قضايا

عندما كان جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة، حذّر من ان خصومه السياسين يشكلون تهديدا للديمقراطية ذاتها. نفس الاتهامات وُجهت ضد الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو. في الحقيقة، العديد من الصحفيين والنقاد يدّعون ان التهديد للديمقراطية هو ظاهرة عالمية. المحافظون لطالما انتقدوا خصومهم لكونهم متساهلين حول الجريمة، اما الليبراليون فقد انتقدوا خصومهم لعدم اهتمامهم بالفقراء، لكن اتهام المعارضة بكونها "تهديد للديمقراطية" يبدو اكثر إحباطا، فهل هذه الاتهامات صحيحة؟ ان تحذيرات مثل "الديمقراطية ستصل الى نهايتها عندما انت لا تستمع لي" هي قديمة قدم فكرة ان الأغنياء يزدادون ثراءً والفقراء يزدادون فقرا.
منذ نشوء الجمهورية الديمقراطية القديمة في اثينا، كان النقاد يحذرون المواطنين من زوال الديمقراطية الحتمي. فمثلا، في الجزء الثامن من كتاب الجمهورية لإفلاطون (380ق.م)، حذر سقراط من تساهل الديمقراطية في الميول نحو الجريمة، والإفراط في المساواة: "ألم تلاحظوا كيف ان العديد من الاشخاص في الديمقراطية، رغم معاقبتهم بالنفي، يبقون حيثما هم ويتنقلون حول العالم؟.. الرجال الكبار في السن يعطفون على الشباب.. ولايجب ان انسى المساواة بين الجنسين.. الافراط في الحرية يتسع ليتحول الى إفراط في العبودية.. وهكذا يبرز الاستبداد من الديمقراطية". وفي روما ،بعد انتخاب ماركوس ليفيوس دروسوس مدافعا عن الشعب عام 121 ب.م، صرخ اصدقاء خصمه كايوس جراكوس في الشكوى من عدم العدالة، وهو ما جعل زوال الديمقراطية يبدو حتميا. هم اتهموا دروسوس في التلاعب بأصوات الناخبين. وكرد فعل، طارد مساعدو دروسوس كايوس وقتلوه. الديمقراطية لازالت تعمل في اليونان وروما بعد قرون، والتنبؤ بموت الديمقراطية ذاتها لم يتحقق ابدا. لكن الديموقراطيات تولد وتموت. كيف نستطيع معرفة ان كانت الديمقراطية الحالية مهددة؟
ظهور الديمقراطية
قبل معرفة ان كان هناك تهديد للديمقراطية، نحتاج لفهم كيف جاءت الديمقراطية في المقام الاول. في (حياة اليونان،1939)، يقدم لنا المؤرخ وول دورانت Will Durant فكرة : "في عام 459 ق.م، كان بريكلس متحمسا للسيطرة على قمح المصريين، فأرسل اسطولا كبيرا لطرد الفرس من مصر. الحملة فشلت، وبعد ذلك تبنّى بريكليس سياسة كسب العالم عبر السيطرة على التجارة بدلا من الحرب".
ليس صدفة ان جميع الديمقراطيات القديمة برزت في مراكز الانتاج اوعند مفترق الطرق التجارية. التجارة أجبرت التجار كمتعصبين وكارهين للاجانب للمقايضة مدنيا مع متعاملين من أماكن اخرى. اذا كان المطلب الاول للتاجر هو القدرة على اكتشاف الصفقات الكبيرة، فان المطلب الثاني يجب ان يكون التسامح مع الملابس الغريبة وعادات المستهلكين. نجاح التاجر يعتمد على معاملة كل شخص بنفس الشيء سواء كان يحبه ام لا. لذا فان التجارة تحوّل اللاتسامح الى تسامح. وبعد قرون، صعدت روما كما اليونان من قبل فهيمنت على التجارة. بالنهاية، قادت حروب روما الدائمة الى تركيز نسبة كبيرة من الثروة والسلطة لدى الدولة. الحروب خنقت التجارة في كلا الامبراطوريتين وادت الى انحطاطهما.
وبعد سقوط روما في القرن الخامس الميلادي، خيّم تقريبا الف سنة من ظلام الامية على اوربا. بعد ذلك، بزغ شعاع ضوء في الافق. في القرن العاشر، منحت التجارة مولدا للديمقراطية عندما قادت النشاطات التجارية الواسعة الى تكوين جمهوريات ايطاليا البحرية في البندقية وجنوة وبيزا. مرة اخرى، القتال المستمر جعل حياة تلك الجمهوريات قصيرة. التجارب الحالية تعلّمنا نفس الدرس: الديموقراطيات تنشأ كتعبير سياسي للمجتمعات التجارية.
التسامح والمساواة كمحصلة للانتاج والتجارة
لنستطلع قليلا كيف تقود الفعالية التجارية الى ظهور المساواة الديمقراطية والحكم الذاتي والحرية. ان توسّع التجارة يغير العلاقات بين المواطنين ويصوغها لتتماشى مع نفسية صاحب المتجر. معظم علاقاتنا هي سطحية، نجاحها او فشلها يتم قياسه بمعطيات مادية. التاجر لا يهتم بالضرورة بلون جلدك، وانما في النقود التي لديك. لا يهم كثيرا بالنسبة له ما اذا كنت زائرا اجنبيا او جار له في الشارع. هو ينظر الى ربحه. لذا فان التجارية الديمقراطية بالنهاية تعزز تسامحا سياسيا واجتماعيا واسعين. لكن صاحب المتجر ليس فقط عليه ان يبدو مرحبا بالناس، هو ايضا عليه ان يملأ رفوف متجره بأشياء يرغبها الناس. لذا فان البائع ،اكثر من أي شخص آخر، مسؤول عن تعريف بقية الناس على عادات واذواق الناس الاخرين.
التغيرات تحدث في مجتمع حين تبدأ فيه طبقة التجار باكتساب سلطة اكبر، وهنا يدخل الحراك الاجتماعي حيز التنفيذ: "في الديمقراطية، عندما يذهب النجار للمطعم لشراء طعام، يكون النادل هو خادمه المؤقت. في اليوم التالي، عندما يذهب نفس النجار الى بلد النادل لنصب خزائن، يصبح النادل سيدا ورب عمل.. في هذه الطريقة، هم يعتبرون بعضهما البعض كمتساوين اجتماعيا" (قطيعنا الانساني، ستيفن مارتن فرتز،2020).
التاريخ كمحصلة للانتاج والتجارة
تخلق التجارية أكثر من مجرد ثروة وديمقراطية: انها تصنع تاريخا. في الامم القليلة الانتاج والتجارة، لاشيء يتغير تقريبا. بدون تجارة وفيرة، ليس امام الفقير الاّ القليل من الفرص، والحراك الاجتماعي ليس له وجود. عندما يضمن الابن مستقبله كفلاح مثل ابيه، وبنته تتأكد من مستقبلها كربة بيت او راهبة مثل النساء الاخريات، فلن يحدث أي شيء جديد. التاريخ ذاته يبدو كأنه ثابتا. في ظل هذه الظروف الساكنة، اصبحت العلاقات الطويلة الامد راسخة الجذور. عندما يحتال فرد على آخر بالنقود، فان عائلة ذلك الفرد سيتم تذكّرها لعدة اجيال كغير جديرة بالثقة. في مثل هذه الظروف، يصبح لتاريخ العائلة أهمية كبيرة. عندما يتم اختيار شخص ما كمسؤول محلي حكومي، هو يحاول المناورة مع أقاربه على مواقع وظيفية مشابهه، فتبرز الهرمية وتبقى بلا تغيير لسنوات. وهكذا عندما تصبح الامم الفقيرة هرمية، وتكتسب فيها بعض العوائل قيمة أكثر من الاخرين سيبرز نظام طبقي، يقوده الملوك او الملكات. افكار مثل "شرف" و "سمعة" تعني كل شيء، وربما الى درجة تستبدل النقود لتصبح كعملة للمجتمعات الفقيرة. كل هذا انقلب رأسا على عقب في ديمقراطية متغيرة سياسيا، وتجارة واسعة تضمن زيادة كبيرة في الاختراعات الجديدة وتغيرات في اسلوب الحياة ايضا. الاشياء تتطور بسرعة والناس يتحركون وراء النقود. لذا فان الثقافة الديمقراطية هي حضارة تتقدم بسرعة مع الكثير من التغيير يحدث في وقت قصير نسبيا. خلال أجيال قليلة، اصبح من الصعب التعرف على الجيران. الرجل الذي يقف خلفك في المحل ربما فقير او حاكم اقليم، انت لا تعرف ذلك ولا تهتم به. الشرف والسمعة تعني القليل عندما لا احد يعرف ماضينا، وحتى القليل ربما يعرفون اسمنا.
الحكومة الذاتية والحرية
ما يعطي المجتمعات فرصة التحول من شكل للحكومة الى شكل آخر هو اختفاء القبضة الحديدة لقوة الملكيات والدكتاتوريات. عندما يكون هناك القليل من الموارد تُفرض عليها الضرائب والقليل من الفعاليات تُراقب وتُنظم، فان عدد المشرفين الحكوميين يتضائل وينكمش تأثير البيروقراطيين على المزارعين المحليين والحرفيين. هذا يخلق فرصا لرواد الاعمال. التاجر المغامر الذي يفتح محلا لبيع سلع مستوردة جديدة ربما تزداد ثروته ببطء. الحكومات المهتمة بمزيد من الثروة عادة تعطي للمشاريع الجديدة الكثير من الحرية للتوسع. عندما تتوسع الشركة بسرعة اكبر من امكانية الحكومة للسيطرة او فرض الضرائب عليها، فان التحول الى الديمقراطية قد لا يكون بعيدا. عادة، الاوتوقراطيات لاتعرف بسهولة كيف تحكم الشركات الجديدة. هي عادة تُجبر على توظيف أعضاء من شركات الجالية لإقتراح التعليمات. لذلك، يتم تعين المنتجين لحكم أنفسهم. في ظل هذه الظروف من "الحكم الذاتي"، يزدهر الانتاج والتجارة. لكن بينما من السهل رؤية كيف ان التسامح والحكم الذاتي يترافقان مع تبنّي رؤية اصحاب المتاجر، يبقى الربط بين التجارة والحرية ليس واضحا.
"الحرية" مفردة ذُكرت كثيرا اثناء الفترات الديمقراطية، لكنها نادرا ما جرى تبنّيها في الاوقات الارستقراطية. لماذا؟ لأن الحرية لا معنى لها عندما لا تتوفر خيارات. عندما يقوم الفلاح والفلاحة كل يوم بنفس الاشياء التي قاما بها يوم أمس، وعندما يعملان نفس الاشياء التي يقوم بها جيرانهما، وعندما تتطلب الظروف الاقتصادية انهما يستمران بعمل هذه الاشياء، ماذا تعني "الحرية"؟ لكي تكون حرا ذلك يتطلب فرصا لعمل خيارات اخرى، وعمل شيء مختلف. اساسا، كلما كانت الخيارات لدينا كثيرة، كلما كنا أكثر حرية. الانتاج المادي يخلق خيارات للملايين من الناس.
الجغرافية والناس الذين هم على جانب واحد من الحدود بين الولايات المتحدة وكندا لا يختلفان كثيرا عن الجغرافية والناس في الجانب الآخر. مع ذلك، هناك اختلافات. الناس في الولايات المتحدة هم اكثر غنى بنسبة 10%، بما يجعلهم اكثر حرية في اتخاذ القرارات حول اشياء لأنفسهم. باختصار، الامريكيون يتمتعون بالكثير من الخيارات قياسا بالكنديين. نفس الشيء يصح بشأن المزيد من الاختلافات بين الولايات المتحدة ومكسيكو. لكن الاختلافات في السياسة هي في الحقيقة اكثر وضوحا عندما تنظر للاختلافات بين كوريا الشمالية والجنوبية. اللغة والمناخ هو ذاته. ما يتغير في الدولتين هو حجم الانتاج والتجارة، ما مقدار السهولة التي يتم بها وما حجم الاتساع الذي يحدث فيهما. جنوب كوريا اكثر حرية ماديا وسياسيا مقارنة بنظيرتها الشمالية.
الوقت الشاق للديمقراطية
عندما جرى تطبيق التقدم الذي صنعته الثورة العلمية على المكائن، وُلدت الثورة الصناعية، والانفجار الناجم في الثروة ادى الى عصر ديمقراطي عالمي جديد من الحرية والمساواة.
مالكو المصانع وأصحاب مشاريع النسيج في بريطانيا كانوا اول من طبق العلم في التكنلوجيا على نطاق واسع في اواسط القرن الثامن عشر. كان هذا في الاساس مرحب به من جانب الحكومة التي معظمها من الارستقراط الذين كانوا متلهفين لفرض ضرائب على الثروة المتصاعدة الجديدة. والعديد من الديموقراطيات الكبيرة اليوم هي من تجار المستعمرات البريطانية السابقة التي وضع فيها التاجر حقه في الممارسة الريادية فوق العادات المحلية. القيود الثقافية عليها ان تتساهل مع حاجات مالك المصنع والصيادين التجاريين، واصحاب المتاجر. وفي عام 1840، لاحظ الكس دي توكفيل في كتابه (الديمقراطية في امريكا) ان احدى الطرق التي اختلفت بها الديمقراطيات عن الارستقراطيات في اوربا هي ان "في الديمقراطيات كل شخص يعمل".
مع ذلك، كان التحول من الاوتوقراطية الى الديمقراطية دمويا. انه اخذ من البريطانيين قرنين من الزمن للحفاظ على سيادتهم واطلاق العنان لصناعاتهم، حيث بدءاً من عام 1649 جرى إعدام تشارلس الاول واستمرت تلك الاضطرابات حتى القرن التاسع عشر تحت حكم الملكة فكتوريا. في فرنسا كان التحول مضطربا وطويلا. انه بدأ بتوسيع التجارة. صعود الجاكوبيين الباحثين عن المساواة، و اعدام لويس السادس عشر في عام 1793، دفع البلاد للتراجع الى الوراء مع دكاتورية نابليون ثم اضطربت الاوضاع مرة اخرى مع الجمهورية الثالثة، حتى الوصول اخيرا الى ديمقراطية مستقرة في بداية القرن العشرين.
المحللون السياسيون الحديثون هم دائما محبطون من المسيرة البطيئة التي اتخذتها روسيا والصين لعمل التحول. لكن اذا كان التحول من الاوتوقراطية الى الديمقراطية، يتطلب قرنين من الزمن في بريطانيا وفرنسا لماذا يجب على روسيا والصين ان تكون قادرة على فعل هذا بوقت أسرع؟
في كل ديمقراطية وليدة، تبرز نماذج شائعة. اول الناس في شراء مصنع او تبنّي ثقافة المتجر يمكن ان يصبح ثريا. اذا كان التجار يكسبون سلطة اجتماعية كبيرة قبل استكمال التحول الى الديمقراطية، فان الاوتوقراطيين الموجودين عادة يجدون اسبابا لسجنهم او قتلهم لمصادرة ثروتهم. نفس الحالة برزت في امريكا عندما كان الصناعيون الرواد مثل كارنجي و فورد عرضة للسخرية في الصحف حيث جرى وصفهم كـ "بارونات اللصوص". ولكن لحسن الحظ، تشكلت الديمقراطية سلفا في امريكا، واولئك الصناعيون الكبار تُركوا دون مساس ليخلقوا المزيد من الثروة.
القادة السياسيون الذين لا يفهمون محرك الانتاج والتجارة اللذان يقودان العقلية الديمقراطية يتصورون ان الديمقراطية يمكن فرضها على الناس. التفكير يقوم على انه اذا كانت الامم الفقيرة يمكن جعلها تفهم فقط منافع الديمقراطية، فهم سيطالبون بها لانفسهم. الافتراض هو انه، عبر غزو بلد ووضع مواطنيه في صفوف منتظمة للتصويت ، فان الديمقراطية ستُخلق بشكل رائع. لكن من الخطأ الاعتقاد ان الناس يمكن تعليمهم او تحويلهم الى الديمقراطية مالم تستطع القوة الغازية بناء اساس واسع للانتاج والتجارة في الارض المستعمرة – كما حصل في اليابان وجنوب كوريا بعد الحرب العالمية الثانية – جهود الناس نحو الديمقراطية محكوم عليها بالفشل، طالما ان الحرية السياسية مشتقة من الانتاج الحر.
هل يمكن للامة ان تكون ذكية وشعبها غبي؟
الكتاب السياسيون ينتابهم القلق حول بقاء الديمقراطية. ألا يكون وضع العملية السياسية بايدي العامة امرا كارثيا مالم يتم تعليمهم الى مستوى يمكّنهم من تقدير حريتهم؟ في (اعتبارات حول الحكومة التمثيلية،1861)،اقترح جون ستيوارت مل بانه في الديمقراطية كل بالغ يستحق صوت، ربما الألمع والاكثر انجازا يجب اعطاؤه صوتين او ثلاثة.
لذا، لماذا لم تسقط الديمقراطية في امريكا عندما وُضعت عملية اختيار القادة بيد اناس قليلي التدريب وأرتال من المصوتين الاكثر جهلا؟ كعينة عن مستوى تعليم الجماهير، وفي مقابلة في الشارع كشفت ان الامريكيين غير قادرين على تحديد قارة آسيا على الخارطة، ولم يعرفوا بالضبط أية لغة يتحدث بها الناس في باريس. السبب في بقاء الديمقراطية هو واضح. ما يهم في الديمقراطية ليس مستوى التعليم لدى كل فرد، ما يهم هو مدى سهولة ان يتخصص الافراد ويتاجروا مع بعضهم البعض. السياسة لا تهم كثيرا في حياة الناس، الذي يهم هو الانتاج والتجارة. الرئيس لا يوفر الحاجات للناس، بينما محلات السوبرماركت والمتاجر توفر ذلك. لذا، فان المواطن العادي ربما يُسمح له اختيار الرئيس القادم للولايات المتحدة لكن لا احد عاقل سيثق بذلك المواطن العادي في اختيار المدير المحلي لمحلات كوستكو.
الديمقراطية تنشأ من تطبيق نظرية ديفد ريغاردو "المزايا النسبية" في كتابه (حول مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب،1817): نحن لسنا حكماء، نحن متخصصون. التخصص يسمح لنا لإنتاج الكثير بينما نعرف القليل، لأن تركيزنا هو ضيق. فرديا، كل واحد منا يعرف القليل جدا، لكن من خلال الانتاج والتجارة مع الاخرين، نحن نستطيع امتلاك الكثير. كل ما نحتاج معرفته هو موجود في مكان ما في رؤوس جيراننا، او رؤوس جيرانهم... رجل النهضة الحديث، الذي يعرف الموسيقى الكلاسيكية والحديثة، يقرأ روايات اجنبية بلغتها الأصلية، ويستطيع التحدث حول العلوم والسياسة والفلسفة والثيولوجي، لديه القليل للحديث عنه. القليل من الناس الذين يقابلهم ربما يستطيعون فهم ما يتحدث عنه حول اي موضوع وربما ليس لديهم الرغبة في ذلك. لكن مجتمع المتخصصين المنتجين لا يحتاج لمثل هذا الشخص الواسع التعليم. (مذكرات رجل لا ضرورة له ،1943).
الديمقراطية والهندسة الاجتماعية
التجارة تعيد تشكيل أفكار الناس حول الهدف من الحكومة. في الأزمان المبكرة، تصوّر الفلاسفة السياسيون ان الهدف من الحكومة هو تحسين الناس أخلاقيا: المفكرون الاوائل مثل ارسطو وتوما الاكويني اعتبروا ان وجود الحكومة هو لجعل كل واحد من الناس أحسن حالا – ان لا يكذب كثيرا، يكون أقل تبجحا، (وبالنسبة للاكويني) ان يحب الله كثيرا. عبر جعل الناس أفضل، سنخلق امة أفضل.
في الديمقراطية الحديثة، لايزال الجدل الاخلاقي مستمراً، حول اشياء مثل زواج المثليين، مشكلة المخدرات، تغير المناخ وقضايا الاجهاض. كمخلوقات اجتماعية، الناس لازالوا متلهفين لإقناع الآخرين حول رؤاهم عن الصحيح والخطأ. لكن خلافا لما في الاوتوقراطية - حيث الرجل في القمة يضع البرامج الاخلاقية لكل الناس الاخرين – في الديمقراطية، تستلزم مثل هذه القرارات من جميع السكان البالغين الدخول في خلافات لا متناهية. لكن هذا ليس ضعفا في الديمقراطية، بل قوة. خلافا لما نسمع من النقاد، لا تشير النقاشات اللامتناهية الى ان الديمقراطية في خطر، انها تشير الى ان الديمقراطية مزدهرة. الديمقراطية تعني عدم الاتفاق. لكن اذا كان هناك فقط "طريقة صحيحة" واضحة واحدة، فاننا سنحتاج فقط الى قائد واحد متنور. كذلك، اسلوب الحياة العابر للعديد من الناس في هذه الايام يجعل من الصعب ان نعرف ما اذا كان جيراننا مثليين او ان كانوا يدخنون الماريجونا، ام انهم يؤيدون تقلبات المناخ، او ان كانوا أجروا عملية اجهاض.
آخر كلام في الديمقراطية وربما الأقل اهمية، يأتي من صناديق الاقتراع. في السوق السياسي، الناس يشترون القادة مثلما يشترون الصابون – لكنهم يستخدمون الاصوات بدلا من النقود. ولا يهم اي سياسي سيختارون، الاشياء ستكون ذاتها بعد دورة الانتخابات كما في سابقتها. لكن في النهاية، ما يهم معظم الناس هو ليس التشريعات وانما ما يحدث في السوق. الامتيازات تأتي دائما بعد ان يتمكن المرء من القدرة على الانتاج والتجارة. تاريخيا، كان التصويت دائما مقتصرا على مالكي الملكية من الرجال، ولم يتمدد لكل الرجال الاّ لاحقا. وعندما أخذت المرأة مكانها الى جانب الرجل في خطوط التجميع، فهي بالنهاية نالت مكانها الى جانب الرجل في صناديق الاقتراع ايضا. ومع اتساع الثروة، يتحدث البعض حاليا عن إعطاء صوت للاطفال – ولما لا؟ طالما تستمر المصانع والمتاجر في العمل بحرية، فسوف لا يهم ذلك كثيرا.
بالنهاية، الديمقراطيات هي بالأساس حياة تجارية، انتاجية، ومادية، وهيمنة ثقافة الديمقراطية في قبول الناس لطريقة عيش وسلوك الآخرين. الحكومة، في ممارساتها اليومية تصبح مؤسسة هدفها الرئيسي ليس جعل الناس جيدين وانما لجعلهم مزدهرين. لذا، بينما تهيمن شعارات الليبراليين او المحافظين على الحملات السياسية، لكن التشريعات "لتحسين حياة الناس" في الحقيقة تركز على دعم الشركات والضرائب وإعادة توزيع الثروة.
كيف تموت الديمقراطية؟
في العودة مرة اخرى للتاريخ، نكتشف ان الديمقراطية لن تموت، بل هي تُقتل. انها تُخنق عندما يغير المجتمع تركيزه من الانتاج والتجارة في ظل سلام وازدهار الى حروب لا متناهية وإعادة توجيه الصناعة لغايات مدمرة اجتماعيا – غايات تعرقل الانتاج المتغير وتترك أقل الخيارات المتاحة للمواطنين. مجهزو النقود هم عصب الحرب. في معظم التاريخ، هُددت الديمقراطية بإعادة توجيه الثروة لتلبية الاهداف العسكرية (رغم ان امريكا أثبتت ان أغنى ديمقراطيات العالم قادرة على تمويل حروب لا متناهية بينما سكانها في نفس الوقت يزدادون بدانة ويعيشون أطول عمرا مما في السابق).
النزعات القومية والمشاعر المضادة للأجانب يمكنها ايضا ان تخنق الحاجة للمهاجرين مما يخلق نقصا في العمالة الامر الذي يؤدي الى رفع كلفة الصناعة. واذا اصبح المحتجون في الشوارع والذي هو امر عادي وطبيعي في المجتمعات الحرة اكثر عنفا، فان المواطن القلق عادة يستجيب بمنح الحكومة سلطة بوليسية مفرطة قد تتوسع بالنهاية الى قبضة قوية في السيطرة على الاقتصاد. تاريخيا، رغم ان الناس يتنازلون عن الحرية مقابل الأمان، كما شهدنا مؤخرا، في إغلاق كل الاقتصاديات لأعمالها استجابة لإنفجار الوباء، كي يظهر القادة كمنقذين لناخبي الغد. حاليا، يرتبط السياسيون الاشتراكيون الميالون لليسار بالقوميين الميالين لليمين، وان شركات الأعمال تواجه ضغطا لتغيير تركيزها من الانتاج الفعال الى الاهتمامات الاجتماعية التي ترضي غايات ليبرالية. في امريكا، يُتوقع ان تفضل اسواق السندات الشركات التي تمتثل لمعايير "متنوعة". هيئات ادارة الشركات الكبرى تواجه ضغطا لتوسيع متطلبات التوظيف لتلبية رغبات تتعدى المنافسة الريادية، وانما لتنظر في عوامل مثل جنس او عرق العاملين. شركات الأعمال برزت من عدة ديمقراطيات مختلفة، جاعلة الملايين أغنى وأكثر حرية عبر تجاوز الأصفاد التي وُضعت عليهم من جانب سلطاتهم السياسية والدينية والثقافية.
***
حاتم حميد محسن

 

تشكل الثقافة المحلية هوية المجتمعات والأماكن، وتتكون من مجموعة من القيم والمعتقدات والتقاليد التي تمتد عبر الأجيال. تعكس الثقافة المحلية تاريخًا طويلًا للتفاعلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي شكّلت المجتمع. قد تشمل الثقافة المحلية الأعراف السلوكية واللباس التقليدي والممارسات الدينية والعادات الغذائية والتقاليد الاجتماعية الفريدة باختلاف البلدان والمجتمعات، عادة ينشأ الصراع بين الثقافة المحلية والثقافة الافتراضية نتيجة توتر القيم بينهما. تعبّر الثقافة المحلية عن تمسك المجتمعات بالقيم التقليدية والقوانين المجتمعية والدين والعادات المترسخة. ومن جهة أخرى، تعبّر الثقافة الافتراضية عن القيم العالمية المنتشرة وتسعى إلى تحقيق التواصل والتفاعل العابر للحدود
إن الاحتفاظ بالتراث المحلي والتقاليد يساهم في إثراء المشهد العالمي وتعزيز التعايش والاحترام المتبادل بين الثقافات المختلفة. وبفضل التقنيات الحديثة ووسائل الاتصال، أصبح التفاعل الثقافي بين الثقافات المحلية والعالمية أكثر سهولة ووصولًا. وفي المقابل فإن الاندماج المفرط للثقافة العالمية قد يؤدي إلى فقدان الهوية المحلية وتشويه التراث الثقافي،، دون شك فإن التوجس قائم عند المهتمين بالثقافات المحلية على مستوى العالم ومدى تأثرها من الثقافة الافتراضية، لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل للثقافة الافتراضية بعض مظاهر التأثير الإيجابي على الثقافة المحلية؟
يعيش العالم اليوم في عصر العولمة والتكنولوجيا الرقمية، حيث يتم تقريب المسافات وتواصل الثقافات المختلفة بسهولة من خلال وسائل الاتصال الحديثة. ينشأ في هذا السياق صراعات وتوترات بين الثقافة المحلية، التي تعكس الهوية والقيم التقليدية للأماكن والمجتمعات، وبين الثقافة الافتراضية، التي تتأثر بالتكنولوجيا ووسائل الإعلام الحديثة وتعبّر عن القيم العالمية المنتشرة في الفضاء السيبراني. يُعد صراع القيم بين الثقافة المحلية والثقافة الافتراضية موضوعًا مهمًا ومثيرًا للجدل في عصرنا الحالي، أحد التوترات الرئيسة بين الثقافة المحلية والثقافة الافتراضية يتمثل في التأثير على الهوية الثقافية للأفراد والمجتمعات مما يجعل بعض الأفراد يشعرون بتشويش هويتهم الثقافية بسبب تأثير الثقافة الافتراضية، حيث يتعرضون لقيم ومعتقدات مختلفة تتعارض مع تلك التي نشأوا في ظلها
يمكن أن يكون للثقافة الافتراضية تأثيرات إيجابية من خلال توسيع آفاق المجتمعات وتعزيز التفاهم العابر للثقافات وتمكين الأفراد من المشاركة في المجتمعات الافتراضية والمنتديات الثقافية الفضائية للتعرف على ثقافات أخرى وتبادل الأفكار والتجارب عبر منصات التواصل الرقمية. هذا التفاعل يمكن أن يساهم في غرس التفاهم والتسامح بين الثقافات المختلفة. كذلك فإن الفضاء الافتراضي يوفّر للأشخاص البحث عن تاريخ وتراث ثقافات مختلفة، واستكشاف الآداب والفنون التقليدية مما يعزز التعلم والتحسين الشخصي، ويعطي الفرصة للأفراد لتطوير فهم أعمق للثقافات الأخرى، وهي تكون فرصة مواتية للفنانين والمبدعين المشاركة في المنصات الرقمية لعرض أعمالهم والتواصل مع جمهور عالمي لتحفيز تجاربهم الجديدة وتبادل الأفكار والتقنيات، مما يعزز الإبداع والتنوع في الثقافات المحلية، وتحافظ على التراث واللغة من خلال استخدام التكنولوجيا الحديثة لرقمنة الموارد والمعلومات الثقافية وتوثيق اللغات لتفادي احتمالية انقراض بعض مفرداتها عبر الزمن مما يساعد في الحفاظ على الهوية الثقافية والتراث العريق للمجتمعات المحلي
صراع القيم بين الثقافات عملية معقدة تتطلب التوازن والحوار بين الثقافات المختلفة، على أن يتم التركيز على تعزيز التراث المحلي والقيم التقليدية، يجب أن يكون هناك توازن بين الثقافة المحلية والعالمية، وضمان أن الثقافة المحلية لا تتأثر سلبًا بالثقافة الافتراضية، بل يتم تعزيزها وتثمينها والاستفادة من الثقافات المتنوعة لبناء عالم يتسم بالتعايش السلمي والتقدم المشترك، ومع ظهور التكنولوجيا الحديثة ووسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية، أصبحت الثقافة جزءًا أساسيًا من حياة الناس. تتيح هذه الوسائل للأفراد التواصل والتفاعل مع ثقافات مختلفة والوصول إلى معلومات ومحتوى غير محدود الأمر الذي يجعل الثقافة الافتراضية عاملاً مؤثراً في القيم والمعتقدات والسلوكيات بحسب الشعوب المستقبلة وقوة ثقافتها ووعيها، . يجب أن يكون هناك توازن بين الثقافة المحلية والعالمية، وضمان أن الثقافة المحلية لا تتأثر سلبًا بالثقافة الافتراضية، بل يتم تعزيزها وتثمينها والاستفادة من الثقافات المتنوعة لبناء عالم يتسم بالتعايش السلمي والتقدم المشترك
***
نهاد الحديثي

 

تعدد معاني مفهوم "الثقافة"

قيل أن علم الأنثروبولوجيا كان منظماً حول مفهوم الثقافة، ولا يزال هذا المفهوم يشكل مفهوماً أساسياً لهذا التخصص، كمرجع عالمي لـ"مجموع أسلوب حياة شعب ما"، له ارتباط عميق وحميم مع جوهر تجربة العمل الميداني لعلماء الأنثروبولوجيا: اكتشاف الارتباط الوثيق بين السلوكيات اليومية والمعتقدات والأنشطة الإنتاجية وما إلى ذلك، لمجتمع أو جماعة معينة، مبنية حول أنظمة الرموز. كما وفر مفهوم الثقافة، الذي طوره علم الأنثروبولوجيا الناشئ، وسيلة مهمة لتحقيق هذه الغاية المتمثلة في اكتشاف النظام في التنوع، وقد جمع هذا المفهوم بين ثلاثة جوانب جعلت منه مفهوما قيما:
أولا: العالمية: لدى جميع البشر ثقافات تساهم في تحديد شخصيتهم الإنسانية المشًتركة.
ثانيا ً، التركيز على التنظيم: إن كل الثقافات متماسكة ومترابطة، بدءا من الأنماط العالمية المشتركة بين كل أساليب الحياة (على سبيل المثال، الأعراف المتعلقة بالزواج، والتي تسود في كل ثقافة) إلى الأنماط الخاصة بوقت أو مكان محدد.
ثالثا، الاعتراف بالثقافة كثقافة، وهو أمر ضروري. حيث كل ثقافة هيً نتاج جماعي للجهد والمشاعر والفكر الإنساني...
وكان هناك جانب مركزي آخر لهذا المفهوم للثقافة الذي طورته الأنثروبولوجيا وهو إنكار الأساس البيولوجي لهذه السلوكيات البشرية، أي التعارض بين الطبيعة والثقافة.
بناء "مفهوم الثقافة"
لم يتم ابتكار مفهوم "الثقافة" بشكل عفوي، ولم يظهر بين عشية وضحاها، إنما المصطلح المستعمل للإشارة إلى معناها الأنثروبولوجي لم يكن محايدا، بل هو محملّ بالتاريخ، والذي سنشير إليه بإيجاز، وهذا يعني أن المعاني المختلفة المرتبطة بمفهوم "الثقافة" تتعايش حاليا في الاستخدام الاجتماعي والعلمي.
ففي الإطار الذي يوفره نشر فكر التنوير، وفي السياق الاقتصادي السياسي الذي اتسم بصعود البرجوازية، تم تطوير سلسلة من المفاهيم المترابطة: المجتمع والحضارة والاقتصاد والسياسة، وثقافة، هو المفهوم الذي يهمنا بشكل رئيسي في هذه المقالة.
دون أن ننسى المخاوف بشأن عملية تشكيل المفاهيم، والتي ليست مجرد رغبة في صنع التاريخ، كما يعبر رايموند ويليامز (Raymond Williams (1921-1988)):
"عندما تتوقف المفاهيم الأساسية ـ المفاهيم التي ننطلق منها كما يقولون ـ فجأة عن كونها مفاهيم وتتحول إلى مشاكل؛ ليست مشاكل تحليلية، بل حركات تاريخية لم تحل بعد فلا جدوى من الاستماع إلى دعواتها الرنانة أو دويها المدوي، وإذا كان بوسعنا أن نفعل ذلك، فلابد أن نقتصر على استعادة الجوهر الذي نشأت منه أشكالها" (ريمون ويليامز، الثقافة في الماركسية والأدب، ص21 ط.1980).
وبطبيعة الحال، فإن هذه المفاهيم ذات أهمية حاسمة، وكما يشير ويليامز، فإن أشكالها الحالية هي في الواقع صدى لسلسلة من المشاكل التي لم يتم حلها بالكامل منذ صياغتها الأولية، وبقدر ما يشكل كل منها محاولة للتعامل مع تعقيد العالم الاجتماعي من زوايا مختلفة ولكنها متكاملة، فإن نطاق أهمية كل منها يشمل الزوايا الأخرى أو يؤثر عليها. دعونا نلاحظ ما عبر عنه ويليامز:
كان "المجتمع" عبارة عن "فعل مشترك"، قبل أن يصبح وصفاً لنظام أو أمر عام، كما كان "الاقتصاد" هو إدارة وسيطرة منزل الأسرة، ثم إدارة منزل آخر. ثم إدارة المجتمع، قبل أن يصبح وصفاً لنظام ملموس للإنتاج والتوزيع والتبادل. "كانت الثقافة، قبل هذه التحولات، تمثل نمو وتقدم المحاصيل والحيوانات، وبالتالي نمو وتقدم القدرات الحديثة"، وعليه الافتقار إلى وحدة مفهوم الثقافة، بقدر ما يبدو كأداة استدلالية أو طريقة لرؤية الحقائق الاجتماعية. يرتبط محتواه بمواقف نظرية أكثر عمومية، والتي بدورها يجب وضعها في سياق الظروف النظرية والاقتصادية والسياسية الخاصة التي تتطور فيها. وبالتالي يكون مفهوم الثقافة هو مفهوم "مبُنىَ"،
واللحظة التاريخية التي تتوافق معها هذه التطورات وضعها ويليامز في القرنين السادس عشر والسابع عشر (المقابلة لصياغة مفاهيم المجتمع والاقتصاد)، في حين أن مفهوم الاقتصاد كان لا يزال موجوداً في القرن الثامن عشر. كثقافة ظهرت متماثلة مع عمليات الإنتاج والتوزيع ويذكر في الاقتباس: نمو النبات والحيوان، وتطور العقل وإثرائه. بينما في القرن الثامن عشر، أصبحت ثقافة-المفهوم الذي احتوى على فكرة التحسين، وكان له مصطلح آخر قريب، ومختلف في نفس الوقت، لم نشير إليه حتى الآن: الحضارة.
"مفهوم الحضارة" إنه يشير إلى حقائق متنوعة للغاية: سواء الدرجة التي وصلت إليها التكنولوجيا، أو نوع العادات السائدة، أو تطور المعرفة العلمية، أو الأفكار الدينية والعادات ...
وإذا حاولنا التحقق من الوظيفة العامة التي يؤديها مفهوم "الحضارة" في الواقع، فإننا نصل إلى استنتاج بسيط للغاية"... إن المفهوم يلخص كل ما يعتقد المجتمع الغربي في القرنين أو الثلاثة قرون الماضية، أنه يتمتع بميزة على المجتمعات السابقة أو على المجتمعات المعاصرة "الأكثر بدائية.
لكن الحضارة لم يكن لها نفس المعنى بالضبط في إنجلترا كما هو الحال في ألمانيا (الدول الرئيسية، لاحقاً، لتطوير المفهوم الذي يهمنا هنا)، بينما الحضارة يلخص الفخر الذي يأتي من أهمية أمة المرء في التقدم الشامل للغرب..
في ألمانيا، دلالة الحضارة كانت أقرب إلى الخارج والمنفعة، هناك الكلمة التي تعبر عن الفخر بمساهمتك الشخصية ...هي ثقافة... وفي الوقت نفسه، فإن المفهوم الفرنسي لـلحضارة انعكس على "المصير الاجتماعي المحدد للبرجوازية الفرنسية بنفس القدر الذي يعكس به مفهوم "الثقافة" مصير البرجوازية الألمانية .كما يعكس مفهوم "الثقافة" مصير البرجوازية الألمانية الحضارة، إن الحضارة، مثلها كمثل "الثقافة"، تشكل في الأساس أداة في يد دوائر المعارضة في الطبقة المتوسطة وخاصة في المواجهة الاجتماعية الداخلية (مع صعود البرجوازية، حيث يشير هذا المصطلح إلى العمليات الوطنية الفرنسية آنذاك) وهكذا، طوال القرن الثامن عشر، ظل هذين المفهومين الثقافة والحضارة غامضين للغاية . ولكن هذه هي لحظة تكوين جذور الاستخدامين لمفهوم الثقافة اللذين سيظلان ساريين حتى اليوم: وهو ما يشير إليه ويليامز عندما يسلط الضوء على أن المفاهيم الحالية لا تزال تتضمن مشاكل لم يتم حلها بعد لهذه المفاهيم.
من ناحية أخرى، هناك مفهوم مرتبط بشكل واضح بفكر التنوير، والذي يسميه مؤرخ الفكر الأنثروبولوجي جورج ستوكينج (George W. Stocking Jr. -1928/2013) بديل إنساني لمفهوم الثقافة: بمعنى فكرة ثقافة باعتبارها قابلة للتحسين، نظرا لًافتراض إمكانية التحسين التدريجي (1982.Race, culture et évolution : essais sur l'histoire de l'anthropologie: كتاب).
وفي الوقت نفسه، ظهرت نسخة أولية من المفهوم الأنثروبولوجي للثقافة. كما يشير مؤرخ آخر للأنثروبولوجيا، مارفن هاريس (Marvin Harris (1927-2001)، كتاب نشوء الثقافات)، فإن الأمر المهم ليس العثور على "التعريف الأول" للثقافة، بل العثور على إصدارات ناشئة، حتى ولو كانت المصطلحات المستخدمة مختلفة. كما يجد هاريس هذه الصياغات السابقة في فكر جون لوك (1632-1704)، الذي زعم في "مقال حول الفهم البشري" أن الأفكار التي يسكنها العقل آنذاك يتم اكتسابها خلال عملية نسميها الآن التثاقف الداخلي كانت الفكرة المركزية هي أنه على الرغم من وجود قدرات بشرية مميزة، تتعارض بالتالي مع قدرات الحيوانات، إلا أنه لا توجد أفكار فطرية .لقد كان أي تلميح للنسبية مفقوداً بالفعل، هنا سيكون هذا هو الأساس الذي ينطلق منه البديل الأنثروبولوجي لمفهوم الثقافة: أي الإرتكاز على فكرة النسبية التي تؤكد على المساواة في صحة عادات وقيم الشعوب الأخرى؛ الاهتمام بالظروف التي تضمن صيانة النظام؛ الفكرة هي أننا نتحدث عن تعدد الثقافات المنظمة بشكل متساو للاستجابة لكافة متطلبات الحياة البشرية.
"على النقيض من الثقافة الإنسانية التي كانت مطلقة وعرفت الكمال، كانت الثقافة الأنثروبولوجيا نسبية؛ فبدلا من البدء بتسلسل هرمي موروث من القيم، افترضت أن كل مجتمع، من خلال ثقافته، يسعى إلى القيم ويجدها بطريقة ما؛ والثقافة الإنسانية تقدمية، والثقافة الأنثروبولوجيا متوازنة؛ والثقافة الإنسانية مفردة، والثقافة الأنثرولوجيا جمعية، والثقافة الإنسانية تميز بين درجات الثقافة؛ وبالنسبة لعالم الأنثروبولوجيا، فإن جميع البشر متساوون في الثقافة" (ستوكينج، المصدر السابق: Race, culture et évolution : essais sur l'histoire de l'anthropologie ).
أصبح مفهوم الثقافة راسخاً في اللغة الألمانية يخبرنا ألتان (ألتانCarlo Tullio Altan 1916-2005، دليل الأنثروبولوجيا الثقافية: التاريخ والطريقة (1979)(، أن أول من استخدم المصطلح "ثقافة" بالمعنى الحديث كان (S. Pufendorf )1632-1694 ) ) وفي وقت لاحق، سوف يميز صورة (درجة الاستعداد الفردي (ثقافة) التي تدل على تراث المعرفة الجمعية والمجموعية). لكن لا يتم التمييز بشكل جيد بين هذا المعنى الثاني ومصطلح آخر استخدم في فكر التنوير (على سبيل المثال عند جان جاك روسو)، كان هناك تناقض: تم استدعاء الشعب في الخطب ضد الطغيان، وفي الوقت نفسه تم التشهير به، ولكن "بإسم العقل" (مارتن باربيرو، ج كتاب "من وسائل الإعلام" (1987).
في هذه الحركة، يتم تقسيم فئات "المثقف" و"الشعبي" (مثل غير المثقف). وسوف يكون ذلك في وقت لاحق، عندما يفترض الرومانسيون أنهم أيضاً ثقافة منتجات الحياة القروية: "... تبني الرومانسية خيالا جديداً يكتسب فيه ما يأتي من الناس لأول مرة مكانة الثقافة.
ولكن هذا بدوره لم يكن ممكناً إلا إلى الحد الذي تغير فيه معنى مفهوم الثقافة ذاته. ومن الأمثلة الجيدة على العلاقة بين التغيير في فكرة الثقافة ووصول العامة إلى الفضاء الذي يغطيه المفهوم الجديد، في حقيقة الأمر كتاب هيردر (Johann Gottfried (von) Herder 1744-1803)، الذي نشر في عام 1778 كتاب "الأشعار الشعبية: الحداثة والتطور"، حيث قدم الشعر الأصيل الذي يخرج من الناس...وبعد سنوات قليلة فقط، في عام 1784، كتب أفكار لفلسفة التاريخ البشري، الذي أثار الحاجة إلى قبول وجود تعدد الثقافات، أي الطرق المختلفة لتكوين الحياة الاجتماعية".(مارتن باربيرو، ج كتاب "من وسائل الإعلام" (1987) ) وإذا تتبعنا إذن التغيرات التي طرأت على فكرة الثقافة في ظل الرومانسية، فسوف نرى أنها تبتعد عن فكرة الحضارة، وفي الوقت نفسه، ومن خلال إثارة الطبيعة التعددية للثقافات، فإنها تعمل على تطوير "الطلب على طريقة جديدة للمعرفة: وهي منهج المقارنة" (مارتن باربيرو، المرجع السابق).
كما تظهر هذه الفكرة التعددية لمفهوم الثقافة في أعمال ألكسندر فون هومبولت (Alexander von Humboldt 1769-1859)، رحالة ألماني سافر بشكل خاص عبر أمريكا الجنوبية، ووصف ورسم المناظر الطبيعية ورسم المدن والشخصيات المميزة لكل منطقة. وهناك ظهرت تجربة تنوع الثقافات بشكل واضح في كتاباته لمفهوم ثقافة، يتم استخدامه في صيغة الجمع.
وهكذا، تمكن غوستاف كليم (Gustav Klemm) في عام 1843 في كتابه "التاريخ الثقافي العام للإنسانية"، من توضيح أن الثقافة هي "العادات، والمعلومات، والتقنيات، والحياة المنزلية والعامة، في السلم أو الحرب، والدين، والعلم والفن".
ولكن لا ينبغي لنا أن نفسر هذا المفهوم لـ "الثقافة" في ألمانيا في القرن التاسع عشر في ضوء ما يعنيه هذا المفهوم اليوم، فألمانيا، التي لم تكن قد ترسخت بعد كأمة موحدة، والتي تم دمجها في وقت متأخر من عملية التصنيع الأوروبية، كانت تفتخر بمصطلحات شوفينية بأنها "عرقية"، أي مجتمع ثقافي وليس سياسياً، وهو الموقف الذي رافق استخدام مفهوم الثقافة في هذا المجال حتى أيام هتلر: "إن الثقافة، التي ينُُظر إليها على أنها مجموعة غير قابلة للتكرار من الصفات والأنماط والإنجازات، المحلية في الأصل والمعنى، نشأت من هذا السياق." (BECKER, H. "Anthropology and sociology ).
رغم كل هذه الخلفية، فإن علم الأنثروبولوجيا كان له مع ذلك "قصته الأسطورية" الرسمية، والتي بموجبها كان هذا المفهوم - في استخدامه الأنثروبولوجي - من نتاج الإنجليزي إي .بي .تايلور، الذي بينما كان يعرفِّ "الثقافة" وضع برنامج إنشاء تخصص علمي ينبغي أن يعترف به باعتباره بطله المؤسس: وفقا لتايلور، "الثقافة أو الحضارة، بالمعنى الاثنوجرافي الواسع، هي ذلك الكل المعقد الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والعادات وأي عادات وقدرات أخرى يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع" (تايلور، Edward Burnett Tylor 1832-1917، علم الثقافة 1871).
وسوف يتولى المؤرخ جورج ستوكينج، الذي ذكرناه آنفاً، مهمة كشف غموض هذه القصة تماماً. ولتحقيق هذه الغاية، يسلط الضوء أولا عًلى ضرورة إعادة فكر تايلور إلى سياق عصره، وهو ما سيقودنا إلى إدراك أن فكرته عن الثقافة كانت "ربما أقرب إلى الصياغة الإنسانية منها إلى المعنى الأنثروبولوجي". لاحظ أن تايلور يستخدم كمرادفات ثقافة أيضاً الحضارة: دعونا نتذكر أنه في ذلك الوقت، الحضارة لقد كانت أعلى مرحلة في سلسلة تمت صياغتها صراحة (من بين أمور أخرى بواسطة لويس هنري مورجانLewis Henry Morgan 1818-1881 ) والتي بدأت بـ "الوحشية"، ومررت بـ "الهمجية" وانتهت على وجه التحديد في "الحضارة".
لذلك، على الرغم من أن مفهوم الثقافة هذا يتضمن فكرة تعدد من أشكال الحياة (أو تسميتها بالحضارات أو الثقافات)، فمن الواضح أن تايلور كان يفكر في درجات الثقافة من حيث أنها شاركت في مقياس التقييم والتطور في لحظتها التاريخية. وهذا ما قاله تايلور في الفقرة الافتتاحية لكتابه: "...يجب أن يعُُزى التوحيد الذي يميز الحضارة إلى حد كبير، إلى الفعل الموحد للأسباب الموحدة، بينما من ناحية أخرى، ويجب اعتبار درجاتها المختلفة مراحل من التطور أو التنمية، كل منهما نتيجة للتاريخ السابق ... تهدف هذه المجلدات إلى التحقيق في هذين المبدأين العظيمين في أقسام مختلفة من الأثنوجرافيا، مع الاهتمام بشكل خاص بـحضارة القبائل الدنيا في علاقتها بالأمم المتفوقة..."(تايلور، المصدر السابق). وبحسب التحليل المفصل الذي أجراه ج .ستوكينج، لم يكن هناك احتقار صريح لما هو أدنى عند تايلور، ولكنه لم يتردد في اعتبار الحضارة الأوروبية هي الشيء الأكثر كمالا الذي حققه الإنسان على أي حال، "كان بإمكاني تعريف الثقافة بشكل أفضل على أنها "تقدم" ذلك الكل المعقد"". (ستوكينج، Race, culture et évolution : essais sur l'histoire de l'anthropologie المصدر السابق).
في فجر القرن العشرين، في زمن التوسع الرأسمالي الأعظم قبل الحرب العالمية الأولى(1914-1918)، عاد مفهوم الثقافة إلى الظهور، وهو في هذه المرحلة ارتبط بشكل وثيق بالتجربة الناشئة لعلماء الأنثروبولوجيا، في مجتمعات صغيرة ومعزولة، حيث كانت العلاقة "مجتمع واحد - ثقافة واحدة"، في ذلك الوقت، بدأ فرانز بواس (Franz Boas 1858-1942)، وهو عالم ألماني متخصص في العلوم الطبيعية، نشاطه وطور كامل عمله كباحث ميداني. وباعتباره معلماً في الولايات المتحدة الأمريكية . يشير ستوكينج (ستوكينج، ب 1968) إلى أن تعليمه الألماني تضمن معرفة مفهوم "الثقافة"، الذي استخدمه في أعماله المبكرة في نسخته الإنسانية، مع التركيز على مشاكل التطور: كظاهرة مفردة موجودة بدرجة أكبر أو أقل في شعوب مختلفة .
ابتداء مًن عام 1910، تعامل هو وطلابه مع مفهوم الأنثروبولوجيا التعددية. فكان واحدا من أبرز منتقدي نظرية التطور. حيث العديد من أفكار بواس، التي علمها لطلابه، تعتبر سمة مميزة لعلم الأنثروبولوجيا الأمريكي المبكر.
وتضمن انتقاده للتطور أيضاً اقتراحاً منهجياً: للتخلص من الدراسات المقارنة، التي ميزت عمل علماء الأنثروبولوجيا التطورية، واستبدالها بدراسات مفصلة، والتي تم تضمينها في دراسات مخصصة لقبائل معينة. وحينها فقط، وباستخدام مفاهيم مثل "مجالات الثقافة"، سيكون من الممكن الانتقال إلى المقارنة والتعميم في نهاية المطاف.
ومن بين المطالب المنهجية الأخرى التي طرحها بواس، دراسة الثقافات المتنوعة "من الداخل" وليس من وجهة نظر الباحث. كما أصر على ضرورة مراجعة التكييف الثقافي الخاص بنا، مشيرا ًإلى أنه ليس من الصعب أبدا التخلي عن المنظور الثقافي الخاص بنا (تحدث بواس عن "Kulturbrille" - شيء مثل النظارات الثقافية) كما هو الحال عندما نلاحظ مجتمعنا الخاص ( Carlo Tullio Altan، دليل الأنثروبولوجيا الثقافية .1979).
(يتبع..)
***
أ. مراد غريبي

