قضايا

"العلمانية هي الحل"!

لا تزال معركة فكر التنوير البشري وعلاقتها بتأسيس بناءات تنويرية عقلانية ومنطقية قائمة لتحرير العقل البشري بصفة عامة والعقل العربي لدى الإنسان العربي اليمني، من براثن التبعية الدينية وأفكارها المشوهة المشحونة قائمة معها إلى يوم القيامة فالسلطة الدينية في كل الشعوب والازمنة فاشلة بكل المجالات لم تنجح إطلاقاً ولم تحقق شيء يخدم شعوبها واتحدى أيا كان يقول ويبرهن ان هناك سلطة دينية في اي دولة او شعب او قارة على امتداد عالمنا الوسيع قد نجحت او حققت شي يخدم شعوبها والانسانية بشكل عام بكل تاكيد لا يوجد فجميع السلطات الدينية التي وصلت إلى الحكم وحكمت الشعوب وخاصة عالمنا العربي منذ العقد المنصرم بكل تاكيد لم تنجز شيء او تحقق شيء بقدر ما صنعته وفعلته بحق نفسها والشعوب من أخطاء وكوارث ويلات وماسي يرتقي إلى جرائم وانتهاكات رهيبة لا يمكن نسيانه مثلما حدث مع السلطة الدينية في أوروبا والسلطة الدينية العثمانية وبلاد فارس وفي الهند والغرب في القرنين الماضين وما حدث ويحدث اليوم والشواهد كثيرة كما اثبتت لنفسها وامام الشعوب والعالم فشلها وعجزها في ادارة الدول بل وسخرت كل شيء لخدمة مشاريعها الصغيرة ووصفت كل شيء لنازيتها لأنها بنيت على الخطأ من الأساس والجذور ولم تقوم على اسس سليمة بل قامت على بُعد ديني مذهبي وجهوي متوحش وتنكرت لاسس التنوير ومقومات العلم فتغطت بوشاح الدين وتسترت بشعارات براقه وتوشحت عباءة الدين والمذهب في كومة ملازم وكتيبات صُنعة لانفسها وتابعيها أشخاص على هيئة اصنام بشرية بهيئة مرجعيات دينيه قذرة هنا وهناك هذا وذاك أيا كان مذهبها اردات ان تشرب من وحل الكراهية والموت والقتل والبدع والخرافات والتمجيد واللغو البعيد كبعد الشمس عن الإسلام، هدفها دفع بعقل الإنسان العربي واليمني خاصة من أتباعهم ممن باعوا أنفسهم رخيصة لذلك الوحش الشرير القاتل الشيطان الديني بلباس الواعظ المرجعي هنا وهناك في هذا البلد او ذاك كادوات تحركها تلك الأصنام المرجعية في سبيل هلاك وقتل العقل العربي اليمني ومن حالة الانكفاء الاسلاموي المميت بشقيه السني الشيعي الرجعي ومن حالة الانطواء المجتمعي/ المتوراث في صيغ عادات وتقاليد جاهلية مشوه وبالية لا تمت لقيم الانسان وحقوقه الإنسانية المشروعة بصلة، ومن حالة السقوط والركود العقلي والمعرفي والعلمي المتقوقع في بناءات معرفية سطحية وقريبة تدور في حلقة مفرغة حول نفسها متاثر بأفكار الإسلام السياسي الرجعي لا حول ولا قوة لها وباتت عاجزة وفاشلة بكل المقاييس وليس لها عوامل القدرة في ان تنظر في افاق الاستدراك والاستدلال العقلي والمنطقي والبعيد عن كل القضايا الجوهرية وابعاد النهوض والتقدم العلمي الانساني والحضاري في جميع المجالات المختلفة.

 أنها معركة حاضرة يخوضها اليوم والى يوم القيامة كل عقول التنوير البشري من المثقفين العرب واليمنين، لتحرير عقل الشباب العربي اليمني من تلك القيود والبراثين .التي أصابت العقل العربي اليمني بمقتل هذه المحاولات لاستجلاء اشكاليات الاستقلال العقلي والادراكي للعقل العربي اليمني تحاول توفير أسئلة لاجابات غائبة.

لماذا البديهيات والمسلمات التي تعلمها، العقل العربي، كادت أن تذهب بعيداً بواقع العقل العربي اليمني وترميه في مقتل، وتهجر العقل والخيال والطموح. الأسباب كثيرة، ومنها أن العقل العربي لدى الشباب العربي اليمني لا يزال خاضع وتابع لأصحاب المدارس الدينية الاسلاموية المغلقة ولم يتحرر بعد من قيود أرباب واصنام تلك المدارس الاسلاموية المغلقة الذي أفضى إلى عقول جامدة مشوه بأفكار إسلاموية اكثر عنف ودموية وعادات وتقاليد وصيغ جاهلية تتنافى مع الفطرة السليمة يرفضها العقل والمنطق فاضحت تلك العقول فارغة ماهيتها ودورها وقيمتها في الحياة تتربع باجسام مسندة طويلة وعريضة تابعة بيد اصنام المدارس الاسلاموية الرجعية المتخلفة تحركها كيفما تريد تمارس الهدم لا البناء والقتل لا الحياة والجهل والخرافات والأساطير لا العلم والمعرفة والاستدراك والاستدلال العقلي المعرفي والتقليد والتجهيل لا التعلم، وبشتى أنواعها ووسائلها تلك، وممارسته أيضا للتعلم المنقول عن الأخر، وفي كل العلوم، الأمر الذي أدى بعقل الانسان العربي اليمني إلي استزراع بذور التخلف الذي اوقعه في مصيدة مدراس الإسلام السياسي المغلقة، وتحويل ذاكرته العقلية الجمعية إلي مستودع لثقافة العبودية للفرد و الطغيان والموت والكراهية الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، على عكس ثورة العلمانية والتنوير والمعرفة استطاعت ان تنجح في جميع المجالات وتخطوا صوب البناء في كل الشعوب دولة وشعب معا المؤمنة بها القائمة على اسس سليمة وعلمية وحققت ما لم تحققة الدولة الدينية في كل الازمنة والادلة كثيرة والواقع شاهد على ذلك النجاح فأصبح التنافس اليوم في جميع المجالات هو حديث الامم اليوم بقدر ما تقدم من خدمات وانجازات لشعوبها والانسانية وما زال بعض شعوبنا العربية الأفريقية والاسيوية غارقة في صراع القتل على علي ومعاوية ومذهب واخر باشراف الوجوه الدينية الحاكمة منها وغير الحاكمة هنا وهناك استمر الخطأ والتراجع إلى الخلف والواقع الكارثي شاهد على ذلك بينما العالم يسير نحو الأمام وأمام كل جديد  وافد من العلوم والأفكار عندما يتساءل العقل للشباب العربي اليمني لماذا؟ وأين ؟ وكيف؟ يجيبه عقله، بأنه لا يمانع في الاستفادة من التلاقح المعرفي مع العلوم والمعارف والثقافات والحضارات الأخرى بغض النظر عن الأجناس أو الأديان أو اللغات أو الشعوب .

انه انتحار بعقل الانسان العربي اليمني بشكل متعمد وفي تجاهليه تامة لشعوب ومجتمعات عالمنا العربي واليمني ، وتعمد واضح الهدف ابقاء العقل العربي اليمني مكبل بتلك الأفكار والعلوم الدينية الاسلاموية الكهنوتيه الرجعية المشوة الدخيلة على قيم الإسلام السوي وليس له اي صلة بالاسلام كل ذلك من أجل تأسيس بناءات عقلية بصيغ دينية مشوه لتقدم نفسها بأنها سلطة الامر والناهي والناطق الرسمي باسم الله او الرب لتسيطر على حياة الناس والشعوب ومصائرهم وعقولهم تحت استغلال و الاستعطاف العاطفي للناس والشعوب وخاصة شعبنا اليمني وشعوبنا العربية هي في الحقيقة طيبة وسريعة التأثير من يأتي لهم ويتكلم ويخطب باسم الدين انساقت وراءه وصدقته بمكاننا نصورهم انهم حديثي الاسلام وكأنهم لا يعرفون الدين من قبل  لكن ما حدث هو ان وجوه واصنام الاديان ارادت ان تكتب على نفسها الغباء ولعنة التاريخ عندما ارادوا استغباء الناس والشعوب والعزف لهم على وتر الدين تحت مبررات واهيه والهدف منه ابقى العقول العربية اليمنية متخلفه وجاهلة هذا من جانب وإقصاء ومحاولتهم الفاشلة محاربة العقول التحررية التنويرية العربية اليمنية الأخرى من جانب آخر وهذا الامر هيهات لا ولن يتحقق لهم ذلك وخاصة ان اليوم ليس مثل الامس فهناك جيال يمني عربي قائم امامهم شاهر في ووجوهم سلاحه البتار العلم والتنوير والمعرفة ومن وراءه جيل يولد منه جيل وجيل إلى يوم القيامة متسلح بالعلم والتنوير والعلمانية من الصعب اليوم تجاوزه او محاربته إطلاقاً

السؤال لما لا نستطيع النهوض والالتحاق بركاب التطور على الرغم من توفر عوامل العلم والمعرفة لكني اجيب على هذا السؤال ليس لأن العقول العربية اليمنية متخلفة بذاتها بفطرتها وإنما هناك عوامل وقيود فرضت علية أبرزها القيود الدينية لاصحاب المدارس الاسلاموية السلالية المغلقة المتوغلة في كافة جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية وغيرها من العوامل التي قتلت الانسان والعقل العربي اليمني في وقت واحد. اليوم وقبل الامس وقبل الغد.

 الأمر الذي أدى إلى بقاء العقول العربية اليمنية مجرد عقول فارغة وفقيرة وعاجزة وتابعة وعبودية للرجل الديني فقط بهدف إبقاء العقل العربي جاهل يحركه في تحقيق أهدافهم الدنيوية القذرة ومشاريعهم الصغيرة بل وقتلة في أهداف وعنوانين متنوعه لا تخدم الانسان العربي اليمني

ولا يمكن تحرير العقول العربية واليمنية من قيود خاخامات ورجالات الدين وافكارهم المسمومة على المستوى الرسمي "الدولة" والشعبي الا من خلال ثورات العقول التنويرية في الاوساط الشعبية وبالعلم ومحاربة الجهل والفقر الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي سيبقى هو السلاح الوحيد لإنقاذ عالمنا العربي وتحرير العقل العربي اليمني من تلك القيود الدينية والمدارس الدينية بكل مذاهبها واديانها والولوج إلى عالم النهوض والتقدم والازدهار المفتوح وخاصة بعد بروز عوامل كثيرة لتحرير العقل العربي اليمني

ولا شك أن التاريخ ملىء بالشواهد والدورس التي حررت العقل البشري من قبضة رجالات الدين والتحرر من أفكارهم والخروج من عالمهم الصغير المشحون بالعنف والقتل والكراهية إلى عالم النهوض والتقدم والازدهار والبناء والسلام ولنا في اوروباء ابرز مثال فعندما تحكمت رجالات الدين في الكنيسة والمعبد بعقل الانسان الأوروبي خاضت أوروبا في إحدى الفترات الماضية من القرن الماضي حروب وصراعات دموية داخل دولها وشعوبها اهلكت الحرث والنسل واستمرت لمئات السنوات تعاني وهذا بسبب سيطرة رجالات الدين في الكنيسة والمعبد على مقاليد السلطات الذين استغلوا سلطتهم الدينية الرجعية وأشعلوا الحروب والنزعات هنا وهناك بين أوروبا نفسها بافكارهم الدينية وتحت عنوانين عديده

 دمرت أوروبا الارض والانسان وخلقت ماسي رهيبة وفي كل المجالات وما زال عقل الإنسان الأوروبي يتذكر ذلك لكن عقل الإنسان الأوروبي لم يستسلم للكاهن والمعبد وللواقع الكارثي ولأفكار وخرافات سلطات رجال الكنسية والمعبد فوقف امامها جيل متحرر قاد الثورة ضده بشجاعة المؤمن بانسانيته وعادلتة مطلبه وقضيته فسرعان ما ادرك مؤخرا ان السلطات الكنسية والمعبد هم العدوا وبدأت حركات وثورات وطلائع التنوير الأوروبية تتنامى وتكبر يوما بعد آخر في تلك الحقبة وأطاحت ثورات التنوير بسلطة الكنسية و التي انقذت أوروبا من حروب الكنائس والمعابد واطفاءات الحروب وحررت العقل البشري الأوروبي من تلك القيود الدينية والى الابد و انتقلت ونقلت أوروبا إلى فضاء وعالم آخر من النهوض والتقدم والازدهار والبناء والسلام.

أخيرا الدين لله

والوطن والدولة للجميع.

***

د. فارس قائد الحداد - حقوقي وصحافي يمني

 

بدأ اهتمام يونج بالدين بعد أن انفصل عن فرويد وتخلص من سلطته عليه، وبعد أن أسس له مدرسة أو منهجا أسماه علم النفس التحليلي، فتوجه نحو دراسة الأساطير والرموز القديمة والطقوس وعادات الشعوب البدائية والاحلام وامراض العصابيين وهلوسات الذهانيين.. وخلص الى نتيجة عدّ فيها شخصية الفرد نتاجا ووعاء يحتوي تاريخ اسلافه. ورأى أن الأساطير والتقاليد القديمة والرموز والأفكار المجردة تنتقل من جيل الى آخر عبر مفهوم أطلق عليه مصطلح اللاشعور الجمعي Collective Unconscious الذي يعدّه مخزن آثار الذكريات الكامنه التي ورثها الانسان عن ماضي أسلافه، والمتخلفات النفسية لنمو الانسان التطوري.

ويقول يونج في كتابه (علم النفس والدين) ان الدين هو "الملاحظة الدقيقة المتحوطة لما أسماه رودولف أوتو ببراعة (الخارق للطبيعة)، أي وجود دينامي أو أثر لا يسببه فعل جزافي من أفعال الارادة، بل على العكس، هذا الوجود يمسك ويتحكم في الذات الانسانية التي هي دائما ضحيته أكثر من أن تكون خالقته ".

ويعرّف التجربة الدينية بانها شيء تسيطر عليه قوة خارجة عنّا، وأنها تتسم بضرب خاص من الخبرة العاطفية هي الخضوع لقوة أعلى، ويرى ان انعدام الشعور الديني يسبب كثيرا من مشاعر القلق والخوف من المستقبل والشعور بعدم الامان والنزوع نحو الرغبات الغريزية.

ويرى أن الوجود النفسي يكون ذاتيا اذا طرأت الفكرة لشخص واحد فقط، ولكنه يكون موضوعيا اذا أقر المجتمع تلك الفكرة، أي بإجماع الآراء. وبما أن الدين أقرته المجتمعات عبر تاريخها الطويل، وما تزال، اذن فهو حقيقة موضوعية.

وبابتكاره مفهوم (اللاشعور الجمعي) توصل يونغ الى ان هذا اللاشعور هو منبع الابداع الذي كان غنيا ومتنوعا وبأفضل حالاته لدى الأنبياء بوصفهم مبدعين من طراز فريد.

***

د. قاسم حسين صالح

يمر العديد من الناس بمنعطفات في الحياة ومنغصات قد تشكل بعداً مهماً وواضحاً يلتفت الانتباه لها الكثير من الخلق، أمور قد تكون في غاية البساطة والهامشية من أشخاص خبروا النكد والجهل وركوب محطات فارغة وركزوا على فتات الامور ونقائصها، فننجذب لها ونتفاعل معها حتى تثور دائرتنا ونخرج من السياق ونصاب بالتوتر والانفعال ونغضب ونمارس أفعال لا تمت لنا بصلة ولا تشبهنا لا نألفها، لكنها في محصلة الأمر تبدو سلوكاً يصدر عنا وعن شخصيتنا، كما قال أحد العارفين والمجربين " نواجه الحياة بكل صعوبة وقوة وندع التوافه تغلبنا على أمرنا"، نعم نتمتع بالقوة والتماسك وتغلبنا أشياء تبدو صغيرة ليست ذات قيمة ووجود، وآخرين عصاميون يتمتعون بالجلد والتماسك والرصانة وانتقاء الأفعال والممارسات الإيجابية التي تعبر عن أشخاص نبلاء يعرفون ما يصلح شأنهم وما يرفع من سمتها ويضعها في مقامها ومكانتها، يلتفتون للمواقف التي تستحق وتكون قيمتها وأثرها قيم وذات وقع كبير ويتركون ما لا وزن له، ولا يعيرون الاهتمام بأشياء واستفزازات وسلوكيات لا تشكل نفعاً لهم ولغيرهم.

من أجل ذلك دعونا نتأمل ونناقش موضوعاً مهماً يستحق منا أن نفرد له مساحات ونسلط الضوء عليه من النقاش والقراءة وتدوين الأفكار والأفعال التي تحتم علينا أن نشير لها. إنها ممارسة فنون التغافل فهو قيمة تؤكد التوازن النفسي والشعور بالثقة والمرونة العاطفية في تحلي المرء بها وإنعكاسها على كلماته وسلوكياته وردود أفعاله تجاه نفسه والآخرين، فمن اتصف بالوعي والادراك الذاتي والنضج في التعامل مع المواقف والأشخاص، استطاع أن يمارس ويعيش أطراف وممارسات التغافل الإيجابي المبني على السمو والروح التي تتدفق حكمة وإشعاع من نور الهدى والسكينة والطمأنينة التي تحل في النفوس والتي تنظر للأهداف العليا أهم من المماحكات وهوامش الأمور بدل التخبط والردود الهوجاء التي تزلزل الكيان عند هبة نسائم من الريح والتصرفات البسيطة التي قد تهزم النفوس وتدخلها في دائرة الملامة والتأنيب فهم عرفوا كيف يتحلون بالانضباط والتحكم في أنفسهم، فهم لا يتوقفون عند أشياء لا تذكر ولا تستحق الالتفات إليها وإعطائها طاقتنا ومجهوداتنا. هؤلاء هم أصحاب التوازن والاعتدال فكراً وممارسة وتعاملاً وفهماً ووعياً بالحياة ومن يعيش في كنفها وفي فضائها.

فتأمل معي عندما يتعامل رب الأسرة في بيته مع زوجته وأولاده بفنون من المرونة والتغافل للأمور البسيطة التي قد تثيرها ممارسات الزوج أو الزوجة وأولادهم، يتحلون بالضبط الانفعالي ويناقشون ويحاورن ويضعون النقاط على الحروف دون أن يعرقل حياتهم ترهات المواقف وصغيرها.

وتوقف برهة لتخيل بعض المواقف من الممارسات عندما تصدر عن القائد في منظمته الذي يدير فريق عمله بسهولة ويسر دون أن يعقد الأمور ويضيع طاقاته وطاقاتهم ويشتت انتباههم في أعمال قد تصدر عن أشخاص وقد تظهر في مواقف العمل، بل يشد من أزرهم ويركز الاهتمام على الأهداف التي خطط لها ويسير بهم في بوتقة تحمل للمسؤولية والإنجاز والأداء دون أن ينشغل بمواقف هشة متآكلة تضعف فريقه وتبعده عن تحقيق ما يصبو إليه.

تفكر ملياً عندما تتواصل مع أفراد مجتمعك في مناسباتهم ولقاءاتهم وتجماعاتهم فمن الحكمة أن تولي وتسترعي الانتباه في الذي يجمعك بهم دون أن تشغل فكرك على لحظات من الضعف ينشغل بها أناس ليسوا أهلاً للثقة والمسؤولية، فالتغافل ممارسة فائقة القيمة عندما يتجاوز عن سقطاتهم وإنحدار ممارساتهم، فالعودة إلى الطريق السليم أجدر نفعاً من تضييع الأوقات في هموم وجدال لا يبقى صلة ولا محبة بين الناـ بل يفتت عضدهم وقوتهم.

فالمتغافلون في أسرهم يجلبون النجاح والسعادة لهم ولمن في كنفهم، والصامتون الحكماء عن ممارسات في الأعمال يركزون نحو الأهداف المرسوم لها بثقة وتميز، والمتواصلون في محيطهم الاجتماعي يتجاهلون عن أشياء يثيرها أشخاص تبدو في غاية الروعة أن تحدث تماسكاً وقوة في عضد الجماعة وبنيتها الاجتماعية.

عندما تبحر بنفسك وفي تجاربك الشخصية سواء كنت في أسرتك لا تريد أن تضيع جهود أفرادك وعائلتك في متاهات لا طائل منها، فتهون عليهم بعض الأخطاء من البعض وتركز انتباههم نحو التشارك وقوة اللحمة الأسرية والعائلية، فتثير سحابة من النقاش وتسلط الضوء على أثر التغافل في حياتهم والتغاضي عن بعض الأشياء في مقابل تضمن استمرارية حياتهم وتأثيرها عليهم عندما يتماسكون ويقبلون على بعضهم ويتعاونون في المهمات والأهداف التي تجمعهم.   

وكم نحن في غاية السعادة والتألق عندما نمارس فنون التغافل والتجاهل لصغائر الأمور، نرى انعكاس ذلك في نفوسنا وسلوكياتنا وتشكل عادات أصيلة في فكرنا ومهاراتنا وتوجهاتنا نحو الحياة. ستكون قراراتنا أكثر نضجاً ووعياً وعقلانية، ونرتفع عن ردود الأفعال الفجة والهوجاء التي قد تضر بصحتنا الجسمية والنفسية وتضعف شوكتنا الاجتماعية، وأن الأشخاص الذين يمارسون التغافل يسهمون في خلق بيئة إيجابية جاذبة سلسة التواصل وصحية المبنى والمعنى.

وفي الختام: أن التغافل ممارسة وادراك لفنون أفعالنا وكلماتنا بشكل مستدام. فقيمة التغافل تمنحنا فرصة للنمو والتطور وتحقيق التوازن النفسي وتعزيز البنية الاجتماعية التي تشكل نواة الصلابة والقوة في المجتمعات الرائدة وتعزيز جودة الحياة القائمة على النجاح والسعادة والراحة بعيداً عن سفاسف الأمور وهوامشها.

***

د. أكرم عثمان - مستشار ومدرب دولي في التنمية الشبرية

2025

سوريا اليوم مختبر حي لتحديد المسافة بين عالم الأفكار وبين الوقائع اليومية. وقد اعتدنا على سماع من يعيب على أهل الفكر انشغالهم بالتنظير بدل الانخراط في الجدالات اليومية. بل رأيت من يساوي بين كلمة «تنظير» وعبارة «غير مفيد». إن شيوع مفهوم كهذا يكشف عن عيب خطير في الثقافة العامة، فالتنظير قرين للفكر العميق الحي المتجدد.

بين المسائل المثيرة للتأمل في المختبر السوري، مسألة العصبية، أي النواة الصلبة التي تمثل جوهر النظام السياسي. قد تتمثل هذه النواة في الجيش، أو في القبيلة، أو الطائفة، أو الحزب الحاكم، أو المجموعة القومية التي ينتمي إليها الحاكمون.

هذه مسألة معروفة منذ القدم. وتعرَّف العرب إليها منذ أن كانت السلطة ومصادر القوة محصورة في قبيلة أو حِلف قبلي. ثم أتى عبد الرحمن بن خلدون، فوضع تصويراً نظرياً لهذه الممارسة التاريخية. وأظنه بالغ شيئاً ما في تصوير الدور الذي تلعبه النواة الصلبة أو القاعدة الاجتماعية، حين قرر أن بقاء الدولة رهن بتلك العصبية. فإذا ضعفت تقلصت قوة الدولة وسلطانها حتى تؤول إلى الأفول.

ببساطة، رأى ابن خلدون أن استقرار الحكم مشروط باحتكار مصادر القوة من جانب فئة محددة، تصونها كما يستأثر المقاتل بغنيمته. قد يكون صاحب السلطة قبيلة أو طائفة أو حزباً سياسياً أو آيديولوجياً أو مجموعة عرقية، أو شيئاً مماثلاً. ثم يقرر ابن خلدون أن هذا النوع من التنظيم السياسي قصير العمر، حسب منطق الأمور، وأن أفول الدولة راجع إلى انتقالها من جيل إلى جيل. فالجيل الأول يتألف عادة من الأقوياء والأذكياء الحريصين على صناعة القوة، وإعادة إنتاج مصادرها. ثم تأتي أجيال اعتادت رغد العيش وسهولة الكسب، فلا تجهد نفسها في كسب ولا حفاظ؛ بل تأخذ السلطة من دون جهد، فتفرط في سلطانها، بسبب قلة الفهم، أو قلة التدبير، أو الرغبة في السلامة.

تعكس رؤية ابن خلدون هذه نمطاً من الثقافة السياسية، يتعامل مع السلطة السياسية كغنيمة في يد القابض على زمامها. والواضح أن هذا الفهم شائع في العالم كله، في الماضي والحاضر؛ لكن التحولات العلمية والاقتصادية التي شهدتها أوروبا منذ القرن التاسع عشر، أثمرت عن تغيير هذا التصور، باتجاه جعل السلطة السياسية وكيلاً للمواطنين، وليس ممثلاً للطبقة أو الحزب أو الجماعة التي ينتمي إليها أهل الحكم.

السر وراء هذا التحول ثقافي في المقام الأول؛ حيث استقر فهم جديد ينظر للوطن كملكية مشتركة لجميع أبنائه؛ بلا فرق بين صغير وكبير أو غني وفقير. وتبعاً لهذا التحول، قيل إن الذي يمسك زمام الأمور هو الشخص الذي يمثل المواطنين، ويدير مصالحهم باختيارهم، فهو يعمل لهم، وليس سيداً فوقهم أو جباراً يتحكم في مصائرهم. هذه علامة فارقة في تاريخ البشرية، تمايز عندها ما نعرفه اليوم باسم «الدولة الحديثة» عن «الدولة القديمة»؛ سواء كانت إمارة قبلية أو إمبراطورية.

في الدول القديمة، لم يكن الحاكم مسؤولاً أمام أحد. وليس من واجباته أن يخبر الناس عما يفعل، أو يطلب موافقتهم على سياساته. بخلاف الدولة الحديثة التي تطلب من الوزراء وغيرهم تقديم «كشف حساب» للجهات الرقابية أو التشريعية أو للمجتمع. وبهذا لم تعد السلطة مطلقة؛ بل مقيدة بالقانون وبرأي ذوي الاختصاص، فضلاً عن الهيئات الرقابية والتشريعية.

ما الذي نتوقعه في سوريا: استمرار الدولة القديمة التي حكمت بالاعتماد على الجيش والحزب والطائفة، أم دولة حديثة تستمد قوتها من مشاركة جمهور الناس ورضاهم، بغض النظر عن أصولهم الدينية والعِرقية وتصنيفهم الاجتماعي؟ سياسة تنطلق من كون جميع الناس مالكين لبلدهم، وبالتالي شركاء في إدارة أمره، أم سياسة تعتبر نفسها ممثلاً لـ«أهل الحق»، أي الشريحة الاجتماعية التي تنتمي إليها وتمثل مصالحها، من دون بقية أهل البلد؟ هذا موضوع اختبار جدِّي للعهد السوري الجديد.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

التجربة السويدية

في عالم يتطلب الابداع والتفكير النقدي لمواجهة تحديات لم نعهدها من قبل، هل ما زلنا نعلم ابناءنا بالطرق التقليدية التي تعتمد على الحفظ والتلقين؟ بينما يتسارع العالم من حولنا، تزداد الحاجة الى انظمة تعليمية تعد اجيال المستقبل لمواجهة هذه التحديات. وهنا، تقدم السويد نموذجا ملهما يركز تحديدا على تنمية هذه المهارات الاساسية، من خلال نظام تعليمي يشجع على التعلم العملي والتفاعل الفعال بين الطلاب والمعلمين. ففي السويد، لا يقتصر الامر على مجرد نقل المعرفة، بل يتعداه الى بناء شخصيات مفكرة ومبدعة وقادرة على حل المشكلات واتخاذ القرارات بشكل مستقل. هذا التركيز على بناء الشخصية المستقلة، من خلال تشجيع الطالب كفرد على الاستقلالية والمسؤولية، يساهم في تخريج افراد مثقفين ومنتجين يساهمون بدورهم في بناء مجتمع مزدهر. لذلك، تعتبر هذه التجربة كنزا ثمينا يمكن ان تستفيد منه الدول العربية في تطوير انظمتها التعليمية وبناء مستقبل واعد لاجيالها. فلنكتشف معا كيف يمكن ان تغير هذه الافكار واقع التعليم في عالمنا، وكيف يمكن ان نحول مدارسنا من مجرد اماكن للتلقين الى بيئات حاضنة للابداع والابتكار.

التعليم المدرسي (الابتدائي والثانوي):

الشمولية والمجانية: تتبنى السويد فلسفة تربوية تركز على تنمية قدرات الطفل بشكل شامل، وتشجيع التفكير النقدي والابداع وحل المشكلات. كما يولي النظام التعليمي اهتماما خاصا بدعم الطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة ودمجهم في المدارس العادية، مما يعزز من مبدا الشمولية. اضافة الى ذلك، تقدم الدولة دعما ماليا للطلاب في المرحلة الثانوية وما بعدها، مما يساعدهم على اكمال تعليمهم العالي دون عوائق مالية. يساهم هذا النهج الشامل في بناء مجتمع مثقف ومنتج، ويعزز من مبادئ العدالة والمساواة بين جميع افراد المجتمع..

التركيز على الطالب: تتميز التجربة التعليمية في السويد بتركيزها الشديد على الطالب كفرد له احتياجاته وقدراته المتميزة. ينصب التركيز على تنمية شخصية الطالب بشكل شامل، من خلال تشجيعه على التفكير النقدي المستقل، وتحفيز ملكة الابداع لديه، وتدريبه على مواجهة المشكلات وايجاد الحلول المناسبة لها. يبتعد النظام التعليمي السويدي عن اساليب التلقين والحفظ التقليدية، التي تعتمد على استرجاع المعلومات بشكل جامد. بدلا من ذلك، يشجع الطلاب على طرح الاسئلة، والبحث عن المعرفة بانفسهم، والمشاركة الفعالة في العملية التعليمية، مما يساهم في بناء جيل مثقف ومبتكر وقادر على مواكبة تحديات العصر.

التعاون والعمل الجماعي: يعد التعاون والعمل الجماعي حجر الزاوية في التجربة التعليمية السويدية، حيث يعتبر جزءا لا يتجزا من العملية التعليمية برمتها. لا يقتصر التعليم على تلقين المعرفة بشكل فردي، بل يشجع الطلاب على العمل سويا ضمن مجموعات متنوعة. من خلال هذه الممارسة، يتعلم الطلاب مهارات حياتية بالغة الاهمية، مثل التعاون المثمر، والتواصل الفعال، وتبادل الافكار ووجهات النظر المختلفة، وتقبل اراء الاخرين، وادارة النقاشات بشكل بناء. يساهم هذا النهج في تنمية روح الفريق والمسؤولية المشتركة، ويعد الطلاب لمواجهة تحديات الحياة العملية التي تتطلب غالبا العمل ضمن فرق متكاملة. كما يعزز العمل الجماعي من قدرة الطلاب على حل المشكلات بشكل جماعي، والاستفادة من نقاط قوة كل فرد في المجموعة.

المرونة والتنوع: يتميز النظام التعليمي في السويد بالمرونة والتنوع، حيث يتيح للطلاب مجموعة واسعة من المسارات التعليمية التي تناسب اهتماماتهم وقدراتهم الفردية. لا يقتصر التعليم على مسار اكاديمي واحد، بل يوفر خيارات متنوعة تشمل المسارات الاكاديمية التقليدية التي تؤهل الطلاب للالتحاق بالجامعات، بالاضافة الى مسارات مهنية تركز على اكتساب المهارات العملية والتطبيقية التي تمكنهم من الانخراط مباشرة في سوق العمل بعد التخرج. يساعد هذا التنوع الطلاب على اختيار المسار الذي يناسب طموحاتهم وقدراتهم، ويمكنهم من تحقيق اهدافهم التعليمية والمهنية على اكمل وجه. كما يساهم هذا النهج في تلبية احتياجات سوق العمل المتغيرة، وتخريج كوادر مؤهلة في مختلف المجالات.

التقييم المستمر: يعتبر التقييم المستمر ركيزة اساسية في النظام التعليمي السويدي، حيث يعتمد على المتابعة الدقيقة والمستمرة لاداء الطالب وتقدمه طوال العام الدراسي، بدلا من التركيز على الامتحانات النهائية كمعيار وحيد للتقييم. يهدف هذا النهج الى توفير تغذية راجعة مستمرة للطالب حول نقاط قوته وضعفه، وتوجيهه بشكل فعال نحو تحسين ادائه وتطوير مهاراته. يساعد التقييم المستمر المعلمين على فهم احتياجات الطلاب الفردية وتقديم الدعم اللازم لهم في الوقت المناسب. كما يشجع الطلاب على التعلم المستمر وعدم تأجيل الدراسة الى ما قبل الامتحانات، مما يساهم في تحقيق نتائج افضل على المدى الطويل. يقلل هذا النظام من الضغط النفسي على الطلاب المرتبط بالامتحانات النهائية، ويركز على عملية التعلم نفسها كهدف اساسي.

التعليم العالي (الجامعي):

الاستقلالية والمسؤولية: يتميز نظام التعليم العالي في السويد بالتركيز على الاستقلالية والمسؤولية، حيث يشجع الطلاب على تولي زمام تعلمهم واتخاذ قراراتهم بانفسهم. يعتبر العمل المستقل والدراسة الذاتية جزءا لا يتجزا من العملية التعليمية، ما يكسب الطلاب مهارات البحث والتفكير النقدي وحل المشكلات. يتوقع من الطلاب ادارة وقتهم ومواردهم بفعالية، والمساهمة بفاعلية في المناقشات الصفية والمشاريع الجماعية. هذه البيئة التعليمية تعد الخريجين ليصبحوا متعلمين مدى الحياة وقادرين على التكيف مع متطلبات سوق العمل المتغيرة. كما تساهم هذه الاستقلالية في تعزيز الثقة بالنفس والاعتماد على الذات لدى الطلاب، ما يمكنهم من تحقيق اهدافهم الاكاديمية والمهنية بنجاح.

التركيز على البحث العلمي: يعد التركيز على البحث العلمي من الركائز الاساسية في نظام التعليم العالي في السويد. تولي الجامعات السويدية اهتماما بالغا للبحث العلمي وتشجع الطلاب على الانخراط فيه، ايمانا منها باهمية البحث في تطوير المعرفة وايجاد حلول للتحديات المجتمعية المتنوعة. كما تشدد الجامعات على اهمية النزاهة والامانة العلمية في جميع مراحل البحث، من جمع البيانات وتحليلها الى كتابة التقارير والنشر المسؤول للنتائج. يهدف هذا النهج الى تخريج باحثين مؤهلين قادرين على المساهمة في دفع عجلة التقدم العلمي والتكنولوجي، بالاضافة الى تعزيز ثقافة البحث العلمي بين الطلاب وتنمية مهاراتهم في التفكير النقدي وحل المشكلات. هذا وتوفر الجامعات السويدية بيئة بحثية محفزة ومجهزة باحدث التقنيات والموارد، ما يساعد الطلاب والباحثين على تحقيق اقصى استفادة من امكاناتهم..

التعاون مع سوق العمل: يعد التعاون الوثيق مع سوق العمل سمة مميزة للتعليم العالي في السويد حيث تحرص الجامعات السويدية على بناء شراكات فعالة مع الشركات والمؤسسات في مختلف القطاعات، بهدف توفير فرص تدريب عملي قيمة للطلاب. تساعد هذه الشراكات الطلاب على اكتساب خبرة عملية حقيقية وتطبيق ما تعلموه في بيئة عمل فعلية، ما يساهم في تعزيز فرص توظيفهم بعد التخرج. بالاضافة الى ذلك، يشارك ممثلو سوق العمل في تطوير المناهج والبرامج الدراسية، لضمان مواءمتها مع الاحتياجات المتغيرة لسوق العمل وتزويد الطلاب بالمهارات والكفاءات المطلوبة. هذا النهج يساهم في سد الفجوة بين التعليم الاكاديمي ومتطلبات سوق العمل، ويعد الخريجين بشكل افضل لمواجهة تحديات سوق العمل المعاصر. كما تشجع بعض الجامعات على انشاء مشاريع مشتركة بين الطلاب والشركات، ما يساهم في خلق بيئة ابتكارية تفيد كلا الطرفين.

التدويل والانفتاح: يتميز نظام التعليم العالي في السويد بروح التدويل والانفتاح على العالم، حيث ترحب الجامعات السويدية بالطلاب الدوليين من جميع انحاء العالم، وتقدم لهم العديد من البرامج الدراسية المتنوعة باللغة الانجليزية، مما يسهل عليهم الدراسة في السويد. يساهم هذا التنوع في خلق بيئة تعليمية دولية غنية ومحفزة، حيث يلتقي الطلاب من خلفيات ثقافية مختلفة، ويتبادلون الافكار والخبرات، ما يثري تجربتهم التعليمية ويوسع افاقهم. ويتجسد هذا التدويل في عدة جوانب، منها: ابرام اتفاقيات التبادل الطلابي مع جامعات عالمية مرموقة، مثل برنامج "ايراسموس+" مع دول الاتحاد الاوروبي، الذي يتيح للطلاب الدراسة في الخارج واكتساب خبرات دولية. كما تشارك الجامعات السويدية في مشاريع بحثية دولية واسعة النطاق، مثل المشاركة في ابحاث الاتحاد الاوروبي المتعلقة بالمناخ والطاقة، ما يساهم في تبادل المعرفة وتطوير البحث العلمي. بالاضافة الى ذلك، تنظم الجامعات مؤتمرات دولية تستضيف خبراء وباحثين من جميع انحاء العالم لمناقشة قضايا عالمية ملحة. ولا يقتصر الدعم على ذلك، بل تقدم الجامعات السويدية ايضا خدمات دعم مخصصة للطلاب الدوليين، مثل توفير معلومات عن السكن والتاشيرات والتامين الصحي، وتنظيم فعاليات تعريفية لمساعدتهم على الاندماج في المجتمع السويدي.

الجودة العالية: يعتبر التعليم العالي في السويد من اعلى المستويات عالميا، حيث تقدم الجامعات برامج دراسية متطورة في مختلف المجالات. وبسبب تركيز التجربة السويدية على البحث العلمي والابتكار، فأن تطوير المناهج الدراسية يتم بشكل مستمر لتلبية متطلبات سوق العمل. كما تعتمد الجامعات السويدية على اساليب تدريس حديثة تشجع التفكير النقدي والتعاون بين الطلاب، إضافة إلى توفير بيئة تعليمية محفزة تشجع على الابداع والتميز. هذا الاهتمام بالجودة ينعكس على الخريجين الذين يتمتعون بمهارات عالية تؤهلهم للمنافسة في سوق العمل العالمي.

التدريب على المهارات والوظائف وحاجة المجتمع وسوق العمل:

المهارات الحياتية: يولي النظام التعليمي السويدي، بما في ذلك التعليم العالي، اهتماما كبيرا بتطوير المهارات الحياتية الاساسية التي تعد الطلاب لمواجهة تحديات الحياة والعمل بنجاح. يركز النظام على تعزيز مهارات التواصل الفعال، سواء الكتابي او الشفوي، من خلال المناقشات الصفية والعروض التقديمية والمشاريع الجماعية. كما يشجع الطلاب على تطوير مهارات حل المشكلات من خلال دراسة الحالات الواقعية والمشاريع البحثية التي تتطلب تحليلا نقديا وايجاد حلول مبتكرة. يعتبر التفكير النقدي والابداع من المهارات الاساسية التي تنمى من خلال تشجيع الطلاب على التساؤل والبحث والتحليل والتفكير خارج الصندوق. بالاضافة الى ذلك، يركز النظام على تعزيز العمل الجماعي من خلال المشاريع الجماعية التي تكسب الطلاب مهارات التعاون والتواصل وادارة الوقت وحل النزاعات. هذه المهارات ضرورية للنجاح في اي مجال عمل وفي الحياة بشكل عام.

المهارات المهنية: تقدم الجامعات السويدية مجموعة واسعة من البرامج الدراسية التي تركز على تطوير المهارات المهنية المطلوبة في سوق العمل. وتقدم الكليات التقنية (Yrkeshögskolan) برامج تدريبية مهنية مكثفة تركز على الجانب العملي والتطبيقي، وتعد الخريجين لدخول سوق العمل مباشرة في مجالات مثل تكنولوجيا المعلومات والهندسة والرعاية الصحية. اما الجامعات التقليدية، فتقدم برامج اكاديمية تدمج الجانب النظري مع التدريب العملي من خلال فترات التدريب (Internship) او المشاريع العملية بالتعاون مع الشركات. على سبيل المثال، تقدم برامج الهندسة في الجامعات السويدية تدريبا عمليا في شركات هندسية رائدة، ما يكسب الطلاب خبرة عملية قيمة تعزز فرص توظيفهم. كما تقدم بعض الجامعات برامج ماجستير مخصصة تركز على تطوير مهارات القيادة والادارة والتسويق، ما يؤهل الخريجين لشغل مناصب ادارية في الشركات والمؤسسات.

التواصل مع سوق العمل: تقيم الجامعات السويدية شراكات وثيقة مع الشركات والمؤسسات في مختلف القطاعات الاقتصادية، بهدف توفير فرص تدريب عملي للطلاب وتطوير برامج دراسية تلبي احتياجات سوق العمل المتغيرة. تشارك الشركات في تصميم المناهج الدراسية، وتقديم المحاضرات وورش العمل، واستضافة الطلاب في فترات التدريب العملي. على سبيل المثال، تقيم الجامعات التقنية شراكات مع شركات تكنولوجيا المعلومات لتوفير فرص تدريب للطلاب في مجال تطوير البرمجيات وتحليل البيانات. كما تنظم الجامعات معارض التوظيف وفعاليات التواصل بين الطلاب والخريجين وممثلي الشركات، ما يساعد الطلاب على بناء شبكة علاقات مهنية والتواصل مع اصحاب العمل المحتملين. تساهم هذه الشراكات في سد الفجوة بين التعليم الاكاديمي ومتطلبات سوق العمل، وتعد الخريجين بشكل افضل لمواجهة تحديات سوق العمل المعاصر.

الاستجابة لحاجة المجتمع: يساهم البحث العلمي في الجامعات السويدية بشكل كبير في ايجاد حلول للتحديات المجتمعية المختلفة. تجري الجامعات ابحاثا متقدمة في مجالات مثل التغير المناخي والطاقة المتجددة والصحة والتكنولوجيا. على سبيل المثال، تجري جامعة اوبسالا ابحاثا رائدة في مجال تطوير تقنيات الطاقة الشمسية، بينما تركز جامعة كارولينسكا على الابحاث الطبية المتعلقة بامراض السرطان والقلب والاوعية الدموية. تساهم هذه الابحاث في تطوير حلول مبتكرة للتحديات المجتمعية، مثل تطوير تقنيات جديدة لانتاج الطاقة النظيفة، وتحسين طرق تشخيص وعلاج الامراض، وتطوير تطبيقات تكنولوجية تساهم في تحسين جودة الحياة. كما تشجع الجامعات على تحويل نتائج الابحاث الى منتجات وخدمات تفيد المجتمع والاقتصاد.

الخلاصة:

يتميز التعليم العالي في السويد بالتركيز على البحث العلمي وتشجيع الطلاب على المشاركة الفعالة فيه، مع التاكيد على النزاهة العلمية والاخلاق البحثية. يولي النظام اهتماما خاصا للتعاون الوثيق مع سوق العمل، وذلك لتوفير فرص التدريب العملي القيمة للطلاب وتطوير البرامج الدراسية لتلبية الاحتياجات المتغيرة لسوق العمل. كما يتميز النظام بروح التدويل والانفتاح على العالم، حيث يرحب بالطلاب الدوليين من جميع انحاء العالم ويقدم لهم العديد من البرامج الدراسية المتنوعة باللغة الانجليزية. يساهم البحث العلمي في الجامعات السويدية بشكل فعال في ايجاد حلول للتحديات المجتمعية المختلفة، مثل التغير المناخي والصحة والتكنولوجيا، ما يعكس التزام النظام التعليمي بخدمة المجتمع وتطويره. هذا التكامل بين البحث والتدريس والتعاون مع المجتمع يجعل من التعليم العالي في السويد نظاما متميزا وفعالا.

نشرت ضمن هذه السلسلة تجارب التعليم في بريطانيا والصين وسنغافورة وكوريا الجنوبية وهولندة وفنلندة وكوبا وايرلندة واليابان والمانيا والولايات المتحدة الامريكية.

***

ا. د. محمد الربيعي

بروفسور في الهندسة البيوكيميائية ومستشار مهتم بالتربية والتعليم. جامعة دبلن

 

كنت حريصا على ان اتابع ما حصل للثقافة في العراق بعد 2003 لغاية الان. فبعد سقوط النظام الدكتاتوري الذي اعتمد ثقافة الحاكم الواحد والحزب الواحد، حصل اول تحول سيكولوجي بظهور (ثقافة الضحية) التي صنفت العراقيين الى ضحيتين (الشيعة والكورد) وان على الضحية المظلومة ان تقتص من الجلاد الظالم (السنّة).

ومن أول سنة تغيير (2003) تراجعت (ثقافة المواطنة) يوم سدد لها بريمر ضربة (ثقافة التثليث.. شيعة، سنة، كورد).

بعدها بسنة ظهرت (ثقافة الأحتماء).. فبعد ان تعطل القانون وصارت الحياة فوضى والسلطة لمن هو اقوى في الشارع.. اضطر البغداديون بشكل خاص الى ان يغادروا بغداد ليحتموا اما بالعشيرة او المدينة التي ينتمي لها.. كأن يذهب الراوي الى راوه مثلا.

بعدها بسنتين شاعت وتعمقت (ثقافة الولاءات المتعددة) التي تفرّق لتصل الى ابشع حال في احتراب (الهويات القاتلة) لسنتين كارثية (2006-2008)، ورفع من صار رئيس وزراء في حينه شعار (صارت عدنه وما ننطيها). وتراجعت ثقافة التسامح وثقافة الحوار، لتظهر ثقافات متعددة الأسماء: ثقافة التحرير، ثقافة الغزو، ثقافة العمالة، ثقافة الارهاب، ثقافة المقاومة، وثقافة كاتم الصوت. وكان اقبحها هي (ثقافة الطائفية) التي وزعت العراقيين الى جماعات تفرقها ثقافة التعصب وتجمعها ثقافة الكراهية.

