قضايا

بقلم: مايكل لاشمان وسارة ووكر

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

القطة على قيد الحياة، والأريكة ليست كذلك: نحن نعرف ذلك. لكن الأريكة أيضًا جزء من الحياة. نظرية المعلومات تخبرنا السبب.

على الأريكة في زاوية الغرفة، تخرخر قطة. يبدو واضحًا أن القطة هي مثال للحياة، في حين أن الأريكة نفسها ليست كذلك. لكن هل يجب أن نثق بحدسنا؟ خذ بعين الاعتبار ما يلي: افترض إسحاق نيوتن وقتًا عالميًا يتدفق دون تأثير خارجي، ووقتًا نسبيًا يُقاس بالساعات - تمامًا كما تخبرنا حواسنا. وبعد قرنين من الزمان، تخلى ألبرت أينشتاين عن مفهوم الوقت العالمي وقدم بدلاً من ذلك مفهومًا للوقت يُقاس محليًا فقط بالساعات.  من كان قبل أينشتاين يظن أن الوقت على الشمس، والقمر، وحتى على كل ساعة من ساعاتنا يمر بمعدلات مختلفة قليلاً - وأن الوقت ليس مطلقًا عالميًا؟ ومع ذلك، يجب على هواتفنا المحمولة اليوم أن تأخذ ذلك في الاعتبار حتى يعمل نظام تحديد المواقع العالمي (GPS).

لقد قطع العلم خطوات مذهلة، حيث كشف عن فهم عميق وغير بديهي في كثير من الأحيان للواقع المادي. نحن نفهم الكثير عن الذرات الموجودة في جسم الإنسان والنجوم في سماء الليل: أكثر بكثير مما نفهمه عن الإنسان الفردي كمثال للحياة. في الواقع، يواصل علماء الحياة مناقشة التعريف الدقيق للحياة. كان أرسطو هو أول من قال أن الحياة شيء ينمو ويتكاثر. لقد كان مفتونًا بالبغل، وهو خليط بين الحصان والحمار الذي يكون دائمًا عقيمًا. ولكن لمجرد أن البغل كان عقيمًا، فلا يمكنك تسميته ميتًا. الجدال لا نهاية له: يقول البعض أن الحياة يجب أن تتم عملية التمثيل الغذائي، أي أن تأخذ مركبات، وتحولها إلى طاقة، وتطلق بعض النفايات. لكن هل المحركات النفاثة مؤهلة؟ باختصار، لا توجد نظرية، وبالتالي لا يوجد جهاز قياس يمكنه تأكيد أو دحض افتراضنا بأن القطة على قيد الحياة والأريكة ليست كذلك، ولا حتى أنك على قيد الحياة عندما تقرأ هذا.

وهذا ليس بسبب عدم المحاولة. خطوة مهمة لفهم المبادئ الأساسية التي يمكن أن تفسر الحياة طرحها إيروين شرودنغر، أحد آباء فيزياء الكم. ربما يكون شرودنغر معروفًا بتجربته الفكرية لقطط تكون حية وميتة في نفس الوقت، وبالتالي توجد في حالتين في وقت واحد (تسمى التراكب في الفيزياء). لكنه يحظى أيضًا بتقدير كبير لسلسلة من المحاضرات التي ألقاها عام 1943 في معهد دبلن للدراسات المتقدمة تحت عنوان مثير للتفكير "ما هي الحياة؟"، نُشرت المحاضرات في شكل كتاب في العام التالي، واكتسبت شهرة كبيرة بسبب كتابه "ما هي الحياة؟". إلهام أجيال من العلماء لفهم الحياة على مستوى أعمق. والأكثر شهرة هو تأثيره على علماء الأحياء الجزيئية جيمس واتسون وفرانسيس كريك للبحث عن بنية الحمض النووي، والتي تنبأ بها شرودنغر على أنها "بلورة غير دورية تشكل المادة الوراثية".

في كتابه "ما هي الحياة؟"، أوضح شرودنجر عدم التوافق الواضح بين الحياة والقانون الثاني للديناميكا الحرارية، الذي ينص على أن الإنتروبيا أو الاضطراب في النظام الفيزيائي يتزايد دائمًا. كيف يمكن للحياة أن تزيد من نظامها بينما يجب على الكون دائمًا أن يقلل من نظامه، كما يتطلب القانون الثاني؟ وكان رد شرودنغر هو أن الحياة يجب أن تتغذى على "الإنتروبيا السلبية" أو الطاقة الحرة، وهو ما نسميه عادة الغذاء وضوء الشمس. ويقضي القانون الثاني بأن مقدار النظام الناتج عن ضوء الشمس الذي يتم تدميره عندما يسخن كوكبنا يجب أن يكون أكبر من مقدار النظام الناتج عن نمو النبات.

ومع ذلك، هناك فرق بين إظهار أن الحياة متوافقة مع قوانين الفيزياء وبين الادعاء بقوة أكبر بأن الحياة تفسر بها. كان شرودنجر على وجه الخصوص مفتونًا بكيفية تصرف الحياة بهذه الطريقة المنظمة على الرغم من التعرض المستمر للضوضاء المتأصلة في الديناميكيات الجزيئية، وهو الأمر الذي يظل سؤالاً بلا إجابة حتى يومنا هذا. والأصعب من ذلك هو شرح كيف تنشأ الحياة من اللاحياة.

كان شرودنجر نفسه في حيرة من مثل هذه الأسئلة وعلق عليها في نهاية كتاب ما هي الحياة؟ أنه ربما يكون هناك "نوع جديد من القانون الفيزيائي" ضروري لتفسير الحياة. في أكثر من 70 عامًا منذ نشر كتاب شرودنغر، كانت هناك محاولات عديدة لتعريف الحياة أو على الأقل تحديد خصائصها الرئيسية. لكن، حتى الآن، يظل من الصعب العثور على نظرية تفسيرية.

ربما يكون حدسنا للحياة خاطئًا، ومبنيًا على تصورات خاطئة لأننا لا نستطيع رؤية العلاقة بين القطة والأريكة بشكل مباشر. انطلاقًا من فكرة أن القواعد أو القوانين العالمية صحيحة في كل مكان، وليس فقط بالنسبة للقطط أو الأرائك أو الذرات أو المجرات، فإن الفيزياء لديها تاريخ طويل في اكتشاف البنية المخفية في عالمنا. لنأخذ على سبيل المثال قانون حفظ الطاقة: لا توجد عملية تخلق أو تدمر الطاقة، سواء كانت مجرة أو قطة. وكانت الخطوة المهمة في التعرف على هذا القانون هي إدراك إمكانية توحيد الطاقة الحركية والحرارة. عند محاولة تحديد فيزياء الحياة، يجب علينا أن ننظر بشكل أساسي إلى جميع أمثلة الحياة كجزء من نفس الظاهرة العالمية. وبخلاف ذلك، فإن "الحياة" ليست خاصية موضوعية، بل هي مجموعة من الحالات الخاصة. إذا كان "نوع جديد من القانون الفيزيائي" ضروريًا بالفعل لتفسير الحياة، وكيف نفكر، وكما اقترح شرودنجر، فنحن بحاجة إلى إعادة التفكير بشكل جذري ليس فقط في نهجنا في الحياة، ولكن أيضًا في الفيزياء. يجب أن تكون "قوانين الحياة" عالمية بنفس معنى قوانين الفيزياء. يجب أن نفترض أنها لا تنطبق على الحياة على الأرض فحسب، بل على عوالم أخرى أيضًا، وليس على علم الأحياء فحسب، بل أيضًا على الفيزياء بشكل عام.

إن الجدل الدائر حول ما إذا كانت الحياة محكومة بقوانينها الخاصة، أو ما إذا كانت نفس القوانين تنطبق داخل الحياة وخارجها، ليس بالأمر الجديد. زعم الفلاسفة الحيويون أن هناك شيئًا خاصًا يتعلق بالكائنات الحية -قوة حيوية- تفصل الحي عن غير الحي، وفي الكيمياء تفصل العضوي عن غير العضوي. كان من المفترض أن تفسر القوة الحيوية سبب عدم ظهور البكتيريا تلقائيًا في الأوساخ. في عام 1859، أظهر لويس باستور، الذي سُميت عملية البسترة باسمه، أن البكتيريا لا يمكن أن تتكاثر تلقائيًا. وكان استنتاجه أن كل أشكال الحياة يجب أن تنشأ من حياة أخرى.

لكننا نعلم اليوم أن الافتقار إلى القوة الحيوية ليس هو ما يمنع التولد التلقائي للبكتيريا. وبدلاً من ذلك، هناك شيء آخر مفقود: المعلومات. ونعني بهذا بنية الخلية البكتيرية، ومحتويات الجينوم الخاص بها. لقد تم الحصول على هذه المعلومات على مدى مليارات السنين من التطور ولا يمكن إعادة توليدها على الفور من أنظمة لا تحتوي على معلومات، بغض النظر عن كمية الأوساخ الموجودة لديك. بطريقة ما، هذه المعلومات هي القوة الحيوية الحقيقية: فهي ما يفصل الحي عن غير الحي. ومع ذلك، بدلًا من كونها قوة غامضة تمتلكها فقط أجزاء خاصة من المادة، فإنها تظهر عبر الزمان والمكان من خلال عملية الاختيار. لفهم أصل الحياة، يجب علينا أن نتعلم ما هي أجزاء المادة التي يمكنها الحصول على مثل هذه المعلومات، وكيف تفعل ذلك.

للإجابة على هذا السؤال، يتعين علينا أن نذهب إلى ما هو أبعد من أفكار كلود شانون، الذي قاد نظرية المعلومات في عام 1948 جزئيا من خلال تجاهل المعنى.على سبيل المثال، في دراسة إشارات الراديو أو الاتصالات الأخرى، لم يكن شانون مهتمًا بمحتوى الرسالة المرسلة. وبدلًا من ذلك، كان مهتمًا بمعرفة ما إذا كانت البتات/ bits ترسل قدرًا أقل من عدم اليقين في جهاز الاستقبال بشأن حالة المرسل.     ولتحقيق ذلك، كان يحسب الاحتمالات فقط. إذا كان من المحتمل أن يشهد الغد هطول أمطار أو سطوع الشمس، وكلاهما محتمل بنفس القدر، وشاهدت تقريرًا دقيقًا بنسبة 100% عن الطقس يقول إنها ستمطر، فإن عدد الاحتمالات ينخفض بمقدار الضعف. يمكنك الحصول على بت واحد من المعلومات. وينطبق الشيء نفسه إذا رميت عملة معدنية وتعرفت على الجانب المواجه للأعلى، أو إذا لاحظت ثقبًا أسودًا لترى ما إذا كان يدور إلى اليسار أم إلى اليمين.   في كل هذه الأمثلة، يمكنك الحصول على بت/ bit واحد من المعلومات من خلال ملاحظتك. المعلومات هي ببساطة تقليل عدد الاحتمالات المتوقعة، وفي جوهرها تقليل عدم اليقين. وهذا صحيح بغض النظر عما تقوله الرسالة، فمعنى الإشارة لا علاقة له بنظرية شانون.

إذا عثرنا على قطط مريخية ميتة، فسنكون قد وجدنا حياة على المريخ

لتطوير نظرية للحياة، نحتاج إلى إعادة المعنى الذي تجاهله شانون إلى المعلومات، وبالتالي إلى الفيزياء أيضًا. عندما تصطدم كرات البلياردو ببعضها البعض، فإنها تصبح مترابطة - يمكنك التنبؤ بشيء يتعلق بكرة واحدة من خلال النظر إلى الأخرى. هذه معلومات بمعنى شانون: إنها تتعلق فقط بتقليل عدد الحالات المحتملة التي يمكن أن تكون فيها الكرة الأولى بمجرد أن تعرف شيئًا عن الثانية. من ناحية أخرى، عندما تكتسب الحياة معلومات حول بيئتها، فإن هذه المعلومات لا تتعلق بالتنبؤ باحتمالات الحالات التعسفية. إنها ما نسميه "المعلومات الوظيفية" - معلومات حول كيفية البقاء على قيد الحياة بشكل أفضل في البيئة، وكيفية إعادة إنتاج هذه المعلومات في الجيل القادم.

نظر عالم موسوعي آخر من القرن العشرين إلى التكاثر ونقل المعلومات من منظور رياضي. كان جون فون نيومان رائدًا في العديد من المجالات، بما في ذلك التطوير المبكر لأجهزة الكمبيوتر ونظرية الألعاب والاقتصاد. لقد أدرك أن جعل الكائنات الحية أو الآلات التكاثرية - التي أطلق عليها اسم البنائين العالميين - لبناء نفسها يتطلب برنامجًا يخبرنا بكيفية القيام بذلك ووسيلة لنسخ تلك الخطة ونقل النسخة إلى الكيان الجديد. المصممون أكثر تطوراً من أشياء مثل الأرائك. لا يمكن إنشاء الأرائك إلا من خلال المعلومات، ولكن يمكن للمصممين أيضًا إنشاء أشياء جديدة عن طريق معالجة المعلومات (بما في ذلك الإصدارات المتحولة من أنفسهم والتي تسمح للتطور بالعمل في المقام الأول) - أي أنه يمكنهم استخدام المعلومات.وبهذا المعنى، فإن القطة عبارة عن مُنشئ قابل للبرمجة، وكذلك أنت، لكن الأريكة ليست كذلك. ومع ذلك، في جميع هذه الحالات (الأرائك والقطط، وما إلى ذلك) تكون عملية تطورية ضرورية لإنتاجها.

وبالتالي فإن نظرية المعلومات التي يمكنها تفسير الأنظمة الحية يجب أن تأخذ في الاعتبار جانبين من المعلومات - كيفية الحصول على المعلومات، وكيفية استخدامها. تم الحصول على هذه المعلومات عبر الزمن التطوري، على سبيل المثال من خلال الاختيار، عبر البقاء للأصلح. يتم استخدام المعلومات، كما أشار شرودنغجر، عن طريق استنزاف الإنتروبيا السلبية لتغطية تكاليف الزيادة في التنظيم الذي تحتاجه الكائنات الحية للبقاء على قيد الحياة، وهو ما يمكنها القيام به لأنها بنَّاءة ولديها معلومات حول كيفية إنتاج نفسها.

في هذه المرحلة، من المفيد التمييز بين مفهومين متعلقين بالحصول على المعلومات واستخدامها: سنشير إليهما باسم الحياة/ والبقاء على قيد الحياة / . على قيد الحياة يشير إلى الاستخدام المستمر للإنتروبيا السلبية. وهو عكس الميت. أثناء حياتها، يمكن للقط أن يستخدم الإنتروبيا السلبية التي اكتسبها في شكل طعام لتوليد النظام في خلاياه، ولبناء نفسه. الأشياء التي هي على قيد الحياة هي منشئون. القطة الميتة لم تعد قادرة على فعل ذلك بعد الآن. يتطلب البقاء على قيد الحياة عملية الحفاظ على التوازن، أي التغلب على الاضطرابات والحفاظ على توازن الكائن الحي بشكل عام.

ومن ناحية أخرى، تشير الحياة إلى العملية التي تولد المعلومات المطلوبة. كما أنه يولد الأشياء الحية والمعلومات اللازمة لإنتاجها. وتتضمن الحياة أيضًا الحالات التي يتم فيها الحصول على المعلومات لتوليد أشياء غير حية، مثل الأرائك. هذه هي العملية التي تولد المعلومات التي يتم نسخها بمرور الوقت وعبر أشياء مادية مختلفة: من الوالدين إلى الأبناء أو بين الأفراد. تولد الحياة خيوطًا طويلة من المعلومات عبر الزمن - ما يسميه علماء الأحياء التطورية السلالات: سلالات القطط، بدءًا من أسلاف جميع القطط إلى القطة الجالسة على الأريكة؛ سلالات من المعلومات تمتد من المقاعد الأولى إلى الأريكة؛ والأنساب المؤدية من أصل الحياة إلى البكتيريا الموجودة في أمعاء القطة. هذه السلالات هي التي يسميها العلماء "ذات النهاية المفتوحة"، أي أنها مرشحة للتطور المستمر وتوسيع الحداثة. الحياة المعروفة هي محيطنا الحيوي، بما في ذلك جميع الأنساب التي كانت موجودة على الأرض والأنساب المستقبلية التي ستتطور منها. الأشياء الحية هي الأنظمة المولدة لتوسيع هذه العملية في المكان والزمان من خلال بناء إمكانيات جديدة. وبالتالي، فإن القطة والأريكة هما الحياة، ولكن القطة فقط هي التي على قيد الحياة.

لمعرفة سبب فائدة التمييز بين الحياة/ life والبقاء/ alive، يمكننا أن نتأمل في مثال شائع يستخدم في المناقشات حول تعريفات الحياة: الفيروسات. هناك خلاف في علم الأحياء حول ما إذا كانت الفيروسات حية أم لا. ليس لديهم آلية التوازن الخاصة بهم، ويعتمدون على آلية الخلايا المضيفة لاستعارة الآلات اللازمة لتوليد المزيد من الفيروسات. وفقًا للمعايير الشائعة، فإن الفيروسات ليست حية لأنها ليست بنَّاءة قادرة على إعادة إنتاج نفسها. لكن لا يزال بإمكانهم أن يكونوا الحياة.تظهر الفيروسات، مثل الخلايا أو القطط أو البشر، من خلال عملية طويلة تجمع معلومات وظيفية. إذا أردنا أن نفسر أصل الحياة، علينا أن نكون قادرين على شرح كيفية ظهور هذه العملية. القطة الميتة ليست على قيد الحياة، ولكنها حياة - لقد ظهرت أيضًا من خلال عملية طويلة من الحصول على معلومات وظيفية. إذا تمكنا من تفسير أصل القطط الميتة، نكون قد شرحنا أصل الحياة، وإذا وجدنا قطط مريخية ميتة، نكون قد وجدنا الحياة على المريخ. ومن ثم فمن المهم التمييز بين الكائن الحي، الشيء الحي، وبين العملية ــ الحياة ــ التي ولدت المعلومات التي يستخدمها.

من الممكن أنه في كل مرة تنشأ فيها الحياة في الكون، ستظهر أشياء يمكن أن نسميها حية، أو تشترك في بعض سمات ما نعتقد أنه كائن حي. من المحتمل أن يستخدموا المعلومات والإنتروبيا السلبية للحفاظ على أنفسهم.لكن ليس من الواضح على الإطلاق أن كل أشكال الحياة ستؤدي إلى أشياء حية في كل مكان توجد فيه الحياة، كما أنه ليس من الواضح ما هي سمات الحياة الضرورية للتطور المفتوح وتوسيع المحيط الحيوي.

تخيل أنك قمت ببناء طابعة ثلاثية الأبعاد متطورة تسمى أليس، وهي أول طابعة قادرة على طباعة نفسها بنفسها. كما هو الحال مع منشئ فون نيومان، فإنك تزوده بالمعلومات التي تحدد خطته الخاصة، وآلية نسخ تلك المعلومات: أصبحت أليس الآن منشئًا كاملاً لفون نيومان. هل خلقت حياة جديدة على الأرض؟

قد تكون السلالات البيولوجية، مثل سلالتنا التي يبلغ عمرها حوالي 4 مليارات عام، من أقدم الهياكل الفيزيائية على وجه الأرض لأنها تستمر في تجديد نفسها

لنفترض أنك قمت بعد ذلك بتجهيز أليس حتى تحصل (من خلال تصميمك) على المزيد من المعلومات: يمكنها استخدام الصخور والمعادن المشتقة منها كمواد خام لصنع طابعات ثلاثية الأبعاد جديدة. هل أصبحت أليس وذريتها (بوب وتشارلي وديزي وإيف) على قيد الحياة الآن؟ بعد أن شعرت بالانزعاج من الاضطرار المستمر إلى العثور على مواد خام لجميع الطابعات ثلاثية الأبعاد الصغيرة الموجودة حولك، قررت تزويد نسل واحد، إيف، بمزيد من المعلومات المكتسبة: الألواح الشمسية للطاقة التي تمكن إيف من الخروج بنفسها واستخدام تلك المعلومات المكتسبة للبحث عن المعادن. هل إيف الآن هي الحياة؟

بالنسبة لهذا التصميم الأخير، فقد اكتسبت شهرة كبيرة لهندسة أول طابعة ثلاثية الأبعاد ذاتية الإنتاج ومستقلة تمامًا ولا تتطلب إشرافًا. أنت تضع الكثير من المعلومات والبرمجة في صنع مُنشئك. على الرغم من اهتمامك العميق بإنشائك، إلا أن شركة التأمين الخاصة بك تشعر بالقلق بشأن الخسائر غير المواتية إذا استولت حواء على الأرض.

لذلك، تكتشف طريقة لإرسال طابعتك الصغيرة ثلاثية الأبعاد المستقلة في المهمة التالية إلى المريخ كمسافر خلسة. تخيل أن إيف تتمتع بوجود سعيد في واد مخفي على سطح المريخ، وتستمر في إنتاج العديد من النسخ من نفسها. تكتشف البشرية الوادي بعد بضعة ملايين من السنين لتجد أن عملية التطور على الطابعات ثلاثية الأبعاد قد أنتجت مجموعة واسعة منها تختلف تمامًا عن تصميمك الأصلي - صغيرة، وكبيرة، وزرقاء، وحمراء،، وتلك التي تبحث عن طابعات ثلاثية الأبعاد أخرى للحصول على الموارد، وما إلى ذلك.

قيمة هذه التجربة الفكرية هي أنها تسمح لنا بالتلاعب بمفاهيم الحياة وقيد الحياة. بشكل حدسي، نشعر أن الحياة قد ظهرت، أو ربما أن الروبوتات الجديدة لا تزال على قيد الحياة. هل أصبحت الطابعات ثلاثية الأبعاد هي الحياة؟ إذا كان الأمر كذلك، ففي أي نقطة أصبحت الحياة؟ هل هى على قيد الحياة؟

تشكل الطابعات ثلاثية الأبعاد سلالة. على المريخ، تم اكتشاف وظائف جديدة عبر التطور، وتفرعت سلالات جديدة، لكل منها وظائف مشتقة بشكل مستقل تم تطويرها من خلال الاختيار. لكن بالعودة إلى الأرض، كان أصل هذه السلالة هو هندستك. وأنت نفسك جزء من سلالة عمرها ما يقرب من 4 مليارات سنة تعود إلى أصل الحياة على الأرض. لاحظ أن نسب الطابعة ثلاثية الأبعاد ونسبك ليسا منفصلين حقًا. لم تكن الطابعات ثلاثية الأبعاد لتظهر بدون تاريخ طويل من تراكم المعلومات الوظيفية على الأرض، تمامًا كما لم تكن لتظهر بدون هذا التاريخ الطويل. ولهذا السبب، لكي ندرس أمثلة مستقلة للحياة حقًا، يجب علينا اكتشاف الحياة الغريبة وليس مجرد صنعها في المختبر.

من المستحيل أن نتخلص من قوتنا في محاولات خلق حياة اصطناعية: كل ما نصنعه هو جزء من سلالتنا وبالتالي يمثل نفس الحياة. قد تكون السلالات البيولوجية مثل سلالتنا، والتي يبلغ عمرها حوالي 4 مليارات سنة، من بين أقدم الهياكل الفيزيائية على الأرض لأنها تتجدد باستمرار. ليس هذا فحسب، بل إنها مدعومة أيضًا بالمعلومات للتوسع والتطور باستمرار.

ولكن دعونا نلقي نظرة على المعلومات الوظيفية التي تشكلنا. لقد تم اكتساب بعضها منذ حوالي 4 مليارات سنة عندما بدأت الحياة، ولكن تم اكتساب معظمها عبر الزمن التطوري. لقد تعلمنا كيفية بناء أجسامنا منذ حوالي 540 مليون سنة، وربما هضم الطعام المطبوخ في المليون سنة الماضية. نحن عبارة عن حزمة من المعلومات، نكتسبها في مراحل مختلفة، بعضها نكتسبه عن طريق البكتيريا الموجودة في أمعائنا، والبعض الآخر نكتسبه عن طريق الثقافة. من وجهة نظر السلالة، كانت الطابعات ثلاثية الأبعاد هي الحياة دائمًا، ولم يكن هناك انتقال بين اللاحياة والحياة في تجربتنا الفكرية. لكن شيئًا ما تغير على مدار تطورها - فقد اكتسبت معلومات وظيفية على مدى ملايين السنين على المريخ، وكانت قادرة على استخدام هذه المعلومات للقيام بأشياء جديدة - أي أنها اقتربت مما يمكن أن نطلق عليه الأحياء. وبهذا المعنى يمكننا أن نعتبر الطابعات ثلاثية الأبعاد بمثابة أمثلة جديدة للأشياء الحية، كل منها يولد إمكانيات جديدة للحياة.

هدفنا هو فهم الحياة على الأرض وفي العوالم الأخرى، وفهم أصلها. ولكن من أجل تحقيق ذلك قد يتعين علينا تغيير الطريقة التي نفكر بها في الحياة بشكل جذري. القطة هي مثال لكائن حي. ولكنها أيضًا سلالة عمرها 4 مليارات سنة من المعلومات الوظيفية المشتقة بشكل مستقل. إن السؤال حول ما إذا كانت قطة شرودنجر حية أم ميتة قد لا يكون هو السؤال الصحيح - وفي كلتا الحالتين، إنها الحياة.

في ركن الغرفة تجلس سلالة عمرها 4 مليارات سنة، وهي الآن على شكل قطة. هذه هي الحياة.

(انتهت)

***

........................

المؤلفان:

1- مايكل لاشمان / Michael Lachmann: أستاذ في معهد سانتا في في نيو مكسيكو. وهو مهتم بالتفاعل بين التطور والمعلومات، وخاصة أصول الحياة.

2- سارة ووكر /Sara Walke: عالمة أحياء فلكية وعالمة فيزياء نظرية في جامعة ولاية أريزونا، حيث تشغل منصب نائب مدير مركز بيوند للمفاهيم الأساسية في العلوم وأستاذة في كلية استكشاف الأرض والفضاء وكلية الأنظمة التكيفية المعقدة. وهي عضو في هيئة التدريس الخارجية في معهد سانتا في وزميلة في معهد بيرجروين.

الرابط على أيون:

https://aeon.co/essays/what-can-schrodingers-cat-say-about-3d-printers-on-mars

.

يشير الظلم في الخطاب الإجتماعي إلى مجموع الممارسات التي تخترق الفرد وتسلبه القدرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة لصالح الجماعة، مما يخلق تجاوزات عبثية داخل المجتمع.

فيمثل بذلك الظلم حدود كل فاعلية إنتاجية خلاقة وواعية ليؤثر بشكل سلبي على الحرية.

والظلم من هذه الناحية ضد كل فاعلية اجتماعية وقيمية لأنه يُحِدُّ حرية الأفراد ويشعر المظلوم بأنه عبد في يد الظالم، فيخلق التوتر والقلق والملل بين الأفراد من حيث كونهم أشخاصا مجردون.

وإرادة الظلم تكرس الاختلال بين قوى المجتمع، مما يتيح انعدام قبول واحترام حرية كل فرد ككيان مجرد، فيكرس بذلك لمجموعة من المفارقات والتناقضات التي توسع من تعارض الأفراد فيما بينهم.

ويحمل الظلم مجموعة من التقابلات تعكس مطاطيته وتعقيده. قوته وغناه: فهو يعبر عن الجهل والقسوة وعن القوة المؤسسة والمشروعية وعن الوضاعة، واليأس والخيبة والعنف والاحتيال والذاتية والاستبداد ... إلى آخره.

ويمكن إرجاع الظلم إلى حالة الطبيعة أو حالة التوحش أو يمكن كذلك اعتبار أن مستوى ثقافة المجتمع هي أفضل تعبير عن هواجسه وانشغاله الأساسي بالفاعلية الإنسانية.

فالظلم تعبير عن شيمة الشيم، وحقيقة إنسانية الإنسان التي يدعيها، ومظهر من مظاهر الحقارة والخضوع والخنوع والسفول  والخساسة والنذالة والمهانة والذل  والتذلل، ولهذا من الضروري دراسة أبعاده: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والقانونية ...

إن كل كلام عن الظلم هو كلام عن الإنسان لأن الحيوانات لا تظلم بعضها البعض من قريب أو من بعيد، لهذا من المنطقي إيثار نقاشات عن ما يحمله من أخطار ومعيقات، إن كل تفكير فيه لابد وأن يثير تساؤلات حول مصدر جاذبيته والأساس الميتافيزيقي الذي يقوم عليه، فالظلم كرذيلة الرذائل يشكل أصل كل الشرور الاجتماعية، إنه المحرك الأول للأفراد والمجتمع والدولة.

إن كل كلام عن الظلم إذن لا يستقيم، من وجهة نظر فلسفية، إلا في حدود ارتباطه بالإنسان وبما له علاقة به، يمكن في هذا الصدد النظر إلى علاقة الإنسان بالطبيعة والحيوان على أنها علاقة ظلم، وهذا ما أثار حفيظة المدافعين عن حقوق الحيوان، والبيئة.

إذا كان الشر كمبدأ قد أصبح مكسباً لا يثير أي جدال أو سجال، فلا يمكن اعتباره سوى دليلا قويا على بداوة الأمم، كما أن الأسس التي يقوم عليها تعكس القوى العمياء: الغرائز والنزوات والميولات والممارسات المشينة التي تتحكم فيه، وتتغير أوضاع الظلم بتغير ميزان القوى ولا يمكن للحرية المفرطة والظلم بهذا المعنى إلا أن يكونا مصدراً للشر.

إن الإنسان لا يعرف حقا غير قوة الظلم ولا يعرف ماهية وحقيقة العدل ولا رحمة الضعيف.

والشر المتأصل في الطبيعة الإنسانية يكمن في كون الفرد يتوهم الحرية في فعل كل ما في استطاعته للحفاظ على غريزته الخاصة حتى ولو كان ذلك على حساب الآخرين.

ولربما كان الظلم والأذى والاجحاف والاستبداد والإضرار والتجاسر والتحكم والتسلط والتعدي على الغير والتعسف وتعذيب الآخرين والحيف في الحقوق وشطط استعمال السلطة وضيم الناس وطغيان الرياسة وعسف الأفراد وغصبهم على الخضوع وقهرهم واهلاكهم، ... إلى آخره، غالباً على الطبيعة الإنسانية، لأن إعطاء الظالم الحرية في فعل ما يريد سرعان ما ستؤدي به أهوائه إلى اغتيال الناس واستمالة النساء والغلمان والاستيلاء على السلطة.

ليس الشر سوى رذيلة في نفوس الأفراد والظلم يرتكب عبر التاريخ حينما تتوفر شروط وظروف ارتكابه.

فكل فعل إنساني هو فعل يبحث عن مبدأ لتبريره ويكمن الظلم في الحرية التي يتمتع بها الإنسان في أن يفعل كل ما تقتضيه صيانة حياته ومصلحته، والتي ستؤدي بالضرورة إلى نشأة الحروب والصراعات بين الناس، فالإنسان قادر بقدرة قادر على إستعمال كل الوسائل والأدوات والمعارف والمباحث المتاحة لديه من أجل المحافظة وتحقيق غريزته الخاصة.

إن الإنسان وككل كائن عاقل يسلك في حياته طبقا للقوانين التي وضعها سلفا، والتي توفر له قدرات يكون الظلم بالنسبة للذات مطابقا لقدرتها، بحيث يتحدد الظلم في الذات بقدر ما له من قوة، ويجد الفعل الإنساني تبريره في فعل الذات ذاتها، ويكون الشر بالتالي غير قابل للتجاوز إذ يبقى هو الوحيد الذي يحكم حياة البشر، فكل ما يراه الإنسان شراً تكون له القدرة على فعله إلا الخير.

وهذا الفعل الظالم هو ما يهدد حياة الإنسان واستقراره على الدوام. كما يدفعه إلى التفكير في أن يحيا حياة مطابقة لمقتضيات العقل، والتنازل عن جزء من حريته في حدود ما يسمح به العقل والتعايش مع الآخرين.

لهذا يجب على الإنسان أن يدافع عن كيانه دون تعد على الغير، لأن كل تعد عليه ظلم، والتنازل عن قسط يسير من حريته، اختيار أنجع للدفاع عن مصالحه.

يتوق كل إنسان إلى العيش في أمن وأمان مما يضطره إلى تجاوز حالة الظلم الحالية وتقبل فكرة التعايش والتضامن مع الآخرين.

كما يدرك الإنسان مصالحه في حالة اختيار العيش طبقا لمقتضيات العقل، ولن يحدث هذا إلا في حالة تجاوز حالة الظلم، ولا ننسى المنفعة التي نتبادلها مع جميع الأفراد، وتخلي الإنسان عن قسط من مبادراته وحرياته لسلطة ذات سيادة ومتعالية على الأفراد مما تجعله يردع كل مغامرة ويمنع كل تهور.

ورغبة الإنسان في التعايش والاحتكام إلى سلطة العقل، نتج في الحقيقة عن حالة التوحش التي عاشها ولازال يعيشها، كون الفرد مجبولا على التفردن لكن فرض عليه التعايش مع الغير، وترتب عن هذا إفلاس كل خطاب عن زوال الظلم، لأنه متجذر في الطبيعة الإنسانية ولا يستقيم إلا على حياة الأفراد الخاصة، إنه يترجم محورية الذات وأنانيتها المطلقة مقابل تساكنها مع غيرها من الذوات.

ومن ثم يكون أساس كل ظلم اجتماعي هو كونه ظلم محايث لطبيعة المجتمع الذي يتميز بخاصية الجماعة، ولا يعوض الأفراد في الأضرار التي قد تلحقه من جراء عبث الغير وهي ظلمات قد تشتت قدرات جميع الأفراد وتشجع على الثورات والانقلابات الاجتماعية.

لأن الإنسان لم يلج المجتمع من أجل أن يتعرض للظلم والاقصاء الإجتماعي أو لتسوء أحواله الفردية ويتعرض لظلمات المجتمع ويعيش حالة التوحش والجهل وعنف الذات والآخرين.

ولعل أهم ما يكسبه الإنسان من حالته الراهنة هي القيود الأخلاقية والقيمية التي تحد من حريته وتجعله عبد نفسه وشهوته، وهذا دليل على استعباده وامتثاله للقوانين الظالمة التي هي ضد الطبيعة وتحرم حقه في الحياة وفي الكرامة.

يرتبط الظلم كذلك بالثقافة ومن ثم لا يستطيع المظلوم المساهمة في اتخاذ الإجراءات والقرارات والمبادرات الفاعلة لصالح المجتمع، كما يسبب الظلم الإجتماعي حرمانه وتهميشه واقصائه من الخدمات التي تقدمها الدولة.

يمثل الظلم معياراً أو نسقا تراتبيا يحتل المظلوم مكانة محددة لا قيمة لها إلا داخل هذا النسق، والظلم هو تعبير لصالح القوة والاختلال الديناميكي الذي يقوم عليه كل مجتمع، وقيام الحياة الاجتماعية على الظلم يعني عدم خضوعها لأي قانون أو ضابط يؤطر سلوكات وتصرفات وأفعال وأفكار الأفراد وعلاقاتهم الاجتماعية ويترجم الظلم إلى حالة قاهرة معيشة.

وينتج الظلم عن حرمان الأفراد من قدراتهم الفعلية على الحياة وفقا للعقل السليم، ومن ثم لا يستطيع المظلوم العيش طبقا لقوانين الذهن الصحيح.

إذ أن الظالم لا يقتصر تفكيره على قوانين العقل الإنساني ويعمل جاهدا على جلب الضرر الحقيقي للأفراد وتعريض حياتهم للخطر.

والواقع أن المظلوم يعيش في حالة قلق وسط العداء والكراهية والغضب والمخاتلة والخداع، ويواجه شقاءً عظيماً ويظل عبداً لضرورات الحياة إن لم ينمي عقله ويحرره من الاستبداد الذي يخضع له.

إن أقوى الناس لا يكون قويا بالشكل الذي يمكنه من أن يكون دائما سيدا على الآخرين ما لم يحول قوته إلى شر وظلم الآخرين، ويبتز في الوقت نفسه مصالح الأغيار من أجل التمهيد لاستعبادهم واستبدادهم، هكذا يفكر الظالم والطاغية، وينظر إلى الظلم والشر شيئا واحد، ويؤكد على أن القوة تخلق الظلم لهذا وجب على الكل الخضوع له.

يستطيع الظالم من خلال الكلام والخطاب أن يجلب الناس ويغويهم لصالحه، عبر إيهامهم أن الكثير من المشاكل سيعمل على حلها بواسطته، وبالتالي لا ولن يستطيعوا الاستغناء عنه، فيهرع جميع المظلومين إلى أغلالهم، وهم يعتقدون أنهم يضمنون بذلك حريتهم، لو كان لديهم اليسر القليل من العقل لأدركوا خطورة الظالم وثاروا عليه، والتضحية بكِسْرٍ من الحرية حفاظا على الحياة ما هو سوى استعداد قبلي لعيش حياة أبدية رغيدة بالظلمات.

وفي زمن الظالمين سجن الضعفاء وهم أحرار بقيود جديدة، ومنحت الظالم قوة وحرية جديدين، فاستحالة الحرية في عصر الظالمين استحالة نهائية، وامتد التفاوت بين الطبقات الاجتماعية، وتعرض المظلومين للاغتصاب اللبق في حقوقهم وحرياتهم، وخضعوا بالتالي إلى السجن الأبدي والعبودية المختارة والبؤس والتعاسة والشقاء الدائمين لصالح طموح وأطماع الظالم.

إن الظلم الوحيد فعلا هو ذلك الذي يكون ضداً لمقتضيات العقل القويم ويفرض على الأفراد انتهاكا لمصالحهم الشخصية.

إن الدولة الظالمة هي الدولة التي تمارس بشكل عنيف سلطتها على الأفراد، وتحد من الحريات مما يؤدي إلى اختلال النظام السياسي وانغلاقه على مجال الحريات العامة.

إن سلطة الدولة الظالمة تتخذ ملمح خرق قوانين المجتمع وظلم الأفراد، كما لا تفصل بين السلط ولا تفرق بينها في الأساس.

كما لا نجد للأفراد أي حقوق تذكر داخل النظم السياسية الظالمة، وتظل لصيقة السلطة الاجتماعية التي تمسها وتطغى عليها.

ونحذر من امتثال الأفراد للقوانين الظالمة لأنها قوانين استبدادية وأكيد سيؤدي هذا بالضرورة إلى الانقلابات الثورية والحاق الأضرار بالمجتمع.

إن حالة الإنسان الذي وصفه طوماس هوبز بحالة "حرب الكل ضد الكل" في كتابه الشهير الليفياثان يعكس واقع الدولة الظالمة أو الحاكم الظالم المستبد بالأفراد.

لقد مثل الظلم دائماً استحضاراً للعنف وتمثيلا له، فالعنف لا يمكن أن يوجد إلا داخل الظلم، ويحث على ضغينة الانتقام، ولهذا وجب أن يبدو غير قابل للخرق، وبهذا المعنى تصون العقوبات العنيفة كيان الظالم، وتبين مدى شراسته وشراهته الخصيبة، لا يسعى الظلم إلى السلم بقدر ما يسعى إلى التأصل والتجذر في طبيعة المجتمع.

النظام الظالم هو كل نظام لا يضمن الحرية الفردية، وهو يفترض وجود مبدأ يقول بأن الإنسان يجب أن يكون عبدا، إنه يفترض هذا المبدأ بكيفية مباشرة، فلا يضمن الأمن والأمان والاستقرار الإجتماعي التي تدفع الفرد إلى تفضيل الخضوع على الحرية الفردية.

لكل مجتمع ظالم مثل وقيم ومعايير تتساوى في ذلك مع المجتمعات المتوحشة التي هي مجتمعات حزينة وكئيبة تعجز عن ممارسة كل تفكير نقدي، وأكيد أنه بمجرد التساؤل عن قيمة معايير وقيم المجتمع الذي نعيش فيه، سرعان ما يثبت وجود شيء ما في الإنسان يرفض رفضا قاطعا كل ظلم.

كما أن الأهواء تلعب دوراً مهما في حث الانتقام في النفوس وتجمل صفو الظلم وصبغة التعسف لأن الظالم ينساق دائما إلى العواطف والدوافع الذاتية، وهكذا يكتسي الظلم الذي يتخذ شكل الانتقام بدوره صبغة إساءة جديدة، ويدرك كسلوك فردي يثير انتقامات لا تغتفر، وإلى ما لا نهاية له.

باختصار، الظلم لا بداية له ولا نهاية، ويتجسد في تصرف السيد الذي يسيء معاملة العبد، وفي الدولة الاستبدادية التي تحتقر مواطنيها أو في الاحتلال الصهيوني الذي نلحظه في قطاع غزة ويذل الناس.

ختاما، الظلم هو كل فعل قد يقوم به الظالم أو غيره كما لو كان وحده في المجتمع أو الدولة أو العالم، وكأن باقي العالم لا يوجد إلا ليستقبل ذلك الفعل، والقوة هي من تخلق الظلم وتجعل الظالم يسلك وفق شهواته وينساق إلى ميولاته.

***

بقلم: محمد فرَّاح – أستاذ فلسفة / المغرب

 

اللغة العربية أرقى اللغات وأسماها وأجلّها وأعلاها، وما زادها طيبة وعذوبة أنّ القرآن بها يُتلى، وأن الأذان بها يُرفع، وأن الصلوات بها تفتتح وتُختتم، لكن أرى نفسي في دولة لم تمكّن لغتها ولم تفعّلها، ولم تدخلها في لغة البرمجيات وفي جميع مفاصل الحياة كجزء من شخصية وطنية استقرت بسماتها وترسخت.

فوضعية اللغة العربية في عصرنا الحديث تطرح إشكالات مهمة ضمن منظومة التواصل، وهي وضعية تدفعنا للتساؤل عن كفاياتها من خلال النظر إلى المعاجم والقواميس كمصادر يمتح منها الدارس والمتعلم مفرداته وكمرجعٍ للكلم ودلالاته. لكن المفارقة العجيبة التي نستخلصها، هي أن المرء سيجد في اللغة العربية عشرات المفردات والأسماء لحيوانات الصحراء، ولكن لن يجد فيها أي من المفردات التي تروج في في عصرنا التكنولوجي والتي تتعلق بوسائل التكنولوجيا الحديثة، بهذا المعنى تصبح اللغة العربية فقيرة المفردات والتعبيرات، عاجزة عن اللحاق بالاختراعات وأسمائها التي أنتجها العالم الأول وما زال ينتجها في وفرة هائلة.

وبالتالي فاللغة العربية تواجه عدة تحديات منها التغيرات اللغوية، حيث تتعرض اللغة العربية للتغيرات اللغوية المستمرة، خصوصًا في اللغة العامية والمصطلحات الحديثة، مما يؤدي إلى التشوه في البنى اللغوية الأصيلة للغة العربية. كذلك الاستخدام الخاطئ، حيث يتم استخدام اللغة العربية بطرق خاطئة وغير مقبولة من قبل الناطقين بها، مما يؤدي إلى تأثير سلبي على اللغة ويجعلها أقل قدرة على التعبير بالشكل الصحيح. ونشير أيضا للتأثيرات الثقافية الأخرى، حيث إن اللغة العربية تتأثر بالثقافات الأخرى، خصوصًا فيما يتعلق بالمصطلحات الجديدة والكلمات الأجنبية، مما يؤدي إلى تأثير سلبي على فهم اللغة العربية واستخدامها.

ومن أهم التحديات أيضا التي تعيشها لغتنا العربية في المجتمع المغربي في عصر التكنولوجيا هو ثنائية اللغة أو الإزدواجية، بمعنى أن نتكلم لهجة نتداولها في التعامل اليومي، أي ما يعرف بالعامية، ولغة تدريس الآداب والعلوم، أي اللغة العربية؛ ما يميز هذه الثنائية وجود تقارب وتشارك بينهما، لكون العامية منها ما هو منحدر ومأخوذ من اللغة العربية في صيرورة تطورها، ومنها ما هو مستورد من لهجات محلية، إذ أغلب مفرداتها مستقاة مما ذكر، بها يعبر أفراد المجتمع عن حاجاتهم اليومية بعفوية وتلقائية وطلاقة، ويمكن القول بطريقة فطرية، كما أن للعامية نصوصاً أدبية شفوية وغنائية، وأمثال شعبية متداولة.

يعد هذا التقارب دعامة لما هو مشترك بينهما، مما يقوي الاشتغال الوظيفي لكليهما، أي وظيفة التداول العام الذي تؤديه العامية، ووظيفة الدرس اللغوي أو العلمي الذي تؤديه اللغة العربية.

هذا الواقع لم يلغ وجود لغة رسمية، هي اللغة العربية، لغة لها رصيدها اللغوي وقواعدها النحوية، ومعاجمها المتعددة، تدرس بها المواد الدراسية في المدرسة والجامعة، كما أنها تستخدم في أجهزة الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة، فضلاً عن استعمالها في الأجهزة الإدارية، والخطب الرسمية. هذا جانب فقط من الثنائية اللغوية التي يعرفها الواقع اللغوي بالمغرب كما تعرفها المجتمعات العربية.

تعد هذه الحالات من التعدد أو الازدواج اللغوي بمجملها جد طبيعية، تعرفها أغلب دول العالم، بآسيا وإفريقية وأمريكا اللاتينية، وحتى في بعض الدول الأوروبية، مثل إسبانيا وسويسرا وبلجيكا، وكندا ومنطقة الألنراس بفرنسا.

يمكن القول في ضوء الدراسات اللغوية السوسيولوجية والنفسية إن الثنائية أو الازدواجية اللغوية من شأنها تقوية مدارك الأفراد، وجعلهم متفتحين على مختلف الأنظمة اللغوية، لكنها قد تحدث اضطرابات لغوية رغم أنها عابرة، كما أن أشكالاً من الاضطرابات اللغوية قد تحدث حتى عند الأطفال الوحيدي اللغة.

فالدراسات اللسانية الحديثة تنظر إلى اللغة كأداة للاستعمالات المتنوعة، وفي سياقات تفرض أن تكون الحمولات الدلالية مبحثا تواصليا، يراعي خصوصية العلاقات التي تربط مستعملي اللغة كنظام من الأبنية الصوتية والتركيبية والدلالية سياقيا. هكذا يصبح الإنجاز فضاء للتواصل، يكون فيه المعجم وحدة  تؤطرها مجموع العلاقات الذهنية والنفسية والاجتماعية واللغوية التي تتقاطع كنظام تواصلي في تشكيلة زمنية متكاملة، تحقيقا للتوافق بين الباث والمتلقي حول مرجعية أساسها الكفاية التواصلية القائمة على سيرورة مختلف الاستعمالات المعجمية .

وإن حاولنا البحث باختصار في الحقب التي مرت بها العربية والأدب العربي؛  نبدأ بالعصر الجاهلي الذي ظهرت فيه المعلقات بأغراض شعرية عادية والتي أصبحت نهجا سار عليه الشعراء حتى يومنا هذا (الغزل، الرثاء، الهجاء، المديح، الوصف... الخ) وشعر الفروسية نتيجة الغزوات بين القبائل، وظهور الخطابة، وظاهرة الصعاليك...

وفي العصر الإسلامي جاء المديح النبوي كما عند حسان بن ثابت الانصاري، والشعر الديني، فتطورت الأغراض الأخرى.

أما العصر الأموي ظهر شعر الفتوحات والنقائض كما عند جرير والفرزدق والاخطل، ثم الشعر السياسي وشعر الغزل العذري،

وحديثنا عن العصر الأندلسي يذكّرنا بالموشحات والوصف بسبب طبيعة الأندلس، أما العصر العباسي فامتد على أكثر من خمسة عقود وظهر فيه الغزل الصريح والمقامات والفتوحات وشعر الحروب والوقائع الحربية، كما شهد رثاء الممالك والمدن بعد غزو التتار والمغول، فتطور غرض الفتوحات، وعند اقتراب انهيار الدولة ظهر الغزل الفاحش وشعر المجون والفتن والخلاعة وفي المقابل ظهر التصوف والزهد، وتطور فن الرسائل، وتطور حركتي الترجمة والتأليف.

وبخصوص العصر الحديث فقد شهد ظهور المعارضات بشكل أوضح، فجاء أدب المقاومة، الشعر المسرحي، أدب السجون، الأدب المهجري، مدرستا الإحياء والديوان، شعر التفعيلة (الشعر الحر)، الشعر الوطني والقومي وظاهرة الاغتراب، الأدب الشعبي...

فعلا مرت العربية بحقب زمنية عصيبة، لكن علينا أن نطوّرها أكثر، فيماذا تنفع هذه اللغة في عصرنا الرقمي الحالي، لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية الإلكترونية جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية.

وفي هذا السياق، فإن كل الدول وضمن مناهجها التربوية تعتمد سياسة لغوية واضحة المعالم، أي الانطلاق من اللغة الوطنية، والتدرج الدقيق لإدراج تعليم اللغات الأجنبية حسب أوصافها وقواعدها، ووفق المستويات الدراسية المطلوبة، مما يفرض بالضرورة اعتماد مقاربة دهنية ونفسية في علاقتها بالقدرات الذهنية للطفل.

يمكن القول أنّ اللغة العربية اليوم، تواجه خطرا يهددها في سياق التحولات التي يتعرض لها العالم العربي، بإقبال كُتّابه ومثقفيه ونسائه ورجاله على اللغات الأجنبية الأخرى، كاللغة الإنجليزية، نظرا لما تتيحه من مزايا متعددة، حيث إن أغلب البحوث العلمية على المستوى العالمي تصدر باللغة الإنجليزية ولغات أجنبية أخرى، وهذا الأمر ليس ناشئا عن خلل في اللغة العربية نفسها، وإنما سببه هو أن البحث العلمي والإنتاج الأدبي والثقافي بشكل عام يخضع لتحكم ذوي الاقتصاد القوي، وبما أننا في عصر اقتصاد المعرفة، فكل شيء صار له ثمن، وأصبحت المعلومات والبيانات أيضا بضاعة تباع وتشترى كسائر البضائع الأخرى.

في الختام، يظل دور كل فرد في المجتمع محوريًا في مواجهة ظاهرة الزوائف. من خلال التحري الدقيق والتفكير النقدي. لكن ومما لا شك فيه أن اللغة العربية في ظل الظروف الراهنة تعيش حربا مع التكنولوجيا ومع اللغات الحية الأخرى، بحيث إنه من المنظور الديني يلزمها البقاء، أما من المنظور الاجتماعي فأهلها تخلفوا معرفيا، بحيث إن الاعتماد على الأجنبي بديلا ولّدَ عجزا أمرض العقل العربي.

وتظل أي لغة انعكاسا للمستوى الحضاري لأي أمة من الأمم، ومرتبط وضعها بوضع أهلها الناطقين بها، وهي كذلك صورة حقيقية لهذا المستوى قوةً وضعفاً، وفاعلية وعجزاً وصعوداً وهبوطاً.

ولا بد من إجراءات أقترحها؛ إجراء دراسات أكثر تفصيلاً حول تأثير التكنولوجيا الحديثة على اللغة العربية، واستثمار التقدمات التكنولوجية واستخدام الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي إلى تحسين وتطوير دراسات اللغة العربية، كما يجب توفير قاموس لغوي حديث في كل مرحلة من مراحل التعليم العام.

***

ذ. فؤاد لوطة

 

مهما قيل في التأثير الهائل لأنظمة الدعاية الحديثة على تفكير الناس وميولهم، فلن تستطيع تحويل الإنسان إلى شبه آلة، تحركها تلك الأنظمة. بل أزعم أن التسليم المطلق بهذه الفكرة، يناقض الحكمة وتجربة البشر التاريخية. نعلم جميعاً أن التقدم المستمر كان سمة ثابتة في تاريخ البشرية. وما ينتجه البشر اليوم من المعارف والمنتجات المادية، دليل صريح على الفارق العظيم بين حالنا وحال البشرية قبل ألف عام مثلاً. تزيد العلوم التي ينتجها إنسان اليوم في عام واحد، عما كان ينتجه الأسلاف في عشرات السنين. وينتج من الغذاء ومصادر الطاقة ووسائل المعيشة، ما لم يصل إليه الأسلاف حتى في الخيال المجرد.

- حسناً... تأملوا معي في معنى التقدم، أليس جوهره هو التمرد على الأفكار السائدة والقناعات المعتادة والأعراف المعهودة.

تخيل أن نيكولاس كوبرنيكوس لم يتمرد على المبدأ الموروث، القائل بأن الأرض مركز الكون وأن الشمس تدور حولها، فهل كان علم الفيزياء والفلك سيقفز تلك القفزة العظيمة التي نعيش نتائجها اليوم، في حقل الاتصالات والطيران وتنبؤات المناخ وتطوير الإنتاج الزراعي... إلخ؟ في تلك الأيام كانت الكنيسة تعتمد نظرية الفلكي اليوناني القديم بطليموس، وفحواها أن الأرض مركز الكون. ولهذا جوبه كوبرنيكوس بالعزل والتكفير، فتردد كثيراً في نشر كتابه المتضمن نظريته الجديدة، حتى الأشهر الأخيرة من حياته.

تخيل أيضاً أن آلان تورينغ لم يتمسك بنموذج الحاسبة الذكية التي طوّرها في 1938 رغم إخفاقاته الأولية وسخرية زملائه وأرباب عمله، فهل سيكون لدينا الكومبيوتر والإنترنت التي باتت محرك حياة العالم في هذا الزمان؟ هذا وذاك، بل تاريخ البشرية كله، دليل على أن فطرة الإنسان الأولية، هي التمرد على السائد والمتعارف، وليس الانصياع له.

أقول هذا رغم أني - مثلكم - أنظر للحياة الواقعية الماثلة أمامي، فأرى غالبية الناس، تتأثر - كثيراً أو يسيراً - بتوجيه «الأيدي الخفية» التي تدير المسرح من وراء الستار.

- كيف نوازن إذن بين الاستنتاج المثبت علمياً، عن تأثير الدعاية والبيئة الاجتماعية على تفكير الإنسان وسلوكه، وبين رفضنا التسليم بهذا القول على نحو مطلق؟

لاستيضاح المفارقة، دعنا نستعن برؤية إيمانويل كانط، رائد الفلسفة الحديثة، حول الفارق بين حقيقة الأشياء وصورتها في الذهن.

أدرك قدامى الفلاسفة أن صورة الأشياء في الذهن، لا تطابق دائماً حقيقتها الواقعية. حين يخبرك شخص عن فرس سباق، فربما تتخيل صورة أجمل فرس رأيته. لكن حين ترى الفرس في الواقع، ستجده مختلفاً عن صورته في ذهنك.

أولئك الفلاسفة قالوا أيضاً إن معاينة الشيء تنهي تلك الازدواجية، حيث تتطابق الصورة الذهنية مع الواقع. وقالت العرب قديماً «فما راءٍ كمن سمعا». لكن إيمانويل كانط وجد أنك حين تنظر للشيء فإنك تراه من خلال الصورة التي في ذهنك، والتي غالباً ما تخالف الواقع قليلاً أو كثيراً. أي أن الفارق يبقى حتى لو رأيت الشيء بعينيك. هذه النقطة هي موضوع عمل الدعاية، التي تحاول تثبيت صورة ذهنية عن الأشياء، بغض النظر عن واقعها.

لكن كانط يقول أيضاً – وهو بالتأكيد صادق تماماً – إن عقل الإنسان ليس مرتبة واحدة. فهناك العقل العملي الذي يدير حياتك اليومية، وهناك العقل النظري الذي يتأمل حقائق الأشياء ويفكك معانيها، باحثاً عما وراء ظاهرها كي يتجاوزه، فيتحرر من الحاجة إليه، أو يستبدله بما يغني عنه. الدافع لاختراع الطائرة – مثلاً – كان شعور الناس بأن السيارة عاجزة عن تجاوز قيود الجغرافيا، مع أن أحداً ربما لم يتخيل يومذاك إمكانية أن يطير الحديد فوق الهواء. هذا العقل هو الذي يتمرد على تأثير الدعاية والتربية والبيئة ويختار طريقه المنفرد.

