في مقال اثار اهتمامي، نُشر في صحيفة المثقف، لكاتب معروف ومشهود له بالكفاءة، أثار كاتب المقال تساؤلات، واقعية ومثيرة للاهتمام، وهي ايضاً تصلح أن تكون أمنيات يتمناها كل عربي غيور. وأقتبس مما كتبه ما يلي: "متى ستتحقق المصالحة التاريخية بين كافة المذاهب والطوائف عندنا مثلما تحققت المصالحة التاريخية الكاثوليكية – البروتستانتية في أوروبا وانقذتهم من جحيم الانقسامات الطافية والمذهبية؟ متى ستنتصر الانوار العربية الإسلامية على الظلمات العربية الإسلامية؟ ".
من المعروف أن هذه المصالحة التاريخية تسمى صلح وستفاليا، وهي عبارة عن معاهدتي سلام بين دول أوروبا، تمت في عام 1648م، وانتهت على أثرها الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت التي استمرت ثلاثون عاماً راح ضحيتها الملايين من الاوربيين. هذه الحروب الدينية المدمرة حدثت بسبب انشقاق مارتن لوثر عن الكنيسة الكاثوليكية عندما اعترض عام 1517م على صكوك الغفران التي أصدرتها الكنيسة الكاثوليكية. إثر ذلك، أصدرت الكنيسة الكاثوليكية اوامرها بطرد مارتن لوثر من الكنيسة الكاثوليكية واتهمته بالهرطقة. رفض لوثر الانصياع لأمر الكنيسة وكشف مفاسد رجال الكنيسة الكاثوليكية وطغيانهم. أيّدَ لوثر وتبعه الكثير من الاوربيين خصوصاً في بلده المانيا، وأُنشئت الكنيسة اللوثرية. اعتَبَر الكاثوليك المبادئ اللوثرية كفر والحاد (هرطقة) واتخذوها سبباً للتخلص منه ومن اتباعه البروتستانت. كانت الحروب والنزاعات السياسية قائمة بين الدول الأوروبية فأججها هذا الصراع الديني بشدة وقسوة مما جعلها حروبا طاحنة بين الاوربيين، فزهقت الأرواح ودمرت المجتمعات. وبعد ثلاثين سنة من الحروب المدمرة (من عام 1618م إلى 1648م) أفاق العقلاء من الاوروبيين من صدمة وهول القتال بينهم ولأسباب لا يقبلها العقل ولا المنطق، وبدأت مراجعة أفكار التعصب والاستكبار والعنجهية مقابل مبدأ التسامح وحرية الرأي والمعتقد، فاتفق الجميع (الكاثوليك والبروتستانت) على منح الحرية الكاملة لاختيار المعتقد أو المذهب الذي يرتئيه رئيس الدولة لدولته، وذلك بالكف عن تكفير الاخرين ومعاقبتهم لاختيارهم أيَّ مذهب أو عقيدة تتنافى مع معتقدهم. وعمّ السلام أوروبا بعد أن تخلصوا من النزاعات العصبية والطائفية التي كانت متأصلة في عقولهم والتي ازهقت الأرواح ودمرت المدن والمجتمعات.
وافقت الأطراف المتحاربة دينياً على قبول المصالحة عندما تنازل الكاثوليك عن تعصبهم واستعلائهم، على اعتبار انهم أصحاب الدين الصحيح ولهم الحق في تكفير المنشقين عن دينهم، وكسب البروتستانت حرية ممارسة شعائرهم الدينية دون خوف أو تهديد، وفتح باب الامن والاستقرار بينهم. ثم بدأ العقلاء والمثقفين من رواد النهضة الأوروبية بتثقيف شعوبهم سياسة التسامح والمحبة والعفو. في عام 1685م كتب جون لوك ثلاثة رسائل عن التسامح وسماها "رسالة في التسامح" ونشرت في كتاب بنفس العنوان في عام 1690م، وجون لوك كما هو معروف من أشهر فلاسفة ورواد النهضة الأوروبية. ذكر جون في كتابه هذا مواعظ دينية كثيرة مستندة إلى اقوال السيد المسيح (ع) عن المحبة والتسامح مستقاة من الانجيل. حارب التعصب الديني الذي كان سائداً في أوروبا في ذلك الوقت، ودعا إلى منح اليهود والمسلمين الحرية الكاملة في ممارسة شعائرهم الدينية، لأنهم كانوا مضطهدين من قبل المسيحيين الاوروبيون، كما دعا إلى نشر التسامح الديني بين المسيحيين الأوروبيين لأنهم كانوا متعصبين وطائفيين. وفي عام 1763م نشر فولتير كتابه الذي سمّاه أيضاً " رسالة في التسامح" وكرسه لإدانة التعصب وثقافة ال لا تسامح الديني الذي كان منتشراً عند الأوروبيين في ذلك الزمان، ودعا إلى اتخاذ سياسة التسامح واحترام المعتقدات عند الآخرين. وهكذا، عمل رواد النهضة الأوروبية بجهود حثيثة وصادقة لإقناع الناس بالتخلي عن التعصب الديني ونشر ثقافة التسامح في مجتمعاتهم، ونجحوا في ذلك.