المثقف.. بعد التغيير

من عادتي ان استطلع الرأي العام حين اريد توثيق ظاهرة اجتماعية او ثقافية، وقد فعلت ذلك بخصوص حال المثقف العراقي بعد التغيير في (2017)، اليكم نماذج من اجاباتهم:

- المثقف العراقي يواجه ثقافة دينية طائفية عشائرية مدججة بالسلاح والمال والنفوذ، لكنه رغم ذلك يعمل ويبدع ويقاوم.

- المثقفون لا يملكون قوة المال ولا غاز مسيل للدموع، والهجمة الان ضخمة وقوية.

- بدون زعل، لانهم لم يسمعوا كلام غادة السمان فهاجروا ثم ذبلت ازهارهم هناك ولم يدركوا ان الاشجار لا تهاجر.

- المثقفون.. منهم من وجد ذاته بعيدا وغادر الوطن ولم يتذكره، والموجودون في واد والجماهير في واد اخر، ومنهم من انساق وراء مغريات السلطة للاسف.

- لا يوجد تاثير للمثقف على سواد الناس الذين يمثلون قاعدة الجهل العريضة ويتاثرون بخزعبلات الملّا والمشعوذ، والبعض منهم يعتبر المثقف بانه ينشر الكفر بين الناس.

وبعد ست سنواتٍ وفي العام (2023) أعدنا الاستطلاع ذاته، إليكم نماذجَ من إجابات حرصنا أنْ تحملَ أفكاراً مختلفة:

* حسب رأي غرامشي: الأكثريَّة في المجتمع هم مثقفون لكنْ بثلاثة أصناف: التقليدي المهني مثل الموظف والمعلم، والثاني الذين يعرفون الأخطاء ويقبلون بها طمعاً بعطاءٍ من السلطة وهم الأغلبيَّة في العراق من كتاب وفنانيين وآخرين، والثالث هم الذين يشخصّون الأخطاء ويعملون على تصحيحها ويدافعون عن التغيير نحو الأفضل.

* المثقف العراقي الحقيقي غائبٌ أو مغيبٌ في وسط هذا التزاحم والفوضى وقلة الوعي وانتشار الخرافة والتدين الزائف والجهل المدقع والتدليس والأمية بكل أنواعها. هناك مثقفٌ اجتماعيٌّ يحملُ همومَ الناسِ ويسعى إلى تغيير الواقع، وآخر لا يهمه سوى منجزه الأدبي. أما الانتهازيون والمتكسبون فهم الفئة الأكبر الآن، وهؤلاء يلعقون ما ترميه لهم السلطة ويعتاشون على فتاتها.

ويرى آخرون أن المثقفين بعد التغيير قليلون جداً، والسبب هو تغليب النزوات والغرائز على العقل بسبب ظروف الحرب وقساوة الحياة وتدمير عقل الإنسان، وأن الكم الهائل من ثقافة العصر جعلت من الصعب على المثقف الحفاظ على موقعه، وأن المثقف العراقي إنسانٌ أولاً، منهم النرجسي والموضوعي والذاتي والمتواضع والمتكبر الذي لا تغير ثقافته من طبعه، وليس مطلوبا منه أنْ يطلبَ من الآخرين جلد ذواتهم، وهو الأمر الذي يحدث لدينا ولا يحدث في العالم المتقدم الذي يعدُّ المشاركة الثقافيَّة فخراً لصاحبها.. كما يضيفون.

ثلاث اشكاليات

نقصد بالمثقف هنا الذي يمتلك نزعة انسانية ورؤية شاملة وضميرا اخلاقيا ومعارضة موضوعية لواقع لا يليق بحرية الانسان وكرامته.. هذا المثقف بالتحديد يعيش اكثر من اشكالية:

الأولى سيكولوجية.. يشعر فيها بالتهميش فيعاني بسببها الاغتراب وفقدان المعنى من وجوده في الحياة.

الثانية.. فجوة كبيرة بينه وبين المجتمع.. خلاصتها انه يرى المجتمع قد وصل الى حالة (بعد ما تصير له جاره).

الثالثة الأخطر.. اشكاليته مع السلطة..، فهو ناقد بطبيعته للجوانب السلبية، فيما السلطة بطبيعتها لا تحب من ينقدها، وادراكه بان الصورة التي تحملها السلطة عنه بأنه (عدو) وانها تخشاه لانه اقرب منها نفسيا للناس، والأصعب.. أن السلطة تشعر بالنقص الثقافي امام المثقف، فتتولد لدى كليهما عقدتان سيكولوجيتان متناقضتان: شعور السياسي بالنقص وشعور المثقف بالاستعلاء.

العراق.. خامسا

توثق شبكة الساعة وشفق نيوز بالاسماء مقتل (نحو 300) صحفيا ومثففا في العراق بعد 2003، فيما اشار تقرير (للجزيرة) ان العراق (حلّ بالمرتبة الخامسة على مستوى العالم في مؤشر افلات قتل الصحفيين والمثقفين من العقاب بالرغم من وجود قوانين تعنى بحماية الصحفيين).

والأسوأ.. ان تعرض المثقفين والصحفيين الى القتل.. ازداد الآن بعد سيطرة المليشيات على الشارع العراقي، واوصلت المثقفين الى ان يعيشوا واحدة من أسوا المحن التي مرّت بهم.. فتوزعوا بين من غادر الوطن مضطرا، وبين من وجد ان لا معنى للحياة دون حرية قلمه فدخل حالة الاغتراب النفسي، وبين من هادن السلطة والتحق بهذا الحزب او ذاك لتامين لقمة العيش لعائلته، وبين من وضع كفنه على راحة يديه.. ويعلم أنه مقتول مقتول.

بقي علينا ان يكون لدينا فهم مشترك بأن الثقافة تعني.. نوعية الأفكار والمعتقدات والأخلاق التي نحملها بخصوص انفسنا والآخرين والعالم، وأنه لهذا السبب جرى الأعتراف بها دوليا في الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر بقرار الجمعية العامة عام 1984الذي أكد على أن (لكل شخص الحق في ان يسهم بحرية في الحياة الثقافية للجماعة، وفي ان يتمتع بالفنون، و يشارك في مختلف انواع التقدم العلمي وفي الفوائد الناجمة عنها).

وعراقيا، انشغل جيل الشباب "بثقافة " الفيسبوك و و.. وما عاد يعرف حتى رموز الثقافة في وطنه.. وبينهم من لا يعرف حتى الجواهري ومظفر النواب. (سألت شابين كانا معي في الطائرة.. هل تعرفان الجواهري؟ اجابا: لا، هل تعرفان مظفر النواب، اجابا: ما نعرفه!)

وكثير من العراقيين يغفلون دوره الثقافة، ولا يدركون ان ما نحمله من قيم وأخلاق.. هي من صنع الثقافة. والأكثر من ذلك ان الثقافة هي التي تتحكم بسلوكنا، وانها هي السبب في اختلاف سلوك رجل الدين عن سلوك الإرهابي، وسلوكك عن سلوك الآخر.. ولك ان تتذكر كيف كان سلوك العراقي في ثلاثة أزمان: الملكي والجمهوري والديمقراطي بعد التغيير. ولك ان تعرف ايضا ان تضاعف حالات الطلاق والانتحار وتحول الفساد من فعل كان يعدّ خزيا في قيمنا العراقية الى شطارة وانتهاز فرصة.. سببه الرئيس شيوع ثقافة الخرافة والنفاق والدجل وتوظيف الدين لخدمة الحاكم الفاسد.. وتلك هي الإشكالية التي يعيشها المثقف العراقي الحقيقي و محنته في الزمن الديمقراطي.. التي غاب فرجها باغتيال ثورة تشرين!

***

ا. د. قاسم حسين صالح

 

بين النَّثر الأدبيِّ في صَدْر الإسلام والشَّريف الرَّضِي (5)

إنَّ حافز الأَشياع لضَمِّ خُطَبٍ منسوبةٍ إلى (عليِّ بن أبي طالب، رضي الله عنه) إلى مشروع (الشَّريف الرَّضِي، -406هـ= 1015م)، وعدم الاكتفاء بـ«الكلام القصير في المواعظ والحِكم والأمثال(1) والآداب»، إلى جانب الدافع الدِّينيِّ والعائليِّ لدَى الشَّريف نفسه- وذلك لما طمع إليه من «عظيم النفع، ومنشور الذِّكر، ومذخور الأجر»- مضافًا إليه الحافز الطائفي؛ كي يُبين «عن عظيم قَدر أمير المؤمنين، عليه السلام، في هذه الفضيلة، مضافة إلى المحاسن الدَّثِرَة، والفضائل الجمَّة»، إنَّ ذلك كلَّه كان كافيًا لاستجازة الشَّريف نِسبة ما نسبَ إلى (عليٍّ) من المطوَّلات، والفلسفيَّات، والخطابات المتمنطقة، والطبيعيَّات، والبديعيَّات، ما دام لا يخرج بذلك عن مأثور أخبار عليٍّ الشَّعبيَّة، ولا عن نواميس نَهْجه في الأفعال والأقوال، وإنْ بحسب مرويَّات القوم وتصوُّراتهم. 

هكذا أمسك بخناقي (ذو القُروح)، كمعتاد أفعاله. فقلتُ له:

ـ لكن هذا شيء، وتصديق أنَّ تلك الخُطَب الطِّوال جاءت بنَصِّها وفَصِّها على لسان (ابن أبي طالب)، وأنها ظلَّت محفوظة متناقلة لنحو ثلاثة قرون، حتى قُيِّض لها من صَبَّها للناس صَبًّا في كتاب، شيء آخر. 

ـ فإذا أضيف إلى ما سبقَ الدافعُ العِرْقيُّ، من المفاخرة، والمنافرة، والمكاثرة، وَفق «نَهْج البلاغة» القَبَليِّ الأَبَويِّ المتوارث، الذي أوشك أن يحوِّل النبوَّةَ من اصطفاءٍ فرديٍّ إلى نَسَبٍ عائلي، والشَّرَفَ من قيمةٍ مكتسبةٍ بالسُّلوك والعمل إلى دَمٍ نبويٍّ، وَفق ثقافة العَرَب الجاهليَّة، وكما تجلَّت بَعد الإسلام في مناقضات (الفرزدق) و(جرير)- على سبيل القِيَم الجاهليَّة المؤسلَمة- إذا لوحظت تلك العوامل استحكمَ في مِرْجَلِها الباعثُ الحماسيُّ، وسيطرت الحميَّةُ العَلويَّة، واختمر المزاجُ العائليُّ، الذي عَبَّر عنه (الشَّريف) بقوله: «وأردتُ أن يسوغ لي التمثُّل في الافتخار به، عليه السلام، بقول الفرزدق:

أولئك أبائي، فجئني بمِثلهمْ   :::   إذا جمعَتْنا، يا جريرُ، المجامعُ!»(2)

ـ لقد كان غرض (الشَّريف الرَّضِيِّ) في تأليف «النَّهْج» شريفًا، فيما رأى، أو فيما حاول أن يُقنِع به نفسه، عبر مستويات متدرِّجة من أدوات الإقناع. ولم يكن الرجل ذلك الأكاديميَّ الذي تؤرِّقة الأمانة العِلميَّة.

ـ أتفقُ معك. لكنَّه لم يكتف بذلك، بل جعل لعمله هدفًا آخَر أشرف، تربويًّا، وتعليميًّا، وبلاغيًّا، جلَّاه في تسمية الكتاب بـ« نَهْج البلاغة»؛ وكأنما هو كتابٌ مدرسيٌّ لمَن أراد معرفة أصول البلاغة وأساليبها وأعراف طرقها؛ فهذا الكتاب هو «نَهْج»، أي طريق، ومنهاجُ تعلُّم «البلاغة»، والدُّربة عليها. 

ـ ولا تنس أن ذلك حدثَ في تلك القرون التي أخذ النحويُّون يشقِّقون لنا تشقيقات أخرى، سَمَّوها (عِلم البلاغة)، بعد تشقيقاتهم النحويَّة العتيقة المعقَّدة المستهلَكة، التي سَمَّوها (عِلم النحو).

ـ وبذا أحسنوا وأساؤوا، وتمنطقوا وخالفوا المنطق، وبالغوا في بلاغيَّاتهم، كي يستولدوا عِلمًا مبتدَعًا، لا يقلُّ في بعض أوجهه استغلاقًا وإلباسًا من بعض أوجه (النَّحو). حتى لقد عَدُّوا- على سبيل الشاهد- الآية: «يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ»، والآية: «جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ»، من ذلك الباب المخترَع الذي أسموه (المجاز المرسَل)، قائلين: إنَّ المذكورِين في الآيتين إنَّما كانوا يجعلون بَنانهم في آذانهم، ولا يُدخلون أصابعهم كلَّها! فلا تظنوا غير هذا، يا قَوم!

ـ يا لهم من فُطَناء نُبَهاء حقًّا! وأنا الذي كنتُ أتصوَّر أنَّ المقصود أنَّ قوم (نُوح) كان أحدهم يُدخِل إصبعه بطولها في أُذنه، لولا هذا التنبيه المجازيِّ المرسَل الحصيف، الذي كشف الغمَّة عن الأفهام المدلهمَّة!

ـ بالفعل، هذا التفاتٌ بلاغيٌّ طريفٌ حقًّا! مع أنَّ كلَّ عامِّيٍّ- أمس أو اليوم وإلى قيام الساعة- لا يحتاج إلى مثل تلك البلاغة السكَّاكيَّة؛ لأنه ما زال يُعَبَّر بالإصبع في مثل هذا السياق، في الفصحى والعامِّيَّة، عن مثل ما عبَّر عنه «القرآن»، لا يُبتغَى فيه مجاز ولا تخييل، بل هو تعبيرٌ حقيقي؛ من حيث إنَّ الإصبع، مهما طالت، قد تُطلَق على طَرَفها، أو ما يُسمَّى منها (البَنان)، وقد تُطلَق على كُلِّها، كما هو الحال في التعبير بـ(اليَد)، وليس الناس في حاجةٍ إلى «عِلْمٍ»، إذن، ليُدرِكوا ذلك.

ـ وما دام العَرَبيُّ ما انفكَّ يستعمل هذا، منذ نعومة لُغته، فأين المجاز؟

ـ لا مجاز تحت الشمس! إنَّما المجاز انحرافٌ أسلوبيٌّ عن مألوف القول، لغايةٍ فنِّـيَّةٍ متوخَّاة. أمَّا حين يغدو الكلام من قبيل مألوف القول عبر العصور، فقد غَبَرَ حقيقةً، لم تَعُد فيه من المجاز رائحة، لا مرسلة ولا مقيَّدة! ومهما يكن من شيء، فتلك قضيَّةٌ أخرى، إنَّما ضربناها مَثَلًا على مقدار ذلك الهَوَس الذي اعترى الطبقة العالمة بما يُسَمَّى «بلاغة»، خلال تلك القرون التي ظهر فيها «نَهْج البلاغة». وقد ظلَّ «نَهْج البلاغة» كتابًا مَدرسيًّا بالفعل، منذ كتبه (الشَّريف)- الرَّضِيُّ أو المرتضَى أو كلاهما- وصولًا إلى طبعته الحديثة، بضبط (الشيخ محمَّد عبده) وشَرْحه. أي منذ كتبَ الشَّريف في تقديم «النَّهْج»: «ورأيتُ من بَعدُ تسميةَ هذا الكتاب بـ»نَهْج البلاغة»؛ إذ كان يَفتح للناظر فيه أبوابها، ويُقرِّب عليه طِلابها، وفيه حاجة العالِـم والمتعلِّم، وبُغية البليغ والزاهد، ويَمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد والعدل، وتنزيه الله، سبحانه وتعالى، عن شَبَهِ الخَلْق، ما هو بِلال كُلِّ غُلَّة، وشِفاء كُلِّ عِلَّة، وجلاء كُلِّ شُبهة.»(3)

ـ تلك، إذن، هي أسباب تأليف الكتاب، ومسوِّغات نَسْجه، وأهداف وَضْعه.

ـ ومنها «جلاء كُلِّ شُبْهة (معتزليَّة)»، كما أوضحتُ في حوارٍ سابق، لـ«تنزيه الله، سبحانه وتعالى، عن شَبَهِ الخَلْق». وليس من بين الأهداف التحقيق، ولا من الغاية التوثيق الجازم، ولا التأريخ الممحَّص. ثُمَّ ثَمَةَ نكتةٌ أخرى.

ـ هاتِ، نَكِّتْ، رعاك الله!

ـ أسلوب «النَّهْج» في معظمه أسلوبٌ كتابيٌّ لا شفاهي. لا لما حُمِّل إيَّاه من أوزار السَّجع والبديع فحسب- وهو ما كان القرن الرابع الهجري، لا الأوَّل الهجري، مسرحه الذهبي- ولكن أيضًا لأنَّه أسلوب كاتبٍ، متأمِّلٍ، موجَّهٌ إلى قارئٍ مستقرئ، وليس بأسلوب خطيبٍ، يُلقِي كلمته فوق منبرٍ على جمهرةٍ من السامعين، ومعظمهم من الأعراب، وسُوقة الناس، وربما بعضهم من غير العَرَب، فلا قِبَل لهم إجمالًا بمثل ذلك التحذلق في المباني والمعاني، إنْ وُجِدت لدَى صاحب المنبر، افتراضًا. ذاك شأن الخطيب، وإلَّا عُدَّ فاشِلًا في (فنِّ الخطابة)، لعدم مراعاته مقتضى الحال والتلقِّي. وللخطابة، ومشافهة الجماهير، أساليبهما المباينة نوعيًّا لأساليب الكُتَّاب إلى القُرَّاء، التي يعرفها الخطيب المِصْقَع والشَّحْشَح، ولا ينبغي له أن يزيغ عنها، وإلَّا كان قارئَ نشرات أخبار لا خطيبًا! والكتابيَّة خاصيَّةٌ ظاهرةٌ في «النَّهْج»، ولا تُناسب مقتضى الحالات التي زُعِم أنَّ نصوص «النَّهْج» قيلت في سياقاتها. 

ـ وبهذا النقد الداخلي للنصوص ينكشف عِلميًّا أمر ذلك الكتاب الذي فيه رَيب!

ـ أمَّا بالعودة إلى أسلوب «نَهْج البلاغة»- وهو أسلوب القرن الرابع الهجري، وأسلوب (الشَّريف) عينه، كما تفضحه مقدمة «النَّهْج»، وكما يعرفه القارئ في كتابات الشَّريف الأخرى، نثرًا وشِعرًا، وليست بأسلوب صَدْر الإسلام قطعًا، ولا بطابع الخطابة في القرن الأوَّل من الهجرة، ولا حتى القرن الثاني- أمَّا ذلك الأسلوب، فأيُّ حلاوةٍ فيه لدَى من لا تعجبه ترديدات الببغاوات؟ وأيُّ طلاوةٍ في تلك الأنساق الرياضيَّة، المرصوصة من الجُمل المكرَّرة، والسَّجع المطَّرِد، والتزويقات الصوتيَّة المُمِلَّة؟! 

ـ وكيف يقارَن هذا بالنسيج القرآني؟!

ـ تلك سقطة (أحمد القبَّانجي) السحيقة، وهي أسخف من أن تُناقش! فـ(القرآن) بالغ التأثير في المتلقِّي، ببنيتَيه الصوتيَّة والدلاليَّة معًا. يأسر الألباب، وإنْ لم تكن من ألباب المؤمنين به.  أمَّا مَن لم يُؤْتَ نصيبًا من ذوقٍ أدبيٍّ، ولا حِسٍّ جماليٍّ، ولا تمييزٍ لُغويٍّ، ولا إدراكٍ لجماليَّات البلاغة والأساليب، والتفريق بين مستوياتها وأطوارها، وتاريخ ترقِّيها، ثمَّ هو فوق ذلك مزورُّ النفس لهوًى مخامر، ولعُقَد قاهرة، مطموس العقل لاعتقادٍ مضادٍّ؛ أمَّا من تلك حاله، فمرفوعٌ عنه القَلَم، منزوعُ الصلاحيَّة للنظر في هذه الشؤون، عاجزُ التأهيل أساسًا عن مقاربتها، فضلًا عن مقارنتها.

ـ أجل، لقد يأتيك من عجائب المخلوقات من لا يعترف لـ(المتنبِّي)، مثلًا، بشِعريَّته، أو لـ(طه حسين) بأسلوبيَّته، فماذا تملك لمثل هذا الكائن، الذي نزع الله عنه الحِسَّ الأدبيَّ السليم؟!

ـ والأدهى حين ينصِّب هذا نفسه ناقدًا أدبيًّا، وهو عَيِيُّ اللِّسان، بَليد الفِطرة، أعجميُّ المزاج، مَلْخُوْم الحواسِّ، دَعِيٌّ في هذا الميدان! ولو كانت به مسكة من عقلٍ أصلًا، ما تقحَّم بافتئات في غير ما يُحسِن. أو لو بقيت به نُخالةٌ من حياء، ما خاض فيما لا يعرف. وهذا وأمثاله، أيًّا ما كان دِينه أو دَيدنه، أو كانت هويَّته، ليس مخاطَبًا بالإعجاز البلاغي أصلًا؛ لأنه من المرفوع عنهم التحدِّي لمخمصته المشار إليها. ولقد عبَّر عن هذا (الوليد بن المغيرة)- المشرِك المعاند، المطاول ببيانه «القرآن»- فانقلب حين سمعه إلى قومه وهو يقول: «سمعتُ منه كلامًا ليس من كلام الجن، ولا من كلام الإنس، واللهِ إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطَلاوة، وإنَّ أعلاه لمُونق، وإنَّ أسفله لمُغدِق، وإنَّه ليعلو ولا يُعلى عليه.» وبقطع النظر عن صِحَّة هذه الرواية، فذلك ما يجدر بشهادة عَرَبيٍّ صادقٍ، غير مكابر، بَيْدَ أنها غير متوقَّعة أبدًا من مغوليٍّ، مثلًا، أو من تركماني، أو حتى من عَرَبيٍّ ممسوخ اللِّسان. وهل تنتظر من مثل هذا أن يفقه ما الحلاوة؟ أو ما الطلاة؟ وأين مواطن الإيناق؟ وأين منابع الإغداق؟! لأنَّ فاقد الشيء لا يعطيه! وذلك كذلك ما شَهِد به منصفو الكافرين قبل المؤمنين، عن نَصٍّ لا بالشِّعر هو، ولا بالنثر، ولا بالنَّظم، ولا بالترسُّل، ولا بالسَّرد، ولا بالأمثال والمقولات الحِكميَّة، ولا بالمتكلَّف، ولا بعفو القول الساذج؛ سهلٌ في امتناع، منيعٌ في سهولة، يستعصي على التصنيف الأجناسي بين النصوص. جامعًا من سِحر البيان ما في فنون القول المتباينة كافَّة. وهذا هو الجمال الأدبي، ومناط الإعجاز البلاغي، لدَى مَن فَقِه اللُّغة، وعايش فنون الخطاب، لا تلك المعادلات الذِّهنيَّة، والتلاعبات اللفظيَّة، التي دبَّجها (الشَّريف الرَّضِيُّ/ المرتضَى) على صحائف كتابٍ وَسَمَه بـ«نَهْج البلاغة». 

[وللحديث بقايا].

***

أ. د.عبد الله بن أحمد الفَيفي

........................

(1) كذا! وما في « نَهْج البلاغة» حِكَم، لا أمثال. ذلك أنَّ المَثَل مأثورٌ شَعبيٌّ، وليس بقولٍ حكيمٍ فرديٍّ، وإنْ كان أصله كذلك. وهو يَرِد في موقفٍ قَصصيٍّ، ويُحفَظ كما سُمِع، بلا تغيير، وإنْ تضمَّن أخطاء لُغويَّة، أو نحويَّة. ولذا فقد أخطأ (أحمد السِّباعي، رحمه الله)، في كتابه «الأمثال الشَّعبيَّة في مُدُن الحِجاز»، في إعراب بعض تلك الأمثال؛ والأمثال الشَّعبيَّة إذا غُيِّرت لم تعد أمثالًا. ومن ذلك تغييره المَثَل الشَّعبي المعروف الذي يقول: «احييني اليوم وموِّتني بُكرة»، فغيَّر هنا كلمة «بُكرة» إلى «غدًا». (تُنظَر طبعة: (جُدَّة: تِهامة، 1981)، ص16). وهذا يُعَدُّ تحريفًا في الجنس الأدبيِّ للأمثال. وكذا قوله، على سبيل الشاهد: «اعطيني عُمْرًا وارميني في البحر»؛ فالمثل المعروف: «أعطيني عُمُر وارميني في البَحَر». ثمَّ إنَّ هذا المَثَل مبنيٌّ على السجع بين كلمتي «عُمُر» و«بَحَر»؛ فذهب تغييرُه بالبناء النَّحوي والبناء البديعي معًا. هذا مع عدم النَّجاة من الوقوع في خطأين نحويَّين؛ حيث أصلح المفعول به ونسي أنَّ الفعل فعل أمر! فإذا كان سيقوِّم المَثَل نحويًّا، فكان الصواب أن يقول: «أعطني... وارمني». (يُنظَر: م.ن، 12).

(2) (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)، 79.

(3) م.ن، 81.

 

نهج البلاغة كتاب شامل تفوق اهميته كتاب جمهورية افلاطون في مجتمعاتنا العربية الاسلامية، لأنه يشير الى التنظير والتأسيس والبلاغة والمعرفة والحكمة، ولانه قاد الى تاسيس اجتماعي وفكري مهم في المجتمع العربي الاسلامي .

لقد قسم الرضي النهج إلى ثلاث أبواب الأول تضمن الخطب الطويلة والقصيرة والباب الثاني في الرسائل والثالث حول الحكم المفردة، وقد جمع الرضي محتويات كتاب نهج البلاغة خلال سبعة عشر عاما، من سنة 382هـإلى 400هـ، ويحتوي الكتاب على 242خطبة وكلاما و78 رسالة و498 حكمة مفردة.

ويشير اقدم مصدر للشريف الرضي وهو النجاشي(ت450 هـ) والثعالبي(ت429هـ) إلى أن النهج من مؤلفات الشريف الرضي. وهذا ما قاله ابن شهراشوب في المناقب.

لقد شككوا بكتاب نهج البلاغة وهوجم الرضي في محاولة لإسقاطه فيسقط معه النهج فكان تارة يتهم بأنه كان زيديا أو انه كان يحضر مجالس المجون كما أورد الحصري وهذا كله بدافع اختلاف العقيدة .

وكانت أول ترجمة للنهج حصلت في القرن العاشر من الفارسية ثم التركية ثم الهندية –الاوردية- ثم الإنكليزية والألمانية، وتشعبت المباحث والتصنيفات فينهج البلاغة فشرح شعرا منظوما او نظم على شكل شعر، او شرحت كلماته بالشعر، وصنف للنهج فيما يتعلق بالأمثال والحكم المستخرجة من نهج البلاغة، وأيضا كتب حول الأعلام في النهج، ومفردات نهج البلاغة .

ويجب ملاحظة ان خصائص النهج فيها كثير من خصائص القران مثل السجع والتشبيه والاستعارة وتكرار المعاني والإيجاز وطرح الأمثال وأنباء الغيب والقصص والعلوم الإلهية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية.

ويمكن القول ان أسلوبه في النهج وغيره يتسلسل بشكل منطقي وتتماسك الفكرة حتى تكون كل منها نتيجة طبيعية وعلة لما بعدها

وفي الخطب إيجاز شديد بقوة متدافعة وحدة منفعلة وهي زاخرة بالاستعارات مع الاستئنافات الكثيرة، والتلويح بالأمثال الموجزة والتي بلغت اكثر من مائتي مثل في النهج.

ويمتاز النهج بالشمولية والبلاغة والهندسة البلاغية العامة، وبأسلوب منطقي، ومثال ذلك انه توجد ثلاثة أنواع من الاثنينيات الشفعية تتواجد فيكل النهج من الخطب والأوامر والكتب والرسائل والحكم والمواعظ الأولى، وتعد هذه العملية احدى الادوات التشفيرية التي يستخدمها الامام علي بالإضافة الى العبارة البلاغية والمعلومة المعرفية والنسيج المنطقي وتتمثل هذه الخريطة الهندسية البلاغية ب :

1- ثنائية تواجهية: مثالها (نور لا نور)و(ظلام لا ظلام)

2- الثنائية العكسية: ومثالها (نور/ظلام-ولا نور لا ظلام)

3-الثنائية الترادفية: بطريقة (نور لا ظلام-لا نور لا ظلام) وبعض من هذا يمكننا ان نراه مثلا في مقولة الامام علي (انزل الكتاب نورا لا تطفا مصابيحه، وسراجا لا يخبو توقده، وبحرا لا يدرك قعره) ويجب القول ان الجهد الهندسي المنطقي في النهج يجب ان يدرس بشكل مستقل وواف .

ومن مميزات النهج الأخرى وهو ما يتصل بالأسلوب التشفيري الذي جعل من نهج البلاغة مصفوفة يصعب اختراقها، على مر الزمن، وهذا يعني اسلوب الامام علي الذي يتسم بالخيال الواسع الأخاذ والعاطفة النبيلة والفكر، والأسلوب الصادق غير المراقب او الخائف من المراقبة البلاغية أو العلمية وحتى التاريخية، والأسلوب يدل على صاحبه فنرى النهج يشتد ويلين حسب الموقف ويستخدم صاحب النهج ( الأنا) بكثرة ولكنها في الموقع الصحيح وهي أنا واقعية متعقلة لا يمكن نقدها لأنها تحسن في سيرها البلاغة والتقسيم المنطقي واستخراج النتائج وتستخدم تركيبا دقيقا يعتمد الإيجاز مع الإطناب وبسجعات ضرورية فريدة لا يمكن اعتبارها حتى يومنا هذا اوغدا نشازا في اللغة العربية.

ويستخدم الإمام علي أيضا المحسنات البديعة من جناس إلى طباق وبجرس موسيقي وإيقاع جميل متنوع، وأسلوبه وألفاظه ثروة عربية، ولهذه المقدرة قال الإمام (وانا لأمراء الكلام وعلينا تهدلت غصونه وفينا تنشبت عروقه).

ويضاف لكل هذا ان نهج البلاغة مصدر لأحاديث الرسول(ص) وأيضا لأدعية الإمام علي ففيه (13) دعاء و(400) آية قرآنية و(15) بيتا من الشعر.

وهو أيضا مصدر لأخبار الامم السابقة والأنبياء وعلى هذا يعتبر الإمام أولمن أرخ، ونهج البلاغة أيضا كتاب يتحدث عن الإلهيات في العدل والتوحيد والكائنات سواء أكانت في السماء أم الأرض او ما يخص الإنسان.

***

ا.د. رحيم محمد الساعدي

المال هو إحدى أكثر الاختراعات البشرية إبهارًا، بسحر غموضه الذي لا يمكن اختراقه، يساعدنا ويقصينا في آنٍ واحد. يحقق قدرتنا على العدّ، والقياس، والتراكم، ويجعلنا نراه دون أن يَظهر. لقد أدرك القديس أوغسطين هذا منذ زمن بعيد ذلك بقوله: "المال عاشق متقلب ولا يرحم."

الملكة "بكونيا" التي تحدث عنها هوراس، والتي اكتسبت مع جوفينال ملامح الإلهة، تحكم علينا جميعًا بتعاليها، تسهر على خيالنا، وتبتسم بخفة إزاء إصرارنا العنيد على قياس كل شيء. كم تساوي قيمتك؟ سواء كان الحديث عن عاطفة، أو ثقة، أو سعر سلعة، فإننا لا نميز كثيرًا بين هذه المعاني لغويًا.

مع المال، كما نعلم جيدًا، تجاوزنا منذ زمن طويل التمييز بين الوسائل والغايات. بل، وبما أن المال هو وسيلة الوسائل، فلا يمكن إلا أن يكون غاية لكل وسيلة.

وعندما يصبح المال مجرد غاية، وهو ما مررنا به كتجربة مريرة، فإنه يتحول إلى أداة مدمرة قوية للغاية، تؤدي إلى الموت والدمار. الأمل في قدرة المال على التكاثر الذاتي يصبح نذيرًا مظلمًا يشعل دوافع تدميرية قاتلة.

"بالله نثق" هذه العبارة التي تتصدر كل دولار أمريكي. لكن، فيمن أو في ماذا نضع ثقتنا حقًا؟

حتى وقت قريب، كنا نثق في المؤسسات التي تكفل التحول من المال إلى النقد. كنا نثق في البنوك المركزية، التي تعدّ التعبير الأقوى والأكثر "اعتمادًا" للسلطة الوطنية. بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح الورق الأخضر (الدولار) هو عملة العملات، معيار المعايير، الوسيلة العالمية للتبادل. وحتى اليوم، لا يزال الدولار الأمريكي العملة التي يتم من خلالها تداول أهم السلع الأساسية، وعلى رأسها النفط، بالإضافة إلى القهوة، والكاكاو، والذهب، وغيرها.

صندوق النقد الدولي درس بالفعل العواقب المحتملة لعملية "الدولرة الكاملة" في ندوة تاريخية نظّمها في بداية الألفية الجديدة. كان ذلك حلمًا بالاستقرار والتبادل العالمي الذي بدا وكأنه قد يتحقق... لكن في الواقع، فإن عمليات الدولرة التي اجتاحت العديد من الدول، خاصة في أمريكا اللاتينية، أفضت إلى تداعيات مالية ثقيلة. إذا أخذنا مثال الأرجنتين، ففي الفترة بين عامي 1999 و2001 لم يعد هناك تداول للدولار الأمريكي فحسب، بل حتى البيزو الأرجنتيني توقف عن التداول. ومع ذلك، لم تتوقف التبادلات تمامًا، فقد اخترعت المجتمعات المحلية عملات أخرى وأدوات بديلة سمحت لها بتلبية احتياجاتها رغم ندرة السيولة.

فهل صحيح، كما يُروى في الملخصات البسيطة، أن هناك عصرًا للبَدل (المقايضة) تبعته مباشرةً مرحلة النقود؟ علم الآثار لا يدعم هذه الفكرة، فقد عاش نظام المقايضة والنقود جنبًا إلى جنب لقرون، مقسمين المهام وفقًا للظروف: معاملات معينة كانت تُنظم بالنقود، وأخرى بالسلع، حسب السياق.

ذلك لأن عالمنا يعشق التعددية ويخشى الأحادية، وتطوّر العملات مثال واضح على ذلك. إذا نظرنا إلى التاريخ، نجد عددًا لا يُحصى من الابتكارات النقدية التي أوجدت أنظمة ودوائر متعددة يمكنها تعزيز التدفقات والتبادلات والعلاقات. ففي إيطاليا، خلال العصور الوسطى وعصر النهضة، جرى التفاوض على الاتفاقيات التجارية باستخدام عملات خيالية، هذا إلى جانب التجارب المختلفة لمعادلة المال بالوقت، بدءًا من متجر الوقت الخاص "بجوزايا وارن" وصولاً إلى ساعات "إيثاكا" التي يتم تداولها اليوم في نيويورك.

النقود في الماضي كانت غالبًا جزئية، لم تؤدِّ جميع الوظائف. فقد كانت هناك عملات اقتصرت على كونها وحدة حساب فقط، دون أن يتم سكّها فعليًا. أطلق عليها اسم "العملات الوهمية"، على سبيل المثال، الليرة التي أدخلها شارلمان في نهاية القرن الثامن لم تُسكّ أبدًا، كانت مجرد عملة حساب. كان الناس يحسبون الأسعار بالليرة ولكنهم كانوا يستخدمون الدنانير الفضية في الدفع، وفقًا لنسبة 1 ليرة = 240 دينار.

مثال آخر هو الثيران في ملحمة هوميروس. ظهرت الثيران في الإلياذة كوحدة لقياس قيمة السلع، ولكن لأسباب واضحة، لم تكن المعاملات تُجرى باستخدام الثيران، بل كانوا يستخدمون أشياء متنوعة ذات قيمة.

اليوم، العملات التي نحملها في جيوبنا، تقوم بثلاث وظائف. الوظيفة الأولى هي كونها وحدة حساب: تُعبر أسعار السلع بالعملة. على سبيل المثال، يكلف كيلوغرام من الكمثرى اثنين يورو، وسعر سيارة صغيرة يقارب 10,000 يورو. نستخدم النقود لمقارنة أسعار السلع ولإجراء الحسابات.

الوظيفة الثانية للنقود هي كونها وسيلة للتبادل: أعطي بائع الفاكهة اثنين يورو وأحصل في المقابل على الكمثرى.

أما الوظيفة الثالثة للنقود فهي كونها مخزنًا للقيمة: يمكنني أن أقرر عدم شراء الكمثرى لمدة خمسة أيام، وبالتالي أوفر 10 يورو.

النقاشات حول الوظائف الجزئية للنقود ليست أمرًا من الماضي، من يستثمر اليوم في البيتكوين أو الأصول المشفرة الأخرى التي تختلف تمامًا عن العملات القانونية لا يفكر في استخدامها كوحدة حساب أو لشراء الكمثرى: بل يراهن على مخزون للقيمة، وهو رهان محفوف بالمخاطر نظرًا لتقلبها الشديد.

إن حالة الانتشاء التي تصاحب فترات التوسع الرأسمالي لا يمكن أن تكون إلا متبوعة بالشعور بالوحدة وبمرارة الإدراك بأننا قد نسينا أهمية العلاقة كجوهر لوجودنا ذاته، وهو ما ذكره مارتن بوبر في كتاباته.

خلال الأزمات القاسية والشرسة، مثل تلك التي نعيشها منذ عام 2007، تظهر أفكار وأدوات جديدة، ولكن الأهم من ذلك، تتولد "قيم علائقية"، وهذا هو دور العملات المكملة تحديدًا: فهي تهدف إلى إعادة دمج الاقتصاد في المجتمع، واستعادة الجذور الأنثروبولوجية لعلاقة الدين والائتمان، التي تشكل الأساس لإمكانية الحياة المجتمعية. 

وقد وُلدت تجربة  Sardex.net في هذا السياق، من منطقة مجروحة شعرت بأنها متروكة من قبل المؤسسات، منطقة ذات روابط تاريخية وبيوجغرافية قوية لكنها كانت تتفكك تدريجيًا وتفقد الثقة. ومع ذلك، اختارت هذه المنطقة أن تراهن على قدرتها على الرد واستعادة معنى العمل، وإبراز مهارة ريادة الأعمال، والاعتماد على الإبداع الذي يولّد التفاعل الاجتماعي والعلاقات.

نشأ نظام Sardex.net من فكرة ثلاثة شباب ساردينيين، اجتمعوا بعد انتهاء الجامعة وقالوا: "نحن جميعًا في نفس القارب ونتجه نحو الهاوية، فلنبدأ بالتجديف معًا في الاتجاه المعاكس. أو على الأقل لنحاول."  وبهذه الروح بدأوا في طرح الأسئلة والتفكير في العلاقة بين الهوية والنقود، وبين الهوية والمجتمع.

بدلاً من الاستسلام ومغادرة سردينيا، كما فعل معظم أقرانهم، قرروا الدراسة والتشكيك في المسلّمات. لم يقتصروا على أنفسهم، بل جذبوا إخوتهم الأكبر سنًا الذين تأثروا بحماسهم الواقعي وشاركوا في تحويل فكرتهم إلى مشروع واقعي: نظام مالي تكميلي قادر على خلق التبادلات والعلاقات، وتعزيز المعرفة، وإحياء الرغبة في الاستثمار من جديد والإيمان بالمهارات المهنية الخاصة بهم.

لم تكن الأمثلة من جميع أنحاء العالم غائبة، فبنك Wir في بازل، الذي تأسس في ثلاثينيات القرن الماضي، ويضم الآن أكثر من 65,000 شركة متعاونة تتبادل السلع والخدمات باستخدام عملة wir، التي تعني "نحن" باللغة الألمانية. وكذلك اقتراح جون ماينارد كينز في مؤتمر بريتون وودز لعملة عالمية تُعرف باسم Bancor، وهي نوع من العملات العالمية التي لا تحل محل العملات الوطنية، بل تعمل كغرفة تسوية للفروقات والتقلبات النقدية.

في غضون سنوات قليلة، أصبح نظام Sardex.net التجاري أداة تجميع بين الشركات، حيث يعتمد بشكل أساسي على دور الوسطاء (البروكرز) الذين يُعتبرون وسطاء فعليين للعلاقات، فإلى جانب ربط العرض والطلب للسلع والخدمات بين الشركات المشاركة، يساهمون أيضًا في بناء الثقة، حيث يوفر الإنترنت بنية تحتية قادرة على إدارة الحسابات وجعل التدفقات شفافة، ولكن الأشخاص هم من يبنون التبادل والروابط الاجتماعية الناتجة عنه.

وبالتالي، يبدو نظام Sardex.net مثالًا مولدًا للابتكار الاجتماعي، حيث تصبح العلاقة الواقعية أداة للمعرفة والتضامن الاجتماعي، مما يعزز الروابط الاقتصادية والاجتماعية بشكل ملموس، تصبح معه ثيران هوميروس والبتكوين مجرد أدوات.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

بَادِئَ ذِي بَدْءٍ، لعله من الخطأ أن نصف المتعلمين بالمثقفين، ولو كانوا من "الانتلجنسيا"، حيث تمثل نخبة متعلمي المجتمع. فهناك فارق واضح بين المثقف، الذي يقرأ كثيرًا بحسن اختيار ودراية وتمعن، ثم يكتب لتوعية القراء بما قرأ وحلل واستنبط، وبين المتعلم الذي قد يفتقر إلى هذه السمات. إذ نجد أن أساس التقهقر الثقافي في المجتمع العربي عامة، والعراقي خاصة، يمكن أن يُعزى إلى "أمية المتعلمين". ونقصد بهؤلاء من حصلوا على تعليم عالٍ، وامتلكوا شهادات، ومن بينها شهادات "عليا"، بل وربما أصبحوا أكاديميين.

هنا، لا تعني الأمية عدم معرفة القراءة والكتابة بالمعنى التقليدي، بل تعني غياب الاستمرارية في قراءة الكتب والمجلات والصحف، وحضور الندوات والورش والحلقات النقاشية العلمية، ومن ثم التوجه إلى الكتابة لتنوير المجتمع وتثقيف أبنائه. فلا بد من تفكيك المفاهيم الخاطئة في مجتمعنا؛ فليس كل متعلم مثقفًا، ولكن كل مثقف متعلم.

نُسب إلى وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق "موشى ديّان" قوله: "إن العرب لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يستوعبون، وإذا استوعبوا لا يطبقون". وهنا، أرى أنه لا ضير في أن نستمع إلى عدونا لنفهم نظرته إلينا ونكتشف أخطاءنا، عسى أن نعالجها.

وفي السياق ذاته، ردد دافيد بن غوريون، أوّل رئيس وزراء لإسرائيل، بعد الانتقادات التي وُجهت إليه في أعقاب نشره أسرارًا عن حرب عام 1967: "دعونا نعمل ما نريد. حتى إذا نُشر في وسائل الإعلام عن مبتغانا، فإن العرب لا يقرأون ولا يهتمون بالعلم والثقافة، وإن قرأوا فهم جهلاء ولا يفقهون شيئًا". هكذا هي النظرة إلى أمة "اقرأ"، للأسف الشديد، على لسان أشد أعدائها.

ومن بين أهم مجالات القراءة المطلوبة، المجال التاريخي، حيث يتعين علينا الرجوع إلى عبره وعظاته ودروسه المستنبطة، لنأخذ منها إيجابياتنا ونتجنب سلبياتنا. ومع ذلك، يقول الفيلسوف الألماني فريدريش هيغل: "نتعلم من التاريخ أن أحدًا لا يتعلم من التاريخ".

في ختام هذه المقالة القصيرة، لا بد من توجيه رسالة إلى كل متعلم، مفادها: "عليك أن تقرأ وتكتب وتُفعل عقلك، لتُوصف بالمثقف، وليس بالمتعلم فحسب. فبذلك، تشارك في تنوير المجتمع وتوعيته. وهذا واجب عليك، وليس خيارًا تركن إليه إذا شئت وتهجره إذا أبيت".

***

د. وليد كاصد الزيدي

يعود أصل كلمة تابع بالإنكليزية Subaltern إلى القرن السادس عشر وتعني العريف في الجيش البريطاني وهي الرتبة الأقل مباشرة من رتبة الضابط، وهو من يتبع الأوامر وفق سلم التراتبية العسكرية.

"أنطونيو غرامشي" الفليسوف الإيطالي استخدم هذا المصطلح "التابع"، في كتاباته السياسية وذلك للإشارة إلى الفئات الأقل مكانة في المجتمع، غير القادرة على التعبير عن حاجاتها أو تطلعاتها أي الفئات المهمشة.

نشأت دراسات التابع في مطلع الثمانينات بفضل مجموعة من الباحثين الهنود سعوا إلى قراءة نقدية للتاريخ الهندي من خلال دراسة أوضاع المهمشين أو التابعين. هم يرون أن التاريخ في الهند كتب من منظار النخبة التي تخرجت من النظام التعليمي البريطاني.

وللتذكير احتلت بريطانيا الهند سنة 1758 ودام الاحتلال قرابة 200 عام حيث استقلت الهند سنة 1947 بعد سنوات من المقاومة اللاعنفية للحكم البريطاني، بقيادة "المهاتما غاندي و"جواهر لال نهرو".

المفكر الهندي "غوها" هو الأب المؤسس لدراسات التابع، حيث قام بوضع أسس هذا المجال.

في منتصف التسعينات بدأت دراسات التابع تستعمل في مختلف المجالات مما جعل منها مقاربة للتاريخ قائمة بحد ذاتها لا تقتصر على منطقة جغرافية أو مجال محدد.

انتقد باحثو دراسات التابع التحليل الماركسي للتاريخ الهندي الذي ركز على دور النخبة المثقفة في تطوير الوعي السياسي لدى الشعب في مواجهة الاستعمار البريطاني. في مقابل ذلك هم يركزون على دور الهامشيين في عملية التغيير السياسي والاجتماعي في الهند. فالتاريخ لا يمكن أن يكون وفق رواية واحدة موحدة بل هو عبارة عن مجموعة من الروايات التي تجتمع لتعطي صورة أشمل عن مجرياته. لقد قلبت دراسات التابع موازين القراءة التقليدية للتاريخ.

المفكرة الهندية الأمريكية «غياتري سبيفاك» قامت بتوظيف مقاربة التابع ضمن قضايا الجندر وتناولت بالبحث نمطًا مخصوصا من التبعية، ومن الوصاية على الذات والوعي والجسد كابدتها المرأة ولا تزال.

تحدثت "سبيفاك" عن طقس حرق النساء الأرامل لأتفسهن بعد موت أزواجهن، المعروف بـ"ساتي" في الهند.

