميكيات المعقدة التي اثرت على تلك السرديات ويمكن في التعمق في تحليل الأسباب والنتائج و تجنب التبسيط المفرط أو التعميم ان يساعد و تقديم تحليلات أكثر دقة وعمقًا، كما يعزز القدرة على فهم الأحداث من زوايا متعددة. يؤثر التغير الزمكاني على وضع الأحداث في سياقها الأوسع مما يسهل تأثيرات الظروف التي أدت إلى حدوثها ونتائجها دراسة التغيرات والتعرف على وكيفية انعكاسها على الظروف الاجتماعية والسياسية وعلى تطورها، مما يعزز فهم العلاقات المعقدة بين الفرد والمجتمع، حيث تظهر أن التاريخ لا يسير بمسار خطي انه مليء بالتعقيدات والتغيرات، تبين كيف أن الثقافات المختلفة تتفاعل مع الأحداث التاريخية بطرق تساعد في تتبع تطور الأفكار والمعتقدات عبر الزمن، تأثير السياق زمانيا ومكانيا. يوفر إطارًا دقيقًا لفهم تطورات الأحداث

التفكير النقدي

يساعد المراقبين على تحديد العلاقات السببية بين الأحداث التفكير النقدي والزمن والزمكان على السرديات التاريخية، مما يعزز القدرة على تقييم وتحليل ودراسة اثر التغير الزمكاني الذي يعتبر ضروري لفهم التاريخ بشكل شامل، إنها تعزز الدقة والموضوعية في الكتابة التاريخية، وتساعد في تقديم سرديات أكثر عمقا وتغطي فترات زمنية أو أماكن متعددة، مما يجعل من الصعب أن تؤثر تحيزات المراقبين الشخصية أو الثقافية على تفسير الأحداث، مما يؤدي إلى فهم السياقات الاجتماعية والسياسية المختلفة ، يمكن أن يكون هذا معقدًا، حيث تختلف المعايير والقيم من مكان لآخر، بعض المفاهيم مثل الهوية، السلطة، والعدالة تتغير ، احداث تاريخية مختلفة مفاهيم أخرى يمكن ان تكون ومعقدًة، حيث تتطلب مهارات تحليلية متقدمة لفهم الاتجاهات ،الأحداث العالمية مثل الحروب أو الأزمات الاقتصادية يمكن أن تؤثر على السياقات المحلية، مما يجعل من الصعب فصل هذه التأثيرات عن المراقبين ، التركيز على الأحداث الكبرى، يمكن ان يؤدي إلى إغفال الأحداث الصغيرة التي قد تكون لها تأثيرات كبيرة . تتطلب دراسة التغير الزمكاني من المراقبين أن يكونوا واعين لهذه التحديات وأن يستخدموا منهجيات متعددة لضمان تحليل دقيق وعميق للأحداث التاريخية.

التغير الزمكاني وتأثيره على السرد التاريخي

السرد التاريخي قد يصبح غير صالح إذا لم يأخذ التغيرات الزمكانية بعين الاعتبار، التغير الزمكاني يساعد على فهم كيف تتغير الديناميات الاجتماعية مع مرور الوقت. السرد التاريخي الذي لا يأخذ في اعتباره هذه الديناميات قد يكون ناقصًا أو مضللاً. يجب أن يتضمن السرد التاريخي تنوعًا في وجهات النظر لفهم الظواهر الاقتصادية والاجتماعية بشكل شامل. يمكن القول إن السرد التاريخي، قد يصبح غير فعال أو غير موثوق فيه للاستدلال على الصلاحية الزمكانية. من الضروري استخدام منهجيات متعددة لفهم الأحداث التاريخية بشكل عميق وشامل، مع مراعاة التغيرات الزمانية والمكانية وتأثيراتها على الفهم الاجتماعي وتأثيراتها الاقتصادية على السرد.

السياق الثقافي

فهم السياق الثقافي يمكن أن يكشف عن الهياكل الاجتماعية والعلاقات بين الأفراد والمجتمعات والسياقات الثقافية المختلفة التي تؤدي إلى تباينات في كيفية سرد و ويساعد في فهم تلك الاختلافات، تأثير السياق الثقافي ضمن إطار تاريخي أوسع، مما يسهل فهم تأثيره على المجتمع السياق الثقافي يعزز من الفهم العاطفي والأحداث من خلال على توضيح كيف تأثرت المجتمعات بالأحداث التاريخية، فهم السياق يساعد المراقبين على التعرف على تحيزاتهم الشخصية والابتعاد عنها، السياق الثقافي يمكن أن يكشف عن مواضيع جديدة أو جوانب غير مكشفة في السرديات ويساعد في تعزيز الفهم والتقدير للاختلافات الثقافية وكيفية تأثيرها على الفهم ،السياق الثقافي عنصر أساسي في تحليل الروايات الشفوية، حيث يعزز من دقة التفسير ويُثري الفهم التاريخي بشكل عام.

السرديات التاريخية والاحكام الاجتماعية

بعض السرديات التاريخية التي تحتوي على أحكام اجتماعية قد تكون صالحة لسياق محدد تاريخيًا، ولكن تأثيرها على السياقات الحالية أو المستقبلية يمكن أن يكون معقدًا. يمكن أن ينسحب فعل هذه الأحكام على الأحكام الاجتماعية الحالية ويؤدي إلى إعادة تقييم المعتقدات ، مما يعزز التفكير النقدي حول ما هو مقبول اذ يمكن للسرديات التي تحمل أحكامًا اجتماعية تؤثر على تشكيل الهويات الثقافية، حيث يتم استحضار هذه الأحكام في السياقات الحالية لإعطاء معنى للأحداث إذا لم يتم تحليل الأحكام الاجتماعية بشكل نقدي، فقد تتكرر الأنماط السلبية في المجتمع، مما يؤدي إلى تكرار الأخطاء التاريخية ويمكن أن تؤثر السرديات التاريخية على السياسات العامة، حيث تُستخدم كأدلة لدعم أو معارضة قرارات معينة ،ويمكن أن تُستخدم كأدوات لفتح حوارات حول القضايا الاجتماعية الحالية، مما يعزز التحيزات الاجتماعية والتمييز، الأحكام الاجتماعية الموجودة في السرديات التاريخية يمكن أن تؤثر بشكل كبير على السياقات الحالية والمستقبلية. من خلال التحليل النقدي والتفاعل مع هذه السرديات، يمكن للمجتمعات استخدام الدروس المستفادة لتحقيق تطورات إيجابية

السرديات التاريخية المؤسسة

التعامل مع السرديات التاريخية المؤسسة، يتطلب توازنًا دقيقًا بين النقد والاحترام.  يجب الاعتراف بالقيمة الثقافية والدينية للسرديات المؤسسة واحترام المشاعر المرتبطة بها، حتى أثناء النقد ينبغي توجيه النقد نحو تحسين الفهم التاريخي دون المساس بمشاعر الأفراد أو المجتمعات ،استخدام الأدلة التاريخية والنقدية لدعم الآراء يعزز المصداقية ويقلل من المقاومة ،التركيز على القيم الإنسانية التي يمكن أن تجمع بين السرديات المؤسسة والنقد، مما يسهل الفهم المتبادل، يجب أن يكون النقد بعيدًا عن الأيديولوجيات المتطرفة التي تؤدي إلى انقسامات اجتماعية ،الاعتراف بأن هناك تفسيرات متعددة للسرديات المؤسسة، مما يساهم في توسيع الفهم ، النقد في إطار السرديات المؤسسة يجب أن يكون قائمًا على التوازن بين الاحترام والنقد البناء. من خلال الحوار المفتوح والتفكير النقدي، يمكن تحقيق فهم أعمق وتجنب تكرار الأنماط السلبية.

تحديات النقد

تواجه الأفكار النقدية مقاومة شديدة من الأفراد أو الجماعات الذين يعتبرون هذه السرديات جزءًا أساسيًا من هويتهم الثقافية ،النقد يمكن أن يؤدي إلى إثارة مشاعر دينية قوية، مما يؤدي إلى انفعالات سلبية أو حتى صراعات، يمكن أن يؤثر التحيز الشخصي أو الخلفية الثقافية للناقد على كيفية ارسال النقد، مما يؤدي إلى سوء الفهم، قد يكون من الصعب العثور على أدلة تاريخية موثوقة تدعم النقد، خاصة إذا كانت السرديات المؤسسة تعتمد على التقاليد الشفاهية، يمكن أن تؤدي الأيديولوجيات المتطرفة إلى تسيس النقد، مما يجعل النقاشات أكثر حدة وأقل موضوعية ،قد يؤدي النقد إلى إعادة فتح جروح تاريخية، مما يجعل المجتمعات تتردد في تناول هذه المواضيع ،لكن هناك خطر دائم من أن يتم تفسير النقد بشكل خاطئ، مما يؤدي إلى ردود فعل غير متوقعة ،تتطلب مواجهة هذه التحديات نهجًا دقيقًا ومتوازنًا، حيث يجب تعزيز الحوار المفتوح والاحترام المتبادل لتعزيز الفهم والتفاعل البناء وأن نكون واعين للمعنى الحقيقي للصلاحية الزمكانية عند تقديم الحجج والنقاش حول السرديات التاريخية المؤسسة، حتى نتمكن من تقديم تحليل دقيق ومتوازن.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

قبل أن يوجد المخرج كانت النصوص المسرحية تحمل في طياتها إرشادات وتوجيهات، تحدد شكل العرض وصياغته المشهدية. وبتتبع تاريخ العرض المسرحي في كل الحضارات، أمكن رصد التشكلات الأولى لدور المخرج باعتباره مسؤولا عن الولادة الثانية للنص، من خلال تنظيم مكوناته من أداء، وديكور، وموسيقى، وأضواء.

في القرون الوسطى كان ترتيب المناظر والحيل المسرحية، كما يصفها أرسطو في كتابه (فن الشعر) يقع على عاتق مدير اللعبة Meneur de jeu، وهي المهمة التي قد يتولاها الممثل الأول في الفرقة أو حتى مصمم الديكور. لكن في نهاية القرن التاسع عشر سيترافق ظهور الإخراج، كمكون أساسي في العملية المسرحية، مع ميلاد السينما، والتغيير الهائل الذي أحدثته في تركيبة الجمهور وأذواقه. وسعى منذ ظهوره إلى التجريب والبحث عن صيغ وجماليات متنوعة. لكنه خلال رحلته المديدة التي يُرجعها العلماء إلى زمن الفراعنة، لم يلتفت لجمهور الصغار إلا قبل مئة عام أو يزيد قليلا.

من المعلوم أن مسرح الطفل نشأ في سياق البحث عن طرائق تربوية جديدة لتربية وإرشاد الأطفال. وبفضل المنجز الذي حققته الأبحاث في ميادين علم النفس، برزت سمات وخصائص نمائية لمرحلة الطفولة، شجعت على توظيف المحاكاة الفطرية التي يتمتع بها الطفل منذ سنواته الأولى، ضمن إطارها الفني، عبر ثلاث محاور: التمثيل للطفل، والتمثيل مع الطفل، ثم الطفل يمثل بمفرده. هكذا نشأت بوادر الكتابة المسرحية للطفل، وتقريب مكونات العرض المسرحي من عالم الطفولة الفريد، ومن بينها الإخراج بطبيعة الحال.

إن تطوير الذوق الفني والجمالي للطفل، وبناء ثقته بنفسه، وتغيير توجهاته الفكرية والثقافية والاجتماعية لهي أهداف يلتئم حولها كاتب النص ومخرجه. بمعنى أن العرض المسرحي الذي يؤديه الطفل ويشاهده، ليس فقط وسيلة تربوية لغرس القيم، وتوجيه السلوك وجهة محمودة، وإنما هو أيضا اندماج مع عالم مواز لحياته اليومية؛ أعني عالم المسرح بتقنياته المختلفة، من اكسسوار وماكياج وإضاءة ومؤثرات صوتية. وهو الاندماج الذي يحتم العناية بالعملية الإخراجية، والتعرف على أسسها وقواعدها التي تسهم في إعداد الممثل الصغير.

يبدأ عمل المخرج بعد أول قراءة للنص المسرحي، وترجمته بشكل مبدئي من خلال تحديد الموضوع، والقيم الأساسية، ثم المميزات الإجمالية للشخصيات. وينتقل في خطوة ثانية إلى وضع الخطة العامة للإخراج انطلاقا من إجابته على الأسئلة التالية:

- هل عدد الممثلين ضخم أم قليل؟ وهل ينبغي حذف بعض الشخصيات غير الضرورية؟

- ما عدد المناظر التي ينبغي استعمالها، وكيف سيتم تغييرها إن كان ثمة تغيير؟

- بالنسبة للملابس هل سيتم صنعها أو استئجارها، أم إدخال تعديلات على ملابس موجودة؟

- الإضاءة هل ستكون عادية أم تتطلب أجهزة خاصة؟

- كيف سيتم إعداد الديكور اللازم للمشاهد؟ (1)

تحدد الأجوبة ما يمكن أن نعتبره تصورا أوليا للعرض المسرحي، حيث سيتم تقدير تكلفة الإنتاج قبل البدء في اختيار الممثلين، انطلاقا من المميزات الإجمالية لشخصيات النص، ثم وضع جدول زمني للتداريب. غير أن من المهام الأساسية التي قد يغفلها المبتدئ في عالم الإخراج المسرحي هي تلك المتعلقة بنحت رؤيته الفنية الخاصة، وذلك من خلال تحليل وتفكيك كل عبارة في النص للكشف عما وراء الحوار والشخصيات، وفهم أبعاد الحدث. إنها الخطوة التي تساعد على تحقيق المعامل التجسيدي لكل شخصية، وتوجيه الموقف الدرامي بشكل يحقق التناغم بين لغة النص ولغة العرض.

بعد إجراء قراءة متعددة للنص، ينتقل المخرج إلى توجيه أصوات الممثلين ومشاعرهم وحركاتهم بما يتناسب مع الرؤية الإخراجية. ويتم ذلك عبر خطوات تحدد التغير الصوتي والحركي المطلوب منها:

- قراءة الفقرات الحوارية ليتعرف الممثلون مناطق الوقف وأنواعه، وكذا النقلات الشعورية.

- قراءة تعبيرية جمالية يُبرز من خلالها الممثل كيفية التعبير عن كل نقلة شعورية يؤديها في دوره، واستخراج الحالات التي يجب أن يتدرب عليها بإتقان " التساؤل، العتاب، الإدانة، الحسرة..."

- التعبير الحركي وهي حركة الجسم وسكونه لإعطاء معنى أعمق، أو للدلالة عما وراء الفكرة الظاهرة.

- تقسيم خشبة المسرح: لرسم حركة الممثلين على الخشبة، وتدريب الطفل على العلاقة بين التقسيمات التسع للخشبة وتأثيراتها النفسية.

يثير هيننج نيلمز ملاحظة مهمة حول حركة الممثلين الذين يؤدون أدوارا غير بشرية، تتضمن أشباحا أو جنيات أو وحوشا، وهي المشاهد التي قلما خلا منها نص مسرحي موجه للأطفال. يتعلق الامر بحركة الممثل التي يجب ان تكون حقيقية بدون تكلف، وأن يُراعى ظهوره على خشبة المسرح من موضع منعزل عن البقية، بحيث لا يستعمله ممثل آخر. كما يجب أن يبتعد الشبح عن الأشخاص الأحياء بقدر الإمكان، وألا يحدث اتصال إلا إذا اقتضت خطة المسرحية ذلك. إضافة إلى أن تحقق الإيهام يتطلب تفادي الحركات التي تُظهر بشريته، مثل جلوسه على مقعد وثير حتى يغوص بين الوسائد بسبب وزنه، أو خروجه من الباب خلافا لما تعوده المُشاهد من قدرة الأشباح على اختراق الجدران!

ويُعد تأثيث الأماكن والفراغات على الخشبة انشغالا تاليا للمخرج، انطلاقا من كون الفضاء المسرحي بمثابة إطار تشكيلي، يستوعب قيما فنية وجمالية تسهم في شد انتباه الطفل للنص الدرامي. فما يطلق عليه "السينوغرافيا" هو رؤية متكاملة تشتبك عناصرها، من إضاءة وموسيقى وديكور ومؤثرات، مع رؤية المخرج لتزويد عين المشاهد الصغير ببواعث ومثيرات لونية وصوتية، تعوض الصورة التي يريدها في مخيلته.

يضع المخرج تصوره للمناظر والديكور، وللحيل وأشكال الخداع التي يتطلبها العرض. وبالنسبة للمناظر فإنها تحقق أهدافا مختلفة؛ فالمنظر الخلفي يمنع تشتت ذهن المتفرج الصغير ويحصره داخل نطاق العرض. والبعض الآخر منها مهمته هي نقل المعلومات، كنوع المكان، والزمان، والخلفية الاجتماعية. بينما تؤدي مناظر ثالثة دور الوسيط الإخراجي، حيث تساعد على تنظيم تدفق الأحداث.

كذلك يصمم المخرج خطة للإضاءة المسرحية، تحدد ألوان الإضاءة، وحركة الضوء والظلام، ودرجات الخفوت والسطوع وفق طبيعة الصراع ومستوياته داخل النص. ومعلوم أن للإضاءة أثرا قويا داخل العرض المسرحي، فهي تقدم معلومات عن زمن الأحداث " نهار، ليل، فصول السنة..."، وتؤثر على المزاج حيث يمكن الانتقال من جو الكآبة أو الخوف إلى جو المرح بزيادة الإضاءة، أو بتغيير اللون من رطب إلى دافئ. ولتغيير الإضاءة فإن بإمكان المخرج أن يعتمد مفاتيح من داخل العرض، قد تكون كلمة أو إشارة أو حركة من أحد الممثلين، مما يسهل التنفيذ من الناحيتين العملية والجمالية.

ونظرا للتلازم التاريخي بين الموسيقى والمسرح، فإنها أصبحت بمثابة ديكور سمعي، يدعم جمالية العرض من خلال توظيف الغناء والمقاطع الإنشادية والضربات الإيقاعية وغيرها. لذا لا يجب أن يكون الغرض من استخدامها إطالة زمن العرض المسرحي أو سد فراغاته فقط، وإنما تهيئة الجو العام في المشاهد ذات الدفقة الشعورية العالية، كالحب واستدرار العطف، أو مواقف الصراع العنيف.

وأما الأزياء فهي تحتل في نظر بعض الدارسين مرتبة ثانية بعد الممثل، فهي بمثابة اللغة التي توضح تعبيرات الممثل وحركاته. ومن خلالها يتلقى المتفرج الصغير طبيعة الشخصية ومواقفها. لذا يتحتم على المخرج ألا يكتفي بالوظيفة (الاستعمالية) للملابس، كما يصفها الدكتور نديم معلا، وإنما ينبغي أن يعكس الزي الحالة النفسية للشخصية، ويسهم في إنتاج التعبير الدرامي. يقول الدكتور معلا:" ما إن يرتدي الممثل ملابس الشخصية التي يجسدها، حتى تدخل فيه وتفرض عليه حركة معينة. عليه أن يطوع هذه الحركة لتتلاءم مع طبيعة الملابس، بحيث لا تعيق انسيابها. وعليه أيضا أن يتذكر أنها صارت جزءا منه.. تشكل الملابس إذن سلوك الممثل العام وترسم ملامحه."(2)

إلى جانب الأزياء تحقق الأقنعة والماكياج مزيدا من الإبهار وإضفاء الصدقية على الشخصيات التي يجسدها الممثلون على الخشبة. غير أن اعتمادهما يظل مقيدا ببعض المبادئ المهمة مثل التلاؤم بين الإضاءة والماكياج، والتناسب بين الماكياج ووجه الشخصية التي سيؤديها الممثل دون مبالغة، وتصميم الأقنعة بحيث يبقى الأنف والفم والعينان حرة.

يتقدم المخرج كعصا سحرية ليهز النصوص المكتوبة، ويبعث فيها الحياة على الخشبة، متوسلا بخطوات عملية، تؤطر رؤيته الفنية للنص، وتُجسد خيالاته وأفكاره وصوره. وفي علاقته مع الطفل ممثلا ومتفرجا، فإن عبئا ثقيلا يلقى على عاتقه لتقديم عروض تعيد تشكيل وجدان الطفل، وتزوده بمقاييس يزن بها الفضيلة والرذيلة، والجمال والقبح، وتخلّصه من الشحنات العاطفية الضارة في حياته اليومية.

***

حميد بن خيبش

....................

1-  هيننج نيلمز: الإخراج المسرحي. ص344

2-  د. نديم معلا: لغة العرض المسرحي. ص 66

التأثيرات الاجتماعية والنفسية على الفرد والمجتمع

لم تكن مسألة الأمان أبداً مرتبطة بمجرد الشعور بالسلامة الداخلية أو البقاء على قيد الحياة؛ بل هي تتعلق بتجلي أساسي للوعي داخل منظومة المجتمع.

يدعو التحليل النفسي التقليدي إلى التحكم في هذه الدوافع الغريزية للحفاظ على التوازن النفسي، لكن إلى جانب هذا الاتزان، يجب الاعتراف بأن السعي للأمان يعتمد على رغبة أعمق: وهي رغبة الاعتراف والتقدير للشخص في رؤية الآخر. هذه الحاجة، بالفعل، تشكل أساس الإرادة لتأكيد الوعي في الزمان والمكان. النماذج العلاقية، والحب، والمودة، رغم أنها تتشكل لاإراديا، فهي تجد أساسها فيما نسميه "الوعي".

يقول دولوز أن الوعي، عند تطوره، يلامس أراضٍ مختلفة، ويعبر قبائل، ويشكل صحاري، ويترك بصمة في كل شيء، هكذا يتجدد ولا يمكن أبدا حصره في تعريف أوحد لأنه في سفر مستمر ولكن، بالإضافة إلى هذه الاعتبارات، يجب أن نتفحص الطبيعة الأكثر تعقيدًا للإنسان، الذي لا يُعرف فقط من خلال استعداداته الجينية أو الروابط العائلية التي تشكل الطفولة.

إنه أيضًا متأثر بالأنماط والسياقات التي يُدرج فيها هذا الوعي. هذا الوعي، الساكن في السياق الجيوسياسي والاقتصادي والتكنولوجي لعصره، لا يتطور بشكل منفرد وأحادي. الوعي اليوم أصبح مغمورا في تدفق مستمر لعالم مشبع بالتحفيزات الرقمية فلهذا سيطور تصورات وحساسيات أكثر حدة من مفهوم الوعي في القرن الماضي. بينما الوعي الذي يتأصل في بيئة خالية من هذه التقنيات، في فضاء خالي من التحفيزات المتوهجة، سيُحرَم من نفس الانفعالات الحسية والإدراكية. هذه الثنائية تدعونا للتفكير في تأثير بيئتنا على تشكيل الفرد، وفي كيفية تأثير هذه السياقات المختلفة ليس فقط على وعينا، بل أيضًا على ثقافتنا وعلاقتنا بالعالم.

الوعي البشري، في النهاية، يزدهر ويتحول وفقًا للهياكل التي ينغمس فيها حسب وقته، وبالتالي، هو الذي يشكل المجتمعات التي يتطور فيها.

أود أن أضيف أن عملية تقليص الرغبة اللاواعية إلى رؤية أوديبية اتكالا بمبدأ فرويد قد أدت إلى قطع التدفقات بين ما يسميه دولوز وغواتاري "الآلات الراغبة" وقوتها في خلق التجدد والتفرد في البعد الاجتماعي التي تندرج فيه.

هذه النظرة تدفعني للتأكيد على أن مفهوم العلاقة بين الترابط والانفصال بين الأجسام، و إصطدام وعي بوعي آخر الذي يؤدي لحوارات ثقافية متعددة بطريقة سبينوزية هو ال مفهوم المؤسس للبعد النفسي التحليلي في أعمال دولوز وغواتاري. هذه العلاقة هي نتيجة لتفاعل مستمر بين السمات النفسية الفردية والنموذج الاجتماعي الذي تتنقل فيه هذه التدفقات.

إذا كان هذا البناء يتمتع باستمرارية دون انقطاع، نلاحظ ظهور أصول بنيوية غير متجذرة، وإنتاج جماعي لمفهوم الرغبة في المجتمع، لا علاقة له بمبدأ فرويد الأحادي. بالإضافة إلى سيولة في العلاقات الاجتماعية، حيث يرتبط الأفراد بتدفقات للرغبات تفلت من الهياكل الثابتة والتصورات الأوديبية. وهذا يتطلب علاقة مفتوحة، ديناميكية وغير جامدة بين السمات النفسية الفردية والنموذج الاجتماعي الخارجي.

على العكس، في حالة كان الفرد خاضعًا لشكل من أشكال الكبت، تصبح طبيعته أكثر تعقيدًا في بعد فردي بحت، مما يؤدي إلى أن يصبح موضوعًا خاضعًا. وهذا يؤدي إلى بناء نفسي معالمه أدوار ثابتة وهياكل اجتماعية جامدة، مما يقيد سيولة العلاقات بين الفردي والجماعي. في هذه الحالة، يتم قطع أو كبت التدفقات، وتتراجع إلى أشكال من التعرف الثابتة، مما يمنع أي فردية خلق وعي جماعي جديد.

يمكن أن تُعتبر الهياكل الثابتة للتحليل النفسي، وخصوصًا الرؤية الفرويدية، كدعوة لتنظيم تشخيص فردي، مما يؤدي إلى مجتمع تأديبي، شبه أحادي، لا يعترف بالتحرر أو الحركة، ويشكل عائقًا أمام الحرية والتعبير عن الرغبات.

بالمقابل، في إطار اخر حيث يستطيع الإنسان تجاوز طبيعته وتجاوزها نحو أنماط جديدة مع احترام دائم للحريات، يحول وعيه من نمط أوديبي إلى نمط متصالح مع ذاته والمجتمع الذي ينشط فيه.

على الرغم من أن دولوز وغواتاري يدافعان عن تحرير التدفقات الراغبة، فهذا لا يعني أن هذا التحرر خالٍ من التحديات أو المخاطر. هناك حاجة دائمة للتوازن بين سيولة العلاقات وضرورة الهياكل التي تُنظم هذه التدفقات، دون تجميد أو كبت الرغبة كما في الإطار الأوديبي.

سأتطرق لهذا الموضوع في مقال مكمل انشالله.

عليك أن تصالح نفسك عشر مرات في النهار لانه اذا كان في قهر النفس مرارة فان في بقاء الشقاق بينك وبينها ما يزعج رقادك عليك أن تجد عشر حقائق في يومك كيلا تضطر إلى السعي ورائها في نومك فتبقى نفسك جائعة. «فريدريك نيتشه »

***

الكاتب حبيب مرگة

 

الوقوف والهامش، إشكالية العقل العربي

توطئة: باستحضارنا للكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، نقول، بعيداً عن فلسفة هذا الكوجيتو، ما أحوج العربي اليوم لممارسة فعل التفكير، وإعمال العقل، ليوجد بالفعل لا بالغياب، ولينظر إلى غاية وجودِه في عالم لا ينتظر التّافهين الواقفين في الهامش، لأن اليقظة الفكرية، رمزٌ للتّحرُّر من القيود التي تشُدُّ إلى القاع، وقيود العربي التي تُحْكم شَدَّهُ لا تُحصى، بدْءاً من استهلاك الفكر دون إنتاجه، إلى أبسط الحقوق وهي التّحكّم في مصيره والتّخطيط له، وهو في خضمّ عملية إعادة تدوير مُخلّفات الآخر، وما تقيّأه، استحْلى الانتظار، وتوقّف عقله عن التّفكير فتوقَّف الزّمن عنده، وانسلّ من بين سنين وجوده الوقتُ، ووقفَ كأبْلَه في لُجّة الزّحام وفوضى الحياة، ينتظر صدقات تُؤجّل أو تُطيل شقائه الإنساني، ف "أَخْلَدَ إِلى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ"[1] يجمع ثروته، يُحصيها، يُراكمها في غير وعي بقوة ما يملك، حتى ترهّلت كرشه، وارتخت عضلاته، فاصبح، بثروته المخيفة، أقلّ ثمنا من برميل الزّفت الأسود، لا يُساوي في سوق الإنسانية المتقدمة مثقال ذرّة، يعيش الفواجع بكل صنوفها بعيدا عن الصّحوة الذّهنيّة، والانتباه العقلي، واليقظة الفكرية.

انطلاقا من السؤال أعلاه الذي يحمل داخله مؤشرات أجوبته، وانطلاقا مما يقول الشيخ جلال الدين الرومي "ابحث عن الإجابة بداخل سؤالك"، هذه المؤشرات تضعنا أمام مفتاحين للسؤال نعتبرهما سبب تعطيل وتراجع فعالية العقل العربي الإبداعية وإصابته في مقتل بالفقر والخوف والتخلّف والعجز، هما الوقوف والهامش، أو كيف انتهى العرب/العقل العربي إلى هذا الحضيض من العجز والتخلف الحضاري والإنساني؟ وما الذي جعل العرب، من بين أغلب شعوب الأرض، يصلون إلى هذه الحال من التخلف والزراية والهامشية والاغتراب عن المسار الإنساني ليقفوا على حافة الاندثار والموت؟ ثم، لماذا لا يُسهمون في تقدم الإنسانية ورفاهيتها؟ وكيف أضاعوا وِجهتهم التي كانوا عليها قرونا مشاعل؟

نحن في حاجة إلى أن نعرف ما نريد، "وهذه هي الحلقة المفقودة في تفكيرنا وممارستنا. هذا هو العائق الجوهري، وهو إنّنا لا نطرح الأسئلة ولذلك نقنع بأشباه الإجابات التي نتجاوزها بسرعة"[2] إجابات تريح تفكيرنا وتعفينا من البحث في الحال والمصير، وفي حاجة أيضا لطرح الأسئلة الواخزة التي نعتبرها أداة مواجهة ووسيلة نقد وبناء، ورفض الجاهز والثّابت والمكْرور والمُزيّف، ونقد الحال وما يؤسّسُه وما يتأسسُ عليه، وما نؤمن به من أفكار ومسلّمات، وبناء نظريات وأفكار تعتمد العقل والتفكير كمنطلق للبناء، وتجاوز النّقاشات والتّراشقات والاتهامات والاتهامات المضادة، من أجل الوقوف على حالات الإخفاق والتراجع والانكسارات، والانتقال من المستوى الأدنى والصّفر، إلى المستوى الأعلى، والنّظر في المسبّبات التي تأسّس عليها التّخلّف العربي، وإحداث قطيعة تدريجية معها، وإعادة بنائها على أسس عقلانية، تنهض على العقل والفكر لتجاوزها.

إنّ نقد ما نحن فيه، مُتجرّدين من أنانا الفارغة، أصبح مطلبا مُلحّاً من أجل إعادة بناء إنسانٍ يعي إنسانيته وحقيقة وجوده، لا نريد أن "يكون الشرق من اختراع الغرب" كما قال إدوارد سعيد، أو يكون الشرق اختراعا غربيا كما قال بورخيس، أو شرقا عربيا صفرا على اليمين، لا تقوم له قائمة، يستهلك ويضحك وينتظر، بل نريد عالما عربيا ينتج، يؤسس، يساهم في بناء حضارة الإنسان، نريد أن نكون نحن، نفكّر بعقولنا ونتحدّى أنفسنا، ونضع أساسات عالم يتساوى مع الآخر، يُنتجُ أكثر ممّا يستهلك، يفكّر أكثر ممّا ينام، يسأل أكثر مما ينتظر الجواب، "ولا سبيل إلى أن ننكر أننا شجرة أينعت وأثمرت زمناً ثم ذَوَتْ"[3]، وحان أن تُسقى بماء الفكر لتيْنع وتُثْمر من جديد.

بناء على ما سبق، من يملك آليات السؤال والبحث فيها، من بيده أدوات الرفض والنّقد والبناء، من يملك آليات تدوير مآزق الحال لإيجاد مفاتيح مآل سليم ينهض على السؤال والفكر وإعمال العقل، ومن باستطاعته إيقاظ العقول المُغلّفة بالتفاهة والجهل والتواكل، من يغامر مبادِراً غير ناظرِ وراءه أو منتظر معجزة تنتشله من خيبته، هو من يتحَكَّم في وجوده ومصيره.

في الحاجة إلى السؤال..

إذا كانت "الأسئلة روح الوجود، وبالسؤال بدأت المعرفة وبه عرف الإنسان هويته، فالكائنات غير الإنسان لا تسأل، بل تقبل كل ما في حاضرها، وكل ما يحاصرها... السؤال جرأة على الحاضر، وتمرّد المُحاصَر على المحاصِر.. فلا تُحاصرك الإجابات فتذهل، وتسلبك هويتك"[4]، والسؤال رغبة قوية ودافع أكيد يُنبئنا موقعنا الحقيقي من العالم، وسرّ وجودنا وهدفه، كما أنه تحصينٌ من أن نكون نسخاً مشوهة متكررة ممجوجة ومبتذلة من الآخر الذي عرف كيف يُمسك زمام السؤال يجيب عليه بما يخدم تقدمه ومصالحهُ أوّلاً، وبما يُبقي العقل العربي في سُباته يتفرّج مبتسما كالأبله يراقب قطار الحضارة يسير مسرعا، لا يُجيد إلاّ التصفيق والتقليد.

السؤال استعدادٌ ومواجهة قبل الجواب، لأن الجواب، مهما صدر، يفضح المسكوت عنه ويُعرّي فضائح العرب التي أصبحت عقائد ومعتقدات يؤمنون بها حتى أصبحت تحكم مسار وجودهم وكينونتهم، وتحوُّل فكرهم من الأزمة إلى الانهيار، ومن النّظر إلى مسببات هذا التّخلّف والتراجع والوقوف في الهامش على أنه قدرٌ، كما أنّ "السؤال بحثٌ، إنّه الاستقصاء والغوص حتّى الأعماق والحفر في الأسس وتقصّي الأصول"[5] وتفتيت بنيات الجذور لمعرفة مسببات هذا الوقوف الذي طالت عقوده.

قبل الجواب، والأمر هنا، فصلٌ ليس بالهزل، والتاريخ يفتح سجلّاته للسائرين، ويرمي الواقفين إلى مزابله النّتنة، وفي معترك السؤال، على العرب أن يتواضعوا قليلا، ويُوَلّوا خطوهم شطْرَ النّهوض بالوضع المتردّي، ويبتعدوا عن أناهم المخنّثة الفارغة، ويفكّروا في الخلاص من التّيه والقلق الثّاوي فيهم والذي يُقيدهم بأستار التّبعية والتقليد والرضوخ التي زرعت فيهم الخوف والخشية من طرح سؤال وجودهم الذي يفضح عُرْيهم ويكشف انكساراتهم واغترابهم، والفراغ الذي يغرقهم في الدّونية التي تمرغ كرامتهم وانسانيتهم حد الغياب من التّشكيلة الإنسانية العالمية.

إن الخشية من طرح السؤال، واستحلال الهامش والوقوف حد اليباس في المكان وعدم المحاولة لتجاوزه وبراحه، والأنانية المقيتة، والتّعويل والتّواكل، وعدم الإصغاء، وهذا أكبر معيقات تجاوز الوقوف في الهامش، هو أن العربي غير مهيأ للإصغاء والحوار وقبول الآخر والفهم منه، وعدم الاعتراف بالخطأ، تلك، لا محالة، عقلية يحكمها الخوف من مواجهة السؤال، وقبول الإخفاقات المتوالية، وانعدام القدرة على المنافسة أو الرّغبة فيها وتقبّل نتائجها وتحكيم العقل فيها.

قبل السؤال، الإنسان العربي في حاجة ماسّة إلى فهم البدايات التي زجّت به في الركن المظلم، وفهم الهامش المرير الذي يقف فيه، والتّفكير بجدية وتبصّر في الذي مضى، والحال والمآل وذلك قبل أن يخوض مغامرة الأجوبة والعمل بها، عليه أن "يصنع نموذجه ويغيّر واقعه على طريقته. ربّما يحتاج الأمر إلى "ولعة" كي تندلع الشرارة، ويتداعى البناء، ويحتاج إلى حدس مفاجئ كي يشتعل الفكر المتكلّس ويتحرّر العقل المستعبد، يحتاج إلى خيال خصب وسيناريو خلاّق لكي تنطلق القوى المعطّلة والطّاقات المشلولة.."[6]، يحتاج إلى فكر نهضوي تنويري يؤمن بأخذ المبادرة والسّبْق لها، وإعمال العقل لخلق واقع "جديد" يقود إلى المستقبل من دون خوف أو تردّد، كما يحتاج إلى وضوح الرؤيا قبل المغامرة، ليجعل من السؤال معركته الوجودية محسوبة النتائج للقضاء على الاغتراب والصّدإ الذي يأكل عقله.

قبل خوض غمار السؤال، والبحث داخله عن الأجوبة ومحاولة الخروج من مخْلبيْ الوقوف والهامش، نطرح سؤالا بين يدي تلك الأسئلة السابق طرحها، ونعتبره أولى الخطوات لبسط إشكالية الوقوف والهامش، هل العربي أو العقل العربي عصي على الفهم والقراءة والتحليل، أو أنه استمرأ واستحلى حياة الدّعة والكسل والخمول وتمرُّغه في "الأنا" الفارغة من كل نخوة وكرامة إنسانية حين اكتنز الدرهم والدولار لدرجة أنه أصبح يخشى طرح سؤال وجوده؟

أكبر مصائب العربي أنه يُعلّق تخلّفه على شمّاعات ومشاجب سهلٌ إيجادها، وتسميتها بمسمّيات تخدم تخلفه وتبعث فيه الاطمئنان لحاله المتدني، وتفسر هوانه على نفسه وعلى الإنسانية، وتوقفه مُنْتظراً معجزة تنتشله وتُخلّصه من واقعه، وتأخذ بيده إلى بر الأمان وتحقق أمانيه؛ كما، أعتقد جازما غير مجانب للصواب، أن مصدر التدني والاغتراب والتخلف، وكل المسميات التي تطعن في المستوى الذي وصله العربي وتعيبُه، عائد إلى "التّعوّد والألفة" مع ما يصدره الآخر ويتشربه من غير سؤال، والابتعاد عن المغامرة والإبداع وإعمال الفكر واقتحام مجاهل الحياة، إذ في غياب الوقوف الند للند، ومجابهة المجهول بالسؤال والحراك للتّصدّي للوضع الرّديء، وتقبّل الوضع بالصّمت والرضى والرضوخ والابتسام البليد، والتبرير والتّشكّي والبكاء عوض طرح السؤال بالجرأة عليه، ومواجهة الحال لتحليله وتغييره لعل المآل يعتدل ويستقيم.

من الوقوف إلى الانتفاضة..

من المؤكّد أن الانسان العربي قاسى من الويلات ما يقصم الظّهر، ويزُجُّ به في أتون الركن المظلم القصي كالاستعمار والتّبعية "والقابلية" للذل، والفساد السياسي والأخلاقي، وطغيان أصحاب السلطة والمال، وغياب الديموقراطية الحقة...وهذا الأمر لا يسمح لنا بإيجاد فجوة ننسلُّ منها لتبرير هذا التّخلّف، نقف عند بعض أسباب التراجع لتفكيكها ومحاولة تجاوزها وإضاءة موضع الخطو لتثبيت القدم وتأكيد السر نحو الأمام، ونعرضها هنا، لا لتبرير الواقع، بل للوقوف أمام السؤال بجرأة وتحدّ وتشريح الحال، إذ لا يمكن توصيف الدواء في غياب معرفة علمية دقيقة بالداء، فالداء هنا معروفٌ ومعروفةٌ أسبابه، ومشخّصٌ وظاهرٌ للعيان، والْتزام الصمت والرضى بالهوان والتّخلّف، هو الدّاء العضال، الذي ينخر الجسم العربي ويضرب عميقاً في العقل العربي، فلا بد من المواجهة والانتفاضة لتحقيق التغيير  دون خشية أمام السؤال، لماذا هذا الوقوف المخزي في الهامش؟

صحوة العربي تحتاج للتفكير الجدّي في حقيقة وُجوده، وإشكاليات واقعه، ونبذ التّصوّرات والآراء الجاهزة، وفتح الطّريق نحو الأصول لنبشها واستخراج كنوزها، والارتواء ممّا جعل الأولين منّا يأخذون بزمام العلوم قروناً، والأخذ بآليات سبْرِ الواقع لاستخلاص مواطن القوة وتفعيلها وتحريكها نحو التغيير، ومواطن الزّلل لمسائلتها والتّحرّر منها، وطرح الافتراضات والفرضيات القمينة بالدّفع بالقطار العربي إلى التّحرّك نحو الأمام، والمشاركة في صناعة الحضارة الإنسانية، والانطلاق إلى آفاق جديدة للبحث في كل الميادين التي تدفع به إلى الغوص في إنسانيته، لاستخراج ما يجعله فاعلا ومؤثّرا سائقا غير مساق، كبهيمة بكماء لا تُحسن إلاّ  الأكل والراحة.

قبل أن نلج تخوم الإجابات، على العربي أن يواجه ذاته والمحيط الذي ينتمي إليه، إذ بين الوقوف والهامش، واقتحام معاقل الأسئلة المقلقة، تنبجس الانتفاضة، بعيدا عن التسرع واللوم، ويستنفر العقل ليتحرّك، والفكر ليخوض في التراجعات والإخفاقات التي قصمت ظهره وأحالته شيئا لا قيمة له بين أهل الأرض. كثيرة هي التّحدّيات التي تنتظر العربي ليكون، ليرفع هامته بين الأمم ناظراً إلى الأمام دون خوف أو تردّد، ويجعل من السؤال هزّة ورجّة تعيده إلى وعيه، وتدفع به إلى الانخراط في صناعة المعنى الإنساني، والقطع مع العادات السيئة التي تحكم فكره منذ قرون، والتّيقّن بأن تقليد الآخر يُنسي الأصل، واقتباس الأفكار ولّى زمنه، والوقوف انبهاراً أمام النموذج الغربي يزيد في تخلّفه، لذا عليه أن يغامر، ويستيقظ من غيبوبته التي طالت، ويفهم جيدا أسباب تراجعه، والصراعات الخائبة والخاسرة التي تتنازعه، عليه، الآن، عاجلا غير آجل، أن ينتفض ليُعيد بناء وجوده منبعثا من رماده، من القمقم المظلم الذي يرزح سجينا في حضيضه، وينطلق من حطامه حيّاً حراً ينافس بكل جرأة صنّاع الحياة ورفاهية الإنسان.

لقد "شغل العرب الدنيا بقضاياهم ومشكلاتهم على وجوه السّلب والعُقم والعجز" [7]، وأصبحوا موضوع نقاش مستهلك للشماتة والاستهزاء، وعلى العربي أن يُغيّر نظرة الآخر إليه، إذ ما دام يُنظر إليه كموضوع، فإن الأمر لا محالة سيُرسّخ لديه حالة "القابلية" للوقوف في الهامش والتّفرّج، الشيء الذي جعل الآخر يركب موجاته ضد كل ما هو عربي أو إسلامي، "والواقع، أن المجتمع [العربي والإسلامي] مالم يهتدِ إلى إبداع مفاهيمه أو إعادة إبداع مفاهيم غيره، حتى كأنّها من إبداعه ابتداءً، فلا مطمع في أن يخرج من هذا التّيه الفكري الذي أصاب العقول فيه"[8]، أما ونحن في غياب تام عن فهم ما نحن عليه من تخلّف ومسكنة والرضى بالواقع والحال والمآل، وأن لا نُبدي أي استعداد لتغييره دون تجاهله أو إلصاق مسبباته بغيرنا، دون أن نجد له خلاصا، فهذا سيفاقم الأزمة وتنهار كل المرجعيات.

اختيار صعب، لكنه ليس مستحيلا..

هذا الوضع العربي التراجيدي هو الذي دفعنا إلى طرح السؤال بكل جرأة ومن دون خوف أو خشية من ردود أفعال الآخر عن سبب تأخرنا في طرح السؤال وخوض مجاهله، لأننا بهذا لا نريد أن يملأ بنا العالم الفراغ، أو أن نسير متعثرين بين الحُفر، أو نكون وصمة عار في جبين الإنسانية. لهذا وبكل الجرأة الصّادقة، لمواجهة ذاتنا أولا ثم العالم والتاريخ، نقول، لا نريد للعربي والعقل العربي، أن يكون موضوعاً للنقاش، أو شيئا يملأُ فراغ العالم، تلوكُه الألسُن وتتجاوزه خطوات المسير، وتنظر إليه العيون احتقارا، بل نريده أن يقْتحم معاقل السؤال، وأن ينظر إلى الحال بعين ناقدة تخترق الحال والمآل، وتفتح رحباً للأجوبة أن تدفعه إلى التّحرّك والخروج من الهامش،" وإعادة ترتيب علاقته بذاته وبالعالم، وعلى نحوِ يجعله يفكّر ويعمل كذات تمارس فاعليتها وحضورها، بقدر ما تملك استقلاليتها وتمارس حرّيتها في المبادرة والاختيار والمشاركة في صنع المصائر"[9]. إن استمراء دور الضحية المستهدفة أبدا، المقهورة والمغلوبة دائما على أمرها، والباحثة عن "هولوكوست" عربي تغرس فيه آلامها وظلم العالم لها، جعل العربي، يقف في الهامش خارج المسار الإنساني، لدرجة يصعب معها إعطاء تفسير علمي واضح لحالة العجز، التي تلتصق به، والتقهقر والتخلف والذل الحضاري الذي أصبح يسِمُ حضوره ويهدده في عقر داره وهو واقف لا يُبدي أقل استعداد للنهوض والسير والتغيير، يُداري جمرته رغم انطفائها في غير محاولة لإعادة شرارتها.

من الهامش إلى المركز..

التاريخ يطأ الضعفاء والمتخاذلين والمستمرئين الوقوف في الهامش، والمتفرّجين على حالهم دون حراك، ولا ينظر إليهم ولا يبالي بوجودهم، بل يبسط كفَّيْه لمنْ يغامر مقتحما معاقل السؤال من دون خوف أو تردد، لمن يسير جنبه يسجل بفخر انتمائه للإنسانية، لمن يؤمن بطاقاته وممكناته ولو في حدودها الدنيا، لكنه يسير رغم تعثّره، لا يتوقف، لمن يُحدث القطيعة مع مخلّفات ماضيه التي تشدّه إلى الأرض شدا، تثبّط عزائمه، تُزيّن له الذي مضى، لمن "يصنع مستقبلا جديدا تنكسر معه الصور النّمطية السلبية عن العرب، لكي تتشكل صورة جديدة مشرقة، بوصفهم، كانوا، بُناة الحضارة ومن صنّاع المعرفة والحداثة والتّقدّم، للمشاركة مع بقية الجماعات والأمم في رسم مستقبل أفضل للبشرية"[10].

التاريخ يمد كفيه لمن ينتقد ذاته عوض البكاء وانتقاد الآخرين وإلصاق عجزه بهم، لمن يؤمن بأن التغيير ممكن وليس مستحيلا، وأنّه مطلبٌ يرتكز على الصبر وإنكار الذّات، وإعمال العقل والفكر والذكاء، والإبداع والخيال، وفهم الحراك الهادر الذي يعرفه العالم وهو يموج يسمّي جبروته بمسميات وأفكار ومفاهيم ونظريات ومواقف وممارسات، تخلق الريبة والتراجع والخوف لدى العربي الذي يستكين للأمر الواقع فيغوص عميقا من القعر.

صحيح أن العقل العربي يعيش مخاضا عسيرا وتحوّلا قاسيا ومواجهة عنيفة مع ذاته والآخر، والمتغيرات العالمية المتسارعة والمتمثلة في العولمة المتوحشة والرأسمالية البغيضة، والصراعات الطبقية واستغلال الثروات، والفقر والجهل، وغياب الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة، وصحيح أيضا أن هناك أصوات ترتفع بما أوتيتْ من فكر وعلم ومعرفة، في محاولات لتغيير الحال، والابتعاد عن الهامش، لا تتفرّج على العالم يصنع وجوده ووجود الإنسان على مقاسه، بل تُجابه مع صانعي الحراك الثقافي العربي في الثغور، لا "ليحصوا خساراتهم وهزائمهم التي تثقل ذاكرتهم وعقولهم وملامحهم، ولا ليمارسوا طقوس الحزن التي يُقيمون لها مواسم وأعياد أدمجوها في عقائدهم، بل ليواجهوا متطلّبات بقائهم قيد الوجود الآن وهنا، وينطلقوا خفافا نحو مستقبل ممكن ومتاح"[11] وهذا دافع قوي للتغيير، للخروج من المأزق وأزمة الموضوع، "والدخول إلى التاريخ من باب جديد وبملامح جديدة".