ترجمة: د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

" لن ينتهي مارتن هيدجر أبدًا من الكتابة عن فريدريك نيتشه. بعد عمله الذي لا يُنسى بعنوان نيتشه، إليكم طبعة جديدة حول السؤال الإشكالي للغاية المتمثل في الميتافيزيقا في عمل مؤلف هكذا تحدث زرادشت. هذا عمل آسر تمامًا يجمع بين نص عن إكمال الميتافيزيقا التي قام به نيتشه وفقًا لهيدجر ونص متقاطع بين مفكر وشاعر: نيتشه وهولدرلين. ولذلك يجمع هذا العمل بين دورتين دراسيتين أراد هيدجر نشرهما معًا.
الأول: أن «ميتافيزيقا نيتشه» لا تقدم نفسها كعرض للمذهب، بل تقودنا إلى فهم كيف أن فكر نيتشه تحركه الميتافيزيقا بالكامل، إلى درجة أنها تعطيه وجهه النهائي وصورته المكتملة. في الواقع، بينما يدعي نيتشه أنه البادئ لبداية جديدة حقًا في الفلسفة، فإن هيدجر يرى فيه، على العكس من ذلك، الإنجاز المهيب والمثير للقلق للميتافيزيقا الغربية. من خلال الأولوية التي يفترضها مفهوم القيمة هنا، من خلال المحو الكامل لفكرة الوجود، من خلال مفهوم إرادة الاقتدار حيث يبلغ ذروته ادعاء الذات بـ "إيواء" الكائن وفقًا للمعايير المخططة للوجود. مع التكنولوجيا، واعتذار الإنسان الأعلى (الذي يؤكد الطموحات الفانية للذات)، وأخيرًا جميع الأحكام المسبقة التي يتم من خلالها نقل اللافكر في التقليد الميتافيزيقي، فإن فلسفة نيتشه، وفقًا لهيدجر، ستنتمي إلى تاريخ " "نسيان الوجود" الذي يحدد في نظره ماهية هذه الميتافيزيقا. إن فاحص كتابات نيتشه يجد صعوبة في دعم مثل هذه القراءة، التي يمكن الإعجاب بنطاقها وغناها وثرائها.
أما النص الثاني، الذي يحمل عنوان "مدخل إلى الفلسفة والتفكير والشعر" فيهدف إلى تعميق ما سبق أن رأيناه في "ميتافيزيقا نيتشه": إن اكتمال الميتافيزيقا يشير إلى ضرورة العلاقة بين الفكر والشعر. يمكننا بعد ذلك أن نتحدث عن تعليق يركز على موضوع التأويل والحقيقة، والذي من شأنه أن يثبت قدرته على حماية الديناميكية البناءة للفكر النيتشوي، وخاصة ضد المحاولات المتكررة لضم نيتشه إلى الشكليات الدوغمائية التي قدم حولها هو نفسه، تحسبا لذلك، دحضا بارعا. لقد "تشكل هذا الفكر من خلال "البناء". إنه يبني شيئاً بحيث لا يقف بعد على الإطلاق ــ وربما لن يضطر أبداً إلى الوقوف مثل ما هو أمامه. الباني هو البناء." نيتشه، الذي شرع لأول مرة في إظهار أن التأويل الميتافيزيقي يشكل تزييفًا متعمدًا، وينتقد الميتافيزيقي لأنه أعطى قراءة معيبة لنص الطبيعة. انه "مهلوس من العالم الآخر"، لا يفك الميتافيزيقي الظواهر كما هي، بل يخفيها تحت إسقاطات خيالية. إنه يصوغ مفهوم "الوجود" من كراهية الصيرورة والحياة. ولكن بما أن هذا الواقع هو الوحيد الموجود الذي نصر على تفنيده باتهامه بمجرد المظهر، فيجب أن نستنتج أن الميتافيزيقا ليست سوى تلفيق حول العالم. المثل الأعلى هو العدم المبني في صنم. لأن «الإنسان، بحسب نيتشه، يبحث عن مبدأ يستطيع باسمه أن يحتقر الإنسان؛ يخترع عالمًا آخر ليتمكن من تشويه هذا العالم وتلطيخه؛ في الواقع، هو فقط يدرك العدم ويجعل من هذا العدم "إلهًا"، "حقيقة"، مدعوًا للحكم على هذا الوجود وإدانته. لذا، باعتباره مفكرًا في هذا الزمن من اكتمال الميتافيزيقا، أصبح نيتشه شاعرًا. شاعر هذا الزمن، مثل هولدرلين الذي أصبح مفكراً لمعاصريه. من هذا القرب المذهل بين الفكر والشعر، يقدم هيدجر تأملًا يأخذ مصدره في التاريخ، لأن نيتشه وهولدرلين مفكران وشاعرين بمجرد أن يتعين عليهما مواجهة ما هو "الشرق" في عصرنا. في الواقع، في هذا الجدل الفكري الذي يتساءل عن العلاقة بين الفكر والشعر، يتم دفعنا بمهارة إلى التفكير فيما يعنينا جميعًا بشكل أساسي.
***
......................
المصدر
استكمال الميتافيزيقا والشعر: ميتافيزيقا نيتشه – مدخل إلى الفلسفة. التفكير والشاعرية، ترجمة. من الألمانية بقلم أديلين فرويدكور، 208 صفحة، مجموعة مكتبة الفلسفة، أعمال سلسلة مارتن هيدجر، غاليمار، مارس 2005
Achèvement de la métaphysique et de la poésie : La Métaphysique de Nietzsche - Introduction à la philosophie. Penser et poétiser, trad. de l'allemand par Adeline Froidecourt, 208 pages, Collection Bibliothèque de Philosophie, série Œuvres de Martin Heidegger, Gallimard, Mars 2005

لمَن لم يسمع بإخوان الصَّفا وخلان الوفا، فإنّهم جماعة شغفتهم الفلسفة، ظهروا في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، بالبصرة وبغداد، كتبوا إحدى وخمسين رسالة في مختلف العلوم، عُرفت بـ«رسائل إخوان الصّفا»، حوت مختلف العلوم، ومنها الطّب. يعود الفضل لأبي حيان التّوحيديّ (ت: 414 هـ) في التعريف بهم، وذكرهم في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»، أّما علاء الدّين عليّ بن الحزم الشَّهير بابن النّفيس (ت: 687 هـ)، فطبيب شاميّ، له مؤلفات جليلة في الطّب، اشتهر باكتشافه للدورة الدَّموية الصّغرى، بعده بقرون اشتهر الطَّبيب الإنجليزي وليام هارفي (ت: 1657) باكتشاف الدَّورة الدَّمويّة الكبرى، والصُّغرى ضمنها.
لا أفترض أنَّ إخوان الصّفا هم الأوائل، لا بد أنهم أخذوا أوليات ممِن سبقهم، فالجزم بالأوائل إشكالية كبرى، يصعب أخذها باليقين، فليس مِن العِلم الاِعتداد بمصنّف أبي هلال العسكريّ (ت: 395 ه) «الأوائل» كمصدر موثوق. لذا، أخذت ما تقدم به إخوان الصّفا، في شأن الدّورة الدّموية الصُّغرى، وما يخص تصفية الدم، وعمل الكُلى، والكبد، وغيرها مِن مقالاتهم الطّبيّة، أنَّهم سبقوا ابن النَّفيس بثلاثة قرون، وهارفي بسبعةٍ، لكنني لا أجزم بأنَّ ابن النَّفيس اطلع على ما صنفه إخوان الصّفا، ولا هارفي اطلع على مؤلفات ابن النفيس، فالطب علم لا تخلو اكتشافاته أو اختراعاته مما يُعرف بـ«توارد الخَواطر»، ولو أن ما ورد ليست خواطر، إنَّما حقائق علميّة. نقرأ عند إخوان الصَّفا عن عمل الرِّئة وتدفق الدَّم إليها، بما نعتبره تصوراً علميّاً، حُقق طبيَّاً، في ما بعد، على يد ابن النَّفيس وهارفي، عبر التشريح.
طرح إخوان الصَّفا تصوراتهم في رسالتهم الخاصة بتكوين أجسام الحيوانات، وسموا الرّئة «بيت الرّيح» (الرسائل، الثامنة من الجسميات الطبيعيات). وعن طبيعة علاقة «بيت الرّيح» بالقلب، وتجهيز الجسم الحي بالهواء، جاء في الجهاز التنفسي: «يخدمها ويعيّنها (الرِّئة) في أفعالها أربعة أعضاء أخرى، وهي: الصّدر والحِجاب، والحلقوم والمنخران، وذلك أنَّه مِن المنخرين يدخل الهواء المستنشق إلى الحلقوم، ويعتدل فيه مزاجه.. ويصل إلى الرّئة ويتصفى فيها، ثم يدخل إلى القلب، ويروح الحرارة الغريزية هناك، وينفذ مِن القلب إلى العروق الضّوارب، ويبلغ إلى سائر أطراف البدن الذّي يسمى النّبض، ويخرج من القلب إلى الرّئة الهواء المحترق (ثاني أوكسيد الكربون من دون أن يسموه)، ومن الرّئة إلى الحلقوم إلى المنخرين أو الفم، والصّدر يخدم الرّئة من الآفات العارضة لها، عند الصّدمات والدّفعات، واضطراب أحوال البدن» (المصدر نفسه).
أورد ابن النفيس في «شرح القانون لابن سينا»: «أما حاجة الرِّئة إلى الوريد الشِّرياني، فلأنه ينقل إليها الدَّم الذي قد لطف وسخن في القلب، ليختلط ما يترشح من ذلك الدَّم من مسام فروع هذا العرق، في خلل الرَّئة بالهواء، الذي في خللها ويمتزج به من الجملة ما يصلح لأن يكون روحاً إذا حصل ذلك المجموع في التَّجويف الأيسر من القلب، وذلك باتصال الشّريان الوريدي لذلك المجموع إلى هذا التَّجويف». تبدو الإيماءة واضحة، في النّص المذكور إلى الدّورة الدّموية الصّغرى، عندما يتحدث إخوان الصفا عن حركة الهواء بين الرئة والقلب وبالعكس، وما تقدم به ابن النّفيس بعد ثلاثة قرون. وأنَّ معاصراً لصاحب «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» ابن أبي أصيبعة (ت: 668 هــ)، وكلاهما طبيبان، شاميان مِن دَمشق، لكنَّ ابن أصيبعة لم يذكر ابن النفيس في معجمه، لربما بحكم التجافي بين أقران المهنة أو لسبب آخر.
لقد تحمل إخوان الصفا أذىً كثيراً، في عصرهم وما بعده، وحارت المذاهب في نسبهم إليها، وهم ليسوا على مذهب، ويخطأ مَن اعتبرهم إسماعيليين أو غير ذلك، إنما كانوا نخبة مِن المفكرين الأحرار، والقول لهم: «رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلّها» (الرِّسائل، الرَّابعة من العلوم الناموسية).
***
رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

هل صحيح أن حرق كتب ابن رشد كان بداية لسقوط حضارة الاندلس؟ هي مقولة ذُكرت تعقيباً على حادثة حرق كتب ابن رشد من قبل الحاكم يوسف ابن ابي يعقوب بن يوسف الملقب بالمنصور، امير دولة الموحدين التي حكمت بلاد المغرب والاندلس (1121م – 1269م). والهدف من هذه المقولة هو إضفاء حالة الجهل والتخلف على الحضارة الإسلامية كونها لا تُقّدر العلم ولا العلماء. قرأها المثقفون وكتبها المؤلفون وصدقها الناس، وأصبحت مقولة صحيحة ومقبولة في الثقافة والعقول العربية. وقد أصبحت من الامثال التي يَحتذي بها كل من يحاول أن يثبت فشل او انحطاط الثقافة الإسلامية. إن هذه المقولة هي محضّ كذب وافتراء، قالها ويقولها الكارهون للحضارة الإسلامية وصدقها الذين يجهلون تاريخ الحضارة الإسلامية واحداثه عن غير قصد.
أحاول، في هذا المقال، أن اسرد الحقائق التاريخية حول تلك الحادثة وما جانبها من ملابسات غيّرت مفهوم هذا الحدث من واقعة عادية معروفة، إلى واقعة مأساوية دمرت حضارة مُشرقة، عالية المقام بين حضارات التاريخ، على الرغم من أنّ هناك الكثير من الأحداث المشابهة لها في التاريخ العام للبشرية لم تفسّر بنفس الأسلوب والمعنى.
تعتبر ظاهرة حرق الكتب ظاهرة عامة وشائعة في التاريخ. وليس غريباً أو مأساوياً أن تحرق كتب تحتوي على أفكارا لامعة ومهمة للبشرية. التاريخ مليء بمثل هذه الحوادث. معظم حوادث حرق الكتب يفعلها اشخاص معروفون، ولهم سلطة سياسية كالحكام مثلاً، أو مثقفين معروفين ومشهورين. وتحرق الكتب بسبب محاربة الأفكار المكتوبة فيها، مثل الأفكار الدينية أو الفلسفية أو الثقافية، وغير ذلك مما لا ينسجم مع أفكار أو سياسات الشخص الذي يحرق الكتب. وقد يعتبرها البعض معارضة للتعليمات الدينية أو الأخلاقية، فيأمر بحرقها.
يخبرنا التاريخ أن ثورات حدثت في المجتمعات البشرية أو تداول سلطات، تلتها عمليات حرق الكتب أو حرق المكتبات كوسيلة تطهير ثقافي للتخلص من أفكار او أيديولوجيات معينة كانت منشرة ومؤثرة في المجتمع قبل قيام ثورة ما أو أي حادث مشابه، مما أوجب التخلص من الكتب لإحلال مبادئ الثورة الجديدة. وقد تٌمارس السلطة الجديدة ثقافة الإلغاء الفكري لكل منهج أو فكر يخالف أو يعارض مبادئ السلطة الحاكمة. يخبرنا التاريخ أن كتب ابن رشد قد أحرقت بقرار من مجلس كنسي إقليمي في جامعة باريس ومنع تدريسها بين عامي 1210و 1215وأعيد تدريسها في عام 1231ولكن بعد تعديلها وتصحيح أخطائها الكثيرة وذلك بقرار من البابا. ويخبرنا عن إعلان الكنيسة الكاثوليكية في عهد "البابا باولو الرابع" عن "قائمة الكتب الممنوعة" سنة 1559 لأنها "هرطقة" ضد الإيمان والأخلاق… ومن بينها كتاب الأمير لميكيافيلي. وقد وضع دانتي في كتابه المشهور "الكوميديا الإلهية"، ابن رشد في الجحيم بسبب كفره واعتزاله، وذَمَّته أيضاً وبشدة الكنيسة الكاثوليكية.
وكذلك احرق النازيون في عام 1933 أكثر من 25 ألف كتاب لا يتماشى مع الفكر الألماني النازي. وقديماً، قام اليونانيون بحرق الكتب، فقد ذُكر أن جالينوس (لقّب بابي الطب) قام بحرق كتب الفلاسفة الأطباء التي تعارض آرائه واعتبرها غير صحيحة، واتٌهم الاسكندر الكبير بحرق كتب الديانة المجوسية بعد أن قضى على مملكة فارس، وهناك الكثير من الأمثلة المشابهة. هذه الأمثلة وغيرها توضّح لنا أن ظاهرة حرق الكتب شائعة في التاريخ، ومع ذلك لم نسمع عن حادثة مشابه لحرق كتب ابن رشد أصبحت مأساوية ومدمرة للحضارة كما يصوره البعض ممن يتقولون به.
لم يكن ابن رشد العالم الوحيد في الحضارة الإسلامية الذي أحرقت كتبه، فقد أحرقت كتب الغزالي في قرطبة، وابن حزم الاندلسي وابن طفيل، ولم تهوَّل هذه الاحداث مثلما حدث لمحنة ابن رشد. وهناك الكثير من احداث حرق الكتب وتدمير المكتبات في التاريخ العام ابتداءً من أقدم حقب التاريخ وحتى التاريخ الحديث والمعاصر، ولا يسع المجال لذكرها جميعاً، لكن الأمثلة تشير إلى أن ظاهرة حرق الكتب ظاهرة عامة وشائعة ولا تعكس محاربة الحضارات أو الشعوب للعلم والعلماء، بل أفعال شخصية يقوم بها افراد متسلطون.
ولنطّلع على قصة حرق كتب ابن رشد كما ذكرت في كتب التاريخ، وليس كما شُوّهت القصة في المصادر الإعلامية. وأشير إلى كتاب "المثقفون في الحضارة العربية" للدكتور محمد عابد الجابري الذي أجرى بحثاً مستفيضاً ومفصّلاً عمّا اسماه (نكبة ابن رشد) لما فيه من معلومات وتحليلات مهمة ومفصّلة.
كان لابن رشد منزلية عالية في الحضارة الإسلامية عامة وفي المجتمع الاندلسي بصورة خاصة. فهو من عائلة معروفة بالعلم والورع والتقوى، تَقلّد مناصب رفيعة سياسية وقضائية. كان عالما وفيلسوفاً مقرباً ومقّدراً من قبل الحكًام والامراء، شغل منصب القضاء في اشبيلية عام 1169م، ثم في قرطبة عام 1171م، واشتهر ذكره الطيب بالأخلاق والعلم والتقوى. ومازالت ولحد الآن، منزلته رفيعة ومحترمة في المجتمع العربي والعالمي وليس في ذلك أي شك. في عام 1164م، طلبه الأمير ابي يعقوب يوسف، ثاني خلفاء دولة الموحدين في المغرب للعمل في دولته، وقرّبه إليه، وأجزل له المناصب والعطايا والاحترام لمكانته العلمية. بعد وفاة الأمير ابي يعقوب يوسف استلم الحكم ابنه الأمير يوسف ابن ابي يعقوب المنصور، وسار مسيرة ابيه في اعلاء مكانة ابن رشد العلمية والاجتماعية. لكن الوشاة الحاقدون على ابن رشد والغيورون منه، والمتشددين في الدين الذين يعتبرون الفلسفة زندقة، وشوا عند الأمير يوسف واستطاعوا إقناعه بأن ابن رشد فيلسوف زنديق، فصدقهم الأمير وامر بحرق كتبه ونفيه الى أليسانا، قرية قرب قرطبة، عام 1194م، علماً إن الأمير المنصور أمر بحرق كتب ابن رشد الفلسفية فقط ولا يشمل الامر الكتب العلمية مثل كتب الطب والرياضيات والفلك. وبعد سنتين من إصدار الأمر الأميري (بدأت الازمة عام 593 وانتهت عام 595 هجري) عَرِف الأمير يوسف حقيقة الدسيسة التي أعدت بحق ابن رشد فندم وألغى امره الذي أصدره بحق ابن رشد، فأعاد له منزلته ومكانته التي كان يتمتع بها قبل الوشاية، إلاّ أن وقع المحنة كان كبيراً على ابن رشد فاعتزل الناس، ثم توفي بالمغرب عام 1198م عن عمر يناهز 73 سنة.
يمكننا أن نستنتج مما تقدم، أن حرق كتب ابن رشد لم يتم بسبب كره الجمهور للعلم أو للعلماء، ولا بسبب انحطاط الثقافة والفكر للمجتمع، كما يراد أن يروّج لها، بل إنه كان بسبب عوامل شخصية وفردية من بعض الناس الحسّاد والحاقدين معززة بقرار جاحد وساذج من حاكم الدولة. وهذا ما حدث ويحدث كثيراً في مثل هذه الحالات.
ويمكننا أن نستنتج أيضاً، أن القول " بأن حرق كتب ابن رشد كان بداية انحطاط وسقوط حضارة الاندلس" هو قول خاطئ وغير صحيح. ذلك أن حضارة الاندلس لم تبدأ بالانحدار أو السقوط بعد هذا التاريخ أو بعد هذه الحادثة. إن سقوط الحضارة الإسلامية (سواء الاندلسية أو العباسية) يسير بنهجين مختلفين:
النهج الأول هو الانحطاط السياسي، وهو الذي يبدأ اولاً في انهيار الحضارات ولا يكون مصحوباً بالضرورة بانحطاط ثقافي.
والنهج الثاني هو الانحطاط الثقافي، الذي يحدث في الغالب كنتيجة للانحطاط السياسي.
الدولة العباسية، على سبيل المثال، وصلت حضارتها إلى القمة في سلّم الحضارة والتمدن، وكانت بغداد من أحسن وأرقى المدن في تاريخ الحضارات وأجملها. وحسب سُنّة التاريخ انحطت الدولة العباسية، وكان الانحطاط اولاً سياسياً (وليس ثقافياً). بدأ انحطاط الدولة العباسية في زمن الخليفة المتوكل على الله، عاشر الخلفاء العباسيين، حكم عام 847م – 864م. بعد أن استفحل المماليك الاتراك بالسلطة، الذين كانوا يمثلون جيش الدولة العباسية، لم يتمكن الخليفة المتوكل من السيطرة عليهم، لأنهم أخذوا يعثون فساداً، فقاموا بقتل الخليفة المتوكل والتخلص منه لأنه أراد التخلص منهم، ونصّبوا ابنه المعتصم الذي كان على خلاف دائم مع والده المتوكل. تعتبر هذه الفترة من تاريخ الدولة العباسية بداية انهيارها السياسي وليس الثقافي، ذلك لأن الناس في ذلك الزمان لم يهتموا بالسياسة ولا بالحكم أو الحكام، وإنما كان اهتمامهم ينصب على حياتهم الاجتماعية والدينية والثقافية. ثم حكم البويهيون الدولة العباسية منذ عام 934م وسيطروا سيطرة تامة على الحكم فيها وانتشر فيها الظلم والرشوة والفساد. في عام 1037م دخلت الدولة العباسية في حكم السلاجقة، ولم يكونوا هؤلاء أفضل من سابقيهم بل استمر ضعف الخلفاء العباسيين وانتشار الظلم والمفاسد، وكانت أوضاع الدولة العباسية في تهور وانحطاط مستمر إلى أن احتلها المغول في عام 1258م، فدمروا المكتبات واحرقوا الكتب وقضوا على الدولة العباسية قضاءً تاماً، فحصل الانهيار الثقافي، حيث ترك العلماء بغداد هربا من وحشية المغول وخوفاً منهم، وهاجروا إلى الشام ومصر وغيرها من الدول الإسلامية، فانتهت العلوم والثقافة في بغداد بسقوط بغداد. ومن المعروف ان الحضارة الإسلامية العباسية وصلت ذروتها خلال القرون الثالث والرابع والخامس الهجري، والتي تقابل قرون الانحطاط السياسي (وليس الثقافي). ومن المعلوم أيضاً أن سقوط الدولة العباسية على يد المغول أذَنَ بانتهاء حضارتها.
وأما ما حصل للدولة الاندلسية من انهيار سياسي، فإنه لم يكن مصحوباً بانهيار ثقافي كما يعتقد البعض، وهو مشابه لقصة الدولة العباسية. بعد احتلال الاندلس في عام 711م بدأت معالم الحضارة تبرز فيها، وأخذت تتعالى بمرور الزمن حتى أصبحت منافسة للدولة العباسية ثقافياً وحضارياً، وكانت منارة للعلم والتحضّر عند الأوروبيين. بدأ الانهيار السياسي لدولة الاندلس في عام 1030م عندما سقطت الدولة الاموية في الاندلس وتقسمت الدولة إلى دويلات صغيرة متعددة. استقلت كل من هذه الدويلات وحَكَمها حاكم من أبنائها. سميّت هذه الحقبة الزمنية بملوك الطوائف. وكانت هذه دويلات صغيرة ضعيفة متناحرة، تعادي وتحارب بعضها البعض، وبذلك ضعفت الدولة الاندلسية وتمكن الاسبان من استرداد المناطق التي كانت تحت حكم المسلمين، واحدة تلو الأخرى. ولم تكن فترة ملوك الطوائف، مصحوبة بانهيار ثقافي أو حضاري، بل استمر التقدم والتطور الحضاري فيها. فالفترة التي عاش فيها ابن رشد هي فترة ملوك الطوائف في الاندلس ودولة الموحدين في المغرب. وعاصره فيها الكثير من العلماء المشهورين كابن طفيل وابن عربي وابن باجة وغيرهم. وعندما سقطت غرناطة بيد الاسبان، الجهلة والمتعصبين دينيا، في نهاية القرن الخامس عشر (القرن التاسع الهجري) انتهت حضارة الاندلس.
وكذلك أؤكد، أن الحضارة الإسلامية لم تنهار بعد حرق كتب ابن رشد ولا بعد وفاته، إذ ظهر الكثير من علماء الاندلس بعد وفاة ابن رشد. نذكر على سبيل المثال، ابن عربي وابن سبعين وابن البيطار وابن النفيس وشمس الدين الذهبي وابن كثير وابن الاثير وابن الشاطر وابن تيمية والامام القرطبي والسيوطي، وآخرون كثيرون لا يتسع المجال لذكرهم، ولم يكن ابن خلدون آخر العلماء المسلمين (توفي عام 1406) بل ظهر بعده أيضاً علماء مسلمين مشهورين ومعروفين. لذلك فإن القول "أن حرق كتب ابن رشد يمثل انهيار حضارة الاندلس" لا أساس له من الصحة، بل فيه تجني على الحضارة الإسلامية، ويمكن اعتباره محاولة للانتقاص والتقليل من قيمة واهمية الحضارة الإسلامية في تاريخ البشرية.
والخلاصة: إن حرق كتب ابن رشد لم يكن بسبب كره المسلمين للعلم والعلماء كما يدعي المغرضون، بل انه تمّ بأمر من حاكم البلاد الذي أخطأ بتصديقه كلام الواشين وأصدر الأمر بمعاقبة ابن رشد. وبعد عامين فقط علم الحاكم حقيقة الوشاية وألغى أمره بحق ابن رشد وأعاد له كل ما يستحق من امتيازات واحترام وحقوق، وانتهت المحنة، ولم تنهار الحضارة الاندلسية، بعدها بل استمرت الاندلس كمنارة للعلم في تلك الحقبة لما يزيد عن قرنين من الزمان بعد حادثة حرق الكتب. فلماذا يُصر الكتّاب والمثقفين على تصوير الحادثة كأنها مأساة فريدة في التاريخ، وعلى أن حضارة الاندلس انهارت بسبب هذه الحادثة، علماً أنّ في تاريخ البشرية حوادث كثيرة مشابه لهذا الحدث إن لم تكن أكبر منها أثراً، ولم نسمع أحداً ينسب لها آثارا مدمرة على تراثهم كما هو الحال عندنا.
فلنعيد الأمور إلى نصابها الصحيح ونكشف عن الدسيسة والجهل في احداث التاريخ. الجميع يعلم أن المصادر التاريخية الشرقية والغربية تتفق على أن الحضارة الإسلامية كانت حضارة متميزة في تاريخ البشرية ولولاها لما حصلت النهضة في أوروبا.
***
د. صائب المختار

 

في هذا الكون اللامتناهي تعد التجربة الإنسانية للحياة اشكال وجودي ملغز، في كل الاحوال ستكون الإجابة فردية على سؤال كبير ومصيري ان تمكنا من الإجابة بشكل افتراضي، كما لم يجد الانسان البدائي تفسيرا لوضعه في مواجهة الطبيعة وتخندق الوعي في مرحلة تطوره الأولى داخل نسق ميثولوجي وأصبح واقعا لازماني غير مفارق انساقه الأولى زمانيا ومكانيا نطرح هذه الإشكالية عندما نستمع الى خطاب موجه بسذاجة ممنهجة وكان المتلقي كائن(براميسيوم) ظنا منه ان الطرح عميق ويثير الكثير من التأمل. هنا يمكننا النظر إلى الأمر من زاوية اخرى ،اعني انه يريدنا ان نعيش حياة بلا عقل، ننغمس في الملذات و العيش في حالة من اللامبالاة نعيش لحظات ممتعة رغم اننا فقدنا القدرة على التفكير وفهم الحياة، انه يدرك ان التفكير الزائد أو التحليلات العميقة تؤدي إلى الشعور بالقلق والاكتئاب ويعرف أن العقل يثقل كاهلنا، يعرف انه جنبنا الاستمتاع باللحظة ، لذا اصر أن لا نستخدم العقل لفهم الحياة والتخطيط لها، بينما سمح للعواطف أن تأخذنا في تجارب ممتعة وملهمة لأننا سنكتشف في النهاية ان الحياة ليست عقل، هناك أمثلة تشير إلى كيف يمكن أن يعيش الإنسان حياة بلا عقل أو تفكير عميق بينما يعاني الآخرون من مشاق التفكير والعقل، بعض الأشخاص يعيشون في مجتمعات بدائية في مجاهيل منعزلة في غياهب الغابات والمحيطات، حيث تتركز حياتهم حول الأنشطة اليومية البسيطة قد يجدون السعادة في الزراعة أو الحرف اليدوية او صيد الحيوانات دون التفكير في تعقيدات الحياة الحديثة، الأطفال يعيشون لحظات من البراءة والفرح دون التفكير في المشاكل أو التحديات ويتمتعون بحياة خالية من الهموم رغم أنهم لا يمتلكون الحكمة والعقلانية. في بعض روايات الخيال والفانتازيا، نجد شخصيات تعيش في عالم سريالي دون التزام بتفكير منطقي، مما يجعلهم بعيدين عن التعقيدات التي يعاني منها الآخرون، بينما يعاني آخرون من عبء التفكير الزائد.
إمكانية وصول الإنسان لهذه المرحلة
من الممكن أن يسعى الإنسان إلى تبني نمط حياة بسيط، مثل التخلي عن التعقيدات الاجتماعية والمادية، والتركيز على الأمور الأساسية مثل الغذاء والمأوى، يمكن للإنسان أن يتجه نحو العزلة أو التأمل، مما يساعد في الابتعاد عن الضغوط المتعلقة بالعلاقات أو المسؤوليات بعض الفلاسفة والروحانيين يسعون لتحقيق حالة من التنور الداخلي والسكينة من خلال العزلة والابتعاد، حيث يتم تجاوز الرغبات والمشاعر المعقدة.
التحديات
الإنسان مخلوق اجتماعي بطبعه، ولديه احتياجات عقلية وعاطفية معقدة، مما يجعل الوصول إلى حياة خالية من العقل أو الجنس تحديًا كبيرًا. المجتمعات الحديثة تعزز من قيمة العقلانية والنجاح، مما يجعل من الصعب التخلي عن هذه القيم بينما يمكن للإنسان أن يسعى نحو حياة أبسط وأقل تعقيدا، لكن الانسان له حاجات مطبوعة غريزيا فهو يسعى الى البقاء والخلود، وإن أراد الحياة البسيطة بلا هدف عليه تحقيق حالة مشابهة لحياة (الهايدرا) وهي حيوانات خالدة لا تتطلب عقل وهذا يحتاج تغييرات جذرية في طريقة العيش والبنية وازاحة العقل جانبا والذي سعت الاساطير الى تحقيقه من خلال رمي المصير في ساحة التجريد.
التغلب على الصراع الداخلي
التغلب على الصراع الداخلي عند تبني نمط حياة بسيط يتطلب بعض الاستراتيجيات والتقنيات منها معرفة القيم الأساسية التي تساعد على اتخاذ قرارات تتماشى مع أسلوب الحياة، الوعي الذاتي يمكن أن يساعد في فهم المشاعر والأفكار بشكل أفضل، من المهم التعرف على المشاعر المتناقضة التي قد تواجهنا، تقبل هذه المشاعر كجزء من العملية دون الحكم عليها يساعدك في التعامل معها بشكل أفضل.
مقارنة فلسفية بين العقل واللا عقل
يمثل العقل القدرة على التفكير، التحليل، والتفكير النقدي. يرتبط بالعقلانية، المنطق، والوعي الذاتي. يمكن أن يُفهم على أنه حالة من الانفصال عن التفكير المنطقي، أو الاستسلام للعواطف والحدس. قد يرتبط بالبراءة، البساطة، أو الحياة الغريزية يمكن للعقل أن يساعد في تحليل المشكلات المعقدة وإيجاد حلول فعالة يتيح للأفراد وضع خطط طويلة الأمد وتحقيق الأهداف، يمنح القدرة على فهم العالم من حولنا بشكل أعمق قد يؤدي إلى شعور أكبر بالحرية والانطلاق بعيدًا عن قيود التفكير ويمكن أن يفتح باب الإبداع والتفكير غير التقليدي، حيث يُسمح للأفكار بالتدفق دون قيود ويعزز من التواصل مع المشاعر والأحاسيس، مما يمكن أن يعزز العلاقات الإنسانية ،قد يؤدي التفكير الزائد إلى القلق والتوتر، مما يمنع اتخاذ القرارات ويصبح الأفراد متصلبين في آرائهم، مما يمنعهم من قبول أفكار جديدة ،ويمكن أن يؤدي إلى فقدان الهدف والاتجاه في الحياة قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات غير عقلانية بناءً على المشاعر اللحظية، تعتبر الفلسفات المختلفة، مثل البوذية، أن التوازن بين العقل واللا عقل هو المفتاح لتحقيق السعادة. العقل يساعد في فهم العالم، بينما يسمح اللا عقل بتجربة الحياة بشكل كامل العقل واللاعقل يمثلان جانبين مختلفين من الوجود البشري. التوازن بينهما يمكن أن يؤدي إلى حياة مليئة بالمعنى، حيث يتم استخدام العقل للإرشاد واللاعقل للاستمتاع باللحظة.
دور الثقافة في تشكيل علاقة الإنسان بالعقل واللاعقل
تلعب الثقافة دورًا حيويًا في تشكيل علاقة الإنسان بالعقل واللاعقل بعدة طرق ،تحدد الثقافة ما يُعتبر عقلانيًا أو غير عقلاني، مما يؤثر على كيفية تقييم الأفراد لأفكارهم ومشاعرهم بعض الثقافات تعزز التفكير النقدي والتحليل، بينما تفضل أخرى الاعتماد على الحدس والعواطف ،تختلف أساليب التعليم عبر الثقافات مما يؤثر على كيفية تطوير العقلانية، بعض الثقافات تركز على التفكير النقدي، بينما تفضل أخرى التعلم من التجارب العملية بالعقل واللاعقل، حيث يمكن التشجيع على التفكير المنطقي أو التعبير عن المشاعر، تعزز الثقافة الفنون والإبداع، مما يسمح للأفراد بالتعبير عن مشاعرهم وأفكارهم بطرق غير عقلانية ،تلعب القصص والأساطير دورًا في نقل الأفكار والقيم الثقافية، وغالبًا ما تتضمن جوانب من اللاعقل تعزز بعض الثقافات الطقوس التي تشجع على الانفصال عن العقلانية، مثل التأمل أو الاحتفالات الدينية، مما يساعد الأفراد على الاتصال بجوانبهم العاطفية والروحية تحدد التقاليد كيف يجب أن يتفاعل الأفراد مع مشاعرهم وعقولهم، مما يؤثر على قراراتهم وسلوكياتهم، أدت العولمة إلى تبادل الثقافات، مما أثر على كيفية فهم الأفراد لعلاقتهم بالعقل واللاعقل قد يتبنى البعض أفكارًا عقلانية جديدة بينما يظل آخرون متمسكين بتقاليدهم ،التغيرات في القيم الاجتماعية، مثل الحركة نحو الفردانية، قد تؤثر على كيفية تقييم الأفراد للعقلانية والعاطفية. تشكّل الثقافة الإطار الذي من خلاله يتفاعل الأفراد مع العقل واللاعقل، مما يعكس كيف يمكن أن تتباين هذه العلاقات عبر المجتمعات المختلفة، إن فهم هذا الدور يساعد في تعزيز الوعي الذاتي والتوازن بين الجوانب العقلانية والعاطفية في الحياة.
تعريف العقل واللاعقل عبر الزمن
يمكن للثقافة أن تُغيّر تعريف العقل واللاعقل عبر الزمن، وذلك من خلال عدة عوامل مع ظهور أفكار فلسفية جديدة، قد تتغير تعريفات العقل واللاعقل على سبيل المثال، يمكن لفلسفات مثل الوجودية أو البوذية أن تُعيد تشكيل كيفية فهم العقلانية والعواطف. تطور علم النفس وفهم العقل البشري يمكن أن يؤثر على كيفية تعريف العقل، حيث تبرز أهمية العواطف والحدس في اتخاذ القرارات الحركات الاجتماعية مثل النسوية أو حركات حقوق الإنسان قد تعيد تعريف ما يُعتبر عقلانيًا أو غير عقلاني، من خلال تسليط الضوء على تجارب جديدة. تبادل الثقافات عبر العولمة يمكن أن يؤدي إلى تداخل الأفكار، مما يغير النظرة التقليدية للعقل واللاعقل ،قد تتبنى ثقافات جديدة طرق تفكير مختلفة تؤثر على تعريفاتها، تأثير التكنولوجيا على الحياة اليومية يمكن أن يُعيد تشكيل فهمنا للعقل، حيث تُصبح القدرة على معالجة المعلومات والبيانات جزءًا من تعريف العقلانية في أوقات الأزمات، قد تتحول المجتمعات نحو الروحانية والعواطف، مما قد يؤدي إلى إعادة تقييم ما يُعتبر عقلانيًا، مثل التركيز على الرفاهية النفسية والتواصل العاطفي تنعكس على تعريفات العقل واللاعقل ،كذلك الديناميات الثقافية والاجتماعية، تظل قابلة للتغيير مع مرور الزمن هذه التحولات تعكس التفاعل المستمر بين الفكر، الثقافة والعقل والسياقات الاجتماعية.
***
غالب المسعودي

الإيجابيات والسلبيات

المقدمة: الصراع بين المثاليات والممارسة
تُعَدُّ حقوق الإنسان إحدى الركائز الأساسية التي تقوم عليها الحضارة الإنسانية الحديثة، حيث تجسدت في مواثيق دولية مثل "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" (1948) و"العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية" (1966). لكن الفجوة بين المبادئ النظرية والتطبيق العملي تظل واسعة، مما يدفعنا إلى تسليط الضوء على الثنائية الجدلية بين المعايير الإنسانية المثالية والأساليب التوظيفية التي تعكس الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي المعقد. هذا المقال يستكشف هذه الثنائية عبر تحليل معمق للجذور التاريخية، والآليات التنفيذية، والإشكاليات الناجمة عن التوظيف الانتقائي لحقوق الإنسان.
الفصل الأول: تطور المعايير الإنسانية وتجذُّرها الفلسفي
1 - الجذور التاريخية والفكرية:
نشأت فكرة حقوق الإنسان من تراكم فلسفي وديني وقانوني عبر الحضارات، بدءًا من "قوانين حمورابي" و"العهد الميسوبوتامي"، مرورًا بالديانات السماوية التي أكدت على كرامة الإنسان، ووصولًا إلى عصر التنوير الأوروبي الذي صاغ مفاهيم "الحقوق الطبيعية" (جون لوك، روسو). ومع ذلك، فإن الصيغة العالمية المعاصرة لهذه الحقوق تشكلت كرد فعل على فظائع الحرب العالمية الثانية، حيث سعت الأمم المتحدة إلى تجسيد مبادئ المساواة والحرية في إطار قانوني ملزم أخلاقيًا، وإن لم يكن دائمًا فعّالًا.
2 - الإطار القانوني الدولي:
تشكل المنظومة الدولية لحقوق الإنسان من مجموعة معاهدات تتراوح بين الإلزام القانوني (مثل اتفاقيات جنيف) والإلزام الأخلاقي (مثل الإعلانات غير الملزمة). وتُقسَم الحقوق إلى ثلاثة أجيال:
الجيل الأول: الحقوق المدنية والسياسية (الحق في الحياة، المحاكمة العادلة).
الجيل الثاني: الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (الحق في التعليم، الصحة).
الجيل الثالث: الحقوق الجماعية (حق تقرير المصير، البيئة الصحية).
الفصل الثاني: الآليات التوظيفية بين الإرادة السياسية والمصالح
1 - آليات التنفيذ الرسمية:
تعتمد الدول والمنظمات الدولية على آليات متعددة لترجمة المعايير إلى واقع، منها:
اللجان الأممية: مثل لجنة حقوق الإنسان ومجلس حقوق الإنسان، التي ترصد الانتهاكات عبر تقارير "الاستعراض الدوري الشامل".
المحاكم الدولية: مثل المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، التي تحاكم مجرمي الحرب، لكنها تواجه انتقادات لتركيزها على دول أفريقيا.
الضغط الدبلوماسي: كالعقوبات الاقتصادية أو الحظر الجوي، كما في حالة جنوب أفريقيا خلال حقبة الفصل العنصري.
2 - دور المنظمات غير الحكومية (NGOs):
تلعب منظمات مثل "العفو الدولية" و"هيومن رايتس ووتش" دورًا محوريًا في فضح الانتهاكات عبر تقارير موثقة، لكنها تُتهم أحيانًا بالانحياز الأيديولوجي أو تبني أجندات غربية.
الفصل الثالث: الإيجابيات: إنجازات لا يمكن إنكارها
1 - انتصارات تاريخية:
إسقاط الأنظمة العنصرية: نجاح الضغط الدولي في إنهاء الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
حماية الفئات الضعيفة: اتفاقيات منع الاتجار بالبشر وحماية اللاجئين (اتفاقية 1951).
تمكين المرأة: اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو 1979).
3 - تعزيز الوعي العالمي:
أصبحت حقوق الإنسان لغة مشتركة تعبر عن ضمير عالمي، مما ساهم في:
خلق حركات اجتماعية عابرة للحدود (مثل حركة #BlackLivesMatter).
دمج الحقوق في السياسات التنموية (أهداف التنمية المستدامة 2030).
الفصل الرابع: السلبيات: الفجوة بين الخطاب والممارسة
1 - الانتقائية والازدواجية:
توظيف الحقوق كأداة سياسية: كاستخدام الولايات المتحدة لخطاب حقوق الإنسان لتبرير غزو العراق (2003)، بينما تتغاضى عن انتهاكات حلفائها ، خاصة إسرائيل التي تتنصل وتتجاوز كل هذه القرارات وتواصل انتهاكها احقزق الشعب الفلسطيني ، والحرب الاخيرة على غزة اكبر دلبلا على ذلك مع التجرأ على احتلال دول معترف بها دوليا كسوربا ولبنان.
التجاهل المنظم للحقوق الاقتصادية: ففي حين تُدان انتهاكات الحريات السياسية في فنزويلا، تُهمش معاناة الشعوب من الفقر المدقع بسبب سياسات صندوق النقد الدولي.
2 - التحديات البنيوية:
سيادة الدولة vs. العالمية: تتعارض مبدأ سيادة الدولة مع تدخل المجتمع الدولي، كما في حالة الصين والأويغور.
التبعية المالية: تعتمد العديد من المنظمات الحقوقية على تمويل غربي، مما يحد من مصداقيتها في الجنوب العالمي.
3 - الإشكالية الثقافية:
يثير النموذج الغربي لحقوق الإنسان إشكالات في مجتمعات تُقدِّم القيم الجماعية على الفردية، كما في النقاش حول عقوبة الإعدام في الدول الإسلامية أو حقوق المثليين في أفريقيا.
الفصل الخامس: نحو نموذج أكثر شمولية: اقتراحات للتطوير
1 - إصلاح البنية الدولية:
دمقرطة صنع القرار: تقليص هيمنة الدول الكبرى في مجلس الأمن.
تعزيز المحاسبة: توسيع اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليشمل جرائم الشركات متعددة الجنسيات.
2 - تعزيز الحوار الثقافي:
الاعتراف بالتعددية الثقافية دون التخلي عن الحد الأدنى من الحقوق غير القابلة للتصرف، عبر آليات مثل "مبدأ التدخل الإنساني المُتدرج".
3 - تمكين الجهات المحلية:
دعم منظمات المجتمع المدني في الجنوب العالمي لقيادة الحملات الحقوقية بدلًا من الاستعاضة عنها بمنظمات غربية.
الخاتمة: حقوق الإنسان كمسيرة متواصلة
ليست حقوق الإنسان نصوصًا جامدة، بل هي مشروع ديناميكي يتطلب مراجعة مستمرة لمواءمته مع تعقيدات الواقع. فبينما تظل المعايير الإنسانية ضرورية كبوصلة أخلاقية، فإن التوظيف الفعّال لها يحتاج إلى إرادة سياسية شجاعة، وإلى وعي جماعي يُقدِّم العدالة على المصالح الضيقة. في هذا السياق، قد يكون من المفيد استعادة مقولة الفيلسوف "إيمانويل كانت": "عامِل الإنسان دائمًا كغاية، وليس كمجرد وسيلة"، وهي القاعدة التي إن التزم بها العالم، ستذوب الفجوة بين الخطاب والممارسة.
***
مجيدة محمدي – شاعرة وباحثة تونسية
........................
المصادر:
- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)
- العهدان الدوليان للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966)
- قوانين حمورابي
- أفكار التنوير لجون لوك وجان جاك روسو
- اتفاقيات جنيف
- اتفاقية 1951 لحماية اللاجئين
- اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (1979)
- تقارير من منظمات حقوق الإنسان (منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش)
- المحكمة الجنائية الدولية (ICC)
- مقولات وإرث إيمانويل كانت

حين أستدعيَ سقراط للمثول أمام المحكمة، جلس قبالته أربعون شخصاً لمقاضاته، وهم يُعَدّون من كبار وخيرة قضاة اليونان في عهده. تبادلوا الأدوار ووزعوا التهم فيما بينهم بغية إرباكه والتي ستصب جميعها بالنتيجة بما يفيد بقيامه في التحريض ضد الدولة وسلامة أمنها. وبعد التداول الشكلي وجودة الأداء المسرحي للقضية وعلى ما أزعم، فقد قضت المحكمة حينها بإصدار أقصى درجات العقوبة بحقّهِ والتي تمثَّلَت بقرار الإعدام. اللافت للنظر فإنَّ (المدان) وإذا ما إستخدمنا هذه المفردة إفتراضاَ فلم تهتز فرائصه ولم تجده مبالياً.
وللحقيقة التأريخة، فإنَّ سقراط (المتهم) والذي كان يُعّدٌ في حينها عن حقٍّ وجدارة بشيخ الفلاسفة اليونانيين في جمهورية أفلاطون، وعلى أرضٍ سيسجل لها التأريخ قصب السبق في هذا المجال مقارنة بسائر الدول والحضارات التي كانت سائدة آنذاك، لم يكتب حرفاً واحداً، لكنه في ذات الوقت كان متبعا أسلوبا آخر ولعلَّهُ كان ومن حيث التأثير أكثر وقعاً وليتفرَّدَ به عن سواه، حيث تمثَّلَ بالترويج لأفكاره من خلال الحلقات الدراسية والحوارات واللقاءات التي كان يجريها مع مختلف الفئات وخاصة المهتمة منها بالشأن الثقافي بشكل عام والفلسفي بوجه خاص، حيث كان ومن خلال تلك المحاضرات وما يعطيه من دروس، يبين أخطاء ونقاط ضعف مجايليه وزملاءه وعُلل ذلك العالم الذي إستهواه وشغله والمسمى بالفلسفة ، حتى بلغ به الأمر أن راح يُدحض بعضا من أبرز آراءهم، وصولا الى إهتزاز قناعات مَنْ كان يسير على خطاهم وليعيدهم الى صواب الوجهة.
وللأسباب الفائتة أصبح وبما لا يدع مجالاً للشك، وبحسب أولي الأمر وأصحاب السلطة وسدنتها، يُشكل خطرا كبيراً وماحقاً على الدولة ورموزها وقادتها، خاصة وأن نتائج توجهاته، قد بدأت تُثمرُ وتظهر للعيان وبشكل جلي، بعد أن أخذ يجتذب الى جانب طروحاته أعداداً كبيرة ومهمة من الشباب، كذلك لسخريته من تلك (العقائد) والمسلمات وذلك الجمود وبلغة يمكن وصفها وبحسب مفاهيم العصر الحديث بالخشبية. ومما زاد في قلق أصحاب السلطة والقرار، هو إصرار الرجل (سقراط) على المضي فيما إختاره من رؤى وتصورات وبقناعات راسخة، حيث راح مضاعفا من جهده وتحيده، (ممتشقا) أفكاره، مروجا لها هنا وهناك ومن دون حساب. متبعا في ذلك نهجا يمكن وصفه بالتمسك والإنحياز التام والثابت للحقيقة وبكل ما تحمله من دلالات ومعانٍ.
وإرتباطاً بأصل الفكرة وما ينبغي الإشارة اليه بل والتوقف عندها، هو أنَّ عزوفه عن الكتابة، لم يشكل نقطة ضعف أو يمكن عدّه مثلبة، قد يروق للبعض أن يسجّلها ويحسبها ضدّه خلال سيرورة حياته الفلسفية، فالرجل لا تنقصه الحنكة والحجة لدعم أفكاره، وليس هناك من عوائق فنية تمنعه عن الكتابة على ما قد يذهب اليه البعض ويظنه، فآثاره وآرائه ظلَّت راسخة ثابتة، تتحرك على وفق حسابات ومقتضيات، إستدعتها الضرورة وما كان يمليه الواقع والأولويات آنذاك. ولأنه كان على صواب ورجاحة عقل حتى لحظتذاك فستدين له الأجيال التي تعاقبت من بعده ومنذ مئات السنين وحتى عصرنا الحالي، على الرغم من تقادم الكثير من الفلاسفة والنظريات التي حملتها معها، والتي لا تقل شأنا وقيمة عما جاء به صاحب السيرة والمقام.
وفي نهج الرجل هذا وميله الى عدم تدوين آراءه الفلسفية التي يدين في الولاء لها ويحسبها رسالة لابد من التبشير بها والترويج لها بغية نشرها على نطاق واسع وإشاعتها وعلى أوسع نطاق، ربما يكون سقراط في ذلك المنحى وفياً وحريصاً ومنطلقاً كذلك من فكرة ومقولة، طالما آمن بها وعمل بموجبها وعلى أساسها، مفادها بأنَّ (الكتابة تُعَدٌ من أسوأ وسائل التعبير بالنسبة للمثقف). عن هذا وتعليقا على ما آمن به، فللرجل ما يقول ولنا ما نقول وقد نختلف فيما بيننا على ذلك غير إنّأ سنمضي سوية فله ما له وعليه ما عليه. ثم راح مفسرا ميله هذا ومبرره بالقول وبما يفيد وعلى النحو التالي: لِما تنطوي عليه الكتابة من تفسيرات عديدة، يأتي في مقدمتها الإبتعاد عن الدلالات والغايات التي يعنيها الكاتب. وبذا سيكون سقراط قد أعلن وبصوت مسموع عن مدى حرصه وإنسجامه مع أفكاره التي دعا لها وآمن بها.
وعود على بدأ وإنطلاقا من ذات القناعة التي كان سقراط قد تعاطى معها، والمتمثلة في كيفية إيصال أفكاره وقناعاته، وبالإرتباط مع ما نراه في هذه الأيام من إستسهال من قبل البعض في شروعهم وتوجههم نحو الكتابة والنشر، دون الإلتفات الى قدراتهم الحقيقية والتي يقتضيها النص وشروطه. فعن ذلك كله فسيبرز السؤال هنا مرة أخرى: هل ضاقت بسقراط وإنحسرت فعلاً وسائل التعبير المقروءة، أم تمَّ منعه من الكتابة وبالتالي ستجده مضطراً الى إيصال ما يجول بخاطره والبوح به من خلال (الحلقات الدراسية) التي كان يعقدها بين فترة وأخرى، وبشكل خاص فيما يتصل منها بالجانب الفلسفي، الذي بات وبما لا يدع مجالاً للشك بأنه أحد رموزه الكبار ومعلميه، والذي لا زال البعض يدين لأفكاره ولطروحاته!!! وردا على ذلك فأنا أنفي ذلك جملة وتفصيلا.
وإذا ما أردنا الذهاب الى ما هو أبعد من ذلك وأعدنا صياغة السؤال وعلى نحو آخر، والذي نعدَّه على درجة كبيرة من الأهمية، فسيتمحور ويأتي على النحو التالي: هل كان الرجل حقاً يخشى (التورط) من دخول عالم النشر بإعتباره أحد وسائل التعبير الشائعة والمنتشرة آنذاك والتي لا زال معمول بها ومعتمدة حتى يومنا هذا؟ أنا أشكٌ في ذلك بل أكاد أنفي وبثقة عالية، إذ كان الرجل بإمكانه لو أراد صياغة ما يبغي الوصول اليه وبلغة شديدة الأناقة والجمال، سيراعي فيها حتماً وبكل تأكيد طبيعة الأجواء والظروف السائدة وموازين القوى، واضعاً نصب عينيه وفي حساباته القدرة على النفاذ والإلتفاف على عيون الرقيب وأجهزته، منطلقا من فكرة مفادها: أن الكاتب الحر وصاحب الرأي، لقادر على تحمل المسؤولية ومهما ترتب عليها من تبعات ونتائج. وهو أيضاً (أي الكاتب) وفي ضوء ما فات ذكره، فإنَّ مهمته الأساسية وما سيقع على عاتقه، سيتمثل في الحرص على نشره لأفكاره وإشاعة ما يراه مناسباً وصحيحاً وفي مواقيت محسوبة وبدقة، هذا إذا ما كان حقاً على قدر ما من تحمل المسؤولية .
وبالترابط مع ما يجري على ساحتنا العربية، فالملاحظ (وهنا لا نقصد التعميم) في السنوات الأخيرة، قيام بعض الصحف وحتى دور النشر وإن على نطاق محدود، بنشر مواد صحفية ما أنزل الله بها من سلطان، حيث تجدها متجاهلة عن قصد أو دونه، جوانب وشروط أساسية لابد من توافرها وترافقها مع كل مادة صحفية أو أي نصٍّ سيجد طريقه للنشر، سواء كانت سياسية أو ثقافية أو أو أو....ألخ، كوضوح الفكرة وجمال اللغة وإشتراطاتها، مرورا بإشباع المادة بكل شروطها أو على الأقل تجتاز عتبة الرضا وأيضاً تلاقي الإستحسان والتجاوب من قبل المتلقي.
فما يلاحظ وللأسف وعلى بعض (الكتاب) إنْ لاق بهم الوصف وتطابق، أصبح يُصدر أحكامه وفي مختلف المجالات، دون أن يراعي شروط الكتابة ولا الأمانة الصحفية، بحيث بات يصدر أحكامه ويغوص فيما لا قدرة له عليه، وصولاً الى محاولة الإلتفاف على عقل القارئ، وكأن الأخير لا ذاكرة له ولا رصيد معرفي. والأنكى من ذلك وفي كتابات بعضهم، تشعر بأن أكثر من يدٍ وعقل ولغة قد شاركت في كتابة نصّه المزعوم، عدا عن عدم إشارة هذا البعض الى مصادر كتابته عند إقتضاء الحال، وهذا ينطبق على المواد التي تستدعي التضمين والتي تُلزمُ ناقل النص الى الإشارة للمصدر الذي إستقى الكاتب منها معلوماته، حفاظاً على أمانة النشر والعمل بِقيمهِ المتعارف عليها والمعمول بها.
***
حاتم جعفر
مالمو ـــ السويد

