قضايا

طرح سماحة السيد مضر الحلو سلسلة مقالات تحت عنوان (مآلات الخطاب الديني) والتي سلط من خلالها الضوء على مآلات الخطاب الديني وتراجعه الديناميكي بصورة مؤلمة وما صاحبها من حالة انقلاب حاد في المعايير والمفاهيم الفكرية والفلسفية، التي لاتسمح لاي منصف ان يغض النظر عنها او تجاوزها.

ما يعني ذلك ان الخطاب الديني فقد بوصلته وقوته وتأثيره المغناطيسي على عقل المسلم. مما جعل الخطاب الديني ان يقف في قفص الاتهام، بعد ان كان ينظر له منبر توعوي اصلاحي مشع يستلهم منه المسلم بكل سكينة وهدوء الموعظة والقيم والمثل العليا.

فهناك سيل من التصرفات البدائية والسلوكيات المخجلة من قبل بعض الخطباء التي جعلت من الخطاب الديني موضع استهزاء وسخرية منه ومن رجالاته. فاصبح ينظر اليه عبئاً اجتماعيا على الفرد المسلم بعد ان كان يمثل هوية وانتماء.

تحدث سماحته عن ماهية الدين وحركة الانبياء في القرآن الكريم، والبعد الاخلاقي لتلك الحركة الدعوية والمهمة الرئيسية للاديان، والهدف الاسمى للانبياء باعتبارهم مبشرون للقيم الاخلاقية والانسانية والعدل الالهي.

كما في دعوة نبي الله شعيب (ع) (وَإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأوفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) 85 الأعراف.  

وكذلك في دعوة نبي الله لوط (ع): ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) العنكبوت.

ومن هنا يشير سماحته الى كثرة الوعاظ وتدافع الخطباء على المنابر الاسلامية والاعلامية المتعددة في كل المناسبات الدينية على مدار السنة.  ورغم الكم الهائل من المنابر الوعظية، الا ان الخطاب الديني لم يحقق ما يطمح له من سمو اخلاقي والتزام ديني، او تقدم انساني على مستوى العقل والوعي والابداع.

حيث يعصف الفشل والتخلف والتقهقر والنكوص في مجتمعاتنا العربية والاسلامية وتراجع القيم الانسانية فيها، وتنعدم المبادرات الايجابية وتنتشر الظواهر السلبية التي تهدد الاسرة والمجتمع. كما يشير سماحته الى احصاءات ومسوح علمية صدرت عن القمة الحكومية العالمية التي عقدت في دبي حيث تشير الى تراجع كارثي في التنمية البشرية وفساد مالي يتجاوز ترليون دولار، والعراق في مقدمة الدول العربية.

 واعداد مهولة تعيش تحت خط الفقر وتراجع في العلم والمعرفة والتصنيفات العلمية، فضلا عن موجة الإرهاب والحروب والفتن الداخلية فهي من نصيب العرب والدول الاسلامية وانظمتها السياسية الفاشلة وعدم اكتراثها لمواطنيها. بالوقت الذي نرى ان الكثير من الدول الاوربية والاسوية تتقدم في حقولها العلمية والمعرفية والانتاجية وتحقق خطوات متقدمة في طريق التنمية.

ومن هنا يحمل سماحة السيد بعض خطباء المنبر جزء من هذا النكوص، ويؤكد بكل أسف على ان الخطاب الديني في هذه المجتمعات فقد تأثيره الإيجابي، وفشل في بناء مجتمع سليم معافى، لكونه لا يعالج الفساد وموجات الكراهية والاحقاد والكذب والنفاق والغش.

والسبب يعود الى سطحية بعض الخطباء وسذاجة ما يطرحونه من مفهوم للدين باطار ضيق ومنغلق يسلب الانسان ارادته وتفكيره وحريته. وهذا الخطاب يبني فردا خائفا مترددا ومهزوما. وذلك عن طريق التخويف والترويع والترهيب بتفاصيل عذاب القبر والبرزخ بما لا حجة لهم به، وهذا الخطاب يساهم في تشويه صورة الله الرحمن الرحيم عند المسلم،  وتأزيم علاقته بربه.

ويستطيع المراقب بكل بساطة ان يرصد الخط البياني المتصاعد للانحراف والتراجع الديني من قبل الشباب المسلم في المجتمعات الاسلامية، ليجعلوا من الله خصما لهم للاسف الكبير، وذلك بسبب الانحباس والتزييف الفكري لمفهوم الدين، وذلك بسبب التورم والتضخيم والتسذيج داخل الخطاب الديني، لرسم صورة مفزعة لله تؤدي إلى الغرق في القنوط والقلق والخوف، وكأن الإنسان المؤمن في معركة مزمنة مع الله.

يقوم سماحة السيد ومن على شاكلته من عقلاء رجال الدين بالمبادرة والمصارحة بمخاطر هذه التطورات وتداعياتها، وذلك من خلال إستعادة الوعي والاستيقاظ من المشاحنة والغضب والحد من خدش الذات الإلهية، وتجسير علاقة الانسان بخالقه الغفور الرحيم على أساس المحبة وحسن الظن، والتذكير بقول الله تعالى

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَميعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحيم‏) الزمر : 53.

وقد شخص سماحته أسباب الإخفاق للخطاب الديني عبر التحليل الانثروبولوجي لحركة المجتمع والاختراق الذي تحقق داخل الفضاء الاسلامي وتغيير موازين القوى المعرفية والفكرية. من خلال المناهج التربوية الخاطئة الذي اعتمدها الخطاب الديني مرتكزا على العبادات وشعائرها، مهملاً لمبادئ الاخلاق والقيم الروحية. مما شهدت تلك التداعيات غياب للامن الفكري وخلق ارتجاجات تربوية وسلوكية مذهلة. وهذا ما دفع المسلم الركون الى العبادات والحفاظ عليها وعلى شرائطها واشتراطاتها خوفا من العقوبة. متناسيا باب المعاملات التي تمثل جوهر الاسلام وروح الدين، لكونها لاتحظى باهتمام الخطيب وتقع في هامش حديثه.

ومن اسباب الاخفاق الاخرى هي ما يتمتع به الخطيب الديني من لغة استهلاكية باذخة تسمح له الخوض في كل شيء إلا جوهر الدين وروحه، كما تعتقد الغالبية العظمى من الناس ان الخطيب وكيل الله والناطق الرسمي باسمه، لما يملكه المنبر من سطوة وهالة روحية عالية. ولكن للاسف هناك من يحرض عمدا على تسويف العقل وخطف التفكير المتوازن وتصديع الانتماء الروحي للدين واخضاع المتلقي الى منطلقات سطحية مستهلكة والاستسلام لزوايا خاصة يفرضها الخطاب الديني، وهذا الارتباك يجعل الخطاب الديني يستهلك عافيته ويترجل من اعمدة المنابر ويغادر موقعه الريادي.

كما ندعو للمتهمين بقراءة جميع مقالات سماحة السيد مضر الحلو، يمكنكم زيارة صفحة السيد مضر الحلو في موقع المثقف

https://www.almothaqaf.com/component/authors/?view=articles&id=4620&start=0&limit=20

***

ناجي الغزي/ كاتب سياسي

من الحالات الاجتماعية الهامة التي أتيحت لي فرصة دراستها عن قرب حالة فتاة حاصلة على مؤهل متوسط (دبلوم فني) ومخطوبة لشاب حاصل على الإعدادية. والحقيقة أن حالتها بها الكثير من الدروس المستفادة لواقع البيئات الشعبية المصرية.

بدايةً فالفتاة على درجة معقولة من الجمال، وعلى درجة من الذكاء، وفضلت دخول المدرسة المتوسطة تخفيفًا عن أسرتها لأن ظروفهم المعيشية غير متيسرة، ولا قدرة لهم على تحمل أعباء دراستها في الثانوية العامة والجامعة، وبعد انتهاء دراستها صار لها مشروعها الصغير؛ فهي تصنع وتبيع وتكسب من عمل يدها ما يكفيها.

أما خطيبها فضعيف الذكاء، لم ينل حظًا من التعليم، ولولا الغش المتكرر ما حصل على الإعدادية، وفشل تمامًا في استكمال دراسته المتوسطة، ولدى عائلته كُشك بسيط يبيع فيه بعض السلع البسيطة، وهو ينفق من المال في الكشك على ما يحلو له، وعندما تأتي بضاعة لا يوجد في خزانه الكشك مال كافٍ وتسدد هي الفرق من مالها، ولولاها لكان الكشك قد أغلق منذ فترة، فهو شديد الإسراف منذ أن خطبها.

ورغم أنه من الواضح لكل من له عين أن الفتاة أفضل منه وما كان ينبغي أن تقترن بمثله، إلا أنه هو يرى أنه كان يستحق من هي أفضل منها!

تقول الفتاة إنه لا يقوم من مكانه في الكشك لو كان أحد معه، فهو شخص كسول، ولكنه فجأة يهب واقفًا إذا حضرت فتاة جميلة متأنقة لتشتري منه، خاصة إن كانت تقود سيارتها؛ والسبب أنه يمني نفسه أن إحداهن قد تعجب به يومًا ما! لأن أمه الجاهلة ملأت عقله بأنه سيدنا يوسف زمانه! وصدق من قال: رحم الله امرئ عرف قدر نفسه.

ولما سألتها عن السبب الذي يجعلها ترتبط بشخص تافه وجاهل وأحمق مثله، أجابتني أنه في المناطق الشعبية المصرية يُربى أغلب الشباب بطريقة النفخ؛ فالأم الجاهلة تنفخ ابنها من صغره دون أي أسباب وجيهة؛ فلا أصل طيب ولا تربية ولا تعليم ولا مكانة اجتماعية ولا مال، ومع ذلك تجعله يعيش في وهم ويظن نفسه مميزًا وسيد الناس ويستحق أن يتزوج أميرة! فأغلب من في بيئتها من الشباب من النوعية ذاتها.

إضافة لذلك فهي فتاة تكسب مالًا يعتبر بالنسبة لوسطها الاجتماعي كثيرًا، ولو لم تقترن بشاب سيحوم حولها شباب المنطقة، وبحسب تعبيرها فإن كلباً واحداً أفضل من عشرة كلاب، ومن وجهة نظرها أن هذا الشاب له مصدر رزق فليس من المتلطعين على النواصي وما أكثرهم، وهو لا يطمع فيها بشكل مباشر، بل يبذخ على نفسه معتمدًا على أنها ستساعده وتسد الخلل في مصدر رزقه، وبالنسبة لاعتقاده أن فتاة من الطبقات الرفيعة في المجتمع ستُعجب به يومًا فالزمان كفيل بإفاقته من أوهامه، ومن ثم فهو أطيب وأفضل المتاح بالنسبة لها!

والسؤال الهام الذي ينبغي أن نسأله: لماذا قل انتشار شخصية ابن البلد العصامي الأصيل؟ وأصبحنا نرى في المقابل تزايدًا في أعداد شخصية النطع الذي يبحث عن امرأة تنفق عليه؟ وقد يرى نفسه فوق ذلك أفضل منها!

وبالنسبة لي فالإجابة تتلخص في طريقة التربية الوضيعة التي يتلقاها هؤلاء منذ صغرهم، والتي لا تسهم أبدًا في تحفيز ذواتهم وهو أمر لازم لكل إنسان ليرتقي، والسبب الثاني هو الفقر الذي شاع في المجتمع في الآن ذاته الذي زادت فيه تطلعات الناس وارتفع سقف أحلامهم.

***

د. منى زيتون

الأربعاء 9 أغسطس 2023

مدخل: تنبهنا تجارب الشعوب والمجتمعات الإنسانية، أن العنف والتشدد الديني والإنساني من أخطر العيوب والآفات التي تصيب بعض المجتمعات.. فتحول هذه العيوب المجتمعات إلى الإصابة بأزمات متلاحقة، تزيد من إخراج هذه المجتمعات من حيّز التأثير الإيجابي في الحياة والحضارة الحديثة.

فالتشدد يراكم من السلبيات القيمية والسلوكية، وإن التشدد ليس من علامات القوة الذاتية والاجتماعية.

لذلك ثمة حقيقة راسخة تطلقها كل التجارب الإنسانية التي مرت بطور التشدد والغُلو الديني والاجتماعي.. حيث إن هذا الغلو يدخل عموم المجتمع في مواجهة داخلية مع نفسه.. فالمتشدد يحول معركته الأيديولوجية والسلوكية إلى معاداة أبناء مجتمعه، ويحارب كل الصور الإيجابية في بيئته الاجتماعية والإنسانية.

لذلك فإن محاربة التشدد والتطرف من الأولويات، حتى يتخلص المجتمع المصاب بداء التشدد والتطرف من هذا الاعوجاج القيمي والسلوكي.

لهذا فإن تجارب الحياة السياسية والسلوكية، تثبت أن الغلو والتشدد من أهم العيوب التي تصاحب بعض المجتمعات التي تتمسك برؤيتها الأيديولوجية وعقيدتها الذاتية.. وعليه فإن تمسك أي مجتمع بعقيدته يزيده قوة وقدرة على تذليل كل عقبات حياته.. ولكن حينما يصاب هذا المجتمع بالتشدد والغُلو الديني، فإن هذا التشدد يصبح من أهم العيوب التي تهدد استقرار المجتمع.

لهذا ثمة ضرورة وطنية واجتماعية لتعزيز خطاب وحقائق الاعتدال، بوصفه هو الذي يخرج هذا المجتمع من أتون التدهور الأخلاقي والسلوكي.

والسؤال الجوهري الذي يتبادر في هذا السياق: كيف نعزز حقائق وخطاب الاعتدال للخروج من مأزق التطرّف والتشدد الديني والسلوكي؟

نجيب على هذا السؤال من خلال النقاط التالية:

حماية حق الاختلاف:

لا ريب أن بداية الاعوجاج تتبلور حينما لا يتعامل الإنسان مع الاختلاف الإنساني بطريقة صحيحة وسوية.. لأن الاختلاف الإنساني حالة طبيعية وقد يكون من لوازم الحياة الإنسانية.. ورفض هذا الاختلاف هو الذي يقود هذا الإنسان المصاب بالغلو والتشدد إلى العمل على كسر الاختلاف والضغط بكل الوسائل التي لديه لتذويب دائرة الاختلاف الإنساني، والعمل على أن يكون كل المجتمع على رأي واحد وقناعة فكرية وثقافية واحدة.

لهذا فإن ترذيل الاختلاف الإنساني، هو الذي يقود إلى التعامل معه بوصفه من العيوب التي ينبغي أن تعالج.

لهذا فإن التعامل القاسي مع الاختلافات الإنسانية من الظواهر السيئة، التي تؤسس عبر متوالياتها المتنوعة إلى حالة التشدد الديني والاجتماعي.. وهذا السلوك لن يتم التخلي عنه إلا بحماية حق الاختلاف، وهو من الحقوق الأصيلة في حياة الإنسان.

التعامل الإيجابي مع حقيقة التعددية الاجتماعية:

من الطبيعي القول: إن كل المجتمعات متنوعة ومتعددة، والوقوف ضد هذه الحقيقة يؤدي إلى مشاكل وأزمات عديدة في المجتمع.. ودائماً الوقوف ضد حقائق التعددية، هو يؤدي إلى شيوع ظاهرة الغلو والتشدد.

لذلك فإن محاربة الغلو والتشدد الديني، وتعزيز حقائق الاعتدال، لن يكون إلا باحترام كل التعدديات الموجودة في المجتمع.. فلا اعتدال إلا بالقبول بالتعددية. ومن يبحث عن الاعتدال مع محاربة التعددية فإنه سيصاب بالمزيد من الغلو والتشدد.

لذلك من الضروري تربية أبناء المجتمع عبر التعليم ووسائط الثقافة المتنوعة على القبول بحقيقة التعددية والتعامل معه بدون خصومة أو عداوة، حتى يتعزز خطاب الاعتدال في المجتمع.

فالاعتدال هو نتاج طبيعي لظاهرة القبول بالتعددية الموجودة في المجتمع.

لذلك فإنه لا يمكن تعزيز حقائق الاعتدال، في ظل محاربة حقائق التعددية.. فلا اعتدال بدون القبول بالتعددية.. وإنما المجتمعات المعتدلة، هي تلك المجتمعات التي تزخر بالتنوع والتعددية وتحميها بكل الوسائل القانونية.

أما محاربة التعددية، فإنها تفضي إلى شيوع فكر التطرّف والغُلو.. لذلك فإن التعامل الإيجابي مع حقائق التعددية في المجتمع هو الذي يؤدي إلى تعزيز خطاب وحقائق الاعتدال في المجتمع والوطن.

صيانة الانفتاح والتواصل في الدائرة الاجتماعية:

على المستوى العملي والتطبيقي هناك تلازم بين ظاهرة الانغلاق والتشدد الديني والاجتماعي.. بمعنى أن من يعيش حالة الانغلاق فإن انغلاقه هو في أحد أسبابه وليد حالة التشدد والغُلو.. والتشدد وبيئته الاجتماعية هو الذي يصنع المناخ الداعم لخيار الانطواء والانغلاق.

وعليه فإن الانفتاح والتواصل مع الآخرين، من الصفات الأساسية التي تؤدي إلى الاعتدال.. فلا اعتدال إلا بالتواصل والانفتاح.. لهذا فإن تشجيع خيار الانفتاح هو الوجه الآخر للاعتدال.. لأن الانطواء كقيمة وسلوك على الضد من خيار الاعتدال. لذلك فإن المطلوب دائماً هو كسر حالة الانطواء ودفع الأمور باتجاه الانفتاح من أجل تعزيز حقائق الاعتدال في الوسط الاجتماعي.

***

أ. محمد محفوظ

حاول أبو حامد الغَزاليّ(ت: 505هج) جعل الفَلسفَة نقمةً على التّفكير، في: «تهافت الفلاسفة»، و«مقاصد الفلاسفة»، و«المُنقذ مِن الضَّلال»، ولهذه المهمة اعتبر نفسه معنياً بحديث التّجديد، فقال: «وعد الله سبحانه بإحياء دينه على رأس كلِّ مئةٍ، ويَسرَ الله الحركة إلى نيسابور، للقيام بهذا المهم في ذي القعدة، سَنة تسع وتسعين وأربع مئة» (المُنقذ مِن الضَّلال). التبس على مَن عدَّ هذا التَّاريخ تاريخاً لتأليفه «إحياء علوم الدِّين»، بينما شرع بتأليف الأخير(451هج) وأنجزه (460هج)، وفق مقدمته للإحياء.

ردَّ أبو الوليد ابن رُشد الحَفيد(ت: 595هج) على الغزاليّ منهجياً (تهافت التَّهافت)، فأعاد للفلسفة مكانتها في التّراث الفكريّ، وللفلاسفة دورهم في العِلم والحياة، وعلى هذا أفتَى بتدريس الفلسفة، وكان قاضياً وفقيهاً له: «بداية المجتهد ونهاية المقتصد». بعد تحريمها مِن قِبل الغزاليّ، فمَن يقول: «هذا مقدار ما أردنا ذكره من آفة الفَلسفَة وغائلتها»(المُنقذ...) أتجده يسمح بتدريس الفلسفة؟! خلافه أفتى ابن رُشد بوجوب تدريسها في «فصل المقال فيما بين الحِكمة والشَّريعة مِن اتصال»، كتاب حققه محمَّد عَمارة (ت: 2020)، وقدم له بما يليق، قبل مغادرتهِ الإعجاب بالمعتزلةِ والفَلسفَة، وتبني مطاردة فرج فودة (اغتيل: 1992) ونصر حامد أبو زيد(ت: 2010).

يسأل ابن رُشد عن «حكم دراسة الفَلسفَة»: «فإنَّ الغرض مِن هذا القول: إنْ نفحص، على وجهة النَّظر الشَّرعيّة، هل النَّظر في الفَلسفَة، وعلوم المنطق مُباحٌ بالشَّرعِ أم محظورٌ، أم مأمورٌ به، إمَّا على جهة النَّدب، وإمَّا على جهة الوجوب؟». ويُجيب: «إنْ كان فِعل الفَلسفَة ليس شيئاً أكثرُ مِن النَّظرِ في الموجودات، واعتبارها مِن جهة دلالتها على الصَّانع، أعني مِن جهة ماهي مصنوعات، لأنَّ الموجودات إنما تدل على الصَّانع، بمعرفة صنعتها، وإنَّه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم، كانت المعرفة بالصَّانع أتَّم»(الفصل).

