قضايا
ملاك عبد الله: فرقٌ بين ناقد يفكّك ليهدم وناقدٍ يبني ويعمّر
القراءة للدكتور عبد الجبار الرفاعي فيها من الغنى والرحابة الكثير. ميزة كل كتاباته تكمن في اقتران العقلانية النقدية مع حضور الوجدان الإنساني العميق. أنت دائماً ما تخرج بعد أن تقرأ له متصالحاً مع ذاتك، متحرراً من الانفعال بوصفه غريزة انحطاط، ومتبصّراً بحكمة ورويّة للواقع حولك. الواقع الذي يشكّلك بمقدار ونوعية تفاعلك معه.كيف نتفاعل مع هذا الواقع لنطوّر ذاتنا ونحسنها ضمنه، ولنطوّره بالتالي معنا. هذا الجهد الذي لا يتوانى الدكتور عبد الجبار عن الاشتغال به هو سعيٌ في سبيل العمران. فرقٌ بين ناقد يفكّك ليهدم وناقد يبني ويعمّر ويرمّم ويجمّل. فرقٌ بين فكرٍ يستثير فيك الغضب لأجل الرفض وحده، وبين فكرٍ يجعل من الرّفض حالة حُبّ على طريق الارتقاء الإنساني ككل. كما فرقٌ بين فكرٍ يجعل المعتقد به يعيش الإحساس بالدونية في ذاته، وبالخجل مما هو محاط به، وبين فكرٍ يذكّرك بألا تجرح ضمائر من هم حولك، وألا تتنكّر لما ومَن شكّلك في طفولتك وشبابك وعلى طوال الطريق، وشكّل شخصيتك وفكرك وما أنت عليه. اقتران حالة الرفض بحالة الرضا مفارقة، لكنها صنعةٌ جميلةٌ جداً، والأهم أنها ولّادة للارتقاء بالواقع لا للاغتراب عنه، وإن تباعدت أفكارك عن الأفكار التي يحملها من حولك.
لقد كتب الرفاعي في مرحلة مليئة وعاصفة بالتناقضات، وكان الإقبال على كتاباته كبيراً. لكني أعتقد، كل الاعتقاد، أن الحاجة لقراءته ستزداد أكثر مع تقادم الأيام والأحداث، وأن كتبه "ستمكث طويلاً في ذاكرة المكتبة". من خلال مراقبتي أقله لشبكة علاقاتي مع الشباب من حولي، بتّ ألحظ نوعاً من اليتم عند بعض الشباب الذي تغرّب عن مجتمعه وسعى للتمايز عنه (طبعاً ثمة فئة ما عادت تحمل هذا الهمّ أساساً وما عادت مسألة الإيمان ملحّةً عندهم). مع الوقت، جزء معتبرٌ من هؤلاء الشباب، خصوصاً من يسافر منهم، يتوازنون على إثر ما يرونه، وعلى إثر تفاعلهم مع الآخر/الأنا المستجد. حالة التوزان هذه أو الميل لها ستجد ضالّة لها في كتابات الرفاعي. وهنا ميزة جديدة، أنك تستطيع أن تقرأ له في كل حالاتك، وفي كل مرة ستسفيد، وستصلك خلاصات جديدة بعد قراءتك التالية وفقاً لتفاعلك الجديد مع المحيط، الذي سيهديك إلى تفاعل جديد مع النص.