سوف أعود لهذا الموضوع في وقت لاحق. لكن يهمني التأكيد على لب الموضوع، أي وجود حالتين متوازيتين في واقع الحياة: سلوك القطيع ومسايرة الناس، مقابل الشك في هذا الواقع والتمرد على مسلماته. الأولى تكرّس النظام والراحة النفسية، والأخرى تؤكد قيمة العقل وكونه ماكينة التقدم الإنساني.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

علاقة اللغة العربية بالحاسوب من أحدث التخصصات المشتركة بين العلوم الإنسانية والعلوم الصرفة. ونشير هنا إلى حقيقتين تتعلقان بطرفي هذه المعادلة، أولهما:ـ المكانة التي تحتلها اللغة العربية في نفوسنا فهي ذاتنا، وعماد اصالتنا، وهويتنا التي نقدمها للعالم. والثانية:ـ المكانة التي يحتلها الحاسوب في هذا العصر، فالعالم يعيش في عصر المعلوماتية بمعناها الواسع. وتعدّ معالجة اللغة البشرية آليا احد المجالات التطبيقية للسانيات الحاسوبية.

اللسانيات: تعني الدراسة العلمية للغات. وتقوم على معرفة أصوات اللغة، وصفاتها، ومخارجها، والإحاطة بممفرداتها، ومعرفة دلالاتها، والقواعد المتعلقة بتركيب المفردات فيما بينها؛ لإنشاء جمل صحيحة، ودراسة الخطاب اللغوي من حيث الدلالة المباشرة، والدلالات السياقية الممكنة.

اما اللسانيات الحاسوبية: علم من العلوم البينية المستقلة المهمة، جوهره قائم على على ثنائية اللسان وعلوم الإنسان العربية والتعليمية، والحاسوب. يتطوّرهذا العلم بتطوّر الوسائل التكنولوجية الحديثة، وتعمل اللسانيات على تطوير استعمال اللغة العربية في مختلف مجالات الحياة العصرية، وترقيتها وبناء نظرية معرفية تساعد في معالجة القضايا اللغوية من خلال قولبة اللغة إلى رموز رياضية يفهمها الحاسوب؛ حتى يتأتى له القيام بأنشطة لغوية كثيرة يؤديها العقل البشري تسمى (مقاربات لغوية حاسوبية).

أول من نظّر لهذا العلم (الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح) إذ ربط التراث العربي باللسانيات الحديثة؛ فأبدع في إعادة قراءة التراث اللساني العربي ممّا تركه لنا اسلافنا.

تعدّ اللسانيات الحاسوبية مرحلة توصيف اللغة للحاسوب، أي وضع القواعد والقوانين اللغوية والحاسوبية لنمذجة اللغة ومن ثم توظيف هذه النمذجة للتحقق من صحة تلك الظواهر اللغوية، ثم تأتي المعالجة الآلية للغة التي تستمد إطارها النظري من اللسانيات الحاسوبية، وتقنيات الذكاء الاصطناعي؛ ليتم تصميم أنظمة آلية لمعالجة المعطيات تحليلا وتركيبا. أما من الناحية الحاسوبية: يعدّ هذا المجال أحد فروع علم الذكاء الاصطناعي، تتم فيه الاستفادة من مزايا معطيات الحاسوب؛ لتوظيف التطبيقات الذكية، منها: معالجة اللغات البشرية التي مفادها تصميم وإنجاز أنظمة حاسوبية تحاكي قدرة الانسان في التعامل مع اللغة الإنسانية،والتحقق من صحة الفرضيات النظرية الخاصة باللغة. أهمية اللسانيات الحاسوبية:ـ تعدّ من اهم العلوم الحديثة التي واكبت التقنيات وتتمثل أهميتها بآستثمار نتائجها في مجالات كثيرة منها: مجال التعريب، وصناعة المعاجم العامة والمختصة، والإحصاء اللغوي، والترجمة الآلية،والمعالجة الآلية وتعلم اللغات، وخدمة هذا العلم الحديث لعديد من مصطلحات اللغة الفنية لمختلف العلوم؛ مما أدى إلى إنشاء بنوك للمصطلحات تهدف إلى خلق مصطلحات أخرى معرّبة، ومن ثم توفيرها، وتوثيقها، وتوحيدها؛ من أجل الارتقاء باللغة البشرية من خلال الاسنفادة من مزايا الحاسوب ومعطياته وادواته المتاحة لتوظيف قواعد بيانات اللغة، والاستفادة من علوم أخرى كالرياضيات والمنطق.

البذرة الأولى للسانيات الحاسوبية على مستوى العالم زُرعت في تربة الحرب العالمية الثانية إذ أخذت شكل الترجمة الفورية بآلة تسمى (أنكما) أنجزتها المانيا في إطار منظومتها العسكرية لالتقاط رسائل دول الأعداء، وترجمتها الى الألمانية. أما في الوطن العربي، بدأ العمل بهذا العلم عندما عُقدت عدة مؤتمرات، وورش عمل، وندوات، أولها: الندوة الدولية لجمعية اللسانيات في المغرب العربي في العاصمة الرباط في سنة 1987بجامعة محمد الخامس، ناقشت موضوعات في اللسانيات النظرية والتطبيقية،وحصيلة البحث اللساني في اللغة العربية، ومشكلاتها الواقعية والنظرية.

مهام علوم اللغة الحاسوبية:

1ـ تقسيم النص الى كلمات.

2ـ معرفة نوع الكلمات.

3- الإعراب.

 4 ـ معرفة أسماء الاعلام، والتعبيرات الزمنية،والأحداث (اجتماع او مباراة مثلا).

 5- تحليل المشاعرفي النص مثل (هل الشخص مؤيد لفكرة معينة أم لا).

6ـ العلاقات بين الأشياء مثل (تحديد تاريخ عمل الشخص في شركة معينة من... إلى...).

7ـ الترجمة الآلية.

ـ في أحدث استعمالات توظيف الحاسوب في خدمة اللغة العربية نحتاج الى تصريف اللفظ بتصريفاته كلها. مثلا الفعل (ابتسم) ينبغي ذكر الأوجه التصريفية والاشتقاقية للفعل، وتفصيلات حالاته الاعرابية، ولواصقه (سوابقه ولواحقه) ثم نغذي الحاسوب بهذا الكم الهائل من التجريد والتصريف لبيان ماهية اللفظ؛ لان الحاسوب لا يمكنه معرفة المراد من لفظ (ابتسم) فقد يكون فعلا ماضيا، او فعل أمر، أو ماضيا مبني للمجهول. إذا لم يكن مشكولا (أي لم توضع عليه حركة اعرابية) لأننا لا نستطيع أن نجعل من الآلة (الحاسوب) ما يحاكي كلام الانسان. وبهذا نكون قد قدمنا نسخة من الذكاء الاصطناعي في التنظير اللغوي، والاستعمال الفصيح، وزوّدنا الحاسوب بثلاثة أمور:ـ الضبط الإملائيّ، والضبط الصرفيّ، والضبط النحويّ؛ لمعرفة ماهية اللّفظ. إذ يحل الحاسوب هذا الإشكال بما يمكن أن يبينه الضبط لتلك الأمور الثلاثة في توضيح معنى اللفظ. وكذلك الحال في لفظ (ذهب) هل هي اسم، ام فعل. نحتاج الى توضيحها للحاسوب؛ كي يزودنا بالمعلومات الصحيحة عنها.

ومن أوسع مظاهر التلاقح بين الحاسوب والتنظير اللغوي (علم العروض) فكأن هذا النظام العروضيّ مجهّز للتعامل مع كلّ مستجدات التطوّر الرقميّ، إذ ان الشعر العربيّ هندسيّ في تفعيلاته،يُبنى على المتحرك والساكن، بمعنى (ثنائية رقمية) فلو ادخلنا أي بيت شعري الى الحاسوب؛ سيخبرنا من أي بحر، وماتفعيلاته، وما ضربه، وما الزوائد والاشكالات فيه، بل سيخبرنا هل هذا البيت الشعريّ صحيحا ام مكسورا. ولظهور المقطع الصوتي في اللسانيات الحديثة أثر في إدخال البرامج الى الحاسوب (البرمجيات الصوتية) إذ نستطيع دراسة ظواهر الأصوات من خلال الخطوط البيانية التي يرسمها الحاسوب، فالسلسلة الكلامية يمكن تمثيلها بمخطط بياني تظهر فيه أكثر الظواهر الصوتية. فنعرف طول موجة الصوت أو قصرها،ومواطن النبر، ومقدار الخفة او الثقل في تلك الموجة، وشدّة الصوت كذلك.

- أهم الإنجازات المبهرة في هذا المجال: وسائل الاتصال الرقمي، الحواسيب، الروبوتات، السيارات ذاتية القيادة.

ـ اما الرسالة الأساسية للسانيات الحاسوبية: إثراء اللغة العربية من خلال تقديم مواد علمية باللغة العربية في مجال اللسانيات الحاسوبية. و انشاء تعليقات حاسوبية لمعالجة اللغة العربية. وتنمية المهارات في مجال اللسانيات الحاسوبية والبرمجة والمجالات النظرية والعلمية المتصلة بذلك، وانشاء قاعدة بحثية؛ لخدمة الجوانب الاكاديمية والتجارية.

ان اللغة العربية مقبلة بصدق على ما يسمى (الهوّة الرقمية) التي تفصل بين دول العالم المتقدم، والعالم النامي. ونعني بها قدرة العربية على الاستفادة من المعطيات المعاصرة، والتكنولوجبا الحديثة في البحث العلمي، وفي دراسة العربية وتدريسها. ـ من جانب اخر اذا نظرنا الى المساحة التي تحتلها لغتنا على شبكة المعلومات العالمية،نجدها ضئيلة لا ترقى الى مستوى العربية ومكانتها. إذا نظرنا الى هذه المساحة لأيقنا ان العربية مقبلة على مايسمى (الهوّة اللغوية).

فاللغة العربية لن تجد مكانا يناسبها، ويناسب تاريخها، وعدد المتكلمين بها على شبكة المعلومات العالمية، إذا لم نبدأ بشكل جاد وواضح في تقديمها بشكل يتناسب مع معطيات عصر المعلوماتية،من خلال حوسبة علومها بشكل صحيح وسريع، بل وسريع جدا. لاسيما ان المشكلات التي تواجهها العربية هي مشكلات ثقافية،وعلمية متولدة من أوضاع واحوال عالمية مثل: محاربة العربية وإبدالها بالعاميّة،وإدخال المصطلحات الأجنبية إليها. وفي الخاتمة: لابدّ من التأكيد على ضرورة الإيمان أن أي تقدم في أي علم ومن بينها علوم العربية، مرهون بقدرة المتخصص على استغلال الطاقات الإبداعية اللامتناهية للحاسوب، وتحديد أهم المشكلات التي تواجهه في مجال تخصصه،وقدرته على ابتكارالحلول والتطبيقات التي تمكنه من حلّ تلك المشكلات حاسوبيا. وإنّ معالجة اللغة تقنيا يُثبت بشكل واضح ان اللغة بخصائصها وميزاتها قادرة على تطويع قدرات الحاسوب،وأنظمته، وآلياته لمواءمتها بكافة مستوياتها، لاسيما ان الجيل الأخير من الحاسوب والأجهزة الذكية الأخرى تتواصل كلاميا مع الانسان، وهذا من أرقى أنواع التواصل وأنجعها وأسهلها على الاطلاق. ويأتي إدخال الحوسبة في خدمة العربية من جوانب متعددة في مقدمة المهمات العلمية المعاصرة والملحّة؛ لتواكب لغتنا العربية التطور العلمي ّ، العالميّ المتسارع. وما التدريس الألكترونيّ في مدارسنا وجامعاتنا، والتواصل بين سائر الناس على الرغم من بعد المسافات،في زمن (جائحة كورونا) إلّاشاهد ماثل إلى يومنا هذا على تأكيد العلاقة الوثيقة بين لغتنا العربية، والحاسوب الذي أصبح محورالحياة العلمية والعملية.

فللّه درّ لسان الضاد منزلة ً

فيها الهدى والندى والعلم َ ماكانا

***

م.د. بتول أحمد سليم

استرعى انتباهي منذ تسعينات القرن الماضي الصراع المحموم على تولي سلطة العشيرة ودار في بالي أن يكون هناك رأي للمثقف الحامل للشهادة، ‏ولكن قواعد لعبة القبائل تحول دون ذلك. ولم يكن في هذه القبيلة من حملة الشهادات العليا الا دكتور خالد سهر وكنت الثاني في الدخول الى هذا المعترك.

‏فعملت منذ نهاية التسعينات من القرن الماضي على تبني ودعم منهج طولي بالقياس إلى المنهج العرضي والذي يمثل الصراع المحموم على قيادة القبيلة، ‏بمعنى أن السير العرضي للمنافسات يقابله البناء الطولي والذي يتمثل به تنمية حملة شهادات العليا في القبيلة.واثارة الغيرة العلمية للسباق على الشهادات العليا وقمت بدعم كل فرد لديه رغبة الدراسات العليا ومن اي جهة كانت.

ويمكن لكل قبيلة في العراق استخدام هذه الالية وتبنيها وتطويرها، ‏على لا تكون القضية قضية صراع بين حملة الشهادات وبين تولي خدمة القبيلة، فشيخ العشيرة ليس أكثر من محامي يدافع عن من يقوم بتوكيله، ‏مع ارتباط ذلك بالإعلام،فالمنافسة هنا لا تشبه الصراع، والغاية الأساسية من ذلك هو تكوين إعلام طويل المدى وليس الاعلام القصير المدى،الذي ينتهي بنهاية الظهور الاعلامي لصاحبه، ونحن نريد ما يرتبط بالفكر ولا ينسى، ويمكن أن يكون نافعا للمجتمع فهو ليس ذاكرة مؤقته، يمكن نسيانها بعد سنوات نتيجة لتبدل الجيل، بل ذاكرة طويلة الأمد تحفظها المكتبات او المؤسسات العلمية المختلفة.اي الانتقال من ذاكرة الانسان بعلاقاته الاجتماعية ذات المصالح الدنيوية الى ذاكرة التاريخ العلمية ومن الذاكرة المحلية الى العربية والعالمية.عبر المنتج العلمي وعبر المكتبات العربية.

‏و كل فعل من شيوخ القبائل سوف ينسى بمرور الوقت، إلا فعل المنتج الثقافي أو الفكري، ولهذا لا يمكن لك نسيان المؤلفين او المفكرين او الكتاب والشعراء والروائيين الذين دون التاريخ منتجهم، وكان لهم المنتج الحقيقي وليس الوهمي، ‏معنى أنه منتج ثقافي يمكن الاطلاع عليه فيما بعد والاستفادة منه.

‏ولا يمكن اعتبار عملية تنظيم العلاقات الإنسانية في قبيلة ما، وحل مشاكلهم، والتواصل الاجتماعي فعلا فكريا تاريخيا يمكن أن يذكر فيما بعد ‏مثل كما يحدث في حل المشاكل الاجتماعية أو حتى القتالات الجانبية، ابدا ؛ لان ذلك يدرج ضمن نظام المعيشة وضمن الفعل الانساني الذي لا ميزة حقيقية فيه.

وورد عن سيد البلاغة علي ابن ابي طالب ‏"العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلمحاكم والمال محكوم عليه، هلك خزان الأموال وبقى خزان العلم، أعيانهم مفقودة وأشخاصهم فىالقلوب موجودة.

‏وهنا يمكننا السؤال، عن المنتج او الفعل الذي يدوم طويلا اكثر من وجود صاحبه، ولايموت هذا المنتج، سواء عند الله، او في ذاكرة التاريخ.

وسوف اتحدث على سبيل المثال عن منتج قبيلتنا وهو منتج يمكن أن يدوم طويلا أكثر من سيرة شيوخ القبيلة، الذين ستضمحل سيرتهم بمجرد تبدل جيل الى اخر لا ذاكرة لديه لتذكر ما مر قبل ١٠٠عام. وعلى سبيل المثال يبرز.

‏1-المنتج الخاص بالرواية ‏وبرع فيه الأستاذ احمد هاشم سالم ولديه عدد من الروايات المهمة التي طبعت في بيروت،منها ابنة الثلج الذي اراد منها ان يؤسس لثنائية بلاد الشمس وبلاد الثلج؛ وهي قراءة للإنسان الذي يقود لثقافة التقاطع والقتل، ولديه رواية ذاكرة التلاشي وايضا كتاب لا ادري، وكتاب ما قل ودل، ورواية نوارس هائمة،والموت ونصف مجنون.

2- كما برع د.خالد سهر رئيس قسم اللغة العربية في الجامعة المستنصرية، في الادب المقارن

وصدر له اﻟتداولية واﻟسرد،اﻟدراﺴﺎت اﻟثقافية مدخل تطبيقي وايضا كتاب ما وراء السرد في رواية الحمار الذهبي وترجمة كتاب معجم مصطلحات ما بعد الكولونيالية وكتاب التاثر والتاثير بين النص والنمط، وعشرات البحوث المنشورة.

3- ويبرز ايضا د.صباح عبد الكاظم، ويحمل لقب دكتوراه في القانون وهو مستشار وزير النفط السابق للشؤون القانونية ولديه كتاب دور السلطات العامة في مكافحة الفساد الاداري في العراق.وكتاب النظام القانوني لعقد التطوير والانتاج النفطي في العراق.

4- سامي حمادي علي وهو صاحب الرواية الشهيرة ليالي ابو غريب، والتي تدرج ضمن الادب السياسي او ادب السجون او الادب المقاتل، وتمثل مساحة مفتوحة من العواطف والوصف والالم والبقاء من اجل الحياة، وتحولت فيما بعد الى مسلسل عراقي.

5-الشيخ نديم الساعدي وله كتاب منية الصائمين، وهو كتاب فقهي يتماس والمجتمع العراقي، ايضا لديه اداب المسجد الحرام بما جاء من سيد الانام وايضا كتاب مسالتان فقهيتان وكتاب الربا القرضي والمعاملي.ولديه كتب اخرى مخطوطة.

6- د.رحيم محمد الساعدي، وفيما يخصني فقد حاولت التنوع في كتاباتي الفلسفية فكتبت في الاتجاهات الفكرية عند الامام علي - ودراسات في الفكر القراني - وكتاب مدخل الى علم الدراسات المستقبلية - والمستقبل في الفكر اليوناني والاسلامي - وكتاب فلسفة التاريخ بين علم الكلام والمستقبل - وكتاب فلسفة الخيال - وكتاب مدخل الى فلسفة الاخلاق التطبيقية - وكتاب بواكير المصطلح الاسلامي - وكتاب حضور الفلسفة اليونانية في الفلسفة الاسلامية - وترجمت كتاب حمل عنوان المسائل الفلسفية الكبرى - وكتاب حول سيدني هوك البطل والانثربولوجيا - وكتاب مشترك مع كتاب من امريكا الجنوبية - وكتاب اشعار من الفلكلور الجنوبي - ومجموعتان شعريتان، وعشرات الكتب المشتركة مع كتاب عراقيين وعرب طبع بعضها في هولندا وبيروت والجزائر وتونس بالاضافة الى عشرات البحوث العلمية.

7- د.عارف الساعدي، وهو مستشار رئيس الوزراء للشؤون الثقافية، وله العديد من الدووين الشعرية مثل مدونات وجرة اسئلة وادم الاخير وغيمة في قميص ورواية زينب و الكتب منها مسارات المعرفة الادبية وكتاب لغة النقد الحديث في العراق من المقالية الى النسقية.

8- د.فؤاد عجمي علي وله كتاب الشعور والاحساس، للمعاني اللغوية في سورة يوسف(ع)، وكتابه المهم النظير الصوتي في العربي دراسة في ضوء علم اللغة الحديثة.وكتاب

الاستنتاج في التواصل اللغوي قراءة في كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الاندلسي

9- د.بشار سعدون هاشم، وهو مستشار رئيس الوزراء وله كتاب الفكر السياسي عند سبينوزا وهو رسالته للماجستير و الفكر السياسي الديني الغربي في العصر الوسطي " أوغسطين أنموذجا"وهي اطروحة الدكتوراه.

10- الشيخ رياض عجم خلف:وله عدة مؤلفات في مسائل دينية مختلفة.

11- احمد الشيخ مزهر وله كتاب اطراف الرياحين في رثاء الامام الحسين (ع).

وبانتظار طباعة منتج حملة الشهادات العليا وهم كل من:

١- مصطفى اسامة: رسالته في علم الاقتصاد من ماليزيا.

٢- د. قصي مجبل شنون وكتب رسالة ماجستير في المسؤولية الدولية عن التحريض الإعلامي

٣- د.صفاء عائد حامد المتخصص في الفيزياء عن رسالة الماجستير

Design and Fabrication of Nano Structure Edge Filter Using PLD Technique

و اطروحة الدكتوراه

Improving of nano-compounds Lithium-Ion battery using graphene as additive to electrodes

٤- فادي حمود وكتب رسالة ماجستير في الفيزياء

٥- بهاء احمد هاشم ورسالته (الأبيات التي انفرد بها السمين الحلبي في عمدة الحفاظ على الراغب الأصفهاني في المفردات -دراسة لغوية-)

٦- ماجد علي طعمة رسالة ماجستير في القانون من لبنان.

٧- د.جلال علي طعمة

٨- عبد الامير حمادي وله رسالة ماجستير كتبها في كندا.

٩- د. رافد صباح وله رسالة ماجستير( أثر النظام الضريبي في تمويل النفقات العامة مع رؤية مستقبلية ).

١٠- احمد خيون هاشم ودرس الماجستير في الصين.

١١- حيدر نوري ويكتب في اللغة العربية.

١٢-يسرى صباح ولها رسالة ماجستير في الترجمة.

١٣- يقين عباس حمود ولها رواية مطبوعة بعنوان نوى.

١٤- ضحى رشيد محي.

١٥- اسيل فريد حمود وكتبت رسالة ماجستير في المحاسبة.

وهذا المنتج العلمي الفكري والثقافي، يدوم اطول من عمر صاحبه، وهو يرفع صورة صاحبه طويلا فهي علاقة تشاركية متبادلة، ولا يمكن مقارنته بالاموال او الصحة او المنصب، او مقارنته بوهم العلو في الارض، والتي لابد ان تنتهي في يوم من الايام كما اشار الامام علي.

***

ا. د. رحيم محمد الساعدي

ذكر المؤرخ العربي ابن عبد الحكم في كتابه "فتوح مصر والمغرب" في القرن التاسع الميلادي، في معرض حديثه عن "النيل"، أن لدى المصريين عادة إلقاء فتاة جميلة في مياهه لاسترضاء النهر كي يفيض ويعم عليهم بالخير في شتى مناحي الحياة اليومية. وقد أصبحت تلك الأسطورة، من أبرز الأساطير التي رُوّجت عن علاقة المصريين القدماء بنهر النيل، والتي تقول إنهم كانوا يلقون بعروس جميلة عذراء، ترتدي أفخر الثياب والحلي، ويزفونها إلى نهر النيل، بعد أن يُلقوها حية لتبتلعها المياه، وأن هذا التقليد أصبح متواترا للوفاء بفضل النيل على أرض مصر.

وعندما سمع  الخليفة الثاني " عمر بن الخطاب "، بتلك الأسطورة بادر على الفور بدحرها والقضاء عليها، وذلك حسب رواية ابن كثير  في كتابه (البداية والنهاية، المجلد 7، ص114-115(، والذي قال: " من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر: أما بعد، فإن كنت إنما تجري من قبلك ومن أمرك فلا تجر فلا حاجة لنا فيك، وإن كنت إنما تجري بأمر الله الواحد القهار، وهو الذي يجريك فنسأل الله تعالى أن يجريك "

وإذا كانت الأديان قد نشأت وارتبط مفهومها البشري بفكرة القرابين، وفق المعتقدات القديمة، فقد ظن الناس قديما كما قلنا أن القرابين بجميع أنوعها هي أقرب طريق لنيل رضا الإله ودفع الضرر عنهم، ولم تختلف الحضارة المصرية القديمة عن باقي الحضارات بهذا الأمر، وظلت هذه الفكرة ملاصقة لدى الكثيرين المهتمين بتلك الحضارة العريقة لتظهر من جديد مؤخرا في يومنا هذا .

فقد فوجعت مصر بجريمة قتل طفل يبلغ من العمر 8 سنوات، حيث وُجد مذبوحا، ومبتور الكفين في جريمة كشفت تحقيقات الشرطة أنها مرتبطة بالتنقيب غير الشرعي عن الآثار في إحدى قري صعيد مصر .

وقد خيمت حالة من الغضب والحزن بعد  العثور على جثة الطفل، والتي وجدت في قرية الهمامية التابعة لمدينة البداري بمحافظة أسيوط في صعيد مصر، حيث عثر عليها الأب في أرض زراعية بعد غيابه عن المنزل لساعات معدودة .

الشرطة المصرية قالت في بيانا لها أنه تم القبض على مرتكبي الجريمة، وهم 3 أشخاص، واعترف الاثنان منهم بارتكابها بالاتفاق مع منقب شرعي عن الآثار، وتقول تحقيقات الشرطة أن الاتفاق بين الجناة والمنقب غير الشرعي يقضي بالحصول على كفي الطفل لاستخدامها كقربان تساعد المنقب للوصول إلى الآثار، وهذا  هو داقع ارتكاب الجريمة .

فُوجع المصريون أكثر حين علموا أن الجناة هم أبناء عم والد الطفل الضحية، وما زاد الطين بلة، أنهم مثلوا دور الحزن، وساعدوا والد الضحية وأهل القرية في البحث عن الطفل لإبعاد الشبهة عن أنفسهم، حتى كشفتهم الشرطة، وألقت القبص عليهم .

وبالبحث والتقصي تبين أن هذا النوع من الجرائم التي تتداخل فيها القسوة والجشع والخرافة، تقوم على طقوس خاصة، مفادها أن فتح أي مقبرة فرعونية للبحث عن التماثيل الفرعونية الصغيرة، يتطلب وجود شخص يدعي أنه شيخ متخصص في فك طلاسم فرعونية أساسية لفتح المقبرة، وهذا الشيخ يعرف لدينا في صعيد مصر بـ "شيخ العزيمة"، والعزيمة هي قراءة الطلاسم واستحضار الجن، الذي يحرس المقبرة .

ولتنفيذ هذه  المهمة يطلب الشيخ مبالغ مالية كبيرة، أو دماء طيور أو حيوانات، أو دماء بشرية أيضا؛ وخصوصا دماء الأطفال، وكلما وقعت جريمة من هذه النوع قد تبين أن شيخ العزيمة مجرد دجال لا أكثر .

وفي رحلة البحث عن الآثار تُفقد كثيرا من الأرواح، إما بخرافة قرابين آلهة، أو تورط في الجريمة، تلبية لطلبات "شيح العزيمة"، ـو حتى تُفقد الأرواح خلال التنقيب عن الآثار بشكل غير شرعي بسبب انعدام الخبرة والمعلومة والافتقار في الأدوات اللازمة للبحث ؛ فتحدث الإصابات القاتلة .

والقرابين البشرية والجريمة لم تكن حالة فريدة في مصر، ففي شهر أيلول في عام 2021، اهتزت مصر بجريمة ذبح شاب، وتقتطيع أوصاله، وتقديمه قربانا لفتح مقبرة أثرية بحسب اعتراف الجناة، والمفارقة أنهم أقارب الضحية أيضا، وهم عمه، وزوجة عمه، وابناؤهما وفق تحقيقات الشرطة .

وللأسف تستيقظ مصر كل فترة على جريمة مماثلة يكون ضحيتها في الغالب من الأطفال، ولاشك أن هذه الجرائم لا ترتبط بمصر القديمة، لأن المصري القديم بشهادة أستاذي " زاهي حواس" : لقد أخفى المصري القديم أماكن الدفن التي تحتوي على الأثاث والمتاع الجنائزي، يعيدا عن العيون بغرض تأمينها ضد السرقة، علاوة على أن المصري القديم لم يسخر جنا أو رصدا لحراستها، والدليل على ذلك المقابر التي نقوم باكتشافها وفتحها من خلال الحفائر العملية والتنقيب الأثري بدون قرابين أو إراقة دماء.. وللحديث بقية..

***

د. محمود محمد علي - كاتب مصري

 

التجربة الكورية

تجربة كوريا الجنوبية في التعليم تعتبر واحدة من أنجح التجارب العالمية فقد استطاعت أن تحقق قفزة نوعية في مسارها التنموي، فحوّلت نفسها من دولة فقيرة إلى قوة اقتصادية عظمى في غضون بضعة عقود. وسر هذا النجاح يكمن في رؤية ثاقبة اعتمدت على التعليم كركيزة أساسية لبناء المستقبل.

تعليم متميز

أولت كوريا الجنوبية اهتماما بالغا بقطاع التعليم، معتبرة اياه استثمارا في حاضر ومستقبل كوريا، فخصصت ميزانيات ضخمة لتطوير البنية التحتية المدرسية وتوفير أحدث الوسائل التعليمية، كما حرصت على تطوير المناهج الدراسية وطرق التدريس بشكل مستمر لتواكب التطورات المتسارعة في العالم ومن خلال المعهد الكوري للمناهج والتقويم الذي يرتبط مباشرة برئيس الوزراء. ويتم قبل اعتماد اي منهج جديد بتجربته في عدد من المدارس وتقييم نتائجه قبل تطبيقه على نطاق واسع ليتماشى مع التطورات العلمية والتكنولوجية والاجتماعية.  وما يميز التعليم الكوري هو اعتماد التعليم متعدد اللغات وذلك بتدريس اللغة الانكليزية بشكل مكثف بالاضافة الى لغات اخرى مثل الصينية واليابانية.

ولم تتوقف كوريا عند هذا الحد، بل ركزت على تحسين جودة التعليم، فاعتبرت المعلم أهم ركن في العملية التعليمية، وقامت بتدريبه وتأهيله بشكل مستمر، كما عملت على تهيئة بيئة تعليمية محفزة للإبداع والابتكار وركزت على تدريس الرياضيات واللغة الانكليزية. ولم تغفل عن دور التكنولوجيا في التعليم، فاستثمرت بكثافة في تطوير التعليم الإلكتروني وربط المدارس بشبكة الإنترنت وتوزيع الأجهزة الذكية على الطلاب والمعلمين، مما ساهم في رفع كفاءة العملية التعليمية. لم يتوقف الحد عند بناء نظام تعليمي متميز أكاديميا، بل امتد ليشمل تحويل العملية التعليمية نفسها إلى حاضنة للابداع والابتكار. فاصبح الطالب ليس مجرد متلقٍ للمعلومات، بل هو شريك في عملية بناء المعرفة.

صناعة العقول

امتدت الرؤية الاستراتيجية لكوريا الجنوبية لتشمل الاستثمار بقوة في البحث العلمي والتطوير، فخصصت جزءا كبيرا من ميزانيتها السنوية لدعم مشاريع البحث والتطوير الطموحة، التي تغطي مجالات واسعة كصناعة الرقائق الإلكترونية المتطورة والتكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا الكم وغيرها من المجالات الواعدة. وجعلت من الاستثمار في البحث والتطوير أولوية وطنية، فخصصت نسبة كبيرة من ناتجها المحلي الإجمالي لهذا الغرض، متجاوزة بذلك العديد من الدول المتقدمة حيث تستثمر حوالي 4.5% من ناتجها المحلي الاجمالي في البحث والتطوير، وهي نسبة اعلى بكثير من دول مثل الولايات المتحدة (2.7%) والصين (2.0%) وبريطانيا (1.7%). أسفر هذا الاستثمار الضخم عن نتائج مبهرة، حيث أصبحت كوريا الجنوبية قوة عالمية في مجال التكنولوجيا، وتتمتع بمكانة مرموقة في صناعة الشرائح الإلكترونية والاتصالات، وغيرها من الصناعات المتقدمة. وتخطط الحكومة لانفاق ما لايقل عن 4 مليار دولار في مشاريع البحث والتطوير مع شركاء اجانب خلال السنوات الثلاث المقبلة.

التعليم المهني وصناعة المهارات

وبشأن التعليم المهني تم انشاء شبكة واسعة جدا من المدارس الثانوية والجامعات المتخصصة في مختلف المجالات كالمدارس المهنية والجامعات التقنية والكليات المهنية، والتي توفر للطلاب تدريبا عمليا مكثفا إلى جانب المعارف النظرية. كما سعت إلى بناء شراكة قوية بين المؤسسات التعليمية والقطاع الصناعي، مما أتاح لها تطوير برامج تعليمية تواكب احتياجات السوق بشكل مستمر، وتضمن توظيف الخريجين في وظائف مناسبة. وامتدت الرؤية الاستراتيجية لتشمل تطوير العنصر البشري القائم، لذا تم توفير مجموعة متنوعة من البرامج التدريبية المدعومة، والتي تشمل دورات قصيرة وطويلة الأمد تغطي مختلف المجالات، كما أنشأت شبكة واسعة من مراكز التعليم المستمر التي تقدم برامج مرنة تناسب احتياجات العاملين. واستغل التطور التكنولوجي في خدمة التعليم، فتم الاعتماد بشكل كبير على التعليم الالكتروني، مما أتاح للجميع فرصة التعلم من أي مكان وفي أي وقت. وشجعت الشركات على توفير برامج تدريبية داخل أماكن العمل، مما ساهم في ربط النظرية بالواقع، وزيادة كفاءة العاملين.

تربية وطنية

لم تكتفِ كوريا الجنوبية ببناء نظام تعليمي متميز أكاديميا، بل امتدت رؤيتها لتشمل بناء مجتمع أخلاقي قويم، فآمنت بأن غرس القيم الأخلاقية في نفوس الأجيال الشابة هو الاستثمار الحقيقي في مستقبل البلاد. فقد دمجت التربية الأخلاقية في صميم النظام التعليمي، حيث أصبحت جزءا لا يتجزأ من المناهج الدراسية في مختلف المراحل التعليمية، بحيث يتعلم الطلاب القيم الأساسية كالأمانة والاحترام والالتزام والعمل الجماعي، ويتدربوا على تطبيقها في حياتهم اليومية.

استند النظام التعليمي الكوري الى القيم الكونفوشية التي تشدد على الانضباط والاجتهاد والاحترام، والتي غُرست في نفوس الطلاب منذ الصغر، وعززت من خلال الأنشطة المدرسية والتعامل اليومي بين المعلمين والطلاب. ولم تقتصر التربية الأخلاقية على الفصول الدراسية، بل امتدت لتشمل المشاركة في الأنشطة المجتمعية، حيث شجعت المدارس طلابها على التطوع والخدمة المجتمعية المجانية، مما ساهم في تنمية روح التعاون والتضامن لديهم.

ثورة تعليمية

أحدثت كوريا ثورة في المدارس، حيث حوّلتها من أماكن جامدة إلى بيئات مرنة تشجع على الحركة والتفاعل، مما يخلق جوا محفزا للابداع ويساعد الطلاب على اكتشاف قدراتهم الكامنة. كما استثمرت بكثافة في التكنولوجيا الحديثة، وجعلت منها اداة اساسية في العملية التعليمية، مما اتاح للطلاب التعلم بطرق مبتكرة وممتعة، ووسع آفاقهم المعرفية. ولم تقتصر على ذلك، بل شجعت على التفكير النقدي والابداعي، فدرست الطلاب على استخدام التفكير النقدي التصميمي لحل المشكلات، مما جعلهم قادرين على ابتكار حلول جديدة للتحديات التي يواجهونها. كما اعتمدت على منهجية التعلم القائم على المشاريع، حيث يتعلم الطلاب من خلال تطبيق المعرفة النظرية على مشاريع عملية، مما يعزز من مهاراتهم العملية ويشجعهم على العمل الجماعي. ولم تنسَ أهمية الاستقلالية، فمنحت الطلاب مساحة واسعة لاتخاذ القرارات وتطوير أفكارهم الخاصة، مما حفز روح المبادرة لديهم.

وبفضل هذه الاستراتيجيات المبتكرة، تمكنت كوريا الجنوبية من بناء جيل جديد من المبدعين والمبتكرين، القادر على مواجهة تحديات المستقبل، والمساهمة في دفع عجلة التنمية في بلاده.

الخلاصة

تعتبر تجربة كوريا الجنوبية في التعليم من أنجح التجارب العالمية، حيث حولت نفسها من دولة فقيرة الى قوة اقتصادية عظمى بفضل التعليم. استثمرت كوريا في تطوير البنية التحتية المدرسية وتدريب المعلمين وتعزيز التعليم الإلكتروني والتربية الاخلاقية، وتحديث المناهج وبالخصوص التركيز على التفكير النقدي والعلوم والتكنولوجيا والرياضيات والهندسة والفنون. كما ركزت على التعليم المهني والشراكة مع القطاع الصناعي، مما ساهم في توظيف الخريجين. بالإضافة إلى ذلك، دمجت القيم الأخلاقية في المناهج الدراسية، وشجعت على التطوع والخدمة المجتمعية، مما ساهم في بناء مجتمع صناعي وأخلاقي قويم. 

***

ا. د. محمد الربيعي

......................

تجارب اخرى:

1) التجربة البريطانية:

  https://www.almothaqaf.com/qadaya/976386 

2) التجربة الصينية:

  https://www.almothaqaf.com/qadaya/977101-2

لا تزال اللغة العربية احد أبرز عناصر هوية الأمة . وبإهمال الإرتقاء بها، وتدني مستوى حضورها في الاستخدام الفصيح في الحياة اليومية، وفي الكتابة، وفي الاعلام، بل وفي الأروقة العلمية، إنما يعرضها للتنحي، وتراجع أهميتها بين اللغات، إضافة مسخ أصالة الهوية وطمسها.

ولعل انتشار ظاهرة لغة ما بات البعض يصطلح على تسميته (بالعربيزي)، او(الفرانكو عربية)، بين الجيل الجديد من الشباب، وشيوعها بينهم في الاستعمال اليومي، في وسائط التواصل الاجتماعي، (بالسوشيال ميديا)، من خلال الفضاء الرقمي المفتوح في كل الاتجاهات بلا قيود، إنما يهدد فصاحة اللغة العربية بالرطانة، ويشوهها بالعجمة، حيث باتت الدردشة والمراسلات عبر الإنترنت، والهواتف الذكية، تجري من قبل أجيال الشباب باللغة الانكليزية، أو الفرنسية (بالفرانكو عربية)، وهي الدردشة المهجنة ببعض مفردات اللغة الانجليزية، المقحمة بالمفردة العربية، حيث شاع هذا النمط من التواصل في الاستخدام اليومي للأجيال العربية الشابة، على أوسع نطاق .

وهكذا باتت اللغة العربية الام، تواجه تحديات كبيرة لمسخها، بسبب هيمنة الثقافة الرقمية في التواصل، والتي تتمثل بطبيعة تقنيتها الاجنبية المتمركزة، في هيمنة مفردات اللغة الإنجليزية، وسيادة مصطلحاتها وايقوناتها، بدلالاتها التعبيرية باللغة الاجنبية، التي باتت شائعة الاستخدام في الساحة العربية، حتى جرت بعض ألفاظ اللغة الإنكليزية على ألالسنة في المحادثات، والدردشات اليومية، بصورة تلقائية، إذ اعتاد البعض ان يبادرك بالترحاب، بكلمة (هالو)، ويودعك بالسلامة، بكلمة(كود باي) دون أي حرج .

لذلك يتطلب الامر من الجميع، الانتباه بجدية، الى خطورة الحال بانعكاساته السلبية، في مسخ اللغة العربية، وطمس الهوية، والإهتمام التام باللغة العربية، وحث الجيل على اتقانها، وتداولها بالفصحى في كتاباتهم، ودردشاتهم، ورفع مستوى تلقيهم لعلومها، دون إهمال الإلمام باللغات العالمية الأجنبية الأخرى، باعتبارها نافذة الإطلال على ثقافة، وعلوم، وتقنيات الآخرين .

ولا بد من الإشارة في هذا المجال، إلى أن نهج مسخ اللغة العربية، من خلال اشاعة وهيمنة استخدام مفردات اللغة الأجنبية، والتساهل في استخدام العامية الركيكة، يصب في ذات أهداف استراتيجية العولمة الرقمية، بشيوع استخدام اللغات الأجنبية، والإنكليزية بالذات، في الفضاء الرقمي، وبكل ابعادها الثقافية والحضارية، التي بدأت تعبث باللغة العربية في كل مجالات الاستخدام، مثل حالة الاعتياد على كتابة لوحات اسماء المعارض، والمحلات التجارية، باللغة الإنجليزية، ونشر الإعلانات التجارية بها، ناهيك عن كونها لغة تدريس العلوم في المعاهد، والجامعات، إضافة إلى عولمة استخدامها في البرامجيات، وشبكة الإنترنت، والمواقع العنكبوتية، والقنوات الفضائيات، وغيرها، من وسائل الاتصال الإجتماعي، والفضاء المعلوماتي، مما يزيد الطين بلة، ويضاعف تداعيات المسخ والتشويه .

وإذا كان الأمر في ضوء تلك التحديات، يتطلب الانتباه إلى مخاطر تداعيات استخدام اللهجة العامية، والحذر من التأثيرات السلبية لوسائل العولمة المفتوحة على لغتنا العربية، التي تتجسد في فرنجة مقرفة، ورطانة لاحنة، تؤثر على سلامة اللغة، وتهدد فصاحتها، بالمسخ والتشويه، فلا بد إذن من اعتماد خطة عربية شاملة، تستهدف التوسع في دراسات علوم اللغة العربية، ونشر كليات اللغة العربية، ومعاهد تعليمها، وتشجيع الدارسين فيها، والعمل على وضع استراتيجية عربية مكملة لها في نفس الوقت، لتعريب الدراسة في الجامعات العربية، والتوسع في إنشاء المواقع الحاسوبية الخادمة للغة العربية، وإدخال مفرداتها في الإستخدام في التقنيات الرقمية، رديفا لنظيرتها في اللغة الإنكليزية.

***

نايف عبوش

(قراءة في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

يقول (ابن عبدربِّه)، في «عِقْده الفَريد»(1): «وكانوا يتمادحون بالموت قَعْصًا، ويتهاجون بالموت على الفِراش، ويقولون فيه: مات فلانٌ حَتْفَ أَنْفِه، وأوَّل من قال ذلك النبيُّ، عليه الصَّلاة والسَّلام...».  ثم أَعْقَبَ هذا بقوله: «وقال (السَّمَوْأَل بن عادياء):

ما مات مِنَّا سَيِّدٌ (حَتْفَ أَنْفِهِ)  :::  ولا طُلَّ مِنَّا حَيثُ كانَ قَتيلُ.»

فانظر كيف نقضَ غزله أنكاثًا من فوره، بعد ثلاثة أسطر.

هكذا استهلَّ بنا (ذو القُروح) مساقنا هذا.  فسألته:

- مَن الأوَّل؟  وكيف لنا أن نعرف أوَّل من قال قولًا؟!

-  ثمَّ إنَّ هذه العبارات التي تجري مجرى الأمثال لا تأتي تأليفًا فرديًّا، بل هي مأثورات شَعبيَّة متداولة، لا يُعرَف قائلها الأوَّل غالبًا؛ فإمَّا أن تكون الرواية الأُولى، التي تَنسِب إلى الرسول أنَّه أوَّل من قال «مات حَتْفَ أَنْفِه» غير صحيحة، وهو الراجح، وإمَّا أنَّ بيت (السَّمَوْأَل) غير صحيح النِّسبة. وبالرغم من هذا فإنَّ المؤلِّف، ومحقِّقي كتابه بعده، يَمضون هنا بلا توقُّفٍ أو تعليق!

- لكن...

- وكان ممَّن زعمَ أيضًا أنَّ تلك العبارة أوَّل من قالها الرسولُ: (الجاحظ)(2)، و(الثعالبي)(3).

- ثلاثة شهود عدول، «وشهادة كلِّ قضيَّة اثنان»! أتزعم، يا (ذا القُروح)، أنَّ هؤلاء لم يتنبَّهوا إلى ما تنبَّهتَ أنت إليه؟

- هؤلاء، يا صديقي، صُحفيُّون، غالبًا، حاطبو ليل، كما وصفهم (المسعودي)؛ لا يفكِّرون تفكيرًا نقديًّا في ما يروون ويتناقلون. على أنِّي وجدتُ- بعد تسجيل هذه الملحوظة- (الزَّبيديَّ)(4) قد تنبَّه إلى هذا، حيث قال: «قلتُ: وقد جاءَ في بَيْتِ السَّمَوْأَلِ أَيضًا، وهو يُخَالِفُ ما سبَقَ مِن قَوْلِ رَاوِي الحَدِيثِ: إِنَّهَا كلمةٌ لم يَسْمَعْها مِن أَحَدٍ مِن العَرَب قَطُّ قَبْلَ رسولِ الله، صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّم.  وأَجابُوا بأَنَّه لم يَسْمَعْهَا، أَو أَنَّ الرِّوَايَةَ ليْسَتْ كذلكَ، كما نَقَلَهُ شَيْخُنا، وفيه نَظَرٌ وتَأَمُّلٌ.»

- فالمسألة بدأت، إذن، بقائلٍ قال: «ما سمعتُ بهذا التعبير قبل سماعي إيَّاه من رسول الله»، فتناقلوا هذا، وإنْ أوردوا ما ينقضه على الصفحة نفسها، كما فعل (ابن عبدربِّه)!

- وطبيعيٌّ أن لا يكون أحدٌ قد سمع كلام العَرَب كلَّه. ثمَّ دار قول القائل بين الرُّواة على أنَّه تأريخ لمنشأ تلك العبارة! والشاهد أنَّ مَن تأمَّل شأن الرواية في تراثنا العَرَبي، وغفلةَ الناقلين، وجدَ العَجَبَ العُجاب، واقتضى منه ذلك التحرُّزَ كثيرًا قبل الأخذ من سُوقها المزجاة بشيءٍ ذي قيمة أو موثوقيَّة.

- وإشكال هذه «السوالف» التراثيَّة عامٌّ طامٌّ، في المراجع الدِّينيَّة، والتاريخيَّة، والأدبيَّة.

- نعم؛ لأنها، غالبًا، حكاياتٌ، وسوالف مجالس، وروايات رُكبان، دُوِّنت، وتوارثها الناس، ومن ثَمَّ دُرِّست لنا على أنها وقائع، وحقائق، ودرَّسناها لطلبتنا، وبُنِيت عليها الأحكام، والأطاريح. وتدور بنا تلك الدوائر إلى يوم الدِّين!

- ستُتَّهم بأنك تُشكِّك في علماء التراث، وعنهم أخذنا تراثنا، وإذا شككنا فيهم لم نعد نثق في شيء!

- من حَسَبَ لكلام الناس حسبانًا، فليعشْ شيطانًا أخرس! ولا عِلم حقيقيًّا بلا شك، بل هو حينئذٍ الاجترار والتقليد؛ فالشكُّ مفتاح الحقيقة، والعِلم، والعقل!

- الأغلاط الفرديَّة واردة في كلِّ زمان ومكان، وكُلٌّ يؤخَذ من كلامه ويُرد، والتعميم خطيئة!

- صحيح! غير أنَّ السؤال: لِـمَ يضطلع محقِّقٌ بتحقيق كتاب، ثمَّ لا تجد له إلَّا المقارنة بين ما ورد في نُسخ المخطوطات من اختلافات؟

- يقولون: إنَّ هذا هو الأصل في التحقيق؛ أن تُخرِج المخطوط في صورته الأقرب لوضع صاحبه، بلا تدخُّل؛ فالمحقِّق غير الدارس.

- لا تتدخل في المتن، لكن عليك التدخُّل في الحاشية. وإلَّا فإنَّ هذا يعني الإسهام في نشر الضَّلالات!  تلك مدرسة العَجَزة والكُسالى من المحقِّقين، أمَّا مدرسة التحقيق الحقيقي، فهي (مدرسة التحقيق النقدي)، التي يتوقَّف فيها المحقِّق، ويناقش، ويحلِّل، ويعلِّق، ولاسيما حينما تبدو المزالق أمامه من الوضوح بمكان.  خذ مثالًا آخَر شاهدًا من مجال الأدب:  فلقد نقل (مُحْيي الدِّين بن عَرَبي، -638هـ= 1240م) في كتابه «محاضرة الأبرار، ومسامرة الأخيار، في الأدبيَّات والنوادر والأخبار»(5) قوله: «حكَى لنا بعض الأدباء عن ابن الجهم، وكان بدويًّا جافيًا، لمَّا قَدِم على المتوكِّل، وأنشده يمدحه بقصيدته التي يقول فيها، يخاطب الخليفة:

أَنتَ كالكَلبِ في حِفَاظِكَ لِلوُ 

دِّ، وكالتَّيْسِ في قِرَاع الخُطُوبِ

*

أَنتَ كالدَّلْو، لا عَدِمتُكَ دَلْـوًا 

 مِن كِبَارِ الدِّلا كَـثيرِ الذنُـوبِ!

فعرفَ المتوكِّلُ قُوَّته، ورِقَّة قَصده [كذا!]، وخُشونة لفظه، فعرفَ أنه ما رأى سِوَى ما شبَّهه به لعدم المخالطة وملازمة البادية، فأمر له بدارٍ حَسَنةٍ على شاطئ الدجلة، فيها بستان حَسَن، يتخلَّله نسيمٌ لطيف، يغذِّي الأرواح، والجِسر قريب منه، وأمر بالغذاء اللَّطيف أن يُتعاهَد به، وكان يركب في أكثر الأوقات فيخرج إلى محلَّات بغداد، فيرى حركة الناس ولطافة الخضر [كذا! ولعلَّ الصواب: الحَضَر]، ويرجع إلى بيته، فأقام ستة أشهر على ذلك، والأدباء والفضلاء يتعهَّدون مجالسته ومحاضرته، فاستدعاه الخليفة بعد مدَّة ليُنشِده، فحضرَ وأنشد:

عُيُوْنُ المَهَا بَيْنَ الرُّصافةِ والجِسْرِ 

 جَلَبْنَ الهَوَى من حيثُ أدري ولا أدري

فقال المتوكِّل: لقد خشيتُ عليه أن يذوب رِقَّةً ولَطافة«.

- حكاية لطيفة!

- وما أفسد تراثنا شيءٌ كما أفسدته الحكايات المستلطفة والأقاصيص المستعذبة، الفارغة من حذق القَصِّ أصلًا! وقد فَشَتْ منذ ازدهار الأقاصيص على ألسنة الوُعَّاظ والإخباريِّين ومن شابههم في العصر الأموي. وتلقَّف هذه الأقصوصة بعض المتأخِّرين، ومنهم (عبدالملك بن حسين بن عبدالملك العصامي، -1111هـ= 1699م)، في كتابه «سِمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي»(6).  وهي- كما أرى- حكايةٌ واضحة الاختلاق من وجوه:

1- مهما قيل في بداوة الشاعر، فلن يبلغ به الأمر ذلك المبلغ من الفجاجة في الخِطاب في مقام المديح.  ودُونك شِعر الجاهليِّين، ففي معظمه من اللَّباقة ما ليس في شِعر بعض الإسلاميِّين.  لكنَّه التصوُّر المبالغ فيه عن البداوة وجفائها.  وإنَّما قد يقع الخروج ممَّا يناسب المديح إلى ما هو بالهجاء أشبه، جرَّاءَ فجاجة الطبع في الشاعر نفسه لا في بيئته، أو لتكلُّف الصنعة عند بعض الشُّعراء، لا بسبب البداوة وجفائها. ومن هذا، على سبيل النموذج، قول الشاعر الحَضَري المعتَّق (البحتري)(7)، في مدح الوزير (إسماعيل بن بُلبُل):

أَتعَبْـتَ شُـكْرِي فأَضـحَى مِنكَ في نَصَبِ  :::  فـاذهَبْ! فمـالِيَ فـي جَدْوَاكَ مِن أَرَبِ!

فكيف لشاعرٍ- يفطن إلى أنَّ لكلِّ مقامٍ مقالًا- أن يخاطب ممدوحه: بـ«اذهبْ!»، ثمَّ يقول له: «فمالِيَ في جَدْوَاكَ مِن أَرَبِ»؟!  هذا ما لا يليق بمقام المديح، مهما كان من بَعْدُ من تأويل.  وممَّا يؤكِّد جفاء (البحتري) في أمدوحته هذه إتْباعه ما سبق ببيته:

لَأَشْـــكُرَنَّكَ إِنَّ الشُّـــكْرَ نَـــائِلُهُ  :::  أَبقَـى عَلـى حالَـةٍ مِن نَائِلِ النَّشَبِ

ممتنًّا على الممدوح بشُكره إيَّاه!  ذاهبًا إلى أنَّ شُكره شِعرًا أبقَى من معروفه إليه. 

- قوله صحيح، لكنه لا يليق بالمديح. 

- حتى كاد الشاعر أن يخرج من مقام المديح إلى التعريض بالوزير، بل إلى هجائه!  ومهما يكن، فإنَّ من يوازن خِطاب البحتري الشِّعري بخطاب صنوَيه في الثلاثيِّ العباسي، أعني (أبا تمَّام) و(المتنبِّي)، يخيَّل إليه أنَّه كمن يوازن ثَمِلًا يترنَّح بعقلَين راجحَين!  أو قل: إنَّما هو «عَبَثُ الوَليد»، على حدِّ نعت (المَعَرِّي). وتلك مسألةٌ أخرى.

2- لا يمكن أن يتحوَّل أسلوب المرء اللُّغويُّ ذلك التحوُّل النقيض، الذي زعموه لدَى (ابن الجهم)، على كِبَر، وبالطعام، والنسيم العليل، والعيش في حاضرة، لمدة ستة أشهر! هذا تصوُّر ساذج حقًّا!  كما أنَّ عامل البيئة ليس إلَّا أحد العوامل في الأسلوب.  واقرأ شِعر (أبي تمَّام) أو شِعر (المتنبِّي)، لتلحظ ما في بعضه من حُزونةٍ وتوعُّر؛ لأسباب من الطبع والذِّهن، لا من البيئة وحدها. 

3- إنَّ لُغة الشِّعر أوسع وأعقد من أن تقاس بمقياس لغة الحياة اليوميَّة المتباينة بين لغة المجتمع الحَضَري والمجتمع البدوي. فبعيدًا عن حكاية (الكلب) و(التيس) و(المها)، وعن مسطرة اللائق وغير اللائق، فإنَّ الشاعر الحاذق مصوِّرٌ لآفاق الحياة، ومشاعر النفس البَشَريَّة، المتلوِّنة المتقلِّبة، وليس بناطقٍ رسميٍّ باسم مجتمع بعينة.  ومَن قاسَ بهذا المقياس، لا يفرِّق بين لغة الأدب- فضلًا عن لغة الشِّعر- وغيرها من اللُّغات. 

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.........................

(1)  (1983)، تحقيق: أحمد أمين؛ أحمد الزين؛ إبراهيم الإبياري، (بيروت: دار الكتاب العَرَبي)، 1: 101.

(2)  يُنظَر: (1975)، البيان والتبيين، تحقيق: عبدالسَّلام محمَّد هارون، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 2: 15.

(3)  يُنظَر: (1983)، التمثيل والمحاضرة، تحقيق: عبدالفتَّاح محمَّد الحلو، (القاهرة: الدار العَرَبيَّة للكتاب)، 1: 22.

(4)  يُنظَر: تاج العروس، (حتف).

(5)  (مصر: مطبعة السعادة، 1906)، 2: 3- 4.

(6)  (1998)، باعتناء: عادل أحمد عبدالموجود، وعلي محمَّد معوَّض، (بيروت: دار الكتب العلميَّة)، 3: 469.  وللباحث (غازي بن أحمد الفقيه) مقالٌ حول المؤلِّف والكتاب وطبعاته، بعنوان «سمط النجوم العوالي: هل تعرَّض للتزوير؟!»، صحيفة "الجزيرة"، السُّعوديَّة، الاثنين 21 سبتمبر 2020، على الرابط: https://bit.ly/2Rg76Fp

(7)  (1977)، ديوان البُحتري، تحقيق: حَسن كامل الصيرفي، (القاهرة: دار المعارف)، 120/ 10.

تعد ظاهرة تزييف التاريخ وتأليف الأكاذيب شائعة في ثقافتنا الحاضرة، وتعتبر حالياً من المعتقدات الصحيحة والراسخة في عقولنا، وأصبح الكثير منا يؤمن جازماً أن التاريخ العربي والإسلامي هو تاريخ مزيّف مملوء بالأكاذيب!! وأتساءل هنا، هل حقاً أن تاريخنا الاسلامي كاذب ومزيّف؟ لو سألنا محرك البحث جوجل عن حقيقة التاريخ المزيف فسوف يدلّنا على موقع ويكيبيديا، ومنه أقتبس ما يلي "عملياّ، التاريخ المزيّف (Pseudohistory) هو كذبة كبيرة تتميز بمزاعم عظيمة عن وقائع تاريخية تحاول تفسيرها بطرق غير نزيهة علمياً خلال المراجعة التاريخية". ويُعَرِف الكاتبان مايكل شيرمر وأليكس غروبمان التاريخ الزائف بأنه "إعادة كتابة الماضي لأغراض شخصية أو سياسية حالية".

