قضايا

كلمات توراتية لا علاقة لها بالسرديتين الحضاريتين المصرية والعراقية القديمتين: ترك الخطاب التوراتي تأثيراته الواضحة والقوية على لغة ونتاج النخبة العربية المثقفة غالبا، بل وقد تجاوز ذلك فسادت بعض مفرداته في لغة الإعلام الشعبي والتعليمي؛ فكلمات مثل الفرعون والهيروغليفية والنيل كلمات لا علاقة لها بالحضارة المصرية القديمة، وهي مفردات لم يعثر عليها في أي نص أو أثر مصري قديم. وكذلك الحال مع كلمات من قبيل النمرود وميزوبوتاميا اللتين لا علاقة لهما بالسردية الحضارية العراقية القديمة. لنلقِ نظرة على جدور هذه الكلمات:

* الفرعون: لم يعثر أبدا على كلمة فرعون ومشتقاتها في السردية المصرية القديمة كمقابل لكلمة "ملك" أو "إمبراطور" وقد جاءت كلمة "فرعون: من التوراة حصرا حيث أشارت التوراة في سفري التكوين والخروج لملوك مصر بلقب «فرعون»، ولم تفرق التوراة في ذلك اللقب بين الملوك الثلاثة الذين كانوا يحكمون مصر في عصر الأنبياء التوراتيين: إبراهيم ويوسف وموسى. والمثير للعجب ولتساؤل هو أن الآثار المصرية على ضخامتها وكثرتها وشمولها لكل صغيرة وكبيرة من حياة المصريين القدماء لم تذكر كلمة فرعون ولا اسم أحد الأنبياء الذين ذكرتهم التوراة!

وقد حاول العلماء التوراتيون المعاصرون أن يجدوا جذرا لغويا لكلمة فرعون التوراتية في «برعو» في اللغة المصرية القديمة وتعني «البيت الكبير»، ولكن علماء المصريات غير التوراتيين أكدوا عدم وجود دليل في خرطوش واحد من الخراطيش الملكية المصرية التي تحمل أسماء الملوك يشير إلى ذلك اللقب «بر - عا». وعلى هذا سيكون من العلمي والأقرب إلى الحقيقة التاريخية أن نقول "الملك المصري" بدلا من "الفرعون".

وقد "كشف الباحث الأثري المصري أحمد عامر عن أن "المُسمي الصحيح للمصريين قديماً هو اسم "المصريين القدماء"، وليس الفراعنة، فهذه الكلمة عامية... وأن أصل كلمة "فرعون" جاءت من اللفظ المصري "بر_عا" الذي يشير أصلاً الي القصر كمؤسسة كبرى". ولكن عامر يعود ويؤكد الاسم التوراتي بشكل غريب، فيقول "وتدرج هذا اللفظ منذ عهد الدولة الحديثة ليعني الفرعون شخصياً" وهذا كلام لا دليل عليه كما قلنا في كل الآثار المصرية القديمة التي عثر عليها حتى اليوم. والأغرب أن هذا الباحث يضيف بعد أسطر ما يناقض عبارته الأخيرة فيقول إن الملك المصر القديم "كان يطلق عليه اسم "نسو" بمعني "جلالته"، وكان غالباً يُتبع بعبارة "له الحياة والصحة والكمال"، أما ألقابه أو المراسم الخاصة به فهي كانت تتضمن خمسة أسماء هي الاسم "الحوري"، والاسم "النبتي"، واسم "حورس الذهبي"، واسم ملك "الجنوب والشمال "، واسم "ابن رع"/ تقرير إخباري لأخبار اليوم - مارس / آذار 2019.

* كلمة الهيروغليفية: وهي كلمة يونانية وقد اشتقت كلمة «هيروغليفي» من الكلمتين اليونانيتين «هيروس» (Hieros) و«جلوفوس» (Glophos) وتعنيان «الكتابة المقدسة» جاءت كترجمة لعبارة مصرية قديمة هي "ميدو نتروا" وتعني النقوش المقدسة أو العلامات الروحانية، وكانت كلمة إله عند المصريين القدماء هي (mdw nṯr) وتلفظ من دون تحريك "مدو نتر". ولكن الذي حدث هو أن الترجمة اليونانية شاعت وانتشرت والكلمة الأصلية المصرية غابت وانطمست.

*النيل: كلمة النيل ليست ذات أصل مصري قديم. والمرجح كثيراً أنها - كما يقول الباحث العراقي الراحل طه باقر في كتابه / مقدمة في تاريخ الحضرات القديمة ج2 "حضارة وادي النيل"- [من الكلمات السامية القديمة - وربما تكون مشتقة - من «نهر» أو «نهل» أو «نخل» (بإبدال الراء لاما) فصارت الكلمة الثانية بصيغة نيل، ومنها الكلمة اليونانية ( Neilos ) واللاتينية ( Nilus ). أما المصريون القدماء فقد سموا نهر النيل وكذلك الإله الخاص بنهر النيل باسم "حعف" أو "حعفي". وفي الأزمان المتأخرة صار يلفظ بهيئة (هوفي وأوفي وحوفي) ولا يعلم معنى هذا الاسم المصري القديم، وقد أله النيل ونظمت في تمجيده التراتيل الدينية وخصصت له بعض الأعياد الدينية].

* مصر: يرى بعض الباحثين ومنهم مثلا طه عبد العليم في مقالة له في الأهرام اليومي، إن الاسم الذي عرف به المصريون القدماء موطنهم هو كمت أو كامى "ⲭⲏⲙⲓ " وتعني «الأرض السوداء»، كناية عن أرض وادي النيل السوداء تمييزا لها عن الأرض الحمراء الصحراوية المحيطة بها. وكلمة «مجر» التي كانت تعني معنى «الدرء -الدفاع»، ومعنى (البلد) «المكنون» أو «المحصور» واشتقت من كلمة «جرو» بمعني الحد، أو من كلمة «جري» بمعني السور، ثم أضيفت إليها ميم المكانية فأصبحت «مجر» وكتبت بعد ذلك بصور كثيرة مثل «مجري» و«إمجر». وقد استعملها المصريين القدماء فوصف أحد شعرائهم فرعونه سنوسرت الثالث بأنه «أمجر»؛ أي درء "دفاع/ يدرأ" وأنه أشبه بأسوار الحدود.

ويقول الكاتب فاضل الربيعي إن "اسم مصر ورد بهذا اللفظ في اللغة العبرية فقط"، وهذا غير صحيح إذْ أنه لم يرد في العبرية فقط بلفظ "مصر أو مصريم"، بل ورد أيضا باللفظ ذاته أو قريبا منه في لغات جزيرية "سامية" أخرى؛ فهو في الأكدية القديمة التي ظهرت وسادت في الألفية الثالثة ق.م، "مصري"، وفي الآرامية " مصرين"، وفي الآشورية "مشر"، وفي البابلية الحديثة "مصر"، وفي الفينيقية "مصرو".

أما كلمة إيجبت في اللغات الغربية فتأثيله -  كما يقول د. خالد أبو الحمد مدير عام آثار الاسكندرية - "إنه مشتق من الاسم المصري القديم (حت كا بتاح) والواضح أن اليونانيين وجدوا صعوبة في نطق حرف الحاء في بداية ونهاية الكلمة، وأنهم استبدلوا الجيم بحرف الكاف وهذا الابدال قائم في اللغات القديمة والحديثة وهكذا أصبح ينطقون الاسم ايجو بتس ثم أضاف اليها كما في هو الحال بالنسبة لأسماء الاعلام في نهاية الكلمة حرف السين مسبوقاً بحرف من حروف الحركة ليصبح ايجو بيتس".

وهناك تأثيل قريب آخر للكلمة يقول إن "كلمة «قبط» مشتقة من الاسم اللاتيني لمصر إجبتوس Aegyptus المشتق بدوره من اللفظ اليوناني أيجيبتوس Αίγυπτος، الاسم الذي أطلقه اليونانيون على أرض وشعب مصر، ويفسّر البعض ذلك الاسم على أنه مشتق من «حاكبتاح» الهيروغليفية أي "أرض روح الإله بتاح" وهو إله العاصمة القديمة منف «ممفيس»، واستبدلت بعض أحرفه على مر العصور، فأصبح «هكاتباه» وخلال العصر الإغريقي حوّر الإغريق المصطلح بما يلائم التلفظ بالحروف في اللغة اليونانية ومنها استبدال الهاء بالألف، وإضافة الواو والسين، وهما لازمتان لجميع أسماء العلم في اليونانية وكنتيجة للتحوير أصبح المصطلح «إيجيبتوس (باليونانية: Αιγύπτιος)».

وبناء على ما تقدم يمكن استعمال اسم مصر كاسم حقيقي لهذه البلاد وشعبها في عصرنا لأنه ورد بهذه الهيئة اللفظية في جميع لغات الشرق القديمة ولصعوبة التلفظ بالاسم المصري القديم (حت كا بتاح) ولإهماله طوال القرون الماضية حتى صار منقرضا.

النمرود: ورد في التوراة كاسم علم لملك رافداني قديم هو بحسب التوراة "ملك شنعار، التي يفسرها البعض بأنها تعني "سومر"، وكان النمرود وفقاً لسفر التكوين وسفر أخبار الأيام ابن كوش، وهو ابن حفيد نوح الذي ورد ذكره في قصة الطوفان في اللوحين العاشر والحادي عشر من ملحمة كلكامش باسم "زيوسيدرا باللغة السومرية و" أوتا نبشه -الباحث عن "نبشه/ نفسه" أي حياته" باللغة الأكدية البابلية. ويُذكر نمرود في بعض التفصيل في كتب اليهود الأخرى مثل التلمود والمدراش وتاريخ يوسيفوس، فالتلمود يربطه بشخصية الملك آمرافيل - وهو اسم لملك آخر لا وجود له في ثبت الملوك الرافدانيين - الذي كان حاكما أيام النبي التوراتي إبراهيم. ونمرود أيضاً اسم يطلق على مدينة رافدانية، هي العاصمة الآشورية "كالحو/ كالخو" التي أصبحت في القرن التاسع قبل الميلاد عاصمة الإمبراطورية الآشورية الحديثة زمن الملك آشور ناصر بعل الثاني. والفترة الزمنية الفاصلة بين الملوك المعتبرين سومريين في زمن إبراهيم والمولود وفق التوراة تخميناً بين 2324-1850 ق.م، والآشوريين، طويلة جدا وتصل إلى قرابة ألف وخمسمائة عام مع اخذ الفرق بين التخمينين وهو أكثر من أربعة قرون ونصف بنظر الاعتبار. ولكن الاسم لم يرد قط بلفظ "نمرود" في السردية الرافدانية والآثار المادية التي عثر عليها، وخصوصا في أثبات وسِيَّرِ الملوك والمدن القديمة، غير أن الاسم الذي ابتكرته التوراة ساد بعدها في الثقافات اللاحقة وفي العصر الحديث بجهود المستشرقين الغربيين وغالبيتهم من رجال الدين المتأثرين أو المؤمنين بالتوراة.

ميزوبوتاميا/ ميتسوباتاميا: وهي مفردة أخذتها اليونانية عن الترجمة التوراتية السبعينية لاسم العراق القديم باللغة آرامية "بث نهرين/ أي بين نهرين". نجد أن بعض الباحثين والمترجمين والإعلاميين العرب - وحتى بعض العراقيين- يستعملون الترجمة الإغريقية «ميزوبوتاميا» للمصطلح الآرامي العريق «بيث نهرين/ بين نهرين» دون الإشارة إلى أنها ترجمة لهذا الأخير. ويصرّون أحياناً على استعماله بما يوحي وكأنه الاسم الأصلي للعراق القديم. والنهران المقصودان هما دجلة والفرات. وهناك مَن لا يستعمل عبارة «ما بين النهرين» أو مرادفها المعاصر «بلاد الرافدين» التي تعنيها تماماً، بل يكرر الترجمة الإغريقية «ميزوبوتاميا» بالحرف العربي؛ أمّا عبارة «العراق القديم» فهي من المهملات أو ربما المحرمات عند بعضهم، ولهذا التصرف تفسيراته التي لا علاقة لها بالموضوعية البحثية غالباً بل الجانب النفساني والسلوكي للباحث الفرد وبعدم معرفته بهذه المعلومة.

إن اعتبار مصطلح «بلاد ما بين النهرين/ بلاد الرافدين» ترجمة عربية مأخوذة عن المصطلح الإغريقي «ميزوبوتاميا/ ميتسوبوتاميا»، هو كلام خاطئ جملة وتفصيلاً، يتكرر في الموسوعات المعلوماتية على النت وفي الدراسات الإناسية الاستشراقية والعربية، وقد فرح به بعض العراقيين فأطلقوه اسما على دور نشر وجمعيات ثقافية ظانين إنه اسم عراقي قديم في حين أنه ترجمة أجنبية لاسم عراقي آرامي.

إن عبارة «بيث نهرين» الآرامية هي الأصل، وكانت متداولة في عهد الدولة الآشورية. هذه العبارة «بيث نهرين» هي الأقدم تاريخياً من ترجمتها الإغريقية «ميزوبوتاميا»، ثم الروماني لفترة قصيرة كاسم لمقاطعة محتلة من قبل الرومان في شمال بلاد الرافدين في عهد الإمبراطور تروجان سنة 116 م، حتى انسحاب الرومان منها في عهد هادريان بعد سنوات قليلة، والتي ولدت في القرن الثاني ق.م. وكما أن اللفظة الأصلية الآرامية «بيث نهرين» هي الأطول عهداً والأوسع استعمالاً والأقدم من ميزوبوتاميا الإغريقية بعدة قرون، ومرادفها العربي الصحيح والحرفي هو بلاد «ما بين النهرين»، واختُصرت في الاستعمال اليومي إلى «بلاد الرافدين» لخفّتها وسلاستها النطقية. وتكون النسبة إليها «الرافداني» على منوال «البحراني» وصنعاني وبهراني كما ورد في موسوعة «لسان العرب» لابن منظور ومراجع أخرى، في موضوع النسبة العَلَمية.

إنَّ اسم العراق الآرامي موثّق منذ اعتماد الآرامية القديمة كلغة مشتركة للإمبراطورية الآشورية الحديثة في القرن الثامن ق.م، وبعدها الفارسية الأخمينية. أمّا الاسم اليوناني، ميزوبوتاميا، فالأرجح أنه صيغ لأول مرة كترجمة لبث نهرين الآرامية في القرن الثاني ق.م، من قبل المؤرّخ بوليبيوس خلال الفترة السلوقية. وهناك صِيَغ أخرى قريبة في السريانية الكلاسيكية «الآرامية» الأقل شيوعاً الأخرى للاسم منها "بيت ناهراواتا" أي بين الأنهار، و "مشآت ناهراويتا" أي وسط الأنهار، وقد استخدم مصطلح بلاد ما «بين نهرين» في جميع صفحات الترجمة السبعينية اليونانية للتوراة (حوالي 250 قبل الميلاد) كترجمة معادلة للمفردة الآرامية والعربية "نهرايم".

وقبل شيوع هذا الاسم الآرامي أو خلاله استعمل اسم قريب في لفظه من "العراق" وهو " آراكيا -آراقيا" في وثائق آشورية تعود إلى القرن الثامن ق.م، كما أعلن المؤرخ الأميركي ألبرت أولمستيد ونشر واحدة من تلك الوثائق في مؤلّفه الضخم «HISTORY OF ASSYRIA»، وهو كتاب مهم ولكنه لم يُترجم إلى العربية حتى الآن، وقد ذكره العلامة العراقي الراحل طه باقر في كتابه «مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة» الصادرة طبعته الأولى سنة 1951م، بشكل محايد وعرضي، ولكنه قال إن أولمستيد يعتقد أن اسم العراق جاء من إقليم أيرقا كاسم لبلاد بابل والذي انتشر في العهد الكيشي منتصف الألف الثاني ق.م في وثيقة تأريخية ترقى إلى القرن الثاني عشر («مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة» - مج 1 - ص 21.

***

علاء اللامي

على المستوى الفلسفي ربط الفيلسوف (باسكال) بين الحقيقة والعنف. إذ اعتبر ثمة صراعا خالدا ومفتوحا بينهما. إذ لا تستطيع الحقيقة القضاء على ظاهرة العنف في الوجود الإنساني، ولا يستطيع في المقابل أيضا العنف من حجب أنوار الحقيقة. فمهما تجلت الحقائق الذي يبحث عنها الإنسان، ستبقى ظاهرة العنف، وسيمارس من أجل الدفاع عن مبدأ وأفكار وعقائد. ومهما اكتشف الإنسان خطر ممارسة العنف ومتوالياته على الإنسان والوجود، فإنه سيمارس بذات الذهنية أي الدفاع وتعميم القناعات والأفكار والعقائد. وبالتالي على حد تعبير الفلاسفة ثمة ملازمة بين ظاهرة العنف بكل مستوياتها ودرجاتها وبين الوجود الإنساني. فلم تخلو أي جماعة بشرية من استخدام العنف سواء في إطار الدفاع أو التوسع والتعميم.

وما يستطيع أن يقوم به الإنسان أزاء ظاهرة العنف الملازمة لوجوده، هو ضبطها والتقليل من مساحة استخدامها وتربية الناس بطريقة مضادة للعنف،بحيث يصل الإنسان إلى مستوى ينبذ فيه العنف واستخدامه على المستوى النفسي والعملي. والملفت للنظر على هذا الصعيد أنه مع التقدم العلمي والتقني الهائل الذي حصل عليه الإنسان اليوم، إلا أن التقدم العلمي الهائل لم يمنع الإنسان من استخدام العنف ضمن استهدافاته البدائية والأولية، بل على العكس من ذلك. أي أن التطور العلمي والتقني اليوم استخدم لتطوير آليات ممارسة  العنف في الوجود الإنساني . فالإنسان اليوم ازداد علما وتقنية واستخداما لمنجزات العصر المختلفة، وفي ذات الوقت إزداد استخداما للعنف واقترب أكثر من استخدام وسائل عنفية لم تكن معهودة من قبل، لدرجة أن وسائل العلم والاتصال الحديثة ساهمت في تعميم صور العنف وآليات استخدامه. بل لو تصفح الانسان وسائل الاتصال الحديث، سيجد صفحات ومواقع تغذي الناس لدواع واعتبارات متعددة على الدعوة إلى العنف واستخدامه للدفاع عن الذات وأفكارها، ومواقع أخرى هي لتعليم المتصفح طريقة تفخيخ السيارات وصنع القنابل واستخدام مختلف الأسلحة الثقيلة والخفيفة. والعجب في الأمر أن فاعل العنف وممارسه، يستسهل ممارسته بل يعتبره من الأفعال التي يثاب عليها الإنسان. وبفعل استسهال ممارسة العنف والتغطية الدينية للفعل العنفي أضحى الواقع الإسلامي المعاصر يعيش مفارقة صارخة وخطيرة في آن. حيث عشرات التوجيهات الإسلامية التي تحث على الرفق والاعتدال والتسامح ونبذ الشدة والغلظة وضرورة الرحمة مع الجميع. وفي مقابل هذه التوجيهات ثمة ممارسات عنفية يندى لها جبين الإنسانية تمارس بأسم الإسلام ودفاعا عن مقدساته. وكأن الإسلام دين القتل والعنف لأتفه الأسباب. وكأن تمكين الإسلام في الواقع الخارجي، لا يحتاج إلا إلى بندقية وسيارة مفخخة لإشاعة الفوضى وتعميم القتل. ولكن ما نود أن نقوله في هذا السياق أن الله سبحانه وتعالى لا يطاع من حيث يعصى، مهما كانت التبريرات ومهما كانت اليافطات المرفوعة في هذا السبيل.

فالباري عز وجل يطاع من خلال الالتزام التام بتشريعاته وتوجيهاته، ولا يمكن أن يطاع بسفك الدم وقتل الأبرياء وتدمير أسواق المسلمين ومصادر رزقهم. فالله سبحانه وتعالى لا يطاع بقتل الأطفال والنساء، ولا يطاع بالإعدامات العشوائية التي نشاهد بعضها على اليوتيوب وشبكات التواصل الاجتماعي.

إن ما يجري اليوم من عمليات قتل وتفجير باسم الجهاد والدفاع عن المقدسات، هو ذاته مناقض بشكل تام لتوجيهات الإسلام وثوابته.

ونظرة بسيطة لأداب وأخلاقيات الحروب في الإسلام، سنكتشف أن ما يجري هو مناقض لأداب وتوجيهات وأخلاقيات الإسلام.

ويبدو أن الإنسان هو الكائن الوحيد على وجه هذه البسيطة الذي يقتل من أجل أفكاره ومنظومته العقدية والاجتماعية.

وهذا يعكس عجز هذا الإنسان عن إقناع الآخرين بأفكاره وقناعاته، فيلجأ إلى القتل والتدمير، وكأن هذا القتل والتدمير سيمكنه من الوصول إلى أهدافه.

وتعلمنا تجارب الأمم والشعوب المختلفة إن الوصول إلى الغاية بالظلم والتعدي على الحقوق والكرامات لن يدوم مهما طال الزمن. فالتمكن من الآخرين بالقتل والتفجير والإرهاب قد يطول إلا أنه لا يدوم مهما كانت الظروف والأحوال.

وتؤكد لنا جميع التجارب العنفية أنها إما مرتبطة بشكل مباشر بجهات إقليمية ودولية لها مصلحة مباشرة وأكيدة في تمزيق دول وشعوب المنطقة، أو تخدم مصالح أعداء الأمة بطريقة غير مباشرة. لأن جماعات العنف تساهم  بشكل أساسي في تمزيق نسيج الأمة ومجتمعات المنطقة، وتظهر للجميع صراع المسلمين مع بعضهم البعض، وهذا ما يريده أعداء الأمة لتمرير مشروعاتهم وأجندتهم الاستراتيجية والسياسية التي تستهدف إضعاف الأمة لأدنى الحدود ومن ثم إخضاعها لشروطها المجحفة التي تستهدف ثرواتها وقدراتها راهنا ومستقبلا.

فما يجري في المنطقة اليوم من انقسامات طائفية حادة واقتتال مذهبي وأهلي في أكثر من بلد وتقسيم ممنهج لبعض الدول والشعوب، ليس بعيدا عن إرادة الأجنبي ومصالحة العليا. فلحظة الانهيار التي تعيشها المنطقة وبفعل خيارات سياسية وفكرية صنعها أبناء المنطقة ويتم تغذيتها والاستفادة منها من قبل أعداء الأمة، عمل من أجلها الأجنبي منذ سنوات طويلة، ولكن كان وعي الأمة ووحدتها الداخلية هو الذي يفشل هذه المخططات. ولكن للأسف الشديد ومع تضخيم المشكلة الطائفية وتغذيتها من قبل جميع الأطراف بعضهم بوعي وإدراك والبعض الآخر بدون وعي وإدراك، أضحى الاهتراء  الداخلي في جسم الأمة حقيقيا وأضحت يد الأجنبي هي الأعلى في التحكم في مسار الأحداث والتطورات التي تجري في المنطقة.

وبفعل هذا التداخل والتشابك بين جماعات العنف وبعض الأطراف الإقليمية والدولية، أضحت هذه الجماعات هي عنوان حروب العرب الداخلية، التي تستهدف نسيج العرب الداخلي وتدمير إمكانية تجاوز عثرات الطريق في مشروع البناء والتنمية العربية.

***

محمد محفوظ

الطفل صفحة بيضاء نقية بالفطرة، جوهرة لابد من الحفاظ عليها من الملوثات والانتهاكات حتى لا تتهشم وتدمر، ولكن للأسف الطفل منذ الالفية الثالثة للميلاد يتعرض لمخاطر تقضي على فطرته وانسانيته في حملات ممنهجة عبر الالعاب الالكترونية التي تدعو للعنف والانتحار تارة وعبر الترويج للمخدرات في المدارس تارة اخرى واقحام الاطفال في العصابات والمليشيات والارهاب تارات اخرى ومؤخرا حملات ترويجية لإقناع الأطفال للانحراف عن الطبيعة.

هذه الاخيرة بدأت خطتها تنكشف فكلما تابعت برنامج او مسلسل او اخبار عبر وسائل الاتصال والاعلام تجد ترويجا بشكل او بآخر من اجل نشر هذه الظاهرة بين الناس وقد لاحظت بعض الاعلاميين عبر قنوات الفضائيات العربية رجال وسيدات بعضهم تحديدا بكل حلقه من برامجهم يتطرقون لهذا الموضوع وكأنما هناك من يدفع لهم اموالا للترويج فالأمر أصبح مفضوح .

فقد وصل الخطر الى عقر دارهم (الاطفال) ذهبوا إليهم في اماكنهم في العابهم في قصصهم في افلامهم (الكرتون) ومراكز الترفيه التي كنا نحبها مثل (ديزني لاند)

وصلوا لأبعد الحدود في خطة ممنهجة لنشر الشذوذ في العالم من ضمنها العالم العربي رغم انه الأكثر حرصا على تعاليم الاديان السماوية التي تحرم جميعها الانحراف عن الطبيعة ثقافيا واجتماعيا ليس فقط دينيا .

فالمنطق يقول ان كنت تستطيع ان تخلق انسان وقتها يحق لك ان تغير جنسه

فهل يمكننا تغيير شجرة البرتقال الى تفاح

وانا هنا اتكلم عن الاطفال وليس الكبار

وتحت شعارات انسانية كالحرية التي هي حق يراد به باطل، فقد بدأت في 2008 بعض المؤسسات الدولية خطة لنشر هذه الامور بالوطن العربي كما في محاولات "نتفلكس" و"ديزني" لترويجه بالعالم العربي بأفلامها والعابها للصغار من مدة .

وكانت المذيعة الأمريكية ميجان كيلي قد أطلقت صرخة تحذير من الانحراف، مُتهمة ديزني بالسعي لتعليم الأطفال المثلية

عنيت "ديزني" بتقديم شخصيات مثلية بفيلم "لايتيير"، للأطفال، وبحسب وكالة "أسوشيتد برس" الأميركية منعت 14 دولة عربية عرضه لاحتوائه على مشاهد محضورة ممثل خسارة مادية لمنتجيه.

وليست هذه المرة الاولى التي تمنع فيها الدول العربية والاسلامية افلاما لديزني، فقد منعت فيلم "دكتور سترينج في الأكوان المتعددة من الجنون"، لما تضمنه من توجهات تدعو وتروج لانحراف، وفيلم الرسوم المتحركة "حكاية لعبة" الذي نال جزؤه الرابع جائزة الأوسكار 2020.

ومنعت فيلم "الأبديون"، وحظرت أفلام "قصة الحي الغربي" بأغلب البلدان العربية لإدراجها شخصيات متحولة ومنحرفه عن الطبيعة.

وكذلك شكلت الالعاب الالكترونية خطرا داهما على الهوية الدينية والثقافية للأطفال، مثل لعبة "بابجي"، التي تحفز الصغار على تبني العنف والقتل والانتحار، مما دفع عدد من دولنا لحظرها كما حذر الأزهر الشريف من لعبة "فورتنايت" الإلكترونية لاحتوائها على تجسيد لهدم الكعبة المشرفة.

الخطر الداهم، هو أن ديزني تكرس لفكرة الاعتياد على مشاهدة الأطفال للمشاهد المثلية، وان بعض المؤسسات الغربية قدمت تمويلات مرعبة لنشر هذا الامر . وان كنا في الماضي لا نفهم المقصود بهذا العبث، فأننا بعد ان كبرنا فهمنا

كما ان الخطة بدأت تتضح بعد وباء كورونا والحديث عن المليار الذهبي قد فضح هذا المخطط الذي لا يهدف فقط لمحاربة الخالق في خلقه للانسان على احسن تقويم، وتحطيم الفطرة السوية للاطفال ونشر الفجور والفسق بكل انواعه، بل يتعداه الى هلاك بني آدم بالاوبئة وامراض الشذوذ

الاطباء والمتخصصون في الطب يؤكدون ان مشاهدة الأطفال للكرتون والألعاب المروجة للشذوذ قد يكون سببا في تحوله الجنسي بسبب فكرة الاعتياد.

في هذا السياق تشير د. هبة قطب الى ان التقارير الامريكية توضح ان 95% من الذكور يتعرضون للتحرش الجنسي بأمريكا 3 بالمئة منهم يكملون بهذا الطريق، وأكثر من 97 بالمئة من الشواذ يزورون أطباء نفسيين، و92 بالمئة من الشواذ يحاولون الانتحار خلال 5 سنوات.

وفي 29 مارس الماضي أعلنت مديرة "ديزني" كايتي بيرك، أن الشركة ستدعم وتروج من الآن فصاعدا لتلك القضايا.

المشكلة ان ديزني تغزونا بفكر الشذوذ بينما يعجز عالمنا العربي عن انتاج محتوى سينمائي يلبي احتياجات اطفالنا من المتعة والاثارة. في الوقت الذي تتحدى فيه كيري بورك رئيسة ديزني العالم باعلان انتاج أفلام جديدة أبطالها من الشواذ، واتجاه الشركة وتحويل نحو 50% من الشخصيات الكارتونية بـ ديزني إلى شخصيات شاذّة قريبا، لدعمهم.

ان هذه الكارثة التي اراها عالمية تتطلب التعاون الدولي والانساني لمنع بث هذه الافلام ونشر الوعي داخل الاسر والمجتمع بالرقابة على الصغار وتحصين فلذات أكبادهم من الوقوع في فخ الانحراف عن الفطرة

السؤال الأهم بهذا كله كيف يمكن ان يقتنع الناس ان من حق الطفل ان يرمي نفسه بالتهلكة

فهل من حرية للطفل بان يختار مثلا ان يشرب البنزين او ياكل الاسفلت ونقول ان هذا خياره ما هي مقومات الطفل العقلية التي تؤهله ان يختار؟ فكيف يمنع الطفل من التدخين مثلا او من شرب الكحول وهو صغير اذا كان منطقهم ان الطفل يحق له الاختيار

وكيف يمنع الطفل من تناول العسل مثلا قبل اكماله عامه الاول إذا كان كل شيءٍ في هذه الدنيا سداح مداح

لماذا يمنع الاطفال مثلا من مشاهدة الدم والقتل والعنف لماذا يوجد على الافلام +١٥ او +١٨ في سينمات اوروبا

ما هذا الاستهبال والاستدراج للناس بحجة التطور والتقدم والحرية؟

لماذا يسعى هؤلاء لتحويل طفل سوي الى مريض؟

إذا كان التعاطف مع من ولد مريضا جميل جدا ولكن لماذا تحول السوي لمريض ومن ثم تتعاطف معه انا لا افهم !

والنقطة الاكثر اهمية هي لماذا الطفل الذي لم يبلغ سن الزواج يجب ان تفتح عيناه ومداركه وحواسه على عالم الكبار والمشاعر التي لن يحتاجها بسنه هذا ولن يفهمها عقله ولا جسده

العالم أصبح شرير بامتياز

***

سارة السهيل

يقول المفكر مالك بن نبي رحمه الله: “وما كان لحضارة أن تقوم إلا على أساس من التعادل بين الكم والكيف،  بين الروح والمادة،  بين الغاية والسبب، فأينما اختل هذا التعادل في جانب أو في آخر كانت السقطة رهيبة قاصمة"

إنّ إدراكنا وفهمنا العميق لمقومات سيرورة أي حضارة يجعلنا ندرك أننا كأمة إسلامية نمتلك أهم مقوماتها وماتقوم عليه قوتها:

أول مقوّم: وهو المقوم الروحي والذي يتمثل في كل مانملكه من منظومة  قيم أخلاقية اسلامية سامية

وثاني مقوّم: وهو المقوم المادي والذي يكمن في كل مانملكه من ثروات وإمكانات مادية

وهذا التأمل ليس محض تمجيد أو صناعة للخيال والوهم، بل هو صناعة لأدوات حسن الإدراك والفهم، حتى  نضع أنفسنا موضعها الصحيح الذي من خلاله نمتلك وثاق الثقة بالإستحقاق، فنخرج من دوائر الواسطية التي جعلتنا مجرد دول وظيفية في خدمة الدول القطبية، ترسل من خلال ضعفنا الى العالم رسائل الإستعلاء والفوقية، فوجدنا أنفسنا بذلك وقد خرجنا للأسف من تاريخنا وجغرافيتنا وعقيدتنا، وصرنا مجرد صناّع لتاريخ غيرنا على جغرافيا أمتنا، فلم نتحرّج لأحقاب ونحن نتدحرج من هامات الحضارة الى أسافلها.

وإن أردنا تفكيك العلل والمسببات لوجدناها تبرز في:

تداعيات الحروب الطاغوتية، التي مرت بها المنطقة الاسلامية سواء كانت داخلية من خلال طاغوتية نظام الملك العاض أو خارجية من خلال طاغوتية الحروب الاستدمارية، والأكيد أنه لا يمكننا الإنعتاق من موضع الواسطية إلا باعتناق قيم الوسطية، وهي قيم ديننا الإسلامي الحنيف، فليست مثلا الدول الغربية من تجعل منا محاربين للتطرف والإرهاب، مستخدمة ذلك كأداة للتغلغل في منطقتنا الإسلامية، في حين وجب أن نمسك نحن بزمام هذه المهمة ونجعلها لنا وظيفة مهمة، فنحارب بوسطيتنا إرهابهم على جغرافيتهم قبل جغرافيتنا.

ولانريد من خلال هذا الطرح مجرد التحسر والتباكي على أحوال هذه الامة التي لايخفى حالها، إنما نريد البحث عن عاجل الحلول التي يمكن من خلالها التحول من أمة الإستضعاف الى أمة التمكين والإستخلاف.

وبسط الحلول برأينا لايكون الا بعد طرح أهم الإشكالات والتي نذكر بعضها على سبيل الذكر لا على سبيل الحصر:

أولا: كيف نغالب بقوتنا الروحية قوة العالم الطاغوتية لإحلال السلام في العالم؟

ثانيًا: لماذا لانشكل نحن كدول اسلامية أمم إسلامية متحدة لمحاربة التطرف في العالم؟

ثالثا: لماذا لانمنع نحن استخدام الأسلحة النووية بما نمتلكه من قوة قيمية روحية ؟

ولماذا نترك تلك المهمة لأنظمة فارغة من أي مقومات قيمية؟

رابعا: هل مشكلتنا كأمة اسلامية في استيراد الديموقراطية أم في تصديرها بوجه آخر غُيّبت عنه جميع مايجمعنا بها ولو بأهم تفاصيليها كالشورى، لتحل محلها أدوات الإستبداد والإستعباد، فتتشوه ملامح أنظمتنا السياسية برمتها، وتصبح أنظمة ديموكتاتورية أو ديكتاتورية دينية؟

خامسا: هل نحن بحاجة لفصل الحكم العسكري عن الحكم المدني أم بحاجة لفصل الحكم أيًّا كان مدنيًا أو عسكريًا عن التحكم الخارجي؟

سادسًا: لماذا نحن بحاجة أن نكون دوما ذيلا لقطب من الاقطاب العالمية؟ لماذا لانكون رأسًا

يحرك مفاصل العالم بما أوتي من حكمة وحاكمية؟

سابعًا: لماذا كلما ارتفع موج بحرهم أغرقنا بدلا من أن يغرقهم؟ فنرى حتى حروبهم تنطفئ باشتعالها في ديارنا؟

ثامنًا: الى متى نعتصم بجبل قوتهم ولا نعتصم باعتصامنا ووحدتنا؟

يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في إحدى محاضراته التي ألقاها في الجزائر: "إن تصحيح البواطن هو الأهم لتصحيح الظواهر، وإن أدق الأنظمة ينهار مع خراب النفوس، وإنّ الضمان الأوثق لنجاح الإقتصاد وانتصار الجيوش واستقرار الحضارة يعود الى البراءة من الأهواء والتجرد لله وايثار ماعنده"

إننا أمة أنزل إليها كتاب معجَز لاأمة كُتب عليها أن تعجَز، وأمة استخلاف لاأمة استضعاف، فكفوا عن جر ذيول الذل وارفعوا هامات العطاء والبذل، ولاتكونوا في مهب الريح وهبوا كالريح مجتثين جذور التضعضع والانهزامية، رافعين صوت الحق بأن الدين الحق هو من يجمع أمة الاسلام ليعم في العالم السلام.

***

بادية شكاط - كاتبة في الفكر، السياسة وقضايا الأمة

ممثلة الجزائر في منظمة اعلاميون حول العالم في النمسا

القلق من تأثير الذكاء الصناعي لا يختلف كثيرا عن القلق من تأثير الإنترنت. الأسباب التي تبرره، تشابه ما قيل في الماضي عن عواقب انتشار الإنترنت. سوف أعرض لبعض هذه المبررات بعد قليل. لكن يهمني أولا تطمين المتوجسين بأن كثيرا من أسباب القلق القديم، قد تم احتواؤها فعليا ولم تعد قائمة، أو - على الأقل - لم تعد قوية أو جدية مثلما كانت يوم تعرفنا على الإنترنت، قبل عقدين من الزمن.

بيان ذلك: أن معظم القلق ناتج - في المقام الأول - عن غموض المستقبل وانعدام اليقين، أي شعور الإنسان بأنه لا يتحكم في أقداره. أعرف أشخاصا كانوا يعملون في مجال التصوير، وفقدوا وظائفهم بعد انتشار التصوير الرقمي. وأعرف أن أكبر شركتين في هذا القطاع، قد أعلنتا إفلاسهما: الألمانية «آجفا» (2005) والأميركية «كوداك» (2012).

والعجيب في الأمر أن انهيار هذه الصناعة ليس سببه هجر الناس لهواية التصوير، بل العكس تماما: لأنها باتت هواية يمارسها كافة الناس، كلما تحدثوا أو نظروا في الهواتف الذكية، التي يحملونها في جيوبهم. لقد تسبب التصوير الرقمي وشبكات الإنترنت في إطلاق تدفق هائل للصور، فتحول عامة الناس إلى منتجين ومستهلكين في آن واحد، ولم يعد بوسع المحترفين السيطرة على المساحة التي تقوم فيها صناعة التصوير، في أي بعد من أبعادها. الشبكات ألغت الجغرافيا/المكان الذي يمكن التحكم فيه، فتولد منطق جديد للتبادل، مختلف تماما عن منطق المنتج/المستهلك في السوق القديم، سوق ما قبل الإنترنت.

هذا المصير نفسه واجه الشركات التي كانت تصنع أجهزة التسجيل والراديو والآلات الكاتبة والصحف الورقية، والمئات من الصناعات والتجارات والوظائف الأخرى التي يصعب عدها وحصرها. وتحدثت قبل زمن مع خطيب ذي شعبية عريضة، فوجدته ضجرا من تناقص ملموس في عدد الأشخاص الذين يحضرون خطبه. لأن مستمعيه المعتادين يبحثون الآن عن مصادر للمعرفة تتجاوز المصادر التقليدية.

لا بد أن كثيرا منا قد سمع بواحد أو أكثر من هذه الأشياء، التي حدثت منذ عقد أو عقدين. لكنك نادرا ما تسمع أمثالها في هذه الأيام.

- لماذا؟

لأن غالبية الناس، بمن فيهم القلقون، تعلموا استخدام أجهزة الإنترنت، واكتشفوا المساحات الرحبة التي تقودهم إليها هذه الأجهزة الصغيرة، أي الكومبيوتر والهاتف الذكي. ولعل بعضهم قد تأكد من أن مخاوفه لم تكن بلا أساس. لكن منطق الأمور يقول بأن القلق من المجهول طبيعة في الإنسان، وأن علاجه الوحيد هو تمزيق حجاب الجهل. حين يتعرف الإنسان على شيء، فسوف يسعى لاكتشاف مفاتيح التحكم فيه، أو على أقل التقادير سيتعرف على حدود تأثيره. وعندها سيتحول التعامل مع مصادر القلق إلى جزء من الروتين اليومي المعتاد.

من هنا فإني أود التأكيد على أن الحل السليم لما يبدو من قلق إزاء الذكاء الصناعي، هو نشر المعرفة به. بإمكاننا التعرف على الذكاء الصناعي، مثلما تعرفنا سابقا على الكومبيوتر والإنترنت، ومن قبلهما على الراديو والتلفزيون والبث الفضائي. وقبل ذلك على وسائل الاتصال والمواصلات على اختلافها. انظر كيف صار بوسع الإنسان أن يركب حديدا يطير في الهواء، دون أن يراوده أدنى قلق... أليس لأن هذه الوسيلة معروفة تماما، له ولغيره، وأن المعرفة تولد الاطمئنان؟. السبيل الوحيد لتحييد القلق المتولد عن التقنيات الجديدة، هو استثمارها واستعمالها، وأول خطوة في هذا الطريق هو التعرف عليها.

أريد دعوة كل قارئ لتخصيص بعض وقته للتعرف على الذكاء الصناعي، ثم استعماله، فهذا هو السبيل الوحيد لتحييد أضراره إن كان ثمة ضرر.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

توج تشارلز وريثاً لأمّه إليزابيث الثَّانية (توفيت: 2022)، ملكاً باسم تشالز الثَّالث (6/5/2023)، بعد الأول (أُعدم: 1649)، والثّاني (ت: 1685). لم تشهد بريطانيا مهرجانَ تتويج منذ سبعين عاماً، انقرض الجيل الذي شهده (1953)، وتبدلت الدّنيا، فتصدر الملك المتوج الحوار الدينيّ بعد أنْ بات الاختلاط الدّيني واقعاً، حتَّى صار هندوسيّ رئيساً للوزراء، ومسلم وزيرَ أسكتلندا الأول، ناهيك عن أعضاء البرلمان، والوزراء ليسوا بريطانيي الأصول ولا مسيحيين.

عدَّ الملك رأس الكنيسة، بعد تأسيس هنري الثامن الكنيسة الانجليكانية (1534)، يستمد شكلياً شرعيته مِن الكنيسة التي يرأسها، فترى رئيس أساقفة كانتربري المدبر لمهرجان التتويج، لقن حامل التاج القسم، وعمده بالزّيت، الذي يُحضر بالقدس، حيث كنيسة القيامة، بمشهد تكرر في التّاريخ القديم. كم يُذكرنا باستلام حامورابي (1792 قبل الميلاد) شريعته- الأصل في اللُّوفر- مِن الآلهة. بمعنى تتبدل الأزمان وللدين مكانته.

تحضر تلك الطقوس تاريخاً وتقاليدَ عريقة، تجذب الأنظار لفخامتها وغرابتها، وإلا فملك بريطانيا لا يملك مِن السلطة شيئاً، كي تحتشد الجموع بالإجبار لا الاختيار، لكنه رمز للدولة، قد يُنصَّبُ، في عام، رؤساء وزراء، والدولة لا تنهار لوجود الملك، فله التدخل إذا ما تعرضت للانهيار.

أظهرت مراسم التتويج الملكَ متواضعاً، كأنّ كبيرَ الأساقفة ينبهه: «فوق كلِّ عالمٍ عليم»، وينطقها أمامه: «المسيح ملك الملوك»! ثم يوصيه بصيانة التَّاج، ويكرر عليه مفردة «العدل»، دون إشعاره أنه نائب الله أو ظله! ولقنه القسم والتّعهد الجديد: قسم «التَّتويج»، مثبت منذ (1688)، يخص حماية كنيسة الدَّولة، والتَّعهد بحماية الأديان والمعتقدات. بعدها رفع يديه مبتهلاً: «يا ربّ احفظ الملك».

عندما يُجادل الدِّينيون السِّياسيون، عن طموحهم بدولة، يتخذون مِن بريطانيا بوجود الصَّليب، في رأس التَّاج، حجةً، لتبني الدَّولة الدّينية عالمياً، لكنَّهم لا يميزون بين معنوية ورمزية التاريخ والتّسلط بحاكميّة إلهيّة، تشريعيّة وتنفيذيَّة مطلقة، فإذا اشترطت الكنيسة الانجليكانيّة ألا يتولى العرش غير البروتستانتي، فهذا أثر مِن الآثار. يكفي كان حضور ممثلي الأديان والمذاهب، المتعايشة بالبلاد، حفلة التتويج، استجابة لتغيير فرضه الواقع، أنْ يتعهد الملك بحماية المعتقدات وليس البروستسانية فقط.

لم يعدّ الملك نائباً عن الله، ولا نائباً عن المسيح، مثلما واقع الولاية لدى الأحزاب الدّينية، ولا «ملك على الضَّمائر»، فهذا الجمهور المحتشد، منذ المساء حتَّى الصَّباح، حول مكان التَّتويج، والطَّريق بين القصر والكنيسة، لم تجمعه عقيدة دينية، فمِن المحتشدين أنفسهم انتخبوا هندوسيّاً ومسلماً لأرفع المناصب.

حضرت الحشود احتراماً لدور الملكيّة المعنويّ، في الحفاظ على البلاد، والدهشة مِن تقاليد عمرها مئات السنين. كانت المراسم مُتحفاً للنفائس، لا يُفتتح إلا بـ«مات الملك عاش الملك».

إنَّ حماية العقائد الدينيّة، بحساب مذابح الماضي، لا يوفرها الحُكم الديني، إنما توفرها العلمانيّة، الدّولة فيها لا تقرأ التَّراتيل، ولا تشعل الشّموع وتوقد البخور، هذا مِن شأن الكنائس.

بعد الهجرات، صار الواقع بالدول الأوروبية، لا تُحجب عقيدةً مِن العقائد الدينية، وذلك لعلمانيتها، وهو في صميم تعبير الصّوفيّ محيي الدِّين بن عربي (ت: 638هـ): «لقد صَارَ قَلْبِي قابلًا كلَّ صُورَةٍ/ فمرعىً لِغزْلَانٍ ودَيْرًا لرُهْبَانِ/ وبَيْتًا لأَصْنَامِ وكَعْبَةَ طَائِفٍ/وألواحَ تَوْرَاةٍ، ومُصْحَفَ قُرْآن/ أدِينُ بِدِينِ الحُبِّ أنَّى تَوَجَّهَتْ/ رَكَائبُهُ فالحب دِينِي وإيماني» (ابن نقطة، تكملة الإكمال)، فكل هذا التَّنوع موجوداً ومتعايشاً بالقانون، ومَن يحاول تغيير الواقع سيكون أول الخاسرين.

صحيح أنهم اعتبروها مِن شطحات ابن عربيّ، لكنَّ العالم في ظل ما وصفه شاعر العصر: «وتلاقت الدُّنيا فكادَ مُشرقٌ/مِن أهلِها بمُغرّبٍ يتعثرُ»، لم تبق فكرةَ ابن عربي شطحةً، و«لا محبة الزَّنادقة» (الحوالي، العقيدة الطَّحاويَّة)، إنما فلسفةٌ لتعايش مِن تعهد الملك حمايتهم مِن الأديان والمُعتقدات.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

سيزيف زمانه:

منجز للباحث "خالد أمين" المسرح والهويات الهاربة" باعتباره امتداد المشروع نقدي ومحاولة تنظيرية لمفهوم "الفرجة" إيمانا منه بأن: مهمة البحث المسرحي ما بعد "الكولونيالي" أكثر تعقيدا بالنظر للكم الهائل من الكتابات التي تؤرخ للمسرح لكن من وجهة نظر صرفة، إذ نلاحظ ان تجاربنا المسرحية بالكاد حاضرة في هوامش السرود المهيمنة للمسرح الغربي وتاريخه الاول(ص81) ففي هذا السياق هل استوفينا حقه من الشغب القرائي؟ والبحث عن فراغات وبياضات أغفلها الباحث؛وأغفلناها بدورنا. ليس من أجل ملئها، بل هي مداخل وسراديب؛ نستشف منها بكل جلاء الصعوبات التي اعترضت وأعاقت تصريف وتفعيل مفاهيمه النقدية – المثاقفة – البينية- الهوية-الهجنة- التناسج - في النسيج الإبداعي، إذ من زاوية نظر، لماذا المسرحي [العَربي] سيزيف زمانه؟ يكافح يجاسر ويتحمل المهام الشاقة فكريا / جسديا / من أجل إعلاء صولة الإبداع المشهدي، يراوغ السلطة بشتى تفريعاتها وأساليب استبدادها، ك [سيزيف] الذي راوغ وخدع "ثاناتوس" إله الموت في الميثولوجيا الإغريقية، هل هي رغبة جامحة في جينات المسرحي؟ أم قدره هكذا بأن يحمل الصخرة (مجازا) من أجل بناء حضارة ؟ أم أن المسرحي العَربي بشكل أو آخررمز للعذاب الأبدي؟ فمن خلال المنجز نستشف بأن الأستاذ " خالد أمين" قدره "تراجيدي" "سيزيفي" أليس "الفيلسوف" كائن تراجيدي؟ حسب رأي (نيتشه) وهكذا: يمكن اعتبار البحث العلمي في المجال المسرحي؛ بنية للتفكير بصيغة الجمع في أوضاع الممارسة المسرحية تتجاوز الشرح والتحليل والتوثيق إلى التوجيه والتفاعل الإيجابي(1) فحتى لا نتيه في تفكيك هاته الجملة، فلامناص أن نحسمها في سؤال استنكاري؟ هل لدينا بحث علمي في مجال المسرح ! وغيره من العلوم الإنسانية ؟ ورغم ذلك، يسعى لحمل الصخرة كرهان للتحول النقدي وتجدد فهمها، بين (الآنا / الآخر) لاكتشاف سراديب ومنعرجات الهويات الهاربة ؛ وذلك من خلال لعبة الإمكانيات ذات الصلة بالتعدد والاختلاف. ولكن بما أنني شخصيا أعتبر المسرح " لذة سيزيفية" فالصخرة / خالد أمين" تتحرك نحو أعالي الجبل/ المشهد لتستقر؛ لكي تنتج صورة جمالية ذات ألق نقدي خالص، لكن في غياب صيغة الجمع فالوضعية الجمالية والنقدية تصبح قاب قوسين ! ويضحى المسرحي/ الباحث/ المنتج [بطل اللاجدوى] وهذا ما سقطت فيه كل البيانات والتجارب العَربية والنداءات التأصيلية، بغض النظر عن هجانتها واستنساخها وتلصصها وتناصها من التجارب التي توهم نفسها أنها ترفضها، وتسعى لإحداث قطيعة إبيستمولوجية معها، لإعطاء طابع أو صبغة عربية لهذا الفن لكي يتميزعن (الآخر) لكن الإشكالية تكمن في ردة فعل غير محسوبة، بعيد الهزيمة العربية أمام الإمبريالية، وانغماس المفكرين والفلاسفة العرب "الجدد" في استلهام التراث وإيجاد الخط الرابط بين الماضي والحاضر والمستقبل. من هاته الممارسة الفكرية، انغمس المسرح العربي في عمق هذا الفكر التراثي العربي، مما أضحى إلى حد (ما) يترنح بين الإشراق والخفوت والتيه نظريا وممارساتيا، رغم العَديد من المحاولات الفنية والابداعية. ولكن طبيعة اختراق الهوية الثقافية في سياق الاستعمار البديل وابتذال الرؤى الفنيَّة والفكريَّة والإخراجيَّة ؛ الجاهزة والمنمطة، هي من بين أسباب التيه، ناهينا عن اصطدام المسرح، أمام الانتقال النوعي الذي أحْدثته الهجمة التكنولوجية وعوالم الرقمنة، وأمام التحولات والنقلات الجماليَّة المتنوعة. في المشهد المسرحي العالمي، خلال العقد الأخير: لهذا كله، أعتقد بأن مفهوم النص الدرامي في حد ذاته لم يعد يقتصر على قدسية المخطوط عند الكتاب الجدد، بل حتى النص المخطوط اليوم لم يعد يخضع لنفس آليات الكتابة الدرامية المعهودة في السابق.... مع التركيز على المقاربة الركحية لم يعُد المخرج المسرحي هو الموجه الأساس للممارسة الإبداعية كما هو الشأن بالنسبة للتقليد الألماني (ص123) وبالتالي فالمركزية الغربية، تتسابق وتجهد نفسها لتجاوزالأعطاب الطارئة والمعيقة في الجسد المسرحي، ارتباطا بكنه الصراع الثقافي بين الفرنكونية / الأنكلوسكسونيية،المغلف بالاقتصادي الصرف للتعمية والتمويه، لكي تظل الثقافة الاستعلائية مهيمنة بقيمها ومرجعيتها الاستعمارية، ولكن بأيادي ناعمة (الآن) ولكن الأستاذ " خالد أمين" ركز تصوراته النقدية، ارتباطا بتساوق المسرح المغربي بقوة مع الهجنة لدى المشروع الاستعماري، وبالتالي: لماذا نركز على الاستعمار الفرنسي؛ وهناك استعمار إسباني في الشمال؛ واختراق الفن الإيطالي ومنها زيارة الفرق الإيطالية...وهذه الزيارات سواء الفرنسية أو الإيطالية ساعدت بلاشك على صقل الشعور بالمسرح وخاصة لسكان المدن خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر... وتأثر بها الفن الشعبي وأخذ منها. إن معظم المراجع التي استند إليها ترجح كفة تأثير المسرح الإيطالي، ويقول بعضها إن المسرح الإيطالي استمر عدة سنوات (2) وأمام هَذا المنظور فالمنجز يطرح طلبا صداميا مفاده: ونحن على مشارف نهاية العقد الثاني من الألفية الثالثة اصبحنا مطالبين اكثر للحفاظ على وثيرة إرباك النموذج الغربي عَوض استنساخ وتكرار نماذج الصديقي علولة (ص65) ؟ لكن هذا الطلب يفرض سؤالا استفزازيا أكثر حدة، كيف أربكنا النموذج الغربي، والغرب فينا ومتهجِّن في هويتنا الثقافية/ اللغوية / الإبداعية ؟ وليس عن طريق "الحلقة" فقط؟

الحلقة والهوية:

إذا اعتبر الاستاذ" خالد أمين" وغيره من المهتمين بالمجال الفرجوي، ودعاة التأصيل بأن "الحلقة" شكل فرجوي بالأساس، لنقبل هذا الفرض والافتراض؛ باعتبار أن المنجز في العديد من صفحاته نجد مفردة (الحلقة) ك:* خاصة الحلقة بوصفها فرجة جامعة (ص 47) – *تعد الحلقة فرجة جامعة تشمل مجموعة من السلوكات الفرجوية التي تنتمي إلى أجناس وأنواع مختلفة (ص51)* انتقال الحلقة إلى الركح مراوحة إيجابية بين المتعارضات (ص58)* في تجارب الحكواتي والسامِر والحلقة لكن مع إضافة البعْد الوسائطي(ص155) لكن ما أثارني تركيزه على الفنان الجزائري الراحل (ع القادر علولة) الذي اتخذ من الحلقة حقلا خصبا لفرجته أكثر من الطيب الصديقي؛ علما أن "المنجز" يشير بأسطر فيها من الدونية ما يكفي: ففي الغالب يشار إلى إبداعاتنا المسرحية وفرجاتنا من حيث هي هوامش توجد في الحُدود الفاصلة بين الحضور والغياب(ص81) ورغم ذلك لم تتم الإشارة لتجربة الطيب العلج (قاضي الحلقة) و(الأرض والذئاب) ولتجربة عبد القادر البدوي (الحلقة فيها وفيها) ولتجربة عبدالسلام الشرايبي (الحَراز) مع فرقة الوفاء المراكشية.ومسرحية (الحلقة) لبوشعيب الطالعي و(الحلايقية) لتوفيق حماني (....) وإن كان تقديم بعض الأعمال وظفت الحلقة ك (سكيزوفرانيا / النمس / حروف الزين/ دموع بالكحول/ في انتظار عطيل/ الباشا حمو/ الرينك/ ولكن يؤطرها ضمن الحساسية الجديدة ؛ فهنا تكمن بعض المغالطات في الدراسات والبحوث، فمسرحية (الرينك) لا علاقة لها بالحساسية الجديدة ؛ لأنها جاءت تحت الطلب من طرف فرقة (مسرح اليوم) وهي بمثابة كولاج للقصص(إدريس الخوري) واستنباتها تزامن مع "هَرولة" أغلب المسرحيين (الهواة) إلى شق(الإحتراف) وبالتالي فطبيعة كتابة النصوص، بداهة ستميل للرؤية (الاحترافية) [الفلوس] مما اشتغلت فرقة وليلي (المكناسية) على (الرينك) مرة واحدة وماتت (تلك)الفرقة من سنة ولادتها، كأول فرقة تعلن الإحتراف؛ ولكنها قدمت ؛ وفرقة مسرح اليوم اشتغلت على (بوغابه) ككولاج عن[ماتي] لبريشت؟ لماذا أثرت هذا في سياق هاته القراءة ؟ للفت الانتباه بأن الإشكالية العظمى ! في بحوثنا أو أثناء أية قراءة أو مناقشة المسرح [في] المغرب، بأننا نقحم ما لا يقحم خارج عوامل نزوله و سياقه التاريخي/ السياسي، وسيستشف "اللبيب" أنه موجه حسب الأهواء وحسب المنطلقات الإيديولوجية أوالسياسَوية. وطبقا لحسابات شخصية محض " ضيقة" ! وبالتالي فأي عمل أشر عليه أو تلفظ به الراحل " حسن المنيعي" فهو عمل مسرحي(متميز) ؛ وبالتالي فالأعمال التي يحملها "المنجز" كلها مؤشر عليها، مما نلاحظ غياب (الطيب العلج) و(عبد الصمد الكنفاوي) و(عبدالرحمان ولد كاكي)[مثلا] هذا الأخير اعتمد على التراث وتوظيف الحلقة في مسرحية (ديوان القراقوز) و(القراب والصالحين) و(بني كلبون) وخاصة مسرحيته (أفريقيا قبل العام الأول) حيث:تأثر فيها بشكل الحلقة مع توظيف الشكل البريشتي، ومشاكلته لتقاليد الحكواتي لدى العرب (3) وقد حاول "ع القادر علولة" وهُو من:... الذين استلهموا آليات اشتغال فرجة الحلقة والقوال الشعبي في مسرحه المحكي حيث خصص كل طاقته الابداعية في العقد الأخير من حياته لتطوير منهج مسرحي يستمد نسغه من الحلقة بعْد أن استوعب الابداع العالمي (ص58) لكن تاريخيا سعى لاكتمال مشوار معلمه " ولدكاكي" الذي وظف الحلقة في(الخبزة /1970) وبشكل جيد في مسرحية (المائدة /1972) هاته الأخيرة عرضت في الهواء الطلق وتم التجوال بها في القرى والمداشرالجزائرية. وهنا فتوظيف "الحلقة" والتركيز على اللغة العامية. هي بمثابة " تقنية" لخلق التواصل وليس لترسيخ الهوية كما سيفهم، لأن المسرحية [المائدة] كانت تمهيدا لمشروع بناء" الثورة الزراعية " التي تم تنفيذها في 1974 لتحقيق القرى الاشتراكية، باستبدال الملكية الفردية للملكية الجماعية للأرضي. وبالتالي ف" علولة" هل كان يخدم الأطروحة المسرحية ؟ أم أطروحة نظام ذاك الوقت ؟ أم نموذجا لتحقيق التلاقح بين الأنا والآخر، عبر "الهجنة" لإنتاج شيء جديد ومختلف؟ فالفنان" علولة" ركز اهتمامه الإبداعي على القضايا الاجتماعية والإنسانية ومعاناة الطبقة الكادحة نموذج عمل (الأجواد / اللثام) ولا نغالي بأنه يعتبر ظاهرة متفردة في المسرح "العربي"، ولازال محط نقاش بين الباحثين الجزائريين حول تجربته المسرحية، لكن الأستاذ " خالد أمين" في منجزه يشير: يصبو مسرح علولة الى ان يكون تأثيره قويا على مستوى الحس الجماعي.... لهذا فإن تقنيات علولة المسرحية مسيسة جدا وهي بهذا الصنيع بريشتيه بامتياز(ص60/61) وبالتالي فمظاهر "الحلقة "كفرجة في سياق الممارسة الفرجوية؛ ليست نتاج الهجمة الاستعمارية، بل نتاج امتداد تاريخي وتفاعل الحضارات المتعاقبة على المنطقة المغاربية (نوميديا) سابقا ؛ وإذا أخذنا" البكري" بإطلالته الجغرافية، في وصفه لقرطاجنة: أن أعجب ما بها” دار الملعب وهم يسمونها "الطياطرو" قد بنيت أقواسا على سواري، وعليها مثلما ما أحاط بالدار، وقد صور في حيطانها جميع الحيوان وصور أصحاب جميع الصناعات (…) في غربيه قصر يعْرف "بالطياتر" وهو الذي فيه دار الملعب المذكورة، وهو كثير الأبواب والتراويح، وهو أيضا طبقات، على كل باب صورة حيوان وصور الصناع (4) فهذا الوصف الذي يعود للقرن (التاسع الميلادي) لم يأخذه الباحثون العرب بالدراسة والتحليل، كمنطلق للأنثروبولوجيا الثقافية، التي ستساعدنا وستحدد لنا بانوجاد "مسرح عربي/ أمازيغي"، فعلا أم لا؟ وذلك من خلال، هل كانت هنالك مثاقفة أو تلاقح قسري أو تناسخ أو تناسج أو تأثير وتأثر بين المستوطن والمستَوْطن / الغالب والمغلوب ؟ لهذا - ف "الحلقة" لم تأت من فراغ. وبالتالي هناك مسلسل تاريخي ينبغي القيام بتفكيكه وتحليله؟ ومن زاوية نظر" فالباحث "خالد أمين، بما أنه (الآن) يحتل: مكانة مرموقة في خريطة النقد المسرحي المغربي والعربي على السواء، اعتباراً لمنجزه النقدي الدؤوب، وحضوره المؤثر، وإشعاعه الثقافي …والمتتبع لمسير اجتهاداته المتواترة يتبين بأن الأمر يتعلق بمشروع معْرفي موضوعه "مسرح المثاقفة وأداته " (5) من هنا كان عليه أن ينطلق في بحثه عن الهويات الهاربة، باعتبارها ظاهرة كونية إنسانية في الفرجة المسرحية، بدل البحث عنها إبان الهجمة الاستعمارية ومابعْد (الكولونيالية) التي أحْدثت فعلا [صدمة الحداثة] لكن فالفنيقين والرومان وبيزنطة.... بدورهم أحدثوا صدمات ثقافية للمنطقة، ومعالم الحضور الثقافي/ الفني تتجلى في تلك المسارح المنبثة في شمال أفريقيا كمسرح / قرطاج/ الدقة / جرش/ بلاريجيا / وليلي/ ليكسوس/ قالمة /شرشال/ سكيكدة / مسرح أم قيس /مسرح صبراته / تيمگاد / تيبازة /... / فلهذا: أنّ فتح المجال أمام الاختلاف هو ما يفتحنا على الممكن والمتعدّد والمختلف،بَدلا من سطوة الضروري والمنطقي على الفكر.أمّا الاعتقادات الثقافية فهي غالبا ما تكون محكومة بظروفها التاريخية والاجتماعية، بالتالي فإنّ المحيط والبيئة يؤثران على الهويات الجماعية مع مرور الزمن، لذا، فحيثما تدخلت العوامل السياقية المرتبطة بالمجال التداولي الخاص بكلّ ثقافة من ثقافات الناس، أو بهوية من هويات الشعوب، إلا وكان لها الأثر البالغ في تشكيل البنيات الخاصّة بها وبمعتقداتها التبريرية وتمثلًتها الجماعية (6) لهذا فالحلقة التي تمركز عليها منجز الصديق " خالد أمين" فهي أساسا تحتاج لبحوث مفصلة، وإعادة قراءتها كسيرورة شديدة الخصوبة والتعقيد والتركيب. لأن مسألة الشكل الدائري، ليس معيارا تابتا، بل هنالك "الحلقة " نصف دائرية، وهذا لم يذكره (الكغاط) في كتابه؟ بحيث العديد من الرواة / الحكواتي/ بفاس /صفرو/ مكناس/ كانوا يتخذون السور(باب الساكمة/ باب المربع/ ساحة الهديم) واجهة لمواجهة المستمعين، إسوة بالمسر ح الروماني، ولنا نموذج في مسرح المقهى (الآن): لأنّ الحضارات الإنسانية عبر مرور الوقت استطاعت أن تبني أنساقا متباينة، ومختلفة للتفكير والاعتقاد والتصور معا، وهي بذلك غير قابلة للقياس بنفس المقاييس والمبادئ (7) لكن حاليا فالتغيرات المستجدة؛ تفرض تلقائيا تحديات مريبة أمام الهويات الثقافية التي تنطوي على معان طمس وتدمير ثقافي لصالح الهيمنة منظومات القيم التي يبشر بها المركز الثقافي الغربي، لأن: مفهوم الهوية حسب - جان فرانسوا بايار- وهماَ كبيراً في عالم تنداح فيه التخوم وتتداخل فيه الثقافات، ومن ثم يصبح التمسك بالهوية مقترنا بالتعَصب والشوفينية، وإننا نعترف بأن العولمة قد حققت – فعليا- نوعا من التقارب والتداخل بين الهويات والثقافات المختلفة عبر ثورة الاتصالات الجارفة (8) وبما أن "المنجز" اتخذ "علولة " نموذجا لتوظيف "الحلقة " فهويتها عنده تكمن في توظيف " القوال" ولكنها(الحلقة) مستقاة من بريشت الذي بدوره استقى [الحلقة] من [الشرق] كغيره من المبدعين، لخلق التلاقح الثقافي والحضاري، ولهذا: يلزمنا التأمل في مقتضيات المسرح الملحمي، يعَد مسرح بريشت الملحمي محاولة لوضع حد لهيمنة الإتجاه الدرامي في المسرح، إذ يتيح للعرض المسرحي دفقا ملحميا جذريا، ويقوم في الآن نفسه بتركيز الإهتمام حول التناقضات في المحيط الإجتماعي(ص121) وهذا الاستلهام مرتبط بقناعته الفكرية، والبحْث عن موطئ لتأكيد الذات في مواجهة الآخر. باعتبار أن المسرح (المغاربي/ العربي) أساسا، متأرجح بين الهوية والاختلاف، الأنا والآخر. هذا ما دفع "ع القادر علولة " أن يلتجئ مرة أخرى للاقتباس وترجمة أعمال عالمية؛ بحيث يبرر خوضه غمار هذه التجربة مرة أخرى بقوله: لم تحدث أية قطيعة بل على العكس، فالرجوع إلى المسرح العالمي وخصوصا الكوميديا ديلارتي كان بهدف جلب أنماط وأشكال أخرى، تساعد على مواصلة تجربة الحلقة بطريقة أخرى بحثا عن التواصل الموجود بين تراثنا التقليدي والتراث العالمي(9) فالمنظور كان لتطويع الأشكال الشعبية لخدمة العرض المسرحي، كالطيب الصديقي في بعض تجاربه. لكن الباحث "أمين" يطرح " الحلقة" كفرجة في سياق الحياة الاجتماعية:حينما يتحلقون طواعية حول "الحلايقي" ليعيشوا لحظات استثنائية، تبعدهم مؤقتا عن متاهات الحياة اليومية. هكذا تحدث الحلقة فرجة بوصفها فضاء بينيا ارتباكا مؤقتا لمجرى الحياة اليومية (ص51) وفي سياق آخرهي من ضمن الهويات الهاربة ! لكن يتدارك الطرح بأن:الجمع بين الحلقة والمسرح في اطار فرجة واحدة لا يمكنه أن يقدم سوى شكل هجين... هذه الموجة طمعا في تأسيس هوية خاصة للمسرح المغربي. إنها إحدى اليوتوبيات الكبرى لهذا المسرح تنكسر على صخرة أطروحة الهجنة (ص64) فالإشكالية الذي سقط فيه المبحث ألغى بشكل غير مباشر" تجربة " الصديقي وعلوله وغيره ؟ وفي نفس الإلغاء، يلغي فرجة "الموندراما "التي هي صلب " الحلقة " التي اخترقت بكل حمولتها الفرجوية الأصيلة، تقنيات الركح الغربي وعلبه المغلقة. باعتمادها على فرجة الجسد /الجسم/ جسد(المؤدي/ الممثل) باعتباره مادة لتمرير رسائل واستعمال وسائل تشخيصية من أفعال وغيرها... وبالتالي: فليست هناك فرجة فردية ومن ثمَّ لا يوجد مسرح فردي، لأن التحقق الفعلي للفرجة يكمن في وجود مؤدي/ مؤدين وجمهور (ص28) ولهذا يسعى جاهدا لتحقيق تخريجة تنم عن الهروب للأمام، مفادها: المطلوب الان تجاوز وضعية الهجنة واستثمار تراكمات وتجارب الجسد الفرجوي المغربي من منظور التفكير العابر للحدود وهو تفكير ينفلت من قبضة مركزية لغرب بنفس درجة انفلاته عن مركزية الشرق بداخلنا (ص64): الأمر الذي يطرح وضعية جديدة لمفهوم العلاقات الأدبية والثقافية بين الأمم، من زاوية أن العالم قد أخذ يتجه أكثر فأكثر نحو التداخل والعضونة، فلم تعد هنالك تلك المسافات و لا التخوم والخنادق المتباعدة، مما يخلق حالة مائعة ورجراجة لفكرة الأقاليم والكثل الثقافية، وهذا يعَد متغيرا بالغ الأهمية والخطورة في الآن ذاته؛ حيث تصبح الآنا الثقافية مختلطة... مما يؤدي إلى تهديد مفهوم الهوية القومية والخصوصية الثقافية (10) ولكن كيف يمكن تطوير وإغناء هَذه الآنا في الوقت ذاته هل عبر المثاقفة أم التناسج ؟

بين المثاقفة والتناسج:

من بين المفاهيم التي يركز عليها الأستاذ" خالد أمين" التناسج " ولكن بعْدما قام بتحليل المثاقفة كما فهمها في سياق مشروعه النقدي، وبالتالي فالهوية باعتبارها ظاهرة كونية إنسانية من صنع الأفراد، فهي في المنجز "بينية" بين المثاقفة والتناسج، ولهذا: إذا أمعنا النظر في "الهوية" فإننا نجدها تفتقد إلى مركز ثابت على الرغم من إصرارها المستمر على التشبث بالحضور Présence والأصل Origine بالإضافة إلى تموقعها في فضاء تخومي بيني يتراوح عموما بين الأنا والآخر(11) فالمسألة كذلك في" المثاقفة " التي تأبى الاستقرار والسكونية، لأنها غير مستقرة ك "الهوية" على حال، ومن ثمة تخضع للتأثير والتأثر بين الأنا والأخر/ بين المجتمعات والشعوب، ورغم ذلك "فالباحث" استخلص بأن: مسرح المثاقفة يشكل عقبة إبيستمولوجية أمام التطور المتسارع الذي يقع في المشهد المسرحي على المستوى الكوني جراء سيرورات التلقي المنتج. هكذا يمكن اعتبار مشروع التناسج مشروعا مراجعاتيا، منفتحا على أصوات العالم. إنه أفق مغاير يسعى إلى إعادة المعنى للهوامش المحايثة بعد تاريخ اقصاء طويل (ص105) هنا يلغي من حيث لا يدري ! منظور الحضارة الإنسانية المبنية (على) التفاعل بين الحضارات والتأثير والتأثر والتلاقح والحوار الثقافي والحضاري بين المجتمعات. وبالتالي فالمفهوم (المثاقفة) اتخذ عدة تفسيرات: كتداخل الحضارات/ التبادل الثقافي/ التحول الثقافي/: لأن المثاقفة لا تتحقق إذا لم يتوفر طرف آخر تتفاعل معه أخذا وعطاء. فهيَ تنتج عن احتكاك مستمر ومباشر بين مجموعات أفراد تنتمي إلى ثقافات مختلفة (12) وهكذا يتبين بأن المثاقفة بشكل عام تأخذ موقع الحضور الطبيعي والتبادل الطوعي، لتحقيق المشاركة والتفاعل. باعتبارها تعَد من أعظم الآليات في تلاقح المسرح فعبرها تم الإطلاع على الأدب اليوناني؛ وغيره. وهذا يخالف ما تمت اثارته في المنجز" أي: تثير حالة المثقافة،اذن إشكالات من قبيل التخوف على مصير الهوية الوطنية في ظل الثقافة العولمية وهيمنة النموذج الغربي على آخره والتبعية الثقافية(ص77) فهذا الطرح يقابله نقضيه من مرجعيته، بأنه لا داعي للتخوف لأن: المعرفة عند الغرب ليست كلا متجانسا، ولا كيانا متعاليا مركزا حول الإشكالية نفسها وموضوعات التحليل نفسها. إنها مقعرة من كل ناحية بفعل الفوضى التي تصاحب كل تحول تاريخي وعلمي. كذلك المعرفة العربية الحالية؛ فأرضيتها التنظيمية (التقليدية) هي مجموع تركيبي يشمل سواء اللاهوت أو الفلسفة أو المعرفة الخاصة بالثقافة العربية أي الآداب....هذه المعارف تخفي الفقر النظري، بواسطة عملية تكرار ما أنتج (13) لكن الملاحظ بأن مفهوم "المثاقفة" كانت أمريكا الشمالية سباقة لاستحداثه ونحته، لكن: انتعش مفهوم المثاقفة مع إشارة المستعربة الألمانية "روتراود فيلا ندت" التي تجاوزت المفاهيم السابقة مقدّمة مفهومها الجديد الذي يتشكّل بقوّة في مفهوم المثاقفة الحضاريّة فتنفي الاستتباع وتقرّ بالحوار الحضاري، تقول في خاتمة بحثها عن "صورة الأوروبيين في أدب المسرح والقصّة العربية:وإذا أراد الأوربيون جديّا أن يضعوا أساسا سليما للتّفاهم مع العرب في المستقبل، فعليهم أن يكفّوا نهائيا عن التكبّر السياسي والاستعلاء الثقافي، وكلاهما فيما مضى ركيزة الاستعمار الحديث (14) بالتقريب نفس المداورة في المنجز: والحال لا يمكن تفكيك مركزية الدراسات المسرحية الأوربية – الأمريكية، إلا إذا تجاوزت هذه الأخيرة الخطاب العنصري، وعادت إلى دائرة الرشد وأقرت بتعدديتها غير قابلة للاختزال، وبتفاعلها مع الثقافات الأخرى غير الأوربية (ص81) مقابل هذا نجد مفهوم " (التناسج)" تطرحه ألمانية [إيريكا فيشر ليشته] بفعل ما خلفته "(المثاقفة)" من استغلال وتحكم وإقصاء للشعوب المستضعفة عن طريق الثقافة، فهل هي مصادفة أم تعاون أم مثاقفة بين ألمانيا الاتحادية والمركز الدولي لدراسات الفرجة ؟ والذي يزيد في إثارة تلك الأسئلة؟ ما الهدف من وراء كل هذا؟ فكلا الطرفين يتبنيان "الحلقة " باعتبارها نموذجا مثاليا للتوليد الذاتي اللامتناهي، وفي هذا السياق، نجد في المنجز" ردا ذو وَجهَين (إ) تبرير اختيار مسرح التناسج كأفق بحثي في حركية الفرجة وتحولاتها (ب) نفي تهمة التبعِية لألمانيا: وهكذا دخلنا إلى التناسج من باب {النقد المزدوج} وهو صناعتنا المحلية التي أبدع في نحتها عبدالكبير الخطيبي. ولم نكن مجرد مستهلكين ومروجين لمفاهيم ألمانية، كما روجت بعض الجهات الخانعة، بل سعَينا للترافع عن ثقافتنا الفرجوية بدون مركبات نقص، وفتحنا نقاشا بناء مع رفاقنا في المحافل الدولية، وهاهي فيشر ليشته تقربهذا (ص104) ولكن أليس مسرح التناسج هو مسرح المثاقفة ؟ فالناقد" خالد أمين " يجيب على السؤال بأن: المقصود بالتناسج، والذي قد يفهم منه إبدال فقط لمفهوم المثاقفة. وجعل غيره مكانه (..) في سياق حديثنا الراهن، فإن الإبدال أو الاستبدال لا يستفاد منه الانفصال التام دائما. صحيح أن التناسج مبني على منطق آخر للنقاش يبرز العناصر المضمرة في رحلة المثاقفة. كما يعيد إثارة أسئلة أخرى مبنية على منطق الاستيعاب والتجاوز، لا القطيعة والانفصال (ص106) وبهذا المعنى، فأطروحة التناسج تنهض على الثوابت التالية:إعادة الاعتبار إلى الهوامش الفرجوية المحايثة، من تفكيك منظومة المركزية الغربية القائمة على القطبية الثنائية: المركز- الهامش.

ب- الإقرار باختلاف الثقافات الفرجوية، وفي ذلك اعتراف ب “الآخر” والإنصات له (15) ولكن السؤال الجوهري في كل هذا، فأي ثقافة الهامش يسعى التناسج إعادة الاعتبار إليها؟ قبل الاجابة نقبض في "المنجز"على استخلاص مهم مفاده: لم يطرح مشروع التناسج على أساس أنه نظرية جديدة في المسرح بل فقط أفق جديد للتفكير في حركية الفرجة المسرحية وتحولاتها وهي تنتقل في رحلة مستمرة عبر الأمكنة والأزمنة وحصيلة هذه الحركة الدؤوبة إنتاج الاختلاف عِوض تكريس المتشابة (ص110) من هنا جاء “التناسج الثقافي” منفتحا على أصوات العالم، للكشف عن المضمر وإعادة الاعتبار لثقافة الهامش التي نعتت دائما بالفارغة والسلبية. وبالتالي فهل المسرح العربي يكرس المتشابه؟ أم المسرح الغربي هو الذي يكرسها؟

اسْتخلاص: 

بداهة فمنجز [المسرح والهويات الهاربة.. رقص على حد السيف] يغري بالتأمل لتفكيك مضمر الخطاب النقدي الذي ينتهجه رفقة بعض الباحثين "الألمان" مثل "هانس ليمان" من خلال مؤلفه (مسرح مابعْد الدراما) وهذا ليس سبَّة أو اتهاما كما طرحه علانية " خالد أمين" بالعكس هو اشتغال و تطور يفرض نفسه بالتلاقح وتبادل الخبرات على المستوى الكوني وذلك لتطعيم والنهوض بالمشهد المسرحي في أفق مغاير، ومواكب للتحولات العولمية، وبالتالي فخلفية "المنجز" ترنو إلى تفعيل البعْد الملحمي؛ كصيغة لتحقيق الفرجة و لمواجهة المركزية الغربية، بغية إعادة الاعتبار لثقافة الهامش بشكل عام، وليس هنالك تخصيص: لأن دخول الخصائص الملحمية على الخط أربك الدراماتورجيا الدرامية (البرجوازية آنذاك) هكذا سيعتبر تاريخ المسرح الحديث مفعما بالصراع بين متطلبات الدراما الخالصة من جهة والمواضيع الحديثة التي اصبحت تتطلب معالجة ملحمية من جهة اخرى. لقد عد الطرح المسرح الملحمي البريشتي أهم انفلات جمالي من التقاليد الدرامية التي هيمنت على الساحة المسرحية الغربية (ص119) هذا إذا قمنا بجرد لكل ما أنجزه الأستاذ" أمين" إلا واستحضار بريشت وارد بشكل أو آخر، وعلى سبيل المثال:.. وإن المنتوج بالنسبة لبريشت كان يشكل مركز العملية المسرحية، وإن أعماله من الاتساق. بحيث بإمكانها أن تؤدي إلى وسائط سردية دقيقة جدا، وقد أثار موضوع التناسق في الاوساط المسرحية الفرنسية جدلا كبيرا؛ إلى درجة طرح السؤال التالي: ماذا نرى على خشبة المسرح، غير تناسق كبير؟ (16) هذا إذا قابلناه بقولة "فيشر ليشته": فجاء مشروع التناسج ليس بهدف تكريس هذه المركزية بل لدحضها، من خلال التفاعل التشاركي والانصات المتبادل وإعادة الاعتبار الى الهوامش الفرجوية المحايثة التي كانت بالأمس القريب مجرد روافِد تصب في المجرى الرئيسي لنهر المركزية العربية (ص110) أليس الهدف من كل هذا محاولة، لإحياء أو لدعم " المدرسة السلافية" التي حاولت: طرح مشروع منهجي مغاير للمقارنة بين الآداب، يقوم على ألية اجتماعية- تاريخية في فهم الظاهرة الأدبية وعوامل إنتاجها وانتقالها، مما يحقق نوعا من الندية في العلاقات الأدبية التي تقوم بين الأمم ص23) هذا لمواجهة المدرستين الأكثر انتشارا المدرسة (الفرنسية) والمدرسة (الأمريكية) اللتين انطلقتا، لتحقيق أهداف سياسية تكرس لوضعية المركزية الأوربية، تم المركزية الغربية [الأورو- أمريكية] لمحاولة إبراز علوية الأدب الأوربي تم الغربي....

***

نجيب طلال

..........................

الإستئناس:

1) المسرح والهويات الهاربة.. رقص على حد السيف: لخالد أمين[ص 225] عن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة/ سلسلة رقم 63-2021

2) سيكولوجية الفرجة لفتحي سلامة - ص44/45 مكتبة الأسرة / الهيئة العربية للكتاب القاهرة /1998

3) ألف عام وعام على المسرح العربي: لتامارا ألكسندر وفنا بوتنتسيفا- ت/ توفيق المؤذن ص: 257 مطبعة الفارابي بيروت لبنان ط2/ 1990-

4) المسالك والممالك: لأبو عبيد البكري: تحقيق أدريان فان ليوفن- أندري فيري ص702 ج الثاني- الدار العربية للكتاب1992

5) المسرح المغربي المعاصر[قراءات في العرض والنص والنقد]: لعبد الرحمان بنبراهيم- ص 194 – منشورات الهيئة العربية للمسرح – دراسات 96 – ط 1/ 2023 – الشارقة.

6) الدولة وسؤال الهوية في المنطقة المغاربية أوراق متكاملة – ص27- تقديم:وجيه كوثراني تنسيق:هشام الهداجي منشورات مركز تكامل للدراسات والأبحاث / 2021

7) نفسه – ص20

8) المثاقفة وسؤال الهوية: مساهمة في نظرية الأدب المقارن: لصلاح السروي ص24– دار الكتبي/ ط1-2012

9) التجربة الاخراجية في مسرح علولة: للخضر منصوري – ص 69 - جامعة وهران/ الجزائر- 2002

10) المثاقفة وسؤال الهوية: ص36– دار الكتبي/ ط1-2012

11) من مسرح المثاقفة إلى تناسج ثقافات الفرجة: لإريكا فيشر ليشته / ترجمة وتقديم: خالد أمين ص 13 منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة- سلسلة 22/ ط1 طنجة- المغرب،2016

12) قاموس المورد: لمنير بلعبكي- ص24- دار العلم للملايين/ بيروت 1994

13) النقد المزدوج: لعبد الكبير الخطيبي ص195/196 - منشورات عكاظ /2000

14) نقلا عن: المسرح العَربي من المثاقفة والتناسج إلى التطويع: لمنى برهومي – ص- 100/101 مجلة إشكالات في اللغة والأدب العدد التاسع / ماي 2016 الجزائر

15) المسرح المغربي المعاصر[قراءات في العرض والنص والنقد]: ص - 200

16) دراماتورجيا العمل المسرحي والمتفرج لمحمد سيف/ خالد امين ص91 عن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة/ سلسلة رقم 28-2014

17) المثاقفة وسؤال الهوية: ص 23

 

الإنسان في الإسلام: وفق الرؤية الإسلامية التوحيدية، فإن ماهية الإنسان وطبيعته، قد تحددت في العلم الإلهي قبل الوجود الإنساني العيني.. إذ يقول تبارك وتعالى [بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم] (الأنعام، الآية 101).

فالطبيعة الواقعية للإنسان محددة قبل الوجود العيني للأفراد.. إذ[يقول تبارك وتعالى [وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين] (الأعراف، الآية 172). فهذه الآية القرآنية الكريمة، توضح وتخبر عن وجود للإنسان سابق عن وجوده العيني، وتم فيه أخذ العهد بالإيمان لبني الإنسان جميعاً. ووفق الآيات القرآنية الكريمة فإن الماهية الإنسانية تتقوم بعنصر أساسي هو عنصر شهادة الربوبية واعتراف الإنسان المطلق بألوهية الخالق ووحدانيته كما توضح الآية القرآنية الكريمة السالفة الذكر. فالإيمان بوحدانية الخالق وألوهيته هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ولكن هذه الحقيقة الفطرية الراسخة في الوجود الإنساني، لا تتحقق بالنسبة إلى آحاد الإنسان إلا بالاختيار والجهد الإرادي الحر. وحينما يذهب الإنسان بعيداً في اختياره، فإن هذا الإنسان يضحى [كالأنعام بل هم أضل سبيلاً] (الفرقان، الآية 44). ويقول عز من قائل [لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين] (التين، الآية 4، 5). فالإنسان كما يقرر الراغب الاصفهاني، يحصل له من الإنسانية بقدر ما يحصل له من العبادة التي لأجلها خلق، فمن قام بالعبادة حق القيام فقد استكمل الإنسانية، ومن رفضها فقد انسلخ من الإنسانية.

" فالإنسان في التصور الإسلامي لا يبدع ماهيته كما تعتقد الفلسفة الوجودية، وإنما هو يحققها من خلال جهده الإرادي بإخراجها من طور القوة والكمون إلى طور الفعل والظهور " على حد تعبير الدكتور لؤي صافي.

والإنسان حين يعتقد ويؤمن بالحكمة الإلهية لوجوده [وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون] (الذاريات، الآية 56)، فإنه سيعمل ويكدح ويسعى لأجل تحقيق غاية هذا الوجود التي من خلالها يرتقي لتحقيق ماهيته الإنسانية. فإنسانية الإنسان لا تتحقق صدفة، وإنما هي بحاجة إلى تربية وتهذيب، وعمل وكفاح، واتصال دائم بالحقيقة المطلقة وهو الباري عز وجل. وبمقدار التصاق الإنسان بخالقه، عبر عبادته العبادة الحقة، والالتزام بتشريعاته ونظمه المختلفة في مختلف جوانب الحياة، بذات القدر يقبض الإنسان على إنسانيته، ويتخلص من كل رواسب ونزعات الشر والابتعاد عن الطريق المستقيم. والإرادة الإنسانية هي حجر الزاوية في مشروع تحقيق إنسانية الإنسان. أي أن الرغبة المجردة، لا تحقق ما يصبو إليه الإنسان. وإنما بحاجة دائماً إلى إرادة وعزم وتصميم لمحاصرة وضبط أهواء الإنسان وشهواته، والتدرج في مدارج الكمال الإنساني. وبمقدار ما يتخلى الإنسان عن نزعاته ونزواته الشريرة، يرتقي في مدارج الكمال، ويقترب من الصورة التي أرادها الله سبحانه وتعالى للإنسان.

لذلك نجد الآيات القرآنية الكريمة، تمتدح الإنسان الذي لا يخضع إلى شياطين الإنس والجن. قال تعالى[ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين * وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ] (سبأ، الآية 20، 21).

وقال تعالى [وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون] (الأنعام، الآية 112).

فالرؤية الإسلامية وضعت الإنسان في أشرف المراتب. فالباري عز وجل وضع فيه أشرف المخلوقات وهو (العقل)، واختاره لخلافته في الأرض. إذ يقول عز من قائل [وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون](البقرة، الآية 30).

فالوضع القيمي للإنسان يتميز بشكل نوعي عن بقية المخلوقات، كما أن الباري عز وجل منحه تكريماً لا يضاهيه أي تكريم، إذ سجل في محكم التنزيل [ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً] (الإسراء، الآية 70).

فالإسلام لا يعتبر الإنسان بوجوده، موجوداً عاصياً ومذنباً، بل ينظر إليه بوصفه موجوداً فطرياً مهماً احتجبت وتلوثت تلك الفطرة فيه نتيجة الغفلة والنسيان والذنوب. وهذا هو مقتضى قول الباري عز وجل [لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم] (التين، الآية 4)، والأديان والرسالات والتشريعات السماوية، جاءت لتظهير هذه الحقيقة المغروسة والموجودة في جوهر الوجود الإنساني.

"من هنا، دعانا الإسلام وقبل كل شيء إلى استحضار تلك المعرفة المغروسة في أعماق نفوسنا، وبسبب أهمية تلك المعرفة في رسم السعادة الإنسانية، فإن الإسلام خاطب الإنسان بوصفه صاحب عقل لا صاحب إرادة فقط، فإذا كان التمرد على الله وهو الذنب الأكبر عند المسيحية ناشئاً من الإرادة، فإن الغفلة تشكل الذنب الأكبر في الإسلام، والتي تكون نتيجتها عدم قدرة العقل على تشخيص الطريق الذي رسمه الله للناس، ولأجل ذلك، فإن الشرك من أعظم الذنوب التي لا تغتفر، وهو بعبارة أخرى يساوي إنكار التوحيد " (راجع كتاب قلب الإسلام من أجل الإنسانية، قيم خالدة، تعريب داخل الحمداني، ص 14)..

فالرؤية الإسلامية للإنسان، قائمة وبشكل جوهري، على أن الإنسان بعقله وإرادته وقلبه وبكيانه كله، لا بد أن يكون عبداً حقيقياً ومخلصاً لله سبحانه وتعالى، يأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه والتسليم المطلق للواحد الأحد.

وإن هذا التسليم ليس ضرباً من ضروب الجبر، بل نتيجة طبيعية للإيمان والرضا بما قدر الله سبحانه وقضى.

والإنسان حين يكون متصلاً بالله تعالى، وملتزماً بشريعته، فهو يتحرر من كل الضغوطات الداخلية والخارجية، ويصبح رأسماله الحقيقي هو كرامته الإنسانية. فالحاجة مهما كانت، لا تقوده إلى الذل وامتهان الكرامة.

فالكرامة الإنسانية والشعور العميق بها، هي وليدة العبودية لله وعدم الخضوع لأي حاجة قد تذل الإنسان، وتخرجه عن مقتضيات الكرامة والعزة.

الدين والإنسان.. أية علاقة:

ثمة حقيقة أساسية ينبغي أن ننطلق منها، حينما نود الحديث عن طبيعة العلاقة بين الأديان والإنسان. وهذه الحقيقة هي أن الأديان السماوية بكل أنظمتها وتشريعاتها، جاءت من أجل خدمة الإنسان وسعادته. بمعنى أن الالتزام بتشريعات الدين وأنظمته، تفضي على المستويين العام والخاص إلى سعادة الإنسان واستقراره على جميع المستويات. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتصور الدين الذي أنزله الباري عز وجل بمعزل عن الإنسان ومصالحه النوعية.

فالعلاقة جد وطيدة وعميقة بين تشريعات الدين ومصالح الإنسان الخاصة والعامة. فهي تشريعات تصون الإنسان وتحمي حقوقه ومكاسبه. لذلك نجد أن القرآن الكريم أنكر على أهل الكتاب تنازلهم عن حقوقهم المشروعة وحرياتهم الإنسانية التي ولدوا عليها، ورضوا بالعبودية لرهبانهم وأحبارهم الذين تبوؤا سلطة التشريع بدل الحق جل وعلا.

وفي هذا يقول ربنا سبحانه وتعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون).

فالأديان جاءت من أجل تحرير الإنسان من العبودية لغير الله سبحانه وتعالى، لذلك نجد القرآن الحكيم يدعو أهل الكتاب كافة ليتحرروا من هذه الأغلال والعبودية لغير الله، وأن يفردوا الله وحده بالعبادة والخضوع. إذ قال تعالى (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون).

فالإنسان وفق الرؤية الربانية هو أكرم المخلوقات حيث نفخ فيه من روحه، وهو الوحيد من مخلوقاته جل وعلا الذي اختاره ليكون خليفته في الأرض، وكرمه بالعقل وهداه السبيل، وعلمه البيان وسخر له ما في السماوات وما في الأرض، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.

وعلى هذا فإن جميع القيم والتشريعات الإسلامية، جاءت من أجل تحرير الإنسان وحمايته وتكريمه والسمو به في مدارج الكمال والرقي المادي والمعنوي.

وفي سياق بيان دور الأديان في بناء الإنسان، نود أن نثير النقاط التالية:

1- حينما نريد أن ندرس التجربة الدينية في حياة الإنسان المعاصر، من الضروري التفريق والتمييز بين مستويين وهما:

أ‌- المستوى المعياري: وهو مجموع القيم والمبادئ الخالدة، وهي العابرة لحدود الزمان والمكان. ولا مشكلة لدينا على هذا المستوى. إذ أننا نعتقد وبشكل جازم أن الباري عز وجل لم يشرع للإنسان القتل والعدوان وممارسة الكراهية بكل مستوياتها وأطوارها. فالأديان السماوية كما أنزلها الله هي منبع الخير المطلق.

ب‌- المستوى التاريخي: وهو مجموع الجهد البشري والدين كما هو معيوش.

ويبدو أن كل الإشكالات المتعلقة بين أهل الأديان التوحيدية الثلاثة، تستوطن هذا المستوى. وينبغي أن تتجه كل الجهود الحوارية نحو صياغة علاقة إيجابية بين أهل هذه الأديان، بعيدا عن إكراهات وعبء التاريخ.

وعلى أهل هذه الأديان في هذه اللحظة التاريخية الحساسة أن يتخذوا موقفا صريحا وواضحا تجاه الظواهر الثلاث:

1- ظاهرة الحركة الصهيونية في التجربة الدينية اليهودية، وهي الحركة التي اغتصبت أرض فلسطين، وهجرت وقتلت شعب فلسطين، وكل ذلك تم بغطاء ديني توراتي.

2- ظاهرة الاستعمار ونزعات السيطرة والهيمنة التي سادت المجال الحضاري الغربي، واستفادت من الغطاء الديني المسيحي، وصولا إلى ظاهرة المحافظين الجدد في التجربة الدينية المسيحية.

3- ظاهرة الغلو والتطرف والإرهاب الديني في التجربة الدينية الإسلامية. وهي الظاهرة التي عاثت في أصقاع الأرض فسادا وقتلا، وعملت كل هذه الجرائم بتفسير وغطاء ديني إسلامي.

إننا نعتقد أن بذل الجهود الثقافية والدينية لرفع الغطاء الديني عن كل هذه الظواهر، سيساهم في خلق السلم الإنساني والدولي.

2- إن التعايش بين أهل الأديان اليوم، بحاجة إلى التأكيد على المقولات التالية:

أ‌- ضرورة الانتقال في عملية الحوار من النطاق اللاهوتي إلى النطاق الثقافي الذي يبني حقائق التسامح والحرية واحترام الآخر وجودا ورأيا في الفضاء الاجتماعي.

ب‌- الاهتمام الجاد بمسألة حقوق الإنسان، فالاختلاف الديني لا يشرع بأي حال من الأحوال انتهاك حقوق الإنسان.

إننا نعتقد أن انفتاح الثقافات الدينية المعاصرة على ثقافة حقوق الإنسان، سيفضي إلى المساهمة في بناء عالم أكثر عدالة وتسامحا وحرية.

3- إن تنمية القيم الروحية في المجال الإنساني المعاصر، يتطلب ضمن ما يتطلب إلى أن تتبنى المؤسسات الدينية في كل الأديان مقولات بناء النظام السياسي المرن والديمقراطي.

فالأنظمة السياسية المنسجمة مع خيارات شعوبها الثقافية والسياسية، هي الأقدر على تنمية القيم الروحية في المجتمع.

فلنرفض جميعا كأهل أديان سماوية، كل أنظمة الجور والعسف والهيمنة. حتى تصيغ القيم الروحية المبثوثة في الأديان السماوية كما أنزلها الله سبحانه وتعالى حقائق المحبة والسلام في حياة الإنسان فردا وجماعة.

4- إن أحد وجوه الأزمة والتي تنعكس سلبا في مجالات الحياة المختلفة، هي تضاؤل النزاهة الأخلاقية والعملية لدى شريحة معينة من أهل الدين. فلم يمتثل هؤلاء مثل الدين الحقيقية تمثلا كافيا، كما أنهم لم يكونوا أمناء على حقوق مجتمعاتهم وأمتهم برغم كل الدعاوى التي صدروا عنها أو صدرت عنهم.

ويعبر عن هذه الحقيقة الدكتور فهمي جدعان بقوله:إذ إنه يؤسفني جدا أن أصرح بأن أغلبية الناس وأكاد أقول جميعهم، بإطلاق ـ ومن بينهم مفكرون ومثقفون كبار ـ، وأن كانوا يفاخرون دوما بأنهم يحتكمون إلى العقل ويسلكون وفقا لتوجيهات العقل، إلا أنهم في أغلبية الأحوال يتحركون بنوازعهم ورغباتهم وإيراداتهم وأهوائهم ولايستخدمون العقل إلا من أجل الوصول إلى هذه الأغراض بأدق الطرق وأحكمها و؟أكثرها ضبطا وإحكاما. ويستوي في ذلك الأخيار والأشرار. وهذه هي قضيتنا مع العقل. إنه أداة بالغة الخطر، ولكنه أداة لبا يستطيع أحد الاستغناء عنها، وكي تؤتي ثمارها الإنسانية الطيبة لا بد من إحاطتها بسياج من القيم العالمية ولا بد من تحريرها من رغباتها وأهوائها المضادة للموضوعية ولخير الإنسان وكرامته، ولا بد بشكل خاص من أن نحول دون تحول هذه القوة إلى سلاح ضارب يقضي على معاني الإنسانية فينا وعلى حساسيتها الجمالية، ويدمر قيم الحرية والكرامة والعدالة في عالم الإنسان.

وثمة مدارس وتجارب دينية عديدة، حاولت من خلال محطات تجربتها وآفاقها وممارساتها، أن تقدم إجابة أو إجابات على الأسئلة الوجودية التي تعترض الإنسان الفرد والجماعة في مسيرته الإنسانية. وهذه التجارب الدينية هي في تقديري، إحدى الإجابات التي قدمتها الحالة الدينية الإنسانية كوسيلة من وسائل السلم والسلام. حيث أن السلم الذاتي والانسجام الداخلي وارتفاع وتيرة الإيمان في نفس الإنسان، هي أحد المداخل الرئيسة لإنجاز مفهوم السلام في الحياة العامة.

ولعل التجارب أو المدارس العرفانية الإسلامية والمسيحية هي أحد نماذج ذلك "وهذا العرفان المدروس (على حد تعبير كتاب الأسس النظرية للتجربة الدينية – قراءة نقدية مقارنة لآراء ابن عربي ورودلف أتو)، ربما تختلف مفرداته، فيتم توظيف المفاهيم والأفكار التي تشرح بتفصيل أو بإجمال سير العارف العملي في أعماق الأنفس والآفاق، وهو ما يسمى بالعرفان النظري، الذي يمثل محيي الدين بن عربي عماده وركنه.

وإذا استهدفنا من العرفان النظري هذا دراسة وتدوينا وتعليما، الحصول على تصورات عقلية لظواهر غير عقلية كما يقول أصحابها، فليس ذلك بالأمر السلبي أو المحال، فبالإمكان خلق مفردات ونحت مصطلحات وابتكار سياقات لفظية للتعبير عن حالات روحية عميقة، وهو أمر يتصاعد في عسره كلما تعمق الإحساس وغاص في دهاليز الروح، وهو إن دل فإنما يدل على نضوج عقلي وثراء لفظي.

وهذا العرفان النظري، يخضع – هو الآخر – لنظام التعليم ونقل الأفكار وانتقالها طبيعة، ومن ثم فأحد أهداف هذا العرفان هو تكوين تصورات نظرية عقلية عن تجارب روحية، تماثل الدور الذي يلعبه علم النفس أحيانا. لكن السؤال البارز هنا، والذي كان محط خلاف بين المشتغلين بالعرفان، هو هل أن جذب السالك إلى هذا الطريق يكون عبر خلق تصورات نظرية عن التجربة، أم أن ذلك لا يتم إلا بأسلوب عملي ربما يكون قائما على ممارسات طقسية وذكرية، أو على أنواع تربوية تهذب النفس وتصفيها ؟ ".

ولقد جذبت هذه التجارب العديد من الشخصيات، وأضحت مدخلا هاما من مداخل اكتشاف مخزون ومكنون القيم الروحية في الديانات التوحيدية الكبرى. وذلك لأن حجر الأساس في هذه التجارب، هو الاندفاع القلبي - الطوعي - الاختياري الذي يدفع الإنسان صوب التفاعل الخلاق على صعيد القناعات والمسلك مع قيم الدين ومثله العليا. وتطهير الباطن أو توفير المقدمات الروحية هي الشرط الشارط للانخراط في هذا المسلك أو التجربة الدينية العرفانية. 

فالعلاقة بين الدين والإنسان، علاقة عميقة ودائمة. ولا يمكننا أن نتصور أن تكون القيم الدينية في موقع مضاد للإنسان وجودا ومصلحة. فدائما قيم الدين ومبادئه مع الإنسان، ووظيفتها الأساسية هي الحفاظ على الإنسان في مختلف المستويات والدوائر.

وفي المحصلة النهائية، الأديان جاءت من أجل خدمة الإنسان، لكي يعيش حياة سعيدة ومستقرة. لذلك قرر الفقهاء أن أحكام الشرع تدور مع المصلحة وجودا وعدما.

مختلفون ولكننا متساوون:

في سياق التوجس والتوتر، الذي يسود العلاقة بين المختلفين، لأسباب دينية أو مذهبية أو قومية أو أثنية، تبرز حالة العداء النفسي تجاه المختلف، والتي تأخذ أبعادا وصورا عديدة، وقاسمها المشترك هو نبذ الآخر المختلف، ووصمه بكل الصفات والخصائص السلبية سواء على مستوى الاعتقاد والتصور، أو السلوك والممارسة..

ولا ريب أن حالة العداء والعداوة، من الحالات التي تحتاج إلى معالجة واعية ودقيقة، لأنها حالة نفسية سلبية ضد الآخر، بحيث تستهدف نفيه ونبذه، ورفضه في نفسه أو موقعه أو مصالحه، وتتحرك هذه الحالة العدائية بطريقة تدميرية، متوحشة على مستوى القول والموقف وعلى مستوى الشعور والفكر، وعلى مستوى الحياة بمختلف تفاصيلها ودوائرها..

لهذا تكثر الصور والأساليب المستخدمة، في ذم الآخر، وتسفيه آراءه ومعتقداته والعمل على إبقاءه في دائرة النبذ والقتل الاجتماعي والمعنوي..

وإذا أردنا أن نكتشف حجم وفداحة العداء النفسي والاجتماعي، الذي بدأ يستشري في مجتمعاتنا ضد الآخر الديني أو المذهبي أو القومي، فلنتصفح صفحات الانترنيت ونطلع بعض المواقع الالكترونية المتخصصة في تعميق حالة العداء بين المختلفين، وشحن النفوس تجاه المغايرين.. واستخدام في سبيل ذلك، كل المفردات وعمليات الشحن النفسي والتعبئة الاجتماعية التي تقشعر لها النفوس والأبدان..

لأنه حينما تتحول الاختلافات العقدية أو الفكرية، إلى حالة من الضيق النفسي والمشاعر الحاقدة، حينذاك تتحول هذه الحالة إلى خطر يهدد مجتمعاتنا، ويوفر كل أسباب الصدام لأي سبب من الأسباب..

لهذا يسجل لنا القرآن الكريم، أول حالة عداء حدثت في الوجود بين إبليس وآدم، من جراء حالة نفسية تمثلت في الحسد والكبر، تلبست إبليس، وحولته إلى رافض للامتثال لأمر الباري عز وجل.. إذ يقول تبارك وتعالى [فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين، قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين] (الأعراف 11، 12)..

فحينما يشعر الإنسان، بأنه أفضل من الآخر المختلف دينا أو أخلاقا أو أصلا اجتماعيا، فإن هذا الشعور الاستعلائي يقوده إلى الكثير من المهالك والمآزق..

وهي التي قادت إبليس إلى الطرد من الجنة..

إذ يقول تعالى، ونتيجة لاستعلاء إبليس وشعوره بأفضليته على آدم [قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فأخرج إنك من الصاغرين] (الأعراف 13)..

فنحن نختلف مع غيرنا، وغيرنا يختلف معنا، وشعور أحدنا بأنه الحق المطلق، ويمارس من جراء هذا الشعور ممارسات نابذة وطاردة إلى الآخر المختلف باسم تلك العناوين المختلف عليها، هي ذاتها النزعة الاستعلائية التي تقود إلى العداء والعداوة بين الإنسان وأخيه الإنسان..

نحن نعترف بوجود اختلافات بيننا، ولكن هذه الاختلافات، لا تعطي أفضلية لأحد على أحد، لأننا جميعا نمتلك أدلة وبراهين على ما نعتقد ونؤمن وكلنا ينشد الحق والحقيقة.. والطريق إليها يتطلب المزيد من الحوار العلمي- الموضوعي، بعيدا عن نزعة الاستعلاء والعداء، وبعيدا عن لغة التحريض والشتائم.. فنحن مختلفون ولكننا متساوون في الحقوق والواجبات..

ولا يجوز لأي طرف أن يستخدم عناوين الاختلاف كمبرر للاستعلاء أو العداء أو التحريض..

لهذا فإن تطهير النفوس جميعا من الأحقاد وسوء الظن ووساوس الشيطان ومفردات الكراهية، هي الخطوة الأولى في مشروع إدارة اختلافاتنا مهما كان حجمها بصورة حضارية ومنسجمة وقيم الإسلام العليا القائمة على الرحمة وحسن الظن والحرية والمساواة.. فلا يجوز لأي أحد منا، وباسم حماية الإسلام والعقيدة، أن ينتهك قيم الإسلام ويتجرأ على مبادئ العقيدة الإسلامية..

فالإسلام لا يحمى بزيادة وتيرة الكراهية بين الناس، والعقيدة لا تصان بإطلاق الأحكام جزافا بحق الآخرين.. فالإسلام يحمى بالوعي والحكمة وتجسيد مثله وأخلاقه..

والعقيدة تصان بطاعة الله وطلب رضوانه [وإن لم تفغر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين] (الأعراف 23)..

فالرؤية الإسلامية لا تؤسس لأي أحد، ممارسة الحقد والعداوة والبغضاء بسبب الاختلافات الدينية أو الفكرية أو السياسية..

وأي ممارسة لهذه الصفات، هي تجاوز على قيم الإسلام، ولا يطاع الله من حيث يعصى.. يقول تعالى [يا أيها الذين امنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون * ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور * إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط] (آل عمران 118 -120)..

فما يتم تداوله في مواقع الانترنيت تجاه بعضنا البعض كمواطنين، يعد كارثة أخلاقية وإنسانية.. لأن المواد التي يتم تداولها، تشحن النفوس، وتصور الآخر وكأنه الشيطان المتحرك، الذي لا عمل له، إلا الإساءة إلى الآخرين..

فتعالوا جميعا نرفع أصواتنا ضد الإساءات المتبادلة، التي تغذي الأحقاد، وضد عمليات التحريض التي تصورنا وكأننا أعداء بعضنا البعض.. فالاختلافات في الدائرة المذهبية أو القبلية أو المناطقية، لا تشرع لأحد إذكاء نار العداوة بين أبناء المجتمع والوطن الواحد..

فحالة العداء بين المواطنين المفتوحة على أحقاد التاريخ والتباساته وتشابكاته، تنذر بكوارث اجتماعية حقيقية..

ولا سبيل أمامنا إلا الوقوف بحزم، ضد كل من يحاول أن يبذر بذور العداء بين المواطنين لاعتبارات مذهبية أو قبلية أو مناطقية..

فالدين يحتضننا جميعا، وإن تعددت مدارسنا الفقهية، والوطن يستوعبنا جميعا، وإن تعددت قبائلنا وعشائرنا، والوطن لنا جميعا وإن كنا في مناطق وجهات مختلفة..

طبيعة التنوع وقانون الوحدة:

التنوع والتعدد في الآراء والقناعات والميولات، ظاهرة أصيلة وراسخة في حياة الإنسان الفرد والجماعة، ولا يمكن أن نتصور حياة إنسانية بدون هذه الحقيقة.. فإذا تشابه واتحد الناس في اللون، فهم مختلفون ومتنوعون في القناعات الدينية والثقافية.. وإذا تشابه الناس في القناعات الدينية والثقافية، فهم متعددون في القوميات والأثنيات..

وهكذا تصبح حالة التعدد والتنوع، حالة طبيعية في الوجود الإنساني.. ولكن هذه الحالة الطبيعية، قد تتحول إلى عبء على استقرار الناس وأمنهم، حينما لا يتم التعامل مع هذه الحالة الطبيعية بعقلية استيعابية، تبحث عن سبل لإدارة هذه الحالة، دون توسل أساليب عنفية وقسرية لاستئصالها..

فالتعامل الإنساني الخاطئ مع هذه الحقيقة الإنسانية، هو الذي يحولها من مصدر جمال وحيوية للوجود الإنساني، إلى فضاء للتناحر والتقاتل.. ومن منبع للخير المعرفي والاجتماعي، إلى مبرر للنبذ والاستئصال وتغييب المختلف..

وبفعل هذه الممارسة الخاطئة والقاتلة في آن، تجاه هذه الحقيقة الملازمة للوجود الإنساني، تنشأ ظاهرة تصنيف البشر وتوزيعهم ضمن دوائر انتماءهم التقليدية.. وبفعل هذا التصنيف الاجتماعي، تبرز الفروقات والتمايزات الحادة بين أبناء المجتمع الواحد، وتزداد الحواجز النفسية بينهم، وتتغذى الإحن والأحقاد..

فيصبح لدينا وتحت سماء الوطن الواحد والمجتمع الواحد، مجموعة من المجتمعات، لكل مجتمع عالمه الخاص ورموزه الخاصة وهمومه واهتمامه الخاص، مع انعزال وقطيعة تامة مع المجتمع الخاص الآخر..

وهكذا تتحول التعددية الدينية والمذهبية والقومية، من حالة طبيعية في الوجود الإنساني، إلى مصدر للشقاء والتباغض والإحن المفتوحة على كل احتمالات الخصومة والنزاع..

لهذا فإننا نفرق بين ظاهرة التنوع والتعدد في الوجود الإنساني، التي نعتبرها ظاهرة صحية وحيوية وذات آفاق ثرية على أكثر من صعيد، وبين خلق الحواجز بين الناس وتصنيفهم التصنيفات الحادة على أساس انتماءاتهم التاريخية والتقليدية، والتي نعتبرها ظاهرة مرضية، ومؤشر على فشلنا في إدارة تنوعنا بطريقة سلمية وحضارية..

فنحن مع احترام كل أشكال التنوع في الوجود الإنساني، والذي نعتبره جزء من الناموس الرباني، ولكننا في ذات الوقت لا نرى أن ظاهرة تصنيف الأفراد اجتماعياً بفعل انتماءاتهم التاريخية ظاهرة صحية، بل نعتبرها من الظواهر التي تساهم في تمزيق مجتمعاتنا وخلق الإحن والبغضاء بين أطرافه وأطيافه.. ولن نتمكن من إنجاز هذه المعادلة التي تحترم التنوع الإنساني ومقتضياته، دون أن نمنع أن تبرز ظاهرة التصنيف الاجتماعي، التي توزع الناس وتفصل بينهم شعورياً واجتماعياً، على أساس انتماءات لا كسب حقيقي للناس فيها..

وعلى المستوى المعرفي، من الطبيعي أن يلتزم الإنسان الفرد والجماعة إلى منظومة عقدية وفكرية واجتماعية، لأن الإنسان بطبعه يبحث عن من يشترك معه ويتشابه معه في فكرة أو انتماء أو أي دائرة اجتماعية أو معرفية، لكي يلتقي معه، ويحول الاشتراك في الدوائر المعرفية والاجتماعية إلى شبكة مصالح تديم العلاقة وتطورها أفقياً وعمودياً..

لهذا فإننا ننظر من هذه الزاوية المعرفية إلى حقيقة الانتماء الفكري والاجتماعي نظرة طبيعية وصحية.. ولكن هذه الظاهرة الصحية والطبيعية، قد تتحول إلى ظاهرة سلبية ومرضية، حينما يتحول الانتماء إلى مبرر للاعتداء على حقوق الآخرين المادية أو المعنوية، فتتحول هذه الظاهرة إلى ظاهرة سلبية.. حينما أمارس التعصب بكل صنوفه، بحيث أرى شرار قومي أفضل من خيار قوم آخرين، يتحول الانتماء إلى ظاهرة مرضية..

لهذا فإننا نعتقد أن التصنيف العقدي أو الفكري أو الاجتماعي في حدوده الطبيعية ظاهرة صحية، ومستساغة معرفياً واجتماعياً.. ولكن هذه الظاهرة تتحول إلى ظاهرة سلبية حين يتصف أهل هذا الانتماء بالصفات والممارسات التالية:

1. الانغلاق والانكفاء والديماغوجية في النظر إلى الأمور والقضايا، بحيث لا يتسع عقل الإنسان إلا لمحيطه الخاص، ويمارس نرجسيته المرضية تجاه قناعات وانتماءات الذات..