لا خيار ثالث، إمّا أن يستفيق العربي من سُباته ويتحرّر، أو يظل واقفا راسِفاً في عجزه وتأخّره يملأُ الفراغ الإنساني، يُرقَّع به الوجود كبيدق زائد لا يُرجى نفعُه، لأن العالم في مسيرته نحو المستقبل واقتحام معاقل الفكر والمعرفة والإبداع، يُحرّر العاجز إن أبدى استعدادا للانتفاض والتحرّر "من سجنه الفكري على النّحو الذي يُمكنه من ممارسة علاقته بوجوده كذات حرة، مستقلّة، تفكّر بصورة حية، خلاّقة، فعّالة، من غير وصاية من أي نوع كان"[12]، وإذا كان التّحرّر هو "خروج المرء من قصوره العقلي"[13] ودخوله فضاء البحث عن أسباب التنوير، ينهض على إبداع أفكار وقيم ومفاهيم عربية تصنع نجاحاته وتقدّمه بعيدا عن الهامش والعقد والحساسيات التي قيّدت عقله لقرون خلت، فالتاريخ والآتي من زمن التقدم وهيمنة المعرفة ونُظم الذّكاء الاصطناعي يسير مبتعدا عن الواقفين في الهامش.

***

ذ. عبد الهادي عبد المطلب - المغرب

.........................

[1] قرآن كريم، سورة الأعراف 7، الآية 176.

[2] سعيد يقطين. اللغة، الثقافة، المعرفة، (إشكالات ورهانات)، دراسة. خطوط وظلال للنشر والتوزيع 2023 . (ص 121).

[3] يحيى إبراهيم حقي. قنديل أم هاشم(رواية). سلسلة إقرأ عدد 18. دار المعارف المصرية، ط 3. ص 52.

[4] يوسف زيدان، أنثى الأفعى. دار الهلال 2006، (ص 104)

[5] موريس بلانشو. أسئلة الكتابة. (ص 9)

[6] علي حرب. ثورات القوة الناعمة في العالم العربي من المنظومة إلى الشبكة. ط 2. الدار العربية للعلوم 2012. (ص 52)

[7] طه عبد الرحمن. روح الحداثة (ص 181)

[8] طه عبد الرحمن (ص 11)

[9] طه عبد الرحمن. روح الحداثة. (ص 164)

[10] علي حرب. توراث القوة الناعمة. (ص 55)

[11] فتحي المسكيني.

[12] علي حرب. (ص 119)

[13] علي حرب (ص119)

 

بين الصدفة والمصير

لطالما كانت الكتب المخطوطة أشبه بأطفالٍ يلقون في العراء، يتيهون بين أيدي الزمن والجهل، حتى يأتي من يلتقطهم بحنان العالم وخبرة المؤرخ. هذا بالضبط ما فعله الباحث العراقي البريطاني رشيد الخيون عندما أنقذ مخطوط أخبار النساء من مصير مظلم كان ينتظره بين أوراق البقالين ودكاكين الورّاقين. فوز الخيون بجائزة الشيخ زايد للكتاب 2025 في فرع تحقيق المخطوطات ليس تكريماً لعمل أكاديمي جاف، بل هو احتفاء برحلة إنقاذ ثقافية تذكرنا بأن الكتب أحياء ترزق، تموت حين نهملها وتخلد حين نعتني بها .

الكتاب: كنز بين يدي البقال

في تفاصيل تصلح لأن تكون حبكة لرواية تاريخية، يروي الخيون كيف أن الصدفة وحدها هي التي أنقذت هذا المخطوط النادر. لقد كان على وشك أن يصير ورقاً للف الخضار في دكاكين البقالة، لولا أن عثر عليه بائع أوراق قديمة وعرضه على مالكه الأول . هذه الصدفة التي يتحدث عنها الخيون تذكرنا بأن الثقافة العربية ما زالت تعتمد على المفاجآت السعيدة في حفظ تراثها، بدلاً من منهجية الحفظ والرعاية. المخطوط الذي كتبه الأمير الأديب أسامة بن منقذ (المتوفى 584 هجرية) – وهو مؤرخ الحروب الصليبية والشاعر والمحارب – لم يكن مجرد مجموعة حكايات عن النساء، بل كان قطعة أدبية بديعة تصف النساء وأوصافهن وفضائلهن

ونوادر حكاياتهن بأسلوب أدبي رشيق .

التحقيق: بين العقل والقلب

ما يميز عمل الخيون في تحقيق هذا المخطوط أنه لم يكتفِ بتحقيق النص بالمعنى التقني، بل أعاد له روحه الأدبية والتاريخية. لقد أظهر فهماً عميقاً للنص وأصالته التاريخية كما ذكر بيان الجائزة . الكتاب الذي أصدره

مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية – المالك الأصلي للمخطوط – يمثل إضافة نوعية للدراسات الأدبية والتاريخية، ويُعتبر من أوائل المختارات النسائية عالمياً . هنا يتجلى فن التحقيق الحقيقي: أن تنقل النص

من عالم المخطوطة الصامتة إلى عالم القراءة الحي، دون أن تفقده رونقه الأصلي.

الخيون: الجسر بين المشرق والمغرب

ليس غريباً أن يفوز باحث عراقي-بريطاني بهذه الجائزة المرموقة. رشيد الخيون يمثل نموذجاً للمثقف الجسر، الذي يستطيع أن يترجم التراث العربي للعالم بلغة العصر، دون أن يخون أصالة النصوص. عمله في أخبار النساء يذكرنا بأن التراث العربي ليس حكراً على الجغرافيا التي ولد فيها، بل هو إرث إنساني يجب أن يصل للعالم كله. في زمن تتسع فيه الهوة بين المشرق والمغرب العربي، يأتي هذا الإنجاز ليثبت أن الثقافة العربية ما زالت قادرة على توحيد ما فرقته السياسة.

الجائزة: أكثر من مجرد تكريم

جائزة الشيخ زايد للكتاب – بفرعها لتحقيق المخطوطات – ليست مجرد ميدالية ذهبية وجائزة مالية (750,000 درهم) . إنها رسالة بأن الأمة ما زالت تحتفظ بذاكرتها، وأن هناك من يكافح ضد النسيان. في دورتها التاسعة عشرة، ضمت الجائزة فائزين من سبع دول، ما يؤكد أن الثقافة العربية قادرة على تجاوز الحدود الضيقة . تكريم الخيون هو تكريم لكل المحققين المجهولين الذين يقضون الساعات الطوال في فك رموز المخطوطات، وإعادة الحياة إلى نصوص كادت تتحول إلى تراب.

لم يعد المخطوط وحيداً

في النهاية، قصة فوز رشيد الخيون تذكرنا بأن الكتب مصائر مثل البشر. بعضها يولد في القصور ويعيش في المكتبات، وبعضها يولد في العراء ويكبر في الظل. أخبار النساء كان من النوع الثاني، لكن يد الخيون أنقذته من الضياع. اليوم، لم يعد هذا المخطوط وحيداً، بل صار ملكاً للعالم، بفضل جهد باحث رأى في الأوراق القديمة روحاً تستحق الحياة. هذا هو معنى التحقيق الحقيقي: أن تكون قنطرة بين الماضي والحاضر، بين النسيان والخلود .

 لولا الصدفة التي شاءت أن يعرضه أحد باعة الأوراق القديمة، على مالكه الأول، لربما راح مستعملاً من قبل البقالين - هذه الكلمات التي كتبها الخيون على فيسبوك قد تكون أفضل تلخيص لمعنى الجائزة: إنها احتفال بالصدف التي تتحول إلى قدر، وبالكتب التي تنتصر على النسيان.

رشيد الخيون وتحدي إحياء الذاكرة المنسية:

هل نتعلم من الدرس؟

١- المخطوطات.. أيتام الثقافة العربية

في عالم يلهث وراء الجديد، يقف رشيد الخيون ليذكرنا بأن الجديد الحقيقي قد يكون قديمًا نسيناه . مخطوط أخبار النساء لم يكن مجرد كتاب، بل كان صرخة من العباسيين تصلنا عبر القرون، تقول: أنقذونا من سلة المهملات!

والسؤال الأهم: كم مخطوطًا آخر ينتظر من يلتقطه قبل أن يتحول إلى ورق تغليف؟ لقد نجح الخيون في إنقاذ نص، لكن الحرب لم تنتهِ. ففي زوايا المكتبات العتيقة وأسواق الوراقين، ما زالت كنوز مدفونة تئن تحت غبار الإهمال.

٢. لماذا ننتظر الصدفة؟!

الخيون اعترف بأن الصدفة لعبت دورًا في إنقاذ المخطوط. لكن هل يعقل أن يكون مصير تراث أمة رهين الحظ؟

- لو لم يمر ذلك البائع بالمخطوط...

- لو لم يلتفت إليه أحد...

- لو استخدم في لف الخضار...

لكان العالم خسر نصًا تأريخيًا نادرًا. أليس هذا دليلًا على أننا نعيش أزمة منهجية في حفظ التراث؟ لماذا لا تكون هناك مشاريع مؤسسية للبحث عن المخطوطات المبعثرة، بدلًا من تركها للصدف والمبادرات الفردية؟

٣. أخبار النساء .. لماذا هذا الكتاب مهم؟

بعضهم قد يسأل: وماذا لو ضاع هذا الكتاب؟ ما الخسارة؟

والجواب يكمن في ثلاث نقاط:

1. أقدم أنطولوجيا نسائية: الكتاب يُعد من أوائل المختارات العالمية التي تركّز على حكايات النساء، مما يجعله وثيقة تاريخية لا تُقدّر بثمن.

2. رؤية مختلفة للمرأة في التراث: بعيدًا عن الصورة النمطية، يقدم الكتاب النساء كصانعات تاريخ، لا مجرد شخصيات ثانوية.

3. أسلوب أدبي فريد: أسامة بن منقذ لم يكن مؤرخًا تقليديًا، بل كان قصّاصًا بارعًا يجمع بين الدقة والتشويق.

إذن، الخيون لم يُنقذ كتابًا، بل أنقذ ذاكرةً كاملةً كانت على وشك الضياع.

جائزة الشيخ زايد.. هل تكفي؟

الجائزة خطوة رائعة، لكن:.ماذا عن المخطوطات التي لم يحالفها الحظ؟

- ماذا عن الباحثين الذين يعملون في الظل دون دعم؟

- هل نكتفي بالاحتفال بالفائزين، أم نصنع نظامًا يحمي التراث من الأساس؟

ربما حان الوقت لأن تتحول الصدف إلى استراتيجية، وأن تتبنى الدول العربية مشروعًا عربيًا موحدًا للبحث عن المخطوطات المفقودة، بدلًا من تركها عرضة للعوامل والجهل.

درس من التاريخ

عندما سُئل الخيون عن سر شغفه بالمخطوطات، أجاب: لأنها أشبه بلُقى أثرية، كل حرف فيها يحمل بصمة إنسان عاش قبل قرون.

فوز رشيد الخيون ليس نهاية القصة، بل جرس إنذار: التراث العربي ليس حجرًا ميتًا، بل شعلة حية تحتاج لمن يحميها.

لا يجب أن ننتظر الصدفة، بل نصنع قدرنا الثقافي بأنفسنا.

السؤال الآن: هل نتعلم من هذا الدرس، أم سنظل نعتمد على الحظ في إنقاذ ذاكرتنا؟

***

د. عبد السلام فاروق

 

تُعد قابلية التكرار إحدى الركائز الأساسية للمنهج العلمي. فالمعرفة الناتجة عن العلم التجريبي يجب أن تكون قابلة لإعادة التجربة والتأكيد. إن إعادة التكرار، أي إعادة تنفيذ التجارب والحصول على نتائج مماثلة، ليست مجرد أمر تقني، بل مسألة جوهرية تعبّر عن التزام العلماء والعلم بأقصى درجات الشفافية والموضوعية في بناء المعرفة. أظهر استبيان نشر في عام 2016 أن 70% من علماء الحياة فشلوا في إعادة تكرار تجارب نُشرت في مجلات بحثية، كما أن 60% منهم فشلوا في تكرار تجاربهم الخاصة.

ما هي إعادة التكرار؟

بعد تنفيذ التجربة والحصول على نتائج، يُفترض أن يعيد الباحث التجربة تحت نفس الشروط لثلاث مرات على الأقل قبل اعتماد النتائج ونشرها. غير أن التكرار الذاتي لا يمثل جوهر المشكلة. الأزمة الكبرى تظهر عندما يحاول علماء آخرون إعادة التجربة المنشورة. هنا تبرز أنواع متعددة من التكرار: التكرار المباشر الذي يعيد التجربة تحت نفس الشروط، والتكرار التحليلي الذي يعيد تحليل البيانات الأصلية، إضافة إلى التكرار المنهجي والمفاهيمي. ويُعد الفشل في التكرار المباشر والتحليلي الأخطر، لأنه يكشف عن ثغرات عميقة في أسس المعرفة العلمية المنشورة.

أسباب الأزمة

من بين أبرز العوائق لنجاح إعادة التكرار غياب الوصول إلى البيانات الأصلية، والبروتوكولات، والمواد الحيوية المستخدمة، إذ تُنشر هذه التفاصيل غالبًا بشكل مقتضب في الأوراق البحثية. بدون الشفافية الكاملة، يصبح تكرار التجارب مهمة شبه مستحيلة.

وتتفاقم المشكلة مع الاعتماد المتزايد للعلم الحديث على تحليل البيانات الضخمة، ما يزيد من احتمالية الوقوع في أخطاء منهجية دقيقة إذا غفل الباحثون عن تفاصيل مهمة في التحليل الإحصائي وإدارة البيانات.

مع ذلك، فإن جذور الأزمة تتجاوز الإخفاقات التقنية لتصل إلى بنية الثقافة الأكاديمية ذاتها. ففي بيئة تكافئ النتائج الإيجابية وتتجاهل النتائج السلبية أو غير المثيرة، ينشأ تحيز بنيوي يُشجع على انتقاء البيانات وتجاهل النتائج التي لا تتماشى مع التوقعات. ينتج عن ذلك علم هش يخدم أهداف النشر والتسلق الأكاديمي أكثر مما يخدم البحث عن الحقيقة. ومع أن هذا الموضوع يستحق مقالة مستقلة لمناقشته بعمق، يكفي أن نشير هنا إلى أن النظام الأكاديمي الحالي يسهم في تعزيز هذه الأزمة أكثر مما يسعى إلى حلها.

الموضوعية كمطلب فلسفي

في هذا السياق، تبرز الموضوعية كمطلب فلسفي عميق، لا مجرد التزام علمي شكلي. ينبغي على الباحث أن يتبنى موقفًا أخلاقيًا يتمثل في قبول النتائج كما تظهرها التجارب، إذ تعكس هذه النتائج، مهما كانت، طبيعة الواقع كما هو، لا كما نرغب أن يكون.

يتطلب ذلك التحليل الخالي من التحيز والابتعاد عن القفز إلى تأويلات لا يسندها الواقع. فالباحث، في جوهر عمله، خادم للحقيقة، لا سيدٌ عليها. كذلك، يجب أن تمتد الموضوعية إلى المؤسسات البحثية والمجلات العلمية، إذ لا يجوز تهميش النتائج، سواء كانت إيجابية أم سلبية. فكل تجربة، أياً كانت نتائجها، تشكل لبنة ضرورية في بناء المعرفة.

إن الموضوعية، بهذا المعنى، لا تخدم فقط الاقتصاد البحثي بتقليل الإهدار والتكرار، بل تصون جوهر البحث العلمي ذاته. وكما أشار كارل بوبر، فإن العلم لا يتقدم عبر إثبات الفرضيات، بل من خلال فشلها وتصحيح الأخطاء.

في الختام: العلم مشروع إنساني في جوهره

تحاول بعض المجلات والمؤسسات العلمية اليوم اتخاذ خطوات لتعزيز الشفافية، ومشاركة البيانات، وضمان قابلية إعادة تكرار النتائج. لكن الطريق ما يزال طويلًا. فالتقنيات تسهّل العمل العلمي لكنها لا تستطيع أن تحل محل روح الموضوعية والشجاعة الفكرية التي يجب أن يتحلى بها الباحثون.

تذكرنا أزمة القابلية للتكرار بأن العلم، مهما تطورت أدواته، يبقى مشروعًا إنسانيًا في جوهره، مشروعًا يسعى إلى الحقيقة عبر شك دائم وتصحيح مستمر للذات. وإن أردنا أن نصون هذا المشروع، فعلينا أن نعيد إلى الواجهة تلك القيم التي تأسس عليها العلم منذ بداياته: الصدق، التواضع أمام الطبيعة، واحترام الحقيقة أينما قادتنا.

***

فضل فقيه – باحث

........................

قراءات اضافية:

Baker, M. 1,500 scientists lift the lid on reproducibility. Nature 533, 452–454 (2016).

 

اللاموقف واللاقرار اهم مايميز المرحلة الحالية تجد الكل يتلاعب بالكل، كل حسب تخصصه السياسيون في السياسة والمثقفون في ترويج ثقافة التوجس، يشير هذا بشكل واضح الى نضج تاثير الشكلانية على الخطاب الإبداعي، اذ اصبح البحر المحيط ليس له معنى ولا حضور لان الأرض مسطحة، والكلمة لاتستهدف المعنى بل نمط من مط الشفاه القابضة على صوت دمدمات غادرتنا منذ الاف السنين، وهي تودع الصمت على العيون المدماة من الحسرة، يتغزلون بحصانتها من التراب، ان هو الا سقف متداع من أوراق بالية صفراء، القلق يزداد كلما كان الفضول اكثر، لان الكلمة لها عدة ولادات تاويلية ومسارها المعاصر مليء بالانزياحات الضبابية، الخطاب الإبداعي المعاصرهو وسيلة تعبيرية عن تجاوز القوالب التقليدية ووسيلة مبتكرة لنقل الأفكار والمشاعر، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى تلعب أيديولوجيات التوجس دورًا هامًا في تشكيل السلطة الثقافية بعد انتصار الشكلانية، تحاول بكل قوة ان تعكس القلق والخوف من الخطاب الإبداعي، توجسها نابع من ان هذا الخطاب يمكن أن يستخدم لتحدي الأيديولوجيات التقليدية وقد يفتح نقاشا حول القضايا المثيرة للجدل، يدعوالأفراد لإعادة التفكير في معتقداتهم في ضوء التغيير الاجتماعي ويقف في وجه المخاوف الراسخة منذ عصور الاستبداد كما يساعد على فهم أعمق للكثير من القضايا الاجتماعية، يمثل الخطاب الإبداعي نقيضا لأيديولوجيات التوجس التي تعد مجالًا للدراسة والتحليل كونها أداة طيعة للتعبير عن الأفكار الصنمية المتخلفة، هذه العلاقة يمكن أن تساعد على فهم الحوار والنقاش حول قضايا الهوية، مما يساعد تطوير مجتمعات أكثر وعيًا وتقبلًا على التغيير و تدفع الأفراد إلى التعبير عن للافكار الإبداعية دون خوفً من ردود الفعل السلبية في الحفاظ على التعبير والاحتجاجية، المفارقة عندما يُنظر إلى الأعمال الإبداعية على أنها تعبر عن تهديد للأيديولوجيات السائدة قد تُمارس عليها ضغوطا اجتماعية لمنع نشرها وقد تُفرض رقابة على الأعمال الفنية التي تتناول مواضيع حساسة، مما يؤدي إلى قمع أصوات والمطالبة في تقييد الابتكار، انها حلقة مفرغة ينحسرفيها التجديد، وتزداد الإبداع الدوامة التي تولد دوامة، وتزيد أيديولوجيات التوجس من فعاليتها مما يؤثر سلبًا على الابداع الفني والنقدي، يتطلب الأمر فهماً عميقًا لهذه الديناميات لتعزيز بيئة تتيح الإبداع وتقبل الاختلاف.

المثقف المعاصر

المثقف المعاصر هو المثقف الذي يعيش في زمن معقد مثل زماننا الحالي، يتفاعل مع التغيرات الاجتماعية والسياسية، يعبر عن أفكاره من خلال الفنون والأفكار النقدية وحاله يشير إلى رفض قبول الواقع كما هو ومواجهة التحديات، مما يؤدي إلى التعبير المباشرعن الأفكار و الشعور بالعجز عن إحداث تغيير دون تأثير الإرادة  التعبير عن أفكاره مما يؤدي إلى تهميشه أو فقدان الدعم الاجتماعي قد يتجنب وهو يحاول المثقف المعاصر التعبير عن نفسه لكن بسبب الخوف من عدم نجاح أفكاره أو قبولها قد تتعزز الضغوط الاجتماعية ويمنعه الخوف من التحدث، مما يؤدي وإلى يشغله من التعبير عن مشاعره وآرائه حالة من الإنكار تؤدي إلى كتمان الأفكار الإبداعية، و يجدد تكوين الممنوع الثقافي ويمكن أن يؤدي هذا إلى فقدانه الهوية والمعرفي للمثقف في التعبير عن ذاته الحقيقية، يشكل المثقف المعاصر ضحية لحالة الإنكار التي تؤثر سلبًا على قدرته في التعبير عن نفسه، لكن من خلال تعزيز الوعي المجتمعي، يمكن المساعدة على تجاوز هذه الحالة والمساهمة في خطاب إبداعي حر ومتنوع.

النكوص الابداعي

النكوص هو العودة إلى أنماط فكرية سابقة، وغالبًا ما يحدث في سياق المواجهة الضغط أو التحدي قد يعتبر المثقف عدم تجاوزه الحالة الثابتة من الإبتكار نوعً من حيث يعود إلى مواقف أو أفكار أقل تحديًا وأكثر تقليدية ويمكن أن تؤدي بسبب القلق من مواجهة الواقع إلى تفضيل العودة إلى مساحات مألوفة بشكل طوعي، قد يشعر المثقف بأن التعبير عن أفكاره الجديدة يعرضه للخطر مما يدفعه للعودة إلى مواقف سابقة وتفادي مواجهة الحقيقة والقبول بالواقع لان عدم القبول يؤدي الى المواجهة وبالتالي التعبير عن الإحباط ويُشجع التحدي لكنه يعتبر العودة الى الأنماط والمساحات المالوفة وسيلة للهروب قد تؤدي الى النكوص، إن كبت الأفكار الجديدة التي تتقد قد تؤدي الانكفاء و فقدان الهوية الثقافية والفكرية مما تجعل المثقف يتجنب التعبير عن ذاته الحقيقية، هنا يعتبر تجاوز حالة الإبتكار نكوصًا لدى المثقف حيث يعود إلى أنماط سابقة خوفًا من المجهول.

التحديات

تتعدد التحديات وتأثير النكوص على الإبداع، بدءًا من الطبيعة الذاتية للنقص إلى التعقيدات الثقافية والنفسية، يتطلب التغلب على هذه التحديات أساليب شاملة ومتنوعة وفهم معنى النكوص والإبداع وتحديد العلاقة بينهما ومراجعة دائمة لفهم كيفية تأثير بالنكوص الإبداعي ودوره في سياقات مختلفة دراسة حالات لمبدعين شهدوا وتأثروا وتأثيره على إبداعهم بشكل مباشر، مقارنة حالات مختلفة لفهم كيف تختلف التجارب النصوص وتميزها الإبداعي، وفهم كيف يؤثر النكوص على الإبداع من خلال تحليل البحث على أنماط مشتركة بين المبدعين وكيفية تعاملهم مع النكوص يمكن دراسة وتأثير النكوص بشكل أعمق من خلال استخدام منهجيات مختلطة، مما يوفر فهمًا شاملًا للظاهرة، دون القفز إلى الاستنتاج من خلال التحليل الدقيق، لذا يمكن تحسين البيئة الإبداعية ودعم المبدعين في تجاوز التحديات لكن عندما يفتقر الأفراد إلى الفهم العميق لمعاني معينة، يشعرون بالعجز عن التعبير والتفاعل مع بعض المفاهيم مما يؤدي إلى غياب المعنى، ويثني المبدعين عن استكشاف أفكار جديدة و تحدي الأفكار.

تأثير الأيديولوجيا السلطوية

الأيديولوجيا السلطوية غالبًا ما تفرض قيودًا على حرية التعبير وتقويض الابتكار هذا على نمو الإبداع عند المثقف المتميز بسبب الخوف من العواقب يمكن أن ويؤثر حرص الأيديولوجيات السلطوية على وتوجيه الخطاب نحو مواضيع معينة ويحد من تنوع الأفكار، الأيديولوجيا السلطوية تميل إلى تهميش الأصوات التي تتحدى السرد السائد بسرد ابداعي، وإهمال الأعمال الإبداعية التي تحمل رسائل في الخطاب التحرري مشفرة مما يؤدي الى إقصاء المبدعين ويقلل من التنوع الثقافي، الرقابة على الأعمال الفنية تساهم في إضعاف الإبداع حيث يتجنب المبدعون تناول مواضيع حساسة الخوف من الرقابة يؤدي إلى تراجع المبدعين عن التعبير عن أفكارهم الأصلية تكرار الاساطير القديمة وعلاقتها مع الأيديولوجيا السلطوية يمكن تقييمها بدقة هم يتوعدونها بالعقاب وهي تطالبهم بالواجبات و قد تخصص الموارد لدعم الأعمال الفنية التقليدية التي تتماشى مع الأفكار السائدة وتهميش الأعمال المتميزة، ما تمثله أيديولوجيا السلطة و تؤيد إلى ان انتشار نماذج متميزة من ناحية ثقافية والتي تمثل معيارا عاليا معينا يتحطم من خلال رحلة تدميرية تتميز بالمفارقة والاستبعاد، مما يجعل المبدعين يفقدون الحافز للإبداع وهم يشعرون أن أعمالهم لن تجد قيمة أو تقديرًا.

***

غالب المسعودي

اختتمت القمة الأخيرة في باريس حول الذكاء الاصطناعي ببيان ختامي وقع عليه حوالي ستين دولة من دول العالم – لكن ليس من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة – حيث يُطلب أن يكون الذكاء الاصطناعي الذي يتم تطويره مفتوحًا وشاملًا وأخلاقيًا – مفتوح المصدر – فضلاً عن كونه مستدامًا اجتماعيًا وبيئيًا. جميل وعادل، وفوق كل شيء، واجب. ولكن دائمًا ما روى رأس المال وحكوماته، في الماضي القريب أو البعيد، نفس الحكاية، ثم قاموا بإنتاج العكس تمامًا مما وعدوا به. في التسعينيات، كانت الحكاية تقول – ويجب تذكرها مرة أخرى – أن الشبكة العنكبوتية كانت حرة وديمقراطية بطبيعتها وأننا بفضل التقنيات الجديدة سندخل في عصر جديد من النمو غير المحدود، والعمل الأقل شقاءً، والمزيد من وقت الفراغ للجميع. لكن ما حدث (ولم يكن من الممكن إلا أن يحدث، بسبب الطبيعة الحقيقية للتقنية، غير الحرة والمعادية للديمقراطية في جوهرها) هو العكس تمامًا: أقل حرية (لقد تنازلنا حتى عن الدفاع عن الخصوصية، التي كانت عنصرًا أساسيًا في حرية الفرد)، المزيد من المراقبة (مراكز البيانات تُستخدم لجمع ومعالجة بيانات مليارات الأشخاص، أي لمراقبتهم ولحكم حياتهم واستهلاكهم وأفكارهم بشكل غير ذاتي)، وبالتالي أقل ديمقراطية (اليوم، الفاشية التكنولوجية التي يمثلها إيلون ماسك وغيرهم)، كل ذلك مع تكثيف العمل وسقوط التمييز بين وقت العمل ووقت الحياة. إنها حكاية ديستوبية واستبدادية.

لكنها حكاية تُكرر دائمًا، ودائمًا – للأسف – يصدقها الجميع تقريبًا، خاصة وسائل الإعلام والجامعات، والسياسيون والمثقفون العضويون؛ ومع ذلك، كان ماكس هوركهايمر يذكر، في الأربعينات، أن "التقنيين يزعمون أنه عندما تتحول نظرياتهم إلى واقع عملي، ستصبح الأزمات الاقتصادية شيئًا من الماضي، وستختفي التفاوتات الاقتصادية الأساسية"؛ وحتى اليوم، أمام الذكاء الاصطناعي وأهواء التكنو-أوليغارشيين، نصدق حكاياتهم – ونرفض تحليل العمليات وجينالوجياها – ونجد أنفسنا في الوضع الذي وصفه ميشيل سيرا، أي "منذ سباق الفضاء والتقنيات الجديدة، كما لو أن هناك خصخصة فعلية للمستقبل. وجودنا متوقع، وربما مطلوب، ولكن فقط بصفته متفرجين. جمهور عالمي ضخم يُسمح له بالتشجيع، والتصفيق، والتصفير، ولكن لا يُسمح له بالمشاركة في اللعبة" (وهي، كما نقول، المجتمع الجديد للعروض الأوليغارشية والتكنولوجية).

وكم من مرة أخبرنا السياسيون وخاصة المهندسون ورجال الأعمال بأنه يجب "أنسنة التقنية" ولكن دون أن نوقفها، بينما كان يتم خلق أكبر احتكار من نوعه في تاريخ الرأسمالية (للتبسيط، وادي السيليكون – ولكن العالم الآن مليء بوادي السيليكون)، مع تواطؤ حكومات العالم التي سمحت لرأس المال بالاستمرار، من خلال إلغاء التنظيمات بالكامل واستحواذها على كل شيء، وبالأخص على حق كل فرد في الحرية المعرفية، فيما يتم تركيز المعرفة أكثر فأكثر في الآلات نفسها وفي الخوارزميات/الذكاء الاصطناعي، وبالتالي تجريد الإنسان من كونه كائنًا يجب أن يكون مجهزًا بالقدرة على التفكير والإمكانية لذلك، ليصبح أكثر وأكثر تابعًا للآلات؟ إنها دعاية من الصناعة والحكومات – عبر الإدارة والتسويق واليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي – التي لا مفر من أنها تذكرنا بالأغنية التي غناها إدواردو بيناتو عن "القط والثعلب" (نحن في المجتمع/ يمكنك أن تثق بنا/ يمكنك أن تحدثنا عن مشاكلك، همومك/ نحن الأفضل في هذا المجال/ نحن شركة متخصصة، وقع العقد وسترى/ أنك لن تندم/ نحن نكتشف المواهب ولا نخطئ أبدًا […] لا يحدث كل يوم أن يكون لديك مستشارين/ اثنين من رجال الأعمال/ الذين يبذلون جهدهم من أجلك…)، ليجعلونا نصدق الممكن المستحيل – أي أن التقنية ورأس المال هما الحرية والديمقراطية، وأن القط والثعلب يريدان حقًا مساعدة بينوكيو. ومع ذلك، نواصل الإيمان بأن التقنية محررة، في حين أنها في جوهرها أكثر شمولية.

ولذلك، لفهم أفضل للعملية التي قادتنا دون علمنا إلى الذكاء الاصطناعي ولنفهم أين ولماذا أخطأنا وما زلنا نخطئ في علاقتنا مع الرأسمال والتقنية، من المفيد العودة لقراءة مقال إريك فروم الذي صدر في عام 1968 "ثورة الأمل".

إريك فروم (1900-1980)، هو مثقف من الطراز الأول ولكن اليوم يكاد يكون منسيًا؛ كان فيلسوفًا وعالم نفس وأخصائيًا في التحليل النفسي، بدأ قريبًا من مدرسة فرانكفورت ثم اقترب أكثر من نموذج الاشتراكية الديمقراطية، الليبرالية والإنسانية. من مؤلفاته التي كانت مهمة ومقروءة آنذاك (ولكن يجب أن تكون كذلك حتى اليوم) كان "التحليل النفسي للمجتمع المعاصر" (دراسة حول اغتراب الإنسان الحديث – الساحر المتدرب الذي ينشط قوى الإنتاج ثم يُسحق بها؛ وهو قلب الأدوار بين الوسائل والغايات، حيث يصبح الإنسان، الذي كان الغاية، مجرد وسيلة لزيادة النظام التقني والرأسمالي – حيث يقترح فروم إمكانيات التغيير الاجتماعي التي وحدها يمكن أن تمنع الإنسان من أن يصبح آلة)، و"الهروب من الحرية" (حول نشوء الفاشية والخوف الاجتماعي من الحرية، كما نقول اليوم أمام قوة الفاشية التكنولوجية والذكاء الاصطناعي)؛ و"أن تملك أو أن تكون؟" (انتقاد للمجتمع الذي يعتمد على التملك)؛ و"تشريح الدمار البشري" (اليوم نفكر في الإبادة البيئية)؛ و"فن الحب".

"إن هناك شبحًا يجول بيننا" – هكذا يبدأ مقال "ثورة الأمل"، مستعيدًا كلمات ماركس وإنجلز – "ولكن القليل فقط من الناس يرونه بوضوح. إنه ليس الشبح القديم للشيوعية أو الفاشية. إنه شيء جديد: مجتمع ميكانيكي بالكامل، هدفه أقصى إنتاج مادي وأقصى استهلاك، ويديره الحاسوب". – وكان ذلك في عام 1968، كما نذكر، ولكنه هو الواقع اليوم بشكل أكبر. "في هذا العملية الاجتماعية، يصبح الإنسان جزءًا من الآلة الكبرى [...] إنه سلبي. [...] أبعاده الحالية الأكثر خطورة تكمن في أننا فقدنا السيطرة على نظامنا الخاص. نحن ننفذ القرارات التي يصوغها الحاسوب نيابة عنا. كبشر، نسعى فقط للإنتاج والاستهلاك أكثر وأكثر. كيف حدث كل هذا؟" – تساءل فروم وأجاب: "من خلال إعطاء أهمية أحادية للتقنية والاستهلاك المادي، فقد الإنسان الاتصال بنفسه وبالحياة. أصبحت الآلة التي صنعها الإنسان قوية بما يكفي لتطوير برنامجها الخاص، الذي أصبح يُشَرّع فكر الإنسان نفسه".

ومع ذلك، كتب فروم، "من وجهة نظري"، هناك دائمًا إمكانيات كبيرة "لإعادة السيطرة على النظام للإنسان". لذا، وفقًا لترتيب تفكير فروم، "يجب أن تسبق دراسة الوضع الحالي وإمكاناته في الأمل دراسة ظاهرة الأمل". الذي هو حالة أساسية للإنسان، إذا تخلّى عن كل أمل فقد ترك وراءه إنسانيته الخاصة، أي أن الحياة قد انتهت ويصبح الشخص مثل الآلات التي تعمل ولكن بلا أمل، أي بلا ذاتية، أي بلا حرية وتخطيط – دون أن ننسى أن "من يفقد الأمل يكره الحياة" ويقع في هوس التدمير والعنف.

ولكن اليوم – في الستينات، ولكن كما اليوم – اختفى الأمل وساد اليأس – أو اللامبالاة، التي هي شكل آخر من أشكال اليأس. للرد، كتب فروم، يجب أن نعرف أسباب هذا اليأس. وهي عديدة، ولكن تتعلق بشكل خاص بـ "المجتمع الصناعي الذي تم تسييره بالكامل من خلال البيروقراطية وعجز الأفراد أمامه". من الضروري، كما كتب فروم، أن يتغير أولاً النموذج الثقافي والاقتصادي والاجتماعي السائد، حيث أصبح "التحالف بين الشركات الخاصة والحكومة وثيقًا لدرجة أن التمييز بين الطرفين أصبح ضبابيًا بشكل متزايد" - (اليوم اختفى ذلك، مع ترامب وماسك) – وبالتالي فإن الألفية "قد لا تمثل التتويج السعيد لفترة ناضل خلالها الإنسان من أجل الحرية والسعادة، بل بداية عصر يتوقف فيه الإنسان عن أن يكون إنسانًا ويتحول إلى آلة لا تفكر ولا تشعر"، كما يحدث اليوم بشكل متزايد مع الذكاء الاصطناعي وما شابه.

أيضًا لأن النظام التقني والرأسمالي يعتمد على مبدأين يُعتقد أنهما غير قابلين للتغيير: الأول هو أن الشيء يجب أن يُفعل إذا كان من الممكن تقنيًا فعله؛ والثاني هو تعظيم الكفاءة من أجل أقصى إنتاج، أي أقصى ربح، مما يدفع الناس بشكل متزايد إلى "التخلي عن فرديتهم، معرّفين أنفسهم في الشركات بدلاً من تعريف أنفسهم" وبالتالي "التمييزيّة تحت اسم الكفاءة"، كما يحدث اليوم، وهي محكومة أكثر من قبل الآلات ومدخلة في الخوارزميات، في التايلورية الرقمية.

لكن إذا كان من المفترض أن يكون التحديث الإنساني أمرًا صحيحًا وواجبًا، فنحن بحاجة أولاً – كما كتب فروم – "لاستعادة السيطرة على النظام الاقتصادي والاجتماعي؛ يجب أن تكون إرادة الإنسان، الموجهة بالعقل ورغبته في حياة أفضل، هي التي تتخذ القرار". المشكلة – كما هي اليوم – هي أن التقنية ورأس المال لديهم أفكار أخرى عن مستقبلنا. التي تستثني دائمًا – من البداية – أي إمكانية لإنسانية النظام التقني وديمقراطيته. مما يؤدي اليوم إلى الفاشية التقنية ورغبتهم في أن نكون دائمًا فقط متفرجين. ومع ذلك، مع فروم، لا يمكننا ولا يجب أن نتخلى عن الأمل الذي هو بالضبط فعل ثوري. أمل قد يبدأ، كما نقترح، بتعلم الشك في القط والثعلب وفي "عالمهم المشترك".

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

 

تقويض البنى الأخلاقية والدينية والثقافية في المجتمعات العربية

ثمة صوت خافت، أشبه بطقطقةٍ مستمرة، لا نكاد نسمعه ولكننا نرى آثاره كل يوم. إنه ليس قنبلة تنفجر، ولا انقلابًا عسكريًا، ولا استعمارًا ناعمًا. بل هو شيء أشد خبثًا، وأكثر صبرًا: نظرية التورمايت، أو النمل الأبيض، كما يسميها علماء النفس والثقافة الحديثة.

هذه النظرية لا تتحدث عن هدمٍ مباشر، بل عن تقويضٍ تدريجي، خفي، صامت. كما يفعل النمل الأبيض حين يدخل إلى عروق الخشب، لا يترك أثراً في الظاهر، لكنه يلتهم العمق، حتى إذا ما انهار السقف فجأة، بدت الكارثة كأنها حدثت في لحظة، بينما كانت في الحقيقة ثمرة تراكمٍ طويلٍ من الهشاشة.

البنية الأخلاقية: التآكل من الداخل

إن الأخلاق في المجتمعات العربية لطالما شكلت السياج الذي يحمي الجماعة من التشتت، والمرآة التي ترى من خلالها نفسها. لكنها اليوم، تحت ضغط الحداثة المشوهة، تشهد تآكلاً بطيئًا.

لم يعد الصدق فضيلة، بل سذاجة. ولم تعد الأمانة واجبًا، بل ضعفًا في “الذكاء الاجتماعي”. يتسلل النمل الأبيض إلى مفاهيم مثل “النية الطيبة”، “الحياء”، “النخوة”، فيحوّلها إلى رموز لعصر بدائي يجب تجاوزه. وفي هذا التغيير، لا يأتي العدو من الخارج، بل من داخل العقول التي باتت ترى القيم عبئًا لا درعًا.

إنها نظرية التورمايت تعمل في صمت: تغيّر المفاهيم لا بالقوة، بل بالاعتياد. تجعل الكذب مقبولاً ما دام "ذكياً"، وتُفرغ مفاهيم الإيثار والتكافل من معناها عبر لغة جديدة تعلي من الفردانية على حساب الجماعة.

الدين: الطقوس دون الروح

الدين، في قلب المجتمعات العربية، لم يكن يومًا مجرد منظومة شعائر، بل كان نسيجاً روحياً ومعرفياً يعيد صياغة الحياة. ولكن، تحت مطارق العولمة، تحول الدين عند البعض إلى ملصقٍ شكلي، وفي أحيان أخرى إلى أداة سياسية، تُستخدم لتبرير المصالح، لا لإحياء الضمائر.

النمل الأبيض هنا ليس هجومًا على الدين من الخارج، بل تزييفًا له من الداخل. تحويل المساجد والكنائس إلى مسارح للخطابة الجوفاء، واستبدال التأمل في معنى الصلاة بالحرص على نقل صورها. الدين الذي يُفترض أن يكون ثورة على الظلم، يُعاد تشكيله ليصبح مخدّرًا لوعي الناس، أو قيدًا على حريتهم في التفكير.

إنها ليست حربًا على الله، بل على صورة الإنسان الذي يعبده. على ضوء الرحمة والعدالة الذي حمله الدين، يتم التهام روحه قطعةً قطعة.

الثقافة: من المأثور إلى المستورد

الثقافة، في معناها الأصيل، ليست ترفاً، بل هي بنية تحتية للوجدان. لكنها أصبحت اليوم، تحت تأثير نظرية التورمايت، مجرد استهلاك لصور الآخرين. لم نعد نروي حكايات الجدات، بل نتلقى سرديات "نيتفلكس". لم نعد نحتفل بإنشاد الموشحات، بل نرقص على أنغام مقاطع "الترند".

نعم، التورمايت الثقافي لا يحرق الكتب، بل يجعلها غير مقروءة. لا يهدم المسارح، بل يحوّلها إلى صالات عرض للسطحية. وبدلاً من أن تكون الثقافة مرآة للنفس، تصبح قناعًا يخفي الفراغ.

أسوأ ما في هذا النمل أنه لا يُرى، لأنه يتسلل من خلال اللغة، ومن خلال القيم الجديدة التي تأتي مموّهة بلون التقدم والانفتاح، لكنها في الحقيقة لا تحمل إلا التكرار، والذوبان، وفقدان الهوية.

بين الوقاية والانهيار: هل من سبيل؟

ما العمل؟ كيف نمنع هذا النمل من ابتلاع جدران الروح؟ هل نعيد بناء الحصون؟ أم علينا أن نصنع مضادات جديدة تناسب الزمن؟

الجواب ليس في الرفض الأعمى للحداثة، ولا في الانغلاق داخل قوقعة الماضي. بل في التمييز بين ما هو خشب حي وما هو خشب مسموم. في إعادة إحياء منظومة القيم بروح جديدة، لا تكرارًا لشكلها القديم، بل ترجمة عصرية لمعانيها الأصلية.

نحتاج إلى إعلام لا يغذي الاستهلاك بل يوقظ الوعي. إلى تعليم لا يلقّن بل يحرر. إلى فكر ديني يعيد للروح بوصلة التوازن، لا خطاب التهديد. إلى ثقافة تحفر في الذاكرة وتبني في المستقبل.

خاتمة: صوت النمل لا يُسمع، لكن أثره لا يُنكر

ما أصعب أن تنهار مدينة دون قصف. أن تذبل شجرة دون أن تُقطف أوراقها. أن يختفي المعنى دون أن يُسرق. ولكن هذا بالضبط ما يفعله النمل الأبيض حين يسرق الأخلاق والدين والثقافة من الداخل.

ربما آن لنا أن ننصت جيداً، لا لأصوات الهتاف والضجيج، بل لذاك الصوت الخافت في الزوايا المنسية: طقطقة التحلل البطيء.

فإن أردنا أن ننهض، لا بد أن نحفر عميقًا، نزيل النمل، ونعيد للخشب صلابته... وللروح ضياءها.

***

مجيدة محمدي - باحثة تونسية

سبق للمخرج المصري صلاح أبو سيف أن أثار مسألة الأصالة بالنسبة للسينما، وهل يتعلق الأمر بفن يخاطب الميل الإنساني لرؤية آمال البشر وآلامهم، وبالتالي يمكن "تذوقه"، أم لا يعدو الأمر كونها صناعة، تلبي مطالب التسلية، وإغراق الجمهور في عوالم هروبية تُنسيه واقعه المثقل بالملل؟

ربما كانت البداية المحرجة للسينما كوسيلة تسلية رخيصة، سببا في إثارة الاشمئزاز. إلا أن الاختراع الجديد سرعان ما تغلغل في جوانب الحياة الإنسانية، ونافس رواد قاعاته عشاق المكتبات والمسارح. لا يمكن بالتالي إنكار التأثير العميق للسينما في العصر الحديث، فقد ينسى المرء أول كتاب قرأه، لكنه لا ينسى أبدا أول فيلم شاهده. (1)

يولد الفيلم ثمرة تكامل عناصر متعددة: الممثل، والحوار، والمنظر، والموسيقى؛ بالإضافة إلى ما استحدثته الكاميرا من حركة، وزوايا تصوير، ومؤثرات بصرية. كل هذه العناصر يديرها المخرج بأسلوب تناسب وتوازن وإيقاع، يجعل من الفرجة مصدر متعة، وتوليفة حاسمة لتحقق الفهم وتلقي الرسالة. بهذا المعنى يكون للسينما دور في مخاطبة المُشاهد برؤية فنية ورسالة جمالية، يتخطى بفضلها حدود ذاتيته الشخصية إلى قضايا العالم، وهموم الإنسانية من حوله.

هل يُعزى إذن نجاح أغلب الأعمال السينمائية إلى تحقق الرؤية الفنية والرسالة الجمالية اللتين استشعرهما جمهور متذوق؟

ترتبط الإجابة عن السؤال بكيفية تذوق الجمهور للعمل السينمائي، واستكشاف أبعاده الجمالية. والمسألة هنا لا علاقة لها بنوعية الأفلام، يقول صلاح أبو سيف، إذ يمكن للأفلام الهروبية أو أفلام التسلية المجردة أن تكون مثقفة جدا إذا روعي في صناعتها الذوق الرفيع. إن الأمر يتعلق بإشاعة معايير جمالية، تغذي المزاج الثقافي العام، وتتيح تبسيط مفردات العمل الفني بشكل يسمح للجمهور بتحديد نقاط القوة أو الضعف، ومدى جمالية أو تدني مستوى الجمالية فيما يتلقاه داخل قاعات السينما. 

عموما يمكن تصنيف المشتغلين داخل الحقل السينمائي إلى فريقين:

فريق يراعي الذوق العام، ويتحرك بكاميرته داخل المعايير والأنماط السائدة في مجتمعه. وحتى إن تمتع برؤيا ابتكارية متجددة فهو يعمل على إرضاء جمهوره. وتكون سمة هذه الأعمال في الغالب هي التكرار والمشابهة، مما يدفع الناس للعزوف عنها لما في النفس من ميل إلى التجديد والمغايرة.

أما الفريق الثاني فغير مهتم بإرضاء الجمهور، بل هدفه هم تطعيم الذوق العام بإنتاجات مبتكرة وجريئة، تحرك الوهم السائد، وتنفض عن الحياة الفنية مظاهر الجمود والنمطية. لذا عبّر بعض المخرجين صراحة عن رفضهم لقيود السينما التقليدية التي تنحاز بشكل سافر للمتفرج "الكسول". يقول المخرج المصري محمد خان: عامة أنا لا أفكر في المتفرج، هل الرسام يفكر فيمن ستعجبهم لوحته؟

إلى جانب الآلة الدعائية، التي يمكن أن تكون مضللة في بعض الأحيان، يعتمد تذوق العمل السينمائي على المعايير الجمالية التي يُرسيها النقد المبسط؛ أعني النقد الذي يتلقاه عموم الناس في الصحف والمجلات الأسبوعية. تساعد الآراء التي تطرحها أقلام نقدية وصحفية متخصصة في تدريب الجمهور على التقاط عناصر محددة داخل العمل الفني، لكشف غموضه، وإضاءته من الداخل. وفي حالة التدريب المتكرر يحقق المتفرج ما يسميه يوري لوتمان (الانفعال المزدوج)، بمعنى أن ينسى المرء أن ما يراه هو محض خيال، وفي نفس الوقت ألا ينسى ذلك. ففي عالم الفن وحده، يقول لوتمان، يستطيع الإنسان أن يحس بالذعر أمام جريمة ما، متذوقا في نفس الوقت مهارة أداء الممثلين. (2)

يشكل الانطباع جوهر التذوق في بدايته، حيث يُعبّر المتلقي عن رفضه للعمل أو قبوله من خلال تفاعل ذاتي تحكمه المزاجية، والبيئة الاجتماعية، ورواسب الذوق القديم التي شكلت مخزونه الثقافي. إن تلقيه للعمل السينمائي قائم على الإعجاب، والاندماج اللاشعوري في بيئة العمل الزمانية والمكانية، وتقدير المعاناة الإبداعية للإخراج المبذول في هذا العمل وفق رؤيا شمولية لا تراعي الأجزاء والمفردات.

حين يحقق العمل الفني إحساسا بالرضا المشترك بين الفنان والجمهور المتذوق، تحدث حالة من الرغبة في تكرار المشاهدة، أو التجربة الجمالية إن صح التعبير. يعيد المتلقي مشاهدة العمل مرة أخرى، فيجرب أحاسيس، ويكتشف أطرا وعلاقات فنية لم يقف عندها في المرة الأولى. يبلغ المتلقي في هذه الحالة مرحلة الاستمتاع بالعمل الفني، وهي حالة راقية تشحذ إدراكه الجمالي، وتحرره من الأذواق القديمة والمتعارف عليها، وبالتالي تسهم في تغيير مزاجه الثقافي.

