قضايا

تسعى الدول للإصلاح وتحسين الحالة التنموية والمعيشية لمواطنيها وتلافي مواطن خلل قديمة، وتسعى للنهوض الرامي إلى التقدم والتطور، وغالباً ما تكون الدول ممثلة بالقائمين بالفعل التطور يصادقه في ذلك، وإن كان حسب ظروف الدول ومواردها وإمكاناتها، ولكن سرعان ما تأتي العقبات المتعددة الأوجه لتقف في وجهها، فتمنعها من ذلك أي تحقيق تقدم فعلي على أرض الواقع، ولعل أهم الأسباب في ذلك طبقة المنافقين السياسيين الذين يملئون الدنيا بخطاباتهم الهادفة لتحقيق مصالحهم الشخصية من الأعلى أو أصحاب القرارات الذين يقعون فريسة كذبهم وإخداعهم، وهنا يقع المجتمع في ورطة النفاق السياسي، فالمنافقين السياسيين لا يختلفون عن المنافقين دينياً الذين دخلوا الدين تستراً لتحقيق مكاسب ضيقة، وكذالك شركائهم في السياسة فهم في سبيل تحقيق طموحاتهم ومصالحهم مستعدين للعق وتقبيل حذاء صاحب القرار، وهذا كله على حساب الصادقين من الأذكياء وأصحاب المشاريع السياسية لتطوير وارتقاء الدول

النفاق السياسي فهو من أخطر أشكال النفاق الديني فإن ضرره لا يمس حياة المواطن العادي بل يمس المجتمع كله، والسؤال هنا من ينافق من؟ وهل الحكومة في حاجة إلى من ينافقه رغم احتكاره لمصادر القوة القهرية والمادية؟ نعم الحكومة في حاجة لمن ينافقه: وهذا سببه ضعف الحكومة، وعدم رضا الناس، وعدم قبولهم، وذلك لضعف أداء نظام الحكومي، وعدم قدرته على تحقيق التكافؤ في عدالة إعادة توزيع الثروة، والتصدي لمشاكل المجتمع من فقر وبطالة، ومثل هذه النظم تخصص موارد الدولة لدعم المنافقين والتي تأتي على حساب مشاريع التنمية المجتمعية والاقتصادية. ولدعم حكومي يساهم في خلق دائرة وشرائح كثيرة ممن لهم استعداد للنفاق، من أمثال من يسعون إلى الثروة واحتكارها، والذين من أجل إرضاء الحاكم وعدم غضبه يحجبون عنه الحقيقة وما يدور بين ثنايا المجتمع، ما يدفع بالسفينة إلى الغرق بمن فيها الحاكم والمحكوم، وهناك بعض الإعلاميين الذين يسخرون أقلامهم للدفاع عن أنظمة حكم لها الفضل في تعيينهم وسيطرتهم، لا يخلو النفاق من شريحة المثقفين والمفكرين والأكاديميين الذين قد يسعون لمنصب سياسي أو وزاري. كل هذه الشرائح تلتقي في حلقة مشتركة مع الحكومة وهي الرغبة في التملك والسيطرة والجاه والنفوذ، والمحصلة النهائية لهذا التفاعل هي خلق ودعم واستمرارية أنظمة حكم غير مكترثة برضا شعوبها بقدر رضا شريحة صغيرة من المنافقين الذين يسعون إلى مصالح ضيقة على حساب المصلحة العامة، هذه الظاهرة هي التي تقف وراء كل الأمراض والعلل التي تعاني منها مجتمعاتنا، من تشدد وتطرف، وكراهية وخوف، وقهر وتخلف وغياب للحقوق والحريات. البديل فرض مبادئ العدالة والمساواة وسيادة القانون، و تنمية المجتمع وقواه ومؤسساته، وفرز هذه الشريحة من المنافقين ونبذهم في مجتمعهم، والتوعية والتنشئة السليمة بإعادة النظر في طبيعة ودور مؤسسات التنشئة، وإبراز القيم للدين الإسلامي، وإعادة بناء منظومة القيم وغرس فكرة المواطنة المسؤولة, يظل المنافق شخصية متلونه لا تعرف الثبات على المبادي, قال عليه افضل الصلاة والسلام (إن أخوف ما خاف عليكم بعدي منافق عليم اللسان) (عليم اللسان يمتلك المنطق ومنزوع المبادئ تحركه مصالحة الشخصية، للاسف نحن في زمان يمرح فيه كثير من المنافقين والمتسلقين

ان ما يزيد من خطر النفاق والمنافقين الذين يمارسون النفاق وبالتالي الكذب السياسي هو عندما يقوم الكاتب او المؤرخ او الصحافي بقلب الحقائق وتزويرها، وتضليل العامة، هنا تأتي الصدمة بالغة لأنها تكون ممن يجب أن يكونوا أمناء على الحقيقة ونقل الحقائق على اختلافها بكل شفافية وموضوعية.، فنرى ان من يشجع على منتجي النفاق في وقتننا موزعون على بعض الكتاب صحفيين ومذيعي تليفزيون وإذاعة وسياسيين وفنانين وكبار الموظفين وأصحاب أموال وأعمال ممن يرجون من نفاقهم نفعا أو يتقون به شرا, حيث يقومون «التطبيل» ويصنعون تلالا من المبالغات السياسية التى تؤدى إلى فقدان المصطلحات معناها الحقيقى، بفعل ابتذالها مثل «عهد الإنجازات المهمة» و«الرئاسة التاريخية» إلا أنها عبارات فارغة، تزيد من جعل الواقع أكثر قبحا وتقززا، والمبالغات المصاحبة للنفاق تؤدى إلى عكس ما يريده المسؤول الممدوح، أو المتزلف إليه. فما يقوله المنافق التاريخى لعمدة او وزير او رئيس اليوم، سبق أن قاله لسابقه الأمس،وهكذا أضحى النفاق السياسي المشكل الأساسي والعضال الذي يتهدد ويشكل خطورة على الاستقرار في الحياة السياسية لدى العديد من النخب السياسية. فمن يساعد على هذا التراجع في الفكر السياسي؟ ومن له منفعة في الدفع والنفخ في بالونات سياسية سرعان ما ستتفرقع بعد علوها في الهواء, وحسب الدراسات النظرية والتطبيقية اتبت أن الكثيرين من السياسيين في الدول في ممارستهم السياسية وتعاطيهم معها على الكذب وخيانة الامانة والوعود الكاذبة، ليست للسياسة ذنب في ان السياسيين منافقين، ليست السياسة هي من دفعتهم الى دلك بل هي غاياتهم وتحقيق مصالحهم الشخصية التي استخدموا السياسة من اجل الوصول اليها فكانوا سياسيين منافقين، فلكي تكون سياسي ناجح يجب ان تحترف النفاق وتعرف كيف تنافق.

النفاق السياسي له ما يبرره في واقعنا الاجتماعي، ومن ثم لا غرابة في شيوع القيم الانتهازية والوصولية والشخصية النفعية وأساليب الخداع والمكر والكذب والمراوغة والتذبذب في المواقف والتناقض في الادعاء بين القول والفعل والممارسة واحلالها محل القيم النبيلة والصدق والامانة والثقة والوفاء بالعهود وروح المسؤولية والالتزام وخدمة الصالح العام الوطني

ونتساءل هل يصل قليلو الخبرة إلى مواقع ومناصب لا يستحقونها بسبب الحظوة لدى المسؤول؟ وهل يشكل تفشي النفاق الاجتماعي خطراً على عمل المؤسسات وسير الحياة للفرد والمجتمع؟ وهل صحيح أن المنافق أصبح يتبوأ أعلى المراتب؟ وما أثر المنافق على حقوق الآخرين وزملاء العمل؟ وما الفرق بين النفاق والمجاملة؟ هل أصبح النفاق ضرورة لا بد منها؟ هل هناك تسميات أخرى للنفاق لتجميله بين الناس؟ كيف يمكن التخلص من النفاق والمنافقين؟ ولكن ألا يشكو كل ضعيف في عمله من أنه مظلوم؟ أليس هناك قوانين تحكم العمل والترقيات؟ حالة التزلف والنقاق اصبحت حالة طبيعية قي العراق , هناك من الموظفين من يغش كثيرا؛ تجده لا يتقي الله في وظيفته، يزوغ ويهمل، ويحصُل على راتب يشوبه الكثير من الحرام، يطلب من زملائه التوقيع بالحضور مع أنه لا يكون حاضرا في دائرة عمله، ومنهم من تجدهم لا يرقبون في الله إلاً ولا ذمة.. لا يهمهم أَمن حلال يأكلون أم في حرام يغوصون، يظنون أنها شطارة وفهلوة وذكاء، وهؤلاء والله بهذه الطريقة يغشون أنفسهم، ويضحكون على أنفسهم قبل كونهم يغشون الله وأصحاب مؤسساتهم ودوائر أعمالهم. وتساءل فهد: أيّ بركة ستحل على رواتب المنافقين والواصلين لمواقعهم من دون حق؟ وبأي وجه سيقابلون ربهم عند الحساب؟ ألا يعلمون أن من نبَت لحمه من حرام فالنار أولى به؟ يتحالفون مع الشيطان فيصلون به إلى حلبة من الصراع.

لا شيء يجعلك تزهد في الكرسي أكثر من تلك الجوقة التي تحيط به وتُتقن لعبة التزلف والوصولية.. أولئك الذين يظهرون فجأة وكأنهم خرجوا من العدم، ليقدموا أنفسهم كأصدقاء ناصحين وموظفين مخلصين وأعمدة داعمة، يتنافسون على الحضور الفارغ، ويتبارون في نسج عبارات المديح، يزينون القرارات مهما كانت، ويتفننون في تضخيم الإنجازات وتجاهل الإخفاقات، غير مبالين بالنتائج بقدر اهتمامهم بحجز مكان تحت ظل الكرسي وصاحبه

هذه الجوقة ليست ظاهرة جديدة، بل هي جزء من تاريخ المناصب عبر العصور.. تراهم دائمًا في الكواليس، يتغيرون بتغير الأسماء والمواقع، لكن أساليبهم تظل ثابتة؛ المدح المفرط، تقديم الولاء المصطنع، واختلاق قصص النجاح المبالغ فيها، لأن صاحب الكرسي بالنسبة لهم ليس سوى بوابة لتحقيق مصالحهم الخاصة، بغض النظر عن المصلحة العامة, حضورهم لا يقتصر على المناصب العليا فقط، بل يمتد إلى كل مستوى من مستويات المسؤولية، في مواقع العمل الصغيرة، حيث نرى الموظفين الذين يحاصرون مديرهم بإطراء مستمر، يمنحونه شعورًا زائفًا بالكمال، مما يؤدي إلى قرارات عشوائية تضر الفريق بأكمله، وهنا تكمن خطورة هذا السلوك، إذ يتحول التزلف إلى عامل يهدم بيئة العمل ويُضعف الإنتاجية، ويشوه العلاقات داخل المؤسسة؛ إذ يُسهم في خلق بيئة تنافسية غير صحية بين الموظفين، تغيب فيها روح الفريق، وتُزرع الأحقاد نتيجة التميز المبني على التملق بدلًا من الإنجاز.. ومع مرور الوقت، تتآكل الثقة بين أعضاء الفريق، ويتحول الهدف الجماعي إلى صراعات فردية, خطورة هذه الجوقة ليست فقط في المديح المفرط، بل في قدرتها على محاربة الأصوات الناقدة، الأصوات التي ربما تحمل الحلول الحقيقية للمشكلات، حيث تسعى جاهدة لأن تعيق تدفق الأفكار النقدية التي قد تحمل حلولًا مبتكرة

وهذا يجعل المسؤول يعيش في عزلة، أسيرًا لصور وهمية تُرسم أمامه.. والأسوأ من ذلك، أن هذه العزلة تخلق فجوة بينه وبين فريقه الحقيقي، وتُكرس ثقافة التزلف على حساب الإبداع والعمل الجاد، مما يؤدي إلى فقدان الثقة، وبالتالي تدهور الأداء العام، وإهدار الموارد في تنفيذ قرارات غير مدروسة تُبنى على أوهام المديح وأنغام التطبيل

ولمواجهة هذه الجوقة، لا بد للمسؤول من بناء أدوات مؤسسية تشجع على الصراحة والشفافية، مثل عقد اجتماعات دورية تتيح للجميع التعبير عن آرائهم بحرية، وإنشاء قنوات علنية وسرية لتلقي النقد والملاحظات دون خوف من العواقب، بالإضافة إلى تدريب القادة على تقبل النقد والتعامل معه بشكل إيجابي,, المسؤول الناجح هو الذي يُميّز بين النصيحة الصادقة والتزلف الماكر، ويفتح الأبواب للنقد البناء، ويُشجع على الحوار الصادق، لأنه يدرك أن الأثر الحقيقي والباقي يُقاس بعدد الإنجازات الحقيقية، لا بعدد المصفقين و"المرتوتين".

***

نهاد الحديثي

ليس خافيا الدور التخريبي الذي مارسه الموظفون الدينيون، وهم رجال وظفتهم السلطة أو هم نذروا أنفسهم لخدمتها لأسباب كثيرة يطول شرحها، والبستهم أو لبسوا باختيارهم أو بدفع من جهات سرية خفية ثيابا دينية كهنوتية، وبدأوا يمارسون لعبتهم التاريخية في تغيير مناهج السماء على هواهم دونما رادع، فقد تسبب هؤلاء في كل الأديان التي انتسبوا إليها في إحداث ردة فعل عكسية لدى الناس، دفعت بعضهم للخروج من الدين واحتقاره، ذلك لأن الإنسان منذ أن يبلغ العاشرة من العمر فصاعدا يصاب حينما يرى انحرافا فيمن يُفترض به أن يكون القدوة، برد فعل تكيفي تجاهه، بفعل تكرار التجربة وتكرار النتائج، وهو ما أطلق عليه عالم النفس الروسي إيفان بافلوف تسمية "المنعكس الشرطي"، فالإنسان بذلك العمر ـ على سبيل المثال ـ لا يلمس النار متعمدا بسبب الأذى الذي تسببه له، وقد تعلم ذلك من خلال التجربة واللسعات التي أصيب بها في كل مرة حاول فيها لمس النار، بمعنى أن التجربة هي التي خلقت في يقينه منظومة الحماية أو المنعكس الشرطي.

وقد خاض الفيلسوف ميشال أونفراي واحدة من تلك التجارب ذات المنعكس الشرطي بعد أن بعثه والداه وهو في عمر العاشرة إلى "مبيت كاثوليكي" بقي فيه لحين بلوغه الرابعة عشرة، وقد تحدث عن هذه السنوات الأربعة في كتاب له بعنوان "قوة الوجود"، ووصفها بالسنوات الجهنمية القاسية، لأنها كانت ظرفا صعبا بالنسبة إليه وإلى زملائه بسبب أفعال وسلوك الكهنة المستبدين؛ الذين كانوا لا يخجلون من استغلال نفوذهم التسلطي لاغتصاب طلابهم، وممارسة الجنس معهم، وبالنتيجة ترك الدين والكنيسة، وألحد بسبب تلك التجربة، بل وظف إمكاناته العلمية لفضح تلك المناهج والترويج للضد منها بعد أن أطلق عليها تسمية "الخرافات الرسمية" بأنواعها: الدينية والسياسية والأخلاقية والفلسفية، لأنها وفق قناعاته تعمل على تشجيع وحث الإنسان، بل وتدفعه عنوة لينسى العالم بكل جماله النقي، ويغفل عن الاستمتاع به. والذي أراه أن أونفراي لو لم يمر بتلك التجربة القاسية التي أجبره الكهنة على خوضها ما كان ليوظف كل قدراته الفكرية لمحاربة هذه المضامين الحياتية التي يراها بعضهم سامية أو مقدسة.!

وليس الاستغلال الجنسي وحده يتسبب في إحداث المنعكسات الشرطية، فكل عمل كهنوتي خارج سياقات إرادة السماء هو محفز للانعكاس، ويعطي نتائج ضررها وخيم ومدمر، لا على الدين وحده، بل على المجتمع كله، وللأسف مرت جميع مدارسنا الإسلامية التي لا تملك سلطة اختيار من يلبس اللباس الديني، ويتحدث نيابة عن الله تعالى بمثل هذه التجربة من حيث التأثير لا من حيث الممارسة. فالكهنة (المصنعون) أساءوا للعقيدة بسبب أفكارهم المنحرفة والشيطانية؛ التي تتهيب السلطات السياسية والقضائية من الوقوف بوجهها إما خوفا على المناصب أو لكي لا تتهم بأنها معادية للدين او تتهم بأنها طائفية منحازة لفئة دون أخرى.

وإذا ما عجزت السلطات القضائية والسياسية عن أداء دورها، وهي تبدو عاجزة بالتأكيد، بدلالة انتشار التخريب تحت مسميات (معممة)، فإن رجل العلم والأكاديمي المتخصص والباحث الجاد ورجل الدين المتنور الحقيقي لهم قدرة خلق الاستجابة المناعية في الإنسان، وتوجيهه للحد من حالة التضاد الفكري التي تعاني منها مجتمعاتنا اليوم، ولاسيما بعد أن فتح الانترنيت والقنوات الفضائية الباب واسعا أمام انتشار الأفكار المنحرفة دونما رقيب، وعجزت المؤسسات التعليمية عن أداء رسالتها الإنسانية بسبب المنافسة.

إن الكثير من الكهنة يمتطون اليوم ظهور الفضائيات المأجورة ليؤلبوا اتباعهم من خلال التحريف والتزوير والدس والكذب والتدليس على مسلمين (مدارس ومذاهب) آخرين لمجرد أنهم يختلفون معهم في بعض مباني العقيدة الثانوية، في الوقت الذي يحابون فيه العدو، ويتناغمون مع تطلعاته، ويتغافلون عن جرائمه، بل ويمنعون الناس من التصدي له، مثلما يحدث اليوم مع أهلنا في غزة الصامدة ولبنان البطلة واليمن الثائرة، وهذا وحده كاف لتعريتهم وفضحهم وتبيان أثر دورهم التخريبي على الدين والمجتمع، ويحملنا مسؤولية التصدي لهذا الفكر المنحرف بكل السبل المتاحة ودون هوادة قبل أن يستشري الشر ويعم البلاد والعباد.

***

الدكتور صالح الطائي

التعليم العالي اصبح نموذجا بارزا على سياسات التمييز وعدم المساواة التي اتبعتها الحكومات المتتالية في العراق. تعدد قنوات القبول، مثل ما يعرف بقناة "الموازي" والتي اعلن التعليم قبل بضعة ايام عن بدء تسجيل الطلبة المقبولين من خلالها، هو مثال واضح على هذا التمييز، حيث يقبل من خلال هذه "القناة" الطلاب في الجامعات الحكومية المجانية اذا كانوا يدفعون رسوما. تخيل انك حصلت على مقعد في جامعة حكومية مجانية بناء على نتائج امتحان البكالوريا، ثم تجد بجانبك طالبا غير مستحق حصل على مقعده بعد دفع الرسوم، او بعبارة اخرى، بعد رشوة الجامعة ليتم قبوله.

السؤال هو: كيف يسمح لطالب بالحصول على مقعد دراسي لا يستحقه في كلية طبية مجانية بعد ان يدفع رسوم دراسته؟ وما هو الفرق بين هذه الكلية والكلية الاهلية؟ الا يمكن ان تكون هذه وسيلة اخرى لانتهاك اسس العدالة الاجتماعية في القبول؟ الا يمكن ان تكون هذه طريقة اخرى لابتزاز الطلاب ومنحهم مقاعد في كليات لا يستحقونها وفقا لمعدلاتهم؟ اليس من واجب الدولة ووزارة التعليم العالي بشكل خاص منع الابتزاز او الاستغلال المالي للطلاب وضمان المساواة في القبول وعدم التمييز وتقديم الافضلية في القبول بطرق او قنوات غير عادلة كقناة ذوي الشهداء والطلبة النخبة والوقفين والوافدين، بالاضافة لقناة الموازي للقبول الخاص؟

ان نظام القبول الجامعي الحالي، القائم على وجود قنوات مختلفة للقبول، يعكس عمق ازمة انعدام المساواة التي يعاني منها قطاع التعليم العالي. قنوات القبول التي تمنح افضلية في القبول استنادا لعوامل خارجة عن شروط القبول المعتادة تمثل ظلم صارخ يساهم في تهديم قيمة التعليم الجامعي.

ان الحل لهذه الازمة لا يكمن في القاء اللوم على الافراد بقدر ما يكمن في اصلاح النظام ككل. يجب على الحكومة ان تتخذ اجراءات حاسمة لمنع التمييز في القبول في الجامعات الحكومية، وان تعمل على بناء نظام قبول عادل وشفاف يعتمد على الكفاءة والاستحقاق. كما يجب على المجتمع المدني والطلاب ان يشاركوا في هذه الجهود وان يطالبوا بحقهم في تعليم عالي عادل ومجاني.

***

محمد الربيعي

بروفسور متمرس ومستشار، جامعة دبلن

 

اذن مر تاريخ المجتمعية اليدوية على الكائن البشري بدون ان تعي المادة الحيه حقيقة ومنطوى ماهي  عنصر  وخلية وجوده وتشكله،  ومع ذلك  ورغم الحاصل اليوم من انقلاب  نوعي في الاشتراطات الوجودية المجتمعية، فقد جرى التصرف قصورا على اساس ان العقل المتاح  مؤهل،  للاحاطة بالمستجد  بلا اي شك، فعومل على انه القادر على ادراك منطويات الانقلابيه الالية بداهة،  بحيث لم يظهر وقتها والى الساعه،  مامن شانه الدلالة على الرغبة في التوقف امام ما يمكن ان يكون غير ظاهر، وليس متوفرا التعرف عليه في لحظته، بانتظار السياقات والتداعيات واجمالي المسار الالي غير العادي والاستثنائي بكل المقاييس.

ومن الواضح بلا لبس ان التناقضية المركبه كانت هي المتغلبه وقتها،  وكمثال فان اصحاب ومن اسسوا ل"علم الاجتماع" لم يسالوا وهم يقرون قصورية العقل البشري في الماضي الطويل اليدوي لهذه الجهه، عن مستجدات هذه الناحية الاساسية المتوقعه في الوعي، وكيف يمكن للعقل القاصر على المدى المنقضي ان ينقلب فجاة ليتحول الى القدرة على اختراق ما هو فائق ومختلف نوعا، مع ان الانقلاب الراهن لم يحصل عقليا بل ماديا على مستوى الوسائل الانتاجية، هكذا تعتبر الاله  وكانها حاضرة كسبب لتخلص العقل من قصوريته التاريخيه، لا على صعيد بعينه، بل واستعمل مثل هذا  الفهم الاقرب للاحتيالي، لاعتبار النقلة الاليه بحد ذاتها نقلة عقلية، عزز الركون اليها ما قد حصل في حينه من منجز عقلي مقارنه بما قبل، ومايعود الى الطور اليدوي المنقضي  ومجمل منجزه الادنى.

لم يات على البال بان العقل السابق على الانقلاب الالي هو "عقل يدوي"، في حين ان العقل الحالي لم يصبح بعد "عقلا آليا"، بمعنى المتطابق مع الاشتراطات الانقلابيه النوعية الراهنه، مايحتاج الى زمن من التفاعلية، ومن الاختبار واحتمال التقلبات، والمحاولة والخطا، ومن تطور العقل بضوء التفاعلية، كما كان حصل من قبل مع بدايات تبلور الظاهرة المجتمعية اليدوية، واجمالي مغامرتها الكبرى وعيا، قبل ان تستقر بمرور القرون ملامح وحدود الوعي المتاح المطابق للحظة البدئية التاسيسية.

هذا ويبقى العنصر الشديد الاهمية ضمن المشهد المختل الانف، العجز عن ربط منطويات الماضي واحتمالاته وماقد يكون حاضرا ويبقى مستمرا بانتظار اجمالي متحققات المسار المجتمعي الشامل، وهنا على سبيل المثال يحضر امامنا مثال ما قد اعتبره صاحب النظرية المادية التاريخيه بمثابة "عود على بدء" من "الشيوعية البدائية" الى " الشيوعية العليا المكتمله" بحيث يصير التاريخ وحركته ومساره هو تحقيق لمالم يكن بالامكان تحققه عند الابتداء، والصورة المشار اليها دالة بغض النظر عن توهميتها، لارتكازها للازدواج " الطبقي" بدل المجتمعي الرافديني المابين نهريني، حيث يفترض ومن قبيل اللازم وجوبا القول باللاارضوية المنتهية الى اللاارضوية، تبدا اولا في ارض سومر غير متوفرة على اسباب التحقق الواقعي ماديا وادراكيا، الى ان تتوفر الشروط مع انتهاء صلاحية المجتمعية الارضوية، بناء على مفاعيل الانقلاب الالي، ومايذهب اليه حكما بعد حقبة  التوهمية الافتتاحية للطورالمستجد  كما تقرره اوربا الارضوية، الاعلى ديناميات اصطراعيه ضمن نمطيتها.

ناحية اخرى لا يجب ان تغفل بهذه المناسبه، هي ما يمكن ان نطلق عليه التوافق النمطي الانتاجي، وهنا نصبح امام موضوعه جديره بالبحث جوهرها الواجب الاثبات صلة المجتمعية الارضوية باليدوية، بما يجعل الموضع الذي ظهرت فيه الاله خارج الارتقاء الى مستوى الانقلاب الالي ومقتضياته، في حين تنتمي المجتمعية اللاارضوية ابتداء الى الطور الالي ومنطوياته، وماهو موجود لكي يتمخض عنه، فالمجتمعية اللاارضوية توجد ابتداء قاصرة وغير قابلة للتحقق لافتقادها للوسيلة المادية ما فوق اليدوية، فضلا عن الادراكية العقلية التحولية، وهي تظل بحال تفاعل انتظاري لحين وقوع الانتقال الالي، ووقتها ندخل زمن المجتمعية اللاارضوية، في حين تاخذ المجتمعية الارضوية بالتراجع وجودا الى ان تفقد اسباب الاستمرار، وكما غلبت الارضوية وسادت وظلت هي  النموذج على حساب اللاارضوية ابان الطور اليدوي، تبدا الاشتراطات الحالية الالية بقلب المعادلة لصالح اللاارضوية والمجتمعية العقلية مكان الحاجاتيه الجسدية.

هذا لا يعني ان المجتمعية الارضوية لاتتاثر بحضور الاله التي تدفع الاليات المجتمعية  مسرعه اياها الى اقصى حد، مايدفع العقل الى الوثوب حتى ضمن ممكناته من دون الخروج عن حدوده،  وما يسمح به نوعه، فتظل المنجزات الكبرى ارضوية في الجوهر، وكامثلة انجازية اشتثنائية من نوع وثبة دارون العقلية، فان نظرية النشوء والارتقاء تظل محكومه الى الجسدية، فلا ينتبه  من ارسى اسسها الى كون الارتقاء عقلي وليس جسديا، رغم انه هو نفسه يقر بان العضو الجسدي بلغ قمة ترقيه النهائية، في وقت يستمر العقل منطقيا بالتطور، وبالعموم فان نفي الازدواج في البنيه البشرية يظل لهذه الجهه حاسما ومدعاة تكريس للجسدية، مع الاعتراف الشكلي بدور العقل بعد وثبته الاخيرة  مع الانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين، والشي نفسه يتكرر مع منظر الانقلابية الطبقية الذي يعجز قصورا عن رؤية ان اكتشاف الصراع الطبقي قد جاء اليوم في لحظة انتهاء مفعول الطبقات التي هي بالاحرى نتاج الطور اليدوي من التاريخ المجتمعي، وان دخول عنصر الالة مضافا الى البيئة قد غير كليا ديناميات التشكل المجتمعي الاول، ومنه  وفي مقدمه، الطبقي، وحتى انشتاين الذي يولي اهتماما بمسالة السرعة والكتله، يعجز عن رؤية احتمالية انتهاء الملموسات مع الانتقال الى المجتمعية العقلية وانتهاء زمن الجسدية اليدوية، مايجعل من مجهوده  ومنجزه الارضوي العبقري بلا قيمه حين يظهر في اللحظة  التي يكون فيها النموذج او الصيغة الارضوية الجسدية من المجتمعية على وشك المغادرة،  تاركا المجال لنقيضه  اللامادي اللاكتلوي اللازمنوي المغيب على مر القرون اليدوية قصورا.

عند هذه الحدود تتوقف الوثبة الارضوية الاليه وحداثتها الكبرى بصفتها قفزة يدوية محسنه ومتقدمه، في الوقت الذي تصير فيه هي والاله مادة تشكلية جديده، ومسار تاريخ هو التاريخ الآلي الذاهب الى الاكتمال تشكلا بالتجربة والتفاعل الاصطراعي، بعدما تاخذ الاوليات التاسيسية الانتقالية الحداثية مع الزمن وفي مجرى التفاعل الشامل كونيا، بالتراجع والتعثر مفتقدة الفعالية الافتتاحية المصنعية، وصولا الى التأزم الذروه مع بلوغ الاله ضمن تدرجاتها نوعا وفعالية، من "المصنعية"، الى" التكنولوجية الانتاجية" الحالية، الى "التكنولوجيا العليا العقلية"، وقت يحل التفارق بين وسيلة الانتاج والانتاجية الارضية الجسدية، لتحل محلها ضرورة الانتقال الى الانتاجية العقلية، اللاغية للانتاجية الجسدية، الامر الذي يوجب وقتها حضور اللاارضوية  ادراكا وكينونة، لتحل محل الارضوية، انطلاقا من ارض اللاارضوية الاولى ذهابا الى العالم ككل.

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

 

منذ تأسيس كثير من دول الشرق الأوسط خاصة تلك التي أُسّست نتيجة اتفاقية سايكس بيكو وخرائطها المفروضة بمبضع بريطاني فرنسي تركي، والأنظمة التي تكوّنت على إثرها عانت وما تزال تعاني من عقدة مركّبة بين هوية الدولة وأزمة نُخَبِها السياسية والثقافية ومفهوم المواطنة والانتماء، ومن أبرز ظواهرها التغييرات الدموية في الأنظمة السياسية التي حكمتها منذ منتصف القرن الماضي وحتى يومنا هذا بسبب محاولات التفرُّد بالسلطة وفرض النظام الشمولي سواء أكان قومياً أو دينياً أو مذهبياً، وعلى مختلف الأنظمة التي كانت تصف نفسها به بين اشتراكية أو قومية يسارية او يمينية أو دينية، مما وضع النخب الثقافية والعلمية في موضع ذهول وحيرة وإحباط وإحراج وصل حدّ المهزلة، وأدى إلى تشرذم وانقسام حادّ بين تلك النخب حتى يومنا هذا، خاصة بعد أن اكتسحتها عاصفة ما سُمّي بـ (الربيع العربي) أو تلك التي أسقطت باحتلالها من قبل دول أجنبية، كشفت عوراتها وإماطة اللثام عن الكم الهائل من الإذلال لشعوبها وتخديرها بشعاراتٍ كاذبةٍ تمّ تمريرُها من خلال أجهزة إعلام اختزلت الأوطان بأشخاص وأحزاب، مما جعل تلك الدول والأنظمة تتساقط خلال أيام قليلة، بل وتشاع فيها الفوضى وعمليات النهب والسلب للمال العالم أينما وُجِد.

لقد عانت النُّخَب الثقافية والفنية والعلمية من تحديات كبيرة إبان حكم تلك الأنظمة الاستبدادية، ولأسباب كثيرة تتعلّق بطغيان واستبداد الانظمة الحاكمة ولطبيعة المجتمعات البدوية والزراعية والعشائرية جعلها ترتبط بشكل أو بآخر، حالها حال بقية الشرائح في المجتمع بالنظام ورموزه على خلفية تراكمات موروثة بذاكرة فكرية مرتبطة بالنظم الاجتماعية وتركيباتها القروية والقبلية ورموزها، حتى ظنّ المثقف أن النظام الحاكم هو النظام المخّلِص والمنقذ الأوحد للأمة أو الشعب ممّا فيها من انكسارات وهزائم، وراح قلمه أو حنجرته أو فرشاته أو ريشته تكتبُ وترسمُ، وتغنّي، وتعزفُ على أوتار تمجيده، وهو يعتقد أي هذا المثقف مهما كان صنفه إنما يمجد فنه وحريته وشعبه الذي اختصره في شخص القائد أو الزعيم، متوهّماً أنه سيحقق كلَّ الأمنيات، وفي الجهة الأخرى كانت هناك أيضاً مجاميع من المثقفين والعلماء تضمها سجون رهيبة وأخرى تم تصفيتها أو هاجرت، وتحمّلت كل مآسي ذلك الرحيل القسري لأنها كانت ترفض، وتعارض ذلك النظام، بينما انعزل آخرون إلى زوايا بعيدة عن الأضواء لدرجة أنّهم استبدلوا مهنَهُم وإبداعاتهم بأشغالٍ وأعمال أخرى لا علاقة لها بالثقافة وعوالمها وبعيدة عن الأضواء ودوائر التأثير!؟

وبين الولاء بسبب الخوف والرفض وما آل إليه أصحابُه، نتذكّر بألمٍ شديدٍ تلك الجموع من المثقفين العرب وغيرهم من كل الاختصاصات والاتجاهات في الأدب والفن والفكر والقضاء والرياضة والعلم، الذين كانوا يتهافتون إلى قصور الزعيم وغيره من النرجسيين القادة في مهرجانات ومناسبات يقدّمون فيها خدماتهم مقابل ما كانوا يحصلون عليه من أجور وهدايا مجزية نقدية أو عينية حالهم حال أيّ شاعر من شعراء البلاط ووعاظ السلاطين.

بعيداً عن التعميم، فقد أيّدت تلك الأنظمة ورموزها مجموعات أخرى خشية الملاحقة وقطع الأرزاق، وكثير منهم كان يؤدّي عملاً وظيفياً، وهم في غالبيتهم غير سياسيين، ويعملون كأيِّ موظف في شركة أو مؤسسة دونما استغلال او إساءة لأحد، يقابلهم قسم آخر أبت أنفسهم، وتسامت، ورفضت التنازل قيد أنملة عن مبادئها، وارتضت التهميش والملاحقة والاعتقال أو الهجرة والرحيل والاغتراب، وسواء أكانت هذه المجاميع قلة أو كثرة إلا أنها فعلاً تستحقُّ تسميتها بالمناضلين والمحاربين الأشداء الأنقياء في عزّة النفس والتضحية وسمُوّ المبادئ، وبين أولئك الموظفين والمناضلين كانت هناك وما زالت مجموعات تؤمن فعلاً بقيادة وأحقية النظام ورموزه على خلفية أيديولوجية أو عقائدية بأن من يحكمهم منقذون ومخلصون ورموز الأمة ومحرروها، منطلقين من ايمانهم بهذه الأراء، وقد دفعوا هم أيضا ثمناً باهظاً بسببها بعد سقوط تلك الأنظمة.

والسؤال المؤلم اليوم في معظم بلداننا أن القسمين الرافض والراضي من المؤمنين حقاً تعرّضوا، ويتعرّضون للاضطهاد والحرمان كما يحصل اليوم لمئات المثقفين والأدباء والفنانين وأساتذة الجامعات والعلماء لمجرّد أنهم آمنوا بشعارات تلك الحقبة وتعاونوا مع أنظمتها بشكلٍ أو بآخرَ دون أن يمسُّوا شعرةً من رأس مواطن!

وبعد أكثر من عقدين على تلك التغييرات الدموية للأنظمة يبقى ذلك السؤال المقلق ما إذا كانت النظم الديمقراطية البديلة اليوم ستمنح فسحةً لأصحاب الرأي من غير المسؤولين عن أي جرائم او استغلال للسلطة خاصة وان الكثير منهم أدرك الحقيقة بعد أن أميط اللثام عن سوء تلك الأنظمة التي أيدوها، وآمنوا بطروحاتها، وتنتهي حقبة الانتقام الأسود وشماعة (كنتَ مع النظام، ولا مكانَ لك اليوم) التي أصبحت تلاحق حتى الأبناء والأحفاد!؟

***

كفاح محمود

(بين النثر الأدبي في صدر الإسلام والشريف الرضي)!

مَن يقرأ كتاب «نهج البلاغة»، لـ(الشريف الرضي، -406هـ= 1015م)- في غير تنقُّص لمقام (عليٍّ) العالي، صُحبةً وبلاغة، ولا بغلوٍّ فيه، اعتقادًا في خوارقيَّةٍ ميَّزته عن مجايليه من الصحابة، بل رفعتْه أحيانًا كثيرة عن الرسول نفسه، وعن البشَر كافَّة- يُدرِك أنَّ «نهج البلاغة» أشبه بكلام معتزلة العصر العبَّاسي، منه بخطابة الناس في الصدر الأوَّل من الإسلام، أو كلام ذلك الرعيل الأوَّل، الذين خَبِرنا كلامهم، وأساليب خطابتهم، وأنماط تعابيرهم، من خلال خطابة النبيِّ، وصحابته، بل من خلال خطابة عليٍّ نفسه في ما نُسِب إليه من ذلك، كخُطبته يوم أن أراد (عُمَر) الخروج إلى العَجَم المتحشدين بـ(نهاوند).

هكذا استهلَّ بنا (ذو القُروح) إزعاجه المعتاد بأفكاره المشاكسة. قلتُ:

ـ بعيدًا عن التنظير، هاتوا برهانكم!

ـ برهاننا؟ خذ، على سبيل المثال، هذا النصَّ:

«فمَن وَصَفَ اللهَ سبحانه، فقد قَرَنَه، ومَن قَرَنَه، فقد ثَنَّاه، ومَن ثَنَّاه، فقد جزَّأه، ومَن جزَّأه، فقد جَهِلَه، ومَن أشار إليه، فقد حَدَّه، ومَن حَدَّه، فقد عَدَّه، ومَن قال: «فِيمَ؟»، فقد ضَمَّنَه، ومَن قال: «عَلامَ؟»، فقد أَخْلَى مِنه...».

ونحو هذا، ممَّا يُشبِه كلام المترسِّلين العبَّاسيِّين، كما يُشبِه من بعض الوجوه، كلام المتصوِّفة، لدَى (النِّفَّري، -354هـ= 965م) وأضرابه.

ثمَّ قُل لي: أيُّ جمالٍ بلاغيٍّ في هذا التحذلق البارد، والتمنطق الفارغ، والرطانة التي كان يتباهى بها الكتبة والمترسِّلون، منذ (عبد الحميد الكاتب، -132هـ= 749م) وقواعده في نظم الرسائل، بجُمَلها القِصار، المتكئة على المعادلات الصوتيِّة، والمحسِّنات اللفظيَّة، والتلاعب بالمفردات؟!

وأخبرني بعدئذٍ: ما علاقة هذا بالنثر في صدر الإسلام والخطابة وأساليبها إذ ذاك؟!

ـ ما سبب هذا الخلط؟

ـ الخائضون في هذا لا صلة لهم غالبًا بالأدب العربي، ولا بتطوُّر النثر الأدبي، ولا بفِقه الخِطاب الثقافي، ولا قِبَل لهم بالتفريق بين جاهليِّه وإسلاميِّه وأُمويِّه وعبَّاسيِّه. وإنَّما هم يَطربون للألفاظ، في ذاتها، وينتشون للبديع، من حيث هو، ويُهوَّسون بالنسج الأسلوبي، فوق هوسهم الأصلي بالرَّجُل المنسوب إليه الكلام، وبالأسطوريَّة البطوليَّة التي تلفُّه في مخيالهم الشعبي، وسِيَر «الحكواتيَّة» الشعبيَّة التي ما تنفك تأخذ بألبابهم وتلابيبهم. ومن ثَمَّ يغدو كلُّ خِطابٍ مجلجلٍ ببطلهم جديرًا، وإنْ كُتِب البارحة! وإنَّما مثلهم في ذلك كمَن يَنسب كلَّ شِعرٍ جزلٍ مجهول القائل- وإنْ لم يجهله سِوَى ناسبه نفسه- إلى (أبي الطيِّب المتنبِّي)، وستجد من ذلك اليوم عشرات الأبيات على مواقع «الإنترنت»، منسوبة إلى المتنبِّي، لا علاقة لها بشِعره.

ـ ما أشبه الليلة بالبارحة، إذن! مثل ماذا؟

ـ كالبيت المشوَّه المتداول:

لا تحـسبوا رَقـصي بينكُـمْ طَـرَبًا  :::  فالطَّير يَرقُصُ مذبوحًا مِنَ الأَلَمِ

ـ الله!

ـ الله... يهديك! لا تستفزني بتهليلك للزيف وترويج الأكاذيب! ثمَّ البيت مكسور الوزن أصلًا، صوابه: «لا تحسبوا أنَّ رقصي...». وبعضهم يضيف: «مِن شِدَّة الأَلَمِ»، ليزيد الشِّدة في الزعم بمتنبئيَّة البيت الفارهة شِدَّة!

ـ رجاءً، لا تخرج بنا عن الموضوع، يا (جاحظ) العصر والأوان!

ـ ما قصدتُه أنَّ هذه آية معاصرة على آيات الكذب البلاغي التي ورثناها عن تراثنا. فالعَرَب المعاصرون يمارسون، عبر وسائل التواصل، هوايات أجدادهم في انتحال النصوص ونَحْلِها إلى غير أهلها، فما أشبه ليلتهم ببارحتهم، كما قلتَ! حتى لقد أصبح (المتنبِّي) مسخًا لكثرة ما يُنسَب إليه من هراء؛ فكلُّ من أعجبه بيت سخيف، نسبَه إلى المتنبِّي. مع أنَّ ديوان المتنبِّي متاحٌ على شبكة «الإنترنت»، لو كان هؤلاء يقرؤون أو يتحرَّون الصدق في ما يقولون. وهكذا، فمَن لم يعرف الشاعر، قال: «قال المتنبي: ...»! على أنَّه قد ينافسه لدَى كَذَبة الرواية هؤلاء (امرؤ القيس)، أو (عنترة)، وأضرابهما من المشاهير.

ـ رجاءً، لا تخرج بنا عن الموضوع، يا (جاحظ) زمانك! وهاتِ الزُّبدة!

ـ الزُّبدة: أنه من المعروف في تاريخ النثر الأدبي العَرَبي أنَّ ذلك الطابع من اللفاظيَّات الطاغية على أسلوب «نهج البلاغة» هو ما صار وباءً أسلوبيًّا منذ عصور الهوس البديعي إلى بعض أيَّامنا وكتَّابنا وشعرائنا، من حُواة الجناس والطباق، يشعبذون بهما على خواء المعاني، أو على معانٍ لا ترقى إلى ما حُمِّلت به من زخرف القول. حتى لقد جاء، من جرَّاء ذلك الهوس، أن وضع (صلاح الدِّين الصَّفدي، -746هـ= 1345م)، خلال تلك الحقبة الجناسيَّة من تاريخنا، كتابًا تحت عنوان «جِنان الجناس في عِلم البديع»، جُنونًا بالجناس والتجنيس. ولك أن تضع هنا تحت مفردتَي «جِنان» و«عِلم» خطوطًا عريضة؛ فهما تغنيان في العنوان عن قراءة الكتاب، الذي اكتنز حشوُه بالجناس، أسلوبًا وتنظيرًا. وهل أنتج ذلك الجنون أتفه من معلَّقات (ابن الفارض، -632هـ= 1235م)- قدَّس الله هذيانه البديعي- أو أبرد منها أو أسمج، من مثل مطوَّلته:

سائق الأظعانِ يَطوي البِيْدَ طَيْ  :::  مُنْعِمًا عَرِّجْ على كُثْبَانِ طَيْ؟

ـ الله!

ـ الله... يصلح ذوقك! في تلك الشُّمحوطة المملَّة يظل (ابن الفارض) يدور في حفرة معنى واحد، متلاعبًا بالألفاظ والحروف، لا أكثر! ففاق بذلك كهنة العصر الجاهلي في سجعهم الوظيفي بمراحل ضوئيَّة، بحيث يحقُّ أن يُسمَّى هذا النظم (نظم الكهان المتصوفة) في الإسلام، على طريقة (سجع الكهان) قبل الإسلام. وهو إذ يتساءل، مثلًا:

أيُّ شيءٍ مُبْرِدٌ حَرًّا شَوَى  :::  للشَّوَى حَشْوَ حَشَائي أيُّ شي؟

فلا إجابة، سِوَى أنَّ ما شَوَى حَشْوَ حشاه هو هذا البديع المتكلَّف، الذي بلغ به إلى أن تُصبح بعض أبياته كعبارات المُعاياة لتحدِّي: مَن ذا يستطيع تكرارها دون أن يقع في عثرة لسان! ومَن لم يُصدِّق، فالتحدِّي أن يحاول تكرار بيته هذا مرتين أو ثلاث مرَّات، بحروفه الحلقية المتوالية (ح، خ، هـ):

أَنْحَلَتْ جِسمي نُحُوْلًا، خَصْرُها  :::  منهُ حالٍ؛ فهو أبهَى حُلَّتَي

ـ الله!

