قضايا

يتفق أغلب الباحثين على أن التجديد، باختلاف المحمول الذي يكون التجديد حاملاً له، في الدين أم في الثقافة والسياسة والمسرح وغيرها؛ ضرورة حتمية وبالغة الأهمية، لأنه هو من يعطي البريق للشيء الذي من دونه يبقى خافتاً تحت ركام الماضي، على اعتبار أن التجديد محاولة لقلب كلِّ المقولات البالية بفعل الزمن، وتنقيتها وتشذيبها لقصد مراعاة التطور والتقدم الزمني، ومن ثم تقديمها كمقولات صالحة وغير مُستهلكة. لكن تجدر الإشارة إلى أن التجديد، ومن أجل ديمومته ونجاحه، يحتاج إلى مجموعة من المبررات، من أجل التحلي بالشرعية والرخصة لقيامه بالواجبات المنوطة به، ومع أن مبررات التجديد كثيرة، إلا أننا نجد أن المبرر المعرفي للتجديد هو ما يستحق أن نسلط الضوء عليه، بغية الدفع بمعشر القراء والكاتبين نحوه بشكل مباشر، ليكون التجديد مبرر معرفي لا بدّ منه، نسترشد من خلاله إمكانية التواصل الخلّاق ما بين جميع الخطابات، القديمة والحديثة، عن طريق ربط المعايير القيمية والخروج منها بالأليق لصالح الواقع. إلى مثل ما تقدم، يشير المفكر المصري الكبير (نصر حامد أبو زيد)، إلى أن الغاية الرئيسة في المبرر المعرفي للتجديد، يتمثل في تحقيق عملية التواصل الخلاّق بين الماضي والحاضر، عن طريق الخروج من أسر التقليد الأعمى، وإعادة إنتاج الماضي باسم الأصالة، وكذلك الخروج من أسوار التبعية السياسية والفكرية التامة للغرب باسم المعاصرة. وبالتالي يتيح لنا التجديد مغادرة ثنائية الأصالة والمعاصرة التي تجتر كل واحدة منها الحقيقة إلى ساحتها، لتحاول بعد ذلك تهميش الآخر. فالأصالة تعبّر عن سلفية مطلقة، تريد أن تقول، إن الحضارة الإسلامية، بمضمونها التراثي، ليست مجرد انجازات عادية عارضة، وإنما هي في صميمها روح ونمط من التفكير والفعل والعيش، وقد أثبتت إنها خير حضارة أبدعها الإنسان، وأن أي قصد لاستبدال حضارة أخرى بهذه الحضارة لا يمكن أن يعبّر إلا عن إرادة بتراء. أما الثانية، فتذهب إلى القول، إن طاقات الإنسان الخلاقة قد عطلت في التراث السالف والتقليد، وإن الإنسان لم ينته أمره عند الحدود التي انتهى إليها في العصور التي مضت والتي دُرست، وإن من الضروري تفجير هذه الطاقات بعملية تجاوز كامل للماضي. لذلك يعتقد (سلامة موسى) بأن النهضة لم تعد تعني في الماضي. وهذا الاقتتال بين اليميني الماضوي واليساري الاغترابي –كما يقول الجابري- ما هو إلا انعكاس شقاء الوعي على صعيد اللاوعي، كونهما لا يفهمان النهضة على أنها بناء شيء جديد، بل أنها على تبني نموذجاً جاهزاً، أما في الماضي الأصيل، أو في الحاضر العصري. وكلاهما يعجز عن تحقيق التواصل الخلاق الذي من شأنه أن يؤدي إلى النهضة، ومن ثم فإن كلا النزعتين تشتركان في نقطة ضعف واحدة، أسماها (الجابري) بـ(الخضوع لسلطة النموذج)، والتي لا نستطيع من خلالها أن نفهم أو نعي أو نمارس الأصالة والمعاصرة، بل لا نستطيع أن نجدد فكرنا ولا أن نشيّد حلماً للنهضة، ما دمنا محكومين بسلطة النموذج، سواء كان هذا النموذج تراثاً أو فكراً معاصراً. فضلاً عن ذلك، فإن التواصل الخلاق لا يتحقق بمحاولة أخذ طرف من التراث وطرف من الحداثة. فهذه المحاولة ما هي إلا لف ودوران على التراث واللحظة المعاصرة في آن واحد، والوصول في نهاية المطاف إلى تركيب، هو في حقيقة الأمر، وكما يقول (الطيب تيزيني) ليس أكثر من صيغة تعسفية وتجميعية لكلا الحالتين السابقتين. ويعتقد (أبو زيد) إن مشكلة التيار التوفيقي إنه ينتهي إلى التلفيق، بانتقاء عناصر فكرية من هنا وهناك، أي عناصر فكرية مأخوذة من أنظمة فكرية مختلفة، بل ومتعارضة أحياناً، ليصنع منها على تفاوتها بناءً واحداً يصلح للحاضر. وهذا لا يزيد من الأمر إلا تعقيداً، بل يجب أخذ طرفي الخيط بالتحليل التاريخي والنقد المتكامل. ويجب أن لا يمثّل النقد-حين يطال الظاهرة الدينية في أيِّ من تجلياتها أو تعبيراتها- جريمة كبرى في الثقافة الإسلامية الحديثة والمعاصرة، لأن طريق النهضة يقتضي التعامل مع كل النماذج تعاملاً نقدياً. فيجب أن تكون الظاهرة الدينية-بحكم معاصرتها- أكثر قدرة على تقبل النقد والاستجابة له بشكل إيجابي، أكثر من الثقافة الإسلامية في العصور السالفة. وبالتالي لا يمكن تحقيق التواصل الخلاق إلا عن طريق مراجعة جذور البنية التقليدية، لا بهدف التكرار أو الإعادة، أو حتى مجرد التسجيل، بل لغاية نقد تلك الجذور، تواصلاً وانقطاعاً في الوقت نفسه؛ إذ لا انقطاع بلا تواصل نقدي مبدع وخلاق. ومن هنا، كانت ثمار التجديد أن يحقق خروجاً مستنيراً من الأزمة الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، والثقافية والفكرية، والدينية كذلك، من خلال تحقيق عملية التواصل الخلاق في الشأن المعرفي، التي تعمل على إعادة النظر في كل المسلمات، سعياً لتحرير المشاريع الفكرية من تفريطها وإسرافها، وكذلك من البعد التلفيقي المسؤول عن حالة العجز التي لحقت بكافة المجالات المذكورة.
***
د. حيدر عبد السادة جودة

ان المراجعة التاريخية بوسائل نقدية واعية أصبحت ضرورة رغم الكثير من التصورات غير المثمرة من قبل خطابات التطمين لأننا يستحيل ان نسجل وعيا نقديا متقدما دون وظيفة اجتماعية واقتصادية تبعد الهيمنة النهائية الزائفة للعنف الثقافي، مازلنا نعيش خيبتنا ولا ندرك ان الخيبة عندما تنهي ملفاتها تنقلب الى وجود ازلي في مدينة العاب وسيلتها المكر. لذا فان الوعي النقدي يُعتبر مهارة أساسية تُعزز التفكير المستقل والتحليل المنطقي، مع ذلك، يتعرض هذا المفهوم لعدة انتقادات، تتراوح بين فلسفية إلى عملية، اذ يُنتقد الوعي النقدي بسبب عدم تطبيقه بشكل فعلي في الحياة اليومية كون الكثير من الأفراد لديهم القدرة على التفكير النقدي، ولكن لا يتمكنون من استخدامه في مواقف حقيقية، هذا يرجع الى أنظمة التعليم الإملائي التي تركز على الحفظ والتلقين بدلاً من تنمية مهارات التفكير النقدي، مما يؤدي إلى ضعضعة في القدرة، بعض المجموعات المتمسكة بأهداب السلطة تعتبر النقد تهديدًا أو نوعًا من عدم الولاء، مما يقيد القدرة على ممارسة الوعي النقدي، يؤثر الضغط الاجتماعي على الأفراد، حيث يُفضل الكثيرون الانصياع للآراء السائدة بدلاً من التفكير النقدي، خوفًا من العزلة أو الرفض حيث يميل الأفراد إلى البحث عن المعلومات تؤكد معتقداتهم السابقة، مما يعوق القدرة على التفكير النقدي والموضوعي، الخوف من اتخاذ قرارات خاطئة يؤدي إلى تردد الأفراد في ممارسة التفكير النقدي، مما يحد من قدرتهم على استكشاف أفكار جديدة . من الضروري معالجة هذه القضايا من خلال تعزيز التعليم وتوفير بيئات ثقافية تدعم الحوار والتنوع الفكري .في بعض الثقافات، يُعتبر النقد المباشر للسلطات أو كبار الساسة أمرًا غير مقبول، مما يحد من قدرة الأفراد على التعبير عن آرائهم بحرية، بعض المجتمعات تعزز القيم التقليدية التي تتعارض مع التفكير النقدي، حيث يُفضل الالتزام بالعرف على التفكير المستقل، في مجتمعات معينة، يُنظر إلى التفسيرات الحرفية للنصوص الدينية على أنها الطريق الوحيد الصحيح، مما يقيد التفكير النقدي حول المعتقدات وقد توجد مواضيع دينية تُعتبر محرمة للنقاش، مما يمنع الأفراد من التفكير النقدي حول قضايا تتعلق بإيمانهم ويؤدي الى التحيزات الثقافية، حيث يتم تجاهل أو تقليل قيمة وجهات نظر ثقافات أخرى، مما يقيد التفكير النقدي، بعض المجتمعات قد تحمل أفكارًا مسبقة عن فئات معينة، مما يؤثر على كيفية تلقي الآراء النقدية حول هذه الفئات، بعض الفلاسفة يرون أن الاطمئنان يمكن أن يكون نتيجة لقناعات عقلانية، مثل الاعتقاد بأن العالم يسير وفق قوانين معينة، مما يمنح الأفراد إحساسًا بالاستقرار الاطمئنان قد يتطور من خلال تجارب الحياة اليومية، حيث يتعلم الأفراد كيفية التعامل مع التحديات والضغوط البيئة الاجتماعية تلعب دورًا مهمًا في تشكيل حالة الاطمئنان. العلاقات القوية والداعمة يمكن أن تعزز الشعور بالأمان في كثير من الأحيان، قد يكون الاطمئنان مزيجًا من العقيدة والتطبع. هذه الثقافة قد تؤدي إلى تقليل أهمية النقد والمساءلة، حيث يُنظر إلى النقد كتهديد للوحدة الاجتماعية في المجتمعات المطمئنة وهي من العوامل الحاسمة.
تعريف الرفاهية الفكرية في المجتمعات المطمئنة
الرفاهية الفكرية تشير إلى حالة من الصحة العقلية والنفسية التي تعزز التفكير النقدي والإبداعي في بيئة آمنة وداعمة. تلعب المجتمعات المطمئنة الحقيقية دورًا أساسيًا في تعزيز هذه الرفاهية من خلال مجموعة من العوامل، توفر المجتمعات المطمئنة نظم تعليمية تعزز التفكير النقدي وتقبل التنوع الفكري، مما يعزز من قدرة الأفراد على استكشاف أفكار جديدة، يتم تشجيع الابتكار والإبداع من خلال برامج تعليمية تدعم المشاريع والمبادرات الفردية، في المجتمعات المطمئنة، يتم تعزيز ثقافة الحوار وتقبل الآراء المختلفة، مما يسهل النقاشات البناءة وضمان حرية التعبير يحمي الأفراد من القمع ويعزز من شعورهم بالأمان، المجتمعات المطمئنة تشجع على بناء علاقات اجتماعية قوية، مما يساعد الأفراد على تبادل الأفكار والدعم، توفر المجتمعات المطمئنة وصولًا إلى مصادر متنوعة من المعلومات، مما يُمكن الأفراد من اتخاذ قرارات مستنيرة تشجع نشر المعرفة والمعلومات العلمية بشكل واضح وموضوعي، المجتمعات التي تعزز من رفاهية الأفراد تدرك أهمية التوازن بين العمل والحياة، مما يقلل من الضغوط النفسية، الرفاهية الفكرية في المجتمعات المطمئنة تعتمد على بيئات تعليمية داعمة، حرية التعبير، تواصل اجتماعي فعّال، والوصول إلى المعلومات. من خلال تعزيز هذه العوامل، يمكن للمجتمعات أن تساهم في تحسين الصحة النفسية وتعزيز التفكير النقدي والإبداع.
قياس مستوى الرفاهية الفكرية
قياس مستوى الرفاهية الفكرية في مجتمع ما يتطلب استخدام أدوات متعددة تشمل الاستبيانات، التحليل الاجتماعي، المقابلات، وتقييم التعليم، بالإضافة إلى مراقبة النشاطات الثقافية. من خلال هذه الطرق، يمكن فهم العوامل التي تعزز أو تعيق الرفاهية الفكرية وتقديم توصيات لتحسينها تختلف الآراء حول ما تعنيه "الرفاهية الفكرية"، مما يجعل من الصعب وضع معايير دقيقة لقياسها تعتبر قياس الرفاهية الفكرية عملية معقدة تتطلب التعامل مع تحديات متعددة، بدءًا من التعريفات غير الموحدة وصولًا إلى القيود الثقافية والاجتماعية. لفهم الرفاهية الفكرية بشكل أفضل، من الضروري تطوير أدوات قياس موثوقة وتأخذ في الاعتبار السياقات المختلفة تتميز المجتمعات التي تعيش الرفاهية الفكرية بتوفير بيئة داعمة تشمل حرية التعبير، نظم تعليمية شاملة، ودعم الصحة النفسية. هذه الميزات تساهم في تعزيز التفكير النقدي والإبداع، مما يؤدي إلى تحسين جودة الحياة بشكل عام تواجه المجتمعات في الشرق الأوسط العديد من التحديات في تحقيق الرفاهية الفكرية، بدءًا من القيود على حرية التعبير وصولاً إلى التحديات الاقتصادية والاجتماعية. لتجاوز هذه العقبات، تحتاج المجتمعات إلى سياسات شاملة تعزز التعليم، الحوار، والتنوع الثقافي تتعدد الأسباب التي تؤدي إلى عدم تحقيق الرفاهية الفكرية في المجتمعات الشرق أوسطية، من القيود على حرية التعبير إلى التحديات الاقتصادية والاجتماعية. لمعالجة هذه القضايا، تحتاج المجتمعات إلى استراتيجيات شاملة تعزز من التعليم، الحوار، والتنوع الثقافي.
التطرف، المحاصصة الطائفية والرفاهية الفكرية
للتطرف والمحاصصة الطائفية دور كبير في إعاقة تحقيق مجتمعات مترفة فكريًا. يروج التطرف لأفكار ضيقة ترفض التنوع والاختلاف، مما يعوق الحوار الفكري ويحد من حرية التعبير يؤدي التطرف إلى انتشار العنف والتهديد، مما يخلق بيئة غير آمنة للأفراد للتعبير عن آرائهم أو استكشاف أفكار جديدة يعزز التطرف من الانقسامات بين الأفراد، مما يقلل من فرص التفاعل الإيجابي وتبادل الأفكار تؤدي المحاصصة الطائفية إلى توزيع الموارد بشكل غير متساوٍ، مما يعيق توفير التعليم الجيد والفرص الثقافية للجميع تساهم المحاصصة في زيادة التوترات بين الطوائف المختلفة، مما يعوق الحوار والتعاون الفكري تخلق المحاصصة بيئة من التمييز ضد فئات معينة، مما يؤدي إلى تهميش أصوات وأفكار متعددة تؤثر كل من التطرف والمحاصصة الطائفية سلبًا على جودة التعليم، حيث قد تكون المناهج متحيزة أو مشبوهة تؤدي هذه الظواهر إلى فقدان الثقة في النظام السياسي والاجتماعي، مما يعوق التقدم الفكري تعيق هذه الظواهر بناء مجتمع متماسك يساهم في تعزيز الأفكار والابتكار يُعتبر كل من التطرف والمحاصصة الطائفية عوائق رئيسية أمام تحقيق الرفاهية الفكرية في المجتمعات. تتطلب معالجة هذه القضايا جهودًا شاملة لتعزيز التسامح والتنوع، وتوفير بيئة آمنة تدعم الحوار الفكري والتفكير النقدي. من المهم النظر في هذه الأبعاد الثقافية لفهم العلاقة المعقدة بين الاطمئنان وبلورة الوعي النقدي يعتبر التطرف الديني ظاهرة تؤثر سلبًا على المجتمعات، وقد يتفاوت تأثيره على الاطمئنان باختلاف المجتمعات.
***
غالب المسعودي – باحث عراقي

 

في زمن الأهرامات والمومياوات، حيث تحاكي الحجارة حكايات أمة علمت العالم أسرار الوجود، نجد مفارقة محزِنة: شعب يشهد الدنيا كلها عظمة تاريخه، بينما هو نفسه يحاوِل الهرب منه! كأن المصري يمسك بيده مفتاح الفخر العتيق، ويرميه في نهر النسيان، ليغوص في أعماقِ تاريخ ليس له، كسليل يستحي من أسم أبيه!
لا تخلو الذاكرة الجماعية للمصريين من صراع خفي بين "الأنا" المدفونة تحت الرمال، و "الآخر" المستورد المعلقِ في سماء الحلم. لقرونٍ طويلة، ظلت مصر تتأرجح بين غزاة ونهابين، كلهم نقشوا على جدارِ وعيها جملة واحدة: "أنت لست أهلا لحضارتك". فصارت قصور الفراعنة مجرد «أحجارٍ ميتة» في عيونِ من يرونها ، بينما تحولت سياط الاستعباد العثماني والاستعماري إلى «بطولات» في كتب التاريخ!
التعليم هنا لعب دور الجلاد: فبينما يحفظ الطفل أسماء قادة الحروب الأوروبية عن ظهر قلب، يجهل من بنى أول معبد في التاريخ. والإعلام يكمل المأساة: فمسلسلات «الباشوات» و«السلاطين » تصور عصر الاستعباد كأنه «عهد ذهب»، بينما تظهر الحضارة الفرعونية كطقوس وثنية غامضة!
عقدة الخواجة..!
الغريب أن المصري لم يكتف بكراهية تاريخه، بل سعى لتبني سيرِ مستعبديه! فها هو يتغنى ب «عظمة الرومان»، ويتمذهب ب «فلسفة اليونان»، ويتشبه ب «أباطرة العثمانيين»، كأنما يصرخ في صمت: «انظروا.. أنا أستحق مكانا في تاريخِ الغرب العظيم!». هكذا تتحول العبودية الفكرية إلى وشم في الجبين: فالمقهور يبدأ باستحسانِ سيف الجلاد!
لكن.. أليس من السخرية أن تكون أهراماتك علامة تجارية للعالم، بينما تعتبرها «مجرد أثرٍ سياحي»؟ وأن تدفع أوروبا الملايين لتلك التحف الفرعونية، بينما ترميها أنت في زوايا المتاحف كأشباحٍ من زمنٍ منسي؟
لنكسر القيود: التاريخ المصري ليس «ملكية أثرية»، بل هو سلاح هوية وقوة ناعمة تستطيع مصر أن تفرض بها احترامها عالميا. انظروا لليابان: لم تنكر سامورايها لتتبنى ثقافة الغرب، بل جعلت من تقاليدها سحرا يغزو العالم. والسر؟ أنها وظفت تراثها لتكون جزءًا من حاضرِها: سينما، أزياء، تكنولوجيا، سياحة.
مصر قادرة على ذلك: فكل حجر في معابد الأقصرِ يحمل رواية تنتظر من يخرِجها في رواية أو فيلم أو حتى لعبة إلكترونية. التراث هنا ليس للزينة، بل لإعادة صياغة الهوية المصرية العربية الإفريقية المتعالية عن التقزيم.
حين يرتدي المصري ثوب الفخر بحضارته، سيكتشف أن القيود التي ظنها حديدية مصنوعة من وهم! فالتاريخ ليس تابوتا ندفن فيه أحلامنا، بل مصباح نستمد منه نور المستقبل. لنوقظ «رع» الذاكرة المدفون.. فمصر التي بنت مجد الإنسانية قادرة أن تبني مجدها الجديد.. كل ما علينا هو أن نرفع الرأس أولا!
من سرق قلب حتشبسوت؟
إذا كنت تبحث عن جذورِ الأزمة، فاقرأ مناهج التاريخِ المصرية! فبينما تدرس حرب المائة عام بالتفصيل، تمر «حضارة مصر القديمة» كنقطة عابرة في كتاب ملون. لماذا لا يسمع الطفل قصة «إخناتون» الذي حارب الآلهة ليوحدها؟ أو يحلل رِسالة «الحكمة» لبتاح حتب كنص إنساني قبل 4000 عام؟ التعليم هو المعبد الأول لإعادة بناء الهوية، فلم نخربه بحكايات الغزاة وحروبهم؟
الحل يكمن في تثويرِ السؤال نفسه: بدلا من «متى غزا نابليون مصر؟»، لنطرح: «كيف صمم المصريون القدماء نظاما لرصد الفيضانِ قبل وجود الحاسوب؟». التاريخ ليس تسجيلا للحروب، بل سردية لكيفية بقاء أمة تحت أشد التحديات.
مسرح الأرواح أم الأوهام؟
لحظة من الصدق: متى آخر مرة شاهدت فيلما مصريا يجعلك تنتفخ فخرا بأجدادك الفراعنة؟ الأغلب أنك تذكر «كليوباترا» هوليوود، بينما سينما «العشقِ الفرعوني» المصرية تختزِل التاريخ في «لعنة المومياء» و «شبحِ الملك توت»!
السر في اليابانِ مجددا: «الأنيميشن» الياباني يصنع أبطالا من الساموراي، وهوليوود تبيع أساطير الفايكنج. فلماذا لا تصنع السينما المصرية أبطالا من «زوسر» و «حتشبسوت»؟ ليست القصة نقص إبداع، بل نقص إيمانٍ بأن التراث يحمل دروعا وسيوفا أقوى من خيال «مارفل»!
تطبيق محمول قد ينقذ التاريخ!
تخيل شابا مصريا يفتح تطبيقا على هاتفه، فيسمع «أحمس» يحدثه عن طرد الهكسوس، أو يرى معبد «إدفو» يتحول إلى رِحلة افتراضية بتقنية VR. التراث ليس حكرا على العلماء والمستشرِقين، بل يجب أن يكون «مفتوح المصدر» لجيل يعرِف لغة التكنولوجيا أفضل من لغة الهيروغليفية.
الذكاء الاصطناعي قادر على فك شفرات البرديات، وموضوعات التيك توك قادرة على تحويل «نفرتاري» إلى أيقونة أناقة. فلماذا نحاوِل إحياء التاريخِ بطرقِ القرنِ الماضي، بينما العالم يقطع مسافات في الميتافيرس؟
من يسرِق أسرار الأجداد؟
في متحف «اللوفر» تتهادى أسماعك ب «أغنية حضارة النيل».. لكنها ملحنة بأيد فرنسية! وفي متاجرِ نيويورك، تباع تلك التمائم الفرعونية بثمنٍ يضاهي الذهب.. لكنها صناعة صينية! المؤلم أن العالم يفهم قيمة التراث المصري أكثر من أهله، ويستثمر فيه بينما نحن نقتتل على بقايا «عصرِ الذهب العثماني»!
هذا ليس استعبادا فكريا فحسب، بل خيانة لجثث الأجداد الذين يصرخون من خلف زجاجِ المتاحف الأجنبية: «هذا التراب الذي تدوسونه هو ذهبكم.. فمتى تستيقظون؟».
المعرِكة الحقيقية ليست مع من سرق تاريخنا، بل مع من سرق ثقتنا بأنفسنا. الفراعنة لم يختفوا.. هم الآن يمشون بيننا: في شاب يحاوِل ترجمة البرديات، وفنانة ترسم جدارية عصرية بخطوط هيروغليفية، ومهندسة تستلهم من هرم سقارة تصميما يحمي مصر من السيول.
لن نصبح «أصحاب حضارة» حتى نوقن أن التراث ليس «ماضيا»، بل سلاح لمستقبل نصنعه. ارفع رأسك.. فالأهرامات التي بنتها أياد مصرية تنتظر أياديك أنت لتبني مجدا جديدا. لكل مصري واقف على أطلال عظمة: ابدأ بكلمة واحدة.. «أنا ابن مصر.. وهذا يكفيني!».
الخطوة الأولى لاسترداد التاريخِ هي ألا نخشاه.. فكل حجر في هذا الوطنِ يحمل رِسالة من أجداد يقولون: «لو تعلمون مقدار العظمة التي ورِثتم.. لما وقف العالم أمامكم!».
***
د. عبد السلام فاروق

دراسة تحليلية معمقة

الإرهاب الفكري، ظاهرة متجذرة في تاريخ البشرية، تطورت مع الزمن، خاصة مع ظهور وسائل الإعلام الحديثة. في الماضي، كان القمع الفكري يتم من خلال وسائل مباشرة، مثل الملاحقة أو الرقابة الصريحة. ومع تطور الإعلام، تغيرت هذه الأساليب إلى تقنيات أكثر نعومة وصعوبة في التعرف عليها، بحيث أصبحت تُمارَس بشكل غير مباشر عبر التوجيه الإعلامي المتقن الذي يهدف إلى تشكيل الوعي الجماعي للأفراد.
الإعلام وأثره في تشكيل الوعي الجماعي:
إن الإعلام لا يُعتبر مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل هو أداة قوية لتشكيل الرأي العام وفرض السرديات المحددة التي تسهم في تشكيل الأفكار والمعتقدات. عبر وسائل الإعلام المختلفة مثل الأخبار، البرامج الحوارية، الأفلام، والإعلانات، يتم توجيه الأفراد نحو رؤية معينة للعالم، تحدد ما يجب أن يُرى وما يجب أن يُغفل. هذه العمليات لا تحدث بشكل عشوائي، بل تعتمد على استراتيجيات مدروسة تهدف إلى تعزيز مصالح قوى معينة.
تقنيات الإرهاب الفكري في الإعلام:
١. التكرار والتوجيه الإدراكي: يعتبر التكرار أحد الأساليب الأساسية في الإرهاب الفكري. من خلال تكرار الرسائل الإعلامية بصيغ مختلفة، تصبح هذه الرسائل جزءًا من القناعات العامة للمجتمع، حتى وإن كانت غير صحيحة. هذا يرتبط بمفهوم البرمجة الإدراكية، حيث يتم توجيه الأفراد نحو قبول أفكار معينة دون الحاجة إلى أدلة قوية تدعمها.
٢. التوجيه الانتقائي للمعلومات: يلعب التوجيه الانتقائي للمعلومات دورًا حاسمًا في تشكيل الوعي الجماعي. يتم التركيز على أحداث معينة يتم انتقاؤها بعناية لإبرازها، بينما يتم تجاهل أحداث أخرى قد تؤدي إلى استنتاجات مخالفة للسردية المهيمنة. هذا الأسلوب يخلق صورة مشوهة للواقع، ويُستخدم بشكل كبير في تغطية الصراعات السياسية.
٣. العامل العاطفي والتضليل الإعلامي: يعتبر استغلال العواطف أحد الأدوات الفعالة في التلاعب بالوعي الجماعي. تُستخدم وسائل الإعلام لإثارة مشاعر الخوف، الغضب، أو الحزن، مما يجعل الأفراد أكثر عرضة للاستجابة دون تحليل عقلاني للأحداث. كما يُستخدم التضليل الإعلامي الذي يتضمن تشويه الحقائق عن طريق إعادة صياغتها بشكل يتماشى مع الأجندات السياسية أو الإيديولوجية.
التأثيرات الاجتماعية للإرهاب الفكري:
التأثيرات الاجتماعية للإرهاب الفكري لا تقتصر على الأفراد فقط، بل تشمل البنى الاجتماعية بأكملها. يعزز هذا النوع من الإرهاب الانقسامات الفكرية، ويضعف القدرة على الحوار، ويؤدي إلى تآكل الثقة في المؤسسات والمعلومات. نتيجة لذلك، يصبح المجتمع أكثر عرضة للانقسام، حيث تسيطر السرديات الموجهة على عقول الأفراد، مما يعزز الظواهر الاستقطابية ويؤدي إلى التباين بين المجموعات الفكرية.
دور الإعلام الرقمي في تعزيز الإرهاب الفكري:
في العصر الرقمي، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أداة قوية في ممارسة الإرهاب الفكري. تستخدم هذه الوسائل الخوارزميات الذكية لتوجيه الأفراد نحو محتوى معين يتماشى مع اهتماماتهم وسلوكهم الرقمي، مما يخلق فقاعات فكرية تعزل الأفراد عن الآراء المختلفة. في هذا السياق، أصبح الذباب الإلكتروني والجيوش الرقمية أدوات شائعة لتوجيه الرأي العام وخلق انطباع زائف حول قضايا معينة.
الذكاء الاصطناعي والإعلام المضلل:
مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، أصبح التلاعب بالإعلام أكثر تعقيدًا. تُستخدم هذه التقنيات لإنشاء أخبار وفيديوهات مزيفة تبدو حقيقية، مما يجعل من الصعب التمييز بين الحقيقة والتزوير. هذه الأدوات تزيد من تعقيد المشهد الإعلامي، وتُعرِّض الأفراد لمخاطر أكبر فيما يتعلق بالتصديق على المعلومات المضللة.
مواجهة الإرهاب الفكري:
لمواجهة الإرهاب الفكري، يجب أن تكون هناك جهود ممنهجة لبناء وعي نقدي لدى الأفراد. يتطلب ذلك تعزيز التربية الإعلامية في النظام التعليمي، بحيث يتعلم الأفراد كيفية تحليل الأخبار وفهم التقنيات الإعلامية المستخدمة لتوجيه الرأي العام. كما يجب تعزيز الإعلام المستقل والنقدي كأداة لمواجهة السرديات الموجهة والمضللة، حيث لا يمكن التصدي لهذه الظاهرة دون وجود منصات إعلامية قادرة على تقديم محتوى تحليلي مستنير.التعامل مع ظاهرة الإرهاب الفكري يتطلب إدراكًا عميقًا لأهمية الوعي الجماعي كأداة أساسية في النضال ضد الهيمنة الفكرية. إن السيطرة على العقول أخطر بكثير من السيطرة على الأجساد، وتظل المعركة الكبرى على الوعي ذاته، وهو ما يستدعي تضافر الجهود لإيجاد آليات فعالة لمكافحة هذا النوع من الإرهاب الفكري، خاصة في ظل التطورات التكنولوجية الحديثة التي جعلت من السهل على القوى المهيمنة التأثير في توجهات الأفراد والجماعات.
***
الكاتب سجاد مصطفى حمود
المراجع:
١. أبحاث ودراسات إعلامية في التلاعب بالرأي العام.
٢. أبحاث حديثة في تأثير الإعلام على الوعي الجماعي.
٣. دراسات حول تقنيات التضليل الإعلامي وتوظيفها في الخطابات السياسية.
٤. مقالات علمية حول الذكاء الاصطناعي والتلاعب بالمحتوى الرقمي.

 

لستُ أدري ماهيّةَ هذا الوجود، ولا كُنهَ حقيقتهِ؛ منذ أن وعيتُ على الحياة، أودعتُ زهرة شبابي في التأمُّل، والسؤال والمطالعة، فلعلّي بذلك لامستُ قدرةً على مجاوزة السرديات الكبرى، وبصيرةً أوضح في تمييز الظواهر المعرفيَّةِ والذاتيَّةِ، غير أنّي – حتى اللحظة – لا أدري ما مصدر هذا الوجود من «نبعِ تجاربيَ الشخصيَّةِ». وتلك أمنيتي الكُبرى، قبل أن أرحل: أن أعرف منشأ هذا الوجود، أهو إله فعلاً؟ إلهٌ مُشخَّص، يغضب ويحاسب ويغفر، أم هو الوجود ذاته، والروح السّاريَةُ فيه، كما ذهب إلى ذلك الهندوس وسبينوزا؟ أم أن المسألة أعقد بكثير، وأبعد غَورًا من أن تُدرك بالعقل والحواس، كما زعم كانط؟
لستُ أدري، وسأتوجّه إليك بإسمِ "الله"، لأنه الأقرب إلى قلبي، إذ نشأتُ مسلمًا، وهذا هو ضَعفي وانحيازي، على الرغم من يقيني بأن حقيقةَ هذا الوجود تتجاوز الأسماءَ، والعناوين، والقوالب الجاهزة. فهذه رسالتي إليك:
يالله…أأنتَ فعلاً هُناك؟
لا أتذكر أنّك منحتني الخيار: هل أريد أن أوجد، أم لا، لكن حتى لو لم تكن كما يصوّرونك، فإن هذا العالم موحشٌ، ومفرغ من معنى جليّ! كل الخيارات التفسيرية المطروحة لمصدر الوجود تبدو لي متهافِتة، مرحليَّة وسياقيَّة، ولا ترقى للسرمدية، بل حتى الصورة التي رسمها بك رجال الدين، كرجلٍ غاضبٍ في السماء، يعاقب من خالفه أشد العقاب.. أهذا أنت؟ أهذه الحقيقة؟
لا أريد سوى الحقيقةِ الأُمّ، إذا كنتَ تحبني بأي وجه من الوجوه، وتكترث لوجودي، فأرني ما يدلّ عليك، وسأفتح بصيرتي بقدر ما يسعني هذا العقل القاصرُ. لكن أعِدني أن تُكلّمني – لا سيّما – في أسوأ لحظاتي، حين يضيق صدري ولا أرى الألوان في الوجود.
كُنِ النورَ والهُدى في حياتي يا الله،
فالذي أتذكّره، يا الله، أنّي أحبّك كثيراً،
وأحبّ الصالحين، وأريد أن أعرف،
ولو بصيصًا من الحقيقة؛ الجزء..
الذي قد يشير إلى الكُلّ…
***
خالد اليماني

 

مع إطلالة شهر رمضان المبارك لعام 2025، تألقت الدراما العراقية بحلة جديدة، حيث شهدت الساحة الفنية بروز أعمال درامية متميزة عكست إبداع الأجيال الجديدة من الفنانين والمخرجين. هذه الأعمال لم تكن مجرد عروض تلفزيونية، بل كانت صورا حقيقية ناطقة جسدت قصصًا من الواقع العراقي بأسلوب يجمع بين العفوية والإتقان، مما يبشر بمستقبل واعد للدراما العراقية.
مثلا مسلسل “الجنة” في خطوة جريئة نحو استكشاف مجالات جديدة، قدم المخرج مهند أبو خمرة مسلسل “الجنة”، الذي يُعد أول تجربة عراقية في مجال دراما الرعب. تدور أحداث المسلسل حول قصص مشوقة تحمل في طياتها الكثير من الإثارة والتشويق، معتمدة على تقنيات سينمائية حديثة تضاهي الأعمال العالمية. شارك في هذا العمل نخبة من النجوم، أبرزهم مروة بدران، حافظ لعيبي، وحسين حافظ، مما أضفى على المسلسل عمقًا وتميزًا خاصًا.
ومسلسل “النقيب” من الأعمال التي لاقت صدى واسعًا خلال الشهر الفضيل، مسلسل “النقيب” الذي أخرجه وثاب الصكر. يستند المسلسل إلى قصة حقيقية لبطل من أبطال القوات الأمنية العراقية، النقيب حارث السوداني، الذي اخترق صفوف تنظيم داعش الإرهابي، مسهمًا في إحباط العديد من العمليات الإرهابية التي كانت تستهدف بغداد. يُعد هذا العمل توثيقًا لتضحيات رجال الأمن، وشارك فيه مجموعة من الفنانين المتميزين، منهم عواطف السلمان، سامر دشر، وإياد الطائي.
ومسلسل “زهرة عمري” في إطار درامي اجتماعي مؤثر، جاء مسلسل “زهرة عمري” ليعكس قضايا إنسانية واجتماعية تلامس الواقع العراقي. تناول المسلسل قصصًا عائلية معقدة، مسلطًا الضوء على التحديات التي تواجهها المرأة العراقية في المجتمع. تميز العمل بأداء عفوي وإتقان من قبل الممثلين، مما جعله قريبًا من قلوب المشاهدين.
ومسلسل “لم الشمل” يُعتبر هذا المسلسل من الأعمال التي جمعت بين الدراما والكوميديا، حيث تناول قصص عائلية تسعى إلى لم شمل أفرادها بعد فراق طويل. برع الممثلون الشباب في تقديم أدوارهم بعفوية وطلاقة، مما أضفى على العمل روحًا مرحة وقريبة من الواقع.
إن ما يميز هذه الأعمال هو الروح الجديدة التي بثها الجيل الصاعد من الفنانين والمخرجين، الذين قدموا الدراما بأسلوب يجمع بين الأصالة والمعاصرة. لقد استطاعوا بفضل عفويتهم وإتقانهم أن يتفوقوا على بعض أعمال الأجيال السابقة، مما يعكس تطورًا ملحوظًا يبشر بمستقبل مشرق للدراما العراقية.
إن هذا التألق الفني لا يعكس فقط تطور الدراما العراقية، بل يشير أيضًا إلى قدرة الفن العراقي على المنافسة في الساحة العربية، وتقديم محتوى راقٍ يليق بتاريخ وحضارة العراق العريق.
***
هناء عبد الكريم

 