2. التعصب الأعمى للانتماء الخاص ونبذ كل المساحات المشتركة التي تجمعه مع أبناء المجتمع والوطن.

3. ممارسة الاعتداء على الحقوق المادية أو المعنوية على الآخرين بدعوى خروجهم عن الانتماء الصحيح أو ما أشبه ذلك.

حين تتوفر هذه القيم والممارسات (الانغلاق المرضي– التعصب الأعمى- الاعتداء على الحقوق) تتحول هذه الظاهرة الإنسانية الطبيعية إلى ظاهرة سلبية ومرضية.. وفق هذه الرؤية المعيارية، نتعامل مع ظاهرة التصنيفات في المجتمعات العربية.

فهذه الظاهرة تتوالد باستمرار، بحيث ينتقل التصنيف من العنوان الكبير إلى العنوان الصغير ويستمر في سياق دوائر صغيرة عديدة، بحيث يهدد هذا التصنيف المرضي نسيج المجتمع والوطن..

ولا خيار أمامنا للعودة بهذه الانتماءات إلى حالتها المعرفية والطبيعية والمقبولة اجتماعياً، إلا ببناء وعي اجتماعي وطني جديد، لا يحارب الانتماءات التقليدية للإنسان؛ وإنما يشبعها لدى كل إنسان دون أن ينحبس فيها، يحترم خصوصياته دون أن يتحول هذا الاحترام إلى مبرر لبناء كانتونات اجتماعية مغلقة..

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

توطئة: من خلال سفرتي السياحية لدولة الأمارات العربية لصيف 2020 كان للأعلام الحكومي بارزا ونشيطاً وبسبق صحفي في تغطية الحدث العلمي المدجن "معرض أكسيو" 2020 تحت شعار (تواصل العقول) وجدتُ ثمة فرصة ثمينة للأطلاع على النهضة التنموية لدولة عربية بتجربتها العلمية للنهوض بالواقع الأقتصادي بأستثمار عقول عربية وأجنبية بتطبيق منصة معرض أكسيو 2020، فهومنطلق أقتصادي تعبوي أستثماري أساسهُ الأستدامة المالية بفوائده الجمة والوفيرة في تطوير الأقتصاد ودعم الموازنات المستقبلية، أضافة حصول الدولة على فرصة الأختيار عند الأستدانة لتغطية العجز المالي، إلى جانب فوز الدولة بثقة الأسواق العالمية لقدرتها على الوفاء بألتزاماتها المالية، ويمكن للدولة التوسع في الأنفاق على المشاريع الأستراتيجية الكبيرة، وظهور الأبتكارات للبحث عن البدائل للحلول التقليدية .

الموضوع: مصطلح الأستدامة المالية  Financial Sustainability أو الحكومية هو أحد المصطلحات المستخدمة في السياسات المالية، أو أنهُ الحالة المالية التي تكون فيها الدولة قادرة على الأستمرارفي سياسات الأنفاق والأيرادات المتاحة الحالية على المدى البعيد دون خفض برمجتها المالية المستقبلية لجميع ملاءاتها، أو التعرض للأفلاس، أو عدم الوفاء بألتزاماتها المالية المستقبلية، وهوكذلك مصطلح بيئي يصف كيف تبقى النظم الحيوية متنوعة ومنتجة مع مرور الوقت، ومن ضمنها الأستدامة للنوع البشري التي هي القدرة على حفظ نوعية الحياة التي نعيشها على المدى المستقبلي البعيد وهذا بدوره يعتمد على حفظ العالم الطبيعي، والأستخدام الأمثل والمسؤول للموارد الطبيعية، لقد أصبح مصطلح: الأستدامة " واسع النطاق والمجال ويمكن تطبيقهُ تقريباً على كل وجه من أوجه الحياة عى الأرض بدءاً من المستوى المحلي ألى المستوى العالمي وعلى مدى فترات زمنية مختلفة، وهناك فارق بين الأستدامة المالية والتنمية المستدامة حيث تشير الأخيرة ألى تحقيق نمو أقتصادي مع مراعاة أبعادٍ بيئية تضمن الحفاظ على الموارد الطبيعية وعدم أهدارها وتزداد لتشمل مراعاة أبعادٍ أجتماعية في توفير الفرص لمحدودي الدخل، والذي دفع الدول ألى تطبيق الأستدامة المالية هو: التداعيات الكارثية للأزمات الأقتصادية الدورية في العالم الرأسمالي، والأرتفاع المضطرد في حجم التكاليف المالية اللازمة للأنتاج على المدى البعيد والمستقبلي الطويل، والتغيير الديموغرافي والمناخي الذي أصاب كوكبنا جراء الأحتباس الحراري، وزيادة الموارد الأقتصادية وأستغلالها أستغلالاً سيئاً من قبل الشركات العابرة للقارات والحدود، لذا أصبحت الحاجة ماسةً في أستُخدام مصطلح الأستدامة منذ ثمانينيات القرن العشرين ليأخذ بعداً عالمياً حيث عرفتهُ مفوضية الأمم المتحدة للبيئة والتنمية في 20 آذار 1987 أعلنت أهمية التنمية المستدامة:

1-لكونها تفي بأحتياجات الوقت الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة في تلبية أحتياجاتها الخاصة .

2- الأستدامة المالية تدفع الدولة ألى التوازن بين الملائة المالية في الأنفاق والأيرادات .

3- والأستدامة المالية تعني أمتلاك الدولة القدرة المالية أي أمتلاكها الأدوات التي تعطيها القدرة المالية الداخلية في أمتلاك مصادر توليد الدخل مثل الأستثمار وبيع السلع والخدمات .

4- وبالأستدامة المالية تصل الدولة ألى الحالة الصحية لأقتصاد الدولة بوجوب أمتلاك ميزانيتها خمسة روافد أو مصادر على الأقل في تغذية موجودات البنك المركزي للدولة بنسبة 60% .

5- وبالأستدامة المالية تزداد الدولة خبرةً في موضوع (المعرفة التسويقية) Marketing Know

لقد تدهورت أستدامة الموارد المالية في العراق منذ سنة 2014 ومستمرة حالياً وهي الفترة التي تلت الأزمة المالية للعالم في 2008 وأستمر ظهور العجز في الميزانية حتى وصلب ألى رقم كارثي بتجاوزه 111 مليار دولار وخُفض الرقم ألى 37 مليار دولار بعد شطب المانحين في نادي باريس لتلك الديون، مما دفعت الحكومة أن تنحو بأتجاه الأستدانة الخارجية والوقوع في مصيدة صندوق النقد الدولي وشروطها الظالمة، ولهذه الصدمة الأقتصادية من أسباب: أهمها الأقتصاد الريعي الذي دفع العراق للأرتماء في سياسة الأستيراد من جميع الأبواب العالمية، وأضمحلال أو موت الصناعات الداخلية، وفشل الدولة في السيطرة على المنافذ الحدودية، والفساد الأداري والمالي، وهبوط سعر البرميل النفطي، والحرب الأستنزافية المرعبة في نزيف دموي ومالي جراء حرب التحرير للأرض العراقية من الوباء الداعشي، وظهور تداعياتها الثقيلة على الوضع السياسي والأقتصادي والأجتماعي، والمؤلم منها تراجع ثقة الأسواق العالمية بقدرة الحكومة العراقية على الوفاء بألتزاماتها والتي أدت ألى توقف الدائنين عن أقراضها أو رفع معدلات الفائدة على قروضها ألى مستوياتٍ عالية ووضع شروط مشددة .

في نهاية هذا العام 2017 وأنتصارات جيشنا الباسل على الفلول الأرهابية وطردها من كامل أرض العراق وأستعاد الأقتصاد العراقي (عافيتهُ) في 16-أكتوبر 2017 بأستعادته مدينة كركوك المختلف عليها بما فيها خط التصدير وأكثر من 18 بئر نفطي وجميع الأراضي المختلف عليها في سهل نينوى وجميع المنافذ الحدودية ورفدت مواردها المالية لخزينة الدولة، وجاء أرتفاع سعر البرميل من النفط الخام ألى 64 دولار وهو ضخ جديد لصالح الخزينة المركزية أيضاً، وهذه البشائر والأنتصارات عززت مكانة العراق بين دول العالم وأستعادت هيبتها وسيادتها ومكانتها الأقتصادية فالفرصة متاحة أمام الحكومة الأتحادية وبالأستعانة بخبرائنا الأقتصاديين في تطبيق ( الأستدامة المالية ) في كونترول وضبط موازنة البلاد لمحورين الأنفاق والأيرادات والتي تعكس مستوى نجاح السياسات المالية العامة للدولة، وهي جرعة ثقة للقطاع الخاص للأستثمار، والأستدامة المالية (حصانة) للدولة من التأثر بالأزمات الأقتصادية، وكذلك هي علاج لتراجع الأيرادات الضريبية بسبب الركود الأقتصادي، وبالأستدامة المالية تتجنب الدولة من الأستدانة أو التخفيف منها، ويمكن حماية الأقتصاد العراقي من هزات تذبذب أسعار البترول، ومن العجوزات المالية، وعدم اللجوء ألى الديون الداخلية والخارجية التي ترهق الأقتصاد العراقي .

الطريقة السليمة لتطبيق " الأستدامة المالية " تكون بهذه الخطوات:

1-معالجة الأيرادات الغير نفطية وأخضاعها للأستثمار وأعادة الحياة بالمتوقف منها .

2- أتباع القواعد المالية في تحقيق الأستقرار الأقتصادي والمالي بأستنساخ النماذج الأقتصادية المتبعة في بعض دول العالم الغير نفطية .

3- تعزيز سياسات كفاءة الأنفاق العام، وتفعيل برامج الأصلاح الضريبي والسيطرة على المنافذ الحدودية وجميع المطارات بما فيها مطارات الأقليم ومطار النجف .

4- مكافحة الفساد المالي والأداري والضرب بيد من حديد وهو مطلب جماهيري منذ ستة سنوات وكذلك هي أرادة المرجعية الدينية .

5- ولتحقيق الأستدامة المالية يجب أعادة النظر في البنك المركزي العراقي بتجديد طاقمه ورئيسه بخبراء أقتصاديين ذوي كفاءات مشهودة والمراقبة الشديدة على كارثة تبييض الأموال ومزادات العملة الصعبة أو حتى ألغائها نظراً لترابط العجوزات المالية وموجودات العملة الصعبة وكميات الذهب كغطاء مالي التي ترقى ألى عصب حياتي لمستقبل الأجيال ....

6- وتتاح فرص واسعة في تأطير الأقتصاد العراقي بمصطلح الأستدامة في دعم رواد الأعمال والشركات الصغيرة والمتوسطة في الدولة العراقية ورفع مستوياتها الأنتاجية لتصبح قادرة على تقديم منتجاتها ذات نوعية أفضل .

***

عبد الجبارنوري

كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد

مايس 2023

لما وصلتُ الى الفصل السادس والعشرون من المقدمة قرأته أكثر من مرة لأجل أن أفهم قصد العلامة ابن خلدون جيدا...

هل أخطأ العلامة، أم نحن الذين فهمناه خطأً، وإنما قصد هو الأعراب أي البدو، وكل الحضارات الكبرى عاش على هامشها وحدودها المكانية وألزمانية البدو، بدو أعراب بجانب الحجاز ونجد والعراق وبلاد الشام، و بدو أتراك على حدود الدولة الساسانية، ومغول على حدود إمبراطورية الصين، وجرمان على تخوم روما، حتى في العالم الجديد عاش هنود رحل على حدود إمبراطوريات الإنكا والمايا والأزتيك ...

فالعرب قبل الإسلام كان لهم مدنية غير مدنيات اليمن وتدمر وإنما في مكة والمدينة والطائف ونجران، وهذه المدن كانت قائمة على أسس العمران التي ذكرها ابن خلدون وأصلها في مقدمته الشهيرة؛ من سياسة وملك وعلاقات دولية وتجارة وحروب وجند وطب وأدب وأساطير وعلوم وصناعة وإن كانت بسيطة، وهؤلاء العرب لما انتقلوا من هذه الحواضر الصغيرة الى العالم الواسع أنشئوا مدناً كبيرة عامرة ولم يخربوا وإنما عمروا بل وأوجدوا مدنا جديدة؛ الفسطاط، القاهرة، الكوفة، البصرة، القيروان، تيهرت، تلمسان، بجاية، بخارى، سمرقند، بغداد، خلب، اشبيلية، قرطبة، مراكش وغيرها من المدن والحواضر العامرة بالعلم والمدنية ، وهي مدن معروف دورها في تاريخ الحضارة الإسلامية والتاريخ العالمي ككل ...

فابن خلدون قصد الأعراب، ولم يقصد أبدا العرب وإلا كيف سيفسر الحضارة الراقية التي كانت في بغداد والأندلس وصانعوها عرب، بل إن بغداد لم تفقد بريقها إلا بعد أن تسلط عليها الترك، وكذلك الأندلس لما سيطر عليها الصقالبة .. حتى الأعراب الذين قصدهم العلامة سرعان ما اندمجوا في المجتمع الحضري للدول والإمارات التي كانت قائمة مثل بني هلال في المغرب أو المرابطون في الأندلس...

حتى الخراب الذين أحدثه أولئك لا يمكن مقارنته أبدا بالخراب والهمجية التي اتصف بها الواندال،الجرمان، الفيكينغ، الهون أو المغول ...

ومن يتصفح كتب التاريخ ويقرأها جيدا يلمحُ أن الخراب الذي لحق الحواضر العربية الكبرى إنما سببه الغزو الخارجي الذي له كان دور كبير في تعطيل و إطفاء نور التحضر والمدنية العربية، وبالأخص الغزو المغولي، الحروب الصليبية وحروب الأسبان على حواضر المغرب العربي ...

***

بقلم عبد القادر رالة

يقول الجاحظ: "وينبغي لمن كتب كتابًا ألا يكتبه إلا على أنّ الناسَ كلهم له أعداء وكلهم عالم بالأمور وكلهم متفرغ له، ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتابه غُفلاً ولا يرضى بالرأي الفطير فإن لابتداء الكتاب فتنة وعُجبًا فإذا سكنت الطبيعة وهدأت الحركة وتراجعت الأخلاط وعادت النفس وافرة أعاد النظر فيه، فيتوقف عند فصوله توقّفَ من يكون وزن طمعه في السلامة أنقص من وزن خوفه من العيب" .

تردني بين حينٍ وآخر تعليقاتٌ لاذعة، لا تخلو من سخرية، يكتبها قراءٌ على هامش نصوصي. اتألم وأغضب مما يُقال أو يُكتب إن كان افتراء، لا أردّ على ما يكتب. هاتفني قبل سنوات صديقٌ فقال لي: عثرتُ على عددٍ من المجلة الفلانية صادر قبل ثلاثة أعوام، خصّص كلمةَ التحرير ضد افتتاحيتك في مجلة قضايا إسلامية معاصرة. قلتُ له: نعم أعلم، قرأتُه لحظةَ صدور المجلة، وقرأتُ افتتاحيةً بمجلة أخرى خصّصها كاتبُها للتحريض ضد قضايا إسلامية معاصرة، وتصلني على الدوام رسائل على الخاص تتضمن كلامًا جارحًا، من أشخاص يختفون خلف أسماء شبحية. اندهش، وهو الشجاع الذي خاض بكتاباته معارك مفتوحة، فتسائل مستنكرًا: ماذا فعلت؟ أجبتُه: لن أكتب حرفًا واحدًا، على أي اتهام وتحريض مغرِض. ازدادت دهشته وتسائل: لماذا؟ أجبتُه: لا أجد عقابًا أقسى من الإهمال لمن يخرج على أدب النقد العلمي ويسرف بالهجاء، وأقسى من الإهمال ألا تكترث بالاتهام والتحريض، وتواصل عملَك وتثابر عليه، ويتحدث المزيدُ من إنتاجك نيابة عنك للقراء. واصلتُ عملي وأخلصتُ له وثابرتُ عليه أشدّ من السابق، أعمالنا إن كانت ذاتَ قيمة تفرض حضورَها، ولم تحتج لمن يتحدث ويدافع عنها. تعلمتُ من تجارب غيري أن الزمانَ يتكفل بمحو كلِّ الاتهامات والافتراءات والازدراء، لن يبقى إلا المنجزُ إن كان قادرًا على البقاء.‏ لستُ أولَ أو آخر كاتب يتعرض للهجاء، كلُّ كتابةٍ مشغولة ببناء معرفة علمية تخرج على المعرفة العامية لن يهادنها مَن يدركون تأثيرها، ويهرول إليهم أبواقٌ ممَن لا يقرأون ولا يكتبون، يُستدرجون في معارك ليست معاركهم. المنجز النوعي مزودٌ بإمكانات ذاتية للدفاع ومقاومة أية ضربات موجِعة، وامتصاص آثارها ولو كانت جارحة. الكاتب الذي يترقب أن تمكثَ أعمالُه في الذاكرة عليه أن يستعدّ للاتهامات في زمانه من كتّاب حانقين يستفزهم إنتاجُه. الافتراءاتُ ضريبةٌ باهضةٌ يدفعها مَن يثابر على الكتابة المغايرة للمألوف شاء أم أبى. تصدر على الكتابة المغايرة للمألوف أقوالٌ تتضمن اتهاماتٍ وأحكامًا باطلة، لن تتوقف مثل هذه الشائعات مادمتَ تصغي لنداء عقلك، وتنفرد بصوتك الخاص. لو انشغلتَ بملاحقة الافتراءات يتوقف عملُك، ولن يكفَّ هؤلاء عن ملاحقتك مهما كتبتَ ونشرتَ لفضح أكاذيبهم.لا أتحدث عن النقد العلمي، الذي أتعلم منه، ويرشدني إلى شيءٍ من وهن كلماتي وثغرات أفكاري. أتحدث عن الذي يتهكم ويتكلم بسخرية مبتذلة، لا شك أنه يزعجني ويؤذيني، لكنه يعمل على ترويج ما أكتب. الكلامُ المتواصل عن أيِّ كاتبٍ وإن كان هجاءً يؤشر إلى قوةِ حضوره واشتدادِ تأثير كتاباته. يخرس هؤلاء عندما يفرض منجزُك حضورَه ولو بعد حين، وتتردّد أصداؤه لدى القراء الأذكياء، ويهتمّ به الخبراء.

‏لم يألف ذهنُ القارئ كتابةً تعتمد العقلَ مرجعية، ولا تنسى متطلبات الروح والقلب والعاطفة، ولا يعرف أن الكتابةَ العقلانية تتطلب الوعيَ بالاحتياجات العميقة المتنوعة الأخرى للإنسان بكليته. عقلُ الجمهور أقربُ لقبول الأضداد في كلّ ما يسمعه، يصعب عليه جدًا تصورُ حالة خارج الثنائيات المتعاندة. ذهنُ القارئ أُحاديٌ مبرمجٌ على النفي والإثبات، لا يرى شيئًا خارجها، مَن يرى العقلَ لا يرى القلبَ والعاطفة والخيال، مَن يرى القلب لا يرى العقل، وهكذا. في تطور الفكر البشري كلُّ فكرة لا تكرّر المألوفَ تحدث ضجةً لحظةَ اطلاع القراء عليها، وتتعرض للكثير من الهجاء والتهكم والازدراء. على مَن يعتنقها أو يكتبها أو يتحدث بها أن يدفع ضريبةً باهضة. بعد أن تصبح مألوفةً، يزعم بعضُهم أنه تبناها، ويدعي آخرون أنهم قالوا بها من قبل، وبعد زمن يمسي أتباعُها كثيرون، ومَن يرفضها يعدّ متخلفًا.

واحدةٌ من ضرائب الكتابة الموجعة أنها تضعك في مواجهة أقرب الأصدقاء ممن يظهرون أحيانًا مودةً مفتعلة، وتخلق لك نماذجَ من الأعداء، بعضهم شبحيون يتقنون فنونَ المراوغة والاختباء. أكثر الناس يفرحون بما يصيب غيرَهم من أذى، هذه طبيعة البشر لن نستطيع تبديلَها مهما فعلنا، وإن تظاهر كثيرٌ منهم مجاملةً بالاحتفاء بمنجزك. ما عدا الأبوين، وبعض الاخوان، وقليل جداً من الأقرباء والأصدقاء، فإن أكثرَ الناس بطبيعتهم يستفزّهم أيُّ مُنجَز يقدّمه غيرُهم، وتؤذيهم نجاحاتُهم، خاصة مَن يمتهنون مهنتَهم، ومَن هم أقرب إليهم.

بدأتْ ردودُ أفعالي حيالَ الشرِّ الأخلاقي الصادر عن الإنسان أخفّ وطأة، ‏منذ أدركتُ سببَ مثل هذا السلوك الذي كان يصدمني سابقًا. القراءةُ المزمنة المتأملة الصبورة، ومعاشرةُ الناس، كشفتْ لي شيئًا مما هو مختبئ داخل النفس الإنسانية، وأرتني ما يثير الذعرَ أحيانًا من صراعٍ للخير والشرّ في أعماق الإنسان. كنتُ أجهل تركيبَ الإنسان جهلًا تامًا، بعد دراسةِ الفلسفة ومواصلة مطالعةِ علوم النفس والمجتمع الحديثة، والعيشِ في بلدان ومجتمعات متنوعة، أمسيتُ أعرف شيئًا عن هذه الطبيعة المركبة الغاطسة.كانت حياتي توجعها أحيانًا كلماتٌ عنيفة أتجرعها بمرارة، ومواقفُ لئيمة يجرحني فيها صديقٌ أحسبه مخلصًا، ولم أدرك آنذاك أن مثل هذا الإنسان تتحكم في مواقفه غيرةٌ مضاعفة، وعقدٌ تربوية، وأمراضٌ أخلاقية مزمنة، تسوقه كرهًا للحطّ من أيِّ منجز لأيِّ إنسان قريب أو بعيد منه. رأيتُ بعضَ الناس كأنه مدرّبٌ على العنف اللفظي، محترفٌ لجرح القلوب بكلمات كسهام. ‏لفرط الحياء الموروث من بيئة القرية البريئة، وجهلي بنزعة الشرّ الأخلاقي العميقة داخل الإنسان،كنتُ سابقًا أبتلع كلماتِ أمثال هؤلاء كمن يبتلع السمّ وأصمت وهي تأكلني من الداخل.

أحاول إكراهَ نفسي على المواقف الأخلاقية مع هؤلاء، على الرغم من أن النفسَ تنفر بشدّةٍ ممن يواصل الإساءةَ إليها باستمرار، وهي تواصل الإحسانَ إليه. يحتاج الإنسانُ الإحسانَ لتكريس تربية الذات أخلاقيًا، مع أن ذلك شديدٌ على النفس. الإحسانُ إلى المُحسِن لا تسامي فيه، الإحسانُ إلى المسيء، والإصرارُ على العفو والغفران في التعامل معه، هو ما تسمو فيه الذاتُ وتتكامل.

بمشقةٍ بالغة، وبعدَ مخاضِ علاقات واسعة مع الناس المختلفين في أديانهم ومذاهبهم وهوياتهم، والعيشِ في مجتمعات متنوعة، تراكمتْ لدي خبراتٌ مكنتني من ممارسة أقل الطرق كلفةً لإدارة العلاقات الاجتماعية بالأخلاقيين والمزعجين. الأخلاقيون قليلون في الحياة، المزعجون تركوا جروحًا عميقة في داخلي، تجاوزتها بصعوبةٍ شديدة واستطعتُ أن أتعامل معهم بإحسانٍ ورفق، وتعلمتُ كيفيةَ العيش وإدارةَ العلاقات بأقلّ ما يمكن من وجع. يبتهج مَن يعيشُ الرحمةَ بوصفها حالةً يتذوقها، والإحسانَ بوصفه مواقفَ نبيلة تصنعها أرواحٌ تجيد التغافلَ والصمتَ وكتمانَ الغضب. الإنسانُ تسعده الرحمةُ ومواقفُ الرفق والإحسان، بغضِّ النظر عن شخصية مَن يرفق به ويرحمه ويحسن إليه. وجدتُ لهذا النمط من السمو الأخلاقي تأثيرًا سحريًا في بناءِ الضمير وإيقاظه، واكتشافِ أن الأخلاق تحمي الإنسانَ من طيش نفسه ونزقها، مثلما تحميه من شرورِ غيره. رأيتُ المواقفَ الشريرة تنقلب على فاعلها فتعاقبه.

تأتي آلامُنا الموجِعة غالبًا ممن نحسن إليهم وهم يسيئون إلينا، إثر التوهم بخيرية كلّ إنسان، والجهل الشامل بطبيعة البشر. تصير الحياة أكثرَ سكينة وأقلَّ ألمًا، حين نكتشف التركيبَ المعقد لشخصية كل إنسان وإن كان يبدو ذلك الإنسانُ لنا بسيطًا. شخصيةُ كلّ إنسان يتجاور فيها الخيرُ والشرّ، ويتغلّب فيها الشرُّ على الخير لحظةَ ينامُ الضميرُ الأخلاقي. شخصيةُ الإنسان الذكي أعمق وأشدّ تركيبًا من غيرها، العقلُ كلّما كان أعمق يكون أقدرَ على المكر وأكثرَ قدرة على حجب دوافعه وممارسة الأذى بمكر واحتيال، لا يحمي الناسَ من الإنسان الذكي إلا يقظةُ ضميره الأخلاقي. مازالتْ رحلتي في اكتشاف طبيعة الإنسان المذهلة مستمرّة، أعرف أن هذه الرحلةَ لن تصل مدياتِها القصوى حتى اليوم الأخير لحياتي.كلّما عرفتُ الإنسانَ أكثر عرفتُ اللهَ أكثر، وأدركتُ الحاجةَ الأبدية إليه مادمتُ حيًّا، وأدركتُ الحاجةَ لحضور القيم الأخلاقية السامية، والقوانين العادلة وضرورة التطبيق الصارم لها على الجميع مهما كانت مواقعُهم الطبقية ومقاماتُهم الاجتماعية.

اتخذتُ قرارًا منذ سنوات طويلة، كان اتخاذُه شديدًا على نفسي، أن أمزّق رسائل الأذى وكتابات الازدراء والهجاء الورقية لحظة تصلني، وأمحو كلَّ ما يزعجني من رسائل الكترونية.كلُّ شيء يمكن أن يورث كراهيةً أتخلص منه عاجلًا، كي أحمي قلبي وأطهّره من الضغائن، القلبُ حسّاسٌ جدًا تمرضه الضغائنُ والأحقاد. رسائل الكلام القبيح والافتراء وسوء الأدب أمزقها لئلا تمزّق قلبي. أتحدث عن ضرورة حماية القلب من الكراهية، لا أدعو هنا إلى محبةٍ جزافية غير واقعية، لا يطيق الإنسانُ محبة مَن يعتدي عليه ويطعنه ويغدر به مرات متوالية. يتمكن الإنسانُ من أن يتغاضى ويقطع صلتَه بمثل هؤلاء، غير أنه لا يطيق أن يحبّ شخصًا مؤذيًا يتمادى ويواصل الاعتداءَ عليه. لا يطيق ذلك إلا إن كان إنسانًا استثنائيًا أو قديسًا، وأنا لم أكن يومًا ما إنسانًا استثنائيًا أو قديسًا.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

قد يبدو الحديث عن التربية الجمالية ضربًا من الترف الفكري إذا ما قورن بطبيعة وحجم الإشكالات التي يواجهها المجتمع العربي المعاصر، غير أن ما نعايشه من هبوط مريع في مستوى الذوق العام، وكيف أصبحنا محاطين بالقبح المتمثل: بالحقد والحسد والكره وتطاول الصغار على الكبار، والخوض في النميمة، وممارسة القسوة في أبشع صورها، فضلًا عن انسياق الإعلام عمومًا خلف تصور للجمال يقرنه بمبدأي اللذة والمنفعة، كل ذلك وأكثر منه بكثير يدفعان بهذا الحديث إلى تصدر قائمة الإشكالات.

من هنا يصبح الحديث عن الجامعة والجمال حاجة ملحة بعد أن غدت حياتنا في هذا الزمن القبيح خالية من الفرح والأمل والخير والحق والجمال، وهذا يعني أن الحديث عن الجامعة وثقافة الجمال له ما يبرره، وبخاصة إذا ما عرفنا أن التربية الجمالية لا تشمل كل ما نعمله لأنفسنا، أو ما يعمله الآخرون لنا بقصد تنشئتنا وتقريبنا من درجة الكمال ما أمكن ذلك، ولكنها فوق ذلك تشمل الآثار غير المباشرة التي تؤثر في أخلاقنا وطباعنا ومواهبنا الإنسانية، وكل ما يُساعد على صقل الشخصية الإنسانية، ويخرجها من قبحها حتى تصبح واعية لقيم الحق والخير والجمال.

وإذا كان حب الجمال قائمًا في بنية النفس الإنسانية، ويعكس صحة الذوق وسلامة الفطرة، فإنه يحتاج إلى تدريب على استدعائه لحظة التفاعل مع الموجودات، وهذا يتطلب من الجامعات ممارسة دورها في تنمية القيم الجمالية لدى طلابها، وحثّهم على تخطي عالم المادة، لأن الدخول إلى عالم الجمال أمر في غاية الأهمية، لما يعكسه هذا العالم من بهجة وفرح ومتعة.

وهكذا، فإن قيام الجامعة، من خلال أنشطتها المختلفة، ببناء خبرات جمالية لدى الطلبة يُعدّ من المسؤوليات المهمة التي يجب أن تعكسها العملية التربوية بكفاية عالية، لأن الخبرة الجمالية للطالب لا تنحصر في تأمل الطبيعة فحسب، بل هي مُصاحبة للسلوك الأخلاقي ومُجسدة في شتى مظاهر صلة الإنسان بالأشياء التي حوله.

ولهذا، نجد في البلدان المتقدمة أن التعليم يشكل موقفًا تكامليًا تجاه التربية الجمالية، ومعرفة الجميل من القبيح، وارساء دعائم وقيم جمالية فيه، ويكون دور التربية الفنية خلق أناس قادرين على ربط حياتهم بالقيم الجمالية، وهذا شيء متمايز من النشاط الفني المعتمد على الجمال في جملته، وهو النشاط الذي تعززه وتشجعه التربية الفنية عندهم.

مع ملحوظة أن اللامبالاة أو عدم الاكتراث بالقيم الجمالية قد أصبح شائعًا لدى الكثيرين، وتكفي نظرة واحدة في الأوساط والبيئات المتنوعة للخروج بهذا الانطباع، فالإنسان لن تظهر عظمته حين يكسب شيئًا ويخسر ذاته، لأن الفكر وحده لا يصنع إنسانًا عظيمًا، والعاطفة وحدها لا تصنعه أيضًا، والإنسان الحق فعلًا هو من يحقق التوازن الجميل بين القول والفعل، وبين الفكر والوجدان، وبين القلب والعقل.

من هنا نفهم، لماذا ربط "كانط" موضوع الجمال بموضوع الأخلاق، وأكد على أن الإنسان الذي يهتم بالجمال الطبيعي لابد أن يكون قد اعتاد من قبل حياة التأمل، ومن ثَمَّ فإن الخير الأخلاقي لابد أن يكون قد أصبح متأصلًا في نفسه. ومعنى هذا أن الاهتمام المباشر بجمال الطبيعة هو مظهر من مظاهر النزوع نحو الخير الأخلاقي، أو على الأصح أثر من آثار التربية الأخلاقية، وإذا كانت هناك قرابة بين الأحكام الجمالية والشعور الخلقي، فذلك لأن الطبيعة تخاطبنا بلغة رمزية عن طريق ما فيها من أشكال جميلة، وحينما يهتدي المرء إلى فك رموز هذه اللغة، فعندها سوف يعجب بمقاصد الطبيعة، ويفطن إلى ما في قوانينها من نظام، ويدرك أنها تنطوي على غائية خاصة هي في صميمها مرتبطة بغاية وجودنا، وبمصيرنا الأخلاقي.

ولأن الأمر كذلك، يصبح من الضروري أن تُعزز الجامعات الخبرات الجمالية في سلوك طلابها، بعد أن تُزودهم بالمعرفة اللازمة بهذه الخبرات، لأن مثل هذه الخبرات هي التي تضفي على أفعال الطلبة وأحاسيسهم وأفكارهم المبعثرة الوحدة والاتساق، مما يجعلهم أكثر قدرة على مواجهة ظاهرة التطرف الفكري، والسلوكيات السلبية، من خلال البحث عن الأسباب الداعية لها، ووضع حلول مناسبة لتلافي أخطارها.

وعليه، فإن الجامعات العربية عمومًا بحاجة إلى فلسفة تربوية تكون فيها غاية الغايات بناء الطالب في إطار خبرات مجتمعه الجمالية، وتكون التربية الجمالية وسيلة يتحقق من خلالها أسلوب حياة جميلة على أسس تربوية مخططة، وذلك لإكساب الطالب خبرات جمالية مربية في إطاره اجتماعي. وهذا يقتضي أن يكتسب الطالب الجامعي الخبرة الجمالية من خلال مراعاة ميوله واتجاهاته.

بالإضافة إلى ايمان الجامعات بالإيقاع المتسارع للتغيير، وأن تكون الوظيفة الخاصة لكليات الفنون فيها تسهيل الاتصال بالعالم الجديد الذي يشكله الخيال الخلاق، لا أن يكون الفن مجرد تقليد لعالم الأشياء الواقعية. ولذلك يجب ألاّ يكون الفن تكرارًا للأشياء كما هي، وإنما النظرة المتغيرة لعالم متغير، ومن هنا يكون هدف الفلسفة الجمالية تنمية قدرات الخلق والإبداع عند الطلبة.

هذه الفلسفة الجمالية للجامعات تقتضي أيضًا أن يتم تحرير التعليم، لأن غرس القيم الجمالية وتنميتها يتناقض مع الشمولية والأحادية، فضلاً عن أنه لا يمكن أن يتميز التعليم بطابع جمالي، إلاّ إذا تم تحرير المعرفة المقدمة إلى الطلاب، وتحرير القائمين عليها "المعلمين" من كل أشكال القهر والتسلط، سواء أكان قهرًا معنويًا أم رمزيًا أم ماديًا، ومن ثَمّ تحرير الخبرة الجمالية بوصفها منتجًا اجتماعيًا يُعبّر عن تطور الواقع في لحظة ما. ومن هنا يمكن القول: إن التربية الجمالية تستطيع أن تؤدي دورًا تنويريًا، وتعمل على ترسيخ القيم الجمالية، وبخاصة إذا ما انطلقت من فلسفة جمالية تؤمن إيمانًا مطلقًا بقدرة الإنسان على الخلق والإبداع.

ولهذا، لا بد من الانفتاح على الفكر التربوي العالمي من أجل إطلاق حوار تربوي ثقافي هدفه معرفة العلاقة بين الثقافات الإنسانية بوصفها قضية محورية يدور حولها النسق الثقافي الإنساني من جهة، والتعرف على الأفكار التربوية التي طرحتها المذاهب الفلسفية المختلفة، والاستفادة منها في التربية العربية ما أمكن ذلك، وبخاصة ما يتصل منها بالتربية الجمالية التي من خلالها تتاح الفرص الإبداعية، وتُكتسب المهارات، وتنمو المعرفة، ويتسع الإدراك، وتُعمق الرؤية، ومن خلالها أيضًا يمكن للفرد أن يكتسب الخصائص التي تنميه جماليًا.

ومن ثم، فإن الجامعات العربية اليوم مطالبة أكثر من أي وقت مضى بالنظر إلى مجالات الفنون بصورها التعبيرية المختلفة (الفنون التشكيلية، والغنائية، والحركية، والموسيقية)، كمصدر من مصادر المعرفة التي تُحرك وجدان الطلبة، ومشاعرهم الإنسانية، وتُهذب نفوسهم، عملاً بقول الإمام الغزالي: "من لم يهذبه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج".

***

د صابر جيدوري

مفتتح: يغري المشهد العربي وبالذات منذ انطلاق تحولات الربيع العربي ومتوالياتها السياسية والاجتماعية والأمنية، إلى معاودة النظر في مفهوم الاستقرار السياسي، وما هي السبل الحقيقية لإنجازه في أي بلد عربي؟ وهل تغوّل السلطة السياسية وأجهزتها الأمنية، ورفض مستويات المشاركة الشعبية في الحكم والشأن السياسي، يعد ضمانة للحفاظ على الأمن والاستقرار السياسي؟ أم أن تجربة الربيع العربي أثبتت عكس ذلك تماما؟

فالسلطات السياسية مهما أوتيت من قدرة عسكرية وقوة أمنية، إلا أنها إذا انفصلت عن شعبها، وأضحت تطلعات شعبها بعيدة أو غير منسجمة مع تطلعاتها، فإن النتيجة أن ما تمتلكه السلطة من قوة، هي قوة خادعة. بمعنى، ليست كافية لإنجاز مفهوم الاستقرار السياسي العميق. لأن ثمة شروط مختلفة في كل التجارب السياسية لتحقيق مفهوم الاستقرار السياسي. وهي شروط متعلقة بمستوى رضا الشعب عن سلطته السياسية، ومدى قدرة السلطة على تلبية حاجات وتطلعات الشعب على المستويين السياسي والاقتصادي.

ولكي نجيب على هذا السؤال الحيوي والمركزي في آن على ضوء تحولات الربيع العربي، سنؤسس لمقاربة الإجابة من خلال العناوين الفرعية التالية :

1- في معنى الاستقرار السياسي.

2- الديمقراطية والاستقرار السياسي.

3- العدالة والاستقرار السياسي.

4- مفهوم قوة الدولة وضعفها.

في معنى الاستقرار السياسي:

كثيرة هي الحقائق والمعطيات الموجودة في المشهد السياسي الإقليمي والدولي التي تؤكد أن الاستقرار السياسي في الدول الحديثة اليوم، لا يمكن تحقيقه بالقمع والغطرسة وتجاهل حاجات الناس وتطلعاتهم المشروعة. فالترسانة العسكرية ليست هي وسيلة جلب الاستقرار وحفظه. كما أن زهو القوة وخيلائها وأوهامها، ليس هو الذي ينجز مفهوم الاستقرار.. فالعديد من الدول تمتلك ترسانة عسكرية ضخمة وأجهزة أمنية متطورة، وكل مظاهر القوة المادية إلا أن استقرارها السياسي هش وضعيف، ومع أي ضغط أو تحول، نجد التداعي والاهتراء والضعف.

وفي المقابل نجد دولا لا تمتلك أسلحة عسكرية ضخمة، ولا مؤسسة أمنية متطورة، إلا أن استقرارها صلب ومتين، وقادرة بإمكاناتها الذاتية من مواجهة الأزمات ومقاومة المؤامرات، وحفظ استقرارها وأمنها العام..

فالاستقرار السياسي في جوهره ومضمونه، ليس وليد القوة العسكرية والأمنية، مع ضرورة ذلك في عملية الأمن والاستقرار، وإنما هو وليد تدابير سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، تجعل من كل قوى المجتمع وفئاته عيناً ساهرة على الأمن ورافداً أساسي من روافد الاستقرار. وتخطأ الدول وترتكب حماقة تاريخية بحق نفسها وشعبها، حينما تتعامل مع مفهوم الاستقرار السياسي بوصفه المزيد من تكديس الأسلحة أو بناء الأجهزة الأمنية، فالاستقرار الحقيقي يتطلب خطوات سياسية حقيقية تعمق من خيار الثقة المتبادلة بين السلطة والمجتمع، وتشرك جميع الشرائح والفئات في عملية البناء والتسيير.

ولذلك نجد أن الدول المتقدمة عسكريا وأمنيا والمتخلفة سياسيا، هي التي يهتز فيها الاستقرار السياسي لأبسط الأسباب والعوامل، أما الدول التي تعيش حياة سياسية فعالة، وتشترك قوى المجتمع في الحقل العام وفق أسس ومبادئ واضحة، هي الدول المستقرة والمتماسكة والتي تتمكن من مواجهة كل مؤامرات الأعداء ومخططاتهم.

فقوة الدول واستقرارها اليوم، لا يمكن أن تقاس بحجم الأسلحة وقوة الترسانة العسكرية أو عدد الأجهزة الأمنية، وإنما تقاس بمستوى الرضا الشعبي وبمستوى الثقة وبمستوى الحياة السياسية الداخلية، التي تفسح المجال لكل الطاقات والكفاءات للمشاركة في الحياة العامة.

فالاستقرار السياسي اليوم، لا يتأتى بالمزيد من الإجراءات الاحترازية أو تكثير لائحة الممنوعات والاستثناءات، وإنما ببناء حياة سياسية حقيقية تتنافس فيها الأفكار والتصورات والمشروعات بوسائل سلمية – ديمقراطية..

فالعراق هذا البلد القوي على الصعيدين الأمني والعسكري، لم يستطع أن يحافظ على نظامه السياسي الشمولي، لكون المجتمع هو الضحية الأولى لهذا النظام القمعي والشمولي.

فالاستقرار السياسي ومن وحي التجربة العراقية والتجارب السياسية الأخرى، لا يأتي من خلال نظام شمولي، يقمع الناس ويوأد تطلعاتهم ويحارب مصالحهم الحقيقية. لذلك نجد أن الدول التي تحكم بأنظمة قمعية وشمولية، هي المهددة أكثر في أمنها واستقرارها..

فالأمن المجرد لا يفضي إلى الاستقرار، والقوة العسكرية بوحدها لا تتمكن من مواجهة تحديات المرحلة.. لهذا كله فإننا ندعو كل الدول العربية والإسلامية، إلى إعادة صياغة وعيها وفهمها لمقولة الاستقرار السياسي.. لأن الرؤية التي ترى أن سبيل الاستقرار، هو المزيد من الإجراءات والاحترازات والتضييق على حريات الناس، رؤية أثبتت التجربة قصورها وخطؤها. فالقمع لا يصنع أمنا واستقرارا، بل يضاعف من عوامل وأسباب الانفجار السياسي والاجتماعي..

لهذا فإن المجالين العربي والإسلامي اليوم، بحاجة إلى صياغة رؤية ووعي جديد، تجاه مسألة الاستقرار السياسي.. لأن الرؤية السائدة في الكثير من الدول والبلدان لم تحقق الاستقرار، بل على العكس من ذلك تماما.. إذ أن أي خطر داخلي أو خارجي حقيقي كشف وهم الاستقرار الذي كانت تعيشه العديد من الدول والبلدان..

وفي تقديرنا ورؤيتنا أن مكونات الاستقرار السياسي في المجالين العربي والإسلامي هي:

1- وجود مصالحة حقيقية بين مشروع السلطة ومشروع المجتمع، بحيث أن كل طرف يقوم بدوره الطبيعي في عملية البناء والعمران. فالاستقرار السياسي لا يمكن أن يتحقق على الصعيد الواقعي بعيدا عن انسجام الخيارات السياسية والثقافية بين السلطة والمجتمع.. والدول التي تعيش حالة حقيقية من الوئام والانسجام على صعيد الرؤية والخيارات بين السلطة والمجتمع، هي الدول المستقرة والقادرة على مواجهة كل التحديات والمخاطر..

لذلك فإننا نرى أهمية أن تخطو الدول العربية والإسلامية والمهددة في أمنها واستقرارها، إلى بلورة مشروع وطني متكامل للمصالحة بين السلطة والمجتمع.. فالاستقرار السياسي الحقيقي يكمن في مستوى الانسجام السياسي والاستراتيجي بين السلطة والمجتمع..

2- وجود الثقة المتبادلة والرضا المتبادل بين السلطة والمجتمع. فالأنظمة التي لا تثق بشعبها أو الشعب الذي لا يثق بحكومته، فإنه مهدد بشكل حقيقي في أمنه واستقراره.. لأن الأمن الحقيقي والاستقرار العميق هو الذي يستند إلى حقيقة راسخة وهي توفر الثقة العميقة والمتبادلة بين السلطة والمجتمع. هذه الثقة هي التي تنمح القوة لكلا الطرفين. فقوة المجتمع في انسجامه السياسي مع نظامه السياسي، وقوة النظام السياسي في ثقة المجتمع به وبخياراته السياسية والإستراتيجية.. لذلك فإن الاستقرار السياسي يتطلب وبشكل دائم العمل على غرس بذور الثقة بين السلطة والمجتمع..

ولا ريب أن خلق الثقة المتبادلة بين الطرفين، يحتاج إلى مبادرات حقيقية وانفتاح متواصل ومستديم بين مختلف القوى، حتى يتوفر المناخ المؤاتي للثقة والرضا المتبادل بين السلطة والمجتمع..

3- توفر الحريات السياسية والثقافية.. فلو تأملنا في العديد من التجارب السياسية على هذا الصعيد، لاكتشفنا وبشكل لا لبس فيه أن الدول التي تتوفر فيها حريات وتمنح شعبها بعض الحقوق، هي الدول المستقرة والتي تتمكن من مواجهة التحديات والمخاطر.. أما الدول التي تمارس السياسة بعقلية الاستئصال والتوحش وتمنع شعبها من بعض حقوقه ومكتسباته السياسية فإنها دول مهددة في استقرارها وأمنها.. لأنه لا يمكن لأي شعب أن يدافع عن دولة هو أول ضحاياها.. لهذا فإن الاستقرار السياسي هو وليد طبيعي لتوفر الحريات في الداخل العربي والإسلامي..

ومن يبحث عن الاستقرار السياسي بعيدا عن ذلك، فإنه لن يحصل إلا على أوهام القوة والاستقرار.. واللحظة التاريخية التي نعيشها اليوم على أكثر من صعيد، تتطلب تجديد فهمنا ووعينا لمعنى الاستقرار السياسي، والانخراط الفعلي في بناء المكونات الأساسية لخيار الأمن والاستقرار..

فكل التحديات والمخاطر لا يمكن مواجهتها، إلا باستقرار سياسي عميق، ولا استقرار حقيقي إلا بديمقراطية وتنمية مستدامة.. لذلك فإن الخطوة الأولى والإستراتيجية في مشروع مواجهة تحديات المرحلة ومخاطرها المتعددة هو بناء أمننا واستقرارنا على أسس ومبادئ حقيقية تزيدنا منعة وصلابة وقدرة على المواجهة.

الديمقراطية والاستقرار السياسي:

  وعديدة هي الدول والنخب السائدة، التي تعتقد أن سبيل استقرارها، واستمرار سيطرتها وهيمنتها على مجتمعها، هو بالمزيد من الإجراءات والأنظمة التي تكبل المواطنين وتمنعهم من حرية الحركة وتحول دون ممارسة الكثير من حقوقهم ومكتسباتهم المدنية.

لذلك فإن هؤلاء يتعاملون مع مفهوم الاستقرار السياسي والاجتماعي بوصفه صنو الأمن وتوأم تقييد الحريات وملازماً للكثير من الإجراءات المقيدة للحريات والمانعة من ممارسة الحقوق. وعلى ضوء هذا الفهم للاستقرار وطريق الوصول إليه، فإن هذه النخب مع أي مشكلة تتعرض إليها أو أزمة تصيبها، لا تفكر في أسبابها الحقيقية وموجباتها العميقة، وإنما تعمل على زيادة الاحتياطات والاحترازات الأمنية، وكأن غياب الاستقرار أو تعرضه لبعض الهزات، هو من جراء تراخي الأمن.

وهكذا فإن هذه الرؤية تتعاطى مع مسألة الاستقرار ليس بوصفه محصلة نهائية للعديد من الشروط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، وإنما بوصفه نتاج القوة المادية وممارستها تجاه الفئات أو النخب الاجتماعية الأخرى.

ومن هنا نفهم طبيعة الخوف والحذر الذي تبديه النخب السائدة في العديد من الدول، من الحرية وتوسيع حقائقها وآليات عملها في الفضاء الاجتماعي. فتجعل وفق هذا المنطق قيمة الاستقرار مناقضة لقيمة الحرية وحقوق الإنسان. وإذا أردنا الاستقرار فعلينا أن نضحي بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولا سبيل إلى الجمع بين هذه القيم في الفضاء الاجتماعي. فيتم شراء الاستقرار بمنع الحرية وبانتهاك حقوق الإنسان الأساسية. وهكذا توفرت في العديد من الدول تقاليد لتعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي، مؤدى هذه التقاليد هو أن طريق الاستقرار هو التضحية بحريات الناس وحقوقهم الأساسية وبالمزيد من تعظيم دور الإجراءات التنفيذية والعملية كمقيد لحركة الناس وحرياتهم.

وفي مقابل هذه الرؤية التي تتعاطى مع مفهوم الاستقرار من زاوية أمنية محضة، هناك رؤية أخرى تحاول أن توفق بين مطلب الاستقرار السياسي والاجتماعي وضرورات الحرية ومتطلبات صيانة حقوق الإنسان. وأنه لا تناقض جوهري بين هذه الضرورات والمتطلبات والاستقرار السياسي والاجتماعي. بل على العكس من ذلك تماماً. حيث أن طريق الاستقرار الحقيقي لا يمر إلا عبر بوابة ممارسة الحرية ونيل الحقوق والمكاسب المدنية. وإن أي محاولة لفك الارتباط بين الاستقرار والحرية، بين الأمن وحقوق الإنسان، سيفضي إلى المزيد من تدهور الأوضاع وانهدام أسباب الاستقرار الحقيقية.

ويخطئ من يتصور أن طريق الاستقرار يمر عبر التضحية بحريات الناس أو التعدي على حقوقهم، وذلك لأن هذه الممارسات بتأثيراتها المتعددة وانعكاساتها المتباينة، ستزيد من فرص عدم الاستقرار وتدهور الأوضاع.

فالطريق إلى الاستقرار السياسي والاجتماعي، هو ممارسة الحرية وصيانة الحقوق الإنسانية والمدنية.

ولذلك نجد في المشهد السياسي العالمي، أن الدول التي تنتهك فيها الحقوق وتنعدم فيها فرص ممارسة الحرية والديمقراطية، هي ذاتها الدول التي تعاني الأزمات السياسية والاقتصادية وتعيش الاضطرابات الاجتماعية وتعاني الأمرين من جراء غياب معنى الاستقرار السياسي والاجتماعي الحقيقي.

أما الدول الديمقراطية والتي تصون حقوق مواطنيها وتعمل على تعزيز فرص المشاركة لدى مختلف فئات المجتمع في الحياة العامة، هي الدول التي تعيش الاستقرار والأمن، وهي البعيدة عن موجبات الاندحار وأسباب تدهور الأوضاع.

فالتجارب السياسية والاجتماعية في العديد من مناطق العالم، تعلمنا أن طريق الاستقرار السياسي والاجتماعي، ليس المزيد من تقييد الحريات، وإنما بصيانة الحرية وتعزيز وقائع وحقائق حقوق الإنسان في الفضاء الاجتماعي، فكلما توفرت أسباب الحرية وصيانة الحقوق الأساسية في الفضاء الاجتماعي، اضمحلت أسباب الأزمة وتلاشت عوامل النكوص وتدهور الأوضاع.. وخطيئة تاريخية وحضارية كبرى، حينما يتم التعامل مع مفهوم الاستقرار وكأنه مناقض لمفهوم الديمقراطية وحقوق الإنسان..

لأن هذا الفهم هو الذي يقود إلى الاستبداد بكل صنوفه، بدعوى المحافظة على الاستقرار. ولكن ومن خلال تجارب العديد من الأمم والشعوب فإن الاستبداد يحمل في بنيته وأحشائه كل عوامل الاضطراب وأسباب الفتن وموجبات التفكك السياسي والاجتماعي. فبدون معادلة متوازنة بين الاستقرار والحرية، بين السلطة وحقوق الإنسان، لن تتمكن مجتمعاتنا العربية والإسلامية من صيانة استقرارها والمحافظة على أمنها الوطني والقومي.

وكل محاولة لفك الارتباط بين الاستقرار والحرية، أو السلطة وحقوق الإنسان، هي في المحصلة النهائية دق إسفين في مشروع الاستقرار السياسي والاجتماعي.. لأنه لا يمكن أن نحصل على الاستقرار الحقيقي بانتهاك الحقوق وتكميم الأفواه، لأن هذه تزيد من تدهور الأوضاع وتؤسس على الصعيدين السياسي والاجتماعي لكل أسباب الاضطراب والفوضى والتمرد. فالعلاقة جد عميقة بين الاستقرار والحرية، فلا حرية بدون استقرار سياسي واجتماعي واقتصادي، كما أنه لا استقرار بدون حرية مؤسسية تسمح لجميع المواطنين من المشاركة في إدارة وتسيير شؤون حياتهم المختلفة.

ولعلنا لا نبالغ حين القول: أن العديد من أزماتنا ومشاكلنا في المجالين العربي والإسلامي، هي من جراء الخلل في العلاقة بين الاستقرار والحرية. فالنخب السائدة تسعى من خلال عملها وإجراءاتها إلى تلبية حاجات أحد الأطراف وهو الاستقرار، حتى ولو كانت هذه التلبية على حساب متطلبات وقواعد الحرية.

والنخب السياسية والاجتماعية الأخرى تكافح أيضاً من أجل الحرية دون الأخذ بعين الاعتبار قواعد الاستقرار السياسي والاجتماعي. وهكذا ومن خلال هذا الخلل ينتج الكثير من المشاكل والأزمات. فالإجراءات التي لا تتحدد بسقف الحرية وحقوق الإنسان، تكون إجراءات ظالمة ومفزعة ومؤسسة للحروب الداخلية الكامنة والصريحة. كما أن المطالبة بالديمقراطية التي لا تراعي قواعد اللعبة وثوابت المجتمع والوطن، تفضي إلى صراع مفتوح يضيع فيه الاستقرار، كما تتضاءل فيه فرص الحرية والديمقراطية. لذلك فإن عالمنا العربي وهو في سياق تحرره من أزماته الداخلية ومشاكله الذاتية، هو بحاجة إلى إعادة تنظيم العلاقة بين الاستقرار وحاجاته، والحرية ومتطلباتها.

لأن العلاقة الايجابية والدينامية بين الاستقرار والحرية، هي البداية الصحيحة للخروج من أزمات الراهن بأقل خسائر ممكنة.. وهنا يتطلب أن تلتفت النخب العربية والإسلامية السائدة إلى متطلبات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.. كما يتطلب من قوى المجتمع الأخرى أن تأخذ بعين الاعتبار وتحترم حاجات الاستقرار السياسي والاجتماعي.. فنحن بحاجة أن نلتفت إلى متطلبات الحرية، دون دفع الأمور إلى الفوضى والصراعات المفتوحة، كما نحترم قواعد الاستقرار دون التحجر والجمود واليباس.

فالمطلوب علاقة تفاعلية ودينامية بين متطلبات الحرية وحاجات الاستقرار. وذلك من أجل أن ينطلق مجتمعنا في التغيير والتطوير على قواعد متينة من الاستقرار الاجتماعي.. وإن التطورات المتسارعة التي تجري في المنطقة اليوم، تجعلنا نؤكد على أن طريق الاستقرار السياسي والاجتماعي، لا يمر عبر المزيد من الإجراءات والاحترازات الأمنية مع أهميتها وضرورتها، وإنما عبر إعادة تشكيل الحياة السياسية بحيث يتسنى لجميع قوى المجتمع وتعبيراته من المشاركة في بناء الوطن وتعزيز وحدته الداخلية وتمتين أواصر العلاقات بين مختلف المكونات.

فالاستقرار السياسي والاجتماعي اليوم، في الكثير من البلدان العربية والإسلامية، بحاجة إلى حزمة من الإجراءات والخطوات السياسية، التي تستهدف رفع الاحتقانات الداخلية وبلورة الأطر والمؤسسات للمشاركة الشعبية وإعادة تأسيس العلاقة بين متطلبات الحرية ومشاركة الناس في شؤون حياتهم المختلفة وحاجات الاستقرار والنظام.. بحيث لا تقود خطوات الإصلاح إلى فوضى، بل إلى بناء متراكم وعمل وطني متواصل، يستهدف تطوير التجربة وتحديثها، وإزالة عناصر الخلل والضعف منها.