ـ اللهم لا تؤاخذنا بما فعل البديع فينا! كرِّره بلا خطأ، ولك مني ما شئت! وما كان ليجد شيئًا يبرِّد حَرَّ حشاه، سِوَى ذلك الانتحار البديعي باسم الشِّعر، الذي كان يتواجد به أمام قُرَّائه بتلك الصورة المزرية، مصغِّرًا قوافيه، بل مصغِّرًا الشِّعر كُلَّه بطبيعته ووظيفته! بَيْدَ أنَّ لكُلِّ ساقطةٍ لاقطة، فلن يعدم مثل هذا من أمثاله- أذواقًا وعقولًا- قبولًا وإجلالًا.

ـ كأنك تعرِّض بي، يا (ذا الجُحُوظ)!

ـ وهذا ما كانت الأذواق السليمة في صدر التاريخ الإسلامي تمجُّه، وكانت أساليب العَرَب الرصينة منه براء، إلَّا ما جاء عفو الخاطر، أو لدَى الكُهَّان وأشباههم من الخطباء. ذلك أنَّ الأساليب إنما كانت تأخذ من الكلام أيسره، ومن المعاني ما جاء عفوًا، ولا تصطنع اصطناعًا، ولا تتكلَّف تكلُّفًا، ولا تكدُّ الأذهان كدًّا، لرسم المشاكلات وتقليب الصيغ والدلالات. لم يكن لذلك من أثرٍ في كلام العَرَب الأوائل، اللهم إلَّا في أساليب الكُهَّان، من أرباب السجع والتهويل بالمفردات الغريبة عن غيبٍ يدَّعون التنبُّؤ عن أخباره. ومفهومةٌ وظيفة ذلك لديهم، من الكهانة والتدجيل والتكسُّب. ولذا كرهه الرسول، عليه الصلاة والسلام، وصحابته. فقد وردَ، مثلًا، أن (عُمَر بن الخطاب، رضي الله عنه)، سأل (صحارًا العبدي) عن (مُكْران)، ببلاد (فارس)، فقال: «يا أمير المؤمنين، أرضٌ سهلُها جَبَل، وماؤها وَشَل، وتمرُها دَقَل، وعدوُّها بَطَل، وخَيرها قليل، وشَرُّها طويل، والكثير بها قليل، إنْ كثُر الجُند بها، جاعوا، إنْ قلُّوا بها، ضاعوا»، فقال له عُمَر: «أسجَّاعٌ أنتَ أم مُخْبِر؟!» فقال صحار: «بل مُخْبِر.»(1) ومن ثَمَّ فلا يمكن أن يكون «نهج البلاغة» من كلام (ابن أبي طالب)، اللَّهم إلَّا روايةً بالمعنى، مع صياغات منتحلة، وإضافات مفتريات. وإنَّما هو عملٌ من إنشاء (الشريف الرضي)، الشاعر والفقيه ونقيب الطالبيِّين. إنْ يكن أنشأه على بقايا نِثارٍ مأثورة مما يُنسب شعبيًّا- دون تحقُّق، إلى الإمام- فما يعدو ذلك الأساس مادةً أوَّليَّة، اشتغل عليها الشريف، بملَكاته البيانيَّة البديعيَّة، وثقافته العبَّاسيَّة الحضريَّة؛ ليبني لجَدِّه مجدًا في كتاب، خلال عصرٍ احتدم فيه هذا الخِطاب، حتى قامت دولةٌ باسمه ظاهرة، هي الدولة الفاطميَّة. وما ينفصل انبثاق هذا المنتَج الأدبيِّ المنسوب إلى (أبي الحسن، رضي الله عنه) عن تلك الظروف السياسيَّة، والمعطيات الظرفيَّة، والمتطلَّبات السياقيَّة التي اقتضته.

***

ا. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

........................

(1) يُنظر: الطَّبري، (1970)، تاريخ الرُّسُل والمُلوك، تحقيق: أبي الفضل إبراهيم، (القاهرة: دار المعارف)، 4: 182؛ الجاحظ، (1998)، البيان والتبيين، تحقيق: عبد السلام محمَّد هارون، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 285. (ونسبَ الجاحظ هذا إلى أعرابيٍّ سأل رسولًا قَدِمَ مِن أهل السِّند). وقد نقل (شوقي ضيف)- في كتابه ((1983)، الفن ومذاهبه في النثر العَرَبي، (القاهرة: دار المعارف)، 57)- العبارة الأُولى خطأً، وربما كان الخطأ مطبعيًّا، هكذا: «سهلها جِبال»، ولا تستقيم السجعة بهذا، بل بأن يقول: «سهلها جَبَل».

بقلم: يأنس فيروفاكس

ترجمة: علي حمدان

***

أنت واحد من العديد من المنظرين، إلى جانب سيدريك دوران، وجودي دين، وماريانا مازوكاتو وآخرين، الذين تكهنوا بأن هيمنة شركات التكنولوجيا الكبرى ــ باستخدام الخوارزميات لبناء إمبراطوريات البيانات التي تعمل كمصدر لا حدود له على ما يبدو للقيمة ــ ربما تتجاوز حدود الرأسمالية. في كتابك الصادر عام 2023 بعنوان "الإقطاع التقني"، تزعم أنه كما شهدت الفترة الحديثة المبكرة استبدال الأرض برأس المال الإنتاجي كعامل مهيمن في الإنتاج، شهد أوائل القرن الحادي والعشرين استبدال رأس المال الإنتاجي بـ"رأس المال السحابي"، مما يشير إلى التحول إلى نظام تراكم جديد. لماذا، في رأيك، يختلف رأس المال السحابي نوعيًا عن أشكال رأس المال الأخرى؟ وما هو تطوره التاريخي؟

أولا، اسمحوا لي أن أقدم لكم مقدمة قصيرة. إن الإقطاع التكنولوجي ليس تحليلا ما بعد ماركسي لنظام ما بعد الرأسمالية. إنه تحليل ماركسي كامل لكيفية عمل رأس المال المعاصر، والذي يحاول تفسير سبب خضوعه لطفرة أساسية. بطبيعة الحال، على مدى القرون السابقة تطور طابع رأس المال الثابت من قضبان الصيد والأدوات البسيطة إلى الآلات الصناعية المعقدة، لكن كل هذه الأشياء تشترك في سمة أساسية: تم إنتاجها كوسائل إنتاج. الآن، لدينا سلع رأسمالية لم يتم إنشاؤها من أجل الإنتاج، ولكن من أجل التلاعب بالسلوك. يحدث هذا من خلال عملية جدلية حيث تحث شركات التكنولوجيا الكبرى مليارات الأشخاص على أداء عمل غير مدفوع الأجر، وغالبًا دون علمهم بذلك، لتجديد مخزون رأس المال السحابي. وهذا نوع مختلف تمامًا من العلاقات الاجتماعية.

ولكن كيف حدث هذا؟ كما هو الحال دائما، من خلال التغيرات الكمية الثابتة والتدريجية في التكنولوجيا، والتي أسفرت في مرحلة معينة عن تغيير نوعي أكبر. وكانت الشروط المسبقة مزدوجة. الأول كان خصخصة الإنترنت، "الموارد المشتركة للإنترنت" الأصلية. فقد جاءت لحظة حيث كان عليك، من أجل إجراء المعاملات عبر الإنترنت، أن تطلب من بنكك أو منصة مثل جوجل أو فيسبوك التحقق من هويتك. وكان هذا شكلا بالغ الأهمية من أشكال الاحتواء، وتسويق المجال الإلكتروني وخلق هويات رقمية مخصصة جديدة. وكان عامل آخر هو الأزمة المالية في عام 2008. وللتعامل مع تداعياتها، طبعت الدول الرأسمالية 35 تريليون دولار بين عامي 2009 و2023، مما أدى إلى نشوء ديناميكية التوسع النقدي حيث أصبحت البنوك المركزية، وليس القطاع الخاص، القوة الدافعة. كما فرضت الدول التقشف الشامل في جميع أنحاء الغرب، مما أدى إلى كساد ليس فقط الاستهلاك ولكن أيضا الاستثمار الإنتاجي. واستجاب المستثمرون بشراء أصول العقارات وصب الأموال في شركات التكنولوجيا الكبرى. وبالتالي، بطبيعة الحال، أصبح القطاع الأخير القطاع الوحيد القادر على تحويل ذلك السيل من النقد لدى البنوك المركزية إلى سلع رأسمالية. وأصبح مخزون هذه السلع كبيرا للغاية، ومنحت أصحابها قدرا كبيرا من القوة للتأثير على السلوك واستخراج الريع، حتى أنها مزقت الأداء التقليدي للنظام الرأسمالي. وقد حدث هذا بالصدفة تماما: حالة كلاسيكية من العواقب غير المقصودة، دون قصد حتى من جانب شركات التكنولوجيا نفسها.

بطبيعة الحال، يعتمد دخولنا إلى عصر ما بعد الرأسمالية أو عدم دخولنا إليه على مفهومنا للرأسمالية. وقد قيل إن تعريف روبرت برينر، الذي ينظر إلى الرأسمالية باعتبارها نظامًا يتم فيه إكراه العمل، وبالتالي تراكم رأس المال أيضًا، بشكل أساسي من خلال القوى الاقتصادية، يؤدي إلى تعريف الوضع الحالي بأنه "إقطاع تقني" أو "رأسمالية سياسية"، كما يقول برينر، نظرًا لبروز الإكراه "خارج الاقتصاد" - سواء كان قوة سياسية صريحة تحمي الاحتكارات وتوجه الأرباح إلى الأعلى أو أشكال من التحكم الخوارزمي - داخل نموذج التراكم الحالي. لكن آخرين، على سبيل المثال موروزوف، يرفضون هذا باعتباره تعريفا ضيقًا للغاية، لأن الرأسمالية كانت دائمًا تنطوي على تفاعل معقد بين العوالم الاقتصادية وغير الاقتصادية. كيف ترد على هذا؟

إنني لست من أتباع برينر. إن فهمي للرأسمالية يأتي مباشرة من ماركس، الذي يرى أنها تقوم على تحولين رئيسيين: نقل السلطة من أصحاب الأراضي إلى أصحاب الآلات بعد بناء الأسوار، والتحول من تراكم الثروة في شكل إيجار إلى تراكم الربح. يطلق الأول العنان لعملية لا نهاية لها على ما يبدو من التسليع، والتوسع الدائم للسوق في جميع مجالات الحياة. ويكرس الثاني فائض القيمة - المبلغ الذي يستطيع الرأسمالي استخراجه من العمل بعد سداد الإيجار والفائدة وما إلى ذلك - كهدف أساسي للاستثمار. لقد تطور اقتناعي بأننا تجاوزنا الرأسمالية من ملاحظة بسيطة للغاية: إذا نظرت إلى موقع أمازون دوت كوم، فسوف تلاحظ أنه ليس سوقًا. إنه إقطاعية رقمية أو سحابية. إنه يشترك في بعض الخصائص مع الإقطاعيات القديمة: هناك تحصينات حوله، وهناك "سيد" واحد يمتلكه، وما إلى ذلك. ولكن على النقيض من هذه الهياكل ما قبل الحديثة التي تتضمن الأراضي والأسوار البسيطة، فإن الإقطاعيات السحابية مبنية على رأس مال سحابي ويتم تشغيلها بواسطة نظام متطور للتخطيط الاقتصادي - وهي الخوارزمية التي كانت بمثابة الحلم  لغوسبلان، وزارة التخطيط السوفييتية.

ولنتذكر هنا أن علم التحكم الآلي قد تطور في الاتحاد السوفييتي. فقد استخدموا مصطلح "الخوارزمية" للإشارة إلى آلية تحكم آلتي من شأنها أن تحل محل الأسواق بطريقة مختلفة لمطابقة الاحتياجات بالوسائل. ولو كانت حكومة الاتحاد السوفييتي تتمتع بالتطور التكنولوجي الذي تتمتع به خوارزمية أمازون، لكان من الممكن أن يكون الاتحاد السوفييتي قصة نجاح طويلة الأجل. ولكن اليوم، لا تُستخدم الخوارزميات للتخطيط نيابة عن المجتمع ككل؛ بل تُستخدم لتعظيم إيجارات السحابة لأصحابها. إن إعادة إنتاج رأس المال السحابي، والإقطاعيات السحابية التي يقيمها، لا تدمر المنافسة في السوق فحسب، بل وتدمر الأسواق بأكملها أيضا. ثم يتم تخصيص القيمة الفائضة المتبقية المنتجة في القطاع الرأسمالي التقليدي (المصانع وما شابه ذلك) كإيجار سحابي من قبل أصحاب رأس المال السحابي. وعلى هذا فإن الربح يصبح مهمشا ويعتمد تراكم الثروة بشكل متزايد على استخراج إيجار السحابة.

لقد كتبت أن الرأسمالية حوّلت العمل إلى سلعة، في حين تعمل التكنولوجيا الإقطاعية على نزع صفة السلع عنه. وهذا يعني أن شركات التكنولوجيا الكبرى تعتمد على الاستغلال الذي يحدث خارج سوق العمل، وتستبدل العمل المأجور بجمع البيانات. ولكن ألا يقول منظرو إعادة الإنتاج الاجتماعي إن الرأسمالية كانت تفعل دائما شيئا مماثلا، في استخراج القيمة من أشكال العمل غير النقدية؟

صحيح أن العمل في مجال الرعاية غير المدفوع الاجر كان ضروريا للرأسمالية منذ فترة طويلة. ولكن عندما أقول إن رأس المال السحابي ينزع عن العمل المأجور صفة السلعية، فأنا أتحدث عن شيء مختلف تماما. هنا، يعمل العمل غير المأجور غير المدفوع الأجر على إنتاج رأس المال بشكل مباشر على نحو غير مسبوق. إن مقدم الرعاية الذي لا يحصل على أجر بسبب النظام الأبوي يعمل على تسهيل توزيع القيمة الفائضة في الاقتصاد الرأسمالي، لكنه لا ينتج رأس المال بشكل مباشر. في ظل الرأسمالية، يتم إنتاج رأس المال من خلال العمل المأجور وحده. إذا أراد أحد أصحاب الصناعات النسيجية محرك بخاري، فعليه أن يذهب إلى جيمس وات ويطلبه، وسيتعين على وات أن يدفع للعمال الذين أنتجوه مبلغا كافيا لتوفير عملهم. مع شركة مثل ميتا، يتم إنتاج الكثير من رأس مالها ليس من قبل موظفيها ولكن من قبل مستخدميها في المجتمع ككل - من قبل أشخاص غير مدفوعي الأجر، مثل "أقنان السحابة" في العصر الحديث، يتعاملون مع خوارزمياتها ويعملون مجانًا لغرس قدرة أكبر على جذب أقنان السحابة الآخرين. ولهذا السبب أزعم أن رأس المال السحابي يمثل تحول رأس المال إلى سلالة جديدة لم تعد، للمرة الأولى في التاريخ، وسيلة إنتاج منتجة. بل أصبحت بالأحرى وسيلة منتجة لتعديل السلوك: وسيلة يتم تصنيعها إلى حد كبير، إن لم يكن بالكامل، من خلال العمل غير المدفوع الأجر.

إن فرضية الإقطاع التقني تميل إلى النظر إلى الريع والأرباح باعتبارهما متضادين هيكلياً، حيث يحل الأول محل الثاني ــ فيحل الركود والأوليجارشية محل الديناميكية والإبداع الرأسمالي. ولكن ماركس يوضح كيف أن البحث عن الريع لا ينبغي له دائماً أن يحيد مكاسب الإنتاجية؛ بل في الواقع، في الفترة الرأسمالية المبكرة، كان يفعل شيئاً أشبه بالعكس، حيث دفع الرأسماليين إلى تطوير القوى الإنتاجية. فهل من الممكن أن يعمل الريع السحابي على استعادة الربحية الرأسمالية بدلاً من خنقها على نحو مماثل؟ ماذا لو كانت العلاقة بين الاثنين أقل عدائية مما تتصور؟

لقد أدرك ماركس أن البحث عن الريع يمكن أن يدفع التنمية، لكنه اتفق أيضا مع ريكاردو على أنه إذا تجاوز كنسبة من إجمالي الدخل عتبة معينة، فإنه يصبح عبئا على النمو الرأسمالي. واليوم، أصبحت إيجارات السحابة باهظة للغاية لدرجة أنها تصنع هذا التأثير بوضوح. والواقع أنني أجازف بالقول إن إخراج الشركات المدرجة المزدهرة على إيجار السحابة من سوق الأوراق المالية من شأنه أن يؤدي إلى انهيار قيمتها. وعلى مستوى أكثر شمولا، ضع في اعتبارك أن أمازون تستولي على ما يصل إلى 40% من سعر المنتج المباع على منصتها. وهذا لا يترك أي فائض تقريبا للبائع لإعادة استثماره. وعندما يكون هناك قدر كبير من الريع يتم سحبه من الاقتصاد، من التدفق الدائري للدخل، فإن القطاع الرأسمالي يتضور جوعاً ويخضع بشكل متزايد لقطاع إيجار السحابة. وهذا لا يعني أن القطاع الرأسمالي لم يعد موجودا؛ بل إنه لا يزال مسؤولا عن كل القيمة الزائدة التي يتم إنتاجها في الاقتصاد، وفقا لنظرية العمل للقيمة. ولكنها صغيرة نسبيا مقارنة بهذا النمو الطفيلي، الذي أصبح هائلا لدرجة أنه، كما قلت، تحول الكم إلى نوع، وتم تغيير النظام بأكمله.

الواقع أن أغلب كبار المحتكرين الفكريين ــ الذين يمتلكون البنية الأساسية الرقمية التي يعتمد عليها الاقتصاد العالمي ــ يتخذون من الولايات المتحدة مقرا لهم. وربما يُعَد هذا بمثابة إشارة إلى أن الإمبراطورية الأميركية تتمتع بصحة جيدة، على الرغم من الحديث عن نظام متعدد الأقطاب ناشئ. ولكنك كتبت أن الصين حققت شيئا لم يحققه وادي السليكون، في تحقيق اندماج ناجح بين رأس المال السحابي وقطاعات أخرى من التمويل الكبير. فما هي الآثار المترتبة على الحرب الباردة الجديدة بين القوتين؟

في رأيي، ما لدينا الآن هو نظام ثنائي القطب. وهذا ليس ما تريده الصين. والأمر المذهل بشأن الحزب الشيوعي الصيني هو أنه لا يريد حقًا حكم العالم، ولا حتى أن يكون قطبًا مهيمنا ثانيًا يعارض القطب الأول. ما يريدونه هو حكم الصين - بالإضافة إلى الأماكن التي يشعرون أنهم فقدوها، مثل هونج كونج وتايوان - والتجارة بحرية مع البلدان الأخرى. إنهم يرغبون حقًا في عالم متعدد الأقطاب، حيث يتقاسمون السلطة مع شركائهم التجاريين، لكن المشكلة هي أنهم لا يملكون سوى طريقة واحدة لتحقيق ذلك، وهي استخدام قطاع التكنولوجيا لديهم، بالتنسيق مع التمويل الكبير، لإنشاء شيء مثل نظام بريتون وودز داخل مجموعة البريكس. وهذا من شأنه أن ينطوي على أسعار صرف ثابتة، وعملة مشتركة مدعومة باليوان. سيكون هذا مشروعًا كبيرًا، وهو يشبه الصفقة الجديدة للنظام العالمي في عام 1944 في مؤتمر بريتون وودز. ولكن بقية دول البريكس ليست مستعدة لذلك، كما يمكننا أن نرى من التوترات الضخمة بين الهند والصين. إن أغلب بلدان الجنوب العالمي ليست مستعدة لهذا النوع من التعددية القطبية. والقيادة الصينية نفسها مترددة للغاية. ولكن إذا لم تبدأ في الدفع في هذا الاتجاه، فإنها سوف تظل عالقة في عالم ثنائي القطب بين الولايات المتحدة والصين، مع كل المخاطر التي ينطوي عليها هذا.

ولكن ألا يعمل النموذج الصيني، الذي يقوم على نظام السوق حيث تلعب الدولة دورا نشطا في توجيه وتخصيص الاستثمار، على تقويض الافتراض القائل بأن شركات التكنولوجيا الكبرى أصبحت الآن القوة المهيمنة في تخطيط الاقتصاد؟ يبدو من الممكن، على الأقل من الناحية النظرية، أن تبحث الدول الغربية بشكل متزايد عن حلول جديدة للدولة في ظل صراعها مع آثار الركود الاقتصادي وأزمة المناخ. فماذا يعني هذا بالنسبة لريعية الحوسبة السحابية؟

إنني أعتقد اعتقاداً راسخاً أننا في الدول الغربية نقلل من شأن دور الدولة، وفي الصين نبالغ في تقديره. ولقد فتحت زيارتي الأخيرة للصين عيني على حقيقة مفادها أن الكثير من التفكير الجريء في نشر القيم الصينية والنفوذ الصيني يأتي من القطاع الخاص، في حين أن الدولة ذاتها أكثر تردداً. (كما نجد في القطاع الخاص أغلب الماركسيين، وإن لم يكن عددهم كبيراً). وفي الولايات المتحدة، نجد أشخاصاً مثل إريك شميت وبيتر ثيل متشابكين تماماً مع الدولة: البنتاجون، والمجمع الصناعي الدوائي. ولقد نشر جوليان أسانج كتاباً صغيراً بعنوان "عندما التقى جوجل بويكيليكس" عندما كان لا يزال في السفارة الأكوادورية، وأنا أنصح الجميع بشدة بقراءته. إنه حوار بينه وبين شميت، والأمر المذهل في هذا الكتاب هو أنه عندما يتحدث شميت، فمن المستحيل أن نحدد ما إذا كان موظفا لجوجل أم عميلاً للدولة الأميركية. لذا فإنني أعتقد أن فكرة انفصال الدولة عن السوق في الغرب، وربما حان الوقت الآن لكي تلعب الدولة دوراً أكبر، هي في حد ذاتها خيال ليبرالي. وكان من المستحيل دوماً فصلهما. وإذا نظرت عن كثب إلى أشكال التقارب بين الاثنين في كل من الشرق والغرب، فسوف تميل إلى رؤية درجة ملحوظة من التشابه.

عندما اشترى إيلون ماسك تويتر، كتبت أن هذه كانت محاولة للصعود إلى الدائرة الذهبية للمستفيدين من خدمات الحوسبة السحابية. هل ينطبق نفس القول على دخوله إلى عالم السياسة؟ هل يعني هذا، كما تكهن بعض النقاد، أن الطبقة الحاكمة الأميركية أصبحت مضطرة إلى شراء القدرة على الوصول إلى أدوات السلطة السياسية من أجل ضمان عائداتها؟

لا أعتقد أن هذا ضروري تمامًا بالنسبة لهم. جيف بيزوس لا يفعل ذلك. إنه يستخدم قنوات أخرى للتأثير مثل صحيفة واشنطن بوست. على الرغم من أن قيادة جوجل لديها الكثير لتخسره من أي محاولة من قبل لجنة التجارة الفيدرالية لتنظيمها، إلا أنك لا تراهم يبذلون الكثير من الجهد للدخول في السياسة. ماسك مختلف لسببين. أولاً، لأنه مجنون العظمة المتبجح الذي لا تستند قراراته بالضرورة إلى أي مصلحة مادية معينة. وثانيًا، لأنه يتمتع بقبضة ضعيفة نسبيًا على رأس المال السحابي. كانت أعماله - تيسلا، ونيورالينك، وبورينج كومباني - كلها شركات رأسمالية قديمة الطراز. حتى سبيس إكس، من عجيب المفارقات، بنيت على رأس مال أرضي. كان هدفه تحويلها إلى شركات سحابية. لهذا السبب اشترى تويتر: ليس كاستثمار تقليدي كان يأمل في تحقيق ربح منه، ولكن كواجهة معك، ومعي، ومعنا جميعًا؛ نوع الواجهة التي كانت لدى الآخرين ولم يكن لديه. لقد استولى على الشركة بطريقة وحشية إلى حد ما، وخسرت الشركة نصف قيمتها السوقية على الفور. ولكن هذا أمر طبيعي بالنسبة لماسك: فهناك لحظات ترتفع فيها القيمة السوقية لأعماله إلى عنان السماء ولحظات تبدو فيها وكأنها قد تخسر كل شيء.

إن مشاركته مع إدارة ترامب - والتي أنا متأكد من أنها لن تنتهي بشكل جيد، بالمناسبة - هي جزئيًا مسألة رغبة في الحصول على بعض الامتيازات. لقد أعطى احتمال تخفيف القيود التنظيمية المفروضة على السيارات ذاتية القيادة، في يوم واحد، لشركة تيسلا رأسمال سوقي إضافي يعادل إجمالي رأسمال جنرال موتورز وفولكس فاجن وستيلانتس ومرسيدس بنز. لذا فهذه مكافأة صغيرة لطيفة له. لكن هذا ليس بالتأكيد السبب الوحيد وراء قيامه بذلك. إنه مدفوع أيضًا بالأيديولوجية: على عكس بيزوس أو جيتس، يعتقد في الواقع أنه قوة من أجل الخير. الآن هذا مستوى فريد من الوهم.

***

نيولفت ريفيو نوفمبر2024

الموروث هو كلُّ شيءٍ ورثناه من أجدادِنا وآبائِنا. وقد ورثتُ نقوداً وأثاثاً وعلما. عُرف العربُ بأنهم يتمسكون بتراثهم بشدة، حتى ذكرهم القرآن بقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلۡ نَتَّبِعُ مَآ أَلۡفَيۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَآۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَآؤُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ شَيۡ‍ٔٗا وَلَايَهۡتَدُونَ١٧٠). ومن جملة الموروثات الأدب بشقيه: الشعر والنثر الذي كان في وقتٍ من الأوقاتِ من الأسلحة الماضية التي يستعين بها العربي من أجل الغلبةِ. وأقصد بذلك ما عرف به العربي البدوي من حب للسيطرة على جيرانه والمنافسين له. وكان الشعر والشعراء من جملةِ الأسلحةِ التي يتمسك بها العربي وقبيلتُه من أجل النصر والغلبة، لأن لسان الشاعر ربما كان أكثرَ تأثيراً من السيف والرمح. لكن الحال تغير والدنيا لم تعد، هذه الأيام، تلك الدنيا التي كان ينعم بها ذلك الإنسان البسيط. وبكلمةٍ أخرى تعقدت حياتُنا بما فيها من وسائل متعددة من أجل الراحة والسعادة. كثُرت الأموالُ وتشعَّبت سبلُ الحصول عليها، وتنوعت مجالات وميادينُ العمل. فأصبح الغزو الذي يستعان عليه بالسيف والرمح واللسان السليط نوعاً جديداً من السيطرة عن بعد. ولم يعد السلاح التقليدي كافياً للسيطرة على الشعوب والدول كما هو واضح.

كل هذا الكلام معروف لدى القارئ الكريم، لكن من باب التذكير، لابد أن نستعرض شيئا من الماضي حتى تتوضح الفكرة.

 لم يتقن العربي قديما إلا الكلام. ومن هذا الكلام الأدب بشقيه المعروفين النثر والشعر. لكننا يجب أن لا ننسى ما للأدب من تأثير في تلك الأيام الخوالي. حتى أن خطبةً واحدةً قد تغير من واقع الحرب، فتنقل الجيش من حالة الانهزام والخوف إلى حالة النصر والبسالة. يذكر لنا التاريخ كيف أن القواد العرب الذين غزوا الشعوب شرقا وغربا كانوا يتقنون الكلام والخطب الرنانة في الحرب. ولم يقتصر هذا الأمر على العرب أو المسلمين الذين قاموا بالفتوحات الإسلامية (كما يسمونها)، بل كان هذا الأمر معروفا عند الإغريق واليونانيين القدماء. وهناك كتاب ألفه أرسطو عنوانُه (الخطابة)، لأن هذا الفن كان شائعا في زمانه. لا نريد أن نتشعب في الكلام عن هذا الأمر ولابد لنا أن نتوقف هنا كي نستخلص العبرة من كل أحداث التاريخ، وأن نستلهم التراث أو الموروث بكل أنواعه. دعونا نقلب صفحات التاريخ العربي الإسلامي أو بكلمةٍ أخرى: دعونا نحصي الكتب الأدبية والتاريخية والروائية ونحصي أمامها الكتب العلمية التي ورثناها عن أجدادنا العظماء!! هل هناك نسبةٌ تذكر للنوع الثاني بينها ؟ لا ننكر الدور الذي لعبه عدد محدودٌ من العلماء العرب المسلمين وخاصة في بغداد وفي الاندلس وفي الشام. لكنَّ هذا كان منذ زمان بعيد ولنقل إنه توقف ووئِد في طيات النسيان. بل أن أغلب هؤلاء العلماء لم يكن عربياً. وكل من قرأ تاريخنا الإسلامي يفهم هذا.

 أتحدث في هذا المقال باللسان العربي ولست أريد من هذا الكلام التحيزَ القومي، بل أريد أن أوصل رسالةً إلى قومنا الذين أنتمي إليهم بسبب أبي وأمي العربيين، والبيئة التي خلقت فيها معهم، وأقول لهم: كفاكم تشدقاً وإطالةً للسان، وكفى بنا أننا أصبحنا عالةً على العالم المتقدم. لا تستغربوا من قولي هذا، لأن الواقع يدل عليه. والحجةُ الواقعية المرئيةُ هي أبلغ الحججِ في مضمار الفكر البشري.

 ما نراه اليوم من تقدم تقني لم يصنعه العرب ولا المسلمون بل صنعه أولئك البشر الذين ربما لم يَدينوا بأي دين في الصين، في اليابان، في أمريكا أو ربما كانوا من أديان أخرى. ولا يفهم من كلامي هذا أن الدين هو الباعث على التقدم العلمي والتقني، ولا ملازمة بينهما، بل من باب الاستشهاد بأن القوميات الأخرى والأديان الأخرى غير العرب هي التي صنعت الحضارة هذه الأيام بل ومنذ أكثر من مئتي عام تقريبا. لم يتقن العربي سوى الأدب وخاصةً الشعر. والسؤال الذي يطرح هنا هو: حتى متى نبقى هكذا؟ يهدم العدو حضارتنا ويقلع دورنا فنقابله بالأهازيج والشعارات والقصائد العصماء والخطب الرنانة التي لا تغني ولا تشبع ولا تسمن.

حتى متى يبقى العرب يسبحون في مستنقع آسنٍ من التاريخ المشوه الذي كتبه قوم كانوا يتنعمون في أروقةِ قصور الملوك والأمراء المسلمين؟

 تاريخٌ كتب لكي نتحدث به في المقاهي. وقصائدُ كتبت لهؤلاء الملوك والأمراء حتى فاقت بهم حد المعقول. هؤلاء هم من كتبوا قصائدهم لأغراض ما كانت يوما تدعو إلى نهضةِ المجتمع وبناء حضارة إنما كتبت من أجل تضخيم الجيوب وتطويل الأعناق. حينما يمجد الشاعر نفسه أو يمجد قبيلته فإنه لابد أن يجنح إلى عنصر المبالغة والغلو، حتى يكون مؤثراً وتُهزَّ له الرؤوس، ويقال له: أحسنت... أحسنت أيها الشاعر المفلق.

 هكذا هم العرب. وأقول: مع كل الأسف إنهم ما زالوا هكذا حتى يومنا هذا. ثقوا أن الشعوب الحيةَ تركت إلى حد كبيرٍ مهنةَ الأدب، وأقول: مهنة، لأنها على مر التاريخ العربي الإسلامي كانت هكذا. وإذا شذَّ منهم أحد، فالشاذ لا يقاس عليه، كما يقول علماء المنطق.

لو كان لنا شغل شاغل بالعلم والتقنية وروح البحث، لما التجأنا إلى الأدب وكثرةِ الكلام، ولملأنا أوقاتنا بشيء مفيد ينفع المجتمع والبشرية. المضمار واسع ومفتوح على مصراعيه والساحة أمامك لكنك لن تنجح إلا بعد أن تحطم هذا المنبر الذي اتخذه هؤلاء صنماً يعبدونه ويجلسون حوله وكأنه إله يُعبد. منبر الأدب كان في وقت من الأوقات منبراً مقدسا عند كثير من الشعوب التي تحترم الموروث التاريخي لها، لكن الزمن تغير بتغير الأحداث والحاجات. وإذا عرفنا أن الحاجةَ هي أم الاختراع، وعرفنا أن البشر أصبح مخترعاً وأنتج آلات تفوق تصورَ العقل وحد التصديق، عرفنا مقدار التأخر الذي أحاق بنا نحن العرب.

تتبارى الشعوب الحيةُ والحكوماتُ الواعية والمؤسساتُ العلمية الراقية بمقدار مساهمتها بالاختراع والاكتشاف والتطوير. وهذه هي المنافسة و"الحرب السلمية" الحقيقية. منافسةٌ تنتج حضارة وتنتج خيراً للبشرية. وإذا عرفنا أن كل اكتشاف واختراع لابد أن يرافقه شيءٌ من الشر، وأن هذه هي طبيعةُ الأشياء، يكمن فيها الخير والشر في مكان واحد، تيقنا أن هذا ليس من باب جمع المتناقضات أو جمع الأضداد كما يسميه علماء المنطق القديم.

كم هو جميل أن يتحدث الأديب بلسان حال عالِمٍ عربي قدم شيئا مفيدا لمجتمعه وللبشرية.

كم هو جميل أن نمدح شيئا مصنوعا في بلادنا مثلما كان البدوي يمدح خيمته وسرجَ دابته التي صنعها بنفسه.

 وكم هو جميل أن نتغنى بقصائدنا ونثرنا بحديقة أو روضةٍ غناء صنعناها بأنفسنا على هذه الأرض.

كم هو معيبٌ أن يقف شاعرُنا الحديثُ فيمدحَ الدابة والخيمةَ والسيفَ والرمحَ في القرن الحادي والعشرين وهو لم يرَ أياً من هذه الآلات والأدوات والحيوانات!

هذا هو الاجترارُ وهذا هو الترديد الذي يجب أن نتركَهُ إلى الأبد. لابد أن تتغير مناهجُ البحث وقبلها مناهجُ التعليم في مدارسِنا بحيث لا نعطي تلك الأهمية الكبيرة أو الفريدة لكل ما جاء في تاريخنا الطويل.

 علينا ان ندرس التاريخ الحديث قبل أن ندرس التاريخ القديم، لأننا لا نملك عمراً طويلا يسمح لنا بأن نصرفه على كمٍّ كبيرٍ من التفاهات والخرافات والأساطير التي كُتبت بأيدي بشر أمثالنا.

 قل لي بربك ما الذي تستفيدُه من حفظ قصيدةٍ تعداد أبياتِها ألفُ بيت، وتصرفُ عاماً كاملا أو شهراً أو أسبوعاً في حفظها.

 ما الذي تستفيدُه لو حفظت كتاباً للخطب كنهج البلاغة مثلا وتصرفُ أعواما على هذا العمل؟

 ما الذي تستفيده لو صرفت عمرَك كلَّه في البحث عن الحلال والحرام والمكروه والواجب في أمور سطحيةٍ من أمور الفقه كالطهارة والنجاسة والحيض والنفاس؟

ألم يأن لهذه العقول أن تنتقل إلى مرحلةٍ جديدةٍ من التفكير؟ مرحلةٍ تأخذ بالعقل العربي إلى ساحه النور والعلم وتؤسس تراثا علميا يمثل الغايةَ العظمى في أهدافه ويترك التراث الأدبي لأنه تاريخ لحظي يتحكم فيه الزمان والمكان وحجمُ الحدث.

 هذا هو ما أدعو إليه. وقد دعا إليه عددٌ من علماءِ الاجتماع والفلسفة العرب على ندرتهم.

 وقبل أن أنهيَ هذا الحديث أقول: إنني عربي وصرفت عمري كله أخوض في هذا الوسط فخرجت بخُفَّي حُنين، كما يقول المثل العربي. ما الذي أضاف إلي الأدب؟ وإذا سألتني ما رأيُك بكل ما قرأته من شعر ونثر وخطب ورسائل وغيرها، فإنني أقول لك: لا يجب أن يتعدى تأثيرُها أكثر من الاستمتاع بالكلام الرنان والمعاني التي لا تخلو من جمال رغم تكرارها في كل هذه الفنون. الجمال متعددٌ ومن مصاديق هذا الجمال الكلامُ الجميل والمعاني الدقيقة التي تهز الوجدان والعواطف وربما تجيش المشاعر. ولا ننسى أنها ربما تُغيظ النفوس وتبعث فيها الكراهية وتثير الدفائن في قوم هم على شفا حفرةٍ من الثقافة وسطحيةٍ من العلم. إذن، لابد لنا أن نعيد قراءةَ هذا الموروث بشكل جديد وناقد ولا نبقي إلا على ما يتفق مع مقررات العلم والتقنية الحديثة لأنها واقعٌ والموروث الأدبي وهمٌ اختلقهُ الأدباءُ ونحن من بعدهم !!

***

بقلم: د. علي الطائي

 

من البديهي أن نتفكر في العلاقة التي تربط وسائل الإعلام بالمجتمع، وبالتالي تقدير استنتاج كون النظر إلى العلاقة بين الإعلام والمجتمع، يعني حتما أن المجتمع يؤثر في تطور الإعلام، وأن تطور الإعلام بدوره يؤثر على تطور مجتمعاتنا.

هذا سيساعدنا لا محالة، في إثبات أن وسائل الإعلام مرتبطة بالتفاعل الاجتماعي، فقد أصبح من الضروري تعليم الجانب الاجتماعي لكيفية عمل وسائل الإعلام. هذه حقيقة، أثبتتها صيرورة العلاقة المتصلة بين الإعلام والمجتمع. ولا جدال فيها على الإطلاق.

الجديد في دورة التأثير بين العنصرين الجاذبين (الإعلام والمجتمع)، هو النظام الحافز لمواءمة واستشراف التواصل الاجتماعي لمجتمع ليست له قابلية لاستنباط المعرفة، أو استيفاء طبيعة التعاطي معها، وهو منظور، في اعتقادي، ساهم في توسيع فجوة الفهم، ومضاعفة التداعيات الخطيرة للتماس بين التقائية تدبير مرحلة التكيف مع الشكل الجديد لوسائل الإعلام، وافتراقاتها على مستوى القيم والخطاب والامتداد.

 وفي هذا الإطار، من الضروري، الحديث هنا عن خصيصات الثقافة والهوية، كما هو الشأن بالنسبة للإعلام الخبري الموجه، الذي يحتكر سلطة الإدارة والتدبير، وتمثلاتها للجهات السياسية الفاعلة، والتأطير في حملات الرصد والقيادة والشخصية، والإعلان  والحوكمة، كما العرض المبني على التشريعات التي يستنبطها المتدافعون، لجعلها منطقة متاخمة لحجم خططهم واستراتيجياتهم.

إن ارتباط الإعلام والمجتمعات بالوسائط الإعلامية وتغيراتها الثاوية، عبر تطور الاتصالات الإلكترونية، بصدمات الإنترنت والوسائل الرقمية، يسوغ وضع أدبيات جديدة لتحليل هذه التطورات من منظور أو رؤية سوسيولوجية متماسكة، تستند إلى الموازنة بين طريقة الاستخدام ومعالجة التأثيرات، انطلاقا من طبيعة المجتمعات، وتحولها من مجرد مستهلك ومستقبل، إلى ناقد ومستوعب.

وهنا يصير من الأكيد معرفة التحديات الرئيسية المرتبطة بالمعلومات والاتصالات، أو على الأقل، الحدود بين القيمة واللا قيمة، بين المعلومات والترفيه أو الدعاية، بين صورة الفرد وشخصنة الأحداث ومنظومة الجماعة ووحدة مصيرها ومشتركها، فضلاً عن الحياة الخاصة أو الجزء الأكثر حميمية منها، على نفس المنوال، فضلا عن الحياة العامة، والتي تجعل كل واحد منا مواطنًا على وجه الخصوص، وله التزامات مجتمعية وعقد اجتماعي ونظر مسلكي وغير ذلك..

أعتقد أن الإعلام في مرحلة فارقة، كالت يعيشها عالمنا الراهن، يحتاج إلى التدليل على هذا النهج، على اعتبار تأثير الإعلاميين على المستوى الاجتماعي والثقافي إزاء المجتمع. وهو ما يحتم العمل بصورة تعكس القابلية الإيجابية لهذا المجتمع ومحيطه.

كما لا تخرج مواقف الإعلام إياه، عن الأحداث الجسام، التي تكلكلت أورامها وتفجرت، في حالات الانهيار السيكولوجي والمادي لتلك المجتمعات، خلال حروب القتل والنار والتهجير والإبادة والأمراض الفتاكة. فهي بمثابة الرواء الذي يسقي روح السيرورة ويغديها ويسحبها إلى تخوم القيمة والوجود، بما هي ارتقاء وثبوت على اكتناه مصادر الحقيقة، دون تزييف أو خداع أو تضليل.

وتحت ظلال هذه المآسي غير المسبوقة، في تاريخ توثيق الأحداث وتأريخها، سيكون من الصعب، غربلة ما فاض عن حاجة المتلقين، ممن ينشغلون بتكريس آليات الإغفال والتورية، وتحوير الصور والمشاهد المدسوسة، حيث تصير الحاجة إلى قيمة المعرفة أبعد مما يكون من تكشف إبرة القش، وتتألب المعاذير والشكوك على تكسير كل المنطقيات والحتميات، الشيء الذي يعيد واجهة الوظيفية الإعلامية المنظورة إلى عتمة القفل التي تنزاح إلى استعارة المفتاح من بلاغة "النص المحشور" وليس من "خطاب الكفاية المختصرة"؟.

***

د مصـطـــفى غَـــلْمَــان

أنا اندهش إذن أنا اتفلسف

كانت تنظر إليه وهو يسير في طريقه لا يلتفت الى أحد، لم يكن يسير كما يفعل معظم الناس ممن يعرفون هدفهم ويتأكدون من مواضع أقدامهم. فقد كان رافعاً رأسه الى السماء ومشغولاً بتأمل النجوم. وما هي لحظات إلا ويجد نفسه قد وقع في حفرة لم ينتبه إليها، هذا المشهد الغريب استهوى المرأة التي تتابع " طاليس المالطي " الذي اشتهر في بلاد الإغريق قبل أكثر من ألفين وخمسمائة عام بتنبوئه بحدوث كسوف للشمس، يكتب برتراند رسل ان حكاية طاليس المالطي لا يستحق من خلالها لقب اول فيلسوف وانما ايضا لقب " اول الاساتذة شاردي الذهن "، وتقول الحكاية ان المرأة عندما رأت الشيخ المهيب يقع في الحفرة أطلقت ضحكة عالية وهي تقول له:" أنَّى لك أن تعلم كل شيء عن السماء يا طاليس وأنت لا تستطيع أن ترى ما تحت قدميك؟".

ماذا تعني ضحكة المرأة التي يقال إن بها بدأت قصة الفلسفة؟ أكان بمحض الصدفة أن يجد طاليس نفسه موضع سخرية؟ هل نفهم إن التفلسف يخالف المألوف في الحياة؟، وإنه في بعض الأحيان يصبح موضع استنكار وسخرية، يخبرنا افلاطون ان هذه الضحكة هي الجواب الذي يردُّ به " العاقلون" و" العمليون" في الحياة اليومية على كل سؤال فلسفي.

كان طاليس المولود عام " 624 ق.م " اول من تساءل عن الحقيقة القائمة وراء الاشياء الطبيعية، وحاول تفسيرها لا على غرار المؤمنين بالاساطير والخرافات، بل على غرار العلماء، فبفضل هذا الرجل الذي كان قصير القامة، على شيء من الوسامة، عكس سقراط كان يهتم بمظهره الخارجي، انتقل الفكر من الاسطورة إلى المنطق، ونجد ارسطو في كتابه " ما بعد الطبيعة " يؤكد ان طاليس خطى بالفلسفة خطوة الى الامام، ذلك انه اسس مبدأ الدهشة، وكيف كانت هذه الدهشة باعثا على النظر، ولهذا نجد ان اول الاشياء التي اثارت الدهشة عند طاليس هي حركة القمر والشمس والنجوم، ثم نشاة العالم، ويضيف ارسطو ان " طاليس مؤسس نوع من الفلسفة يرى ان المبدا الاول للاشياء هو الماء " ويقال ان هذه الفكرة استمدها طاليس من البابليين حيث تحكي احدى الاساطير البابلية بأن " كل شيء كان بحرا.. وقد وضع الإله مردوخ حصيرا من القصب فوق سطح الماء فتراكم عليه الطين "، لكن طاليس استغنى عن الآلهة واستبدلها بعمليات طبيعية، وفي هذا يكون طاليس انتقل بنا من التفسير الاسطوري الى التفسير العقلي للاشياء، وهو في محاولة بحثة عن مادة طبيعية تكون اصل العالم، كان يسعى الى تبسيط ظواهر العالم وتوحيدها، والأهم كان يسعى الى المعرفة، عوضا عن الاستعانة في تفسيره بكثير من الآلهة.