وتؤدي معاودة التفاعل مع نفس العمل الفني مرات عديدة إلى امتلاك رأي خاص، والوقوف على عتبة النقد الذي يصدر الأحكام الجمالية، لكن ليس وفق معايير وأدوات منهجية ونقدية، وإنما بالعودة مرة أخرى إلى قناعات ومعتقدات جرى تشكليها سلفا. يقول آلان كاسبيار:" وجود السمات الجمالية في أي فيلم مرتبط إلى حد ما بمعتقداتنا. فحيوية بعض الأفلام مرتبطة بالمعتقدات السائدة التي تشمل أفكارا من قبيل: الخير ينتصر في النهاية، والجيل الأصغر يستطيع أن يعيش عيشة أفضل لو نبذ أخلاق الجيل الكبير، ومفتاح النجاح هو التعليم الجامعي، والزواج لا بد منه لإقامة حياة متكاملة."(3)

يستلزم تذوق السينما برأي آلان كاسبيار، فهما خاصا للمادة الأساسية للفيلم، أي العناصر السمعية والبصرية التي تؤثر في قدرات المتفرج الإدراكية والانفعالية. ذلك أن الأثر الجمالي لا يتحقق إلا بتقييم تلك العناصر، كالمنظر وحركة الكاميرا والمؤثرات البصرية، في تفاعلها مع بعضها، باعتبارها المسؤولة عن إخراج الفيلم إلى حيز الوجود.

من بين المؤثرات التي يُنبه كاسبيار إلى جماليتها العالية: إضفاء شخصية مميزة على الكاميرا نفسها في أفلام الرعب. لقد استُخدِم المكان خلف الكاميرا لجذب انتباهنا للمنطقة التي وراءها عبر إكسابها حضورا شخصيا. تبدو الكاميرا كأنها شخص حقيقي، يتابع الأحداث الجارية في الفيلم وهو في خفية عن الأنظار. لذا فجو الغموض والرهبة في أفلام الرعب ينتج عن شخصية الكاميرا.

 جمالية أخرى يكشفها الحوار الذي ينقل الممثلون من خلاله نوايا شخصياتهم ومشاعرها ورغباتها وأفكارها بطرق متنوعة.  هذا الحوار يلعب دورا أساسيا في كشف الموقف أو دفع الحبكة إلى الأمام أو تطوير الفكرة. غير أن له وجها آخر من الناحية الجمالية، وهو الحوار كخاصية صوتية منعزلة عن المعنى. فالممثل يمكنه توصيل الكثير عن شخصيته وموقفه في الفيلم بخصائص للصوت من قبيل: الشدة، والطبقة، والنسيج، والإيقاع. كما أن لغة الجسد وسيلة أخرى للتوصيل، حيث المشية، والإيماءات، والمسافة التي يحددها الممثل بينه وبين سائر الشخصيات، تعبر عن المشاعر والعلاقات والمواقف السلوكية.

وتمنح زاوية التصوير أبعادا جمالية، و"رسائل" تتنوع وفق الهدف الفني للمخرج.  حيث أن زاوية التصوير القياسية التي تقترب من رؤيتنا اليومية للأشياء لها وظيفة أخرى هي تقديم وجهات النظر المختلفة، إذ تقدم كثير من الأفلام وجهة نظر المتفرج الخارجي فقط بوضع الكاميرا، وبالتالي المتفرج، موضع المتصنت خفية على الحدث، كي نرى كيف يبدو العالم في عين امرئ ما وفق مزاجه أو حالة وعيه.

بالإضافة إلى المؤثرات البصرية، يسهم المكان الفيلمي، والزمان الفيلمي بأصنافه الثلاثة (درامي وطبيعي وتأثيري) في تنسيق الأحداث للتأثير على إحساس المتفرج، وانتزاع التجاوب مع الرؤية الفنية التي يتعمدها المؤلف منذ البداية. ومجموع هذه القدرات هو ما يتيح للمتلقي تحديد السمات الجمالية للفيلم، وقراءته بشكل أكثر نضجا وواقعية.

يحيلنا تذوق العمل السينمائي على سؤال أكثر أهمية، خاصة في واقعنا الثقافي العربي المعولم بشكل غير مسبوق، ألا وهو المتعلق بمدى توفر ثقافة سينمائية، تشرح أصول الفن وقواعده، وآثاره على المستويين الفردي والجماعي. فقد أثبتت التجارب ما تمتاز به المؤثرات البصرية من قدرة على الاستهواء، وصعوبة تعديل التأثيرات الناتجة عن المشاهدة السينمائية، وما يترتب عن نقلها إلى الواقع من أحداث ومآس اجتماعية. نستحضر هنا على سبيل المثال حادثة إطلاق النار في مدرسة ثانوية بولاية كولورادو الأمريكية سنة 1999، والتي أدت إلى مصرع ثلاثة عشر شخصا وإصابة عشرين آخرين بجروح. كان القاتلان يعيدان مشهد إطلاق النار الهستيري في فيلم "ماتريكس" الذي قدمته الرؤية الإخراجية ضمن مشاهد أخاذة تشبه رقصات الباليه!

تحفز المآسي المماثلة التي تتكرر بين الفينة والأخرى، وعينا بضرورة التحكم في مسارات التذوق السينمائي، والفني بشكل عام، لدى الصغار والشباب، وضبط التأثير الذي تمارسه الأفلام، خارج نطاق وعينا وبأساليب ماكرة، على عالم الواقع.

إن الارتقاء بالذوق السينمائي يحقق ما يمكن أن نعتبره استخداما واعيا للأفلام في الحياة المهنية واليومية، من خلال إعطاء الأولوية للتجربة الإنسانية، وتشكيل هوية متوازنة بين الواقع وعالم السرديات المرئية.  ولعل ذلك ما رمى إليه المخرج الإيطالي فيديريكو فيلليني بقوله: إن الحياة قصيرة، وأملي هو أن يكون بين تلك الأفلام صور. رؤيا خالدة للعالم بما أنني لن أكون كذلك. وهذا شعور يشقُّ عليّ وصفه. وهو إمكان أن تشارك العالم في رؤياك للعالم.

***

حميد بن خيبش

.....................

المصادر:

1- صلاح أبوسيف: السينما فن.

2- يوري لوتمان: مدخل إلى سيمائية الفيلم. ص28

3- آلان كاسبيار: التذوق السينمائي. ص88

عندما يسألنا أحد "منْ أنت؟"، نجيب بتسميات متعددة مثل أسيوي، ذكر، نباتي، طالب. هذه التسميات يسهل فهمها وتساعد الآخرين لتوصيفنا بسرعة. لكن هذه الوصفات تلامس السطح فقط. انها تخبرنا عن سمات مادية عامة او أدوار اجتماعية او خيارات فردية، لكنها حقا لا تغوص في أعماق السؤال: ماذا يعني أنت؟ او بشكل عام، ماذا يعني حقا ان تكون انسانا؟ هل نحن فقط كائنات حية، ام ان هناك ما هو أكثر – مثل روح او هناك أساس آخر عميق لوجودنا؟ هل نحن نُعرّف بالعلاقات التي نبنيها، بأفعالنا، او بإمكاناتنا؟ ادراك ما يعنيه ان نكون اناسا يؤثر في الكيفية التي نتعامل بها مع أنفسنا ومع الآخرين، وكيف نبني المجتمع، وكيف نتفاعل مع التكنلوجيات الناشئة مثل الذكاء الصناعي. هذه المقالة تنظر في أبرز مظاهر كينونة الانسان عبر طرح حجج أساسية مستقاة من مختلف الفلاسفة.

هل نحن أكثر من مجرد أجسام؟

أحد أكبر الأسئلة حول طبيعة الانسان هو ما اذا كنا كائنات مادية خالصة ام ان هناك شيء غير مادي يحدد هويتنا. لو انت تتصور تناولك لمانجو ناضجة. انت سوف تتصور لونها الأصفر وتتذوق حلاوتها من خلال التجارب الذاتية "لرؤية الاصفر" و "تذوق الحلاوة". هذه التجارب وغيرها توفر الاساس لما يسميه الفلاسفة منذ ديفد شالمر بـ "مشكلة الوعي الصعبة". هذه المشكلة تسأل، "كيف ولماذا تنتج عمليات الدماغ تجارب ذاتية؟" بدلا من مجرد ردود أفعال لحوافز جسدية/ ميكانيكية غير مجربة.

اولئك الفلاسفة الذين يجادلون لتأييد التوضيح المادي الخالص – اُطلق عليهم الماديون – يشيرون الى ارتباط قوي بين حالة الدماغ والحالات الذهنية. لنتخيّل في كيفية وقوعنا في حالة إغماء تام بسبب التخدير، او كيف نتأثر بشدة بسبب إصابات الدماغ، او المخدرات. هذه الأمثلة تشير بقوة الى ان حياتنا العقلية هي نتاج بايولوجي، وعلم الأعصاب يؤكد هذا ببيان ان أفكارنا وعواطفنا وتصوراتنا ترتبط بفعاليات معينة للدماغ في مناطق محددة منه. البعض يرى هذا دليلا مقنعا بان عملياتنا الذهنية هي ببساطة أحداث مادية معقدة. لكن الناس لا يتفقون كلهم على هذا. النقاد يجادلون ان محاولة اختزال الوعي بفعالية الدماغ وحده يتجاهل شيئا هاما جدا – التجارب التي تشكل أذهاننا. هذه لا تشبه فعالية الدماغ  التي هي مرتبطة به، فكيف يمكن ان يكون هذا النشاط؟ كذلك، لا توجد صفات مادية للمحتويات الذهنية، لذا بأي معنى هادف يمكن ان يقال بانها مادية؟

لمعالجة الاختلاف، يتخذ البعض موقفا ثنائيا، فيه عدة أشكال. تؤكد ثنائية الخواص بانه مع ان كل شيء مصنوع من مادة، لكن الدماغ يمكنه امتلاك كلا الصفتين الذهنية والمادية. ومن جهة اخرى، هناك ثنائية الجوهر التي تؤمن بان الانسان يتألف من جوهرين اثنين متميزين: الجسم المادي، والذهن غير المادي. بعض ثنائيي الجوهر، مثل ديكارت (1596-1650)، يذهب أبعد من ذلك ويضع الذهن في روح خالدة مستقلة عن الجسد بحيث تكون الروح هي مقر التجربة الذاتية.

ان مفهوم الروح ارتبط بعدة مفاهيم ميتافيزيقية وأخلاقية. في الهندوسية، مثلا، يرتبط مفهوم الروح  بمفهوم الكارما وإعادة الميلاد. هنا يُنظر الى الروح كوجود مستمر ينتقل من جسم الى آخر. يعتمد نوع الجسم الذي يذهب اليه سواء كان انسانا او شيء آخر، على تراكم الكارما. هذه العقيدة توفر ارشاداً أخلاقيا للعديد من الناس، لأن الافعال الفاضلة ستؤدي الى نتائج جيدة في حياة المستقبل، بينما الافعال السلبية ستقود لمعاناة في المستقبل. العملية تشبه إستعمال الآخرين لمفهوم الروح .

الانسان ككائن عقلاني

احدى الأفكار الشائعة حول ماهية الانسان المتفرد هي ان ما يميز الانسان بعيدا عن الحيوانات الاخرى هو قدرته على التفكير العقلاني. طبقا لهذا المنظور، الخصائص المحدِدة للانسانية هي القدرة على التفكير العقلاني المجرد وما ينتج عنه من فعاليات مثل اللغة والثقافة والايديولوجيات والرؤى العالمية.

هذه الرؤية لها جذور تاريخية عميقة، وتُنسب الى فلاسفة بارزين مثل ارسطو وديكارت وعمانوئيل كانط.

ارسطو مثلا، ميّز الانسان عن الكائنات الاخرى بمقدرته على اللوغوس "العقل". طبقا لارسطو، نحن نمتلك قدرة عقلانية متفردة لا تمتلكها الحيوانات الاخرى. الحيوانات تمتلك ارواحا حساسة تسمح لها بممارسة الاحساس، وبالتالي المشاركة في العالم: لكن الانسان لديه كل من التصورات الحسية والفكرية التي تسمح له بفهم ما هو جيد أخلاقيا من خلال استعمال العقل. الحيوانات لا يمكنها ان تكون جيدة او سيئة أخلاقيا لانها تفتقر الى المظهر العقلاني للتفكير الذي يجعلها واعية أخلاقيا.

هذه الرؤية "العقلانية" تدعم الاستثنائية الانسانية وهي الفكرة بان الانسان مختلف جوهريا، وعادة متفوق على الأشكال الاخرى للحياة. ديكارت فصل الانسانية عن الكينونات الاخرى، مجادلا انه من بين كل المخلوقات الارضية فقط الكائن البشري لديه الوعي. حسب رؤيته، الحيوانات "الدنيا" ليست الاّ مكائن طبيعية خالية من التجربة. انها تفتقر الى أي امكانية للفعل الاخلاقي لأنها تفتقر الى اللغة وبالتالي للقدرة على التفكير – لأنه حسب ديكارت انت تحتاج اللغة لتمتلك العقل،وتحتاج العقل لتمتلك الروح، والروح لتمتلك ذهنا مدرِك.

تاريخيا، نُظر الى العقلانية ايضا باعتبارها مقتصرة على جماعات معينة من البشر، استبعدت المرأة والرجال ذوي المنزلة المتدنية. فمثلا، ارسطو الذي كان ارستقراطيا، اعتقد ان بعض الناس ليست لديهم قدرات او ان قدراتهم محدودة دائما في تحقيق العقلانية التامة، خاصة المرأة و "العبيد الطبيعيين". هو جادل بانه رغم ان هاتين الجماعتين يمكنهما التصرف في قرارات عقلانية، لكنهما تفتقران الى عنصر التفكير المنظم الكامل ويمكنهما فقط اتّباع الأوامر، ولا يمكنهما ايضا فهم الخير الأخلاقي. فلاسفة النسوية جادلوا ان هذا النوع من التفكير لا يتصل بالبحث عن الحقيقة، وانما هو حول تركيز هياكل السلطة الأبوية وتعزيز الانحياز الذكوري. هم يجادلون بان هذه العقيدة النمطية تقيّد الإمكانيات والفرص المتوفرة للافراد بالارتكاز على جنسهم. الاستثنائية البشرية هي ذاتها مرتبطة بمركزية الانسان وبالنزعة النوعية التي ترى ان الانسان ذو أهمية كبيرة ومتفوق على أشكال الحياة الاخرى. هذه الرؤية الهيراركية بدورها تبرّر الهيمنة والإخضاع لاولئك الذين اعتُبروا "أقل من الانسان".

هذا ليس فقط وصف مفترض لطبيعة الانسان، انه يحمل باستمرار مضامين معيارية تعزز الامتيازات و هياكل السلطة القائمة . الادّعاء بانه "لتكون انسانا هو ان تكون عقلانيا" هو مثير للإشكالية، لأنه يفضل جنس معين او عرق او طبقة، ويستبعد جماعات معينة مثل الاطفال والمتخلفين ذهنيا، بالاضافة الى استبعاد الحيوانات من الإعتبارات الاخلاقية.

الانسان كجزء من الطبيعة

هناك فكرة مضادة، وهي ان الانسان ليس خاصا ابدا – على الاقل ليس بالطريقة التي نتصوره بها. التوضيحات الطبيعية تعيد تكامل الفرد الانساني الى العالم الطبيعي، اما كنظام مادي معقد، او كجزء من الكون الشامل. الشمولية panpsychism هي العقيدة بان أي مادة لها شكل من الوعي . هذا لا يعني ان الصخور والذرات لها أذهان مثلنا وانما ان هناك مستوى أساسي من الوعي او التجربة حاضرة في كل الأشياء. هذا المنظور وغيره من المنظورات الطبيعية يؤكد على الاستمرارية بين الانسان والانواع الحية الاخرى ويرفض فكرة الإنقسام الأساسي بينهما. وهكذا خلافا لديكارت نجد ديفد هيوم (1711-76)، في عمله (رسالة في طبيعة الانسان،1739)،يؤكد ان كل من الانسان والحيوان قادران على التفكير والفهم ، هما يختلفان فقط في الدرجة وليس في النوع. باروخ سبينوزا(1632-77) يذهب أبعد من ذلك ويجادل ان الانسان وبقية العالم هما جزء من مادة واحدة – سواء أسميتموها "الله" او "طبيعة" – وان كل شيء في الكون محكوم بنفس القوانين. هو ايضا ينتقد النزعة لإسقاط  الحوافز الشبيهة بالانسان على الطبيعة – مثل القول ان الحيوانات تتصرف بدافع "الانتقام" – مجادلا ان هذه الرؤية البشرية المركزية تشوّه فهمنا.

نحن حتى عندما نقوم بشيء فريد كبشر، مثل قدرتنا على التفكير المجرد، ذلك لا يعني بالضرورة تفوقنا الأخلاقي او اننا يجب ان نمتلك تعاملا أخلاقيا مختلفا. الفيلسوف النفعي جيرمي بنثام (1748-1832) جادل بان الاعتبارات الأخلاقية يجب ان لا ترتكز على المقدرة على التفكير وانما على المقدرة على المعاناة. هو كتب : "السؤال ليس "هل يستطيعون التفكير؟" ولا "هل يستطيعون التحدث؟" وانما "هل يمكنهم المعاناة؟"(مدخل لمبادئ الأخلاق والتشريع،1789). مثل هكذا منظور يوسّع نطاق الاعتبارات الاخلاقية لتضم جميع الكائنات الحية وليس فقط الانسان. مع ذلك، تمديد الاعتبارات الاخلاقية لكل الكائنات الحية يثير ايضا معضلات أخلاقية معقدة . فمثلا، الصناعة الزراعية واجهت اعتبارات أخلاقية في قضايا تربية وتحسين الحيوان بالاضافة الى وجوب التعامل مع استدامة البيئة وتأمين الغذاء.

الانسان كجزء من المجتمع

في كتابه (السياسة) وصف ارسطو الانسان بـ "الحيوان الاجتماعي". في هذه الرؤية، التفاعل الاجتماعي هو الخاصية المحدِدة لنوعنا. نحن في الحقيقة لدينا ميل فطري لتطوير جماعات معقدة تتضمن أنظمة القوانين وتقسيم العمل. فلاسفة آخرون قدموا رؤى لاتزال مستمرة في تحديد فهمنا لطبيعة الانسان والمجتمع. توماس هوبز (1588-1649) كانت لديه نظرة متشائمة معتقدا ان الناس يندفعون ليشكلوا أنظمة اجتماعية طبقا للمصلحة الذاتية والخوف والرغبة بالسلطة.

في ليفياثان (1651) وصف هوبز الحياة في دولة الطبيعة (ما قبل الدولة السياسية) بـ "المنعزلة والفقيرة والسيئة والوحشية والقصيرة" بدلا من إنطلاقها من الإيثار الفطري. وفي نفس الخط من التفكير، عالم نفس الاطفال بورتن وايت يؤكد ان صفة "الأناني" موجودة في الاطفال منذ الولادة، والتي تتجسد من خلال أفعال هو يصفها كـ "انانية صارخة".

وعلى الجانب الآخر لهوبز، جين جاك روسو (1712-78) اعتقد ان الانسان بطبيعته خيّر ورحيم، لكن المجتمع يفسده. تصوّر روسو دولة الطبيعة كدولة مسالمة يعيش فيها افراد منعزلون، جاؤوا مجتمعين فقط عندما تطوّر المجتمع، وهو الشيء الذي اعتبره أصل اللامساواة والشر.

كارل ماركس (1818-83)، ركز على الكيفية التي تصوغ بها العلاقات الاجتماعية طبيعة الانسان، مجادلا ان الناس يُعرّفون بنشاطاتهم الانتاجية وعملهم، وان طبيعتنا تتشكل بالانظمة الاقتصادية والاجتماعية التي نعيش فيها وليس بسبب اننا نمتلك جوهرا ثابتا.

فكرة هوبز في الانسان المدفوع بمصلحته الذاتية قادت الى دفاعه عن الملكية المطلقة، روسو في فكرته عن خيريتنا المتأصلة حفز أفكار الديمقراطية والحرية الفردية، ماركس في العمل قدم نقدا للرأسمالية. كل واحدة من هذه الرؤى تسلط الضوء على مظاهر مختلفة لما نعنيه بالانسان ودور المجتمع في تحديد سلوكه .

خلق انسان جديد

التكنلوجيات الجديدة تدفعنا للتفكير بمعنى الانسان. الهندسة الوراثية والذكاء الصناعي يتحديان الافكار التقليدية. فمثلا، التعديل الجيني يمكن ان يعزز سمات مادية او فكرية في الانسان – لكنه ايضا يطمس الحدود التي تفصل بين ما يشكل الانسان "الطبيعي" وغيره. مثل هذا التعديل الوراثي قد يقود الى تمييز ولامساواة ان لم يُنظم بشكل جيد.

رواية فرنكشتاين لماري شيلي (1818) تسلط الضوء على هذا المأزق – إهمال مخلوق فرانكشتاين من جانب خالقه، حين نُبذ بسبب مظهره وجيناته غير الطبيعية. هذا يُظهر تحيزا محتملا ضد الاطفال المعدلين وراثيا. اذا تم تعريف الناس طبقا لإمتلاكهم وصفة بايولوجية طبيعية، فهذا ربما يؤدي الى استبعاد مثل هؤلاء الاطفال المعدلين وراثيا وحرمانهم من حقوقهم.

قلق آخر يتعلق بخلق ذكاء صناعي بوعي مشابه للانسان او حتى يتفوق على قدرات الانسان الادراكية. اذا كانت أنظمة الذكاء الصناعي تطور وعيا ذاتيا، كيف وأين نرسم الخط الاخلاقي بين الانسان والماكنة؟

ما بعد الانسانية التي تستكشف اتحاد الانسان مع التكنلوجيا، تفترض اننا ربما في يوم ما نحمّل وعينا الى منصات رقمية، وبذلك نتغلب على نواقصنا البايولوجية وربما حتى على الموت. تجربة فكرية قام بها الفيلسوف الامريكي سيدني شوميكر تقدم منظورا حول استمرارية الهوية في مثل هذا التحميل. في هذا السيناريو، ماكنة تمسح المعلومات الشخصية من دماغ شخص وتنقلها الى دماغ آخر. اذا كانت الاستمرارية السايكولوجية تمنح هوية شخصية عندئذ فان الفرد الناتج عن هذا التحويل سيُعتبر الشخص من الدماغ الأصلي. لكن هذه هي المشكلة الرئيسية: افرض انه بينما يتم مسح دماغك ويتم خلق نسخة رقمية منك لكي تُنقل الى دماغ جديد، هناك لحظة عندما لم تكن خصائصك العقلية – افكارك، مشاعرك، وتجاربك –  نشطة ابدا. لذا، هل انت مجرد ميت؟ وهل انت فقط على وشك ان تُبعث فيك الحياة  – ام انهم فقط يعملون نسخة منك؟ الموقف يسلط الضوء على مضامين ميتافيزيقية وأخلاقية معقدة لتحميل الأذهان.

نظرا لهذا النوع من المشاكل، والعديد من المشاكل الاخرى، يستبعد العديد من مؤيدي الاستمرارية السايكولوجية للهوية الشخصية انتقالنا الى الكومبيوتر او من خلاله. هم يزعمون ايضا لكي تكون الهوية الشخصية مستمرة حقا، فان هناك حاجة لأساس مادي لا يتوقف لخصائصنا الذهنية. ان فكرة تحميل أذهاننا الى مركز رقمي ايضا يمثل العديد من التحديات الاخلاقية حول اسئلة مثل، لو نجحت العملية، كيف سيكون دماغنا وجسمنا المادي الأصلي؟ سيبرز هنا سؤال الحقوق والمسؤوليات لهذه الكائنات الرقمية. وكيف نتعامل مع خلق الحياة الرقمية او انهائها؟

هذه أسئلة أخلاقية عميقة تحتاج الى تفكير دقيق من كل من الفلاسفة وعلماء الكومبيوتر. في عالم حيث تتطور التكنلوجيا بسرعة، يمكننا ان نرى ان التحقيق المستمر في طبيعة الانسان اكثر أهمية من أي وقت مضى. وعندما نبحر في التحديات الاخلاقية والسياسية للمستقبل، فهي ليست فقط حول ايجاد أجوبة وانما ايضا حول طرح الأسئلة الصحيحة.

***

حاتم حميد محسن

........................

What does it mean to be human? Philosophy Now, Apr/May2025

على الرغم من الوصف الإشكالي لعنوان المقالة في صدرها الأول، وذلك في أن الدين ليس له رجال؛ ذلك أنه جاء لسعادة البشر كلهم، ولهدايتهم، ولكن يُطلق ذلك الوصف عُرفًا، على من يدعو إلى اعتناقه، ويعرِّف الآخرين بمضامينه وأفكاره، ويبصِّر قليلي المعرفة بذلك الدين عمّا خفِيَ عنهم، ويكشف لهم أبعاد ذلك الدين وسماته الإنسانية التي تنسجم والفطرة السليمة، ويحذّرهم من شرور ما يقومون به من ممارسات اجتماعية يتزيّى بعضها بلبوس الدين، وهي ليست كذلك،..الخ من مهام إنسانية المحتوى تنفع الصالح العام؛ لأنه في الإسلام لا يوجد رجال دين بالمعنى المعروف في بعض الأديان الأخرى، "أي أنّ لهم الحق في أنْ يُحلِّلوا ويُحرِّموا ويفعلوا ما يشاؤون باسم الدين، ولا يُسألون عما يفعلون، ويعتبرون أنفسهم وكلاء عن الله، ويبيعون للناس صكوك الغفران. لا يوجد في الإسلام رجال دين بهذا المعنى، وإنما الذي يوجد في الإسلام علماء دين بمعنى أنهم تخصصوا بدراسة العلوم الشرعية وما يتعلق بها وقضوا جلّ شبابهم في هذه الدراسة حتى نالوا الإجازات العالية فما فوقها بالشريعة الإسلامية، فهم علماء الدين، أو رجال الدين، أو المتخصصون في دراسة علوم الشريعة"[1]

ومن وجهة نظر كثير من العقلاء أيًّا كان انتماؤهم العقدي أو الفكري، ينبغي أن يكون ذلك الداعي على قدرٍ عالٍ من الضبط والالتزام الأخلاقي بتلك الإرشادات والتوجيهات التي يدعو الناس إليها، وهذا ما أشار إليه صراحةً القرآنُ الكريم في قوله: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [سورة البقرة:44] والظاهر في الآية دلالة التوبيخ لأولئك الذين تصدّوا للدعوة إلى عبادة الله، ولم يلتفتوا إلى أنفسهم بنهيها عمّا نهى الله عنه من سلوكيات وأفعال خاطئة تودي بصاحبها إلى الوقوع فيما حرّمه المُشرِّع، يؤكّد ذلك ما كان لرموز الإسلام الأوائل من التزام بهذا النهج الأخلاقي، فيما ينبغي أنْ يكون عليه الداعي إلى سبيل الخير، من تحلٍّ عمليٍّ بفعل المعروف قبل الحثِّ عليه، وانتهاءٍ عن المنكر قبل نهي الآخرين عنه، ومن الشواهد على ذلك، قول الإمام علي (ع): (إِنِّي وَاَللَّهِ مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلاَّ وَأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا وَلاَ أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلاَّ وَأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا)[2]، أو قوله: (مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلاَلِ مِنْ مُعَلِّمِ اَلنَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ)[3]، وبذلك يضمن الداعي تأثيرَ خطابه في الآخرين.. وبخلافه يكون كلامُهُ هواءً في شبك..!! وليس الأمر يقف عند هذا الحد، بل سيكون ثمة تداعيات لهذه الظاهرة، حين يستولي اليأس وخيبة الأمل عند كثيرٍ من الناس ذوي التفكير السطحيِّ المحدود، بزيف تلك المبادئ التي يدعو إليها رجل الدين، فلا يتلمّسون واقع تلك المبادئ السمحاء في تمظهرات خطابه الذي يجلدهم به صباحا ومساءً، فحين يُشيع فكرة أنَّ الدين يدعو إلى التسامح والتعايش السلمي، ويجدونه في بعض المواقف لا يُظهِر سوى التعصّب الديني أو المذهبي، أو تشي عباراته عن نزعة عنصريةٍ أو ذكوريّةٍ، سيفهم هؤلاء المتلقّون لخطابه – عن طريق التعميم في التفكير، أو عن طريق التقصّد في الفهم السطحي لخطابه- أنَّ الدينَ في حقيقته هو ما يظهر في سلوكيات أولئك الدعاة.. فلا تسامح ولا تعايش ولا هم يحزنون..!! أو حين يتحدّث رجل الدين عن ظلامة الدين في تعامل الغرب مع مفاهيمه بتسطيح وانتقائية لأجل غايات تُسوّغ لهم ما يقومون به من استنزاف لموارده أو سياسة إذلال وتركيع لدوله رضوخًا عند مشاريعهم، وفي الوقت نفسه حين تُتاح له الفرصة، يُمارس سياسة الانتقاء التي أدانها عند الغرب، في نسف كل ما لديهم من منجز فكري أو فلسفي أو علمي، وتجريدهم من كل تلك المنجزات المعرفية التي يظهر أثرُها على ملبسه ونظارته أو أبسط الأدوات التي لا يستطيع الاستغناء عنها يوميًّا، فهذا أيضًا يترك الأثر السلبي عند متلقّي هذا الخطاب، ممن كان يظنّ أنَّ رجل الدين يضع قوله تعالى: (اعدلوا هو أقرب للتقوى) نصب عينيه، وهو نتيجةً لذلك سيفصل بين منجزهم الفكري في مجالات المعرفة، وبين الموقف السياسي البراغماتي لقادة تلك الدول، وقد يجهل أساسًا أمثال هذا الداعية من رجال الدين، أنَّ هنالك من مفكّري الغرب ممّن ينتقد سياسة دولهم، وأنَّ شرائح كبيرة من مجتمعهم لا يرضون عن مواقف زعمائهم السياسيين؛ لأنَّ هؤلاء يتوقّعون أنْ لا يوجد ثمّة تفكيك بين المجتمع الغربي وبين قادته وزعمائه، أو بين المنجز الفكري الغربي في مختلف حقول المعرفة وبين سياسة زعماء أو قادة تلك الدول، فالكلُّ عنده سواء..!

وهكذا الأمثلة كثيرة بالإمكان أنْ نجِدَ لها مصاديق مريرة في حياتنا اليوميَّةِ؛ ولذلك نال هؤلاء المُدَّعون من الذمِّ والتقريع من ممثِّلي الإسلام الذين تمثَّلوا الدينَ وعيًا وسلوكًا في حياتهم، وأمثال هؤلاء ليسوا وليد هذا العصر، بل هم في كلِّ عصرٍ ومِصر، ولم ينحصر وجودهم في طائفة من طوائف المسلمين، بل تجدهم في مختلف المذاهب الإسلامية، بل لا يقتصر وجودهم على الدين الإسلامي، بل في كل الأديان، فالآية (أتأمرون الناس...) التي ذكرناها آنفًا، قيل إنها نَزَلَتْ فِي عُلَمَاءِ الْيَهُودِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَقُولُ لِقَرِيبِهِ وَحَلِيفِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا سَأَلَهُ عَنْ أَمْرِ النبي الخاتم: اثْبُتْ عَلَى دِينِهِ فَإِنَّ أَمْرَهُ حَقٌّ وَقَوْلَهُ صِدْقٌ، وفي قبال ذلك لا يتنازلون عن دينهم السابق، بما يدلل على مخالفتهم الفعل للقول[4]..! وتؤكِّد مروياتٌ أخر أنَّ الآية يتّسع مضمونها لينطبق على من تعلّق بعُرى الدين الإسلامي، ولم تُخرِجهم أو تُسوِّغ لهم هذا السلوك المنحرف عن جادّة الصواب، فقد ورد عن النبي (ص وآله) أنه قال: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءٌ مِنْ أُمَّتِّكَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبَرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب[5]، وفي روايةٍ أخرى عن أُسَامَةُ أنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ (أَيْ تَنْقَطِعُ أَمْعَاؤُهُ) فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ[6].

ويحفظُ لنا (نهج البلاغة) نصًّا للإمام علي (ع) يُخاطب أولئك الأدعياء بقوله: (فَلاَ أَمْوَالَ بَذَلْتُمُوهَا لِلَّذِي رَزَقَهَا وَلاَ أَنْفُسَ خَاطَرْتُمْ بِهَا لِلَّذِي خَلَقَهَا تَكْرُمُونَ بِاللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَلاَ تُكْرِمُونَ اَللَّهَ فِي عِبَادِهِ)[7] ولقد أحسن العلّامة الشيخ محمد جواد مغنية في التعقيب على هذا النص، بقوله: (وأعجب من ذا وذاك أنَّ فئةً من خلق اللّه يلبسون ثوب العلم والدين، ويطلبون من الناس التكريم والتعظيم باسم الدين، وما حقَّقوا هدفًا حسنا، ولا تركوا أثرا طيبا، بل البعض منهم عدوٌّ مُبينٌ، وأشدُّ ضررًا ممن أشركَ وألحدَ.. إنه يُحرِّفُ تعاليم الإسلام، ويتاجر به، ويدعم البدع والخرافات، ويعمل على زيادة الهُوّةِ بين المسلمين، ويناصر الغزاة من أعدائه، ثم يقول للناس: قَبِّلوا يدي، وأجلسوني في صدر المجالس والمحافل، وادفعوا إليّ أموالكم باسم الدين والقرآن الكريم. واعطف على هذا الضالِّ المُضِلِّ معظمَ الزعماء الزمنيين، ينادي أحدهم بما يريدُهُ الناس، ويقسم أنه يُضحِّي بكلِّ عزيزٍ مِن أجلِهِم، حتى إذا أَدلَوا إليه بأصواتهم، وصار قويا بها وقف مع أعدائهم يفسد عليهم حياتهم، وينهب ثرواتهم.. ومن استمد قوته من الدين ولا يضحي في سبيله فهو منافق دجال، ومن يقوى بالناس وثقتهم، ولا يهتمُّ بمصالِحِهم فهو لصٌّ وخائنٌ.. ولكن يستحيل عليه أن يستمرَّ في هذه الطريق حتى النهاية، فسرعان ما تتضح الرؤية، و يُفتضحُ المبطلون وتذهب الشعارات مع الريح)[8]. والأمر الآخر أنَّ أمثال هؤلاء الأدعياء يقدِّمون الحججَ الجاهزة، لكلِّ من يقف من الدين بصفة عامة موقفًا سلبيًّا، بأنَّ الأديان – ومنها الدين الإسلامي- لا تدعو إلا إلى الكراهية، وإلى تكريس العبودية، والجهل والتجهيل، وإشاعة التعصّب والجمود، عبر هذه النماذج التي تدّعي انتماءها للمؤسسة الدينية لا غير، وبهذا تكون حُجَّتُهم أقوى من باب: (وشهدَ شاهدٌ من أهلها..)

وإذا رجعنا إلى العصر الحاضر، لوجدنا شواهد أُخَر تؤكِّد لنا رفض رجال الدين الذين يرون ضرورة التجديد في الخطاب الديني، سلوكيات أولئك الأدعياء المحسوبين على الدين، ونقف عند خطابات أحد كبار رجال الدين في القرن العشرين – وهو السيد الخميني - في وصفه الانتقاديِّ لسلوك أولئك الأدعياء، بما يكشف نزعة انتقادية لكل من يُسيء للدين عبر ممارسات مغطّاة بالدين، وهي أبعد ما تمتُّ للدين بصلة، وفي الوقت نفسه يوفِّرون على أعداء الدين الجُهدَ في تكوين صورةٍ ظلاميةٍ عن الدين، ولعل واحدةً من نقداته اللاذعة لهم، حين شخّص انغلاقهم الديني على التراث الفقهي دون سواه، وبحسب قوله إنهم (كانوا يعدُّون دراسة اللغة الأجنبية كفرا! ودراسة الفلسفة والعرفان ذنبا وشركا!... لا شك عندي أنّ الأمور لو سارت على هذا المنوال فان وضع علماء الدين والحوزات كان سيؤول إلى حال الكنائس في القرون الوسطى)[9]، ولا يخفى لأحد ما كان لكنائس القرون الوسطى – أو ما يُسمى بمحاكم التفتيش – من أثرٍ مقيت تركته في أذهان ذلك المجتمع إلى يومنا هذا، بما قاد "مارتن لوثر" إلى ثورةٍ في القرن السادس عشر معارضا سلطة الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تستخدم سلطتها الروحية لتقويض حرية الفكر والدين، وكشف انحرافها عن تعاليم السيد المسيح، وأن صكوك الغفران والعمليات المالية التي تقوم بها الكنيسة كانت فاسدة وغير عادلة.

وهذه التشخيص النقدي لهذه الفئة من رجال الدين من قبل السيد الخميني لم يكن إلا واحدًا من مواقف كثيرة لكبار العلماء والمفكرين من فقهاء وفلاسفة سبق لهم أنْ مارسوا نقدهم لمن تمظهر بلبوس الدين، وقد حفظ لنا التراث صورًا قريبة من هذا الموقف، منها ما جرى بين الفيلسوف الكندي (ت: 260 هـ) الذي ذكر في كتابه إلى الخليفة المعتصم إشارة طويلة تعرب عن موقفه الانتقادي من رجال الدين، نستخلص منها ثلاثة أمور: الأول أنّ رجال الدين يُسيئون تأويل الفلسفة، والثاني أنّهم يتّجرون بالدين، والثالث التوفيق بين الفلسفة والدين. أما سوء التأويل فيرجع إلى "ضيق فطنتهم عن أساليب الحق، وقلة معرفتهم بما يستحقّ ذوو الجلالة في الرأي والاجتهاد في الأنفاع العامة الشاملة، ولدرانة الحسد المتمكن من أنفسهم" أما التجارة بالدين فلأنهم يُعادون ذوي الفضائل "ذبًّا عن كراسيهم المزوّرة التي نصبوها من غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين، وهم عُدماء الدين. لأنّ من تجِرَ بشيءٍ باعه، ومن باعَ شيئًا لم يكن له، فمن تجِرَ بالدين لم يكن له دين"[10] وهو في كلامه لا يريد سوى أنْ يدفع عن نفسه هجوم رجال الدين، واتهامهم له بالإلحاد، وهي تهمةٌ إنْ ثبتت كان مصير صاحبها الإعدام، وما أكثر الذين سيقوا إلى الإعدام بسبب غلوّ أو تطرّف أو فهمٍ متشنّجٍ للنص الديني يحتكره بعض من يدّعي انتسابه للدين..!

وبهذا يكون الخطأ الذي يرتكبه رجل الدين، ليس مثل الخطأ الذي يرتكبه سواه، فعليه تترتّبُ كثيرٌ من التداعيات التي لا يُحمَدُ عُقباها فيما لو تراكمت، ولم يتصدَّ لها الغيورون ممّن يستشعرون تلك الظلامة التي ستقع على الدين من أفعال أولئك المحسوبين عليه، وفيما يلي نصٌّ آخر للسيد الخميني في ضمن وصيته لطلبة العلم من رجال الدين: (إن مسؤوليتكم جسيمة للغاية.. وواجباتكم غير واجبات عامة الناس. فكم من الأمور مباحة لعامة الناس إلا أنها لا تجوز لكم، وربما تكون محرمة عليكم. فالناس لا تتوقع منكم أداء الكثير من الأمور المباحة، فكيف إذا ما صدرت عنكم ـ لا سمح الله ـ الأعمال القبيحة غير المشروعة، فإنها ستعطي صورة سيئة عن الإسلام وفئة علماء الدين. وهنا يكمن الداء. فإذا شاهد الناس عملاً أو سلوكاً من أحدكم خلافاً لما يتوقع منكم، فإنهم سينحرفون عن الدين ويبتعدون عن علماء الدين، وليس عن ذلك الشخص. وليتهم ابتعدوا عن هذا الشخص وأساءوا الظن به فحسب. إذا ما رأى الناس تصرفاً منحرفاً أو سلوكاً لا يليق من أحد المعممين، فإنهم لا ينظرون إلى ذلك بأنه من الممكن أن يوجد بين المعممين أشخاص غير صالحين، مثلما يوجد بين الكسبة والموظفين أفراد منحرفون وفاسدون. لذا فإذا ما ارتكب بقال مخالفة، فإنهم يقولون إن البقال الفلاني منحرف. ولو ارتكب عطار عملاً قبيحاً، فإنهم يقولون: إن العطار الفلاني شخص منحرف. ولكن إذا ما قام أحد المعممين بعمل لا يليق، فإنهم لا يقولون: إن المعمم الفلاني منحرف، بل يقولون إن المعممين سيئون)[11]. وهو قولٌ يُنبئ عن رؤية له لا تقدّس رجل الدين أو تُبرِّر ما يصدر عنه من سلوكيات أو مواقف لا يجوز القبول بها بحالٍ من الأحوال؛ لأنّها ستكون سببًا لتنفير الناس من الدين، والدين براءٌ ممّا يُراد له أنْ يكون غطاءً لتلك الممارسات. ووفقًا لذلك فقد يكون قائل هذا القول أيضًا مشمولاً بما رصَدهُ من ملاحظات، إذا آمنّا بحرّية الفكر، وأنّه لا توجد خطوط حمراء لكل إنسان غير معصوم من الخطأ، فمن الطبيعي أنْ يقع فيها كل شخص له مداركه المحدودة في فهم النصِّ الديني، وله قراءته الخاصة للتراث الديني، بما يجعل الجميع على محكِّ النقد العلمي والأخلاقي، وإنْ ترفَّع بعضهم الاعتذار عمّا صدر عنهم، فلم نجد ممّن يُحسب على هذه الفئة من مختلف الفرق الإسلامية - إلا القليل - مَن يعتذر لجمهوره فيما قاله أو فعله، بما فيه من إثارة طائفية أو اصطفاف حزبي، أو تصريحات غير موزونة تشي بنزعة وثوقية خارج نطاق العصر، ونظرة يقينية مُطلقة في مسائل ليست من اختصاصه، بما يكشف عن عقدة نرجسية مُزمنة تجعل بعضهم يلوذ بالمدوّنة الشرعية يستلُّ منها ما يُلبّي ذلك النسق المتماهي في سلوكياته مع الآخر المختلف، وهنا يُعاب على هذا الإصرار وعلى هذا التسويغ، وإلا فـ"كلُّ بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون".. والسلام..

***

د. وسام حسين العبيدي

...................

الهوامش..

القرآن الكريم..

[1] إسلام ضد الإسلام، الصادق النيهوم، منشورات رياض الريس، ط3، 2000م: 70 . والكلام المقتبس هو لعبد الله أبو سيف البشاري في رده على مقال للنيهوم بعنوان (الفقهاء ضد الأنبياء) نشرها في مجلة الناقد.

[2] نهج البلاغة: 2/ 111 خطبة رقم 170 .

[3] المصدر نفسه: 3/ 169 (رقم 73 من باب المختار من حكم أمير المؤمنين ع) .

[4] تفسير البغوي: 1/ 88 .

[5] المصدر نفسه: 1/ 88 .

[6] المصدر نفسه: 1/ 89 .

[7] نهج البلاغة، للشريف الرضي، شرح الشيخ محمد عبدو، تصحيح: إبراهيم الزين، منشورات دار الفكر، بيروت – لبنان، 1965م: 1/ 288

[8] في ظلال نهج البلاغة: 2/ 205

[9] صحيفة إمام 21: 278 - 279.

[10] كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى، تحقيق: د. أحمد فؤاد الأهواني، 1948م: 23 .

[11] الجهاد الأكبر، الخميني: 8 .

 

التجلي الباطني في السرديات التاريخية يشير إلى العوامل والدوافع الخفية التي تؤثر على الأحداث والشخصيات، والتي قد لا تكون واضحة في السرد الظاهر، الأحداث التاريخية تعكس قلقًا جماعيًا، مثل الهجرة أو الحروب، الذي يتجلى في السرديات عبر رموز معينة، تعكس السرديات القيم والمعتقدات السائدة في مجتمع ما، مثل مفهوم الشرف أو العدالة، وكيف تؤثر هذه القيم على السلوكيات. ان تحليل الرموز المستخدمة في السرديات التاريخية لفهم المعاني العميقة يساهم في تشكيل الذاكرة الجماعية وتعزيز الهوية الثقافية، التجلي الباطني في السرديات التاريخية يوفر فهماً أعمق للتاريخ من خلال استكشاف العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية التي تشكل الأحداث والشخصيات يساعد ذلك على تكوين صورة شاملة رغم تعقيد التاريخ البشري. دراسة الرمزية يلعب دورًا محوريًا في فهم التجلي الباطني، حيث تساعد في الكشف عن المعاني الخفية والدلالات العميقة التي تعكسها السرديات التاريخية، الرموز تحمل معاني متعددة وتعكس قيم ومعتقدات  قد لا تكون واضحة في السرد الظاهر، مما يساعد على فهم السياقات الثقافية والنفسية وتعكس الصراعات الاجتماعية والتغيرات الثقافية، و تساعد أيضا في فهم كيف تفاعل الأفراد والمجتمعات مع الظروف المحيطة بهم، الرمزية يمكن أن تعكس المخاوف والرغبات اللاواعية، مما يساهم في فهم الدوافع النفسية وراء سلوك الأشخاص استجابة للأحداث،الرموز تلعب دورًا في تشكيل الهوية الجماعية وتعزيز الشعور بالانتماء، مما يساعد على فهم كيف تتكون الذاكرة الجماعية، الرموز تسهم في تسهيل التواصل بين الأجيال، حيث تحمل دلالات مشتركة يمكن أن تُفهم بسهولة من قبل الأفراد في سياقات ثقافية معينة، الرمزية تعتبر أداة قوية لفهم التجلي الباطني، حيث تساعد في  كشف الطبقات العميقة  للمعنى والدلالة، مما يعطي رؤى أعمق حول الثقافة والمجتمع والتاريخ، تساهم مدارس فكرية عديدة في تقديم مناهج حول كيفية تحليل الرمزية وفهم التجلي الباطني في النصوص والسرديات، مما يعزز الفهم الشامل للثقافة والتاريخ.

اللاوعي الجمعي والسرديات التاريخية

 يمكن تطبيق هذا المفهوم على السرديات التاريخية  لتوضيح كيف تتجلى الرموز المشتركة عبر الثقافات،يمكن لمفهوم اللاوعي الجمعي أن يوفر إطارًا غنيًا لفهم الرموز في السرديات التاريخية، مما يساعد في كشف المعاني العميقة التي تعكس التجارب الإنسانية المشتركة، ويُظهر كيف تتفاعل الثقافات المختلفة مع قضايا وجودية مماثلة،ان تطبيق مفهوم التجلي الوجودي على السرديات التاريخية يساعد في فهم الأنماط الرمزية التي تتكرر عبر الثقافات، ويعكس التجارب الإنسانية المشتركة، يمكن أن تكشف هذه الأنماط عن القيم والمعتقدات التي تشكلت عبر الزمن وساعدت الأفراد على التعرف على أنفسهم في سياقات تاريخية وثقافية متنوعة بينما تتشارك الثقافات في العديد من التجليات الوجودية، فإن التفسيرات والتجسيدات الرمزية تختلف بناءً على السياقات الثقافية والتاريخية، هذا التنوع يعكس التجارب الإنسانية المعقدة ويعزز فهمنا للعالم من خلال عدسة الرموز.

الغنوصيات ومبدأ الظاهر والباطن

تركز الغنوصيات على فكرة المعرفة الداخلية كوسيلة لفهم العالم والخلاص، هذا المفهوم أثر في سرديات أسطورية تعبر عن الصراع بين المعرفة والجهل، تُستخدم الرموز في الغنوصيات لتجسيد الصراعات الروحية، مما يتيح للسلطات السياسية استغلال هذه الرموز لتعزيز شرعيتها أو توجيه الرأي العام، أثر هذاعلى سرديات السلطة السياسية عبر العصور كما استلهمت العديد من الأنظمة السياسية من الأفكار الغنوصية  لبناء سرديات تُعزز من سلطتها، على سبيل المثال، استخدام الرموز الغنوصية لترسيخ فكرة النخبة الحاكمة كحاملة للمعرفة، استُخدمت الأساطير لتبرير السلطة السياسية،حيث تم تصوير الحكام كأشخاص ذوي معرفة باطنية أو كأبطال في سرديات تعكس الصراع بين الخير والشر، تستمد بعض الأنظمة الشرعية السياسية من سرديات مستندة إلى الغنوصيات والهرمسية، حيث يتم تصوير القادة كحماة للمعرفة والحكمة، تأثرت الحركات الاجتماعية والسياسية بالأفكار الغنوصية في سعيها لتحقيق التحرر والمعرفة حيث استخدمت الرموز والمعرفة الباطنية لتعزيز الشرعية وتوجيه الرأي العام. هذا التأثير يمتد إلى العصر الحديث، و لا تزال هذه الأفكار تلعب دورًا في تشكيل الهويات السياسية والاجتماعية.