وهذه المهام ليست مستحيلة، وإنما هي ممكنة وتتطلب من جميع الأطراف الاهتمام بالنقاط التالية:

1- إن القوة الحقيقية اليوم في أي مجتمع، لا تقاس بمستوى الكفاءة العسكرية أو الإجراءات الأمنية المحكمة، وإنما تقاس القوة اليوم بمستوى الانسجام والرضا بين مؤسسة الدولة والمجتمع بكل مكوناته وتعبيراته. فالدولة التي تمتلك أحدث الأسلحة، ولكنها منفصلة أو مفصولة عن شعبها فهي دولة ضعيفة. وذلك لأن قوتها الحقيقية ليس في الأسلحة والمعدات العسكرية، وإنما في رضا المجتمع عنها. وفي كفاح المجتمع في الدفاع عنها بكل مؤسساتها وهياكلها.. والدولة التي لا تمتلك الأسلحة الحديثة ولا الثروات الطبيعية الهائلة، إلا أنها تعبير حقيقي عن مجتمعها، فهي دولة قوية لأنها محتضنة من قبل شعبها ومجتمعها.. فقوة الدول ليس في ترسانتها العسكرية، بل في انسجامها مع مجتمعها في خياراتها ومشروعاتها. لذلك كله فإن استقرار الدول اليوم، مرهون إلى حد بعيد على قدرة هذه الدول في التفاعل مع قضايا مجتمعها والتعبير عن تطلعاته وحاجاته.

2- إن بناء العلاقة الايجابية والمتطورة بين الدولة والمجتمع في المجال العربي، بحاجة إلى جهود مشتركة بين الطرفين.. فالدولة تتحمل مسؤولية مباشرة في خلق الأجواء والوقائع التي تدفع الواقع صوب التفاعل الايجابي بين الدولة والمجتمع.. كما أن المجتمع بقواه المتعددة يتحمل مسؤولية مباشرة في إطار تطوير العلاقة بين الدولة والمجتمع في التجربة العربية المعاصرة.. فمؤسسات المجتمع المدني ليست بديلاً عن الدولة، كما أن مؤسسات الدولة ليست بديلاً عن فعاليات المجتمع الأهلية والمدنية.. فالاستقرار السياسي والاجتماعي بحاجة إلى جهود مشتركة ونوعية تقوم بها مؤسسات الدولة كما يقوم بها المجتمع عبر مؤسساته الأهلية والمدنية. فالاستقرار هو نتاج عمل متواصل ومتراكم يتجه صوب تعزيز حرية الإنسان وحقوقه الأساسية، كما أنه لا يغفل أو يتجاهل حاجات المجتمع إلى الأمن والاستقرار..

فالطريق إلى استقرار أوضاع العالم العربي اليوم، بحاجة إلى مبادرات وطنية نوعية، تتجه صوب إصلاح الأوضاع وتدشين مرحلة سياسية جديدة قوامها ممارسة الحريات وصيانة حقوق الإنسان.

العدالة والاستقرار السياسي:

ثمة علاقة عميقة، وعلى أكثر من مستوى، تربط قيمة الاستقرار السياسي والاجتماعي في أي تجربة إنسانية،وقيمة العدالة.. بمعنى أن كل المجتمعات الإنسانية، تنشد الاستقرار، وتعمل إليه، وتطمح إلى حقائقه في واقعها، إلا أن هذه المجتمعات الإنسانية، تتباين وتختلف في الطرق التي تسلكها، والسبل التي تنتهجها للوصول إلى حقيقة الاستقرار السياسي والاجتماعي..

فالمجتمعات الإنسانية المتقدمة حضاريا، تعتمد في بناء استقرارها الداخلي السياسي الاجتماعي على وسائل الرضا والمشاركة والديمقراطية والعلاقة الايجابية والمفتوحة بين مؤسسات الدولة والسلطة والمجتمع بكل مؤسساته المدنية والأهلية وشرائحه الاجتماعية وفئاته الشعبية.. لذلك يكون الاستقرار، هو بمثابة النتاج الطبيعي لعملية الانسجام والتناغم بين خيارات الدولة وخيارات المجتمع..

بحيث يصبح الجميع في مركب واحد، ويعمل وفق أجندة مشتركة لصالح أهداف وغايات واحدة ومشتركة..

لذلك غالبا ما تغيب القلاقل السياسية والاضطرابات الاجتماعية في هذه الدول والتجارب الإنسانية.. وإن وجدت اضطرابات اجتماعية أو مشاكل سياسية وأمنية، فإن حيوية نظامها السياسي ومرونة إجراءاتها الأمنية وفعالية مؤسساتها وأطرها المدنية، هي العناصر القادرة على إيجاد معالجات حقيقية وواعية للأسباب الموجبة لتلك الاضطرابات أو المشاكل..

وإذا تحقق الاستقرار العميق والمبني على أسس صلبة في أي تجربة إنسانية، فإنه يوفر الأرضية المناسبة،لانطلاق هذا المجتمع أو تلك التجربة في مشروع البناء والعمران والتقدم.

فالتقدم لا يحصل في مجتمعات، تعيش الفوضى والاضطرابات المتنقلة، وإنما يحصل في المجتمعات المستقرة، والتي لا تعاني من مشكلات بنيوية فيه طبيعة خياراتها، أو شكل العلاقة التي تربط الدولة بالمجتمع والعكس..

فالمقدمة الضرورية لعمليات التقدم الاقتصادي والعلمي والصناعي، هي الاستقرار السياسي والاجتماعي.. وكل التجارب الإنسانية، تثبت هذه الحقيقة.. ومن يبحث عن التقدم بعيدا عن مقدمته الحقيقية والضرورية، فإنه لن يحصل إلا على المزيد من المشاكل والمآزق، التي تعقد العلاقة بين الدولة والمجتمع وتربكها وتدخلها في دهاليز اللاتفاهم واللاثقة..

وفي مقابل هذه المجتمعات الحضارية – المتقدمة، التي تحصل على استقرارها السياسي والاجتماعي، من خلال وسائل المشاركة والديمقراطية والتوسيع الدائم للقاعدة الاجتماعية للسلطة، هناك مجتمعات إنسانية، تتبنى وسائل قسرية وتنتهج سبل قهرية للحصول على استقرارها السياسي والاجتماعي.

فالقوة المادية الغاشمة، هي وسيلة العديد من الأمم والشعوب، لنيل استقرارها،ومنع أي اضطراب أو فوضى اجتماعية وسياسية.. وهي وسيلة على المستوى الحضاري والتاريخي، تثبت عدم جدوائيتها وعدم قدرتها على إنجاز مفهوم الاستقرار السياسي والاجتماعي بمتطلباته الحقيقية وعناصره الجوهرية..

لأن استخدام وسائل القهر والعنف، يفضي اجتماعيا وسياسيا، إلى تأسيس عميق لكل الأسباب المفضية إلى التباعد بين الدولة والمجتمع، وإلى بناء الاستقرار السياسي على أسس هشة وضعيفة، سرعان ما تزول عند أية محنة اجتماعية أو سياسية..

وتجارب الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا والعراق، كلها تثبت بشكل لا مجال فيه للشك، أن العنف لا يبني استقرارا، وأن القوة الغاشمة لا توفر الأرضية المناسبة لبناء منجزات حضارية وتقدمية لدى أي شعب أو أمة..

فلا استقرار بلا عدالة، ومن يبحث عن الاستقرار بعيدا عن قيمة العدالة ومتطلباتها الأخلاقية والمؤسسية، فإنه لن يحصد إلا المزيد من الضعف والهوان..

فتجارب الأمم والشعوب جميعها، تثبت أن العلاقة بين الاستقرار والعدالة، هي علاقة عميقة وحيوية.. بحيث أن الاستقرار العميق هو الوليد الشرعي للعدالة بكل مستوياتها.. وحين يتأسس الاستقرار السياسي والاجتماعي، على أسس صلبة وعميقة، تتوفر الإمكانية اللازمة لمواجهة أي تحد داخلي أو خطر خارجي..

فالتحديات الداخلية لا يمكن مواجهتها على نحو فعال، بدون انسجام عميق بين الدولة والمجتمع.. كما أن المخاطر الخارجية، لا يمكن إفشالها بدون التناغم العميق بين خيارات الدولة والمجتمع.. وكل هذا لن يتأتى بدون بناء الاستقرار السياسي والاجتماعي على أسس العدالة الأخلاقية والمؤسسية..

وإن الإنسان أو المجتمع، حينما يشعر بالرضا عن أحواله وأوضاعه، فإنه يدافع عنها بكل ما يملك، ويضحي في سبيل ذلك حتى بنفسه.. وأي مجتمع يصل إلى هذه الحالة، فإن أكبر قوة مادية، لن تتمكن من النيل منه أو هزيمته..

فالاستقرار السياسي والاجتماعي المبني على العدالة، هو الذي يصنع القوة الحقيقية لدى أي شعب أو مجتمع..

لهذا فإن المجتمعات التي تعيش الاستقرار وفق هذه الرؤية والنمط، هي مجتمعات قوية وقادرة على مواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية..

ونحن كمجتمعات عربية وإسلامية اليوم، وفي ظل التحديات الكثيرة، التي تواجهنا على أكثر من صعيد ومستوى، بحاجة إلى هذه النوعية من الاستقرار، حتى نتمكن من مجابهة تحدياتنا، والتغلب على مشاكلنا والتخلص من كل الثغرات الداخلية التي لا تنسجم ومقتضيات الاستقرار العميق..

مفهوم قوة الدولة وضعفها :

من أين تستمد الدول قوتها، وما هو المعيار الحقيقي والجوهري لتحديد قوة الدولة أو ضعفها؟ حيث من الضروري على المستويات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، أن نحدد المعيار الأساسي الذي يحدد قوة الدول وضعفها. وذلك حتى يتسنى لنا كشعوب ومجتمعات من العمل من أجل توفير عناصر القوة في فضائنا ودولنا، وطرد كل عناصر الضعف والتراجع.

للإجابة على هذا السؤال المركزي، بإمكاننا القول أن الكثير من الإجابات والتصورات نستطيع اختزالها في إجابتين ورؤيتين وهما:

1- إن الدولة القوية، هي التي تمتلك إمكانات عسكرية واقتصادية هائلة، وتتمركز كل القرارات والصلاحيات في يدها. فتساوق هذه الرؤية بين المركزية والقوة.

فالدول ذات الطابع الشمولي والمركزي في سياساتها واقتصادها هي من الدول القوية، حتى ولو كان الشعب يعيش القهر والحرمان والاضطهاد. والمشروعات التقدمية التي سادت المجال العربي في الحقب الماضية، عملت على تأكيد هذه الرؤية، وإعطائها بعداً أيدلوجياً. لذلك رفعت هذه المشروعات شعارات: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ووحدة العرب في قوتهم. والمقصود بالقوة هنا القوة العسكرية والمادية. ولكننا وبعد تجارب ومحن مريرة مع هذه المشروعات، لم ننجز قوتنا القادرة على حمايتنا من المخاطر الخارجية والتحديات الداخلية. ولم نحقق انتصارنا على عدونا الحضاري التي توقفت كل المشروعات والسياسات من أجل التركيز على محاربته ودحره. ولكننا على الصعد كافة لم نحصد إلا الهزائم والانكسارات والإخفاقات.

فالمليارات التي صرفت على مؤسساتنا العسكرية والدفاعية لم تمنع العدو من الوصول إلى عواصمنا ومناطقنا الحيوية. والمركزية في الإدارة وصنع القرار، التي طبّلنا لها كثيراً لم نحصد من ورائها إلا التأخر عن ركب الحضارة والعالم المعاصر.

ولقد أبانت لنا التجارب الماضية والمعاصرة، أن قوة الدول العسكرية ليست هي القوة الحقيقية القادرة على إنجاز تطلعات الشعب أو الدفاع عن أمنه وحدوده. بل على العكس من ذلك، حيث أن الدول التي استندت في بناء قوتها على هذه الرؤية، لم تصمد أمام الأزمات والتحديات.

فالاتحاد السوفيتي بكل ما يمتلك من ترسانة عسكرية ضخمة وأجهزة أمنية عملاقة، لم يستطع الصمود أمام تطلعات شعوبه المشروعة. فتلاشى في فترة زمنية وجيزة.

والعراق هذا البلد الذي يمتلك أقوى الجيوش وأقسى الأجهزة الأمنية والقمعية وصلت الولايات المتحدة الأميركية إلى عاصمته في غضون (20) يوماً فقط و(130) قتيلاً..

فالدول التقدمية والأيدلوجية، والتي استخدمت كل إمكانات الدولة لتعميم أيدلوجيتها وقهر الناس على خياراتها ومتبنياتها السياسية والثقافية، هي ذاتها الدول التي أجهضت كل مشروعات التحرر الحقيقي والخروج من مآزق الراهن.

ودول المشروع التقدمي لم تزدنا إلا ضعفاً وتشاؤماً، وذلك لأن الإنسان هو أرخص شيء لديها. تصادر حرياته، تمتهن كرامته، تحاربه في رزقه وكسبه، يقهر ويهان ويسجن ويعذب لأتفه الأسباب. دولة اختزلت الجميع في دائرة ضيقة، لا تتعدى في بعض الأحيان شخص الأمين العام.

ولا نعدو الصواب حين القول: بأن هذه الدولة بنمطها القروسطوي وعنفها وجبروتها وعسكرتها لمجتمعها، أجهضت الكثير من الآمال والتطلعات. ولا يمكن بأي حال من الأحوال، أن نقول عن هذه الدول بأنها دول قوية. وذلك لأنها لم تستطع أن تنجز مشروعاتها وأهدافها، بل على العكس من ذلك، حيث أنها أنتجت النقيض. فأنتجت الاستبداد والقمع وتكميم الأفواه بدل الحرية، وتحولت إلى مزرعة خاصة لفئة محدودة بدل العدالة والاشتراكية، وعمقت في الفضاء الاجتماعي والسياسي كل مستلزمات التفتت والتجزئة والتشظي بدل الوحدة والاتحاد.

وهكذا نصل إلى حقيقة شاخصة، تبرزها خبرة الإنسانية جمعاء عبر العصور، أن الدولة التي تنفصل عن مجتمعها وتحاربه في معتقداته واختياراته الثقافية والسياسية، وتفرض عليه نظاماً قهرياً، فإن مآلها الفشل وفقدان المعنى من وجودها.

2- إن قوة الدول تقاس بمستوى ديمقراطيتها وانسجامها على صعيد الخيارات والسياسات مع شعبها ومجتمعها.

والثروات الطبيعية والإمكانات العسكرية، لا تتحول إلى عنصر قوة، حينما يكون هناك جفاء بين الدولة والمجتمع. ونحن نرى أن هذا هو المعيار الحقيقي لقوة الدول وضعفها.

فالدولة التي تعيش التوتر مع شعبها، ولا تنسجم خياراتها مع خياراته، فهي دولة ضعيفة في المحصلة النهائية حتى ولو امتلكت كل الثروات والإمكانات العسكرية. أما الدولة التي تشرك شعبها في القرار وصناعة المصير، وديمقراطية في بنيتها وممارساتها، فهي دولة قوية وقادرة على مجابهة المخاطر حتى ولو كانت فقيرة في مواردها وثرواتها وإمكاناتها العسكرية.

فقوة العرب والمسلمين اليوم، في حريتهم ومستوى انسجام الدولة مع خيارات وتطلعات شعبها.

والديمقراطية هي حجر الأساس في قوة الدول وضعفها. لذلك فإننا نرى أن كل مبادرة، تأخذها الدولة، وتستهدف توسيع مستوى المشاركة الشعبية في صناعة القرار وتسيير الأمور، هي مبادرة وخطوة تساهم في تعزيز قوة الدولة، أو بناء هذه القوة على أسس جديدة أكثر قدرة وفعالية.

وإن النهج السياسي المعتدل، والذي يتعاطى مع كل الأمور والقضايا والحقائق السياسية والاجتماعية بعقلية منفتحة ومتسامحة، هو القادر على توسيع هوامش الحرية في المجتمع، وهو المؤهل لمراكمة الفعل السياسي الراشد في المجتمع. وفي المقابل فإن النهج الاستئصالي، هو الذي يفاقم الأزمات ويعقدها ويحول دون بلورة نهج سياسي معتدل، ويدخل الدول والمجتمع في دوامة العنف والتطرف.

إننا مع الدول القوية التي تستند على القانون وتحترم حقوق الإنسان، وتدافع عن كرامة شعبها. حيث أن الدولة القوية المسيجة بسياج القانون والحرية والمسؤولية، هي القادرة على التفاعل والتكامل مع مجتمع مؤسسي - مدني، يمارس وظائفه الحضارية اعتماداً على إمكاناته وآفاقه.

وإن التحول نحو الحرية والديمقراطية في أي مجتمع، بحاجة إلى وعي عميق بضرورتها وأهمية وجودها في البناء الوطني السياسي والثقافي والحضاري، وهذا الوعي بحاجة لكي يترجم إلى وقائع قائمة وحقائق مشهودة.

وإن تنمية روح المسؤولية والتسامح والحقوق والكرامة، كلها عوامل تساهم في تنمية الحس الديمقراطي في المجتمع.

وإننا وفي ظل هذه التطورات المتسارعة والتحديات المتلاحقة، أحوج ما نكون إلى ممارسة القطيعة المعرفية والعملية مع تلك الرؤية التي تتعامل مع مفهوم القوة بعيداً عن خيارات المجتمع وتطلعاته المشروعة. وبناء مفهوم القوة ليس على أساس امتلاك أحدث الأسلحة، أو ضخامة الترسانة العسكرية، وإنما على أسس التوافق والانسجام بين الدولة والمجتمع.

هذا الانسجام الدينامي والفعال هو أساس قوة الدولة. ولا يمكن لنا وفي ظل هذه الظروف إلا الانخراط في مشروع تصحيح العلاقة وبناء القوة على أساس الانسجام بين الدولة والمجتمع. ولا ريب أن تحقيق الانسجام، يتطلب من الدولة القيام بخطوات ومبادرات، تستهدف توسيع المشاركة الشعبية وإزالة الاحتقانات وتوسيع القاعدة الاجتماعية للسلطة.

فالقوة الحقيقية اليوم، تتكثف في مستوى التناغم بين مؤسسة الدولة والمجتمع بمختلف تعبيراته وشرائحه. والفرصة اليوم مؤاتية للقيام بصنع فرص ومبادرات في هذا السياق.

والوظيفة الكبرى للجميع تتجسد في تكثيف الفعل الثقافي والاجتماعي لتحرير دينامية التحول الديمقراطي من كوابحها ومعوقاتها الذاتية والموضوعية، حتى تأخذ الديمقراطية موقعها الأساس في تنظيم الخلافات وضبطها، وحتى تتجه كل الجهود والطاقات نحو البناء والسلم والاندماج الاجتماعي والوطني، وتعميق موجبات العدل والمساواة والمسؤولية.

والاستقرار السياسي اليوم، لا ينجز في الكثير من الدول والبلدان العربية والإسلامية، إلا بتوافق حضاري بين الدولة والمجتمع. والإخفاق هو نصيب أي مشروع يقصي المجتمع ويهمش دوره في الحياة. كما أن النجاح تتبلور أسبابه وتتجمع عناصر إرادته من خلال التوافق الحضاري بين الدولة والمجتمع. والتوافق هنا يعني المشاركة والتفاعل والمراقبة والشهود والتكامل.

وخلاصة القول: إن ما تؤكده تحولات الربيع العربي، أن طريق الاستقرار السياسي العميق في كل البلدان العربية، هو تطوير نظام الشراكة السياسية، وتوسيع القاعدة الاجتماعية للسلطة وإيجاد معالجات حقيقية وفعالة للمسألة الاقتصادية والمعيشية. دون ذلك تبقى السلطات السياسية ضعيفة، حتى لو كانت مدججة بالسلاح، ومحمية من أجهزة أمن بالغة القمع والخبرة.

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث

السعودية

درج العديد من المعاصرين على استخدام مصطلح التّعايش كبديل عن مصطلح التّسامح، والّذي استخدم بصورة كبيرة في ظرفيّة زمنيّة نتيحة صراعات دينيّة بين الكاثوليك والبروتستانت في أروبا، فكان مصطلح التّعايش مجرّدا من أيّ غايات مسبقة عدا تحقّق العيش المشترك المنطلق من ماهيّة الإنسان الواحدة، والمبني على المساواة في المواطنة والعيش المشترك.

لهذا قد يسند التّعايش إلى المعنى الواسع فيقال "التّعايش الإنسانيّ"، فهنا الأصل باعتبار الماهيّة الإنسانيّة، فتتقبل الآخر ولو اختلف عنك فكرا أو دينا أو مذهبا أو توجها، فلابدّ أن تمايز بين ذات الإنسان في ضوء المساواة من حيث الذّات، وبين العدل في الإجراء المرهون بالمساواة ذاتها من حيث الابتداء.

وقد يسند التّعايش إلى المعنى الأخصّ، فيقال "التّعايش السّلميّ" مسندا إلى السّلم، إذا كان هناك صراع واضح بين الأطياف، وخصوصا في الصّراعات السّياسيّة، وقد يقال "التّعايش المذهبيّ"، أو "التّعايش الفكريّ"، أو "التّعايش الوطنيّ"، فجميعها أسندت إلى الأخصّ (المذهب والفكر والوطن)، حيث الغاية تحقّق التّعايش حول هذه المفاهيم الخصوصيّة.

ومن الإسناد إلى الأخص "التّعايش الدّينيّ"، على اعتبار هناك أديان متباينة في مجتمع أو دولة ما، أو باعتبار الإنسان ذاته وعالمه الأوسع، إلّا أنّ هناك من يرفض مصطلح تعدّد الأديان، ويرى الدّين واحدا، وبالتّالي يرفض عبارة "التّعايش الدّينيّ"، ليس رفضا للتّعايش بقدر ما هو رفض لمفهوم تعدّد الأديان، وهناك من يبالغ ويرفض حتّى مفهوم التّعايش بينها بناء على مصطلحات الولاء والبراء، وتقسيم النّاس ثلاثة، إمّا موحد مسلم، أو من أهل الكتاب وعليهم الدّخول في الإسلام أو الجزية، أو مشرك ليس لهم خيار إلّا الدّخول في الإسلام إذا بلغتهم الحجّة، خصوصا نتيجة حرب، واستثنوا قريشا فلا سبي فيهم عند العديد، وقد ناقشتُ هذا الأمر بإسهاب في كتابي "فقه التّطرّف".

إشكاليّة رفض عبارة "التّعايش الدّينيّ" في العقل الجمعيّ التّقليديّ يعود إلى ثلاث إشكاليّات: الأول مفهوم الدّين، والثّانيّ فلسفة تعدّد الأديان، والثّالث إسقاط نصوص وفق ظاهرها وجعل ظاهرها مطلقا قطعيّا.

وأمّا من حيث مفهوم الدّين فنجده واسعا عند العرب قديما وحديثا من حيث اللّغة، ففي "مختار الصّحاح" مثلا لمحمّد بن أبي بكر الرّازي (ت 666هـ) يضع الدّين بكسر الدّال وفق معنيين: الأول "العادة والشّأن"، والثّاني "الجزاء والمكافأة"، لهذا الأول عام، فتعدّد الأديان يدخل في العادة والشّأن، وأمّا تعليق الدّين بالجزاء والمكافأة فمتعلّق بالله وحده، وتعلّقه بالمعنى الثّاني لا يرفع المعنى الأول كما سيأتيّ، ولهذا جمع الرّازي الدّين على أديان، وفي "المعجم الوسيط" لأحمد حسن الزّيّات (ت 1968م) وآخرين، فيرى الدّين "الدّيانة، واسم لجميع ما يعبد به الله"، ويدخل فيه "الملّة والإسلام والاعتقاد" وغيرها، "والدّيانة ما يتديّن به الإنسان"، فهو عام، ولا يتعارض مع مفهوم "تعدّد الأديان"، ومن المعنى اللّغوي الواسع للدّين انطلق ابن عاشور (ت 1393هـ) في "التّحرير والتّنوير" في عموميّة مصطلح الدّين ذاته، فيرى "الدّين العقيدة والملّة، وهو معلومات وعقائد يعتقدها المرء فتجري أعماله على مقتضاها، فلذلك سمي دِينا لأنّ أصل معنى الدّين المعاملة والجزاء"، ويقول طنطاويّ (ت 1431هـ) في الوسيط: "والدّين يطلق بمعنى العقيدة الّتى يعتقدها الإِنسان ويدين بها، وبمعنى الملّة الّتى تجرى أقواله وأفعاله على مقتضاها، وبمعنى الحساب والجزاء، ومنه قولهم: دنت فلانا بما صنع، أى: جازيته على صنيعه".

ونجد في القرآن الكريم مصداقين مثلا لسعة اللّغة في مصطلح الدّين، المصداق الأول قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النّساء: 171]، وأهل الكتاب هنا اليهود والنّصارى، وسمّى ما عليه هم دينا، ولم أجد في التّفاسير أيّ تأويل متكلّف في هذا، فالطّبريّ (ت 310هـ) في "جامع البيان" يقول: "{لا تَغْلُوا فِـي دِيِنِكُمْ} ... لا تـجاوزوا الـحقّ فـي دينكم فتفرِطوا فـيه"، وعلى هذا درج المتأخرون إلى اليوم.

والمصداق الثّانيّ قوله تعالى:  {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، وهنا في الجزئين تقديم للمسند على المسند إليه في الجملة الإسميّة يراد به التّخصيص، فالدّين هو المبتدأ المؤخر الّذي هو المسند إليه، وأثبتت الآية سعته لغة، فللمشركين دينهم، وللرّسول – عليه الصّلاة والسّلام – دينه، وفي هذا يقول الطّبريّ في "جامع البيان": "لكم دينكم فلا تتركونه أبدا؛ لأنّه قد خُتِمَ عليكم، وقُضِي أن لا تنفكوا عنه، وأنّكم تموتون عليه، ولي دينِ الّذي أنا عليه، لا أتركه أبدا؛ لأنّه قد مَضى في سابق علم الله أنّي لا أنتقل عنه إلى غيره"، ويقول الطّبريّ (ت 671هـ) في "جامع أحكام القرآن": "وسمّى دينهم دينا لأنّهم اعتقدوه وَتَولَّوه"، وأمّا تعليق بعضهم بالجزاء فلا يتعارض، أي جزاء ما عليه من دين، وفي هذا يقول أطّفيش (ت 1334هـ) في الهيميان: "لكم دينكم تجازون به، ولي ديني أجازي به".

وإذا جئنا إلى فلسفة تعدّد الأديان فهي من المباحث المعاصرة الّتي أرجعها عليّ ربانيّ في الدّراسات الغربيّة إلى ثلاث نظريّات: التّعدّديّة والانحصاريّة والشّموليّة، وارتبطت هذه بالمباحث الملليّة أو الموسوعيّة قديما كالملل والنّحل لأبي الفتح الشّهرستانيّ (ت 548هـ)، أو موسوعات الأديان والمذاهب اللّاهوتيّة والفكريّة والاجتماعيّة المعاصرة، وهي كثيرة جدّا، أو الكتب التّخصصيّة المرتبطة بالآثار، أو بالاجتماع البشريّ، أو بفلسفة اللّاهوت المقارن، وهي كثيرة أيضا، لهذا مصطلح الدّين اليوم يطلق بمفهومه الواسع، ويرى تولستوي (ت 1910م) في كتابه "في الدّين والعقل والفلسفة" أنّ الدّين له ثلاثة معان، الأول الدّين المرتبط بكتاب مقدّس، "هذا المعنى يوصف به الدّين من قبل المؤمنين بإحدى الدّيانات الموجودة، والّذين يعتبرون ديانتهم الوحيدة الحقيقيّة"، والثّاني "مرتبط بإطار الخرافات تنتج عنها عبادات خرافيّة"، والثّالث "عبارة عن قوانين وتشريعات شديدة الأهميّة، سنّت من قبل بعض الحكماء للجموع الهمجيّة، كي تعمل على طمأنتهم وقمع شهواتهم البهيميّة"، فنرى العديد من الدّراسات اليوم تجاوزت الدّراسات اللّاهوتيّة أو الكلاميّة وفق الحقيقة الواحدة أو المطلقة، إلى الدّراسات التّأريخيّة والأثريّة والدّراسات المقارنة والفلسفيّة وغيرها، لهذا سيتسع مفهوم الدّين ذاته، كما أنّ لتقارب الواقع المعاصر طبيعيّ أن تطرح التّعدّديّة الدّينيّة في ضوء الانغلاق الدّينيّ، كما طرح مفهوم حوار الأديان كبديل عن صراع الأديان مثلا.

لهذا نأتي إلى الإشكاليّة الثّالثة وهي إسقاط نصوص وفق ظاهرها وجعل ظاهرها مطلقا قطعيّا، فاليوم لا تستطيع أن تتحدّث عن التّعايش الدّينيّ أو حول التّعدّديّة الدّينيّة إلّا ويأتيك أحدهم معترضا "الدّين واحد فقط"، أو "هذه شرائع وليست أديانا"، أو "الدّين عند الله الإسلام"، والإشكاليّة لمّا تكون هذه الاعتراضات المطلقة ممّن يدركون سعة ذلك، ويطلقون عمويّتها الضّبابيّة في العقل الجمعيّ، فيذكر مثلا يوسف القرضاويّ (ت  2022م) في موقعه على الشّبكة العالميّة حيث يقول: "أنكرتُ ما ذكره أحد العلماء في مؤتمر حضره عدد كبير من المدعويين، كان الحديث فيه عن حوار الأديان، والتّقريب بين أهلها ...  ولكنّ هذا العالم قام وقال بصراحة: لا يوجد هناك دين إلا دين واحد، وهو الإسلام، وهو الذي قال القرآن فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، حتّى ما يُسَمَّى (الأديان الكتابيّة) لا يُعْتَدّ بها، ولا تُعْتبر دينا، بعد أن حرّفها أهلها، وجاء الإسلام فنسخها، وقد ألزمني الواجب أن أردّ على هذا الكلام الّذي ينسف كلّ ما قيل في المؤتمر، بل جهود الحوار والتّقارب بين الأديان والحضارات، وقلتُ فيما قلتُ: إنّ هذا الكلام يخالف صراحة ما جاء به القرآن، فالقرآن يعتبر أنّ هناك أديانا أخرى غير الإسلام، وإن كنا نعتبرها أديانا باطلة، ولكنها أديان يدين بها أصحابها، والآية التي استشهد بها المتحدّث تردّ عليه، وهي قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً ...} الآية، فقد سماه الله دينا".

وبطبيعة الحال لا يمكن في مقالة سريعة كهذة تتبع هذه الآيات، بيد أنّه لا يمكن قراءتها بعيدا عن سياقاتها، وعن سعة لغة القرآن ذاته، فمصطلح الدّين لا يخرج في عن سعة اللّغة من الابتداء كما أسلفنا، ومن حيث الحكم الكلّي أو الجزئيّ المتعلّق بالله وحده، أو بالدّراسات اللّاهوتيّة توسعا، أو من حيث الشّرعة والمنهاج المبنيّة على التّعدّديّة، والمرتبطة بالأديان، وبها تتشكل الأديان وفق الاجتماع البشريّ، وتطوّر الاجتهاد الإنسانيّ، لهذا "التّعايش الدّينيّ" لا يعني الانصهار الدّينيّ، ولا يعني الحكم اللّاهوتيّ المسبق، وإنّما يعني تحقّق العيش المشترك من حيث المساواة والعدل على المستوى الشّموليّ في العالم، أو على مستوى القوميّة الواحدة، أو الدّولة القطريّة.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

دارُ الاسلامِ ودارُ الحربِ، هل هذه الثُنائِيَّةُ في التَّقسيمِ تُمَثِّلُ الرُؤيَةَ النِّهائِيَّةَ لِفِقهِ العلاقاتِ الدَّولِيَّةِ في الاسلام؟ أَمْ أَنَّها تُمَثِّلُ اجتهاداً فقهيّاً تأريخيّاً فَرَضَهُ الواقعُ التأريخي الذي عاشَهُ المسلمونَ آنَذاك؟

كانت العلاقاتُ الدَّوليَّةُ في الوقت الذي برزت فيه هذه الرؤيةُ الثنائيَّةُ للعالَمِ لاتعرِفُ إِلاّ لغةُ القُوَّةِ والحرب في حَلِّ المُشكلاتِ. كانت القُوَّةُ هي اللغةُ السائدةُ، وكانَ منطِقُ القُوَّةِ هو المنطِقُ المُهَيْمِنُ، كانَ القَوِيُّ يأكُلُ الضَّعيفَ. هذا هوَ المنطقُ السائدُ آنَذاك.

أَلأَصلُ في العلاقاتُ الانسانيَّةُ هو السلامُ، والحربُ هي الحالةُ الطارِئَةُ التي يُلجَأ اليها كضَرورةٍ وكحَلٍّ عندما لايكون هناك حلٌّ.

واذا كانتِ الحربُ هي الحالَةُ الطارئَةُ والشاذَّةُ ؛ يمكنُ ان تكونَ القسمةُ ثلاثيَّةً كما قَسَمَ البعضُ العالم الى: دار اسلام، ودار حرب، ودار عهد . وقسم بعضٌ آخر تقسيماً رُباعِيَّاً: دار اسلام، ودار حرب، ودار عهد، ودار حياد .

العالَمُ اليوم، محكومٌ بمواثيقَ ومعاهداتٍ واتفاقاتٍ دوليّةٍ، والاسرةُ الدوليَّةُ في الامم المتحدة، ترتبطُ بعهودٍ ومواثيقَ، والفرد يستطيعُ ان يتحرك في العالم وهو آمِنٌ على نفسهِ بموجب هذه المواثيق والعهود؛ وبالتالي يمكننا ان نعتبرَ العالم -اليوم- دار عهدٍ، باستثناء بعض الكيانات التي لاتلتزم بعهودٍ ومواثيقَ، وهي دائماً في حالَةِ تمردٍ على كل عهدٍ وميثاقٍ.

أنا لاأقولُ أَنَّ كلَّ الدول ملتزمةً بالمواثيقِ والعهود الدوليَّةِ، ولكن مع ذلك، وفي ظل هذه المواثيق والمعاهدات لايمكن أن يكونَ العالمُ في حالة حرب كما كان الوضعُ السابقُ في العهود الغابرة .

وعليه ؛ فالقسمة الثنائية ليست صالحةً في عالم اليوم ؛ فالدول التي يلجأ اليها المسلمون ليست دار حرب، بل هي دار عهد يستطيعُ المسلمون أن يمارسوا شعائرهم ويعبّروا عن معتقداتهم بحرية دون خوفٍ أو جلٍ .

يمكن ان يكون التقسيم رباعياً: دار حرب، ودار اسلام، ودار عهد، ودار حياد، من اجل ان يعيش العالم في أمنٍ وأمانٍ بعيداً عن شبح الحروبِ المُدَمِّرَةِ التي تأكل الاخضر واليابس وتحصد الارواح وتنشر الهلع والرعب.

***

زعيم الخيرالله

الأصل في هذه الموضوعة السياسية المحورية هي؛ أن (الدولة) تعتبر المسؤول الأول والمباشر عن استنبات وإنضاج عناصر الوعي الاجتماعي بقضية (المواطنة) قبل أن تتصدى أية مؤسسة أخرى من مؤسسات المجتمع السياسي والمجتمع المدني للقيام بهذه المهمة الحضارية والإنسانية، من حيث أن هذه المسألة تتعلق بتربية الإنسان وتوعيته على تغليب انتمائه الجمعي وولائه الوطني ورابطه الثقافي، على انتماءاته التحتية وولاءاته الهامشية وانحداراته الفرعية.

وأما في حال غياب الدولة وتعطل أجهزتها وخراب مؤسساتها وتخليها عن دورها، فمن الواجب على بقايا (المجتمع المدني) الإسراع في لملمت شعث شتاته، واستنفار كل ما بحوزته من طاقات بشرية وإمكانيات مادية ومحفزات معنوية للنهوض بهذه المهمة الصعبة والخطيرة. وإلاّ فان كيان المجتمع المعني سيصار الى التصدع القيمي / الأخلاقي، والتفكك الاجتماعي / الجماعاتي، والتمزق النفسي / الشعوري، والتناحر الديني / الطائفي، كما هو الحال بالنسبة للمجتمع العراق الذي سرعان ما انفرط عقده السوسيولوجي وتبعثر نسيجه الانثروبولوجي أثر أحداث السقوط المشؤومة.

ولعل هناك من يعترض على صيغة عنوان المقال التي يستشف منها؛ ان شعور (المواطنة) لدى الإنسان العراقي يمر في حالة من (الانكفاء) و(التراجع)، بعد أن كان يظن انه مغمور بذلك الشعور لحد التخمة على مدى العقود التي أعقبت تأسيس الدولة العراقية عام 1921 م على الأقل !. والحجة على ذلك، انه وان كانت مؤسسة الدولة تتأرجح بين طور مركزية خانقة وبين طور انحلال فوضوي، على خلفية استمرار توتر علاقاتها مع دول جوارها الإقليمي من جهة ومحيطها الدولي من جهة أخرى، إلاّ أن شعور الفرد العراقي ب (مواطنيته) لم يلبث راسخا"في وعيه وقارا"في سيكولوجيته، بحيث أن أية أزمة يتعرض لها كيانه الوطني سرعان ما ينتفض ذلك الشعور بالتأجج والعنفوان !.

والحقيقة التي ينبغي علينا تقبلها – رغم كونها مرة وقاسية – هي ان أن فكرة (المواطنة) وما يترتب عليها من أخلاقيات والتزامات، تعد الغائب الأكبر ليس فقط في وعي (المواطن) فحسب، بل وكذلك العنصر الأندر في علاقاته وسلوكياته. فلكي تتمكن مشاعر (المواطنة) من وجدان المواطن وتستقر في باطن وعيه، لابد لها من تحقيق شرطين أساسيين كنا قد أشرنا إليهما في كتابنا الموسوم (الهوية الملتبسة : الشخصية العراقية وإشكالية الوعي بالذات)؛ الشرط الأول ويتعلق بضرورة مرور الجماعات المحلية بحالة من (الانصهار الاجتماعي) التي يتمخض عنها ما يعرف بـ(الشخصية المعيارية)، حيث تذوب خلالها وتتلاشى مختلف النعرات الأصولية التي دأبت تلك الجماعات على اتخاذها عنوانا "انثروبولوجيا" لها، مثل (العشيرة / القبيلة، أو المذهب / الطائفة، أو القومية / الاثنية، أو الجهوية / المناطقية، أو اللسانية / اللغوية). أما الشرط الثاني فيتمثل بتخلي تلك الجماعات عن تلك العناوين الانثروبولوجية – طوعا"/ اقتناعا"لا كرها"/ فرضا"- والانخراط في مشروع تحقيق ما يسمى ب (الهوية الوطنية) العابرة للهويات الهامشية والتحتية والفرعية، والتي يتشكل من روابطها البينية وعلاقاتها المتقابلة نسيج المجتمع الحضاري.

والحال ما أن تصل تلك الجماعات الى هذا المستوى من النضوج الثقافي وتبلغ هذا الطور من الارتقاء الحضاري، حتى تتمكن من وضع أولى خطواتها على مسار طويل ومتعرج، ولكنه المسار الصحيح المفضي بها الى ولوج عصر (المواطنة الحضارية)، حيث لا رجعة الى (الوراء) لما قبل مؤسسات الدولة، ولا احتمال الانكفاء الى (الخلف) لما قبل كينونة المجتمع، ذلك المسار الذي طالما حلمت بانتهاجه - دون جدوى - أجيال وأجيال من المكونات العراقية المتعاقبة. ولعل السبب في ذلك يعود الى ما تتمتع به الأعراف والتقاليد والقيم العصبية من قدرات على اختراق البنى التحتية لوعي المكونات السوسيولوجية والكيانات الانثروبولوجية التي يتشكل منها (المجتمع المدني)، للحد الذي تستحيل معه الى ما يشبه (المعيار السيميائي) الذي يحتكم إليه الناشطون في هذا المجتمع من التعرف الى بعضهم والتواصل مع أقرانهم. ولهذا فقد اعتاد الجميع – مع بعض الاستثناءات – على تقديم أسمائهم مقترنة بألقابهم العشائرية والطائفية والمناطقية، كما لو أنها (تميمة) سحرية يتبجحون باستعراض حملهم إياها أمام بعضهم البعض !.

والغريب في هذا الأمر ان اللجوء لمثل هذا الضرب من السلوك البدائي، لا يقتصر فقط على جمهور (العامة) من الناس ممن يعانون لوثة الجهل الثقافي والتخلف الاجتماعي فحسب، وإنما راج سوقها وعلا شأنها – وهنا الطامة الكبرى – بين جماعات (الخاصة) ممن يحسبون على نخب المجتمع (المثقفة) كذلك. لا بل ان هؤلاء الأخيرين يكونون أحرص من سواهم على مراعاة التمظهر بتلك العناوين الانثروبولوجية، حتى ولو كانوا من أصحاب الشهادات المتقدمة والمناصب العليا في الدولة.

أخيرا"لنقلها وبصراحة؛ ان وعي الإنسان العراقي ربما يحتوي الكثير من الأشياء المتعلقة بمفاهيم الوطن والوطنية التي أكسبتها إياه تجاربه المريرة مع السلطات السياسية المتعاقبة، التي طالما رسخت لديه الاعتقاد (بشخصنة) المفهوم الأول و(أدلجة) المفهوم الثاني. ولكنه بالتأكيد لم ينعم يوما"بترف الشعور ب (المواطنة) التي لم تفتأ قيمها الحضارية ودلالاتها الإنسانية تتوارى خلف عناوين؛ انتماءاته القبلية – العشائرية، والمذهبية – الطائفية، والاثنية – العنصرية، والجهوية – المناطقية، واللسانية – اللغوية. للحد الذي أضحت معه مقولة خالية من أي معنى أو قيمة تتقاذفها الخطابات الأصولية والبرغماتية، على سبيل المناكفات السياسية والمزايدات الإيديولوجية ليس إلاّ !.

***

ثامر عباس

قد يبدو هذا العنوان غريبا أو مستفزا أو عبثيا، أو ليقل عنه القاريء ما شاء له عقله أن يقول، لكنّ منطق الأحداث السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثيوقراطيّة المعاصرة، يفرض علينا إعادة النظر في هذا المكسب الإنساني والوجودي العظيم، ألا وهو الحريّة المسؤولة. لقد تحوّلت الحريّة في المجتمعات المتخلّفة، وعند الجماعات المتطرّفة فلسفيّا ودينيّا وأخلاقيّا وسياسيّا، إلى مصدر من مصادر الفوضى. فباسم الحريّة يتقاتل الإخوة، وباسمها يخرج الناس إلى الشوارع، فيحدثون دمارا وخرابا في الممتلكات العامة والخاصة. وباسم الحريّة يطالب بعض الأفراد أو الجماعات بحقوق لا محلّ لها من العقل السليم، بل هي ضرب من البلاهة والجنون والتطرّف المقيت، وباسم الحريّة يخرج علينا داروين بنظريّة التطور المريضة – التي دحضها العلم، ليقول للبشر أنّ أجدادكم الأوائل، كانوا قرودا، أيّ أنّكم – أيها البشر – أنتم من سلالة القرود المتطوّرة، وأنّ كل شيء في الطبيعة خاضع لذلك. وهي نظريّة في غاية اللؤم والبهتان والانحطاط العقلي.

ثم، يخرج علينا أناس مرضى سيكولوجيا، ويبشّرون الإنسانيّة بمجتمع الميم الشاذ، ويدافعون عنه في المنابر الخاصة والعامة، وتشرّع له بعض الحكومات مراسيم الاعتراف والقبول. وفي الأونة الأخيرة، طالعتنا وسائل التواصل الاجتماعي، بظاهرة، أقلّ ما يقال عنها، أنّها أغرب من الخيال. ولكنّها تنم عن أعمق أزمة روحيّة تمرّ بها الفلسفة الغربيّة الماديّة.

كانوا جماعة من الذكور والإناث. في بلد أوربي - كان ينتمي إلى المعسكر الاشتراكي، الشيوعي، قبل سقوط جدار برلين، وتفكّك الإتحاد السوفييتي - بلد اسمه رومانيا. كانوا في مظاهرة، وهي ينبحون، كما تنبح كلاب الحي في الغرباء، ويطالبون بالاعتراف بأنّهم كلاب. كانوا يطالبون بحقّهم (في إطار احترام مباديء الحريّة وحقوق الإنسان) باعتراف من حكومتهم، بأنّه كلاب وليسوا بشرا. ولكنّ الغريب في سلوكهم الإشهاري ذاك، هو خروجهم جماعة إلى الشارع، وكأن دولتهم منعتهم من (تكلّبهم وتكالبهم). وأنا عي يقين، أن لا أحد قد منعهم من ممارسة حريّة (التكلّب) تلك. لكنّ السؤال المطروح : ما الذي دفعهم إلى الرغبة في مغادرة عالم البشر والانتماء إلى (مملكة الكلاب) وانتحال الكلاب النباح بدل الكلام؟ أهو الفراغ الروحي أم هو اليأس والقنوط، من بني جنسهم (البشر)؟

لا أحد ينكر فضل الغرب على الشرق، والإنسانيّة جمعاء. فقد استطاع العلماء والفلاسفة والباحثين في شتى ميادين العلوم الرياضيّة والطبيعيّة والكونيّة عامة، توفير وسائل الرفاهيّة الحضاريّة اليوميّة للإنسان المعاصر ؛ الغذاء والدواء والسكن ووسائل النقّل والسفر والترحال السريعة ووسائل الاتّصال والتواصل الرقميّة ووسائل اللهو واللعب، وغيرها من المخترعات والمنتجات، التي يصعب عدّها كلّها في هذا المقال. وبالمقابل لا أحد يعفل أو يتغافل عن المخرجات السلبيّة لهذه للطفرة العلميّة والتكنولوجيّة، التي أضرت بحياة الإنسان ولوّثت الطبيعة العذراء، ودمّرت مساحات شاسعة منها وأدّت إلى انقرض أصناف شتى من النباتات، وتناقص رهيب في الثروة الحيوانيّة البريّة والبحريّة على السواء. وتسابق رهيب في إنتاج الأسلحة التقليديّة الفتّاكة والأسلحة غير التقليديّة المدمّرة ؛ النووية والكيماويّة والبيولوجيّة.

لقد وهبت المدنيّة الغربيّة، تحت إمرة الفلسفة الماديّة، الحياة والموت معا. أي أنّها إن شاءت أحيت، وإن شاءت أماتت. شأنها شأن الملك النمرود بن كنعان بن كوش، الذي تحدّاه سيّدنا إبراهيم الخيل عليه السلام في مناظرته المشهورة.

إنّ منظر أولئك المتظاهرين في رومانيا، وهم يقلّدون الكلاب في النباح، ويطالبون حق الاعتراف بأنّهم كلاب، هو – ببساطة – ما آلت إليه الأزمة الروحيّة في الغرب، جرّاء طغيان الفلسفة الماديّة المتطرّفة، والنظام الرأسمالي البراغماتي المتوحش، وهو مقدّمة لإفلاس الوازع الروحي، وانهيار نظام القيّم الأخلاقيّة، وغياب التربيّة الروحيّة، القائمة على الفطرة السليمة والعقل الراشد. أيعقل أن يبلغ ابن آدم - الذي كرّمه الله تعالى، وخلقه في أحسن تقويم - هذه الدرجة من الانحطاط الأخلاقي في بلد وقارة، سلطانها العلم والتكنولوجيا المتقدّمة؟ قد يلجأ الإنسان أو يضطر إلى تغيير جنسيته أو مكان إقامته أو أفكاره أو مذهبه السياسي أو إيديولوجيته أو ملّته، وووو. لكن أن يغيّر جنسه، فيطالب علنا، وفي الشارع، بأن يصبح كلبا نابحا وينخرط في مملكة الكلاب الأليفة والضالة، فهذا عين العجب، ومنتهى الانحطاط، ومؤشر خطير على المأزق العميق، الذي وقعت فيه الفلسفة الغربيّة المعاصرة، وهو ملمح – أيضا – من ملامح قرب نهاية العالم، وسقوط الحضارة المعاصرة، كما سقطت قبلها وانتهت – منذ مئات القرون – حضارات عريقة في بلاد الشرق؛ كالحضارة الفرعونيّة والبابليّة وحضارات ما قبل الطوفان.

وهكذا، تستمرّ الفلسفة الغربيّة – منذ قرون عدّة – في مفاجأة البشريّة. وتواصل تسفيه المساجد والكنائس والمعابد، وهدم القيّم الأخلاقيّة الساميّة، ومحاربة المنظومة الروحيّة، تحت مسمّى محاربة التطرّف والإرهاب. وما يشغل الإنسان المعاصر – حقّا - اليوم هو : إلى أيّ مدى تتجّه هذه الفلسفة الماديّة الغربيّة؟ أما آن لها أن ترعوي الآثام التي ارتكبتها وترتكبها – باستمرار - في حق الإنسانيّة؟ ومتى تتحرّر الحريّة من الفوضى والأنانيّة؟

***

بقلم : الروائي والناقد : علي فضيل العربي – الجزائر

يُصادف غداً مرور الذّكرى الثَّانيّة والثّلاثين لرحيل الموسيقار محمد عبد الوهاب (4 مايو1991)، وبفضل «أرشيف المجلات» المصور طبقاً للأصل، الذي صنعته مؤسسة صخر لصاحبها الأديب محمد الشَّارخ، عجز الزَّمان عن ضياع المواقف، بسلبها وإيجابها، فهناك مَن ينفي أنّ للظلام السَّابق دوراً في ما فرض على مجتمعاتنا مِن صحوةٍ دينية مُهلكة، حَرمت الموسيقى، نظيرة حفيف الأشجارِ وأغاريد الأطيارِ. عبثت في العقول والأفئدة، إذا حسبنا أنّ في قطع حنجرةٍ مثل حنجرةِ الكروان محمد عبد الوهاب أساساً لصحوتهم، فالشَّر كلّ الشّر، وفق منطقهم، في الموسيقى والغناء، وهذا ما حصل.

بعد ثورة 23 يوليو 1952 بمصر كتب سيد قُطب (اعدم: 1966)، مقالةً «مهداةً إلى وزير الدَّولة وضباط القيادة»، ويقصد قيادة الثَّورة، نُشرت في مجلة «الرِّسالة» المصريَّة، مع أنَّ الإطراء الذي خُص به صاحبها الأديب أحمد حسن الزَّيات(ت: 1968)، يجعلنا غير مصدقين أنه شخصياً تبنى المطالبة بإخراس أصوات مصر الشَّهيرة، التي إنْ فاخرت مصر بحضارتها ومدنيتها تأتي بها في مقدمة الدَّلائل.

لقد تبنت مجلة «الزَّيات»، مِن قبل مهاجمة معروف الرُّصافي(ت: 1945) بسلسلة مِن المقالات، والزّيات نفسه هاجمه، بعد وفاته بعشرة أيام، وبابتذال للأسف(الرِّسالة، العدد: 612). كنا أشرنا إليها في مقال نُشر على صفحات «الاتحاد» «الرُّصافي.. تنويره وتكفيره»(16/3/2022). فإذا كان الإخراس هذا مِن حرية الرَّأي، الذي قد يدعي المدافعون عن الزّيات ومجلته، فالحقُّ مع إطلاق أيدي المطاوعة لكسر آلات الموسيقى، وقطع الحناجر!

كتب قُطب ونشر الزَّيات: «إنَّ الأصوات الدَّنسة، التي ظلت تنثر على الشعب رجعيتها، خلال ربع قرن مِن الزّمان، هي ذاتها التي تصبها الإذاعة على هذا الشعب صباً، وتُكثر مِن عرض أشرطتها المسجلة، بحجة أنّ الجماهير تحب هذه الأصوات»(الرّسالة، العدد 1003 والمؤرخ: 22/9/1952).

ثم يقرن قُطب أصوات الفنانين بالمخدرات، فيقول: «كما أن هذه الجماهير تحب المخدرات! ولكن واجبنا اليوم حماية هذه الجماهير مِن الأصوات التي تحبها، كما نحميها مِن المخدرات، التي تحبها كذلك» (المصدر نفسه). أما الفنانون المطلوب إخراسهم، فعند قُطب، والتَّيار الإسلامي الحزبي كافة «مخلوقات شائنة بائسة كعبد الوهاب، ومحمد فوزي، وفريد الأطرش، وعبد العزيز محمود، وليلى مراد، ورجاء عبده، وفايدة كامل، وشهرزاد وأمثالهم»(المصدر نفسه)، ووصفهم بالطَّابور المترهل!

غير أنَّ ما نفثه قُطب آنذاك، كان أساساً لما كتبه في «معالم في الطريق»، ومهد له أن يكون قطباً في جماعة «الإخوان»، فالكلُّ في منطقه جاهليٌ كافرٌ البراء منه، حتَّى صار له تيارٌ عُرف بـ«القطبيين»، اتخذته جماعات الإرهاب فِراشاً ودثاراً فكريَّاً، وبتلك الأفكار شُرعت حمامات الدَّم، التفجيرات التي طالت آلاف البشر، فوصل الحال إلى الإفتاء برفع الأهرامات مِن الوجود، لأنها مِن عهود الكفر. كانت مطالبة قُطب هجوماً على العهد الملكي، لأن هؤلاء المراد إخراسهم كانوا مِن ثمرات هذا العهد، بينما اتخذهم قُطب، في مطالبته، شاهداً على فساد ذلك العهد.

استشهد قُطب في بيانه الظَّلاميّ ببيت عليّ بن محمد التُّهاميّ(قُتل: 416هج)، دون أنْ يذكر اسمه، فظن البعض أنَّه مِن شعره: «وَمُكَلِّف الأَيامِ ضِدَّ طِباعِها/ مُتَطَّلِب في الماءِ جَذوةَ نارِ»، فإذا قصد أنَّ الفساد بالموسيقى والغناء طبيعةٌ، فالفساد بالدِّماءِ والتَّكفيرِ يبدو طبعيةً أيضاً، وأيٌ منهما أخف وأهون على النَّاس؟!

كان البيت مِن قصيدة رثى بها التَّهامي ولده، ومطلعها: «حُكمُ المَنِيَّةِ في البَرِيَّةِ جاري/ ما هَذِهِ الدُنيا بِدارِ قَرارِ»، ومنها البيت المشهور: «جاورتُ أعدائي وجاور ربَّه/ شتان بين جواره وجواري»(الصَّفديّ، الوافي بالوفيات). يتكرر المنطق نفسه اليوم، ويُفسر أبناء قطب، مِن أهل الصَّحوات، الموسيقى والغناء «تفكك وانحلال»، والعبارة لقطب في مطالبته.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

واجهت هذا السؤال في سياق النقاش المتعلق بكتاباتي الأخيرة. واكتشفت لاحقاً أنَّه مطروحٌ على نطاق واسع في الولايات المتحدة وأوروبا، وثمة مهنيون يجاهرون بالقلق على مكانتهم ووظائفهم، مع تزايد الاعتماد على الأنظمة الذكية (انظر على سبيل المثال البحث الذي نشرته مجلة البحوث الطبية JMIR حول الميل لمقاومة الذكاء الصناعي بين الأطباء وطلبة كليات الطب).

بالمثل فإن النقاش حول الموضوع قد بدأ بالفعل في مثل مجتمعنا. لكن يبدو لي أنه يلامس جوانب أكثر حساسية تتعلق خصوصا بالهوية الموروثة، الدينية والإثنية. ولعله سيزداد سخونة في الأشهر القادمة بعد تبلور التأثيرات الفعلية للوافد الجديد في السوق والمجتمع.

لا بد من القول ابتداء بأن هناك من لا يرى في الذكاء الصناعي خطراً داهماً، فهوية المجتمع لم تتأثر جدياً بتوسع شبكة الإنترنت ومن قبلها البث التلفزيوني الفضائي. وفقاً لهذه الرؤية فإن الهوية الموروثة قوية بما يكفي لاحتواء التحدي التقني أيا كان، كما أن الذكاء الصناعي ليس من نوع التحولات العميقة التي تلامس جوهر تفكير الإنسان أو رؤيته لذاته والعالم، أي ما نسميه هويته. هذا بالطبع جواب سهل ولا يثير القلق. غير أن مبرراته لا تبدو قوية أو مقنعة.