يتوصل ابنُ رُشد بعد ضرب الأمثلة بآيات، مشجعة للنَّظر العقليّ، إلى أنَّ الشّرع لا يمنع دراسة الموجودات بالعقل، أيّ الفَلسفَة، التي عُرفت بـ«محبة الحكمة»(الشَّهرستانيّ، الملل والنِّحل).

تزامناً مع ابن رُشد وعسكه، صَنف ابن قُدامة (ت: 620هج) «تحريم النّظر في كُتب الكلام»: «أهل الأَهوَاء والبدع عِند أَصحَابنَا هم أهل الكَلَام، فَكلُّ مُتَكَلم مِن أهل الأَهوَاء والبدع أشعرياً كَانَ أَو غير أشعري، لَا تقبل لَهُ شَهَادَة، ويهجر، ويُؤدب على بدعته...». أقول: إذا حَسب ابنُ قُدامة أبا الحسن الأشعري(ت: 324هج) على الأهواء، فما حِساب الفَلاسفة عنده؟! وهل يسمح التَّابع لرأيه بتدريس الفَلسفَة؟!

كذلك هل يسمح بتدريس الفَلسفَة مَن يعتقد بعبارة ابن خَلدون(ت: 808هج): «إبطال الفَلسفة وفساد مُنتحليها»، وقوله عن الفلاسفة، اليونان والمسلمين: «واعلم أنَّ هذا الرَّأي الذي ذهبوا إليه باطلٌ، بجميع وجوهه»(المقدمة). بينما تدريس الفَلسفَة يفتح المدى المعرفيّ أمام العقل، ويجسد الثّقة به.

غير أنَّ تدريسها، الذي كُرَّه وحُبّذ، لا يصح تطبيقه على أساس العقائد، فتلك لم تعدَّ فَلسفةً، إنما مقابلة الآراء والبحث، وتدريس تاريخ الفلسفة، فهذه المادة المؤسسة للدرس الفلسفيّ، وإذا تحولت إلى عقيدة لم تبق محبة حكمة، ولا إحاطة بمعلومات. لأنَّ الفَلسفَةَ ليست عقيدةً دينيةً، العقائد الدِّينيَّة تعاليم وهي آراءٌ وأفكارٌ.

نجد الغزاليّ، الذي زَندقَ أصحابها، تحوَّل بتأثيرها، بعد معاناته، مِن فقهاء عصره، بسبب الخوض بها، ضد التّكفير بين المذاهب (فيصل التّفرقة...). صار فيلسوفاً بالعدوى، بعد لومه للفلاسفة على «استدراج العوام»(المُنقذ...)، وإذا به يُستَدرج! فقال القاضي ابن عربيّ(ت: 543ه): «شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفَلاسفة، ثم أراد أنْ يخرج منهم فما قدر»(ابن تيمية، الانتصار لأهل الأثر). أقول: إذا أفتَى ابن رُشد، قبل ثمانية قرون، بوجوب تدريس الفلسفة، يوم لا اكتشافات ولا اختراعات، فكيف الآن!

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

ثمة عامل معطل لعقلانية التفكير، أحتمل أنه موجود - بقدر أو آخر - في كل مجتمع على وجه الكوكب، أعني به اعتبار الماضي مصدراً للقيم العليا ومعايير العلم. هذا العامل مثير للحيرة بعض الشيء، فهو يبدو عقلانياً من جانب، ومعطلاً للعقلانية من جانب آخر.

دعنا نأخذ مثالاً بسيطاً كي تتضح المسألة: قبل 2400 عام رأى أفلاطون، الفيلسوف اليوناني، أنَّ الناس يتفاضلون بحسب طينتهم، أو جيناتهم كما نقول اليوم. ثمة أشخاص يولدون وهم مهيأون للجندية، وآخرون يولدون حكماء ومعلمين، ويولد صنف ثالث ليحكم البلاد، وآخرون ليعملوا حدادين وفلاحين... إلخ. وعلى النسق نفسه ثمة من يولد بعقل كامل، مهيئاً لاكتساب الفضائل، وثمة من يولد ناقص العقل، فلا يحظى من أسباب الفضيلة إلا بقدره. وهذا التباين والتفاضل ضروري كي يستقر نظام العالم.

سادت هذه الرؤية طوال العصور الماضية، وأخذت بها الكنيسة في عهد الدولة البيزنطية ثم الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وأخذت بها الدولة الإسلامية منذ عهودها المبكرة، وعدّها علماء المسلمين من قبيل المسلمات. وهذا ظاهر في تمييزهم بين الأحرار والعبيد، وبين النساء والرجال، وبين العرب وغيرهم، وبين قريش وغيرها.

حسناً... ماذا يقول إنسان اليوم عن هذه الرؤية العميقة الجذور في ثقافة العالم وتاريخه؟

بناءً على معرفتي المحدودة، أفترض أنَّ معظم الناس سيرفضونها. وربما جادلوا بأنَّ تحولات العلوم والتقنية في السنين الأخيرة قضت على أي دليل ربما يدعم الرؤية القديمة. لكن بعض الناس ربما يحاجج قائلاً: هذا شيء آمن به آلاف العلماء طيلة قرون، فهل كانوا جميعاً جهلة أو غافلين؟ لعلَّ لديهم حجة من نوع ما، أو دليلاً لم نعثر عليه. المهم أنَّهم لم يتبنَوا تلك الرؤية عبثاً ولا جهلاً بمعناها.

هذه حجة لا يمكن ردها. فلو رمينا أولئك الناس بالجهل، لمجرد قبولهم فكرة نراها خاطئة، فعلينا أن نعيدَ النظر في كل فكرة نتبناها اليوم، فما من نظرية معاصرة إلا ولها جذور ممتدة في علوم الماضين.

وقد أشرت في مقال الأسبوع المنصرم إلى أنَّ فكرة اليوم هي نتاج العبور من فكرة الأمس، وفكرة الأمس مرتبطة بما قبلها وهكذا. ترى هل كان ألبرت أينشتاين، أبرز علماء هذا العصر، قادراً على إنشاء نظريته التي غيرت مسار العلم، لولا تراث جيمس ماكسويل وإسحاق نيوتن. وهل كان نيوتن قادراً على وضع نظريته في الفيزياء، لولا النتاج العلمي الباهر لغاليليو غاليلي ويوهان كبلر. وهل يمكن فصل هؤلاء عن نتاج كوبرنيكوس؟ وهكذا تتواصل السلسلة إلى ابن الهيثم وبطليموس وأرخميدس الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد.

هذا وجه من العملة. دعنا ننظر في الوجه الآخر: لماذا نعتمد الطب الحديث بدل علاجات ابن سينا، لماذا نهتم بالرواية الحديثة وليس مقامات الحريري، ولماذا نصفق للشعراء المعاصرين ولدينا تراث امرئ القيس وعنترة بن شداد وطرفة بن العبد والنابغة الذيباني وعمرو بن كلثوم، وسائر شعراء المعلقات وفحول شعراء العرب السابقين؟ ولماذا لا نكتفي بفيزياء نيوتن وغاليليو وبطليموس، بدل العلماء المعاصرين، ولماذا لا نكتفي بفقه الإمام جعفر الصادق أو أبي حنيفة أو مالك أو أحمد أو الشافعي، بدل عشرات الآلاف من الفقهاء الذين جاءوا بعدهم حتى يومنا هذا؟

أعلم أننا جميعاً نعرف الجواب: النظرية العلمية بنت زمانها، ثم تذهب للأرشيف. حسناً دعنا نسأل أنفسنا: هل ينطبق المبدأ ذاته على العلوم المتصلة بالهوية والإيمان؟ أظن أن الأمر لا يستدعي مناقشة، بل تأملاً ذاتياً ومراجعة لمحتويات الذهن، وربما مساءلة النفس عن مكان تلك المحتويات على خريطة الزمان.

***

د. توفيق السيف

اللغة الكوردية: هي لغة من اللغات الهندية الأوروبية (هندواوروبي). وهي تستخدم بشكل رئيسي في مناطق كردستان، وهي منطقة جغرافية تمتد عبر عدة دول في الشرق الأوسط بما في ذلك تركيا وإيران والعراق وسوريا.و يقدر عدد المتحدثين باللغة الكوردية بعشرات الملايين في العالم .

و قد تكون اللغة الكردية من اثرى اللغات حيث ان تعداد كلماتها

735,320 كلمة رئيسية، مما جعلها ثالث أكثر لغة غنىً في الكلمات بعد الفنلندية والكورية، وكان هذا التصنيف بناء على احتواء اللغة الكردية على 1، 200، 000 مليون كلمة اضافة الى التعابير والعبارات

بلهجاتها المختلفة الكرمانجية الكردية المركزية

و السورانية

والكردية الجنوبية (خوارن).

لغات زازا-غورانية

الکرمانشاهیة

لغة زازاكية

لهجة كردية غورانية.

البایزیدیة. الهكاریة. البوتانیة. الشمدینانیة. البهدینانیة. الغربیة. الكركرية

اللُریة. البختیاریة. المامسانیة. الكوهكلویة. اللكیة. الكلهریة.

أصل اللغة الكردية:

اللغة الكردية هي لغة قديمة جدا وقد قرأت انا كاتبة المقال في كتاب: في الدراسات التاريخية واللغوية الشرقية، للاستاذ محمد روني المراني حيث يذكر الكاتب عن وصوله لكتاب قد تم ترجمته عن اللغة الكردية والذي ترجمه كاتب صوفي معروف يدعى ابن وحشية

حيث يقول الكاتب محمد روني المراني:

(أثناء دراستي للماجستير وضمن المراجع التي كنت ألجأ إليها وجدت في "معجم المطبوعات العربية" لإليان سركيس في ترجمة ابن وحشية أنه ذكر في نهاية كتابه "شوق المستهام" أنه ترجم من الكردية كتابين من أصل كتب كثيرة، وعرفت أن "شوق المستهام" مطبوع في أوربا قبل قرنين من الزمن وأن نسخه المخطوطة ترجع إلى أكثر من عشرة قرون)

و يقول الكاتب انه بإيجاده هذا الكتاب استطاع ان يتعرف على الاحرف الكردية الاصلية القديمة

ابن وحشية كان أول من فك رموز اللغة المصرية القديمة وميّز أنواعها في كتابه "شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام"

كتاب شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام لإبن وحشيه يتناول أحرف عشرات اللغات القديمة والموغلة في القدم وحتى عصر المؤلف، وتبرز أهمية الكتاب في أنه لا يكتفي بمجرد ذكر هذه الأحرف، بل يفك رموز كل هذه الحروف القديمة ويضع ما يقابلها باللغة العربية.

وبالعودة للغة الكردية فهي لغة قديمة وهي جزءًا من مجموعة اللغات الإيرانية الغربية. وتعود أصولها إلى اللغة الإيرانية القديمة، التي كانت تستخدم في القرون القديمة والوسطى في المنطقة. وتطوّرت اللغة الكردية على مر العصور بفضل التأثيرات المحلية والثقافية والتاريخية التي شهدتها المنطقة.

تطورات اللغة الكردية:

شهدت اللغة الكردية تطورات على مر العصور نتيجة التأثيرات الثقافية والسياسية والاجتماعية على المنطقة. في العصور الوسطى، تأثرت اللغة الكردية باللغات الأخرى مثل العربية والفارسية والتركية. وفي العصور الحديثة، شهدت اللغة توسعًا في المفردات والمفاهيم واستخدامها في الأدب والإعلام والتعليم.

تطورت اللغة الكردية أيضًا في مجال الكتابة، حيث استُخدمت الأبجدية العربية لكتابتها في العصور الوسطى، ثم اعتمدت الأبجدية اللاتينية في القرن العشرين.

وتوجد اليوم نظمًا رسميًا للكتابة باللغة الكردية باستخدام الأبجدية اللاتينية، وهذا يسهل عملية التواصل والتبادل الثقافي والتعليمي مع المجتمعات العالمية الأخرى.

أبرز اللغويين الكرد:

يوجد العديد من اللغويين الكرد الذين ساهموا في دراسة وتوثيق اللغة الكردية وتطويرها على مر العصور. من بين هؤلاء اللغويين البارزين:

1. جلال الدين الرومي (1207-1273): كان شاعرًا وفيلسوفًا كرديًا وأديبًا بارزًا من القرن الثالث عشر. يُعتبر من أعظم الشعراء في التاريخ وله إسهامات هامة في الأدب الكردي.

2. تيواني (1900-1968): كان عالمًا لغويًا كرديًا بارزًا. قام بجمع ودراسة اللغة الكردية ونشر العديد من الأعمال اللغوية التي ساهمت في توثيق اللغة وتطويرها.

3. حسين بيليك (1927-1999): كان باحثًا ولغويًا كرديًا معروفًا. قام بإعداد قواميس ومختلف المؤلفات اللغوية والأدبية باللغة الكردية وقدم إسهامات هامة في توثيق اللغة ودراسة تطوراتها.

4. جمال نوري (1944-): عالم لغوي كردي يعتبر من الشخصيات الهامة في دراسة اللغة الكردية. قدم العديد من الأبحاث والدراسات اللغوية والنحوية وساهم في نشر المعرفة حول اللغة الكردية.

يجدر بالذكر أن اللغة الكردية ما تزال تواجه بعض التحديات، بما في ذلك الاضطهاد السياسي والقيود الثقافية. ومع ذلك، فإن الجهود المبذولة للحفاظ على تراث اللغة الكردية وتطويرها مستمرة، وتتضمن إقامة مدارس ومؤسسات تعليمية تعنى بتعليم اللغة الكردية ونشر الأدب والمعرفة باللغة الكردية .

تعتبر اللغة الكردية لغة ذات تاريخ طويل وثقافة غنية، وقد أبرزت في عدة مجالات.

من بين اللغويين الكرد المعاصرين البارزين، يمكن ذكر

1. محمود بايزيدي (1937-): لغوي وأستاذ جامعي كردي، يعتبر من أبرز الشخصيات اللغوية في التاريخ الحديث. قام بالعديد من الأبحاث والدراسات في مجال اللغة الكردية واللسانيات العامة.

2. بهرام بيوروتي (1944-): لغوي كردي معروف وأستاذ جامعي. قدم العديد من الدروس والمحاضرات في اللغة الكردية واللسانيات العامة، وله العديد من الإصدارات اللغوية.

3. كامران رحماني (1958-): لغوي وأكاديمي كردي معروف. يعمل كبروفيسور في علم اللغة والدراسات الكردية. قدم العديد من الأبحاث والمؤلفات في مجال اللغة الكردية والثقافة الكردية.

4. سليمان حسين (1960-): لغوي وأكاديمي كردي مهم. يدرس اللغة الكردية واللسانيات ويعمل على تطوير الموارد اللغوية للغة الكردية.

وهم وغيرهم كثيرين قاموا بإسهامات هامة في دراسة وتطوير اللغة الكردية وترويجها.

اللغة الكردية لها عدد من المميزات التي تجعلها لغة فريدة ومثيرة للاهتمام مثل .

1. نظام الأصوات: تتميز اللغة الكردية بنظام صوتي غني ومتنوع. تحتوي على مجموعة واسعة من الأصوات المتحركة والساكنة والمتوسطة، مما يسمح بتعبير دقيق وواسع النطاق عن الأفكار والمفاهيم.

2. غنى المفردات: تحتوي اللغة الكردية على مفردات غنية ومتنوعة، ما يسمح بوصف وتعبير عن الأشياء بشكل دقيق ومفصل. يتيح هذا للمتحدثين باللغة الكردية التعبير عن مفاهيم متعددة وتفصيلات دقيقة.

3. تراث ثقافي غني: اللغة الكردية هي حاملة لتراث ثقافي غني وقديم. تحتوي على العديد من الأدبيات الشفهية والكتابية والشعرية والتراث الشعبي، مما يعزز الهوية الثقافية الكردية ويساهم في الحفاظ على التراث الثقافي للشعب الكردي.

4. تعدد اللهجات: اللغة الكردية تشمل مجموعة من اللهجات المتنوعة. على الرغم من وجود لهجات متعددة، إلا أنها تشترك في الأساس اللغوي وتحتوي على تشابهات كبيرة، مما يسهل التفاهم بين المتحدثين باللهجات المختلفة.

5. القدرة على التطوير والتكيف: تتميز اللغة الكردية بقدرتها على التطوير والتكيف مع الاحتياجات

اللغة الكردية تتطور باستمرار وتتكيف مع التغيرات اللغوية الحديثة. فمثلًا، قد تم اعتماد الأبجدية اللاتينية للكتابة بدلاً من الأبجدية العربية في العصر الحديث، مما يسهل عملية التواصل والتحول إلى العصر الرقمي. كما يتم تطوير المفردات والمصطلحات لتتناسب مع الظروف الحديثة والتغيرات الاجتماعية والتكنولوجية.

6. سهولة التعلم: يمكن دراسة اللغة الكردية بسهولة، حيث أنها تحتوي على نظام صوتي وأحرف لاتينية يسهل فهمها وتعلمها. كما أن اللغة الكردية تستخدم في الأدب والإعلام والتعليم والحياة اليومية، مما يساعد على تعلمها واستخدامها بشكل فعال.

7. النطق الجميل: تتميز اللغة الكردية بالنطق الجميل والإيقاعي، مما يجعلها لغة جذابة للغاية للمستمعين. يمكن سماع اللغة الكردية في الأغاني والموسيقى الشعبية والأدب الشعري، مما يجعلها تشد الانتباه وتلفت الانظار.

اللغة الكردية قد ظهرت وبرزت في العديد من الأعمال الأدبية والفنية والإعلامية، وقدمت على مر العصور إسهامات هامة في نشر الثقافة الكردية والحفاظ على تراثها عن طريق:

1. الثقافة الشاملة وتشمل العديد من الأعمال الأدبية القيمة التي تستخدم اللغة الكردية. وتشمل هذه الأعمال الشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرحية والنثر الأدبي. من بين الأدباء الكرد الذين كتبوا باللغة الكردية: عبد الرحمن شاهرازي وملا مصطفى بارزاني وعبد الخالق حسين وقاضي محمد ومام جلال الطالباني وغيرهم. تلك الأعمال أبرزت اللغة الكردية ونشرتها في مختلف أنحاء العالم.

2. الإعلام الكردي: تستخدم اللغة الكردية في وسائل الإعلام المختلفة، مثل الصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون ووسائل الإعلام الرقمية. وتعد الإعلام الكردي مصدرًا هامًا للمعلومات والأخبار والتواصل الثقافي، وتساعد في نشر اللغة الكردية وتعزيزها.

3. الموسيقى الكردية: يتم استخدام اللغة الكردية في العديد من الأغاني والموسيقى الشعبية الكردية، التي تعد من العناصر الأساسية للثقافة الكردية. وتشمل هذه الموسيقى الأغاني الرومانسية والشعبية والدينية، والتراثية

1. الادب الكردي بأنواعه فالكثير من الاعمال الادبية التي اسهمت في بروز اللغة الكردية

حيث يتمتع الأدب الكردي بتاريخ غني، وقد أنتجت اللغة الكردية شعراء وكتابًا بارزين. من ابرزهم عبد الرحمن ميرزا، وملا علي بت، وسعد الدين النجم البخاري. أما في القصة والرواية، فقد كتب عدد من الكتاب الكرد روايات وقصص قصيرة تعكس ثقافة الشعب الكردي.

2. الصحافة ووسائل الإعلام: تعتبر اللغة الكردية لغة رسمية في إقليم كردستان في العراق ولها وسائل إعلام متعددة تستخدم اللغة الكردية ومن ابرزها مؤسسة روداو التي تنطق وتكتب باللغة الكردية وبلهجاتها المختلفه واكتسبت القراء العرب في نسختها العربية مما عمل دمج ثقافي اعلامي احدث اثرا جيدا على الصعيد الاعلامي في العراق خاصة والوطن العربي عامة، ولا يسعنا ذكر كل المنابر الاعلامية الكردية التي ساهمت بشكل كبير في نشر الكلمة واللغة والثقافة الكردية بما في ذلك الصحف والمجلات والمحطات التلفزيونية والراديو. تلعب وسائل الإعلام الكردية دورًا هامًا في نشر اللغة والثقافة الكردية وتمكين المجتمع الكردي من التواصل والتعبير بلغتهم الأم.