إن مصطلح التاريخ المزيّف يشير إلى عملية خلق ونشر روايات أو ادعاءات خالية من الأدلة الصارمة لأثبات صحتها، وينقصها الدليل العلمي. وغالباً ما يعتمد، من يحاول تزييف التاريخ، على حكايات أو مرويات غير موثقة، أو نظرية مؤامرة، بينما يعتمد العاملون في مجال البحث العلمي التاريخي على تحليل دقيق للمصادر الأولية وتدقيق صارم من قبل علماء ومؤرخين آخرين لتأكيد صحة المعلومة التاريخية. وهذا ما يجعل كتابة التاريخ المزيّف مكشوفة وواضحة في عيون الباحثين والمؤرخين.

يتضمن تزييف التاريخ، عملية تغيير أو تعديل الوقائع التاريخية بشكل مقصود ومتعمّد، للحصول على هدف معيّن أو غاية خاصة. وعامل التَعَمد والإصرار في تزييف التاريخ هنا مهم، لأنه يؤكد إصرار الشخص الذي يُزيّف التاريخ على التعمّد في إضافة معلومة كاذبة لحدث تاريخي معيّن، أو تشويه ممنهج للحدث التاريخي. ولو انعدم عامل التعمّد في إضافة المعلومة غير الصحيحة، لكان اجتهاداً خاطئاً ولا يعتبر تزييف أو تشويه للتاريخ.

ظهر مصطلح التاريخ المزيّف في أوروبا، في بداية القرن التاسع عشر. ويتفق الجميع على أن المجتمع الإسلامي والعربي في هذه الفترة كان في حالة سبات عميق، مما يوحي بأن المجتمع العربي والإسلامي ليس له دور في ابتداع هذه الأكاذيب والأعمال المشينة. من ذلك يمكن الاستنتاج أن فكرة تزييف التاريخ هي صناعة غربية (أوروبية). ومن الأمثلة التي ذُكِرت عن محاولات تزييف التاريخ، الفرضية التي روّج لها الكاتب غراهام هانكوك، أن المعالم الحضارية القديمة كالأهرامات المصرية وستون هنج، بُنيت بحضارات قديمة سابقة لها تملك تقنيات تفوق ما يملكه البشر في الوقت الحاضر. وكذلك يُصَنّف إنكار الهولوكوست على أنه تاريخ زائف حسب المرويات الغربية.

والمهم عندنا هو صحة التاريخ الإسلامي. يُعَرّف التاريخ لغوياً بأنه التوثيق الزمني للأحداث، كقولنا "كتابكم المؤرخ في كذا، وقولنا زارنا فلان بتاريخ كذا". إن توثيق الأحداث التاريخية المعروفة بشكل واضح ومتفق عليه عند المؤرخين يُخرجه من دائرة الشك والتشويش إلى دائرة اليقين. لكن الاحداث التاريخية لا تُنقل دائماً بشكل كامل، بل يوجد في معظم الأحيان نقص أو خلط أو اختلاف في كتابة الحدث التاريخي وتوثيقه، وهذا يشكل مدخلاً للتلاعب بالتاريخ، وهو طبعاً مكشوف ومعروف عند المؤرخين. يُمكن استغلال هذا الفراغ التاريخي لإدخال معلومات تاريخية كاذبة معيّنة أو إهمال متعمّد لأحداث معيّنة، وتشويه معلومات أخرى، وبهدف معيّن. والمعروف إن من يقوم بمثل هذه الاعمال هم فئة من الناس لها مآرب ومقاصد خاصة، قد تكون شخصية أو طائفية أو مادية أو غيرها. بالطبع، هناك مجموعة من العلماء والباحثين والمؤرخين، يعملون بجد وإخلاص من أجل توثيق التاريخ الصحيح، لكن هناك أيضاً مجموعة تعمل على تزييف وتشويش التاريخ لأهداف معينة كما ذكرنا ذلك.

التاريخ يكتبه المنتصرون

الملاحظ أن مؤرخي العصر الحديث، يغلب عليهم التأثُر بميولهم وأفكارهم الشخصية دون التجرد والحيادية في كتابة التاريخ، مما يجعل المقولة التاريخية متضاربة بين مصدر وآخر، ويقلل من مصداقيتها، وبالتالي تُحدِث بلبلة في المعلومات وتقلل من ثقة القارئ بالتاريخ. وهذا ينقلنا إلى مقولة أخرى شائكة هي " التاريخ يكتبه المنتصرون" والتي اكتسبت مصداقية واسعة في عقول الناس وأصبحت حقيقة مقبولة، لكن الصحيح أن هذه المقولة قد أُسيء فهمها، فالمنتصرون هنا هم رجال السياسة والاعلام وهم ليسوا مؤرخين. من ذلك يتضح أن كلام المنتصرين يشوبه التشتت وانعدام الثقة والمصداقية، كونهم لا يعملون في مجال العلوم التاريخية. يُذكر أن هذه المقولة (التاريخ يكتبه المنتصرون) ظهرت في عام 1940، ونسبت إلى المفكر الألماني والتر بنيامين، من أجل أن يُفَرِّق بين المؤرخ الصادق الذي يلتزم بالحيادية، سواء أن كان منتصراً أم مهزوماً، وبين مُدوّن الأخبار الذي يتأثر بالمنتصر، علماً أن المدونين لا يعتبرون مؤرخين بالمقياس العلمي. والحقيقة، أن التاريخ لا يكتبه المنتصرون وإنمّا يكتبه المؤرخون الذين هم علماء يتمتعون بمصداقية ونزاهة العلم ويسعون لكتابة التاريخ الصحيح حصراً.

إن أحداث التاريخ المعروفة لا يمكن تغييرها، فمثلاً انتصار اليابانيين على الامريكان في معركة بيرل هاربر لا يمكن التشكيك فيه، ولا يمكن قلب الحقيقة لتُظهِر أن اليابانيين خسروا المعركة، وكذلك استسلام اليابانيين بعد قنبلة هيروشيما. إن كل ما يفعله المنتصرون، المتمثلين بوسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي أو بعض الأشخاص المغرضين (وهؤلاء لا يعتبرون مصادر تاريخية معتمدة) يهدف إلى إظهار شجاعة وبسالة مقاتليهم وجُبن وانهزام قوات العدو في قصص وروايات مبالغ فيها أو كاذبة، وتكون مكشوفة. ولنا حالياً مثال حيً، متمثلاً بحرب غزّة ومحاولات الاعلام الغربي في تبرئة الجيش الإسرائيلي من جرائم الحرب والابادة الجماعية، وتحميل الفلسطينيين مسؤولية الحرب وجرائمها، لكن المحاولات مكشوفة وواضحة للمتابعين.

ويجب التفريق بين تزييف أو تشويش التاريخ وبين تضارب أو اختلاف المعلومات حول الحدث التاريخي، فعندما يتعَمّد المؤلف كتابة معلومات تاريخية غير حقيقية لسبب أو قصد معين، فانه يَكذب ويزيّف التاريخ، والمهم في هذه الحالة وجود عامل التعَمُد وسوء النية في تزييف المعلومة التاريخية. لكن هناك معلومات تاريخية قد لا يتفق المؤرخون على صحتها، وليس القصد فيها الكذب أو التزييف. وهذا التضارب في المعلومات يستوجب البحث عن صحة أو دقة المعلومة التاريخية. فمثلا توصف الحروب الصليبية عند مؤرخي المشرق بأنها هجمات بربرية وحشية ضد المد الإسلامي، بينما يصفها الاوربيون بانها حرب مقدسة ضد الشر والاشرار، وليس في هذا كذب أو تزييف من الطرفين بل تعبير عما يشعر به كل طرف تجاه الآخر وتجاه الحرب.

يمكن اعتبار المؤرخين الإسلاميين القدماء، كالطبري والبلاذري وابن الاثير وغيرهم، من أصدق من كتب التاريخ الاسلامي، ذلك لأنهم عاشوا في زمن أقرب نسبياً من غيرهم لأحداث التاريخ التي كتبوها، وكانوا مدفوعين بمصداقية وروح العلم والعلماء، ولم يكن لهم دافع أو مصلحة في كتابة أكاذيب أو تزييف للتاريخ.

والملاحظ، كما ذُكر سابقاً، إن الكلام عن كذب أو تزييف التاريخ لم يظهر إلا في العصر الحديث ومن أشخاص ليس لهم مصداقية علمية في كتابة أو توثيق الأحداث التاريخية، وذلك بسبب انتشار وتوفر وسائل الاعلام وسهولة استعمالها من دون مانع ولا رقيب.

الخلاصة أنه لا يوجد تاريخ مزيّف، بل محاولات بائسة لتشويه التاريخ، يقوم بها اشخاص لهم نوايا سيئة واهداف معينة. وهي في الغالب محاولات مكشوفة، لا تخفى على كل من له اطلاع أو معرفة بالأحداث التاريخية، ولو بسيطة، لتاريخ الحدث. ونشهد اليوم مثالاً حياً على تزييف التاريخ، الحرب الأوكرانية، حيث ينشر الاعلام الغربي اخباراً وقصص كاذبة عن الهجوم الروسي على أوكرانيا بهدف تجريم روسيا من ناحية وإضفاء المعايير الأخلاقية والإنسانية على الجانب الأوروبي الاوكراني. ولا يفوتني أن أذكر أن تاريخ العالم العام هو تاريخ غير كامل يشوبه نقص كبير للأحداث التاريخية، وهو أمر طبيعي ومعروف، وما زال المؤرخون والعلماء يعملون جاهدين وبإخلاص لإكمال الصورة التاريخية. ولو كان التاريخ كاملاً لأنتفت الحاجة إلى دراسات وابحاث المؤرخين وعلماء الآثار والمنّقبين.

***

صائب المختار

 

في ليل عميق، حيث تأخذ الهمسات شكل الأصداء المفقودة، تجد الروح نفسها محاصرة بين أطياف الماضي وغموض المستقبل. كل خفقة قلب هي سفينة تسير على بحر لا نهاية له، أمواجه تتلاعب بأحلامنا وتداعب خيالاتنا.

في هذا السكون الكوني، حيث تُعزف سيمفونيات السكون على أوتار النجم، ينبعث السؤال الأعمق: ما هي الحقيقة؟ هل هي مجرد سراب نلاحقه أم أنها نغمة خفية في لحن الوجود؟ هل الحقيقة هي ضوء يتسلل بين ثنايا العتمة، أم أنها غمامة تغطي الشمس، تجعلنا نبحث عن دفء غير ملموس في كل ظل نمر به؟

وها هي الروح ترفرف بين أكوان من الشك واليقين، تبحث عن معنى في كل قطرة ندى ونسمة هواء. نحن في رحلة لا تنتهي، نُبحر في محيط من الأسئلة، حيث تتلاشى الحدود بين الذات والعالم، وبين الأحلام واليقظة. وكل لحظة هي فرصة لتفكيك أسرار الروح وفهم تداعيات الزمن.

في عمق الفلسفة، حيث يتداخل العقل مع الوجود، نكتشف أن الحقيقة ليست سوى انعكاس لأسرار داخلية، وأن المعرفة هي مفتاح لفتح أبواب لا تُعد ولا تُحصى من التساؤلات. وفي النهاية، ربما نجد أن الفلسفة ليست سوى رحلة بحث مستمرة عن الذات، وارتقاء نحو فهم أعمق لحقيقة الحياة.

وفي هذه الرحلة، نتعرى من ثياب اليقين، نترك وراءنا قوالب الأفكار الجاهزة ونسبح في محيط من الاحتمالات اللانهائية. فنكتشف أن كل فكرة هي مجرد محطة في طريق طويل، وأن كل إجابة تحمل في طياتها أسئلة جديدة، كما تحمل الرياح رائحة الأرض البعيدة.

عندما نتأمل في مرآة الوجود، نرى في أعيننا انعكاسات الأحلام المحطمة والطموحات غير المحققة. هل نحن سوى أفكار تتصارع في عقولنا، أم أن لنا كينونة أعمق تتجاوز حدود الفكر؟ وهل الروح هي الحقيقة الوحيدة التي تنبض في هذا العالم، أم أن لها وجه آخر مخفي وراء ستار الزمن؟

وكلما اقتربنا من فهم أعمق لذواتنا، نجد أنفسنا نعود إلى نقطة البداية، حيث تبدأ الأسئلة من جديد. هنا ندرك أن الحياة ليست معادلة نحلها، بل قصيدة نثرية نكتبها، حيث الكلمات هي أفكارنا، والمعاني هي تجاربنا، والحقيقة هي شعورنا العميق بالوجود.

فكل خطوة نخطوها في هذه الرحلة الفلسفية هي حوار مع الزمن، حيث نصغي إلى همساته ونستمع إلى أسراره المكنونة. ربما لن نجد الإجابات التي نبحث عنها، لكننا سنكتشف جمال الطريق، وسحر الغموض الذي يكتنفه. وفي النهاية، ندرك أن الروح، في عمقها، هي انعكاس للكون كله، وأن الحياة، بكل تناقضاتها، ليست سوى قصيدة لا نهائية، نكتبها بأفكارنا وتجاربنا وتأملاتنا.

وفي هذا العمق، تصبح الفلسفة ليست فقط بحثًا عن الحقيقة، بل تجربة غنية من التأمل والإبداع، حيث نخلق معاني جديدة وننسج نسيجًا معقدًا من الأفكار والمشاعر. هنا نلتقي بأنفسنا في كل لحظة، ونكتشف أن الروح، في سعيها المستمر، هي الحقيقية الوحيدة التي تستحق البحث والاكتشاف.

واكيد انها ستبقى في علم الله الواحد الأحد، تلك الحقيقة التي تتجاوز عقولنا، وتلك الاسرار التي لا نراها إلا بعيون الإيمان. مهما بحثنا وتعمقنا في فلسفات الحياة، تظل هناك حجب لا يرفعها إلا النور الإلهي. فنحن، في نهاية المطاف، مجرد مسافرين في بحر الزمن، نحاول فهم لغز الوجود، بينما يكمن السر الأعظم في يد الخالق، العالم بكل شيء.

إن سعي الإنسان المستمر للمعرفة والفهم هو انعكاس لشوقه للوصول إلى الحقيقة الكبرى، تلك التي تتجاوز حدود العقل وتصل إلى جوهر الروح. ولكن يبقى في علم الله ما لا يمكننا إدراكه، وما يظل لغزًا محاطًا بهالة من القداسة. وهكذا، تستمر رحلتنا بين الشك واليقين، بين السؤال والجواب، بينما يبقى سر الكون في علم الله الواحد الأحد، الذي يعلم كل شيء، ويرى ما لا نراه، ويسمع همس قلوبنا ونداء أرواحنا

***

عبد الرحيم طالبة - المملكة المغربية

 

كلنا ندرك، من خلال قراءةِ التاريخِ البشريّ، التحولات الجذريةَ والتطورَ المطّردَ في كلّ مفاصلِ الحياةِ، والطبيعة. وهذه التحولاتُ لم تأتِ دفعةً واحدةً أو في زمان قصير. بعض علماءِ الإنسانِ والباحثين في مجال التطور البشري، بل وعلماء الآثار والانثروبولوجي، على درجةٍ عالية من اليقين بأن الإنسانَ مرّ بمراحلَ تاريخيةٍ مختلفةٍ أخذت منه آلاف السنين حتى وصل إلى هذه الدرجة من التطور. إذن حقيقة تطور الإنسان بمعارفهِ وآلاته وفنونهِ وآدابه وتفكيره حقيقةٌ لا يمكن التعتيمُ عليها أو إنكارها. وكلنا نعلمُ أن الإنسانَ سبقَ الآلة زمنياً. ومن خلال الاستغراق في البحثِ عن وسائل تريحه في عمله وتجواله، اخترعَ العجلة، وآلات نقل الأخشاب والأحجار الثقيلة من مكانٍ إلى آخر. ولما يتمتع به من عقلٍ، أخذ يتطلع إلى التطور دون قصدٍ منه، بل استجابة للحاجة وتحقيق لما يستدعيه أمرُ الدفاع عن سلامته وراحته. تطورت المعارفُ وترسخت في أذهانِ صناعِ الحضارات القديمة نزعة الاختراع أو البحث على الأقل عن وسائل الدفاع، وممانعة غضب الطبيعة. ولا نريد الإطناب في هذه الجنبة التاريخية حتى لا تضيع الفكرةُ الأهم والمبتغى الأعم.  وصل الإنسانُ في تطوره إلى محاولة خلق إنسانٍ آليّ يحاكي الإنسانَ الحقيقي، فاخترع الروبوت الذي يشبه البشر جسماً لا روحا واستعان به على قضاء مهماته في البيت أو في المصنع. الهدفُ من هذه المقالة، هو إبراز ما وصل إليه الإنسان المعاصر من تطور، وهل أنه حقق ما يصبو إليهِ من راحةٍ وصفاء بال، أم أنه زاد الطين بِلَّةً كما يقول المثلُ العربي القديم؟ وهل أفادته الآلة أم زادت من تعاسته؟

لو استعرضنا ما وصل اليه الطب في الوقت الحالي من استخدام للآلة والروبوتات في إجراء العمليات الجراحية المعقدة في جسم الإنسان، وما قدمته المعامل ومراكز الأبحاث في كثير من بلدان العالم المتقدم من أدوية ولقاحات ضد الأمراض التي كانت تحصد ملايين البشر قبل مئات من السنين، ووسائل الفحص والتشخيص الدقيق للأمراض، لوجدنا أن الآلة بدأت تأخذ مكان الإنسان الحقيقي وكأنهم يقولون لنا إن عصر الآلة الذكية قد حان، لكنهم لم يتساءلوا إلى أي حدٍّ سوف تصل إليه هذه الآلة؟ وهل أنها سيقدَّر لها أن تتحكم في مصير الإنسان وتأخذ مكانه من خلال الاستقلال بالتفكير وعمل ما تشاء؟

هذا سؤال ربما يجاب عنه من خلال ما سيقدمه الإنسان في السنين القادمة من صراعه المحموم من أجل الغلبة والسيطرة على الآخرين. نسمع مراراً في الأخبار أن العامل في اليابان يموتُ واقفا على آلته بسبب الإرهاق والتعب الشديد. و"أظهر تحقيق حديث في الصين أن ضغوط العمل الكبيرة تؤدي إلى وفاة 600 ألف شخص سنويا بسبب الإرهاق المفرط، أي بمعدل 1600 وفاة يوميا"[1]. وهذه الظاهرة أصبحت تدعى في اليابان باسم "كاروشي"[2] أي الوفاة بسبب الإرهاق الشديد. ومن التدقيق في مثل هذه الأحداث يتبين لنا أن الآلة استعبدت الإنسانَ ووظفتهُ بدلا من مساعدته في العيش براحة. وهذه الآلة ساعدت البشر كثيرا ولا غنى له عنها، لأنها وفرت له مصدرا من مصادر العيش والاستقرار. حينما أستقل سيارتي وأقصد مكانَ عملي، أشعرُ وكأنها تحملني في حضنها كما تحملُ الأم وليدها. تبردني في الحرّ، وتدفئني في البرد. ولا أغلو حين أقول: إن علاقة حب تنشأ بيني وبينها ومن جانب واحد بالطبع. وكأنني أتكلمُ بلسان حالها فأقول: بسطتُ ظهري إليك وأنا في خدمتك ما دمت لم تقصر معي بالوقود والصيانة!! هذا القلمُ الذي أكتبُ به رسائلي وكتبي وأنجز به كل معاملاتي، أجده جديراً بالاحترام والتقدير وكأنه بشر يجلس معي ويقدم إلي المساعدة في كل وقت. جهازُ الحاسوبِ الذي يصحبني أكثر من تسعِ ساعات في اليوم رفيقاً مخلصاً يساعدني بصمت شديد، ويخدمني متى احتجته أو طلبت منه الخدمة. ولن أكون مغاليا حينما أصفهُ بأعز الأصدقاء أو الرفقاء. وهناك أمثلةٌ لا حصرَ لها يمكنكم التأمل فيها ما شئتم.

كل هذا الذي تقدمه الآلات هو من أفضل ضروب المنفعة التي يلهثُ جلّ البشرِ خلفها دون التفاتٍ أو شعور. وقيمة كل شيء تكمن في مقدارِ ما يقدمه من نفع وفائدة، أو ما يدعوه علماء الفلسفة بالخير المحض. وما دام الخير كامن وظاهرٌ في كل هذه الآلات والأشياء، فإنها تندرج في قاموس الضروريات التي تلبس مثالية الخلق الإنساني التي بحث عنها الفلاسفة المثاليون، أو الباحثون عن الخير والسعادة، وبناة المدن الفاضلة عبر التاريخ. حينما نتحدث عن إنسانية الإنسان، فإننا نقصد منها الرحمة والتعايش وفائدة الآخرين، وإلا فمتى كان الإنسانُ إنسانياً؟ أو قل رحيما لأخيه الإنسان. سنة التدافع التي سنها الخالق في البشر ظهرت في سلوكياتهم عبر التاريخ بأشكال كانت تتسم بالظلم والدموية والإلغاء، وحب السيطرة، والإفناء. هذا التزاحم لا يوجد في الآلات، فهي تحت سيطرتنا وكأن الإنسانَ ابتكرها حتى يستعين بها على السيطرة على الآخرين، كأنواع الأسلحة المدمرة. وهذا هو الجانب المظلمُ من الآلة تماما كالجانب المظلم للإنسان. إذن كأنني بالآلة ظل البشر والخالق لها.

***

بقلم د. علي الطائي 

........................

[1] خبر في "الجزيرة نت" بتاريخ 3-10-2013.

[2] ويكيبيديا. الموسوعة الأضخم على الشبكة العنكبوتية. مادة "كاروشي".

 

بقلم: بيبر ستيتلر

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

تستكشف بيبر ستيتلر كيف يساعدنا البحث في فهم الماضي لخلق مستقبل أفضل

لقد شهدت خلال الأعوام الأربعة عشر التي مرت منذ حصولي على درجة الدكتوراه وتولي منصب أستاذ تاريخ الفن، إعادة تنظيم سريعة لأهداف وقيم التعليم العالي، الأمر الذي جعلني أتساءل عن مكاني فيه. لدي مسيرة مهنية أفتخر بها، وأؤمن أن ما أدرسه يحسن حياة طلابي بطرق غير ملموسة وعملية. ولكنني كافحت لتحديد مكانة البحث والكتابة في التاريخ في هذا العالم الجديد من التعليم العالي الذي يروج لوعود النجاح الفوري بعد التخرج والعائد على الاستثمار. قبل بضع سنوات، بدأت أفقد رؤية أهمية البحث.

إن البحث التاريخي يشكل أهمية بالغة بالنسبة للتعليم العالي وللعالم أجمع. ولكن من الصعب في كثير من الأحيان أن ندرك الروابط ذات المغزى. فقد يبدو البحث وكأنه مسعى نخبوي، أو تمرين يتم إنجازه للحصول على وظيفة، أو الحصول على وظيفة دائمة، أو التقدم في مهنة أكاديمية. وفي بعض الأحيان، قد تبدو موضوعات البحث منفصلة تماماً عن عالمنا وأزماته العاجلة بحيث يصعب فهم مساهمتها. وإذا لم يكن الغرض من البحث التاريخي واضحاً وعملياً على الفور، فإن الساسة وإداريي الجامعات يزعمون أنه لا قيمة لتوفير مكان له.

أدركت أن فكرة ترك البحث للخبراء فقط لم تكن صحيحة. في الواقع، بدأت أشعر أن البحث أشبه بحق من حقوق الإنسان.

في الصيف الماضي، قامت جامعة غرب فرجينيا بإلغاء عشرات البرامج في العلوم الإنسانية وطرد 143 من أعضاء هيئة التدريس.

تحت ضغط الميزانية وتراجع التمويل الحكومي، يبدو أن التعليم العالي أصبح أقل اهتمامًا بالنضال من أجل الخير العام. يتم التضحية بهذا الهدف من أجل ملاحقات قصيرة النظر تبدو وكأنها تبرر التكلفة الباهظة للتعليم الجامعي. في الجامعة التي أدرس فيها، يمكن للطلاب التخصص في المالية والمحاسبة وحتى العقارات. ولكن الدعم المؤسسي لتخصصات العلوم الإنسانية والبحث آخذ في التراجع. من السهل أن نفقد رؤية أهمية دراسة الماضي عندما تربط الجامعات بشكل متزايد القيمة بالربح المالي. التمسك بشغفي للبحث أصبح أشبه بالصمود في عاصفة على متن قارب متهالك. كل يوم عمل بدا وكأنه معركة لكي يُعترف بقيمة ما نقوم به أنا وزملائي.

ولكن التحول الذي شهده التعليم العالي ليس الشيء الوحيد الذي جعلني أتساءل عما هو ممكن في ظل قواعد البحث التي وضعتها الجامعات التي تحركها الأرباح. كنت قد كتبت أطروحتي ونشرت على نطاق واسع عن التصوير الفوتوغرافي الألماني في عشرينيات القرن العشرين، لكنني بدأت أشعر بأنني محاصرة. كنت أؤمن بأن جميع الباحثين الجيدين يدرسون نفس الموضوع طوال حياتهم المهنية. كانت الرحلة المستمرة في التعمق لاكتشاف كل تفاصيل موضوع ضيق هي ما يجعل شخصًا ما خبيرًا موثوقًا. لكن ماذا لو أردت دراسة شيء مختلف؟

ما أردت حقًا التحدث عنه هو ابنتي واختبارات الذكاء التي كان لزامًا عليها إجراؤها في المدرسة. تعاني ابنتي من متلازمة داون، وقد خضعت لأول اختبار ذكاء لها قبل أن تبدأ روضة الأطفال. أخبرني طبيب نفس المدرسة أن الاختبار كان مطلوبًا لخطة التعليم الفردية الخاصة بها، وهي وثيقة قانونية تحدد الاحتياجات والأهداف والتسهيلات المحددة لمساعدتها على مواكبة أقرانها.

كنت على دراية عامة بالصلة بين اختبارات الذكاء وجنون تحسين النسل في أوائل القرن العشرين. أليس من الغريب أن هذه الاختبارات لا تزال مستخدمة حتى الآن؟ زملائي الذين أخبرتهم عن تقييم ابنتي كانوا مندهشين لسماع أن اختبارات الذكاء تلعب دورًا في حياتي. كانت وجوههم تعكس سلسلة من ردود الأفعال: اعتراف عابر، دهشة طفيفة، ثم حيرة مشوبة بالقلق. كنت أحب الحديث عن ابنتي، لكنني كنت أيضًا أستمتع بمشاهدة الارتباك الذي ينشأ عندما أفعل ذلك. كان هناك قانون غير معلن يقضي بضرورة إبقاء البحث والحياة الشخصية للباحث منفصلين. لكنني أدركت أنني أرغب في اختراق هذا الحاجز بين هذين الجانبين من حياتي.118 Intelligence

لقد بدأت في إجراء أبحاث حول اختبارات الذكاء، وقيمتها الحالية واستخدامها في مجال علم النفس، فضلاً عن تاريخها. كنت أدرك باستمرار أنني أتعامل مع هذا البحث باعتباري شخصًا غير متخصص، ومؤرخًا فنيًا يتمتع بفهم محدود للإحصاءات والانحرافات المعيارية. لكنني كنت أدرك أيضًا أن ما كنت أبحث عنه كان ذا مغزى بالنسبة لي بطريقة لم أختبرها من قبل. كنت أكتشف تفسيرًا للطريقة التي ستشكل بها اختبارات الذكاء حياة ابنتي . لكنني اكتشفت في نفس الوقت أن هذه الاختبارات تؤثر علينا جميعًا. فقد أرست الأسس للطريقة التي لا نزال نفهم بها ونقيم الذكاء، ولمن تُعطى الفرص للنجاح ومن يُحرم منها، ومن يُمنح الوصول إلى أفضل تعليم ممكن. واجهت عقبات ونظرات فضولية من علماء النفس الذين اعتقدوا أنني أطرح أسئلة أكثر مما ينبغي للوالد أن يطرحها. لكنني أدركت أن الفكرة القائلة بأن البحث يجب أن يترك للخبراء لم تكن صحيحة. في الواقع، بدأت أشعر أن البحث هو حق من حقوق الإنسان.

في أحد أيام أواخر الصيف، سافرت بسيارتي من الريف في جنوب غرب ولاية أوهايو إلى المنطقة الصناعية في شمال شرقها لزيارة مركز كومينجز لتاريخ علم النفس. رغم أن الموضوع بدا لي جديدًا وغريبًا، إلا أن البيئة كانت مألوفة. وبعد أن سجلت موعدي، جلست على أحد المكاتب الكبيرة العشرين المصفوفة في شبكة. ثم أخرج أمين الأرشيف عدة صناديق من الملفات التي طلبتها ووضعها بالقرب من مكتبي.

لقد قمت برحلة إلى أكرون لدراسة أوراق هنري جودارد، عالم النفس الذي حول اختبار الذكاء إلى طريقة منهجية للتصنيف الاجتماعي. لقد قرأت بالفعل العديد من أوراق جودارد المنشورة قبل القيام بالرحلة، لكنني أردت أن أرى الأرشيف بنفسي. كنت آمل أن يساعدني الاطلاع على مسوداته وأوراقه الخاصة ورسائله في فهم أفضل لكيفية تأثير أبحاث جودارد على مستقبل ابنتي، وكيف يمكن أن تختلف عن حياة الأطفال الذين درسهم جودارد.

بعد أن أجرى جودارد اختبارات الذكاء على آلاف الأطفال، اقترح استخدام كلمة "أحمق" لوصف أولئك الذين أظهروا ذكاءً لا يتجاوز ذكاء طفل في الثانية من عمره. أما أولئك الذين تتراوح ذكاؤهم بين ثلاث وسبع سنوات فيُعَدون "بلهاء". وبالنسبة للمجموعة الثالثة، أولئك الذين تتراوح أعمارهم العقلية بين ثماني سنوات واثني عشر عاماً، اقترح جودارد مصطلحاً جديداً، وهو "الأبله". وكتب جودارد: "إن أنظمة مدارسنا العامة مليئة بهؤلاء الأطفال، ومع ذلك فإن المشرفين ومجالس التعليم يكافحون لتحويلهم إلى أشخاص عاديين". ويمكن لاختبار الذكاء تحديد هؤلاء الطلاب ووضعهم في المؤسسات التي يعتقد جودارد أنهم ينتمون إليها. وقد مهدت توصياته، القائمة على درجة الذكاء، الطريق للمؤسسات والفصول الدراسية المنفصلة لذوي الاحتياجات الخاصة طوال معظم القرن العشرين.

قمت بمراجعة سجلات سريرية باردة للأطفال الذين درسهم جودارد في مدرسة التدريب في فينيلاند، نيو جيرسي. درست صور الأطفال الذين كانوا يرتدون ملابس نظيفة وبدلات مكوية، وهم جالسون على المقاعد. بدا هؤلاء الأطفال كأشباح في ذهني، وكنت أفكر في كيف أن حياتهم ربما كانت تقتصر على الظهور كأشباح لعائلاتهم أيضًا. كانوا موجودين ولكنهم مُعزولين، بعيدين عن الأنظار، ودون فرصة حقيقية للعيش والنمو والتعلم.. بينما كنت أستعرض هذه الصور، شعرت بالامتنان لعدم عيشي في هذه الحقبة المظلمة من التاريخ، ولكنني كنت أيضًا أشعر بالقلق من تأثيراتها المستمرة في الوقت الحاضر.

لا يمكن للمستقبل أن يفلت من تأثير الماضي، لكن البحث يساعدنا على تصور عالم أفضل.

إن ابنتي تتعلم في الفصل الدراسي بين أقرانها. ولم أشعر قط بأن حقها في التعليم مهدد. ومع ذلك، أظهرت لي أبحاثي أن تاريخ اختبار الذكاء يؤثر على عالمنا بطرق ملحة للغاية. بدا تعصب جودارد مألوفًا ومقلقًا بالنسبة لي. فقد قرأت مصطلحات مثل "العمر العقلي" في تقارير ابنتي الطبية منذ كانت طفلة صغيرة، وهي طريقة لشرح تطورها الإدراكي عبر مقارنته بطفل أصغر سناً. عانيت من الرسوم البيانية والخرائط التي تخبرني بأن ابنتي تملك إتقاناً محدوداً للمواد في اختبار معياري، بينما تتجاهل تماماً نقاط قوتها العديدة. شاهدت كيف أن جهود الأطفال اليائسة في التواصل تُفهم بشكل خاطئ على أنها انحراف وسلوك سيئ. يظل اختبار الذكاء اليوم مقياساً مبسطاً للقيمة الإنسانية، وفرصة لاستحضار الإهانات الطفولية مثل "المعتوه" و"الأحمق" التي نشأت عن سعي الاختبار لتصنيف الناس. لقد قدم للعالم تبريراً إحصائياً لتفضيل الذكاء على الأخلاق، والإنتاجية على التعاطف.

إن الحاضر ليس مثل الماضي، ولكن هذا لا يعني أن التاريخ يجب أن يُنسى. يتطلب البحث التاريخي حسابات معقدة. الحسابات تعني التفكير، ولكنها أيضاً تعني تسوية الحسابات. إنها تتعلق بتحديد ما يمكننا وما لا يمكننا التحكم فيه بشأن كيفية ظهور الماضي في الحاضر، وكيف يمكننا تحسين الأمور في المستقبل. أظهرت لي الأبحاث أن ممارسة استبعاد الأشخاص ذوي الإعاقات الذهنية—من التعليم، والعمل، والحياة المدنية—تعود إلى منطق وقرارات خاطئة من أشخاص مثل جودارد. كما علمتني أنه لا يجب أن يكون الأمر كذلك.

لا أعتقد أن كل بحث يجب أن يكون شخصيًا ليكون ذا مغزى. ولكن البحث هو شكل قوي من أشكال الوعي الذاتي وهو أساسي للديمقراطية. البحث التاريخي يكشف كيف يتشكل عالمنا بفعل الأفعال البشرية. بعضها صغير، وبعضها كبير. بعضها عادل وبعضها مشوه بشكل رهيب. لكن جميع هذه الأفعال كان يمكن أن تكون مختلفة—معانيها ونتائجها ليست أقل طبيعية من أي فعل آخر. وهذا له تأثير عميق على كيفية رؤيتنا لظروفنا الحالية. لماذا نفترض أن الأشخاص ذوي الإعاقات الذهنية لا يستطيعون التعلم بين أقرانهم؟ لماذا نفترض أن اختبارات الذكاء تقدم معلومات ذات مغزى حول إمكانات الشخص المستقبلية؟ بسبب جودارد وغيره من علماء تحسين النسل الذين استخدموا اختبار الذكاء لعزل أولئك الذين لم يعتبروهم طبيعيين. لأن منطقهم لا يزال معنا اليوم. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن الأمر كذلك. فالبحث العلمي يمكّن المواطنين من تفسير ظروفهم الخاصة ومناقشة ما يعتبره الآخرون طبيعياً أو عادياً. وينبغي أن يتمتع جميع البشر ــ بما في ذلك المحاسبون ووكلاء العقارات في المستقبل الذين أقوم بتدريسهم ــ بالحق في معرفة كيف تشكل عالمهم. ولا يستطيع المستقبل أن يفلت من تأثير الماضي، ولكن البحث العلمي يساعدنا على تصور عالم أفضل.

***

..............................

مقتطف من كتاب "قياس الذكاء: مواجهة أم مع اختبار الذكاء" للكاتبة بيبر ستيتلر

الكاتبة: بيبر ستيتلر/ Pepper Stetler: بيبر ستيتلر أستاذة مشاركة في تاريخ الفن والمديرة المساعدة لمركز العلوم الإنسانية في جامعة ميامي في أكسفورد، أوهايو. وقد كتبت بكثرة واهتمام واسع عن القضايا التي يواجهها الأشخاص ذوو الإعاقات الذهنية ومقدمي الرعاية لهم، في منشورات مثل نيويورك تايمز، وأتلانتيك، وسليت، وبلوشيرز، وجلف كوست. كما كتبت ستيتلر عن الفن والتصوير الفوتوغرافي في أوروبا في أوائل القرن العشرين.

يمكن القول أنّ المفكرين والأدباء والفنانين، أصحاب الضمير الحيّ، يتآلفون مع نضال الثوار في كلّ أنحاء العالم، من أجل إحقاق الحق وردع الظلم. غالبية النتاج الفكري والإبداعي المستنير في العالم قاطبة يستلهم مبادىء ارتكزتْ عليها كبريات الثورات، تلك التي لها آثارٌ كبيرةٌ في تاريخ الإنسانية، فقد سعتْ وبقوّة السلاح والفكر الوضّاء إلى نشدان العدالة الاجتماعية واحترام كرامة الإنسان والذود عنها. نرى تلك المبادىء تتوهّج من فيوضات المعرفة الإنسانية الحقة. ونجزم هنا أنّ الثوار الشهداء أحياءٌ في ضمائرنا، دماؤهم وتضحياتهم تغذّي أسس الحضارة .

من هنا ننطلق في الحديث عن استلهام الفكر والأدب المعاصرين لثورة الإمام الحسين (ع) على أرض الطف في كربلاء المقدسة، هي الثورة الإصلاحية الأولى في التاريخ العربي والإسلامي، حين قال الإمام الثائر قولته الكبيرة، التي ظلّت ترنّ أصداؤها على مدى ألف وأربعمئة عام، ولمّا تظلّ تتصادى في أرجاء المعمورة " والله إنّي ما خرجت أشِراً ولا بطِراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي، لآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".

أثرها في الفكر الإنساني

ومن ذلك ما قاله مفكرون أجانب في الخلود الأبدي للإمام الحسين (ع) وثورته ضد الظلم والطغيان، ومن أجل مقاصده الروحية والإنسانية في إعلاء كلمة الحق وإزهاق الباطل.

الفيلسوف والمؤرخ الإنجليزي توماس كارليل، يتحدّث عن الدرس الحسيني الكبير للإنسانية جمعاء، وكيف أنّ الفئة القليلة تهزم الفئة الكبيرة بعلوّ إيمانها بالحق وانتصاره الحتمي على الباطل، إذ قال" أسمى درس نتعلمه من مأساة كربلاء هو أنّ الحسين وأنصاره كان لهم إيمانٌ راسخٌ بالله، وقد أثبتوا بعملهم ذاك أنّ التفوق العددي لا أهمية له حين المواجهة بين الحقّ والباطل والذي أثار دهشتي هو انتصار الحسين رغم قلّة الفئة التي كانت معه". وعلى ذلك يوثّق المسترق الأميركي غوستاف غرونييام، بأنّ واقعة الطف باتت واقعةً أممية، استشهد فيها وأصحابه، خالقاً أثراً ثورياً لم تصنعه أيّة شخصيّةٌ إسلاميّةٌ أخرى منذ ألف وأربعمئة عام، فيذكر" الكتب المُؤلّفة في مقتل الحسين تعبّر عن عواطف وانفعالاتٍ طالما خبرتها بنفس العنف أجيالٌ من الناس قبل ذلك بقرونٍ عديدة. إنّ واقعة كربلاء ذات أهميةٍ كونيّة، فلقد أثّرت الصورة المحزنة لمقتل الحسين الرجل النبيل الشجاع في المسلمين تأثيراً لم تبلغه أيّة شخصيةٌ مسلمةٌ أخرى". وتلك العبارة الثورية التي قالها عالم الآثار الانكليزي وليم لوفتس، بأنّ ما قام به الحسين (ع)يمثل أروع مآثر الاستشهاد في سبيل الحق والصلاح " قدّم الحسين بن علي أبلغ شهادةٍ في تاريخ الإنسانية، وارتفع بمأساته إلى مستوى البطولة الفذة".

وعلى هذا النحو، وأبعد من ذلك، كتب كبار مفكّري الغرب ومستشرقيه، من الألمان والفرنسيين والانكليز والأميركان؛ كارل بروكلمان، وإنطون بارا، ولويس ماسينيون، وادوار دبروان، صابرينا ليون ميرفن، وفيليب حتي وغيرهم.

استثمارٌ أدبي

شأنه شأن نخبة الثوار الشهداء في العالم قديماً وحاضراً، لايزال استثمار واقعة استشهاد الإمام الحسين(ع) يتجدّد في الأدب المعاصر. فهو من الذين ربحوا الخلود الإنساني. توّجوا مبادئهم الثورية على المدى الطويل، على صراط القيم الخيّرة . هم نخبةٌ في كلّ زمانٍ ومكان، همُ الخلاصة الحقيقية لكلِّ عصر.

من فضائل ثوار العالم وشهدائه إنّنا نستدعيهم عناصر قوةٍ وجمالٍ وعدالة، كلما حلّت بنا المكاره والشدائد، ومن رذائل طغاة العالم إنّنا نلعنهم وندعو ونعمل إلى أن يؤول إلى مصائرهم ذاتها، كلّ من يستبدّ الآن في أرجاء المعمورة. يستجير المفكرون والأدباء والفنانون، بشهداء الكلمة وثوّار الواقع، ويستنهضون مواطني زمنهم من أجل استمرار ديناميّة الثورة.

القصائد الخوالد لا تموت أبد الدهر، لا سيّما إذا كانت عن رجالٍ عظام، لهم بصماتهم في تاريخ النضال الإنساني ضد الباطل والظلم والزّيف، مشيرين هنا إلى عينية شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، تلك العينية التي كتبت خمسة عشر بيتاً منها بالذهب على الباب الرئيس الذي يؤدي إلى الرواق الحسيني في مرقد الإمام الحسين(ع) في كربلاء، لمهابة معانيها وتوظيفها الوقوف المقدّس في حضرة سيّد الشهداء، فاجتمعت هنا جزالة المفردات وقوّة المعاني والأنوار القدسيّة وضوع الجنان، والخلود الأبدي لواقعة الطف، والدعاء بأن تكون أرض الشهادة خيراً ونماءً لأنّها تحتضن أعظم الشهداء:

فِدَاءً لمثواكَ من مَضْــجَعِ

تَنَـوَّرَ بالأبلَـجِ الأروَعِ

*

بأعبقَ من نَفحاتِ الجِنـانِ

رُوْحَاً ومن مِسْكِها أَضْـوَعِ

*

وَرَعْيَاً ليومِكَ يومِ "الطُّفوف"

وسَقْيَاً لأرضِكَ مِن مَصْـرَعِ

كما وظّف أشهر الشعراء العرب المعاصرين أدونيس الثورة الحسينية في عديد قصائده، مبرزاً أنّ مفاصل القسوة والهمجيّة في قتل الإمام الحسين(ع)، تنبت ضديدها النقيّ المشرق المغذّي للأمل البشري في حياةٍ حرّةٍ كريمة:

"حينما استقرّتِ الرماح في جسم الحسين/ وازّيّنتْ بجسد الحسين/ وداستِ الخيول كلّ نقطة في جسد الحسين/ واستلبتْ، وقسّمتْ ملابس الحسين/ رأيتُ كلَّ حجرٍ يحنو على الحسين/ رأيتُ كلَّ زهرةٍ تنام عند كتف الحسين/ رأيتُ كلَّ نهرٍ يسيرُ في جنازة الحسين".

عديد الشعراء العرب الكبار من مختلف أنحاء العالم العربي، ثوّروا في قصائدهم قضية الحسين، وتراها تصبُّ في تخليد مكان الفاجعة، كربلاء المقدسة، حيث ينشد الشاعر اليمني الراحل عبد العزيز المقالح لهذه المدينة الطهور، بوصفها بؤرة انطلاق الثورة ضدّ الشرّ منذ الأزل:

"نحن من كربلاء التي لا تخون

ومن كربلاء التي لا تخون وُلدنا

ومن دم أشجارها خرجتْ للظهيرة أسماؤنا

منذ موت الحسين

مدينتنا لا تصدّر غير النجوم

ولا تصطفي غير رأسٍ تتوّجهُ

بالنّهــــار الشّـــهادة

وتغسلهُ بالدماء العيون الجريحة" .

لقد وظّف شعراء مسيحيون قضية الحسين، إسوةً بنظرائهمِ المسلمين، لأنّ القضيّة بمعانيها الكبرى عابرةٌ للأديان والقوميات، على سبيل المثال، الشاعر اللبناني الراحل جوزيف حرب، إذ تستنهض قصيدته مظلوميّة الحسين وتقاربها مع مظلوميّات الأنبياء والرسل واضطهادهم من قبل أقوامهم، حين يبشّرون بقيم التوحيد والعدل وإحقاق الحق:

"هناك تداخلٌ حتى الذوبان بين راس المسيح بعد الصلب ورأس الحسين بعد القطع.

بين رأس يوحنا على طبق ورأس الحسين على رمح .

بين خيل العطش على الصليب وملح العطش في عاشوراء .

بين زينبيّات الحسين ومريمات المسيح.

وأن الذين رغبوا إلى اقتسام ثياب المسيح على الجلجلة هم أنفسهم الذين رغبوا إلى اقتسام ثياب الحسين في كربلاء .

وأنّ الشهوات التي في أعماق هيرودس هي ذاتها الشهوات في أعماق يزيد.

وأنّ الراقصة التي طالبت بقطع رأس يوحنا هي ذاتها الدولة التي طالبت بقطع رأس الحسين" .

وغير ذلك تناصَّ شعراء آخرون مع إضاءات الثورة الحسينية، وخلودها في ذاكرة الإنسانية، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، العراقيون بدر شاكر السياب ومظفر النواب ومصطفى جمال الدين وعبد الرزاق عبد الواحد، والمصريون أحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل وفاروق جويدة. استلهامات الفكر والأدب لثورة الحسين وشهادته، ينبغي أن تحفّزنا على الإفادة من أفكارها الإنسانية والإصلاحية. دروسٌ كبيرة، علينا التمسّك بجوهرها فقط، فبالجوهر المتجدّد نحترم الإمام الحسين "ع" ونخلّد ثورته.

***

باقر صاحب

عندما نفكر في التصورات المجردة تلتبس بعض المفاهيم، وهو طبيعي إلى حد ما، في الإطار الثقافي الذي لا يفرض سلطة الدقة بالمصطلح كما هو الحال في الإطار العلمي الدقيق، لكن بقدر الإمكان تتم محاولة تحديد المفاهيم على وفق تصورات وانطباعات لا تخلو من المراجعة، ومفهوم الهوية من المفاهيم الفضفاضة ذات السمة النسبية التي تخضع المفهوم إلى تأثير التوجهات الذاتية أحيانا، وهو ما يشكل عقبة ما في طريق تناول هذا المفهوم في جوانبه المختلفة.

وقد تعمدت أن أفرد الهوية من دون إضافة إلى كونها هوية دينية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، ذلك أن تلك المسميات لا تعدو كونها عناصر مكوّنة لهوية الإنسان، وفي ظني أن الإنسان لا يمكن أن تتشكل هويته في مجال محدد من دون تداخل بقية المجالات، فلا يمكن أن تتحدد هوية الإنسان بصفته الفردية أو الاجتماعية في قالب ديني فحسب أو سياسي فقط، وإنما تتداخل تلك الأطر فيما بينها لتخلق كيانا يتضمن الهوية ويحدد نمطها وطبيعتها، فالدين أحد أهم عناصر الهوية في مجتمعاتنا كما أن الثقافة أيضا تعد من عناصر بناء الهوية، نعم قد يغلب عنصر عنصرا آخر، وهذا طبيعي إلى حدما، واستثنائي في حالات خاصة، يتم تناولها لاحقا.

ويمكن تحديد الهوية بما لخصه أحد الباحثين في الموضوع بأنها: (أن الهوية تعبر عن كل من الميزات الفارقة والعلامات المميزة التي تمنح الخصوصية وترسم الحدود بين الديموغرافيا البشرية، وعن السقوف الجامعة ومناطات الاشتراك والاتفاق عند جماعة أو أمة ما. وعموما؛ هي مجمل السمات التي تخص عنصرا أو جماعة دون غيرها، والهوية فلسفيا تراكمية فلا توجد هوية الفرد حتى توجد هوية الجماعة والخلفية الجماعية التي يشغل الفرد مخيطا في نسيجها الكبير، ويعبر المنظور الفلسفي عن الهوية على أنها فرصة المطابقة والتشابه والتي تصنع بتظافرها هوية ثقافية لشعب لا يشركه فيها بكل محدداتها شعب آخر وإن اشترك معه ربما في بعضها. وللهوية مكونات أساسية تحدد ملامحها في كل جماعة أو أمة دون غيرها)1، والمشتركات يمكن إجمالها بنوعين من العناصر:

العناصر الثابتة: (اللغة، المكان، الجغرافية، الاقتصاد، التاريخ..)

العناصر المتغيرة: (الدين، المذهب، الثقافة، الوطن، القومية..)

وسبب التمايز ربما يكون نسبيا وضئيلا، لأن التغيير في الفئة الأولى يمكن أن يحدث ولكن بنحو نادر، في حين يطال التغيير –في الغالب- الفئة الثانية، فالصراعات الدينية والمذهبية والسياسة تفضي إلى تحولات في بنية وتكوين الهوية، وهو أحد أبرز تحديات الهوية.

ويمكن تحديد إشكالية الموضوع من نواحٍ عدة:

أولا: صراع الهويات، رغم تداخلها، فالهوية الوطنية يمكن أن تصطدم بالهوية القومية أو الدينية.

ثانيا: مخاوف التبديد، وهو ما يشكل هاجس الهوية المفقودة، وضمور المسمى الثقافي للإنسان، وتلاشي أصالته التي تشير إلى تاريخه وتراثه ومصادر قوته تجاه المجتمعات المباينة.

ثالثا: منعطفات التجديد، وهو ما يطرأ على الهوية من إضافات بنيوية إما بنحو من التراكم التاريخي، او التأثير القسري، وكلاهما محل اختلاف واسع.

يبدأ هذا صراع الهويات من إشكالية تحديد الهوية، وغالبا ما يتم تناول الهوية الوطنية والتي تمثل المحك الحقيقي لصراع الهويات، إذ تتجلى فيها أوجه الصراع بين الدين والعلمانية، وبقية الانتماءات القومية والقبلية، ومدى أولوية كل منها على الآخر، لذلك نجد أن الهوية الوطنية تتبدد وتذوب في الجوانب الدينية أو القبلية أو غيرها من الأطر التي تشكل هوية الإنسان.

في الشرق الأوسط تحول الصراع من صراع ديني قومي، إلى صراع ديني علماني، وكلا النمطين من الصراع يؤثر بنحو بالغ في رسم معالم هوية الإنسان، بين كونه مسلما أو عربيا، أو علمانيا، مما ينعكس على الأوضاع السياسية، ومن الطبيعي أن تلعب السياسة دورا واضحا في ذلك الصراع كما أنها تتأثر به في الوقت نفسه، يتحول صراع الهويات إلى هاجس من المخاوف التي تسكن عقول النخب السياسية والثقافية على حد سواء، وتدفع تلك المخاوف إلى خلق أزمات سياسية على مستوى دولي ومحلي في مختلف البلدان.

وتلك المخاوف تقف حاجزا منيعا أمام أي محاولة للتجديد، فالتطور سنة كونية، تجري على الفرد والمجتمع، وغالبا ما تحدث منعطفات في تشكل هوية الإنسان/المجتمع/ الأمة، وهو ما يمثل فضاءً خصبا للنقاش والحوار الفكري الذي يتحول أحيانا إلى صراعات وحروب باردة.

وقد أثرت العولمة في أواخر القرن العشرين في تعميق المخاوف حول الهوية، فالنموذج الغربي حاول أن يعمم نماذجه الجاهزة في شتى بقاع العالم، نتيجة لتسليمه بأن النموذج الغربي يعد نموذجا نهائيا إلى حد ما، ويمكن تصديره إلى الأمم الأخرى، مما أنتج صراعا جديدا بين الهويات الراسخة والهويات الوافدة، وامتد ذلك في ميادين التفكير في العالم العربي وعلى صلة متينة بسؤال النهضة، وما افرزه من قراءات ومدونات طيلة نص قرن مضى.

من المشكلات الرئيسة في هذا المجال هي ثنائية التحديات، فالتحديات التي تواجه الهوية على صعيدين:

الأول: صراعات داخل الهوية، والمتمثل بصراع العناصر والمكونات، ومحاولات التغليب بين مكون الدين والعرق والقومية والقبلية وغيرها.

الثاني: صراع خارج الهوية، والمتمثل بصراع الوجود، أمام موانع الاستمرار، فالعولمة بددت كثيرا من الخصوصيات، الدينية والثقافية والقومية..، والهوية تختزل خصوصيات بالغة الأهمية لأي أمة، أو مجتمع، والعلمانية من جهة أخرى تحاول فرض هوية أعلى وأشمل، تحت مسمى الإنسان، وهنا يكمن صراع بمسحات واسعة ومتنوعة، فلم تكتف العلمانية مثلا بفصل الدين عن السياسة، كما هو رائج، بل يمكن استحضار كثير من الشواهد على فصل الحياة عن كل الخصوصيات الدينية والثقافية ومحاولة تعميم نماذجها الغربية الجاهزة، كما فصل في ذلك المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري في نقده للعلمانية الغربية.

ومن ناحية أخرى فإن ازدواج النظر إلى الهوية بين كونها وسيلة أو غاية، وعلى كلا الفرضين ثمة إشكاليات متفرعة، فيمكن أن توظف الهوية سياسيا، مما يفضي إلى تبديدها بنحو تدريجي، كما في توظيف العقائد الدينية في الصراعات السياسية التي من شأنها أن تضعف الهوية الدينية، من خلال النتائج العكسية التي يفضي إليها الفعل السياسي من خلال توظيفه السيء للعقائد الدينية.

كما أن الخوض في وسائل شتى لتحقيق الهوية كغاية، يفضي إلى تبديدها أيضا، وهنا ربما لا يسع المجال إلى الخوض في تفاصيل كلا النمطين، لكن المهم هو كيفية تفادي تلك المخاوف، وهو ما يستدعي السعي إلى ضم المشتركات في عنوان جامع تتجلى فيه الهوية والنأي به عن مختلف الصراعات السياسية والثقافية، ولا يتسنى ذلك مالم يتم التعاطي مع الموضوع بنحو من الواقعية، والاعتراف بمساحات التنوع والاختلاف.

إن الوعي السياسي الذي يقود إلى وعي مجتمعي ناضج من شأنه أن يبرز عناصر الهوية بنحو من العقلانية بعيدا عن التطرف المفضي إلى الصراع الذي من شانه أن يعمق فرص التبديد وفقدان الهوية.

تمثل الهوية الجامعة إرثا حضارية أو ثقافيا هاما للأجيال اللاحقة، وهذا يستدعي رؤى استراتيجية من خلال مراكز أبحاث مختصة تسعى إلى تحقيق الأمن الفكري، من خلال رسم معالم لسلم الأوليات في البنى التي تتشكل منها الهوية، ولا يمكن التفريط بأي عنصر من عناصر الهوية مهما تعددت وتنوعت الثقافات والانتماءات، ويتحقق ذلك بأنحاء عدة:

الأول: العمل  والسعي من خلال المبادرات الجادة على مستوى السلطات والمؤسسات العلمية، والبدء بنحو استباقي.

الثاني: الاستفادة  من التجارب، والتراكم التاريخي، الذي تنتجه الأحداث علو مستوى المكاسب والخسائر عبر الزمن، مما يجعل المجتمع بشتى صنوفه مرغما على الاستجابة إلى متطلبات الهوية، وسبل حفظها وتطويرها، عبر استجلاء الخصائص والسمات الأصيلة في المجتمع، واستثمار الجديد مما يفرزه الحاضر من سمات إيجابية ممكن أن يتصف بها المجتمع.

الثالث: كبح جماح التغليب، لأي عنصر على آخر، فلايمكن أن تنحصر الهوية على وفق الانتماء الديني أو القومي أو الطائفي أو القبلي..، ومحاولة الموازنة بين تلك الثنائيات دعما باتجاه الموائمة فيما بنها، وترتيبها طوليا بنحو لا يستدعي التعارض كما لو كان ترتيبها عرضيا، فالانتماء للقبيلة يأتي في طول الانتماء للقومية، والانتماء للقومية يأتي في سياق الانتماء للدين، مما يحقق نوعا من التوازن.