لكن لو أردنا النظر إلى التهديد المذكور كاحتمال قائم، بغض النظر عن مستوى تأثيره النهائي، فلعلنا نذهب إلى سؤال آخر تحليلي يتناول المسارات المحتملة لتأثير الذكاء الصناعي على الهوية، أي كيف يؤثر وأين يظهر تأثيره؟

أستطيع الإشارة بإيجاز إلى ثلاث دوائر يتجلَّى فيها ذلك التأثير، وأترك التفصيل لمناسبات أخرى في المستقبل. في كل من هذه الدوائر سنرى انكماشاً لقنوات التواصل بين الأجيال. وهي – كما نعرف– الأداة الرئيسية التي يستعملها المجتمع لتمرير هويته وثقافته إلى الأجيال الجديدة.

الأولى: الذكاء الصناعي مرحلة ثقافية/ تاريخية لها متطلبات تقنية تتجاوز المتطلبات الخاصة بتصفح الإنترنت أو الاتصالات الشبكية التي اعتدناها حتى الآن. ولهذا فإن المستفيد الأول من أدوات الذكاء الصناعي هو جيل الشباب وعدد قليل من المحترفين الأكبر سناً. أما الغالبية العظمى ممن تجاوزت سن الشباب فلن تستفيد منه، لأنها لا تطيق تعلم فن جديد، خاصة أنها لم تكن في حاجة ماسة إليه. لقد رأينا حالة شبيهة في مطلع القرن الجاري حينما دخل العالم عصر الإنترنت، وبات معظم المعاملات الرسمية والاقتصادية رقمياً. يومذاك وقف آلاف من كبار السن موقف الحائر، ثم قررت غالبيتهم الانسحاب إلى الهامش تاركةً للشباب هذا العالم الجديد. إن شباب ذلك اليوم هم كهول اليوم، ومن المرجح أن ينقسموا بين راغب في عالم الذكاء الصناعي وبين زاهد فيه.

الثانية: سوف تزداد قدرة الجيل الجديد على الوصول إلى مصادر المعلومات. وبالتالي سوف ينكمش دور العوامل الداخلية في تشكيل الهوية. كما أن أهمية المكان سوف تنكمش جديا، فلا يعود له تأثير حاسم على الوظيفة والمكانة، ولا على الالتزامات ذات الطبيعة الثقافية.

الثالثة: الذكاء الصناعي يؤذن بظهور اقتصاد جديد لم يسبق أن جرى تعريفه ضمن الثقافة ومنظومات القيم الخاصة بالمجتمع. وبالتالي فهو لا ينضوي تحت المنظومة الأخلاقية والعرفية القائمة. في هذه الحالة ستكون أخلاقيات وتقاليد الاقتصاد الجديد متأثرة بالمجتمع الجديد، مجتمع الشبكة حسب التصوير الذي اقترحه مانويل كاستلز، والذي يتألف من كافة الأشخاص الذين نتواصل معهم على نحو شخصي أو ثقافي أو اقتصادي، بواسطة الشبكة وباستعمال منطقها وأدواتها. نحن إذن بصدد مفاهيم جديدة لتعريف الذات وأخلاقيات التعامل ومعنى الاختلاف بينك وبين الآخرين، أي معنى الآخرية.

تشير كل من هذه المواقع الثلاثة إلى نقطة اشتباك بين مكونات الهوية الموروثة ومؤثرات/ تحديات العالم الجديد، في مرحلة تواصل مكثف يقودها الذكاء الصناعي. ما زلنا بحاجة إلى دراسة أعمق لهذه المسألة. ولعلنا نعود لمراجعتها مرة أخرى في المستقبل القريب.

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

يبدو أن المشهد السياسي والحضاري في المجالين العربي والإسلامي، أصبح أكثر إثارة للسؤال، ولعل سيرورته التاريخية وتنوع مكوناته وتوجهاته ورهاناته وإحباطاته كلها عناوين تزيد من عمق الحاجة إلى إثارة السؤال، ومعرفة إلى أين تتجه المجتمعات العربية والإسلامية في مسيرتها، ‏وهل واقعنا المجتمعي يمتلك القدرة على اجتراح سبل الإنطلاق والخروج من مآزق التاريخ والراهن أم لا.

والإخفاق التاريخي الذي نعانيه، ‏ليس وليد الدولة الظالمة والمستبدة والبعيدة عن خيارات الشعب فحسب، بل هو أيضاً وليد المجتمع الضعيف، ‏الجامد، ‏الذي فقد المبادرة، وتوقفت مسيرة البناء والتأسيس لديه. فالدولة في المجالين العربي والإسلامي، تعاني من أزمة شرعيتها وبنيتها ودورها ووظيفتها الحضارية، ‏كما أن المجتمع أيضاً‏يعاني من أزمة تتجسد في تفتته وتشرذمه وإستحكام نمط التبعية والإستهلاك الترفي في مساره السياسي والاقتصادي والحضاري.

لذلك فإن عملية الخروج من هذا المأزق التاريخي، ليس من خلال إصلاح جهاز الدولة فقط، وإنما هو بحاجة إلى عملية إنهاض شاملة، تستوعب جميع مناحي الحياة. فالدولة والمجتمع كلاهما يعيشان التسيب والضياع وانعدام الوزن، حتى بتنا في العديد من مناطق العالم العربي والإسلامي، نعيش الحرب الأهلية بكل عنفها وجشعها وتدميرها. والزمن ومتوالياته النفسية والمجتمعية يعمق التناقضات والأزمات، ويزيد من القلق واختلاط المسائل والقضايا، ‏وغياب بوصلة الخروج من الأزمة.

الأزمة الشاملة

إن الوعي السائد اليوم في أجهزة الدولة الحديثة في المجالين العربي والإسلامي، ‏يعاني من أزمة حادة، حيث انفصالها العميق عن الشعب وإرادته، وبعده عن خياراته وقناعاته الكبرى، مما يدخل الجميع في أتون الحروب الصريحة والمضمرة، ‏مما يرهق الجميع ويجعلهم على هامش حركة التاريخ.

«إن أزمة الدولة أعمق إذن مما تبدو عليه عادة وكأنها أزمة نظام. إنها أزمة فكرتها ذاتها. وتلاشي روح الولاء للسلطة الوطنية والإنتساب للمشروع الذي كانت تقترحه على المجتمع نابع بالضبط من إنكشاف عجز السلطة هذه عن إنجازه، ‏أي عن خيانتها له، وليس بسبب تحققه. وهذا يعني أيضاً‏أنه نابع من تنامي الإقتناع بأن هذا المشروع بالصورة التي تبلور فيها لايمكن أن يشكّل مدخلاً إلى التقدم الإنساني. وهكذا، فيأقل من عقدين، أصبحت القيم التي كانت تغذي لدى الجمهور الواسع شعبية دولة التقدم وتثير حماسة للانخراط فيها والتماهي معها، هي نفسها القيم التي تدفع الجمهور إلى رفضها والتنكر لها. لقد كان يكفي أن تظهر لافاعلية البرنامج الوطني أو عيوبه، ‏عروبياً كان هذا البرنامج أم قطرياً، حتى تفقد الدولة توازناتها المادية والمعنوية. وتضيع هي نفسها هويتها وتفقد مقدرتها على استقطاب الولاء وتحقيق الإندماج والإجماع. فالدولة التي تفتقر إلى المبدأ المعنوي الذي يشكل مقومها الأول، أي تفقد روحها وما يسمح لها ببلورة برنامج سياسي يتسم في نظر الناس بالحد الأدنى من الجدوى والمعقولية، تنحط لامحالة إلى مستوى الآلة الصماء، وتتحول إلى ميكانيك متوحش، لا إنساني وغير ممكن الاحتمال. ولن تستطيع بعدئذ أن تفرض نفسها وتستمر في الوجود إلا بالقوة: قوة القهر وقوة العطالة التاريخية أيضاً» (1) .

ويغيب في هذا المشهدالإتزان، وتندثر قيم الحوار والتسامح والتكامل، والبحث الجاد عن طرق أو طرائق للخروج من الأزمة. فالدولة تعيش الاغتراب بكل صوره عن المجتمع وهذا الأخير يعاني التردي والضياع، ‏وتستفحل في أحشائه كل التوترات والتناقضات.. دولة تستند على ثقافة القمع والإكراه والنفي وفعل الاستبداد والتهميش والإقصاء، ومجتمع لايعترف بحق الاختلاف والتسامح.. دولة تسلطية تلغي كل تنوع، ‏وتمارس الاستبداد بكل صوره وأشكاله، ‏ولاتنطوي ممارساتها على قيم العدل والتداول والحرية، ومجتمع يصادر حق أبنائه في التعبير عن آرائهم وقناعاتهم السياسية والفكرية والمعرفية. «والمشكلة العويص هو أننا لسنا أمام مشروعين للدولة، ‏يفصل في الإختلاف بينهما الحوار وصناديق الإقتراع، وذلك أن مجتمعات تكون فيها التنمية في درجة الصفر، هي بطبيعتها مولدة لعدم الاستقرار، ليس فقط للمجتمع وللدولة، بل لنجاح مسلسل ديمقراطي، وأية دولة تكون على رأس مثل هذا المجتمع يكون شاغلها الأول هو (الأمن). وينتهي الأمر إلى مبارزة بين جهاز الدولة والقوى التي يفرزها مجتمع مأزوم، ‏فيغرق الجميع في دوامة من العنف والعنف المضاد» (2) .

وغدت الأمة تعاني الأمرين من دولة تسلطية ـ قمعية لاهم لها إلا إستمرارها حتى لو كان هذا الإستمرار على حساب التاريخ والعصر والوطن. ومجتمع تسوده اللامبالاة والإذعان والجمود ويفتقد المبادرة ويحارب التجديد وتمور بداخله حالات التعصب الأعمى لعناوين ضيقة ويافطات تزيد من ضعف المجتمع واهترائه. وهكذا تطغى الشمولية في السياسة والفكر وكل دوائر المجتمع.

وعلى المستوى الثقافي تبرز ثقافة التسطيح وإبقاء ما كان على ما كان والطاعة والإستهلاك والتقليد والإتباع. وتضمر ثقاة الإبداع والحرية والإنتاج. وهكذا يتحول المشهد الثقافي إلى مشهد تكراري، ممل يشيع صوراً وهمية وزائفة عن الواقع. «فالقمع ينعكس على من يقع عليه، ‏فيتمثله ليغدو بعض تكوينه، ‏ويصدر منه كما لو كان بعض طبعه. وفي الوقت نفسه، ‏يعيد المقموع إنتاج القمع ويسلطه على نفسه، ويطلقه على غيره، ‏بالمعنى الذي يتحول بالمقموع إلى قامع، ‏وبالمفعول إلى فاعل، ‏في تراجيديا الإخوة من المقتولين القتلة» (3) ..‏وهكذا يستمر ويتسع مسلسل القمع والقتل ودائرة العنف، ‏بحيث تشمل الجميع ويصبح الكل يعيش في دوامة جهنمية من العنف والعنف المضاد.

«وحين يتعثر مولد الرأي، لايبقى إلا الاعتراض. والإعتراض بدوره محكوم عليه منذ البداية أن يكون صراعاً حدياً، ولاسبيل أمامه إلا أن يغتصب ذات أدوات الصراع المباشرة التي تمتلكها السلطة. وبذلك لاتكون سياسة في ظل الحراب، حراب الدولة وحراب المعترضين. فليس غريباً إذن أن تتعسكر السياسة العربية منذ نشأتها الأولى، عند كلا قطبيها: الحاكم والمحكوم، في معظم الأقطار المشرقية التي سبقت إلى دخول عصر الإستقلال الوطني، ‏وواجهت مبكرة في آن واحد إستراتيجية التنمية السريعة في بناها الإقتصادية والاجتماعية، ‏وإستراتيجية الإختراق من قبل الاستعمار الجديد. إن عسكرة الصراع بين المعارضة والسلطة، ‏تفرض أداة وحيدة للممارسة لكليهما وهي الإنقلابية العنفية. بحيث تطورت السلطة إلى شكل الانقلاب العسكري المستغني عن أية شرعية ما عدا قوته الخاصة. وتطورت المعارضة إلى بنية مشروع لإنقلاب عسكري آخر، هو في طور الإعداد والتهيئة لقوة الإٍتبدال العنفي الذي سيفرض شرعيته الأخرى بهذه القوة وحدها» (4) .

ويعزو المهاتما غاندي الخطايا والإضطرابات السياسية والاجتماعية إلى سبع: سياسة من دون مبادئ، وثروة من دون عمل، ومتعة من دون ضمير، وحكمة من دون شخصية، وتجارة من دون أخلاق، وعلم من دون إنسانية، وعبادة من دون تضحية..

وحين التفكير العميق نرى أن هذه الخطايا متوفرة في الجسم العربي والإسلامي، ‏لذلك مازال هذا الجسم ينزف دماً وجهداً ومالاً‏دون أن يحقق تطلعاته وآماله. وقد قال الشاعر.

تروم ولاة الجور نصراً‏على العدا

وهيهات يلقى النصر غير مصيب

وكيف يروم النصر من كان خلفه

سهام دعاء من قِسى قلوب

وتعثر مشروعات التقدم، ‏لا يعني مجافاة العرب والمسلمين لطبائع ومتطلبات التقدم والعمران الحضاري، ‏بل هو أمر يرجع إلى طبيعة الاختيارات المتداولة، ‏وخصوصية المجالين العربي والإسلامي. فظروف التقدم والتطور لدى الغرب تختلف عن ظروف التقدم لدينا. فلكل واقع خصوصية تطوره وآليات تقدمه. فالدولة كان لها الدور الحاسم في تجربة البناء والتقدم في الغرب حيث أن مؤسساتها هي التي حملت مشعل التنوير والتقدم. أما الدولة في المجالين العربي والإسلامي فلها الدور الحاسم في الإتجاه المعاكس. حيث أنها تحول بإجراتها وقمعها واستبداديتها دون إنطلاق مشروع البناء والديمقراطية والعمران. فالعطب التاريخي في واقعنا، ليس وليد بنيتنا الثقافية والاجتماعية، وإنما هو وليد ظروف تاريخية وعوامل سياسية ـ‏اجتماعية، ‏تصيب المجتمعات بصرف النظر عن ايديولوجيتها وثقافتها التاريخية. ومكمن العطب أو بدايته هو حينما تخلى المجتمع عن دوره ووظيفته التاريخية، ‏وغابت مبادراته الحضارية وتضخمت في أرجائه ثقافة التبرير والتقاعس والإستقالة من المسؤولية. وحينما تحولت أيضاً‏الدولة إلى مؤسسة استبدادية، ‏وبعيدة عن مشروعات المجتمع وخياراته الحضارية.

ما المخرج

إن الحاجة اليوم ماسة لبلورة صيغة حضارية، ‏تضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع، بحيث تكون العلاقة علاقة تفاعل وتكامل، ‏لا قطيعة وصدام. ومنهج التفاعل والتكامل، يقوم على سيادة مفهوم الديمقراطية والقانون. قد آن الأوان لنا في المجالين العربي والإسلامي للخروج من دولة المشروع التي حملت الشعارات واليافطات الكبيرة، وحاربتها أشد المحاربة على مستوى الفعل والواقع، ‏والعمل مع كل القوى والطاقات لبلورة دولة الإنسان والقانون. إن الدول التقدمية والأيديولوجية، ‏والتي استخدمت كل إمكانات الدولة لتعميم إيديولوجيتها وقهر الناس على خياراتها ومتبنياتها السياسية والثقافية، ‏هي ذاتها الدول التي أجهضت كل مشروعات التحرر الحقيقي والخروج من مآزق الراهن.

إن دول المشروع التقدمي لم تُزدنا إلا ضعفاً‏وتشاؤماً، وذلك لأن الإنسان هو أرخص شيء لديها. تصادر حرياته، تمتهن كرامته، تحاربه في رزقه وكسبه، ‏يُقهر ويهان ويسجن ويعذب لأتفه الأسباب. دولة بسلوكها المتعجرف عمقت الهوة والفجوة بين مؤسسة الدولة والمجتمع. دولة اختزلت الجميع في دائرة ضيقة، ‏لاتتعدى في بعض الأحيان مدرسة الأمين العام. ولانعدو الصواب حين القول: أن هذه الدولة بنمطها القروسطوي وعنفها وجبروتها وعسكرتها لمجتمعها، أجهضت الكثير من الآمال والأحلام. لذلك فإن الحاجة اليوم ماسة للخروج من هذه الشرنقة الأيديولوجية، التي تحيل كل شيء إلى قانون إما مع أو ضد، وبناء دولة القانون والإنسان، التي تسعى لصياغة قانون لضبط العلاقة بين الطرفين، ‏وإلى تأهيل الإنسان، ‏وإطلاق حرياته وتطلعاته. وبكلمة إننا بحاجة إلى الانتقال من دولة المشروع إلى مشروع الدولة. فالدولة التي حملت لواء الوحدة مثلاً وجعلتها محور نشاطها، على المستوى العملي، ‏هذه الدولة تكرس التجزئة وتنمي العصبيات، ‏ولانصيب للوحدة في فكرها الاستراتيجي والتخطيطي إلا نصاب الشعار واليافطة فقط. فباسم الوحدة تنمو التجزئة وباسم الاتحاد والإئتلاف، تنمو العنصرية والطائفية والجهوية، وباسم التنمية والعدالة الاجتماعية، ‏تنمو رأسمالية الدولة وتتضخم شريحة الانتهازيين والوصوليين وتبرز مستويات النمو المشوه والتابع، ‏وتزداد سيطرة الدولة على حركة الاقتصاد والتجارة، ‏تلك السيطرة التي تضعف الحركة، ‏وتدفع بالرساميل والإمكانات إلى الهروب خارج الوطن.

وباسم الشفافية والحرية السياسية والنقابية، ‏تتحول الدولة إلى مزرعة للزعيم، ‏أو الحزب والمقربين. وباسم الحريات الثقافية والأدبية، ‏تتحول الحياة الثقافية إلى تكرار مشين لمقولات الزعيم أو الحزب أو أي تكوين سياسي مسيطر، ويتشكل من جراء ذلك مسخ‏ثقافي. وهكذا يتم إختزال المجتمع والدولة في مؤسسة الحزب أو أي يافظة سياسية أخرى، ويقوم الزعيم بدوره بإختزال هذا التشكيل السياسي في شخصه ومن يلوذ به من أبنائه أو أصهاره أو أقربائه.

ولابد أن نلفت النظر إلى حقيقة أساسية في هذا المجال وهي: أن التطور التكنولوجي والتقني لم يصحبه تطور على مستوى الدولة في تعاطيها وتعاملها مع شعبها وحقائقه السياسية والثقافية، ‏وإنما قامت الدولة من الإستفادة من هذا التطور لإخضاع هذه الحقائق لمنطقها الأمني، الذي يسعى إلى محو هذه الحقائق أو تشويه مسارها وتطلعاتها الكبرى. ولهذا نجد أن التكنولوجيا الحديثة والتقنية المعاصرة، دخلت إلى البلدان العربية والإسلامية من البوابة الأمنية. أي أن المؤسسات الأمنية، ‏هي التي استفادت من هذه التقنية، ‏لتنظيم عملها وتركيز نشاطها وتضييق الخناق على حقائق المجتمع السياسية والثقافية. فسياسة استبعاد المجتمع عن الشأن العام، ‏تزيد من الإنقسام وتعمق حالة القطيعة وتكرس أيديولوجيا الحرب والصراع بين الطرفين.

وخبرة الإنسانية جمعاء، ‏تبرز أن الدولة التي تنفصل عن مجتمعها وتحاربه في معتقداته واختياراته الثقافية والسياسية، ‏وتفرض عليه نظاماً‏قهرياً، فإن مآلها الفشل وفقدان المعنى من وجودها. فجنوح السلطة إلى تقييد الحريات يؤدي في المحصلة النهائية إلى العنف والتطرف. فعنف المجتمع أو بعض قواه الاجتماعية والسياسية، ‏هو وليد عنف الدولة وقهرها وغطرستها. وهكذا اختلطت المعايير، ‏واشتبكت القضايا، وسقطت الكثير من الشعارات المرفوعة. فالقتال أصبح داخلياً، ‏والحرب أضحت أهلية، ‏والقمع والإرهاب أصبحا من نصيبنا جميعاً. فتعملقت الخلافات والتباينات الداخلية، ‏وارتفعت وتيرة الهواجس والحساسيات الداخلية. وأصبح الوضع العربي برمته متفجراً، ‏ويعيش الإحتقان على كل الصعد والمستويات، ‏وإن العالم العربي والإسلامي بحاجة إلى إرساء أسس الحياة الديمقراطية والقانونية، ‏والخروج من آسار الشعارات التمامية التي تحيل كل إمكانات الدولة والمجتمع إلى رهن إشارتها.

وإن خنق إمكانات الخروج من هذه المآزق، بالمزيد من الاستبداد وتغليب الخيارات الأمنية، ‏لايؤدي إلى الاستقرار، وإنما يزيد الوضع سوءاً، ويهدد الوضع كله بالانفجار والتشظي. و«إن أية أهداف تطرحها الدولة في عالم اليوم لايجوز وضعها فوق حقوق الإنسان والمواطن، ‏بل بالعكس يجب أن تكون جميع الأهداف نابعة من هذه الحقائق خادمة لها» (5) .

التسوية التاريخية

إن التسوية التاريخية بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي، ‏ليست مسألة سياسية فحسب، ‏بل هي قضية مصيرية وتاريخية. إذ أن الخروج من مآزق التاريخ الراهن، ‏لايمكن أن يتأتى إلى بمشروع حضاري تتكامل فيه الدولة مع المجتمع في الوظائف والأدوار والمهمات. وقضية مصيرية، ‏باعتبار أن بقاء الاختلافات الأمنية والسياسية والحضارية، ‏وهدر الإمكانات والطاقات، ‏وهجرة الكفاءات والعقول، ‏وانسداد آفاق المعالجة الاقتصادية والسياسية، ‏ودخول الجميع في أتون الصراعات المفتوحة التي ترهق الدولة والمجتمع معاً.

لذلك كله فإن التسوية التاريخية والحضارية بين الدولة والمجتمع قضية مصيرية. إذ يتوقف مستقبل المجالين العربي والإسلامي، ‏على قدرتهما على إنجاز هذه التسوية التاريخية. وإنه آن الأوان للدولة، ‏أن تخرج من العقلية الضيقة، ‏التي تستهدف إخضاع كل إمكانات المجتمع والأمة إلى مشروعها وبالآليات والأدوات التي تراها مناسبة. هذه العقلية التي تعاطت مع الدولة كمؤسسة أيديولوجية خاصة بالقائمين على شؤونها، ‏هي المسؤولة إلى حد بعيد عن إستفحال ظاهرة القطيعة بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي. «وإن التعبير الديمقراطي الحر والإعتراف بالإختلاف والتغاير، إضافة إلى تداول السلطة، ‏هي الشروط الضرورية التي تضمن ـ أو على الأقل تساعد على ـ‏تصريف الحركة والصراع داخل عملية التحول تلك تصريفاً سلمياً، وبالتالي تفسح المجال لقيام مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب وجمعيات ونقابات ومجالس منتخبة، وهي المؤسسات التي تؤطر الصراع والحركة والتحول داخل المجتمع في اتجاه التقدم التاريخي» (6) .

وهناك عوامل عديدة، ‏تدفع إلى القول بضرورة التسوية التاريخية بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي، ‏وأهم هذه العوامل التالي:

1ـ مواجهة تحديات الراهن العديدة والكبرى، ‏والتي تهدد الجميع من منطلقات ومستويات مختلفة. إذ أن التحديات الداخلية التي تواجه الأمة، تحديات لايمكن مواجهتها بفعالية إلا بتظافر الجهود وتكثيف الطاقات. ولاشك أن استمرار الصراع المفتوح بأشكاله السلبية والتدميرية والحربية بين الدولة والمجتمع في بعض مناطق العالم العربي والإسلامي، ‏يشتت الطاقات ويبعثر الجهود، ‏ويحول دون مواجهة فعالة لتحديات المرحلة.

2ـ وقف النزيف الهائل والشامل الذي يصيب المجالين العربي والإسلامي، من جراء استمرار الفجوة والهوة بين الدولة والمجتمع. ومن المؤكد أن هذا النزيف يساهم في إختراق المجالين العربي والإسلامي على المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية والحضارية، ‏ويفاقم من أزمات الواقع. فالحاجة الماسة اليوم تتجه إلى ضرورة التسوية التاريخية بين الدولة والمجتمع عن طريق إرساء نظام للعلاقات والتفاعل والتعاون بين الطرفين، ‏مما يعمق مفاهيم التكامل والإحترام المتبادل ونبذ كل أشكال الإرهاب والقمع والنزعات المتطرفة والمتعصبة في الفكر والسلوك.

3ـ إن المشكلات التي يعاني منها العالم العربي والإسلامي، بحاجة إلى أرضية اجتماعية ـ‏سياسية صالحة، ‏تهيئ جميع الظروف والإمكانات للمشاركة والمساهمة في إنهاء هذه المشكلات. ولعل من الطبيعي القول: أن التسوية التاريخية بين الدولة والمجتمع في العالم العربي والإسلامي، هي الفرصة التي توفر تلك الأرضية، ‏وتؤسس لمعنوية جديدة وإرادة جديدة، ‏تتجه صوب المشكلات لمعالجتها. فالتسوية التاريخية هي بوابة إشراك جميع القوى والإمكانات في عملية الإصلاح والتطوير.

4ـ إن المشروع الصهيوني في المنطقة، ‏والذي مازال خطره متعاظماً، نوفر له فرصاً‏عديدة للامتداد والتوسع، ‏إذا استمرت الجراح مفتوحة. ولاريب أن العدو الصهيوني يغذي بشكل أو بآخر تلك الخيارات التي تعقد المشاكل وتعمقها. لذلك من الضروري أن نلتفت إلى خطر المشروع الصهيوني على المنطقة العربية والإسلامية بأسرها. ولابد أن نخطو خطوات نوعية وعملية لسد ثغرات الداخل العربي والإسلامي، وتمتين الجبهة الداخلية.

ومن المؤكد القول، أن بداية تسوية تاريخية بين الأنظمة العربية والإسلامية مع شعوبها بقواهما السياسية وتعبيراتهما الثقافية والمجتمعية، ‏ستساهم مساهمة كبيرة في تقوية الجبهة الداخلية، ‏وتنهي صراعاً‏مفتوحاً مازال يكلف الجميع الكثير من الجهد والإمكانات، ويعرض الجميع أيضاً إلى مخاطر وآثار مدمرة. أبرزها أن استمرار هذا الصراع قد يسقطنا جميعاً (دولاً ومجتمعات) في النفق الصهيوني والاستتباع الحضاري.

فالتسوية التاريخية هي الخطوة الأولى في صوغ مشروع وطني جامع، ‏يستهدف البناء وتعميق الحريات والتنمية الشاملة على مستوى الداخل العربي والإسلامي، وبناء علاقات دولية متوازنة، ‏تعكس قيم الإستقلال والقوة الذاتية التي يتمتع بها العالم العربي والإسلامي. وينجز هذا المشروع الوطني الجامع وحدة القوى في مواجهة الأعداء، ‏ويشحذ الهمم نحو البناء، ‏ويبلور مقاصد الجميع على المستوى الحضاري.

كما إنه وسيلة العالم العربي والإسلامي، للخروج من المآزق التاريخية التي يعاني منها، ‏وهو جسر الوصول إلى التطلعات والأهداف الكبرى.. و«إن جوهر الحكم والدعوة الإلهية هو الارتفاع فوق مبدأ التسوية وتأسيس مبدأ الإحسان الذي يقضي بأن تكون الحسنة بعشرة أمثالها، ‏واليد العليا خير من اليد السفلى وأن تغفروا وتصفحوا، ذلك أن مبدأ المساواة وقاعدتها كافية لإقامة دولة أو حكم ‏سياسي، ولكن الإحسان هو الذي يصنع المدنية والحضارة، ‏يصنع الإنسان فيما وراء، وما هو أبعد من السياسة، ‏أي كتعاطف وتفاعل وتبادل وتآلف وتضامن وإنسانية، ‏أي كضمير حي. إن العدل القانوني يقيم الدولة لكن الجماعة الحية المبدعة ذاتها لاتقوم إلا بالكرم والعفو والتضحية والفداء ونكران الذات» (7) .

الخيار الديمقراطي

إن التحول الديمقراطي الحقيقي، ‏هو البوابة الفعلية للتسوية التاريخية بين الدولة والمجتمع، كما هو جسر الخروج من نفق دولة المشروع التمامية التي تلتهم كل شيء وتحيله إلى ملك خاص إلى الزعيم ودائرته القرابية أو السياسية. فتجديد القواعد السياسية والاجتماعية وتوسيعها للدولة، ‏هو الخطوة الأولى في مشروع التسوية التاريخية بين الدولة والمجتمع. والتحول الديمقراطي السلمي، ‏هو الذي يوفر للمجالين العربي والإسلامي الفرصة التاريخية للخروج من الأزمة والمأزق بسلم وبعيداً‏عن العنف والقتل والتدمير.

لذلك فقد «حان الوقت كي ينتقل الفكر السياسي العربي من حالة رفع الشعار الديمقراطي وكيل المديح له، ‏إلى صياغة خطط تلغيم الاستبداد وتدمير أسسه. أي آن للديمقراطية أن تتحول من شعار للدعاية أو التعبئة، ‏إلى منطلق للتفكير الجديد وللعمل الإصلاحي. وتحولها إلى منطلق يعني تحولهاإلى أساس لكل ممارسة سياسية، والأساس هو بالتعريف ما لايظهر من البناء ومالا يقوم البناء بدونه. ومادمنا نتحدث ليلاً‏ـ نهاراً عن الديمقراطية فهذا يعني أننا نفتقدها كأسس سواء كان على صعيد الفكر أو الممارسة» (8) . ومن الأهمية بمكان أن تتحول الديمقراطية في المجالين العربي والإسلامي، إلى نظام اجتماعي وسياسي، ‏بحيث هي التي تحدد نمط العلاقة بين أطياف المجتمع وقواه المتعددة، وعبر آلياتها وأخلاقياتها يتم فض النزاعات والصراعات، وبقيمها وآفاقها، يتم التوجه إلى بلورة نخبة سياسية ـ اجتماعية جديدة، ‏تتخذ من الديمقراطية منطلقاً‏وهدفاً. ويبقى سبيلنا جميعاً‏هو العمل على تنقية واقعنا في كل المجالات والمستويات من جراثيم الاستبداد والتفرد ونزعات الهيمنة والغطرسة والعدوانية، وبعث تراث الحرية والشورى والتسامح والعقلانية والعلمية من تاريخنا، والسعي للإستفادة من تراث الإنسانية في هذا المجال.

ينبغي أن نرفض الاستبداد مهما كانت أيديولوجيته، ‏ونقف ضد التنابذ والإقصاء مهما كان الفكر الذي يقف وراءه، ‏ولابد من تعميق مفاهيم الإختلاف والحوار والحرية والتسامح في ثقافتنا وواقعنا. ولكي نصل إلى هذه المستوى نحن بحاجة إلى «التحرر من الأنظمة الفكرية المغلقة التي تقسم في ضيق وتعسف الألوان إلى أبيض وأسود والقضايا إلى (أما وأما). فقضايا الإنسان شديدة التعقيد والتشابك ولاسبيل إلى علاجها إلا بإعتماد النسبية في معظم أحكامنا على الأشخاص والجماعات، فذلك هو منطق القرآن العام. فهو إذ يتحدث عن أهل الكتاب لايستعمل (كل) بل (من)، التبعيضية {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يرده إليك ومنهم، من إن تأمنه..}. وإذا تحدث عن علاقة المسلم بالكافر لايضع نقطة وإنما مجالاً، فهو ليسوا جميعاً‏أعداء بل منهم الصديق والعدو {لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}. وإذا كان الإسلام في ذاته حقاً مطلقاً فليس تمثلنا له في الغالب كذلك، ‏بل هو تمثل مبني على صعيد التصور والتنزيل في الواقع. فرق إذن بين الإسلام والفكر الإسلامي، ‏فمجال الأول الإطلاق، ومجال الثاني النسبية غالباً. إذن ليس في الإٍلام كنيسة تستطيع أن تكسي فهمها النص وتزيله أثواب الحقيقة المطلقة» (9) .

إن النهج السياسي المعتدل، الذي يتعاطى مع الأمور والقضايا والحقائق السياسية والاجتماعية بعقلية منفتحة ومتسامحة، هو القادر على توسيع هوامش الحرية في المجتمع، وهو المؤهل لمراكمة الفعل السياسي الراشد في المجتمع. وفي المقابل فإن النهج الإستئصالي، هو الذي يفاقم الأزمات ويعقدها ويحول دون بلورة نهج سياسي معتدل، ويدخل الدولة والمجتع في دوامة العنف والتطرف. فالإقتتال الداخلي والتناحر الأهلي، ‏لاينهي المشكلات العالقة، ‏ولا يضمر الحقائق السياسية والاجتماعية المتوفرة، ‏وإنما يزيد من غلوها وعنفها وتشددها ويضيف إلى الساحة الاجتماعية تعقيدات جديدة وأزمات متلاحقة.

والتضارب العميق في المصالح بين الدولة والمجتمع، ينذر بحدوث مشكلات وأزمات لاحصر لها، ‏وذلك لأن هذا التضارب سيدفع بالدولة بما تمتلك من أجهزة ردع وسيطرة لاستخدام القوة والفرض لتأمين مصالحها، ‏كما أن المجتمع ومن باب الدفاع عن ذاته ومصالحه، سيقاطع الدولة ولن يعتبرها تعبيراً سليماً‏وحضارياً‏لتطلعاته وآماله. مما يدخل الطرفين في نزاعات وصراعات مفتوحة. والخيار الديمقراطي ليس شعاراً‏يرفع، وإنما هو ممارسة اجتماعية متواصلة ومفتوحة على كل الإمكانات والقوى والآفاق من أجل ضمان مصالح الأمة والمجتمع. وهذا الضمان لايتأتى إلا بتنظيم المجتمع لنفسه على جميع المستويات، وزيادة فعاليته، وتعميق ثقته بنفسه وقدراته، ‏وتكريس ثقافة التضامن والتكافل والتعاون، واجتراح صيغة مجتمعية ـ‏حضارية لإدارة الاختلافات والتنوعات بما يخدم المصالح العليا للأمة وإن «الديمقراطية ليست وصفة سحرية تحل جميع المشكلات، ‏وإنما هي إطار عام يسمح للمجتمع بأن يجد حلولاً جديدة وأصيلة للمشكلات الطارئة. ومن ثم تصبح معركة الديمقراطية مقدمة للنجاح في المعارك الأخرى. وإنها معركة إصلاح السلطة التي هي عصب الحياة الاجتماعية ومن خلال إصلاح هذه السلطة ومن خلال النضال من أجل الديمقراطية، ‏يصبح من الممكن أكثر فأكثر بلورة حلول إيجابية للمشكلات الاجتماعية المتعددة. وبهذا المعنى أيضاً، الديمقراطية ليست مؤسسة جاهزة، ‏الديمقرايطة هي الكفاح المستمر من أجل تحويل السلطة القائمة في كل مجتمع إلى سلطة تعبّر عن مصالح الأغلبية الاجتماعية. وهذا الكفاح هو الذي يخلق الأشكال المشخصة لتحقيق هذه السلطة الشعبية، يخلق شروطاً جديدة، ‏يدفع بقوى جديدة إلى الساحة السياسية، ‏يعيد تغيير علاقة الناس بالسياسة ومفهومهم للسياسة، ‏يرجع إلى الناس فكرة الشعور بالمسؤولية الوطنية والشعور بالمسؤولية بشكل عام، ويخلق إطاراً ومناخاً سياسيين جديدين لطرح المسائل الصعبة» (10) . إننا ومن أجل بناء دولة عادلة، ‏ترعى حقوق الإنسان وتحترم إختياراته وقناعاته العامة، بحاجة أن لانكتفي في تقويم المشروعات بالشعارات الكبرى المرفوعة، ‏وإنما نحن بحاجة أن نرى مدى مشاركة هذه المشروعات الفعلية في بناء دولة الإنسان. وذلك لأنه تبين لنا في الكثير من التجارب العربية والثالثية عموماً، أن بعض الأنظم الفكرية والتي تحمل شعارات براقة، ‏حين وصولهاإلى السلطة، ‏قامت بممارسات استبدادية، ‏وزادت من تغوّل السلطة، واستخدمت كل أصناف القهر والإقصاء لإستمرار حكمها. فالشعارات ينبغي أن لاتخدعنا، والمراهنة الحقيقية ينبغي أن تكون على الممارسة الفعلية، ‏ومدى حجم التحول النوعي المرتقب الذي تحدثه هذه الأنظمة الفكرية على مستوى مسار الدولة والمجتمع. فالمطلوب من هذه المشروعات، ‏هو إضافات نوعية في مسار الدولة والمجتمع العربيين، ‏بحيث تكون الدولة أقرب إلى العدالة والإنصاف، والمجتمع يعيش الحيوية والفعالية بكل أشكالها ومجالاتها. ومن الضروري أن نشبع أجواءنا ومحيطنا الإجتماعي بعبق الحرية «أو ليس أقرب السبل إلى الحرية جعلها واقعاً‏يعيش بيننا؟ أو ليست الحرية سلاحاً نستخدمه ضد من يصادرها، وهي قوة تهاب، ‏وجمال يستهوي اللباب» (11) .

إننا وبعيداً‏عن المضاربات الفكرية والسياسية، ‏بحاجةإلى بناء دولة تستند على القانون وتحرص على تنفيذه، وتحترم الإنسان وتسعى لصون كرامته وحقوقه، وتجسد بالعدل والحرية عزتنا وقوتنا.

وهذا البناء بحاجة إلى جميع الجهود والطاقات. لذلك فقد آن الأوان لانتقال مجالنا العربي والإسلامي من دولة المشروع إلى مشروع الدولة الذي يحترم الجميع ويستوعب الجميع ويدافع عن الجميع بصرف النظر عن المنابت والأصول والإنتماءات والولاءات الفرعية.‏وهذا يتطلب بناء فلسفة جديدة للدولة، ‏قائمة على الدستور وحماية حقوق الإنسان وفقاً لإطار قانوني مستمد من الخصوصية الإسلامية ومكاسب الإنسان المعاصر الحضارية.

وتفعيل الممارسة الديمقراطية، ‏وتذليل معوقات التنمية السياسية، ‏هو الكفيل بإرساء نظام فعال للعلاقة بين الدولة والمجتمع. وأن هذا التفعيل هو الذي يساهم في إنضاج الظروف العامة والمناخ السياسي المواتي لتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع، وفق نمط مؤسسي، يكفل للطرفين حقوقهما وأدوارهما ومتطلباتهما.

كما أن مواجهة التحديات الكبرى، ‏بحاجة إلى تظافر كل الجهود والطاقات، ‏وأن سبيل تجميع هذه الطاقات والإمكانات، هو وقف النزيف الدائم بين الدولة والمجتمع عبر تسوية تاريخية، تعيد الأمور إلى نصابها، وتنجز مفهوم السلام الوطني على قاعدة التفاعل الخلاق والتكامل المتواصل بين الدولة والمجتمع. ولإنجاز هذا التطلع من الأهمية بمكان أن يسعى المجتمع لتأمين شبكةواسعة من الحريات والحقوق الأساسية، وتسييره لنفسه، وقدرته على حل مشكلاته بنفسه، ‏وإحتضانه لمؤسسات وأطر متعددة تقوم بدور البناء والتسيير والتطوير. والدولة التي تتكامل مع المجتمع هي «التي تضمن توزيع السلطة السياسية وشرعنة إستخدامها، ‏ووضع الحكم في أيدي الشعب عن طريق نوابه وممثليه، وهي أيضاً الدولة التي تقبل طواعية تقييد سلطتها الإكراهية (أي تقييد سلطة الحكام) وتأمين أكبر مساحة ممكنة لأفراد الشعب في تقرير شؤونهم الحياتية والأخلاقية، وذلك بحماية حرياتهم من أية صورة من صور الإكراه، ‏وهي ثالثاً‏الدولة التي تعمل على عدالة توزيع الموارد والفرص. وكما قيل بحق، فإن العدالة هي الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية، ‏وحريّ بالدولة أن تكون هي رائدة العدالة في المجتمع» (12) .

إننا مع الدولة القوية التي تستند على القانون وتحترم حقوق الإنسان، ‏وتدافع عن كرامة شعبها. حيث أن الدولة القوية المسيجة بسياج القانون والحرية والمسؤولية، ‏هي القادرة على التفاعل والتكامل مع مجتمع مؤسسي ـ مدني، يمارس وظائفه الحضارية إعتماداً على إمكاناته وآفاقه. وإن قوة المجتمع هي التي تعطي لمفهوم الحرية والتعددية والتداول السلمي للسلطة معانيها الحقيقية والفعلية. بمعنى أن كل أشكال الديمقراطية، بحاجة إلى مجتمع مدني قوي، حتى تكون لهذه الأشكال جذور مجتمعية.

إن قوة الدولة ضرورة لإستقرار عملية الديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة، ‏كما أن قوة المجتمع ضرورة لضبط العملية الديمقراطية وخلق حالة من الإستقرار السياسي والإقتصادي. وبالتالي فنحن بحاجة إلى مجتمع قوي ودولة عادلة (لأن العدالة بالمعنى العام، ‏هي مكون القوة الأساسي والمقصود)..‏«فالدولة والمجتمع المدني واقعان متلازمان. الدولة تستمد من المجتمع المدني قيمها، وقواها وسياساتها ومن ثم فلابد من وجود درجة من درجات السيطرة للدولة على مجتمعها المدني، ‏وفي الوقت نفسه، تمثل الدولة الوعاء أو الإطار الذي يحتضن ويؤطر حركة المجتمع المدني ونشاطه» (13) . فالحياد الإيجابي للدولة، ‏بمعنى أن تتعامل مع قوى المجتمع المتعددة على قاعدة قانونية واحدة، ‏هو المهاد الضروري والوعاء الأساسي لشيوع قيم التعددية والتسامح وسيادة القانون في المحيط الإجتماعي بأسره. فالتفاعل والتكامل بين الدولة والمجتمع سيرورة طويلة الأمد، وما ذكر أعلاه بمثابة الشروط الأولية لإنطلاق هذه السيرورة في الفعل الإجتماعي.

المجتمع الجديد

يبدو من جميع المعطيات المتوفرة، ‏أن العالم العربي والإسلامي، ‏لن يتمكن من بلورة مشروع للدولة وفق قواعد قانونية ودستورية، وتمارس وظائفها الحضارية على أكمل وجه، إلا بخلق مجتمع جديد، ‏يتجاوز فيه كل الرواسب والموروثات السيئة التي علقت بالواقع العربي والإسلامي من جراء مشروعات الإستبداد والإقصاء والتهميش.

فلا دولة قانونية بدون مجتمع تسوده قيم التسامح والعقلانية وسيادة القانون وإحترام حقوق الإنسان بكل أشكالها وأنواعها. وذلك لأن بوابة الدولة القانونية والإنسانية، هي وجود مجتمع ذو بنية قوية، ‏تتكامل فيه الأنشطة والقوى في سياق البناء والعمران، ‏ويتعاطى مع أفكاره وفق عقلية حضارية تبحث في سبل التنفيذ والتجسيد والتطوير. وبهذا تكون الدولة تجسيداً للمجتمع وملتصقة بالأمة وخياراتها وليست منفصلة ومنعزلة في ممارساتها وخياراتها عن الأمة.

وبمقدار التحولات الإيجابية والنوعية في المجتمع، تتوفر إمكانية مساهمة المجتمع في بلورة مشروع دولة الإنسان والقانون. فحركية المجتمع وفعاليته المتواصلة تساهم مساهمة كبيرة في صياغة نظرية أكثر عدالة وإنسانية للدولة. أما ضعف المجتمع وجموده، ‏فإنه يؤدي إلى تغوّل الدولة وإتساع نطاق هيمنتها وعسفها.

ومع التحديات الكبرى التي تواجه المجالين العربي والإسلامي، فإن الأمة والشعوب العربية والإسلامية، بحاجة إلى إحداث تحول نوعي وتاريخي في مسيرتها، حتى يتسنى لها الإستجابة الفعالة لهذه التحديات. «وحيثما نجحت الشعوب في إيجاد الرد الإيجابي على هذه المسألة، ‏وقبلت بتقديم الثمن المطلوب لذلك والتعديل الممزق في بناها التقليدية السياسية والإقتصادية والأخلاقية، أمكن لها الاحتفاظ بوحدتها المادية والمعنوية، ‏والتحول إلى مراكز نشطة للإنتاج الحضاري وبالعكس، حيثما أخفقت الشعوب في ذلك لأسباب ذاتية أو موضوعية، داخلية أو خارجية، فقدت السيطرة على مصيرها وتهدد مستقبلها، وحكمت على نفسها بالدخول، ‏بالرغم منها، في مسار خطير يختلط فيه التفكك المتواصل مع الفوضى السياسية والتبعية الإقتصادية والإنقسام الوطني والسقوط المعنوي. وهذا هو جوهر الأزمة التاريخية التي تقف وراء أزمة الهوية وأزمة السياسة والدولة والإقتصاد معاً، والتي لابد أن تتفاقم وتتسع بإتساع عجز المجتمعات التي تعيشها عن التحكم بالتاريخ وفقدانها السيطرة على الوقائع الموضوعية» (14) .

وفي هذا السياق فإنه لاخيار لواقعنا العربي والإسلامي اليوم، إلا الانخراط في مشروع التقدم، ‏وتوفير متطلباته الذاتية والموضوعية، ‏من مرجعية قيمية ـ‏حضارية، وجهد إنساني متواصل، ‏ووعي تاريخي عميق، ‏وإدراك نافذ بمتطلبات اللحظة التاريخية. والتقدم هو دائماً‏وليد قوى اجتماعية ـ‏تاريخية، تأخذ على عاتقها البناء وتذليل الصعاب وتجسيد الطموحات والتطلعات. فلا مانع فعلياً من تغوّل السلطة، إلا قوة المجتمع وقدرته على إدارة نفسه وحل مشاكله بنفسه. فالتحول النوعي في مسار المجتمع، بإتجاه القدرة والكفاءة والمبادرة هو الوسيلة الفعلية للحؤول دون تغوّل السلطة وإستبداديتها.

وافتقار المجتمع إلى بنية تحتية قوية، ‏يوسع بشكل أو بآخر هيمنة الدولة، ‏ويدخل نظام العلاقة بين الدولة والمجتمع إلى مستوى تبعي. دولة تسيطر وتهيمن على كل شيء، ‏ومجتمع جامد، ساكن إستهلاكي، يعتمد على مؤسسة الدولة في كل شيء. ولاشك أن هذه الحالة مكلفة للطرفين على المستويات كافة. بينما السياق المأمول للعلاقة هو وجود مجتمع يستند على ذاته وكفاءاته في تسيير شؤونه المختلفة، ‏ودولة قوية ترعى أمن المجتمع وتدافع عنه من الأخطار الداخلية والخارجية. ومن خلال هذه الدائرة المتكاملة من جهد المجتمع وجهد الدولة يبزغ فجر التقدم والتطور. وبقدر تكاملهما وتفاعلهما المشترك تتجسد القدرة الحضارية في الأمة.

ونحن هنا لاندعو إلى تحرر الدولة من التزاماتها الاجتماعية والوطنية، وإنما ندعو إلى توسيع دائرة الحريات، بحيث تتهيأ جميع الظروف لمشاركة قوى المجتمع في المشروعات الاجتماعية والوطنية. وبهذا لاتكون الدولة بديلاً‏عن المجتمع، وإنما شريكة معه في مشروع البناء والعمران. فالقوى السياسية والثقافية في الأمة، ليست نبتاً‏شيطانياً، حتى تتوجه كل الجهود لاستئصالها والقضاء عليها. وإنما هي تعبيرات مجتمعية متعددة عن واقع الحال، وهي جزء أساسي من حركة التاريخ والمجتمع. فالإنحراف في ممارسة السلطة، وتغوّل إجراءاتها الاستبدادية، واستمرار سياسة إقصاء المجتمع عن الشؤون العامة، هو قاعدة للكثير من الآثار السيئة التي يعيشها العالم العربي والإسلامي في المجالات كافة.

وسيبقى هذا الإنحراف مستمراً، مادم المجتمع ضعيفاً، وبعيداً‏عن الحياة النوعية. وهذا بطبيعة الحال يقودنا إلى القول: إن الخطوة الأولى لتحجيم انحراف السلطة وتغولها، هي إنطلاق المجتمع في بناء نفسه وتقوية بنيته التحتية، ‏وسد الثغرات في جسمه، ‏حتى يتسنى له أن يتساوى مع السلطة في الوزن والقوة والمبادرة.

****

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

...................

الهوامش

1ـ برهان غليون، ‏المحنةالعربية: الدولة ضد الأمة، ص216، مركز دراسات الوحدة العربية، ‏بيروت، الطبعة الأولى 1993م.

2ـ ندوة: التنمية البشرية في الوطن العربي، ‏ص354، بحوث الندوة الفكرية التي نظمتها الأمانة العامة لجامعة الدول العربية واللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الاسكوا) وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، مركز دراسات الوحدة العربية، ‏بيروت، ‏الطبعة الأولى 1995م.

3ـ جابر عصفور، هوامش على دفتر التنوير، ‏ص205، المركز الثقافي العربي، ‏بيروت، الطبعة الأولى 1994م.

4ـ مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 27ـ28، ص17، مركز الإنماء القومي، ‏خريف 1983م.

5ـ محمد عابد الجابري، الديمقراطية وحقوق الإنسان، ‏ص132، مركز دراسات الوحدة العربية، ‏بيروت، ‏الطبعة الثانية 1997م.

6ـ المصدر السابق، ‏ص136.

7ـ مجلة الإجتهاد، العددان العاشر والحادي عشر، ص354، السنة الثالثة، ‏شتاء وربيع العام 1991م ـ 1411هـ.

8ـ برهان غليون، حوارات من عصر الحرب الأهلية، ص129، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ‏بيروت، ‏الطبعة الأولى، ‏1995م.

9ـ ندوة الحوار القومي ـ‏الديني، ‏ص269، أوراق عمل ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، ‏بيروت، الطبعة الأولى 1989م.

10ـ برهان غليون، حوارات من عصر الحرب الأهلية، ‏ص177، مصدر سابق.

11ـ السيد محمد تقي المدرسي، من هدى القرآن، مجلد 12، ص375، البيان العربي، ‏بيروت، 1409هـ.

12ـ ثناء فؤاد عبد الله، آليات التغيير الديمقراطي في الوطن العربي، ص 225، مركز دراسات الوحدة العربية، ‏بيروت، الطبعة الأولى 1997م.

13ـ المصدر السابق، ص287.

14ـ برهان غليون، المحنة العربية، ‏ص13، مصدر سابق.

اثارت رغبة وزارة التعليم العالي في تطبيق بعض جوانب عملية بولونيا استنفار الجامعات وقلق تدريسييها لربما يعود ذلك لضعف المعرفة بجوانب العملية وبأهميتها وإمكانية تطبيقها في الجامعات العراقية. وقد يعود هذا القلق ايضا إلى المنطق المحافظ للمسؤولين والتدريسيين العراقيين الذين يتحلون بحذر شديد تجاه التغيير. لذلك سأحاول توضيح اهمية العملية واسسها لعل ذلك يساهم في دعم تطبيقها بما يخدم مسيرة الجامعات العراقية.

ما هي عملية بولونيا؟

أثبتت الجامعات الأوروبية من خلال عملية بولونيا وجودها، واستمرت في أن تصبح أكثر وأكثر جاذبية للطلاب من دول العالم الثالث والولايات المتحدة. ما الذي تغير ولماذا؟ هل ان تطبيق عملية بولونيا في العراق سيؤدي الى تطوير التعليم العالي، وان يصبح قادرا على الوقوف على قدميه ومنافسة دول العالم؟

يصادف هذا العام مرور اربع وعشرين عاما على اتفاقية بولونيا، التي أطلقت أحد أشهر مشاريع التعليم العالي في العالم. ففي عام 1999، اتفقت 29 دولة أوروبية على إنشاء منطقة أوروبية موحدة للتعليم العالي من أجل زيادة جاذبية وجودة التعليم العالي الأوروبي، وتشجيع انتشار القيم الأوروبية وتنقل الطلاب والتدريسيين.

يعتبر هذا المشروع اليوم فخر أوروبا ويسمى أحد أكثر المشاريع التعليمية العملاقة نجاحا في العالم. في عام 2012 ، نُشر في الولايات المتحدة كتاب "تحدي بولونيا" للكاتب بول غاستون، والذي يتناول الاجابة على التسائل الرئيسي التالي: "ما يجب أن يتعلمه التعليم العالي في الولايات المتحدة من أوروبا ولماذا من المهم أن نتعلم منها."

من الواضح أن المشروع نجح نجاحا باهرا. يمكننا اليوم تقييم جودة التعليم العالي الاوربي اليوم بشكل إيجابي بحيث يمكننا بثقة أن نضع الجامعات الاوربية ضمن افضل الجامعات العالمية، بالطبع، لا يزال هناك الكثير الذي يتعين القيام به، ولكن إذا تم تصنيف جميع الجامعات العالمية، فستكون مؤسسات التعليم العالي الاوربية مقارنة بالجامعات الامريكية والبريطانية من بين أول 500 جامعة.

العالمية هي سر نجاح عملية بولونيا

سر نجاح عملية بولونيا وهدفها في نفس الوقت هو العالمية. إنها ظاهرة متعددة الأوجه تشمل كلاً من تنظيم التعليم العالي وجوانب محتوى الدراسات. "ما هو التدويل في التعليم العالي اليوم؟" تتجلى العالمية في عدة أبعاد، أحدها افتراضي. في احد مؤتمرات مجلس الاتحاد الأوروبي، شارك مدرس هولندي تجربته في استخدام فضاء الإنترنت، حيث كان قد نشر محاضرات فديوية في علم السياسة الدولية، درسها 15 ألف طالب من داخل وخارج اوربا في نصف عام. قد لا يكون من الممكن تدريس هذا العدد من الطلاب بالطريقة المعتادة، ولكن بفضل التكنولوجيا والتعليم الدولي، اصبح ذلك حقيقة واقعة.

وفقا لخبراء التعليم، فإن الطابع الدولي للتعليم العالي لا يؤثر فقط على عملية تطوير الطلاب والعلاقة بين التدريسي والطلاب، ولكنه أيضا يغير عقلية المجتمع بأكمله بشكل عام. هذا جانب علينا تعلمه فلا يزال الطلاب العراقيون معزولين عن العالم بدرجة رهيبة ومقلقة. فهل سنتعلم من عملية بولونيا هذا الجانب الايجابي في اساليب التعليم وتصبح محاضرات استاذ متميز في جامعة الموصل على سبيل المثال متوفرة لطلبة جامعة بغداد ومتضمنتها مناهج الجامعة.

على الرغم من دعوة الوزارة للطلبة الاجانب للدراسة في العراق وتوفير عدد من المنح الدراسية لهم، إلا أننا لازلنا لسنا دوليين. وحتى بالنسبة للطلبة العراقيين الموفودين للدول الاوربية والأمريكية والعائدين للعراق، فإنهم يصبحون منبوذين داخل الجامعة. لذا يجب ان يصبح الهدف من اعتماد عملية بولونيا هو تغيير العقلية الداخلية بالكامل لمؤسسة التعليم العالي. التبادل على المدى القصير مهم جدا لهذا الغرض. لابد أن يتم منح التمويل للدراسات في البلدان الاوربية، وان يقضي الموفدين فيها فترة كافية لتتاح لهم الفرصة لفهم كل العادات والثقافات وتعلم اللغات، ومن خلال ذلك ستضطر الدولة إلى التغيير والتحسين من أجل تحقيق التواصل الفعال - تحسين البنية التحتية، والخدمات وتكييفها مع العالم بأسره.

اثبتت التجربة الاوربية أن الطابع الدولي للطلاب هو ميزة قيّمة في سوق العمل أيضا. تعد تجربة الدراسة الدولية أكثر من معرفة أو مهارات عالية الجودة في مجال معين - إنها القدرة على التواصل مع بيئة متعددة الثقافات، والاستقلالية، وإدراك أنه في العديد من المواقف يوجد أكثر من حقيقة واحدة أو حل واحد، إنه تفكير شامل ومتسامح، ويحظى بتقدير خاص على المستوى الدولي وبدأ تقييمها بالفعل في سوق العمل.