3. الترجمة والتعليم: تمت ترجمة العديد من الأعمال الأدبية والعلمية إلى اللغة الكردية، مما اثار فضول الكثير من الادباء والشعراء لتبادل التراجم بين العربية والكردية او الانجليزية وقد كنت انا ككاتبة اطفال من اول المهتمين في ترجمة اعمالي القصصية للأطفال للغة الكردية اضافة الى ترجمة بعض المقالات .

على الصعيد التعليمي، تم تطوير برامج تعليمية ومناهج دراسية باللغة الكردية في المدارس والجامعات في مناطق كردستان. هذا يعزز استخدام اللغة الكردية في المجال التعليمي ويساهم في حفظ وتعزيز الهوية الثقافية الكردية.

4. السينما والمسرح: تم إنتاج أفلام ومسرحيات باللغة الكردية، تسلط الضوء على قضايا وثقافة الشعب الكردي. تعتبر هذه الأعمال مساحة للتعبير وإبراز اللغة الكردية كوسيلة للتواصل الفني.

5. النشر والكتابة: يوجد العديد من الكتاب والمؤلفين الكرد الذين يكتبون باللغة الكردية في مجالات مختلفة مثل الأدب، والتاريخ، والعلوم الاجتماعية. تساهم هذه الأعمال في إثراء المكتبة الكردية وإبراز اللغة الكردية كلغة مكتوبة وبعض هذه القصص كانت مشهورة بين الثقافات الاخرى مثل قصة مم وزين.

يجب أن نشير الى أن الاعتراف باللغة الكردية ودعمها يختلف من بلد لآخر ومن سياق سياسي إلى آخر. وفي بعض الأحيان، تواجه اللغة الكردية تحديات فيما يتعلق بالاعتراف الرسمي واعتبارها لغة رسمية وتعليمية رغم حق الكرد في استخدام لغتهم التي تعبر عن قوميتهم وتاريخهم وتراثهم وجزء لا يتجزأ من ثقافتهم وتراثهم الفني والادبي والانساني.

***

سارة طالب السهيل

الحياة الجديدة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتغير العالم إلى قطب واحد أثرت كثيرا على شكل العالم، وعلي وجه الخصوص بعد انهيار هرم الحداثة والتحول إلى ما بعد الحداثة تغيرت مفاهيم كثيرة ذات رصانة في الوجود البشري، فالواقعية انتهت في التحول من التاريخ إلى ما بعد التاريخ، فمؤشر الواقعية تحول من موقف اليقين إلى التصور المبني على التأويل، حيث يبدل التأويل التفسير ويحل بدله، وما هو أكثر خطورة هو انهيار الهرم البشري، وانعدام ثبوت الفسيولوجي للنوع، حيث اختلط نوع الرجل بالمرأة، وهنا تولد جنس بشري ثالث، وساعدت على ذلك قوانين دول جديدة لا تقبلها الحداثة فيما على العكس تتوافق عليها ما بعد الحداثة، وذلك الجانب بسيرورة في الإنترنت، حيث هناك مواقع لذلك الجانب، وأما إعداد اليوتيوب فقد تجاوزت أعداد الجنس الطبيعي، حيث تجد فيديو المثلية متعددا كثيرا، وأيضا يوتيوب التعامل الجنسي بين امرأة وأخرى، ويمكن أن نقر بأن هناك جنسا ثالثا سيتولد، وقد نشرت الكثير من البيانات في تحول من جنس إلى آخر، وذلك الجانب أصلا في الأخلاقيات العامة جنحة، لكن هنا يوتيوب اشرس نفسيا، حيث انتشر في اليوتيوب جنس المحارم، فهناك بين ابن وامه او اخ مع اخته، وطبعا بث هكذا يوتيوب هي تتجه لهدم الإنسان فينا وتلويث فطرته، وليست بريئة تلك اليوتيوب آت، ولا هي مجهولة الدافع، الذي من الغريب أن يكون ليس منحرفا، وهنا نقف نبحث في تلك الدوافع الغريبة المتناقضة.

كانت الحداثة كما القوانين التي تمثل بنية الدولة الصلبة صارمة وفاعلة، ورغم الكثير من الانفعالات النفسية، وأيضا وجود أفعال جنسية شاذة، والتي هي ليست مستحدثة فقد أكدت الميثولوجيا الدينية أن متصلة حتى بالتاريخ البدائي، وهنا نقف على نقطة مهمة تشير لنا بأن الفرد البشري قد أثرت فطرته السليمة بعد المعايشة المشتركة للجماعات، وقد أشار فرويد إلى أن إي وجود مشترك ضيق الأفق سينتج أفعالا شاذة، وحدد أن السجن إحدى بؤر السلوك الجنسي الشاذ، لكن طبعا ليس ذلك يحتمل أن يكون حالة تامة التعميم داخل السجون، وإشارة فرويد تتجه إلى المكان وليس للسلوك، فبنية المكان المشترك الضيق الأفق تلعب الدور في تهييج الإثارة النفسية الشاذة، ويكون العامل النفسي الشاذ أوسع وأعمق من المنطق العقلاني للجنس، وتتعطل الأخلاقيات العامة تماما بعد تصاعد إيقاعات الانفعال الجنسي الواعي من جهة اللذة، وغير الواعي من الجهة الأخرى المرتبطة بأخلاقيات النفس البشرية العامة، وهذا التناقض العجيب الذي يعيشه الموجب والسالب أيضا، وطبعا ليس هناك ضحية أحادية، بل كل من الشخصين هما ضحيتا المكان والمجتمع على السواء، وتفسير علم النفس لا يتوافق هنا مع الفلسفة الموضوعية، فالفلسفة الموضوعية تفكر معرفيا بشكل أبستمولوجيا واسع، ولا تهتم للقرينة الا في الجانب المضمونين، ولا تضع المعرفة الاعتبارات النفسية كمقياس اساس، بل تفسر المعرفة وحدة الزمن فلسفيا على أنها تختلف من حالة الى اخرى عبر فلسفة الزمن وابعادها، فيما علم النفس يعتمد على النتائج والقرائن ايضا، ولا يهتم كما الفلسفة للعامل الاخلاقي.

إذا نقر بأن الانحراف الجنسي قديم قدم التاريخ، لكن في بنية التاريخ وسيرورته كان يمثل عيبا أخلاقيا كبيرا، ويشكل على مستوى أخلاقيات المجتمع العامة انحدارا إلى الحضيض، لكن اليوم في ظروف ما بعد الحداثة تغير المفهوم إلى حد أصبح مقبولا في بعض الدول في تداوله، وانتشر نوع جنسي جديد في عالم اليوتيوب بشكل واسع، وهو جنس بسري ما بعد النوع، فالرجل إذا تميز بالذكورة، فإن المرأة قد تميزت بالرقة، فيما ما بعد النوع هو قد يجمع بالتميز الجانبين، وقد توسعت مساحة المرئي في أنواع الجنس ما بعد النوع، حيث تجد في المشاهدة أفلام المثلية أو تشاهد أفلام السحاقيات يتعاملن بلذة كما الجنس التقليدي، ولذلك لم أستغرب أنا حين شاهدت في قناة الفرنسية 24 أحد الشباب العربي في لقاء معه وتستفسر المذيعة عن قيامه بتمثيل الأفلام الإباحية وهو يرد دون أدنى اهتمام أو خجل أو حياء، وهذا في ظروف العالم الملتبسة، وفي الوجود البشري الحائر وبلا مصير يعيش، وفي الانهيار النفسي في الحياة، وفي شبكة العلاقات المتعددة، وفي الوجود الإلكتروني الذي يجيب لك على سؤال، واخيرا نقول أننا نعيش بلا ارادة ولا حمية ولا فطرة سليمة ودون قانون اخلاقي في داخلنا.

إذا وسعنا أفق الفكرة لا بد من أن  نخرج من إطار واحد لفكرة ما بعد النوع، أو التحولات الجنسية من التعامل المعهود والمألوف إلى ما هو مخالف له تماما وعاكس له في المفهوم الأخلاقي للجنس، ويشكل الانحراف الجنسي حالة نفسية مريضة في إطار علم النفس، وأما في جانب مفهوم الأخلاق العامة فهو أمر معيب ومرفوض في الأفق العام للمجتمع، والغريب إذا أحطنا في فكرة الانحراف الجنسي من جميع الجوانب فنقف على إبعاد متعارضة مع نفسها، فالمجتمع الغربي في الأطر الشخصية يعارض تماما ذلك الانحراف، أما في الأطر العامة في ما بعد الحداثة قد تحولت قوانين من عدم الموافقة إلى الموافقة، فالقانون الجديد للجنس يراعي المشاعر إنسانيا، لكنه يعارض الأخلاق العامة التاريخية، وفي البنية القانونية ذلك التحول الذي يراعي انسانيا الزواج المثلي او السحائق، فالتحول في العملية القانونية تخلى عن الاخلاق العامة او الاخلاق الشخصية بنسب كبيرة، فمن الطبيعي أن هناك نسبة كبرى من افراد المجتمع الغربي ترفض ذلك الانحراف في النفس البشرية، لكنها لا تعارض انتاج قانون يوافق على الزواج المثلي الذي قفز فوق النوع وتاريخه وطبيعته الاجتماعية، ليخلط الافكار بطريقة لا تراعي بأدنى نسبة تاريخ الجنس الطبيعي وضوابطه المعهودة، والغريب أن العالم ضد الزنى والانحراف والتحولات الجنسية للنوع الواحد، ولكن وجوده البشري يضج بها في رغبات اغلبها يعتبرها علم النفس الجنسي حالات مرضية تحتاج المعالجة والمراقبة المستمرة، وكذلك الاهتمام الواعي المحايد.

لقد أثرت جميع الأبعاد السياسية والثقافية والرياضية في عملية التحول من الجنس الطبيعي إلى الانحراف وما بعد النوع العام، حيث أولى المحاولات قد بدأت بزمن مبكر، حيث كانت هناك روائية فرنسية تكتسب باسم مذكر مستعار، وهي شرارة جانبية لكن ممكنا أن تشعل محور الفكرة وتأججه، واعتقد هي صيرورة نوعية للتحول من الأفق العام المتعارف إلى أفق جديد، وعلى مستوى الخطاب هناك أيما بوفاري بطلة فلوبري الشابة الحيوية الدافقة بالشباب قد مهدت تجاوزها الأعراف العامة وكسر التقاليد المجتمع حينها، وفي القرن العشرين برزت رياضية أمريكية شغلت التفكير الفسيولوجي بقدرات بدنية ذكورية، وفي حينها اعتبرت التفسيرات الموضوعية أن تلك الرياضية هي أنثى بكيان رجل، وهذا من الطبيعي أن يصعد من أفق التفكير بالانحراف، أن يكون لها الأثر النفسي على النفس البشرية، وتفاقمت العاطفة بحدة جنونية في تجاوز الأفق العام للجنس، وقد أتاحت ظروف ما بعد الحداثة ذلك، وخصوصا بعد انهيار الهرم الأخلاقي للحداثة وسقوط نظامها العام، وفي السياقات القانونية في ألمانيا أصبح من الممكن للأشخاص مزدوجي الجنس من خلق قانون استثنائي للتعريف بهم، أوقد تمكن لهم التعريف بأنفسهم في الجانب القانوني كجنس ثالث ما بعد النوع العام، وذلك وفقا لقانون أقره البرلمان الألماني، وقد دخل حيز التنفيذ، وبذلك تمكن للأشخاص الذين لا يناسبهم التعريف البيولوجي العام المتعارف، وأن يختاروا فئة – مختلف – في وثائقهم الرسمية، لكن أيضا على هؤلاء الحاجات إلى شهادة طبية تقر وتثبت ذلك، وعلى مستوى السياسة فقد رفع علم المثلية فوق السفارة الامريكية في موسكو، واعتبر بوتين في تعليق له تلك الخطوة أنها تعكس التوجه الجنسي لموظفي السفارة.

لقد أتاحت ما بعد الحداثة لمحور الحرية الشخصي عدم الالتزام بأي قانون فرضته الحداثة حينها إلا في أفق الاجتماعي العام، لكن على المستوى الشخصي، يتاح للفرد ما يريد ويرغب، وقد ساد اليوم عبر تلك الحرية النوعية مصطلح النار سيكس أو البينين سيان كانت الجينات طبيعية أو كانت مصنعة نتيجة لغلبة نسب الهرمونات، وذلك التفاوت في الهرمونات هو عامل طبيعي وله أفق عام، ووجه الأشكال هو في تجاوز الهرمونات النسب الطبيعية المتعارف عليها، والذي من الطبيعي تفاقم النسب العكسية سينجم من رغبة جنسية وعاطفة ميل نحو النوع الآخر ليكتسب ذلك النوع برغبة جنسية شاذة، ونمط العلاقة سيتطور، حيث (لا يريد أي منهما أن تزعزعه حقيقة تجربة أساسية جديدة، فيكتفيان بتعديلات طفيفة، ويعترف كل منهما للآخر بشكل لا واع، لأنه لم يكشف "التحالف" اللاواقعي)1 المشترك الغاية الجنسية، وحس التماثل ينمو سريعا عند الضحية، ويقابل نفس النمو برغبة جنسية عند المضحي بالجانب العام الأخلاقي والجنسي لأجل الرغبة الجنسية المنحرفة، ونحن إزاء تحول غير طبيعي في الجانب الجنسي، والذي فيه فقد عصر الكندر مفهومه، فقد تغير النوع البشري شكلا ومضمونا أيضا، وهذا التغير ضرب القيم الكبرى عرض الحائط، وكسر آفاق الأخلاقيات العامة، فقد أصيبت القيم البشرية بالصميم، والغريب هناك في العام للمجتمعات خصوصا الشرقية رفض واسع لفكرة التحول، لكن تجد بين ثنايا تلك المجتمعات نسبا ملموسة في التحول وتأكيد الخنوثة كما يتباهون بالذكورة، وهناك حتى من يمثل في الدول الغربية الأفلام الإباحية كوظيفة يكسب منها المال، وطبيعي لا جدوى لرفض شعوب تلك المجتمعات ولا أهمية اخلاقية له.

شكل انفتاح النوع البشري على نوع ثالث يمثل جنس مركب أمر تجاوزا حتى المنطق العام، وجعل علم النفس الجنسي بحيرة كبيرة، حيث ذلك التحول للنوع الثالث أصبح إحدى موضات العصر، فترى هناك فرد شاب فيه نسبة كبيرة من التخنث، وإضافة إلى ذلك يمتلك طاقة جمال مثيرة، ومن هؤلاء من لديهم مواقع للتعامل من يرغب الجنس معهم، وهذا البديل المركب من رجولة من الجانب الإمام غير فاعلة وأنوثة من الخلف فاعلة جدا، يعيش في ظروف مادية تعادل أضعاف ظروف شاب طبيعي، وهذا الجانب له التأثير أيضا، فيشكل عدم بذل أي جهد بدني وربح الأموال الكثيرة هو الأمر الأهم عند المتحولين جنسيا، بل حتى من تحافظ على نوعها البشري أيضا دخلت في هذا المجال المادي الجدير، وهذا ما دعم أهمية ذلك الكسب المادي، والذي نراه استعارة ومحاكاة للبغاء التاريخي، على الرغم من  الفوارق النوعية في التعامل الجنسي، وما الأخلاقيات العامة فقد ضاق أفقها وانحسر في ظروف ما بعد الحداثة التي وسعت مساحة الحرية الشخصية، وتشير إحصائية الى وجود نسبة تحول فرد واحد من كل مائتي الف من الهرمونات الذكرية التستوستيرون ومشتقاتها الى الأنثوية لديه البروجيستيرون والأستروجين، وربما في المستقبل القريب يكون الجنس الثالث هو الجنس الاساس ويصبح الاصحاء هم الشواذ، وهذا ممكن حسب نسب التحول العالية نسبيا.

لقد غيرت ما بعد الحداثة شكل الحياة وأصبح العالم بصورة أخرى ليست كتلك القديمة المدركة تماما، حيث أصبح الوجود يمتلك ذلك اليقين المعهود لكنه صار يتصور وجوده بعدما تزاحمت الأشياء أمامه، وهنا لا بد من أن  يفقد الفرد البشري توازنه، والفرد البشري صراحة زخم زيف الايدولوجيات والتدين وشكل الحياة الجديد ما فرض عليه عدم التمسك بالتوازن الإنساني، والتخلي بنسب كبيرة عن معناه الإنساني لصالح ذاته الشخصية، وهذا ما يجعل عاطفة الفرد البشري الزائفة تلهث وراء المغريات دون معاينة منطقية، وبذلك يكون رهان الفرد البشري على المعنى الحياتي قد تحول من معنى اصيل وجدير الى معنى ملتبس، وهذا ما اتاح لجميع الممكنات بلا ترشيح منطقي تمر الى كيان الفرد، وهذا ما اتاح لعوامل التأثير على النوع البشري أن تجد لها الباب المشرع، وايضا تحول الفرد من الدين الى الآدين بسبب زيف وانتحال الدين من رذائل بشرية تاجرت بمعناه الاصيل، والتحول عند الفرد لا يقصد الدين بمعناه بل بسلوكه البشري، والمتاجرة بالدين احد الاشكالات الحساسة التي اتاحت للجنس الثالث التشكل وجوديا دون معارضة فقاهية، والجنس الثالث وجد تلك الفقاهة قد تخلت عن الاخلاقيات العامة، واقتربت كثيرا من الشذوذ والانحراف، وعلى وجه الخصوص في التعرية الوضيعة للنبي وكشف حياته الخاصة دون امتناع او ارتداع، واذا كانت المؤسسة الدينية بهذا الانحطاط فلا بد ما يمنع الفرد من التحول فقد اثره، وانعدم معناه الاصيل.

لابد من وجود اسباب للتحول الى الجنس الثالث بحرية تامة، واعتقد أن احد اهم الاسباب الفوضى السياسية التي يمر بها العالم، وجعلت اغلب البشرية تكون غير مستقرة، وتعيش في احساس مرتبك، وفقد المعنى الحياتي في جانب التوازن الموضوعي، وبعد دور السياسة هناك دور اخر اثر كثيرا، فإن عصر ما بعد الحداثة هو ليس كما نظام الحداثة الصلب الذي يمسك المفاهيم ولا يجعلها تنفرط وتخلق ربما تتحول ضدها، وما بعد الحداثة لا تهتم بالواقعية، بل هي ميتافيزيقية ببعد موضوعية، والموضوعية لا تهتم بالمنطق الصوري تماما، والجانب الآخر فشل الاديان في تفسير البعد الإنساني، ومنها من لا يهتم بالتحول الجنسي، او فيها يقبل ولا يمتنع عن رفض الزواج المثلي، وتطور المعنى الحياتي بالشكل المبهرج غير التفكير البشري ازاء قيمة الحياة، وتصاعد بعد الاغتراب كثيرا بسبب ذلك، وهذا له التأثير النفسي الخطر على الشباب خصوصا، وعلى وجه الخصوص بعد فقدان الامل بالمستقبل، وكذلك شعر الشباب الى التجريب المضاد، وهذا فتح الابواب بالشكل المطلق، وتصاعدت الرغبة الجنسية المضادة عند من لديه نقص بهرمونات الذكورة، ومن لديه تصاعد هرمونات الانوثة، وطبعا هذا يجعلنا أن نضعهم بين قوسي الضحية في التفسير الإنساني.