في يوم 21 فبراير 2025 على الساعة الثامنة ليلا، تتبعت عن بعد ندوة هامة بمحاورها ومضمونها من تنظيم "المبادرة الوطن أولا ودائما" تحت عنوان "الجامعة والمجتمع". تتبعتها بتركيز واهتمام تامين نظرا لأهمية الموضوع وراهنيته. فالجامعة هي العقل الأكثر نضجا بالنسبة للأمة الواحدة لإنتاج المعارف وكشف الحقائق الجديدة في كل مجالات الحياة. فكلما ارتقى الوعي والإيمان بالمستقبل باستحضار التزايد الديمغرافي العالمي وتفاقم حاجيات الشعوب اليومية، تتحول الجامعة ومراكز أبحاثها بمختلف مجالاتها المتنوعة إلى ذاك العقل المتنور المؤهل لكشف الحقائق المطلقة التي يختزنها الكون، والتي لم تحقق منها البشرية إلى يومنا هذا سوى مقدار نقطة في بحر. وبذلك يبقى تعميم فحوى واستعمالات المعارف والكشوفات الجامعية في المجتمع ذا أولوية قصوى بالنسبة للدولة بمؤسساتها والمجتمع بمنظماته الرسمية وغير الرسمية. الحاجة إلى الرفع من الكشوفات العلمية وتحويلها إلى منافع يومية للأفراد والجماعات تزداد حدة مع مرور الزمن. لقد تحولت البنية الزمنية في التعاطي مع المعرفة والبحث العلمي في الألفية الثالثة إلى إشكالية فائقة التعقيد لكون قيمة الوقت فاقت كل القيم بما في ذلك قيمة الذهب. الإلحاح يشتد اليوم على واجهتين: واجهة الاستجابة لضغط الحاجيات المجتمعية المتفاقمة بسرعة كبيرة، وواجهة عقلنة استغلال الإمكانيات الطبيعية والحفاظ على شروط العيش الصحي أرضا، وبالتالي العمل على استغلال الطبيعة بالمنطق الذي يستحضر سلامة عيش الأجيال المستقبلية.
والحالة هاته، تحول اليوم انشغال رفع التعاون إلى أعلى المستويات الممكنة بين الجامعة والمجتمع إلى مطلب إنساني عالمي مشروط بتحقيق التنمية المستدامة وبناء المجتمعات على أساس المعارف الفعالة والناجعة. لقد تجاوزت الجامعة وضعية أن تبقى مجرد مؤسسة تعليمية تهدف إلى تخريج الكفاءات الأكاديمية فحسب لتغذية المؤسسات العامة والخاصة بالموارد البشرية الكفأة والمتخصصة، بل فرضت ضغوطات سرعة التطورات في كل مجالات الحياة تحويل المؤسسات الجامعية إلى مراكز للبحث العلمي والابتكار الدائم، والتي يجب أن تنشغل ليل نهار بإيجاد الحلول النافعة لمشكلات المجتمع وتعزيز رفاهيته. فأمام سرعة المتغيرات، ارتقت مكانة الجامعات على مستوى الدولة الواحدة، ولم يعد هناك من منفذ لحل المشاكل المتفاقمة سياسيا وثقافيا واقتصاديا إلا توفير الشروط والظروف الملائمة لجعل الجامعات فضاء دائما لإجراء البحوث التطبيقية المستهدفة للقضايا الاجتماعية، والاقتصادية، والتقنية، إلى جانب انشغالها المؤرق بقضايا البيئة، والطاقة، والصحة العامة.
لم يعد مجديا أن تبق الجامعات تلعب أدوارها التقليدية منعزلة عن المجتمع. روح الأمة الواحدة لن يستوي بدون تدخل الجامعات بالقوة والفاعلية المطلوبتين داخل المجتمعات ببرامجها التطوعية وأوراش عملها التوعوية ومحاضراتها المفتوحة مع الحرص التام على تشجيع نشر المعرفة وتعزيز الوعي في قضايا مثل حقوق الإنسان، والصحة النفسية، والبيئة. بهذا المنظور الجديد، أصبح العمل الجامعي مضطرا لتجاوز أسوار مؤسساته ليمتد داخل نبضات الفئات المجتمعية. الجامعات مطالبة اليوم بتوفير برامج تدريبية ودورات مهنية لأفراد المجتمع، خاصة في المجالات الواعدة التي تغزو الوجود اليومي للإنسان، وعلى رأسها المهارات الرقمية، وريادة الأعمال، واللغات، ... كما تبقى المراهنة على النجاح في تأهيل الأفراد لسوق العمل من أعقد الرهانات المتزامنة مع الانبهار الذي أحدثه تطور الذكاء الاصطناعي. إنها الثورة العالمية المحاربة للهدر الزمني الذي ميز البحث العلمي الأكاديمي والتدبير الإداري في القطاعين العام والخاص لعقود مضت. لقد تحول الذكاء الاصطناعي إلى منصات لتوفير مضمون تاريخ الأفكار والمعارف بتقديم أشكال نموذجية جذابة، بارزا أهمية التركيز على المستقبل بإبداع المعارف وكشف الحقائق النسبية الجديدة.
إن النجاح في رفع تحديات العصر لا يمكن أن يتحقق بدون استثمار الجامعات بالقوة اللازمة في استقطاب الفعاليات الثقافية المجتمعية، وتنظيم المعارض والندوات مستهدفة تعزيز الحوار الثقافي والاجتماعي بين فئات المجتمع المختلفة، وبالتالي تيسير اندماجها في روح العصر بتأهيلها في مجال تطوير مشاريع تنموية وبحثية تخدم الذات والجماعة وتوفر فرص عمل قارة للشباب. الجامعة مطالبة اليوم بتكثيف التعاون مع المجتمع من أجل ضمان ديمومة تطوير المهارات العملية للطلاب من خلال الانخراط في مشاريع حقيقية، وتنمية كفاءة الجماهير للمساهمة في حل المشكلات اليومية باستخدام أساليب علمية مبتكرة، وبالتالي تعزيز المسؤولية الاجتماعية لدى الأفراد والمؤسسات بالرفع الدائم من مستوى الوعي الثقافي والعلمي في الروح الجماعية.
وعليه، إن رهان تحقيق التنمية المستدامة بالمغرب في سياق عالم شديد التطورات العلمية والتكنولوجية والتقلبات السياسية لا يقتصر فقط على حماية البيئة، بل يشمل أيضًا تحسين جودة الحياة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام. إن الوقت لا يرحم. التعليم والتوعية هو المنفذ الوحيد لتدارك الخصاص المهول الذي يميز ارتباط التنمية بالرأسمال البشري. على الجامعة أن تتشبث بأدوارها الحضارية. عليها أن تلعب دور الزعامة لتعميم مبادئ التنمية المستدامة في المناهج الدراسية لتوعية التلاميذ والطلبة في مختلف الأسلاك التعليمية بقضايا البيئة، والاقتصاد الأخضر، والتكنولوجيات الحديثة. على الحكومات المغربية أن توفر الوسائل لتمكينها من تنظيم أوراش عمل ومحاضرات دائمة حول التغير المناخي، واستهلاك الموارد، ومعالجة وتطهير المياه وإعادة تدوير النفايات، وتطبيق ممارسات صديقة للبيئة داخل المؤسسات التعليمية والأحياء السكنية على غرار استخدام الطاقة الشمسية، وترشيد استهلاك المياه والكهرباء، والتشجيع على استخدام وسائل النقل المستدامة مثل الدراجات الهوائية والمواصلات العامة بين الطلاب والموظفين، وإنجاز مشاريع المساحات الخضراء ولو اقتصر الأمر بزرع شجرة أو نبتة واحدة أمام كل بناية سكنية والعناية بها، وإعطاء الأولوية لتشجيع الشراكات مع المجتمع المدني لترسيخ المسؤولية الاجتماعية والبيئية،.... إلخ.
لقد أصبح من واجب الجامعة المغربية اليوم، بنسائها ورجالها، النضال من أجل أن ترتقي بأدوارها التاريخية لتصبح المسؤولة الأولى تجاه المجتمع والبيئة. إنها على مستوى الأمم المتقدمة المنصة الخبيرة في تحقيق التغيير الإيجابي وبناء مستقبل أكثر استدامة. على الدولة ألا تدخر جهدا من أجل تجاوز خلل امتداد المعرفة والابتكار ما بين الجامعة بمراكز بحوثها والمجتمع. عليها كذلك أن تضعف بآليات قانونية وتدبيرية شفافة وواضحة التنافر بين الجامعات والإدارة العمومية بمستوياتها الترابية، والوحدات الإنتاجية للسلع والخدمات. الأمة المغربية في حاجة ملحة إلى مجتمع يتجاوز افتقاره لثقافة القراءة والكتابة والإبداع والابتكار. الجامعة لا يمكن أن تستمر في أدوارها التقليدية التي انحصرت لعقود في إنتاج الأطر الإدارية والتقنية لفائدة القطاعين العام والخاص التي لا يستخدم في مجال وظائفها إلا نسب ضعيفة من معارفها المتراكمة. عليها أن تستعجل بلورة الخطط الدامغة لكيلا تتجول إلى هيكل منبوذ لإنتاج العطالة. في نفس الآن على الدولة أن تعي الحاجة الملحة لتجاوز منطق ممارسة السلطة التقليدي لدواليبها. التطور الذي أحدثه التعليم الجامعي الخاص في تواصله وامتداداته إلى القطاع الخاص المنتج يمكن أن يتحول إلى تجربة نافعة تمتد بآليات ناجعة إلى التعليم الجامعي العمومي، وبالتالي تحويل التعليم العالي في مجمله إلى فضاء وطني لإنتاج التميز. البلاد تحتاج لربح الوقت في مجال ترسيخ المقاربة التشاركية تحت إشراف الجامعات والمعاهد العليا المتخصصة في بلورة وتنفيذ المشاريع التنموية.
***
الحسين بوخرطة
مهندس رئيس ممتاز

الحصاد (قصة توضيحية)

ودعته زوجته الجميلة عند باب منزله الخشبي الصغير بأطراف الريف وكان يعتمر(يشماغ) يلفه حول رقبته الكالحة من شدة الشمس وسلمته (صرة) من القماش وهي بقايا فستان قديم وضعت فيه (طماطه وخيار وبصل وقطعة من الجبن مع رغيف من خبز التنور)، غدائه اليومي وهو خال من اللحم الذي لم يتذوقه منذ اسابيع.

توجه صوب مزرعة الإقطاعي الواسعة ليحصد له ما تبقى في الجهة اليسرى من الحقل لكي ينال حصته القليلة من الحنطة تكفيه لاقل من اسبوع والباقي ملك لصاحب الارض، شريطة ان يحمل المحصول الى المخزن اولاً ويعود ليستكمل باقي الحصاد في الجهة الأخرى من الحقل. حمل خمسة اكداس من الحنطة الى المخزن ولم يتبق له سوى نصف كيس.. وكان هذا هو الاتفاق.

وحين عاد الى الحقل منهكاً، افترش الأرض فشعر بالنعاس ووضع (صرة) الغداء إلى جانبه، وحاول أن ينام على العشب رغم نعيق الغربان التي تحيطه اسرابا تحوم وتتحسس مكان الحبوب وهو (يكشها) كلما اقتربت منه بطريقة لا فائدة من طردها لأنها ستعاود الرجوع وهي مصرة على اخذ حصتها من غدائه، وخاصة قطعة الجبنة.

فتح عينيه بعد قيلولة خاطفة، وجد نفسه محاطاً بالغربان، إلا انه لم يجد في (صرة) غدائه سوى البصل وقطعة صغيرة جداً من الخبز أما كيس الحنطة فلم يتبقى من نصفه سوى بضع حبات متناثرة حوله، التهمته الطيور والعصافير الجائعة.

تمتم مع نفسه:

يا لهذا الحظ العاثر لا طعام لي ولا لعائلتي.. يقولون إنها (القسمة)، فهل هذا هو السبب الحقيقي؟ ولكن، أين هي الحقيقة؟  وتساؤله لم يكن سهلا، رغم ان السؤال ينطوي على شيء من السذاجة، ومع ذلك قرر ان يخوض اسباب اتهام نفسه بان حظه عاثر وهو في غاية الياس والعصبية، إنها (قسمته)!!.

لماذا يلوم نفسه وهو يعرف ان للنوم (سلطان) كما يقال، لا يستطيع التحكم بإرادته، ولكن كان بإمكانه أن يشغل نفسه ليمنعها من النوم  ليتناول غدائه، ومع ذلك فقد فضل النوم وخسر ما لديه وعرض نفسه لخطر الإفتراس وهو نائم في العراء.. أين هي حقيقة (قسمته)؟ هل هي في الخارج أم مع ذاته؟

الغربان التي تحوم فوق رأسه حقيقة مادية ماثله.. والعصافير والطيور التي أكلت زاده حقيقة مادية أيضاً.. والعشب الذي نام عليه في الحقل كذلك.. ولكن كيف يثبت هذه الماديات التي عاشها او شاهدها او تحسسها وحفظها في ملف ذاكرته؟ وكيف سيتصورها ليخرجها ويعرضها على زوجته بعد رجوعه الى منزله الريفي عند الغروب؟

ملف الذاكرة يضم صور الغربان والطيور والعصافير والعشب والطعام، هي حقائق مادية التقطها العقل، فهي ليست أفكار وتخيلات وحوارات ذاتية وتداخلات فكرية ومنهجية تقوم على التحليل والاستنتاج؟ الصور المادية الواقعية هي ليست أفكار ذاتية مجردة إنما صوراً واقعية اقتنصها العقل وجمعها في ملفه.. ومن هنا يمكن التفريق بين الفكر والمادة، فالفكر ليس مادياً، إلا أن الواقع الذي تكرست فيه الصور الواقعية هي في حقيقتها مادية نقلها العقل المجرد.

إشكالية الوجود والعدم..

ولما كان الأنسان واقعاً مادياً في كليته، فهل أن الفكر الأنساني ماديا هو الآخر بحكمً ان (الفكر إنعكاس للواقع المادي)؟ 

يقول رينيه ديكارت الفيلسوف الفرنسي في مبدأ الكوجيتو (أنا أفكر إذن أنا موجود)، وهذه المقولة الفلسفية تشير إلى الآتي - لولا تفكيري بوجودي لما كنت موجوداً - وبالتالي يخلص الى نتيجة (أن الفكر يسبق الوجود).. ولكن ديكارت ذاته موجودا حتى لو لم يفكر.. بمعنى، هو موجود قبل أن يفكر بأنه موجود !!

والذي يقصده ديكارت في تلك الأزمنة المتشابكة المرتبكة هو مجابهة ميتافيزيقية فكر الكنيسة وإحتكارها بالغيبيات دويلات المدن الأوربية، أي ان الفكر يسبق غيبيات الإيمان الديني وبالتالي العمل على فصل الدين عن الدولة.

يقول الكاتب اليساري الوجودي الفرنسي جون بول سارتر في كتابه (الوجود والعدم) ان العدم ينبثق من صميم الوعي الانساني بالوجود ذاته، لأن الوعي يفجر الطاقات، وبهذا يسطو سارتر على مضمون ما قاله استاذه الفيلسوف الالماني مارتن هيدجر في كتابه (العدم والزمان)..  والمعنى في الكوجيتو هو أن الفكر يسبق الوجود، والإشكالية هنا أنت موجود حتى لو لم تفكر، فأيهما أسبق إذن الفكر أم الوجود؟ طبعاً أنت موجود أولاً ثم تفكر ثانياً.. فمن الصعب أن تلغي وجودك عندما لا فكر.. إن وجودك وجوداً مادياً قبل أن تفكر.. والإشكالية هذه، التي ربما تتفرع إلى مقاربات وجودية، هي أن وجود الإنسان وجوداً مادياً في كينونته، وتفكير الأنسان هو إنعكاس لهذا الوجود وهو جزء منه.. فهل الفكر هو وجود مادي ايضاً لكينونة الأنسان ما دام يعتبر إنعكاساً متلازما لوجوده؟

ديكارت يرجح الفكر على الوجود لأسباب تتعلق بإحتكاكات مع الكنيسة لها طابع ديني ميتافيزيقي ولغايات فصل الدين وغيبياته المطلقة عن الوجود المادي لدويلات المدن الإيطالية، أي فصل الدين عن الدولة المدنية، كما أسلفنا.. ولكن متلازمة الفكر لا تنفصل عن الوجود المادي للإنسان.. كيف يمكن أن نتصور إنسان لا يفكر؟ وكيف يمكن أن نتصور إنسان يفكر ولا وجود له ؟

إذن، إن أسبقية الفكر على الوجود المادي - كما تشير إليه مقولة ديكارت - تعد فلسفة إيهامية محضه، لأن متلازمة الفكر ليست لها أسبقية ولا أولوية لكون الوجود المادي قائم في كينونتة المطلقة.

نظرية جون بول سارتر..

(الوجود والعدم)، دعونا نفكر في هذه النظرية أيهما الأولي الوجود أم العدم؟ مَنْ يسبق مَنْ؟ يقول البعض أن العدم يلازم الوجود الأنساني الى العدم، بمعنى (عدم، وجود، عدم) أي أن الوجود بدايته العدم وينتهي إلى العدم.. وبما أن وجود العدم حتمية في ذاته، فإن الوجود متلازم بحتمية العدم.

فإذا وضعنا الوجود بين عدمين فإن الوجود في ذاته يصبح حقيقة (مؤقتة) كوجود الأنسان المادي فيما يصبح العدم حقيقة (دائمة).. ومن ذلك يكتسب العدم حتمية لها بعد الديمومة، فيما يكتسب وجود الإنسان ذاته حتمية مؤقتة.

ولكن الإشكالية في هذا الفرز الفلسفي، كيف يمكن أن يُخلقَ الوجود من العدم؟ فإذا كان الشيء عدماً، فكيف يخلق وجوداً مادياً في كينونة وجودية من العدم؟ ثم، من أين يبدأ العدم؟ وإلى أين ينتهي؟ يتحدث هيدجر الفيلسوف الالماني عن متلازمة الفناء للوجود وإن هذه المتلازمة مترافقة مع الخلق (خلق، فناء، خلق، فناء) حيث تصبح هذه المتلازمة حتمية، ولما كان الفناء يلازم الخلق من بدايته حتى نهايته، فهو حتمية مطلقة ونسبية في آن. أما العدم فهو حالة مطلقة لا نسبية تلازمه.

ويكرس هيدجر معنى ان تكون انسانا إذ تقوم فلسفته على ثلاثة اسس هي القلق الوجودي والاغتراب والموت، وان معطيات القلق تنبع من حتمية الموت.. فالقلق الوجودي الذي يسيطر على الكائن البشري هو الذي يكشف عن معنى العدم، وسبب القلق هو الخوف على الوجود من العدم حيث ينشأ من ذلك اللامعنى من الحياة ولكن الانسان حقيقة هو الذي يعطي معنى للحياة ويصنع عالمه ومن الصعب الوصول الى هذه الغائية الا اذا كان الانسان حرا حيث اثبات الذات الوجودية يمنح الحرية. فيما تعد ثلاثية الفيلسوف باروخ سبينوزا ممثلة (بالله والعقل والفكر) حيث يعتقد ان الله عقل لانهائي موجود في كل شيء، الكون والطبيعة والفكر وان المنطق العقلي يوصل الى معرفة الله.. فهو في هذا المنحى ليس ملحداً.

وحينما لا يكون الانسان ذاته، يهرب من القلق الوجودي عن طريق السقوط في بحر الاشياء الصغيرة، التي تستعبده وتبعده عن إثبات ذاته.. ويمثل بحر الأشياء الصغيرة (الثرثرة اللامعنى لها - الفضول الهروب من الذات - الالتباس الوصول الى مرحلة الابتذال).

فالخوف يختلف عن القلق.. لأن الخوف من شيء قد يكون حيوانا مفترسا او أفعى سامة.. ولكن القلق ناجم عن العدم والعدم هو الموت والموت حتمية وجودية تعكس قلقاً وجودياً والقلق الوجودي يكشف عن الفناء.. والمحصلة ان الانسان امام معضلة العدم وإشكالية اللآجدوى من الحياة كما يراها سارتر.. ومن هنا يتجلى إلحاد الفيلسوف الفرنسي ونكرانه الله خالق الكون والمتحكم في توازناته الكونية وخالق البشر على عكس مارتن هيدجر الذي يؤمن بوجود الخالق سبحانه وتعالى.. ويتضح من ذلك، ان البعض من الفلاسفة ينتهون بالايمان بالله وبوحدانيته والبعض الآخر ينكرون وجوده معاذ الله ويظلون يطوفون في ظلال مبين،

***

د. جودت صالح

22/ شباط 2025

 

 

يتساءل عالم النفس والناقد الاجتماعي النيوزيلندي "جون شوماكر" John Schumaker الذي أمضى ربع قرن يعيش ويعمل في بلدان مختلفة، مثل زامبيا، وجنوب إفريقيا، وتايلاند، وبريطانيا، وأيرلندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، عما إذا كان مجتمع المستهلك سطحياً للغاية بحيث لا يستطيع التعامل مع الأزمات المتفاقمة التي تواجه كوكب الأرض.

يبدو أنه لم تظهر نتائج التلقين الثقافي بعد في هذه المرحلة، ولكن هناك اتجاه واضح ــ التفاهة تتقدم، تليها عن كثب السطحية والتشتت الذهني. يبدو الغرور رائعاً في حين يأتي العمق في المؤخرة. والضآلة تتقدم بقوة، جنباً إلى جنب مع السلبية واللامبالاة. فقد الفضول الاهتمام، وتعرضت الحكمة للخدش، وكان لابد من وضع الفكر النقدي جانباً. والأنا تنطلق في جنون. وتستمر فترة الانتباه في التقلص، ولا أحد يراهن على البقاء.

لم يكن من المفترض أن يكون الأمر على هذا النحو. فقبل نصف قرن من الزمان، كان المفكرون الإنسانيون يبشرون بصحوة عظيمة من شأنها أن تبشر بعصر ذهبي من الحياة المستنيرة. كان أشخاص مثل عالم النفس والفيلسوف الألماني "إريك فروم" Erich Fromm ، وعلماء النفس الأمريكيين "كارل روجرز"  Carl Rogers، و"أبراهام ماسلو" Abraham Maslow ، و"رولو ماي"  Rollo May، والعالم النمساوي "فيكتور فرانكل" Viktor Frankl يضعون الأساس لنظام اجتماعي جديد يتميز بوعي متزايد، وعمق الغرض، والصقل الأخلاقي. كانت هذه الرؤية المغرية نقيضاً لمجتمعنا من النرجسيين الضيقي الأفق والماديين المنوِّمين. لم يكن الغباء قدرنا. لم يكن الفناء الكوكبي هو الخطة. بحلول القرن الحادي والعشرين، كان من المفترض أن نكون "شعب الغد" النادر، الذي يسكن عالماً حكيماً وصحياً.

اليوم، لم يكن الطلب على التفاهات أعلى من أي وقت مضى ولم يكن تسامحنا مع الجدية أقل من أي وقت مضى.

مفهوم روجرز للتوافق

أشار كتاب العالم الألماني "إريك فروم" الضخم عام 1955 بعنوان "المجتمع العاقل" The Sane Society إلى ظهور "شخصية التسويق" أحادية البعد - مخلوق آلي، مستهلك، "جيد التغذية، ومسلي جيداً. سلبي، وغير حي ويفتقر إلى الشعور". ولكن فروم كان واثقاً أيضاً من أننا سوف نتجنب المزيد من الانحدار إلى السخافة. وتنبأ بمجتمع طوباوي يقوم على "المجتمعية الإنسانية" التي من شأنها أن تغذي "احتياجاتنا الوجودية" العليا.

في كتابه الصادر عام 1961 بعنوان "كيف تصبح شخصاً"، كتب "كارل روجرز": "عندما أنظر إلى العالم أشعر بالتشاؤم، ولكن عندما أنظر إلى الناس أشعر بالتفاؤل". ورغم اعترافه بأرض الأحلام المغرية التي تكتنف ثقافة الاستهلاك، فقد كان يعتقد أننا ــ "أهل الغد" ــ سوف نخدم مجتمعاً موجهاً نحو النمو، حيث يُعرَّف "النمو" بأنه الكشف الكامل والإيجابي عن الإمكانات البشرية.

سوف نتحرك نحو الأصالة والمساواة الاجتماعية ورفاهية الأجيال القادمة. وسوف نحترم الطبيعة، وندرك عدم أهمية الأشياء المادية، وسوف نتمسك بشكوك صحية بشأن التكنولوجيا والعلم. إن الرؤية المناهضة للمؤسسات من شأنها أن تمكننا من صد السلطة البيروقراطية التي تجردنا من إنسانيتنا بينما نتحد لتلبية "احتياجاتنا العليا".

إن أحد أكثر المفاهيم شهرة في تاريخ علم النفس هو "هرم ماسلو للاحتياجات"، والذي غالباً ما يتم توضيحه من خلال هرم. وبمجرد قبوله على نطاق واسع، كان مستوحى أيضاً من الإيمان بالإمكانات البشرية الإيجابية الفطرية. فقد زعم ماسلو أن البشر يحولون انتباههم بشكل طبيعي إلى الاحتياجات ذات المستوى الأعلى (الفكرية والروحية والاجتماعية والوجودية) بمجرد تلبية الاحتياجات المادية ذات المستوى الأدنى. وفي الصعود على الهرم و"النمو"، فإننا نوجه أنفسنا نحو الحكمة والجمال والحقيقة والحب والامتنان واحترام الحياة. وبدلاً من المجتمع الذي يلبي ويحافظ على القاسم المشترك الأدنى، تخيل ماسلو مجتمعاً يزدهر في سياق تعزيز الأفراد الناضجين "المحققين لذواتهم".

وكان ماسلو يتبنى نهجاً إنسانياً في علم النفس، وكان عمله يركز على الشخص ككل بدلاً من الأعراض النفسية الفردية. يصف التسلسل الهرمي للاحتياجات الذي وضعه عدة مستويات من التجربة الإنسانية، مع أمثلة لكيفية تلبية كل حاجة. وتفترض النظرية المقابلة أن كل مستوى يجب أن يتم تلبيته بشكل كافٍ قبل أن يكون الشخص مستعدًا للتعامل مع المستوى التالي.

كتب ماسلو في ورقة بعنوان "نظرية الاحتياجات البشرية"، والتي وصفت النموذج لأول مرة: "تتدرج الاحتياجات البشرية في تسلسل هرمي قبل القدرة". "بمعنى أن ظهور حاجة ما يعتمد عادةً على الإشباع المسبق لحاجة أخرى أكثر قوة. الإنسان حيوان يريد باستمرار. كما لا يمكن التعامل مع أي حاجة أو دافع كما لو كان معزولاً أو منفصلاً؛ كل دافع مرتبط بحالة الرضا أو عدم الرضا عن الدوافع الأخرى".

وفقًا لماسلو، فإن الاحتياجات الإنسانية الأكثر أهمية هي تلك التي تبقينا على قيد الحياة، مثل الطعام، والماء، والمأوى، والهواء. وبدون هذا المستوى الأساسي من البقاء، لا يمكن توقع أن يقوم الشخص بالكثير في طريق التفكير أو الإنجاز الأعلى.

أوضح ماسلو في بحثه: "إن الشخص الذي يفتقر إلى الطعام والأمان والحب والتقدير من المرجح أن يتوق إلى الطعام أكثر من أي شيء آخر". وافترض أن كل شيء آخر يجب أن يأتي بعد ذلك.

ولكن حدث شيء ما على طول الطريق. فقد انهار الهرم. وتراجعت الإمكانات البشرية إلى المقعد الخلفي للإمكانات الاقتصادية في حين أفسح تحقيق الذات المجال للانغماس في الذات على نطاق مذهل. لقد ازدهرت ثقافة اللب عندما تم خداع الجماهير بنجاح في بناء منزل وسط مجموعة متنوعة متغيرة باستمرار من الاحتياجات المادية الزائفة.

القصور الذاتي

إن القصور الذاتي، والثنائية، والخطية، والاختزالية هي عادات راسخة في التفكير، وخصائص داخلية للعقل تم اختيارها وراثيًا وفوق الجيني، والتي أعاقت العلم منذ نشأته. وقد أدت هذه الطغيان على الطبيعة البشرية إلى نجاح حتمي على ما يبدو للتزايد التدريجي على الثورة، والتسلسل الهرمي على المصفوفة، والتسلسلية على التوازي والتكامل.

إن الراحة النفسية التي تستمدها هذه الانتصارات من القيود لا تعفي العلماء من المهمة المركزية المتمثلة في تحرير تفكيرهم، وبالتالي تحرير العلم من القيود الضيقة التي نسجتها هذه السلاسل الأربع الضخمة، والتي تتآمر يومياً لتأليه التافه وإضفاء الشيطانية على الجديد. إن العقيدة المتحيزة التي يتبناها العلم المؤسس تعكس بأمانة هذه الفرسان الأربعة للقيود البشرية المروعة.

القصور الذاتي: إن الالتزام الأساسي الذي يلتزم به العالم هو التغيير، ولكن إحدى السمات الأساسية لطبيعة الواقع المادي والحيوي هي المقاومة العميقة للتغيير، والمقاومة مع كل ذرة، ومسار عصبي ميسر. إن المفهوم الغامض للقصور الذاتي، وهو خاصية أساسية للوجود، يصفه كثيرون ولا يفهمه أحد بشكل كامل، يضع العالم في معضلة شرسة. إن المفهوم المادي يثبت أن هناك حاجة إلى قدر هائل من الطاقة لتغيير حالة الحركة.

إن القصور الذاتي التناظري للفكرة مسؤول عن انتصار التافه بقدر أي سمة بشرية أخرى. إن أغلب أعضاء المجتمع العلمي وكل أفراد الجمهور تقريباً لا يدركون أن هذا الجمود يشكل تهديداً حقيقياً. فنحن نتصور أنفسنا مرنين ومتقبلين لأساليب التفكير الجديدة. ولا يمكن أن نتصور هذا الوهم إلا لأن الجمود قوي إلى الحد الذي يجعله يقمع كل الأفكار الجديدة الحقيقية باستثناء عدد قليل جداً منها في كل قرن، ويخفي الاختلافات التافهة حول الموضوعات الراسخة تحت "ملابس الإمبراطور الجديدة" التي تبدو جديدة.

لقد سمحت الفترة الممتدة بين الطبيب الإغريقي "جالينوس" والطبيب الإنجليزي "ويليان هارفي" والتي بلغت 1300 عام بظهور واستمرار أي فكرة جديدة. لقد جلب له الوصف الدقيق الذي قدمه هارفي للدورة الدموية، والذي قوض ودحض في نهاية المطاف مجمل عقيدة جالينوس، المعاناة والنبذ وفقدان عيادته الخاصة والموت في فقر مدقع. لم يكن هناك سوى ثلاث أفكار جديدة خلال القرن ونصف القرن الماضيين لتكون بمثابة الأساس للطب الحيوي الحديث. هذه الأفكار الثلاث، التي نجت بطريقة ما من القوة الساحقة للقصور الذاتي، هي، وفقًا لترتيب رجل واحد من حيث قوتها وجمالها العام: الانتقاء الطبيعي، والوراثة، ونظرية الجراثيم المسببة للأمراض.

إن الانتقاء الطبيعي يوضح لنا كيف تتفاعل العمليات والعمليات الفرعية: وكيف تؤدي العلاقات التفاعلية بين هذه العمليات المكونة إلى مجموعة غنية من الحلول القوية للظروف المتغيرة باستمرار ودورياً وبشكل متقطع. كما يساعد الانتقاء الطبيعي في تفسير تطور القدرات العصبية للإدراك والتذكر والاستدلال. وهو يسلط الضوء على كيفية تفاعل الشبكات المناعية مع البيئة ومع بعضها البعض لحمايتنا من بحر افتراضي من الغزوات الميكروبية القاتلة المحتملة. والانتقاء الطبيعي هو الفكرة الأساسية وراء التطور والكيمياء التوليفية. وفي هذا الصدد، فإن الانتقاء الطبيعي له نفس الأهمية لفهم مقاومة الأدوية والتغلب عليها كما هو الحال في تقدير التنوع البيولوجي. وهو ذو أهمية متساوية عبر الأبعاد البيئية من دون الذرية إلى العالمية.

إن جوهر علم الوراثة - وجود خطط فيزيائية مفصلة وقابلة للتوريث داخل كل كائن حي مسؤولة عن العديد من خصائصه، إن لم يكن معظمها - هو حجر الزاوية الثاني. إن صياغة مندل الرسمية وتدوين الملاحظات القديمة حول تربية النباتات وتربية الحيوانات والثقافة القبلية والمحرمات تقودنا في خط متواصل عبر هالدين وماكهنتوك، وجاكوب ومونود، وواتسون وكريك، إلى مشروع الجينوم البشري اليوم والاختبارات الجينية والعلاج الجيني الجسدي في المستقبل ـ وإلى التلاعبات الحتمية بالخط الجرثومي التي سوف تلي ذلك. ولقد تم الترويج بلا نهاية للاختلافات التقنية الطفيفة وغير الطفيفة حول موضوع البازلاء الناعمة والمجعدة إلى الحد الأقصى.

ثقافة اللب

تعمل ثقافة المستهلك على مبدأ مفاده أن التفاهات أكثر ربحية من الجوهر وتكرس نفسها للإفراط المادي المتواصل، وأصبحت أداة دقيقة لإبقاء الناس غير كاملين وسطحيين وغير بشريين.

 تستمر المادية في اكتساب الأرض، حتى في مواجهة نهاية العالم البيئية الوشيكة.

إن ثقافة اللب هي وليمة من الزينة. المواطن المثالي هو مساحة فارغة يمكن للأدوات أن تمر عبرها بسرعة، غير مهضومة إلى حد كبير، لذلك هناك دائماً مساحة للمزيد. الواقع يتسابق كضباب من الخيارات الاستهلاكية التي لا تبدو حقيقية تماماً. نحن نعرفها باعتبارها المسار السريع ونحاول جاهدين مواكبة ذلك.

لقد وصف "رولو ماي" هذه الظاهرة بدقة في كتابه بعنوان "بحث الإنسان عن نفسه" Man's Search for Himself "إنها عادة ساخرة لدى البشر أن يركضوا بسرعة أكبر عندما يضلوا طريقهم". لذا فإن الأمر يسير كالمعتاد حتى مع سقوط السماء.

"إن العثور على مركز القوة داخل أنفسنا هو في نهاية المطاف أفضل مساهمة يمكننا تقديمها لإخواننا من البشر. إن الشخص الذي يتمتع بقوة داخلية أصيلة يمارس تأثيراً مهدئاً عظيماً على الذعر بين الناس من حوله. وهذا ما يحتاج إليه مجتمعنا ـ ليس الأفكار والاختراعات الجديدة؛ مهما كانت أهميتها، وليس العباقرة والرجال الخارقين، بل الأشخاص القادرون على "أن يكونوا"، أي الأشخاص الذين يتمتعون بمركز قوة داخل أنفسهم".

لقد تنبأ بعض النقاد بانتصار التافهين. ففي مقاله بعنوان "نظرية الثقافة الجماهيرية"، تنبأ "دوايت ماكدونالد" بـ "ثقافتنا التافهة المنحطة التي تفرغ الحقائق العميقة وكذلك الملذات العفوية البسيطة"، مضيفًا أن "الجماهير، التي فسدت بسبب أجيال عديدة من هذا النوع من الأشياء، تأتي بدورها إلى "إننا نطالب بمنتجات ثقافية تافهة". اليوم، لم يكن الطلب على التفاهات أعلى مما هو عليه الآن، ولم يكن تسامحنا مع الجدية أدنى مما هو عليه الآن.

في هذا الضباب الكثيف، يمكن بسهولة أن ينقلب المعنى والعبث. ويبدو الخاسرون في هيئة فائزين، ويختلط الأمر على الساذجين والمضحكين. تقول العبارة الموجودة تحت إعلان حديث عن الملابس الداخلية للرجال: "لدي شيء مفيد لجسدك وعقلك وروحك". أصبحت تصريحات الموضة شكلاً من أشكال محو الأمية؛ وأصبحت الأسماء التجارية تغرس الكبرياء، وأصبحت تفاهات المشاهير مقنعة.

عصر التفاهة

لقد ترك عصر التفاهة بصماته على الزواج والأسرة والحب. في استطلاع حديث أجرته شركة إيه سي نيلسن، عندما طُلب من الأطفال الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 4 و6 سنوات الاختيار بين قضاء الوقت مع آبائهم ومشاهدة التلفزيون، اختار 54% منهم التلفزيون. وذكرت الدراسة نفسها أن الآباء الأميركيين يقضون في المتوسط 3.5 دقيقة أسبوعيا في "محادثة هادفة" مع أطفالهم، في حين يشاهد الأطفال أنفسهم 28 ساعة من التلفزيون أسبوعيا. ويمكننا أن نضيف إلى ذلك الهواتف المحمولة وألعاب الكمبيوتر وغيرها من الألعاب التقنية التي تسبب حالة من التوحد الرقمي لدى الشباب.

من هذا الخطأ الفادح يأتي السؤال الأكثر إلحاحاً في عصرنا. هل تستطيع ثقافة تافهة للغاية، عالقة بين الحقيقة والخيال، وتشعر بالدوار بسبب التشتيت والإنكار، أن ترتقي بقيمها وأولوياتها للاستجابة بفعالية لحالات الطوارئ الكوكبية المتعددة التي تلوح في الأفق؟ بصرف النظر عن الحديث الفارغ والإيماءات الرمزية، لا يبدو أن هذا يحدث.

لقد شعر بعض كبار علماء الإنسانية بأن هناك حدوداً لقدرة أي ثقافة على قمع احتياجاتنا العليا. لقد افترضوا أننا مخلوقات أخلاقية بطبيعتنا وأننا سنفعل الشيء الصحيح عندما يكون ذلك ضرورياً ـ وسوف نتجاوز المادية إذا أتيحت لنا الحرية في القيام بذلك. ويبدو هذا بعيد المنال في ظل الغيبوبة الأخلاقية التي نجد أنفسنا فيها الآن. ولكن الاختبار النهائي يتلخص فيما إذا كنا قادرين على فعل الشيء الصحيح لصالح الكوكب والأجيال القادمة أم لا.

إن الأخلاق والسياسة لم يجتمعا معاً قط. فعندما تحول "المواطنون" إلى "مستهلكين"، تحولت الحياة السياسية إلى تمرين في الحفاظ على رضا العملاء. ولم يتم اختبار الديمقراطيات غير الكاملة التي نعيشها اليوم قط في مواجهة قضايا كوكبية مثل الانحباس الحراري العالمي وتغير المناخ، والتي تتطلب حلولاً جذرية ومزعجة. وفي السباق ضد الزمن، يبدو الساسة مضحكين تقريباً وهم يحاولون عدم إزعاج المساعي التافهة التي تدعم نظامنا الاجتماعي الاقتصادي الذي عفا عليه الزمن بشكل خطير.

تغيير الثقافة

إن الكارثة العالمية تدفعنا إلى عصر ما بعد السياسة حيث يتسابق الأفراد والجماعات ذات التوجهات الأخلاقية إلى الأمام على حساب الطبقة السياسية. وسرعان ما سيحتل مركز الصدارة استراتيجيو تغيير الثقافة القادرون على إلهام قفزات الوعي بشكل مستقل عن سياسات اتباع الزعيم التعيسة. ومن بين هؤلاء الأشخاص "جان لوندبرج"  John Lundberg الناشط البيئي والصوت العريق في الدعوة إلى تغيير الثقافة بشكل استباقي. وهو يدرك أن الاستهلاك المفرط يقلل من قيمة الواقع ويخدر الناس، حتى في مواجهة احتمالات تدمير أنفسهم. في مقاله "الترابط بين كل شيء في الكون"، كتب: "ما لم نوسع ونعمق إدراكنا للكون وأعضاء مجتمعنا، فقد نهلك جميعًا في الإصرار على التلاعب ببعضنا البعض ونظامنا البيئي بالمادية والاستغلال".

يتفق جميع خبراء استراتيجيات تغيير الثقافة على الحاجة الملحة إلى تعزيز "الوعي العالمي" أو "الوعي الكوني" - وهي نظرة عالمية واسعة النطاق مع وعي عالٍ بالترابط والقداسة بين جميع الكائنات الحية. ويعتقد أن مثل هذه العالمية للعقل لا تؤدي إلى التنوير الفكري فحسب، بل وإلى زيادة الحساسيات الأخلاقية والرحمة ومسؤولية المجتمع الأكبر أيضاً.

تعمل خلف الكواليس بعض المنظمات الجديرة بالملاحظة نحو هدف الوعي العالمي، بما في ذلك اللجنة العالمية للوعي العالمي والروحانية التي تضم في عضويتها حائزين على جائزة نوبل، ومنظرين ثقافيين، ومستقبليين، وزعماء روحيين مثل الدالاي لاما. وتشير المجموعة إلى الكم الهائل من الإمكانات البشرية الإيجابية المتراكمة والتي أصبحت جاهزة لإطلاق العنان لنفسها بمجرد أن نتولى السيطرة وننحت مسارات ثقافية أكثر صحة لطاقات الناس. ووفقاً لبيان مهمتهم، فإن مصير البشرية والنظام البيئي يكمن في قدرتنا على مدى العقدين المقبلين على مراجعة مخططاتنا الثقافية بنشاط من أجل تعزيز الوعي العالمي وخلق نماذج سياسية واقتصادية جديدة أكثر "وعيًا".

إن الكارثة العالمية تجبرنا على الدخول في عصر ما بعد السياسة حيث يتسابق الأفراد والجماعات المدفوعة بالأخلاقيات ما قبل الطبقة السياسية. حتى في نظام التعليم الرسمي، لا يزال الناس في حاجة إلى المزيد من التعليم، ولكن في كثير من الأحيان، لا يزالون يكافحون من أجل إيجاد طرق جديدة لتنمية قدراتهم.

في السنوات الأخيرة، بدأ عدد صغير، ولكن متزايد من المعلمين في دمج منظور "الوعي العالمي" في المناهج الدراسية، بهدف إذابة الحواجز الثقافية وبناء شعور بالمجتمع العالمي. حتى أن البعض يشجعون "قواعد عالمية" تربط الطلاب بالبشر الآخرين وبالكوكب بأكمله.

شعب المستقبل

نحن شعب الغد، ولدينا من الأشياء أكثر مما كان لدى أي شخص من قبل، ونحن أغبياء للغاية ومهووسون بأنفسنا لدرجة أننا لا نستطيع حتى أن نجبر أنفسنا على الاهتمام بتدميرنا الوشيك للكوكب. نحن تافهون. نحن حمقى. نحن جهلاء عن عمد. نحن ضائعون.

"لم يكن من المفترض أن يكون الأمر على هذا النحو".

لم يكن الأمر كذلك حقًا. كيف يمكن أن يكون الأمر كذلك؟ ينص هرم ماسلو الشهير للاحتياجات على أنه عندما يتم إشباع الاحتياجات الأساسية، يمكن للناس الانتقال إلى تلبية احتياجاتهم الأعلى مستوى – الفكرية، والروحية، والاجتماعية، والوجودية. يقتبس شوماكر من مثقفي الخمسينيات المفعمين بالأمل حول "شعب الغد" ومدى حكمتهم ورضاهم الآن بعد أن تم الاهتمام باحتياجاتهم الإنسانية الأساسية خاصة في الغرب.

لكن نظرية ماسلو انهارت. نحن شعب الغد، لدينا أشياء أكثر مما كان لدى أي شخص من قبل، ونحن أغبياء للغاية ومهووسون بأنفسنا لدرجة أننا لا نستطيع حتى أن نجبر أنفسنا على الاهتمام بتدميرنا الوشيك للكوكب. نحن تافهون. نحن حمقى. نحن جهلاء عن عمد. لدينا مدى انتباه طفل مفرط النشاط متحمس للشوكولاتة. نحن ضائعون.

إن شوماكر دقيق للغاية في وصفه للمشكلة (الغرق في سطحيتنا الذاتية، وتراجع الإمكانات البشرية إلى مرتبة أدنى من الإمكانات الاقتصادية، و"الانغماس في الذات على نطاق مذهل")، ولا يتردد في تسمية "نظامنا الاجتماعي الاقتصادي الذي عفا عليه الزمن بشكل خطير" باعتباره السبب الرئيسي. وهو لا يقدم حلولاً كافية، باستثناء الحديث المبهم عن "الوعي العالمي".

الحرب على التفاهة

في الحرب ضد التفاهة، تتحدث بعض المجموعات عن "الكوكب" - وهي نظرة عالمية توسعية يمكن أن تبطئ مسيرة موتنا الثقافي. كان الفيلسوف الفرنسي وعالم الحفريات والقس والفيلسوف الفرنسي "بيير تيلار دي شاردان" Pierre Teilhard de Chardan هو من صاغ هذا المصطلح في الدعوة إلى عقل عالمي يدمج طاقاتنا البيئية والروحية والسياسية، وبالتالي مهد الطريق لحياة متناغمة وسلام دائم. إن منظمة "صعود الكوكب" Planetization Rising  ترى أن هذه المرحلة التالية هي الوسيلة الوحيدة التي يمكننا من خلالها الارتقاء إلى مستوى أعلى من المعرفة وبالتالي إيجاد مسار مستدام للحياة لأنفسنا وللأرض: "إنها نقطة التحول التالية في رحلتنا التطورية التي يمكنها وحدها أن تزودنا بالتمكين والبصيرة اللازمتين للتغلب على القوى المتجمعة للتدمير البيئي والجشع والحرب التي تهدد بقاءنا الآن".

إن سباق التلقين الثقافي لم ينته بعد. وما زال الخاسرون يفوزون، ولا تزال احتمالات ثورة الوعي متساوية. ولكن هل هناك بديل غير الغرق في سطحيتنا؟

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

 

ظلت مقولة الاجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي، من أهم المقولات التي يتحرك في فضائها عمل الكثير من دعاة الإصلاح والنهضة، من علماء ومفكرين ومثقفين على مدى العقود المنصرمة.

ويعد الاجتهاد من الأساليب والأدوات التي هي في أمس الحاجة إلى التجديد وبعث الحيوية والنشاط فيه، بوصفه محرك الفكر الإسلامي على مختلف مجالات الحياة. حيث إن عماد المجتهد في اجتهاده، إنما هو فهم المبادئ العامة وروح التشريع التي يبثها الشارع في مختلف أحكامه ويبنى عليها تشريعه.

ويعرف الأصوليون الاجتهاد بأنه: بذل الفقيه غاية جهده لتحصيل حكم شرعي ظني، بحيث يشعر مع نفسه انه عاجز عن المزيد من ذلك. في حين يُعرّف في الأوساط الأخرى على أنه الوسيلة المجدية التي يمكن من خلالها إيجاد حلول معينة لمشكلات معينة، تطرحها المتغيرات المتلاحقة التي تفرض على الأفراد والجماعات ضغوطاً تملي ضرورة البحث عن الخروج بفتح السبل أمام العقل للوصول إلى مناطق آمنة. وان مقولة الاجتهاد والتجديد ترتبط ارتباطا عضوياً مع الزمن، وبفكرة احتواء المعرفة البشرية واستيعابها، والارتفاع إلى مستوى لغة الخطاب المعاصر وإستفهاماته. لذلك فإن لكل زمان اجتهاداته، على أساس إن اختلاف طبيعة البيئة واحتياجاتها قد تتغير من حالٍ إلى حال، فيجب مراعاة الزمن في التعامل مع هذه الإشكاليات، على أساس إن الخطاب الديني يأتي كرسالة على نحو ما يستجيب لحاجة تجاوز الباطل المعين الذي يقابلها، فالخطاب الديني-بحسب حسن الترابي- قد يتنوع في مداه وصوره حسب حاجة كل رسالة مهما كان مغزاها. وهو نقطة الانطلاق لتقديم حلول للواقع على ضوء معطيات الدين ضمن الدائرة الدينية. فالاجتهاد ذو علاقة وطيدة بالواقع، فهو لا يتعامل مع إشكاليات الحاضر باجتهادات السابق، بل يحاول أن يصيغ اجتهادات تتوافق مع متطلبات العصر والحاضر.

ويؤكد الغرباوي على أن الاجتهاد قد عبّر عن أعمق أنموذج لتجديد فهم الدين، ورفده بطاقة مستمرة لمواكبة الحياة وتحولاتها المتنوعة، وكانت أفدح خسارة مُنيَّ بها العقل الإسلامي هي القرار المتعسف بإقفال باب الاجتهاد. فبإقفاله توقفت عجلة التقدم والتطور، فبدلاً من أن يسير الفكر نحو الأمام أخذ يتقهقر إلى الخلف ليكرس الجمود والتقليد. وكما يقول مالك بن نبي: ...هكذا يتجمد الفكر ويتحجر في عالم لم يعد يفكر في شيء... إن التقليد الخلفي يقتضي التخلي عن الجهد الفكري حتماً، أي عن الاجتهاد الذي كان الوجهة الأساسية للفكر الإسلامي في عصره الذهبي. فالاجتهاد ضرورة من ضرورات الحياة، فلا تستقيم حياة مجتمع بالميل إلى الجمود، فلا يتطور إلا من خلال الاجتهاد. وقد أخذت الرؤية التجديدية أولى صورها ودعواتها الواضحة عندما فُتح باب الاجتهاد في القرنين التاسع عشر والعشرين فيما عُرف بـ"عصر النهضة"، حين دعا محمد عبده بوضوح إلى فتح باب الاجتهاد. ومع أن الاجتهاد يختلف عن التجديد، على أساس أن الأول ينحصر في التجربة التاريخية الإسلامية في الجانب الفقهي، في حين أن التجديد يفتح معنى الاجتهاد على مختلف العلوم الإسلامية والمجالات المجتمعية المرتبطة بها، بما يعني أن التجديد أوسع من الاجتهاد. إلا أنه يبقى تعبير عن منزع تجديدي في الاتجاه الذي يخدم الإنسان ويصنع الحضارة. أي إنه باختلافه عن التجديد، يبقى بمثابة الخطوة الأولى لتثبيت مشروعية التجديد، إذ إنَّ كليهما يتحرك باتجاه هدف واحد، والمتمثل بالتحصين وبيان المفاهيم والأحكام والمقولات والتصورات الإسلامية بلغة العصر. فالاجتهاد إذن، مسألة حيوية وحياتية بالنسبة للفكر الإسلامي، فلو لحق ضرر بهذا الفكر أو أن التعاليم الإسلامية تعجز عن الإجابة عن الحاجات الدينية البشرية، فلا بد من إعادة النظر في الاجتهاد بوصفه محرك الإسلام والتعاليم الإسلامية.

وبذلك فهو ليس حكراً على الفقهاء والأصوليين، كما يزعم البعض، فإن حصر الاجتهاد والتجديد في المجال الفقهي وحده، والنظر إليه بوصفه تلك الممارسة المقيدة بقواعد ومقدمات وآليات استخراج الأحكام الشرعية، تسبب في ولادة أزمة عميقة عطلت نمو الفكر الإسلامي على نحو عام، وتسببت في ثبات وجمود المفاهيم والتصورات ووسائل النظر وبقائها على لغتها القديمة وإشكالاتها السابقة. لذلك يقول (الشاطبي): لا بد من الاجتهاد في كل زمان، لأن الوقائع لا تختص بزمانٍ دون زمان. ولأن الأحكام لا بد وأن تظل خاضعة لعملية أنتاج دائمة متجددة، وذلك بقصد مسايرة الزمان والتغير في الأحوال، ووضع مصالح الناس واختلافهم بالحسبان، وهذا ما يؤكده مسكويه في قوله: إن بعض الأحكام تتغير حسب الزمان وحسب العادة، وعلى قدر مصالح الناس... فربما كانت المصلحة اليوم في شيء، وغداً في شيء آخر.

وبالتالي فلا سبيل إلى التجديد من دون الاجتهاد، حيث إن هذا الأخير-أيّ الاجتهاد- يمثل السمة الأولى والمحددة لعملية التجديد، فلا يمكن للتجديد أن يستمر من دون تفعيل عملية الاجتهاد، على أساس إن للاجتهاد والتجديد فاعلية ضرورية، وممارسة حيوية لتفسير الظواهر والمفاهيم الدينية، وتفعيل حركة التشريع والتنظيم بهدف توفر الحصانة العقائدية والفكرية والتشريعية للفرد والمجتمع. وهما في علاقة مترابطة، إذا كان يراد بالتجديد هو التطوير، فالاجتهاد هو الانتقال من طور إلى آخر يحقق فيه الإنسان آماله وأشواقه إلى حياة أكثر رقياً وازدهاراً.

إذن، فإن لمقولة الاجتهاد أهمية بالغة في تطوير المشاريع التجديدية، ولكن، يجب الحذر من استنساخ الاجتهادات السابقة، وتطبيقها بمضامينها التي درجت عليه، بل يجب أن تكون هنالك اجتهادات جديدة همها الوحيد تخليص الأنا العربية من أسوار التبعية الغربية، وتخريجها أيضاً من بوتقة الماضي المتمثل بالتراث؛ لأن  الاجتهاد لم يولد إلا على أساس قراءة النص الإسلامي ضمن حركته في الواقع المعاش، قراءة واعية لثوابت النص وحدود الفهم المتغير لأهدافه ومقاصده، بهدف الاستجابة لإشكاليات الواقع وتكييف متغيراته واحتوائها في الفضاء المعرفي الإسلامي، فيجب على الاجتهاد أن يستوعب متغيرات الحياة، ويواكب تطوراتها ويلاحق الزمن المتجدد وما يفرزه من قضايا ومشكلات فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وتربوية وغيرها... ويمكن معالجتها من خلال حركة الاجتهاد الذي يزودها بما تحتاجه في التفاعل مع صيرورة الحياة.  لذلك جاء التركيز على أهمية الاجتهاد في بلوغ إمكانية التجديد، كون أن الاجتهاد في عصرنا الحالي لا يمثل حاجة عرضية، أو يكون جائزاً فحسب، بل هو اليوم فرض وضرورة ملحة، من اجل إمكانية استعمال الفهم الخاص بعيداً عن الآراء والاجتهادات السابقة. ويمكن من خلال الاجتهاد أن نخرج من حالة القصور المفروضة علينا نتيجة الإيمان بضرورة العكوف على اجتهادات موروثنا، في حين يقتضي التجديد استعمال الفهم الخاص بمعزل عن اجتهادات الآخرين.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

 

روى لنا في كتابه سني الملوك (المؤرخ أبو عبد الله حمزة الاصفهاني-893-970م) ان الغساسنة حكموا ستمئة سنة بدات مع جفنة بن عمرو مزيقياء الى جبلة بن الايهم، اعتمادا على نولدكة (كتاب دراسات في تاريخ العرب القديم-ملوك الغساسنة) وجدت ان حكمهم لا يتجاوز قرنا من الزمان اخرهم جبلة بن الايهم، الذين قبله كلهم عرجان لان أسماءهم تبدا بالاعرج لا اعلم هل هي صفة تشوه بالتناقل، ام هو فخ السرديات او عدم دقة الاستعراض من قبل المؤرخ، كذلك هي الاستعراضية في الثقافة العربية المعاصرة تشير إلى ظاهرة تبرز فيها الفردية والاهتمام بالمظاهر بشكل متزايد، تعكس تحولاً في القيم الاجتماعية والثقافية و التركيز على الذات في التعبير عن الهوية الشخصية. الاهتمام والنجاح الاجتماعي للمثقف (التكتوكي) لها دورها في نشر ثقافة الاستعراض. تأثير الثقافات المختلفة على المجتمعات العربية زادت الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، أدت الى تسريع الوصول إلى المعلومات كما ان تغيير طرق التواصل اسهمت أيضا في تشكيل الثقافة العربية المعاصرة، رغم ان عرض قراءات المثقفين لفلاسفة ومفكرين آخرين له فوائد متعددة، منها يساعد على توضيح الأفكار والمفاهيم المعقدة من خلال سياقات مختلفة ويتيح للقارئ التعرف على آراء متنوعة، مما يعزز من قاعدة المعرفة ويفتح المجال للنقاشات الفكرية حول موضوعات معينة، ويعزز من التفكير النقدي لكن الأهم من ذلك هو ان يوضح كيف أثرت أفكار مفكرين آخرين في الكاتب، وان يبرز الروابط الفكرية ويساعد في توسيع آفاق القارئ من خلال التعرف على وجهات نظر جديدة ومختلفة، لكي يعيد القارئ النظر في الأفكار القديمة ويكون رؤى جديدة، ويساهم في تطوير الفكر الثقافي ،إن عرض قراءات الآخرين ليس مجرد استعراض، بل هو وسيلة فعالة لتعميق الفهم وتعزيز النقاشات الفكرية.