يكتب برتراند رسل ان قدرة الإنسان على الاندهاش هي قدرته على البقاء إنسانًا، طالما بقي في استطاعته أن يسأل مَن هو الإنسان؟ إن دهشته نابعة من إحساسه بوجوده، في محاورة " المأدبة " لافلاطون – ترجمها الى العربية مجدي عبد الحافظ - تقول ديوتيما موجهة حديثها إلى سقراط: ما من أحد من الفلاسفة يتفلسف، والحمقى كذلك لا يتفلسفون، ذلك لأن ما يفسد في الحمق أن يتوهم الإنسان أنه مستغنٍ بنفسه." ويمضي سقراط قائلًا: " سألتها مَن هم الفلاسفة إذن يا ديوتيما، إن لم يكونوا هم الحكماء ولا الجهلاء؟ " عندئذٍ أجابت قائلة: " إن هذا لأمر واضح حتى للطفل، إنهم أولئك الذين يشغلون من الفئتين مكان الوسط "، هذا الوسط هو الذي قال عنه باسكال عبارته المشهورة: " نحن لسنا شيئًا، نحن نأمل أن نكون".

في كتابها " الدهشة الفلسفية " – ترجمه الى العربية محمد آيت حنا – تكتب جان هرش ان الدهشة هي الخصيصة المميزة للانسان، فالدهشة اساس الشرط الانساني، وربما يقول البعض: هل ما يزال بوسع الانسان المعاصر ان يندهش وهو يعيش في عصر التكنلوجيا المتطورة، ويعتقد على الاقل ان العلم كشف له كل شيء؟، هل يمكن أن تساعد نصائح فيلسوف مثل ابيقور عاش في اواخر القرن الرابع من الميلاد، على ان يستمد منها شاب يعيش عام 2020 النجاح؟، وهل يصلح فيلسوف الماني مثل ايمانويل كانط، اثار الجدل بحياته الغريبة، ان يصبح معلما ويشير لنا نحنن أبناء هذا القرن والحروب، الى اهمية بناء مجتمع ديمقراطي يحمي حريات الافراد، وينشد السلام، صحيح ان تاريخ الفلسفة يخبرنا ان ايمانويل كانط عاش حياته من خلال الالتزام بنظام حياتي صارم،كان يستيقظ في الخامسة صباح كل يوم، يخصص ثلاث ساعات للكتابة، وبعدها يذهب الى الجامعة يلقي محاضرات لمدة اربع ساعات فقط، لاتزيد ولا تنقص، يتناول الطعام في مطعم واحد لم يغيره لمدة اربعين عاما، بعد الظهر يذهب في جولة رياضية، ثم يعود الى البيت ليقرا وينام الساعة العاشرة مساء بالضبط ..وكان جيرانه يقولون انهم يستطيعون ضبط ساعاتهم على مواعيد خروجه وعودته، كان كانط يولي جسمه الكثير من العناية الشديدة، فهو يعتقد ان من المهم ان يطول عمر الإنسان، وكان يحتفظ بقائمة لأطول السكان عمراً في المدينة التي يسكن فيها، وظل مدير الشرطة يوافيه شهرياً بحالات الوفاة التي تقع في المنطقة القريبة من بيته.

ما الذي فعله هذا الرجل الذي عاش حياة نمطية مستقرة، بحياتنا نحن ابناء هذا القرن؟.. يعتقد الكثير من القراء أن الفلسفة تقول شيئا لا يفهمه الناس، ويهتم به النخبة فقط . ولكننا ياعزيزي عندما نتعرف على سيرة المرحوم إيمانويل كانط سنكتشف ان الرجل تدخل في معظم شؤون حياتنا، فمن بيته الصغير في مدينة كونيغسبرغ عمل بجدارة وتصميم على تهديم لأفكار قرون مضت، وساهم في توجيه العالم اكثر مما ساهم الاباطرة وزعماء الدول، فاذا كنت تنعم بالديمقراطية لا بد ان تعرف ان كانط كان قد اعلن في كتابه " ميتافيزيقيا الاخلاق " والذي ترجم الى العربية باكثر من ترجمة اشهرها قام بها عبد الغفار مكاوي، والاخرى ترجمها محمد فتحي الشنيطي، وفيها يقول ان لكل انسان كرامة اصيلة ملازمة له ينبغي احترامها ورعايتها، وكان اول شخص يتصور تاسيس هيئة عالمية قادرة غلى ضمان السلام في العالم وكانت هذه الفكرة التي طرحها في كتابه " مشروع للسلام الدائم " ترجمه ال العربية عثمان امين، هي التي اوحت بتاسيس منظمة الامم المتحدة، وستساهم شروحه العميقة عن المكان والزمان في ان يتوصل آينشتاين الى تحقيق نظريته النسبية.. وتقول جان هرش في كتابها " الدهشة الفلسفية " ان كانظ سيظل يشغل العالم اكثر من غيره من الفلاسفة، فهو وحده الذي استطاع ان يغير زوايا نظر الفكر الفلسفي ومفاهيمه تغييرا جذريا، ولهذا تتفق هرش مع مارك مانسون صاحب كتاب " خراب " الى انه اذا اهملنا كانط لن يكون بمقدورنا ان نفهم شيئا عن التطور الفلسفي الذي حصل بعده.كان كانط يعتقد بأن ما يجعلنا بشرا، على خلاف الحيوان، هو قدرتنا على التفكير بطريقة نقدية في اختياراتنا.

كانت الفلسفة في العقود الماضية تعد مجالا معرفيا معقدا لا يقصده إلا المتخصصون، فلماذا خرجت في السنوات الاخيرة من الفضاء الأكاديمي الخاص والمحدود إلى الفضاء العام الرحب ولاقت رواجا بين القراء؟

يعزو الفرنسي ميشيل اونفري، رواج الفلسفة إلى الأزمات العالمية الحالية، ويقول إن الفلسفة الأخلاقية والعلاجية ازدهرت أيضا في العصر الهلنستي الذي شهد تحولات كبرى، تزامنا مع انهيار الدويلات اليونانية، وصعود قوى عظمى مثل الإمبراطورية المقدونية والإسكندر الأكبر.

ويرى آلان دو بوتون أن القرن العشرين كانت تسوده روح التفاؤل والإنجاز، وزاد الناس ثراءً، ومن ثم زاد الإقبال على المبالغة في الشراء بلا اكتراث. ثم فوجئ العالم بأزمة الائتمان، وتلاشى هذا التفاؤل. وتساءل الناس عن دوافعهم وأهدافهم في الحياة، ومن هنا ظهر الشغف بكتب النصح والإرشاد. ويقول دو بوتون إن أعلام الفلسفة القديمة دأبوا على تقديم هذا النوع من الحكم والنصائح، بمعنى أن هذه الكتب تركز على جوهر الفلسفة كما كانت في أول عهدها.

لجأ الناس للفلسفة بحثا عن نصائح تساعدهم على مواجهة تحديات الحياة ووجدنا روائية مثل سارة بكويل تؤلف كتابا بعنوان " كيف تعاش الحياة او حياة مونتاني " – صدرت مؤخرا الترجمة العربية للكتاب عن دار التنوير " حيث ترشدنا الى ان مونتاني يرى أن الحياة فنّ، وعملية بدهيّة للاكتشاف والتفكّر وإيجاد المتعة خلال رحلتنا فيها.. وكانت كتابات مونتاني التي اختار لها عنوان " المقالات " محاولة كما يقول لان يُمنح الانسان فرصة، وان يجرب الحلول للمشكلات التي تحيط به، كان مونتاني يقرأ كثيرا، ويعلق كثيراً على ما قرأه، متطرقاً الى معظم أوجه المعرفة يكتب:" إن أعظم ما في العالم أن يكون المرء نفسه "، وقد تجمعت له من مقالاته اكثر من كتاب حيث نشر عام 1580 كتاب " المقالات " بجزئين ثم أضاف لهما جزءاً آخر. كان ياسبرز اول من اطلق صفة الدهشة على الفلسفة حيث اكد ان الفلسفة تمثل الدهشة، وهذه الدهشة تدفع الانسان الى المعرفة:" حين اندهش، معنى هذا انني اشعر بجهلي فانا ابحث عن المعرفة بغية المعرفة ذاتها، فالتفلسف يقظة "، ويبدو ان هرش استمدت العنوان من استاذها الذي تنقل من دراسة الطب الى ممارسة العلاج النفسي، الى التفرغ للفلسفة، وقد كان لهرش لقاءات مع هايدغر وسارتر، وتولت رئاسة قسم الفلسفة في منظمة اليونسكو وقد توفيت عام 2000، بعد ان تركت عددا من الكتب المهمة كان " الدهشة الفلسفية " واحدا منها.. في الكتاب، تاخذنا هرش في سياحة فكرية ممتعة مع كثير من الفلاسفة تبدأ من طاليس وتنتهي عند استاذها كارل ياسبرز

" الفلسفة مغامرة مدهشة " هكذا يضع لها كارل ياسبرز تعريفا في كتابه " مدخل الى الفلسفة "..وهي شكل غريب من الحوار بدأ في اليونان القديمة قبل ما يقارب الألفين وخمسمائة عام.. حيث بدأ الفلاسفة تُحركهم تجربة ما او احساس ما يعصف بهم فضولاً واهتماماً وشغفاً، وهو لا حقا ما يدفعهم لطرح الاسئلة..اسئلة تبدأ بـ " لماذا؟ ". يريدون اجوبة لاسئلتهم، اي يريدون ان يفسروا لِمَ هي الاشياء على ما هي عليه؟.. فالفلاسفة يأسرهم التساؤل والبحث عن الاجابة دائما.

كان كانط يعتقد بأن ما يجعلنا بشرا، على خلاف الحيوان، هو قدرتنا على التفكير بطريقة نقدية في اختياراتنا. سنشبه آلات إذا لم نكن نفعل الأشياء عن قصد ووعي، وظل كانط يؤمن هو أنه لا يجب على الشخص استعمال الناس بل معاملتهم باحترام، والاعتراف باستقلالية الناس الآخرين و قدرتهم كأفراد على اتخاذ قرارات معقولة لأنفسهم. هذا الاحترام لكرامة وقيمة المخلوقات البشرية الفردية، هو أصل السؤال الفلسفي وغاية الدهشة التي جعلت طاليس يقع في الحفرة.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

بعد عشرة الاف عام من المجتمعية بلا ادراك للظاهرة المجتمعية ومنطوياتها، ظل العقل بحالة سعى للخروج من قصوريته الحائله بينه وبين اكتمال مقومات حقيقته الوجودية، وها هي الساعه الفصل العظمى تلوح في الافق بعد انتهاء الزمن اليدوي، وما تبعه من  لحظة احتدام توهمي قصوى كافتتاح مثقل بوطاة متبقيات ماقبله، طغت على الانتقالية العقلية المجتمعية الاليه الابتدائية، مولدة اختلالا مضطربا مشحونا بالعنف والاحتكام للتخيلات باسم العلموية والعقلانيه،  الى ان وصل محطته الاخيرة الافظع، الاقرب الى التدميرية التناقضية المتاتية عن اختلال العلاقة بين الحقيقة الواجبة الضرورة المتزايدة الحاحا بما لا يقبل التاجيل، ومتبقيات التوهمية التصورية المختلة والمصرة على معاكسة مسار التاريخ وحكم الزاميته التحولية الكبرى المنتظرة.

 ترى هل ثمة على امتداد الكرة الارضية من احتمالية نطقية مواكبه للحدث الالي  غير تلك الاوربية؟ ومن اين تاتي هذه، وفي اي موضع  يمكن ان يتناسب والحالة  وما تتطلبه من مقومات التفاعلية مع الحدث الانقلابي الكوني المادي النوعي، هنا ندخل حكما عالما اخر ظل كما سبق وكررنا خارج الانتباه، ومقصيا عن الادراكية للاستحالة القصورية العقلية، مع ما يضاف لها من اسباب الاستحالة  مع ركام المنجز التوهمي الاوربي وقد صار متصدرا للمشهد التحولي الالي واقعا ورؤية، ما قد تولد عنه لدى الالتقاء مع  بدايات القرن العشرين حين حضر الانكليز محتلين ارض مابين النهرين، حال من الاستثنائية التصادمية المتعدية لعنصريها كما كانا لحظة اللقاء المباشر بينما، ساعة انبثقت وقتها آليات من النوع الافنائي للكينونه والنموذج على الجبهتين.

  ولو ان الحملة البريطانيه عام 1914 وصلت للعراق وهو في حال انهيار انحداري او انقطاع كلي كما هو القانون الناظم لتاريخه، لاختلفت سياقات الاصطراع بين الطرفين وقتها، ولم تتخذ الشكل الذي اتخذته ارتكازا للحضور التشكلي العراقي الحديث الراهن، المبتدء  قبل اكثر من ثلاثة قرون، مر خلالها بفترتين رئيستين، الاولى "قبلية" تبدا مع القرن السادس عشر مع ظهور "اتحاد قبائل المنتفك"، والثانيه "انتظارية" نجفية اخذت بالتبلور  ابتداء من القرن الثامن عشر بعد "الثورة الثلاثية" التي حررت العراق من المماليك العثمانيين، من[U1] [U2] [U3] [U4] [U5] [U6]  بغداد الى الفاوعام 1787 مترسما طبيعته التاريخيه، حيث التبلور والنشاة تبدا من الجنوب كصيغة مجتمعية نوعيه مصطرعه مع البيئة الطارده، كما كان عليه الحال في الدورة الاولى السومرية البابلية الابراهيمية، وفي الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية التي نشات ابتداء في ارض السواد مجسدة في  الكوفة التي منها هرب العباسيون ليبنوا مدينتهم/ الامبراطورية بعيدا عن المجتمع  اللاارضوي الاسفل المستمر بالثورة بلا توقف،   ناهيك عن البصرة.

 وتطرا اليوم ابان الدورة الاليه او المواكبه للزمن الالي، اختلافات نوعية عن التي عرفتها الدورتان السالفتان، الاولى الموكوله الى التفاعلية الذاتيه، والثانيه المتداخله فيها الفعالية الذاتيه مع التحفيزية الجزيرية الابراهيميه النبوية العائدة الى ارضها ومنطلق تشكلها، في حين تنشأ الدورة الراهنه تحت وطاة  وثقل البرانيه الشرقية ابتداء من 1258 مع سقوط  عاصمه الخلافة الازدواجية بغداد على يد هولاكو، وصولا الى العثمانيين، قبل الطبعة البرانيه الاليه البريطانيه، لنتعرف على نوعين من الاصطراعية مع البرانيه المتركزة في العاصمه المنهارة سلالات ودول واشباه امبراطوريات، هي في الطبيعة "يدوية"، يواجههاالتشكل الحديث العراقي يدويا بحكم وضعه على هذا الصعيد ساعتها، الى ان تنقلب المعادلة ويتحول الصراع  الى طرف نشوئي يدوي، واخر آلي محتل غير مسبوق التعامل معه، او التعرف على نوعه.

 والمميز الواضح اليوم ان اشتراطات التشكل الكياني الازدواجي ماكانت واردة ولا متاحه بالاصل لان التبلور الحالي الراهن يبدا محكوما للاصطراع مع البرانيه من جهه، وللانقلابيه التاريخيه العالمية الالية، مامن شانه وضع ارض الازدواج والكونيه امام اختبار فريد نوعي يقارب اشتراطات  ومتطلبات البدئية الثانيه الالية، بعد تلك الاولى اليدوية  حيث تحددت في حينه خاصيات المكان ونمطيته، فاذا بارض الرافدين تواجه التحدي الاكبر الافنائي متمثلا في النموذج "الكياني / الوطني" و ( الدولة/ الامه) على النمطية الاوربية الغالبه، لنصبح فجاة وبين ليلة وضحاها امام عراق حديث له دولة، اضطر المحتل لفبركتها كحاجة لامعدى عنها لضمان استمرار نفوذه بعد الثورة الكبرى اللاارضوية  غير الناطقة التي هبت بوجهه، وجعلته يقرر الانسحاب عام 1920 ، ردا على دخوله غير المسبوق من نقطة الامان التاريخي من جنوب العراق، المكان المرتكز الوجودي الوحيد الذي لم يعرف الاختراق على مر تاريخ هذا الموضع، مقارنه بالشرق والغرب والشمال حيث الانصبابات السلالية، ما قد جعل الدخول الاستثنائي المشار اليه يتخذ مع الطبيعة المستجدة الاليه للجيش المحتل، معنى الافنائية الوجودية، ما اقتضى ردا من نوعه في حينه، وان بلا نطقية.

 وهكذا كان الغرب قد تعرف للمرة الاولى على الحالة التصادمية النقيضة لنوعه كما لم يحدث في اي مكان من قبل ومنذ الساعات الاولى، فالاحتلال الاوربي والبريطاني يصل عادة  بجيوشه ليحتل البلدان ويخضع حكوماتها القائمه لسطوته كما الحال في مصرمثلا، في حين هو اضطر  هنا لاقامة "حكومة من اهل البلاد" تكون واجهه لنفوذه المتعذر بذاته وبلا وسيط، جاء به وركبه من العاصمة المنهارة نفسها، مركز التعاقب البراني .

  واذ كان الامر يستوجب مروية  انبثاق "العراق الحديث" فلقد نهض بالمهمه ضابط ملحق بالحملة البريطانيه هو فيلب ويرلند، موجد سردية العراق المعروف على قاعدة الالتحاق بالسوق الراسمالية العالمية،  وبالتحديد مع 1831 خلافا لواقع البدئية التشكلية الفعلية المعاشة المستمرة من القرن السادس عشر بحسب قوانين التشكل التاريخي البنيوي العراقي، اي قبل بداية الثورة الالية الصناعية، لندخل من يومها تاريخيا من الهيمنه المفهومية الاخطر من العسكرية والسياسية المباشرة، حيث العراق محكوم وجودا ورؤية للوطنيه الويرلندية، بظل غياب ولانطقية العراق التاريخي العراقي الازدواجي اللاارضوي .

  ولم يسبق بالطبع بحسب اجمالي الاشتراطات المنوه عنها، ان عرف في التاريخ او في الاراء المتعارف عليها مفهوم من نوع "سياسة الاستعمارين" فمفهوم " الاستعمار الجديد" عرف لاحقا في الستينات،  بينما كانت الكولونيالية والاستعمار القديم غالبة وسائده منذ وجد الاستعمار بينما كان الحال في العراق وقتها عام 1920/ 1921 حال ازدواج "مفهومي" وآخر "مباشر"، فلا احد في العراق الى اليوم انتبه الى انه من موضع في العالم لم يعرف على الاطلاق في مجمل تاريخه الاطول بين التواريخ، مفهوم "الكيانيه الوطنيه" ولا "المجتمعية الاحادية"، وهو مايشمل القوى او التيارات الحديثة الايديلوجيه التي ظهرت في العراق على قاعدة مناصبة الاحتلال الرفض والعداء على قاعدة مفهوم الغرب نفسه، حيث المطلوب "طرد النموذجية الغربية باسم النموذجية الغربية ومن اجل الالتحاق بها"، مثل اليسار والقومية والليبرالية، فالمفاهيم التي اعتمدتها وتاسست عليها القوى المشار اليها مستعارة وتنتمي للغرب وموضوعاته التي  احتوت عليها  المعروف ب"حركة التحرر العالمية" المخالفة جوهرا لكينونة العراق وبنيته، ودوره المفترض اليوم، ونوعه، بعد ماكان له وتميز به عالميا في الطور اليدوي من التاريخ البشري.

***

عبد الأمير الركابي

ومضات ثقافية (2)

لا فراق بين الشعر والعراق – يتعرقه، يتعطر به، وبمباخره تطهر الارواح في المعابد والاضاحي والثورات، وبه تجيش الجيوش وتجمل النفوس، منذ نحو خمسة آلاف سنة، برز شاعر العراق الاعظم، والابرز، على الاطلاق، كلكامش، ملكا اسطوريا، وشاعرا يكثف الملاحم في رؤياه، وفي حكمة مسعاه للابدية، اما الشاعرة إنخيدوانا ابنة الملك سرجون الآكادي التي تشربت قبل اكثر من أربعة آلاف سنة من ذات النبع، فكانت اول شاعرة في التاريخ، تكتب التراتيل بنفس انثوي، يختزل تسامي المعاني بصيغ ليس لها مثيل، هي الرائدة التي تتفوق جماليا على فحول الشعراء قبل وبعد النوبل، كانت تكتب بضمير المتكلم وتوقع على نتاجها الشعري مخترعة إعتباريا ما ندعوه اليوم بحقوق الملكية الفكرية !

كلكامش:

هو الذي رأى كل شيء، فغني بذكره يا بلادي.

سيد الحكمة الذي بكل شيء تعمق.

...

إنخيدوانا:

في ذلك المزار الفخم للنظام الكوني المقدس،

يتابعون مرور القمر،

ضوء القمر المتضائل ينشر على البلاد،

ضوء النهار الجارف يملأ كل بلاد...

...

مسلات وجداريات والواح طينية، كتبت عليها بنسغ التجاوز، وبمداد الحرف المسماري المطروق على العقل الباطن للتاريخ، خواطر الاوائل الذين تعلموا ان هذه الارض وهذه السماء وهذه الكواكب وهذه الدنيا يمكن تهذيبها، تثقيفها، يمكن التسامي بها لمستقر هو المستقرُ، الى حيث لا ينفع الهاربين والقانعين عذرُ، بين حافة الفناء، وحافة الشعر تختلط الازمنة، ليخرج طقس مليء بالقلق من تعذر تحقيق المرتجى الذي طال تأجله، فالموت لما الموت؟ ما كنهه؟ وما سره؟ انه الطقس الذي يسبغ جينات النفوس بسبغة التمرد؟

يا ايتها الآلهة انزلي من سترة المنتهى وأنفخي بجوف أنكيدو سر الخلود، انزلي، انزلي ولا تخذلي هذا الذي رأى وعلم العلم كله بما لا يعلم، انزلي، ولا تكرهيه على الصعود اليك، انزلي، فكلكامش راح يناطح الثور المجنح، وهاهو يمتطيه ليصعد اليك، هاهو يحوم حول غابة الارز وعلى خلجان البحور، هاهو يلوح لاهل النهرين والبحرين، وها هو الثور يشق بقرونه كل طبقات السماء السبعة،،، استقبلته عشتار وحاولت اقناعه، نزلت معه الى اوروك بوعد نزول كل الالهة، لتنظر في مسعاه، ومازال كلكامش ينتظر نزول مجمع الالهة العليا !

مذ كلكامش والشعر في العراق بحث عن آلهة لا شياطين، آلهة الشعر لا شياطينه !

بلاد الثقلين: الشعر والسياسة

"هي بلاد بين نهرين، بلاد بين سيفين "

...

كل الاغاني انتهت، إلا اغاني الناس، والصوت لو يشترى ما تشتريه الناس،

عمدا نسيت الذي بيني وبين الناس،

منهم انا مثلهم والصوت منهم عاد.

يوم انتهينا الى السجن الذي ما انتهى

منيت نفسي وقلت المشتهى ما انتهى

يا واصل الاهل خبرهم وقل ما انتهى

الليلة بتنى هنا والصبح في بغداد.

الخالد والشامخ ابدا " سعدي يوسف "

**

يا طعم يا ليلة من ليل البنفسج

يا حلم يا مامش.. ابمامش

طبع كلبي من طباعك ذهب

ترخص وغليك وحبك.

*

اشلون اوصفك وانت كهرب

وآنا كمرة عيني.. دمعة ليل ظلمة !

*

يا عذر عذرين يا شنهي وحبك !

شاعر اللسانين " الشعبي والفصيح " الفذ مظفر النواب

شاخ الزمان جميعا والعراق صبي: المبدع عبد الرزاق عبد الواحد

حتى الظلام هناك اجمل فهو يحتضن العراق: الرائد بدر شاكر السياب

انا بالحكومة والسياسة اعرف - أأُلام في تفنيدها واعنف

سأقول فيها ما اقول ولم اخف - من ان يقولوا شاعر متطرف

*

علم ودستور ومجلس امة - كل عن المعنى الصحيح محرف.

شاعر العراق المجيد معروف الرصافي

شعرك هذا شعر أعور

ليس يرى إلا ما يحذر

فهنا منفى وهنا سجن

وهنا قبر وهنا منحر

وهنا قيد وهنا حبل

وهنا لغم وهنا عسكر!

ماهذا؟

هل خلت الدنيا، إلا من كر يتكرر؟

شاعر الصدمة: الشاعر الحي احمد مطر

**

يا دجلة الخير: أدري بالذي طفحت – به مجاريك من فوق الى دون:

وأنا حتفهم ألجُ البيوتَ عليهمُ - أُغري الوليد بشتمهم والحاجبا.

وسلام على جاعلين الحتوف جسرا للموكب العابر

سلام على نبعة الصامدين تعاصت على معول الكاسر

وليس على غصن ناعم رشيق يميل مع الهاصر

سلام على مثقل بالحديد ويمشي كما القائد الظافر

كأن القيود على معصميه مفاتيح مستقبل زاهر.

 العتيد "الجواهري"

 نبيذ الشعير، اكسير الالهة، يسكر الغاوون بحلم كلكامش وحالة تمرداته على الذات والالهة، فالارض ذات الارض والطقس هو الطقس، حتى صار الواحد منهم يحمل ضده، هم كثر والاسماء كلها محفوظة على الالواح الغرينية التي تسرب الشيفرة المسمارية، للنخيل والسنابل !

***

يتبع - شعراء العراق والاحزاب..باب خلف باب.

***

جمال محمد تقي

التطور العلمي موجود قبل هذا القرن، لكن ما يميزه اليوم هو أن عصر التقنية أتاح مخرجات ومنتجات التطور الصناعي والتقني للجميع، فصار بمقدور الجميع على اختلاف إمكاناتهم المادية أن يقتنوا هذه الأجهزة والتطبيقات وأدوات الاتصال والتواصل. موضوعة الاتصال والتواصل قديمة منذ بدأ الإنسان يتعرف إلى الطبيعة والمجتمع وعمل على تطويرها، لكن ما يميزها اليوم هو ان التطور العلمي عمل على تمكين الجميع من استخدام هذه التقنية المتطورة حتى وان كانوا لا يعرفون شيئاً عن علم الحاسبات أو علم الاتصالات، وهيأ بذلك مساحة كبيرة جداً للاستخدام تضمنت وفرة في المعلومات وتدفقاً هائلاً للبيانات وسرعة في الوصول إلى الخبر والمعلومة وحرية في التعبير وحرية في النشر. مما لا شك فيه ان مساحة الاستخدام الكبيرة هذه تحتوي على محتوى ضخم وبالتأكيد لا يخلو هذا المحتوى من مادة جيدة ومادة رديئة ومن خير وشر، وهذه الثنائية قديمة قدم وجود الإنسان على الأرض لكن ما يميزها اليوم هو ان الصراع يجري بعيداً عن محور الإنسانية.

الإنسانية هدف الثقافة، والثقافة مشروع إنساني في المجتمع، لذلك فالتعريف الثقافي الذي يقول إن الثقافة هي ذلك العطاء وذلك الإبداع الذي يقدّمه المثقف للمجتمع، لم يعد كافياً في اعتقادي. بل ينبغي أن تصبح الثقافة هي ذلك العطاء الذي يقدمه المثقف للمجتمع من اجل تمكين المجتمع ثقافياً.

بدون هذه العبارة – تمكين المجتمع ثقافيا – إذا قارنا بين زماننا وبين الماضي، نجد مثلاً في عصر الجاهلية شعراء مبدعين وخطباء مفوهين، لكن المجتمع في ذلك الوقت لم يكن متمكنا ثقافياً، كما إن مجتمعنا اليوم هو مجتمع غير متمكن ثقافياً. الفارق بين الزمنين هو ان الثقافة المعاصرة استفادت من التطور التقني ووظفته لصالح العطاء الذي يقدمه المثقف للمجتمع، فصرنا نجد عنوانات كثيرة للكتب، وأسماء كثيرة لمؤلفين وكتّاب. توسعت حركة النشر، وتنوعت المحاضرات الثقافية وكثرت الندوات والمؤتمرات، وصار بمقدور عدد من الأشخاص المتباعدين عن بعضهم جغرافياً ان يلتقوا في الوقت نفسه في محاضرة الكترونية، كما انتشر الكتاب الالكتروني والكتاب المجاني على مواقع الانترنت. كل هذا ولا تزال الثقافة العربية غير متطورة بما يكفي لمواكبة التطور العلمي التقني المتسارع، واذا كان بعض المثقفين اليوم يُعدّ هذا تطوراً ثقافياً فإني لا اتفق معهم، لأن هذا التطور هو تطور تقني بإمتياز استفادت منه الثقافة.

لكي تتطور الثقافة من المهم جداً لها أن تمر من خلال علم الإنسان – الإنثروبولوجيا - لإشتغاله على دراسة كل ما له علاقة بطبيعة الانسان والمجتمع في الجوانب الحياتية والثقافية واللغوية والاجتماعية.

علاقة الإنسان بالآلة علاقة قديمة تعود إلى ملايين السنين. كانت هذه العلاقة تتحرك في حدود الوجود الطبيعي للإنسان في الحياة، لكن هذا المفهوم تغيّر في عصر التقنية بعد التطور العلمي والتطور الصناعي ودخول الأنانية على خط الإنتاج الصناعي، فتضررت الطبيعة وتعقدت الحياة وازدادت احتياجات الناس، فصارت علاقة الإنسان بالآلة علاقة يراها المشتغلون في هذا المجال إنها وصلت حد تدخل الآلة في حياة الإنسان، وذهب فريق أخر إلى أن التقنية اليوم تتحكم في مصير الإنسان، وحمل القلق بعضهم على التصريح بأن مستقبل عصر التقنية الرقمية سيقضي على إنسانية الإنسان حيث يتحول الإنسان إلى كتلة بشرية فاقدة لمعنى الإنسانية، وتتحول المجتمعات إلى تجمعات فاقدة لمعنى المجتمع، ويتحول العالم الى آلة ميكانيكية متحركة فاقدة لمعنى الحياة , ويشمل هذا القلق الثقافة أيضاً، إذ تتحول إلى مظهر حياتي بينما هي جوهر الحياة وهذا القلق يشمل المثقف والمواطن. فالتطور التقني لم يتوقف عند الخدمات التي يقدمها للمثقف في إتمام بحثه وإعداد كتابه من وفرة وتنوع وتعدد في المصادر إلى تنضيد الكتاب ثم طبعه ونشره، وغيرها من هذه الخدمات الرائعة، فمشاريع الذكاء الإصطناعي تذهب إلى توفير تطبيقات ذكية تصل قدراتها إلى تأليف الكتاب وكتابة الشعر، فهناك تطبيق يمكن من خلاله اعداد كتاب كامل بمجرد ان يقوم المستخدم بترشيح عنوان للكتاب واختيار المباحث او عدد الفصول وعدد الصفحات التي يريدها. وخلال وقت قصير جداً يقدم له التطبيق الذكي كتاباً جاهزاً. سيتسبب هذا العمل في المستقبل في ظهور عدد من المثقفين الرقميين الذين يعرّفون انفسهم من خلال الوسط الثقافي في مجتمعهم وسيتسبب هذا النشاط في ظهور حالات الشك في مصداقية العمل الثقافي المقدّم من قبل الباحث أو الكاتب، ومع كل هذا يبقى الرهان على الإبداع، لأن الإبداع عطاء انساني لا آلي. وهنا تأتي اهمية صناعة وعي ثقافي في المجتمع يعدّه ذاتياً للتمييز بين المثقف المبدع والمثقف المبتدع.

يقسم العطاء الانساني الى نوعين: نوع يًراد منه ان يعرف الناس عن فلان انه شاعر او كاتب او عالم او.. فقط. ونوع ثاني يراد منه تدريب الناس على ممارسة التجربة الابداعية لصاحب العطاء لكي يكونوا مبدعين واصحاب عطاءات منتجة تخدم رقي المجتمع. نحن اليوم بحاجة ملحة الى النوع الثاني من العطاء الإنساني، ويأتي تحقيق ذلك من خلال المفهوم الانثروبولوجي للثقافة حيث الثقافة هي دراسة طريقة حياة الناس وكيف يتعاملون فيما بينهم للبحث عن السبل الآمنة لتطوير تلك الطرق الحياتية بما يحفظ للمجتمع طبيعته وهويته.

في عصر التقنية حيث وفرة البيانات والمعلومات وسهولة الحصول عليها وسرعة الوصول اليها وتوفر الاجهزة ووسائل التواصل التي تخدم ذلك مع ما يمر به المواطن العربي من تغيير في انماط الحياة وطرق العيش وازدياد الحاجة الى المال، لم يعد امامه متسع من الوقت يكفيه للتفكير والتأمل والقراءة، واصبحت التقنية المتطورة هي عالمه وهي مصدر ثقافته وهي ذاكرته، وربما لا ابتعد عن الصواب اذا قلت انها صارت العقل الذي يفكر به، فإذا ما علمنا ان غالبية الشباب العربي اليوم يعتمد اعتماداً كلياً على الانترنت في استحصال المعلومة والخبر وان الشبكة العنكبوتية صارت مرجعيته ومصدره، فإننا معنيون بدراسة طريقة الحياة هذه، لأن عصر التقنية لم يقف، ولن يقف عند حدود التطور التقني الذي يوفر للمستخدم ما يريده من معلومات واخبار ومن رصيد ثقافي، فهناك مشاريع تعمل على ان يتشكل تفكير المستخدم وتتشكل شخصيته من خلال ما يستخدمه من تطبيقات وبرامجيات واتصالات والعاب وبرامج علمية واجتماعية وثقافية وسياسية وتجارية و.. وهذا المحتوى كما اسلفنا لا يخلو من المتضادين - الخير والشر - ولأن الجيل الجديد يعتمد كلياً على الانترنت في تكوين تصوراته فسيصاب بالحيرة حين يرى تضارباً في الآراء وتبايناً ملحوظاً في المعلومات، وهذه الحيرة ستسبب له فقدان الثقة بالمصادر وبالتالي سيتهدد بناء شخصيته، ولأنه لا يجد مشروعاً آخر يعتمد عليه فإنه سيتحول الى مستهلك لا يقوى على شيء، وقد يصبح كل عطائه الذي يشعر من خلاله انه على قيد الوجود هو مقدار ما ينفقه من مال في السوق وكمية وانواع الحاجيات التي يشتراها والاطعمة الجديدة التي يجربها لأول مرة والاخبار الغريبة التي يشاهدها. لذلك أرى ان من بين الجهود الثقافية التي ينبغي بذلها في مواجهة هذا القلق وربما الخطر هو استخدام التطور التقني في مشروع الثقافة الانساني فمسؤولية المثقف اليوم هي اكبر من مجرد تقديم انتاجاته الأدبية والفنية للناس بنشرها على الانترنت وتوفيرها مجاناً من اجل تمكين اكبر عدد ممكن من القراء والمشاهدين لأجل فائدتهم وتعريفهم بتلك الجهود. مطلوب من المثقف اليوم دور اكبر من ذلك اجده متجسداً في قول الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في قصديته التي كتبها في رثاء الشاعر محمد مهدي الجواهري:

علمتني مذ شراييني برت قلمي

كيف الأديب يلاقي موته حربا

وكيف يجعل منا اعصابه نذراً

حيناً وحيناً نذوراً كلما وجبا

فالمرحلة الحالية هي مرحلة “ النذور”. يذهب خبراء التقنية اليوم الى ان مستقبل التطور التقني الرقمي سيتسبب في عدم قدرة الناس على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مزيف، بين ما هو صح وما هو خطأ. بين ما هو عقلاني وما هو انفعالي. بين ما هو ابداع صادق وما هو تقليد متقن لإبداع الغير. بالاضافة الى ان هناك تقنيات ذكية تخدم هذا القلق المرتقب تُستخدم اليوم على انها تطبيقات تقنية هدفها التسلية واللعب لكنها يمكن ان تتحول الى سلاح خطير يهدد مرجعية الجيل القادم الثقافية والمعرفية والتاريخية فتقنية “ التزييف العميق “ مثلاً يمكنها ان تقدم آراءً وافكاراً واقوالاً وحكماً وفتاوى مزيفة وغير حقيقية أو مفبركة أو حقيقة لكن تم اعادة هيكلتها بواسطة تلك التقنية فحُذف منها كلمة او مقطع او أُضيف اليها كلمة أو مقطع من شأنها تغيير المعنى الحقيقي الذي أرادته الشخصية التاريخية ومثلما استهدفت هذه التقنية الذكية عند إطلاقها أشخاصاً معروفين لأجل إبتزازهم أو التشهير بهم أو الإساءة الى سمعتهم لأغراض تجارية او دعائية او ما شابه، فربما ستستخدم الطريقة نفسها مع شخصيات بارزة عُرف عنها رجاحة التفكير وسلامة الانتاج الثقافي والعلمي من كتب ومقالات وحكم ورسائل عملية وغيرها بحيث يظهر واحدهم عبر تقنية التزييف العميق وهو يقول اليوم عبر هذا التطبيق ما لم يقله في حياته. يخدم هذا التزييف التقني حركة انحراف التاريخ الانساني التي يخدم مشاريع الاقتصاد السياسي والصناعي التي تخطط لإنتاج نظام عالمي غالب على كل الثقافات. ان الحرب اليوم هي حرب الكترونية في تفاصيل الحياة المدنية مثلما هي حرب عسكرية في مواقع القتال وجبهات المواجهة. فالحرب العسكرية تستهدف المقاتلين، والحرب الالكترونية تستهدف المواطنين وفي اعتقادي ان الحرب الالكترونية هي الحرب الأخطر في القرن الحادي والعشرين وان كان النظام العالمي يلوح بحرب عسكرية عالمية فإنني اراها حرباً ثانوية يأتي دورها في إقرار ما تنتجه الحرب الالكترونية ليصحو من سيبقى من الناس حياً على قواعد جديدة ونظم جديدة لا محيص لهم عن الإذعان لها..

***

د. عدي عدنان البلداوي

أعلم أن بعض القراء الأعزاء يطمع في جواب للسؤال المحير الذي أثارته مقالة الأسبوع الماضي. أما أنا فما زلت آمل أن يتحمس الأصدقاء للتأمل في جوهر السؤال واحتمالاته.

إحدى المسائل المهمة التي أثارتها القصة الواردة في هذا المقال، هي القيمة النسبية لحقوق الفرد، مقارنة بالجماعة. بيان ذلك: افترض أنك وجهت السؤال التالي لجمع من الناس: إذا تعارضت حقوق شخص واحد مع حقوق 100 شخص... فأي الطرفين أَولى بالرعاية؟

أتوقع أن معظم الناس سيميل لترجيح مطالب الجماعة على حقوق الفرد. هذا أمر متعارف في كل الثقافات، لكنه سائد بدرجة أكبر في المجتمعات التقليدية، التي تميل لإعلاء الرابطة الاجتماعية، ولو أدى إلى خرق حقوق الأفراد.

كان إيمانويل كانط، الذي يُعد أبرز آباء الفلسفة المعاصرة، قد طالب كثيراً باحترام كرامة الإنسان الفرد، وعدم اتخاذه أداة أو وسيلة. الإنسان - وفقاً لهذه الرؤية - غاية في ذاته. وكل ما يفعله هو أو غيره ينبغي أن يستهدف إسعاد هذا الكائن العاقل ورفعته. يمكن للفرد أن يعمل على إسعاد غيره، في الوقت الذي يعمل لسعادته الخاصة أيضاً. لكن لا يصح استغلاله أو التضحية به في سبيل إسعاد الغير.

حسناً، ما الميزان الذي يعيننا على التمييز بين الأفعال التي لا تتعدى التفاعل العادي مع الناس، وتلك التي تنطوي على علاقة استغلال؟

يجيب كانط بأن ملاحظة انعكاس الفعل - ولو بصورة افتراضية - على الذات هو الذي يكشف لنا عن حقيقته. فإن أردت التحقق من سلامة فعلٍ ما، فافترض أنك تريد جعله قانوناً لكل الناس، ومنهم أنت. وهو هنا يشير إلى الجانب الآخر؛ أي كيف يكون الوضع لو انتقلت أنت من جانب الفاعل إلى جانب المتأثر بفعل الغير. دعنا نفترض مثلاً، أنك تعطي رأياً في استحقاق شريحة من الناس قروضاً بنكية أو منحة حكومية أو وظيفة ما، أو ربما كنت قاضياً يصدر حكماً في واقعة. تخيل لو أن حكمك هذا أو رأيك ذاك سيتحول إلى قانون لكل الناس، وأن غيرك سيستخدمه مستقبلاً ضدك؛ أي حين تطلب قرضاً أو منحة أو وظيفة، أو حين تقف أمام محكمة. لو فكرت في هذا الاحتمال بجدية، فهل ستتريث قبل اتخاذ القرار أم لا، هل ستفضل اتخاذ الجانب اللين أم ستختار الجانب الخشن؟

تذكرت، الآن، حادثة واقعية رواها ضابط عراقي سابق، وخلاصتها أنه طلب من مدير الأمن العام تزويد عنابر السجناء بمراوح هواء؛ للتخفيف من شدة الحر، أو السماح بتدبيرها من متبرعين. فغضب المدير وهدده بالعزل لو سمعه مرة أخرى يجامل من سمّاهم المجرمين. ومرت الأيام، فإذا بالمدير سجيناً في تلك العنابر، وكان طلبه اليومي هو السماح له بتركيب مروحة هواء. يقول الضابط إنه ذكَّر المدير السابق - السجين حالياً - بطلبه القديم، فاعتذر أيما اعتذار، لكن فرصة الإحسان فاتته ووقع أسيراً لقراره. هذا معنى أن تفكر في رأيك أو قرارك، كما لو أنه سيمسي قانوناً لكل الناس.

يذكّرنا هذا بوصية الإمام علي بن أبي طالب لولده الحسن، رضي الله عنهما: «يا بُنيّ، اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحببْ لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها... واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك». ورسالة هذا النص تُطابق تماماً فكرة كانط «قانون لكل الناس».

خلاصة ما يقال إذن إن الميل العام لترجيح مصالح وحقوق الجماعة على مصالح الفرد وحقوقه قد ينطلق من مبررات معقولة، في حالات كثيرة، لكنه ينطوي على مشكلة أخلاقية واضحة. فالمسألة هنا لا تتعلق بعدد المستفيدين، بل بالفعل نفسه: إذا قبلنا بفعل خطأ؛ لأنه يخدم أكثرية الناس، فقد وضعنا تشريعاً يجعل الخطأ مقبولاً وقابلاً للتطبيق. وإذا كان ضحيته، اليوم، شخصاً واحداً، فقد يكون ضحيته غداً آلاف الناس. المسألة إذن تتعلق بالفعل نفسه، وليس بعدد الذين يقع عليهم.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

هكذا تفعل بنا بعض المقالات والكتابات حين نقرأها قراءة دقيقة. قرأت مقالة الدكتور عبد الجبار الرفاعي الأخيرة، فشعرت كأنها كتبت لي أنا فقط، إذ رسمت لي معاني الحب الأصلية، وشرحت لي خارطة الوصول للسكينة والسمو والارتقاء. هذه المقالة أعطتني وصفة بكلمات قليلة مكثفة، تشير إلى أن حياة القلب وسلامته تكمن في الحب فـ "الحب يوقد جذوة الضوء في القلب، القلب الذي يعيش الحب لا يدركه الوهن، ولا ينهكه تقدم العمر "، حسب تعبير الرفاعي في مقالته المنشورة في جريدة الصباح البغدادية، يوم الأربعاء الماضي 13-11-2024، بعنوان: "يترجم القلب كلمات الحُبّ بمعنى واحد".

قراءة واحدة لمثل هذه الكلمات لا تروي ظمأ روحي. الكتابة تجسد أفكارنا وآمالنا، وتترجم أحيانا أهدافنا ونبضات قلوبنا، فنحن حين نكتب نمسك قلم القلب بمداد الروح ليخط الوجدان أعمق آلامنا وأفراحنا وأتراحنا، ويصل لذائقة الجمال ومكنوناته فينا، ويعرج إلى مخاوفنا وقلقنا، ويمر على ارتيابنا والشك الملتصق بأفكارنا، لتنبعث معاني الكلمات من داخل العقل تارة، ومن القلب تارة اخرى، ومن الروح أحيانا، فترسم وتعبر وتضع نقاطا على بعض الحروف العالقة في مكنون العالم الداخلي، عندها نشعر بالراحة والانتشاء والهدوء الذي يعقب عاصفة وضجيج دواخلنا .

يأتي الرفاعي في مقالته ليأخذ بمجامع قلوبنا، ويستحث بصيرتنا على أن المقصود بالحب الذي ينير القلب هو الحب الأخلاقي الأصيل فقط، الحب غير المشروط، حيث يقول: "الحُبّ الأخلاقي الأصيل ضربٌ من الامتنان والإكرام، مَن يحبّك يكرمك ويعبر عن امتنانه العميق لك. الحُبّ المشروط مُشبَّع بالمن لا بالامتنان، والإكراه لا الاختيار، والفرض لا التطوع، والتكلف لا المبادرة، مما يجعله ضربًا من الاستعباد…الخ".