 المرأة في هذا الطقس تبرز كإنسان مغيب الإرادة والوعي. فهي لا تملك من أمرها شيئًا.. هي مجرد تابع للرجل، لا تملك حق الاستفسار ولا الاعتراض، بل إنها مدفوعة، بثقل التقاليد وبسطوة النصوص الدينية وعنفها الرمزي وبطريقة غير واعية خاضعة للقولبة، إلى الوفاء لزوجها الميت بإضرام النار في جسدها.

فكيف يمكن استعادة وعي التابع؟

يثمن "ڨرامشي" دور المثقف ويرى أن الثقافة هي محرك الإنسان، وليس كما ذهب كارل ماركس، بأن الاقتصاد هو المحرك للإنسان في مسيرته الطويلة عبر التاريخ. فالثقافة تذكي روح الحرية، وتجعل الإنسان يفكر ويخرج عن الدوائر المغلقة.

إن المرأة التي وجدت في فكرة الحرق تعبيرا عن الوفاء، صوتها مخنوق، صامت، محكوم بقوة المتبوعين، بهيمنة الثقافة السائدة. وهذا ما يمنعها من أن تعي بذاتها.

إن هذا الصوت المكتوم يجب أن يجد من بين الطليعة المثقفة، ومن بين الطليعة النسوية المثقفة بالذات، من ينوب عنه ويتحدث بلسانه إلى حين استعادته لعافيته واستغنائه عن تمثيله.

صدق الشاعر اللبناني وديع سعادة عندما قال:

"لمسه العالم، ولم تخرج منه أيَّة قوَّة.

لم يكن هو السيّد.. كان المرتجفَ مثلهم في الريح.. وبالكاد خرج منه صوت...

الذي لم يكن سيّدا، وبلا اسم ولا صوت، كان يتحدَّث فقط في قلبه."

خلاص "التابع" لا يكون إلا حين يخرج عن صمته ويكف عن حديث نفسه إلى نفسه ويسلك طريق النضال من أجل الاعتراف به ككائن له إرادة وحضور فاعل.. هذا الطريق لا يمر إلا عبر معاضدة المثقفين العضويين المؤمنين بثقافة الانحياز إلى الطبقة التي ينتمي إليها كل في مجاله.. الاستاذ في القسم والعامل في المصنع والفلاح في الحقل والمحامي في المحكمة والطبيب في المستشفى.. كل من موقعه يسعى إلى خلق طرائق جديدة للتفكير ترتقي بالإنسان نحو ما هو أفضل وأكرم لإنسانيته.

***

درصاف بندحر - تونس

 

لغتنا العربية في عالم متغير

تحتل اللغة العربية مكانة بارزة في العالم اليوم، من الناحية الثقافية والسياسية، وكذلك في سياق الحوارات العالمية، كما تكمن أهميتها أيضاً، من خلال عدة نواحي، ففي المجال الثقافي؛ تعد الوعاء للثقافة العربية والاسلامية، وحاملة للتراث والحضارة، وتحمل إرثاً غنياً من الأدب والفنون والشعر والفلسفة، كما تضم نصوصاً أساسية وهو كتاب الله القرآن الكريم، الذي يعد مصدر إلهام لملايين البشر. فاللغة العربية جسراً للتواصل الثقافي، ووسيلة لفهم ثقافات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مما يعزز التفاهم الثقافي بين الشعوب، كما تعد مصدراً للإبداع في الأدب والشعر، فهي لغة إبداع أدبي، حيث تُعد من أكثر اللغات بلاغة، التي أثّرت في الأدب العالمي، لتمثل عنصراً وعاملاً رئيساً في بناء الهوية الوطنية والقومية لدى المتحدثين فيها.

أما من الناحية السياسية؛ فتعد اللغة العربية واحدة من اللغات الرسمية الست في الأمم المتحدة، مما يجعلها جزءاً أساسياً من الدبلوماسية العالمية، فالدول العربية تستخدمها كأداة للتأثير السياسي، وكوسيلة لإيصال رؤيتها ومواقفها في المنتديات الدولية، مما يزيد من قوتها الناعمة، فضلاً عن دورها في بناء التحالفات، فهية تعزز التفاهم بين الدول العربية وتدعم العمل المشترك في الجامعة العربية، كذلك المنظمات الدولية، منها الحكومية وغير الحكومية.

أما في الحوارات العالمية، فاللغة العربية تُسهم في تعزيز الحوار بين الحضارات المختلفة، خاصة بين العالم الإسلامي والغرب، فاللغة تعد وسيلة لنشر قيم التسامح وثقافة السلام واللاعنف، وذلك من خلال دورها في الأدب والفن والدين والإعلام والسياسة، كونها أداة أساسية للتواصل مع الملايين من الناطقين بها، مما يفتح أفقاً أوسع لفهم تطلعاتهم وقضاياهم، فضلاً عن التواصل مع الجاليات المتعددة في العالم.

إن تزايد الاهتمام العالمي بالشرق الأوسط، واكتساب الدول العربية أدواراً مؤثرة في الاقتصاد والسياسة الدولية، تزداد أهمية اللغة العربية كلغة للتواصل وفهم العالم العربي، وللحفاظ على اللغة العربية يتطلب الإجابة عن سؤالين مهمين؛ كيف، ولماذا نحافظ عليها؟ وللبحث عن الكيفية، فأن التريية والتعليم تأتي بمقدمتهما، حيث تعُدان الأساس للحفاظ على اللغة العربية، وذلك من خلال تدريسها بشكل جاد وإعطاءها الأهمية في المناهج الدراسية منذ الصغر، مع تشجيع وتعزيز الإستخدام اليومي في القراءة عليها؛ من خلال القصص والكتب الممتعة الخاصة للأطفال، وجعلها محببة اليهم من وقت مبكر. كما ينبغي إستخدام اللغة في الحياة اليومية، سواء في الحديث أو الكتابة أو الإعلام أوالحوارات الأخرى، كذلك تنمية الإحساس بالفخر بالهوية الثقافية من خلال تعزيز دور الأدب العربي والشعر والتراث الثقافي في المناهج وفي الحياة العامة. ومما لاشك فيه، فأن الإحتفاء باليوم العالمي للغة العربية، فرصة مناسبة وكبيرة في أستثمارها من خلال إقامة الأنشطة الثقافية، وتكريم مبدعيها والإحتفاء بهم، ودعم الكتابة الإبداعية والنشر في مجالات الأدب والصحافة والإذاعة والتلفزيون، وإنشاء محتوى إعلامي وبرامج ترفيهية تستهدف الأجيال الجديدة وما تواكب من تطورات حضارية، في التكنولوجيا والمحتوى الرقمي، حيث ينبغي تطوير أدوات تقنية لدعم اللغة العربية، مثل تطبيقات الترجمة العلمية، وكسب غير الناطقين بها، بتشجيعهم على تعلم لغة العرب وبيان دورها عبر العصور وما حملت من نتاج فكري وعلمي وأثّرت الحضارة الإنسانية. فضلاً عن تشجيع البحث العلمي فيها، وتقييم الباحثين الذين يقدمون نتاجاً يرتقي الى مرحلة العصر.

أما الاستفهام الثاني، لماذا نحافظ على اللغة العربية؟

فاللغة العربية تمثل الهوية الثقافية والدينية والتأريخية، وهي جزء لا يتجزأ من هوية الشعوب العربية والإسلامية، حتى غير المسلمين الذين يعيشون على أرض العرب منذ الأزل. كما أنها تعد لغة العرب، فهية تحمل تأريخاً غنياً وتراثاً أدبياً وفكرياً أغنى تراث الإنسانية، ووسيلة للتواصل بين سكان يمثلون أكثر من سدس شعوب العالم، لذا هي تعزز الوحدة الثقافية والاجتماعية والروابط التأريخية، وكما أشرنا الى إنها إحدى اللغات الرسمية في الأمم المتحدة، لما لها من دور عالمي، ففي مجالي الإبداع والتفكير، فأن اللغة العربية تتيح مرونة فريدة في التعبير والإبداع، مما يجعلها قادرة على مواكبة العصر، أي تعتبر من اللغات الحيّة والنابضة من بين أكثر اللغات بالعالم.

كما تلعب دوراً محورياً في الحفاظ على التراث الثقافي العربي والإسلامي عبر الأجيال، وذلك من خلال مجموعة من الجوانب المهمة؛  فهي الركيزة الأساسية لحفظ هوية الشعوب العربية الثقافية، والوسيلة التي من خلالها يتم توارث القيم والتقاليد والعادات بكل فروعها وأشكالها، ولها دوراً في توثيق الأحداث والمعارف الإنسانية، فمن خلالها يتم توثيق الآداب والفنون والعلوم والمخطوطات، التي تشهد بذلك كمرجع أساسي لفهم التراث الإنساني، أضافة الى دورها في نقل الدين الإسلامي، فكتاب الله القرآن الكريم، كُتب باللغة العربية، ولغة الحديث النبوي الشريف، مما يجعلها وسيلة لنقل التعاليم الدينية وحفظها.

فضلاً عن حفاظها على الأرث العربي، فالأدب العربي بما في ذلك الشعر الجاهلي والمعلقات والقصص والروايات والتراث الشعبي، ما هو إلا تعبير عن تجربة الإنسان العربي وثقافته عبر العصور. فاللغة كانت هي الأداة التي حملت هذه الأعمال وجعلتها خالدة، وعززت التواصل بين الأجيال، ومن خلالها تنتقل القصص الشعبية والأمثال والحكم والترابط الثقافي بين الأجيال، وساهمت في فهم مشترك للهوية الوطنية، فضلاً عن لعبها في إحياء الاحتفالات والمناسبات الدينية والثقافية خاصة في شهر رمضان، والعيدين الفطر والأضحى، حيث تعتمد هذه المناسابات بشكل كبير على النصوص العربية، وما يُكتب من سيّر وحكايات.

التحديات التي تواجه اللغة العربية

تعد العولمة من أهم التحديات التي تواجه لغتنا العربية، ففي خضم التطورات الإتصالية الرقمية، التي تقف على رأسها منصات التواصل الاجتماعي، أدى الى تراجع الكثير من الأجيال الحالية بعدم آستخدام العربية في الحياة اليومية؛ (عقدة الخواجة) والتحاور إما بالمفردات الانجليزية أو أو باللهجة الدارجة في الحوارات من خلال ما يعرف بمصطلح (الجات) التي غزت مواقع التواصل الاجتماعي بشكل غير طبيعي، مما قاد ذلك الى التهاون بالعربية، ناهيك عن ضعف الإهتام بالتعليم باللغة العربية في الكثير من دولنا العربية في بثها للبرامج الإذاعية والتلفزيونية، التي تخاطب فيها برامج الأطفال والشباب، فكل دولة تخاطب أجيالها بلهجتها العامية، وكان من المفترض على القائمين المسؤولين والعاملين في هذا المجال، التركيز على اللغة وأعطاءها أهميتها ودورها الواسع، بتشجيع جيل الشباب عليها، من خلال إقامة المهرجانات الشعرية أو الخطابية وبكل ما يتعلق بالعربية وآدابها، ومنحها أهمية تعلمها في المدارس، وتشجيع إنتاج محتوى إعلامي وثقافي جذاب بالعربية، فضلاً عن دعم المبادرات التي تروج لقراءة الأدب العربي وحفظ المخطوطات؛  لتظل اللغة العربية جسراً يعبّر من خلاله عن التراث نحو المستقبل.

كما ينبغي الأخذ بنظر الإعتبار، تأثير اللغات الاجنبية على اللغة العربية، الذي يعد جزءاً من التفاعل الثقافي واللغوي بين الشعوب، فهذا التأثير يمكن أن يكون إيجابياً أو سلبياً، إذ يعتمد على السياق وطريقة تعامل المجتمعات معه، فهنالك وجهان أو نوعان من التأثير، منها تأثيرات إيجابية أو سلبية، أما الإيجابية؛ التي تثري المفردات بكلمات أجنبية الى اللغة العربية؛ لتلبية الحاجة الى مفردات تعبّر عن مفاهيم جديدة أو تقنيات حديثة،  كذلك نتيجة لتطور المجالات العلمية والتقنية المعاصرة، من خلال إستخدام المصطلحات الأجنبية في الأبحاث العلمية والجامعات، حيث يساعد في تعلم اللغات الأجنبية ودخول مفرداتها على توسيع آفاق التواصل الثقافي والإنفتاح على العالم.

أما في الجانب السلبي، فيؤدي إستخدام كلمات أجنبية بدلاً من الكلمات العربية المتاحة، مما يقود الى إضعاف اللغة العربية وإهمال مفرداتها،  وما يعرف بالإقتراظ المفرط للمفردة الاجنبية، فالاستخدام العشوائي للكلمات الأجنبية يؤدي الى تشويه الهوية اللغوية، وطمس معالم الهوية الثقافية العربية، خاصة لدى الأجيال الشابة والمعاصرة، فضلاً عن التبعية اللغوية التي تأتي من الإعتماد المفرط على المصطلحات الأجنبية، مما يؤدي الى فقدان اللغة العربية هيبتها وقدرتها على التعبيرعن المفاهيم الحديثة، الذي يولّد الشعور بأحساسنا بالتبعية.

وبغية مواجهة التأثير السلبي، ينبغي تعريب المصطلحات من خلال آستخدام مفردات عربية مقابلة للكلمات الأجنبية، تعريباً لا حرفياً، وهنا يأتي دور وسعي جهود مجاميع اللغة العربية، مع منح التعليم باللغة العربية بتشجيع إستخدامها في كافة المراحل الدراسية والعلمية، ورفع قيمتها والوعي الثقافي فيها، بنشر أهميتها ودورها في الحفاظ على الهوية الثقافية، كما ينبغي تشجيع الإبداع اللغوي بدعم الأدباء والمبدعين لتعزيز استخدام اللغة العربية في جميع المجالات. إن تأثير اللغات الاجنبية على العربية يمكن أن يكون فرصة لتطوير اللغة لا العكس، إذا تم التعامل معها بشكل واعي وعلمي ومدروس، بدلاً من أن يكون تهديداً للهوية الثقافية أو الانتقاص من اللغة العربية الأم.

ويبقى الحفاظ على اللغة العربية، هو مسؤولية فردية وجماعية تقف ورائها مؤسسات رسمية وغير رسمية، تتطلب تظافر الجهود من الأفراد والمؤسسات؛ لتحقيق هذا الهدف النبيل، التي قد تتعرض لهجمات وتحديات واسعة ومختلفة في المستقبل.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

إذا كان بإمكانك تصورها، فيمكنك تحقيقها

يؤثر التحول التكنولوجي السريع على مستويات معيشة البشر؛ حيث تتغير الطريقة التي نعمل بها ونتفاعل ونعيش بها بشكل كبير. تم تقدير أن التكنولوجيا ستحقق الاستقلال التام بحلول عام 2050. إن التنبؤ بالثورة وكيف ستتحول أمر غير مؤكد، ولكن هناك شيء واحد مؤكد: سيكون عالمنا عالماً متعدد التخصصات سيتم تنسيقه من خلال إشراك جميع اللاعبين في النظام السياسي العالمي، من الحكومة والأعمال إلى الأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني. يكشف التحليل المقارن للثورة الصناعية عن صورة واضحة للتقدم التكنولوجي والعملي والنظامي. تعد أنظمة الواقع الافتراضي، والذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء (IoT) والأمن السيبراني من بين المجالات الناشئة المستخدمة لوصف الثورة الصناعية السادسة.

كانت الثورة الصناعية هي أهم تحول في مجموعة تجارب البشرية، حيث تؤثر على الروتين المنتظم للأفراد وتساعدهم على تسهيل عملهم. في القرن الثامن عشر، تم تقديم تعبير موجز لتصوير التحول الحديث في بريطانيا العظمى، حيث تسارعت وتيرة النمو. وقد أدت التطورات المتخصصة إلى زيادة السرعة من خلال إطلاق أجهزة وآلات جديدة. ووفقاً لهذه النتائج، فإن تكنولوجيا الروبوتات سيكون لها تأثير كبير على حياة البشر.

سوف يتم إجراء المزيد من الأبحاث حول دمج الروبوتات في العديد من جوانب حياة الإنسان. سيكون دمج الروبوتات في المنظمات محوراً مهماً للبحث التاريخي على المدى الطويل، حيث واجهنا سلسلة من التغييرات التنموية الصغيرة، والتي دفعت إلى الرقمنة الشاملة للاقتصاد والمجتمع. أحدثت الثورة الرقمية طفرة هائلة، إلا أن الحالة الفنية المبتكرة للنظرة العالمية التكنولوجية النقدية هي التي دفعت إلى تحسين أجهزة الحاسوب وأدوات التحكم المتقدمة والبرمجة واستخدام الدوائر المتكاملة في مجموعة واسعة من المنتجات والخدمات الإبداعية. ومع ذلك كانت الاضطرابات المتقدمة تتصاعد في ظل العصر الذهبي لصناعة السيارات والتصنيع على نطاق واسع. احترم الناس السيارة وجميع ميزات المشتري التي رافقتها خلال الستينيات.

علاوة على ذلك، عرفنا عن الصناعي الأمريكي "هنري فورد" Henry Ford معرض رائع يجسد الثورة الميكانيكية الرابعة ومختبر إديسون. كان الكشف عن الأنبوب المفرغ كمفتاح تشغيل وإيقاف في عام 1935 متوقعاً للاضطرابات الرقمية. في وقت لاحق، دفعت الاستكشافات التي أجراها عالم الرياضيات الإنجليزي "آلان تورينج"  Alan Turingوعالم الحاسوب الأمريكي "كلود شانون" Claude Shannon والفيزيائي الأمريكي "هوارد آيكين" Howard Aiken وعالم الرياضيات الأمريكي "جون فون نيومان" John von Neumann إلى إنشاء أشباه الموصلات في ديسمبر 1947، عندما كشف الباحثون عن معزز أشباه الموصلات الأساسي لنقطة الاتصال. وعلى مدار العشرين عاماً التالية، رعت مختبرات "بيل" Bell بعض الأنواع المختلفة من أشباه الموصلات، بما في ذلك أشباه الموصلات المصنوعة من السيليكون وأشباه الموصلات المصنوعة من مادة MOS.

أشارت مرحلة إنشاء منشأة بحثية شملت العديد من النماذج والتراخيص والتطبيقات المبكرة إلى بداية الاضطرابات الناشئة، والتي بدأت في مختبرات بيل ولكنها وجدت الآن داخل مجموعة أجهزة ديناميكية في وادي سانتا كلارا (السيليكون). أعلنت شركة "إنتل" Intelعن أول شريحة دقيقة عملية مالياً (4004) في نوفمبر 1971، وهو العام نفسه الذي قدمت فيه وزارة الدفاع الأمريكية أجهزة الحاسوب الرئيسية على شبكة "أربانت" ARPANET (التي تحولت لاحقاً إلى الإنترنت). جعلت هذه الشريحة الدقيقة من الممكن دمج جميع عناصر وحدة المعالجة المركزية (CPU) في دائرة مدمجة واحدة. كان حاسوب Apollo Guidance هو الحاسوب الرئيسي القائم على الدوائر المدمجة بالسيليكون. ثم في تلك المرحلة، طغت الأخبار حول مهمة الصاروخ الفضائي Apollo 11 تماماً على إعلان شركة Intel.

ما هي الثورة الصناعية الخامسة؟

بعد مرور حوالي عشر سنوات على المرحلة الصناعية الرابعة توقع الخبراء الكثير من الثورة الصناعية الخامسة. إذا كان الاضطراب الحالي يركز على تحويل المصانع إلى مكاتب مضيئة مدعومة بإنترنت الأشياء والتي تستخدم التسجيل المعرفي والربط من خلال موظفي السحابة، فإن الجيل الخامس مهيأ للتركيز على دمج الأيدي والعقول البشرية في الهيكل الميكانيكي. إن إنترنت الأشياء (IoT) هو عامل تمكين مهم وحاسم لتكنولوجيا الذكاء المحيط لأنه يوفر البنية الأساسية. وعلاوة على ذلك، يعمل نموذج الذكاء المحيط على تحسين وظائف أجهزة إنترنت الأشياء وقابليتها للاستخدام. ونتيجة لذلك، يتعين على الشركات التي ترغب في الاستفادة من هذا النموذج الجديد والتقنيات المرتبطة به أن تستثمر في البنية التحتية اللازمة لإنترنت الأشياء.

ستؤثر حسابات الحدود في سياق إدارة البيانات من إنترنت الأشياء على جميع الشركات تقريباً في الاقتصاد والقطاع العام. ستغطي مجموعة واسعة من المهام، من أتمتة التحكم في الإنتاجية واكتساب البيانات حول جودة المنتج إلى مراقبة حركة المركبات وأتمتة المصانع.

لقد أثارت الثورة الصناعية الرابعة الكثير من الاهتمام منذ ظهورها لأول مرة في عام 2011. وقد أنتجت مجموعة كبيرة من مشاريع البحث والمؤتمرات. وعلاوة على ذلك، بدأ بعض الأكاديميين والمستقبليين بالفعل في استكشاف المرحلة الصناعية الخامسة. وقد قدموا مجموعة متنوعة من وجهات النظر للجيل الخامس. ويعد التعاون بين الإنسان والروبوت قضية ناشئة للصناعة في الجيل الخامس.

المرحلة الصناعية الخامسة هي الاضطراب الذي يستوعب فيه الإنسان والآلة ويكتشفان طرقاً للتعاون للعمل على وسائل وكفاءة الإنتاج. ومن المضحك أن الاضطراب الخامس قد يكون جارياً بالفعل بين المنظمات التي تتبنى معايير الصناعية للجيل الرابع مؤخراً. على أي حال، عندما يبدأ المصنعون في استخدام التقنيات الحديثة، فإنهم لا ينهون على الفور مناطق هائلة من قوتهم العاملة ويصبحون آليين تماماً. يُظهر الفحص الدقيق لأنظمة إدارة الابتكار الحالية أن الصناعة يجب أن تكون جاهزة للمستقبل وتوفر بيئة مناسبة للشركة التي تدعمها ظاهرة إنترنت الأشياء والجيل الخامس (من عام 2000 حتى الآن، والتي تم تعريفه من خلال إنترنت الأشياء، والبيانات الضخمة، والسيارات الكهربائية، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والحوسبة السحابية، والذكاء الاصطناعي) هي نتيجة للنمو الهائل في مجال إنترنت الأشياء.

أهداف نموذج الجيل الخامس للصناعة

التعايش - الإنسان والآلة المبدعة المشتركة المرنة والمستدامة. أنظمة سيبرانية فيزيائية للتخصيص الشامل. أنظمة سيبرانية فيزيائية للتخصيص الشامل التي تتميز بالإبداع المشترك والمرونة والاستدامة (الجيل الرابع المرن إلى الجيل الخامس الرشيق). ينصب التركيز الرئيسي على الإنسان والاستدامة. التركيز الرئيسي على الاستدامة البيئية. التركيز على إعادة التصنيع واستخدام المنتج بعد انتهاء عمره الإنتاجي. الحد من النفايات والتحكم في الانبعاثات. الاقتصاد الدائري. السلع والخدمات الذكية التي تعتمد على البرمجيات. المنتجات التي تعتمد على الذكاء والتي تتضمن تطبيقات برمجية. منتجات وخدمات مبتكرة أو محسنة للعملاء. تجربة أفضل للمنتج والخدمة أدت إلى تحسين تجربة العملاء.

لقد اتخذ المثقفين خطوة متواضعة إلى الأمام، وأدركوا أنه مقارنة بالمخلوقات المحيطة بهم، فإن قوة الإنسان وسرعته كانتا صغيرتين. كان تدجين العديد من الأنواع التي يمكن أن تحسن القدرات البشرية أمراً حيوياً لبقائنا. تم استخدام الذئاب كرفاق للصيد وأنظمة إنذار مبكر لأن حواس الشم والسمع لديهم كانت متفوقة بكثير على حواسنا. كانت الماشية تستخدم لأغراض زراعية، في حين ساعدتنا الخيول في استيطان أراضٍ جديدة وحماية أنفسنا لمسافات طويلة لم نتمكن نحن البشر من عبورها. كانت قوتها وسرعتها ويقظتها من بين "الأدوات" الأولى التي ساعدت البشر على البقاء وتحقيق نتائج أكبر في العمل. ومن هناك، كان الأمر مجرد مسألة منطقية للاعتراف بأن الطاقة الطبيعية (الخطوة الأولى)، مثل الرياح والمياه، يمكن استخدامها لتعزيز إمكاناتنا لتطوير وتوفير السلع والخدمات لمجتمعاتنا.

الآن كل شيء هو التكنولوجيا التي تجعل ذلك يحدث. للبدء، يتم توفير رسم تخطيطي بسيط للجيل الرابع في حين أنه بداية ممتازة ويوفر أساساً قوياً لفهم عمليات التصنيع. إنه يفشل في تفسير الماضي، وهو ما لا يزال مطلوباً لتقدير عمليات التصنيع، ويفتقر إلى القدرة على الافتراس.

إن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات هي التي تحدد إلى أين ستذهب في المستقبل. ومن الأهمية بمكان أن نتذكر أن المراحل المختلفة للتصنيع لا تحدث كلها في وقت واحد، وأن الثقافات المختلفة تفسرها وتستخدمها بشكل مختلف في أوقات مختلفة، وغالباً بطرق غير متوقعة، تماماً مثل أي تقنية جديدة.

الجيل الخامس والسادس للصناعة

من الممكن استقراء أين سنكون في المستقبل بناءً على الاتجاهات الحالية. ففي العلاقات بين الإنسان والآلة، والذكاء الاصطناعي، وعلم الوراثة، هناك بالفعل أدلة على ما سيأتي. وينبغي أن نكون قادرين على تجميع المراحل التالية من التصنيع باستخدام المعلومات من هذه المصادر وغيرها. وأنا أتوقف عند المرحلة السادسة لأنني لا أعتقد أننا سنحتاج إلى التحرك إلى أبعد من ذلك بكثير حتى نخلق قدرات ومتطلبات جديدة كنوع لن نحتاج إليها. وسواء كانت الصناعة في الجيل الخامس تتعلق بالتعاون بين الإنسان والروبوت أم لا، فإنها ستظل تشكل تطوراً مهماً للشركات. في الواقع، فإن وجود الروبوتات في حياتنا سيمثل بالتأكيد تحولاً كبيراً للبشرية.

نتيجة لذلك، بعد أن نكسر شفرة الاتصال المباشر بالدماغ، ستظهر الثورة التالية. وسوف تتولى مهام مثل - إذا كان بإمكانك تصورها، فيمكنك تحقيقها. ستكون المرحلة التالية من الذكاء مدفوعة بالذكاء الاصطناعي والطباعة ثلاثية الأبعاد، مع الغرسات السيبرانية يمكن استخدام الواقع الافتراضي للمساعدة في واجهة الدماغ والآلة. من المؤكد تقريباً أن الغرسات السيبرانية ستتم زراعتها أو تعديلها وراثياً عند الولادة. في المراحل المبكرة من هذا العصر، يمكن أن تكون المعدات البسيطة، مثل Google Glass، حلاً للتطوير الإبداعي الذي يمكن تنفيذه تقنياً. في هذه المرحلة، أعتقد أن الابتكار والإبداع والبصيرة ستأخذ الأسبقية على الإجراء والتفكير الأكثر عقلانية. يجب أن يجعلك البحث في الأفكار التقنية "الجديدة" وغير المكتشفة أكثر إنتاجية على المدى الطويل.

ستتولى الروبوتات وأجهزة الحاسوب التفكير في هذا الأمر حيث يمكن تقليص التدخلات البشرية إلى روتين "من النقطة أ إلى النقطة ب". تتوفر الروبوتات لمجموعة متنوعة من الوظائف الآن في السوق بأسعار معقولة. لن يمر وقت طويل قبل أن تلعب الروبوتات دوراً متزايداً الأهمية في حياتنا اليومية وصناعاتنا. بالنسبة لتطبيقات الروبوتات أو الذكاء الاصطناعي، توفر العديد من الشركات سجلات الموظفين. ستتأثر العديد من التخصصات المهنية، ونحن لا نعتقد أن التقنيات العقلانية ستكون قادرة على التعويض. ومن الأمثلة الجيدة على هذا الاتجاه القادم اختبار السيارات ذاتية القيادة في حركة المرور. تم ملاحظة تأثيراً سلوكياً قوياً على إكمال المهمة بالإضافة إلى المقاييس الذاتية مثل مدى شعور المستجيبين بالراحة عند توجيه الروبوت لإنهاء المهمة.

نحن نحقق فيما إذا كان هناك رابط بين الوكالة الظاهرة للروبوت وحساسية الأفراد للصراع الروبوتي. كما نناقش العواقب الأخلاقية المحتملة لاستخدام العروض الروبوتية للتأثير على السلوك البشري. ومن المتوقع أن تحل مجموعات البرامج / الروبوتات محل خبراء الصحة والنقل والزراعة والتأمين والقانون والاقتصاد خلال السنوات السبعين القادمة.

الثورة الصناعية السادسة

سوف يبدأ رؤسائنا الرؤيويون والمتخصصون والباحثون الذين يحددون فترة الاضطرابات التجارية في الجيل السادس من عام 2050 حيث سيتم ربط البصيرة البشرية (HI) والمنطق من صنع الإنسان (الذكاء الاصطناعي) والطاقة السحابية التي لا تنضب وطباعة الطائرات بدون طيار ثلاثية الأبعاد بالعمل والتجميع والإجراء على معظم الكواكب (مثل القمر والشمس وما إلى ذلك) من خلال توحيد ربط السحابة بالبصيرة البشرية والوعي من صنع الإنسان وطباعة الطائرات بدون طيار ثلاثية الأبعاد باليد اليمنى للأقمار الصناعية والروبوت الصناعي. في هذه المفاجأة، سنكون قادرين على إدارة حركة الصناعة الميكانيكية الأوتوماتيكية (ARI) في السماء باستخدام التحكم بالرادار الكمومي، على غرار الطريقة التي تكتسب بها الطائرات الآن مزيجاً من مصادر الطاقة المستدامة مثل الطاقة الكمومية والطاقة الشمسية وطاقة السحابة والطاقة النووية الكوكبية وما إلى ذلك.

مع تحسن العلم والمعرفة البشرية (HI) والمنطق المحوسب (AI) ومصادر الطاقة السحابية التي لا تنضب وخطة الأقمار الصناعية والجودة وتوقع روبوتات خط الإنتاج أن تكون أكثر شبهاً بالإنسان، فإن التعاون بين الطاقة السحابية المستدامة والأقمار الصناعية وأجهزة الحاسوب والروبوتات والذكاء البشري سوف يتبين في النهاية أنه أكثر أهمية، فضلاً عن ذلك، فإنه سوف يعمل على بناء الكون القابل للإدارة. سوف نخفف من عبء الأصول على كوكب واحد فقط، وسوف نصبح قادرين على استخدام أصول الكوكب بأكمله، والتي وجدناها وذكاؤنا البشري (HI) باستمرار المزيد من الأصول الكوكبية للاستفادة من الأصول غير النشطة للكون من أجل حياة عظيمة للإنسان والطبيعة. ومع تزايد تكامل الروبوتات في المجتمع، سيكون من الأهمية بمكان

فهم كيفية تفاعل الناس مع الآلات التي تتخذ القرارات وتتصرف كسلطات، كما هو الحال في الجيش أو الحكومة أو السياقات الطبية. هناك قضية خطيرة يجب على مجتمع HRI مواجهتها، حيث توضح الأبحاث (مثل تجارب سجن ميلجرام وستانفورد) كيف قد يمتثل الأفراد العاديون لإجراء أنشطة تتعارض مع مبادئهم.

أهداف نموذج الصناعة الرائد للجيل السادس هي التصنيع المضاد للهشاشة الافتراضي الذي يقوده العميل. التصنيع الافتراضي والضعيف بناءً على احتياجات العميل. تتدفق البيانات عبر العديد من مجالات الإدارة في الصناعات شديدة الترابط سلاسل التوريد الصناعية متعددة الأوجه والمعقدة والديناميكية. إعادة التكوين والتكيف المستقل. تغير دور القوى العاملة في الإنتاج بشكل كبير. تعزز الحوسبة الكمومية فعالية وإنتاجية نماذج الذكاء الاصطناعي الحالية مع تمكين إنشاء نماذج جديدة تماماً. تتم مراقبة إنتاج المصنع وتخزينه في خادم سحابي يمكن بيعه مباشرة على أمازون. يمكن تحقيق الحد الأدنى لحجم الدفعة كحجم دفعة قابل للتطبيق اقتصادياً. يمكن تمديد التركيز على الاستدامة من حماية البيئة إلى التنمية المستدامة الكاملة. يمكن تحقيق الشفافية بنسبة مئة بالمائة على جميع مستويات الإنتاج.

يسعى روادنا الرؤيويون إلى نقل مركز الكواكب إلى الاستخدام القائم على التصويت في المرحلة الثانية من الثورة الصناعية السادسة. بدءًا من عام 2070 ستكون أبحاثنا واختراعاتنا قادرة على التحقق من وإدارة حركة الكواكب، وكذلك المحامل. ستكون هذه فترة مذهلة حيث يمكن للناس الوصول بفعالية إلى غالبية كواكب الكون. نحن ندرك أن هذه ستكون لحظة صعبة وتنافسية للمهندسين، وكذلك الباحثين، لكنها لن تكون مفاجئة لنا.

وفقاً للمسار التراجعي الذي يؤدي إليه، ستكون الروبوتات المتعايشة هي القاعدة الصناعية بحلول نهاية الثورة الصناعية القادمة. إن دور الإنتاج المتجانسة هي النتيجة الأكثر ترجيحاً للثورات السابقة التي تركز على الأتمتة التقنية والتصنيع المخصص، بمعنى أن الآلات متصلة بالعديد من خوارزميات الذكاء الاصطناعي الخاصة بالمهام والتي تعمل جنباً إلى جنب لإنتاج على أساس متطلبات المستهلك. ستستفيد الثورة السادسة من التقنيات التالية من أجل تحسين العديد من جوانب التصنيع وجودة الحياة بشكل عام: الروبوتات الطبية مع الطباعة متعددة الأبعاد. الروبوتات المساعدة للمنزل. البديل للطاقة التراكمية. الغوص العميق في تخطيط كهربية الدماغ.

ستجلب خبرة الطباعة ثلاثية الأبعاد المستقبلية لأنظمة الطباعة الخماسية الأبعاد الحالية درجات أكبر من الحرية، مما يمكن المستخدمين من الطباعة بمجموعة أوسع من المواد الكيميائية والمواد في التصنيع الإضافي، بالإضافة إلى مواد أخرى مثل الأدوية التي يتم التحكم فيها بدقة. الطب الدقيق الذي يذوب في مناطق مستهدفة محددة من الجهاز الهضمي. كما تدعم منطقة الروبوتات والروبوتات الميدانية علاج الطب العام باستخدام البيانات الإحصائية والذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي والأجهزة الميكاترونية للقضاء على اللمسة البشرية في سيناريو العيادات الخارجية.

يساعد هذا في تقليل صعوبة الإنسان ويقلل من خطر انتقال الجراثيم، إن لم يكن القضاء عليها تماماً. فكر في السيناريو الحالي لجائحة كوفيد-19. هذه جائحة ثنائية الطور، حيث يمكن لتطبيق الروبوتات وأجهزة الاستشعار في العلاج الطبي ضمان العلاجات غير التلامسية للمريض. كما يضمن إمكانية إجراء التلاعب التشريحي المهني من خلال القضاء على خطر انتقال الفيروس إلى الممارس.

منذ إنشاء شركة "واكامارو" Wakamaru التابعة لشركة "ميتسوبيشي" Mitsubishi في عام 2005، كانت صناعة الروبوتات تتخيل دمج الروبوتات في المنزل. مع تطور الروبوتات، تدعم هذه الصناعة كل مجال من مجالات الحياة البشرية. لقد بدأت تطبيقات أكثر تنوعاً خاصة باحتياجات البشرية؛ يمكنها دعم الطفل إلى الإنسان المسن في حياتهم اليومية. ومن المتوقع أن يكون نظام الروبوتات المساعد المنزلي جزءًا مهماً في الثورة السادسة. فكر في مجموعة أجهزة استشعار لاسلكية تم تطويرها مؤخراً مع نظام محرك جلب المقالات بمساعدة لوحة القيادة عبر الإنترنت. يمكن أيضاً استخدام أجهزة الاستشعار التي يتم ارتداؤها للتحكم في هذه الأنظمة عن طريق نقل المعلومات من الجهاز القابل للارتداء إلى المساعد المنزلي عبر نطاق معين.

مع وصول المركبات الكهربائية إلى السوق العالمية، والذي طال انتظاره، فإن الاتجاه الحالي نحو مركزية الطاقة سوف يتسارع بشكل كبير. وسوف يتم استبدال توليد الكهرباء التقليدي بمرافق الطاقة الشمسية. وهذا يؤدي إلى حل مستدام للطاقة وسوف يصبح أكثر تكاملاً في النهاية الخلفية. إن هذه المسؤولية عن تركيب الألواح والبطاريات في المنازل الفردية هي مسؤولية مشتركة.

إن تحسين الإنتاجية أمر ضروري للمنظمات التي تزود العملاء بالكهرباء. وفي القرن الحادي والعشرين، يمكن للصناعات تحسين الإنتاجية من خلال الجمع بين الاستراتيجيات المبتكرة. ويعد الغاز الطبيعي والكتلة الحيوية والنفايات والطاقة النووية وطاقة الرياح والطاقة الشمسية من بين مصادر الطاقة البديلة المستخدمة في الصناعة، بترتيب تنازلي للاستهلاك. ولا تسمح التكنولوجيا الحالية إلا بالتحكم المحدود في الأطراف الاصطناعية عند استخدام تخطيط كهربية الدماغ العميق. يمكن تضمين مستقبلات الألم الاصطناعية في تكنولوجيا الأطراف الاصطناعية التي يتم التحكم فيها بواسطة تخطيط كهربية الدماغ في المستقبل، مما يسمح بتطعيم الجلد بشكل واقعي باستخدام مواد اصطناعية.

الاستنتاج:

وفقاً للاتجاهات المستقبلية، سيكون التركيز الأساسي للثورة الصناعية السادسة على التكنولوجيا الطبية، مع الطب متعدد الأبعاد المطبوع والمتحكم فيه والتشخيصات الطبية الآلية بالكامل، مما يزيل أي عبء إضافي عن الممارسين ويسمح لهم بالتركيز على الحالات الحرجة. وهناك طريقة أخرى حاسمة لتوليد رأس المال الآلي من خلال التصنيع الآلي، والتي تم تصورها في الثورة الرابعة، ولكن لم يكن من الممكن تحقيقه على نطاق واسع بسبب استحالة الإنتاج الضخم. ومن المرجح أن تكون الروبوتات المخصصة للتنظيف وغيرها من المهام هي الخطوة التالية في الروبوتات المحلية. وستلعب مصادر الطاقة البديلة دوراً مهماً، حيث تحل في النهاية محل الوقود الأحفوري حتى يتم تشغيل جميع الموارد المستهلكة للوقت بواسطة مصادر الطاقة المتجددة.

إن المسرع الأساسي للنمو للشركات هو اندماج الأفكار، والذي سيعيد تعريف حدود السوق من خلال تحويل التركيز حول قيم الأعمال الرقمية من سلعة إلى أخرى. من ناحية أخرى، قد يكون التقارب محفوفاً بالمخاطر نظراً لأن الشركات الأخرى قد تتدخل في العمليات الأساسية من أجل تحقيق طموحات التقارب الخاصة بها.

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك

يعجب كل العجب كل متدبر لحال اغلب المسلمين اليوم، بالرغم من تكرارهم اليومي لاروع مدرسة روحية في تاريخ البشرية، مدرسة خاتم الانبياء الذي ارسل رحمة للعالمين لانه كان ولا يزال منذ آدم عليه السلام والى يوم القيامة مفتاحا للخير مغلاقا للشر، لانه كان ولا يزال مكتوبا على قوائم العرش لا اله الا الله محمد رسول الله، لمن فتحت بصيرته ليشهدها قلبيا بعد ان شهدها في بداية اسلامه لسانا.

آدم عليه السلام في الحديث ليس فردا واحدا وانما هو رمز لكل انسان اخطأ فهبط بانسانيته لدركات الفعال الغرائزية الممنوعة عن سماوات رقي جنات المعارف التي بقتطف ثمارها تأملا، كما قال ابن النحوي في قصيدة المنفرجة التي غناها المطرب المغربي الشهير عبد الهادي بلخياط عن فضل تأمل آيات الله في كتابيه المنظور والمسطور

و تأملها ومعانيها*** تأتي الفردوس وتبتهج

بمعنى ان من مفاتيح الغيب التي يهبها الله لمن يشاء من عباده فتعرج بهم من الزخارف الى جنات المعارف.

 مفتاح التفكر الذي فهمه الغرب فهما عميقا من تدبرهم الفلسفي للقرآن الكريم فتحدثوا عن مفاتيح النجاح les clés de réussite

ولم يذكروا ان الفكرة ممن ارسل تيسيرا للعالمين ورحمة لهم مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم. مفاتيح النجاح ألف فيها الغرب بعد ان عرفوا من فلسفة الاسلام ان هناك مفاتيح غيبت عنهم ينبغي اسكشافها واستمطارها من اكرم الكرماء الذي يكرم المسلم وغير المسلم المهم والاهم ان يتخذ الاسباب فألفوا في مفاتيح النجاح مثلا:

كتاب: فكر تصبح غنياً - نابليون هيل

أو كتاب: العادات السبع للناس الأكثر فعالية - ستيفن كوفي

أو حتى كتاب: قوة التفكير الإيجابي - نورمان فينسنت بيل

يمكن ان نذكر ايضا كتاب: أيقظ العملاق بداخلك - أنتوني روبنز واللائحة طويلة.

تحدثنا من خلال هاته الكتب عن مفتاح واحد يمكن ان يدخل في قوله تعالى: وعنده مفاتح الغيب لا يعملها الا هو، وهو مفتاح النجاح.

قد يحجب قليل الفهم عن البحث العميق في كنوز هاته الآية التي هي بئر عميق مليئ باللآلئ التي يعثر عليها كل متدبر بصدق، ذلك ان الذي لا يمكن أن يحيط به العبد هو جميع انواع المفاتيح باطلاقيتها التي يملكها الله عز وجل، اما من يتخذ الاسباب بالتوسل اليها  عن طريق آليتي التدبر والتفكر كمفتاحين للعثور على مفاتيح أخر غير مفاتيح النجاح يمكن ان نذكر مفاتح الابداع مثلا الفت فيها ايضا مجموعة من المؤلفات الرائدة ككتاب: سر الإبداع - ديفيد إدواردز

و كتاب: العقل الإبداعي - مايكل ميهالكو ثم كتاب:  الإبداع في العمل - تيريزا أمابيل

و لم لا ؟ نذكر ايضا كتاب الإبداع: تدفق وعلم الاكتشاف - ميهالي تشيكسنتميهالي، وكتاب الإبداع: علم العبقرية - دين كيث سيمونتون .

من مفاتيح الغيب التي لا يعلم اطلاقيتها الا الله لكنه سبحانه وتعالى تنعم على من تدبرها من عباده من فلسفة القرآن الكريم العميقة ولم ينسبها اليه وترك المسلمين يتوهمون انهم لا يمكن أن يعلموها وان كان الحق سبحانه يشير إلى أنه كريم كرما الاهيا لا تنفذ خزائنه وان تكرم على العبد بملايين المفاتيح، يمكن ان نذكر مفاتيح العلاقات الاجتماعية، نذكر من الكتب الهامة في هذا المضمار: لغات الحب الخمس - غاري تشابمان وكتاب كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس - ديل كارنيجي، وكتاب الحدود في العلاقات - هنري كلاود وجون تاونسند وكتاب التواصل في العلاقات- فيرجينيا ساتير ولم لا؟ كتاب العلاقات العاطفية الناجحة - هيلين فيشر

من مفاتيح الغيب التي انعم الله بها على عباده المتدبرين وان لم يكونوا يظهروا ايمانهم بتفوق القرآن الكريم في سبقه للانهائية مفاتح الغيب: مفاتيح الإستدامة البيئية ويقصدون بذلك تحقيق التوازن بين احتياجات البشر والحفاظ على الموارد الطبيعية للأجيال القادمة

صمت الربيع - راشيل كارسون وكتاب الاستدامة في المدن" - بيتر نيومان وتيموثي بيتلي وكتاب الاستدامة في الزراعة - جويل سالاتين

وختاما وللبرهنة على على أن مفاتح الغيب في اطلاقيتها لا يعملها الا الله الا انه يمتن ببعضها على كل متفكر متدبر مستخدما لعقله الذي به كرم الله الانسان فصار اسطرلاب الحق على الكرة الأرضية او الآلة الإنسانية المستكشفة يمكن ان نذكر على سبيل المثال لا الحصر بعضا من الحقول المعرفية: مفاتيح التميز الاكاديمي ، مفاتيح الصحة النفسية مفاتيح المعرا وعنج الروحي ، مفاتيح التميز الرياضي ، مفاتيح العمل الجماعي ، مفاتيح السلام الداخلي مفاتيح الاستواء الروحي مفاتيح الاعتدال في التصرفات واغلب كتب التصوف الاسلامي الراقي تتمحور حولها كاحياء علوم الدين للغزالي وقوت القلوب لابي طالب مكي وفيه ما فيه لفريد الدين العطار أو كتاب الطريق إلى الصحوة الروحية" - أندريان شاندرا "الاستواء الروحي" - جيمس ريدفيلد، والغريب أن الامام ينادي المسلمين عند كل صلاة استووا واعتدلوا فتراهم منهمكين في استواء صفوفهم الظاهرية في الصلاة ونسوا بواطنهم مختلفة فعجبا كل العجب.

***

د محمد غاني ـ المغرب

(الدعوة الى قراءة مغايرة للقران الكريم)

ان غايتي في هذا المقال هو التاكيد على شمولية القران الكريم، فهو جامع للمعرفة والعلوم والاسماء، والافكار، بدلالة القول الكريم (وعلم ادم الاسماء كلها)، و(ما فرطنا في الكتاب من شيء)، او بدلالة ما سيؤول له التقدم العلمي بعد زمن طويل، والذي سوف يلتقي مع اللغة العالية المقام في ابجديات القران الكريم، وهنا يصح القول،  هل يمكننا تصنيع التقارب بين القرآن الكريم والبرمجة في الحاسوب، فلعلنا نصل الى فهم اسرار المخرجات القرانية، وفق لغته العالية على افاهيم البشر، ولعل المقارنة بين البرمجة والاكواد والخوارزميات الحاسوبية وغيرها وبين القران الكريم وتنوعاته هنا تصح.

