قضايا
عامر هشام الصفار: الكتاب والمكتبة في تراثنا العلمي

لابد أبتداء، التأكيد على أن النهضة العلمية العربية لا يمكن أن تتحقق حاضرا دون الإستناد على أسس في العمل العلمي متينة وراسخة، ولعل الإدراك والتفهم الواعي لنتاجات العقل العربي الإبداعي في زمن السطوع الحضاري للعرب من خلال التفاعل مع تراثنا العلمي الخالد يعد واحدا من أهم هذه الأسس.
إن النهضة العلمية لا تأتي من مجتمع غير مهيء لها في الأساس، لذلك فلا يمكن للعقل العربي أن يضيف ويبدع في العلم ومجالاته المختلفة دون أن يكون مستعدا ومهيئا للنتاج العلمي أصلا، بما أختزنه من أفكار وفرضيات وتقاليد علمية.
وهنا أجد العلاقة وثيقة جدا بين تقدمنا العلمي وتحقيق نهضتنا العلمية في عصرنا الحاضر، وبين العودة المتفاعلة والمتفهمة بوعي لنتاجات تراثنا العلمي، بكل ما تضمنه هذا التراث من إنجازات مبدعة حفظت للمسيرة الحضارية الإنسانية أستمرارها وديمومتها..وبكل ما تضمنه هذا التراث أيضا من تقاليد في العمل العلمي لا أظن أننا اليوم إلا في أشد الحاجة إلى إدراكها وإستيعابها جيدا.
الكتابة والكتاب .. تاريخ أول
من الثابت علميا إن السومريين كانوا أول من أهتدى إلى الكتابة في تاريخ العراق القديم، حيث أتبعوا في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد أسلوب الكتابة بالصور، التي تمثل الشيء المطلوب إفهامه للمقابل (الكتابة التصويرية)، حتى أستطاع السومريون بعد ذلك من تطوير أسلوب الكتابة عندهم حيث أصبح بالإمكان التعبير برموز وعلامات معينة عما يريدون قوله، فأكتسب اللفظ مدلوله عند النطق به، وبذلك أرتبطت الكتابة بإمكانات الإنسان التشريحية والوظيفية من ناحية تكيف جهاز التصويت عنده للفظ والكلام.
وهكذا نشأت أو عرفت الكتابة المسمارية. يقول ديورانت صاحب كتاب "قصة الحضارة" وفي الجزء الأول من هذا الكتاب ما نصه : إن تطور الكتابة هو الذي كان يخلق الحضارة خلقا..وبداية ظهور الكتابة هو الحد الذي يعين التاريخ..ومن المعروف علميا أن السومريين هم أول من من كتب من جهة اليمين حتى اليسار.
أما علماء الآثار والحفريات فهم يضعون أحتمالين لنشوء الكتاب، فمنهم من يعتقد أن بداية نشأة الكتاب كانت من أستعمال لفائف ورق البردي. في حين أن هناك من يرجع أصل الكتاب إلى ما كان يستعمله الآشوريون من ألواح خشب أو عاج رقيقة، حيث تتم الكتابة عليها بعد طليها بطبقة من الشمع.
يقول الأستاذ المرحوم الدكتور طه باقر فيما يرجحه من نوع كتابي هو أصل الطباعة نعني بذلك الكتابة التي تختم على الآجر.. وكان ذلك يتم بطمغ اللبن قبل فخره، حيث يطمغ بقالب محفور بالكتابة المسمارية بهيئة معكوسة. ولا تزال تشاهد الألوف الكثيرة من الآجر المختوم وهو مبني في جدران المعابد والقصور والأبراج المدرجة.
المكتبة العربية.. أستقراء تاريخي
إن إستقراء علميا لمسار المكتبة العربية في تراثنا العلمي يمكننا بالفعل من أن نستنتج الآتي:
١. أن الإنسان العربي قد تعامل مع الكتاب تعاملا إبداعيا من خلال الحرص على إقتنائه وقرائته، ومن ثم ترتيب الخزائن للمحافظة على مجاميع الكتب في مكتبة عامرة.
تقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب" ففي عام 891م يحصي مسافر عدد دور الكتب العامة في بغداد بأكثر من 100، وبدأت كل مدينة تبني لها دارا للكتب يستطيع الناس إستعارة ما يشاؤون منها.