استخدام الرموز الغنوصية

تُستخدم الرموز الغنوصية لتجسيد فكرة أن المعرفة الحقيقية مخفية عن العامة، مما يعزز من مكانة النخب الحاكمة كحملة للمعرفة، رموز مثل (النور) و(الظلام) تمثل الصراع بين المعرفة والجهل، حيث يُعتبر البحث عن الحقيقة طريقًا للخلاص، تُستخدم الرموز لتصوير الصراع بين القوى الروحية والوجود الفاني، مما يساعد على تشكيل سرديات تعكس التوترات بين السلطة الروحية والسياسية، تُستفيد الغنوصية من الرموز الهرمسية لتجسيد الحكمة الكونية والعلاقة بين الإنسان والكون، مما يعزز من قيمة المعرفة كوسيلة للسلطة رموز مثل "الكأس" و"الأهرامات" تعبر عن القوة الروحية والمعرفة المخبأة، لتصوير النظام الكوني والترابط بين جميع الأشياء، مما يساعد على بناء سرديات تعبر عن القوة والسيطرة استخدام رموز مثل "النجوم" و"الدوائر" لتجسيد التوازن بين القوى وتركز على الكشف عن الحقيقة والبحث عن المعرفة الباطنية، مما يعزز من مفهوم النخبة كحماة للمعرفة والحكمة الكونية والنظام، مما يعزز من الفهم الشامل للعالم ودور السلطة في تحقيق هذا النظام.

استخدامات الرموز

تختلف استخدامات الرموز الغنوصية في بناء سرديات السلطة،  تركز الغنوصية على المعرفة الباطنية والصراعات الروحية، هذه الاستخدامات تؤثر على كيفية تشكيل السلطة وتبريرها في مختلف السياقات الثقافية، تُستخدم الرموز الرئيسية في الغنوصية لتجسيد الأفكار والمفاهيم الأساسية التي تعبر عن الصراعات الروحية والمعرفة، الرموز تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل السرديات الفلسفية والدينية والسياسية لذا تُعتبر الغنوصية حركة فكرية تركز على المعرفة كوسيلة للخلاص، هذا التأكيد على المعرفة الباطنية أثر في السرديات الأسطورية للأديان، حيث تم تصوير الأنبياء والحكماء كحاملي المعرفة الحقيقية، تتضمن السرديات الغنوصية صراعات روحية تعكس التوتر بين القوى النورانية والظلامية، هذه السرديات ساهمت في تشكيل مفاهيم محددة حول الشر، حيث يُعتبر الشر نتيجة للجهل في الحقائق الروحية، العديد من الأديان تأثرت بالغنوصيات في تطوير عقائد حول الخلاص والمعرفة، مما ساعد على تشكيل سرديات تعزز من شرعية السلطة الدينية، هذه الفكرة ساهمت في تشكيل سرديات أسطورية تعكس أهمية الحكمة والمعرفة في تحقيق التوازن الاجتماعي والسياسي،وبذلك ساهمت الغنوصيات بشكل كبير في تطور السرديات الأسطورية للأديان والسلطة.

الغنوصية والهرمسية

 الغنوصيات رسخت فكرة المعرفة الباطنية كوسيلة للخلاص، بينما ركزت الهرمسية على الحكمة والتوازن الكوني هذه التأثيرات ساهمت في تشكيل مفاهيم حول الشرعية والسلطة، مما أثر على كيفية فهم الأديان والعلاقات السياسية عبر العصور، أثرت الأفكار الغنوصية والهرمسية بشكل كبير على تطور المفاهيم السياسية في الإمبراطوريات القديمة، الغنوصيات رسخت فكرة الشرعية من خلال المعرفة، بينما عززت الهرمسية من دور الحكام ذوي المعرفة الكلية، هذه التأثيرات ساهمت في تشكيل أنظمة سياسية وأسس اجتماعية، ما أثر على كيفية إدارة السلطة والعلاقات بين المجتمعات، تختلف تأثيرات الغنوصية والهرمسية على المفاهيم السياسية بين الإمبراطوريات من حيث كيفية تقديم السلطة الشرعية وفهم الحكمة، بينما ركزت الغنوصية على المعرفة كوسيلة للخلاص، استخدمت الهرمسية الحكمة والنظام الكوني لتعزيز شرعية الحكام،هذه الاختلافات أثرت على كيفية تشكيل الأنظمة السياسية والعلاقات الاجتماعية عبر التاريخ، أثرت الأفكار الغنوصية والهرمسية بشكل عميق على تطور مفاهيم الدولة، الغنوصية ساعدت في تعزيز التحدي للسلطة التقليدية، بينما أسهمت الهرمسية في تطوير مفهوم الحكمة في والعلاقات الدولية، هذه التأثيرات لا تزال تؤثر على كيفية فهمنا للدولة والسلطة اليوم.

***

غالب المسعودي

سؤال المصطلح وسياقه

في ظل التحوّلات الاجتماعية والديموغرافية المتسارعة التي تشهدها المدن العربية، برز مصطلح "ترييف المدينة" باعتباره توصيفاً شائعاً للتغيّرات التي تطال البنية الحضرية والقيم السائدة فيها. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل يُعد هذا المصطلح توصيفاً علمياً محايداً لظاهرة عمرانية واجتماعية فعلية، أم أنه يعكس تحاملاً طبقياً ضمنياً ونزعة إقصائية تجاه الريف وسكانه وثقافته؟ تهدف هذه المقالة إلى مناقشة المصطلح من زوايا معرفية متعددة، واستكشاف مدى دقّته وحياده في قراءة الواقع الحضري.

إشكالية المفهوم: انحياز لغوي وتحامل خفي

يُستخدم تعبير "ترييف المدينة" في الخطاب العام كثيراً للإشارة إلى تغيرات تُصوَّر على أنها انتكاسة حضرية، وغالباً ما يُحمّل الوافدون من الريف مسؤولية هذا "الانحدار" المفترض في الطابع المدني للمدينة، سواء من حيث العمران، أو القيم الاجتماعية، أو السلوك العام. غير أن هذا الاستخدام ينطوي على حكم قيمي مسبق، يفترض ضمناً وجود جوهر مديني نقي يُفسَد عند اختلاطه بالريف، وهو تصوّر اختزالي يفتقر إلى الدقة العلمية.

من منظور أكاديمي، المدينة ليست كياناً ثابتاً، بل فضاء متحوّل دائم التأثر بعوامل الهجرة، والتفاعلات الاقتصادية، والتحولات الثقافية. ما يُطلق عليه أحياناً "ترييف" قد لا يكون سوى نتيجة طبيعية لعوامل بنيوية مثل غياب التخطيط الحضري الشامل، أو تفاقم الفجوة الطبقية، أو ضعف دور الدولة في إدارة التحوّلات الحضرية. وبالتالي، فإن توجيه اللوم إلى الفئات الاجتماعية القادمة من الريف يُعدّ نوعاً من الإزاحة الرمزية للمسؤولية الحقيقية عن تلك التحوّلات.

قد يكون من الأجدر، إذن، استبدال المصطلح بمفاهيم أكثر حيادية وتخصصاً، مثل: "تحوّلات المدينة"، أو "إعادة تشكُّل الفضاء الحضري"، وهي تعبيرات تحلّل الظاهرة ضمن سياقها البنيوي والاقتصادي والثقافي دون إلقاء أحكام مسبقة.

المصطلحات المقارنة في الأدبيات الغربية

وعلى صعيد المقارنة المفهومية، لا يوجد في اللغة الإنجليزية مصطلح يطابق "ترييف المدينة" من حيث الحمولة القيمية الطبقية. إلا أن هناك مصطلحات تقترب من توصيف بعض أوجه الظاهرة من زوايا مختلفة، مثل:

1- التوسع الحضري غير الرسمي (Urban Informalization): يشير إلى نمو العشوائيات والاقتصاد غير المنظم، دون تحميل هذا التوسع دلالات ثقافية أو طبقية.

2- التحضّر التابع أو الهامشي (Subaltern Urbanization): يصف عمليات تمدّن تقودها فئات مهمشة، وغالباً ما تكون خارج التخطيط الرسمي.

3- التدهور الحضري (Urban Degradation): يركّز على التدهور الفيزيائي والبيئي في المدينة، دون ربطه بالضرورة بهجرات ريفية.

4- التحضّر المعكوس (Counter-Urbanization): يُستخدم لوصف عودة بعض المناطق الحضرية إلى نمط معيشي أقرب للريف، لكنه لا يحمل نفس الدلالات الطبقية أو الثقافية.

"ترييف المدينة" في السياق العربي: مصطلح اجتماعي أكثر منه عمراني

ما يميز المصطلح العربي عن نظائره الأجنبية هو البعد الثقافي والاجتماعي الذي يحمله، حيث يُستخدم في كثير من الأحيان لانتقاد دخول "قيم ريفية" إلى الفضاء المديني، مثل العصبية، أو بنى القرابة، أو أنماط استهلاك وسلوك تُعدّ "غير حضرية". كما يمتد استخدام المصطلح إلى السياقات السياسية، فيُقال مثلاً "ترييف الدولة" أو "ترييف المؤسسات"، في إشارة إلى وصول عناصر ريفية غير مؤهلة ـ بحسب الرؤية النخبوية ـ إلى مواقع القرار، ضمن منطق يقوم على الولاء أو القرابة.

دلالات بديلة: الترييف في سياقات تنموية وبيئية

في المقابل، يمكن أن يحمل مصطلح "الترييف" دلالة محايدة أو إيجابية في سياقات أخرى، خصوصاً في أدبيات التنمية. ففي هذه السياقات، يُستخدم المفهوم للإشارة إلى دعم المجتمعات الريفية من خلال تحسين البنية التحتية، أو توسيع نطاق الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم، أو تعزيز فرص العمل في الريف للحد من الهجرة إلى المدن. كما يُشجَّع أحياناً على العودة إلى أنماط معيشية بسيطة وأكثر انسجاماً مع البيئة، كجزء من سياسات التنمية المستدامة أو التخفيف من الضغط على المدن. كذلك يُنظر إلى نقل بعض المؤسسات أو المشاريع التنموية إلى الأرياف كخطوة نحو تحقيق التوازن السكاني والتنموي، بما يحدّ من التركز الحضري المفرط ويعزّز العدالة المجالية.

نحو مفردات أكثر عدلاً وحياداً

إن الحديث عن "ترييف المدينة" يكشف في طياته أكثر من مجرد توصيف عمراني؛ إنه خطاب طبقي وثقافي يعكس توتراً بين أنماط الحياة المختلفة، كما يكشف عن تصورات معيارية حول "المدني" و"الريفي". لذلك، فإن من الأجدر تجاوز هذا المصطلح إلى لغة أكثر علمية وموضوعية، تفسّر التغيرات الحضرية لا بوصفها تشوهات طارئة، بل بوصفها تحوّلات مركّبة تستدعي فهماً أعمق للبنية الاجتماعية والاقتصادية. إن الفضاء المديني ليس كياناً مغلقاً بل نسيجاً متجدّداً تتقاطع فيه الهويات، وتتنازع فيه المصالح، وتتفاعل فيه الثقافات. وهذا ما ينبغي أن يتعامل معه الخطاب الأكاديمي والسياسي على حد سواء، بحسٍّ نقدي مسؤول، لا بنزعة إقصائية أو اختزالية.

***

همام طه

في نص «أول التكوين[1] »

عذُبت العبارات وتآلفت جواهرَ ثمينةً ضمن جمل رصينة شكّلت بنيانَ شذراتٍ تطفح بالمعاني الراقية، الحسناء بحسن لفظها، لينتسج منها نصٌّ عبقُه عربية صِرْف دُقّت أوتادها على التخوم بين النظم والنثر. مضمونها حكي ينبعث من الأعماق مُتحرجلاً بين الإفصاح والإضمار، أمام ذاكرة مزاجية الهوى عنيدة لا تنْصاع من دون إرادتها؛ تنتقي ما ترغب في الإفراج عنه مما تكتزنه لصاحبها، وتختار بعناية شديدة الزمان والمكان الذي تفرج فيه عمّا ترغب فيه من مكنوناتها.

يحيل عنوان النص «أول التكوين» إلى فهم أولي يوجّه انتباه القارئ إلى دلالات عدّة؛ منها عبارة «أول»، التي توحي بأنّ هناك بعدَ أول التكوين، وسطٌ وآخِر وربّما أكثر حسب ما يصدر عن الكاتب وأناه من تباوُح حول المشترك بينهما؛ ناهيك أن الكاتب قد تعرض لمحطات من حياته في نصوص ثلاثة سابقة: رائحة المكان وليليات ثم على صهوة الكلام. وأما عبارة «التكوين» فتتجّه دلالتها إلى بدء الخليقة كما في أسفار التكوين، أو في كتب التاريخ التي تأتي على ذكر البدايات الأولى لتشكّل الكون والخلق، أو قصة «حي بن يقظان» التي تقف على نشأة وتكوين «أسال» البطل. والواقع، إنْ كان عبد الإله بلقزيز ينأى بنفسه أن يكون من كُتّاب السيرة أو أن تكون السيرة الذاتية من صميم اهتماماته؛ فإنّ «أول التكوين» عبارة عن مجتزأ من سيرته الذاتية؛ يعرض بعضاً من حياته منذ البدايات الأولى إلى المرحلة الجامعية.

جميل أن يعود المرء إلى ماضيه الغابر يقلب بين ثناياه ربما يساعده على فهم حاضره واستشرافه مستقبله. كم هو جميل أن يحاور الإنسان ذاته؛ حوارَ مكاشفة وبوْح صريح ينتابه أخذٌ وردٌّ في قول كل شيء عاشه الشخص من دون زيادة أو نقصان. يستنِدُ في ذلك إلى قوة الذاكرة ومدى استجابتها وطواعيتها كلما استدعتها أناه، ويعمل الخيال على ترتيب الوقائع والأحداث بالصورة والشكل الذي ترتضيه النفس/الأنا. إذ «ثمة مسافة بين ما يتخيّل المرء وما يحقّقه، لا يقطعها غير شوقه»[2] إلى هذا الماضي الخصيب. إنّ الأنا تنزع أحياناً إلى إخبار الأصدقاء عن ذكرياتها؛ لكن لها من الذكريات ما تخشى أن تخبر به ذاتها نفسها، فبالأحرى الآخر. من هنا حُقَّ للأنا أن تحتفظ لها بخصوصية البوح أو الإحجام عن الكلام، فالمعيش الإنساني لا يُقال كلّه. لكن سؤالاً مشروعاً ورد على لسان الكاتب: «ماذا تريد من إيقاظ ماضيك؟»[3] يعطي القارئ مشروعية طرح تساؤلاتٍ من قبيل؛ هل «أول التكوين» هو محاولة من عبد الإله بلقزيز ليجيب عن أسئلة عالقة في ذهن القارئ لم يستطع أن يفكّ شفرتها؟ أم أنه حوارٌ داخليٌّ تستنطق الأنا أناها الأخرى التي عاشت فيها وصاحبتها الرحلة في هذا الوجود؟ أم أنّ ما يكتب هو «حيلة لخروج النِّرجِسية من شرنقتها، ورؤية «محاسنها» في مرآة صقيل؟»[4] ، وهنا نكون أمام رغبة الكاتب في الكشف عن الكامن والمتواري في شخصيته؟ أم تراه اعتذار وتفسير من جانبه إلى القارئ يُسلِس القلم ليقول له هو ذا أنا كما درجتُ من أول تكويني حتى يومي هذا الذي دخلت فيه عليك بكتاباتي إلى مكتبتك؟ وقد يكون له غرضٌ آخر كالذي خاطب به أناه وهو يعدُّ لهذا الماضي ما يليق به من مواراة بين طيات الكتب والرفوف: «أن تصنع له متحفاً أو أن تنظم له حتفاً يليق؛ أو تراك تلبس جُبّة المؤرّخ لتجمع أمشاجاً بعثرتها ريح الزمان على قارعة الطريق؟»[5] .

يحيلني الحديث الشجي بين الأنا والذات، والذي حرْجَل بين البوح الحذر بما جادت به الذاكرة وما أحجمت عن التصريح به، إن عمداً أو غفلاً، إلى ترويسة لطيفة وردت ب«كتاب الحكمة العربية» نقلاً عن «روضة العقلاء» الذي ذكر قصةً عن ابن السمّاك حول بحّار رمى الشباك والأغلال لعل الحظ يبتسم له، فأخرجَتْ شباكه جمجمة راح يسائلها عمّا كان منها وبها. ذلك هو عبد الإله بلقزيز؛ وهو يستغور الماضي يستحضر أناه ويبث شكواه إليها وشجونه علّها تسعفه في كتابة سيرة ذاتية تقارب مسار حياته بكل موضوعية وشفافية؛ وهل يسهل على المرء أن يقرّ ويصدح بكل ما عاشه فيشركه مع القارئ/ الآخر؟ ليس من وسيلة موثوقة توصل إلى محاورة الأنا لذاتها سوى الذاكرة إن طاوعت، وسمحت لك بما فاء عن الحاجة فهي «إذ تصنع الأسباب لكي ترى ما تُريكَه، تنتقي لك من مخزونها نزراً لا يكفي لشفاء الغليل»[6] ؛فتستدعي الخيال لقدرته على استغوار الخبايا الدفينة قصد رتق الشريط المخروم الذي بين يديك؛ لإنّه إذا كان الخيال «بساط الريح الحقيقي [...] الذي يسبح بك حيث شاء وشئت؛ يرحل بك إلى الماضي القديم، ومنه إلى المستقبل البعيد بله إلى عالم الغيب»، فهو الأداة التي تسعفك في تركيب الصور الماضية ويعرضها عليك في حُلّة قشيبة.

السيرة لغة ذاكرة وخيال:

إنْ أنت عكفت على كتابة سيرتك الذاتية فأنت تتهيأ لتتعرى أمام قارئ تكشف له عن ماضيك القريب أو البعيد. وهذه الكتابة تمر عبر قناة الذاكرة، الذاكرة الفردية أو الذاكرة الجماعية. على التحقيق، أنّ «مصير الذاكرة هي ألا تبقى خاصة بواحد فقط»[7] ؛ لأنّها مشتركة مع الأغيار الذين عاشواْ معنا اللحظة أو صنعوا بمعيتنا أحداثها. يبقى أن تستحضر الزمان والمكان وشهود الأحداث التي طبعت حياتك وشكّلت محطات فارقة في مسارك لأنّك «أنت الأمكنة التي عمرتها ومررت بها ومرّت بك... وأنت الأزمنة وقد تعاقبت على جسد أنت هو»[8] . كذلك تتشكّل قصة الحياة التي ننمو ونكبر معها. وكم يتلكأ المرء وهو يغمس الريشة في دواة الحياة الماضية ليسائل نفسه عن الهدف من هذه الأوبة إلى الماضي، يسرّ القول في نفسه: «ماذا تريد من بقايا ماض قديم أو أثيل دثر في الذاكرة، أو استودع فيها رميماً يعصى على استعادة قافرة»[9] . ومع هذا التردّد يأبى عبد الإله بلقزيز إلّا أن يخوض غمار مساءلة ذاكرته متوخياً ما استطاع سبيلا إلى الموضوعية والشفافية؛ إذ يُفصح بصريح العبارة عن ذلك: «كن في أوْبِك إلى أوّلِك شهم القلب والنحيزة، لئلا يلتاع الماضي من زورتك ويتقبض مزاجه»[10] .

لم يتغاض عن الإشارة إلى أعطاب الذاكرة التي حصرها في رهافتها ورقة عودها إذ يخشى عليها من الشدة فلا تنقاد لصاحبها كما يريد، ومن هناك يوصي بعدم الاشتداد عليها ومعاملتها برفق ولين؛ فقد تحرف وتلقي بك في المتاهة أو تضنّ عليك لضجرها من سؤالك أو لعلَّها انخرمت وضاع منها المخزون فأنّى لها أن تجيب طلبك. الذاكرة سيدة في مملكتها، وهي صاحبة السيادة على الماضي تعطي منه بمقدار؛ لهذا وجب عليك أن تأخذ «ماضيك كما تأخذ الأنثى بين يديك، وقدِّم له طقوس الحبّ ما تلين به العرائك، وضع أشياءه أمامك، بكل هدوء، وتصفحها بقلبك وصل رحمك بها وبك حين كنتها وكانتك»[11] . قد يتحقق لك المراد من الذاكرة، فتُقدّم لك صوراً أو بقايا صور من الأيام الماضية، وبين تردّدك في البوح أو الإحجام عن قول كل شيء؛ فإنّك في حاجة إلى الخيال لأنّ «الذاكرة مقاطعة تابعة للخيال»[12] .

على التحقيق إنّ الخيال هو استحضار لغائب كان ماثلاً أمام أعيننا ثم توارى إلى الذاكرة تخزنه وترعاه ما بقيت قوية؛ لكنْ ما إن نحاول القبض على عنانه حتى ينطلق جامحاً سابحاً بنا في آفاق دروب قد تكون مجهلة لدينا. هكذا يقول عنه بلقزيز، وهو يسترجع لحظة من اللحظات التي يطرق طيف الخيال بابه، حين «أضع خاطري على وسادة، وأدعه يتقلب في حديقة الخيال حراً طليقاً. وحين ينهك في التحليق، أُسلمه إلى الكتاب كي يترجّل الخيال ويستريح، قليلاً، من شقوة الإصابة بالمستحيل»[13] . لا يكفي أن يحضرنا الخيال ونسرح معه في عوالمه التي مَثّلْنا دوراً رئيساً فيها فنقوم بتقييدها، إذ لا بد من إجادة تقييده وتنضيده على أحسن حال. إنّ الخيال يتفلّت كما الماء يتفلت من بين فروج الأصابع، ومع ذلك فإنّه خير مساعد لإطباق القبض على المحال، يقول بلقزيز عن دوره: «كلما غرفت من سلسبيل الخيال، تخفّفت من قيود المرئي، ليتّسع المدى أمامي وينداح عن دمي غبش المحال»[14] . ويصاب بقلق الرتق والتصفيف إلى درجة العزوف عن تدوينه بالحبر على الورق، ف«كلما جرّبتُ ترقيع فتوق الخيال، أصابني دوار الفراغ المطلق وانهدّ بالي واضطرب...وأتعبُ كلما شرعتُ في ربط خيوط الخيالات، ويصيبني من فشلي القنوط»[15] . إنّ فعل الرتق فعل تخييل، وله من التأثير في عملية الرتق الأثر القوي؛ يقول بلقزيز: «يذهب بي التخييل إلى مناطق نائية لم تطأها قدم. هكذا يخيل إليَّ وأنا أمسحها بناظري. أترجّل عن صهوة الخيال، لكنّي أمسك بعنانه لئلّا يزايلني ظلّه فينقطع عني الزاد»[16] . لم يشغل الكاتب نفسه بالسؤال هل ما يجمع من بقايا ماضيه أحداثاً عاشها حقّاً أم هي من خُدع الخيال ومكره المتساوق مع الذاكرة؟

عبد الإله بلقزيز ليس كاتب سيرة كما يخبر بذلك عن نفسه «لستَ كاتب سيرة، ولن تكون، ولكنّك من دون أولك مأفون. لستَ كاتب سيرة، لكنك تتلصّص على بعض ما جاد به الزمان عليك واستنقذته من آفة النسيان»[17] ؛ لكنّه يملك لغة متينة قلّ نظيرها في الكتابات المعاصرة. فهو يكتب في مجالات متباينة من حيث موضوعاتُها، يكتب في السياسة والفكر والرأي والرواية وغيرها. وعنده، لكل مجال أسلوبه ولغته؛ كأنّي به يسكن اللغة وتسكنه، بها يشعر ويحس، وبها يتذوق ويشتم، وبها يسمع ويرى. يملك زمامها، فلا يدعها تهرب به حيث تشاء، مع علمه بأنّ اللغة وهم ساحر آسرٌ وخطير يسكنها السحر والخيال كما يسكنها البيان والبديع. اقتناعاً منه أن طريق الإبداع يتعدى القواعد التي تتأسّس عليها اللغة؛ لكنه أعمق وأبعد يشمل عناصر شتى تنوء عن الحصر والإحاطة.

***

د. محمد رزيق مبارك - باحث من المغرب

.......................

[1] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. (الدار البيضاء: المركز الثقافي للكتاب، 2023). يتكون النص من ثلاثة أقسام جاءت كالتالي: (فاتحة الذاكرة ص 7؛ من هناك ص 11؛ هنا والآن ص 97)، فصولها عشرون وصفحاتها 158.

[2] جبران خليل جبران. رمل وزبد. ترجمة ثروت عكاشة. (القاهرة: دار الشروق، ط6، 1999) ص 17.

[3] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 7.

[4] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 8.

[5] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 7.

[6] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 8.

[7] بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان. ترجمة جورج زيناني. (بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2009)، ص 16.

[8] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 7.

[9] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 8.

[10] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 8.

[11] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 9.

[12] بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان. ص3.

[13] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 16.

[14] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 57.

[15] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 21.

[16] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 59.

[17] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 10.

يعتاد المجتمع أي مجتمع على مجموعة أمور، تشكل في نهاية المطاف نمطا سلوكيا جماعيا يعمل به أفراد المجتمع عملا دائميا لا يكاد ينفك عنهم، فيكون من سلوكيات المجتمع وطقوسها المعتمدة، وثقافة البيئة التي رسخ فيها وركز رمحه الصلب فيها، في حين يكون سلوك المجتمعات سلوكا جاذبا للخرافات والأساطير، بوصفها حكايات جميلة وممتعة، فلا تكاد تجد بيئة معروفة أو مجتمعا هنا أو هناك إلا واهتم بمثل هذه الأمور. وقد أفهم أمرا مهما أن هذه الرغبة العارمة التي تكتنف أفراد المجتمع لتقبل هذه الخرافات والأساطير إنما تأتت من حاجة المجتمع لها، لا بوصفها الدواء لمشاكل المجتمع الفكرية أو الصحية أو الاقتصادية وإنما بوصفها الداء المحبب لفكرها المتعطش لمثل هذه الأمور. بل أرى أن المجتمع يتقبل هذه الخرافات والأساطير على أنها تعويذة هدوء لفكرها، أو صدمة انعاش لعقلها، أو ترنيمة إيحاء لخيالاتها التي لا تنقطع تفكر بمثل هذه الأشياء.

في حين ترى مجتمعات كثيرة أن وجودها وكيانها قائم على مثل هذه الأشياء، ومن دونها لا قيمة لهذا المجتمع بالمرة، ولا أريد أن اسمي هذه المجتمعات فهي واضحة. ويمكن تقصي مهمة الخرافات والأساطير في بعض المجتمعات على انها طابع ثقافة هذا المجتمع أو ذاك، أو أنها صور رمزية ظلهرية لحقائق باطنية تكللت عقول أفراد المجتمع بنتاجها وهيكلتها على مستوى ما يؤمن به أفراد هذا المجتمع.

ولا يفوتني هنا أن أذكر أن المجتمعات كلها بلا استثناء عملت على بلورة هذه الخرافات والأساطير وجعلها قابلة للتصديق والتمثيل، وبالتالي الإيمان بها على أنها رمزية هذا المجتمع بوصفها صورة جميلة معبرة عن شكل المجتمع وندرته وقدرته على التأثير والبرود بوصفه مجتمعا حضاريا مميزا.

وعليه فإن حاجة المجتمع للأساطير جعلها تنمي هذه الخرافات والأساطير وتظهرها على أنها من كمالات المجتمع وسلوكياته الجميلة الأخاذة.

***

أ. م. د. محمد إسماعيل القاسم بابل

كان افلاطون قد شغل نفسه بمشكلات المدنية، الجمالية، التكنيكية والقانونية، في وقت غدت المدينة اليونانية مشكلة لاحل لها، المهم في الامر كلما اتسعت المدينة انتشر الخوف من التكنولوجيا وتطوراتها المخيفة، هذا سبب ارباكا للعقل البدائي والانسان مشروط بمتطلباته اللامتناهية وهو ينظر الى المستقبل وكانه بيروقراطيات تسود، لا يستوعبها زمن وهي لعبة سياسية لا تستبصر حاجة الانسان، هيكليتها شخصانية بدائية و لمسة مشتركة بين الطبيعة والانسان، لذا تمت كتابة التاريخ من خلال تقنيات متعددة ووجهات نظر مختلفة وسرديات موجهة، مما أدى إلى روايات متناقضة، تؤثر الخلفيات الثقافية والسياسية للمجتمعات و تفسير الأحداث التاريخية، لكن حضور الأخطاء يساعدنا على تشخيص دورها في تكرار الفشل من خلال اعتماد التفكير النقدي في قراءة السرديات التاريخية وعدم قبولها كحقائق مطلقة، الحوار المعرفي بين الثقافات يساعد على تقديم صورة أكثر شمولية للتاريخ، من خلال تطبيق هذا الرؤية يمكن اعتبار بعض الروايات التاريخية "بروباغندا" مقصودة، تُستخدم فيها الروايات التاريخية لتشكيل هوية وطنية و تعزيز الانتماء القومي، وكذلك تُستخدم كأداة لتبرير السياسات أو الأفعال العسكرية، اذ يتم اختيار أحداث معينة وتجاهل أخرى لتقديم صورة منحازة لصالح السلطة في اكثر الأحيان، قد يتم تعديل الحقائق أو تقديمها بشكل مضلل لدعم رواية معينة. الروايات التاريخية التي تهدف إلى توجيه الرأي العام نحو قضايا معينة، تؤثر في كيفية فهم الناس لتاريخهم ويمكن أن تؤدي إلى خلق أعداء تاريخيين أو أبطال قوميين بطريقة تخدم أهداف السلطة الأيديولوجية المستقبلية، هذا الاستخدام هو استخدام النبوءات في السرد التاريخي، بالتالي يظهر كيف يمكن أن يستخدم السرد في تشكيل الروايات التاريخية السياسية، مما يؤثر في فهم الصراع ويساهم في تعقيداته، بذلك يمكن اعتبار ما تم سرده في بعض الروايات التاريخية جزءا من بروباغندا سياسية، استخدمت فيه السرديات لتعزيز الرسائل والأهداف السياسية، رغم ذلك، من المهم أن نفهم ان هذه السرديات تلعب أيضا كأدوات للحوار والتفاهم إذا تم استخدامها بشكل مسؤول .

تمييز السرد التاريخي الدقيق من البروباغندا

 التمييزيتطلب تحليلًا نقديًا وفهمًا عميقًا للسياقات واستخدام مصادر موثوقة ومتنوعة، مثل الوثائق الاركيولوجية، والأبحاث الأكاديمية في فهم الهدف من السرد هل هو إعلامي أم سياسي؟ هل يسعى لتوجيه الرأي العام أو لتقديم معلومات موضوعية؟ السرد الدقيق يتضمن آراء وتجارب متنوعة، بينما تركز البروباغندا على وجهة نظر واحدة، التعمق في كيفية تقديم الأحداث، هل هناك تركيز مفرط على جانب واحد دون الآخر؟، السرد الدقيق يعتمد على الأدلة الموثوقة، بينما تفتقر البروباغندا إلى الأدلة القوية أو تستخدم معلومات مضللة، السرد التاريخي الدقيق يتجنب التعميم المبالغ فيه عن مجموعات أو أحداث، بينما تُستخدم البروباغندا التعميمات غير دقيقة في فهم الظروف الاجتماعية والسياسية التي أثرت على الأحداث، مما يساعد في توضيح كيف تشكل السرد، ان تحليل المعلومات بشكل نقدي والتساؤل عن الدوافع وراء سرد معين إذا كان السرد يُكرر في وسائل الإعلام أو الخطابات السياسية، قد يكون مؤشرًا على بروباغندا، تلعب اللغة العاطفية أو المحملة بالتحريض و تكون مؤشرًا على البروباغندا، بينما اللغة الموضوعية تُظهر السرد الدقيق، تمييز السرد التاريخي الدقيق عن البروباغندا يتطلب فحصًا دقيقًا للمصادر، وتحليل النوايا، وفهم السياقات، واستخدام مهارات التفكير النقدي. يجب أن نكون واعين للرسائل التي تُقدم وأن نتساءل عن دقتها وموضوعيتها.

التحيز المعرفي

يميل الأفراد إلى البحث عن المعلومات التي تدعم معتقداتهم السابقة وتجاهل ما يتعارض معها، مما يسهل قبول الرسائل البروباغندية التي تتماشى مع هذه المعتقدات، البروباغندا غالبًا ما تستخدم رسائل بسيطة وسهلة الفهم، مما يجعلها أكثر قبولًا للأفراد الذين يفضلون التفسير المبسط للواقع، البروباغندا تستخدم مشاعر قوية مثل الخوف أو الغضب لجذب الانتباه، مما يؤدي إلى قبول الرسائل بشكل أسرع دون تحليل نقدي، الأفراد يميلون لقبول المعلومات التي تتوافق مع آراء مجموعاتهم، مما يعزز من انتشارها داخل تلك المجموعات، وسائل الإعلام تكرّس رسائل معينة، مما يزيد من قبولها، حيث يؤثر التكرار على التصورات الذهنية، القيم والمعتقدات الثقافية تساهم في قبول بعض الرسائل البروباغندية، حيث تتماشى مع الهوية الجماعية، الأفراد يميلون لاختيار مصادر المعلومات التي تعزز من تحيزاتهم، مما يقلل من تعرضهم لأفكار متعارضة، الخوف من المجهول أو من التهديدات الخارجية يؤدي إلى قبول الرسائل التي تدعو إلى العمل بناءً على تحذيرات معينة، الأفراد لايسيئون فهم المعلومات التي تتماشى مع تحيزاتهم، مما يسهل قبول البروباغندا، في ظل الضغوط النفسية أو الاجتماعية، يتجنب الأفراد التفكير النقدي، مما يسهل قبول الرسائل البروباغندية، التحيز المعرفي يسهم في قبول البروباغندا من خلال تعزيز المعتقدات السابقة، وتيسير فهم الرسائل، واستغلال العواطف. ولفهم هذا التأثير، من المهم تطوير مهارات التفكير النقدي لتعزيز الوعي بالمعلومات التي نتقبلها.

آليات قبول البروباغندا

الثقافات التي تركز على القيم الجماعية قد تكون أكثر قبولًا للبروباغندا التي تعزز الهوية الجماعية، بينما الثقافات الفردية تكون أكثر انتقادًا، في الثقافات التي تعزز الاحترام للسلطة، تكون البروباغندا أكثر قبولًا، حيث يُنظر إلى الرسائل التي تأتي من الحكومات أو القادة بشكل إيجابي، المجتمعات التي عانت من أنظمة قمعية قد تكون أكثر حساسية تجاه البروباغندا، مما يجعل الأفراد أكثر وعيًا وحرصًا على تحليل المعلومات، الثقافات ذات مستويات التعليم المرتفعة تكون أكثر قدرة على تمييز البروباغندا، بينما تكون الثقافات ذات مستويات التعليم المنخفضة أكثر عرضة لقبول الرسائل دون تمحيص، المجتمعات التي تتمتع بتنوع وسائل الإعلام تكون أقل عرضة لقبول البروباغندا، بينما المجتمعات التي تسيطر عليها وسائل إعلام محددة تكتسب رسائل معينة بشكل أسرع، اللغة المستخدمة في الرسائل البروباغندية يمكن أن تؤثر على فهمها وقبولها، حيث تختلف معاني الكلمات والعبارات بين الثقافات، الثقافات التي تُعلي من قيمة الدين قد تستجيب للبروباغندا التي تستخدم الإشارات الدينية بشكل أقوى، في الثقافات التي تركز على الهوية الوطنية، قد تكون الرسائل البروباغندية التي تعزز من روح الوطنية أكثر قبولًا، في المجتمعات التي تعاني من أزمات اقتصادية، قد تكون البروباغندا التي تعد بتحسين الأوضاع أكثر جذبًا، تختلف آليات قبول البروباغندا باختلاف الثقافات من خلال التأثيرات المتعددة. لفهم هذه الظواهر بشكل أعمق، تحليل السياقات الثقافية والاجتماعية التي تؤثر على كيفية استقبال المعلومات.

دورالثقافة

الثقافة تعزز من التفكير النقدي وتساعد الأفراد على تحليل المعلومات بشكل أعمق، مما يقلل من قبول الرسائل البروباغندية دون تمحيص، الثقافة تشجع على تبادل الآراء ووجهات النظر المختلفة وتُساعد في تقويض الرسائل البروباغندية، حيث يمكن أن يتعرض الأفراد لوجهات نظر متنوعة، يمكن للثقافة أن تلعب دورًا حاسمًا في تقليل فعالية البروباغندا من خلال تعزيز التفكير النقدي، وفتح الحوار، ودعم القيم الإنسانية. من المهم أن نكون واعين لهذه الديناميكيات لتطوير استراتيجيات فعالة لمواجهة البروباغندا. تساهم هذه العوامل الثقافية في تعزيز مقاومة البروباغندا من خلال تعزيز التفكير النقدي، وتعزيز الحوار، وبناء الثقة، تعزيز المرونة الفكرية يتطلب جهدًا جماعيًا من المؤسسات التعليمية، والمجتمعات والأفراد من خلال تطبيق هذه الاستراتيجيات، يمكن بناء ثقافة تشجع على التفكير النقدي والتفاعل الإيجابي مع الأفكار الجديدة.

المقاومة الثقافية

بعض المجتمعات قد تكون متجذرة فيها تقاليد أو معتقدات معينة، مما يجعلها مترددة في قبول أفكار جديدة أو تغيير طرق التفكير، الوعي بأهمية المرونة الفكرية يؤدي إلى تقليل الجهود المبذولة لتعزيز مقاومة البروباغندا، في بعض المجتمعات يشعر الأفراد بالضغط للامتثال لآراء الأغلبية، مما يقلل من رغبتهم في التعبير عن أفكارهم الخاصة، نقص الشخصيات العامة أو القادة الذين يمثلون قيم المرونة الفكرية يمكن أن يقلل من الإلهام لدى الأفراد، الخوف من الرفض أو النقد يمكن أن يمنع الأفراد من التعبير عن آرائهم أو الانفتاح على أفكار جديدة، تتطلب مواجهة هذه التحديات جهودًا متكاملة تشمل التوعية وتدعم التفكير النقدي. تتطلب مواجهة مقاومة البروباغاندا في المجتمعات المحافظة جهداً مشتركاً يتضمن التعليم، والمشاركة، والدعم، مع التركيز على القيم المحلية. من خلال تطبيق هذه الاستراتيجيات، يمكن تعزيز مقاومة البروبكندا السردية وتحقيق نتائج إيجابية. على الرغم من ان بعض المجتمعات متجذرة فيها تقاليد ومعتقدات معينة، مما يجعلها مترددة في قبول أي توجيه، لكن استراتيجيات مدروسة تشمل التثقيف، وبناء الثقة، وإشراك الطليعة الثقافية وفهم هذه السرديات التي تحمل اجندات سياسية ملغمة، يمكن تعزيز الجهود لتحقيق التغيير الإيجابي في المجتمعات.

***

غالب المسعودي

"الحكايات تُحَف الجنة"... مالك بن دينار

مثلما يقف الشعب باعتزاز على الأرض التي حررها بدماء أسلافه وبطولاتهم، فإنه يستلهم كيانه وهويته، ومُثُله وقيمه من ثقافته الشعبية التي تشكلت على مدار أزمان غابرة، لتصبح ذخيرته الحية، وعملته الحقيقية المتداولة في حاضره وغده.

ولأن الحكاية الشعبية جزء أصيل من تلك الثقافة، ووسيلة كل شعب لحفظ ذاكرته وخياله المشترك، فإنها لقيت عناية كبيرة لما تعكسه من تجارب حياتية، وأحلام ومخاوف، وآمال تلتمس التعويض في عالم مثالي. كذلك كانت الحكاية الشعبية حتى وقت قريب، قبل أن تداهمها التكنولوجيا بترسانة هائلة من وسائل الترفيه والتسلية، وتنزع عن الجدّات ثياب الحكواتي!

إن وظيفة حفظ التاريخ والذاكرة لا تمنع الحكاية الشعبية من أن تظل إنتاجا حيا ومتواصلا، ينسج من خلالها العقل البشري عالما مثاليا يطمح لتجسيده في واقعه، ويستدرك من خلاله نقائص المجتمع وخطاياه. تلك الاستمرارية رهينة إلى حد كبير باستثمارها كمدخل بيداغوجي، واعتمادها أداة ناجعة للتعلم، وتمرير القيم الأخلاقية، وتأسيس جمالية الحكي داخل فضاء تعلمي تفاعلي.

لهذا الفن القديم خصائصه ومرتكزاته التي تميزه عن سائر الأجناس الأدبية؛ حيث تتمتع الحكاية الشعبية ببساطة البناء والأسلوب، وبلغة خاصة ومتميزة تحقق الإيحاء والإثارة الفنية المطلوبة. للحبكة فيها دلائل نفسية وقيمية يصل دويها إلى أعماق المستمع. متحررة من خصوصيات الزمان والمكان والشخوص، مما أتاح لبنائها وتركيبها أن يكتسب سمات العالمية. هكذا تنقلت حكاية "سندريلا" من خلال ثلاثمئة وخمسة وأربعين نصا مختلفا، عبر رقعة تمتد بين روسيا وإيرلندا، فهي في إيطاليا "سينيرنتولا"، وفي فرنسا" سندريلون"، وفي ألمانيا" اشينبويل"، وفي المجر "بوبلوث"، وفي روسيا" جيرنوشكا"، بينما يرقى تاريخها في الصين إلى ما قبل سنة 800 ميلادية تحت اسم" يه هسين"، قبل أن تأخذ في الشرق لقب "ست الحسن".

تقوم الحكاية الشعبية على سرد مباشر يروم الإقناع والتأثير، ويتخذ من المغامرات الخيالية والأحداث الغريبة موضوعا له. وقد تكون الأحداث حقيقية، غير أنها مُزجت بآمال الناس وأحلامهم وخلاصات تجاربهم، فحررتها من صلتها المباشرة بالواقع لتعتمد على الخوارق والعجائب، وتضفي على الطبيعة الإنسانية المتشابهة في كل مكان وزمان، أزياء محلية متنوعة. ولذلك التشابه العالمي تفسيراته، من بينها الترجمة، والنشاط التجاري بين البلدان، بالإضافة إلى تحركات الجموع البشرية الموسومة بالهجرة.

داخل هذا العالم الوهمي والعجائبي الذي شيدته عقول البشر، تجد الطفولة تعبيراتها الأولية للارتباط بالواقع الاجتماعي، وتستمد ثروات لغوية وتربوية ونفسية. وما إن يستأنس الطفل بالحكي الذي يثير الغرابة ويستحث فضول الاطلاع، حتى يبدأ في التقمص اللاشعوري لآداب مجتمعه وقيمه الأصيلة؛ وبذلك يتحقق نمو شخصيته وإحساسه بهويته وانتمائه.

ينتقل الطفل من المرحلة الواقعية (ثلاث إلى ست سنوات)، حيث يكون قد استوفى مطلوبه من الخبرات المكتسبة في بيئته المحدودة، إلى مرحلة توصف بالخيال المنطلق أو الحر. وهنا يُبدي الطفل استعدادا ذهنيا لتأليف صور تحاكي واقعه أو ترتفع عنه بما يتناسب مع أحلامه وآماله. وتتم تغذية خياله عبر الحكاية الشعبية، باعتبارها أقرب نص أدبي يتيح له الولوج إلى دائرة معارف الجماعة أو العشيرة.

تفسح الحكاية مجالا رحبا لخياله كي يتطلع إلى عالم جديد، ويستوعب قيما وخبرات ومواقف، عن طريق حكي يعتمد التبسيط ويتحاشى الخوض في التفاصيل. ولأنه يتلقاها شفهيا، فإن الإلقاء غالبا ما يكون مصحوبا بقدر من التمثيل وتلوين الصوت، بشكل يتناسب مع الشخصيات والأحداث. وقد يعمد الراوي أو الحكواتي إلى إشراكه في أحداث الحكاية، فيُسند إليه دورا، أو يوجد شبها بينه وبين إحدى الشخصيات، ليصبح الحكي فضاء لتجريب ميوله ومواهبه.

تتنوع الحكاية الشعبية بتنوع مضامينها، مما يسمح للطفل بتعزيز كفاءته في التعامل مع الصور والرموز، ويُنمي خبراته ومعارفه. فالحكاية العجيبة التي تهيمن عليها الظواهر الخارقة، من سحرة وجن وعفاريت، تحقق بُعدا تنفيسيا حين ينتصر الأخيار على الأشرار.

وأما الحكاية الخرافية فتعرض حادثة مجسدة لمغزى أخلاقي، ويكون أبطالها في الغالب إما حيوانات أو جمادات أو ظواهر طبيعية، ويتم أنسنتهم بإضفاء الخصائص البشرية عليهم، مع التركيز على الموقف الأخلاقي المباشر.

بينما تهدف الحكاية الدينية إلى تعزيز انتماء الطفل لدينه والقيم الحارسة لمجتمعه، من خلال أحداث بعضها جرى في تاريخ واقعي فعلي، والبعض الآخر تم تعديله وإضفاء هالة من القداسة عليه للتأثير في النفوس، وتمرير صيغ وعظية ورسائل تعليمية أخلاقية.

وتتسم الحكاية المرحة بالقصر الشديد والتركيز على حدث واحد مفرد. وهي لا تحمل درسا تعليميا أو وعظيا، لأن هدفها هو النقد الاجتماعي من منظور ساخر، والثورة على الإشكالات التي تواجه الإنسان في واقعه المعيش.

بفضل اللجوء إلى المتخيل يتحرر الطفل من الضغوط والتناقضات التي يراها في الواقع. بل تذهب الدراسات حول القوة الشفائية للحكاية إلى أن دورها العلاجي يتحقق كلما انسجمت مضامينها مع نفسية الطفل ومميزات شخصيته، وغمرت الفراغ العاطفي الذي قد تُخلّفه اللحظات القاسية. لذا يتم تسخيرها في مدارس كيبك بكندا كوسيلة علاجية للأطفال الذين يشكون من عاهات لسانية، مترتبة عن أضرار نفسية وذهنية، وذلك باعتماد ترسانة من المهارات التواصلية التي تحفزهم للإفصاح عن مشاعرهم وضبط انفعالاتهم.

تستبق الحكاية خطوات الطفل نحو المستقبل، حين تمنحه قدرات فكرية واستراتيجيات محكمة، يوظفها عند الحاجة كأداة توقع أو مخطط للتصرف. ويمكن إجمالها على النحو الآتي:

- التمسك بالقيم الاجتماعية.

- الوقوف على فكرة انقسام العالم إلى خير وشر، وثواب وعقاب.

- بناء المفاهيم الأساسية حول الزمن والفضاء.

- تشكيل اختياراته وأذواقه الجمالية والفنية، وقدرته على الإفصاح والتعبير عنها.

- إذكاء قدراته على الانتقال من دنيا المحسوس إلى فضاء التجريد.

- التشبع بالمشاهد والسيناريوهات المتخيلة التي تُقربه بشكل مسبق من واقعه، وتهيئه للاحتكاك والتفاعل معه. (1)

كما تنماز الحكاية الشعبية بسلطة تأويل العلاقات الاجتماعية، واختراق لاوعي الطفل لتمرير القيم والمثل التي تحدد علاقته بالراشد والجماعة بشكل عام، وذلك من خلال:

- التعامل مع قيمتي الخير والشر بطريقة نفعية لأنها تجسد له سيرورة الكينونة والوجود، وتبعده عن التجريد. فالقيم لا وجود لها في حد ذاتها، ولكن بنتائجها على الإنسان.

- تمجيد البطولة المبنية على فعل الخير لصالح الجماعة، وهذا هو أساس تمجيد الجماعة للبطل ومنحه السلطة.

- انعدام المجانية، فلابد للحصول على الرزق من سبب، ولابد للإنسان أن يشقى ويتعب ليحصل على ما يريد. وهذا رد على ادعاء أن الحكاية الشعبية تنشر التواكل والاستسلام للقدر بين الناشئة.

- المهمات الصعبة التي ينجزها البطل دليل على نجاحه في الترشيد الذي تمارسه الجماعة على أفرادها، لتختار منهم أبطالا يرتقون بالجماعة ويضحون في سبيلها.

- الحكاية التي تحفل بالحيلة تعمل الطفل أن الذكاء ضرورة حياتية وليس ترفا فكريا.

- تقويم حياة الجماعة، وإعادة النظر في العادات والمظاهر السلبية المنتشرة بين الناس. (2)

تتصدى الحكاية الشعبية لواقع تآكلت فيه النظم التربوية والاجتماعية، فتحاول معالجته من خلال إظهار سلبياته والتحذير منها. وتعبر عن رغبة ملحة لاستعادة التوازن الاجتماعي، وتحقيق عالم تسوده العدالة والحب والتسامح. أما على المستوى النفسي فهي تقدم أجوبة شافية عن الوجود والمصير، وتفكك انشغالات الإنسان التي تُعطّل حركته بدفعه لتحقيق رغباته وطموحاته.

