قضايا

شهرزاد حمدي: بأيّ معنى نُقرِّر صِفة المُتَخَصِّص؟

يتردّد على مَسَامِعنا عند التحدّث عن بعض الأساتذة والباحثين هُنَا في الجزائر أن الأستاذ كذا مُتخصِّص في فلسفة كذا - لا نَقْصِدُ شَخْصًا بِعَيّنِه -، في فلسفة مدرسة فرانكفورت، في فلسفة "إدغار موران"Edgar Morin  (1921م)، في قضايا البيوإيتيقاBioethics ، في فكر "محمد أركون"Mohammed Arkoun  (1928-2010م)، في فكر "طه عبد الرحمان"Taha Abdurrahman  (1944م)، وغير ذلك، كدلالة توصيفية لتركّز بُحوثه ودِراساته حول فكرة مُعيّنة أو طُروحات شخصية فلسفية مُحدّدة، وبات الأمر بمَثَابة إنجاز أن يتمّ ربطّ اسم أستاذ ما بفيلسوف أو مُفكٍّر ما. ويمتدّ الحال إلى أمَرِّه أن تُختزل كلّ الانجازات البحثية لذلك الأستاذ حول أفكار ذلك الفيلسوف الذي وُصِف أنه مُتخصِّص فيه، فإذا تقرّرت مُشَاركته في مُلتقيات عِلمية أو استكتابات جماعية أو نشرّ مقال أو في إطار اقتراحه لموضوعات مُذكّرات تخرّج أو أطاريح دكتوراه، إلاّ ويُسَارع في طرح إشكالية من الإشكاليات التي تقترِن مُباشرة بأدواته المنهجية أو مقولاته المعرفية وجهازه المَفَاهيمي. وبالتالي يتحوّل إلى مُبشِّر بفلسفته أو على أقلّ تقدير إلى ناقِل ومُترجِّم لأفكاره بلُغة المَجَال التداولي الذي ينشُط فيه. إنّ حال التخصّص وتعميق الدِراسات حول أفكار فيلسوف ما يكون في غالبية الأحيان أنموذج البحث في مرحلة الماجستير / الماستر من ثمّ الدكتوراه؛ حيث يمنحه الباحث كلّ الوقت للانكباب على تصوّراته ومواقفه ومنهجه، له حُظوته العِلمية والأكاديميّة؛ إذ تجعله من أكثر العارِفين به، والمُشَار إليهم حين تقتضي الحاجة إلى توفير المادة العِلمية بُغية تحرير دِراسة عنه تُضاف إلى مجموع الدِراسات القائِمة سَلَفًا، وإذا كانت بحوثه المُنجَزة حوله لها من الرَّصَانة والدِقّة وقوّة الاستشكال والاستدلال صُنِّفَت على أنها من بين المراجع المُتخصِّصة والشارِحة. وبالمُجْمَل الاستنتاجي فإنّ صِفة المُتخصِّص المَمْنوحة تأتي على خلفية كثرة الاشتغالات البحثية ومَدَى قُوّتها ودِقّتها والأهمّ عودتها إلى المصادر، بالأخصّ في لُغتها الأصلية. بيد أنّ التخصّصية في جميع الحُقول المعرفية بالتحديد في الفلسفة، تحوّلت إلى لون من الاختناق البحثي والانحباس في أسوار أفكار فيلسوف مُعين، لَصيق بكلّ نَشَاطات الباحث، إلى درجة التّماهي فيها والتمّكين البائس لانسلاخ هُوّيته في هُوّية من جعله تخصُّصه. وتأتي هذه النتيجة على منوال كشفّ العِللّ الفاعِلة في كون دِراسات المُتخصِّص لا تعدو أن تكون إلاّ دِراسات تحليلية، تفسيرية ببعضٍ من المُقاربات والمُقارنات التي تنتهي بالاستنتاج، من دون تسجيل موقف نقدّي تشريحي يُسائِل أسُسّ تِلك الأفكار ويُسّقِط دلالاتها على الراهِن الفِعّلي المَعيش وليس المُصطنع الزّائِف بالنِسبة لأنموذج مُتخصِّصه وبالنِسبة إليه هو، ثمّ إنّ المُلاحظ على أغلب بحوث هؤلاء المُتخصّصين تُصبح مع كثرتها وسيّرورتها مُجرّد ترديد وإعادة نقل، بالأخصّ حينمَا يكون الفيلسوف مَدَار تخصّصه يَعْمَل على تأكيد أفكاره ومواقفه من خِلال التكرار، وهُنَا تنبغي الإشارة المُلِحّة إلى أن تكراره ليس من قَبيل أنه لم يَعُدّ قادِرًا على طرح الجديد، بل من قبيل العُنوّة الفلسفية التي تُفيد مَدَى المُراهنة على تصوّراته وتقديراته بالحجّة والمِثال. على خِلاف تكرار المُتخصِّص كتحصيل حاصِل لمَسّلَك التخصّصية الأقنوميّة. بالإضافة إلى نُقطة هامّة تتمثّل في أن حال التخصّص الكثير يمنع على صاحبه من تنويع رؤاه وتلوين نَشَاطاته وتغّذية مكتسباته، لتُمارس عليه التخصّصية إجراءات الاختزال في سيّاقها المعرفي والمنهجي والفصل حينمَا تقطع أوصاله البحثية عن بقية الإشكالات والقضايا والمُدَوّنات الفلسفية. ولا يُفهَم موقفنا على أنه ضَديد التخصّصية، أو تبخيس لجُهود المُتخصِّصين، الذين نُثمِّن لهُم ذلك وندعم البُحوث الجادّة والمُثمِرة، ونتّفِق حول صُعوبة الترجمة والمُعاناة في تحرّي المعنى المنصوصّ عليه في النصّ المَصّدري. لكنّنا نُريد تبيين النتائج السِلّبيّة المُترتّبة عن حال التخصّص المَفّصُول عن التنّويع والنقد. في هذا الصَدَدّ بالضَبطّ نجد أنفسُنا أمام حتّمية طرح جُملة من التساؤلات القَلِقَة ونحن نُقارب تحليليًا ونقّديًا ظاهرة ما فَتِئَت إلاّ وأن سَطّرت نفسها كنمط عِلمي موجود، وليس ببعيد أن تُصبِح مرتبة يتنافَس عليها المُتنافِسون، وعليه:

1. إلى أيّ مَدَى يمكن لصِفة المُتخصِّص أن تَنْهَضَ بحال البحث العِلمي وأن تُساهِم بشكلٍ فَعَّال في بلورة فكر جزائري قادِر على الإنتاج بعِلّمية دَقيقة وبفلسفية مُبدِعة؟ 

2. هل نحن بحاجة إلى المُتخصِّص أم إلى الموسوعي وبأخفّ معنى إلى مُتعدّد الدِراسات؟

3. كيف يمكن إعادة مَوْقَعَة المُتخصِّص لدينا بحيث يمنح الإضافة ويتحرّر من قيود التخصّصية المُغْلَقَة؟ 

4. هل يخدُم المُتخصِّص نفسه أم يخدُم أفكار مُتَخَصِّصِه؟

5. ما الذي ينقُصّ حتى نُرسِّخ ثقافة المُتخصِّص النقدي فينا الذي يخترِق الأفكار بالنِّقاش والنقد، ويَعْبُر من خِلالها إلى أفكار أخرى مُغايرة؟ هل النُقصّ الذي يعترينا مردُّه تفكيرنا وشُعورنا (الحالة الإدراكية والنفسية) أم بيئة العَمَل (الجامعة، الحالة الاجتماعية والسّياسية)؟      

- مُناقُشَة السُّؤال الأول:

لِصِفة المُتخصِّص أهميتها الثابِتة أكاديميًا؛ حيث تُمكِّن صاحِبها من أن يكون خَبيرًا بمَجَال عمَلِه من موضوعات وإشكالات ومُقاربات منهجيّة في التحليل والنقد. وتُركّز جُهوده حول نِقاط بحثية مُعيّنة مِمّا يجعلُه قادِرًا على الإنتاج بدِقّة وعُمق. ومنه يُمكن له أن يَنْهَض بحال البحث العِلمي من حيث تقدّم نِسبة الإنتاجية ومن حيث جودتها الخاصّة. لكن من زاوية أخرى، ومِثْلَمَا أوردنا فإنّ المُتخصّص المُنغلِق على موضوعات ومناهج أنموذج أو نماذج تخصّصه، يُصبِح التخصّص هُنَا بمَثابة سِجِن، يأسِره في نِطاق فكري مَخْصوص ينطلِق منه ويعود إليه. فمِن الناحيّة العِلميّة يُمكن له أن يُنتِج بدِقّة ورَصَانة، لكن من الناحيّة الفلسفية يجِد نفسه في افتقار إلى ذلك الانفتاح وإلى ذلك التنويع الذي يفتح أمام العقل إمكانات من أجل الأشكلة، استنباط الأفكار، ربّطِها ومُقاربتها ومُقارنتها، نقدِها وإعادة بناء معانيها. ثمّ إنّ الفكر المُعاصر في جميع شُعبه قد أسّس لمبدأ تكامُل العُلوم والمعارف، استنادًا إلى الحاجة البيّنيّة المنهجية والمعرفية، وضرورة تحاوُر التخصّصات والاستفادة من أدوات ومضامين بعضِها البعض. والأكثر إرساء مبدأ التحاوُر داخِل التخصّص الواحِد، بمَا يُتيح مُدَارسَة ومُبَاحَثة موضوعات مُتنوّعة، وهذا ما لا يُوفِّره التخصّص الأقنومي. وبالتالي ينبغي أن نُؤسِّس لمعنى المُتخصِّص الحِرَفي، المُنْفَتِح بذكاء على عِدّة قضايا وإشكالات وطُروحات، وعلى عِدّة تخصّصات خاصّة ضِمن الشُعبة الواحِدة، مثلاً في شُعبة الفلسفة: تخصّص الفلسفة اليونانيّة، الفلسفة الغربية، فلسفة العِلم، الفكر العربي. بالإضافة إلى ضرورة تحقيق نوع من التواصُلية الانفصالية، بين فكرنا وبين فكر الآخر، مع إلحاحيّة الانكباب تحليليًا ونقديًا على هُمومنا وما نَعيشه، على إمكاناتنا وما نفتقِر إليه. وإذا ما رَبَطّنا سياق مُنَاقشتِنَا بالفكر جزائري، فإنّ قُدرته على الإنتاج بعِلّمية دَقيقة وبفلسفية مُبدِعة موصولة بمَا ذكرناه مع شُّروط أخرى بالطبع لا يتّسِع المقام لتفصيل عرّضِها.  

- مُناقُشَة السُّؤال الثاني:

قدّ يتحجّج البعض أنّ الشخص الموسوعي ولّى عهده، وأنه ليس بدَقيق عالِم وعارِف بجميع التخصّصات؛ إذ لا يُمكِن الإحاطة الشامِلة بالتفاصيل ومُواكبة تغيرها وتطوّرها. وأن الدِقّة والإفادة تتطلّب التخصّص. إنّ هذا الموقِف له مشروعيته وأيضًا عليه مُؤاخذته، فالإقبال على دِراسة مُختلف الموضوعات من مُختلف الحُقول المعرفية من شُّروط حُصول التراكُم المعرفي ومنه تحقّق التكامُل المعرفي، ليس لُزومًا أن يحيط الدارِس الباحِث بكلّ ما يتعلّق بأيّ تخصّص، إنّمَا على الأقلّ أن يعلَم أهمّ المفاهيم، الإشكالات المَطْروحة والمناهج المُعتمَدة. وفي تقديرنا أن الأنْسَب والأنْفَع وِفق الحاجة هو تكوّن لدينا ثقافة مُتعدِّد الدِراسات كأخفّ معنى من الموسوعي كمَا جَرى التّوصيف، بحُكم مُستجدّات الراهِن العِلّمي وما تتطلّبه تنميّة البحث العِلّمي في الجامعة ومنه الجزائرية.  

- مُناقُشَة السُّؤال الثالث:

نَظَرًا لأهميّة المُتخصِّص والقيمة العِلّميّة والفلسفيّة التي يُقدِّمُها، مع الاعتراف بالوضعيّة السِلبيّة التي يضع فيها نفسه حينمَا يتحوّل إلى مُتخصِّص مُبشِّر أو مُتخصِّص أقنومي مركزي. ولذلك تتأسّس الضرورة التي تُصرّ على تفعيلها بأن يتمّ النَظَر بجدّية في كيفيّة إعادة ترتيب موضِعه أو كيفيّة صِياغة الأدوار التي يقوم بها من حيث تحريرها ومن حيث ضَمَانة فعاليتها الإنتاجية.

إنّ هذا السُّؤال المَخْفيّة علامة استفهامه، لا يُمكن تقديم إجابة ناجزة عنه أو مُكتملة الأركان على شاكِلة الحلّ الفوري والنِهائي، لكن لابُد من الاجتهاد وتكاثُف الجُهود وتكامُل الرؤى المَنْسوجَة بالنِّقاش الحُرّ والمَسْؤول. ولذلك نعتقِد في التّوصيات التاليّة سبيلاً من سُبلّ الإجابة بالحُلول:

- التشجيع على الإبداع والدعوة إلى الانفتاح على مُختلف الموضوعات والتخصّصات.