ليس التراث مجرد بقايا محفوظة في الكتب والمتاحف، ولا هو الامتداد الرمزي الذي يربط الأجيال ببعضها البعض، بل هو بناء ثقافي متحوّل، يتم تشكيله وإعادة تشكيله وفقًا لحاجات السلطة وأطر المعرفة السائدة.
في كل مرة ننظر فيها إلى التراث، فإننا لا ننظر إلى “الماضي” كما كان، بل إلى صورة تمت إعادة إنتاجها وترتيبها وفقًا لرغبات الحاضر.
بهذا المعنى، لا ينبغي أن نراه ككيان متجانس يحمل حقائق ثابتة، بل كنسيج متشابك من الصراعات والتلاعبات والانتقائية التي جعلته يبدو كما هو اليوم.
لكن، إذا كان التراث يتغير باستمرار، فكيف نعيد قراءته دون أن نقع في فخ التقديس الأعمى أو الرفض المطلق؟ وما الذي يجب أن نبقيه منه، وما الذي ينبغي تفكيكه وتجاوزه؟ وهل يمكن فصل التراث عن السلطة، أم أنه لا يوجد إلا داخل علاقات القوة التي تحدد وجوده ومضمونه؟
إن ما وصلنا من التراث ليس إلا ما سمحت به البُنى السلطوية عبر التاريخ. فقد خضعت الذاكرة الجمعية، كما يؤكد ميشيل فوكو، لعمليات انتقاء وتصفية، حيث تم إقصاء بعض الأصوات وإبراز أخرى بما يخدم هيمنة معينة. وعليه، فإن الاحتفاء بالتراث ليس مشروعًا بريئًا، بل هو في جوهره اختيار محكوم بتصورات سياسية واجتماعية.
كارل ماركس، في تحليله للتاريخ، يشير إلى أن “أفكار الطبقة الحاكمة في كل عصر هي الأفكار الحاكمة”، مما يعني أن التراث، كما نعرفه اليوم، ليس مجرد سجلٍّ محايد، بل هو منتج ثقافي صُمِّم للحفاظ على استمرار البنية السلطوية وإعادة إنتاجها.
لكن، هل يمكن فهم التراث خارج هذا الفهم الكلاسيكي للسلطة؟ فوكو يرى أن السلطة ليست كيانًا جامدًا، بل شبكة متداخلة من العلاقات، تتغلغل في كل مستويات الخطاب والمعرفة. وعليه، فإن “التراث” ليس مجرد مجموعة من الأفكار التي فرضتها سلطة عليا، بل هو ميدانٌ للصراع والتفاوض، حيث تتقاطع قوى متباينة، كلٌّ منها يسعى لإعادة إنتاجه بطريقة تخدم أهدافه.
لذا، لا يمكن التعامل مع التراث بوصفه “نصًا نهائيًا”، بل كحقل نصي مفتوح، يخضع لعمليات تأويل لا نهائية، حيث يتم استعادته وإعادة تشكيله وفق متطلبات كل لحظة تاريخية جديدة. لكن المشكلة أن معظم المجتمعات تتعامل مع تراثها بواحدة من مقاربتين متطرفتين: إما الجمود والتقديس، أو القطيعة والرفض.
فمن ناحية، نجد نزعة تقديسية تتعامل مع التراث بوصفه جوهرًا نقيًا يجب الحفاظ عليه كما هو، مما ينتج مجتمعًا متخشبًا، تتحول فيه القيم والممارسات القديمة إلى أدوات تقييد أكثر من كونها فضاءً للإبداع والتطور. ومن ناحية أخرى، نجد نزعة مفرطة في الحداثوية ترفض التراث جملةً وتفصيلًا بوصفه امتدادًا للتخلف، متناسية أن الهويات والثقافات لا يمكن أن تنشأ في الفراغ، وأن الهدم المطلق لا يؤدي بالضرورة إلى بناء جديد، بل قد يكون مجرد إعادة إنتاج لهيمنة أخرى في ثوب جديد.
لكن، هل يمكن تفكيك هذه الثنائية نفسها؟ جاك دريدا، في تحليله لفكرة “الأصل”، يشير إلى أن البحث عن “جوهر نقي” لأي شيء هو محض وهم، لأن كل ما نعتبره “أصيلًا” هو في الواقع نتيجة عمليات تكرار وتحريف مستمرة. بهذا المعنى، فإن التراث ليس “شيئًا” يمكن أن يكون أصيلًا أو مزيفًا، بل هو لعبة لا نهائية من الإحالات والتأويلات.
والتر بنيامين، من جانبه، يذهب أبعد من ذلك حين يقول: “حتى الموتى لن يكونوا في أمان إذا انتصر العدو”، مشيرًا إلى أن الماضي ذاته ليس محصنًا من التشويه، بل هو ساحة معركة مستمرة، يُعاد تشكيلها وفقًا لمصالح القوى المنتصرة.
إذا كان التراث جزءًا من الهيمنة الثقافية، كما يرى أنطونيو غرامشي، فإن إعادة قراءته لا تعني فقط استعادة “القيم الأصيلة”، بل تعني الكشف عن آليات السلطة التي جعلت بعض الأفكار تُعتبر “تراثًا”، بينما تم دفن أفكار أخرى في النسيان. فالتراث ليس قائمة جاهزة من القيم التي يجب الحفاظ عليها أو رفضها، بل هو بنية ديناميكية يجب أن تخضع للتفكيك المستمر، لا بهدف رفضها أو القبول بها، بل بهدف الكشف عن المنطق الذي يحكم تشكيلها وإعادة إنتاجها.
لهذا، لا يكون الاحتفاء بالتراث طقسًا استهلاكيًا أو إعادة إنتاج للمقولات السائدة، بل يجب أن يكون فعلًا ديناميكيًا يتحدى القوالب الجاهزة، ويفتح المجال لقراءات متعددة لا تهاب المواجهة مع الماضي، ولا تُسقط عليه رغبات الحاضر.
في عصر “المحاكاة”، كما يصفه جان بودريار، لم يعد التراث حتى مجرد “بقايا الماضي”، بل هو صورة تمت إعادة إنتاجها في الحاضر، وأُعيد تقديمها كشيء حقيقي، رغم أنها ليست سوى محاكاة لصورة متخيلة عنه. من هنا، يصبح السؤال ليس فقط: “ما هو التراث؟”، بل: “من الذي يصنع التراث اليوم؟ وما الأغراض التي يخدمها؟”.
إن التعامل مع التراث لا يمكن أن يكون عملية محايدة، بل هو اختيار أيديولوجي بامتياز. ما يستحق الاحتفاء ليس مجرد الطقوس والمرويات التي تراكمت عبر الزمن، بل القيم التي تحمل بُعدًا تحرريًا، والتي يمكن أن تشكّل أساسًا لنقد الحاضر وبناء مستقبل أكثر عدالة.
لكن حتى هذا الاختيار يجب أن يُفهم على أنه عملية غير نهائية، إذ لا توجد قراءة “أخيرة” للتراث، بل فقط محاولات مستمرة لإعادة تأويله وفق المعطيات التاريخية والمعرفية المتغيرة.
لهذا، لا يجب أن يكون الاحتفاء بالتراث مجرد استعادةٍ للقديم، بل يجب أن يكون مشروعًا مستمرًا لإعادة إنتاجه بطرق جديدة، تكشف تناقضاته، وتعيد توظيفه خارج الإطار الذي حُبس فيه.
فالتراث ليس صنمًا يُعبد، ولا هو وثيقة جامدة يجب حفظها، بل هو فضاء للعب والتفكير، يمكننا أن نعيد تشكيله بطرق تتجاوز السلطة، لا أن نرسخها من خلاله.
إن إعادة النظر في التراث ليست مجرد ممارسة أكاديمية أو ترف فكري، بل هي ضرورة ملحة في مجتمعات تعاني من اختلال علاقتها بالماضي. فإما أن يكون التراث أداة للتنوير والتحرر، أو يصبح قيدًا يكرس الاستبداد ويعيد إنتاج علاقات القوة نفسها التي صاغته منذ البداية.
في النهاية، إن قراءة التراث من جديد ليست فعلًا فرديًا منعزلًا، بل هي جزء من صراع أكبر حول الحقيقة، والمعرفة، والسلطة. وما نختاره من التراث، وما نقصيه منه، يحدد ليس فقط كيف نفهم الماضي، بل كيف نبني المستقبل أيضًا.
***
إبراهيم برسي

 

الحوار الفلسفي (الجمهورية) كُتب من جانب الفيلسوف اليوناني افلاطون سنة 375 ق.م. فيه يصف رؤيته للمجتمع العادل والمثالي الذي يحكمه الملوك – الفلاسفة. بعد اكثر من الفي سنة، يبقى هذا العمل في النظرية السياسية والعدالة ملائما وبعمق عند تقييمنا لأنظمة الحكم الحديثة في العالم.
بدءاً من قيادة الملوك الفلاسفة الى التعليم الموجّه من الدولة، من المفيد رؤية ما اذا كانت مقترحات افلاطون تمثل حلما طوباويا للمجتمع ام هي كابوسا مدمرا. هذا، بالطبع، يُنظر اليه من خلال قيم القرن الواحد والعشرين في الديمقراطية الليبرالية وحقوق الانسان والحريات الفردية.
مفهوم افلاطون للعدالة
طبقا لافلاطون، العدالة هي فضيلة انسانية. هذه الفضيلة تجعل الفرد "خيّر ومتسق ذاتيا" بينما تعزز ايضا الانسجام في المجتمع ككل. كتاب الجمهورية يربط العدالة في مستوى الدولة او المدينة بالعدالة في روح الفرد. في هذا العمل، يجادل افلاطون بان المجتمع المرتكز على العدالة يعتمد على مواطنيه الذين يجسدون فضيلة العدالة ايضا. افلاطون يجادل بان العدالة الى جانب الحكمة والشجاعة والإعتدال هي واحدة من الفضائل الاساسية الاربع.
بالنسبة له تمثل العدالة نظاما او تناغما في النفس الفردية. هذا التناغم يجد ذاته بين المظاهر العقلية، الروحية، والشهوية للفرد. كذلك، يعتقد افلاطون ايضا ان هذا التناغم يمتد الى الطبقات ومصالحها ضمن المجتمع. خلافا للمنظور التقليدي في زماننا، والذي عادة يركز على حقوق الملكية او العقود الاجتماعية، يرى افلاطون العدالة كشيء أعمق – موافقة داخلية ضمن الكائن البشري متناغمة مع الواجب المدني.
الفرد العادل او المجتمع المرتكز على عدالة حقيقية يتصرف وفق معايير موضوعية للخير بدلا من معايير ذاتية. طبقا لافلاطون، هذه توجد بشكل مستقل عن الاهتمامات الشخصية او الامتيازات وتشكل تصورات كل فرد.
ومن بين أشياء اخرى، تتطلب العدالة الامتناع عن ايذاء الاخرين حتى عند التحريض، بينما تحافظ ايضا على الوعود وانجاز الاتفاقات مع الاخرين. هذا يفسر لماذا يعتقد افلاطون ان احترام القوانين المجتمعية المؤسسة على خير مشترك هي ذات أهمية كبيرة. بالنسبة له، الحياة العادلة لها قيمتها المتأصلة ولا يختارها الناس فقط لأجل السمعة او الشهرة. وعليه، في الفكر الافلاطوني، العدالة هي فضيلة سامية. انها تمكّن كل من الامتياز الفردي والسياسي للدولة وهو ما سيكون مثاليا للجميع. في هذا السيناريو، تتعاون الطبقات الاجتماعية بدلا من ان تتنافس . من خلال الارواح العادلة والمؤسسات العادلة، ستتحقق بالكامل الإمكانات البشرية والسعادة طبقا لنظرية افلاطون.
النظام التعليمي في كاليبوليس (المدينة الجميلة)
المدينة المثالية - كاليبوليس كما تصورها افلاطون في الجمهورية تعتمد على نظام تعليمي صارم. دور هذا النظام هو تربية الحكام بالاضافة للمواطنين. وهكذا، فان فلسفة افلاطون في التعليم تهدف الى تطوير الفضيلة والحكمة والشخصية الاخلاقية الجيدة لكل مواطن.
طبقا لافلاطون، حكام المستقبل او الملوك الفلاسفة سوف يتوجب عليهم المباشرة بتعليم صارم في حقول مثل الرياضيات والعلوم والفلسفة والموسيقى. هذا سوف يضمن زيادة قدراتهم في مجالات هامة في المنطق والقيادة والحفاظ على التناغم في كل من المجالين الشخصي والعام.
وكما عرض افلاطون في الجمهورية، يبدو ان منهجه لهذه النخبة المجتمعية يؤكد على الموضوعات التي لها القابلية على تمكين الحكام للحصول على الحقيقة. هذا سيكون حاسما في هذا المجتمع المثالي لأن هذه النخب ستكون قادرة على صنع قرارات حكيمة لمصلحة الجماعة ككل. هذا التدريب الأساسي للملوك الفلاسفة يتضمن الاستدلال المجرد والرياضيات الخالصة والديالكتيك لإختبار الأشكال والافتراضات الأساسية، والتركيز – وهو الأهم على التحكم الاخلاقي في الذات. مقابل ذلك، يتلقى الناس العاديين تعليما اساسيا في كاليبوليس. تعليمهم يركز على تطوير مواقف أكثر تعاونية ومدنية بالاضافة الى مهارات معينة مطلوبة لإنجاز دورهم في هذا المجتمع المثالي. وبينما يتولى النظام تصنيف الاطفال في وقت مبكر بالارتكاز على القابليات بالاضافة الى مكانتهم الاجتماعية، فان مواطني كاليبوليس يستمرون في الحصول على تعليم أخلاقي لأنه يعتبر ضروريا. هذا سوف يسمح لهم بإتباع التعليمات والقواعد بشكل صحيح وكما وُضعت من جانب النخبة المتنورة.
وهكذا، يهدف نظام افلاطون التعليمي الى تزويد الحكام بالمعرفة الضرورية التي تقوي منزلتهم كملوك فلاسفة. وفي نفس الوقت، هذا البناء سوف يعطي لمتوسط المواطنين تعليما فكريا واخلاقيا كافيا لكي يجتازوا تعقيدات الحياة اليومية. هذا سوف يضمن الاستقرار الاجتماعي في المجتمع.
وكما هو ملاحظ، هذا النموذج المزدوج يأتي في تناقض حاد مع المُثل الحديثة للفرص المتساوية والتعليم العام الشامل للجميع بصرف النظر عن الخلفيات.
هل جمهورية افلاطون القديمة تمهد للاشتراكية؟
العديد من الناس يجادلون بان افلاطون في مجتمعه المثالي، يقترح نظاما اشتراكيا ان لم يكن شيوعيا لطبقة الحكام الفلاسفة. هذه النخبة "المتنورة" سوف تحكم وتحمي كاليبوليس، لأن النخبة ستكون قادرة فكريا وأخلاقيا على القيام بهذا. الجماعة المنتقاة ستعيش في جالية خالية تماما من الملكية الخاصة. الحكام عليهم ان يشاركوا بالمسكن والزوجات والاطفال. الهدف من كل هذا سيكون تعزيز الروابط المجتمعية ووضعها فوق المصالح الانانية للفرد. هذا يذكّرنا بشيء؟ يمكننا ان ننظر الى المبادئ الاساسية للاتحاد السوفيتي لمقارنتها مع قصة افلاطون. افلاطون يجادل ان العيش المجتمعي بدون أي ثروة شخصية قادر على انتاج ملوك فلاسفة محايدين وحكام شجعان. هؤلاء الافراد سيركزون كليا على الواجبات العامة بعيدا عن الانحرافات الفردية. المشاركة في التجربة سوف تهدف ايضا الى تعزيز التماسك الاجتماعي مقابل الانقسامات الحتمية لدى مختلف الطبقات في المجتمع.
هذا المبدأ يتسع الى المزيد من المظاهر الشخصية لحياة الانسان، مثل الزواج. حكام كاليبوليس سوف لا يُسمح لهم بالعلاقات الحصرية. هذا لأن افلاطون اعتقد ان هذا سوف يفضل افراد معينين على الرفاهية الجمعية. وبينما تهدف القيود على الزواج والملكية الى تقوية المجتمع ككل، فان القارئ الحديث قد يتصورها كانتهاكات مدمرة كليا للحرية. المواطن في المجتمع الغربي الليبرالي للقرن الواحد والعشرين ربما يرى كل هذه المقترحات مخيفة تماما ومتناقضة مع سعي كل فرد للسعادة.
وكما نعرف هناك أمثلة تاريخية لمحاولات حكام حقيقيين في ظل المبادئ الشيوعية في القرن العشرين قد فشلت واحيانا بشكل مأساوي. هذه الإحتمالية استخدمها الخصوم ضد مُثل افلاطون كحجة لصعوبة فرض نظرية افلاطون في مجال التطبيق. مع ذلك، اعتراف افلاطون بان المصلحة الفردية تشوه الروابط الاجتماعية لازال له صدى لدى العديد من الناس.
دور وسلطة الملوك - الفلاسفة: حماة ام مسيطرون؟
في الجمهورية، يجادل افلاطون ان للملوك الفلاسفة واجب فرض السيطرة التامة على شؤون كاليبوليس. هناك ايضا سبب لهذا، وهو إرشاد المجتمع نحو الفضيلة والاستقرار وتجنب الفوضى المجتمعية.
الفلاسفة الملوك الذين يتم تعيينهم بالارتكاز على اختبار وتدريب صارمين، سيعملون ويفرضون القوانين. هذه القوانين تنظم كل من السلوك الشخصي والعام للمواطنين. حكمة الملوك الفلاسفة ومصالحهم المشتركة مع المدينة يُفترض ان تكشف ان كانت هناك أي إساءة لإستخدام السلطة وتعمل كوسيلة لتحقيق التوازن بين السلطات.
من الواضح، ان افلاطون يمنح حكامه سلطات مكثفة على مواطنيهم. هذا يبدو كأنه شيء استبدادي جدا وفق المعايير الحديثة، شيء نراه اليوم في الأنظمة الاوتوقراطية والقمعية. الحكام في جمهورية افلاطون يشرفون على قضايا مثل الزواج والتكاثر وتربية الاطفال والشعر والموسيقى وحتى الآراء التي يعبر بها الناس. هذه السيطرة النمطية والمنهجية على حياة وعقلية كل فرد ستكون امرا قاسيا جدا. مع ذلك، الهدف من كل ذلك هو خلق انسجام اجتماعي.
يجب التنويه الى ان مسألة الإعدادات الصارمة التي تضمن وصول فقط المواطنين الفضلاء للحكم تبقى عرضة للنقاش. ربما يتسائل أحد من سيضمن ويفحص تحقيق ذلك. بالتأكيد، اذا كانت هذه المسؤولية تقع على الناس، ذلك سيعني هم سلفا متفوقين أخلاقيا وبالتالي يمكنهم ان يتولوا الدور بأنفسهم.
من الواضح انه بدون الضوابط والفصل بين السلطات فان حكم النخبة المطلق يخاطر بان يكون انانيا بسرعة كبيرة. كل ما يحتاجه المرء ليتأكد من ذلك هو ان ينظر في الامثلة الهائلة للقادة "التنويريين" الذين أثبتوا فشلهم وعدم نزاهتهم طوال التاريخ الانساني.
وعموماً، ان جمهورية افلاطون بالفعل تسلط الضوء على التحدي السياسي. فهي من جهة، تركز السلطة لدى شخص ما لكي يحكم بفاعلية، ومن جهة اخرى تمنع مراقبة السلطات والذي من شأنه ان يهدد الحريات الفردية. ملوك افلاطون الفلاسفة يميلون بقوة نحو الواجبات المطلقة والاستبدادية بدلا من وضع قيود لحماية الحقوق وهو الامر الضروري للحريات الحديثة.
تقييم جمهورية افلاطون: حلم طوباوي ام كابوس مدمر
في تقييم جمهورية افلاطون، نحن امام تجربة عبقرية في التفكير الانساني لبناء مجتمع مثالي. هذه الجالية ستُحكم بالملوك الفلاسفة، الذين يتم تدريبهم في المنطق والعدالة. مع ذلك، العديد من مقترحاته – من الرقابة الى سيطرة الدولة على الحياة الشخصية والعائلية – لا يمكن تصورها وفق معايير الليبرالية الحديثة التي تقيّم الحقوق الفردية. بالنهاية، بينما لازالت هناك أهمية لتأكيدات افلاطون على الانسجام والحكمة والفضيلة، لكن طرقه الاستبدادية المقترحة يمكن ان تبدو مدمرة لمواطني القرن الواحد والعشرين. انها تقف في تضاد مباشر مع العديد من الخصائص المجتمعية الحديثة بما في ذلك التنوع والحرية الفردية. لهذا، نعم، تمثل جمهورية افلاطون نسخة اكثر تشاؤما لمجتمع مثالي (غير موجود) منه الى حلم طوباوي يزدهر فيه كل مواطن . مع ذلك، افلاطون في صراعه مع العلاقات المعقدة بين العدالة، النظام، والقيادة، لايزال يثير أسئلة ويدعونا للتفكير حول ما يمكننا عمله بشكل أفضل بعد زمانه بآلاف السنين .
***
حاتم حميد محسن
..............................
GreekReporter,March10,2025

 

القران احد اهم خرائط الله سبحانه وتعالى للبشرية، وهو مساحة مهولة من المعرفة والنظام والابداع، ومنطقه يختلف عن منطق الارض، ذلك المنطق الذي ساعدنا ارسطو على فهمه ووضع قواعده، وقد كتبت قبل عشر سنوات (على الاقل) عن منطق ارسطو ومنطق العالم الاخر.
ان القرآن الكريم، يتجاوز مفهوم الجانب البشري فلا يمكن تحليله بشكل شامل بوصفه (مؤلف بشري)، لأن هذا يعمل على إخماد جذوة ذلك النص الخلاق الذي يعتمد على نوافذ عديدة متداخلة مع بعضها البعض، وتحويله إلى نص خاضع للزمان والمكان الفيزيقي ، في حين أنه نص ينتمي للوحي (وهو منظومة غير خاضعة لقالب ومنطق العالم الارضي)، تلك المسالة التي ترتفع عن سقف العقل البشري، ولا يريد الباحثون المعاصرون فهمها او الايمان بها، وقد قال تعالى:
﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء: 88).
و الإعجاز هنا، ليس في اللغة والأسلوب، فقط، بل يشمل أيضًا المحتوى، والاخبار عن الغيب، وكل ذلك في إطار يتناسب مع كل زمان ومكان.
والحديث عن “شفرة” القرآن تفترض بالتاكيد نظامًا خفيًا أو معادلات رياضية دقيقة تتحكم في بنيته العميقة.
والذكاء الاصطناعي الذي يتسلح بالخوارزميات والبيانات، لا يدرك البعد الغيبي والروحي للنص القرآني، وما من شك ان تلك المسالة لن تحل حتى بتطور الالة، او منظومة البيانات التكنلوجية، نعم قد يساعدنا العلم على الفهم لكنه يعجز عن منافسة العلم الاخر .
اعتقد بان تعقيد البنية اللغوية للقرآن يرتبط بتعقيدات المنطق الالهية تلك التي نصفها بخارطة الله، فالعقل الإنساني اليوم ربما أمكنه الاستماع إلى حديث فرد أو اثنين، وتحليل احاديثهم، ويتوجب تصبح لديه مشكلة الاستماع إلى 10 أو 100، فرد، وهذه القضية وفق منظومة الله تشير إلى محدودية الفهم الإنساني، لكن ليس هناك محدودية للحكمة الإلهية او العلم الإلهي.
‏بمعنى أن تداخل الاحتمالات لا يتناهى عند فهم رب العالمين.
ان الذكاء الاصطناعي يتعامل مع بيانات الإحصاء والتكرار، لكنه بشكل عام لا يفهم المجاز والرمزية والعلاقات المتشابكة بين الآيات، وهي قضية يمكنني وصفها (بحيويه روح النص)، بمعنى أن النص هو (ملك طابو) لصاحبه ومن السذاجة التوافق مع بارت الذي قدم مفهوما شيوعية النص والذي جاء بصورة موت المؤلف، والتي يرخمها بعض الكتاب الإسلاميين بوصفها تعدد المعاني، في حين أنها تشير إلى سلب الأفكار من خالق او صانع الفكرة، سواء كان الله أم المؤلف ام الفيلسوف أم العالم …الخ .
‏وأنا هنا لا أتحدث عن حيوية الحدث مثال ذلك ظهور النبي محمد(ص) في مكة وهو حدث كوني كبير، ولكن هذا الحدث انتهى، بشكل مادي تجسيدي فيزيقي، والذي ظهر لفترة من الزمن، وهذه حيوية الحدث، وبعض الأحداث تتميز عن الأخرى في الحيوية كما نفهم في فلسفة التاريخ، أما حيوية النص فيشمل حيوية الحدث وحيويه النص معا.

‏خذ مثلا قوله تعالى (فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون)، والحدث انتهى فيزيائيا مع ان جزءا من الحدث ما زال موجودا وهو بقاء الحوت حيا إلى يومنا هذا، وحتى مع انتهاء الحوت، فإن هذا النص هو وثيقة تسجل باسم صاحب في العالم الآخر، فلا يمكن لأي عاقل استيعاب هذه الخوارزميات الإلهية المهولة التعقيد والتي لا تنتهي، لارتباطها بالعلم الإلهي غير المتناهي.
‏ان البنية الرياضية في القرآن هي شفرة، بالغة التعقيد وتحدثنا في مكان السابق عن أنظمة رياضية دقيقة في القرآن، مثل العلاقة بين عدد الكلمات والأحرف، وهذه الظواهر لا توصف بانها شفرة يمكن “حلها” مثل شفرة رياضية عادية. ودائما اتذكر اخي الدكتور علاء جعفر الذي يردد عبارة النفري القائل اذا اتسع المعنى ضاقت العبارة .لهذا يصح القول بأن الذكاء الاصطناعي لا يدرك المعنى الشديد العمق للنصوص القرآنية وهذا يعني بأن المعنى أكبر من اللغة.
‏ويصح القول ايضا بأن الذكاء الاصطناعي لا يستطيع تفسير الغيب والمفاهيم الدقيق المجرد مثل الروح والقدر والحكم الإلهية والقضاء وصفات الله والعوالم المختلفة وتوسع السماء.
‏وتناول الموضوعات الميتفيزيقية مثل الغيب والروح والقدر والملائكة والجنة والنار يدل على أنها ليست منظومة مادية تجريبية أو أنها علوم شديدة التطور.
وحتى المفاهيم الفلسفية المعقدة التي وردت في القرآن، مثل الزمان والمكان والوجود، لا تزال موضع جدل فلسفي وعلمي، فكيف يمكن لنظام اصطناعي أن يدركها؟
قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الإسراء: 85)، يشير إلى حدود المعرفة البشرية، فكيف يمكن للذكاء الاصطناعي تجاوزها؟
والذكاء الاصطناعي يعمل داخل إطار رياضي ومنطقي محدود، بينما القرآن يقدم رؤية متكاملة تشمل المادة وما وراء المادة.
‏لكن هناك ما يبعث الأمل أن الذكاء الاصطناعي يساهم بنحو جزئي على حلحلة الكثير من الأمور التي يمكن لنا من خلالها فهم الجزء البسيط المنظمات الفعل والعلم الإلهي في هذا الكون.
***
ا. د. رحيم محمد الساعدي – الجامعة المستنصرية

أثار أستاذنا الفاضل سعيد عدنان في مدونته موضوعاً في غاية الأهمية يتعلق بـ "كتابة اليوميات" كـ "ضرب من السيرة"، فكان له الفضل في مراجعة موضوع وأدب "السيرة الذاتية" والأساليب المختلفة التي تميّز بين بعضها البعض فتجعل منها أنواعاً مختلفة، والمكونات الأساسية التي تدخل في كيانها، وما يتوافر بين هذه المكونات من نسب تحقق قدراً من التوازن المحمود في السيرة، أو تخلّ بالحدّ الأدنى من هذا التوازن، والوظائف المتباينة التي تؤديها هذه الأنواع من السير في حياتنا الشخصية في الحاضر والمستقبل.
ومقارنة بالعناوين التي لا حصر لها من الكتب التي تصدر كل عام، إلا أن ما يصدر من كتب السيرة يعدّ قليلاً لا يشكّل إلا نسبة قليلة من تلك العناوين، والسبب في ذلك يعود إلى حاجز القيم الأخلاقية الاجتماعية التي تتصف بالتزمت، ونتظاهر جميعنا باحترامها، مع انها تتناقض مع منظومة القيم الفردية التي يؤمن بها كل منا ويمارس حياته على أساسها، ومع ذلك فكاتب السيرة يحرص أن يقدّم نفسه للآخرين في الصورة التي تكفل رضاهم عنه، بصرف النظر عن حقيقته. وهو ما ندعوه بالنفاق الاجتماعي، تكمن خطورته في تحوله إلى ظاهرة في المنهج التاريخي، تؤمن بشطب كل الحقائق، أو تزويرها، كي يظل الأبطال في الصورة التي تغري الأجيال في المستقبل. أما وتلك هي الحال، فليس غريباً أن يعزف الأدباء والساسة عن كتابة سيرهم الذاتية بنفس الصراحة والصدق الذي كتب بهما "جان جاك روسو" اعترافاته، بل أن بعض الذين قفزوا من فوق حاجز "النفاق الاجتماعي" من هؤلاء فاعترفوا في مذكراتهم ببعض عيوبهم تعرضوا لعواصف من الهجوم عليهم والتنديد بهم. التعريف اللغوي للسيرة الذاتية، أنها قصة حياة الشخص كما يرويها بنفسه، وهو تعريف وصفي يكاد يصدق عليه القول بأنه تحصيل حاصل، لأنه أقرب إلى استعمال مرادفات لغوية لكلمتي "السيرة" و"الذاتية" وهو بذلك لا يقدّم ولا يؤخر. وفي هذا المقام يكون التعريف الوظيفي أفضل من ذلك بكثير من وجهة النظر العلمية، ذلك أنه يوجّه القارىء إلى الطريق نحو دراسة هذا الكيان الذي نسميه "السيرة الذاتية" لا من حيث مكوناته فحسب، ولكن من حيث العلاقات بين هذه المكونات، ومن حيث وظائف الكيان الكلي في السياق النفسي الاجتماعي كذلك، أي من حيث وظيفته بالنسبة لصاحب السيرة والمحيط الاجتماعي الذي وقعت فيه أحداث هذه السيرة وتشابكاتها، وكذلك بالنسبة للمحيط الثقافي الإنساني بوجه عام أينما كان ملتقى الرسالة. من هذه الزاوية الوظيفية يمكننا القول ان السيرة الذاتية اعتراف مدروس، اعتراف للنشر، انها التاريخ الشخصي المعترف به من قبل صاحبه، لا تعني انها الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، هي بهذا التعريف تقترب قليلاً أو كثيراً من العمل الأدبي، القصة أو الرواية، إذ يصدق عليها تعريف أحد كبار علماء التحليل النفسي "هانز ساكس" الذي يقرر ان العمل الأدبي حلم اجتماعي، فهو ينتمي إلى عالم الاحلام بما له من جذور شخصية مغرقة في الذاتية، من جهة، ومن ناحية أخرى يبزغ ويتفتح ويتشكل داخل سياق اجتماعي يفرض عليه قيوده وسياقاته.
في سياق هذه التعريفات الوظيفية يرى البعض، نحو مزيد من الوضوح ووضع النقاط فوق الحروف، أن يقال ان السيرة الذاتية اعتراف موجّه إلى طلب المكافأة الحسنة، ثم ان البعض يفضلون القول بأنها احتجاج ينطوي على المطالبة برد الاعتبار، غير أن المتأمل في هذين التعريفين، لا يلبث أن يشعر بأنه لا يستطيع أن يرضى عنهما تماماً، لأنهما ينطبقان على بعض السير أكثر مما ينطبقان على البعض الآخر.
في السيرة الذاتية عناصر عدّة تشكلها: هي مجموعة الذكريات، جميعها تنتظم في شبكة من العلاقات تجعل منها معماراً له أصوله وقواعده العامة. وله في الوقت المناسب خصوصيته التي تفرق بين السير المختلفة وتجعل لكل منها فرديتها المتميزة. ومجموعة الوقائع على شكل أحداث وأفعال وقعت في زمان ومكان معينين، محملة بالمعاني والدلالات، لتستقيم بشكل ما مع الاتجاه العام للسيرة، وما يرتبط بها من مشاعر. في المقام الأول فإن كتابة السيرة الذاتية هي ممارسة فردية واجتماعية غير مقصورة على الكتّاب، والمتتبع للشأن الثقافي في بلادنا سيلاحظ دون شك أن ما يعرف بأدب السيرة الذاتية، أو أدب الاعتراف، لم ينتشر ويكثر الاقبال عليه إلا في العصر الحديث. لكن بالرغم من ازدهاره، فانه لا يعدّ من الأمور المألوفة التي يتقبلها الجمهور في يسر وسهولة. لذا يحاول كتّاب هذا الجنس من الأدب في الأعمّ الأغلب أن يلتمسوا في مقدمة كتبهم الأعذار، ويسوغوا البواعث التي دعتهم الى الكتابة عن أنفسهم، ولا يقتضي ذلك بطبيعة الحال أن يكون ما يذكرونه هو السبب الحقيقي والدافع الأصيل. فأدب السيرة الذاتية إذاً ليس أدباً ميسوراً هيناً، بل هو من الآداب التي تقتضي من كاتبها مشقة التجرد من نفسه، ومن أهوائه ونزعاته الخاصة، وقد يكون الانسان مخلصاً صريح الرأي صادق الحديث، ولكن تنقصه مع ذلك القدرة على التحليل والتعليل والتحري والاستقصاء. ربما يقع القارئ في حيرة حيال نص ملتبس ما بين السيرة الذاتية والنص الروائي، خاصة وأن كثيراً ما يقف عند الأحداث والتفاصيل المعلوماتية الخاصة في سيرته ليطبّق عليها مفاهيم فلسفية يرى انها تتواءم مع منطق الأحداث التي واجهته. ويرى بعض النقاد أن أدب السيرة الذاتية هو نوع من الكتابة الشائكة التي تستلزم الصدق التام والبوح والمكاشفة، كما تحتاج إلى شجاعة قصوى، لأنها كتابة مغايرة أو هجرة إلى غير المألوف، خاصة إذا تناول الكاتب ما يعدّ من التابوهات أو من المحرّمات. في الأدب العربي نماذج متعددة لهذا الجنس من الأدب، وهناك مجموعة من الأعمال الرائدة التي تأتي في مقدّمة الكتابات في هذا الميدان نشير بذلك إلى سيرة طه حسين (الأيام) و(أنا) و(حياة قلم) لعبّاس محمود العقاد، و(زهرة العمر) لتوفيق الحكيم، و(حياتي)لأحمد أمين، و(قصة حياة) لابراهيم عبد القادر المازني، و(سبعون) لميخائيل نعيمة، و(قال الراوي) لإلياس فرحات، و(أوراق العمر) و(مذكرات طالب باحث) للويس عوض، و(معي) لشوقي ضيف، و(على الجسر) لبنت الشاطئ، وغيرها من النماذج الأدبية لفن السيرة الأدبية. وما أكثر ما تعرّضت تلك السير إلى التجريح والإساءة، والتسقيط السياسي والاجتماعي، وما أكثر الذين ترددوا بما كتبه طه حسين عن شيوخه في الأزهر، وعن أخيه الذي أهداه نظّارة سوداء ذات إطار ذهبي، ثم بخل بها عليه فاستردّها منه، أو أولئك الذين استغلوا اعتراف لويس عوض بـأن أختاً له كانت مريضة عقلياً.
وفي الأدب العالمي، يعدّ كتاب "سيرتي الذاتية... الكلمات" من أروع ما كتب سارتر في مسيرته الفلسفية والأدبية الطويلة، بأسلوب شائق له خصوصيته، وسياق خاص لم يسبقه إليه كاتب، جمع فيه ما بين حضور الذات وحضور المنطق، وبين التباس الشكل وفنية التوجّه، وإبراز الدهشة المستحوذة على ذات الكائن الذي كان. لقد أضحى أدب السيرة الذاتية من الآداب المحببة لكثير من القرّاء والمتتبعين، هذه السيرة برأي زكريا إبراهيم في كتابه "مشكلة الفن" تحقق وظيفياً المشاركة الوجدانية والتعاطف الرمزي. على صعيد آخر تعدّ المذكرات والسيرة الشخصية مصدراً مهماً من مصادر كتابة التاريخ، على الرغم من اختلاف وجهات النظر بين الباحثين بين مؤيد ومعارض لموثوقيتها، والكل يتفق على ضرورة توخي الحذر عند الاعتماد عليها بوصفها مصدراً توثيقياً. وشهد تاريخنا العراقي المعاصر أمثلة عديدة لكتابات من هذا الجنس لشخصيات سياسية وثقافية وعسكرية، أسهمت بمستويات متعددة في تشكيل الأحداث أو المشاركة فيها، هؤلاء استهوتهم الظاهرة التي وجدت قبولاً واسعاً لدى الباحثين والمتابعين. وبقدر ما تتسم المذكرات بالصدق والموضوعية، فان جمهور القرّاء يقدم عليها بحماس، وتهتم دور النشر بطباعتها وتسويقها لأنها تحقق لها أرباحاً عالية بسبب هذا الإقبال. ولأنها تكشف المضمر في التجربة الشخصية، هي في كل الأحوال لا تندرج إلى مستوى الوثيقة، أو تصنّف ضمن الكتابات التاريخية، فهناك فرق بين كتابة التاريخ وكتابة المذكرات، على الرغم من أن المؤرخ يعتمدها محللاً، ومفسراً، وناقداً. وفي العراق، كان غياب الحريات عاملاً في غياب هذا النمط من الكتابة الذي يفترض أن يكون شجاعاً وكاشفاً. ضمن هذا السياق يمكن القول ان أغلب المذكرات الشخصية التي صدرت منذ خمسينات القرن الماضي ولا سيما بعد سقوط النظام الملكي في 14 تموز 1958، كانت موضع جدل وخلاف رغم ما تضمنته من بوح لأسرار وكشف لأحداث ظلت غامضة تعود لمرحلة ملتبسة من تاريخ العراق المعاصر، لقد غلب على العدد الكثير من السير الذاتية الرغبة في إخفاء الحقيقة، لا الجهر بها، وتبرير الأخطاء لا الاعتراف بها، وحرص أصحابها على أن يطلوا على القراء وهم في كامل قيافتهم الوطنية والعلمية والأخلاقية، لا يقولون إلا الصدق. الإيجابي في البعض من تلك الكتابات، أن كتّابها تحرروا من عقد السلطة والأيديولوجيا، والكبت النفسي، متجاوزين التردد والخوف، نشير في هذا الصدد إلى مؤلف الناقد العراقي حاتم الصكر" أقنعة السيرة الذاتية وتجلياتها" كنموذج للكتابة الرصينة، والجّادة الواعية في هذا الميدان، جمع في فصوله بين دراسة السيرة الذاتية والنصوص القريبة من الكتابة فيها كاليوميات والمذكرات والرسائل. ونشير كذلك إلى الأدب العراقي المكتوب في ظروف الحرية في المنفى، متميزاً بالصدق والوضوح والجرأة في أغلبه، ولاسيما أدب السيرة الذاتية، بينما ظل البعض الآخر صامتاً، ما زال يعاني من عقد الماضي وهيمنته عليه بإرثه الثقيل، ونعني بذلك القيادات والشخصيات الحزبية والسياسية والثقافية. الخوف عمّق رغبة الكثير في الصمت، فتجنبوا ذكر الوقائع الصريحة، توارى المهم فيها، منهم من رحل وهو يدفن تاريخه معه، من دون ان يترك أثراً واحداً كاشفاً ومضيئاً، بتقديرنا ليس من السهل على الشخصيات المترددة والخائفة الإقدام على خوض ميدان الكتابة، فكتابة المذكرات مسؤولية ثقيلة وعبء أخلاقي. بينما يراها البعض محطّ شبهة وموضوع ارتياب
***
د. جمال العتابي

 

في الحق أنا لا أفهم كنه صلاتي التي تربطني بمحيطي أو أسيغها، كما ينبغي أن تفهم أو تساغ، والصلات التي تحرك الحياة وتسيرها، مهما قلت عنها، وعن سذاجتها وجهالتها في بيئتي، فهي في جوهرها، لا تختلف عن تلك الوشائج التي جمعتني بعوالم مغايرة لعالمي الذي أعيشه الآن، فمهما تفاوتت في تأثيرها، ووهجها، وظلالها، ووقعها على نفسي، فهي تتفق في حزنها وأساها، وفرحها وطربها، تماما مع عالمي الذي كنت أعيشه، رغم أن عالمي ذاك كان مختلف الألوان والألسنة.
ولعل الشيء الذي أبعد عن الجدال والخلاف أننا مطالبين بذلك النشاط الوجداني الذي فرضته أعراف الحياة، فليس لنا أن نعيش في قوام تلك المجتمعات، دون أن ننصهر في بوتقتها، أو نعتزلها، أو نمنعها، أو حتى نراقبها ونقيدها في أضعف الإيمان، كلا ليس هذا متاحاً لنا، العزلة التي تبتغيها وتنشدها، لا تسمح بها هذه الحياة، لأن المجتمعات لا تطمئن لأصحاب العزلة النفسية، وترتاب في أمرهم أشد الارتياب وأعنفه، رغم ما للعزلة من دعائم وطيدة بالفلسفة وصلات وثيقة بالحكمة، وما "للمعتزل" من صفات تختلف عن "المجتمعي" في الغرائز، والطباع، وألوان السلوك، وفي علاقة الإنسان بربه، فالمعتزل يرضي عقله بتلك العزلة التي يأثرها عن غيرها، وتسمو بها روحه، وينوء عن طريقها بنفسه عن مخالطة الناس وما ينجم عن تلك المخالطة من تشاحن وصراع، وما يصاحب هذا النشاط الاجتماعي من قهر وكتم للأنفاس.
ليس من ريب، ألا نتفق فيما بيننا على أسباب صحيحة، أو علل ثابتة، بخصوص هذا الموضوع الشائك، ولكن تعرجاته وعقابيله تلك، مدعاة إلى بقاء موضوع "العزلة" على بساط البحث، ورغم أن "العزلة" مجال القول فيها ذو سعة، لكن الغالب على الظن" عندنا" أن العزلة أبلغ وقعاً، وأعمق تأثيراً، في نفوس أصحابها، وأن بحوث علماء النفس والاجتماع وتحقيقاتهم تشتمل على كثير من الغلو والشطط ومجانبة الصواب، فالعزلة ليست مرضاً فتاكاً يودي بالمجتمعات أيها السادة، ليست هي داء نجيس مجلوب من الخارج، بل هي متأصلة في تراثنا الفكري، كما لا علاقة للعزلة بمزاعم مناهضة الدين الخاتم، فالحقيقة التي يجهلها الكثير من الناس أن العزلة نشأت في كنف الدين.
الواجب الذي لا مناص عنه إذن أن نزكي من دوحة العزلة، وأن نجعل عروقها تمتد وتستطيل في مناهجنا وتربيتنا.
دعونا نلقن الأجيال القادمة أن ايثار الحياة الضيقة المغلقة، يعينك على فهم نواحي هذه الدنيا الفانية، وأن العزلة هي التي تردك إلى الحياة، وتنقذك من هذه الجلبة، ومن هذا النفاق المفروض عليك، العزلة تسمح لنا وللأجيال القادمة أن نستقبل صدر أيامنا ونحن مبتهجين بها، راضين عنها، مغتبطين بما يتاح لنا فيها من العمل، وبما يساق إلينا من الخير، العزلة هي التي تجعل طابع حياتنا قوامه المحافظة والاستقرار، والبعد كل البعد عن الصخب والعنت والشقاء.
***
د. الطيب النقر

 