شهد الواقع البشري منذ عقد أو أكثر تزايد مستغرب لمواقع إباحية للتحول الجنسي، حيث تجد قبالة مواقع الجنس التقليدي هناك موقع في الجنس المستجد في المثلية خصوصا، ونحن لسنا إزاء الكم، بل نحن إزاء قضية غير طبيعية تحدث اليوم، وصراحة المشكلة في أصول المجتمعات، فالمجتمعات الغربية هي تعتبر ذلك أمرا طبيعيا، فيما المجتمعات الشرقية تعتبر ذلك أشكالا أخلاقيا، لكن بلا تأكيد نجد أفراد المجتمعات الشرقية أكثر من يشاهد تلك المواقع، واصل العلة في علاقة الدين بالجنس وعلم النفس، فإن المؤسسة الدينية تتبرأ من علم النفس وتبتعد منه، فيما هناك أمر مختلف كثيرا في المؤسسة الدينية الغربية، حيث يوجد الكثير من (محاولات بين التحليل النفسي والدين، وهذه هي الحقيقة، وهي أن عددا كبيرا من رجال الدين يدرسون التحليل النفسي – تدل إلى أي مدى تغلغل الاعتقاد في مزج الدين بالتحليل النفسي)2، وعلى عكس تلك المؤسسة الدينية تبتعد وتعارض مناهج علم النفس على اعتبار أن ذلك العلم هو علماني الوجهة ولا يتفق مع وجهة المؤسسة الدينية، وصراحة خوف المؤسسة الدينية عند المسلمين، هو أحد أسباب تصاعد الكبت عند أفراد المجتمعات العربية على وجه الخصوص، وتصاعد الكبت خلق إشكالية صراع الغريزة الجنسية مع الفطرة العامة، ومن الطبيعي هناك نسبة كبيرة من التحول إلى المثلية لغياب المرأة ودورها بالواقع العام، وامتلاكها حرية واسعة في التعامل مع النوع المختلف، وحرمان المرأة الجاف التقاليد هو خصوصا قد دعم التوجه إلى المثلية في بلدان الخليج العربي وبلدان اخرى.

***

محمد يونس محمد

.....................

1- أزمة التحليل النفسي – أريك فروم – ترجمة دكتور طلال عتريس – منتدى مكتبة الإسكندرية – ص 9

2- الدين والتحليل النفسي -  اريك فروم -  ترجمة فؤاد كامل – منتدى مكتبة الاسكندرية - ص 13

"ويسألونَكَ عَن الرُّوح قُل الرُّوح من أَمر رَبّي وماأوتيم من العلمِ إلاّ قليلا"..الاسراء85

تعتبر الروح من أشرف مخلوقات الله وأنبلها وقد نالت من التكريم والرفعة بانتسابها للذات الالهية"وكذلكَ أوحينَا أليكَ روحًا من أمرِنا" الشورى52

وهي ذات قائمة بنفسها وذات طبيعة معنوية غير ملموسة، أو إنها مادة أثيرية وهي من الخصائص المعجزة الفريدة في الكائنات الحية.

وقد وردت الروح في القران الكريم بمواضع عدة نذكر منها:

- كلمة الله: قال تعالى"وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه"النساء 171

- الغفران والتوبة: قال تعالى "ولاتيأسوا من روح الله"..يوسف87

- روح القدس: قال تعالى"قل نزله روح القدس من ربك" النحل 102

- أمر الله: قال تعالى"ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي"85 الاسراء

- الوحي: قال تعالى"رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء"غافر..15

- قوة الاعجاز: قال تعالى"إذ إيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد"المائدة110

وقد وردت الروح بهذه المعاني في القرآن والتي تدل جميعها على الرفعة، فهي جسم نوراني علوي متحرك خفيف ينفذ في جوهر الاعضاء ويسري فيها كسريان الماء في النهر.

ولان الروح رفيعة المنزلة جعلها الله غير مرئية غيبية، نسبها الله اليه لما لها من قوة معرفية إيمانية اعجازية فضفاضة واسعة الطيف، عفيفة، مرتقية، فيقال إن فلانا روحانيا أي إنه مؤمنا بروح الله .

ولقد خلق الله الكون وأيده بروح منه فلكل مخلوق من مخلوقاته روحا نطمئن إليها وتألفها أرواحنا، والناس يتفاوتون بهذه القدرة على ألأحساس بالأرواح الأخرى تبعا لقوة الروح وطريقة تغذيتها عن طريق الأيمان .

والأنسان بدوره ينسب الأشياء الجميلة الى أرواحها فنقول روح المساعدة، روح التعاون، روح الاخاء، فلانا روحه جميلة أو طيبة وهكذا.

أما النفس فهي تعني الذات الانسانية نفسها فيقال جاء فلان بنفسه، والنفس تكلف وتعذب وتتنعم وهي المسؤولة عن الافعال التي يقوم بها الجسد"فسولت له نفسه قتل أخيه فقتله" المائدة30، أي إنها تصدر الأمر ليقوم الجسد بالتنفيذ، والنفس هي المسؤولة عن حياة أو موت الجسد بأمرالله.

فالانسان يتكون من جسد ونفس وروح وحسب الترتيب فالجسد المادي والنفس بكل ماتملك من تقوى وفجور" ونفس وماسواها" وان الاجتهاد بالايمان والتهذيب يصل بالانسان الى عالم الروح النقي.

والنفس هي جوهر الانسان والمسؤولة عن نشاطاته المختلفة الفكرية والحركية والانفعالية والسلوكية والنفس هي الجزء المقابل للبدن الذي نطلق عليه لفظ "الشخصية". والنفس هي حقيقة الذات وهي التي تتألم وتفرح وتحزن وتزهق، وماالجسد إلا آلة تقودها النفس ينتهي دوره بالموت.

وقد وردت النفس بمعانٍ عدة في القرآن الكريم منها:

- الحياة: قال تعالى"الذي خلقكم من نفس واحدة" النساء1

-  الموت: قال تعالى"الله يتوفى الانفس حين موتها"الزمر 42

- الإنسان، اي الشخصية البشرية بمجملها، قال تعالى" واتقوا يوما لاتجزى نفس عن نفس شيئا"البقرة 48

- العقل : قال تعالى"تعلم ما في نفسي ولا أعلم مافي نفسك" المائدة 116

- قوى الخير والشر: قال تعالى"ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها" الشمس 7- 8

- القتل: ان القتل الذي يصيب الانسان وهو قتل النفس"ولاتقتلوا النفس التي حرم الله قتلها"الاسراء33

إن القران يخاطب النفس على إنها ذات الإنسان والمسؤولة عن سلوكياته"يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية" الفجر27

فالنفس اذن هي الذات الانسانية وهي التركيبة المعنوية التي تتحكم بوجدان وأحاسيس الإنسان من حب، كره، إيمان، كفر، بر، جحود وهي المسؤول الاول عن تصرفات الانسان وموضع الخطاب والحساب والثواب والعقاب أمام الله"يومَ تجدُ كل نفسٍ ماعمِلَت من خيرٍ محضرًا وما عملت من سوءٍ "ال عمران 30

***

مريم لطفي

الذكاء الاصطناعي يُعتبر أداة فعالة ومبتكرة تستخدم لتحسين حياتنا في العديد من المجالات، بما في ذلك الطب، والتكنولوجيا، والصناعة، والتعليم، والبحث العلمي، والترفيه، وغيرها. إنه لا يُعتبر شيئًا يمكنه جعل البشر أغبياء في المستقبل بل على العكس من ذلك، يمكن أن يسهم في تطوير مستوى ذكائنا وتحسين قدراتنا.

ومع ذلك، يثير الذكاء الاصطناعي أيضًا بعض التحديات والمخاوف التي يجب التعامل معها بعناية. من بين هذه المخاوف هو ما يُعرف بالبطالة التكنولوجية، حيث يمكن أن يحل الذكاء الاصطناعي بدلاً من البشر في بعض المهام الروتينية والمكررة في العمل، وهذا قد يؤثر على بعض الوظائف التقليدية.

لكن تظل الحاجة إلى البشر ملحة لفهم وتحليل وتطوير الذكاء الاصطناعي نفسه، بالإضافة إلى تطوير التكنولوجيا واستخدامها بشكل أخلاقي ومسؤول. علينا إذن أن نهتم بتطوير المهارات والتعلم الدائم للتكيف مع التطور التكنولوجي والاستفادة من فوائده بشكل إيجابي.

بالتالي، يجب أن نراقب ونتعامل مع التطور التكنولوجي بحذر واهتمام، وضمان أن الذكاء الاصطناعي يستخدم لصالح الإنسانية ويساهم في تطويرها بشكل إيجابي.

لا يمكن على كل حال التنبؤ بالمستقبل بدقة تامة، ولكن يمكننا النظر إلى بعض الاحتمالات المتوقعة. قد يؤدي التطور السريع للذكاء الاصطناعي إلى تغييرات في الاقتصاد والمجتمع وطريقة عيشنا، وقد تكون هناك بعض التحديات والمخاوف المحتملة.

من جانب واحد، يمكن أن يساهم الذكاء الاصطناعي في تحسين حياتنا بشكل كبير، فقد يزيد من الكفاءة في العديد من الصناعات مثل الصحة والتكنولوجيا والنقل والزراعة. قد يسهم أيضًا في البحث العلمي والاكتشافات الجديدة التي قد تفيد البشرية بشكل عام.

من نحية أخرى يمكن أن يؤدي التباين في قدرات الذكاء الاصطناعي بين الدول والأفراد إلى نقص في المساواة وتعميق الفجوة بين الأثرياء والفقراء. كما قد تؤثر التغييرات في السوق العمل على وظائف بعض القطاعات، وقد يكون من الضروري تطوير مهارات جديدة للتكيف مع التطورات التكنولوجية.

من المهم أن نتعامل مع التحول التكنولوجي بحكمة واستخدامه بشكل إيجابي لتعزيز حياتنا ومجتمعنا. يجب أن تكون هناك جهود لضمان توفير التعليم المناسب والتدريب المستمر للأفراد، بحيث يمكنهم التكيف مع التكنولوجيا والمساهمة في الاقتصاد المعرفي الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي. كما يجب أن يكون هناك تنظيم وسياسات تشجع على استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول وأخلاقي لضمان فوائده الإيجابية وتجنب الآثار السلبية المحتملة.

ختاما يُعتقد أن الذكاء الاصطناعي (AI) سيؤثر على المجتمع بطرق متعددة. قد يسهم في تحسين حياة الناس وتطوير العديد من الصناعات والمجالات، ولكن هناك أيضًا بعض التحديات والمخاطر المحتملة.

من ناحية واحدة، يمكن أن يزيد الذكاء الاصطناعي من إمكاناتنا ويجعلنا أكثر ذكاءً بمساعدته في اتخاذ القرارات وحل المشكلات المعقدة. ومن الواضح أن الذكاء الاصطناعي سيظل مجرد أداة يستخدمها البشر، ولن يكون له قدرة على تحسين ذكاءنا الطبيعي بشكل مباشر.

من جهة أخرى، يمكن أن يؤدي تبني الذكاء الاصطناعي في بعض الجوانب الحياتية إلى تراجع المهارات التي كنا نعتمد عليها في الماضي. قد يتسبب اعتمادنا بشكل مفرط على التكنولوجيا في تراجع قدرتنا على القيام ببعض الأشياء بشكل يدوي أو التفكير بطرق مبتكرة.

لكن عمومًا، يُعتقد أنه من المهم التوازن بين استخدام التكنولوجيا والاحتفاظ بالمهارات والقدرات الإنسانية الأساسية. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون شريكًا قويًا للإنسان في تعزيز الإبداع والتطور، ولكن يجب أن نضمن أن نظل نحن البشر المسيطرين على هذه التكنولوجيا ونستخدمها بطرق تخدم مصلحتنا ومصلحة المجتمع بشكل إيجابي.

***

عبده حقي

مفتتح: ثمة ضرورات وطنية واستراتيجية باستمرار، لتظهير العناصر الأساسية في قوة الاجتماع الوطني، وسبل تجاوز الأخطاء والثغرات التي تعرقل بناء المستقبل على أسس ومبادئ، تزيد من فرص التطور الوطني، وتشحذ همم المواطنين نحو الأهداف العليا والتطلعات الكبرى للاجتماع الوطني. والتفتيش الجاد عن إمكانيات وشروط نجاح المستقبل.

وإن الوحدة الوطنية في أوطان العالم، مرهونة في كثير من أبعادها وآفاقها، على إمكانية وجود فضاء سياسي وثقافي واقتصادي مشترك، وهذا الفضاء نتاج مشترك ومتراكم. إذ أن جميع المكونات الثقافية والاجتماعية، تساهم في تشكيله، وتعمل على تقعيد أسسه ومبانيه الاجتماعية والثقافية.

فالوحدة الوطنية ليست مقولة ناجزة، وإنما هي عبارة عن فضاء مفتوح لكل الجهود والإمكانات والمكونات لتعبر عن دورها ووظيفتها ومسؤوليتها في إطار وسياق تعميق موجبات الوحدة الوطنية. وإن تجاوز التراتبيات الماقبل الوطنية إذا جاز التعبير، يعتمد اعتماداً رئيسياً على قدرة الفضاء المشترك على فسح المجال الفعلي لكل المكونات للمشاركة في صياغة هذا الفضاء وإثرائه بالمضامين الوطنية والحضارية. المضامين التي تتجاوز الخصوصيات، ليس عن طريق القفز عليها، وإنما عبر استيعابها وامتصاص إيجابياتها والعمل الموضوعي والبعيد عن نزعات الصدام والتهميش لتهذيبها على المستويين الاجتماعي والثقافي.

من أين نبدأ:

فالجوامع المجردة في الكثير من الأمم والشعوب والأوطان، لم تتمكن من ضبط خصوصياتها وصياغة فضاء وهوية مشتركة حقيقية. لذلك فإن المطلوب: ليس الاكتفاء والركون المجرد إلى الجوامع والقيم المجردة التي عادة الناس لا يختلفون حولها. وإنما الأمم والشعوب دائماً، هي بحاجة إلى تنمية المصالح المشتركة وربطها بواقع الحياة اليومية. حتى يتسنى للجهد الفردي والجمعي المبذول يومياً، أن يعمق ويجذر أسس تشابك المصالح ووحدة المصير.

فالمثل والمبادئ العامة، بحاجة دائماً في الإطار الاجتماعي أن تتسرب إلى تفاصيل الحياة الاجتماعية، وتكون جزءاً من النسيج الاجتماعي. ولاشك أن عملية تنزيل هذه المثل والمبادئ على الوقائع الاجتماعية المتحركة والمتغيرة دوماً، لا يمكن أن تتم بدون وجود مصالح مشتركة حقيقية، تربط بين كل أطراف المجتمع الواحد.

فالوحدات الاجتماعية والوطنية، لا تصنع بالمجردات من الدوافع والبواعث والمسوغات، وإنما هي تصنع بالحياة المشتركة على الصعد كافة. وهذا بدوره بحاجة إلى تنمية كل العلائق والروابط الاجتماعية بدوائرها المتعددة، والاقتصادية بمستوياتها المختلفة، والإنسانية بآفاقها الرحبة، والثقافية بتفاصيلها ووقائعها اليومية والرمزية. وكل هذا أيضاً بحاجة إلى سياج أخلاقي يتحصن به أفراد المجتمع، قوامه العفو والتسامح واللين والرفق وحسن الظن وما أشبه. وهي قيم ومثل أخلاقية وسلوكية قادرة على امتصاص أخطاء البشر وتشنجاتهم، كما أنها كفيلة بضبط النزعات النفسية والاجتماعية التي قد تساهم في تدمير الحياة المشتركة.

لذلك نجد أن القرآن الحكيم، يؤكد على هذه القيم، ويعتبرها أنها قادرة على تحويل المواقف وضبط العداوات كمقدمة لإنهائها. إذ يقول تبارك وتعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} (فصلت 34 ).

فالأخلاق الفاضلة والتعامل الحسن والحضاري مع الآخرين، يساهم بشكل مباشر، في نزع الغل والأحقاد من النفوس، وغرس قيم المحبة والاحترام. وقال عز من قائل:

{واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} (آل عمران 103 ) .

وبإمكاننا أن نكثف هذا السياج الأخلاقي المطلوب، بكلمة واحدة وهي (الرحمة). إذ هي جوهر المحبة والألفة وضد التنافر والكراهية. فهي الأصل النفسي والأخلاقي الذي يفيض بالخير بمختلف أبعاده.

وهي الروحية التي تقدر الآخرين وتحترمهم، فتحبهم وتشفق عليهم، وتتمثل كلمة طيبة حانية، ولمسة رقيقة، وعوناً في الشدائد، وحسنا في الجوار، وما لا يحصى في الأقوال والأفعال، لتعكس على كل ذرة في هذا الوجود، وعلى كل شكل من أشكال العلاقة مع الإنسان الفرد والجماعة.

فتكون بذلك أصيلة في النفس بدون ضغط أو تكلف، ودخيلة في صياغة كل علاقة مهما كانت بسيطة.

لذلك نجد أن الرحمة في المنظور الإسلامي، هي أهم صفة وصف الله تعالى بها نفسه، وهي ركن في التشريع، وهي جميع الأخلاق، وهي التي يجب أن تسود حتى في حال الحرب والقسوة، لأن غاية الحرب الوصول إلى الهدى إلى الله ورحمته.

وهي مطلوبة مع الجماد عناية به وتصرفاً سليماً به. ومطلوبة مع البهائم رفقاً بها حية، وعدم القسوة عليها ذبيحة.

ومطلوبة إنسانياً بتجلياتها محبة ورفقاً وشفقة ومساعدة ونصيحة ونحوها. كما تقف ضد كل تجليات القسوة والشدة كالتباغض والتنافر والجريمة والظلم.

فالرحمة بكل تجلياتها وآفاقها، هي السياج الذي يحفظ الوحدات الاجتماعية من الانزلاق إلى مهاوي الصدام والشقاق.

فالاختلافات الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية، ليست مبرراً كافياً للخروج من سياق العدالة وممارسة الظلم بحق الآخرين تحت مبرر وعنوان الاختلاف العقدي أو السياسي.

فالقيم العليا للإنسان، لا تبرر بأي شكل من الأشكال ممارسة العسف بحق الآخرين لكونهم مختلفين معك في الرؤية أو الفكرة. فقيم العدالة واحترام الآخرين في ذواتهم وأموالهم وأعراضهم، حاكمة على كل قيم الاختلاف ومبررات العداء تجاه الآخرين. لذلك يقول تبارك وتعالى {يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (المائدة 8 ).

العدل بوابة الوحدة:

والعدل في جوهره إعطاء كل ذي حق حقه، ويقابله الظلم الذي يعني تجاوز حقوق الآخرين والاعتداء عليها. وهو بذلك يشمل كل مستويات الحياة من قبيل المحافظة على كرامته وحرمته من البهتان والغيبة والشتم، والحرية في العيش، والسلامة في الجسد من القتل والجرح ونحوها من مستويات الحياة.

وهو على المستوى النفسي (الذاتي) ينتج عن خلو النفس من الأحقاد الناتجة من الحسد والكراهية والقسوة، ومن خلوها من المطامع الدنيوية الزائلة. فيكون العدل نتاج المحبة والرحمة واحترام الآخرين.

فالعدل بكل تجلياته وعناوينه ولوازمه، هو أساس العلاقات الإنسانية السليمة في مختلف الدوائر الاجتماعية.

ونحن هنا لا نتحدث في سياق الرؤية المثالية، وإنما نحن نعتبر أن العدل والرحمة بكل تجلياتهما هما جسر الوصول إلى الأمن الشامل في أي مجتمع، وهما اللذان يعمقان أسباب الوحدة بكل صورها ومستوياتها، وهما اللذان يطردان كل نوازع وبواعث التفتت والانقسام بكل صوره.

وبناء الأمم والأوطان، بحاجة دائماً إلى مشروع وطني، يجمع الطاقات والكفاءات، ويعمل على تنمية الجوامع المشتركة، وسد الثغرات ونقاط الضعف، ويوفر جملة العوامل المفضية إلى الإضافة والإبداع بما يعزز البناء الوطني ويشد من عضد أبناء الوطن في سبيل عزة الوطن ورقيه.

فالمشروعات الوطنية المرحلية والاستراتيجية ضرورة قصوى من ضرورات بناء الوطن، لأنها هي التي تبرز عناصر الإجماع الوطني، وتدفعها نحو العمل المتواصل لتأكيد خيار العيش الواحد وتجاوز كل الصعوبات التي تعترض هذا الطريق.

وإن توكيد الحاجة اليوم إلى مشروع وطني، نجدد به ذاتنا الوطنية ونضيف إليها عناصر جديدة تؤهلنا للعطاء النوعي والإبداع المتواصل لصالح عزة وطننا. ليس فقط من أجل توفير القوة اللازمة للدفاع عن مصيرنا وخياراتنا الاستراتيجية، وإنما هو أيضاً من أجل ذات وطنية سوية وسليمة، تتعامل مع تحديات عصرها بعقلية جديدة، تتجاوز من خلالها كل العصبيات التي قد تحول دون تطوير مفهوم الانتماء الوطني.

