قضايا

غريب دوحي: الشعر والفلسفة

يقال ان التفسير الفلسفي للحياة غير التفسير الشعري لها قد لخص الفيلسوف الايطالي كروتشه (1866-1952) الفرق بين الفلسفة والشعر بقوله: "... قبل أن يصل الإنسان إلى درجة تكوين الأفكار عن العالم كون أفكار خيالية ولم ينطق بالنثر إلا بعد ان عبر بالشعر. فالشعر ليس وسيلة لشرح الفلسفة وإنما هو نقبض لها، فالفلسفة تحرر الذهن من الحواس أما الشعر فإنه يعظم ويكمل بمقدار انحصاره في الخاص والمعين والفلسفة تضعف الخيال والشعر يقويه ويطلقه، ولم يعرف في سير التاريخ إن أحدا كان شاعرا كبيرا وفيلسوفا كبيرا معا..."

يستخلص من قول (كروتشه) إن الانسان لا يعبد الهين وان التقوق في الشعر والتفوق في الفلسفة لا يمكن ان يجتمعان في سقف واحد، فالخيال جاء قبل المنطق والاسطورة قبل التاريخ والشعر اقدم من النثر والغناء اقدم من الكلام. وهكذا تظل الحرب مستعرة بين الفلسفة والشعر منذ القدم منذ ايام الفيلسوف الأغريقي افلاطون (427-347 ق.م.) الذي طرد الشعراء من جمهوريته الخيالية خوفا من أن يفسد الشعراء عليه احلامه الفلسفية، في هذه الحرب لم تكتب فيها النجاح لأحدهما على الأخر فقد تظل الفلسفة بحاجة الى الشعر حين يستشهد الفيلسوف بابيات من الشعر يدعم بها فكرته الفلسفية الغامضة وتتخذ من الشعر وسيلة اسهل هضماً ووضوحا، كذلك يقتبس الشاعر من الفيلسوف ادلته المنطقية التي يستعين بها في تصوير ابياته الشعرية التي يكتنفها الغموض والابهام.

وليس ادل من تعانق الشعر مع الفسلفة من قصائد ابي العلاء المعري الذي الذي كان احد النجوم السابحة في سماء الادب والتاريخ وحيث تتلاقى فطرته الشعرية مع نزعته الفلسفية، ولم يكن المعري فيلسوفاً بالمعنى الدقيق الشامل كسقراط وافلاطون وارسطو لكن الفكاره الفلسفية تغلبت عليه كآراءه في الأخلاق والمرأة والحياة التي اتخذ منها موقفاً خاصاً، كما انه اتخذ من الأديان موقفاً فلسفياً في كثير من قصائده التي عبر بها الحدود الأدبية الى الحدود الفلسفية حيث تحدث فيها عن أسرار الحياة والموت والخلود بحيث أوجدت له منزلة خاصة عند الفلاسفة ذلك باعتباره فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة وقد كانت قصائده ومقولاته تعبر عن هذا أصدق تعبير فمن مقولاته: (.. لا إمام سوى العقل..) وكذلك (.. كل عقل نبي..) وتعكس هذه المقولات تركيز المعري على العقل وحده دون النقل وكان منهجه يقوم على مبدأ الشك كخطوة اولى للحصول على الحقيقة.

كان المعري حائراً بين التفكير الفلسفي والعاطفة الدينية الموروثة فنراه مرة مؤمناً ومرة مشككاً يغلب على شعره التشائم والمرارة، لقد كان مؤمناً بوجود اله خالق لكنه كان كافراً بكل الأديان لأنها حسب رأيه تتناقض مع بعضها ولا تتفق في بعض افكارها مع العقل فقد كان يتكلم عن الأديان بكل شجاعة وصراحة لقد كان يعبر عن فلسفة (لا أدرية) كما نسميها اليوم وكان ناقداً صريحاً ونزيهاً لكنه تائهاً في لجة الأفكار متشائماً على طول الخط ويعزي البعض هذا التشائم الى فقدانه لوالدته في وقف مبكر من حياته وفقدانه ناظريه و بامكاننا نفا ان نضيف عامل ثالث ألا وهو حرمانه من الزواج فكان عامل الكبت الجنسي من أكبر اسباب القلق النفسي عنده وقد عبر عن هذا في احدى اشعاره قائلاً:

هذا ما جناه ابي عليّ

ولم أجن أنا على أحد

كما انه عبر عن تشائمه بقوله:

ضحكنا وكان الضحك منا سفاهةً

وحقاً لسكان البرية أن يبكوا

وعبر بوضوح عن تشككه في الأديان قائلاً:

اثنان اهل الأرض ذو عقل بلا

ديّن وآخر ديّن لا عقل له

وقال:

عللاني فان بيض الأماني

فنيت والظلام ليس بفاني

ولم يكن ابو العلاء المعري وحده في هذا الميدان بل ان شعراء آخرين دخلوا معترك الفلسفلة لكنهم لم يصلوا الى المستوى الذي وصل اليه المعري فلم تكن ظروفهم الشخصية تشبه ظروفه القاسية فقد كان الشاعر العبقري المتنبي ابرز الشعراء، كان مالئ الدنيا وشاغل الناس حقاً، لقد وقف الثعالبي صاحب كتاب (يتيمة الدهر) عند قول المتنبي:

ازورهم وظلال الليل يشفع لي

وأنثنى وبياض الصبح يغري بي

فقال.. (.. انه تطابق بين الزيارة والانثناء وظلام الليل وبياض الصبح والشفاعة له والاغراء به وكل هذا جميعاً في بيت واحد فآية معجزة باهرة وقدرة خارقة للعادة..)

ويقف الشاعر العباسي أبو العتاهية من تقلب الزمان موقف الشاعر المتفلسف مخاطباً زمانه قائلاً:

وانك يا زمان لذو صروف

وانك يا زمان ذو انقلاب

وحتى الشاعر الحسن بن هاني الملقب بـ (ابو نؤاس) والمعروف بأنه شاعر ماجن قال حينما سئم حياة المجون وتاب عنها:

اذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت

له عن عدو في ثياب صديق

وهذه هي العلاقة الجدلية بين الشعر والفلسفة في مختلف العصور.

***

غريب دوحي

في المثقف اليوم