 الكاتب وفخ السرديات

تحليل وتقديم وجهة نظر خاصة لشرح لماذا تعتبر بعض القراءات مهمة في السياق الثقافي أو الاجتماعي الحالي، وكيف ترتبط بالأحداث أو القضايا المعاصرة...؟ محاولة الربط بين الأفكار المختلفة التي قرأها الكاتب وكيف تتكامل أو تتعارض مع بعضها البعض...؟ استخدم أمثلة حقيقية أو تجارب شخصية لدعم وجهة النظر وشرح الأفكار بشكل واضح، طرح أسئلة مفتوحة تحفز التفكير والنقاش، يمكن أن يساعد في تحويل السرد إلى حوار فكري عميق، تجنب السرد السطحي الذي لا يقدم تحليلاً أو تفسيرًا، الحرص على تحقيق توازن بين عرض الأفكار والآراء الشخصية، عدم جعل السرد هو المحور الرئيسي، بذلك يمكن للمثقف أن يقدم محتوى غنيًا ومؤثرًا يتجاوز مجرد سرد القراءات والاستعراض الكتابي. فخ السرديات يمثل تحديًا كبيرًا في الكتابة الأكاديمية والأدبية و يشير إلى عرض الأفكار والمفاهيم من كتب ومؤلفات متعددة بأسلوب غير منظم لايهدف إلى توضيح موضوع معين وتقديم معلومات جديدة، أو إثراء النقاش لذا يمكن أن ينزلق الكاتب في سردٍ سطحي، حيث يتم تقديم المعلومات دون عمق أو تحليل ،التركيز على السرد قد يؤدي إلى فقدان التحليل النقدي للأفكار، مما يجعل النص أقل قيمة، ويؤدي الاعتماد المفرط على الاقتباسات إلى تشتيت الانتباه عن الرؤية الشخصية للكاتب، على الكاتب  أن يتجاوز مجرد السرد إلى تحليل الأفكار وتقديم رؤى جديدة للحفاظ على التوازن بين عرض الأفكار الخاصة والرؤية الشخصية، تقديم السياق اللازم لفهم الأفكار بشكل أفضل، يساعد القارئ على رؤية الروابط بين المفكرين. الاستعراض الكتابي يمكن أن يكون أداة قوية إذا تم استخدامه بشكل فعّال، من المهم تجنب فخ السرديات من خلال التركيز على التحليل النقدي وتقديم رؤى جديدة. الراي الثقافي له مخرجات فكرية وتطبيقية، ماهي اهمية الاستعراض إذا كان لا يفضي الى مخرجات قكرية...؟ إذا كان الاستعراض الثقافي لا يفضي إلى مخرجات فكرية، فإن أهميته تتضاءل، لكن يبقى له بعض الفوائد، وهي يساهم في الإشارة المعرفية حول موضوعات معينة، مما يساعد القارئ في محولته التعرف على مختلف الأفكار، يمكن أن يفتح المجال لنقاشات جديدة، لتحقيق الفائدة القصوى لهذا ينبغي أن يكون الاستعراض مصحوبًا بتحليل نقدي ورؤية جديدة تسهم في تطوير الفكر.

معايير الاستعراض الجيد

لضمان أن يكون الاستعراض جيدًا ويُفضي إلى مخرجات فكرية، يجب أن يتجاوز الاستعراض مجرد تلخيص الأفكار إلى تحليلها وفهمها بشكل معمق والربط بين الأفكار المختلفة، مما يساعد على إبراز العلاقات والتعارضات وتقديم أسئلة مفتوحة أو نقاط للنقاش تشجع على التفكير النقدي وتبادل الآراء ووضع الأفكار في سياقها التاريخي والثقافي لفهم التأثيرات والخلفيات والاعتماد على مصادر موثوقة وتقديم المعلومات بشكل موضوعي دون تحيز. ان دمج الرؤية الشخصية للكاتب مع الأفكار المستعرضة، يسهم في تقديم وجهة نظر جديدة وتنظيم الاستعراض بشكل منطقي وواضح، يسهل هذا للقارئ متابعة الأفكار ،تقديم استنتاجات واضحة وتوصيات بناءً على التحليل، يساهم في توجيه الفكر نحو مخرجات جديدة. الالتزام بهذه المعايير، يمكن الاستعراض أن يصبح أداة فعالة تُفضي إلى مخرجات فكرية غنية ومؤثرة.

التوازن بين الموضوعية والرؤية الشخصية

 تحقيق التوازن بين الموضوعية والرؤية الشخصية في الاستعراض يتطلب اتباع بعض الاستراتيجيات الفعالة. تحديد الهدف من الاستعراض بوضوح، تقديم المعلومات والحقائق بشكل موضوعي، أضافة آلاراء الشخصية بعد ذلك، يساعد هذاعلى توضيح الفروق بين الحقائق والآراء عند تقديم الرؤية الشخصية، استخدم التحليل النقدي لدعم آلراي، تقديم الحجج والأدلة، الاعتراف بأن هناك وجهات نظر متعددة حول الموضوع، يمكنك عرض اراء مختلفة ومن ثم توضيح وجهة النظر الخاصة، الموضوعية مهمة عند مناقشة الأفكار المختلفة، وتجنب استخدام لغة منحازة.

اللغة المحايدة عند عرض الآراء المختلفة واستخدم التجارب الشخصية أو الأمثلة لتوضيح وجهة النظر، يجعل الرؤية الشخصية أكثر ارتباطًا بالموضوع، كلما كانت المصادر أكثر تنوعًا، كان من الأسهل تحقيق التوازن بين الموضوعية والرؤية الشخصية من خلال اتباع هذه الاستراتيجيات، يمكن تحقيق توازن فعّال بين الموضوعية والرؤية الشخصية، ويسهم في تقديم استعراض شامل وموضوعي.

 تحديد مستوى الموضوعية

الاستعراض يعتمد على عدة عوامل رئيسية، منها الاعتماد على مصادر موثوقة ومتنوعة يمكن أن يعزز الموضوعية. يجب أن تكون المصادر أكاديمية وموضوعية، وتجنب المصادر ذات التحيز الواضح. القدرة على تحليل المعلومات بشكل نقدي بدلاً من قبولها كما هي. يتطلب ذلك النظر في الحجج من زوايا مختلفة أهمها التمييز بين المعلومات الموضوعية والآراء الشخصية. يجب أن تُعرض الحقائق أولاً، ومن ثم يمكن تقديم الرؤية الشخصية، يجب تجنب استخدام لغة عاطفية. اللغة المحايدة تعزز الموضوعية وتجعل الاستعراض أكثر مصداقية فهم السياق الذي تم فيه تطوير الأفكار يعزز الموضوعية. يساعد ذلك في تجنب التحليل السطحي أو الخاطئ. هذا يساعد في تقديم صورة شاملة في مراجعة الاستعراض من قبل الآخرين أو استخدام أدوات تقييم ذاتية يمكن أن يكشف عن أي تحيزات أو نقاط ضعف في الموضوعية، يجب التحلي بالشفافًية بشأن المنهجية المستخدمة في جمع المعلومات والتحليل. مما يعزز من مصداقية الاستعراض، تجمع هذه العوامل لتشكيل مستوى الموضوعية في الاستعراض. من خلال التركيز على هذه العناصر، يمكن تقديم استعراض أكثر موضوعية وموثوقية.

دور السياق التاريخي في الاستعراض الثقافي

يساعد السياق التاريخي في توضيح الخلفيات الثقافية والاجتماعية التي أثرت على ظهور الأفكار والنصوص، مما يسهم في فهمها بشكل أعمق، يتيح السياق التاريخي دراسة كيف أثرت الأحداث التاريخية على تكوين الثقافة والأفكار، وكيف تفاعلت هذه الأفكار مع الظروف الزمنية، يساعد في تفسير التحولات الفكرية والأدبية التي حدثت عبر الزمن، مما يبرز كيفية تتطور الأفكار ونتكيف مع التغيرات الاجتماعية والسياسية، يوفر السياق التاريخي معلومات حول الظروف الاجتماعية والسياسية التي أدت إلى ظهور نصوص معينة، مما يعزز من فهم القضايا المعقدة.

النصوص التاريخية الموازية

النصوص التاريخية الموازية تقدم وجهات نظر مختلفة حول نفس الفترات أو الأحداث، مما يساعد على تكوين صورة شاملة يمكن استخدامها لمقارنة السياقات المختلفة، مما يعزز من الفهم النقدي ويكشف عن التشابهات والاختلافات بين الثقافات. النصوص التاريخية يمكن أن تدعم الحجج المقدمة في الاستعراض، مما يعزز من مصداقية التحليلات والأفكار وتسهم في توسيع الفهم للموضوع من خلال توفير معلومات إضافية وتحليلات مختلفة، مما يساعد القارئ على رؤية الصورة الكاملة، يساهم السياق التاريخي والنصوص التاريخية الموازية بشكل كبير في تعزيز أهمية الاستعراض الثقافي، حيث يوفران الأدوات اللازمة لفهم الأفكار بشكل شامل وعميق. يساعد ذلك في بناء استعراضات أكثر ثراءً وموضوعية، مما يثري النقاشات الفكرية.

التحديات في استخدام السياق التاريخي

استخدام السياق التاريخي في التحليل الثقافي يحمل العديد من التحديات، يكون من الصعب تفسير السياق التاريخي بشكل دقيق، حيث يمكن أن تؤثر وجهات نظر الباحثين وتحيزاتهم على فهم الأحداث في سياقات تاريخية معينة و يمكن أن تُفسر بطرق متعددة، مما يؤدي إلى تباين في الآراء حول المعاني والدلالات، قد يعقد التحليل وقد يُنظر إلى الأحداث التاريخية من منظور زمني معاصر، الذي يؤدي إلى تحريف الفهم الحقيقي للسياقات الثقافية في تلك الفترات، قد يكون هناك نقص في الوثائق التاريخية أو عدم توافرها، مما يجعل من الصعب بناء تحليل دقيق وشامل، الثقافات غالبًا ما تكون معقدة ومتعددة الطبقات، مما يجعل من الصعب تحديد تأثير السياقات التاريخية على الأفكار بشكل واضح في المجتمعات المتنوعة، يمكن ان تتداخل السياقات التاريخية المختلفة، مما يعقد التحليل الثقافي ويجعل من الصعب تحديد تأثيرات معينة على الفهم الدقيق للنصوص التاريخية. اللغة، والترجمة غير الدقيقة قد تؤدي إلى سوء فهم المعاني والسياقات، يميل بعض الباحثين إلى انتقاء المعلومات التي تدعم وجهات نظرهم، مما يعيق الموضوعية ويقلل من قيمة التحليل، تتطلب معالجة هذه التحديات منهجية دقيقة وحساسية ثقافية، بالإضافة إلى انفتاح على وجهات نظر متعددة. من خلال التعامل مع هذه التحديات بوعي، يمكن تعزيز جودة التحليل الثقافي وفهم السياقات التاريخية بشكل أفضل.

***

غالب المسعودي

تحديات واستراتيجيات للحفاظ على الهوية الثقافية

يقدم المنظر اللغوي (Guiles) إطارًا نظريًا لفهم حيوية اللغة من خلال ثلاثة عوامل رئيسية: المكانة، التركيبة السكانية، والدعم المؤسسي. هذه العوامل تحدد مدى قوة اللغة أو ضعفها، وتؤثر بشكل مباشر على احتمالية استمرارها أو اندثارها.

أما المكانة فتشير إلى القيمة الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية التي تحظى بها اللغة. على سبيل المثال، اللغة الإنجليزية تتمتع بمكانة عالية عالميًا بسبب هيمنتها الاقتصادية والتجارية، فضلًا عن تاريخها الاستعماري الذي ساعد في انتشارها. في المقابل، اللغة العربية في الأهواز تعاني من ضعف المكانة بسبب هيمنة اللغة الفارسية في إيران، والتي تُعتبر اللغة الرسمية والأكثر استخدامًا في المجالات الاقتصادية والسياسية. هذا الوضع يضعف مكانة اللغة العربية ويجعلها أقل جذبًا للأجيال الشابة مقابل لغة *البرستيج* أي الفارسية، مما يؤدي إلى انصهار جزء من المجتمع في الثقافة الفارسية السائدة وتهميش اللغة الأم العربية.

ثانيا التركيبة السكانية ترتبط بعدد المتحدثين باللغة وتوزيعهم الجغرافي، بالإضافة إلى معدلات الإنجاب بين أفراد المجتمع. من هذا المنظار اللغة العربية في الأهواز تتمتع بتركيبة سكانية قوية بسبب العدد الكبير للمتحدثين بها ومعدلات الإنجاب المستقرة نسبيًا.

ثالثا الدعم المؤسسي يشير إلى مدى تمثيل اللغة في المؤسسات الرسمية مثل الحكومة، وسائل الإعلام، والمناهج التعليمية. اللغة الكردية في العراق، على سبيل المثال، تتمتع بدعم مؤسسي قوي حيث يتم تعليمها في المناهج التعليمية في المحافظات الكردية. اللغة العربية في الأهواز تفتقر إلى هذا الدعم، حيث يتم تهميشها في المناهج التعليمية ووسائل الإعلام، مما يحد من انتشارها ويضعف فرص استمرارها للأجيال القادمة.

إذن، بالنظر إلى الأهواز، نلاحظ أنها تفتقر إلى العامل الأول (المكانة) والعامل الثالث (الدعم المؤسسي)، مما يضعفا حيوية اللغة ويهددا استمرارها وحيويتها ويسببا في تضعيف الهوية الثقافية للمجتمع العربي أيضا.

لتوضيح الصورة أكثر، يمكن مقارنة حالة اللغة العربية في الأهواز بحالة اللغة الكردية في تركيا، حيث تم منع استخدام اللغة الكردية في المؤسسات الرسمية والتعليم لعقود، مما أضعف مكانتها وحيويتها. ومع ذلك، فإن الجهود الأخيرة لتعزيز اللغة الكردية في وسائل الإعلام والتعليم قد ساعدت في تحسين وضعها نسبيًا.

لإحياء اللغة العربية في الأهواز وحمايتها من التشويه اللغوي، يمكن للشباب الجدد تبني مجموعة من الاستراتيجيات الفعالة التي تعزز استخدام اللغة وتضمن استمراريتها للأجيال القادمة.

- إنشاء مراكز تعليمية: يمكن للشباب إنشاء مدارس أو مراكز تعليمية غير رسمية (أو في البيت) تُدرّس اللغة العربية بشكل مكثف، مع التركيز على قواعد اللغة والأدب العربي.

-دروس عبر الإنترنت: استخدام منصات التعليم الإلكتروني لإنشاء دورات تعليمية مجانية أو منخفضة التكلفة لتعليم اللغة العربية للأطفال والكبار وهذا واجب الأخصائيين في مجال اللغة العربية وآدابها والأهواز تعج بأصحاب الشهادات العلياء في الللغة العربية وآدابها.

- نوادي القراءة والكتابة: تشكيل مجموعات قراءة ونوادي أدبية لتعزيز استخدام اللغة العربية في المناقشات الأدبية والثقافية وهذه مهمة المثقف والناشط الحر.

- الفعاليات الثقافية: تنظيم مهرجانات ثقافية وأدبية تعرض التراث العربي الأهوازي، مثل الشعر، الموسيقى، والمسرح باللغة العربية.

- الحفاظ على التراث الشفوي: جمع القصص الشعبية، الأمثال، والأغاني العربية الأهوازية من الكبار وتوثيقها في كتب أو تسجيلات صوتية ومرئية مما يساعد في الحفاظ على اللهجات المحلية.

- إنشاء منصات إعلامية: تطوير قنوات على اليوتيوب أو بودكاست باللغة العربية تناقش قضايا المجتمع الأهوازي وتعزز استخدام اللغة.

- تطبيقات تعليمية: تصميم تطبيقات تعليمية تفاعلية لتعليم اللغة العربية للأطفال والشباب من خلال القصص أو الشعر مثلا. وهذه مهمة التقنيين.

- مجموعات التواصل الاجتماعي: إنشاء مجموعات على فيسبوك أو واتساب أو تيليجرام أو... لتبادل المواد التعليمية ومناقشة قضايا اللغة والثقافة العربية وتعريف الأعلام الأهوازية والعربية.

- الضغط على الحكومة: تنظيم حملات ضغط سلمية للمطالبة بتمثيل اللغة العربية في المناهج التعليمية ووسائل الإعلام الرسمية. وهذه مهمة المندوب ورجل السياسة.

- مسابقات الكتابة والشعر: تنظيم مسابقات أدبية تشجع الشباب على الكتابة باللغة العربية في مجالات الشعر والقصة القصيرة (فرسان الشعر نموذجا).

- إنتاج أعمال فنية: إنشاء أعمال فنية باللغة العربية تعكس الثقافة الأهوازية وتجذب الشباب للتعرف على لغتهم الأم.

- مكتبات عامة (الكترونية): إنشاء مكتبات تحتوي على كتب باللغة العربية في مختلف المجالات، وتشجيع الشباب على القراءة.

- إصدار كتب ومقالات: نشر كتب ومقالات باللغة العربية تتناول قضايا المجتمع الأهوازي وتعزز استخدام اللغة، وهذه مهمة الكاتب الأهوازي.

- اللغة في المنزل: تشجيع العائلات على استخدام اللغة العربية في المنزل بشكل يومي لضمان انتقالها إلى الأجيال القادمة.

- اللغة في الأماكن العامة: تشجيع الشباب على استخدام اللغة العربية في الأماكن العامة والمحلات التجارية دون خلطها مع الفارسية.

من خلال هذه الحلول، يمكن للشباب الأهوازي أن يلعبوا دورًا رئيسيًا في إحياء اللغة العربية وحمايتها من التشويه، ويعززوا الهوية الثقافية ويضمنوا استمرارية اللغة العربية السليمة للأجيال القادمة.

***

د. سعيد بوسامر

٢١ فبراير ٢٠٢٤

الموت حق والحقيقة اليقينية الواضحة التي لا يختلف عليها إثنان، فكل موجود يسير على سكة الرحيل، وتنتظره محطته الموعودة التي عليه أن يترجل فيها من قاطرة الحياة. "وما تدري نفس بأي أرضٍ تموت"!!. وتلك هي قصة التفاعل ما بين الولادة الضاجة بالصراخ، والنهاية المحفوفة بالصمت والرهبة والإندهاش. و"إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون"!!. والوهم في العيش كأننا لا نغادر الدنيا، كالعيش وكأننا سنموت غدا أو بعد سويعات، يترجم القول:

"إحرص على الموت توهب لم الحياة"!!

وهذه إقترابات تأملية في الموت، و"رب موتٍ كالحياة"!!

أولا: الغاطسون في الماضي ميتون!!

الماضي ليس للغطس وإنما للعوم، والسباحة الرشيقة للوصول إلى الضفة الأخرى، والإنطلاق بالبناء والتفاعل مع معطيات المكان الجديد.

وما يسود في المواقع ووسائل التواصل المتنوعة، الحديث عن الماضي وإعتباره الأجمل، وتشتاق إليه الأجيال المرهونة بالويلات والتداعيات، والإندحارات والحرمان من أبسط الحاجات.

وهذه شهادة مرعبة على أن المجتمع يتقهقر والحاضر يتدهور، والمستقبل يتدمر، فلا يوجد مجتمع يتخندق بماضيه ويستكين فيه، بل مجتمعات الدنيا متوثبة نحو غدها الذي تتطلع إليه، وفي وعيها ما فات مات، وعليها بما هو آت.

القول بأن الماضي هو الأفضل يتسبب بإنهيارات نفسية وإحباطات سلوكية، ويعزز القنوط والتشاؤم واليأس، وفقدان الإحساس بقيمة الحياة.

ومجتمعاتنا جائعة لثقافة التفاؤل والإقدام، وتحسس طعم الحياة وتذوقها بسعادة وبهجة وأمان، وأقلامنا كأنها لاتستشعر معاناة الناس ولا تقترب منهم، فتكتب ما يضرهم، ولا تجتهد بتقديم ما ينفعهم، ويبني إرادتهم وثقتهم بأنفسهم.

فالكلمة من أخطر الأسلحة القادرة على تحقيق الهزيمة النفسية في دنيا الشعوب، وتحويلها إلى أهداف سهلة متذمرة من أوطانها وناقمة على وجودها فيها، وتأمل في الهروب والتوطن في غيرها من البلدان، رغم توفر الخيرات والفرص والطاقات والتطلعات الكبيرة.

ويبدو أن العديد من القوى المعادية لوجود الأمة تسعى بإصرار لترسيخ المفاهيم السلبية، وتحويل الأجيال إلى ركام مبرقع بالتبعية والخنوع، والركون لصوت السمع والطاعة، لتتحقق البرامج المرسومة والأهداف الخفية والعلنية بسهولة.

فالمطلوب من الأقلام أن تتناول الحاضر والمستقبل، وتتدارس التحديات والمستجدات، وتستحضر الطاقات للتفاعل الإيجابي معها، للوصول إلى ما يصلح لوجود الأمة وعزتها وكرامتها.

فهل سترعوي الأقلام؟!!

ثانيا: نُذِلُ أحياءَنا ونُجِلُ أمواتنا!!

ظاهرة لا مثيل لها في دول الأمة الأخرى، وتتكرر عبر الأجيال.

فلو نظرنا لِما حصل في القرن العشرين للأشخاص الذين برزوا بميادين الحياة المتنوعة، لتبين أنهم تعرضوا للتصديات والمعوقات والعدوان على ما يمت بصلة إليهم.

ولو تابعنا مسيراتهم، فسنجد معظمهم غادروا الوطن، وإنتهوا في بلاد الآخرين، وما ظفروا بإعتبار أو قيمة في وطنهم وهم أحياء.

وحالما يُعلن نبأ وفاتهم، تستيقظ الغيرة والحماسة، بإدعاء محاسنهم وأنهم أبناء الوطن، وما منهم مَن تم تكريمه وهو حي إلا فيما ندر.

مات فلان وإذا به يبدو وكأنه لا يتكرر ولا كمثله في الدنيا، وتبدأ أحاديث النفاق والرياء والتفاعل المريب معه، والبعض يستغله لتمرير أجندات معينة.

لو سألت عن أي مبدع وذي عقل فاعل في البلاد ستجده ذليلا، إن لم يكن صاحبا للكرسي!!

الكراسي لها دورها في الموضوع، لأنها تمضي على سكة أما أن تكون معي أو أنت عدوي، فيكون المبدع الحر عدوا ولا بد من محاربته وحرمانه وتمريغ رأسه بالذل والهوان، وعندما يموت يكون قد رحل وحان وقت التفاعل بوجه آخر معه.

في حياته عدوّي وعند مماته صديقي العزيز، وتلك لعبة غبية تسمى سياسة، وما هي كذلك؟

وعندما تسأل عن الشعب، فهو بلا قدرة على النعبير عن رأيه، ويتعبّد في محاريب الكراسي، فالشعوب مطية حكامها، شئنا أم أبينا.

والقضية الأخرى الفاعلة في الحالة، نشاطات لاواعية في أعماق الناس تأخذها إلى فضاءات التفديس والتنزيه للأموات، وكلما إبتعدوا في زمانهم تراكمت التوصيفات التقديسية المغالية حولهم، حتى تجد القرون المتوالية تلقي بأحمالها عليهم، فتخرجهم من بشريتهم، وترفعهم فوق العرش درجات، وبتكرار التداعيات المتصلة ببعضها، تجدنا أمام أهوال توصيفات، تمحق العقل، وتتجذر في النفوس والأعماق المتأججة بعواطف ملتهبة ذات إقترانية عالية.

وهكذا يعاني الأحياء المبدعون، وكأن تأنيب الضمير يأخذنا إلى عوالم التكفير عن سيئاتنا بتقديسهم الوهمي الفتاك.

فهل من موضوعية وعقل قويم؟!!

ثالثا: أفكارنا ميتة!!

الأفكار الميتة تحقق وجودا ميتا!!

تلك حقيقة حضارية وحكمة تأريخية، فلكي تكون المجتمعات حية عليها أن تستحضر أفكارا ذات حياة.

فالأفكار الميتة تمتلك طاقات سلبية هائلة ومتنامية، تسعى لتوفير الأسباب اللازمة لصناعة الموت وما ينجم عنه من تداعيات وتفاعلات ذات إتجاهات قتّالة.

والمجتمعات المتأخرة تزخر بالأفكار الميتة، مما يؤدي إلى إشاعة الكآبة واليأس والبؤس وفقدان الثقة بالذات والموضوع، ويمنع عنها قدرات العطاء والنماء ويعتقلها في حفر التلاحي والخسران.

الأفكار الميتة هي التي عفى عليها الزمن وأصبحت في عداد "ما فات مات"، فكل فكرة قادمة من نبش تراب الأزمان، رفاة لأموات لا قيمة لها في حاضر الحياة.

رابعا: أمواتنا أحياء وأحياؤنا أموات!!

ظاهرة غريبة فاعلة في واقع الأمة وتنخر وجودها عبر العصور، فترى الأجيال تضفي هالة القدسية والمجد الأعظم على أمواتها، وتستحضرهم لقيادة الحياة، والتعبير عن أفكارهم المقبورة معهم.

فتراها منهمكة في نبش الأجداث، والتغني بقيادة الأموات لأيامها، فهم الأقدر والأقوى والذين لا مثيل لهم في الحاضر والمستقبل وعليهم تسنم القيادة وتقرير مصير الأيام.

وبموجب ذلك، تجد أحياء الأمة وقادتها في صراعات مريرة، وأكثر عقولها المستنيرة هاربة أو مصابة بالتعطيل والتعويق، ووضع المصدات أمامها، والتنكيل بها ومحق وجودها وإلغاء دورها، وتنطلق نشاطات التغني بالأموات، وتخليد ذكراهم، وإخراجهم من طورهم الآدمي وتحويلهم إلى مخلوقات خيالية فادحة التأثير.

وهذا سلوك تحققت تنميته في القرن العشرين وتواصل تعزيزه على مر العقود، حتى ألفيتنا في رحاب الأموات الذين أيقظناهم من رميم القرون السالبات، فلا هم عندنا سوى الحديث عن الذي مضى وما إنقضى، وعن الرموز الآدمية الآسنة في وعينا الجمعي، والتي نحسبها لا تمت إلى البشرية بصلة، وإنما مخلوقات فنتازية وردت إلى الدنيا وأنجزت الملاحم الخارقة، وعلينا أن نستلهمها ونتغنى بها، ونموت في سبيلها، ولو إستيقظوا لإستخفوا بعقولنا، ولخجلوا من أحوالنا.

فنحن بسلوكنا نذلهم، ونستهين بهم، ولا نتعلم منهم ما يعيننا على صناعة حاضر مقتدر ومستقبل مزدهر، بل نتسبث بالرميم، ونحسب التقهقر سيخمد سعير الجحيم الذي تورطت فيه أمة ذات أدوات إحباطية وتيئيسية وتخاذلية فائقة التأثير والتمرير.

لو تصفحت المنصات الإعلامية، الورقية والإليكترونية، لتبين أن الأموات قادتنا، والأحياء أعداؤنا، وكأننا الأموات وهم الأحياء الفاعلون في صناعة وجودنا.

فتمجيد الأموات مذهبنا، ومناهضة الحياة منهجنا.

وما صح فينا القول: " إعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، وإعمل لآخرتك كأنك تموت غدا"!!

فجحود حق الحياة قانوننا، المشرعن بفتاوى مؤدينة!!

خامسا: موت قبل موت!!

يبدو أن الموت يتحقق نفسيا أولا وبدنيا ثانيا، فلا بد من الموت النفسي المسبق لكي يتحقق الموت البدني، فحالما يموت المخلوق نفسيا، فأن موته الجسمي سيكون حتميا، حتى ولو كان في تمام صحته وعافيته البدنية.

والذين ينتحرون يموتون نفسيا أولا، ويعبّرون عن هذا الموت بالإنقضاض على وجودهم المادي.

ويمكن تقدير مدى إقتراب الشخص من الإنتحار من معرفة نسبة موته النفسي.

ومن علامات الموت النفسي أن البشر يكون خاليا من نسغ الحياة وطعمها وقيمتها ومعانيها، وكأنه أفرغ شحناتها في التراب، وأصبح موجودا ماديا خاويا.

فالحياة طاقة تسري في البدن، وإذا فقدها البشر سيكون ميتا نفسيا، وعازما على إنهاء وجوده البدني.

ويمكن إشاعة الموت النفسي بالمواعظ الموتية المتكررة، وبالمواقف المقرونة بآليات عاطفية إنفعالية عدوانية، تدفع لتفريغه من طاقة النفس، وتحيله أحطابا يابسة جاهزة للتحول إلى رماد.

وتلعب الطائفية والمذهبية وتوظيف الدين دورها في إنجاز الموت النفسي، ودفع البشر للإنتحار الفردي والجماعي بسهولة وإندفاعية خارقة.

ولهذا تجد رخص البشر في المجتمعات المرهونة بالتفاعلات الفئوية، لأن قادتها يعملون بتكرار ومواظبة وبإستحضارات إنفعالية وعاطفية سيئة، تقتل البشر نفسيا وتدمره روحيا، وتحوّله إلى أداة لتمرير رغباتهم وأهدافهم الشنعاء.

ومن هنا فأن الإنتحار كسلوك سيتعاظم في هذه المجتمعات، والسلوكيات المنحرفة ستتنامى، والميل للمخدرات وغيرها من المروعات سيتفاقم.

لأن الميت نفسيا لا يشعر، ويميل للإقتراب مما يدمره ويقضي عليه، فقد يلجأ إلى الإنتحار الفعلي الصاخب، أو السلبي الخنوعي، كالقتل البطيئ للبدن، لأن الموت النفسي ينفي وجوده ويحسبه عالة، ومأساة يجب أن تصل إلى خاتمتها الترابية.

فهل من قدرة على إحياء النفوس لا تمويتها؟!!

وفي الختام، فالموت ظاهرة طبيعية، لكن الموت العقلي اخطر منه وأشد تدميرا لمعاني الحياة، فالموت سنة الحياة، والموت العقلي عدوها، فعلينا أن نتنبه لميتتنا العقلية.

***

د-صادق السامرائي

في قلب ولاية كاليفورنيا المشمسة، حيث تتراقص اضواء التكنولوجيا وتتلاقى عقول المبتكرين، تقبع جامعة ستانفورد، شامخة كمنارة للعلم والمعرفة. ليست مجرد جامعة، بل هي قصة نجاح ملهمة، بدات بحلم، وتحولت الى صرح عظيم، يضيء دروب الاجيال.

منذ سنوات خلت، تشكلت لدي قناعة راسخة بجودة جامعة ستانفورد، وذلك من خلال علاقات علمية بحثية مشتركة في مجال زراعة الخلايا. فقد لمست عن كثب تفاني علماء الجامعة وتميزهم، وشهدت انجازات علمية عظيمة تحققت بفضل هذا التعاون المثمر.

ولعل ما يزيد اعجابي بهذه الجامعة هو شعار قسم الهندسة الحيوية (الرابط المشترك بيننا) والذي يجسد رؤيتها الطموحة: "بينما نستخدم الهندسة كفرشاة، وعلم الاحياء كقماش رسم، تسعى الهندسة الحيوية في جامعة ستانفورد ليس فقط الى الفهم بل ايضا الى الابداع". انه شعار ينم عن شغف اعضاء القسم بالابتكار وتطوير المعرفة، ويؤكد التزامهم بتجاوز حدود المالوف.

البداية: قصة حب ملهمة

تعود جذور هذه الجامعة العريقة الى قصة حب حزينة، ولكنها ملهمة. ففي عام 1885، فقد حاكم ولاية كاليفورنيا، ليلاند ستانفورد، وزوجته جين ابنهما الوحيد، ليلاند جونيور. وبدلا من الاستسلام للحزن، قررا تحويل محنتهما الى منحة، وانشا جامعة تحمل اسم ابنهما، لتكون منارة للعلم والمعرفة، ومصنعا للقادة والمبتكرين.

ستانفورد اليوم: صرح شامخ للابداع

تقف جامعة ستانفورد اليوم شامخة كواحدة من اعرق الجامعات العالمية، ومنارة ساطعة للابداع والابتكار. فهي تحتضن بين جدرانها نخبة من الاساتذة والباحثين المتميزين الذين يساهمون بشكل فعال في اثراء المعرفة الانسانية ودفع عجلة التقدم الى الامام. ولا يقتصر دور ستانفورد على تخريج العلماء والمهندسين المهرة، بل تسعى جاهدة ايضا الى تنمية مهارات ريادة الاعمال لدى طلابها، لتخريج قادة قادرين على احداث تغيير ايجابي في العالم.

ويعود الفضل في هذا التميز لعدة عوامل، لعل من ابرزها تبنيها لمفهوم الحريات الاكاديمية. وكما اجاب رئيس الجامعة على سؤال لماذا اصبحت ستانفورد جامعة من الطراز العالمي في غضون فترة قصيرة نسبيا من وجودها اجاب لان: "ستانفورد تكتنز الحرية الاكاديمية وتعتبرها روح الجامعة". هذه الحرية الاكاديمية التي تمنح للاساتذة والباحثين والطلاب، هي التي تشجع على البحث العلمي والتفكير النقدي والتعبير عن الاراء بحرية، مما يخلق بيئة محفزة للابداع والابتكار.

من بين افذاذ ستانفورد، نذكر:

ويليام شوكلي: الفيزيائي العبقري الذي اخترع الترانزستور، تلك القطعة الصغيرة التي احدثت ثورة في عالم الالكترونيات، وجعلت الاجهزة الذكية التي نستخدمها اليوم ممكنة.

جون فون نيومان: عالم الرياضيات الفذ الذي قدم اسهامات جليلة في علوم الحاسوب، والفيزياء، والاقتصاد. لقد وضع الاسس النظرية للحوسبة الحديثة، وكان له دور كبير في تطوير القنبلة الذرية.

سالي رايد: لم تكن ستانفورد مجرد جامعة للرجال، بل كانت حاضنة للمواهب النسائية ايضا. من بين خريجاتها المتميزات، سالي رايد، اول امراة امريكية تصعد الى الفضاء، لتثبت للعالم ان المراة قادرة على تحقيق المستحيل.

سيرجي برين ولاري بيج: هذان الشابان الطموحان، التقيا في ستانفورد، ليؤسسا معا شركة كوكل، التي اصبحت محرك البحث الاكثر استخداما في العالم، وغيرت الطريقة التي نجمع بها المعلومات ونتفاعل مع العالم.

هؤلاء وغيرهم الكثير، هم نتاج عقول تفتحت في رحاب ستانفورد، وتشربت من علمها ومعرفتها، ليصبحوا قادة ومبتكرين، غيروا وجه العالم. انهم شهادة حية على ان ستانفورد ليست مجرد جامعة، بل هي منارة للعلم والمعرفة، ومصنع للاحلام.

وادي السيلكون: قصة نجاح مشتركة

تعتبر ستانفورد شريكا اساسيا في نجاح وادي السيلكون، الذي اصبح مركزا عالميا للتكنولوجيا والابتكار. فقد ساهمت الجامعة في تخريج العديد من رواد الاعمال الذين اسسوا شركات تكنولوجية عملاقة، غيرت وجه العالم. كما انشات ستانفورد حاضنات اعمال ومراكز ابحاث، لدعم الطلاب والباحثين وتحويل افكارهم الى واقع ملموس.

ولكن، كيف اصبحت ستانفورد شريكا اساسيا في هذا النجاح؟

الامر لا يتعلق فقط بتخريج رواد الاعمال، بل يتعدى ذلك الى عوامل اخرى، منها:

تشجيع الابتكار وريادة الاعمال: لم تكتف ستانفورد بتدريس العلوم والتكنولوجيا، بل عملت ايضا على غرس ثقافة الابتكار وريادة الاعمال في نفوس طلابها. وشجعتهم على تحويل افكارهم الى مشاريع واقعية، وقدمت لهم الدعم والتوجيه اللازمين لتحقيق ذلك.

توفير بيئة محفزة: لم تقتصر ستانفورد على توفير المعرفة النظرية، بل انشات ايضا بيئة محفزة للابتكار وريادة الاعمال. وشجعت على التواصل والتفاعل بين الطلاب والباحثين واعضاء هيئة التدريس، وتبادل الافكار والخبرات.

انشاء حاضنات الاعمال ومراكز الابحاث: لم تكتف ستانفورد بتخريج رواد الاعمال، بل انشات ايضا حاضنات اعمال ومراكز ابحاث، لتوفير الدعم المادي والمعنوي للطلاب والباحثين، ومساعدتهم على تحويل افكارهم الى شركات ناشئة ناجحة.

جذب الاستثمارات: لم تكتف ستانفورد بتوفير الدعم للطلاب والباحثين، بل عملت ايضا على جذب الاستثمارات الى وادي السيليكون، من خلال بناء علاقات قوية مع الشركات والمستثمرين، وعرض الافكار والمشاريع المبتكرة عليهم.

وبفضل هذه العوامل وغيرها، اصبحت ستانفورد شريكا اساسيا في نجاح وادي السيليكون، وساهمت في تحويله الى مركز عالمي للتكنولوجيا والابتكار.

ومن الامثلة على ذلك:

شركة غوغل: التي تاسست على يد اثنين من طلاب ستانفورد، وهما سيرجي برين ولاري بيج.

شركة ياهو: التي تاسست ايضا على يد اثنين من طلاب ستانفورد، وهما ديفيد فيلو وجيري يانغ.

شركة هيوليت-باكارد: التي تاسست على يد اثنين من خريجي ستانفورد، وهما ويليام هيوليت وديفيد باكارد.

هذه الشركات وغيرها الكثير، هي دليل على الدور الكبير الذي لعبته ستانفورد في نجاح وادي السيليكون، وتحويله الى مركز عالمي للتكنولوجيا والابتكار.

ستانفورد: اكثر من مجرد جامعة

ستانفورد ليست مجرد جامعة، بل هي مجتمع حيوي، يجمع بين الطلاب من جميع انحاء العالم، ليتبادلوا الافكار والخبرات، ويبنوا مستقبلا مشرقا لانفسهم ولوطنهم. كما انها مركز للبحث العلمي، حيث تجرى ابحاث رائدة في مختلف المجالات، تساهم في حل المشكلات العالمية، وتحسين حياة الناس.

الخلاصة: ستانفورد، قصة نجاح مستمرة

باختصار، جامعة ستانفورد هي قصة نجاح ملهمة، بدات بحلم، وتحولت الى واقع ملموس. انها صرح شامخ للعلم والمعرفة، ومصنع للقادة والمبتكرين، ومركز للابداع والابتكار. وستظل ستانفورد تلهم الاجيال القادمة، وتساهم في بناء مستقبل مشرق للانسانية جمعاء.

***

ا. د. محمد الربيعي

بروفسور متمرس ومستشار علمي، جامعة دبلن

 

تتلخص "السلفية" في أنها دعوة للعودة لأخذ الإسلام من أصوله الصافية المتمثلة في الكتاب والسنة مشترطة "فهم سلف الأمة".

أو تعبير آخر، يقصد بالمنهج السلفي المنهج القائم على اتباع سبيل المؤمنين من السلف الصالح، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وهم في كل عصر الفئة التي قال عنها رسول الله صلى عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك.). رواه مسلم.

والمنهج السلفي من حيث البنية الفكريّة أو العقديّة، يعني أن من انتسب إليه وسلك سبيله (ليس بخارجي يستحل دم المسلم بالمعصية، ولا ممن يكفر الصحابة، ولا محرف متأول بالباطل ممن ينفي صفات الله وينفي معانيها، وليس مشبها لله بخلقه، ولا حلوليّاً ممن يقول بوحدة الوجود، أو أن الله قد حل في خلقه، أو صوفياً ممن يعبدون القبور ويقدمون لها النذور.). (1). إنه الطريق والنهج الذي سار فيه الصحابة والخلفاء الراشدون.

إن مسألة تأصيل الفكر السلفي الوثوقي الجبري وقوننته فقهيّاً وفلسفيّاً، بدأت إرهاصاتها الأولى في نهايات القرن الأول للهجرة مع المالكي والشافعي وابن حنبل، مرورا بتلامذتهم مثل، أبو حسن الأشعري وأبو حامد الغزالي، البيهقي والباقلاني والقشيري والجويني والفخر الرازي والنووي والسيوطي والعز بن عبد السلام والتقي السبكي وابن عساكر وغيرهم الكثير. فكل هؤلاء التلاميذ آمنوا إيماناً مطلقا بدور النقل على حساب العقل، وقياس الشاهد على الغائب، وأن صريح العقل لا يخالف صحيح النقل، وأن الحسن والقبيح هو ما حسنه الشرع أو قبحه، كما نظروا في أصول الدين كالصفات والقدم والمحدث وكل ما بيناه أعلاه في البنية الفكريّة او العقديّة لهذا التيار. وإذا اضطروا لاستخدام العقل كما استخدمه الشافعي وغيره فيما بعد في القياس، أو كما استخدمه الأشاعرة في نظرية الكسب، فيأتي استخدام العقل هنا للاستدلال والاستقراء أو البحث عن دليل في النص أو الأثر ليشير عن ما هو محدث او مستجد من أمور الحياة. أو بتعبير آخر، يأتي استخدام العقل في هذا المنهج لتثبيت النص والأثر وليس للحكم عليهما، لأن ما تم في الزمن الذي حدد أصحاب هذا التيار (القرون الهجرية الثلاثة الأولى)، صحته وضرورة الالتزام به، وهو زمن مقدس ولا نقاش أو رأي في ما ورد فيه من فكر وسلوكيات. كما أن التقديس راح يشمل فيما بعد أقوال فقهاء هذا المنهج السلفي أنفسهم.

لنعود وننظر في آراء من أصل لهذا التيار السلفي الجبري، حيث يعتبر الشافعي /150- 205/ للهجرة، هو أول من أصل قواعد الفقه السلفي في صيغته الوثوقية التي جئنا عليها، عندما حدد المراجع الأساسيّة للتشريع الإسلامي بالقرآن والحديث والإجماع والقياس، وإذا كان القرآن وما اتفق عليه من الحديث الصحيح هي مسائل ثابتة، فإن الإجماع جاء عنده مقتصراً على إجماع علماء الدين من أهل السنة، أو إجماع أهل المدينة، أما القياس فهو البحث عن دليل شرعي لكل محدث أو مستجد لم يرد فيه نص أو أثر، ودور العقل في القياس (الجزئي) – أي قياس الجزء على الجزء - هنا هو البحث عن دليل في هذه المصادر الأساسيّة وليس لابتداع دليل.

يقول الشافعي حول ضرورة التمسك بالنص المقدس والأثر: (لم يجعل الله لأحد بعد رسول الله أن يقول إلا من جهة علم مضى.).(2). وعلى هذا يأتي قياس الجزء على الجزء، أو الشاهد على الغائب فاعلاً وحيويّاً في إصدار الفتوى، وكل جديد لا يوجد سند صريح له أو شبيه به، فهو بدعة.

إن الماضي عند الشافعي يأتي هنا بصريح لفظه متمسكاً بالعلم الوحيد في الإسلام، فلا يحل أو يحق لجيل لاحق أن يحكم أو يفتي أو يفكر لنفسه، إلا ويكون مستنداً إلى حكم أو فتوى أو فكر الأجيال السابقة. وبالتالي فكل المحدثات من الأمور هي بدعة كما بينا اعلاه، وهذ     ا ما أورد ابن القيم الجوزي عن الشافعي قوله: (المحدثات من الأمور ضربان أحدهما، ما أحدث يخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو أثراً، فهذه البدعة الضلالة). (3).

أما بالنسبة لأحمد بن حنبل المتوفى سنة /284/ هـ، فهو الممثل الرئيس لمدرسة الرواية أو الحديث، وهي المدرسة التي تأخذ بالحديث حتى المرسل والضعيف منه وترجحه على الأخذ بالرأي والقياس. فالحديث الضعيف عند ابن حنبل (أهم من الرأي)، وكذلك الخبر الضعيف). فابن حنبل يحارب الأخذ بالرأي ويلتمس الخبر ولو كان ضعيفاً، هذا وقد روي عن ابنه "عبد الله" قوله: ( سمعت أبي يقول: لا تكاد ترى أحداً نظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل.).(4). والدغل هو فساد الرأي.

هذا ويعتبر ابن حنبل من أكثر الفقهاء تشدداً بالنسبة للتيار السلفي، وأن معظم من اشتغل على هذا التيار وأخذ به يعتبر ابن حنبل أستاذه، وفي مقدمة هؤلاء " أبو حسن الأشعري".

أما أبو حسن الأشعري المتوفى سنة /324/ هـ، وهو المعتزلي أصلاً، ثم تخلى عن فكره القدري المعتزلي الذي اعتنقه أربعين عاما، ليلتحق بالفكر السلفي بعد أن راح أصحاب الفكر السلفي يُلاحقون من يقول بالقدر، وشُكلت لهم محاكم التفتيش منذ مرسوم المتوكل عام 232 للهجرة الذي أصدره لمعاقبة كل من يقول بالرأي، واعتماد العقل مرجعاً للحكم على مستجدات الحياه.

لقد انبرى "الأشعري" مدافعاً عن مقولات ابن حنبل بعد أن تبنى آراءه وهو القائل في ذلك: ( قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها هي التمسك بكتاب الله وسنة نبينا محمد (ص) وما روي عن السادة الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون بما كان يقول به "أبو عبد الله أحمد بن حنبل" نضر الله وجهه وأجزل مثوبته قائلون، ولما خالف قوله مخالفون.).(5). وبهذا الموقف السلفي أصبح تياره فيما بعد الممثل الأكثر حضوراً للتيار السلفي الوثوقي الجبري في صيغته الحنبليّة الضيقة، وبالرغم من إشكاليّة الأشعري الواقعة بين رغبته في مدرسة الحديث من جهة، وبين انشقاقه عن المعتزلة وتأثره بدور العقل من جهة ثانية، وللخروج من هذه الإشكاليّة راح يستخدم العقل لتثبيت النص وليس للحكم عليه، أي استخدام العقل لنفي العقل. هذا وقد اعتبر الأشاعرة كتيار ديني سلفي من التيارات الأساسيّة التي توافق الخط العام السياسي للسلطات الحاكمة سابقاً ولاحقاً، أو ما يسمى بـ (التيار المدخلي).

والأشعري من الوجهة السياسيّة بإيمانه أو قوله بالإجماع في زمن وجوده هو، كان يلتمس الشرعيّة في فعل السلف وما ينسب إليهم من الإجماع على اختيار أبي بكر وعمر وعثمان، وذلك لنفي مقولة المعارضة الشيعيّة بالوصيّة لعلي وأبنائه من بعده.

على العموم، إن أبي حسن الأشعري في المحصلة أصل للسلفيّة من حيث العقيدة، في الوقت الذي أصل لها الشافعي فقهيّاً. أي هو من ولج باب الأصول أكثر من الفروع، في مسألة القضاء والقدر، وطرحه لنظرية (الكسب) التي جاءت أساساً لتبرير الجبر على حد قول ابن تيمية (حاول الأشعري في نظرية الكسب أن يخرج من الجبر فوقع فيه.). وهو من تحدث أيضاً بالصفات العقلية (العلم. الحياة. القدرة. الإرادة. الكلام. السمع. البصر.)، واعتبرها من ذات الله، وتكلم بمفهوم العدل والحسن والقبيح الشرعيين، وأنكر السببيّة، وقال ليس من قديم سوى الله أما العالم المادي فمحدث.

أما الغزالي المتوفى سنة /505/ هـ، وهو تلميذ أبي حسن الأشعري فقد تمسك بفكر أستاذه، في الوقت الذي فتح فيه الحدود بشكل (تلفيقي) بين الفلسفة والمنهج السلفي، بالرغم من بقائه محاربا للفكر العقلاني برده على الفلاسفة في كتابه المشهور (التهافت). فالغزالي واجه الفلاسفة الذين قالوا إن الله لا يعلم إلا بالكليات، أما الجزئيات فلا، والغزالي يقول: (بأن الله خلق العالم بإرادة حرّة قديمة وهو قادر على الإحاطة الكليّة والجزئيّة بهذا العالم. كما يقول: إن حقائق الأمور الإلهيّة لا تنال بنظر العقل وليس بقوة البشر الاطلاع عليها.). (6). كما حاول إقحام التصوف في الفكر السلفي حيث اشتغل على هذا الفكر والتقى مع المتصوفة في الكثير من أفكارهم، واختلف معهم في قضية (وحدة الوجود) حتى ولو على أساس روحي، كون هذا المبدأ يرمي في النهاية إلى إنكار الواحد الأحد المفارق والعلوي.

ملاك القول:

لا يمكن الحديث عن السلفية بوصفها تيارا دينيا – أو سياسيًا – واحدًا، فالحق أن هناك العديد من " السلفيات " التي تتباين رؤاها الدينية ومواقفها السياسيّة، بدءًا بالتيارات التي تحرم – قطعيًّا – الخروج على الحاكم و" إن أخذ مالك وضرب ظهرك " وانتهاءً بالسلفيّة القتاليّة التي تبيح الخروج على الحاكم ومواجهته بالسلاح إذا لم يطبق ما أنزله الله، وتراه طاغوتًا يحكم بهواه رافضًا حكم الله الذي لا حكم إلا له .

وعلى الرغم من الموقف المبدئي الذي يكاد تجمع عليه أغلبية التيارات السلفية وهو (رفض المشاركة السياسيّة للمختلف)، باعتبار الديمقراطيّة نظامًا علمانيًّا مستعارًا من الغرب الكافر، وهذا ما يجعلها تتفرد بالسلطة، وتنظر بعين عدم الرضا للمختلف، وتعمل على إقصائه فكريا وسياسياً. إضافة لرفضها مفاهيم الدولة المدنيّة القائمة على المواطنة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية

................................

الهوامش:

1- (موقع إسلام ويب – حقيقة المنهج السلفي). بتصرف

2- عبد الجواد ياسين- السلطة في الإسلام – المركز الثقافي

العربي –ط1- 1998- ص69

3- المرجع نفسه- ص 69.

4- المرجع نفسه- ص 72.

5- المرجع نفسه. ص- 55 .

6- الطيب تيزيني- من اللاهوت إلى الفلسفة العربية الوسيطة - القسم الثاني- دمشق – وزارة الثقافة- 2005– ص 253.

يقدم مؤرخو الفلسفة الإسلامية اسباباً عديدة لمحنة ابن رشد أو نكبته التي تعرض لها عام 1196 م، فيذهب البعض الى أنَّه تحدث بما لا يليق ومقام الملوك في شرحه لكتاب الحيوان لأرسطو، بينما يذهب البعض الاَخر الى ان سببها هو ما تحدث به عن كوكب الزهرة بما جرى العرف عليه عند اليونان، إذ اعتبرها من الاَلهة، ويبدو ان كل هذه الاسباب كانت اسباباً ظاهرة، أما السبب الحقيقي فهو هجومه الشديد على علماء الكلام مما دفعهم الى الوشاية به والانتقام منه، وتلك ظاهرة طالما تكررت في مشرق الإسلام ومغربه.

تنوعت مؤلفات ابن رشد، بين الفلسفة، وتلخيص أو شرح مؤلفات أرسطو، فضلاً عن المصنفات الطبية والفقهية والادبية واللغوية، ويمكن تصنيف مؤلفاته الى تفسيرات أو شروح لكتب أرسطو، وتلخيصات لهذه الكتب، وجوامع صغار يتحرر فيها من نص أرسطو وسطوته، لينتج مؤلفات أصيلة، في مقدمتها كتبه الشهيرة " تهافت التهافت" وهو رد على كتاب " تهافت الفلاسفة " لأبي حامد للغزالي، و" فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال"، و" الكشف عن مناهج الادلة في عقائد الملة"، و" ومقالة في اتصال العقل بالإنسان"، ناهيك عن كتابه " بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه" الذي طبع مرات عديدة.

كان ابن رشد أكثر من شارح لأرسطو، اذ اضاف الجديد ليكمل نظريات المعلم الأول التي تركها معلقة دون ان يقول فيها الكلمة الأخيرة، أو ليوضح مواطن الغموض فيها. لكن حياته لم تطل بعد تلك المحنة، فتوفي بعدها بسنتين ودفن في مراكش قبل أن يتم نقل رفاته إلى قرطبة ليدفن بجوار أبيه .

صورة متخيلة تجمع بين ارسطو وابن رشد أنشأها الذكاء الاصطناعي بحسب طلبي

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

 

من أجل عولمة عادلة

(ليس في الليل نجوم، وأنْ لا شيءَ سوى خفافيشَ وأبوامٍ والقمر المجنون؟)... فريدريك نيتشه

يبدو اليوم ان سخرية نيتشه ونقده للطبيعة البشرية ورؤيتَه المرعبة للمستقبل قبيل بداية القرن العشرين قد أضحت واقعا ملموسا بداية من الحرب العالمية الأولى والثانية ووصولا الى المجازر الجماعية في غزة وارتفاع معدّلات الفقر العالمي مما يستلزم كما يقول جوناثان غلوڤر النظرَ بقوةٍ ووضوح إلى بعض الوحوش التي بداخلنا، والنظرَ في طرق ووسائل حبسها وترويضها لاسيما في عصرنا هذا الذي يشهد يتما سياسيا وثقافيا.