أن يُفكّر المرء لنفسه، وبنفسه، يعني أنه إنسان. إنسانٌ مُتحقّق الوجود! حتى وإن لم يُصِب الحقيقة في أيّ بحثٍ يقوم به أو تأمّلٍ عام. الإنسان من حيث هو كائنٌ مُفكّر، أو كما يقال "حيوان ناطق"؛ أي ينطق من منبع المنطق (Reason)، وهو بهذا يختلف كل الاختلاف عن باقي الدواب. وبالقدر الذي يكون به هذا امتيازًا أنطولوجياً لبني آدم، بقدر ما هو مسؤولية وجودية يحملها على عاتقه. وهذه المسؤولية، على وجه التحديد، هي التي تضفي على حياته قيمةً ومعنى. وبدونها، يأكله العدم الفكري والمعنوي.
ومِمّا هو طريفٌ وحزينٌ في الوقت نفسه، أن الإنسان يُفكّر على كل حال، ولكن أغلبنا – وللأسف – يُفكّر ضمن أحد خيارين: أما أن يُفكّر في أفكار القدماء، أفكارٌ قديمة الأثر، مولودةٌ من رحم سياقها التاريخي، ثم نُصّر على أنها لنا ولهم، ولكل زمانٍ ومكان.
ثانياً، أن يتبنّى أفكار من هم حوله.. أي يقبل الفكر الذي تسري عليه ثقافته، وبهذا يُعطل ملكاته العقلية، ثقةً منه بأن الناس من حوله، وفهم الثقافة لأي مسألة، بالضرورة، أعمق مما قد يأتي به من تفكُرٍ وتحليلٍ فردي. وبذلك، يكفُر بقيمة العقل، الذي من المفترض أن يتساءل ويشكّ في حقيقة أو جدوى المعتقدات السائدة وأساليب العيش، من حيث تماسكها المعرفي من جهة، ومشروعيتها الأخلاقية من الجهة الأخرى. ما قدر التسامح أو عدم التسامح الذي تنطوي عليه هذه الثقافة؟ من يستحق التسامح؟ كل هذه أسئلة فلسفية عميقة، تُعيد الإنسان إلى ذاته، وتُعرّفه بنفسه، وبالآخرين على حد سواء. لأن الإنسان هو الإنسان؛ أي أنه عبر التفكّر، والتأمل والتساؤل، سيصل إلى ما توصل إليه أيّ متأملٌ آخر؛ وكما يقول المثل الشعبي: "لا جديد تحت الشمس!"
أن يُفكر الإنسان لنفسه، يعني أن يُعيد النظر في كل شيء، في حقيقة كونه فاضلًا أم لا، ويختبر هذا، ويكون سلاحه في هذه الرحلة: الشكّ المنهجي الديكارتي، حتى يثبت عكس الفرضية. وبهذا، يتّسع الإنسان يومًا بعد يوم، حتى يُصبح أقرب إلى ذاته، وتكون له فلسفةٌ أصيلة، خاصةٌ به، تُعينه على أمر الدنيا وحقائقها.
ولا يحتاج الإنسان أن يكون فيلسوفًا أو عبقريًا حتى يتمكن من التفكير لنفسه والاعتماد على ملكاته العقلية. كُل ما يحتاجه المرء: سؤال وتأمل حول هذا السؤال. هكذا بدأ كل الفلاسفة: بالسؤال بـ"لماذا" قبل "كيف". لأن السبب هو الجوهر، و"الكيف" لا توصلك دائماً إلى الـ"لماذا". ولا فرادة إلا باستقلالٍ عقليّ، يضمن فيه الإنسان حقّه في العيش، والفهم، والكرامة.
***
خالد اليماني

في عالم مليء بالعنف والاضطراب، تتراكم الصور والمشاهد النفسية التي تدفعنا لإغلاق بعض الأبواب التي كنا نظنّ أنها ستظلّ مفتوحة للأبد. نحن نعيش حياة تملؤها المحطات المتتالية، نركب القطار متأثرين بنهاية الوصول، لكننا نبقى صامتين، نبحث عن المحطة الأخيرة التي تمنحنا الأمان والطمأنينة.
لم يكن البشر في السابق مختلفين عنّا، كانوا يواجهون المصير نفسه، يتخبطون بين محاولات الفهم والهروب من الألم، يبحثون عن معنى للوجود، وعن نقطة استقرار وسط دوامة الحياة التي تلد من جديد بلا توقف، كما يواصل الزمن تقدّمه دون أن يلتفت خلفه. لا خيار أمامنا سوى البحث عن أمل يوصلنا إلى الغاية والهدف معًا، وإلّا فما معنى الاستمرار وسط كلّ هذا التناقض؟
إنّ الحقيقة المطلقة تبدو غائبة، وكذلك الأخلاق الثابتة، فكلّ شيءٍ يخضع للنسبية والتغير وفق الزمان والمكان. في عالمنا الحالي، تفرض علينا متغيرات العصر أن ننظر للأمور من زوايا متعددة، حيث لم يعد هناك خير مطلق أو شر مطلق، بل وجهات نظر تتصارع فيما بينها، تتأرجح بين المصالح والمعتقدات المتغيرة.
إنّ العالم اليوم ليس إلّا معركة بين تناقضات لا تهدأ، حيث تزدحم الشاشات والموجات الإعلامية بأخبار لا تتوقف، تصنع واقعًا موازيًا يغرقنا في وهم الحياد والمصداقية، لكنها في جوهرها مجرد أداة تحرك الرأي العام وتوجه الفكر البشري في مسارات قد تكون مرسومة مسبقًا. كيف يمكن للإنسان أن يجد يقينه وسط هذا الطوفان من المعلومات المتضاربة؟ كيف له أن يقرر أيّ طريق يسلك، وأيّ حقيقة يؤمن بها؟
من الزاوية الشخصية، تبدو الحياة خيار صعب بين التوقف عن الشعور بالألم اللحظي وبين احتمالية مواجهة ألم أكبر في المستقبل. الألم جزء من الوجود، لكنّ التعامل معه هو ما يحدّد إن كنا سنتجاوزه أم سنغرق فيه. كثيرًا ما نحاول تأجيل معاناتنا، نغلق أعيننا عن الواقع ونبحث عن عزاء مؤقت، لكنّ الحقيقة تبقى هناك، لا تتغير، تنتظرنا حتى نواجهها. نحن في معركة دائمة مع أنفسنا وقراراتنا وتوقعاتنا التي نصنعها بأيدينا ثم نصطدم بها عندما لا تتحقق كما تصورناها.
الحياة أشبه بدوران الكرة الأرضية بلا توقف، كما تدور كرة القدم في الملعب كلّ يوم، تحاول أن تجذب السعادة لنفسها رغم كلّ الصعوبات. هناك من يسجل الأهداف، وهناك من يضيع الفرص، وهناك من يكتفي بالمشاهدة. كلّ فريق لديه خطة، وكلّ لاعب يسعى لتحقيق مجده الشخصي، بينما الجماهير تشاهد وتعلّق وتحكم، دون أن تكون داخل الملعب فعليًا. هذا التشبيه ليس بعيدًا عن واقعنا اليومي، فكلٌّ منّا يحاول تسجيل أهدافه الخاصة، البعض ينجح، والبعض الآخر يخفق، لكن في النهاية، تبقى الكرة في الملعب وتستمرّ المباراة.
العالم مليء بالحوار الجدلي المستمر، ذلك النقاش اللامتناهي بين اليمين واليسار، بين الصواب والخطأ، بين الحقيقة والزيف. لكن من ذا الذي يملك الجواب النهائي؟ وهل هناك أصلًا إجابة واحدة لكلّ الأسئلة؟ البعض يفضّل الغوص في تلك الحوارات الفلسفية التي لا تنتهي، بينما آخرون يختارون الفعل بدلًا من الكلام، يركزون على تسجيل الأهداف، الفعل وحده هو الذي يحدّد مسار الحياة، والكلمات وحدها لا تكفي.
يبقى التفاؤل هو الشعور الأول والأخير للحياة. قد يبدو أحيانًا وكأنه خيار ساذج، لكنه في الحقيقة هو ما يجعل الاستمرار ممكنًا، التفاؤل ليس إنكارًا للواقع، بل هو اختيار واعٍ لمواجهته دون أن نفقد القدرة على الحلم. هناك أشياء لا نتحكم بها، ومصائر تُكتب لنا دون أن يكون لنا رأي فيها، لكن يظلّ لدينا الخيار في كيفية استقبالها والتعامل معها.
الطرق ليست ممهدة، لكنّ الأمل في الوصول إلى مكان أفضل هو ما يمنح الرحلة معناها. البعض قد يختار التوقف، والبعض الآخر قد يواصل السير رغم كلّ الصعاب، لكنّ الحقيقة الوحيدة هي أنّ الزمن لا ينتظر أحدًا.
***
فؤاد الجشي

 

مع انصرام الأعوام نجد أنفسنا وقد أصبحنا ورثة تراث مليء بالرهبة العرفية الميتة الكامنة في الذات والتي تقونن السلوك لتصبح دينا عرفيا داخل الدين العام، هذا موروث بدائي، التاريخ يؤكد الحاجة الى مراقبة مستمرة لنزوع العرف الى التشدد حتى لا يكون ظهوره داخل الاجتماعي واضحا رغم تخلفه، اغلب المنتج الثقافي المعاصر ينزع الى مجاورة الماضي في حركة ارتدادية دون أسلحة معرفية، تشخيص الانتكاسة هو مقاربة حداثوية، لذا فان استراتيجيات الإبداع الفكري في حقب الانحطاط يجب ان تتضمن مجموعة من الأساليب التي تساعد المفكرين والفلاسفة على تجاوز التحديات الفكرية والثقافية، محاولة إحياء الأفكار القديمة من خلال إعادة تفسيرها وتقديمها بصورة جديدة تتناسب مع الظروف الحالية بادعاء الاعتماد على تراث ثقافي ومعرفي من كتابات قديمة تأثرت بتاريخ من البهرجة الثورية، دون الانفتاح على الثقافات المختلفة واستيعابها، لن يخلق افكارا جديدة، أي ممارسة نقدية ذاتية وموضوعية تساهم في تطوير رؤى جديدة وتوظيفها داخل المنهج العلمي في دراسة الظواهر الاجتماعية والفكرية يجب ان تساعد في التوصل إلى استنتاجات جديدة مؤثرة حضاريا، ومنها التركيز على التعليم كوسيلة لإعداد أجيال جديدة تتمتع بالقدرة على التفكير النقدي والإبداع ،ان توثيق الأفكار والمفاهيم من خلال الكتابة يساهم في انتشارها وتأثيرها، في أوقات الانحطاط نحتاج الى تطبيق استراتيجيات الإبداع الفكري في مواجهة تحديات العصر والتي تشمل التركيز على التفكير النقدي وإعادة تفسير المفاهيم التقليدية بما يتناسب مع التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية الحالية ،تشمل دراسة التراث الثقافي والفكري المحلي واستخدامه كأداة لحل المشكلات المعاصرة من خلال التمرد على التبعيات، والتركيز على القيم الإيجابية وتعزيز التعليم لمواكبة التطورات ،ان دعم نشر الأفكار الجديدة من خلال المدونات والمجلات العلمية، يسهم في بناء مجتمع معرفي نشط في استخدام التكنولوجيا كأداة لتعزيز الإبداع ، تطبيق هذه الاستراتيجيات يتيح للأفراد والمجتمعات مواجهة التحديات المعاصرة.
تحديات التطبيق
عدة تحديات تواجه تطبيق استراتيجيات الإبداع الفكري في فترة الانحطاط، يواجه الأفراد والمجتمعات صعوبة في قبول الأفكار الجديدة أو التجديد، نتيجة التمسك بالتقاليد والقيم الراسخة، قلة الموارد المالية أو البشرية تعيق القدرة على تنفيذ البرامج التعليمية أو البحثية التي تدعم الإبداع، نظم التعليم التقليدية لا تشجع على التفكير النقدي أو الإبداع، مما يؤدي إلى نقص المهارات اللازمة، عدم وجود بيئة تشجع على الحوار والنقاش يحد من القدرة على تبادل الأفكار وتطويرها ،الفجوة الرقمية تمنع بعض الفئات من الاستفادة من التكنولوجيا مما يعوق الابتكار ،مناخات القمع أو عدم التسامح تمنع الأفراد من التعبير عن أفكارهم أو انتقاد الأوضاع السائدة ،عدم فهم أهمية الإبداع الفكري ودوره في مواجهة التحديات يحد من دعم المجتمع لهذه الاستراتيجيات ،التنافس العنيف بين الأفراد أو المؤسسات يؤدي إلى تقليل التعاون وتبادل الأفكار، تجاوز هذه التحديات يتطلب جهودًا جماعية وتعاونًا . البيئة الداعمة في حقب الانحطاط تظهر مقاومة للتجديد في عدة جوانب ،انغلاق بعض المؤسسات التعليمية والدينية على أفكار معينة، مما يحد من التفكير النقدي ،الخوف من الانتقادات أو التهميش يمنع الأفراد من التعبير عن أفكار جديدة ،الأنظمة الاستبدادية تفرض قيودًا صارمة على حرية التعبير، مما يصعب نشر الأفكار المبتكرة ،عدم توفر بيئة تشجع على البحث والابتكار ودعم البحث العلمي وتعزيز التنوع الثقافي ،التبادل الفكري يساهم في تحقيق التوازن بين مقاومة التغيير ووجود بيئة داعمة وهو ما يمكن أن يسهم في تعزيز الإبداع الفكري حتى في فترات الانحطاط.
دور وسائل الاعلام
دور وسائل الإعلام في فترات الانحطاط يمكن أن يكون معقدًا، قد تساهم في تعزيز الأفكار السلبية أو الترويج للسلطوية ، تعليم الجمهور في كيفية تحليل المحتوى الإعلامي بشكل نقدي، يساعد على تمييز المعلومات الجيدة من السيئة .يشكل دعم وسائل الإعلام المستقلة التي تقدم تغطية موضوعية وتعكس وجهات نظر متنوعة، يعزز من حيوية النقاش العام في إنتاج محتوى إعلامي يسلط الضوء على الدعوة إلى حرية التعبير ورفض الرقابة على وسائل الإعلام، مما يضمن تنوع الآراء والمعلومات المتاحة، في مرحلة عولمة التفاهة وتغلب حقبة التردي سوف لن تكون هناك نماذج ناجحة واضحة للمقاومة ، قد يبدو المشهد معقدًا وصعبًا، لكن هناك بعض الطرق التي يمكن من خلالها مواجهة هذه التحديات رغم عدم وجود نماذج كثيرة ،منها بناء شبكات من الأفراد المهتمين بالمقاومة والتغيير، مما يعزز من تبادل الأفكار والإبداع الجماعي ،حملات توعية تهدف إلى فهم تداعيات عولمة التفاهة وأهمية التفكير النقدي، يساعد الأفراد على اتخاذ مواقف واعية ،تشجيع الأفراد على إنتاج محتوى بديل يركز على القضايا المهمة، مما يعزز من تواجد أفكار متنوعة في الفضاء العام بالرغم من التحديات، يمكن للأفراد والمجتمعات أن يتصدوا لبناء بيئة فكرية إيجابية، حتى في ظل غياب النماذج الناجحة أو الإعلام المستقل، تحليل المعلومات وفهم محتوى الإعلام بشكل أفضل ،المبادرات التي تقدم محتوى موضوعي ومتوازن، توفر بدائل للمعلومات السائدة ،تعزيز الشفافية في وسائل الإعلام من خلال الضغط على المؤسسات الإعلامية للكشف عن مصادر المعلومات وطرق العمل على إنتاج محتوى يسلط الضوء على القضايا المهمة والقصص الملهمة، مما يساهم في تعزيز القيم الإيجابية ،استغلال منصات التواصل الاجتماعي لنشر الأفكار البديلة والتفاعل مع الجمهور بشكل مباشر، يساهم في بناء مجتمعات واعية و التمييز بين المحتوى الجيد والسيء ،عدم وصول بعض الفئات إلى الإنترنت أو التكنولوجيا الحديثة يمكن أن يحد من تأثير الجهود المبذولة ،الإعلام السائد بموارده الكبيرة، قد يهيمن على المشهد الإعلامي . كسب اهتمام الجمهور ونقص الوعي حول أهمية التفكير النقدي أو الإعلام البديل يمكن أن يؤدي إلى تجاهل الجهود المبذولة، الانقسامات الاجتماعية والسياسية يمكن أن تجعل من الصعب بناء توافق حول القضايا المهمة لتجاوز هذه التحديات لذا يتطلب الأمر جهودًا منسقة وتعاونًا بين الأفراد والمجتمعات والمنظمات لتعزيز الوعي والدعوة للإعلام الإيجابي للتغلب على تحدي التضليل الإعلامي بشكل فعال، كذلك يمكن اتباع بعض الاستراتيجيات لتطوير برامج تعليمية تركز على كيفية تقييم المعلومات وفهم المصادر، مما يعزز من قدرة الأفراد على التمييز بين الحقائق والأخبار الزائفة وتشجيع الجمهور على التحقق من مصادر المعلومات والتأكد من موثوقيتها قبل قبولها أو مشاركتها، إنشاء منصات أو تطبيقات تساعد الأفراد على التحقق من المعلومات المتداولة، مثل مواقع التحقق من الأخبار ،الضغط على وسائل الإعلام والمؤسسات لتكون أكثر شفافية بشأن مصادرها وأسلوب عملها، تنظيم حملات توعية تشرح آثار التضليل الإعلامي وكيفية التعرف عليه، مما يعزز من وعي الجمهور، العمل مع مختصين في الإعلام أو العلوم الاجتماعية لتقديم ورش عمل أو ندوات حول كيفية التعرف على التضليل، تشجيع النقاشات المفتوحة حول قضايا المعلومات المضللة، مما يعزز من تبادل الأفكار والتجارب استخدام منصات التواصل الاجتماعي للتواصل مع الجمهور وتقديم معلومات دقيقة، مع التأكيد على أهمية التفكير النقدي من خلال استخدام هذه الاستراتيجيات، يمكن تعزيز قدرة الأفراد على مواجهة التضليل الإعلامي وبناء مجتمع أكثر وعيًا ومصداقية .
نظام التفاهة والجيوش الكترونية
تمثل الجيوش الإلكترونية تحديًا كبيرًا في مواجهة الثقافة السطحية ونظام التفاهة لمواجهة هذا التحدي، يمكن اتباع توضيح استراتيجية عمل الجيوش الإلكترونية وطرق تأثيرها على الرأي العام، مما يساعد الأفراد على التعرف على أساليبها، تمكين الجمهور من استخدام أدوات التحقق من الأخبار والمعلومات، مما يقلل من تأثير الرسائل المضللة ،دعم إنشاء وترويج المحتوى الذي يعزز من القيم الإيجابية والإبداع، مما يساهم في زيادة الوعي الثقافي ،العمل مع منظمات غير حكومية ومؤسسات تعليمية لتعزيز التفكير النقدي ومهارات الإعلام في المجتمعات، إنشاء منصات إعلامية بديلة تقدم محتوى موثوق وتروج لوجهات نظر متنوعة، مما يساعد في تقليل تأثير المعلومات السطحية ،تشجيع النقاشات المفتوحة حول القضايا الثقافية والاجتماعية، مما يعزز من التفكير النقدي والمشاركة الفعالة استخدام أدوات لرصد المحتوى المضلل أو السطحي على الإنترنت، مما يساعد في التعرف على الأنماط والتصدي لها ،المطالبة بتحسين سياسات المحتوى على منصات التواصل الاجتماعي لمكافحة التضليل وتعزيز المحتوى الجيد، دعم الفنون والثقافة المستدامة التي تعكس القيم الإنسانية وتعزز من الإبداع والابتكار من خلال هذه الاستراتيجيات، يمكن مواجهة تأثير الجيوش الإلكترونية وتعزيز ثقافة أكثر عمقًا وإبداعا .وتعزيز التصدي لمرحلة الانحطاط.
***
غالب المسعودي

يدّعي الغالبية العظمى من الفلاسفة، بل وحتى العلماء والفنانين، غير أنّ موضع الاهتمام هنا ينصرف إلى الفلاسفة، الذين دفعوا فكري إلى حتفه في سن مُبكرة للغاية. فهم يدّعون أنهم متجاوزون لذواتهم التي فرضها عليهم المجتمع والثقافة والأيديولوجيا، وأنهم بهذا ليسوا منتمين أو منحازين إلى أيّ فكرٍ بإزاء آخر، كونهم متجاوزين لطبيعة الفكر ذاته. وهذا في الحقيقة يبعث على السخرية، لأن هذا التحرر نفسه يُعدّ شكلًا من أشكال الأيديولوجيا.
جميع الفلاسفة، بلا استثناء، تقدّمت إرادتهم الحقيقية حين أصرّوا على أن المعرفة لا تُدرك إلا عبر التجاوز، وكأنّ مفهوم التجاوز نفسه، ليس بناءً أيديولوجياً قد يُسجن الحقيقة الفاقعة في كبد النهار! كثيرٌ منهم لا يبدون أحتراماً حقيقيًا للتراث الإنساني المعرفي كما نأمل، فهم يفترضون ثم يمرّون عليه مرور الناقد المتعالي!
ومن يحُسن التلاعب بالنسق والبيان، يُهدّد المعارف البشريّة قاطبةً بالتقويض عبر أدوات اللغة ذاتها، باسم التقليدية أو الجمود الفكري، فما البديل يا تُرى؟ العدم؟ إرادة العدم؟ لا يُعلم أيّ معرفةٍ يُمكن أن تُستخلص من هذه النظرة الضديّة، المبنية على ردّة فعل أكثر منها فلسفة أو فكرًا مُبادراً مسؤولًا عن التراث الإنساني، كوننا الامتداد الحيّ والسياق المستمر والسيرورة الدائمة لكلّ من سبقنا!
ولا يُرى فيهم العمى ولا غيابٌ للبصيرة، إذ يظلون يشيرون إلى ما يستحق الانتباه من زوايا نظرهم المختلفة. فكلّ إنتاجٍ معرفي، في نهاية المطاف، يُقرّبنا من الحقيقة عبر صراع الأفكار وتفاعلها كما ذهب إلى ذلك هيجل. والمعرفة، في أصلها، ليست إلا ثمرة تلاقٍ وتلقيحٍ وتوفيقٍ بين أطروحاتٍ شتّى، وهو ما يُفضي إلى صراعات أعمق، وأسئلة أكثر جوهرية، تفتح أبوابًا إلى حقائق أبعد، وإن كانت ذاتية المنزع! وفي هذا كلّه، تُقال كلمة واحدة: الحقيقة هي الإنسان، والعلم كلّه كائنٌ في هذه اللحظة!
فلتحيا الفلسفة رغم نقائصها، إذ تكفيها فضيلةُ السعي إلى الأسئلة الأعمق، ومحاولةُ ردّ الإنسان إلى ذاته، إلى عقله، وإلى حقّه الأصيل في طلب الحقيقة.
***
خالد اليماني

في البدء كان الصوت. لم تكن الحروف قد استوت على العظام بعد، ولم يكن للمعنى جسد يُحمَل إليه أو يُنقَل عنه. لم تكن اللغة سوى وشوشة على حواف الفراغ، رعشة أولى في شفة البدء، صدى هشٌّ يتكئ على الريح قبل أن يتثاقل في الحنجرة. ثم كان الإنسان، فاحتاج إلى أن يُشار إليه، أن يُعرَّف، أن يُحدَّد في السرديات الأولى التي ستكتب قدره، لا بصفته كائنًا بيولوجيًا، بل بوصفه الكائن الذي تكبّله اللغة حتى حين يظن أنه يستخدمها. فمنذ أن رفع آدم يده متسائلًا عن الأسماء، كان قد دخل في قبضة الطاغية الأعظم: اللغة.
لكن، هل اللغة محض أداة، أم أنها الأفق الذي تتشكّل داخله الهيمنة، حيث تُعاد صياغة الوجود من خلال بنى دلالية تحكمنا بقبضتها الناعمة؟ هنا، عند هذه النقطة المفصلية، يظهر الاختزال بوصفه الخطيئة الكبرى التي يرتكبها كل من يحاول أن يفهم اللغة من دون أن يدرك وطأة حضورها الشامل. فالقول بأن اللغة محض وسيلة للتخاطب، أو أنها مجرد قناة لنقل الأفكار، هو سقوط في فخ الحداثة الكلاسيكية التي حلمت بوجود شفافية بين العلامة والمرجعية، بين الاسم والمسمّى، بينما الواقع يكشف وجيف الخطى التي تتعثّر عند كل محاولة للفصل بين الدال والمدلول.
لم تكن اللغة يومًا شفافة، بل كانت تاريخيًا ساحة صراع، معركة بين الذين يكتبون السرديات والذين يُكتَبون بواسطتها، بين الذين يفرضون معناها والذين يُسحقون تحت وطأة هذا المعنى. لم يكن أفلاطون مخطئًا حين طرد الشعراء من جمهوريته، فقد أدرك أن اللغة ليست مجرد وسيط محايد، بل هي الفضاء الذي يُعاد فيه إنتاج السلطة، حيث الكلمات ليست بريئة، بل محمّلة دائمًا بعبء التاريخ وصراعاته.
هكذا، حين يُقال إن العربية “لغة القرآن”، يصبح السؤال ملغومًا، إذ أن في هذا القول شبهة التغوّل على اللغة، قسرها داخل سردية واحدة من سرديات الهيمنة. فالقرآن لم يخلق العربية، بل وجدها، تفاعل معها، زحزح بنيتها، ثم أعاد تدويرها داخل سياق جديد. لكنه لم يكن النص الوحيد الذي صنع العربية، كما أنه لم يكن القيد الأخير الذي حاصرها.
قبل القرآن، كانت العربية لهجات تتنازعها القبائل، وكانت بعض تلك اللهجات أقرب إلى الاندثار لولا أن النظام الاجتماعي فرض لها أسباب البقاء. كانت قريش تحتكر التجارة واللغة معًا، تفرض لهجتها بوصفها النموذج القياسي، لا لأنها الأفضل بالضرورة، بل لأنها كانت لسان المركز، بينما بقيت الأطراف مهددة بالنسيان.
وبعد القرآن، ظلت العربية تتنازعها القوى التي أرادت أن تجعلها لسان السيادة، سواء كانت سيادة الفقهاء أو سيادة السلاطين. فمنذ أن قرر عبد الملك بن مروان أن يُعرب الدواوين، كانت اللغة قد تحولت من فضاء تعبيري إلى أداة للحكم، إلى سلاح يُقنّن الهيمنة باسم البلاغة. لم يكن ذلك قرارًا بريئًا، بل كان فعلًا سياسيًا بامتياز، إذ لم يكن الهدف مجرد تبسيط الإدارة، بل تكريس سلطة الدولة عبر فرض لغة موحدة، لغة تُقصي التعدد وتؤسس لهيمنة المركز على الأطراف.
لكن الطاغية لا يملك وجهًا واحدًا، ولا تتجسد السرديات في صورة واحدة. ففي العصر العباسي، حين بلغت العربية ذروتها، كان الفقيه والمنطقي والمعتزلي كلٌّ منهم يحاول أن يخلق نسخة مختلفة من اللغة، وكان كل تيار يحاول أن يفرض تعريفًا لماهية “العربية الصحيحة”، بينما كانت الهشاشة تتسرّب من بين أصابع الجميع.
في بغداد، حيث التقى سيبويه بالكندي، كان الصراع حول اللغة أكثر من مجرد صراع نحوي، كان معركة حول طبيعة الحقيقة ذاتها: هل المعنى يوجد في الكلمات، أم أن الكلمات مجرد قشرة، بينما المعنى ينكشف خارج اللغة، في تجربة صوفية أو في معادلة رياضية؟ هل “الكلمة” مقدسة بذاتها، أم أنها مجرد علامة عابرة تكتسب قدسيتها من الاستخدام؟
لكن العربية لم تتوقف عند حدود الصراع القديم، بل وجدت نفسها تُساق إلى معارك جديدة حين جاءت الحداثة بسردياتها الطاغية. فقد كانت الكولونيالية الأوروبية ترى العربية كلغة ميتة، جامدة، غير قادرة على احتواء مفاهيم الدولة الحديثة. كان هذا الطرح امتدادًا لرؤية ديكارتية ترى أن التفكير لا يكون إلا في لغة عقلانية مرتبة، بينما العربية، ببلاغتها وانزياحاتها، كانت عصية على هذه الرؤية.
لم يكن الأمر مجرد خطاب أكاديمي، بل كان له تجليات سياسية، حيث سعت سلطات الاستعمار إلى استبدال العربية بالفرنسية أو الإنجليزية في أنظمة التعليم والإدارة، محاولةً قطع الصلة بين اللغة والهوية. لكن الردّ لم يأتِ من الفلاسفة وحدهم، بل من الشوارع، من الذين صنعوا الثورات وهم يهتفون بالعربية، لا لأنها لغة مقدسة، بل لأنها اللغة التي استطاعت أن تحتضن غضبهم.
غير أن الطاغية لا يُهزَم بسهولة. فكما حاول الاستعمار أن يقتل العربية، حاولت المؤسسات الدينية أن تُحنّطها، أن تجعلها جسدًا لا يتنفس إلا داخل النصوص القديمة، أن تفرغها من هشاشتها الحية وتعيد إنتاجها كأداة طيّعة لخدمة السلطان، أكان سلطان الفقه أو سلطان النفط أو سلطان الأيديولوجيا.
في هذه اللعبة، كل طرف يحاول أن يُعيد تعريف العربية وفقًا لغاياته، بينما اللغة تستمر في التملّص، في التسرّب من بين الأصابع، في التشظي إلى لهجات وأصوات وهويات تتجاوز أي محاولة لاختزالها في كتاب واحد، مهما بلغت قدسيته. لم يكن ذلك قاصرًا على السياق العربي وحده، فقد رأينا كيف حاولت الكنيسة الكاثوليكية احتكار اللاتينية قبل أن تتشظى تلك اللغة إلى الفرنسية والإيطالية والإسبانية، وكيف سعى الحكام العثمانيون إلى فرض التركية العثمانية قبل أن يتم تفكيكها إلى نسخ قومية متعددة.
إذن، هل يمكن أن نقول إن اللغة أداة تواصل فحسب؟ أم أنها القيد والسلاح، الجرح والشفاء، الحكاية التي نكتبها والهاوية التي نُلقى فيها؟ هل يمكن للغة أن تُختزل في كتاب، مهما كان مقدسًا، أم أنها تتجاوز كل النصوص وتتشكل باستمرار وفقًا لرهانات السلطة والمقاومة؟
إن العربية، كما غيرها من اللغات، ليست مجرد وعاء للمعاني، بل هي نفسها معركة، فضاء للصراع، حيث تتقاطع الهيمنة مع المقاومة، وحيث تُعاد صياغة الإنسان نفسه عبر الكلمات التي يختارها، أو التي تُفرض عليه دون أن يدري. في النهاية، ليست اللغة مجرد صوت يُنطق، بل تاريخٌ يُكتب، وقيدٌ يُكسر، وهاويةٌ تتربص بكل من يظن أنه يستطيع أن يمتلكها إلى الأبد.
***
إبراهيم برسي – باحث سوداني

ـ برنامج الانقلابيه الكونيه العظمى:
يوجد العراق ويعيش على مدى تاريخه الاطول مجتمعيا بين التواريخ البشرية، بلا ذاتيه، خارج القدرة المتاحة للعقل على الاحاطة او المقاربة، لانه كينونه ونوع مجتمعي اخر، غير الغالب المعاش المطابق بنية وامكانات تفاعل، بغض النظر عن مستوى الادراكية للاشتراطات اليدوية الانتاجية الغالبة على الظاهرة المجتمعية، والفاعله فيها كينونه وبنية بما هي نوع مجتمعات ارضوجسدية حاجاتيه.
ومن اكثر الجوانب القصورية الادراكية فعالية، كونها تحصر التفاعلية المجتمعية التاريخيه في نوع ونمط واحد من المجتمعية، ببنيته وكينونته الارضوية الجسدية الغالبة، لتوافقها الاني مع اشتراطات اليدوية الانتاجية، فلا يظهر او تلوح له من احتمالية حضورمشخص، نوع المجتمعية الاخر غير المدرك اصلا، مع مترتباته وكيفيات تفاعيتلة وتاريخه، ومترتبات صيرورته، فلا وجود في المدونه المجتمعية التاريخانيه للازدواج المجتعي الرافديني، وحكم الاصطراعية المجتمعية ميزته الاساس، وهو الامر الذي نعرف له مقابلا متاخرا، هو الاصطراع "الطبقي" الاوربي، وماينتج عنه من الاليات بالقياس الى صنفها المجتمعي الارضي، علما بانها تظل خافية غير مماط عنها اللثام حتى القرن التاسع عشر، مع ماقد ترتب على التعرف المتاخر عليها من اعتماد رؤية شامله للعالم، وقانون مكرس ضمن حتميات وديالكتك طبيعي مفترض، ومراحل محسوبه، ذهابا الى منتهى وخلاصة من العودة على بدء مشاعي.
وقد تكون الرؤية الافتراضية الطبقية من ابرز واكثر الروى الغربية الحداثية حضورا وشمولا عالميا، على الاقل خلال القرن الذي اعقب تاسيسها على يد ماركس، برغم توهميتها وتعسفيتها الساذجه التي تلحق المجتمعات كلها بالاصطراع الطبقي اجمالا، وهو ماقرره ماركس بقوله الفاصل "ان تاريخ المجتمعات ماهو الا تاريخ صراع طبقي"، وهو قول دال على توهميه، الاساس والفصل فيها استمرار الجهل بالاصطراعية الازدواجية المجتمعية الاخرى الاصل والاساس، الرافدينيه المجتمعية وقوانين اصطراعها التاريخي، وخضوعها لقانون الدورات والانقطاعات التاريخيه، دورة اولى سومرية بابلية ابراهيمه، ودورة ثانيه بعد انقطاع اعقب سقوط بابل، هو العباسي القرمطي الانتظاري، انتهى بسقوط بغداد عام 1258 وصولا الى القرن السادس عشر، حين انبعثت الاليات الصعودية في دورة ثالثة راهنه، هي دورة الادراكية التحققية الالية الكونيه، بدءا من ارض سومر الاولى نفسها، بظهور اتحاد قبائل المنتفك عام 1530 كمرحله اولى، اعقبتها اخرى انتظارية نجفية، بدات بعد ثورة 1787 الثلاثيه التي حررت العراق الجنوبي من بغداد الى الفاو، وصولا الى الطور الايديلوجي الاستعاري المتماهي مع التوهمية الغربيه، والمنتهي منذ ثمانينات القرن العشرين.
والاهم والخاصية الرئيسية المميزه للتاريخ الاصطراعي الازدواجي المجتمعي وسيرورته، كونه ظاهرة متعدية للقدرة العقلية المتاحه للكائن البشري، فالموضع المعروف اليوم بالعراق هو تاريخ بلا ذاتيه، متعذر على الاحاطة، بلوغه ادراكيته وتعرفه على ذاته، يعني تحققه، لانه اصلا وشرطا انقلابيه عقلية شامله، وانتقال عقلي من موجبات الطور اليدوي، الى الالي التكنولوجي الاعلى، وهو مجال التحولية الاليه الكبرى خارج التوهمية الارضوية الغربيه الحداثية، ومنها المبنيه على الاصطراعيه الطبقية، والتي تبقي الاله ضمن حدود واشتراطات الاعقالية الدنيا "الانسايوانيه" الارضوجسديه، اخذه المجتمعية وحقيقتها الوجودية الى ماتوحي به وتفرضه نمطية المجتمعات الدنيا الارضوية.
يعني هذا اولا وابتداء ان الاله حين تنبثق في اوربا، تظل وعيا ومن حيث الادراكية محكومة لاشتراطات الارضوية ومتبقيات ووطاة موروثات اليدوية المستمرة طاغية، بانتظار المتغيرات العالمية المترتبه على الحدث المستجد، ومايورثه من اصطراعية مجتمعية غير اليدوية، بحكم حضور الاله كعنصر تفاعل ثالث الى جانب /الكائن البشري والبيئه/ عنصري التفاعلية ابان الطور اليدوي، ومع الانتقال من الاله المصنعية الى التكنولوجية الانتاجية ومايترتب عليها مجتمعيا وعقليا، وصولا الى مشارف الانتقال الاعلى التكنولوجي العقلي، والذي يصير محركا ايقاظيا تطويريا ل"العقل المجمد"، وهو اكثر من 85 بالمئة مما يستعمله الانسان حتى اللحظة مما متوفر له من طاقة عقلية، بعد بداية الوثبه الاعقالية الضرورية، وفك النقاب عن الذاتيه الازدواجية اللاارضوية، حين يصير العقل كموضوع وبرنامج وجودي انتقالي، من عالم الجسدية، متخلص منها ومن وطاتها، كحركة نفي للكيانويات، والدول، والملكية، نحو الكينونه الكونيه المشتركة للكائن البشري، الذاهب الى الفعاليه المتجهه الى خارج الارض، حيث انتهاء القصورية الاعقالية، والانتقال الى الطور البشري النهائي المنتظر والمقرر منذ اليوم الاول لتبلور المجتمعية في ارض سومر، وقيام مجتمعية اللاارضوية، ومن ثم الاصطراعية الازدواجية المتعدية للكيانيه.
يصبح العالم وقتها " آليا" فيتعدى متبقيات الارضوية اليدوية الاوربية، واشكال الاله الاولية الانتقالية، والعقل الارضوي "الانسايواني" الحالي الانتقالي بين الحيوان و "الانسان"، بينما الجهد منصبا مع التحرر من وطاة الموروث العقلي، على الذهاب الى العقل بهدف السيطرة على الجسدية بكل وجوهها ومفاعيلها، مع ضرورة الاعتقاد الراسخ بقدرات ماقد اصبح محور الجهد والاعقال من هنا فصاعدا، ومن مقدرته غير القابله للتخيل ارضويا، او مقارنتها بها، بما في ذلك نوع الاستعداد المتوقع والمنتظر من قبل ابناء اللاارضوية التاريخيه المازومة منذ اكثر من نصف قرن ازمه التحول التاريخي العظمى، في وقت يكون فيه العالم قد صار " ماديا" وواقعا، في غمرة انتهاء صلاحية المجتمعية الجسدو ارضوية، ومع هذا لن ننسى بالطبع ان نذكر ونتذ كر، كم هو القادم منذ اليوم، طريق طويل واستثنائي الصعوبة بحيث قد لا نجد للمقايسه مايدلنا، او يضع يدنا بداهة وبلا جهد غامر فوق معتاد ولا متخيل على مانحن مقدمون عليه، خارج ارادتنا، ولزوما لا مهرب لنا منه لكي نكون، اونزول ونفنى.
***
عبد الأمير الركابي