الرابع: تجنب التطرف والغلو، على مستوى الدين أو المذهب، وحتى الانتماءات القومية والثقافية، فالتعصب غالبا ما تكون نتائجه عكسية، في مختلف المجالات.

وثمة مداخل أخرى للموضوع تستدعي بحثا موسعا، وبهذا القدر يمكن أن تشكل هذه الورقة مدخلا أوليا، على أمل أن يتبع بمساحات معرفية أوسع.

***

د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

......................

- ظ: علي محمد الصلابي، الهوية الوطنية ركن من أركان الدولة الحديثة المسلمة، مقال/موقع الجزيرة

 

في جلسة يوم الثلاثاء 31 – 10-2017 جرى التصويت المبدئي على مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 88/1959 بالبديل " مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري " وأرسل إلى مجلس شورى الدولة ثم يرسل إلى مجلس الوزراء لأقراره، وكان تحدياً للرأي العام الشعبي العراقي الرافض لهذا المشروع القابل للجدل وكذلك أعتُبر أهانة للحراك الجماهيري الرافض لمثل هذه المشاريع المأزومة، كقانون الأحوال الشخصية الجديد والذي بمثابتة رصاصة رحمة إلى ماتبقى للحياة المدنية، والعودة للطائفية بجريمة مشرعنة، والظاهر هناك وراء أثارة هذا المشروع الطائفي ثانية الذي رُفض في الطرح السابق جملة وتفصيلاً والأنتخابات قريبة فالجهات الراعية للمشروع الجديد أعتبروها مادة أجتماعية ذات طابع ديني تطرح في الأعلانات الأنتخابية بديماغوجية دعائية سمجة بغية تحويل مسار توجهات الناخبين، وبالمناسبة قد كتبتُ في هذا الموضوع مقالة موسومة (المرأة في أسر العبودية المعاصرة) بتأريخ 8-3-2015 لأهمية هذا الحدث الجلل في حياة المجتمع العراقي.

من عيوب القانون الجديد وتداعياته: أنهُ يمنح رجال الدين في الأوقاف الدينية سلطة مطلقة في التحكم بتزويج الفتيات القاصرات بعمر 9-13 وربما سيتجاوز الأمر وفق هذا التكييف القانوني تزويج فتيات بعمر 7سنوات، حيث ينص القانون في المادة 16 سن البلوغ 9 سنوات هلالية للبنت و15 سنة هلالية للولد (حسب الظرف المناخي المداري للعراق)، ويجبر القانون الزوجة على السكن مع أهل زوجها وهي نكسة لمكتسبات المرأة العراقية التي حصلت عليها قبل نصف قرن بفاتورات سجن وأعتقال وفصل من الوظيفة، فالقانون (نكسة للمرأة العراقية) لأرجاعها لعصر الجواري والجاهلية وحريم السلطان، ولكل فرد يرجع إلى دينه أو مذهبه في تطبيق الأحوال المدنية، وربما تطالب المذاهب الأخرى بقانون أحوال يمثلهم، لذا رأت منظمة هيومن رايتس أن القانون يغذي الطائفية، فالقانون وتكريساً لها، وعند التطبيق يتجاوز السلطة القضائية وهي أضعاف للفصل بين السلطات، وهو أهانة لملف حقوق النسان المنصوص في المواثيق الأممية، ويتعارض مع مباديء الديمقراطية في خرق الدستور في مادته 2 أولاً (ج) التي تنص على أنهُ لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في الدستور العراقي، ويشكل مخالفة صريحة لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1325 المتعلق بتعديل التشريعات التميزية ضد المرأة والذي يؤكد على المساواة بين الجنسين، ثم لم يلتفت إلى مكونات الشعب العراقي ليس فقط من نواحي الطائفة بل هناك ديانات وطوائف أخرى، وبالتالي فهو مسعى آخر لتكريس الأنقسام الأجتماعي في العراق وتعزيز الطائفية و(شرعنتها) بالقانون، وهو أنتهاك خطير لحقوق الأنسان وحقوق المرأة بالذات، والكارثة الكبرى القانون الجديد ألتزم (الصمت) المطبق أزاء جرائم الشرف وختان البنات وتأجير الأرحام للحصول على الأم البديل.

وهي محاولة للألتفاف على قانون رقم 88/ 59 الذي كان عاملا مساعدا على التقارب بين الطوائف المذهبية وجسور تفاهم بين فقهاء تلك المذاهب، والذي يعتبر أهم أنجازات ثورة تموز 1958 على الصعيد الأجتماعي والذي يعتبر من أكثر القوانين عدالة ورقياً وتمدناً في المنطقة، لكون جميع فقراته جاءت مطابقة في المشتركات الفقهية المتفق عليها بينهم، فكان القانون المذكور حقاً ضد التحكم الذكوري، وفك عزلة المرأة وكسر قيودها ومحو ما أدينت بها من تعسف وظلم (قبرك دارك.. واجباتك مربية مرضعة خادمة توفري الحق الشرعي للرجل في المتعة الجنسية)، وجمع القانون 88/59 أهم الأحكام الشرعية المتفق عليها في الزواج والطلاق والأرث والتبني، فأعطى الحق لكلا الزوجين في طلب التفريق عند أستحالة العيش معاً.

أخيرا / .. أن مجتمعاتنا بحاجة إلى تحرك سوسيولوجي جمعي لأزاحة الرواسب القبلية ومحو الذكورية السائدة واللحاق بالأمم المتقدمة في عالم العصرنة الحداثوية المتسارع، وتقع مسؤولية التصدي لمثل هذه القمبلة الصوتية العدوانية البغيضة على عاتق الشعب العراقي من اليساريين والديمقراطيين ومنظمات حقوق الأنسان والمجتمع المدني في تثقيف وتنوير المجتمع العراقي بسلبيات وتداعيات هذا القانون المجحف والمستلب لشرائح المجتمع العراقي بالخصوص حقوق المرأة والطفل في العراق.

***

عبد الجبار نوري

كاتب عراقي مقيم في السويد

أكتوبر - 2017

 

هل توفر الأعمال الفنية التي تتنبأ بالمستقبل فكرة عن طبيعة الإبداع؟

بقلم: إريك وارجو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كان فيكتور براونر رسامًا رومانياً عاش في باريس في ذروة السريالية. خلال أوائل ومنتصف ثلاثينيات القرن العشرين، أصبح مهووسًا بموضوع العمى، ورسم عدة صور حيث كانت إحدى عينيه عمياء أو مخوزقة، بدءًا من صورة شخصية عام 1930 بعين منزوعة النواة. بعد ثماني سنوات من رسم هذه الصورة الذاتية الشبحية والغريبة، توسط براونر لفض شجار بين زميلين من الرسامين، أوسكار دومينجيز وإستيبان فرانسيس. ألقى دومينجيز كأسًا على فرانسيس لكنه أخطأ، وضرب براونر في عينه اليسرى بدلاً من ذلك، مما تركه أعمى في تلك العين بقية حياته. وغني عن القول إنها كانت نقطة تحول كبيرة، بل وكارثية، في حياة هذا الفنان ومسيرته المهنية، والتي تنبأ بها "بشكل غريب" في أعماله على مدار ما يقرب من عقد من الزمن.

وكان هناك شيء مماثل صحيح، بل وأكثر مأساوية، بالنسبة للنحات الأمريكي من أصل جامايكي مايكل رولاندو ريتشاردز. في السنوات التي سبقت الألفية، ابتكر ريتشاردز مجموعة رائعة من الأعمال باستخدام زخارف الطائرات التي تتحطم وتتصادم والأشخاص الذين يسقطون من السماء. عبّرت أعماله عن الإحباطات التي عاشها كفنان أسود مكافح في عالم الفن في نيويورك الذي يهيمن عليه البيض. أشهر أعماله هي صورة ذاتية منحوتة عام 1999 تسمى Tar Baby vs. St. Sebastian (أدناه): جسده الذهبي البرونزي، في بدلة الطيران الخاصة بطيار توسكيجي، يقف منتصبًا ويرتفع عن الأرض، وجذعه مخوزقة من قبل العديد من الطائرات. إنه تمثال مذهل حتى لو كنت لا تعلم أن الفنان قُتل في الاستوديو الخاص به في الطابق 92 من البرج الأول في 11 سبتمبر - استشهد حرفيًا بالطائرات، إلى جانب 2800 شخص آخر كانوا قد بدأوا يوم عملهم في مركز التجارة العالمي فى ذلك اليوم.108 art

"قطران بيبي ضد سانت سيباستيان" - للنحات مايكل ريتشاردز. مجموعة من متحف نورث كارولينا للفنون.

يدرك العديد من محبي المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي أن تحفة الخيال العلمي التي قدمها عام 1979 بعنوان "المطارد" أنذرت بشكل غريب بكارثة تشيرنوبيل التي أخلت المنطقة المحيطة ببريبيات في أوكرانيا السوفيتية بعد 7 سنوات. يدور الفيلم حول رحلة محفوفة بالمخاطر إلى منطقة مدمرة نشأت في وقت ما في الماضي بسبب "انهيار في المخبأ الرابع" غير محدد. بدأت كارثة تشيرنوبيل بانهيار المفاعل رقم أربعة في محطة توليد الكهرباء، وأنتجت "منطقة الحظر" التي أصبحت تبدو تمامًا مثل المناظر الطبيعية المدمرة في إستونيا حيث تم إطلاق النار على ستوكر. "الملاحقون" الشباب، على غرار الحارس في فيلم تاركوفسكي، يقودون الآن العملاء الذين يدفعون إلى المنطقة المشعة حول بريبيات من أجل الإثارة.

ما هو أقل شهرة هو أن تصوير اللقطات الخارجية لـ Stalker في اتجاه مجرى النهر من مصنع كيميائي أدى إلى الوفاة المبكرة لنجم تاركوفسكي أناتولي سولونيتسين بسرطان الرئة في عام 1982 (كان عمره 47 عامًا فقط)، وبعد ذلك بعامين، في وفاة تاركوفسكي نفسه. من نفس سرطان الرئة الذي لا يمكن تفسيره (لم يكن مدخنًا). يحتوي Stalker على نبوءات غريبة عن هذه المأساة المزدوجة، بما في ذلك قصة عن مطارد رئيسي يُدعى "Porcupine" قاد شقيقه إلى وفاته في المنطقة ثم قتل نفسه بسبب الشعور بالذنب. تنذر أفلام المخرج الغامض الأخرى بالمأساة أيضًا. تم تصور فيلمه الأخير، "التضحية"، في الأصل (قبل وقت طويل من مرض سولونيتسين، ناهيك عن مرضه) كقصة عن فنان يحاول بطريقة سحرية إنقاذ حياته بعد تشخيص إصابته بالسرطان في مراحله النهائية. (في النسخة النهائية، غيّر تاركوفسكي التهديد الوجودي الذي يمثله هرمجدون النووي).

معظم الأمثلة على هذا النوع تأتي من الكتاب، وذلك بفضل ميلهم إلى ترك أثر ورقي كثيف لحياتهم مع أعمالهم. كتب فيليب ك. ديك العديد من القصص والروايات التي توقعت الميمات الثقافية في المستقبل القريب، أو نقاط تحول فريدة في حياته الخاصة، أو مجرد مقالات حول موضوعات مقصورة على فئة معينة كان سيقرأها قريبًا في المجلات. على سبيل المثال، في عام 1962 كتب رواية عن المهندسين ورجال الأعمال الذين قاموا ببناء الروبوت أبراهام لينكولن؛ لم يكن أي ناشر مهتمًا، ولكن بعد عامين كشفت ديزني، وسط ضجة كبيرة، عن فيلمها الكرتوني أبراهام لنكولن. حدث هذا النوع من الأشياء كثيرًا في حياة ديك لدرجة أنه أصبح يعتقد أنه كان "متخيلًا" مباشرة من قصته الكلاسيكية المبكرة "تقرير الأقلية" التي تدور حول وحدة شرطة مثيرة للجدل تستخدم الوسطاء للكشف عن الجرائم ومنعها قبل حدوثها.

أشهر مثال على النبوءة الأدبية المزعومة هو رواية مورجان روبرتسون "العبث" الصادرة عام 1898، والتي تتحدث عن أكبر سفينة محيطية تم بناؤها على الإطلاق، تيتان، التي اصطدمت بجبل جليدي في إحدى ليالي أبريل في شمال المحيط الأطلسي، حيث يموت معظم الركاب بسبب عدم توفر سوى عدد قليل جدًا من قوارب النجاة. كما واجهت سفينة تايتانيك المتطابقة تقريبًا نفس المصير بعد 14 عامًا في إحدى ليالي شهر أبريل. لكن من الشائع في الروايات التنبؤ بالكارثة. إذا كنت كبيرًا في السن، فقد تتذكر أيضًا الضجة الإعلامية القصيرة التي أحاطت برواية دون ديليلو "الضوضاء البيضاء" لعام 1985، حول "حدث سام محمول جواً" أدى إلى إخلاء مدينة جامعية. قبل شهر واحد فقط من نشرها (على الرغم من أنه بعد بضعة أشهر من كتابة الرواية)، وقع حادث في مصنع يونيون كاربايد في بوبال، الهند، وأطلق سحابة سامة أدت إلى مقتل 8000 شخص - ولا يزال أكبر حادث صناعي على الإطلاق (أكبر حتى من حادث تشيرنوبيل).

ربما يكون من الأسهل تجاهل أو رفض مثل هذه المصادفات الظاهرة عندما تأتي من خيال علمي منخفض المستوى (ديك وروبرتسون) أو حتى من موجة ما بعد الحداثة (ديليلو) ولكن ماذا يحدث عندما يحدث هذا للكتاب الحقيقيين، أي "العظماء"؟

لا أجد فكرة مقنعة جدًا بأن فرانز كافكا تنبأ بالصعود النهائي للشمولية والمحرقة في رواياته مثل المحاكمة - وأنا أتفق مع معظم كتاب السيرة الذاتية في اعتقادهم أنه كان يصف حقًا سخافات دولة المراقبة البيروقراطية التي عاش فيها بالفعل، إمبراطورية هابسبورج في سنواتها الأخيرة. لكن كاتب براغ كان معتادًا على كتابة مستقبله في رواياته. على سبيل المثال، يصور مشهد الذروة في قصته الملهمة "الحكم" بدقة خارقة مواجهة حقيقية مع والده بعد عدة سنوات، بعد أن تقدم بسرعة كبيرة لخطبة فتاة يهودية تشيكية من الطبقة الدنيا (جولي ووريزيك) لم يوافق والداه عليها.

مما لا شك فيه أنه بسبب ذلك الأب النرجسي المسيء، كانت لدى كافكا علاقة فكرية قوية بين الحب والكراهية مع أفكار فرويد التي حظيت بشعبية كبيرة آنذاك، كما كتب أيضًا قصصًا بدت وكأنها "تسرق" كتابات المحلل النفسي الفييني التي لم تُنشر بعد. وفي أكثر من قصة من قصصه – "المسخ" و"فنان الجوع" – وصف كافكا أبطال الرواية يموتون جوعا، وهو بالضبط كيف مات هو نفسه في نهاية المطاف في مصحة نمساوية في عام 1924: مرض السل الذي تم تشخيص إصابته به في عام 1917. وعادة ما يؤثر بشكل رئيسي على الرئتين ويؤدي إلى وفاة غير مؤلمة نسبيا، لكن العدوى انتشرت بشكل غير متوقع إلى حلقه في أشهره الأخيرة. لقد كان يتضور جوعا حتى الموت في اليوم الأخير من حياته، لقد كان يتضور جوعا حتى الموت في اليوم الأخير من حياته، بينما كان يصحح بروفات "فنان الجوع"، وكان يبكي من السخرية الحزينة المستحيلة للحقيقة.

حدث هذا النوع من الأشياء لفيرجينيا وولف الإنجليزية المعاصرة لكافكا أيضًا. على سبيل المثال، أمضت صيف عام 1922 في كتابة وصقل قصة قصيرة بعنوان " السّيدة. دالواي في شارع بوند" حول نسخة خيالية لصديقة عائلة من المجتمع الراقي تُدعى كيتي ماكس، والتي لم ترها منذ سنوات.. كانت وولف منشغلة جدًا بهذه الشخصية لدرجة أنها قررت فور الانتهاء من القصة تحويلها إلى رواية. فكرت في البداية في تسميتها "الساعات"، وكانت فكرتها هي أن شخصية ماكسي، كلاريسا دالواي، إما أن تنتحر في النهاية أو تعلم بحدوث انتحار لشخص آخر. في نفس اليوم الذي بدأت فيه وولف صياغة الفصل الثاني مما أصبح في النهاية واحدة من روائعها، ماتت السيدة دالواي، السيدة دالواي الحقيقية، كيتي ماكس، بعد سقوطها على درابزين منزلها والذي كان على الأرجح متعمدًا. كتبت وولف في مذكراتها كيف أصيبت بنوع من الشلل الذهول عندما قرأت هذه المصادفة المأساوية التي لا تصدق.

عادة ما يتم رفض الادعاء بأن الفنانين والكتاب يتنبئون في بعض الأحيان بحجة أن الناس سيئون للغاية في تقييم الاحتمالات – في عالم أكبر (بما في ذلك عالم الفن والأدب الأكبر)، تحدث المصادفات، وهي تبرز من بين مجموعة الأشياء هذه ليست من قبيل الصدفة. ومع ذلك، كما أحاول أن أبين في كتابي الجديد من لا مكان، فإن الوجود المطلق لأمثلة هذه الظاهرة يقوض "قانون الأعداد الكبيرة" الذي وضعه الإحصائيون. تمامًا كما تمت كتابة الكتب بالكامل بناءً على إدراك ديك المسبق، فقد تم تأليف كتب تجمع العديد والعديد من النبوءات الغريبة عن أحداث 11 سبتمبر وكارثة تيتانيك. تلقى مئات أو آلاف الأشخاص هذه الأخبار الوشيكة وقاموا على ما يبدو بدمجها في فنهم (ناهيك عن أحلامهم) قبل أشهر وسنوات. وكان من المفترض أن تكون تلك "الأعداد الكبيرة" في المقام، ولكن عندما تم النظر في الموضوع بموضوعية، تبين أنها موجودة بالفعل في البسط.

الواحد فى المئة:

كتابي الذي اشتريته مؤخرًا هو "العمل الفني" لآدم موس، وهو عبارة عن مجموعة سميكة ومصممة بشكل جميل من المقابلات مع فنانين حول عمليتهم الإبداعية، مكتملة بالرسومات التخطيطية والدفاتر والشطب والكلمات المحذوفة. إنه يخدش أقدم حكة فكرية وجمالية. أحب دفاتر ملاحظات الكتّاب ورسومات الفنانين أكثر بكثير من المنتج النهائي. أنا من النوع الذي يلتهم السير الذاتية للروائيين حتى لو لم أقرأ حتى رواياتهم. بطريقة ما، يعد كتاب موس بمثابة احتفال بـ "العرق" الذي ادعى توماس إديسون أنه الجزء الأكبر (99 بالمائة) من العبقرية - كل عملية صنع النقانق التي تقف بين البذرة الأولية لفكرة والمنتج النهائي في نهاية المطاف. الأشياء التي يحاول الفنانون عادةً إخفاءها. العنوان الفرعي هو "كيف يأتي شيء من لا شيء".

يبدأ المحرر السابق لمجلة نيويورك ومجلة نيويورك تايمز، موس كتابه بالاعتراف بمرح بنهجه "العلماني" في الإبداع، متجنبًا الأعمال المغرية والغامضة للإلهام، ذلك الجزء الآخر الذي يمثل 1 %.يقول: "الفكر عندما بدأت بالتساؤل عما إذا كان بإمكاني تجريد الإبداع من رومانسيته وتقسيمه إلى أجزاء منفصلة وملموسة، هل يمكن أن يساعدني ذلك (ويساعدك) في رؤية الفن كمنتج عمل، أو عملية عقلية منظمة؟ » عنوان موس، العمل الفني، له معنى مزدوج.

إنه على حق إلى حد ما: من المفيد، خاصة بالنسبة لشخص يتعلم حرفة ما لأول مرة، أن يرى كيف يحول المبدعون الآخرون الأكثر رسوخًا أفكارهم إلى واقع ملموس.* ولكن إذا شعر موس أنه يحاول أن يكون جديدًا أو أصليا بتأليف كتاب عن الإبداع الذي يتجاوز الإلهام، فلدي أخبار سيئة له. الفكرة الكبيرة لدى كل من يكتب عن الإبداع تقريبًا - حرفيًا، على مدى القرنين الماضيين - هي أن الأمر كله يتعلق بالعرق والعمل. من حسن الحظ أن  قراءة أي كتاب عن علم الإبداع لا يختزل الإلهام إلى قصص بيولوجية عصبية حول كيفية تجديد الدماغ لنفسه. من حسن الحظ أن قراءة سيرة فنان عظيم لا تخفف من أوصاف لحظاته الملهمة، وبدلاً من ذلك تسلط الضوء على جميع الطرق التي كانت فريدة من نوعها حقًا (أي تتبع تأثيراته، والكثير من الأعمال التي تعرضت لانتقادات)، وتحد من خياله الإبداعي. لدوافع غير واعية، أو يركز على سياقاتهم وارتباطاتهم الاجتماعية. الإلهام، وخاصة الإلهي أو ما وراء الفراغ، لا يتناسب مع إحداثيات علم التنوير أو علم النفس أو التفكير الأكاديمي الجاد.

هذه نظرة مشوهة لأعظم هدية للبشرية. إنها تعكس، في الواقع، بالضبط التحيز الذي يهيمن على الأكاديمية ما بعد الحداثة، والذي يلخصه صديقي جيفري ج. كريبال بقول: "يجب أن تكون الحقيقة محبطة". كريبال يشغل كرسي ج. نيوتن ريزور في الفلسفة والفكر الديني في جامعة رايس، وهو مؤلف لعدة كتب حول ما يسميه "المستحيل" - أي التجارب الصوفية والظواهر الخارقة للطبيعة التي غالبًا ما تُوصم والتي تقف في قلب التقاليد الدينية والتيارات الثقافية الأخرى. في كتبه الحديثة مثل "العلوم الإنسانية الخارقة"، يتصور كريبال أكاديمية متجددة تأخذ التجارب المستحيلة كحقائق حقيقية للحياة الفردية والاجتماعية.

أعتقد أن الإلهام الإبداعي هو واحدة من تلك التجارب المستحيلة. تشير تلك القصص عن النبوءات المذهلة الناشئة عن اللحظات الملهمة للفنانين إلى شيء أكثر إثارة للاهتمام وعمقًا حول الإبداع مما تريدنا معظم الكتابات حول هذا الموضوع أن نصدقه.

سهام الزمن

أتابع الكثير من الكتاب والفنانين والموسيقيين الأقل شهرة على تويتر، ويبدو أنه في كل يوم، يعلق بعض الأشخاص المبدعين في مدونتي حول بعض الطرق المفاجئة التي يكتبون بها أو شيء تم إنشاؤه يتنبأ بأخبار في وقت ما أو بعض التحولات غير المتوقعة في حياتهم الخاصة. منذ أن بدأت البحث في الإدراك المسبق والأحلام التنبؤية منذ أكثر من عقد، تلقيت أيضًا العديد من الرسائل الإلكترونية من الفنانين والكتاب يشاركون قصصًا مشابهة.

في السنة الأخيرة من المدرسة الابتدائية الإنجليزية في عام 1984، على سبيل المثال، طلب معلم كيفن آرتشر من الطلاب كتابة قصة من وجهة نظر سلف خيالي، في فترة تاريخية معينة. كان كيفن دائمًا فضوليًا بشأن أصول لقبه، آرتشر، لذلك كتب عن كونه جنديًا خياليًا في العصور الوسطى. أقتبس من منشور حديث على مدونته:

"كتبت بإسهاب عن معداتي، بما في ذلك سيفي وقوسي وسهامي. كنت أصف بتفصيل شعري غير المغسول، وجلدي المتسخ، وملابسي المهترئة، وكشفت عن العواطف العميقة التي عذبت محاربًا متعبًا ولكنه صامد. رويت أنني قاتلت بشجاعة، وشرحت التكتيكات التي ساعدتنا على الفوز في المعركة ضد جيش أكبر بكثير. اختتمت القصة بالقول إنه كان نتيجة مذهلة وغير متوقعة لدرجة أن الملك هنأني شخصيًا على مهاراتي القتالية؛ ابتسم، وربت على قوسي، وأمرني بتبني لقب 'آرتشر' تكريمًا لهذا الانتصار."

يتذكر كيفن أن معلمه كان معجبًا جدًا بالواقعية الحية لقصته لدرجة أنه التقى بوالدي كيفن واقترح عليهما أن كيفن من المحتمل أن يتجه إلى دراسة التاريخ أو أن يصبح كاتبًا..

وبعد مرور أربعين عامًا، حتى يومنا هذا: أصبح كيفين كاتبا وكذلك رسامًا وأبًا. وبدأت ابنته الصغيرة تتساءل عن تراثها. أثارت فضول ابنته كيفن ليبدأ البحث على موقع للأنساب. (من الواضح أن هذه المواقع لم تكن موجودة في عام 1984. وسرعان ما تواصل كيفن مع قريب بعيد كان قد جمع معلومات مفصلة عن شجرة عائلة آرتشر تعود إلى أوائل القرن الخامس عشر، وتحديدًا إلى معركة أجينكور الشهيرة. في يوم القديس كريسبين، عام 1415، حقق الجيش الإنجليزي الذي كان يفوقه عددًا كبيرًا الجيش الفرنسي نصرًا مستحيلاً تحت قيادة هنري الخامس، وذلك بفضل الرماة المتفوقين. (قد تتذكر الخطاب الحماسي الذي وضعه شكسبير على لسان الملك قبل هذه المعركة: "نحن القليلون، نحن القليلون السعداء، نحن الفرقة من الإخوة"، وما إلى ذلك.)

الإدخال الأول في جدول البيانات الشامل الذي أرسله إليه قريب كيفن في علم الأنساب كان اسمه سيمون دي بويز. قيل إن هذا الرجل كان أحد رماة السهام في جيش هنري الخامس الذين ضمنوا النصر الإنجليزي رغم الصعوبات الطويلة. وإليك ما أذهل كيفن عندما قرأ خلية جدول البيانات على دي بويز: قيل إنه بعد المعركة، منحه الملك معاشًا سنويًا مثيرًا للإعجاب قدره خمسة ماركات بشرط واحد: أن يغير لقبه إلى آرتشر. لقد كانت في الأساس القصة التي كتبها كيفن على شكل قصة خيالية، عندما كان في العاشرة من عمره، لمهمة مدرسية.

كيف كان هذا ممكنا؟ هل كانت ذكريات كيفن عن اختراع القصة من العدم خاطئة؟ هل ربما سمع، في ذلك الوقت، نسخة ما من هذه الخلفية الدرامية لأسلافه، وأعاد إنتاجها في قصته، ثم نسيها ببساطة؟ فعل كيفن ما كان سيفعله أي شخص يشكك في هذه المصادفة الغريبة: اتصل بوالديه وسألهما عما إذا كانا يعرفان حقًا أيًا من هذه القصة عن اسم آرتشر عندما كان طفلاً وربما أخبراه به. لم يفعلا ذلك - فما أخبرهما به الآن عن سيمون دي بويز وهنري الخامس ومعركة أجينكور كان بمثابة خبر جديد بالنسبة لهما كما كان بالنسبة له.**

حقيقة الإدراك المسبق

على الرغم من أن كيفين كان مندهشًا وسعيدًا لأن نفسه وهو في العاشرة من عمره قد اكتشف بطريقة ما اكتشافًا حقيقيًا حول تراثه بعد أربعين عامًا، إلا أن الأمر لم يكن بمثابة صدمة كاملة. كان حالمًا متعطشًا ومسجلًا للأحلام، وقد شهد العديد من الأحلام المذهلة على مدار حياته البالغة والتي أنذرت بحدوث غير متوقع في مستقبله. وقد شاركني بعضًا منها خلال بحثي حول موضوع الأحلام الإدراكية منذ عدة سنوات. لقد أدرجت واحدًا منها (تحت اسم مستعار) في كتاب حول هذا الموضوع - حلم دقيق مستحيل عن الظروف المحيطة بفوز اليانصيب والذي حدث في الواقع لأحد أقارب كيفن المقربين بعد وقت قصير من تحقيق الحلم.

كما زعمت قبل عدة سنوات في كتابي الأول "الحلقات الزمنية"، فإن التدرب على التراجعات المتشككة المتمثلة في الوهم، والتفكير بالتمني، والاستدلال الاحتمالي الضعيف لم يعد يمثل موقفاً صادقاً أو مستنيراً بشأن مثل هذه التجارب. إن جبال الأدلة المختبرية على مدار الجزء الأكبر من قرن من الزمان تدعم حقيقة الإدراك المسبق. التحليل التلوي للبيانات يضع النتائج في مجال الأهمية "الفلكية". ولكن نظرًا لأن الفيزيائيين لم يتحققوا بعد من صحة فكرة الأسباب أو المعلومات التي تنتشر في الاتجاه العكسي الزمني، فقد تم رفض الأدلة باعتبارها مستحيلة. ليس بسبب وجود مؤامرة لقمع واقعنا النفسي؛ ذلك لأن جميع العلوم، بما في ذلك علم النفس، تستمد زمام المبادرة من الفيزياء، ولم يتوصل الفيزيائيون بعد إلى إجماع حول إمكانية تأثير الأحداث المستقبلية على الماضي.

قد يكون هذا على وشك التغيير، إذ يعتقد عدد متزايد من الفيزيائيين أن ما اعتبره المجال بشكل خاطئ على أنه عشوائية هو في الواقع أسباب تنتقل عكسيًا عبر الزمن، من المستقبل إلى الماضي. الجزء غير القابل للتنبؤ من سلوك الإلكترون يتعلق بالتفاعل التالي الذي سيحدث له؛ وبطريقة أخرى، يمكن القول إن قياس الفيزيائي للإلكترون هو في الواقع ما يتسبب في بعض سلوك الجسيم السابق. هيو برايس (جامعة كامبريدج) وكين وارتون (جامعة ولاية سان خوسيه) يجادلان بأن السببية العكسية توفر حلاً أنيقًا (وبسيطًا) للعديد من الألغاز الكمومية الأخرى مثل التشابك. إن التفكير بهذه المصطلحات يسبب لنا صداعًا (حتى للعديد من الفيزيائيين)، ولكننا سنحتاج فقط إلى زجاجة أكبر من الأسبرين.

قد تؤدي الإعدادات الخاصة التي تتشابك فيها جسيمات متعددة (أو تعمل في انسجام تام) إلى زيادة هذا التأثير الرجعي على أصغر المقاييس وجعله متماسكًا وقابلاً للاستخدام. قد تكون أجهزة الكمبيوتر الكمومية بمثابة "كاشفات مستقبلية" أو أجهزة اتصال بين المستخدمين المستقبليين والسابقين - وهو الاحتمال الذي تخيله ويليام جيبسون في روايته "المحيط".ويشير عمل ستيوارت هاميروف والعديد من زملائه إلى الهياكل الجزيئية في الخلايا العصبية التي تسمى الأنابيب الدقيقة باعتبارها أجهزة كمبيوتر كمومية بيولوجية فعلية. يعمل هاميروف مع الفيزيائي روجر بنروز الحائز على جائزة نوبل على إيجاد حل للوعي يتضمن الأنابيب الدقيقة. وسواء أكانت نظريتهم ستنجح كما يأملون، فمن المرجح أن يكون التأثير الجانبي الصدفي لبحثهم عن الوعي هو صورة نهائية لكيفية استجابة الخلايا العصبية مسبقًا لحالاتها المستقبلية - الأساسيات الخلوية للإدراك المسبق.

باختصار، أعتقد أننا جميعًا نتلقى إشارات غير واضحة وضبابية من أنفسنا المستقبلية عندما نقوم بالإبداع، تمامًا كما يصر الفولكلور على أننا نفعل ذلك عندما ننام. سواء كان طفلًا يبلغ من العمر 10 سنوات ينذر بتجربة تعليمية مستقبلية في مهمة مدرسية عشوائية، أو رسامًا رائدًا يصور إصابة غيرت حياته في لوحاته، أو عبقري أدب معترف به يتنبأ بطريقة ما بطريقة وفاته، فإن الإبداع يبدو أن الناس في كثير من الأحيان يعملون كأجهزة قياس الزلازل للزلازل المقبلة.

حتى موس يعترف بأن تجربة الإلهام هي تجربة حقيقية، وقد وصفها عدد لا يحصى من المبدعين على مر القرون، وخاصة في عصرنا هذا، بأنها شيء غامض أو خارق للطبيعة، شيء لا يمكن تفسيره مثل رؤية شبح أو جسم غامض. . لذلك لا أعتقد أنه يكفي، وليس من الصدق، تحويل هذه التجربة إلى وهم، أو التظاهر بطريقة أو بأخرى بأنها في العرق (أو تلك القصص العصبية الحيوية) حيث تكمن أهم الإجابات على لغز الإبداع. هذا هو الحال بشكل خاص عندما تؤدي تجارب الإلهام هذه إلى نبوءة مستحيلة عن المستقبل.

أنا متحمس للمستقبل حيث لم يعد الفن يقتصر على العمل، حيث تؤخذ النبوءة الإبداعية على محمل الجد، وحيث ترسم أقسام العلوم الإنسانية الفائقة تيارات وأنهار التأثير المستقبلي الذي يشكل الفنون (والعلوم) الحالية. إن سهم الزمن، كما قال كيفن آرتشر في مدونته، سوف ينكسر أخيرًا.

***

............................

ملحوظتان:

* لا أعرف أين قرأت هذا، منذ فترة طويلة - ربما كان ذلك في شيء كتبه جون جاردنر عن الكتابة الروائية - لكن معرفة أن همنغواي كان يشحذ ستة أقلام رصاص بشكل طقسي قبل الجلوس للكتابة كل صباح قد لا يعطي رؤية قيمة للعملية. الكتابة، لكنها تجعل حياة الكتابة حقيقية. من خلال طابعها الملموس الدنيوي، فهي تساعد الكاتب الطموح على معرفة أنه من الممكن أن يكون كاتبًا. الفنان هو إنسان عادي يجلس على مكتب (أو على حامل، أو أي شيء آخر) ويعمل

** قد يقترح بعض الأشخاص المنفتحين على الخوارق بدلاً من ذلك أن كيفن كان في الواقع سيمون دي بويز في حياة سابقة، وأن كيفن الشاب كان "يتذكر" حقًا حياته كرامي قوس في أجينكورت. ولكن عندما تعمق كيفن في قصة سيمون دي بويز، اكتشف شيئًا آخر مثيرًا للاهتمام، والذي بدد مثل هذا الاحتمال بشكل فعال: ما سجله ابن عمه في علم الأنساب في جدول البيانات المذهل هذا لم يكن صحيحًا في الواقع. لقد حدث تغيير الاسم إلى آرتشر قبل عقود من معركة أجينكورت - لذا فإن قصة أصول لقب آرتشر كانت عبارة عن تقاليد أو صناعة أساطير، وليست تاريخًا حقيقيًا. إذا لم نعزو الأمر برمته إلى "مجرد صدفة" أو ربما إلى ذاكرة زائفة من جانب كيفن (وعائلته)، فمن المرجح أن كيفن البالغ من العمر 10 سنوات كان يتعرف مسبقًا على شيء ملفت للنظر قرأه بعد عقود، في سن الخمسين.

الكاتب: إريك وارجو / Eric Wargo حاصل على درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة إيموري ويعمل كاتبًا ومحررًا متخصصًا في العلوم في واشنطن العاصمة، وهو مؤلف ثلاثة كتب: "الحلقات الزمنية"، و"الحلم المسبق"، و"الذات الطويلة"، ومؤخرًا كتاب "من لا مكان". يكتب وارجو في أوقات فراغه عن الخيال العلمي والوعي وعلم التخاطر في مدونته الشهيرة The Nightshirt

الفن كالفلسفة كلاهما ثورة على كل ما هو تافه وسطحي في الحياة ذلك ان الفن في جوهره ثورة مرتكزها الأول إرادة الفنان، إرادة حرة فاعلة ومبدعة تستهدف التحرر من عبودية المادة واكراهات الواقع في سطحيته وابتذاله، تجربة ذوقية تتغذى على الخيال الذي يشن غاراته على الواقع ليس فقط من اجل اعادة تجميله او تغييره بل من اجل تحرير الانسان، أوليس هدف كل ثورة حقيقية هو الحرية التي هي ميراثها وكنزها المفقود.

الفن في ظاهره مرآة عاكسة لتجربة إنسانية تنطلق من الذات المبدعة لترتمي في أحضان الغيرية تستهدف الاحتفال بالحياة والتأسيس لثقافة العيش المشترك ثقافة يصبح فيها الفن دالا والجميل مدلولا لأجل ذلك عشق الانسان الفن وتجددت عبر التاريخ مدارسه ولأجل ذلك كان محكوما على كل عمل فني لا يستهدف تحرير الانسان بأنه عديم الجدوى ويفتقر الى البعد الجمالي واستقراء تاريخ الفن واعمال كبار الفنانين العظماء شاهد على ذلك ومنهم ناصر الدين ديني الذي كان رجلا متحررا ثائرا ورسولا للسلام والحرية وفنانا عاشقا للجمال. امتلك روحا سخية وشجاعة، بارعة وطفولية، شهوانية وعفيفة، رقيقة وروحية، وفي نفس الوقت عنيفة ورهيبة.

قضى ناصر الدين ديني- المولود بـ "باريس" بتاريخ 28 مارس 1861-  ثماني سنوات في الدراسة بعد بلوغه العاشرة من عمره ليتخرج سنة 1879 من ثانوية "هنري الرابع" متحصلا على شهادة البكالوريا."  السنوات الثماني التي قضاها في الثانوية كانت الأسوأ في حياته، لأنه شعر بإبعاده من حضنه الطبيعي ولمعرفته بتفكير والده المسبق الذي يريد منه أن يكون رجل قانون او سياسة. قضى تلك السنوات في جو کدر ومزاج متعكر ورتابة طوال اليوم ولا ينتشله من قوقعته الا تلك الزيارات العائلية التي كانت تقوم بها والدته رفقة اخته وتتذكر اخته كيف كان يستقبلهم ببرودة وجفاء، لا يتجاوب معهم في الحديث ولا يسترسل ولا يتكلم الا حينما يسأل من طرفهما بإجابات مقتضبة، واعتقدت أخته أن زيارتهم له لم تفده كثيرا على مستوى توازنه النفسي."

دخل دينيه عالم الفنون الجميلة سنة 1879، وكانت بدايته الأولى في ورشة "جالان"، حيث درس باهتمام كبير مادة التشريح وكثيرا من المعارف الأساسية، لكن ما لبثت هذه المدرسة أن أغلقت أبوابها بعد سنة من التحاقه بها، مما اضطره إلى الالتحاق بأكاديمية "جوليان" الحديثة العهد، حيث مكث فيها أربع سنوات، وقد استفاد أيما استفادة من التكوين النوعي، والمتين الذي كانت توفره هذه المدرسة لطلبتها.حيث أنجز مبكرا، وتحديدا سنة 1881 لوحته الأولى الموسومة بـ "الأم كلونيد " التي تصور فلاحة فرنسية بلباسها الريفي التقليدي، وهي على ضفاف نهر السين"، عدت لوحة الأم كلوتيد " بمثابة شهادة ميلاد الفنان "ديني"، الذي تشجع بعد ذلك، ورسم لوحتين دخل بفضلهما عالم الشهرة، والتألق؛ وهما: "صخرة صامو"، و"القديس جوليان الكريم".

سافر ناصر الدين ديني لأول مرة إلى الجزائر سنة 1884 ضمن بعثة إيكولوجية. وقد أتاحت له التعرف عن كثب إلى عوالم جديدة لم يألفهـا من قبل: عالم الأضواء الخلابة والظلال الصامتة التي تعكسها الصحراء برمالها وواحاتها وسرابها وعالم الألوان الجذابة التي تنبض بها الطبيعة في الجزائر، ومـا يحفـل بـه عـالم الجزائريين من الأفراح والأحزان والعادات والتقاليد ومشاغل الحياة ومظاهر الإيمان الروحي العميق، الذي يطبع حياتهم بالبساطة والمودة والتسامح وسمو الأخلاق. والذي يعبرون عنه بطقوس وعبادات بسيطة، تصلهم مباشرة مع الله.

تأثر ناصر الدين ديني إلى حد بعيد بالوجودية الصوفية، ففي رحلته إلى حافة الصحراء كانت رحلته إلى حواف الروح، في بحثه عن حياة دينية تستجيب لمتطلباته الروحية. من أجل اعتناق حياة جمالية فنية روحية أبسط وأرحب، حياة خلاقة عاشقة للجمال. تخرجه من بؤرة الضجيج والهيجان السائدين في كبريات المدن الغربية. وهذا ليس مفاجئًا جدًا، لأن دينيه انتهى به الأمر إلى أن يجسد في نفسه الروح العربية بأكملها، هذه الروح بسيطة جدًا ومعقدة جدًا، وغامضة، وتبدو بالنسبة لنا، غير قابلة للاختراق.

اضطرت الظروف ناصر الدين ديني إلى زيارة مصر في شتاء سنة 1897م، بهدف البحث عن شيء جديد في عاصمة الثري تثير احساسه وتلهم فرحته لكنه عاد منها بخيبة أمل كبيراً ووجدها دون تطلعاته وأقل جمالا من مشاهد الجزائر وعبر عن ذلك في رسائله لأخته بعد عودته من مصر :" كانت خيبة املي واضحة وسخطت على نفسي من غيابي في مصر التي لم أحضر منها الا بعض اللوحات والدراسات ليس لها أي معنى.."   في رسالة الى صديقه Léonce Bénédite  بتاريخ01-08-1897 اخبره ان رسالته قد اخرجته قليلا من دائر اليأس وسمى سفر إلى مصر هربا اذ كان يعتقد انه يجد في مصر بشكل طبيعي واصلي مشاهد ومناظر لمجتمع مسلم، غير أن طموحه في مصر عاد بالخيبة، وقارن ذلك بما هو موجود بالجزائر، فمصر قد دخلت عليها مظاهر التطور مما اخفى كثير من معالمها، فالفلاح مخبول ورجل الدين هناك يرتدي عباءة من الصوف تفتقر لأي ذوق جمالي والأكثر بشاعة في نظره الافندي في اللباس الأوربي، ونساؤهم رغم جمالهم فإنهن لا يضاهين الجزائريات في الجنوب، سماءها صافية دون عمق وسحب دون أشكال وبدون قوة وليال بدون نجوم انه الوهم .

أثرت فيه زيارته الى مصر الى درجة انه وصفها في أحد رسائله بتاريخ 27 /07/1897/ بأنها جعلته يمر بأزمة نفسية تمثل مرحلة متقدمة من اليأس لم يتعرض لها من قبل" هذا السفر البغيض والكريه الى مصر منعني من انجاز لوحاتي مثل العادة، ومنذ 15 يوما من العمل المضنى من الصباح الى المساء لم أصل الى نتيجة وبالكاد استطعت استرجاع حبل افكاري واستئناف مشاريعي التي كانت ترتسم في أفقي وفي دراساتي وملاحظاتي." وقد نشرت اخته العديد من الرسائل المتبادلة بينها وبين اخيها عبر من خلالها عن قلقه وحيرته ومخاوفه وقد وصل به الأمر الى الاختفاء عن الانظار منعزلا في بيته.

عقب عودة دينيه من مصر انكب على تدوين (قصة عنترة بن شداد). وقد كانت اول عمل سردي نثري، يقوم بإصداره. فمن شدة إعجابه بالقصة وفضلا عن كتابة فصولها. فقد خلدها في العديد من اللوحات، منها لوحة سماها " انتقام أبناء عنترة"، الذي قتل بسهم مسموم في كمين نصب له ". ومن أعماله الروائية أيضا: رواية " خضراء راقصة أولاد نايل "، ثم روايته " الصحراء" وهي روايات مستوحاة من الموروث الشعبي الجزائري. ومن مؤلفاته في هذه المرحلة، كذلك كتاب " آفات الرسم "، وهو يتعلق بتقنيات الرسم والمواد المستعملة. وخلال هذه المرحلة من حياته بدأ اهتمامه بالجانب الفني الإسلامي. فقد نشر موضوعا حول الفن الإسلامي بعنوان " ملاحظات حول الفن الإسلامي." وتعتبر هذه المرحلة مرحلة بحث واستكشاف للموروث الثقافي والروحي والاجتماعي للمجتمع الجزائري.

اختار ديني مدينة بوسعادة للإقامة بها سنة 1904م، حيث اشترى منزلا؛ تتوفر فيه المواصفات التي يبحث عنها، فهو يقع في وسط الحي العربي الموامين، قريب من الواحة والوادي، ويطل منه على افق واسع. رغم استقرار بوسعادة واقباله على العمل بكل عزم الا انه شعر دائما بانتقاص الاخرين دوما منه، فبعد الحرب العالمية الأولى افضى الى اخته بما يختلج في صدر أنه قر الاستقرار ببوسعادة نهائيا، مبينا لها العدوات الشخصية التي يحارب ضدها، فقد أشاعوا أن حياته الموزعة بين باريس وبوسعادة خلال السنة الواحدة هي للتهرب من دفع الضرائب ويعيش في بوسعادة لأنه لم ينجح فنيا في باريس ولوحاته لا تباع. استقر "ديني" بمدينة "بوسعادة"، التي قال عنها: «لو كانت الجنة فوق السماء لكانت فوق مدينة "بوسعادة"، ولو كانت تحت الأرض لكانت تحت أرض "بوسعادة".ولا ينكر أحد أن اعتناق "دينية" للإسلام، سنة 1913م، يعود أساسا إلى تأثير صديقه "سليمان بن إبراهيم "  ودخوله الى الإسلام لم يكن مجرد انطفاع عاطفي بل كان عملا مدروسا  اخذ وقتا طويلا بعيشه وسط اجتماعي بما يحمله من ممارسات دينية وسلوكات اجتماعية وعادات وتقاليد وقيما تأملها ديني حتى فهمها واصبح مدافعا عنها، ثم اخذ يقرأ ويقارن، وهو ما نستشفه من وصيته: « لقد عرفت ما في المسيحية من خرافات واباطيل فهجرتها ونبذتها. ودرست الاديان المختلفة. فلم أجد فيها غير الاسلام يوافق العقل وتطمئن اليه النفس. هو الدين الذي اسلمت روحي له وتعلقت به وبذلت جهودي في سبيله واقيم على تنفيذ وصيتي مسلما» وشاءت الأقدار أن يتوفاه الله بعد عودته من الحج بفترة قصيرة، وتحديدا في 25 ديسمبر 1929، حيث أقيمت له تأبينية كبيرة بمسجد "باريس"، بحضور كبار رجالات الدولة، ومشاهير العلماء، ونزولا عند وصيته نقل جثمانه إلى بوسعادة" ليدفن فيها يوم 12 جانفي 1930م، بحضور الرسميين، وممثلي "جمعية العلماء المسلمين"، وممثلي الزوايا، والشخصيات المعروفة.

عبقريته

ناصر الدين ديني فنان واقعي، لاحظ وبكل دقة وجوه وحياة سكان الصحراء في الاغواط بسكرة وبوسعادة...، تحت الضوء القوي لجنوب الجزائر. رسم هذه الوجوه وخلد تلك المواقف برؤية انطباعية ولمسة رومانسية دون تحريف للواقع، تفاصيل رسمها بكل دقة وابداع ولم يحاول تضخيمها وفي نفس الوقت عمل على تجميلها .استمد موضوعاته من الحياة اليومية في جنوب الجزائر، وتحول الى شاهد على عصره عايش من خلاله بؤسا لا مسمى له ولمس في نفوس من عاشرهم سكينة لا حدود لها  كان يراقب بعين الفنان مشاهد: ألعاب الأطفال، الاحتفالات الدينية، مشاهد الشوارع،الصلاة ... وهذا يجعله شاهدا ثمينا على أنماط الحياة والتقاليد الصحراوية، وفنانا فريدا في مدرسة الرسامين المستشرقين.

الشخصيات التي رسمها كانت جميلة ونموذجية (الفتاة الصغيرة الضاحكة، الشاب الرجولي، الرجل العجوز، الطفل في عفويته واحتفاله بالحياة)، والناظر والمتأمل في  لوحاته، يرى "صورة" للجزائر الخلابة والخالدة، صورة تسامى من خلالها معبرا عن حالة البؤس والواقع الاستعماري المدمر رسمها بفرشاة الامل، رسم العنف والبؤس واليأس والتواضع، ولكن بنفس القدر الفرح والشجاعة والكرامة. ومن الخصائص الفنية التي يمتاز بها فن "ديني: " ترجمة الأحاسيس، والمشاعر من خلال رسم ملامح الوجه، ومكونات الجسم بتفاصيلها ودقتها، بعيدا عن المبالغة في التصور، وابتعاده عن الصور النمطية الجاهزة ورسوماته لم تكن جامدة، ومحنطة للواقع، بل غاص في أعماق التراث. " وقد ذكر ماريو شويري استاذ تاريخ الفن في جامعة السوربون وأبو ظبي ومدرسة اللوفر، أن دينيه "أكثر من مجرد رسام" إنه لغز سياسي، فرنسي " رسم ديني أول صورتين جزائريتين وكانتا بعنوان شرفات الأغواط ووادي المسيلة بعد العاصفة.

علاقته بصديقه سليمان بن إبراهيم

تعرف "ديني " في الجزائر على "سليمان بن إبراهيم" سنة 1888م، عندما كان يقيم بفندق بمدينة "بوسعادة". وقد ذكرت كتب سيرة "ديني" جملة من الخصال الحميدة التي جعلت "سليمان" يتبوأ مكانة رفيعة عند الرسام منها: المروءة والشجاعة، والإخلاص والصدق والوفاء والحكمة، وروح التضحية، والمعرفة العميقة بالناس، والاطلاع الواسع على الموروث الثقافي الجزائري.

تعرض ديني لاعتداء جسدي من طرف بعض اليهود من سكان بوسعادة الذين زعموا أنه يرسم نساءهم وهم في الوادي وانفردوا به وحيدا حين وجدوه، يعكف على رسم لوحة لأحد مشاهد بوسعادة La Montée de Bou-Saada)) دافع على نفسه ولكنه لم يتمكن من مقاومتهم بسبب كثرتهم، وفي هذه اللحظة شاءت الاقدار ان يظهر الشاب سليمان بن ابراهيم الذي كان يتجول بالمكان، مدافعا عن إتيان ديني، ولم ينس اليهود لهذا الشاب  أن يتدخل في شأن يخصهم، فقرروا الاعتداء عليه ذات يوم واصابوه، بجراح وقرر ديني حين علم بالأمر أن يعود الى الجزائر ويحضر معه سليمان بن ابراهيم الى باريس لأنه شعر بمسؤولية اخلاقية تجاه ما حدث له، بعد هذه الحادثة توطدت علاقة الرجلين وأصبحا لا يفترقان كالشيء وظله.

بعد ذلك التقي ناصر الدين ديني مع سليمان بن ابراهيم من أجل توفير مسكن له واتخذه دليلا ومرشدا في بوسعادة، والتقى به مرة ثانية لما زار ناصر الدين ديني الاغواط سنة 1889 م، حيث قدم له مساعدات سهلت له العثور على مواضيع ونماذج للوحاته، بفضل العلاقات التي يملكها سليمان في الاغواط مع الميزابيين واهل الاغواط بصفة عامة.

في احدى مقالاته تحدث Léonce Bénédite عن شخصية سليمان بن إبراهيم وكتب قائلا :" أنت بالتأكيد تعرف صديقي سي سليمان بن إبراهيم. إنه هذا العربي الشاب الأنيق الذي يراه سكان الضفة اليسرى، من ساحة سان جيرمان دي بري Saint-Germain-des-Prés أو رصيف فولتير إلى ساحة بون مارشيه، يتجول طوال فصل الشتاء في ساعات منتظمة، بثبات مستقيم. خطوة ومظهر مهيب وبسيط. وجهه المسمر بحرارة جاد، وجفونه الكبيرة نصف السفلية تحجب عينيه اللامعتين اللتين تبدوان بعد ذلك وكأنها تنظران إلى الناس والأشياء بطريقة مشتتة للغاية وغير مبالية. من شفتيه القويتان إلى حد ما، المؤطرة بلحية مجعدة رقيقة، يهرب دخان السيجارة في لوالب مكسورة. وعادة ما يرتدي ملابس داكنة مميزة، ملفوفًا بشكل رائع في ثنيات بورنوسه الأسود. لكن في أيام الأعياد، في حفلات الكسكس الحميمية الصغيرة أو في الاحتفالات الكبرى لافتتاح معرض الرسامين المستشرقين، يحب صديقي العزيز سليمان أن يرتدي ملابس فاخرة. ثم يرتدي بيرنوسًا من البياض الناصع وقماشًا ناعمًا للغاية بحيث تكون الطيات أكثر سحرًا وغير متوقعة؛ عمامته مصنوعة من وشاح مخطط من الحرير الذهبي القديم، وحزامه العريض مصنوع من قماش جميل باللونين الأحمر والأصفر ومغطى بالذهب، وسرواله الأسود الواسع مدسوس في حذاء من القطيفة المغربية. وعلى صدره يتلألأ نجمان، أو بالأحرى نجمة صغيرة ونخلة صغيرة. إنه صليب نشام الأنوار والنخيل الأكاديمي.

العنوان الحقيقي لسي سليمان بن إبراهيم هو أن يكون الرفيق المخلص للرسام إتيان ديني. عمره حوالي ثمانية عشرة سنة، إذا كنت أتذكر بشكل صحيح، في الأغواط أو بالأحرى في بوسعادة حيث ولد سنة 1870، لعائلة مزابية، وهو عرق عربي من الجنوب، منشق دينيا وذو موهبة، كما نعلم، مع فضائل خاصة للذكاء العملي والاستقامة التجارية. كان ذلك في بوسعادة، ذات يوم، وسط انتفاضة محلية صغيرة، في أعمال شغب بين طرفين معاديين، شارك في أحدهما ديني رغمًا عنه بسبب بعض علاقاته، وكان سليمان بن إبراهيم يواجه خطرًا. وخاطر بحياته وأنقذ حياة ديني. علامة الشجاعة والتفاني هذه جعلت مصيره من الآن فصاعدًا مصير الفنان الذي شارك معه جميع الرحلات، وبطريقته الخاصة، كل العمل، كصديق ومتعاون، يبحث عن النماذج ويجمعها، وهو أمر صعب للغاية في هذا البلد، بحكمة ولباقة فنان حقيقي: شرح العادات وترجم مع ديني بعض قصائد وروايات الأدب العربي الذي يغذي فكرياً ملايين الرجال، «لقد سخر "سليمان" كل جهوده من أجل جمع الرصيد الثقافي الجزائري الهائل، ووضعه في متناول "ديني": فهو الذي يجمع الأشعار من الصحراء، ويشرح الحكايات والأساطير، ويفسر العادات والتقاليد ويتولى كذلك تفسير الكتب الدينية، وبفضل هذه المكانة المرموقة أصبح له رأي في الأمور التقنية للرسم لقد كتب "ديني" عن الشاعر العربي "عنتر"، بعد أن لقيت قصصه رواجا كبيرا في أوربا في القرن التاسع عشر، في تشبه ملاحم "اليونان"، والرومان.

مساهمة ناصر الدين ديني في نشر الوعي التحرري.

1- بعد الحرب العالمية الأولى اصبحت المواقف السياسية لديني واضحة جدا بشأن وضعية الجزائريين تجاه القانون الفرنسي، فهو يعتبر في رسالة كتبها لأخته بتاريخ 02 اوت 1928م أن سياسة فرنسا المتبعة في الجزائر وصلت الى مستوى من الحماقة لم تصل اليه من قبل وفقد فيها كل امل في المستقبل، الذي سيكون خطيرا بفضل عناد المعمرين الذين يتفننون كل يوم في توسيع وتعميق الخندق الفاصل بين المسلمين والفرنسيين ومن الصعب ردم هوته.

2- يضيف ديني ان الاهالي استطاعوا ابتلاع كل الغزة والفاتحين الذين تعاقبوا على هذا البلد (ما عدا العرب) ومصيرنا سيكون اسرع نهاية مما كان للرومان بسبب سياستنا غير المناسبة تجاههم، وهذه الاحتفالات المئوية فرصة لإصلاح الخلل وتعزيز اسمنت الوحدة بين المسلمين والأوربيين بفضل دماء الأبطال من الطرفين التي سالت واختلطت خلال الحرب العالمية الأولى، وينبه ديني السلطات الى خطر محدق بالشعوب اذا لم تتداركها سياسة الاصلاحات فإنها ستكون فريسة سهلة للدعاية البلشفية ( الشيوعية ) في شمال افريقيا.