ثم يمنحنا وصفة بليغة لتهدأت روعة قلقنا ومخاوفنا، وتقليل آثار سمومها على هدوء أيامنا، إذ يقول: "الحُبّ الأصيل يخفضُ وتيرةَ الخوف والقلق، ويحرّر الإنسانَ من الاكتئاب وفقدان المعنى. الحُبّ الأصيل مُلهِمٌ، الاستبصاراتُ الحاذقة يُلهمُها الحُبّ، استفاقةُ العقل يُلهمُها الحُبّ، العفو والغفران والرفق واللطف يُلهمُها الحُبّ. لا يتوقف فعلُ الحُبّ عند القلب والعواطف، بل يظهر أثرُه بشكل واضح في توجيهِ بوصلة التفكير وغاياته في العقل، وبناءِ رؤية جماليّة لله والإنسان والعالَم..".

ولم يقف معنا لهذا الحد، بل يستمر بإرشاد قلوبنا المتعبة إلى بر السكينة والمعنى والأمان، حين يقول: "يظلّ الحُبّ أعذبَ منابع المعنى في حياتنا. لن يتراجع الأثرُ المُلهِمُ للحب مهما تقلّبت أيامُه واختلفت. يلبث الإنسانُ حتى اللحظات الأخيرة من عمره بأمسّ الحاجة إلى كلمةِ حب صادقة".

ويستمر معنا، وهو يمدنا بالجمال والمعنى، ليمنحنا مصباحا ننير به مسارات ومتاهات دروبنا المظلمة فيقول: "ما دام الحُبّ أثمنَ ما يظفر به الإنسانُ من المعاني وأغلاه، فإن نيلَه يتطلب معاناةً شاقةً وجهودًا مضنية. الحُبّ ليس صعبًا فقط، بل هو عصيٌّ على أكثر الناس، لا يسكن الحُبّ الأصيلُ إلا الأرواحَ السامية.."

هنا لم يفرش لنا الرفاعي طريق الحب بالورد، بل أشار لعظمة الجهاد واهمية ترويض القلب على الحب، حتى يصير جزءً لا يتجزأ من ماهيته وسجايا روحه.

مثلت المقالة، في كل شذرة من شذراتها نكهة عطرة تلامس شغاف قلبي، وتنير بصيرة روحي، وتحفز ذهني، وتوقد تفكيري، وكأنها كتاب كبير بمعانيه وعمقه وأهميته، فرحت جدا لاقتنائه كمرجع أعود اليه بين الحين والحين، فقراءة واحدة لا تكفيني.

يختم الرفاعي مقالته بكلمة ذات دلالة عميقة، حيث يقول: "كما أنَّ أخطرَ شيءٍ على الفكرِ والأدبِ هو عبادةُ الأصنامِ الفكريّةِ والأدبيّةِ، فإنَّ أخطرَ ما يفتكُ بالقلبِ هو تحويلُ المحبوبِ إلى صنم". هذه الكلمة تمثل لي توصية مهمة، لابد ان تبقى عالقة بقوة في عقلي، لأن تحويل المحبوب لصنم يفقد الحب روحه وجوهره ومعانيه، بل يتحول معه الحب إلى سمّ فتاك.

***

د. حميدة القحطاني

(لولا الجهل لجاع الكهنة وسقط الطغاة).. كارل ماركس

(العالم أصبح مكانا خطرا جدا للعيش فيه، ليس لكثرة الأشرار، بل لصمت الاخيار عما يفعله الأشرار).. ألبرت انشتاين

في القرن العشرين والذي سبقه التاسع عشر، ظهر عدد غير قليل من العلماء والمفكرين في مجالات متعددة منها: الداروينية أي نظرية تشارلز داروين والتطور البيولوجي، وفي علم الوراثة مندل وقوانين الوراثة في مجال النباتات وكذلك الإنسان، ونيوتن وقوانينه مثل قانون (الفعل ورد الفعل) وقوانين الحركة وكذلك في مجال العلوم الإنسانية في الاقتصاد نظرية آدم سمث في كتابه  (ثروة الامم) ودايفد ريكاردو وكتابه (مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب) والفلسفة هيغل في الديالكتيك وفيورباغ في المادية وفي علم الاشتراكية سان سيمون وربورت أوين وشارل فوريه ، وكارل ماركس في الاقتصاد و(قانون فائض القيمة) وكتابه الموسوم (رأس المال) أي القيمة الزائدة وقوانين أخرى منها ١- قانون التغير الكمي يؤدي إلى التغير النوعي ٢- قانون نفي النفي ٣- وحدة وصراع الاضداد ، وفريدريك انجلس وكتابه (اصل نظام الاسرة والدولة والملكية الفردية) وما كتبه في الاقتصاد السياسي والثورة واشترك مع رفيق دربه كارل ماركس بصياغة (البيان الشيوعي) عام 1848 والذي أصبح منهاج عمل للحركة الشيوعية والعمالية العالمية، العلماء والفلاسفة قدموا خدمات جليلة كل في مجاله ولا ننسى علماء في مجال الطب ممن اكتشفوا من خلال دراستهم في مجال الميكروبيلوجي (البكتريا، والفيروسات) أمراض أطلقوا عليها تسميات وهذه الأمراض قبل اكتشفها كان الإنسان يموت ولا احد يعرف السبب في وفاته، ومن ثم اكتشفوا القاحات، التي أنقذت الأطفال من الأمراض لاحقا، ومنها السل الرئوي وأنواعه الاخرى ، الهيضة، شلل الأطفال القاح الثلاثي ويضم (الخناق -الكزاز - السعال الديكي) وغيرها من الأمراض السارية والمعدية .

ولعبت الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر والعشرين دورا مهما في تطوير الصناعات في مجالات متعددة منها القاطرة البخارية في القطارات وكذلك الطائرات والسيارات بكل أشكالها من أجل حل مشكلة المواصلات وأصبح العالم فعلا قرية صغيرة تصلها متى شئت، واكتشاف الريبوت ما هو إلى خطوة في ايجاد عامل مساعد للانسان في تقديم الخدمات في مجالات متعدد منها الصناعية والخدمية في مجال السياحة وتقديم المساعدة للسائح وكذلك كدليل مساعد في الجواب عن تساؤلات ممكن الجواب عليه، ويعتبر هذا الاكتشاف هو بالتأكيد بمساعدة التكنلوجيا الرقمية للانسان،

مع تطور العلوم في كل المجالات المتعدد والتي تم ذكرها، والفضل يعود إلى العلماء والفلاسفة لرسم خارطة طريق في تطوير العلم للأجيال الاحقة وبفضل التكنلوجيا وظهور الحاسوب، وظهر ما يسمى اليوم ب (الذكاء الاصطناعي). والذكاء الاصطناعي هو مجال واسع ومتشعب يدخل ضمن علم التكنولوجيا الحديثة وبالتخصص في مجال علوم الكومبيوتر (الحاسوب) وعلى سبيل المثال لحل المشكلات المعرفية والتي لها صلة بالذكاء البشري في مجال التعليم والإبداع به وتغير طرقه، والهدف هنا من الاستعانة بالذكاء الصناعي هو انشاء أنظمة وطرق ذاتية في التعليم تتلخص وبالاستنتاجات المعاني من البينات الواردة، لقد اجمع الباحثون والمختصون في العلوم والتكنولوجيا، أن الذكاء الاصطناعي له فيه مزايا عديدة، ويمكنه في تغير سبل الحياة على كل الصعوبة وفي كل المجالات للتحديث، وفي الوقت نفسه أكدوا أن له مخاطر يجب الانتباه اليها، وتحديد كيفية التعامل معها من أجل لا تقع مخاطر على العالم.

. وفي مجال الأبحاث الطبية في وقتنا الحالي يتم استخدام المعلومات من الذكاء الإنسان لتبسيط العمليات الجراحية والعلاجية واتمتة المهام في العمل الطبي، وممكن استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي في الأبحاث الطبية لتسهيل عملية اكتشاف الادوية الطبية وتطويرها مثل اللقاح الثلاثي المعطى إلى الأطفال وهو يتضمن ثلاثة أمراض تصيب الإنسان (الخناق - الكزاز - السعال الديكي) . ولا يمكن أن لا نذكر أن الإنسان وبمساعدة التكنلوجيا استحدثت الروبوتات والتي تقوم بفعل كما يقوم الإنسان به في مجال الصناعة وكذلك في تقديم الخدمات في مجالات السياحة والعمل الفندقي.

و مجال تقديم المعلومات للزبائن في معارض للصناعات المختلفة في مجال الدعاية للمصنع وللشركة.

و هناك إمكانية للذكاء الاصطناعي أن يقوم بوضع بيانات للمشاريع المعدة من قبل الحكومة في هذا البلد او ذاك، ومن خلالها وبعد وضع البيانات، يتم الكشف عن ارتفاع في الأسعار والكشف عن تحويل الأموال لمسؤولين اصحابي العلاقة والأنشطة التي تقوم فيها، وهنا ممكن ضرب الأمثلة كما يجري اليوم في العراق، كصفقات العقود المبرمة مع شركات النفط ومشتقاته وكذلك الغاز، وبهذا يتم الكشف في البيانات من خلال الذكاء الاصطناعي.

وممكن الكشف عن تقارير صدرت من وكلاء للاجنبي، من عراقي الجنسية، إلى مخابرات بلدان أجنبية تدرس كبيانات وثم تحول إلى خطط وفق الذكاء الاصطناعي كما حدث للعراق في الحصار الجائر، من ثم غزوه وموت الالف من الطفال والنساء وكبار السن التدمير البنية التحتيه له وفق بيانات مفبركة حول اسلحة الدمار الشامل والعلاقة مع القاعدة. والعراقيين يتذكرون ما جرى في ضرب ملجأ العامرية وقتل الامنين من الناس الهاربين من القصف المتواصل من قبل الأمريكان وحلفائهم .

أن أهمية الذكاء الاصطناعي تكمن بالمطلوب منها ليس العمل على إنتاج وتطوير اسلحة الدمار والتي تستخدم من الجو ومن البر والبحر، وقتل المزيد من البشر وتدمير الأرض وتلويث المياه، إنما المطلوب هو اسعاد البشرية وتطوير العلم لخدمة الإنسان في التعليم والصحة والحياة الحرة الكريم وهذا ما نترجاه وبسلام من أجل بناء عالم يسوده الأمن والاستقرار والحفاظ على البيئة.

***

محمد جواد فارس - طبيب وكاتب

 

يغلب على استخدام كلمة (آفة) الجانب الأخلاقي ولا يغلب عليها جانب التحليل العقلي، فهل يُفهم من العنوان أن المقصود هو الحديث عن الأخلاق من حيث افتقار الثقافة العربية الى قلة العناية بالضوابط الخلقية؟

الحق أن الأخلاق جزءٌ لا يتجزأ من التفكير العربي لا ينفصل عنه ولا تنفصل هي عن سياقاته المعنية، ولكننا لسنا نقصدها بالمباشرة في هذا المقال، لأن ما ينطبق على الكل هنا ينطبق على الجزء بغير مراء؛ إذ الكل الذي سنتحدث عنه يشمل جزيئات الأخلاق وغير الأخلاق في مناقشة مسائل التقدّم أو التخلف في العقل العربي سواء.

وقد تناولنا في المقال اللاحق (التدّين والثقافة) حديثاً غير مفصول عمّا سنذكره تباعاً ما دمنا لا زلنا نطرح قضية تجديد العقل العربي، والخطاب الدّعويّ منه على وجه الخصوص في إطار تأصيلها واستنادها على العقل من جهة وعلى القلب من جهة أخرى. فإنّ العقل العربي بحاجة إلى إعادة صياغة في إطار بنيته الدينية التي تشكل بما يدع مجالاً للشك إحدى ركائزه الأساسية.

ولا خلاف على أن الدين - بقيمه ومعتقداته - هو لبُّ عملية التجديد والبناء، وأن الخطاب فيه ينبغي أن يقع دوماً تحت مبضع النقد الفاحص، لأن الخطاب الديني فيه يشمل تلك الأبنية ويدل عليها من حيث القوة أو الضعف، أو من حيث التسامح وقبول الآخر، أو من جهة التطرف والعنف ورفض المغاير المختلف، يدل عليها من أقرب طريق.

فإذا ارتفع الخطاب وترقى في ذاته ارتفعت قيمته في الناس وترقت في المجمعات، ودلّ من أقرب الطرق عن التعبير على تلك الحقيقة العليا المتسامية. وإذا هبط وانتكس هبطت معه القيم الدينية، ووصم الدين بما ليس فيه من جرّاء الخطابات المترهلة المنتسبة إليه، وهو في الغالب منها براء. وليس يقدح في الدين سوى الفهم المغلوط الذي يقترب من دواعي الانتكاسة والهبوط في رافدين عظيمين: رافد القلب الذي هو ممد الهمم بالإحساس والتبتل، ورافد العقل الذي يفند وينقح ويختار.

إنه؛ إذا كانت معاجم اللغة تشير إلى أن أصل (الوهم) هو التُّهَمة. والتهمة: هى توهّم الإنسان أن أخاه قد أساء إليه أو تجاوز حَدَّاً من الحدود، وأصلها الوُهَمة، وعلى ذلك يصبح الوهم تهمة ووهمة؛ فكل موهوم متهوم وكل متهوم متوهم أو موهوم؛ فإنّ ثقافتنا العربية على هذا الأصل متهومة عندنا؛ لأنها مؤسسة على الوهم مستندة على تصورات هى في الغالب قائمة على الوُهمَة.

آفة الثقافة العربية؛ إذا هى لم تستطع أن تفعِّل "عقيدة التوحيد" على صعيد التذوق والتبْصرة أو على المستوي العقلي والفكري والثقافي، وأن تصل من النزوع إلى الفصل والمباعدة إلى الانخراط في وجوب الوحدة بحيث تُقرن الأشباه والأضداد وتربطها بعضها مع البعض الآخر بما يجعل منها وحدة توحيديّة واحدة في غير تنافر تفرضه شكلية الأداء أو تناقض يجيزه منطق المحسوس …

أقول؛ إنّ آفة الثقافة العربية إذا لم تقتدر أن تجعل من التوحيد غايتها ومطلبها؛ فهى لا شك تنطلق في أغلب أحوالها وتعدد مواقفها من وهم، وتعود على وهم، وتتصور الحقائق على الجملة فضلاً عن التفصيل بفاعلية الوهم المعشعش في أدمغة منتجيها؛ ومنتجو الثقافة لا يبلغون من الحقائق المجرَّدة مبلغهم من العلم بفاعلية الوهم أبداً، وإنمّا يبلغونها بالتجرَّد وببذل النفس طواعية في سبيلها؛ لكننا محكومون في أفكارنا وآرائنا وأحكامنا ومنطلقاتنا الفكرية والشعوريّة بالهوى لا بالعقل المرّوض على التفكير البصير.

ومن شأن حكم الهوى أن يُملي علينا خيوطاً متشابكة ومختلطة بخليط عجيب من "الوهم"، ويظل الوهم يلفنا لفاً لا فكاك لنا من خيوطه الكثيفة المتشابكة، حتى ليملأ صدرونا بالتضخم، وعقولنا بالاعتقاد التقليدي المنبوذ، وذواتنا بالفراغ والسطحية، وسلوكنا بالتصرف الرزيل المشين، فيبدو كل ما نقوله أو نفعله إلى الوهم المتفشي في أعماقنا أقرب وأدنى من بلوغنا للحقائق التي يسبقها جهادُ للنفس شريف.

ومتى تغلغل الوهم في أفكارنا ومعتقداتنا؛ مضينا مع "الهوى" إلى غايته فيسوقنا الهوى إلى ضروب متشابكة لا شك فيها من الأنانية وحبّ الذات وتضخم الأنا … إلى كثير من الصفات التي يغلب عليها حُكمه فينا، ولا يغلب عليها فينا حكم العقل المقيّد بضبط الأهواء ومجاهدة الآفات، وبلوغ الحقائق من ثمَّ بمقتضى هذا الجهاد لا بفاعلية الهوى الذي يتحكم فينا تماماً كما تتحكم فينا العادات، والمألوفات، والمرذولات، تحكم الأغلال تغلنا عن الحركة، وعن الحرية، وعن الاعتقاد الحُر النزيه عن الأغراض:

اعتقاد التوحيد، وفهم التوحيد، وإدراك التوحيد، وتصحيح التوحيد، وتفعيل التوحيد في حياتنا الباطنة قبل الظاهر منها لبصر الشاهد العيان.

هذا هو الاعتقاد الذي يعلو متسامياً عن كل عقيدة مقيدة بقيود الوهم بلا هداية يرومها قصد السبيل؛ فنحن - والله - واهمون في أقوالنا وأحكامنا وثقافتنا وعقائدنا؛ لأننا محكومون فيها بالهوى، مسيَّرون فيها بالأنانية وحبّ الذات، ناشطون النشاط كله في بلوغ الأهواء منا مبلغ العقائد الثابتة؛ ونحن - في ثباتها وتحققها في الحق - واهمون !

فأي غربة غريبة تستشعرها الذات العربية أغربُ من كونها تنمي قدراتها على "الوهم" وتُرْبي إرادتها على الزيف؛ وتصل إلى الأمور من طريق "الوهم" لا من طريق "الحقيقة"، وتنطلق بادئ ذي بدء من حكم "الهوى" لا حكم "الإرادة العاقلة" ثم ماذا؟

فإذا بذواتنا العربية تتشتت وتتفرَّق حيث لا يجمعها رابط من التوحيد وطيد.

حتى إذا شئنا نقد أنماط التدُّين وجدنا من أكبر المشاكل التي تواجه ضمير المتدين: عزل التوحيد عن واقعات الحياة، حتى ليتسأل المرء إزاء هذه الانقسامات التي تشهدها صباح مساء: إذا لم يكن التوحيدُ معزولاً عن الواقع الديني أصلاً لما أضحى معزولاً كذلك عن الواقع النظري والفكري ثم الواقع الفعلي بكل ما فيه من تفرّق وتمزق وتشتت وانقسام !

الأمر الذي جعل الإيمان الديني لدى المسلم قشرة سطحيّة تخلو أو تكاد من المضمون العملي؛ ذلك "المضمون" الذي لا نشك لحظة واحدة في أنه ينتج لغة ومدنية وعلماً وفناً وحضارة؛ ولو كان تدينه بالفعل مرهوناً ببصيرة التذوق الدافعة إلى العمل والإنتاج؛ لربط كل الأشباه والأضداد وصعد بها عارجاً إلى توخِّي الوحدة.

ولكن الواقع الثقافي العربي الحالي يقول لك بأبلغ لسان: إن هذه البصيرة الذوقية مفقودة أو تكاد، هى مفقودة نعم ! وعندي من الأدلة على فقدانها أولاً قراءة هذا الواقع قراءة مستبصرة جيدة ومتابعة الأحداث الجاريّة فيه من قريب، والانغماس فيها، وتحليلها والوعي بملابساتها ونتائجها في العقل والشعور ....

وهى مفقودة ثانياً؛ لأنها في الأصل ما وجدت تامة، نشيطة، فعالة، وحيويّة، إلا في فرع واحد من فروع الثقافة العربية والإسلامية، وأعني به الفرع الذي يضم علوم التزكية سواء كانت تزكية خُلقية إنْ على مستوى الفرد، وإنْ على مستوى المجموع.

وهذه العلوم بالنسبة للوعي العربي والإسلامي كانت ولا تزال تمثل تراثاً مهجوراً، يُنْبَذ اليوم من العقل العربي كما كان قبلاً منبوذاً بالأمس؛ ولو قدِّر لهذا الفرع أن يجري في حياتنا الفكرية والثقافية مجراه الطبيعي، وأن يُنظَّر له كما نظِّر لفروع أخرى غيره، لكانت تلك "الرؤية الموحَّدة" أو أحادية الرؤية الغائبة عن ثقافتنا الإسلامية من أولى اهتمامات العقل العربي قاطبة: تنقذه من الضلال.

الواقع الإسلامي يغلي بالتيارات الإسلامية المتشددة المضطربة العفنة؛ والتي أساءت إلى الإسلام من حيث أرادت به الإحسان .. فهلا جربتم سماحة التصوف وهو مقام الإحسان في الإسلام؟

ماذا تقول يا رجل؟!

التصوف!!

ألم تقرأ اليوم في رسالة علمية ضخمة نتيجة غربية عجيبة يستخلصها باحث مفادها أن الغرب أهتم بنشر التصوف بين المسلمين لإسقاط العقائد الصحيحة! فأي تصوف هذا الذي تعوّل عليه طلباً للإصلاح؟!

ثم ألم يكن تديّن المتصوفة نمطاً كسائر الأنماط الثقافية التي تتخذ لنفسها شكلاً من أشكال التدين ينتهي آخر الأمر إلى توجّهات أيديولوجية؟ فلم تنحاز إليه رافضاً سواه، هل هذه موضوعية الباحث يتوخاها بغير تزيد ولا مبالغة؟

للقارئ الحق في أن تدور في أم رأسه مثل هذه التساؤلات. فأمّا عن تلك النتيجة الغريبة العجيبة المنقولة لا المستخلصة فهي نتيجة متخلفة غارقة في التخلف إلى أبعد الحدود، فضلاً عن كونها صدى لرأي مستشرق من جماعة المستشرقين الذين لا يؤخذ لهم رأي بغير نقد أو تمحيص؛ لأن المستشرقين الذين نشروا ذخائر التراث الصوفي والفكري، وقاموا بتعريف المسلمين بتراثهم العقلي والروحي هم أولى بتقديم واجب الشكر من نقيصة النكران ثم نأتي بعدُ لدراسة آرائهم مع ما فيها من غلو لنقدها وتقيمها لا أن نقول فيها ما يقوله الجاهلون المتخلفون.

غير أنهم - ما عدا القليل منهم - محددون سطحيون يحومون حول المسائل الحسيّة، ولا يتوسّعون في النظر أو يتعمّقون وراء الظواهر التي يلمسها شاهد الحسّ لمساً فلا تخرج عنده من حدود ما يثبته أو ينفيه من وقائع السّماع والعَيَان. والمعهود في جماعة المستشرقين أن الكثيرين منهم يقرنون سوء الفهم بسوء النية، لأنهم يخدمون سياسة المستعمرين أو سياسة المبشرين المحترفين، أو ينظرون في بحوثهم نظرة الغربي الذي ينظر إلى الشرقي نظرة المتعالي عليه في حاضره وماضيه.

وأمّا كون تدّين المتصوفة نمطاً ثقافياً كسائر الأنماط الثقافية الأخرى للتديُّن يجوز نقد خطابه تماماً كما يجوز نقد غيره من الخطابات، فهذا ممّا لا شك فيه عندنا، لكنه النقد الذي يفحص الفوارق بين الأنماط المختلفة ويقيس مقياس التدّين بمطابقته للاعتقاد الصحيح ولممارسته للقيم البناءة ...

ومن هنا يتميّز خطاب عن خطاب.

فالتسامح وقبول الآخر المختلف مثلاً فارقٌ نقدي ظاهر بين نمط ونمط؛ فإذا توافر في شكل من أشكال التدّين واختفى في سواه قبلنا ما هو متوافر ورفضنا النمط الذي يدعو إلى ضده، ويظهر نماذج التشدّد التي تخلف آثاراً سلبية وتضرُ بالعقيدة عموماً بمقدار ما تقدح في المنتسبين إليها من أقرب سبيل.

وعليه، فالمثقف الذي يدّعي أنه يتمتع بكل معطيات الثقافة الرفيعة؛ لن يكون مثقفاً - في تقديري - وهو يكره الثقافة العرفانيّة، ولا يريد شيوعها في بلادنا العربية مع أن التصوف الذي هو في الأساس ثقافة عرفانيّة تتأسس على المحبّة والمعرفة ليحمل بالمطلق خُلق الإسلام السّمح الطهور.

أما بقيّة فروع الثقافة الإسلامية؛ فهي على انتشارها وسعتها وكثرة الطالبين لها، الداعين إلى تزكيتها وتفضيلها، الآخذين على عاتقهم بفرضها قسريّاً على واقعنا الفكري والثقافي؛ فهي السبب المباشر في تعطيل النظر إلى "أحادية الرؤية"، فداعية إلى الفصل والمباعدة، وذاهبة إلى التجزيئية الغارقة في نفسها وعلى نفسها في غير معنى، والفاقدة لعناصر التجمُّع والائتلاف، والذاهبة إلى التفاصيل والجزئيات دون الارتداد إلى وحدة تجمعها في مبدأ واحد عام مشترك.

ما معني أن تكون متديناً بدين التوحيد الذي فطرت عليه تمارسه شكلاً دون أنْ تجريه واقعاً فكريّاً وثقافيّاً ومعنويّاً وروحيّاً؛ ليكون هو عينه مجري التجربة على المستوى الفعلي والتطبيقي؟!

ومع ذلك أقولُ؛ إن افتقار العربي المسلم المفطور على غريزة التوحيد لم يتمكن في ذاته أن يُفعِّل هذه الغريزة على المستوى العقلي والثقافي، ولكنه ينتكص على عقبيه ويعودُ أدراجه مستغرقاً في التجزيئية المُفرطة، ولم يهيئه توحيده الفطري لأن يجري عليه ممارسته العمليّة والواقعية؛ فأضحى تدينه في كفة، ونشاطه الفكري والثقافي والعلمي في كفة أخرى؛ فجاءت عقليته عقلية فصل ومباعدة لا ربط فيها ولا توحد بين أجزائها، وليس بمقدورها أن تصل إلى الوحدة التي هى غريزتها الأصيلة المفطورة عليها، لكأنما العربي لم يستطع أن يفهم: ماذا عَسَاهَا تكون غريزة التوحيد، وماذا عَسَاهَا كانت تكون فطرة الوحدانية؟!

لكأنه لم يستطع بعدُ - لأجل تدينه الساذج البسيط - أن يكوِّن لديه "رؤية موحَّدة"؛ يجريها على الواقع الفكري والنظري تماماً كما يجريها على الواقع الفعلي والتطبيقي كما هى مقرّرة قبلاً في الواقع الديني بالفعل؛ إذ إن فكرة "الرؤية الموحدة" تلك؛ إنمّا هى فكرة دينية بالأساس مصدرها الدين لا الفلسفة؛ فلو صحَّ أن الفلاسفة نادوا بها أو قصدوها فيما نادوا فهي مٌستلهمة من الدين؛ وليس للعقل فضل فيها إلا فضل الشرح والتحليل.

ليس صحيحاً أن العقل أنضج من القلب أو أصدق، بل الصحيح هو أن القلب أصدق من العقل وأنضج، ولو عرفنا لعلمنا أن العقول أدنى من القلوب؛ وأن حظنا من معارفنا القلبيّة أقل بكثير من حظنا من علومنا العقلية. (وكل كلام يبرز وعليه من كسوة القلب الذي منه بَرَز) كما تقول إحدى حكم المحققين النبهاء.

يصدر الكلام عن القلب وهو تعبيرٌ عمَّا في القلوب مباشرة، وإنما جُعل اللسان على الفؤاد دليلاً. حقاً صدق الله العظيم:" إنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور". وربك رب قلوب فانظر ماذا خالط قلبك؟ حتى إذا ما وجدت ما يُخالطه غير اعتقاد التوحيد وتطبيقاته الحيوية واقعاً يجري في الناس فاعلم أن ثقافاتهم آفات وجل حركاتهم وسكناتهم تقليد يجر وراءه التقليد وهو أسُّ البلاء وآفة الآفات.

وليس صحيحاً أن كفة العقل هي على الدوام في رجحان؛ بل القلب أرجح في أغلب الأحوال. القلب دليل العقل في أكثر الأحايين؛ وعمى القلوب أشدُّ وأنكى من عمى العقول والأذهان.

***

د. مجدي إبراهيم

 

قلتُ لـ(ذي القُروح)، وأنا أناقشه:

ـ ما يفتأ صاحبك (القبَّانجي) يردِّد الادِّعاء البلاغي وتمييز الأساليب.

ـ ما عرضتَه عليَّ من كلامه لا يدلُّ على أنه من أهل البلاغة في شيء- إلَّا لدَى مَن لا يُفرِّق بين البلاغة والبلاهة- ولا مِن الجديرين بالتفريق بين مستقيم الأساليب ومُعْوَجِّها في قليل ولا كثير، ورحم الله امرءًا عرف قدر نفسه، وأخذَ من البلاغة ببلاغة السكوت.

ـ وما بلاغة السكوت؟

ـ يروي (الجاحظ)(1) عن (ابن المقفع) في أنواع البلاغة قائلًا: «لم يفسِّر البلاغة تفسيرَ ابن المقفع أحدٌ قط. سُئل ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسمٌ جامعٌ لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة. فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابًا، ومنها ما يكون ابتداءً، ومنها ما يكون شِعرًا، ومنها ما يكون سَجْعًا وخُطَبًا، ومنها ما يكون رسائل. فعامَّة ما يكون من هذه الأبواب (الوَحْي فيها)، و(الإشارة إلى المعنى)، و(الإيجاز)، هو البلاغة.» 

ـ صاحبك- في هذا المخاض- لا يفضِّل بلاغة السكوت الذهبي، بل سأبغتك بمذهبه الغريب.  هو يفضِّل «نهج البلاغة»، المنسوب (لعليٍّ، كرَّم الله وجهه)، على «القرآن الكريم» في البلاغة! 

ـ عجيب.. إلى هذا الحدِّ بلغ ضغط العمامة؟!

ـ نعم، هكذا يرى وكذلك يعتقد، أو قل: هكذا يريد أن يحتجَّ لتسويغ دعواه، وكذلك يشاء المقارنة الجائرة بين النصَّين. 

ـ شتَّان شتَّان!  على كلِّ حال، هذا يؤكِّد مقدار وعي هذا الرجل بالبلاغة! ويدلُّ على ما وراء هذا التفضيل أصلًا، لدَى القائلين به. ويُنبئ عن ذاك (الما وراء)، لدَى الشغوفين به مذهبيًّا، أن ترى أحدهم يستظهر تلك الخُطَب الطنَّانة، في غير كَلَلٍ ولا سأم، حتى «يُبَلْبِلَ بها الأسماعَ بَلْبَلَة، ويُغَرْبِلَها غَرْبَلَة»، حتى إذا قرأ آيةً من «القرآن» تلجلجَ واضطربَ، ولحَنَ وأخطأَ الصواب!  ويلزم هنا إيضاح مغالطةٍ شائعة، لدَى الملحدين، ولدَى الطاعنين في «القرآن» عمومًا، لأسباب اعتقادية أو فكريَّة أو لغير ذلك.  وهي قياس النصِّ القرآني على النصوص الأدبيَّة.  ولئن كان «القرآن» نصًّا رائع الأدبيَّة، فليست بغايته الوظيفة الأدبيَّة، ولا بوظيفته التأثير الجمالي، ولا الإدهاش البلاغي فحسب، بل هو- قبل ذلك وبعده وفي أثنائه- كتاب عقيدةٍ وتشريع.  ونصوص العقائد والتشريعات كثيرًا ما تقتضي التفصيل، والتدقيق، والشمول؛ تلافيًا لما يُعرَف بالثغرات القانونيَّة.  وهذا النهج معروف في عصرنا في إعداد نصوص الأنظمة والقوانين وصياغتها، حيث تلحظ أنها لا بُدَّ أن تَنُصَّ على أدق التفاصيل- التي قد يرى كثيرون أنها تحصيل حاصل، أو مفهومة بالضرورة- وتُسهِب في تعديد أشياء، ربما رأى بادي الرأي أن ذِكرها بلا معنى. 

ـ كلامك هذا يَردُّ على بعض الظرفاء، أو المتظارفين، الذين يقفون متسائلين، مثلًا، أمام التفصيل في آيات قرآنيَّة، كما في (سُورة النُّور): «لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ، وَلَا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلَا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ، وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ، أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ، أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ، أَوْ صَدِيقِكُمْ؛ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا. فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا، فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ، تَحِيَّةً مِنْ عِندِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.»

ـ الحُكم على النصِّ فرعٌ عن الوعي بطبيعته ووظيفته.  أمَّا حين يكون وراء الحُكم غَرَض، فلا سبيل حينئذٍ إلى الحِجاج.

ـ وتَلحظ في هذا السياق أن الذين توقَّفوا عند تحدِّي «القرآن» للإتيان بمثله، إنما يلتفتون إلى الجانب البلاغي من المسألة فقط. 

ـ يفعلون ذلك منذ (مسيلمة الكذَّاب) إلى آخر الكذَّابين.  مع أن التحدِّي في «القرآن» لم ينصَّ على التحدِّي البلاغي تحديدًا، وإنَّما جاء تحدِّيًا مفتوحًا للإتيان بـ«مثله» بصفةٍ عامَّة؛ ولم يقُل: «بمثله بلاغةً»، أو «بمثله جمال نصٍّ». 

ـ وإنْ كان هذا رأس التحدِّي لأُمَّة اللَّسَن والبيان، وأسواق الشِّعر والخطابة.

ـ أكبر الآيات المتحدِّية للإتيان بمثله، هي: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ، لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا.» (سُورة الإسراء).  أمَّا التحدِّي بالسُّورة، أو العشر سُوَر، فكان تدرُّجًا في التحدِّي للمشركين.  والثابت تاريخيًّا أن التحدِّي قد ظلَّ قائمًا، يقرع الأسماع، والرِّهان قد بقي مرفوعًا في الوجوه. والثابت تاريخيًّا كذلك أنَّه لم يستجب للتحدِّي من أحد، ولو جَدَلًا، وأنَّ المحاولات التعيسة، التي جرت على مرِّ العصور، قد جاءت أضحوكة للعالَمين، هزيلةً وهزليَّةً جِدًّا، حتى في المستوى البنائي. 

ـ وليست في حاجةٍ إلى شهداء لإثبات أنها ليست بمثل النصِّ القرآني، حتى في المستوى البنائي، فضلًا عن غيره من المستويات. 

ـ على حين قال الواهمون إنه إنَّما صُرِف الناس عن الإتيان بمثله، وإلَّا فالإتيان بمثله ممكنٌ جائز!  وتالله، لقد اقترف هؤلاء الواهمون بقولهم هذا فِرْيَةً على النصِّ وعلى الناس في آن، من وجوه.  فمن الوجه الأوَّل، سيقال: ما حُجَّة المحتجِّ بإعجازٍ قد صُرِف الناس عنه؟!  ثمَّ هي فِرْيَةٌ على الناس، من وجهٍ آخَر- مع أنها ما كانت لتسوغ لدَى الملاحدة منهم، ممَّن لا يؤمنون بوجود الله أساسًا، فضلًا عن حكاية الصَّرْفة تلك- فالناس لم يأتوا بمثله، مع حرص بعضهم الشديد على ذلك. 

ـ إذن، ترى أنَّ التحدِّي القرآني لم يكن في مستوى المبنى وحده، بل هو في المعنى أيضًا. 

ـ أجل، ليس إعجازًا بلاغيًّا فحسب، بل هو إلى ذلك إعجاز في المحتوى الدلالي، المشتمل على قضايا لم تجتمع في كتاب من قبل ولا من بعد.  فمَن يعرف اليوم في العالم كتابًا، بأيَّة لغةٍ من اللغات، يضم بين دفتَيه قضايا الخلق، والحياة، والبعث، والعبادات، والمعاملات، وقضايا الإنسان، والمجتمع، وقَصص الأُمم، والكون، والدنيا، والآخرة، مع ما ينطوي تحت هذا كُلِّه ممَّا لا يُحصَى من مضامين وإشارات لا تنضَب، مَن يعرف كتابًا يشمل ذلك في كتابٍ واحدٍ غير «القرآن»، فليأتِ به؟ 

ـ وهو كتابٌ ليس بالكبير الحجم. 

ـ هل هناك من كتابٍ آخَر يتوافر على كلِّ ذلك عدا «القرآن»؟!  ثمَّ إنَّه ليس من كتابٍ سِواه من العُمق والشمول بحيث لا يكاد يخطر في الذهن سؤال، في أيِّ زمان أو مكان، إلَّا وجدتَ عنه إشارة لافتة في «القرآن». 

ـ ربما اتهمك هؤلاء بالمغالاة عن عاطفةٍ دينيَّة، لا أكثر!

ـ وما أبرِّئ نفسي من العواطف، لكنَّني هنا أطرح الأسئلة بتجرُّد، فمن وجد إجابة- مجرَّدة من العواطف- فليُجِب!  هذا الكتاب الذي جاء في غضون عشرين سنة فقط، كانت مخاضًا رهيبًا من المواجهات والحروب، والحصار والتهجير، والقلق والاضطرابات، على يدَي رجلٍ أُمِّي، هو أمرٌ غير متصوَّر.  ولقد كان (محمَّدٌ، عليه الصَّلاة والسلام) أُمِّيًّا بالفعل، لا بالتأوُّل، كما يزعم بعض الزاعمين. 

ـ ما دليلك؟

ـ تَدُلُّ على هذا طرائق حفظ «القرآن» نفسه، وروايته، وجمعه، وترتيبه. ولو كان الرجل يقرأ ويكتب، بل لو كان يأخذ بهذه الآليَّة الكتابيَّة، مذ أوَّل يوم، بصورةٍ منتظمةٍ منضبطة، لما استدعى الأمر تلك الرحلة الشفاهيَّة الشاقَّة حتى استقرَّ النصُّ في (مصحف عثمان). 

ـ ولقد جاء هذا الكتاب في نهايات حياة (محمَّد)، وإبَّان كهولته، القلقة، ودعوته الثوريَّة، المضطرمة بالتحدِّيات الوجوديَّة، له وللعَرَب جميعًا. 

ـ بقطع النظر عن الظروف، ما كان ليتسنَّى أن يأتي بمثله فريقُ بحثٍ كاملٌ، متفرغٌ شابٌّ. دع عنك أن يأتي بمثله طالب دكتوراه ممتاز، مثلًا، أو فيلسوف، منصرف تمامًا للإتيان بمثله، وإن افتُرض أنَّ هذا أو أولئك بعيدون بالكلِّيَّة عن تلك الظروف الوجوديَّة التي كانت محدقة بمحمَّد في أدقِّ تفاصيل حياته وأجلِّها.  فمن كان لديه كتاب، إلى اليوم، بمثل تلك المواصفات، فليدلَّنا عليه.  فلئن لم تكن تلك معجزة، فما الإعجاز؟!  المحاكمة المنطقيَّة، إذن، وبغضِّ النظر عن الإيمان، تحكم بالإعجازيَّة في الأمر.  بيد أن الإعجاز ليس في نصوصيَّة النصِّ، فقط، كما تقدَّم القول، كي تُقارن سُورة بخطبة، أو سُورة بقصيدة، من حيث البناء البلاغي.  فذلك هو الغِلاط في الحِجاج.

وأمَّا «نهج البلاغة»، فما «نهج البلاغة»؟  تلك قِصَّة أخرى، نقصَّها معًا في المساق التالي.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

............................

(1) (1998)، البيان والتبيين، تحقيق: عبد السلام محمَّد هارون، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 115- 116.

 

من أيما نبع تعشوشب القفار؟

من أيما سماء يهطل غيم؟

لم يعد (السواد) يرتعش بالسراب!

يا حادي العيس إلى أي مدى تفضي الخيول؟

إلى مدائن الطين الخراب التي تيبّست وجفّ ريقها ولا مطر؟ أم للأشجار التي لا مفرّ لها إلا أن تموت ميتة معجّلة؟ كما أراد صناع الموت بلا قراءة وبسملة، والأرض الظمآنة في غيابة للريح.

كان مغول اجتثاث (السواد) من أرض العراق يستدرجون النخيل فيقطعون جذوره ليسرقوا سعفه، ثم ينحروه من أعلى الرِقاب !

لم نتعلم بعد أبجديات الحروف الأولى ونحن نسمع حكاية تسمى : (الحزام الأخضر)، ولم ندرك بعد علاقة الحزام باللون، حتى أدركتنا الأعوام وقرأنا في الكتب المدرسية أن مشروعاً " حلماً " تخطط له الحكومات منذ قامت الدولة العراقية في عشرينات القرن الماضي تحت هذا العنوان، انه يعني باختصار : زراعة الأشجار الدائمية على أطراف الصحراء الممتدة من الشمال إلى الجنوب في غرب العراق، وكنا نقرأ كذلك في كتب التاريخ أن جيوش المسلمين حين قدموا إلى العراق رأوا سواداً، لكثافة الزرع في سهوله الخضراء وشدّة اللون فيه، فأطلقوا عليه (أرض السواد). ويلحّ علينا السؤال بين الحين والآخر عن معنى (الحلم) في بلاد يخترقها من الشمال إلى الجنوب نهران عظيمان، وروافد تنبع من اليمين واليسار، فاقترن اسمها بهذين النهرين وأصبحت تعرف البلاد منذ فجر التاريخ بـ ( وادي الرافدين، أو أرض ما بين  النهرين). أرض تعيش على لهاث الندى وما يشتهي الطيبون.

نقرأ في صفحات التاريخ أن بلاداً حطّ فيها طوفان، يجيئها الخير في عقر دارها. ماذا جرى لتتحول هذه الأرض إلى مرتع وخيم للهوام؟ تغصّ بالدمع والآهات؟ والجفاف.

ونقرا أن هذه البلاد كانت إحدى المناطق التي ارتبط تطورها التاريخي بالزراعة المروية منذ أقدم العصور، وكان على الفلاحين التكيف مع البيئة والبقاء على قيد الحياة في الظروف الصعبة التي عاشها الانسان وهو يواجه مشكلات الأرض والمياه حين تتشابك الأسباب فيهجر الأرض المطر ليعم الجفاف والتصحر.

التصحر المتزايد سيترك آثاره الخطيرة على مجمل الواقع الزراعي، في ظل نظام سياسي يواجه أزمات حادة عديدة، الأمر الذي سيضاعف المصاعب والتعقيدات الاجتماعية والاقتصادية والتنموية للبلاد.

المؤسف حقاً ان مبالغ خيالية تبددت وضاعت عبر مشاريع وهمية، أو لم تنفذ بسبب الفساد المتفشي في أجهزة الدولة من دون استثناء، وشيوع ظواهر الرشوة والسرقة والاختلاس في معظم مفاصل الحكومة، ان هذا العبث المتوحش بالمال العام ضيّع على البلاد فرصاً كبيرة في التنمية والبناء، وخلق فئات طفيلية أسرعت في الثراء بأساليب قذرة على حساب تعطيل أي مشروع إصلاحي تنموي.

تراجعت أعداد أشجار النخيل من 30 مليون نخلة إلى 9 مليون نخلة بسبب الحروب وبالأخص الحرب العراقية – الإيرانية، واتساع المدن العشوائي على حساب بساتين النخيل الكثيفة المحيطة بالمدن، جرى ذلك بأبشع صورة في المدن الكبيرة، وعلى وجه الخصوص العاصمة بغداد، إذ امتدت الجرّافات لتمسح مساحات واسعة من بساتين النخيل لحساب مشاريع الإسكان وبناء أبراج العمارات لصالح حفنة من أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة في مشاريع غسيل الأموال التي تضخمت بشكل سريع في الآونة الأخيرة.

بدأنا نخشى أن الشمس لم تعد تضيء في وسط النهار حين يحجبها تراب العراق فتختنق الأنفاس وتضيق الصدور، آه.. يا ذا البلاد الممحلة التي ما استراحت بأعوامها السيئة!

هي الأرض قد طواها العطش لسوء الإدارات التي توالت في حكم البلاد، جفّت سواقيها واتسعت صحاريها وغزاها الجراد، ضاعت بين وهم ووعود وخراب، انهكها جلادو النخيل، أحالوا مدنها وأهوارها إلى مدن تشبه الطين أو تشبه القش، مدن تشبه العواصف الترابية، أو تشبه الملح عطشانة.

***

د. جمال العتّابي

إن عملية توحيد الخطاب الإعلامي في مواجهة التحديات والأزمات التي تواجه أي دولة، يعدّ أداة استراتيجية تُستخدم لتحقيق أهداف متعددة لا تقف على موضوع محدد، من أجل الحفاظ على الاستقرار المجتمعي وتوجيه الرأي العام وتوفير المعلومات الدقيقة للجمهور والسعي لأستمرارية البناء والتنمية المستدامة، لذا ينبغي التخطيط وإتخاذ السُبل والآليات لتوحيد الخطاب الإعلامي. فأي دولة، تتعرض خلال سنوات تأريخ حكمها الى العديد من الأزمات، فإن لم تكن القيادات السياسية والإعلامية وبقية مؤسسات الدولة المنضوية تحتها لا تمتلك الستراتيجية والعمق الفكري في رسم مساراتها الراهنة أو المستقبلية، فقد تواجه تحديات عديدة ومتنوعة تكون غير مؤهلة لحظة مواجهة الأزمة، لأن سوء الفهم والتقدير، قد يأتي بعواقب وخيمة، خاصة في الأوقات التي تشهد فيها العلاقات الدولية توترات وأزمات وصراعات.