ولعل السر وراء انجذاب الطفل للحكاية الشعبية يكمن في أنها تتحدث "إلى" وليس "عن" الأطفال. فهي لا تمارس وصاية كالتي تنتهجها باقي الأجناس الأدبية الموجهة للطفل، ولا تعتبر هذا الأخير مجرد خطاب جاهز ومفتوح لتلقي الوصايا، وإنما هي استثارة جمالية لمشاعرهم ووعيهم الخاص.

يتبين إذن أن الحكاية الشعبية أنسب مدخل تعليمي تتكامل داخله عدة وظائف: أخلاقية، وتربوية، ونفسية، وجمالية، وترفيهية. وهي مقومات تؤهلها للحضور بشكل فاعل في البرامج الدراسية، وإكساب المدرسين منهجية واضحة لتيسير التعامل مع الحكايات، والاشتغال على عناصرها، لإكساب الطفل مهارات لغوية وتعبيرية، وحل المشاكل القرائية والتواصلية التي تعترض مساره التعلمي.

تسهم الحكاية في ترسيخ ثقافة الاستماع والتعبير الشفهي، مما يعزز قدرة المتعلم على التعامل مع النصوص القرائية. وأما الاشتغال داخل الفصل بوتيرة يومية على تفكيكها إلى وحدات وظيفية، من خلال اعتماد تصنيف فلاديمير بروب للحكاية الخرافية، وتعرف بنيتها وعناصرها، فيحقق الاستضمار الذي يُنمي مهاراته الإبداعية، للنسج على منوال الحكايات وإنتاج أخرى على غرارها.

وتؤدي الحكاية الشعبية وظيفة سيكولوجية إزاء بعض الاضطرابات اللغوية التي تُولّد فتورا في بناء تراكيب لغوية صحيحة، أو تعبير الطفل عن أفكاره ومشاعره. وفي تجربة كندية رائدة، تمكنت خبيرة النطق كلير مونيي Claire Meunier، أثناء معايشتها لأطفال يعانون من حالات نفسية معقدة، من تأسيس محترف للحكاية الشعبية، يتضمن تخصيص حصص داخل البرامج الدراسية، تدور حلقاته في فضاء خارج القسم. وعلى ضوء التحليلات النفسية لتصرفات الأطفال وتعبيراتهم عن مظاهر حياتهم اليومية (ركض، صراخ، بكاء، همس..) تمت صياغة حكايات على شكل مسرحيات قصيرة، يؤدي فيها الأطفال أدوارا تنسجم مع شخصياتهم. وركزت المقاربة العلاجية ليس على حبكة الحكاية، وإنما ما تُولّده الأحداث من قناعة بمشروعية تعبير الصغار عن أحاسيسهم العميقة.

ولتسهيل التعلم والاكتساب داخل المدرسة المغربية، طورت مجموعة بحث في الموروث الشفاهي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير سنة 1992، مشروعا تربويا يحمل اسم "سبك الحكاية". وكان الهدف هو توليد آليات ممارسة إبداعية لدى الطفل في مجال الحكي، بحيث ينتقل من مجرد مستهلك سلبي للثقافات إلى منتج نشط، يعبر من خلال الحكاية الشعبية عن تعددية ثقافته، وعن همومه وطموحاته.

وما ميز هذه التجربة هو انتباهها إلى ضرورة تدريب المدرسين، الذين سيتولون بدورهم الإشراف على تدريب الأطفال؛ إضافة إلى متابعة التلاميذ المبدعين في الحكي حتى تخرجهم من الجامعة، لتكوين رواة محترفين، يشاركون في تظاهرات خارج الوطن.

تتبنى المدرسة المغربية مبدأ الانفتاح على محيط محلي تمثل الحكاية الشعبية إحدى أهم ثمار مخيلته، وعاداته وانشغالاته. هذا المحيط الذي قد يتخرج فيه المهندس والمحامي والطبيب ليؤدي مهامه كتقني، بمعزل عن وعيه ونضجه الثقافي. هذا الوعي الذي تنبري الحكاية الشعبية لتخصيب نظرته لذاته وللآخر، ولتكون صمام أمان ضد كل أشكال التمييز والعنف والتطرف.

إن الحكاية الشعبية التي يجري تهذيبها لتتلاءم مع عقيدة المجتمع وقيمه، ومع ميول الطفل ورغباته وآماله، لهي مكون جوهري من مكونات هويتنا، وتأكيد على خصوصيتنا أمام تجليات غزو ثقافي يهددها بالاندثار.

***

حميد بن خيبش

....................

1- الحاج بن مومن. الحكاية الشعبية في التراث المغربي. ندوة لجنة التراث. الرباط 2005

2- د.محمد فخر الدين. الحكايات الشعبية: بنيات السرد والمتخيل. ص27 وما بعدها.

كثيرةٌ هى مزايا التصوف، البديل الفعلي للإرهاب، غير أنها تتفرَّق بين الأولياء والعارفين والصوفيّة، ويتفرَّق النزوع إليها والإعجاب بها، مشاربَ وأذواقاً، بين الدارسين والباحثين.

وقد يحرم الصوفي إحداها أو أكثرها وهو من بعدُ صوفيُّ لا شك في صوفيته؛ لأنه يُحسن ضرباً من الصوفية تصحُّ بها صوفيته ولا يشك فيها أحد.

فقد يُعجبنا من كل متصوف خصوصية فيه ومزيّة ينزع إليها، ويصنف بين الصوفية وفق تملكه إيّاها واتصافه بها؛ فالذي يتميز به أبو طالب المكي غير الذي يتميز به الغزالي، والذي يتميز به هذين غير الذي يتفرد به الجنيد والحكيم الترمذي أو البسطامي أو الحلاج أو ابن عربي أو الجيلي أو السّهروردي أو ابن سبعين.

والذي يستحق به كل واحد منهم صفة الروحانيّة غير الذي يستحقها به البقيّة، فيما لو أخذنا بتصنيفات "الباحثين" - لا تجارب "العارفين" - بين تصوف سُنيّ أو سلفي أو إشراقي أو فلسفي أو شبه فلسفي على اختلاف الضروب واختلاف التقسيمات.

غير أن المزيّة التي لا غنى عنها والتي لا يكون الصوفي صوفياً إلا بنصيب منها وافر هى مزيّة واحدة لا خلاف في الرأي عليها : "التجربة الصوفيّة"، وطلب المعرفة الإلهيّة من طريق الذوق والتبتل، وهو مطلبٌ عادل للذات المؤمنة لا شك فيه ولا غبار عليه.

فكما تكون "الطبيعة الفنية" مزيّة الشاعر المطبوع لا غنى عنها ولا يكون الشاعرُ شاعراً إلا بنصيب موفور منها، كما يقول الأستاذ "العقاد" في مقدّمة كتابه عن "ابن الرومي حياته من شعره"؛ كذلك تكون "التجربة الصوفيّة" التي هى حياة الأولياء والعارفين، مزيّة الصوفي الأصيل، ولا يكون الصوفيُّ صوفياً على الحقيقة إلا بنصيب منها.

تعمدتُ حقيقةً أن أستخدم نفس الألفاظ والكلمات التي استخدمها الأستاذ العقاد عند الحديث عن ابن الرومي في مقدمة كتابه وهو بالمناسبة من الكتب التي يعتز بها مؤلفها، وتعمدت أن أسلخها من هناك لألبسها ثوب اللغة الصوفية هنا؛ للمقاربة البادهة بين الطبيعة الفنية لدى الشعراء والتجربة الصوفية لدى كبار صوفية الإسلام، وبما أنها مقاربة عجيبة فعلاً فيها امتياز واختصاص، فتكاد تنطبق الأوصاف التي تطلق على الشعراء من أصحاب التجارب الفنية على الأوصاف التي تنطبق على الصوفية من أصحاب التجارب الروحيّة.

فقد أراد العقاد أن يستخرج من أقوال ابن الرومي حياته التي تدل عليها من الوهلة الأولى أشعاره، لكأنه يريد أن يقول إنه ما من بيت من قصيد الشاعر إلا وعليه من قيم الحياة الحيّة الفاعلة ما يوافقه ويدل عليه ويسمح باستخلاصه في مصدر الشعور ومنبت الضمير من حياة الشاعر نفسها، إذ الطبيعة الفنية هى الحاكمة الفاصلة فيما يصدر عن شاعرية الفنان، وليس يقدح شئ في شاعريته من بعدُ إلا أن يكون خلواً منها.

وبنفس المقاييس، تجئ التجارب الصوفية هى الفواصل الفارقة العاملة في معطيات الإشارة الصوفية التي تستقى من عين التجربة، فالمقول يتحد مع الحالة بلا ريب في بطن التجربة الصوفية، فلا تسمح التجربة الصوفية عند الصوفي بمعطياتها إلا بما تسمح به الطبيعة الفنية لدى الشاعر بمقوماتها، كلتاهما حياة تظهر أسرارها مع الشاعر المطبوع والصوفي الكبير تحت ظلال التجارب والطبائع.

فإذا كانت الطبيعة الفنية من الضرورة بمكان بالنسبة للشاعر، فالتجربة الصوفية من الأهمية بمكان بالنسبة كذلك للصوفي الكبير، كلتاهما اتحاد في المبدأ يقوم على منبت الشعور ويتغذى من قرارة الوجدان ويصدر عن الصدق فيما يقال عنهما من شعر الشاعر أو عبارات الصوفي واشاراته.

وليس هناك من عجب أن يتلاقى الشاعر المطبوع مع الصوفي الأصيل؛ فما أقرب الصلة الوثيقة بين الشعر والتصوف، أو بين التجربة الصوفية والطبيعة الفنية، وما أبعد الخلاف بينهما في غور التجربة ويقظة الإحساس بجوانب الحياة المختلفة، مع الوضع في الاعتبار فارق "التوجه" وفارق "التعلق"، ومع الاحتفاظ بالمصدر الشعوري واليقظة الروحية في كلتا التجربتين. فإذا كان الصوفي يتوجه مباشرة بوحدة قصده إلى الله ويتعلق بالوسائل التي توصّله إليه، فالشاعر يتوجه إلى فكرة أو معنى يعيشه ويحسه كما تعاش الحياة الحيّة وتُحس، ويتعلق في الغالب بمحبوبة في عالم الحسن ينزع بها وجدانه من المحسوس إلى المعقول، ويروم قصداً من وراء ذلك غير الذي يرومه صاحب القصد الأول ويتوخّاه.

وربما توصّل الشاعر بقصده المحسوس إلى ما يعلو على الحس ويرتفع في المثال؛ لينشد الحقيقة التي ينشدها الصوفي من أقرب طريق، فقد يتوصّل إليها إذ ذاك بشعوره الخالص المُجرد؛ ليجيء مصدر الشعور ها هنا توحيداً بين تجربة الصوفي وتجربة الشاعر رغم فوارق التوجه والتعلق، فالذي يتعلق بالله ويتوجّه إليه ليس كالذي يتعلق بمحبوبة عشقها وتبتل إليها في عالم الحس، ويتوجه إليها من بعدُ ويكنى عنها بالشعر أو بالنثر أو بما شاءت له قريحته أن يكنى.

ويبقى بعد ذلك ما لا خلاف عليه من تجارب المحبين وصبابة العشاق، وهو أن الطبيعة الفنية لدى الشاعر المطبوع تكاد تقترب من التجربة الصوفية عند الصوفي الكبير، تأخذ عنها وتتوحد بها حتى لا تكاد تفرق بينهما، يظهر هذا في العلاقة بين الحب والموت.

إنما الأمرُ هنا لا يتوقّف عند حدّ العلاقة بين الحب والموت وكفى، بل يتعدّاه إلى ما بعده، وهو بقاء القصائد الشامخة في الوجدان الراقي، الصافي النقي، لتشرح العلاقة بين الحبّ والموت، وتجلو الصلة القويّة بين الحبّ الحسّي والحبّ الروحي، إذ كان الأول مقدّمة للثاني. ولا يفهم من الثاني (الحب الإلهي) إلا ما يستقر عليه الفهم حقيقةً من الحب الأولىّ، (الحبّ الحسيّ)، فلم تبدع رابعة العدوية في ميدان الحبّ الإلهي إلا بعد تجربة ممضّة مع الحبّ الحسيّ، ولم تكن الصبابة التي يعانيها المحبون في الأودية الحسية إلا مذقاً إنسانياً صادقاً من ظلال التجربة الروحيّة.

واهمٌ من يتصوّر أن هذه القصائد أو تلك تخاطب محبوبة وكفى، لتكون مجرّد علاقة حبّ بين طرفين ليس أكثر .. كلا بل في القصيدة التي يقولها الشاعر الممتاز ظلال صوفية خالصة، ليس أيسر من نقلها على الفور من الأودية الحسيّة إلى الأودية الروحيّة في لحظة تجرّد صادقة، الأمر الذي يتأكّد معه أنّ المحبين في المحسوس هم أنفسهم المحبُّون في المعقول، في عالم الروح. وأنّ معاناة التجربة في المحبّة الحسيّة هى نفسها معاناة التجربة في المحبّة الروحيّة، وأنّ القادرين على تذوق الحبّ الحسّي هم أنفسهم القادرون على تذوق الحبّ الإلهي من وراء الأشباح والظلال.

فارقُ التجربة الشعوريّة هو التوجُّه، ولكن نهايات التجربة في الحبّ الحسّي تكون في الغالب بدايات التجربة في الحبّ الروحي الخالص، وربما يختلط الأول بالثاني وليس من ريب، وتكون التجربة واحدة، وتزول الفوارق الشعوريّة بين التوجُّهات وتذوب، فلا يعرف المُحب في أي واد من الأودية يتوجّه فيُسلم قياده؛ لأنه لا يلمس فارقاً باطناً في أصل المحبّة ولا يكاد يقف عليه.

وشعراء بني عُذرة كجميل بثينة، وقيس لبنى، وغيرهما من شعراء التبتُّل والعفّة كانوا أكثر الناس دلالة على هذا النوع بالحبّ إلى الموت؛ لوجود علاقة رُوحيّة صافية بين الحبّ في الأودية الحسيّة والحبّ في الأودية الروحيّة. وصبابة العشّاق لوعة مُخامرة هى نفسها تكاد تكون الصبابة التي يعيشها أصحاب الأذواق والمواجيد.

الحُبّ الإلهي أصلُه في الانسان محبّة جزئية محدودة بوقوف الهوى على المُحبّ، تفاصيلها نزوع الوجدان إلى الأصل، وكلما اقتربنا من الأصل زالت الفوارق وذابت الحواجز والمحاجيب، وحلّت من ثمّ الوحدة محلّ التعدُّد والكثرة، فليس يبقى إلّا الواحد على الدوام.

(إنّ الغرام هو الحياة، فمُت به صبّاً، فحقّك أن تموت وتعذرا)

هكذا كان ابن الفارض يقول. هذا ظل ثابت في وجدان العشاق من ظلال التجربة الصوفية لا يمكن تغافله أو صرف النظر عنه بحال.

وعليه، فلا يوجد صوفي واحد له رأي أو مذهب أو أثر من آثار الكتابة والتدوين ولا تكون له تجربة روحيّة ينطلق منها ويعتمد عليها ويتذوق آثارها فيما يرى أو يقول؛ فلئن فاتته التجربة فلم يستطع خوضها وركوب متاعبها؛ فلا يخلو من شرط التعاطف معها على أقل تقدير.

ولأجل هذا تجئ التجربة الصوفية دائماً أسبق لدى الأولياء والعارفين من الفكرة الفلسفية. وما الفكرة الفلسفية في ظلال التجربة الحيّة المعاشة إلا بمثابة شرح العقل النظري لتجارب العمل والإنشاء في إطارها. ولولا وجود التجربة الصوفيّة معتمد الأولياء والعارفين ما صَحَّتْ على الإطلاق أذواقهم ولا مشاربهم ولا أحوالهم، وما صَحَّ لهم حال ولا سرُّ ولا معرفة ولا علم ولا نظر، بل ولا مذهب ولا نظرية ولا رؤية ولا استقام لهم طريق؛ إذْ التجربة الصوفية نشاط الثورة الروحيّة في الإسلام ومستندها الفاعل بغير شك، وأساس الثمرة المرتقبة من وراء المذاهب والآراء.

وعلى هذا الأساس، لا على أساس غيره، ينبغي أن تُفَسَّرَ كل الآراء الصادرة عن المتصوفة في إطارها ولا تُفَسَّرُ في إطار سواها. وعلى هذا الأساس، لا على أساس غيره كذلك، تجيء مطالب الذات المؤمنة خاضعة خضوعاً تاماً لمعطيات تلك التجربة الصوفية، تُفَسَّرُ من خلالها، تأخذ منها وتعطي من عساه يشعر بها ويحس معها شعور التعاطف وشعور الترقي في مدارج المعرفة ومعارج الاتصال بالحقيقة الإلهية.

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

أستاذ الفلسفة الإسلامية - جامعة أسوان

غالبًا ما تُستخدم هذه السردية لتشكيل الهوية الوطنية أو لتعزيز الروح الجماعية، حيث يُعتبر البطل المظلوم رمزًا للنضال من أجل الحرية والعدالة، نشأت سردية البطل المظلوم في سياقات تاريخية متعددة، حيث كانت تُستخدم لتبرير الصراعات والنضال ضد الاحتلال أو القمع. كان يُنظر إلى هؤلاء الأبطال كرموز للعدالة في مواجهة الظلم، تأثرت هذه السردية بالقصص الشعبية والأساطير التي تروى عن أبطال تاريخيين واقعيين او وهميين خاضوا تحديات في تاريخ الشرق الأوسط، واجهوا قوى متكبرة ونجوا من الظلم، استخدمت الحكومات والأحزاب السياسية هذه السردية لتعزيز الدعم الشعبي، من خلال تصوير أنفسهم معنيين و أنهم مظلومين، من خلال ذلك يمكن حشد التأييد وتعزيز الالتزام بالقضايا الأيديولوجية التي يحملها الطامحون بالسلطة كما ساهمت وسائل الإعلام، في تعزيز سرديات الأبطال المظلومين من خلال تقديمهم كرموز للمعاناة والبطولة، مما عزز مكانتهم في الذاكرة الجمعية. في السنوات الأخيرة استخدمت الحركات الاجتماعية هذه السردية لتسليط الضوء على قضايا معينة، مثل حقوق الإنسان أو العدالة الاجتماعية، مما جعل من البطل المظلوم رمزًا للنضال ضد الظلم، سردية البطل المظلوم تمثل أداة قوية في تشكيل الهوية الجماعية وتجسيد القيم النضالية، على الرغم من فوائدها في حشد الدعم، إلا أنها تحمل أيضًا سلبيات، مثل تعزيز الانقسام أو تبرير العنف.

السلبيات المحتملة

استخدام سردية البطل المظلوم يمكن أن تحمل عدة سلبيات محتملة، منها يمكن أن تؤدي هذه السردية إلى تقسيم المجتمع إلى "أبطال" و"أعداء"، مما يعزز من المشاعر العداونية ويزيد من التوترات بين الفئات المختلفة، قد تُستخدم سردية البطل المظلوم لتبرير استخدام العنف، مما يؤدي إلى تصعيد النزاعات بدلاً من البحث عن حلول سلمية، يمكن أن تُستخدم هذه السردية لتفسير الفشل في تحقيق الأهداف الوطنية، حيث تُعتبر الهزائم نتيجة للظلم الخارجي بدلاً من الاعتراف بالأخطاء الداخلية، التركيز على مظلومية البطل قد يمنع النقاش حول المسؤوليات المشتركة أو الحلول الممكنة، مما يعرقل أي جهود للتوصل إلى توافق، قد تؤدي هذه السردية إلى تعزيز مشاعر الحقد والغضب، مما يؤثر سلبًا على الصحة النفسية للأفراد والمجتمعات، يمكن أن تُستخدم سرديات البطل المظلوم لتبرير تحريف التاريخ، مما يجعل الروايات التاريخية أحادية الجانب وتغفل الحقائق المعقدة، التركيز على دور البطل المظلوم يمكن أن يقلل من أهمية المسؤولية الفردية، حيث يمكن أن يُنظر إلى الأفراد على أنهم ضحايا فقط دون النظر إلى قدرتهم على التغيير، قد تؤدي هذه السردية إلى تغافل تجارب وآراء متنوعة داخل المجتمع، مما يُقلل من فرص التفاهم والتسامح، بينما تُعتبر سردية البطل المظلوم وسيلة فعّالة لتشكيل الهوية الجماعية، من المهم تحليل تأثيراتها السلبية على المجتمع والسياسة والسعي لتحقيق توازن في الخطاب الذي يشمل أصوات وتجارب متنوعة، وضع المعتنقين سردية البطل المظلوم يتسم بالتعقيد، حيث يمكن أن تكون لهم مشاعر قوية من الانتماء والولاء، ولكن أيضًا يواجهون تحديات مثل الإحباط والشعور بالتهميش.

الحاجة إلى سردية البطل المظلوم

سردية البطل المظلوم كانت تلبي احتياجات مهمة في تاريخ صراعات المنطقة، منها تعزيز الهوية والانتماء وتحفيز العمل الاجتماعي والسياسي. في السياق الحالي يجب استخدامها بحذر لتجنب تعزيز الانقسام أو تبرير العنف، تلجأ شعوب المنطقة إلى استخدام سردية البطل المظلوم في الأزمات الوجودية لعدة أسباب، قد تساعد هذه السردية في تفسير المعاناة والصراعات، مما يوفر إطارًا لفهم الأحداث الصعبة والتعامل معها، تسهم السردية في تعزيز الهوية الجماعية، حيث يشعر الأفراد بأنهم جزء من قصة أكبر تتعلق بالنضال والمقاومة، تمنح سردية البطل المظلوم الأمل في تحقيق العدالة والانتصار على الظلم، مما يساعد الأفراد على الصمود في وجه التحديات، لكنها تُستخدم أيضا في تفسير الفشل في تحقيق الأهداف، حيث يُنظر إلى الهزائم كنتيجة للظلم بدلاً من الأخطاء الداخلية، استخدام سردية البطل المظلوم في الأزمات الوجودية يرجع الى حاجة شعوب المنطقة، للفهم، والانتماء، مما يساعدها على التعامل مع التحديات والصراعات التي تواجهها لكنها أيضا تمثل الفشل في التصدي للتحديات الكبيرة.

السردية والسياقات التاريخية

تختلف سردية البطل المظلوم باختلاف السياقات التاريخية والثقافية. تتأثر السردية بالأحداث التاريخية التي تمر بها المجتمعات، على سبيل المثال، في فترات الاستعمار، تركز السردية على مقاومة الاحتلال، بينما في فترات الاستقرار يفترض انها تركز على التنمية والتقدم، في الثقافة الشرق اوسطية، تُستخدم الرموز الدينية والتاريخية بناءً على الانتماءات السياسية ويمكن أن تُستخدم السرديات لتعزيز الهوية الوطنية في سياقات معينة، بينما تُستغل في سياقات أخرى لتبرير الصراعات السياسية، تتغير السرديات مع التحولات الاجتماعية. تختلف تجارب الأفراد والجماعات، مما يؤدي إلى تنوع السرديات، يمكن أن تكون هناك سرديات متعددة لنفس الحدث بناءً على منظور الأفراد، تتأثر سردية البطل المظلوم بالسياقات التاريخية والثقافية المختلفة، مما يؤدي إلى تنوع في كيفية تشكيلها واستخدامها، تؤثر الاختلافات في سردية البطل المظلوم على فهمنا للتاريخ من خلال تشكيل الروايات، تفسير الأحداث، وتوجيه السياسات والقيم.

دور الدين

يلعب الدين دورًا محوريًا في تشكيل سردية البطل المظلوم في التاريخ الشرق اوسطي. من خلال توفير إطار أخلاقي، تعزيز الهوية الجماعية، وتحفيز المقاومة، مما يؤثر بشكل عميق على الوعي الجماعي والتاريخ الثقافي لشعوب المنطقة، يختلف دور الدين في تشكيل سردية البطل المظلوم عبر مختلف الطوائف الدينية في المنطقة بطرق متعددة، اذ تختلف الطوائف في تفسير القيم الدينية والنصوص المقدسة، مما يؤثر على كيفية فهمهم لسردية البطل المظلوم، في بعض الأحيان تُستخدم السرديات لتعزيز الانتماء الطائفي، مما يؤدي إلى انقسامات في المجتمعات، يتباين دور الدين في تشكيل سرديات البطل المظلوم عبر الطوائف الدينية المختلفة، مما يعكس تنوع الفهم والتفسير الثقافي والسياسي. هذه الاختلافات تؤثر على الهويات الجماعية وتوجهات الاحتجاج والنضال في المجتمعات. أثرت الاختلافات الطائفية على الصراعات السياسية في المنطقة بعدة طرق،  ساهمت في تأجيج الانقسامات داخل المجتمعات، مما أدى إلى تعزيز النزاعات المحلية والإقليمية، غالبًا ما تتشكل التحالفات السياسية على أساس طائفي، حيث تسعى كل طائفة إلى دعم مصالحها الخاصة، مما يعزز من الانقسام ويقلل من فرص الحوار، تأخذ بعض الصراعات شكلًا مسلحًا بسبب التوترات الطائفية، حيث تحول الاختلافات الطائفية إلى قتال بين الجماعات تستغلها قوى خارجية لتحقيق مصالحها، مما يؤدي إلى تفاقم الأوضاع وزيادة التعقيد في الصراعات السياسية، يمكن أن تؤدي السياسات الطائفية إلى إقصاء بعض الجماعات من المشاركة السياسية، مما يزيد من مشاعر الإحباط والغضب، ويسهم في نشوء حركات احتجاجية تُستخدم السردية الدينية لتبرير السياسات أو الحروب، مما يعزز من حالة الاستقطاب ويؤثر على مسارات الصراع، تساهم الاختلافات الطائفية في تعزيز الهويات الجماعية، مما يؤدي إلى تصاعد النزعة الوطنية الطائفية على حساب الهوية الوطنية الشاملة، تؤثر النزاعات الطائفية على التحولات الاجتماعية، حيث تتعرض المجتمعات للتفكك، مما يؤدي إلى تراجع الثقة بين الأفراد والجماعات المختلفة، و يعزز الانقسامات ويزيد من تعقيد الأوضاع. تتطلب معالجة هذه الصراعات جهودًا شاملة لتعزيز الحوار والتفاهم بين الطوائف المختلفة وتجاوز السردية التاريخية الوهمية، في ظل الانقسامات الطائفية لم يتبق لسردية البطل المظلوم أي صلة، حيث لا تعكس التحديات الحالية ولاتساعد في تطوير فهم أعمق للتحديات الإنسانية والاجتماعية الكبرى.

***

غالب المسعودي

 

ليس من السهل أن تستقر الذات في مكان لم يُصغَ لها فيه خطاب أول. لا لأن العالم الجديد معادٍ بالضرورة، بل لأن الداخل نفسه بات هشًّا من فرط التحولات المستمرة، مقطوعًا عن جذره الأول، ومنساقًا في الوقت ذاته نحو فضاء لا يرى فيه سوى انعكاس متشظٍ لصورته.

فالهوية لا تُختبر في صدام الحضارات، كما يُروَّج، بل في التفاصيل اليومية: نبرة الصوت، الطريقة التي تُقال بها الحقيقة، والمسافة الدقيقة بين ما يُقال فعلًا وما يُفهم. تتسرب الهيمنة من الأبنية الكبرى إلى العلاقات الصغيرة، وتعيد تشكيل موقع الفرد لا باعتباره مجرد مهاجر، بل كذات يتم تكييفها داخل بنية رمزية كاملة، تُعيد قولبة طموحاته، لغته، وحتى طريقته في التفكير.

حين يكون المرء من خلفية تحمل أسئلة عن العدالة، والطبقية، والمقاومة، يجد نفسه أمام معضلة دقيقة: كيف يعبّر عن نفسه في بيئة لغتها مشبعة بشروط لم يصنعها؟ كيف يكتب دون أن يكون ملزماً بتعريف نفسه أولًا، وتفسير سياقه ثانيًا، وتبرير موقعه ثالثًا؟ لا تُطرح هذه الأسئلة علنًا، لكنها تعيش في المفاصل: داخل الحوارات الثقافية، داخل المقالات، داخل قاعات المؤتمرات التي لا تطلب منك أن تُفكّر بقدر ما تطلب منك أن تُبرهن على قدرتك على “الاندماج” السلس.

ثم يأتي الثمن الباهظ: أن تقول الحقيقة، لكن بلغة الآخر. أن تمرر أفكارك عبر وسائط غير محايدة، عبر قنوات مشروطة بمقاييس تمثيل مسبقة. لا يُطلب منك أن تكون ذاتًا حرّة، بل أن تكون ناطقًا باسم غيابٍ دائم. حتى حين تُعبّر عن قضاياك، يُفترض بك أن تفعل ذلك بلهجة لا تُربك المستمع، بل تُقنعه، تُعلي من شأن حسّه الإنساني، دون أن تُهدد موقعه الرمزي.

ورغم كل هذا التوتر الكامن، لا يمكن إغفال المفارقة المُرّة: فالمثقف الذي يُفترض فيه أن يكون منتجًا للمعنى وناقدًا للمنظومات، يتحول أحيانًا إلى كائن أدائي يُستحضر عند الطلب، ليلعب دورًا مرسومًا مسبقًا في عروض تمثيلية حول “الآخر” و”الشرق” و”الإسلام” و”المرأة” و”الاستعمار”. يُسمَح له بالكلام فقط ما دام صوته متناغمًا مع الإيقاع المُعدّ سلفًا، ثم يُسحب الميكروفون فور انتهاء دوره.

وما هو أكثر خفاءً من هذا الاستبعاد الصريح هو تلك اللحظة التي يبدأ فيها، من دون وعي منه، بإعادة تقديم نفسه على مقاس التوقعات الخارجية، كأن وجوده لا يكتمل إلا من خلال مرآة الغير. وفي هذا التماهي الناعم مع شروط اللعبة، تُطمس الحدود بين المقاومة والتواطؤ، ويبدأ المحو الرمزي في ارتداء قناع التمثيل والاحتفاء.

لننظر إلى بعض النماذج الحية: المفكر اللبناني فواز طرابلسي، والأكاديمية المصرية الراحلة فريدة النقاش، والكاتبة العراقية هناء أدور، وغيرهم من المثقفين الذين رغم اشتغالهم في بيئات غربية، ظلوا يقاومون بذكاءٍ ناعمٍ هيمنة السردية المركزية الغربية، دون أن يسقطوا في فخ الضحية الدائمة.

لكنهم في المقابل ظلوا تحت مطرقة “التمثيل”: هل هم ممثلون لثقافة عربية؟ أم ناشطون أم أفرادٌ كونيون؟ ولماذا يُفترض بهم دائمًا أن يكونوا صوتًا لغيرهم؟ هذه أسئلة تُسائل البنية الأخلاقية والمعرفية للمؤسسة الأكاديمية الغربية ذاتها، وتكشف كيف أنها، رغم انفتاحها الظاهري، لا تزال تحكمها بنية سلطة ناعمة تتطلب الخضوع، ولو في صورة اللباقة والتكيف.

الأديب السوداني الطيب صالح، حين كتب “موسم الهجرة إلى الشمال”، لم يكن يعرض تجربة مصطفى سعيد فقط، بل كان يرسم فداحة هذا الاغتراب المزدوج: مغترب عن وطنٍ يكاد ينساه، ومغترب داخل وطنٍ جديد لا يعترف به إلا ككائن غريب، مسلٍّ أحيانًا، خطيرٍ أحيانًا، لكنه نادرًا ما يُنظر إليه كذاتٍ فاعلة.

قال الطيب صالح: “إنني أُفكر في ذلك الرجل الذي ذهب إلى أوروبا، ثم عاد، وكان في عينيه شيء لا أعرفه”، وهذا “الشيء” هو بالضبط ما نحاول أن نحلله هنا: تلك الشروخ الدقيقة في الوعي، التي تتسلل من تماس الثقافات، وتنتج فردًا ممزقًا بين مرجعيتين، لا يستطيع الانتماء الكامل لأيٍّ منهما دون أن يخون الأخرى.

لم يكن الطيب صالح مجرد مراقب للأزمة التي تتولد من الاغتراب بين الثقافات، بل كان جزءًا من هذه المعادلة. فقد عاش في لندن ودرس فيها، وتزوج من إنجليزية، ليختبر بشكل مباشر تلك المسافة النفسية والجغرافية بين الشرق والغرب. كانت تجربته الشخصية، كما جسدها في مصطفى سعيد، تتجاوز مجرد سرد قصة فردية، بل كانت تتعلق بمفارقة عميقة: كيف يتماهى الفرد مع ثقافة جديدة في حين يظل ملزمًا بتفكيك هويته الأصلية.

مع إقامته في الغرب، عاش صالح ذاته كما لو كانت في حالة تفاعل دائم مع بيئة أخرى، ولكنّه لم يسلّم بسهولة لمفهوم الاندماج المريح الذي يروج له الغرب. فكان في كل خطوة من خطواته يحاول التوفيق بين كونين لا يلتقيان دائمًا.

في هذا السياق، نجد أننا أمام ذات مُراقَبة، ذات تُعِدّ خطابها باستمرار، تخشى الزلل، تخشى التأويل المغلوط، تعاني من فرط الانتباه لذاتها. إنها ذات “منقسمة على نفسها”، كما يسميها لاكان، تتحدث ولكنها تسمع نفسها أيضًا كأنها تتقمص دور المراقِب والمراقَب في آن.

في جلسات النقاش، يلاحظ بعضهم كيف يضبط المثقف العربي نبرته، وكيف يُراجع ألفاظه وهو يتحدث، كأن اللغة أصبحت فخًا، أو كأنها تَجُرُّه إلى طرف من أطراف الصراع الذي يحاول أن يتجاوزه.

تُسائلنا هذه الظاهرة أيضًا عن فداحة المسافة بين الحرية والاعتراف، بين أن تكون ما أنت عليه، وأن يُسمح لك بأن تكونه. الاغتراب هنا ليس ماديًا فحسب، بل هو اغتراب رمزي، هوياتي، نفسي.

لذلك فإن كثيرًا من أبناء هذا المثقف، الذين وُلدوا ونشأوا في الغرب، يتعثرون بدورهم في شبكة من التناقضات: فهم لا ينتمون تمامًا إلى أوطان آبائهم، ولا يشعرون بالطمأنينة الكاملة في أوطان نشأتهم. إنهم يرثون الهشاشة في أقسى صورها: هشاشة لا تُرى، لكنها تدمغ الوعي بقلقٍ دفين، يصعب تشخيصه، ويصعب التعايش معه.

إن هذا كله لا يدعو إلى الرثاء، بل إلى التفكير الجاد. على المثقف أن يستعيد زمام خطابه، لا بردّة فعلٍ هوياتية متشنجة، بل بخلق سرديات جديدة، تمتلك القدرة على مساءلة الهيمنة لا بإنكار الآخر، بل بتعرية شروط ظهوره. المثقف ليس “ترجمانًا” للشرق، ولا “عارضًا” للخصوصية، بل فاعلٌ فكري يعبر السياقات بشروطه، دون أن يتحول إلى مرآة لأحد.

إن أعظم ما يفعله هذا المثقف، هو أن يصوغ من شتاته هويةً مرنة، صلبة، قادرة على قول “لا” دون صراخ، وعلى أن تُسائل دون أن تستجدي الاعتراف. أن يكون شاهقًا في حضوره، لا لأن الغرب اعترف به، بل لأنه اختار أن يكون هو، وسط هذا الركام من الصور المقولبة والمواقف المؤدلجة.

في النهاية، كل اغترابٍ يحمل نداءً داخليًا: أن تبحث عن ذاتك لا بين الجغرافيا واللغة فقط، بل بين المعنى والموقف. أن تظل مخلصًا لما تراه عدلاً، حتى لو تغير السياق، لأن الأصل في الهوية ليس الانتماء، بل الموقف من العالم.

***

إبراهيم برسي

بقلم: ناتالي لورانس

ترجمة: د. محمد غنيم

***

ناتالي لورانس تستكشف هوسنا الدائم بالوحوش، الداخلية والخارجية

" المينوتور يبرر وجود المتاهة أكثر من أي شيء آخر."

– خورخي لويس بورخيس

***

من أروع ما رأيتُ في حياتي كان خلال عطلة عائلية في جنوب فرنسا عندما كنتُ في الثانية عشرة من عمري تقريبًا. بعد أيام قضيناها في السباحة ولعب مباريات تنس عائلية صاخبة، قررنا استكشاف بعض الثقافة المحلية. كانت رحلة قصيرة بالسيارة لمشاهدة مصارعة ثيران في مدينة آرل القريبة. جلسنا في مقاعد المدرج الخشبية، وشعرنا بحماس متزايد بينما كان مصارعو الثيران يتبخترون حول الحلبة بملابسهم المطرزة الزاهية. كان المعلق يثير حماسة الجمهور باللغة الإسبانية.

ثم بدأ أول قتال - انفتح باب القفص وانطلق الثور مهرولاً عبر الرمال. لسبب ما، كنت أتوقع أن يكون أكبر حجماً بكثير. بالكاد وصل كتفه إلى صدر المصارع، بأرجله النحيلة التي تنتهي بحوافر مشقوقة أنيقة.لكن قرونه كانت تبدو قاتلة بلا شك .

تلا ذلك لعبة قط وفأر، أرادها مصارع الثيران، بينما لم يرغب الثور في ذلك. في كل مرة يحاول فيها الثور الميل إلى جانب الحلبة ليُكمل جولته، كان مصارع الثيران يُلاحقه برشاقة. كانت الرمح الأول صدمةً قوية، وُجهت ببراعة إلى مؤخرة رقبة الثور، مُلقيةً تصفيقًا حارًا من الجمهور. كانت الزخارف الزرقاء والوردية على رمح المصارع ترتفع وتنخفض بينما قفز الثور بانفعال، وبدأ الدم يتسرب على جانبيه.

مصارعة الثيران صراع بين الإنسان ووحشيته. إنها انفجار للعنف، وصمام ضغط للمشكلة الأبدية المتمثلة في كيفية التعامل مع الحيوان الكامن في داخلنا.

بعد حوالي عشر دقائق، كان الحيوان مثقوبًا بالرمح، وترك أثرًا من الدماء على الرمل. كل ما كنت أفكر فيه هو ألم تلك الرماح وهي تدور في جسده وهو يتحرك. المصارِع، المدعوم بتشجيع الجمهور، زاد من شدة هجومه وهو يدور حول الثور. بين حماس المحليين والسياح الذين كانوا يتحركون في مقاعدهم غير مرتاحين، بدأت أشعر أن هذا شيء لا أريد رؤيته. غادرنا قبل انتهاء المشهد المميت الأخير.

وليس من المستغرب أن تواجه مصارعة الثيران الإسبانية - حيث يُقتل الثور في النهاية - انتقادات متزايدة مع مرور الوقت. فرياضات الدماء هذه لا تتناسب مع القيم الحديثة. وتظل آرل واحدة من الأماكن القليلة التي ما زالت تشهد عروض مصارعة الثيران القاتلة، لتمثل بذلك الطرف الأخير من خيط ثقافي طويل ممتد. يحمل ذبح الثور الطقسي معنىً عميقًا يصعب محوه، لذا يُبدي السكان المحليون مقاومة شديدة عند اقتراح حظره. بعد أن شاهد إرنست همنجواي أول مصارعة ثيران له عام ١٩٢٣، علق قائلاً: "مصارعة الثيران ليست رياضة. إنها مأساة، وترمز إلى الصراع بين الإنسان والوحوش". إنها تُجسد علاقتنا المتوترة مع الحيوانات الأخرى، ومع الوحوش التي في داخلنا.

ولإبراز روعة هذا الصراع، تُربى الثيران بعناية فائقة. فقد وصف همنجواي أحد الثيران الذي رآه قائلاً: " مذهل تمامًا. بدا كأنه حيوان ما قبل التاريخ، قاتلاً بلا رحمة وشرساً للغاية". وأضاف في عالم مصارعة الثيران: "الثور المقاتل الجيد هو ببساطة ثور شرير لا يمكن إصلاحه". أما مصارعو الثيران، فيسعون جاهدين لتحقيق الكمال، ليقاتلوا بلا عيب. وعلق همنجواي قائلاً: "أسوأ انتقاد يوجهه الإسبان لمصارع الثيران هو وصفه لعمله بأنه "مبتذل". يجب أن يكون الرقص بين "الوحش" و"البطل" أنيقًا ليكون فنًا ذا معنى.

قد تكون مصارعة الثيران مواجهة بين الإنسان والحيوان، لكنها تختلف تمامًا عن الصيد، الذي هو حالة أبسط من مواجهة الإنسان للطبيعة وقهرها. مصارعة الثيران معركة مُصممة، قصة أخلاقية تُعرض لجمهور لا تتطلب الموت. كان أسلوب مصارعة الثيران الذي أراد والداي اصطحاب ابنتيهما إليه هو الأسلوب المحلي في آرل، حيث يقفز المصارعون فوق الثور ويرقصون حوله، متفادين إياه دون أن يُلحقوا به أذىً حقيقيًا. وفي أماكن أبعد، تؤدي مسابقات الروديو في الولايات المتحدة الغرض نفسه تقريبًا، حيث يمتطي رعاة البقر الثيران الجامحة لأطول فترة ممكنة، معرضين أنفسهم للدهس. حتى الأطفال الصغار يستطيعون تحدي قوة الحيوانات.

ذات مرة، في كولورادو، رأيتُ فقرة "مُصارعة الضأن" المخصصة للصغار في الروديو.     كان الصغار الشجعان يتشبثون بكل قوتهم بظهور الأغنام المذعورة ، التي أُطلقت لتعدو مسرعة عبر الحلبة الرملية، قبل أن ترمي راكبيها الصغار مثل أكياس البطاطس المتهالكة. وكان الفائز بلقب "بطل ركوب الخِراف" ذلك الطفل الذي يصمد أطول فترة على ظهر خروفه الصوفي الجامح.

لماذا يحتاج الناس إلى قتال الثيران؟ لماذا الصراع بين الإنسان والحيوان الذي وصفه همنجواي؟ لطالما عشنا مع الوحوش وعلى الوحوش، لذا أظهرنا ببراعة هيمنتنا على المخلوقات القريبة منا. القتال الماهر أمرٌ حميميٌّ للغاية، ولكنه أكثر من ذلك. نحن وحوش. مصارعة الثيران صراع بين الإنسان ووحشيته. إنها انفجار للعنف، وصمام ضغط للمشكلة الأبدية المتمثلة في كيفية التعامل مع الحيوان في داخلنا، وهو حبيس عالم متحضر. يقوم المصارِع البطولي بذبح ثور قرباني، ممثلاً لهذا الوحش الداخلي، والجمهور يحصل على تطهير عاطفي.  لقد خلق هذا العرض أسطورةً قويةً في مدن مصارعة الثيران في جنوب أوروبا. حتى بالنسبة لمن لا يعيشون بالقرب من ساحات مصارعة الثيران، لا تزال وحوش الثيران تطارد خيالنا.

بينما كانت أوروبا تعاني من ويلات الحرب في أوائل القرن العشرين، أنتج بيكاسو سلسلة من الأعمال التي تربط بين ثقافة مصارعة الثيران و"مينوتور" من العالم القديم، ممزوجة بأسطورته الشخصية.تم استكشاف هذا الموضوع في معرض "بيكاسو: مينوتوروس ومصارعو الثيران" (2017) في صالة جاجوسيان للفنون بلندن. من أشهر صوره، لوحة "مينوتوروماكي" (1935) المهيبة، مينوتورًا مفتول العضلات يلوح في الأفق بتهديد فوق امرأة عارية مستلقية. تُمسك به فتاة صغيرة تحمل شمعة. في بعض لوحات بيكاسو الأخرى، يُجسّد المينوتور قوة ذكورية حامية، يرفع فتاة مترهلة برقة إلى قارب؛ أو فتاة بائسة، ملتفة في وضعية الجنين، مثقوبة بسهم، تراقبها حوريات البحر.

كان الناقد الفني الكبير جون ريتشاردسون - وهو من عاصر بيكاسو وتوفي بعد أشهر من إشرافه على معرض غاغوسيان - قد كشف النقاب عام 2008 عن الجانب المظلم في شخصية الفنان. فبعد أن ذاق مرارة النقد اللاذع في بداياته، صار بيكاسو يتلذذ بإيقاع العذاب بالنقاد. كان ينقش لوحات بالغة التعقيد على رمال الشاطئ، ثم يقف متلذذاً وهو يرى علامات الذهول على وجوههم حين تأتي الأمواج فتمحو تلك التحف الفنية التي لا تُقدّر بثمن.

كان بيكاسو مفعماً بطاقة جارفة: كان يُريد استنباط مشاعرَ من حوله، "كأنه مصاص دماء". اشتهر بإثارة الفوضى في حياة النساء اللاتي عرفهن، عبر سلسلة من العلاقات العاطفية الحادة والخيانات المتكررة. لكنه، مثل بعض مينوتورات بيكاسو المبكية التي رسمها، كان أيضاً - كما أشار ريتشاردسون -   "ضحيةً للمصائب والمأساة" .

لقد كانت مينوتورات بيكاسو بمثابة قاعة مرايا من الصور ينظر من خلالها إلى ذاته. أما دوريان جراي لأوسكار وايلد فكانت له لوحة في علّيته تشيخ نيابة عنه بينما هو يستسلم لغرائزه الدنيا. أما بيكاسو فكان لديه مجموعة من المخلوقات الثوريّة الضخمة لتجسيد تلك الصفات القوية التي لم يستطع جسده الصغير احتضانها. في بعض الأحيان، كان يرتدي أحد رؤوس الثور التي يرتديها مصارعو الثيران أثناء التدريب ليُصور بها - ليصبح حرفيًا مينوتورًا. قال بيكاسو نفسه عام 1960: "لو وُسمت جميع الطرق التي سلكتها على خريطة ووُصلت بخط، لربما مثلت مينوتورًا". لقد ترك رحلة بيكاسو كإنسان أثرًا لوحش.

قليل من الناس يفكرون في أنفسهم ككائنات نصف-وحش محاصرة في قوالب بشرية، لكن هناك صدى للحيوان في كل واحد منا. وحش نكافح معه، كبيرًا كان أم صغيرًا، محاصرًا ومقيدًا في متاهة الحياة الحديثة. يبحث هذا الفصل في كيفية تعاملنا مع المينوتور، المحاصرين بعناية في متاهات عقولنا، وتكلفة إبعادهم.

قبل وقت قصير من رسم بيكاسو لوحاته لرجال-الثيران، كانت أنقاض قصر قديم تُكتشف في كنوسوس، على مشارف هيراكليون في كريت. لم يكن عالم الآثار الشاب آرثر إيفانز أول من نقب هناك، بل سار على خطى عدد من الآثاريين اليونانيين. لكن أصولهم لم تتناسب مع الروايات البطولية لاكتشافات القرن العشرين الأثرية كما فعلت قصة إيفانز، فظل هو من يحظى بأضواء الشهرة بأثر رجعي.

كان إيفانز مُلِمًّا بفكرة أن كنوسوس قد تكون موقع قصر الملك مينوس ومتاهته. كانت هذه صلةً ابتكرها الكُتّاب الرومان القدماء، وأُعيد إحياؤها مرارًا على مر القرون، وافترضها الكثيرون في أوروبا في أوائل القرن العشرين. كان إيفانز مُتشكِّكًا في البداية في هذه الصلة، إذ كان يعلم أنها لم تُذكر حتى في النصوص اليونانية الكلاسيكية. ولكن عندما اكتشف مجموعةً من الممرات والغرف المُتعرِّجة في كنوسوس، لم يستطع منع نفسه. ففي مُخيَّلته، استحضرت الآثار المتاهة وقصر الملك مينوس. وقد أطلق على الحضارة المُكتشفة حديثًا اسم "المينوية"، تيمُّنًا بالملك الأسطوري.

سيصبح هذا الارتباط هوسًا لإيفانز ويأسر عقول علماء الآثار من بعده. ولكن زيارة كينوسوس بحثًا عن آثار المتاهة هي مهمة عبثية. رغم أن هذه الفكرة تعتبر مصدرًا رئيسيًا للإيرادات لصناعة السياحة في كريت، لم يتم العثور على أي أثر فعلي للمتاهة في كينوسوس. كنت أعرف هذا عندما زرت الموقع. كان الموقع الذي يقع على قمة التل يبرز في السماء، محاطًا بقِمم جبلية شاحبة محفوفة بالأشجار الداكنة. كان يبدو وكأنه مكان أسطوري. في أعماقي، كنت آمل سرا أن أواجه آثارًا لخطوات المينوتور وأثره لتلهمني هذا الفصل. لكن كان من الممكن أن أكون قد تجولت في شوارع كابري السياحية المبالغ في أسعارها بحثًا عن صفارات أو حوريات بحرية.

لا شك أن روح كريت القديمة كانت متشابكة مع الثيران، تمامًا كما هي الحال في آراس اليوم.