تعد صناعة التعليم العالي فرعا مهما من فروع الاقتصاد الحديث. أستراليا هي واحدة من البلدان التي يعتبر فيها التعليم العالي بالفعل أحد المجالات الرئيسية الثلاثة للاقتصاد الوطني. وفقا للجزء الذي تم إنشاؤه من الناتج المحلي الإجمالي، فإنه يتجاوز حتى العديد من مجالات الصناعة الثقيلة والتكنولوجيا العالية. التعليم العالي أيضا ذو قيمة في بريطانيا. يتم بالفعل تشكيل صناعة التعليم العالي بنجاح في ايران المجاورة لنا معتمدة على سوق الطلبة العراقيين. ومع ذلك، في العراق، لا يزال التعليم العالي يعامل تقليديا - كمجال من مجالات الإنفاق، وليس توفير الدخل. ويبقى تأثيره الشامل على النمو الاقتصادي للبلاد غير مرئي وغير مستغل. العراق هو الدولة الوحيدة في المنطقة التي تسعى الى جعل الشهادات العالية متوفرة لكل من يرغب بها او يطلبها سواء بصورة شرعية او بدونها.

واحدة من السمات الرئيسية لقطاع التعليم العالي العراقي، مقارنة بالدول الأخرى، لا تزال هجرة الكفاءات تسود وتنمو بين الاكاديميين. مع انه ينطبق على ثلثي دول العالم، خاصة في الدول النامية لكن شعبية التعليم العالي في السياق الدولي تعتمد بشكل مباشر على سمعة البلد.

من الطبيعي أن العراق، الذي يعاني من سوء التعليم ، لن يكون بين البلدان الاكثر شعبية للدراسات في المنطقة كمثل الاردن وتركيا وايران ومصر. من أجل جذب الطلاب من البلدان الأخرى، نحتاج إلى مؤسسات علمية معروفة دوليا تظهر نتائج بحثية عالية، وحرم جامعي جذاب، وبلد مستقر وامن فضلاً عن التواصل المستهدف لإنجازات التعليم العالي و إلا فان الدعوة لفتح الباب امام الطلبة الاجانب ستذهب سدى.

كما يفتقد التعليم العالي العراقي الى التغييرات الاستراتيجية على المستويين الوطني والمؤسسي. يتمثل أحد أوجه القصور الملحوظة في التعليم العالي في ازدواجية البرامج الدراسية وضعف التدريب الدولي وجمود المناهج وضعف البحث العلمي والتطوير والابتكار.

يجب على التعليم العالي العراقي ان لا يتخلف عن الركب وان يوقف التردي، ولكن من أجل تحقيق فوائد أكبر للدولة والمجتمع، ينبغي اتخاذ المزيد من القرارات الاستراتيجية، وبالطبع اتباعها. إن المجتمع المتسامح والسياسات المرنة تخلق ظروفا جذابة لإنشاء شراكات ذات مستوى عال خصوصا مع دول المجموعة الاوربية، لكي يتم تهيئة نفس الظروف لتطبيق خلاق لنظم التعليم العالي بدلا من تقليدها، وهو أساس الاقتصاد الناجح. الدول التي تجذب الطلاب، مثل الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، تحصل على المزيد من الآفاق والضمانات المستقبلية لكون تعليمها متفوقا وجذابا. لكي يصبح العراق أيضا جاذبا للطلبة الاجانب يجب عليه اولا من تطوير وتحسين مؤسساته العلمية ومن اعتماد النزاهة والحريات الاكاديمية هدفا للعملية التعليمية.

مسار الوحدات (ECTS) في عملية بولونيا

لربما من الافضل ان ننقل ما تشير له دوريات الاتحاد الاوربي ونقتبس منها بشأن ما اطلق عليه بنظام تحويل الوحدات المتراكمة (ECTS).

"نظام تحويل الوحدات المتراكمة الأوروبي (ECTS) هو مقياس لمنطقة التعليم العالي الأوروبية يهدف إلى ضمان قدر أكبر من الشفافية في الدراسات والمقررات. وفقا لهذا النظام، يتم ضمان تنقل الطلاب بين البلدان بسهولة أكبر ويتم الاعتراف بمؤهلاتهم الأكاديمية وفترات الدراسة في الخارج".

وفقا لـ ECTS، يُسمح بحساب الوحدات التي تم الحصول عليها في إحدى مؤسسات التعليم العالي (كمثال في جامعة المانية) في مؤسسة أخرى (كمثال في جامعة فرنسية)، حيث يدرس المرء من أجل الحصول على مؤهل. تعبر أرصدة ECTS عن التعلم بناءً على مخارج التعلم المحددة وعبء عمل الطالب student workload المرتبط بها. لاحظ ان عبء العمل هو الأساس في تحديد عدد الوحدات. لذلك لا يمكن وضع وحدات لأي مقرر إلا بعد معرفة عبء الطالب بالاستناد على مخارج التعلم learning outcomes. اؤكد على هذا الاسلوب لانتشار خطأ في مفهوم الوحدات بين الاكاديميين في العراق وهو تحديد وحدات المقرر على أساس عدد ساعات التدريس (وهو ما يسمى بعبء الاستاذ في النظام الامريكي). 

"يتيح نظام ECTS زيادة مرونة برامج الدراسة للطلاب. كما أنها تستخدم في تخطيط وتنفيذ وتقييم برامج التعليم العالي. إنها أداة رئيسية في عملية بولونيا، والتي تهدف إلى جعل أنظمة التعليم الوطنية أسهل للمقارنة دوليا. كما يجعل نظام ECTS استخدام المستندات الأخرى في بلدان مختلفة أكثر وضوحا وسهولة" ، بالإضافة الى انه يسمح بتطبيق نظام المقررات  the modular system بأسلوب سلس وبسيط.

من يحتاج ECTS؟

"يمكن أن تؤدي الاختلافات في أنظمة التعليم العالي الوطنية إلى مشاكل في الاعتراف بالمؤهلات وفترات التنقل المكتسبة في الخارج. تتم معالجة هذه المشكلة جزئيا من خلال تحسين فهم نتائج التعلم وعبء العمل في برامج الدراسة".

"يتيح نظام ECTS أيضًا الجمع بين أنواع مختلفة من التعلم، مثل التعلم الجامعي والتعلم في مكان العمل، في برنامج دراسة واحد أو برامج التعلم مدى الحياة".

فائدة هذا النظام بالنسبة للجامعات العراقية ومن دون المقارنة مع الجامعات العالمية محدودة وذلك لان مناهج وطرق التدريس والامتحانات متماثلة في الجامعات العراقية. 

كيف يتم تطبيع نظام الوحدات؟

"60 نقطة دراسية حسب نظام ECTS تقابل سنة كاملة من الدراسة أو العمل. في العام الدراسي القياسي، يتم عادة تقسيم هذه الوحدات إلى عدة وحدات أصغر. بشكل عام، مطلوب 90-120 ECTS وحدة للحصول على مؤهل دراسة قصير. تتطلب درجة البكالوريوس عادة 180 أو 240 نقطة دراسية حسب نظام ECTS.

تتوافق درجة الدراسات العليا (أو الماجستير) مع 90 أو 120 نقطة دراسية حسب نظام ECTS. يمكن تطبيق نظام ECTS على دراسات المرحلة الثالثة (الدكتوراه) بطرق مختلفة.

(ECTS) يستخدم لدعم تنقل الطلاب بين مؤسسات التعليم العالي. تساعد توصيف البرامج والمقررات واتفاقيات التعلم والشهادات الأكاديمية في التعرف على الوحدات المكتسبة في الخارج وتحويلها أثناء تنقل الطلاب. يتم وصف النظام واستخداماته بمزيد من التفصيل في دليل  يحدد فيه عبئ الطالب ومخارج التعلم في كل مقرر والذي على اساسها يتحدد عدد الوحدات".

واذ تم دمج نظام الوحدات الاوربي بنظام المقررات العالمي فانك ستحصل على نظام مثالي للتعلم والتعليم يمكن وصفه بأنه من ارقى الانظمة التعليمية في الجامعات وبتطبيقه ستخطو الجامعات العراقية خطوة جبارة نحو القرن الواحد والعشرين، بحيث ستمثل هذه الخطوة اصلاحا جذريا ونهجا مهما يضع الجامعات العراقية في مصاف الجامعات العالمية من ناحية نظام التدريس والتعليم والتعلم.

ضمان الجودة في عملية بولونيا للاتحاد الأوروبي

مع تغير أهداف التعليم العالي، يتغير مفهوم جودة الدراسة. ينتج هذا التغيير، أولاً وقبل كل شيء، عن البيئة الخارجية المتغيرة للتعليم العالي بسبب تنويع التعليم العالي، وتغيير مطالب أصحاب المصلحة لجودة الدراسات، وزيادة اهتمام الدولة، ومتطلبات المساءلة، وتغيير توقعات واحتياجات الطلاب من أجل التعليم. بالاضافة الى التغييرات في التمويل، وزيادة المنافسة المحلية والدولية، وتدويل التعليم العالي وعمليات العولمة والاهتمام العالمي بالجودة والمعايير فتتغير المحتويات والطرق. كل هذا يؤكد بشكل خاص على الحاجة إلى الجودة ويشجع مؤسسات التعليم العالي على البحث عن تدابير منهجية جديدة لتحسين جودة الدراسات. يُعترف بضمان جودة الدراسات وتحسينها في عملية بولونيا كمجال ذي أولوية للنشاط .

أصبح توافق هياكل التعليم الأوروبية أحد أهم الوسائل لتحقيق مساحة موحدة للتعليم العالي في أوروبا. في الوقت نفسه، أصبح ضمان جودة الدراسات مهمة ليس فقط ذات أهمية وطنية، ولكن أوروبية أيضا. تُلزم قوانين التعليم في كل دولة من دول الوحدة الاوربية كل مؤسسة للتعليم العالي بأن يكون لديها نظام داخلي لضمان جودة الدراسة بناءً على أحكام منطقة التعليم العالي الأوروبية. من أجل ضمان جودة التعليم المقدم، يُقترح توفير طرق ووسائل تطبيق اساليب مراقبة وضمان الجودة. تم تطوير نظام إدارة جودة الدراسة في كل جامعة مع مراعاة ثقافة الجامعة ورسالتها وأهدافها الاستراتيجية وقيم المجتمع والممارسات السائدة لضمان الجودة والتحسين. كما تم تطبيق المعايير والمبادئ التوجيهية التي صدرت عن منطقة التعليم العالي الاوربية (EHEA) كأساس لضمان الجودة في الجامعات الاوربية. یتمثل أحد الأھداف الرئیسیة للمعاییر والمبادئ التوجیھیة لضمان الجودة في المساھمة في الفھم المشترك لضمان الجودة للتعلم والتعلیم عبر الحدود وبین جمیع أصحاب المصلحة بحيث تشترك كل هيئات الجودة الاوربية باتباع الطرق التالية لفحص الجودة: 1) الاعتماد على مجموعة من التعليمات والمعايير، 2) مراجعة داخلية تعتمد على تقييم ذاتي من قبل المؤسسة، 3) مراجعة خارجية لبرنامج المؤسسة تبدأ بمراجعة التقرير الذاتي، ثم زيارة موقعية من قبل مجموعة المراجعة، 4) اخيرا نشر تقرير لضمان الجودة ووضع خطة للتحسين. وللحصول على تفاصيل اخرى حول طريقة فحص الجودة في الجامعات الاوربية في ضوء عملية بولونيا انصح بمراجعة كتابنا: (اطار ضمان الجودة وتحسين جودة البرامج في الجامعات العراقية) والذي اعتمدنا فيه على برنامجنا لضمان الجودة في الجامعات العراقية (2009-2015) وتم تنفيذه باشراف اليونسكو وعلى اساسه بني نظام الجودة الحالي في الجامعات العراقية.

***

أ.د. محمد الربيعي

........................

مصادر يمكن الحصول عليها من الكاتب: [email protected]

- عملية بولونيا

- نظام المقررات المبني على أساس الوحدات

- اطار ضمان الجودة وتحسين جودة البرامج في الجامعات العراقية

Professor Mohamed Al-Rubeai, PhD, DSc, FRSB

إحساس بارد بلا جدوى ما نفعل أو ما اعتدنا أن نقبل عليه، خُفوت جذوة الرغبة في القيام بما نحب، وضمور الحماس نحو كل شيء جميل كان في السابق مطلبنا بشغف، ممارستنا للحياة من دون إقبال، إنما نأتي إليها فقط بحكم الحاجة والعادة، باعتبارها احتياجات بيولوجية أو مسلكيات وطقوسا لا معنى لها؛ الأكل بلا شهية، النوم في أي وقت، ضعف الرغبة في السفر، شُحوب الطقوس والعادات الجميلة، الميل إلى العزلة، والعدول عن الرفقة في العلاقات الإنسانية، إنه طريق الجنون يتهدد الفرد والمجتمع اليوم، ويجعل الحياة بلا معنى.

العمل الذي كنا شغوفين به كل يوم، قد يصير مجرد أداء آلي لا روح فيه، مجرد واجب ثقيل نؤديه ونحن متذمرون مرغمون بحكم الحاجة، ننتظر ونحسب السنوات المتبقية لمعاشنا المبكر، كي نهرب من الشغل الذي فقد معناه ولم تعد فيه أية متعة، وقد يصير أقرب إلى الجحيم، والعمل يفقد معناه، إذا كانت وراءه طُغَم تحوله إلى صالحها، بما يخدمها وانتفاعَها، ويصبح بلا معنى بمجرد ما يدب إليه الفساد، هذه السوسة التي ما إن تتسلل إلى شيء حتى تأخذ في نخره من أعماقه.

تكريم المبدع أو العامل لا معنى له في نسق ثقافي فاسد أو في منظومة عمل فاقدة للمصداقية، يتعرض فيها الإنسان طوال مسيره الإبداعي والمهني لشتى صنوف الجحود والتنكر والتهميش والإقصاء والحصار... فالتكريم الحقيقي اعتراف صادق، يكون في سيرورة الحياة العملية، وليس لحظة نفاق عند الخروج إلى التقاعد، أو عند الرحيل من الحياة، فهذا رياء ونفاق تتسابق نحوه لمآرب ضيقة أزلام دواليب المجال الذي يعج بالمقت والكراهية والتناحر.

الصداقة تفقد معناها بفقدانها قيمَها، فتغدو علاقة شكلية لا روح فيها، يحل فيها الكذب محل الصدق، والخيانة محل الأمانة، والغدر محل الوفاء، والمجاملة محل الوضوح والصراحة، وتحل المنفعة الذاتية محل التضحية في سبيل الاستمرارية ونبل الصداقة.   

لقد قُلبت القيم رأسا على عقب، فأصبح الصادق الصدوق مغفلا، والصريح صاحب هبل، والمخادع الوصولي صاحب ذكاء اجتماعي ومهني عال...

العلاقات الأسرية والعائلية قد تفقد معناها إذا طغت عليها المصلحة والأنانية، فتصبح أركان البيت باردة فاقدة للدفء والحب، فتُبنى جدرانٌ فولاذية بين أفرادها، بين الزوج وزوجته، وبينهما والبنات والأبناء، وبين الأخوات والإخوة، فتبدأ في التلاشي تلك العادات الجميلة التي تجمع الأهل وتخلق بينهم أُلفةً منقطعة النظير، ليبحر كل واحد في الهروب نحو عالم وهمي خلف الشاشات الرقمية.

عندما يعجز الإنسان وهو يتقدم في العمر عن تطوير ذاته وتجديد منظوراته وشحذ طاقاته، يقع في مطب فقدان المعنى، خاصة إذا كان وعيه الحاد بالعالم قد زج به في شعور عميق بالاغتراب والشقاء، فالوعي الشقي قد يكون دعامة خطيرة لرسوخ الشعور باللاجدوى، وفقدان حاسة التذوق وتلاشي القدرة على الاستمتاع بالحياة، بسبب سيطرة رؤية سوداوية ناتجة عن  إدراك عميق لتفاهات العالم، ووعي ثاقب بمدى فداحة التدني والقبح.

ولئن كان فقدان المعنى مفهوما في بعض حالات شيخوخة الفكر وتكلس العقل وانكسار النفس بسبب تراكمات الإحباط والقهر والصدمات... فإن الحديث عن غياب المعنى لدى الشباب، مهما كانت مبرراته، يعد مؤشرا خطيرا على مستقبل منذور بعواقب وخيمة.

***

نحن متفقون أولا على أن التربية عملية هادفة ومتطورة، تحكمها قواعد وقوانين معينة، فهي تنمية الجوانب المختلفة لشخصية الإنسان عن طريق التعليم والتثقيف! عندما نقول الصراع التربوي ألا ترى أنهما مفهومان متناقضان لا يصح أحدهما مع الآخر في شيء؟ بمعنى آخر كيف لنا أن نتحدث عن تربية وصراع في الآن نفسه؟

لا أقصد الصراع التربوي بين المدرّس والمتعلّم، ولن أتحدث عن الصراع بين الوزارة والأطر الإدارية والتربوية، بل سأتحدث عن الصراعات بين الأطر الإدارية والأطر التربوية، وبين الأطر الإدارية فيما بينهم أو الأطر التربوية فيما بينهم.

لا أعمّم، لكن بعضهم تمكّنت الحزازات من نفوسهم فأعمت قلوبهم عمّا يوحّدهم، فالمدرسة كأي مؤسسة اجتماعية أخرى تضم عددا كبيرا من الأعضاء، وقد يحصل يوما ما سوء تفاهم أو خلاف، حينها نطرح السؤال: ما العمل؟ هل نترك الأمر يتفاعل باتجاهه السلبي أم ينبغي إيقافه بخطوات متحفظة؟!  ومن الذي له السلطة التشريعية وتقع عليه مسؤولية حل النزاعات داخل  المؤسسة التربوية؟

للأسف الشديد لم تبق النزاعات حبيس الأطر وسرّا بينهم، بل أصبح يتفرّج عليها المتعلمات والمتعلمون، كما حصل مؤخرا في مؤسسة تعليمية لا داعي لذكر اسمها، وكما يحصل في مؤسسات أخرى بطبيعة الحال. إذاً عن أي تربية وعن أيّ تعليم مازلنا نتحدّث؟

يمكن القول إن الصراع ظاهرة طبيعية ولا بد من وجودها في أية مؤسسة مهما كانت طبيعة عملها، فأصبح من واجب الإدارة الاعتراف بهـا، والتعـرف علـى أسبابها، سعياً للتوصل إلى الطريقة المناسبة للتعامل معها. فالصراع رغم ما يحمله من آثار سلبية إلا أنه لا يخلو مـن آثـار إيجابيـة تستدعي من الإدارة استغلالها لصالح التنظيم.  ومما لاشك فيه أن المـدير  في المجال التربوي بصفته رئيس المؤسسة تقع عليه مـسؤولية الارتقـاء بالعملية التربوية وبالمنظمة التي تقع تحت إدارته، الأمر الذي يتطلب منه كيفية مواجهة الصراعات السلبية التي تحدث في المؤسسة التعليمية وتحويلها إلى صراعات إيجابية تحقق أهدافها.

إن النظرة إلى إدارة الصراع بالمؤسـسات التعليميـة وغيرهـا ارتبطت بتطور الفكر الإداري عبر مراحله المختلفة؛ أولا مرحلة الفكر التقليدية أو ما يسمى بالمدرسة العلمية حيث انطلقت من ضرورة القضاء على الصراع أو الحد منه ما أمكن، لأنهـا تعتبر كل أنواع الصراع مخلة بوظائف النظام، بينما مرحلة الفكر السلوكية تبنت فكرة أن الصراع أمر ضروري في التنظيم ولا يمكن تجنبه، وما على الإدارة إلا أن تتعرف عليـه وتحدد المستوى المقبول منه بما يخدم أهدافها في ظل ظروفها القائمة، وأخيراً مرحلـة الفكر التفاعلية التي لا تنظر إلى الصراع على أنه يشكل قوة إيجابية في الجماعة فقط؛ ولكنها تشير  إلى أن بعض الصراع ضروري وحتمي لفاعلية عمل الجماعة وتحقيق الأهداف.

ومن أهم الأساليب التي أفضل الاستعانة بها في حل الخلافات والنزاعات داخل المؤسسة التعليمية هو أسلوب السيطرة: والهدف منه هو إدارة الصراعات التنظيميـة بأسرع وقت ممكن بعد التعرف على مصادرها الحقيقية، وهنا يتجلى دور رئيس المؤسسة، إذ يلعب دور الوسيط ويعتمد على الدخول الصريح والمباشر بين أطراف الصراع، ويدرس نقاط الخلاف بدقة وعناية، ويبذل الجهود  مـن أجل إيجاد الحلول لكل جزئية؛ تمهيدا وتسوية للصراعات القائمة.

كما يمكن استخدام أسلوب التهدئة: بمعنى تلطيف وتسكين الصراع عن طريق مواساة أطراف الصراع  بغرض تهدئتهم، وذلك عن طريق التواصل والحوار بلغة مؤثرة لإعادة العلاقة السليمة بين الأطراف المتصارعة وتهدئة العواطف.

ختاما أقول: لو قدّر الإنسان علاقته بربه أولا، وكان كل طرف على علم بما له وما عليه، والتزم  بالقانون وبالنظام الداخلي للمؤسسة التعليمية وبالمذكرات الوزارية وبالنظام الأساسي لأطر الأكاديميات الجهوية لمهن التربية والتكوين، لما أصبحنا نرى هكذا مشاهد!

أما إذا واصلوا على الحسد والضغينة التي يحملونها اتجاه بعضهم البعض فسنرى الأسوأ من ذلك، وهذا لا يليق بالتربية والتعليم وبمربي الأجيال.

***

ذ. فؤاد لوطة 

لو كان الاستبداد رجلا، وأراد أن ينتسب، لقال: أنا الشر، وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وعمي الضر، وخالي الذل، وإبني الفقر، وابنتي البطالة، ووطني الخراب، وعشيرتي الجهالة. عبد الرحمن الكواكبي

لا أحد يستطيع اليوم أن ينكر الدور الخجول للجامعات العربية طلابا وأساتذة في الممارسة الاجتماعية النقدية لقضايا مجتمعاتهم وتحدياته المصيرية. وقد لا نجد حضورا قوي الشكيمة واضح المعالم للمجتمع الأكاديمي العربي في أحداث الحياة الاجتماعية العربية نقدا أو تحليلا أو رفضا أو مقاومة لأوضاع القهر والاستلاب. وهذا لا يعني أبدا أننا نتنكر لبعض الجهود المميزة التي قام بها بعض الطلاب والأساتذة الجامعيين للمشاركة في حركات الاحتجاج ضد مظالم أنظمتهم السياسية كما حدث في تونس ومصر وسورية ولا سيما في بداية ما يسمى بالربيع العربي. ومما لا شك فيه أن هذا الغياب الكبير للفعل الاحتجاجي الجامعي في البلدان المنكوبة بالاستبداد يدل على جملة من الشروط التاريخية القائمة على الاستبداد التي مارستها الأنظمة السياسية في الجامعات فحولها إلى ترسانات أمنية مدمرة للعقول والقيم الأخلاقية والثورية.

وإزاء هذا الغياب الكبير للممارسة النقدية الجامعية في مستوى الطلاب فإن المؤرخين سيذهلون تماما للدور السلبي الكبير لأعضاء الهيئات التدريسية في الجامعات العربية (سوريا مصر السودان اليمن ليبيا العراق) الذين سجلوا أكبر درجة من التخاذل التاريخي والتواطؤ خلال موجة الانتفاضات الجماهيرية منذ بداية انطلاقها. وإذا كان الطلاب لا يستطيعون في ظل جامعات مخطوفة أمنيا أن يمارسوا حقهم التاريخي في الانتفاضة ضد أنظمة القهر والاستبداد فإن التخاذل بلغ حدوده القصوى لدى أساتذة الجامعات العربية وهم الذين يمتلكون القدرة (ربما) على إبداء الرأي فيما يحدث وفيما يجري من أحداث جسام على الساحة العربية بصورة أخلاقية وموضوعية.

لقد وقفت نخبة كبيرة من أعضاء الهيئة التدريسية في مختلف الجامعات العربية موقفا سلبيا من الثورة وغيرها من الأحداث الجسام وسجلوا أنفسهم في دوائر العداء للمجتمع وقضاياه المصيرية، وفي المقابل سجلت الأكثرية الساحقة من هؤلاء حضورهم في دوائر الصمت السلبي القاتل من مختلف القضايا الاجتماعية القائمة على الفساد والجريمة السياسية المنظمة.

وعلى خلاف الدور النقدي المتوقع من هذه الفئة الأكاديمية بدا واضحا أنهم كانوا أكثر وفاء للظلم والقهر. وعلى خلاف الدور الإنساني الذي يفترض بأساتذة الجامعات أن يقوموا به من نقد للظلم والعنف والاستبداد عمل فريق كبير منهم على تمجيد الاستبداد وتبرير البطش الذي يقوم به الطغاة ضد شعوبهم.  ومن الواضح أن أنظمة الاستبداد وجدت في هذه الطبقة من أساتذة الجامعة طليعة آثمة متوحشة انبرت للدفاع عن القهر السياسي وتمجيد القمع الاجتماعي الذي تمارسه هذه الأنظمة السياسية ضد شعوبها.

ومن المحزن والمذهل اليوم أن يكون أساتذة الجامعات العربية أوفياء لأنظمتهم الاستبدادية بدلا من أن يكونوا أوفياء لشعوبهم وأمتهم وقضايا مجتمعاتهم المصيرية. ومن المؤلم جدا أن يقوم كثير من هؤلاء الأكاديميين الأشاوس أن يستووا على منابر الأنظمة الشمولية لتبرير العنف وتمجيد التوحش والوحشية والإعلاء من شأن الظلم والقهر الذي تمارسه أنظمتهم القمعية ضد شعوبهم بلا رحمة أو شفقة. وإنك في حقيقة الأمر لتصاب بالصدمة والذهول تماما للكيفية التي يتدافع فيها أساتذة الجامعة من أجل الظهور الإعلامي في إعلام قاصر موتور تمجيدا بأنظمتهم الشمولية التي تمارس الظلم والقهر في مختلف أصقاع العالم العربي المنكوب بأنظمته الوحشية! وقد تصاب في حالة ذهول أكبر عندما ترى هذا الاستبسال الكبير لدى فريق من هؤلاء الأساتذة الأكاديميين للدفاع عن الظلم والقهر والاستبداد، وهم فوق ذلك كله يطالبون أنظمتهم الوحشية من على منابرها الإعلامية أن تكون أكثر شراسة وتدميرا وقتلا وسفكا للدماء في أوطانها!!!

ومن المؤسف والمأساوي أيضا أني يكون ينبع هذا التوحش من لدن الأكاديميين في كليات العلوم الإنسانية ولاسيما في كليات الحقوق الذين كان لهم الحضور الأكبر في مختلف المحافل الإعلامية والسياسية تمجيدا لأنظمة الاستبداد وتبريرا لبطشها. والغريب في الأمر أن يمارس هؤلاء الحقوقيون دورا مضادا لدورهم التاريخي الذي يتمثل في الدفاع عن الحق والكرامة والإنسانية والعدل والقانون. وعلى خلاف هذه الوظيفة الإنسانية الحقوقية مارس أساتذة الحقوق وما زالوا كل أشكال القمع الفكري والتزييف الأخلاقي والتبرير القانوني والدجل السياسي في مواجهة الإنسان والمقهورين في مجتمعاتهم متنكرين لأبسط القيم الأخلاقية والإنسانية.

والمخيف في هذا كله أن هؤلاء الأكاديميين يقومون بتدريس الأجيال نظريات الحق وحقوق الإنسان! والغريب حقا أن يقوم هؤلاء الأكاديميين الطغاة بتعليم الحقوق وهم الذين وقفوا ضد الحق والحقيقة والقانون والأخلاق أن يقوموا بتعليم الأجيال على قيم الحق والقانون والأخلاق؟

وليس غريبا أن تجد بين هذه الطليعة المخجلة تاريخيا أساتذة من كليات الآداب والطب والهندسة الذين تاجروا بدماء الشهداء والثوار من أجل لحظات خاطفة من الظهور الأكاديمي انتصار للاستكبار الظلامي والجبروت الوحشي للأنظمة السياسية القائمة على أبشع مقومات القمع والإكراه السياسي.

وكما أن الحرب تنتج أبطالا وقادة ومغامرين فهي تنتج جبناء ومراوغين ودجالين ومنافقين ومزاودين،  وهكذا أفرزت الأوضاع الكارثية العربية - القائمة على الظلم والقهر والاستبداد - هؤلاء الأكاديميين الجبناء المداهنين والمتاجرين بخبز الناس وكرامتهم.

وفي الختام نقول مع القائل إنه منذ أن اشتغل هامان لصالح فرعون وقارون وحتى هذه اللحظة هناك مثقفون.. وعلماء.. ورجال دين.. وفنانون" من مختلف الأحجام والمستويات والأيديولوجيات والجنسيات والطبقات والأديان والمذاهب والعشائر والطوائف والأسر.. يلمّعون أحذية من يدوس على البشر!!.. 

وسلام الله عليكم .

***

علي أسعد وطفة

تنطوي مقولة «انتصار الحضارة الغربية النهائي على العالم» على نزعة استشراقية بيّنة، ولكنها تحتوي أيضاً على جزء من الصحة في وصف الشكل الخارجي لواقع الحال العالمي الراهن، ويتعلق الأمر هنا تحديدا بتَكَرُّس الهيمنة الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية عسكرياً ومالياً على العالم؛ أي إنها هيمنة عدوانية لفترة تاريخية محددة بقوة السلاح والمال وليس انتصاراً نهائياً وحاسماً؛ فالصراع بين الغرب وباقي أجزاء العالم المستهدف بالعدوانية الغربية لم يتوقف بعد، ولن يتوقف قريباً.

لقد أصبحت هذه المقولة متداولة كثيراً في السنوات الأخيرة، وبات بعض الباحثين والكتّاب العرب والشرقيين يكرّرها وكأنه اخترع العجلة، رغم أنها مقولة خطرة ولا تاريخية ولا تعني من حيث الجوهر سوى تعميم الدعوة إلى الاستسلام والتبشير بانعدام أي خيار آخر أمام الإنسانية وشعوب الأرض غير الانخراط في الحضارة الغربية المضرّجة بدماء الشعوب والمساهمة فيها كمهزومين! سنحاول هنا تقديم محاولة تحليلية لتفكيك هذه المقولة نقدياً:

يستلزم التعرّض لمقولة «الحضارة الغربية» التفريق بين مصطلحين متداخلين بشدة هما الحضارة والثقافة أولاً، وبين «الحضارة الحديثة» و«الحضارة الغربية» ثانياً.

من المعروف أن بين الثقافة والحضارة وشيجة أشبه بالعضوية، ففي بعض اللغات الأوروبية الحية كالفرنسية تدلّ الكلمتان على معنىً واحد إلى درجة يمكن استبدال إحداهما بالأخرى، ولكن هذا التواشج قد لا يبدو واضحاً وحاسماً كفاية في العلوم التخصصية الحديثة، فقد انقسم الموقف من هذا الموضوع إلى ثلاثة اتجاهات:

الأول يذهب إلى أنَّ معنى الثقافة والحضارة واحدٌ، ولهذا السبب استخدم مصطلح (Civilization) للتعبير عن ماهية كليهما معاً، من دون وجود فرق أو تمييز بينهما، ويُلاحظ هذا الاتجاه عند الباحثين الفرنسيين الذين تحدّثوا عن أنّ الثقافة والحضارة لا فرق بينهما، فهما «مفهوم كوني وشامل لأمّةٍ واحدةٍ» كما كتب بعضهم.

ويرى أصحاب الاتجاه الثاني أن الحضارة هي فقط الجزء المادي من الثقافة. أما الفريق الثالث فيعتقد أنّ الثقافة هي جزء من الحضارة بشقّيها المادي والمعنوي، وهذا الاتّجاه الغالب في الغرب. آخذاً بنظر الاعتبار التفسيرات الثلاثة السالفة للعلاقة بين هاتين المقولتين، ومركّزاً على التفسير الأول أكثر من سواه، سأتناول بالتوضيح التفريق الذي قال به الباحث العراقي الراحل هادي العلوي بين الثقافة الحديثة والثقافة الغربية، بما يعني في الوقت نفسه التفريق بين الحضارة الحديثة والحضارة الغربية:

يفرّق العلوي بين الثقافتين تفريقاً شديد الوضوح، على الرغم من تعقيده الماهوي. فهو يقول (عندما قسمتُ الثقافة المعاصرة إلى ثقافة غربية وثقافة حديثة، وأخذت بالحديثة ورفضت الغربية، فهذا يعني أخذ الكثير مما هو معنون كفكر غربي ولكنه حديث، وميزته عن الفكر الغربي بخصائصه المعادية للآخر، سواء كان هذا الآخر جغرافيا سياسية أم جغرافيا اجتماعية تنتمي إلى معسكر الفكر نفسه «الطبقات العاملة في الغرب». الفكر المعارض في الغرب قام ويقوم بدور عظيم في إصلاح المجتمع الغربي وتخليصه من آثار الهمجية. وعلماء الاجتماع الغربيون أسهموا في دور عظيم في تحسين وضع السجون الأوروبية التي كانت حتى القرن التاسع عشر مسالخ بشرية، لكن هؤلاء العلماء أنفسهم لم يطلقوا صيحة واحدة ضد المسالخ البشرية التي يصنعها الغربيون في القارات الملوّنة. (هادي العلوي ، «حوار الحاضر والمستقبل» ص 107). وفي مواجهة الثقافة الحديثة التي هي ثمرة مشتركة أسهمت في إنضاجها الإنسانيةُ جمعاء وشعوب الأرض والحضارات كافة، يُلخِص العلوي الأسس التي تقوم عليها الثقافة الغربية في المزاعم الأيديولوجية الاستشراقية التالية: تفوّق العقل الغربي أمام العقول غير الغربية، وأبدية التجارة والتملك الخاص، وبالتالي حق الإنسان في امتلاك المال بأي وسيلة، وحداثة الرأسمالية وتخلف الاشتراكية، واقتران الرأسمالية بالرخاء والازدهار واقتران الاشتراكية بالفقر.

أما على صعيد ما يصفه بمستوى الفكر الجاد، فيسجل العلوي الآتي: «لقد حقق العقل الغربي فتوحات عظيمة في ميدان تفسير الطبيعة، وهذه هي الفيزياء، ومع ذلك أخفق الفيزيائيون الغربيون في استخلاص حقائق الفلسفة المعادلة لحقائق الفيزياء، بحيث نجد فلسفة الفيزياء قبل ماركس متعايشة مع الخرافة، وتكاد تتعاطى مع الأسطورة كإحدى حقائق الطبيعة». (ص 110 م. س.). ثم يعود العلوي إلى تأكيد أن «التمييز بين الثقافة الغربية والثقافة الحديثة، وكون الثقافة الحديثة هي أيضاً غربية ومعلّموها غربيون وإنما تميّزت عن الثقافة الغربية الأم بمصادرها الخارجية... فالفكر الاشتراكي الغربي مثلاً متطور عن الأناجيل الأربعة وهي مصدره الأكبر في هذا المنحى، لأن المجتمع الغربي لا يملك خلفية مشاعية تنعكس في فكره وتؤصل وعيه الاشتراكي». (م. س.).

القدر الحتمي

وكما أسلفنا، فإن هذا الاستنتاج العدمي القائل بانتصار الحضارة الغربية النهائي على العالم المعاصر، لا يختلف كثيراً من حيث الجوهر عن صيحة «نهاية التاريخ وسيادة العولمة بنسختها الليبرالية اليمينية المحافظة» التي أطلقها يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما في صيف 1989. إن الأطروحة الأساسيَّة لفوكوياما تقوم على «أن الديمقراطيَّة الليبراليَّة بقِيَمها عن الحرية، الفردية، المساواة، السيادة الشعبية، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، تُشَكِّلُ مرحلة نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان وبالتالي عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغةٍ نهائيةٍ للحكومة البشرية». ومعروف أن فوكوياما تراجع بهذا، بشكل ما، عن صيغة نظريته الأصلية هذه، كما يكتب مقتبساً د. أسامة سماق «نشر فوكوياما مقالاً في «ذا نيو ستايتسمان» بتاريخ 17.10.2018، يحوي معزوفة التراجع عن نظرته السابقة، نقتبس «إذا كانت الاشتراكية تعني برامج إعادة تصحيح الخلل الكبير في الدخل والثروة، فنعم، لست فقط أعتقد أنها يمكن أن تعود، بل بجب أن تعود، يبدو لي أن الأشياء التي قالها ماركس يتضح أنها صحيحة، لقد تحدث عن فائض الإنتاج وأن العمال سيصبحون أكثر فقراً، وأن الطلب على السلع لن يكون كافياً!».

وإذا ما عدنا إلى مقولة القائلين بانتصار الحضارة الغربية النهائي، نجد أن هشاشة هذه المقولة تبدو واضحة، ليس في جانبها الأخلاقي والاجتماعي التاريخي فحسب، بل أيضا في جانبها المعرفي والاجتماسي (sociopolitique)، فالغرب، لم ينتصر عملياً وبشكل نهائي؛ ولم تنتهِ مشكلاته العويصة مع العالم ومع نفسه. إنه لا يزال مشتبكاً في حروب ضارية تتخذ أشكالاً متنوعة من العدوان المسلح إلى الحصار الاقتصادي والسياسي إلى التهديد بالإفناء النووي ضد خصومه في جميع القارات. كما أن الغرب لم يتمكن، وقد لا يتمكن قريباً، من حلّ مشاكله الاجتماعية والتاريخية الموروثة حتى الآن مع أولئك الخصوم أو حتى في عقر داره.

من ناحية أخرى، فإن الغرب ليس صادقاً في مزاعمه عن نشر الحريات والديموقراطية، لا بل إنه بحركته السياسية والعسكرية العالمية وهيمنته الاقتصادية، يُعَدُّ أكبر عائق أمام انتصار الديموقراطية والحريات الفردية والجماعية في بلدان العالم، فهو يحاصر ويحاول إسقاط أنظمة ديموقراطية منتخبة من قبل شعوبها، لا لشيء إلا لأن هذه الشعوب تريد أن تختط لنفسها وبقياداتها الشرعية المنتخبة طريقاً مستقلاً في السياسية والاقتصاد والثقافة، والأمثلة الطازجة كثيرة، ولعل أوضحها مثال بلدان اميركا اللاتينية حيث تعيش عدة شعوب فيها تحت وطأة الحصار الأميركي والتهديد بالحرب التدميرية.

لتفحص جذور هذه المقولة لا بد من التطرق إلى ما يسمى مبدأ القدر المتجلي أو الحتمي (Manifest destiny)، هو اعتقاد جيوسياسي استراتيجي ذو مضمون سلفي ديني نشأ في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، وتحديداً في حرب التوسع والضم التي شنتها ضد المكسيك وانتهت بعد عامين بانتزاع ثلاث ولايات كبرى منها، ولم تحجم عن ضم العاصمة مكسيكو إلا لخشيتها من الاختلاط بسكانها الملونين الكثيري العدد. هناك ثلاثة محاور أساسية يتجلى فيها هذا «القدر المتجلي» كما يزعم القائلون به:

1-الفضائل الخاصة للشعب الأميركي ومؤسساته، أي إنهم يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار، كما قال الكاتب الأميركي هرمان ميلفيل حرفياً «نحن الأميركيين شعب متميز مختار، نحن بني إسرائيل زماننا. لقد خصّ الله شعبنا بالقضايا الكبرى، وبقية الشعوب ستسير خلفنا عمّا قريب، فنحن رواد البشر»، كما اقتبس عنه جون جوديس في كتابه «حماقة الامبراطورية» (The Folly of Empire).

2-مهمة الولايات المتحدة هي إعادة صياغة الغرب على صورة أميركا، والمقصود هنا بالغرب، الغرب في صورة «الإمبراطورية الرومانية المقدسة» الغابرة.

3- قدرٌ لا يقاوم لإنجاز هذا الواجب الأساسي. ويوضح المؤرخ فريدريك ميرك أن هذا المفهوم ولد من «الشعور بواجب استعادة العالم القديم من خلال القدوة المتعالية والناتجة عن إمكانات الأرض الجديدة لبناء سماء جديدة».

أما المؤرخ ويليام أي ويكس فيسجل أن المهمة الثانية لا تقتصر على جعل الغرب على صورة أميركا، بل جعل العالم كله على تلك الصورة، وإعادة تشكيله وفقها. أما الأساس الثالث، فهو كما يكتب ويكس «قرار الإله في تفويض الولايات المتحدة الأميركية في تحقيق هذه المهمة». وهنا تحديداً، لسنا بعيدين كثيراً عن الفكر الداعشي السلفي التكفيري، ولكن بنسخته البيوريتانية البروتستانتية في أميركا القرن الثامن عشر، وهو فكر لا يزال ينبض بالحياة حتى الآن في خطابات آل بوش وترامب وغيرهما من الرؤساء الأميركيين!

يمكن أن نضيف إلى ذلك، أن الولايات المتحدة نفسها، ودول غربية عديدة من حلفائها، تجلس وتتنعم بالرفاهية الظاهرية على قمة بركان اقتصادي ناشط، ويمكن التعبير عن إحدى صوره بترليونات الدولارات من المديونية الأميركية وبواقع 22 ترليوناً، تتبعها بريطانيا بثمانية ترليونات ونصف ترليون، لتأتي بعدها فرنسا وألمانيا بأكثر من خمسة ترليونات ونص ترليون لكل منهما. ومعلوم أن هذا الواقع الاقتصادي الشبيه بالبركان قد ينفجر بين يوم وآخر أو سنة وأخرى أو عقد وآخر، فأين هي إذن حقيقة انتصار الحضارة الغربية النهائي؟ أليس صحيحاً ذلك التشبيه الذي أطلقه اقتصادي أوروبي كبير حيث شبه دولة الولايات المتحدة بـ«قوّاد ثمل يجلس في باب المبغى وكيس النقود المزيفة في رقبته وبيده هراوة نووية يرعب بها الناس، وهي التي تعطي قيمة لنقوده المزيفة»؟!

أما إذا نظرنا إلى مقولة «انتصار الحضارة الغربية النهائي» داخل السياق السياسي التاريخي الحقيقي للدول الغربية نفسها، فسنجد أن ما يسميه البعض انتصاراً نهائياً متبوعاً بحالة سلام عام هو ليس ظاهرة جديدة في التاريخ. وإن الإمبراطوريات الزائلة قد حققت نسختها الهيمنية من العولمة على انحاء العالم المعروف في عهدها، ولعل من أشهر الأمثلة على ذلك الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي حققت السلام الروماني (PAX ROMANA) والذي هو ليس إلا حالة نجحت فيها تلك الإمبراطورية القائمة على العنف والدم والظلم والعنصرية في كتم أنفاس القوى والشعوب المستعبدة والثائرة والمتمردة ضدها. وفي عصرنا يرفع ورثة الإمبراطورية الرومانية الهمجية شعارها بعد أن «أمْرَكوه» فتحول إلى (PAX AMRICANA) يريدون فرضه على شعوب العالم المعاصر.

في المقابل، تقوم مقولة «الانتصار النهائي للحضارة الغربية» في زعم المدافعين عنها على ركائز عديدة؛ منها إنها أول حضارة تقوم على العقل والعلم وليس على الخرافات الدينية وغير الدينية، وإنها تقوم على نقد ذاتها وتصحيح مسارها باستمرار، وإنها تقوم على مبادئ الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، وأخيراً فهي أقل عنفاً ودموية من الحضارات التي سبقتها.

غير أن نظرة سريعة إلى ما تنقله وكالات الأنباء والصحافة العالمية ليوم أو يومين تقنعنا بهشاشة هذه المزاعم وكذبها. كما أن مراجعة سريعة لأحداث القرن الماضي المهمة تثبت لنا أن الحضارة الغربية هي الأكثر دموية وعنفاً وظلماً واستعباداً للإنسان من أي حضارة بشرية أخرى سبقتها، ويكفي التذكير بمجازر الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبمحارق النازيين الألمان، وبجريمتي هيروشيما وناكازاكي النوويتين، مروراً بالحصار الأميركي الغربي على العراق في التسعينيات من القرن الماضي، والذي قُتل بسببه أكثر من مليون عراقي، أغلبهم من الأطفال والفئات السكانية الضعيفة.

أما الخرافة والشعوذة في الغرب فلم تنقرضا بل تشهدا «ازدهاراً» كبيراً في العقود الأخيرة ولكن بأساليب وأشكال جديدة، حيث تحتشد الصحف الشعبية في أوروبا والولايات المتحدة بمئات الإعلانات والمقالات في ميدان السحر والشعوذة وقراءة الحظ والأبراج الفلكية، ولا يستطيع المواطن أن يحصل على موعد مع خدمات قراءة وتوقعات المستقبل إلا بعد أشهر نتيجة الزحام الشديد على هذه الخدمات من قبل الأوروبيين.

إن اتهام الحضارات الأخرى بأنها قائمة على العبودية والعنف وتبرئة الحضارة الغربية من العبودية والعنف هو الكذبة الأكبر التي يطلقها حاملو هذه المقولة والمبشرون بها؛ فالحضارتان الإغريقية والرومانية لديهما سجل من العنف الدموي انعدم نظيره في التاريخ البشري، أما «مجتمعات الأحرار والديموقراطية» في أثينا وروما فكانت خاصة بملاك العبيد والتجار والعسكريين فقط دون سائر البشر الذين هم من العبيد، سواء كانوا من أهل البلاد أم أسرى جرى استجلابهم بقوة السلاح من البلدان الشرقية الخاضعة. بمعنى أن ظاهرة العبودية ليست لعنة ميتافيزيقية حلت بالشرقيين دون الغربيين كما يحاول بعض الكتّاب العرب إقناعنا، بل هي ظاهرة تاريخية بشرية وعالمية تنبغي مقاربتها علمياً وبحياد وعمق حتى لا تتحول إلى نوع من الهجاء الأيديولوجي الذميم. وفي هذا الصدد، مفيد أن نعلم أن العنصرية ضد السود والملونين لا تزال تتحكم في المجتمعات والدول الغربية حتى يومنا، أكثر منها في غيرها من المجتمعات، بل إنَّ الأحزاب والشخصيات التي تتبنّى العنصرية والعداء للآخر غير الأبيض في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية في حالة تفاقم وصعود انتخابي وجماهيري متعاظم!

إنَّ ما يسميها الراحل العلوي «التكوينات المفهومية لمصطلح الثقافة الغربية» المعادي الجوهري للحضارة الشرقية تقوم في اعتقاده على الموروث الهمجي الروماني أولاً، والتجارة والتملك الخاص ثانياً، وانحلال العائلة ثالثاً، وحرية الفرد على حساب المجتمع رابعاً، والعنصرية المعبّر عنها بالإلغاء الجسدي للملونين كما هو جار منذ عام 1492 حتى الآن (سنة 1998) حيث يرفع الأميركيون شعار «العراق يجب أن يُدَمَّر» استكمالا لشعار أسلافهم في الإمبراطورية الرومانية المقدسة «قرطاجة يجب أن تُدَمَّر» - سنة 149 ق.م.!

إن تبنّي مقولات خطيرة كهذه المقولة الخاصة «بالانتصار النهائي للحضارة الغربية»، والتبشير بها بهذه المنهجية التجزيئية والسطحية التي تهدر السياق التاريخي للمقولة وللظاهرة التي تقاربها معاً، وتهمل ما لا يعجبها من مثالب السردية الغربية وتبرز ما يعجبها من مثالب السرديات الشرقية، كأن يلتقط باحث معين مجزرةً هنا وأخرى هناك من تاريخ الفتوحات العربية الإسلامية في القرن السابع الميلادي، ليحولها إلى ظاهرة ثابتة؛ إن هذا كله، لن يعني في نهاية المطاف سوى الانحياز الأيديولوجي الكامل من قبل الباحث المعني إلى الاستشراق الغربي العنصري المعادي للآخر، والتحول من باحث رصين إلى مبشّر أيديولوجي لا حظ له من العلمية بمقولة «انتصار الحضارة الغربية النهائي» التي لا معنى لها غير انتصار الإمبرياليات الغربية العنصرية على العالم.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

لا يصلح أي نظام اقتصادي في بلدنا سوى النظام الرأسمالي الذي يرغم الموظف على العمل بجدية وبدون تقاعس ويمنعه من هدر الوقت أثناء الدوام الرسمي بمختلف الحجج والبحث عن السمسرة والرشوة والوساطات والكلاوات كما يحدث في النظام الحكومي العام الذي راح ينهار في دول العالم تباعاً كما رأينا ما حل بالاتحاد السوفيتي ودوله ألاشتراكية أو بعض الدول الأفريقية امتداداً إلى دول في أمريكا الجنوبية (مثل كوبا وبيرو والاكوادور وكولومبيا) التي راحت شعوبها  تعيش في ظروف اقتصادية صعبة جداً .. فلا بد من خصخصة منشآت الدولة وتأجيرها من الغد الى القطاع الخاص بموجب قوانين تضمن الحقوق وترضي الجميع وسنرى كيف نتحول الى دولة صناعية تلتهم الأيدي العاملة من الطرقات والمقاهي والأحياء التي يعاني أهلها من الفقر والحرمان وإيجاد فرص عمل لأولئك المعذبون وسط معركة الحياة وبذلك نقلل من مشكلة البطالة المنتشرة في شرق البلاد وغربها والتي تحولت إلى آفة تنخر العقول وتفكك النسيج الاجتماعي وتقطع أوصاله، إن الصناعة تحت مظلة الرأسمالية أو القطاع الخاص أو بما يسمى بالخصخصة هي الوسيلة الوحيدة التي تطور الشعوب وتنمي الأمم لما لها من طيف وظيفي واسع وجدٌ ومثابرة في العمل تحت عيون الرقيب صاحب العمل وضرورة تأسيس المصانع المنتجة بسبب الحاجة الى التغيير والتطوير الصناعي على صعيد يكاد يكون يومي كما حصل مؤخراً في الصين وروسيا والكثير من الدول الاشتراكية التي أدخلت المستثمرين لبلداها فأصيبت بالانتعاش الاقتصادي والنمو المضطرد، على خلاف الزراعة التي تبقي الدولة راكدة على مدى طويل (ولو أنها مطلوبة ايضاً)  فطقوسها معروفة لم تتغير عبرا آلآف السنين فلا عمل حرث الأرض ونشر البذور وانتظار موعد المطر ومن ثم جني الثمار وهذا ما حصل عبر الأجيال المتلاحقة فقد تطورت الآلة الزراعية  قليلاً وصنعوا محراث تسحبه عجلة بدل الحمار فبقيت الدولة فلاحيه قروية متخلفة صناعياً واجتماعياً.. لاحل للبطالة أيها الأخوة سوى التحول الجذري نحو الرأسمالية كما نرى مايحدث الآن من تقدم عجيب في الدول الصناعية الكبرى والصغرى.. بالمناسبة أن هذه السطور  يرفضها الموظفون وخاصة أصحاب الرواتب العالية من المدراء والموظفين بدرجاتهم المختلفة لأنهم ينعمون برواتب خيالية يستلمونها في نهاية الشهر رغماً على أنوف المعترضين الحانقين فهم لم يبذلوا إلاّ جهودٍ بسيطة غير مضنية مقابل رواتب ضخمة تجعلهم ينعمون العيش أمام باقي شرائح الشعب العاطلة عن العمل من الذين لم يجدوا فرصة عمل لهم في الشارع أو في دوائر الدولة المتخمة بالكثير من الموظفين الجالسين على تخوم العجز والكسل والإهمال وقصر في  الإنتاج  .

***

ماهر نصرت – بغداد

بقلم: سوران كيركجارد

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

1- " في الحاضر كلّ شيء ساكن، غير أنه ليس سكون شغف  يحقّ له الصخب الأكثر ضجّة. لا. كل شيء ساكن في المعنى الذي يقصده التاجر:" سوق الحبوب ساكن، لا يوجد أيّ طلب"؛ ساكن مثل قرية ريفية حيث يلفّ السكون المكان لأنّه لم يحدث فيها شيء يذكر ولا ننتظر أيّ أحد، بخلاف الأشياء المعتادة: الديك يصيح فوق المدخنة، والبطة تضرب بجناحيها الماء ودخان منتصف النهار يتصاعد من المدخنة، ويعود مارتن فراندزان إلى منزله على متن سيارته، وكل شيء في حركة إلى حين يغلق المُزارع بابه ويلقي نظراته على هدوء المساء، إذ لم يكن هناك هدوء من قبل.

ساكن ، ليس في معنى غريب مثلما نقول عن منزل يخفي مخزونه شيئا نخمّنه ، بل في معنى بورجوازي لمنزل حيث تهتمّ كل عائلة من العائلات الهادئة بشؤونها وحيث كلّ شيء أُنجز على نحو ما ينجز دوما؛ هادئ مثلما نقول عن " عامّة الشعب الهادئين"، الذين يتوجهون كل أسبوع إلى أعمالهم، ويقومون بحساباتهم، ويغلقون دكاكينهم ويقصدون يوم الأحد إلى " الكنيسة / الجامع".

كلّما فكّرت أكثر في هذا السكون، تغيّرت طبيعتي أكثر. لقد تخلّيت عن الأمل في قرار شغوف، وكل شيء يحدث بالتأكيد بهدوء. لكن يبدو هذا السكون، وهذه الثقة هي الزيف الأكثر مكرا للوجود. نعم، حينما يكون السكون عدما لا متناهيا، و يأخذ شكلا رحبا لهذا السبب تحديدا، لإمكانية محتوى لا متناه، نعم، حينئذ أحبّه، إذ هو إذن عنصر للفكر وأكثر ثراء من تغيّر الملوك و الأحداث التاريخية الكبرى.

لأجل ذلك أحبّك، يا سكون القبور؛ إذ الأموات ينامون و، مع ذلك فإنّ هذا السكون هو شكل الوعي الأبدي لأفعالهم!

لأجل ذلك أحبّك، يا سكون الليل، حيث تنفضح الطبيعة الأكثر حميميّة بوضوح في الأحاسيس أكثر ممّا تفصح عن نفسها بصخب في الحياة وحركة كلّ الأشياء.

لأجل ذلك أحبّك، يا سكون ساعة الخيالات في غرفتي حيث لا يحدّ أي نغم ولا أيّ صوت بَشَرِي لانهائية الفكر والأفكار، وحيث تروق كلمات بتراركا:

" ليس في موج البحر قَدْرًا من الحيوانات، ولم يشهد الليل أبدا  قدرا من النجوم على قبّة السماء، ولم  تأوي الغابة قدرا من العصافير، ولم يوجد قدر من الأعشاب في الحقول والمزارع أكثر ممّا لقلبي من الأفكار كل مساء!".

لأجل ذلك أحبّك، أيها السكون الوَقُور لِقَبْلِ المعركة، سواء كان سكون الدعاء الذي لا نلهج به، أو سكون كلمة الاحتشاد المهموسة، سكونك يعني أكثر من ضجيج المعركة!

لأجل ذلك أحبّك مرتجفا، يا سكون الصحراء ، أنت أكثر رعبا ممّا يحدث وممّا حدث!

لأجل ذلك أحبّك، يا سكون العزلة، أكثر ممّا هو رَحْبٌ، لأنّك لا نهائيّ!

ولكن هذا السكون النباتي، الذي يسحر الحياة الإنسانية، حيث الزمن يجيء ويمرّ ويمتلأ ببعض الأشياء بحيث لن ينقصه شيء، إذ كلّ الجداول تصبّ في البحر ولا يمكنها مع ذلك أن تملئ البحر اللانهائي، بل تتحدث عن شيء و آخر يمكنه ملء زمن البشر-، هذا السكون النباتي كما قلت ، هو غريب عن روحي. ومع ذلك ، يجب عليّ في الحاضر أن أحاول اعتياده. "

***

(سوران كيركجارد " سكون الليل"  مقتطفات من " خطوات على طريق الحياة" ( 1845).

......................

2- " لا يمكننا أن ننكر أن السر و الصمت لا يمنحان الإنسان عظمة فعلية، بالرغم من الدقة التي يقتضيها الظهور إيتيقيا. إذ هما من محدّدات للحياة الباطنية (...) وإذا ما ذهبت بعيدا، فسأصطدم بالمفارقة ، أي بالإلهي والشيطاني، إذ الصمت  هو هذا أو ذاك. ذلك أنّ الصمت هو فخّ شيطاني؛ يكون مخيفا بقدر ما نحتفظ به، لكن الصمت هو أيضا حالة حيث يعي الفرد بوحدته مع الألوهية".