وعند الحديث عن أقسام لغات البرمجة يمكن الاشارة الى لغة برمجية عالية او اخرى منخفضة او الحديث عن البرمجة الوظيفية ومهمتها وصف طريقة الحل بدلا من كتابة الخطوات للحل، كما ان هناك لغة برمجة نصية تعتمد الاوامر مثل جافا سكريبت او لغة البرمجة المنطقية ويعتمدها اليوم الذكاء الاصطناعي مثل لغة داتالوك وبرولوك وايضا لغة البرمجة المرئية وهي لغات برمجة لا تعتمد على أسلوب كتابة البرمجيات بل تعتمد على الرسومات والصور مثل فيجوال بيسك.

اما مفهوم الخوارزمية فهي مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية والمتسلسلة اللازمة لحل مسألة ما. وسميت الخوارزمية بهذا الاسم نسبة إلى العالم أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي الذي ابتكرها في القرن التاسع الميلادي. والكلمة المنتشرة في اللغات العالمية اللاتينية والأوروبية، وفي الأصل كان معناها يقتصر على خوارزمية لتراكيب ثلاثة فقط وهي: التسلسل والاختيار والتكرار)

والحديث عن مفهوم البرمجة يشير الى انه وسيلة للتواصل بين البشر (المبرمج) والآلة (والتي تتمثل في أي جهاز قابل للبرمجة)، اذ يستخدم الانسان اللغات المختلفة مثل اللغة العربية أو الإنجليزية للتواصل فيما بينهم، وابتكرت اللغات الأخرى (لغات البرمجة) للتواصل بين البشر والآلة، وكما هو الحال بين البشر اللذين يتحدثون بلغات مختلفة حيث يتم إستخدام المترجم ليتمكن البشر من فهم اللغات المختلفة، يتم ذلك أيضا بين البشر والآلة حيث يتم ترجمة لغة البرمجة (التي يفهمها البشر) إلى لغة الآلة والتي تتمثل في الصفر والواحد أو كما تعرف بـ النظام الثنائي وهي اللغة التي تفهمها الآلة عن طريق إستخدام برامج مخصصة المترجم او المفسر. وهذه مجموعة من الاشارات التي يمكن تطويرها مستقبلا.واجزم ان عناية طلبة العلم ببرمجة افكار وتراكيب القران الكريم سيكون لها الشان المهم في المستقبل القريب.

١- ان روح هذا المقال يثبت ان هناك تقابلا بين البرمجة والقران، فالكود او الاكواد يقابلها الاية او الآيات، والكود البرمجي هو مجموعة من الأوامر والتعليمات المكتوبة بلغة معينة لتنفيذ مهمة معينة، ومخرجات هذه المهمة تتحول الى منظومة ومنهج مترابط يقود الى تشكيل عيني او مادي، مثال ذلك البرمجة التي يخطط لها لتصنيع وادارة منظومة الكهرباء، والتي تتحول الى منظم لواقع مادي يعمل على تشغيل المعامل والبيوت والمؤسات المختلفة، فالبرمجة والتي هي مجموعة رموز غير مادية قادت الى تشغيل الماديات واحياء المجتمع.

٢- يبرز في القران الآيات القرآنية والتي هي نصوص إلهية محكمة، مترابطة ودقيقة، تهدف إلى تحقيق غاية واضحة اساسها هداية الإنسان وتنظيم شؤونه الدينية والدنيوية.

٣- وعلى هذا فان المقاربة تشير الى أن الكود البرمجي يُبنى بمنطق مترابط ودقيق لتنفيذ مهمة محددة، وايضا فالآيات القرآنية كذلك مترابطة وتهدف الى تحقيق غايات محددة، او شاملة.وهنا يتحتم فهم لغة البرمجة المتداخلة للخروج بنتائج مبهرة.

خذ مثلا السنن القرانية التي توصف بالشرطية (لا يغير الله ما بقوم حتى…/ان تنصروا الله… /وهي عديدة ومتناثرة في برزخ القران، هذه الجمل المعرفية ترتبط وتبوب الحوادث، المختلفة بمستويات الفكرة ونتائجها المتصلة بسلوك الانسان من جهة، وعلاقته بالمجتمع من جهة اخرى، وايضا ترتبط بنظام هندسة الحروف الذي يعد النواة الاولى للفكر البرمجي للقران الكريم.

٤- من زاوية المخرجات، فان الاكواد الخاطئة في البرمجة تقود الى خطا، والعكس صحيح، ولكن التعثر والخطا في خطوات برمجة الحاسوب لا يقود الى بناء متوالي ومستمر يوصف بالصحة لان نتائجه لا تثمر، وهذا ينطبق تماما على كلمات القران التي تشير اولا الى ان أوامر القرآن عندما تطبق بدقة وبشكل منطقي، ستكون النتيجة سعادة دنيوية وأخروية. وثانيا الى ان قواعد الفكر والحكمة والدقة والعلم في القران، لا تسمح بايراد الاكواد الخاطئة، لانها سوف تقودنا الى نتائج خاطئة، وكذلك الخطأ في فهم أو تطبيق القرآن قد يؤدي إلى نتائج غير مرغوبة.

٥- ان من اهم امتيازات القران انه ينشر تنوعاته الفكرية او القواعد العلمية باماكن متفرقة، فقد تكمل سورة في اخر القران ما طرحته سورة في بدايته، وهذا هو سر الاكواد او الخوارزميات القرانية العظيمة.

٦- يبرز مفهوم الصياغة الدقيقة في البرمجة ويقابله الإعجاز اللفظي والدقة التشريعية

فالبرمجة لها لغتها وقواعدها الصارمة التي يجب الالتزام بها، وخلافها يقود الى خطأ في التنفيذ، اما في القرآن فيتميز بإعجاز لغوي وبلاغي وتشريعي دقيق، حيث لا توجد كلمة أو حرف في غير موضعه، وهنا تقول المقاربة،  اذا كان الخطأ في بناء الكود يُفسد البرنامج، فإن أي تحريف أو تغيير في القرآن يخلّ بالمعنى والغاية الخاصة بكلمات القران، وايضا مسالة اخرى تشير الى ان عدم معرفة البرمجة العالية المقام والدقيقة المعرفة سوف تقود الى جهل بابجدية القران البرمجية، فلا يمكن لنا الاستماع الى لغة المراهقة الفكرية القائلة بان هذا الكتاب، هو نسبي يمكن ثلم قدسيته.

٧- كما يبرز لنا الغاية او الهدف من كل من منهجية القران والبرمجة لان البرمجة تهدف بشكلها النهائي لحل مشكلة أو تسهيل مهمة، في المجتمع، وهذا ما يفعله القران بالتاكيد، والذي يهدف الى تذليل العقبات واسعاد الانسان، فمع اختلاف طبيعة الهدف فان الغاية واحدة.

٨- توجد نقطة مهمة تتعلق بالتاويل او التفسير الخاص باكواد القران، فاذا استخدمت البرمجة مفهوم المترجم أو المترجم البرمجي لتحويل الكود إلى لغة تفهمها الآلة، فان القران يحتاج إلى علماء متخصصين في علوم التفسير واللغة والفقه لفهم الرسائل العميقة والتطبيق الصحيح للأحكام، وتقول هذه المقاربة، كما أن المترجم البرمجي يحوّل الأوامر إلى لغة تفهمها الآلة، فإن المفسّر يساعد في توضيح معاني القرآن بلغة يفهمها الناس.

٩- اذا كانت البرامج تحتاج إلى تصحيح أخطاء، وتحديثات مستمرة لتواكب التطور.

فان القرآن لا يتغير، لكنه مرن ويتسع لاجتهادات العلماء لفهمه بما يناسب العصر دون الإخلال بالنصوص القطعية، فياتي الفهم والاجتهاد متناسبا باختلاف الزمان والمكان. مع بروز بعض الاكواد بكونها اعلى من سقف الزمن النسبي.

١٠- ومن المسائل المهمة نجد الوثائق المرجعية، والتي تقابل مفهوم السنة النبوية وكتب التفسير لان التوثيق الجيد) يشرح كيفية عمل الكود ويُسهل على الآخرين فهمه.

بينما تبرز هنا السنة النبوية وكتب التفسير وهي مراجع تساعد المسلمين على فهم النصوص القرآنية.

١١- من زاوية المنهجية نلاحظ ان القرآن يتميز بالمنهجية والترتيب. فهو يقدم تعليمات واضحة تنظم حياة الإنسان في مختلف المجالات (العبادات، المعاملات، الأخلاق).

فيما تعتمد البرمجة الدقة والترتيب المنطقي لتحقيق هدف معين فالكود المنظم والمرتب يسهل فهمه وتنفيذه دون أخطاء.

١٢- وحتى الأوامر والتعليمات في القرآن مثل “أقيموا الصلاة”، “ولا تقربوا الزنا”، “وأمر بالمعروف”.

فانه في البرمجة: يتبع المبرمج نفس المبدأ، حيث يكتب أوامر وتعليمات يفهمها الحاسوب مثل if-else, for, while.

١٣- وعند مناقشتنا المدخلات والمخرجات في القرآن سيتضح ان الأفعال والسلوكيات (المدخلات) تؤدي إلى نتائج (المخرجات). على سبيل المثال: “من عمل صالحًا فلنفسه”.

ويقابلها في البرمجة من ان البرنامج يعتمد على المدخلات للحصول على مخرجات. مثلًا، في برنامج آلة حاسبة، إذا أدخلت 2+2 (المدخلات)، ستكون النتيجة 4 (المخرجات).

١٤- لا يمكن اغفال مفهوم التكرار بكل من القران والبرمجة فيشمل التكرار في كلا المجالين فالتكرار في القرآن يكون في الآيات لتعزيز المعنى وتثبيته، مثل تكرار آية: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} في سورة الرحمن. فيما تنتقي البرمجة الحلقات التكرارية (مثل for وwhile) لتكرار أوامر معينة بهدف تحقيق نتيجة محددة.

١٥- وما يتعلق المتغيرات فان في القرآن مرونة في الأحكام تبعًا للحالات والظروف (مثل أحكام الصيام للمريض والمسافر)، يرافق ذلك في البرمجة حيث نجد استخدام المتغيرات لتخزين القيم التي قد تتغير أثناء تشغيل البرنامج وهذا يعني القدرة على التكيف مع الظروف المختلفة سواء في القرآن ام في البرمجة.

١٦- ان القران يستعرض الأخطاء الخاصة بالانسان والمجتمع والكائنات الاخرى مثل الشيطان ومن تبعه، واخطاء الامم والمجتمعات، وحتى امم الحيوانات ويقدم التصحيح الخاص بها، مركزا على تصحيح الأخطاء البشرية والتوبة والرجوع إلى الله.

وغاية هذا التصحيح هو تقويم السلوك الانساني، فالقرآن ليس مجرد برمجة عابرة بل هو وحي إلهي يشمل أبعادًا روحية وأخلاقية ومعرفية، بينما البرمجة هي أداة تقنية تُستخدم لتحقيق وظائف عملية. لكن كلاهما يتشاركان مبادئ مثل النظام، الأوامر الواضحة، المدخلات والمخرجات، تصحيح الأخطاء، والغاية النهائية.

وسوف يتبع هذا الموضوع مواضيع اخرى ان شاء الله لا تتعلق بالبرمجة العصبية او مشجرات القران بقدر تعلقها بفهم منظومة معلومات القران الكريم وكيف تتداخل وتنتج المختلف من العلوم والافكار.

***

ا. د. رحيم محمد الساعدي

أقدمت سلطات الأمر الواقع السلفية الجهادية في سوريا على اتخاذ قرارات، وقامت بممارسات عملية عديدة في سياق ترسيخ سلطتها وتوجهاتها السلفية المحافظة في مجالات عديدة منها التعليم. ولكنها استمرت بتوخي الحذر وتغليب الطابع العصري في ما يتعلق بهندام قادتها، والابتعاد عن الصورة النمطية للمقاتل السلفي الانتحاري وتفادي نشر الصور والفيديوات عن عمليات القمع والتصفيات الجسدية الثأرية ضد أعدائهم.

تَدْمر وزنوبيا من "داعش" إلى "تحرير الشام"

حرصت هذه الجماعات المسلحة التي يقودها الجولاني، الذي أصبح اسمه بعد دخوله دمشق "أحمد الشرع"، على مغادرة مربع الفظاظة الدموية الداعشية، والأخذ بالطرق والأساليب الإدارية. آخذةً العبرة من الماضي أحياناً، ومنصاعةً لتوجيهات الحليف التركي والممول القطري أحياناً أخرى، فلم تكرر محاولة داعش إلغاء الماضي الحضاري السوري والعراقي بالعنف من خلال تدمير آثار معابد وتماثيل وشواخص مدينتي الحضر قرب الموصل سنة 2015 وتدمر سنة 2018 حين أقدمت على ارتكاب جريمة ذبح أحد علماء الآثار السوريين ومدير آثار تدمر، الرجل المسن خالد الأسعد (82 عاما) في 18 آب 2015 وعلقت جثته على عمود كهربائي في مدينة تدمر الآثارية، بل أصدرت -السلطات الجديدة- قرارات فوقية تدخلت فيها بمواد المناهج التدريسية المقررة حذفاً وتعديلاً وإضافة.

وإذا كان بالإمكان تفهم قرار هذه السلطات في حذف ما يتعلق برموز وزعامات نظام الحكم السابق، وكتبه التعليمية الأيديولوجية ككتاب "التربية الوطنية"، رغم أن هذا ليس أمراً ملحاً واستثنائياً، ولا هو من صلاحياتها كسلطة أمر واقع، ولكن يبقى مستهجناً تدخلها في مادة التاريخ العام نفسها ومن قبل أشخاص لا علاقة لهم بهذا الميدان العلمي الحساس والدقيق قرروا بجرة قلم، وعلى طريقة خصومهم الأيديولوجيين الاستبداديين، حذف شخصيتي ملكة تدمر زنوبيا وخولة بنت الأزور من العهد الراشدي بحجة أنهما شخصيتان خياليتان وغير تأريخيتين/ الفقرة 19 من تعميم وزاري بهذا الخصوص.

استبدال العلمي بالأيديولوجي

سنتوقف في هذا النص عند شخصية الملكة زنوبيا لتفنيد هذه الحجة، بما يتوفر من أدلة، مسجلين أن البحث والنقاشات والسِّجلات في هذا الموضوع التأريخي البحت هو شأن علمي في الدرجة الأولى، ولا يمكن تسيسه وأدلجته.

إن القصد من هذه المادة هو التعريف بهذه الملكة وبما ورد حولها في المصادر الرومانية والإغريقية والعربية وليس الرد على السلفيين المتعصبين السائرين على خطى الدكتاتوريين العرب الذين حاول بعضهم أيضاً وبقوة القبعة الجنرالية كتابة التأريخ وفق مزاجه وهواه فاخترع شعوباً وقبائل وأسماء دول وشخصيات ونفى وجود أخرى من دون حجج علمية تخصصية أو منطق سليم!

إن نفي وجود شخصيات تأريخية دينية وغير دينية ليس جديداً في عالم البحث، وقد ألفت كتب كثيرة تشكك بوجود أنبياء التوراة لانعدام أي أثر مادي أركيولوجي في المحيط الذي عاشت ونشطت فيه يدل على وجودهم، أو بسبب وجود تضارب وتناقض بين الحيثيات التأريخية وزمان حدوثها، وأثارت تلك الكتب جدلا واسعا لم تنتهِ تداعياته حتى يوم الناس هذا. ولعل من أهم وأشهر تلك الكتب كتاب "التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقيها" للثنائي فنكلستاين وسيلبرمان.

 سأركز هنا على شخصية زنوبيا وهي من الشخصيات التي ثبت وجودها بالدليل الأركيولوجي "الآثاري" القاطع، أما خولة بنت الأزور فأمرها مختلف، ويمكن أخذ التشكيك في تأريخيتها وكونها شخصية خيالية على محمل الجد؛ إذ لا وجود لأي أثر أركيولوجي باسمها، ولم تُذكر إلا في كتاب واحد هو "فتوح الشام" المنسوب زورا للواقدي (ت 823) كما قال أحد الباحثين، وبعض الكتب المتأخرة التي أخذت عنه كأعلام الزركلي (ت 1976)، ومع ذلك لا يمكن التعامل مع هذا الأمر بخفة وطيش وينبغي ترك الحسم فيه للباحثين المتخصصين.

دينار زنوبيا وأدلة أخرى

من الأدلة الإركيولوجية القوية التي تؤكد الوجود التأريخي للملكة زنوبيا ما عُرف بين الآثاريين بدينار زنوبيا. وتعرفه موسوعة تاريخ العالم (World History Encyclopedia) وفي مادة كتبها (Joshua J. Mark) وترجمها إلى العربية سامي الأطرش بالقول:

دينار زنوبيا التدمرية: يسمى أحيانا (تترادراخما)، هي عملة نقدية تنسب إلى ملكة تدمر زنوبيا وتذكر اسمها وصفتها أوغستا (ومن معاني هذه الكلمة في اللاتينية صاحبة الجلالة ورفيعة الشأن ومهيبة). ويظهر لها تمثال نصفي على أحد وجهي الدينار. يحمل مَنْشَأَهُ وهو دار سك النقود الثامنة في أنطاكية - الإصدار الثاني، آذار مارس-أيار مايو 272 م. زنوبيا. والتمثال النصفي ملفوف على اليمين ومغطى بتاج على شكل هلال. وعلى الوجه الآخر للقطعة تظهر شخصية واقفة هي إيفنو ريجينا - ملكة الآلهة الإسطورية الموقرة حامية الإمبراطورات النساء تظهر على العُملات كنوع من التكريم- وهي تحمل باتيرا (طاسة القرابين) في يدها اليمنى، وصولجان في يدها اليسرى، وطاووس عند قدميها، ونجمة لامعة على اليمين. تاريخ العملة يعود إلى 271-272 م. وإلى جانب هذا الدينار سكَّت مملكة زنوبيا عملات أخرى ذهبية وفضية ونحاسية وبرونزية، حمل بعضها صورة ابنها وهب اللات (وهبلاتوس).

أعتقد أن هذا الدينار ومع هذه التفاصيل عليه يضع النقاط على الحروف ويؤكد بالدليل القاطع تأريخية وحقيقية هذه الشخصية المهمة وسيكون من قبيل الفضيحة العلمية تكرار هذه المزاعم المليشياوية والتشكيك بوجودها.

- كما ورد ذكر الملكة - الإمبراطورة زنوبيا (بالتدمرية: اسم زنوبيا مكتوب باللغة التدمرية وتُلفظ: بات زباي)، عُرفت باللاتينية باسم جوليا أوريليا زنوبيا (Julia Aurelia Zenobia) وباليونانية سبتيما زنوبيا، كما عرفها العرب باسم زينب. وتختلف المصادر التأريخية الأجنبية في تفاصيل سيرتها ومن ذلك:

- وورد ذكرها في كتاب العالم والخيمياوي الإغريقي زوسيموس والذي عاش في قرن زنوبيا نفسه، الثالث الميلادي، وحتى بدايات الرابع. وفي كتاب المؤرخ واللاهوتي البيزنطي زوناراس الذي عاش في القسطنطينية من القرن الثاني عشر الميلادي. وكلا الكتابين يوصف بالموثوقية.

- كما ورد ذكر زنوبيا في موسوعة (Historia Augusta) وتترجم أحيانا بـ (تأريخ الأباطرة) وهي مجموعة من السير الذاتية الرومانية المتأخرة، المكتوبة باللغة اللاتينية، للإمبراطور الروماني، وزملائه الصغار، والورثة المعينين والمغتصبين للتاج من عام 117 إلى 284. وهي تقدم نفسها كمجموعة من أعمال ستة مؤلفين مختلفين. ولا توصف هذه الموسوعة بالدقة ويشكك كثيرون في تفاصيلها.

خلافات في التفاصيل واتفاق على الوجود

- في المصادر العربية ورد ذكر زنوبيا في تاريخ الطبري (عاش 839-923 م). ومن المرجح أن الطبري اعتمد في قصته رواية عدي بن زيد (عاش في القرن 6 م). واللافت أن الطبري والمؤرخين العرب الآخرين لم يأتوا على ذكر صراع زنوبيا وتحديها لروما ومعركتها مع الإمبراطور أورليان، بل ركزوا في رواياتهم على علاقاتها وصراعاتها مع القبائل المجاورة لها، وعلى حيثيات شخصية ذات طابع نمطي من قبيل إنها كانت بارعة في ركوب الخيل ولها قدرة هائلة على التحمل فكانت تسير على قدميها مع قواتها لمسافاتٍ طويلة، وتصطاد لتتغذى كأي رجل، وتشرب خمرا أكثر من أي شخص. كما ذكروا أنها كانت عفيفة لا تجامع زوجها إلا لغرض الإنجاب. ويروي الطبري ومؤرخون عرب متأخرون أخذوا عنه أنها قتلت زعيما قبلياً يدعى جُذيمة في ليلة زفافهما، وسعى ابن أخيه إلى الانتقام فلاحقها إلى تدمر حيث هربت على جمل ثم عبرت الفرات نحو الشرق حتى تم القبض عليها وقتلها.

ومن المرجح أن هذه الحيثيات - الطبرية - التي تعتمد الرواية الشفهية كما وصلت إلى عصر الطبري أي بعد أكثر من ستة قرون على عهد زنوبيا هي التي استمد منها السلفيون المعاصرون حججهم حين قرروا نفي وجودها وشطبوا على كل ما ورد من أدلة تأريخية وآثارية "أركيولوجية" - لو كانوا يعلمون أصلا بوجودها - في المصادر الأجنبية المعاصرة لزنوبيا وفضلوا عليها الروايات الشفاهية الأساس والمضطربة المحتوى كرواية الطبري.

- يبقى الخلاف في التفاصيل في هذه المصادر القديمة كبير، ولكن أحدا من القدماء المعاصرين لزنوبيا لم يجرؤ على التشكيك بوجودها وكونها شخصية تأريخية وحقيقية. ولكن بعض تفاصيل حياتها مختلطة ومتعارضة وقد تمت أَسْطَرَةُ بعضها بمرور الأزمان فدخلت في مجال الأساطير ولكن كأحداث وصفات وكشخصية تأريخية أيضا. وبهذا فزنوبيا تشبه في هذا المآل ملك (أوروك) الرافداني جلجامش والذي أصبح بطلا لملحمة تحمل اسمه وشخصية أسطورية إلى جانب كونه ملكا حقيقيا عثر على أسمه ضمن ثَبْتِ وقوائم أسماء الملوك السومريين.  ومما اختلف فيه المؤرخون هو شكل علاقة زنوبيا بالحكم الروماني حيث يذهب جُلُّ المؤرخين الرومان والإغريق إلى أن زنوبيا لم تتمرد أو تثُر ضد روما وهيمنتها العالمية آنذاك بل تحدتها في عهد ضعفها وحاولت أن تقيم إمبراطورية شرقية آرامية مستقلة ونجحت إلى حد كبير، ولكن نجاحها شكل خطر على روما وعلى فارس أيضا بعد أن كان أذينة زوج زنوبيا قد هزم الفرس هزيمة قاسية وردعهم عن التقدم غربا قبل اغتياله.

ومع ذلك، تؤكد كل هذه المصادر أن الملكة زنوبيا ملكة تدمر تحدت سلطة روما، إلا أن أيّاً منها لا يصف أفعالها بأنها تمرد صريح أو ثورة ناجزة ضد الإمبراطورية الرومانية. وبطبيعة الحال، تعتمد هذه النظرة على التعريف المراد بـ "التمرد" و "الثورة" حسب موقع المؤرخ. وتقف وراء هذه الفكرة النافية لتمرد زنوبيا على روما قناعة استعلائية غربية ماتزال متفشية في الفكر الأورومركزي المعاصر ومفاده أنهم لا يريدون أن تصدق الناس أن هناك مَن تمرد وثار في أطراف العالم على طغيان روما الإمبراطورية القديمة ولكنه يمكن أن يكون قد تحداها ذات مرة فدفع ثمن تحديه!

ومع ذلك، يمكن أن نتساءل هنا؛ أليس صحيحاً اعتبار المعركة الأخيرة "معركة إيماي- إنطاكية" في عام 272 ميلادية، والتي هُزمت فيها زنوبيا أمام جيش الإمبراطور أورليان تأكيداً لهذا التمرد والثورة الطرفية على المركز الإمبراطوري الروماني؟

بل قد يكون من المغري أن نتمادى في التساؤل فنقول؛ ألم يشكل الاجتياح التحريري العربي الإسلامي وذروته في معركة اليرموك سنة (636م) والتي جاءت بعد بضعة قرون على تجربة زنوبيا الفاشلة في تحدي روما، ونجاح العرب المسلمين في عهد الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب في طرد الاحتلال الروماني البيزنطي وتحرير بلاد الشام ومصر من هيمنتها إلى الأبد، ألم يشكل هذا الاجتياح أضخم عملية استكمال وثأر جيوسياسي وحضاري في التأريخ القديم لمنطقتنا؟ ألا يَعْتَبِرُ رجال المليشيات السلفيين المعاصرين الذين ينسبون أنفسهم إلى السردية السلفية الإسلامية بمغزى هذه الحيثيات وعمقها الحضاري ليخففوا من غلوائهم وعماهم الحضاري ضد تراث الأمة القديم بحجة أنه وثني؟ ترى ألم يكن هذا التراث والأثار والأهرامات والتماثيل موجودة في عصر صدر الإسلام وامتدادا حتى عصرنا الحاضر بما في ذلك في قلب الجزيرة العربية والشام والعراق ومصر، فلماذا لم يقرر المسلمون آنذاك تحطيمها وإزالتها من الوجود؟

أدلة آثارية أخرى محتملة

إلى جانب الدليل الأركيولوجي الذي ذكرناه كدليل قاطع على تأريخيتها أي دينار زنوبيا، هناك بعض التماثيل المنسوبة لزنوبيا أو لزوجها أذينة (أوديناثوس) أو لابنها الوحيد وهب اللات (وهبلاتوس) ومرافقيهم ومجايليهم من دون أن تذكر أسماؤهم عليها ولكنها من الجغرافيا التأريخية التي وجدوا ونشطوا فيها، ومنها:

- تمثال قديم وينسب إلى زوج زنوبيا أُذينة "أوديناثوس" وهو محفوظ في متحف ني كارلسبرغ غليبتوتيك في الدنمارك.

- نقش بارز من معبد جاد في دورا أوروبوس قرب دير الزور يصور الإله "جاد" من دورا (الوسط)، والملك سلوقس الأول نيكاتور (يمين) وحيران بن ماليكو بن نصر، وهو قريب محتمل لأوديناثوس (يسار).

- قطعة فسيفسائية من الطين تحمل تصويرا محتملا لأُذينة وهو يرتدي تاجاً مدبباً خشناً، ملتحياً، وبتسريحة شعر على شكل كرة كبيرة على مؤخرة العنق ربما كان لأذينة.

- عُملة أنطاكية تعود إلى الإمبراطور غالينوس بن فاليريان حوالي عام 264-265، تصور الأسرى على أحد وجهيها. ربما تم سكها احتفالاً بانتصارات أذينة في بلاد فارس بعد انتصاره على الفرس الذين كانوا قبلها قد هَزموا وأسروا فاليريان ثم قتلوه.

-هناك تمثال رخامي شهير لزنوبيا وهو من الأعمال الفنية الحديثة ومن تصميم النحات هارييت هوزمر سنة 1859 ميلادي، وهو معروض الآن في مكتبة هنتنغتون، سان مارينو، كاليفورنيا. وهذا التمثال لا قيمة أركيولوجية أو تأريخية له فهو عمل فني حديث من القرن التاسع عشر.

***

بقلم: علاء اللامي - كاتب عراقي

 

مطالعة النظريات السياسية ليست هواية رائجة في العالم العربي، حتى بين نخبة البلد، فضلاً عن عامة القراء. لذا سأنتهز الفرصة السانحة للتشجيع على هذه الهواية النافعة. الفرصة التي أعنيها هي التحول الجاري في سوريا، حيث تتكشف المسافة بين النظرية وتطبيقاتها الممكنة، في مختلف جوانب الميدان السياسي: الدولة والسلطة السياسية، إلى سلوك الفاعلين السياسيين وموقف الجمهور، فضلاً عن العوامل المادية، لا سيما الاقتصادية والعسكرية، التي تسهم في صنع أو توجيه الحدث السياسي.

من ذلك مثلاً مفهوم «العدالة الاجتماعية» الذي أجده غائباً عن النقاشات العامة بين العرب. هذا الادعاء ليس كلاماً يُلقى على عواهنه، ولا هو جلد للذات. وإن أردت التحقق من صحته، فابحث عن تلك العبارة في الصحف الصادرة اليوم، أو يوم أمس، وسترى بنفسك حجم الحضور اليومي لهذا المبدأ الذي نحتاج إليه جميعاً، الآن وغداً وفي كل وقت.

اهتمامي بالعدالة الاجتماعية خصوصاً نابع من كونها جوهر عمل الدولة، إضافة إلى أن غيابها هو أبرز أسباب انهيار الحكم السوري السابق. أستذكر في هذه اللحظة رؤية المفكر المعاصر ديفيد ميلر، الذي رأى أن إدراك حقيقة «العدالة الاجتماعية» مهمة بسيطة لمن أراد التأمل في معناها. يقول في هذا الصدد: «افترض أنك مكلف بوضع قانون للبلد، وأمامك سؤال يتعلق بحقوق الشرائح الضعيفة (الأقليات في المعنى السياسي)، وبعض هؤلاء يخالفونك في الدين أو الثقافة أو الجنس أو العرق أو العقيدة السياسية... إلخ، فكيف ستعاملهم؟ هل ستعطيهم حقوقاً تساوي ما أخذته لنفسك أم تقرر أن الأكثرية تأخذ الأكثر والأقلية تأخذ الأقل؟

الواقع أن هذه فكرة شائعة بين جمهور الناس، لا سيما الذين يمسكون بمصادر القوة، أو ينتمون إلى الجهة الأقوى (الأكثرية في المعنى السياسي)، فهؤلاء جميعاً يرون أن للأكثرية حق الانفراد بالقرار، وعلى الأقلية أن تسمع وتطيع. يقول ديفيد ميلر إن هذا خداع للذات، وإن علاجه بسيط: «تخيل أن ظروفك انقلبت، فأمسيت في مكان الأقلية، في بلدك أو في بلد غريب، فهل سترضى بالمعاملة التي كنت تميل إليها سابقاً أم ستراها غير عادلة؟ أظن أن كثيراً من أنصار الحكم السابق في سوريا سيكتشفون اليوم هذه النقطة بالذات. ترى ألم يكن الأفضل لهم أن يقيموا سياسات البلد على أصل المساواة والعدالة؛ أي مساواة الشرائح الضعيفة بنظيرتها القوية، كي يكونوا في الجانب الآمن هذا اليوم؟

هذا السؤال بذاته يوجه لمن يملكون اليوم مقاليد السلطة ومصادر القوة، في سوريا والسودان وليبيا واليمن والصومال، وغيرها من الدول التي انهارت حكوماتها: أيهما خير لهم... أن يقيموا سياسات البلد على قاعدة المساواة والعدالة وعدم إقصاء أي شريك وطني، مهما خالفهم سياسياً أو آيديولوجياً أو عرقياً أو غيره، أو أن يواصلوا سياسات من كان قبلهم ممن استأثر بمصادر القوة واعتبر الدولة غنيمة له ولأهل عصبيته؟

أما النقطة الثانية التي تثير اهتمامي في المشهد السوري فهي الحاجة إلى ترتيب أولويات العمل السياسي. ثمة من ينادي اليوم بتطبيق الشريعة الإسلامية، وفهمه للشريعة لا يتجاوز الجوانب المظهرية والشعائرية. وثمة من يطالب بإقرار فوري للحكم اللامركزي، وذهب أحدهم إلى إنكار سيادة لبنان، واعتبر أن ضمه إلى سوريا واجب وطني. فهذه الدعوات وأمثالها تنم عن حالة انفعالية، ينبغي للفاعلين السياسيين وأصحاب القرار أن يتجنبوا الانسياق إليها. إن أهم أولويات النظام السوري الجديد - في رأيي - هي ضمان الأمن للجميع، حتى المجرمين والسفلة، فضلاً عن عامة الناس. هذا سيجعل الدولة الواحدة مرجعاً للجميع وملجأ للجميع، ويقي البلد من دعوات الفتنة والتفكيك والتسلط، ويقطع الطريق على الانتهازيين والشعبويين الذين يصطادون في مياه الفتنة.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

بين النَّثر الأدبيِّ في صَدْر الإسلام والشَّريف الرَّضِي (4)

لئن كان (الشَّريف الرَّضِي، -406هـ= 1015م)- أو أخوه (الشَّريف المرتضَى، -436هـ= 1044م)- قد نَسبَ «نَهْج البلاغة» إلى (عَليِّ بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه)- على ما لا يخلو «النَّهْج» منه من مباينةٍ أسلوبيَّةٍ ظاهرةٍ لما كان عليه عليٌّ، وكانت عليه أساليب عصره، وكانت عليه طبائع جيله- فإنَّ تفسير هذه المفارقة لا يخلو من أحد احتمالين، أو من كليهما:

1- أنَّ ذلك الكلام المنسوب إلى (عَليٍّ) كان تراثًا شَعبيًّا عَلَويًّا، صقلتْه العقود والقرون، بوصفه أدبًا ملحميًّا شَعبيًّا، صيغ في ثنايا القصص، على نَهْج القُصَّاص، الذين ازدهر سوقهم منذ العصر الأُموي. وكان أولئك القُصَّاص ينسبون إلى أبطال قصصهم من الخُطب والشِّعر ما تحلو به مجالس القصص، منذ حكاية (الزير سالم) إلى (عنترة) إلى سِواهم من الأبطال التاريخيِّين. وبنحوٍ من هذا تطوَّر النصُّ عبر السنين في عملٍ جماعيٍّ، يُضاف إليه، ويُنقَص منه، ويُنقَّح فيه، على طريقة الراوي الشَّعبيِّ في ما يصنع بكلام الأعلام، بل بشخصيَّاتهم وسِيَرهم. واستمرَّ هذا حتى صِيغ «نَهْج البلاغة» صياغته الختاميَّة في القرن الرابع الهجري. فهو، إذن، نتاجٌ جماعيٌّ، لا يَبعد أن سَلَفَتْ لبعضه أصولٌ ما، بَيْدَ أنَّ بناءه الكُلِّي إنَّما عَمِلتْ فيه التداوليَّة ما عَمِلتْ، حتى استقام على سُوقه بقلم الأخوَين الشَّريفَين، الرَّضِي والمرتضَى. ومن شواهد ذلك، مثلًا، ما رُوِي في «النَّهْج» من حكاية «موعظة همَّام»(1) التي قَتَلَتْه! إنَّها القَصص وما تقتضيه فيها المبالغاتُ والتجاوزاتُ الخياليَّة. ومن اللَّافت كذلك في «النَّهْج» ما نُسِب إلى (عليٍّ) من القول إنَّ الرسول مات على صدره هو، وكأنَّ ذلك في ردٍّ على الرواية السُّنِّيَّة التي تذكر أن الرسول مات على صدر (عائشة، رضي الله عنها)؛ وبلفظها: «بين نَحْري وسَحْري»(2). إنَّها المنافسات المذهبيَّة بين طرفَين، وكلٌّ يجذب الرسول إلى صدره!

2- بما أنَّنا لا نعلم روايةً أخرى لكثيرٍ من تلك المجموعة التي ضمَّها (الشَّريف) تحت عنوان «نَهْج البلاغة»، جاءتنا بأسانيد صحيحة أو غير صحيحة، على منهاج تصحيح الحديث النبوي، وبما أنَّه لا يُتصوَّر أنَّ الشَّريف قد تفرَّد بما لم يُحِط به غيره من المسلمين خُبْرًا- على الرغم ممَّا كان لمثل ذلك التراث من قيمةٍ حِزبيَّةٍ، ومكانةٍ رمزيَّةٍ، وقاعديَّةٍ أيديولوجيَّة، وما يعنيه بالجُملة من عِلْقٍ ثمينٍ لدَى القوم، وهو ما يُفترَض إتيانه من طُرقٍ متعدِّدة- فإنَّ أرجح احتمال هو أنَّ الشَّريف إنَّما عمَدَ في تأليف «النَّهْج» إلى ضربٍ من الأدب، مسوَّغٍ فنِّـيًّا، وهو أن يضع من النصوص ما ينسبه إلى بطلٍ ملحمي، على سبيل القِناع الفنِّي، لا على سبيل الرواية التاريخيَّة، متوخِّيًا بذلك الإبداع الأدبيَّ من جهة، ومن جهةٍ أخرى الوعظ والتوجيه والإفضاء بمضامين سياسيَّة أو اجتماعيَّة أو مذهبيَّة، يودُّ الإفضاء بها على لسان عَلَمٍ ذي مصداقيَّة جماهيريَّة. وما على الأديب من بأسٍ في ذلك، لولا الزعم أنَّه ينقل وثيقةً أدبيَّةً تاريخيَّةً على وجه التوثيق. وقد أورد الشَّريفُ قِصَّة تأليف «النَّهْج» بما يشي بأنه خليطٌ من أصولٍ مرويَّةٍ وغير مرويَّة، وُظِّفت لهدفٍ بلاغيٍّ تربويٍّ تعليميٍّ مرسوم، وهو أن يفتح الكتاب للناظر في البلاغة أبوابها، «ويقرِّب عليه طِلابها، وفيه حاجة العالِـم والمتعلِّم، وبغية البليغ والزاهد.» وتأمَّل قوله، لتستشفَّ منه نحوًا ممَّا قلناه:

«فإنِّي كنتُ في عنفوان السِّن، وغضاضة الغُصن، ابتدأتُ بتأليف كتابٍ في خصائص الأئمة، عليهم السلام: يشتمل على محاسن أخبارهم، وجواهر كلامهم، حداني عليه غَرَضٌ ذكرتُه في صدر الكتاب، وجعلته أمام الكلام. وفرغتُ من الخصائص التي تخصُّ أمير المؤمنين عليًّا، عليه السلام، وعاقت عن إتمام بقيَّة الكتاب محاجزات الأيام، ومماطلات الزمان. وكنتُ قد بوَّبتُ ما خرج من ذلك أبوابًا، وفصَّلته فصولًا، فجاء في آخرها فصلٌ يتضمَّن محاسن ما نُقل عنه، عليه السلام، من الكلام القصير في المواعظ والحِكَم والأمثال والآداب، دون الخُطب الطويلة، والكتب المبسوطة. فاستحسن جماعةٌ من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدَّم ذِكره، معجَبين ببدائعه، ومتعجِّبين من نواصعه، وسألوني عند ذلك أن أبتدئ بتأليف كتابٍ يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين، عليه السلام، في جميع فنونه، ومتشعِّبات غصونه: من خُطب، وكُتب، ومواعظ وأدب.»(3)

ـ قلت: يا (ذا القُروح)، قرَّح الله عدوَّك! هنا نسأل: إذا كانت الخُطب العَلَويَّة بين يدَي هذا الشَّريف أو ذاك ابتداءً، فلِمَ قدَّم عليها «الكلام القصير في المواعظ والحِكَم والأمثال والآداب»؟!

ـ ألا يدلُّ كلامه على أنه: لمَّا رأى شغف الناس بتلك النُّتَف، أحبَّ التوسُّع؟

ـ إذا كانت الخُطب المطوَّلة لديه، فلِمَ لَم يهتمَّ بها حتى دُفِع إلى ذلك دفعًا؟

ـ ربما لأنها غير محقَّقة النِّسبة إلى (عَليٍّ)، لكنَّه لما رأى التشجيع على ضمِّها، تحمَّس لذلك، ففعل بعد أن صاغها بلسان عصره وبيانه.

ـ ثُمَّ إذا كان هذا تُراثًا متداولًا معروفًا، فكيف انتظر الناسُ (الشَّريف الرَّضِي)، أو أخاه، حتى يتفضَّل عليهم بجمعه وإخراجه ذلك المُخرَج الفريد؟!

ـ بل قل: في ذلك الزمن المتأخِّر جِدًّا، بعد زهاء 300 سنة؟! ثمَّ اقرأ ماذا قال (الشَّريف):

«عِلمًا أنَّ ذلك يتضمَّن من عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة، وجواهر العَرَبيَّة، وثواقب الكَلِم الدِّينيَّة والدُّنيويَّة، ما لا يوجد مجتمِعًا في كلام، ولا مجموعَ الأطراف في كتاب؛ إذ كان أمير المؤمنين، عليه السلام، مَشْرَعَ الفصاحة ومَوردها، ومَنشأ البلاغة ومَولدها، ومنه، عليه السلام، ظهر مكنونها، وعنه أُخِذت قوانينُها، وعلى أمثلته حذا كلُّ قائلٍ خطيب، وبكلامه استعان كلُّ واعظٍ بليغ. ومع ذلك فقد سبقَ وقصَّروا، وتقدَّم وتأخَّروا، لأنَّ كلامه، عليه السلام، الكلامُ الذي عليه مسحَة من العِلم الإلاهي، وفيه عَبْقَة من الكلام النَّبوي. فأجبتُهم إلى الابتداء بذلك، عالمًا بما فيه من عظيم النفع، ومنشور الذِّكر، ومذخور الأجر. واعتمدتُ به أن أُبين عن عظيم قَدر أمير المؤمنين، عليه السلام، في هذه الفضيلة، مضافة إلى المحاسن الدَّثِرَة، والفضائل الجمَّة. وأنه، عليه السلام، انفردَ ببلوغ غايتها عن جميع السَّلَف الأوَّلين، الذين إنَّما يُؤْثَر عنهم منها القليلُ النادر، والشاذُّ الشارد. فأمَّا كلامه، عليه السلام، فهو البحر الذي لا يُساجَل، والجمُّ الذي لا يحافَل.»(4)

ـ واضحٌ من هذا أنَّ الرجل لم يَعْمَد في تأليف «النَّهْج» إلى قِناعٍ فنِّي، كما رجَّحتَ أنت، بل هو مؤمنٌ بأنَّ ما يورده وثيقةٌ تاريخيَّةٌ عن (ابن أبي طالب). لكن لماذا انفرد عليٌّ «عن جميع السَّلَف الأوَّلين، الذين إنَّما يُؤْثَر عنهم القليلُ النادر، والشاذُّ الشارد»؟

ـ ليس إلَّا لسببَين:

1- أنَّ كلام العَرَب كان يميل إلى الإيجاز؛ فالإيجاز هو البلاغة، لا الخُطب المطوَّلة.

2- لأنَّ حِفظ النثر لا يتأتَّى بغير الكتابة، مهما بلغتْ قيمته، باستثناء الأمثال، لسيرورتها على ألسنة الناس جميعًا، وسهولة حِفظها، وارتباطها بمواقف الحياة اليوميَّة.

ـ إذن، لم يكن (عَليٌّ) ليمتاز على السَّلَف الأوَّلين، لولا شيعته الذين حفظوا مآثره، ثمَّ أضافوا إليها، كما أضافوا إلى شخص عَليٍّ نفسه، من ألوان الغُلُوِّ التي لا تخفَى.

ـ وأضفْ إلى هذا، أنهم إذا كانوا قد أضافوا إليه من الأخبار، وأضافوا إليه من المواقف، وأضافوا إليه من الصفات، وأضافوا إليه من الحيثيَّات والمقامات، ما بلغَ به لدَى غُلاتهم ما لم يبلغه بَشَر، فكيف يتورَّعون عن أن ينحلوه من الأقوال ما يتناسب مع ما نحلوه من الأفعال، ومن الخُطب ما يضاهي بعض ما نعتوه به من الصفات، أو رفعوه إليه من المراتب؟! هذا أيسر من ذاك، وأقرب منه مأتًى، وأشيع منه لدَى جميع الأحزاب والشِّيَع، وإنْ تواضَع شأنها وشأن من شايعتْ، فكيف وشأنها عظيم، وشأن من شايعتْ أعظم؟!

ـ غير أنَّ هذه ليست بالحالة الفريدة. فصَوْغ الخُطب بصِيَغ مختلفة عن الأصل أمرٌ مألوفٌ في التُّراث.

ـ أجل. فأنت واجد، مثلًا، للخُطَب المتبادلة بين المهاجرين والأنصار في (سقيفة بني ساعدة)، وفي طليعتها خُطبة (أبي بكر الصدِّيق)، روايات متباينة كثيرًا.(5) كيف لا، وقد كان النظر في ذلك إلى المعنى العام، لا إلى الألفاظ التي تَلفَّظ بها الخطيب أو الصِّيَغ التي استعملها، والتي يتصرَّف فيها الراوي، ويفتنُّ فيها ما شاء له الافتنان، ما دام في حدود المعنى والسياق. وهذا ما يظهر أن (الشَّريف) قد نَهَجَه. ولقد حدثَ ذلك حتى في بعض الحديث النبوي، الذي كان يُروى بالمعنى. وإذا كان التغيير يقع في الشِّعر- مع أن الأوزان والقوافي تحكم بناءه، وتيسِّر استظهاره وتداوله، وتحميه عبر توارثه في الثقافات الشفاهيَّة من التغيير- فكيف بالخُطَب؟!

[للحديث بقايا].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.......................

(1) يُنظَر: (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)، 472- 476.

(2) يُنظَر: البُخاري، (1981)، صحيح البُخاري، ضبط وتعليق: مصطفى ديب البُغا، (دمشق، بيروت: دار القلم)، (الحديث 1323، 2933)، 1: 468، 2: 1129.

(3) النَّهْج، 77- 78.

(4) م.ن، 78- 79.

(5) وقد أورد (صفوت، أحمد زكي، (1933)، جمهرة خُطب العَرَب في عصور العَرَبيَّة الزاهرة، (مِصْر: مصطفى البابي الحلبي وأولاده)، 1: 62- 63) خطبة (أبي بكر) برواية (الطَّبَري) ثمَّ برواية «العقد الفريد» و«عيون الأخبار» و«البيان والتبيين»، وبين الروايتين اختلافٌ كبير. بل تبدوان روايتَين لخُطبتَين، لا لخُطبةٍ واحدة.