فوسائل الإعلام السابقة قبل ظهور شبكات الانترنت والفضائيات وانتشارها، كانت تمثل قوة مثلها كالقوة العسكرية؛ حيث سيطرة الدولة عليها والتحكم بها والسيطرة على كل ما تسعى الدولة من بث ونشر من معلومات للجمهور، والتحكم بمشاعره وتوجيه أفكاره او حتى التلاعب بأهواه.

إلا إن التطور التكنولوجي وظهور العولمة وانتشار الفضائيات وشبكات ومنصات التواصل الاجتماعي، أصبحت خارج سيطرة الدولة والتحكم بها (في أغلب الاحيان) كما كانت عليه في العقود السابقة، وأصبحت الدول المضادة والمعادية أكثر قوة وتأثير في ما تسعى اليه لنشر ما تنوي نشره من معلومات مضللة من خلال هذه الشبكات والمنصات.

 لذا ينبغي التنسيق بين وسائل الإعلام الحكومية والخاصة، وتحديد الرسائل الأساسية وتنسيق الخطاب بشكل يتماشى مع الاهداف والاولويات الوطنية والرسمية، ويتم ذلك من خلال إنشاء منصات للتواصل وتبادل المعلومات بين الإعلام الرسمي والإعلام الخاص؛ بهدف توحيد الرسائل وتجنب التضارب بينهما، وأن تحمل الرسائل معاني موحدة لا اختلاف بين الفريقين، كي لا يؤدي الى ردود أفعال لا يحمد عقباها إن كان على الجانب الحكومي أو الخاص.

كما إن توفير مصادر معلومات موحدة وموثوقة تقع على مسؤولية الحكومة، إذ ينبغي لها أن تؤسس مراكز إعلامية تكون هي المصدر الرئيسي لتزويد وسائل الإعلام بالأخبار والمستجدات حول الأزمة، مثل المركز الإعلامي والصحفي الحكومي أو منصات رسمية عبر شبكات الانترنت، يرافقها التوجيهات الإعلامية الرسمية، وذلك من خلال إصدار التوجيهات لوسائل الإعلام حول كيفية تناول الإحداث وتقديمها بما يتناسب مع المصلحة الوطنية، ويتضمن ذلك تجنب الشائعات والتركيز على المعلومات الموثوقة.

فضلاً على التدريب المستمر للعاملين في مجال الإعلام، حيث يختار من أساتذة الإعلام من الأكاديميين والخبراء والمستشارين بتدريب كوادره على كيفية التعامل مع الأزمات، وتوفير التدريب اللازم للمتحدثين الرسميين للدولة والإعلاميين لضمان قدرتهم على نقل الرسائل بفاعلية، ويشمل ذلك من خلال التدريب على التواصل الجيد، والتحكم بالمشاعر، واستخدام لغة عالية الدقة كي يستوعبها المتلقي، وتطوير مهاراتهم في توجيه الرسائل التي تعزز من وحدة الصف الوطني، وتعزيز الثقة في الدولة وبوسائلها الإعلامية.

كما يقتضي العمل بغية توحيد الخطاب الإعلامي، الى إستخدام لغة موحدة ومصطلحات مشتركة بين الإعلام الرسمي والخاص، تتبناها وسائل الإعلام؛ وهي لغة إعلامية تتسم بالوضوح والتوازن والاعتدال، والاستناد الى المعلومات والحقائق المدعومة بالبيانات والأرقام والحقائق الموثوقة، لكي يعزز المصداقية، وتقبل الجمهور بكل ما يطرح من مفاهيم غير مبالغ فيها، فضلاً عن تجنب المصطلحات التي قد تؤثر وتثير التوتر أو الفهم الخاطيء لدى المتلقي من الجمهور، وهنا يكون التعاون مع الجهات الأكاديمية والمختصين، من خلال إستضافة خبراء من مجالات مختلفة لتقديم تحليلات ووجهات نظر تتفق مع الخطاب الوطني، وتساعد الجمهور على فهم أبعاد الازمة.

ومما لا شك فيه، فأن أستخدام وسائل التواصل الاجتماعي كجزء من الاستراتيجية الإعلامية، إذ يعد الإعلام الرقمي من أسرع الطرق للوصول الى الجمهور، لذا ينبغي إستخدام تلك المنصات بذكاء للتفاعل مع الجمهوروتقديم المعلومات أولاً بأول، ومواجهة الشائعات، حيث يتم نشر الرسائل الرسمية والرد على الاستفسارات؛ لتهدئة الجمهور وطمأنتهم بشكل مباشر وسريع، فتلك الوسائل والمنصات المختلفة تلعب دوراً كبيراً بالتأثير، خاصة بين شرائح الشباب والمراهقين؛ الذين يقضون أوقات كبيرة بين تلك الوسائل، تتوزع بين المتابعة لإشباع الرغبات الذاتية، أو بغية البحث والدراسة أو للتواصل المختلف.

 ولابد من الإشارة الى أن وضع الرقابة على الشائعات والمعلومات المضللة مسؤولية في غاية الأهمية، ولابد من وضع وتطبيق القوانين والإجراءات اللازمة؛ لمنع نشر الاخبار الكاذبة وتحديد وتحجيم مصادر الشائعات؛ بهدف حماية الرأي العام من التضليل، وتعزيز ثقتهم بالوسائل الرسمية، وأن تكون هناك آلية سريعة لرصد الشائعات والأخبار المغلوطة وكيفية الرد عليها بوضوح؛ لمنع وتجنب انتشارها والسيطرة عليها قبل ان تتسبب في تزايد القلق أو التشويش.

إن الرسائل التي تسعى الى بثها ونشرها عبر وسائل الإعلام المختلفة، لابد من تكون محكمة من قبل المرسل المسؤول على الوسيلة، وأن يفهم طبيعة الجمهور المستهدف، على ان تكون هذه الرسائل وفقاً لإحتياجاتهم وأهتمامهم ومستوى فهمهم، مما يسهم في تحقيق أستجابة أفضل وتفاعل أكبر وتحقيق نتائج أعلى.

وليس هذا فقط، بل أن يكون هناك متابعة وتقييم لتأثير الخطاب الإعلامي بشكل دوري، بغية التعرف على على مدى تحقيقه لأهدافه، وإجراء التحسينات اللازمة، بالأضافة الى الأخذ بعين الاعتبار، في إتخاذ تحقيق التوازن بين الشفافية والحذر، فمن الضروري أن يكون الخطاب الإعلامي شفافاً، لكن مع الحذر أيضاً في الإفصاح عن المعلومات التي قد تؤدي الى تفاقم الأزمة أو نشر الذعر بين شرائح المجتمع المختلفة، ففي حالات المواقف الحرجة تستدعي بعدم الافصاح عن تفاصيل الرسالة، فقد تؤدي الى رد فعل سلبي.

إن هذه الآليات تهدف الى ضمان أن تكون الرسالة الإعلامية موحدة وموضوعية، مع إظهار الالتزام الوطني بمواجهة التحديات والأزمات بطرق تضمن الأستقرار، وتغرس الثقة بين الدولة ومواطنيها، لتوحيد الخطاب الإعلامي لأجل دقة المواجهة، وإتباع السُبل التي تساهم في تحقيق التأثير المرجو منه في إيصال الرسائل بفاعلية ووضوح.

إن توحيد الخطاب الإعلامي يتطلب التنسيق والتعاون بين جميع الأطراف المعنية، الإعلامية بالدرجة الأولى وغير الإعلامية ثانية، كما يتطلب مرونةً وآستعداداً للتكيف مع تغيرات الموقف وتحدياته، لضمان بقاء الجمهور على إطلاع ودراية، فالأزمات والتحديات التي تواجه العالم، تقتضي رسم سياسات إعلامية عالية الدقة تتناسب وحجم هذه التحديات.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

السماوية "الابراهيميه"  كتشكل اعلى مكتمل للتعبيرية اللاارضوية اذن، هي تدبيريه مجتمعية، اسباب وعوامل تشكلها وخروجها من موضع ولادتها/ حيث المنشأ والتبلور/ دالة على  كون الظاهرة المجتمعية بالعموم "مزدوجه"، يقابلها فرديا على مستوى كينونة مادتها البشرية ازدواج الكائن البشري ( عقل / جسد)، وهذا ماقد ظلت البشرية تجهله، والعقل قاصرا دونه وصولا الى العتبة  الاولية الابتدائية الجزئية التي تحول المجتمعات  الى "ازدواج" طبقي من دون مغادرة للاحادية الارضوية، وهو ماقد حصل مع الغرب المعروف بالحديث، وما قد تكفل به شخص مثل ماركس من تكريسية قصوى ل"الصراع الطبقي"،  المحكوم بحسب رؤيته لقانون و"حتمية" اخذة اياه نحو منتهى انفكاك الطبقية، مقطوع النهايات، بلا ما بعد، ولا مستقر محدد معلوم.

 ليس ثمة من شك بان الغرب الاوربي قد حقق مع انقلابه الالي الافتتاحي على مستوى المعمورة، شيئا من  محاولة كسر القصورية العقلية المهيمنه والغالبه على مدى الطور اليدوي، انما من دون ان تصل حد اماطة اللثام الكلية عن المنطوي  الكامن في العملية المجتمعية اصلا وابتداء، ما كان من شانه ومع الغلبة النموذجية والتفكرية التي حازها الغرب الالي، ان اشيعت في حينه والى الساعة، حالة من التوهمية الالية الابتدائية الكبرى، ظلت مستمرة الى اليوم من دون ان تظهر دالات ما على احتمالية بدء الانتباه لوطأتها، فضلا عن  محاولة تغيير المروية المتعلقة بالالة كونيا، محل ما هو غالب من سردية محدودة بحدود "اوربا"، بحكم اسبقية انبجاس الاله في الموضع الاوربي.

  على الاساس المشار اليه، ومن هذا المنطلق كان على الالة وانتقاليتها الكبرى ان تمر  بمحطتنن، اولى استهلالية ابتدائية تظل هي الغالبة مدعمه برسوخ اسس ومنطلقات ما قبلها، وثانيه تظل غائبة الى ان تكتمل عناصر الانتقالية وتشكليتها العالمية تجاربا واختبارات وتطور  يطرأ على الالة نفسها، بعد شكلها او صيغتها الانبثاقية  الاولى "المصنعية" قبل التكنولوجية الانتاجية الراهنه ومابعدها، مايترافق حكما مع  انقلابيه عقلية وعلى مستوى الادراكية والاستيعاب،  غير تلك الابتدائية التي  تكون اوربا  موضع البدء قد اقترحتها وذهبت الى تكريسها على انها الحقيقة المطلقة قبل الاوان، وقبل استيفاء الحدث الانقلابي النوعي الحاصل لاسباب الاكتمال والنضج الواقعية والمادية الموافقة لطبيعته ادراكا.

 وانا اعرف ان مايرد هنا سيوضع في احسن الاحوال ضمن خانه الخراقه والتجاوز غير المقبول، ولا الوارد اعتباره بمثابة افتراض مناسب عقليا لموضوعه الشديد "العلمية" و " الرسوخ"، هذا اذا لم ينظر اليه ككفر، خصوصا انني لا اناور او احاول ان اخفف وطاة المعروض املا في تسريبه ب"الحسنى". وبكلمه وبلا مواربة اقول: بان الانقلاب الالي هو انقلاب لا ارضوي لم يتحقق بعد، وان ما قد حصل الى الان على هذا الصعيد ما هو الا ممهدات ضمن عملية لم تكتمل حتى الساعه، بانتظار تمخض ما مشار اليه من الاشتراطات والظروف والممكنات  والعناصر اللاازمه والضرورية للانقلابية العظمى العقلية المنتظرة على مر تاريخ العملية المجتمعية، بما انها هي العنصر الفاصل والحاسم الذي لا انتقال، ولا انقلاب اكبر ما بعد يدوي من دونه.

 ومع عدم نسيان الصلة الوثيقة بين الواقع المعاش والوعي، يفترض التمييز بين "الواقع الفكرة" و"واقع الملموس والمادة"، الاول اللاارضوي الكتابي  كما تحقق في التاريخ والى اللحظة الراهنه "كتابيا" لاكيانيا جغرافيا، بمانعرفه من "كيانيه ابراهيمه" توراتية، انجيلية، قرآنيه، مقابل مالا يحصى من الكيانات والدول والحكومات الارضوية، وكل هذه لها مسارات وتاريخانيه وتشكليات تطورت بموجبها او انهارت وتمزقت، او حل محلها غيرها ضمن اليات الصعودية التفاعلية التاريخيه، يمكن البحث لها عن اسباب ومحركات وعوامل دفع او اسباب اعاقه وتاخير او انهيار، وصولا الى ماقد سبق واشرنا اليه من "مادية تاريخيه" وحتمياتها ومنتهياتها.

  بالمقابل لم يكن متوقعا بالمطلق نشوء تاريخيه لاارضوية بينما هي خارجه اصلا عن الادر اكية وغير حاضرة كنمطية وكينونه، تجمل من يومها الى الان ك "دين" وظلت حتى بعد العتبه او الخطوة الاولية التي اجترحتها اوربا الاليه مع "علم الاجتماع" اخر العلوم، فما كان لها ان تتفضل على اللاارضوية وتعبيريتها سوى ب "علم الاجتماع الديني"، دالة على استمرار القصورية العقلية التاريخيه، حيث استحالة القفز المستحيل كما هو مطلوب ولازم الى "علم اجتماع اللاارضوية".

  ولاشك ان قفزة من هذا النوع ستكون بالحد الادنى بمثابة انقلاب  كلي شامل في الرؤية والنظرة البشرية للوجود والذات والمنطوى المترتب على الظاهرة المجتمعية ككل، اولها والمبتدا المناسب لها، هو حيثيات التشكلية التاريخيه الابتدائية والتاريخيه الرافدينيه التي تنتظم تفاعليتها الاصطراعيه، بنمطيتها الاولى اللاارضوية  الكونيه المتعدية للكيانوية، وازدواجها المجتمعي الاصطراعي، وآلياته المطابقة لنوعه، ولخاصية الدورات والانقطاعا ت التي تنتظم وجوده وسيرورته، دورة اولى سومرية بابلية ابراهيميه تنتهي بسقوط بابل 539 قبل الميلاد، ودورة ثانيه عباسية قرمطية انتظارية، انتهت مع سقوط بغداد 1258، ودورة ثالثة هي الراهنه المستمرة من القرن السادس عشرمع قيام "اتحاد قبائل المنتفك" في ارض سومرمجددا، في الطور الالي، والمحكومه للنطقية النوعيه النمطية، بعد دورتين خاضعتين ل"اللانطقية" المتعدية للممكنات الادراكية  العقلية بقدر ما متاحة ومتوفرة للكائن البشري يدويا.

 لاعلم اجتماع، ومن ثم فلااي مقاربة لقانون التاريخ المجتمعي ووجهته، من دون اماطة اللثام عن اللاارضوية، اي عن الازدواجية المجتمعية، ومن ثم عن التفاعلية المجتمعية التاريخية الاصطراعية بين النمطيتين، وصولا الى التحوليه الكبرى المتولدة عن الانقلابية الالية بصيغتها اللاارضوية العقلية، مع وسيلة الانتاج المادية/ العقلية، التي هي مقصد ومآل تشكل الاله ابتداء من صيغتها الاولى "المصنعية" قبل التكنولوجية الانتاجية الحالية، حين يبدا التفارق من هنا فصاعدا، بين طبيعة وسيلة الانتاج بصيغتها الاخيرة التكنولوجية العليا/ العقلية، واشتراطات الانتاجية المتبقية من الطور اليدوي، بما هي انتاجية حاجاتيه جسدية ارضوية، خلاصتها والوصف الدال على طبيعتها ( التجمع + انتاج الغذاء).

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

يستقصي غرانت بارتلي الفيلم كتركيز لشخصية جيجك

ترجمة: علي حمدان

***

على عكس مظهره السطحي الذي يبدو مجرد لقطات متصلة، فإن هذا الفيلم الوثائقي عن الفيلسوف السلوفيني الملقب باسمه لا يتيح له فقط التعبير عن فلسفته، بل يسعى أيضًا ليكون تجسيدًا لهذه الفلسفة. في هذا المعنى، يسعى الفيلم إلى الكمال الفني، من خلال عكس مبادئه الفلسفية في شكله، وينجح إلى حد ما. العلامة التعجبية الموضوعة بعناية ضد اسمه في العنوان هي حالة في هذا السياق. إنها أكثر من علامة ترقيم من السخافة ما بعد الحداثة المعتادة: إنها توضح عمداً وبشكل هولوغرافي فلسفة جيجك - ومن ثم الفلسفة التي تم بناء الفيلم من خلالها.

اسمحوا لي أن أشرح لكم...

يبدأ الفيلم بخلق الكون: وجود الكون. بأسلوبه الوقح المعتاد، يشرح لنا جيجيك أن "لا شيء هناك- حرفياً ـ وأن الكون عبارة عن     "فراغ مشحون إيجابياً". بطبيعة الحال، هذا هراء ميتافيزيقي لا معنى له ـ إذا أخذناه على محمل الجد. ومن السمات المميزة لأسلوب جيجيك أنه يقول كل شيء على محمل الجد، حتى تصريحاته الأكثر استفزازاً، مثل أن جوزيف ستالين كان "رجلاً أميناً". وهناك شيء من السخرية في تصريحاته المتواصلة الواثقة، وكأن جديته غير المعقولة تدعوك على وجه التحديد إلى عدم أخذه على محمل الجد؛ ولكن كل هذا جزء من الحبكة. وبينما يشرح أفكاره، يمكننا أن نبدأ في فهم كيف أن تحديه المستمر من خلال أفكار غير خاضعة للرقابة يتناسب تماماً مع نظريته الشاملة. ولأنه يأخذ الفكر على محمل الجد، فإن كل هذا الاستفزاز والتهديد موجود. انه يعمل ويعيش من خلال تفكيره.

في الفيلم نرى جيجك وهو يجري مقابلات ـ واحدة في برنامج حواري في نيويورك، وأخرى في السرير، وأخرى أثناء اللعب مع ابنه. ولإبراز غرابة جيجك نشاهد في شقته: ملصق لستالين، الذي علقه على الحائط لصدمة كل من قد يصدمه ويدفعه إلى المغادرة؛ وأدراجه وخزائنه في المطبخ حيث يحتفظ بملابسه إلى جانب أدوات المائدة (وهي علامة تعجب أخرى ضمنية هنا)؛ وارفف كتبه حيث يحتفظ بنسختين من الكتب الأجنبية التي يمتلكها، لأسباب لم يتم شرحها بشكل كافٍ على الإطلاق. يقول جيجك أشياء مثل: "الحب اختلال كوني"، و"الواقع غبي!" و"الحب شرير ـ بالمعنى الرسمي". ولكن حتى إضافة عبارة "بالمعنى الرسمي" تشير إلى أن وراء ثرثرته أكاديمي جاد، مستعد للانقضاض. وبدلا من مجرد تصريح غبي آخر، ربما يكون هذا التصريح صحيحا.

ولإثبات جدارته الفكرية، نجد الفيلم مليئاً باقتباسات من كتب جيجيك، والتي اعتقدت أن عبارة "نحن نشعر بالحرية لأننا نفتقر إلى اللغة التي تمكننا من التعبير عن عدم حريتنا" هي من أكثرها وضوحاً. والانطباع الذي تشكل لدي، وهو حقيقة تأكدت للأسف من خلال قراءة أحد كتبه، هو أن جيجيك أكثر فعالية ووضوحاً في التواصل لفظياً من خلال الكلمة المكتوبة. فليس من السهل أن يكون المرء معبراً بشكل تلقائي ومتواصل عن أفكار عميقة كما يظهر الفيلم جيجيك؛ ولكن من المؤسف أن كتاباته تعاني من مرض الفيلسوف الشائع المتمثل في الخلط بين بساطة التعبير وغباء الفكر.

في وقت مبكر، وبعد أن طاردته مجموعات من الناس للحصول على توقيعاته في الحرم الجامعي، ادعى أنه يكره الشهرة وقال: "أنا أحب الفلسفة باعتبارها عملاً مجهولاً". أجل، هذا صحيح! المعنى الوحيد المعقول لهذا الرجل هو أنه شخص يستمتع بالاهتمام ــ بالمعنى الراقي للتأكيد من خلال فعل توصيل أفكاره المهمة. جيجك واضح، وإن كان يدفع دائمًا تعبيره عن نفسه إلى ما هو أبعد مما قد يفرضه رقيب المعقولية. ويقول إن قلقه لا ينبغي تجاهله بل قبوله. ويقول أيضًا إنه يخشى التوقف عن الحديث، في حال لاحظ الناس أنه لا يوجد شيء حقًا هناك. ولكن ما هو موجود هو أبعد ما يكون عن العدم.

إن جيجك ماركسي لاكاني. وهذه طريقة للنظر إلى المجتمع من منظور ديناميكياته النفسية. وبالنسبة له، هذه هي الطريقة التي يمكننا من خلالها فهم جوانب المجتمع مثل العنصرية الأصولية الحديثة (مثاله). إن نظرياته صعبة ومعقدة ــ تحليل نفسي دقيق للدوافع والآليات النفسية التي تعمل من خلالها "الرأسمالية العالمية المتأخرة" والتي تدعمها. ولكن كما يقول في الكلمات الأخيرة من الفيلم، فإن تقديم مثل هذه الأفكار على أنها صعبة هو "دعاية طبقية من جانب العدو". وفي النهاية يقدم لنا تحليله الثاقب للوضع الاجتماعي الاقتصادي.

في عام 1990 كان جيجيك مرشحاً لرئاسة سلوفينيا. (أين في الغرب الناطق باللغة الإنجليزية "المتقدم للغاية" يمكن اعتبار أن مثقفاً محترفاً يمكن أن يترشح لمنصب رئيس الجمهورية؟ أعتقد أن هذا الاحتمال السخيف يوضح حضارتنا وثقافتنا بشكل جيد للغاية). أعلن أحد المرشحين المنافسين أن جيجيك أكثر ذكاءً من أي منهم، ولكنه للأسف لم يفز ــ وهو تعليق واضح على العملية الديمقراطية.

إن مكانته كـ "نجم روك أكاديمي" تؤكدها رؤية مئات، وربما ألافالاشخاص، يحضرون إحدى محاضراته في بوينس آيرس. وهنا يتحدث عن إعادة اختراع اليوتوبيا - "ولكن بأي معنى؟" يشرح أنه من منطلق الحاجة إلى البقاء يجب أن نخترع مساحة فكرية حيث يتم تصور اليوتوبيا الجديدة. كما يقول لاحقًا، فإن المشكلة الحديثة لليسار هي أنهم يريدون ثورة بدون الثورة. يريد التقدميون تغيير العالم، ولكن في نفس الوقت الحفاظ على أنماط حياتهم الغنية والمريحة. أعتقد أن هذا تعبير واضح جدًا عن إحدى المشاكل المركزية للقلق الميتافيزيقي الليبرالي في القرن الحادي والعشرين. نريد منع كارثة المناخ، لكننا لا نريد قطع الرحلات الجوية الرخيصة أو ملكية السيارات الشخصية، على سبيل المثال. ولكن كما يقول جيجك، فهو لا يرى دوره في تقديم الحل الكبير، والإجابة الكبيرة التي ستخبر الثوار بالضبط ماذا يفعلون: كما يقول، "أنا لا أعرف الصيغة!" وبدلاً من ذلك، باعتباره "لاكانيًا يحمل بطاقة هوية" وله خلفية في التحليل النفسي، فإنه يرى دوره بطريقة تحليلية نفسية: استفزاز "الثوريين" حتى يصبحوا على دراية بأنفسهم والمشاكل النفسية المعاصرة التي تحاصر السياسة التقدمية على وجه الخصوص، فضلاً عن المشاكل (المختلفة) التي تحاصر العقول البشرية عمومًا داخل عملية النظام الاقتصادي الحالي.

إن إحدى هذه المشاكل العامة هي أن كل شيء أصبح محظوراً بدلاً من أن يكون كل شيء مسموحاً به: فنحن نخشى الحياة إلى الحد الذي يجعلنا عاجزين عن الاستمتاع بها تلقائياً دون أن نتأكد من أننا لا نضر بصحتنا. وفي الوقت نفسه، هناك أمر من مجتمعنا بالاستمتاع بالحياة ـ وهو الأمر الذي يستنزف أيضاً استمتاعنا، لأن استمتاعنا لم يعد يشكل بالتالي حماساً طبيعياً حراً للحياة. ولقد شعرت بأن هذا هو المجال الذي يرفض فيه جيجك بشدة الامتثال. وبدلاً من ذلك، قرر أن يستمتع بنفسه تلقائياً، من خلال أن يكون على طبيعته. ومن المؤكد أنه متحمس لأفكاره الخاصة. وهو يحاول باستمرار أن يشرح نفسه: يمكنك أن ترى الشرر يتطاير من أطراف أصابعه. ويبدو وكأنه مندهش من وجود كل هذه الأفكار المذهلة ـ فكل عبارة تبدو وكأنها رد فعل تلقائي. إن لم تكن من المتحمسين للأفكار، فإن هذا الفيلم لا يقدم لك أكثر من مقطع عرضي من حياة فرد فضولي شوهه إيمانه وتفكيره الخاص عن سلبيتنا البشرية "الطبيعية" تجاه الأفكار. ولكن هذا السلوك غير الطبيعي يشكل أيضاً جزءاً من النظرية العامة، لأنه كما يعبر عن اتفاقه مع فرويد، فإن السلوك "الطبيعي" هو "تشويه مرضي" للإنسانية الطبيعية. لذا فإن انفعاله الذي لا يمكن كبته بالتفكير يظهر كيف أن حياة جيجك توضح تفكيره. فعندما نراه يشاهد مقطع فيديو للاكان وينتقدهi، فإنه يشرح كيف أن الإيديولوجية الحقيقية هي أن تكون إنساناً، وأن أسوأ تشويه للإيديولوجية هو تشويه شخص ما تماماً من خلال الضغط عليه من خلال التلاعب الاجتماعي أو الثقافي أو الإعلامي ليقوم بدور، ويصبح ما هو زائف بالنسبة له، ويصور نفسه كما لو كان شيئاً آخر غير ما هو عليه. وهذا ضغط اجتماعي شامل يدفع إلى سوء النية، وهو ما يرفض جيجك بشدة أن يقدم له خدمة فكرية أو لفظية، وهو مؤامرة من أجل التوافق لن يتواطأ الفيلم فيها أيضًا.

إن الفلسفة في حد ذاتها تقف إلى جانب فرقة اللغة. ويقول إن الغرض من الفلسفة "ليس حل المشاكل، بل إعادة تعريف المشاكل". إن المشاكل الحقيقية لا تحتاج إلى فلسفة، بل إلى حلول عملية. فلو كان المذنب متجهاً نحو الأرض، فلن تحتاج إلى فلاسفة، بل إلى أسلحة نووية. والفلسفة لا تقدم إجابات، بل تطرح سؤالاً مثل "ماذا يعني هذا؟" على سبيل المثال، "ماذا يعني أن تكون حراً؟". والطريقة التي يصوغ بها جيجك هذه المهمة هي أن الفلسفة تستكشف "آفاق الفهم الضمنية".

وعلى مدى آفاق افتراضاتنا الأولى، لا يكون المجنون مجنوناً، ولا يكون الكوميدي ممثلاً كوميدياً. وفي وقت متأخر من الفيلم، وبعد أن تم التلاعب بنا لتكوين وجهة نظر متعالية بعض الشيء عن هذا الرجل صاحب الآراء الصاخبة التي تتعدى عمداً على الحواف الدقيقة للعقل، يسأل جيجك نفسه: "لماذا أستفز دون داع؟" والإجابة: "فقط من أجل إيصال الرسالة!". لقد تخلى عن نفسه للحصول على رد فعل. إنه يعيش استنتاجاته.

إن الفيلم نفسه يطبق تفكير جيجك ـ من خلال إظهاره كما هو، ولكن بطريقة تكشف عن تصوراتنا المسبقة الموروثة. فعندما نراه أولاً في الضوء "العادي" الذي نحلل أو نفهم به عادة، نراه غريب الأطوار في تعبيره الحر عن أفكار متطرفة، وغريبة أحياناً، وبالتالي فهو شخص لا ينبغي لنا أن نأخذ تفكيره على محمل الجد. ولكن بحلول نهاية الفيلم، يتبين لنا أن هذا التفاعل هو نتيجة لتأثير معاييرنا الثقافية على توقعاتنا ووجهات نظرنا. ويوضح لنا الفيلم أن الأفكار، والتأمل، والعمق، والتعبير الحر الكامل تذبل في "التفكير العادي" بفضل التوقعات التي تغذيها الثقافة بأن هذه الأشياء لا تستحق النظر إليها. والرسالة التي يحملها النص الفرعي هي أن اقتصادنا وثقافتنا العالمية المصاحبة له تشجعنا على أن نكون أغبياء، أو على الأقل متوافقين فكرياً بشكل سلبي: ولكن جيجك يعيش تفكيره الخاص ضد هذا الركود العقلي من خلال رفضه بعناد أن يتناسب مع القالب الذي نعتقد أن التفكير والسلوك الطبيعيين يجب أن يكونا عليه. إن الفيلم يحفز هذا الإدراك بطريقة خفية ولكن مثيرة للإعجاب، وذلك من خلال جعلنا في النهاية نعيد النظر في انطباعاتنا الأولى المتلاعب بها عن هذا الرجل. إن علامة التعجب في العنوان تتناسب تمامًا مع النظرية لأن إضفاء الإثارة الساخرة على المفكر يأتي في سياق الكشف عن الافتراضات الخفية لثقافة التحفيز التي يفكر المفكر ضدها. إن العلامة هي مفتاح لأولئك الذين يعرفون كيفية فك شفرتها على وجه التحديد لأنها ترمز إلى الحاجة المشكوك فيها إلى الترويج من خلال الإحساس. ولكن من خلال وجود علامة التعجب هناك، فإنها تلفت الانتباه إلى السؤال حول سبب وجودها هناك.

***

..........................

‏© Grant Bartley,Philosophy Now, 2007

 

Towards a new theorization of creativity in the Arab world
الابداع هو عملية عقلية عالية المستوى تتسم بطريقة جديدة في التفكير تؤدي الى نظريات اصيلة، او نتاجات او ابتكارات تحظى بالقيمة والاهمية، او حلول لمشكلات حياتية، يمتاز بها اشخاص يتصفون بالتفكير الراقي وسعة الخبرة تمكّنهم ان يضيفوا شيئا جديدا في ميدان تخصصهم يثير المتعة والدهشة ويساعد على ازدهار الحياة وتقدم المجتمع.
ولقد انتبهت الدول الى ان تقدمها ما عاد يعتمد على القوة العسكرية بل على ما تمتلكه من عقول مبدعة. وكانت بداية هذه الانتباهة تعود الى اطلاق الاتحاد السوفياتي السابق سفينة فضائية في خمسينيات القرن الماضي ادهشت العالم وفاجأت امريكا.. كيف ان "دولة العمال والفلاحين " تسبقها في غزو الفضاء!.. ووجدت الخلل في نظامها التربوي فعملت على اصلاحه وبعثت بخبراء الى العالم الثالث يلتقطون العقول المبدعة ويأتون بها الى امريكا.. لترعاها وتستثمرها، وكانت هذه العقول احد اهم اسباب تطورها وتقدمها.
ما قالته مؤتمرات عالمية
في تموز 2011 ، شاركنا في مؤتمر حول الموهبة والأبداع والتربية النوعية عقده المركز الدولي للتطوير التربوي، ومقره في المانيا بالتعاون والتنسيق مع جامعة اسطنبول وعدد من المؤسسات الدولية تحدث فيه علماء من دول متقدمة: أميركا، كندا، بريطانيا، اليابان، السويد، ايطاليا.. وأخرى آسيوية وأفريقية عبر (130) بحثا واكثر من عشرين محاضرة لمتحدثين عالميين بارزين (Keynote Speakers ) محاور توزعت بين: التربية النوعية، الموهبة والابداع والقيادية، التعلم الالكتروني، بيئات التعلم الافتراضيه، التربية من اجل السلام، برامج الاعداد والتمكين، قضايا ومشكلات التعليم العالي، التوجهات المستقبلية في التربية والتعليم العالي، الابداع وما وراء المعرفة، الدوغماتية والقدرات العالية، والمعوقات الثقافية التي تواجه المبدعين.. نقتطف منها آراء ثلاثة باحثين:
في بحثه (الابداع.. نوع واحد ام انواع) لفت الانتباه (دين سيمونتن) من جامعة كاليفورنيا الى ان الفكرة المأخوذة عن الابداع بأنه (ظاهرة متجانسة) تعرضت الى النقد بعد ان توصلت البحوث الحديثة الى ان الابعاد الرئيسة للابداع يمكن ترتيبها هرميا، من العلوم الى الفنون حيث الفيزياء في القمة تليها الكيمياء، البيولوجي.. ، علم النفس، علم الاجتماع.. ، واخيرا الفنون الشكلية Formal والفنون التعبيرية Expressive . واوضح أن الابداع في العلوم الصرفة يتصف بالموضوعية والمنطق والعدّ الرقمي والمنهجية، فيما يكون في الفنون ذاتيا"، حدسيا، انفعاليا، تباعديا، وغير مقيّد. وان خصائص المبدعين تختلف بحسب موقع المبدع في هرم الابداع، من الانفتاح الى الذهان في مجالات الفن والثقافة، وانهم يختلفون ايضا في خبراتهم التطورية بما فيها الخلفية الأسرية والتربية المدرسية والتدريب والمناخ الاجتماعي الحضاري.
في بحثه الموسوم (تطور المهارات التصويرية في الطفولة والمراهقة) اوضح (فولفانك شنوتز) من المانيا بأن التعليم والتعلم، كما التفكير وحل المشكلات، تستعمل اشكالا تصويرية متعددة، غير ان التفكير الابداعي يكون قائما على مرونة متبادلة بين المعارف المختلفة للقضايا التي نواجهها وما يقابلها من عمليات عقلية. وفي حين يلعب تعلم القراءة والكتابة دورا رئيسا في الأنظمة التربوية المعاصرة فأن استخدام: الصور، الخرائط، الرسوم البيانية، النقوش، في الموضوعات المعقدة وحلّ المشكلات لم يحظ باهتمام هذه الأنظمة. ودعا الباحث الى مغادرة طرائق التعليم التقليدية، وقدم تحليلا لأنواع الاشكال التصويرية وما يقابلها من عمليات ادراكية ومتطلبات معرفية لدى المتعلم من وجهة نظر العلم المعرفي وعلم النفس التطوري والتربوي.
وفي ورقته الموسومة (تأثير العلماء المتفوقين في فهم العالم) اشار (توماس كورنتز) من المانيا الى أن الأفكار الممتازة للعلماء المبدعين عبر التاريخ احدثت تغييرا في طرائق وصيغ تفكيرنا افضى الى التقدم الحضاري الذي نشهده ، وفرض علينا ضرورة تجاوز عاداتنا المعرفية والثقافية وطرائق تفكيرنا المتحجرة. ونبه الى دور التربية في احتضان الأطفال الموهوبين ورعايتهم علميا ونفسيا بخلق شخصيات منهم تتمتع بمواصفات المبدع.
وفي(16 تشرين الثاني 2013) شاركنا بمؤتمر عقد في عمان-الاردن خاص بالموهوبين والمتفوقين.. واقر توصيتين تقدمنا بهما:
الأولى: تشكيل لجنة من المؤتمر لانضاج مقترح بعنوان استراتيجية لتطوير الأبداع في وزارات التربية والتعليم العالي في العالم العربي منطلقين من افتراض أن ازدياد المبدعين في العالم العربي يساعد على ازدهاره ويسهم باشاعة السلام في العالم.
والثانية: اصدار بيان بأسم المؤتمر يدعو لاتخاذ اجراءات عاجلة للحفاظ على العقول العربية المبدعة، وتأمين عودة الأكاديميين والعلماء المهاجرين ليسهموا في بناء أوطانهم.
بيئات الأبداع
أولا: الأسرة
ان البيئة الأولى لنشوء الابداع هي الأسرة، وتحديدا في أساليب تنشئتها للأطفال، لما لها من علاقة بنمو القدرات الابداعية. فالدراسات العلمية وجدت علاقة إيجابية بين الأسلوب الديمقراطي الذي يعتمده الوالدان ومستوى التفكير الإبداعي لدى أبنائهم، وعلاقة عكسية بين الأسلوب التسلطي الذي يعتمدانه ومستوى التفكير الإبداعي لدى أبنائهم. وأفادت بأن الطفل الذي يعيش في جو أسّري ينعم بالدفء، ، ويمنحه الوالدان الحرية والاستقلال وطرح الأفكار دونما خوف من نقد أو سخرية، فأنها تعمل على تنمية عمليات عقلية تؤدي به الى الابداع ، وبه يتوافر للطفل واحد من الشروط الأساسية لأن يكون مبدعا في المستقبل.. فيما يشير واقع الحال العربي ، كما تشخصه الدراسات النفسية والاجتماعية، الى ان اساليب التنشئة الاسرية تقوم على العقاب الجسدي بالضرب والسجن والترهيب والتهديد والقمع النفسي بالازدراء والاحتقار والسخرية والتهكم، وان غالبية الأسّر العربية تفتقر الى اساليب التنشئة التي تساعد على نشوء ونمو الابداع.
المدرسة.. البيئة الثانية
تعدّ المدرسة والمناهج المصدر الثاني لنشوء الابداع وتنميته. ويشير الواقع العربي الى أن الصفة الغالبة عليها هي افتقارها الكثير من مقومات الإبداع سواء في مناهجها أو طرائق تدريسها أو أنظمتها العامة ، وأنها لا تعمل على تحريض النشاط الإبداعي لدى الطالب، وان المعلم فيها ناقل معلومات ويخشى التحديات. بل ان التعليم في الأنظمة التربوية العربية من الابتدائية الى الجامعة، يقوم على التلقين وحشو الذاكرة الذي ينتج بالضرورة عقلا يأخذ بالأمور كما لو كانت مسلّمات دون أن يتحاور معها بفكر ناقد.وبهذا صاغ النظام التربوي العربي عقولا عودها على أن(تستقبل) لا على أن ( تحاور).. فضلا عن اننا لا نعمد الى تحديث مناهجنا بالسرعة التي يتطور بها العلم، التي يفصلنا عن التقدم في عدد من العلوم اكثر من ربع قرن!.
واذا كانت الأسرة والمدرسة غير حاضنتين للأبداع فأن المجتمعات العربية فيها من معوقات الابداع ما يميته او ينفيه او يخدّره ، من بينها:
- الفهم الخاطئ للدين والميل للاتّباع ومقاومة الابتداع.
- القيود المفروضة على حرية التعبير.
- إهمال المواهب الفردية وجعل الفرد في خدمة المجتمع.
- والجمود الفكري وقراءة السلف من دون تطوير أو إبداع.
بل أن الثقافة العربية ايضا معيقة للإبداع.. يكفي ان نشير الى انها تشيع بين الناس التشبث بالماضي والتغني بأمجاده وضعف الاهتمام بالقضايا الراهنة والمستقبلية، وتوجّيه النشء للتعايش مع مفاهيم الامتثال والتقليد والابتعاد عن المغامرة والاكتشاف والتجريب.
على ان اخطر طارد للأبداع هو السياسة.. اليكم وقائع عنها:
- العالم العربي ما يزال، من نصف قرن، ميدان حروب واضطرابات استنزفت موارد اقتصادية هائلة، نجم عنها أزمات نفسية واجتماعية وانشغال فكري في الأمور السياسية على حساب استثمار العقول الوطنية في الإبداع بالعلوم الإنسانية والابتكار بالعلوم التطبيقية.. وزادها الآن سوءا جرائم الأبادة الجماعية الوحشية التي ارتكبتها اسرائيل في غزة ولبنان.
- الأنظمة السياسية في البلدان العربية لا تتمتع بالاستقرار، وغالبا ما توظف المنجز الإبداعي لخدمتها.ولهذا تعدّ البلدان العربية أكبر مصدّر للعقول المهاجرة.مثال ذلك لو أن الأطباء النفسيين العراقيين في بريطانيا قرروا العودة الى العراق لاختلت الخدمات الطبية فيها.. فيما الإبداع يزدهر اذا عملت الدولة على توفير متطلبات نموه غير المشروطة بتوظيف المنجز الإبداعي لخدمة نظامها.
- في العراق أودى العنف، في ثلاث سنوات(2004 – 2006) ، بحياة 185 أستاذا جامعيا، و73 طبيبا و140 من الملاكات الطبية، عدا المئات من محاولات القتل والخطف لآخرين من الطاقات العلمية المبدعة، اضطرت القسم الأكبر منهم الى الهجرة (متابعة صحيفة، لغاية نيسان، 2006). فيما أشارت احصاءات اليونسكو(2010) الى مقتل 500 شخصية اكاديمية وعلمية وهجرة ثلاثة آلاف عالم وباحث واستاذ جامعي خارج العراق بعد 2003.. بل وصل الحال الى اغتيال ثلاثين عراقيا في العشرة أيام الأخيرة من آذار/مارس 2011 بمدينة بغداد وحدها! أغلبها بأسلحة كاتمة للصوت بينهم أطباء وأساتذة ومهندسون.
ان النظام التعليمي في العالم العربي يعمل على حشو رؤوس الطلبة بالمعلومات دون ان يعلمهم كيف يفكرون بها، ما يعني أننا لا نربي اجيالا، بل ننتج روبوتات بشرية مبرمجة على اعطاء الاجابات النمطية والسطحية في الامتحانات، ولكنها عاجزة عن حل ابسط المشكلات في الحياة الواقعية – العراق مثالا، مع انه كان مهد الحضارات وأرض العلماء والفلاسفة، تحول الى امة تعتمد على الحفظ والتلقين الذي يقتل الأبداع والأبتكار ويحولنا الى نسخ متخلفة ومكررة، وحوّل التعليم من سلاح لتحرير العقول الى اداة لتخديرها.
زد على ذلك ان العالم العربي ينفرد بأربع (كوارث):
- الأولى.. ان ما ينفق على التعليم ضئيل جدا بالقياس لما ينفق في شراء الأسلحة. فبحسب المركز الروسي لمبيعات الأسلحة، بلغت مبيعات الأسلحة الأمريكية الى دول الخليج العربي فقط 123 مليار دولار ، فيما لم ينفق ربع هذا المبلغ على التعليم.. وما تنفقه اسرائيل على البحث العلمي اضعاف ما تنفقه الدول العربية مجتمعة.
- والثانية: ان السياسة دفعت الدول العربية الى ان يكيد بعضها ضد البعض الآخر، واشغلتها بخلافاتها العقائدية، وصراعات الأخوة الأعداء على السلطة والثروة وسلوكياتها اللااخلاقية التي حولت الفساد من خزي الى شطارة.. وأنموذجه العراق.
- والثالثة: ان رياح التغيير التي هبت على العرب في يناير وفبراير 2011 كان يتوقع لها ان تفتح الباب واسعا لابداع عربي وديمقراطية وسلام.. والنتيجة سارت الرياح بالاتجاه المعاكس.. ولهذا كانت البيئة العربية طاردة للأبداع من الف سنة.. ولن تكون حاضنة للأبداع الا بتطبيق الديمقراطية عمليا وتحقيق العدالة الاجتماعية.
- اما الرابعة: ان العقل السياسي العربي مصاب بعلّتين:
الأولى: ان الحاكم العربي تتحكم به سيكولوجية احاطة نفسه بأشخاص يقولون له ما يحب أن يسمعه.. فيتحول مستشاروه الى وعاظ سلاطين ( يمدحون وينافقون ) ولا علاقة لهم بالأبداع.
والثانية: اوصلتنا متابعتنا لأحداث الأربعين سنة الأخيرة في العالم العربي الى ابتكار مصطلح جديد في علم النفس هو (الحول العقلي) خلاصته.. ان المصاب به يرى في جماعته، طائفته، دولته.. الجوانب الأيجابية ويغمض عينه عن سلبياتها، ويرى السلبيات في الجماعة الأخرى ويغمض عينه عن سلبياتها، ويحمّلها ما يحصل من ازمات مع ان جماعته شريك فيها. وهذا الحول مصاب به الحاكم العربي والمواطن العربي ايضا.. وعقل كهذا لا يمكن ان يكون مبدعا، ولن يدرك أن المبدعين هم الذين يغيرون العالم ومسار التاريخ أيضا.
ان هذه الأدلة تشير الى ان البيئات العربية ما تزال طاردة للأبداع والمبدعين حتى تلك التي صارت تسمى انظمة ديمقراطية، بل ان مكانة المبدعين تراجعت في بعضها مقارنة بما كانت عليه في الأنظمة الدكتاتورية، لأن الذين استلموا الحكم اعتمدوا مبدأ الثقة والأقارب في اسناد المسؤوليات الكبرى وتجاهلوا الكفاءة والخبرة.
في ضوء ذلك نخلص الى توصيتين:
الأولى: تشكيل لجنة من مؤتمر ( الموهبة والأبداع) لأنضاج اهم الأفكار الواردة في هذه الورقة وتقديمها الى وزارات التربية والتعليم العالي في الدول العربية.
الثانية: توعية الأجيال العربية بأهمية وأيجابيات الذكاء الأصطناعي بوصفه يمثل مرحلة متقدمة من تطور التكنولوجيا الإبداعية لحلول المؤسسات ، ويفتح عالمًا جديدًا من الإبداع المرئي ويوفر مجموعة كبيرة من إمكانيات توفير الوقت وإثارة الخيال للأشخاص الذين يقومون بأعمال إبداعية، و يُلهم أفكارًا جديدة تتجاوز التفكير التقليدي بتوسيع آفاق العقل البشري.
الثالثة: لأن معظم التوصيات التي تخرج بها المؤتمرات العربية.. توضع على الرفوف، فأننا نوصي بتشكيل لجنة ممثلة للبلدان العربية تعمل على متابعة تنفيذ التوصيات التي خرج بها المؤتمر، وتسمية الدولة والمؤسسة التي اخذت بها وتلك التي لم تأخذ بها، واقتراح ما تراه مناسبا لتفعيلها.
شكرا لهيئة مؤتمر الموهبة والأبداع ، وتحية لكل المساهمين فيه .. مع خالص تمنياتنا بالموفقية.
***
أ.د. قاسم حسين صالح
مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية
...........................
بحث مقدم الى مؤتمر الموهبة والإبداع، دبي 11 - 13 نوفمبر 2024، الموافق 9 - 11 جماد الأولى