وعلى الرغم من انه يتم الاحتفال باليوم العالمي للعدالة الاجتماعية في 20 فبراير من كل عام. وتذكير الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ عام 2007 الى الحاجة إلى بناء عالم أكثر عدلا وإنصافا وحث جميع الجهود لمكافحة البطالة والاستبعاد الاجتماعي والفقر الا ان هناك فجوة بين ما هو مأمول وما هو واقع بالفعل. مما يدفعنا الى ترديد قول (بورك):" أن العدالةَ ليست مسألةَ تفكير على الإطلاق؛ بل مسألة أن تكونَ لدى المرء حساسيةٌ مناسبة وأنفٌ صحيح يشتَمُّ به الظلم" ولا نجافي الصواب إذا افترضنا أنَّ الباريسيين ما كانوا ليقتحموا الباستيّ وغاندي ما كان ليواجهَ الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، ومارتن لوثر كينغ ما كان ليكافحَ سيادةَ العرق الأبيض في ‘أرض الأحرار ووطن الشجعان، وثوار الجزائر الاحرار ما كان لهم ان يقفوا في وجه فرنسا الاستعمارية لولا إحساسهم بالمظالم الواضحة التي يمكن رفعُها. لم يكونوا يحاولون التوصلَ إلى عالمٍ من العدالة الكاملة (حتى لو كان هناك اتفاق حول ما سيكون هذا العالَم)، لكنهم أرادوا أن يرفعوا المظالم الواضحة بالقدر الذي يستطيعون. وبهذا المعنى أيضا يمكن فهم القول المأثور لعمر بن الخطاب رضي الله عنه "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا " فهي صرخة كل عادل اوليس العدل أساس الملك.

الفلسفة الكلاسيكية ومشكلة العدالة الاجتماعية بين التفاوت والمساواة

تعتبر الثورة من منظور الفكر الفلسفي محاولة لتغيير الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية تغييرا جذريا ، إنها رفض لكل أشكال الظلم والاستبداد، والبشرية حاولت منذ القديم من خلال الثورات المختلفة  التحرر من قيود الطغيان والظلم  في محاولة لبناء مجتمع مدني متحضر على أسس العدالة الاجتماعية باعتبار ان العدل  قيمة أخلاقية سامية، وهو من اعم الفضائل الأخلاقية التي اهتم بها الفلاسفة ورجال الدين والقانون وهي يعني لغويا الاستقامة والمساواة ونقيضه الظلم وقد عرفه الجرجاني بقوله  « العدل هو الامر المتوسط فلا افراط ولا تفريط » ولكن هل يعني هذا ان كل تفاوت ظلم وكل مساواة عادلة؟

هناك من الفلاسفة ورجال الفكر والعلم من رأى بأن العدالة الاجتماعية يكمن شرطها في إحترام التفاوت بين الناس وقصدوا بذلك التفاوت في التركيبة العضوية والقدرات العقلية والأدوار الاجتماعية حيث ان هناك تفاوت بين الناس  في قدراتهم ومختلف مجالات الحياة ،و التفاوت نوعان:  التفاوت الطبيعي، وهو راجع لفروق فردية بين الناس في قدراتهم العقلية؛ مثل الذكي، والضعيف عقليا، القوي الذاكرة، وضعيف الذاكرة ومواهبهم الجسمية: القوي جسديا، والضعيف بدنيا . والتفاوت الاجتماعي: وهو راجع لفروق بين الناس في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الرئيس  والمرؤوس، العالم والجاهل، رب العمل والعامل، تعود هذه الأطروحة إلى "أفلاطون" الذي حاول رسم معالم المجتمع العادل من خلال فكرة التفاوت الطبقي واعتبر المجتمع العادل هو الذي يحكمه الفلاسفة فالفلاسفة أولاً ثم الجنود وأخيرا طبقة العبيد، وقال في كتابه [الجمهورية]{يتحقق العدل في المجتمع عندما تقوم كل طبقة بالأدوار المنوطة بها والمتناسبة مع مواهبها} ومثل ذلك كمثل قوى النفس فالقوة العاقلة هي التي يجب أن تتحكم وتسيطر على القوة الغضبية والشهوانية. وفي العصر الحديث نظر الجراح الفرنسي "ألكسيس كاريل" إلى العدالة الاجتماعية من منظور علمي حيث رأى أن النظام الطبيعي مبني على فكرة الطبقات البيولوجية وهي ضرورية لخلق توازن غذائي وتوازن بيئي والنظام الاجتماعي العادل هو الذي يحترم التفاوت قال في كتابه[الإنسان ذلك المجهول] {في الأصل ولد الرقيق رقيقا والسادة سادة حقا واليوم يجب ألا يبقى الضعفاء صناعيا في مراكز الثروة والقوة . . . لا مفر من أن تصبح الطبقات الاجتماعية مرادفة للطبقات البيولوجية}وحجته ان هذا النظام يسمح لأصحاب المواهب من الارتقاء في السلّم الاجتماعي سواء الذين يمتلكون القدرات البدنية أو العقلية، وهذه الأفكار سرعان ما تجسدت عند أصحاب النزعة الليبرالية حيث أن المجتمع الرأسمالي يتكون من ثلاث طبقات (طبقة تملك وسائل الإنتاج ويوكلون استعمالها للأجراء، وطبقة تستخدم هذه الوسائل بنفسها، وطبقة الأجراء) وفي تفسير ذلك قال "آدم سميث" في كتابه [بحوث في طبيعة وأسباب رفاهية الأمم]{المصلحة العامة متضمنة في المصلحة العامة والتنافس شرط العدالة الاجتماعية} واستقراء التاريخ يؤكد أن كثيرا من الشعوب قامت على فكرة الطبقية مثل الشعب اليهودي الذي يعتقد أنه شعب الله المختار وعندهم لا يعقل أن يتساوى اليهودي في الحقوق مع بقية البشر أما في الفلسفة المعاصرة، فقد أكد الفيلسوف الألماني نيتشه بأن التفاوت قائم بين الناس، حيث قسم المجتمع إلى طبقتين، وهما طبقة الأسياد وطبقة العبيد، وللأسياد الملكية والحكم للعبيد واجب الطاعة والاحترام وخدمة الأسياد.

وفي المقابل هناك من اكد على أن العدل يكمن جوهره في احترام مبدأ المساواة بين الناس وشعارهم أن المساواة الاجتماعية امتداد للمساواة الطبيعية وبهذا المعنى يصبح كل تفاوت ظلم وكل مساواة عادلة ويبرر أصحاب هذه الاطروحة موقفهم بجملة من الحجج منها  أن الأفراد بحكم ميلادهم تجمعهم قواسم مشتركة كالحواس والعقل والقدرة على التعلم وهذا ما اكد عليه الخطيب الروماني  "شيشرون":  الناس سواء وليس شيئا أشبه بشيء من الإنسان بالإنسان، لنا جميعا عقل ولنا حواس وإن اختلفنا في العلم فنحن متساوون في القدرة على التعلّم} وفي الفكر الإسلامي رأى "محمد اليعقوبي " في كتابه [الوجيز في الفلسفة] أن مفهوم الفلسفة مصدره الشريعة الإسلامية لأن الجميع يتساوى في الأصل والمصير، "قال تعالى" {يا أيّها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} ومن الذين رفضوا التفاوت ودافعوا عن المساواة الفيلسوف "برودون" الذي رأى أن مصدر الحقوق هو الجهد وليس التفاوت الوراثي فقال: {هناك على ضرورية لا مفرّ منها في التفاوت الجسمي والعقلي بين الناس فلا يمكن للمجتمع ولا للضمير الحدّ منها، لكن من أين لهذا التفاوت المحتوم أن يتحوّل إلى عنوان النبل بالنسبة للبعض والدناءة للبعض الآخر}. هذه الأفكار تجسّدت عند أصحاب المذهب الاشتراكي من خلال التركيز على فكرة [المساواة الاجتماعية] التي هي أساس العدالة الاجتماعية وهذا ما أكّد عليه "فلاديمير لينين" من برنامج الحزب الشيوعي السوفياتي {الاشتراكية نظام اجتماعي لا طبقي له شكل واحد للملكية العامة لوسائل الإنتاج والمساواة الاجتماعية الكاملة بين أفراد المجتمع}

والواقع ان السعي لتحقيق العدالة الاجتماعية يشترط تحديد أسباب الظلم من أجل رسم معالم العدل وهذه حقيقة تحدّث عنها "أرسطو" قائلا {تنجم الخصومات عندما لا يحصلون أنا متساوون على حصص متساوية أو يحصل أناس غير متساوين على حصص متساوية} من هذا المنطلق لا بد من الاعتماد على[معيار تكافؤ الفرص] وكذا [الاستحقاق والمكافأة] وفق شروط اقتصادية حيث توزع الثروات بين الناس (العدل في التوزيع) وشروط قانونية وفيها تُسنّ قوانين تضمن السكينة والأمن للجميع وهذا ما أكد عليه المفكر زكي نجيب محمود عندما قال انه ينبغي ان يكون لكل مجال من مجالات الحياة أساسه ففي مجال القانون والقضاء لابد من احترام مبدأ المساواة اما في مجال التعليم والمناصب لابد للعدل ان يكون مبصرا ويميز بين من يستحق ومن لا يستحق .

من الإحساس بالظلم الى بناء مؤسسات عادلة

في كتابه فكرة العدالة أشار امارتيا سن أشار الى انه قد حاول الذين كتبوا في العدالة، على مدى مئات السنين، في مختلف أرجاء العالم، تقديمَ أساسٍ فكري للانتقال من الإحساس العام بالظلم إلى التحليل الفكري الدقيقِ له، ومن ثم إلى تحليل طرق إعلاء العدل. ولتقاليد التفكير في العدل والظلم تاريخٌ طويل – ومدهش – في العالم أجمع، يمكن أن نقتبسَ منه آثاراً مضيئة للتفكير في العدالة ومنها نظرية العقد الاجتماعي ويدور ‘العقد الاجتماعي، الافتراضي، المُفتَرَض أنه يُختار [بالاتفاق]، كما هو معروف حول بديلٍ مثالي للفوضى لولاه لسادت هذه المجتمع، ولَمَّا كانت أبرزُ العقود الاجتماعية التي نوقشت تتعلق باختيار المؤسسات. فقد كانت النتيجة النهائية أنْ ظهرت نظرياتٌ في العدالة تُعنى في المقام الأول بالتحديد المافوقي لمؤسساتٍ مثالية.

وبعكس المؤسسية المافوقية، يتخذ عددٌ من منظّري عصر التنوير الآخرين مقارباتٍ نسبيةً متنوعةً تُعنى بالواقع الاجتماعي (الناتج عن المؤسسات الفعلية، والسلوك الفعلي، وغيرِ ذلك من مؤثرات). يمكن أن نجدَ أشكالاً مختلفة للفكر المقارن، مثلاً، في أعمال آدم سميث، والمركيز دو كوندورسيه، وجيريمي بنتام، وماري وولستونكرافت، وكارل ماركس، وجون ستيوارت ميل، بين عددٍ من قادة الفكر التجديدي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وبالرغم من أن هؤلاء الكتَّاب، بآرائهم المختلفة جداً لمتطلبات العدالة، اقترحوا طرقاً متباينةً كلَ التباين في مقارناتهم الاجتماعية، يمكن القول، بقليلٍ من المبالغة، إنهم كانوا كلهم يقارنون مجتمعاتٍ موجودةً أصلاً أو يمكن أن تنبثقَ عملياً، بدل الاقتصار على التحليل في بحثهم المافوقي عن المجتمع العادل تماماً.

بدعوى هوبس – وراولز – أننا نحتاج إلى دولةٍ ذات سيادة لتطبيق مبادئ العدالة من خلال اختيار مجموعةٍ مثالية من المؤسسات: وهذا انعكاسٌ مباشر لأخذ مسائل العدالة في إطار المؤسسية المافوقية. وسوف تتطلب العدالةُ العالميةُ الكاملة، من خلال مجموعةٍ من المؤسسات العادلة تماماً، إنْ أمكنَ إيجادُ هكذا شيء، حتماً دولةً عالمية ذاتَ سيادة، وفي غياب مثل هذه الدولة، تبدو مسائلُ العدالة العالمية للمافوقيين غيرَ واردة.

العدالة كإنصاف

من توماس هوبس في القرن السابع عشر، ثم من جون لوك وجان-جاك روسو وعمانويل كانط، بين آخرين. كانت المقاربة العقد-اجتماعية هي المهيمنة في الفلسفة السياسية المعاصرة، لاسيما منذ أن طَلَعَ جون راولز بمقالته الرائدة (‘العدالة بصفتها إنصافاً،،Justice as Fairness،) سنة 1958 التي سبقت كلمتَه النهائية في تلك المقاربة في كتابه الكلاسيكي نظرية في العدالة .

عمل جون راولز على طرح سؤال العدالة الاجتماعية لاسيما في  كتابه A Theory of Justice الصادر عام 1971 والذي تُرجم إلى اثنتي عشرة لغة. وفي نظره لكي يكون الشيء عادلاً، لا يمكن استغلال أي شخص أو إجباره على الخضوع للمطالبات التي تبدو غير شرعية. مبادئ العدالة من وجهة نظره ، مبادئ عامة وعالمية ،. لكن بمرور الوقت، استخدمها نقاد النظرية فقط كمعيار لدراسة وقياس المجتمعات الديمقراطية، قائلين إن المجتمعات ذات الهيكل الديمقراطي فقط هي التي يمكن قياسها من خلال هذه المبادئ. لبناء مجتمع عادل يعرّف رولز العدالة في المقام الأول على أنها العدالة الإجرائية لم يرغب رولز في أن تُفهم نظريته على أنها دليل عملي للإصلاح، بل كغذاء للفكر حول مبادئ مثل هذا الإصلاح.

تساءل في كتابه العدالة كإنصاف: عندما ننظر الى المجتمع الديمقراطي نظرة تعتبره نظاما منصفا من التعاون الاجتماعي بين مواطنين معتبرين أحرارا وتساوين نسال ما المبادئ التي تلائمه اكثر من سواها؟ ويقتضي هذا التساؤل التفكير في تطبيق العدالة الاجتماعية بطريقة عملية وهذا الامر مشروط بتقاطع وتوافق المؤسسات السياسية مع المؤسسات الاجتماعية وكيف تجتمع وتتناسق وتتكامل انطلاقا من منظومة أخلاقية ،صحيح ان السلطة السياسية هي دائما سلطة اكراهية الا انها سلطة مواطنين يفرضونها على انفسهم مواطنين احرارا ومتساوين وقد أشار الى ذلك جون جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي قائلا : " ان القابضين على السلطة التنفيذية ليسوا اسياد الشعب بل هم موظفوه او خدامه ..ان الشعب يقدر ان يعينهم وان يقيلهم كما يشاء " وهكذا المجتمع  الحسن التنظيم هو المجتمع الذي ينظمه وبكفاءة مفهوم سياسي للعدالة وذلك بوجود قضاء مستقل وتحديد قانوني للملكية وبناء الاسرة للوصول الى العدالة الأخلاقية من خلال قوتين أخلاقتين هما الشعور بالعدالة كالتزام والزام أخلاقي والقدرة على الارتقاء الى الخيرية وهنا يظهر البيان الأولي لمبادئ راولز للعدالة كما يلي:

المبدأ الأول: لكل فرد الحق في الحصول على أعلى الحريات المتوافقة مع نفس الحريات مثل الآخرين. معنى المبدأ الأول هو أن الحرية الأساسية كحق عالمي يجب أن يتمتع بها الجميع ويمكنهم استخدامها على قدم المساواة. يسبق مبدأ الحرية (المبدأ الأول) مبدأ المساواة (المبدأ الثاني) ، وهذا هو الحال دائمًا. لذلك إذا كان لمبدأ الحرية أن يتغير، فلن تقيد الحرية إلا الحرية. هذا يعني أنه، على سبيل المثال، إذا كان هناك تعارض بين حريتين، فسيتم النظر في الحرية التي ستفيد العدد الأكبر من الناس. تنبع هذه الأسبقية من سببين: أ) حكمة الناس الذين اختاروا هذين المبدأين كمعيارين لعدالة البنية الاجتماعية ومحتواها ، وب) مبدأ الترتيب الأبجدي والأولوية

المبدأ الثاني : يجب تنظيم التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية بطريقة: أ) بشكل معقول يعود بالفائدة على الجميع. ب) تعتمد على الوظائف والوظائف التي يمكن للجميع الوصول إليها ويستخدم جون راولز في نظريته للعدالة هذين المعيارين لقياس عدالة أو عدم عدالة مؤسسات المجتمع المختلفة مثل النظام السياسي ، والهيكل الاقتصادي ، والدساتير ، ونظام التعليم ، وملكية الموارد الاقتصادية ووسائل الإنتاج ، والقضاء والمؤسسات الأخرى تعتبر المجتمع مهمًا وأساسيًا.

ولتمكين المواطنين من التطور بما فيه الكفاية وترسيخ البعد الأخلاقي للعدالة لابد من تحديد المنافع الأولية التي يحتاجها ويطلبها الأشخاص باعتبارهم أحرارا ومتساوين هنا تظهر الحاجة الى التمييز بين أنواع خمسة من المنافع[6]:

01-        الحقوق والحريات الأساسية: حرية التفكير وحرية الضمير وغيرها للتطور الكافي عبر مؤسسات ديمقراطية

02-        حرية الحركة وحرية اختيار الوظيفة من بين فرص متنوعة تسمح بالنضال لغيات مختلفة وفق مبدأ تكافؤ الفرص

03-        إمكانية الارتقاء وبلوغ مراكز السلطة والمسؤولية والتمتع بقوى وامتيازات هذه الوظائف

04-        المدخول والثروة كوسائل لبلوغ هذه الأهداف

05-        الأسس الاجتماعية لاحترام الذات.

لا يمكن الفصل بين حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية

ستحتفل منظمة العمل الدولية بهذه المناسبة هذا العام بسلسلة من خمسة فعاليات ستعقد في المدن الكبرى حول العالم. ستجمع الأحداث متحدثين رفيعي المستوى من جميع أنحاء عالم العمل لمناقشة كيفية وضع العدالة الاجتماعية في صميم جداول أعمال السياسات الدولية والوطنية والإقليمية. حيث أعلن مفوّض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك قائلًا: "تنحرف خطة التنمية المستدامة لعام 2030 المترسّخة في حقوق الإنسان، عن مسارها. كما أنّ معدّلات الفقر العالمي ارتفعت لأول مرة منذ أكثر من عقدَيْن. إلاّ إنّ الاقتصاد القائم على حقوق الإنسان يسعى إلى معالجة الأسباب الجذرية والعوائق الهيكلية التي تحول دون تحقيق المساواة والعدالة والاستدامة، من خلال منح الأولوية للاستثمار في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"

إن تعزيز التحول العادل نحو مستقبل مستدام يعني التأكد من أن توجهنا نحو اقتصادات منخفضة الكربون يعود نفعا للجميع، وبخاصة الفئات الأشد ضعفًا. ويتطلب ذلك نهجًا شاملاً يدمج الاستدامة البيئية مع العدالة الاجتماعية، ويضمن حصول العمال والسكان الأصليين والمجتمعات المهمشة على الدعم الذي يحتاجون إليه ببرامج إعادة التدريب، وإيجاد فرص العمل، وإتاحة تدابير حماية اجتماعية قوية. وبعبارة أخرى، يجب أن تسير جهود إزالة الكربون والتحول الاقتصادي جنبًا إلى جنب مع السياسات التي تحارب الفقر وتحد من التفاوت وتفتح الفرص للجميع. وفقًا لتورك، "يضمن الاقتصاد القائم على حقوق الإنسان أن تسترشد نماذج الأعمال والسياسات الاقتصادية بمعايير حقوق الإنسان، كما يتيح مزيجًا متكاملًا من السياسات الاجتماعية والاقتصادية الموجهّة نحو البعثات، تنهض بكل هدف وغاية من أهداف التنمية المستدامة، بما في ذلك على وجه التحديد إنهاء التمييز ضد النساء والفتيات والأقليات العرقية والإثنية واللغوية."

وأضاف تورك أنّ الاقتصاد القائم على حقوق الإنسان يساهم أيضًا في تعزيز التوزيع العادل للموارد، ما يخفّف بدوره من عدم المساواة داخل البلدان وفي ما بينها. وقال: "إن اقتصاد حقوق الإنسان هو اقتصاد يرسّخ الأهداف والأساليب الأساسية لحقوق الإنسان في كل سياسة وعملية صنع قرار، بما في ذلك ما يتعلّق بالضرائب والاستثمار وجميع قضايا تخصيص الموارد في الميزانيات الحكومية."

***

علي عمرون – تخصص فلسفة

 

يستوقفنا التساؤل حول العقيدة والدين أو حول الإيمان والعقيدة؛ ليقيم جدلاً نظريّاً إزاء ما يمكن طرحه عند دلالة المفاهيم المستخلصة؛ لتشكل رؤية قائمة مع كل مفهوم مطروح.

ولا شك أنّ جدل الأسئلة المطروحة يثير كثيراً من التساؤلات الفرعيّة ويتوقف الإجابة عليها على فعل القناعات الإيمانية والمعتقدات التي تواكب تأصّلها في الفكر والشعور؛ فنحن نضيف العقيدة أحياناً إلى الفكر كما نضيفها إلى الدين، فنقول “العقيدة الدينية” لتميزها عن العقائد الفكريّة سواء لدى الفلاسفة أو المفكرين أو الأدباء أو العلماء، فكل هؤلاء وأولئك لهم عقائدهم في مجرى التفكير والشعور، بمقدار ما لهم كذلك آراء تخصّهم أو تخص غيرهم ممّن يحيون على تلك الآراء عقائد يطبقونها على حياتهم الفعليّة ويقيمون عليها مجدّداً محاور البناء.

لا نشك في عموم الدين من حيث التّوجه به إلى أصل القداسة شعوراً من أعمق الأسس النفسية في كل ديانة؛ لأن شعور القداسة هذا هو الأصل الأصيل لكل حاسّة جديرة أن توصف بالصفة الدينيّة وتنبني عليها عقائد المؤمنين، ولولاها لما كانت ديانة على الإطلاق.

* أيّهما الأعمُّ الشامل وأيهما الأخص الأضيق: العقيدة أم الدين؟

بصرف النظر عن تلك النظرة المنطقية المُقنَّنَة القائمة على معيار العموم والخصوص وتكييف الأجوبة بناءً على هذه النظرة، ومع تقديري الشديد للنظر إلى جهة المنطق، واعتبار تلك النظرة المعياريّة المحدودة من جهة المنطق هى المحك النظري؛ إذْ كانت نسبة العموم والخصوص المفترضة في السّؤال غير ممكنة.

أقول؛ نعم هى غير ممكنة من جهة المنطق! ولكن لا يُقاس الدين ولا العقيدة الدينية بمعيار المنطق، وإنما معيار المنطق يجوز أن يفعّل في النتاج لا في الأصول، ويجوز أن يُرى في الوقائع لا في الأطر النظريّة.

وإذا نحن قلنا عقيدة دينية ونسبناها إلى الدين عزّ علينا أن نجرّدها من شعور القداسة، ويبقى معناها لازماً فيما يشتمل عليه وجدان المفكر في العصر الحديث؛ فهي من ثمَّ طريقة حياة لا طريق فكر ولا طريقة منطق ولا طريقة دراسة.

لا معنى للعقيدة الدينية عندنا إذا كان قصاراها هو ما تشتمل عليه الأوراق والمجلدات والمتاحف والمحفورات، ولا معنى لها عندنا اذا كان قصاراها أيضاً إقامة مجموعة دراسات نظريّة وفلسفات تمس الأطر الخارجة ولا تمس بواطن الأمور وجواهر الأشياء، وإنمّا معناها الحقيقي حاجة النفس كما يحسُّها من أحاط بتلك الدراسات، ومن فرغ من العلم والمنطق والمراجعة ليرقب مكان العقيدة من قرارة ضميره.

معناها بهذا المعنى تحقّق “الإيمان” في مسارب الفكر وخلجات الضمير.

يلزم عن هذا (من جهة المنطق) أن تتاح الحرية للعقيدة، ويتاح لها في الوقت نفسه الاستقامة، فلا شيء يقدح في العقائد غير نزع الحريات، ولا شيء يصيبها بالجدب والتجديف غير غيبة الاستقامة الصادرة رأساً عن الحرية، فالعلاقة أسمى ما تكون وأوثق ما تكون بين الحرية والاستقامة.

***

بقلم: ا. د. مجدي إبراهيم

أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف جامعة أسوان

عندما تغيب الشمس تميل النفوس إلى مخدعها بعد يوم طويل، يتحدثون عن يومهم في حزن وفرح، وآلام وآمال تنتظر أن تبصر النور يومًا ما، يتآلفون ويؤلفون بين الحقيقة والخيال، صراخ وهدوء، اختلاف وتوافق، صدق وكذب ونفاق ومجاملات، إنها مكتومة في بعضها لا يعلن عنها في حينها.

تلك هي ماهية الحياة تتطور بفعل اتفاقاتنا واختلافاتنا، منها عقول تضع الطوب فوق بعضه، ناهيك عمن يهدمها، الإنسان وحده عاشق لنفسه سرًا أو جهرًا، جميع الأحاسيس تعمل في آنٍ معًا، تستقبل ما أنتجته ذاته ورؤيته وتفسيره لهذا النشاط الأرضي، في النقاط الجمعي نفكر في أرضية سطحية لا تصل إلّا للمسافة نفسها، القليلون يحاولون التماس الأفق، والحقيقة التي لا نشعر إلّا بنسبيتها شعورًا، باستثناء العلم والمعرفة هي من تساهم في الهدف نفسه للتطور والمعرفة والفضول الذي لا يستقرّ.

في مرحلة الشباب تضاء الشموع بالأمل بين وهج ثابت في شكوكه، ومع مدار الإنسان وتجربته تتغلف الفكرة المتوسطة تدريجيًا، تصعد برؤية مختلفة، يقول دوستويفسكي: لا أستطيع الإفصاح عما أشعر به بشكل كامل، كذلك لا يمكنني محاولة ذلك، ينبغي أن يكون هناك شيء مجهول في داخل الإنسان.

الجهل عتمة مخيفة، نفق مظلم، لكنه مستقيم تبنى عليه أفكار، تغيّب المعرفة يعطل الإبداع، رياح لا تعرف وجهتها تحطم السكون، تمضي بلا غاية، لكنّ الحياة تعود بثوب جديد تقف كأنها تُبعث من رمادها، تظهر وجهها الوضاء بعد العاصفة، كأنها تقول لا شيء يدوم، لا الرياح ولا الانكسارات، يعود اللحن كما أنتجه الإنسان، يروي ذات القصة بألوان مختلفة شاهدًا على القدرة في لحظات الشك والصمت.

يستمر الوجود بقياسه الثابت بين الطبيعة والسماء، ويظلّ العقل يفتش عن المكنون في أسرار الكون ونفسه، يبحث عن الحقيقة عن الغايات والمعاني يحاول فك شفرة الحياة بجداله المعرفي وفي ذاته لا يرتوي ولا يقف أمام ما يجهل، يبدأ بخياله وينسج أساطيره في حدود الزمان والمكان يبني عوالم موازية، يمنح نفسه القوة يخلد أفكاره وأحلامه، شاهدة على قدرته على الابتكار ورغبته في تفسير المجهول.

يفنى العقل بفعل طبيعته البيولوجية في رثاء مؤقت بعد ولادة أخرى تكمل المسير في نسيج متصل لا ينقطع بل يتجدد، يقول الفيلسوف الفارابي: إنّ العقل هو القوة التي تمكن الإنسان من إدراك الحقائق والمعاني المجردة. لا شيء أفضل من الماضي ولا الماضي أفضل من الحاضر، إنها بحار سبعة تموج بين بقدرته، وهذا الإنسان العظيم يرى ويسمع ويغامر بفكره وإبداعه وجسده لمعرفة الحقيقة التي لم نصل إليها بعد، بل لا نزال نلامس أطرافها على شواطئ المعرفة اللامتناهية.

إنها عقول لا تغفر لنفسها تحمل أعباء الماضي كأنها سلاسل لا تنكسر، تعيد التفكير في كلّ خطأ، تعيش دوامة الندم، وتنسى أنّ الحياة تمضي، قسوتها أنها لا تكترث بكسراتك وانفعالاتك، تنظر إليك كأنك لم تكن، تحاول أن تلفت انتباهًا، تبوح فلا تبالي، تقترب ثم تبتعد، قسوتها ليس صراخًا، بل غياب الشعور فراغ قاتل يتركك تتلاشى شيئًا فشيئًا، حتى تصبح ذكرى على هذه الأرض، يقرؤك الخلف بألحانه المتعاطفة، ينقد غيابك في نبض أنغامه، يحاول الزمن استعادة ما كان، يمسك بطيفك بين الأيام، إنها رحلة الأيام السبعة، تزيد أو تنقص هذا شأنها،، هل فكرت يومًا، ماذا نفعل في هذه الحياة؟، وبين المحطة الأخيرة تتجلى حقيقة الرحلة التي لا تستطيع الحروف كتابتها، إنها البعد الأخير. انتهى.

***

فؤاد الجشي

 

تجلت أفكار المفكر والأديب الروسي ليف تولستوي (1828 ـ 1910) بشكل ساطع في الأعمال الفكرية والفلسفية التي كتبها بعد خروجه من أزمته الروحية، التي كادت تنتهي بإقدامه على الانتحار، وسطّرها في كتابه «الاعتراف»، ورسم بتأثيرها السبيل التي يرى الأديب والمفكر الكبير إنها تهدي إلى ارتقاء الإنسان بنوعه، وتحقيق الجنة على الأرض. فهل يمكن أن تساهم وجهات نظر ليف تولستوي، لاسيما مفهومه عن عدم مقاومة العنف بالعنف، وحول ماهية الدين ببعده الإنساني، في تجاوز الأزمات الروحية والأخلاقية التي يمر بها الشرق الأوسط، ككيان إقليمي متعدد الأديان والقوميات.

لقد وقفت أفكار تولستوي حول منهاج عدم مقاومة العنف وتحريم استخدامه، وراء العديد من الحركات الإنسانية والدينية، وهو بحق ملهم أفكار المهماتا غاندي زعيم الهند الأسبق ومحررها من ربقة الاستعمار الهندي بطريق اللاعنف. تولستوي الذي هضم التاريخ البشري بكل جوانبه، يؤكد استحالة إصلاح العالم والطبيعة البشرية والأنظمة، وإحلال العدالة، وتأمين الحريات، وتجسيد الشرائع السماوية عن طريق العنف، ويرفض تبرير ممارسة العنف بأي شكل من الأشكال ومن أي منطلق كان، وضد أي ما كان.

لقد استأثرت شخصية تولستوي وأعماله الفنية وتوجهاته الفلسفية، وتراثه الفكري، منذ بداية القرن الماضي باهتمام الساحة الثقافة العربية، ومازالت متواصلة حتى يومنا هذا. وبشر بأفكاره حينها، أحد اهم أنصاره بالفكر سليم قبيعين في كتابه «مذهب تولستوي»، كما انعكست أفكاره في أعمال ميخائيل نعيمة وغيره من كبار الكتاب العرب. وجذبت أفكار تولستوي في المقام الأول الدينية/ الأخلاقية المتنورين من المثقفين والقراء العرب، ولاسيما عن الحب والإخاء بين البشر، وعدم مقاومة الشر بالعنف، وفضح النفاق الديني وغيرها من جوانب دعوات تولستوي في مجال الدين.

هذه الأفكار مازالت مطلوبة للمرحلة الحالية التي تمر فيها المنطقة، وربما أهميتها والحاجة لإعادة التمعن فيها من جديد، أضحت أكثر، خاصـــة على خلفـــــية تشـــويه مفهوم وجوهر الدين، واستبدال أسسه السامية بمفاهيم غريبة عن روحه، تعتمد التطرف والعنف كوسائل حصرية لتجسيد الرسالة السماوية على الأرض.

لقد عثر المتنورون العرب في بداية القرن العشرين وما بعده، في أفكار تولستوي الرد على العديد من أسئلة المرحلة الملحة، وانعكس هذا ليس فقط في المقالات والتعليقات التي تناولتها، وإنما في الرسائل التي استلمها ليف تولستوي من المواطنين العرب البسطاء. فضلا عن رسائله الشهيرة المتبادلة مع مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبدة. وهنا يكمن السبب بظهور ترجمات لكتب تولستوي ذات المنحى الفكري والفلسفي والديني مؤخرا.

يمر العالم العربي والشرق الأوسط اليوم بأسره في أكثر المراحل تعقيدا في تاريخه الطويل، فقد شمل التدهور دولا ومؤسسات سلطة في العديد من البلدان التي تعاني شرائح واسعة من شعوبها من الملاحقة لأسباب مذهبية، والفقر إلى جانب الثروات، والانقسامات على أساس الهوية. هذا الوضع التاريخي القائم، وليد العديد من العوامل، بما في ذلك، التدخل الأجنبي، والتناقضات بين الدول والتخلف الاقتصادي لبعضها، ومؤثرات العولمة السلبية. بيد أن السبب الرئيسي هو عدم إيجاد الحلول الناجعة للمشاكل المستديمة، التي تواجه شعوب المنطقة، وعلى خلفية الوقوف أمام طريق مسدود لسنوات طويلة، نمت التيارات التي تطرح مشاريع ماضوية غير قابلة للتجسد وراء ستارة «تسييس الإسلام».

لذلك تلوح أفكار ليف تولستوى الدينية والأخلاقية، بما في ذلك مواجهة العنف بكل أشكاله: عنف الدولة ضد مواطنيها، وعنف الحروب والثورات، العنف في مختلف الطوائف والعنف ضد المرأة والأطفال، إلخ. فضلا عن وجهات نظره بخصوص العمل الدؤوب لتغيير حياة الإنسان نحو الأحسن، عن طريق تطوير الإنسان لنفسه بنفسه، وتجسيد الشرارة الروحية في داخله، التي تمثلت في جميع الأديان السماوية، والالتزام بذلك السلوك الذي لا يتناقض مع العقل والضمير.

إن تنفيذ مبدأ اللاعنف في الشرق الأوسط، قد لا يجد الفهم التام من جانب بعض الدوائر الاجتماعية، نظرا لآن المنظمات الإرهابية ولتحقيق غايتها، تراهن على أساليب العنف لبث الرعب، وعلى التعامل الوحشي حتى مع المدنيين الأبرياء. وفي ضوء ذلك لا يمكن أن لا نتفق مع الباحث في فكر تولستوي جوسينوف الذي كتب «من غير الصحيح وضع النبرة على كلمة «عدم المقاومة» في صيغة «اللاعنف». وإننا نفهم فكرة تولستوي أفضل، حينما نركز على كلمة «العنف». إن مقاومة الشر ممكنة، ويجب أن تعتمد فقط على نبذ استعمال العنف. وحينها سنقاوم العنف بشكل حقيقي، حينما نمتنع عن مواجهته بالمثل.

تمحورت أفكار تولستوي عن الدين على توافق تعاليمه (الدين) مع تطور الفكر البشري، ويجب أن لا يوجد فيها مكان للغموض والخرافات، ولكن هناك لحظة عملية للغاية تتمثل في بناء مملكة الله هنا على الأرض. إن درس اليوميات المبكرة لتولستوي، يكشف عن عدد القواعد المختلفة المثيرة للدهشة للنظام الأخلاقي، التي وضعها الكاتب لنفسه. وهذه القواعد مدعوة لتنظيم حياته، لجعلها نظيفة وعادلة، للمساعدة على التغلب على أوجه القصور فيها، لكنها لا تعمل دائما. ويتجاوز تولستوي ذاته باستمرار، ويندم على الحياة المرفهة والكسل، ويخلق قواعد وخططًا وجداول حياة جديدة، وينتهكها مرة أخرى، ويتوب مرة أخرى. إن العمل الأخلاقي الضخم الذي يطبقه، إلى حد ما رجل شاب على نفسه مثير للإعجاب حقًا ولديه القليل من نظائره في التاريخ الروحي للقرن التاسع عشر.

إن العديد من أفكار ليف تولستوي المتعلقة بالدين تناغمت مع الفكر الديني المستنير في العالم الإسلامي والعربي، الذي وضع بذرته الأولى مُراسله الشيخ الإمام محمد عبده، ثم تقدم خطوات على أيدي علماء أجلاء في مصر والبلدان العربية والإسلامية من بينهم علي عبد الرازق وأمين الخولي وأحمد أمين ومحمد أحمد خلف اللـــه وخالد محمد خالد ومحمد إقبال وعلي الوردي وغيرهم.

إن العشرين تعليقا التي تركها تولستوي بقلمه على هامش القرآن الكريم الذي قرأه بعمق، تشير إلى تلك الجوانب في الكتاب الكريم التي تتطابق مع معتقداته وقيمه. وفيها تتجلى الدعوة للإخاء والتسامح وعمل المعروف والتضامن بين البشر والتكافل الاجتماعي ورفع الظلم والنير عن كاهل الناس.

***

د. فالح الحمراني

كتابي المفضل هو قصة الحضارة (ل-ول ديورانت) وهو يتميز بأسلوبه السلس والمشوق، حيث يقدم ديورانت تحليلات عميقة للأحداث التاريخية والشخصيات المؤثرة، يحتل واجهة مكتبتي. يشكل مرجعية تاريخية لي وأحيانا سردا ادبيا تختلط فيه مناهج عدة، رغم اعتماده على مصادر لا ترقى الى المصادر الاركيولوجية الدقيقة الا ان فيه الكثير من الاحاطة بالحضارة العالمية وهي عملية شاقة جدا. بين طياته قرات الكثير من الضوضاء التاريخي وهو موضوع مثير ومعقد، قد تم استخدامه في مجالات متنوعة مثل السياسة، الحرب، الدعاية، والفنون. أحينا، يتم تزييف الأحداث التاريخية لأغراض متعددة تؤدي إلى تأثيرات بعيدة المدى على الهوية الوطنية. هناك حالات معروفة حيث تم تعديل السجلات التاريخية لتلبية احتياجات الأنظمة الحاكمة، وتم استخدام الخداع لخلق أساطير قومية، مثل الأساطير حول الأبطال القوميين، التي تهدف إلى تعزيز الهوية الثقافية، يعتبر الخداع جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الانسان، حيث تم استخدامه بطرق متنوعة لتحقيق أهداف مختلفة. الخداع يلعب دورًا معقدًا في تشكيل الأحداث التاريخية وتوجيه مسارات مجتمعية، فهم هذه الظاهرة يساعدنا على تحليل التاريخ بشكل أعمق ويدعو إلى استخدام التفكير النقدي والقراءة الترانسدالية في تحليل المعلومات التي نتلقاها، موضوع الأصول الجينية للخداع التاريخي وهو موضوع مثير للاهتمام، لكنه يتطلب تمييزًا بين الخداع كظاهرة اجتماعية وثقافية وبين العوامل البيولوجية أو الجينية التي قد تؤثر على السلوك البشري. يميل البشر إلى استخدام الخداع لأغراض البقاء والتكيف، يمكن أن يكون الخداع وسيلة للحصول على الموارد أو تجنب المخاطر، لكن تحديد الجينات المرتبطة بالخداع هو عملية صعبة وموضوع معقد، كون السلوكيات الفردية تتأثر بتفاعل الجينات مع البيئة، مما يجعل من الصعب عزل الجينات المسؤولة عن الخداع بشكل دقيق، بعض العلماء يرون أن الخداع قد يكون له دور في التطور، حيث أن الأفراد الذين يستطيعون الخداع قد يحققون ميزة تنافسية في التكيف مع البيئة، الخداع كظاهرة اجتماعية قد تطور عبر الزمن، مما يعكس التغيرات في القيم والمعايير الثقافية بينما قد تكون هناك جوانب جينية تؤثر على السلوك البشري، فإن الخداع كظاهرة تاريخية يعتمد بشكل كبير على السياقات الاجتماعية والثقافية. لذا، من المهم دراسة الخداع من منظور متعدد التخصصات يجمع بين علم النفس، علم الاجتماع، وعلم الأحياء.

الشخصية النمطية والخداع التاريخي

الشخصية النمطية في ظل الأنظمة الفاسدة والخداع التاريخي تُعتبر موضوعًا معقدًا، حيث تتشكل من خلال تفاعل عدة عوامل اجتماعية ونفسية وثقافية. في الأنظمة الفاسدة، يمكن أن تنمو شخصية نمطية تميل إلى الامتثال للسلطة، حيث يخشى الأفراد من العقاب أو الانتقام وقد يتبنى الأفراد سلوكيات معينة تساهم في بقائهم، مثل التظاهر بالولاء أو إخفاء الآراء الحقيقية في ظل الأنظمة الفاسدة، قد يتطور الأفراد إلى شخصيات أكثر مراوغة، تستخدم الخداع كوسيلة للبقاء والتكيف مع الظروف يصبح الأفراد بارعين في قراءة وإدارة المعلومات، مما يمكنهم من التكيف مع الأنظمة القمعية، الخداع التاريخي يمكن أن يؤدي إلى تشكيل هويات جماعية مبنية على روايات مزيفة، مما يؤثر على كيفية فهم الأفراد لتاريخهم ومكانتهم ،الأنظمة الفاسدة غالبًا ما تعيد كتابة التاريخ لتبرير أفعالها، مما يخلق شخصية نمطية تتقبل هذه الروايات دون نقد،قد تنمو مشاعر عدم الثقة بين الأفراد، حيث يصبح من الصعب التمييز بين الحقيقة والخداع مع زيادة الوعي بالفساد ، الشخصية النمطية في ظل الأنظمة الفاسدة والخداع التاريخي تتشكل من تفاعل معقد بين العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية. فهم هذه الديناميات يساعد في تحليل كيفية تأثير الأنظمة الفاسدة على الأفراد والمجتمعات، وهي دعوة إلى التفكير في سبل التغيير والإصلاح.

العوامل الاساسية في تشكيل الخداع التاريخي

بعض الدراسات تشير إلى أن البشر لديهم ميول فطرية للخداع، حيث يمكن أن يكون الكذب جزءًا من استراتيجيات البقاء والطموح والخوف من الفشل. الرغبة في السلطة يمكن أن تدفع الأفراد إلى استخدام الخداع لتحقيق الأهداف. الأنظمة الفاسدة غالبًا ما تعزز الخداع، حيث يسعى الأفراد للحفاظ على مكانتهم أو الحصول على السلطة من خلال التضليل، بعض الأبحاث تشير إلى أن بعض السلوكيات، منها الكذب والخداع، قد يكون لها جذور جينية. لكن تأثير الجينات على السلوكيات يعتمد أيضًا على السياقات الاجتماعية، الجينات يمكن أن تؤثر على الاستجابة للمواقف الاجتماعية، مما يساهم في تشكيل سلوكيات الأفراد، العوامل النفسية والاجتماعية تتفاعل بطريقة معقدة وتؤثر على أنماط الخداع. على سبيل المثال، قد تؤدي الظروف الاجتماعية إلى تعزيز سلوكيات معينة تكون جذور جينية عبر الزمن، يمكن أن تؤدي هذه التفاعلات إلى تشكيل أنماط خادعة تجسدها المجتمعات في سردياتها التاريخية.

عقدة اوديب والخداع التاريخي

عقدة أوديب، التي تم تطويرها بواسطة عالم النفس سيغموند فرويد، تشير إلى مشاعر الحب والغيرة التي يشعر بها الابن تجاه والدته، وكره غير واعٍ تجاه والده. بينما يبدو أن هذا المفهوم نفسي بحت، يمكن استخلاص بعض الروابط بينه وبين الخداع التاريخي من عدة زوايا، كما يسعى أوديب إلى تحدي والده، فإن الأجيال الجديدة قد تسعى لتحدي السرديات التاريخية التي وضعتها الأجيال السابقة، مما يؤدي إلى إعادة تقييم الأحداث التاريخية، يمكن أن ينطوي هذا التحدي على نوع من الخداع الذاتي، حيث يؤمن الأفراد بمعلومات مزيفة أو مشوهة عن تاريخهم لتبرير مواقفهم، كما أن عقدة أوديب تعكس الصراع الداخلي، يمكن أن يعكس الخداع التاريخي التوتر بين الأجيال عبر تغير المجتمعات، حيث يسعى الأفراد لفهم مكانتهم في سياق تاريخي مشوه، يمكن أن تؤثر روايات الخداع التاريخي على الهوية الجماعية، مما يؤدي إلى صراعات مشابهة لصراعات أوديب، حيث يسعى الأفراد للبحث عن الحقيقة في التاريخ الموازي ،التاريخ غالبًا ما يُكتب من خلال عدسة معينة، مما يشبه كيفية سرد الأساطير. كما يُستخدم الخداع لتشكيل الهوية الثقافية، يمكن أن تُستخدم عقدة أوديب لتفسير الصراعات الأسرية والثقافية في الحضارات القديمة والوسطى مثلما يسعى الأب لفرض سلطته، تسعى الأنظمة السياسية أحيانًا إلى الحفاظ على سلطتها من خلال ترويج سرديات تاريخية معينة، مما يؤدي إلى نوع من الخداع الجماعي. يمكن أن يُنظر إلى عقدة أوديب كرمز للصراعات الداخلية التي تعكس تصورات أوسع عن السلطة والهوية. بينما تتفاعل هذه الديناميات مع الخداع التاريخي، يمكن أن تؤدي إلى إعادة تقييم الروايات التاريخية وسرديات الهوية.

تقييم الروايات التاريخية وسرديات الهوية

إعادة تقييم الروايات التاريخية وسرديات الهوية تعكس صراعات الجيل الجديد مع السرديات التقليدية. من خلال هذا التفاعل، يمكن أن يحدث تغيير عميق في فهم الهوية الجماعية والتاريخ، مما يؤدي إلى هوية أكثر شمولية وواقعية، صراعات الجيل الجديد مع السرديات التقليدية تركز بشكل عميق على فهم الهوية الوطنية، وذلك من خلال عدة جوانب يسعى الجيل الجديد إلى تحدي القيم والتقاليد التي قد تعتبرها قيدًا على حريتهم، مما يؤدي إلى إعادة تقييم ما تعنيه الهوية ،يمكن أن تتضمن الهوية الجديدة قيمًا أكثر توافقًا مع التغيرات الاجتماعية مثل المساواة وحقوق الانسان، تعزز الصراعات بين الأجيال الحوار بين الموروث والحاضر المتخلف مقارنة بالواقع الحالي للحضارة العالمية والنمو الهائل للتكنولوجيا مما يتيح للجيل الجديد التعبير عن آرائه وتجاربه، من خلال هذا الحوار والاحترام المتبادل يسعى الجيل الجديد إلى تعريف هويته بشكل أكثر تنوعًا، مما قد يتضمن التقدير للتجارب الفردية والاعتراف بتعدد الهويات داخل المجتمع، يمكن أن يؤدي هذا التحدي إلى رفض الأنماط التقليدية التي قد تكون مقيدة، مثل تلك المرتبطة بالأنتماءات الطائفية أو التوقعات الاجتماعية، صراعات الجيل الجديد مع السرديات التقليدية تؤدي إلى إعادة تقييم شاملة لفهم الهوية ، مما يساهم في تعزيز الحوارواحترام التنوع، وتمكين الأفراد. هذه الديناميات تعكس تحولًا في كيفية رؤية الأجيال الجديدة لعلاقاتهم المجتمعية ومكانتهم داخلها.

الخداع التاريخي والحضارة الانسانية

المصير المتوقع للخداع التاريخي على الحضارة الإنسانية يمكن أن يتخذ عدة اتجاهات، بناءً على كيفية تأثير هذه الظاهرة على المجتمعات والثقافات. مع زيادة الوعي بالخداع التاريخي، قد تسعى المجتمعات إلى إعادة تقييم الروايات التاريخية. هذا يمكن أن يؤدي إلى فهم أكثر دقة وشمولية للتاريخ الإنساني،  يمكن أن تظهر روايات جديدة تسلط الضوء على تجارب الفئات المهمشة، مما يعزز من التنوع التاريخي ومواجهة الخداع التاريخي، يمكن أن تعزز من الفكر النقدي لدى الأفراد، مما يدفعهم إلى تحليل المعلومات بشكل أعمق وفهم الظروف المحيطة بها،  يمكن أن يؤدي الكشف عن الخداع التاريخي إلى زيادة الوعي الاجتماعي والسياسي، مما يحفز الأفراد على المشاركة في الحياة العامة والمطالبة بالتغييرفي بعض الحالات، قد تؤدي إعادة تقييم التاريخ إلى ردود فعل عنيفة من قبل أولئك الذين يتمسكون بالروايات التقليدية،  يمكن أن يؤدي الوعي بالخداع التاريخي إلى إعادة تشكيل الهوية الجماعية، حيث يسعى الأفراد إلى فهم أنفسهم في سياق تاريخي أكثر دقة، هذا التحول يمكن أن يؤدي إلى انقسامات جديدة بين الأجيال أو الفئات المختلفة، أو يمكن أن يعزز من الوحدة حول فهم مشترك للتاريخ، المصير المتوقع للخداع التاريخي على الحضارة الإنسانية يعتمد على كيفية استجابة الأفراد والمجتمعات لهذه الظاهرة. يمكن أن يؤدي إلى إعادة تقييم شامل للتاريخ وتعزيز الفكر النقدي، ولكن أيضًا يمكن أن يسبب انقسامات وصراعات جديدة. في النهاية، سيتحدد هذا المصير من خلال قدرة المجتمعات على التعلم من أخطاء الماضي وبناء سرديات تاريخية أكثر دقة وشمولية، بناء سرديات تاريخية شاملة يتطلب جهدًا جماعيًا وتعاونًا بين الباحثين والأفراد والمجتمعات من خلال جمع المعلومات المتنوعة، وتحليلها نقديًا، وتضمين وجهات نظر متعددة، يمكن خلق سرديات تعكس تاريخًا أكثر دقة وعمقًا، لكن بناء سرديات تاريخية في غياب الأدلة الأركيولوجية يتطلب منهجية شاملة تستند إلى تحليل النصوص، مقارنة المصادر، واستخدام العلوم الاجتماعية. من خلال هذه الاستراتيجيات، يمكن تعزيز الفهم التاريخي وتجاوز حالة الخداع التاريخي رغم نقص الأدلة المادية.

***

غالب المسعودي

المظاهر، والنتائج، والآفاق

مقدمة: ظل الإبداع عبر العصور خاضعًا لمعايير تفرضها البُنى الثقافية والاجتماعية، حيث تباينت فرص الاعتراف بالمبدعات بين التجاهل والاحتفاء المشروط. ومع تحوّل المجتمعات وتطور الفكر النقدي، استمرّ سؤال الإبداع النسوي في التعقيد والتشابك بين تقييمٍ جنسانيّ يُقوّم إبداع الأنثى وفق معايير مختلفة عن الرجل، وانتقادٍ ذكوريّ يحمل في طيّاته تحيزات ثقافية متجذّرة. في هذا المقال، سنحاول تحليل هذه الظاهرة من زواياها المختلفة، مستعينين بنماذج أدبية، علمية، وفنية لمبدعات تحدّين القيود ونقشن أسماءهنّ في سجلّ الإبداع الإنساني.

أولًا: التقييم الجنساني للإبداع النسوي

يُعرّف التقييم الجنساني بأنه القراءة النقدية للإبداع بناءً على هوية الجندر، لا على جودة الإنتاج ذاته. فبينما يتم الحكم على الرجل بناءً على معايير الإبداع الموضوعية، غالبًا ما يُخضع إبداع المرأة إلى "نظرة مزدوجة" تتراوح بين التشكيك في جدارة إنتاجها، وبين محاولة حصره في نطاق "الأنوثة"، أي في موضوعات العاطفة، الحميمية، أو الشؤون المنزلية.

1- الأدب النسوي: بين التقييم والتصنيف

لطالما وُضع الإبداع الأدبي للمرأة في إطار "الأدب النسوي"، وهو تصنيف يحمل دلالات إقصائية أحيانًا، إذ يُفصل عن "الأدب الإنساني" وكأنه فرعٌ منفصل له طابع خاص. على سبيل المثال، عندما أصدرت فرجينيا وولف غرفة تخصّ المرء، كانت رؤيتها تدور حول امتلاك المرأة للفضاء المادي والذهني الذي يسمح لها بالإبداع، لكن النقد الذكوريّ تعامل مع أفكارها على أنها "تذمّر نسوي"، متغافلًا عن البعد الفلسفيّ لطرحها.

أما العربية مي زيادة، التي خاضت غمار الفكر والفلسفة، فقد قُرئت نصوصها من منظور "الأنوثة العذبة"، متجاهلين قدرتها النقدية العميقة. في المقابل، نجد أن جبران خليل جبران -الذي كتب عن الحب والروحانيات- لم يُصنّف كـ"كاتب رومانسيّ رجاليّ"، بل عُدّ كاتبًا إنسانيًا عالميًا.

2- التقييم الجنساني في العلوم: عبقرية مؤجلة

في الحقول العلمية، لم تخلُ المسيرة النسوية من أشكال مماثلة من التقييم الجنساني، حيث غالبًا ما يُنسب الفضل إلى الرجال حتى وإن كانت المرأة هي العقل المدبّر. على سبيل المثال، عانت روزاليند فرانكلين من التهميش في اكتشاف بنية الحمض النووي رغم أن صور الأشعة التي التقطتها لعبت الدور الحاسم في تحقيق واطسون وكريك لهذا الاكتشاف.

أما ماري كوري، رغم حصولها على جائزتي نوبل، فقد كان يُنظر إليها دومًا بوصفها "زوجة بيير كوري" قبل أن تكون عالمةً قائمةً بذاتها، وكانت تحمّل عبء إثبات جدارتها أكثر مما فعل زملاؤها الذكور.

ثانيًا: الانتقاد الذكوري بين الممانعة والتحجيم

تتعرّض المبدعات، خاصةً في المجالات التي ظلت حكرًا على الرجال، لانتقادٍ مزدوج: الأول يهدف إلى ممانعة دخولهنّ المجال، والثاني يسعى لتحجيم تأثيرهنّ.

1- الانتقاد الأخلاقي: سلاح التشويه

منذ العصور القديمة، ارتبط الإبداع الأنثوي بمحاولة التشكيك في "أخلاقية" المرأة المبدعة، فسواء كانت شاعرة، كاتبة، أو فنانة، غالبًا ما وُوجِهت بتهم "الخروج عن التقاليد".

ففي العصر الجاهلي، كانت الخنساء شاعرةً فريدةً، لكنها لقيت من النقد ما لم يواجهه الشعراء الرجال، فقد كان يُنظر إلى مرثياتها من باب "العاطفة النسوية" وليس "القوة الشعرية". أما في العصر الحديث، فقد عانت فدوى طوقان من القمع الأسري، حيث اعتُبر خروجها إلى فضاء الشعر خروجًا عن القيم المحافظة، وهو نقد لم يكن ليُوجه لأي شاعرٍ رجل.