3-  في عام 1915، حول قلعته الباريسية هيريسي إلى مستشفى لاستقبال جرحى المسلمين في الحرب العالمية الأولى، ثم قام بحملة من أجل إقامة شواهد قبور للمسلمين الذين قتلوا في المعركة، وبعد ذلك، لبناء ما سيصبح المسجد الكبير في باريس. في عام 1923، أصبح مالكا لفيلا في الجزائر العاصمة، تم شراؤها بفضل بيع قلعته الباريسية، حيث عرض أعماله. على الرغم من الحظر المفروض عليهم من قبل منتقديها، فقد حققوا نجاحا كبيرا.

4- قصة "عنترة" كما تراءت في ذهن "دينية" تحمل طابعا تحرريا، وثوريا، فهي تشبه حكايات "ألف ليلة وليلة"، فهذه الشخصية تحمل دلالات رمزية في مجال التحدي والثورة على القوانين الجائرة في عصره، والمتمثلة في احتقار الإنسان الأسود من طرف الإنسان الأبيض، فهذه الشخصية تحمل مواصفات عدة منها. التغني بالشجاعة، والبطولة، والفروسية، وروح التضحية في سبيل إنقاذ الجماعة من ظلم، واحتقار

5- تعاون "ديني" مع "سليمان بن إبراهيم" في إعداد الكتاب الموسوم بـ "محمد رسول الله"، وقد اعتمدا على المصادر الإسلامية مثلى: "كتب الصحاح"، و"سيرة ابن هشام"، و"طبقات ابن سعد". يتوزع الكتاب على عشرة فصول، تتمثل وفق التسلسل التاريخي من البداية حتى النهاية. يعد هذا الكتاب أول ما كتب باللغة الفرنسية في السيرة النبوية الشريفة، من منطلقات السيرة الأصلية المشهورة، والمعتمدة من علماء المسلمين، والتي تختلف تماما عن كتب المستشرقين الذين لم يحترموا مشاعر المسلمين، وراحوا يدرسون الظاهرة الإسلامية كجثة هامدة بدون روح».

6- كتاب " الحج إلى بيت الله الحرام": هذا الكتاب الذي ألفه بعد مسار طويل وشاق من البحث عن الحقيقة، ليصبح من كبار المدافعين عن الإسلام والمسلمين بريشته وبقلمه، وبنضالاته السياسية. وقد ترجمت خاتمته، ونشرت في مجلة "جمعية العلماء المسلمين، بقلم الأستاذ توفيق المدني». تصدى في هذا الكتاب للدفاع عن الإسلام والمسلمين.

7-  ألف كتابا موسوما بـ "الشرق في نظر الغرب": وقد ترجمه الأستاذ "عمر فخوري" .

8-   فشل مشروعه لتأسيس متحف في عام 1929 بسبب ضغوط من الجماعات الاستعمارية.

كتخريج عام حاول ناصر الدين ديني احداث تقارب بين قيم الحياة العربية البسيطة للغاية ومبادئها الأخلاقية والروحية السامية، وقيم الحضارة الغربية الحديثة ببعديها المادي والعقلاني والتاسيس لثقافة كونية تستمد قوتها من ثقافة العيش المشترك، لقد عاش ديني بين من احبهم حياة إنسانية ظلت، في طابعها الحميم، وفي مظهرها، وفي ديكورها، كما كانت في زمن المجتمعات الأولى التي أسسها الإنسان. حياة حافظت على نقائها وكرامتها واصالتها حياة جمعت كما قال مالك بن نبي رحمه الله بين البؤس والسكينة. هذا التناقض أصاب باستمرار جميع الفنانين الذين أقاموا في الجزائر ومنهم ناصر الدين ديني .

***

علي عمرون

............................

الهوامش

* اسمه في شهادة الميلاد «ألفونس إتيان دينية" ولد بـ "باريس" بتاريخ 28 مارس 1861م ينحدر من عائلة بورجوازية كاثوليكية عندما بلغ العاشرة من عمره، وتحديدا سنة 1871م، وضعته العائلة في ثانوية "هنري الرابع" في قلب "باريس"، وقد وقع الاختيار على هذه الثانوية لاعتبارات أيديولوجية، واستراتيجية مهمة؛ ذلك أن هذه المؤسسة المتميزة لها تاريخ عريق ضارب الجذور في أعماق الماضي، ولأنها الوحيدة المؤهلة لاستقطاب أبناء النخبة الأرستقراطية الفرنسية. كما تعد أول ثانوية للجمهورية الفرنسية. وبعد اعتناقه الإسلام اختار لنفسه اسم ناصر الدين ديني.

بالعنوان اعلاه..كانت اصبوحة يوم(16 آب 24)، والمفاجأة انها كشفت عن حقيقتين: تجاوز عدد التعليقات المئة والخمسين، واتفاقهم على ان المثقفين لديهم فعلا شهية لقضم سمعة الآخر..اليكم نماذج منها كما هي:

علي الفواز: ربما بسبب مركزية الذات المتعالية باوهامها، وربما بسبب طبيعة تشكيل ظاهرة المثقف بوصفه فردا خارج الجماعة، وربما بسبب علاقتها بالأيديولوجي التي تفقد قوتها في صناعة الخطاب.

صالح الطائي: صدقت والله.لي تجارب لا تحصى معهم.لكن السؤال: بماذا تفسر ذلك الأسلوب القبيح من خلال علم النفس وهل للحسد والغيرة دور فيه؟

أصيل داوود سلوم: من الفراغ، وقلة الفكر، والثقافة، والا المثقف اذا عمل على بناء صرح ثقافي لمؤلفاته و تطوير معلوماته وذاته، فانه لا يجد متسعا من الوقت للحديث عن الاخرين.المشكلة ان بعضهم يرى نفسه بمرتبة أعلى ناسه ومن مجتمع.

خضير الحميري: ربما لأن صوتهم مسموع.

عبد الجبار العتابي: واذا سمعة الاخر مطينة ويعامل الناس من برجه العالي، هل يسكتون عليه؟

Rafid Rasool: عندما تصبح الثقافة مهنة فيتحول المثقف من حالة ترفع منسوب الوعي لدى المجتمع إلى اداة تسقيط وحقد وغل لاسقاط الانموذج والرمزية في المجتمع.

عاصم الأمير: مرضى بالانوية.

مهند الياس: اذا كان المثقف اكثر فئات المجتمع شهية في قضم الاخر، كيف يتصف بهذه الصفة وهو مثقف؟ اليست الثقافة من الاخلاق، اللهم الا اذا كان ذلك المثقف له ازدواجية شخصية في التعامل مع الحياة.

حسن ابراهيم: وسط مريض ومنافق.

Afeefa Suleman: مع الأسف الشعب العراقي بكل فئاته نساءا ورجالا بحاجة إلى معالجة نفسية..ومن أين ناتي بهذه الاعداد من الأطباء النفسيين لمعالجة ٤٣مليون ليفوا بالغرض.

Raadaldlaimy Raad:هكذا هم البشر بكل صنوفهم...التحاسد والتباغض سنة كونية...لاتزول الا بزوال الخلق.

Aziz ALaziz:اجتمعت كل امراض الشخصيه ونوبات الازدواجيه لدى معظمهم، ولا يطرون بعضهم الا بالتنابز، واظنهم خير من يمارس حفر النگر، بل هم ابعد الناس عن العمل الديمقراطي ويتجلى ذلك في بعض المناصب، ولن يحمل أخاه على سبعين محمل بل يجيدون التسلق على بعض وبكل وقاحه، وهؤلاء هم انصاف المثقفين.

ثابت عباس المفرجي :التحاسد ياسيدي الكريم وجعبة التاريخ تنوء بحمل ثقيل من الامثلة.

طامل الربيعاوي:شيسوون إذا كان المثقف يستگدي عبر القلم والكلمة فلكل مايستحق أن ينال .

Falah Al Ani:اعتقد ان هذا السلوك أسبابه نفسيه، يهاجم الاخر ويحمله صفات غير حميده لرغبه دفينه عنده بأن يظهر نفسه بأنه غير ذلك .هو يستعرض نفسه من خلال هذا السلوك، نرجسيته تغذي هذا السلوك.هو ابن بيئته واذا كانت هذه البيئه تغذي اعلاء الذات المفرط نجد ان هذا السلوك ليس غريبا .جرب ان تسأل سؤالا بسيطا اجابته لا تتحمل اكثر من عدة جمل يأتيك الجواب وسط حديث طويل جله استعراض المتحدث لذاته هو ولمعلوماته التي يمتلكها بغض النظر ان كانت هذه المعلومه لها صله بالموضوع او لا.

Jaafer Al-waaeli:لأنهم ليسو مثقفين بل يدعون الثقافة.كلما زادت معلومات الشخص وكبر عقله ابتعد عن الصراعات والتحدث عن الاخرين.

Yousif Aliraqi: تمام لانهم متسلحون بأدوات القضم (اللسان والقلم).

التحليل

يعزو معظم الذين استطلعت اراؤهم، وبينهم أكاديميون ومفكرون، اسباب ذلك لحالات سيكولوجية: الحسد، التباغض، تضخم الأنا(الذات) ...

وقبل ان نشخص الأسباب لنبدأ بهذا التساؤل: كيف هو حال المثقف العراقي بعد عشرين سنة عاشها في ظلِّ نظامٍ ديمقراطي تحكمه عمليَّة سياسيَّة تقومُ على المحاصصة والطائفيَّة؟

استطلاع رأي

لأنني اعتبر الرأي الآخر اهم مصدر في معرفة الحقيقة، فأنني اجريت عام 2018 استطلاع رأي عن حال المثقف بعد التغيير، إليكم نماذج من إجاباتهم:

* المثقف العراقي يواجه ثقافة دينيَّة طائفيَّة عشائريَّة مدججة بالسلاح والمال والنفوذ لكنه رغم ذلك يعمل ويبدع ويقاوم.

* بدون زعل، لأنَّهم لم يسمعوا كلام غادة السمان، فهاجروا ثم ذبلت أزهارهم هناك ولم يدركوا أنَّ الأشجار لا تهاجر.

* المثقفون، منهم من وجد ذاته بعيداً وغادر الوطن ولم يتذكره، والموجودون في وادٍ والجماهير في وادٍ آخر، ومنهم من انساق وراء مغريات السلطة للأسف.

* لا يوجد تأثيرٌ للمثقف في سواد الناس الذين يمثلون قاعدة الجهل العريضة ويتأثرون بخزعبلات الملّا والمشعوذ، والبعض منهم يعدُّ المثقف بأنه ينشر الكفرَ بين الناس.

* لا يوجد مثقفون في العراق، بل يوجد متعلمون يجيدون الكتابة و”اللغوة” في المقاهي والمطاعم والفنادق الشعبيَّة.

وبعد خمس سنواتٍ وفي العام (2023) أعدنا الاستطلاع ذاته، إليكم نماذجَ من إجابات حرصنا أنْ تحملَ أفكاراً مختلفة:

* حسب رأي غرامشي: الأكثريَّة في المجتمع هم مثقفون لكنْ بثلاثة أصناف: التقليدي المهني مثل الموظف والمعلم، والثاني الذين يعرفون الأخطاء ويقبلون بها طمعاً بعطاءٍ من السلطة وهم الأغلبيَّة في العراق من كتاب وفنانيين وآخرين، والثالث هم الذين يشخصّون الأخطاء ويعملون على تصحيحها ويدافعون عن التغيير نحو الأفضل.

* المثقف العراقي الحقيقي غائبٌ أو مغيبٌ في وسط هذا التزاحم والفوضى وقلة الوعي وانتشار الخرافة والتدين الزائف والجهل المدقع والتدليس والأمية بكل أنواعها. هناك مثقفٌ اجتماعيٌّ يحملُ همومَ الناسِ ويسعى إلى تغيير الواقع، وآخر لا يهمه سوى منجزه الأدبي. أما الانتهازيون والمتكسبون فهم الفئة الأكبر الآن، وهؤلاء يلعقون ما ترميه لهم السلطة ويعتاشون على فتاتها.

* صنف ابن المؤسسات السياسيَّة، وصنفٌ غارقٌ في العزلة، وصنفٌ مهووسٌ بوجع الوطن.

* المثقفون في وقتنا الحاضر قليلون جداً، والسبب هو تغليب النزوات والغرائز على العقل بسبب ظروف الحرب وقساوة الحياة وتدمير عقل الإنسان. المثقف هو الذي يعملُ بكل الاتجاهات ويوازن بين التوافقات لحل لغز الحياة والحديث يطولُ يا دكتورنا الغالي.

* المثقف العراقي إنسانٌ أولاً، منهم النرجسي والموضوعي والذاتي والمتواضع والمتكبر الذي لا تغير ثقافته من طبعه. الكم الهائل من ثقافة العصر جعلت من الصعب على المثقف الحفاظ على موقعه، ولا أعتقد أنَّ على المثقف أنْ يطلبَ من الآخرين جلد ذواتهم، وهو الأمر الذي يحدث لدينا ولا يحدث في العالم المتقدم الذي يعدُّ المشاركة الثقافيَّة فخراً لصاحبها.

* المثقف العراقي اليوم نتاج بيئة مجتمعيَّة وسياسيَّة متدنية، ومثل هذه البيئة ستنتجُ عقلاً ثقافياً يحاكيها، لذلك أمثالكم نتاج بيئة مستقرة كان فيها الحراك الثقافي والسياسي يستطيع الحركة. اليوم المثقف متعالٍ لا ينزل الى الشارع وكأنَّ الثقافة تقول له: تثقف لتعلو على الآخرين.

* المثقف ما زال بعيداً عن الناس والناس بعيدة عن المثقف، وحين يتحققُ الاستقرارُ السياسي عند ذاك سيصل صوته والناس ستقترب منه، أما في ظل بيئة شائكة معقدة كالتي نشهدها فإنَّ السعي وراء المال هو الهدف. وللأسف الكثير يحملُ صفة المثقف لكنه لا يزال يفكر بعيونٍ طائفيَّة وما أنْ يمسَّ طائفته (يعوج براطمه).

* المثقف الحقيقي ذو الكرامة والإحساس الوطني منزوٍ (بإمكاني أنْ أعطي أسماءً ولكنْ أخشى أنَّ أصحابها لا يوافقون). أما البقيَّة فهم مثقفو الطموح. أنْ يكون مستشاراً في سوق بيع وشراء المثقف والثقافة والتجارة بها كما التجارة بالدين وهم كثر.

* لا يوجد مثقفون في العراق، لأنَّ الثقافة تعني الوعي والفكر والمحتوى المثمر، من يدعي الثقافة في هذا البلد إما أنْ يكون جزءاً من ماكنة التجهيل أو تراه صامتاً.

استنتاج

ثمة حقيقة..ان نوعية النظام السياسي الحاكم هو الذي يصنع نوعيىة مواطنيه.. بمعنى، ان قيم واخلاق وسلوك المثقف العراقي بعد التغيير هي انعكاس لنظام اشاع الفساد الذي كان يعد خزيا في القيم العراقية الصيلة أدى الى تخدير الضمير الأخلاقي لاسيما بين فئة المثقفين بوصفهم اكثر فئات المجتمع تعاملا مع النظام والناس بما يؤمن مصالحهم واعتبارهم الشخصي وخلاصهم من تغييب وتهميش اتعبهم وأضر بهم أخلاقيا ..والحل يكون في تشريع قانون لرعاية المثقفين كنا تقدمنا به في آذار 2023 باركه مفكرون واكاديميون واعلاميون..وليت اتحاد الأدباء والكتّاب في العراق يتبنى هذا المقترح ويخضعه لدراسة مستفيضة ورؤية ناضجة، لتقديمه الى البرلمان العراقي واقراره..فبه سيعيد للمثقف دوره في بناء الانسان والوطن..ليمارس دوره المشروع في (قضم) سمعة من يسيء للشعب والثقافة.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

الشرق الأوسط منطقة غارقة في التقاليد والتاريخ، حيث ترسخت المحرمات المحيطة بموضوعات مثل الله والجنس والسياسة في المجتمع. تلعب هذه المحرمات دورا حاسما في تشكيل المشهد الثقافي والاجتماعي للمنطقة، وتؤثر على كل شيء من العلاقات الشخصية إلى السياسات الحكومية. من خلال فهم وفحص هذه المحرمات، يمكننا اكتساب رؤى قيمة حول تعقيدات المجتمع في الشرق الأوسط والعوامل التي تحرك عاداته ومعتقداته. أحد الأمثلة على المحرمات في الشرق الأوسط هو القواعد الصارمة المحيطة بالجنس والسلوك الجنسي. في العديد من بلدان المنطقة، تعتبر ممارسة الجنس قبل الزواج والمثلية الجنسية والعلاقات خارج نطاق الزواج خطيئة وتدينها السلطات الدينية. غالبا ما يؤدي المحرمات المحيطة بالجنس إلى معايير مجتمعية قمعية وعقوبات صارمة لمن يعصون، مما يؤدي إلى ثقافة السرية والعار. بالإضافة إلى ذلك، فإن التشابك بين الدين والسياسة في الشرق الأوسط يخلق طبقة أخرى من التعقيد عند مناقشة المحرمات. غالبا ما يمارس الزعماء الدينيون نفوذا كبيرا على القرارات السياسية، مما يؤدي إلى عدم وضوح الخط الفاصل بين السلطة الدينية والحكومية. من خلال استكشاف هذه المحرمات وتأثيرها على مجتمع الشرق الأوسط، يمكننا اكتساب فهم أفضل للنسيج الثقافي الغني للمنطقة والقوى التي تشكل مؤسساتها ومعتقداتها. المحرمات في الشرق الأوسط: الله والجنس والسياسة

المحرمات في الشرق الأوسط:

في الشرق الأوسط، تعتبر بعض المواضيع من المحرمات وتثير ردود فعل قوية من المجتمع. تدور هذه المحرمات حول الله والجنس والسياسة، وتشكل المناظر الثقافية والاجتماعية للمنطقة. يلعب الدين دورا محوريا في حياة الناس في الشرق الأوسط، وأي مناقشات أو أفعال يُنظر إليها على أنها لا تحترم الله أو الشخصيات الدينية تُقابل بانتقادات شديدة. يعتبر انتقاد الممارسات أو المعتقدات الدينية، أو التشكيك في الزعماء الدينيين، أو حتى الانخراط في ممارسات دينية غير تقليدية من المحرمات. غالبا ما يؤدي هذا الالتزام الصارم بالمعايير الدينية إلى حرية تعبير محدودة وتوقعات مجتمعية صارمة. تعد الحياة الجنسية موضوعا محرما آخر في الشرق الأوسط، حيث تملي المعايير المحافظة قواعد سلوك صارمة عندما يتعلق الأمر بالعلاقات والجنس. تعتبر المناقشات حول التربية الجنسية، والجنس قبل الزواج، وقضية المثليين جنسيا، وحتى العري مواضيع حساسة للغاية يمكن أن تؤدي إلى ردود فعل عنيفة من المجتمع. إن هذا المحظور حول الجنس ينبع من المعتقدات والقيم التقليدية التي تضع أهمية كبيرة على الحياء والعفة وشرف الأسرة. والسياسة موضوع مثير للجدال في الشرق الأوسط، حيث يمكن أن تؤدي المناقشات حول سياسات الحكومة أو الزعماء السياسيين أو الآراء المعارضة إلى الرقابة أو الاعتقال أو العقاب. وغالبا ما يُقابَل أي شكل من أشكال النقد للحكومة أو السلطات الحاكمة بمعارضة شديدة، حيث يُنظَر إلى المعارضة باعتبارها تهديدًا للاستقرار والأمن. ويعكس هذا المحظور حول السياسة المشهد السياسي المعقد في المنطقة، حيث تسود الأنظمة الاستبدادية والرقابة. وفي الختام، تعكس المحظورات في الشرق الأوسط المحيطة بالله والجنس والسياسة المعتقدات والقيم والأعراف المجتمعية الراسخة التي تشكل النسيج الثقافي والاجتماعي في المنطقة. وتعمل هذه المحظورات على الحفاظ على النظام والحفاظ على التقاليد وحماية الوضع الراهن. ومع ذلك، فإنها تحد أيضا من حرية التعبير وتنوع الرأي والتقدم الاجتماعي. ومن الأهمية بمكان تحدي هذه المحظورات ومعالجتها من أجل تعزيز الحوار المفتوح والتفكير النقدي واحترام الحقوق والحريات الفردية.

الله،

إن أحد أبرز المحرمات في الشرق الأوسط يدور حول مفهوم الله. فالدين يحتل مكانة مهمة في حياة الأفراد في هذه المنطقة، وأي مناقشة أو تصوير لله يعتبر غير محترم أو تجديفا محظور تماما. وفي العديد من الثقافات في الشرق الأوسط، يُبجل الله باعتباره السلطة العليا ومصدر التوجيه. وأي شكل من أشكال عدم الاحترام تجاه الله، سواء كان متعمدا أو غير متعمد، يُقابَل بانتقام سريع وإدانة شديدة من المجتمع. ونتيجة لذلك، غالبا ما يتردد الأفراد في الانخراط في مناقشات أو سلوكيات قد يُنظر إليها على أنها عدم احترام تجاه الله. إن المحرمات المحيطة بالله في الشرق الأوسط متأصلة بعمق في المجتمع ويتم دعمها من خلال المؤسسات الدينية والممارسات الثقافية والأعراف الاجتماعية. يعمل هذا المحرم كوسيلة للحفاظ على قدسية الله واحترامه في نظر المؤمنين والحفاظ على الهوية الثقافية والدينية للمنطقة. من المهم أن ندرك الحساسية المحيطة بمناقشات الله في الشرق الأوسط وأن نتعامل مع الموضوع باحترام وتفهم. ومن خلال الاعتراف بالمحرمات المحيطة بالله في هذه المنطقة واحترامها، يمكننا تعزيز التفاهم الثقافي وتعزيز التعايش السلمي بين الأفراد ذوي المعتقدات المختلفة.

الجنس،

في الشرق الأوسط، غالبا ما يُعتبر موضوع الجنس من المحرمات ويكتنفه قدر كبير من السرية. وقد ترسخ هذا الموقف الثقافي بعمق لأجيال، مع وجود معايير مجتمعية صارمة تملي كيفية التصرف فيما يتعلق بالجنس. ومع ذلك، من المهم تحدي هذه المحرمات وإجراء مناقشات مفتوحة حول الجنس من أجل تعزيز التعليم والتوعية وتمكين الأفراد. عند مناقشة الجنس في الشرق الأوسط، هناك خوف شامل من الحكم والعار المرتبط بأي شيء ينحرف عن المعايير التقليدية. يمكن أن يؤدي هذا إلى قمع الرغبات الفردية، والمواقف غير الصحية تجاه الجنس، وحتى إدامة الممارسات الضارة مثل تشويه الأعضاء التناسلية للإناث وزواج الأطفال. من خلال كسر الصمت المحيط بالجنس، يمكننا تحدي هذه الممارسات الضارة والعمل على خلق مجتمع أكثر انفتاحا وشمولا. من المهم أن ندرك أن الجنس هو جانب طبيعي وجوهري من الهوية البشرية، ولا ينبغي قمعه أو شيطنته. من خلال المشاركة في مناقشات مفتوحة وصادقة حول الجنس، يمكننا تمكين الأفراد من اتخاذ خيارات مستنيرة بشأن أجسادهم وعلاقاتهم. إن التثقيف حول ممارسات الجنس الآمن، والموافقة، والصحة الإنجابية أمر بالغ الأهمية من أجل تعزيز التجارب الجنسية الصحية والمُرضية. وعلاوة على ذلك، فإن كسر المحظورات حول الجنس يمكن أن يساعد أيضا في تفكيك الصور النمطية الجنسانية القديمة وتمكين الأفراد من تبني حياتهم الجنسية دون خوف من الحكم أو التمييز. من خلال تحدي هذه المحظورات وتعزيز الحرية الجنسية والاستقلال، يمكننا العمل نحو خلق مجتمع أكثر شمولا وتقدمًا في الشرق الأوسط. في الختام، من الأهمية بمكان كسر الصمت المحيط بالجنس في الشرق الأوسط من أجل تعزيز التعليم والتوعية وتمكين الأفراد. من خلال تحدي المحظورات وإجراء مناقشات مفتوحة حول الجنس، يمكننا العمل نحو خلق مجتمع أكثر شمولا وتقدما حيث يكون الأفراد أحرارا في التعبير عن حياتهم الجنسية دون خوف من الحكم أو العار. دعونا نسعى جاهدين لإنشاء مجتمع يتم فيه الاحتفال بالحرية الجنسية والاستقلال، بدلا من إدانته.

السياسة

في الشرق الأوسط، تُعَد السياسة موضوعا شديد الحساسية ومحظورا. وللمنطقة تاريخ طويل من الاضطرابات السياسية والصراعات، مما يجعلها موضوعا غالبا ما يتم تجنبه أو مناقشته بحذر. من الأنظمة الاستبدادية إلى الحروب المستمرة، فإن المشهد السياسي في الشرق الأوسط معقد ومحفوف بالتوتر. أحد الأسباب الرئيسية لكون السياسة محظورة في الشرق الأوسط هو التأثير الثقيل للأنظمة الاستبدادية والرقابة الحكومية. يحكم العديد من البلدان في المنطقة قادة استبداديون يقمعون المعارضة ويحدون من حرية التعبير. إن التحدث ضد الحكومة أو التشكيك في سياساتها يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة، بما في ذلك السجن وحتى الموت. ونتيجة لذلك، يتردد العديد من الناس في الشرق الأوسط في التعبير عن آرائهم السياسية خوفا من الانتقام. وعلاوة على ذلك، فإن الانقسامات العميقة الجذور والتنافسات بين الفصائل السياسية المختلفة والجماعات الدينية في الشرق الأوسط تجعل مناقشة السياسة مسألة حساسة. في بلدان مثل العراق وسوريا ولبنان، غالبا ما ترتبط الانتماءات السياسية بالهويات الطائفية، مما يزيد من تعقيد الخطاب السياسي. إن هذه الانقسامات قد تؤدي إلى مناقشات ساخنة وحتى العنف، مما يجعل من الصعب على الناس التعبير بحرية عن معتقداتهم السياسية دون خوف من ردود الفعل العنيفة. وعلى الرغم من هذه التحديات، فمن الأهمية بمكان أن يشارك الأفراد في الشرق الأوسط في حوار مفتوح وبنّاء حول السياسة. ومن خلال كسر المحرمات المحيطة بالمناقشات السياسية، يمكن للناس العمل نحو بناء مجتمع أكثر شمولاً وديمقراطية. ومن المهم تحدي الأنظمة الاستبدادية، ومحاسبة الحكومات، والدعوة إلى الإصلاح السياسي من أجل خلق مستقبل أكثر عدالة وإنصافا للجميع. في حين أن السياسة قد تكون موضوعا محظورا في الشرق الأوسط، فمن الضروري أن يتغلب الأفراد على مخاوفهم ويشاركوا في محادثات هادفة حول القضايا السياسية التي تواجه منطقتهم. ومن خلال تعزيز الحوار المفتوح وتعزيز المشاركة السياسية، يمكن للناس في الشرق الأوسط العمل نحو بناء مجتمع أكثر ديمقراطية وسلاما. دعونا لا نخجل من مناقشة السياسة، بل نغتنم الفرصة لإحداث تغيير إيجابي في المنطقة.

إن المحرمات المحيطة بالله والجنس والسياسة في الشرق الأوسط متأصلة بعمق في النسيج الثقافي والمجتمعي للمنطقة. إن هذه المحرمات تخدم في الحفاظ على القيم والمعتقدات التقليدية التي توارثتها الأجيال. ومع ذلك، فمن المهم أن نفحص هذه المحرمات ونتحداها بشكل نقدي من أجل تعزيز التقدم والمساواة وحرية التعبير. ومن خلال كسر هذه الحواجز، يمكننا العمل نحو مجتمع أكثر شمولا وانفتاحا يحترم المعتقدات والقيم الفردية. لقد حان الوقت لطرح الأسئلة حول المحرمات التي أعاقتنا لفترة طويلة وتبني منظور أكثر استنارة وتقدمية.

***

محمد عبد الكريم يوسف

....................

المراجع:

1.     Haeri, Shahla. "Law of Desire." Feminist Studies, vol. 15, no. 1, 1989, pp. 123-139.

2.     Kazemi, Farhad. "The Politics of Gender and Sexuality in the Middle East." Journal of Middle East Women's Studies, vol. 12, no. 3, 2016, pp. 321-340.

3.     Fernea, Elizabeth Warnock. "In Search of Islamic Feminism: One Woman's Global Journey." University of Texas Press, 1998.

4.     Kandiyoti, Deniz. "Women, Islam, and the State." Temple University Press, 1991.

5.     Mir-Hosseini, Ziba. "Gender and Equality in Muslim Family Law: Justice and Ethics in the Islamic Legal Tradition." IB Tauris, 2013.

6.     Nugent, Jeffery B. "Arab Socialist Taboos: The Case of the Sex Question in Syria." Middle Eastern Studies, vol. 11, no. 3, 1975, pp. 267-289.

7.     Tuastad, Dag Henrik. "Politics of Violence, Truth, and Reconciliation in the Arab Middle East." Routledge, 2014.

8.     "Sex and Politics in the Middle East." Mordechay Lewy, 2017.

9.     "Middle Eastern Taboos: Understanding the Cultural Norms." Maryam Al-Kubaisy, 2019.

10.   "Religion and Society in the Middle East." Tamara Sonn, 2018.

في السنوات الأخيرة، شهدت الفلسفة تراجعًا داخل الأوساط الأكاديمية. ولقد أصبحت الفلسفة التي كانت ذات يوم تخصصًا مزدهراً خارج حدود الجامعة، معزولة بشكل متزايد داخل الأقسام الأكاديمية والمجلات العلمية. وقد ترافق هذا التحول مع التخصص المفرط الذي غالبًا ما ينتج نثرًا غير قابل للاختراق وقاحلًا من الناحية الأسلوبية. في حين قد يجادل البعض بأن القوى الأكبر التي تؤثر على العلوم الإنسانية كلها هي المسؤولة عن هذا التراجع، فمن الواضح أن الطرق التي يتم بها متابعة الفلسفة وإدارتها تلعب أيضًا دورًا مهمًا. لكي تستعيد الفلسفة أهميتها ومكانتها في الأوساط الأكاديمية، يجب عليها إعادة التعامل مع جوهرها الحقيقي: طرح أسئلة ذات معنى واستكشاف الادعاءات الجريئة.

يمكن إرجاع تراجع الفلسفة إلى الأوساط الأكاديمية إلى أوائل القرن العشرين عندما بدأت التطورات التكنولوجية والثورات العلمية في تحولات المجتمع الغربي. وكان لهذه التغييرات آثار بعيدة المدى على مختلف التخصصات، بما في ذلك الفلسفة، وبينما سعت المجالات الأخرى إلى محاكاة العلم بطريقة ما، خضعت الفلسفة أيضًا للاحتراف والتخصص.

ومع ذلك، على عكس التخصصات العلمية حيث يمكن حل الخلاف من خلال الأدلة التجريبية، فإن الخلافات الفلسفية تميل إلى أن تكون غير قابلة للحل في نهاية المطاف لا توجد طريقة محددة لتأكيد أو دحض وجهات النظر الفلسفية بخلاف تقديم أسباب اعتناقها، هذه الطبيعة المتأصلة للفلسفة تجعلها مناسبة لطرح الأسئلة بدلاً من تقديم الإجابات. لسوء الحظ، عندما أصبح الفلاسفة أكثر رسوخًا في المساعي الأكاديمية، أصبح عملهم منفصلاً عن الخطاب العام. كان تراجع الفلسفة داخل الأوساط الأكاديمية يعني أن عددًا أقل من الأشخاص تعرضوا للأفكار الفلسفية خارج دورات المستوى التمهيدي التي تتطلبها برامج التعليم العام. وبالتالي، غالبًا ما واجه الطلاب " الفلسفة" كوسيلة لكبار أعضاء هيئة التدريس للتخلص من واجبات التدريس بدلاً من اعتبارها مجالًا محفزًا فكريًا للبحث.

أدى تراجع الفلسفة في الأوساط الأكاديمية إلى التركيز على التخصص الفائق بدءًا من كلية الدراسات العليا فصاعدًا، لقد تعمق الفلاسفة بشكل متزايد في مجالات بحثية ضيقة، مما أدى إلى مشاريع تقنية تتميز باللغة التي لا يمكن اختراقها والجفاف الأسلوبي. في حين أن هناك مكانًا للعمل الفني والتحليلي في الفلسفة، فإن هيمنة مثل هذا العمل قد طغت على الجوانب الأوسع والأكثر تأملية في هذا التخصص.

تاريخيًا، أنتجت الفلسفة أعمالًا كانت في متناول جمهور أوسع وتناولت القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية الملحة. وابتكر مفكرون مثل بيكو ديلا ميراندولا وإيراسموس ومونتين أعمالًا فلسفية لاقت صدى لدى الناس من جميع مناحي الحياة. لم تكن هذه الأعمال صارمة فكريًا فحسب، بل كانت أيضًا جذابة بشكل إبداعي.

لاستعادة مكانتها الاجتماعية وأهميتها داخل الأوساط الأكاديمية، يجب على الفلسفة إعادة اكتشاف قدرتها على التعامل مع الأسئلة الكبيرة واستكشاف الادعاءات الجريئة. ينبغي تشجيع الفلاسفة على متابعة مشاريع تأملية أكبر لتستحوذ على الخيال وتتخطى الحدود. ومن خلال إعادة التأكيد على الإبداع إلى جانب مخرجات البحوث في تقييم أعضاء هيئة التدريس، تستطيع المؤسسات الأكاديمية أن تعمل على تعزيز بيئة مواتية للتساؤل الفلسفي الذي يتجاوز الجوانب الفنية الضيقة.

ما يميز الفلسفة عن التخصصات الأخرى هو قدرتها على طرح أسئلة عميقة تتحدى المفاهيم المسبقة حول العالم الذي نعيش فيه. غالبًا ما تقودنا الاستفسارات الفلسفية إلى إعادة تقييم معتقداتنا وافتراضاتنا الأساسية. تفتح عملية التساؤل هذه طرقًا جديدة للاستكشاف وتساعدنا على فهم أنفسنا ومكانتنا في العالم بشكل أفضل.

في حين أن الفلاسفة قد لا يقدمون إجابات محددة على هذه الأسئلة، إلا أنهم يلعبون دورًا حاسمًا في تشكيل الخطاب العام من خلال إثارة قضايا مهمة يجب على المجتمع التعامل معها. إن رؤاهم في الأخلاق، والسياسة، وعلم الوجود، ونظرية المعرفة، وعلم الجمال - من بين مجالات أخرى - تقدم وجهات نظر قيمة حول التجارب الإنسانية المعقدة.

تمتد مساهمات الفلسفة إلى ما هو أبعد من الأوساط الأكاديمية؛ لقد أثروا في مجالات متنوعة مثل الأدب، والفن، والعلوم، وتطوير التكنولوجيا، وصنع السياسات، ومن خلال إدراك هذه الإمكانات متعددة التخصصات المتأصلة في اتساع موضوعات البحث الفلسفية، فمن الممكن للفلسفة أن تستعيد مكانتها كمجال حيوي داخل كل من الأوساط الأكاديمية والمجتمع ككل.

هل يكمن إعادة تصور دور الفلسفة:

لتنشيط الفلسفة داخل الأوساط الأكاديمية، من الضروري إعادة تصور دورها والغرض منها. ولا ينبغي للفلسفة أن تقتصر بعد الآن على جدران المؤسسات الأكاديمية فحسب؛ وينبغي أن تشارك بنشاط في المجال العام. و يجب على الفلاسفة المغامرة خارج نطاق المكتبية الخاصة بهم والإنشغال بإيصال أفكارهم بطرق يسهل الوصول إليها والتي يتردد صداها مع جمهور بطريقة واسعة .

وبدلاً من التركيز فقط على التفاصيل التقنية، يجب على الفلاسفة أن يتبنوا مشاريع تأملية أوسع تستكشف الروابط بين التخصصات وتعالج التحديات المجتمعية، وهذا يتطلب الابتعاد عن الاتجاه الحالي للتخصص المفرط نحو نهج أكثر شمولية وإبداعا.

إن تراجع الفلسفة داخل الأوساط الأكاديمية لا يرجع فقط إلى عوامل خارجية تؤثر على العلوم الإنسانية؛ كما أنه يتأثر بمشاكل الفلسفة الداخلية، من خلال إعادة الاتصال بطبيعتها الجوهرية كمجال يثير أسئلة مهمة ويستكشف الادعاءات الجريئة، وبهذا تتمكن الفلسفة من استعادة أهميتها داخل الأوساط الأكاديمية والمجتمع ككل.

ولكن وسط هذا التفاؤل الذي يبقى قائماً ما دام الإنسان حياً ومفكراً، تعلن الأوساط الفلسفية العربية والمصرية مفاجئتها من قرارات وزارة التعليم العالي والتربية في مصر من إلغاء الدرس الفلسفي من الثانويات العامة. ونرى أن لا محل لهذه المفاجئة ما دام هناك تاريخ من التفاوت والمفارقات في التعامل مع الفلسفة في قرارات وزارات التعليم العالي والتربية في البلدان العربية عامة. فبلداننا تتعامل مع الفلسفة والدرس الفلسفي في خجل ووجل، بين محرم لها كما كان حالها في السعودية، وبين من يبيحها ويسمح بها ولكن لا يرى جدوى عملية منها. ولعل انعدام الجدوائية العملية هي التي دفعت الحكومة المصرية إلى إلغائها من التعليم الثانوي في عامها الدراسي 2025. ولعله نفسه جعل الحكومة العراقية ووزارة التربية لم تدخل الدرس الفلسفي بشكل موسع في الثانويات العامة. وأبقت على درس هامشي لم يدخل حتى في التقييم العام للطالب طيلة عقود من تاريخ (الفلسفة المؤسسية) في العراق، وللإضافة لا يوجد في العراق إي جمعية فلسفية على الرغم من وجود 6 أقسام فلسفة، وهناك أعداد كبيرة من خريجي الفلسفة فيه. فهناك تفاوت كبير في العراق في التعامل مع الفلسفة، يضع الفلسفة في موقف اللاجدوى، وهذا التفاوت هو بين وجودها المؤسسي في وزارة التعليم العالي وتقليصها المؤسسي في وزارة التربية، مما يضعها مخرجاتها في موضع البطالة أو البطالة المقنعة . على عكس الأمر في دولة مصر العربية الشقيقة فيها كرسي اليونسكو للفلسفة، وفيها جمعيات فلسفية، وهذا ما يمكنها من توسيع تشاطها مجتمعياً تعوض به إلغاء (الفلسفة المؤسسية) من ثانوياتها. أما موقف الفلسفة في الجزائر الشقيق فعل هناك مساحة جيدة بين التعليم الجامعي للفلسفة والتعليم الثانوي، فضلاً عن انتشار الجمعيات الفلسفية فيه ولاياتها. ولعل موقفها في المغرب العربي مشابه للحالة الجزائرية، أما موقف الفلسفة في لبنان فهو أيضا متأرجح في الإهتمام الحكومي بين التعليم الجامعي والثانوي على مستوى المناهج وجدواها. أما في سوريا فالأمر مشابه تقريبا للحالة اللبنانية، أما في الخليج العربي فهو يتعاطى معها بشكل محدود جداً على مستوى الدراسة والبحث، ولعله لأسباب إيديولوجية كما هو الحال في السودان.

وما يُثير الأشكال أكثر في تعاطي البلدان العربية المتفاوت مع الفلسفة بالطريقة "المؤسسية" هو إن هناك تيارات فكرية تصنف بما يعرف (تيارات الفكر العربي المعاصر) إي أنه نتاج منظومة فكرية عربية مؤسسية تبعاً للإيديولوجيا التي تحملها سواء كانت قومية، أو شيوعية _ ماركسية، أو وجودية، أو ناصرية، أو مادية، أو عدمية، الهم إن يكون هناك متبنيات فكرية تحمي الدرس الفلسفي في إطاره المؤسسي، ليكون نافذتها للخطاب النخبوي والعام. ولكن حتى هذه البنية في التكوين الإيديولوجي للفلسفة داخل العقلية العربية لم يعد له وجود في الغالب. لذلك الفلسفة فقدت جدوائيتها العملية في التداول العام. وما يزيد الأمر تعقيداً هو ذلك الاختراق الكبير لعالم التكنولوجيا الرقمي والذكاء الأصطناعي وما يقدمه من بدائل عملية لتساؤلات طارئة وحلول سريعة. جعل الأمر يختلف تماماً عن العقلية التقليدية في التعاطي مع الفلسفة وقيمها الغنوصية. وهذا الواقع الجديد الذي وقعت به الفلسفة لا يخص (الفلسفة المؤسسية) عربيا ًبل حتى غربياً، وقد نوهنا لهذا الأمر في بداية المقال.

لذلك نعتقد ان الأمر مرتبط بالدرجة الأسس في الجدوى الفعلية من قيمة (الفلسفة المؤسسية) داخل المؤسسة أولاً، ورغبة الطلبة ثانياً، ولو المؤسسات المصرية عملت استبيان عن رأي الطلبة في قرار الوزارة بشأن إلغاء درس الفلسفة، نعتقد أن الإجابة ستعكس مستوى الرضا عن هذا القرار وتأييده.

***

الدكتور رائد عبيس

التجربة الصينية

عرضت مؤخرا التجربة البريطانية في التعليم، والتي يتميز نظامها بتعليم الطلاب المهارات الأساسية والتركيز على التفكير النقدي وحل المشكلات والتعلم التعاوني والتقييم المستمر وخلق بيئة محفزة للعمل (مصدر 1). في هذه الحلقة، التي تغيرعنوانها قليلا، سانتقل الى تجربة مختلفة تماما، وهي تجربة الصين، لاستعراض ايجابياتها وسلبياتها، وساتطرق باختصار الى عملية الاصلاح الجارية.

يمتاز النظام التعليمي الصيني بالعديد من الايجابيات، مثل التركيز على التفوق الاكاديمي والانضباط والهيكلية. ومع ذلك، يواجه ايضا تحديات مثل الضغط العالي على الطلاب والاعتماد على الحفظ والتلقين. هناك اتجاه نحو تحقيق توازن بين التفوق الاكاديمي وتطوير مهارات التفكير النقدي والابداعي لضمان نجاح الطلاب في المستقبل.

الايجابيات

يتميز النظام التعليمي الصيني بتركيزه الكبير على التفوق الأكاديمي، خاصة في المواد الأساسية مثل الرياضيات والعلوم واللغات، مما يساعد الطلاب على تحقيق نتائج ممتازة في المسابقات والاختبارات الدولية. يتصف هذا النظام بانضباطه وهيكليته الصارمة، مما يعزز مهارات إدارة الوقت والانضباط والتنظيم لدى الطلاب، وهي مهارات أساسية للنجاح الأكاديمي والمهني في المستقبل. ويتم إعطاء أهمية كبيرة للمواد الأساسية مثل العلوم والرياضيات واللغات، مما يوفر للطلاب أساسًا أكاديميا قويا يمكنهم البناء عليه في مسيرتهم الأكاديمية والمهنية. بالإضافة إلى ذلك، يولي النظام التعليمي الصيني أهمية كبيرة لتعليم مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة  (STEM)، مما يساعد الطلاب على التأهل للعمل في مجالات ذات طلب عالٍ مثل التكنولوجيا والهندسة. تنجح الصين أيضا في خلق أبطال رياضيين من خلال برامج رياضية متخصصة منذ سن مبكرة، واستخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي لتحسين الأداء، والتوازن بين التعليم والرياضة، والدعم الحكومي الكبير. هذه الاستراتيجيات المتكاملة تساعد في تحقيق نجاحات رياضية كبيرة رغم التركيز على التعليم الأكاديمي والضغط العالي على الطلاب.

السلبيات

النظام التعليمي الصيني معروف بضغطه العالي والمنافسة الشديدة بين الطلاب، مما يؤدي إلى مستويات عالية من التوتر والقلق، ويؤثر سلبا على الصحة النفسية للطلاب. أحد الانتقادات الرئيسية لهذا النظام هو اعتماده الكبير على الحفظ والتلقين بدلاً من تعزيز التفكير النقدي والإبداعي، مما يحد من قدرة الطلاب على التفكير بشكل مستقل وحل المشكلات بطرق مبتكرة. وبالرغم من أن الطلاب الصينيين يظهرون مهارات تفكير قوية في المرحلة الثانوية، إلا أنهم يفقدون هذا التفوق في المرحلة الجامعية بسبب نقص التحفيز والتحديات الأكاديمية في الجامعات. كما يركز النظام التعليمي الصيني بشكل كبير على الامتحانات، خاصة امتحان القبول الجامعي الوطني  (gaokao)، مما يمكن أن يقتل الإبداع ويحد من تطوير مهارات أخرى غير أكاديمية. هذا التركيز يؤدي غالبا إلى حياة رتيبة "من المنزل إلى المدرسة إلى المنزل"، مع ساعات دراسية طويلة والعديد من الامتحانات لكل مادة، مما يترك القليل من الوقت للأنشطة اللامنهجية أو الهوايات.

التاثيرات السلبية للتعليم القائم على الامتحانات على طلاب المدارس في الصين

في دراسة لروبرت كيركباتريك ويويبينغ زانغ  يشير فيه الباحثين الى الاثار الضارة لنظام التعليم القائم على الامتحانات في الصين على طلاب المدارس الثانوية. سلطت دراستهم الضوء على عدة قضايا رئيسية، منها:

- الاثار السلبية:  يمكن ان يعيق النهج القائم على الامتحانات خيال الطلاب وابداعهم واحساسهم بالذات. هذه الصفات ضرورية للنجاح داخل وخارج الفصل الدراسي. يمكن ان يؤثر الضغط للتميز في الامتحانات ايضا سلبا على الصحة النفسية والاجتماعية للطلاب.

- تاثير الارتداد: يشير مفهوم "الارتداد" الى تاثير الاختبارات على التدريس والتعلم. يناقش المقال كيف يمكن ان يكون لهذا التاثير جوانب ايجابية او سلبية، اعتمادا على السياق. في حالة الصين، يكون تاثير الارتداد سلبي الى حد كبير، حيث يعيق تركيز نظام التعليم على الامتحانات التعلم والتطوير الاوسع.

- الحجج السياسية: يستكشف الكاتبان الحجج السياسية والافتراضات الكامنة وراء النهج القائم على الامتحانات. يقترحون ان الضغط المعتدل للتميز، الى جانب تقليل التركيز على الامتحانات ذات المخاطر العالية، يمكن ان يحفز الطلاب بشكل افضل ويحسن النجاح الاكاديمي والرفاهية النفسية.

خلصت الدراسة الى ان النهج الاكثر توازنا في التعليم، والذي يشمل تقليل التركيز على الامتحانات، يمكن ان يؤدي الى نتائج افضل للطلاب من حيث الاداء الاكاديمي والتطوير الشامل.

وفي هذا السياق، لابد من الاشارة الى حصول تغييرات كبيرة في اتجاه اصلاح نظام التعليم في الصين في السنوات الاخيرة، فقد اتخذت الحكومة الصينية خطوات جادة لاصلاح النظام التعليمي بهدف تحسين جودة التعليم وتقليل الضغط على الطلاب. ادناه بعض الاصلاحات الرئيسية:

- حظر الدروس الخصوصية:  في حزيران 2021، حظرت الحكومة الصينية الانشطة التعليمية بعد المدرسة، مما ادى الى انهيار السوق للشركات التعليمية الخاصة. كان الهدف من هذا الحظر هو تقليل الضغط على الطلاب وتخفيف العبء المالي على الاسر.

- خطة تحديث التعليم 2035: تهدف هذه الخطة الى تحديث نظام التعليم في الصين بحلول عام 2035. تشمل الاهداف الرئيسية تحسين جودة التعليم في جميع المراحل، تحقيق حضور شامل في التعليم قبل المدرسي، وتوفير تعليم عالي الجودة ومتوازن في التعليم الالزامي (الصفوف 1-9)، وتحسين التعليم المهني والتقني.

- تحسين جودة المعلمين والبنية التحتية التعليمية: تشمل الاصلاحات تحسين جودة المعلمين وتطوير البنية التحتية التعليمية، بما في ذلك القوانين والسياسات واطار المؤهلات والتقييم.

- التعليم مدى الحياة:  تروج الحكومة لفكرة التعليم مدى الحياة وتشجيع التعلم المستمر في جميع مراحل الحياة.

تسعى هذه الاصلاحات الى تحقيق توازن افضل بين التعليم الاكاديمي والنمو الشخصي للطلاب، وتقليل التركيز على الامتحانات ذات المخاطر العالية.

في الختام، يمكن القول ان التجارب التعليمية المختلفة، سواء في بريطانيا او الصين، تقدم رؤى قيمة حول كيفية تحسين نظم التعليم. بينما تركز بريطانيا على تطوير مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات، تسعى الصين إلى تحقيق توازن بين مهارات الحفظ وتطوير مهارات التفكير النقدي. ان الاصلاحات الجارية في الصين تهدف إلى تقليل الضغط على الطلاب وتحسين جودة التعليم، مما يعكس التوجه نحو نهج اكثر توازنا وشمولية في التعليم.

***

ا. د. محمد الربيعي

........................

(1)

  al-nnas.com/ARTICLE/MAlRubey/4y01.htm

كنت وما أزل أنتقد وأرفض بحدة أي تدخل لرجال الدين والمراجع المذهبيين في الشأن العام، وفي شؤون إدارة وبناء الدولة والمجتمع لأن ذلك ليس تخصصهم بل تخصص الساسة والخبراء، من دون أن يعني ذلك حرمان رجال الدين من حقهم كمواطنين - وليس كزعماء ورموز في مجتمع متنوع ومنقسم طائفيا ومذهبيا وعرقيا- في التعبير عن آرائهم وقناعاتهم السياسية ومشاركتهم، وأكرر؛ كأفراد ومواطنين في العمل السياسي.

وقد كان للمرجع الشيعي علي السيستاني دور مؤثر وسلبي جدا من وجهة نظري في الوضع السياسي في العراق، سواء للتعامل مع الاحتلال والمحتلين الأميركيين سنة 2003 واعتبارهم ضيوفا كما نقل عنه المقربون منه، أو في إقامة نظام الحكم المحاصصاتي الجديد وكتابة الدستور المكوناتي الجديد، أو في دعم هذا النظام وتسويقه للمواطنين وإنقاذه من أزماته ...إلخ.

ولكني اليوم أرى فائدة قصوى من ترويج بعض فتاوى المرجع السيستاني بخصوص مواضيع محددة كتزويج الصغيرات القاصرات والزواج المؤقت والتجارة بالمخدرات. وكنت قد ذكرتُ في مناسبة سابقة أن هناك فتوى للمرجع تحدد سن البلوغ للبنت في التاسعة هلالية (أي ثماني سنوات وثمانية أشهر ميلادية). ولكني علمت مؤخرا أن المرجع السيستاني كان قد تحفظ على زواج الصغيرة وعلى الزواج المؤقت "زواج المتعة" وقال إن هذا النوع من الزيجات الذي كان موجودا في مجتمعاتنا قديما "انحسر في عصرنا" ولهذا حذف جانبا من فتاويه بهذا الخصوص من طبعات كتابه، وأدان الممارسات اللاأخلاقية تحت هذه العناوين من قبل بعض رجال الدين ينسبون أنفسهم إليه وطالب بردع المتاجرة بالجنس وتسجيل عقود شفهية مع فتيات دون السن القانوني.

معلوم أن هناك الكثيرين ممن يحاولون التلطي خلف المرجع السيستاني لتمرير هذا التعديل، ومن أبرزهم الشيخ رشيد الحسيني الذي هدد وتوعد وشتم بأقذع الألفاظ مَن يرفضون تعديل قانون الأحوال الشخصية وشكك بوطنيتهم وأخلاقهم رجالا ونساء. إن هذا السيد -  وهو بالمناسبة ليس وكيلا للسيستاني أو ناطقا باسمه كما قال هو شخصيا – يرى أن البنت القاصر هي التي لم تبلغ بعد، ويكون عمرها كما قال أقل من عشر سنوات، أما من هي في سن العشر سنوات فما فوق فليست قاصر/ الرابط 1. أي أن الفرق بينه وبين المرجع السيستاني هو سنة هلالية واحدة. أي أن الحسيني هنا يخالف الفتوى القديمة للسيستاني التي تقول إن سن البلوغ هو تسع سنوات هلالية أي ثماني سنوات وثمانية أشهر ميلادية.

ولكن المرجع السيستاني كان قد تحفظ على تزويج الصغيرات ولم يدرجه في الطبعات اللاحقة من كتابه كما قال في رد مكتبه على البرنامج الوثائقي الذي بثته قناة (بي بي سي) البريطانية حيث ورد حرفيا: "كان زواج الصغار ـــ أي زواج غير البالغة من غير البالغ ـــ أمراً متداولاً في العديد من المجتمعات الشرقية الى وقت قريب، ومن هنا تضمنت الرسالة الفتوائية في طبعاتها السابقة بعض أحكامه، ولكن لوحظ انحساره في الزمن الراهن فتمّ حذف جانب منه من الطبعات الأخيرة".

ويبدو أن المقصود هنا بـ "الزواج المنحسر مجتمعيا" هو تزويج الطفلة التي يكون عمرها أقل من تسع سنوات أي التي لم تبلغ بعد. ويبقى المطلوب أن ترتقي الفتوى السيستانية إلى التحفظ الواضح الذي عبر عنه بعض المراجع السُّنة العرب العراقيين كالشيخ عبد الستار عبد الجبار إمام جامع أبي حنيفة النعمان والقائل إنَّ "تلك الزيجات - وإنْ كان قد ورد ذكرها في عهد النبوة في سن التاسعة - فهي تخضع للعُرف في تلك الفترات، وهو ما لا ينطبق بالضرورة على وقتنا الحاضر". وينبغي المضي بهذه الفكرة إلى الأمام بشجاعة وتحويل هذا الكلام المتردد إلى دعوة صريحة لإبطال هذه التحديدات لسن الزواج لمن هُنَّ دون الثامنة عشرة وهو متوسط العمر العالمي لغالبية الدول الإسلامية وغير الإسلامية للإناث في عصرنا.

إن المطلوب وطنيا وإنسانيا هو تكريس الاحتكام إلى ما ورد في قانون الأحوال الشخصية 188 العراقي والدفاع عنه والدعوة لتطويره باتجاه تقدمي وعلى يد المتخصصين وليس تعديله باتجاه مذهبي وطائفي واستبداله بمدونات شيعية وأخرى سنية وثالثة مسيحية، واحترام السن المقرر للبلوغ وهو الثامنة عشرة مع منح القاضي حق بعض الاستثناءات المعللة حتى سن 15 فقط للفتيات ومنع زواج مَنْ هُنَّ دون ذلك السن.

* قصة البي بي سي: في شهر تشرين الأول من سنة 2019 كان قناة بي بي سي البريطانية قد بثت تحقيقا استقصائيا /الرابط 2. ووجهت القناة ثلاثة أسئلة إلى مكتب المرجع السيستاني ندرجها أدناه مع الأجوبة عليها:

السؤال الأول: "لدينا تسجيل مصور يثبت أن اثنين من رجال الدين في العراق ممن يصفون أنفسهم بأنهم من أتباع آية الله العظمى السيد السيستاني يخالفان القانون العراقي بتوفير او الاستعداد لتوفير نساء من أجل زواج المتعة وهما يتقاضيان مالاً لقاء هذه (الخدمة) التي تعد متاجرة بالجنس".

وكانت إجابته عليه: إن هذه الممارسات إن كان لها واقع كما ذكرتم فهي مدانة ومستنكرة بكل تأكيد، ومن هو من أتباع المرجعية الدينية حقاً لا يقوم بها، والزواج المؤقت الذي يجوز في مذهب الامامية ـــ وكذلك ما يشبهه من الزواج الدائم المبني على اسقاط الحقوق الزوجية عدا حق المضاجعة ــ لا يسوغ أن يتخذ وسيلة للمتاجرة بالجنس بالطريقة المذكورة التي تمتهن كرامة المرأة وانسانيتها، ولا يتبعها الا ضعاف النفوس الذين لا يتورعون عن استغلال الدين وسيلة للوصول الى اهدافهم غير المشروعة.