"لقد تعلمت شيئا واحدا في حياتي الطويلة: أن كل علومنا، مقارنة بالواقع، بدائية وطفولية - ومع ذلك فهي أثمن شيء لدينا" (آينشتاين، من سنواتي الأخيرة، ص. 23)
كتب مؤخرا في مجلة الفيصل السعودية العدد 575-576، الدكتور زكي الميلاد المفكر الإسلامي السعودي مقالا مهما بعنوان: لولا أينشتاين لما كان كارل بوبر، حيث قارب بين الفكرين ومدى تأثير السابق للاحق مقتبسا العنوان من مقولة: (لولا نيوتن لما كان كانط)، حيث طرح فكرة عامة لما يتصل بتأثير آينشتاين في بوبر ، كل هذا جميل ومثير للنباهة لكن المثير في المقال ذو ارتباط بقضية أشار إليها المفكر الدكتور عبد الجبار الرفاعي في كتابه "مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث" هذا الكتاب الذي يعتبر سابقة مميزة في راهن العقلانية النقدية العربية والإسلامية إن دامت بالطبع ليس بمستوى الجدلية البوبرية ولكن على الأقل نظم الأمور فيما يتعلق بالموتى والتراث وما أنتجته من الآثار، هناك من يستغرق في الثناء والتعظيم والتقدير لمفكر لدرجة التيه عن الواقع وهذا ما أشار إليه الأستاذ الدكتور الرفاعي: (لأننا محكومون بالتراث وقيمه وأحكامه، ترسخت لدينا تقاليد الاحتفاء المبالغ به بالأموات، والإفراط في الثناء على آثارهم، والإعلاء من قيمة منجزهم، وتجاهل ما أنتجته هذه الآثار من تعصبات وكراهيات وأحقاد وجروح نازفة في حياتهم وبعد وفاتهم) هذا الواقع جعل العقلانية النقدية بيننا كعرب ومسلمين إلحاد وكفر لعل ذلك لكون كارل بوبر رائدها في الزمن المعاصر وهو اللا أدري !!
فكرة التقليد على طول الزمن والجغرافية العربية منذ عدة قرون ترسخت وتعمقت في مفكرة الإنسان والمجتمع، فالمفكر أي مفكر بعد رحيله يأتي بعده طوفان من التضخيم والنفخ والتبجيل والتقديس لآثاره عبر طباعة مجموعة آثاره وتراثه وآرائه دون الاكتراث بماهية هذا التراث أو دراسته وتمحيصه بل نجتهد ونعض على النواجذ لننافح عليه بتعصب وتطرف، وحتى لو كان هذا المفكر مميز وفذ وفيلسوف وما هنالك من مسميات ترفع له، أليس الأحرى هو إعطاءه حجمه الذي يستحقه بكل موضوعية وعدل وأمانة من أجل الارتقاء بالعقل العربي والمسلم من سفوح التقليد والأدلجة والطائفية والتحيزات الفكرية والحزبية ، نحو قمم التفكير الحر والعقلانية الناقدة بحكمة وروية والقراءة الموضوعية للفكر وأصحابه مع طرح سؤال مصيري: ماذا بعد فلان؟
لا ريب أن التعامل العاطفي مع أهل الفكر والثقافة والفلسفة لا ينتج وعيا، لأن التموضع في إطار التقليد محال أن يفضي إلى أي تجديد وإصلاح ونهضة ، فالأمم التي تقدمت عرفت كيف تتعامل مع التراث الفكري والديني وما هنالك، حيث اتجهت نحو العقلانية النقدية التي لا تؤمن بالحقيقة المطلقة أو احتكارها ، بل على العكس السعي نحو خلق مناخ ثقافي يناقش الأفكار ولا يقدسها وأصحابها بل يفكر بحرية وموضوعية من أجل فتح آفاق العلم لا الوهم والشعوذة والأسطورة ، حيث صدق آينشتاين حين قال: "الشيء المهم هو عدم التوقف عن طرح الأسئلة" وهذا الأخير تخلى عن الوضعية في سنواته الأخيرة وأسر لبوبر أنه يأسف لدعمه موقفا لا يعتبره الآن خاطئا فحسب، بل خطيرا على التطور المستقبلي للعلوم الفيزيائية وفلسفتها. هكذا المفكر الحر في أواخر حياته لا يخجل من البوح بما يراه خطيرا على الوعي العلمي والفكري والثقافي والديني، للأسف واقعنا العربي والإسلامي عانى ولا يزال وسيظل يعاني مادام التقليد الفكري والرثاء الثقافي كاسحا للعقول والجماعات والتيارات والمؤسسات الأكاديمية والإعلام، بدلا من النقد الموضوعي البناء في مجتمع مفتوح كما أسماه بوبر، أي الفلسفة المنبوذة في واقعنا ، الفلسفة التي نفهمها شيء معايش وذو صلة بالجميع، وليست نشاطاً أكاديمياً أو تخصصاً - وبالتأكيد ليست شيئاً يتكون في المقام الأول من دراسة كتابات الفلاسفة المحترفين. بل هي وعي تصنعه اختبارات نقدية للنظريات والأفكار والمطارحات والواقع، وبالتالي العديد من المناقشات حول "المعتقدات والمفارقات" والعديد من التلميحات إلى مفكري الماضي والحاضر خاصة، بينما فقر التقليد بلغة المتفقهة لا يمكنه تطوير هذه الاهتمامات المعرفية لأنها تتطور بالتوازي مع تطور الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي للمجتمع، لأن فضيحة التقليد أنه ذو طابع شمولي في التعامل مع الأفكار والأشخاص والأشياء، وهذا يشبه في بعض تمثلاته التاريخانية، حيث التقليد ينطلق من التاريخ بمعنى الماضي والاستغراق فيه وتزييف إشكالاته ومشكلاته بدل حلها …
بالمختصر ليس بمقدورنا ولا قدرنا أن نبقى نجتر المواضيع والمقاربات والأفكار والأزمات، الخطورة تكمن في أننا أصبحنا ندمن الاعجاب من كثرة ادماننا على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بدلا من ادمان الدهشة والفضول في قراءة صفحات الواقع المنغلق والمعقد والمغلوط والخطير والفوضوي ، ليس قدرنا أن نستغرق في المدح والصياح لأفكار غيرنا سواء من هم منا أو أولئك البعيدين عن واقعنا والمؤثرين فينا ، يكفي ألا نبخس الناس أشياءهم ونركز في وعينا الذاتي ووعينا لأهمية المنهج في المعرفة وجدلية النظام في الواقع، فتحقق المشهد الثقافي النقدي العربي والإسلامي للواقع والخطاب والتفاؤل بحاجة لصدمة نقدية عميقة وطويلة المدى حتى يتم فرز مقتضيات التفكير النقدي في العالم العربي والإسلامي لمواجهة موجة تقديس التراث الفكري والديني والثقافي ورجاله، بالتوازي مع أعلى فضول للتحقق من حيثياته ومخزوناته ومناهجه ولغته...
من خلال كل الكتابات النقدية الهامة للواقع من طنجة إلى مسقط والملاحظات والمنبهات للجيل الجديد، لابد أن نتذكر أن قيمنا ومبادئنا تتشابك مع بعضها البعض في تسلسل هرمي، مثل الدمى الروسية: دمية كبيرة تخفي أخرى وتخفي أخرى.... بالنسبة لكل واحد منا، هناك قيم معينة أكثر أهمية من غيرها. بينما في الواقع، أعتقد أن بعض القيم والمبادئ أكثر أهمية من غيرها حسب مراحل حياتنا. لذلك أقول: لولا النقد العقلاني ما تحققنا من معارفنا ولا وعينا قيم ومبادئ الرقي والتقدم والكرامة التي ترتبط بدقة بحقيقة معتقداتنا وبالأساس المبادئ الإنسانية: إعطاء معنى للحياة الكريمة، والتصرف بوعي، وحب واحترام الآخرين، وتغذية الروابط بين الناس، والتواصل مع الكل دون احتكار الحقيقة..
***
بقلم: أ. مراد غريبي

الصمت في الفلسفة يعتبر موضوعاً غنياً ويمكن تناوله من عدة جوانب ومن هذه الجوانب. الصمت كوسيلة للتأمل والتأمل الذاتي، والصمت عند الفلاسفة مثل لاوتزو في الفلسفة الطاوية يعتبر أداة مهمة للوصول إلى الحكمة الداخلية والتوافق مع الطبيعة، ويشدد لاوتزو على أهمية الصمت في تهدئة العقل وفتح المجال أمام الفهم العميق للوجود. أما الصمت في التأمل البوذي، فهو يستخدم كوسيلة لتحرير العقل من الأفكار المتكررة ولتحقيق حالة من السلام الداخلي والتنوير، وكذلك الصمت كفعل عند مارتن هايدغر، يعتبر الصمت طريقة لفهم الكينونة بطريقة لا يمكن الوصول أليها من خلال اللغة، ويرى هيدغر أن اللغة يمكن أن تكون محدودة في التعبير عن الوجود، والصمت ممكن أن يكون أحياناً أكثر تعبيراً، أما لودفيج فتغنشتاين ينظر إلى الصمت على أنه جزء من حدود اللغة ويقول في كتابة رسالة منطقية فلسفية، ما لا يمكن الكلام عنه ينبغي الصمت عنه، ويعكس هذأ الاعتقاد بأن بعض الحقائق أو الخبرات لا يمكن التعبير عنها بالكلمات، ولذلك يجب احترامها بالصمت .وأيضاً الصمت كاحتجاج أو مقاومة، وهو وسيلة للتحدي الاجتماعي، وفي بعض السياقات يستخدم الصمت كوسيلة للاحتجاج أو المقاومة، والصمت ممكن أن يكون أداة قوية للتعبير عن رفض نظام معين أو كنوع من الرفض للسلطة. والصمت في سياق الفلسفة السياسية يستخدم للتعبير عن الرفض أو المعارضة، حيث يختار الأفراد عدم التحدث أو الرد كشكل من أشكال المقاومة السلبية.
وفي الفلسفة الوجودية ينظر إلى الصمت على أنه مساحة لإعادة التفكير وإعادة تقيم الحياة، والوجودية تعترف بالصمت كحالة يمكن للفرد من خلالها أن يواجه الفراغ الوجودي أو العبثية، من ثم يبحث عن المعنى الشخصي في داخلة. والصمت من وجهة نظر فلسفية يمكن أن يتخذ أبعاد أعمق وأكثر تعقيداً عند اكتشافه من زوايا متعددة. وعند جان بول سارتر الصمت يعتبر جزءاً من الحرية الفردية، والصمت ممكن أن يكون اختياراً واعياً يمارس في مواجهة الضغوط الاجتماعية والسياسة، حيث يتجنب الفرد المشاركة في الحوارات ألتي يعتقد أنها تفرض معاني أو توجهات خارجية على الذات، والصمت هنا يعتبر شكلاً من أشكال التحرر من تأثير الأخرين. أما الفلسفة التفكيكية المتمثلة بجاك دريدا، يعتبر الصمت جزء من مفهوم التأجيل في اللغة، حيث يعتقد أن المعاني لا تخلق فقط من خلال الكلمات، بل أيضاً من خلال ما يقال، والصمت هنا ليس غياباً للمعنى بل هو جزء من تكوين المعنى ذاته، حيث يشكل التوتر بما يقال وما لا يقال طريقة لفهم أعمق للنصوص والأفكار. أما إيمانويل ليفيناس يعتبر الصمت تعبيراً عن احترام الأخر وتقدير حضوره دون الحاجة إلى قول شيء، والصمت هنا يمثل مستوى عميق من التواصل الذي يتجاوز اللغة والكلمات، ويتيح مساحة لاحترام الأخرين دون فرض ذاتية الفرد علية. الصمت عند المتصوفة ليس فقط الامتناع عن الكلام، بل هو موقف داخلي يتضمن الامتناع عن التفكير فيما يشوش العلاقة مع الله، والمتصوفة يرون أن الصمت يعزز صفاء القلب ويتيح للفرد الدخول في حالة من القرب الروحي من ألله، حيث يصبح الصمت وسيلة للوصول إلى الإلهام الإلهي .أما من وجهة نظر معرفية يناقش ميشيل فوكو العلاقة بين السلطة والمعرفة من خلال الصمت، حيث يشير أن ما يحظر قوله وما يصمت عنه، هو جزء من آليات السيطرة والتحكم الاجتماعي، والصمت هنا يصبح أداة لفهم القوى في المجتمع، وكيفية تحديد ما يعتبر مقبولاً أو محظوراً في المجتمع. أما الصمت عند المفكرين المعاصرين ينظر للصمت على إنه علامة للعجز عن التعبير أو التواصل، حيث تكون هناك أمور لا يمكن للفرد أن يعبر عنها لفظياً بسبب عمقها أو تعقيدها، وهذا النوع من الصمت يعكس حدود اللغة البشرية وعدم قدرتها على احتواء كل أبعاد التجربة الإنسانية. والصمت في الفلسفة ليس مجرد حالة سلبية أو غياب للكلام، بل هو مفهوم غني ومعقد ممكن أن يعبر عن مجموعة واسعة من الحالات الإنسانية والمعرفية والروحية، وفي المجمل الصمت ليس مجرد غياب الكلام بل هو يتيح للفرد إمكانية فهم أعمق للذات والعالم.
***
م. م. قائد عباس حمودي

القسم في اللغة هو اليمين لان الناس كانوا اذا اختلفوا او تعاهدوا على شئ ضرب كل واحد منهم يمينه على يمين صاحبه. وقال اخرون ان الناس اصطلحوا مع بعضهم على تشديد القسم على رفع اليد اليمنى ومصافحة صاحبه وبذلك يسمى يمينا.
وكان العرب في العصر الذي سبق الاسلام يقسمون بكثير من الامور ومن ابرزها: القسم بالله، القسم بالهدي، القسم بالاصنام، القسم بالنار، القسم بالرماد، القسم بالاباء والاجداد، القسم بالكعبة (ببيت الله) القسم بالقبر، القسم بالعزيز، وغيرها.
وكان للعرب قصص كثيرة في هذا الموضوع وخاصة فيما يتعلق بأخذ الثار، فقد كان العربي يحرم على نفسه مثلا شرب الخمر طيلة مدة طلبه لاخذ الثار وذلك لان شرب الخمرة تشغله عن تحقيق هدفه في اخذ الثار. ومن هذه القصص قصة الشاعر(امرؤ القيس) عندما قتل والده (حجر) من قبل (بني أسد)، فغزا (امرؤ القيس) ديار بني اسد طالبا بثأر ابيه. ويروى ان امرؤ القيس عندما قتل والده كان جالسا في مجلس شرب الخمر عندما سمع بمقتل ابيه، فقال عبارته المشهورة "ضيعني صغيرا وحملني دمه كبيرا اليوم خمر وغدا امر، لا صحو اليوم ولا سكر غدا " ثم شرب سبعا، ولما صحى حلف ان لا يأكل لحما ولا يغسل رأسه، ولا يشرب الخمر، ولا يقرب النساء حتى يدرك ثأره اما اشهر حروب العرب في الجاهلية فهي حرب (البسوس) وهي حرب واسعة بين قبيلتي بكر وتغلب ابناء وائل وذكر انها استمرت (40) عاما وكان فيها ايام عديدة، اشهرها يوم (تحلاق اللمم) وسمي بهذا الاسم لان قبيلة بكر اقسموا ان يحلقوا رؤوسهم استبسالا للموت. فكان النصر فيها الى قبيلة (بكر) على قبيلة (تغلب). ويروى ان الذي اشعل نار هذه الحرب هو ان (كليب) اصاب ناقة البسوس، والبسوس هذه هي خالة (جساس) فذهب جساس الى (كليب) معاتبا لكنه قتل (كليب) فنشبت الحرب بين القبيلتين وقد اسرف (مهلهل) وهو اخ (كليب) في قتل قبيلة (بكر) طلبا لثأر اخيه (كليب). وتنعطف القصة انعطافا اخر في سردها الروائي حيث تقول: ان زوجة (كليب) واسمها (جليلة) انجبت ولدا اسمه (هجرس) فيقوم خاله (جساس) بتربيته ثم يزوجه ابنته ويظل (هجرس) لا يعرف من هو اباه وقد زوده (حساس) بعد زواجه بالسيف والدرع. وبعد سنوات عرف (هجرس) ان (حساس) هو قاتل اباه فأخذ وسط رمحه ثم اقسم قائلا: وفرسي واذنيه ورمحي ونصليه وسيفي وغرييه، لا يترك الرجل قاتل ابيه وهو ينظر اليه، فاستل سيفه وطعن به (حساس) وقتله.
وكان الشاعر الجاهلي يمدح الابطال المقاتلين ويمدح الكرماء ومن عمل على اطفاء نار الحرب واحلال السلام. وخير من تغنى بهذا الشاعر (زهير بن ابي سلمى) في مدحه (للحارث بن عوف) و (هرم بن سنان) لانهم تحملوا ديات القتلى في حرب (داحس والغبراء) واصلاحهما ذات البين بين قبيلتي (عبس) و(ذبيان) في هذه الحرب التي استغرقت فترة طويلة حيث قال الشاعر (زهير بن ابي سلمى) وقد اقسم بالبيت (الكعبة) في معلقته المشهورة:
"فاقسمت بالبيت الذي طاف حوله
رجال بنوه من قريش وجرهم
*
يمنيا لنعم السيدان وجدتما
على كل حال من سحيم ومبرم
*
تداركتما عبسا وذبيان بعدما
تفانوا ووقفوا بينهم عطر منشم
وعطر منشم هذا قيل فيه الكثير، ومن هذه الاقوال:"ان العرب كانوا اذا قصدوا حربا اغمسوا ايديهم في العطر الذي تبيعه هذه المرأة واسمها منشم) ثم اقسموا على ان يستميتوا في الحرب وان لا يولوا الادبار الى ان ينتصروا او يموتوا، وقد تمثل الشاعر به.
ومن جهة اخرى اقسم العرب على نصرة المظلوم فعقدوا الاحلاف التي كان ابرزها حلف " الفضول " وسببه ان رجلا من اليمن قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه (العاص بن وائل) وكان من اشراف مكة الا انه لم يدفع له المبلغ مما دفع الرجل الى الاحلاف وهم عبد الدار، مخزوم و سهم فاجتمعوا في دار (عبد الله بن جدعان) وتعاهدوا واقسموا على نصرة المظلومون أي تعاهدوا على ان لا يجدوا بمكة مظلوم من اهلها او من غير اهلها الا نصروه حتى ترد مظلوميته.
وبعد مجئ الاسلام استمر العرب فى القسم كما جاء ذلك في سور وايات القران الكريم حيث اقسم بالطبيعة: (والشمس وضحاها والقمر اذا تلاها) وكذلك: (والسماء والطارق والنجم الثاقب) وكذلك القسم بالثمار المعروفة مثل: (والتين والزيتون)، (نون والقلم وما يسطرون) وغيرها كثيرة.
ونقرأ للشاعر (ابو صخر الهذلي) الذي توفي في عام (80 هـ) بيتا من قصيدة له فيها خمسة انواع من القسم يقول:
اما والذي ابكى واضحك والذي
امات واحيى والذي امره الامر
***
غريب دوحي

 

لا توجد في الأدب شخصية (أب) أكثر مأساوية من "غوريو البالزاكي"، العجوز المحتضر في عزلته، الذي قدّم كل شيء لبناته، ورغم أنه صحيح دللهن بشكل كبير، إلا أنه لا يوجد قارئ على الأرجح سيقول إنه استحق مثل هذا المصير.

بطل رواية "الأب غوريو" للكاتب "أونوريه دي بلزاك"، كان رجلًا غنيًا جدًا في السابق، حقق ثروته خلال الثورة الفرنسية عن طريق المضاربة في المواد الغذائية عندما ارتفعت أسعارها بشكل حاد، عمل بجد لتأمين مستقبل آمن لأسرته، وبعد وفاة زوجته الحبيبة، وجه كل حبه لبناته. كان يلبي جميع رغباتهن ولم يبخل بالمال على تربيتهن. استأجر أفضل المعلمات اللاتي اهتممن بتعليم "آناستازيا" و"دلفين" وتدريبهما على آداب السلوك، كما ضمن لهما "غوريو" مكانة اجتماعية مرموقة. تزوجت "آناستازيا" من رجل يحمل لقب بارون، بينما تزوجت "دلفين" من مصرفي ثري. وكان دخول البنات إلى مجتمع النخبة في فرنسا في القرن التاسع عشر هو السبب في هلاك الأب "غوريو".

كونه مجرد تاجر بسيط، لم يكن مناسبًا تمامًا لدوائر أزواج بناته الاجتماعية، لم يستطع التصرف بشكل لائق في هذه الأوساط، وكان أصله المتواضع وقلة معرفته بالايتيكيت مصدر إزعاج ليس فقط لأزواج بناته، بل لبناته أنفسهن. أصبح وجوده غير مرحب به في منازلهن، ولم تعد بناته يزرنه إلا عندما يواجهن مشاكل مالية. وعلى الرغم من أن كلتاهما حصلتا على مهور كبيرة من والدهن، أكبر بكثير من المبلغ الذي احتفظ به لنفسه لتأمين مستقبله، إلا أن أموالهن كانت في أيدي أزواجهن. وبما أنه لم يبخل يومًا على "آناستازيا" و"دلفين" بالمال لتلبية رغباتهن، حتى الأكثر فخامة، ولأن "الظهور في المجتمع" – كما هو معروف – يفرض ارتداء أفضل الأزياء وأغلى المجوهرات، فقد طلبتا مرارًا من والدهما إنقاذهما عندما تقعان في الديون. لم تكن "آناستازيا" فقط تستنزف الأموال من والدها لنفسها، بل أيضًا لعشيقها المدمن على القمار. وكان "غوريو"، الذي أعمته محبته لبناته، قد أنفق أولاً مدخراته، ثم رهن مجوهراته، وتخلى عن معاشه الضئيل الذي كان يملكه، ليصبح في النهاية شخصًا معدمًا.

مات في عذاب رهيب، ليس فقط الجسدي، رغم أن الألم كان يمزق رأسه، بل أيضًا النفسي، لأنه أدرك أخيرًا ما كان يعنيه لأولئك اللواتي أحبهن بصدق وتفانٍ طوال هذه السنوات، كانت رغبته الوحيدة هي زيارة بناته. فقط هن كن قادرات على تهدئة معاناته. لكن للأسف، لم يحدث ذلك. مات وهو مقتنع أن بناته اللواتي أحبهن بشدة وكرس لهن كل ما يملك، لم يستطعن أبدًا أن يظهرن له الامتنان. لم يحببنه.

لم يكن الشهود على عمق معاناة الأب غوريو "ملائكة"، بل أشخاصًا عاديين لديهم العديد من الخطايا، من بينهم الطالب "أوجينيو راستينياك"، الذي لم يكن لديه أي تردد أخلاقي في قبول دور العاشق والمُعال "لدلفين". ومع ذلك، فإن موقف بنات الأب "غوريو" تجاه والدهن الذي أحبهن بلا حدود هزّه بعمق. كان يهتم بالشيخ برفق، وبذل كل ما في وسعه حتى اللحظات الأخيرة لإحضار بناته وتهدئة ألم والدهن المُهان. كان جميع شهود وفاة الأب "غوريو" مقتنعين بعدم إنسانية بناته: الطبيب الشاب "بيانشون"، وسكان وخدم منزل السيدة "فوكر".

لا أعرف قارئًا لرواية "بلزاك" لم تهزه النهاية الحزينة للأب "غوريو". لماذا؟ ليس فقط بسبب الاعتقاد بواجب إظهار الاحترام تجاه الوالدين، بل بسبب الاعتقاد بواجب الامتنان، الذي يرتبط بعمق الاحساس بالظلم.

عندما نقبل أي هدية، فإننا نلتزم بشكل ما بالاعتراف بها، وشكر من قدّمها، وبقدر الإمكان رد الجميل. لكن للأسف، يجد الناس أحيانًا صعوبة حتى في الاعتراف بأنهم تلقوا أي شيء من شخص ما. تصرف بنات "غوريو" كما لو أن كل ما قدّمه لهن والدهن كان حقًا مكتسبًا. بدا أنهن لم يفهمن تمامًا الوضع الذي كان يمر به، وعلى الرغم من أنهن كنّ يشاهدن تدهور حالته المعيشية باستمرار، إلا أنهن لم يتوقفن عن طلب الدعم المالي، دون أن يقدمن له أي شيء بالمقابل، حتى ولو قليلاً من الدفء أو العناية. إن هذا الجحود الواضح هو ما يثير الغضب الأخلاقي لدى القراء.

بالعودة إلى قصة الأب "غوريو"، يمكن القول إنه لم يكن ليعاني هذا القدر من التعاسة لو علّم بناته فضيلة الامتنان، وكما تُظهر الأبحاث الحديثة في مجال علم النفس الإيجابي، فإن هذا كان سيجعل بناته أكثر سعادة أيضًا.

تشير العديد من الدراسات التجريبية إلى أن الشعور بالامتنان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالإحساس بالسعادة الشخصية والميول للسلوكيات الاجتماعية الإيجابية، ومن المثير للاهتمام أن الأشخاص الذين يستطيعون الشعور بالامتنان تجاه الآخرين وتجاه الحياة بشكل عام، يتمتعون بقدر أكبر من الطاقة الحياتية ويكونون ببساطة أكثر صحة. إنهم يشعرون بمشاعر إيجابية أكثر من السلبية، يميلون إلى التسامح، ويفهمون الآخرين بشكل أعمق، يشعرون بغيرة أقل ولا يحملون الكراهية. هؤلاء الأفراد يتسمون بالتعاطف ويميلون إلى مساعدة الآخرين، مما يجعلهم أكثر قبولًا لدى الناس، ويزيد ذلك من ثقتهم بأنفسهم.

فكم من أب "غوريو" يعيش بيننا اليوم، وكم يلزما حتى نكون ممتنين.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

يولد الحُبّ في لغة القلب، وهي من أصدق وأعذب اللغات في العالم. يترجم القلبُ كلَّ لغات الحُبّ وكلماته المتنوعة في مختلف اللغات بمعنى واحد، لا يرى الإنسانُ في كلمات الحُبّ بكلِّ اللغات إلا الضوء. الحب يعيد إنتاج الذكريات وكأنها ضوء يخلِّد أجمل ما يمكث من الإنسان، الحُبّ يوقد جذوة الضوء في القلب، القلبُ الذي يعيشُ الحُبّ لا يدركه الوهنُ، ولا ينهكه تقدمُ العمر. مَن يتعلم الاستثمار في الحُبّ يرى الضوء بمن يتعامل معه، ويجعل حياته أسهل، وعيشه أسعد، ويظفر بجذوة الروح وبهجتها.
الحُبّ الأصيل يعنى كون الإنسان المحبوب يمتلك ضميرًا أخلاقيًّا يقظًا، هذا الضربُ من الحُبّ لا يرهقه فعلٌ مهما كان شاقًّا، بل يجعل كلَّ شيء عذبًا، وإن لم يكن في ذاته عذبًا. ما أعنيه هو الحُبّ الأخلاقي الأصيل غير المشروط، الحُبّ الذي يبادر فيه كلٌّ من المحبَّين بالعطاء بلا أية مقايضة أو استرداد لما أعطى، ويكون مَن يُحب مستعدًا لتقديم كلِّ شيء بلا أن يمنّ بما أعطى. أتحدثُ عن الحبِّ الأصيلِ الذي يحميهِ سياجٌ أخلاقي، لا أعني بعضَ الأخلاقِ الكلاميةِ والفقهيةِ المضادةِ لما يحكمُ بهِ العقلُ الأخلاقي1. الأخلاقُ هنا بمعنى العقلِ العمليِّ، وهي ما يُحسِّنُهُ ويُقبِّحُهُ العقلُ الأخلاقي.
الحُبّ الأخلاقي الأصيل ضرب من الامتنان والإكرام، مَن يحبّك يكرمك ويعبر عن امتنانه العميق لك. الحُبّ المشروط مُشبَّع بالمن لا بالامتنان، والإكراه لا الاختيار، والفرض لا التطوع، والتكلف لا المبادرة، مما يجعله ضربًا من الاستعباد. يتحول الحُبّ المشروط بمرور الأيام إلى قائمة مطالب لا تنتهي، تتراكم وتضاف إليها كلّ يوم مطالب جديدة، حتى يشعر الإنسان أنه يتعرض إلى عملية ابتزاز تستنزفه وتنهك قلبه، وتعبث بسلامه الداخلي.
الحُبّ الأصيل يخفضُ وتيرةَ الخوف والقلق، ويحرّر الإنسانَ من الاكتئاب وفقدان المعنى. الحُبّ الأصيل مُلهِمٌ، الاستبصاراتُ الحاذقة يُلهمُها الحُبّ، استفاقةُ العقل يُلهمُها الحُبّ، العفو والغفران والرفق واللطف يُلهمُها الحُبّ. لا يتوقف فعلُ الحُبّ عند القلب والعواطف، بل يظهر أثرُه بشكل واضح في توجيهِ بوصلة التفكير وغاياته في العقل، وبناءِ رؤية جمالية لله والإنسان والعالَم، واثراءِ الشعور بسحر تجليات الجمال في الوجود، وإيقاظِ البهجة في أعماق الإنسان. الحُبّ ينقذ الإنسان من الاغتراب الاجتماعي، ويخفض الاغتراب الوجودي. اكتشاف الحُبّ الأصيل من أثرى اكتشافات المعنى الجميل الملهم لحياة الإنسان.
في مراحلِ عمر الإنسان كلّها، وبتنوّعِ دروب حياته، واختلافِ أنماط عيشه، وتجّددِ احتياجاته ومصالحه، وتضاعفِها، أو تضاؤلها، يظلّ الحُبّ أعذبَ منابع المعنى في حياته. لن يتراجع الأثرُ المُلهِمُ للحب مهما تقلبت أيامُه واختلفت. يلبث الإنسانُ حتى اللحظات الأخيرة من عمره بأمسّ الحاجة إلى كلمةِ حب صادقة، وضوءِ قلبٍ محب، ومحبةِ روحٍ مشفِقة. جوهرُ المحبة ضوءٌ يكشفُ تجلياتِ جمال المُحِب والمحبوب. محبّة خلق الله من أعظم النعم الإلهية، هذه النعمةُ يفتقر إليها بعضُ الناس الذين يتظاهرون بالتديّن. أعرف بعضَهم يدمن الطقوسَ والشعائر، لكنه يعجز عن المبادرةِ بأيِّ موقفٍ جميل أو فعلٍ أو كلمة تجسِّد محبتَه للناس.
القلوب مرايا؛ عندما يكون الإنسان سخيًّا بكلمة الحُبّ الصادقة يمتلك قلوب الناس السليمة من الأمراض الأخلاقية، ويسهم في مداواة النفوس المصابة بأمراض نفسية. المحبة الصادقة هي رصيد العلاقات الإنسانية المثمرة، يكرسها العمل المتواصل على اكتشاف المشتركات العاطفية والأخلاقية والإنسانية مع الآخر، مع التغاضي عن الاختلافات الاعتقادية والأيديولوجية والفكرية والمزاجية، وتجاهل الكلام والمواقف والثرثرات المزعجة، وعدم التدخل في الخصوصيات الشخصية، إلا إذا بادر الآخر بإخبارنا بمشكلة في حياته الخاصة وطلب منا التدخل والدعم بشأن خاص به، يدعونا العيش بسلام إلى أن نكفّ عن ملاحقة عثرات وأخطاء الآخرين. لو رأينا أعماق الإنسان كما هي لأصابنا الذعر؛ الحُبّ هو الحالة الوحيدة التي تجعلنا نرى الإنسان كما يراه الله بنوره ورحمته التي وسعت كلَّ شيء. الإنسان الذي يمتلك القدرة على الاستثمار في الحُبّ وتذوق تجليات الجمال في العالم لا يدركه الهرم. يضيع الإنسان، حتى وإن ظفر بكلِّ شيء، عندما يضيع عليه الطريق إلى الحُبّ الأصيل في حياته.‏
الإنسانُ منذورٌ للحُبّ؛ يولد وتولد معه الحاجةُ الأبدية للمحبّة، الرضيع يتشبث بأمه ليل نهار، لا يطلب رضاعة الحليب فقط، بل يرتضع المحبة ودفء حنان الأم وحميميتها وشفقتها. وإن كان لا يستطيع في تلك المرحلة العمرية التعبير عن ذلك بالكلمات، فإنه يعبر عنه جسديًّا برغم عجزه عن التعبير اللغوي. كلمات المحبة الصادقة، الصادرة من إنسان يتقن صناعة المحبة الأصيلة والاستثمار فيها، تبعث الطمأنينة في القلب والسكينة في الروح. عندما يفتقر الإنسانُ إلى المحبة، يشعر كأنه يعيش في منفى كئيب داخل أسوار مدينة موحشة، لكن حين يعثر على منبع للمحبّة، يسترد ما يفتقر إليه من سكينة وطمأنينة تصيّر عيشَه عذبًا.
مادام الحُبّ أثمنَ ما يظفر به الإنسانُ من المعاني وأغلاه، فإن نيلَه يتطلب معاناةً شاقةً وجهودًا مضنية. الحُبّ ليس صعبًا فقط، بل هو عصيٌّ على أكثر الناس، لا يسكن الحُبّ الأصيلُ إلا الأرواحَ السامية، ولا يناله إلا مَن يتغلّب بمشقةٍ بالغةٍ على منابع التعصّب والكراهية والعنف والشر الكامنة في أعماقه. حُبّ الإنسان من أشقِّ الأشياء في الحياة، لأن الإنسان بطبيعته أسيرُ ضعفه البشري، يصعب عليه أن يتخلّص من بواعث الغيرة في ذاته، وما تنتجه غيرتُه من منافساتٍ ونزاعاتٍ وصراعات، وما يفرضه استعدادُه للشرِّ من كراهياتٍ بغيضة، وآلامٍ مريرة2.
كما أنَّ أخطرَ شيءٍ على الفكرِ والأدبِ هو عبادةُ الأصنامِ الفكريةِ والأدبيةِ، فإنَّ أخطرَ ما يفتكُ بالقلبِ هو تحويلُ المحبوبِ إلى صنمٍ. الحُبُّ يُغذِّي النرجسيةَ ويُشبعُها، وأحيانًا يُضخِّمُها إلى درجةٍ تُفسدُ الحُبَّ، حين يُسرفُ بعضُ المحبين في الثناءِ على ذواتِهم، ويفرطون في استعمالِ كلمةِ "أنا" بشكلٍ مبتذل، وتكرارِ الإعلانِ المُثيرِ عن مزاياهم وما يتفوَّقون به على غيرهم، بأسلوبٍ تسودهُ كثيرٌ من المبالغاتِ وحتى الأكاذيب. ويظلُّ بعضُهم يُلحُّ، داعيًا حبيبَهُ للإصغاءِ إليهِ في كلِّ مرةٍ يثرثرُ بهذهِ الكلماتِ المُملّة، ولا يسمحُ لهُ بالتحدثِ عن ذاتِه، وكأنَّهُ يُبلغهُ برسالةٍ مفادها التفوّقُ عليهِ وعلى غيرِهِ، حتى يشعرَ مَن يُنصتُ إليهِ بالاشمئزازِ من الحديثِ وتنضبُ روافدُ التواصلِ معهُ بالتدريج.
***
د. عبد الجبار الرفاعي
.......................
1- راجع "البنية الكلامية والفقهية للأخلاق"، الفصل الخامس من كتابي: "الدين والكرمة الإنسانية".
2- الرفاعي، عبد الجبار، الدين والكرامة الإنسانية، ص 114، ط 2، 2022، دار الرافدين، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد.

يقال أن الزمن مصاب بمرض مزمن، ولكن لا احد يحس بهذا المرض وبأعراضه، وهم كثيرون، أما القلة القليلة فقد أدركوا العلة الكائنة فيه. ولكن، نسي الناس هذه العلة ولم يعد لديهم ما يغوصون من أجله للوقوف على حقيقة الزمن الذي يمضي بخطوات متسارعة ولا احد يحصي خطواته منذ الولادة وحتى انتهاء الأجل .
ورغم أن هذه الخطوات معدودات في عرف الكائن البشري، إلا أنها لا تحصى في عرف الزمن السرمدي اللآنهائي، فهل هناك سرطان يعاني منه الزمن البشري حسب الفيلسوف الإيرلندي المهاجر الى فرنسا "صموئيل بيكت".؟
يقول بيكت أن الزمن مصاب بـ(سرطان العادة والروتين) ولكنه لم يشر إلى أي زمن، هل هو زمن الكائن البشري أم الزمن السرمدي الذي ليس له حدود.. فالعادة والروتين علتان متلازمتان تتعاملان بصورة تراتيبية طاحنة في زمن الكائن البشري، وتختفي ملامحهما تماماً في الزمن اللآنهائي.. فهما ، زمن تحت الإحصاء، وزمن سرمدي من الصعب أن يخضع للحسابات أبداً.
تلآزم العادة والروتين زمن الكائن البشري، ولكنه لا يحس بأنه مقيد، وحين يدرك طبيعة تكرار العادة في مسار الروتين، فإنه قد ينتفض مذعوراً يفتش عن مخرج للإنقاذ نحو التجديد والتحديث أو إعادة صياغة المكرر ولكن سرعان ما يفقد وهجه تحت خيمة التكرار الذي يتحول إلى عادة لا تغير شيئاً.
فالعادة والروتين اللذان يتلبسان الكائن البشري هما إشكاليتان ذهنيتان لا تظهران للجميع في اطار فلسفة التحدي والإستجابة .. فالتحدي يتوجه الى الجهة الكامنه في الذات الانسانية لكي تستيقظ ، كما أن في داخل كل كائن بشري، كما يقول بيكت، جزء لا يحبه فيه ولا يفصح عنه ويتمنى ان يتخلص منه. وهذا يخلق توتراً من شأنه أن يضعف ذلك الجزء ولكن لن يقضي عليه، الأمر الذي يبقي التوتر مستمراً طالما ظل الإدراك هو الآخر يراقب مسرى العادة والتكرار في زمن هذا الكائن.
ويبدو ان الشعور بأزمة العادة والروتين هو علة السلوك الإنساني التي تفصح عن العادة التي تتحول الى روتين قد يثقل وقد يدفع الى التغيير ومن ثم الدوران في حلقة التكرار المفرغة من جديد.
الأكل تكرار فيه والشرب تكرار والنوم تكرار والجنس تكرار والعمل تكرار ولا مفر من التكرار حيث ثقل العادة التي تتحول الى روتين، بعضه ممل وبعضه قاتل ببطأ والبعض الآخر استسلام بحكم الواقع.
التجديد والتغيير هما المعول الذي يهدم اسوار التكرار بطريقة تحديث الأنماط التي تفرضها العادة ،ولكن هل يتخلص الكائن البشري من عودة التكرار بثوب جديد..؟
***
د. جودت صالح
15/ تشرين الثاني 2024

 

تتعرض الفلسفة والاقسام الفلسفية في الوطن العربي إلى مرحلة يمكن تسميتها بالركود، وذلك لقلة عدد المتقدمين الدراسة في هذا القسم العلمي، ‏وقد يعود ذلك إلى عدم تجديد المناهج الفلسفية أو التقدم التكنولوجي التي بدأ بتقديم الصور أخرى بديلة عن الصور الفكرية، أو قد يعود ذلك إلى عدم تدريس هذه المادة بشغف فلا تكون محبوبة عند الكثير من الطلبة، أو ربما السبب إلى عدم تدريس هذه المادة قبل المرحلة الجامعة فيما يتعلق مرحلة الإعدادية.
‏وايا ما كانت الأسباب فنحن أمام مسألة تقويض لهذا الدرس الفلسفة في العراق والوطن العربي، المسألة لا ترتبط بوظيفة الأستاذ الجامعي الذي يقوم بتدريس الفلسفة بل لها علاقة بالبنية التحتية لكل مجتمع والذي يعني جانب الفكر ي وتخطيطاته.
‏وأعتقد بأننا اساتذة الفلسفة في الوطن العربي والعالم مطالبون بتقديم البدائل أو الأفكار التي تساعد على استمرار درس الفلسفي وعدم ذهاب هذا الشغف بالنسبة للطلب متخرجين من المرحلة الإعدادية.
‏ونحتاج بكل تأكيد إلى عقد جلسات العصف الفكري وأدوات للخروج بمقررات يمكن لها أن ‏تعيد بوصله الدرس الفلسفي .
‏ومن الأفكار التي يمكن طرحها في هذا المجال:
1- ‏العمل بإحياء مفهوم الفلسفة التطبيقية وذلك بأن نقسم مراحل الدراسة الفلسفية في الجامعات إلى قسمين الأول يتعلق بالدراسة الفلسفية الخالصة وتكون من مرحلتين هي الأولى والمرحلة الثانية بالنسبة للطلبة .
2- في المرحلة الثالثة والرابعة يخير الطلبة بين إكمال الجانب النظري للفلسفة النظرية الخالصة لما تبقى من مراحل القسم الفلسفة وهي المرحلة الثالثة والرابعة أو الاكمال في اتجاه خاص يعد له منهج يسمى (الفلسفة التطبيقية).
3- ‏وعلى هذا النحو يكون لكل قسم في المرحلة الثالثة والرابعة اتجاهين الأول هو الفلسفة النظرية والثاني هو الفلسفة التطبيقية أو العملية.
4- ‏بالنسبة للفلسفة النظرية فهي تعتمد على ما تعودنا عليه من مناهج سابقة تتعلق بنظرية المعرفة والفيزياء والمنطق والأخلاق والجمال وبقيت محاور متفلسف الدين والسياسة والتاريخ ووسائل أخرى.على يكثف الجانب النظري ويترك الجانب العملي التطبيقي ليدرس في مرحلة الفلسفة التطبيقية .
5- أما الفلسفة ‏التطبيقية لمن اختارها في المرحلة الثالثة والرابعة فنضع لها منهجا، نمهد له بتحليل العلاقة بين الجانب النظري والتطبيقي في الفلسفة، وهو يتكون من الآتي:
ا- الأخلاقية التطبيقية: ‏وهي تشمل أخلاقيات البواتيقا، أخلاقيات البيئة، ‏ الاخلاقيات والجانب الإلكتروني .تطبيقات النظام الاخلاقي للفلاسفة .
ب- المادة المنهجية للفلسفة التطبيقية .
ج- فلسفة العلم التطبيقية (الفلسفة والتكنلوجيا، قوانين الطبيعة، ادلة اثبات الله، مادة فلاسفة العلم، مادة مشتركات الفلسفة وعلم النفس،
د-تطبيقات فلسفة التاريخ والاجتماع والسياسة .
هـ- المنطق والرياضيات وتطبيقاته( المنطق الضبابي، الفضاء السبراني،الخوارزميات، المنطق والرياضيات،تطبيقات المنطق الاحصائي لكارناب )
و- الدراسات المستقبلية، فلسفة النظم وعلم المستقبل،
ز- فلسفة اللغة التطبيقية
ح- تطبيقات الفكر الاقتصادي
ط- مفاهيم حقوق الانسان والحوار
ي-الادب الفلسفي التطبيقي
ملاحظات:
1- وفق المخرجات الفلسفية الجديدة المبنية على هذا المنهج سيتم العمل على مفاتحة الوزارة واولي الامر بضرورة توظيف طلبة الفلسفة لحاجة المجتمع الماسة الى الجانب الفكري التطبيقي الذي تعلمه الطلبة .وذلك بعد عقد جلسة تشاورية وورشة عمل مشتركة بين الاقسام الفلسفية المناظرة في العراق .
2 - لا يجب ان يحصل تمييزا بين طلبة الجانب النظري والعملي في التعيين .
3- يمكن تطبيق هذا المنهج على طلبة الدراسات العليا من الماستر والدكتوراه .
4- تتم الاستفادة من المخرجات والبحوث التطبيقية المهمة في بناء قضايا المجتمع الهامة .
5- تحول هذه البحوث التطبيقية الى الدولة و الوزارات كافة بوصفها علاجات او شبه علاجات لازمات المجتمع.
6- على الدولة او الحكومة تنشيط الدرس الفلسفي، وعدم تركه فريسة سهلة للتقدم التكنلوجي او الانترنت او الذكاء الاصطناعي .
7- ضرورة العدالة في تعيين الطلبة، وضرورة تدريس الفلسفة بمنهج مختلف جدي في المرحلة الثانوية، وان تعدل مناهج الفلسفة وفق جدية التحديات، وتراجع الدرس الفلسفي .
8- على اساتذة الفلسفة الايمان بدرسهم الفلسفي وبموادهم وتقديم الافضل، وتدريس الفلسفة بطريقة اقرب الى المحبة منها الى الدرس الجامد .
9- اعتقد انه لا جدوى من الحضارات او الدول التي تنحسر فيها الفلسفة، او يقدم كل شيء ما عدى الفكر فيها.
***
ا. د. رحيم محمد الساعدي – أستاذ فلسفة / الجامعة المستنصرية