في الترقيات العلمية في الجامعات العراقية

يستخدم مؤشر اتش (H-index) على نطاق واسع كأحد المقاييس لتقييم اداء الباحثين وانتاجيتهم وتاثيرهم في مجالهم، ويعتبر مؤشرا سهلا ومباشرا نسبيا. فهو يعكس العلاقة بين عدد الابحاث المنشورة وعدد الاقتباسات التي حصلت عليها. ومع ذلك، فان الاعتماد المطلق عليه كمعيار اساسي للترقيات العلمية في الجامعات العراقية، في ظل الظروف الحالية، يعتبر خطا منهجيا وله اثار سلبية عديدة. ومن هذه الآثار السلبية أنه لا يجوز مقارنة باحثين في مجالات بحثية مختلفة اعتمادا على مؤشر اتش وحده، نظرا لاختلاف طبيعة هذه المجالات من حيث معدل النشر وعدد الاقتباسات. فبعض المجالات تشهد نشرا غزيرا واقتباسات متزايدة، بينما يشهد البعض الآخر نشرا أقل واقتباسات محدودة.  كما أن مؤشر اتش لا يأخذ في الاعتبار جودة الاقتباسات، حيث يحتسب الاقتباس السلبي كأي اقتباس آخر، مما قد يعطي صورة غير دقيقة عن تأثير البحث.  بالاضافة الى ذلك، هناك امكانية للتلاعب بالمؤشر من خلال الاقتباس الذاتي او الاقتباس المتبادل بين مجموعة من الباحثين، مما يقلل من مصداقيته كمعيار تقييم موضوعي.  لذا، عند تقييم الباحثين، يجب مراعاة طبيعة المجال البحثي وعدم إجراء مقارنات مجحفة بين مجالات مختلفة.

المشكلة الاساسية: غياب البيئة الداعمة للبحث العلمي الاصيل

يكمن جوهر المشكلة في ان استخدام مؤشر اتش كمعيار للترقية يتطلب وجود بيئة بحثية صحية وسليمة، وهو ما تفتقر اليه الجامعات العراقية بشكل عام. من ابرز جوانب هذا الخلل:

- نقص التمويل المخصص للبحث العلمي: يعتبر التمويل حجر الزاوية في اجراء البحوث العلمية الاصيلة. فبدون ميزانية كافية، يصعب على الباحثين اجراء تجارب مختبرية، وشراء مواد، وحضور مؤتمرات، ونشر ابحاثهم في مجلات مرموقة (التي تتطلب رسوم نشر). هذا النقص يدفع البعض الى البحث عن بدائل غير اخلاقية.

- انتشار "مصانع الاوراق" وشراء الابحاث: في ظل غياب التمويل وضغوط النشر للترقية، يلجا بعض التدريسيين الى شراء ابحاث جاهزة من "مصانع الاوراق" او دفع مبالغ مالية لادراج اسمائهم كمؤلفين في ابحاث مفترسة. هذه الممارسات تشوه العملية البحثية وتفرغ مؤشر اتش من معناه الحقيقي، حيث يصبح مجرد رقم لا يعكس اي جهد او اسهام علمي حقيقي.

- شراء الاقتباسات: بالاضافة الى شراء الابحاث، يلجا البعض الى شراء الاقتباسات لابحاثهم المنشورة، ما يضخم مؤشر اتش بشكل مصطنع. هذه الممارسة تعد نوعا من الاحتيال الاكاديمي وتقلل من مصداقية التقييم العلمي.

- التركيز الكمي على حساب الجودة: بسبب التركيز على مؤشر اتش، قد يركز الباحثون على نشر اكبر عدد ممكن من الابحاث بغض النظر عن جودتها او اهميتها العلمية. هذا يؤدي الى تدهور جودة البحث العلمي بشكل عام.

لماذا يعتبر هذا خطا في السياق العراقي؟

في البيئات البحثية المتطورة، يعتبر مؤشر اتش مؤشرا من بين مؤشرات اخرى تستخدم لتقييم الباحث. ولكن في السياق العراقي، حيث توجد هذه المشاكل الهيكلية، يصبح الاعتماد المطلق عليه مضللا وغير عادل. فهو يكافئ من يمتلك القدرة المالية على شراء الابحاث والاقتباسات، بدلا من مكافاة الباحثين المخلصين الذين يجرون بحوثا اصيلة في ظل ظروف صعبة.

الحلول المقترحة:

لتجاوز هذه المشكلة، لا بد من اتخاذ اجراءات شاملة، منها:

1. تطوير معايير تقييم بديلة: يجب تطوير معايير تقييم شاملة تركز على جودة البحث واصالته وتاثيره الحقيقي، بدلا من التركيز الكمي على عدد المنشورات والاقتباسات. يجب ان تشمل هذه المعايير:

- تقييم الاقران (Peer Review) من قبل باحثين متخصصين.

- اهمية البحث واثره في حل مشاكل المجتمع.

- المساهمة في تطوير المعرفة في مجال التخصص.

- المشاركة في المؤتمرات والندوات العلمية.

2- تتم المقارنة بين باحثين يعملون في نفس المجال أو مجالات متقاربة، وليس بين مجالات لها مؤشر اتش عالي كالعلوم الطبية والصحية وعلوم الكيمياء والفيزياء والاحياء والهندسة وعلوم الحاسوب التطبيقية، ومجالات لها مؤشر اتش منخفض كالعلوم الاجتماعية والانسانيات والفنون واللغات وعلوم الارض وبعض فروع العلوم الزراعية وعلوم الرياضيات والحاسوب النظرية.

3.  زيادة التمويل المخصص للبحث العلمي: يجب على الجامعات والحكومة زيادة الميزانية المخصصة للبحث العلمي، وتوفير منح بحثية للباحثين.

4.  تشديد الرقابة على المجلات العلمية: يجب وضع معايير صارمة لاعتماد المجلات العلمية، ومكافحة المجلات المفترسة.

5.  نشر ثقافة النزاهة الاكاديمية: يجب على الجامعات تعزيز ثقافة النزاهة الاكاديمية ومكافحة الممارسات غير الاخلاقية في البحث العلمي.

باختصار، مؤشر اتش اداة مفيدة في ظروف معينة، ولكن استخدامه كمعيار للترقية في الجامعات العراقية يعتبر خطا فادحا في ظل الظروف الحالية. يجب معالجة المشاكل الهيكلية في البيئة البحثية وتطوير معايير تقييم شاملة لضمان عدالة وشفافية الترقيات العلمية وتشجيع البحث العلمي الاصيل.

***

ا. د. محمد الربيعي

 بروفسور متمرس ومستشار علمي، جامعة دبلن

 

على مر التاريخ، لعب الفن دورًا كبيرًا في توثيق الثقافة ونقلها عبر الأجيال، فاللوحات والتماثيل، على سبيل المثال، ليست مجرد أعمال فنية؛ بل هي شهادات حية على طبيعة الحياة والقيم والمعتقدات في فترات زمنية مختلفة، وفيما يخص العلاقة بين الثقافة والفن، هناك نظرة تقول: بأن الثقافة تُعتبر الحاضنة الأساسية للفن، فهي التي تُلهم الفنانين ليُعبروا عن رؤاهم وتجاربهم بأساليب مُختلفة مثل الموسيقى، الرسم، المسرح، والسينما. الفن بدوره يُعيد تشكيل الثقافة من خلال تقديم رؤى جديدة وأفكار مبتكرة تُحفز على الحوار المجتمعي والتطور الفكري.

الثقافة والفنون - وجهان لعملة واحدة تُعبر عن هوية الشعوب وتعكس تطورها الحضاري، فالثقافة تُشكل الإطار الذي يُحدد أسلوب حياة المجتمع، بينما الفن هو الوسيلة التي تُعبر عن هذه الثقافة بأساليب إبداعية تلمس القلوب وتُلهم العقول، حيث إن التراث والعادات والتقاليد هما الآخران يمثلان ثقافة وفنون الشعوب التي تقدم من خلالها نفسها للآخر، أو تروج وتعرف بنفسها عبرهما

ولا بد أن ندرك هنا أن الثقافة والفن ليسا مجرد عناصر ترفيهية، بل هما أدوات قوة ناعمة تُعزز من مكانة الاوطان وتُسهم في بناء جسور التفاهم بين الشعوب، الفن يعتبر اداه من ادوات تطبيق الثقافة في جميع النواحي وتساهم الثقافة في تنمية مدارک الانسان وخلق انواع جديدة من الفنون، وهذا يؤکد علي الارتباط الوثيق بين الفن والثقافة. وبذلك يمکن القول بأنه لاتوجد فنون دون ثقافة ولا توجد ثقافة دون فنون، لذلك نجد في اتحادهما انتاج ابداعي متميز

حقيقة الثقافة والفن في بلدنا فقد شعروا بالاهمال المتعمد والتهميش، حال دون أن يأخذوا فرصتهم الحقيقية في الحياة طيلة السنوات العجاف التي مر بها البلد، وبقي المثقف والفنان أسير هذه الضوابط والتعليمات منقادا بسلوكيات وسيطرة الأحزاب وبالتالي حرمتنا المتعة وصور الأبداع على المستويين العام والخاص إلا ماندر، فلو كانت تعرف ان الثقافة عنصر مهم من عناصر المعرفة الشخصية والإبداعية تمكن صاحبها من التناغم والتحاور مع العالم الاخر بشكل علمي عبر بواباته المختلفة الادبية والعلمية و جسرا مع العالم في تبادل المعرفة والتواصل لتطوير البلد والمعرفة الشخصية لما وقفت موقف المتفرج من هذا المفهوم.

نظرة بسيطة في سنواتنا القليلة الحديثة نرى ذلك بوضوح فلا مسرح جاد ولا أغنية تطرب ولا ثقافة تغني ولا موسيقى تشنف الاسماع ولا دراما،، وزارة الثقافة المفرغة من محتواها تتحمل الجزء الكبير في هذا الجانب بعد ان وقفت موقف المتفرج من عدم رعاية المواهب ودعم المبدعين وخلق الفرص من اهتماماتها لهم، وتركت منارات التميز بلا رعاية واهتمام كقاعات مسرح الفن الحديث ومسرح الرشيد وقاعات اخرى كثيرة مهملة في عالم النسيان، إبراز تاريخنا الحديث والاهتمام بأصحاب المواهب بحاجة لرعاية ودعم سوآءا على مستوى الدولة أو القطاع الخاص والسعي لخلق حالة التنافس بين الاخرين من خلال برامج وخطط معدة سلفا نكون قد ساهمنا ولو بشكل يسير لدعم المسيرة الثقافية والفنية بالبلد بعد هذا السبات المتعمد.

***

نهاد الحديثي

 

مفتتح: أصبحت مسألة التراث والموروث الثقافي، موضة كل المنتديات واللقاءات الفكرية والكتابات الثقافية فكثيرة جدا الكتب والمطبوعات التي تصدر والندوات واللقاءات التي تعقد في مختلف أنحاء العالم لتدارس هذه المسألة والقضية، وتسعى هذه الكتابات والندوات إلى تحديد نوعية العلاقة التي يجب أن تربط الأمة وموروثها الثقافي.

بالطبع فإن هذا التوجه نحو الماضي والتراث بشكل عام يستجيب لذلك الإحساس الذي تستشعره الأمة العربية والإسلامية في حاضرها، وهو ضرورة العودة إلى تاريخها وأصالتها والإستمداد منه لتكوين الوجود الثقافي والحضاري بعيدا عن الإستنساخ الحرفي لحضارة الغرب ونمط عيشه وحياته. 

انهيارات الواقع 

ولا شك أن توجه الأمم والشعوب نحو تاريخها وموروثها الثقافي تشرطه دوافع الحاضر ومتطلباته وتؤثر فيه إلى حد بعيد. والذي يراجع التاريخ يكتشف أن الشعوب تزداد إشغالا بتاريخها وماضيها حيث يكون حاضرها مأزوما ويعيش القهقري، فكيف يمكن إغفال حالة التزامن في ظهور تاريخ الطبري وفتنة القرامطة.

إن الأزمات الكبرى التي تطال حاضر الإنسان دائما تدفع به إلى استعادة تاريخه والإنشداد إلى ماضيه المجيد،  ولذا ليس من الصدف والعبثية أن يطغى على الخطاب العربي بعد حرب 1967م انشغال عميق بدراسة التراث وإعادة قراءته، والواقع أن عودة الأمم إلى تاريخها حين تأزم حاضرها هو نوع من الإدراك الطبيعي والإيجابي الذي تتمتع به الأمة، حيث غبية تلك الأمة التي تحاول تبديل حاضرها المأزوم من دون استعادة ماضيها وموروثها الثقافي والعقدي. 

وغبية تلك الأمة التي تستغني عن تجاربها التاريخية وتنطلق من الصفر، فلا يبتدئ من الصفر إلا الصفر نفسه!  (والمجتمعات المأزومة، كما يعلمنا التاريخ، هي أكثر المجتمعات عناية بماضيها، بإعادة الانتباه إليه، وإعادة التفكير فيه وقراءته، عساها تعثر في خبرته التاريخية عن أجوبة ناجزة أو خدمات قابلة لتصنيع أجوبة، عن مشكلات حاضرها. وقد تأخذ الأزمة في هذه الحال، شكل انقسام ثقافي واجتماعي داخلي، حول تصور المستقبل، بين قوى مهيمنة، تفرض هيمنتها باسم ماض تخلع عليه أردية من التقديس، وقوى جديدة صاعدة، تحاول أن تعيد قراءة ذلك الماضي في ضوء مصالحها الجديدة. كما قد تأخذ الأزمة شكل خوف على الهوية مما يتهددها من أخطار المحو، أو التلاشي، أو التهميش، على نحو ماعرفت ذلك مجتمعات تعرضت للاحتلال الأجنبي. وهي ربما أخذت أشكالا أخرى مختلفة تبعا لنوع الشروط التاريخية والبيئات الاجتماعية التي نشأت فيها)

ولكن هذا التوجه إلى التراث ومتعلقاته الذي نشهده حاليا في حياتنا الثقافية والفكرية العربية والإسلامية، لا زال محتاجا إلى كثير تقويم ودراسة، فلا يخلو من سلبيات متعددة، وأول هذه السلبيات وأخطرها، أن أغلب الدراسات والقراءات المتواجدة حاليا تنطلق من مفاهيم ومنهجيات غربية، فتكون إمكانية الرؤية والإبصار تتحكم فيها مناهج الغرب وتطوراته، والمنهج بطبيعة الحال ليس أداة صامتة سالبة، وإنما هو وساطة تنهض بمسؤولية خطيرة، وهي تقل الموضوع إلى الذات , ولذا فالوساطة المنهجية الغربية حين  تتصادم بتراثنا وتاريخنا لا تنقل إلينا منه إلا ما يتوافق مع مسلماتها العقدية والفلسفية، وهكذا لا تعجب حين تنقل إلينا الوساطة المنهجية مكونات هامشية من تاريخنا وتغفل أو تتجاوز المكونات الحقيقية لتاريخنا وماضينا.

كيف نقرأ التراث؟

سعت مختلف المدارس الفكرية والسياسية ف المجال العربي إلى الاستفادة من التراث في تدعيم أيدولوجياتها وتسويغ خياراتها وأنها الامتداد الفكري والثقافي لتلك المدرسة أو الفئة في التاريخ والتراث.. فتحول من جراء ذلك التراث إلى فضاء للتوظيف بكل ما للكلمة من معنى.. فالتيارات العقلانية والمادية، عملت على إبراز هذه الجوانب من التراث، وكتبت في سبيل ذلك الكثير من الأبحاث والدراسات، التي توضح النزعات المادية والعقلانية في التراث.. كما أن التيارات النقلية والنصية عملت على إبراز هذا الجانب من التراث العربي والإسلامي.. فعمل كل طرف على إبراز رموزه من التراث، وانتصر للبعض على حساب البعض الآخر.. وكل طرف يدعي أن هذه الشخصية أو تلك الفئة هي الجانب الناصع الذي ينبغي إبرازه من تراثنا.. 

فعمل الجميع ومن مواقعهم الأيدلوجية والسياسية المختلفة على إعادة صوغ الماضي والتراث بما يتناسب ورؤى ومواقف هذه المجموعات من الراهن. فأصبح الموقف من التراث، هو انعكاس طبيعي لمستوى التباين الأيدلوجي والسياسي الحالي.. فيتم الصراع بأدوات وموضوعات وشخصيات تراثية.

ولعل من أهم الأسباب التي ساهمت بشكل أو بآخر في تشويه التراث أو عدم فهمه ومعرفته حق المعرفة، هو حالة التوظيف والتعسف الأيدلوجي في التعامل مع التراث. فكل الأطراف تعاملت مع التراث، تعاملا انتقائيا وسياسيا.. فالذي يتبنى المقولات العقلانية فضل المعتزلة على غيرهم، واعتبرهم هم رموز الإسلام والتراث وتغافل أو تجاهل عن ما ارتكبوه من قمع فكري وعمليات إقصاء وتهميش حقيقيين لكل مخالفيهم في أيام المحنة. والذي تبنى المنهج الفلسفي رفع من شأن ابن رشد وذم غيره، واعتبر أن متطلبات النهوض المعاصر، بحاجة إلى إحياء تراث ابن رشد. ومن موقع آخر ولاعتبارات فلسفية وعرفانية، هناك من أبرز مساهمات ابن سينا وعده هو فيلسوف الإسلام الأول.. وهكذا تم التعامل مع التراث بكل مقولاته ورموزه بانتقائية فجة وتوظيف متعسف، لا يعتني بحقائق التراث ومعارفه، بل يعمل على تكريس خياراته ومتبنياته الراهنة. وهكذا تصر النخبة على حد تعبير (الفضل شلق) لدينا على التواصل مع التراث وعلى الانقطاع عن التاريخ كما مع العالم الخارجي الراهن، للتأكيد على أن إنجازاتها يجب أن لا تقاس بعظمة إنجازات الماضي ولا بالمقاييس العالمية الراهنة، بل على أساس معايير تصاغ داخليا، على أساس معايير تضع هي شروطها ومواصفاتها. فهي تشيد لنفسها، عن طريق مقولة التراث، مكانا تختبئ فيه، فلا تظهر عيوبها.. فالممارسة الفكرية والنظرية التي تقرأ التراث بعيون أيدلوجية معاصرة، هي ممارسة انتقائية، وتستهدف بالدرجة الأولى تعزيز المواقع الأيدلوجية وتوظيف التراث بكل دلالاته وشحناته المعنوية لخدمة بعض الأغراض السياسية والأيدلوجية المعاصرة.. لذلك فإننا نعتقد أن كل القراءات الأيدلوجية للتراث، هي قراءات انتقائية وليست أمينة للتراث، إذ تجاهلت جوانب عديدة منه، وتغافلت عن بعض أحداثه وشخصياته. من هنا نحن بحاجة اليوم إلى إعادة قراءة التراث قراءة جديدة نتجاوز من خلالها كل التحيزات الأيدلوجية التي مورست بحق التراث.. وفي تقديرنا أن من أهم مواصفات القراءة الموضوعية للتراث هي النقاط التالية : 

1. أن تكون القراءة تحليلية، وتبتعد عن كل القراءات التبجيلية للتراث. نحن بحاجة أن نتعرف على هذا التراث بوصفه تجربة إنسانية – تاريخية , تحتضن الغث والسمين، وفيها المواقف الشجاعة كما فيها المواقف الانهزامية، وفيها الشخصيات العملاقة في علمها وعملها والتزامها، كما فيها الشخصيات الوصولية والانتهازية التي كان همها الأساسي هي مصالحها الآنية والضيقة.. لذلك فإننا بحاجة إلى قراءة تحليلية للتراث ترصد المتغيرات وتبحث عن أسبابها، وتتعامل مع التراث بوصفه تجربة إنسانية عميقة، تحتضن العناصر الخيرة والشريرة معا.. ومهمتنا هي قراءة التراث بموضوعية وبعيدا عن التحيزات الأيدلوجية أو المواقف المسبقة.. 

2. إن التراث كتجربة إنسانية لا قدسية لها، لذلك من المهم أن نقرأ هذه التجربة بروح علمية رصينة وبعيدا عن الانتماءات الضيقة.. فالمطلوب هو التحرر من الرؤى الضيقة التي تعمل بشكل أو بآخر لتوظيف التراث لمصالح فئوية ضيقة. فالقراءة المطلوبة للتراث، هي التي تتحلى بالعلمية حي التعاطي والتعامل مع مختلف أحداثه وشخصياته. وهنا من الضروري التفريق بين التراث والنص الديني. إذ أن التراث هو جملة المنجزات التاريخية الإنسانية في قطاعات الحياة المختلفة. وبالتالي فإن المقصود بالتراث هو مجموع اجتهادات وكسب الإنسان المسلم عبر التاريخ. بينما النص هو الوحي الإلهي الذي لا يأتيه الباطل ولا يعتوره التغيير.

3. التراث في أي أمة، يتحول إلى مؤثر حقيقي وفاعل، حينما تتحرك الأمة باتجاه صناعة راهنها وفق نسقها الحضاري. أما السكون والجمود وتضخم عقلية ليس بالإمكان أبدع مما كان، فإنه يحول التراث إلى عبء يزيد من عوامل الإحباط في جسم الأمة. فالأمة المتحركة والفاعلة والحية هي وحدها التي تستفيد من تراثها الخاص وتراث الإنسانية أيضا.. 

والتراث في زمن الجمود والتقهقر الحضاري، يتحول إلى بديل عن الراهن. بمعنى أن المجتمع الجامد والمنهزم لا يستطيع أن يواجه واقعه بشجاعة، ويلجأ إلى تراثه، للعيش على أمجاده، ولكي يجبر نقصه الحالي.. لذلك فإن الاهتمام والاستغراق في التراث في زمن الهزائم، قد يكون هروبا من الحاضر واستقالة عن مسؤوليات المرحلة. فالتراث بعناوين متعددة حاضر بيننا، ولكن ينبغي أن لا نعتقد أنه بديلا عنا، أو يقف موقفا مضادا من كسبنا في مختلف مجالات الحياة الإنسانية.. لذلك كله لا يمكن أن نقرأ التراث قراءة حضارية ونحن نعيش السكون والجمود.. فالواقع الجامد لا يخلق إلا قراءة تبريرية وجامدة للتراث.. من هنا فإن من الشروط الأساسية لقراءة التراث قراءة صحيحة وسليمة هو فعالية المجتمع وحيويته وديناميته. فالجمود يحول التراث إلى وسيلة للهروب من تحديات وآفاق الراهن. كما أن السكون يحول التراث بكل مضامينه ورموزه إلى عبء حقيقي على الحاضر. فالحضور والحيوية والفعالية الاجتماعية، هي وحدها التي تفضي إلى قراءة حضارية للتراث. وبكلمة فإن النهضة الاجتماعية والثقافية، هي التي تجعل بتأثيراتها ومتوالياتها المجتمع يقوم بقراءة جديدة لتراثه، تحوله لمحفز ومحرض للمزيد من العمل والبناء.. لذلك فإن مهمة قراءة التراث، تتعدى مسألة طباعة الكتب التراثية والانكفاء على قضاياه أو همومه، وإحياء كل أشكال الفلكلور الشعبي، وتصل إلى مستوى التجاوز بالمعنى الفلسفي والمعرفي. بمعنى أن مهمة قراءة التراث، تتطلب الفعل الراهن والشهود الحضاري والحيوية الاجتماعية، حتى يتواصل الفعل الإنساني المبدع عبر التاريخ. والحفاظ الحقيقي على التراث، يتطلب العمل على البناء والإبداع.. فلا معنى لحفظ التراث ونحن نعيش الجمود والتراجع، إن الوسيلة الحقيقية لحفظ التراث، هي حيويتنا وأعمالنا النوعية التي تتجه صوب الفرادة والإنجاز.. 

فالقراءة الحية للتراث، تتطلب قاعدة اجتماعية نهضوية تستوعب حقائق التراث دون التيبس عندها، وتنطلق بوعي عميق نحو التطوير وخلق حقائق التقدم في الفضاء الاجتماعي.. فالجمود لا يفضي إلا إلى قراءة متخشبة وتبريرية للتراث، ولا يمكن الاستفادة من دروس التاريخ وعبر الماضي وحقائق التراث إلا بوعي ثقافي واجتماعي جديد، يزيل عن عقولنا كل أشكال الزيف ويطرد من فضائنا كل أشكال الترهل، ويعمل على التحرر من كل الأعباء والاحباطات التاريخية والاجتماعية. 

وإن هويتنا الاجتماعية والثقافية، هي في صيرورة مستمرة، لا بمعنى أنها سيالة ورخوة، وإنما بمعنى أنها متجددة ولا يمكن أن تكون ثابتة حتى الجمود. وإن كل نقد للتراث وقراءة جديدة له، هي مساهمة في صيرورة الهوية وتجددها.

 وإن المرحلة الراهنة بكل تحدياتها وصعوباتها وآفاقها وفرصها، تتطلب منا قراءة نهضوية وحضارية لتراثنا حتى نستمد منه عنفوانا وشهودا وحيوية، ونضيف إليه من جهدنا وسعينا الحثيث نحو صناعة المنجز وتحقيق التطلعات والطموحات العامة..

***

أ. محمد محفوظ – باحث سعودي

"يبدأ ضوء الفجر في تسليط شعاعه على جزيرة "شيريا"، حيث تنبثق أرض الفياكينج بجمالها المذهل، ويكتشف أوديسيوس، المنهك جراء تحطم سفينته، هذا المشهد الطبيعي الخلاب. مصب النهر الذي تحيط به المساحات الخضراء، والمياه المتدفقة بغزارة وانسيابية، يمثل خلفية مكانية لظهور مجموعة من الفتيات بجانب عربة تجرها البغال، وهنّ يغسلن ملابسهن بفرح عارم. في هذا المشهد، حيث يلتقي أوديسيوس مع ناوسيكا، التي اختارتها الإلهة أثينا، تكمن العناصر الأساسية التي تحدد التجربة الجمالية التي نقلها الفن عبر العصور." فالرسوم المنقوشة على "الأمفورا الحمراء" التي ترجع إلى حوالي عام 440 قبل الميلاد، والتي تم العثور عليها في منطقة " فولسي" وحفظت في متحف بميونيخ، تجسد بشكل رمزي هذه التجربة الجمالية، حيث يُستحضر الفعل الفني المتجسد في القصة التي يرويها الفن، فينشأ تفاعل مع المشاهد الذي يفتح آفاق الدهشة والتأمل.

التجربة الجمالية، في جوهرها، ليست مجرد رؤية عابرة أو استمتاع سطحي بالجمال، بل هي عملية اجتماعية عميقة، تنبع من تفاعل الذات الإنسانية مع العالم والآخرين. إن هذه التجربة تنفتح على غموض الأشياء، وتكسر رتابة العادات التي غالباً ما تخفي الأعماق المخبأة في تفاصيل حياتنا والعالم المحيط بنا. ومن هنا، يمكن فهم العلاقة بين الفنان والمجنون، وبين الفن والجنون، فكل منهما يمتلك القدرة على دفع الإنسان ليشعر ويتفاعل مع العالم بطريقة غير مألوفة، ليكشف عن أجزاء من الذات البشرية التي لا يمكن الوصول إليها إلا عبر تلك التجارب الاستثنائية.

الدهشة، التي لا تقتصر على كشف أمر جديد، بل تكشف عن أبعاد لم تكن في حساباتنا من قبل، هي المحرك الذي يكسر القيود التي يفرضها العقل في العادة. هنا، يكمن الرابط العميق بين الفن والجنون، وبين الإبداع والخروج عن المألوف. القدرة على رؤية العالم من زوايا غير تقليدية، هي التي تفتح الأبواب أمام إمكانيات لا محدودة للفهم والتحول. على هذا النحو، يمكن للفن، بكل تنوعاته، أن يكون المصدر الذي يعيد تشكيل الإنسان، ليجعله أكثر وعياً بحساسياته، وأكثر استعداداً للانفتاح على عوالم جديدة من الفهم والاكتشاف.

عندما يتحدث "جوزيف برودسكي" في خطابه بمناسبة حصوله على جائزة نوبل عن ارتباط الجمال بالأخلاق، فإنه يشير إلى العلاقة الجوهرية بين الفنون والفهم الأخلاقي، حيث يرى أن الجمال في أساسه هو مرشد للخير والشر، وأن التجربة الجمالية تسبق المفاهيم الأخلاقية بل تتفاعل معها وتوجهها. لا يختلف "لامبرتو مافي" في رؤيته، حيث يربط بين الفن والجنون بشكل يبرز القدرة على تجاوز القيود التقليدية التي تُصنف الناس والمفاهيم. هذه الرؤية تستدعي التفكير في أولئك الذين يستطيعون "تغيير العالم" رغم أنهم لا يسيرون في المسارات المألوفة، فإذا كان الجمال ليس هو السبيل الوحيد للإنقاذ، فإنه بالقطع يمكن أن يكون دافعاً للتغيير عبر أولئك الذين يجرؤون على الخروج عن المألوف، حتى لو كانوا "مجانين" أو مختلفين عن المعايير الاجتماعية السائدة.

منذ العصور القديمة، كان الفكر الإبداعي مرتبطاً بمفهوم الجنون. يقدم "سقراط"، الذي دفع حياته ثمنًا لإبداعه الفكري، مثالاً على هذا الارتباط بين الجنون والإبداع، وهو ما يتكرر في أعمال الأدباء والفنانين الذين يعبرون عن هذه الفكرة بشكل لا لبس فيه. يقال إن الجنون ليس مجرد حالة عقلية غير مستقرة، بل هو حالة إنسانية معقدة، تتسم بالتغير المستمر في حدودها وتعريفاتها عبر التاريخ.

كما أكدّا كل من "فوكو" و"باساليا" على أن الجنون ليس مجرد اضطراب نفسي، بل هو سمة إنسانية تطورت عبر الزمن، وتستمر في التأثير على كيفية فهمنا لأنفسنا. من خلال تأمل علاقة الفن بالجنون، يبدو أن هذه العلاقة تتجاوز حدود الفهم العقلاني المألوف، لتفتح أفقًا لإدراك أعمق لما يعنيه أن تكون إنسانًا. الفن لا يتعلق فقط بالتمثيل الواقعي، بل بإعادة تشكيل الواقع نفسه، والتفاعل معه بطرق مبتكرة.

فالجنون يمكن أن يكون مصدرًا للإبداع والتغيير، بعيدًا عن الحتمية العصبية أو الجينية التي قد تحدد مسار الإنسان. فكما أن الحياة قد تكون محدودة بنظامها الاجتماعي أو البيولوجي، إلا أن هناك دائمًا مساحة للتغيير والانفصال عن القيود، سواء من خلال الفن أو من خلال الجنون. الأفق الذي يفتحه الجنون والإبداع لا يمكن تفسيره بأدوات العقلانية التقليدية، بل يتطلب فكرًا حرًا قادرًا على النظر إلى ما وراء الظواهر المألوفة.

ليظل الجنون بمثابة مسار غير مألوف للحقيقة، يمكّن الإنسان من إعادة تشكيل نفسه والواقع من حوله. ولكن هذا يتطلب قدرة على الخروج عن المعتاد، والتخلي عن الراحة التي توفرها العادات والأفكار التقليدية. قد يكون العالم في حاجة إلى أولئك الذين يجرؤون على "الجنون" ليغيروه، كما في قول لامبرتو ما في: "الحمقى فقط من سيغيرون العالم".

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

في خضم التحديات التي تواجه وطننا، يظل التعليم العالي منارة الامل وشعلة التغيير. ففي عام 2024، شهد العالم نقلة نوعية في مناهج التعليم واساليب البحث، شكلت منعطفا هاما في مسيرة التعليم العالي، حيث شهد تحولات جذرية في المناهج الدراسية واساليب التدريس والبحث العلمي، بما يتماشى مع متطلبات العصر واحتياجات سوق العمل المتغيرة. من هنا، تبرز اهمية التعرف على هذه التطورات بالنسبة لوطننا، اذ يعد تطوير منظومة التعليم العالي في الدول العربية وبالخصوص العراق ضرورة لمواكبة هذه التطورات العالمية وتحقيق التنمية المستدامة. يشمل ذلك الاطلاع على احدث المناهج والبرامج التعليمية في الجامعات العالمية لتطوير المناهج العربية وتخريج كفاءات قادرة على المنافسة عالميا. كما يعد تعزيز البحث العلمي والابتكار اساسا للتنمية، من خلال الاطلاع على احدث التطورات وتشجيع الابتكار لا يجاد حلول للتحديات. ويتحقق التطوير ايضا بتحسين جودة التعليم عبر الاطلاع على افضل الممارسات وتوفير بيئة تعليمية محفزة.

بناء على نتائج البحث، تميز عام 2024 بعدة جوانب مهمة في مجال الجامعات والتعليم العالي على مستوى العالم، والتي سنتناولها بالتفصيل في هذا العرض. باعتقادي ان فهم هذه الجوانب وتحليلها هو خطوة اساسية نحو وضع استراتيجيات فعالة لتطوير التعليم العالي وتحقيق التنمية الشاملة. من ضمن هذه الجوانب:

تطوير المناهج الدراسية:

تجلى التوجه في تطوير المناهج من خلال عدة جوانب متكاملة، حيث لم يعد التعليم مجرد تلقين نظري بل اصبح يركز بشكل كبير على اكتساب الطلاب مهارات عملية قابلة للتطبيق في سوق العمل، وذلك عبر دمج التدريب العملي والمشاريع الواقعية في المناهج الدراسية واشراكهم في حل مشكلات حقيقية تواجه الشركات والمؤسسات. كما ازداد التركيز على تطوير المناهج متعددة التخصصات لتلبية حاجة سوق العمل للخريجين الذين يمتلكون معرفة ومهارات في مجالات متنوعة، مثل البرامج التي تجمع بين الهندسة والادارة او علوم الحاسوب والاقتصاد، بهدف تخريج كوادر قادرة على التعامل مع التحديات المعقدة. ويعتبر الاهتمام بالتكنولوجيا والابتكار من المحركات الرئيسية لهذا التغيير، حيث اولت الجامعات اهمية كبيرة لتضمينها في مناهجها من خلال تدريس احدث التقنيات واساليب البحث العلمي وتشجيع ريادة الاعمال وتطوير المشاريع الخاصة. اضافة الى ذلك، عززت الجامعات مهارات التعلم الذاتي والتفكير النقدي لدى الطلاب لمساعدتهم على مواجهة التحديات المتجددة في سوق العمل والتكيف مع التغييرات المستمرة، وذلك عبر تشجيع البحث والاستقصاء والتفكير النقدي وحل المشكلات بشكل ابداعي. وجسدت جامعات عالمية رائدة هذا التوجه بشكل واضح، فمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) عزز من مشاريعه في تشجيع الطلاب على المشاركة في مشاريع بحثية متقدمة وتطوير تقنيات جديدة، كما قدم برامج دراسية متعددة التخصصات تجمع بين الهندسة وعلوم الحاسوب والادارة. وبالمثل، وفرت جامعة ستانفورد برامج تدريبية وورش عمل لمساعدة الطلاب على تاسيس شركاتهم الخاصة، مع التركيز على تطوير مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات. اما جامعة كامبريدج فتميزت بتقديم برامج دراسية متنوعة تغطي مختلف المجالات، مع تشجيع المشاركة في الانشطة اللامنهجية لتطوير المهارات الشخصية. وفي اليابان، اولت جامعة طوكيو اهتماما كبيرا بتطوير التكنولوجيا والابتكار واجراء ابحاث متقدمة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات، مع التركيز على تعليم القيم الاخلاقية والمسؤولية الاجتماعية.

الاهتمام بالبحث العلمي والابتكار:

شهد عام 2024 اهتماما متصاعدا بالبحث العلمي والابتكار، تجسد في تعزيز التعاون بين المؤسسات الاكاديمية والجهات البحثية والهيئات الصناعية، بهدف تحويل نتائج الابحاث العلمية الى تطبيقات عملية تساهم في دفع عجلة التنمية. لم يعد البحث العلمي مجرد نشاط اكاديمي منعزل، بل اصبح محركا اساسيا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، من خلال التركيز على دعم وتمويل البحث العلمي والابتكار، وتشجيع الطلاب والباحثين على الانخراط الفعال في هذا المجال. يتجلى هذا الاهتمام في جوانب متكاملة، منها التركيز على البحوث متعددة التخصصات التي تساهم في ايجاد حلول شاملة للمشكلات المعقدة التي تواجه الصناعة والمجتمع، ودعم البحوث التطبيقية التي تؤدي الى تطبيقات عملية قابلة للتسويق والاستخدام، وتشجيع ريادة الاعمال القائمة على المعرفة من خلال تحويل نتائج الابحاث الى شركات ناشئة، وتعزيز التعاون الدولي في مجال البحث العلمي لتبادل المعرفة وتسريع وتيرة الاكتشافات. وتجسد جامعات عالمية هذا التوجه من خلال تمويل ودعم بحوث ضخمة، فجامعة كاليفورنيا، بيركلي، تعرف بابحاثها المتقدمة في مجال الطاقة المتجددة، حيث قادت مبادرة "معهد الطاقة الحيوية" الذي يهدف الى تطوير وقود حيوي مستدام من مصادر غير غذائية. كما تشتهر جامعة تورنتو في كندا بابحاثها الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث ساهم باحثوها في تطوير تقنيات التعلم العميق التي تستخدم اليوم في مختلف التطبيقات. وفي سويسرا، تعتبر جامعة زيورخ مركزا رائدا للابحاث في مجال علم الاعصاب، حيث تجري ابحاثا متقدمة لفهم وعلاج الامراض العصبية مثل الزهايمر وباركنسون. اما في اسيا، تولي جامعة سنغافورة الوطنية اهتماما كبيرا بابحاث الاستدامة والتنمية الحضرية، حيث تجري ابحاثا متطورة لايجاد حلول لمشاكل الازدحام والتلوث وتغير المناخ في المدن الكبيرة. هذه الامثلة تؤكد على الاهمية المتزايدة للبحث العلمي والابتكار في مواجهة تحديات العصر وتحقيق التنمية المستدامة.

تحسين جودة التعليم:

شهد عام 2024 جهودا متزايدة لتحسين جودة التعليم العالي وتوفير بيئة تعليمية محفزة على الابداع والابتكار، وذلك من خلال التركيز على تطوير البنية التحتية والتجهيزات، وتحسين وضعية اساتذة التعليم العالي، واعتماد ابتكارات تربوية حديثة. لم يقتصر التطوير على جانب واحد بل شمل جوانب متعددة ومتكاملة. ففي مجال البنية التحتية، شهد التعليم العالي تطوير المكتبات الرقمية لتوفير مصادر المعلومات الالكترونية، وانشاء فضاءات للابتكار وريادة الاعمال. اما فيما يتعلق بتحسين وضعية اساتذة التعليم العالي، فقد تم التركيز على رفع مستوى الرواتب والحوافز، وتوفير فرص التطوير المهني والتدريب المستمر، وتوفير بيئة عمل محفزة على البحث العلمي والابتكار. والاهم من ذلك، تمت زيادة كبيرة في الاعتماد على الابتكارات التربوية الحديثة التي تركز على التفاعل والمشاركة، مثل اسلوب "التعلم القائم على المشاريع" حيث يكلف الطلاب بانجاز مشاريع واقعية تمكنهم من تطبيق المعرفة النظرية، واطلاق برامج جديدة متخصصة في المجالات الناشئة كبرامج الماجستير في الذكاء الاصطناعي، وتوسيع نطاق التعاون الدولي وتبادل الطلاب والاساتذة لتبادل الخبرات، وانشاء مراكز للتميز في مجالات محددة كمركز للتميز في الطاقة المتجددة، ورقمنة الخدمات الجامعية لتسهيل الاجراءات الادارية. ومن الامثلة الملموسة على هذه الابتكارات، نجد جامعات بدات في استخدام تقنيات الواقع الافتراضي والمعزز في التدريس لزيادة التفاعل وجعل المفاهيم اكثر وضوحا، كما بدات جامعات اخرى في اعتماد نظام التعليم الهجين الذي يجمع بين التعليم وجها لوجه والتعليم عن بعد، مما يتيح مرونة اكبر للطلاب. بالاضافة الى ذلك، تم التركيز على تطوير مهارات القرن الحادي والعشرين لدى الطلاب، مثل مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات والعمل الجماعي والتواصل الفعال، من خلال ورش العمل والانشطة اللامنهجية. تؤكد هذه الجهود على التزام الجامعات بتحسين جودة التعليم العالي وتوفير بيئة تعليمية محفزة على الابداع والابتكار، مما يساهم في تخريج كوادر مؤهلة قادرة على المساهمة في بناء مستقبل مزدهر.

دمج المؤسسات التعليمية والكليات:

شهد عام 2024 توجها متصاعدا نحو دمج الجامعات والكليات في مؤسسات تعليمية اكبر، بهدف تحقيق ادارة اكثر فعالية، وترشيد استخدام الموارد، وتحسين جودة التعليم. يعتبر هذا الدمج استراتيجية تهدف الى تعزيز الكفاءة والفعالية في قطاع التعليم العالي من خلال تجميع الموارد والخبرات تحت مظلة واحدة. من الاسباب الرئيسية لهذا التوجه، تحسين الادارة والحوكمة من خلال انشاء هيكل اداري اكثر مركزية وفعالية، وترشيد الامكانيات والموارد عن طريق تجميع الموارد المالية والبشرية والمادية لتقليل الهدر، وتحسين جودة التعليم بتوفير برامج دراسية اكثر تنوعا وشمولية، وزيادة القدرة التنافسية للجامعات على المستويات المحلية والاقليمية والدولية. وقد تجسد هذا التوجه في عمليات دمج مختلفة حول العالم، فمثلا، شهدنا دمج كليات الهندسة المختلفة في جامعة واحدة شاملة لتوفير موارد مشتركة للمختبرات وورش العمل وتطوير برامج دراسية متداخلة، كما تم دمج كليات العلوم الانسانية والاجتماعية لانشاء برامج دراسية تجمع بين تخصصات مختلفة مثل علم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ، ودمج كليات التربية مع كليات اخرى لتعزيز التكامل بين الجوانب النظرية والتطبيقية في اعداد المعلمين.

الابتكارات التربوية والتعليمية

في عام 2024، شهدت الجامعات العالمية العديد من الابتكارات التربوية والتعليمية التي تهدف الى تحسين التعليم وتوفير تجارب تعليمية اكثر فعالية ومتقدمة. من بين هذه الابتكارات، تبرز استخدام تقنيات الواقع الافتراضي لتقديم تجارب تعليمية ثلاثية الابعاد، مما يساعد الطلاب على فهم المفاهيم العلمية والهندسية بشكل اكثر واقعية. كذلك، يتم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتقديم توصيات تخصيصية للطلاب بناء على ادائهم واحتياجاتهم التعليمية. بالاضافة الى ذلك، يجمع نموذج التعليم الجماعي المتعدد الجانب (HyFlex) بين التعليم الشخصي والتعليم الافتراضي، مما يتيح للطلاب اختيار الطريقة التي تناسبهم بشكل افضل. ولم تغفل الجامعات عن استخدام تقنيات تحليل البيانات لتحليل اداء الطلاب وتقديم توصيات لتحسين التعليم والتعلم، فيما يركز نهج التعليم الشامل للمهارات (WIL) على تطبيق المعرفة الاكاديمية في سياقات عملية، مما يساعد الطلاب على تطوير مهاراتهم العملية والمهنية.

التصنيفات العالمية للجامعات:

في عام 2024، شهدت الساحة الاكاديمية تراجعا ملحوظا في اهتمام الجامعات بالتصنيفات العالمية، وهو توجه متزايد نابع من الاعتراف بان هذه التصنيفات قد لا تعكس بالضرورة جودة التعليم والتعلم الفعلي داخل المؤسسات. فبينما تستمر الجامعات الرائدة في استخدام هذه التصنيفات كوسيلة لجذب الطلاب وتحسين سمعتها الاكاديمية، تبتعد العديد من المؤسسات الاخرى عنها لاسباب متعددة، من اهمها التركيز الكبير على معايير قد لا تكون دائما ذات صلة بجودة التعليم، واعتمادها الزائد على المعايير الكمية والبيانات التي قد لا تكون شاملة او دقيقة بشكل كاف واحيانا كاذبة، مما قد يؤدي الى تاثيرات سلبية على عملية تطوير التعليم وتحسين الجودة. هذا التاثير السلبي بدا اكثر وضوحا في الدول النامية، حيث تركز الجامعات احيانا على تحسين مراكزها في التصنيفات بدلا من التركيز على جوهر تحسين جودة التعليم والتعلم.

تعكس التصنيفات الدولية في الغالب منظورا غربيا للتعليم، حيث تعطى الاولوية لمعايير كالبحث العلمي المنشور في مجلات غربية والتعاون مع مؤسسات غربية، مما يهمش مساهمات الجامعات التي تخدم مجتمعاتها المحلية او تجري ابحاثا ذات صلة بتحديات اقليمية. هذا يشجع على تبني نموذج غربي قد لا يتناسب مع السياق المحلي. كما تشجع هذه التصنيفات على التنافسية السلبية بدلا من التعاون، حيث يسعى كل منها لتحقيق مراكز متقدمة بغض النظر عن جودة التعليم، مما قد يدفع الجامعات الى اتخاذ اجراءات شكلية كزيادة المنشورات (بغض النظر عن جودتها) او التركيز على جذب الطلاب مهما كانت مستوياتهم. تركز التصنيفات ايضا على المعايير الكمية كعدد الطلاب والميزانية، مهمشة الجوانب النوعية كجودة التدريس وتفاعل الطلاب. يضاف الى ذلك التكلفة العالية للاشتراك فيها، وعدد الجامعات المشاركة المحدود (حوالي 2000 من اصل 24000)، مما يقلل من مصداقيتها. باختصار، يعكس تراجع الاهتمام بالتصنيفات رغبة في اعادة التفكير في مفهوم جودة التعليم ووضع معايير اكثر شمولية تراعي السياقات المحلية وتشجع التعاون.

بشكل عام، يمكن القول ان عام 2024 يشهد تطورات ايجابية في مجال الجامعات والتعليم العالي على مستوى العالم، مع التركيز على تحسين الجودة وتطوير المناهج ودعم البحث العلمي والابتكار وتلبية احتياجات سوق العمل. هذه التطورات تشمل تحولات جذرية في المناهج الدراسية نحو التركيز على المهارات العملية والتخصصات المتداخلة، واهتمام متزايد بالبحث العلمي التطبيقي وخدمة المجتمع وريادة الاعمال القائمة على المعرفة، وجهود مستمرة لتحسين جودة التعليم عبر تطوير البنية التحتية والابتكارات التربوية. ان مواكبة هذه التطورات والاستفادة منها يتطلب من المؤسسات التعليمية في العالم العربي، وخاصة في العراق، وضع استراتيجيات فعالة تهدف الى بناء انظمة تعليمية عالية الجودة تساهم في تحقيق التنمية المستدامة وخدمة المجتمع.