السؤال الثاني هو:" 2 ـ لدينا تسجيلات مصورة لرجال دين يقدمون نصائح دينية تفيد شرعية عقد زيجات مع أطفال دون السن القانوني في العراق وهو 15 عاماً. بعض رجال الدين هؤلاء يشيرون الى فتيات صغيرات جداً، كما أنهم يحددون الممارسات الجنسية التي يقولون إنها شرعية"

وأجاب عليه مكتب السيد المرجع بقوله: " هذا مدان أيضاً، ويجري عليه ما تقدم في أعلاه. ونؤكد على ضرورة أن تلاحق السلطات المعنية من يظهر في زيّ رجال الدين ويمارس هذه الافعال ويروّج لممارسات لها تبعات بالغة السوء على المجتمع وموقع الدين في نفوس الناس. ومن هنا يتعين على السلطات المعنية اتخاذ الإجراءات القانونية الرادعة عن هذه التصرفات المشينة أينما كانت".

السؤال الثالث للقناة يقول: "كتب سماحته في طبعات سابقة من (منهاج الصالحين) أنه لا بأس بما دون الوطء من الاستمتاعات الجنسية من الزوجة غير البالغة. نحن ندرك بأن هذه النصيحة لم تتضمنها الطبعة الأخيرة المتوفرة".

وقد أجاب السيد المرجع بقوله: "كان زواج الصغار ـــ أي زواج غير البالغة من غير البالغ ـــ أمراً متداولاً في العديد من المجتمعات الشرقية الى وقت قريب، ومن هنا تضمنت الرسالة الفتوائية في طبعاتها السابقة بعض أحكامه، ولكن لوحظ انحساره في الزمن الراهن فتمّ حذف جانب منه من الطبعات الأخيرة".

*فتاوى ضد المخدرات والمتاجرين بها: وفي السياق، ومما يحمد للمرجع السيستاني أنه نشر فتوى مهمة حرَّم فيها المخدرات حتى الخفيفة منها كالتنباك كما حرَّم المتاجرة بها وحتى نقلها ومقاطعة من يقوم بذلك، ولكنه أجاز استعمالها لأغراض طبية بأمر المختصين / الرابط 3.

لقد صدرت هذه الفتوى ونشرت قبل خمس سنوات ولكنها كما يبدو لم تنشر وحدث تعتيم إعلامي عليها من قبل الفاسدين والمشتغلين عندهم، ولم يتكلم عنها وكلاء المرجع وخطباء الجمعة ومن حقنا أن نتساءل لماذا هذا التعتيم على هذا الموضوع وبذل الجهود والاحتدام من أجل تعديل "تدمير" قانون الأحوال الشخصية؟

*من جانبه المرجع المحاصَر كمال الحيدري: سن البلوغ الجنسي للفتاة بين 12 و13 عام، ولكن سن الزواج وبناء الأسرة قد لا يكون ممكنا حتى في السابعة عشرة وهناك فقهاء معروفون يجيزون تزويج الطفلة الرضيعة ذات السنتين!

المرجع كمال الحيدري يكشف جميع الأسرار

منذ عدة أشهر، يخضع المرجع العراقي المقيم في مدينة قُم الإيرانية كمال الحيدري للإقامة الإجبارية في منزله. وهو مُقاطَع من قبل الإعلام وممنوع من التواصل وسبق للإعلام الرسمي العراقي أن منع عرض برنامج حواري معه يدعى "المراجعة" قبل ثلاث سنوات، بل وألغي البرنامج كله من القناة التلفزيونية الرسمية بأوامر وضغوط من جهات دينية نافذة. وقد جوبه الحيدري بسبب آرائه التجديدية الجريئة في الشأن الفقهي والديني عموما بحملة مضادة شرسة من الهجاء والتشنيع وتشويه السمعة والاتهامات الباطلة الظالمة والتي بلغت درجة من الإسفاف إنه أتُهِم فيها بأنه برأ يزيد بن معاوية من قتل الحسين وصحبه كما قال ذلك الشيخ ياسين الموسوي، وإنه ينكر عددا من ثوابت المذهب الشيعي الإمامي كعصمة الأئمة وظهور الإمام المهدي وتشبيه نفسه بالإمام علي بن أبي طالب. وهذه كلها اتهامات باطلة رد عليها الحيدري وفندها بأسلوبه التوثيقي واحدة واحدة. وشرح بعضها وخصوصاً عدم معصومية الأئمة بالرجوع إلى القرآن حيث لم تثبت عنده.

ومن باب التعريف بآراء مراجع إسلاميين مجددين وتنويريين سأعرض في هذا المنشور بعض آراء المرجع الحيدري في مسألة سن تزويج الفتاة الذي حدده بعض فقهاء المذهب الجعفري بتسع سنوات أو عشر سنوات هلالية ومسائل أخرى من مشمولاتها. أدرج أدناه خلاصات مما ورد في حديث السيد الحيدري مع الإشارة إلى أنني لا أتبنى العنوان المكتوب مع هذا الفيديو وقد استعضت عنه بعنوان آخر:

* يبدأ الفيديو بلقطات للسيد رشيد الحسني أبرز المدافعين عن تزويج الفتيات في سن العاشرة، محاولاً تمييع موقفه بالتفريق بين مشروعية هذا التزويج "الجائز شرعا" كما يقول، وبين صعوبة أو استحالة تطبيق هذا السن عمليا في عصرنا حيث إنَّ نسبة من يوافقون من الآباء على تزويج بناتهم في العاشرة – كما يعترف هو نفسه - قد تصل إلى صفر بالمائة أو واحد بالمائة.

* ويقول الحيدري: إنَّ بعض المراجع يجيزون زواج الطفلة في السادسة من العمر، بل وإنَّ علماء المسلمين جميعا، سنة وشيعة، يُسمح عندهم "بالدخول في الزوجة" في عمر ما بعد التسعة، أما الزواج - من دون الدخول - فمسموح حتى بالرضيعة. وهذا يعني - بيني وبين الله - أن الزوج يأخذ زوجته الطفلة ذات السنتين من العمر مثلا ويلعب بها لعباً جنسياً وهو عمره ثلاثين سنة. بينكم وما بين الله أي شخص يسمع عن مثل هذه الفتاوى ماذا سيقول عن هذا الدين؟ وهذه في فتاوى المعاصرين وليس القدماء! / الدقيقة 1 و40 ثا.

*وعن وجود هذا النوع من الفتيا في كتبه هو يقول الحيدري إنه كتبها كمادة فقهية لتأكيد أن هذه الفتاوى ليست هي الفقه القرآني. وأوردها في زمن هادئ –وليس في حال القيامة قائمة كما هي الآن -.

* وفي ندوة أخرى يقول السيد الحيدري أن الثابت القرآني لا يقول بالبلوغ فقط بل بالأهلية لإدارة الأسرة وهو أن نستأنس منهم رشدا فالآية تقول: " حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ". والرشد هو الأهلية العقلية والتصرف الرشيد ولها الأولوية على المال والبلوغ لأن الهدف من النكاح هو بناء الأسرة.

* يؤكد الحيدري أن سن البلوغ هو سن التكاليف لأنها متعددة وليس تكليفا واحدا ولكل تكليف ظروفه. ويقول إنَّ الموجود عندنا في فقهنا الشيعي يقول، إذا بلغت الأنثى، ترتب على بلوغها كل شيء، وهذا غير صحيح، ولم يقم أي دليل على هذا.

* ويضيف: ولم يثبت عندي أن البلوغ في العبادات في سن التاسعة أبدا أبدا. وهناك نصوص فقهية تؤكد أن لا صوم إلا بعد أن تأتيها العادة الشهرية وهي تأتي بين 12 و13 من عمر الفتاة". أما سن الزواج فلا يكون في هذه السن بل ربما في سن السادسة عشرة أو السابعة عشرة ولا تستطيع الزواج وإدارة أسرة وتربية أطفال بسبب تعقد الحياة المعاصرة وصعوبتها ومن لا يلتفت إلى هذه العوامل فلينتظر تصاعدا في نسب الطلاق الكبيرة كما هي الحال في العراق وإيران ودول إسلامية أخرى.

***

علاء اللامي

.........................

*روابط للتوثيق:

1-الرابط الأول: السيد رشيد الحسيني: البنت القاصر هي التي لم تبلغ بعد ويكون عمرها أقل من عشر سنوات

https://www.youtube.com/watch?v=5dXKntUJK_g

2-أسئلة مراسلة بي بي سي إلى المرجع السيستاني حول بعض الممارسات وأجوبتها

https://www.bbc.com/arabic/middleeast-50053215

3- رابط: المرجع السيستاني يحرم المخدرات والمتاجرة بها ونقلها ويعتبر الأموال الناتجة عنها أمول سحت حرام:

https://www.sistani.org/arabic/qa/0712/

4- رابط فيديو أحاديث المرجع كمال الحيدري حول سن البلوغ والنكاح:

https://www.youtube.com/watch?v=pXuXodZXVfM

يتفق الأطباء النفسيون على أن (الأسبرجر) هو اضطراب يتميز بنمط من الأعراض بدلًا من عرض واحد محدد، أوضحها ضعف في التفاعل الاجتماعي (كعدم الذهاب إلى المناسبات أو عدم زيارة قريب مريض في المستشفى) واتباع أنماط محدودة ومقولبة من السلوك والأنشطة والرغبات، ولا يظهر فيه  أي تأخر ملحوظ في الإدراك أو تأخر في الناحية اللغوية.

هذه المتلازمة  تم اكتشافها في 1994 على يد الطبيب النمساوي هانز آسبرجرالذي قام بعمل توصيف لمجموعة من الأطفال الذين لم يكن ينقصهم الذكاء أو اللغه لكنهم كانوا يفتقرون لمهارات التواصل غيراللفظي. وتلعب (الجينات) دورا أساسيا في تكوين الدماغ لدي الأسبرجريين،حيث تستقبل أدمغتهم المعلومات وتتعامل معها بشكل مختلف،الأمر الذي يؤدي الى صعوبات في اقامة علاقات اجتماعية وتأثير في تطورهم  المهني واستقرارهم الأسري.

عباقرة اسبرجر!

ستندهش اذا علمت ان متلازمة اسبرجر تعتبر مرض المشاهير، بينهم (ايلون ماسك) رجل الأعمال المثير للجدل الذي امتلك (تويتر وغير اسمه الى أكس) وتم تشخيصه بأنه مصاب بمتلازمة اسبرجر. وحين سئل عنها أجاب بأنه أحيانا يقول أو يكتب أشياء غريبة، لكن هذه هي الطريقة التي يعمل بها عقله!. وعلى الرغم من نجاحه المذهل، فإنه ما يزال يتعرض للتنمر و النظرات الدونية بسبب (اسبرجر).

وبين النساء ناشطة بيئية سويدية اسمها (غريتا) مصابة بها ،ومع ذلك فأنها رشحت لجائزة نوبل!..وقد وصفت (اسبرجر ) بأنها قوة خارقة.

وفي عالمنا العربي ..نشرت جريدة اخبار اليوم القاهرية عن طفل اسمه (نوح- ثمان سنوات) رفضت المدارس تسجيله لأصابته بها و لمستواه العلمي العبقري في اللغة الأنجليزية!

وأوضحت والدة الطفل" نوح "، أن ابنها ولد مصابًا بمتلازمة أسبرجر وهي التي جعلته يجيد اللغة الإنجليزية بطلاقة، دون تعلم، لكنه لا يمكنه نطق اللغة العربية!.!

والتساؤل هنا:

ترى كم طفل عراقي وعربي لدينا مصاب بمتلازمة اسبرجر، ننتبه الى مرضه ولا ندرك عبقريته؟!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

عندما كنت أكتب بحثي عن "العقل والإيمان في العصر الجديد"، تتبعت الأعمال المكتوبة باللغة العربية حول هذا الموضوع، فوجدت أن معظم هذه الأعمال كانت ذات طبيعة کلامیة وليس فلسفية. الكُتّاب العرب تناولوا هذه القضية بشكل أساسي برؤية کلامیة، بينما كان تفسيري لها ذو طبيعة فلسفية. في هذا السياق، قرأت أعمال الدكتور عبد الجبار الرفاعي، فرأيته يتناول هذه القضية بشكل أساسي من منظور فلسفة الدين. إسهامات الرفاعي أضافت بعدًا فلسفيًا قيمًا للموضوع، حيث لم يكتفِ بالتطرق إلى الأبعاد الکلامیة فحسب، بل عمق النظر في الأسس الفلسفية لتحليل الظاهرة الدينية وبيان الصلة بين العقل والإيمان. تظهر الرؤية الفلسفية في مؤلفات الرفاعي عن الدين في تعريفه للدين باعتباره "حاجة وجودية" كما يعبر عنه، وفي عناوين كتبه عن الدين، التي ورد فيها مصطلح الأنطولوجيا الفلسفية، كما في "الدين والظمأ الأنطولوجي"، وفي مصطلح الاغتراب الميتافيزيقي الفلسفي في كتابه: "الدين الاغتراب الميتافيزيقي"، وكثرة استعماله للتفسير الأنطولوجي الوجودي الفلسفي للدين، حتى عندما تحدث عن الكرامة في كتابه: "الدين والكرامة الإنسانية" وصف "الكرامة بقوله "مقام وجودي" منحه الله للإنسان عند خلقه، لذلك لا يمكن تجريده منها، ومصطلح "مقام وجودي" فلسفي، وهكذا فسّر الرفاعي الوحيَ بوصفه "طورًا وجوديًا يتسامى إليه النبي. الوحيُ حقيقةٌ أصيلة تعكس تكاملًا في وجود مَنْ يتلقاه، وتكشف عن صلة وجودية استثنائية للنبي بالله".

الدكتور عبد الجبار الرفاعي هو أحد الاستثناءات النادرة، حيث يتركز فكره على علم الكلام الجديد والتجديد الفلسفي للدين بشكل أساسي. يعتمد الرفاعي على البعد الفلسفي للحداثة الدينية، الذي واصل العمل على اشاعته في العالم العربي منذ أكثر من 30 سنة، من خلال مؤلفاته في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، ومجلته قضايا إسلامية معاصرة التي أصدرها منذ نحو 30 سنة، وصدر منها 80 عددًا مرجعيًا في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. عبد الجبار الرفاعي لبث سنوات طويلة في حوزة قم بعد انتقاله إليها من حوزة النجف، وتعلم اللغة الفارسية، مما أضاف أبعادًا جديدة لتكوينه الفلسفي. الرفاعي يعتبر جسراً يختصر المسافة الناجمة عن الاختلاف اللغوي بين خطاب الحداثة الدينية في العالم العربي والحداثة الدينية في إيران. أصدر الرفاعي في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد عدة مؤلفات، وهي: "الدين والظمأ الأنطولوجي" و"الدين والاغتراب الميتافيزيقي" و"مقدمة في علم الكلام الجديد" و"الدين والكرامة الإنسانية" و"الدين والنزعة الإنسانية" و "مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث"، وتصدر في هذه السنة 2024 موسوعة فلسفة الدين في 8 أجزاء من إعداده وتحريره. وعلى الرغم من ذلك، لم تحظ أعماله بالاعتراف الكافي حتى الآن، وإن كان من المرجح أن يصبح منهجه الفلسفي مؤثراً في خطاب الحداثة الدينية في العالم العربي في المستقبل القريب.

في تأسيسه لمشروعه للتجديد على فلسفة الدين يختلف عبد الجبار الرفاعي عن أكثر المفكرين الدينيين في العالم العربي. یقول الأستاذ مصطفی ملكيان: "إن منطلق الحداثة في إيران يقوم على انفصال الإنسان عن التراث، سواء في مقام الثبوت أو الإثبات. كلما زاد هذا الانفصال، أصبح الشخص أكثر حداثة. أما في العالم العربي، فالحداثة لا تقترن بالانفصال عن التراث، بل تعني قراءة جديدة ورواية جديدة له. المثقفون العرب يعيشون في برزخ بين العالم القديم والجديد، وينظرون إلى خلفيتهم الثقافية بمنظور جديد، بينما المثقفون في إيران انعزلوا تماماً عن التراث وتوجهوا نحو العالم الجديد. ربما ينبع هذا التمييز من كون تيار الحداثة في إيران - بما في ذلك الحداثة الدينية - ذا طابع فلسفي، مشابه للحداثة الأوروبية، في حين أن الحداثة في العالم العربي تعتمد بشكل رئيسي على العقل اللاهوتي وتُعتبر استمراراً للتراث العربي الإسلامي"[1].

كلام ملكيان في التمييز بين الاتجاه الحداثي في ​​إيران والعالم العربي يحتاج إلى مزيد من التأمل، وذلك: أولاً وقبل كل شيء، فإن تيارات التجديد في العالم العربي وفي إيران المعاصرة عديدة ومتنوعة. وقد تحدث ملكيان نفسه عن أشكال التجديد المختلفة في إيران، مثل: الهايدجرية، والوضعية، والماركسية، والحداثة الدينية وغير ذلك. وهكذا توجد في العالم العربي مدارس فكرية مختلفة، مثل: اليساريين، والليبراليين، والقوميين وغيرها، مما يدل على تنوع الحركة الحداثية في العالم العربي. إن اتساع الوطن العربي، من المغرب إلی مصر ومن الشرق إلی الغرب، عامل آخر أدى إلى تنوع حركة التجديد فيه. ونظراً لتنوع وتعدد حركات التجديد في إيران والعالم العربي، يبدو أن إصدار حكم عام في هذا المجال أمر يحتاج إلى مزيد من التفكير. وبدلاً من ذلك، يبدو أن أسلوب التفکیک هو الأكثر ملاءمة في سياق الحقيقة، لأنه يتجنب إصدار حكم عام ويتم مقارنة کل من الاتجاهات الحديثة في إيران وفي العالم العربي بشكل منفصل.

ثانياً، كانت حركة التجديد في إيران بدایة، مثل العديد من البلدان الأخرى، مصحوبة بنوع من الشعور بالهزيمة الذاتية أمام الحضارة الغربية. واعتبر عدد من مفكري الجيل الأول في إيران، الحداثة سلعة تجارية غربية، وزعموا أنه إذا دخلت السلع والتكنولوجيا الغربية إلى إيران، فيمكن أيضًا استيراد القيم الحديثة مثل الفردية والحرية والحقوق الطبيعية وغيرها. وفي مقابل هذه المواجهة التي يمكن تفسيرها على أنها غربية متطرفة ومتجذرة في العقل المجرد الكانطي- الديكارتي، ظهر تيار آخر يعتبر كل ما يأتي من الغرب مرفوضاً واستعمارياً. في هذا الوسط، يمكن وضع تيار المثقفين الدينيين في الوسط، لأن هذه الحركة حاولت ایجاد التوافق بين التقليد والعالم الحديث، بحيث لا تنقطع عن التقليد الذي اعتبر الدين عنصره الأساسي، ولا تتجاهل الواقع الحديث.

بشكل عام، يمكن القول أن حركة المثقفين الدينيين في إيران أصبحت أكثر فلسفية منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، وقد ابتعد الجيل الجديد من المفكرين الدينيين فی إيران عن التراث أكثر من الماضي. ويكفي لإثبات هذا الادعاء الرجوع إلى مؤلفات محمد مجتهد شبستري، ومصطفي ملكيان، وعبد الكريم سروش، ولا سيما رؤيته الأخيرة للحقيقة والمنهج، والدكتور سروش دباغ[2]، والدكتور آرش نراقي.

في حين أن كبار مفكري الوطن العربي مثل: الدكتور حسن حنفي، والدكتور طه عبد الرحمن، والدكتور أبو يعرب المرزوقي، وغيرهم ما زالوا يقفون على أرض التقليد، ويحاولون إعادة فهم التراث الديني وانتاجه بلغة جديدة، يفكرون في التراث لإعادة بناء التراث. القراءة الفلسفية للدين ليست شائعة بين أكثر المفكرين العرب. من النادر أن نجد موضوعات في فلسفة اللغة، والفلسفة التحليلية، والتأويل الفلسفي المعاصر في خطاب الحداثة الدينية العربية.

*** 

د. عبد البشير فكرت

أكاديمي من أفغانستان، آستاذ بجامعة کابول، کلیة الشریعة، مقيم اليوم في ألمانيا.

.....................

[2] مصطفی ملکیان: جریان‌شناسی فرهنگی معاصر ایران، ص10-11، سال 1376-1377 ش/ 1999 – 2000 م.

[3] الدكتور سروش دباغ ابن دكتور عبدالكريم سروش.

......................

المشاركة رقم: (15) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

لئن ركزت الدراسات التي تعنى بالتخلف في أغلبها على النواحي الاقتصادية والسياسية إلا أن للتخلف أوجها أخرى مرتبطة بتكوين الإنسان.

يعتبر الباحث اللبناني في علم النفس مصطفى حجازي من الكتاب القلائل الذين تناولوا بالبحث التكوين النفسي والذهني للتخلف. يربط حجازي التخلف بالقهر إذ يرى أن الحقيقة الأساسية التي يختبئ وراءها التخلف هي القهر.  يقول في كتابه "التخلف الاجتماعي: سيكولوجية الإنسان المقهور”  إن:

"الإنسان المقهور هو كائن مزيف فقد هويته، وأضاع أصالته، ووجد نفسه عاريًا أمام غربته عن نفسه وهو يحاول بشتى الأساليب ومن خلال مختلف الأقنعة أن يجد هوية بديلة”.

والهوية، استنادا إلى معجم لسان العرب لابن منظور، تعني حقيقة الشيء من حيث تميزه عن غيره، وتسمى أيضا وحدة الذات.

يضيف حجازي فيقول:"يتذبذب الإنسان المتخلف ما بين الشعور الشديد بالعجز عن استيعاب العالم، وبين طغيان مشاعر السيطرة على الواقع من خلال الحذق (الفهلوة).."

ونحن وإن ننقل بأمانة ما قاله مصطفى حجازي  عند ذكره كلمة "الحذق" إلا أن ترجمته للكلمة بلهجته (الفهلوة) يحيلنا إلى انه يقصد في الحقيقة الحذلقة وذلك في معرض حديثه عن ذبذبة الإنسان المتخلف بين شعوره بالعجز وتوقه إلى السيطرة على واقعه.

حسب تعريف معجم المعاني الجامع المتحذلق في كلامه هو المتصنّع، متكلّف الحذق والقدرة. كذلك هو من يُولي اهتماما زائدا لتعلّم الكتب والقواعد الرّسميّة، وغالبا ما حد يكون هذا الاهتمام للتباهي. يتبنى البعض الحذلقة  كأسلوب حياة لغايات تتعلق بحب الظهور..التموقع.

 الحذلقة ظاهرة منتشرة في كل ما يتعلق بالقول والكلمة والٱداء، وذلك بتقليد من يمتلك المعرفة، بطريقة مخادعة تتناول المعلومة بقشورها لا بمضامينها.

المتحذلقون في أيامنا هذه يجيدون التعبير ويحذقون اللغة..ينسجون القول المنمق ويحيكون الكلام الجميل ..تسمعهم أو تقرأ لهم أو تشاهد ما يؤدونه من أدوار فيشدك الشكل ولكن حين تتمعن في المضمون تجده مفرغا.

إن خطاب المتحذلقين يمكن أن يزدان بالكثير من أدوات المحاججة والإتقان ولكن إذا ما نظرت إلى أفعالهم ..إلى حقيقتهم تجد أنها بعيدة كل البعد عن تصريحاتهم ومداخلاتهم.

إن حالة المتحذلقين يمكن أن يفهمها الواحد منا إذا ما علمنا أن غاياتهم النفعية تبرر تصنعهم. والمنفعة هنا قد لا تكون بالضرورة مادية بل هي بالاساس معنوية ..هي بمثابة التعويض عن العجز عن الفعل والإنجاز..هي محاولة لمن لا حول له ولا قوة ليقول للعالم أنا هنا أنا موجود..هي عملية استعراض وبحث عن الاعتراف لتعويض الخواء الداخلي والشعور بعدم القيمة.

الطبيب النمساوي ألفريد أدلر"، أحد أهم رواد مدرسة التحليل النفسي، ومن إسهاماته الكبيرة ابتكاره مصطلح «عقدة النقص» و كذلك نظريته الشهيرة عن «التعويض».

 يرى " أدلر " أن مفهوم التعويض عن النقص يجب أن يكون له أثر إيجابي على الشخصية، فالشعور بالنقص قد يخلق رغبة جامحة في التفوق ويكون بالتالي محفزا للنجاح. لكن من جهة أخرى فإن للتعويض أثرا سلبيا عندما يضحى زائدا عن حده فيؤدي بصاحبه إلى الاستماتة من أجل البحث عن تقدير الٱخر بشتى الأساليب حتى تلك غير اللائقة منها.

يرى "أدلر" أن من يعاني من عقدة النقص يعيش صراعا أزليا بين هربه من الشعور بالتدني، وهوسه بإشباع الشعور بالتفوق.

من خلال هذا نتبين أن في التعويض الزائد عن الحد تأثيرا سيئا  على سلوكيات الفرد.

هذا ما يجعله مرائيا، لا يبغي من وراء كل أفعاله سوى رؤية الناس لها.

هكذا لا تكون القناعة هي أساسا لتصرفات الإنسان، فمثلا يكون المقصد الوحيد من فعل الخير والعطاء، الحصول على الثناء.

 كذلك لا تهدف ممارسة هذه القيم إلى إعلاء الإنسان  من شأن الإنسان بل تصب كلها في خانة الحصول على الاعتراف والتبجيل والتهليل..كلها وسائل لا يبغي صاحبها من ورائها سوى السعي المندفع، المحموم، إلى المكانة..مكانة يقلق كثيرا بشأنها فيسقط كل ما عداها ..لتصبح هي نقطة الوصول، تصبح هي الغاية.

هذا ما يجعل هوية الإنسان المقهور تلبس قناعا بديلا لا يعبر عن حقيقتها.. بل يتم بواسطتها الاستعاضة عن الهوية الحقيقية بهوية بديلة، مزيفة، مرائية.

صحيح أن  المرائي ومن خلال حذلقته يخدع الناس ولكنه في الحقيقة لا يخدع إلا نفسه التي فقدت أصالتها..هو يعيش إزدواجية تجعله عندما يختلي بنفسه يحتقرها  ..يطالع وجهه في المرٱة فيقول على حد تعبير فاروق جويدة : " هل ألمح وجهي أم هذا وجه كذاب؟"

***

درصاف بندحر - تونس

 

ثمة أفكارقتلتْ أصحابها في مقصلة الفكرالحرْ وحكايات (أرخنة) أحداث وحيثيات إرهاصات الصراع الطبقي قديمهُ وحديثهُ بأستهداف أصحاب الكلمة الحرَة لفوبيا نشرهم نشاطهم الفكري في ثقافة العقلنة المضادة للغيبيات اللاهوتية المكتسبة للقدسية لأجل السيطرة على الجمهور بأسركيانهِ وروحهِ وعواطفهِ إلى زمكنة منطقة (الصفر) حيث العزلة التامة وأستحالة الخروج منهأ وذلك بتعطيل ديناميكية العقلنة الماحقة للفنتازيات الغير واقعية في الأحداث الغيبية المقدسة ربما، وعند أفتقاد النص تلجأ جماعة الجهل والتجاهل لفتاوى الظلالة، مما أستوجب حضورجماعة العقلنة ومثقفو الواقعية الملتزمة بيد إنهم واجهوا الأضطهاد والنفي والتغييب والصعود لمقصلة الفكر الحر لسحق أجسادهم كمادة فانية وخُلدتْ أرواحهم وأفكارهم النبيلة أبد الدهر، أليس هو الغباء بعينهِ ؟ عند جمهورالجهالة في أنتحارفضاءات الأنسنة وحب الحياة، وإن ظنهم الخائب يقودهم حظهم العاثرإلى أعماق مستنقع الخيبة والخذلان والخواء الفكري والروحي، وليعلموا أن الطغاة كالأرقام القياسية تتحطم في يومٍ ما !!!، وثمة عتمة وضبابية لقضاة العدل في عوالم الرأسمالية ذات الأنظمة الشمولية لتشمل جغرافيتها منطقة الشرق أوسطي والشمال الأفريقي وجميع دول النفط الخليجية، ولا أستثني العراق منذ تأسيسه وبعمره القرن يتعايش الزمن المر ومحطات الخيبة تعمل جاهدة في حجب الحرية كوسيلة لأنهاء ونحر الحرية، وهم يتناسون إن الأفكار الحرة تبقي مضيئة في فضاءات الأنسنة وجنبات التأريخ البشري، ولا للفكر الظلامي إنها ثمة وصفة أنتحارللأمة .

ولا --لآعداء حرية الرأي لكونهم يبصمون كل يوم تصريحاً للقتل العمد، إن شواهد التأريخ المنصف للشعوب التواقة للحرية سجلت لأبطال مناضلين سحقوا بطرق وحشية وبقيت أرواحهم وأفكارهم مخلدة أبد الدهر تاركين بصماتهم بارزة في أرشيف السفر البشري أمثال:

- الفيلسوف سقراط تجرع السم وغُيب كجسد وخُلدت ْ أفكارهُ .

- صُلب اليسوع ونطقت خشبتهُ بالسلام والمحبة .

- وأغتيل جيفارا في غواتيمالا بعيداً عن وطنهِ وبقيت كلماتهُ الحرة والثورية تقلق مضاجع الطغاة .

- سيذكر التأريخ (لوركا) الشاعر والصحفي والرسام والناشط اليساري المسالم عدوالدكتاتورية والأثنية المقيتة، وربما دُقتْ لهُ أجراس همنغواي لأنهُ كان على موعدٍ مع الموت بايدي كتيبة متخصصة للأعدام الميداني من جنود فرانكو أثناء الحرب الأهلية الأسبانية في 19 يوليو تموز رمياً بالرصاص 1936 بتهمة كونه (يساري وأشتراكي)وأقل ما يقال عنهُ إنهُ صحفي مكلف بالأعلام الحربي، ومعلوم هي تلك القوى الخفية الناعمة ضد الفرانكوية الشوفينية في بدأ الحرب الأهلية الأسبانية حينما كان بعمر 38 عاما، وهذه أبيات آخر قصيدة لهُ بترميزة (ماريا) والتي يقصد بها قدسية الحرية :

ما الأنسان دون حرية يا ماريا؟!

قولي لي كيف أحبك؟

إذا لم أكن حُراً

كيف أهبكِ قلبي إذا لم يكن ملكي .

(أقتباس من مسرحية "نساء لوركا" في مهرجان قرطاج عام 2006 )

- وقُطع (الحسين بن علي) وأصحابهُ وأنصارهُ ال 72، بيد إنهُ ترك لنا مدرسة في الصمود والنضال ضد الطغاة وأرثا في الخلود الأبدي خلال أدلجة أفكارهِ الحرة في قولهِ : لم أخرج أشراً أو بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، إنما خرجتُ لطلب (الأصلاح) في الأمة، حقا هو ليس شخصاً بل هو مشروعاً وليس هو فرداً بل هو منهجاً وليس هو كلمة بل هو راية، جمع الحسين كل صفات القائد الفذ فهو حسين الشجاعة والغيرة والكرامة والصبر، شهيد الشرف والأباء وأحقاق الحق وشهيد الجهاد الحقيقي لانقاذ المضطهدين والمظلومين من طواغيت عصره، فكان هدفهُ الأصلاح الأخلاقي العقائدي حين ساءت الأمور في أرجاء البلاد، إذاً هي حركة نهضوية تصحيحية كانت فاتورتها الجهادية ثقيلة بتمريرهِ وأصحابهِ طعماً لمقصلة الفكر لسحق أجسادهم وبقاء أفكارهم التحررية خالدة منذ 1400 عام وما دامت الساعة .

- الحلاج هو أحمد الحسني منصور الحلاج، شيخ المتصوفة في العهد العباسي في العراق، ولادة منتصف القرن الثالث للهجرة حيث تمَ صلبهُ في 26 مارس 922 م – 309 هجرية أي مضى علي تغيبهِ ألف ومئة سنة، أتهم بالزندقة والخروج عن طاعة ولي الأمر الخليفة المقتدر بالله العباسي وذُبح الحلاج المثقف العربي وبقيت نظريته في (الفهم الخاطيء والمغلق للدين) مضيئة أعتبرته المتصوفة جهادا في سبيل أحقاق الحق والدفاع عن المظلومين لذا نكتب اليوم أفكارهُ الأنسانية لنشر ثقافة العقلنة .

- الدكتور فرج فوده من مصر أم الدنيا 1945-1992 كاتب ومفكر وصحفي وناشط في حقوق الأنسان بأيديولوجية ثابتة شعارهُ { دولة مدنية ديمقراطية } أغتيل على يد الجماعة الأسلامية (أخوان المسلمين) بسلاح ناري في 8 حزيران1992في القاهرة كان على موعدٍ مع مقصلة الموت بتكفير من الأزهر، كانت كلمتهُ الأخيرة وهو يحتضر : يعلم الله أنني ما فعلتُ شيئاً إلا من أجل وطني، وكان أعتراف القاتل ( عبدالشافي رمضان) إنهُ الذي قتل فرج فوده بسبب (فتوى) الدكتور عمرعبدالرحمن مفتي الجماعة الأسلامية بقتل المرتد فرج فوده، فلإنهُ مرتد، لما سئل من أي كتبٍ عرفت إنهُ مرتد ؟ أجاب بأنهُ لا يقرأ ولا يكتب ! ولما سئل لماذا أخترتم موعد الأغتيال قبيل عيد الأضحى ؟ أجاب لنحرق قلب أهلهِ ! .

مؤلفاتهِ

- كتاب قبل السقوط 1984

- كتاب الحقيقة الغائبة 1984

- كتاب الملعوب 1985

- كتاب الطائفية إلى أين ؟ 1985

- كتاب حوار حول العلمانية 1987

- كما كتب عدداً من البحوث والمقالات في جرائد المعارضة (جريدة الأهالي والأحرار) .

- محمود محمد طه من السودان مؤلف ومفكر سياسي 1909 – 1985 يعتبر أكثر المفكرين العرب جدلا في التأريخ بأفكاره العقلانية الحرة والتي ذكرها في أنجازاتهِ الفكرية الثقافية : حيث نادى بالمساواة بين الرجل والمرأة في الأرث والشهادة في (كتابه الثالث الأحوال الشخصية)، قسم التأريخ الأسلامي إلى قسمين العهد المكي والعهد المدني وأن العهد المدني في المدينة أنتهى بموت الرسول، ومن أهم الأفكار التي طرحها محمود محمد طه في كتابه (الرسالة الثانية من الأسلام) بطلان آيات الجهاد، وأكد لا حجاب للمرأة في كتابه الرابع (عقل المرأة وخلقها)، وطبق عليه الحد وأعدم بتحالف الأزهر ورابطة العالم الأسلامي في السعودية وجماعة الأخوان المسلمين في عهد الرئيس الأسبق في السودان جعفر النميري في 18- 11-1985، وأغتيل شنقاً بتهمة الردة عن الأسلام بيد أن أفكارهُ شكلت تحدياً أخلاقيا في مواجهة محترفي التجارة بآلام الشعوب وتطلعاتها، إنها أزمة تفسير الدين كما تعتقد جماعة جمهور النص المقدس .

- علي شريعتي المفكر الأيراني الذي أغتيل في لندن عام 1977 لكونه ملتزم بقول الحق والكلمة الحرَة، يقول سألتُ صديقي لماذا لا أسمع صياح ديككم ؟ قال: أشتكى منهُ الجيران فذبحناه ! أدركتُ حينها من يوقظ الناس يقتل!؟، أصبح تأويل الدين وتحريف أفكارهِ مصدر دخل لوعاظ السلاطين وحراس المعابد (كتاب " الأنسان الحر " د- علي شريعتي ) .

- كامل شياع : أغتيال عقل وموعد مع الموت المجاني، أنهُ من رعيل مثقفي النور والضياء، الحقيقة أعجبتُ بكتابه ومنجزه الثقافي المميز (عشاق العراق) حيث كان ينظر بعيدا في صنع دولة المدينة الفاضلة (اليوتوبيا) حيث السلام والحرية والخبز النظيف، وإلى بناء وطن يسع جميع مكوناتهِ الجميلة، عاد إلى الوطن الأم بعد سنوات الجمر ومشاعر الجلد الذاتي للمنفى القسري أعطي منصب مستشار في وزارة الثقافة ليسهم في بناء وطن جديد بمشهد أنساني ملتزم ولأنسنته التي لم يقبل عليها الظلاميون أمطروه بوابل من الرصاص في 23 \8\2008 ليسكتوا كل شيء جميل في رأس الشاب المناضل ا لعراقي كامل شياع .

ولتعلم مقصلة الكلمة الحرة إن التعبير عن الرأي حقَ مشروع ومكفول ليس أمتياز تمنحه الدولة لمواطنيها وإن حق التعبير والأعتقاد يعتبران الرافعة الأساسية للديمقراطية، وكل الحقوق والحريات مكفولة في الدستور العراقي للعام 2005 (المادة 13 يعتبر الدستور القانون الأسمى والأرفع في البلاد، والمادة 37 حماية الأفراد من الأكراه الفكري والسياسي والديني، والمادة 38 تكفل حرية الصحافة والتظاهر السلمي، والمادة 45 تكفل الدولة تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني، وللعلم إن الفقرات الواردة في الدستور ا لعراقي مكفولة أممياً في الأتفاقات الدولية .

والشكر الموصول لمؤسسة المدى لجمعها نتاجات المثقف اليساري المغدور " كامل شياع " الأدبية ا لثقافية في ثلاث كتب تحيي فيها أفكارهُ الأنسانية النبيلة : كتاب تأملات في الشأن العراقي، كتاب قراءات في الفكر العربي والأسلامي، كتاب الفلسفة ومفترق ما بعد الحداثة .

***

عبد الجبار نوري

كاتب وباحث عراقي مغترب

في آب أوغسطس 2024

شهدت روسيا عدد من عمالقة الادب معظمهم كان في العهد القيصري باستثناء (مكسيم غوركي) الذي عاصر الثورة الروسية التي وقعت عام 1917، وابرز هؤلاء الادباء: تولستوي 1910- 1828 وهو روائي، تور جنيف: روائي، دستوفسكي: روائي، بوشكين وهو شاعر وكان لهؤلاء دورهم الكبير في الاحداث السياسية التي شهدتها روسيا في ظل القياصرة حتى قيام الثورة الروسية فقد شغلوا الساحة الفكرية ردحاً من الزمن برواياتهم واشعارهم الامر الذي هيأ اذهان الشعب الروسي لتقبل الأفكار الثورية التي حدثت عام 1905 ثم ما تلتها من احداث سياسية غيرت الواقع الروسي وقلبته رأساً على عقب وكان دورهم يشبه دور فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو في احداث الثورة الفرنسية عام 1789 م

جاء في الموسوعة السياسية لعام 1974... (يعتبر تولستوي بين رواد الفكر الاشتراكي العالمي والغريب ان تولستوي كان من الطبقة العليا من الشعب فقد ورث (3000) فدان يعمل فيها (330) فلاحاً، ومكانة تولستوي كأديب قصص اعظم بكثير من مكانته كمفكر سياسي،وقد تنازل تولستوي عن ثروته ولقبه وكان يأكل كالفلاحين ويرتدي زياً كأزيائهم ويرقق حذائه بيده ....)

تدل مسيرة تولستوي على انه كان رجلاً عظيماً وغنياً متواضعاً محباً للسلام ونابذاً للعنف الذي يؤدي الى الكراهية والحروب فعندما أعلن عن تحرير الفلاحين في روسيا أنشأ على نفقته الخاصة مدرسة لتعليم اولاد الفلاحين وقام بالتدريس في هذه المدرسة، وكان يعتبر الحرب ظاهرة غير طبيعية تناقض المبادئ الانسانية ويعتبرها قضية غبية، كان يقول عن نفسه (.. كان يحدث معي شيء غريب فتأخذني الحيرة والكآبة..) وكان يرى انه في حضارة الشرق مخرجاً للأزمات التي كان يعاني منه.

وعلى الرغم من وجود هذه الصفحات المشرقة من حياة هذا الرجل الا انه لم يسلم من النقد والتجريح فقد اتهمه اعداءه بأنه فوضوي أي انه كان في افكاره يميل الى (الفوضوية) التي كان يتزعمها (باكونين) وانصاره ذلك لأنه كان يحلم بتنظيم المجتمع بلا ملكية وبلا دولة لكنه لم يؤمن بالعنف الذي كانت تؤمن به الفوضوية واتخذ من الدين خلاصاً لروحه الباحثة عن الخلاص بشرط ان يكون الدين خالصاً لله بدون خوف ولا طقوس، وكان يقول ان الحب هو مشكلة الانسان التي تضيء حياته ولهذا كان يرى ان الحب المسيحي لا يتلائم مع ما ترتكبه الدولة من إثم لان الدولة تمنح نفسها القدسية وتضطهد المواطنين وترسلهم الى الحروب .

يرى بعض الباحثين الروس ان تولستوي اعتنق الاسلام وقد نشرت وسائل الإعلام في الدول العربية والاسلامية بفرح غامر باعتبار ان الاسلام قد كسب أشهر روائي روسي في القرن التاسع عشر وقد استدل هؤلاء الباحثين على عدد من المعطيات التي تثبت اسلام تولستوي منها:

1-انه تعلم اللغة العربية على يد اساتذة متخصصين كي يقرأ وليفهم آيات القرآن

2-انه عندما ذهب الى الشيشان صلى مع المسلمين في أحد المساجد

3-كان يقول: ان الدين الإسلامي ابعد الأديان عن الخرافات

4-انه امتدح النبي محمد وشعار الإسلام (لا إله الا الله) وقال ان الإسلام لم يجعل لله شريكاً ولا ولداً وانما هو عبادة خالصة الى الله

 5-أوصى ان يدفن كمسلم، ولم توجد على شاهدة قبره علامة الصليب الا ان اعتناقه للإسلام لا يزال موضع شك.

لقد تأثر عدد من الشخصيات العالمية بعقيدة اللاعنف التي جاء بها تولستوي أبرزهم (غاندي) ابو الهند الذي تزعم حركة (اللاعنف) في الهند لهذا يمكننا ان نقول لقد كان تولستوي هو المؤسس لمبدأ (اللاعنف) النظري فإن غاندي هو الزعيم الميداني لها خلال (50) عاماً وانه عرف كيف يوجه هذه العقيدة في مسألة تحرير الاوطان ومقاومة الافكار الشريرة وكانت النتيجة حصول الهند على استقلالها من بريطانيا من خلال عقيدة اللاعنف هذه.

ومن الذين تأثروا بحركة (اللاعنف) مارتن يوشركنج الزعيم الامريكي الاسود المطالب بحقوق السود في الولايات المتحدة الأمريكية وقد حقق كنج عدة انتصارات في كفاحه ضد التفرقة العنصرية حتى اغتياله عام1968.

كانت علاقته بزوجته علاقة سيئة، لقد تحول من روائي الى مصلح اجتماعي فقد كان مشغولا بالإنسانية وزوجته مشغولة بالأملاك ومصير املاكه بعد وفاته، كانت زوجته توبخه عندما يلبس ملابس مثل الفلاحين وترى ان هذا لا يتناسب مع مكانته الاجتماعية، يقال ان سبب وفاته انه تشاجر مع زوجته وخرج غاضباً وكان الطقس بارداً فأصيب بالتهاب رئوي مات على إثره، لقد بكى الفلاحون خلف نعشه، بكته النخبة وفقراء الريف.

***

غريب دوحي

 

كيف ننظر الى زوج يغفر لزوجته عدم إخلاصها؟

بقلم: ريبيكا روث غولد

ترجمة: صالح الرزوق

***

من هنري جيمس إلى جاك رانسييه، افترض قراء رواية غوستاف فلوبير الرائعة "مدام بوفاري" (1857) أن الرواية تعبير عن  تماهي المؤلف مع بطلته. مثل هذه القراءات تتجاهل تشارلز بوفاري، الشخصية التي تتناقض بطيبتها تماما مع اهتمام إيما بذاتها.

أقترح أن ننظر إلى ما هو أبعد من صورة شارلز الأحمق والفاشل  لتسليط الضوء على مصادر مأساة إيما. فمعاناة إيما لا تبدأ بالقمع الناجم عن الزواج، بل بخوفها من احتمال مسامحة زوجها. بعد أن قام جباة الديون بمصادرة ممتلكاتها ووقوف إيما بوفاري على حافة الإفلاس، تقف وسط يأسها لتتخيل ماذا سيكون رد فعل زوجها عندما يدرك أنها أهدرت كل ثروته.

تتخيل إيما شارلز يقول لها:" ارحلي. هذه السجادة التي تمشين عليها لم تعد ملكنا. في منزلك، لا يوجد كرسي أو دبوس أو حصيرة، وأنا، الرجل الفقير، الذي أفسدك.  وإلمام إيما بشخصية شارلز ساعدها على تخيل رد فعل زوجها على خبر الإفلاس: «سينوح، وبعد ذلك سيبكي، وفي النهاية، ستمر المفاجأة، ويغفر  لها". وينجم عن شبح مغفرة تشارلز ازدراء إيما لنفسها أكثر من احتمال ازدراء عشاقها. تمتمت إيما من بين أسنانها: "نعم، سوف يسامحني، هو الذي سيعطيني مليونًا لأنني غفرت له غلطته بالزواج مني!".

وبدلاً من أن تتعذب بسبب غفران زوجها، تختار إيما الموت. والواقع أن الاحتمال الأكثر رعباً بالنسبة لإيما على الإطلاق هو "القمع" الناجم عن "شهامة" زوجها. إيما ليست القارئ الوحيد الذي يحتقر أساليب شارلز ضعيف الإرادة. واعترف الناقد المميز هنري جيمس  أن شارلز بوفاري هو "الشخص الطيب الوحيد في الكتاب" ولكنه يضيف إنه "غبي طيب وبلا حول ولا قوة". في تقدير جيمس، كما هو الحال في تقديرات العديد من القراء اللاحقين، حظيت إيما وحدها من بين جميع شخصيات الرواية بتعاطفنا ومودتنا. قد يبدو أن مثل هذا الأسلوب في النص يجد دعمًا في تحفظ فلوبير الواضح على بطله غير المحتمل.

في حين يُقال إن فلوبير أعلن

La Bovary, c’est moi (أنا [مدام] بوفاري)، وذلك بعد أن اطلع على مراجعة بودلير للرواية، حافظ على الصمت، المزري على ما يبدو، تجاه زوج مدام بوفاري. ومع ذلك، حتى في غياب إعراب المؤلف الصريح عن طيبة شارلز، هناك الكثير في الرواية مما يشير إلى أن شارلز يستحق اهتمامًا وتعاطفا أكبر من القراء.

ومع أن الرواية تتحدث بشكل ساخر عن عيوب شارلز الشخصية، إلا أنها تؤكد أنه على الرغم من الكبت الذي تعرضت له إيما بسبب حياتها الريفية ضمن الطبقة المتوسطة، لم يكن زوجها مصدر معاناتها. علاوة على ذلك، فإن عدم قدرة إيما على تقدير طيبة زوجها ساهم في تدميرها.

شارلز وخيانة زوجته

كان من الممكن أن تتعلم إيما من قدرة زوجها على المسامحة. وقد حان الوقت لقراءة تشارلز بوفاري على عكس التأويل المعهود الذي ينظر إلى زوج إيما البائس وكأنه مجرد خلاصة لكل شيء لا تجده لدى زوجته. والطبيعة الأخلاقية لأعمال فلوبير الرائعة أكثر تنوعًا مما اعترف به معظم القراء. لم يكن الانتحار خيار إيما الوحيد. لو كانت إيما على قيد الحياة لتعلمت من قدرة زوجها على المسامحة. ينظر معظم قراء الرواية إلى إيما كما ترى هي نفسها: امرأة اضطهدتها الأعراف البورجوازية، موهوبة برؤية ما وراء التقاليد المحلية، لكنها تفتقر إلى ما يكفي لتحقيق أحلامها السامية.

ومع ذلك، هناك مناسبات عديدة يظهر فيها شارلز مع إيما ويبدو فيها أنه أقل عناية من زوجته بالتقاليد.

عندما يدعو رودولف بولانجر، الذي سيصبح حبيب إيما قريبًا، إيما لركوب الخيل، تقاومه إيما في البداية. في نهاية المطاف يقنع شارلز زوجته بانتهاك العرف الذي يحض المرأة المتزوجة أن لا تخرج بمفردها مع رجل آخر. تحتج إيما أن هذا السلوك سيكون غير مقبول لأنه قد يبدو غريبًاdrôle  بنظر جيرانهم.  وتشعر بالقلق من رؤية امرأة متزوجة تركب بمفردها مع رجل آخر غير زوجها. وتعتقد أن هذا يسبب فضيحة لها. يرد شارلز بجرأة: “أي شيطان يدعوني للاهتمام بالأمر. الصحة أولا! أنت مخطئة."

كان الزوج التقليدي أو الغيور يصر على الركوب مع زوجته بدلاً من تركها تركب بمفردها مع رجل آخر. ولكن يبذل شارلز قصارى جهده لإقناع إيما بالذهاب مع الرجل الذي، دون علمه، سيصبح قريبًا منافسًا له ويبدأ في تدمير زواجهما. تمامًا كما حث تشارلز إيما عن غير قصد على علاقة حبها مع رودولف من خلال تشجيعها على الركوب معه إلى الغابة، كذلك يوفر شارلز أيضًا الدافع الأولي لتحقيق رغبة ليون وإيما، وفي نفس الوقت يتحدث الأصدقاء الثلاث في روان بعد عرض لاغاردي أوبرا دونيزيتي لوسيا دي لاميرمور (المقتبسة من رواية السير والتر سكوت). يشترك ليون وإيما بازدرائهما لأداء لاغاردي، ويعرب شارلز عن أسفه لاضطرارهما إلى المغادرة قبل انتهاء العرض. وكما لو أنه يرغب في منح زوجته الفرصة للاستمتاع بشيء  لا يمكنه توفيره، يقترح عليها أن تبقى  في روان ليلة إضافية،  ويعود هو إلى المنزل بمفرده. ويكرر شارلز خطأه في إقناع إيما باتباع المسار الذي سيبلغ ذروته بعد تدمير زواجه، ويتهمها أنها مخطئة tu as tort  حين تقيد سلوكها بقيود اللياقة الاجتماعية: قائلا: "أنت مخطئة إن لم تبقي. مع انك تشعرين أن البقاء يفيدك ولو بأدنى الحدود".  وإصرار شارلز أن إيما مخطئة أمر مثير للسخرية، لأنه في كلتا الحالتين تدفع هذه التهمة إيما إلى نهاية الطريق الذي سيدمر زواجهما، فالبقاء في روان ليلة إضافية يمنحها الفرصة لمعاشرة ليون ليكون عشيقها الثاني.

على الرغم من السخرية غير المقصودة في كلماته، فإن محاولة شارلز النظر إلى ما هو أبعد من التقاليد الاجتماعية من أجل إسعاد زوجته محاولة غير تقليدية وجريئة. والأمر الأكثر غرابة بالنسبة لزوج في بيئته هو أن  يؤيد مغامرات إيما الأسبوعية في روان  بالموافقة على دفع تكاليف دروس العزف على البيانو الأسبوعية مع الآنسة لامبرير ، وهي دروس لم تعط أبدًا في الواقع. توفر هذه الدروس (غير الموجودة) الذريعة للقاء إيما الأسبوعي مع ليون. لكن ليس عدم مبالاته بالتقاليد هو ما يميز شارلز عن بقية سكان يونفيل فحسب. الأمر اللافت، إن لم يكن بالضرورة الجذاب، هو المودة الشديدة التي لا تنتهي، والتي يخص بها تشارلز زوجته، لدرجة الحب والمسامحة، حتى عندما يعلم بعد وفاتها أنها كانت على علاقة غرامية مع رجال آخرين.

تشارلز يخبر بالحقيقة

عندما علم بخيانة إيما من الرسائل المحشوة في درجها، تعاطف معها أولا. بعد وفاة إيما، يلتقي رودولف وشارلز وهما بطريقهما إلى السوق في أرجيل. ربما لتجنب حرج اللقاء بعد وقت قصير من وفاة إيما، دعا رودولف شارلز لشرب البيرة معه في الحانة المحلية. يقبل شارلز عرضه. أثناء حديثهما، يتجنب رودولف موضوع وفاة إيما، وبدلاً من ذلك "يملأ كل الفراغات بعبارات شائعة" قد توفر فرصة للإشارة إلى علاقته مع إيما. ومع ذلك، يرفض شارلز مثل هذه المحادثات، ويقاطع مونولوج رودولف بالإعلان الصريح، وإن كان غير متوقع ويقول له: "أنا لا أحمل شيئا ضدك".

بالكلام على علاقة حب إيما، يكون شارلز قد أعلن عفوه على رودولف، وهذا من شأنه أن يخفف من حدة مداخلته. بقدر ما يتناغم شارلز، مثل أي شخصية، مع إيقاع الصمت،  لا يحاول كذلك تحديد معناه. وبدلاً من ذلك، يضيف إلى إعلان العفو الخاص ملاحظة كانت وفقًا للراوي هي العبارة البليغة الوحيدة (الكلمة الأساسية) التي نطق بها شارلز: "كان هذا خطأ القدر". يرى رودولف أن ملاحظة شارلز عديمة الذوق، "ومبالغ فيها بالنسبة لرجل في مثل وضعه، وحتى أنها هزلية، وحقيرة بعض الشيء". نظرًا لكثرة الكليشيهات والخداع في خطاباته، فإن رودولف غير مؤهل لإصدار حكم على شخص يتحلى بإخلاص وتعاطف يفوق إخلاصه وتعاطفه. في نهاية السرد، يبدو أن رودولف، على الرغم من ذكائه، مقيد أكثر من شارلز بالخيال الفاشل. ولا يستطيع رودولف فهم الفروق الدقيقة التي تعمق شخصية شارلز، ولكنها أيضا تضعفها بسبب خيانة زوجته.

نظرًا لبلادة مخيلته، لا يستطيع رودولف إلا أن يرى أن عفو شارلز عنه  غير مستحب، وهو إساءة لرخاء المجتمع.  لو كانت إيما قادرة على رؤية هذه العيوب في تفكير رودولف، لربما وجدت السعادة، حتى في مقاطعة يونفيل. ويبقى القراء تحت تأثير انطباعهم عن شارلز باعتبار أنه رجل غريب الأطوار، ومرهق، ومتعثر، وفي بعض الأحيان متواضع، فإن نقاط الضعف هذه ذاتها تتسبب في تسامي شخصيته في بعض الأحيان بشكل أوضح. في الواقع إن شارلز مجرد إنسان مدرك لما حوله. عندما علم بخيانة إيما من خلال الرسائل المحشوة في درجها شعر بالتعاطف. وهذا بالتأكيد رد فعل غير عادي بالنسبة لزوج مغدور به، حتى لو أنه زوجته ميتة. بدلاً من أن يستفز الغضب تشارلز من إيما أو منافسيه، يسعى إلى الوصول إلى أعماق معاناة زوجته. واستعداده للعيش بظل ألم زوجته - الألم الذي دفعها إلى إنهاء حياتها، وتركه يشعر بأنه مهجور ووحيد - كان أكثر حدة من اهتمامه بنفسه.

بدلاً من أن تسيطر على شارلز أشكال الغيرة التقليدية والتي يمكن التنبؤ بها، تغلبت عليه  رغبة عاطفية وجنسية في نفس الوقت تجاه زوجته المتوفاة. وتتعزز هذه الرغبة بعد  اكتشافه لرغبات الرجال الآخرين بها. كانت أسباب خيانة إيما، كما يقول شارلز، ورفضه أن يحكم على حبيبته، منطقية فقط. يقول لنفسه: "من المؤكد أن جميع الرجال كانوا يطمحون إليها". يقدم الراوي تأملات بروستية حول تداخل الزمن والرغبة: فقد كانت إيما “تبدو له أكثر جمالا بسبب هذا؛ لقد استحوذت عليه رغبة دائمة وغاضبة تجاهها، مما أثار يأسه وكانت لا حدود لها لأنها أصبحت الآن غير قابلة للتحقيق".