كان القصر مزخرفًا بالرسوم الجدارية والتماثيل التي تظهر ثيرانًا وأشكالًا بشرية راقصة، تقفز فوق أجسادها المتلوية والمليئة بالعضلات. أشعلت هذه الرموز حماس إيفانز في رحلة البحث عن المتاهة. بدأ بسرد قصة إحدى أقدم الحضارات الأوروبية، التي ازدهرت حتى حوالي عام 1450 قبل الميلاد. كانت كريت قد قامت بالتجارة عبر بحر إيجة، وبلاد ما بين النهرين—حتى أنها وصلت إلى شمال أوروبا—وأصبحت غنية لدرجة أنها هيمنت على جميع الجزر المتوسطية المجاورة. في النصوص المبكرة، كانت هذه القوة المتزايدة تُنسب إلى طموح وقوة الملك مينوس،  لكن سواء كان شخصية تاريخية حقيقية أم مجرد رمز، فهذا أمر لن نعرفه أبدًا.

تذكر هذه الأساطير القديمة سراً مظلماً يكمن تحت قصر الملك. متاهة : مجموعة من الممرات الصخرية المتعرجة التي تلتف حول نفسها، تتشابك وتتداخل في تعقيد لا ينفك. من مدخل واحد، كانت تقود إلى قلب هذه المتاهة الغامضة. بناها الصانع الماكر دايدالوس، الرجل الوحيد القادر على صنع متاهة حقيقية لا مهرب منها.في أعماق هذا التيه، كان يسكن مخلوق لم يرغب الملك مينوس أبداً أن يرى نور النهار، ولا حتى أن يُذكر اسمه في أروقة القصر: ابن زوجته.

كان اسم الصبي أستيريون (Asterion)، ويعني "النجم المتلألئ" - ويا لسخرية القدر، فقد نادرًا ما رأى السماء. وُلد من زوجة مينوس، باسيفاي، نتيجة رغبتها العارمة في ثور أبيض لامع. كان هذا الثور قد خرج من زبد البحر، هدية من إله البحر بوسيدون ليُضحَّى به تكريمًا له. لكن مينوس، الذي أعماه الجشع، احتفظ بالثور ضمن قطعانه، وقدم بدلًا منه حيوانًا آخر، معتقدًا أن بوسيدون لن يلاحظ الخدعة.

كعقاب، ملأ بوسيدون زوجة مينوس برغبة جامحة لا تُروى تجاه الثور الأبيض. بقيت عند حظيرته، تراقب خاصرته البيضاء اللامعة، وتتنهد شوقًا. وإذ أرهقتها استحالة العلاقة بين نوعين مختلفين، توسلت إلى المثال دايدالوس لمساعدتها. فصنع لها نموذجًا واقعيًا لبقرة—مجوفًا ومكسوًا بجلد بقري. حمله إلى وسط الحقل، وساعدها على الدخول إليه، ثم تركها لمتعتها المشبوهة مع عاشقها البقري.

قلة من الناس يرون أنفسهم كأنصاف وحوش محاصرين في هيئة بشرية، لكن هناك صدى للحيوان في داخل كل واحد منا.

كان الطفل الذي أنجبته من هذا الزواج وحشًا، طفلًا برأس ثور. لكنه كبر بسرعة، مختبئًا، وأصبح عنيفًا وقويًا بشكل لا يُصدق. لذا، زجّ مينوس الشاب الوحشي في ظلمة المتاهة. لم يُسمع في أرض القصر سوى صدى زئيره الخافت. مع ذلك، كان لا بد من إطعام المخلوق.

كل تسع سنوات، كانت تصل سفينةٌ من أثينا تُرسل جزيةً مؤلفة من أربعة عشر شابًا وفتاة، وهي ضريبةٌ فرضتها جيوش مينوس. كانت تُقام لهم وليمةٌ فاخرة ويزيّنون بأكاليل الزهور، ويغمرون بترف ليلةً واحدة. في اليوم التالي، لكن في صباح اليوم التالي، كانت ترتجف أجسادهم وهم يواجهون لوح باب المتاهة الحجري. لن يروه إلا مرةً واحدة، قبل أن يبتلعهم الظلام إلى الأبد.

أتخيل أن أستيريون كان يشعر بدخول القرابين عبر الممرات المتعرجة. سنوات الانتظار في الظلام الدامس شحذت حواسه لكل تغيير طفيف: النمو البطيء والمؤلم للشقوق في الحجر، أو أعمدة الغبار الصغيرة التي تثيرها أقدام الجرذان الهاربة. لم تكن عيناه مهيأتين للظلام، لكن أذنيه السوداوين الناعمتين التقطتا أصداء رعبهم الخافتة. أنفه الرطب التقط كل رائحة باهتة. مع دخول الشبان والشابات، اشتعل الهواء الراكد برائحة عرق الخوف النفاذة. لم يكن بحاجة إلى مطاردتهم—فهم سيأتون إليه بأنفسهم. كل مسار في المتاهة قادهم إلى مركزها، حيث تاهت خطواتهم في دوامة من الرعب، دافعةً إياهم نحو ما كانوا يفرون منه.

بعد واحد وعشرين عامًا من سجنه، سمع المينوتور للمرة الثالثة صدى ارتطام باب المتاهة وهو يُغلق بعنف. التقط أنفه رائحة الخوف المعتادة، لكن وسط هذا الذعر كان هناك شيء مختلف: تصميم. لأول مرة، شعر بغضب مشوب بنذير شؤم. كان هناك شيء قادم نحوه.

كان ثيسيوس، ابن بوسيدون، وربيب ملك أثينا، عازمًا على تحرير شعبه من طغيان مينوس. كان يحمل جائزةً ستنقذه من المتاهة - خيطًا أحمرَ قانيًا أهدته إياه أخت أستيريون غير الشقيقة الجميلة، أريادن. كانت قد وقعت في حب الأمير الشاب وهو يرقص في الوليمة الليلة السابقة، وقررت إنقاذ ثيسيوس من مصيره المظلم. حاصرته، بينما كان المحتفلون السكارى يمرحون حولهما، لفّته بعطرها الدافئ، وأغلقت أصابعه حول الكرة الخيطية. كانت وعدًا بالحرية — بشرط أن يأخذها ثيسيوس معه بعيدًا.

في صباح اليوم التالي، بينما كان سائر الأثينيين يتراجعون مرتعدين بجوار الباب، منكمشين من ظلال المتاهة، ربط ثيسيوس طرف الخيط بإحكام وأخذ يفكك الكرة الخيطية بجانبه متقدماً في الظلام. رسم الخيط اللامع خطواته نحو عرين الوحش ثم—بعد أن غُمر بالدماء وخَرَجَ منتصراً—قاده مرة أخرى إلى النور. فتح الشباب الباب ببطء ، وانسلّت الشخصيات الأربع عشرة ليلاً نحو الميناء. في ظلمة المتاهة، ظلت كومة سوداء ساكنة على الأرض الرملية في مركز التيه. غمضت عينا أستيريون وتغيرت نظرتهما تدريجيًا.

***

..............................

* من كتاب "مخلوقات مسحورة: وحوشنا ومعانيها" لناتالي لورانس.

الكاتبة: ناتالي لورانس/ Natalie Lawrence: ناتالي لورانس كاتبة ورسامة وباحثة. حاصلة على شهادة في العلوم الطبيعية، وحصلت على شهادة الدكتوراه في تاريخ وفلسفة العلوم من جامعة كامبريدج عن عملها على الوحوش الغريبة في العصر الحديث المبكر. نشرت كتاب "الإنسان العاقل" مع باكو كالفو عام ٢٠٢٢، وأول كتاب منفرد لها بعنوان "ريش وقشور بيض" عندما كانت مراهقة. نُشرت كتاباتها في مجلات "نيو ساينتست"، و"مجلة أيون"، و"أطلس أوبسكورا"، و"بي بي سي للحياة البرية"، وغيرها، كما ألقت محاضرات في مؤتمرات تيدكس، وراديو بي بي سي، وبرامج بودكاست. تعيش في لندن مع خزانة فضولها، وأحيانًا مع عثة الأطلس.

 

تَأْثِيرُ بِيئَةِ الْمَدْرَسَةِ عَلَى سُلُوكِ الْأَطْفَالِ وَمَيْلِهِمْ لِلْجَرِيمَةِ

الْمَدْرَسَةُ هِيَ مُؤَسَّسَةٌ تَعْلِيمِيَّةٌ يَتَعَلَّمُ فِيهَا الطُّلَّابُ مُخْتَلِفَ الْعُلُومِ. تَمُرُّ الدِّرَاسَةُ بِعِدَّةِ مَرَاحِلَ: الِابْتِدَائِيَّةِ، الْإِعْدَادِيَّةِ، وَالثَّانَوِيَّةِ. كَمَا تَنْقَسِمُ الْمَدَارِسُ إِلَى مَدَارِسَ خَاصَّةٍ وَحُكُومِيَّةٍ. يَبْدَأُ التَّعْلِيمُ الْإِجْبَارِيُّ عِنْدَ سِنِّ السَّادِسَةِ مِنْ الْعُمْرِ، بِهَدَفِ تَعْلِيمِ الطِّفْلِ أُسُسَ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالْحِسَابِ. وَتُعَدُّ الْمَرْحَلَةُ الِابْتِدَائِيَّةُ مِنْ أَبْرَزِ الْمَرَاحِلِ فِي تَشْكِيلِ شَخْصِيَّةِ الطِّفْلِ وَتَوْجِيهِهِ.

تَتَمَثَّلُ أَهَمِّيَّةُ الْمَدْرَسَةِ لِلطَّالِبِ وَأُسْرَتِهِ فِي التَّعَاوُنِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا فِي تَرْبِيَةِ الطَّالِبِ، حَيْثُ يَقْضِي وَقْتًا طَوِيلًا يَوْمِيًّا دَاخِلَهَا. لِلْمَدْرَسَةِ دَوْرٌ فِي تَنْمِيَةِ شَخْصِيَّةِ الطَّالِبِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَهِيَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مَكَانٍ لِلتَّعَلُّمِ، بَلْ بِيئَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ تُتِيحُ لَهُ التَّفَاعُلَ مَعَ زُمَلَائِهِ وَمُعَلِّمِيهِ. كَمَا تُسَاهِمُ الْمَدْرَسَةُ فِي مُسَاعَدَةِ الْأُسْرَةِ عَلَى اكْتِشَافِ مَوَاهِبِ الطِّفْلِ وَتَطْوِيرِهَا.

إِنَّ مُجْتَمَعَ الْمَدْرَسَةِ يُعَدُّ أَوَّلَ بِيئَةٍ خَارِجِيَّةٍ يَتَعَرَّضُ لَهَا الطِّفْلُ بَعْدَ فَتْرَةٍ مِنْ الْعُمْرِ قَضَاهُ مَعَ أُسْرَتِهِ. هِيَ بِيئَةٌ مُؤَقَّتَةٌ لِلطِّفْلِ، حَيْثُ يَمُرُّ بِهَا حَتَّى نِهَايَةِ سَنَوَاتِ الدِّرَاسَةِ أَوْ فِي حَالِ فَشَلِهِ الْأَكَادِيمِيِّ، فَيَنْتَقِلُ إِلَى بِيئَةٍ أُخْرَى مِثْلِ مُجْتَمَعِ التَّدْرِيبِ الْمِهْنِيِّ. تَلْعَبُ الْمَدْرَسَةُ دَوْرًا تَهْذِيبِيًّا مُهِمًّا، فَهِيَ تَمْنَحُ الطِّفْلَ الْمَعْرِفَةَ، وَتُعَلِّمُهُ الْقِيَمَ الدِّينِيَّةَ وَالْأَخْلَاقِيَّةَ، وَتَعُدُّهُ لِلْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ عِنْدَ انْدِمَاجِهِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْأَوْسَعِ. لَا يُعْتَبَرُ مُجْتَمَعُ الْمَدْرَسَةِ مِنْ عَوَامِلِ الْإِجْرَامِ، بَلْ هُوَ بِيئَةٌ تَعْلِيمِيَّةٌ وَتَرْبَوِيَّةٌ تُسَاهِمُ فِي تَهْذِيبِ الطِّفْلِ خِلَالَ السَّاعَاتِ الَّتِي يَقْضِيهَا بَعِيدًا عَنْ أُسْرَتِهِ. يَلْعَبُ دَوْرُ الْمَدْرَسَةِ التَّعْلِيمِيُّ أَهَمِّيَّةً كَبِيرَةً فِي تَحْدِيدِ مُسْتَقْبَلِ الطِّفْلِ، وَيَتَطَلَّبُ نَجَاحُهُ تَأْهِيلَ الْمُعَلِّمِينَ وَالتَّعَاوُنَ بَيْنَ الْأُسْرَةِ وَالْمَدْرَسَةِ. أَمَّا الدَّوْرُ التَّرْبَوِيُّ وَالتَّهْذِيبِيُّ لِلْمَدْرَسَةِ، فَيَتَمَثَّلُ فِي تَعْلِيمِ الْقِيَمِ وَالْمُثُلِ الْعُلْيَا، بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَنَّ الْمُعَلِّمَ يُعَدُّ نَمُوذَجًا يُحْتَذَى بِهِ بِالنِّسْبَةِ لِتَلَامِيذِهِ، مِمَّا يَزِيدُ الْمَسْؤُولِيَّةَ عَلَى عَاتِقِهِ، وَيَدْفَعُهُ لِلْعَمَلِ بِجِدٍّ لِيَكُونَ قُدْوَةً حَسَنَةً لِطُلَّابِهِ.

لِذَلِكَ، تُعَدُّ الْمَدْرَسَةُ عَامِلًا وِقَائِيًّا مِنْ الِانْحِرَافِ وَالْإِجْرَامِ إِذَا أَدَّتْ دَوْرَهَا التَّعْلِيمِيَّ وَالتَّرْبَوِيَّ بِشَكْلٍ صَحِيحٍ، بَيْنَمَا قَدْ يُسْهِمُ غِيَابُ هَذَا الدَّوْرِ فِي انْحِرَافِ الطِّفْلِ. وَيُؤَثِّرُ الْفَشَلُ الدِّرَاسِيُّ سَلْبًا عَلَى نَفْسِيَّةِ الطِّفْلِ وَسُلُوكِهِ، حَيْثُ يُؤَدِّي عَدَمُ التَّكَيُّفِ مَعَ بِيئَةِ الْمَدْرَسَةِ إِلَى مُحَاوَلَةِ الْهُرُوبِ مِنْهَا. وَيَعْنِي الْهُرُوبُ عَدَمَ الْتِزَامِ التِّلْمِيذِ بِوَقْتِهِ دَاخِلَ قَاعَاتِ الدِّرَاسَةِ، مِمَّا قَدْ يَدْفَعُهُ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ بَدَائِلَ، كَقَضَاءِ الْوَقْتِ فِي الشَّوَارِعِ، حَيْثُ يَكُونُ عُرْضَةً لِلتَّأَثُّرِ بِرِفَاقِ السُّوءِ وَاكْتِسَابِ سُلُوكِيَّاتٍ مُنْحَرِفَةٍ. 

الْفَشَلُ الدِّرَاسِيُّ يَحْمِلُ دَلَالَةً اجْتِمَاعِيَّةً، إِذْ يَعْكِسُ ضَعْفَ شَخْصِيَّةِ الطِّفْلِ وَعَجْزَهُ عَنْ التَّكَيُّفِ مَعَ الضَّوَابِطِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ. كَمَا قَدْ يُشِيرُ إِلَى وُجُودِ مَشَاكِلَ دَاخِلِيَّةٍ قَدْ تُؤَدِّي، إِذَا لَمْ تُعَالَجْ سَرِيعًا، إِلَى الِانْحِرَافِ وَالْإِجْرَامِ مُسْتَقْبَلًا. بِالْإِضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ، يُمْكِنُ أَنْ يُوَلِّدَ الْفَشَلُ الدِّرَاسِيُّ لَدَى الطِّفْلِ عُقَدًا نَفْسِيَّةً خَطِيرَةً، حَيْثُ يَشْعُرُ بِالظُّلْمِ وَالْحِقْدِ تُجَاهَ الْمُجْتَمَعِ الَّذِي يَعْتَبِرُهُ مَسْؤُولًا عَنْ فَشَلِهِ. هَذِهِ الْعُقَدُ تَتَطَوَّرُ إِلَى عَدَاءٍ لِلْمُجْتَمَعِ وَقَدْ تَقُودُ الطِّفْلَ إِلَى سُلُوكِيَّاتٍ لَا اجْتِمَاعِيَّةٍ.

إِذَا اقْتَرَنَ الْفَشَلُ الدِّرَاسِيُّ بِفَشَلِ الطِّفْلِ فِي تَعَلُّمِ حِرْفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَهَذَا يَعْنِي انْغِلَاقَ فُرَصِ الْعَمَلِ أَمَامَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى شُعُورِهِ بِالْيَأْسِ وَالْإِحْبَاطِ وَالتَّمَرُّدِ عَلَى النِّظَامِ الِاجْتِمَاعِيِّ. كَمَا أَنَّ الْفَاشِلَ فِي الدِّرَاسَةِ وَفِي التَّدْرِيبِ الْمِهْنِيِّ يَكُونُ أَكْثَرَ عُرْضَةً لِلْبِطَالَةِ وَالْعَوَامِلِ الِاقْتِصَادِيَّةِ الَّتِي قَدْ تَدْفَعُهُ نَحْوَ الِانْحِرَافِ. وَبِالتَّالِي، يَتَعَلَّمُ التِّلْمِيذُ الْفَاشِلُ مُنْذُ الْبِدَايَةِ الْعَيْشَ عَلَى هَامِشِ الْقَوَاعِدِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، مُحَاوِلًا التَّمَلُّصَ مِنْ السُّلُوكِ السَّوِيِّ. وَهَذَا يَعْكِسُ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ فَشَلَ التَّعْلِيمِ وَالتَّرْبِيَةِ يَتَرَافَقُ مَعَ تَدْرِيبٍ عَلَى السُّلُوكِيَّاتِ اللَّااجْتِمَاعِيَّةِ، الَّتِي تُمَهِّدُ الطَّرِيقَ نَحْوَ الْإِجْرَامِ.

الْفَشَلُ الدِّرَاسِيُّ، كَمَا أَشَرْنَا، قَدْ يُؤَدِّي إِلَى انْتِقَالِ الْحَدَثِ إِلَى مَرْحَلَةِ الْإِعْدَادِ الْمِهْنِيِّ، أَوْ قَدْ يَلْتَحِقُ بِهَا بَعْدَ إِتْمَامِ الْمَرْحَلَةِ الْأَسَاسِيَّةِ مِنْ التَّعْلِيمِ لِلتَّدَرُّبِ عَلَى حِرْفَةٍ. وَيَخْتَلِفُ مُجْتَمَعُ الْإِعْدَادِ الْمِهْنِيِّ عَنْ الْأُسْرَةِ وَالْمَدْرَسَةِ، نَظَرًا لِضَعْفِ أَوْ غِيَابِ الدَّوْرِ التَّهْذِيبِيِّ وَالتَّرْبَوِيِّ، إِذْ تَقْتَصِرُ هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ عَلَى التَّدْرِيبِ الْعَمَلِيِّ. وَخِلَالَهَا، يَتَمَتَّعُ الْحَدَثُ بِقَدْرٍ مِنْ الْحُرِّيَّةِ قَدْ يُسِيءُ اسْتِغْلَالَهُ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى حُصُولِهِ عَلَى أَجْرٍ قَدْ يُسَهِّلُ بَعْضَ السُّلُوكِيَّاتِ غَيْرِ السَّوِيَّةِ. وَمَعَ اعْتِيَادِهِ عَلَى الْإِنْفَاقِ مِنْ دَخْلِهِ، قَدْ لَا يَكْفِيهِ لِسَدِّ احْتِيَاجَاتِهِ، مِمَّا قَدْ يَدْفَعُهُ إِلَى السَّرِقَةِ، الَّتِي غَالِبًا مَا تَكُونُ مِنْ مَكَانِ التَّدْرِيبِ أَوْ الزُّمَلَاءِ. كَمَا قَدْ يَنْجَذِبُ، تَحْتَ إِغْرَاءِ الْمَالِ، إِلَى تَقْلِيدِ زُمَلَائِهِ الْمُدَخِّنِينَ، مِمَّا قَدْ يَقُودُهُ لَاحِقًا إِلَى تَعَاطِي الْمُخَدِّرَاتِ.

يُعَدُّ فَهْمُ أُسْلُوبِ الْحَيَاةِ الْمَدْرَسِيَّةِ شَرْطًا أَسَاسِيًّا لِكُلِّ مُرَبٍّ فَاضِلٍ يَسْعَى لِأَدَاءِ دَوْرِهِ بِفَاعِلِيَّةٍ دَاخِلَ هَذِهِ الْمُؤَسَّسَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْمُهِمَّةِ، الَّتِي أَنْشَأَهَا الْمُجْتَمَعُ لِتَزْوِيدِ أَبْنَائِهِ بِالْمَهَارَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْمُنَاسِبَةِ، مِمَّا يُمَكِّنُهُمْ مِنْ التَّفَاعُلِ الْإِيجَابِيِّ وَالْمُنْتِجِ مَعَ بِيئَتِهِمْ.

فِي هَذَا السِّيَاقِ، تُشِيرُ دِرَاسَةٌ حَدِيثَةٌ أَجْرَتْهَا مُؤَسَّسَةُ رَانِدْ الْأَمْرِيكِيَّةُ لِلْأَبْحَاثِ وَالتَّطْوِيرِ إِلَى أَنَّ تَأْثِيرَ الْمُعَلِّمِ عَلَى تَحْصِيلِ الطَّالِبِ يَتَفَوَّقُ عَلَى تَأْثِيرِ الْعَوَامِلِ الْمَدْرَسِيَّةِ الْأُخْرَى مِثْلِ الْمَرَافِقِ الْحَدِيثَةِ وَخِدْمَاتِ الدَّعْمِ الْمُخْتَلِفَةِ. فَالْمُعَلِّمُ الْمُمَيَّزُ يَمْتَلِكُ قُدْرَةً كَبِيرَةً عَلَى تَحْسِينِ مُخْرَجَاتِ الْعَمَلِيَّةِ التَّعْلِيمِيَّةِ، وَتَحْقِيقُ مَا يَفُوقُ الْأَدَاءَ الْمُتَوَقَّعَ لِلطَّالِبِ. حَيْثُ لَا يَقْتَصِرُ دَوْرُهُ عَلَى تَحْقِيقِ نَتَائِجَ جَيِّدَةٍ فِي الِاخْتِبَارَاتِ الْمُوَحَّدَةِ فَحَسْبُ، بَلْ يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ إِلَى تَحَدِّي الطُّلَّابِ وَمُكَافَأَتِهِمْ عَلَى مَهَارَاتِ التَّفْكِيرِ النَّقْدِيِّ.

يَقُومُ الْمُعَلِّمُ فِي نِهَايَةِ الْعَامِ الدِّرَاسِيِّ بِتَقْيِيمِ مَجْمُوعَةِ الْمَهَارَاتِ وَالْمَعَارِفِ الَّتِي اكْتَسَبَهَا الطَّالِبُ خِلَالَ الْعَامِ، وَكَذَلِكَ التَّحَدِّيَاتِ الَّتِي وَاجَهَهَا وَكَيْفِيَّةُ تَجَاوُزِهَا فِي الْمَرْحَلَةِ الدِّرَاسِيَّةِ الْمُقْبِلَةِ. وَبِالتَّالِي، يَلْعَبُ الْمُعَلِّمُ دَوْرًا رَئِيسِيًّا فِي إِرْشَادِ الطُّلَّابِ وَتَشْجِيعِهِمْ عَلَى اسْتِكْمَالِ تَعْلِيمِهِمْ، وَالْمُشَارَكَةِ فِي الْأَنْشِطَةِ وَالْفَعَالِيَّاتِ الَّتِي تُسْهِمُ فِي صَقْلِ شَخْصِيَّاتِهِمْ وَتَحْسِينِ أَدَائِهِمْ.

يَلْعَبُ الْمُعَلِّمُ دَوْرٌ هَامٌّ فِي التَّأْثِيرِ عَلَي شَخْصِيَّةِ طِفْلِكَ وَفِي تَشْكِيلِ مُسْتَقْبَلِهِ. حَيْثُ يُوَفِّرُ الْمُعَلِّمُ لِلْأَطْفَالِ أَسَاسًا تَعْلِيمِيًّا مَتِينًا وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ تَشْجِيعٍ وَدَعْمٍ لِلْمُثَابَرَةِ وَالنَّجَاحِ فِي مَسَاعِيهِمْ. فَدَوْرُ الْمُعَلِّمِ الْجَيِّدِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودٌ دَائِمًا لِتَوْجِيهِ طُلَّابِهِ إِلَي الِاتِّجَاهِ الصَّحِيحِ. وَيَدْفَعُهُمْ دَائِمًا أَنْ يُصْبِحُوا أَفْرَادٌ صَالِحِينَ وَمُنْتِجِينَ فِي الْمُجْتَمَعِ.

تُعَدُّ الْقُدْرَةُ عَلَى تَمْيِيزِ السُّلُوكِيَّاتِ دَاخِلَ الْمَدَارِسِ مِنْ أَهَمِّ خَصَائِصِ الْمُرَبِّي الْفَاضِلِ، الَّذِي يَتَأَكَّدُ مِنْ أَنَّ وُجُودَ بَعْضِ السُّلُوكِيَّاتِ لَدَى الطُّلَّابِ، مِثْلَ الْغِيَابِ الْمُتَكَرِّرِ، وَالتَّسَرُّبِ، وَعَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِالْوَاجِبَاتِ الْمَنْزِلِيَّةِ، وَمُخَالَفَةِ الْأَنْظِمَةِ الْمَدْرَسِيَّةِ، قَدْ يَكُونُ مُؤَشِّرًا عَلَى انْحِرَافٍ مُحْتَمَلٍ. لِذَا يَجِبُ عَلَيْهِ دِرَاسَةُ هَذِهِ السُّلُوكِيَّاتِ وَالتَّعَاوُنُ الْبَنَّاءُ مَعَ الْأُسْرَةِ لِلْقَضَاءِ عَلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي قَدْ تَجْعَلُ الطَّالِبَ مُهَيَّأً لِلِانْحِرَافِ.

مِنْ هُنَا، يَأْتِي دَوْرُ الْمَدَارِسِ فِي دِرَاسَةِ السُّلُوكِيَّاتِ ذَاتِ الْمُؤَشِّرِ الِانْحِرَافِيِّ، مِنْ خِلَالِ تَحْلِيلِ هَذِهِ الْمَظَاهِرِ سَوَاءٌ عَلَى مُسْتَوَى الْفَرْدِ أَوْ الْمَجْمُوعَةِ، بِالتَّعَاوُنِ بَيْنَ الْمُعَلِّمِ وَالْمُرْشِدِ الطُّلَّابِيِّ. ثُمَّ يَتِمُّ التَّوَاصُلُ مَعَ الْأُسْرَةِ لِتَنْظِيمِ التَّعَاوُنِ بَيْنَ الْمَدْرَسَةِ وَالْبَيْتِ بِهَدَفِ مَعْرِفَةِ أَسْبَابِ هَذِهِ السُّلُوكِيَّاتِ، وَاتِّخَاذِ الْإِجْرَاءَاتِ اللَّازِمَةِ لِعِلَاجِهَا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحَ سِمَةً ثَابِتَةً مِنْ سِمَاتِ الِانْحِرَافِ.

مِنْ الْجَدِيرِ بِالذِّكْرِ أَنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ كَانَتْ قَائِمَةً عَلَى الْحُبِّ وَالِاحْتِرَامِ وَالْإِخْلَاصِ، حَيْثُ كَانَ الْمُعَلِّمُ بِمَثَابَةِ الْوَالِدِ الَّذِي يُرْشِدُ أَبْنَاءَهُ وَيَسْعَى لِخَيْرِهِمْ، وَكَانَ التِّلْمِيذُ فِي مَقَامِ الِابْنِ الْمُطِيعِ، يُعَبِّرُ عَنْ بِرِّهِ وَإِجْلَالِهِ لِمُعَلِّمِهِ الَّذِي يَرَى فِيهِ سَبِيلَ صَلَاحِهِ وَنَجَاحِهِ. كَانَ اَلتِّلْمِيذُ يَخْضَعُ لِأُسْتَاذِهِ بِالْأَدَبِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ طَلَبًا لِلْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْأَدَبِ الرَّفِيعِ، وَهَذَا مَا شَهِدَتْ بِهِ الْمَوَاقِفُ الْمُشْرِقَةُ فِي تَارِيخِنَا التَّرْبَوِيِّ.

لَكِنْ لِلْأَسَفِ الشَّدِيدِ، أَصْبَحَتْ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ فِي عَصْرِنَا الْحَالِيِّ مَلِيئَةً بِالْجَفَاءِ وَالتَّوَتُّرِ، وَاتَّسَعَتْ الْهُوَّةُ بَيْنَهُمَا بِشَكْلٍ مَلْحُوظٍ. فَقَدْ غَابَ الْوَعْيُ لَدَى الطَّرَفَيْنِ، مِمَّا أَدَّى إِلَى مَا نَرَاهُ مِنْ عُقُوقٍ وَعِصْيَانٍ بَعِيدٍ عَنْ مَبَادِئِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ. هَذَا الْوَضْعُ الْمُتَأَزِّمُ أَلْحَقَ بِالْعَمَلِيَّةِ التَّرْبَوِيَّةِ ضَعْفًا كَبِيرًا، جَعَلَ التَّعْلِيمَ أَشْبَهَ بِجَسَدٍ بِلَا رُوحٍ، بَعْدَ أَنْ غَابَتْ عَنْهُ الْمَبَادِئُ الْإِنْسَانِيَّةُ السَّامِيَةُ. وَمَعَ التَّحَوُّلَاتِ الَّتِي يَشْهَدُهَا الْمُجْتَمَعُ، أَصْبَحَ الْعُنْفُ اللَّفْظِيُّ يَتَّخِذُ أَشْكَالًا مُتَعَدِّدَةً، حَيْثُ بَاتَ بَعْضُ الْمُعَلِّمِينَ لَا يَتَوَرَّعُونَ عَنْ اسْتِخْدَامِ أَلْفَاظٍ نَابِيَةٍ مُسْتَوْحَاةٍ مِنْ قَامُوسٍ هَابِطٍ، فَيَشْتُمُّونَ التَّلَامِيذَ بِأَبْشَعِ الْعِبَارَاتِ.

كَمَا يَصِلُ الْأَمْرُ أَحْيَانًا إِلَى الْعُنْفِ الْجَسَدِيِّ، مِثْلَ الضَّرْبِ وَالصَّفْعِ وَالْقُرْصِ وَالدَّفْعِ وَشَدِّ الشَّعْرِ وَالطَّرْدِ. وَرَغْمَ مُرُورِ الزَّمَنِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسَالِيبَ الْبَالِيَةَ مَا زَالَتْ رَاسِخَةً فِي الْأَذْهَانِ، وَيَلْجَأُ إِلَيْهَا بَعْضُ الْمُرَبِّينَ لِفَرْضِ هَيْبَتِهِمْ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى إِنْتَاجِ أَجْيَالٍ مُنْحَرِفَةٍ وَمَرِيضَةٍ. وَالْكَارِثَةُ أَنَّ الْعَدِيدَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْأُمُورِ يُشَجِّعُونَ عَلَى هَذِهِ الْأَسَالِيبِ تَحْتَ حُجَّةِ التَّرْبِيَةِ وَدَفْعِ الْأَبْنَاءِ لِلتَّفَوُّقِ الْعِلْمِيِّ. وَهَذَا مَا دَفَعَ بَعْضَ الْأَسَاتِذَةِ إِلَى اسْتِخْدَامِ سُلْطَةِ النِّقَاطِ، فَيُوَزِّعُونَهَا بِشَكْلٍ انْتِقَائِيٍّ عَلَى التَّلَامِيذِ وَفْقًا لِمَعَايِيرِ النُّفُوذِ وَالْمَظْهَرِ، دُونَ أَدْنَى اعْتِبَارٍ لِلْكَفَاءَةِ أَوْ الْقُدُرَاتِ.

يَزْدَادُ الْأَمْرُ خُطُورَةً مَعَ انْتِشَارِ ظَاهِرَةِ التَّحَرُّشِ الْجِنْسِيِّ، فَقَدْ أَصْبَحْنَا نَسْمَعُ يَوْمِيًّا عَنْ اتِّهَامَاتٍ بِالتَّحَرُّشِ الْجِنْسِيِّ ضِدَّ أَسَاتِذَةٍ أَوْ مُؤَطَّرِينَ مِنْ قِبَلِ التَّلَامِيذِ. كَمَا نُلَاحِظُ بَعْضَ الْأَسَاتِذَةِ الَّذِينَ يَفْتَخِرُونَ بِرَبْطِهِمْ بِعَلَاقَاتٍ حَمِيمِيَّةٍ مَعَ التِّلْمِيذَاتِ، دُونَ أَيِّ اعْتِبَارٍ "لِلدَّوْرِ الرِّسَالِيِّ" اَلَّذِي مِنْ الْمُفْتَرَضِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ الْأُسْتَاذُ، بِاعْتِبَارِهِ حَامِلًا لِمَشْرُوعٍ تَرْبَوِيٍّ وَأَخْلَاقِيٍّ وَثَقَافِيٍّ.

قَدْ يَصِلُ الْأَمْرُ أَحْيَانًا بِبَعْضِ الْأَسَاتِذَةِ إِلَى الِانْشِغَالِ بِأُمُورِ التِّجَارَةِ وَمُرَاكَمَةِ الثَّرَوَاتِ، وَبِالْحَيَاةِ الْحِزْبِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ عَلَى حِسَابِ مَهَامِّهِمْ التَّرْبَوِيَّةِ، مِمَّا يُسَاهِمُ فِي تَدَهْوُرِ دَوْرِهِمْ فِي الْعَمَلِيَّةِ التَّعْلِيمِيَّةِ. نَاهِيكَ عَنْ غِيَابِ التَّوَاصُلِ الْفَعَّالِ بَيْنَ الْمُتَعَلِّمِ وَالْأُسْتَاذِ، اَلَّذِي يَتَعَدَّى إِلَى غِيَابِ التَّوَاصُلِ بَيْنَ الْمَدْرَسَةِ وَمُحِيطِهَا السُّوسْيُو- اقْتِصَادِيٍّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ، وَسِيَاقِهَا الْحَضَارِيِّ.

لِأَجْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، تَرَاجَعَتْ الْقُدْسِيَّةُ الَّتِي كَانَ التِّلْمِيذُ يَنْظُرُ بِهَا إِلَى مُعَلِّمِهِ، وَأَصْبَحَ بَعْضُ التَّلَامِيذِ يَتَصَيَّدُونَ جَوَانِبَ ضَعْفِ الْأُسْتَاذِ لِيُعْرِضُوهُ لِلْمَقَالِبِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالتَّهَكُّمِ. وَصَلَتْ الْأُمُورُ إِلَى دَرَجَةِ التَّجْرِيحِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، فَمَا إِنْ تُكْتَبُ الْكَلِمَاتُ الْأُولَى فِي مُحَرِّكَاتِ الْبَحْثِ عَنْ الْبَيْتِ الشِّعْرِيِّ الشَّهِيرِ لِأَمِيرِ الشُّعَرَاءِ "كَادَ الْمُعَلِّمُ أَنْ يَكُونَ..." حَتَّى تَظْهَرَ عَشَرَاتُ الْأَلْقَابِ الَّتِي يُطْلِقُهَا التَّلَامِيذُ عَلَيْهِ وَيَصِفُونَهُ بِهَا. بِالْإِضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ، يُعَانُونَ مِنْ الْإِزْعَاجِ النَّاتِجِ عَنْ الشَّغَبِ الَّذِي يُمَارِسُونَهُ فِي الْفَصْلِ، وُصُولًا إِلَى الْعُنْفِ الْجَسَدِيِّ مِثْلِ الضَّرْبِ وَالْجَرْحِ، الَّذِي قَدْ يُؤَدِّي إِلَى إِعَاقَاتٍ بَدَنِيَّةٍ أَوْ حَتَّى اضْطِرَابَاتٍ نَفْسِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ.

قَدْ تَطَوَّرَ الْأَمْرُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْيَانِ إِلَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ، مِمَّا يُعَدُّ مُؤَشِّرًا قَوِيًّا عَلَى انْقِطَاعِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْمُعَلِّمِ وَالتِّلْمِيذِ، خَاصَّةً مَعَ اسْتِفْحَالِ ظَاهِرَةِ تَنَاوُلِ الْمُخَدِّرَاتِ وَالتَّدْخِينِ وَتَعَاطِي الْحَشِيشِ، وَغَيْرِهَا مِنْ السُّمُومِ الْمُهَلْوَسَةِ. كَمَا تَزَايَدَتْ ظَاهِرَةُ الْمُتَسَكِّعِينَ خَارِجَ الْمُؤَسَّسَاتِ التَّعْلِيمِيَّةِ، الَّذِينَ يَهْدِفُونَ إِلَى التَّحَرُّشِ بِالتِّلْمِيذَاتِ وَالْأُسْتَاذَاتِ أَوْ بَيْعِ الْمُخَدِّرَاتِ. هَؤُلَاءِ الْأَفْرَادُ أَصْبَحُوا يُسَاهِمُونَ بِشَكْلٍ كَبِيرٍ فِي اخْتِلَالِ الْمُعَادَلَةِ التَّرْبَوِيَّةِ، وَفَسَادِ الْهَدَفِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ فُتِحَتْ الْمَدَارِسُ، لِيَتَحَوَّلُوا بِذَلِكَ إِلَى مُؤَسَّسَاتٍ لِتَعْلِيمِ الْإِجْرَامِ وَأَشْكَالِ الِانْحِرَافِ الْمُخْتَلِفَةِ، خَاصَّةً مَعَ انْتِشَارِ الْعَلَاقَاتِ الْعَاطِفِيَّةِ الَّتِي أَصْبَحَتْ مُوضَةً، وَمَا يَنْتُجُ عَنْهَا مِنْ تَبِعَاتٍ سَلْبِيَّةٍ.

حَاصِلُ الْقَوْلِ، الْمَدْرَسَةُ هِيَ الْبِنَاءُ الْمُؤَسَّسِيُّ وَالتَّرْبَوِيُّ وَالِاجْتِمَاعِيُّ الَّذِي يَتَلَقَّى فِيهِ الطُّلَّابُ عِلْمَهُمْ، وَيَتِمُّ الْكَشْفُ عَنْ قُدُرَاتِهِمْ وَمَهَارَاتِهِمْ الَّتِي تَتَنَاسَبُ مَعَ مُيُولِهِمْ وَاحْتِيَاجَاتِهِمْ. إِذْ تَعْمَلُ الْمَدْرَسَةُ جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ مَعَ الْأُسْرَةِ لِتَنْشِئَةِ الْأَجْيَالِ، وَزَرْعِ الْقِيَمِ وَالْأَخْلَاقِ، وَتَنْمِيَةِ إِمْكَانِيَّاتِهِمْ وَصَقْلِ شَخْصِيَّاتِهِمْ. كَمَا تَعْمَلُ الْمَدْرَسَةُ عَلَى حَثِّ الطُّلَّابِ وَتَشْجِيعِهِمْ لِلْحِفَاظِ عَلَى قِيَمِ مُجْتَمَعِهِمْ وَعَادَاتِهِ، وَتَعْزِيزِ قِيَمِ الِانْتِمَاءِ وَالْمُوَاطَنَةِ. كَمَا تَلْعَبُ الْمَدْرَسَةُ دَوْرًا مُهِمًّا فِي تَطْوِيرِ وَبِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ عَبْرَ رَفْدِهِ بِأَفْرَادٍ قَادِرِينَ وَذَوِي كَفَاءَةٍ لِتَحْقِيقِ تَقَدُّمِهِ وَازْدِهَارِهِ. وَرَغْمَ أَهَمِّيَّةِ دَوْرِ الْمَدْرَسَةِ فِي التَّنْشِئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالتَّرْبَوِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ هُنَاكَ قُصُورًا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ فِي أَدَاءِ هَذَا الدَّوْرِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى نَتَائِجَ سَلْبِيَّةٍ عَلَى الطَّلَبَةِ. فَعَدَمُ تَوْفِيرِ بِيئَةٍ تَعْلِيمِيَّةٍ مُلَائِمَةٍ أَوْ غِيَابُ الْمُتَابَعَةِ وَالتَّوْجِيهِ الْفَعَّالِ قَدْ يُسْهِمُ فِي تَفَشِّي مُشْكِلَاتٍ مِثْلِ التَّسَرُّبِ الدِّرَاسِيِّ أَوْ الْعُنْفِ الْمَدْرَسِيِّ. وَهَذَا الْقُصُورُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى تَأْثِيرَاتٍ سَلْبِيَّةٍ عَلَى سُلُوكِيَّاتِ الطُّلَّابِ، وَيَزِيدُ مِنْ احْتِمَالِيَّةِ انْحِرَافِهِمْ وَارْتِكَابِهِمْ لِلْجَرِيمَةِ، خَاصَّةً إِذَا كَانَتْ الْمَدْرَسَةُ عَاجِزَةً عَنْ اكْتِشَافِ احْتِيَاجَاتِهِمْ النَّفْسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَتَوْجِيهِهِمْ بِالطَّرِيقَةِ الصَّحِيحَةِ.

***

الْأُسْتَاذ الدُّكْتور هَانِي جِرْجِسْ يَكْتُبُ

عندما تكون البداية هي نفض الغبار عن المشهد علينا ان لا نلعب لعبة المجتمع الشرقي ونتقبل النهاية الخاصة والمرغوبة في الصراع من اجل استقلال فكري في ظل أنظمة النفاق المعرفي التي تتمثل في فن التظاهر المعرفي للحق اننا لا نملك الا أسلحة نبيلة وقليلة، ونحن تحت حكم مجتمعي يعاني من الكتمان القسري من اجل حماية العقيدة الذي يؤدي الى تصدع جدران المعرفة الإنسانية في اطارها الزماني، السرد الشفهي له دورٌ كبيرٌ قبل ظهور الكتابة في نقل التاريخ حيث اعتمدت  المجتمعات القديمة على الذاكرة والسرد الشفهي كوسيلة رئيسية لتوثيق الأحداث ونقل المعرفة، كان السرد الشفهي وسيلة لحفظ القصص والحكايات التي تعكس قيم المجتمع وتاريخه، اعتمدت القبائل والمجتمعات على الرواة لنقل المعلومات المتعلقة بالأحداث الهامة، مثل الحروب، الانتقالات والثقافات، ساهم السرد الشفهي في تعليم الأجيال الجديدة العبر والدروس من تاريخ أسلافهم، كان الرواة يضيفون لمساتهم الشخصية، مما يسمح بتنوع الروايات وتفسير الأحداث بطرق مختلفة،  للسرد الشفهي وظيفة أخرى، يجمع الناس حول القصص والأحداث، مما يعزز الروابط الاجتماعية بالتالي، يمكن القول إن السرد الشفهي كان عنصراً أساسياً في نقل التاريخ قبل أن تصبح الكتابة وسيلة التوثيق السائدة، وقد ساهم في تشكيل الذاكرة الجماعية .

تقنيات السرد الشفهي

كانت هناك تقنيات خاصة لحفظ القصص الشفهية وتسهيل نقلها عبر الأجيال. كان الراوي يعيد بعض الجمل أو العبارات لتسهيل تذكرها وتعزيز تأثيرها كذلك استخدام الوزن الشعري والقافية في السرد يساعد على حفظ القصص بشكل أسهل، مثل الشعر الملحمي الاعتماد على الصور والتشبيهات لتكوين مشاهد حية في ذهن المستمعين، مما يساعد في تذكر الأحداث، استخدام شخصيات تجسد صفات معينة (مثل الحكيم، البطل، الشرير) لجعل القصص أكثر قابلية للتذكر كما ان سرد القصص بأسلوب يمزج بين الحوار والوصف، مما يجعلها أكثر جذباً وسهولة في التذكر، ربط القصص بالعادات والتقاليد والمناسبات الثقافية،  يعزز من أهمية القصة في حياة المجتمع، كان الرواة يمارسون فن السرد بانتظام، مما يساعدهم على تحسين مهاراتهم وذاكرتهم، تلك التقنيات ساهمت في الحفاظ على القصص الشفهية كجزء من التراث الثقافي، وضمنت انتقالها من جيل إلى آخر بفاعلية.

دقة المعلومات والنقل الشفهي

تأثرت دقة المعلومات بنقلها شفهياً بعدة عوامل، مما أثر على كيفية الحفاظ عليها عبر الأجيال. تعتمد الدقة على قدرة الذاكرة البشرية، التي يمكن أن تكون عرضة للنسيان أو التشويش. قد ينسى الراوي بعض التفاصيل أو يخلط بين الأحداث، يؤثر التفسير الشخصي للراوي على كيفية سرد القصة، يضيف الراوي لمسته الخاصة، مما قد يؤدي إلى تغييرات في المعاني الأصلية، تكرار المعلومات يمكن أن يساعد في تعزيز الذاكرة، ولكنه يؤدي أيضاً إلى تكرار الأخطاء. كلما تم نقل القصة،  تتغير بعض التفاصيل ويمكن أن تتأثر المعلومات بالتحيزات الثقافية أو الشخصية للراوي، مما يؤدي إلى سرد غير موضوعي مع مرور الوقت. قد تتغير المعاني والسياقات الثقافية، مما يؤثر على كيفية فهم الأحداث وتختلف مصداقية الرواة. الرواة المعروفون بالموثوقية قد ينقلون معلومات أكثر دقة، بينما قد يكون الآخرون أقل موثوقية بالتالي، يمكن القول إن النقل الشفهي يحمل في طياته مزايا وعيوب، حيث يمكن أن يؤثر على دقة المعلومات بشكل كبير، لذا، كان من الضروري وجود آليات للتحقق والتأكيد لضمان نقل التاريخ بشكل أدق.

الأمثلة التاريخية

خلال الحروب، كان يتم نقل الأخبار والمعلومات بشكل شفهي، مما أدى في كثير من الأحيان إلى تضخيم الأحداث أو تشويه الحقائق. على سبيل المثال، خلال الحروب الصليبية، تم تداول الكثير من المعلومات المغلوطة حول معارك معينة، مما أثر على تصورات الناس حول الأحداث، العديد من المدن القديمة لديها أساطير تتعلق بتأسيسها، وغالبًا ما تم تضخيم هذه الأساطير عبر السرد الشفوي. مثلًا، أسطورة تأسيس روما بواسطة رومولوس ورموس التي تحمل الكثير من العناصر الخيالية التي تم نقلها شفهيًا، العديد من الشخصيات التاريخية، مثل الإسكندر الأكبر، تم تصويرها بطرق مختلفة عبر السرد الشفوي. بعض الروايات قد تضخم إنجازاتهم أو تشويه صفاتهم، مما يؤثر على كيفية فهم الناس لهم في الثقافات التالية، يتم نقل القصص التي تحتوي على عناصر من الواقع مع إضافة خيالية، مثلًا، قصص "روبن هود" وصورته كبطل شعبي قد تركز على جوانب معينة بينما تتجاهل الحقائق التاريخية .الأكثر تعقيدًا هو ان العديد من الأحداث السياسية، مثل الثورات، يتم نقلها عبر السرد الشفوي، مما يؤدي إلى تشويه بعض الحقائق. روايات حول الثورة الفرنسية، على سبيل المثال، قد تختلف بشكل كبير بناءً على من يرويها، يتم تشويه المعلومات الثقافية من خلال نقلها شفهيًا، حيث يتم إضافة عناصر جديدة أو حذف أخرى، هذا يمكن أن يؤدي إلى فقدان بعض الجوانب الهامة من التراث الثقافي، هذه الأمثلة توضح كيف يمكن أن يتسبب النقل الشفهي في تشويه المعلومات، مما يؤثر على فهم الناس لتاريخهم وثقافتهم مع عدم وجود آليات دقيقة للتحقق من صحة المعلومات المنقولة شفهيًا.