2- الرفض المؤسسي: التحيز الأكاديمي والجوائز

لم يكن النقد وحده ما واجه المبدعات، بل أيضًا المؤسسات الأكاديمية والجوائز العالمية التي غالبًا ما تحابي الذكور. فرغم إنجازاتها العلمية العظيمة، لم تحصل العالمة جوسلين بيل بورنيل على جائزة نوبل رغم أنها من اكتشفت النجوم النابضة، بينما نالها زملاؤها الرجال. وكذلك في عالم الأدب، لم تحصل الكاتبة الأمريكية توني موريسون على جائزة نوبل إلا في وقت متأخر، رغم تأثيرها العميق في الرواية الحديثة.

ثالثًا: النتائج الاجتماعية والثقافية للتمييز النقدي

1- تثبيط المواهب وقمع الأصوات الجديدة

إن التقييم الجنساني والانتقاد الذكوري يخلقان بيئة طاردة للمبدعات، حيث تجد النساء صعوبةً في إثبات ذواتهنّ، مما يدفع الكثيرات للعزوف عن ممارسة الإبداع أو تبنّي أساليب أقل جرأة خوفًا من الانتقاد.

2 - إعادة إنتاج الهيمنة الثقافية

حين يُقيَّم إبداع المرأة وفق معايير مختلفة، يتم ترسيخ فكرة أن الفكر الذكوري هو المعيار، مما يؤدي إلى إعادة إنتاج نظامٍ ثقافيّ يُقصي المرأة أو يحدّ من أفقها الإبداعي.

رابعًا: آفاق مستقبلية للمبدعات في مواجهة التقييم الجنساني

1- إعادة صياغة النقد الأدبي والعلمي

يجب الدفع نحو نقد أدبي وعلميّ يتجاوز التصنيفات الجندرية، حيث يكون الحكم على الإبداع استنادًا إلى قيمته الفنية والفكرية لا على هوية المبدع.

2- دعم المؤسسية والاعتراف بالمبدعات

يجب أن تُمنح النساء فرصًا متساوية في الجوائز والمنشورات الأكاديمية والمؤسسات الثقافية، مع ضرورة إبراز مساهمات النساء التي طُمست عبر التاريخ.

3- تكوين حركات نسوية نقدية

إن تأسيس منصات نقدية نسوية مستقلّة من شأنه أن يعيد صياغة كيفية قراءة الإنتاج الثقافي والعلميّ، مع التركيز على إبراز إبداعات النساء بمعزل عن الأحكام المسبقة.

خاتمة

إن الأنثى المبدعة ليست كيانًا هشًا يبحث عن القبول، بل هي قوّة متجدّدة تصارع من أجل اعترافٍ عادل بإبداعها. ومع تطور الفكر المجتمعي، يتعيّن على النقد أن يتحرر من أحكامه التقليدية، حتى لا يُختزل إبداع المرأة في هوية جنسها، بل يُنظر إليه بوصفه تعبيرًا عن التجربة الإنسانية الشاملة.

***

مجيدة محمدي – شاعرة وباحثة تونسية

.......................

المراجع

- وولف، فرجينيا. غرفة تخصّ المرء، 1929.

- دي بوفوار، سيمون. الجنس الآخر، 1949.

- جوردون، ليندا. النساء والعلم: تاريخ من التهميش، 2003.

- هيلين سيسو. الكتابة النسوية، 1975.

 

قراءة فلسفية في حرب الإدراك والمعرفة

إن الإنسان، كما وصفه أرسطو، حيوان عاقل، غير أن هذا التعريف يتعرض اليوم لهزة عميقة تحت وطأة حرب جديدة لا تُشن بالرصاص، بل بالمعلومات. يفتح ديفيد كولون، في عمله عن "حرب المعلومات"، نافذة على مشهد معقد حيث تصبح العقول ساحات معارك، وتتحول الحقيقة إلى ميدان غامض تحجبه الضبابية والتضليل.

تجسد الحرب، وفق كولون، حالةً من الصراع تتجاوز ميادين القتال التقليدية إلى ما يسميه ميشيل فوكو حرب السلطة على الأجساد والعقول معًا. فالحرب المعاصرة لا تعتمد على القوة الفيزيائية وحدها، بل على ما سماه جان بودريار بـمحاكاة الواقع، حيث تُستبدل الحقيقة بواقع افتراضي مصطنع، وتصبح المعلومة أداة للاحتلال الذهني. لم تعد الحرب صدامًا بين الجيوش بقدر ما صارت نزاعًا على السيطرة على الإدراك ذاته، حيث تتحول الأكاذيب إلى حقائق بفعل التكرار والإيحاء.

يرى كولون أن الأدوات الرئيسية لحرب المعلومات تتمثل في الأخبار الزائفة وإعادة تشكيل السرديات، حيث يُستبدل الواقع بمزيج من الحقائق المشوهة والأساطير الإعلامية. هنا نستحضر مقولة نيتشه الشهيرة ": ليست هناك حقائق، بل تأويلات"، إذ تصبح الحقيقة ذاتها ميدانًا للصراع. وفي هذا المشهد، تتآكل قدرة الإنسان على التمييز بين الحقيقي والزائف، مما يؤدي إلى حالة من العمى المعرفي الذي وصفه هابرماس بأنه "انحسار المجال العمومي العقلاني".

تحلل رؤية كولون دور الدول، لكنها تتجاوز الحدود التقليدية، إذ لم تعد الدول وحدها الفاعل الرئيس، بل ظهرت قوى خفية، شبكات متعددة الجنسيات، وشركات تقنية عابرة للقارات تشارك في إعادة تشكيل الإدراك الجمعي. هنا نستعيد تصور ألفين توفلر للقوة في عصر المعرفة، حيث قال: "من يملك المعرفة، يملك القوة"، لكن المعرفة هنا ليست تحريرية، بل سلاح للتوجيه والتلاعب. تتشكل الدول كواجهات، فيما تحتل الشركات الكبرى مثل منصات التواصل الاجتماعي موقع الحاكم الخفي الذي يمارس السيطرة الناعمة من خلال التلاعب بالاهتمامات والسرديات.

يرى كولون أن ساحة الحرب الحقيقية هي الدماغ البشري ذاته، حيث يتم استهداف القدرة على التفكير الحر، واستبدالها بأنماط استهلاكية مبرمجة. هنا تبرز مقاربة هايدغر حول خطر التقنية حين قال: "جوهر التقنية ليس تقنيًا، بل هو طريقة في كشف الوجود وتحجبه في آنٍ واحد". فالذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحا أدوات لصناعة اللافكر الذي يُحيل الإنسان إلى كائن مستهلك للترفيه اللحظي فاقدًا للتأمل والنقد.

يتقاطع تحذير كولون مع ما أطلق عليه جان بودريار عصر ما بعد الحقيقة، حيث تغدو الأخبار المزيفة، ونظريات المؤامرة، والمحتوى الموجه أدوات لإنتاج واقع افتراضي قائم على الهلوسة الجمعية. في هذا العصر، تُمحى الحدود بين الحقيقة والوهم، بين الواقع والصورة، مما يولد ما سماه بودريار بـ*"التزوير الشامل للواقع".

في إشارة كولون إلى دور الصحافة، يستحضر استعارة الصحفي ديفيز الذي قال: "الصحافة بلا تحقق من الحقائق كالجسد بلا جهاز مناعي". هنا نواجه أزمة الإعلام في العصر الرقمي، حيث تتهاوى معايير التحقق، ويصبح السوق هو المعيار الوحيد للبقاء. هذه الحالة تجسد ما حذر منه نعوم تشومسكي حين تحدث عن تصنيع القبول، حيث يتم تشكيل الرأي العام بما يخدم القوى المسيطرة، مما يؤدي إلى خلق مجتمع مستسلم للعناوين الجذابة والخداع البصري.

إن السيطرة على العقول لا تتحقق عبر القمع المباشر، بل من خلال الإغواء والإلهاء، وهو ما أشار إليه كولون حين تحدث عن شبكات التواصل الاجتماعي كأقوى سلاح معلوماتي. يتردد هنا صدى رؤية مارك فيشر حول الواقعية الرأسمالية، حيث تصبح وسائل التواصل الاجتماعي سجونًا لذيذة تستهلك وقتنا وأرواحنا بينما نظن أننا أحرار. إن الإدمان على المحتوى الرقمي ليس سوى الوجه الجديد للعبودية المعاصرة، حيث يُحاصر الإنسان في دوائر لا نهائية من التمرير والمشاهدة دون إنتاج أو تأمل.

رغم قتامة المشهد، يلمح كولون إلى إمكانات غير متوقعة للمقاومة، كما في تلك الحكاية عن مصنع الذخيرة الذي توقف توسعه بسبب استهلاك تيك توك للكهرباء. هنا تتجسد مفارقة نهاية الوسائل العسكرية أمام تفاهة الاستخدامات الرقمية، مما يفتح المجال أمام تساؤل فلسفي: هل يمكن للسلاح الذي يوجه ضد العقول أن ينقلب ضد صانعيه؟ ربما هنا يتردد صدى مقولة حنة أرندت: "في كل أزمة تكمن فرصة جديدة للظهور".

لقد أشار سقراط قديمًا إلى أن الحياة غير مدروسة لا تستحق أن تعاش، واليوم، أكثر من أي وقت مضى، نحتاج إلى إعادة فحص ما نتلقاه، وما نؤمن به، وما نشارك فيه. حرب المعلومات ليست مجرد حرب على الحقيقة، بل حرب على إمكان التفكير ذاته. وكما قال كانط: "التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي جلبه على نفسه"، فإن مقاومتنا تكمن في إعادة إحياء ملكة النقد والتأمل، والعودة إلى جوهر الإنسان كذات مفكرة تتجاوز إغراءات المحاكاة الرقمية نحو أفق الحقيقة والمعرفة الحرة.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

في كتابه "الفلسفة الرواقية" الصادر في القاهرة عام 1945 والذي كتب أكثر ابوابه إبان دراسته في جامعة باريس منذ منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، يقول عثمان أمين : يؤخذ على  أفلاطون وأرسطو في مذهب الأخلاق أنهما لم يعرفا من روابط الصداقة والعطف إلا ما يكون بين المواطنين من أهل المدينة الواحدة، ولم يعمما صفة الإنسانية تعميماً تتخطى به حدود المكان والزمان، فحاول أصحاب الرواق القضاء على تلك العصبية، فأحلوا " الإنسان" محل " المواطن" ومالوا إلى اعتبار الإنسانية أسرة واحدة أعضاؤها أفراد البشر عامة أياً كانت نحلهم وألسنتهم وبلادهم. تلك هي " الجامعة الإنسانية " التي نادى بها الرواقيون، فلقد حملوا منذ القرن الثالث قبل الميلاد لواء فكرة السلم حين أهابوا بالإنسانية أن تحرر نفسها مما يفرق بين الأنسان وأخيه الإنسان، ونظروا إلى الناس جميعاً وكأنهم اسرة واحدة، قانونها العقل ودستورها الأخلاق. وفي القرن الثامن عشر، يطرح الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت مشروعه للسلام الدائم. انطلاقاً من عنايته الخاصة بموضوعة السِلم، وصياغته للمصطلح الذي أُطلق بعد وفاته بنحو ربع قرن على "عصبة الأمم"، ويقال أن الرئيس الأميركي ويلسون الداعي إلى انشاء عصبة الأمم كان يحتفظ لقراءاته اليومية بكتاب الفيلسوف كانت الذي نشره عام 1795 وأعلن فيه بوضوح أن انشاء حلف بين الشعوب هو السبيل الوحيد للقضاء على شرور الحروب وويلاتها، وقد بَسَّط في مشروعه الشروط الضرورية التي تجعل انتهاء الحرب ممكناً، ومنها إن معاهدات السلام لا تُعد معاهدات إذا انطوت نية عاقديها على أمر من شأنه إثارة حرب من جديد، وعدم السماح لأي دولة في حرب مع أخرى أن ترتكب اعمالاً عدائية من شأنها عند عودة السلم امتناع الثقة المتبادلة بين الطرفين، كالقتل والتسميم ونقض شروط التسليم والتحريض على الخيانة.

لكن لا عصبة الأمم منعت قيام الحرب العالمية الثانية، ولا الأمم المتحدة التي قامت على انقاضها تمكنت من صنع السلام الحقيقي بين الشعوب، وبقيت مآسي الحروب وويلاتها تشوه وجه العالم، وبقي السلام مجرد كلمات جوفاء في كتب الفلاسفة، فكانت مجرد دعوات وأمنيات وأوهام لم تجد لها نصيباً من التحقق على أرض الإنسان.

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

الهولوغرام: تقنية تصوير عالية الدقة تعتمد على استخدام الليزر، توفر امكانية تقديم صورة ثلاثية الأبعاد جذابة تبدو وكأنها تطفو في الهواء. اخترعها المهندس البريطاني المجري دينيس جابور عام 1947م ومنح جائزة نوبل سنة 1971م.

ظهرت اول صورة هولوغرافية عام 1962م على يد العالمين إميت ليث و جوريس اوباتنيكس من جامعة مشغان الأمريكية صنعا مجسمات هولوغرافية للعبة قطار ولعدد من الطيور.

 تجمع تقنية الهولوغرام بين التصوير الفوتوغرافي وبين الرؤية الحقيقية للشيء.

في سنة 1967م ظهرت اول هولوغرام لصورة إنسان. وكان هدف اختراع الهولوغرام هو تحسين الدقة وتجنب انحرافات المجهر الالكتروني.

يأتي حديثنا اليوم عن هذه التقنية في ضوء العلاقة بين الانسان والحاسوب وتفاعلهما عبر تطبيقات الذكاء الإصطناعي في القرن الواحد والعشرين حيث التوسع الكبير في مجالات تطوير بحوث الذكاء الاصطناعي الى الحد الذي يقول عنه الامريكي كورزويل انه في عام 2099 سيكون من المتعذر تماماً التمييز بين الانسان والحاسوب. وبينما يتم انفاق ما يقارب المئة مليون دولار سنوياً على مشاريع الذكاء الاصطناعي. لا ينفق مثله على مشاريع تنمية الذات والقدرات العقلية والثقافية للفرد والمجتمع.

الهولوغرام ليست مجرد تقنية تصوير فوتوغرافي ثلاثية الأبعاد، هي بوجود الذكاء الاصطناعي قادرة على ايجاد علاقة بين جسمين حتى لو كانا متباعدين وبينهما مسافات طويلة.

برغم صفة التطور العلمي والتقني المتسارع التي يتصف بها القرن الواحد والعشرين، إلا ان كثيراً من الناس حول العالم يشعرون بالحنين الى الماضي إما لأن حاضرهم مثقل بالمشاغل والهموم بحيث لا يجدون فيه متسعاً من الوقت للراحة والتأمل والاسترخاء، واما لأنهم يفتقدون النضج النفسي وسط هذه التقنية المتطورة الهائلة مما يجعلهم يميلون الى الماضي بما يكتنزه من ذكريات واحداث طفولة وشباب وصداقة. وقد لا يكون ذلك الماضي بهذا الجمال الذي يجدون انهم ينجذبون اليه لكن قبح واقعهم في جوانب كثيرة منه يجعلهم ينظرون بعين الرضا والحنين الى الماضي.

يعد الكتاب من بين ابرز وسائل تواصل الحاضر مع الماضي والتراث. لكن هذه الوسيلة لم تعد فاعلة بما يكفي حتى بعد ان ظهرت نسخة الكترونية من الكتاب إذ لم يفلح في تحقيق التواصل بين الحاضر والماضي، بين التراث والمعاصرة بسبب مصادرة ظروف البيئة الحياتية اليوم لعامل الوقت مما دفع بكثيرين في اتجاه العمل من اجل إشباع الحاجات البيولوجية بشكل أساسي. ومن منطلق الحاجة الى النضج النفسي فقد صار من الضروري جداً البحث عن سبل لتخفيف الضغط النفسي الذي يعيشه الإنسان المواطن في عصر الآلات الذكية، والسياسات الأنانية، والإدارات التقليدية، والعلاقات الروتينية. من هذه السبل تقنية الهولوغرام التي من شأنها ان تحدث تفاعلاً يحفز الذاكرة على حفظ المشاهد بما تنطوي عليها من معلومات وتفاصيل، وبذلك يمكننا عبر هذه التقنية الذكية التواصل مع التراث واستحضار شخصيات ثقافية عبر التاريخ كان لها دورها البارز في تنمية وانعاش وتطوير الحياة الفكرية الثقافية عبر الأزمنة. حيث يسهم حضورها اليوم في تحديث برمجة النظام الثقافي الاجتماعي وتفعيل حضور الحس الواعي وتحريك بوصلة العقل الانساني باتجاه التدبر والتفكير الخلاق في فضاء انساني، كوني، واسع، وواقعي، يوظف التقنية الرقمية الافتراضية في تحقيق ذلك.

يمكن بواسطة تقنية الهولوغرام عرض محتوى ثقافي اجتماعي هادف يعيد تفعيل علاقة الفرد بالأسرة والفرد بالمجتمع على وفق الانماط السلوكية والعادات والتقاليد بعد ان يجري تطويرها من قبل باحثين ومفكرين معنيين بالشأن الثقافي، والانساني، والإجتماعي، من اجل تجاوز نقاط الضعف فيها وإعادة صياغتها بنسخة محدثة تجعل منها مقبولة ومعقولة بالقدر الكافي الذي لا يشعر معه الانسان المعاصر بوجود فجوة بينه وبين تراث الآباء.

من مزايا تقنية الهولوغرام انها واقعية، عالية الدقة تبدو فيها الصور وكأنها حقيقية يمكن مشاهدتها من مختلف الزوايا والمهم كثيراً هو إمكانية انتاج مادة ثقافية محلية بواسطتها وهو ما يجعلها اكثر فائدة لنا قياساً بفوائد تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتعارف عليها. تستخدم هذه التقنية في مجالات الطب والهندسة والأمن والترفيه والدعاية والاعلان وفي الحفلات الموسيقية والمقاهي والمكاتب.. كما وتستخدم في مجال التعليم حيث تساعد على تحفيز ذهن الطالب على الابتكار من خلال التشويق والشد الذي يحققه التقاء هذه التقنية بالذكاء الاصطناعي فهي تقدم شروحاً لمفاهيم علمية معقدة بشكل مرئي جذاب. 

 في ظل غياب الثقة، الحاصل في عالم اليوم بسبب الفوضى والاضطراب الحاصل في العالم بشكل عام نتيجة الصراعات السياسية ومشاريع المال والاعمال ومشاكل المجتمعات والمشاكل الاسرية والفردية، فقد تأتي ثقافة الهولوغرام لتكون مشروعاً مستقبلياً جديداً جميلاً وجذاباً بحكم درجة التطور التقني الذكية التي يتم برمجتها من قبل كفاءات علمية وثقافية امينة، لعلماء ومفكرين معروفين بحضور البعد الإنساني في اعمالهم ومشاريعهم الفكرية فيتم اعادة تقييم كثير من السلوكيات والتصرفات والعادات والتقاليد المتواترة والمتوارثة في مجتمعاتنا بحيث تتناول ثقافة الهولوغرام دعوة جمهورها الى تصحيح الاخطاء في تلك المواريث الشعبية لتأتي سلوكيات الناس منسجمة مع واقعهم المعاصر. تساعد تقنية الهولوغرام في اعداد محاضرات ثقافية لها طابع مختلف تماماً عن المحاضرات التقليدية التي لها جمهور محدد وبأعداد قليلة، فمن شأن هكذا مشروع ان يوسع قاعدة حظور رواد المجلس الثقافي الذي تديره تقنية الهولوغرام ثلاثية الأبعاد وهي تقدم مادة ثقافية في أي مجال من مجالات المعرفة الانسانية.

يمكن توظيف تقنية الهولوغرام في تدريب واعداد مثقفين فاعلين في مجال تنمية الذات وصناعة الوعي بعيداً عن أي اعراض جانبية تضر بسلامة الوعي الإيجابي والمعرفة الإنسانية.

بسبب التمثل الحقيقي تقريباً للصور الثلاثية الأبعاد التي تنتجها تقنية الهولوغرام يشعر المشاهد وكأنه يعيش تفاعلاً حيوياً يمكن تقريب المسافات بين الماضي والحاضر من خلال هذا الشعور وهو ما يمكن ان يساعد على تكوين تربة جديدة معاصرة لبذر ثقافة جديدة يتحرك فيها كل من التراث والحداثة في مساحة زمانية ومكانية رقمية بأبعاد واقعية، ومن شأن هكذا بذرة ان تبشر بظهور شجرة كبيرة متماسكة وارفة الضلال كثيرة الثمار تغذي الاجيال المعاصرة تغذية حية تحفز فيهم الإبداع كونها تخاطبهم بلغة العصر التقني وبأدواته فهي بذلك تحفز التفكير المنطقي بشكل غير تقليدي.

في العراق توجد شركة تدعى Holo Iraq وفي مصر هناك شركة Hologram Egypt  وتعد جامعة الملك فيصل في السعودية اول جامعة في الشرق الأوسط تدخل تقنية الهولوغرام في مجال التعليم في عام 2024م.

بعد التراجع المخجل للدراما العربية في عموم العالم العربي عن إظهار الحدث الحقيقي للواقع الحياتي للناس، اتوقع ان تسهم تقنية الهولوغرام في اعطاء المجال للعلماء والباحثين والمختصين والمفكرين في تقديم مواد تخدم نهضة المجتمع وتطوير الواقع بتحديث طريقة حياة الناس. هذه التقنية وان كانت عالية الكلفة فإن ذلك لا يمنع وجود جهات متمكنة مادياً لديها مشروع انساني في الحياة تستطيع، بل لعلها تتمنى ان تمول هكذا افكار ومشاريع هادفة ضماناً لسلامة البناء الإجتماعي وتطوير الذات.

***

د. عدي عدنان البلداوي

صدر في عام 1980 تقريراً مهماً أعدته وزارة الثقافة الدنماركية مجموعة من الباحثين للبحث في العلاقة بين الأطفال والثقافة. تنص المقدمة على أن الأطفال الدنماركيين "تعرضوا لصدمة ثقافية لم يسبق لها مثيل في التاريخ. يخضع المجتمع لتطور سريع في التكنولوجيا والاتصالات لدرجة أن جيل الآباء تركوا مع تجارب وعادات وأنماط غير مفيدة للجيل الناشئ". إن تحليل الوضع الثقافي في عام 1980 يعكس شعوراً معاصراً بالوقوف في نهاية عصر ثقافي وعلى أعتاب عصر جديد. وفي هذه الحالة على وجه التحديد، كان الاتصال الجماهيري هو القوة الدافعة الأكثر أهمية في تغيير الأنماط الثقافية. وفي وقت لاحق، تلقت عوامل أخرى مثل انتفاضة الشباب، وحركة المرأة، والإنترنت، والهجرة، الفضل واللوم في تشكيل الدنمرك والحياة التي تطورت هنا.

قبل الثورة الثقافية في ستينيات القرن العشرين، كان يُنظر إلى "الثقافة" في المقام الأول على أنها المنتجات الثقافية والفنية الفعلية التي ينتجها ويستهلكها سكان المجتمع، تماماً كما كانت المنتجات الثقافية تنقسم في أغلب الأحيان إلى ما يسمى بالثقافة الجميلة والثقافة الشعبية. وفي الفترة التي أعقبت عام 1973، تمت مناقشة هذه التمييزات وتحديها وتم طمسها إلى حد ما. تحولت المسلسلات الدرامية التلفزيونية من كونها ثقافة منخفضة المستوى إلى كونها فنًا، وكان الأمر نفسه ينطبق على كتب الأطفال والقصص المصورة. وقد تم توسيع مفهوم الثقافة أيضًا لوصف "الحياة المُعاشة" بشكل أكثر اكتمالًا، مما يعني أن ظواهر مثل ثقافة الأطفال وثقافة الطعام والعديد من أشكال الثقافة الأخرى حظيت باهتمام متزايد.

سبعينيات القرن العشرين: القوة الثقافية للتلفاز

في عام 1973، كان تسعة من كل عشرة أسر دنماركية قادرين على مشاهدة التلفزيون. كان لدى إذاعة "دانماركس" احتكار البث في الدنمارك، مما جعل التأثير الثقافي للتلفزيون والإذاعة هائلاً ومثيرًا للجدل في نفس الوقت. وعندما توقف التلفزيون عن إعادة إنتاج أشكال التعبير التي توفرها المؤسسات السياسية والثقافية القائمة مثل الصحيفة والمسرح، واخترع بدلاً من ذلك أشكاله الخاصة، كان للتلفزيون تأثير ديمقراطي كبير. لقد ثبت أن الوسيلة الإعلامية تمتلك قدرة خاصة على إظهار الحياة الشخصية والحميمة، كما نجحت في جلب السياسيين والأشخاص العاديين من بلدان بعيدة والممثلين العظماء إلى غرفة المعيشة. وفي الوقت نفسه، كان احتكار البث يعني أن المشاهدين تلقوا قدراً كبيراً من المعلومات والإشارات الثقافية نفسها. وقد شاهد المسلسل الدرامي "ماتادور" (1978-1982)، الذي يصور التغيرات السياسية والاجتماعية بين عامي 1929 و1947 من خلال العلاقات الشخصية في بلدة إقليمية صغيرة، أكثر من 3.5 مليون مشاهد. الدنماركيون. كان برنامج Matador، مثل العديد من البرامج الدنماركية الأخرى، مستوحى من التلفزيون البريطاني، في هذه الحالة مسلسل Upstairs, Downstairs (1971-1975).

ولم تكن قوة التلفاز ثقافية فحسب. كان السياسيون وغيرهم من قادة الرأي يشعرون بالقلق من أن التلفزيون قد يمارس تأثيراً غير مبرر على الآراء السياسية للمشاهدين من خلال تصوير غير عادل لقضايا أو مجموعات معينة. تم تأسيس مفهوم التنوع في عام 1973 كمبدأ توجيهي على مستوى البرمجة، حيث ينبغي تمثيل وجهات النظر المختلفة بالتساوي على مدار الوقت، وليس في البث الفردي. لكن الاستقلال الصحفي المتزايد الذي تطور بفضل البث التلفزيوني لإذاعة دانماركس كان محل انتقاد مستمر.

التلقين وانتهاكات الاحتكار

طوال سبعينيات القرن العشرين، كان البطل الثقافي الجديد ليمين الوسط، زعيم الديمقراطيين الوسطيين، "إيرهارد جاكوبسن" في طليعة المنتقدين لإذاعة دانماركس. ومن بين أمور أخرى، كان يعتقد أن محتوى البرنامج كان طليعياً للغاية ومثيراً للتحدي. كان جاكوبسن يشعر بقلق خاص إزاء ما رآه بمثابة غسل دماغ يساري في برامج إدارة الأطفال والشباب. بدأت الانتقادات الموجهة إلى B&U بعد أن تولى رئيس جديد للقسم، موجينس فيمر، في عام 1968. تمت مناقشة المبادئ التوجيهية الجديدة في خريف عام 1972 في اجتماع الهيئة الإدارية لإذاعة الدنمارك. وهنا، ومن المثير للدهشة، أن رئيس الوزراء المحافظ في وقت لاحق بول شلوتر، الذي كان في ذلك الوقت رئيس لجنة مجلس البرنامج للأطفال والشباب، هو الذي دافع عن المبادئ التوجيهية للاتحاد. لقد رأى فيهم نقطة بداية معقولة للبرمجة الجيدة. لكن دعم شلوتر لـ B&U لم يوقف جاكوبسن، الذي استمر في انتقاد القسم وإذاعة Danmarks Radio طوال العقد. وقد نتج عن هذا الانتقاد، من بين أمور أخرى، عاصفة إعلامية، والتي بُنيت حول لائحة اتهام من لجنة المستمعين النشطين التي أنشأها إيرهارد جاكوبسن حديثًا (من عام 1976 المستمعين والمشاهدين النشطين).

وقد أدت الانتقادات الموجهة إلى إذاعة الدنمارك، إلى جانب التوسع في وسائل الاتصال الجماهيري، إلى ظهور أفكار حول إنشاء محطة تلفزيونية وطنية أخرى. بدأت قناة TV 2 بثها لأول مرة في عام 1988، وبالتالي كسرت احتكار Danmarks Radio للبث في الدنمارك. على قناة TV 2، كانت البرامج الترفيهية الشعبية مثل The Wheel of Fortune (بناءً على النموذج الأمريكي)، وبرامج الأخبار الإقليمية، والرياضة، والمسلسلات الدرامية الأجنبية هي أعظم نجاحات القناة. مع تزايد الفرصة للتبادل العالمي للمحتوى الثقافي عبر الأقمار الصناعية والتلفزيون الهجين، تم انتقاد التأثير السطحي لصناعة الترفيه الأمريكية على الحياة الثقافية الدنماركية. وعلى الرغم من عدم تأثرهم بالجدال، ذهب كثيرون إلى السينما وشاهدوا أفلاماً ناجحة مثل "إنديانا جونز ومهاجمو التابوت الضائع" (1981)، و"كروكودايل داندي" (1986)، و"المرأة الجميلة" (Pretty Woman) (1990)، والتي باعت جميعها ما بين 500 ألف و800 ألف تذكرة.

كاج وأندريا

كان كاج وأندريا جزءًا من برنامج Legestue، الذي تم بثه على راديو Danmarks منذ عام 1969. ولم يكن المستمعون والمشاهدون النشطون والمحافظون ثقافيًا واليمينيون المتدينون هم الوحيدون الذين انتقدوا برامج B&U. وانتقد اليسار، بما في ذلك نقابة المعلمين، محتوى البرامج. ومن بين أمور أخرى، اتُهمت شركة ليجيستيو بدعم حقوق الملكية الخاصة، كما تعرضت الدمى الشعبية لانتقادات بسبب تشجيع الأطفال على الهروب من الواقع بسبب مظهرها الشبيه بالإنسان وأعضائها التناسلية المفقودة. الصورة: DR/Ritzau Scanpix

الأصوات العديدة في السبعينيات

إن رغبة B&U في تمثيل الأشكال العديدة لحياة الأطفال، بما في ذلك الاختلافات في الاهتمامات بين الأطفال والبالغين، هي مثال جيد على كيفية تشكل الانفصال الثقافي في سبعينيات القرن العشرين. منذ أواخر الستينيات من القرن العشرين، تم تعريف الأطفال في المدارس والمتاحف ومراكز ما بعد المدرسة الجديدة والعديد من رياض الأطفال الجديدة بالمسرح والأدب والسينما، والتي كانت تستند إلى واقعهم وليس إلى عالم الكبار الذي سينتمون إليه لاحقًا.

وقد وجدت الرغبة في تمثيل اهتمامات الأطفال من خلال ثقافة الأطفال ما يوازيها في أدب العمال والنساء في سبعينيات القرن العشرين. ومن خلال إظهار الظروف المعيشية التي كانت قائمة للنساء والعمال والدنماركيين من المناطق الريفية، أراد مؤلفو ذلك الوقت تسليط الضوء على عدم المساواة البنيوية بين الجنسين والطبقات وبين المدينة والريف. وقد ظهرت هذه المواضيع، من بين أمور أخرى، في الخيال في أعمال مثل Tryghedsnarkomaner (1977) لفيتا أندرسن وKonen og æggene (1973) لجريتي ستينباك جنسن، ولكن أيضاً في كتاب المساعدة الذاتية Kvinde kend din krop (1975)، والذي بيع منه أكثر من 100000 نسخة. كان هدف الكتاب هو مساعدة النساء على فهم أجسادهن والتمرد ضد نظام العلاج الطبي الذي يهيمن عليه الذكور.

ثمانينيات القرن العشرين: الحميمية والثقافة الشعبية

يمكن النظر إلى الاتجاهات الثقافية السائدة في ثمانينيات القرن العشرين باعتبارها حركة مضادة لاتجاهات السبعينيات. وفي التلفاز والسينما والأدب، أصبحت الإخلاص والعاطفة والخيال تحظى الآن بأولوية أعلى مما كانت عليه في العقد السابق. وفي التلفزيون الموجه للأطفال، كانت برامج مثل "بامسس بيليدبوج" (1983-2008) تهدف إلى توفير الأمن للأطفال وتحفيز إبداعهم في وقت كانت فيه السلطات التعليمية في ذلك الوقت تشعر بالقلق من أن زيادة عمل الأمهات خارج المنزل يؤدي إلى انخفاض الاتصال بالبالغين، وأن الحياة في منازل الأسرة الواحدة في الضواحي تحد من قدرة الأطفال على اللعب في الطبيعة نتيجة للتحضر.

وقد تم تعزيز العلاقة الحميمة في الأدب، حيث اكتسب الشعر تأثيراً متجدداً مع شعراء مثل مايكل سترونج (1958-1986)، وبيا تافدروب (من مواليد 1952)، وسورين أولريك تومسن (من مواليد 1956). كثيرا ما وجد الشعراء الشباب الإلهام في موسيقى الروك. إن خليط ما كان يُعتبر في السابق إما ثقافة راقية أو ثقافة شعبية هو مثال جيد لكيفية اكتساب الثقافة الشعبية لمكانة معترف بها بشكل متزايد.

المتمردون الشباب والبقية

ومن الجزء الناطق باللغة الإنجليزية من العالم جاءت أيضاً ظاهرة ثقافية أخرى - ظاهرة اليوبي (الشباب المهني الحضري). كانت الظاهرة تشير إلى مجموعة صغيرة من الشباب، من الشباب المترفين، الذين كانوا ملتزمين بالرأسمالية والاستهلاك وفي نفس الوقت محافظين ثقافياً، والذين شكلوا مع نظرائهم اليساريين في حركة احتلوا وول ستريت، الحركات الشبابية الرائدة في ثمانينيات القرن العشرين. ويمكن النظر إلى كليهما باعتبارهما استجابات ثقافية هوية لنفس التحدي: وهو أن الشباب لم يشعروا بأن دولة الرفاهية هي الحل لمشاكلهم أو تطلعاتهم. لقد تبنى اليوبيز المنطق النيوليبرالي، حيث يجب أن يكون كل فرد هو المهندس لثروته الخاصة، لأن الدولة لم تتمكن من تلبية طموحات الأفراد من خلال مساواتها في عدم المساواة من خلال إعادة التوزيع. كما قام أعضاء حركة BZ، الذين أخذوا اسمهم من تركيزهم على احتلال المنازل والمباني الفارغة، بأخذ الأمور بأيديهم أيضًا، لكنهم عارضوا الرأسمالية وحقوق الملكية الخاصة وأرادوا التخلص من الدولة لأنها تقمع المواطنين وتحمي أصحاب السلطة. وعلى النقيض من الحركات الجماعية مثل حركة الهيبيز وحركة المرأة، كانت الحرية في عدم اتباع هدف جماعي في المواجهة مع الوضع الراهن هي التي ميزت الحركتين.

لقد لعبت موسيقى البانك دوراً رئيسيًا في حركة BZ، ولكن لم تكن فرق البانك هي التي اجتذبت الجمهور الكبير في الثمانينيات. ومن ناحية أخرى، كان عبارة عن موسيقى روك أند رول عائلية، كما قدمتها، على سبيل المثال، شو-بي-دوا. لقد أصبح الروك ككل سائدًا وخاصة فرق وموسيقيو آرهاوس مثل TV-2 و Gnags و Anne Linnet Band الذين حققوا أرقامًا قياسية في المبيعات طوال الثمانينيات من خلال موسيقى الروك الشعبية ذات النطاق الواسع. في الوقت نفسه، حقق كيم لارسن، المدير الموسيقي لفرقة الروك Gasolin' في السبعينيات، بالتعاون مع المنتج السينمائي إريك بالينج، نجاحًا كبيرًا مع موسيقى فيلم Midt om natten (1984). وقد شاهد الفيلم أكثر من 800 ألف شخص، ولقي انتقادات واسعة النطاق.

إلى كل من مفاهيم BZ الرومانسية حول المجتمع البديل والرأسمالية باعتبارها الأساس المثالي لدولة الرفاهية.

تسعينيات القرن العشرين: مسألة حدود التنوع الثقافي

وقد اتخذت الأسئلة المتعلقة بالهوية الثقافية والتنوع منحى جديداً طوال ثمانينيات القرن العشرين وخاصة في تسعينياته. في حين أن التحدي الذي واجهته الثقافة الراسخة في الستينيات والسبعينيات جاء من أشكال فنية وثقافية أقل شهرة مثل فن الأداء والإباحية والثقافة الشعبية وكان إلى حد كبير حول المواجهة بين النخبة والثقافة الجماهيرية، فإن التحديات في الثمانينيات تحولت جزئيًا إلى التركيز على مسألة الثقافة (الثقافات) الأجنبية مقابل مفاهيم الثقافة الدنماركية.

ولم تكن الأقليات الدينية والثقافية واللغوية ظاهرة جديدة، ولكن موقفها في علاقتها بالثقافة السائدة لم يكن محل مناقشة بشكل متسق ومستمر في وقت سابق من القرن العشرين كما كان الحال في الثمانينيات والتسعينيات. لا شك أن التيارات الديمقراطية القوية في الثقافة قد تحدت المفاهيم القائمة حول التقاليد الثقافية الدنماركية الفريدة نسبيًا، ولكن في المقام الأول من منظور النوع والطبقة، وليس من منظور وطني أو ديني. ومن ثم، أصبحت التفضيلات الثقافية الموجودة بين مجموعات المهاجرين الذين قدموا إلى الدنمارك، وخاصة منذ ثمانينيات القرن العشرين، تشكل تحدياً أكبر. ومن ثم نشأ خلاف كبير حول ما إذا كان من الممكن استيعاب الأشكال والقيم الثقافية الجديدة، وخاصة تلك التي لها خلفية إسلامية، في الثقافة الدنماركية ومن خلالها. ولقد جلبت العقود التالية مخاوف متزايدة وصراعات ثقافية في هذا التقاطع.

على الجناح البرجوازي، كان التكامل يُنظر إليه في البداية باعتباره مسؤولية شخصية، في حين أصدر الديمقراطيون الاجتماعيون والحزب الراديكالي تشريعات بشأن التكامل في عام 1998. ولكن في وقت لاحق من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أصبح الحماس التشريعي عظيماً بين الساسة البرجوازيين الذين أرادوا التكامل بالقوة من خلال تنظيم التعبيرات والعادات الثقافية والدينية.

تحدي وتوسيع نضال المرأة

لقد أصبح وضع المرأة المهاجرة بمثابة نقطة ضعف خاصة بالنسبة للحركة النسائية في تسعينيات القرن العشرين. لقد واجهت ناشطات حقوق المرأة، مثل أجزاء من اليسار، صعوبة في إيجاد موطئ قدم في قضية احترام الاختيار الديني للمرأة الفردية وانتقاد الأنماط الثقافية والدينية التي أبقت المرأة في دور إقصائي. ولذلك تعرضت النسويات واليسار لانتقادات شديدة بسبب فشلهم، باسم التسامح، في مساعدة المهاجرين واللاجئين المعرضين للخطر والذين كانوا في حاجة إلى مساعدتهم.

وتوسع نضال المرأة ببطء ليصبح نضالاً بين الجنسين، حيث تم مكافحة التحديات البنيوية بغض النظر عن الجنس. ومع ذلك، ظلت التحديات التي تواجهها النساء أكبر من تلك التي يواجهها الرجال في العديد من المجالات. في التعليم العالي، على سبيل المثال، تفوقت النساء على الرجال في عدد الطلاب في عام 1999، وبعد عشرين عاما، في عام 2018، كان الرجال لا يزالون يشغلون ما يقرب من 80% من مناصب الأساتذة - وهي الصورة التي كانت واضحة أيضاً في مجالس إدارة الشركات والإدارة. وبالمقارنة مع بلدان الشمال الأوروبي الأخرى، فإن هذا يعني أن الدنمارك كانت أيضًا متأخرة كثيرًا في مجال المساواة بين الجنسين في هذه المجالات.

في عام 1989، تم إقرار القانون الدنماركي بشأن الشراكة المسجلة (بين شخصين من نفس الجنس) باعتباره الأول من نوعه في العالم، ومع ذلك، لم يُسمح بالزواج بين شخصين من نفس الجنس عن طريق حفل زفاف الكنيسة إلا في عام 2012. في عام 1996، أقر البرلمان الدنماركي قانونًا ضد التمييز على أساس التوجه الجنسي، والعرقي، والديني، والمعتقدات السياسية، والعمر، والإعاقة. ومع ذلك، ظلت المفاهيم المتعلقة بالجنس والمعايير المتعلقة بالحياة الأسرية تشكل نقطة خلاف في النقاش العام. وهذا يعني، من بين أمور أخرى، أن المثليات والنساء العازبات لم يحصلن على حق التلقيح الاصطناعي إلا في عام 2006. في عام 2017، أصبحت الدنمارك أول دولة في العالم تزيل تشخيصات المتحولين جنسياً من قائمة الأمراض.

العقد الأول من القرن الحادي والعشرين: سياسات القيم والهوية كساحة معركة مسيسة

لقد استمر الصراع القيمي حول الهجرة الذي ميز فترة التسعينيات من القرن العشرين في كل من العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين. ولم تكن معركة القيم مجرد معركة حول عدد المهاجرين، وإمكانية اندماجهم، ومكانتهم الاجتماعية. وبما أن قضايا التكامل تحولت إلى صراع حول الهوية الدنماركية، والتي كانت تُفهم دائمًا تقريبًا على أنها مفردة، فقد كان الأمر أيضًا صراعًا حول تعريف التقاليد والتاريخ الدنماركي. ويظهر ذلك جلياً، على سبيل المثال، في النقاش حول التراث الثقافي منذ عام 2005.

وقد تعزز الصراع البرجوازي من أجل القيم بخطاب رأس السنة الذي ألقاه فوغ راسموسن في عام 2002، حيث استبعد النخبة الثقافية والعلمية مما يسمى "قضاة الذوق". ولكن هذا هو الخط الثقافي المحافظ النخبوي بالتحديد الذي اتبعه وزير الثقافة المحافظ في الحكومة المحافظة، بريان ميكلسن، عندما أطلق مجموعته الثقافية في عام 2004. وكان من المقرر أن تقوم سبع لجان بوضع المجموعة، والتي أصبحت فيما بعد ثماني لجان لأن أعضاء اللجنة أرادوا إدراج ثقافة الأطفال.

عند النظر إليه من مسافة بعيدة، ربما أصبح مشروع المدافع في الأساس لعبة حزبية لقادة الرأي وعنصراً من عناصر سياسة القيم المحافظة التي أدت في أعقابها إلى تفاقم المشكلة.

حاولوا خلال أزمة الرسوم 2005 و2006، التفوق على الخط السياسي الوطني لحزب الشعب الدنماركي. وكانت النتيجة الأكثر وضوحا للمشروع الأساسي هي أنه أكد على كيف أن الاحتضان الواسع والعابر للأحزاب السياسية لدولة الرفاهية أدى بدلا من ذلك إلى تحويل المعارضات السياسية الرئيسية بين الكتل الزرقاء والحمراء إلى مسألة قيم وثقافة.

كشكر ساخر لإدراجه في قائمة الأفلام الرسمية، أصدر مخرج الفيلم لارس فون ترير مقطع فيديو قام فيه بقطع الصليب من علم دانيبروغ وخياطة القطع الحمراء معًا لصنع علم جديد. كان ترير قد أثبت اسمه بالفعل في الثمانينيات من خلال أفلام ثلاثية أوروبا، وفي التسعينيات، بالتعاون مع توماس فينتربيرج، أنشأ البيان السينمائي "Dogme 95"، والذي ساعد في خلق اهتمام دولي بالسينما الدنماركية الجديدة. كانت مدينة ترير أيضًا وراء أحد أكبر نجاحات التصنيفات التي حققتها إذاعة Danmarks Radio في التسعينيات، وهو المسلسل الدرامي Riget (1994، 1997)، والذي استوحي من المسلسل الأمريكي Twin Peaks (1990-1991) وHomicide (1992).

العقد الأول من القرن الحادي والعشرين والعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين: مساحات ثقافية واجتماعية جديدة على الإنترنت

تم تطوير شبكة الويب العالمية (المشار إليها فيما بعد باسم الويب) في أوائل تسعينيات القرن العشرين في الوكالة الأوروبية للطاقة الذرية سيرن في سويسرا. في البداية، كان نطاق الإنترنت الدنماركي (.dk) يتكون في الغالب من مواقع الويب الخاصة بوسائل الإعلام الإخبارية الكبرى والجامعات والسلطات العامة والشركات الكبرى. وفي وقت لاحق، تطورت شبكة الإنترنت إلى مساحة اجتماعية جديدة. حوالي عام 2000، بدأ الأفراد في إنشاء مدوناتهم الخاصة بشكل جدي، ومع تطور منصات التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك (2004)، أصبح من السهل إنتاج المحتوى للويب بنفسك. لقد كان Borger.dk (2007) وe-boks (2001) بمثابة استجابة السلطات العامة للتواصل والتحكم مع المواطنين المقيمين في الدنمارك، ومنذ عام 2014 فصاعدًا، كانت جميع الاتصالات بين المواطنين والقطاع العام رقمية من حيث المبدأ.

الثقافة الجماهيرية وتطور وسائل الإعلام

وفي الوقت الذي أصبح فيه الإنترنت جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية للدنماركيين، أصبحت الفرص الجديدة أيضاً تشكل تحديًا للجمهور الدنماركي. ومع توجه المزيد من دولارات الإعلان إلى شركات مثل جوجل وفيسبوك، تعرضت وسائل الإعلام التجارية الدنماركية لضغوط فيما يتصل بقاعدة أرباحها. وعلى الرغم من أن الصحف اليومية كانت مسؤولة عن 71% من الأخبار الأصلية في عام 2008، فإن إيراداتها انخفضت. ولمواجهة هذه الضغوط، انضمت وسائل الإعلام الخاصة إلى جمعية وسائل الإعلام الدنماركية. وقد شكلت الجمعية، بالتعاون مع السياسيين البرجوازيين المتجاوبين، جبهة مشتركة ضد القيادة مقابل الترخيص. اتهمت صحيفة دانسكه ميدير الحزب الديمقراطي التقدمي بأنه يحظى بشعبية كبيرة بين الدنماركيين لدرجة أنه سرق منهم عائدات الإعلانات، وهي الحجة التي تعارض بشكل مباشر انتقادات الأحزاب البرجوازية للحزب الديمقراطي التقدمي لعدم تمثيل آراء وثقافة عامة السكان. وكانت النتيجة هي خفض DR بنسبة 20% في عام 2018 في تسوية إعلامية، وهو ما أكد أيضًا على أهمية المسيحية في عمل مؤسسة الإعلام.

في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تم تصدير الأفلام والتلفزيون الدنماركي إلى الخارج بنجاح متزايد. وبعد أن اختارت هيئة الإذاعة البريطانية شراء مسلسل The Crime (2007-2012)، حذت حذوها العديد من البلدان الأخرى، كما حظيت مسلسلات لاحقة مثل Borgen (2010-2013) وDicte (2013-2016) بتوزيع واسع النطاق في الخارج. وبالتدريج أصبح من الممكن رؤية الممثلين الدنماركيين في الأفلام الروائية والمسلسلات التلفزيونية الدولية الكبرى. أصبحت المسلسلات التلفزيونية الدولية، مثل المسلسلات الدنماركية، شكلاً تجريبيًا متزايدًا للتعبير، ووجد مصطلح "Nordic Noir" تداولًا دولياً لوصف ليس فقط الإنتاج الثقافي الدنماركي، بل والإنتاج الثقافي النوردي الواسع النطاق مع الأفلام وروايات الجريمة والموسيقى.

التطور التكنولوجي والتحديات والفرص

لقد تطورت الأجهزة التكنولوجية بسرعة بعد عام 2000، واكتسبت الهواتف الذكية على وجه الخصوص أهمية ثقافية كبيرة بسبب مرونتها وقدرتها الكبيرة. مع ظهور هاتف بلاك بيري (1999) ثم هاتف آيفون (2007)، أصبح الإنترنت شيئاً يستطيع أي شخص أن يحمله في جيبه. تعني تقنية اللمس والتطبيقات سهلة الاستخدام أن الجميع، بدءًا من الأطفال وحتى كبار السن، أصبح لديهم الآن إمكانية الوصول إلى العالم الرقمي المشترك. مع التطوير المستمر للبنية التحتية والأجهزة والبرامج الجديدة والأفضل والأسرع، أصبح الهاتف الذكي البوابة الأساسية للويب ونقطة محورية للعولمة. إن متطلبات التغطية الشبكية العالية التي فرضت على مقدمي الخدمات من القطاع الخاص مع تحرير سوق الاتصالات في تسعينيات القرن العشرين، إلى جانب المناظر الطبيعية الدنماركية المسطحة (التي جعلت من السهل تغطية البلاد بإشارات الراديو)، تعني أن مستخدمي الهواتف المحمولة في الدنمارك حصلوا على أسعار منخفضة وتغطية جيدة، بغض النظر عن مكان وجودهم في البلاد تقريبًا.

لقد أثر ظهور التكنولوجيا الجديدة بشكل عميق على المجال الخاص لمعظم الدنماركيين، لأن العديد من جوانب الحياة اليومية أصبحت تتم من خلالها بشكل متزايد. ولكن الجمع واسع النطاق للبيانات والمراقبة والتأثير السلوكي الذي أتاحته شبكة الإنترنت لم يكن يقلق الكثير من الناس حتى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ولكن هذا تغير بعد كشف إدوارد سنودن عن برامج المراقبة السرية الأميركية في عام 2013، وبعد ذلك مع الاهتمام بدور فيسبوك في الإبادة الجماعية والتلاعب بأصوات الناخبين، فضلا عن تأثير روسيا على الانتخابات في الولايات المتحدة وأوروبا. والآن هناك قلق متزايد بشأن استخدام البيانات للتنبؤ والتأثير على سلوك الناس وفرصهم. في عام 2018، اعتمد الاتحاد الأوروبي اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) الأكثر شمولاً في العالم للحد من الاستخدام غير المرغوب فيه للبيانات الشخصية.

كانت التحديات الرئيسية المتعلقة بالغموض فيما يتعلق بحماية البيانات والخصوصية واحدة من الجوانب السلبية للويب. ولكن سهولة الوصول تعني أيضاً إمكانيات ديمقراطية جديدة وعابرة للحدود. ومن خلال استخدام هاشتاج #MeToo منذ عام 2017، تمكن الأشخاص، وخاصة النساء، الذين تعرضوا للتحرش الجنسي والاعتداء، من إيجاد مجتمع عالمي ودعم عبر الإنترنت وخلق وعي متزايد حول المشكلة. وبالمثل، استخدم الأطفال والشباب في جميع أنحاء العالم وسائل التواصل الاجتماعي لزيادة الوعي بشأن اهتمامهم بوقف أزمة المناخ. وأدى ذلك إلى إضرابات في أكثر من 70 دولة في ربيع عام 2019.

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

للمفكر المصري الشهير (نصر حامد أبو زيد)، اهتمامات بالغة في طبيعة التعاطي مع النص الصوفي، وقد يعود لطبيعة المنهج الذي حكم أبو زيد في قراءة النص والتراث، العلة الرئيسة في ضرورة البحث عن تراث الشيخ الأكبر. فقد طرح مشكلة النص الأكبري في كتابين مستقلين، الأول والموسوم بـ (فلسفة التأويل-دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين بن عربي)، والذي كان لاحقاً لما انتهى إليه أبو زيد من دراسة (قضية المجاز عند المعتزلة)، والذي قدمه كرسالة لنيل شهادة الماجستير، وقد انتهى في الأخير إلى أن المجاز تحوّل في يدِّ المتكلمين إلى سلاح لرفع التناقض المتوهم بين آيات القرآن من جهة، وبين القرآن وأدلة العقل من جهة أخرى. وقد كانت هذه النتيجة هي الأساس الذي حدا بالباحثِ إلى محاولة استكشاف منطقة أخرى من مناطق الفكر الديني، وهي منطقة التصوف، لدراسة تلك العلاقة بين الفكر والنص الديني واستنكاه طبيعتها ومناقشة المعضلات التي تثيرها، وذلك استكمالاً للجانبين الرئيسين في التراث: الجانب العقلي كما يمثله المعتزلة، والجانب الذوقي عند المتصوفة".

أما الكتاب الآخر عن ابن عربي، فقد كان بعنوان: (هكذا تكلم ابن عربي) فبعد أن أتمَّ أبو زيد رسالته المذكورة سلفاً-فلسفة التأويل- أراد أن يعيد كتابتها بطريقة أخرى تبرز قضايا التأويل لتحتل "متن" الرسالة، في حين يكفي "الهامش" للتعامل مع القضايا ذات الطابع الفلسفي البحت. فجاء كتابه الموسوم بـ "هكذا تكلم ابن عربي".

ويُمكن عدّ السبب الرئيس في ضرورة استدعاء نصر حامد أبو زيد للنصوص الروحانية-ابن عربي أنموذجاً، إلى أن الأخير قد يُمثّلُ مطلباً مهماً وملحاً، لعلنا-كما يشير أبو زيد-نجد في تجربته ما يُمكن أن يُعدُّ مصدراً للإلهام في عالمنا الذي سبق أن ألمحنا لبعض مشكلات الحياة فيه. بالتالي فإن التجربة الروحية هي مصدر التجربة الفنية-الموسيقى والأدب وكل الفنون السمعية والبصرية والحركية-فهي الإطار الجامع للدين والفن... وفضلاً عن ذلك، وعن الأهمية التي يلعبها ابن عربي باعتباره همزة الوصل ما بين التراث الصوفي والفلسفي؛ فإن استدعاء ابن عربي في السياق الإسلامي- واستعادته من أفق الهامش إلى فضاء المتن مرة أخرى-يعود إلى سيطرة بعض الاتجاهات والأفكار والرؤى السلفية على مجمل الخطاب الإسلامي.

ويطرح أبو زيد في كتابه (هكذا تكلم إبن عربي) التساؤل التالي: ماذا يمكن أن يقول أبن عربي في القرن الواحد والعشرين، من وراء ستار القرنين الثاني عشر والثالث عشر؟". ونحن نسأل، ما هي الأهمية التي يكتسبها النص الصوفي لابن عربي؟ ويجمل أبو زيد تلك الأهمية بما يلي:

1- أهمية ابن عربي نفسه ودوره في تاريخ الفكر الإسلامي، بالإضافة إلى استكمال الجانبين الرئيسيين في التراث: الجانب العقلي عند المعتزلة، والجانب الذوقي عند المتصوفة.