ألوان الحب العديدة عند شارلز

يحب شارلز إيما لسبب بسيط له علاقة بنكران الذات حتى أنه كرس حياته لحبها. شارلز ليس قديسا. وهو ليس محصنًا ضد مفارقات المودة الإنسانية، كما يتضح من استعداده لقبول نسخ حبه لإيما،  ويتوقف ذلك على مدى استحسانها للرجال الآخرين، وعلى حقيقة أن رغبته وذكاءه المحرج  لا يشتعل إلا  بعد أن أصبحت علاقتهما الفيزيائية مستحيلة. كانت عاطفة شارلز تعاني من نقطة ضعف بالمقارنة مع عواطف رودولف الحسية. والفرق البارز بين أساليب الحب لدى المتنافسين يؤكد أن حب شارلز غير المعصوم من الخطأ لا يضر بموضوعه، في حين أن حب رودولف ساعد على تدمير إيما.  وكل هذه الأمثلة توضح الفرق الجذري بين حب شارلز لإيما والرضا الجسدي والرومنسي الذي تبحث عنه إيما، دون أن تعرف في الواقع ما تريد حقًا. ويحب شارلز إيما حتى عندما لا يحمل هذا الحب أي أمل في الإشباع. وهو يحب إيما جزئيًا بسبب جمالها، وهذه سمة مادية، مثل الصفات الجسدية التي تجذب إيما إلى رودولف وليون. ولكن، على عكس إيما - وعلى عكس أي شخصية في "مدام بوفاري" - يحب شارلز إيما لسبب بسيط وغير أناني ويكرس حياته لحبه لها. يحب تشارلز إيما لأنها على طبيعتها ولأنها جزء من ذاته. وهنا يكمن سمو شارلز بوفاري، الذي لم تتمكن أي شخصية في الرواية من إدراكه، ومن المدهش أن يلاحظه حفنة من قراء الرواية فقط. 

قلب بسيط

كانت إيما قادرة على تحمل قسوة شارلز، لكنها لا تستطيع تحمل لطفه. إن تعاطف تشارلز الغريب يتنبأ بتعاطف الخادمة فيليسيتيه، بطلة رواية «قلب بسيط» لفلوبير (1877). مثل شارلز، إلى حد أكبر، تحدد فيليسيتيه حياتها بأكملها من خلال عاطفتها تجاه الآخرين. كتب فلوبير "قلب بسيط" لإثبات قدرته على تصوير الشخصيات البسيطة بشكل عاطفي، كما تقول بريسيلا ماير. تتمتع فيليسيتيه، مثل شارلز، بتعاطف غريب يتم الاستغناء عنه دون تفكير ودون اعتبار للربح أو إرضاء الذات.

حينما كانت فيرجيني طفلة، وعهدت بها عشيقتها السيدة أوبين إلى فيليسيتيه للرعاية، وحملت الكأس المقدسة من أجل مناولتها الأولى، تراقب فيليسيتيه الإجراءات كما لو كانت تخضع لطقوس العبور بنفسها. تعمل لغة فلوبير  لمواءمة قدرة الكاتب على تصوير حياة الكائنات الغريبة مع القدرات الفذة لفيليسيتيه - وتشارلز - على العيش في  تجارب الآخرين كما لو كانوا هم أنفسهم الفاعلين.

يقول الراوي: "بالخيال والمشاعر العميقة والقدرة على العطاء يبدو لفيليسيتيه أنها كانت بالفعل هي الطفلة" حينما كانت تقترب من الكأس المقدسة. يضيف: "أصبح وجه فيرجيني وجهها، وكانت ترتدي ملابسها، كان قلبها ينبض في صدرها. وعندما جاءت اللحظة التي فتحت فيها فمها، أغلقت عينيها وكاد أن يغمى عليها". حتى تجربة فيليسيتيه الخاصة بالتناول "لم تمنحها نفس البهجة المدهشة" التي شعرت بها عندما لاحظت طفلتها المحمولة وهي تشارك على لحم ودم يسوع المسيح. مثل هذا التعاطف صفة تفتقر إليها إيما ورودولف وحتى ليون.

إن ولاء شارلز البسيط الذي لا جدال فيه ميزه عن زوجته، التي كانت رغبتها شهوانية دائمًا وترضي نفسها، سواء كانت موجهة إلى رودولف أو ليون أو حتى الله. وتعترف إيما بهذا التميز الذاتي عندما يسألها شارلز وهي على فراش الموت لماذا قررت تناول الزرنيخ. ترد على سؤاله: "ألم تكن سعيدا؟ هل هذا خطأي؟". يقول لها: "لقد فعلت كل ما بوسعي"، وتوافق إيما جزئيا: "نعم، هذا صحيح. أنت طيب – أنت!".

وكأنما أدركت ما كان يمكن أن يقدمه لها  تعاطف شارلز الواهم لو أنها كانت قادرة على  تفهم بركاته، قبل وقت قصير من وفاتها، فتقوم بمسح شعر زوجها بمحبة أكثر مما فعلت من قبل.

وعلى الرغم من صورتيهما في الرواية كشخصين محبطين يعطل الواحد الآخر، فإن شارلز وإيما ليسا متناقضين بشكل جذري، أو ليس غير متوافقين، كما يبدو. كان شارلز منهمكا جدًا في ذوق زوجته حتى أنه شاركها  إعجابها بردولف.

وحين كان يحدق في منافسه  ويحتسي الجعة ويتصرف بشكل نمطي، أصبح شارلز "ضائعًا في أحلام اليقظة أمام هذا الوجه الذي أحبته... لقد كان أعجوبة بالنسبة له". كان يود أن يكون هذا الرجل. بالإضافة إلى ذلك، فإن تعليمات شارلز بشأن دفن إيما تكشف عن مزاجه الرومانسي الذي يوازي مزاج زوجته. يقول شارلز آمرا: "أتمنى أن تُدفن" بفستان زفافها، مع حذاء أبيض، وإكليل من الزهور. يجب أن ينتشر شعرها على كتفيها. ثلاث توابيت، واحد من خشب البلوط، والآخر من الماهوجاني، والآخر من الرصاص... فوق كل شيء يجب وضع قطعة كبيرة من المخمل الأخضر".

سخرية فلوبير واضحة حتى في تعليمات الدفن هذه، فالمخمل الأخضر – لون المخدوع – هو القماش الذي لف رودولف نفسه به عندما زار منزل بوفاري لأول مرة. تتنبأ هذه الاستعدادات المتقنة أيضًا بإجراءات فيليسيتيه لتلبيس جثة حبيبتها فيرجيني. بينما كانت لا تزال طفلة، ماتت فيرجيني بسبب مرض مفاجئ. تغدق فيليسيتيه اهتمامها على جثة المتوفى بنفس الطريقة التي أملى بها شارلز وصايا مفصلة لدفن إيما. أثناء تحضير جسد فيرجيني للجنازة، "وضعت فيليسيتيه مكياج الفتاة، ولفتها في كفن، ورفعتها إلى نعشها، ووضعت إكليلًا على رأسها، وفردت شعرها".

من منطلق كرم الروح ودون الشك في أن ازدراءه للتقاليد قد يجلب المعاناة لزوجته وكذلك لنفسه، يدفع شارلز إيما باستمرار تجاه الرجال الآخرين. إن قيام تشارلز بكل ما في وسعه لتأمين حرية زوجته يدحض اعتقاد إيما بأن سبب اختناقها زواجها من رجل غبي. ولو كانت ترغب حتى في طلاق شارلز، لكان قد سامحها بالتأكيد. وربما كان سيساعدها في تحقيق النتيجة المرجوة. كان بإمكان إيما أن تتحمل قسوة شارلز، لكنها لا تستطيع أن تتحمل لطفه، ومرونته اللامحدودة، وتعاطفه اللامحدود، ومخزون المودة الجياشة التي يمتلكها. حتى لو لم يهتم القارئ بهذه السمات الشخصية مباشرة ولم ينظر لها على أنها تستحق المعالجة، فإن أثرها المعقد على خيال شارلز، وتحديدًا الطريقة التي تعمل بها أشكال السخاء هذه في كثير من الأحيان ضد مصالحه الأساسية، توجه تصور فلوبير عن "قلب" فيليسيتيه "البسيط".

وفاة إيما

بإهمال الناحية الفنية تنتهي إيما إلى ترخيص قيمة حياتها. في حين أن أفعاله الطيبة تعتبر أخطاء قاتلة على مستوى ما، إلا أن شارلز لا يتحمل أي مسؤولية عن النتائج. إذا كان اللوم يقع على أي جهة، فهو يقع على عاتق المؤلف، الذي جعل من إيما بوفاري زوجة محبطة وذلك  للتخلص من مخاوفه من الأدب. قال الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير مؤخرًا إنه يحكم على إيما "بأنها فنانة سيئة تساوي بطريقة خاطئة ما بين الفن واللافن". في إضفاء الطابع الحرفي على الفن، تنتهي إيما بتخفيض قيمة حياتها. وفوق كل شيء،  تقلل من شأن شارلز، وتجعل نفسها غير مهتمة بعواطفه العميقة. وكما قال شارلز نفسه لرودولف: مأساة حياة إيما يمليها القدر. ومثل رودولف، ولو بشكل أكثر مأساوية، فإن انشغال إيما بذاتها يجعلها صماء بعيدة عن الأعماق الخفية التي تتردد "في استعارات جوفاء، حيث لا يمكن لأحد أن يعطي المقياس الدقيق لاحتياجاته، ومفاهيمه، ولا معاناته". ويقارن فشل خيال إيما  في الرواية مع فائض التعاطف المتخيل عند شارلز.

ووفاة إيما نتيجة لحاجة مؤلفها إلى فضح الخط الذي يفصل الحياة عن الفن بلا رحمة، والذي يفصل النفاق البرجوازي بكل غطرسته الدنيئة عن عالم الخيال. ومع ذلك، فإن شارلز، الذي هو في بعض النواحي أكثر إدراكًا من مؤلفه، لا يشعر بمثل هذه الحاجة. نظرًا لأن إيما غير واعية لحب شارلز، فإنها تحرم نفسها من السعادة الحقيقية الوحيدة التي كان من الممكن أن تحصل عليها إطلاقا. تعترف إيما نفسها بعجزها عن تحقيق السعادة، حتى عندما تحقق أهدافها. وبعد فساد علاقة حبها مع ليون، تعترف لنفسها بعبثية كل الرغبات. تقول لنفسها:

كل ابتسامة تخفي نوعا من الملل، وكل فرحة لعنة، وكل متعة، وكل شبع، و... أحلى القبلات لا تترك على الشفاه سوى رغبة بعيدة المنال في لذة أعظم. يشير وعي إيما بمعاناتها الداخلية إلى سبب خوفها الشديد من احتمال مغفرة زوجها. أكثر من أي خوف آخر، فإن خوف إيما من مغفرة زوجها يدفعها نحو الانتحار.  وقبول لطف تشارلز سيجبر إيما على مواجهة أوهامها فيما يتعلق بالحدود التي يسهل اختراقها بين الفن والحياة. لا يستطيع فلوبير ولا إيما التعامل مع سيولة هذه الخطوط الخيالية. مثل هذه المواجهة بين أحلام إيما المستحيلة وواقع شارلز المتواضع كان من شأنه أن يلقي ضوءًا قاسيًا على الأوهام التي بررت خيانتها لزوجها. مثل سلفها الفارس الخيالي دون كيشوت دي لا مانشا تموت إيما بوفاري ضحية حاجتها إلى الحلم. وعلى الرغم من أنها بطلة مأساوية تكسب تعاطف القراء بشق الأنفس، إلا أن انتحار إيما هو بالكامل نتاج خيالها الفاشل.

من معارضتها لزوجها، فإن مثالية إيما تشير إلى القرابة التي تتقاسمها معه، لأن شارلز وإيما حالمان. الفرق بين الزوج والزوجة أن تشارلز برضى بالواقع، لكن إيما ترفضه تمامًا. ولكن في حين أن كلا من إيما وشارلز  أبناء دون كيشوت، فإن مثاليتهما تميزهما أيضًا عن بعضهما البعض. إيما وريثة انشغال دون كيشوت القاسي بذاته، والذي ينتج، من بين أمور أخرى، لامبالاة الفارس تجاه الضرب الذي يتلقاه القرويون الفقراء حين يصادفهم. شارلز وريث جانب آخر من شخصية دون كيشوت، ذلك الجانب الذي ألهم دوستويفسكي شخصية الأمير ميشكين الأحمق المقدس الشبيه بالمسيح، بطل رواية "الأبله" (1869)، ليتماثل معه ويحل بصورته. مثل شارلز كان الأمير ميشكين راضٍ تمامًا عن واقعه، لأنه يرى أنه مملوء بالنعمة الإلهية. وكما هو الحال مع القيم المتضاربة لرودولف وتشارلز الفرق الأساسي بين مثاليات إيما وتشارلز هو أن الأول يسبب المعاناة للآخرين بينما الثاني يسبب المعاناة لذاته فقط.

 مع "فيليسيتيه" في "قلب بسيط"، تتأرجح وجهة نظر مدام بوفاري السردية بين الإعجاب بخيال شارلز المتعاطف وازدراء اللغة الخرقاء التي يعبر بها عن عاطفته. في وقت مبكر من السرد، يقال إن رودولف يُظهر "تفوق الحكم المناسب لشخص يحمل كل المشاعر من مسافة"، ولكن بحلول نهاية السرد، أصبح رودولف مجرد شخص مضجر قاسٍ يفشل في فهم تعقيدات شخصيته.

حب المنافس

على الرغم من أن فلوبير ربط هويته بإيما في أول تصريح علني له عن هذه الرواية، إلا أنه لا يمكن للقارئ إلا أن يشك في أنه أصبح يقدر بشكل متزايد القلوب البسيطة لشخصيات مثل شارلز وفيليسيتيه. عندما ترى فيليسيتيه ببغاءًا ضخمًا يحوم فوق رأسها على فراش الموت، فإن اتساع اللون الأخضر لا يدل على غيرة المخدوع، بل على خصوبة الخيال الأدبي. من هذا المنطلق، اقتربت مُثُل فلوبير الأخلاقية من تلك التي جسدها حمقى دوستويفسكي المقدسون بشكل أكثر شمولاً وهذا ما أدركه معظم القراء أكثر من الكاتبين معا.

***

........................

* الترجمات من الفرنسية هي ترجمتي. استخدمت هذه الطبعات: غوستاف فلوبير، مدام بوفاري: امرأة ريفية (باريس: مكتبة فرنسا، 1921)، و"قلب بسيط"، الأعمال الكاملة لغوستاف فلوبير، المجلد VI Contes et Mélanges  باريس: أ. كوانتين، 1885.

ريبيكا روث غولد Rebecca Ruth Gould

أستاذة الأدب المقارن وزميلة في مركز الدراسات الفلسطينية بجامعة لندن، كلية الدراسات الافريقية والاستشراق. أهم أعمالها: "محو فلسطين" الصادر عن دار فيرسو في لندن ونيويورك وباريس.

 

في عنوان فرعي مثير ساقه ستيفن سلومان وفيليب فيرنباخ، في كتابهما المشترك "لماذا لا نفكر بمفردنا أبدا؟" ـ العنوان الفرعي المذكور وسمه الباحثان ب"العالم هو حاسوبك" ـ يستدرجنا الكاتبان إلى عوالم جديدة، ترتبط بحوسبة المعرفة واختصار الوقت في إدراك نتائجها. ويحدد الباحثان من خلال هذه الطفرة التكنولوجية الحاسمة في حياة الإنسان، طريقة استعمال المعادلات الذهنية الأكثر اندماجا وفعالية لاستعمالنا العالم، من أجل إجراء الحوسبة من أجلنا في التنقل عبر المساحات الضيقة. وهو ما يسهم فعليا وإجرائيا في خلق تكوين للوضعيات، بأنماط منهجية تعكس كيفية اجتيازنا للحقول الت ينحن بصدد التكيف معها.

نظرية "العالم هو حاسوبك"، تحيل بالبداهة إلى محاولة استجلاء مناطق نزوع الصناعات الثقافية والإعلامية الجديدة، وأثرها في الإنسانية وقيمها وثقافتها. إذ المفهوم الثاوي للصناعات إياها، جامعة بين مدارات إنشاء وإنتاج وتسويق المحتوى، تؤطره بالأساس مفهومية "الصناعة"، وهي جزء من نظرية كبيرة كان قد قعد لها الناقدان الغربيان تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، باستنتاج تأكيدي، كون وسائل الإعلام كانت لها اليد الطولى، في التأثير سلبا على المتلقين.

ويرى الباحثان أدورنو وهوركهايمر، أن المواطنين بكونهم مشاهدين، أو متفرجين، على العالم المثالي، الذي يتم تمثيله من خلال الإعلانات والأفلام، ينسون أو هم يتناسون واقعهم، وبالتالي يصبح من السهل التلاعب بهم، مع أن ثمة جدل في أن تكون وسائل الإعلام الجماهيرية، قد جعلت من أدوات الترفيه شكلا من أشكال التناظر الاجتماعي، وهو ما يتداخل وتأثيرات سلطة الإعلام في "التوجيه والتربية".

والوارد هنا، أن الأشكال الجديدة للثقافات الإعلامية والثقافية، كان منشؤها أوروبيا. إذ إننا بإزاء هذا المعطى، كنا ولا نزال نؤمن بأن القطاعات التي تمارس أنشطة تتعلق بالقيم الثقافية أو غيرها، من أشكال التعبير الفني الفردي أو الجماعي، وهي كما تحددها القاعدة القانونية لبرنامج "أوروبا الإبداعية"، وهي ذات بنية صلبة على مستوى التأثير في براديجمات التنمية والمجال. أشير هنا إلى استفادة قطاعات عديدة، مثلا في أعمال المكتب الاحصائي للجماعات الأوروبية (أوروسات)، في إطار الاحصائيات الأوروبية وأعمالها الدقيقة، من خلال تنسيق ومواءمة الإحصاءات المتعلقة بقطاعي الثقافة والإبداع، في حين تتمحور الصناعات الإعلامية والثقافية حول آخر التطورات في سلسلة القيمة، لاسيما عمليات الإنتاج ونشر العمليات الصناعية والتصنيع.

من تمة، يجب التأكيد، على أن القطاعات الثقافية والإعلامية تحظى بأهمية قصوى، في برامج التنمية الجديدة، لدى الدول الديمقراطية، دلك أنها تسهم في ضمان التطوير المستمر للمجتمعات ، وهي في صلب الاقتصاد الإبداعي، حيث إنها، وعلاوة على ضرورتها الراهنة وتأثيرها المباشر على المردودية والجودة، فإنها تتميز أيضا بكثافة المعرفة العالية والاعتماد على المواهب الفردية، كما تساهم في تحقيق ثروة اقتصادية كبيرة. ولكنها أيضا، وقبل كل شيء، هي ضرورية لخلق إجماع حول الهوية والثقافة والقيم الإنسانية.

ويمكن هنا، وتأسيسا على ما تم ذكره، فتح قوس كبير حول مثارات أو إواليات الصناعات الثقافية والإعلامية، كشكل من اشكال البراديجمات التنموية، التي نسميها "إنتاج ونشر المعرفة". فالقالب المعولم، الذي يمكن أن نضع فيه نظرية الإنتاج ونشر المعرفة في المجتمع، هو نموذج حديث وراهني، مرتبط أساسا بانتشار تقنيات المعلومات والاتصالات. وهي كما عرفها الحكيم باشلار "الإجابة على السؤال". هذا يعني، أن المعرفة في الصناعة الثقافية والإعلامية، يتم تطويرها وفقا للتجارب المنتجة، وتبعا للحاجيات المبرمجة، حيث يتم نقلها بمنهجية وتدقيق بيداغوجي إلى أفراد المجتمع. كما أنه، يجيب التنبيه، إلى عدم حصر مآلات المعرفة، فهي ليست بالضبط، ما يعادل المعلومات، بل هي معرفة بذاتها ولذاتها، تتغيا التنويع والتلاؤم واستخلاص التجارب، مع التكامل الملهم والاستخدام العقلاني من قبل الفرد في المجتمع المنظور.

ومن هذا المنطلق، يصبح من اللازم، طرح سؤال الصناعات الثقافية والإعلامية، كإدارة جماعية، وكتفكير تشاركي، ينبني على التخطيط والتدبير المحكم، الذي يؤول إلى مجتمع المعرفة كقيمة. وهذه إشكالية أخرى، قاربها المفكر الأمريكي بيتر دراكر، رائيا أن مجتمع المعرفة في منظومة الصناعات الثقافية يعتمد بشكل أساسي على مبدا نقل المعلومات، عندما يتم تجميعها وتأطيرها وتوجيهها. وبالتالي، تتلمس طريقها إلى الانتشار تم التأثير والاندماج.

وبما أن وسائل الإعلام تساهم هي الأخرى، في زيادة كثافة المعلومات، خصوصا ما يرتبط بتقنيات المعلومات والاتصالات الجديدة والأنترنيت، فإن معظم الأنشطة البشرية والاقتصادية تعتمد على نقل المعلومات واكتساب المعرفة.

لكن، أخيرا، يبقى سؤال الحاجة إلى التفكير في كيفية إدماج المعرفة في العمل التشاركي، أو الإشراك الفعلي للعمل على مستوى الإدارة والحكامة. وما الحاجة الملحة فعليا، إلى إمكانية تلقي هذه المعرفة ووضعها في خدمة الإنتاج.

يطرح دراكر ثلاث أنساق لتحقيق مقاربة نوعية:

الأول: دمج المعرفة في نظام تمثيلها.

ثانيا: استخدام المعرفة لغرض محدد من قبل الإدارة أو التدبير .

ثالثا: البحث عن الحقيقة، أي استخدام المعرفة ضمن إطار الحقيقة لدى الفرد.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

...........................

* عنوان المداخلة التي شاركت بها، في الندوة العلمية التي نظمها مهرجان امنتانوت للفن والابداع والتراث في دورته 14 والموسومة ب" صناعة الثقافة وتحقيق التنمية الترابية المستدامة: قراءات متقاطعة" يوم السبت 10 غشت 2024

 

لم يعد للفلسفة دورٌ في حياتنا المعاصرة!.. هكذا يتخيّل كل ذي بصيرة مطموسة، وكل ذي عقل مفقود.

أضعف حُجة للرد على تلك الترهات هو القول: إنه إذا ثبت أن للفلسفة دوراً في القديم والوسيط والحديث، فلا أقل من أن يكون لها نفس الدور وأعظم في الحياة المعاصرة؛ لأن وجودها الفاعل في الأزمنة القديمة والوسيطة والحديثة يثبت دورها الحضاري.

ولا يعقل أن يكون لها الفاعلية الحضارية قديماً ووسيطاً وحديثاً عبر الأزمنة والعصور، ثم نسلبها عنوة عن العصر الحاضر حيث لا حضارة ولا فلسفة، ومن ثم فلا حياة سوى تفاهات قائمة !!

من أسف، لم تعد طاقة العقلية العربية تستوعب عناء الفلسفة وجهودها الشاقة، كل بلاد العالم فيها فلاسفة، وفيها تقدير لقيمة الفلسفة إلا بلادنا العربية: عناء الفلسفة في ممارسة التفكير، وجهودها الشاقة في سن أسس النقد لفروض الإصلاح.

لا ندري لم هذا العداء الغريب بين العقل العربي والتفلسف، ربما أكون مبالغاً إذا قلت هذا .. بل ومتناقضاً أيضاًً لأننا إذا وصفنا الإنسان بالعقل فقد وصفناه بالتفلسف شئنا أم أبينا.

حقاً هو عداء فعلاً لكنه عداء ليس بين العربي وعقله ولا بين العربي وذوقه، ولا بين العربي ومداركه، بل عداء مفروض عليه سياسياً: أقتل في العربي كل قيمة، تفكيره وادراكه، وشعوره ووجدانه، وتدينه، ومعارفه وروابطه.. وجرده عن هويته، فلا يعرف لها تاريخاً ولا جغرافيا ..

أطمس ذاكرته الباقية طمساً ليسهل محو أثره من هذا الوجود، لا تدع له تراثاً يدرسه ولا وطنية يقدرها، ولا بلاداً يحترمها ..

جرّده من كل شيء ليكون لقمة سائغة في أيدي المبتزين والمستعمرين وطلاب الدون من الخونة والمأجورين.

أمحو هويته بالغفلة والاستنامة، وزعزع أصوله وانزع ثوابتها لتراه آخر الأمر بلا قيمة ولا كرامة ولا حياة!

اجعل للتعليم لديه مكان الحقارة والدناوة، وأجعله يحتقر العلم والعلماء، ويحتقر الدراسة والتحصيل، ويقيس كل شيء بالمقاييس المادية .. غيّر نظرته للأشياء وارْبطها برباط المنفعة القريبة العاجلة .. لا تجعل له ثوابت من دين ولا من قيم ولا من وطنية يرتكز عليها .. شككه في هذه الثوابت وأوصله بالتفاهات السائرة أمام نظرة صباح مساء حتى تستعبده،

اجعله عبداً لغرائزه الدنيا ولشهواته القريبة ليكون أسيراً لها على الدوام بغير إنقطاع .. لا تعلمه فريضة التفكير ولا الأدب ولا التاريخ ولا الفلسفة ولا تبصره بوجوده الروحي ولا العقلي بل دعه باستمرار لا يتجاوز المحسوس فيما يفكر وفيما ينظر من مطالب الحياة وشئون الواقع المحدود بحدود نظره ولمسه وحسّه.

قلل فيه قناعة العمل الموصول بمطالب الخلود، بل أجعله يعمل كأجير السوء، لا يعمل لأن العمل الصالح موصول غير مقطوع.

هذه سياسية إجرامية لا يطبقها على شعوبنا العربية إلا أبناء صهيون، ومن والاهم من الخونة والمأجورين، ومن يهمهم تحقيق الأمل اليهودي القديم بالقضاء على الشعوب العربية بدايةً من القضاء على اللغة والهويّة والحضارة والفلسفة والثقافة والتعليم.

وانتهاءً بالإبادة الجماعية وسلب إرادة الشعوب تحقيقاً مع غرس اليأس من الإصلاح.

لكن دراسة الفلسفة تقف لهذا كله بالمرصاد، تقف للخوار والانهزامية والتخلف .. فتحقق دوراً قائماً بالعقل وريادة باقية بالمعرفة. وكرامة الإنسان بين عقله ومعارفه. ولا كرامة له على التحقيق وهو معطل للعقل فاقد للمعرفة حتى لو أمتلك الدنيا بحذافيرها واستطال فيها على طولها وعرضها.

والفلاسفة الحقيقون مجاهدون في هذا الميدان جهاد الأبطال، لأن الفلسفة تكشف الباطل من أول وهلة، وتسخر العقل في طلب الحقيقة الظاهرة والباطنة، وتحترم الأصول الباقية في الدين والعلم والأخلاق، وتدفع عن القيمة غواشي الإنحراف، وتعزز في الفردية قيم المبدأ وقيم المصير، وتجاهد الفلسفة جهادها الأبيّ في سبيل إعلاء الجانب النقدي لتزيل الأقنعة الزائفة وتفضح الأوهام المتسلطة.

الفلسفة منهج في التفكير:

 كان نيتشه يقول: (الفلسفة ليست تأسيساً لديانة ولا تبشيراً بحقيقة، ولا وعداً بالحرية والسعادة، بل هى نبش في الأسس، وتعرية للأصول، وازالة الأقنعة، وفضح الأوهام).

***

د. مجدي ابراهيم – أستاذ فلسفة

 

إن المفاوضات جزء شائع من الحياة اليومية، سواء في مكان العمل، أو في المنزل، أو في البيئات الدبلوماسية. إن القدرة على التفاوض بشكل فعال يمكن أن تؤدي إلى نتائج ناجحة، ولكن هل هناك قوة غير مرئية تلعب دورا عندما يجتمع الناس على طاولة المفاوضات؟ لقد أثار هذا السؤال الكثير من الجدل بين الخبراء في مجال نظرية التفاوض.

تشير إحدى المدارس الفكرية إلى وجود قوة غير مرئية تلعب دوراً أثناء المفاوضات. وقد تتجلى هذه القوة في شكل ديناميكيات قوة غير معلنة، أو أجندات خفية، أو تحيزات ضمنية تؤثر على مسار المفاوضات. على سبيل المثال، قد يسيطر المفاوض على نظيره بسبب مكانته أو سلطته أو علاقته بالقضية المطروحة. يمكن لهذه العوامل الأساسية أن تؤثر على المفاوضات في اتجاه معين، وأحيانا دون أن يدرك أي من الطرفين ذلك تماما.

على العكس من ذلك، يزعم آخرون أن فكرة القوة غير المرئية هي مجرد أسطورة، وأن المفاوضات تستند بحتة إلى الأفعال والتفاعلات الملحوظة للأطراف المعنية. وفقًا لهذا المنظور، فإن المفاوضات هي عملية مباشرة من الأخذ والعطاء، حيث يأتي كل طرف إلى الطاولة بمصالحه ويحاول إيجاد أرضية مشتركة من خلال التواصل المفتوح والتسوية.

ومع ذلك، حتى أولئك الذين يرفضون فكرة القوة غير المرئية يعترفون بأهمية فهم علم النفس وراء المفاوضات. يمكن أن تلعب العواطف والتحيزات والإرشادات المعرفية دورا في تشكيل نتائج المفاوضات، حتى لو لم تكن واضحة على الفور. على سبيل المثال، يمكن أن تؤثر عواطف المفاوض على عملية اتخاذ القرار، مما يدفعه إلى اتخاذ خيارات قد لا تكون في مصلحته على المدى الطويل.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تعمل الاختلافات الثقافية أيضًا كقوة خفية على طاولة المفاوضات. تتمتع الثقافات المختلفة بمعايير وقيم متفاوتة يمكن أن تؤثر على كيفية إجراء المفاوضات وإدراكها. على سبيل المثال، قد يتعارض المفاوض من ثقافة تقدر التواصل المباشر مع نظيره من ثقافة تعطي الأولوية للتواصل غير المباشر، مما يؤدي إلى سوء الفهم والانهيارات المحتملة في عملية التفاوض.

وعلاوة على ذلك، يمكن أن تلعب ديناميكيات القوة أيضًا دورًا مهمًا في المفاوضات، سواء تم الاعتراف بها أم لا. إن أولئك الذين يتمتعون بسلطة أكبر، سواء كان ذلك بسبب مناصبهم أو مواردهم أو خبرتهم، قد يكون لهم تأثير أكبر على المفاوضات. ويمكن استخدام هذه السلطة لصالحهم، وتشكيل نتيجة المفاوضات بطريقة ترضي مصالحهم إلى حد أكبر.

وهناك جانب آخر من جوانب المفاوضات حيث قد تلعب الحدس والمشاعر دورا غير مرئي، ففي حين يعتمد العديد من المفاوضين على اتخاذ القرارات العقلانية والتفكير المنطقي، هناك أيضًا مكان للحدس والغريزة في عملية التفاوض. يمكن لهذه العوامل اللاواعية أن توجه المفاوضين في اتخاذ خيارات قد لا تكون واضحة على الفور ولكنها تؤدي في النهاية إلى نتائج ناجحة.

وعلاوة على ذلك، يمكن لسياق المفاوضات نفسه أن يعمل كقوة غير مرئية على طاولة المفاوضات. يمكن لعوامل مثل القيود الزمنية والضغوط الخارجية ووجود أطراف ثالثة أن تؤثر على عملية التفاوض ونتائجها. على سبيل المثال، قد يشعر المفاوض بأنه مجبر على تقديم تنازلات أو التوصل إلى اتفاق بسرعة بسبب المواعيد النهائية الوشيكة أو التهديد بالمنافسة من الأطراف الأخرى المشاركة.

ورغم أن فكرة وجود قوة غير مرئية على طاولة المفاوضات قد تكون موضع جدل، فمن الواضح أن هناك العديد من العوامل الخفية التي قد تؤثر على عملية التفاوض ونتائجها. فمن ديناميكيات القوة والتأثيرات العاطفية إلى الاختلافات الثقافية والضغوط الخارجية، يمكن لهذه القوى الخفية أن تشكل مسار المفاوضات بطرق قد لا تكون واضحة على الفور. ومن خلال التعرف على هذه القوى الخفية وفهمها، يمكن للمفاوضين أن يتعاملوا بشكل أفضل مع تعقيدات طاولة المفاوضات والعمل على التوصل إلى اتفاقيات مفيدة للطرفين.

***

نور محمد يوسف

.......................

المراجع

1.     Galinsky, A. D., & Mussweiler, T. (2001). First offers as anchors: The role of perspective-taking and negotiator focus. Journal of Personality and Social Psychology, 81(4), 657–669.

2.     Kray, L. J., Galinsky, A. D., & Thompson, L. (2002). Reversing the gender gap in negotiations: An exploration of stereotype regeneration. Organizational Behavior and Human Decision Processes, 87(2), 386–409.

3.     Cialdini, R. (2009). Influence: The Psychology of Persuasion. New York: Harper Business.

4.     Bazerman, M., & Neale, M. (1992). Negotiating Rationally. New York: Free Press.

5.     Pink, D. (2011). To Sell is Human: The Surprising Truth About Persuading, Convincing, and Influencing Others. New York: Riverhead Books.

6.     Cialdini, R. B. (2007). "Influence: The psychology of persuasion." New York, NY: Harper Business - Loewenstein, G., & Lerner

بعض القراءِ مطلعٌ - بالتأكيد - على الجدل القديم، حول كون الإنسان مسيَّراً أم مخيَّراً. وهو جدلٌ أثاره سؤالٌ بسيط: إذا كانَ الإنسانُ يفعل ما يفعل بإرادةِ اللهِ وعلمِه المسبق، فإنَّه ليسَ مسؤولاً عن أفعاله، وبالتالي كيف يُعاقب. وهل يقدر الله شيئاً ويريده في الوقت نفسه، ثم يعاقب عبدَه إذا فعل ما أراده؟

أقول هذه مسألة معروفةٌ في التاريخ الإسلامي. وقد حُسمت في القرونِ الأخيرة، لصالحِ فهمٍ موسع، يربطُ الإثمَ بكونِ الفاعلِ قاصداً متعمداً، وكونه عارفاً بحقيقة ما يفعل. وتوصَّل الناسُ إلى هذا الفهم بعدما فصلوا بين مرحلتين: القدرة على الفعل وإرادة القيام بالفعل. فأنت قادرٌ على العيشِ في الغابة مثلاً، وأنتَ قادرٌ على التَّبرعِ بكل أموالِك، لكنِ القليلُ من الناس سيفعل هذا. أمَّا الأكثريةُ الساحقة فهي «تريد» خياراتٍ بديلة. هذا يعني أنَّك تستطيع فعلَ أشياء، لكنَّك لا تريدها، فلا تفعلها. وهذا بالضبط معنى أن تكونَ مختاراً وصاحبَ إرادة. وبناءً عليه قيل إنَّ الانسانَ مخيرٌ في الأعمّ الأغلبِ من أفعاله.

يبدو هذا الكلامُ معقولاً ولا غبارَ عليه. لكن تعالوا نناقشِ القولَ السائر، الذي فحواه أنَّ إنسانَ اليوم، واقعٌ - من حيث يشعر أو لا يشعر - تحتَ سيطرةِ أنظمةِ الإعلام والدعاية الهائلةِ القوة، أو أنَّه خاضعٌ لأعراف المجتمعِ وقوانينه وثقافته، التَّي تجعلُه يفعل ما تريدُه هي وليس ما يريدُه هو.

يقول أصحابُ هذا الرأي إنَّ إنسانَ اليوم لم يعد صاحبَ إرادة، لأنَّه لا يختار ما يريد. أجهزة الدعايةِ والإعلام تتلبس عباءةَ العلم حيناً والسياسة حيناً آخر، والاقتصاد تارة أخرى، وحتى الحرص على الصحة العامة في بعض الأحيان. يقولون أيضاً إنَّ الذي يختار الرئيس الأميركي مثلاً، ليس الناخبين الأفراد الذين يأتون إلى صناديق الاقتراع، بل أجهزة الدعاية التي تبارت في إقناع الناخبين بالشخص الذي اختارته ودعمته، فجاؤوا للصناديق وقد اقتنعوا بما أريد لهم أن يقتنعوا به.

كذلك الحال في السلوك الغذائي للأفراد، فهم لا يأكلون الطعامَ الذي ألفه آباؤهم، والذي ربَّما يعبر عن حاجات البيئة المحلية، بل يأكلون ما روَّجته أجهزة الدعاية، أي ما عرضته عليهم باعتباره رمزاً للسعادة أو العظمة أو الصحة. والشيء نفسه يقال عن نوع الملابس التي نرتديها، والخيارات الثقافية التي نميل إليها، وأنظمة العمل التي نتبعها في شركاتنا، وغيرها. نحن نعيش - كما يقول هؤلاء - مسيَّرين لا مخيَّرين. صحيحٌ أنَّه لم يضربنا أحدٌ على أيدينا، وليس في طرقنا حواجزُ ماديةٌ تمنعُنا من مغادرة الطريق الذي سلكناه. لكنَّنا مع ذلك لا نسير كما نختار، بل نسير وفقَ هوى الدعاية أو هوى المجتمع، أو تبعاً للفضول الذي حفزه هذا أو ذاك.

هذا نوع من التسيير غير المرئي الذي ينبع من داخل الإنسان، فيدفعه لمسارات سلوكية محددة، يظن أنَّه يختارها بحرية، لكنَّه - في واقع الأمر - لا يرى غير خيارات محددة سلفاً. وبالتالي فإنَّ اختياره مرسوم، وليس خياراً حراً، حتى لو توهَّم - في الوهلة الأولى - أنَّه حر.

احتمل أن المفكّرَ الفرنسي جان جاك روسو هو أول من أثار هذه المفارقة، في سياق حديثه عن تلاشي المجتمع الطبيعي السابق للدولة، وقيام المجتمع المدني المحكوم بالقانون، إذ يقول ساخراً: «يا لغباء هذا الإنسان الذي مشى إلى سجن القانون بقدميه، وكان في وسعه أن يبقى حرّاً إلى الأبد»!

أراد روسو كشف المفارقة، بين حياة فيها حرية مطلقة لكنَّها غيرُ آمنة (في الغابة مثلاً) وحياة بنصف حرية، لكنَّها آمنة ومريحة (في ظل القانون). قال هذا كي يوضح للقارئ لماذا اختار الإنسان أن يتنازل عن حريته الأولى، فهل وجد في الثانية ما يستحق التضحية؟

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

يعتبر الترفيه أو الترويح عن النفس من الأمور الضرورية التي يحتاجها المرء في حياته، بهدف إدخال السعة والانبساط والسرور على النفس وإزالة المشقّة والتعب، وبالتالي تحقيق التوازن العقليّ والنفسيّ والبدنيّ للفرد وبشكل خاصّ عند زيادة الهموم والضغوط النفسيّة والإرهاق العصبي , والترفيه له دور متميز في بناء مجتمع حيوي نابض بالحياة، تتوفر له كل الخيارات الترفيهية المتنوعة,

 يُنظر إلى الترفيه والثقافة في الفلسفة كأدوات تعبر عن الوجود الإنساني وتعزز من فهم الذات والعالم من حولنا، وتعتبر جزءاً لا يتجزأ من التجربة الإنسانية، والترفيه سواء كان عبر السينما، المسرح، الفنون، الموسيقى، الأدب أو غيرها، يعتبر وسيلة للتعبير الإبداعي والتفاعل مع العواطف والأفكار، ويعكس القيم والمعتقدات الثقافية ويساهم في بناء الهوية الثقافية للمجتمعات، ومن جهة أخرى تعتبر الثقافة القاعدة التي ينبثق عليها الترفيه، حيث تشكل القيم والمعتقدات الثقافية الإطار الذي يندرج ضمنه الأعمال الترفيهية، وترتبط بالهوية والتاريخ والتقاليد وتعكس رؤية المجتمع للعالم ولذاته

من الناحية الاجتماعية، تعتبر العلاقة بين الترفيه والثقافة جزءًا أساسيًا من تفاعلات المجتمعات وتكوينها، فيعتبر الترفيه وسيلة للتواصل والتفاعل الاجتماعي بين الأفراد والمجموعات، ويسهم في تعزيز الروابط الاجتماعية وتعزيز التواصل بين الأفراد من خلفيات ثقافية متنوعة، ويوفر بيئة تجمع الناس معًا وتعزز الفهم المتبادل والتسامح، من جهة أخرى تلعب الثقافة دورًا حاسمًا في تشكيل الهويات الاجتماعية وتعزيز التماسك الاجتماعي، وتعكس المشترك من قيم ومعتقدات المجتمع وتكون الروابط الاجتماعية بين أفراده، وبالتالي يعمل الترفيه والثقافة سويًا على تعزيز التفاهم والتواصل بين أفراد المجتمع وتعزيز الانتماء والتلاحم الاجتماعي, و يقول (مالكولم ماكلارين): الثقافة تعطي الترفيه لمسة إنسانية وروحية، تجعله أكثر تأثيرًا وأهمية في حياة الناس. ويقول (ستيفن هولت): الثقافة هي أساس الترفيه، والترفيه هو نتاج الثقافة

الترفيه والثقافة لا يمكن فصلهما عن بعضهما، وهذه العلاقة العميقة تبرز أهمية دورهما في تشكيل المجتمعات وتعزيز التنوع والتفاعل الاجتماعي، وفهم هذه العلاقة واستيعاب دورها الحيوي يساعدنا على تقدير قيمة الترفيه والثقافة في حياتنا اليومية وفي بناء عالم أكثر تلاحمًا وفهمًا متبادلًا، فالثقافة تعطي الترفيه قيمة عميقة، تجعله أكثر من مجرد تسلية، بل وسيلة لنقل المعرفة والقيم والتاريخ، ويجتمعان لخلق تجارب ذهنية وعاطفية تثري حياة الأفراد وتعزز التواصل بينهم، ويعكسان جوهر الشعوب ويعبران عن تاريخهم وتقاليدهم وقيمهم، والترفيه يعتبر لغة عالمية تتجاوز الحدود، والثقافة تعطي هذه اللغة معنى وعمقًا، ويجمعان بين الفرادة والانتماء الجماعي، يعززان الهوية الفردية والانتماء الثقافي

يلعب الترفيه والثقافة دورًا حيويًا في تحقيق التنمية المستدامة والتقدم الاجتماعي؛ حيث يمكن لوسائل الترفيه أن تكون وسيلة لنقل المعرفة وتعزيز الوعي بقضايا التنمية المستدامة، مثل حماية البيئة والاستدامة الاقتصادية، ومن خلال الفنون والأدب والتراث الثقافي، يمكن تعزيز الوعي بالهوية الثقافية والتنوع، وبالتالي تعزيز التفاهم والتسامح بين الثقافات، ويمكن لأنشطة الترفيه أن تكون وسيلة للتواصل والتفاعل بين أفراد المجتمع، مما يعزز التماسك الاجتماعي ويقوي العلاقات الاجتماعية، وتعزز الثقافة الفهم المتبادل والتواصل بين الأفراد من خلفيات ثقافية متنوعة، مما يساهم في تحقيق التفاهم والتعايش السلمي

الترفيه والثقافة عنصران أساسيان يشكلان جوهر حضارات العالم، ومن خلال النظر إلى هذه العناصر من منظور فلسفي واجتماعي، يمكننا فهم عمق العلاقة بينهما ودورهما في تشكيل حياة الإنسان ومجتمعه، فالترفيه هو روح الثقافة، والثقافة هي جوهر الترفيه وهي تعبير جماعي للأعمال، والترفيه ليس تسلية فقط بل هو وسيلة لتعزيز الوعي الثقافي والتفاعل الاجتماعي، وأن يكون جسرًا بين الثقافات المختلفة للتفاهم والتعبير عن الهوية الجماعية

ويمكن للترفيه أن يلهم الإبداع والابتكار من خلال تقديم أفكار جديدة ومثيرة، لتحفيز التفكير الإبداعي وتطوير حلول مبتكرة لتحديات التنمية المستدامة، وتعتبر الثقافة مصدر إلهام للإبداع والابتكار، حيث يمكن للتراث الثقافي والفنون التقليدية أن تساهم في تنمية مهارات الإبداع وتعزيز الابتكار في المجتمع، ويمكن للأنشطة الترفيهية أن تكون فرصة لتوسيع آفاق التعلم وتعزيز المهارات الشخصية والاجتماعية، لتعزيز التعليم وتنمية المهارات، وتعزز الثقافة التعلم المستمر وتبادل المعرفة من خلال تعزيز قيم الاستكشاف والتفاعل مع المعرفة، لتحقيق التنمية المستدامة من خلال تعزيز التعليم والتطوير المهني.

***

نهاد الحديثي

 

على مر التاريخ، غالبا ما تم تجاهل أو تهميش دور المرأة في الفنون البصرية، حيث طغت مساهماتها على مساهمات نظرائها من الذكور. ومع ذلك، كانت النساء لفترة طويلة جزءا لا يتجزأ من عالم الفن، حيث ابتكرن أعمالًا تتحدى المعايير المجتمعية، وتستكشف موضوعات الجنس والهوية، وتقدم وجهات نظر فريدة من نوعها للعالم. من الصور الذاتية القوية لفريدا كاهلو إلى اللوحات التجريدية الرائدة للي كراسنر، قدمت الفنانات مساهمات كبيرة في مجال الفنون البصرية، ودفعن الحدود وإعادة تعريف المفاهيم التقليدية للإبداع والتعبير. في هذا المقال، سوف نستكشف تطور أدوار المرأة في الفنون البصرية، ونفحص كيف أثرت التوقعات المجتمعية والمعايير الجنسانية على أعمالهن، وكذلك كيف قاومت النساء هذه القيود لخلق فن قوي ومبتكر. من خلال تحليل أعمال فنانات مثل جورجيا أوكيف، ويويوي كوساما، وكارا ووكر، سننظر في الطرق التي استخدمت بها النساء فنهن لتحدي الصور النمطية، ومواجهة التحيزات، وتأكيد مكانتهن الصحيحة في شريعة تاريخ الفن. من خلال فحص هؤلاء الفنانين المتنوعين والمؤثرين، سنكتسب فهما أعمق للطرق التي شكلت بها النساء مشهد الفنون البصرية واستمرت في ترك بصمتها على هذا المجال اليوم.

1. لعبت النساء دورا حاسما في تطوير وتطور الفنون البصرية عبر التاريخ:

لقد ساهمت النساء بشكل كبير في عالم الفنون البصرية عبر التاريخ، ولعبن دورا حاسما في تطويره وتطوره. وعلى الرغم من مواجهة الحواجز والعقبات بسبب التحيزات الجنسانية التاريخية والمعايير المجتمعية، فقد أثبتت الفنانات أنهن مبتكرات ومؤثرات في تشكيل المشهد الفني. ومن الأمثلة البارزة على الفنانات الرائدات أرتيميسيا جنتيلسكي، وهي رسامة باروكية إيطالية معروفة بتصويرها القوي للموضوعات التوراتية والأسطورية. وعلى الرغم من مواجهة التحيز والشدة كامرأة في مجال يهيمن عليه الذكور، فقد ثابرت جنتيلسكي وحققت استحسانا لتأليفاتها الدرامية ومهارتها الفنية. في القرن العشرين، برزت جورجيا أوكيف كشخصية رائدة في الحداثة الأمريكية، حيث تحدت التصورات التقليدية للجنس والجنسانية من خلال لوحاتها الجريئة والحيوية للزهور والمناظر الطبيعية. ولا يزال استخدام أوكيف المبتكر للألوان والشكل يلهم الفنانين حتى يومنا هذا. كما قدمت فنانات معاصرات مثل جودي شيكاغو وكارا ووكر مساهمات كبيرة في مجال الفنون البصرية، باستخدام أعمالهن لاستكشاف موضوعات النسوية والعرق والهوية. تواجه قطعة شيكاغو التركيبية الشهيرة "حفل العشاء" والصور الظلية القوية لووكر المشاهدين بقضايا الجنس والعرق، مما يثير الفكر والحوار. بشكل عام، لعبت الفنانات دورًا حيويًا في دفع حدود الفنون البصرية وتحدي المعايير وتمهيد الطريق للأجيال القادمة من المبدعين. لقد أثرت وجهات نظرهن المتنوعة وأصواتهن الفريدة المشهد الفني، مما ساهم في عالم فني أكثر شمولا وديناميكية. من خلال شجاعتهن وإبداعهن ومثابرتهن، تواصل النساء تشكيل وإعادة تعريف حدود الفنون البصرية.

2. من عصر النهضة إلى العصر الحديث، قدمت فنانات مثل أرتميسيا جينتيلسكي وجورجيا أوكيف وفريدا كاهلو وسيندي شيرمان مساهمات كبيرة في عالم الفن:

خلال فترة عصر النهضة وعلى مدار التاريخ، غالبًا ما تم تهميش النساء واستبعادهن من عالم الفن. ومع ذلك، كانت هناك فنانات بارزات تحدين هذه المعايير وقدمن مساهمات كبيرة في مجال الفنون البصرية. أرتيميسيا جنتيلسكي، رسامة باروكية إيطالية، هي واحدة من أشهر الفنانات الإناث في عصر النهضة. وعلى الرغم من مواجهة التحديات والتمييز كامرأة في عالم الفن الذي يهيمن عليه الذكور، تمكنت جنتيلسكي من ترسيخ نفسها كفنانة موهوبة ومبتكرة. غالبًا ما تضمنت لوحاتها بطلات قويات وموضوعات تمكين، مما أظهر منظورها الفريد كفنانة امرأة في مجتمع أبوي. بالانتقال إلى العصر الحديث، استمرت فنانات مثل جورجيا أوكيف وفريدا كاهلو وسيندي شيرمان في تحدي الصور النمطية الجنسانية ودفع حدود ممارسات الفن التقليدية. كانت أوكيف، المعروفة بلوحاتها الحداثية والتجريدية المتميزة للزهور والمناظر الطبيعية، شخصية رائدة في الفن الحديث الأمريكي. تحدت أعمالها مفاهيم الأنوثة واستكشفت تعقيدات العالم الطبيعي من خلال تركيباتها الجريئة والمذهلة بصريا. استخدمت فريدا كاهلو، الفنانة المكسيكية الشهيرة بصورها الذاتية وتصويرها للثقافة المكسيكية، فنها كوسيلة للتعبير عن تجاربها الشخصية ونضالاتها. غالبا ما استكشفت أعمال كاهلو موضوعات الهوية والنسوية والمعايير المجتمعية، مما جعلها رمزا لتمكين المرأة ومرونتها في عالم الفن. استخدمت سيندي شيرمان، الفنانة الأمريكية المعاصرة المعروفة بصورها الذاتية الاستفزازية واستكشافها للهوية، التصوير الفوتوغرافي كأداة لتحدي المعايير والتوقعات المجتمعية. غالبًا ما تنتقد أعمال شيرمان تمثيل المرأة في وسائل الإعلام والثقافة الشعبية، وتقدم فحصا دقيقا ونقديا للأدوار والأنماط الجنسانية. قدمت هؤلاء الفنانات مساهمات كبيرة في عالم الفن، ليس فقط من خلال أعمالهن المبتكرة والمبتكرة ولكن أيضًا من خلال تمهيد الطريق للأجيال القادمة من الفنانات لكسر الحواجز وتحدي المعايير. إن تأثيرهن الدائم على الفنون البصرية بمثابة شهادة على الدور الحيوي الذي لعبته النساء في تشكيل المشهد الفني عبر التاريخ.

3. على الرغم من مواجهة التمييز والحواجز بسبب جنسهن، ابتكرت الفنانات أعمالا قوية ومبتكرة تحدت المعايير المجتمعية واستكشفت وجهات نظر فريدة:

على مر التاريخ، واجهت الفنانات التمييز والحواجز بسبب جنسهن، مما حد من فرصهن في عرض مواهبهن وأفكارهن في عالم الفنون البصرية الذي يهيمن عليه الذكور. وعلى الرغم من هذه التحديات، واصلت الفنانات دفع الحدود وتحدي المعايير المجتمعية واستكشاف وجهات نظر فريدة من خلال أعمالهن القوية والمبتكرة. ومن الأمثلة على ذلك أرتيميسيا جنتيلسكي، وهي رسامة باروكية إيطالية تحدت معايير عصرها من خلال معالجة موضوعات مثل قوة المرأة وقدرتها على التصرف في أعمالها الفنية. وعلى الرغم من مواجهة التحديات الشخصية والمهنية، أصبحت لوحات جنتيلسكي الجريئة والمعبرة منذ ذلك الحين رموزًا أيقونية لتمكين المرأة في تاريخ الفن. ومن الأمثلة الأخرى فريدا كاهلو، وهي فنانة مكسيكية معروفة بصورها الذاتية السريالية التي تتعمق في موضوعات الهوية والألم والمرونة. لم تتحد أعمال كاهلو الأفكار التقليدية عن الجمال والأنوثة فحسب، بل وفرت لها أيضًا منصة لاستكشاف تجاربها الخاصة كامرأة في مجتمع يهيمن عليه الذكور. في الآونة الأخيرة، واصل فنانون مثل يايوي كوساما كسر الحدود وإعادة تعريف حدود الفنون البصرية. لقد أسرت تركيبات كوساما الغامرة وزخارفها المنقطة الجماهير في جميع أنحاء العالم، وتحدت المفاهيم التقليدية للمساحة والشكل مع استكشاف موضوعات الصحة العقلية والتجربة الأنثوية. بشكل عام، لعبت أعمال الفنانات دورا حاسما في تشكيل مسار الفنون البصرية، حيث قدمت وجهات نظر فريدة وتحديت المعايير المجتمعية. على الرغم من مواجهة التمييز والحواجز بسبب جنسهن، فقد ابتكرت الفنانات أعمالًا قوية ومبتكرة لا تزال تلهم وتثير الفكر في عالم الفن المعاصر. من خلال شجاعتهن وإبداعهن، مهدت هؤلاء الفنانات الطريق للأجيال القادمة من النساء لترك بصمتهن في عالم الفنون البصرية.

4. كان تمثيل المرأة في الفن أيضًا موضوعًا رئيسيًا، حيث صور فنانون مثل ماري كاسات وكاثي كولويتز التجربة الأنثوية في مجموعة متنوعة من السياقات:

على مر التاريخ، كان تمثيل المرأة في الفن موضوعا رئيسيا استكشفه العديد من الفنانين في أعمالهم. اشتهرت فنانات مثل ماري كاسات وكاثي كولويتز بتصويرهن للتجربة الأنثوية في مجموعة متنوعة من السياقات. تشتهر ماري كاسات، وهي رسامة انطباعية أمريكية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بتصويرها الحميمي والعميق للنساء والأطفال. غالبًا ما تصور لوحاتها نساء منخرطات في أنشطة يومية، مثل رعاية الأطفال والقراءة والتواصل الاجتماعي. تحدت أعمال كاسات الأدوار التقليدية للمرأة في الفن، حيث قدمتها كأفراد يتمتعون بالوكالة والتعقيد. تشتهر كاثي كولويتز، وهي فنانة وصانعة مطبوعات ألمانية، بتصويرها القوي والعاطفي للنساء في سياق اجتماعي وسياسي. غالبا ما تتناول أعمالها الفنية موضوعات الفقر والحرب والمعاناة، مع التركيز بشكل خاص على تجارب النساء والأطفال. تعمل أعمال كولويتز كتذكير مؤثر بالنضالات التي تواجهها النساء في المجتمع، فضلا عن كونها دعوة للعمل من أجل التغيير الاجتماعي. استخدمت كل من كاسات وكولويتز فنهما كوسيلة لإلقاء الضوء على تجارب النساء، وتحدي الأعراف المجتمعية، والدعوة إلى العدالة الاجتماعية. لا يزال عملهما يلهم ويتردد صداه لدى الجماهير اليوم، ويشكل شهادة على الدور المهم الذي تلعبه المرأة في الفنون البصرية.