تعتبر ثقافة التهجين والتجهيل، من أهم الوسائل التي تستخدمها القوى المستغلة والمستبدة لشعوبها أولا، ولشعوب غيرها ثانياً، وبأي شكل من الأشكال الاستغلال والاستبداد، سياسيّة كانت، أو اقتصاديّة، أو اجتماعيّة أو دينيّة أو غيرها. وذلك بغية السيطرة على الجماهير ونمذجتها وتذريرها وتحريكها وتفجير غرائزها وإقصاء عقولها وفقاً لمصالح هذه القوى المستغلة. هذا وتعتبر من أبرز سمات وخائص هذه السياسة برأيي التالي:
أولاً: زرع روح الامتثال والرضا لكل ما هو قائم، والتسليم والرضوخ لكل ما هو غيبي وغير عقلاني، وغريزي على أنه أمر مقدر بهذا الشكل أو ذاك ولا مناص أو الهروب منه.
ثانياً: تغييب مسألة الانتماء الحقيقي للوطن والمواطنة، وتبديله بانتماءات ثانويّة، دينيّة أو عرقيّة أو حزبيّة وغير ذلك من الانتماءات الضيقة أو الفضفاضة. أي تشجيع الانتماء للعقيدة (الأيديولوجيا) الدينيّة أو الوضعيّة أو للحزب أو للطائفة أو للقبيلة أو للبطل الديني أو السياسي أو الاجتماعي، (السلبي أو الايجابي) كقائد الحزب، أو رئيس الدولة أو شيخ العشيرة أو القبيلة أو الطائفة أو المذهب أو الطريقة الصوفية. وهذا في الحقيقة ما يجعل حياة الفرد والمجتمع في كل مفرداتهما، عبر سيرورتهما وصيرورتهما مرتبطة بفقه هذا القائد السياسي أو الديني أو الاجتماعي من جهة، أو تكون هذه الحية في سيرورتها منمذجة بشكل مسبق، ومحددة بقوالب جامدة وكأنها قدر لا مناص للخلاص منه كما قلنا.
وعلى هذا الأساس لا تعود الثقافة هنا، نشاطاً عقلانيّاً تنويريّاً يتفاعل مع السياسة والمجتمع على اعتبارها فعلاً جماهيريّاً، تلعب فيه دور الموجه لسياسة الدولة والمجتمع معاً بما يخدم مصالح الدولة والمجتمع والفرد ككل. بل تصبح الثقافة فعلاً نخبويّاً انتهازيّاً، تغرد فيه النخب المثقفة من تجار الكلمة والوجاهة والمال بكل اتجاهاتها دينيّة أو وضعيّة، عبر وسائل الإعلام وًدُوْرِ الثقافة والعبادة، لمصلحتها ومصلحة السلطة الحاكمة فقط.
أو بتعبير آخر: يلتقي في مثل هذه الحالة ما هو سياسي مستبد ومتفرد بالسلطة، مع ما هو ثقافي نخبوي انتهازي على مساحة ضيقة، لا يُمارس النشاط السياسي والثقافي فيها إلا فئة صغيرة من المجتمع، هي وحدها من يقرر طبيعة النشاط الثقافي ودوره وأهدافه وبالتالي استهلاكه، انطلاقاً من الموقف السياسي أو الأيديولوجي الذي تتمتع به هذه الفئة الضيقة ومصالحها ومصالح أسيادها كما أشرنا أعلاه.
عقلنة الثقافة:
من هذا المنطلق تأتي الدعوة إلى عقلنة الثقافة وشعبنتها.
أي تحويل الثقافة إلى:
أولاً: إلى جعل الثقافة فعلاً أو نشاطاً جماهيريّاً إيجابيّاً عقلانيّاً تنويريّاً، بعد تجريدها من لبوس عالم السياسية والأيديولوجيا وسلطاتهما المقدسة وانتهازيّة نخبها المثقفة.
وثانياً: الدعوة إلى جعل الثقافة فعلاً ثوريّاً، يجعل من التاريخ والتراث نفسيهما ثقافة عقلانيّة نقديّة، تنطلق من (استلهام) المواقف الإنسانيّة في هذا التراث دون الخضوع لسلطته وتقديسه. أي استلهام ثقافة (المواطنة) بدلاً من ثقافة العشيرة والقبيلة والدين والمذهب والطائفة والحزب والملك والأمير والبطل الملهم. وبذلك لا يعود التاريخ ومكوناته التراثيّة أو الثقافيّة منطلقاً لصراعات ماديّة أو فكريّة بين مكونات الشعب، أو بين الشعب والسلطة الحاكمة. بل جعلهما (التاريخ والتراث) قوة حيويّة يبرز فيهما كل ما هو عقلاني يدعوا إلى التقدم وتحقيق إنسانيّة الإنسان.
إن الثقافة في هذا السياق العقلاني النقدي والتنويري تتحول إلى:
أولاُ: ثورة حقيقيّة تعمل على تحويل إنتاج المعرفة من المنطق الصوري التجريدي والمثالي الذاتي والبراغماتي السلبي والفقهي السلفي الجمودي التكفيري ممثلاً بفرقته الناجية، أو الصوفي الإيهامي وطبله ومزماره الرافض للواقع وتأثيره على حياة الفرد والمجتمع، والعيش في عالم الروح والاشراق والتوهم والخيال، أو من منطلق عقليّة النخب الثقافيّة الوضعيّة الانتهازيّة التبريريّة، إضافة إلى كل ما تبشر به السلطات الاستبداديّة من ثقافة الامتثال والتجهيل وتسطيح العقول وتعميم ثقافة الوعظ والذاتيّة والارتجال والثرثرة الثوريّة. إلى فعل ثوري عقلاي نقدي تنويري تظل مصالح المجتمع بكل مكوناتها هي هدف هذه الثقافة. أي ثقافة ضد الجهل والتجهيل، والاستبداد، والتفرد بالسلطة، واحترام الرأي والرأي الاخر، والمرأة، أو ما نستطيع تسميتها بثقافة المواطنة ودولة القانون والمؤسسات والتشاركيّة.
ثانياً: ومن حيث المنهج تصبح ثقافة المنطق والبرهان الاستكشافي، القائم على الاستقراء والاستنتاج والاستدلال والتجربة والتحليل والاختبار والشك والجدل، وصولاً إلى البرهان، وكل ما يعطي الفرد والجماهير دورهما في ممارسة حقهما الطبيعي في صناعة الحياة.
وبذلك تكون الثقافة قادرة على:
آ: تحطيم سلطة الحاكم المستبد ودولته الشموليّة ونخبه الثقافيّة المؤدلجة الدينيّة منها والوضعيّة.
ب: وتكون قادرة عبر حواملها الثوريين العقلانيين التنويريين الملتزمين بالإنسان وقضاياه المصيريّة، وبمنطق الدولة والمجتمع القائم على دولة المواطنة والقانون، على نزع قدسية الأشخاص والتراث وأفكار وسلطة السلف الجموديّة الجبريّة، وفقه القادة، وكل من لازال يعيش على إعادة إنتاجها خدمة لمصالحه الأنانيّة الضيقة مهما كانت طبيعتها.
***
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث من سورية

 

كان عميد الأدب العربي طه حسين يعلم علم اليقين أن النقد الجاد صَنيعةٌ يُسديها الناقد إلى معشر الكتّاب والشعراء وأهل الفن؛ لأنهم يستفيدون من النقد أكثر مما يخسرون. إن هؤلاء من خلال النقد: "يعرفون رأي الناس فيما يكتبون ويقولون؛ وليست هذه المعرفة قليلة الفائدة. يعرفون رأي الناس ويعرفون رأي الإخصائيين. فيقفون على مواضع القوة والضعف في فصولهم وقصائدهم فينفعهم هذا ويزيدهم قوة إلى قوة، ويعصمهم من السقوط والاسفاف" (طه حسين، حافظ وشوقي، ص: 102). ثم يستمر طه حسين في رصده للنقد الجاد فيقول: "في النقد إقرار للحق في نصابه، ودفاع عن الفن، وتَبْصرةٌ لِمَا في الآثار الفنية من جمال أو عيب". ص: 102.
أما بالنسبة لتوفيق الحكيم، فإنه كان مقتنعا كل الاقتناع أن الناقد هو صاحب رأي بامتياز. ذلك أن "المطّلع على النقد أحد فريقين: فريق يُسلم ويُصدق دون بحث أو تمحيص.. وهذا فريق من لا رأي له، أو من لم يهتم بعد بتربية الرأي فيه.. وفريق لا يقبل التصديق والتسليم قبل الرجوع إلى الأثر الفني يطالعه حرا من كل قيد ليستخص رأيا فيه بنفسه لنفسه". (توفيق الحكيم، يقظة الفكر، ص: 15-16). لذلك، فالنقد الجاد لا يتحقق إلا في مجتمع حر، وفي هذا المجتمع تكتمل رسالة الفنان والناقد معا، وتكتمل أيضا مهمة إيقاظ الفكر من سباته ليمارس عمله ويرتمى في نعيم التأويل الموسَّع الحر الذي ينقلنا إلى فهم يقظ للفن الذي يعاصرنا ويحيط بنا، حاملا معه أفكاره ومعانيه بكل دقة وقوة. فأينك أيها الناقد الذي ينقد الفن المعاصر؟ وهل تتحقّق معك يا تُرى الجمالية المنشودة للتأويل الموسَّع الحر؟
غني عن البيان القول إنه من الضروري اليوم على الناقد الفني الاحتكام إلى التأويل المُوسَّع الحر، لفهم القصدية المضمرة للفن المعاصر. فالقراءة النقدية ذات المسعى الأبجدي، والمتعارف عليها تقنيا إنْ على المستوى الوصفي التقني-التحليلي أو على المستوى الرسمي-الصباغي، ظلت جوفاء المعنى وأثرية المذهب، تحذو حذو النعل بالنعل، لا تُسعف المُتلقي على فك شفيرة الفن المعاصر. فهي تتكئ على أرضية هشة للوصف الشكلي في بعده التحليلي الفارغ من المضمون الجمالي، والمُبتعد عن ناصية التفكير النقدي المُؤسِّس لروح الفن وجوهره، ألا وهو التأويل الموسَّع الحر. وبتعبير آخر، إن تلك القراءة النقدية المستهلكة تتأطر ضمن نسق دائري مغلق يرفض الانفتاح على العلوم والمعارف ذات الارتباط بالفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية والمعرفية والعصبية...، لاسيما إذا ما تأملنا مختلف التحولات الراهنة التي شهدتها هذه العلوم من جهة، وأيضا علاقتها بالفن المعاصر من جهة ثانية.
وفي التأويل المُوسَّع الحر، لا بد أن يتوفر الناقد الفني على عُدة معرفية يساهم بها من أجل الخروج من المعنى المضمر في الأعمال الفنية إلى المعنى المُؤوَّل أو الشبيه بالحقيقة أو الممكن الذي يُصنفُ ضمن دائرة الخطاب الاحتمالي، وهو الذي يتم استنباطه بالانفتاح على مجالات وحقول علمية متخصصة داخل المختبر النقدي الذي يشتغل فيه الناقد الجاد. فمن أهداف التأويل الموسَّع الحر في حقل الجماليات البصرية أنه يساهم في رفع صعوبات الفهم الجمالي للأعمال الفنية بطرحه لأبعادٍ جديدة في المنظور والمقاربة، فينقلنا معه إلى مستويات رحبة تخدم غرض التلقي. ثم الدفع بالأثر الفني نحو مكانه الحر للمساءلة والتفكير من أجل تحقيق غايته التواصلية ألا وهي تأسيس نقاش فلسفي بين العمل الفني والمتلقي.
في ضوء ما تقدم، يمكننا بسط التأملات الآتية: كيف نُؤَوِّلُ عملاً فنيًا؟ وإلى أي حد يمكن للتأويل الموسَّع الحر للفن المعاصر أن يساعدنا على فك شفيرة هذا الفن بطرحه إمكانات المساءلة والتفكير من أجل بناء الرأي؟
تتطلب عملية تأويل الأعمال الفنية حسب مقاربة التي دأبنا عليها في هذا المقال، تحقيق عناصر متكاملة، تهدف إلى طرح أفق جمالي حر للفهم والتفسير والتواصل. وفي هذه العناصر تتفاعل الذات الجمالية للعمل الفني (ذات الفنان) مع المتلقي (فردا كان أو جماعة)، والموضوع الفني باعتباره وسيطا لهذه العلاقة الثلاثية (الذات-المتلقي- الموضوع الفني). وإن دور الناقد المؤوِّل يتحدّد في فهم وتحليل هذه العلاقة ورصد أبعادها ومُختلف تجلياتها المحايثة للعمل الفني.
1- كيف يتحقّق الفهم الجمالي للعمل الفني؟
إن الفهم الجمالي هو أول مؤشر دال على استيعاب كُنه العمل الفني وجوهره. ويتم ذلك عن طريق وضعه في السياق الجمالي الذي ينتمي إليه، وباستحضار المادة المُشتغل عليها، من حيث الشكل والمضمون والأبعاد الثاوية خلف فكرة العمل. والمراد بالسياق الجمالي، تقريب المُتلقي من فكرة العمل الفني المنجز، وذلك من خلال: تعريفه، وتجنيسه، ورصد خصائصه، ومكوناته... فقد تبدو لَكَ مكونات العمل الفني مبعثرة، أو غير مفهومة، أو معقدة، أو حتى تافهة في نظر البعض..!! لكن الناقد يجمعها داخل خيط ناظم ينطوي عليه التصور الفني الذي حمله الفنان على عاتقه واستطاع إخراجه في العمل الذي أنجزه في صيغته المعاصرة، فاختار منها التعبير الذي يتناسب مع هذا التصور، وفي تقاطع مع اتجاهات وتيارات لها نفس المسعى والغاية.
2- أي تفسيرٍ جمالي يساعدنا من أجل بلوغ عتبة العمل الفني؟
يحضرنا هنا التفسير الجمالي الأسلوبي باعتباره عتبة أساس لبلوغ العمل الفني، وذلك عندما يكشف الناقد عن مستويات القضايا والموضوعات التي يستند إليها العمل الفني بمرجعية أسلوب الفنان. ويقوم الناقد في هذا السياق بتأطير أسلوب الفنان ضمن تيار من تيارات الفن المعاصر -مع إمكانية الجمع أو المزاوجة بين أكثر من تيار- وفضلا عن استحضار تداخل التيارات داخل نفس العمل/ المنجز. فالأعمال التجهيزية على سبيل المثال، تتطلب أنماطا متعددة للبناء الجمالي البصري للموضوع، فيحضر: الفضاء المكاني ودلالاته، الأحجام وهندستها، الظل والضوء، المفاهيم، القضية المضمرة التي تقتضي من المتلقي البحث عنها، طريقة العرض وأبعادها ذات الارتباط بهندسية المنظور، المجال الإدراكي، الكل والجزء، الزمان الفني، رقمية الصورة وأبعادها الافتراضية، المؤتمرات الصوتية، المستويات الدلالية لمراحل العمل: البداية، الوسط، النهاية... والأمر نفسه بالنسبة لفن الأداء الذي ارتبط بالفعل الحي للعمل الفني. ذلك أن حضور المتلقي أثناء العرض يجعله يكتشف بنفسه الموضوع الجمالي ويبحث عنه أثناء تقديم الفنان لعمله المباشر والحي. فتكون مهمة الناقد ها هنا هي توثيق الأداء الفني بتقديم تفسير متكامل في نهاية العرض. وهو تفسير يستند فيه إلى عُدة متنوعة من التخصصات والمعارف التي من شأنها أن تساعده على رصد الحالات النفسية والعلائقية والوجدانية والمعرفية داخل الإطار الاجتماعي والحياة اليومية بمختلف تفاعلاتها وتأثيراتها على الذات والمتلقي في الآن نفسه. وعلى سبيل المثال: قد نجد في بعض معارض فن الأداء توظيف الفنان/العارض لوثبة تصالُبيَّة، وهي خشبة طويلة مسندة على الحائط، تُستخدم في تعليم رقص الباليه. وعليها يُصالِب الفنان رجلَيْه تكرارا داخل قاعة العرض بطريقة تخلق فعل الدهشة والغرابة لدَى المتلقي، وقد يقرع إحدى رجليه بالأخرى ليلعب دور راقص الباليه. وفي نفس العرض يستخدم الفنان الموسيقى التصويرية أو التعربية، وكذلك هندسة المكان، والألوان المعبّرة عن حالته النفسية... كما تجده يُمسك بيديه الفرشاة ويخلط الألوان ويرسم موضوعا اختاره ليؤثث به أداءه البصري الحي أمام الجمهور. إن هذا العرض يجعل المتلقي يشعر وكأنه يشاهد عرضا مسرحيا من طراز خاص، وهو طراز الفن المعاصر الحر الذي لا تحده قيود أو تلجمه ألجام، فكان فن الأداء آية من آيات الفن المعاصر.
3- أي تواصلٍ الجمالي يسلكه الناقد الفني؟
والمراد بالتواصل الجمالي لحظة مناقشة العمل الفني عن طريق تأويل المعاني والدلالات التي حَصُلَ فَهْمُها واستيعابها. وهنا يتقوى فعل التأويل الموسَّع الحر لكي يضطلع الناقد بالفهم الممكن لحقيقة الفكرة التي يطرحها العمل الفني. فيبدأ الناقد بالبحث عن إمكانيات محتملة لخلق فعل التواصل مع العمل الفني. فيقوم بمساءلته واستنطاقه لتقريب المتلقي من معاني الجمال الذي يوجد بداخله. وهو بذلك يساهم في تربية الرأي والذوق. ولعل جمالية التواصل التي تتولَّدُ عن العمل الفني، أنه يترك في نفسية المتلقي أثرا خفيا يدفعه إلى ممارسة التفكير الحر. كما يساهم هذا التفكير في تكوين الرأي، وبالتالي يتأسس عند المتلقي الحكم الجمالي الذي نُصدره على الأعمال الفنية. إنه حكم حر وذاتي مستقل، يوجد بداخل كل واحد منا، والناقد الفني يساعدنا على التعرف إليه واستخراجه بعدما كان مضمرا. إن التواصل الجمالي ينقلنا بالضرورة من المعنى المجازي إلى المعنى الحقيقي، ويدفع الناقد أيضا إلى توسل الاستقراء والاستنباط والمقارنة والتركيب. فيستعير الناقد مقاربات من علوم ومعارف مُتخصصة: الفلسفة، وتاريخ الفن، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والهندسة، والرياضيات، والفيزياء، وعلم الجمال، وميتولوجيا، والأنثروبولوجيا، والعلوم المعرفية، والعلوم العصبية، واللسانيات، والتداوليات... والهدف من هذه المقاربات هو وضع أسس علمية وإبداعية للمعرفة التشكيلية والبصرية في الكتابة النقدية العالِمة.
تأسيسا على ما سبق ذكره، نخلص إلى أن الفن المعاصر بالنظر إلى أشكاله التعبيرية الراهنة، والتي رغم تنوعها وتعددها، فإنها تفتقر إلى المضمون التأويلي الموسَّع الحر الذي يرتبط بمهام الناقد الفني. وإذا ما تأملنا هذه الأشكال التعبيرية في الفن المعاصر: اللوحة بمفهومها الجديد، والتركيبات النحتية، والأحجام، والتجهيزات، والفيديو آر، وفن الأداء، والصباغة الديجيتالية...، فإننا نجد أنها غير مكتملة المضمون الجمالي، والتأويل الموسَّع الحر وحده الكفيل بملء وتدارك مسألة عدم الاكتمال، وكذلك الصعوبات التي من الممكن أن ترتبط بعملية التلقي. وعلى هذا الأساس، فقد كان هدف هذا المقال هو الوقوف عند مستويات النقد الجمالي للفن المعاصر من حيث الفهم والتفسير والتواصل. تلكم التي تستند إليها وظيفة ومهام الناقد الفني الذي لا شك أنه سيساهم بها في تذليل عوائق التلقي ورفع كل تعقيد من أجل تسهيل الفهم وتقريب الرؤية الجمالية الحرة للعمل الفني في صيغته المعاصرة والإبداعية الراهنة. لذلك فإن عمل الناقد هو عمل إبداعي بامتياز، والعمل الإبداعي أيًّا كان نمطه، لا بد وأن يتجدّد مع مرور الزمن بكل ما يحمل من أبعاد ودلالات متغيرة وليست بالثابتة. فالنقد الذي كان في الماضي ـفي فترة الثمانينيات- كان مثيرًا، ولِمَ لا؟ مدهشًا في عصره. لكن للأسف لم يعد يحظى بنفس القدر اليوم، مع زمن الرقميات والعصرنة، وخدمات الذكاء الاصطناعي على مستوى الكتابة والتأليف والإبداع الفني. أمَا كانت مشكلة: كيف ننقد عملا فنيا؟ وما هي مكونات هذا النقد؟ وحدوده...؟ مدار جدل في الماضي لم يعد يجد من يتأمله اليوم، أو حتى التفكير فيه، مع ظهور مقاربات جديدة تختلف باختلاف الحقل العلمي الذي تنتمي إليه. لعلها إذن ضريبة المجاوزة التي تُعطي في كل عام ولربما في كل شهر نموذجا جديدا من المقاربات اللاحقة التي تتجاوز السابقة!
ولكنْ، إلامَ صارت أحوال النقد على أيدي المتجاوزين من وجهاء نقاد هذا الزمان؟
وبعد، فليبارك قارئ هذا المقال عقل كل ناقدٍ جاد يتصدى لفساد الذوق الذي ساهم فيه دعاة النقد من الذين يفسدون فكرة الأثر الفني بجهلٍ وتجاهلٍ وتحاملٍ على إفساد الذوق العام!
وممّا لا مِراء فيه أن العزةَ كل العزة لأصاحب الذوق الرفيع والحس الجمالي البديع! فلهم خالص التقدير.
***
بقلم: أ. د. محمد الشاوي

النزاع الذي اندلعت نيرانه فجأة في أطراف سوريا، بعد أسابيع قليلة من انتصار الثورة الشعبية، يعيد تذكيرنا بأن خطوط الانكسار في البنية الاجتماعية العربية ما زالت فعّالة، وأن ترسيخ السِّلْم الأهليّ مشروط بتصحيح عيوب تلك البنية، لا سيما جعل «مبدأ المواطنة» مضموناً وحيداً للعلاقة بين أعضاء المجتمع السياسي، على المستوى القاعدي، وبين المجتمع والدولة، على مستوى السياسة والقانون.
التعدد الديني والعِرقي هو الوضع الطبيعي للحياة في عالم اليوم. ويجب أن نكيِّف فهمنا للسياسة على نحو يستوعب هذه الحقيقة، كي نتفادى الصراعات الداخلية. القبول المتزايد لهذه الحقيقة دليل على نضج البشرية واتساع وعيها بحقائق الكون وضروراته. التنوع قَدَرٌ لا خيار لنا فيه، هكذا خُلقنا وهكذا نصير إليه.
من المؤلم القول إن المجتمعات الغربية تجاوزتنا بمسافة طويلة في الإقرار بالتنوع قانونياً وسياسياً وعملياً، فيما لا نزال نتحرك بسرعة السلحفاة. وهو أمر أسبابه معروفة لمن تأمل في البنية الثقافية - الاجتماعية، ولم يكتفِ بالوقوف عند التبريرات اللفظية.
السؤال المثير للدهشة حقاً هو: لماذا نجح الغربيون -ولو نسبياً- في تجاوز حدود الطوائف والأعراق والثقافات؛ فما عاد أحدهم يخشى أن ينقضَّ عليه الآخر أو أن يتآمر؟ نقول هذا مع علمنا بأن تلك المجتمعات قامت على أرضية تعاقد مادِّيٍّ ومصلحيّ. في المقابل فإن مجتمعاتنا التي تتحدث كثيراً جداً عن التعاون والتكافل والتراحم ومحبة الآخر والإيثار، تبدو كأنها تعيش على الدوام في مجتمع ما قبل الدولة، حيث الجميع في حالة حرب مع الجميع، على النحو الذي صوَّره توماس هوبز.
غالبية الدول الإسلامية تعاني مما يمكن وصفها بأزمة هوية، ليس عند الأقليات فقط، بل بالقدر ذاته عند الأكثريات أيضاً. الأقليات تظن أن الأكثرية تظلمها حقها، والأكثرية تظن أن الأقلية تخونها. وثمة لدى هذا الطرف عشرات من الأدلة التي تدعم دعواه، ولدى الطرف الآخر أدلة مثلها. لكن السؤال الذي يبقى حائراً: لماذا تعاملت الأكثرية مع «أفراد» الأقلية بوصفهم جمعاً واحداً؟ ولماذا فعلت الأقلية الشيء ذاته بالنسبة إلى «أفراد» الأكثرية؟ أي بدل أن تؤاخذ المذنب، وضعت كل من يشاركه الانتماء في قالب واحد، وعاملتْهم جميعاً على أنهم مذنبون.
ثم دعنا نفكر في السؤال التالي: لماذا يناصر «أفراد» كل طرف دعاوى فريقه من دون نقد أو مساءلة؟ ولماذا لا يسمح هذا الجمع بمساءلة مواقفه ونقدها من داخل الجماعة ومن خارجها؟
إن أردتم معرفة الطريقة التي يتشكل من خلالها الفارق البنيوي بين المسلمين وغيرهم، انظروا إلى سلوك الإسرائيليين خلال الحرب المشتعلة منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023 في مقابل سلوك العرب: يخرج السياسيون والمواطنون والمحللون الإسرائيليون في الشوارع وعلى شاشات التلفزيون والصحف، يوجهون أشد النقد إلى الحكومة ورئيسها وإلى الجيش وقادته، وفي المساء يذهبون إلى بيوتهم آمنين. أما على الجانب الفلسطيني والعربي، فإن الذي يوجه نقداً ولو بسيطاً، يُتهَم بالخيانة والعمالة والتصهيُن... إلخ. بعد حرب 1973 شكَّلت إسرائيل لجنة عالية المستوى لتحديد أخطاء القيادة، وقد نُشر التحقيق وتُرجم إلى العربية باسم «التقصير». وهو يحوي نقداً شديداً للحكومة والجيش وأجهزة الأمن. فهل علمتم عن أي دولة عربية أجرت تحقيقاً مماثلاً ونشرته على الملأ؟
سوف أتفاءل إذا سمعت أن اللجنة التي شكَّلتها الحكومة السورية للتحقيق في حوادث القتل التي جرت في الشمال الغربي، تضم فعلاً فريقاً مستقلاً غير منحاز، أو على الأقل ممثلين لمختلف الأطراف، واعتمدتْ المعايير الدولية في التحقيق، ثم نشرت في وقت قريب شهادات الذين استمعت إليهم، وحددت المسؤولية عن الأفعال الشنيعة التي جرت منذ سقوط النظام السابق.
إصلاح البنية الاجتماعية المتأزمة يستدعي معالجة التأزم المزمن في الهوية عند الأكثرية والأقلية معاً. وهذا لن يحدث إذا اكتفينا بإعلانات سياسية أو حتى دستورية، بل يحتاج أيضاً إلى مبادرات سريعة عملية، تعزز الاطمئنان وترسل رسائل إلى جميع من يهمه الأمر، بأن لدى الحكومة عزماً أكيداً على احتضان الجميع والتعامل معهم على أنهم مواطنون، يحاسَبون على فعلهم وليس على انتمائهم.
***
د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

التلاميذ عندنا في التعليم الثانوي لا يعرفون من الفلسفة سور رسمها يتداولون بعض المقالات الجاهزة التي هي اشبه بالمحفوظات، حيث كل شيء جاهز لإرضاء سحر النظرة الأولى وشهوة الامتلاك؛ وكل شيء معد سلفا للانغماس في الملذات السهلة والركون الى رذيلة الكسل، هؤلاء التلاميذ فقدوا ولا شك متعة أكبر مما كانوا سيكتسبونه بقليل من الإرادة والشجاعة والاهتمام والاقبال على دراسة الفلسفة. فعندما نفتقد روح النظام، وعندما نهمش فضيلة احترام العمل، ولا نعرف قيمة الساعات الضائعة وعندما ننشغل بالمديح الزائف والإسراف في تقدير الذات رغم خيباتنا المتكررة فإننا ولا شك نحكم على الفلسفة بالموت. إنه من المؤلم حقا الحجر على تفكير التلميذ وربط الذاكرة بالتكرار وتقليص الذكاء، وتهميش الخيال الذي دائمًا ما يكون بارعًا وطموحًا. على الرغم من ان كل انسان غني جدا بما يملكه من إمكانات وقدرات وما يصنع التلميذ بليد الذهن هو ضعف الإرادة لا الفكر.
ان الصورة التي يتمظهر بها الدرس الفلسفي في مؤسساتنا التعليمية وتلك المقالات المعلبة المتداولة تعكس تجربة ساذجة وايضا قاتلة للعقل وتلك الامتحانات والاسئلة المبتذلة هي من دون شك قاتلة للتفكير الحر مادامت تشتغل على تنمية عادة الميل الى الفعل السهل انها تشل الإرادة وتقتل ملكة النقد. وكل ما هو معتاد في التعليم وسهل يبدو غير إنساني. ولكن لماذا يتم تحميل التلميذ كل إخفاقاتنا؟
المأساة عندنا تبدأ من الاستاذ الذي هو في الغالب لا يقرأ ولا يكتب ولا يفكر ولنتساءل هنا بصدق هل استاذ الفلسفة مثلا في التعليم الثانوي عندنا قرأ لأفلاطون وأدرك ما ترمي اليه محاوراته؟ هل سافر بخياله وتذوق سحر المتن الافلاطوني؟ هل عاد بذاكرته الى سقراط وأبصر تلك العلاقة الحميمية التي تربط الأستاذ بتلميذه؟ هل هو ملم بموقف ارسطو في السياسة والاخلاق؟ هل مرجعيته في ذلك كتاب السياسة لأرسطوطاليس والأخلاق الى نيقوماخوس ام تلك الملصقات والبطاقات والقوالب الجاهزة؟ هل الأستاذ عندنا يقرأ لجون لوك ودافيد هيوم وعلى دراية بكتاب مبادئ الفلسفة لديكارت او تأملات ميتافيزيقية؟ كيف لأستاذ الفلسفة عندنا ان يشرح لتلامذته مواقف الغزالي وابن رشد وكانط وهيجل...وهو لم يقرأ بعضا من نصوص هؤلاء الفلاسفة العظماء؟ إن أولئك الذين لديهم الفضول الكافي لقراءة أفلاطون، أي متابعة سقراط في منعطفاته وتعرجاته، سوف يندهشون في البداية من هذه الطرق العظيمة التي تؤدي إلى الحكمة وسيحصلون ولا شك على غذاء العقل.
نعم من المؤلم حقا ان ترى وتسمع لصنف من الاساتذة يعيشون في عالم افتراضي سجناء مقيدون يتعايشون داخل كهف لا يرون الا الضلال وافقهم المعرفي محدود واذا ما أردت ان تحرر احدهم من قيوده تجد بضاعته المعرفية مغشوشة وفاسدة وان شئت انظر الى صفحات التواصل الاجتماعي وما يدون هؤلاء من خربشات سيرتد اليك بصرك خاسئا وهو حسير من قبح وهول ما رأى لغة ركيكة ومواضيع مبتذلة سطحية ومنهج عقيم في الطرح والرد فترى الواحد من هؤلاء يهرف بما لا يعرف ينقل بدون سند ويدعي بدون دليل اقلب الصفحات واستمر في التصفح لن تجد في نهاية بحثك الا أستاذا بالاسم يرتدي قميص إمام فقي ومتفيقه يفتي لغيره بدون علم لا يقرأ ..لا يسأل ...لا يسافر بخياله ..ارادته معطلة مشحونة برغبات دونكيشوتية يصارع طواحين الهواء وفي احسن الأحوال تراه يجلس هناك بدون حركة في منزلة بين المنزليتين منزلة التلميذ الكسول الذي اسدل اذنيه واغمض عينيه فهو لا يسمع ولايرى ومنزلة نافخ الكير يحرق ثيابك ويسمم بدنك ويؤذيك في بصرك وسمعك وعقلك.
المأساة عندنا تبدأ من المفتش حيث تحول بعضهم الى ما يشبه الدركي “يأتي للتأكد من أن المعلم قد أعد درسه وعليه ان يقدم الوثائق التي تثبت ذلك. مهنة ولا شك تجعل المرء غبيا وجاهلا. هذا دون استثناء. أعلم أن العديد من المفتشين يظهرون حماسة رائعة. لكن هذا لا يمنحهم أي ذكاء. نأسف لقول ذلك، لكن يجب أن يقال أن أي درس لا يقرأ فيه التلميذ أو يكتب هو درس ضائع. يجب أن نقول لهؤلاء الثرثارين سينتهي بهم الأمر إلى جعل مهنة التعليم صعبة بالفعل ومستحيلة، علاوة على ذلك هم لا يعرفونها"
وأسوأ ما في الأمر ان يتحول المفتش عندنا الى ظاهرة من ظواهر عالم الاشياء محكوم بحتمية التكرار عاجز على ان يحرك نفسه بنفسه او يوقف حركته عاطل عن الحركة وبعض المفتشين الذي يشكلون حالة الاستثناء يجدون انفسهم في وضعية سيزيف يحملون صخرة التدرجات على اكتافهم ويسيرون بها في شعاب ومسالك الفقر ومدن الملح ويصعدون بها جبالا صخورها حادة لا قمم لها ثم تهوي بهم فيسقط الواحد منهم في مهاوي الابتذال والاجترار فمثله هؤلاء كمثل من أتاه الله علما لكن فضل الجلوس الى موائد السلطان والسمع والطاعة لولي النعمة المتفرد بالرأي المتعالي على المكان و الزمان.
ان " المفتش الذي يجلس في الفصل الدراسي كما هو الحال في المسرح يريد أن يسمع درسا جيدا، أو أحد تلك الحوارات المنظمة التي يلقي فيها تليمذان أو ثلاثة إجابات إلزامية يتم تحديد مضمونها وتوقيتها مسبقا. فعل من شأنه ان يفسد الفطرة السليمة لا ينبغي للمفتش أن يستمع أبدا إلى المعلم، ولكن يجب أن يستفسر فقط عما يعرفه التلاميذ. فإذا اضطررت إلى الحكم على فصل يتعلم فيه التلاميذ البيانو، فإنني ولا شك أود أن أسمع الى التلاميذ وليس المعلم"
المأساة عندنا تتجلى في التلميذ الذي سرقت طفولته وافسدته الأسرة وكبله المجتمع بأكذوبة التعليم السهل والنجاح المضمون واقع مضحك مبكي يتحول فيه التلميذ الى رهينة لشهوات ونزوات صناع الإخفاق ومعلمي الفشل. المعرفة الفلسفية عنده تبنى على اعتقادات ساذجة واراء ويقينيات لا مجال للتفكير فيها تبدأ وتنتهي مع بعض المقالات التي تقوم على مسلمة السرد فهي أقرب الى الحكايات الشعبية وعلى حتمية التكرار وتقديس الذاكرة تحارب كل جديد حيث يشتغل حراس المعبد على منع التجديد وغرس قصص وروايات خرافية حول الأستاذ الأسطورة وعلى التلميذ ان يؤمن بها ويصدقها دون تحليل او نقد.
تجاوز العوائق
يمكننا ان نستلهم من فلسفة اميل شارتيه ما يعيننا على إعادة بناء الدرس الفلسفي في التعليم الثانوي بوجه عام والتفكير في غرس الروح العلمية والفلسفية لدى تلميذ المرحلة الابتدائية بوجه خاص فالممارسة الفلسفية عنده تقوم على مسلمة ان الروح مثل اللوغوس تتجلى من خلال نشاطها وانه يجب دعمها من قبل الإرادة فهناك دائما علاقة وثيقة بين الإرادة الحرة وفعل التفلسف وبين إدراك الذات والعالم الخارجي والممارسة الأخلاقية فلسفة تربوية عقلانية من حيث المنهج ونقدية من حيث المضمون ورواقية من حيث الغاية .
في كتابه (اقوال في التربية) يعلمنا (الان) ان الدرس الفلسفي في جوهره تربية على التفكير النقدي الحر والأخطاء التي نقف عليها عندما نستمع الى التلميذ او نصحح له لا تعود الى نقص العقل وانما نقص في إرادة التعلم وغلبة الاهواء فجميع التلاميذ اذكياء متى أرادوا والأستاذ لا يجب النظر اليه على انه خبير في تلقين المعارف بل خبير في الانفعالات يشحذ الهمم من خلال تقدير الجهود وغرس إرادة التعلم والكتاب هو الوسيط الأساسي للحصول عليها من خلال قراءة النصوص الفلسفية المكتوبة ومن خلال الرجوع الى مؤلفين كبار ومن خلال جمل فلسفية مختصرة اكثر ثراء وعمقا فلا يمكن ان يحدث تقدم في الدرس الفلسفي بدون اعجاب واجلال دع التلاميذ يستمعون إلى الأشياء الجميلة، مثل الموسيقى وسماع بيتهوفن ، ذلك هو التأمل الأول. ... دعهم يرون رسومات دافينشي، مايكل أنجلو، رافائيل؛ دعهم يتعلمون اللغة من قبل المؤلفين العظماء، وليس غير ذلك. من خلال أضيق وأغنى وأعمق الجمل، وليس من خلال هراء دليل المقالات الجاهزة. لا يوجد تقدم لأي تلميذ في العالم، لا فيما يسمعه ولا فيما يراه، ولكن فقط فيما يفعله.
- نريد من خلال الدرس الفلسفي أن يشعر التلميذ بجهله الشديد، وبعده الشديد، ونقصه الشديد، وصغره الشديد، نريده أن يساعد نفسه على النظام الإنساني؛ أن يتعلم الاحترام، لأن الاحترام يجعلنا عظماء لا صغاراً. دعه يتصور الطموح العظيم، والعزم العظيم، من خلال التواضع العظيم. دعه يضبط نفسه ويصنع نفسه؛ فليجتهد دائماً، وليتسلق دائماً. ليتعلم الأمور السهلة بالطريقة الصعبة.
- التعلم يقتضي الشدة فهو عمل جدي يجب فصله عن التسلية واللعب والعظمة تبدأ من بناء دروس فلسفية ونظام امتحانات تغرس في التلميذ الانضباط والصرامة اما التيسير بدعوى ترغيب التلميذ وارضاء الاسرة فهي دعوة للكسل ولا أحد ينقذ نفسه من خلال كمال الاخرين بل باكتشاف اخطائه الخاصة وتصحيحها.
- الدرس الفلسفي يبنى في كل الأحوال من خلال الرجوع إلى المصدر والشرب من جوف اليد، وليس من كأس مستعار. خذ دائمًا الفكرة كما صاغها المبدع؛ ودائما ما تكون الأفضلية لما هو جميل على ما هو حقيقي؛ لأن الذوق هو الذي ينير الحكم دائمًا. الأفضل من ذلك، اختر الأقدم ...إن الجمال هو علامة الحقيقة، والوجود الأول للحقيقة في كل إنسان، فنحن نعرف الانسان في نصوص الفلاسفة وفي قصص موليير وشكسبير وبلزاك وفي اشعار المتنبي، وليس في أي ملخص لعلم النفس.
- أفضل ما في العلم هو ما هو أقدم، وأكثر رسوخًا، وأكثر دراية للجميع من خلال الممارسة. إن الخطأ ذو العواقب الجسيمة هو أن نرغب في تعليم التلاميذ من خلال تلخيص أحدث الخلافات بين علماء الفيزياء مثلا.
- إن الواجب الأول للديمقراطية هو العودة إلى المتخلفين، وهم كثيرون؛ لأن النخبة التي لا تقوم بتعليم الشعب هي أكثر ظلماً بحسب المثل الديمقراطي من الشخص الغني الذي يجمع إيجاراته وقسائمه.
- إن جميع وسائل العقل موجودة في اللغة؛ ومن لم يفكر في اللغة فإنه لم يفكر إطلاقا. وبناء على هذه الفكرة، فإننا نفهم بسهولة أن الروح لن تظهر لشخص يعرف لغة واحدة فقط.
- مستقبلنا كله يعتمد على التعليم؛ والتعليم يعتمد على الرسم. فلا شيء يجعلنا نعرف طبيعة الطفل وشخصيته أفضل من الرسم.. الطفل في اللحظة التي يرسم فيها، يصبح سيد يده... لقد لوحظ أن أفضل التلاميذ في المدرسة الابتدائية يرسمون ويحسبون جيدا.
- لقد لاحظت أنه في الثكنات انهم لا يشرح فقط بأسلوب واضح ماهية البندقية؛ ولكن كل شخص مدعو إلى تفكيك البندقية وإعادة تجميعها... هذه الفعل لاوجود له في فصولنا، ربما لأن الاستاذ معجب بنفسه اثناء التحدث؛ ربما لأن حياته المهنية كلها تعتمد على هذه الموهبة التي يبديها للتحدث بمفرده لفترة طويلة.
- يحدث أن المعلمين، وخاصة الشباب منهم، يستمتعون بالخطاب؛ والطلاب ليسوا أقل سعادة بالاستماع؛ إنها خدعة الكسل. ولكن لا أحد يتعلم من خلال الاستماع؛ إننا نتعلم من خلال القراءة...... ومن هنا أعود إلى فكرتي، وهي أننا يجب أن نساعد الطفل، ونرشده ونعيده، وأنه من خلال هذا سوف نتمكن في النهاية من إخراج فكره الخاص، وهو شيء نادر.... أن تكتب، ليس بسرعة، بل على العكس، بحذر النقاش؛ أرسم هوامش جميلة على دفتر جميل؛ نسخ الصيغ الكاملة والمتوازنة والجميلة، هذا هو العمل السعيد والمرن، الذي يصنع العش للفكرة. هناك جمباز الكتابة، الذي يظهر في الشكل والمخطط، والذي يعد علامة على الثقافة
- يجب أن تتغلغل الروح العلمية في كل مكان؛ لا أقول العلم، بل الروح العلمية؛ لأن العلم يشكل كتلة ساحقة؛ وأعماله الأخيرة، عن الضوء، والكهرباء، وحركة الجسيمات، تفترض حسابات معقدة وتجارب خارجة عن المألوف تمامًا؛ ومن الواضح تمامًا أن الأبحاث المتعلقة بالراديوم غير قادرة حتى الآن على تسليط الضوء على العقول الشابة التي ليس لديها الوقت الكافي للدراسة.
- كنت أمارس هذا الأمر مع الشباب، فأسأل على سبيل المثال: "الرواية هي مرآة نحملها على طول الطريق؛ من قال ذلك وأين؟ أو: "أبحث لي عن قول أفلاطون، أبحث لي عما يقوله أرسطو عن المرأة والحاجة إلى الطاع سيكون الأمر مجرد القفز وفتح الكتاب دون تردد ووضع إصبعك على الشيء. لا أريد أية ملاحظات أو بطاقات فهرس أو أدلة؛ لأنه من الضروري القراءة وإعادة القراءة، وأخيراً التعرف على الصفحات الشهيرة .....
- عندما أقرأ هوميروس، أكون في صحبة الشاعر، وفي صحبة يوليسيس وأخيل، وفي صحبة حشد من الذين قرأوا هذه القصائد، وفي صحبة حشد من الذين سمعوا فقط اسم الشاعر. فيهم جميعاً وفي داخلي أصنع الرنين البشري، وأسمع خطوات الإنسان.
***
علي عمرون

 