***

(كيركجارد - أبراهام - (أ. س.ف 176  (3 الجزء  مقطع 150)

..................

soren Kierkegaard: Le calme de la nuit.

Extrait de: Etapes sur le chemin de la vie (1845).

A présent tout est calme, mais ce n’est pas un calme acquis par une passion ayant raison du vacarme le plus bruyant. Non, tout est calme dans le sens où le négociant dit : les céréales sont calmes, il n’y a aucune demande ; calme comme une ville de province où le calme règne parce qu’aucun événement n’y a lieu et qu’on ne s’attend à aucun, tandis que les choses habituelles arrivent : le coq chante sur le fumier, et le canard bat l’eau et la fumée de midi sort de la cheminée, et Morten Frandsen rentre chez lui dans sa voiture, et tout est en mouvement jusqu’à ce que le paysan ferme sa porte et jette ses regards sur la soirée calme, car avant ce n’était pas calme.

Calme, non pas en un sens fantaisiste comme on le dit d’une maison dont la réserve cache quelque chose qu’on devine, mais comme on le dit en un sens bourgeois d’une maison où les familles calmes font chacune ses propres affaires et où tout se fait comme cela s’est

toujours fait ; calme comme on le dit des « gens calmes du peuple », qui toute la semaine vaquent à leur métier, font leurs comptes, ferment la boutique et, le dimanche, vont à «l’église/mosquée».

Plus je pense à ce calme, plus ma nature se transforme. J’ai abandonné l’espoir d’une décision passionnée, tout se passera sans doute calmement. Mais ce calme, cette assurance me semble être la fausseté la plus insidieuse de l’existence. Oui, quand le calme est un néant infini, et que, précisément en raison de cela, il prend la forme spacieuse de la possibilité d’un contenu infini, oui, alors je l’aime, car alors il est un élément de l’esprit et plus riche que des changements de rois et que des grands événements historiques.

C’est pourquoi je t’aime, ô calme des tombes ; car les morts dorment et, pourtant, ce calme est la forme de la conscience éternelle de leurs actes !

C’est pourquoi je t’aime, ô calme de la nuit, où la nature la plus intime se trahit plus clairement en pressentiments que lorsqu’elle se proclame bruyamment dans la vie et le mouvement de toutes choses !

C’est pourquoi je t’aime, ô le calme de l’heure des revenants dans ma chambre où aucun son et aucune voix humaine ne limitent l’infini de l’esprit et des pensées, où conviennent les paroles de Pétrarque :

« La mer n’a pas autant d’animaux dans ses vagues, jamais la nuit n’a vu autant d’étoiles sur la voûte céleste, la forêt n’abrite pas autant d’oiseaux, il n’y a pas autant d’herbes aux champs et aux prés, que mon cœur a de pensées tous les soirs ! »

C’est pourquoi je t’aime, ô calme solennel d’avant la bataille, que ce soit celui de la prière qu’on ne prononce pas, ou celui du mot de ralliement qui est chuchoté, ton calme signifie plus que le vacarme de bataille !

C’est pourquoi je t’aime en frissonnant, ô calme du désert, tu es plus terrible que tout ce qui arrive et qui est arrivé !

C’est pourquoi je t’aime, ô calme de la solitude, plus que tout ce qui est vaste, parce que tu es infini !.

Mais ce calme végétatif, dans lequel la vie humaine est ensorcelée, où le temps arrive et le temps passe et se remplit de quelque chose de sorte qu’il n’y manque de rien, car tous les fleuves coulent dans la mer et ne peuvent pourtant pas remplir la mer infinie, mais parler de choses et d’autres peut remplir le temps des hommes, — ce calme végétatif, dis-je, est étranger à mon âme. Et pourtant, c’est avec lui qu’à présent je dois essayer de me familiariser.

#anthologia.blog.

………………..

"Malgré  la  rigueur  avec  laquelle  l’éthique  requiert  ainsi  la  manifestation,  on  ne  peut

cependant pas nier que le secret et le silence ne confèrent à l’homme une réelle grandeur,

et précisément parce qu’ils sont des déterminations de la vie intérieure [...] Si je vais plus

loin,  je  m’achoppe toujours  au  paradoxe, c’est-à-dire au divin et au démoniaque, car le

silence est l’un et l’autre. Le silence est le piège du démon; plus on le garde plus aussi il

est  redoutable,  mais  le  silence  est  aussi  un  état    l’Individu  prend  conscience  de  son

union avec la divinité."

(OC V 176 [III 150 sq.]) Abraham- Kierkegaard

(السياسة، ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه رسول ولا نزل به وحي). (1)... اين القيم الجوزيّة

يعد الفكر السياسيّ في سياقه العام، شكلاً من أشكال الوعي الأيديولوجيّ، هدفه وصول حوامله الاجتماعيّة إلى السلطة بمشروع أو بأجندة تعبر عن مصالح هذه الحوامل. أو هو تعبير عن النظم الاجتماعيّة بكل مستوياتها الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة، مهما تكن طبيعة وشكل الحكم السائد في هذا النظام الاجتماعيّ أو ذاك، ودرجة تطوره، والمشكلات التي يعانيها. وبالتالي فإن هدف الفكر السياسيّ في المحصلة، هو حل المشكلات التي يتعرض لها أي نظام  بكل مكوناته، وتحقيق تقدم ملموس في بنيته العامة.

ابتدأت الإرهاصات الأوليّة لتسييس العقيدة في تاريخ الخلافة الإسلاميّة مع قيام خلاف السقيفة أولاً، عندما أطلق القريشيون (المهاجرون) المجتمعون في السقيفة حديثاً للرسول يقول "(الخلافة في قريش)، وذلك لإبعاد الأنصار من الأوس والخزرج عن الخلافة بنص مقدس (الحديث). ثم راحت العقيدة الإسلاميّة تأخذ لبوساً سياسيّاً أيضاً  مع  الفتنة الأولى في الإسلام، أي مع احتجاج الكثير من المسلمين ضد سياسة عثمان بن عفان، حيث ظهرت هنا السبئية (نسبة إلى عبد الله بن سبأ)، وطرحها لمسألة (الوصيّة في ولاية علي بن أبي طالب)، أي اعتبار عليّاً هو خليفة رسول الله وبنص دينيّ أيضاً هو حديث الغدير: ("... من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار، اللهم هل بلغت ". رواه مسلم.

أما موقف الخوارج من الصراع الذي دار بين عليّ ومعاوية على الخلافة، فكان الأكثر بياناً ووضوحاً بالنسبة لأدلجة العقيدة وتسييسها، وذلك كون ما طرحه الخوارج بالنسبة لقضيّة الخلافة، كان يدعوا إلى فصل العقيدة عن القبيلة، بل راح الخوارج يسيسون العقيدة  ويعملون باسم العقيدة ضد القبيلة. فهم أول من طرح فكرة الحاكميّة لله، والحكم شورى، وأحقية الخلافة حتى لو كانت لعبد حبشي، وتمسك الخوارج بأن القرآن لم يذكر نسلاً معيناً يكون منه الإمام، بل اشترط العدل فقط في الحاكم، فيقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا.(58) سورة النساء. وقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا.). (59). سورة النساء. إن تمسك الخوارج بهذا النص المقدس جاء للخروج من صراع البيت القريشي على السلطة (صراع معاوية وعليّ) في صفين. ففي هذا الموقف الخوارجيّ من السياسية والعقيدة معاً، نجد وبكل وضوح كيف راح يتبلور الموقف الأيديولوجيّ للعقيدة، والعمل على توظيفها وفقاً لتفسير وتأويل النصوص المقدسة.

مع وصل معاوية إلى السلطة، ظهرت مسألة توظيف النص الجبري لخدمة الحاكم وحكمه العضوض، وهنا بدأ الموقف الأيديولوجيّ يوظف تماماً العقيدة لمصلحة السلطان، حيث راح يوظف الحديث  (الذي لم يأمر الرسول بكتابته) ويوضع  كنص مقدس، ومنها حديث الخلافة الذي يقول بأن الخلافة ستؤول لبني أميّة بعد ثلاثين عاماً: (الخلافة في أمتي ثلاثين عاماً، ثم تتحول إلى ملك عضوض). (رواه أبو داوود والترمذي. وذلك لتأكيد خلافة معاوية الذي حولها فعلاً إلى ملك عضوض من خلال تسليمه الخلافة لابنه يزيد، ضارباً بذلك فكرة الشورى. واعتبار الخلافة أمرً مقدراً من الله. وهذا ما قاله معاوية عندما خطب بأهل الكوفة : (يا أهل الكوفة:  أتروني  قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج وقد علمت أنكم تصلون وتحجون وتزكون؟. لكني قاتلتكم لأتمر عليكم وعلى رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وانتم كارهون).  ثم قال بصدد البيعة ليزيد: (إن أمر يزيد قضاء وقدر وليس للعباد الخيرة من أمرهم فيه.). (2).

أمام هذا المواقف السياسيّة الجبريّة من الخلافة. بدأت توظف العقيدة وتتبلور أكثر كموقف أيديولوجيّ سياسيّ، وهذا وجدناه مع الثورات المناوئة للحكم الأموي، حيث اتخذت الأيديولوجيا الدينيّة سلاحاً ضد الأموين، وخاصة مواقف الشيعة، (ثورة التوابين، والمختار الثقفي. وزيد بن علي) وغيرها، وتبنيهم للنص الديني ومحاولة تسييسه تفسيراً وتأويلاً لصالحهم ضد سلطة الأمويين.

مع الدولة العباسيّة، وظهور الموالي واختراقهم للسلطة بسبب اعتماد الخلفاء العباسيين عليهم، كالفرس والديلم والسلاجقة والبويهيين.. الخ. راحت تظهر هنا الفرق والمذاهب الدينيّة بطابع أيديولوجيّ، لدى السلطة الحاكمة، ولدى المعارضة معاً، ففي هذه المرحلة بدأت مسائل عقيديّة كثيرة تتبلور ويتخذ منها مواقف سياسيّة ويوضع لها الأصول على مستوى الفقه وعلم الكلام والفلسفة، كما أصل الشافعي للفقه السني ضداً بالبرامكة وفكرهم الشيعيّ، وجعفر الصادق للفقه الشيعيّ، وأبو حسن الأشعري للفكر السنيّ، وبناءً على هذا التأصيل ظهرت مذاهب الفقه السنييّة، والمذهب الجعفريّ الاثنا عشريّ، والفرق الكلاميّة كالأشاعرة والماتريديّة والمعتزلة، والطوائفيّة كالإسماعيليّة والعلويّة والكيسانيّة والموحدين والطرق الصوفيّة. فكل هذه الفرق والمذاهب والطوائف راحت تؤدلج العقيدة وتتحصن خلفها.

إذن نستطيع القول إن تحول العقيدة إلى أيديولوجيا سياسيّة، بدأ يأخذ أبعاده وعمق تجذره، بسببين اثنين أساسيين هما: السبب الأول: الموقف السياسيّ ممثلاً بالخلفاء الأمويين والعباسيين، الذين وظفوا الدين لمصالحهم، وخاصة الآيات والأحاديث التي تدعو إلى الجبر، وهنا راح هذا التوجه السياسي السلطوي يوجه رجالات الفقه وعلم الكلام لتأصيل المواقف الأيديولوجية في العقيدة فقهياً كما بينا أعلاه بالنسبة للشافعي وجعفر الصادق

أما السبب الثاني، فيمثل الموالي الذين دخلوا تحت راية الخلافة الإسلاميّة، والذين عانوا من التفرقة بينهم وبين العرب، وما لقوه من ظلم بسبب هذه التفرقة، حيث اعتبروا كرعايا من الدرجة الثانية والثالثة أمام العرب الذين حملوا رايّة الإسلام أثناء ما سمي بالفتوحات، وخاصة من بقي منهم في الكثير من الأمصار واستقر فيها وهم يعاملون كأسياد يعيشون على الغنيمة كمجندين، أو مجندين متقاعدين. وشكلوا ثروات طائلة وعاشوا عيشة ارستقراطية بروح قبليّة. أو بسبب مواقف شعوبيّة مناوئة للعرب ومحاولة النيل منهم ومن الدين الإسلاميّ ذاته الذي يعتز العرب بأنهم هم حملته ودعاته.

نقول: إن الموالي الذين نالهم الاضطهاد وشظف العيش  والتفرقة العنصريّة، رغم دخولهم في الإسلام، وجدوا في الدين الإسلاميّ مرتكزاً لهم من خلال تفسير النص المقدس وتأويله لمصالهم كما فعل قائد ثورة (الزنج) في القرن الرابع للهجرة عندما اتخذ من نص الآية التي تقول: (ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين). (سورة القصص الآية 5). وهذا حال الحركات الأخرى كالخرميّة والقرامطة والبابكيّة، فكلها اعتمدت على العقيدة وقامت بأدلجتها، بعد أن قام هؤلاء الموالي بإدخال الكثير من معتقداتهم الدينيّة القديمة التي كانوا عليها قبل دخولهم الإسلام.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة.

...........................

الهوامش :

1- ابن القيم الجوزيّة – الطرق الحكميّة في السياسة الشرعيّة – تحقيق محمد جميل غازي- مكتبة المدني – 1977- ص 17.

2- (الجابري العقل السياسي. ص 260). 

إن تحول العقيدة إلى أيديولوجيا سياسيّة، بدأ يأخذ أبعاده وعمق تجذره، بسببين اثنين أساسيين هما: السبب الأول: الموقف السياسيّ ممثلاً بالخلفاء الأمويين والعباسيين، الذين وظفوا الدين لمصالحهم، وخاصة الآيات والأحاديث التي تدعو إلى الجبر،

في حديث لبرنامج «60 دقيقة» على قناة «CBS»، قال ساندر بيشاي، رئيس شركة «غوغل» الشهيرة، أن انتشار الذكاء الصناعي ينذر بتحديات جديدة، تستدعي حلولاً أخلاقية واجتماعية، ولهذا السبب فهو يدعو الفلاسفة لأخذ دورهم في هذا المجال، وعدم إلقاء المسؤولية على رجال الأعمال أو المهندسين وحدهم.

يثير اهتمامي أن عدداً متزايداً من العلماء والباحثين يوجه اهتمامه إلى الانعكاسات الثقافية للذكاء الصناعي. كنت قد قرأت في أول الأمر عن اهتمام وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر بالموضوع. وكيسنجر مفكر قبل أن يكون سياسياً، وقد بلغ الآن 99 عاماً (مواليد 1923م)، وقد أصدر في أواخر 2021 كتاب «عصر الذكاء الصناعي ومستقبل البشرية-The Age of AI and Our Human Future» بالتعاون مع إريك شميت، الرئيس السابق لشركة «غوغل»، والبروفسور دانييل هتنلوكر، الأستاذ بـ«معهد ماساتشوستس للتقنية– MIT»، والكتاب مكرس للموضوع المذكور أعلاه، وعنوانه يكفي للدلالة على محتواه.

وفي الشهر الماضي كتب المفكر المعروف نعوم تشومسكي مقالاً خصصه للحديث عن إطلاق منصة «تشات جي بي تي»، وهي محرك بحث يعتمد أدوات الذكاء الصناعي. وكان إطلاقها قد أثار ضجة كبيرة في شرق العالم وغربه؛ حيث قدمت نموذجاً أولياً لما يمكن أن يؤول إليه الذكاء الصناعي، ومدى ما يمكن أن يُحدثه من انعكاسات.

قبل هذا وذاك، كان المفكر الأميركي- الإسباني، مانويل كاستلز، قد كتب بالتفصيل عن التحول المنتظر في القيم والعلاقات الاجتماعية والثقافة، بعد قيام ما سمَّاه مجتمع الشبكة، أي نظم العلاقات والتواصل المعتمدة تماماً على الإنترنت، ونبَّه يومها إلى عالم جديد يوشك على النهوض.

نحن ندرك الآن التحول الهائل الذي أثمر عنه توسع الإنترنت، في الثقافة والأعمال وأنماط المعيشة والتعليم والهوية، وفي كل جانب آخر من جوانب الحياة، وصولاً إلى الحرب. إن عالم ما بعد الإنترنت لا يشبه ما عرفناه في القرن الماضي إلا قليلاً.

لا يعتقد تشومسكي أن الذكاء الصناعي سيحتل مكانة الإنسان أو يستعبده، كما يقول الخائفون. لن يمكن للآلة أن تسبق الإنسان في صناعة الفكرة، حتى لو سبقته في معالجة المعطيات. التفكير ليس فقط تقديم إجابات معروفة سلفاً، أو قابلة للاكتشاف بناء على المعطيات المتوفرة، وهذا ما تفعله الآلة. التفكير يبدأ من إعادة تركيب السؤال وإعادة تحديد المشكلة التي يطرحها، وقد يتضمن خلق احتمالات لم تكن موجودة قبل ذلك. وهذا ما يتجاوز قدرات الآلة. وبالتالي فإن الخوف من إلغاء العقل الإنساني لا مبرر له.

لكن كيسنجر وزملاءه يلفتون أنظارنا إلى مشكلة مختلفة نوعاً ما، هي ذاتها التي يشير إليها مدير شركة «غوغل»، وهي التي تحدث عنها أيضاً كاستلز: الذكاء الصناعي سيأتي بعالم مختلف في أسواقه، في مدارسه ومناهج تعليمه، وعلاقات الأفراد الذين يعيشون فيه. إذا أردت مقارنة شبيهة، فارجع خمسين عاماً إلى الوراء، أي إلى 1973، وقارن وضع العالم والحياة يومئذ بنظيره في 2023. هكذا ستكون المقارنة بين يومنا واليوم التالي لهيمنة الذكاء الصناعي.

هذا التحول سيخرج ملايين من البشر من دائرة النشاط الاقتصادي، كما سيغير بعمق في العلاقات الاجتماعية وفي منظومات القيم الحاكمة. نتحدث إذن عن تحول في المفاهيم والثقافة وسبل العيش، وليس فقط في التطبيقات. وهذا ما دعا ساندر بيشاي، مدير شركة «غوغل» لإلقاء الكرة في ملعب الفلاسفة وعلماء الإنسانيات: أن صياغة العهد الجديد ليست مهمة المهندسين ورجال الأعمال وحدهم، وليست -بالطبع- مهمة السياسيين وحدهم.

***

د. توفيق السيف - كاتب ومفكر سعودي

تاريخياً في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ظهرت الطبقة االبُرجوازية [١] وهي الطبقة المسيطرة والحاكمة في المجتمع الرأسمالي، وهي طبقة غير منتجة لكن تعيش من فائض قيمة عمل العمال، حيث أن البرجوازيين هم الطبقة المسيطرة على وسائل الإنتاج حتى قامت الثورة الفرنسية كأول ثورة شيوعية كبرى للعمال والفلاحين ونجحت بعدة عوامل بالإطاحة بالنبلاء والأرستقراطيين وأنهت الطبقية الجائرة وتقسيم المجتمع إلى فئات لها الحق في العيش بكرامة وأخرى مسلوبة منها.لن أدخل في تعقيدات أسباب سقوط الشيوعية وعودة الرأسمالية ومابعدها من نظم إقتصادية سياسية لأني لست منظّرة في هذا المجال حديثي هو مجرد نظرة تأملية لواقعنا والأبعاد المترتبة على هذا الموضوع

هل عادت البرجوازية في العصر الحديث؟

هنا أستطيع القول أن البرجوازية الحديثة عادت بصورة مغايرة عن الماضي حيث أن برجوازيين العصر الحديث لم يعودو يملكون وسائل الإنتاج والحقوق المدنية على حساب الطبقة العاملة بالمعنى الحرفي للكلمة فلم يعد هناك برجوازي يمتلك قطعة أرض مثلاً وعبيداً يشتغلون بالحقول بلا رحمة لزيادة الإنتاج.

برجوازيين العصر الحديث الآن طبقة مازالت غير منتجة تمتلك رؤوس الأموال  وتتحكم بشكل مباشر في الطبقية الإجتماعية بدلاً من سبل الإنتاج وتقسيم الناس بناءً على معايير سخيفة شديدة السطحية لا علاقة لها بالتربية أو المكانة او الإنتاج الفكري والبعد الأخلاقي قدر مالها من علاقة بالرصيد البنكي وحجم الممتلكات والعقارات والبذخ في السفر والشراء والحفلات والسهرات.

لكن ماهو أسوأ من البرجوازيين الفعليين هم برحوازيين الطبقة المتوسطة والفقيرة أشخاص يستدينون مبالغ طائلة أو قروضاً ضخمة لشراء شنطة او ساعة او سيارة ويقضون بقية حياتهم بسداد تلك الديون بغية الدخول عنوة في المجتمع المخملي والسعي المضني للإنتماء لطبقة معينة لاتملك قيمة عليا في شيء سوى المال وحينما يصبح المال والغنى الفاحش مسعى ينتشر الفساد والنفعية ونرى مع الوقت أبشع صور الرأسمالية. في التجمعات النسائية على سبيل المثال تشكّل هذه الرغبة الملّحة للظهور بالصورة الغنية المترفة ضغطاً إجتماعياً كبيراً مما يجعل الخروج في سهرة أو عزومة مرهق نفسياً ومادياًّ للواتي يعبدن المظاهرالأمر المحزن هو أن معايير (البرجوازية ) لايمكن أن تتناسب مع دخلهن المادي مهما بذلن من مال مما يدفعهن إما لشراء التقليد أو ماركات الدرجة الثانية أو الكذب والحرج الشديد من الإفصاح عن سعر الملابس أو علامتها التجارية.

أنا لا أعترض على شراء الماركات العالمية لكن إعتراضي هو أن لاتتجاوز نسبة شراء شيء ما ٥٪؜ من الدخل الشهري كلٌ حسب ظروفه المادية سواء كانت ماركة عالمية أم لا وأن يعكس الناس مستواهم المادي والمعيشي دون حرج أو نبذ أو تقزيم أما أن أقترض مبلغ من البنك لشراء شنطة أو ساعة بأقساط كبيرة فهذه الحماقة بعينها، عدا عن حقيقة أن مهما بذل أصحاب الطبقة المتوسطة من جهد كبير بمجاراة البرجوازيين سوف يظلون طبقة متوسطة بنظرهم ويدرجون تحت (low class).

محزن أن نرى هذه الطبقية والتقسيم والعنصرية المقيتة في المجتمع وضيق النظرة للآخرين بوصفهم (راقيين) لمجرد أنهم أغنياء ولاشيء آخر حتى بغض النظر عن مصادر هذا الغنى والترف التي ستؤدي إلى إنحدار في مستوى الوعي والقيم الإنسانية والأخلاقية.

المال والملابس والماركات لن تجعل من الإنسان شخصاً راقياً بل هو السلوك والوعي والإنتاج الفكري والمعرفي، هو العمل بشرف ونزاهه والعصامية والمسؤولية والإنسانية.

القيمة الحقيقية والجمالية للأشياء نحن من نضيفها فلا نجعل مانرتديه يرتدينا ويشل تفكيرنا ويعمي بصائرنا.

وبالمناسبة شخصياً أجد أن كل من يتمسك بهذه المفاهيم الحمقاء ويردد كلمات طبقية هم الأكثر بربرية وكثيراً ما واجهت صعوبة بالتواجد معهم بالأماكن العامة بسبب سوء سلوكهم وإستعلائهم عالآخرين

***

لمى ابوالنجا

مراجع

[١] المعجم المدرسيّ: محمد خير أبو حرب (1985)، المعجم المدرسي، مراجعة: ندوة النوري (ط. 1)، دمشق: وزارة التربية، ص. 138، OCLC 1136027329، ويكي بيانات Q116176016

عانت الكتابة الابداعية في العراق ازمة حقيقية في زمن حكم القوميين عام 1963، ثم عندما سيطر البعثيين على الحكم عام 1963 ولغاية 2003، وما خاضه البلد من حروب عبثية مرهقة ومتعبة، وقد ادرك النظام خطر الكتابة، لذلك اهتم بمنصب الرقيب، الذي يتابع ما يكتب ويدرك ما يهدف له الكاتب من كلماته، لذلك تكون جيش من الأدباء المقربين للسلطة الذين يمارسون دور الرقيب على باقي ادباء البلد لتمحيص نتاجهم وشرح بواطن ما يقصدون من رسائلهم الادبية، فكان خير اسلوب للتضييق على الادباء، بل انهم استغلوا قربهم من الأدباء الوشاية بهم، حتى دفع بالعديد الى مقصلة البعث.

فكان الرقيب الاديب المقرب من السلطة يجتهد في كشف دلالات النص، في سعي لحماية النظام من أي معارضة ممكنة حتى لو كانت مجرد نص أدبي.

مع هذا فإن هنالك العديد من نصوص نشرت خارج العراق، ولم يكن للرقيب اي سلطة، ولم يكن في مقدرته إصدار احكام بحقها، لأنه إذا فعل ذلك اصبح مكشوفا من دون قناع، وتلصق به تهمة (شرطي الثقافة).

شبح الرقيب المخيف

كان شبح الرقيب يلاحق الادباء، لذلك كانوا يقومون بمراجعة نصوصهم مرارا خوفا أن يفهم من كلمة ما انها ضد سلطة صدام! ويذهب بالاديب الى السجون السرية حيث التعذيب الذي لم يعرفه تاريخ الاجرام يبدأ بخلع الأظافر والأسنان وتنتهي باغتصاب الأدباء ليقضوا على فحولتهم ويتحولون الى شيء نكرة لا معنى من وجوده.

وقد سعى بعض الكتاب للتحايل على الرقيب بما يملكونه من شجاعة وفطنة، فنشرت ومرت من دون أن ينتبه لها الرقيب.

اتذكر احد الكتاب كنت قصة قصيرة عن الديناصور وعائلته القذرة بسرد أدبي ممتع، ونشرت في الصحف الرسمية للسلطة، وفاتها ان الكاتب كان يقصد راس السلطة وعائلته القذرة، لكنه التحايل والاسقاطات التي جعلت النقد ممكن ويمر وينشر، لكنها كانت مجازفة قد تدفع بالكاتب الى حبل المشنقة، وليس وحده بل هو وعائلته وكل من يعرفه بتهمة محاولة قلب النظام.

البعث وثقافة الرعب

يمكن القول أنه لم يكن هناك كيان رقابي واضح المعالم كمؤسسة ، لكن كان هنالك امور تجري بالخفاء، واخبار الاعتقالات والاعدامات لا تتوقف بحق كل من يكتب ضد السلطة، حتى أصبح الكاتب هو الرقيب على نفسه من شدة الهلع الذي يعيشه البلد تحت سطوة الطاغية صدام وزبانيته.

بل حتى التحايل الذي كان يظنه الكاتب نوع من المجازفة، أصبح أسلوبا يخدم النظام، حتى اختفى النقد الواضح والحديث عن مشاكل الامة، فتحول بعض الكاتب الى مسخ، لان اهم مهام الكاتب ان يعبر عن مجتمعه وهموم الناس لا ان يكتب عن عوالم خيالية وعن مناطق بعيد هربا من ملاحقة الرقيب! 

الكتابة الحرة

كان بعض الكتاب يمارسون العمل السري، حيث تتم طباعة نصوصهم بشكل محدود وبمطابع بدائية وعن طريق استنساخ الكتابة، ويتم توزيعه بالسر على أهل الثقة، كان عملا بطوليا في زمن الحديد والنار، القلة من الكتاب من فعلها، مع ان الهلع من الرقيب كان يطاردهم، لكنهم ينشرون خارج نطاق  مؤسسات الدولة من صحف ومجلات، أي نتاجهم في نطاق محدود.

وقد يسأل سائل: في ظل نظام قمعي رهيب ما جدوى الكتابة؟ والجواب أن الكتابة نوع من المقاومة، وبث روح الشجاعة في الامة، وتوثيق جرائم الطغاة، وكشف أساليبهم في تقييد الأمة ومنع الحرية.

ويجب ان نوثق لكل كاتب ضحى بروحه في سبيل ايصال الحقيقة للامة، ان يتم تكريم الكتاب الشهداء، الذين لم يسكتوا وحاولوا فضح النظام بكتابات واضحة وصريحة، ولم يرهبهم الرقيب ولا اجهزة النظام القمعية، بل كان كل همهم ان تصل رسائلهم للجماهير.

محنة الكاتب المهاجر

الكثير من الكتاب المهاجرين في زمن النظام البعثي كانوا يخشون الرقيب! مع انهم بعدين عن اسوار الوطن، لان الكاتب يخاف أن يكتب نقدا للنظام الحاكم، ليكون السبب في  اذى اهله واقاربه واصدقائه، لذلك يلتزم الكاتب المهاجر في عدم المساس بالنظام الدكتاتوري لحماية احبته داخل اسوار الوطن، فهنا شبح الرقيب يلاحق الكاتب حتى وهو بعيد عن الوطن.

بالاضافة الى ان النظام اشترى عديد المؤسسات الاعلامية العربية ووضع لائحة الممنوعين من النشر، فلا يجد الكاتب المهاجر من ينشر له او يهتم به.

فاصبح الكاتب المهاجر وهو في أرض الغربة ويعاني من الرقيب الحكومي.

شبح الرقيب ما بعد 2003

الان هاجس الرقيب مازال يلاحق الكتاب، والرقيب اليوم يمثل الديناصورات التي نمت وكبرت وتحولت إلى اله تعبد، فأي مساس بها يعتبر من الذنوب الكبيرة، و مصير من يتجاوز اي خط احمر القتل، لذلك الكاتب عاد لمحاولات التحايل على الرقيب، والكتابة عن اي شيء بعيد عن جنة الديناصورات، لذلك مازال الكاتب العراقي (داخل الوطن وخارجه) يعيش نفس المحنة، ولا يمكنه الخروج من الشرنقة، الرقيب الذي يتابع ما يكتب، والجيوش التي تلاحق كل متجاوز على ذات الالة المصطنعة.

ولا نعلم متى يتحرر الكاتب العراقي من شبح الرقيب ليكتب كل شيء بحرية تامة بعيدا من الخوف والقلق الذي يعيشه.

***

الكاتب: اسعد عبدالله عبدعلي

لم يعد ممكنا انتظار معجزة من نخب هشة منقسمة على نفسها، لم تستطع لحد الآن أن تتفق على الحد الأدني الذي يمكنها من أن تكون قوة رمزية فاعلة تستمع لها السلطة، وتأخذ بآرائها وتعود إليها لجس نبض الشارع والمجتمع الذي تدعي أنها تمثله وتنوب عنه في التفكير في المسائل والقضايا الثقافية والإجتماعية والتاريخية، خصوصا بعد الفراغ الذي عرفه الفضاء الثقافي والإجتماعي والسياسي في جزائر الديمقراطية والتعددية ولو في شكلها الواجهاتي .

أو تتخذ منها شريكا ثقافيا مهما يقدم رؤيته النقدية  للسياسة الثقافية الكفيلة بإخراج الفعل الثقافي المدني الجزائري من وضعه النمطي البائس إلى رحابة الإنفتاح الثقافي على محتلف الحساسيات الثقافية والأدبية، المشكلة للتنوع الثقافي الجزائري بمرجعياته المختلفة في إطار الوحدة الوطنية، قبل الشروع في المساهمة في تقديم مقترحاتها بشأن بنود المشروع الثقافي الوطني الذي لم ينجز منذ إستعادة السيادة الوطنية سنة 1962 .

بعيدا عن بعض أشكال الشراكة الثقافية بين المثقف والمؤسسة الثقافية الرسمية الشراكة السلبية التي تمثلها بعض مشتقات السلطة الجمعوية وشبه المدنية في تكتلاتها الفئوية والثقافية وآفاقها المحدودة النظر والرؤية.

منذ تشتت ما كان يسمى بالمدرسة السوسيولوجية الجزائرية بفعل الهجرة إلى دول عربية وأخرى غربية، أو الموت التي مثلها علي الكنز وعمار بلحسن وهواري عدي وجيلالي اليابس ومحمد بوخبزة وعبد القادر جغلول  التي تكونت وتشكل مسارها الفكري والمعرفي في أفق اليسار الجامعي الجزائري في نهاية الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم .

المنشغلة آنذاك بما كان يسمى المسألة الثقافية في الجزائر من المنظور السوسيو ثقافي، وعدم انبثاق نخبة أخرى بديلة عنها تستلم منها المشعل وتواصل المسيرة .

يحدث كل هذا في ظل استحداث ما أصبح يسمى في أقسام العلوم الإجتماعية بعلم الإجتماع الديني لتزييف حقل العلوم الإجتماعية المصدر الأساسي لفهم الحراك الإجتماعي الشعبي والإنتباه لدبيب وإنصهار المثقف النقدي في قلب وهموم الطبقات الإجتماعية خاصة منها الفقيرة أو المتوسطة الدخل .

علما أن إفرازات العلوم الإجتماعية هي كلها إفرازات ماركسية، ولا علاقة للرؤية الدينية بها وتاريخ الشعوب مثلما يقول ماركس هو" تاريخ الطبقات والصراع الدائر بينها "

من هنا يتبين الهدف الذي من أجله لجأت النخب الحاكمة في البلدان العربية إلى إستحداث ما يسمى بعلم الإجتماع الديني في الجامعات العربية، لإفراغ العلوم الإجتماعية من جدواها وفاعليتها وثوريتها في تماسها مع صيرورة المجتمع وتحولاته المفصلية على الأصعدة الإجتماعية والمهنية والسياسية وتحول المثقف النقدي إلى مجرد موظف يؤدي خدمة مهنية ليس إلا ..

هذا ما يؤكده الواقع وقد سبق للسوسيولوجي الجزائري عبد القادرجغلول أن نبه لعدم وجود إنتلجانسيا أو نخبة مثقفة بالمعنى الصحيح، وكل ماهو موجود في نظره "مجرد سديم ضبابي يتشكل من مجموعة من الأفراد بدون أي نسيج فكري أو ثقافي يربط بينهم" .

وبالتالي خلو الجزائر الثقافية والجامعية من " مثقفين عضويين" بالمعنى الغرمشوي للكلمة نسبة إلى أنطونيو غرمشي المفكر الماركسي الذي أعدمته الفاشية الإيطالية التي مثل لها غرامشي إزعاجا كبيرا، وهو الذي كان يهدف من وراء نحته لمفهوم " المثقف العضوي " على ما يرى المفكرالفلسطيني البارز أدوارد سعيد في كتابه (الآلهة التي تفشل دائما) " إلى بناء ليس فقط حركة إجتماعية بل تشكيلة ثقافية مرتبطة بهذه الحركة " .

وعليه ليس غريبا أبدا أن يستشرف مفكر بارز بحجم علي حرب في كتابه الشهير (أوهام النخبة أو نقد المثقف العربي ) ما سماه " بنهاية المثقف "، بعد أن لاحظ عدم جدوى أي دور للمثقف العربي وفشله الذريع في أداء الرسالة التي يتوهم أنه حاملا لها لتنوير الجماهير والنيابة عنهم في التفكير والتدبر،  يستوي في ذلك عنده الإسلاميون والعلمانيون واليساريون والقوميون وغيرهم.

والدليل على ذلك أن ما يعرف بثورات "الربيع العربي" بصرف النظر عن القوى المدعومة من طرف الإمبرياليات الغربية التي كانت تقف وراءها وموقف البعض منها أشعل شرارتها الأولى صاحب عربة لبيع الخضر والفواكه هو " البوعزيزي " وليس أركون ولا الجابري ولا أدوارد سعيد ولا عبد الكبير الخطيبي ولا نصر حامد أبوزيد .

وهم الذين غادروا الحياة قبل أن تحدث، على ما يستنتج ذلك الروائي الجزائري الخير شوار في مقال صحفي كان قد كتبه منذ سنوات، فكل هؤلاء لم يستطيعوا إحداث ثغرة في بنية المجتمع العربي بالرغم من الأهمية الكبيرة لمشاريعهم الفكرية في جانبها التحرري من الوعي العربي القائم .

ولذلك يدعوا علي حرب إلى محاولة التخلص من "أوهام النخبة " لإرتباطها بالنهاية الحتمية للمثقف الأمر الذي جعل علي حرب يتعرض لحملة إدانة واسعة وبعض ردود الأفعال المجانية والمتنشنجة .

فهناك من إعتبره نوع من الإستسلام والخضوع وتراجعا عن الدور المنوط بالمثقف، فيما هو شكل من أشكال "النقد الذاتي" الذي لا يزال المثقف العربي بعيدا عنه ويتهيب من طرحه لأنه يطال الذات العربية التي كان يرى محمد عابد الجابري أنها على الصعيد النفسي " لاتقبل النقد إلا في صورة مدح أو هجاء " .

لقد كان صعبا على المثقف العربي المستسلم لثقافة الوثوق الأعمى وللأوهام التي عششت في ذهنه ومخياله بسبب بعده واغترابه عن روح وجوهر " النقد الذاتي " وإعتبار ذاته بعيدة عن نقد الأنا، إن لم يكن يرى نفسه فوق النقد وفوق التاريخ أن يقبل بنوع من التفكيك والمساءلة الصادمة " لوعيه الشقي " بمفهوم عالم النفس الشهير جان بياجيه .

الوعي الذي لا يبدوا أنه سيمكننا من الإجابة عن ذلك السؤال المهم

وهو من يحرر المثقف...؟ .

***

قلولي بن ساعد / كاتب وناقد جزائري

.... أصبحت الكتابة عند كبار السن بشكل ٍ خاص رمزاً لوجودهم وتفاعلهم ، فهي الأمل الذي يصيب نفوسهم ويمنحهم دفعة جديدة نحو مواصلة التفاعل الإنساني ومن ثم ولادة رغبة متجددة لديهم في تقديم الإنتاج الذي ينطلق من أفكارهم على مدى الأيام... أن الكاتب الذي تحضى مقالاته بالنشر في الصحف والمجلات وعلى منصات التواصل الاجتماعي بشكلٍ مستمر يشعر بحضوره المتواصل في الوسط الكوني حتى وان كان مقعداً في بيته أو من الذين فرضت عليهم الظروف السيئة في معركة الحياة الانعزال وراء جدران إقاماتهم وصار عدم مقدرتهم على الاختلاط والتعايش مع الآخرين لأسباب كثيرة أولها اختفاء المنتديات الاجتماعية التي تمنحهم فرص اللقاء والتعارف وتبادل الحديث والأفكار مع الآخرين وخاصة مع الطبقة المثقفة لكي يتم من خلال تلك اللقاءآت تفريغ ماتراكم لديهم على مدى الأيام من شحنات ثقافية تحتشد في أنفاق الفكر وقد تتسبب في حال انحباسها الى اضطراب النفوس أو حتى جنونها بسبب تفاعلها وكبوتها هناك فهي تريد الانطلاق من انفاقها والتحرر لتريح صاحبها وتصيب اضطرابه النفسي بالسكون...

هناك رغبة فطرية لدى الإنسان السليم تميل دوماً إلى حب التعايش والاختلاط مع الآخرين ورفضه الانعزال والتقوقع منفرداً في ثنايا إقامته إلاّ اذا كان مصاباً بمرض التوحد أو مرض نفسي آخر مثل الفوبيا أو مايسمى (الخوف من المجهول) فقد تفرض عليه حالة (العقدة النفسية) الابتعاد عن أبناء جنسه والعيش وحيداً منعزلاً بشكلٍ يدعو الى الشفقة ، إن الكتابة هي الوسيلة التي يعملون من خلالها هولاء الثائرون على التحرر من ضائقة النفس ولوعة الوحدة وفي منظورهم ايضاً هي عملية تحدي دائمة للظروف الصعبة التي تصيب الضعفاء منهم على وجه الخصوص فلا حول ولا قوة لهم في معالجة مشاكلهم المتفاقمة إلاّ من خلال صرير أقلامهم كما يعتقد البعض منهم فهم يرون في كلماتهم سلاحاً للوقوف بحزمٍ وثبات أمام أعبائهم فيتصدون من خلال مقالاتهم اللاذعة إلى مشاكلهم بعزيمة لم يألفوها الا من خلال تلك الكتابات التي تخطها أقلامهم بالتوافق طبعاً مع رغباتهم وتطلعاتهم ومن الممكن أن يشعروا في النهاية بأن مقالاتهم التي ظهرت للعلن  قد نصرتهم على ضعفهم وظهروا أمام مجتمعاتهم بمظهر القوة والاقتدار أو الحضور الفاعل أمام الوجود على أقل تقدير .

ومنهم من يعتقد بأن الكتابة هي استعراض للعضلات الفكرية التي يحاولوا أن يثبتوا من خلالها إنهم مازالوا يمتلكون الإرادة في فرض الرأي وتوجيه النصائح الابوية إلى الآخرين وان كانوا كبار في السن عاجزون منعزلون في بيوتهم لا شغل لهم ولا مشغلة سوى انتظار أجلهم المحتوم.

نرى بان الكتابة من قبل هؤلاء الأفاضل هو عمل رائع يضيف إليهم سعادة غامرة وارتياح نفسي عميق وتساهم ايضاً في إطفاء نيران أعماقهم الناقدة المستعرة على الدوام.

إن الواجب الإنساني يفرض على أصحاب الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية أن يتقبلوا مقالاتهم ويعملوا على نشرها بجهد الإمكان لإضافة لمسة من السعادة والسمو والسكينة على عواطف أولئك الشيوخ الثائرون المرابطون في مساكنهم ليل نهار هذا بالإضافة إلى أنهم أصحاب خبرة عميقة وسط هذه الحياة المعقدة ولديهم تجارب كثيرة هنا وهناك  ومن الممكن أن نجد تلك التجارب والعبر قد هبطت من عقولهم لتستقر في مقالاتهم ، لذا نرى أن كتابات الأكثرية منهم مثمرة إلى حدٍ ما وتفيض بالمعلومات القيمة  والدروس المتقدمة هذا وللحديث بقية......

***

ماهر نصرت

في صباح عيد الفطر، أول أمس، السبت 22 / 4 / 2023م وبينما نكبر ونهلل في صلاة العيد، فوجئت بموت أعز حبيب وأوفي صديق، ألا وهو الأستاذ الدّكتور" ظريف حسين مصطفى أحمد حسين (أستاذ الفلسفة المعاصرة بكلية الآداب جامعة الزقازيق بجمهورية مصر العربية).. صمتّ وحدي عندما قرأت الخبر الفاجع على صفحة الأستاذ الدكتور حسن حماد (أستاذ الفلسفة  الحديثة والمعاصرة وعميد آداب الزقازيق السابق).. تعطّلت قواي، عادت بي الذّاكرة إلى مواقف كثيرة لا تنسى.. تذكّرت مقولة للإمام عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول فيها: "أكره الحق، وأهرب من رحمة الله، وأصلي دون وضوء! فسئل: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أكره الموت وهو حق، وأهرب من المطر وهو رحمة من الله، وأصلي على الرّسول دون وضوء."..  ووالله إنّ الموت مكروه مع أنّه حقّ على الأحياء كلهم، خصوصا إذا ما اختطف إنساناً أخاً وصديقاً وفيّا كالدّكتور " ظريف حسين " الذي ينضح حبّا إنسانيّا قلّ مثيله. رحل الإنسان النّقيّ الذي لم يحمل ضغينة لأحد كما اعتقد، رحل ليترك غصّة في قلب من عرفوه كلهم، فو الله إنّ العين لتدمع وإن القلب ليحزن، "وإنّا لفراقك يا ظريف لمحزونون".

أما أن ترحل قامة علمية مثل الدكتور "ظريف حسين"، دون كلمة رثاء في الإعلام المصري والعربي، فتلك علامة من علامات التردي، ودليل من أدلة الرداءة والعشوائية، فهذا الرجل كان من أولئك الرجال الذين يعيشون وفق ما يكتبون، ويظهرون ما يضمرون، ويعملون بما يؤمنون، فهو في نظري من النماذج الكبرى من أستاذ الفلسفة المعاصرة العملاق، حيث كنت واحدا من متابعيه عن كثب في كل ما يكتبه أو يخطه من منشورات ومقالات على صفحات الجرائد والفيس بوك، وفي كل مرة كان يثير انتباهي أسلوبه النقدي الحاد وتعبيراته الصادمة التي يمكن أن يلاحظها أي قارئ لكتبه ومقالاته.

واسمحوا لي أن استعرض الأبعاد والمعالم الرئيسة لمشروع ظريف حسين الإبداعي الفلسفي وأيضا انتاجه الشعري، ونبدأ بالفلسفة عند ظريف حسين، حيث كان دائما يقول بأن الفلسفة تمثل الفقه العام للواقع، ففيها يحيا الوعي من أجل الواقع، وهو ليس فقط وعيا موجها للواقع كما في حالة الفلسفات التصورات النظرية،وموجها إلى نفسه كما في حالة الاستبطان النفسي، فالفلسفة الحقيقية كما يراها ظريف حسين هي كل رؤية تدعم الحياة وتوجهها في الاتجاه الصحيح وتمنحها القوة والتجدد في السياق العام للحياة الإنسانية على مستوي العالم، ولذلك فإن الحقائق في نظر ظريف حسين تقاس بالعلم، وبقدرتها على نفخ الروح فينا بجعلنا قادرين لا على مجرد المواكبة، بل على المنافسة الحقيقية، وليس بالأيدولوجيات وادعاء التدين ولا الشعارات.

ويرتكز المنهج الفلسفي العام عند ظريف حسين على السلوكية التجريبية، ولكنه في تناوله للمشكلات الجزئية فقد كان يتبني جملة من المناهج الموثوقة في العلوم الإنسانية، ولذلك يعد منهج ظريف حسين شاملا وليس أحاديا أو جزئيا، ذلك أن المنهج الأحادي مناسب فقط للروئ الجزئية.

وعلاوة على ذلك فإن أساليب ظريف حسين في الكتابة الفلسفية نقدية حادة، وتعابيره صادمة، وقد حاول في كتاباته أن ينقل البحث في الفلسفة من مجرد التعريف العام بها أو الحديث الخطابي عنها إلى مستوى دراستها دراسة موضوعية، وكان رحمه الله في ذلك صادماً إلى أبعد حد، فالمشكلات الواقعية، وليس النصوص فقط هي مادة التحليل الأولى، ومضمونها هو أساس التقييم، وهدف ظريف حسين النهائي كان هو اقتراح الحل على أسس علمية، أو تبريرات عقلانية،وليس على مجرد تصورات جدلية تزيد المشكلات تعقيدا.

ومن ناحية أخرى فإن كتابات ظريف حسين تنتمي إلى بصفة عامة إلى نمط الكتابة ما بعد الحداثية ؛ أي الكتابة غير النسقية، وهي كتابة لا تتقيد ببناء محدد، أو خط سير معين، وإنما تمضي في كل اتجاه بحسب الحاجة والضرورة التي تفرضها المناسبات والقضايا الحياتية، ولكنها مع ذلك تخدم رؤية واحدة بشأن أعباء الحياة بوصفها رسالة لخدمة الإنسان والمجتمع والوطن وذلك كما أوضح في كتابه الفلسفة الأخيرة.

ولقد وفق ظريف حسين إلى رؤية واضحة عن تطور تاريخ الوعي الفلسفي عامة، والفكر العربي المعاصر بصفة خاصة، والحق يقال بأن ظريف حسين من نوع المفكرين الذين لا يعترفون بالحلول الجاهزة، ولا الإجابات المسبقة، ولا يؤمن بالمطلقات الإنسانية، أو الدوائر المغلقة للفكر.

ورغم أن مقدماته لكتب الاكاديمية تعد بمثابة دراسات تحما رؤئ متعمقة بمناسبات الموضوعات المبحوثة، فإنها كلها تخدم فكرة واحدة،مؤداها أن كل الفلسفات جزئية لأنها ترى الأشياء من موقف أحادي، وبذلك فهي في نظر ظريف حسين منحازة، وضيقة الأفق ومتزمتة، والحق يقال أن ظريف حسين رحمه الله  كان يرى أن الحياة أكبر من كل الفلسفات، وليس معني ذلك أن مهمتنا كما يري ظريف حسين تجمعية تلفيقيه، بل يجب إعادة إدماج الفلسفة في الجسم الثقافي العام جنباً إلى جنب في العلوم الإنسانية، بعد أن انعزلت جبراً،و طوعاً عن غيرها، ومن ذلك كان عقمها.

كذلك يرى ظريف حسين أن الفلسفات السابقة قد تعبر عن الواقع، لكنها لا تعبر عن الحقائق، لأن الفلاسفة في نظره حالوا الوفاق من أدوات العلم، وبذلك ليس بمقدورهم حل المشكلات، بل يزيدونها تعقيداً، ويضيفون إليها ركاماً إلى ركام، ومن هذا المنطلق فإن ظريف حسين رحمه الله كان من أكثر المهتمين بمصر والعالم العربي للفكر الأخلاقي والعقلانية.

في كتابه " الفلسفة الأخيرة رؤية معرفية سلوكية للفكر العربي" يصف الرجل رؤيته بأنها الأخيرة من حيث إنها نظام معرفي شامل يتأسس على كل المناهج العلمية للتفسير، ومن ثم فلن تكون في نظره مؤقته، وهي بذلك مختلفة تماماً عن أية فلسفة سابقة، وفي ذلك الكتاب أيضاً يتجه ظريف حسين إلى تعميق نظراته باستخدام معارفه،وأدواته الفلسفية لإصلاح منظومة التعليم والثقافة في المجتمعات العربية التي عانت ولا تزال تعاني من التدهور والانحطاط الحضاري مركزا رحمه الله على تطوير المناهج الدراسية، وطرق التدريس، والمحتوى الدراسي والخطط المسؤولة رسميا عن التعليم.

ومن ثم فإن أهم الهداف التي يصبوا إليه ظريف حسين في كتابه " الفلسفة الأخيرة"، هي اصلاح التعليم الفلسفي في العالم العربي، وذلك بتصحيح وضع الفلسفة، وإخراجها من قاعات الدرس إلى الواقع العملي، والاشتباك مع قضايانا ومشكلاتنا، وهمومنا الحضارية، وبيان أوجه القصور في ممارسة الأساتذة لها، فضلا عن تهافت الفكر العربي، ومشروعيته، وعقمه ونضوب روافده.

وينقسم كتاب " الفلسفة الأخيرة" إلى ثلاثة أقسام رئيسة:

1- القسم الأول: يتضمن الإطار النظري الذي يكشف عن رؤية ظريف حسين النظرية، وأراءه حول القضايا الفلسفية، ومواقف الفلاسفة منه، وموقف ظريف حسين نفسه منها، وهو ما كان يسميه رحمه الله بـ" إعادة تأهيل الفلسفة".

2- وأما القسم الثاني فيتناول بعض النماذج التطبيقية لرؤية ظريف حسين الفلسفية التي طرحها في الإطار النظري، ولقد اختار رحمه الله للتناول مشكلات بعينها لها صلة قوية بمشكلات مجتمعاتنا ومتأصلة في الواقع، ذلك أن جل اهتمام ظريف حسين بالمشكلات هي تلك المشكلات التي تؤرق الإنسان العربي عامة، والمصري خاصة، متبعا رحمه الله في ذلك كل المناهج المتاحة والمناسبة.

3- وأما القسم الثالث: فيتضمن باقة من المقالات الكاشفة في نظره حول المشكلات التي تشغل عقل الإنسان العربي، وهي مقالات تعمد فيها ظريف حسين على حد علمي بساطة العرض، مع العمق في التناول، والمعالجة بعيداً عن اللغة الأكاديمية الصارمة، والمصطلحات العلمية الرسمية التي تحتاج إلى أهل الخبرة والتخصص في فهمها، وذلك إيمانا منع رحمه الله بضرورة إعادة الفلسفة للعمل ضمن النسق الثقافي الجماهيري العام، كما كانت في بدايتها اليونانية الأولى.

وفي ضوء هذه الأقسام الثلاثة حاول ظريف حسين الإجابة عن العديد من التساؤلات كمت طرحها في الكتاب، وهي: كيف تتحول الفلسفة من مجرد نحلة سرية، أو تعاليم خاصة لجماعة معينة يطلقون على أنفسهم اسم " الفلاسفة"، ويتناقلون تعاليمها بمنهج نقلي – مدرسي صارم، وتنطوي مؤلفاتهم على تقديس عال للنصوص الأصلية لأسلافهم، والتي يعملون عليها وتتشكل جسد أبحاثهم التي يتكسبون من وراء تلقينها للطلاب، أو للحصول على الدرجات العلمية، كيف يتحول هذا الشيء المسمى فلسفة، إلى طريقة لفهم الأشياء، والعلاقات والشؤون الإنسانية بشكل فعال،ومنخرطة في العالم، ومشركة في تنشيط الحس الإنساني،والملكات الإبداعية.  كما طرح ظريف حسين أهم التساؤلات التي تتعلق بمصير الفلسفة بصفة عامة، والفكر العربي خاصة بمنهج نقدي، وبروح جديدة.

وهنا يمكن أن نقنتبس بعض من أقواله في هذا الكتاب حيث يقول: فالفلسفة ليست مجرد دراسة لنصوص الفلاسفة مطلقا، وإن كنا نُعلِّم الشباب في الجامعة كيف كان أسلافهم يفكرون، وكيف كانوا يكتبون عن مشكلات تشبه- إلي حد بعيد- مشكلاتنا، علي ألَّا يكرسوا حياتهم لقال فلان ولكن فلان، تماما كما يفعل دارسو السلفية الدينية الذين يحب المتفلسفون أن يكيلوا لهم السخرية من طريقتهم هذه المُثلَي!.. فأما انكباب طلاب الفلسفة والدراسات الدينية علي كتب التراث ومناهج الأسلاف، فمرود إلي اهتزاز الثقة بالنفس، والارتجاف، والهلع من مجرد الاختلاف. ومن ذلك أنك إذا خاطبتهم قالوا لك: قال فلان، ولكن فلان، في دائرة مغلقة تصيبك بالغثيان والدوار، وتغري كل محاولة وليدة بالانتحار!

وأما فلسفة ظريف حسين فمودعة إجمالاً في كتابين: الأول: نحو نظرية للأخلاق الكونية، والآخر بعنوان " الأزمة الأخلاقية في العالم الإسلامي المعاصر "، ويعد الكتاب الأول منهما تحليلاً نسقياً وعلمياً يستند إلى معطيات علوم الحياة، ووظائف الأعضاء، بالإضافة إلى علمي النفس والاجتماع بهدف تفسير موثوق لنشأة أفعالنا الأخلاقية، ولماذا نرتكب الأخطاء؟.. وقد تطلب ذلك من ظريف حسين مسحاً شاملاً لأهم نظريات الأخلاق برؤية شاملة،هدفها تركيز أفعال البشر نحو أداة مشتركة من جهة، وحل المشكلات الأخلاقية القائمة في مجتمعاتنا، وخاصة ما يتصف بعلاقتنا بالعلم والدين والقانون والعادات والتقاليد من جهة أخرى.

كما قدم ظريف حسين خطة للإصلاح الأخلاقي عبر خطوات محددة مستفيدا رحمه الله من الثقافات الراسخة في العالم، والذي حصرها في فضائل تبدأ بالشهامة والأريحية والميل إلى سعادة الآخرين، والعدالة والإنصاف،وانتهاءا بثقافة نشر السلام بين الناس، وذلك في ضوء تحليل مسهب للمفاهيم والنظريات الأخلاقية عبر أربع فصول تحدث رحمه الله في أولها عن إعادة تعريف الأخلاق، والثاني عن الأساس الطبيعي للأخلاق، والثالث عن تحليل الفعل الأخلاقي، وفى الرابع عن محركات الخير والشر، أما الفصل الأخير فقد خصصه للحديث عن كونية الأخلاق، وفى ثنايا هذه الفصول تعرض كما يقول الدكتور مصطفي النشار لكل ما يمكن تصوره من القضايا الاخلاقية بحرفية شديدة بدءا من علاقة الأخلاق بالدين والقانون وانتهاء بقضايا اصلاح المجتمع والبيئة والمرأة وأصل الرذيلة وفكرة الكمال الأخلاقي والكمال الشخصي وفلسفة الفعل والربط بين الأخلاق النظرية والأخلاق التطبيقية، وفى الختام كان تساؤله الكاشف: هل ننجح في تصميم آلية سلوكية تجعل الأفراد حساسين دائما من مجرد الاقتراب من مساس النظام الأخلاقي عوضا عن انتهاكه وبطريقة تشبه الآلية التي تعمل بها الوساوس القهرية ولكن لأهداف ايجابية فيحترم المواطنون اشارات المرور مثلا حتى لو لم تكن هناك رقابة حكومية  عليهم من أي نوع ؟!