هذا ما حدث للأوروبيين في العصور المظلمة، فيما كانوا عليه وما أصبحوا عليه. وكيف انتقلوا من جهل وتخلف وعنصرية مقيتة إلى عقول واعية متفتحة ومتسامحة، تؤمن باحترام الرأي وعقيدة الفرد الآخر مهما كان مخالفاً لرأيهم وعقيدتهم. فأين نحن العرب من هذه القصة الحقيقية، أو بالأصح من هذه التجربة الواقعية؟ هل نحن نسير على خطاهم أو نحاول أن نسير على خطاهم؟ أم نحن بعيدين جداً عن العبرة والموعظة مما حدث لهم وكيف صححوا مسارهم؟
إن العبرة والموعظة التي يمكن استخلاصها من المصالحة الكاثوليكية – البروتستانتية هي ثقافة التسامح واحترام الرأي والمعتقد للفرد الآخر، والتخلص من التعصب والطائفية، والتي هي، بلا شك، داء يفتك بمجتمعاتنا حالياً ويخرّبها ويدمرها. فكيف يمكننا ان نتعلم وأن نمارس ثقافة التسامح واحترام رأي أو عقيدة الشخص الآخر؟
مفهوم التسامح وثقافة التسامح
في كتابه " التسامح ومنابع اللاتسامح " يقول الأستاذ ماجد الغرباوي أن المفهوم اللغوي للتسامح مشتق من السماحة أي التساهل والجود، وسمَحَ: جاد وأعطى عن كرم وسخاء. إلا أن المعنى الاصطلاحي للتساهل في البيئة الغربية يأخذ بعداً آخر. فمفهوم التسامح عند الغرب ظهر في القرن 17 – 18م، لتفادي تداعيات الحروب والصراعات المذهبية والاتجاهات الفكرية المختلفة التي شهدتها أوروبا في القرون الوسطى، من اجل التوصل إلى صيغ مناسبة تضمن حقوق الانسان وحرية الرأي والتعبير بشكل متساو لجميع افراد الشعب.
واجمالاً، وفي سياق هذا المقال، يمكن أن نقول: أن التسامح هو عكس التعصب والطائفية. ويعني أن المتسامح هو الذي يتقبل ويحترم رأي وعقيدة الطرف الآخر مهما كانت مخالفاً لرأيه أو عقيدته أو انتماءه. وإن المتسامح يؤمن أن كل فرد في المجتمع له كامل الحرية والحق في اختيار ما يشاء من فكرة أو عقيدة أو مذهب أو طقوس دينية مهما كانت مخالفة لرأيه أو عقيدته. إن مفهوم الثقافة، كما يعبر عنها بثقافة الفرد أو ثقافة المجتمع، يعني مجموع العادات والأخلاق والأفكار التي تَرَبى عليها الفرد في مجتمعه. فإذا كانت طبيعة وأفكار افراد المجتمع تتصف بالتسامح تجاه الآخر، كما هو الحال في المجتمع الغربي، فأن ثقافة الفرد وثقافة المجتمع توصف بثقافة التسامح. ولنا في التاريخ الإسلامي مشاهدة مبهرة في ثقافة التسامح، متمثلة في مبدأ التسامح الديني مع باقي الأديان (المسيحية واليهودية) في حضارة الاندلس، التي يعترف بها القاصي والداني. وهناك امثلة أخرى كثيرة، في التاريخ الإسلامي، معروفة ومتفق عليها لا يتسع المجال لذكرها.
والموعظة الأخرى في هذا السياق هي: معرفة معنى ومفهوم الطائفية والتعصب كي يتجنبها افراد المجتمع في حياتهم وتعاملاتهم اليومية. وإذا استطاع افراد المجتمع أن يتجنبوا خطاب التعصب والطائفية فإن ذلك سيؤدي إلى أن تُستبدل ثقافة التعصب والطائفية تدريجياً بثقافة التسامح، ليصبح مجتمعنا مجتمعاً متجانساً يسوده الاحترام بدل الكراهية. وقد اقتصر مفهوم الطائفية على المذهبية الدينية حصراً، بينما شمل مفهوم التعصب كلّ مجالات الرأي الأخرى كالسياسة أو الاجتماعية أو أي محتوى آخر.