فالانتماء الوطني، لا يعني فقط أن أحمل الأوراق الرسمية الثبوتية، كما أنه لا يعني أن أحفظ النشيد الوطني وأقوم بتحية العلم. وإنما هو قبل كل ذلك، هو شعور عميق بالعيش الواحد مع كل أبناء الوطن، ومصير مشترك يربطني معهم. وهذا الشعور الصادق يدفعني للعمل بكل ما أملك من طاقة وقدرة لتعزيز هذا الشعور وتحويله إلى حقائق قائمة على الصعد كافة.

والإسلام بما يشكل من مخزون روحي وقيمي وأخلاقي، هو طاقة توحيدية ووحدوية في آن. حيث أن الدين الإسلامي يحارب التمزقات بين البشر على قاعدة ترابية أو طبقية أو عنصرية حيث يقول الذكر الحكيم {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.. كما أن الدين يخلق الروحية العالية، التي تسمح للفكر أن يمارس دوره، وللاجتهاد أن يأخذ مداه. لذلك ينبغي أن لا تضيّق سعة الإسلام وتسامحه بضيق تفكيرنا واهتماماتنا، كما أننا ينبغي أن لا نحوّل الدين إلى طاقة تقسيمية وانشقاقية في الأمة والمجتمع. لأن رسالة الدين الكبرى هي توحيد الأمة ووحدة الناس. فلنرقَ جميعاً إلى قيم الإسلام، ونرتفع عن كل التصرفات والقناعات التي تحبسنا وتحجزنا عن رؤية الإسلام الذي يسع العالم كله.

والوحدة هي المعادل الموضوعي للتوحيد. وهي لا تعني وحدة قسرية أو شكلية، وإنما هي وحدة نصل إليها عن طريق احترام الخصوصيات والتنوعات الطبيعية والتاريخية والمعاصرة، وتنمية المصالح الاقتصادية والمجتمعية بين مختلف المكونات، والعمل على تجاوز كل رواسب عصور الانحطاط والتخلف، والعمل على قاعدة أننا جميعاً ومن مختلف مواقعنا مسؤولون عن إنجاز وحدتنا وتجربتنا الاجتماعية والوطنية الجديدة.

وحتى لا يفضي احترام الخصوصيات، إلى تشظي وانقسامات مجتمعية، نحن بحاجة إلى إرساء وتجديد مفهوم التعاقد الوطني والاجتماعي، لأنه هو المفهوم الذي يضبط الخصوصيات، ويوفر حركية دائمة وتلائم مستمر مع المحيط والعالم.

وعليه فإن من الخطأ التوجه إلى تركيز الخصوصية إلى حدود التنافر مع الآخرين هذا من جهة، ومن جهة أخرى تضخيم الخصوصيات والاستقواء بالآخرين من أجل ذلك..

وذلك لأن هذه التوجهات، تفضي إلى ازدهار مشاريع التفتيت والتشتيت الأفقية والعمودية.

وجماع القول: إن التطوير الوطني والاجتماعي، ينبغي أن يتم ضمن الشروط التاريخية والتحديات الجديدة التي نواجهها. وإن الوطن في المحصلة النهائية هو إرادتنا جميعاً في العيش المشترك.

الحوار طريق الوحدة:

تنبع أهمية الحوار بين البشر، باعتباره هو الوسيلة المثلى للتعارف، وإضاءة النقاط المظلمة في العلاقات بين البشر.

لذلك أكد القرآن الحكيم على هذه القيمة، وأعتبر أن التعدد والاختلاف الموجود بين البشر، ليس من أجل الاستعلاء والانحباس والانزواء، وإنما هو من أجل التعارف وكسر حواجز الجهل المتبادل وصولاً إلى تعميق عوامل وأواصر التفكير الحر والسليم. قال تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات 13).

فالحوار يعيدنا جميعاً إلى اكتشاف ذواتنا، ويقوي خيارات التواصل والتعارف في الدائرتين الاجتماعية والإنسانية، ويدفعنا جميعاً إلى التخلي عن تلك القناعات والخيارات التي تمارس النبذ والإقصاء. لذلك فإن مقولة الحوار، تتجاوز السجالات والمجادلات العقيمة والمماحكات، التي لا توفر للجميع فرصة التعارف المباشر.

من هنا فإننا حينما ندعو إلى الحوار، ونعتبره هو وسيلة الإنسان الحضارية للتعرف على بني جنسه، فإننا نؤسس لغائية ينبغي ألا تحيد عنها عملية الحوار. فهو من أجل كسر حواجز الجهل، وتعميق عوامل المعرفة المباشرة والتفصيلية عن الآخر، حتى يتوفر المناخ النفسي والمعرفي والاجتماعي لخلق نمط إنساني وحضاري للعلاقة بين مجموع الأطراف المتحاورة. وذلك لأنه وسيلتنا وخيارنا لتحجيم هواجس بعضنا البعض ومحاصرة سوء الفهم والظن وموروثات الماضي، كما أنه يبلور وبفعالية عوامل الثقة المتبادلة وأسباب التعاون والتضامن على قاعدة (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب).

والقرآن الحكيم يعلمنا، أن الحوار يستهدف الانطلاق من القواسم المشتركة ويسعى عبر آلياته وأطره إلى تنمية المساحات المشتركة والعمل على تفعيلها. قال تعالى {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} (آل عمران: 64).

فالحوار لا يستهدف بالدرجة الأولى إقناع الآخرين بقناعات الذات، وإنما تعريفها إلى الطرف الآخر. وبالتالي فإنه حوار لا يستهدف الإفحام والقطيعة، وإنما التواصل والتعايش.

لذلك ينهى القرآن الحكيم عن المراء والجدال الذي لا يفضي إلى نتيجة، بل قد يزعزع المشتركات، ويوجد مناخاً نفسياً يحول دون تنمية القواسم المشتركة.. قال تعالى {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون}(الأنعام: 159).

فإننا مطالبون جميعاً، أن نمارس فعاليتنا الفكرية وحيويتنا الثقافية، لتوطيد أركان وعوامل المنهج الحواري، حتى نكون جميعاً بمستوى المشاركة النوعية في صنع حقائقنا وصياغة راهننا وإنضاج خيارات غدنا ومستقبلنا.

والحوار لا يلغي ضرورات الاعتزاز بالذات، ولكنه اعتزاز لا يصل إلى مستوى العصبية المذمومة أو يكرس نظرة شوفينية واستعلائية للذات ضد الآخرين.

إنه اعتزاز بالذات لا يلغي متطلبات الوحدة وشروطها النفسية والأخلاقية ولقد جاء في المأثور (العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكنه من العصبية أن يعين قومه على الظلم).

كما أن الحب ينبغي ألا يخرج الإنسان عن ضرورات التواصل مع الآخرين، وتحكيم المثل الأخلاقية في طريقة التعامل معهم.

ومن الأهمية بمكان في هذا الإطار، إيجاد مسافة موضوعية بين الآراء والمعتقدات. فليس كل رأي عقيدة، وان أي محاولة للدمج بين الآراء والمعتقدات، يفضي في المحصلة النهائية إلى سيادة التعصب الأعمى بكل أشكاله وصنوفه. لذلك فإنه ويل لأمة تتحول فيها الآراء إلى معتقدات.

فالالتزام بالفكرة، لا يشرع للتعصب لها، وإنما هو يدفعك ويحركك نحو التجسيد العملي لكل جوانب الفكرة مجالاتها وآفاقها. والمغاير لنا في الالتزام والقناعات والمواقف، نعترف بوجوده، وننظم علاقاتنا وتواصلنا معه، ونتحاور معه حول كل القضايا والأمور، من أجل أن تتراكم أسباب المعرفة، وتتوطد عوامل العلاقة. وبهذه العلاقة والروحية، تتجذر مفاهيم وقيم التسامح والتعاون والتضامن.

والحوار قبل أن يكون أطراً وهياكل، هو روحية واستعداد نفسي، يرتبط بوجداننا وقيمنا الإسلامية، التي أسست لهذا الخيار في كل جوانب وشؤون حياتنا.

والحوار لا يستهدف شيوع حالة الفوضى في الآراء والمواقف، وإنما تضييق مساحات الخلاف والنزاع، وإبراز عناصر الوحدة والاتفاق. فمن ساحة الحوار تنتج الوحدة، وبالحوار تضمحل الخلافات، وتزول أسباب الصراع العنفي. وبدون إرساء دعائم الحوار المتواصل مع تعبيرات الأمة ومؤسساتها وفعالياتها المتعددة، يتم التعامل مع العديد من القيم والمبادئ كتهويمات أيدلوجية مجردة عن وظيفتها الحضارية، وبعيدة كل البعد عن النسيج المجتمعي.

وهكذا فإن الإنسان، لا يجسد قيمه إلا بالمزيد من الحوار. حوار الإنسان مع ذاته، وحواره مع دوائره الاجتماعية المتعددة، وحواره مع ظواهر الطبيعة لمعرفة أسرارها لتسخيرها بما يخدم العمران والتقدم الإنساني.

وفعالية الحوار تنبع من أنه يجعل كل الآراء والقناعات والمواقف في ساحة التداول لتقويمها وتمحيصها وتطويرها. ولا ريب أن لهذه العملية التداولية تأثيرات إيجابية على الصعيد المجتمعي، حيث إنها تحرك الراكد، وتسائل السائد، وتبحث في آفاق وفرص جديدة ممكنة، وفي الأخير تكون عملية الحوار فعالية مجتمعية متميزة. ونستطيع القول وبقناعة تامة، ان النص القرآني، نص حواري بامتياز. فتحدث عن كل الموضوعات والقضايا بدون موانع وعقبات واستخدم في ذلك أدق التعبيرات وأبلغها دلالة ومعنى، وأكد في آياته على ضرورة التفكر والتعقل والتدبر والنظر والتأمل، ووبخ أولئك النفر الذين يسيرون بغير هدى وبصيرة، أو يقلدون الآخرين بدون علم ومعرفة. إذ قال تعالى:{ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} (الأعراف 179).

لذلك من الضروري أن نؤمن إيماناً عميقاً، أن الحوار هو سبيلنا جميعاً لحل مشكلاتنا وتجاوز موروث الضغينة وسوء الظن.

ولكي نصل إلى المستوى الأخلاقي لممارسة الحوار بعيداً عن المسبقات الفكرية أو المواقف الجاهزة، نحن بحاجة إلى مجاهدة النفس، والتغلب على الأهواء والنوازع الضيقة، والانعتاق من كل أشكال التعصب الأعمى للذات أو لأفكارها وقناعاتها، والسعي الحثيث نحو الاقتراب من الآخر، ومحاولة فهمه بشكل مباشر. ويقول في هذا الإطار المفكر المغربي (طه عبد الرحمن): إن تواصل الحوار بين الأطراف المختلفة، فئات أو أفراداً، يفضي مع مرور الزمن إلى تقلص شقة الخلاف بينهم، وذلك لدخول هذه الأطراف في استفادة بعضها من بعض، حيث ان هذا الطرف أو ذاك قد يأخذ في الانصراف عن رأيه متى تبين له عند مقارنة الحجة بالحجة، ضعف أدلته عليه، ثم يتجه تدريجياً إلى القول برأي من يخالفه، أو يأخذه، على العكس من ذلك، في تقوية أدلته متى تبينت له قوة رأيه مستجلباً مزيد الاهتمام به من لدن مخالفه، حتى ينتهي هذا المخالف إلى قبوله والتسليم به، وهكذا، فإذا أنزل الخلاف منزلة الداء الذي يفرق، فإن الحوار ينزل منزلة الداء الذي يشفي منه.

وعلى كل حال من الأهمية بمكان على جميع المستويات، ان لا تدفعنا اختلافاتنا إلى القطيعة والجفاء والتباعد، وإنما ينبغي أن تكون هذه الاختلافات مدعاة إلى الحوارات العميقة، وذلك من أجل أن نتعرف على وجهات نظر بعضنا البعض، ومن أجل إزالة الاحتقانات النفسية المصاحبة للاختلافات، ولكي يتم تنشيط دور القواسم المشتركة بين الجميع، بحيث لا تلغي المشتركات وتحول دون ممارسة دورها ووظيفتها في الحوار والتعاون والتضامن.

لذلك نجد في الحقبة التاريخية المجيدة لعالمنا العربي والإسلامي، كانت تزدهر المحاورات والمناظرات والاحتجاجات، ولم يكن الاختلاف بكل صوره سبباً للقطيعة والجفاء، لذلك تعددت علاقات الصداقة والجيرة بين المختلفين، وجمعت حلقات الحوار والمناظرة المتباينين.

والحوار لا يمنع النقد، وإنما يؤسس للمعرفة المتبادلة العميقة، التي تجعل النقد بناءً وبعيداً عن التصفية والتحطيم.

فالنقد هنا لا يتجه إلى الدحض والنقض، وإنما لتوليد رؤى وأفكار وصيغ جديدة، تحرك الراكد، وتستفز الساكن، وتدفع الجميع نحو المزيد من الحوار والتلاقي.

وذلك لأن النقد (على حد تعبير علي حرب) هو اجتراح ممكنات للتفكير، بتشكيل موضوعات جديدة أو افتتاح حقول جديدة تتغير معها علاقتنا بالمسائل المطروحة، بقدر ما تفضي إلى فتح علاقات مغايرة مع الحقيقة أو إلى استخدام أدوات معرفية تغير تعاملنا مع المعرفة بالذات. بهذا المعنى إن النقد هو أبعد ما يكون عن النفي، إنه لا يقوم على دحض المقولات واكتشاف الأخطاء، بقدر ما هو فاعلية فكرية تتيح، عبر استنطاق الخطابات وتأويلها، أو عبر الحفر في طبقات النصوص وتفكيك أبنيتها، تجديد القول ومضاعفة النص، بإشعال بؤرة للأسئلة، أو بافتتاح منطقة لعمل الفكر، أو بانتهاج منحى مغاير في التفكير، أو بابتداع ممارسة فكرية جديدة.

وهكذا لا يتحول النقد إلى ممارسة عشوائية، قوامها النقض والاستفزاز، وإنما هو عملية قصدية وواعية، تتجه إلى اكتشاف مساحات جديدة للنظر والتفكير، وحقول مميزة للنشاط والعمل، وآفاق راهنة للتطلع وبلورة الطموح.

وبهذا فإن الحوار والنقد يتكاملان، فلا نقد بناء بدون حوارات مستديمة ومتواصلة، تتجه إلى تبديد الجهل المتبادل، وتعميق أسباب الفهم والمعرفة. كما أنه لا حوار جاداً ومفضياً إلى الحيوية والفعالية، بدون عملية نقد، تسائل السائد، وتناقش الموروث، وتبدد الرين النفسي والفكري.

فالحوار يكسب الإنسان التعدد والتنوع في القناعات والأفكار والخيارات، والنقد يؤسس لعملية انفتاح خصبة سواء على مستوى المعاملة أو التجربة. وكلاهما (الحوار والنقد) يفضيان إلى غنى الشخصية على مختلف المستويات.

وبالتالي فإن مفهوم الحوار، ينطوي على قدر من المراهنة على تأسيس لواقع جديد لحياتنا الاجتماعية والإنسانية. والإنسان الذي لا يحسن الحوار مع غيره المختلف أو المغاير، لن يستطيع أن يطور علاقاته وأنماط إنتاجه مع المتفقين معه. وذلك لأنه يفتقد للقدرة المؤهلة لترتيب علاقته مع كل الدوائر المحيطة به. مما يجعله فاقداً للإمكانية اللازمة لتنمية أسباب العلاقة وعوامل التعاون بينه وبين نظرائه على مستوى الفكر والمعرفة، وعلى مستوى الفعل والممارسة.

والحوار الذي نتطلع إليه، هو القادر على افتتاح مناطق جديدة للعلاقات، واجتراح صيغ متطورة للتعاون والتضامن .

إن التحصين الوطني ضد كل المخاطر التي قد تهدد الأمن الاجتماعي والوطني، يتطلب العمل الجاد على بلورة مشروع ثقافي وطني، يحتضن كل أطياف وتعبيرات الحياة الثقافية الوطنية.

شروط التقدم:

ثمة حقيقة أساسية ينبغي أن ننطلق منها في هذا السياق، وهي أن التطور والتقدم الاجتماعي، هو وليد تراكم تاريخي وإنساني، يوفر الظروف والعوامل الذاتية والموضوعية لعملية التطور والتقدم. وهذا بطبيعة الحال، لا يعني أن هذه العملية بعيدة عن الإرادة الإنسانية، وإنما هي تتكامل مع الإرادة الإنسانية التي تنشد التطور وتتطلع إلى التقدم. بمعنى أن إرادة التطور والتغيير، تتجه إلى إنضاج عملية التراكم، بحيث يبقى التقدم حاجة موضوعية ملحة.

فالإرادة الإنسانية مطلوبة، ولكنها ليس من أجل استخدام العنف والقوة الغاشمة للوصول إلى التقدم والتطور، وإنما بمعنى العمل على إنضاج الشروط الذاتية للتطور والتغيير. فالتقدم والتحديث لا يفرض على الناس بالقوة، ينبغي أن يقتنعوا به، أي بالفكرة التي تعبر عنه، وبالطريق والوسائل والأدوات لتحقيقه. والتقدم في كل مستوياته، يكون حقيقياً بقدر ما يكون نتيجة تراكم يرتقي مع ارتقاء وعي الناس بضروراته، وعندما تنضج الشروط الاجتماعية والمادية لحصول التقدم. والتراكم المطلوب لا يحصل من دون العمل والسعي إليه. لذلك فإن الجهد الإنساني بكل عناوينه، ينبغي أن يتجه لاستنفار الوعي وإنجازه الشامل والقادر على إنجاز مفهوم التغيير والتقدم بوسائل سلمية وحضارية.

وعلى هدى هذه الحقيقة نقول: أن القوة (بالمعنى المادي الغاشم) والعنف لا يفضيان إلى التقدم المطلوب، بل يؤديان إلى تحريف الوعي الاجتماعي وتنمية دور الغريزة في المجتمع. وذلك لأن عقلية العنف، تؤدي إلى الانخراط في مشاريع حروب وتقسيم وإلغاء للآخر، وكلها عناوين وحقائق ومسلكيات تفاقم من المشاكل والأزمات، ولا تحمي الاستقرار والأمن، وتدمر كل المكتسبات، وتنهي كل مشروعات التنمية. إضافة إلى الآثار النفسية المدمرة ليس فقط على صعيد الأفراد، وإنما على صعيد المجتمع كله أيضاً.

وجولات الحروب الداخلية في العديد من البلدان والمناطق، تثبت بشكل لا مجال فيه للشك، إلى أن العنف ثقافة وأدوات، تزيد من أوار الحروب وتعمق منطقها الاستئصالي في كل الاتجاهات. لذلك فإن الاستقرار الاجتماعي القائم على التراضي والمدعوم بمبادئ العيش المشترك والحوارات الوطنية المتواصلة والعميقة، وتكريس حالة الشفافية في كل الحقول، كلها هي التي تضمن الأمن والاستقرار.

وإن العنف مهما كانت مبررات ومسوغات استخدامه، لا يفضي إلى الاستقرار، وإنما يؤدي إلى الحروب التي تتوالد باستمرار لأتفه الأسباب.

من هنا من الأهمية بمكان، التأكيد على ثقافة الحوار والتواصل، والعمل على تفعيل الجوامع المشتركة والكفاح الدائم لنبذ كل الثقافات التي تبرر لصاحبها إقصاء الآخر أو الاستعلاء عليه أو إخراجه من الدائرة المشتركة. وذلك لأن هذه الثقافة، لا تنتج مشاريع أمن واستقرار، بل تسقط مشاريع، ولا تنتج مشاريع بديلة وحقيقية. وهذه مسؤولية الجميع. إذ لا يمكن أن يأمن أي مجتمع، وهو يحتضن ثقافة وفكراً يبرر لصاحبه قتل الآخرين أو إقصاءهم.

إننا مطالبون، أن ننزع من نفوسنا وعقولنا كل أسباب الحرب والانقسام والتفتت، حتى نتمكن على المستوى الواقعي، من بناء السلم الأهلي والاجتماعي.

وفي هذا السياق من المهم التأكيد على المسائل التالية:

1- من المهم إعادة النظر في مفهوم الوحدة، الذي يصل حد التطابق التام، ونفي الخصوصيات، كما نعيد النظر في مفهوم العدو ومتوالياته من التناحر والتقاتل والعداء المفتوح.