هذا ليس نصاً من قبيل المديح الشخصي. هي كلمات أملاها الإحساس بالمسؤولية أمام جيل اليوم والغد، ممن يعيش او سيعيش مشاعر اعتراضية على الحالة الدينية، يتبعها تيهٌ وغضب. هذه الفئة لا بدّ وأنها ستزداد اتزاناً عندما تقرأ للدكتور عبد الجبار، وهي التي سترتاد نصوصه في ظلّ عالمٍ هو حتماً مقبلٌ على المزيد من المشاكل والخضّات والتساؤلات والأحداث السالبة للأمان واليقين... حينها، من الجيّد الانفتاح على أنّ الدين كما يقول الرفاعي: "ظاهرة حياتية تعبّر عن أعمق متطلبات الوجود والكينونة"، وأنه: "لن يتراجع عن أن يواصل حضوره المزمن المتنوّع في الاجتماع البشري"، كما أنه "الظاهرة البشرية الأشد غموضا في الحياة، وإن كانت تبدو فيه الأشد وضوحاً. ولولا غموضها لما بقت منذ فجر التاريخ حتى اليوم". وأنّ أغلب حالات "الاغتراب والعدمية هي احتجاج عالمي على قبح العالم". كما من الجيد الغوص مع الدكتور الرفاعي في رحلة الاحتجاج على اختزال الدين في المدونة الفقهية، ورحلة الحرص على"عدم ترحيله من حقله الروحي المعنوي القيمي الأخلاقي إلى حقل آخر يتفوّق فيه القانون على الروح، ويصبح الدين فيه ايديولوجيا سياسية صراعية، أيديولوجيا تهدر طاقاته الرمزية والجمالية والروحية والمعنوية"، واستدراك الرفاعي بأنّ: "ثقافةً لا تتشبّع بالفلسفة ولا تتذوق العرفانَ تظلّ فقيرة، تحاول أن تغطي فقرَها بفائض الألفاظ. مثلُ هذه الثقافةِ تجهل الحاجةَ للدين، وتعجز عن رؤية أعماق الحياة الروحية"... والتّنبّه إلى أنّ "كثرة الكلام في الدين وثرثرة معظم الجماعات الاسلامية ورجال الدين تتورط في نسيان الإيمان"، وقراءة أن" فشل الإسلاميين في بناء الدولة يعود إلى عجز معظمهم وقصورهم عن إدراك الجذور العميقة للدولة الحديثة. لأنهم يفكرون في مرحلة ما قبل الدولة لذلك يحرصون على استدعاء القبيلة وقيمها وتشكيلاتها العميقة". ومعرفة أن" المأزق يكمن في الأسس ومناهج التفكير والنظر والأدوات المتوارثة المنتجة للتفكير الديني في الإسلام"، وأنّ "معقولات العقل كائنات تاريخية، لحظة يكرر العقل نفسه لم يعد عقلا"... وأن "الفلسفة الحديثة والمعاصرة وفلسفة العلم والفيزياء الاحتمالية جميعها أشادت المعرفة والعلم على الاحتمال. تاريخ العلم مقبرة نظريات علمية".
الخوف، كلّ الخوف، أن تهدر طاقات الحياة عند الجيل الذي ينفتح على الكثير من المشاكل والتساؤلات والتناقضات. الخوف أن يتحول الإنسان الناقد إلى كائنٍ رافضٍ منعزلٍ يتعاطى مع محيطه بفوقية وازدراء، لأنه" اهتدى" إلى ما يناقض أفكار هذا المحيط، أو لأنه أدرك ما فيه من ثغرات تحول دون النهوض والتطور والعيش الواقعي لا الميثولوجي. قد يقول قائل إن الرفض بكلّ أشكاله وبتعددها، ومع تظافر هذه التعددية، سيولّد تحولاً وتغيراً منشوداً في النهاية. وقد يكون هذا واقعاً، لكني أرى أنه مكلفٌ للغاية، إذا كان عنيفاً وذا صفة اغترابية انعزالية، وأول هذه الكلفة تكريس النزعة العنيفة في هذا العالم.كثيرون ممن ينتقدون التجليات العنيفة لبعض أشكال التدين ينتهي بهم المطاف إلى أنهم يكشفون الغطاء عن التجليات العنيفة للاتديّن أيضاً. تطرّفٌ وتطرّفٌ مضادّ، ينبغي ترشيده بمساعي إعادة التوازن، ومما لا شكّ فيه أن كتابات عبد الجبار الرفاعي تشكل مسعىً هاماً في هذا الإطار، بالشكل الذي يمكن أن يقرأ له كلّ من امتلك نزعة الانصاف والتوازن، وابتعد عن مصيدة التصنيفات والتعميمات.
***
ملاك عبد الله - كاتبة لبنانية