وجد الموضع المعروف اليوم باسم العراق كبؤرة تحولية كونيه ما فوق ارضوية، متعدية للطاقة العقلية البشرية، وللمتاح للكائن البشري في حينه والى اليوم من قدرة على الاحاطة، تظل بمثابة قصورية غالبة على الكينونه والديناميات المجتمعية التاريخية على امل التخلص من وطاتها، وقت تكتمل العملية المجتمعية البشرية، بتوفراسباب ومتطلبات ماكان وظل ينتقص كينونتها بداية، واستمر يحول دون ايفائها بمنطواها وماهي مهياة له، ومكلفة بادائه، ماقد ظل خافيا مطويا غير مكشوف عنه النقاب على مر القرون، مادام الطور الانتاجوي اليدوي سائدا، والمجتمعية الاحادية الارضوية الحاجاتيه الجسدية بناء عليه هي الغالبة، اتفاقا مع ماكان من اشتراطات وممكنات.
ومع ان الظاهرة المجتمعية حين تبلورت ابتداء في الشرق المتوسطي نهرينيه، اولى مجتمعية نهرين، تقابلها مجتمعية نهر واحد، مختلفتين اختلافا كليا نوعا ونمطية، فان ماعرف وظل يعرف منهما واحد وحيد هو النمطية الارضوية الاحادية، مهما لوحظ من اختلافات او تكرر من الشواهد الدالة على التباين، فما دام العقل محكوما لحدود بعينها من الادراكيه غير قابله للتجاوز فان هذا يصير هو من يخلق بداهة وتوهما، الظاهرة التي يعيش بين جنباتها او يلاحظها عن بعد، وعلى العموم فان مسالة النمطية المجتمعية ماكانت مطروحه اصلا الامنذ امد قصير، فلم تلاحظ يوما علاقة المجتمع بالبيئة ومفاعيلها على تبدلها كما هو الحال مابين حال ارض النيل حيث التوافق بين النهر عمود الانتاجية الفقري، وتناغم فيضا نه مع الدورة الزراعية زائدا الحماية التي تؤمنها الصحاري شرقا وغربا، والبحر شمالا للشريط المسكون على ضفتي النهر ومايترتب على المذكور من توافقية انتاجيه مجتمعية، تتجسد في الدولة والكيانيه / الوطنيه/ فرعونها اله يكرس نوع مجتمعية الدولة الاحادية السكونية التكرارية بلا اصطراعية داخليه.
بالمقابل تتبلور مجتمعية مابين النهرين ضمن اشتراطات الطرد البيئي القصوى، مع النهرين المدمرين العاتيين ومعاكستهما للدورة الزراعية، وفيضاناتهما المدمرة واجمالي البيئة المعاكسه الناظمة للحياة، بما يجعل الانتاجية نوعا من الاحتراب تنتزع فيه اللقمة من فم الوحش الكاسر، ما لايترك للعوامل الحاجاتيه البشرية العادية سطوه بذاتها، ويفرض البحث عن معادل لسطوة ظروف العيش على حافة الفناء، بتوجه العقل والاحاسيس الى صناعة المعادل الانقاذي اللاارضوي من خارج الارض، وصولا الى التالهية والسماوية المفارقة لموضع الوجود المفروض والمدمر، مامن شانه صياغة نمطية معاشية تتحول الى كينونه، فلا مجال هنا للتجسد الكيانوي المحلوي، ولا للتمايزية السلطوية والتملكية مع قوة فعل الحاجة القصوى للتضامنيه المساواتيه، واحلال الحكم الاختباري كضرورة على الاشخاص ومكانتهم، لااي حكم مسبق او اعتباري، بما يجعلنا امام نمطية مجتمعية مختلفة لاارضوية الاتجاه، الماوراء كنزوع هو حقيقتها الواقعية المطابقة، ومحدد نوعها ككيانيه متعدية للكيانوية، كونية بنية وجوهرا، مايعني وقائعيا ان الظاهرة المجتمعية تنشأ ابتداء مجتمعيتين،"وطنيه" كيانوية محلوية، و"كونيه" متعدية للوطنية والمحلوية بمختلف اشكالها.
ولاتتوقف ظاهرة المجتمعية اللاارضوية عند ماذكر من حدود مع فرادتها وصغر حجمها، المحصور ابتداء في ارض السواد، بدأ اصلا في ارض سومر جنوبا، فاللاارضوية نمطية كونيه تتجلى بناء على، وبحسب ماهي عليه نوعا لاارضويا، وجوده وديمومته ليست مشروطة بالارضوية الجغرافيه، ومايتطلبه العيش الحاجاتي الجسدوي، خارج مفعول المعاكسة البيئويه القصوى، بالاخص ابان الطور اليدوي من التاريخ المجتمعي.
ولا يتوقف تشكل الكيانيه المجتمعية اللاارضوية هنا، فاللاارضوية ليست نتاج التصادم مع البيئة وحسب، وهذا الجزء الاصطراعي الابتدائي ينتهي بعد عشرات القرون الى اكتمال بنية وكينونه اللاارضوية نمطيا، لياتي دورالعامل الثاني الاساس، فالمكان الرافديني كما اشرنا في الحالة النيلية موضوع ضمن ظروف مخالفة كليا، فجنوب ارض الرافدين هو مصب للسلالات والامم على مر التاريخ من الجهات الثلاث، الشرقية، الغربية، والشمالية من الجبال الجرداء والصحارى باتجاه ارض الخصب، مايوجد اليات اصطراع قصوى، ويضع الديناميات المجتمعية في القمة، وهو ماينجم عن ميل النازلين من الاعلى الى الحاق ارض السواد وسومر والسعي لاخضاعها وضمهما كما هو معتاد ومتعارف عليه، وكما هي مفاهيم النازلين الارضويين للغلبة والسيطرة، مايولد من ساعتها حالة اصطراع لاتنتهي، تظل غير موعاة من ناحية الاسباب والمحركات، بالاخص من لدن الطرف الارضوي الذي يظل يحاول ويمارس الغزو الداخلي المكلف والمستحيل لانه افنائي، لايمكن ان يحقق اغراضه بوجود المجتمعية اللاارضوية الراسخه نوعا والمتشكلة على مدى القرون، الى ان يبدا الطرف النازل الغازي بالاقتناع باستحالة مايرغب به ويريد تحقيقه، فيميل وقتها الى التصرف بصفته "آخر"، ووقتها تقام "الامبراطورية المدينيه" خارج ارض السواد وسومر، على اطرافها العليا، داخل مدن معزوله منيعه ومسورة بامتن اشكال الاسوار، تمارس اذا ارادت غزوها الداخلي ثم تعود الى ماوراء اسوارها الحصيلة، من دون اي تفاعلية مع ماتحتها وخارجها الذي يظل محكوما لقوانيه من دون اعلان كياني، وهو الحال الذي تجسده باعلى الاشكال نموذجية بحالة كل من "بابل" و"بغداد".
ومع ان الطرف الاعلى النازل يظل بقدر مايمكنه ومامضطر له الى اللجوء للغزو الداخلي، الاانه يتحول مع الوقت متغيرا عما كانه ابتداء يوم وصل الى حواف ارض مابين النهرين، ليصبح مجتمعية اصطراعية ازدواجية، تحكمها آليات ومحركات اصطراعية كونيه، سرعان ماتجد الحل في النزوع الامبراطوري، بالعودة الى الخلف، ابتداء من سرجون الاكدي اول امبراطور ازدواجي في التاريخ، لا احادي كما حال الامبراطوريات الارضوية الشرقية والغربية الاوربيه بل ك " حاكم لزوايا الدنيا الاربع" كما صرح بعد احتلاله من نقطة بنمتهى الصغر جنوبا :عيلام شرقا، وساحل الشام والاناضول، وعبر البحر الى جزيرة كريت.
هكذا تتشكل كيانيه "الازدواج" واصطراعيتها الكونيه، حيث لاوجود لمايسمى المجتمعات الوحيدة الاحادية، كما كان يعتقد قبل العصور الحديثة بخصوص الازدواج الطبقي، قبل الاكتشاف المتاخر للصراع الطبقي الاوربي، بغض النظر عن محاولات تعميمه واعتباره قاعدة شامله بحكم استمرارالمنظور الاحادي الارضوي وغلبته الطاغية الناجمه عن الانقلاب الالي الاوربي ومترتباته وعيا وواقعا.
ولن يتوقف الامر عند مانتج عن الاصطراعية النوعيه المجتمعية من ظاهرة "الامبراطورية الازدواجية"، فاللاارضوية لاتتوقف في غمرىة اصطراعها مع "المدينه الامبراطورية" مكتفية بذاتها، بالاخص مع احتدام الاصطراعية المستمر، وتعاظم الطاقات والممكنات الافنائية لدى الطرف الاخر، وهو ماتظل تسعى اليه مدن الامبراطوريات بداب وبقدر ماتستطيع، مايحفز بالمقابل اسباب الحضور المضاد اللاارضوي الكوني، ويؤدي الى تبلور المنظور الاساس السماوي التالهي الابتدائي، متحولا الى النبوية الحدسية الكونيه وهو ماقد تمثل واقعا ب"الابراهيمه" المتحققة بطريقتها وحسب نوعها"امبراطوريا لاارضويا" متلائما مع اشتراطات تبلوره ضمن الغلبة المفهومية اليدوية الارضوية الاحادية.
***
عبد الأمير الركابي

ومضات ثقافية (1)

يقول المفكر الامريكي نعوم تشومسكي: "ان معظم تاريخ المثقفين يميل للخنوع للسلطة، واذا لم أخن هذا العرف سوف أشعر بالخجل من نفسي".
ويقول احمد مطر مخاطبا الاعلاميين: احذروا ان تعبثوا بالحقائق، واحذروا بلع اطراف الحروف، فالكلمة حساسة جدا، يمكن تحويلها بلمسة بسيطة غير مسؤولة، من اداة إحياء الى اداة قتل، ان عبئا بكلمة "اعلام" يحولها ببساطة الى "إعدام" !
ويقول ستيف بيكو: اقوى سلاح بيد القامعين هو عقول المقموعين !
ويقول الفيلسوف الكندي آلان دونو في كتابه " نظام التفاهة ": العالم يبرمج بكليته نحو التفاهة وتزييف الحقائق، لنتخيل عالم يقوده حفنة من الحقراء، انهم يتفهون القيم الانسانية والثقافة النزيهة، ببهرجة تسويقية فائقة التسطيح، ويجعلون من النخب دمى تدمن الانتهازية وتتهافت للحاق بركب العرض والطلب، فيسود الادعاء وينحرف الشرف الاكاديمي والثقافي النبيل لمصلحة الخسة والابتذال !
اما المفكر الايطالي غرامشي فقد توصل الى: أن قدرة اي طبقة اجتماعية على الصعود وتحقيق الهيمنة على المجتمع تكمن في قدرتها على تكوين مثقفين عضويين مرتبطين بها، وبالتالي ضرورة الهيمنة الثقافية من اجل نجاح اية سلطة، فتفوق اي مجموعة اجتماعية يظهر عبر طريقتين، سيطرة وقيادة فكرية، ووجدانية !
وقال الفيلسوف جورج لوكاش في كتابه " التاريخ والوعي الطبقي": ان دور الوعي بالذات يوازن قوة القوانين الموضوعية التي تحكم التاريخ، بل يتفوق احيانا على فعلها، وقد وجه باهمية الوعي النقدي للراسمالية التي تجدد استبضاعها لمجمل النشاط البشري وتحديدا الفعل الثقافي والمعرفي ناهيك عن الاجتماعي الاقتصادي، فتحويل البشر ووعيهم الى اشياء يمكن تبضيعها يحط من انسانية البشر وقيمهم الثقافية بما يخل بسويتها الحرة لمصلحة الاغتراب الكلي الذي يجعل من البشر مسيرين بفعل قوانين السوق نحو التشيء !
في اعقاب اغتيال غسان كنفاني 1972 قالت غولدا مائير رئيسة وزراء اسرائيل وقتئذ: اليوم تخلصنا من لواء فكري مسلح !
وقال محمود درويش عن عطاء كنفاني الثقافي والفكري: لدى قراءة كنفاني اليوم نكتشف اولا ودائما، انه في عمق وعيه كان يدرك ان الثقافة اصل عدة اصول للسياسة، وانه ما من مشروع سياسي دون مشروع ثقافي !
جوزيف غوبلز وزير الدعاية اثناء الحكم النازي نموذجا مثاليا لما يمكن ان يؤديه الانحراف الفكري والتنظير الكاذب من ادوار خطيرة يكون لفعلها أعمق الاثر في العقول لتقاد الجموع كالقطعان نحو الجحيم، من اشهر مقولاته: كلما كبرت الكذبة سهل تصديقها، اعطني اعلاما من دون ضمير اعطيك شعبا من دون وعي، اكذب واكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس !
***
جمال محمد تقي

 

في الآونة الأخيرة برزت علينا الكثير من مظاهر القبور والأضرحة لشخصيات حقيقية وغير حقيقية، يدعي مبدعيها إنها لشخصيات ذوي كرامات. السؤال أين كانت هذه القبور والأضرحة مغمورة؟، ولماذا خرجت الآن للظهور والعلن؟، وأين كان الناس عنها؟ أسئلة تنتظر أجوية علمية، ولكن كشخص تعنيني هذه المظاهر، وماتأؤل له، وماذا تعبر عنه كظاهرة أجتماعية، وماهو تأثيرها السلبي على عقيدتنا كمسلمين، أثارت أهتمامي، وفضولي معاً، لاشك إن بروز، وانتشار هكذا ظاهرة هو تعبير عن حالة نفسية وثقافية وأجتماعية وعقائدية لجماعة من الناس تتصف بالأعتلال المجتمعي، والسفه الثقافي، فهي تعبر عن حالة نفسية لأنها تكشف عن حالة من القلق واليأس من واقع يعتقدون بصعوبة معالجته، وقد أصابهم حالة من اليأس والأحباط الشديد من أصلاحه،كما أن هناك شعور من الخذلان وعدم الثقة من مجتمع لايبادر بجدية وأخلاص الى أصلاح ماينبغي أصلاحة على كل المستويات، سواء كان يتمثل بجانب صحي،أم جانب أقتصادي، أو عاطفي، أم سياسي. هذا الشعور المشبع بالأحباط، والمملوء بالعجز، قاد في اللجوء إلى منقذ، ولو كان ميتاً في قبره ينجده فيما هو يكابده من معاناة، ومشاكل عصيبة، يسبق هذا التوجه الذي تحرضه الحاجة الملحة هو الإشاعة المكثفة والقوية من قِبل أدعياء تكمن وراءهم طموحات مادية، ومساعدة جمهور جاهل، ويائس يشترك في البحث عن نجدة تنجده من مشاكل أستعصت عليه فَخُيل له، وبفرط زخم مايتملكه من أمل الظفر بالحل، أجمعوا هؤلاء الحائرين، بالإيمان بهذا صاحب القبر أو المقام، طبعاً من غير الأنبياء والأئمة الطاهرين، على إنهم من يحقق مبتغاهم، مع سرد سرديات عن حالات يُدعى إنها حصلت لأناس آخرين في زمن ما، حققت لهم هذه المزارات آمالهم. هذه المزارات المتناثرة على أرجاء وطننا لاشك إنها تحقق للبسطاء من الناس حالة من الاطمئنان النفسي، الذي هو بالحقيقة مقدمة ضرورية لأي حالة يقتضي علاجها سواء كانت نفسية أم عضوية، لكنها بنفس الوقت أصبحت مشروعاً أقتصادياً مدراً لكثير من الأموال لأصحاب وسدنة هذه القبور والمزارات، حتى باتوا من الذين يُشار لهم بالبنان في الغنى والثراء الفاحش، أضافة لما تجلبه من مقام ووجاهة أجتماعية، كما إن هذه الظاهرة لها دلالاتها الأجتماعية والتي تعبر عن بؤس ثقافي خطير، وأجتماعي أخطر،حيث هي كذلك نتاج مايمارسه أصحاب مهنة الطب من ممارسات تتسم بالجشع المادي، الذي وصل الى حد التوحش،وممارسة للدجل الطبي بأبشع صوره، ومن الضروري بمكان أن لا نقتصر بالأسباب على ما ذكرنا أعلاه، بل هناك مسألة في غاية الأهمية، وهو العامل السياسي، وما عكسه على الناس من مصائب وويلات خاصة في العهود الدكتاتورية، وما تعرض له الناس من ظروف صعبة وقاسيه على مستوى حالات الأضطهاد والمعاملات المجحفة والأليمة، وما زجووا به من حروب وويلات وما رافقه من الموت الزوؤام، وظروف أقتصادية قاسية وبائسة تمثلت بالقحط والجوع والحرمان، وبسبب القصور، وعدم القدرة على أزاحة كابوس الدكتاتوريات الجاثمة على صدور المضطهدين والفقراء والبائسين من الناس، وبفعل قسوة اجرام السلطة من قِبل السلطات الدكتاتورية عليهم، أختفي الأمل لديهم من حالة الخلاص التي تحررهم مما هم عليه، فيلتجأ الإنسان إلى ممارسات وتوجهات غير مثيرة لغضب السلطة، أو أثارة حفيظتها، وذلك باللجوء الى هذه المزارات، والتي تكون معظمها في مواقع نائية وبعيدة عن عيون رجال السلطة ورجالاتها، لكي يبثون عندها شكواهم،ومظالمهم من عبث وجبروت وظلم السلطان، ومن جور وعقوق الولد بالنسبة للأمهات،ومن أهمال وقسوة الزوج بالنسبة للزوجات، حتى أصبحت هذه المزارات ملاذ لكل من لا ملاذ له،وليس هناك من وسيلة تنجده فيما هو يعاني منه ويقاسي من مرارته، كما لا يمكنني أن أغفل عامل مهم، وهو البعد الأسطوري لبعض هذه الأضرحة والمقامات،وخاصة كمثل عليها بما يُسمى بمقام الخضر، والذي تهفو اليه النساء على ضفاف الأنهار لطلب الحاجة، وهذا النوع من الأعتقادات لها جذور تلمودية قديمة، تمتد الى العصور السومرية القديمة، ولكنها لبست مع الزمن لبوس مقدس، والتي لها قصة طويلة لا مجال لذكرها في هذا المقام، لحد هذه النقطة تعرفنا ولو بشكل أجمالي على جذور هذه الظهورات من المزارات الممتدة في معظم بلداننا العربية والإسلامية، وخاصة بالعراق، ولكن بنفس الوقت لا يمكنني أن أغادر الموضوع في تتبع أسبابه،من دون الأشارة الى حالة مستجدة ذات مغزى ودافع سياسي، حيث نتذكر في ثمانينات القرن الماضي برزت بعض الشخصيات فجأة على المستوى الشعبي كشخصيات ذات بُعد قدسي، وهي لم تكن كذلك من غير دفع وتوجه حكومي مدروس، لغرض حرف البوصلة عن توجهات تعتبره الحكومة خطرة عليها، فتعمد الحكومة الى ممارسة الأحلال والأبدال لرموز يمكن التحكم بها، والسيطرة عليها،بل وتوجيه الناس من خلالها لما تريده الحكومة، ويتفق مع توجهاتها، ويخدم أهدافها،أو على الأقل تخفيف من زخم التوجه نحو مزارات وشخصيات محترمة يشكل التوجه إليها حالة من الخطر على السلطة الحاكمة، وقد حصلت هكذا ظواهر كما في ظهور بعض الأسماء من السادة كظاهرة سيد مالك في جنوب العراق. لاشك هكذا نوع من الظواهر لم تكن بمنأى عن عيون ودراسات أجهزة المخابرات في العالم، وخاصة في دول هي محل أهتمام دول أخرى طامحة بثرواتها، أو في محاولة لتجنب صعودها،بما تظن إن تقدمها يمثل خطر وجودي عليها، كما هو الحال في العراق، وما يمثله من قوة تمتلك كل مقومات النهوض لصناعة بلد متقدم، يمكن أن يفرض وجوده على المنطقة ويشكل خطر على كيان، كالكيان الصهيوني، فتعمد أجهزة المخابرات لتلك الدول على أحداث كل مايعمل على تمزيق نسيج كل مجتمع يُراد توهينه وتمزيقه، وصناعة المزارات المزيفة واحدة من هذه الوسائل الفعالة، وذلك لتشتيت الأنظار وتفتيت التجمعات عن الحالات الأصيلة بأبتداع أخرى مزيفة، تستقطب جزء غير يسير من أتباع الأولى إلى الحالة الثانية لأضعاف الأولى، لما رأوا بما للأولى من جاذبية وقوة كبيرة على التحشيد وشحذ الهمم بالتحدي مثلاً لمحتل أجنبي أو دكتاتور وطني، وكلنا نحن العراقيون نعرف كيف كانت صلاة الجمعة في مرقد الأمام الحسين ع من أثر على رفع الزخم وقوة التحديد بالتصدي للصناعة الأمريكية داعش، وكيف كان للأمام الحسين ع ومبادئه الثورية من شحذ همم الرجال، ورفع معنوياتهم، في التصدي لوحوش داعش الأرهابية وطردهم من العراق، وتحرير العراق منهم، وأبطال أخطر مخطط كاد يُطيح بتاريخ ووجود بلد يضم أقدم حضارة على وجه الأرض، وأطفاء فتنة الطائفية المقيته، وتكرر الأمر في سوريا، حيث كان لمرقد السيدة زينب من أثر تحشيدي وتضحوي بالدفاع عن سوريا، ودفع عنها مشروع التقسيم، وانتهى المشروع الى الفشل، والآن زحف الشر على لبنان، ولم يتصدى للعدو الصهيوني إلا الجموع التي جمعتها المراقد الحقيقية والمقدسة، فأنصار المراقد الحقيقية هم اليوم من يقاتلون نيابة عن هذه الأمة التي أستسلم أكثر رجالها وجل حكامها، حتى بات هؤلاء المقاتلين وحدهم حماة كرامة هذه الأمة، ولكن هذا لا يخفي عن عيون أجهزة المخابرات ومراكز بحوثها للبحث بالوسائل التي تشتت هذه الجماهير وتبعثر قواهم وأضعاف عزمهم، ولا يتحقق ذلك إلا بمعرفة نقاط ضعفهم، وتشخيص مراكز قوتهم، فوجدوا الأثنين معاً، فجاءت حملات التشويش،والتقسيط، والتشكيك بكل القيم والأشخاص من ذوي الشأن، ولم يستبعدوا تكنيكاً جديداً قديماً ولكن بزخم أكبر وهو تشجيع بناء المزارات والمقامات المزيفة،أملاً بتوزيع وتفريق هذه الطاقة الجبارة، في تشتيت ولاءاتها، وتوزيع أنتماءاتها لفك عضدها وتدمير شملها، فخرجت علينا أسماء شخصيات ومراقد ومقامات ما أنزل الله بها من سلطان، وأصبح بدل الواحد مئات، حتى أصبحت ظاهرة تثير الحزن والرثاء. أنا ليس ممن يعلق كل شيء عن المؤامرة ولكني لا أنكرها، ولا أتغافل من يشتغل عليها، فهناك مراكز متخصصة تبرع وتجتهد في صناعة ظواهر مؤذية ومعرقلة لمسيرة حياتنا، ينبغي الأنتباه لها، ولا يكون ذلك إلا بالوعي والإيمان الحقيقي، فمعرفة الحقيقة كفيل بسد الطريق على كل الخرافات والمزيفات والخزعبلات، التي مصدرها جهلنا، ودسائس الآخر المعادي لنا.
***
أياد الزهيري

 

في مجادلته للفلسفة النفعية، روى برنارد ويليامز، الفيلسوف الإنجليزي، قصة رجل اسمه «جيم»، حط رحاله فجأة في قرية صغيرة في الجنوب الأميركي. في الساحة الرئيسية للقرية، كان ثمة كتيبة من الجنود تستعد لإعدام 20 هندياً، اتهموا بالتمرد على الحكومة الفيدرالية. توجه جيم لتحية قائد الكتيبة، الذي رحب به كأجنبي شريف، وعرض عليه أن ينقذ حياة 19 من الهنود الأسرى، شرط أن يقتل أحدهم بنفسه. أكد الضابط أنه سيعدم الجميع لو رفض جيم العرض.
طبقاً للمفهوم المبسط لفعل الخير في الفلسفة النفعية، يتوجب على جيم أن يقتل أي شخص فيهم، كي يحافظ على حياة التسعة عشر الباقين. لأن قيمة الفعل في هذا التيار الفلسفي، رهن بحجم المنافع التي ينجزها لأكبر عدد من الناس، حتى لو تضرر أحدهم أو عدد قليل منهم.
أورد ويليامز هذا المثال، كي يوضح النهايات المنطقية للتبرير النفعي. وهو تبرير يتبناه كثير من الناس، من دون تأمل أو قراءة نقدية في معانيه ومآلاته. تتجلى المعضلة التي تواجه جيم، في شعوره العميق بالمسؤولية عن موت 20 شخصاً، فيما لو تمسك بأخلاقياته الأساسية، ورفض الانخراط في هذه اللعبة القبيحة. لكنه - في المقابل - يسأل نفسه: هل من الصواب أن يقتل شخصاً لا يعرفه أو ربما لا يستحق القتل؟
هذا سؤال قد يطرح بمفرده، أو كجزء من الحدث. وقد يوجه للشخص الفاعل، أو يوجه للأسرى العشرين.
- حسناً، ما موقفك عزيزي القارئ، لو كنت في موقع جيم؟
تأمل في موقف الطرف المتضرر، باعتباره إنساناً مثلك، واسأل نفسك: ماذا لو كنت أنا في هذا الجانب، وكان على شخص آخر أن يتخذ القرار: هل يتوجب علي القبول بالموت كي يحيا بقية الأشخاص؟
دعنا نأخذ مثالاً أكثر قسوة: افترض أنك دخلت المستشفى، فوجدت 10 أشخاص في غرف العمليات ينتظرون متبرعين بأعضائهم كي يعيشوا، وإلا فسوف يموتون. أنت سليم الجسد، ولديك هذه الأعضاء جميعها: هل سترضى بأن توضع على طاولة العمليات، كي يؤخذ قلبك وكبدك وعينك ورئتك وبقية أجزاء جسمك، لتزرع في أجسام المرضى الآخرين؟
هذا السؤال يحمل نفس مبررات السؤال الأول: إذا كان بقاء العشرة أشخاص أولى من بقاء شخص واحد، فإنه يتوجب على طاقم المستشفى أن يأخذوك فوراً إلى غرفة العمليات، كما يجب عليك أن تقبلها بطيب خاطر. أما لو اعتبرت هذا الفعل غير أخلاقي، فعليك أن تتحمل وفاة العشرة أشخاص، من دون أن تشعر بالذنب.
هذه المعضلة عالجها مايكل والزر، الفيلسوف الأميركي الذي نشر في 1973 مقالاً عنوانه «الفعل السياسي: مشكلة الأيدي القذرة». وتبنى موقفاً مقارباً للموقف النفعي، لكنه قدم تصوُّراً مختلفاً.
أثارت مقالة والزر جدلاً كبيراً، وتحولت إلى نص مرجعي في أخلاقيات الفعل السياسي، لأنها عالجت تجارب فعلية يمارسها السياسيون كل يوم. ويقول والزر إنه أراد العثور على خط معقول بين من يريدون التمسك بمعايير أخلاقية صارمة، صحيحة، لكنها غير مفيدة في ميدان العمل، مقابل أولئك الذين لا يتورعون عن تبني أفعال مفزعة، يبررونها بما يترتب عليها من إنجازات ضرورية وكبيرة.
هذه الرؤية تطرح سؤالاً ضرورياً:
- هل من الأخلاقي استعمال وسائل سيئة لتحقيق غايات عظيمة، وهل من الأخلاقي أن نقتصر على الوسائل الحسنة مع علمنا بأنها لا توصلنا لأي نتيجة، أو ربما تكلفنا خسائر باهظة؟
نفهم طبعاً أن الغاية لا تبرر الوسيلة. لكن ماذا لو كانت الوسيلة القبيحة طريقاً ضرورياً لمنع الكارثة؟
ما يميز رؤية والزر عن المقاربة النفعية، هو اعتباره فعل السياسي خطأً، وإن كان الإقدام عليه ضرورياً لتفادي الكارثة. بينما ينظر النفعيون إلى هذا الفعل باعتباره صحيحاً، ولو كان - خارج هذا الإطار - خطأً وقبيحاً.
أعلم أنني قد أوصلت القارئ إلى نقطة تثير الحيرة. لكنني أفهم أيضاً أن ما سبق، قد يحفز بعضنا لإعادة التفكير في بعض قناعاته المستقرة.
***
د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

قلتُ لـ(ذي القُروح)، وأنا أناقشه:
ـ وأخيرًا يذهب (القبَّانجي) إلى أنَّ من التناقضات في «القرآن» أن يأتي قوله: «إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا»، ثمَّ يقول: «إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ». فلماذا يُقفل باب التوبة هنا؟ كما يتساءل.
ـ فلنقرأ الآيات، دون هذا التلويح بعبارات مبتورة من سياقاتها، كما يفعل صاحبك. يقول تعالى: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ: لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.». ويقول: «إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ، وَمَن يُشْرِكْ باللهِ، فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا.» ففي الأُولى يخاطب المؤمنين: «يَا عِبَادِيَ»، الذين أسرفوا على أنفسهم في الذنوب. وفي الأخرى يذكر أهل «الشِّرك»، وعدم إخلاص الإيمان بالله. فذاك شيء وهذا شيء. ثم إن الشِّرك لا يُعَدُّ ذَنْبًا يُتاب منه، بل هو افتراء، وإثمٌ عظيم، كما جاء في الآية. ومن ثَمَّ فلا يُعَدُّ الشِّرك مجرَّد ذَنْب، يُتاب عنه، بل لا بُدَّ من الخروج منه، أوَّلًا، وقبل كلِّ شيء، والدخول إلى الإسلام التوحيدي، وإنَّما التوبة تكون عن ذَنْبٍ من الذُّنوب، وأنت داخل دائرة الإسلام، أمَّا ذلك المُشْرِك، فهو خارج الدائرة أصلًا؛ فعليه أن يُسلِم أوَّلًا، كي ينطبق عليه خطاب الآية الأخرى: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ: لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.». فهمتَ؟ أ فهذا رجلٌ يعقل ما يقرأ أو يقول؟!
ـ وأيُّ افتراءٍ عبر هذا الهراء؛ إذ يزعم الاختلاف الكبير في «القرآن»، غير مدركٍ أن منبع الاختلاف إنَّما هو لاختلالٍ كبير في تركيب عقله هو، وهذا تشخيصٌ لما يُعرِب عنه هو بلسانه؟! ثمَّ يقترح على المسلمين ما يسميه «الإعجاز الوجداني» في القرآن؟
ـ ما شاء الله! وهذا ابتكار جديد صِنْو البِدعة السابقة في القرن العشرين: «الإعجاز العِلمي في القرآن»، التي ظلت تلهث وراء النظريَّات العِلميَّة، في عُقدة نقصٍ عِلميٍّ فاضحة.
ـ وثالثة الأثافي «الإعجاز العددي في القرآن»!
ـ هذه جاءت متأخِّرة، قائمة على مزاعم الإحصاء والحوسبة، القائلة لنا، مثلًا: إنَّ كلمة «الدُّنيا» قد وردت في «القرآن»: 115 مرَّة، وكلمة «الآخِرة»: 115 مرَّة كذلك.
ـ عجيب! هذا ملحظ مثير!
ـ هكذا يبدو أوَّل وهلة، للتَّقابل بين (الدُّنيا) و(الآخِرة)، واتفاق مجيئهما بالعدد نفسه، وهذا ما لا يتأتَّى في كتابٍ آخَر، وإنْ تأتَّى مرَّة فلن يطَّرد! غير أنك حين تدقِّق في هذا الادِّعاء، تجد أنَّ كلمة «الدُّنيا» لا تكاد تُذكَر في «القرآن» إلَّا مقترنةً بـ«الآخِرة»، ومن هنا كأنهما كلمة واحدة؛ فمن الطبيعي، بلا إحصاء، أن تكون النتيجة في عدد تكرارهما متشابهة. بل أكثر من هٰذا، ستجد أنَّ هذه الإحصائيَّة إنَّما تُحصي الألفاظ آليًّا، مغمضة العينين عن المعاني. وإلَّا فإنَّ «الآخِرة» المقابلة لـ«الدُّنيا» ، بمعنى (الدار الآخِرة)، لم ترد 115 مرَّة، بل أقل من هذا الرقم. لأنَّهم قد أحصوها وإنْ وردت بمعنى لا يتعلَّق بالدار الآخِرة، بل صفةً لموصوفٍ آخَر؛ لأن جماعة هذا الإعجاز- بوصفهم أصحاب دِقَّةٍ وإحصاء- يُحصون صفة «الآخِرة» عشوائيًّا، حيثما وردت. ومن هذا مجيئها في عبارة مثل «النشأة الآخِرة»! مع أنها هنا بمعنى: الأخرى. وكذا في عبارة «المِلَّة الآخِرة»، أي: الأخرى، ولا علاقة لـ«الآخِرة» هاهنا بالآخِرة في مقابل «الدُّنيا». إلى غير هذا من الاستعمالات التي لا علاقة لها بمعنى (الدار الآخِرة). ثمَّ جاء مهندسٌ آخر- واللافت أنَّ جلَّ هؤلاء، إنْ لم يكونوا كلَّهم، مهندسون!- ليجعل معجزة «القرآن» كامنة في الرقم (تسعة عشر)؛ فشرعَ يحصي القِيَم الرقميَّة للحروف ومضاعفاتها، زاعمًا أنَّ رسم المصحف توقيفي. ومن هذا المنطلق، ذهب إلى أنَّ رسم (إبراهيم)، مثلًا، يَرِد مرَّةً بالياء، ومرَّةً بدون ياء: (إبراهم)، لحكمةٍ عدديَّة. فضلًا عن أنَّ الاسم كذلك مكتوب في اللوح المحفوظ! ولا ندري ما أدراه؟! قال: فهذا الاسم إنَّما يَرِد بدون ياء في ذِكر إبراهيم قبل أن يُولَد له ولد، فلما صار له ولد، اكتسب اسمه ياءه!(1) وهنا تبدو المعجزة أشبه بالعَجْز؛ لأنَّ الكاتب لم يستطع الرمز لهذا المعنى إلَّا بحيلة إملائيَّة، بحيث يكتب الاسم مرَّةً (إبراهم)، ومرَّةً (إبراهيم)! علاوة على أنَّ في هذا تضليلًا للقارئ، وإخلالًا بالعَقد التواصلي بينه وبين الكاتب، الذي يقتضي أن لا يكتب الكاتب الاسم كلَّ مرَّة بطريقة، مع أنَّه اسمٌ واحد، ومنطوقه واحد، وإلَّا كان يكتب ما لا يُمكن أن يُقرأ على نحوٍ سليم. والواقع أن الإملاء المصحفي القديم إنَّما يمثِّل إملاءً بدائيًّا متواضعًا، بوصفه طورًا من أطوار الخطِّ العَرَبيِّ، والإملاء الكتابيِّ خلال القرن السادس الميلادي.(2) علمًا أنَّ صاحبنا إنَّما يبني حساباته على رسم ما يُسمَّى (مصحف عُثمان). فكيف يُصبح عجز الكاتب إذ ذاك، أو تواضع مهاراته الإملائيَّة، وربما أخطاؤه وتصحيفاته- التي أدركها أحيانًا بعض معاصريه(3)- آياتٍ معجزات، تُنسَب إلى الله، تعالى الله، وإلى أنها كذلك مكتوبة في اللوح المحفوظ؟!
ـ على أنَّ السؤال: إذا صحَّ ما زعم سعادة المهندس من حسابات، فماذا عن القراءات القرآنيَّة السبع؟ أو غير السبع؟ أتطابق نظريتَه، (نظريَّةَ إحدى الكُبَر)؟
ـ ذلك ما يحتاج إلى إيضاح؛ لأن اختلال منظومته الحسابيَّة بتغيير حرفٍ واحد، رسمًا أو نطقًا، كفيلٌ بإبطال نظريَّته. على أنَّ نتيجة هذا كلِّه ليست أكثر من أن يتحوَّل «القرآن»- على يدَي مهندسنا الهمام- إلى ما يشبه كتاب «شمس المعارف الكُبرَى»، لـ(أحمد بن علي البوني، -622هـ)، وهو كتاب في السيمياء والطلسمات والأعمال السِّحرية!
ـ خلاصة القول؟
ـ خلاصة القول: إذا كان المسلمون قد انتظروا 1400 سنة ليُثبِّت الحاسبُ الآليُّ إيمانهم، فلن يَثبت لهم إيمان؛ لأن «القرآن» ليس بكتاب إحصاء، أو معادلات رياضيَّة، أو جداول ضرب وقسمة. كما أنَّه ليس بكتاب في الفيزياء الكموميَّة، مثلًا، أو علم الكيمياء، أو الطِّب، أو الفَلَك، بل هو كتاب هداية وتبصُّر، جاء بلسان العَرَب.
ـ وفي النهاية: من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر.
ـ وما كان الله ليحجب هذه الآيات الإعجازيَّة النصيَّة، من هذا النوع، طوال القرون الماضية، وما أُثِرت عن الرسول قط إشارة إلى أنَّ في حروف «القرآن» أو كلماته أسرارًا حسابيَّة، وقد كانت جديرة، لو صحَّت، بأن تَكسَب إليها عقول البَشَر.
ـ هذا فضلًا عن نفي «القرآن» الإتيان بالآيات والمعجزات الحِسيَّة، وهي أسهل ممَّا يبحث عنه أرباب الإعجازات العِلميَّة والكونيَّة والرقميَّة في عصرنا، ولم يستثن سِوَى المعجزة البيانيَّة التي تحدَّى بها العَرَب.
ـ هذا تِبيانُ أنَّ الإنسان ما انفكَّ يبحث في «القرآن» عمَّا ليس فيه، أو بالأحرى عمَّا ليس له، وصولًا إلى بِدعة القول بـ«الإعجاز الوجداني». لكن ما ذاك اللون الإعجازي المبتكر، المُسمَّى «الإعجاز الوجداني»؟
ـ إنه اتجاهٌ إعجازيٌّ نقيضٌ للاتجاهين الإعجازيَّين السالفَين. يفسِّره صاحبه بأنه نغمةٌ إلاهيةٌ في النصِّ القرآني غير موجودة في سِواه، ولا تختلف في «القرآن» كلِّه.
ـ يا سلام سلِّم! لكن نحن سنتساءل هنا ما جدوى تلك النغمة الوجدانيَّة، ما دام خطاب «القرآن» متناقضًا- كما يزعم (القبَّانجي)- بل أيُّ احترامٍ يبقى لخطابٍ تلك صفته (التناقض)؟ إنَّما يُفضي هذا القول إلى تجريد النصِّ من كلِّ قيمة تشريعيَّة، أو حتى منطقيَّة، بحيث يظلُّ نصًّا وجدانيًّا، طقسيًّا، حُلوًا، للتسلية، لكنَّه بلا معنى منطقيٍّ ولا عملي! وهذا ما تلحُّ عليه نظريَّة القبَّانجي- إنْ صحَّت تسميتها بهذا المصطلح(4)- من أجل تجريد الدِّين، الإسلامي تحديدًا، من وظيفته المعرفيَّة، أو التشريعيَّة، أو حتى العقلانيَّة، فلا يبقى منه إلَّا القيمة النفسيَّة، والشاهد التراثي. ولن نخوض في هذا وغيره من اعتقاداته، التي لم يقل بها قبله مسلم، أو ألوهي قط، اللَّهم إلَّا أنَّ بعض أفكاره سبقه إليها (ابن الراوندي الملحد، أبو الحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق، -298هـ= 910م)، تاجر الأديان والأفكار المشهور في عصره، قبل أكثر من ألف سنة.
ـ ولعلمك، يا (ذا القُروح)، الرجل يصرِّح باعتقاده أنَّ «القرآن» مصدره ما يسمِّيه: «الوحي الوجودي»، وتارةً- فتعبيراته غير منضبطة-: «الوحي الوجداني»، وليس بمعجزة بلاغيَّة.(5)
ـ ألا ليتك أخبرتني قبل هذا الحماس في النقاش؛ لكي أغسل منه يدي وأستريح!
***
أ. د.عبد الله بن أحمد الفَيفي
.........................
(1) يُنظَر ما نُشِر على موقع «يوتيوب» تحت عنوان «أكبر كشف إعجازي في القرآن الكريم منذ تنزيله حتى الآن!»:
https://www.youtube.com/watch?v=sek52clKRqw
(2) هذا الرأي السائد. غير أني أتساءل: أكانت كتابة صلاة: صلوٰة، وحياة: حيوٰة، وزكاة: زكوٰة، وغيرها في المصحف العثماني بتلك الصُّوَر الكتابيَّة عن طريقة إملائيَّة عتيقة لا يُقاس عليها، وذاك كلُّ ما في الأمر؟ أم أنها تُسجِّل لنا طريقة نُطق العَرَب لهذه الكلمات إبَّان مجيء «القرآن»؟ نحن لا نعلم عن لغة العَرَب المنطوقة غير ما نقرأه في ما دوَّنه المدوِّنون. فربما كان العَرَب في صدر الإسلام ينطقون (صلاة)، لا كما ننطقها نحن المتعلِّمين- المتعلِّبين وَفق نمطٍ واحد- اليوم، ولكن كانوا ينطقونها: صَلُوْة، وينطقون حياة: حَيُوْة، وزكاة: زكُوْة. بصوتٍ واويٍّ خفيفٍ قبل آخرها. وهذا النُّطق ما زال مسموعًا في بعض اللهجات الحديثة، ولا سيما في جَنوب الجزيرة العَربيَّة وشرقها. ولا شكَّ أنَّ تلك اللهجات الحديثة إنَّما هي امتدادٌ لتاريخٍ لُغويٍّ قديم، ولم يخترعها أهلها من عند أنفسهم في العصور المتأخِّرة. ويؤكِّد هذا أن نجد من خلال نقوش المعينيِّن أنهم كانوا يُسمُّون صلاتهم التي يؤدُّونها لآلهتهم، كما في نقوشهم: «صلوت». (يُنظَر، مثلًا: الفاسي، هتون أجواد، (1993)، الحياة الاجتماعيَّة في شمال غرب الجزيرة العَرَبيَّة في الفترة ما بين القرن السَّادس قبل الميلاد والقرن الثَّاني الميلادي، (الرِّياض: ؟)، 268). وكذلك جاء رسم الكلمة في المصحف العثماني. وقد أورد (الخليل)، و(الجوهري) و(ابن دُريد)، و(الصاحب بن عبَّاد) كلمة (صلاة) في مادة (صلو). وقال (الخليل، العَين، (صلو)): «الصَّلاةُ ألفُها واوٌ؛ لأنَّ جَماعتَها: الصَّلَوات، ولأنَّ التثنيةَ صَلَوان.» وقال (الصاحب، المحيط في اللُّغة، (صلو)): «هُذَيْلٌ تقول: صَلَّوْتُ الظُّهْرَ: بمعنى صَلَّيْتُ.» كذا في أصوله، وعُدِّلت العبارة في معاجم أخرى إلى: «صَلَوْتُ الظَّهْرَ: بمعنى صَلَيْتُ»، أي ضربت صَلاه. (يُنظَر: ابن منظور، لِسان العَرَب، (صلا)). وبهذا أخذ محقِّق «المحيط»، مستصوبًا. (يُنظَر: بتحقيق: محمَّد حسن آل ياسين، (بيروت: عالم الكتب)، 8: 184). وأضاف (ابن دُريد، الجمهرة، (صلواي)): «اختلفوا في اشتقاق الصَّلاة؛ فقال قوم: الصَّلاة: الدُّعاء، ومنه: اللهمَّ صلِّ على محمَّد، وكانوا في صدر الإسلام إذا جاءوا بالرجل إلى المصدِّق، قالوا: صلِّ عليه، أي ادْعُ له. وقال قوم: بل اشتقاق الصَّلاة من رفع الصَّلا في السجود. والأول أعلى.»
(3) من هذا شهادة (عائشة): «يا ابن أخي، هذا من عمل الكُتَّاب، قد أخطأوا في الكتاب.» (يُنظَر: أبو عبيد القاسم بن سلام، (د.ت)، كتاب فضائل القرآن، تحقيق: مروان العطية، محسن خرابة، وفاء تقي الدِّين، (دمشق- بيروت: دار ابن كثير)، 287).
(4) ثمَّة خلطٌ شائعٌ في الخطاب العَرَبيِّ العامِّ بين مفهوم «نظريَّة» و«وجهة نظر».
(5) من مقاطع، ومحاضرات عِدَّة على موقع «يوتيوب»، وإن كان بعضها لم يعد متاحًا على رابطه القديم.

