آراء
عبد السلام فاروق: سقوط الفلاسفة.. عندما يتخلى العقل عن إنسانيته؟

من كان يتصور أن الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"-السياسي الليبرالي الذي طالما تفاخر بتبعية أوروبا للقيم الكونية - سيقف في قاعة الأمم المتحدة داعماً للاعتراف بدولة فلسطين، بينما كبار فلاسفة الغرب، أولئك الذين ملأوا الدنيا خطابات عن العدالة والتحرر، يختفون خلف صمت أشبه بالموافقة على المجزرة؟ أين "يورجن هابرماس" صاحب نظرية "الفعل التواصلي" الذي كان يفترض أن الكلمة يجب أن تسبق الرصاصة؟ أين منظرو مدرسة فرانكفورت الذين طالما تحدثوا عن "العقل الأداتي" ووحشية الرأسمالية، بينما إسرائيل تحول غزة إلى مختبر للدمار بأحدث الأسلحة؟
لقد كشف العدوان على غزة زيف الخطاب الغربي عن "القيم العالمية". فما قيمة عقل يناقش الحرية في الكتب، ثم يصمت عندما تزهق أرواح الأطفال تحت الأنقاض؟ ما قيمة فلسفة ترفع شعار "لا للعنف" ثم تبرر العنف عندما يكون صهيونياً؟
العقل المشلول..
في أقسام الفلسفة في جامعاتنا العربية، كنا ندرس "هابرماس" و"أدورنو" و"هوركهايمر" بقدسية تكاد توازي النصوص الدينية. كنا نعتقد أن هؤلاء الفلاسفة يمثلون الضمير الأوروبي، صوت العقل الذي يرفض التوحش. لكن غزة كشفت أن هذا "الضمير" مشروط ببوصلة السياسة. فهابرماس، الذي طالما حذر من "استعمار العالم الحيوي" - أي تحويل البشر إلى أدوات - لم يجد حرجاً في توقيع بيان يؤيد "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"! وكأن الدفاع عن النفس يعني ذبح 15 ألف طفل وامرأة!
صمت الفلاسفة.. خيانة فكرية. فالفلسفة، منذ سقراط، ملزمة بأن تكون صوتاً للحقيقة حتى لو خالفت السلطة. لكن يبدو أن فلاسفة أوروبا اليوم – باستثناءات قليلة – تحولوا إلى "مثقفي بلاط"، يكتبون ما يريده النظام العالمي الجديد. لقد فضحوا أنفسهم: فمن يتحدث عن "الأخلاق الكونية" ثم يصمت أمام الإبادة، ليس فيلسوفاً، بل "ببغاء أيديولوجي".
مدرسة فرانكفورت: نقد الرأسمالية أم تبريرها؟
مدرسة فرانكفورت، التي قدمت نقداً لاذعاً للحداثة والرأسمالية، تقف اليوم في مفترق طرق وجودي. فكيف تنظر عن "تحرر الإنسان" ثم تتجاهل أسوأ أشكال القمع في القرن الحادي والعشرين؟ كيف تنتقد "العقل الأداتي" - أي تحويل الإنسان إلى أداة – ثم تصمت عندما يتم اختزال الفلسطينيين إلى أرقام في تقارير الإعلام الغربي؟
الجواب بسيط: لأن النقد الغربي، رغم راديكاليته الظاهرة، يظل محكوماً بإطار استعماري. فهو ينتقد الرأسمالية عندما تستغل العامل الأوروبي، لكنه يتجاهل أنها نفس الرأسمالية التي تمول الصواريخ التي تسقط على بيوت الغزيين. إنه نقد انتقائي، يمارس "العدالة" في حدود الجغرافيا البيضاء، وينسى أن البشرية لا تتجزأ.
"المعرصون" الجدد!
"العرص"- في الثقافة الشعبية - هو الشخص الذي يبيع مبادئه لمن يدفع أكثر. والفلاسفة الأوروبيون اليوم، بمن فيهم بعض اليساريين، تحولوا إلى "معرصين" بمعنى الكلمة. فهابرماس، الذي كان يعتبر وريثاً لفكر "كانط" في السلام العالمي، لم يحرك ساكناً إلا ليذكرنا بـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"! وكأن الفلسطينيين ليسوا بشراً لهم الحق في الدفاع عن أرضهم!
لم يعد الفيلسوف الغربي ذلك المتمرد الذي يقف ضد السلطة، بل أصبح جزءاً من آلة التبرير. إنه يشبه ذلك الكاهن في العصور الوسطى الذي كان يبارك جيوش الإقطاع قبل إبادة القرى. الفارق الوحيد أن الكاهن كان يستخدم الدين، والفيلسوف اليوم يستخدم "النظرية النقدية" لتمرير الوحشية.
هل انتهى عصر الفلاسفة؟
ربما لا. فالتاريخ يعلمنا أن الفلسفة الحقيقية لا تموت، لكنها تنتقل إلى حيث ينتهك الإنسان. اليوم، ليست كتابات هابرماس هي التي تقرأ تحت أنقاض غزة، بل قصائد محمود درويش وخطابات فرانز فانون. الفلسفة التي تخون إنسانيتها تصبح حبراً على ورق.
لكن الأمل يظل موجوداً. فكما أنجبت أوروبا يوماً "فولتير" و"سارتر" و"سيمون دي بوفوار"، فقد تنجب يوماً فلاسفة جدد يرفضون الانحياز إلى القوة ضد الحق. حتى ذلك الحين، علينا أن نعي أن الفلسفة ليست كتب تقرأ، إنما موقف يتخذ. والموقف الأخلاقي الوحيد اليوم هو الوقوف مع الحياة ضد الموت، مع غزة ضد آلة الحرب.