ومن خواطره إزاء هذا الكتاب: لقد كنت أقَبِّل يد والدي ووالدتي وأخوالي، وعمي، وأخوتي الأكبر سنا، وربما أكون قد قبلت يد أستاذي، (بعد حصولي علي الدرجة العلمية) ولم تكن هذه "عبودية" علي الإطلاق، بل محبة، وتقديرا واحتراما لمن جاءوا بي إلي الحياة، أو كان لهم عليّ فضل، أيُّ فضل.. وأنا أعبد الله وأوقِّره بالمنطق السابق هو نفسه، حتي لو زعم الملحدون أن الله مجرد "وهم"؛ فلا محيصَ عن الإقرار بأن هناك مبدأً للحياة، ولن يكون هذا المبدأ هو" الحياة نفسها"، ولن يكون - من باب أوْلَي- هو المادة الخاملة!.. وهكذا فإن مبدئي الأخلاقي هو أساس "عبادة الله" التي هي، بالأساس، تقدير وتقديس، وما دام لكل شيء مبدأ ومركز، فإن الدوران حول هذا المركز ضرورة طبيعية وأخلاقية، وهذا هو مبدأ الدين الذي يرفضه الملحدون خلافا للمنطق الطبيعي: فهل تستطيع الكواكب أو الالكترونات أن ترفض الدوران حول الشمس أو نواة الذرة، باسم الحرية؟!.. والخلاصة هي أن الدليل الأخلاقي علي وجود مركز للموجودات يعد متمما مثاليا للدليل الطبيعي الذي يجادل هؤلاء فيه."

وفيما يتعلق بالإنتاج الشعرى لظريف حسين فإن هناك ديواناً بعنوان" مجرد رغبة" وقد  صدر حديثا عن دار ليفانت بالإسكندرية وبمعرض القاهرة للكتاب 2022، ويضم مجرد رغبة (ديوان شعر) مجموعة من القصائد والمقاطع الشعرية في أغراض شعرية تدور موضوعاتها حول العلاقات الإنسانية وفلسفة الدين، ويمكن أن نقتطف فقرة من مقدمته حيث يقول رحمه الله:"

رَبَّاهُ أَنـزِلْ فـوقَ روضِ حبيبتي

قَطْـرا يعـانقُ قلبَها و يُساقِــی،

فأبيتُ أقطفُ من أزاهرِ حسنِها،

وتَبيتُ تشكـو لوعــةَ المشـتاق!

وآخر بيتيْن في قصيدة "عفاريت فاشلة"، من ديوانه "مجرد رغبة" نجده يقول:

إِلهِـــــي، ومِنكَ نَسَمْتُ الحـياةَ:

عليكَ بِخلقِكَ مَـــــــن أَجْرَموا،

فسُحقا خصومي؛ فكم أبدعوا

طريقا لمَـــــوتِي، فماتوا هُمُو!

ومن قصيدة "لا أستريح" من ديوانه "مجرد رغبة".  ومن أقواله أيضا:

هل كان حُبكِ سِوَي بُرهةٍ

أُجَددُ فيها سِنِييَّ الخوالي

أقلِّبُ عنها زمانا شقيا

وأنعَمُ فيها بحُلمِ الوِصَال

وأسألُ نفسي في كل يومٍ

ولا أستريحُ بِرَدِّ السؤالِ

لأن الجوابَ يُمزقُ نفسي

ويُرسل في جُنوحَ الخَبَالِ

فلا أنتِ غيمٌ و لا أنتِ صحوٌ

لقلبٍ ينوءُ بحِملِ الجبالِ!

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا الأستاذ الاكاديمي العاشق حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأستاذ الاكاديمي، فتحية طيبة للدكتور ظريف حسين الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

رحم الله الدكتور ظريف حسين، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا.. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

***

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

....................

المراجع:

1-   حلقة من برنامج "بتوقيع المؤلف" علي إذاعة البرنامج الثقافي من القاهرة، بصوت الأستاذ الدكتور ظريف حسين.

2- د. مصطفى النشار: نحو نظرية للأخلاق الكونية، جريدة الوفد، Friday, 21 October 2022 20:56

3- كتابات الأستاذ الدكتور ظريف حسين المنشورة.

عرّف علماء الاجتماع والاقتصاد التقشف بأنّه: (مصطلح يشير في علم الاقتصاد إلى السياسة الحكوميّة الرامية إلى خفض الإنفاق، وغالبًا ما يكون ذلك من خلال تقليص الخدمات العامة، في كثير من الأحيان، تلجأ الحكومات إلى الإجراءات التقشفية بهدف خفض العجز في الموازنة، وغالبًا ما تترافق خطط التقشف مع زيادة الضرائب.

التقشف بالمعنى العام يُقصد به صعوبة العيش وخشونته، بسبب عدم كفاية حاجيات الإنسان وهو في الاصطلاح السياسي، برنامج حكومي ذو طابع اقتصادي، يستهدف الحد من الإسراف من زيادة الإنفاق على السلع الاستهلاكيّة وتشجيع الادخار، والعمل على مضاعفة الانتاج، علاجاً لأزمة اقتصادية، تمر بها البلاد) {ويكيبيديا / الموسوعة الحرة}...

فالتقشّف، إذن، مصطلح اقتصادي وسياسي، ماديّ، براغماتي (نفعي)، غرضه المنفعة العامة. بينا الزهد دافعه روحي أو دينيّ ونفسي. غايته المنفعة الخاصة. إنّ التقشّف له منطلق خارجيّ، قد تفرضه مصاعب الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ويعزّزه الخوف من الوقوع في أزمة الجوع ونقص الموارد أو شحها، ممّا يهدّد حياة الإنسان بالفناء، بل وينشب عن ذلك الخوف نشوب صراعات داميّة بين الأفراد أنفسهم وبين الجماعات المتجاورة، وقيام حرب ضروس من أجل الاستيلاء على موارد الغذاء.

أمّا الزهد، فقد عرّفه العلماء والفقهاء، بأنه {النظر الى الدنيا بعين الزوال، وهو عزوف النفس عن الدنيا بلا تكلف} وقال سفيان النووي: " الزهد في الدنيا قصر الأمل ". ويقال: رجل زهيد العين إذا كان يقنعه القليل، ورغيب العين إذا كان لا يقنعه إلا الكثير. وزعم البعض أنّ المزهد هو الذي ليس عنده شيء من الدنيا. وهذا تعريف قاصر، لا يعبّر عن ماهيّة الزهد، إنّما الزاهد هو من يترفّع قناعة عمّا عنده، أمّا الذي لا يمتلك شيئا فلا حاجة له في الزهد. وكيف يكون زاهدا مسكين ومعدم ومترب، لا يمتلك قوت يومه؟

إذن، فالزهد لا علاقة له بالوفرة الماديّة والغذائيّة، ولا علاقة مباشرة له بالفقر أو الغنى، لأنّ مصدره ومنبعه ومنطلقه نفسيّ داخليّ بحت. بل هو رياضة نفسيّة يمارسها بعض الناس لغايات في أنفسهم. لقد حرّم الله على عباده الإسراف في استهلاك النعم تبذيرها، وأمرنا بالتمتّع بها بحكمة واعتدال.

ومن أهم الدوافع النفسيّة للزهد، الإحساس بالقناعة والإشباع والارتواء بالنزر القليل من الحاجيات الماديّة، بل قد تفضي القناعة مثلا إلى عدم الشعور بالجوع المادي، ممّا ينتج عنه طمانينة نفسيّة، وضمور في البطن وخفّة في العقل ونمو في الذكاء والفطنة، وراحة في الضمير. قيل: إنّ البطنة تذهب الفطنة. وهذا حكمة في غاية الصحة. فشرّ ما يملأ المرء بطنه.

والنفس راغبة إذا رغبتها

وإن تُرد إلى القليل تقنع

فالزهد لا يعني الامتناع عن ما أحلّه الله لنا من الطيّبات امتناعا كليّا، فهذا السلوك الامتناعي مخالف للفطرة الإنسانيّة، ومخالف للعقيدة والشريعة، وهو نوع من " التطرّف المعيشي " والتضييق على النفس، والتجاوز اللامشروع. قال تعالى: " وكُلُوا واشْربُوا ولا تُسْرفُوا إنّه لاَ يُحبُّ المُسْرفين " {الأعراف / 31}، وقوله: " لا تجعل يدك مغلولة إل عنقك ولا تبسطها كل البسط " {الإسراء / 29}، وقوله أيضا: " إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين " {الإسراء / 27} وقوله كذلك: " يَا أيُّهَا الذينَ آمَنُوا كلوا من طيبات ما رَزَقناكُم واشكُرُوا الله إنْ كنتم إياه تَعبدُون " {البقرة / 172}

يلجأ الفرد والجماعة إلى التقشّف في زمن الأزمات، جبرا لا اختيارا، كأزمة الغذاء الناتجة عن الكوارث الطبيعيّة، مثل الجفاف أو تعرّض المحاصيل الزراعيّة الاستراتيجيّة إلى جائحة الجراد الأصفر، او نتيجة الحروب الأهليّة والنزاعات البينيّة. تقوم السلطة الحاكمة، بتقنين توزيع المواد الغذائيّة بوساطة نظام بطاقات التموين، وتكتفي بتوزيع المواد الأساسيّة للمحافظة على استمراريّة الحياة. أما المواد المصنّفة في خانة الكماليّات، فلا تقيم لها وزنا، فهي خارج النظام الغذائي الاستراتيجي. وفي هذه الحالة يشعر الأغنياء والمترفين والمنفقين والمسرفين والمستهلكين والآكلين كالأنعام بتغيّر مفاجيء في حياتهم اليوميّة، ممّا يدفعهم إلى الهجرة بحثا عن الرخاء الذي افتقدوه في بيئتهم المأزومة. أمّا الفقراء والمهمّشون، فلا يطرأ على حياتهم أدنى تغيير، ما عدا شعورهم بالرضا والقناعة وإيمانهم عدالة السماء.

و بالمقابل، لا تزحزح تلك الأزمات والجوائح قيد أنملة من الحياة اليوميّة لمن اعتاد على حياة الزهد. فقد أكسبته تلك الرياضة النفسيّة وعلّمته كيف يروّض نفسه - التي ألهمها الله الفجور والتقوى – في زمن العسر واليسر معا. علّمته الحياة أن الصبر، صبران: صبر على الموجود وصبر على المعدوم، صبر على المكاره وصبر على المحاسن. لقد استطاع الزاهد أن يقمع شهوة اللذات، ويقبض على زمامها بقوّة، لئلا تنفلت، ويوجّهها.

يصبح التقشّف ضرورة اقتصاديّة ومعيشيّة واجتماعية، في حياة الأفراد والجماعات لحفظ النسل، ويأخذ صفة الوازع الأخلاقي، بشرط أن ينخرط في دواليبه جميع افراد المجتمع، دون تميّز بين فقيرهم وغنيّهم، ويتحوّل إلى لون من ألوان التكافل الاجتماعي، والتعاون على البرّ والتقوى. حينها تتكوّن في المجتمع مشاعر الأخوة والتراحم والتشارك في المنافع والأضرار، وتقاسم أعباء الحياة في اليسر والعسر.

و بين التقشّف والزهد علاقة جدليّة، بالمعنى الفلسفي الاقتصادي الروحي، أيّ كلّما أدرك الفرد المعنى الحقيقي للزهد - الذي لا يعني تعذيب النفس بحرمانها من ملذّاتها ومشتهياتها التي شرعها الله لها - قال تعالى: " يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " {المائدة / 87}. قاده ذلك إلى التقشّف في حياته، دون بخل وتقتير. فإذا كان الزاهد يشعر براحة النفس والبال، ويمارس طقوس الزهد بقناعة، فإنّ المتقشّف لا يبلغ درجة الرضا والحكمة والتضحيّة والخدمة الجماعيّة، إلاّ إذا ساهم - بفعله لا بقوله - في حفظ التوازن النفسي، وتجسيد الاستقرار والسلم الاجتماعيين.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر  

الوصولية السياسية في الوسط الأكاديمي:

مقدمة: شُغل الباحثون بقراءة مظاهر التسلط بأبعاده السياسية والاجتماعية، وقلما يعيرون التسلط الذي تعيشه مؤسساتنا التربوية والجامعية ما يستحقه من عناية واهتمام. ومن أجل تغطية هذا الجانب في المستوى الأكاديمي، فإن هذه المقالة تسلط الضوء على مشهد واقعي من مشاهد التسلط ومظاهر الانتهازية والوصولية في الوسط الجامعي والتربوي. وليس الهدف من هذا الوصف إبراز هذه الحالة بل تقديم وصف حي نموذجي للأساليب الانتهازية والديناميات الوصولية في تقلد المناصب والوصول إلى مركز القرار وممارسة التسلط بصورة ديكتاتورية مخجلة في الوسط الجامعي وفي المجتمع. ولا ننكر بأن المقالة الحالية تركز على حالة واحدة، ولكن هذه الحالة تمثل نموذجا متقدما لأغلب النماذج التي تفرض نفسها في هذا المستوى.

كانت الجامعات وما زالت في البلدان الغربية معاقل للحرية والقيم والديمقراطية. ولكن بعض هذه الجامعات في مجتمعاتنا تشهد ممارسات ديكتاتورية لا تقل خطرا وفتكا عن المظاهر الاستبدادية التي نجدها في الحياة السياسية العربية. وفي المشهد الذي نقدمه وصف ذو طابع سردي لآليات القهر والاستبداد التي تمارس في بعض الجامعات العربية التي بدأت تتحول إلى مراكز حيوية لبعض الممارسات الاستبدادية في المجتمع. والمشهد الذي أقدمه هو مشهد حقيقي وواقعي حدث في حياتنا السياسية والإدارية.

بداية المشهد:

يبدأ المشهد بصورة مدرس جامعي يسيل لعابه للوصول إلى أي موقع سلطوي يستطيع أن يمارس فيه نزوة التسلط والغلبة. ارتسمت الخطوات الأولى في انتهاز المناسبات السياسية ليعلن فيها نوعا من الولاء المطلق والمذل للحاكم والنظام أراده أن يكون مميزا في مستوياته الانتهازية ومتفردا في سماته الوصولية. واستجابة لهذا التعطش بدأت تفاعلاته بالمناسبات السياسية تأخذ طابعا غريبا مبالغا يتفوق فيه على أقرانه من الوصوليين والانتهازيين وما أكثرهم في مجتمعاتنا. 

ويمكن لنا تصوير المشهد الوصولي في مراحل أربعة أساسية:

المرحلة الأولى- اغتنام الفجيعة:

عندما فجع السلطان بفقدان عزيز له بدأ بطل قصتنا يبدي حزنه البالغ لمدة طويلة الأمد فاقت حدود كل الأعراف والتقاليد المعروفة في طقوس الحزن والألم، فافتعل موقف حزن مميز ولفترات طويلة ترك فيها للحيته العنان، ثم فجأة ظهر للعيان بعد غفلة طويلة عن الناس مرتديا سواد الثياب بلحيته الطويلة الحزينة معلنا استمرار طقوس الحزن على فقيد السلطان وذلك بعد أن مضى ردح طويل من الزمن عاد فيه الناس جميعا إلى حالتهم الطبيعية والاعتيادية حتى السلطان. وهو في ذلك أراد أن يعطي انطباعا بأن حزنه وانفعاله بالحدث يختلف عن جميع الناس! لأن الناس سرعان ما عادوا إلى حياتهم الطبيعية، ولكنه افترق عنهم بأنه أكثرهم حزنا وأسى وانفعالا بالحدث الأليم والمصاب العظيم. وقد فرض على الناس أن يستشعروا حالته المأساوية هذه من إخلاصه ووفاءه وصدق مشاعره لفقيد السلطان.

المرحلة الثانية- الترويج الانتهازي الإعلامي:

وهي التي يكثر فيها من أحاديثه في الملأ عن حبه للحاكم ووفائه للسلطان وعلاقته المقربة مع صاحب القرار، ويكثر فيها إشاعته لقصص المودة والاحترام التي تربطه بالحاكم والسلطان. والحديث هنا لا ينقطع عن لقاء الأحبة: اللقاء بينه وبين صاحب القرار أي الحاكم بأمر الله الفاطمي، وهي لقاءات كما يصورها مفعمة بالمحبة والمودة وعليه في كل يوم أن يروجها أمام الناس والحضور والطلاب. وأصبحت المحاضرات التي يلقيها محاضرات تدور في أفق العلاقات الحميمة التي تربطه بأصحاب القرار.

كان يبدأ محاضراته اليومية متحدثا إلى الطلاب عن لقائه بالحبيب، ويعني بذلك حاكم البلاد والعباد، والطلاب خير أداة في ترويج هذه العلاقة الودية في المجتمع بين الأستاذ الطموح وبين الحاكم المصاب. وهو في أحاديثه اليومية يستخدم كلمات متواترة: اجتمعنا البارحة بالحبيب (وترمز كلمة الحبيب إلى الحاكم)، وتناولنا العشاء مع سيادته في المطعم الفلاني، ثم قمنا بزيارة المكان الفلاني وبحثنا في القضية الفلانية. ثم يتجرأ الرجل أكثر فأكثر حيث ترد في عباراته: نصحت الحاكم أو صاحب القرار.. وأقنعت الحبيب (أي المسؤول الكبير).. وتداولنا في الأمر.. واستشارني.. وأخبرته.. وزارني في البيت.. ثم أهداني.. ونصحته.. وكثير من هذه العبارات التي يعلي بها من شأن نفسه ويلبي جموح غطرسته.

ويروج الانتهازي الصغير بين أصحاب القرار أنه الصديق الوفي لأعلى سلطة في البلاد وأنه الناصح المرشد والمستشار الملهم. ولاحقا وتحت تأثير هذه الأساليب الوصولية يستطيع الرجل بوسائله هذه أن يجد الوسيلة التي يقنع فيها بعض المسؤولين بتعيينه عميدا في الجامعة.

المرحلة الثالثة- تضخيم الجرعة الوصولية:

ثم تبدأ مرحلة جديدة في العمل الوصولي. هذه المرة بدأ الرجل يعرف بنفسه وطموحاته بطريقة فيها جرأة أكبر. فهو يعلن بأنه سيكون الوزير الأول في الوزارة المقبلة لأن صاحب الأمر طلب منه ذلك.. ليس أكثر.!! وفي بعض الأحيان سيكون وزيرا للتعليم العالي أو للتربية، ويعدد في مناسبة وغير مناسبة المناصب عرضت عليه. والتي ستعرض عليه بالطبع وهو عازف عنها ولكنها هي إرادة الحاكم وصاحب القرار.

في المؤتمرات الأكاديمية التي حضرها خارج بلاده وداخلها بدا يروج أيضا قربه من صاحب القرار، ثم بدأ المؤتمرون العرب من أساتذة جامعيين يسخرون منه همسا أو علنا به بأنه صديق الحاكم أو الوزير المرتقب، أو الشخص المقرب، أو المعجب بنفسه، ولم يرفض أن يخاطبه البعض بعبارات مجاملة فيها مثلا سيادة الوزير طبعا للوزارة الجديدة، أو سيادة المستشار في التشكيلات الجديدة أو القادمة وكان دائما يقابل هذه الألقاب المحتملة بابتسامة متعجرفة عنيدة مؤكدا لهم أنه حقا سيكون ودون أدنى شك ذلك الزعيم المرتقب. ولم تتوقف حدود غطرسته في بلاده إذ حاول أن يشمل بغطرسته هذه زملاء له من بلدان عربية أخرى رفضوه طبعا واحتقروه.

أول الحصاد - عميدا لكلية التربية:

أثمرت هذه الفعاليات الانتهازية والوصولية، حظي بطل قصتنا هذه بعظمة السلطان الأولى عميدا لكلية التربية متجاوزا بذلك كل المعايير الأكاديمية والأخلاقية التي تتعلق بالكفاءة والخصائص الأكاديمية التي يفتقر إليها كليا. والسؤال المهم هو كيف مارس الرجل سلطته في الكلية التي تعمدها (أصبح عميدا لها). بدأ حياته المهنية بطشا بزملائه، وأطلق على كليته أسماء عسكرية فهي الفرقة السابعة عشرة كما يحلو لأساتذة الكلية أن يسمونها تهكما بأسلوب التسلط الذي ينتهجه، وأطلقوا عليه عبارة (سيادة العميد) بالمعنى العسكري وليس بالمعنى الأكاديمي.

ولم يتورع في أحيان كثيرة أن يطلب من الفراش أو الآذن أن يطرد زميلا من زملائه من أساتذة الكلية خارج مكتبه وأن ينهال على بعض أعضاء الهيئة التدريسية من السيدات بشتائم وكلمات بذيئة. وبدأ يطلق على نفسه، أو يوحي لتابعيه وموظفيه أن يطلقوا عليه ألقاب مثل “المعلم” وغير ذلك من الألقاب أسوة بكبار السياسيين والزعماء. ووضع حوله جمهرة من المرافقين الذي يتميزون بالفظاظة هؤلاء الذين يوزعون ألقابه على الجميع ويفرضون هيبة ورهبة مدمرة لنفوس الطلاب وأساتذة الجامعة من زملائه في الوسط الجامعي.

التنكيل بالزملاء والانتقام الأكاديمي:

أما فيما يتعلق بمعاملته مع زملائه فبدأ ينكل بهم ولاسيما هؤلاء الذين لم يرضخوا لإرادته ورفضوا تسلطه، واستطاع أن يوجه الاتهامات إلى بعضهم وأن يستصدر القرارات التي ينهي فيها خدمة بعضهم ويدفعهم إلى قارعة الطريق بدوافع الثأر والأحقاد السابقة. ولم يستطع الرجل أن يحتمل مظاهر القوة والتبجيل والتهويل التي أحاطت به في مؤسسته الصغيرة هذه فبدأ يغالي في ارتكاب الحماقات وبدأ يبالغ في تسلطه واستبداده وغروره.

وعلى هذا الأساس سوّقَ نفسه رخيصا ومارس لعبته الوصولية الجديدة بأعلى درجة من الغطرسة وتضخم الأنا. وهي أحاديثه التي لم تتغير ، وهو ذاك بغطرسته وجنون اختياله في حديث طاووسي لا ينقطع عن نفسه، وعن أحلام المكابر الصغير الذي يبحث عن مكان يتغطرس فيه إلى الأبد. وتردنا مقولاته في أحاديثه المعهودة: إنني هنا من أجل تطوير التعليم… إنني هنا بإلحاح من القيادة السياسية … إنني هنا في محطة في استراحة بعدها سيعاود رحلته في طريق الانتهاز والوصول.

لقد استطاع الرجل أن يحقق نجاحا كبيرا في الوصل إلى مركز أكاديمي مهم مع أنه لم يكتب في حياته بحثا علميا واحدا، ونال درجة الأستاذية بأساليب التسلط في الوسط الجامعي. وكان الرجل في واقع الأمر مهيأ في وسطنا الاجتماعي لنجاح كبير لأنه استطاع أن يوظف أفضل الإمكانيات السيكولوجية التي تعلمها في بلد شرقي صغير في إقناع مركز القرار بأنه رجل مقرب جدا وأنه يجب أن يأخذ دورا مهما في البلد.

وفرة الحصاد - وزيرا للتربية:

هذه الممارسات اللاأخلاقية مهدت الطريق لصاحبنا إلى سدة الوزارة. وهكذا استطاع الرجل بتسلطه وتبجحه وغطرسته والجرعات الكبيرة من الوصولية والاختيال والنرجسية أن يصل إلى موقع القرار وزيرا للتربية وأن يأخذ دورا يستطيع من خلاله أن يشبع غطرسته وتعطشه. وها هي وزارته اليوم يشهد القاصي والداني بأنها مركز الفساد والفجور، إنه يدمر الأخلاق والقيم والمعاني والرموز ! سلوا عنه المعلمين والمربين، سلوهم عن تسلطه وجشعه، وهدمه لكل القيم، سلوهم عن الواسطة والمحسوبية والسرقات والعقود والرواتب المنهوبة، سلوهم عن جرائمه التي تتعلق بالعرض والشرف والكرامة، سلوا المعلمين والطلاب والمدارس عن الفضائح الجنسية التي ارتكبها، سلوهم كيف تحولت وزارته إلى مكان للعهر والفجور والنصب والاحتيال، وكل ذلك وعين السلطان غائبة عما يجري في أروقة وزارة لم تعرف ولن تعرف أبدا هذا القبح وهذا الفجور الإنساني الذي أدمى كل القيم الإنسانية والأخلاقية. أصبح في موقع المسؤولية ولكنه بقي صغيرا صغيرا لأن الانتهازي من هذا النوع لا يمكنه أن يكبر في عيون الناس والقيم بل يبقى صغيرا ويتصاغر مع دورة الزمن. سلوا عن تاريخه الأسود في وزارة التربية: تسريحه للمعلمات على الهوية والمذهب، الفساد، الفجور، تدمير الأجيال، النهب، السرقة، الزنا، الاعتداء على الكرامات.

النهاية – السقوط في سلة الفضلات:

لكل شيء نهاية ودوام الحال من المحال ، ونظام الاستبداد السياسي يرمي فضلاته في آجال محددة. بالغ الوزير الفاسد في ممارسة التسلط والتجبر والفساد الأخلاقي في وزارة التربية بطريقة أثار فيها حفيظة الخلق جميعا، وبلغ فساده حدا تجاوز منسوب الفساد في سورية، وقد رأت القيادة أن دوره قد انتهى وحان لحظة رميه في سلة المهملات ، والآن بعد أن قضى عهده وأنفق سنوات مجده في وزارة التربية عاد رخيصا وضيعا إلى حجرة صغيرة قرب دورات المياه في الكلية يرتجي من صديق أو زميل أن يقول له مرحبا كيف حالك أيها الديكتاتور الصغير ها قد عدت إلينا بحلتك المخجلة؟؟.

وفي هذه القصة عرض لأساليب الانتهاز والوصولية والتسلط التي نكابدها مع الأسف الشديد في مؤسساتنا الأكاديمية والجامعية. وإذا كانت جامعاتنا متخمة بمثل هؤلاء الوصوليين والانتهازيين والمتسلطين فيا لبؤس مجتمعاتنا ومؤسساتنا وحياتنا الأكاديمية أيضا. نعم تلك هي الحقيقة فصور التسلط والغطرسة وقيم الإكراه والوصولية ما زالت قوية في مؤسساتنا الجامعية وضاربة جذورها في أعماق الحياة الجامعية.

***

علي أسعد وطفة

كلية التربية – جامعة الكويت

 

و لما كانت مقالة الأستاذ البروفيسور قاسم حسين صالح المشار اليها، من عنوانها وتوطئتها تخص السعادة في العراق والسعادة في العراق تأتي من سعادة العراقيين كأفراد فمن الواجب ان انقل لكم رأي البروفيسور قاسم حسين صالح كواحد من علماء النفس العراقيين وربما الأكثر نشاطاً في الكتابة والنشر فيهم والتي ستكون كتاباته مصدراً مهماً للبحوث والدراسات لمتخصصي اليوم والمستقبل من الباحثين في علم النفس والاجتماع عليه فما يطرحه البروفيسور قاسم مهم جداً ويجب ان يخضع للتحليل والنقد لعلاقة ذلك بالإنسان العراقي / المجتمع العراقي والعراقيين عموماً.

كتب البروفسور قاسم حسين صالح عن تعاسة الشعب العراقي وعن سعادته بتناقض غريب يثير علامات استفسار واستفهام وتعجب كثيرة والإجابة عليها ضرورية للتخفيف من حيرة القارئ والباحث والدارس حيث ان المؤشرات السلبية والايجابية التي طرحها عن العراقيين فيها إشارات او احكام جازمة حاسمة لو صًّحَةْ لجعلت العراقيين متربعين على قمة سلم السعادة العالمي بشكل واضح كاسح ولسنوات لا تُعد ولا تحصى "من السومرية الى الديمقراطية" وبنفس الوقت تلك المؤشرات تجعل العراقيين في اسفل سلم السعادة لسنوات طويلة دون منافس وايضاً "من السومرية الى الديمقراطية" أي في قمة سُلَّم التعاسة..أهمية تلك المؤشرات التي انقلها لكم من منشورات البروفيسور قاسم حسين صالح والمنشورة في مواقع الكترونية كثيرة ومنشورة في صحف وجمعيات ومؤسسات وربما تضمنتها بعض الكتب التي اصدرها وتعرفون ان كاتبها من الراسخون بعلم النفس ورئيس الجمعية النفسية العراقية فأكيد تلك المؤشرات المفروض انها جاءت عن دراسات وبحوث كثيرة..

تفضلوا بالاطلاع على التالي:

1 ـ في مقالته: [العراقيون.. يحبون الحب قبل فلنتاين] بتاريخ 15.02.2023 يعني قبل صدور تقرير الأمم المتحدة للسعادة بحوالي شهر وعدة أيام (ثلاثة أيام) كتب التالي:

[لا يوجد شعب في العالم موصوف بالحب كالشعب العراقي.. ان العراق بلد الشعر وأن قلوب الشعراء لا تنظم الشعر الا حين تكون مسكونة بالحب.. فيما العشق عند العراقيين.. جنون!. وأنهم اهل طرب وكيف.. من صغيرهم الى كبيرهم. اننا نرى ان الحب هو (خيمة) الفضائل كلها.. لأن الحب يقضي على شرور النفس وامراضها.. فان تحب فهذا يعني انك لا تكره، وانك تتمنى الخير للآخرين، فضلا عن ان الحب يجلب المسرّة للنفس والناس ويجعلك تحترم حتى الطبيعة وتعمل على ان تجعلها جميلة، وبالصريح، لا يوجد شيء في الدنيا اجمل واروع من الحب، لأن الحب هو الفرح، هو النضج.. هو الكمال.. هو اليقين بأنك موجود.. باختصار، الحب هو الجنة التي يأتي بها الحلم الى الدنيا لتعيش فيها أدميتك كانسان، لهذا فانه صار شعار كل الاديان الذي دفعهم الان الى تخصيص يوم عالمي باسم (اليوم العالمي للوئام بين الأديان)..لقد صار يقينا ان العراقيين موصوفون بالحب، وما يجعلك تفرح.. تغني.. تثق بأنهم صنّاع حياة، انك تراهم يتفننون في التعبير عن (عيد الحب)] انتهى.

و قبل عام واحد من تاريخ المقالة(1) أي في 14.02.2022 كتب العبارة القريبة التالية في مقالته:[في عيد الحب.. العراقيون ما أروعهم]: [لقد صار يقينا ان العراقيين موصوفون بالحب، وما يجعلك تفرح.. تغني.. تثق بأنهم صنّاع حياة، انك تراهم يتفننون في التعبير عن (عيد الحب)] انتهى

وأعاد نفس الصياغة في 14.02.2021 بمقالته: [فالنتين..عراقي]. وكرر نفس النص في مقالته: [العراقيون..وعيد الحب] بتاريخ 15.02.2018 وأعاد نفس النص في مقالته:

[فالنتاين عراقي] بتاريخ 19.02.2016

وفي مقالته: [العراق..هو عيد الحب] بتاريخ 14.02.2015 كتب التالي: [والجميل ان العراقيين موصوفون بالحب، ليس من يوم اصبح العراق موطن الشعر، بل من قبل الاف السنين] انتهى

وأَتْبَعَ كل العبارات الرنانات السابقات بالمقطع التالي لتفسير/توضيح الحب حيث كتب التالي: [وبالصريح، لا يوجد شيء في الدنيا اجمل واروع من الحب، لأن الحب هو الفرح.. هو النضج.. هو الكمال.. هو اليقين بأنك موجود.. باختصار ، الحب هو الجنة التي يأتي بها الحلم الى الدنيا لتعيش فيها ادميتك كانسان، ولهذا فانه صار شعار كل الاديان الذي دفعهم الان الى تخصيص يوم عالمي باسم (اليوم العالمي للوئام بين الأديان)] انتهى

هذه النصوص او القريب اليها/ منها كررها البروفيسور قاسم حسين صالح ستة مرات واعتمدها لمدة تسعة أعوام سابقة وهذا يدل على انه اشبعها بحث وتقصي وتحديث وتدقيق حد الثقة التامة والجزم والحسم بها وهي تعكس نفسية العراقيين وحالة السعادة لديهم التي استخلصها خلال كل الفترة الطويلة / الممتدة من قبل الاحتلال الأمريكي للعراق وبعده والأهم فيها هي سنوات "الديمقراطية" الممتدة من(2003) الى اليوم أي (2023) وهي كما يبدو من الجزم والحسم انها ستستمر طويلاً حيث لا يمكن لأي قوة تغيير ان تقلبها بسرعة..

والغريب انه عمم حالة الفرح والحب والسعادة تلك بشكل مطلق وحازم وجازم على كل العراقيين بكل الوانهم واجيالهم من ""السومرية الى الديمقراطية"" بحيث جعلهم متفردين عن كل الناس وكل الشعوب الاحياء منهم اليوم (8 مليار انسان) والموتى بقرابة (30 مليار انسان) وهذا يدفع القارئ البعيد والقريب لأن يضع العراق متربعاً ولعقود طويلة قادمة على موقع/مرتبة الشرف الأولى في موضوع السعادة وهو يعني ان العراق بلد السعادة الأول دون منازع/ منافس لأنه بلد الحب الأول في العالم من ""السومرية الى الديمقراطية"".

وعن الحب، للبروفيسور قاسم حسين صالح مقالة متميزة هي: [ثقافة نفسية: (4) الحب.. هل هو نوع واحد أم انواع؟] نشرها في المثقف الغراء بتاريخ 07.02.2010 ذكر فيها التالي: [الحقيقة ان الحب على ستة انواع ! اشهرها: العشق والحب الرومانسي. وهنالك الحب الناجم عن المعاشرة والرفقة، والحب الافتتاني، والحب الفارغ، والحب الكامل] انتهى

الحقيقة لا اعرف أي نوع من أنواع الحب هو الحب الموصوف به العراقيين؟

و اليكم عن التعاسة في العراق كما فسرتُ مقاطع كتبها ونشرها البروفيسور قاسم.. تلك التعاسة التي تجعل العراق في اخر قائمة البلدان والشعوب في سُلَمْ السعادة أي انه متربع دون منافس/ منازع على قمة سُلم التعاسة العالمي حيث ورد التالي:

1- في مقالته: [العراقيون.. والاكتئاب الوطني] بتاريخ 22.01.2012 ورد التالي:

هذا مصطلح جديد(يقصد الاكتئاب الوطني) يجود به العراقيون على المشتغلين بالطب النفسي والسياسة فالمعروف أن نسبة الاكتئاب في المجتمعات بحدود (5%،لكنه في العراق أصاب شعبا بكامله فصار الاكتئاب وطنياً!.فمن من العراقيين (أعني الرعية!) لا يشعر بالضجر والسأم والحزن وفقدان السعادة وعدم القدرة على أن يكون بحال أفضل.. وتلك من أعراض الاكتئاب المتفق عليها عالميا بين أصحاب الاختصاص. ومن خصائص المكتئب عدم قدرته على تحقيق طموحاته. ومع أن العراقي كان بقلب بعير في صبره على الحكومة، فانه خرج ، بعد ان يأس، شاهرا صوته بين الناس والحكومة فكان ما كان من الذي تعرفونه..الخ) ثم أكمل: (ومن خصائص المكتئب انشغاله بالماضي واجترار خساراته وكل ما يبعث على انقباض النفس.. وتلك مصاب بها العراقيون. فنحن ننفرد عن خلق الله بماض مليء بالخسارات والفواجع)] انتهى

2 ـ في مقالته:[لأمراض النفسية في الأغاني العراقية] بتاريخ 02.09.2012 كتب:[الاغنية تعبير عن مشاعر الانسان نحو نفسه.. والآخر والأغنية من اكثر المواد الاعلامية شيوعا وتأثيرا، وربما كانت اكثر المؤشرات التي يعتمدها الباحثون في تحليلهم الحياة النفسية والاجتماعية للشعوب (ان الكثير من أغانينا العاطفية مليئة بأمراض نفسية، أخطرها المازوشية التي تعني ان الفرد لا يحصل على اللذة والمتعة والمشاركة العاطفية الا من خلال ايلام الذات. ولك أن تعدّ في أغانينا ما لا يحصى: «اجرح.. اجرح.. وعذّب على كيفك»، «عذّبني اكثر وآني احبك اكثر»، «تعذّبني بليالي جفاك.. تلوعني وأظل اهواك»، «حيل اسحن كليبي سحن.. وغركني بالهمّ والحزن») ثم أكمل: (.وتنفرد أغانينا بصفة مازوشية غريبة هي التباهي بالحزن!)] انتهى

3 ـ في مقالته: [العراق: وطن بلا طفولة] بتاريخ 21 تموز 2009كتب التالي: [وكان اخطر خلل سيكولوجي حدث للأطفال المولودين عام 1975 وما بعده انه تشكّل لدى هذا الجيل (يؤلف حاليا بحدود 70% من المجتمع العراقي) صور ذهنية ومعتقدات ومدركات مشوهه بخصوص نفسه والأخرين والعالم والحياة، وغير سوية بمواصفات الصحة النفسية للأطفال والشباب. ففي السنوات الثماني للحرب العراقية الايرانية تشكّل لدى الاطفال مفهوم ان العالم عدائي وان الاخرين يريدون افناءه. وبمشاهدته لجثث قتلى الحرب بدءا من برنامج( صور من المعركة) في الثمانينيات، الى مشاهد التفجيرات اليومية في المدن العراقية التي صارت تستهدف المدنيين، تراجعت لدى هذا الجيل( قيمة الحياة) التي كانت

[" ملاحظة: يمكن ان نضيف الى ما ورد أعلاه أمور أخرى تفضل بطرحها البروفيسور قاسم حسين صالح في مقالات وكتب عديدة عن حال العراق والعراقيين بخصوص انتشار المخدرات وتضاعف حالات الانتحار والطلاق وشيوع الفساد بكل انواعه من سياسي ومالي وإداري وربما غيرها.

الآن نتطرق الى السعادة في كتابات البروفيسور قاسم حسين صالح:

بخصوص "السعادة" كتب في مقالته: [رسالة إلى نفسي] بتاريخ 02.10.2009 التالي: [ والواقع أن كثيرين منّا يحمل مفهوما مثاليا عن السعادة، وهؤلاء لن يصلوا لها ولا يستمتعوا بالحياة. فالسعادة الواقعية لها معياران: أن يكون وضعك الحالي أفضل مما كنت عليه، وأن تكون بمستوى أقرانك في الوظيفة أو المهنة أو المكانتين الاجتماعية والاقتصادية..] انتهى

***

عبد الرضا حمد جاسم

 

عندما وصلنا الى موسكو في ستينيات القرن العشرين، أدهشتنا ظواهر عديدة، لأنها كانت جديدة بالنسبة لنا، ومن بين تلك الظواهر الواضحة تماما كانت العناية الفائقة جدا بالاطفال من قبل الروس، لدرجة، ان أحد طلبتنا المرحين أطلق على الاطفال حينها تسمية – (أصحاب الجلالة في المجتمع الروسي !!!)، وعندما ازدادت معرفتنا باللغة الروسية (بعد دراستنا الاكاديمية لها)، اكتشفنا، ان هناك أدب متنوع جدا (لاصحاب الجلالة هؤلاء!!!)، أدب يرتبط حتى بمراحل أعمارهم منذ السنوات الاولى، اذ تبيّن، ان هناك (أدب خاص!) لهم يستمعون اليه (اي قبل تعلّمهم القراءة)، ويتقبلونه بحب واهتمام وهم في بدايات حياتهم، وقد شاهدت (بام عيني!) اطفالا روس يكررون تلك الحكايات الشعبية ويعرفون أبطالها ووقائعها، ويطالبون آبائهم وامهاتهم باعادتها امامهم قبل ان يخلدوا للنوم، وعمرهم أقل من ثلاث سنوات !!!، وهذا النوع من الادب يساهم طبعا – وبشكل دقيق و واضح جدا - في تربية الطفل وبلورة افكاره المستقبلية و شخصيته لاحقا، وغالبا ما أتذكّر قول استاذنا في مادة (علم التربية) باول محاضرة له (وكنّا في الصف الثاني بكلية الفيلولوجيا في جامعة موسكو للعام الدراسي 1961/ 1962)، حول سيدة جاءت اليه وقالت له، ان ابنها بلغ خمس سنوات من عمره، وسألته - متى ابدأ بتربيته ؟ فقال لها رأسا – لقد تأخّرت خمس سنوات ياسيدتي .

أدب الاطفال موجود عند الشعوب كافة، بما فيها طبعا شعوبنا العربية، ولكن الاهتمام بهذا الادب وتدوينه و رعايته وتطويره يختلف عند مختلف تلك الشعوب، والظاهرة التي نود الاشارة اليها والتأكيد عليها بالنسبة لادب الاطفال في روسيا تكمن بالذات في الاهتمام الكبير وغير الاعتيادي هذا، وكذلك في التقسيم الدقيق جدا لادب الاطفال حسب اعمارهم ومداركهم، لدرجة، اننا لاحظنا كتابة ذلك حتى على أغلفة كتب الاطفال تلك، اذ توجد على الاغلفة كتابات واضحة تشير، مثلا، الى ان هذا الكتاب للاطفال (قبل المدرسة !)، وذاك الكتاب للاطفال في المراحل الاولى بالمدارس، وهذا الكتاب للاحداث ....الخ، اضافة الى ان هذا الادب يرتبط باسماء ادباء كبار في تاريخ الادب الروسي (لأن ادب الاطفال يتقبله الصغار والكبار، وفي هذا تكمن اهميته وروعته ودوره، فكل واحد من الصغار والكبار يجد في هذا الادب جماليته وعمق معانيه!)، فكريلوف، مثلا، الذي أسميناه مرّة في احدى مقالاتنا عنه (ابن المقفع الروسي) كان ولايزال (منذ نهاية القرن الثامن عشر ولحد الان، ونحن في العقد الثالث للقرن الحادي والعشرين) واحدا من تلك الاسماء الادبية اللامعة للقراء الروس الصغار والكبار على حد سواء، وتحولت الكثير من المقاطع في حكاياته حتى الى أمثال وحكم روسية ترد في احاديث الروس، ويمكن القول نفس الشئ كذلك بالنسبة لبوشكين، فحكاياته، التي كتبها شعرا، لا زالت (ولحد الان) في طليعة الكتب المطلوبة للقراءة في روسيا، ولجميع القراء من صغارهم الى كبارهم، وغالبا ما تعيد دور النشر الروسية طباعة تلك الحكايات باشكال جذّابة، وتزيّنها بلوحات فنية جديدة، يرسمها فنانون تشكيليون روس معاصرون، وتعتبر هذه الكتب أجمل هدية يقدمها الروس للاطفال في مختلف المناسبات، وكم تمنينا (نحن العرب الذين شاهدنا هذه الظاهرة الرائعة ان نحذوا حذوهم، ونتخلص من عادة منح النقود للاطفال!)، وقد التقيت جارتي قبل ايام، وكانت فرحة جدا، وعندما سألتها عن السبب، فقالت لي، انها وجدت في مخزن بيع الكتب طبعة جديدة في غاية الجمال لحكاية بوشكين عن الصياد والسمكة، واشترتها، وستقدمها قريبا هدية الى حفيدتها بعيد ميلادها، وقد ضحكت انا، وقلت لها، انك أخبرتيني مرة، ان حفيدتك تحب هذه الحكاية و تعرفها عن ظهر قلب، فقالت، نعم، هذا صحيح، ولكن هناك رسومات ملوّنة رائعة في هذه الطبعة الجديدة، وانا متأكدة، ان حفيدتي ستفرح كثيرا عندما تشاهدها.

يستحق أدب الاطفال اهتماما كبيرا، لانه يرتبط بمستقبل الامة باكمله، ويؤسفني ان اشير في نهاية هذه الخواطر السريعة جدا، الى ان أدب الاطفال في روسيا بقي مجهولا بالنسبة لنا، نحن العرب، رغم بعض الترجمات التي ظهرت هنا وهناك، ولم يحاول اي طالب عربي ان يدرسه في روسيا ويتخصص به حسب معرفتي المتواضعة، رغم ان هذا الادب يمتد من القرن الثامن عشر ولا زال يتفاعل بحيوية وازدهار وتطور في المجتمع الروسي الى حد الان، ويؤدي دورا متميّزا في مسيرة هذا المجتمع ...

***

أ.د. ضياء نافع

 

يحلّ علينا عيد الفطر المبارك وهو اجمل مناسبة لأن نسامح بعضنا بعضا، وستندهشون حين تدركون ان التسامح هو للروح كما الصابون للجسد، يغتسلها من اوساخها ايضا، وان من لا يقدم عليه، يتعفن من الداخل بنقيضه.. الكراهية.

وستندهشون ايضا.. ان التسامح الذي صار الان مبدءا انسانيا تعتمده الامم المتحدة، كان الدين الاسلامي قد سبقها وسبق الحضارة المعاصرة بالف وخمسمئة عاما في دعوته الى التخلي عن رغبتنا في ايذاء الاخرين لأي سبب حدث في الماضي، وان نفتح اعيننا لرؤية مزايا الناس بدلا من ان نحكم عليهم ونحاكمهم او ندين احدا منهم. وكان النبي الكريم قد ضرب اروع مثلا وانبل موقفا في التسامح يوم فتح مكة وقال للذين حاربوه.. من دخل بيته فهو آمن ومن دخل بيت ابي سفيان فهو آمن.. مع ان ابا سفيان كان من الدّ اعدائه.

والتّسامح.. الذي دعا إليه الأنبياء والمصلحون، لا يعني فقط العفو عند المقدرة، وعدم ردّ الإساءة بالإساءة، والترفّع عن الصّغائر، بل انه يعمل على السُّموّ بالنّفس البشريّة إلى مرتبة أخلاقيّة عالية، وله أهميّة كبرى في تحقيق وحدة وتضامن وتماسك المجتمعات، واحترام معتقدات وقيم الآخرين، والقضاء على الخلافات والصّراعات بين الأفراد والجماعات.. ولهذا فانه يعدّ ركيزة أساسيّة لحقوق الإنسان، والديمقراطية والعدل، والحريات الإنسانيّة العامّة.

والتسامح يقوم على مسلمات فلسفية بخصوص الطبيعة البشرية، اولها: لا يوجد انسان معدوم الخير، وثانيها: لا يوجد انسان لا يخطأ، وثالثها: ان الانسان مجبول على الحب.. ما يعني ان من يسيء لغيره قد يعيش ظروفاّ صعبةّ أدّت به الى أن يسيء لمن حوله، لكنّه لايجد من يعذره ويتسامح عن زلّته.

وما لا يدركه كثيرون ان التسامح لا يعني فقط ان نسامح آخرين على اخطاء ارتكبوها بحقنا، بل يعني ايضا ان نسامح انفسنا على اخطاء ارتكبناها بحقها وان نخلّصها من اللوم والاحساس بالخزي والشعور بالذنب الذي يصل احيانا الى تحقير الذات.

وسيكولوجيا.. يعني التسامح ايقاظ مشاعر الرّحمة، والتّعاطف، والحنان، الموجودة اصلا في قلبك، وازاحة مشاعر الغضب والكراهية والانتقام نحو من اساء اليك.ويعني فسلجيا.. ان الجهاز العصبي للانسان يكون في حالة التسامح .. مرتاحا، لأن الدماغ يكون مرتاحا جدا في حالات الحب فيما يكون مشوشا متوترا(مخبوصا) في حالات الكراهية.

اعرف ان بينكم من يقول: كيف يمكن أن اسامح من أخطأ بحقي او تجاوز عليّ؟. واعرف ان بين العراقيين من هو (أنفه) ولسان حاله يقول (والله لو يموت ما اسامحه) و(هو شنو حتى اسامحه). لكنك لو فكرت كيف ستكون مرتاحا نفسيا ان بادرت انت وكيف سيكون ممتنا لك من اساء اليك.. لشكرتنا وفعلت!

وثمة حقيقة سيكولوجية لطيفة جدا، هي انك اذا احببت احدا خلقت له الاعذار عن خطأ او سوء تصرف صدر منه نحوك، واذا كرهت احدا فانك تخلق له الاسباب وتعمل على تضخيمها.. وكلاهما ناجمان عن حسن الظن في الأولى وسوء الظن في الثانية.. الذي يشيع في زمن الكراهية.ما يعني ان علينا ان نبدأ بحسن الظن بالآخرين كخطوة اولى نحو التسامح، وان نستثمر مناسبة العيد المبارك في ان نبادر نحن بمسامحة الآخرين.. فبه نكسب رضا الله ورضا النفس والناس، ونشيع التفاؤل والمودة والحب والسلام في وطن كانت بغداده تسمى مدينة السلام.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

 

ترتبط التجربة التي يخوضها المتذوق في الجمال بالمعرفة التي يمتلكها، وأن المعرفة الجمالية تعتمد على الإدراك الحسي، وان التفاعل مع الموضوعات الجمالية يتم من خلال الأدوات الحسية، وهذا ما أشار إليه ابن (منظور) بقولة: أن التذوق يكون بالفم أو بغيره، لذا يمكن عد الجسد الإنساني كتلة حسية تتغذى على الملامسة، لكن الفلاسفة فضلوا في أن يجعلوا لكل معرفة قناة خاصة للإدراك، وهذا ما أشار إليه (أرسطو) بقوله: (من فقد حساً فقد الإحساس بمدارك ذلك الحس). وعلى هذا فرق (نيتشه) بين نوعين من النشوة التي يحصلها الإنسان المتذوق من الفنون الجميلة: ابولونية (عقلية) تثأر من خلالها العين، مثل الرسام والنحات، وديونيزوسية (حسية) تثير من خلالها وسائل الإحساس وتهيج دفعة واحدة في التحول والمحاكاة، مثل الكوميديا.

وبما أن الذائقة الجمالية لدى الإنسان تعتمد على الحواس في خوض التجربة الجمالية، فإن اي تأثر أو فقدان بتلك الحواس، يسبب نفياً للمعرفة الجمالية. ومن اهم عوامل الفقدان التي تتعرض لها اعضاء الإدراك الحسي تتمثل بالمرض أو الفقدان للحاسة. لذلك نرى ضرورة البحث في علاقة الجمال بالأمراض والأوبئة التي تسبب نفياً لذائقتنا الجمالية، وفقدان للمعرفة الحسية.

ويمكن تعريف (المرض): بأنه كل ما خرج بالكائن الحي عن الصحة والاعتدال من علة، أو نفاق، أو تقصير في أمر. فالمرض متعدد، مره يكون جسدي، وأخرى يكون نفسي، اذا ارتبط المرض بالنفس كان شكاً،او نفاقاً، أو حسداً، أما إذا أصاب الجسد كان الفقدان، وإن الذائقة الجمالية تعتمد على الإدراك من خلال الحواس في تكوين الصورة الحسية للجميل والاستمتاع به نفسياً، وهذا ما أكده الفيلسوف الإنجليزي (هيوم) أن التذوق وسيلة لتميز بعض خصائص الأشياء من خلال الحواس الخمسة. أما وظيفة المتذوق فقد بينها (هايدجر) بقوله: بأنها تتمثل في إعادة انتاج الرؤية الإبداعية للموضوع الجمالي. لذلك تعتمد عملية التأمل للجميل على الإدراك الحسي، والتي بدورها تتحرك من خلال بواعث غريزية ونفعية.

لذلك سلامة الأدوات الحسية جزء من فهم ووضوح الصورة الجمالية لدى المتذوق، فغياب الإدراك الحسي يعني غياب المعرفة الجمالية، والعيش بأوهام القبح دون الإحساس بلذة الحياة وزينتها، فالصحة جميلة وخيره، والمرض قبيح وشر، وهذا ما بينه الفيلسوف الإسلامي (ابن مسكوية) عن أرسطو، وأكد عليه سقراط من قبل بأن الشيء الجميل هو ما يؤدي وظيفته على أكمل وجه. فالمعرفة الجمالية هي معرفة يشترك في تكوينها الحس والفهم كما يرى (كانت)، وأن عملية التجريد التي يقوم بها الذهن للبينات الحسية التي تستورد من الحواس، ترتبط بسلامة العضو وصحته.

وعلى الرغم من أن يبدأ كل شيء مع الانطباع الحسي، فمن الضروري أن تمر هذه المعلومات بسلسلة من العمليات العقلية، وبما ان الواقع متغير، فإن الاحتفاظ بمعرفة الأشياء، يعتمد على الجمع بين الخيال والذاكرة، وإن هذا يتم من خلال الانطباعات التي تدركها الحواس لصفات الأشياء وتحولاتها، فتتكون لدينا فكرة عامة وشاملة عن الاشياء.

لذلك تكوين المعرفة المكتسبة من خلال العمليات الإدراكية تعتمد على صحة البدن، ونقاء الإحساس، فكل اعاقة أو مرض فايروسي يضرب حاسة من الحواس هو فقدان لتلك اللذة والمعرفة المرتبطة بها بحسب ارسطو،لكن (افلاطون) يرى المعرفة بأنها تذكر، فهل المرض أو الاعاقة للحواس لا يستوجب نفيا للمعرفة الجمالية، لكون الفرد يحتفظ بصورة ذهنية عن طريق المعرفة المكتسبة. نرى من المكن هذا الأمر ينطبق على من فقد حاسة جراء مرض فايروسي مؤقت أو إعاقة دائمة، لكن يبقى الأمر أكثر صعوبة على الإنسان عندما يكون المرض،او الاعاقة منذُ الولادة. فيمكننا التساؤل: كيف يمكن لهذا الشخص تكوين معرفته عن الاشياء الخاصة بهذه الحاسة المفقودة،هل الحواس الأخرى كافية لتعويض المعرفة التي فقدت ؟.

بما أن الإنسان يمتلك حواسا خمسة تتعدد مهمتها،و في أكثر الأحيان نحتاج جميع الحواس لمعرفة شيء معين والأستلذاذ به، فنعرف شكله من خلال العين، ونتأكد من ملمسه من خلال اليد، ومذاقه من خلال اللسان، وصوته من خلال الأذان، ورائحته من خلال الأنف، فكل تلك الأدوات الحسية تجتمع من أجل توصيل صورة كاملة وواضحة للذهن لغرض اختيار الاستجابة التي تلائم الموضوع الخارجي وحفظة في الذهن، لذلك يمكن الاستعاضة بالحواس الأخرى لغرض تكوين صورة عن الموضوع، وتبقى العين هي المصدر الرئيسي لمد الحواس الأخرى بالصور الحسية، لكن قد تكون خيالية بعض الشيء، ولنا في الصمم الذي أصاب بيتهوفن في أواخر أيامه مثلاً لم يمنعه من تأليف السمفونية التاسعة.

أما المرض النفسي فتجده ذا تأثير كبير على فهم وتكوين الصورة الجمالية من خلال ظهور اللاشعور أو المكبوت في اللاوعي إلى الواقع، فالرغبة المكبوتة هي المصدر في تحديد صورة الشكل وليست الأدوات الحسية، وهذا ما أكده (كروتشه) بقوله: عندما نشاهد لوحة قد تستثير في نفوسنا ذكريات طيبة، لكن اللوحة قد تكون قبيحة من الناحية الفنية، أو العكس من ذلك، قد تكون جميلة فنياً، ولكنها تترك أثرا بغيضا على النفس، لذلك الرغبات المكبوته في نفس المتذوق للموضوع الجمالي هي من تشكل صورة اللذة الجمالية، لذلك المرض النفسي يعيق العمليات العقلية ويوهمنا بصور لانطباعات مكبوتة تختلف عن غاية الموضوع الخارجي وصورته، لذلك كان الفن تطهيراً وشفاء للشر والأمراض التي تكمن فينا، لذلك قد يكون المرض نفياً للجمال، إلا أن معالجة تلك الأمراض لا تتم إلا من خلال الفن، لذلك يمكن دراسة الأمراض والأوبئة من الناحية الجمالية لغرض بيان الإعاقة التي تقف بوجه تكوين المعرفة الجمالية، والأسباب التي أدت إلى فقدان الحس الجمالي لدى الأفراد وتقديم المراجعة التي يمكن الاستفادة من دراسة لغرض تقديم المعالجة الجمالية.

***

كاظم لفته جبر

 

 

في المثقف اليوم