2- إن دراسة ابن عربي نفسه تثير بشكل واسع معضلة التأويل، كما تنعكس هذه المعضلة في التفسيرات المختلفة والمتعارضة أحياناً والتي طرحت لفكر ابن عربي وقيمته.

3- إن دراسة التأويل عند ابن عربي، ليس مجرد وسيلة في مواجهة النص بل هو منهج فلسفي كامل ينتظم فيه الوجود والنص معاً، ومن ثم فإن ابن عربي يطرح لنا فلسفة في التأويل قد تساعدنا على كشف الجوانب المتشابهة في فكر غيره، سواء السابقين عليه أو التالين له.

هذه الأسباب، بحسب قول أستاذنا الدكتور (علاء جعفر) في كتابه المهم (إشكالية النص الصوفي)، تكشف لنا عن أهمية ابن عربي، بوصفه، كما يقول أبو زيد نفسه، همزة وصل بين السابقين واللاحقين من المتصوفة، فقد تضمنت تجربته، مجموعة من المفاهيم والتطورات عند سابقيه وهو بتجربته قدّم من خلال تلك المفاهيم والتطورات مركّب جديد هو ما يدعى بالتصوف الحكمي، وذلك بتأويل التجارب السابقة عليه، وهذا ما ساعده على تبديد كثير من الغموض الذي يكتنف تجاربهم، ولعل في مقدمتهم (الحلاج)، لهذا تقوم قراءة أبو زيد على هذا المجال الذي يرى فيه، أنه اختزال كل تجربته الصوفية والفلسفية، لذلك يحق لنا، كما يقول الدكتور (علاء جعفر)، أن نصف قراءة أبو زيد بـ تأويل التأويل، فهي قراءة قائمة على تأويل ابن عربي، بوصفه المؤول الأعظم لروحانية الإسلامية.

وفي قراءة أبي زيد التأويلية للنص الأكبري نجد أنفسنا ننتقل في جغرافيا الوجود واللغة والإنسان، وهذه الجغرافيا غير منبسطة، بل هي رحلة في أرض وعرة لا يذلل المسير فيها سوى التأويل، ويبقى شرط النفاذ من الظاهر الحسي المتعين إلى الباطن الروحي العميق، وآليات تأويله لا يقوم بها إلا الإنسان الكامل، فهو الكون الذي اجتمعت فيه حقائق الوجود وحقائق الألوهية في نفس الوقت.

إن الإشكالية الأساسية التي تبرز في القراءة التأويلية لنصر حامد أبو زيد، هي إشكالية الثنائية ما بين التأويل والوجود، وتبعاً لأبي زيد، يحاول ابن عربي أن يسد ثغراتها من خلال مجموع الوسائط التي هي مراتب الوجود، وقد قسمها أبو زيد إلى أربع مراتب كل مرتبة تضمُّ مجموعة من الوسائط، وهذه المراتب هي:

- المجموعة الأولى: وهي البرزخ الأعلى أو برزخ البرازخ أو الخيال المطلق، وتندرج في هذه المجموعة وسائط الألوهية والعماء وحقيقة الحقائق الكلية والحقيقية المحمدية أو العقل الأول أو القلم الأعلى، الألوهية هي الوسيط الذي يجمع بين الذات الإلهية والعالم من حيث إن الألوهية هي مجموع الأسماء الإلهية الفاعلة في العالم... أما العماء، فهو يمثل وسيطاً من نوع آخر بين الوجود المطلق والعدم المطلق، إنه وسيط حالة الإمكان التي توجد فيها بالقوة لا بالفعل أعيان الموجودات... في حين تمثل حقيقة الحقائق الوسيط العلمي الكلي، إنها الحقائق الكلية المعقولة التي تجمع بين القدم والحداثة... أما الحقيقة المحمدية أو العقل الأول أو القلم الأعلى فهي وسيط بين ثنائية الله والإنسان... هذه الوسائط الأربع تتوحد في فكر ابن عربي، وتعد مستويات مختلفة لحقيقة واحدة يطلق عليها البرزخ الأعلى أو برزخ البرازخ أو الخيال المطلق، ووظيفة هذا الوسيط الأساسية هي التوسط بين طرفي الذات الإلهية والعالم.

- المجموعة الثانية: هي ما يطلق عليه أبو زيد بعالم المعقولات أو عالم الأمر كما يسميه ابن عربي، هذا العالم يتوسط بين عالمي الخيال المطلق وعالم الخلق أو العالم المادي بمراتبه المتعددة... ويندرج في هذه المجموعة أربع وسائط تمثل أربع مراتب ينتمي أولها إلى عالم البرزخ، وهو العقل الأول أو القلم الذي هو أول مبدع في العماء، وينبعث عن هذا القلم اللوح المحفوظ أو النفس الكلية ثم الطبيعة والهباء اللذان ينتجان بدورهما أول عالم الأجسام وهو الجسم الكل أو العرش الذي يمثل آخر مراتب عالم الأمر وأول مراتب عالم الخلق.

- المجموعة الثالثة: وتبدأ بالعرش أو الجسم الكل، وهذه المجموعة بدورها تتوسط بين عالم الأمر والعالم الحسي المشهود، وهي في ذاتها تمثل عالم الخلق، وتقع في أربع مراتب، هي: العرش والكرسي والفلك الأطلس و فلك الكواكب الثابتة... وهذا العالم يعد علة لكل ما يحدث في عالم الطبيعة والاستحالة، لأنه يتضمن في إهابة كل التدرجات السابقة عليه، ويستمد علومه ومعرفته من عالم الأمر، ومعنى ذلك أن هذا العالم يمثل بدوره وسيطاً بين عالم الأمر وعالم الحس والشهادة من الناحيتين الروحية والطبيعية على السواء.

- المجموعة الرابعة: وتتمثل في الأفلاك السبعة المتحركة من السماء السابعة إلى السماء الأولى إلى الأرض التي يسكنها الإنسان خليفة الله وآخر الموجودات الحسية، والذي يعد في نظر ابن عربي الكون الجامع الصغير الذي اجتمعت فيه كل حقائق العالم الطبيعية والروحية من جهة، والذي يمثل أكمل المجالات الإلهية لإيجاده على الصورة من جهة أخرى.

وينتهي أبو زيد إلى أن هذا التصور لترتيب الموجودات من أرقاها (عام الخيال المطلق)، إلى أدناها (عالم الكون والاستحالة)، لا يقوم على أي تدرج زماني أو مكاني في نظر ابن عربي، بل الأحرى القول أنها كلها مراتب مختلفة وتعينات متعددة لحقيقة وجودية واحدة تنقسم بالنظر والاعتبار، ولكنها في ذاتها غير منقسمة أو متعددة.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

أحيانا اتامل بذرة التفاح اجدها رمزا في العديد من السياقات، بما في ذلك الفلسفة. في مزرعة الفلسفة، تمثل بذور التفاح القيم الأساسية أو الأفكار التي تُزرع، هل يمكن اعتبار بذرة التفاح كما يخيل لي رمزا يثمر عن معرفة جديدة...؟، تنمو البذور إلى أشجار مثمرة، كذلك الأفكار ايضا تنمو وتتطور مع الوقت الى مفاهيم، الأفكار الفلسفية المختلفة تنمو مثل بذور التفاحة، تتنوع كاشكال التفاح تُنتج ثمارًا عدة وتنتشر عبر الزمن، أنواع التفاح تتنوع، كما تتنوع الأفكار والفلسفات، الفلسفة رمز للبحث عن المعرفة، كذلك بذرة التفاح يمكن أن تُعتبر رمزًا للبحث عن المعرفة كما في البدايات. البذور تُشير إلى بداية رحلة البحث، حيث تبدأ الأفكار في النمو والتطور على شكل بذرة. البحث عن البداية والمعرفة تتطلب التنبيه، من...! والتفاعل مع العالم. البداية تبرز قيمة المحيط، لا توجد الا افعى في عالمه. الانسان...! والشيطان قد تعلم وإدراك العديد من الثقافات، شجرة التفاح تمثل المعرفة والحكمة، مثلما يتضح في الأساطير والسرد، ما عزز من دورها كرمز كون التفاح متنوع حتى في شجرة واحدة مثل أنواع المعرفة تعكس تنوع الأفكار، ما يُثري حواري حول المعرفة وبذرة التفاح كونها رمزا معرفيا قديما وحديثا، يحمل دلالات عميقة على إيقاع الزمن الآتي، بذور التفاح تمثل القدرة على الاستمرار والنمو في أوقات التغير، في عالم مليء بالتحديات تظل المعرفة ركيزة أساسية للتكيف في عالم متشظي. تنوع المعرفة هو القدرة على التكيف مع الظروف المختلفة، ما يعكس أهمية الفهم الشامل.  بذور التفاح تحمل في طياتها فكرة نقل المعرفة من جيل إلى جيل لذا يمكن لبذور التفاح أن تكون رمزًا قويًا للمعرفة التي تتجاوز الزمن وتتكيف مع التغيرات، وتبرز أهمية البحث المستمر. يمكن ربط رمز بذرة التفاح بمفهوم الابتكار والتجديد، تمثل بذور التفاح نقطة انطلاق لشيء جديد، حيث يمكن لكل بذرة أن تُنتج شجرة جديدة تحمل ثمارًا والوان مبتكرة. هذا يعكس فكرة الابتكار ممكن ان يكون مصدر للفرص الجديدة، كلما تنمو البذور لتصبح أشجارًا تنتج ثمارا جديدة، الأفكار الجديدة تتطور وتنمو من خلال البحث والتجريب، ما يعزز من مفهوم التجديد ويعكس القدرة على النمو.

التفاحة كرمز للخطيئة الأولى

يحمل هذا المفهوم أبعادًا فلسفية عميقة، خاصة في السياقات الاسطورية والأدبية. يُعتقد أنها تعكس رغبة الإنسان في فهم العالم من حوله وهو يخوض الصراع بين الفضيلة والرغبة في المعرفة ومفهوم حرية الإرادة، مما يعكس فكرة المسئولية، ان التفاحة تُجسد الصراع الداخلي بين الخير والشر تطرح تساؤلات حول طبيعة الإنسان ورغباته الأساسية. تطرح  الخطيئة الأولى فكرة الفضول و التعلم ، تجربة التفاحة تظهر أن التجربة والخطأ جزء من رحلة النمو الشخصي، التفاحة تشير إلى التحول من حالة البراءة إلى حالة الوعي وهنا مكمن الخطر...!، لأنها تعكس كيف يمكن للمعرفة أن تؤدي إلى تغييرات جذرية في الحياة  وتُثير تساؤلات حول معنى الوجود، وما إذا كانت المعرفة تستحق العواقب التي تأتي معها ،كذلك يكمن ان يعكس رمز التفاحة أبعادًا فلسفية متعددة تتعلق بالحرية، الاختيار، والتعلم، مما يجعلها رمزًا معقدًا وعميقًا في الفلسفة ،ويجعلها رمزا مرتبطا بمفهوم العدمية بعدة طرق، يتجلى ذلك في عدة أبعاد ،منها اعتبار التفاحة رمزًا لتحقيق المعنى و الخلود لكنه محروس بالتابوات وبعيد المنال. المعرفة، التي تؤدي إلى إدراك نفسها لا تعطي حياةً ذات معنى مثلما اختار آدم وحواء، تؤدي الى العدمية قدر تعلقها بالاختيار والحرية، العواقب تُثير تساؤلات وجودية منذ البدء...! هذا يتماشى مع العدمية، التي تستكشف كيف أن الأفعال قد تكون غير مجدية أو عديمة الفائدة في النهاية. حالة الوعي، عندما يشعر الانسان أن الحياة قد تكون خالية من المعنى او عند اكتشاف الحقائق القاسية، التي ستقوده إلى المعنى وتحاصره نهايات بلا معنى، مما يتماشى مع العدمية التي تُظهر كيف يمكن أن تكون هذه التجارب غير مُرضية أو غير مُجدية بهذه الطريقة. الزمن الذي يتسرب هو فكرة ازلية الزمن وفقدانه للمعنى يعكس صورة الذات الحائرة، وهي فكرة عدم القيمة التي تمثلها الظلمة والفراغ، ويُعبر عنه عدم وجود الهدف، اللاوجود يمكن أن يكون رمزًا للغموض والفراغ ويمثل الفشل أو عدم وجود مخرج، ويعكس اليأس وفقدان الأمل. التظاهر في عدم القدرة على الكشف عن الذات الحقيقية، يعكس الشعور بالانفصال.

فقدان الخصوبة والعدمية

يمثل فقدان الخصوبة النهاية وعدم التجدد والجمود، ويبرز الجوانب المختلفة لمفهوم العدمية يقدم رؤى فلسفية متجزأة عن الوجود، والمعنى، والصراع. بذرة التفاح تمثل التمرد ضد الفناء بطرق عميقة ومعقدة، تمثل بذور التفاح القدرة على النمو والتجدد، من خلال زراعة بذور جديدة، يُمكن مواجهة الفناء وتقديم فرصة لحياة معرفية متجددة. المعرفة تُعتبر وسيلة للتمرد ضد الجهل والفناء. تمكن الإنسان من فهم حياته ووجوده ويمكن ان تعتبر بذور التفاح رمزًا للإبداع والابتكار، حيث تظهر التمرد على الفناء من خلال الابتكار المستمر الذي يسعى إلى خلق شيء جديد دائم وتجارب انسانية تتجاوز الفناء وتجسد الفكرة أن كل وهناك بذور تحمل إمكانية جديدة للحياة. بذره قد تُشير إلى الموت والفناء المعرفة، تبرز أهمية التعلم والتطور وتشير إلى الصراع مع الموت، لكن دون التركيز على المعرفة والإبداع سنتجاوز مفهوم التجدد الطبيعي ونكون بالاستمرار مثل العلامة التي تُشير إلى الانكسار والفقد، وينظر الى عدم القدرة على الإبداع والإجابة على السؤال المركزي كيف يمكن للحياة أن تستمر رغم الفناء...؟ الفناء أو التغيير توضحه بذ ور التفاح، يشكل الابداع جسرا يُعبر عن التوازن بين الموت او الحياة الموت والحياة مثل التي تنجو صدفة من خلال تمثيل إمكانية الاختيار الاختيار...!، حيث يمكن للإنسان اختيار زراعة البذور أو تركها. هذا يعكس مفهوم الحرية في الفلسفة، حيث يُعتبر الاختيار جزءًا أساسيًا من التجربة الإنسانية في المعرفة والتمرد ضد الجهل والمصير المحدد. يمكن أن تُعبر بذور التفاح عن الرغبة في تجاوز العدمية من خلال تحقيق الذات والنمو، تمثل البذور الأمل في المستقبل، مما يُعبر عن التمرد ضد اللا معنى. بعض الفلاسفة يرون في الإبداع مقاومة للعبثية، مما يعكس قدرة الإنسان على خلق معنى في عالم قد يبدو خاليا من المعنى، بهذه الطريقة، تُعتبر بذور التفاح رمزًا غنيًا للتمرد في الفلسفة، حيث تعكس الصراعات الإنسانية، في الاختيار، والمعرفة، والتغيير، مما يُبرز الأبعاد العميقة للوجود في كيفية تُفسير هذه الرموز في سياق الفلسفة الحديثة، يمكن تفسير بذور التفاح والرموز الأخرى للتمرد بطرق متعددة، تعكس تعقيد الفهم الإنساني وتحدي المفاهيم التقليدية وتُبرز كيفية تشكيل الهوية من خلال التجارب الفردية، مما يتماشى مع فكرة أن كل بذرة تحمل إمكانية مختلفة تعتبر رمزًا للتعددية الفكرية مختلفة البنية والماهية، حيث تجسد فكرة أن كل بذرة تُعبر عن تجربة فريدة وماهية جديدة قد تعبر بالفكر الإنساني الى مصاف حضارات كونية. بذور التفاح تعكس فكرة الدورات الطبيعية والنمو المستمر، مما يُظهر كيفية أن التعاطي مع الماضي والحاضر والمستقبل مترابط في ظل الاهتمام المتزايد بقضايا الانسان، تُعتبر بذور التفاح رمزًا للاستدامة والتمرد على الأنماط التقليدية. هذا يتماشى مع الفلسفات ما بعد الحداثية التي تدعو إلى إعادة التفكير في علاقة الفلسفة بالإنسان وهي علاقة غنية مليئة بالمفاجئات وتعبر عن التعددية، والاختيار، والتحدي، مما يعكس التعقيد والعمق للفهم الإنساني في عالم معاصر مضطرب.

***

غالب المسعودي

 

في المساقات الماضية ناقشْنا مع (ذي القُروح) محطَّات في رحلة الثقافة العَرَبيَّة من الشِّفاهيَّة إلى التدوين، مشيرين إلى بعض تقنيات الطَّورَين الشَّفوي والكتابي، وما اعترى جدليَّاتهما من عقبات وعثرات. ثمَّ قلت له:

ـ قلتَ لنا، يا (ذا القُروح): إنَّه قد يُطلَق مصطلح «كِتاب» في التُّراث العَرَبي على المكتوب عمومًا، وإنْ كان رسالةً في بضع صحائف، أو حتى في صحيفة واحدة. ومثَّلت على ذلك بكتابٍ مخطوطٍ منسوبٍ إلى (الجاحظ)، عنوانه «مئة كلمة من كلام أمير المؤمنين عَليِّ بن أبي طالب»(1)، وقد يُعَدُّ في جملة مصادر «نَهْج البلاغة». ومع هذا فقد ذكرتَ أنَّه لا يعدو، في مخطوطه، نحو 7 صحائف! ولقد وجدتُ هذا الذي سُمِّي كتابًا مضمَّنًا في كتاب (الثعالبي)، «الإعجاز والإيجاز»(2)، في أقل من ثلاث صحائف!

ـ أفادك الله! ولو حذفتَ حواشي الشارح لصار في صحيفتين!

ـ لكن بعيدًا عن هذا، ألا ترى كيف جاء اختيار عنوان «نَهْج البلاغة»، في ذاته، دالًّا على أنَّ (الشَّريف الرَّضِي) إنَّما أراد أن يقول إنَّ تلك مدرسة (عَليٍّ، كرَّم الله وجهه) في الخطابة، وذلك نَهْجه في التعبير، فسَمَّى كتابه «نَهْج البلاغة»؛ لمن أراد أن يحذو حذو الإمام في النَّهْج المأثور من خطابته. ولو كان موقنًا أنَّ ما ضمَّنه كتابه هو من كلام عَليٍّ، بلا شَكٍّ، لسمَّاه «خُطَب أمير المؤمنين ورسائله ووصاياه وحِكَمه»، في عَزْوٍ صريح إليه؟

ـ نعم، وقد ألمحتُ إلى هٰذا في المساق الماضي. لقد بدا (الشَّريف) حريصًا على أن يَظهر بمظهر الراوي، تاركًا العُهدة على من أخذ عنهم.  وهذا ما نَصَّ عليه شارحه (ابن أبي الحديد)(3)، حيث قال: «إنَّ الرَّضِىَّ، رحمه الله تعالى، نقلَ ما وجدَ، وحكَى ما سمعَ، والغَلَط من غيره، والوَهْم سابقٌ له.» لولا أنَّه، في الوقت نفسه، كان ينازعه شغفٌ قَهريٌّ، نفسيًّا ومذهبيًّا، لإثبات تلك النصوص، على أنَّها لـ(عَليٍّ)، ولو تخيُّلًا ومحاكاة. ولقد ذكر ابن أبي الحديد(4)، بشأن الخطبة السادسة عشرة- من خُطَب «النَّهْج» المنسوبة إلى عَليٍّ، التي قيل إنها خطبته لمَّا بُويع في (المدينة المنوَّرة)- أنَّها كانت فيها «زياداتٌ حذفَها الرَّضِيُّ، إمَّا اختصارًا، أو خوفًا من إيحاش السامعين.»

ـ ومَن هذا شأنه، فحَريٌّ أن يُضيف كذلك، ومَن هذا شأنه، فليس بأمين في نقله!

ـ وما اتِّهام الأُمَّة العَرَبيَّة والإسلاميَّة، من السَّلَف والخَلَف، بأنَّهم حاسدون حاقدون متعصِّبون، بل ربما نواصب، حينما يثيرون مثل هذه التساؤلات العِلميَّة المشروعة، إلَّا عَين النَّصب والتعصُّب، ودَسِّ الرؤوس في الدُّغمائيَّة المذهبيَّة، حتى لكأنَّ الشاكَّ في صِحَّة نِسبة «النَّهْج» بحذافيره إلى عَليٍّ- الذي عاش قبل نهاية النِّصف الأوَّل من القرن الأوَّل للهجرة بعشر سنوات- قد شكَّ في نسبة «القرآن» إلى الله سبحانه! مع أن «كثرة الوِفاق نِفاق، وكثرة الخِلاف شِقاق»، كما تعلِّمنا الحِكمة المنسوبة إلى (عليِّ بن أبي طالب) نفسه. أ فيريد هؤلاء أن ننافق، موافقين على ما نسبه (الشَّريف) إلى عَليٍّ، مغمضي الأعين والعقول، لنترنَّم معهم بأنَّ كل ما في «النَّهْج» صحيح النِّسبة إلى من نُسِب إليه، مئة بالمئة؟!

ـ توارُث الغُلُوِّ قد يبلغ مبلغه، حتى ينتهى- كما رأينا عن (القبانجي)- إلى القول بتفضيل بلاغة «النَّهْج» على بلاغة «القرآن»، هكذا، بغير عِلْمٍ ولا هُدًى ولا كِتابٍ مُنيرٍ. والغُلُوُّ يُعمِي ويُصِمُّ أكثر من الحُب؛ فكيف إذا أصبح تراث دِينٍ متوارثًا؟!

ـ ومن طرائف الغُلُوِّ عن (الشَّريف الرَّضِي)، في هذا السِّياق، ما رواه (ابن خلِّكان)(5) في ترجمته- وهي طُرفة ذات دلالةٍ بليغةٍ على تشرُّب هذا النَّهْج في نفسه منذ نعومة أظفاره- قال: «وذكر أبو الفتح ابن جِنِّي النحوي... في بعض مجاميعه أنَّ الشَّريف الرَّضِي المذكور أُحضِرَ إلى ابن السيرافي النحوي، وهو طفلٌ جِدًّا، لم يبلغ عمره عشر سنين، فلقَّنه النحو، وقَعَدَ معه يومًا في حلقته، فذاكره بشيءٍ من الإعراب على عادة التعليم، فقال له:  إذا قلنا: «رأيتُ عُمَر»، فما علامة النَّصْب في عُمَر؟ فقال له الرَّضِي: بُغْضُ عَليٍّ! فعَجِب السِّيرافي والحاضرون من حِدَّة خاطره. وذُكِر أنه تلقَّن القرآن بعد أن دخل في السِّنِّ فحفظه في مُدَّةٍ يسيرة».

ـ الحقُّ أنَّ هذه ليست بحِدَّة خاطر، بل هي حِدَّة انغلاقٍ تربويٍّ تلقينيٍّ، تَعرَّض لها هذا الطفل منذ نعومة أظفاره، وهو دون العاشرة. فلقد لُقِّن أنَّ اسم (عُمَر) إنَّما هو (عُمَر بن الخطَّاب)، وأنَّ عُمَر هذا وَحْشٌ شَبَحيٌّ كاسِر، وكان يُبغض (عَليَّ بن أبي طالب)، هكذا ضربة لازب، وأنَّ «النَّصْب» لا معنى له إلَّا معناه الاصطلاحي الطائفي، من العداء لعَليٍّ وآل البيت! فما لهذا الطفل، المبرمَج عقلًا وروحًا، ولمسائل النحو والإعراب؟!

ـ مع أنَّ هؤلاء مطمئنون- تحت الشعار الوارد في «النَّهْج»(6): «اسْأَلُوني قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَسْأَلُوني عَنْ شَيْءٍ فِيَما بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ السَّاعَةِ... إِلَّا نَبَّأْتُكُمْ»- أنَّ (عَليًّا) هو واضع عِلم النَّحو! كيف لا، وقد زعموا أنه كان منبع العلوم كلِّها؛ فهو «باب مدينة العِلْم»، حسب الحديث الموضوع. ولذا زعموا أنَّ (أبا الأسود الدؤلي) إنَّما نحا ذلك النحو من وضع اللَّبِنات الأُولَى لعِلم النحو بتوجيهٍ من عَليٍّ. بل إنه قد أملى عليه مباشرةً جوامع النحو وأصوله، وأقسام الكلام وأبوابه، ومنها التعريف والتنكير، وتقسيم وجوه الإعراب إلى: الرَّفع، والنَّصْب، والجَرِّ، والجَزْم!(7) فأنَّى لهذا الطفل- يا (ابن السِّيرافي)- أن يرى (عُمَر) أو (عَليًّا) على حقيقتيهما، دون خيالات مؤدلِـجة مسيِّسة، تنامت في سراديب التعصُّب، التي قُذِف فيها المسكين من قِبل أبويه وعشيرته الأقربين. وإذا كان هذا الخاطر الحادُّ قد طفحَ منه، وبراءة الأطفال في عينَيه، فكيف ستكون حِدَّته لمَّا يكبر، وتُصبح في يده نقابة الطالبيِّين، ويؤلِّف لهم «نَهْج البلاغة»، أو يُشارك في تأليفه أخاه (المرتضَى)، الذي لا بُدَّ أنَّه كان لا يَقِلُّ عن أخيه حِدَّة خاطر؛ فالمرتضَى كان أكبر منه سِنًّا، وقد عاش أطول عمرًا. أمَّا بعد، فأمامنا كتاب عنوانه «نَهْج البلاغة: نسخة جديدة محقَّقة وموثَّقة تحوي ما ثبتت نسبته للإمام عَليٍّ (رضي الله عنه وكرم الله وجهه) من خُطَب ورسائل وحِكَم»، تحقيق وتوثيق: صبري إبراهيم السيد، (الدوحة: دار الثقافة، 1986).

ـ ماذا عنه؟

ـ هو دراسة أصلها أطروحة دكتوراه. بذلَ فيه المؤلِّف جهدًا ملحوظًا. ونَجِد، بعد تقديم المحقِّق المشهور (عبد السَّلام محمَّد هارون) للكتاب، ومقدِّمة مؤلِّف الكتاب، تمهيدًا حول «نَهْج البلاغة» وما يحيط به من شُبهات، وما قيل في الردِّ عليها، وملحوظات على ما يشار إليه من مصادر «النَّهْج»، وما كُتبت له من شروح. ليُقدِّم المؤلِّف بعدئذ توثيقه لنصوص النَّهْج، بدأً بالقِطع والخُطَب، ثمَّ الرسائل والوصايا، ثم الحِكَم والغريب.

ـ الزُّبدة، يا (ذا القُروح)؟

ـ لقد ذكرَ المؤلِّف أنه توصَّل، في نتائجه لتمحيص ما يمكن أن تثبت صحَّته للإمام (عَليٍّ)، إلى أنَّ النصوص التي اتَّفق جُلُّ علماء المسلمين، سُنةً وشيعةً، على صِحَّة نسبتها إليه من الخُطَب هي أقل من النِّصف، ولا تعدو: 44.5%، ومن الرسائل: 65.8%، ومن الحِكم: 26.9%، ومن الغريب: 44.4%. على أنَّ ثمَّة نصوصًا منسوبة إليه لم يَرْوِها أحد، ولم تَرِد في أيِّ كتاب. ثمَّ ذكرَ المؤلِّف النصوص المشكوك في صِحَّة نِسبتها، والنصوص التي ثبتت نِسبتها لآخَرين. ويخلص من ذلك إلى القول: «إنَّ نِسبة تدخُّل أقلام أخرى في النصوص الواردة بالكِتاب تعلو في الحِكَم، ويليها الغريب من الكلام، ثم الخُطَب، وتأتي الرسائل في نهاية الخطِّ البياني.»

ـ تُرى لماذا كانت الرسائل في نهاية الخطِّ البياني؟

ـ طبعًا لأنها موثَّقة كتابيًّا، فلا مجال للتلاعب فيها، غالبًا، بخلاف الأقوال الشفويَّة. عَقِب هذا يَعرض المؤلِّف كشفًا يُحاكِم فيه كلمات النصوص على المعجم الموثَّق لكلمات الإمام.

ـ أراك راضيًا عن الكتاب! وهذا نادرًا ما أجده منك!

ـ ومع هذا، كُلٌّ يُؤخَذ من كلامه ويُرَد.

ـ هاتِ ما لديك!

ـ ممَّا يُلحَظ على هذا العمل أنه كثيرًا ما يعتمد على تقميش المقولات من هنا وهناك، بلا تمحيص، أو تأصيل. ومن عاقبة هذا أن تجده، مثلًا، ينسب كلام الأوَّل السابق إلى المتأخِّر اللَّاحق، بل التَّابع المردِّد.

ولكن «ضاق فِتْرٌ عن مَسِيرِ».. فسوف أُنبِّئك برأيي في الكتاب في المساق المقبل، بعون الله!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..............................

(1) منه نسخة مخطوطة في (مكتبة مكَّة- مخطوطات)، التابعة لوزارة الحجِّ والأوقاف، سُجِّل على غلافها تصنيفًا: أدب 7.

(2)  تُنظَر طبعته: (1897)، بشرح: إسكندر آصاف، (مِصْر: المطبعة العموميَّة)، 28- 30.

(3)  يُنظَر: (1959)، شرح نَهْج البلاغة، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، (القاهرة: دار إحياء الكتب العَرَبيَّة)، 1: 143. 

(4) م.ن، 1:  275.

(5)  يُنظَر: (1968)، وفيَّات الأعيان وأنباء أبناء الزَّمان، تحقيق: إحسان عبَّاس، (بيروت: دار صادر)، 4: 416.

(6)  (1990)،  نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)، 260.

(7)  يُنظَر: ابن أبي الحديد، شرح نَهْج البلاغة، 1: 20.

 

منذ سنوات عديدة، يشهد قطاع التعليم الجامعي في العراق تفاقما مطردا في مركزية الاجراءات، مما ادى الى تجريد الجامعات من صلاحياتها، فلم يعد لها اي قرار او دور ذي اهمية الا بتدخل من الوزير او الوزارة. هذا الوضع اثّر سلبا على اداء الجامعات وكفاءتها، واعاق تطورها ونموها. ونشهد يوما بعد يوم كيف تكبل الاجراءات البيروقراطية والتعليمات المتكررة طاقات الاكاديميين.

لقد ارهقت كثرة التعليمات التي تصدر من قبل الوزير ودوائر الوزارة العميد ورئيس القسم والتدريسي، حتى باتوا غارقين في هموم ما تصدره الوزارة، مما شل قدرتهم على التفكير الاداري الفعال.

ويبقى السؤال لماذا لا تثق الوزارة في قدرة الجامعات على تسيير شؤونها التعليمية، وتمنحها الحرية اللازمة للتركيز على بناء جيل المستقبل؟ ومتى ستتوقف الوزارة عن فرض سيطرتها على الجامعات بتعليماتها واوامرها في كل صغيرة وكبيرة، وتتركها تؤدي مهامها الاساسية في التعليم؟

مظاهر المركزية المفرطة في الاجراءات

تتجلى هذه المركزية المفرطة في العديد من المظاهر، منها:

- اخضاع العملية التعليمية، بما في ذلك الامتحانات وتقييم الطلاب لضغوط غير اكاديمية، مثل منح درجات اضافية بشكل تعسفي يتعارض مع المعايير الاكاديمية، مما يقوض مصداقية العملية التعليمية.

- التحكم الكامل من قبل الوزارة في المناهج الدراسية: تقوم الوزارة بتحديد المناهج الدراسية وتوزيعها على الجامعات من دون الاخذ بالنظر ما يتناسب مع احتياجات هذه الجامعات وظروفها المحلية او علاقاتها العربية والعالمية.

- تعيين القيادات الجامعية من قبل الوزارة: يتم تعيين رؤساء الجامعات وعمداء الكليات من قبل الوزارة، مما يقلل من استقلالية الجامعات ويجعلها تابعة للوزارة بشكل كامل.

- الرقابة الشديدة على الانشطة العلمية والثقافية: تخضع جميع الانشطة العلمية والثقافية التي تنظمها الجامعات لرقابة شديدة من قبل الوزير والوزارة وتدخلها بكل صغيرة وكبيرة، وهو ما يقيد حرية التعبير والابداع لدى الطلاب والاساتذة.

- القيود المالية: تعاني الجامعات من قيود مالية شديدة، بحيث يتم تحديد ميزانيتها من قبل الوزارة، فلا تستطيع الجامعات التصرف في هذه الميزانية الا بموافقة الوزارة.

اثار المركزية المفرطة على الجامعات

تترتب على هذه المركزية المفرطة العديد من الاثار السلبية على الجامعات، منها:

- تراجع مستوى التعليم: يؤدي التحكم الكامل من قبل الوزارة في المناهج الدراسية الى تراجع مستوى التعليم، مما يجعل المناهج غير متوافقة مع التطورات العلمية والتكنولوجية.

- اعاقة البحث العلمي: تحد القيود المفروضة على الانشطة العلمية والثقافية وعدم توفر الاموال اللازمة من قدرة الجامعات على اجراء البحوث العلمية، مما يؤثر على تطور البحث العلمي في العراق ويزيد من السرقات العلمية.

- تدهور الاداء الاداري: يؤدي تعيين القيادات الجامعية من قبل الوزارة الى تدهور الاداء الاداري في الجامعات، حيث لا يتم اختيار القيادات على اساس الكفاءة والخبرة، بل على اساس الولاء السياسي.

- فقدان الثقة في الجامعات: يؤدي تراجع مستوى التعليم وتدهور الاداء الاداري الى فقدان الثقة في الجامعات العراقية من قبل الطلاب واولياء الامور والمجتمع بشكل عام.

- عندما تقوم الوزارة بتغيير درجات الطلاب بشكل غير عادل، فأن ذلك يدمر مصداقية نظام الامتحانات ويجعل الطلاب يعتمدون بشكل متزايد على تدخل الوزارة بطرق غير قانونية.

- وعندما يمنع الوزير اقامة الماراثونات المختلطة في الجامعات، فأنه يستولي على حق رئيس الجامعة في ادارة النشاط الرياضي في جامعته.

الحلول المقترحة

للتغلب على هذه المشكلة، يجب على وزارة التعليم العالي العراقية اتخاذ عدة اجراءات، منها:

- منح الجامعات المزيد من الاستقلالية: يجب على الوزارة منح الجامعات المزيد من اللامركزية في اتخاذ القرارات المتعلقة بالمناهج الدراسية والانشطة العلمية والثقافية، وكذلك في تعيين القيادات الجامعية.

- تطوير الاداء الاداري: يجب على الوزارة العمل على تطوير الاداء الاداري في الجامعات من خلال تدريب رؤساء الجامعات والعمداء ورؤساء الاقسام والشعب وتطبيق اساليب الادارة الحديثة.

- زيادة الدعم المالي: يجب على الحكومة زيادة الدعم المالي للجامعات، حتى تتمكن من تطوير بنيتها التحتية واجراء البحوث العلمية الرصينة والهادفة لخدمة المجتمع.

- التوقف عن اصدار التعليمات والقرارات خارج اطار هيئة الرأي والامتناع عن التدخل في النتائج الامتحانية للطلبة.

خاتمة

ادى تفاقم المركزية المفرطة في الاجراءات الى تدهور مستوى التعليم الجامعي وتراجع كفاءة الجامعات العراقية. لذا، لا بد لوزارة التعليم العالي العراقية من تبني سياسة لامركزية فاعلة، تقوم على تفويض الجامعات بصلاحيات اتخاذ القرارات وتنفيذها، مع إعطاء الثقة الكاملة لكفاءتها في تسيير شؤونها التعليمية والإدارية. فبدون هذه الاستقلالية، لن تتمكن الجامعات من تحقيق اهدافها في خدمة المجتمع وتخريج اجيال قادرة على مواجهة تحديات المستقبل.

***

ا. د. محمد الربيعي

بروفسور متمرس ومستشار دولي، جامعة دبلن

 

دائماً ما يطرح سؤال حول العلاقة بين العقل والإيمان وهل هما متناقضان أم متكاملان؟ فمنذ القدم دار جدل حاد بين من يرى أن الإيمان يعتمد على الإيمان الاعمى، وبين من يرى أن العقل هو أساس الإيمان، وفي هذا المقال سنحاول تسليط الضوء على هذه العلاقة المعقده، وعلى دور العقل في بناء منظومه إيمانية متينه، حيث أن العقل هو أداة الإنسان الأساسية لفهم العالم، وهو يلعب دوراً محورياً في تشكيل الإيمان والمعتقدات، وفي العديد من الثقافات والأديان يعتبر العقل وسيله للتفكير النقدي والتأمل في القضايا الروحية والفلسفة، ولا يمكن إنكار دور العقل في فهم النصوص الدينية وتدبير أياتها، فالعمل يمكننا من استيعاب المعاني المختلفة، وفهم السياقات التاريخية والثقافية، والإيمان هو ليس مجرد تقبل أعمى للأفكار، بل هو عملية معرفية تتطلب البحث والتدقيق والفهم العميق، وعن طريق العقل ممكن أن نحلل النصوص الدينية ونفهم تعاليمها ونطبقها في حياتنا اليومية. مثال على ذلك، نحن عندما نقرأ أيه قرآنية تتحدث عن خلق الكون فأن العقل يمكننا من التساؤل عن أسرار هذا الخلق، وعن دقة التوازن في الكون، وعن قدرة الخالق، وهذا التساؤل لا يناقض الإيمان، بل يعززه ويعمقه. وهنا أنصح المتلقي أن لا يتردد في طرح الأسئلة، والبحث عن الإجابات المقنعة، وأن لا يقبل أي فكره دون تدقيق أو فهم، وكذالك أنصح بالاطلاع على آراء العلماء والباحثين المختصين في مجال الدراسات الدينية.

العقل يساعدنا أيضاً على التميز بين الإيمان الصحيح وبين الشبهات التي قد تشوه تعاليمه، حيث أن العقل يمكننا من نقد الأفكار المضللة ورفض المعتقدات الخاطئة والتميز بين الحق والباطل، والإيمان الحقيقي لا يتعارض مع العقل بل يتوافق معه ويقويه. فباستخدام العقل نستطيع أن نميز بين الإيمان المعتدل والإيمان المتطرف. مثال على ذلك بعض الأفكار المتطرفة تحاول تفسير الفصوص الدينية بطريقة مغلوطه، وتستخدم هذه التفسيرات لتبرير العنف والكراهية، وهنا يأتي دور العقل في رفض هذه التفسيرات والتمسك بالإيمان. وهنا أنصح المتلقي أن يحرص على دقة مصادر المعلومات وتجنب الانجراف وراء الأفكار المضللة والطلاع على آراء العلماء والباحثين المعتدلين، واستخدام العقل في كل ما يقدم له من أفكار أو معلومات .

فيما سبق تناولنا العلاقة بين العقل والإيمان من منظور عام. والأن سنتعمق في بعض الجوانب الأخرى لهذه العلاقة. ومن هذه الجوانب دور العقل في تعزيز الإيمان. وفي هذا الجانب بالتحديد قد يبدو الشك مناقضاً للإيمان، ولكنه بالواقع ممكن أن يكون محفزاً قوياً لنموه، فالشك يدفعنا إلى البحث عن إجابات مقنعة وإلى التعمق في فهم معتقداتنا، وهنا ليس من الضروري إن يكون الإيمان خالياً من الشك، بل أن الشك الصحيح ممكن أن يقوي الإيمان ويجعله أكثر رسوخاً فالسؤال والبحث عن الحقيقة هما جزء أساسي من رحلة الإيمان. مثال على ذلك شخص ما قد يشك في وجود الله، لكنه يواصل البحث عن الأدلة والبراهين، ويقرأ الكتب ويناقش العلماء، وفي النهاية يصل إلى يقين راسخ إلى أن هذا الشك لم يدمر إيمانه بل يعززه. وهنا أنصح الشاك أن لا يتردد في طرح الأسئلة حتى لو كانت صعبه من وجهة نظره، والبحث عن إجابات مقنعة، ولا يتردد في طلب المساعدة من الأخرين.

أضافه إلى ما سبق هناك جانب ثاني وهو العقل والانفتاح على الأخرين، حيث يساعد العقل في الانفتاح على الأخرين وفهم وجهات نظرهم المختلفة، فالإيمان الحقيقي لا يفرض بالقوة بل يقنع بالحجج، والعقل يمكننا من الحوار البناء مع أصحاب المعتقدات المختلفة، وفهم خلفياتهم وفهم أراءهم، وهذا الانفتاح لا يعني التنازل عن معتقدنا بل هو احترام الأخرين والبحث عن أرضية مشتركة مع باقي المذاهب. مثال على ذلك مناقشة هادئة مع شخص من ديانة مختلفة تمكننا من فهم معتقداته وتقدير ثقافته وربما نجد ثقافة مشتركة بيننا. وهنا انصح بالاهتمام والاستماع إلى وجهات نظر الأخرين ومحاولة فهم خلفياتهم، ولانحكم عليهم بناءً على معتقداتهم، وأن أكون محترماً وبعيداً عن النقاشات الحاده.

كذلك هناك جانب ثالث وهو العقل والإيمان في موجهة التحديات حيث أن في الحياة العامة يساعدنا العقل والإيمان في التغلب على الصعاب، فالعقل يمكننا من تحليل المشكلات وإيجاد الحلول المناسبة لها، والإيمان يعطينا القوة والصبر والثقة بالنفس، حيث أن العقل والإيمان يعملان معاً كفريق واحد يساعدنا على مواجهة الحياة بكل ثقة وأمل. مثال على ذلك شخص ما يواجة مرضاً خطيراً يمكنه استخدام عقله في البحث عن أفضل العلاجات، وفي نفس الوقت يمكنه اعتماده على إيمانه ليعطيه القوة والصبر. وأنصح في هذا الموضع أن لا استسلام للصعاب، واستخدام العقل في إيجاد الحلول وفي نفس الوقت الاعتماد على الإيمان لكسب الطاقة الإيجابية، وتذكر أن الله معك في كل الظروف. وفي الختام نجد أن العقل والإيمان ليسا متناقضان بل متكاملان، فالعقل يساعدنا على فهم الإيمان وتدبيره ويحافظ على نقائه من الشبهات، والإيمان يلهمنا بالبحث والمعرفة ويبحث في أسرار الكون العميق، والعقل هو أساس الإيمان وهو أداة قوية لبناء منظومة إيمانية متينة ولا يمكن أن يكون هناك إيمان حقيقي دون استخدام العقل، ولا يمكن أن يكون هناك عقل سليم دون إيمان بالحق.

***

 م.م قائد عباس حمودي

 جامعة واسط / كلية الآداب

 

من الرغبة العاطفية والعلاقات الرومانسية الى الترابط العاطفي ضمن العائلة، هناك عدة تعريفات لمفهوم الحب. ماهو الحب؟ في الحقيقة لا يوجد جواب واحد لهذا السؤال ولهذا كان لدى اليونانيين القدماء ستة مفردات مختلفة لوصف الحب. معرفة هذه الأنواع الستة قد تغيّر حياة الفرد.

اذا كنا نبحث عن علاج لثقافتنا الحديثة المرتكزة على الحب الرومانسي، فيمكننا ان نتعلم من الأشكال المختلفة للانجذاب العاطفي التي ركز عليها اليونانيون القدماء. ثقافة المقهى الحالية تنطوي على مفردات معقدة. هل تريد كابتشينو، عصائر مثلجة او غيرها؟ اليونانيون القدماء كانوا ايضا معقدين في الطريقة التي يتحدثون بها عن الحب، مؤكدين على ستة انواع مختلفة من هذه العاطفة الانسانية ذات الأهمية العظيمة. هم سيُصابون بالصدمة لو علموا باستعمالنا لكلمة واحدة نقولها في كل من الهمس "انا احبك" اثناء تناول الطعام تحت ضوء الشموع وايضا في آخر عبارة عند إرسال ايميل "الكثير من الحب".

ما هي أنواع الحب الستة لدى اليونانيين القدماء؟

كيف يمكن لليونانيين القدماء إلهامنا للانتقال الى ما وراء إدماننا الحالي على الحب الرومانسي، الذي ينخرط فيه 94% من الشباب وعادة يفشلون في العثور على رفيق الروح الذي يمكنه إشباع حاجاتهم العاطفية.

1- الايروس Eros او العاطفة الجنسية

وهو النوع الاول من الحب نسبة الى إله الحب والخصوبة اليوناني، وهو يمثل فكرة العاطفة الجنسية والرغبة. لكن اليونانيين لم يؤمنوا به كشيء ايجابي. في الحقيقة، نُظر الى الايروس كشكل خطير وغير عقلاني للحب الذي قد يستولي على المرء ويمتلكه بالكامل، وهو الموقف الذي يسانده العديد من الفلاسفة والمفكرون الروحانيون مثل الكاتب المسيحي C.S.Lewis. والفيلسوف شوبنهاور(1). ايروس يستلزم فقدان السيطرة (شيء شاذ، كيف ترغب بشيء يفقدك السيطرة على نفسك) وهو ما أثار خوف اليونانيين لأن فقدان السيطرة هو بالضبط ما يبحث عنه العديد من الناس في العلاقة. هل نرغب الوقوع بجنون في الحب؟

2- Philia او الصداقة العميقة

النوع الثاني من الحب هو الصداقة التي نظر اليها اليونانيون بتقدير أكثر من الأساس الجنسي للايروس. الصداقة تهتم بالرفقة العميقة التي تطورت بين اخوة السلاح الذين قاتلوا جنبا الى جنب في ساحة المعركة. انها كانت حول تجسيد الولاء لأصدقائك والرغبة في التضحية لأجلهم بالاضافة الى مشاركة عواطفك معهم. (هناك نوع آخر من فيليا، احيانا يسمى storge كما في الحب بين الآباء واطفالهم).

يمكننا ان نسأل أنفسنا كم لدينا مثل هذا النوع من الرفقة في حياتنا. انه سؤال هام في عصر نحاول فيه جمع أكبر عدد من الأصدقاء في الفيسبوك او متابعين في تويتر، وهو الإنجاز الذي يصعب القبول به من جانب اليونانيين.

3- Agape حب كل الناس

وهو النوع الرابع من الحب والأكثر راديكالية، - حب نكران الذات. هذا الحب يمتد الى كل الناس سواء كانوا أفراد عائلة او غرباء بعيدين. هذا النوع من الحب تُرجم لاحقا الى اللاتينية كـ "caritas" وهو الأصل لكلمة إحسان "charity" الحالية.

أشار C.S.Lewis الى هذا النوع بـ "هدية الحب" وهو أعلى أشكال الحب المسيحي. لكنه ايضا يظهر في المعتقدات الدينية مثل فكرة الميتا او "رقة الحب العالمية" في نيرفانا البوذية. هناك دليل متزايد بان "حب الكل" هو في تراجع خطير في عدة دول. مستويات التعاطف في الولايات المتحدة انحدرت بشدة في الاربعين سنة الماضية مع هبوط حاد في العقد الماضي. يُعتقد ان الناس بحاجة ماسة لإحياء قدرتهم على الاهتمام بالغرباء.

4- الحب الطويل الأمد Pragma

وهو نوع آخر من الحب اليوناني. هو الفهم العميق الذي ينشأ بين الزوجين لفترات طويلة. البراجما هو حول عمل تسويات لإبقاء العلاقة حية بمرور الزمن وإظهار الصبر والتسامح. المحلل النفساني اريك فروم قال اننا صرفنا المزيد من الطاقة على "الوقوع في الحب" ونحتاج ان نتعلم الكثير حول كيفية "الحفاظ على الحب طويلا". البراجما هي بالضبط حول بذل الجهد في عمل الحب لمنح الحب بدلا من مجرد استلامه. حوالي ثلث الزيجات في الولايات المتحدة تنتهي بالطلاق او الانفصال في العشر سنوات الاولى من الزواج، اليونانيون مقتنعون باننا يجب ان نستخدم جرعة هامة من البروجما في علاقاتنا.

5- حب الذات او Philautia

أدرك اليونانيون الأذكياء هذا النوع من حب الذات وهو على نوعين: الأول نوع غير صحي مرتبط بالنرجسية التي يصبح بها الفرد مهوسا بذاته ويركز على الشهرة الذاتية. اما النسخة الأكثر ملائمة هي تعزيز أوسع قدرة على الحب. الفكرة كانت انه اذا كنت تحب ذاتك وتشعر بالأمان في نفسك، فسوف تمتلك الكثير من الحب للآخرين (كما ينعكس في المفهوم البوذي لـ "تعاطف الذات"). وفي تأكيد آخر لأرسطو "كل المشاعر الرقيقة تجاه الآخرين هي امتداد لشعور الفرد تجاه نفسه".

6- حب المرح Ludus

هذا النوع من الحب يُشار له بالعاطفة بين الاطفال او الشباب. كل الناس مارسوا هذا الحب من حالات الانجذاب العفوي او التنمّر في المراحل المبكرة من العلاقات. لكن الناس ايضا يعيشون المرح عندما يجلسون في المقاهي يمزحون ويضحكون مع أصدقائهم او عندما يشاركون في الحفلات. المرح والتفاعل مع الغرباء(الرقص) ربما هو أرقى انواع هذا الحب، وغالبا ما يكون بديلا عن الجنس ذاته. العادات الاجتماعية عادة ما تكبح هذا النوع من سخافة البالغين، لكن القليل منه ربما يكون مطلوبا لإضفاء الإثارة على حياة الافراد.

اليونانيون القدماء وجدوا انواعا مختلفة من الحب في العلاقات بين نطاق واسع من الناس – أصدقاء، أفراد عائلة، أزواج، غرباء، وحتى أنفسهم. هذا يتعارض مع تركيزنا الاساسي على علاقة رومانسية واحدة نأمل فيها العثور على كل انواع الحب المختلفة في شخص واحد او رفيق واحد للروح. رسالة اليونانيين هي الاهتمام بمختلف انواع الحب. لا نبحث فقط عن الايروس وانما نرعى الصداقة العميقة عبر صرف المزيد من الوقت مع الأصقاء القدامى او ترسيخ العلاقة بين الزوجين.

كذلك، نحن يجب ان نتخلى عن هوسنا بالكمال. لا نتوقع شريكنا ان يعطي كل انواع الحب في جميع الأوقات، هذا من السهل ان يقود للتخلص من الشريك الذي يفشل في مسايرة الرغبة. يجب ادراك ان العلاقة قد تبدأ بمزيد من الايروس والمرح، ثم تتطور لتتضمن المزيد من الحب الطويل الاجل او حب الجميع.

الفهم اليوناني المتنوع لأنواع الحب الانساني يمكن ان يقدّم لنا العزاء. عبر إنفاقك الوقت في ترتيب وتنظيم المدى الذي تكون فيه جميع انواع الحب الستة حاضرة في حياتك، ستكتشف انك لديك الكثير من الحب قياسا بما كنت تتصور – حتى لو كنت تشعر بغياب الحب الفيزيقي. ربما حان الوقت لإدخال انواع الحب الستة في حياتنا اليومية سواء أثناء التفكير اوالكلام.

***

حاتم حميد محسن

.......................