تعرف الأحلام في علم النفس، بأنها أي أفكار أو صور أو عواطف يختبرها الشخص أثناء النوم. لم يتفق علماء النفس بعد على سبب أحلامنا وماذا تعني هذه الأحلام، ولكن هناك العديد من النظريات المهمة.
نظرية فرويد للتحليل النفسي للأحلام يعتقد سيغموند فرويد أن محتويات أحلامنا مرتبطة بأرضاء الرغبات، وأن أحلامنا تمثل أفكار ودوافع ورغبات اللاوعي لدينا. علاوة على ذلك اعتقد فرويد أن الغرائز الجنسية التي يقمعها الوعي تظهر في أحلامنا. في كتاب فرويد، تفسير الأحلام، قسم فرويد الأحلام إلى مكونين:
المحتوى الواضح او الظاهر- الأفكار والمحتوى والصور الفعلية التي نشاهدها في الحلم.
المحتوى الكامن او المخفي- المعنى النفسي المخفي وراء الأحلام، قسمه فرويد وصولا الى ما وراء الحلم إلى خمسة أجزاء متميزة: الإزاحة: عندما يتم تمثيل الرغبة في شيء ما من قبل شيء ما أو شخص آخر. الإسقاط: عندما يتم دفع رغبات الحالم إلى شخص آخر في الحلم. الترميز: عندم يتم تمثيل التصرف المجازي في الحلم. التكثيف: عندما يتم ضغط الكثير من المعلومات في صورة أو فكرة واحدة، مما يجعل من الصعب فك تشفير المعنى. المراجعة الثانوية: المرحلة الأخيرة من الحلم، حيث يتم إعادة تنظيم العناصر غير المتماسكة في حلم قابل للتعبير.
بينما دحضت الأبحاث نظرية فرويد عن المحتوى الكامن الذي يتنكر خلف المحتوى الواضح او الظاهر، فإن عمل سيغموند فرويد ساهم بشكل كبير في الاهتمام بمجال تفسير الأحلام. يعتبر ما قام به فرويد في تفسير الاحلام محطة هامة في تاريخ علم النفس حيث فتح الباب امام وضع تفسير علمي للأحلام من منظور علم النفس وبذلك تجاوزت البشرية التفسيرات الغيبية والأدبية للأحلام .
نظرية كارل يونغ في الأحلام بينما كان يونغ يؤمن بالكثير مما اقترحه فرويد بما يتعلق بالأحلام، اعتقد يونغ أن الأحلام لم تكن مجرد تعبير عن الرغبات المكبوتة، ولكنها عوضت أيضا عن تلك الأجزاء من النفس التي كانت متخلفة أثناء حياة اليقظة. يعتقد يونغ أيضا أن الأحلام تكشف عن اللاوعي الجماعي واللاوعي الشخصي، وتظهر لنا النماذج الأصلية التي كانت تمثل أفكار غير واعية.
نموذج التنشيط والتوليف للحلم في عام 1977، أنشأ روبرت مكارلي وج آلان هوبسون نموذج التنشيط والتوليف، حيث اقترحوا أن الأحلام ناتجة عن العمليات الفسيولوجية للدماغ.
وفقا لنموذج التنشيط والتوليف،فأنه خلال المرحلة الأخيرة من دورة النوم المعروفة باسم نوم حركة العين السريعة (REM)، تنشط الدوائر داخل جذع الدماغ، والتي بدورها تنشط أجزاء من الجهاز الحافي تلعب دورا رئيسيا في الذاكرة والإحساس والعاطفة. ثم يحاول الدماغ إنتاج معنى من هذا النشاط الداخلي، مما يؤدي إلى الأحلام. عندما ظهر نموذج التنشيط والتوليف، قوبل بمعارضة في داخل علم النفس، وخاصة من قبل أولئك الذين درسوا تعاليم فرويد.
نظرية هول في الاحلام اقترح عالم النفس كالفن اس هول أن الهدف من تفسير الحلم هو فهم الفرد الذي يحلم، وليس مجرد فهم الحلم نفسه. ادعى هول أن تفسير الأحلام بشكل صحيح يتطلب فهم عدة عناصر وهي: الإجراءات التي يشارك فيها الحالم داخل الحلم، أي أشكال أو أشياء تظهر في الحلم، جميع التفاعلات التي تحدث بين الحالم والشخصيات داخل الحلم، إعدادات الحلم، أي انتقالات تحدث داخل الحلم، نتيجة الحلم.
نظرية دومهوف في الأحلام درس ويليام دومهوف تحت إشراف كالفن هول، وتوصل إلى استنتاج مفاده أن الأحلام هي في الواقع انعكاسات لأي أفكار أو مخاوف تحدث أثناء حياة اليقظة للفرد الذي يحلم. وفقا لنظرية دومهوف، فإن الأحلام هي نتيجة العمليات العصبية.
الموضوعات الشائعة الموجودة في الاحلام فيما يلي عشرة من أكثر الموضوعات شيوعا التي يختبرها الناس أثناء الحلم، بالإضافة إلى المعاني المحتملة لهذه الموضوعات وفقا لنظرية فرويد.
1. إجراء اختبار وكنت تشعر أنك لم تكن مستعدا له: هذا النوع من الأحلام لا يتعلق فقط بالاختبار الأكاديمي، وعادة ما يكون خاصا بالحالم. يتعلق هذا النوع من الأحلام مع الشعور بالتعرض لموقف، وقد يرمز الاختبار إلى الحكم على الشخص الحالم أو تقييمه من قبل شخص آخر.
2. أن تكون عاريا أو ترتدي ملابس غير لائقة: يتعلق هذا النوع من الأحلام بمشاعر الخجل أو الضعف.
3. المطاردة أو الهجوم: هذا النوع من الأحلام أكثر شيوعا عند الأطفال، الذين تميل أحلامهم إلى التركيز على المخاوف الجسدية بدلا من المخاوف الاجتماعية. يمكن أن يجعلهم حجمهم يشعرون في كثير من الأحيان بأنهم ضعفاء جسديا. في البالغين، يمكن أن يكون هذا النوع من الأحلام علامة على التعرض للضغط.
4. السقوط: يمكن أن يمثل السقوط شعورا بالإرهاق الشديد من وضعك الحالي وفقدان السيطرة.
5. الضياع في المرور: غالبا ما يمثل هذا الشعور بالضياع، أومحاولة الحصول على شيء ما أو العثور على طريقك وعدم التأكد من كيفية القيام بذلك.
6. فقدان سن: يمكن أن يمثل هذا شعورا بأنك (غير مسموع أو غير مرئي) في علاقة شخصية أي كما نقول في العراقي ملبوس، أو مشاعر عدوانية.
7. الكوارث الطبيعية: يمكن أن يشير هذا إلى الشعور بالإرهاق الشديد من المشاكل السابقة لدرجة أنه يبدو أنها تخرج عن نطاق السيطرة.
8. الطيران: يمكن أن يمثل هذا الرغبة في الهروب أو التحرر من الموقف.
9. الموت أو الإصابة: يمكن أن يمثل هذا شيئا في الحياة اليومية للحالم لم يعد يزدهر أو بدأ يذبل، مثل علاقة شخصية أو سمة شخصية، ولا يعني بالضرورة أفكارا حقيقية عن الموت.
10. فقدان السيطرة على السيارة: يمكن أن ينتج هذا النوع من الأحلام عن مشاعر التوتر والخوف، وعدم الشعور بالسيطرة على الحياة اليومية.
في حين أن علماء النفس لا يزالون لا يفهمون الأحلام تماما، فإن تفسيرهم يضع مفتاح في علم النفس الحديث. من تفسير فرويد لتحليل الأحلام والذي يشير إلى أن الأحلام مرتبطة باللاوعي وتمثل رغباتنا المكبوتة، إلى عمل ويليام دومهوف الذي اعتقد أن الأحلام كانت مجرد نتيجة للعمليات العصبية، أن فهم سبب حدوث الأحلام والمعاني المحتملة وراء ذلك لا تزال جزءا مهما جدا من علم النفس.
***
د احمد مغير

 

من خلال كل لغة، تفرض الثقافة منظومتها الخاصة من المعاني والمفاهيم. ولكن وراء كل لغة، توجد أيديولوجيا معينة، كما أشار جيرمي بيثام حين قال: “اللغة هي أداة الهيمنة”. وهذا لا يعني أن اللغة مجرد أداة لنقل الأفكار، بل هي التي تشكّل هذه الأفكار في الأساس.
هذا المفهوم يتجاوز مسألة الترجمة التي نتصورها ببساطة عملية نقل كلمات من لغة إلى أخرى؛ إنها في واقع الأمر عملية إعادة تشكيل للمعاني ضمن سياق ثقافي واجتماعي مختلف. وتُظهر هذه العملية كيف أن ما نعتقد أنه مجرد ترجمة، هو في الحقيقة عملية إعادة تشكيل دائمة للمعاني عبر لغات وثقافات مختلفة. وعلى الرغم من محاولات الترجمة، تبقى هذه الفجوات بين اللغات والثقافات عصية على أن تُملأ بالكامل، لأن كل لغة تشكّل رؤية خاصة للعالم، وهذه الرؤى لا تلتقي بسهولة، بل تحمل في طياتها اختلافات تجعل الفهم المتبادل أمرًا صعبًا، إن لم يكن مستحيلًا.
اللغة ليست مجرد وسيلة لتبادل الأفكار والمعلومات، بل هي الأداة التي تشكّل طريقة تفكيرنا وتوجيه رؤانا للواقع. وبذلك، فإن اللغة تشكّل نظرتنا للعالم من خلال الأطر الثقافية التي تحملها، مما يجعل كل لغة بمثابة مرآة تعكس القيم والمفاهيم التي تتبنّاها الثقافة التي تنتمي إليها. ولكن هذه الرؤى لا تقتصر على كونها نسخًا ثابتة من الحقائق، بل هي ديناميكية ومتغيرة، تتأثر بالظروف الاجتماعية والسياسية التي تعيشها المجتمعات، فتتشكّل عبرها معاني جديدة وتختفي أخرى.
ومن هنا، تصبح اللغة أحد أبرز الأدوات التي تستخدمها القوى الاجتماعية لتشكيل الوعي الجماعي، وبالتالي، لتشكيل الواقع نفسه. وعندما ننظر إلى اللغة بهذه الطريقة، يمكننا أن ندرك كيف أن الفجوات بين اللغات والثقافات ليست مجرد مشكلات تتعلق بالترجمة أو الفهم، بل هي ظاهرة ثقافية تتعمق في الأسس التي تقوم عليها المجتمعات.
وإذا كانت اللغة تشكل الواقع وتحدد حدود الفكر، فإن فكرة فيتجنشتاين الشهيرة: “حدود لغتي هي حدود عالمي” تبقى محورية في فهم هذه الديناميكيات. فهذه الحدود لا تمثل فقط قيودًا لغوية، بل هي دعوة للتفكير في مدى تأثير هذه القيود على قدرتنا على الفهم والتفاهم عبر الثقافات. فاللغة لا تقتصر على نقل الأفكار كما هي، بل هي في الواقع قيدٌ مفروضٌ على الفكر ذاته، وهي تعكس في الأساس طريقة تفكير الثقافة التي تنتج هذه اللغة.
ومن هنا، فإن تأثير اللغة على فكرنا لا يمكن تجاهله. إذا كانت اللغة هي التي تشكّل وعي الفرد، فإنها تخلق أيضًا واقعًا مفروضًا عليه.
هذه الفجوة في المعاني التي تتجاوز مجرد الاختلافات اللغوية هي جوهر الصعوبة في التواصل بين الثقافات. فالفجوات بين اللغات تعكس أيضًا الفجوات بين الأيديولوجيات والقيم التي تؤثر في مجتمعات معينة. فعندما يتم التعبير عن الأفكار بلغة معينة، تصبح تلك الأفكار محكومة بإطار مرجعي خاص، وهذا يجعل ترجمة هذه الأفكار إلى لغة أخرى عملية معقدة. إنها ليست مجرد نقل للكلمات، بل هي إعادة بناء للمعاني والتصورات التي قد تكون مشوهة أو مغلوطة عندما تُترجم، مما يؤدي إلى أن الفهم المتبادل بين ثقافات مختلفة يصبح أمرًا صعبًا للغاية.
تتفاقم هذه الديناميكيات في عصر العولمة، حيث تساهم السوق الرأسمالية في إعادة تشكيل المفاهيم والمصطلحات لتتماشى مع منطق الاستهلاك. في هذا السياق، تصبح اللغة أداة لتوحيد المفاهيم والواقع، لكنها في ذات الوقت تُستخدم لقمع التنوع الثقافي الذي يعارض الهيمنة اللغوية السائدة. كما يقول جان بودريار: “الواقع لم يعد يمثل شيئًا إلا ما يُنتج من خلال اللغة”، مما يعني أن الواقع نفسه يتم تشكيله وفقًا للغة السائدة في المجتمع الرأسمالي، التي تجعله سلعة تستهلك وتُعاد إنتاجها بما يتناسب مع منطق السوق. وفي هذه العملية، يتم تهميش الثقافات التي لا تستطيع مواكبة هذا التوحيد اللغوي، مما يعزز الهيمنة اللغوية ويضعف التنوع الثقافي.
في هذا السياق، يُظهر تأثير السوق الرأسمالية على اللغة كيف أن الأنظمة الاقتصادية الكبرى لا تقتصر فقط على السيطرة على الموارد الاقتصادية، بل تمتد إلى السيطرة على الأفكار والمفاهيم من خلال لغة السوق. حيث تُستخدم اللغة هنا كأداة لفرض هياكل قوى معينة على المجتمعات، سواء عبر الإعلام أو الإعلانات أو أدوات أخرى تُستخدم لترسيخ فهم موحد للواقع.
في هذا السياق، تصبح اللغة أداة لخلق نوع من الانصهار الثقافي، مما يؤدي إلى التقليل من قيمة التنوع الثقافي واللغوي الذي يشكل جوهر غنى الإنسان.
إذن، هل يمكن تجاوز الحدود التي تضعها اللغة؟ من المؤكد أن الإنسان لا يمكنه الهروب من “شباك اللغة”، ولكن يمكنه بالتأكيد أن يعيد تشكيل هذه اللغة، أن يلتف حول قيودها ليفتح أبوابًا جديدة للمعنى. في هذا السياق، يبدو أن الفن هو المسار الذي يمكن من خلاله تجاوز هيمنة اللغة. الفن لا يتقيد بقواعد ثابتة، بل يتلاعب بالمعنى ذاته، ويعيد تشكيله بما يتجاوز الأطر التقليدية للغة. فكما يظهر في أعمال جاك دريدا، لا يُعتبر الفن خروجًا عن اللغة، بل هو إعادة إنتاج لها بطريقة تفكك البنى الثابتة، وتفتح الفضاءات لتأويلات جديدة، لا تتقيد بقوالب مفاهيمية محددة.
الفن في هذا السياق يصبح أداة لتفكيك الهيمنة الرمزية التي تفرضها اللغة، ويمنحنا فرصة لإعادة التفكير في معاني العالم وفقًا لآفاق أوسع وأكثر تحررًا.
عندما نستخدم الفن للتعامل مع اللغة، ننتقل من مجرد كوننا مستهلكين للمعاني الثقافية إلى أن نصبح مبدعين ومبتكرين في إعادة تشكيل هذه المعاني. الفن يخلق مساحة للحرية والإبداع حيث لا تكون اللغة أداة للتسلط أو الهيمنة، بل وسيلة لفهم العالم بشكل غير تقليدي.
في هذا الإطار، يصبح الفن ليس فقط وسيلة لتجاوز القيود التي تفرضها اللغة، بل أيضًا وسيلة لرؤية العالم بشكل جديد، يفكك التفسيرات السائدة ويخلق إمكانيات جديدة للفهم.
اللغة، إذا، ليست محايدة أو شفافة كما قد يعتقد البعض، بل هي تحمل في جوهرها هيمنة ثقافية تتخلل كل مفردة، وتفرض حدودًا على الفكر. ورغم ذلك، تبقى هناك ثغرات يمكن من خلالها فتح مساحات جديدة من المعنى، وهذا ما يجب أن نبحث عنه: الفجوات الصغيرة التي يمكن أن ينفلت منها المعنى، والتي قد تمنحنا القدرة على تجاوز الهيمنة الرمزية التي تفرضها اللغة على أفكارنا. ومع هذه الثغرات، قد نتمكن من إعادة بناء الواقع بشكل يتجاوز التفسيرات المحدودة التي تفرضها اللغة على فهمنا للعالم.
***
إبراهيم برسي – باحث سوداني

كل مفكّر وفيلسوف على مرّ التاريخ، خصوصاً أكثرهم تأثيراً على الثقافة العامة من جهة، وعلى تطور الفكر والعلم من الجهة الأخرى، كانوا جميعاً يحملون الكثير من التناقضات في فلسفاتهم، ويبدو للقارئ للوهلة الأولى، وكأن على الإنسان أن لا يتناقض مع نفسه، وخاصةً إذا كان فيلسوفاً!
في هذه المقالة، نأمل أن نصل إلى شيءٍ من المنطق والمعقولية وراء تناقضات المفكرين والفلاسفة في كل العصور، ونسعى إلى تسليط الضوء على الأسباب التي تجعل الكثير من القراء يتسرعون في الحكم على ما يتعرضون له من طرح الفلاسفة، وكيف علينا أن نفتح المجال لتأويلات سياقية وأكثر موضوعية.
أولاً، يُلاحظ أن الإنسان يرى ما يركّز عليه، أي أننا إذا أردنا أن نبحث عن التناقضات، ليس فقط بين صفحات المفكرين، بل أيضاً في كل السرديات القديمة وأمهات الكتب، قد نجد الكثير من التناقضات، والأقوال التي تبدو ظاهريًا وكأنها تناقض العقل، ولكن مع التأمل الصافي، ودراسة السياق الذي بعثت الفلسفة للحياة، يعي الإنسان الشروط الطبيعية التي من خلالها سُردت هذا الكتب بهذه الطريقة أو تلك، سواءً كنا نتفق معها أم لا نتفق.
ثانياً، أيّ كاتبٍ هو إنسانٌ في نهاية المطاف، ومن الطبيعي مع النضوج ومرور السنين والعقود، أن يتجاوز آراء قد تبنّاها في شبابه، ثم في آخر حياته يوصّل إلى أنها كانت خاطئة، أو على الأقل لا تستريح نفسه لها كنتائج لتفسير ظاهرةٍ ما. وهذا لا يعني أن الحكم "الموضوعي" يقرّ بوجود تناقض، بل الأصح من حيث الفهم هو إدراك أن الإنسانية من حيث هي تعيش تراكمًا وتكاملًا معرفيًا؛ والفلاسفة من حيث هم يعرضون أعمالهم عبر كتب ومقالات، يكونون أكثر عرضةً للتناقض من غيرهم، أو لإعادة الكتابة حول بعض ما سبق أن طرحوه؛ وهنا قد يظهر بعض الخلاف، لا التناقض بالضرورة، بين ما توصّلوا إليه لاحقاً وما كتبوه في بداية مسيرتهم.
أيضاً، إضافة على هذه النقطة، فإن كثيرًا مما يبدو تناقضًا، قد يكون توسعةً لما اختزله المفكر من قبل. على سبيل المثال، قد يكتب كاتبٌ كتابًا حول: أسباب سقوط الحضارة الرومانية، ويعرض فيه ثلاثة أسباب رئيسية. مع مرور الوقت، يُدرك الكاتب، أن كلامه كان صحيحاً جزئيًا فقط، أي أنه أختزل الحقيقة من حيث هي أوسع من هذه الثلاث الأسباب التي لا تمثل تفسيراً متكاملاً لهذه القضية الكبرى. وقد يعتقد البعض أن الكتاب الآخر (إذا كُتب) يناقض الكتاب الأول، لكنه في الواقع يمثل تطورًا وتوسيعًا للبحث، وعبر هذا التوسيع قد يحصل التناقض بين فكرة قديمة وأخرى حديثة.
وهكذا نفهم أن الاستنتاج بوجود تناقض من عدمه، قد يكون صحيحاً، وغالباً لا يكون كذلك. فمهمة القارىء أن يتأكد من فهم النص أولاً، ثم يُصدر حكمًا موضوعيًا ثانياً. وهذا ليس بالأمر الصعب على من تعوّد على فنّ القراءة النقدية.
ثالثاً، كما ذكرنا آنفًا، فإن الإنسان من حيث هو كائنٌ متناقض، قد يتناقض مع نفسه في اليوم والليلة! وهذا يحصل كثيراً عندما نُركّز على تقلبات الأحداث والتجارب وعلى أثرها في تراكم معارفنا ومعتقداتنا ونظرتنا للأمور.
وهنا علينا أن ندرك أمراً مهماً يغفل عنه الكثير من القراء، وحتى الباحثين أحيانًا، وهو أن التناقض لا يعني أن يتناقض الكاتب مرة أو مرتين أو ثلاثًا في كتابٍ ما. فإذا كانت نسبة التناغم والانسجام في نسق تفكير الكاتب تصل إلى ٧٥٪؜ فما فوق، فلا يصح اعتباره كاتبًا متناقضًا، حتى وإن وجُدت بعض التناقضات في نفس الكتاب (إن افترضنا وجودها أصلًا).
أيضاً، من المهم أن نتذكّر أن التناقض يُقاس بمن خلال الأفكار الرئيسية التي تُمثل جوهر فلسفة الكاتب ونسقه الفكري، لا من خلال الأفكار الثانوية التي قد لا تكون ذات أهمية من حيث الدقة، أو التي لم يمنحها الكاتب ما يكفي من التأمل. فمثل هذا يعدّ أقرب إلى التعجّل العلمي منه إلى التناقض الحقيقي.
تمامًا لما سلف، أعتقد أنه لا مناص من التناقض من حيث إن المعرفة تراكم وتقييم وحذف. ولا يمكن بأيّ شكلٍ من الأشكال أن نجد فيلسوفاً، أو مفكراً، أو عالماً، أو أديباً وشاعراً، لم يتناقض مع طرحه، ولو على مستوى بسيط.
وهذا لا يُعدّ عيبًا في الكاتب، بل على العكس، يدل ذلك على أنه كثير القراءة والتفكير، ولذلك تظهر عنده التناقضات. كما أن في ذلك إشارة على تقدّمه على المستوى المفاهيمي والفلسفي. وأنه لم يتوقف عند فهمه الأول للقضايا التي يعالجها.
ويمكننا القول إن من لا يتناقض مع نفسه أبداً، لم يُفكّر أبداً. والمعرفة في جوهرها، سلسلة لا تنتهي من التصحيح والتكامل؛ وهذا ما يجعل من البنيان المعرفي جسداً واحداً، أشبه بلوحة عريضة يمكن لكلًّ منا أن يُساهم فيها أو يُعدّل عليها، بعلمٍ وموضوعية ومحبة!
***
خالد اليماني

مقدمة: ان عدم المساواة الاقتصادية ظاهرة عالمية لها عواقب كبيرة على التنمية الاجتماعية. ويمكن أن تؤدي الاختلافات في الدخل والثروة إلى اضطرابات اجتماعية وانخفاض النمو الاقتصادي وإضعاف الثقة في المؤسسات. ستستكشف هذه المقالة كيف يؤثر عدم المساواة الاقتصادية على جوانب مختلفة من المجتمع ، من الحراك الاجتماعي إلى الاستقرار السياسي ومن حيث:
1. النمو الاقتصادي والإنتاجية:
يمكن أن تكون درجة معينة من عدم المساواة قوة دافعة للابتكار والعمل الجاد. ولكن حينما يصبح عدم المساواة كبيرا للغاية، يمكن أن يعيق النمو الاقتصادي من خلال الحد من الوصول إلى التعليم والخدمات الصحية للفئات ذات الدخل المنخفض. هذا يقلل من إمكانات القوى العاملة ويمكن أن يخلق نظاما اقتصاديا غير فعال حيث لا يتم تخصيص الموارد على النحو الأمثل.
2. الحراك الاجتماعي والتعليم:
غالبا ما يقلل التفاوت الاقتصادي المرتفع من الحراك الاجتماعي، أي فرصة الأفراد لتحسين وضعهم المالي. التعليم هو وسيلة مهمة للخروج من الفقر، ولكن إذا كانت الموارد مثل التعليم الجيد والشبكات متاحة بشكل أساسي للأثرياء، فإن عدم المساواة يترسخ على مر الأجيال ويمكن أن يخلق دائما انقساما طبقيا اقتصاديا.
3. الصحة والظروف المعيشية:
هناك علاقة قوية بين عدم المساواة الاقتصادية وعدم المساواة الصحية. غالبا ما يكون لدى الفئات ذات الدخل المنخفض فرص أقل للحصول على الرعاية الصحية والغذاء الصحي، مما يؤدي إلى تقليص متوسط العمر المتوقع وزيادة عبء الأمراض. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى زيادة العبء على الخدمات الصحة العامة وزيادة التكاليف التي يتحملها المجتمع.
4. الاستقرار السياسي والثقة:
يمكن لعدم المساواة الشديدة أن يقوض الديمقراطية من خلال منح الأغنياء قدرا غير متناسب من النفوذ السياسي. ويمكن أن يؤدي هذا إلى قرارات تصب في صالح الأثرياء بالفعل، مما يزيد من تفاقم عدم المساواة. كما يمكن أن يؤدي انخفاض الثقة في السلطات والمؤسسات إلى اضطرابات اجتماعية ومظاهرات وفي الحالات القصوى إلى التطرف السياسي.
5. الجريمة والاضطرابات الاجتماعية:
تشير الدراسات الاجتماعية - الاقتصادية إلى أن المجتمعات ذات التفاوت الاقتصادي المرتفع لديها معدلات جريمة أعلى. وبالأخص عندما تعاني أجزاء كبيرة من السكان من نقص في الفرص الاقتصادية، إذ يمكن أن يخلق ذلك أرضا خصبة للجريمة كمصدر بديل للدخل. وهذا يؤدي إلى ارتفاع التكاليف المتعلقة بالشرطة والقضاء والسجون.
6. الحلول والتدابير:
وللحد من الآثار السلبية لعدم المساواة الاقتصادية، يمكن للحكومات أن تضع تدابير مثل الضرائب التصاعدية، وتحسين فرص الحصول على التعليم والرعاية الصحية، فضلا عن السياسات التي تعزز النمو الاقتصادي الشامل. كما يمكن أن يساعد تعزيز سوق العمل ونمو الأجور للفئات ذات الدخل المنخفض في الحد من التفاوتات الطبقية.
استنتاج
ونستنتج مما ورد أعلاه من أن عدم المساواة الاقتصادية هي تحد معقد يؤثر على جميع جوانب التنمية الاجتماعية. في حين أن بعض عدم المساواة يمكن أن يكون إيجابيا للنمو الاقتصادي، إلا أن الاختلافات الكبيرة جدا يمكن أن تضعف الحراك الاجتماعي والصحة والاستقرار السياسي والثقة المتبادلة بين الطبقات الاجتماعية. ولإيجاد مجتمع أكثر عدلا واستدامة، يجب اتخاذ تدابير للحد من الآثار الضارة لعدم المساواة مع الحفاظ على حوافز التنمية الاقتصادية.
***
د. سناء عبد القادر مصطفى

"الجمال يولد بأشكال عديدة، فقط غيّر زاويتك وستراه في كل مكان" (س. فرويد)
الجمال مفتتح كل بداية، ومفتتح الوجود جمال.

1 ـ بعيداً عن التعقيد..
بعيدا عن الفلسفة وشطحاتها، وأسئلتها المقلقة حول الوجود والموجودات، وهي تزيد الجمال تعقيدا حين تحاول تفسيره تفاسير تُرضي الآلهة، وتُسكنه كتب وحكايات الملاحم والبطولات، بعيدا عن الشعر وهذيانه حين يتغنى بالجمال كلمات وصورا تُخندقه ولعا وشوقا وحرقات ودموعا ولهفة، تموت خنقا داخل الدواوين وعلى الأوراق.
بعيدا عن تلاوين الرسامين وشخبطات ريشاتهم المسافرة في اللون، وهي تُحيل الجمال خطوطا وخربشات تزيده تعقيدا حين تصبغه بأسماء المدارس، تكعيبا وتجريدا وواقعا، تعتمد اللون وضرب اللوحة، ثوبا أو حريرا، قاموسا وفنّاً.
بعيدا عن سرحان المريدين والعابدين والحالمين الباحثين عن الجمال في حلقات الذكر والتمسُّح بالأعتاب والتبرك باللحود والكرامات، بعيدا عن كراسي المدارس والمعاهد التي تُقزّم الجمال في جُمل وكلمات جوفاء تزرعها في قلوب المتعلمين كلاما وتمارين وأنشطة، بعيدا عن مراتع القُبح الذي غطى أبسط تفاصيل حياتنا، حتى أنمحى الجمال منا وفينا ومن بيننا، وأصبح غريبا، عملة نادرة، بل مفقودة، فلا نجده إلا مخبوءاً تحت مُسمّيات العيْب والحياء.
بعيدا عن النظرة القاصرة للجمال التي تراه في حوَر عينٍ أو زُرقتها، أو أهداب ناعسة، أو قدّ ميّاس أو نهدٍ كاعبٍ نافرٍ يثير الشَّهوة، بعيدا عن التعقيد والتّصنّع، والرياء والتظاهر والتفاخر الكاذب، فتلك نظرة كسيحة للجمال، بائسة وجيعة تبخس سر الجمال، وقيمة الجمال، لأن الجمال في حقيقته المثلى، قيمة تسمو بالإنسان والوجود.
2 ـ قريبا من الجمال..
نظرة إلينا، إلى محيطنا، إلى واقعنا، إلى ما نحن فيه من دُنُوٍّ من القُبح، تحكي بما لا يدع مجالا للريبة والشك، أن الجمال عندنا ـ للأسف ـ تقليدٌ أعمى، تظاهرٌ كاذب، امرأة بمواصفات دنيئة، وما سوى ذلك، عادي، لا جمال فيه، تلك نظرة فيها حوَل، عوَر، فيها عمش، نظرة بائسة لا تسبر غور الأشياء، ولا تنفذ عمقها لتستخرج لبها.
الجمال في حقيقته أكبر من ذلك وأسمى، ليس تعاريف تُعطى مزخرفة بالمُحسّن من الكلام، ولا مصطلحات أدبية أو شعرية تُقال مُنمّقة بأجمل الصور الشعرية، فالجمال أنبل من أن يُخنق أو يُخنْدق في خانة ضيقة تُحاصر سره وحقيقته وجوهره، إذ ليس من الجمال في شيء، أن ترى القبح يتقمّص كل الصور ويلبس كل الأقنعة وتمر عليه هازئا صامتا، كأن الأمر لا يعْنيك؛ ليس من الجمال في شيء، أن تبتسم لي وقلبك عامر بالحقد والحسد والغدر والمكر، وتقول : الزمان للأقوى؛ ليس من الجمال في شيء، أن تحفر الحفر وتتفنن في توسيعها ليسقط فيها آخرون؛ ليس من الجمال في شيء، أن ترفض الاختلاف، فَمَنْ معك معك، ومن ليس معك فهو ضدك، عدوّك، تحاربه ولا تناقشه.
الجمال منّا على مرمى كلمة صادقة، أو فعل إيجابي يدفع ويبني، أو إشارة لطيفة تحيي موات القلوب وتحيي الحب من جديد، أو ابتسامة ترمّمُ الجراح، أوحين نُفرغ حياتنا من تعقيداتها القاتلة، وروتينها الممجوج والمَكْرور والمتآكل والصدئ، ونفسح للجمال أن يمتد فينا، وأن يطمس القبح الذي تحكّم فينا وتجذّر، وأصبح قاعدة، والجمال استثناء، شُبهة تجر القيل والقال وكثرة السؤال، ونظرات الريبة، حينها فقط، يمكن للجمال ان يشع نورا يضيئ ما أُعتم من حياتنا.
الجمال فينا متأصل وأصل، وهو بداية الخلق: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"(سورة التين الآية 4) التقويم هنا الحسن والجمال، "ولقد كرمنا بني آدم.." (سورة الإسراء الآية 70) من التكريم الحسن والجمال أيضا، وغير هذه الآيات كثير.
الجمال فينا متأصل وأصل، ينتظر أن نجلو عنه وعن ذواتنا ثقل القبح القابع فينا، أسود يتربص منا جميل الفعل والكلام والإشارة.
الجمال روح تسري فينا في انتظار أن نُقيم صرحها، أن نُحيي نبضها، أن نُنفّس كربها، وأن نُجلي بريقها لتلون الوجود بالنور والحياة، الجمال صمتٌ حين يموت الكلام، وكلامٌ حين يصبح الصمت أثقل من سؤال بليد، الجمال إرهاف السمع للوجود حين يتنفس صُبحا، الجمال هدأة ليل العاشقين والحالمين والباحثين عن رشفة عطر مُنفلتة من عقال زهرة نادرة، الجمال ابتسامة رضيع لا يعرف من دنياه غير ثديٍ معطاء، حبا وحنانا ودفئا، الجمال أن نُحلّق في الرحاب درجات نحو السمو بالنفس والعقل والروح، الجمال كتاب تسبح في فضاءاته، وأنت تتماهى مع شخوص لا تربطك بهم صلة ولا قرابة،
الجمال وقفةٌ عاشقة أمام آية من آيات الخلق الإلهي، تسري فينا فاتحةً مغاليق الإيمان، توقظ السؤال الثاوي في الكمال العلوي.
يسير الجمال بيننا ونحن في غفلة عنه، ننآى عنه وهو منا قريب، على مرمى نظر، ثاوي فينا، شُعلة تُغالب الانطفاء ونحن نجهد لإطفاء جذوتها، أو محاصرتها في خنادق ضيقة حين انتخبنا القبح حارسا يُصبغ داخلنا بالسواد ليحجب عنا النور، فلا ترى الجمال إلا والقبح له رفيق، كظله، ونحن أولاء من نضع الفواصل والنقط، ونغير زوايا رؤانا، ونحن أولاء من يضع للجمال ميزانا وللقبح موازين، رغم أن الجمال فينا أصل، والقبح نحن من يصنعه.
***
ذ. عبد الهادي عبد المطلب - المغرب

 

يهدف المشروع الحداثوي عند أبي حامد الغزالي إلى إعادة صياغة الشخصية الإنسانية الإسلامية كونها العامل الأساسي في البناء الحضاري، ولذلك أعطى اهتمامًا كبيرًا لتربية الإنسان وتزكية أخلاقه، والاعتناء ببناء المؤسسة الاجتماعية بوصفها الفضاء العقائدي والأخلاقي والمعرفي الذي يحيا به الإنسان والذي يحقق فيه رقيَّه الروحي والأخلاقي الذي يرفعه إلى مقام (الإحسان) والذي ينقسم على قسمين:
1- الإحسان الإنساني
2- الإحسان الحضاري
إن الأساس الذي يقوم عليه الإحسان بجانبيه الإنساني والحضاري، هو الوعي بطبيعة العلاقة بين الشريعة والعقل لما في ذلك من أهمية تكمن في استيعاب الشريعة استيعابًا عميقًا، وضبط العقل بروح الشريعة ونصها أدبًا وعلمًا.
تشير الورقة إلى المسارات الأساسية في مشروع الغزالي الفكري عبر ثلاثة محاور كالآتي:
1- مسار العبادة ومنظومة مفاهيمه الإيمانية، يركّز هذا المسار على وحدة العلم والإيمان من خلال التركيز على إدراك أسرار العبادات، وأنموذج رسالته (الحكمة في مخلوقات الله عزّ وجل):
(يا أخي وفقك الله توفيق العارفين، وجمع لك خير الدنيا والدين، إنه لما كان الطريق إلى معرفة الله سبحانه والتعظيم له في مخلوقاته والتفكير في عجائب مصنوعاته، وفهم الحكمة في أنواع مبتدعاته، وكان ذلك هو السبب لرسوخ اليقين، وفيه تقارب درجات المتقين، وضعت هذا الكتاب منبهًا لعقول أرباب الألباب بتعريف وجوه من الحكم والنعم التي يشير إليها معظم آي الكتاب. فإن الله تعالى خلق العقول وكمّل هداها بالوحي وأمر أربابها بالنظر في مخلوقاته والتفكر والاعتبار مما أودعه من العجائب في مصنوعاته، لقوله سبحانه: (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) [يونس:101] وقوله: (وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون) [الأنبياء:30] إلى غير ذلك من الآيات البيّنات والدلالات الواضحات التي يفهمها متدبرها، والمترقي في اختلاف معانيها يعظّم المعرفة بالله سبحانه التي هي سبب السعادة، والفوز بما وعد به عباده من الحسنى وزيادة).
وكذلك رسالته (معراج السالكين):
(إخواني نصحت لكم فهل تحبون الناصحين وتحريت رشدكم فهل عليّ إلا البلاغ المبين وما تغني النصيحة. وقد عمّ الداء ومرض الأطباء واستشفى بغير الشفاء واعتيض من البصر بالعمى وخبثت القلوب ورين عليها وعطلت البصائر ونبّ التقصير إليها. واتخذت آيات الله هزوا ولعبا. وصيرت أغراض الآجلة إلى العاجلة سببَا فلا موقظ من غفلة، ولا زاجر عن زلة:


مرضى عن الخيرات في بحر الردى
غرقى فلا داع لنهج أقوام
*
شغفوا بكل رذيلة مذمومة
صرفت وجوههم لوجه الدرهم
*
ناموا عن المقصود لم يستيقظوا
ستكون يقظتهم لخطب أعظم