في مفهوم الولاء والانتماء
من المهم أن نميّز بين الانتماء والولاء وبين التعصب والطائفية. إن المُسْلم عندما يُعظّم الإسلام ويفتخر به فإن هذا لا يعتبر تعصباً ولا طائفية بل هو انتماء أو ولاء لدين أو ايمان أو عقيدة أو مذهب. وهذا ليس خطأ ولا معيب ولا ينافي العُرف أو القانون. ان هذا هو تعبير، أو قُل دفاع عن ايمان أو اعتقاد بفكرة يؤمن بها، وهي سنة من سنن البشرية، مارسها ويمارسها كل الناس في كل زمان ومكان. فالمسيحي يدافع عن المسيحية ويُعظّمها، واليهودي يكبّر اليهودية، والشيوعي يمجد الشيوعية والرأسمالي يمجد الرأسمالية، والفرنسي يتفاخر بالفرنسية كما يتفاخر الإيطالي بالإيطالية والامريكي بالأمريكية والعربي بالعربية، وهكذا في كل المجالات الأخرى، طالما أنه لا يمس عقيدة أو رأي الآخرين. بالمقابل فإن الطرف الآخر عليه ان يحترم انتماء أو ولاء الطرف الاول لدينه أو معتقده أو وطنه أو لغته وهكذا. وكما أوضحت، فإن هذا هو انتماء وولاء شخصي لشيء معين ولا يعتبر تعصباً أو طائفية. قد يكون هناك بعض الأشخاص ممن يتشددون أو يغالون في التعبير عن انتماءاتهم وولاءاتهم ويُعتبرون من المتشددين أو المغالين في هذا المجال. وهؤلاء أيضاً ليسوا متعصبين أو طائفيين طالما أنهم يتحدثون عن أفكارهم وعقائدهم ولا يعتدوا على انتماءات أو عقائد الآخرين، ولا يزدروا أو ينتقصوا من آراء الآخرين. والعبرة من ذلك: طالما أن كلامهم ينحصر فيما يختص بانتماءاتهم وعقائدهم فقط ولا يمس معتقدات الآخرين ولا يسيء لهم فهو ليس تعصباً ولا طائفية بغيضة إنما هو ولاء وانتماء لمعتقده.
مفهوم التعصب والطائفية
إن المتعصب والطائفي هو من ينتقص أو يعيب أو يزدري رأي أو معتقد الشخص الآخر. وهذا مربط الفرس في مفهوم التعصب والطائفية. فالمتعصب أو الطائفي يهدف بالأساس إلى محاربة الرأي الآخر وتشويهه والانتقاص منه. ليس المهم عنده اثبات صحة عقيدته التي يؤمن بها، لأنه يعتبر أن ذلك لا يحتاج إلى نقاش أو اثبات فهو الاصح وهو الأساس. وهو في ذلك يتخذ نهج استعلائي مغطرس. وقد اقتصر مفهوم الطائفية على المذهبية، بينما شمل التعصب كل المجالات الأخرى كالسياسة والعرق والقضايا الاجتماعية وغيرها. على سبيل المثال، نرى السني ينتقد ويحاول أن يُظهر عيوب الشيعة، والشيعي ايضاً ينتقد ويحاول أن يعيب السنة، والشيوعي يقتل البعثي من اجل السلطة، والبعثي ينتقم من الشيوعي لنفس السبب، وكلاهما يحارب الآخر لاختلاف العقيدة. وعند كل فرد من هؤلاء الافراد، ليس المهم أن يُظهر أو يُركز على محاسن مذهبه أو معتقده، لكن المهم عنده أن يظهر ويركز على مساوئ المذهب أو المعتقد عند الفرد الآخر. وكما أوضحت أعلاه لا يعتبر من يتكلم عن معتقده بمتعصب أو طائفي إذا لم يسيء إلى الرأي الآخر.
خطاب الكراهية
المقصود بخطاب الكراهية: هو أي نوع من الكلام أو الكتابة أو السلوك الذي يستهدف فرداً أو مجموعة من الناس بناء على خصائص متأصلة فيهم مثل الدين، العرق، الجنسية أو المظهر. ويهدف خطاب الكراهية إلى إهانة أو استبعاد أو تهديد الآخرين وبالتالي يؤدي إلى الكراهية والتفرقة والعنف. إن خطاب التعصب والطائفية قد يرقى إلى أن يكون خطاب كراهية. إن التعصب والطائفية هو اصلاً خطاب استعلائي متغطرس من فئة تُعطي لنفسها الحق بأن تستغبي الطرف الآخر، وتعتبر نفسها الأذكى والأفضل من الأطراف الأخرى. فعندما يمارس هكذا خطاب تجاه الرأي أو الفكرة عند الفرد الآخر فمن المؤكد أن الطرف الآخر سوف لن يقبل هذا الخطاب ولا ينصاع له، بل إن هذا الخطاب سيثير الحقد والسخط بين الطرفين ويؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها أو عواقب وخيمة تشتت المجتمع وتدمره.