 

الحمد لله: الحمد لله على نعمتيّ الإيجاد والإمداد. الحمد لله أعظم الحمد وأكثر الثناء. يكمن الدين كله في ظلال الحمد، وبالحمد في البدء والمنتهى، والحمد لله سلوك الإنسان المؤمن بإزاء الغيب : أن يحمد الله على الدوام بغير انقطاع، وهذا الحمد ينقله إلى رحاب المعيّة نقلاً في مثل لمح البصر من الغفلة إلى الحضور، ومن الإستنامة إلى اليقظة والتنبُّه. إذا صَحّ - ولا بدّ أن يصح - أن يكون الحمد عنوان حضور داخل المعيّة الإلهيّة لا هو بخارجها، فهو من ثمّ فلسفة لها دعائمها المُثلى في الإسلام، فلسفة تحيط بالمعنى بداية ثم تنزع إلى العمل بمقتضى فهم المعنى وفهم المضمون من ورائه.
والحمدُ أساسٌ جامع للدين في مبادئه التأسيسية، وجامعٌ للشعور - كما هو جامع للتفكير- بموجبات التحقق بأجواء المعيّة الإلهية، فالذي يتحقق من فاعلية الحمد فيما هو بسبيل إدراك قوة وصلته بحضور المعيّة الدائمة، يصدق صدقاً مباشراً مع كل توجه من توجُّهات الحق، فيكون الحمد أساس توجهه، ومصدر فاعليته، وحركة تجاريبه الواعية في كل حال.
وإنمّا قلنا فلسفة؛ لاتصال مفهوم الحمد بالجانب العقدي بدايةً، أعني جانب الإيمان بالله كركن تتحقق فيه عمل الأحكام الشرعية الاعتقادية، ثم تطبيق هذا المفهوم من الناحية العمليّة كسلوك دائم للمسلم الذي يعرف بالتحقيق ألطاف الله عليه، ويحترم أقداره فيه، فيكون الحمد غاية مبتغاه؛ ديدنه الدائم وهجّيره العميم.
فاتحة الكتاب تبدأ بالحمد لله. وأسماء سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، محمد وأحمد ومحمود : محمودٌ في الأرض ومحمودٌ في السماء، والصلة بينهما أوثق ما تكون.
كان أبو طالب يقول:
وشقّ له من اسمه ليُجلّه فذو العرش محمودٌ وهذا محمّد
العلاقة بين سورة الحمد، (فاتحة الكتاب)، واسم سيدنا رسول الله علاقة وطيدة، لم يكن أحبّ إليه من فاتحة الكتاب، الحمد لله رب العالمين، وإنما سُمي نبينا بهذا الاسم العظيم؛ لأنه محمودٌ عند الله، ومحمود عند ملائكته، ومحمود عند إخوانه من المُرسلين، ومحمودٌ عند أهل الأرض كلهم، وإن كفر به بعضهم، فإنّ ما فيه من صفات الكمال محمودةٌ عند كل عاقل، وإن كابر عقله جحوداً وعناداً، أو جهلاً باتصافه بها.
وهو صلوات الله وسلامه عليه أختصّ بجماعٍ من صفات الحمد بما لم يجتمع فيها لغيره؛ فإنَّ اسمه - كما تقدّم - محمد، وأحمد، قال القاضي عياض صاحب كتاب (الشّفاء) قد حمي الله هذين الاسمين، يعني محمداً وأحمد، أن يتسمّى بهما أحدٌ قبل زمانه، أمّا (أحمد) الذي ذكر في الكتاب وبُشّر به عيسى عليه السلام، فمنع الله بحكمته أن يتسمّى به أحد غيره، ولا يُدْعى به مدعوّ قبله، حتى لا يدخل اللّبس ولا الشك فيه على ضعيف القلب. وأمّا (محمد) فلم يتسمَّ به أحد من العرب ولا غيرهم إلا حين شاع قبيل مولده أن نبياً يبعث اسمه محمد، فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك رجاء أن يكون أحدهم هو، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
وكما خصّه الله باجتماع صفات الحمد في ذاته وفي اسمه، كذلك خصّ الله أمته بخصوصية الحمد الدائم والتسليم القويم لله رب العالمين؛ فأمته الحمّادون، يحمدون الله على السّراء والضرّاء، وهو صلى الله عليه وسلم، حمد ربه قبل أن يحمده الناس، وصلاته وصلاة أمته مفتتحة بالحمد، وخطبه مفتتحة بالحمد، وهكذا كان في اللوح المحفوظ عند الله، أن خلفاءه وأصحابه يكتبون المصحف مفتتحاً بالحمد، وبيده، صلوات الله وسلامه عليه، لواء الحمد يوم القيامة.
ولمّا يسْجُد عليه السلام بين يدي ربّه للشفاعة، ويُؤذن له فيها : يحمد ربّه بمحامد يفتحها عليه حينئذ، وهو صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الآخرون والأولون كما قال تعالى :" وعسى أن يبعثك ربّك مقاماً محموداً".. ، وإذا قام في ذلك المقام، حمده حينئذ أهل الموقف العظيم كلهم، مُسلمهم وكافرهم، أولهم وآخرهم، فجُمعت له، صلى الله عليه وسلم، معاني الحمد وأنواعه.
وهو، صلوات الله وسلامه عليه، محمودٌ بما ملأ به الأرض من الهُدى والإيمان، ومحمودٌ بما ملأ به الأرض من مزايا العلم النافع وفضائل العمل الصالح، ومحمودٌ بما فتح الله به القلوب وكشف به الظلمة عن أهل الأرض، واستنقذهم من أسر الشياطين، ومن الشرك بالله والكفر به، والجهل به، حتى نال به أتباعه شرف الدنيا وشرف الآخرة وهو مُستحق الحمد تحقيقاً في كل ما أعطى وكل ما أبقى ممّا لا يقدر فضله علماً وهداية سوى الله.
ومُجرّد النظر إلى رسالته مستحقٌ الحمد، وكل ما فيها من مطالب وأغراض يستوجب الحمد ويستقصيه ومع ذلك لا يستوفيه؛ فإنّ رسالته وافت أهل الأرض أحوج ما كانوا إليها، وأغاث الله به البلاد والعباد، وكشف به الظّلَم، وأحيا به الخليقة بعد الموت، وهَدَى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وكثر به بعد القلة، وأغنى به بعد العيلة، ورفع به بعد الخَمالة، وسمَّى به بعد النكرة، وجمع به بعد الفُرقة، وألف به بين قلوب مختلفة، وأهواء مُشتتة، وأمم مُتفرّقة، وفتح به أعيناً عُمياً، وآذاناً صٌماً، وقلوباً غلفاً.
فعرف الناس ربّهم ومعبودهم غاية ما يمكن أن تناله قُواهم من المعرفة، فأبدأ وأعاد واختصر وأطنب في ذكر أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه حتى تجلّت معرفته في قلوب عباده المؤمنين، وانجابت سحائب الشك والرِّيب عنها، كما ينجاب عن القمر ليلةَ إبداره، ولم يدع لأمته حاجة في هذا التعريف وغيره، لا إلى من قبله ولا إلى من بعده، بل كفاهم وشفاهم، وأغناهم عن كل من تكلم من الأولين والآخرين، بما أوتيه من جوامع الكلم وبدائع الحكم : (أو لم يكفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم إنّ في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون).
وكفى بهذا كله من محمدة لرب العالمين لا نظير لها ولا شبيه، ولا انقطاع لدوامها حيث ينقطع كل شيء ولا يدوم.
ومن صفته - صلوات الله وسلامه عليه - في التوراة : محمد عبدي ورسولي سمّيته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخّاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، وأفتح به أعيناً عُمياً، وآذناً صماً، وقلوباً غُلفاً، حتى يقولوا: لا إله إلا الله ..
وهو أرحم الخلق وأرأفهم بهم، وأعظم الخلق نفعاً لهم في دينهم ودنياهم، وأفصح خلق الله وأحسنهم تعبيراً عن المعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة الدالة على المراد، وأصبرهم في مواطن الصبر، وأصدقهم في مواطن اللقاء، وأوفاهم بالعهد والذمة، وأعظمهم إيثاراً على نفسه، وأشدُّ الخلق ذَبَّاً عن أصحابه وحمية لهم ودفاعاً عنهم، وأقومُ الخلق بما يأمر به، وأتركُهم لما ينهى عنه، وأوصلُ الخلق لرَحِمه، إلى غير ذلك ممّا يجلُّ عن الوصف ولا يمكن حصره .. صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيرآ.
فليس هنالك أحقُ بالحمد الذي ينقطع معه النظير من تكرار الحمد لله على نعمة سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه وجوداً وإمداداً واستمداداً، فهو الوجود الحق والإمداد الحق والاستمداد الحق، يستمد من الله مباشرة ونحن نستمد منه، وجوداً وإمداداً واستمداداً، هو وسيلتنا الى الله من حيث لا وسيلة لنا سواه، فلا شئ إلا وهو به منوط، إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط، كما تقول الصلاة المشيشية.
ونحن من بعدٌ ومن قبل لا نعرف الله، وليس لنا من قدرة على معرفته إلا من خلاله: "قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يُحببكم الله"، مُمُد الهمم بالقيل الأقوم، صلى الله عليه وسلم وبارك وشرف وعظم وحقق وأكرم وعلى آله وصحبه وسلم.
ومن مولده المبارك حتى الانتهاء إلى الرفيق الأعلى عاش، صلوات الله وسلامه عليه، حياته في بعدها الزمني المحدود بزمان ومكان، تحت ظلال الحمد فكان كاملاً مكمّلاً في خصاله الشريفة ومناقبه العفيفة. لم تصف اللغة، ولن تستطيع أن تصف، وصفاً من أوصافه على التحقيق؛ لأن الكمال فيه لا يوصف بلفظ ولا يحيط به تصوّر محدود، وبخاصّةٍ إذا كان الكامل يجسّد صفة إلهيّة لا وصف لها إلا النور الذي يشملها ويضمّها.
محمدٌ رسول الله، ولكنه مع ذلك هو قبضة النور. محمدٌ المُبلغ رسالة الله للعالمين، هو الرحمة المُهداة من قبل الله إلى خلق الله، ولكنه مع ذلك لولاه لم تُخلق الدنيا من العدم، لولا محمد في البعد الروحي لا البعد الزمني ما خُلقت الدنيا من العدم. وجوده الروحي أسبق من وجود جميع الأنبياء، ومددُ الأنبياء وعلومهم ومعارفهم من مدد نوره السابق.
ولمّا أن ولد صلوات الله عليه في الفترة الزمنية التي وجدت في زمانها ومكانها، تمثل النور فيه كاملاً فظهرت حقيقته النوريّة الباطنة في مظهره الكامل، ولكنها مع ذلك لم تكن لتظهر فيه ولا في غيره من إخوانه الأنبياء إلّا لإظهار الحقائق الإلهيّة. ومع أنه السابق للخلق نوره إلا أن الأنبياء أسبق منه في الوجود الزمني، ولم يسبقوه في الوجود الروحي، غير أنه خاتمهم.
خاتم هذا الموكب الخالد، موكب النور الذي تقدّمه وختمه في نفس الحال.
لقد سمّاه القرآن الكريم داعياً إلى الله بإذنه، وسمّاه سراجاً منيراً، فالدّعوة إلى الله على الإذن خاصّةُ محمد رسول الله كما كانت خاصّة الأنبياء جميعاً من قبله، فهو يدعو إلى الله بالإذن المخصوص بالرسالة، فهو رسول مبلغ للرسالة، مأذونٌ بالدعوة إلى الله على بصيرة لا بل على وحي الشريعة والتنزيل.
هذا بعدٌ زمني محدود بزمان ومكان، المساحة فيه مع كمالها محصورة في تاريخ المولد والنشأة والدعوة ثم الانتقال إلى الرفيق الأعلى، لكنه في نفس الوقت رحمة للعالمين، تتجاوز حدود الزمان والمكان والمدّة الزمنية التي عاشها في حياته الشريفة المباركة بمدد لا ينقطع ولا يزول، هو مدد الحمد، ومدد النور المحمّديّ : أوليّته وقدمه.
ومن أجل هذا، سمّاه سراجاً منيراً، سراجاً منيراً للكون من الأزل إلى الأبد. الإنارة سرمديّة لا تتوقف على فترة زمنية محدّدة بزمانها ومكانها، فإذا السّراج المنير هذا لا ينصرف إلى البعد الزمني وحده بل يتعدّاه إلى البعد الروحي الذي لا ينقطع بانقطاع فترة النبوّة، فهو الذي منه يشع النور ليملأ الأرض والسّماء كما يملأ القلوب والأرواح والأسرار واللطائف والأذواق، ومنه تكون الهداية يتوخّاها الصُّلحاء، وفي التعلق به يكون الهُدى والكمال والرفعة كما تكون علوم الأولياء.
لم يكن عُرفاء الإسلام بالذين يستقون من مشكاة الأنوار نوراً غير نور النبوة؛ ليمدُّهم بمدد موصول لم يكن لينقطع ولا ليزول في حين انقطعت النبوة بوفاته على التحقيق، وبقى منها الميراث وهو الأبقى والأدوم، يدور في فلك إظهار الحقائق الإلهيّة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ولم يكن ميراث النبوة سوى هذا المدد الدائم من فيض فضل نوره عليه السلام، سواء كان علماً أو خُلقاً أو نوراً أو ولاية وتحقيقاً.
وسمّاه القرآن الكريم الإمام المبين؛ إذ أحصى كل شيء فيه، (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين). ولم يكن المجيئ سابقاً في الترتيب على المعجزة إلا بفضلٍ تقدّمه سبق النور (قد جاءُكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين) فالنور أسبق في الترتيب من المعجزة التي هى الكتاب المُبين، إذا كان النور التام الكامل هو محمد رسول الله.
وسمّاه القرآن الرحمة المُهداة وأهداها منه ومن خلاله للعالمين: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، هو خيرٌ ممّا يجمعون)؛ ففضل الله هو القرآن، ورحمته هى سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه.
وعلى هذا البعد الروحي جاز للذين عرفوه أن يصلّوا عليه بمطلق الأمر الإلهي، وبمطلق استمراريته في قوله "يصلون": الفعل المضارع الذي يدل على الاستمرارية، بمثل هذه الصيغة: (اللّهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد النور الذاتيٍ والسرُّ السّاري سرُّه في سائر الأسماء والصفات، وعلى آله وصحبه وسلم). وفي الصلاة عليه اتصال باليقين الذي لا شك فيه. فلا يتصل متصل إلا من طريق الصلاة عليه، ولا ينقطع منقطع وفي قلبه محبته وموالاته على تحقق المنهج وموافقة الاتباع.
تحتاج الحفاوة بسيّدنا النبيّ إلى لطيفة ربّانية ملآنة بالمحبّة له تتحقق فيها ظلال الحمد على الدوام الذي لا ينقطع. والمحبّة اتّباع : (قُل إنْ كنتم تحبُّون الله فاتّبعوني يُحببكم الله). ولا يجب في كل ما كان محبوباً أن يكون محبوباً لشيء آخر وإلا لدار أو تسلسل، بل لا بدّ أن ينتهي إلى ما يكون محبوباً لذاته. وعليه؛ فالاستقراءُ يدلُّ على أن معرفة الكامل من حيث هو كامل يوجبُ محبّته. ومحبته تقتضي الحمد على نعمة وجوده وإمداده، صلوات الله وسلامه عليه.
***
بقلم : د. مجدي إبراهيم

مفتاح النجاح للأطفال العرب في الأهواز" تطبيق فرضية الاعتماد المتبادل لكومينز

تُعَدُّ اللغة أحد أبرز عناصر الهوية الثقافية، حيث تلعب دورًا حيويًا في تشكيل التفكير والتواصل بين الأفراد. في منطقة الأهواز، حيث يتحدث السكان اللغة العربية، يواجه الأطفال تحديات كبيرة نتيجة لتعليمهم باللغة الفارسية. هذا الوضع لا يؤثر سلبًا على قدرتهم على التعلم فحسب، بل يعيق أيضًا تفاعلهم الاجتماعي وتواصلهم مع محيطهم. في هذا السياق، تبرز أهمية تطبيق فرضية الاعتماد المتبادل لكومينز، التي تؤكد على الترابط الوثيق بين الكفاءة في اللغة الأولى (L1) والثانية (L2). إذ تشير هذه النظرية إلى أن تعزيز مهارات اللغة الأم يمكن أن يسهم بشكل كبير في تحسين الأداء الأكاديمي واللغوي للأطفال في لغتهم الثانية، مما يسهل عليهم التكيف والنجاح في بيئة تعليمية متعددة اللغات.
تأسست فرضية الاعتماد المتبادل لكومينز على فكرة أن المهارات اللغوية المكتسبة في اللغة الأم يمكن أن تعزز التعلم في اللغة الثانية. تنقسم هذه المهارات إلى نوعين: (المهارات الأساسية) (Basic Interpersonal Communicative Skills - BICS) التي تتعلق بالتواصل اليومي، و(المهارات الأكاديمية) (Cognitive Academic Language Proficiency - CALP) التي تتطلب فهماً عميقاً للمفاهيم. يشير كومينز إلى أن الأطفال الذين يتمتعون بكفاءة عالية في لغتهم الأم سيكون لديهم قدرة أفضل على اكتساب لغة ثانية، مما يعزز من أدائهم الأكاديمي بشكل عام.
أهمية اللغة الأم
تشير هذه الفرضية إلى أن تطوير مهارات اللغة الأم يُعزز من قدرة الأطفال على تعلم لغة ثانية بشكل أكثر فعالية. هذا يعني أن الأطفال الذين يتمتعون بكفاءة عالية في لغتهم الأم (مثل اللغة العربية) سيكون لديهم أساس قوي يمكنهم من اكتساب مهارات اللغة الثانية (مثل اللغة الفارسية) بسهولة أكبر.
لذلك، يعد إدخال مناهج تعليمية باللغة العربية في المدارس خطوة أساسية نحو تحقيق هذا الهدف. فهذه المناهج لا تقتصر فقط على تعليم اللغة العربية كلغة منفصلة، بل تشمل أيضًا مواد دراسية متنوعة تعزز من فهم الطلاب لثقافتهم وهويتهم.
على سبيل المثال، يمكن أن تتضمن هذه المناهج دروسًا في الأدب العربي، حيث يتعرف الأطفال على نصوص أدبية غنية تعكس تاريخهم وثقافتهم. كما يمكن تضمين مواد عن التاريخ العربي، مما يساعدهم على فهم السياقات التاريخية والاجتماعية التي شكلت مجتمعهم. بالإضافة إلى ذلك، يمكن إدخال دروس في الثقافة العربية، مثل الفنون والموسيقى والعادات والتقاليد، مما يعزز من انتمائهم وهويتهم الثقافية.
كل هذه العناصر تعمل معًا على بناء قاعدة قوية في اللغة الأم، مما يساهم في تعزيز الثقة بالنفس لدى الأطفال ويشجعهم على استخدام اللغة العربية بشكل فعال. عندما يشعر الأطفال بأن لغتهم الأم تُدرس وتُقدّر في المدرسة، فإن ذلك سيعزز من قدرتهم على التعلم والتفاعل بلغة ثانية، مما يؤدي إلى تحسين أدائهم الأكاديمي العام.
تطوير المناهج المزدوجة
إذن من الضروري تصميم مناهج تعليمية تجمع بين الفارسية والعربية. يمكن أن تشمل هذه المناهج دروسًا متكاملة تتناول مواضيع مشتركة. على سبيل المثال، في مادة العلوم، يمكن تدريس المفاهيم الأساسية باللغة الفارسية مع توفير شروحات باللغة العربية. كما يمكن استخدام الكتب المدرسية التي تحتوي على نصوص ثنائية اللغة، مما يسهل الفهم ويعزز من التعلم.
تدريب المعلمين
يعتبر المعلمون حجر الزاوية في أي عملية تعليمية ناجحة. لذا، يجب توفير تدريب شامل للمعلمين حول كيفية تدريس اللغتين بشكل متكامل. على سبيل المثال، يمكن تنظيم ورش عمل لتعليم المعلمين استراتيجيات مثل "التعلم القائم على المشاريع"، حيث يقوم الطلاب بإنشاء مشاريع تتطلب استخدام كلتا اللغتين. هذا النوع من التدريب يساعد المعلمين على تطوير مهاراتهم ويعزز من فعالية التعليم.
تشجيع القراءة والكتابة
تعد القراءة والكتابة من المهارات الأساسية التي يحتاجها الأطفال للنجاح الأكاديمي. لذا، يجب إنشاء برامج تشجع الأطفال على قراءة الكتب باللغة العربية وممارسة الكتابة فيها. على سبيل المثال، يمكن تنظيم مسابقات للقراءة أو ورش عمل للكتابة الإبداعية لتعزيز هذه المهارات. كما يمكن إنشاء مكتبات مدرسية تحتوي على مجموعة متنوعة من الكتب العربية التي تناسب مختلف الأعمار والمستويات.
التفاعل الاجتماعي والثقافي
لتعزيز استخدام اللغة العربية في الحياة اليومية، يجب تشجيع الأنشطة الاجتماعية والثقافية التي تستخدم هذه اللغة. يمكن تنظيم فعاليات ثقافية مثل المهرجانات الأدبية أو العروض المسرحية التي تركز على التراث العربي وتعزز من استخدام اللغة. مثال آخر هو إقامة مسابقات شعرية أو قصص قصيرة باللغة العربية، مما يشجع الأطفال على التعبير عن أنفسهم بلغة أمهم.
ختاما نقول إن تطبيق فرضية الاعتماد المتبادل لكومينز في الأهواز يمثل خطوة حيوية نحو تحسين التعليم وتعزيز الهوية الثقافية للأطفال.
إن هذه النظرية لا تساهم فقط في تعزيز المهارات اللغوية، بل تحد أيضًا من ظاهرة الرسوب في المواد الدراسية والتخلي عن المدرسة. عندما يتمكن الأطفال من التعلم بلغتهم الأم، فإن ذلك يعزز من فهمهم للمحتوى الدراسي ويزيد من ثقتهم بأنفسهم. وبالتالي، يصبحون أكثر قدرة على التفاعل مع المواد التعليمية، مما يقلل من معدلات الرسوب ويشجعهم على الاستمرار في التعليم. فمن خلال إدخال التعليم الثنائي اللغة وتطوير المناهج المناسبة وتدريب المعلمين وتشجيع القراءة والكتابة، يمكننا توفير بيئة تعليمية تدعم النمو الأكاديمي والاجتماعي للأطفال وکل هذا یأتي من اهتمام حكومي ومؤسساتي شامل بالموضوع. إن الاستثمار في لغتهم الأم ليس فقط واجبًا ثقافيًا، بل هو أيضًا مفتاح لتحقيق مستقبل أفضل للأجيال القادمة.
***
سعيد بوسامر/ كاتب و باحث أهوازي
نوفمبر 2024
..........................
المصادر التي راجعها الباحث:
Teemant, A., & Pinnegar, S. E. (2019). The Interdependence Hypothesis: Jigsaw Reading B1. Principles of Language Acquisition. https://edtechbooks.org/language_acquisition/jigsaw_reading_d.
-أبوعميشة، خالد. كيف أطور مهاراتي في اللغة العربية؟ نشر في:
https://learning.aljazeera.net/ar/node/944
-كويونكو، علي. تأثير اللغة الام على اكتساب اللغة الثانية، مراجعة علمية. مجلة كلية اللاهوت. 2021.

 

يقال إن الحب هو تلك القوة الخفية التي تتجاوز كل المقاييس المادية والتصورات الحسية، فهو قوة شاملة، "كالمحرك الكوني" الذي يربط الوجود، كما أشار إليه أرسطو في حديثه عن "الصداقة الفضلى". هذا الحب يكتسب معناه من القدرة على تفتح النفس البشرية ونقلها إلى فضاءات أسمى، حيث لا حدود للإخلاص، وحيث النقاء النابع من الروح يُجبر الإنسان على إظهار أعمق ما لديه من جمال وأصالة.
فالحب الحقيقي، كإيمان أفلاطون بأن الخير والجمال هما غاية الوجود، يُعد عملًا روحانيًا ساميًا. هو مغامرة نغامر فيها بكل مشاعرنا وقلوبنا، دون أن نعرف ما إذا كان الطرف الآخر سيقدر هذه المشاعر أو يبادلنا الحب. إن الحب الحقيقي يبني الثقة، ويثبت الأمل، ويرسخ الصبر، وكما قال الروائي الفرنسي أنطوان دو سانت-إكزوبيري: "المحبة ليست أن تنظر في أحدهم، بل أن تنظر في نفس الاتجاه"، حيث يشير إلى أن الحب هو وحدة في الهدف والرؤية، لا في المصالح والمكتسبات.
ومن أبرز تجليات هذا الحب النقي هو مفهوم "الأغابي"، ذلك الحب الذي يتعالى عن الأنانية والشروط، فكما يرى الفيلسوف مارتن بوبر في نظريته عن "علاقة الأنا والأنت" بأن الحب الحقيقي هو أن ترى الآخر ككيان كامل، لا كوسيلة لإشباع رغباتك الشخصية. إنه الحب الذي يشمل الجميع بغض النظر عن سلوكهم أو ردود فعلهم؛ حب يعبر عن تعاطف غير محدود وعطاء غير مشروط.
وقد يرى البعض أن الحب هو نوع من الحرية المطلقة، أو كما قال سبينوزا: "الحب هو الفرح المصحوب بفكرة سبب خارجي." فالحب ينشئ علاقة بين الذات والآخر، لكنه لا يُحتكر في مطالب معينة أو شروط، بل يمتد ليُطلق حرية الشخص الذي نحبه، فيعطي دون أن ينتظر، ويتمنى الخير للآخر حتى ولو لم يُبادَل. إنه نوع من الترفع عن المكافأة والتقدير، لأن المحبة الحقيقية تكمن في أن تمنح دون أن تتوقع، فإذا لم تتوقع شيئًا ولم تطلب شيئًا على الإطلاق، فلن تخون أو تشعر بخيبة أمل؛ فقط عندما يطلب الحب، يُصبح سببًا للألم.
ومن هنا، فالحب ليس أنانيةً تتسع أو تعاظم، بل هو تجرد تام من الأنانية، ويُظهره الناس في "الاهتمام بالسعادة الداخلية للآخر"، كما قال أريك فروم، فهو يرى أن الحب فعل إرادةٍ ونضج، حيث إن العطاء هو جوهر الحب الحقيقي، وهو عطاء لا يحده شرط أو توقُّع، بل ينبع من قناعة داخلية بأن الفرح الحقيقي يكمن في إسعاد الآخر، حتى وإن لم يدرك هذا الشخص قيمة ما تقدمه له، لذلك فهو يتطلب قوة روحية عميقة. وكما قال الفيلسوف الصيني لاوتسو، "من يعرف الآخرين حكيم، ومن يعرف نفسه مستنير."، فالحب غير المشروط هو تجسيد لهذا الفهم العميق للذات، والقدرة على رؤية الآخرين كامتداد للنفس، دون الحاجة للسيطرة أو التحكم.
الحب الحقيقي هو عندما تخبر شخصًا ما أنك تهتم بمشاعره، بينما الحب المشروط هو عندما تخبره أنك تحب ما يجعلك تشعر به. الحب المشروط أناني وأحادي الجانب، وهو ما يقدمه الناس لنا عندما نفعل ما يريدون، وللأسف، هو النوع الوحيد من الحب الذي عرفه معظم الناس. لقد أحبنا الناس أكثر عندما جعلناهم يشعرون بالرضا عن أنفسهم، مما يعني أننا بحاجة لشراء الحب المشروط. وعندما لا نعرف الفرق بين الحب الحقيقي والحب المشروط، نجد أنفسنا نستقر على "أخذ وعطاء" الحب المشروط الذي يتركنا دائمًا فارغين، غير سعداء، محبطين ومستائين، لذلك من المستحسن معرفة علامتين موثوقتين تدلان على أن الحب ليس حقيقيًا، وهما: التجاهل وخيبة الأمل.
وهنا تبرز أهمية "الثقة" كركيزة في الحب، فهي ذلك الجسر الخفي الذي يُمكننا من الاقتراب من الآخرين بصدق وأمان، كما قال سقراط، "إن النفس التي تملك فضائل الحب تستطيع أن تكون في سلام مع العالم." الثقة هنا ليست مبنية على ضمانات أو وعود، بل على استعداد دائم للعطاء دون مخاوف. إنها الثقة التي تتغذى على وعي عميق بأن الحب الحقيقي لا يُقاس بما يُنتظر، بل بما يُمنح بلا حدود.
أما عندما لا يعرف أحد كيف يحب، فإن واجبنا لا يقتصر على تعليمهم بالكلام، بل بإظهار ذلك الحب في أفعالنا اليومية، فالفيلسوف الروماني سينيكا يرى أن "التعليم الحقيقي هو أن يكون المعلم مثالًا حيًّا"، وهكذا فإن الحب الصادق يظهر نفسه في العطاء المستمر، الذي يُظهر للآخرين كيف يمكن أن يكونوا محبين بلا شروط.
ليظل الحب بمثابة تلك الطاقة الدافئة التي تتجاوز التوقعات، وتدفع الإنسان لأن يصبح جزءًا من كينونة جماعية أوسع، يسهم فيها بنقاء وإخلاص. إنه ذاك السلام الداخلي الذي يحقق الأمان النفسي، والذي لا يتبدد عند المحن، بل يزهر في ظل الصعوبات، متحولًا إلى قوة خلاقة تبث الحياة في النفس الإنسانية.
***
الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

الإقبال على إعادة محاولة فهم "الاستبداد"، ليس استثناء زمنيا، أو رافعة منذورة لتصيد الفراغ من أحداث تجبر العالم على النظر البعيد والانتظار الحاسم لعواقب شديدة العتمة.
لقد كان "الاستبداد" كحالة فلسفية متعاقبة وسيرورية، متحركا ومتشابكا، وأحيانا غامضا ومغلقا، يحتاج دوما إلى تفكيك متعالي عن طبيعة التفكير ومراوحة التأويلات المتعددة. ولهذا نجد أنفسنا محاطين بالشكوك حول درجاته، وقدراته الخفية، و(برمجياته) الخرافية التي تطبع جزءا كبيرا من تفوقه على نفسيات الإنسان وسلوكياته المتقلبة وتجاويف إحداثياته في الكينونة والمصائر المستتبعة.
إن أهم احتمالات وقوع الاستبداد، كما هو مطبوع في الذهنيات الثقافية والتاريخية، كونه ينتج عن صراع الفعل المرضي للسلطة لدى الحاكم، أو "الحكومة"، ما يشكل نسقا طبائعيا عنيدا، يراكم الخيبات والضلالات واللا عدل وتكريس الفساد وإغراق المجتمع بالنظام الفرداني الاستحواذي، وتعليق كل أشكال قيم الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية؟، وهو أمر عكف معظم الفلاسفة والمفكرين على تحليله وشرحه، وتقريضه وتنكّبه، حتى بلغ الحلقوم، وانتهى في تخوم علوم النفس المرضي وأراجيفه، فلم يبق سوى النزوع إلى تعليق جثثه على حبل النفض والاستغفال.
ولم يصر الشعب المنقاد المستسلم، شعبا "توكليا" و"جاهلا" وفاقدا للهمم ومنشغلا بمعيشته البهيمية البدائية، بعيدا عن الحرية الفكرية والأخلاقية، إلا لأن المستبد أسير قفص التعظيم وهوى النفس، وما وُجِدَ الاستبداد إلا لتشويش الحقائق وقلب الموازين، والأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية، كما قال الكواكبي.
وأضحت هذه الظاهرة العولمية القاهرة، مندوحة للقطعيات الكبرى، في عالم السياسة الدولية، ونوازعها المثاقفاتية المشمولة بقوة الصراع الحضاري والانزياحات الحاضرة في النسيج العام للقرية الكونية الصغيرة.
وهي إلى قهريتها المفرطة، وشدة بأسها في آليات الردع الجديدة، ضمن معيارية "التخلف" و"التبعية"، صارت تؤطر الواقع السياسي الدولي، بحمولاته التجزيئية وتفاعلاته مع وضعيات "سلط العالم الجديد" الذي تنظمه وتسيطر على قواعده "الدول العظمى" المسيطرة. وقارئ التاريخ الحديث، يعلم جيدا، أثر هذا "الاستبداد" وحتمياته الفظيعة، ولم تكن اتفاقية سايكس بيكو الموقعة في 1916 ، المعاهدة السرية بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية وإيطاليا على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا، ولتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا وتقسيم الدولة العثمانية التي كانت المسيطرة على تلك المنطقة في الحرب العالمية الأولى، سوى دليل على استمرار اصطراع منظومة "الاستبداد الدولي" في تدوير "العالم" وإغاضته على الشكل المطلوب والآمن، بحسب المصالح والمنافع الاستعمارية المعلومة.
ومن ثمة يصبح "الاستبداد" طبعا عولميا متحولا، ينجذب إلى التقليد والمراوحة، ومغايرة الثقافة واستئثار لغة الآخر بكل صروف الحذاقة وسرعة التقييس، وتوطين مخالفة الذات ونقذها، مع التفريخ اللازم لتقبل تشويه الذاكرة وتحجيم قيمها وأخلاقها.
والعالم الآن، يهيأ لنزوع استبدادي أكثر قتامة ومسخا مما انجلى في قرون غابرة. فقد توسع افتراق الاستبداد بالحدود الجغرافية وبالعددية الديمغرافية للأوطان المستقلة بحدودها المفترضة. واستقصدت الحاضنة العقلية والوجدانية للشعوب، لتكون أحوازا بديلة للقارات الكونية المشدودة بمؤثرات وخلفيات أيديولوجية وسيكولوجية فتاكة، تسكر أدمغة التابعين الخانعين، وتجمد أوردة عروقهم، وتحاصر أفكارهم وأحلامهم وخيالاتهم، وتروض في أقصى مواجهاتها الصعبة مناطق الارباك والتشويش، حتى آخر الحسم، الذي يصل السكين بالعظم والقشرة الدقيقة بمخ المآل الحتف؟.
ومن قتامة هذا الغزو الجبروتي الكذوب الأفاق، أن يركب المثقفون ونخب المجتمع موج الكمين، فلا يكاد يرى من كثرة الغيم والشبورة، من يكون القدوة، ومن يحمي الحمى، ومن ينثر العدل، ومن يحفظ الكرامة ويصونها، ومن يقاوم العسف والإذعان، ومن يكسر شوكة الاستبداد ؟.
ذلك أن الاستبداد/ الموت الأسود الآن، أغلق مسامع كل شيء، مما كان يطلق به سحر البروبجندا قبلا، ك "حقوق الإنسان" و"الديمقراطية" وقيم المساواة والحرية والكرامة الإنسانية والرحمة... إلخ، متساقطا عبر واقع استعباد العالم وإحالته على السجن، بكل معاني الوحشية والتطويع والتركيع والتجويع والإبادة والتهجير القسري. وما عاد لنا اليوم، سوى العودة مجددا إلى اقتفاء أسرار تقشير بصل "الاستبداد" وتوسيع دياجيره، حتى يكون طعما مستحضرا لتجميل صورة "الغرب" النكوصي وتابعه "العربي" الطائع، الذي استنفذ وجوده الحضاري وأعادنا إلى الصكوك الأولى من وجع التخلف والقصور والشذوذ عن آفاق الممكن وحتمياته في الصيرورات والسنن الكونية.
***
د. مصـطـــفى غَـــلْمَــان

"نفي الهوية" خيار ليس بالارادي، منطو في الجوهر على نفي لمايعتبر "مجتمعية" بالحكم المتداول، مع شيء من التدقيق وتعديل زاوية النظر ومنظومة المقاربة، لن نعدم مايدلل على تاريخيته غير المكشوف عنها النقاب، متحققة واقعا ودائمه ابتداء من تبلور الظاهرة المجتمعية باللاارضوية السماوية الحدسية وتاريخها النبوي نشأة وانتهاء متعاقبا غير مقر ولامعترف بكينونته، لالنقص فيه بذاته، بدلاله وجوده ضمن اشتراطات امتناع تحققه، بقدرما في الطاقة الادراكية العقلية البشرية المتاحه والباقية مستمرة حتى الساعه، كما في غياب الوسائل الضرورية المادية.
تتبلور المجتمعية ابتداء كونية لاكيانوية متعدية للحدود والجغرافيا، متجاوزة اشتراطات الارضوية الجسدوية، غير انها تبدأ غير مهياة للتحقق بمقابل النمطية الاخرى الارضوية الموافقة لاشتراطات الجسدوية وقصوريتها التي تغلب وتسود على مدى التاريخ اليدوي، بينما تتخذ اللاارضوية شكل التعبيرية الشامله، تخترق كيانوية الدولة والبنية الارضوية، مكرسة حالة "الازدواج" المجتمعي الدال على المؤقتيه المميزه للطور اليدوي، بانتظار القفزة الفاصلة الالية حيث تتوفر الاسباب، وماهو لازم وضروري للتحقق اللاارضوي الكوني، بما يضعنا امام تعاقبية، تبدا باللاارضوية غير الممكنه التحقق، مايتيح الفرصة والمجال للغلبة الارضوية، وصولا الى الطور النهائي اللاارضوي، وكأن الحال لهذه الجهه يذكرنا بما قد وضع توهميا بخصوص المسارات الطبقية على يد ماركس، من "الشيوعية البدائية" الى "الشيوعيه الالية العليا"، بغض النظر عن بدائية المنظور "الحتموي" الاصطراعي الازدواجي الطبقي المشار اليه، والعائد الى لحظة متقدمه من محاولة الخروج من القصورية الارضوية،محكوما للطبقية بدل الحقيقة الاساس الكبرى الابتدائية، تلك الموصولة بالاصطراعية الازدواجية "المجتمعية".
اي من المجتمعيتين هي المجتمعية، اللاارضوية ام الارضوية، وهل لهذه الظاهرة سيرورة تشكلية تاخذها للاكتمال، مقابلها هل الكائن البشري الحالي هو الغاية والمنتهى كينونة، ام انه بالاحرى حالة توسط انتقالي بين الحيوان والانسان، لنا ان نرى مايتناسب مع مستوى وممكنات ادراكيتنا بالاخص بعد طول تراكم تصوري واعتقادي ليس لنا ان نتبين نطاق قصوريته المبني عليها، ولاحتى التساؤل الواجب الضرورة: كيف يمكن لكائن انتقالي لم يكتمل بعد وهو موضوع ضمن اشتراطات تفاعليه ترقوية منها يستمد اسبا ب نشوئه وصولا لغاية وجوده، كيف يمكن لكائن من هذا الصنف او النوع الانتقالي، ان يشكل بناء اجتماعيا مكتملا ابتداء من دون استثنائية في الاشتراطات وظروف النشاة والتبلور كما الحال في ارض سومر كمثال، الوضع الذي لم يكن وادرا بيئيا وطبيعة، شموله لاجمالي المعمورة الامر غير المتلائم مع الكينونه المستجده الانتقالية الناتجه عن الوثبة العقلية الاولى من مغادرة الاشتراطات الحيوانيه، مع حلول زمن الانتصاب واستعمال اليدين والنطقية.
ثم هل من الممكن ان نتعرف على مروية تسرد لنا المعاش مجتمعيا تكون في حينه غير "انسايوانيه" الامر المستحيل بنية وكينونه بشرية، بانتظار ساعة الاقتراب من مغادرة المجتمعية الارضوية الانسايوانيه، مع بد توفر الاشتراطات الانتقالية النهائية العظمى التحولية، ساعة يصير لازما النظر في المجتمعية بما هي حالة انتقالية، تبدا كغلبة جسدوية ارضوية محكومة لتفاعلية مفضية الى الالية بعد اليدوية، حين تفقد مقومات استمرارها وصلاحيتها بما هي طور ومسار لازم، ومحطة اولية انتقالية في المسار المجتمعي، ليس من باب الاجحاف القول بانها" ليست مجتمعية" بل مجتمعية غير مكتملة او في طور الاكتمال، منطوية على اسباب وديناميات الانتقال والتحول الى المجتمعية.
فماذا بناء عليه بما خص الذاتيه، وهل مايعرف بالكيانات والدول والامم والقوميات هي غاية ومقصد، مقابل نفي الكيانيه ومايتصل بها، اذا كان لمثل هذا النفي ضرورة حتى يتلائم مع مقتضيات الانتقال التحولي الاكبر، والنضج، مايعني في التطبيق "نفي الذاتيه" باعتباره الهدف والمبتغى المطلوب كغاية لسيرورة المجتمعات وقت تتحول الى مجتمعات مكتملة القوام والبنيه، مايعني تحول هذا المقصد الى مهمة واجب الاضطلاع بها عند لحظة من التاريخ المجتمعي.
ومن المؤكد على هذا الصعيد ان "نفي الذاتيه" الكيانوية لن تكون له نفس المكونات واشكال التحقق الضروري مقارنه بالكيانيه المنقضية الصلاحية، مع عالم الدول، ومع الخروج من ربقة الجغرافيا والعيش المشترك وغيرها من التشابهات، فان قوة وحضور "الكتابية" اي الرؤية المعدلة للتاريخ المجتمعي وللحقيقة المجتمعية ومآلاتها، تغدو هي القوة الفاعلة، وهذا مايعيدنا الى الصيغة التحققية الكتابية الاولى الابراهيمه، المتخلصة من وطاة الجغرافيا، والحاضرة كتابيا كونيا على مر تاريخ الظاهرة المجتمعية، وان هي وجدت حدسيا متلائما مع اشتراطات عدم التحقق الطويل المستمر حتى اليوم.
تحضر "الكتابية" اللاارضوية الشرق متوسطية بما هي كينونه كونية متلائمه مع الحقيقة المجتمعية مع اكتمال اسباب نضجها بعبورها طور الاارضوية والقصورية العقلية البشرية الانسايوانيه حيث تتجلى بالاصطراع الافنائي الذي يسلطه الغرب على بؤرة اللاارضوية التاريخيه(1)، ضرورات الانتقال الكبير اتفاقا مع منطويات وحقيقة الانتقال الالي، بالضد من تلك التوهمية الارضوية التي يشيعها الغرب ويحولها الى مسلك تخبطي تدميري متناقض مع ماصار مع الاله وتدرجاتها وصولا الى " التكنولوجيا العليا/ العقلية" حال افتراق، بين وسيلة الانتاج العقلي، والعملية الانتاجية الارضوية الجسدوية، مايضع مع العولمه ولاندحار العملي للكيانوية كبداية، اجمالي الحياة القائمه ودولها مدعية الرفعة الحضارية الحداثية، في الاضطراب المستمر والفوضى والعنف الابادي الساخق للاخر، بما يحمل العقل على البحث عن مسرب اخر للاستمرار بظل اشتراطات استثنائية تعيد حضور حال "العيش على حافة الفناء" وقد صارت كونية شامله لعموم المعمورة، بينما يستمر الاصرار الارضوي بالقوة والتدمير على فرض ماقد صار من قبيل الماضي، وهو ماغدت البشرية تعيشه اليوم ومن هنا فصاعدا.
الذاتية الشرق متوسطية هي موضع "نفي الذاتيه"، الذي هو ومن هنا فصاعدا قضية وهدف الوجود الذي لا حياة ولا مجتمعات من دونها، بينما تكون هي قد بلغت عالم الانتقال من النبوية الحدسية اللاارضوية الاولى الانتقالية، الى العليّة التحولية السببيه، وهنا يتمثل " العصر" لافي التوهمية الحداثوية الغربية المواكبه للانتقال الالي بلحظته الافتتاحية، المغمورة بسطوة القصور العقلي الارضوي اليدوي.(2)
***
عبد الاميرالركابي
............................
(1) يراجع ( كتاب العراق)، عبد الامير الركابي، دار الانتشار العربي، بيروت.
(2) مايزال الطريق طويلا امام الرؤية الكتابيه الثانية الضرورة النهائية اغير النبوية تفصيلات ومنظورا.

في المثقف اليوم