فنعوذ بالله أن نكون ممن رغب عن طريق هو لها سالك، وقال هلك الناس وهو في جملتهم هالك.
اعلم أيها الأخ أنّ الباعث على إسعافك في مطلوبك غرضان مهمان، ولما اقتصرت في طلبك على موافقتهما ودارت رغبتك على تحصيل حقيقة مقصودهما، واقتصرت همتك من بين العلوم على العلوم الإلهية وزعمت أنّ مقصودك طلب الخلاص من شر الاعتقادات الفاسدة، والهرب من الآراء المجانية للحق المعاندة، رأيت تقديم التنبيه على الغرضين المذكورين لنستوجب العذر فيما انتدبنا إليه، وليكون ذلك المهم الأكبر الذي نبهنا عليه.
الغرض الأول: أيها الأخ ما شاهدناه من فساد الزمان وأخذه في الازدياد وكثرة الآراء وفساد الاعتقاد، وعدم ذاب يبذل فيها الاجتهاد، ويمرها على كف الانتقاد، ولو سياسة الملوك لعمت الخافقين ظلمها، ولرسخ في كل الأقطار قدمها ليقضي الله أمرًا كان مفعولا. ويبقى رسمًا كان إبقاؤه عليه وعدًا مسئولًا، ولكن تعاقب الزمان وطروا الحوادث وكثرة الصوارف وفتور الهمم داعية إلى الفساد، والداء يزداد كل يوم أغذية السوء كالذنوب فرأيت إبراز هذه النبذ لتكون مغنية للسائلين ومعينة للسالكين ومنفعة باقية في الآخرين.
والأهم من هذا الغرض التنبيه على غوائل الآراء البشعة التي استهوت عقول أكثر الناس وهم في ازدياد من هذا الفن، وهو سبب فتور الشرائع وهو عند الأنبياء على مر الأيام والنفوس مولعة بكل غريب لم تألفه وغامض لم تعهده فلا يسلم الغمز الجاهل من الوقوع فيه والقطن المتباطئ عن الاغترار بما يظهر من مبادئه.
الغرض الثاني: إن الحق لا يعرف قدره وحده ما لم يعرف نقيضه وضده، فبضدها تتميز الأشياء ومقصدها التنبيه على الطريق الأسلم، والصراط الأقوم، ولابد من ذكر الطريق المنحطة عنه لينصف في ذلك الناظر في هذا الكتاب فيعلم أنّا لم ننتدب لضئيل ولا أضربنا عن سيرة الأوائل في سكوتهم إلا لخطب جليل، ولنضيف ذلك إلى الغرض الثاني فيتضح لديه العذر وليعرف مقدار النعمة فيطلبها بالشكر).
2. مسار السيادة ومنظومة مفاهيمه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، يركّز هذا المسار على البعد الاقتصادي وأثره في البناء الإنساني والحضاري وكذلك على البعد الاجتماعي ومكوناته المؤسسية والقيمية، وموقع الإنسان فيه، وكذلك معالجة الجانب السياسي من حيث قدرته على تحقيق العدل، وأنموذج رسالته الموسومة بـ (سر العالمين وكشف ما في الدارين):
(فما رأيت أهل الزمان هممهم قاصرة على نيل المقاصد الباطنة والظاهرة، وسألني جماعة من ملوك الأرض أن أضع لهم كتابًا معدوم المثل لنيل مقاصدهم واقتناص الممالك وما يعينهم على ذلك، استخرت الله فوضعت لهم كتابًا، وسميته بكتاب (سر العالمين وكشف ما في الدارين) وبوبته أبوابًا، ومقالاتٍ وأحزابًا، وذكرت فيه مراتب صوابًا، وجعلته دالًّا على طلب المملكة وحثًّا عليها، وواضعًا لتحصيلها أساسًا جامعًا لمعانيها، وذكرت كيفية ترتيبها وتدبيرها، فهو يصلح للعالم الزاهد، وشريك شرك المالك بتطييب قلوب الجند وجذبهم إليه بالمواعظ، فأول من استحسنه وقرأه عليّ بالمدرسة النظامية سرًّا من الناس في النوبة الثانية بعد رجوعي من السفر، رجل من أرض المغرب يقال له محمد بن تومرت من أهل سليمة، وتوسمت منه الملك. وهو كتاب عزيز لا يجوز بذله، لأن تحته أسرارًا تفتقر إلى الكشف، إذ أنّ طباع العالم نافرة عنها، وتحته علوم عزيزة وإشارات كثيرة دالة على غوامض أسرار لا يعرفها إلا فحول الحكماء، فوفقك الله للعمل به فإنه دال على كل ما تريد من الله تعالى).
3. مسار السعادة ومنظومة مفاهيمه النفسية وبيان موقع الحب في تحقيق السعادة الإنسانية، وكذلك بيان أفعال النجاة التي تأخذ بالإنسان إلى سعادة الدارين وأفعال المهلكات التي تحرمه سعادة الدارين، وأنموذج كتاب (آداب النكاح) و (كسر الشهوتين).
(أما بعد: فإن النكاح معين على الدين، ومهين للشياطين، وحصن دون عدو الله حصين، وسبب للتكثير الذي به مباهاة سيد المرسلين لسائر النبيين، فما أحراه بأن تتحرى أسبابه، وتحفظ سننه وآدابه، وتشرح مقاصده وآرابه، وتفصّل فصوله وأبوابه، والقدر المهم من أحكامه ينكشف في ثلاثة أبواب:
الباب الأول: في الترغيب فيه وعنه.
الباب الثاني: في الآداب المرعية في العقد والعاقدين.
الباب الثالث: في آداب المعاشرة بعد العقد إلى الفراق.
: كذلك قوله في (كسر الشهوتين)
(أما بعد: فأعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن، فبها إخراج آدم عليه السلام وحواء من دار القرار، إلى دار الذل والافتقار إذ نُهيا عن الشجرة، فغلبتهما شهوتهما حتى أكلا منها فبدت لهما سوآتهما، والبطن على التحقيق ينبوع الشهوات، ومنبت الأدواء والآفات إذ يتبعها شهوة الفرج، وشدة الشبق إلى المنكوحات، ثم تتبع شهوة الطعام والنكاح شدة الرغبة في الجاه والمال، اللذين هما وسيلة إلى التوسع في المنكوحات والمطعومات، ثم يتبع استكثار المال والجاه أنواع الرعونات، وضروب المنافسات والمحاسدات. ثم يتولد بينهما آفة الرياء، وغائلة التفاخر والتكاثر والكبرياء، ثم العقبى يتداعى ذلك إلى الحقد والحسد، والعداوة والبغضاء. ثم يفضي ذلك بصاحبه إلى اقتحام البغي والمنكر والفحشاء، وكل ذلك ثمرة إهمال المعدة، وما يتولد منها من بطر الشبع والامتلاء. ولو ذلل العبد نفسه بالجوع، وضيق مجاري الشيطان، لأذعنت لطاعة الله عز وجل، ولم تسلك سبيل البطر والطغيان، ولم تسلك سبيل البطر والطغيان، ولم ينجر به ذلك الى الانهماك في الدنيا، وإيثار العاجلة على، ولم يتكالب كل هذا التكالب على الدنيا.
وإذا عظمت آفة شهوة البطن إلى هذا الحد، وجب شرح غوائلها وآفاتها، تحذيرًا منها ووجب إيضاح طريق المجاهدة لها، والتنبيه على فضلها، ترغيبًا فيها. وكذلك شرح شهوة الفرج، فإنها تابعة لها، ونحن نوضح ذلك بعون الله تعالى في فصول يجمعها بيان فضيلة الجوع، ثم فوائده، ثم طريق الرياضة في كسر شهوة البطن، بالتقليل من الطعام والتأخير، ثم بيان اختلاف حكم الجوع وفضيلته، باختلاف أحوال الناس، ثم بيان الرياضة في ترك الشهوة، ثم القول في شهوة الفرج، ثم بيان ما على المريد في ترك التزويج وفعله، ثم بيان فضيلة من يخالف شهوة البطن والفرج والعين).
يقوم منهجنا في هذه المشروع الفكري على تأصيل مفهوم الحداثة عند الغزالي، والتأصيل هنا هو دراسة مفاهيمه ومنهجه الذي جعله أحد أكبر رواد الحداثة والتجديد في عصره
إن إعادة تثمير فكر الغزالي، ومواصلة مشروعه الحضاري الحداثوي / التجديدي من شأنه الإسهام في دفع المسيرة الحضارية للأمة الإسلامية بخطى أسرع في إطار المكانة المهمة للفكر في التهيئة للنهضة، والعمل على تسريع خطى التجاوز التاريخي لسكون المرحلة.
وإعادة تثمير هذا الفكر الحداثوي يبدأ بإعادة صياغة جهازه المفاهيمي وبيان كيفية تشغيله في الواقع لتفعيل التجاوز، وذلك من خلال قراءة معاصرة تعيد فهم مفاهيم الغزالي الإيمانية والإجتماعية والنفسية والصوفية وربطها بالواقع المعاصر وحاجاته لتصحيح انحرافاته العقائدية والتشريعية والأخلاقية.
إن الحداثة عند الغزالي لا تقطع التواصل مع المرجعيات المعرفية الإسلامية، ولا تعيد تكرارها، بل تعيد إنتاجها في ضوء حاجات العصر كما فعل مع أبي طالب المكي في كتابه (قوت القلوب) الذي أعاد تصنيفه وقراءته برؤية منهجية ناضجة جدًّا جعله أقرب إلى الواقع وحاجاته مما سيوفر للحداثة أهم اشتراطاتها الموضوعية التي يتآزر فيها الارتباط بالجذور الحية والمتوهجة في فكر الأمة، مع الاشتغال الحميم في صميم الراهن المعاصر ومعايشة إشكالياته الجمة من أجل إنهاء الوجع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، والارتقاء بالإنسان في ظل حُبّـيْـنِ مهمين حبّ الله وحبّ الإنسان..
***
د. جاسم الفارس

ظلت منطقة الشرق الأوسط لفترة طويلة، المنطقة التي تشهد أعلى مستوى من التفاوت الاجتماعي والاقتصادي في العالم. ففي عام 2016، بلغت حصة أغنى 10% من السكان في الدخل الوطني 61% (وبالنسبة للدول الأوروبية بلغ هذا الرقم 37%). إن هناك تفاوتًا كبيرًا ليس فقط داخل البلدان في المنطقة، بل أيضًا في داخل البلدان نفسها. على سبيل المثال، يبلغ الفارق في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بين قطر الغنية واليمن الفقيرة نحو 55 مرة. هناك تفاوت كبير بين المدن الكبرى والمناطق الساحلية والمناطق الريفية والمدن الصغيرة والمناطق البعيدة عن الاتصالات البحرية. إن التوسع الحضري المتسارع من شأنه أن يساهم في تعزيز التفاوت الاجتماعي القائم: سوف تنتقل النخب إلى المناطق الحضرية المغلقة، وسوف يبدأ الفلاحون السابقون واللاجئون في تشكيل أحياء فقيرة بشكل عفوي على مشارف المدن، حيث لا تتوفر لديهم إمكانية الوصول إلى البنية الأساسية الحضرية ولا يتمتعون بالوضع القانوني لسكان المدينة.
إن الفجوة بين النخب وأغلبية السكان تتسع بسبب الافتقار إلى الحراك الاجتماعي الفعال وذلك بسبب انتشار الفساد الحكومي في البلدان والافتقار إلى القدرة على الوصول إلى التعليم الجيد والرعاية الصحية، وفي كثير من الأحيان إلى وسائل النقل والاتصالات. إن وسائل الاتصال ووسائل النقل العام في المنطقة ضعيفة التطور للغاية، والتي تقتصر عادة على الحافلات والحافلات الصغيرة (شبكة السكك الحديدية متطورة بشكل سيئ، ونقل الركاب غير موجود عمليًا).
ومن مظاهر التفاوت الاقتصادي في الشرق الأوسط ارتفاع معدلات البطالة، التي تصل إلى نحو 10%. ومن بين السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً، يصل هذا الرقم إلى 26 في المئة. وفي بعض البلدان فإن الوضع أسوأ من ذلك: في مصر - حوالي 30 في المئة، وفي الأردن - 37 في المائة، وفي فلسطين - 42 في المائة. ويجدر أن نذكر بشكل منفصل البطالة بين النساء: ففي المملكة العربية السعودية تبلغ 46%، وفي مصر 38.5%. وفي الوقت نفسه، فإن مجال قطاع سوق العمل في مؤسسات الدولة صغير للغاية، وهو ما يرجع إلى سوء نوعية المؤسسات الحكومية، وانخفاض حصة الاستثمار، وركود إنتاجية العمل (وخاصة في القطاع الصناعي). وبما أن قطاع العمل في المؤسسات الحكومية يمثل ما بين 10% إلى 15% أو أقل من القوى العاملة في بلدان مثل مصر والعراق واليمن، فإن إيجاد فرص عمل صعب للغاية، ونحو 40% من خريجي الجامعات في الشرق الأوسط عاطلون عن العمل. ونتيجة لذلك، يتم "استيعاب" غالبية القوى العاملة في قطاع العمل الخاص، غير الرسمي الذي يتسم بانخفاض المؤهلات والأجور وإنتاجية العمل. ويمثل قطاع الخدمات غير الرسمي ما يصل إلى نصف الناتج المحلي الإجمالي أو أكثر في البلدان التي ليست من البلدان المصدرة الكبرى للنفط.
وعلى خلفية ذلك تكتسب قضية تحرير المرأة والمساواة بين الجنسين أهمية حيوية في المنطقة. بفضل رقمنة الاقتصاد، فقد ظهرت فرص جديدة لإدماج المرأة بشكل فعال في الحياة الاقتصادية. ومع ذلك، لم تحقق جميع المناطق النجاح في هذا الاتجاه. في حين تستطيع تركيا والأردن ولبنان والإمارات العربية المتحدة أن تدعي أنها دول علمانية، فإن دولاً مثل المملكة العربية السعودية (التي شهدت تحسينات كبيرة في مجال حقوق المرأة في السنوات الأخيرة) وإيران بعيدة كل البعد عن هذا الوضع1.
إن عصر الاقتصاد الرقمي مع نمو الأتمتة وتطور الذكاء الاصطناعي يجلب معه حلولاً جديدة (تسريع اندماج المنطقة في سلاسل الإنتاج العالمية الجديدة الناشئة) ومشاكل جديدة للشرق الأوسط. ومن المتوقع أن تكون العواقب المترتبة على التحول إلى التكنولوجيا الجديدة نشوء أنظمة اقتصادية مختلفة باختلاف بلدان المنطقة. وفي حين يمكن لإسرائيل ودول الخليج الغنية الاندماج في الاقتصاد العالمي الجديد دون خسارة كبيرة، فإن عملية التكيف قد تكون أكثر صعوبة بالنسبة للدول التي تضم شريحة كبيرة نسبيا من العمال ذوي الياقات الزرقاء وحراكا اجتماعيا منخفضا نسبيا (العراق وإيران والأردن وتركيا). ومن ثم، فإن الأتمتة قد تؤدي إلى فقدان عدد كبير من الوظائف في القطاعات التقليدية وزيادة الاستقطاب بين بلدان المنطقة وداخل الدول الفردية. ومن المحتمل أن تكون هناك ضربة قوية للاحتكارات الحكومية والأنظمة الاقتصادية العشائرية، الأمر الذي قد يؤدي في المستقبل إلى زيادة كفاءة اقتصادات المنطقة. إن التنفيذ السليم للتكنولوجيات الجديدة يمكن أن يساعد في تضييق الفجوة القائمة بين سكان المناطق الحضرية والريفية من خلال خلق فرص عمل إضافية خارج المراكز الحضرية.
وينبغي أن يكون المحرك للتنمية في دول الشرق الأوسط هو التركيز على التنوع الاقتصادي. ولتحقيق ذلك، من الضروري خلق بيئة أعمال ملائمة لجذب الاستثمار الأجنبي، وفي المقام الأول من خلال تحسين نوعية المؤسسات الحكومية. في إطار السياسة الصناعية للدولة، هناك حاجة إلى دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة المحلية - والتي تشكل أساس اقتصاد المنطقة.
هناك عدم تجانس في الشرق الأوسط من ناحية توفر الموارد النادرة. ويتعلق هذا أولا وقبل كل شيء بالقدرة على الوصول إلى المياه: إذ إن منطقة الشرق الأوسط لا تمتلك سوى واحد في المائة من احتياطيات المياه العذبة المتجددة في العالم. وتمتلك معظم بلدان المنطقة حجم قليل من المياه العذبة. وأدنى معدل للمياع العذبة في الكويت هو 7 متر مكعب/للشخص سنوياً، وأعلى معدل في تركيا (2885 متر مكعب) والعراق (2650 متر مكعب).
وقد أدى ارتفاع استهلاك المياه العذبة في المنطقة بسبب النمو السكاني والتوسع الحضري والاستخدام الاقتصادي للمياه إلى انخفاض توفر المياه للفرد بنحو 85 في المائة بين عامي 1950 و2025، من 4462 متراً مكعباً إلى 682 متراً مكعباً. وتسد عدد من دول الشرق الأوسط (دول الخليج، والأردن، واليمن) احتياجاتها بفضل وجود المياه الجوفية غير المتجددة، والتي تعتبر احتياطياً استراتيجياً.
وسوف تتمكن الدول الغنية في الشرق الأوسط من تأخير نقص المياه من خلال مشاريع تحلية مياه البحر الباهظة الثمن واستيراد المياه العذبة. و، يبدو هذا الخيار بالنسبة للدول الفقيرة غير محتمل. وعلى خلفية ندرة احتياطيات المياه، فإن متوسط مستوى استهلاك المياه في المنطقة يتجاوز مستوى العرض بمقدار 9 مرات. ولوحظت الفجوة الأكبر في الكويت (63 مرة) والإمارات العربية المتحدة (39 مرة). إن استهلاك الفرد من المياه في أغلب دول الخليج أعلى بعدة مرات من المتوسط العالمي. ويساهم غياب القيود والدعم المالي للمياه في زيادة نمو استهلاك المياه. وتعاني المنطقة ليس فقط من نقص المياه، بل وأيضاً من سوء إدارة المياه، بما في ذلك الافتقار إلى نظام خزانات لجمع وتخزين المياه وتقنيات توفير المياه في الصناعة والزراعة في معظم بلدانها.
وهناك مشكلة أخرى لا تقل أهمية في الشرق الأوسط وهي نقص الموارد الأرضية المناسبة للزراعة والاستخدام غير الفعال لها. على سبيل المثال، في الأردن، حيث يشكل القطاع الزراعي مكوناً هاماً من الاقتصاد، لا تصلح للزراعة سوى 10% من أراضي البلاد، بينما تشكل الأراضي الصالحة للزراعة 3% من إجمالي المساحة. على النقيض من ذلك، في تركيا، تشكل الأراضي الصالحة للزراعة ثلث المساحة الإجمالية للبلاد.
وفي ظل تسارع وتيرة التصحر، تواجه بلدان المنطقة بشكل متزايد مشاكل تتعلق بالأمن الغذائي. وتعمل دول الشرق الأوسط الغنية على حل هذه المشكلة من خلال زيادة حجم السلع المستوردة، وتوسيع عدد وجغرافية المستوردين، والاستثمار في الأراضي الزراعية والأعمال الزراعية في الخارج (في بلدان أفريقيا وجنوب شرق آسيا وأوروبا والولايات المتحدة وأستراليا وكندا). وهذه الحلول غير متاحة بالنسبة للدول الفقيرة في المنطقة، التي لا تستطيع حتى ضمان واردات مستقرة ومتنوعة من الحبوب بشروط مقبولة. إن الاستخدام غير الفعال لموارد الأرض لا يؤثر على الزراعة فحسب، بل يؤثر أيضًا على السياحة. وتشكل هذه الجوانب مجتمعة العمود الفقري لاقتصادات العديد من بلدان المنطقة.
***
د. فالح الحمـراني
....................
* استفادت المادة من دراسات في موقع المجلس الروسي للسياسة الخارجية على الانترنت

في زمنٍ كَثُر فيه الصراع بين مباهج الحياة من ناحية، وصراعات السياسة من الناحية الأخرى، أدرك ابن باجه أن خلاص الفيلسوف وسلواه لا يكون بالانفكاك والهروب من المجتمع والناس، بل بفنّ العيش فيهم دون أن تتلاشى ملامحه الذاتية. جاء كتاب "تدبير المتوحّد" ليمهد مسلكًا وجوديًا يبدأ بالعقل وينتهي بالإتصال بالمصدر لهذا الوجود، أو كما يسميه فيلسوفنا: العقل الفعَّال أي مصدر الوجود.
لم يكن ناقلاً عن الفلاسفة وشارحًا لأفكارهم فحسب، بل كان مثالاً حيًّا للإبداع والابتكار والتفلسف، رافضًا فساد المدينة والمجتمع، فكان مشروعه فرديًا يرفض الاستسلام للعوامل الخارجية التي تُفسد صفو الحياة وتعيق البحث عن حقيقة الوجود. فبحثه عن العزلة لم يكن تخليًّا عن مسؤوليته الفردية تجاه مجتمعه، بل سعيًا للحفاظ على السلام الداخلي الذي يؤدي إلى الارتقاء إلى مصاف "الكائن الإلهي" الذي يتجاوز تجربة الجسد إلى "الهُناك" على حدّ تعبير هيدغر.
لم يكن "التدبير" عند ابن باجة مجرد تنظيمٍ رتيبٍ للحياة ومعتركاتها، بل ثورةً على فكرة أن الفلسفة يجب أن تُدار كشأنٍ جماعي. فبينما حمل الفارابي هذا المشروع الذي يعنى ببناء مدينته الفاضلة كحلم جماعي، حوَّل ابن باجة رؤيته إلى مشروعٍ فردي. والمتوحّد عنده ليس ناسكاً يعتزل مخالطة الناس، بل فيلسوفًا يعيش بينهم بحكمةٍ ووعي، لكنه يريد من كلّ ذلك أن لا تُقيّده أفكارهم وأهواؤهم نقاء تأمُّلاته. إنه كالنبتة الطبيعيّة التي تنمو في تربةٍ مليئة بالأعشاب الضارة، تُصارع الكل بخفة ودهاء دون أن تتحول إلى نبتةٍ صناعيةٍ كالآخرين. وهنا تكمن المفارقة: أن تعيش في العالم دون الإنتماء إليه، أن تُشارك في حركته دون أن تفقد بوصلةَ غايتك.
قسَّم ابن باجة الإنسان إلى ثلاث طبقات، كأنما يُعيد ترتيب سُلَّم القيم الإنسانية من جديد. فالأعمال الجِسمانية — كالأكل والشرب — هي ما يشترك فيه الإنسان مع الحيوان بيولوجيًا، ولا يمكن الانفكاك منها، لكنها تصير سجناً دون تهذيبها. أما الأعمال الروحانية الخاصة - كالتباهي بالملابس الفاخرة أو الترفيه الزائد — هي أوهام وطريقها إلى السراب لأنها لا تحمل بجُعبتها بذرة الوصول. أما الطبقة الثالثة فهي العُليا: هي السعي وراء "المعقولات" — الأفكار المجردة الأزلية — كالعدل والجمال والحق، والتي تُحرر العقل من ثقل الجسد، وتوصله إلى حالةٍ من الاتصال بالعقل الفعَّال، ذلك الكيان الجوهري المُنظّم للوجود والعالم ومتصلًا بكلّ الجواهر.
لكن كيف نحقّق هذا الاتصال؟ رفض ابن باجة الطُّرُق الصوفية القائمة على الوجد والخَلوة، ورأى أن العقل المُجرد وحده قادرٌ على كسر الحُجُب. فالعقل الفعال عنده ليس ذاك الإله البعيد وراء السماوات، بل هو العقل والروح والنظام في كل شيء، الذي يمكن للإنسان اكتشافه عبر التأمل الفلسفي المنهجي. هنا يصبح الفيلسوف كالباحث عن النور في الظلام مع اليقين الكامل بوجوده وبأنه ليس ببعيد.. وكل فكرة خالدة تُحرّره من ظلام الجهل وضيق الصّدر. لكن هذه الرحلة لا تخلو من مشقة: فالنفس الحيوانية — بحسب تعبيره — عدو يتربص بالعقل، يُحاول إغراقه في الشّهوات أو الانتقام منه عبر الغرور. ولذا، كان على المُتوحّد أن يكون حارسًا يقِضاً لنفسه، يُروّض غرائزه بفضائل أخلاقيةٍ تحوِّلها من أعداء إلى حلفاء.
لم تكن رحلة صديقنا سهلة؛ فكثيرون في عصره رأوا في أفكاره خروجًا عن المألوف وتماديًا على الدين، وبطبيعة الحال لم يَسلَم من التكفير بسبب ارتكاز نظره على العقل وإهمال للأخبار والنصوص. لكنّ التاريخ أثبت أن فلسفته كانت جسرًا بين المشرق والمغرب: فابن رشد كان تلميذه غير المباشر، وأخذ عنه فكرةَ العقل الفعَّال، بل إنّ روح ابن باجة تجلَّت لاحقًا في فلسفات التنوير الاوروبي، التي رأت في العقل أداة الخلاص الأولى وبناء الحضارة.
واليوم، في هذا العالم الرأسمالي الذي يَحتويه الضجيج من كل جانب، يُلحّ علينا طرح السؤال الذي طرحه ابن باجة: كيف نحمي عقولنا من فساد المجتمع والعالم؟ ربما تكمن الإجابة في العودة إلى الذات، وحيث كل عمل نقوم به وكل شخص نختاره، يُقرّبنا خطوةً من "المعقولات"، ويُبعِدنا خطواتٍ عن الوهم والتبعية والتقليد. ونختم بقوله: "السعادة ليست في الهروب من العالم، بل في صنع عالمٍ بداخلك، يحكمه العقلُ قبل كل شيء."
***
خالد اليماني 

 .......................

المصادر:

بدوي، عبدالرحمن. موسوعة الفلسفة. الجزء الأول، صـ14-18

في البدء، كانت اللغة، أو هكذا توهِمُنا السردية المؤسسة لهذا الوعي الذي نقبع داخله ككائنات لغوية، مسجونة داخل إطار لا مرئي من المفاهيم والرموز والتراكيب.
نحن لا نفكر إلا عبر اللغة، لكن هل نفكر بها أم تفكر هي بنا؟ أين تنتهي حدودنا ككائنات واعية، وأين تبدأ سلطة اللغة كجهاز مفاهيمي هيمني يعيد إنتاج وعينا داخل قفص رمزي غير مرئي؟
يبدو هذا السؤال، للوهلة الأولى، ضربًا من الميتافيزيقا، لكنه في جوهره يتعلق بالبنية التحتية للمعرفة والوجود. فالإنسان، منذ لحظة تشكّله ككائن اجتماعي، خضع لمقولات اللغة، صار جزءًا من نسيجها، يعيش داخلها بوصفها فضاءً للوجود، وليس مجرد أداة تواصل.
حين قال فيتجنشتاين: “حدود لغتي هي حدود عالمي”، لم يكن يدافع عن اللغة بوصفها جسرًا نحو العالم، بل كان يشير إلى هشاشة هذا الجسر، إلى كونه قيدًا أكثر مما هو وسيلة. نحن لا نرى العالم كما هو، بل كما تسمح لنا بنيتنا اللغوية برؤيته.
اللغة لا تعكس الواقع، بل تصنعه، تحدده، تعيد تشكيله ضمن سردية مسيجة بحواجز من العلامات والإشارات والأطر الرمزية. وإذا كانت اللغة بهذه السطوة، فهل يمكن للإنسان أن يختبر وعيًا يتجاوزها؟ أم أن كل محاولة لفعل ذلك ليست سوى إعادة إنتاج لنفس البنية اللغوية ضمن سياقات مختلفة؟
هنا يصبح السؤال أكثر تعقيدًا: هل يمكننا اختراق هذه الحواجز، أم أننا محكومون بالتفكير داخل دوائر مغلقة لا نملك تجاوزها؟
المعنى ليس بريئًا، بل هو منتَجٌ ريعيٌّ يُعاد إنتاجه في مصانع الأيديولوجيا، حيث تتحول المفاهيم إلى أدوات ضبط، وحيث يتلاشى الخيال لصالح التكرار، ويُختزل اللايقين في يقين لغويٍّ مصطنع. لا عجب إذن أن تعيد المجتمعات إنتاج ذاتها عبر نسق لغوي مغلق، يحدد ما يمكن التفكير فيه، وما يجب استبعاده، وما ينبغي أن يظل مجهولًا حتى لا يهدد استقرار البنية السائدة.
إن خطورة اللغة تكمن في كونها ليست مجرد وسيلة تعبير، بل أداة تشكيل، وأداة قمع ناعم تتسلل إلى الوعي دون أن يشعر بها الإنسان، فيتحرك داخلها بوصفها بديهة، دون أن يدرك أنه يتحرك وفق إملاءاتها.
ما نسمّيه “المعنى” ليس إلا توافقًا اجتماعيًا، ترسّب عبر تاريخ طويل من القمع الناعم الذي تمارسه اللغة على المخيلة. رولان بارت أدرك هذه اللعبة حين فكك النصوص وكشف أنها ليست سوى أنظمة دلالية مغلقة، تتحرك داخل فضاء سلطوي يحدد ما يمكن أن يُقال، وما يجب أن يُنسى.
لكن السؤال الأهم ليس فقط كيف تعمل اللغة، بل: من يملكها؟ من يحدد “المسموح والممنوع” داخل هذا النظام الدلالي؟
اللغة، في نهاية المطاف، ليست ملكًا محايدًا، بل تخضع لمعادلات القوة. إنها جهاز رمزي يشفر الواقع وفق مصلحة أولئك الذين يملكون سلطة تعريف الأشياء، وإعادة إنتاج السرديات وفق ما يخدم مصالحهم.
في عالم خاضع لهيمنة السوق، تتحول اللغة إلى آلية إنتاج، ويصبح المعنى نفسه سلعة يتم ترويجه وفق مقتضيات رأس المال الثقافي. المفردات تتغير، والدلالات يُعاد ضبطها، وكل ذلك ضمن اقتصاد لغوي خفي يحدد كيف نفكر، وبماذا نحلم، وكيف نرى أنفسنا.
المعاني التي تبدو وكأنها نابعة من ذاتيتنا ليست سوى انعكاس لسرديات تم تلقينها لنا منذ الطفولة، عبر المؤسسات التعليمية، وعبر الإعلام، وعبر الدين، وعبر التاريخ الرسمي.
إنها “أدلجة للواقع”، كما أشار ألتوسير، حيث يتحول كل خطاب إلى جهاز أيديولوجي، لا يصف العالم، بل يعيد تشكيله وفق مصلحة الفاعلين الأقوى في المشهد الثقافي والسياسي.
وهكذا، يتم تحويل اللغة إلى وسيلة إعادة إنتاج للوعي القائم، لا كأداة للتفكير الحر، بل كآلية تقنين للخيال، حيث يصبح من المستحيل التفكير خارجها دون أن نجد أنفسنا، بطريقة ما، مقيدين بها.
لكن إذا كانت اللغة تحدد حدود وعينا، فهل يمكن تجاوزها؟ هل يمكننا أن نفكر خارج هذه البنية الرمزية، أن نخترق الجدار اللغوي نحو فضاء أكثر رحابة، وأكثر انفتاحًا على اللايقين؟
السؤال يبدو عبثيًا للوهلة الأولى، إذ كيف يمكن للإنسان أن يفكر دون أن يستخدم أدوات التفكير ذاتها؟ كيف له أن يتجاوز اللغة وهو داخلها؟ يبدو الأمر كمن يحاول القفز خارج ظله، لكن هذا لا يعني استحالة إيجاد شروخ في البنية اللغوية.
جاك دريدا، وهو من فكك النصوص حتى تعرت من أوهامها، لم يكن يسعى إلى استبدال نص بآخر، بل إلى كشف هشاشة النصوص ذاتها، إلى فتح ثغرات في جدران اللغة، حيث يمكن للمعنى أن ينزلق، أن يتسرب خارج النسق.
وربما يكون الفن هو السبيل الوحيد لفعل ذلك، لأن الفن لا يحتاج إلى لغة مستقرة، بل يتلاعب بها، يعيد تشكيلها، يكسر نسقها، ويفتح فيها شروخًا صغيرة تتسرب منها احتمالات جديدة للمعنى.
السينما، الرسم، الموسيقى، كلها أشكال من التفكير خارج اللغة، مقاومة صامتة ضد عنف الدلالة، محاولة مستمرة لاستعادة سيولة الوعي من قبضة العلامة اللغوية.
هل يمكن للوحة تجريدية أن تعبر عن شيء لا يمكن للغة أن تقوله؟ هل يمكن لمقطوعة موسيقية أن تحمل في أنغامها معنى لا يمكن ترجمته إلى كلمات؟
ربما لا يكون الفن وسيلة للهروب من اللغة، لكنه بالتأكيد محاولة لتفكيك سلطتها، لخلق فضاء يتسرب فيه المعنى دون أن يُعتقل داخل قفص الدلالة القهرية.
في ضوء ذلك، تبدو اللغة وكأنها منفى، كما قال جورج شتاينر.
فنحن كائنات لغوية، محكومون بهذا السجن الرمزي، غير قادرين على استعادة وعينا الأول، الصافي، قبل أن تلوثه الكلمات.
لكن ربما لا يكون السؤال عن إمكانية الهروب من اللغة، بل عن كيفية استخدامها ضد ذاتها. كيف نحول الكلمات إلى شفرات تفكك ذاتها؟ كيف نكتب لا لنؤكد، بل لنشكك؟ كيف نعيد تشكيل اللغة، لا كأداة تكرار، بل كأفق للانفلات؟
إن اللغة ليست بريئة، ولا محايدة، ولا شفافة. إنها قوة، نظام، سلطة، قيد ناعم يخترق وعينا ويعيد تشكيله. لكنها، في الوقت ذاته، تحمل في داخلها بذور الانفلات، وإمكانية الانزلاق، واحتمال الخروج عن النسق.
داخل هذا القيد، هناك ثغرات، هناك احتمالات للخروج، هناك لحظات يتمرد فيها الخيال على الجملة، حيث تنفجر الكلمات من داخلها، وحيث يتحول النص إلى مسرح للفوضى الجميلة.
أن تفكر يعني أن تتجاوز لغتك، أن تبحث عن مناطق غير مسماة، عن ظلال لم تصلها الكلمات بعد.
ربما لا يمكننا الهروب من اللغة، لكن يمكننا على الأقل أن نرفض أن نكون مجرد نسخ مكررة داخل سردياتها الجاهزة.
إن مقاومة اللغة من داخلها، تفكيكها، إعادة تشكيلها، واللعب بها، كلها أفعال تنطوي على لحظة تحرر، حتى وإن كانت لحظة عابرة، وحتى وإن لم تكن كافية للخروج الكامل من هذا القيد.
لكن في النهاية، أليس الوعي نفسه إلا محاولة دائمة للتمرد على حدوده؟
***
إبراهيم برسي – باحث سوداني

يعيش الكائن الحي عشرات ملايين السنين موضوعا لاليه اعلى منه، مقررة بلا ارادة منه ولا وعي بوجوده، محكوم وجودا وتشكلا كموضوع لفعل وتدبير البيئة/ الطبيعة التي تاخذه الى الحيوانيه مراحلا، وصولا الى اللبونات ومن ثم الى الانتصاب وحضور العقل، ضمن سيرورة مقررة مرهونه بالاليات والقوانين الكونيه، فاذا ظهر العقل بصيغته الاولية الابتدائية غير المكتمله، يبدا طور محاولة الادراك كافق قبل الفعالية الذاتيه، وبلا فعالية وجوديه واعيه، بل محاولات قاصرة تستمر مادام العقل بمراحله الاولى الخام، تحكمه اشتراطات اليدوية الانتاجية والحاجاتيه الجسدية، بانتظار الانتقال من اليدوية الى الالية، افتتاحية وعتبة العبور الى الطور العقلي مافوق الجسدي الارضوي الحاجاتي.
لايتعدى عمر العقل الظاهر اكثر من مابين خمسين، الى مائة الف عام، مقابل الجسد الموجود على مدى عشرات الاف الملايين من السنين، هذا والحاضر الجديد مازال في طور الحضانه البكورية، وان عومل من قبل حامليه على انه المنتهى والكمال جهلا، حتى وان كان الكائن البشري مازال لايستعمل من عقله في اقصى الحالات، اكثر من خمسة عشربالمائة من طاقته وقدراته الخافيه المخباة ماتزال، من دون ان ينظرالى دلالة تعذر استعمالها الى اليوم.
كما الحال مع الجسدية ومسارها من الخلية الاولى والعضايا وصولا الى اللبونات، ومن ثم الكائن البشري مع بدايات الحضور العقلي، يخضع العقل لسلسله من المتغيرات تعقب ظهوره الاول، من خلال وفي تضاعيف التفاعلية البئية البشرية، وصولا الى ( الصيد واللقاط)، ومن ثم المجتمعية الجسدية المحطة والخطوة المتقدمه الاخيرة، قبل بلوغه مرحله واسباب الحضور المتحرر من وطاة الجسدية الحاجاتية، ما يقتضي ويستمر زمنا من التفاعلية تستغرق كل الطور اليدوي من التارخ التفاعلي العقل/ جسدي، ذهابا الى الانقلابية الالية، وتبدل اشتراطات العملية التفاعلية، ونوع غلبة العناصر الاكثر حضورا وفعاليه في العملية المجتمعية وما يعززتحولها، من الغلبة الجسدية الحاجاتيه الى العقلية.
من البديهي ساعتها عندما تنبثق الاله بما تنطوي عليه من دالة ونوع فعالية على الصعيد المجتمعي، ان تغلب المتبقيات الموروثة تصورا ونظرا من الطور اليدوي، فهو بحسب آليات عمل العقل كما كان بصيغته الاولى المعروفه، ليس استباقيا بقدر ماهو استيعابيا، يظل حتى يدرك الظواهر بحاجة لان يتعرف عليها قبل ان يتمكن من استيعابها، فاذا اخذنا بالاعتبار مفعول الزمن وطول فترة الطور اليدوي وترسخه، فان ميل العقل بحالته والاشتراطات التي تكتنفه وقتها، لن يكون متجاوزا لما هو معتاده بكثير، بالاخص وان الاله بالاحرى لاتمنحه ساعة انبثاقها، ماهو بحاجة اليه لكي يواكب ويرتقي لمستوى منطواها الدالة عليه طبيعتها الفعلية التي لن تظهر في الساعة وابتداء.
فالاله ليست صيغة واحده، ولاتظهر مكتمله نوعا وممكنات فعالية من لحظة انبثاقها، بل تتدرج، من المصنعية الاقرب لليدوية، الى التكنولوجية، قبل التكنولوجيا العليا العقلية، في حين تفرض احتداميتها البدئية وماتسببه من تسارعية وحدة في التفاعليه على مستوى الاليات المجتمعية، مواكبه شامله عقلية ترتفع معها الممكنات العقلية والابتكارية،تقدما قياسا الى ماقبل، الطور الارقى مما قبله، وليس المطلوب من انتقالية مجتمعية كلية، مقارنة بما قبل، بما هي وثبة نوعية كبرى ضمن نفس الشروط نوعا، في الوقت الذي يكون المطلوب وقتها الاعتقاد الجازم بان الحاصل هو من نوع الانتقال شبيه بذلك الذي عرفته البشرية مابين "الصيد واللقاط" و " التجمع وانتاج الغذاء"، اي الى طور مجتمعي اخر مختلف كليا.
مع التكنولوجيا تنتهي العلاقة التاريخيه الانتاجية اليدوية الجسدية البيئية، ويحصل التفارق النوعي، بين وسيلة الانتاج المستجدة فوق الارضو/جسدية، والتي تتوافق كينونه وعملا مع العقل بصيغته الاعلى من تلك المنتهية الصلاحية، هذا مع تعدد مظاهر التناقضية والميل المعتاد لحكم المملموس والمباشر الملح، الذي لايمكن الاستغناء عنه، مثل الغذاء وانتاجه، والماوى وغيره من الحاجات الموكوله لاستمرارية لجسد، وهو مايمكن تصور التمسك بمايفترض انه ملازم له من فعل مجتمعي، هذا في الوقت الذي يكون من غير البديهي ولا المتيسر، تصور الفعالية الانتاجية العقلية على هذا الصعيد، بما هي انقلابية كينونه من شانها ان تقلص الحاجاتيه، وصولا الى الغائها، الامر الذي يتطلب وقتها ادراكية من نوع مختلف لحدود وممكنات العقل العليا، بينما تكون التكنولوجيا العقلية قد صارت حاضره وفعالة في مجال تحريك الطاقة العقلية النائمه، غير المستعمله، الامر الذي سيقلب كليا كل المتعارف عليه والمنظور والممكن، بما في ذلك مسالة التحكم بالاليات الجسدية على مستوى الحاجه، كما على صعيد الديمومه الضرورية، اذ تنتفي الحاجة الى الطب الجسدي بظل تكفل العقل بديناميات الجسدية، ذهابا الى معالجة الموت الجسدي واستبداده التاريخي بالعقل، وفرضة موته هو العضوي عليه، ومثل هذه المناحي المؤشرة الى الانقلابيه في الفعالية وفي الحضور الحياتي، وفي نوع العنصر الفعال المتعدي للجسدية، ومايبدا بتسييده من انقلابيه نوعية حياتيه غير مايتطلبه افتراضا من قواعد واستراتيجيات حيوية مناسبه.
اول واهم مايكون قد حضر في حينه هو الانقلابيه في الدور المتعلق بالوجود ومساراته، فالانقلاب العقلي يتضمن للمرة الاولى في التاريخ الحياتي للكائن الحي والبشري، حضوره هو بعد وعية لمقتضيات ومحركات وجوده، تحوله هو الى عنصر فاعل بنوع الوعي العقلي، مع تبدل نوع الفعالية الملموسية الجسدية، ودخول عالم الفعل العقلي الذاهب الى مابعد جسدية، في غمرة البحث فوق المتخيل والمتصور الان، عن مداخل الاتصال بالكون الاخر، كون الحياة العقلية مافوق الارضوي المعاش، باعتباره معبرا ولحظة انتقالية لازمه مابين الكون المرئي والكون الاخر اللامرئي، ماكان يتخيل على انه عالم موافق للجانب الروحي من الوجود الممكن تخيله ضمن الاشتراطات الاولى الجسدية.
تنتقل الحياة المجتمعية من الانتاجية الجسدية اليدوية الى الانتاجية العقلية، فتعرف هذه ماعرفته البدئية التبلورية الجسدية الاولى من اشكل وجهود، ومجاولات الادراكية المتاحه للوجود ولممكنات فك الغوامض والرموز الكونية الابتدائية، اساطير ومرويات وقصص خليقة عبر مئات القرون، سوف تقابلها اليوم ومن هنا فصاعدا مجهودات البدئية العقلية وافقها الكوني الانتقالي، خارج، وبعيدا عن المنظور الافتتاحي الاوربي الالي المصنعي على ضرورته كمنطلق لايخلو من فوائد تعود للجانب العلمي التطبيقي، خارج التوهمية التصورية الحداثية والنموذجيه الارضوية المنتهية الصلاحية، ومع الانتباه الى والاخذ بالاعتبار، مدى توافق المجتمعية اللاارضوية كينونة وابتداء مع الوسيلة الانتاجية المستجده، العقلية، حيث يتوقع المنطلق التفكري/ المجتمعي، والعودة على بدء، المتجاوزة للارضوية وحالة تازمها المضطرب المتعاظم من هنا فصاعدا، تمهيدا للانقلابيه العظمى.
ـ يتبع ـ ملحق / برنامج الانقلابيه الكونيه العظمى
***
عبد الأمير الركابي

