قضايا

سجاد مصطفى: المثقف العراقي.. بين سلطة الجهل وواجب التنوير

في العراق، حيث تتشابك الأقدار وتتصارع الحقب، يُعاني المثقف أكثر من غيره، ليس لأن دوره أقل أهمية، بل لأن مهمته أشد خطورة وتعقيدًا. المثقف هو ضمير الأمة ومرآتها، ومع ذلك، يجد نفسه محاصراً في دوائر العمى الجماعي، حيث تُحاصر الحقيقة بالظلام، وتُلفظ الكلمة المضيئة في فضاء يسوده الصمت والخوف. في هذا الوطن الذي يُفقد فيه الإنسان إنسانيته يوماً بعد يوم، يتحول المثقف إلى كائن خارج الزمن، يُعاقب على وضوحه، ويُطارد من قبل من يخافون من انبلاج فكره.

المثقف العراقي، إذًا، هو سجين في وطنه، سجين بين جدران الجهل، وسجان بين أيدي من يَستخدمون المعرفة كسلاح للقمع والتدمير. وهذا السجن ليس بالسلاسل أو القضبان، بل هو سجن أيديولوجي وثقافي، يتغلغل في كل نسيج الحياة.

الجهل: القوة المنظمة

الجهل في العراق لم يكن يوماً حالة عابرة أو صدفة، بل هو مشروع مُدار بدقة، وأداة بيد قوى متعددة تسعى للحفاظ على أنظمتها عبر التعتيم والإنكار. ليس الجهل نقص المعرفة فحسب، بل هو نظام متكامل يُنتج ويُعاد إنتاجه يومياً عبر وسائل الإعلام الموجهة، التعليم المُضلل، والخطابات السياسية والدينية التي تُصنع على مقاس الحفاظ على الوضع القائم.

هذا الجهل هو الذي يُعاقب على طرح الأسئلة، ويُجرّم الشك، ويُحرم من حرية التفكير. في العراق، يصبح الجهل سلطة، والجاهل هو من يحتكر الحقيقة، أو يدّعي احتكارها. المثقف هنا يواجه عدوًا لا يُرى، لكنه ملموس في كل مكان؛ هو التيه الثقافي الذي يبتلع الوعي، ويحوله إلى بقايا أثرية هامدة.

المشكلة في العراق ليست في قلة المثقفين، بل في كثرة من يرتدون قناع الثقافة ويمنعون عنها نورها¹.

المثقف بين الاستلاب والالتزام

المثقف الحقيقي في العراق، وفي كل مكان تُهيمن عليه سلطات الجهل، يعيش صراعًا داخليًا مريرًا بين الاستلاب والالتزام. الاستلاب هنا يعني الانسياق وراء التيار، والقبول بالتكتيكات الرخيصة التي تخدم السلطة، والانغلاق في دائرة الدفاع عن الذات بدلًا من الدفاع عن الحقيقة.

أما الالتزام فهو أن تبقى وفياً لمهنتك الروحية والفكرية، رغم كل الإغراءات والتهديدات، وأن ترفض أن تتحول إلى مجرد صوت في جوقة الإذعان. كما يقول جان بول سارتر، الالتزام هو ما يجعل المثقف إنسانًا كاملاً، وليس مجرد حامل أفكار2.

لكن في العراق، الالتزام يُعاقب. يُعاقب المثقف لأنه يُذكّر الناس بأنهم ليسوا مضطرين لقبول واقعهم كما هو، وأن هناك إمكانات أخرى للحياة والحرية. وهذا ما يجعل المثقف دائمًا هدفًا لمن يحكمون بالجهل.

الوعي الزائف وفساد الثقافة

أنطونيو غرامشي وصف الوعي الزائف بأنه وعي يُبنى وفق مصالح قوى الهيمنة، لا مصالح الإنسان الحقيقي. في العراق، هذا الوعي الزائف يتجلى في ثقافة مقلوبة، تُقدّس الرموز الفارغة، وتُشيّد الأساطير التي تُبرر الخضوع والذل. الثقافة تتحول إلى أداة لتجميل القمع، وتزيين الفشل، بدلاً من أن تكون حاضنة للتغيير والتنوير.

حين يصبح المثقف أداة لتكرار الوعي الزائف، يتحول إلى جزء من المشكلة، لا الحل. وفي هذا السياق، التحدي الأكبر للمثقف العراقي هو مقاومة هذا الوعي الزائف وكشفه أمام الناس، مهما كلفه ذلك من ثمن.

التنوير كمقاومة

التنوير ليس رفاهية فكرية، بل هو فعل مقاومة بحد ذاته. كما يقول أدونيس، كل تنوير هو تمرّد ناعم على القطيع3. في العراق، حيث القطيع يُرغم على السير في دروب الجهل، يصبح التنوير ضرورة وجودية، وليس خيارًا.

المثقف الذي يضيء شمعة في هذا الظلام، لا يضيء لنفسه فقط، بل لكل من يرفض أن يعيش في قوقعة الجهل والخوف. الكتابة، الحوار، النقد، والبحث عن الحقيقة كلها أفعال مقاومة تعيد بناء الإنسان العراقي في جوهره.

أن تكتب في بلد يحارب المعرفة، هو نحت حروفك في صخر الصمت، وصنع من وجعك مصباحًا في نفق طويل.

المثقف والواقع العراقي

إن المثقف العراقي لا يمكن أن يكون منفصلًا عن واقع بلده؛ فهو جزء منه، ومرآته، ومحرّكه. لكن الواقع العراقي معقد، متشابك، مليء بالتناقضات والآلام. المثقف مطالب بفهم هذه التناقضات وتفكيكها، ليس فقط ليعبر عن معاناة وطنه، بل ليصنع أدوات التغيير.

في وطن يُصلب فيه الإنسان يوميًا على أعمدة الجهل، لا بد للمثقف أن يكون أكثر من مجرد ناقل للأفكار؛ يجب أن يكون صانعًا للرؤى، وصاحب مبادرات تُحرر العقل وتفتح الأبواب المغلقة.

خاتمة والناتج

المثقف لا يُقاس بعدد الكتب التي قرأها، بل بعدد الأوهام التي حاربها. وإن لم يكن قادرًا على تفكيك الأكاذيب التي وُرِّثت للأجيال، فعليه أن يصمت كي لا يضيف إليها كذبة جديدة.

أنا لا أكتب لأنني أمتلك الحقيقة، بل لأنني ضاق بي الزيف. أكتب لأن الإنسان في بلدي يُصلب كل يوم على أعمدة الجهل، ولا أحد يصرخ.

سيأتي الزمن الذي يُسأل فيه المثقف أين كنت حين ساد الباطل؟ فإن أجاب كنت صامتًا، فليعلم أن صمته كان جريمة.

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

....................

الهوامش:

2. غرامشي، أنطونيو. دفاتر السجن، الجزء الثاني.

3. سارتر، جان بول. الأدب والالتزام، ترجمة محمد بندور.

 

في المثقف اليوم