***

ا. د. محمد الربيعي

بروفسور متمرس ومستشار علمي

 

لا مفر من أن بعض الكلمات عن الذكريات، بدلا من أن تكون توضيحية لجمهور قارئ محتمل، تهدف إلى نوع من فهم الذات. في بعض اًلأحيان لا يكتب المرء ليفهم الآخرين، بل ليفهم نفسه. ربما هذه واحدة من تلك الحالات، في هذه المرحلة من وجودنا كعرب ومسلمين، لدينا بعض الذكريات التي تتكرر وتظهر عندما نفكر في القضايا المرتبطة بأصولنا الثقافية. نشعر أن جذورنا (إذا أردنا إعادة إنشاء مصطلح نباتي) لا ترتبط فقط بآفاق العروبة والإسلام والحضارات الأولى، وهو شيء نتقاسمه من طنجة إلى مسقط، ولكنه يتكون من مصفوفات ثقافية أخرى من تمازج الأجناس العميق والعشوائي عبر محطات تاريخية مضت.

مشهد الذكريات هذا له علاقة بتعليمنا. كل منا أتمم جزءاً من دراسته الابتدائية في مدرسة صغيرة في منطقة في جغرافيا العرب والمسلمين، وسط مجتمع بدوي أو شبه متحضر في المشرق أو المغرب. أعتقد أنه منذ ذلك الوقت فهم بقوة معنى الانتماء والهوية. لقد درسنا بين سكان أوطاننا، وجميعنا أبناء أفراد مجتمعنا العربي، والعديد منا أبناء عمومة أو قرابة بمعنى وبآخر؛ أي أننا درسنا مع عائلتنا. اللغة العربية كانت ولاتزال لغتنا الأم، لقد نسيناها لكننا لم نفقدها كلية. أو بالأحرى جعلونا ننساها. لأن الغازي يقمع ما استعمره. ومع ذلك، فإن لغتنا العربية بقيت في ذاكراتنا، بين القمم والآفاق الطويلة، بما في ذلك الشعر والأدب، كل منا نال وقتا للقراءة المستمرة والحياة الطبيعية بنكهة عربية ولهجة عربية، كان ذلك أمراً أساسياً بالنسبة لكل واحد منا. تطوير لاحق أو أمل منتظر. إذا كان بإمكان المرء العربي أن يحاول تعريف السعادة بلغته الحية الرافضة للموت، فلابد أن ذلك كان من نصيبنا كل على شاكلته. إنها جنتنا الخاصة العربية. لدينا جميعا واحدة لا نستوعب الجنة إلا بلغة سورة الرحمن وآي القرآن الكريم.

إننا نعود إلى اللغة العربية كما نعود للأرض الأم، أجدادنا وأصالتنا وعاداتنا وموسيقانا لا نستذكرها إلا بتعبير عربي بديع، بالفعل. علاوة على ذلك، فإن جزءاً من مجتمعنا العربي العتيق لا ينقرض؛ إنه جزء منا يختفي ويظهر. ولهذا السبب فإن عشق اللغة شكل من أشكال التكريم لها، لاستعادتها، وعدم نسيانها. الذاكرة المثبتة عبر الأجيال من طنجة إلى صلالة كدليل على الدوام.

ومن الذاكرة الحديثة أريد أن أشكر الأصدقاء والمفكرين، الذين لولاهم لكانت هذه المحاولة النصية قد وضعت على الرف. إلى علامة الجزائر العالم الجليل المصلح الكبير الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله، وللمفكر الإسلامي الحر الشيخ محمد الغزالي رحمه الله ، والمفكر الكبير الدكتور علي الوردي رحمه الله ، ثم إلى المفكر والمؤرخ السعودي الدكتور زيد علي الفضيل، وكذلك أحد عمالقة أرض الكنانة الدكتور صلاح شفيع بمطارحاته ومقارباته للدور الحضاري للغة العربية في علومها وفي آفاق القرآن الكريم، دون أن أنسى الدكتور علي القاسمي على محبته الدائمة وإشتغالاته بالبلاغة وكرمه اللامحدود تجاه استذكار الروعة في اللغة العربية؛ وطبعا الدكتور عبد الله إبراهيم وموسوعته عن السرد العربي في تسع مجلدات، وختاما إلى اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية.

وغني عن القول أن الممارسة اللغوية تصل إلى مستوى دينامي عبر الممارسة الاجتماعية المتطورة لهذه اللغة وعندما نقارب اللغة العربية نحن نقترب من صياغة الهوية الثقافية لمجتمعاتنا مما يفرض علينا حفر عميق في مكونات الذاكرة اللغوية وأسس بناء الفعالية الحضارية لهذه اللغة وليس فقط الاستغراق في المصداقية التي لا يختلف عليها اثنان من المنصفين، هناك وعي بمصداقية اللغة العربية لكنه وعي متفرج غير فعال أو متحسر.

 في عالمنا المعاصر اللّغة العلميّة تلك اللّغة الّتي تعمل على نقل معلومات علمية متخصّصة خاصة بقطاع أو مجال علمي محدّد لهوياتها الثقافية والمثيرة للوعي اللغوي الاجتماعي والنهوض الاقتصادي لأنها كالنقد في التعاملات الاقتصادية والتبادل التجاري، هي كذلك تفتح الآفاق في تبادل السلع والأصول الفكرية والثقافية وأهم مجال يكشف لنا عن حيوية لغة هو الترجمة العلمية والتقنية للمنتجات العلمية والتكنولوجية، مثلا مؤخرا بالشارقة مجمع اللغة العربية أنتج المعجم التاريخي للغة العربية وهو منجز مهم بالنسبة للترجمة العلمية ويوحي بضرورة الاهتمام بموضوع الفعالية الإستراتيجية للغة العربية في مستقبل العلوم والاقتصادات المعرفية، عموما ثقوب الذاكرة ليست نهاية اللغة والاحتفاء لربما يكون حفظا لماء الوجه في ظل أعطاب تواصل اللسان العربي في راهننا، لكن لابد من نظم أمور اللغة العربية كممارسة اجتماعية فعالة وليس كفانتازيا ثقافية... ونأمل أن نتفاعل مع لغتنا التفاعل البناء والحيوي الحضاري... بوصفها وسيلة تعبير اجتماعي، علمي، سياسي واقتصادي، ممّا يحتّم دراسة التفكير في إستراتيجية العبور من المعجمية العربية نحو الاستعمالات السوسيوثقافية المختلفة للغة العربية في أوطاننا ومؤسساتنا واتصالاتنا وشبكات تواصلنا من خلال الوعي العملي لآثار البُنى الاجتماعية في الممارسات اللغوية العربية في ظل رهانات التدفق الهائل للمعلومات والتداول السريع للمعارف في زمن الذكاء الاصطناعي ومناهج تكنولوجيات النانو...

***

ا. مراد غريبي

 

انتشرت قصص ميلاد الأنبياء والملوك والزعماء في شرق الأرض وغربها وهي تحمل جوانب عديدة منها الجوانب الحقيقية التي تعكس كون هؤلاء هم بشر يولدون ويموتون مثل بقية البشر وجانب اسطوري اضفى عليهم هاله من التقديس وجعل منهم شخصيات (كارزمية) تستحق التقديس والعبادة لان لهم صفات خارقة فهم يختلفون عن بقية البشر وقد نجح كتاب سير (بوذا)و(زرادشيت)و(كورش)و(هرقل)و(شمشون) في ابراز مميزات هذه الشخصيات وجعلوا منهم اساطير تتغنى بها شعوبهم عبر الاف من السنين الى يومنا هذا

قصة خلق ادم

عندما أراد الله ان يخلق ادم قال (وإذ قال ربك للملائكة اني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم اجمعون الا ابليس ابى ان يكون من الساجدين) الحجر (28-41)

وجاء في تفسير الطبري (ان الله عندما أراد ان يخلق ادم بعث جبريل ثم ميخائيل ثم بعث ملك الموت فاخذ من وجه الأرض وخلط ولم يأخذ من مكان واحد واخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء فلذالك خرج بني ادم مختلفين

قصة ميلاد سرجون الاكدي

اعترف سرجون الاكدي (2361-2279) قبل الميلاد وهو مؤسس الإمبراطورية الاكدية قائلا (انا سرجون الاكدي الملك القوي ملك اكد كانت امي من عذارى ملك المعبد لم اعرف ابي حبلت بي امي وولدتني سرا ووضعتني في سلة وسدت فتحتاها وتركتني للتيار حيث لم اغرق وحملني التيار الى (اكي) وانتشلني (اكي) الطيب القلب من المياه ورباني وكانني ابنه وصرت بستانيا مال قلب (عشتار) الي فاصبحت ملكا وحكمت طوال 45 عاما)

فرويد موسى والتوحيد

ويقارن العالم فرويد بين اسطورة ميلاد سرجون الاكدي وبين قصة النبي موسى فيرى ان هنالك تشابها واضحا مع بعض الاختلافات فموسى القي به في نهر النيل وسرجون في نهر الفرات ووضع كلاهما في سلة احكمت فتحاتها وتربى سرجون الاكدي في بيت بستاني بينما تربى موسى في بيت ملكي واصبح سرجون ملكا بينما اصبح موسى نبيا

اسطورة ميلاد زرادشيت

تروي الاساطير الفارسية قصة ميلاد زراد شيت (573-660) قبل الميلاد بالشكل التالي ان روح القدس قد حلت في جسر ام زرادشيت التي قدر لها ان تكون اما لهذا النبي فخاف عليها ابوها من السحرة فارسلها الى قرية بعيدة وهنالك تزوجت من راع يعود نسبه الى اسرة عريقة وبينما كان هذا الراعي يرعى مواشيه ظهر له شبحان نوريان وقدما اليه غصنا من نبات (الهوما) المقدس وامرأه بان يعطي هذا الغصن الى زوجته لان هذا الغصن يحمل كيان الطفل النوراني فاخذه الى زوجته ومزجه باللبن فشرب هو وزوجته فصار نطفة ثم مضغة في رحم امه وهكذا حملت بزرادشت ثم وضعته ولما ولد أحاط بالدار الذي يسكن فيه نور وهاج ثم هبط من السماء نجم عظيم وقد فرحت الأرض والسماء ولكن عالم الشياطين قد اصابهم الخوف وكان ملك الفرس يومن بالسحر وقد اخبره المنجمون ان نبيا سيظهر يتم على يده ابطال السحر فطلب احضار الطفل زرادشيت وامر بالقاءه في النار ولكنه لم يمت وانما نام وسط الرماد حتى جاءت امه واخذته وهكذا كبر هذا الوليد واصبح نبيا من انبياء فارس

اسطورة ميلاد بوذا

في اقصى شمال الهند ولد بوذا (480-560) قبل الميلاد تقول الأسطورة الهندية ان بوذا هو ابن الله وهو المخلص للبشرية من الامها وان ولادته كانت عبر طريق حلول الروح القدس على العذراء (مايا) وعند ولادته ظهر نجم كبير في السماء وان الملائكة قد فرحت ورتلت الأناشيد وانه تكلم الى امه في اليوم الذي ولد فيه كما رافق ولادته معجزات مثل استعادة العميان نظرهم والبكم سمعهم وتحرر السجناء من سجونهم ومشى الاعرج وصدحت الموسيقى السماوية وفرحت الملائكة وشفي المرضى من مرضهم وخمدت النيران في كل جحيم وصهلت الخيول وطبلت الفيلة وعزفت الآلات الموسيقية بدون عازف انغاما سماوية واصبح ماء المحيطات عذبا

وتستطرد الأسطورة في وصفها فتقول ان بوذا الطفل وجه انظاره الى الشرق واستعرض الكون كله ثم خطا سبع خطوات واعلن عن نفسه في صوت نبيل (انه اله الخلق) وتذكر لنا الكتب البوذية المقدسة علما بانه في نفس الذي ولد فيه بوذا جاءت الى الوجود شجرة التين التي كان عليها ان تقوم بدور هام جدا في حياة بوذا

ويعتقد البوذيون ان بوذا عندما مات صعد بجسده الى السماء بعد ان اكمل مهماته على الأرض.

***

غريب دوحي

 

كرَّس د. محمد عابد الجابري (1935-2010) جانباً مهماً من أبحاثه لدراسة الفارق بين الذهنية العربية ونظيرتها الغربية. ومِثل سائر الذين درسوا تاريخ المعرفة، يعتقد الجابري أن كلاً من العقلين العربي والغربي تشكَّل في سياق تجربة تاريخية طويلة، أعطت كلاً منهما بنيته الخاصة المتمايزة عن غيره.

نعرف أن بعض الباحثين حاول النظر في فوارق بيولوجية بين الأعراق والأقوام تؤثر على حجم الدماغ وطريقة عمله، بل إن بعض قدامى الكُتاب المسلمين اعتقد أن المناخ، ولا سيما مدة الليل والنهار ودرجة الحرارة، يؤثر هو الآخر على القابليات العقلية. ومن هذا القبيل ما ذكره المسعودي في «التنبيه والإشراف» من أن أفهام الأوروبيين بليدة، بسبب شدة البرد عندهم، فكلما اتجهنا شمالاً؛ حيث البرد أشدّ، وجدنا سكانه أكثر غباء وجفوة. وأرى أن قول المسعودي - ومثله ابن خلدون وآخرون - منقول عن آخرين، أو هو كلام سائر في المجتمع، وليس نتيجة ملاحظة مباشرة أو دراسة ميدانية.

وعلى أي حال، فهذه التقديرات لم تثبت قط، رغم أنها كانت تبرز بين حين وآخر، ولا سيما في ظروف الأزمة، ولهذا فليست ذات شأن أو تأثير. أما الرأي المرجَّح في الوسط العلمي فهو الأول الذي يَنسب تشكل الذهنية الخاصة للمجتمع؛ أي ما يسمى «العقل الجمعي»، إلى التجربة التاريخية لهذا المجتمع. وهذا أيضاً سبب التمايز بين المجتمعات التي تتفق في الذهنية العامة، لكنها تختلف في بعض التفاصيل؛ مثل اختلاف المجتمعات العربية في طرق العيش والتعبير عن الذات، رغم أنها جميعاً تتفق في الخطوط العامة للثقافة والتفكير ومعايير السلوك.

تحدَّث الجابري عن ثلاثة أركان أسهمت في صنع العقل العربي هي العقيدة والقبيلة والغنيمة. وأريد التركيز في هذه السطور على الركن الثاني (القبيلة) الذي يرمز لمعنى يتجاوز وصف القبيلة، السائد اليوم، فهو يشير، في الجوهر، إلى معنى الجماعة المترابطة، ذات الهيكلية الهرمية / الأبوية، التي يشد أجزاءها تصور عن الذات المشتركة والتاريخ المشترك، وليس بالضرورة عن التوافق الفكري أو الأهداف، إنها إذن أقرب إلى نظام بيولوجي (عائلات متحدة) وليس شرائح أو أطيافاً متوافقة.

النظر من هذه الزاوية ربما يُسهل فهم السر وراء صرف معنى «العقل»، عند علماء اللغة العرب، إلى الربط والعقد، وليس التفكيك وإعادة التركيب، كما هو المتبادر من معنى التفكير. وهي، إضافةً لذلك، تكشف عن سبب الحساسية الشديدة التي تُظهرها الذهنية العربية إزاء مخالفة التيار العام أو التمرد على التوافقات الاجتماعية. بعبارة أخرى، فإن هذه الذهنية مشغولة، في المقام الأول، بالمحافظة على الوحدة والانسجام، وليس بصناعة الفكرة الجديدة، التي ينبغي أن تنطوي، بالضرورة، على تعارض مع السائد والمتعارف.

الجماعة والمحافظة على وجودها هما محور التفكير العربي في الذات. الذات هنا لا تتجلى إلا بوصفها ذاتاً جمعية. وبهذا المضمون فإن الرابطة التي تجمع أعضاءها إلى بعضهم، تشكلت في الماضي، وهم حريصون على عدم مساءلتها أو تحدِّيها؛ لأنهم بهذا يهددون وحدتهم والرابطة التي تجمع بينهم. من هنا نعرف لماذا لا يتقبل المجتمع العربي الأفراد المستقلين والأفكار المعارضة للقيم السائدة والموروثة، ولماذا يُتهم الذين يخالفون أعراف المجتمع وقناعاته بأنهم معقَّدون أو مرضى نفسيون أو عملاء للأجانب أو ساعون للشهرة، ولماذا يتقبل عامة الناس هذه الاتهامات ولا يستنكرونها، رغم أنها قد تطولهم بالسوء إذا تجرأوا على الاختلاف.

حسناً... هل هذا أمر طيب أم سيئ؟

أظن أن الجواب يبدأ بتحديد الأولويات؛ أي ما الذي نريده أولاً: وحدة الجماعة وراحة بالها، أم استنهاض العقول وتجديد الفكر والحياة. ربما نقول إن لكل من الخيارين زمنه، لكن المؤكد أن جمعهما مستحيل. اختيار العقل يعني اختيار الفرقة، واختيار الوحدة يعني تقبُّل الجمود.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

يسلم كل احد منا بعد تطور العلم طبعا، لا قبل ذلك، ان من المخلوقات التي لا حصر لها جنت عن العين في حين أن اخرى وهي أيضا لا يمكن تعدادها ظهرت العيان.

الأشعة الكهرومغناطيسية، الأشعة السينية ، الموجات فوق الصوتية، الواي فاي، الالكترونات، النواة... وغيرها كثير مما يثبت العلم انها تتحرك في الاكوان وتكون بدورها مكونات اكبر او تتخللها عناصر أصغر  لها حركية كالافكار التي تدور بخلد كل منا كتصورات ونيات يمكن اما ان تقبر كما قبرت مجموعة من الابداعات التي لم تخرج الوجود وبقيت دفينة عقول اصحابها لانهم لم يجرؤوا على تحويلها لانتاجات تمدد من شخصياتهم في الزمكان، كما فعل اغلب العلماء الذين تجاوزوا الفراميل الوهمية، ليخرجوا افكارهم للوجود لتكون امتدادات لاعمارهم بعد موتهم.

وكما ذكرت سابقا على مقال سابق بجريدة القدس العربي، "فليست مقبرة هايغيت وحدها ذات الأهمية التاريخية العالمية لاحتوائها على الشخصيات الأكبر ذات الأهمية التاريخية ثقافيا، لكونهم أعلام ميدانهم كالمؤرخ إيريك هوكسباوم أو مؤسس الحركة التعاونية البريطانية جورج هوليك أو المفكر كارل ماركس أو المغني جورج مايكل وعالم التشريح هنري غراي أو عالم البيولوجيا التطورية هربرت سبنسر وغيرهم، بل في الحقيقة إن تأملنا بعمق فدائرة عدد الإنسانية ذات الأفكار الخلاقة هي أكثر اتساعا مما نعرف" انتهى الاستشهاد من المقال.

الافكار كمخلوقات جنت عن العين، يمكن تقسيمها إلى افكار سلبية واخرى ايجابية، او قل افكار نورانية وتلك الظلمانية، أو قل افكار تقرب من الفطرة واخرى تبعد عنها، او قل افكار متفائلة وتلك اليائسة، او قل افكار شيطانية وافكار ملائكية.

جاء في الحديث الشريف عن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معتكفا، فأتيته أزوره ليلا فحدثته، ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني -وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد رضي الله عنهما-، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي -صلى الله عليه وسلم- أسرعا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (على رسلكما، إنها صفية بنت حيي)، فقالا: سبحان الله يا رسول الله!، فقال: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا -أو قال شيئا-) ".  حديث متفق عليه.

معنى الشيطان لغة المبعد، فكل ما يبعد عن الله فهو شيطان.

لنتخيل ان مخرجا سينمائيا التقيته ولاقيته بمنتج ليمول فيلما سينمائيا يصور هاته الافكار المقصودة في هذا المقال، فلا مراء ان المخرج السينمائي ان اقتنع بالمبلغ المالي الذي يمكن أن يكون قد عرضه المنتج فانه بطبيعة الحال سيكون من السهل عليه ان يعرض الفيلم بعد اتمامه بداخل قاعة مظلمة يخرج من كوة متخصصة نورانية الآلة السينمائية التي تظهر الافكار المبثوثة السيناريو متحركة على شاشة السينما اما عن طريق التمثيل او كرسوم متحركة، المهم ان الانسان كعبد ضعيف استطاع تصوير الافكار وجعلها تتحرك وترسل الرسالة المقصودة.

فإذا قلنا مثلا ان اول فكرة اخرجت آدم عليه السلام هي الشيطان الأول الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم، فإنه والعكس بالعكس كانت فكرة نورانية اولى داخل الجنة الهمته التسبيح ليتوب الله عليه.فإذا سلمنا ان العبد يمكن ان يصور الفكرة فيلما يمكن ان يرى ويرسل الرسائل، فلم يصعب علينا أن نسلم ام الله عز وجل وهو على كل شيء قدير ان يجعل الافكار النورانية ملائكة تتكلم مع سيدنا ابراهيم لتبشره او وسوسة شيطانية مشخصة كما  كما تشخص القرين لمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي الصلاة، وإن الله أمكنني منه فذعته (خنقته) فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون أو كلكم، ثم ذكرت قول أخي سليمان: (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) فرده الله خاسئا".

لا ينكر اي كاتب توالد الافكار في دماغه، وهكذا ان تدبر اي منا هذا الامر فسيستنتج تلقائيا ان تلاقح الافكار اما ان يكون عقيما ان كانت الافكار غير ذات خصوبة او أنها ستتوالد وتتوالد حتى تؤلف سطورا وكتبا تقتات منها عقول شرهة مثل عقول قرائنا الاعزاء فيشعرون بلذة الوجبات الفكرية التي ان كانت معدة بمطبخ فكري متميز وطباخ ذو مهارات خاصة في انتاج السندويشات الفكرية يستبشر بها مستقبلوها استبشارا.

وتحسب أنك جـِرمٌ صغير  *** وفيك انطوى العالم الأكبر

 داؤك منك ومـــــا تبصر  ***  دواؤك فيك ومــــا تشعر

تحسب أنك جـــرم صغير  *** وفيك انطوى العالم الأكبر"

ابيات شعرية عميقة تعبر بجدارة عما نرومه في هذا المقال منهم من ينسبها لابن عربي الحاتمي وآخرون للخليفة الرابع سيدنا علي بن ابي طالب رضي الله عنه ، لكن الذي يهمنا ان الانسان عوالم من المخلوقات الحسية كالخلايا والالكترونات والكروموسومات والكريات البيضاء وتلك الحمراء، ومخلوقات معنوية كالملائكة والشياطين والوساوس والهلاوس وغيرها مما لا نعلم سواء في الاتجاه الايجابي او السلبي وكلها يمتطيها الحكيم ليصل إلى الحق اما بالاقدام او الإحجام بحسب فهمه للنصوص وكيفية تنزيلها في واقعه اليومي ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد مداد الحق عز وجل على لوح الأزل وعلى آله وصحبه وسلم.

***

د محمد غاني - المغرب

مع بداية العام الجديد 2025 كانت هناك الكثير من الكتب تنتظر القراءة، كتب كنت قد حصلت عليها من المعارض العربية والعراقية التي تجولت فيها العام الماضي.. وكان الخيار ان افتتح هذا العام بكتاب ممتع كنت ابحث عنه فعثرت عليه في معرض الشارقة.. الكتاب سيرة فكرية لاحد اشهر فلاسفة العالم العربي والاسلامي واعني به " ابن رشد " كتبها الاسباني خوان انطونيو باتشيكو وترجمه الى العربية احمد عبد اللطيف

كان في الخامسة والعشرين من عمره، حين قرر ان يقدم فلسفة ارسطو للقراء العرب.. فتى ممتلئ القلب بالمعرفة، تشغله موضوعات عدة منها الطب والفلك ودراسة المنطق، لم يلتفت اليه احد..حتى جاء ابن طفيل وامسك به من يده ليدله على الطريق.

في الثلاثين من عمره استحق وبجدارة لقب الفيلسوف، وسيصبح له فيما بعد تاثير حاسم على معظم فلاسفة اوربا في العصر الوسيط، حيث عرفه العالم الغربي باسمه اللاتيني "أفيروس ". وكان لكتاباته وابحاثه في تصنيف كل شيء، تاثير هائل على التفكير الفلسفي على مدى اكثر من الف وخمسمائة عام، صاحب طريقة فلسفية ترتبط بدور الفلسفة في تقدم المجتمعات، وقد قيل في اغلب الكتابات، ان بالامكان تقسيم الفلسفة العربية بين اتباع ابن رشد ومؤيدي الغزالي، وبينما حاول الغزالي الوقوف بوجه طروحات الفلسفة اليونانية فيما يتعلق بعلوم ما بعد الطبيعة والإلهيات، لان هؤلاء بنظره ينكرون الشرائع ويجحدون بتفاصيل الاديان والملل ويعتقدون ان الدين مجرد " ناموس مؤلف وحيل مزخرفة "، واصر على ان ماجاء به الوحي يُعد كافيا ولا حاجة الى تأملات العقل، حاول ابن رشد ان يوفق بين الفلسفة والدين، وكان يرى في احتقار الفلسفة اساءة للدين لانهما –الفلسفة والدين -:" صديقتان واختان بالرضاعة "، واكد على ان العقيدة برغم الدور الذي تقوم به في حياة الانسان، لا بد ان تخضع لتدقيق فلسفي عقلي.

تظل لابن رشد اهمية مستمرة لأنه يساعدنا في التعامل مع مشكلة لا تزال تحيرنا: كيغ نستطيع التوفيق بين الفلسفة والدين والعلم، وبين الإيمان والعقل. كان ابن رشد فيلسوفا ورجل دين معا، لقد رفض ان يفقد ايمانه، ورفض ان يكون مؤمنا من غير عقل، فطور فهما جديدا لمكانة العقل في حياة الانسان. كانت مساهمة ابن رشد الكبرى تعليم الحضارة العربية ان اي كائن بشري قادر على بلوغ حقائق عظيمة ان هو استفاد من اعظم عطية قدمها الله الى البشر: العقل. ففي رأيه ان اسمى اشكال العبادة تكمن غي دراسة الله من خلال اعماله باستعمال العقل، ولعل كتاب تهافت التهافت هو افضل تعبير عن فلسفة ابن رشد، مع ان اعماله الاخرى لاتزال مثار اهتمام الدارسين، فالكتاب يقدم لنا الدليل على ان الفلسفة العربية شهددت على يد ابن رشد قفزة نوعية، تجاوزت ما سبقها، واثبت بالدليل على سعة اطلاع ابن رشد ونضج تفكيره.

خلال حياته كان ابن رشد قد واجه الكثير من المصاعب، لكنه قرر أن ينتصر للفلسفة من هجمات رجال الدين الذين اتخذوا من كتب الغزالي ذريعة لمهاجمته، كان الغزالي قرر: "الكشف عما في الفلسفة من خداع وتدليس وتحقيق وتخييل "وهو يرى إن الفلاسفة تلازمهم صفة الكفر والإلحاد، ونجده يضع كتاباً بعنوان"تهافت الفلاسفة"، يبدأ فيه واحدة من أعنف الهجمات التي شنت على الفلسفة ونجده في كتابه تهافت الفلاسفة يؤكد على ضرورة:

1- النهي عن النظر في كتب القدماء، وفي مقدمتها كتب المنطق والفلسفة

2- تكفير الفلاسفة المسلمين لأنهم خرقوا الاجماع لتفضيلهم التأويل

في الخامسة والخمسين من عمره قرر ابن رشد أن يرد على كتاب الغزالي فنشر كتابه الشهير"تهافت التهافت"والذي أراد به أن ينتصر للفلاسفة، ويثبت امكانية التوفيق بين الفلسفة والدين، وضرورة الاستدلال العقلي، والانتفاع من تراث اليونان، واذا كان الغزالي يؤكد أن الفلسفة لاتلائم الإسلام في بعض مسائلها ولهذا وجب تكذيبها وتكفيرها، فان ابن رشد يرى إن"دين الفلاسفة إنما يقوم أصلاً على الإيمان بوجود الله وعبادته"، وإن العقل هو الذي يوصل الى معرفة الله، ومعرفة خلقه معرفة واقعية.

وينتهي ابن رشد في كتابه "تهافت التهافت" إلى الإعلان ببطلان آراء الغزالي ويقرر:

1- إن النظر في كتب القدماء واجب شرعي، وإن ما قيل في مخالفة الفلسفة للشرع دعوى باطلة ف"الفلسفة هي صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة"

2- إن التكفير بدعوى "خرق الاجماع في التأويل"، لأن التاويل قضية مسلم بها ولا يرتاب بها مؤمن، بل يزداد يقينه.

يكتب في" تهافت التهافت: " فتعرض ابي حامد الغزالي الى مثل هذه الاشياء على هذا النحو من التعرض لا يليق بمثله، فانه لا يخلوا من احد امرين: اما أنه فهم هذه الاشياء على حقيقتها، فساقها هنا على غير حقيقتها، وذلك من فعل الاشرار، واما انه لم يفهمها على حقيقتها فتعرض الى القول فيما لم يحط به علما. وذلك فعل الجهال، والرجل يجل عندنا عن هذين الوصفين. ولكن لابد للجواد من كبوة. وكبوة ابي حامد هي وضعه هذا الكتاب ولعله اضطر الى ذلك من اجل زمانه ومكانه ".

في بحثه عن مشكلة الخير والشر ان يبين لنا ان العقل بامكانه التمييز بين ما هو خير وما هو شر، ولهذا لم يرجع الى التمييز الى الشرع، بل ارجعه الى العقل تقديسا من جانبه للعقل الانساني ودوره في صياغة الكثير من الابعاد الوجودية الانسانية، كما ان ابن رشد اذا كان قد حاول من جانبه البحث في مشكلة التوفيق بين الدين والفلسفة، إلا انه كان اكثر الفلاسفة العرب في دراسته لتلك المشكلة، اهتماما بالبعد الانساني، ويكفي أنه كان يعلي العقل دوما، حيث رفع اهل البرهان فوق مرتبة اهل الخطابة والاقناع، بل فوق مرتبة اهل الجدل من المتكلمين، بل اننا لا نجد مشكلة يتصدى ابن رشد لدراستها إلا يبين لنا ان كلمة العقل فوق كل كلمة، وان الانسان ليس عاجزا عن التصدي لها وتقديم الاراء حولها. ان الدارس لكتب ابن رشد يجد تقديسا من جانبه للانسان وتثمينا لدوره، وانه حريص ان يبين لنا ابعاد الفعل الانساني، وما يستطيع الانسان ان يقوم به سواء في المشكلات التي تتعلق تعلقا مباشرا بالابعاد الإلهية، او تلك التي نجد انها تمثل التواجد الانساني، اعتمادا على العقل الذي هو في اساسه عقل انسان، عقل ليس عاجزا او مشلولا، ولكن العقل ذو الاستقلالية، العقل الانساني الذي يضع بصماته الواضحة والبارزة على هذا الوجود الذي نعيشه ونحياه

لقد آمن ابن رشد ان الحقيقة التي يتم التوصل اليها بالنظر العقلي، او عن طريق الفلسفة، هي الحقيقة الوحيدة التي تسمو على الحدود الدينية والقومية، وهي تراث مشترك بين الامم على مر العصور والاجيال.

تمثل رسالة ابن رشد في جوهرها ما ياتي: هناك حاجة ماسة لارتباط العقل بالدين والسعي الدائب الى المعرفة اينما كانت، وتذكرنا هذه الرسالة بان الحكمة يمكن ان تاتي من مصادر شتى، والانسان عليه ان يكون منفتحا، ياخذ كل ما يراه مفيدا فيستخدمه.

في كتاب "ابن رشد.. سيرة فكرية " ينطلق الكاتب الاسباني خوان انطونيو باتشيكو من المقولة الشهيرة المردّدة في الغرب، وهي "الطبيعة فسّرها أرسطو، وأرسطو فسّره ابن رشد"، في إشارة إلى الدور الذي لعبه ابن رشد في نقل المعرفة الأرسطية والفلسفة اليونانية الكلاسيكية إلى الغرب اللاتيني في العصور الوسطى، عندما تُرجمت كتبه إلى اللاتينية ومن ثم تم نقلها إلى أوروبا، وكيف كان يُستشهد بها كثيراً، حيث لاقت أفكاره اهتمام الفلاسفة الغربيين الذين كانوا يبحثون آنذاك عن الفكر العقلاني الحر ليواجهوا به المد اللاهوتي المسيحي المهيمن على كامل الحياة السياسية والاجتماعية في بلادهم، في العصور الوسطى المظلمة.

كفيلسوف كان ابن رشد يتماهى مع افلاطون في مقولته الشهيرة " طموح كل انسان السعادة "، وان الخير الاسمى في نظام حكم مستقر ودائم يحكمه " اصحاب حكم في زمن لا ينقطع ". افتتحنا العام بابن رشد.. اتمنى ان تخبروننا بالكتاب الذي ستفتتحون به هذا العام.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

ما هو الصحيح وما المفيد في هذا النوع من الابداع؟، واذا اتفقنا عليه بمعناه العام ودوره المهم في الثقافة والمعرفة عموما، فان تسجيل ملاحظات اضافية لتعميم الفائدة وتقدير العمل والجهد الثقافي تسهم في التطوير والتكامل وتوسيع المنفعة، وغيرها، وتلك ملاحظات وحسب، عن الترجمة للعربية، وللمترجمين العرب، حرصا على ايصال النص المترجم الى القراء العرب بلغة عربية واضحة ومتفق عليها، بعد الاتفاق وتحديد المسؤولية والاهتمام الجاد عموما، ومنها العناوين واسماء الكتاب الاجانب. مع كل التقدير للجهود المبذولة في الترجمة والمعاناة المتفرعة من اكثر من حالة تواجه بعد الانتهاء من الترجمة او خلالها وصولا الى الانتهاء من الطبع والتوزيع للنص المترجم، من اي صنف ثقافي او ادبي. اذ لا خلاف على اهمية الترجمة وضرورتها لتلاقح الثقافات وتلاقي الابداعات وتصارع الافكار والاجتهادات. (للتوسع يطالع كتاب فن الترجمة للكاتب البرتو مانغويل، ترجمة مالك سلمان، ط1، 2024)

ملاحظة اولى او دعوة للمترجمين ومنظماتهم في الاتفاق على ترجمة الحروف الاجنبية التي لا يقابلها حرف عربي واحد، كيلا يقود اختلاف الترجمات الى تشويش القراء، مثل حرف g الانجليزي، لفظا وكتابة، فتترجم صحيفة The Guardian مثلا الى صحيفة الجارديان او الغارديان او الكارديان، ومثلها حصل مع ترجمة اسم الكاتب الكولومبي الكبير جبراييل جارثيا ماركيز (6 آذار/ مارس 1927 - 17 نيسان/ أبريل 2014) ففي ترجمة د. طلعت شاهين كتب الاسم هكذا، وفي ترجمة صالح علماني، كتب الاسم غبرائيل غارسيا ماركيز، وفي الوكيبيديا يختم الاسم المفرد منها بحرف الثاء، (بالإسبانية: غابرييل غارسيا ماركيث) كما نشرته. (وهذه القضية ينبغي أن تكون مهمة في الترجمة العربية وتحسب عند كل من يهمه الامر، ويتفق عليه باعتبار النظر واللفظ الأصلي أو المعروف، وتوحيده عربيا بين مشرق ومغرب واجتهاد واختصاص). وحصل الاختلاف على العنوان، ايضا، فجاء في ترجمة المترجم شاهين، "أن تعيش لتحكي"، بينما عند المترجم علماني: "عشت لأروي". (وهذا سؤال آخر؟!) رغم ان ماركيز في الصفحة التالية للنسخة الأولى، كتب: الحياة ليست ما عاشها وحده منا، بل ما يريدها، وكيف يريدها، ليحكيها. وقصة الكتاب رواية أخرى للروائي، ولم يكن المترجم د. شاهين في تقديمه أن يقدم ماركيز على كتابها، لأنه كما شاهد، كتب معظم فصولها في رواياته التي كانت عاشقة حياته اليومية بتفاصيلها التي عاشها وشاهدها، ولكن بعد كتابتها لم يخبرها بذلك حتى إعلانه عن اتمامه الجزء الأول منها.

ملاحظات اخرى حول المترجم والترجمة، هنا وعموما، حيث يتطلب من المترجم التعريف عن المؤلف ونشر معلومات عنه، سيرة ذاتية تفصيلية له، اذ ارى ان هذا مهم جدا للقاريء، كما لابد من ترجمة اخرى عن المترجم نفسه لاستكمال الصورة. كذلك في طباعة بعض الحروف العربية، والمطابع العربية، كما يحدث مع التاء المربوطة، او حرف الياء، حيث يجب، ولا يصح تجريدها من نقاطها ونطقها بغير معناها، وبحرف اخر موجود في اللغة العربية. وتبقى العناية بقواعد اللغة ونحوها مهمة جدا، جدا، لاكمال المهمة المطلوبة من طبع الكتب وتدقيق اللغة وتعزيز الثقافات.

كتبت منى الشايب، ابنة المترجم الراحل طلعت الشايب في تقديم "الاعمال الكاملة، للكاتب والمترجم طلعت الشايب": كان ابي قارئا نهما ومتابعا دقيقا لكل الاصدارات الحديثة لمعظم الكتاب والمفكرين والادباء العرب والاجانب، لكن امتع لحظاته تلك التي يقضيها في ترجمة عمل ونقله من لغته الام الى اللغة العربية.

كان يصف ترجمة الشعر والادب بالمغامرة المحفوفة بالمخاطر، المهمة هنا اشد صعوبة لانك لا تنقل افكارا او معلومات، بل احاسيس ومشاعر واجواء روح نص لاعمال مثل اتبعي قلبك، واصوات الضمير، وبقايا اليوم، وهوس العمق، والخوف من المرايا، وفتاة عادية، وغيرها.

 واضافت، نقلا عن والدها المترجم المعروف; عليك بصفتك مترجما، مهمة الحفاظ على روح الكاتب الاصلي، وموسيقى النص ليصل المعنى الى القاريء وكانه يقرا العمل بلغته الأصلية، وكأن العمل له كاتبان؛ الكاتب الاصلي والمترجم.  (…) ابي كان راهبا في محراب الترجمة، شغوفا برحلته مع كل كتاب، تلمع عيناه في نهاية يوم عمل شاق بما اكتشفه في رحلته من أفكار وثقافات يتحدث عنها بحماسة وسعادة من يعيد اكتشاف ذاته كل مرة.

وكان من ابرز الترجمات له، كما ذكرت منى، صدام الحضارات، والحرب الباردة الثقافية، وفكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي، والاستشراق الامريكي، وغيرها من الاعمال الهامة.

عن أهمية الترجمة ودورها ومكانها عند المؤلف والقاريء، كتبت المؤلفة جوديث بتلر في تقديم كتابها "قلق الجندر، النسوية وتخريب الهوية"، وترجمة فتحي المسكيني، عن الترجمة العربية لكتابها ورأيها فيها: "ومع ان نصا مترجما هو، في رأيي، ينتمي الى المترجم اكثر منه إلى المؤلف الاصلي، فانا في وضعي الفوز وذلك على وجه الدقة لان الترجمة تفكك القيود الجيوسياسية لتفكيري المبكر. لقد وجدت اثناء رحلاتي، أن المترجمين هم منظرون وفلاسفة وعلماء اجتماع محليون او جهويون، وان لهم عملهم الخاص الذي يتناول عملي ويتجادل معه".

 واخر ملاحظاتي، لابد للمترجم لاتمام مهمته ان يختم ترجمته بتفاصيل عن الكتاب المترجم، سنة اصداره ودار نشره واللغة المترجم عنها، ولا باس من الاشارة الى لغة الكتاب الاصلية، التي كتب بها قبل الترجمات له. فكل هذه الملاحظات تصب في خدمة الجهد المبذول، واتمام مهمة المترجم ودوره الثقافي.

***

د. كاظم الموسوي

لا يخفى ما للنقد من أهميةٍ فصّل في أثرها في تطوير الوعي والمعرفة في كل مجال من مجال الحياة، رعيلٌ يبدأ بالقدماء من العرب وغيرهم، وقد لا أكون مُغاليا في القول: لولا النقد لما تطوّرت الحياة في كل مجالاتها. ومن هذا المنطلق، كان للنقد الأدبي أثرُه في تطوّر الشعراء مما يطرحه النقّاد لهم سواء على مستوى السجالات النقدية التي جرت بينهم في مختلف العصور، أم على مستوى استفادتهم مما طرحه النقاد في كتبهم من تصورات نظرية عن الشعر في تصوّراتهم النظرية، وملاحظهم التطبيقية التي اشتغلوا فيها على نصوصٍ كثيرة من الشعر، وأبدوا فيها مختلف التصورات من زوايا مختلفة تعبّر عن سعة النقد في مجالات اشتغالاته، واختلاف مرجعياته.

وإذا كان للنقد من أهمّيةٍ وأثرٍ لا تُنكر، فنقد النقد بما يُعنى به من متابعة ما يصدر عن النقّاد من طروحات وأفكار، وإعادة ضبطها أو محاكمتها، أو بيان ما تقوم عليه من أسس فلسفية واستظهار الجيّد منها وعزل الضار أو المنفصل عن واقعها الراهن، أو غير ذلك من إجراءات يتّخذُها "ناقد النقد" حرصًا منه على أنْ يكون النقد سليمًا معافىً من الوقوع في شباك الأوهام، أو المصادرات التي تُحسب على النقد من حيث الإجراء أو التطبيق، يكون والحالة هذه – نقد النقد- هو الأساس في تقييم النقد، فالأهمّيةُ إن تمّ احتسابها للنقد، فهي من باب أولى تُحسب لمن يُتابعه ويسهر على جعله ضابطًا لما ينبثُّ فيه من أفكار ونظريات وتصوّرات.

ومن هنا، كانت الخطوةُ رائعةً من اتحاد الأدباء والكتاب في العراق - المركز، أنْ أطلقوا خلال الأيام القليلة الماضية، المؤتمر التأسيسي الأول لمؤتمر "نقد النقد" وفي ذلك دلالة لأهمية ما يدعو إليه هذا المؤتمر في أهدافه وتوجّهاته وما يتبناه. ومن الصواب أنْ نشير إلى أنَّ اتحاد الأدباء والكتاب في بابل في الثامن من شهر أيار الماضي، كان أيضا قد أقام ملتقى تناول فيه نقد النقد، ولنا أنْ نقفَ على المشتركات بينهما، وما اختلفا فيه من بعض النواحي، فقد جمعهما أمران لا ثالث لهما: الأول أنَّ كلاهما برعاية اتّحاد الأدباء والكتاب في العراق، والأمر الآخر: كان كلاهما يتمحوران حول قضية (نقد النقد) أما الذي يختلفان فيه، ففي جوانبَ كثيرة، فالأوّل رعاه اتحاد الأدباء والكتاب في بابل، أمّا الذي عُقِد مؤخّرًا، فكان برعاية اتحاد الأدباء والكتاب في بغداد، ومعلومٌ أنَّ الفرق بالإمكانات والاستعدادات اللوجستية لكلا المؤتمرين، سيكون لهما الأثر في الإعداد والتحضير والترتيب والتنظيم، وهذا ما اتَّضح أثرُهُ بوضوح على مؤتمر نقد النقد الذي رعاه الاتحاد في بغداد الذي يمثِّل مركز الثقل من حيث الإعداد والتنظيم، ناهيك عن الأشخاص الذين كان لهم الأثر العلمي في رعاية المؤتمر، وأعني به اللجنة العلمية التي تقف وراء هذا التنظيم، ففي المؤتمر الذي عقد اتحاد أدباء بابل، لم يُعلن عن اللجنة العلمية التي تابعت أو نظّمت هذا النشاط، فلم يُعلن عن رئيس لجنته العلمية..؟ حتى يُتاح للمتلقّي أنْ يكوِّن تصوُّرا عن إمكاناته وخبرته في إدارة مثل هذا المشروع المعرفي المهم في مجاله، أما في اتحاد الأدباء المركزي في بغداد، فقد كان لرئيسه الأستاذ الأكاديمي الدكتور عبد العظيم السلطاني، المعروف باهتمامه الأكاديمي في هذا المجال، فضلاً عن مؤلفاته وبحوثه التي تناولت نقد النقد، الأثر الواضح في تنظيم كل ما له علاقة بمحاور هذا المؤتمر، مع ثلّة طيّبة لهم خبرتهم ودرايتهم في هذا المجال، وهم كلٌّ من الناقد الأكاديمي الأستاذ الدكتور علي متعب جاسم رئيس تحرير مجلة الأديب التي يصدرها الاتحاد، وقد شهدت له الأعوام الأخيرة انتقالة نوعية ناجحة لإدارة هذه المجلة ورصانتها، كذلك الناقد الأستاذ علي سعدون وهو رئيس تحرير مجلة الأقلام، وقبلها عمله الطويل في مجال النقد الأدبي منذ تسعينات القرن الماضي، تأليفًا ورصدًا للمشهد الأدبي والنقدي، وإذا كان شعار الملتقى الذي أقيم في بابل، بعنوان: (نقد النقد.. المفهوم وجدل التحوّل) فلنا أنْ نقارنه بعنوان المؤتمر الذي أقيم مؤخّرًا، بعنوان (نقد النقد – التنظير والإجراء) وهنا بحسب ما قرّ في ذهني عن مفهوم (الجدل) عمومًا أنّه يقتضي إشكالية حول مصطلح أو منهج أو قضية استوقفت فريقين أو أكثر من النقاد والباحثين يُدلي كلُّ فريقٍ منهم برأيه أو حجّته، وهذا ما لا أظنّهُ قد دار حول مفهوم "نقد النقد" إذ الآراء التي دارت حول هذا المفهوم لم يشتبك أكثرها – إن لم نقل كلُّها - في وقتٍ واحد، بل كانت تُطرح من قبل أصحابها في مختلف الأزمنة، وبالنتيجة تجد المتأخِّر منهم يُعيد النظر على ما أطلقه القدماء حول هذا المفهوم من اصطلاح، فيحاول تقشيره، أو إعادة النظر فيه، وهذا الحال لا يصحُّ وصفه بالجدل، في قبال ذلك أجد أنَّ العنوان الآخر للمؤتمر التأسيسي لنقد النقد، وهو (نقد النقد – التنظير والإجراء) أكثرُ استجابةً لواقع حال المصطلح، وما دار حوله من اشتغالٍ فكري، تمثّل بضبط المصطلح، وفحص مكوّناته، وبيان حدود اشتغاله سواء على المستوى النظري أو التطبيقي، وهذا الفهم أقرّه كثير ممن كتب في رصد هذا المجال الفكري ورسم حدوده وفك التباساته.