حيث إننا بحاجة أن نحدد (من نحن؟) و(من هم أعداؤنا؟)، وذلك حتى يتسنى لنا صياغة ذاتنا الوطنية، وتحديد أولوياتها، ومشروعات عملها.

وننطلق في تطوير مفهوم التعاون والتضامن الذي يصل إلى مستوى التكامل. فبقدر ما تنمو حالات التعاون والتضامن في المجتمع الواحد، يتعزز خيار الوحدة والاندماج. فالعلاقة مع الآخر، لا يمكن تحديد معالمها ومواصفاتها، بدون تحديد معنى الذات. فهو الذي يحدد الآخرين وعلاقتك معهم.

لذلك فإن الذات الثقافية والوطنية، ليست ذاتاً أحادية وبسيطة. وإنما هي ذات مركبة.. بمعنى أنها تحتضن العديد من الخصوصيات والحالات المتنوعة، التي تتعامل معها باعتبارها جزءاً أصيلاً من هذه الذات. وإن هذا التنوع الذي تحتضنه، يوفر خصوبة كبيرة للعطاء والإبداع. وإذا أحسنا التعامل معه، يكون أحد الروافد المهمة للاستقرار والأمن الاجتماعي. فحق التنوع لا ينافي ويناقض واجب الوحدة.

فالطريق إلى الوحدة، يمر عبر الاعتراف بكل الخصوصيات المتوفرة، والعمل معاً لصياغة رؤية أو ميثاق مشترك، يوفر حاجات الخصوصيات كما يلبي متطلبات الوحدة والعيش المشترك. وإن تهميش حالات التنوع، لا يفضي إلى استقرار وتقدم على المستوى المجتمعي. لذلك فنحن بحاجة إلى إعادة تأسيس مفهوم الوحدة الذي لا يعني التطابق والاندماج المطلق. كما أن حق الجميع في الاختلاف والتنوع الفكري والسياسي ينبغي ألاّ يقود إلى حالة العداء والتقاتل، وإنما إلى المزيد من الحوار والتلاقي والفهم والتفاهم.

وإن دائرة التعاون، كلما توسعت وتعمقت، تقدمنا باتجاه الوحدة الاجتماعية والوطنية المطلوبة. لذلك ينبغي أن نشجع كل مبادرات التعاون وحالات التضامن، لأنها طريقنا إلى البناء الحقيقي للذات. وأن نفهم بعضنا البعض بشكل مباشر وصريح، وبعيداً عن المسبقات.. كل هذا هو الخطوة الأولى في مشروع التعاون المفتوح على التحديات والآفاق كلها.

2- إن السلم الأهلي، أضحى اليوم في ظل التطورات والتحولات الهائلة والمذهلة، التي تطال كل شيء، وتهدد العديد من الثوابت، ضرورة وطنية قصوى. لذلك من الأهمية العمل اليوم على تعزيز خيار السلم الأهلي الوطني، والابتعاد عن كل ما يسبب خرقاً أو اختراقاً لضرورات وموجبات السلم الأهلي.

والعنف واستخدام القوة، ليس سبيلاً لتحصيل الحقوق أو الدفاع عن الأفكار والآراء، فالإنسان الذي يستخدم القهر والسلطة للدفاع عن آرائه وأفكاره، لا ريب أنه يهدد السلم الأهلي، لأنه يخرق مبادئ التداول السلمي للأفكار والسلطات.

فالفرض والقسر، يوجد في النفوس الأحن والأحقاد، ويغرس في الذات تصلباً وتشدداً يحول دون التعامل الحضاري مع المختلف والمغاير. والانزلاقات الوطنية والحروب الأهلية، التي حدثت في العديد من البلدان والمناطق، بدايتها والنواة التأسيسية لكل أشكال الحروب والتدمير، هو محاولة الأطراف والتعبيرات الفكرية والسياسية على قسر وقهر الآخرين. وإخضاعهم لشروطهم السياسية أو قناعاتهم الفكرية. فتتسلح الأفكار بالعنف، ويسود التشدد والتطرف الحياة الاجتماعية، فتتراكم أشكال الإقصاء والنبذ والقهر، وتفضي في المحصلة الأخيرة إلى الحروب الأهلية والداخلية التي يخسر فيها الجميع، وتدخلهم في أتون الحروب العبثية التي لا رابح فيها. لذلك كله على مستوى أوطاننا وبلداننا، من الأهمية أن نفك الارتباط بين الفكر والإكراه، والسياسة والعنف، والرأي والقهر. ونؤسس لثقافة سياسية ومجتمعية جديدة قوامها إرساء دعائم السلم الأهلي، والابتعاد عن كل أشكال النبذ والإقصاء والتهميش، والعمل على تجاوز كل موروثات الماضي التي تبقي الحقد والضغينة، واعتبار السلم الأهلي من الفرائض الاجتماعية والسياسة التي ينبغي أن نحافظ عليها من مواقعنا المختلفة.

وإن العنف ليس هو رهان الأفكار الحضاري، لأن الدفاع بالقهر والعنف عن الأفكار والقناعات، يزيد من ابتعاد الناس عنها، ومؤشر من مؤشرات ضعف هذه الأفكار، التي لا يمكن تثبيتها في الواقع الاجتماعي إلا بالقهر والإكراه.

إن مفهوم السلم الأهلي، يتطلب على الصعيد المجتمعي الوطني، نبذ العنف والإكراه، والقبول بالتنوع، والتعامل السلمي والحضاري مع المختلفين والمغايرين.

وإن تنمية الرابطة الوطنية الحديثة، يتطلب جهوداً حثيثة صوب صياغة الواقع الوطني بعيداً عن العصبيات التقليدية، وإلغاء كل أشكال العنف والنبذ والتهميش من حقل السياسة والفكر والاجتماع.

وهناك علاقة طردية بين مفهوم الاستقرار السياسي والاجتماعي ومفهوم السلم الأهلي.. فالسلم الأهلي الوطني، هو الذي يجذر مفهوم الاستقرار السياسي، كما أن طريق الاستقرار يمر عبر إرساء دعائم السلم الأهلي. بينما في لحظات العنف، يغيب الاستقرار، وتتدمر أسس السلم الأهلي.

3-  إن التحصين الوطني ضد كل المخاطر التي قد تهدد الأمن الاجتماعي والوطني، يتطلب العمل الجاد على بلورة مشروع ثقافي وطني، يحتضن كل أطياف وتعبيرات الحياة الثقافية الوطنية، ويوظف كل إمكانات الوطن ويصبها في خدمة المشروع، وينفتح على كل الخصوصيات الثقافية، ويتفاعل ويستفيد من كل القوى والوسائط الثقافية والاجتماعية المتوفرة، ويتواصل مع منابع الفعل الثقافي بتنوعه ومستوياته ومجالاته وآلياته القائمة والممكنة.

وبكلمة: إن تحصين الوطن من المخاطر، يتطلب بلورة حياة ثقافية جديدة، تتجاوز سيئات الواقع، وتسعى نحو إرساء دعائم وتقاليد التواصل والحوار والانفتاح على كل مكونات الفعل الثقافي والإبداعي الوطني.

فالتحصين لا يتأتى بالمنع وزيادة قائمة الممنوعات، بل بغرس أسباب الحياة والحيوية في حياتنا الثقافية والاجتماعية. فالمجتمع الراكد، هو أقرب المجتمعات إلى الاختراق على المستويات كافة.

أما المجتمع الحي، والحيوي، فإنه يمتلك الدينامية الكافية التي تؤهله إلى مقاومة كل الأخطار ومجابهة كل محاولات الاختراق التي تهدد أمنه الاجتماعي والوطني.. فوجود الحياة الثقافية الجادة بكل مستلزماتها ومتطلباتها وآلياتها، يساهم مساهمة أساسية في إرساء دعائم الأمن الاجتماعي والوطني. فحيوية المجتمع وديناميته، هو رهاننا لمجابهة كل التحديات والمخاطر.

لذلك فإن مفهوم الأمن الشامل، يتطلب منا جميعاً، تنمية الاستعدادات والإمكانات الثقافية الوطنية، التي تأخذ على عاتقها معالجة الظواهر المجتمعية واستيعاب أبناء الوطن بمختلف مستوياتهم في أطر ومؤسسات، تنمي كفاءتهم، وتصقل مواهبهم، وترفع من مستوياتهم وتشاركهم في صياغة غدهم ومستقبلهم.

***

أ. محمد محفوظ

هناكَ فَرقٌ كبيرٌ بينَ الخَوفِ والجُبْنِ لايعرِفُهُ الكثيرونَ، وَيَتُمُّ الخَلطُ بينَهما كثيراً.

الخوفُ ضِدُّ الأمنِ، والخوفُ لُغَةً تَدُلُّ عليه مادَةُ خَ وَ فَ التي تَدُلُّ على الذُّعرِ وَالفَزَعِ، واصطلاحاً عَرَّفَهُ الراغِبُ الاضفهانيُّ بأَنَّهُ: (تَوَقُعُ مَكروهٍ عَنْ أَمارَةٍ مظنونَةٍ أو مَعلومَةٍ، ويُضادُّ الأمنَ ويُستعملُ في الأُمورِ الدُّنيَوِيَّةِ وألأُخرَوِيَّةِ).

 أَمّا الجُبْنُ فهو ضد الشَّجاعة، والجَبانُ من الرِّجالِ هو ضعيفُ القَلبِ، الهيوبُ للاشياء لايُقدِمُ عليها. وَعَرَّفَهُ ابنُ مسكويه بأَنَّهُ: (الخوفُ عَمّا لاينبغي أَنْ يُخافَ منهُ). وقيلَ: (هوَ الجَزَعُ عندَ المخاوفِ والاحجامُ عمّا تُحذَرُ عاقِبَتُهُ أَو لاتُؤمَنُ مَغَبَتُهُ).

 ومن هذا البيانِ يتضحُ لنا اَنَّ الخوفَ غريزَةٌ غرزها اللهُ فينا لندافعَ بها عن الأعراضِ والأوطانِ، أَمّا الجُبْنُ فهوَ رذيلَةٌ أَخلاقِيَّةٌ مذمومَةٌ.

الخوفُ في القُرآنِ الكريم

جاءت كلمةُ الخَوفِ في القُرآنِ الكريمِ بمعانٍ متعددةٍ منها: القتال، كما في قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا). النساء: الآية:(83).

وجاءت أيضاً بمعنى توقُع حصول أمرٍ مكروهٍ مع العلمِ بهِ، كما في قولهِ تعالى: (فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). البقرة: الآية: (182). وكذلك جاءت كلمةُ الخوفِ بمعنى الخشية من العذابِ والعقوبة:

(تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ). السجدة: الآية:(16) .

وجاء الخوفُ في القُرآنِ الكريمِ بمعنى الحَذّر كما في الآياتِ التالية:

(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا).مريم: الآية: (5).فزكريا عليه السلام يَحْذَرُ ابناء عمه من التلاعب بميراثه.

(وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).القصص: الآية: (7).

(وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). التوبة: الآية: (28).

(إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ). الشعراء: الآية:(135).

(قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ).يوسف: الآية:(13).

الخوف الطبيعي الذي يقع فيه الانبياء (ع)

اضافة الى الخوف بمعنى الحذر الذي حدثنا الله عنه في قصة موسى وكيف أنَّهُ عليه السلام كان في المدينة حذراً يترقب، وعندما خرج من المدينة خرج منها خائفاً يترقب، فهذا الخوف لامحذور منه ويقع من الانبياء عليهم السلام وهو لاينافي عصمتهم وكمالهم.

 وهناك نوع آخر من الخوف وهو الخوف الطبيعي كخوف موسى عليه السلام من العصا التي انقلبت ثعباناً في يديه، هذا الخوف خوف طبيعي ولامحذور فيه ويقع فيه المعصومون عليهم السلام لانه لايتنافي والعصمة والكمال. وهناك آياتٌ تشير الى هذين المعنيين :

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ۚ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ).القصص:الآية: (18).

(فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ).القصص: الآية:(21).

(فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).القصص: الآية: (25).

(وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ ۖ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ). القصص:الآية:(31).

(قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ). طه: الآية: (21).

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ ).طه: الآية:(67).

نسنتج مما مرَّ، أنَّ الخوفَ الطبيعي، والخوف بمعنى الحذر والترقب واتخاذ الاجراءات التدبيرية هي امور غير مذمومة وتقع من الانبياء عليه السلام، انما الذي يتنزه عنه الانبياء هو الجبن؛ لانَّهُ رذيلةٌ أَخلاقِيَّةٌ، ويتنزهون عن الخوف المرضي الذي يشل حركة الانسان ويجعله سلبياً ازاء الاشياء والاحداث، وكذلك الخوف من الامور الموهومة التي لاواقع لها، فانَّ الانبياء عليهم السلام منزهون عن كلِّ ذلك.

***

زعيم الخيرالله

يَجتاز إنسان اليوم اختبارا صعبا، مع أنه إنسان اليوم نفسه هذا الذي يَستبعد منشارَ المحاسَبة التي تُغَيِّبُ كليا مسطرة المنطق الذي لا تعترف النملة البشرية بقانونه ولا تَخضع لنظامه بعد سقوط كل أوراق التوت الأمَّارة بإخراج الفرد من جنة الحكمة.

ركوبُ موجة اللامعقول يتزامن مع غرق سفينة الاحتكام إلى المواثيق التي كانت تًجَنِّدُ البشريةَ للبحث عن خلاص من عقدة حالة التوحش البدائي التي تنأى بالذات عن أن تَستدرجها اللحظةُ إلى مستنقع عقيدة الذئاب التي لا تَعترِف سوى بقانون الغاب، والقصد: إن لم تَكن ذئبا فتأكد أنك ستصرخ صرخة نعجة مذبوحة كثير عليها أن تَركن إلى الظل وتكتفي هي بدور المتفرج السلبي.

الحياة بهذه المعايير عند هؤلاء لن تَخرج عن عرض قصير، ولن تتجاوز كونها فُرجة ممسوخة تشوِّهُ حقيقة الإنسان الذي يمثل على الآخرين و على نفسه، يمثل بحنكة جزار يبيع الوهم لطُلاَّب اللحم.

لا تَكذبْ على نفسك، لا تَكذبْ على نفسك يا من تَمْضغ قلبَ الحكمة والمنطق وتُفَرْقِعُهما كما تشاء في دروب الحياة المظلمة بسقوطك في حفرة الحقارة النائية بك عن مُدن الوعي بحاجتك إلى أن تَصنع من قماش الحق فساتين وسراويل لا تَضيق بأجساد أقصى مُناها ألا يَفضحها مأزق الحياة البوهيمية.

لِنَكُنْ أَبْعَد عَمَّنْ صَدَّقُوا الغوغاء، وأحرقوا الحصيرَ وكسروا الوعاء، فكيف الحال وقد كان ذاك الوعاء الوحيد الذي كانت تمتدّ إليه الأيادي لِتَقْتَطِعَ شيئا من خبزه الأسود وتَلتمس شيئا من زيتونه الْمُرّ أو تَرتشف شيئا من لبنه البائت...

الطاولة الخشبية القصيرة التي كانت تضخُّ الدفءَ في قلوب أهل البيت الطيني لم تَعُدْ تَجِد لها مكانا في زمن الإنسان البوهيمي الذي ثار، ثار ونثر الأعواد وأطفأ النار، ثار وكفر بزمن البردعة والحمار، ومضى في طريق جبلي وعر تُحَرِّكُه غريزة قُطَّاع الطرق وسواهم من المارقين الفُجَّار.

أهُوَ دَم كَذِب هذا الذي شوَّهَ معالم خريطة قميص الأُخُوَّة؟ أم هو ذِئبُ الساعة الذي أكلَ إنسانَ اليوم ونهشَ كبده، فما عاد يُحِبّ لأخيه ما يُحِبُّه لنفسه، لكأن ميثاق الأخوة لا يَعترف به سوى كنَّاش الحالة المدنية.

نَشرب النهر، ونُفرغ البحر، ونعيث فسادا في أرض الإنسانية، وقلما يشدنا الحنين إلى جذور أجدادنا الذين فصَّلوا من أمجاد التاريخ عباءة تَقِيهم بردَ الزمن وصَهده، وبَنَوْا أهراما من التيجان التي كُللت بورد الشرف والعزة.

يَطلع النهار، ونَستفيق على أبواق النرجسية التي تَنفخ فيها أفواهُ النزعة السادية،  فإذا بمارد الرغبة في ثوران بركان الدم والذّعر يتمدَّد، وإذا بالنية الشمطاء في حرق زرع القلوب تُبَيَّتُ وتُزَيَّتُ، وإذا برأس الضمير الحي يُصْلَبُ على باب مدينة الروح.

الروح يَهجرها الجسد، والقلب يَعصره الصَّدَأ، والحقدُ أفعى سامة تُسافر بلا عنوان، والجهل مظلة مثقوبة لا تَحبس شيئا من أنفاس النفس التواقة إلى وخز الآخَر بإبر تَنفث السم في الشرايين.

إبليس يتجسد في أكثر من وجه تستقرئ فيه الشرَّ المطبق، وميدوزا عجوز خرقاء تَحكم قبضتها على شوارع العيون المستجدية للشفقة، ليس لك إلا قَدَرك الناطق بما لا تقوى على أن تَنطق أنتَ به، فانصرْ قَدَرَك يَنصرك، واحفظْ لسانَك يَحفظك، والْـجمْ لسانَ الوحش الأرعن ذاك الساكن فيك لتتسع المساحة لحورية بحر النُّبْل الإنساني.

كُنْ لَكَ أو عليكَ.

***

د. سعاد درير

ان المسار الفاصل بين مفهومي (الكنية) و(الكينونة) مسار طويل وشاق ومتعرج، لن يتأتى لأي شخص تحمل صعابه وتجشم عنائه إلاّ لذوي الإرادات الحرة والعقول المفتحة والبصيرة النافذة، لاسيما وانه يتطلب الكثير من التضحيات الذاتية بقدر ما يواجه العديد من التحديات الموضوعية التي غالبا"ما تكون باهضة ومكلفة.  أي بمعنى أن استحالة الفاعل الاجتماعي من طور (التوحش) و(التبربر) الى طور (التأنسن) و(التحضر)، يحتاج الى قدر كبير من المجالدات العقلية والمكابدات النفسية على نحو دائم ومستمر، وهو ما يجعل عدد الذين يغامرون باختيار هذا المسار الشائك، فضلا"عن قبولهم تبعات التحدي لقيمه الطهرية وأخلاقياته الصارمة ضئيل ومحدود.

وللوقوف على مبلغ الصعاب وطبيعة التحديات المترتبة على خيار (الاستحالة الحضارية) للشخص الذي يبادر بدخول هذا المعترك الوجودي والاجتماعي والإنساني والأخلاقي، يستلزم الأمر توضيح ما نعنيه بمفهوم (الكنية) ونظيره مفهوم (الكينونة)، والإشارة من ثم الى الفرق النوعي الذي يفصل بينهما ويترتب عليهما، وبالتالي يجعل عملية (الاستحالة) المقصودة ممكنة الحدوث. فالنسبة للمفهوم الأول (الكنية) فان المراد به هو أن تعيين (هوية) شخص ما والتعريف بماهيته لا يتأتى عبر الإحالة المباشرة إليه باعتبار كونه موجود بذاته، مثلما لن يتحصل ذلك إلاّ بالاعتماد على مصدر خارجي مضاف يكون بمثابة الدال الى المدلول. أي بمعنى ان هذا الأخير لا ينتمي الى أصل العناصر المكونة للشخصية المعنية وليس له علاقة بخصائصها التكوينية ؛ كأن يكون المصدر (أسري / عائلي، أو قبلي / عشائري، أو مذهبي / طائفي، أو جهوي / مناطقي، أو قومي / اثني). ولعل من نماذج هذه الحالة ما تواضعت عليه أعرافنا وتقاليدنا الاجتماعية حيال التعريف بشخص ما أو الإشارة إليه عبر نعته بعبارة (أبو فلان) أو (فلان االفلاني)، بحيث ان هذه الإضافة التعريفية هي التي تعين طبيعة الفرد المستهدف وتدلل على هويته، وليس تلك المقومات البنيوية التي تتكون منها شخصيته وتتشكل عليها سيكولوجيته وتتمظهر فيها مواهبه.