5. من خلال دراسة أعمال الفنانات وتأثيرها على الفنون البصرية، يمكننا اكتساب فهم أكبر لمساهمات ووجهات نظر المرأة في المجال الفني:

من خلال دراسة أعمال الفنانات وتأثيرها على الفنون البصرية، يمكننا اكتساب فهم أكبر لمساهمات ووجهات نظر المرأة في المجال الفني. على مر التاريخ، واجهت النساء العديد من التحديات في عالم الفن، بما في ذلك الفرص المحدودة للتعليم والعرض، فضلا عن التوقعات المجتمعية التي غالبا ما همشت مساعيهن الفنية. وعلى الرغم من هذه العقبات، فقد دفعت الفنانات الحدود باستمرار، وتحدت الأعراف، وأعدت تعريف المشهد الفني. ومن الأمثلة على ذلك أرتميسيا جنتيلسكي، وهي رسامة باروكية إيطالية معروفة بتصويرها القوي للمشاهد التوراتية والأسطورية. غالبًا ما استكشفت أعمال جنتيلسكي موضوعات القوة والمرونة الأنثوية، كما هو موضح في لوحتها الأيقونية "جوديث تقتل هولوفرنيس". من خلال ضربات فرشاتها الجريئة وتعبيرها العاطفي المكثف، تحدت أعمال جينتيلسكي الفنية المفاهيم التقليدية للأنوثة ومهدت الطريق لأجيال المستقبل من الفنانات. ومن الشخصيات المؤثرة الأخرى في عالم الفن فريدا كاهلو، وهي رسامة مكسيكية معروفة بصورها الذاتية السريالية وأسلوبها الفني الفريد. غالبًا ما استكشفت أعمال كاهلو موضوعات الهوية والجنس والجنسانية، مستلهمة من تجاربها الشخصية ونضالاتها. من خلال ألوانها النابضة بالحياة وصورها الرمزية، تحدت أعمال كاهلو الفنية المعايير المجتمعية وفتحت إمكانيات جديدة للتعبير الفني. من خلال دراسة أعمال فنانات مثل جينتيلسكي وكاهلو، يمكننا اكتساب فهم أعمق لوجهات النظر والتجارب المتنوعة للنساء في المجال الفني. لم تقدم هؤلاء الفنانات مساهمات كبيرة في عالم الفن فحسب، بل مهدن أيضا الطريق لأجيال المستقبل من النساء لكسر الحواجز وترك بصماتهن على الفنون البصرية. من خلال تقنياتهن المبتكرة ورواياتهن القوية ورؤاهن التي لا هوادة فيها، تواصل الفنانات تشكيل المشهد الفني وتحدي مفاهيمنا حول ما يمكن أن يكون عليه الفن. وفي الختام، كان لعمل الفنانات تأثير عميق على الفنون البصرية، حيث قدم رؤى ووجهات نظر جديدة وإمكانيات للتعبير الإبداعي. ومن خلال دراسة مساهمات الفنانات عبر التاريخ، يمكننا أن نقدر بشكل أفضل ثراء وتنوع المجال الفني، فضلا عن الإرث الدائم للمرأة في تشكيل مسار تاريخ الفن. ومن خلال إبداعهن وشجاعتهن وقدرتهن على الصمود، قدمت الفنانات مساهمات دائمة في الفنون البصرية واستمرت في إلهام الأجيال القادمة من الفنانين لدفع الحدود وإعادة تعريف حدود التعبير الفني.

تطور دور المرأة في الفنون البصرية بمرور الوقت ولا يزال قوة مهمة في عالم الفن. وعلى الرغم من مواجهة التحديات والعقبات المختلفة، قدمت الفنانات مساهمات مهمة في هذا المجال ولعبن دورا فعالا في تشكيل المشهد الفني. فمن الأعمال الرائدة لأرتميسيا جنتيلسكي إلى الفن المعاصر لكارا ووكر، أثبتت النساء مهاراتهن وإبداعهن من خلال فنهن. ومع تقدمنا، من الضروري الاعتراف بمساهمات المرأة في الفنون البصرية ودعمها، وضمان منح عملها التقدير الذي يستحقه. ومن خلال القيام بذلك، يمكننا خلق عالم فني أكثر شمولا وتنوعا يحتفل بمواهب وأصوات جميع الفنانين، بغض النظر عن الجنس.

***

محمد عبد الكريم يوسف

...........................

المراجع:

Bibliography:

Chadwick, Whitney. Women, Art, and Society. Thames and Hudson, 2020.

Deitz, Paula. Contemporary Women Artists. St. James Press, 2018.

Nochlin, Linda. Women, Art, and Power and Other Essays. Harper & Row, 2019.

Pollock, Griselda. Vision and Difference: Feminism, Femininity and the Histories of Art. Routledge, 2017.

Chadwick, Whitney. Women, Art, and Society. 5th ed., Thames & Hudson, 2012.

Pollock, Griselda. Vision and Difference: Femininity, Feminism, and Histories of Art. Routledge, 1988.

Nochlin, Linda. Women, Art, and Power and Other Essays. Thames & Hudson, 1988.

Chadwick, Whitney. Women, Art, and Society. Thames & Hudson, 2007.

Heller, Nancy G. Women Artists: An Illustrated History. Abbeville Press, 2003.

Nochlin, Linda. "Why Have There Been No Great Women Artists?" Artnews, January 1971.

Heller, Nancy G. Women artists: an illustrated history. Abbeville Press, 2003.

Chadwick, Whitney. Women, art, and society. Thames and Hudson, 2007.

Broude, Norma, and Mary D. Garrard. The expanding discourse: feminism and art history. Westview Press, 2012.

Chadwick, Whitney. Women, Art, and Society. London: Thames & Hudson, 2012.

Ferris, Alison, and Reilly, Lucy. Women Artists: The Linda Nochlin Reader. New York: Thames & Hudson, 2016.

Fort, Ilene Susan. The Other Side of the Story: Structures and Strategies of Contemporary Feminist Narrative Art. Manchester University Press, 2011.

Nochlin, Linda. Why Have There Been No Great Women Artists? New York: Penguin Books, 2015.

من النّداءات الّتي لم أفقه مرادها وعلاقتها بالقضيّة الفلسطينيّة، والّتي ردّدت في إحدى الوقفات التّضامنيّة مع أحداث غزّة الأخيرة عبارة "تسقط القوميّة"، والشّعارات إن لم تكن محكمة يكن لها تأثير سلبيّ في العقل الجمعيّ، خصوصا في الأجيال المعاصرة، وأزعم أنّ بعضهم لا يفقه معنى القوميّة، فالقوميّة من حيث أصلها قديمة قدم تبلور الاجتماع البشريّ، فارتبطت بعناصر كليّة وفق انتماء يجمعها كما يرى أندروفنسنت في كتابه "نظريات الدّولة"، حيث "الجماعة لأول وهلة، تتضمّن بعض الإحساس بالانتماء، المحليّة، مجموعة من القيم والمعتقدات والأهداف المشتركة"، سميت لاحقا باسم القوميّة أو دولة الأمّة Nation State، ويرى أنّ "القوميّة هي ظاهرة حديثة نسبيّا، يعود تاريخها إلى أواخر القرن الثّامن عشر، وأوائل القرن العشرين".

 بيد أنّ الحكم دروزة (ت 2017م) وحامد الجبوريّ (ت 2017م) – وهما من القوميين العرب الأوائل – ينقضان في كتابهما "القوميّة العربيّة" والّذي صدر قبل عام 1960م ارتباط القوميّة بالقرون الأخيرة "إنّ القوميّة لم تنشأ في القرن الثّامن عشر أو التّاسع عشر كما يقول بعض المفكرين، بل تكوّنت أسس الوجود القوميّ لكلّ جماعة قبل ذلك بكثير، وما حدث في القرن الثّامن عشر والتّاسع عشر والعشرين هو تبلور الشّعور القوميّ وليس نشوء القوميّة"، فنحن "إذا ألقينا نظرة عامّة على هذا العالم، وحاولنا أن نقوم بدراسة خاطفة لواقع البشر الّذين يسكنون الأرض، لطالعتنا ظاهرة بارزة تعبّر تمام التّعبير عن حقيقة الاجتماع البشريّ، هذه الظّاهرة هي أنّ البشر إنّما يعيشون جماعات جماعات، كلّ جماعة منها تختلف عن الأخرى بعدّة خصائص ومميزات ومظاهر تعطي لهذه الجماعة طابعا خاصّا يلصق بها، ويميزها عن غيرها من الجماعات الإنسانيّة"، "فالعالم إنّما يتكوّن من مجتمعات قوميّة، من أمم متعدّدة، يكون كلّ منها بطبيعته وحدة حياتيّة متفاعلة، لها واقعها التّاريخيّ واللّغويّ والثّقافيّ والنّفسيّ والجغرافيّ ... وبكلّ هذه الأمور مجتمعة تتميز الأمم، وتستقل بعضها عن بعض، وإن كانت تشترك أحيانا في بعض هذه الأهداف مع بعض الأمم الأخرى".

 وعلى هذا هناك مفردات متقاربة من حيث الصّورة الأولى: الاجتماع البشريّ – القوميّة – الهويّة – الانتماءات المشتركة – الدّولة القطريّة، والأخيرة - أي الدّولة القطريّة – محلّ جدل من حيث علاقتها بالقوميّة، فهل هي صورة قوميّة مصغرة يجمع بينها مشترك المواطنة والتّأريخ والثّقافة، أم أنّها كما يرى أندروفنسنت "إذا نظرنا إلى الدّولة على أنّها مجرد نظام حكوميّ بيروقراطيّ أو جسد من المؤسّسات، فبالتالي يمكننا القول بأنّها متميزة عن الجماعة، ومن ناحية أخرى، إذا نظرنا إلى الدّولة على أنّها نظام أكثر شموليّة واتّساعا ليشمل كلّ العلاقات الاجتماعيّة، وليجسّد مثاليات أخلاقيّة جماعيّة، فبالتالي يمكن القول في معنى مهم أنّها تضمّ الجماعة، وهكذا فإنّ معنى الجماعة، مثل المجتمع، يرتبط ارتباطا وثيقا بالكيفيّة الّتي ينظر بها الإنسان إلى الدّولة".

 وهناك من حاول الممايزة بين ثلاثة جوانب رئيسة في الدّولة: الدّين والإنسان والثّقافة، فإذا غلب الدّين كنت ثيوقراطيّة، وإذا غلبت الثّقافة الشّموليّة أو هوية معينة كانت استبداديّة، وأمّا إذا تعلّقت بالإنسان وحافظت على الانتماءات الدّينيّة والثّقافيّة كانت ديمقراطيّة تجمعها ذات المواطنة، وقد أجاب القوميون أنّه لا تعارض بين القوميّة باعتبارها مشتركات وعلى رأسها الثّقافة بينها وبين الدّين والإنسان، فيرون "القومية وجود، والدّين رسالة أتت تصلح بعض جوانب هذا الوجود"، فروح الدّين "مجموعة من القيم والفضائل"، وهذا لا يتعارض مع القوميّة، ولكن يتعارض لمّا يتحوّل إلى "حركات سياسيّة تنفي القوميّة كوجود اجتماعيّ تاريخيّ، وتحاول أن تذيب كلّ قوميّات العالم في بوتقة واحدة"، وهي أيضا لا تتنافى من الغاية الإنسانيّة؛ لأنّ من أهدافها تحقيق "مجتمع قوميّ عربيّ تتحقّق فيه العدالة الاجتماعيّة بشتّى أشكالها، وتتحقّق فيه إنسانيّة الفرد العربيّ والأمّة العربيّة".

 وأمّا تأريخيّا في العالم العربيّ بالاعتبار الحركيّ، وليس بالاعتبار حركة الاجتماع البشريّ في المنطقة، يرى هاني الهنديّ (ت 2016م) وعبد الإله النّصرواويّ (ت 2023م) في كتابهما "حركة القوميين العرب" أنّ "بعض من كتب عن الحركة اعتبر تجربة كتائب الفداء العربيّ هي الّتي شكلت الانطلاقة، وآخرون تحدّثوا عن أنّها امتداد لـعصبة العمل القوميّ الّتي تأسّست في آب ۱۹۳۳م، حيث عقد مؤتمرها الأول في قرية قرنايل في جبل لبنان، وفريق ثالث تحدّث عن مفكرين وشخصيّات قوميّة، وعن أمكنة أخرى وفترات زمنيّة مختلفة، لم يكن للحركة علاقة بهم، ولا بالأماكن والأزمنة الّتي ذكرت، ولكن الوقائع تؤكد أنّ البداية كانت في عام ١٩٥١م، ومن بيروت كانت الانطلاقة، وكان المؤسّسون طلابا جاءوا من أكثر من قطر عربيّ".

 وكان الغاية منها قيام دولة عربيّة واحدة أمام الهيمنة التّركيّة حينها، ثمّ الاستعمار والصّهيونيّة العالميّة، لهذا من حيث حضور الفكرة كان في لبنان، فحضور "الفكرة القوميّة العربيّة [فيها، لها] جذور هي الأعمق والأقدم في بلدان المشرق العربيّ منذ الثّلث الأخير من القرن التّاسع عشر"، ولهذا "كان دعاة العروبة في غالبيتهم من المسيحيين العرب عند نشأة الوعي العربيّ"، وينقل مؤلفوا كتاب "حركة القوميين العرب" عن القوميّ العروبيّ الشّهير ساطع الحصريّ (ت 1968م) تفسيره لهذه الظّاهرة، حيث أرجع "السّبب الأساسيّ إلى الطّابع الإسلاميّ، وقوانين السّلطنة العثمانيّة الّتي جعلت المسيحيين العرب يشعرون أنّهم غرباء، شأنهم شأن البلغار واليونانيين والأرمن، وبكلمة، لم تكن المواطنة هي أساس القوانين على الرّغم من صدور التّشريعات الإصلاحيّة"، ومع هذا لأسباب التّخلف واستغلال موارد الأمّة والاستبداد والاستعمار ثمّ القضيّة الفلسطينيّة لقت القوميّة العربيّة رواجا في العالم العربيّ، فانتقلت إلى سوريّة وفلسطين، ثمّ العراق ومصر والأردن، وعمّت اليمن والكويت والجزيرة العربيّة عموما، وارتبطت بالماركسيّة لارتباطها الماديّ في تحقّق العدالة الاجتماعيّة وفق المساواة الذّاتيّة بين الجميع.

 ولكونها حركة ثوريّة تحرريّة كانت القضيّة الفلسطينيّة حاضرة فيها قبل تبلورها كحركة، ففي كتاب "حركة القوميين العرب" أنّه "بدأ نشاط النّواة المؤسّسة لهذا العمل من قبل مجموعة صغيرة من الشّباب العرب، ومن أكثر من بلد، الّذين تصادف وجودهم طلابا في الجامعة الأميركيّة في بيروت أيام نكبة فلسطين عام ١٩٤٨م"، وفي كتاب "مع القوميّة العربيّة" بيّنت الحركة أنّ من "أهدافها – أي القوميّة – المرحليّة الّتي تناضل لتحقيقها في المرحلة النّضاليّة الحاضرة هي: القضاء على التّجزئة البغيضة في الوطن العربيّ بالوحدة العربيّة الشّاملة، والقضاء على الاستعمار بشتّى أشكاله بالتّحرّر الكامل، والقضاء على إسرائيل بالثّأر"، وأصدرت الحركة عام 1958م كتاب "إسرائيل: فكرة، حركة، دولة" لهاني الهنديّ ومحسن إبراهيم (ت 2020م)، وهي قراءة عميقة ومبكرة في تفكيك بنية اليهوديّة والصّهيونيّة.

 لهذا لا أدري محلّ عبارة "تسقط القوميّة" وعلاقتها بالقضيّة الفلسطينيّة، ولو كانت في محلّ منفصل في رفض القوميّة لكان فيه شيء من المنطق، ولكن أن يكون في فضاء القضيّة الفلسطينيّة فهذا ينمي عن شعارات لا قيمة لها، وتعطي تشويها للحقائق المعرفيّة والتّأريخيّة، فالقضيّة الفلسطينيّة لا أحد يدّعي أنّه الحامي الوحيد لها، وقبل أن تتبلور الحركات الإسلاميّة جهاديّة أم دعويّة؛ كانت قبلها وأثنائها حركات أخرى أيضا ناضلت لأجل القضية، وهذا لا يعني بحال ملائكيّة الحركات القوميّة، كما لا يعني شيطنتها، فهي مرحلة تأريخيّة لها حسناتها وسلبيّاتها، وسبق الحديث عنها، وفي الوقت ذاته لا يجوز تشويه التّأريخ، كما أنّه علينا أن نبتعد عن مثل هذه الشّعارات غير الواقعيّة، لما لها من تأثير سلبيّ في العقل الجمعيّ.

***

بدر العبري

 

لا شك أنّ العالم اليوم يواجه جملة من القضايا المتنوّعة، آثارها جلية على البشرية جمعاء منها: مستحقّات التعدّدية، بوجهيها الديني والثقافي، ومستوجَبات السلم في العالم، ومراعاة الأقليات في مجتمعاتها الأصيلة، واحترام نظيرتها في المجتمعات التي طرأت عليها الهجرة، وغيرها من القضايا. وهي قضايا لا يمكن التعاطي معها بمثابة أخبار عابرة، في وسائل الإعلام؛ بل ينبغي تطارح آثارها وأبعادها بعمقٍ، وإمعان النظر فيها وحولها بالبحث والدراسة والترجمة.

ومهما بدا المرءُ معزولا عن تلك القضايا الكبرى، حين يرزح تحت وطأة المشاكل الفردية، فالثابت والجليّ أنّ ثمة جدلية وصِلة بين مشاكل الفرد الشخصية وقضايا العالم الجماعية، وعلى هذا الأساس يمكن القول إن مشاكل الفرد هي قضايا العالم وقضايا العالم هي مشاكل الفرد. ولعلّ هذا ما يجعل الترابط بين القضايا الإنسانية وصناعة النشر اليوم من أوكد ما نحتاج لمعالجته لإدراك ذواتنا وللإحاطة بقضايا العالم.

الصناعة الثقافية وقضايا العالم

لعلّ من الصائب، لو شئنا عنوانا لمداخلتنا في قالب تساؤل لقلنا: من يصنع الفكر والثقافة اليوم؟ ومن تشغله قضايا العالم؟ مجالات النشر والقضايا الإنسانية هما مسألتان تسائلان أوضاعنا الراهنة، المعرفية والحضورية في العالم، بَيْد أنهما تشكوان من المعالجة السوية والمعمَّقة. ذلك أن الجانب الأول، "النشر والترجمة"، هو عملٌ غالبا ما تعكف على الاشتغال به مؤسسات خاصة لدينا، وهي مؤسسات في أوضاعها الحالية قاصرة عن بلوغ المرجو، لأنها باختصار تلاحق تحقيق الربح للحصول على عائدات مادية لا غير، وقلّما يرتبط عملا النشر والترجمة في تلك المؤسسات الخاصة بمعالجة قضايا ذات أبعاد إنسانية.

ذلك أنّ دُور النشر العربية، في الغالب الأعمّ، ليست امتدادا لمراكز أبحاث أو مؤسسات دراسات، أو هيئات علمية ومعرفية، معنيّة بالاشتغال على نطاق محلي أو دولي، بل هي شبه دكاكين تجارية محدودة الأنشطة، لم تتحوّل إلى ما يشبه المغازات أو المولات الثقافية. ومحدودية النشاط هذه فرضت عليها نمطا خُلقيا في التعامل مع الكتّاب والباحثين والمبدِعين، غالبا ما كان محكوما بمعادلتَيْ الاستغلال، وأدخلها في منظور للنشر والترجمة محصورا بأهداف مستعجَلة وخاضعا لسياسات ربحية. لذلك يبقى دَوْر الانشغال بالقضايا الإنسانية بعيدا عن خياراتها وملقى على عاتق مؤسسات ذات صبغة مقاصدية تتجاوز الهدف التجاري إلى هدف حضوري وتأثيري في العالم. ونقصد بالأساس مؤسسات معرفية وعلمية غير ربحية، تتمتّع بمستوى من الاستقلالية حتى تقدر على التحرك والتأثير.

ألمحنا بعجالة، في ما سبق، إلى نوعي المؤسسات المنشغلة بالنشر والقضايا الإنسانية في آن، ضمن السياق العربي، وبيّنا أن التعويل على دُور النشر العربية في هذا الجانب هو من باب حلم اليقظة، لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه. فالمسألة أكبر من قدراتها وإمكانياتها، ولذا تبقى المؤسسات الجماعية الفاعلة، أو ما بات يُعرف بـ (الثينك تانك/ Think tank) هي المقتدرة على تولّى هذه المهمّة وتطويرها. فالفكر العملي اليوم، والتأثير الثقافي بوجه عام، ما عادا صناعة فردية بل صناعة مؤسسة جماعية.

أعود إلى الإشكال الجوهري في محاضرتنا: صناعة النشر بوجهيها المعرفي والترجمي، من يصنعها اليوم في البلاد العربية؟ هل هي مؤسسات الدولة؟ أم مؤسسات البحث والدراسات ذات الطابع المستقل؟ أم دُور النشر الخاصة؟ فخلال العقود الأخيرة خَبَت في الدولة تلك الحماسة في صناعة "الثقافة المنشورة"، ومن ثَمّ تراجع هاجس استقبال الجديد في العالم، حتى لكأنّ الدولة غادرت معترك هذا السوق وتركته عرضة لتنافس صبياني محموم. تخلّت الدولة عن تلك الريادة التي ميّزتها فجر الاستقلال وإلى غاية الثمانينيات من القرن الفائت. لكن هذا العبء، أو لنقل هذه المسؤولية التاريخية، ثمة دولٌ لا تزال تتحمّلها باقتدار وبطرق ذكية وفي مقدّمتها بعض دول الخليج العربي، ما عدا تلك الدول، فقد تراجع فيها ذلك الدور بشكل فاجع.

وعلى هذا الأساس نُقدّر أنّ صناعة النشر والترجمة التي تنظر إلى العالم، وتتفاعل مع العالم، تحتاج إلى عين الدولة، ولكن بروح وثّابة ومسؤولة (مشروع كلمة في أبوظبي، والمركز القومي للترجمة في مصر، ومؤسسة ترجمان التابعة للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في قطر، هي نماذج حيوية لهذه العين الساهرة والراعية). لأنّ المؤسسات المدعومة من الدولة هي الأقدر على إرساء المشاريع الهيكلية، الهادفة والواضحة، مثل ترجمة القواميس، والموسوعات، وكبريات مراجع المدوّنة العالمية، في الفكر والآداب والفنون وفي شتى حقول المعرفة، وإلا فمن أين يأتي استقبال ما يجري في العالم والتعاطي معه؟

مقتضيات الإحاطة بالقضايا الإنسانية

من الجليّ أن الانشغال بالقضايا الإنسانية لا يمثّل هاجسا لدى الجميع، وإن حضر هذا الانشغال لدى البعض، فإنّه غالبا ما يطغى عليه الطابع السياسي، لغلبة التوترات والصّراعات ذات الأثر المعولَم، فتَتوارى قضايا حارقة مثل التفاوت الاجتماعي، والإمعان في تفقير الشرائح المحرومة، وطمس حقوق المظلومين، والتغاضي عن قضايا الهجرة العالمية وغيرها. مع هذا بات الوعي بالعالم، وبقضايا العالم، اليوم، مدعوا لتجاوز التعاطي الإخباري لما يجري إلى التعاطي المعرفي. ولا سبيل إلى بناء تعاط معرفي مع العالم، سوى بإنتاج الأبحاث والدراسات المعمّقة فيه، وردف ذلك بتفعيل عمل الترجمة وتكثيفه. ومن جانبنا العربي نحن في أمس الحاجة إلى "استغراب" (يعانق الغرب معرفيا) وبالمثل إلى "استشراق" (يعانق الشرق الصيني والياباني والهندي معرفيا). ولْنكنْ صرحاء مع أنفسنا، علومنا التي تُدرَّس في المؤسسات الجامعية العربية هي علوم منكفئة على الداخل العربي في مجملها، رغم وجود قدرات لغوية في الجامعات العربية تفوق القدرات الجامعية الغربية أحيانا، بحوزة مدرّسي علم الاجتماع والفلسفة والحضارة والتاريخ وغيرهم، لكن تلك القدرات مجمَّدة أو معطَّلة جراء خمول ذاتي أو جراء مناخ أكاديمي موبوء سائد في جامعاتنا، وهو ما يتطلّب مصارَحة حقيقية للخروج من هذا الانحصار في الداخل.

فالوعي بالقضايا الإنسانية يقتضي الانفتاح على مجالات معرفية متنوعة في الترجمة، وفي واقعنا الحالي، تحوز ترجمة الأدب، وتحديدا الرواية، نصيب الأسد مما نستجلبه من الخارج، ولكن الرواية وحدها لا تكفي لبناء رؤية صائبة ومكتملة عن الآخر. إن علماء الاجتماع لدينا، والمنشغلين بالفلسفة، والمنشغلين بالتاريخ والسياسة ونظراؤهم كثيرون، هؤلاء ممّن ينبغي أن يرصد ويترجم نحو العربية وينقل رؤيتنا إلى العالم، لأنهم وببساطة الأدرى بالعالم في مجالاتهم وتخصّصاتهم، وليس انتظار غيرهم ليقوم بذلك الدور بدلا عنهم.

فالترجمة لدينا اليوم مطالبَةٌ بتصحيح مساراتها لتتحوّل من ترجمة ممّا يدرُّ ربحًا إلى ما يُؤسّس وعيًا. ومن ملاحقة الصّرعات العالمية للـ "باست سالر" وأفضل القوائم لدى دُور النشر، إلى تلبية احتياجاتنا وسدّ النقص لدينا. فنحن في أمس الحاجة في الترجمة إلى ما يزيح الغشاوة عنّا في رؤية العالم رؤية صائبة وواضحة. وبالتالي فالترجمة الفاعلة، والحاضرة في الحراك الثقافي، والتغيير الاجتماعي، لا تصنعها دُور النشر المتلهّفة على تحقيق الربح المستعجل.

تحيين المعارف بالغرب والشرق، عبر النشر والترجمة، ضروري للإحاطة بقضايا العالم. والجامعة منوط بها دَورٌ محوري في تنشئة القدرات البحثية والمعرفية وإنمائها. لذا في الواقع الحالي الجامعة والمؤسسات الأكاديمية العربية في حاجة ماسة، في تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية والدينية، إلى تكثيف التواصل مع الفضاءات الثقافية والمعرفية الأخرى من أجل تحفيز الوعي بالآخر. حيث تلوح الرؤية العربية للآخر متقادمة أو مبتورة، لا تفي بشروط الإحاطة والإلمام بما يجري في العالم.

***

ا. د. عز الدّين عناية

أستاذ تونسي بجامعة روما- إيطاليا

........................

مداخلة ألقيت في معرض الكتاب في الرباط بتاريخ 18 مايو 2024.

 

بقلم: آنا بانتليا

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

دائما ما تبرر الثقافة المحافظة في اليونان العنف الأسري وقتل النساء. على الرغم من التقدم الذي تحقق مؤخرًا، إلا أن النظام الأبوي لا يزال يشكل تهديدًا قاتلاً داخل المجتمع اليوناني.66 anna pantelia

كان منزل دورا زاكاريا، الذي يتميز بلونه الأصفر الباستيلي في رودس، دائمًا مليئًا بالموسيقى. كانت تتمتع بحضور مفعم بالحيوية، ومنذ طفولتها، كانت والدتها كاترينا تستطيع دائمًا أن تعرف متى تكون دورا في المنزل من خطواتها النشطة. كانت تغضب عندما تغفو دورا على الأريكة وهي تشاهد التلفاز أو تترك أكواب القهوة والأطباق ملقاة هنا وهناك. لكنها كانت ستستعيد كل الضوضاء والفوضى بفرح لو كانت تستطيع قضاء المزيد من الوقت مع ابنتها. في سبتمبر 2021، قُتلت دورا على يد صديقها السابق عن عمر يناهز 31 عامًا.

في جزء آخر من اليونان، على بعد عشرة أميال غرب كورينث، تبتسم أليكا بساراكاو، 46 عامًا، وهي تسحب صندوقًا من الصور القديمة التي تعيد ذكريات ابنتها غاريفاليا البالغة من العمر 25 عامًا. تقول أليكا إنها كانت "مجتهدة وذكية وحساسة. كان الأمر وكأن شخصًا ما علمها كل شيء". لم تضيع غاريفاليا الوقت أبدًا: كانت تسافر وتتعلم اللغات وتحتفل مع الأصدقاء وتتفوق في الدراسة. تدربت كصيدلانية في أثينا وعادت إلى منزل عائلتها على أمل فتح صيدليتها الخاصة. قُتلت على يد صديقها خلال أول إجازة صيفية لهما معًا.

إن مأساة غاريفاليا ودورا تعكس تجربة العديد من الشابات اليونانيات. ولكن في اليونان، هناك تصور شائع بأن العنف المنزلي يؤثر بشكل رئيسي على النساء في الأسر المحافظة اللاتي يعتمدن مالياً على أزواجهن وبالتالي أكثر عرضة للخطر. وفي حين أن هناك بالفعل علاقة بين الاعتماد المالي ومثل هذه الحوادث، فإن تجربة دورا وغاريفاليا تظهر أن المشكلة أوسع نطاقاً بكثير. كانت كلتاهما متعلمتين جيداً، وتعتمدان على الذات ومستقلتين مالياً، ومع ذلك فقد وصلتا إلى نهايات مأساوية مماثلة في بلد يكافح للتعامل مع مشكلة قتل الإناث.

وُلدت دورا ونشأت في رودس، وهي وجهة سياحية شهيرة يبلغ عدد سكانها حوالي 50,000 نسمة. ترعرعت في ضاحية سكنية هادئة خارج مركز المدينة القديمة كجزء من عائلة ممتدة مترابطة، حيث كان الوالدان والإخوة والأعمام والأخوال والأقارب والأجداد يعيشون جميعًا معًا. كان والد دورا، تريانتافيلوس زاكاريا، الذي عمل موسميًا كسائق في قطاع السياحة، يحب الموسيقى، وكان هناك دائمًا ولائم من المأكولات البحرية بينما تُعزف الموسيقى اليونانية التقليدية. عادت دورا إلى رودس للعمل كمعلمة خاصة بعد إتمام دراستها في ثيسالونيكي والمملكة المتحدة. كانت مكرسة بشكل خاص للطلاب ذوي الإعاقات التعليمية. قابلت كوستاس مويراس، وهو مثبت ألومنيوم يبلغ من العمر 40 عامًا، من خلال أحد آباء طلابها. تواعدا لمدة تسعة أشهر قبل أن ينتقلا للعيش معًا. كانت دورا متحمسة. لكن الانسجام المنزلي لم يدم طويلاً وسرعان ما ظهرت جوانب غير مرغوب فيها من سلوك كوستاس. كان يحاول السيطرة على كل حركة لدورا، بدءًا من محاولة تقييد مشاهدتها للتلفاز إلى إخبارها بعدم الجلوس على الشرفة بتنورة قصيرة. كما كانت دورا تشك في أنه كان يراقب هاتفها. أصبح كوستاس مستبدا بشكل متزايد، مطالبًا دورا بقطع علاقاتها بأصدقائها وعائلتها لقضاء المزيد من الوقت معه.

بعد شهرين من تصاعد المشاجرات والقتال، لم تعد دورا تتحمل الأمر وعادت إلى منزل عائلتها. جلبت عملية الانفصال بعض الهدوء، لكن دورا أخفت سبب عودتها. بدورها، منحتها عائلتها المساحة وتجنبت طرح الأسئلة عليها. لكن كوستاس ظل وجوده مهددًا. في إحدى الأمسيات، بينما كانت دورا عائدة إلى المنزل وكانت تتنزه بسيارتها، كمَن لها كوستاس وأطلق عليها النار مرتين باستخدام بندقية صيد. ثم عاد إلى الشقة التي استأجراها معًا وأطلق النار على نفسه. في الليلة التي سبقت وفاتها، قالت دورا نصف مازحة لأحد أعز أصدقائها، "هل يمكنك تخيل إذا ما ظهرت في العناوين مثل النساء الأخريات؟" في إشارة إلى ضحايا القتل الأنثوي في اليونان.

كانت حياة غاريفاليا المبكرة في كورينث مثالية تمامًا . كانت تأخذ دروسًا في الباليه، وتلعب بأزياء تنكرية، وتقضي عطلات الصيف في اللعب مع إخوتها. منذ عودتها إلى فيلو في عام 2020، كانت غاريفاليا تواعد ديميتريس فيرغوس، عالم الكمبيوتر. كان أيضًا يظهر سلوكًا متحكمًا. في عيد الميلاد الذي سبق وفاتها، أخبرت غاريفاليا والدتها أنها تعتقد أن صديقها قد قرصن هاتفها. كان دائمًا يتحقق من مكانها وما تفعله. وقد جعل هذا غاريفاليا عصبية. في عام 2021، قرر الثنائي قضاء الصيف في التخييم على جزيرة فوليغاندروس في السيكلاد. وفقًا لمحامي دفاع فيرغوس، في اليوم المميت، بدأت الشريكان في الجدال حول الاتجاهات وقاد فيرغوس السيارة عن الطريق، لتنتهي بالقرب من حافة منحدر. عُثر على جثة غاريفاليا من قبل صيادين محليين بعد بضع ساعات، عائمة في البحر. وأظهر تقرير الطب الشرعي أنها تعرضت للضرب وسحبت وهي فاقدة للوعي عبر منطقة صخرية ثم دفعت إلى البحر حيث غرقت.

حتى وقت قريب، كانت جرائم قتل النساء في اليونان تُسجَّل رسميًا باعتبارها "جرائم شرف". وكانت وسائل الإعلام الوطنية تشير إلى هذه الجرائم باعتبارها "جرائم عاطفية". وفي عام 2020 فقط، عدلت الشرطة اليونانية نظامها لتتمكن من تسجيل جرائم العنف المنزلي. والآن، تتضمن بيانات الشرطة معلومات حول جنس الضحايا والجناة وكذلك العلاقة بينهما.60 Cemeteries

هزت جريمة قتل دورا المجتمع المتماسك في رودس. وحظيت جنازتها بتغطية واسعة النطاق في الصحافة المحلية، حيث تساءل الكثيرون عن سبب السماح لقاتلها بالاحتفاظ بسلاح ناري، حيث تبين أنه استخدمه سابقًا لتهديد شريك سابق. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يضطر فيها مجتمع الجزيرة إلى التعامل مع مثل هذه الجريمة. في نوفمبر 2018، تعرضت الطالبة الجامعية البالغة من العمر 21 عامًا إيليني توبالودي للاغتصاب والضرب والقتل على يد رجلين بعد أن قاومت هجومهما. وقعت جريمة القتل في ذروة حركة #MeToo وأثارت صرخة وطنية ومناقشة حول قتل الإناث والعنف القائم على النوع الاجتماعي. نظمت منظمات نسوية ومجموعات حقوق الإنسان العديد من الاحتجاجات السلمية في العاصمة اليونانية لزيادة الوعي بالمشكلة وتسليط الضوء على ضحايا آخرين للعنف القائم على الجنس.

في مايو/أيار 2020، حوكم قتلة إيليني، واعتبر كثيرون خطاب المدعي العام بمثابة علامة فارقة في الحملة الرامية إلى التصدي للجرائم ضد المرأة. فقد ألقى خطابه الضوء على بعض مظاهر الذكورية المتأصلة في المجتمع اليوناني. وفي حديثها إلى والد إيليني، وصفت المتهمين بأنهما يمثلان "لعنة الحياة"، في حين أن ابنته "مثل النجم الساطع، ستُظهر لنا دائمًا الطريق من حيث هي". وحُكِم على القتلة، الذين كان عمرهم آنذاك 19 و21 عامًا، بالسجن مدى الحياة بتهمة القتل و15 عامًا إضافية بتهمة الاغتصاب الجماعي.

تقول ماريا مورزاكي، مديرة السياسات في منظمة أكشن إيد: " ما نريده هو الاعتراف القانوني بمصطلح 'القتل الأنثوي' في القانون الجنائي ،   لكي نتمكن من تسليط الضوء على الدوافع والديناميات الجنسية للجرائم ضد النساء." هذا أمر ضروري لمجتمع "عميق الذكورية والمحافظة"، كما تقول مورزاكي، التي درست تأثير الأزمة المالية اليونانية على الناجين من العنف الأسري. تشير إلى أن شبكة الدعم للناجين تم بناؤها خلال الأزمة المالية اليونانية، ولكن على الرغم من زيادة قدرة الملاجئ، "تم تقليص الموارد البشرية وغيرها من أشكال الدعم، مثل الرعاية الصحية أو العمل الاجتماعي، بسبب تخفيضات الميزانية."

لقد كشفت جائحة COVID-19 وإجراءات الإغلاق الناتجة عنها عن مدى شدة وحجم مشكلة العنف الأسري. وفقًا لسجلات الشرطة، كانت 4,264 امرأة ضحايا للعنف الأسري في عام 2020 وحده. تقول ماريا سيريججيلا، الوزيرة السابقة للعمل والشؤون الاجتماعية والمسؤولة عن المساواة بين الجنسين: "خلال فترة الإغلاق، كانت العديد من النساء في خطر فوري بسبب العنف الأسري واضطررن للإخلاء من منازلهن." وتضيف: "حصلنا على التصاريح اللازمة وعلى الرغم من قيود الحركة، ساعدناهن إما في الانتقال إلى منازل الأصدقاء أو العائلة أو إلى ملاجئ الطوارئ لدينا." تقول سيريججيلا إن قدرة ملاجئ الطوارئ للنساء المعنفات قد زادت خلال تلك الفترة.

على الرغم من هذه الادعاءات، تظل النساء غير مقتنعات بالتقدم المحرز. في نوفمبر 2020، خلال الإغلاق، تم اعتقال تسع نساء من قبل الشرطة بعد تنظيمهن احتجاجًا في اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد النساء. من بين أمور أخرى، كان الاحتجاج على طول الوقت الذي استغرقته الشرطة اليونانية لاعتقال بابيس أناغنوستوبولوس، البالغ من العمر 33 عامًا، والذي اتهم بقتل زوجته كارولين كراوتش، البالغة من العمر 20 عامًا، أمام طفلتهما الرضيعة في مايو من نفس العام. بعد مقتل المرأة السادسة عشرة في ذلك العام، تجمع النساء في أثينا مرة أخرى في ديسمبر للاحتجاج على القتل الأنثوي، حاملات لافتات كتب عليها: "قتلة النساء لديهم مفاتيح منازلنا" و"الذكورية تقتل." كما وُجّهت انتقادات أيضًا للإعلام اليوناني؛ حيث تضمن أحد الردود على جريمة القتل الأخيرة امرأة على يد شريكها نقاشًا مع لجنة مكونة من ستة رجال بيض.

على مدى قرون من الزمان، وجدت جرائم قتل النساء قبولاً مقلقاً في المجتمع اليوناني. ولم تبدأ هذه الأفعال في اعتبارها جرائم جنائية إلا في منتصف القرن العشرين، ففقدت حمايتها بموجب القانون العرفي. وفي الماضي، كان الحفاظ على شرف الأسرة يُنظَر إليه باعتباره أكثر أهمية من الحفاظ على الحياة نفسها، وهو الشعور الذي تردد صداه كثيراً في الأغاني الشعبية اليونانية. وتحكي أغنية "منوسيس"، التي تُغنَّى وتُرقص على أنغامها في اليونان حتى يومنا هذا، والتي انتقلت إلى تعليم الموسيقى في المدارس، قصة رجل مخمور أثناء الحكم العثماني ذبح زوجته بعد أن اشتبه في أنها تتحدث إلى رجل آخر.

وعلى الرغم من تشديد المواقف القانونية تدريجيا، فإن قبضة المواقف الاجتماعية المتجذرة لا تزال عنيدة. وحتى اليوم، يتم أحيانا تبرير العنف القائم على النوع الاجتماعي باسم سمعة الأسرة أو مكانة الرجل. ولعبت وسائل الإعلام التقليدية دورا كبيرا في دعم هذه الرواية.

يشير جورج بليوس، أستاذ علم اجتماع وسائل الإعلام والثقافة بجامعة أثينا، إلى استجابة إعلامية شائعة عندما تتصدر جرائم قتل النساء عناوين الأخبار. فغالبًا ما يقع التدقيق على المرأة - سلوكها وثقافتها ومظهرها - وبالتالي إدامة الصور النمطية الضارة بين الجنسين وتحويل اللوم عن الجاني الذكر. وبدلاً من ذلك، لجأ الناس إلى وسائل التواصل الاجتماعي للمطالبة بتدابير جديدة لإنهاء العنف القائم على النوع الاجتماعي، بما في ذلك فرض عقوبات أكثر صرامة على الجناة. ويصفون هذه الجرائم بأنها جرائم قتل نساء. لكن الناس على الجانب المحافظ من الطيف السياسي يجادلون في وجود مثل هذه الجريمة. ويشير بليوس إلى أن هذا يتماشى مع وجهة نظرهم بشأن دور المرأة في المجتمع، والذي يرون أنه يشمل تربية الأطفال وتدبير المنزل. "هذه المحافظة حاضرة جدًا في وسائل الإعلام اليونانية".

تزور أليكا المقبرة كل يوم لتتحدث إلى ابنتها، وتنضم إليها أختها لترافقها وتمنحها القوة. تحضر مواد التنظيف وتغسل الفوانيس وتشعل الشموع بالداخل. تحيط بالمقبرة بساتين الزيتون وبساتين الليمون والبرتقال. تشير أليكا إلى القرنفل الذي يزين مثوى ابنتها الأخير وتقول إن غاريفاليا هو الاسم اليوناني لهذه الزهرة.

تقول أليكا : "لن أقبل أبدًا ما حدث لابنتي. سأموت بسبب هذا الألم. لكنني شعرت أنه إذا تخليت عن الحياة، فسوف أفقد أطفالي الآخرين أيضًا. لذلك كان علينا أن نقف معًا"

" عاشت غاريفاليا حياة سعيدة للغاية وهذا يعطيني عزاءً،" تقول. "لقد أمضينا معها 25 عامًا رائعة. ما حدث كان بربريًا للغاية للعائلة بأسرها. لقد قُتلت ونحن قُتلنا معها."

دُفنت دورا بجوار جدها الحبيب من جهة الأم، والذي كانت تتبعه عندما كانت تتعلم المشي. على الأقل، تتمتع عائلة دورا براحة البال بمعرفة أن قاتل ابنتهم قد مات. تقول عمتها كليوباترا كوتي: "لا أعرف ماذا كنا سنفعل لو كان لا يزال على قيد الحياة". وتضيف: "لا يزال القتلة الآخرون على قيد الحياة، وفي يوم من الأيام سيُطلق سراحهم من السجن وسيخوضون علاقات جديدة ولن تعود ابنة شخص آخر"، مستشهدة بقضية غاريفاليا كمثال. وتقول: "يجب تغيير القانون في اليونان فيما يتعلق بقتل النساء". كانت عقوبة السجن المؤبد 16 عامًا، ولكن منذ مقتل غاريفاليا، ارتفعت إلى 18 عامًا. وهي لا تعتقد أن هذا كافٍ.

تقول: بناتنا اللاتي قُتلن لن يحصلن على فرصة ثانية في الحياة ، لكن القتلة هم من سيحصلون.على هذه الفرصة .

***

......................

الكاتبة: آنا بانتليا / Anna Pantelia مصورة صحفية يونانية. تشمل اهتماماتها القضايا الإنسانية والظلم الاجتماعي وتغير المناخ. منذ عام 2015، قامت بتغطية أزمة اللاجئين الأوروبيين في اليونان والبلقان، بينما عملت أيضًا في جنوب السودان وموزمبيق..

 

(قراءة في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

سألتُ (ذا القُروح) في المساق السابق عن سبب أحكام النحويِّين القاطعة على استعمالٍ لُغويٍّ ما بالصِّحَّة أو بالشُّذوذ؟ وما معيارهم في هذا وذاك؟ فقال:

- معظم معايير الثقافات الاتباعيَّة القديمة تنطلق من معيارَي (الكثرة والقُوَّة). فالأكثر هو الأصح، والأقوى هو الأصلح. ألم تر كيف ردَّ «القرآن الكريم» هذه العقليَّة في الثقافة العَرَبيَّة وغير العَرَبيَّة،  مُبْطِلًا معاييرها، المعوِّلة على (الكَم) لا على (الكيف)؛ فجاءت الآيات: «قُل لَا يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ، وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيث»، «وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا، وَلَوْ كَثُرَتْ»، «وَيَوْمَ حُنَيْنٍ، إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ، فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا، وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِين»، ‏ «كَمْ مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَة»، «كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ، كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً، وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا... أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُون»، «قَالُوا: نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ...»، «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ، فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ؟ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَأَثَارُوا الأَرْضَ، وَعَمَرُوهَا، أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا...».

- ما علاقة هذا بالنحو؟  إنَّما سألتك عن معايير النحويِّين في تفضيل لُغة على لُغة، أو صيغة على أخرى!

- عِلَّة العِلل ثقافيَّة في الأساس. فلقد كان النحويُّون، واللُّغويُّون كذلك، يستقرؤون العَرَبيَّة في نطاقٍ ضيِّق، جغرافيًّا وتاريخيًّا، ثمَّ يقفزون لإطلاق أحكامهم العشوائيَّة التقليديَّة، بأنَّ ما وجدوه أكثر هو الفصيح، قولًا لا مثنويَّة فيه، وما وجدوه أقل، هو الشاذُّ المنبوذ. وهذا منهاجٌ غير صالح، ترتَّبت عليه أحكامٌ خاطئةٌ جائرة؛ ذلك أنَّ ما وجدوه أكثر: له معنًى بلاغي، وما وجدوه أقل- إنْ صحَّ أنَّه قليل- قد يكون له معنًى بلاغيٌّ آخَر، كما تقدَّم في حكاية بيت (جرير): «تَـمُرُّوْنَ الدِّيارَ ولم تَعُوجوا »، غير أنهم لا يلتفتون إلى هذا، أو بالأصح لا يدرِكونه.

- وكيف يُدرِك الأعاجم منهم بلاغة اللِّسان العَرَبي، مهما بلغ عِلمهم وفضلهم؟!

- لذا، كما رأيتَ في المساق الماضي، زعموا أنَّ استقراءهم أفضى إلى أنَّ أكثر ما سمعوا من كلام العَرَب على: «مَرَرْتُ بكذا»، فحكموا بأن تلك هي لغة العَرَب الصَّحيحة الفصيحة، وأنَّ صيغة «مَرَرْتُ كذا» شواهدها أقل؛ قالوا: إذن، هذا القليل غير فصيح ولا صحيح، بل هو شاذ، يُحفَظ ولا يُقاس عليه. فجعلوا الكثرة- بحسب استقرائهم المحدود أصلًا- معيار العَرَبيَّة العَرْباء!

- وما دليلك على خَطَلِهم؟

- دليلي بقاء الصيغتَين معًا في اللَّهجات العَرَبيَّة، واللَّهجات لم تخترعهما. بل قبل اللَّهجات فإنَّ الشاعر (جَرير بن عطيَّة، -110هـ= 728م) كان يستعملهما، كلَّ واحدةٍ في مقامها التعبيريِّ المناسب. ولكلٍّ منهما سياقها الخاص، بما يحمله من فارقٍ دلاليٍّ بلاغي؛ ومن ثَمَّ فإنَّ ما تقرَّر، تحت قاعدة (اللَّازم والمتعدِّي من الأفعال)، قد ألغَى ذلك الفارق البلاغي، خالطًا الحابل بالنابل، مُعلِيًا ما زعمَ أنه (اللُّغة العالية)، بل الصَّحيحة، مُبطِلًا ما عداه، وأضاع بذلك وُجوهًا من بلاغة الأساليب. وعلى ما حدث في هذه المسألة يمكن قياس سائر المسائل. وهو ما يتطلَّب المراجعة الشاملة والدقيقة، في ضوء لغة العَرَب التي ما زالت حيَّة على الألسنة، مع الموازنة بين دواوين الشُّعراء المحقَّقة وشواهد النُّحاة، بعيدًا عن عقائد تقديس الأحبار والرهبان من القدماء.

- أجل، لقد جُعِل النحو عِلمًا رياضيًّا منطقيًّا.

- وما كذلك اللُّغة، بوصفها فنَّ تعبير. ثمَّ جاء رفض النُّحاة بعض أساليب العَرَبيَّة، بحُجَّة أنهم لم يسمعوها، ضِغثًا على إبَّالة. وهم لم يسمعوها من حيث كان استقراؤهم محدودًا جِدًّا، ونمطيًّا جِدًّا أيضًا. بل كانت قدراتهم البحثيَّة والمنهاجيَّة أضعف بكثير من الإحاطة بالعَرَبيَّة واتساعها في جزيرة العَرَب، وهم غالبًا يتجادلون حولها في (العراق) أو بلاد (فارس).

- ولعلَّ الرفض أحيانًا لأنَّ تلك الأساليب تتصادم مع نظريَّتهم المنطقيَّة التي أزمعوا سَلَفًا فرضها فرضًا على اللِّسان العَرَبي.

- وهكذا صودر الكثير من طاقات اللُّغة، التي ربما اكتشفت بقاياها اليوم في بعض الشِّعر العَرَبي القديم، أو «القرآن الكريم»، أو لهجات الجزيرة العَرَبيَّة. وما رأيناه في هذه المناقشة لا يعدو نموذجًا من نماذج، تبلورت عبر العصور في الثقافة الاتباعيَّة المرسِّخة لمدرسة: (قُل، ولا تَقُل)!

- تعني كقولهم المكرَّر، مثلًا: «قُل: (مُصادَفة)، ولا تَقُل (صُدْفَة)»!

- مثلًا، مع أن معنى (صُدْفَة): (فَلْتَة)، لا (مُصادَفة)، وهو الأمر يقع من غير توقُّع أو تخطيط، أمَّا المُصادَفة فتكون في التقابل؛ فحين تُقابِل أحدًا مُصادَفةً، على سبيل المثال، فقد تصادفتما، وتلك مُصادَفة. والعامَّة كذلك قد يفرِّقون، بفطرتهم اللُّغويَّة، بين المقامَين.

- (بدر بن عبدالمحسن) يقول:

متى الشوارع تجمع اثنين صُدْفَةْ ::: لا صار شبَّاك المواعيدْ مجـفي

- ألا ترى هنا أنَّ مفهوم الصُّدْفَة أعمُّ من المُصادَفة التفاعلية بين طَرَفَين؟ بحيث يمكن القول: إنَّ كلَّ مُصادَفة صُدْفَة، وليست كل صُدْفَة مُصادفَة. غير أنَّ العامِّيَّة تستعمل (صُدْفة) لتشمل المعنى بوجوهه. ولقد استُعمِلت كلمة (صُدْفَة) حديثًا لدَى غير واحدٍ من كبار شعراء الفُصحى أيضًا، مثل (أحمد الصافي النَّجَفي)(1) في قوله:

يا حُسنَها صُدْفَةً مِنَ الصُّدَفِ ::: جادَتْ بلُقيـا للشَّاعرِ النَّجَفي

فَتَنَتْ دَهْــرًا بِحُـبِّ شـاعِـرَةٍ ::: هاجِرَةٍ ما وَفَـتْ لخَيْـرِ وَفِـي

- وأيَّان (النَّجَفيُّ) من عصور الاحتجاج؟!

- وهذا هو الأقنوم الثالث في أقانيم التفضيل، مع معيارَي (الكثرة والقُوَّة)، وهو معيار (القِدَم).  ممنوعٌ أن يولِّد شاعرٌ أو غير شاعرٍ من عَرَبيَّة ما قبل الإسلام مفردات جديدة. وهذا كما قلنا فتحَ للعاميَّة آفاقًا أُقفِلت أبوابها ونوافذها على مستعمل الفصحى. وهنا أتَّفِق معك- وقلَّما اتَّفقتُ مع أحد!- في أن صيغة المفاعلة (مُصادَفة) مختلفة عن صيغة (صُدْفَة)- على وزن (تُحْفَة)، و(طُرْفَة)، و(فُرْصَة)- وجمعها: (صُدَف). لكن لا يجوز لك التوليد، بل عليك تعقيم اللُّغة، بل تجميدها؛ لكي تُعَدَّ سَلَفيًّا صالحًا. وهم لا يقولون في مثل هذا: مولَّد، وليس من كلام العَرَب القدماء، بل يسارعون إلى تسفيه القائل، ونسبة استعماله إلى: الخطأ، والشذوذ؛ فلا تحرِّك به لسانك. إلَّا أنَّ مثالك هذا في اللُّغة، وحديثنا كان عن النحو.

- ما أشبه هذا بتلك، وتلك بهذا!

- صحيح، وهما مادَّة واحدة. فلنَعُد إلى القول: إنَّ بعض قواعد النحو قد تتناطح مع الشِّعر الجاهلي تارة، والإسلامي تارة، بل ربما مع بعض نصوص «القرآن»، والحديث النبوي، والأمثال العَرَبيَّة، والخطابة. بَيْدَ أنَّ أرباب تلك المدرسة لا يجدون غير تصنيف القول المخالف لقواعدهم، بغرض نَفْيه؛ فإنْ كان لشاعر، وصموه بالشذوذ، أو قالوا: ضرورة شِعريَّة، وإنْ جاء في مَثَل من أمثال العَرَب، قالوا: يُحفَظ ولا يُقاس عليه، فقد يَرِد في المَثَل خطأ نحوي، كقول العَرَب «أَعْطِ القَوْسَ بارِيْها»، والصواب نحويًّا: «بارِيَها»، أمَّا إنْ وردَ من ذلك شيء في «القرآن»، فتلك الطَّامَّة الكُبرَى، ولا بدَّ من التماس تخريج احترافيٍّ هاهنا، بما يجعل النصَّ مسالمًا للقواعد، أو بتأويله تأويلًا بعيدًا، وسيُعَدُّ في معظم الأحوال من قبيل (مُشْكِل القرآن)، أو متشابهه- زاعمين، مثلًا، أنَّ (إنَّ) هي: (إنْ)- على الرغم من أنه نزلَ بلسانٍ عَرَبيٍّ مبين، غير مُشْكِل، فليس من قبيل «الفوازير»، وإنْ خالف النَّمَط السائد (بزعم الاستقراء البدائي خلال القرون الأُولى)، وقد فهمه عَرَب الصدر الأوَّل، ولم يُثِر لديهم اعتراضًا، أو استشكالًا.

- لأنهم لم يكونوا نحويِّين! طيِّب، ماذا أنت صانع بكلِّ ذلك اللتِّ والعجن التراثي الذي بَشِمت به القُرون؟

- إذا كنتَ تهدف إلى أن تعرف قواعد النحو فقط، لا سفسطات النحويِّين، فعندي لك الكتاب، أو بالأصح الكُتيِّب.

- هات!

- كُتيِّب في نحو أربعين صفحة فقط، هو «الجُمَل»، لـ(عبد القاهر الجرجاني، -471/ 474هـ= 1078/ 1081م).

- كتاب غير مشهور.

- طبعًا غير مشهور، ولا حواشي له ولا أمعاء، وعدم شهرته لسببٍ لا يخفى. لكن لحُسن الحظ أنه مطبوع، بل ستجده اليوم على شبكة «الإنترنت».  وإنْ كان في حاجةٍ إلى مَنْهَجَةٍ، وإعادة عرضٍ عصري، ليُغنِي الطلبة عن جدليَّات النحويِّين ومماحكاتهم التي لا تنتهي. ولو فُعِل ذلك لأغنى كثيرًا عن تركات عصور الانحطاط المتراكمة، منذ القرن السابع الهجري فهلمَّ جرًّا إلى اليوم.

- في ليلةٍ واحدة، إذن، سأستوعب النحو كلَّه؟! ماذا عن (ابن عبدربِّه) و«عِقْده الفريد»؟ أم نسيت ما وعدت القارئ به قبل أسبوعين؟

- أَدْوَشْتَنا بابن عبدربِّه هذا!

- «شفيء يا راقل»! الآن كأنِّي بك ستقول لي: كلمة «أَدْوَشْتَنا» عَرَبيَّة فُصحى؟

- نعم! راجع- إذا شِئت- مادة (دوش)، في معجمات اللُّغة، وإنْ حوَّلتْها الدارجة المِصْريَّة من تَشَوُّش البَصَر إلى تَشَوُّش السمع.

- وربما لم تحوِّلها الدارجة المِصْريَّة، بل أَهملت المعنى السمعيَّ وراءها كتبُ اللُّغة.

- احتمال وارد، بل لعلَّه راجح. «ولكنْ ضاقَ فِتْرٌ عن مَسِيْرِ!»

- ماذا تقصد؟

- أقصد إلى اللقاء في المساق المقبل!

***

أ. د. بد الله بن أحمد الفَيفي

..............................

(1) (1977)، المجموعة الكاملة لأشعار أحمد الصافي النجفي غير المنشورة ، باعتناء: جلال الخياط، (الجمهورية العراقيَّة: وزارة الإعلام)، 387.

 

في المثقف اليوم