- دعم الباحثين الذين يُظهرون حقًّا سَعّيًا حَثيثًا للخُروج من قوقعة التخصّصيّة المُغْلَقَة، دعمًا ماديًا ومعنويًا بخُصوص بُحوثهم ودِراساتهم.

- تكثيف الدعوات بالانفتاح التخصّصي أو العِبر تخصّصيّة.

- استثمار الدِراسات المُنْجَزة في تخصّص مُعيّن أو شخصيّة بحثيّة ما أو حول موضوع مُحدّد، من ناحية تثمين نتائِجها ومن ناحية مُقاربتها مع موضوعات أخرى من داخل التخصّص أو من خارجه، على مِنوال المِثال: في تخصّص الفلسفة تمّ الاشتغال حول موضوع: "الفلسفة والرقمنة"، من هُنا يُمكن الانفتاح على إشكاليات التواصل، نحت المفاهيم، الأخلاقيات، الهُوّية، الإنسان، الماهيّة، والاستعانة بخبرات تخصّصات ثانيّة على غِرار تخصّص الإعلام والاتصال.

- مُناقُشَة السُّؤال الرابع:

يخدُم المُتخصِّص نفسه من حيث ربط اسمه بفكر مُتخصِّصه فيُصبح العارف به والشارِح لأفكار ورؤاه ومفاهيمه. وتتحوّل كتاباته واشتغالاته البحثية إلى مراجع كمَا أسلفْنَا الحديث. ثمّ إنه يُوفِّر عليه مُعاناة بحثية مُضافة ويجعله يُركّز اهتمامه عليه فقط. كمَا يُمكن القول أنه يخدم أفكار مُتخصِّصه من ناحية التعريف بها وشرحها ونقلها.

- مُناقُشَة السُّؤال الخامس:

يبدأ التغيير من النفس قبل أن ننتظِر ذلك من المُحيط الخارجي أو الآخرين، ولذلك على الباحثين أن يُغيّروا من طريقة تفكيرهم التخصّصي الاختزالي وأن يُوسّعوا من دائرة بُحوثهم، وأن يُمارسوا النقد البَنّاء الذي يخترق الأفكار ولا يرتهِن لها، بعدها يُمكن له طرح الجديد منها. وهذا لن يحصُل إلاّ من خِلال توفّر إدراك حَصيف بقيمة التنوّع البحثي من جهة ومن جهة ثانية القيمة الأكثر للمُتخصِّص النقدي؛ إذ يُمكّن له أن لا يتماهى في أفكار مُتخصِّصه وإنّمَا يدرُسها ويبحثُها بعيّنٍ فاحِصة مُسْتَبْصِّرة، مُنْفَتِحَة على مُراجَعَة ومُناقَشَة تِلك الأفكار. وعن مَكْمَن النُقص فإنّ العِلّة مُركّبة، منها ما يتّصِل بالحالة الإدراكية المعرفية والنفسيّة؛ أيّ ما يرتبِط بالباحث نفسه، ومنها ما يتّصِل بالبيئة المَبْنيّة على ثقافة التخصّصيّة الأقنوميّة في الجامعة أو خارج الفَضَاء الجامعي. وطبيعة التفكير الاجتماعي والسّياسي الذي لا يُشجِّع.

في الخِتام يُمكن الإقرار بأن التخصّصية حال بحثي مُهمّ له عوائده المعرفية والمنهجية القيّمة، ويعود بالنفعّ على صاحبه وعلى البحث العِلمي ككلّ. لكن إن يتحوّل إلى أسر أكاديمي هُنَا يُصبح التخصّص وضعية سِلّبيّة ينحصِر المُتخصِّص في إطارها ويجد نفسه مشدودًا بقوّة إلى أفكارها وإشكالاتها. ومن خيرة الفِعل أن ينفتِح المُتخصِّص قدر الإمكان على مُختلف الموضوعات والمُقاربات الفكرية والأدوات المنهجية مع الحقّ في تخصيص حيّز زماني لتركيز البحث حول أنموذج مُحدّد أو موضوع مُعيّن.                  

***  

د. شهرزاد حمدي، جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، الجزائر

تخصّص فلسفة عامة

في المثقف اليوم