بقي لنا أنْ نعيد النظر في المشاركات أو المشاركين في هذين المؤتمرين، ولا ننكر أنَّ اسمًا قد نجده يتردّد في المؤتمرين، وهو الناقد الأكاديمي الدكتور جاسم حسين سلطان الخالدي، وباستثناء هذا الاسم، تبقى كفّة المؤتمر التأسيسي الأخير هي الأرجح، بعدّة أمور، منها: أنه تم تقسيمه إلى جلستين: صباحية ومسائية، وكل جلسة فيها محوران، ما عدا المحور الأول من الجلسة الأولى، فكانت محاضرةً افتتاحيةً للناقد العراقي الكبير الأستاذ فاضل ثامر، عن "نقد النقد – ضبط المصطلح والمفهوم" وبهذا يكون عددُ الباحثين الذين اشتركوا في هذا المؤتمر – ما عدا المحاضرة الافتتاحية التي نوّهنا بها آنفًا – خمسةً عشر باحثًا، فضلاً عن ذلك أنَّ بحوثهم كلُّها تصبُّ في دائرة نقد النقد ولم تخرج عن مداره، وقد انتظمَ عرضُها بحسب التسلسل المنطقي، فكان المحور الثاني في الجلسة الصباحية، قد تناول (نقد النقد/ تصورات نظرية) أما الجلسة المسائية، فكان كلا المحورين فيها يدوران حول الجانب التطبيقي من نقد النقد، وما يبعث على سلامة هذه الدراسات ورصانتها، ما أشرنا إليه سابقًا، من كفاءة اللجنة العلمية وحرصها أنْ تكون مدخلاته ومخرجاته لا تخرج عن دائرة موضوع المؤتمر، أما في ملتقى نقد النقد في بابل، فكانت قد اقتصرت على خمس أوراق/ أبحاث. ومثل هذا العدد من الأبحاث قد كان في محورٍ واحد من محاور مؤتمر النقد التأسيسي في بغداد.. ولا يعني ذلك أنْ نبخس الجهود في ملتقى نقد النقد الذي أقيم برعاية اتحاد الأدباء والكتاب في بابل، ولكن.. قد يتساءل القارئ وهو يطالع عنوان أحد تلك الدراسات التي قُدِّمت في ذلك الملتقى، وهو: (في النقد  المعماري - د . خالد السلطاني / بياضات الشعرية/  تكرارات التكرار) للدكتور محمد أبو خضير، بالقول: ما علاقتها – وهي دراسة محترمة بالطبع – بنقد النقد..؟ فضلاً عن كون الدراسات التي قُدِّمت إلى هذا الملتقى، لم تخرج جميعها عن "نقد النقد الأدبي" ما يفرضُ وحدة المجال المعرفي لكل الدراسات المقدّمة فيه، ناهيك عن اعتبارات أخرى محكومة بالمجال الأدبي الذي انطلق منه اتحاد الأدباء والكتّاب. ولعلَّ مزيةً أخرى تُحسب لمؤتمر نقد النقد في بغداد، أنَّ الدراسات قد تمَّ تدوينها وطبعها في كتاب بعنوان (المعوَّل عليه) يمكن للقارئ أنْ يُديم النظر فيها، ويُطالعها بصورة جيدة، مما يُتيح له فرصة في تثبيت سؤال أو إشكال على بعض ما في تلك الدراسات، ويطرحها خلال ذلك المؤتمر وبعده، أما الدراسات التي قُدِّمت في ملتقى نقد النقد في بابل، لم يُتح لها أنْ تُوثّق في كتاب، وبالنتيجة قد يفوتُ نفعُها لمن يريد أنْ يستفيد منها، أو يقف على ما ورد فيها من أفكار قد تكون صالحة وجيّدة، وقد تكون مثيرة للنقاش، فما أتذكّره سماعًا من ورقة الأستاذ عبد علي حسن، التي جاءت بعنوان (النقد المصطلحي بوصفه مفهوما مركزيا في نقد النقد) فقد ذكر أنه (ليس  لأحد أن يدعي التأسيس ولا التنظير في نقد النقد، بمعنى ليس هنالك تأسيس نظري ولا توجد نظرية) وهي عبارة تستدعي السؤال بهدوء: من الذي يدّعي التأسيس لنقد النقد، وكل من كتب عنه إنّما يبحث في المدوّنات السابقة من كتب النقد الأدبي والدراسات النقدية، باحثًا عن خيوط رفيعة تشتغل في مجال نقد الأفكار النقدية أو التطبيقات منها، فكيف يدّعي أحدٌ التأسيس والريادة في مجالٍ يكشفُ عن المشتغلين فيه، كلُّ ما هنالك يُمكن أنْ يُحسَب للناقد في تصدّيه لكشف تلك الممارسات في نقد النقد ومقاربته لها من مستويات متعدّدة، ولعلَّ الإنصاف – إذا وضعناه نصب أعيننا – يقودنا إلى أسماء مهمة عالميا وعربيا ومحلّيا عملت في مجال أرخنة تلك الممارسات ومقاربتها نقديًّا بمستويات، مثل تودورف عالميا، أو محمد مندور أو محمد برادة أو نبيل سليمان أو حميد لحمداني أو شكري عزيز الماضي أو محمد الدغمومي أو يوسف وغليسي عربيا أو محمد صابر عبيد أو عبد العظيم السلطاني عراقيًّا.. فكلُّ واحدٍ من هذه الأسماء، كان له إسهامة في إثراء هذا المجال المعرفي، وكشف أبعاده، وفكِّ التباساته، وترصين خطابه، بما يجعله مجالاً حيويًّا، ينفع الناقد ويُسدِّده فيما يريد أنْ يتجه إليه، ولأن اتجاهات النقد متنوِّعة فمن الطبيعي أنْ لا نجد نظرية في نقد النقد، فكلامُ الأستاذ عبد علي حسن (ليس هنالك تأسيس نظري ولا توجد نظرية) تحصيل حاصل؛ لأن نقد النقد ليس منهجًا يقف بإزاء المناهج النقدية المعروفة في الساحة الأدبية من سياقية أو نسقية، وغيرها من مناهج تُعنى بتحليل الخطاب السردي، بل يمكن أن نجد في كل منهج من هذه المناهج خطابًا نقديًّا – أي: نقد نقد – يتمحور حولها فيُناقش ما طُرِح في إهاب تلك المناهج من رؤى وتصوّرات نظرية أو اشتغالات تطبيقية، مُعيدًا النظر فيها، متفحّصًا خطواتها الإجرائية تارةً، وفارزًا لما وقع فيه ذلك الناقد من وهم في تمثيله لمصطلح، أو رؤية نظرية أراد تطبيقها ففهم خلاف ما يُراد منها،.. الخ من إجراءات أشار إليها من كتب في التنظير لنقد النقد، فالتأسيس النظري لا يُمكن أنْ يتوفّر لكل هذه المناهج، بقدر ما تكون هنالك خطوات وإجراءات يحرص الناقد المشتغل في مجال (نقد النقد) على النقّاد أنْ يلتزموا بها؛ لتعصمهم جهد الإمكان من الوقوع في الأوهام والتمثّلات البعيدة عن روح المنهج النقدي الذي يزعمون تطبيقه في قراءة نص وتحليله.

وختامًا تبقى مثل هذه المؤتمرات والملتقية نافعة لاسيّما في حال توثيقها كتابيًّا، فالدارس الذي يأتي بعد سنوات، سيبحث عن المكتوب، ناهيك عن جودته ومدى التزامه المنهج العلمي المتّبع في توثيق تلك الأفكار وتحليلها. وتكون مثل هذه الدراسات مادة ناطقة بأفكار أصحابها، أما المؤتمر أو الملتقي فينتهي صداه، وتبقى المادةُ المكتوبةُ شاهدةً عليه.

***

د. وسام حسين العبيدي

جائزة إراسموس لعام 2024 لعالم الأنثروبولوجيا الهندي لمساهمته الملهمة في موضوع هذا العام «خيال ما لا يمكن تصوره». وذلك من خلال أعماله التي تهتم بمواضيع الساعة؛ من بينها الأسباب الرئيسية لتغير المناخ.

وغوش (ولد عام 1956)، في كلكتا، عالم أنثروبولوجيا اجتماعية من جامعة أكسفورد، ويعيش بين الهند والولايات المتحدة. تتضمن أعماله روايات تاريخية ومقالات صحافية. وتعتمد كل أعماله على بحث أرشيفي شامل، وهي تتجاوز الزمن والحدود المكانية. ومن بين المواضيع الرئيسية، التي يتطرق إليها، الهجرة والشتات والهوية الثقافية، دون إغفال، طبعاً، البعد الإنساني.

في كتابيه الأخيرين "لعنة جوزة الطيب" و"الدخان والرماد: التاريخ الخفي للأفيون"، يربط غوش بين الاستعمار وأزمة المناخ الحالية، مع إيلاء اهتمام خاص لشركة الهند - الشرقية الهولندية.

وكان الاستعمار والإبادة الجماعية، وفقاً لغوش، من الأسس التي بنيت عليها الحداثة الصناعية. علاوة على ذلك، فإن النظرة العالمية، التي تنظر إلى الأرض كمورد، تذهب إلى ما هو أبعد من الإبادة الجماعية والإبادة البيئية. التي تستهدف كل شيء - الناس والحيوانات والكوكب نفسه، والسعي وراء الربح، قد استنزف الأرض وحوّل الكوكب إلى موضوع للاستهلاك.

المخدرات أداة استعمارية

ويدور موضوع كتاب «الدخان والرماد» حول الرأسمالية التي تفتقد أي وازع أخلاقي. وبداية، يفند المؤلف الكتابات التي تدعي أن الأفيون كان يستخدم في الصين بشكل واسع، ويعتبر ذلك من الكليشيهات التي لا أساس لها من الصحة، إذ لم يكن إنتاج الأفيون نتيجة للتقاليد الصينية، بل «كانت المخدرات أداة في بناء قوة استعمارية». وكان النبات يشكل جزءاً مهماً من الاقتصاد في مستعمرة الهند البريطانية. وفي كتابه «لعنة جوزة الطيب»، يستدعي غوش المذبحة التي اقترفها جان بيترزون كوين (1587 - 1629)، في جزر باندا في عام 1621 للسيطرة على احتكار جوزة الطيب. يطبق قوش الآن هذه الطريقة أيضاً على الأفيون. وكان قد سبق له أن كتب عن تاريخ الأفيون «ثلاثية إيبيس»؛ وتتضمن «بحر الخشخاش» (2008)، و«نهر الدخان» (2011)، و«طوفان النار» (2015). وروى فيها قصة سفينة العبيد، إيبيس، التي كانت تتاجر بالأفيون بين الهند والصين خلال حرب الأفيون الأولى (1839 - 1842).

يقول جان بريمان (1936) عالم اجتماع الهولندي والخبير في مواضيع الاستعمار والعنصرية وما بعد الكولونيالية، عن "لعنة جوزة الطيب": "ما الذي ألهم هؤلاء الهولنديين من (VOC) شركة الهند - الشرقية، بقيادة كوين لذبح جميع سكان جزر - باندا قبل أربعة قرون"؟ هذا السؤال يطرحه أيضاً الكاتب الهندي غوش في كتابه "لعنة جوزة الطيب". علماً بأن جوزة الطيب لا تنمو إلا في هذه الجزر. ويضيف بريمان:"«ليس من باب الاهتمام بما نعتبره نحن في هولندا النقطة السيئة في تاريخنا الاستعماري، ولكن لأن، عقلية شركة الهند - الشرقية الهولندية ما تزال منذ 400 عام تحركنا، بل إنها تغرقنا مباشرة في أزمة المناخ. وباختصار، تعتبر قصة الإبادة الجماعية في جزر - باندا بمثابة مَثَل لعصرنا، وهي قصة يمكن تعلم الكثير".

دولة المخدرات لشركة الهند - الشرقية

كانت هولندا أول من اعترف بالقيمة التجارية للأفيون، وهو المنتج الذي لم يسبق له مثيل من قبل. ولضمان توفر ما يكفي من الأفيون للتجارة، تم استخدام المزيد من المناطق في جزيرتي جاوة ولومبوك لزراعة الخشخاش. وتبين أن احتكار شركة الهند - الشرقية للأفيون كان بمثابة إوزة تضع بيضاً ذهبياً، فقد عاد الحاكم العام إلى هولندا في عام 1709 ومعه ما يعادل الآن "ثروة بيل غيتس" وقد يعود جزء من ثروة العائلة الملكية الحالية لهذه التجارة، بحسب غوش، نتيجة استثمارها الأموال في شركات الأفيون. وهكذا أصبحت هولندا "دولة المخدرات الأولى". ولكن تبين أن ذلك كان لا شيء، مقارنة بما فعله البريطانيون في الهند؛ وفقاً لغوش، فقد أتقنوا إدارة "أول كارتل عالمي للمخدرات".

ففي الهند، أجبر البريطانيون المزارعين على تحويل أراضيهم إلى حقول خشخاش والتخلي عن المحصول بأسعار منخفضة. ثم قاموا ببناء المصانع حيث كان على (العبيد) معالجة الأفيون وسط الأبخرة. ولم تكن السوق الهندية كبيرة بما يكفي، لذلك كان على الصينيين أيضاً أن يتكيفوا. ومع ذلك، يبدو أن الصينيين لم يكونوا مهتمين على الإطلاق بالتجارة مع البريطانيين. ويقتبس غوش رسالة من تشيان لونغ، إمبراطور الصين آنذاك، الذي كتب في رسالة إلى الملك البريطاني جورج الثالث في عام 1793: "لم نعلق أبداً أي قيمة على الأشياء البارعة، ولم تكن لدينا أدنى حاجة لمنتجات من بلدك".

لعب الأفيون دوراً مركزياً في الاقتصاد الاستعماري منذ عام 1830 فصاعداً. وتم إنشاء المزيد والمزيد من المصانع في الهند لتلبية احتياجات «المستهلك الصيني»، كما كتب الكاتب البريطاني Rudyard Kipling روديارد كبلنغ عام 1899 في تقريره «في مصنع للأفيون»؛ فرغم الرائحة الخانقة للأفيون، كان «الدخل الكبير» الذي حققه للإمبراطورية البريطانية أهم.

تضاعفت مساحة حقول الخشخاش في الهند إلى ستة أضعاف. ويوضح غوش بالتفصيل ما يعنيه هذا لكل من المجتمع الهندي والطبيعة في القرون التي تلت ذلك. فلا يحتاج نبات الخشخاش إلى الكثير من الرعاية فحسب، بل يحتاج أيضاً إلى الكثير من الماء، مما يؤدي إلى الجفاف واستنزاف التربة. كما شكلت تجارة الأفيون جغرافية الهند المعاصرة بطرق أخرى. وأصبحت مومباي مدينة مهمة كميناء عبور للأفيون في عهد البريطانيين. ولا تزال المناطق التي تم إنشاء معظم حقول الأفيون فيها في ذلك الوقت من بين أفقر المناطق في الهند.

يوضح قوش كيف يعمل التاريخ، وبالتالي يميز نفسه عن معظم الكتاب الذين تناولوا الموضوع ذاته.

كما أنه يرسم أوجه تشابه مع الحاضر، التي لا يجرؤ الكثير من المؤلفين على تناولها. ووفقاً له، لا توجد مبالغة في تقدير تأثير تجارة الأفيون الاستعمارية على الأجيال اللاحقة. فما أنشأه البريطانيون في المناطق الآسيوية لا يختلف عن عمل منظمة إجرامية - حتى بمعايير ذلك الوقت، كما يكتب غوش، وهذا ما زال قائماً.

إن رؤية ذلك والاعتراف به أمر بالغ الأهمية لأولئك الذين يرغبون في العمل من أجل مستقبل أفضل.

يوم أمس منح ملك هولندا ويليام ألكسندر جائزة إيراسموس لأميتاف غوش في القصر الملكي في أمستردام، تقديراً لعمل غوش، الذي يقدم، بحسب لجنة التحكيم، "علاجاً يجعل المستقبل غير المؤكد ملموساً من خلال قصص مقنعة عن الماضي، وهو يرى أن أزمة المناخ هي أزمة ثقافية تنشأ قبل كل شيء من الافتقار إلى الخيال".

***

نجاة تميم

...................

* نشر أيضا في جريدة الشرق الأوسط الإلكترونية والورقية، يوم 27 نوفمبر\تشرين الثاني 2024

عرّف أفلاطون العدالة بأنها: نظام في النفس يكفل لها جمالاً وانسجاماً.. ويلاحظ أرسطو إن الناس جميعاً يتفقون على إن العدالة في التوزيع يجب أن تجري وفقاً للاستحقاق إلا أنهم يختلفون في فهم المقصود من الاستحقاق.

الدولة القوية العادلة تفرض واقعاً ايجابياً على حياة وسلوك المجتمع، وقد يبدو غريباً ان القوة قدمت على العدالة هنا، ذلك ان الدولة الضعيفة لا تتمكن من فرض القانون على الجميع من دون استثناء فيتحقق الظلم وتنهار القيم الإجتماعية وتنحدر الأخلاق العامة وتتفشى الجريمة.

والقانون بدون عقوبة تفرض بالقوة لا يعد قانوناً بالمعنى الصحيح فلا يعدو في هذه الحالة عن كونه مجرد نصيحة للمخاطبين بحكمه للإلتزام بقواعده.

أما اذا كانت الدولة قوية وعادلة فإن ذلك مدعاة للتقدم الإجتماعي ولرقي الأخلاق والآداب العامة وإنخفاض مستوى الجريمة والفساد وحقائق التاريخ تؤكد ذلك.

وقد تنهض القوة لوحدها لفرض واقع إيجابي صوري مؤقت كما يحصل عادة في الأنظمة الدكتاتورية والأنظمة البوليسية إلا ان العدالة (للأسف) لا يمكن ان تنهض لوحدها دون قوة تحميها وتشدد القبضة على المجرمين والمارقين والفاسدين.

فينبغي أن تأتي القوة بمناسبتها والعدالة في وقتها وأن تجمعهما رابطة العلة بالمعلول.

العدل والعدالة؛

يميز الفقه الحديث بين فكرة العدل وفكرة العدالة؛ فالعـدل (Justice): يفيد معنى المساواة، وهي مساواة مرتبطة بالدور الاجتماعيللقانون، فالمفروض ان يطبق القانون بمساواة جميع الاشخاص والحالات التي يتناولها في مركز قانوني معين ولغرض معين بالذات وللهدف الذي يرمي اليه، فالمثل يعاملكمثله، وغير المتساويين لا يلقون معاملة متساوية، وهكذا قرر الرومان، كما جاء فيمدونة جستنيان، القاعدة القائلة بأن (مساواة غير المتساويين ظلم).

ويذهب خطيب روما الشهير سيشرون الى القول: (ان العدالة التي تساوي بين خيار الناس وأشرارهم هي ستار للظلم).

ويتحقق ذلك من خلال قواعد قانونية عامة مجردة تطبق على الجميع بنزاهة ودون محاباة وبعدالة ويقتصر دور العدل الشكلي هنا على بيان أن الإجراءات كانت عادلة لاناحدا لم يستثنى او يستبعد بشكل غير عادل من تطبيق القانون، لا فرق بين ام تسرق لإطعام أطفالها الجياع وبين من يسرق لإرضاء ملذاته وشهواته، مثلا. لأن العدل القانوني يعتد بالوضع الغالب الظاهر لا بالوضع الداخلي الخاص بالمخاطبين بحكمه.

اما العدالـة  (Equity): فتعني الشعور بالإنصاف وهو شعور كامن في النفس يوحي به الضمير النقي ويكشف عنه العقل السليم وتستلهم منها مجموعة من القواعد تعرف باسم قواعد العدالة مرجعها مثل عليا تهدف الى خير الإنسانية بما توحي به من حلول منصفة ومساواة واقعية تقوم على مراعاة دقائق ظروف الناس وحاجاتهم.

ان التمييز بين فكرتي العــدل والعدالــة هو السبب في ان كل الأنظمة القانونية شعرت بالحاجة الى إصلاح صرامة القانون من خلال الدعوة الى تفسير القانون بروح العدالة بدلا من التركيز على حرفية النصوص عندما يشعر القاضي ان الظلم بعينه يتحقق لوطبق القانون بحذافيره وهذه الحالة نجد تعبيرها في القول المأثور (الرحمة فوق القانون) الذي لا يعني إلا أن على القاضي ان يعالج الحالة الفردية الخاصة بروح العدالة. ووجدت هذه الفكرة تطبيقا في مظاهر متنوعة، ففي انكلترا انشأت منذ قرون ما يعرف بمحكمة العدالة للتحرر من جمود القانون العام الانكليزي وعلى اساس فكرة (ان العدالة تنبع من ضمير الملك) فيما اعتبرت قوانين أخرى قواعد العدالة او القانون الطبيعي مصدرا قانونيا احتياطيا يطبقه القاضي عند غياب النص، كما فعل المشرع المصري والعراقي.

ولأن قواعد العدالة فكرة نسبية فأن فقهاء القانون يميلون الى استخدام مصطلح العدالة الاجتماعية كفكرة واقعية يمكن صياغتها بوضوح في النصوص القانونية، ومن أهم مقومات العدالة الاجتماعية؛ المساواة والحرية وتكافؤ الفرص.

***

فارس حامد عبد الكريم

الهوية الإنسانية هي من فعل الفرد الكائن العاقل الذي يتأمل ويُفكّر، وتتجلّى هذه الهوية من خلال مواقف الإنسان الذاتية، ومن خلال المصالحة مع ذاته، المنسجم مع بديهيات الحكمة والعقلانية.

إن الهوية لا تعتمد نهائياً على أية مظاهر جسمية، ومن هنا ندرك أن أي اختلال لأي شخص في الذاكرة أو في قدرته على التفكير قد يتسبب في تشويه أو تبديل ماهيّة هوية الذات، بمعنى أن هذا التغيير يمسّ العقل وليس البدن.

فمن خلال فكره والمواقف التي يحققها هكذا إنسان تُبنى الهوية، التي لا تنفصل عن اندماجه وتفاعله مع مجتمعه.

ومن هنا ندرك أن مفهوم الهوية يعني تطابق الذات البشرية مع ذاتها، بمعنى أنها مستقرة ليست قابلة للتغيير.

لذلك قال الفيلسوف ديكارت " أنا أُفكّر إذن أنا موجود ".

لذلك نقول أن الفعل وأن العقل هو المحور الأساسي لمفهوم الهوية. طبعاً واجهت الهوية الكثير من التحديات، فمن خلال وسائل التواصل الاجتماعي والتطور والتكنولوجيا، يستطيع الإنسان أن يتمثّل في هوية جديدة له، أكثر تعقيداً أو أكثر تنوّعاً، ومن هذه الرؤية نرى أن الإنسان يستطيع أن يظهر في أكثر من هوية ويتفاعل مع الآخرين بأكثر من وجه من خلال مواقع مختلفة.

كما أن الغزو الثقافي أثّر بشكلٍ أو بآخر على ماهيّة الهوية، حيث أن العالم تشابك وتداخل في كل شيء، وأثّر كثيراً على الهوية المستقرة، وأصبحت قابلة أكثر من أي وقتٍ مضى، ومعرّضة للتشوّه من خلال تأثّرها بالثقافات الأخرى.

الفلسفة بشكلٍ عام تُعرّف الشخص بأنّه ذات عاقلة حرّة واعية تُدرك نفسها ومحيطها ومتأمّلة وذات أخلاق، الفيلسوف كانط قال عنه " كائنٌ أخلاقي "، لذلك نقول أن الأخلاق هي التي تحدّد الإنسان كإنسان.

ومن هذا المنطلق يُعرّف الفيلسوف جون لوك الشخص " بكونه كائناً مفكراً عاقلاً قادراً على التعقّل والتأمل.

والفيلسوف لوك " يرى أن الهوية لأي إنسان لا تُبنى فقط على العقل، بل على الذاكرة واستمرارية الوعي، فالشخص هو نفسه طالما يستطيع أن يتذكّر أفعاله وأفكاره عبر الزمن، ممّا يجعل الذاكرة العامل الأساسي في تحديد الهوية ".

وأيّاً كانت الأمور فإن مفهوم الهوية تتجلّى من خلال العلاقة بين الفرد والآخرين، ومن خلال الحوار المتبادل بينهم، ومن هكذا جدلية يكتسب الفرد الشعور الفعلي بالوجود وبالقيمة، وبالتالي تتجسّد مكانته في مجتمعه. ويجدر بنا أن ننوّه بأن مسألة الهوية تُعتبر معقّدة، أمام آراء الفلاسفة المختلفة، لكنها كمجمل وقواسم مشتركة، هي عملية مستمرة تتأثّر بعوامل منها داخلية وأخرى خارجية، وكلها ترتبط بالذاكرة وبالفعل وبالثقافة والمجتمع.

الهوية هي الوعي الذاتي بكلِ تأكيد، ولكن هذا لا ينفي علاقتها أو تأثّرها بالمحيط والمناخ الاجتماعي والثقافي.

العلاقة مع الغير يجب أن تكون ملتزمة بالأخلاق وبالقيم، وأن تقوم على التعاطف والتراحم، وبذلك نكون ومن خلال هذه العلاقة أوفياء من باب رد المعروف الذي قدّمته لنا الإنسانية.

ونأخذ بعين الاعتبار بأن هناك كثيرون يُعانون من أزمة الهوية، ويجهلون من يكونون حقاً، أمام هذه المتغيرات المتسارعة، وآخرون أيضاً تبنّوا هوية جديدة مختلفة عن هويتهم الأم، وهذا هو السبب الرئيسي المُسبب للضياع والانفصام والانفصال عن الذات.

إن الوضوح مطلوباً وخاصّة عندما نتحدث عن الهوية، لذا نرى أن الهوية هي ليست قضية فلسفية، بل هي مسألة إنسانية بحتة، ترتبط مباشرةً بمدى وكيفية فهمنا لأنفسنا وللمحيط القريب والبعيد، والعالم من حولنا. ومن خلال ارتباطنا بالهوية ودراسة ما هيّتها، نتعلم بكل ثقة كيف نتحوّل أو نكون أكثر إدراكاً ووعياً بأنفسنا، وكيف نتحاور ونتفاعل ونتعامل مع الآخرين، مع الالتزام بأدبيات الحوار واحترام التنوع والاختلاف.

الهوية دائمة التطور، فهي لا تنضب من التأملات والسمو.

الهوية جزء أساسي من حياتنا اليومية، وهي البوصلة التي تُوجّهنا، وتقيّم مواقفنا.

والتفكير في هويتنا بشكلٍ جاد يجعلنا نفهم أنفسنا وما يدور حولنا بشكلٍ أفضل، وبالتالي نستطيع أن نتفاعل مع الآخرين بكلِ وعيٍ وإدراك.

إنها الهوية التي كانت ولا تزال وستبقى محور إهتمام الإنسان على مر التاريخ.

لا ننكر أن هناك كثيرون ممّن تنكّروا حتّى لهويتهم، ومحيطهم وفكرهم بكل أسف.

الحرية جزء من وجود الإنسان، وهي أي الحرية تجعل الإنسان مشروعاً حراً قادراً على بناء مستقبله، وقادراً على الإختيار، وتحمّل مسؤولية اختياره، التي تجعله شخصاً يتمتع بكامل وعيه وإدراكه.

لذا الواقع لم يعد محتملاً، الرياح تهبُّ كما يحلو لها، وكثيرٌ من الناس أرى اليأس في وجوههم، حتّى الطرقات لم تعد تحتمل الثقل المفروض عليها، كما أن التجاعيد انتشرت على وجوه الناس، وكلّ الألوان باتت باهته كلوحةٍ تشكيلية مشوّهه.

الحوارات التي أسمعها فقدت معناها، حتّى المشاعر تلاشت وتهشّمت وأصبحت عبارة عن مصطلحاتٍ ليس إلاّ.

حتّى الإحساس المكتسب للدفاع عن الحقوق فقد معناه وأصبح وجهة نظر، تماماً مثل حقّ الرأي أو حق الرفض. أصبح البشر يطعنون في حقوق بعضهم البعض، إن كان في التفكير أو الإعتقاد، وانتشرت الأفكار المشحونة وتميل إلى الإنتصار على حساب هدف التنوير.

لا ألوم أحد، لكني آمل من الشباب أن يشعروا بشيءٍ واحد، أن يتذكروا آبائنا وأجدادنا وأسلافنا، نحن في عصر الانهزام، فقدنا هويتنا وأحاسيسنا ومشاعرنا، وأصبحت كل الانتصارات بلا طعم أو رائحة.

ولكن يجب أن أجد لذاتي موقع قدم، ولو بكلمةٍ واحدة في هذه الحياة. كل العالم يركض ليطارد ذاته بلا هدفٍ منشود، وأصبح الإنسان يركض فقط، ليس هروباً أو خوفاً من شيء، لكنه بدون توقّف يركض.

انسابت الهوية وانصهرت في أكواب الصالات المخملية، تختفي اللغة، يلحق بها التاريخ كما التراث. أرى أدباء العروبة يتلعثمون في لغتهم الأم، إلى أين نحن نمضي ؟، نسير حفاة على رمالٍ خبّأت لنا ألغاماً، تفجّر ثقافةً مُندسّة في شعوبنا في كل لحظة، تركنا كل شيء، تركنا العلم، تركنا العزة والكرامة، تركنا التاريخ والأدب، تركنا الفكر، ومن ثُمّ تركنا حدودنا للآخرين !. والهوية تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة.

لكن المواقف والانهيارات السلبية في جسد الأمة، تخلق رجالاً أشدّاء، كدائرةٍ مُحكمة، كي لا تكون النهايات بليدة وبلهاء. أفيقوا، استيقظوا جميعاً بغير ترددٍ أو خوف، وتأكّدوا أنكم تستطيعون التمسك من جديد بمشاعركم واحاسيسكم البريئة من المكسب، وأسرعوا للاحتفاظ بهويتكم، أنتم الأساس، ولا تتبعوا أو تُقلّدوا أحد، أنتم التاريخ، وأنتم اللغة، وأنتم الهوية والشجاعة.

***

د. أنور ساطع أصفري

يتردّد على مَسَامِعنا عند التحدّث عن بعض الأساتذة والباحثين هُنَا في الجزائر أن الأستاذ كذا مُتخصِّص في فلسفة كذا - لا نَقْصِدُ شَخْصًا بِعَيّنِه -، في فلسفة مدرسة فرانكفورت، في فلسفة "إدغار موران"Edgar Morin  (1921م)، في قضايا البيوإيتيقاBioethics ، في فكر "محمد أركون"Mohammed Arkoun  (1928-2010م)، في فكر "طه عبد الرحمان"Taha Abdurrahman  (1944م)، وغير ذلك، كدلالة توصيفية لتركّز بُحوثه ودِراساته حول فكرة مُعيّنة أو طُروحات شخصية فلسفية مُحدّدة، وبات الأمر بمَثَابة إنجاز أن يتمّ ربطّ اسم أستاذ ما بفيلسوف أو مُفكٍّر ما. ويمتدّ الحال إلى أمَرِّه أن تُختزل كلّ الانجازات البحثية لذلك الأستاذ حول أفكار ذلك الفيلسوف الذي وُصِف أنه مُتخصِّص فيه، فإذا تقرّرت مُشَاركته في مُلتقيات عِلمية أو استكتابات جماعية أو نشرّ مقال أو في إطار اقتراحه لموضوعات مُذكّرات تخرّج أو أطاريح دكتوراه، إلاّ ويُسَارع في طرح إشكالية من الإشكاليات التي تقترِن مُباشرة بأدواته المنهجية أو مقولاته المعرفية وجهازه المَفَاهيمي. وبالتالي يتحوّل إلى مُبشِّر بفلسفته أو على أقلّ تقدير إلى ناقِل ومُترجِّم لأفكاره بلُغة المَجَال التداولي الذي ينشُط فيه. إنّ حال التخصّص وتعميق الدِراسات حول أفكار فيلسوف ما يكون في غالبية الأحيان أنموذج البحث في مرحلة الماجستير / الماستر من ثمّ الدكتوراه؛ حيث يمنحه الباحث كلّ الوقت للانكباب على تصوّراته ومواقفه ومنهجه، له حُظوته العِلمية والأكاديميّة؛ إذ تجعله من أكثر العارِفين به، والمُشَار إليهم حين تقتضي الحاجة إلى توفير المادة العِلمية بُغية تحرير دِراسة عنه تُضاف إلى مجموع الدِراسات القائِمة سَلَفًا، وإذا كانت بحوثه المُنجَزة حوله لها من الرَّصَانة والدِقّة وقوّة الاستشكال والاستدلال صُنِّفَت على أنها من بين المراجع المُتخصِّصة والشارِحة. وبالمُجْمَل الاستنتاجي فإنّ صِفة المُتخصِّص المَمْنوحة تأتي على خلفية كثرة الاشتغالات البحثية ومَدَى قُوّتها ودِقّتها والأهمّ عودتها إلى المصادر، بالأخصّ في لُغتها الأصلية. بيد أنّ التخصّصية في جميع الحُقول المعرفية بالتحديد في الفلسفة، تحوّلت إلى لون من الاختناق البحثي والانحباس في أسوار أفكار فيلسوف مُعين، لَصيق بكلّ نَشَاطات الباحث، إلى درجة التّماهي فيها والتمّكين البائس لانسلاخ هُوّيته في هُوّية من جعله تخصُّصه. وتأتي هذه النتيجة على منوال كشفّ العِللّ الفاعِلة في كون دِراسات المُتخصِّص لا تعدو أن تكون إلاّ دِراسات تحليلية، تفسيرية ببعضٍ من المُقاربات والمُقارنات التي تنتهي بالاستنتاج، من دون تسجيل موقف نقدّي تشريحي يُسائِل أسُسّ تِلك الأفكار ويُسّقِط دلالاتها على الراهِن الفِعّلي المَعيش وليس المُصطنع الزّائِف بالنِسبة لأنموذج مُتخصِّصه وبالنِسبة إليه هو، ثمّ إنّ المُلاحظ على أغلب بحوث هؤلاء المُتخصّصين تُصبح مع كثرتها وسيّرورتها مُجرّد ترديد وإعادة نقل، بالأخصّ حينمَا يكون الفيلسوف مَدَار تخصّصه يَعْمَل على تأكيد أفكاره ومواقفه من خِلال التكرار، وهُنَا تنبغي الإشارة المُلِحّة إلى أن تكراره ليس من قَبيل أنه لم يَعُدّ قادِرًا على طرح الجديد، بل من قبيل العُنوّة الفلسفية التي تُفيد مَدَى المُراهنة على تصوّراته وتقديراته بالحجّة والمِثال. على خِلاف تكرار المُتخصِّص كتحصيل حاصِل لمَسّلَك التخصّصية الأقنوميّة. بالإضافة إلى نُقطة هامّة تتمثّل في أن حال التخصّص الكثير يمنع على صاحبه من تنويع رؤاه وتلوين نَشَاطاته وتغّذية مكتسباته، لتُمارس عليه التخصّصية إجراءات الاختزال في سيّاقها المعرفي والمنهجي والفصل حينمَا تقطع أوصاله البحثية عن بقية الإشكالات والقضايا والمُدَوّنات الفلسفية. ولا يُفهَم موقفنا على أنه ضَديد التخصّصية، أو تبخيس لجُهود المُتخصِّصين، الذين نُثمِّن لهُم ذلك وندعم البُحوث الجادّة والمُثمِرة، ونتّفِق حول صُعوبة الترجمة والمُعاناة في تحرّي المعنى المنصوصّ عليه في النصّ المَصّدري. لكنّنا نُريد تبيين النتائج السِلّبيّة المُترتّبة عن حال التخصّص المَفّصُول عن التنّويع والنقد. في هذا الصَدَدّ بالضَبطّ نجد أنفسُنا أمام حتّمية طرح جُملة من التساؤلات القَلِقَة ونحن نُقارب تحليليًا ونقّديًا ظاهرة ما فَتِئَت إلاّ وأن سَطّرت نفسها كنمط عِلمي موجود، وليس ببعيد أن تُصبِح مرتبة يتنافَس عليها المُتنافِسون، وعليه:

1. إلى أيّ مَدَى يمكن لصِفة المُتخصِّص أن تَنْهَضَ بحال البحث العِلمي وأن تُساهِم بشكلٍ فَعَّال في بلورة فكر جزائري قادِر على الإنتاج بعِلّمية دَقيقة وبفلسفية مُبدِعة؟ 

2. هل نحن بحاجة إلى المُتخصِّص أم إلى الموسوعي وبأخفّ معنى إلى مُتعدّد الدِراسات؟

3. كيف يمكن إعادة مَوْقَعَة المُتخصِّص لدينا بحيث يمنح الإضافة ويتحرّر من قيود التخصّصية المُغْلَقَة؟ 

4. هل يخدُم المُتخصِّص نفسه أم يخدُم أفكار مُتَخَصِّصِه؟

5. ما الذي ينقُصّ حتى نُرسِّخ ثقافة المُتخصِّص النقدي فينا الذي يخترِق الأفكار بالنِّقاش والنقد، ويَعْبُر من خِلالها إلى أفكار أخرى مُغايرة؟ هل النُقصّ الذي يعترينا مردُّه تفكيرنا وشُعورنا (الحالة الإدراكية والنفسية) أم بيئة العَمَل (الجامعة، الحالة الاجتماعية والسّياسية)؟      

- مُناقُشَة السُّؤال الأول:

لِصِفة المُتخصِّص أهميتها الثابِتة أكاديميًا؛ حيث تُمكِّن صاحِبها من أن يكون خَبيرًا بمَجَال عمَلِه من موضوعات وإشكالات ومُقاربات منهجيّة في التحليل والنقد. وتُركّز جُهوده حول نِقاط بحثية مُعيّنة مِمّا يجعلُه قادِرًا على الإنتاج بدِقّة وعُمق. ومنه يُمكن له أن يَنْهَض بحال البحث العِلمي من حيث تقدّم نِسبة الإنتاجية ومن حيث جودتها الخاصّة. لكن من زاوية أخرى، ومِثْلَمَا أوردنا فإنّ المُتخصّص المُنغلِق على موضوعات ومناهج أنموذج أو نماذج تخصّصه، يُصبِح التخصّص هُنَا بمَثابة سِجِن، يأسِره في نِطاق فكري مَخْصوص ينطلِق منه ويعود إليه. فمِن الناحيّة العِلميّة يُمكن له أن يُنتِج بدِقّة ورَصَانة، لكن من الناحيّة الفلسفية يجِد نفسه في افتقار إلى ذلك الانفتاح وإلى ذلك التنويع الذي يفتح أمام العقل إمكانات من أجل الأشكلة، استنباط الأفكار، ربّطِها ومُقاربتها ومُقارنتها، نقدِها وإعادة بناء معانيها. ثمّ إنّ الفكر المُعاصر في جميع شُعبه قد أسّس لمبدأ تكامُل العُلوم والمعارف، استنادًا إلى الحاجة البيّنيّة المنهجية والمعرفية، وضرورة تحاوُر التخصّصات والاستفادة من أدوات ومضامين بعضِها البعض. والأكثر إرساء مبدأ التحاوُر داخِل التخصّص الواحِد، بمَا يُتيح مُدَارسَة ومُبَاحَثة موضوعات مُتنوّعة، وهذا ما لا يُوفِّره التخصّص الأقنومي. وبالتالي ينبغي أن نُؤسِّس لمعنى المُتخصِّص الحِرَفي، المُنْفَتِح بذكاء على عِدّة قضايا وإشكالات وطُروحات، وعلى عِدّة تخصّصات خاصّة ضِمن الشُعبة الواحِدة، مثلاً في شُعبة الفلسفة: تخصّص الفلسفة اليونانيّة، الفلسفة الغربية، فلسفة العِلم، الفكر العربي. بالإضافة إلى ضرورة تحقيق نوع من التواصُلية الانفصالية، بين فكرنا وبين فكر الآخر، مع إلحاحيّة الانكباب تحليليًا ونقديًا على هُمومنا وما نَعيشه، على إمكاناتنا وما نفتقِر إليه. وإذا ما رَبَطّنا سياق مُنَاقشتِنَا بالفكر جزائري، فإنّ قُدرته على الإنتاج بعِلّمية دَقيقة وبفلسفية مُبدِعة موصولة بمَا ذكرناه مع شُّروط أخرى بالطبع لا يتّسِع المقام لتفصيل عرّضِها.  

- مُناقُشَة السُّؤال الثاني:

قدّ يتحجّج البعض أنّ الشخص الموسوعي ولّى عهده، وأنه ليس بدَقيق عالِم وعارِف بجميع التخصّصات؛ إذ لا يُمكِن الإحاطة الشامِلة بالتفاصيل ومُواكبة تغيرها وتطوّرها. وأن الدِقّة والإفادة تتطلّب التخصّص. إنّ هذا الموقِف له مشروعيته وأيضًا عليه مُؤاخذته، فالإقبال على دِراسة مُختلف الموضوعات من مُختلف الحُقول المعرفية من شُّروط حُصول التراكُم المعرفي ومنه تحقّق التكامُل المعرفي، ليس لُزومًا أن يحيط الدارِس الباحِث بكلّ ما يتعلّق بأيّ تخصّص، إنّمَا على الأقلّ أن يعلَم أهمّ المفاهيم، الإشكالات المَطْروحة والمناهج المُعتمَدة. وفي تقديرنا أن الأنْسَب والأنْفَع وِفق الحاجة هو تكوّن لدينا ثقافة مُتعدِّد الدِراسات كأخفّ معنى من الموسوعي كمَا جَرى التّوصيف، بحُكم مُستجدّات الراهِن العِلّمي وما تتطلّبه تنميّة البحث العِلّمي في الجامعة ومنه الجزائرية.  

- مُناقُشَة السُّؤال الثالث:

نَظَرًا لأهميّة المُتخصِّص والقيمة العِلّميّة والفلسفيّة التي يُقدِّمُها، مع الاعتراف بالوضعيّة السِلبيّة التي يضع فيها نفسه حينمَا يتحوّل إلى مُتخصِّص مُبشِّر أو مُتخصِّص أقنومي مركزي. ولذلك تتأسّس الضرورة التي تُصرّ على تفعيلها بأن يتمّ النَظَر بجدّية في كيفيّة إعادة ترتيب موضِعه أو كيفيّة صِياغة الأدوار التي يقوم بها من حيث تحريرها ومن حيث ضَمَانة فعاليتها الإنتاجية.

إنّ هذا السُّؤال المَخْفيّة علامة استفهامه، لا يُمكن تقديم إجابة ناجزة عنه أو مُكتملة الأركان على شاكِلة الحلّ الفوري والنِهائي، لكن لابُد من الاجتهاد وتكاثُف الجُهود وتكامُل الرؤى المَنْسوجَة بالنِّقاش الحُرّ والمَسْؤول. ولذلك نعتقِد في التّوصيات التاليّة سبيلاً من سُبلّ الإجابة بالحُلول:

- التشجيع على الإبداع والدعوة إلى الانفتاح على مُختلف الموضوعات والتخصّصات.

- دعم الباحثين الذين يُظهرون حقًّا سَعّيًا حَثيثًا للخُروج من قوقعة التخصّصيّة المُغْلَقَة، دعمًا ماديًا ومعنويًا بخُصوص بُحوثهم ودِراساتهم.

- تكثيف الدعوات بالانفتاح التخصّصي أو العِبر تخصّصيّة.

- استثمار الدِراسات المُنْجَزة في تخصّص مُعيّن أو شخصيّة بحثيّة ما أو حول موضوع مُحدّد، من ناحية تثمين نتائِجها ومن ناحية مُقاربتها مع موضوعات أخرى من داخل التخصّص أو من خارجه، على مِنوال المِثال: في تخصّص الفلسفة تمّ الاشتغال حول موضوع: "الفلسفة والرقمنة"، من هُنا يُمكن الانفتاح على إشكاليات التواصل، نحت المفاهيم، الأخلاقيات، الهُوّية، الإنسان، الماهيّة، والاستعانة بخبرات تخصّصات ثانيّة على غِرار تخصّص الإعلام والاتصال.

- مُناقُشَة السُّؤال الرابع:

يخدُم المُتخصِّص نفسه من حيث ربط اسمه بفكر مُتخصِّصه فيُصبح العارف به والشارِح لأفكار ورؤاه ومفاهيمه. وتتحوّل كتاباته واشتغالاته البحثية إلى مراجع كمَا أسلفْنَا الحديث. ثمّ إنه يُوفِّر عليه مُعاناة بحثية مُضافة ويجعله يُركّز اهتمامه عليه فقط. كمَا يُمكن القول أنه يخدم أفكار مُتخصِّصه من ناحية التعريف بها وشرحها ونقلها.

- مُناقُشَة السُّؤال الخامس:

يبدأ التغيير من النفس قبل أن ننتظِر ذلك من المُحيط الخارجي أو الآخرين، ولذلك على الباحثين أن يُغيّروا من طريقة تفكيرهم التخصّصي الاختزالي وأن يُوسّعوا من دائرة بُحوثهم، وأن يُمارسوا النقد البَنّاء الذي يخترق الأفكار ولا يرتهِن لها، بعدها يُمكن له طرح الجديد منها. وهذا لن يحصُل إلاّ من خِلال توفّر إدراك حَصيف بقيمة التنوّع البحثي من جهة ومن جهة ثانية القيمة الأكثر للمُتخصِّص النقدي؛ إذ يُمكّن له أن لا يتماهى في أفكار مُتخصِّصه وإنّمَا يدرُسها ويبحثُها بعيّنٍ فاحِصة مُسْتَبْصِّرة، مُنْفَتِحَة على مُراجَعَة ومُناقَشَة تِلك الأفكار. وعن مَكْمَن النُقص فإنّ العِلّة مُركّبة، منها ما يتّصِل بالحالة الإدراكية المعرفية والنفسيّة؛ أيّ ما يرتبِط بالباحث نفسه، ومنها ما يتّصِل بالبيئة المَبْنيّة على ثقافة التخصّصيّة الأقنوميّة في الجامعة أو خارج الفَضَاء الجامعي. وطبيعة التفكير الاجتماعي والسّياسي الذي لا يُشجِّع.