دقة السرد التاريخي الشفهي

الاختلافات في الروايات التاريخية قد تؤدي إلى تباين الآراء حول الأحداث، مما يجعل المتابعين يترددون في اتخاذ مواقف واضحة بناءً على روايات مشوشة، بالأخص إذا كانت المناهج التعليمية تعتمد على روايات تاريخية مشوهة، قد يتلقى المتابعون مفاهيم مغلوطة، مما يؤثر على فهمهم للأحداث التاريخية ويعيق تمثلهم لها بشكل سليم، قد تؤثر التغيرات الاجتماعية والثقافية في المجتمع في كيفية استيعاب المتابعين للسرد التاريخي، مما يجعلهم يتبنون وجهات نظر جديدة تختلف عن الروايات التقليدية، التجارب الشخصية للمتابعين تؤثر على كيفية فهمهم للسرد التاريخي، قد يفضلون روايات تتماشى مع تجاربهم بدلاً من اعتماد روايات مشوهة، وسائل الإعلام المعاصرة قد تقدم روايات بديلة أو معاصرة، مما يمكّن المتابعين من الحصول على معلومات جديدة قد تتعارض مع السرد التقليدي، التركيز على التجارب الحية والقصص الشخصية قد يجعل المتابعين يميلون إلى استيعاب الرسائل الأخلاقية والقيم بدلاً من التمسك بالتفاصيل التاريخية المشوشة، بذلك يمكن القول إن التحديات في السرد التاريخي المبني على شفوية النقل قد تؤدي إلى عدم تمثل التابعين له بشكل مباشر وعملي، مما يستدعي ضرورة تقديم روايات دقيقة وموثوقة لتعزيز الفهم التاريخي وتعميق الوعي، تعزيز الفهم الصحيح يمثل خطوة مهمة في عملية تطوير الذات يتمثل في نقل السرد التاريخي الشفهي دون تشويه، على المدى البعيد، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تأثيرات عميقة ودائمة على الوعي الثقافي والهوية الجماعية.

فقدان الذاكرة التاريخية

في غياب التوثيق الدقيق، يمكن أن تُنسى أو تُشوه أحداث هامة، مما يؤدي إلى فقدان الذاكرة الجماعية حول تجارب معينة إذا تم تقديم رؤى مشوهة عن الأحداث التاريخية، فقد تتكرر الأخطاء في المستقبل، حيث تفتقر الأجيال القادمة إلى الفهم الصحيح للدروس المستفادة يمكن أن تؤدي الروايات غير الدقيقة إلى تعزيز تحيزات معينة، سواء كانت عرقية أو ثقافية، مما يزيد من الانقسامات الاجتماعية، تتغير تفسيرات التاريخ مع مرور الوقت، وإذا كانت الأسس غير دقيقة، قد تؤدي إلى إعادة تفسير الأحداث بشكل غير صحيح، يمكن أن تؤثر الروايات التاريخية المشوهة على المناهج التعليمية، مما يؤدي إلى تعليم أجيال جديدة معلومات غير دقيقة، بالتالي فإن تأثير التشويه التاريخي على المدى البعيد يمكن أن يكون عميقًا ومعقدًا. من المهم أن يُعزز الفهم الدقيق والتاريخي من خلال البحث النقدي والتعليم، حتى يتمكن الأفراد والمجتمعات من التعلم من الماضي بشكل صحيح، تناقضات العالم اليوم تسير وفق سرديات تاريخيّة منقولة شفاهيا لتبرير الحروب مع الإصرار على هذه السرديات، تُظهر هذه التأثيرات ليست مجرد أدوات لتبرير الحروب، بل تلعب دورًا حاسمًا في عدم استبصار حاجات الانسان وهي لعبة سياسية تتشكل نتائجها وتأثيراتها على المجتمعات على المدى الطويل وكأننا وريثي حضارات غير قابلة للإصلاح.

***

غالب المسعودي

بقلم: سو كاري جانسن

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كانت سوزان ك. لانجر تدرك القوة التي لا غنى عنها للاستعارات، تلك التي تتيح لنا قول أشياء جديدة بكلمات قديمة.

"الاستعارة هي قانون النمو لكل دلالة لغوية. إنها ليست تطورًا، بل مبدأ."

– من كتاب "الفلسفة من منظور جديد" (1941) لسوزان ك. لانجر

"   الكلمات زواحف مراوغة لا تُروَّض؛ لا يمكن الإمساك بمعانيها على الورق بالحبر."

– من العقل: مقالة في الإحساس الإنساني، المجلد الثالث (1982) لسوزان ك. لانجر

الاستعارات عملاء مزدوجون؛ تقول شيئًا وتقصد شيئا آخر. غايتها ضمن النظام الرمزي ليست الخداع، بل التوسيع – أي توسيع الرصيد المشترك من المعاني. حين نستخدم استعارة، نُزحزح الكلمات عن معانيها الحرفية. تصبح كلماتنا ذات أياد، ممتدة بالمجاز. ونستطيع بها أن نقول أشياء جديدة.

كان هذا من بين أهم الطروحات التي قدمتها سوزان ك. لانجر (1895–1985)، وهي فيلسوفة أمريكية أُهملت طويلاً لكنها تشهد الآن نوعًا من البعث. بدأت لانجر مسيرتها الفلسفية في مرحلة كان فيها المنهج التحليلي لا يزال في طور التشكُّل. وكانت النساء الفلاسفة نادرات، أما النساء المتخصصات في المنطق فكنّ أشبه بالشذوذ. غير أن طرحها في كتابها الأكثر مبيعًا الفلسفة من منظور جديد (1941) – القائل بأن الموسيقى والفنون الأخرى تنطوي على رؤى منطقية تعجز اللغة والعلم والرياضيات عن التعبير عنها – أدى إلى تهميشها داخل وسط فلسفي بات آنذاك معاديًا للنساء. وقد شرح أحد تلامذتها، آرثر دانتو، سبب نادر ذكره لها لاحقًا: فقد التقط خلال دراسته العليا أن اسمها كان يُعد "سامًّا" لمسار الفيلسوف المهني.

وحين كثر الاهتمام بالاستعارة في أواخر القرن العشرين، أُغفلت إسهامات لانجر. ففي كتاب الاستعارات التي نحيا بها (1980)، العمل الأشهر لجورج لاكوف ومارك جونسون، لا يُذكر اسمها مطلقًا. وكذلك في كتابهما الضخم الفلسفة في الجسد (1999) الذي يقع في 600 صفحة. كما نادرًا ما تُذكر في دراسات جادة أخرى عن الاستعارة. فطروحاتها دُفنت في الأرفف، محجوبة عن طلاب هذا المجال.

لكنها تستحق أن يُعاد إخراجها من الظل، وأن تحظى بجمهور جديد، لما قدمته من شرح ناصع لقوة الاستعارة الخلّاقة.

بالنسبة لسوزان لانجر، ليست الاستعارات مجرد حرارة عاطفية في مداد الشاعر. إنها القوة الديناميكية التي تحرّك التواصل اليومي، سواء كان عاديًا أو فنيًا. وبطريقتها الخاصة، فإن الاستعارة مهمة لي ولك بقدر ما كانت مهمة لشكسبير ووردزورث. بعض الأمثلة، من السامي إلى العادي: في عام 1942، استدعى الوجودي ألبير كامو محنة سيزيف الأسطورية كاستعارة لتصوير عبثية الحياة الحديثة. و يفعل الفيلم الأمريكى الكوميدى الرومانسي "يوم شاق في الحياة" (Groundhog Day، 1993) شيئًا مشابهًا. كما أن امتداد الاستعارة المجازي يفسّر لماذا لا نزال نقيس وحدات طاقة الزوارق الآلية وأدوات الحدائق والسيارات بـ"قوة الحصان" حتى في القرن الحادي والعشرين.وكما شرح رالف والدو إمرسون في مقالته "الشاعر" (1844): «اللغة شعر متحجر.» فعندما تدخل الاستعارات إلى حيّز الاستخدام العام، تفقد أجنحتها. تُنسى أصولها شيئًا فشيئًا: فنحن اليوم نركز على قوة آلاتنا، بالكاد نلاحظ أن الخيول لا تزال هناك.

المعنى الحرفي هو رمز للمعنى المجازي، "ذلك الشيء الذي لا اسم له".

يرجع أصل كلمة "استعارة" (metaphor) إلى اليونانية، ومعناها "النقل"، أما السابقة "ميتا" (meta) فتعني "ما بعد" أو "ما وراء"، كما في كلمتي "تحول الشكل" (metamorphosis) أو "ما وراء الطبيعة" (metaphysics). بالنسبة لسوزان لانجر، فإن الاستعارة هي "المفتاح" لفهم تطور الإنسان ونشوء الحضارة: الدين، والعلم، والأدب، والموسيقى، والفن. لم تكن لانجر أول من ادّعى أن الاستعارة أكثر من مجرد صورة بلاغية؛ فقد أدرك فقهاء اللغة الألمان في القرن التاسع عشر الدور الجوهري الذي لعبته الاستعارة في تطور اللغة. واستلهم فريدريش نيتشه من شعرية إيمرسون ليصوغ نظرية في المعرفة يرى فيها أن الحقيقة هي اتفاق اجتماعي يتكوّن من استعارات بالية.

ترى لانجر أن "المبدأ" التناظري الذي تدعمه الاستعارة هو ما يتيح لنا فهم تجربتنا الخاصة، وتمثيل هذا الفهم في رموز قادرة على تجاوز حدود الزمان والمكان. كما شرحت في كتابها الفلسفة من منظورجديد  (Philosophy in a New Key):

" نلعب بالكلمات، نستكشف دلالاتها، نستحضر أو نتجنب إيحاءاتها؛ نُطابق العلامات مع رموزنا ونُشيّد "العالم المفهوم"؛ نحلم باحتياجاتنا وأوهامنا ونُكوّن "العالم الداخلي" من الرموز غير المطبقة. ونؤثر في بعضنا بعضًا، ونبني هيكلًا اجتماعيًا، عالمًا من الصواب والخطأ، من المطالب والعقوبات."

ومن ثم فإن الاستعارة، في نظر لانجر، هي قانون نمو اللغة. فعندما لا نجد كلمة للتعبير عن فكرة جديدة، نلجأ إلى القياس – إلى لغة مألوفة تدل على شيء مشابه – ونُسقِطها على الفكرة الجديدة. قد نطلق الكلمة كما هي، أو نُعدّلها بإضافة بادئة أو لاحقة، مثلاً. ويفهم السامعون أن الكلمة لا تُستخدم هنا على نحو حرفي، بل تُؤدّي دورًا تمثيليًا لفكرة أو شيء لا اسم له بعد. فالمعنى الحرفي يصير رمزًا للمعنى المجازي، لذاك "الشيء الذي لا اسم له". وإذا ما استُخدمت هذه الاستعارة كثيرًا، فإن الكلمة تميل إلى التحول نحو المعنى الحرفي، كما هو الحال مع كلمة "قوة حصانية" (horsepower) التي فقدت دلالتها المجازية لدى معظمنا. ومع تلاشي طابعها الاستعاري، تُضاف الكلمة إلى رصيد اللغة الدلالي – فتصبح متاحة لتُستخدم لاحقًا في التعبير عن فكرة جديدة أخرى.

توضح لانجر هذا المسار التطوّري من خلال استعارة شعرية: جدول «يضحك في ضوء الشمس». تُثير هذه العبارة فكرة الضحك لتُلمّح إلى عفوية مجرى الجدول وعدم انتظامه. إنها استعارة حيّة، على النقيض من الجملة: «الجدول يجري بسرعة». فكلمة «يجري» هنا كانت في الأصل استعارة، لكنها منذ زمن طويل استقرّت على معنى حرفي، يُقارب «تدفّق ضحل متموّج». وكما تُلاحظ لانجر، حين نسمع عبارة «شائعة تجري في المدينة»، فإننا لا نفكّر لا في حركة الأرجل ولا في التموجات. لقد غدت الكلمة تدل على «اجتياح» أو «مرور سريع»، واكتسبت بذلك طابعًا عامًا مرنًا. فكلمة «يجري» أصبحت استعارة خاملة، ضمن آلاف غيرها. وتخلص لانجر إلى القول: "إن لغتنا الحرفية ليست سوى مستودعٍ للاستعارات الخاملة".

في غياب اسم للتعبير عن أفكار جديدة، نبحث عن بديل، كلمة أو عبارة ذات دلالة مشتركة.

بهذه الطريقة، تتشكّل اللغة وتترسخ تدريجيًا، كلمةً بعد أخرى، عبر تراكم مجازي بطيء ومستمر. وقد رأت سوزان لانجر أن المحرّك التشبيهي – (أو ينبوع) الاستعارة– كان فاعلًا منذ لحظة البداية، بل منذ ما قبل اللحظة التي ظهر فيها ما يمكن تسميته بالبداية التاريخية للغة. صحيح أن هذا تصور تأمّلي، لكنها سندته بمرجعيات من الأدبيات المبكرة في الأنثروبولوجيا التطورية. كانت لانغر تحثّ قارئها على تخيّل حالة من الفوران الرمزي، «فيض مترف من الرموز»، صنعها الإنسان الأول وهو يحاول التعامل مع سيل الإحساسات الخام التي اجتاحته. وكما هو الحال معنا اليوم، لم تكن عملية الإدراك الحسي لديهم تلقّيًا سلبيًا، بل كانت فعلَ فرزٍ وتمييزٍ وسط دوامة من الفوضى المتفجّرة والمربكة.لقد كان الإنسان العاقل يسعى منذ البدء إلى تنظيم هذا الطوفان الحسي عبر التعرف على الأشكال – الأنماط الأولية والبُنى المتكررة – داخل التيار المتدفق للمثيرات. وهكذا، كان الإدراك لديهم يعني التصوّر: أن يرى المرء شيئًا (التدفّق الحسي) من خلال شيء آخر (الشكل الإدراكي الذي أعطاه العقل والثقافات البدائية). بكلمات أخرى، كان أسلافنا يمارسون فعل التجريد منذ اللحظة الأولى.

قد تكون كلمة "التجريد" هي الأكثر اهتماما في فكر لانجر، وكذلك المفهوم الذي تمثله. وهي تقصد بالتجريد عملية تمييز عنصر مشترك بين أكثر من شيء. والإدراك بهذا المعنى يكون تلقائياً وطبيعياً، كما كان حتى لأسلافنا الذين لم يكن لديهم لغة – وقد يكون أيضاً ضمن القدرات المعرفية في مرحلة الطفولة المبكرة ما قبل النطق. من خلال التعرف على أشكال أو أنماط في زحام الانطباعات التي تملأ العقل، استطاع أسلافنا تمييز عناصر مشتركة – مجهولة الأسماء آنذاك، لكنها حُفظت في صور ذهنية. وما إن تنفصل هذه الصور عن التجربة الحسية الأصلية، أي تصبح مجردة، حتى يصبح بإمكانها أن ترمز لأشياء وحالات أخرى. فجوانب من العالم المادي مثل النار، التي تُسجل في الصور الذهنية، يمكن أن تدل بدورها – أو تعبر عن – مفاهيم مثل الشغف والنشاط. وتذكرنا لانجر بأن الحلم يحمل هذه السمة: فهو "خيال مجازي جامح" مليء برموز "متدفقة" وغالباً ما تكون صورية.

الفكرة هي أن الاستعارة، بوصفها "رؤية تجريدية"، سبقت اللغة. فكل تجربة جديدة أو فكرة مبتكرة تُستوعب من خلال الاستعارة — أي بمقارنتها بشيء آخر. وما إن تترسخ اللغة — باعتبارها مخزونًا من المعاني المشتركة — حتى يبدأ انتشارها ونموها مدفوعًا بالاستعارة (وكانت لانجر قد قدمت نظرياتها حول هذا أيضًا). فبدون كلمة تعبر عن الأفكار الجديدة، نلجأ إلى بديل — كلمة أو عبارة تحمل دلالة مشتركة. وتكتسب الكلمة نفسها، بفضل هذا الامتداد، صبغة أكثر عمومية في هذه العملية — أي تصبح أكثر تجريدًا وأوسع استخدامًا. وبهذه الطريقة، وفقًا للانجر، "نواصل دائمًا تكوين رصيد متراكم من المفاهيم القديمة المجردة، مما يثري كنزًا متزايدًا من الكلمات العامة."

وهكذا، فإن القدرة على رؤية شيء في شيء آخر هي ما يُمكِّن اللغة من مواكبة التجربة الإنسانية والفكر البشري. فـ"الطبيعة الحقيقية" للاستعارة، كما كتبت لانجر، تكمن في أنها تجعلنا "ندرك الأشياء إدراكًا مجردًا"، وهذا بدوره يُعدّ "أعظم إنجازاتنا الذهنية". فكلما فاضت معاني الشعور عن ضفاف التعبير المشترك، جاءت الاستعارة للإنقاذ: نقول شيئًا، ونقصد غيره، ونتوقع أن يُفهَم المعنى المقصود.

من نتائج ما أسمته لانجر "التمدد الاستعاري" أن كل كلمة في لغة حية تحمل أثرًا من كل معنى اكتسبته (مثل نغمة توافقية) وكل ارتباط اكتسبته (مثل هالة). فحتى مع تثبيت الأعراف الاجتماعية للاستخدام العام للكلمة مع مرور الزمن، تبقى المعاني القديمة كامنة، مما قد يجعل بعض الكلمات أكثر قدرةً على التعبير عن هذه البصيرة أو تلك "التي تعجز الكلمات عن وصفها"

واحدة من أهم من إسهامات لانجر الفكرية أنها ساعدتنا على إدراك أن اللغة — لكي تظل نابضة بالحياة، ومواكبة للتجربة — تحتاج إلى كلمات تكون بمثابة "نمور مراوغة لا تُروَّض"، عملاء مزدوجين. فالكلمات تعني أكثر مما نستطيع قوله، وهذا ما يتيح لنا أن نولد المعاني الجديدة من رحم الكلمات القديمة. كما تذكّرنا لانجر بأن الاستعارة هي ما يجعل من "الحياة البشرية مغامرة في الفهم"

(تمت)

***

...................

الكاتبة: سو كاري جانسن/ Sue Curry Jansen: أستاذة فخرية للإعلام والاتصال في كلية مولينبيرج في ألينتاون، بنسلفانيا. من مؤلفاتها: "والتر ليبمان" (2012) و"الاتصالات الخفية" (2016).

 

منذ شهر ماي1897 إيزابيل إيبرهاردت ووالدتها تقيمان في بونا (عنابة) على الساحل الجزائري. وبوفاة والدتها في نوفمبر 1897 ودفنها وفقًا للطقوس الإسلامية في المقبرة "الأصلية" في بونا. انجذبت ايبرهارت إلى سحر الجنوب الأسطوري - الشرق - والى نداء الروح.

نظرت إبرهاردت إلى العالم الذي تحركت فيه بعين ناقدة، ومن خلال انتمائها إلى الطريقة القادرية الصوفية، دعمت المحتاجين ودافعت عن المظاهرات ضد النظام الاستعماري الفرنسي، ونقلت استيائها من النظرة الذكورية التي تحتقر المرأة من خلال كتاباتها الأدبية ذات البعد الفلسفي كانت تدرك بحدسها ان الطريق الى الحرية مشروط بتحرير الانسان ففي رسالة إلى زوجها سليمان هني كتبت قائلة "نعم، أنا امرأة أمام الله والإسلام. لكنني لست فاطمة نموذجية أو عائشة عادية. أنا أيضا أخوك محمود، جيلاني بارز (من الطريقة الصوفية)، وخادم لله، أكثر بكثير من كوني خادمة لزوجي، كما هي كل امرأة عربية وفقا للشريعة الإسلامية".

ذكاء حاد وخيال خصب وإرادة حرة خصائص ميزت ايزابيل ابرهارت في عام 1895، عندما كانت تبلغ من العمر 18 عاما فقط، نشرت "الجحيم"، وهي أول قصة قصيرة لها، تحت الاسم المستعار نيكولاس بودولينسكي. تحدث عنها الدكتور أبو القاسم سعد الله في كتابه تاريخ الجزائر الثقافي:” لقد ادعى الفرنسيون أنها كانت جاسوسة عليهم، وأنها كانت تعمل لحساب ألمانيا، فاهتموا بها، من وزارة الخارجية إلى الحاكم العام بالجزائر إلى قائد المناطق العسكرية، إلى آخر (بيرو عرب) - مكتب عربي - في أقصى الجنوب، ودارت بينهم المراسلات السرية بشأنها، وهي المراسلات التي لا يعرف المواطنون ولا حتى السياسيون عنها شيئا والتي ما تزال في الأرشيف تنتظر النشر والتحليل، ماذا قالوا؟ إن هذه الآنسة التي كانت تتكلم عدة لغات، ومنها العربية، وتعتنق الإسلام وتعشق الأصل العربي، وتؤلف الكتب والرسائل، وتلبس لباس الشاب العربي، وتتمنطق بالسلاح، وتمارس الفروسية، هذه الآنسة كانت غير عادية طبعا، وها هي في وادي سوف، تدخل الطريقة القادرية عن طريق المدعو عبد العزيز عثمان، صديق محمد الطيب، مقدم زاوية الرويسات، وقد أعطيت ذكر الطريقة، والسبحة، واللباس الخاص، وصامت هناك رمضان" وذكر مالك بن نبي أنه أعجب بكتابها (في ظل الإسلام الدافئ) - وقد ترجم هذا الكتاب إلى الإنكليزية

كتبت إيزابيل كثيرا من الرسائل والمقالات. وصادقت فيكتور باروكان مدير جريدة (الأخبار) الفرنسية الذي نشر أخبارها وأعجب بها. وذكرت في كتاباتها أنها كانت تجتمع بالمتعلمين (الطلبة) والمرابطين في الجزائر، وأنها خرجت إلى الصيد مع إخوان القادرية بالوادي، وأنها كانت صديقة لزينب بنت الشيخ محمد بن بلقاسم شيخ زاوية الهامل الرحمانية. وقد نشرت كتابها عن الإسلام مسلسلا في جريدة (الأخبار) .. قلمها وأدبها لا غبار عليهما، وأثر الجزائر فيها لا يختلف فيه اثنان، سيما الأجواء الدينية والاجتماعية في الواحات، وظاهرة الاضطهاد تحت النير الفرنسي.

رحلتها الى المسيلة

طبيعة ايزابيل ايبرهارت المتمردة الرافضة للقيم المادية للحضارة الغربية وشوقها الى الحرية وحياة الهدوء والسكينة دفعتها الى الترحال لا تكاد تستقر في مكان محدد فهي ترفض كل اشكال العبودية وسفرها الى المسيلة وبوسعادة والهامل على غرار باقي المناطق التي ارتحلت اليها يمنحها ماء الحياة ويفتح امامها افاق وسعة للتحرر “ بسرعة كبيرة، وبشكل سري تقريبا، ذهبت إلى المسيلة، وأنا نائمة على ضفاف واديها الهادئ، وسط الخضرة في حدائقها. كانت سلسلة قصيرة وسريعة من الرؤى، وكأن حجاباً ارتفع فجأة وسقط على الفور على زوايا مختلفة جداً من البلاد، تحت سماء سوداء ملبدة بالغيوم بفعل الرياح الموسمية، تظهر صورة برج بوعريريج، بقلعتها الحمراء القديمة، وهي بلدة صغيرة، ضاعت في اتساع السهل الذي جردته الحصادات بالفعل من كل شيء....رفيق سفري ومرشدي هو سي أبو بكر، رجل في الأربعين من عمره تقريباً، نحيف ومريض المظهر، ذو وجه مدبوغ وزاهد، ونظرة منطوية وحزينة وقاتمة تقريباً. هذا الرجل، المفوض من قبل المرابط الموقر في بوسعادة، والذي لديه سيطرة على ثروة هائلة، يرتدي قندورة بيضاء للغاية وبرنوس، ولكنها مهترئة وبسيطة للغاية. إن أسلوب حياته هو أسلوب حياة الرجل الفقير، لكنه يتمتع براحة بال كبيرة.

نجلس معًا في المقعد الخلفي للسيارة، وأقدامنا تتدلى في الهواء، ونتحدث بلا مبالاة عن الأمور في الجنوب، ونتطرق إلى الإيمان والفقه الإسلامي.إذا كان أبو بكر يعرفني جيدًا: فهو يعرف تاريخي، وبعد أن درس حالتي بعناية شديدة، فهو يوافق على طريقة حياتي...

ولكنني لا أستطيع أن أكبح فرحتي عندما أرى السماء صافية والمناظر الطبيعية تتغير تدريجيا، كلما اتجهنا نحو الجنوب... تصبح البلاد أكثر قسوة وأكثر مهجورة. نرى عددًا قليلاً من قرى الطوب النادرة، الواقعة على جانب التلال القاحلة. في منتصف الطريق، على ضفاف وادي المسيلة، توجد محطة بين متاهة من نباتات الدفلى والقصب، التوقف في مجاز يمنحنا جوًا رائعا لقافلة صحراوية.

بشرتي تجعلني أبدو كقبيلية، وأحد سكان مجاز يصر على التحدث معي بهذه اللغة، مؤكدا أنه رآني في تيزي وزو، حيث لم أذهب قط... تركته يتحدث، بينما كنت أنتظر الرحيل، وبعض الحوادث الصغيرة من هذا النوع تجعلني أضحك في فرحي الجديد....وأخيرا  قبل الفجر، وصلنا إلى المسيلة. نتبع، سيرًا على الأقدام، طريقًا طويلًا من أشجار التوت، ونصل إلى ساحة كبيرة تتقاطع فيها الجداول الصغيرة حيث تغني الضفادع. وفي الخلفية، هناك مباني من الطوب، وأمام مقهى مغربي كبير، ينام سكان البلدة على الحصير، هربًا من حرارة منازلهم.... لا أزال أسمع، كما لو كان من بعيد، صوت رجل قوي، ولكنه قريب للغاية، على عتبة المقهى، يوقظ النائمين: "الصلاة خير من النوم!”» الأشكال البيضاء تتحرك، وتمتد، وترتفع. تصدر علب الصفيح أصواتًا عند حواف النوافير. ثم يغرق كل شيء في العدم من النوم المثقل...

مع الظهيرة تخترق جدران الطوب الرمادية السماء بخطوطها المستقيمة الرتيبة، ذات اللون الشحوب المتوهج.

في الأزقة المليئة بالغبار، بالقرب من الجدران المتشققة التي لا تتأثر بالعمر، وفي الظل القصير الأزرق، ينام الرجال في برانس ترابية مع الماعز السوداء. لا شيء سوى الذباب يتجول فوق القذارة الجافة، فوق الوجوه المتعرقة، فوق الخرق البنية.

كل شيء ينام ويلهث في الحرارة الشديدة. في فراشه من الحجارة البيضاء، يتدفق الوادي بصوت خافت وواضح، وفي المسافة، تمتد حدائق بوجملين، ذات اللون الأخضر الناري، بشكل مثير.

على الجسر الحديدي، الجسر الرمادي البشع، متسول أعمى عجوز، يجلس القرفصاء، يهز البندير الرنان ببطء، وفي النوم الهائل المحيط به، تقطع هذه الضربات الخافتة رثاء الرجل العجوز الذي لم تعد له ساعات: "باسم سيدي عبد القادر الجيلاني، سيد بغداد وسيد المرتفعات، أعطوا الصدقات، أيها المسلمون!"

يظل الأعمى يردد ترنيمته بلا نهاية، والتي لا يسمعها أحد، ولا يستجيب لها أحد...

في فجوة بين الجدران الخشنة، على حصيرة، يرقد رجلان ويبدو أنهما يتبادلان أطراف الحديث بطريقة غامضة...

ربما كانت هناك قضية خطيرة، أو السياسة المعقدة في الجنوب، أو حتى قد تكون مؤامرة... ولكن لا. ببساطة، واحد منهم، وهو طالب نحيف ذو لحية سوداء وغطاء رأس أبيض، يشرح لرفيقه أصل الحلم.

قال: "الروح هي ما يُحيي الجسد. يسلبها الخالق أحيانًا، إما مؤقتًا، كما في النوم، أو نهائيًا، كما في الموت. الروح جوهرٌ مُنير يُطلق أشعةً حالما يتحرر من قيود الجسد. ثم، وحسب سقوط هذه الأشعة في العالم المرئي، على الأرض، أو توجهها نحو الماوراء، يرى النائم المدن والبلدان والأشجار والزهور والرجال والأنبياء والجيوش التي تسكن الأرض... في الماوراء، يُدرك أحيانًا شظايا من المجهول بعد الموت... ثم تنطفئ الأشعة وتعود الروح إلى سجنها الجسدي المُظلم..."

وفي حزن المسيلة النائمة، يواصل السفسطائيان السرد بهدوء شديد، مع هالات الغموض، وعقائدهما القديمة، وسط ديكور ثابت من الأرض والشمس...

بعد غروب الشمس وفي غرفة متداعية مصنوعة من الخشب القديم البالي المدخن، تحت عوارض السقف السوداء، خمسة جذوع أشجار مربعة الشكل بالكاد بفأس، لا تزال تحمل عروق الأشجار الهزيلة في الجنوب، مجمعة معًا في عائلة غريبة. مصباح فقير دخاني ينير ثلاثة رجال مقنعين يطرقون على بنادير متشققة ويتمايلون في الوقت المناسب، ويرددون ببطء ترانيم القديس العظيم في بغداد، سيدي عبد القادر... ويلقي الضوء الأحمر للمصباح بظلاله المشوهة بلطف على الجدران الخشنة حيث تتحرك أحيانًا عقارب صفراء صغيرة خفية أو عناكب رمادية.

في كل مكان، على الحصر، تتراكم الأجساد المكدسة، وتلتوي حول بعضها البعض في أوضاع كسولة؛ تمتد ملامح النسر نحو المغنيين؛ عيون طويلة من الظل الأسود أو الذهبي المحمر نصف مغلقة ...

فتاتان صغيرتان جميلتان مدبوغتان، ترتديان فساتين خضراء مبهرة، مع مشابك فضية وأوشحة حريرية حمراء مطرزة بالذهب على شعرهما الأسود، تستمعان، بانتباه، بجدية، واقفين في منتصف المقهى المغربي...في زقاق مظلل، يفتح باب على فناء مضاء بشكل خافت. يجلسون القرفصاء على طول الجدار، في أردية خفيفة، مزينة مثل الأصنام، تقطر بالعملات الذهبية، يحافظون على ثبات طويل يشبه التماثيل، عيونهم غامضة في دخان السجائر... في بعض الأحيان يمر برنوس، ينزلق بعيدًا، ويختفي في الفناء، برنوس أبيض من مسيلي، وبرنوس أزرق من ديرة... ثم يرتفع أحد الأصنام مع رنين كبير من الجواهر، ويتبع الزائر إلى الظل الدافئ للزنزانات الفقيرة.

وتنام مسيلة هكذا، مرابطة وزانية، نعسانة ومشتعلة، في حر الليل الثقيل. تهزها البنادير والترانيم الدينية القديمة وأجراس أساور أولاد نائل بهدوء. تعتبر مدينة المسيلة ساحرة مثل القصور الصحراوية.

الوادي الذي يحمل اسمها يقطعها إلى نصفين، يتدفق في أسفل واد واسع وعميق، فوق الحصى. جسر حديدي يربط بين المسيلة والمسيلة.

نحن في المدينة الجديدة المبنية حديثًا، حيث الشوارع واسعة، حيث لا توجد زوايا مظلمة ولا غموض، وحيث يتم التضحية بكل شيء - حتى الراحة - من أجل ذوق الرومي للخطوط المستقيمة.

على الضفة الأخرى تقع البلدة القديمة، مكتظة، فوضوية، مع كل منازلها المبنية من الطوب الأسود وشوارعها التي لا أسماء لها، بدون محاذاة وبدون أحجار مرصوفة، غير متوقعة بشكل مبهج ومع ذلك كلها متشابهة.

تهب رياح السيروكو طوال اليوم؛ لم تتركنا الرياح الحارقة المفترسة منذ الجحيم الناري للبوابات الحديدية. المسافات ملتهبة ومشوهة، والغبار يرتفع في دوامات رمادية تطير فوق الطرق. تطير الذبابات بقوة وتعض، متحمسة بسبب الحرارة.

فقط المسجد الذي يقع على حافة الوادي، والذي تفتح نوافذه على الماء، لا يزال يحتفظ بقليل من النضارة، وهو الذي نلجأ إليه طوال اليوم.

...مع حلول المساء، تغير اتجاه الريح فجأة، وبينما ذهب سي أبو بكر لإحضار بعض الدواب وإجراء بعض الزيارات، ذهبت وجلست وحدي على الضفة المرتفعة للوادي.

السماء الآن صافية تمامًا تقريبًا، والهواء أصبح باردًا. تغرب الشمس في ضباب خفيف، لا يزال مصفرًا إلى حد ما، فوق السهل العاري الكبير الذي يشكل المدخل الغربي لمدينة هدنا.

أمامي، في ظلال بنية دافئة على خلفية أرجوانية شفافة في الأفق، تقف مدينة مسيلة القديمة، محاطة بحدائق خضراء كثيفة للغاية، بينما خلفي تبرز منازل المدينة الجديدة، ذهبية اللون تقريبًا، على خلفية درجات اللون الوردي الذهبي لغروب الشمس.

تنزل النساء إلى قاع الوادي، مرتديات أقمشة زرقاء أو حمراء، يحملن جلود الماعز أو أمفورات ثقيلة مصنوعة من التراب المسامي... يمشين حافيات الأقدام على الحصى والرمال، فيرون بريق الأشباح ويضيفون لمسة خاصة إلى هذا المشهد من السحر الهادئ والحزين.

وهنا مرة أخرى، يضاف إلى التسمم الحقيقي للمكان والزمان، بالنسبة لي، تسمم الذاكرة، واستحضار أماكن أخرى، لتلك المناطق التي يبدو أن تلك التي أعبرها الآن ليست سوى انعكاس شاحب لها. لا تتمتع المسيلية بالنعمة الغريبة والجاذبية الغامضة التي تتمتع بها الفتيات الصغيرات اللواتي يذهبن عند الغسق للبحث عن الماء العذب من الآبار في حدائق سوف الساحرة...

اه! لو أن شفق الصيف في أفريقيا استمر إلى ما لا نهاية، ولو أن الغباء الاستبدادي للرجال الذين يعشقون التفاهة لم يزعج أحلام الشاعر!

لكن الخيول موجودة هناك، أمام المسجد، وعلينا أن نغادر. أعطوني فرسًا بيضاء جميلة، مسرجة بخيوط حمراء، ونزلنا إلى قاع الوادي. هناك أولاد صغار عراة مدبوغون يستحمون الجياد، ووحوشهم النارية تفتح أنوفها وتنهض، وتستقبل فرسي المرتعشة بصهيل عالٍ.

وعلى النقيض من ذلك، في المساحات الخضراء المخملية للحدائق حيث تقف بضعة رؤوس من أشجار النخيل المبعثرة، توجد كُبّات مخفية، صغيرة وغريبة الشكل، مبنية من الطوب.

يبدو أحدها مثل معبد صيني، بأسقفه المتداخلة ونقطته الغريبة، وأنا أحب أن أرى فيه بقايا فن أصلي، سبق الإسلام، بري للغاية ومزعج بشكل غريب للغاية.

طالب، راكبًا على بغل حكيم يحمل أمتعتنا. نترك الوادي ونلقي نظرة أخيرة على مسيلة قبل الدخول إلى السهل الكبير.

إنها تشبه الصحراء، هذه السهول في حضنة التي تبدو في ظلام المساء لا نهائية... الجبال البعيدة، ذات اللون الأزرق اللامع، تتلاشى وتمتزج في شحوب السماء، ويبدو أن المساحة المفتوحة ليس لها حدود.

الطريق نحو بوسعادة

نحن نغادر مرة أخرى. على جوادنا ننام وكأننا مخدرون. من وقت لآخر، في الصمت العميق، يصدر أحد الخيول صوت شخير أو يتخذ خطوة خاطئة. لذا يحاول الطلبة غناء إحدى تلك الأغاني البطيئة من الجنوب التي تساعدك على عبور المساحات الرتيبة الكبيرة:

"آ-يا-آ-يا-آ-آ!... ناديت ولم يُجب أحد... آ-يا-آ-يا-آ-آ-آ!... توسلت، ولم يُعطني أحد صدقة..."

ثم يصمت صوت الحلم مرة أخرى، ونستمر في مسيرتنا بين الأشباح في صمت.

لكننا ندخل منطقة حيث تتقدم الخيول على مضض، خائفة: هناك عدد لا نهائي من الشجيرات المستديرة، سوداء من الأسفل وفضية من الأعلى، والتي تبدو من مسافة بعيدة مثل الرجال المستلقين أو الأشباح. لذلك نضطر إلى الاستيقاظ بشكل كامل، خوفًا من السقوط.

...النهار يشرق. يأتي إلينا نضارة لذيذة من المسافات الزرقاء، ويفسح طول الليل المجال لذلك التجدد في الشباب والمرح الذي تجلبه هذه الساعة الأولى من اليوم دائمًا، في المناطق الشاسعة والمهجورة في الجنوب...

بيتاً من بيوت الطوب النائمة، حيث لا تراقبنا إلا الكلاب الشرسة، التي تستقبلنا بنباحها الأجش... إنها قرية صيدا: ليست شجرة، وليست شفرة عشب.

بعد ذلك نعود إلى الأراضي القاحلة الفضية التي ترتفع منها الشكوى الغريبة والحزينة، مثل نداء بلا صدى، من "الكُروان"، طائر الصحراء، الذي يعيش على الأرض ويخرج في الليل مفضلاً أن يغني.

كان النهار قد حلّ عندما وصلنا إلى الخليج الغربي من حضنة: سبخة صفراء بنية اللون، مترامية الأطراف، ناعمة، مستوية، بدون نتوء، بدون شفرة من العشب. ثم يترجل الطلبة عن خيولهم ليصلوا صلاة الفجر.

لقد فقدت منذ ما يقرب من عام عادة صلابة السروج والركاب العربية، وشعرت بالكسر، وساقاي لينتان ومؤلمتان.

علي الطالب الذي كان معنا تركنا عائدا إلى المسيلة. إذا ركب أبو بكر البغل دخلنا السبخة.

تشرق الشمس، حمراء اللون، مشتعلة بالفعل. تبدأ الحرارة على الفور تقريبًا...

بانيو. - برج عسكري، أبيض رمادي اللون، على ارتفاع. يؤدي طريق من أشجار الحور إلى الآبار التي تكون مياهها الساخنة عكرة وعفنة. حول بعض الإنشاءات في الطوب. في الأسفل يوجد رمل، رمل حقيقي، أحمر قليلاً، هذا صحيح، لكنه ناعم وجاف. هنا وهناك، شجيرات الطرفاء، التي تشكل جذورها الرملية تلالاً، مثل تلك التي تنمو في كل أشجار الصحراء. في ظل أحدهم نستريح، لنشرب بشراهة طينًا سائلًا وقهوة فظيعة مليئة بالذباب.

يصبح الطقس حارًا جدًا وسنغادر مرة أخرى.

تمر الساعتان ونصل إلى بئر خالي. هناك منازل مبنية من الطوب، مهجورة في الصيف، وبئر ماء نقي جدًا وعذب تقريبًا. نشرب بغضب... لا أعرف ما هو المصطلح الآخر الذي يمكنني استخدامه.

ثم تأتي ساعات الظهيرة الثقيلة، على السهل العاري المحروق. ولكن أمامنا الجبال التي تغلق الأفق، وبين قمتين عاليتين تقع قرية بوسعادة على تلها المنخفض. يمكننا أن نرى بوضوح القصبة التي تهيمن على المدينة وظلام الحدائق.

ويبدأ الوهم الأبدي للجنوب من جديد: تبدو المدينة قريبة منا ومع ذلك نستمر في التحرك للأمام، دون أن يبدو أن المسافة تتضاءل. وتصبح هذه الرؤية لمدينة مسحورة تتلاشى في الأفق، على المدى الطويل، مؤلمة. الحرارة حارقة. تصبح شفاهنا جافة ومتشققة. السيروكو يحرقنا.

يمنحنا سائق الجمال الذي نمر به شرابًا، ثم سرعان ما يتشوه الرجل وحيوانه الضخم البطيء، ويندمجان مع التموجات التي بالكاد يمكن إدراكها، في غموض السهل.

بوسعادة، رؤية رشيقة ظهرت لي، محاطة بهالة من الشمس، ذهبية اللون ومغطاة بالزمرد الحي في حدائقها!يتدفق وادي بوسعادة، عبر دائرة كبيرة، عند سفح المدينة، فوق الحصى البيضاء. على اليسار، وعلى طول الجدران الصفراء، تبدو الحدائق خصبة مثل الغابة البكر، وتتوجها ريشة ملكية من أشجار النخيل. على اليمين، تبرز من حزام من أشجار التين وأشجار الدفلى والرمان، منازل طينية طويلة، مرتبة في فوضى صحراوية لطيفة للغاية.

أثناء سيرنا في الماء الذي تتجه إليه حيواناتنا العطشى، نتبع مجرى الوادي، إلى نافورة عذبة للغاية، تنبع من صخرة، عند سفح المدينة: "عين بسام" - النافورة المبتسمة. هناك نشرب مرة أخرى.

... وتنقسم مدينة بوسعادة أيضًا إلى مدينتين، يفصل بينهما واد عميق، ويربط بينهما جسر.

وفي أحدها، هناك المباني الأوروبية، والمكتب العربي، وقاضي الصلح. وفي الأخرى، كومة التراب القديمة التي تشكل بوسعادة الحقيقية.

تقع المدينة المزدوجة بين تلال حمراء عالية تهيمن عليها الجبال، وهي الجبال الغريبة في هذه السلسلة الجنوبية، والمتعددة الطبقات، وتعلوها مدرجات مائلة، بعضها بارز.

يشبه شعب بوسعادة أولئك الناس في الصحراء، المرتبطين بشدة بالعادات القديمة، وطرق الماضي... هؤلاء الناس الذين كلما ابتعدنا عن المدن الكبرى الكوزموبوليتانية والفاسدة، يبدو أنهم يعودون إلى الوراء في الزمن، إلى القرون القديمة الملغاة.

وجوه مدبوغة تحت العمامة البيضاء أو الحجاب المربوط بحبل من شعر الجمل البيج، وجوه ذكورية أو زاهدة، عيون بنية غائرة، تلمع بلهب داكن تحت مظلة الجلمونة (غطاء البرنوس)، مسبحة حول الرقبة، مواقف من عصر آخر، من عالم آخر تقريبا.

الزي الأنثوي أصعب في الارتداء: الشاش ملفوف في سترة يونانية، مربوط بحزام منخفض للغاية، وتسريحة شعر ضخمة ممتدة في العرض، كل هذا يناسب فقط النساء طويلات القامة ونحيفات، وخاصة النساء ذوات البنية المرنة للغاية. وهذه ليست تلك التي تراها في الشارع، بل مومياوات قديمة مسكينة، مهترئة، مثيرة للشفقة.

... لقد قمنا بإعداد أسرّتنا - الحصير والسجاد - تحت أروقة منزل كبير تابع للزاوية، ويقع في ركن منعزل من المدينة الجديدة، بالقرب من قاضي الصلح، والذي يفصله عنه مستنقع عميق حيث توجد حديقة جميلة للغاية، فوضى من الخضرة القوية.

وعلى النقيض من ذلك، توجد أمامنا حديقة أوروبية، وهي عبارة عن مزرعة جائعة من أشجار الميموزا وأشجار التوت النحيلة غير المرغوب فيها، وكلها محاطة بشكل حزين بشجيرة العليق الاصطناعية. - كم تبدو هذه الحدائق ذات التنسيق المتناسق، الخالية من المفاجآت والسحر، مثيرة للشفقة بجانب الحدائق العربية الرائعة المزروعة عشوائياً في خيال قريب من الطبيعة وغني بها!

إن المدرسين الكئيبين، والسجناء الفقراء الممزقين وحراسهم لا يعرفون، مثل الفلاح الجاهل الشاعري، كيف يزوجون الكرمة الفاتحة بأوراق الشجر الداكنة لأشجار التين، وكيف يرمون اللون الوردي الفاتح لأشجار الغار بين أشجار النخيل القوية واللون الأحمر القرمزي للرمان في الظل المعتم لأشجار التفاح.

... يمر الوقت، وعند الفجر ننطلق مرة أخرى نحو الزاوية التي تقع هناك، على الطريق الجذاب المؤدي إلى الجلفة والصحراء.

بعد أن سلك الطريق على طول وادي بوسعادة، يدخل بين الجبال الزرقاء، في ضوء الفجر الواضح.

لقد جفف الصيف المروج والأراضي القاحلة. كل شيء يأخذ الألوان المحايدة، ولكن المتنوعة بشكل لا نهائي، للأرض. أحمر قرميدي، بني محمر، أصفر مغرة، أخضر مغرة، درجات رمادية مجهولة بالكاد يمكن إدراكها، ظلال من اللون البنفسجي، مجموعة هائلة من درجات اللون الرمادي، الوردي الباهت، والأبيض الشاحب. إن حيادية الألوان هذه، وافتقارها إلى الدقة، يمنح سحرًا كبيرًا للعب الضوء الذي لا يمكن العثور عليه في أي مكان آخر، وهو معجزة هذه المناطق المتحمسة.

في زاوية الهامل

الهامل، اسم شعري يعني "الضائع"، وهو يناسب هذا المكان البري الفخم بشكل جيد، الضائع في الواقع، في واد ضيق من جهة ومفتوح من جهة أخرى، باتجاه الوادي، على أفق واسع وأزرق.

الزاوية على علوها: مبنيان كبيران، أحدهما أبيض جداً، ذو مظهر أوروبي، والآخر من الطوب الفاتح جداً، مع فتحات ضيقة نادرة.

في الأسفل مجموعة من البيوت الطينية، ثم قرية قبيلة الشرفة، وهي مجموعة خلابة من البيوت ذات المظهر المتداعي، مثل كل هذه المباني الطوبية.

أبعد من ذلك، بحر من الخضرة تعلوه، مثل مظلة رائعة، أشجار النخيل.

كل هذا يبرز بوضوح شديد، وبدقة شديدة على خلفية الألوان غير المحددة للتلال، وفي هواء الجبل النقي. هذا المكان له جانب خاص، خاص به، وهو ليس من الصحراء ولا من المناظر الطبيعية العادية للهضاب المرتفعة.

... أغفو على الفور، على سجادة، في غرفة صغيرة، فقيرة جداً وبسيطة جداً في طوب، وهو منزل سي أبو بكر، بينما يستقبلنا ذهاباً وإياباً بفرح.

عندما أستيقظ، أجد هناك هذه المحادثات الهادئة والسرية والمهذبة التي تجعل الساعات الطويلة من الأيام المتشابهة تمر، في كل مكان لم يمسه الإهمال الإسلامي الكبير، سليماً، بسبب الاضطراب الأوروبي المتحلل.

هنا، في هذا المكان المفقود حيث المشهد فخم وبسيط، تتلاشى أصوات نضالاتنا المريرة وغير المجدية في الصمت العظيم الذي لا يتغير، والشؤون الجارية، التي تكاد تكون هي نفسها دائمًا، ليست سوى حوادث.

لكي نعيش مع هؤلاء الرجال المنعزلين والقابلين للتأثر، لا بد من اختراق أفكارهم، وجعلها خاصة بنا، وتطهيرها من خلال تتبعها إلى مصدرها القديم... ثم تصبح الحياة سهلة ومتأرجحة بلطف شديد في هذا العالم من البرانس والعمائم، مغلقة إلى الأبد أمام ملاحظة السائح، مهما كان منتبهًا وذكيًا.

تحدث قليلا، واستمع كثيرا، ولا تنفتح: هذه هي القواعد التي يجب عليك اتباعها لكي تحظى بإعجاب الناس في الدوائر العربية في الجنوب، ولكي تشعر بالارتياح هناك...

بعد المرور عبر العديد من الدهاليز والساحات الواسعة المظلمة، ندخل إلى ساحة داخلية كبيرة، محاطة بجدران طوبية بنية اللون قديمة جدًا وعالية جدًا . في وسطها تنمو شجرة تين صغيرة، والتي سوف تظلل هذا المكان بعد بضع سنوات حيث يسود الصمت العظيم. وفي هذا الفناء رأينا نوعاً من السرير، وهو عبارة عن لوح كبير مصقول، موضوع على أربعة دعامات حجرية: هذا هو المكان الذي كان يقف فيه المرابط المرحوم سيدي محمد بلقاسم.

في زاوية، بالقرب من باب الشقق الداخلية، على نوع من الشرفة الحجرية، تجلس امرأة ترتدي زي بوسعادة، أبيض اللون وبسيط للغاية. وجهها الذي أصبح مدبوغًا بسبب الشمس نتيجة تنقلاتها الكثيرة في المنطقة، أصبح متجعدًا. إنها تقترب من الخمسين. في بؤبؤي العينين المظلمتين، بنظرتهما اللطيفة للغاية، تحترق شعلة الذكاء، وكأنها محجوبة بحزن عظيم. كل شيء في صوتها، وفي أسلوبها، وفي الترحيب الذي تقدمه للحجاج، يدل على البساطة العظمى. هذه هي ليلى زينب، ابنة ووريثة سيدي محمد بلقاسم.

***

علي عمرون - الجزائر

كل شيءٍ يبدأ حين ننسى أن الحياة ليست مجرد رحلة عبور، بل هي مسرحٌ مفتوحٌ على مجهول لا نهائي، حيث لا توجد مسارح ثابتة ولا أضواء ثابتة، ولا حتى ملامح نستطيع أن نأخذها معنا في الزمان.