الفيلسوف ديموقريطس (460-370ق.م) وهو من فلاسفة ما قبل سقراط عُرف بتطويره النظرية الذرية عن الكون. كان يُلقب بالفيلسوف الضاحك، وكان غزير الانتاج، شملت أعماله الاخلاق والرياضيات والفيزياء وعلم الكون. ورغم مساهماته الواسعة للفلسفة والعلوم، لم يبق الا جزءاً ضئيلا من أعماله الأصلية في المراجع اللاحقة.
حياة ديموقريطس
وُلد ديموقريطس في مدينة أبديرا Abdera اليونانية، وقيل انه سافر بكثافة بحثاً عن المعرفة، حيث زار مصر وبلاد فارس وربما الهند متعلما على يد مختلف العلماء والكهنة. وطبقا لمؤرخ السير ديوجين ليرتيوس Diogenes Laertius، كان ديموقريطس تلميذا لـ ليوكيبوس، حيث طوّرا معا النظرية الذرية وهي التوضيح المبكر للمادة المركبة من جسيمات صغيرة لاتقبل التجزئة.
يذكر ديوجين ان افلاطون كره ديموقريطس جدا لدرجة انه رغب بإحراق جميع كتبه. لكن مع ذلك، أثّرت افكار ديموقريطس بشكل كبير على الفلاسفة اللاحقين بمن فيهم الفيلسوف اليوناني أبيقور وعلى تطوير النظرية الذرية الحديثة.
فلسفة ديموقريطس وتعاليمه
افترضت نظرية ديموقريطس الذرية ان كل شيء في الكون يتألف من جسيمات صغيرة لا يمكن تحطيمها وهي تتحرك في فراغ. هذه الفكرة الثورية شكلت تحديا للفكرة السائدة آنذاك بان المادة مستمرة وقابلة للقسمة الى ما لانهاية. هو ايضا كان يؤمن في الحتمية مجادلا بان كل الأحداث تقع بفعل القوانين الطبيعية وليس بفعل تدخلات الآلهة.
دعا ديموقيطس لممارسة حياة أخلاقية تقوم على الإعتدال وضبط النفس والبهجة. هو اكّد على انتهاج اليوثيميا euthymia - وهي حالة الرضا والهدوء الداخلي. اعتقد بان السعادة الحقيقية تأتي من الإنجاز الفكري والاخلاقي وليس من الثروة المادية او المتعة الفيزيقية.
لماذا كان ديموقريطس ضاحكا؟
عرف الناس في العصور القديمة ديمقريطس كـ "فيلسوف ضاحك" لأنه دائما كان يضحك على حماقات وسخافات طبيعة الانسان. خلافا للفلاسفة الآخرين الذين اعتمدوا الجدية في حياتهم، هو وجد التسلية في قلق الناس وجشعهم وسلوكهم اللاعقلاني. الضحك بالنسبة له لم يكن من النوع السخيف وانما هو نوع من الحكمة – هو رأى التفاهة في اهتمامات الانسان السطحية في ظل البناء الكبير للكون.
هو كان في تضاد حاد مع الفيلسوف اليوناني هيرقليطس، "الفيلسوف الباكي"، الذي حزن على حالة الانسانية. ومن جهة اخرى، اختار ديموقريطس ان يضحك على نفس السفهاء، معتبرا انهم لايستحقون الحزن. احتظنت فلسفته التحرر من المصلحة الذاتية والتأكيد على ان الضحك هو علامة على الفهم وليس السخرية. احد أهم التفسيرات لضحك ديموقريطس جاءت من المؤرخ دايوجين ليرتيوس: "عندما سُئل ديموقريطس عن سبب ضحكه الدائم أجاب: "لأني أرى كل الرجال يعملون اشياءً سخيفة، منشغلون بطموحات عبثية وخوف مما لايجب ان يخافوا منه، ورغبة بما لا يجلب لهم السعادة الحقيقية. هم يسيئون الى أنفسهم بالقلق على الثروة والسلطة والسمعة بينما يتجاهلون الطبيعة العابرة للحياة وعدم اهتمام الكون بصراعاتهم. من الممتع ان نرى مدى الجدية التي يلزمون أنفسهم بها عندما يزول كل شيء وينتهي الى العدم".
في هذا المقطع يكشف ديموقريطس من خلال الضحك عن الجذور العميقة لفهم الطبيعة العابرة والمضللة احيانا للمساعي الانسانية.
بعض الاقتباسات عنه
يرى ديموقريطس ان المرح والقناعة يتجذران في المنظور وليس في الثروة المادية. وكما اعتاد القول: "حياة بدون احتفالات هي كالرحلة في طريق طويل دون طعام". هو كان ايضا واعيا بحماقة الانسان. هو لاحظ كيف ان "الرجال اختاروا لأنفسهم مهمة خداع او الانخداع بالآخرين".
رؤاه الفلسفية امتدت للطموح الانساني. "العديد ممن لا يعرفون كيف يديرون شؤونهم الخاصة يتظاهرون انهم مهتمون بالكون".
بالنسبة لديموقريطس، يأتي الفخر الحقيقي ليس من الثروات الزائلة او الشباب وانما من العمق الاخلاقي والفكري: "فخر الشباب هو غرور، الفخر بالثروة هو سخافة، لكن الفخر بالحكمة هو حقيقي ومستمر". فوق كل ذلك، فهمه للسعادة كان دائميا، مؤكدا بان "السعادة تكمن ليس في الحيازات وانما في الروح"
تراث ديموقريطس
كان لأفكار ديموقريطس تأثيرا دائما على الفلسفة والعلوم. علماء مثل الفيلسوف والعالم الفرنسي بيير غاسيندي Pierre Gassendi أنعش نظرية ديموقريطس الذرية في القرن السابع عشر وكذلك تأثيره اللاحق على الفيزياء الحديثة. تعاليمه الاخلاقية حول السعادة والسلام الداخلي يتردد صداها في الفكر الانساني. ضحكات ديموقريطس ليست علامة للسخرية وانما علامة للحكمة. هو أدرك تفاهة القلق الانساني أمام الكون اللامتناهي. فلسفته تدعونا ان نتعامل مع الحياة بخفة وعقلانية وتقدير لأفراحها العابرة.
***
حاتم حميد محسن

 

جامعة بغداد صرح علمي شامخ، واحد ابرز منارات المعرفة في العراق والعالم العربي. تاسست عام 1957، لكن جذورها تمتد الى بدايات القرن العشرين مع تاسيس كليات الحقوق والطب والهندسة. لعبت الجامعة دورا اساسيا ومحوريا في تخريج الكفاءات العراقية التي ساهمت في بناء وتقدم العراق الحديث.
ارتباطي بجامعة بغداد
كانت لحظة دخولي كلية العلوم في الجامعة بداية رحلة استثنائية في عالم المعرفة. اتذكر تلك الايام الاولى في قسم النبات، حيث اكتشفت شغفي الحقيقي للعلوم الاحيائية. بعد تخرجي، تم تعيني كمعيد في الجامعة، حيث انطلقت مسيرتي العلمية الحافلة بالانجازات. لقد كان لدي اصرار وعزيمة لا يلينان، فبادرت الى اجراء بحثين علميين وانا لازلت معيدا في الجامعة، نشر احدهما في مجلة Annals of Human Biology المرموقة. كانت تلك اول دراسة انثروبولوجية حول المجاميع الدموية بين اكراد العراق، مما جعلني فخورا باسهامي في هذا المجال.
قدمت الكثير لجامعة بغداد بعد عام 2003، من ندوات وورش عمل ومحاضرات واستشارات، ولكني اتذكر بالخصوص تلك الورشة الرائعة التي نظمها قسم ضمان الجودة والاداء الجامعي في الجامعة بالتعاون مع منظمة اليونسكو بتاريخ 24-25 شباط 2014، وحضرها عدد من القيادات الجامعية من العمداء ومدراء المراكز ورؤساء الاقسام في تشكيلات الجامعة، وحملت عنوان "كيفية استدامة نظام الجودة في جامعة بغداد". عرضت فيها نظام الجودة الذي سعينا لبنائه ضمن مشروع اليونسكو لتحسين جودة التعليم في الجامعات العراقية الذي ضم اربعة علماء من خريجي الجامعة هم صباح جاسم ورمزي محمود ورياض المهيدي ومثنى الدهان.
تاريخ جامعة بغداد
تعود البدايات الاولى لجامعة بغداد الى عام 1908، عندما تاسست مدرسة الحقوق، وهي اقدم المؤسسات الحديثة التي شكلت فيما بعد جامعة بغداد. في عام 1921، تاسست كلية الهندسة، وفي عام 1923، تاسست دار المعلمين العالية (التي اصبحت فيما بعد كلية التربية). وفي عام 1927، تاسست كلية الطب. في عام 1942، تم تاسيس اول مؤسسة تعليمية عليا للبنات، وهي كلية الملكة علياء. وتاسست كلية الاداب والعلوم 1949 وانقسمت الى كليتي الاداب والعلوم عام 1953 وكانت اول كلية اكاديمية (غير مهنية). وفي عام 1956، تم سن اول قانون لتاسيس جامعة في العراق باسم "جامعة بغداد".
في عام 1957، تم تاسيس جامعة بغداد رسميا، وكانت تضم في البداية كليات الحقوق والاداب والعلوم والطب والهندسة. وقد شهدت الجامعة نموا وتوسعا كبيرا في العقود اللاحقة، حيث تم اضافة العديد من الكليات والمعاهد الاخرى، مثل كليات الزراعة والصيدلة والطب البيطري والتربية والفنون الجميلة. وفي عام 1959 تقرر البدء بفتح الدراسات العليا، وانجزت دراسات مفصلة حول هذا المشروع المهم، في كلية العلوم مثلا تقرر اولا ان تبنى بناية مستقلة لمكتبة كبيرة ورصدت الاموال لهذا المشروع، لكن مع الاسف في 1963 تقلصت مساحة المكتبة وتحول نصف البناية لاشغال عمادة الكلية.
وضع عبد الكريم قاسم الحجر الاساس لبناية جامعة بغداد في 17 تموز 1959 وصمم الجامعة المهندس الامريكي والالماني الاصل وولتر گروبيوس. من الرموز المهمة التي ادخلها في التصميم: القوس في مدخل الجامعة حيث صٌمم على قطعتين قوس المدخل يرمز الى فصي الدماغ الايمن والايسر وفي اعلاه فتحة لا يمكن ان تنغلق وبجمع القوس رمز بالعقل المنفتح الذي يتلقى العلم بدون حدود. وما هو بارز في تاريخ الجامعة هو تعيين العالم العراقي الدكتور عبد الجبار عبد الله رئيسا للجامعة عام 1959 وكان من افضل علماء الانواء الجوية الذين برزوا في العالم.
دور جامعة بغداد في تخريج الكفاءات العراقية
لعبت جامعة بغداد دورا حاسما في تخريج اجيال من الكفاءات العراقية في مختلف المجالات. فقد ساهمت الجامعة في تزويد العراق بالمهندسين والاطباء والمحامين والمدرسين الذين ساهموا في بناء وتطوير العراق الحديث.
تخرج من جامعة بغداد العديد من الشخصيات البارزة في العراق، الذين اسهموا بشكل كبير في مختلف المجالات، مثل العلوم والسياسة والادب والفنون. وقد تبوا العديد منهم ارفع المناصب في العراق وخارجه من رؤساء الوزراء والوزراء والبرلمانيين والاكاديميين والفنانين والادباء. كثيرون من الاعلام تخرجوا من جامعة بغداد منهم من سار على خطى اساتذته الاجلاء، امثال عبد الجبار عبد الله في فيزياء الانواء الجوية، وفخري البزاز في البيئة النباتية والتطور البيولوجي، وصالح جواد الوكيل في الكيمياء الحياتية والانزيمات، وطه باقر وبهنام ابو الصوف في مجال الاثار والتاريخ القديم، وعلي الوردي في علم الاجتماع، ومحمد سلمان حسن في الاقتصاد السياسي، وابراهيم كبه وفاضل عباس الحسب في الفكر الاقتصادي، وحسين امين في التاريخ العراقي والعربي الحديث، ومصطفى جواد في الدراسات اللغوية والتاريخية، وعبد العزيز الدوري في التاريخ العربي الاسلامي، وفرحان باقر وكمال السامرائي وعبد اللطيف البدري وزهير البحراني وخالد القصاب في العلوم الطبية، ومحمد مكية ومهدي حنتوش في العلوم الهندسية، وعلي حسين البهادلي وعلي عبد الحسين في العلوم الزراعية، وعدد كبير من العلماء الذين تركوا بصمات لا تمحى في التاريخ العلمي للعراق، واعتذر عن اغفالي ذكر اسماء هؤلاء العلماء الاجلاء. واليوم، يواصل عدد كبير من العلماء من خريجي جامعة بغداد، مسيرتهم في داخل العراق وخارجه، وهم منتشرون في انحاء العالم، من امريكا الى استراليا، لكن قلوبهم وعقولهم متجهة نحو خدمة العراق.
خريجو جامعة بغداد، هم قصة عطاء مستمرة، فكما تخرجوا من هذا الصرح العظيم، فهم اليوم يحملون اسم جامعتهم عاليا في كل مكان، ويساهمون في بناء مستقبل مشرق لوطنهم العراق.
دور جامعة بغداد في التنمية والتاثير في المجتمع العراقي
بالاضافة الى تخريج الكفاءات، لعبت جامعة بغداد دورا هاما في التنمية والتاثير في المجتمع العراقي. فقد ساهمت الجامعة في تطوير البحث العلمي في العراق، وقدمت العديد من الدراسات والابحاث التي ساهمت في حل المشكلات التي تواجه المجتمع العراقي ومن خلال مراكز بحوث متميزة. وقدم باحثو الجامعة دراسات حول معالجة المياه وتلوث الهواء، وقدموا حلولا مبتكرة للمشاكل البيئية التي تواجه العراق. كما ساهمت الجامعة في تطوير القطاع الصحي في العراق، وقدمت العديد من الدراسات والابحاث التي ساهمت في تحسين الرعاية الصحية في العراق، منها دراسات حول انتشار الامراض السرطانية. وعملت على توفير الاستشارات من خلال مكاتبها الاستشارية المتخصصة لتساهم في عمليات التطوير والتدريب ووضع الخبرات العلمية والفنية في خدمة الخطط التنموية وتقديم الاستشارات لحل المعضلات الهندسية والطبية والزراعية والادارية والاقتصادية وغيرها.
كما لعبت جامعة بغداد دورا هاما في نشر الثقافة والمعرفة في المجتمع العراقي، وقدمت العديد من المؤتمرات والندوات التي ساهمت في رفع مستوى الوعي الثقافي لدى المواطنين العراقيين. واستضافت جامعة بغداد العديد من المؤتمرات الدولية حول القضايا الاجتماعية والسياسية التي تواجه العراق، وساهمت في نشر الوعي لدى المواطنين العراقيين.
بالاضافة الى ذلك، لعبت جامعة بغداد دورا هاما في تطوير الاقتصاد العراقي. فقد قدمت الجامعة العديد من الدراسات والابحاث التي ساهمت في تطوير القطاعات الاقتصادية المختلفة في العراق. مثل ما قدم باحثوها حلولا مبتكرة لزيادة الانتاج الزراعي والقضاء على الامراض الزراعية. كما ساهمت الجامعة في تطوير القطاع الصناعي في العراق، وقدمت العديد من الدراسات والابحاث التي ساهمت في تحسين جودة المنتجات الصناعية العراقية.
بشكل عام، يمكن القول ان جامعة بغداد لعبت دورا هاما في التنمية والتاثير في المجتمع العراقي. فقد ساهمت الجامعة في تطوير البحث العلمي، وتحسين الرعاية الصحية، ونشر الثقافة والمعرفة، وتطوير الاقتصاد العراقي.
التحديات التي تواجه جامعة بغداد
تواجه جامعة بغداد تحديات كبيرة تعيق تقدمها، بما في ذلك المركزية المفرطة حيث تخضع لادارة ورقابة صارمة من وزارة التعليم العالي، مما يحد من استقلاليتها. كما تواجه نقصا حادا في التمويل يؤثر على قدرتها على توفير بيئة تعليمية مناسبة، وتدهورا في البنية التحتية لمبانيها ومرافقها. تشهد نوعية البحث العلمي في الجامعة تراجعا ملحوظا، وتوسعت بشكل كبير في عدد الطلاب والبرامج دون زيادة ملحوظة في الموارد. على الرغم من هذه التحديات، تبذل الجامعة جهودا كبيرة للتغلب عليها، من خلال وضع خطط استراتيجية للتطوير، والبحث عن مصادر تمويل اضافية، وتطوير البنية التحتية، وتشجيع البحث العلمي، وتطوير المناهج الدراسية، والتعاون مع الجامعات العالمية. تسعى جامعة بغداد جاهدة لاستعادة مكانتها المرموقة، ومواصلة دورها في خدمة المجتمع العراقي.
مستقبل جامعة بغداد
تطمح جامعة بغداد الى ان تصبح واحدة من افضل الجامعات في المنطقة والعالم. وتسعى الجامعة الى تحقيق هذا الهدف من خلال تطوير برامجها الاكاديمية والبحثية، وجذب افضل الكفاءات التدريسية، وتوفير بيئة تعليمية محفزة للطلاب. ولربما بالحصول على استقلاليتها الادارية والاكاديمية ستتمكن من استعادة دورها السابق في قيادة التعليم العالي على الصعيد العربي والشرق اوسطي. هذا يتطلب اعادة تقييم وضعها مثلما كانت عليه في السابق عندما كان لرئيس الجامعة صلاحيات واسعة مشابهة لصلاحيات وزير.
***
ا. د. محمد الربيعي
بروفسور متمرس ومستشار دولي، جامعة دبلن

‏‏كان يقال ان إيمانويل كانط لم يقرأ أي كتاب مرتين، باستثناء كتاب " بحث في الفهم الإنساني " لديفيد هيوم - ترجم الكتاب الى العربية باكثر من ترجمة ابرزها ترجمة موسى وهبه بعنوان بحث في الفاهمة البشرية -، وقد قال عنه انه ايقظه من غفوته .عندما صدر كتاب هيوم عام 1748 كان كانط يبلغ من العمر اربعة وعشرين عاما .عاش حياة منظمة وشديدة الصرامة، كان يحتفظ بالكتب في مكانين اثنين، غرفة الطعام، حيث خصص بها مساحة لتخزين بعض الكتب التي يقرأها اثناء تناوله قدح الشاي في الخامسة صباحا، أما المكان الثاني فكان خزانة خشبية كبيرة، تحتل جدارا كبيرا في غرفة المكتب، في اوقات الظهيرة يتمدد على كرسي ليقرأ، وكان مهتما بقراءة الصحف كل يوم، مع قراءة كتب في الرحلات والعلوم الطبيعية والطب . الخزانة مليئة بالكتب الفلسفية والعلمية ونسخة من رواية دون كيخوته مترجمة الى الالمانية، ونسخة قديمة من كتاب " المبادئ " لاسحاق نيوتن . وفي غرفة النوم يضع كتب روسو وديفيد هيوم قرب سريره، حيث يقرأ ساعة قبل النوم، وفي الاثناء يسجل في اوراق بعض الملاحظات .
‏يكتب فريدريك غرو في كتابه " فلسفة المشي" – ترجمة سيعيد بوكرامي - ان كانط لم يغير مساره اليومي إلا مرتين في حياته، مرة للحصول على نسخة مبكرة من كتاب إميل لجان جاك روسو. ومرة عندما ذهب لمتابعة اخبار الاعلان عن الثورة الفرنسية.
‏توصف فلسفة كانط بانها شبيهة بثورة كوبرنيكوس في الفيزياء عندما اخبرنا ان الارض لم تعد مركز الكون، وإنما الشمس،، جاء كانط ليطلب منا ان نغير نظرتنا فيما يتعلق بالمعرفة " إذا اردنا معرفة حدود عالمنا، يجب علينا ان نتحقق من حدود قدرتنا الذاتية على المعرفة "، فهو بدلا من ان يحاول تفسير المفاهيم العقلية على اساس التجربة، قام بتفسير التجربة على اساس المفاهيم العقلية، وهكذا ووفقا للثورة " الكانطية، اصبح من واجب الاشياء والحقائق الموضوعية ان تدور حول العقل لكي تتحول الى معرفة، بدلا من أن يدور العقل حول الاشياء والحقائق الموضوعية لكي يحصل على المعرفة . وقد تصور كانط انه بهذا الكتاب انما يصحح خطأ تاريخيا في ميدان المعرفة، اشبه بالخطأ الذي قام كوبرنيكوس بتصحيحه في علم الفلك . قام كانط بتثوير كل المفاهيم المعروفة حول الزمان والمكان والمادة وحرية الإرادة ووجود الخالق. مؤكداً: " إن الجزم بالمفاهيم السائدة، بكلمة نعم أو لا، يعتبر مصيدة عقلية، وسعى الى انقاذ القوانين العلمية للطبيعة، وعلى الأخص علم الفيزياء من الشك، وذلك عن طريق اثبات ان الارتباطات الضرورية لقوانين الفيزياء تقوم على التصور السببي الضروري للعقل البشري. لقد اضطر كانط لإنقاذ الحقيقة والمصداقية العلمية، الى جعل القوانين العلمية تعتمد على العقل وتصوراته، والى القول بأن النظام الذي تبرهن عليه قوانين الفيزياء ليس في الطبيعة بل هو آتٍ من التصورات الكلية والضرورية للعقل الانساني. حيث اكتشف ان الطبيعة لا تعطي العقل البشري قوانينها، لكن العكس هو الصحيح، فالعقل هو الذي يعطي الطبيعة قوانينه الخاصة، من خلال تصوراته الضرورية التي تنظم جميع المواد الحسية، وهذه هي التصورات التي تشكل وتنظم وتنشئ جميع تجاربنا ومعرفتنا بالطبيعة، ونذكر عبارة كانط الشهيرة "العقل مشروع الطبيعة"، وهكذا يتضح ان قوانين الطبيعة تعتمد على تصورات العقل البشري. ومع ظهور كانط اصبح النظام العالمي تابعاً للعقل كما قال برتراند رسل. وان المعرفة هي نتاج نشاط العقل البشري.
‏في الثانية والعشرين من عمره سيكتب إيمانويل كانط الذي ظل عازبا طوال حياته: " لقد رسمت لنفسي الطريق الذي ساسير عليه في حياتي، ولن يمنعني شيء من متابعة السير والمضي قدما ".
***
علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

(نموذج من المخاطبات الشفاهيَّة والكتابيَّة)

إذا كان قد ظهرَ بعد (الشَّريف الرَّضِي، ـ406هـ) مَن ألَّفَ نصوصًا على غِرار نصوص «نَهْج البلاغة» المنسوبة إلى (عَليِّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، ـ40هـ)، تأثُّرًا وإعجابًا(1)، فإنَّه من المعروف أنَّ المحاكاة في الثقافات الشِّفاهيَّة- وتظلُّ الخطابةُ نتاجًا شفويًّا حتى في الثقافات الكتابيَّة- تكون أشدَّ شيوعًا بين الناس. ومن هنا فلا بُدَّ أنه كان لمدرسة عَليٍّ في الخطابة مُعجبون كُثْر، ومُقلِّدون توارثوا خُطَبَه ومحاولات تقليدها عبر العصور. فاختلطَ هذا بذاك، والتبسَ المقلَّد بالمقلِّد، حتى أصبح ذلك التُّراث كلُّه أو جلُّه يُعْزَى إلى عَليٍّ، كما يحدث عادةً مع أولئك المشاهير الذين يطغى صيتهم على سِواهم، فيُنسَب إليهم كثير ممَّا شابهَ إحسانَهم. وإذا كُنا قد رأينا، في المساق الماضي، كيف وقع الالتباس في «نَهْج البلاغة» بين كلام (الرسول، صلى الله عليه وسلَّم)، وكلام عَليٍّ، وبين كلام بعض الصحابة وكلام عَليٍّ، بل بين كلام أبناء عَليٍّ وأتباعه وبين كلامه- بالرغم من أنَّ بعض ذلك كان مدوَّنًا مثبتًا لقائليه قبل تأليف «نَهْج البلاغة»- فإنَّ غير المدوَّن ولا المُثْبَت ولا المشهور أَولَى بأن يلتبس، وأن يُضاف إلى المؤثِّر الأوَّل، أستاذ تلك المدرسة، ابن أبي طالب. ومع هذا، فإنَّ المقلِّد مهما كان بارعًا في تقليده، حريصًا على محاكاة نموذجه، لا يستطيع أن يكون مطابقًا للأصل الذي قلَّده، بحالٍ من الأحوال. وهذا قد يفسِّر لنا ما ظهرَ من تفاوتٍ بين كلامٍ وكلام، وبين أسلوبٍ وأسلوب، بل أحيانًا بين مضمونٍ وآخَر، ممَّا سُلِك في عِقدٍ واحدٍ سُمِّي «نَهْج البلاغة»؛ من حيث إنَّ القائلين كُثْر، والكَتَبة متعدِّدون، والأعصُر متفرِّقة، والأمزجة مختلفة.
كذا استأنفَ بنا (ذو القُروح) نقاشه. قلتُ:
ـ كثيرًا ما قَعْقَعْتَ علينا باختلاف أساليب الناس في صدر الإسلام عن أسلوب «نَهْج البلاغة»، الذي تراه أسلوبًا عبَّاسيًّا، يرجع إلى القرن الرابع للهجرة. فهلَّا- بعد هذا الهِياط(2)- ضربتَ لنا مثالًا على أساليب صدر الإسلام.
ـ بعد هذا الهِياط، ستجد الأمثلة كثيرة. وقد سبق أن ضربتُ لك الأمثلة، من خُطب (أبي بكر الصِّدِّيق، رضي الله عنه)، بل من خُطب (عَليٍّ) نفسه، وخُطَب بعض ولده. لكنِّي سآتيك بنموذجٍ شاهد، يجمع لك بين المكتوب والمنطوق. فلعلَّك تزعم أنَّ الاستشهاد بالمنطوق على المنطوق لا شاهد فيه؛ لأنهما متساويان في ظنِّيَّة الثُّبوت، غير أنَّ المكتوب أوثق. وسآتيك بهذا الشاهد برواية أحد شارحي «نَهْج البلاغة» العَلَوِيِّين، ومع ذلك فإنه، كغيره، لا يتنبَّه إلى ما سمَّاه (الذَّهَبي) بـ«نَفَس الصحابة» وجِيلهم واختلافه عن نَفَس الأجيال اللَّاحقة، ولا سيما في العصر العبَّاسي، الذي جاء «نَهْج البلاغة» على منواله. فانظر، مثلًا، إلى هذه المراسلات بين (عُمَر بن الخطَّاب) و(عمرو بن العاص)، مع بعض المخاطبات الشَّفويَّة أثناء ذلك، لتستشفَّ: كيف كان الناس يعبِّرون، ويصوغون جُملهم التداوليَّة في ذلك الزمن، مشافهةً ومكاتبة؟ ومن ثَمَّ لعلَّك تُقارن هذا بذلك الذي نسبه (الشَّريف الرَّضِي) إلى الأمام عَليٍّ، لتلحظ الفرق الشاسع. ويتعلَّق شاهدنا بمكافحة الفساد، الذي لا سبيل إلى اجتثاثه إلَّا بعزيمةٍ كعزيمة ابن الخطَّاب. ففي هذا الشأن، روى (ابن أبي الحديد، ـ656هـ)(3)- شارح «نَهْج البلاغة»- عن (الزُّبير بن بكَّار، ـ256هـ)، ما يأتي:
«لمَّا قلَّد (عُمَرُ) (عمرو بن العاص) (مِصْر)، بلغَه أنَّه قد صار له مالٌ عظيمٌ، من ناطقٍ وصامت! فكتبَ إليه:
«أمَّا بعد، فقد ظهرَ لي مِن مالِكَ ما لم يكن في رزقك، ولا كان لك مالٌ قبل أن أستعملك! فأنَّى لكَ هذا؟! فوالله، لو لم يهمَّني في ذات اللهِ إلَّا مَن اختانَ في مال الله، لكثُر هَمِّي، وانتثرَ أمري! ولقد كان عندي من المهاجرين الأوَّلين مَن هو خيرٌ منك، ولكنِّي قلَّدتك رجاءَ غنائك. فاكتب إليَّ: مِن أين لك هذا المال.. وعَجِّل!»
فكتب إليه (عمرو):
«أمَّا بعد، فقد فهمتُ كتابَ أمير المؤمنين. فأمَّا ما ظهر لي من مال، فإنَّا قَدِمنا بلادًا رخيصة الأسعار، كثيرة الغَزْو، فجعلنا ما أصابنا في الفضول التي اتَّصل بأمير المؤمنين نبؤها. ووالله، لو كانت خيانتُك حَلالًا ما خُنتُك، وقد ائتمنتني! فإنَّ لنا أحسابًا، إذا رجعنا إليها أغنتْنا عن خيانتك! وذكرتَ أنَّ عندك من المهاجرين الأوَّلين مَن هو خيرٌ منِّي. فإذا كان ذاك، فوالله، ما دَقَقْتُ لك، يا أمير المؤمنين، بابًا، ولا فتحتُ لك قُفلًا!»
فكتب إليه (عُمَر):
«أمَّا بعد، فإنِّي لستُ من تسطيرك الكتاب، وتشقيقك الكلام، في شيء! ولكنَّكم، معشرَ الأُمراء، قعدتُم على عُيون الأموال، ولن تعدموا عُذرًا، وإنَّما تأكلون النار، وتتعجلَّون العار! وقد وجَّهت إليك (محمَّد بن مسلمة)، فسلِّم إليه شَطْرَ مالِك!»
فلمَّا قَدِم محمَّد، صنع له (عمرو) طعامًا، ودعاه فلم يأكل، وقال:
«هذه تَقْدِمة الشَّر! ولو جئتني بطعام الضيف، لأكلت. فنحِّ عنِّى طعامك، وأحضِر لي مالَك!»
فأحضره، فأخذ شَطْرَه. فلمَّا رأى (عمرو) كثرةَ ما أخذ منه، قال:
«لعنَ الله زمانًا صِرْتُ فيه عاملًا لعُمَر! والله، لقد رأيتُ عُمَر وأباه على كلِّ واحدٍ منهما عباءة قَطَوانيَّة، لا تُجاوز مأبض ركبتَيه، وعلى عنقه حزمة حطَب، و(العاص بن وائل) في مُزَرَّرات الديباج!»
فقال (محمَّد):
«إيهًا، عنك يا عمرو! فعُمَر، والله، خيرٌ منك! وأمَّا أبوك وأبوه فإنهما في النار! ولولا الإسلام لأُلفِيتَ معتلِفًا شاةً، يسرُّك غُزْرُها، ويسوءك بُكْوءها!»
قال: «صدقتَ، فاكتُم عليَّ!» قال: «أَفْعَلُ».»
فأين بديعيَّات العصر العبَّاسي هاهنا، التي كان يتفنَّن فيها صاحب «النَّهْج»؟! إنك لا تجد حتى من السَّجع إلَّا ما ليس يُذكر، من ذلك النوع العارض، مثل قول (عُمَر): «إنما تأكلون النار، وتتعجلَّون العار». وليس هذا بشيء. فهذا نموذج من أساليب الأُمراء في صدر الإسلام في المخاطبات الشَّفويَّة، وفي المكاتبات الدِّيوانيَّة الرسميَّة. فانظر أين هذا من ذاك؟ واحكم!
ـ ماذا عن اللُّغة؟
ـ أمَّا اللُّغة، فيصعب الاحتجاج بها في هذا السياق؛ لأنَّ لُغة العَرَب واسعة وتحتمل التعدُّد في اللهجات، وإنْ سعَى اللُّغويُّون إلى توحيدها في قوالب محدَّدة جامدة، كما أنَّها تحتمل الغلط في الرواية.
ـ مثل ماذا؟
ـ مثل استخدام كلمة «أَرْعَدَ» و«أَبْرَقَ»، في خطبة «النَّهْج» التاسعة، التي جاء فيها: «وقَدْ أَرْعَدُوا وأَبْرَقُوا، ومَعَ هَذَيْنِ الأَمْرَيْنِ الفَشَلُ.»(4) فـ(الأصمعي) يزعم أنَّ العَرَب لا تقول في وصف التهديد: أَرْعَدَ وأَبْرَقَ، بل رَعَدَ وبَرَقَ. وحين احتجُّوا عليه بقول (الكُمَيت):
أَبْـرِقْ وَأَرْعِـدْ يَـا يَزِيــ ::: ـدُ فَمَا وَعِيدُكَ لِي بِضَائِرْ
«قَالَ: الكُمَيت جُرْمقانِىٌّ من أهل (الموصل) ليس بحُجَّة!»(5) هذا زَعْم الأصمعي، ولكنَّنا نجد قبل الكُمَيت- ومن غير «الجُرْمقانيِّين»، أي القرويِّين- أنَّ ممَّا يُنسَب إلى (معاوية بن أبي سُفيان)(6) البيت:
فأَبْرِقْ وأَرعِدْ ما استطعتَ فإِنَّني ::: إليكَ بما يشجيكَ سَبْطُ الأَناملِ
بل يقول الشاعر الجاهلي (المُتلمِّس الضُّبَعي)(7):
فـإِذَا حَلَـلْـتُ ودُونَ بَيْـتَـيَ غَـاوَةٌ ::: فـابْرُقْ بِأَرْضِكَ ما بَدَا لَكَ وارْعُدِ
وقال (المُهَلْهِل بن ربيعة)(8):
أَنْبَـضُوا مَعْجِـسَ القِسِـيِّ وأَبْرَقْـ ::: ــنَا كَمَـا تُوعِدُ الفُحُولُ الفُحُولا
على أنه قد رُدَّ كلام (الأصمعي). فقد حدَّث (أبو بكر ابن دريد)، عن (أبي حاتم)، عَقِب كلام الأصمعي، قال: «فأتيتُ أبا زيد، فقلتُ له: كيف تقول من الرَّعد والبَرق: فَعَلَتْ السماءُ؟ فقالَ: رَعَدَتْ وبَرَقَتْ، فقلتُ: فمن التهدُّد؟ قَالَ: رَعَدَ وبَرَقَ، وأَرْعَدَ وأَبْرَقَ؛ فأجازَ اللُّغتَين جميعًا. وأقبلَ أعرابيٌّ مُحْرِم، فأردتُ أن أسأله، فقَالَ لي أبو زيد: دَعْني؛ فأنا أعرفُ بسؤاله منك! فقَالَ: يا أعرابي، كيف تقول: رَعَدَتْ السماءُ وبَرَقَتْ، أو أَرْعَدَتْ وأَبْرَقَتْ؟ فقَالَ: رَعَدَتْ وبَرَقَتْ، فقَالَ أبو زيد: فكيف تقول للرَّجُل من هذا؟ فقَالَ: أَمِنَ الجخيف تريد؟ يعني التهدُّد. قلت: نعم، فقَالَ: أقول: رَعَدَ وبَرَقَ، وأَرْعَدَ وأَبْرَقَ.»(9)
ـ ثمَّ ما يُدرينا أكان النصُّ المنسوب إلى (عَليٍّ) بصيغة «وقَدْ أَرْعَدُوا وأَبْرَقُوا»؟ أم بصيغة «وقَدْ رَعَدُوا وبَرَقُوا»؟!
ـ مهما يكن، فإنَّ الشِّعر يُثبِت جواز ما خطَّأه (الأصمعي)؛ لأن الشِّعر يَحكُمه البحر، ولا يَقبل التغيير في مثل هذا، وإلَّا انكسر الوزن. ولعلَّه لهذا اعتمد على الشِّعر النحويُّون واللُّغويُّون أكثر من اعتمادهم على النثر؛ لأنَّ بقاء النصِّ فيه كما قاله قائله موثوق غالبًا، لضوابط الأوزان والقوافي. ومن هنا فلا حُجَّة في مثل هذا الملحظ اللُّغوي يمكن أن يُحتجَّ بها في أنَّ لُغة «النَّهْج» لا توافق اللُّغة المتوقَّعة من (عَليِّ بن أبي طالب)، أو غيره من أهل عصور الاحتجاج، كما كانت تُسمَّى.
[للحديث بقيَّة].
***
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي
........................
(1) وقد بلغ عدد المؤلِّفين المحاكِين «نَهْج البلاغة»- الذين رصد أعمالهم (الخطيب، عبد الزهراء، (1985)، مصادر نَهْج البلاغة وأسانيده، (بيروت: دار الأضواء)، 1: 271- 273)- سبعة مؤلِّفين.
(2) الهِياط: كلمة فصيحة. ويُذكَر أنها بمعنى: الصِّياح والجَلَبَة. ومن ذلك قول العَرَب: «القوم في هِياط ومِياط». والمِياط: الدِّفاع والمشادَّة. (يُنظَر: ابن قتيبة، (د.ت)، أدب الكاتب، تحقيق: محمَّد الدالي، (بيروت: مؤسَّسة الرسالة)، 44). غير أنَّ العامِّيَّة اليوم تُنبئنا أنَّ (الهِياط) ليس مجرَّد الصِّياح، بل هو صياح مع ادِّعاء. وقال (ابن منظور، اللِّسَان، (هيط)): «وقد أُمِيتَ فِعْلُ الهِيَاط»! وهذا زعمٌ غير صحيح، بل هو حيٌّ يُرزق إلى اليوم، بعد (ابن منظور) بقرون! لكنَّ بُعد أرباب العَرَبيَّة الفُصحى عن عَرَبيَّة الناس اليوميَّة داءٌ قديم!
(3) يُنظَر: (1959)، شرح نَهْج البلاغة، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، (القاهرة: دار إحياء الكتب العَرَبيَّة)، 1: 174- 175.
(4) (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)، 114.
(5) يُنظَر: القالي، (1975)، الأمالي، عناية: محمَّد عبدالجواد الأصمعي، (القاهرة: الهيئة المِصْريَّة العامَّة للكتاب)، 1: 128.
(6) (1996)، ديوان معاوية بن أبي سُفيان، تحقيق: فاروق أسليم بن أحمد، (بيروت: دار صادر)، 106/ 6.
(7) (1970)، ديوان شِعر المتلمِّس الضُّبَعي، تحقيق: حسن كامل الصيرفي، (القاهرة: معهد المخطوطات العَرَبيَّة)، 147/ 15.
(8) (1993)، ديوان مهلهل بن ربيعة، شرح: طلال حرب، (بيروت: الدار العالميَّة)، 63/ 8.
(9) القالي، أمالي القالي، 1: 128- 129.