أما بالنسبة للمفهوم الثاني (الكينونة) فهو ما يشتق من كيان الشخصية ذاتها دون الحاجة الى إسناد خارجي مضاف، أي انه يشير الى أن ما يعيّن (هوية) الشخص هو مصدر ذاتي – داخلي، لا يشكل جزءا"من كيان تلك الشخصية الموصوفة فحسب، وإنما يعد عنصرا"جوهريا"في عمليات تكوينها الوجودي وصيرورتها الحضارية كذلك. ولهذا فعندما يتخلى الشخص المعني عن (كنيته) المكتسبة اجتماعيا"وعرفيا"، في الحالة الأولى، لن يكون لهذا الأمر – في الغالب – تأثيرا"على طبيعته، مثلما لن يقلل من قيمته الاعتبارية أو يبخس من شأنه الإنساني. أما إذا حصل العكس، في الحالة الثانية، لسبب من الأسباب، وشعر بانخلاع (كينونته) الذاتية وتفكك (كيانه) الشخصي، فان الأمور ستأخذ منحا" خطيرا"قد لا تقف عند حدّ الإحساس بضياع الوجود الاجتماعي وفقدان القيمة الاعتبارية للأنا فحسب، وإنما سيفضي كذلك الى انعدام المعنى من الحياة الاجتماعية وتلاشي المغزى من المشاعر الإنسانية.

وبضوء ما تقدم، فان المجتمع الذي يقيّم أفراده ويفاضل جماعاته على أساس (كنيتهم) الرحمية / الأسرية أو العصبية / القبلية، بدلا"من الاحتكام لمعيار (كينونتهم) الإنسانية والأخلاقية والعلمية، سيبقى يرسف في أغلال (الهمجية) و(البربرية) مهما اتخذ من إجراءات وبذل من محاولات وسن من تشريعات، وبالتالي فهو يدلل على كونه لا زال يعيش في أدنى مستويات التحضر وأحط مدارج التمدن، رغم بهارج (الحداثة) وطلاء (المدنية) التي يحاول عبرها ومن خلالها إخفاء هشاشته البنيوية ورثاثته الحضارية. ولعل ما يؤكد هذه الحالة / الظاهرة مستوى التلازم والتخادم القائم ما بين مظاهر (التخلف) واستشرائها في المجتمع المعني من جهة، وبين تكريس العلاقات القائمة على الروابط الرحمية والقرابية والقبلية والجهوية، وترسيخ قيمها وتقاليدها وأعرافها وفقا"لديناميات المجايلة من جهة أخرى. أي بمعنى أنه كلما انخفضت مناسيب التقدم الفكري وتراجعت معدلات التطور الحضاري وتدهور الارتقاء العلمي على الصعيد الاجتماعي، كلما ارتفعت مؤشرات النكوص في الوعي والارتداد في السلوك على الصعيد الفردي، والعكس بالعكس.  

***

ثامر عباس – كاتب وباحث عراقي

(لورنز: نظرية السمك سلوك يفيد عادة في منع سفك الدماء)

الاعتراف يعني الإقرار بالخطأ أو الجريمة المرتكبة في حق فرد أو جماعة، وهو اعتراف بالحقيقة دون محاول تدنيسها، هذا عند العامة من الناس، أما عند الفلاسفة ومنهم هيغل فهو التجربة الإنسانية المتضمنة وعي كل ذات بأن حريتها محدودة بحرية الذات الأخرى المشاركة لها في الحياة الإنسانية، فهناك صراع ذوات للحصول على اعتراف متبادل بهوية كل واحد، أما وأن الطرفان يتقاسمان نفس الهوية فالصراع يكون بأشكال مختلفة ويأخذ له طابعا معينا أكان ديني او سياسي بدل من أن يحدث تفاعلا بينهما، حيث ظل كل واحد ينتظر الآخر ليبادر بالاعتراف، والإعتراف طبعا يتبعه اعتذار.

وإن كان الصراع بين دولة وأخرى في مسألة الإعتراف/ الإعتذار (فرنسا والجزائر) فالصراع كذلك بين السلطة والمعارضة داخل الدولة نفسها أي الصراع بين السلطة والمعارضة، إذ نجد كل طرف يتعنت لموقفه من أجل البقاء أو انتزاع حق مغتصب، هو صراع تتناقض فيه الإرادات وتتحول فيه العلاقات الإجتماعية إلى نزاع واقتتال دائم بين الأفراد، يحاول الفرد أو الجماعة العمل بالنظرية الميكيافيلية أو نظرية التآمر، إنه الغرور بالذات الذي يولد الكراهية والعدائية، هذا الصراع كما يشير الفيلسوف هوبز نشأ منذ تأسيس المجتمع السياسي وظهوره في الساحة، والواقع أن هذا الصراع تولد منذ نشأة البشرية ولنا في الاقتتال بين قابيل وهابيل.

والإعتراف يختلف من مجتمع إلى آخر، فكل جماعة سعت نحو تحقيق ذاتها على نحو أنانيٍّ، فالإعتراف في المخيال المسيحي هو أن يقرَّ الإنسان بخطيئته أمام الله، هذا الإعتراف مشروط بالتطهير، تطهير الجسد من الخطيئة، والتخلي عن "العبثية"، وهذا النوع من الإعتراف هو اعتراف دينيٌّ ولذا قدم المسيح عيسى (في المخيال المسيحي) نفسه قربانا ليرفع الخطيئة عن البشرية، أما في الإسلام فقد بدأ الصراع بين الصحابة من أجل الخلافة بعد وفاة النبي صلعم، وتوارثت الأجيال هذه الصراعات جيلا بعد جيل،، حيث اتسمت حياة المجتمع المسلم أو المجتمع الإسلامي بالعنف، إن الانقسامات التي تقع في المجتمعات مردها الفهم السيئ للحقوق والواجبات للهويات، حيث لم يعد هناك اعتراف بالهويات ـ التي صبغت بصبغة سياسية، فالجماعات الإسلامية على سبيل المثال لا الحصر لا تعترف ببعض الهويات كالعلمانية، والعكس، إذ نجد العلمانية التي تحارب الإسلام وتطالب بفصله عن الدولة تكن العداء لكل ما هو إسلامي، فوقع ما وقع من تقتيل وعنف مثلما حدث في الجزائر، من هنا نشأت العدائية لأن كل طرف متثبت برأيه وموقفه.

يرى فلاسفة ومفكرون أن العدائية تعود إلى الغريزة أو للظروف سواء كانت اجتماعية، اقتصادية أو سياسية تحيط بالفرد العدائيُّ النزعة، إلا أن علماء النفس الإجتماعي اختلفوا في تحديد مفهوم العدائية، وركزوا فقط على دراسة العلاقات بين الأفراد والجماعات، والعدائية في منظورهم تؤدي إلى الاعتداء على الآخر سواء كان هذه الاعتداء لفظي أو جسدي، فيقع صدام بين الطرفين، قد يمتد الى استعمال السلاح، فهي سلوك يؤدي إلى أذية الآخر وهو التعريف الذي قدمه كثير من علماء النفس ومنهم "دافيد باس" عام 1961 الذي يرى أنه بإمكاننا دراسة السلوك وحده لمعرفة طبيعة الفرد العدائي، ما يمكن قوله هو أنه لم يولد الإنسان عدوانيا ولا يوجد إنسان عدوانيٌّ بالفطرة ولكن الظروف حولته إلى إنسان عدواني ودفعته إلى القيام بأعمال عدائية، فما وقع مثلا في الجزائر من أحداث بدءًا من الربيع الأمازيغي إلى الحراك الشعبي مرورا بالعشرية السوداء خرج فيها الشعب الى الشارع في مظاهرات تحولت إلى عمل مسلح، كان له دوافعه الخاصة، لأن النظام الجزائري لم يمارس ثقافة "الإعتراف" بالحق كسلوك حضاري، حيث لم يعترف بفوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في انتخابات 1990 واغتصب حقها الشرعي في إدارة شؤون البلاد، وكان على النظام أن يمنحها فرصة للقيادة وفي الأطر الديمقراطية ولا يصدر عليها أحكاما مسبقة، إن عامل التريث هنا ضروري جدا في معالجة القضايا الحساسة جدا بدلا من الاندفاعية.

قد يقول قائل لماذا يُقدَّمُ حزب الفيس بالذات كنموذج؟، والجواب هو أن الجزائر عرفت حربا أهلية قاسية جدا شهد لها الرأي العام الدولي، عشر (10) اقتتال، كانت كافية لدمار ما بني وشُيِّدَ في 28 سنة بعد الإستقلال (1962-1990)، انهارت كل البنى التحتية والمؤسسات وفشلت كل المشاريع الإقتصادية، ناهيك عن الخسائر البشرية التي حصدتها هذه الحرب، ثم أن هذه الحرب الأهلية لم تعشها باقي البلدان التي عاشت نفس التجربة وذاقت من نفس الكأس الذي شربت منه الجزائر، المسألة هنا تكمن في معرفة من هو المُعْتَدِي ومن هو المُعْتَدَى عليه، فمن واجب المعتدى عليه أن تكون له ردة فعل، ومن حقه أن يدافع عن نفسه ومشروعه .

لقد شبّه علماء السلوك ومنهم عالم النفس كونراد لورنز وهو من فيينا ويعد أحد آباء علم الأخلاق الحديث فصيلة السمك الفرنسي fish butterfly فهذا النوع من الأسماك يدافع عن نفسه ومنطقته بشراسة أما الدخلاء من غير فصيلته، وفي راي هذ العالم هناك طاقة عدائية في الإنسان يفجرها عندما تواجهه مخاطر او وجود قوى تهدده وتسعة الى طمسه، حسب نظرية لورنز فإن الخاسر في معركة ما إشارة استرضاء للمعتدي وتتضمن هذه الإشارة تعريض الخاسر لضعف جزء من جسمه للحيوان المنتصر وتنجح هذه الإشارة عادة في وقف المزيد من الاعتداء، ورأى "لورنز" أن هذا السلوك يفيد عادة في منع سفك الدماء، هذا ما وقع بين النظام والفيس، ووقع في الأنظمة العربية الأخرى (تونس ومصر ولبنان والعراق) وقد ربط بعض المفكرين ردة الفعل بالدفاع عن الكرامة التي يكتسبها الفرد عندما تكون حقوقه مضمونة يتم الإعتراف بها كعضو في الجماعة وشعور المرء بقيمته تتمثل في احترام الذات le respect de soi، فالشعب لما الت بالجبهة الإسلامية للإنقاذ واعترف بمشروعيتها وجب على السلطة إذن أن تعترف بهذا الحق.

***

علجية عيش بتصرف ( للمقال مراجع)

الثقافة لغة:

قيل في اللغة العربيّة ثقف الرمح، أي قومه وأزال  اعوجاجه. وكلمة الثَّقافة في سياقها العام تحمل في دلالاتها اللغويّة عددًا من المعاني، فيُقال ثَقَفَ الشَّيء أي حذقه، ومنه يُقال هذا رجلٌ ثَقِفٌ أو امرأةٌ ثَقِفَةٌ. وتأتي الثَّقافة بمعنى الذَّكاء والفطنة، ومن المعاني التي تحملها هي الضَّبط والسُّرعة في التَّعلم، فيُقال عن الرجل ثَقِفٌ إذا كان قائمًا بعمله وضابطًا له.(1).

أما في الغرب فقد تم اشتقاق كلمة ثقافة (من الكلمة اللاتينيّة “Cultura” بمعنى الصقل والزراعة، ولقد حافظت مجموعة من اللغات الأوربيّة على جزء من المعنى الأصليّ للكلمة في أصلها اللاتينيّ، أي ثقافة بمعنى حراثة أو زراعة “Cultivation” أو تطوير الإنتاج وترقيته وتحسينه.). (2).

الثقافة اصطلاحاً:

تُعْتَبَرُ الثقافة في هذا الاتجاه مجموعةً من المعارف والمعتقدات والفنون والسلوكيات الأخلاقيّة والقوانين والتقاليد وكل المهارات الداخليّة النشطة المتعلقة بطرق التفكير، وتشمل أيضاً العادات التي اكتسبها الإنسان ومارسها من خلال علاقته مع الطبيعة والمجتمع. أما في أعلى تجلياتها فتأتي نسيجاً من الرموز التي أنتجها الإنسان لكي يتواصل بين ذاته والآخر، ويمكن تسمية هذا التصور بالتصور الرمزيّ للثقافة. (ولقد أدرج هذا التصور في وقتنا الحاضر كتصور أساس في علم الاجتماع والدراسات الاجتماعيّة. هذا ويرتكز التصور الرمزي أساساً على اللغة بكل تجليتها كلغة الحرف والموسيقى والرسم وغيرها، لاعتبارها مكوّن أساس من مكونات بناء ثقافة الشعوب.). (3).

بيد أن مفهوم الثقافة في سياقه العام راح يتطور منذ القرن السادس عشر، من “حراثة الأرض” إلى “حراثة الذهن”، أي إلى تطوير المهارات الذهنيّة واستخدامها في إنتاج الخيرات الماديّة والروحيّة من جهة، ثم كيفيّة تنميتها وتطويرها من جهة ثانية. (كما أن مفهوم الثقافة ذاته راح يرتبط أو يرادف مفهوم الحضارة، “Civilisation”،. ووفقاً لهذا الارتباط بين الثقافة والحضارة ظهر تصور مفاده، أن هناك شعوباً مثقفة ومتحضرة، وشعوباً متخلفة وذات حضارة متدنيّة، وهي عبارة عن تجمعات بشريّة بدائيّة وهمجيّة.). (4).

هكذا، أصبحت الثقافة ذات تعريف شموليّ على اعتبارها البيئة الماديّة والروحيّة التي أنتجها الإنسان، وهي تنتقل من جيل إلى آخر، متضمنة رموز الحياة اليوميّة لكافة أفراد المجتمع وممارساتهم. وبالتالي لم يعد يقتصر التعريف على الفنون والآداب والسمات الراقيّة لمجموعة بشريّة معينة. هذا وقد انخرطت في تاريخنا الحديث كل المجتمعات البشريّة، والطبقات الاجتماعيّة، والفئات الأثنية، أو الأقليات على اختلاف أجناسها وأعراقها وميولاتها الجنسيّة في هذا التعريف، باعتبارها بنيات مثقفة لها سماتها الخاصة بها التي تشكلت عبر التاريخ، مثلما لها سماتها الوطنيّة أو الإنسانيّة العامة، كونها تعيش تحت مظلة عالم تجمع أطرافه المتعددة القيم الإنسانيّة النبيلة التي تشكل الجوهر العام للثقافات الإنسانيّة، وإن ظهرت على السطح بعض القيم السيئة في هذه الحضارات، فوراءها تكمن قوى بشرية مُسْتَغِلّة تعمل على نشر قيمها الثقافيّة لتجهيل الشعوب واستغلالها، وهذا ما سنشير إليه لا حقاً.

الثقافة الشعبيّة:

الشعبيّ هو كل ما انتشر بين الجمهور وأصبح له حضوره المادي والقيمي. وقد يتجلى هذا الحضور في الفن بكل أشكال من غناء ورسم ومسرح وقصة ورواية وفلكلور. أو يتجلى في لباس أو أثاث منزل أو موديل إنتاج معد للاستهلاك... وغير ذلك. والشعبي من جهة أخرى، هو النقيض المعبر عن ثقافة الأغنياء أو الارستقراطيّة، وهكذا نستطيع القول عن الثقافة بأنها تنقسم إلى أبعاد طبقيّة، ثقافة الأغنياء وثقافة الفقراء بكل ما تحمله من قيم شعبيّة.

إن المنتج الشعبيّ غالباً ما ينتج من أجل الاستهلاك السريع، لذلك توظف له مكنة إعلاميّة وإعلانيّة هائلة لتحقيق أرباح تجاريّة كبيرة لمالك وسائل الإنتاج. أما المنتج الآخر المخصص للطبقات الغنية فهو محدود في وسائل إنتاجه وله طابع مميز يحوز على صفة (ماركات) لها طابع عالمي خاص بهذه الطبقات الراقيّة.

لا شك أن التوزع الطبقيّ في بنية المجتمع، يخلق فوارق اجتماعيّة بين المالك والمنتج، بين الأغنياء والعامة، وهذه الفوارق بدورها ستساهم بالضرورة بإنتاج ثقافتين متباينتين هما ثقافة النبلاء أو الارستقراطيّة وثقافة العامة. (وإذا عدنا إلى مسرح شكسبير على سبيل المثال لا الحصر، سنلاحظ كيف قام هذا الأخير بتمثل ثقافة النبلاء على أنها ثقافة القيم والمثل الرفيعة من هاملت وعطيل إلى ماكبيث، بينما صَوَرَ ثقافة باقي الشعب على أنها ثقافة غوغائية، فظة وهمجيّة، إلى درجة أنه أدرج في مسرحياته حبكتين دراميتين مختلفتين : حبكة خاصة بالنبلاء، وحبكة خاصة بالعوام، كذلك تم تقسيم مبنى المسرح إلى جزء خاص بالنبلاء وجزء خاص بالعامة.).(5). وهذه الموقف الرجعي من الثقافة، راح يتجسد ويُعْمَلْ على نشره في أوربا بين الجماهير مع منتصف القرن الثامن عشر، عندما بدأت أفكار القوى التقدميّة والاشتراكيّة تطرح نفسها على الساحة لمقاومة القوى البرجوازيّة الاستغلاليّة بعد وصولها إلى السلطة واستغلال الدولة لمصالحها، وهذا ما مثلته أفكار فلسفة (الكانتيّة الجديدة).(6)، وبالمثاليّة الذاتيّة، واللاأدرية، والحدسيّة، والبيولوجيّة، وقد مثل هذه الأفكار الفلسفيّة المدافعة عن الطبقة البرجوازية وقيمها المتوحشة بشكل مقيت الفيلسوف نيتشه، الذي عبرت أفكاره عن ثقافة وقيم النبلاء أو السادة التي يجب أن تسود ويقصى كل ما عداها لأنها ثقافة عبيد. أي هو عبر عن ثقافة القوى البرجوازيّة الحاكمة في اتجاهاتها السلبيّة. حيث يقول: (إن هناك عرقاً سائداً هو المدعو لأن يأمر وينهي، وهناك عرق عبيد عليه أن ينفذ ويخضع للسادة، وأن المجتمع سيبقى إلى الأبد موزعاً بين فئة أرستقراطيّة مسيطرة، وبين جماهير العبيد الذين ليس لهم أية حقوق... كما راح يطالب الطبقة البرجوازيّة بأن تقوم بالتخلي عن أفكارها الليبراليّة ومشروعها الديمقراطيّ، وأن تتخلى عن القيم الأخلاقيّة والاعتقادات الدينيّة، وكافة القيم السياسيّة والقانونيّة والثقافيّة التي تعترف بحقوق الكادحين.). (7).

ومع تعمق اقتصاد السوق الرأسماليّة والرأسماليّة المتوحشة، وتقدم التكنولوجيا، وانتشار وسائل الإعلام من جرائد وأفلام وإذاعة وتلفزة،  تعمقت الهوة بين الثقافتين. حيث اصطلح على كل ما ينتمي للجماهير الشعبيّة، اسم ثقافة الجماهير وإعلام الجماهير، وحتى على الأسواق أصبح هناك أسوق شعبيّة وأحياء شعبيّة، وكذلك أصبح هناك البسة شعبيّة وأطعمة شعبية، وفن شعبي. يقابلها بالضرورة ثقافة وأسواق السادة.