مفهوم النقد وانتقاد الرأي الآخر (حرية التعبير)
يجب أن يكون معلوماً، أن توجيه النقد للفكرة المخالفة ليس بالضرورة أن يكون تعصباً أو طائفياً إذا كان بأسلوب ثقافي علمي يتماشى مع المنطق دون المساس والإساءة أو الاستخفاف بالفكرة أو المعتقد للشخص الآخر. الانتقاد هو تقييم الشيء بهدف فهمه أو تحسينه سواء كان فكرة أو عمل أو مذهب. وقد يكون النقد ايجابياً بنّاءً إذا اتبع الأسلوب الحضاري للنقاش والحوار بين الأفكار المختلفة. وقد يسميه البعض حرية التعبير، والتي هي حق أساسي للأفراد، لكن، كذلك، حرية التعبير لا يجب أن تستخدم لإيذاء الآخرين أو التحريض على الإساءة والعنف. وهناك مثال حي على التلاعب بمفهوم حرية التعبير، وهو الموقف الذي اتخذته الحكومة الفرنسية بالدفاع عن الصحيفة الفرنسية التي نشرت الرسوم المسيئة للنبي الاكرم (ص) عندما ادعت الحكومة ان الجريدة تمارس حقها في حرية التعبير، متناسية بذلك مبدأ الاعتداء على، والإساءة إلى، عقيدة ومقدسات الآخرين. وهذا ينبع أصلا من تعصبهم الديني وكراهيتهم للإسلام والمسلمين.
الخلاصة
والعبرة من كل ما تقدم: أنه يمكنك أن تتكلم عن رأيك أو عن عقيدتك كما تشاء وتفتخر بها أو تظهر محاسنها كما تريد، بشرط ألا تمس الآخرين، وأن تبتعد عن الإساءة وازدراء رأي الآخرين أو عقائدهم. والأهم من هذا، أن تبدأ بإصلاح نفسك اولاً، خصوصاً إذا كان عندك توجّه أو نزعة لإثبات خطأ عقيدة الآخرين أو مذهبهم أو ممارساتهم لطقوسهم الدينية. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز (سورة الرعد 11) " إنَ اللهَ لا يُغَيرُ ما بقومٍ حتى يُغَيِرّوا ما بأنفُسِهِم " وهذا يشير إلى أن التغير يكون من الداخل وليس من الخارج، والاساس، أن يبدأ افراد المجتمع بتغيير أنفسهم اولاً.
يجب أن تكون لدى افراد المجتمع قناعة بأن كل فرد من افراد المجتمع له كامل الحرّية في اختيار العقيدة أو المذهب الذي يرتئيه، وأن افراد المجتمع ليسوا مسؤولين أو مخوّلين لتصحيح قناعات الآخرين إن كانت تخالف عقيدتهم. وإن كان البعض قد اساء للمجتمع أو للدولة بأفكاره المتطرفة فإن المسؤولية تقع على اكتاف قادة الدولة وأصحاب القرار فيها، ولا يحقّ للأفراد التدخّل في هذا الشأن وإلا حلت الفوضى والكراهية والتفرقة في المجتمع. ومتى ما مارَسْتَ ثقافة العفو والتسامح واحترام الرأي الآخر، عند ذلك يمكنك أن تروًج وتنشر هذه المبادئ وتكون قدوة لمجتمع آمن وسليم.
من المؤسف والمؤلم أنه في الحقيقة، ليس عندنا احترام ولا تقبل للرأي الآخر. نحن لا نعرف أن نمنح الرأي الآخر فرصة لإثبات فشله أو نجاحه على مستوى الناس والمجتمع، بل تعودنا محاربة الرأي الآخر والتخلص منه. هذه هي الطائفية والتعصب المدمر للمجتمع. إن الأفكار تُحارَب بالأفكار وليس بالعنف أو التهميش. إن الفكرة الجيدة تنتشر في العقول بسرعة وثبات، والفكرة الفاشلة تموت في المهد ويرفضها الناس والمجتمع. فبمجرد ترك الفكرة للناس ليحكموا عليها سيتبين فشلها إن كانت سيئة أو نجاحها إن كانت جيدة. لذلك يجب على كل فرد منّا أن يعوّد نفسه على احترام وتقبل رأي الآخرين خصوصاً إذا كان مخالفاً لمعتقده.
هذا ما حدث في النهضة الأوروبية التي نسعى لأن نكون مثلها، فلنعمل معاً بإخلاص لتحقيق الهدف.
***
د. صائب المختار