كنتُ أركض في تلك الشوارع المظلمة التي تتمايل تحت وقع قدمي، كل خطوةٍ على الأرض كانت بمثابة صرخةٍ مكتومة في أذن الزمان، لكنني كنت أركض مع ذلك. كلما تحركت، كنت أشعر كأنني أتقدم في دائرة مغلقة، حيث تتقاطع الأسئلة، وتتصادم الإجابات، وتظل الحقيقة مختفية في نقطة ما خلف الأفق. كانت المدينة تشهد انحدارًا واضحًا نحو العدم، كأنها تدور حول نفسها بلا وجهة، وكأنني أنا الآخر كنت جزءًا من هذا الدوران، جزءًا لا أستطيع الفرار منه. أما السماء، فقد كانت غائمة بشكل غير طبيعي، كأنها كانت على وشك الانفجار.

وفي كل مرة كانت الرياح تعصف بي، شعرت بها تجذبني إلى المجهول، كانت تحمل في طياتها همساتٍ خافتة، همسات كانت تذكرني بأنني أركض، لكن لا أرى الهدف، ولا أعرف إلى أين سأصل.

أنت لست سوى تفصيلٍ في منظومة الكون، رقعة شطرنج تُحركها الأقدار، لكنك تُؤمن طوال الوقت بأنك صاحب القرار.

كانت هذه الكلمات تتردد في عقلي، كأنها إيقاع متسلسل من أصداء متناقضة. فكلما حاولت أن أُمسك زمام الأمور، كلما شعرت بأنني أبتعد عنها أكثر. كنت أركض، لكنني كنت أركض نحو اللاشيء، نحو فخاخٍ نصبها الزمن لي. وفي هذا الصراع الأبدي مع الأيام، كنت أعود إلى نفس النقطة التي بدأت منها: نحن مجرد قطع على رقعة شطرنج. تظن أنها لعبةٌ في يدك، لكن في الحقيقة أنت مجرد لاعب يتنقل وفق قوانين لا تتحكم فيها.

كلما تعثرت في مسار حياتي، تذكرت كيف أن الأقدار تمسك بكل خطوة نخطوها، وكل تفاعلٍ مع العالم حولنا هو مجرد نتيجة لشيء أكبر من إرادتنا. بينما أركض في الشوارع المظلمة، يتسلل شعورٌ غريب إلى داخلي، شعورٌ بأنني مجرد شخصية في رواية كُتبت قبل أن أُولد، وأنني لا أملك سوى الانتظار.

لم أعد أفهم: هل الحياة حقلٌ لزرع الأمل، أم أنها مجرد تربة خصبة للخذلان؟

هل كان هذا هو السؤال الذي كان يطاردني طوال تلك الأيام؟ كانت الأيام تمر وكأنها سنوات، وكل لحظة كانت تزرع بداخلي بذورًا من الأسئلة التي لا تُقابلها إجابات. كنت أظن أنني أبحث عن الأمل، لكنني اكتشفت أنني في الواقع كنت أبحث عن الضوء في نفقٍ مظلم. كنت أزرع في نفسي حلمًا، لكن تربة قلبي كانت قاحلة، لا تنبت فيها سوى الآلام. كنت أؤمن بأن المستقبل يحمل لي الأمل، لكن في كل مرة كنت أرى نفسي أغرق في الفوضى التي صنعتها يداي.

وكلما حاولت أن أبحث عن طريقة للخروج، كلما شعرت بأنني أغرق أعمق وأعمق. كانت تلك اللحظات هي الأسوأ، لأنك تعلم أنه لا مفر، ولا مخرج. كنت أعتقد أن الأمل هو الحبل الذي سيمسك بي، لكن في كل مرة كان الأمل يتساقط، حتى أصبح مجرد سراب.

ربما يكون الحبُّ أعظم الأكاذيب التي أُنعِشُ بها قلبي حتى أصدق أنني سأعيش، بينما في الحقيقة كنت أموت أكثر وأكثر.

وفي هذه اللحظات، كان الحب يتسلل إلى كل زاوية من حياتي، لكن هل كان حبًا حقيقيًا، أم أنه مجرد كذبة أخرى؟ هل كنتُ أحب أم كنتُ أهرب من نفسي؟ كان الصوت الداخلي يصرخ في أعماقي، مذكّرًا إياي بأن كل لحظة حب كانت تدور في فلكٍ من الأوهام. الحب في حياته كان معركة مستمرة، وكان في كل مرة يأتي ليعيدنا إلى تلك النقطة التي كنا نظن أننا هربنا منها.

لكن هل الحب هو ما يمنح الحياة معناها؟ أم أن الحب هو ما يجرنا إلى المزيد من الخذلان؟ كنت أرى كل حبٍ بدأ ينطفئ في عينيّ، كل عاطفةٍ تحولت إلى عبءٍ ثقيلٍ على قلبي. وكلما كنت أظن أنني وجدت الشخص الذي سيحملني إلى أفقٍ جديد، اكتشفت أنني كنت أكتشف المزيد من الجراح. الحب كان دائمًا يحمل في طياته الوعود التي لا تتحقق، وكان دائمًا ينتهي بالخذلان. وكان قلبي، الذي كان ينبض بأملٍ لا ينتهي، يتحطم أمام الحقيقة القاسية.

الخذلان، هو الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن إنكارها

ولكن في وسط كل هذا، هل كان هناك أملٌ حقيقي؟ كنت أركض في الشوارع، محاولًا الهروب من هذا الشعور، لكنني لم أتمكن من الهروب من نفسي. كان الخذلان يلاحقني في كل زاوية، في كل خطوة، حتى أصبح جزءًا مني. كنت أعلم أنني لا أستطيع الهروب منه، لأنني كنت أعيش وسطه، وكان يتسلل إلى عقلي كلما تذكرت كل لحظة من الألم الذي مررت به.

في تلك اللحظات العاصفة، كنت أشعر وكأنني فقدت كل شيء: الأمل، الحب، وحتى السلام الداخلي. كنت أركض، لكنني لم أكن أركض لأهرب من شيءٍ، بل كنت أركض لأواجه الخذلان الذي كان يتراكم في قلبي. وكنت أشعر أنني، في نهاية المطاف، لن أتمكن من الهروب.

وفي النهاية، نستمر في الحياة...

نستمر ليس لأننا نملك الإجابات، بل لأننا لا نملك خيارًا آخر. نستمر، لأن الحياة ليست مكانًا للوقوف، ولكنها مسار طويل، وإن كان مليئًا بالألم. نستمر، لكننا نكتشف في كل خطوة أن حياتنا لا تزال مليئة بالغموض، ولا مفر من مواجهة ما هو مقدر لنا. وكلما اجتزنا مرحلة، نتعلم شيئًا جديدًا، شيء يجعلنا أقوى. ورغم أنني كنت أظن أنني أهرب، فإنني في الحقيقة كنت أكتشف نفسي أكثر. كنت أركض نحو المستقبل، لكنني في النهاية كنت أركض نحو ما كتب لي.

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

 

في البدء كان السفر

الأسفار تعلم الانسان تدفعه الى الارتحال في الطبيعة والتفاعل مع الاخر انها تحرر الأنا من سطحيته وقيوده وتبث فيه مشاعر وانفعالات مفعمة بالحياة مشاعر يمتزج فيها الجميل بالجليل ويخضع فيها منطق العقل الى سحر الروح ففي كل واحد منا يسكن الاخر المختلف عنا عرقيا وثقافيا والمماثل لنا انسانيا وبالنسبة لأولئك الذين يعرفون قيمة الحرية فإن فعل المغادرة والمغامرة هو الأكثر شجاعة والأجمل. فهناك في الأفق البعيد صوت يتردد صداه يدعونا الى الترحال " عندما أتأمل… في الحيّز الصغير الذي أشغله، الحيّز الذي أراه ضائعًا في فضاءات شاسعة لا أعرف عنها شيئًا ولا تعرف عني شيئًا يصيبني الذعر وأحار لرؤية نفسي هنا" في رسالة كتبها وليام ووردزوورث في صيف سنة 1802 وأرسلها إلى طالب شاب، تحدّث فيها عن مهمة الشعر خاطبه قائلا: «إن على الشاعر العظيم… بشكل من الأشكال، أن يصحِّح أهواء البشر ومشاعرهم… وأن يجعلها أكثر تعقّلًا ونقاء ودوامًا"

حقا ففي عصرنا هذا عصر الاغتراب الروحي عصر التفاهة والبلادة حيث مساحة الكذب ازدادت اتساعا وشهوة الامتلاك أضحت أكثر عنفا تحولنا الى كائنات مدنسة بالخطيئة هنا تظهر الحاجة ولا شك الى معرفة ورؤية ما هو موجود هناك...الحاجة إلى الفرار والهجرة الى عوالم أخرى.. الى رحلات تسافر من خلالها الروح فالرحلة كما يقول عالم النفس كارل يونج تعبير لاشعوري عن رغبة عميقة في التغيير الداخلي تنشأ متوازية مع الحاجة إلى تجارب جديدة أكثر من تعبيرها، في الواقع، عن تغيير المكان انها ضرب من الهروب من الذات الى الذات ومن الانا الى الغير هذا هو قدر كل كائن حر وبهذا المعنى يمكن فهم وقراءة رحلات ايزابيل ابيرهاردت.

لقد عاشت إيزابيل في فقر(1) دون أن تتوقف عن الكتابة مطلقًا، امرأة غير شرعية، ابنة منفي، لديها الرغبة في الانتقام من اللعنات التي تغمرها. في أحد أيام شهر مايو 1897، انطلقت السفينة من مرسيليا باتجاه الساحل الجزائري، مدفوعة بقوة لا يمكن كبتها. في العشرين من عمرها، أدارت ظهرها منذ فترة طويلة للتقاليد، ولكن في بحثها عن نفسها، ستضطر إلى تجاوز حدود أخرى.

الرحيل الأول، رحلة لن يقطعها إلا الموت بعد سبع سنوات. إنها تتحول من نفسها بالتحدي ومن خلال الميل. تحت زي واسم المسافر العربي محمود السعدي، تستنفد مصيرها. لتجربة كل شيء، لمعرفة كل شيء: الأماكن السيئة والملذات. تنتقل من بيوت الدعارة إلى المساجد، ومن الأحياء الفقيرة في المدن الاستعمارية إلى المخيمات البدوية في الصحراء. وبدورها ستكون مغامرة، ومتجولة، وتلميذة لجماعة إخوانية مسلمة، ومرابطة، ومراسلة حرب، وصوفية ملهمة...

وعلى طول الطريق، كتبت إيزابيل إيبرهارت مئات الصفحات من المذكرات والقصص والقصص القصيرة ورواية غير مكتملة كشفت عنها كواحدة من هؤلاء الكاتبات اللواتي كانت حياتهم على قدر متطلبات عملها. إن وصف ما هو غريب عليك جذريا، الشرق، الإسلام في هذه الحالة، والتعبير عنه، وتجربته من أجل إعادة اكتشاف حقيقته الأساسية في النهاية، هو نهج مطلق، خال من الغرابة دائما، وأوسع من نهج كاتب الرحلة. إن الانفصال والرحيل هو هدف في حد ذاته، كما هو الحال مع الانجذاب إلى مكان آخر والبحث عن وطن.

تغادر على أمل عدم العودة أبدًا. روسية ولدت في جنيف، منشقة، عنيدة، تريد أن تقطع مع قرن، وحضارة، وبالطبع عائلة، والتي لا تستجيب لتعطشها للمطلق. لا شك أن الرواية العائلية، وخاصة تلك المليئة بالأحداث والمأساوية، تشكل عاملاً رئيسياً في الاختيارات المتزامنة وغير المنفصلة بين الأدب والأماكن الأخرى.

إن قصة ولادتها أصبحت رواية بالفعل. يبدو أن إيزابيل إيبرهارت لم تخرج أبدًا من هذا الخيال الذي تخلطه بالمتعة: لا يذكر سجل الحالة المدنية لمنطقة جنيف اسم والد "إيزابيل فيلهيلمين ماري، المولودة في السابع عشر من فبراير عام ألف وثمانمائة وسبعة وسبعين، ابنة إيبرهارت ناتالي شارلوت دوروثي، أصلها من موسكو"... هل كانت تعرف من هو والدها؟ هل اخترعت واحدة لنفسها من خلال إنكار والدها؟ وفي مراسلات حميمة تم الكشف عنها مؤخرًا، تذهب إلى حد الادعاء بأنها ولدت نتيجة اغتصاب. الغموض لم يتبدد أبدًا.

ولكن سيكون من السذاجة بمكان أن نختصر مهنته ككاتب متجول في البحث عن الأبوة. وهذا من شأنه أن ينكر قوة الخيال الذي يتغذى على جاذبية المجهول ويجعله يسلك الطريق الذي يندمج مع خيط الكتابة.

كان بإمكان إيزابيل إيبرهارت أن تصبح ثورية مثل صديقتها الأناركية فيرا؛ وعندما كانت في العشرين من عمرها، كان بإمكانها أن تتزوج من خوجة بن عبد الله، عشيقها الأول، أو في العام التالي، من رشيد أحمد، الدبلوماسي التركي الشاب والجذاب الذي التقته في جنيف. لقد اختارت الكتابة التي ألهمتها بشكل طبيعي منذ البداية. إنها تتعامل مع الأدب، فيُفرض عليها ويصبح مطلباً من مطالب الحرية. أن نعيش أحرارًا، بلا قيود، مثل المتشرد ولكن أيضًا مثل الكاتب الحر في اختراع عالم.

إنها تأخذ هذه الحرية بالكامل، بشكل اندفاعي، دون الرغبة في التوقف عند قياس العواقب. الحاجة للتجوال تقودها نحو هدف غير محدد: "كما هو الحال دائمًا، غادرت دون خطة ثابتة، قررت الذهاب إلى الصحراء الجزائرية، للتجوال هناك لأطول فترة ممكنة..." مسار متقلب: البقاء في بونا، والعودة إلى جنيف، ثم تونس، قبل طرق الجنوب، والرحلات عبر الصحراء، إلى الوادي، جوهرة العرق الشرقي الكبير. إن انجرافها ، وهو شكل كسول ولكن استفزازي من أشكال الاحتجاج في نهاية القرن الاستعماري، يعرضها لجميع المخاطر. إن الشخص الذي جعل "الموثقين والمندرين من كل الأطياف يقفزون" سوف يتم الاشتباه به على التوالي، ويتم حظره، وتشويه سمعته، ثم التسامح معه، واستخدامه والاحتفال به بعد وفاتها.

وعندما انقطعت أقوى رابطة عاطفية لها، بوفاة والدتها في نوفمبر/تشرين الثاني 1897، تمكنت إيزابيل إيبرهارت من أن تنجرف بالكامل في انجرافها، منجذبة إلى الجنوب الأسطوري - الشرق - الذي غذى دعوتها الأدبية.

الانجراف هو رفض الغرب والهروب منه دون اللجوء إلى العنف. كما حاول الكاتب بيير لوتي أن يفعل من قبل، ولكن بمزيد من الغموض. كما فعل بعض مؤسسي حركة الهيبيز في الآونة الأخيرة. في فضاء رغبتها، شرق يزيد أثره القديم من بعده، صحراء ثابتة أكبر من سهوب روسيا التي نشأت فيها، تجد بلدًا يرسل إليها لأول مرة صورة غير مجزأة عن نفسها، ويبدو أنها في المقابل تستوعب الحقيقة. "أعتقد أن هناك ساعاتٍ مُقدّرة، لحظاتٍ غامضةٍ للغاية، تُكشف فيها لنا مناطق ومواقعٌ عن روحها في حدسٍ مفاجئ، فنُدرك فجأةً الرؤيةَ الصحيحةَ والفريدةَ التي لا تُمحى. لذا، كانت رؤيتي الأولى للوادي..."، تكتب في إحدى قصصها القصيرة، " في أرض الرمال".

الصحراء، المشهد الذي تنظر إليه بنفسها، حيث تدمج نفسها فيه، لتكون جزءًا من الصورة التي تصفها. وهكذا فإن ميلها إلى ارتداء ملابس الجنس الآخر، أو ما يسمى بـ"التحول الجنسي"، والذي جعله يوقع على كتاباته الأولى باسم رجل، نيكولاس بودولينسكي، سوف يعاد استثماره بالكامل في رغبته في التكامل. في رواية "الواد" تتحول إلى محمود سعدي، "الباحث المسلم الشاب الذي يسافر طلبا للعلم"، ومن المفارقات أنها هناك تظهر على طبيعتها لأول مرة: إيزابيل إيبرهارت. فهو ليس استبدالاً بل مضاعفة للهوية المقبولة والمعبر عنها.

بالنسبة لها، لا يقتصر كونها جزءًا من اللوحة على إسقاط أحلامها عليها فحسب، بل على الوجود بكثافة: "... سينطق المسحوق، وستركض الخيول عبر سهل تكسبيت. الفارس، مرتديًا القندورة البيضاء والبرنس، بعمامة بيضاء عالية مع حجاب، مرتديًا مسبحة القادرية السوداء حول عنقه، ويده اليمنى ملفوفة بمنديل أحمر لإحكام قبضته على اللجام، سيكون محمود سعدي، الابن المتبنى للشيخ الحسيني الكبير..." لحظات عاشتها، من النشوة الكاملة، من السعادة النادرة، في تحقيق الرغبة. رحلة صاخبة، ولكن أيضًا نصوص محمومة، رسالة إلى أخيها أوغسطين، شريك مراهقتها المعذبة، وقصة قصيرة بعنوان "فانتازيا". هكذا تقيس إيزابيل إيبرهارت مساحة الأرض التي وعدت نفسها بها، الوطن، أرض الآباء. لكي تنال حق العيش هناك، تهرب من سيف متعصب، وتنجح في... لإحباط أمر الطرد، والتغلب على افتراءات المستوطنين، ومقاومة حمى الملاريا. إن قوة الانجراف تسمح لهذا الكائن "المضاعف" بعبور ألف خطر دون أن يصاب بأذى تقريبًا، سواء في حياته أو في عمله.

بعد ثمانين عامًا، يعود العمل إلينا. وكما هو الحال مع مؤلفها، كان من الممكن أن تختفي في 21 أكتوبر/تشرين الأول 1904، أثناء فيضان وادي الصفرا، لكن المخطوطات تم العثور عليها سليمة بأعجوبة في الطين، تحت أنقاض منزلها.

ولم تنجُ كتاباته من "شهوة الذئاب التي تتغذى على الأعمال المنشورة بعد وفاتها"، كما قيل بشكل مبالغ فيه في ذلك الوقت. وقد نشرت بعض النصوص أو القصص أو القصص القصيرة في حياته، خاصة في صحافة الجزائر. وقد تم جمعها ونشرها في المكتبات مع الأعمال غير المنشورة التي وجدت في عين الصفراء. تم إنقاذه من التشتت ولكن تم تعديله من خلال التصحيحات أو الإضافات أو الحذف من قبل المحررين الأوائل وحتى تم انتحاله من قبل كاتب يفتقر إلى الإلهام. ولكن من خلال هذه التقلبات، تم الحفاظ على العمل من أعظم المخاطر: النسيان. ربما بفضل ثبات الموضوع الذي ألهمه، وهو المواجهة بين الشرق والغرب، ولكن أيضًا لأنه يشكل شهادة فريدة من نوعها على الاستعمار؛ أو لأنه يظل دعوة جذابة للسفر.

إن كثافة وجودة انجراف إيزابيل إيبرهارت، المتناغم مع المكان والزمان، يعطي عملها بعده الحقيقي: هادئة ومتماسكة في تونس قبل مغادرتها إلى الجنوب، مفتونة بالوادي في لحظة الاكتشاف، ميلودرامية في مرسيليا أثناء المنفى، شاعرية في قلب الصحراء، قتالية في المدن الاستعمارية في الشمال، مرتفعة خلف أسوار مزار إسلامي... ولهذا السبب، يمكننا أن نعتقد أنه لا توجد سيرة ذاتية أفضل لإيزابيل إيبرهارت من عملها نفسه.

ابتداءً من عام 1899، بعد محاولة كتابة Rêves azurés، التي أرادت كتابتها مع شقيقها أوغستين ولكنها لم تترك أي أثر، وبعد المنشورات الأولية، ولا سيما في Athénée، فإن كل مجموعة متماسكة من النصوص تمثل نقطة عالية في حياتها.

تونس تايمز. حزن الأم. تعلم الوحدة والتحرر من المصير الذي حل بسلالة النساء التي جاءت منها. إيزابيل إيبرهارت لن تنجب ابنة طبيعية مثل أمها وجدتها، فكيف لها أن تفعل ذلك باختيارها أن تكون محمود؟

في أرض الرمال والساحل التونسي. "كشف الواد" وتأكيد دعوته: "الكتابة عن بلد جديد تماما" و"ربما إيجاد الشهرة في الأدب".

بداية العمال اليوميين. ياسمينة الرائد أول خبر جزائري. العودة التي طال انتظارها إلى الوادي بعد عام، في عام 1900. الرغبة في التكامل واللقاء بالحب، في صورة سليمان إهني، ولكن أيضًا الشك - من يستطيع إذن أن يفهم أصالة نهج إيزابيل إيبرهارت؟ - والرفض المزدوج وهجوم بهيما والطرد الذي أعلنته الإدارة الاستعمارية.

الجزء الثاني من "الصحفيون"، دفاتر الواد، الربيع في الصحراء، النسخة الأولى من "تريماردور". المنفى، بالنسبة لهذه الابنة المنفية، في مرسيليا في عام 1901. تركت لأجهزتها الخاصة، ويبدو أن طبيعتها القدرية حفزتها الصعوبات. إنها تختلق مصيرًا مارابوتيًا لنفسها، معتقدة أن الله اختارها لها: الاستشهاد في خدمة القضية الإسلامية. لكن الأهم من ذلك كله أنها تستمد من ذكرياتها قوة جديدة للإلهام والكتابة وتتأمل في روايتها الأولى.

عودة إلى الجنوب، استمرارا للأخبار الجزائرية. عند عودتها إلى الجزائر في ربيع عام 1902، وجدت إيزابيل إيبرهارت، الفرنسية من خلال زواجها من سليمان إهني، سباحي الوادي، صديقًا لها، فيكتور باروكاند، المدافع عن المساواة في الحقوق بين "السكان الأصليين" والمستعمرين؛ عمود في صحيفته " أخبار"؛ سبب ثورة فلاح متيجة . ترد على افتراءات "المتطرفين" بالأدب: بعض قصصها القصيرة تتحول بعد ذلك إلى اتهامات.

جنوب وهران الجزء الأول. بلاد البارود. كان مراسلاً حربياً على الحدود الجزائرية المغربية في عام 1903، وقد دفعه إعجابه بشخصية الجنرال ليوطي إلى الدفاع عن أطروحة "الحماية". ولكن باعتبارها من محبي الجمال، فإنها تتأثر بسهولة بالتشرد، وحياة الفيلق، والغومي، والقبائل المتمردة، وهي في نهاية المطاف تتأثر بها أكثر.

جنوب وهران الجزء الثاني. بعد العمل، التأمل. العودة إلى جنوب وهران في عام 1904 لنستسلم في نهاية الرحلة إلى سحر قلعة دينية في الصحراء: قنادسة. وتتسم الكتابات في بعض الأحيان ببعد أشبه بالحلم، يحمله التصوف.

وبطبيعة الحال، احترمنا هذا الترتيب الزمني للإلهام لبناء هذا المجلد الأول من الملاحظات والقصص. وسوف نجد نفس التسلسل الزمني في المجلد الثاني، وهو انعكاس خيالي لسيرة إيزابيل إيبرهارت من خلال القصص القصيرة وروايتها تريماردور.

ومن بين النصوص التي تم استخراجها من طين عين الصفراء، النصوص الأخيرة المكتوبة بالقنادسة، والتي تحمل طابعا تنبؤيا غريبا. إنهم يستحضرون أحلام الفناء النشواني في "جنة الماء". هل سئمت إيزابيل إيبرهارت من الاستمداد الكثير من مصادر الحياة، ومن تحدي الخطر في كثير من الأحيان؟ عندما توفيت في فيضان الوادي، كانت تبلغ من العمر سبعة وعشرين عامًا فقط، لكن الكثير من التجارب تراكمت...

كانت مريضة وضعيفة بسبب الحمى، فاضطرت إلى مقاطعة رحلتها الطويلة نحو الجنوب. ومع ذلك، في خريف عام 1904، كانت لا تزال تخطط للمغادرة إلى واحات توات، لقضاء الشتاء والكتابة في تيميمون، لتحكي قصة حياة النساء، العاهرات ذوات القلوب الكبيرة، عاملات المقاصف اللواتي يلعبن دور راهبات المحبة، اللواتي تبعن القوافل العسكرية لغزو الصحراء. وهو موضوع تناولته الأدبيات والسينما مراراً وتكراراً منذ ذلك الحين، والذي ربما كان ليشكل بالنسبة لإيزابيل إيبرهارت موضوع الرواية الناضجة.

لا تزال هناك مجموعة من النصوص، وهي عمل من شبابه، تتميز بقوتها الاستثارية التي تتناقض بشكل فريد مع رتابة معظم المؤلفين الاستشراقيين في ذلك الوقت، وتعلن عن موهبة حقيقية ككاتب. ماذا كتب أساتذة القرن التاسع عشر في سن السابعة والعشرين ؟ كان فلوبير قد انتهى للتو من إكمال روايته الأولى "التربية العاطفية"، والتي اعتبرها غير جديرة بالنشر...

لم تحقق إيزابيل إيبرهارت أي شهرة أدبية خلال حياتها. وفي أقصى تقدير، بدأ الناس يتحدثون في الصالونات الباريسية عن سر صورته الظلية الأنيقة كفارس عربي. ولم نتأثر حقًا بقوة وأصالة مصيره إلا بعد وفاته؛ العاطفة التي تسمح بنشر أعماله ونجاحها. عمل صدر بعد وفاته في عام 1906، دون أن يترك المؤلف أي تعليمات دقيقة بشأن هذا.

ويساهم ناشروه ومدحوه بدرجات متفاوتة في هذا النجاح، الذي أصبح غامضاً بسبب الإفراط في الثناء والرحلات الشعرية الخيالية من جانب الشعراء المتوسطين الذين يأتون لإلقاء كلماتهم على قبره، عند سفح الكثبان الرملية الصحراوية.

وكان أول من جمع نصوصها هو فيكتور باروكاند، الذي جمع كل الأخبار المنشورة في الصحافة الجزائرية، وجمع من يدي ليوطي، الذي بحث عنها بين الأنقاض، المخطوطات التي وجدت في عين الصفراء. يعتقد المدافع، والصديق المقرب، ورئيس التحرير أنه مخول بتنظيم الإصدار وفقًا لاستراتيجية شخصية للغاية. ينقسم الكتاب إلى قسمين جنوب وهران، وقد قامت إيزابيل إيبرهارت بنسخهما في دفتر ملاحظات واحد. وسيصدر منه كتابين: في ظل الإسلام الدافئ، ومذكرات من الطريق، ويضيف إليهما نصوصاً أخرى من دون كثير من المنطق.

وبفضل شرعيته كوصي، شارك في التوقيع على أول هذه الأعمال. لا شك أنه احتفظ بقدر معين من الحنين إلى علاقته الحميمة بإيزابيل إيبرهارت - ربما كان، لفترة من الوقت، عشيقها - وإلى تعاونهما. هل يسمح له هذا بخلط كتاباته مع كتاباتها؟ وباستخدام تدهور مخطوطة الجزء الثاني من Sud oranais كذريعة، يقدم، كما يحدد، "شيئًا جديدًا". في الواقع، يقوم النظام برقابة الكلمات والعبارات والمواقف التي تشير إلى قدر كبير من الحرية الأخلاقية. إنه في بعض الأحيان يثقل الأسلوب الرصين لمؤلفه الراحل بزخارف من كتاباته ذات "رقبة البجعة". وبذريعة الترابط، يضيف تأملات جمالية وأخلاقية خاصة به، ويحل محل المؤلفة بطريقة زائدة في النص حيث تكون حاضرة دائمًا من خلال حدة نظرتها. إنه ينثر الجمال في القصص حيث لا ينبغي لأي شيء أن يكون غريبًا، وربما تكون هذه هي الخيانة الأسوأ.

وللتوضيح، دعونا نشير إلى أنه في أعقاب الصرخة التي أثارها هذا التعاون بعد وفاته، اضطر باروكاند إلى أن يقرر الحد من تدخلاته لتقتصر على تصحيح التفاصيل. وبعد التدقيق، فإن النصوص المنشورة منذ عام 1908 فصاعدا، وهي Notes de route وPages d'Islam وTrimardeur، هي، مع بعض الاستثناءات، مطابقة للمخطوطات.

ومع ذلك، في هذا الوقت من الاستعمار، لم يكن من أقل مزايا فيكتور باروكاند الدفاع عن عمل إيزابيل إيبرهارت ونشره من خلال نشره في باريس بواسطة يوجين فاسكويل. كان باروكاند صحفيًا مؤيدًا للنظريات "التقدمية" للحكومة الراديكالية، وقاد هذا النضال حتى وفاته في الجزائر عام 1934. وقد عارضه عدد كبير من الشخصيات الأدبية بشدة على حصريته لموضوعه، ورفعوا أصواتهم، وفرضوا أصواتهم وأسلوبهم. في بعض الأحيان تتحول الخلافات إلى عنيفة حول شخصية إيزابيل إيبرهارت. كل واحد منهم يطرز نسخته الخاصة ويشارك الكثيرون: أولئك الذين عرفوها، والمسؤول الاستعماري والكاتب روبرت رانداو وزميله القاضي ماريفال، والرسام ماكسيم نوار، والكاتب في جريدة لوماتان جان رودس، وعلي عبد الوهاب، وهو صديق تونسي من شبابه... وأولئك الذين حلموا بها، والشاعرة لوسي ديلارو ماردروس، والناشطة النسوية سيفيرين، والسارقة فيني دوكتون... على سبيل المثال لا الحصر.

ثم يأتي الحارس. بدأ رينيه لويس دويون، الشخصية القوية، محرر ومدير مجلة "لا كونايسانس" والمعلم الأول لأندريه مالرو، في نشر المخطوطات منذ عشرينيات القرن العشرين فصاعدًا والتي ظلت غير منشورة وتم استعادتها بشكل غير متوقع في عام 1913 من قبل كلوي بوليود، المعجبة بإيزابيل إيبرهاردت. يقدم دويون كتابي My Day Laborers (1923) و In the Land of Sands (1944) بشكل خاطئ على أنهما أول كتابات أصلية. من خلال تقديم نفسه ككاتب سيرة ذاتية، فإنه يظهر نفسه طائفيًا تمامًا مثل أسلافه. يريد فك الصنم للعثور على المرأة، فيصنع أسطورة جديدة.

ولإعادة العمل إلى تماسكه، كان من الضروري محاولة فهم تماسك المؤلف ـ أو عدم تماسكه. إن اتباع خطواته وكتاباته منذ مغادرة جنيف يتطلب العديد من الطرق البديلة. لقد شرعنا في رحلة طويلة لإعادة اكتشاف هذا الباحث عن المطلق. أولاً، استكشف رفوف بائعي الكتب المستعملة لجمع مجلدات الطبعات الأولى التي كانت منذ فترة طويلة غير متوفرة في المكتبات. راجع الصحف والمجلات في ذلك الوقت الموجودة في الأرشيفات والمكتبات، وخاصة تلك التي ساهمت فيها: الأثيني، والأخبار الجزائرية، والديبيش الجزائرية، والأخبار الصغيرة، والمجلة البيضاء، على وجه الخصوص. وبعد ثمانين عامًا، اتخذت من كتاباتها دليلاً لها، وسافرت عبر بلد ما، والتقت بأناس يشبهون إلى حد كبير أولئك الذين تمكنت من الكشف عن أرواحهم: وفهمتهم في تغيراتهم ودوامهم.

عندما وجدنا في هذا الجنوب الذي أحبته كثيرًا، المناظر الطبيعية، والوجوه، والمشاهد التي وصفتها إيزابيل إيبرهارت، فهمنا حقيقة الشخصية بشكل أفضل مما كنا نقرأه من النصوص التي لا تعد ولا تحصى والتي نشرت عنها منذ وفاتها. لم يتبقَّ سوى اكتشاف ودراسة المراسلات والملاحظات غير المعروفة لدى أغلب كتاب السير الذاتية، لمحاولة إحباط فخاخ أسطورة إيزابيل. ومن ثم أصبح من الممكن إعادة إثبات حقيقة العمل من خلال مقارنته لأول مرة بالمخطوطات المحفوظة والنصوص المنشورة في حياة المؤلف.

تتحدث إيزابيل إيبرهارت عن نفسها بلا مبالاة، سواء أكان ذلك ذكوريًا أم أنثويًا، وتكتب كما عاشت: ببساطة ولكن تحت إشراف تدفق العواطف، دون تجميل، ودون مكر. بلا مبالاة، ولكن مدفوعًا بشغفه. قبل وفاتها بفترة وجيزة دخلت تلك المرحلة من النضج الأدبي حيث يبدأ المرء بمعرفة كيفية إعادة تكوين الواقع في الخيال. وتشكل بعض المقاطع من روايته "تريماردور" دليلاً على ذلك.

يأتيه الإلهام على طول الطريق. تلاحظ المناظر الطبيعية أو اللقاءات، ولكن ليس في مكانها، بشكل موجز، بضعة أسطر، نقاط مرجعية، في دفاترها المدرسية ذات الأغلفة الرخامية، أو إذا فشلت في ذلك على ورق رسائل الفندق، على ظهر الفاتورة وحتى على ظهر ورقة الاقتراع. وفي وقت لاحق، وأحيانا بعد ذلك بكثير، استلهمت من ملاحظاتها وذكرياتها كتابة القصص والقصص القصيرة التي كانت تعيد كتابتها في كثير من الأحيان في إصدارات متتالية، ثم تنسخها دون شطب بالحبر الأسود أو الأرجواني بخط يدها المتعمد والرفيع.

وقد أتاحت لنا المخطوطات من مجموعة إيزابيل إيبرهارت، المحفوظة في الأرشيف الخارجي في آكس أون بروفانس، العودة إلى النص الأصلي وتصحيح المنشورات الأولى. نجد، لا تزال ملطخة بالطين الأحمر الناجم عن الفيضان، جزأين من جنوب وهران؛ عدة إصدارات غير مكتملة من رواية تريماردور، معظم دفاتر الواد، تلك من الساحل التونسي، دفاتر، بعض القصص القصيرة والعديد من المقاطع والمتغيرات، أعمال غير منشورة أيضًا، راحيل والمقاديرة، مسودات رواية مهجورة. وقد احتفظت عائلة باروكاند بهذه المخطوطات، التي جمعها وقام في بعض الأحيان بشرحها بغرض النشر، حتى عام 1956، ثم سلمتها إلى أرشيف الحكومة العامة للجزائر قبل نقلها إلى آكس أون بروفانس.

لقد تمكنا بفضل ذلك من استعادة الكلمات والجمل والعناوين والفقرات، وحتى القصص بأكملها التي حذفها باروكاند. لقد قمنا أيضًا بإزالة إضافاته وإعادة تقديم بعض المتغيرات وبدايات القصص القصيرة والنصوص الجدلية المستبعدة سابقًا، لتشكيل هذه المجموعة من الملاحظات والقصص، وهي المجلد الأول من مجلدين من الأعمال الكاملة لإيزابيل إيبرهاردت.

أردنا أن نقوم بعملية التحرير، وأن نقدم النصوص الأصلية للقراءة لأول مرة، دون تعديلات أو تصحيحات، مع أخطائها واكتشافاتها. بالنسبة لنا، هذا هو أفضل تكريم للشخصية والكاتب الذي "أسعدنا" لفترة طويلة.

ينبغي أن يسمح هذا النشر الأول للأعمال الكاملة بإجراء أعمال أخرى حول إيزابيل إيبرهاردت، والمذكرات، والأطروحات، والدراسات النقدية، والتي لا تزال قيد التنفيذ.

في بداية المجلد نجد نصًا كتب في نهاية عام 1902، والذي بدا لنا وكأنه يفرض نفسه كمقدمة. تشيد إيزابيل إيبرهارت بـ "التجوال"، وهو العنوان الذي اختارته لجمع قصصها الأولى.

تلك التي رحلت في العشرين من عمرها دون رغبة في العودة، حققت أخيرًا أمنيتها: "... تحت أي سماء وفي أي أرض سأرتاح يوم قدري؟ لغز... ومع ذلك، أودّ أن يُدفن رفاتي في تراب مقبرة عنابة البيضاء الحمراء، حيث ترقد... أو في أي مكان آخر، في رمال الصحراء المحروقة، بعيدًا عن تفاهات الغرب الغازي..."

***

عمرون علي - الجزائر

............................

ملاحظة

في أغلب أجزاء هذا المقال تمت العودة الى كتابات على الرمال، المجلد 1. تم إنشاء الطبعة وشرحها وتقديمها بواسطة ماري أوديل ديلاكور وجان رينيه هوليو، جراسيت، 1990.

كان فيثاغوروس من أكبر الفلاسفة في تاريخ اليونان. هو أضاف مساهمات عميقة للمعرفة في مختلف الحقول. احدى الحقائق الملفتة حول معتقدات فيثاغوروس هي انه اعتبر الرقم ثلاثة ذا طابع خاص. فما هو تبرير فيثاغوروس لهذا؟

سحر فيثاغوروس في الأرقام

لم يكن فيثاغوروس مهتما فقط بالرقم ثلاثة. هو كان مندهشا بالارقام عموما. هو نظر لها كمفتاح لفهم الكون ككل. تحقيقاته في طبيعة الأعداد كان لها تأثيرا مستمرا على المصطلحات الرياضية الى يومنا هذا . فمثلا، كانت لدى فيثاغوروس طريقة النظر الى الارقام هندسيا بدلا من كتابتها بالرموز. هو يستعمل النقاط لترتيب الرقم في أشكال مثل المربعات او المثلثات. الرقم 6 مثلا، هو رقم مثلثي لأن رقم 6 المعروض بالنقاط يشكل مثلثا. بكلمة اخرى، هناك قاعدة مكونة من ثلاث نقاط وقسم وسط مكون من نقطتين، ونقطة واحدة تشكل الذروة.

نحن لانزال نستعمل مصطلحات "ارقام مربعة" و "ارقام مثلثة" حتى اليوم. هذا يبيّن مدى أهمية افكار فيثاغوروس.

لماذا اكتسب الرقم 3 خصوصية لدى فيثاغوروس؟

من بين جميع الأرقام، اعتبر فيثاغوروس الرقم 3 فريدا من نوعه. هنا عدة اسباب لهذا:

1- لاحظ فيثاغوروس ان الرقم 3 هو الرقم الوحيد الذي يساوي مجموع جميع الارقام التي دونه. بكلمة اخرى، عندما نضيف 1 و 2 (الارقام التي دون 3) سنحصل على رقم 3، بينما لن يحصل هذا مع أي من الارقام الاخرى.

فمثلا، اذا كنت تضيف جميع الارقام التي دون الرقم 4، فان المجموع الكلي سيكون 6 بدلا من 4. لذلك، لاحظ فيثاغوروس ان هذا يجعل الرقم 3 فريدا من نوعه.

2- السبب الثاني لخصوصية الرقم 3 هو عندما نأخذ الارقام السابقة للرقم 3 (1،2) ونجمعهما مع الرقم 3 سنحصل على الرقم 6. ونفس الشيء، عندما نضرب جميع تلك الارقام مجتمعة (1،2،3) سنحصل على رقم 6. هذا الانسجام لا يوجد في أي من الارقام الاخرى.

3- فيثاغوروس اعتبر الرقم 3 خاصا لسبب أخلاقي. طبقا لفيثاغوروس، فضيلة الفرد تتألف من ثلاثة أجزاء متميزة وهي الفهم تتبعه القوة ثم اخيرا الفرصة.

الرقم 3 والكون

بالاضافة الى خصائص الرقم 3 على المستوى الرياضي، فيثاغوروس ايضا اعتبره خاصا لعدة اسباب اخرى. ولاسيما،انه يبدو يعكس العالم في المستوى المفاهيمي. في تجربتنا الانسانية، نحن على اطلاع بمفهوم البداية، الوسط، والنهاية. هذه الأجزاء الثلاثة تلخص مجمل أي شيء في الكون. ونفس الشيء، بالنسبة لتجربة الانسان في الميلاد، الحياة، الموت.

 أحد الفلاسفة الذي اتّبع تعاليم فيثاغوروس كان أيون Ion من جزيرة خيوس Chios. كتب:

"كل الأشياء هي 3، ولاشيء هناك أكثر او أقل من 3".

من هنا يتضح ان الرقم 3 كان هاما جدا لفيثاغوروس وأتباعه نظرا لعدة اسباب رياضية وأخلاقية كما رأينا.   

***

حاتم حميد محسن

 

قراءة انثروبولوجية

كثيرا ما نسمع آراء من داخل الأوساط العشائرية، حول طبيعة تحول العشيرة نحو توجاهات مخالفة للأصول العشائرية وتقاليدها، ويعزا هذا التحول إلى طبيعة التنافس العشائري حول الوجاهة والمشيخة والتصدي للظهور العشائري والبروز فيه. وإن كان هذا جزء من جملة أسباب، ممكن أن نشخصها في طبيعة العشيرة وتكوينها وحضورها، وتأثير شكل النظام السياسي عليها، وهوية الدولة، وطبيعة الحكم. بالتأكيد ما تقدم له مؤشراته في كل نشاط عشائري ممكن أن يكون جزء من هوية النظام السياسي وهوية نظام الدولة.

اذا تحدثنا عن هذه الطبيعة العشائرية من داخل مؤثرات النظام السياسي فيمكن أن نبتدأ ذلك مع بداية تكوين الدولة العراقية عبر سلطة الأحتلال البريطاني الذي جلب للعراق عائلة تحت مسمى (الأسرة الهاشمية) او العشيرة الهاشمية، وهذه أول مرحلة من مراحل تركيز الحكم العشائري في النظام السياسي العراقي، وما تبع ذلك من تصاعد للخطاب العشائري داخل الدولة والنظام السياسي، حيث قرب الهاشميين من الحكم والأصهار والأقارب الى سدة الحكم وإدارة الدولة فيما بعد، حتى فيصل الثاني، ووصيه عبد الأله الذي هو خال الملك. وهذا يعني أن الملوكية كظام سياسي قائم على فكرة العشيرة فهي تتشكل بها وتتغير بمتغيرات العائلة والاسرة الحاكمة فيما لو لم تنجب أولاد ذكور، وأشكالية الوصاية وغيرها من التبعات السلبية للنظام الملكي وعلاقته بالحكم وديمومته وعلاقته بالشعب على اساس هذا الاعتبار، والنظام الملكي هو وجه من وجوه الأنظمة الشمولية.

اما العشيرة في النظام الجمهوري، وبما يمكن أن نسميه بالجمهورية الأولى، وهي جمهورية عبد الكريم قاسم، كانت قد تعاملت مع العشيرة على أساس اعتبارات جديدة، اضعفت نسبيا الهيمنة العشائرية تحت نظامي الاقطاع، والوصاية العشائرية، حيث منحت القيمة للوظائف، والتمليك، والأعمال الحرة، وبدأت تفقد العشيرة أو بالأحرى بدأ يفقد الشيخ كثير من جمهوره، لا سيما جمهور من العبيد، والخدم، والتابعين، تحت سلطة الشيخ وحمايته او حماية عشيرته، فالشيخ كان في هذه المرحلة ليس شيخ على عشيرته فقط، بل شيخ على جميع منطتقه الجغرافية التي له حضور عشائري فيها. اذا ما تجاوز بتأثيره العشائري هوية انتماء أكبر تحت عنوان الإمارة أو السمعة الوطنية التي يكتسبها الشيخ.

اما وضع العشيرة في ظل الجمهورية البعثية الديكتاتورية الشمولية، في ظل وحدة الدولة، ووحدة النظام، ووحدة الحزب، ووحدة الجيش، ظهرت بشكل قوي وحدة العشيرة، واستمر هذا الحال الى ما بعد 1991 وما بعدها أحدث صدام حسين تغييرات في التكوين العشائري المسكوت عنه تحت عنوان وحدة العشيرة ووحدة الإنتماء والتألف العشائري الى وحدة الولاء السياسي للعشيرة تحت هذه الوحدة العشائرية، وهذا ما عمل عليه صدام حسين حين بدأ يصنف العشيرة من حيث ولائها ويفكك العشيرة التي لا تدين له بالولاء في مقابل إبراز مشايخ جديدة تنافس مشايخ آخرين من العشيرة ذاتها. فبقي داخل العشيرة ما هو مسكوت عنه، مثلما بقي داخل النظام السياسي ما هو مسكوت عنه، حتى تكشف كثير منه بعد الأنتفاضة الشعبانية، أو قل قبلها حيث عمل صدام على ترحيل التبعية الأيرانية أو الكردية الفيلية من العراق وكان اغلبهم كان قد إندمج عشائريا مع عشائر عراقية وعربية كثيرة حتى بعضهم حمل لقبها.

وكان صدام تحت شموليته المقيته عمل على تنقية العشائر العراقية من انتماءات كان هو يصفها بشكل عنصري، مثل العجمية، والأجنبية، والدخيلة. ولا ننسى صدام هو أيضا يحمل نزعة وحدة العشيرة ودمجها مع وحدة النظام السياسي، حيث كان حكمه مثقل بثقافة القرية والعشيرة، حيث إدارة حكمه كانت مقتصره على قرية العوجة وما يحيط بها، وما ينتمي له من عشيرة آل بوناصر وبقي هذه الشمولية تتضخم في الثقافة المجتمعية العشائرية حتى أصيب شيوخ عشار كثر بهذه النزعة، فكانوا يرفضون الاستقلال العشائري داخل القبيلة أو الأستقلال القبلي داخل الأمارة أو حتى الأنفصال والتحول الى عشيرة أخرى أو أمارة أخرى. ومازالت هذه النزعة موجودة عند كثير من الشيوخ حتى سقوط نظام البعث، واستمرت حتى في ظل النظام التعددي الديمقراطي في عراق ما بعد 2003 ومن مظاهر هذه الشمولية ، هو الطموح السياسي الذي دفع كثير من الشيوخ للترشح أو تولي مناصب عليا أو التقرب من السلطة أو التخادم بينها وبين النظام السياسي القائم، وهذا الأمر يتجاوز به الشيخ مهمته العشارية الا انه تكتنفه فكرة أحتواء العشيرة من خلال ما يتمتع به من نفوذ وسيطرة وبذل أموال وبذل طعام.

فإنثروبولوجية العشيرة في ظل النظام الشمولي تختلف عن أنثروبولوجية العشيرة في ظل النظام التعددي الذي انتج لنا شموليات ايديولوجية بدل الشموليات السياسية وتأثر العشيرة بهذا التغير، فجاء انتمائهم للفصائل المسلحة هو نوع من الحماية وتقوية شوكة العشيرة ازاء التهديد العشائري المجاور وغير المجاور، وانتمائهم للنظام السياسي ليكسبوا ويعززوا عامل الوجاهة وقوة خدمة العشيرة وأهل المصلحة، فأصبح للعشيرة توصيف سياسي وايديولوجي بارز أثر ايجابا وسلبا على التكوين العشائري المحايد للعشيرة، فهناك عشائر توصف على انهاء صدرية لأن شيخها وجزء كبيرة من اتباعها تحت رعاية التيار وحمايته وولائهم لرمز التيار، وهناك عشائر ذات ولاء حكيمي اي لعائلة الحكيم، وهناك عشائر مقربة من العتبات او ما يعرف بحشد العتبات وهناك عشائر ذات انتماءات متعددة متذبذبة ومتفاوته وعابره حتى للقومية والمناطقية والدينية او الطائفية، هناك ولاءات عشائرية اتاح لها النظام التعددي الديمقراطية حرية الولاءات العشائرية العابرة للحدود. فكثر من الشيوخ يعد نفسه مسؤولة إمارة في داخل العراق وخارجه، وهناك من يفرض أمارته على أجزاء من الوطن العربي، وهذا يعني التوسع خارج أقليمية الدولة وهو ما لم يشر اليه القانون دستوريا او ما لم يتم معالجته قانونيا، وهذا يعني إن إمارة العشيرة او القبلية او الإمارة هي أوسع تأثير من حدود سلطة الدولة المعترف بها، فهي خارج سياكس بيكو الحدود، وما يقابله ويعاب عليه عند كثيرين مفهوم سلطة الأمة على وفق الحكم الإسلامي.

فالعشيرة هي تكوين اجتماعي تتأثر بالتأكيد بكل متغيرات انظمة الحكم، ولو اطلع القارئ الكريم على وثائق في النظام الملكي والجمهوري الأول وحكم البعث، وحكومات ما بعد 2003 توضح طبيعة توظيف العشيرة لخدمة الأنظمة السياسية وعلاقة العشيرة بالسلطة، فكان فرصة كبيرة لإعادة النظر بالعشيرة إنثروبولوجيا عسى ان يصحح من مسار المواقف، واعادة توازن المصالح الإجتماعية والوطنية على اساسها.

***

د. رائد عبيس

في المثقف اليوم