الهوامش

(1) يرى شوبنهاور ان الحب هو ليس أكثر من قناع جميل للرغبة الجنسية، وان رغبات الانسان تقوده للاعتقاد ان شخصا آخر سيجعله سعيدا، وان الانسان مخدوع من قبل الطبيعة التي تدفعه ليتكاثر. فعندما يشبع الانسان رغباته الجنسية، يعود الى وجوده المعذب، والشيء الوحيد الذي ينجح فيه هو الحفاظ على الجنس البشري واستدامة دورة الشقاء الانساني

اللوحة كمخلوق ليس لها علاقة بالخالق لكني أحبها، بعيدًا عن الروحانية والخلق، اللوحة تعكس تجاربي ومشاعري، لها تأثير عميق على حياتي، الجمال في الفن يكمن في التعبير دون كلمات، اللوحة لها قدرة فريدة على نقل المشاعر والأفكار بطرق غريبة، تكشف عجز الكلمات، من خلال الألوان، والأشكال، يمكن للفنان خلق تجارب حسية تلامس القلوب وتثير الخيال. الفن له دور مركزي في حياتي، هو وسيلة تعبيرية تتجاوز الكلمات. الفن يعكس ثقافة المجتمع الذي نشأت فيه وهو مصدر للمتعة الجمالية في الحياة. يُمكن للفن أن يُثير المشاعر، يحفز الناس في تجاربهم الروحية، يُمكن أن يُعيد اتصال الروح بالوجود، من خلال التأمل والتفكر في جمالية الحياة، يُمكن الناس من فهم مكانتهم في العالم ويثير شغفهم باللحظات الجمالية، بالرغم من التعقيدات الإنسانية، يُعزز التفكير النقدي، ويُسهم في التغيير الاجتماعي والروحاني. الفن هو جزء لا يتجزأ من التجربة البشرية والفكرة الإنسانية الجمالية. تناول الفلاسفة الجمال الفني وأثره على المشاعر والعواطف وكيف يُعبر عن التجربة الإنسانية ومعاني الوجود، ويظهر صراع الفرد مع المعنى والحرية. العلاقة بين الفن والوجود تتيح للفنان التعبير عن مشاعره وأفكاره وتجاربه بشكل غير مقيد، تعكس تفرده وهويته، من خلال تجارب القلق والضياع في عالم معقد وغير متوقع. لوحتي ترفض القوالب النمطية، تعبر عن حريتي واختياري وارادتي الفردية، تشجع الآخرين على التفكير ولو بشكل نقدي في هويتهم وخياراتهم كون الفن يُعتبر وسيلة لتأكيد الذات. من خلال الإبداع، يكتشف الفنان معاني ومعاني جديدة لحياته ويُعزز من شعوره بالوجود والمعنى ويُساعد الفنان على استكشاف المعنى في ضوء تجاربه الفريدة. من خلال هذا الصراع ومحاولة تعزيز الفهم العميق للوجود وتحفيز التفكير النقدي حول القضايا الوجودية تتجلى علاقتي بلوحتي انها بين الوجود والحرية الفردية في ضوء قدرتي على التعبير عن التجارب الإنسانية الفريدة..! يُعتبر الفن وسيلة قوية لتأكيد الحرية الفردية في عالم يتسم بالضبابية والقلق، بالرغم من ذلك يمكن للفن أن يُوفر مساحة آمنة للتعبير عن الأفكار والمشاعر التي قد تكون محظورة أو مقموعة في ظل اليات مجتمعية استثنائية. الكتابة، الرسم، أو الأداء، تمكن الفنان من التعبير عن معاناته وتجاربه الشخصية، يُمكن أن يطرح أسئلة عميقة حول الحرية والوجود، مما يُشجع على إعادة تصوير الظلم والقمع، يُمكن للفنان أن يُلفت الانتباه إلى القضايا الاجتماعية والسياسية و يُساعد في إنشاء وعي جماهيري حول قضايا الحريات الفردية، التي تعزز من حرية الاختيار وتشجع على التمرد ضد الضغوط الاجتماعية، وتساعد الأفراد في تحقيق ذواتهم من خلال الإبداع، هكذا تكلمت لوحتي. هل يُعتبر هذا تحقيقًا للحرية الفردية...؟، حيث يُمكن للفنانين أن يُعبروا عن أفكارهم ورؤاهم الخاصة، مما يمكن للفن أن يُعبر عن الأمل والتطلعات نحو مستقبل أفضل. و أن يُلهم الأفراد للعمل من أجل التغيير ويُشجعهم على الإيمان بقوة الإرادة الفردية. تهتم لوحتي كونها مخلوقة بالفن بين علم البدايات وعلم النهايات، تساعد الأفراد على استكشاف مفاهيم جوهرية، حيث تعبر عن مشاعر القلق والضياع الناتجة عن التفكير في عدم وجود بداية أو نهاية واضحة. لوحتي تحاول أن تعيد تشكيل المفاهيم التقليدية عن الزمن والوجود. من خلال كونها مخلوق فني تقدم رؤى جديدة حول كيفية التعامل مع عدم يقينية البدايات والنهايات، مما يُعزز من الفهم الشخصي للمعنى، لان الفن يُقدم تجربة جمالية تعبر عن اللحظة الحالية، مما يُساعد على العيش في الحاضر وتقدير الجمال الموجود فيه. هذه تجربتي مع لوحتي المخلوقة يمكن أن تُخفف من القلق الناتج عن التفكير، في فوضى البدايات والنهايات، كما تساعد على تأكيد هويتي الشخصية في عالمٍ غير مؤكد...! من خلال هذه التجارب الفريدة، يشعر الأنسان فيها أنه جزء مهم، حتى في غياب بداية أو نهاية محددة انه جزء من قصة أكبر، واللوحة مساحة للتأمل في مفاهيم الحياة والموت، مرهونة بالعدم.. هذا حوار مونوكرامي انا ولوحتي وانا، يُعزز من تقليل الشعور بالوحدة، يُظهر كيف يُمكن للفن أن يُبرز كقدرة على التكيف والتماهي مع معاني الحياة، ويُمنح الأنسان شعورًا بالحرية، يمثل الفن وسيلة فعالة للتعامل مع عدم يقينية البدايات والنهايات، من خلال استكشاف الوجود، خلق تجارب جمالية، وتقديم معاني جديدة. يُساعد الفن الأنسان على العيش في الحاضر، وتحفيز الحوار حول قضايا الوجود، ويساهم في تعزيز الفهم الشخصي والجماعي للوجود. يمكن للفن أن يلعب دورًا مهمًا في خلق معنى في مواجهة مفهوم اللانهاية، رغم أنه قد لا يداعب المعنى النهائيً. وعلى الانسان إيجاد معانٍ وإيجاد شخصية في حياته. من خلال التعبير عن المشاعر والأفكار بحرية، يُمكن أن يساعد الفن في اعطاء إحساسً بالمعنى حتى في عالم يبدو بلا نهاية، الفن فرصة لاستكشاف الأسئلة الوجودية حول الحياة والموت، البدايات والنهايات. هذا الاستكشاف يمكن أن يؤدي إلى فهم أعمق للواقع، ويُعزز من الشعور بالمعنى، يُعبر عن الأمل والتطلعات نحو المستقبل، مما يُساعد على رؤية إمكانيات جديدة، ويجعل الأمل مصدرًا للمعنى في عالم غير مؤكد، . حتى في مواجهة الأبعاد اللامتناهية. يُحفز الفن هذا التأمل ويمكن أن يُساعد الأنسان على فهم تجاربه بشكل أفضل، يمكن للفن أن يتجاوز القيود الزمنية من خلال خلق لحظات خالدة تُعبر عن تجارب إنسانية مشتركة. هذه اللحظات تُعطي الحياة طابعًا مستمرًا رغم عدم وجود نهاية، و يُشجع على الحوار حول مواضيع ومفاهيم إشكالية تعنى بالحياة والوجود، هذا الحوار يُساعد على إيجاد معاني جديدة، بينما لا يستطيع الفن خلق معنى نهائي في مواجهة اللا نهاية، فإنه يُساهم في بناء معانٍ شخصية واجتماعية تُعزز من الوعي والتجربة الإنسانية. من خلال استكشاف الوجود، التعبير عن الأمل، وتوفير روابط اجتماعية، وأن يُعطي حياة الأفراد طابعًا غنيًا ومليئًا بالمعاني، هذا بالضبط ماتفعله معي لوحتي المخلوقة. يمكن للفن مواجهة التعامل مع مشاعر الضياع والقلق من خلال الاستمتاع بالأعمال الفنية، يمكن للأنسان الهروب من شعور الفراغ بالارتباط بشيء أكبرووسيلة قوية للتعبير عن المشاعر المعقدة التي قد تنجم عن الفراغ الوجودي. من خلال الإبداع، يُمكن للأنسان فهم نفسه بشكل أفضل، مما يُخفف من شعور الفراغ، يساعد الفن في خلق معاني جديدة في حياته. التعبير الفني يساعد على إعادة تشكيل التجارب وإيجاد معاني جديدة في الحياة اليومية ويمكن أن يعزز من الروابط الاجتماعية، من خلال المساهمة في خلق لوحات ترتبط روحيا بخالقها وبذلك يُمكن للناس بناء علاقات قوية، مما يُساهم في تقليل شعور الفراغ ويُتيح الفرصة للتأمل والتفكر في الحياة. والاستغراق في تجربة خلق فنية، يُمكن للأنسان أن يتحدى الأفكار التقليدية حول الحياة والمعنى. من خلال طرح أسئلة صعبة حول الوجود، يُشجع الفن الأنسان على التفكير بشكل أعمق واستكشاف أفكار جديدة. هذا الإلهام يُساعد الأفراد على رؤية إمكانيات جديدة في حياتهم، مما يُخفف من شعور الفراغ ويمكن أن يُواجه شعور الفراغ الوجودي من خلال تقديم تجارب جمالية، وتعزيز التعبير عن المشاعر، واستكشاف الهوية. اللوحات المخلوقة تُعتبر وسيلة قوية للتعبير الفني، حيث يمكن أن تعيد تشكيل التجارب الشخصية والجماعية من خلال الألوان والأشكال والتفاصيل. الفن ليس مجرد تمثيل بصري، بل هو وسيلة لنقل المشاعر والأفكار. من خلال اللوحات، يمكن للفنانين استكشاف مواضيع مثل الحب، الفقد، الفرح، والقلق، مما يتيح للمتلقين الارتباط الروحي بتجاربهم الخاصة.

***

غالب المسعودي

 

السلبيات والإيجابيات

مدخل: بين التوجيه والتوجيهية:

كلنا نعلم ان عصرنا يهيمن عليه التدفق المعلوماتي السريع، وتلعب وسائل الإعلام والثقافة دورًا جوهريًا في تشكيل وعي الأفراد والمجتمعات. لكن هذا الدور يتراوح بين الإعلام والثقافة الموجهة، التي تعمل على إيصال رسائل محددة ضمن إطار معين، والإعلام والثقافة التوجيهية، التي تهدف إلى التحكم في السلوك والتفكير وفقًا لمصالح فئات معينة. ورغم أن كلا النموذجين يسعيان إلى التأثير، فإن الفارق الجوهري بينهما يكمن في درجة الحرية المتاحة للمتلقي، ومقدار الوعي النقدي الذي يتم السماح به أو التلاعب به.

الإعلام والثقافة الموجهة: أداة تأثير أم وسيلة توعية؟

الإعلام والثقافة الموجهة هما شكلان من أشكال التأثير المقصود، لكن مع درجة معينة من المرونة تتيح للمتلقي إمكانية الفهم النقدي والاختيار. يمكن أن يكون هذا التوجيه إيجابيًا، حين يهدف إلى نشر قيم إيجابية مثل التسامح، الديمقراطية، أو التوعية البيئية. كما قد يكون سلبيًا، حين يصبح مجرد وسيلة للتلاعب بالعقول، بغية تحقيق أهداف أيديولوجية أو اقتصادية محددة.

إيجابيات الإعلام والثقافة الموجهة:

* نشر الوعي المجتمعي: يساهم الإعلام الموجه في نشر القضايا الهامة مثل حقوق الإنسان، الصحة العامة، وقضايا البيئة، ما يساعد على خلق مجتمع أكثر وعيًا ومسؤولية.

* تعزيز الهوية الثقافية: يمكن لوسائل الإعلام الموجهة أن تحافظ على التراث الثقافي، وتعزز الشعور بالانتماء عبر إبراز القيم الوطنية والاجتماعية.

* محاربة الجهل والتطرف: عندما يكون التوجيه هادفًا، فإنه يمكن أن يشكل درعًا ضد الأفكار المتطرفة والمعلومات المضللة.

سلبيات الإعلام والثقافة الموجهة:

* التحيز والإقصاء: حتى الإعلام الذي يبدو حياديًا قد ينحاز لمجموعة على حساب أخرى، مما يؤدي إلى غياب الأصوات البديلة.

* التبسيط المخل: قد يتم اختزال القضايا المعقدة في شعارات سطحية، مما يقلل من قدرة الجمهور على الفهم النقدي والتحليل العميق.

* الاعتماد على مصادر محددة: قد يؤدي التوجيه الإعلامي إلى هيمنة مصادر بعينها، مما يقلل من تنوع المعلومات ويعزز وجهات نظر معينة دون غيرها.

الإعلام والثقافة التوجيهية: من التلاعب إلى السيطرة:

في حين أن الإعلام الموجه يترك مجالًا للوعي النقدي، فإن الإعلام التوجيهي يتسم بقدر أكبر من التحكم والتلاعب. فهو لا يسعى فقط إلى نقل المعلومات، بل إلى إعادة تشكيل الواقع وفقًا لمصلحة فئات محددة، وغالبًا ما يكون هذا النوع من الإعلام خادمًا لمراكز القوة السياسية أو الاقتصادية.

إيجابيات الإعلام والثقافة التوجيهية:

* القدرة على ضبط المجتمعات في أوقات الأزمات: قد يكون الإعلام التوجيهي ضروريًا أحيانًا عند الأزمات الكبرى، مثل الحروب أو الكوارث، حيث يكون ضبط تدفق المعلومات مهمًا للحفاظ على الاستقرار.

* التعبئة الجماعية: يمكن أن يكون الإعلام التوجيهي أداة لحشد الجماهير وراء قضية معينة، سواء كانت وطنية، دينية، أو اجتماعية.

سلبيات الإعلام والثقافة التوجيهية:

* القمع الفكري: يتم استبدال التفكير النقدي بالدعاية، مما يؤدي إلى خلق مجتمع يعتمد على المعلومات المعلبة بدلًا من التحليل المستقل.

* تزييف الوعي: يتم تشكيل الحقائق بطريقة تتناسب مع مصالح معينة، مما يؤدي إلى خلق صورة زائفة عن الواقع.

* هيمنة السلطة على الحقيقة: في النظم التي تعتمد الإعلام التوجيهي، يصبح الإعلام مجرد بوق للسلطة، مما يؤدي إلى طمس الأصوات المعارضة وفرض سردية واحدة لا يمكن مساءلتها.

الإعلام بين الحرية والتوجيه: أين نرسم الخط الفاصل؟

المعضلة الأساسية تكمن في التوازن بين التوجيه المسؤول والتوجيهية القمعية. هل يمكن للإعلام أن يكون مؤثرًا دون أن يكون متحكمًا؟ هل يمكن أن ينقل رسالة دون أن يمارس وصاية على الفكر؟

في المجتمعات الديمقراطية، يُفترض أن يكون الإعلام حارسًا للحقيقة، أي أنه يلعب دور الناقل للمعلومات مع الاحتفاظ بمساحة للنقاش والتعددية. لكن حتى في هذه السياقات، نجد أن رأس المال والإيديولوجيا يلعبان دورًا كبيرًا في صياغة الأجندات الإعلامية، مما يعني أن الإعلام الحر ليس دائمًا مستقلًا.

أما في المجتمعات غير الديمقراطية، فإن الإعلام يصبح مجرد أداة توجيهية، مما يؤدي إلى تدجين الجماهير بدلًا من تثقيفهم، وخلق مجتمع يتلقى بدلًا من أن يفكر.

خاتمة: نحو إعلام مسؤول وثقافة نقدية:

إن الحل لا يكمن في إلغاء التوجيه، بل في تحويله إلى عملية شفافة وواعية، حيث يتم تقديم المعلومات مع مساحة كافية للنقد والنقاش. ينبغي أن يكون دور الإعلام هو خلق مجتمع يعي التوجيه ولا يقع ضحيته.

كما يجب أن تكون الثقافة وسيلة تحفيز للفكر، لا أداة قولبة للعقول. فالمجتمع الذي يمتلك ثقافة نقدية وإعلامًا حرًا، هو المجتمع القادر على مواجهة التحديات، دون أن يكون ضحية للدعاية أو التضليل.

***

مجيدة محمدي – شاعرة وباحثة تونسية

بقلم: لورين بيري

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

عندما أحاول النوم ليلاً، لا أستطيع أن أحلم إلا باللون الأحمر.

" بيتر جابرييل، بيكو"

***

تماماً كما كان الحال عندما كتب توماس مور يوتوبيا، كانت مزحته الصغيرة أن "ou" تنفي إمكانية وجود مثل هذا المكان، فإن اختيار البادئة "dys" للإشارة إلى المجتمعات التي تخرج عن السيطرة كان دائمًا يبدو لي غريبًا. لقد ارتبطت دائمًا هذه البادئة بـ "عسر الطمث" - فترات الحيض المؤلمة للنساء - بحيث إن إضافة معنى "سيء" إلى "dys" تحمله أيضًا إحساسًا بالمرض أو الألم؛ لأن الكلمة الأولى التي أرتبط بها مرتبطة بالحيض، فإن "ديس" في ذهني تثير أيضًا فكرة فقدان الدم. بالنظر إلى الظروف التي تحتفظ فيها الدستوبيا بقوتها على المواطنين - والتعذيب الذي يُستخدم للحفاظ على هذه القوة - فإن الدستوبيا تتماشى أيضًا مع فكرة مجتمع يُحافَظ عليه بالدم والألم.

بينما كنت أشاهد الهوس الحالي بالدستوبيا في الأدب أو في النقاشات السياسية، لفت انتباهي كيف أن مفهوم ما يشكل الدستوبيا ومدى قربنا من العيش في واحدة منها هو فهم قد يتأثر بتجارب الكاتب، والتي قد تكون مشفرة أيضًا حسب الجنس أو العرق. أصر جوتفريد لايبنيز على أنه يجب علينا أن نؤمن بأننا "نعيش في أفضل العوالم الممكنة"، وهي محاولته للتعامل مع مشكلة التفسير اللاهوتي: كيف يمكن لله العليم السماح للشر بوجوده؟ كتب فولتير كانديد كإجابة ساخرة على مدى ضخامة عقال الحصان الذي كان لا بد أن يكون لايبنيز يرتديه ليؤكد مثل هذا الشيء.

لا يمكن للمرء إلا أن يلاحظ أن وضع الدستوبيا في بعض المستقبلات غير الزمنية أو على كواكب بعيدة جدًا لا يأخذ في اعتباره تجارب المجتمعات الدستوبية في ماضينا أو حاضرنا القريب المرتبطة بالجنس والعرق.

بالنسبة لي، كان تهديد الدستوبيا موجودًا منذ أن كنت صغيرة بما يكفي لتكوين أفكار سياسية. كطفلة تعيش في شمال الولايات المتحدة مع والدي، كنت أستمع إلى قصص عن الأطفال السود الذين تعرضوا للاعتداء بواسطة الكلاب، أو عن قتل الرجال السود، وكان لدي شعور بدائي بأنني كنت أعيش في بلدين مختلفين. في عام 1970، عندما قُتل الطلاب في جامعة جاكسون ستيت، كنت قد بلغت السابعة من عمري فقط، لكنني أتذكر بوضوح أنني بكيت على وفاتهم. كان والدي على وشك أن يُنقل إلى ولاية أخرى من أجل عمله، وأتذكر أنني قلت: "أبي، من فضلك لا تنقلنا إلى الجنوب. كل ما يفعلونه هو قتل السود هناك." بينما كان الشعور مفرطًا في العاطفة، إلا أنه تحدث عن شعوري الخاص بأنني كفتاة بيضاء كنت أعيش في بلد حيث يعني لون الجلد أن الشخص يعيش في نظام مختلف. لم أكن أعرف كلمة "دستوبيا" حينها، لكن النظام القائم على المراقبة والعنف المستخدم لمنع الأشخاص ذوي البشرة الملونة من النضال من أجل حقوقهم كان بوضوح جزءًا من نظام دستوبي.

كامرأة بيضاء ناضجة، أدرك أن الشمال كان متواطئًا ومتورطا في العنصرية التي كانت تنكر أيضًا على الأشخاص الملونين حقوقهم كاملة. كنسوية بيضاء، أعلم أنني ما زلت أستفيد من مستويات كاملة من الامتياز في عام 2017 التي كان يجب أن تتمكن أخواتي النسويات من الأشخاص الملونين من الوصول إليها، لكنهن لا يستطعن. أنه رغم أنني كنت طفلة من الطبقة العاملة نشأت في بيئة غير مستقرة في المنزل، فإن بشرتي البيضاء منحتني حمايات لا تتعلق فعليًا بالامتياز كما يُفهم عادة على أنها حق مكتسب، بل هي مجرد توقعات أساسية لكيفية معاملة الإنسان.

كما جعلتني النسويات من ذوات البشرة الملونة أراها بشكل مختلف، فإن المستقبل الدستوبى الذي أخشاه أكثر - وهو المستقبل الذي تفقد فيه النساء كل سيطرة على تكاثرهن - هو في الواقع كابوس من الماضي الذي عاشته النساء السود. النساء السود اللواتي جلبن كعاملات مستعبدات إلى أمريكا تم اغتصابهن من قبل الرجال البيض في المزارع، وأُجبرن على العمل - سواء العمل الذي تم استخراجه منهن لصالح المزرعة، أو العمل المرتبط بالإنجاب - الذي تم استخراجه منهن أيضًا، والذي أنتج أطفالًا مستعبدين، مما وفر فائدة اقتصادية إضافية لمالك المزرعة، وكان العديد منهم مستعدين لبيع أطفالهن من أجل الربح.

نسخة من هذا السيناريو الكابوسي تم تجربتها من قبل النساء في يوغوسلافيا السابقة، حيث تم احتجازهن في معسكرات اغتصاب. كانت النساء والفتيات المسلمات البوسنيات يتعرضن للوحشية الجنسية كل ليلة لكي يتمكن الرجال العسكريون الصرب الذين اغتصبوهن من حملهن وإنجاب أطفال صرب، وهو شكل من أشكال الإبادة الجماعية من خلال الاغتصاب.

في جمهورية الكونغو الديمقراطية، استمرّت الحرب الأهلية لمدة عشرين عامًا تعرضت خلالها النساء للاغتصاب على يد جنود روانديين وجنود كونغوليين وجنود أوغنديين وميليشيات مختلفة، الذين أرادوا تدمير روح أعدائهم عبر انتهاك نسائهم. ولم يقتصر الأمر على اغتصاب النساء، بل تعرضت العديد من النساء لإصابات دائمة عندما تم إدخال أفواه البنادق في أعضائهن التناسلية وإطلاق النار. ومن نجين من القتل يواجهن سنوات من العمليات الجراحية لإصلاح الأضرار.

لذا فإن المستقبلات الديستوبية التي تخيلها الكتاب مثل مارجريت أتوود لها سوابق تاريخية—وفي بعض الحالات، تكون هذه الأحداث قد حدثت في السنوات العشرين الماضية. لكن إذا أردت تخيل ديستوبيا حيث تم تجريد جزء من السكان من إنسانيتهم، ومنعهم من الخروج دون إخفاء وجودهم ككائنات بشرية، ومنعهم من العمل، ومن المعالجة من قبل طبيب ذكر، أو من عزف الموسيقى، أو من الذهاب إلى المدرسة، أو حتى من الضحك بصوت عالٍ—بإيجاز، يتم إنكار جميع حقوقهم ويُجبرون على الاختفاء أو مواجهة عواقب العقوبات القاسية والإعدامات العامة، حينها أدرك أنني قد وصفت حياة النساء تحت حكم طالبان، وهو نظام يحاول إعادة تأكيد نفسه في أفغانستان عبر تفسير للقرآن تم تبنيه من قبل داعش وبوكو حرام، كما يتضح من شهادات الناجيات من حالات الاختطاف.

إذا تخيلت ديستوبيا حيث يتم إعاقة نصف المجتمع في مرحلة الطفولة لمنعهم من الشعور باللذة الجنسية، فأنا أصف عمليات الاستئصال الجزئي للأعضاء التناسلية، والختان، وتشويه الأعضاء التناسلية للبنات الصغيرات التي تمارسها بعض الشعوب في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والشرق الأوسط. وفي حالات أخرى يتم خياطة المهبل بإحكام باستثناء مرور صغير للدم الطمثي، هناك حياة من التفريغ وإعادة الخياطة للسماح بمرور الطفل عبر المهبل، ثم إعادة خياطة الفتحة في كل مرة.

إذا أردت وصف ديستوبيا حيث يجب أن تبقى نصف السكان الإنجابي حوامل بشكل دائم ويجب عليهن أن يكن مستعدات للتضحية بحياتهن—على الرغم من أنه إذا كانت النساء غير مستعدات للقيام بذلك، قد نعتبره جريمة قتل من أجل تفضيل حياة الأجنة—حيث يكون الإجهاض غير قانوني تمامًا، فأنا أصف حياة في أيرلندا الكاثوليكية في عام 2017.

قد يكون هذا فشلًا في خيالي، لكن أي ديستوبيا أحاول تخيلها للكتابة عنها كجزء من مستقبل خيالي علمي، تستند إلى تاريخ موثق لانتهاك حقوق النساء في ثقافات متعددة.

عندما يتخيل الكتاب الذين يُشَاد بهم ويُعترف بمكانتهم في الأدب الكلاسيكي — مثل جورج أورويل وألدوس هكسلي — مستقبلاً سياسياً حيث تتغلغل رقابة الحكومة في الحياة الخاصة، كان الخيال يدور حول أن الحكومة ستتمكن من معرفة ما تقوله في محادثاتك الخاصة. ولكن القيود المفروضة على الإجهاض في مختلف الولايات المتحدة تحدد ما يمكن أن يقوله الأطباء للنساء اللاتي يطلبن وسائل منع الحمل أو الإجهاض. في ولاية تكساس، لا يثق المشرعون في النساء لدرجة أنهم يريدون قانونًا يفرض على الأطباء أن يكذبوا على النساء بشأن نتائج الفحوصات التي قد تكشف عن تشوهات خلقية، حتى التشوهات الكارثية التي تجعل الحياة خارج الرحم مستحيلة. في يوتا، من المفترض أن يخبر الأطباء المرضى أن الإجهاض يمكن التراجع عنه.

دائرة الصحة في ولاية ساوث داكوتا، المدفوعة من أموال الضرائب، تحتوي على صفحة ويب مخصصة لحالة نفسية مختلقة تدعي أنها شديدة مثل متلازمة ما بعد الصدمة—مما يربط بين قرار الذهاب إلى الحرب، حيث يُتوقع من الجنود قتل الجنود الأعداء—على أنه المعادل الأخلاقي للإجهاض. هذه الحالة، التي تسميها جماعات مناهضة للإجهاض في جميع أنحاء البلاد "متلازمة ما بعد الإجهاض"، هي حالة من "الشلل" أو "الخدر بعد الإجهاض" التي يُقال إنها تصيب 40 إلى 60 بالمئة من النساء اللاتي أجرين عمليات إجهاض. وفقًا للموقع الذي أقتبس منه، يصبح الإجهاض عملية تُحرم النساء من اللذة الجنسية—عملية تؤدي إلى "فقدان المتعة من الجماع، وزيادة الألم، وكراهية الجنس و/أو الرجال بشكل عام أو تبني أسلوب حياة العاهرات".

يستخدم الموقع مصطلح "النساء المُجهضات"، لكن النساء لم يُجهضن—بل الأجنة والأجنة المبكرة هي التي تم إجهاضها. في لغة التحقير التي يستخدمها مروجو المعلومات المضللة ضد الإجهاض، أصبحت المرأة نفسها هي الجنين المُجهض. تدور ادعاءاتهم حول الإجهاض حول الرجال—قدرتهم على تقديم المتعة الجنسية للنساء وتحكمهم في أجساد النساء. سيكون من المثير للاهتمام معرفة ما إذا كانت هذه "الدراسة" التي استندت إليها هذه الأرقام قد شملت النساء اللواتي تعرضن للاغتصاب، واللواتي قد يكن قد شعرن ببعض العداء تجاه مهاجميهن، أو النساء المثليات أو ثنائيات الميول الجنسية اللواتي يكن أقل احتمالاً للرغبة في ممارسة الجنس العادي مع الرجال.

يُدرج الموقع أيضًا سلسلة من العقوبات الأخرى التي ستطال النساء اللاتي يختارن الإجهاض، ولكن الربط بين فقدان اللذة الجنسية والإجهاض والوعود بالمعاناة النفسية التي تشبه تلك التي يعاني منها الجنود في الحروب. يظهر أن أولئك الذين يريدون فرض نوع من المرسوم 770 كما كان في رومانيا تحت حكم تشاوتشيسكو—الذي سعى لزيادة عدد السكان من خلال فرض مرسوم يحظر الإجهاض ووسائل منع الحمل، باستثناء النساء فوق سن الـ45 اللواتي لديهن خمسة أطفال في رعايتهن—فهم لا يتجاوزون إصرارهم على فرض إتمام جميع حالات الحمل، مهما كانت الظروف.

في رومانيا كانت توجد دكتاتورية حيث كانت النساء يذهبن للعمل ويخضعن لاختبارات الحمل من أجل تحديد ما إذا كن يحملن أجنة كل شهر. وكان ذلك لمنع النساء من الإجهاض. مُجبرات على حمل الأطفال حتى الولادة، كانت النساء الرومانيات يتركن الأطفال المولودين حديثًا على أبواب دور الأيتام، التي سرعان ما أصبحت مثقلة بالأعداد الكبيرة من الأطفال الذين إما لم ترغب هذه النساء فيهم أو لم يكن بإمكانهن رعايتهم. وعندما سقط تشاوشيسكو وتم إعدامه، غطت الصحافة دور الأيتام التي كان الأطفال فيها، محصورين في أسرّتهم منذ وصولهم، يعيشون في ظروف غير إنسانية. جاءت المآسي الأكبر لاحقًا، حيث وصل بعض هؤلاء الأطفال إلى بيوت التبني وهم محطمون بسبب فشلهم في النمو وعدم قدرتهم على التعلق.

الدولة الديستوبية هي تلك التي يجب السيطرة فيها على الغالبية العظمى من البشر من أجل منفعة القلة التي تدير المجتمع. ولكن في الدول الديستوبية التي كانت موجودة تاريخياً والتي لا تزال موجودة حالياً، تعتمد السيطرة على أعداد كبيرة من السكان على الاختلاف. ويتحدد الاختلاف على أساس العرق أو الجنس.

في بعض الحالات، يكون العرق والجنس غير قابلين للفصل. يخبرني النسوية التداخلية أن أنواع الاضطهاد التي تستهدف النساء تتقاطع مع الاضطهادات التي تستند إلى العرق، والجنسانية، والهوية الجنسية، والقومية، والعمر والفئات التي تُستخدم لخلق الاختلاف. في أمريكا، جزء من القلق المتزايد بشأن وسائل منع الحمل والإجهاض يعود إلى مخاوف عرقية لدى الرجال البيض، الذين يشعرون بالخوف من ضرورة تقاسم السلطة، ومن احتمال أن يصبحوا "أقلية" أمام الأشخاص ذوي البشرة الملونة، وهو ما يُتوقع حدوثه بحلول عام 2044. الأطفال المولودون لآباء من ذوي البشرة الملونة أصبحوا اليوم يفوقون عدد الأطفال المولودين لآباء بيض.

كما قد يتوقع المرء من مثل هذه الإحصائيات، لا يتطلب الأمر سوى بحث بسيط على جوجل لاكتشاف المواقع التي تنتقد فشل النساء البيض في الحفاظ على العرق. تتحدث مواقع مرتبطة بالنازيين الجدد، مثل ديلي ستورمر، وكذلك الصحف اليمينية مثل بعض الصحف الشعبية البريطانية، عن كيف أن سعي النساء البيض لبناء مسيرات مهنية وتأجيل الإنجاب يؤدي إلى "كوارث" ديموغرافية في كل من الولايات المتحدة وأوروبا. وتُصوَّر النساء البيض كخائنات لعرقهن، اللواتي يفضلن السعي وراء طموحات شخصية مثل التعليم الجامعي أو الوظائف المهنية على حساب الزواج وتكوين الأسرة منذ وقت مبكر.

الحجة القائلة بأن النساء البيض يدمرن عرقهن تُوجَّه أيضًا ضد النساء السود. في ولاية آيوا وبعض الولايات الأخرى، تُتهم النساء السود بارتكاب "الإبادة الجماعية السوداء" لاختيارهن الإجهاض. في مجموعة من "الحقائق غير الدقيقة" التي تروج لها جماعات معارضة للإجهاض، تظهر منظمة "بلاند برنتهود" كمنظمة تدعو إلى تفوق العرق الأبيض، ويكمن في قلبها رغبة في القضاء على الأطفال الذين ليسوا من ذوي البشرة البيضاء.

لكن القلق الآخر المرتبط بالضغط على النساء للحمل والاستمرار في الحمل يتعلق أيضًا بقلق الرجال البيض حول اضطرارهم لمشاركة مكانتهم المفضلة في الثقافة الأمريكية والأوروبية. في عشاء حديث، التقيت برجل أبيض عبّر عن هذا القلق بصوت عالٍ. كانت عمتي وعمّي قد دعواني للانضمام إلى أصدقائهما بعد عرض مسرحي كان يقام في المدينة التي أعيش فيها. وبما أنني لا أرى عائلتي كما أود، قبلت الدعوة. خلال العشاء، سألني هؤلاء المعارف الجدد عن مهنتي، فذكرت أنني كاتبة. سألوني عما أكتب. لم أرد الانخراط في أي نقاشات سياسية على طاولة العشاء، بما أن معظم أعمالي سياسية بطبيعتها، لذلك تحدثت عن كتابتي حول الكتب واللغة. ذكرت أنني كتبت مقالًا لصحيفة الجارديان عن استخدام "هم" كضمير مفرد عندما لا يكون الجنس معروفًا، وهو ما تبناه مؤخرًا دليل شيكاجو للأسلوب. فوجئت عندما رفع الرجل الأبيض المقابل لي صوته قائلاً: "هذا هراء سياسي"، وأضاف: "لا يوجد سبب لتغيير اللغة".

كنت على علم أن  جميع من على  الطاولة قد توقفوا عن الكلام. فقلت:

- ربما، كرجُل، لم تجرب شعور الإلغاء عندما تصنف اللغة الجميع على أنهم 'هو' عند الحديث عنا جميعًا .

ثم أضفت:

- لكنني أرى أن هذا الموضوع لن نتفق عليه، لذا أقترح تغيير الموضوع .

قال:

- حسنًا، يمكننا تغيير الموضوع.

لكنه أراد أن يسجل آخر تعليق له فقال:

-  ومع ذلك أخبرك الآن، أكثر الناس تعرضًا للاضطهاد في أمريكا الآن هم الرجال البيض. هم من يُظلمون

فضلت عدم الرد، على الرغم من أنني لاحظت أن معظم النساء على الطاولة، واللاتي كن في نفس سن هذا الرجل وبيضاوات البشرة مثله، رفعن أعينهن لي للتعبير عن اعتقادهن بأن كلامه سخيف.

قد يبدو هذا سخيفًا، لكنه ترديد شائع. في يوليو 2016، أثناء مناقشة جريمة القتل القضائي لفريدي جراي، الرجل الأسود في بالتيمور الذي قُتل على يد الشرطة أثناء نقله إلى السجن، أنكر مراسل فوكس بيزنس لو دوبيس أن البيض يشكلون الأغلبية في الولايات المتحدة، على الرغم من أن الذين عرّفوا أنفسهم بـ "البيض فقط" شكّلوا 77.1 في المئة من السكان الأمريكيين. ولكن وفقًا للروايات اليمينية، فإن الرجل الأبيض ليس فقط أكثر الفئات تعرضًا للاضطهاد في أمريكا، بل هو أيضًا جزء من الأقلية العرقية.

في خضم هذا القلق، لا يستطيع الرجال البيض الحصول على فرصة في عالم الاقتصاد لأن النساء البيض وأشخاص الملونين يُدفعون إلى المقدمة. هذه الهوس بالتوظيف التفضيلي—والذي لا تدعمه الإحصائيات—تحول إلى شعور عام بأن الرجال البيض هم مجموعة مهددة بالانقراض حرفيًا، مهددة بالإلغاء من أمريكا من خلال فهم للمنافسة حيث يصبح "عدم الفوز" إلغاءً.

انتخاب دونالد ترامب، الذي حصل على أغلبية الأصوات بين كل من الرجال البيض والنساء البيض، يشير إلى أن القلق الأبيض بشأن كونهم أقلية مضطهدة في أمريكا أقوى مما توقعه الكثير منا.

من الجدير التساؤل: هل يمكن أن توجد دُستوبيا داخل ثقافة لا ترى نفسها كذلك؟ في الولايات المتحدة، يتمسك معظم الناس بفكرة الاستثنائية الأمريكية، معتقدين أنه لا يوجد بلد آخر يشبه أمريكا على وجه الأرض، وأن ديمقراطيتنا يجب أن تكون قدوة للعالم. لكننا نعيش في ثقافة تفهم نظامها الديمقراطي، الذي يُفترض أنه قائم على الجدارة ومتاح لكل من "يبذل جهده" لتحقيق النجاح، كنظام يطغى فيه الفرق البيولوجي على المواطنة. في تشريعات العديد من الدول، يعني أن تولد الفتاة أن حقوقها في الخصوصية، وسيادة جسدها، والتمتع الكامل بحريتها الجنسية، وقدرتها على مناقشة أفكارها ورعايتها مع المهنيين الطبيين، يجب أن تُقيَّد عندما تصل إلى سن الإنجاب، "لصالحها" كما تقول الدولة. لكن "المصلحة الشخصية" تنتهي بأن تكون في خدمة الدولة، التي تكتسب القوة الاقتصادية مع كل عامل يُنتج أو جندي ينشأ لينهض بمطالبة موارد أمة أخرى. إذا كانت النساء حُرَّات في ممارسة السيطرة الكاملة على أنظمتهن التناسلية، فإن القائمين على الدولة يخشون فقدان سلطتهم.

توجد الدُستوبيا حيثما تمارس الدولة سيطرتها على وسائل العنف، كما فسرها ماكس ويبر، لتمنع البشر - من لحظة ولادتهم - من اختبار الحقوق الكاملة للإنسانية. ورغم أنني أستطيع أن أجادل بوجود أشكال أخرى من الدُستوبيا حتى هنا في الولايات المتحدة، إلا أنني أعلم أن فهمي للدُستوبيا، وهو نظام غارق في الدم ومبني على الألم، هو ما تعيشه النساء في الحاضر والمستقبل. فلا يمكن لأي خيال دُستويبي أن يفوق ما ارتكب بحق النساء.

(تمت)

***

.......................

الكاتبة:  لورين بيري/ Lorraine Berry  تكتب لورين بيري عن مجموعة متنوعة من الموضوعات تتراوح بين الأدب، والتاريخ، والجندر، و"سياسة الألم". نُشرت أعمالها في عدة منصات، منها الجارديان، وليثاب، وماري كلير، وتوكينج رايتينج وغيرها. وهي مراجعة كتب مساهمة في سيجنيتشر. تدير لورين وشريكها أمبرساندز كرييتيف.  ويمكن متابعتها على تويتر:  @BerryFLW.

ليست الصورةُ أرشيفًا جامدًا للواقع، بل فعلًا وجوديًّا (un acte existentiel) يختزلُ الزمنَ في ومضةٍ ميتافيزيقية، يعيدُ تشكيلَ أسئلته كلَّما ظننّا أننا أمسكنا بجوهره. إنها تصعيدٌ للعابرِ إلى ملكوتِ الخُلود، حاملةً في طيّاتها تناقضًا جوهريًّا، حيث تُظهر الماديّ عبر تجميده، وتُحرّرُ الرمزيَّ عبر حبسه. هذا الانزياحُ يُثيرُ إشكاليةَ الثنائيات: هل تُشكّلُ الصورةُ انفصالًا عن أصلها الواقعي (l'origine réelle) أم ولادةً لكونٍ موازٍ؟ وهل يمكنُ لعملية "تجميد اللحظة" أن تكونَ وقفًا لزمنها الحيوي (le temps vital) أم تحويلا إلى كيانٍ تأويليٍّ؟ 

إذا استحضرنا مفهومَ "المدّة" (la durée) لدى هنري برجسون (Henri Bergson)، بوصفها ذلك السيلَ الوجوديَّ الذي يرفضُ التجزئة، فإن الصورةَ تتعارضُ جوهريًّا مع فلسفته. فالصورةُ تختزلُ التدفقَ الزمنيَّ في وحدةٍ متصلبة، كأنها تقتلعُ اللحظةَ من جسدِ الزمنِ لتقدّمها مثل"جثةٍ جمالية". لكنْ، أليست هذه "الجثة" بالذاتِ مفتاحًا لفهمِ الأبعادِ الخفيةِ للوجود؟ هنا يَتصادمُ الفيلسوفُ مع الفنان: الأولُ يرى في التجميدِ تشويهًا للطبيعةِ الزمنية، بينما يرى الثاني فيه اكتشافًا لِما تخفيه الحركةُ من أسرار. 

ولا تقتصرُ الإشكاليةُ على الزمنِ فحسب، بل تمتدُّ إلى السلطةِ المعرفية للصورة، خاصةً في عصرِ "المحاكاة الافتراضية" (la simulation virtuelle)، على نحو ما نجد لدى جان بودريار (Jean Baudrillard)، حيث تتحولُ الصورةُ إلى "وهمٍ متجدّد" (un simulacre) يطمسُ الحدودَ بين الحقيقةِ (la vérité) والافتراض. هذا الانزياحُ يُلقي بظلالِ الشكِّ على الميثاقِ الأخلاقي للفن: أينَ يبدأ وينتهي حقُّ الفنانِ في إعادةِ التشكيلِ؟ وهل يتساوق ذلك مع خطرِ التزييفِ (la falsification)؟ وهل تُعَدُّ الصورةُ الرقميةُ الحديثةُ شكلًا من "المقاومةِ الجمالية" (la résistance esthétique ) ضدَّ سطوةِ الواقع، أم انزياحًا نحوَ اغترابٍ وجوديٍّ؟ 

تكمنُ مفارقةُ الصورةِ في كونها خيانةً مزدوجة؛ تخونُ الواقعَ بانفصالها عنه، وتخونُ الذاكرةَ بتحويلها إلى سرديةٍ متخيّلة. إنها تسرقُ "اللحظةَ الحيةَ" من سياقِها العاطفيِّ لتصهرَها في بوتقةِ الجمال، مُحوّلةً الألمَ إلى لوحةٍ، والفرحَ إلى منحوتةٍ. هكذا تتحولُ الذاكرةُ إلى "فنانٍ خفيٍّ" (un artiste invisible) يخلطُ ألوانَ الماضي بفرشاةِ الحاضر، فيسرقُ منا "الحقيقةَ" ليهبَنا "مجدَ الحكايةِ". 

لا ينحصرُ تأثيرُ الصورةِ - في تقديري- على الفردِ، بل يكونُ أشدَّ إيلامًا على المستوى الجمعي. إن سؤالَ مَنْ يمتلكُ الصورةَ يخترقُ تاريخَ الفنونِ، ذلك أن لوحة مثل "غرنيكا" (Guernica) لبيكاسو، لا تزالُ تتوحّدُ مع مأساةِ الحربِ رغمَ تحررها من سياقِها التاريخي. لكنَّ هذا "الخلودَ الرمزيَّ" (l'immortalité symbolique) يُخفي اغترابًا مزدوجًا؛ فالصورةُ تستعيرُ وجعَ الواقعِ لتخلقَ منه أسطورةً، ثم تتنكرُ لأصلِها الإنسانيِّ لتصيرَ "أيقونةً ثقافيةً" (une icône culturelle). أليست "الموناليزا" (La Joconde) -بابتسامتها المُلغزة- شاهدةً على هذا الانزياحِ؟ لقد تحررتْ من مالكِها (ليزا) لتصيرَ مِلكًا للعالمِ، لكنها خسرتْ هويتها لتصيرَ لغزًا. لتظل الصورةُ بذلك"مفارقةً وجوديةً" (un paradoxe existentiel) تمنحُنا وعدا بالخلود، لكنها في مسارها التراجيدي تسرقُ منا "حرارةَ اللحظةِ". تختزلُ الإنسانَ في "لقطةٍ" (un instantané)  لتُطلقهُ مثل طائر حر في سماء التأويلِ الفسيحة. ربما تكمنُ هويتها في عَدِّها جسرٍا بين الموتِ والحياة، لتُذكّرنا بفنائنا عبرَ خلودِها، وتُحررنا من ثِقلِ الواقعِ عبرَ إدخالِنا إلى مملكةِ المتخيّلِ، فالصورةُ مثل طائر الفينيقِ، تموتُ في الواقعِ كي تُولدَ في التأويلِ.

***

د. عبد السلام دخان

 

في ذكرى مرور خمسين عاماً على بداية الدراسات القرآنية في اليابان حول البنية الأساسية لعالم الأفكار القرآنية، ورؤية القرآن الكريم للعالم التي شهدها معهد الدراسات الثقافية واللغوية بجامعة كيو بطوكيو، ثمة حاجة لأن نسأل أنفسنا ماذا نعرف عن جهود اليابانيين في دراسة القرآن الكريم؟ وهل استفدنا من المقاربة اليابانية للإسلام؟

تسعى المدرسة اليابانية بالدراسة العلمية اللغوية للقرآن الكريم إلى فهم جديد للإسلام، على حدّ تعبير توشيهيكو إيزوتسو Toshihiko Izutsu (1914-1993) رائد الدراسات القرآنية في اليابان، غاية ما نريد هو "الإسهام بشيء جديد في سبيل فَهْم أفضل لرسالة القرآن لدى أهل عصره الأوّل ولدينا نحن كذلك"، فعلى الرغم من أنّ كثيراً من العلماء المتمكنين قد درسوا القرآن الكريم من زوايا عديدة، منها اللاهوتي والفقهي والنحويّ والتفسيريّ، إلّا أنّ القرآن الكريم ما يزال قابلاً لأن يُقارب من زوايا أخرى متنوعة، فلم يُقارب القرآن الكريم دلاليّاً في ضوء منهجيات علم اللغة الحديث، لذا اختارت الدراسات العربية في اليابان هذا الجانب، "فكشفت على نحو علمي التحوّل الجذري الذي أحدثه القرآن الكريم في حياة العرب والمسلمين بوصفه نظاماً مفهومياً جديداً أعاد صياغة المفاهيم السابقة، وأضاف إليها مفاهيم جديدة، وربط في ما بينها بعلاقات معقدة، فأنتج رؤية للعالم مختلفة تمتاز بمعمار مفهومي عظيم من حيث تماسكه ومرونته وتنظيمه".

وفي إطار بحث المدرسة اليابانية عن رسالة القرآن الكريم لعصرنا الحالي انتهت إلى أنّ رسالته أخلاقية، فصدر عن معهد كيو للدّراسات الثقافيّة واللّغويّة في طوكيو عام 1959 دراسة لإيزوتسو بعنوان "بنية المصطلحات الأخلاقية في القرآن" The Structure of the Ethical Terms in the" Koran"، تم فيها تحري منهج علمي يعتمد التجريب والاستقراء؛ لتحليل البنية الأساسية للحقل الدلالي للتعابير الأخلاقية، ولتحقيقِ علمية التناول، تفادى إيزوتسو التأثّر بالأحكام القبْلية لأيّ موقف نظري للفلسفة الأخلاقية، وقد أعاد نشر الدراسة عام 1966 بعد أن أدخل عليها تعديلات، مستفيداً من إجاباته على الأسئلة الجدلية التي أثارتها الدراسة في الأروقة العلمية داخل معهد كيو، ومعهد الدّراسات الإسلاميّة في جامعة مكل، وحمل الإصدار الجديد عنوان "المفاهيم الأخلاقية الدينية في القرآن" "Ethico- Religious Concepts in the Qur'an".

أصدر إيزوتسو" كتابه الثاني بالإنكليزية عام 1964 بعنوان: "الله والإنسان في القرآن: دراسة دلالية لنظرة القرآن إلى العالم"، "  GOD AND MAN IN THE KORAN: Semantics of the koranic weltanschauung"، طبعه معهد جامعة كيو للدراسات الثقافية واللغوية بطوكيو، الذي أصدر كتابه الثالث عام 1965، "مفهوم الإيمان في عِلم الكلام الإسلاميّ ـ تحليل دلاليّ للإيمان والإسلام THE CONCEPT OF BELIEF IN ISLAMIC THEOLOGY – A SEMANTIC ANALYSIS OF IMĀN AND ISLAM ، الذي أثار هو الآخر جدلاً علمياً تبعه تنقيح لمضمونه وإعادة نشره في نسخة جديدة عام 1966، وهذا ما أثنى عليه "إيزوتسو" بقوله: "أسهموا في جعلي أستوضح أفكاري أكثر بأسئلتهم الحيوية وتعليقاتهم القيّمة"، وهذا يُؤكد أنّ دراسات "إيزوتسو" لا تُعبّر عن رُؤية بحثية فردية، وإنما تعكس تصوّراً بحثياً جمعياً.

ولا تدخل جهود الباحثين اليابانيين في إطار الدراسات الاستشراقية بما يحمله بعضُها من مواقف سلبية، فالمستعربون اليابانيون أنفسهم لا يُفضلون نعت دراساتهم بالدراسات الاستشراقية، ويستبدلون بها مصطلح "الدراسات العربية في اليابان"، وينظرون إلى نتاجهم الفكري بوصفه قراءة شرقية مستقلة ومنفصلة عن القراءة الغربية الاستشراقية، كما تُؤكد المدرسة اليابانية احترامها لمصادر التراث الإسلامي سيما كتب التفاسير المعتمدة، وتُشيد باللغة العربية كإحدى اللغات المعروفة عالمياً، التي تمتلك معاجم لغوية ونظاماً نحوياً دقيقاً استفادت منه في درسها الدلالي، إلا أنّها لا ترى خصوصية وتميزاً للغة العربية؛ إذ اعتبرت مجيء القرآن الكريم بها يرجع إلى كونه أنزل على العرب.

اعتمدت الدراسات العربية في اليابان على تطبيق منهج التحليل الدلالي أو المفهومي لمواد مستمدة من المعجم القرآني، فعملها له وجه منهجي يُمثّله علم الدلالة، ووجه تطبيقي ميدانه القرآن الكريم، بعبارة أخرى عملُها دراسة دلالية للقرآن الكريم تقوم على تحليل للمفاهيم المفتاحية في القرآن الكريم، وهي عدد معيّن من الكلمات ذات الأهمية الخاصة، فالكلمات ليست ذات قيمة متساوية في تشكيل البنية الأساسية للتصور الأونطولوجي ليس من الناحية اللغوية فحسب، بل من جهة التاريخ الثقافي للعرب، فمثلاً كلمة قرطاس لا تُسهم في تمييز الرؤية القرآنية الكلية للكون إذا قُورنت بكلمة شاعر، وستُصبح كلمة شاعر ذات أهمية ضئيلة إذا قُورنت بكلمة "نبي"، فكلمات مثل "الله"، "إسلام"، "إيمان"، "كافر"، "نبي"، "رسول" تُؤدي دوراً حاسماً وحقيقياً في تشكيل البنية المفهومية للرؤية القرآنية للعالم، وهذا ما يجعلها كلمات ذات مفاهيم مفتاحية في القرآن الكريم، تُقدّم مقاربة لمسألة العلاقة الشخصية بين الله تعالى والإنسان في الرؤية القرآنية للعالم.

والتحليل الدلالي من منظور اليابانيين ليس تحليلاً آلياً للكلمات المفتاحية، معزولة من حيث هي وحدات جامدة، بل يتعرف على استمعالها الحيّ ومعناها السياقي كما استعملها القرآن الكريم، وجاءت في لغة العرب قبل الإسلام؛ فالكلمة في حقيقتها ظاهرة اجتماعية ثقافية معقّدة، "فكل الكلمات، وبلا استثناء، تتلون قليلاً أو كثيراً بطابع مميز خاص يتأتّي من البنية الخاصة للوسط الذي تُوجد فيه".

ومن أهم ما يُميّز دراسات المدرسة اليابانية للقرآن الكريم هو اعتمادها المباشر على اللغة العربية في دراسة المفاهيم القرآنية، ودقة وعلمية لغة التناول، والعقلانية والموضوعية والابتعاد عن التعقيد في العرض، والتركيز على دور اللغة في تشكيل رؤية الإنسان لعالمه من خلال إعادة تنظيم المفاهيم القديمة والمستحدثة وإدخالها في أنساق جديدة يترتب عليها فهم جديد للعالم، ودور الإنسان فيه، وتعاطيها مع الثقافة العربية الإسلامية كوِحْدة مُتماسكة متشعبة في التفسير وعلم الكلام والفلسفة الإسلامية واللغة العربية والأدب العربي القديم، وتحليل مظاهر الحضارة العربية والإسلامية ودراستها بعناية، وكذلك التفاعل مع منهجيات الثقافة الغربية الحديثة دون أن تجمد عندها، فاستفادت من مناهجها العلمية المتنوعة، بعد أن عدّلتها وطوّرت منها بخلافنا، فما نزال ما بين منبهر متجمد أمام المنهجية الغربية، ومتجمد عاجز عن الانفصال عن مناهج القدامى ينظر إلى القرآن بعيونهم، ووفق مناهجهم فحسب.

فممّا يُؤسف له أنّ الدراسات اليابانية حول القرآن الكريم لم تلقَ اهتماماً لدى المسلمين إلا متأخراً فنشرت مؤسسة "الكتاب الإسلامي في ماليزيا" "Islamic Book Trust" ثلاثة منها باللغة الإنجليزية 2002، وتأخرت الجامعات والمراكز العربية في ترجمة الدراسات اليابانية أربعين عاماً فترجم منها الدكتور عيسى علي العاكوب ثلاثة كتب من الإنجليزية إلى العربية، خلال عامي 2007، 2008 صدرت تباعاً عن دار المُلتقى، وصدرت ترجمة ثانية لكتاب "الله والإنسان في القرآن، علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم" عن المنظمة العربية للترجمة عام 2007، أعدّها الدكتور هلال محمد الجهاد، لكن هذا لا ينفي أن بعض المفكرين البارزين تواصلوا معها في نسختها الإنجليزية مثل د.نصر حامد أبو زيد الذي تأثّر في دراسته "العالم بوصفه علامة" التي نشرها في منتصف التسعينات بمنهجية "إيزوتسو".

مضى نصف قرن على محاولة اليابانيين بناء تصور حول الرؤية القرآنية للعالم في ضوء المنهجية الدلالية وما تزال الدراسات العربية تُواجه قصوراً في هذا الجانب، فمن المؤسف أنّ علاقة العقل العربي بالمنهجية اليابانية في دراسة القرآن الكريم اقتصرت على مواقف الإعجاب والتقدير أو الانتقاص والتحذير دون التعمق في دراستها والاستفادة من آلياتها، أضف إلى ذلك واقع الدراسات التي كتبت حول علم الدلالة، فكثير منها يفتقر إلى الدقة والاتساق والتناغم، ولعلّ ذلك يعود إلى "الطبيعة المعقّدة لعلم الدلالة التي تجعل من الصعب تماماً على غير المختص إن لم يكن مستحيلاً أن يأخذ ولو فكرة عامّة عن ماهيته. وهذا يعود بشكل عام إلى حقيقة أنّ "علم الدلالة" (Semantics) كما يُوحي الأصل الاشتقاقي الدقيق للمصطلح، علم يُعنى بظاهرة "المعنى" بأوسع معاني الكلمة، وهو واسع في الحقيقة إلى درجة أنّ كلّ شيء تقريباً مما يُمكن اعتباره ذا معنى - أيّ معنى، سيكون مؤهلاً تماماً لأن يُصبح موضوعاً لعلم الدلالة".

أخيراً دراسات اليابانيين حول القرآن الكريم أثارت أسئلة كثيرة، وفتحت الأعين على منجزات علم اللغة الحديث بكل فروعه ومنهجياته التي سيؤدي حتماً تطبيقها على القرآن الكريم؛ إلى نتائج مُثمرة، فما قدّمه اليابانيون يحتاج إلى استجابات من الباحثين العرب المهتمين بتطبيق مناهج الدَرْس اللُّغوي الحديث في دراسة القرآن الكريم، فرغم أهمية ما قدمته المدرسة اليابانية إلا أنّها بدايات منهجية لرؤية علمية قابلة للتنمية والتطوير والتمهيد لدراسات قرآنية دلالية أكثر عمقاً.

***

د. عبد الباسط سلامة هيكل - كاتب مصري

 13/02/2025

 ..............................

المقال منشور في موقع حفريات أيضا

 

في المثقف اليوم