في الخِتام يُمكن الإقرار بأن التخصّصية حال بحثي مُهمّ له عوائده المعرفية والمنهجية القيّمة، ويعود بالنفعّ على صاحبه وعلى البحث العِلمي ككلّ. لكن إن يتحوّل إلى أسر أكاديمي هُنَا يُصبح التخصّص وضعية سِلّبيّة ينحصِر المُتخصِّص في إطارها ويجد نفسه مشدودًا بقوّة إلى أفكارها وإشكالاتها. ومن خيرة الفِعل أن ينفتِح المُتخصِّص قدر الإمكان على مُختلف الموضوعات والمُقاربات الفكرية والأدوات المنهجية مع الحقّ في تخصيص حيّز زماني لتركيز البحث حول أنموذج مُحدّد أو موضوع مُعيّن.                  

***  

د. شهرزاد حمدي، جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، الجزائر

تخصّص فلسفة عامة

قلت قبل أسبوعين إن «العقل العملي» يهتم في المقام الأول بتمهيد العلاقة بين الفرد ومحيطه الاجتماعي. وضربت مثالاً باختيار نوع الملابس واللغة وطريقة الكلام، وبقية العادات التي تجعل الفرد شبيهاً بالآخرين في محيطه، وبهذا المعنى فالعقل لا يُبدع شيئاً، بل يعيد إنتاج الثقافة الموروثة، وما يستند إليها من أعراف وعادات وطرائق عيش.

لا بأس هنا باستدراك أظنه ضرورياً كي لا يظن قارئ أن عقلاً كهذا لا نفع فيه: فالجانب الأعظم من حياة الإنسان، مؤلف من تفاعلات مادية أو فكرية مع الناس والطبيعة. وهو في كلتا الحالتين، يحتاج إلى تقبل الآخرين لشخصه وتصرفاته. وفي هذه العملية يلعب العقل العملي دوراً مؤثراً، فهو يُصمم الطرق المناسبة للتعامل مع الغير على نحو يُحقق الهدف المنشود. إن افتقار الإنسان للعقل العملي، يماثل تماماً افتقار المسافر لوسيلة السفر التي تحمله إلى مقصده. بهذا المعنى، فإن العقل العملي هو أداة العيش، وهو ضرورة للعيش، ولولاه لربما بات الإنسان غريباً منفرداً، أو دائم الهروب مثل حيوان متوحش.

أما وقد وصلنا إلى هذه النقطة، فقد حان الوقت لبيان أن هذا المعنى على وجه التحديد، هو الذي يوجب على الإنسان أن يكون متواضعاً، إذا خالفه الآخرون في فكرة أو رأي أو مذهب. الأفكار التي نحملها أنا وأنت وغيرنا من الناس، تنتمي في الأعم الأغلب إلى توافقات اجتماعية، أخذنا بها لأننا نعيش في وسط جماعة، فلم نبتكرها بأنفسنا، ولا وضعناها على طاولة المقارنة مع الأنماط البديلة كي نختار ما هو أفضل. بل حتى لو اخترنا ما نظنه أفضل، فما الميزان الذي نرجع إليه في تحديد القيم التي نلقيها على هذا الجانب أو ذاك، قبل أن نقارن بينهما... أليس هو ذات الميزان الذي تشكّل في ذهني وذهنك تحت تأثير المحيط الاجتماعي؟

منذ نعومة أظفاره، يتشرّب الفرد الثقافة السائدة والأعراف والعادات المستقرة، والأخلاقيات المعيارية التي تتبناها الجماعة، فيتشكل على ضوئها عقله وذاكرته، أي الطريقة التي يفكر بها ويعيش، والمعايير التي يرجع إليها في الحكم على الأشياء. وحتى حين ينتقل الفرد إلى جماعة جديدة، كأن يتحول من دين إلى آخر، أو من مذهب إلى آخر، أو يهاجر من بلد إلى آخر، فإنه يعيد تشكيل ذهنه وذاكرته، أي منظومته العقلية، على ضوء الثقافة السائدة في بيئته الاجتماعية الجديدة، أي أنه -بعبارة أخرى- ينتقل من تقليد إلى تقليد. هذه حالي وحالك وحال الأغلبية الساحقة من سكان هذا الكوكب.

أقول الأغلبية الساحقة، وليس الجميع؛ لأن هذا الكوكب يحوي أيضاً أقلية صغيرة من السكان، يُمثلون «العقل المنشئ» حسب تعبير أندريه لالاند، أو العقل النظري حسب التعريف الموروث من فلاسفة اليونان. واضح من اسمه أنه عقل لا يلتزم بالتوافقات الاجتماعية، بل ربما كان شغله هو نقض الأساس الفلسفي/ المنطقي الذي تقوم عليه تلك التوافقات، وما يتعلق بها من معايير وقواعد.

لا يتسع المجال لتفصيل القول عن العقل في هذا الدور، لكن تهمني الإشارة إلى فارق مهم بين تعريف لالاند وتعريفات مَن سبقه. فهؤلاء قرروا أن العقل «نظري»، بمعنى أنه منشغل بمعادلات ذهنية، لا يترتب عليها أي عمل، ولا ترتبط بقضايا الواقع ربطاً مباشراً. أما لالاند فقال إنه «منشئ»، بمعنى أنه يخلق الأفكار الجديدة من عدم، أو أنه ينطلق من فكرة قائمة، فيتجاوزها إلى مسافات وراءها لم تكن موجودة قبلئذ، أي أنه يخلق المسافات والمساحات، ويملؤها بالسكان، أي الأفكار.

على أي حال، فإن تلك الأفكار النظرية، هي التي تُشكل الأساس للتطبيقات وعلوم الواقع، مثل الرياضيات التي على أرضها بني الكمبيوتر وتطبيقاته وحسابات السفر والإحصاء وأمثالها. وأظن أن الفكرة قد اتضحت بما يغني عن مزيد البيان.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

في الوقت الذي كُتب الكثير مثلا عن الذكرى السنوية للثورة الروسية التي حدثت في عام 1917، هل تسائلنا أن هذا الحدث السياسي والاجتماعي البارز ربما لم يكن ليحدث لو لم ينشر كارل ماركس قبل ذلك بخمسين عامًا كتابه النظري الأساسي، المجلد الأول من " رأس المال ."

إن الدراسات الأحادية المهمة، في واقع الأمر، قادرة على تغيير مسار تطور المجتمعات، بل وحتى زعزعته. على سبيل المثال، يمكن الإشارة إلى القوة الهائلة للتغيير الثقافي والاجتماعي التي أطلقها كتاب " تفسير الأحلام" لسيغموند فرويد. أو النظر إلى التأثير العميق الذي أحدثته أعمال تجديدية أخرى نُشرت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مثل " أساطير اليوم" لرولان بارت، و"أبوكاليبس" و"مندمجون" لأومبرتو إيكو، و"وسائل الاتصال" لمارشال ماكلوهان.

الدراسة الأحادية، يمكن أن تولّد قوة تغيير هائلة في المجتمع. فالتطور في الفكر العلمي وكذلك في الثقافة الاجتماعية اعتمد تاريخيًا على هذا النوع من الإنتاج النظري. ومع ذلك، تجدنا اليوم نتخلى تدريجيًا عن هذه الأداة الحيوية.

ما الذي يحدث؟

الجامعات العالمية تتخلى عن نموذج الإنتاج الثقافي القائم على الدراسات الأحادية، الذي كان لسنوات طويلة جزءًا أساسيًا من هويتها. القوانين الجديدة التي وُضعت لتقييم الأبحاث الأكاديمية من قبل وزارات التعليم العالي بدأت تقلل تدريجيًا من قيمة الدراسات الأحادية. في الوقت الحالي، تُمنح المقالات المنشورة في المجلات العلمية المصنفة ضمن الفئة "A" قيمة أعلى من الدراسات الأحادية. ومع ذلك، من الواضح أن كتابة مقال علمي تتطلب من الباحث جهدًا أقل بكثير مقارنة بإعداد دراسة أحادية. فالمقال، في المتوسط، لا يتجاوز طوله عشر صفحات، وهو ما يعادل عُشر حجم الدراسة الأحادية تقريبًا. وهذا يعني أنه لا يمكن للمقال أن يقدم تحليلًا عميقًا أو حججًا متكاملة كالتي تتميز بها الدراسات الأحادية.

لا يعني ذلك بالضرورة أن يكون الكتاب الثوري عملًا ضخمًا أو طويلًا. فقد يكون نصٌ مثل " الموضة" لجورج زيمل لا يتجاوز خمسين صفحة، لكنه بعد أكثر من قرن من نشره ما زال يُعتبر المرجع الأساسي للتأمل النظري في مفهوم الموضة. كما أن عملًا آخر لا يتجاوز مئة صفحة، مثل " إنتاج السلع بواسطة السلع" لبييرو سرافا، استطاع بدوره أن يُحدث ثورة في المفهوم السائد للنظرية الاقتصادية في القرن العشرين. ما يهم حقًا هو أن يكون الكاتب قادرًا على تشكيل عمله بأقصى حرية، بحيث يتمكن من التعبير عن أفكاره بوضوح وإبداع.

على النقيض، يواجه الكاتب عند إعداد مقال لمجلة علمية قيودًا صارمة، إذ يُطلب منه الالتزام بقالب دولي صارم لا يتيح له مساحة كافية للإبداع أو التجديد. وبالتالي، تضيع تلك القدرة التي تمتاز بها الدراسات الأحادية على إفساح المجال أمام الأفكار الجديدة. كما أشار الفيلسوف روبرتو إسبوزيتو في مجلة لإسبريسو: "هل يمكن أن نتخيل، في مجال الفلسفة، أن هابرماس ودريدا يبحثان عن مجلات من الفئة (A) لكتابة اثني عشر مقالًا صغيرًا؟" هل يمكن أن نتخيل هذين العملاقين الفكريين يتخليان عن قوة تأملاتهما المبتكرة التي يعبرون عنها في دراسات أحادية عميقة، لمجرد الامتثال إلى قالب مجلة علمية دولية؟

إن قضية الاختفاء التدريجي لنموذج الدراسة الأحادية من المشهد الثقافي لا تحظى باهتمام كبير اليوم، لكنها في غاية الأهمية. صحيح أننا نعيش في عصر الاتصالات الفورية وسرعة الإنترنت، لكن يجب أن نتساءل إذا ما كانت مجتمعاتنا قادرة على الاستغناء عن العمق والتأمل اللذين يوفرهما هذا النموذج من الإنتاج الفكري. هل يمكننا أن نسمح لأنفسنا بإضعاف قدرتنا على إنتاج ثقافة ذات قيمة حقيقية؟

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

تمهيد: في خضم التحديات التي يواجهها نظامنا التعليمي، تتسلل الى نفوسنا احيانا شعور بالاحباط. ولكننا نؤمن بأن الازمات تحمل في طياتها فرصا للنهوض والتغيير. فبينما نودع عاما اخر ونستقبل عاما جديدا، تتجدد امالنا بتغيير جذري في منظومتنا، وبناء نظام تعليمي عالي الجودة، قادر على تلبية تطلعات مجتمعنا وتحديات المستقبل.

مقدمة

يشكل التعليم العالي ركيزة اساسية للتنمية المستدامة، الا ان نظام التعليم العالي الحالي يعاني من تدهور ملحوظ، مما يؤثر سلبا على قدرة الجامعات على اعداد خريجين مؤهلين لسوق العمل وتلبية طموحاتهم وتطلعاتهم المهنية. فكيف يمكننا تحويل تحديات التعليم العالي الى فرص؟ وكيف يمكننا بناء نظام تعليمي قادر على انتاج اجيال من المبدعين والمبتكرين؟ ان الاجابة على هذه الاسئلة تتطلب جهدا جماعيا ووضع استراتيجيات شاملة لاصلاح التعليم العالي، بما في ذلك تحديث المناهج الدراسية وتطوير الكوادر الاكاديمية والاستثمار في التقنيات الحديثة وتعزيز البحث العلمي النزيه وبناء شراكات فعالة مع الجامعات العالمية.

مقترحات

المقترحات التي نقدمها قد تبدو صعبة المنال، لكنها ضرورية كالهواء لانقاذ تعليمنا العالي من الانهيار. وقد تبدو طموحة، ولكنها وحدها القادرة على اطلاق العنان للإبداع والابتكار في جامعاتنا. لا مجال للتسويف او التردد، فالتحديات التي تواجهنا تستدعي حلا جذريا وشاملا. وبتطبيق هذه الرؤية، سنعيد لجامعاتنا مجدها، ونضمن لأجيالنا القادمة مستقبلا أفضل:

1. تعيين القيادات الجامعية على اساس الكفاءة وتفكيك نظام المحاصصة بالكامل. لابد من اعتماد مبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب، وانتهاج اسلوب لجذب الاكاديميين المتحمسين والمؤهلين الى مناصب ادارية عليا في الجامعات.

2. التخلص من اصحاب الشهادات الزائفة والفاسدين والمتقاعسين في الجامعات، واتخاذ اجراءات حاسمة مثل تشديد الرقابة على منح الشهادات، وتطبيق عقوبات رادعة على المزورين والمرتشين، وتطوير اليات فعالة لتقييم اداء الموظفين، وابعاد غير الاكفاء منهم. كما يجب العمل على تعزيز قيم النزاهة والشفافية والمساءلة في جميع المؤسسات.

3. تشكيل مجالس امناء للجامعات، تضم خبراء من مختلف المجالات، لتعزيز الحوكمة المؤسسية وتحسين أداء الجامعات. تقوم مجالس الأمناء، بصفتها هيئات مستقلة، بوضع الخطط الاستراتيجية للجامعة والموافقة على الميزانية وتعيين القيادات العليا وتقييم الأداء وبناء الشراكات. من خلال هذه المهام، ستساهم مجالس الأمناء في تعزيز الشفافية والمساءلة وتحسين جودة التعليم والبحث العلمي وجذب الاستثمارات، مما يجعل الجامعات أكثر قدرة على مواجهة التحديات المعاصرة وتلبية احتياجات المجتمع. كما ستساهم الخبرة المتنوعة لأعضاء مجالس الأمناء في ضمان اتخاذ قرارات استراتيجية تتناسب مع احتياجات الجامعة والمجتمع على حد سواء.

4. اتباع نهج جديد في التعليم يركز على تطوير مهارات التوظيف لدى الخريجين، من خلال تبني منهجيات مبتكرة تستثمر في القدرات الإبداعية والتفكير النقدي. ويجب أن تتضمن المقررات الدراسية بشكل مباشر المهارات التي يبحث عنها أصحاب العمل، مثل التفكير النقدي، البرمجة، حل المشكلات، القيادة، التنظيم، المرونة، التوثيق، التواصل، والأخلاق المهنية، وذلك لضمان خروج خريجين مؤهلين لسوق العمل ومتسلحين بالمهارات اللازمة للنجاح.

5. التأكيد على اهمية اشراك أرباب العمل والوزارات المعنية والهيئات المهنية في تصميم وتقييم البرامج والمقررات الدراسية. يمكن تحقيق التعاون من خلال تأسيس مجالس استشارية تضم ممثلين عن جميع الأطراف المعنية، وتنظيم ورش عمل ومؤتمرات دورية لمناقشة التطورات في سوق العمل ومتطلبات المهارات. كما ستتيح الاستفادة من الخبرات الدولية في تطوير المناهج الدراسية ورفع جودتها.

6. ادماج ضمان جودة المناهج كمسؤولية مشتركة بين المؤسسات التعليمية وهيئة تنظيمية مستقلة لضمان الجودة والاعتماد الاكاديمي. يتطلب ذلك التعاون بين وزارة التعليم العالي وهيئة ضمان الجودة لتطوير معايير وطنية لضمان جودة المناهج، وتبادل الخبرات والممارسات الجيدة، وتأسيس شبكات وطنية لدعم الجودة في التعليم العالي.

7. تطوير نظام تقييم شامل للبرامج الدراسية والكوادر الأكاديمية، يعتمد على معايير دولية متفق عليها. يساهم هذا النظام في ضمان جودة التعليم وتحسين اداء المؤسسات التعليمية، ورفع تنافسيتها على المستوى الإقليمي والدولي. وبالاضافة للتقييم الدوري للمناهج الدراسية يجب ان يشمل التقييم أداء أعضاء هيئة التدريس ورضا الطلاب ومخرجات التعليم. كما يجب ان يتم تقييم الكفاءات والمؤهلات العلمية لأعضاء هيئة التدريس بشكل دوري، وتوفير برامج تدريبية لتطوير قدراتهم. من خلال هذا النظام، يمكن تحديد نقاط القوة والضعف في البرامج والكوادر وتوجيه الجهود نحو تطويرها وتحسين جودة التعليم بشكل عام.

8. توفير برامج تدريبية مستمرة ومتخصصة للأكاديميين، تغطي احدث التطورات في مجالاتهم، وذلك لضمان تحديث معارفهم ومهاراتهم، وتمكينهم من تقديم تجربة تعليمية غنية ومواكبة للمتغيرات العالمية.

9. ادخال مشاريع وبحوث التخرج كشرط للحصول على الشهادة. واعتماد القدرة على التحدث بلغة اجنبية اساسا للحصول على شهادة التخرج.

10. الانتقال من النمط التقليدي للتلقين الى بيئة تعلم ديناميكية تشجع على التفكير النقدي والابداع، وتتيح للطلاب الوصول الى مصادر معلومات متنوعة، مما يمكّنهم من بناء معرفة متينة ومهارات تفكير عالية.

11. التخلي عن النظام الحالي في قبول الطلبة بناء على نتائج البكلوريا فقط، واستبداله بنظام قبول متعدد المعايير يعتمد على تقييم شامل لقدرات الطالب وميوله واهتماماته، بالاضافة الى ادائه. يمكن تحقيق ذلك من خلال إجراء اختبارات قدرات متنوعة، وربط التقييم بمعايير محددة لكل تخصص. ومع ذلك، يجب الحرص على توفير الدعم اللازم للطلاب الذين يواجهون صعوبات في التكيف مع النظام التعليمي الجديد، وتطوير برامج تدريب مهني لمساعدتهم على اكتساب المهارات المطلوبة في سوق العمل وذلك باضافة سنة تحضيرية الى سنوات الدراسة الجامعية.

12. الغاء الازدواجية في القبول الجامعي والمتمثلة في تعدد القنوات والفرق في معدلات القبول بين الجامعات الحكومية والاهلية، وضمان تكافؤ الفرص بين جميع المتقدمين.

13. تأكيد مبدأ مجانية التعليم والبحث العلمي في الجامعات الحكومية، وتجسيد هذا المبدأ على ارض الواقع من خلال إلغاء جميع الرسوم الدراسية والإدارية والبحثية المفروضة على الطلاب. تقع على عاتق الدولة مسؤولية توفير الميزانيات اللازمة لتمويل الجامعات الحكومية وتوفير البنية التحتية اللازمة وتوفير الأجهزة والمعدات والمواد اللازمة للدراسات وللبحث العلمي.

14. اخضاع الجامعات الاهلية لحوكمة خاصة تضمن تحقيق اهداف غير ربحية بحيث يتم اعادة استثمار اي فائض مالي في الجامعة نفسها لتطوير البنية التحتية، وتوفير برامج جديدة، ورفع رواتب اعضاء هيئة التدريس، وغيرها من الانشطة التي تعود بالنفع على الطلاب والمجتمع.

15. بناء عدد من النماذج الرائدة لتزويد الطلاب بالوسائل والادوات اللازمة للتعلم الفعال من خلال توفير الفصول الدراسية الذكية، والمكتبات الرقمية، والمساحات المشتركة للتعلم التعاوني، مما يشجع على التفكير النقدي والابداع، وتبني مبادرات مبتكرة مثل برامج التبادل الطلابي، وبرامج التدريب المهني، ومبادرات التعليم مدى الحياة لغرض توسيع افاق الطلاب، وتزويدهم بالمهارات والمعارف اللازمة للنجاح في عالم متغير باستمرار.

16. تحويل الجامعة الى مؤسسة مجتمعية متكاملة، تقدم خدمات متنوعة تلبي احتياجات المجتمع المحلي. يمكن تحقيق ذلك من خلال إشراك المجتمع في الأنشطة الجامعية، وتقديم الخدمات الاستشارية للمؤسسات الحكومية والخاصة، وتنظيم الفعاليات الثقافية والعلمية وتساهم في حل المشكلات التي يعاني منها المجتمع المحلي، وبناء شراكات قوية مع المؤسسات الحكومية والخاصة والمنظمات غير الحكومية. من خلال هذه الشراكات، يمكن للجامعة أن تلعب دوراً محورياً في التنمية المستدامة للمجتمع.

17. تحسين القدرة على البحث العلمي النزيه باعتباره امرا بالغ الأهمية لحل المشكلات المجتمعية المعقدة. من خلال الاهتمام بالعمليات والرقابة والتقييم، يمكن ضمان موثوقية النتائج ودقتها. كما يمكن للبحث العلمي النزيه ان يساهم في تطوير حلول مبتكرة ومستدامة للمشكلات التي تواجه المجتمع، وتحسين جودة حياة الناس. كما لابد من العمل على تعزيز ثقافة النزاهة في الأوساط البحثية والأكاديمية، وتوفير الدعم اللازم للباحثين لتمكينهم من إجراء ابحاث عالية الجودة والموثوقية.

18. اعادة هيكلة نظام الترقيات لجعله اكثر عدالة وشفافية، بحيث يعكس المساهمات الفعلية للباحثين في تطوير المعرفة وخدمة المجتمع. فقد ادى التركيز المفرط على النشر العلمي في نظام الترقيات الى جعل الجوانب الأخرى من العمل الأكاديمي، مثل التدريس والتوجيه وخدمة المجتمع، ثانوية. يمكن تحقيق ذلك من خلال فصل الترقية العلمية عن الترقية الوظيفية، وتطوير معايير تقييم جديدة تأخذ في الاعتبار جودة البحث وتأثيره، بالاضافة الى المساهمات في تطوير التدريس والتوجيه وخدمة المجتمع.

19. الحد من الجمود الهيكلي في نظام التعليم العالي ومنح الجامعات استقلالية ادارية واكاديمية واسعة الصلاحية، مما يتيح لها تطوير برامج دراسية مبتكرة تلبي احتياجات المجتمع وتساهم في التنمية المستدامة.

20. اعادة هيكلة الجامعات لتشجيع التكامل بين التخصصات المختلفة، وتعزيز التعاون بين الباحثين، وتقليل التكرار في البرامج الدراسية. ان التجزئة المفرطة للكليات والأقسام والتوسع اللامعقول في الاختصاصات قد ادى إلى تشتت الموارد وتقليل التعاون بين الباحثين والأكاديميين. من خلال دمج الكليات والأقسام المتشابهة، وتوحيد البرامج الدراسية المتكررة، وتشجيع التعاون بين الباحثين، يمكننا بناء جامعات أكثر كفاءة وقدرة على مواجهة التحديات المعاصرة.

21. التاكيد على اهمية الحريات الاكاديمية واحترام حرية الراي كركيزة اساسية للتقدم العلمي والابداع، بحيث يسمح للباحثين والاكاديميين بحرية التفكير والتعبير عن ارائهم دون قيود.

ختاما، تحسين واصلاح التعليم العالي والجامعات في العراق هو عملية مستمرة تتطلب التزاما طويل الاجل من قبل الحكومة والجامعات والمؤسسات المعنية. من خلال اتخاذ الخطوات المذكورة اعلاه، يمكن للعراق ان يبني نظام تعليم عالي قادر على انتاج اجيال من الخريجين المؤهلين لسوق العمل، والمساهمة في التنمية المستدامة للبلاد.

***

ا. د. محمد الربيعي

*  بروفسور متمرس ومستشار علمي، جامعة دبلن

 

" أعظم المراقبين لكيفية تاثير المال على الناس وإفساد المؤسسات ليسوا، كقاعدة عامة، أولئك الذي يمتلكونه، بل هم أولئك الذين يعيشون ويعملون بالقرب منهم. كما أدرك الروائي الأمريكي الشهير ف. سكوت فيتزجيرالد قبل قرن من الرمان. وهذه الرؤية هي التي تلهم عالمة الاجتماع بروك هارينجتون في كتابها الجديد اللاذع "الثروة الخفية والاستعمار الجديد".

في كتابها هذا، تحاول هارينجتون ان تجيب على عدد من التساؤلات. فيما يتتبع الكتاب استخدام الأثرياء لبنوك الافشور لتجنب الضرائب، والالتفاف على القيود المالية، وتجنب العواقب القانونية ــ و"تقويض الديمقراطية، فضلاً عن الرأسمالية" في هذه العملية، كما تقول المؤلفة.

وهذا بدوره يقودها إلى منطقة الافشور الغامضة للغاية، وهو عالم يضم كل شيء من الشركات المجهولة في ديلاوير إلى "الملاذات المالية الطرفية" مثل جزر كوك وبنما وجزر الباهاما، حيث يتألف جزء كبير من الاقتصاد من "مساعدة الأجانب الأثرياء على انتهاك قوانين بلدانهم". ويقدر الخبير الاقتصادي غابرييل زوكمان أن إجمالي الثروة الخارجية تمثل 10% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وأن هذا التهرب الضريبي المؤسسي يكلف 200 مليار دولار من العائدات العالمية سنويا.

لا شك أن هذه المسالة تحتاج بشدة إلى دراسات علمية. فالجميع، من القِلة الحاكمة في روسيا إلى الطغاة في العالم الثالث، يستغلون عالم المال السري المتنامي باستمرار، والذي يتألف من شركات وهمية مجهولة الهوية وتفسيرات غامضة لقوانين غير واضحة. وتساعد مجموعة من المحتالين من الحكومات والمحامين والمحاسبين أغنى الرجال والنساء في العالم في إخفاء أموالهم ــ ليس فقط عن مأموري الضرائب، بل وأيضاً عن المنافسين السياسيين ورجال الأعمال، ناهيك عن الزوج السابق في بعض الأحيان.

ولكن هارينجتون سرعان ما تصطدم بالجدران الفولاذية في محاولتها لمعرفة المزيد عن هذا النظام السري للثروة، إلى أن تتذكر شيئاً لاحظته لأول مرة عن العائلات الغنية التي واجهتها عندما كانت طفلة: نادراً ما يفعلون أي شيء لأنفسهم. إنهم يحتاجون إلى المساعدة، حتى في شيء عادي مثل تغيير مصباح كهربائي. وينطبق نفس الشيء عندما يتعلق الأمر بشيء مهم مثل إدارة واستثمار الأموال. لذا تحصل هارينجتون على اعتماد في إدارة الثروات، وتتخصص في هدفها، بنوك الافشور. ستدرس الأثرياء من خلال دراسة مستشاريهم الماليين وممكنيهم.

وبينما كانت تجري بحثاً ميدانياً في هذا النظام، كانت التبريرات التي تسمعها لا حصر لها. فقد تم تقديم التمويل الخارجي إلى الدول المستقلة حديثاً بعد الحرب العالمية الثانية كوسيلة للازدهار المالي مع التمسك بأسيادهم السابقين. ويمكننا أن نطلق على ذلك شكلاً من أشكال "مقاومة ما بعد الاستعمار". وينكر العديد من مديري الثروات الذين يمكّنون التمويل الخارجي خطورة ما يفعلونه ــ وإن لم يكن كلهم!. ويقول أحد هؤلاء المسؤولين الماليين لهارينجتون: "معظم ما نقوم به هو أعمال مكتبية"، ولكن هذا مجرد نوع آخر من اختلاق الأعذار. فالأمر لا يتعلق فقط بالأعمال المكتبية.

ولكن على النقيض من ذلك، فإن هؤلاء الرجال المتناقضون أحيانا، ولكنهم متباهون في كثير من الأحيان يسهلون عن غير قصد تدمير الاقتصادات، ناهيك عن الأنظمة السياسية، في جميع أنحاء العالم. ويتعاطف عدد منهم أكثر مع عملائهم الأثرياء. ويقول أحدهم: "إن الديمقراطية الاجتماعية تخلق مطالب كبيرة للغاية على خالقي الثروة". والأموال المفقودة الناتجة (على الأقل من خزائن الدولة) ليست جزءا صغيرا من الانهيار المستمر لكل من خدماتنا العامة وثقافتنا السياسية. وكقاعدة عامة، تتراجع الديمقراطية مع ارتفاع التفاوت في الثروة. كما أنها تشوه اقتصاد الحياة اليومية. لقد تسببت الأموال المجهولة في ارتفاع قيمة كل شيء من الفنون الجميلة إلى العقارات، حيث يلجأ الأثرياء في تبييض أموالهم في أصول بديلة وفي شقق سكنية في مدن مثل نيويورك ولندن.

في حين يستفيد الأغنياء بشكل كبير، فإن هذا لا يساعد حقًا سكان الملاذات الضريبية العالمية المتنوعة. نادرًا ما يتدفق النقد إليهم. بدلاً من ذلك، يستمر العديد منهم في العيش في فقر وشبه فقر، حتى مع الازدراء العلني لقوانين الضرائب في الدول الأخرى مما يؤدي إلى زيادة الازدراء لقوانينهم الخاصة، وكل شيء يزداد من الفساد البسيط إلى الجريمة العنيفة. يقول صياد في جزر كوك لهارينجتون: "الجميع يطلقون علينا جزر التحايل الآن"، بينما كانت مدينة بنما، وهي وجهة مفضلة أخرى، وبها واحدة من أعلى معدلات الجريمة في العالم.

وتقول هارينجتون "إن كان هذا يبدو مألوفاً بعض الشيء، ذلك أن مصطلح "الافشور" في حد ذاته يشكل تسمية خاطئة إلى حد ما. فالولايات المتحدة هي الوجهة الأولى لأولئك الذين يرغبون في إخفاء الأموال، وذلك بفضل بعض فضائلنا الوطنية: التراخي التنظيمي، والفساد القانوني. فلماذا نكلف أنفسنا عناء التعامل مع جزر الباهاما إذا كانت شركة ديلاوير السرية كافية؟

وتضيف "إن هذا التكتم مسبب للتآكل بطريقة أخرى أيضاً. ذلك أن نفس القوانين وأساليب الاستثمار المالي التي تمكن من التهرب الضريبي مسؤولة أيضاً إلى حد كبير عن تدفق الأموال المشبوهة إلى سياستنا. وهذا سبب آخر يجعلنا نتمتع بأفضل حكومة يمكن شراؤها بالمال ــ لصالح النخبة الثرية. فقد وجدت دراسة أجراها قبل عقد من الزمان مارتن جيلينز، الذي كان يعمل آنذاك في جامعة برينستون، وبنجامين بيج من جامعة نورث وسترن، أن تصرفات وسياسات الحكومة الأميركية أكثر استجابة لمشاعر الأثرياء من الأغلبية. والواقع أن التوجه المناهض للديمقراطية الذي تتسم به التمويلات الخارجية يقدم لنا سبباً وراء ذلك."

الواقع أن كتاب "الافشور" ليس أول كتاب لهارينجتون حول هذا الموضوع ــ فقد صدر لها كتاب في عام 2016 تحت عنوان "رأس المال بلا حدود: مديرو الثروات والواحد في المائة" ــ ولكن كتابها الأخير يستفيد مما يقرب من عقد من الزمان من المعرفة والأحداث. فقد دفع انتخاب دونالد ترامب للبيت الأبيض كثيرين إلى التأمل في مقدار ثروته التي لم تأت من استراتيجيات الاستثمار الذكية، بل من تحويل أبراجه السكنية التي تحمل اسمه إلى ساحة انتظار لثروات الأوليجاركيين الروس الهائلة. كما كشفت تسريبات مثل "أوراق بنما" و"أوراق الجنة" للجمهور بتفاصيل مروعة كيف أخفى الجميع، من الملكة إليزابيث إلى كبار المسؤولين المنتخبين، أموالهم في ترتيبات مالية خارجية معقدة. ونحن نعرف الآن أكثر كثيرا مما اعتدنا عليه عن عواقب بنوك الافشور، ولدى هارينجتون المزيد من الأسرار التي تريد أن ترويها لنا. ولكن هذا لا يزال غير كاف.

***

علي حمدان - كاتب ومترجم من عمان

نشر بالتزامن مع جريدة الرؤية العمانية

احتفاؤنا باليوم العالمي للغة العربية يزيدنا فخراً باللغة التي يتكلم بها كل ناطق بلغة القرآن حول العالَم. تلك اللغة العالمية التي ملأت المكتبات بذخائر العلوم في كل عصر منذ مجيء الإسلام ونزول الوحي بالرسالة المحمدية؛ آخر رسالات السماء إلى بني البشر، وقد شرفها الله أن جعل اللغة العربية العظيمة مفتاح تلك الرسالة.

 غير أن احتفالنا بتلك المناسبة لابد وأن يأتي مصحوباً بتساؤلات جوهرية تراود الأذهان: أولها حول مدي تأثير شيوع اللهجات العامية وغلبتها في أغلب المنابر الإعلامية والثقافية. وهل بإمكان هذه الظاهرة أن تؤثر على مكانة اللغة العربية في المستقبل القريب أو البعيد؟ وهل يتحقق ما يبشر به بعض المستشرقين الحاقدين على اللغة العربية من حيث كونها لغة العرب والمسلمين بأنها لغة مرشحة للانقراض والتحول إلى لغة من اللغات الميتة؟! وإذا كان هؤلاء يبذلون الغالي والنفيس من أجل النيل من لغتنا، فماذا بذلنا نحن من أجل الحفاظ عليها؟

 تساؤلات كثيرة تدور حول مصير الفصحى في ظل تدني مستوي دارسيها في شتي مراحل التعليم بسبب انتشار لغات أجنبية ولهجات عامية غزت ألسنة الأطفال والشباب المقلدين لما يرونه ويسمعونه في مختلف منصات الإعلام وشاشات الدراما. غير أنني مطمئن تماماً لمصير اللغة العربية الفصحى، لأسباب كثيرة، لعل من أكثرها إثارة لدهشة البعض: ارتباط اللغة العربية بالفنون منذ قديم الزمن!

لغتنا الجميلة

  ذلك عنوان لواحد من أهم البرامج الإذاعية للشاعر فاروق شوشة بأسلوبه الرائع في الإلقاء، وصوته المميز، وأدائه البارع. كان أمثال فاروق شوشة من الشعراء والأدباء والمثقفين غيورين على فصاحة النطق، وحريصين على تربية أجيال من الشباب على الاهتمام بالفصحى وسماعها ونطقها بطريقة سليمة لا غبار عليها.

  لقد كان الشعر هو الأقدم والأهم في العصر الجاهلي. وتبارَي الشعراء فيما بينهم لاستعراض قدراتهم البلاغية في تركيب العبارات الأخاذة وتدبيج قصائدهم بها. وانفرد العرب عالمياً بأنهم أقاموا أسواق واحتفالات بالشعراء والقصائد، أشهرها سوق عكاظ. وقد ظلت مكانة الشعراء بين قبائل العرب محفوظة حتى وقت نزول القرآن الكريم؛ المعجزة الربانية التي تحدي بها مالكُ الملك كلَّ جهابذة اللغة وأساتذتها حول العالَم أن يكتبوا مثله ولو آية. وما زال التحدي قائماً دون مجيب!

 ثم ظهرت في العصر الحديث فنون جديدة لم يعرفها العرب من قبل؛ كالرواية والمسرح والقصة القصيرة. على استحياء في أول الأمر، وأغلبها مجرد مترجَمات لروايات أجنبية تلقفها المثقفون من يد غزاة المشرق فوجدوا فيها سحراً خلاباً. وكان عليهم أن ينقلوا هذا السحر عبر لغتنا الخاصة، وهي العربية الفصحى. لم يكن وارداً لدي أذهان المثقفين آنذاك أن يجرؤوا على كتابة الرواية أو المسرحية بلغة العوام، حتى لو كان الجمهور كله منهم. هكذا استمر المسرح في بداياته يُكتب باللغة العربية الفصحى زمناً طويلاً. وهكذا كانت الرواية.

 ومن بين المشادات والمعارك الصحفية في النصف الأول من القرن العشرين، تلك التي تعلقت باستسهال بعض الروائيين لتطعيم بعض حواراتهم باللهجة العامية، كان هذا قبل انتشار الحوار العامي في المسرحيات، ثم في أفلام السينما والتليفزيون عند نشأتهما. غير أن جزالة النطق باللغة العربية الفصحى لم تغب عن المشهد الإعلامي والدرامي حتى وقت قريب. كان لدينا عدد كبير من الممثلين البارعين المتقنين للنطق باللغة العربية الفصحى. وإعلاميون كثيرون أجادوا الحوار بالفصحي بشكل ارتجالي في البرامج الحوارية أو في نشرات الأخبار. لكنهم يندثرون الآن وينقرضون شيئاً فشيئاً. حتى مسلسلات الدراما التاريخية اليوم خلت من تلك الميزة: فهي إما تدور بحوار عامي مبتذل، أو أنها غير موجودة بالأساس.

 غير أن كل هذا التدني والاستهانة بشأن لغتنا الفصحى الجميلة لا يثير قلقاً عندي. لأنها لغة ارتبطت بثلاثية باقية خالدة تضمن للفصحي الخلود: القرآن، والفنون، والتراث القديم.

بين الفن واللغة

 كثير من الفنون ارتبطت باللغة العربية على مر العصور: كالخط العربي، والزخرفة الإسلامية، والمعمار، والشعر، والموسيقي، والغناء، والدراما. تلك الفنون تتحول بمرور السنين إلى تراث إنساني يخلده التاريخ.

 وإذا كان القرآن الكريم قد ضمن انتشاراً واسعاً لدراسي اللغة العربية والناطقين بها حول العالَم، فإن الفنون ضمنت ارتباط هذه اللغة البارعة الرائعة بجماليات الفنون المكتوبة والمرسومة والمسموعة والمرئية. وتلك أسباب خلود مضمون لا تهدده ضغائن أو أحقاد أو مؤامرات خائبة تريد النيل من لغة محفوظة في الصدور والقلوب والأذهان والكتب وعلى جدران المساجد في أطراف العالم الأربع.

 عندما أنشأ الفاطميون الجامع الأزهر، تحول في عصر الأيوبيين وما بعدهم إلى جامعة إسلامية كبري ومنارة علمية عالمية يؤمها الدارسون من شتي أنحاء الدنيا. ثم نشأ مجمع اللغة العربية، وكان هذا إيذاناً بتقدم هائل في مجال اللغة العربية التي استوعبت كل ميادين الحياة المعاصرة بمعاجم متخصصة في كل المجالات العلمية الدقيقة: كالبيولوجيا والطب والتكنولوجيا وعلوم الحيوان والنبات والبترول، وغيرها من مناحي الحياة اليومية الحديثة. أي أن اللغة العربية امتازت دائماً بالمرونة والقوة والرسوخ، فلم تقف عند عصر من العصور، ولم يعجزها تطور الحياة، بل كانت قادرة دائماً على التشكل والتمدد والنمو بشكل دائم لاستيعاب الجديد.

 حتى حركات التحرر من قيود اللغة كانت في حقيقتها وجوهرها نوع من المرونة اللغوية، وقدرة هذه اللغة العجيبة على التلبس بأكثر من حالة حياتية. وتعدد اللهجات لا يُضعف اللغة العربية بل يقويها ويكسبها المتانة والاستمرارية والمرونة.

 لقد ظن دعاة العامية أنهم بتحررهم من قيود اللغة العربية الفصحى في الدراما أو من قيود القافية والوزن العَروضي في الشعر، أنهم بهذا أنزلوا الفصحى من عرشها الأبدي وأسقطوا هيبتها، لكن هيهات. فإن كل محاولة جديدة لابتكار لغة من لهجات الشارع العادي تزيد الناس احتراماً للغة العربية الفصحى، وتذوقاً لها. وشتان بين أن تسمع مذيع يتلجلج في نطق الفصحى ويسترسل في نطق العامية، فيضطرك للفرار من قناته إلى قناة تحترم الفصحى وتحرص على إجادتها بطلاقة. واحترام عوام الناس للقناتين ليس واحداً أبداً. إذ لا يزال السواد الأعظم من المشاهدين والمستمعين العرب في أي مكان يكن احتراماً شديداً للغة العربية الفصيحة إذا نطق بها من يتقنها، ممثلاً كان أو مذيعاً أو قارئ نشرة أخبار.

 ميدان التواصل الاجتماعي والفضاء الافتراضي يمثل تحدياً جديداً لانتشار العامية على حساب اللغة العربية الفصحى، وإن لم يكن هذا الأمر عاماً. بل لا تزال الكثير من قنوات الفيديو ومنصات التواصل الاجتماعي حريصة على النطق السليم باللغة العربية الفصحى لأسباب ذكية: أهمها تجاوز إشكالية اختلاف اللهجات بين البلدان العربية، وضمان انتشار أوسع في المحيط الإقليمي والعالمي. لهذا فإن المنصات التي تجيد التحدث باللغة العربية الفصيحة السهلة تتميز بمدي انتشار أوسع ومعدل مشاهدات أكبر من منصات أخري لا تلتزم بفصاحة اللغة.

 لا أكاد أشك أن اللغة العربية قادرة على الحفاظ على مكانتها العريقة مهما كانت التحديات، وأنها تتطور باستمرار، وأنها تملك في ذاتها عوامل خلودها ومنعتها ضد كل محاولات الحاقدين عليها. وأن احتمالية أن تتحول اللغة العربية إلى لغة ميتة هي احتمالية تصل إلى حد الاستحالة. وأن احترام عموم الناس، ولو كانوا من الأميين، سيظل قائماً تجاه الناطقين المتقنين للغة الضاد.

***

د. عبد السلام فاروق

عندما تخوض نقاشًا مع شخصٍ ما حول قضايا الحياة أو العلم أو الأدب أو حتى الفلسفة، تجد نفسك أحيانًا أمام حائط من الجهل المركّب. هناك من يدّعي التطور والانفتاح، لكنه في الحقيقة أسير لأفكار ضيقة وأحكام مسبقة. أكثر ما يجرح في مثل هذه المواقف هو سماع كلمة "خرابيط"، تلك الكلمة التي تحمل في طياتها التحقير لكلّ ما تُقدّمه من فكرٍ ومعرفة.

اللغة بحدّ ذاتها ليست المشكلة، بل السياق الذي تُقال فيه الكلمة، والنبرة التي تُقال بها. كلمة "خرابيط" تشير في معناها الأصلي إلى الخطأ أو الكلام غير المنطقي، ولكنّ استخدامها - هنا - يحمل استهزاءً وتجاهلًا لمجهودك الفكري. في تلك اللحظة، تجد نفسك أمام خيارين: إما أن تلتزم الصمت احترامًا لعقل المتلقي، أو أن تحاول إيصال فكرتك رغم إدراكك لغياب الأرضية المشتركة. ومع ذلك، يبقى السؤال الذي يلحّ على ذهنك: ما الذي يدفع بعض الأشخاص لوصف الأفكار المختلفة أو الكتب العميقة بأنها "خرابيط"؟

قد يكون السبب الغَيرة، أو ربما الجهل الذي يُغلّف بالعجرفة. وربما هو مزيج من الاثنين معًا. لكنّ المؤكد هو أنّ مواجهة مثل هذه الردود تتطلب منك أن تتحلى بالصبر والمرونة، بدلاً من أن تترك هذه الكلمة تترك أثرًا سلبيًا في نفسك، حوّلها إلى فرصة للتأمل والبحث، فكّر في كيف يمكن استخدام هذه التجربة لتقديم منظور أعمق للقراء أو لجعلها درسًا للحياة.

حينما تُقابل مثل هذه الكلمات، تذكر أنّ الضحك أحيانًا يكون أفضل ردٍّ. فالضحك لا يعني الاستخفاف، بل هو تعبير عن تفهّمك لمحدودية الموقف. استمرّ في التفاعل مع الحياة بكلّ ما تحمله من متغيرات؛ لأنّ في مواجهة الجهل والتحدّيات تنمو الأفكار وتتسع الآفاق.

 لعلّ أكثر ما يثري تجربتك في الحياة هو تلك اللحظات التي تشعر فيها بالتحدّي الفكري، سواء كان ذلك نتيجة ردود أفعال الآخرين أو بسبب اصطدامك بآراء معاكسة تمامًا لما تؤمن به. فعندما تُقال كلمة مثل "خرابيط"، ليس المقصود منها مجرد الرفض السطحي لما تقوله، بل هي أحيانًا انعكاسٌ لحالة من العجز عن فهم العمق أو رغبة دفينة في الدفاع عن منطقة الراحة الفكرية.

 اسأل بهدوء: "ما الذي ترى أنه لا معنى له؟" أو "كيف يمكن أن نعيد النظر في هذا الموضوع من زاوية أخرى؟". بهذه الطريقة، لا تُجبر الآخر على الموافقة على وجهة نظرك، ولكنك تفتح بابًا للنقاش أوسع.

التحدي الأجمل هو أن تستثمر هذه اللحظات لبناء سردية جديدة لفهمك الشخصي للعالم من حولك. كلمة "خرابيط" يمكن أن تصبح شرارة لتفكير أعمق حول معنى الأفكار التي نؤمن بها. قد تدفعك للبحث عن أصول تلك الفكرة أو تحسين طريقة تقديمك لها لتكون أقرب إلى العقلية التي تواجهها.

لكلّ إنسانٍ مستوى معيّن من الفهم، وإننا جميعًا في رحلة اكتشاف فكري لا تنتهي. هناك من يرى في العلم والفلسفة عبثًا، وهناك من يجد فيهما خلاصة المعنى. هذه الفروقات هي ما تجعلنا بشرًا مختلفين، ولكلٍّ منا تجربته وسياقه الخاص.

  تلك اللحظات التي تشعر فيها بالإحباط بسبب ردود الآخرين هي نفسها اللحظات التي تعيد تشكيل وعيك وتقوي إرادتك في مواجهة العالم بكلّ ما يحمله من جهل وتعقيد. 

 في كلّ مواجهة فكرية، ستجد أنّ هناك شيئًا لتتعلمه. حتى من الأشخاص الذين يبدون أكثر صلابة في رفضهم أو استهزائهم، يمكنك أن تستخلص دروسًا حول طبيعة التفكير البشري، وحول نقاط ضعفك أو قوة حججك. 

الحياة ليست ساحة معركة فكرية دائمًا، بل هي تجربة مستمرة نتعلّم فيها من التفاعلات، سواء كانت إيجابية أم سلبية. لا تكن ضحية لكلمات جارحة مثل "خرابيط"، بل استخدمها كوقود لتطورك. حاول أن ترى كلّ تعليق أو ملاحظة، مهما بدت سلبية، كفرصة للتأمل والبحث عن أعماق جديدة داخل نفسك.

***

فؤاد الجشي

 

في المثقف اليوم