أما أولئك الفلاسفة الذين اختاروا الصمت، فسيبقون في ذاكرة التاريخ كمن فضلوا أن يكونوا "أدوات للسلطة" بدلاً من أن يكونوا "أصواتاً للحقيقة".
في لحظات التاريخ الحاسمة، تختبر النظريات كالنار تجرب الذهب. وغزة كانت اختباراً صادماً لكثير من الادعاءات الفلسفية الغربية. فهابرماس، الذي بنى مشروعه على "أخلاقيات المناقشة" و"التواصل العقلاني"، لم يجد ما يقوله إلا تأييداً للدولة التي تقتل كل يوم العشرات من الأطفال والصحفيين والأطباء. أليست هذه مفارقة قاتلة؟ كيف لفيلسوف يدعو إلى "عالمية الأخلاق" أن يصمت حين تُنتهك أبسط قواعد الإنسانية؟
الجواب يكمن في أن الفلسفة الغربية، رغم كل خطابها النقدي، ظلت أسيرة المركزية الأوروبية. فـ"العقلانية" التي يتحدثون عنها هي عقلانية انتقائية، تطبق على أوروبا وأمريكا، وتعلق عند حدود العالم العربي والإسلامي. إنها أخلاقيات ذات بعد واحد: تدين القمع في أوكرانيا، وتبرره في فلسطين.
كانت مدرسة فرانكفورت ترفع شعار "تحرير الإنسان من كل أشكال الهيمنة"، لكنها اليوم تتحول إلى أداة لهيمنة جديدة. فـ"هربرت ماركوزه"، الذي كتب "الإنسان ذو البعد الواحد"، كان يحذر من تحول الفرد إلى مجرد ترس في آلة الرأسمالية. لكن ماذا لو كانت الآلة اليوم هي آلة الحرب الإسرائيلية؟ لماذا لا يرى فلاسفة المدرسة أن الفلسطيني هو الضحية المثالية للإنسان "المستلب" الذي حذروا منه؟
السبب هو أن النقد الغربي، حتى في أكثر أشعاره راديكالية، لا يجرؤ على تجاوز الخط الأحمر: "القداسة اليهودية". فكما أن انتقاد الكنيسة كان تابوًا في العصور الوسطى، انتقاد إسرائيل اليوم هو التابو الجديد. حتى اليسار الأوروبي، الذي يزعم مقاومة الاستعمار، يتعامل مع إسرائيل كحالة استثنائية، وكأن الاستعمار الاستيطاني يصبح "تقدميّاً" إذا حمل شعارات غربية!
الفلاسفة والسلطة
لم يعد الفلاسفة اليوم، كما كانوا في عصر التنوير، صوتاً للمهمشين، بل تحولوا إلى "كهنة النظام". هابرماس، الذي يعتبر أحد آخر عمالقة الفكر الغربي، لم يعد يختلف عن سياسي محترف يختار كلماته بحسابات دبلوماسية. لقد خان الفيلسوف مهمته الأولى: أن يكون ضميراً غير مريح للسلطة.
في المقابل، نرى فلاسفة حقيقيين خارج المؤسسة الأوروبية، مثل "جوديث بتلر" التي تجرأت على انتقاد الصهيونية، أو "نعوم تشومسكي" الذي ظل وفياً لموقفه المناهض للاستعمار. لكن هؤلاء يعاملون كـ"منبوذين" في الأوساط الأكاديمية الغربية. وهذا يكشف حقيقة مؤلمة: الفلسفة الغربية لم تعد فضاءً للتفكير الحر، بل أصبحت جزءاً من صناعة التبرير الأيديولوجي.
من تحت الأنقاض
إذا كانت الفلسفة الغربية تعجز عن قول الحقيقة، فلا بد من البحث عن أصوات أخرى. ربما يأتي الجواب من جنوب العالم، من فلاسفة أمريكا اللاتينية الذين يتحدثون عن "استعمارية السلطة"، أو من أفريقيا التي تطرح سؤال "إزالة الاستعمار من العقل نفسه". أو ربما يأتي من الفلسطينيين أنفسهم، الذين يكتبون فلسفتهم بدمائهم، كما فعل "إدوارد سعيد" حين كشف زيف "الاستشراق".
الفلسفة الحقيقية ليست نظرية مجردة، بل موقف واضح من الظلم. وإذا كان هابرماس وأقرانه قد خانوا هذه المهمة، فليس هذا فشلاً للفلسفة ذاتها، بل فشل لنموذج فلسفي أصبح خادماً للسلطة.
أخيرا.. هل يمكن إنقاذ الفلسفة من نفسها؟
ربما تكون غزة قد كشفت أن الفلسفة الغربية، في جزء كبير منها، وصلت إلى طريق مسدود. لكن هذا لا يعني نهاية الفكر النقدي، بل بداية لفلسفة جديدة، أكثر شجاعة، أقل خضوعاً، وأكثر التزاماً بالضحايا. فلسفة لا تخاف من أن تسمى "منحازة"، لأن الحياد في زمن الإبادة هو تواطؤ.
لكن التاريخ نفسه سيتذكر أن الفلسفة الحقيقية لم تمت، فقد انتقلت إلى حيث تكتب ليس بالحبر، بل بالدم. أولئك الذين اختاروا الصمت، فلن يذكرهم التاريخ إلا كحاشية في سجل الخيانة.
***
د. عبد السلام فاروق