العقل العربي، كمنتج تاريخي وسياسي، ظلّ خاضعًا لبنية سلطوية معقدة تتجاوز الأنظمة السياسية إلى أنماط التفكير والسرديات المهيمنة التي تمأسست عبر قرون من الاستلاب. إن هذا العقل لم يتشكل في فضاء حر، بل صيغ عبر أجهزة أيديولوجية متشابكة، تضافرت فيها السلطة السياسية، والدين المُمنهج، والمؤسسة العسكرية، والاقتصاد الريعي، لتخلق ذاتًا عربية هشّة، مستلبة، محاصرة بسرديات قسرية تمنعها من الانخراط في مشروع نقدي جذري.
هذه الهيمنة لم تقتصر على الجماهير، بل امتدت إلى المثقف الذي كان من المفترض أن يكون القادر على تفكيكها، لكنه في الغالب استحال إلى كائن مُذعن، خاضع، يكرر ما تنتجه المؤسسة بدل أن يكون قاطعًا معها. لكن هذا الاستلاب لا يمكن قراءته فقط من خلال المنظور السياسي، بل يجب فهمه أيضًا كنظام نفسي معقد، حيث يتحول القمع الخارجي إلى جزء من بنية اللاوعي، فتتم عملية ضبط الذات ليس فقط عبر القوة المباشرة، بل عبر آليات داخلية تجعل الفرد يتماهى مع القامع إلى حدّ الدفاع عنه.
وهنا يمكن استدعاء تحليل فرويد حول “الأنا الأعلى” بوصفه سلطة داخلية تتولى تأديب الذات، أو ما يسميه ألتوسير بـ “الاستدعاء الأيديولوجي”، حيث يُعاد إنتاج القمع داخل الفرد ذاته، لا عبر العنف فحسب، بل عبر منظومة القيم التي تفرض نفسها بوصفها طبيعية وغير قابلة للنقاش.
هذا الاستلاب يبدأ منذ اللحظة الأولى التي يُوضع فيها الفرد داخل منظومة تعليمية مُصممة لإعادة إنتاج التراتبية، لا لتحديها. المدرسة ليست فضاءً للشك، بل مصنعًا لإنتاج الامتثال، والجامعة ليست ساحةً للسؤال، بل مسرحًا لاستعراض الهيمنة وإعادة توزيعها.
هذه السيرورة تجعل العقل العربي غير قادر على إنتاج نقد ذاتي، لأنه غارق في تصديق السرديات الكبرى التي تصنع له وهم التفوق أو الاستثناء، رغم أنه في جوهره يعاني من هشاشة بنيوية تجعله غير قادر على مجابهة الأسئلة الوجودية للحداثة وما بعدها.
هنا يمكن الاستفادة من تحليل جان بودريار لفكرة “المحاكاة”، حيث لا يعود العقل العربي يعيش في واقع حقيقي، بل في محاكاة لواقع مصطنع تخلقه الدولة ووسائل الإعلام والمؤسسة الدينية، بحيث يبدو كل شيء طبيعيًا، حتى لو كان قائمًا على التزييف.
في هذا السياق، يصبح الخطاب الديني أداة حيوية لاستمرار الإذعان، ليس بوصفه دينًا قائمًا على تجربة روحية فردية، بل باعتباره جهازًا سلطويًا يُستخدم لإعادة إنتاج الطاعة، بحيث يُختزل الدين في سردية رسمية تُعادي النقد وتُعيد إنتاج المقدس في قالب يخدم البنية السلطوية.
وهنا لا يمكن الحديث عن العقل العربي دون استحضار مفهوم الهيمنة لدى غرامشي، حيث تصبح الأيديولوجيا وسيلة لضبط الجماهير عبر الاستيلاء على وعيها، لا عبر القمع المباشر فقط، بل عبر خلق منظومة تجعل الاستلاب يبدو طبيعيًا، بل مرغوبًا.
فالفرد العربي، وقد تشبّع بهذه البنية، يمارس نوعًا من الطاعة الطوعية، ليس خوفًا فقط، بل لأن أي محاولة للخروج على هذه السرديات تجعله في مواجهة الفراغ، حيث لا بديل جاهز سوى إعادة التفكير في كل شيء، وهذه مهمة مرعبة لمن نشأ على تقديس الموروث بوصفه يقينًا لا يُمسّ.
هذا ما يجعل السلطة أكثر فاعلية، حيث لا تحتاج دائمًا إلى ممارسة العنف المباشر، بل يكفي أن تجعل الجماهير ترى في الخضوع شكلًا من أشكال الهوية والانتماء.
هنا يظهر دور الجيش، ليس فقط كقوة قمعية، بل كمُنتج للسردية القومية التي تبرر وجوده كفاعل مقدس لا يخضع للمساءلة. فالأنظمة العربية لم تكن مجرد ديكتاتوريات عسكرية، بل كانت آلات ضخمة لإنتاج سرديات الاستثناء، حيث يصبح الجيش هو الحامي، والقائد هو الرمز، والمثقف هو المُبرر، والعدو هو الآخر المتخيل الذي يُعاد تشكيله حسب الحاجة السياسية.
وبهذا يصبح نقد السلطة ضربًا من الخيانة، حتى عند أولئك الذين يُفترض أنهم امتلكوا أدوات تفكيكها. من هنا يمكن استدعاء تحليل دولوز وغوتاري حول “آليات السيطرة”، حيث لم تعد السلطة في العالم الحديث مجرد قمع مباشر، بل تحولت إلى شبكات متداخلة من الضبط والإنتاج، حيث يصبح المثقف ذاته جزءًا من هذه المنظومة، إما عبر التواطؤ، أو عبر استدراجه إلى دوائر أكاديمية معزولة عن الفعل السياسي الحقيقي.
المثقف العربي، الذي كان من المفترض أن يكون في موقع المواجهة، ظل في الغالب عالقًا بين التواطؤ الصريح أو الصمت المُطبق. ربما لأنه، كما يرى فوكو، ليس كائنًا خارج السلطة، بل هو جزء من نظام إنتاج المعرفة الذي يحدد ما يُقال وما لا يُقال.
هذا يفسر لماذا ظل أغلب المثقفين يمارسون خطابًا دوغمائيًا، حتى عندما يرتدون قناع التقدمية. فهم إما موظفون لدى السلطة بشكل مباشر، أو خائفون من أن يُسحب الامتياز الرمزي الذي تمنحه لهم الدولة بوصفهم “مثقفين معترف بهم”، أو غارقون في ترف التحليل الأكاديمي المعزول عن الفعل السياسي.
وهنا تظهر المفارقة التي أشار إليها بيير بورديو حول “رأس المال الرمزي”، حيث يصبح المثقف خاضعًا لمنظومة السلطة لأنه يسعى إلى الحفاظ على مكانته، مما يجعله يعيد إنتاج الخطاب السائد حتى وهو يتظاهر بنقده.
لكن، وسط هذه العتمة، كانت هناك استثناءات. قلة من المثقفين حاولوا اختراق الجدار، من مهدي عامل إلى هشام جعيط، ومن صادق جلال العظم إلى نصر حامد أبو زيد، وغيرهم ممن دفعوا الثمن باهظًا لأنهم تجرأوا على خلخلة السرديات المهيمنة.
هؤلاء لم يكونوا فقط ضد السلطة السياسية، بل أيضًا ضد الذهنية القبلية والعشائرية التي تجعل المجتمع ذاته جزءًا من ماكينة القمع. فالثائر الحقيقي في العالم العربي لا يواجه فقط النظام، بل يواجه الجماهير التي تماهت مع القامع حدّ الدفاع عنه، كما رأينا في كل لحظة ثورية قُمعت بالهتاف نفسه الذي استخدمه القاتل.
إن هذه البنية المعقدة تجعل التحرر صعبًا، لكنه ليس مستحيلًا. ما يحتاجه العقل العربي اليوم ليس إعادة إنتاج ذات النخب الفاشلة التي صنعتها الدولة العميقة، بل ولادة مشروع ما بعد حداثي قادر على تفكيك كل شيء: الدولة، الدين السياسي، الجيش، المؤسسات الثقافية الرسمية، والأهم، نقد الذات بوصفها أيضًا جزءًا من المشكلة.
فالهروب إلى نظرية المؤامرة، أو تعليق كل شيء على شماعة “الخارج”، هو في ذاته شكل من أشكال إعادة إنتاج الهيمنة، حيث يتم إلغاء الفاعلية الذاتية لصالح خطاب الضحية.

لكن هذا المشروع لا يجب أن يكون مجرد هدم للسرديات القديمة، بل يجب أن يكون قادرًا على تقديم بديل، بديل لا يعيد إنتاج الشمولية في شكل آخر، بل يقوم على تحرير الفرد من كل وصاية، بحيث يكون قادرًا على إنتاج حقيقته الخاصة، بلا خوف، وبلا أوهام كبرى.
هذا البديل يجب أن يذهب إلى ما هو أبعد من المطالبة بإصلاح سياسي، ليصل إلى تفكيك عميق لكل البُنى السلطوية التي صاغت وعي الإنسان العربي منذ قرون، بحيث لا يكون التحرر مجرد شعار، بل تجربة وجودية كاملة تُعيد تعريف الذات والعالم.
***
إبراهيم برسي

 

كان من قبيل البداهه ان تتكفل اوربا بالرؤية المواكبه لانبثاق الاله ومانتج عنها وتسببت فيه من حالة تسارع في الديناميات المجتمعية، وهو ماقد حدث ليوافق المنجز الفكري التصوري يالمادي الانقلابي، فاذا كان الاول خارج الفعل الواعي الاوربي، فان الثاني بالاحرى كان ومايزال حريا بان ينسب للمكان الذي وقعت فيه الصدفة من دون ان يتناولها احد، واولهم الغرب نفسه الذي ابدع في الكثير من المجالات الرئيسية، من دون ان يجرب الانغماس في محاولة تفسير الكامن، والسبب المتضمن وراء اختصاص الغرب الاوربي من دون سواه، بالانبجاسية الاليه، الامر الذي مايزال مبهما، ومن الاسرارالتي لم يجعل العقل الحداثي من بين مهماته الاجابة عنها، مثلها مثل الاجابة عن الاسباب التي جعلت المجتمعية تتبلور ابتداء في ارض سومر جنوب مابين النهرين، لتاتي وفق شاكله ونمطية بعينها ماتزال غير مكشوف عنها النقاب حتى الساعه.
الاهم غير ذلك، ان العقل لم يقارب مايبدو من قصورية متغاضى عنها، تظل خارج الادراكية الضرورية في حالتين منفصلتين، الاولى التبلورية البدئية، والاخيرة الراهنه الانقلابيه ما بعد اليدوية، ومايبدو انه المقصود غير المعاين والخفي وراء المناسبتين الفاصلتين، هذا وقد يكون مماينبغي عدم اهماله كون المناسبة الثانيه كما مفترض، وجدت في وضع افضل، ويدعي انه متجاوز نوعا ومستوى ما قدسبق، ماكان يوجب عليه افتراضا تحقيق ماسبق وعجز عن تحقيقه ماقبله، بالاخص قبل الاف السنين من التاريخ، وضمن نوع انتاجي ومن ثم مجتمعي ادنى، وهو مالم يحدث، فظل ماقد وقف العقل دون الكشف عنه ابتداء، كما كان بعدما اضفيت عليه تصورات واراء هي بالاحرى تجديد للقصورية الاولى، ومرحله متقدمه من مراحل سيطرتها على الاعقالية البشرية، العاجزه بازاء الظاهرة المجتمعية.
وقبل هذا وذاك من الموضواعت الاساس المطوية، تشخص مساله كبرى مغيبه هي الاخرى بما يضيف للنقص الادراكي السائد، مسالة كبرى لاموضع لمايمكن نسبته للوعي البشري مع غيابها، تلك هي مسالة الوعي الفاعل المدبر والمتحكم بالوجود البشري، وهل هو مرهون للكائن البشري، ام لقوة اخرى عليا خارج قدرة الكائن البشري على تدبر مصيره وسيرورة تصيره، والحال فاننا اذا اخذنا بالاعتبار سيرورة النشوء والترقي الدارونيه فاننا سنتعرف على موضوع ومادة حيوية هي موضوع غير مدرك ولا واع على مدى عشرات ملايين السنين، مع انها ظلت محكومة لاشتراطات حيوية ترقوية اخذتها الى الحيوانيه ومراحلها وانواعها، الى ان وصلت بها الى اللبونات، ومن ثم الانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين، وظهور الفعالية العقلية المطوية داخل الجسدية الحيوانيه على مدى الزمن الهائل الطول المنقضي قبلها. وكل هذا يعني ببساطة ان الكائن الحي محكوم لفعل وتدبيرية نشوئية، خارجه، لها مقاصد ومنتهيات ليس له هو بالذات دورا فيها، ولايعيها، مايضع الوجود البشري ضمن مقاصد كونية وطبيعيه هو ليس الطرف الواعي ولا الفعال ضمنها، وبما يتعلق بوجوده فيها، وهو مايستمر ساريا بعد ظهور العقل بصيغته الاولية، ودخوله من يومها حالة الترقي الثانيه، بعد تاريخ وجوده غير المتحقق والمطموس ابتداء، حين كان تحت وطاة الغلبة الجسدية الحيوانيه الساحقة.
ولايعقل بالطبع، بعكس الغالب المتداول، ان يظهر العقل مكتملا او متحققا بالصيغة التي وجد عليها، من دون استمرار فعل الاليات الطبيعيه الكونية، وغايتها غير المتاح ادراكها ابتداء وعلى مدى صيرورة العقل وتشكله الارتقائي ضمن العملية المجتمعية والياتها السائره الى غرضية صارت متعلقة بكينونه العقل ومساره نحو ماهو مهيأ لبلوغه، الامر الخارج عن ادراكيته، ويظل كذلك يتدرج ضمن ماتهيئه الطبيعه من موجبات، هي ادرى بها وبمفاعيلها، اي ان الكائن الحي يمر بطورين، الاول ماقبل عقلي والثاني عقلي في حال تشكل وتكامل، يظل ابتداء ناقص الادراك لاشتراطات واليات وجوده، لم يتحرر من فعل وغلبة الغائية الكونية الخارجه عن ارادته ووعيه.
وتبقى البيئة والطبيعه هي الرحم الذي يتصير فيه الكائن الحي، هي التي توفر له اسباب وجوده وتحقيق حاجاته واشراطات تطوره عبر المراحل والفترات، وصولا الى البداية والى الفترة الاولى من محاولة ادراك الغائية الطبيعية الموصوله بالغائية الكونية العليا قوانينها وغراضها غير المكشوف عنها النقاب ودور الكائن الحي ضمنها، فما كان كما هو الحال الواقع ممكنا كابتداء ادراكي، ان لايذهب العقل الابتدائي الحالي الى تكريس ذاتيته ومعتقده حول وجوده المادي والمجتمعي بصفته هو بما هو عليه راهنا، الغاية الاساس للوجود، والقادر بعد ظهور العقل الابتدائي على ادراك كل مايخص ويتعلق بحقيقته الوجودية.
ومع ان هذا الميل ظل هو الغالب تصورا وممارسة عملية، الا ان نوعا اخر من النظر كان قد لازم الظاهرة المجتمعية من بداياتها، وظل يمثل ازدواجا في النظر والرؤية مابين وجهة سماوية تحيل الوجود الى مابعد مادية، وارضوية هي الاكثر حضورا واقعيا وعمليا، تلك التي تعتمد الملموسات والمعاش، وهنا ايضا تتدخل البيئة الفاعلة المقررة فتجعل من المجتمعية التي هي اخر المحطات التصيرية باتجاه الغلبة العقلية على حساب الجسدية الحاجاتيه، فتجعل من المجتمعية الاولى ومفتتح التبلور المجتمعي النهري الرافديني، محكومة لاشتراطات الطرد البيئي اللاارضوية، ومن ثم للتعبيرية التي تطابق نوعها، وتجعل منه بالاليات الاصطراعية معمما مخترقا للبنية المجتمعية الارضوية، وحاضر بين تضاعيفها ارتكازا الى الازدواج البنيوي البشري ( عقل / جسد)، ذلك بغض النظر عن كون المنظور اللاارضوي الممكن في حينه وكابتداء هو مادون ممكنات التحققية، بانتظار ان تنتهي السيرورة المجتمعية الى توفير اسباب الانقلابيه العلّية اللاارضوية المادية والادراكية مافوق الحدسية الاولى النبوية.
توجد المجتمعات بحسب مامصاغ ومصمم كونيا، باعتبارها المحطة الاخيرة الفاصلة بين القصور الادراكي الوجودي البشري، وبين المنتهى المقصود، حين يصبح العقل (ادراك فعال) وفعل، من المؤكد ضمن اشتراطات اخرى غير مجتمعية ارضوية، اي ان المحطة المجتمعية هي طور الانتقالية من الحيوانيه الى "الانسان" الذي لم يظهر بعد، بينما تلصق به هذه الصفة اعتباطا بدل اسمه الذي يستحقه باعتباره "انسايوانيا" وصيغة انتقال كينونه.
بينما يبدا التشكل المجتمعي السومري لاارضوي مستقبلي متعد للارضوية مترافقا مع الابتداء اليدوي انتاجا، يبدا الانقلاب الالي الاوربي مكرسا باعلى الممكنات التصورية، التابيدية المجتمعية الارضوية، فلا يرى في الاله كونها عنصر انهاء للاارضوية، وذهاب الى مابعدها بناء للتحورات الموضوعية الحاكمة للوسيلة الانتاجية الانقلابيه النوعية، وهو مايسقط دونه العقل الارضوي متوقفا عند الصيغة الالية الاولى المصنعية، قبل التكنولوجية الانتاجية الراهنه، والتكنولوجيا العليا الوشيبكة الانبثاق.
ـ يتبع ـ
***
عبد الأمير الركابي

 

لقد كنت ممن خطّوا أقلامهم احتفاءً بيوم المرأة، وأفضت في وصف مكانتها ودورها، ولكن.. مع مرور الأيّام وتراكم التّجارب، تبدّلت قناعاتي وتغيّرت نظرتي إلى هذا اليوم، فبعد أن كنت أراه رمزا للتّقدير والتّكريم، بتُّ أراه اليوم مناسبة لتسليط الضّوء على التّحدّيات الّتي تواجهها المرأة في مجتمعاتنا، ولم يعد الأمر بالنّسبة لي مجرّد احتفال شكليّ، بل هو دعوة للتأمّل في واقع المرأة المعاصر، ومساءلة للظّروف الّتي تحيط بها، فالمرأة لا تحتاج إلى يوم واحد لتثبت جدارتها، بل هي تثبتها كلّ يوم من خلال إنجازاتها وتضحياتها.
في هذا اليوم، تطلّ علينا عبارات التّهنئة والتّبريكات، وتصدح حناجر المجتمع بكلمات الإشادة والتّقدير لدور المرأة في الحياة، ولكن.. في خضمّ هذا الاحتفاء الظّاهريّ، يتبدّى لنا سؤال جوهريّ: هل يعكس هذا الاحتفال حقّا نظرة مجتمعيّة عميقة ومتجذّرة للمرأة، أم أنّه مجرّد طقس سنويّ يتكرّر دون وعي حقيقيّ بمضامينه؟
تتردّد عبارة "كوني أنتِ" في هذا اليوم، وكأنّها تعويذة سحريّة تمنح المرأة استقلاليّتها وحرّيّتها، لكن.. هل يدرك المجتمع حقّا ما تعنيه هذه العبارة؟ هل هي كلمات جوفاء، أم أنّها دعوة حقيقيّة للمرأة لتتحرّر من القيود المجتمعيّة، وتعبّر عن ذاتها؟
في كثير من الأحيان، تتحوّل هذه العبارة إلى شعار سطحيّ، يردّده البعض دون فهم عميق لأبعاده. فالمجتمع الّذي يهنّئ المرأة في يومها، قد يكون هو نفسه الّذي يقيّد حرّيّتها ويحجّم دورها بقيّة أيّام السنة.
إنّ الاحتفاء بالفرق بين الجنسين قد يؤدّي إلى ترسيخ الصّورة النّمطيّة للمرأة، وتحديد دورها في المجتمع، فالمساواة لا تعني تجاهل الاختلافات البيولوجيّة بين الرّجال والنّساء، بل تعني منح كلّ فرد، بغض النّظر عن جنسه، الفرصة الكاملة لتحقيق ذاته والمساهمة في بناء المجتمع.
المساواة بين الجنسين تتطلّب رفضا قاطعا للجندر والتّمييز، فالمجتمع الّذي يؤمن بالمساواة لا يحدّد أدوار الأفراد بناء على جنسهم، بل بناء على قدراتهم ومواهبهم.
لنجعل من يوم المرأة العالميّ منطلقا لتأصيل قيم المساواة، ومناسبة لترسيخ دعائم مجتمع قوامه العدل، يجلّ الإنسانيّة في جوهرها، لا في قالب الجنس، فما المرأة والرّجل إلا شطران يكمل أحدهما الآخر، ويشتركان في بناء صرح الحياة، ولكلّ منهما بصمته الفريدة، ومساهمته القيّمة في تشييد لَبِنات الأسرة والمجتمع.
***
صباح بشير

 

التطبيقات القديمة أصبحت ذات قيمة محدودة، ولا تواكب ألياتها التأثيرية الوعي المعاصر، عندما يمتزج المحتوى الاجتماعي مع الماضي الأسطوري، مع مرور الزمن وظهور أفكار ومدركات مختلفة لا يمكن ان تتشكل ن خلاله أداة لفهمٍ جديدة، الأسطورة لها وظيفتها التأسيسية وهي التفسير البسيط والخيالي في فهم تحديات الطبيعة، لكن بقاء فعالياتها على هذه الشاكلة يؤدي الى تناقض بين مجموعة المكونات العلمية للوعي المعاصر وتؤثر بالتالي على كيفية تقدم البلدان، هذا ينبع من ادراك غير مطمئن، لان الذي كان سائدا لا يشكل امتيازا حضاريا الان، ويفسد مؤشرات نحتاجها لمتابعة التطور، النتيجة ستكون مجتمعات غاية في الهشاشة والاضطراب، استثمرت فيها قوى عالمية وإقليمية اصطفت معا لتمكين التفوق لصالح الخطاب الأسطوري، وذلك من خلال استخدام الرمزية التاريخية في تأسيس المجموعات الطائفية. الخطاب الاسطوري له القدرة على النفاذ داخل البنية الاجتماعية ببطء وبشكل تراكمي ليصبح سمة مجتمعية ثابتة، مستغلا تنامي مشاعر الإحباط والانهزامية في المجتمعات التي تعيش تحت ظروف الاستلاب والتبعية والذي تؤثر مفصليا على جميع الشرائح المجتمعية، بالأخص الشرائح الأدنى وعيا. ان الضحايا دائما طيبون لكنهم شرسون في مطاردة الأفكار الجديدة باعتبارها مصدرا للفوضى. قليلون يدركون هذه البنية ...! هم المثقفون والقابضون على السلطة، المثقفون الواعون لا يملكون القدرة الادائية التي تتطلبها هذه المهارة، والقابضون على السلطة قادرون على تفتيت الأفكار الخلاقة باعتبارها تهديدا عندما تكون التركيبة المجتمعية غير واضحة التعريف.
المثقفون والوعي الاجتماعي
يمكن للمثقفين تغيير الوعي الاجتماعي والثقافي من خلال العمل في مجال الأبداع والبحث وكذلك من خلال وسائل التواصل السريع عبر الإنترنت للوصول إلى جمهور أكبر وتقديم إعادة شرح تحليلي يعزز المصداقية، حيث تتوالى التطورات العلمية والثقافية والتكنولوجية، يمكن أن يشكل أسلوب طرح المثقفين هذا ميزة قوة للمحتوى المطروح، لكن هناك تحديات تقف في وجه اغلب المثقفين، أصبح الحديث العلمي في دول بعينها التي تفتقر إلى الحرية المعرفية معارضة للسلطة، من الطبيعي أن يتحدث المثقفون بلغة وسائل التواصل الاجتماعي كي يتأثر المتلقي بالتالي كيف يمكن للمثقف أن يسهم بشكل كبير في إنتاج وعي جديد دون تقديم المعرفة والنقاشات التي تشجع على التفكير النقدي دون لغة معاصرة؟، ان توسيع آفق الأفراد والمجتمعات سيكون عبر الأدب، والفنون، والموسيقى وبذلك يمكن للمثقفين التعبير عن قضايا اجتماعية وثقافية تساهم في تشكيل الوعي الجمعي، ويمكنهم من تقديم رؤى جديدة حول القضايا الجدلية والمساعدة في توجيه السياسات العامة وذلك من خلال المشاركة في الحوارات العامة والمناسبات الثقافية، يمكنهم من طرح أفكار جديدة وتحفيز النقاش حول موضوعات مهمة واستخدام الوسائط الرقمية لنشر الأفكار والمعلومات كي يتمكنوا من الوصول إلى جمهور واسع يساهم في تغيير الوعي الى وعي جديد بالتالي يمكن ان يلعب المثقفون دورًا حيويًا في تشكيل الوعي الاجتماعي والثقافي الجديد وتحفيز التغيير الإيجابي.
تحديات الوعي الجديد
الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية لنشر الأفكار بسرعة وفعالية، يسهل الوصول إلى جمهور أوسع ومواكبة التطورات العلمية والثقافية والتكنولوجية لتقديم محتوى حديث وموثوق، يعزز المصداقية ويشجع الجمهور على التفكير النقدي وتحليل المعلومات بدلاً من قبولها بشكل سلبي، كذلك يساعد على مواجهة المعلومات المضللة والعمل على تعزيز حرية التعبير والدعوة إلى حقوق المثقفين في مواجهة أي قيود تعيق عملهم، من خلال تطبيق هذه الاستراتيجيات يمكن للمثقفين التغلب على التحديات وتعزيز نشر الوعي الجديد بشكل أكثر فعالية.
التحديات في المنطقة العربية
تواجه المثقفين في المنطقة العربية عدة اشكاليات، اذ يعاني العديد من المثقفين قمعا للحرية الفكرية والارتفاع العالي للسقف المقدس، مما يحد من قدرتهم على التعبير عن آرائهم ونشر أفكارهم. الافتقار إلى الدعم المالي وقلة الموارد المالية المتاحة للمشاريع الثقافية والأبحاث، يمكن أن يعوق الإنتاج الفكري. انتشار الأخبار الكاذبة والمعلومات المشوهة عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، يجعل من الصعب تمييز الحقائق. الظروف الاقتصادية الصعبة حيث يكون التركيز غالبًا على القضايا اليومية بدلًا من القضايا الثقافية والفكرية يجعلهم ينكفئون على الذاتي ويغادرون منطقة التحصين الى النزعات الانتهازية، الصراعات السياسية والانقسامات الطائفية تؤدي إلى تهميش بعض الأصوات الثقافية، مما يحجب التنوع الفكري، ضعف نظام التعليم في بعض الدول العربية يمكن أن يؤثر على مستوى الوعي الثقافي والعلمي لدى الأجيال الجديدة، التوترات المتعلقة بالهويات الثقافية والدينية تؤدي إلى صراعات تؤثر على التعبير الثقافي والفكري.
الوعي الذاتي والخرافات
الوعي الذاتي هو مفهوم يتطلب التفكير النقدي والقدرة على تحليل الأفكار والمعتقدات الشخصية. إذا كان المثقف مدمراً بالخرافات، فإن ذلك يمكن أن يؤثر سلباً على قدرته على إنتاج وعي جديد. عندما يعتمد المثقف على الخرافات، يفقد القدرة على التفكير النقدي وتحليل المعلومات بشكل موضوعي، مما يقود إلى نشر أفكار مضللة، إذا كان المثقف يتبنى خرافات، يفقد مصداقيته أمام الجمهور، مما يقلل من تأثيره وقدرته على طرح أفكار جديدة .المثقفون الذين يروجون للخرافات يمكن أن يسهموا في تعزيز الجهل وعدم الفهم، ما يعيق جهود نشر الوعي العلمي والثقافي يجب على المثقفين تطوير مهاراتهم في التفكير النقدي من خلال التعليم المستمر، يساعدهم هذا على التفريق بين الحقائق والخرافات، الانفتاح على الأفكار والعلوم الحديثة يمكن أن يساعد المثقفين في تصحيح المفاهيم الخاطئة وتعزيز الوعي الذاتي الإيجابي، من المهم أن يسعى المثقفون إلى تطوير وعي ذاتي قائم على المعرفة والدليل بدلاً من الاعتماد على الخرافات، لضمان تأثير إيجابي على المجتمع. تساهم الخرافات في تشكيل نظرة غير واقعية للذات وللعالم، مما يؤثر سلبا على قدرة الافراد من التعامل مع المجتمع بشكل إيجابي. تعزيز الوعي الذاتي يتطلب تحدي هذه الخرافات والبحث عن الحقائق المبنية على الأدلة. الخرافات عادةً لا تلبي، بل يمكن أن تكون عائقًا أمام تحقيق أهدافه. وتقيد المثقف بأفكار غير واقعية عن النجاح الاعتماد على الحظ أو عوامل خارجية أخرى يمكن أن تقلل من الدافع للعمل الجاد وتحقيق الأهداف، الاعتماد على الخرافات يمنع المثقف من التفكير النقدي وتحليل الأفكار بشكل موضوعي، وتؤثر سلبًا على قدرته على الإبداع والابتكار. الخرافات حول الكمال أو مقارنة الذات بالآخرين يمكن أن تؤدي إلى تدني الثقة بالنفس، مما يجعل المثقف يشك في قدراته خصوصا إذا كان المثقف محاطًا بأشخاص يتبنون خرافات معينة، قد يؤثر ذلك على رؤيته وطموحاته، مما يجعله أقل قدرة على تحقيق إمكانياته. الخرافات تؤدي إلى الانغلاق الفكري، وتمنع المثقف من استكشاف أفكار جديدة أو التفاعل مع آراء مختلفة، لذا من المهم أن يعمل المثقفون على تحدي هذه الاشتباكات وبناء طموحاتهم على أسس واقعية وصحيحة، ما يمكنهم من تحقيق أهدافهم بفعالية. الخرافات غالبًا ما تنطوي على قوى خارقة قد تؤدي إلى سلوكيات غير عقلانية أو حتى ضارة، مثل الخوف من أشياء غير حقيقية أو اتخاذ قرارات بناءً على معتقدات زائفة، وتستند إلى تقاليد قديمة غالبًا ما تتشارك في معاني بسيطة أو سطحية، وتكون مرتبطة بتجارب فردية، في العديد من المجتمعات القديمة، كانت الخرافات تُستخدم لتفسير الظواهر الطبيعية والأحداث الغامضة، مثل الزلازل أو الفيضانات، هذه التفسيرات غالبًا ما كانت تتداخل مع المعتقدات الدينية، حيث كان يُعتقد أن الآلهة أو الكائنات الروحية تلعب دورًا في هذه الظواهر. مع تطور المجتمعات، تم تعديل بعض الخرافات لتتناسب مع المعتقدات العلمية في بعض الحالات، تم رفض الخرافات لصالح تعاليم دينية أكثر عقلانية مما أدى إلى صراعات بين من يؤمنون بالعلم والتفكير العقلاني ومن يتمسكون بالممارسات الخرافية، تظهر هذه العلاقة التعقيد الذي كان يميز المجتمعات القديمة، وكيف أن الخرافات والمعتقدات الدينية كانت جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية. ان التقدم العملي اظهر بشكل جلي الحاجة الى بناء وعي جديد ودور المثقف الواعي فيه يجب ان يكون متناغما ومتميزا رغم التحديات الجسام.
***
غالب المسعودي

 

كيف تتغير طقوس التلقي في عالم مشتت؟

ممارسة القراءة هو فعل نبيل ونقي لدرجة أن الجميع يريدون نسبها إلى أنفسهم، حتى فنانون من طراز فيرديناندو شيانا، الذي أكد في مقال له: "المصور ليس خالقًا، إنه قارئ، الصور يصنعها العالم، تصنعها الإضاءة: العالم يكتب بقلم من ضوء".
حتى طرق القراءة أصبحت مذهلة. فالمدن، على سبيل المثال، يتم قراءتها اليوم بالأقدام، كما يفعل السياح المثقفون، المتجولون الذين يسيرون ببطء بين المتاحف والكنائس ومنازل الفنانين. ومدى منح فعل القراءة قيمة لما يرتبط به يظهر جليًا من خلال التعبير "الكتابة بالأقدام"، الذي يأخذ دلالة مختلفة تمامًا.
حتى الأميّون يقرؤون، ولكن هذه المرة اللوحات، التي أُعيدت تسميتها بـ"النصوص التصويرية"، بحيث تتحول اللوحات الجدارية في دير عريق، مثل دير سان كولومبانو، إلى خلاصة للمعرفة في العصور الوسطى، يقرؤها المؤمن البسيط منذ قرون كما لو كانت كتابًا مصورًا ضخمًا.
بل حتى الكتابة، كما تؤكد بعض الأصوات المرموقة، ليست سوى شكل آخر من أشكال القراءة. كان تشيزاري غاربولي من أوائل الذين أشاروا إلى ذلك: "الروايات مكتوبة سلفًا؛ لجعلها موجودة، ولإعطائها شكلًا وجسدًا، يجب “عزفها”، وإخراج الموسيقى من الهواء [...] الرواية هي ثمرة الحرمان: لا يتعلق الأمر بكتابتها أو بسرد قصة، بل بـ"قراءتها".
وقد قال ذلك أيضًا بورخيس، المدافع عن جمالية التلقي، إذ رأى أن البطل الحقيقي للأدب هو القارئ، كما في قصة بيير مينار، مؤلف دون كيخوته. ويمكننا أن نستحضر شخصيات قصة مكتبة بابل، التي تمثل الكتاب الذين يجوبون بين الأرفف اللانهائية بحثًا عن شذرات من المعنى، وكأن نشاطهم الأساسي ليس الكتابة، بل القراءة، لأن من يصنع الأدب هو من يقرؤه.
ربما يعود ذلك إلى أن النص الحي دائمًا ما يكون أكثر وعيًا من كاتبه، لأن فعل الكتابة الأدبية الحقيقية يخون ويحرّف النوايا الأصلية للمؤلف، الذي يكون غالبًا أكثر قصر نظر وبراءة من إلهامه الخفي. وهنا، في هذا التفاوت، في هذه الازدواجية، عندما يفقد الكاتب ملكيته الكاملة لما يصرّح به، يتدخل القارئ. وكما يقول الناقد ريكاردو بيغليا، فإننا نقرأ للعثور في النص على ما تم حذفه أيضًا.
المشكلة، والتي تثير القلق لدى كل من يعمل في مجال النشر، هي أن انتشار هذه الأشكال الجديدة من القراءة يسير بالتوازي مع الانحسار التدريجي للقراءة التقليدية. في الواقع، اليوم نقرأ كل شيء باستثناء الكتب. نقرأ لوحة، نقرأ كفّ اليد، نقرأ الأفكار، بينما يتناقص عدد قرّاء الكتب أكثر فأكثر. ولسبب غامض، باتت قراءة العالم نشاطًا نبيلًا، بينما أصبحت قراءة الورق المطبوع أمرًا زائدًا عن الحاجة، إن لم يكن عتيقًا.
حتى أكثر القرّاء خبرة، أولئك الذين يتقاضون أجرًا للقراءة، بالكاد يقرؤون، لأنه، كما لاحظ مانغانيللي، فإن القارئ المحترف هو في المقام الأول من يعرف أي الكتب لا يجب قراءتها، تجنبًا لإضاعة الوقت على نصوص ذات قيمة متدنية، أو بدافع الغرور، لأن الثقافة تمنحك القدرة على القول: «لقد قرأت حتى الكتب التي لم أقرأها» كما قالت إليزابيتا سغاربي.
إنها مسألة تركيز. كما في حالة الكاتب الأرجنتيني إنريكي لارريتا، الذي وصفه أدولفو بيوي كاساريس بأنه كان يتمتع بذكاء حاد لدرجة لم يكن يسمح له بالقراءة؛ فكل جملة كانت تفتح أمامه عوالم لا نهائية من الأفكار والصور، وكان، وهو غارق في العوالم التي يخلقها عقله، يفقد خيط القراءة.
لكن الانتباه أصبح سلعة نادرة لدى الجميع، نظرًا لكثرة الأصوات والقصص التي تطالب بجمهور. القارئ المثالي، ذاك الذي يخاطبه سيرفانتس في مستهل مقدمة دون كيخوته، الذي ترجمناه إلى أشكال متعددة أقل تكثيفًا، من "أيها القارئ المبارك، الذي لا شيء يشغلك" (فرديناندو كارليزي)، إلى "أيها القارئ المحظوظ، الذي تستمتع بالفراغ" (بييترو كورسيو)؛ أي ذاك القادر على أن يكون مشغولًا فقط بمتعة القراءة، لم يعد اليوم سوى شخصية تنتمي إلى الماضي، غير متوافقة مع إيقاع الحياة الحديثة وطرق استهلاك القصص الجديدة.
يعرف كتاب السيناريو في المسلسلات التلفزيونية هذا الأمر جيدًا، حيث يُطلب منهم في كثير من الأحيان كتابة حوارات تفسيرية أو تلخيصية، حيث يصف فيها الشخصية نفس الأفعال التي تقوم بها، وذلك لمراعاة مشاهدة الجمهور العَرَضية، أي عادة مشاهدة التلفاز كخلفية، أشبه بعلكة للعينين، بينما ننشغل بأمر آخر على الهاتف الذكي، وهو ما يُطلق عليه تعبير "الشاشة الثانية" الملائم تمامًا. إنها طريقة في السرد تشبه تلك التي يعتمدها ألبرتو أنجيلا في برامجه الثقافية، حيث يعمد إلى تكرار المعاني التي توجه السرد بحركات جسدية توضيحية، لمقاومة تلك التشتيتات الطبيعية.
لكن حتى في الدائرة الضيقة لقراء الكتب التقليديين، الذين لا تزال القراءة بالنسبة لهم الأداة الأساسية لاختبار العالم، تظل الغرابة هي السائدة. فلكل قبيلة صغيرة هوسها الخاص وميدان صيدها الخاص.
الأكثر انتقائية هم القراء المتعصبون، أولئك الذين يحبون الكتّاب الذين يتحدون القارئ حتى الإنهاك، والذين يبدون صعبين إلى درجة الأسطورة، مثل أنطونيو بيتسوتو، وأرنو شميدت، وجيمس جويس، وهم ليسوا مجرد "قراء متمرسين"، بل قراء أشداء، ومن المؤكد أنهم لا يمكنهم قراءة هذه الأعمال في الحافلة، ناهيك عن وجود ضوضاء في الخلفية.
شبه نخبوي أيضًا هو النوع الفرعي للقراءة المُرضية، التي تفضل الكتب التي تمنح القارئ شعورًا بالتميز، من مؤلفين مرموقين يحظون بإعجاب نخبة قليلة، من الكلاسيكيات المعاصرة التي لم تحظَ بعد بالتقدير الكامل من الجوائز الكبرى، لأن جاذبية الكتاب يُنظر إليها كدليل على الاستسلام المخزي للتوجهات العامة. ميكيلي ماري هو أحد المفضلين لدى هذا النوع من القراء، حيث كتبت عنه إحدى الناقدات مؤخرًا على حسابها في فيسبوك: " من المؤسف أن العثور على كتاب يجعلك تضحك أمرٌ صعب. لقد أنهيت قطعة الكعكة وعصير البرتقال، وأنا أضحك بمفردي. لطالما أحببت الأشخاص الذين يجلسون وحدهم في المقاهي ويضحكون. أرى نفسي بطرف عيني وأعجب بنفسي." وهذا هو بالضبط جمهور ميكيلي ماري، فهو يعجب بالأشخاص الذين يعجبون بأنفسهم، وقراءته قد تصبح تجربة خارج الجسد، حيث يرى القارئ نفسه يقرأ، كما لو كان يحمل مرآة لمراقبة نفسه.
إحدى أكثر أنواع القراءة غرابة هي "قراءة زيلغ"، التي تتناسب تمامًا مع الشخصية المتقلبة للقراء الحربائيين. يمكن التعرف على الكتب التي تناسب هذا الذوق بسهولة، إذ تتميز بلغة شاعرية وساحرة، تُلقي بتعويذتها على القارئ وتلفّه في دواماتها الناعمة كأداء مطرب متمكن. أبرز رموز هذا النوع هما أليساندرو باريكو، ومن قبله أندريا دي كارلو. لهذا النوع من القراءة جمهور معتبر، إذ لا أحد يحب الكتب التي تتركه كما وجدته. باستثناء ميشيل ويلبك، الذي يبدو وكأنه انتهى لتوه من قراءة كتاب من تأليفه.
أما "القراءة العشبية"، فهي تُفضل العناوين الطويلة والتافهة، وهي عادة متأصلة لدى أولئك الذين ينظرون إلى العالم من منظور الأبراج. تُمارس غالبًا في المواسم الباردة، على كرسي بجوار نافذة، مع موسيقى فرانكو باتياتو في الخلفية، وقط مسترخٍ على الركبتين، وقلم رصاص مثبت في الشعر لتحديد أفضل العبارات.
نجد كذلك "القراءة الأخلاقية"، المنتشرة بشدة في الدول الأنجلوساكسونية، والمتماشية تمامًا مع روح العصر، التي يمثلها جوناثان فرانزن، حيث لا تهم جودة النص بقدر أهمية السيرة الذاتية للمؤلف، التي يُحكم عليها وفق معايير الصواب السياسي. وكما اعترف فرانزن نفسه مؤخرًا: " أدرك أنني أصبحت أكثر حساسية تجاه الأعمال التي أنجزها أشخاص ارتكبوا أفعالًا غير أخلاقية. لا أعلم إن كان ذلك بسبب التقدم في السن، لكنني أصبحت أقل اهتمامًا بالجودة الفنية ما لم تكن متوافقة مع القيم الأخلاقية. وأعتقد أن ظلام روح الفنان يظهر حتمًا في أعماله بمرور الوقت." لا داعي للقول إن عدم وضع الأمور في سياقها التاريخي يقلص كثيرًا من نطاق القراءة الممكنة. فوفقًا لهذا الهوس المجرد بـ"النقاء" حتى بأثر رجعي، لا ينجو سوى القليل (حتى من الفنانين): جاك لندن كان عنصريًا، إرنست همنغواي كان ذكوريًا، بول غوغان كان مستعمرًا متحرشًا، روديارد كبلينغ كان إمبرياليًا، وسيلين كان الشيطان ذاته.
ثم هناك "القراءة المثالية"، الخاصة من يقرأون كتابًا على أمل أن يقرأهم من الداخل، مقتنعين بوجود ملاك حارس بجانب كل قارئ، كما في مكتبة أجنحة الرغبة. لا أحد يتخيل أن العميل الذي يتجول في مكتبة بقلق وتوتر يبحث عن الخلاص، ويأمل أن يجده في كتاب، قد نشعر بالشفقة تجاه هذه الأرواح البريئة، لكن الشخص الذي ينقذ نفسه بالقراءة هو ذاته من يمكنه إنقاذ الأدب، والكتاب الذي يغير حياة قارئه هو الوحيد الذي يستحق البحث عنه حقًا.
وأخيرًا، هناك "القراءة النهمة"، لمن "يلتهمون" الكتب بنهم شديد. عندما يصبح أحد هذه الحالات خبرًا، تتعامل معه وسائل الإعلام بمودة، كما لو كانوا آخر الرومانسيين. انظر إلى "العميل المجهول في ميلانو"، الذي اشترى في 28 أغسطس الماضي جميع الكتب المعروضة في واجهة مكتبة هوِبلي مقابل عشرة آلاف يورو؛ أو "الأستاذة العاشقة للقراءة"، التي بعد شهرين اشترت جميع الكتب المعروضة في مكتبة لاتيرزا في باري.
على أي حال، تظل هذه مجرد أشكال من القراءة الهامشية، تهم أقليات صغيرة من عشاق الأدب، ولا تدحض الحقيقة الأصلية، وهي أن العالم يعتبر من يقرأون ويكتبون غير ذي صلة اجتماعية. والحقيقة المحزنة هي أن حتى التكنولوجيا الحديثة وصلت متأخرة. فبفضل الذكاء الاصطناعي، سنتمكن قريبًا من قراءة جميع لفائف بردي فيلا بيسوني في هيركولانيوم (أكثر من 1800 نص)، ولكن لن يهتم أحد بذلك بعد الآن. لا بأس. وكما قالت أجاثا كريستي: "إنه أمر غير مهم تمامًا، ولهذا السبب فهو مثير للاهتمام."
***
الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

في المثقف اليوم