وتستمر المستشرقة الألمانية قائلة: إن عشق الكتب لم يكن وقفا على حفنة من العلماء فقط، بل كان هواية العرب على أختلاف طبقاتهم. فكل متعلم من رجالات الدولة المهمين إلى بائع الفحم، ومن قاضي المدينة إلى مؤذن المسجد هو زبون دائم عند بائع الكتب.
٢. إن دور العلم العربية لا يمكن أن تكتمل صورتها الصحيحة دون أن تضم إليها مكتبة زاخرة بالنفيس من كتب العلم والمعرفة. وهكذا كانت المدرسة المستنصرية ببغداد، والتي تعد أول جامعة كبرى في العالم الإسلامي حينها، حيث شرع نصر العباسي لبنائها سنة 625 للهجرة وتم افتتاحها سنة 631 للهجرة.
يقول الأستاذ المرحوم ناجي معروف: ويظهر أن المستنصرية ببغداد أصبحت قدوة لمؤسسي المدارس من الرجال والنساء، ليس في العراق وحسب بل وفي مصر والشام والحجاز، حيث شرعوا يبنون مدارسهم على صفتها من حيث المذاهب الأربعة، أو احتوائها على الكتب وعلى بقية المرافق الأخرى. وهكذا كانت في كل مسجد مكتبة خاصة كما في كل مستشفى (بيمارستان) قاعة كبيرة تصف على رفوفها الكتب والمؤلفات الطبية.
٣. إن رجل العلم العربي لم يترك فرصة معينة تسنح له إلا ويهتبلها على سبيل زيادة معارفه العلمية من كتب المكتبات العامرة، وهو تقليد علمي في سلوك علمائنا حري بالأستيعاب.
يروي أن سلطان بخارى قد شفي على يد الطبيب الشيخ الرئيس ابن سينا بعد أن ألّم به مرض عضال. فأراد السلطان مكافأة الشيخ ابن سينا، فما كان من الطبيب الخالد إلا أن أعلن عن رغبته بالأطلاع على مكتبة قصر السلطان.
٤. إن المكتبة العربية وكما يخبرنى تراثنا العلمي، لم تكن للمطالعة فقط، بل إن بعض المكتبات قد خصصت قاعاتها لأهل التأليف والترجمة.
تقول المستشرقة الألمانية هونكه في حديثها عن دور الكتب العامة في بغداد: كما ويجتمع فيها المترجمون والمؤلفون في قاعات خصصت لهم، ويتجادلون ويتناقشون كما يحدث اليوم في أرقى الأندية العلمية.
ويذكر آدم ملتز في كتابه "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري" أنه ظهرت إلى جانب دور الكتب، مؤسسات علمية أخرى تزيد على دور الكتب بالتعليم، أو على الأقل بإجراء الأرزاق على من يلازمها. فيحكى عن ابن قاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي المتوفى سنة 323 للهجرة أنه أسس دارا للعلم في بلده وجعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفا على كل علم لا يمنع أحد من دخولها. وفي سنة 383 للهجرة أسس أبو ناصر سابور وزير بني بوية دارا للعلم في الكرخ غربي بغداد، ونقل إليها كتبا كثيرة أشتراها وجمعها وكذلك أتخذ الشريف الرضي المتوفى عام 406 للهجرة دارا سماها دار العلم وفتحها لطلبة العلم، وعيّن لهم جميع ما يحتاجون إليه. ويدل مجرد أسم هذه المؤسسات على الفرق بينها وبين دور الكتب القديمة. فكانت دار الكتب قديما تسمى خزانة الحكمة، وهي خزانة كتب ليس غير. أما المؤسسات الجديدة فتسمى دور العلم وخزانة الكتب جزء منها.
٥. لم يكن باعة الكتب الاّ أناساً من الراغبين بالقراءة والأستزادة من العلوم، ولم تكن سوق الكتاب إلا منتدى فكريا من نوع خاص. فهذا ابن النديم العالم الكبير ومؤلف كتاب "الفهرست" تاجر الكتب يملك حوانيت يلتقي من خلالها مع زملائه من مفكري العصري ومثقفيه.
ولنا أخيرا أن نقف عند ما يقوله الأوروبيون المنصفون عن حضارة العرب، حيث ينقل لنا الاستاذ محمد كرد علي: علمونا صنع الكتاب وصنع البارود وعمل إبرة السفينة، فعلينا أن نفكر ماذا كانت نهضتنا لو لم يكن من ورائها هذه المخلفات التي وصلتنا من المدنية العربية.
***
د. عامر هشام الصفار