إن من يتابع في تاريخنا المعاصر الانتشار الكبير لوسائل الإعلام وتعددها وخاصة في النظام العالميّ الجديد المتوحش، يلمس ذاك الدور الكبير الذي يلعبه الإعلام في نشر الثقافة العالمة الموجهة لمساحات كبيرة من الشعوب، حيث  تكمن وراء هذا التوجه طبقات اجتماعيّة سائدة تتحكم في وسائل الإنتاج والإعلام والمال، راحت تفرض تصوراتها ومعتقداتها على باقي المجتمع، لتجعل منه سوقا لترويج بضاعتها، وبالتالي هي لا تقوم بتسويق منتجاتها للاستهلاك فحسب، بل وتبيع أفكاراً وهميّةً وأحلاماً طوباويّةً ينخرط فيها الإنسان البسيط وينساق وراءها، عن طريق الفرجة أو التخييل أو الدراما أو الإعلان وما إلى ذلك من وسائل تسويقيّة، فيصبح المواطن مستهلكا لهذه البضاعة، ومروجاً لها بعفويّة، غير مدرك لقضية الربح الذي تحصده هذه المؤسسات التجارية من عرق جبينه. ولا لتلك السيطرة المذهلة للقوى السياسيّة المرتبطة باقتصاد السوق ومحركيه عالميّاً من كباتنة الرأسمال الاحتكاريّ العالميّ، يساندها في ذلك الأنظمة الشموليّة التي تشتغل على هذه الثقافة الشعبيّة، الأمر الذي سهل كثيراً في تجذر الثقافة الشعبيّة الاستهلاكيّة واتساع مساحة تداولها بين الجمهور. لكن تظل هناك إمكانيّة دائمة لاصطلاح الثقافة الشعبيّة. وهذا الاصلاح يرتبط بالنخب الثقافيّة والسياسيّة التي يهمها بناء الفرد والمجتمع والارتقاء بهما إلى مصاف الإنسانيّة، وهذا ما يقوم به الحامل الاجتماعيّ لما يسمى الثقافة الشعبيّة بصيغتها العالمة أيضاً، المؤمن بالفرد والمجتمع والإنسان معا.

الثقافة العالمة:

الثقافة العالمة، هي الثقافة الراميّة إلى تحقيق أهداف محددة بشكل مسبق، وتخدم قوى اجتماعيّة محددة، طبقيّة كانت أو أثنيّة أو دينيّة أو غيرها. والثقافة العالمة المدرك حاملها الاجتماعي لأهدافه، تسير باتجاهين كل منها يعبر عن مصالح القوى الاجتماعيّة الحاملة لها. فمثل ما هي ثقافة موجهة من قبل القوى اَلْمُسْتَغِلْةَ التي أشرنا إليها أعلاه، لنمذجة عموم الشعب كي يخضع لنمط حياة تريده هذه القوى اَلْمُسْتَغِلْةَ، وهو نمط حياة المجتمع الاستهلاكيّ وفرض قيم اقتصاد السوق الذي أشرنا إليه في موقع سابق، من خلال استغلال كل الوسائل المتاحة بيد هذه الطبقة اَلْمُسْتَغِلْةَ، كالمؤسسات السياسيّة والاعلاميّة والثقافيّة والدينيّة، والتركيز على الحريّة الفرديّة وفصل الإنسان عن كتلته الاجتماعية ودفعه للتفكير من داخله ومصالحه الخاصة وليس من خلال بنيته الاجتماعية ومصالحها. وهذا ما تستمر القيام به اليوم أيضاً قوى الرأسمال الاحتكاريّ المسيطر على العالم اقتصاديّاً وسياسيّاً وإعلاميّاً، يساندها مجموعة الأنظمة الشموليّة المستبدة في دول العالم الثالث كما بينا قبل قليل. فإننا نجد هذه الثقافة العالمة في الشق الثاني التقدمي، تستخدم من قبل قوى اجتماعيّة (سياسيّة وثقافيّة) تقف إلى جانب الشعوب اَلْمُسْتَغَلْةَ والمقهورة والمشيئة والمستلبة والمغربة. وهذا ما وجدناه مع قيام الثورة الصناعيّة في أوربا، وتشكل فكر التنوير في القرن الثامن عشر من قبل فلاسفة عصر التنوير الذين عبروا عن طموحات الطبقة الرأسماليّة الوليدة ذاته التوجهات التقدميّة في حينها. ففي تلك المرحلة ظهرت الطبقة البرجوازيّة ومن حمل فكرها من فلاسفة عصر التنوير، كقوى تقدميّة وقفت ضد استبداد الملك والاقطاع والكنيسة، وطرحت ثقافة عالمة تقوم على تحقيق الحريّة والعدالة والمساواة، تجسدت أخيراً في الثورة الفرنسيّة وشعاراتها التي غزت العالم المضطهد في تلك الفترة ومنه عالمنا العربي مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر. بيد أن تطور الثورة الصناعيّة ووصول الطبقة الرأسماليّة إلى السلطة واستغلال السلطة لمصالحها (العسكر والتشريع)، وممارسة القهر والظلم للطبقة العاملة جعل هذه الطبقة العاملة تتحرك وتجد لها مثقفيها الذين راحوا ينظرون لمصالحها ضد استبداد النظام الرأسماليّ وطبقته، وخاصة مع منتصف القرن التاسع عشر حيث راحت تتجلى بكل وضوح أنانيّة الطبقة الرأسماليّة وقهرها لشعوبها وشعوب العالم، فكانت ثورات 1848 في أوربا وفي مقدمتها كومونة باريس، وما حملته هذه الثورات العماليّة وأحزابها من ثقافة عالمة نظر لها مفكرون وفلاسفة تقدميون يأتي في مقدمتهم الهيجليون الشباب، وماركس وانجلز، الذين طالبوا الطبقة العاملة بالتوحد ومقاومة القوى المستغلة لها.(8).

هكذا نجد أن الثقافة العالمة قد لبست لبوساً أيديولوجيّا في كلا الاتجاهين. هذا اللبوس الذي رحنا نلمس نتائجه أو تجلياته ليس في السياسة فحسب، بل في الفن والأدب وكل الأنساق الثقافيّة الأخرى، عبر وسائل كثيرة، كالإعلام والفن بكل أنساقه مثل السينما والمسرح والأدب والموسيقى، إضافة إلى قضايا الفكر الفلسفيّ وعلم الاجتماع... وغير ذلك.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية

................................

1- موقع سطور – تعريف الثقافة لغة واصطلاحاً - بتصرف.

2- قاموس إكس فورد. عربي – انكليزي.

3- (موقع هسبرس- إشكاليّة الثقافة العالمة والثقافة العضويّة للشعب – محمد معروف.).

4- (موقع  هسبريس. المرجع نفسه.

5- (موقع هسبريس- المرجع نفسه).

6- “حركة فلسفيّة نشأت في ألمانيا في منتصف القرن التاسع عشر ضد الميتافيزيقا التأمليّة والماديّة الدوغمائيّة، وكان شعار فلاسفتها “العودة إلى كانط”، ومعناه إن العالم الذي نعيشه وخاصة في منتصف القرن التاسع عشر مليئ بالتناقضات والصراعات بسبب تحولات الطبقة البرجوازيّة وظهور الطبقة العاملة وأحزابها ومفكريها كقوة مناهضة للطبقة البرجوازيّة وتحولاتها، وهذا لن يتم عبر الصراع الطبقي بل عبر تعميم النزعة الأخلاقيّة وربطها بالدين والسياسة والقانون، إضافة إلى التأكيد على دور العقل والإرادة الإنسانيّة في تغيير الواقع وفق المبادئ الأخلاقيّة التي يجب ان تحقق العدالة للجميع من خلال المحبة والتسامح والايمان بالعيش المشترك بين كل مكونات المجتمع. حول الكانطية الجديدة. للاستزادة في هذا الموضوع- (الكانتيّة الجديدة - يراجع موقع ويكيبيديا – وموقع حكمة.

7- موجز تاريخ الفلسفة – مجموعة من الكتاب السوفيات – ترجمة توفيق ابراهيم سلوم – إصدار دار الفكر – دمشق – 1979.). ص748.

8- للاستزادة في هذا الموضوع يراجع موقع ويكبيديا. وموقع حكمة.

بقلم: رونيه جيرار*

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

- العنف إنسانيّ خالص:

"حينما يتكلّم الناس عن وسائل الدمار الجديدة، يقولون "القنبلة" كما لو لم يوجد سوى واحدة و أنها ملك للجميع وليست ملك أحد، أو بالأحرى كما لوكان العالم كلّه ينتمي إليها. وتبدو القنبلة بالفعل مثل مَلِكة لهذا العالم. تقف على رأس جمع كبير من الكهنة والمخلصين الذين لم يُوجدوا على ما يبدو إلاّ لخدمتها. يدفن البعض في الأرض بيضات مسمومة للمعبود، ويضعها الآخرون في أعماق البحار، وآخرون أيضا ينشرونها في الأجواء، جاعلين نجوم الموت تدور بلا نهاية فوق عش النمل الذي لا يكلّ. لم يوجد أقلّ جزء من طبيعة نقّاها العلم من كلّ الإسقاطات القديمة الفوق - طبيعية، لم تُعِدْ  حقيقة العنف اختراعها. لا يمكننا التجاهل، هذه المرّة بشأن هذه القوّة للدمار، كونها إنسانية خالصة، لكنها، تشتغل، وفق نوع من العلاقات، على نحو مماثل للمقدّس.

كان الناس يجدون دوما أمانهم في ظلّ معبودهم، أي في ظلّ عنفهم المقدّس، و في مَنْجَاة من العنف الأشدّ إفراطا، واليوم أيضا هم يبحثون عن هذا الأمان. وفي عالم هو دوما منزوع القداسة، فوحده التهديد المستمرّ بدمارشامل ومباشر يمنع البشر عن التقاتل. وفي الجملة، فإنّ العنف هو الذي يمنع العنف عن الهيجان."

رونيه جيرار "أشياء مخفية منذ إنشاء العالم"

***

-  تبرير العنف:

"نقول عادة بأنّ العنف " لامعقول". ومع ذلك لا تعوزه المبرّرات:  هو يعرف حتّى كيف يعثر على مبررات حسنة حينما يريد الهيجان. ومهما كانت هذه المبررات جدّ حسنة، فإنّها لا تستحقّ أن نأخذها مأخذ الجدّ. فالعنف ذاته سينساها  إذا ظلّ  الموضوع المستهدف في البداية خارج متناوله و  يستمر في الاستخفاف به. سيبحث العنف غير المكتمل لينتهي دوما إلى العثور على ضحية بديل. وسرعان ما يستعيض عن المخلوق الذي  يثير غضبه،بمخلوق آخر ليس له أيّ موجب مخصوص  لاستجلاب صواعق العنيف، اللهم إلاّ كان عرضة لذلك وأنه في متناوله.".

رونيه جيرار "العنف والمقدّس" نشر برنار قراسي باريس 1972

***

- القربان عنف:

"يكفينا حتى نقتنع بأنّ القربان عنف من غير خطر الانتقام، أن نلاحظ المكانة الجسيمة التي توليها الطقوس لهذا الموضوع. وان نثبّت المفارقة الكوميدية أحيانا، لمرجعيات أبدية للانتقام، لهوس حقيقيّي للانتقام في سياقٍ تكون فيه مخاطر الانتقام منعدمة تقريبا، سياق قتل خروف على سبيل المثال:

نعتذر عن الفعل الذي سنقوم به، ونئنّ لموت البهيمة، ونبكيها بمثل ما نبكي قريبا. ونسألها العفو قبل ضربها. ونتوجه إلى سائر النوع الذي تنتمي إليه بمثل ما نتجه إلى زمرة عائلية نتوسّل لها أن لا تنتقم للضرر الذي ألحق بأحد أعضاءها. وقد يحدث، تحت تأثير نفس الأفكار، أن يعاقب القاتل، أن نضربه أو ننفيه.

يتوسّل المقدمون للقربان النوعَ كلّه، منظورا إليه بوصفه جماعة عائلية موسّعة، بأن لا ينتقم من موت ضحيته. و تشير ممارسة الطقس بطريقة غير مباشرة، بوصفها قتل قربان ربما يُفترض الانتقام له، إلى وظيفة الطقس، ونوع العمل الذي هو مدعوّ إلى الاستبدال والمعيار الذي يتحكم في اختيار الضحيّة. تتعلّق الرغبة في العنف بالأقرباء،  ولا يمكن له أن تشفي غليلها منهم دون أن تنتج كل ضروب النزاع، لذا لابدّ من تحويل وجهتها نحو الضحية المتقرب بها، الوحيدة التي يمكن ضربها دون خشية من خطر إذ لا يوجد من سينتصر لقضيتها. "

رونيه جيرار "العنف والمقدّس" (نفس المصدر)

***

الدين والعنف:

" إنّ الدين أبعد من أن يكون "بلا جدوى". إنّه ينزع عن العنف سمة الإنساني، إنه يطرح من الإنسان عنفه بغرض حمايته، وليجعل منه (أي العنف) تهديدا متعاليا وحاضرا دوما يستوجب أن يلطّف بطقوس ملائمة وكذلك بسلوك متواضع وحذر. يحرّر الدينيّ الإنسانية حقّا إذ يخلّص البشر من الشكوك التي قد تسمّم حياتهم لو  تذكّروا الأزمة على نحو ما حدثت فعلا.

أن نفكّر دينيّا، هو أن نفكّر في مصير المدينة  بالأخذ لعين الاعتبار لهذا العنف الذي يتحكم في الإنسان بلا هوادة خصوصا أن الإنسان يعتقد أكثر في السيطرة عليه. إنه إذن التفكير في هذا العنف بوصفه فوق إنساني، من أجل اتخاذ مسافة منه وتجنّبه.  وحينما تضعف العبادة المرعبة، وتبدأ الاختلافات في الزوال، تفقد القرابين الطقوسية فعاليتها: فهي ليست مُعْتَمدة. فيزعم كلّ واحد إعادة تصحيح الوضعية بذاته ولكن لا أحد ينجح في ذلك. إنّ تدهور التعالي ذاته يؤدّي إلى اختفاء أقلّ اختلاف بين الرغبة في إنقاذ المدينة والطموح الأكثر جموحا، بين الشفقة الأكثر إخلاصا والرغبة في تأليه الذات."

رونيه جيرار "العنف والمقدّس" ص 131

***

العنف والتخلّق الاجتماعي mimétisme collectif

" يخيّم على عالمنا غير المعدّل والمنزوع من السلوك الطقسي نوعان من المخاطر: الحرب النوويّة أو البيولوجية، والكوارث الإيكولوجية والاضطرابات السياسية الكبيرة. يوجد نوع آخر من العنف يشتكي منه الناس في عالمنا، عنف أكثر مكرا وغموضا، هو الانطباع بوجودنا في مجتمع حيث تخضع العلاقات الحميميّة لضغوطات هدّامة ضخمة...

لقد أزالت أو محت نهاية " أكباش الفداء" boucs émissaires (القرابين)، في عشر قرون، في العالم الغربيّ، كلّ المؤسّسات القربانية التي تقمع أصنافا كاملة من الأفراد. لقد أزال عالمنا العبودية وأشكال أخرى من الاستعباد الشخصي، وخفّف الفوارق الصلبة للطوائف والطبقات، والتفاوت الجنسي والعرقي، الخ...لقد لطّف دائما العقوبة القضائية. واخترع حقوق الإنسان، وبعبارة أخرى كل ما يحمي الأفراد ضدّ المحاكاة الجماعية أو " التخلّق الجماعي" mimétisme collectif. صَاحَبَ هذا التحرّرَ نموٌّ باهر للطاقة الخلاّقة في عالمنا. إنّ اختراع العلوم والتقنيات، خاصة التقنيات الطبيّة والزيادة الضخمة للموارد الماديّة، قد حرّر جزءا على الأقلّ من الإنسانية من عبودية الأسلاف. ويمثّل هذا التطوّر المتفرّد في تاريخ البشرية، العظمة التي لا مثيل لها لعالمنا. إنّ المجتمع الذي نجح في هذا هو نفسه، بالضرورة، الذي ألغى شيئا فشيئا الحواجز بين المتنافسين التخلّقيّين المحتملين، في اللحظة التي جعلت المساواةُ المتعاظمةُ، هؤلاء المتنافسين أكثر كثافة دائما. إنّ التنافس الهستيري في عالمنا هو المسئول عن الاكتشافات الأكثر روعة و الأكثر خطرا أيضا، وعن النموّ الضخم مثلا، لوسائل التدمير عندنا. وما كان  لهذه التطوّرات أن تكون خطيرة لو كان البشر قادرين على فرض نوع النظام الذي حصلوه بموجب هذه الوضعية، وبعبارة أخرى على التخلّي عن العنف. ماذا سيحدث غدا؟ لا أحد بمقدوره الجواب عن هذا السؤال.

إنّ عالمنا مهدّد أكثر من أي وقت مضى بعودة الشغف القرباني ومغامرات أخرى شيطانية يعجّ بها القرن العشرين. لكنه أيضا أكثر غنى بالوعود من كلّ العوالم السابقة. إنّ إمكانياتنا الإبداعية كما التدميريّة تزداد باستمرار. وما يشكّل خطرا في هذا القرن القادم لا ينفصل عمّا يجعل منه بشكل مؤكّد، الأكثر دهشة و نرجو ذلك، الأكثر سلمية في التاريخ الإنساني."

رونيه جيرار "محاضرة بعنوان: "عنف اليوم، العنف الدائم"

***

......................

* رونيه جيرار

"رونيه جيرار" René Girard، ولد يوم 25ديسمبر 1923 في أفينيون (فرنسا) ومات يوم 4 نوفمبر 2015 في ستانفورد في كاليفورنيا، هو انتروبولوجي ومؤرخ وفيلسوف فرنسي. تلميذ في البداية مدرسة دي شارت، سافر لإنجاز الدكتوراه إلى الولايات المتحدة حيث قضى كامل مسيرته. درس فيها أولا الأدب. هو أستاذ في جامعة جونس-هوبكينز من 1957-1980، ثم في جامعة ستانفورد من 1980 إلى 1995.

هو أب "نظرية التخلّق او المحاكاتية théorie mimétique التي، انطلاقا من اكتشاف السمة التخلّقية أو المحاكاتية للرغبة، تبحث عن تأسيس انتروبولوجيا جديدة للعنف والدينيّ. بدأ من الأدب، في كتاب "الخداع الرومنطيقي والحقيقة الروائية" (1961)، ليتّسع تحليله بعد ذلك إلى الأساطير المؤسِّسة  والطقوس القربنانية والظواهر العنف الجماعية والقمعية في كتاب "العنف والمقدّس" (1972).

(رونيه جيرار - ويكيبديا الفرنسية ).

يريد الآخر أن يؤطره داخل خانة معينة وضمن توجه ثابت لكنه ممتهن لقياس المساحات، منفلت من التنميط، يقيس دقائق الأشياء بمقياس الملاحظة العيانية والتجربة الذاتية، كما ينبش في الجزئي والمنسي والهامشي، يقيم هنا وهناك، ويرحل نحو مجالات ظلت على الهامش بالنسبة للفكر المتمركز على ذاته، تلك كانت نظرة السوسيولوجي المغربي عبد الكبير الخطيبي لذاته، ولمن يستفسرعن أيديولوجيته وأفكاره التي مافتئ يقدمها ويدونها في الكتب والحوارات، إنه محاور ومفكك وقارئ للرموز والعلامات، يرغب كما العادة في التصنيف والتقسيم بحكم انتمائه إلى مجال العلوم الإنسانية، وبحكم الريادة في مجال الإبداع الأدبي والشعري والسيميائي. كتب الخطيبي عن القضايا الجوهرية الخاصة بالمغرب والعالم العربي، كتب عن الآخر والذات، أعاد الاعتبار للجسد وللثقافة الشعبية، عشق الخطيبي الكتابة عن الهامشي، الحديث عن الأمثال والوشم، وكتاب الروض العطر للنفزاوي وألف ليلة وليلة... طموحه ولوج الحداثة بالتدريج والتعلم، يقبل فكرة الديمقراطية والفصل بين الديني والدنيوي باعتبار الديمقراطية مدرسة للحكام والمحكومين، فكرة الديمقراطية يمكن بناؤها من الجزء نحو الكل أي من المجتمع المدني وفاعلية التنظيمات والمؤسسات نحو الدولة كتنظيم كلي، مسألة المجتمع المدني والحريات أساسية في عملية بناء المجتمع والفرد معا، ويمتلك المفكر المغربي القدرة على إقامة التضاد بين الثنائيات المركزية التي جعلت من الفكر الأحادي مطلقا ومهيمنا في التحليل والتفسير، ثنائيات من قبيل الماضي والحاضر، التقليد والحداثة، الاتصال والانفصال، الغرب والشرق، الأنا والآخر، التطابق والاختلاف، لا بد من النقد المزدوج، ويجب أن ينصب هذا النقد بالدرجة الأولى على الذات، إذ لا يمكن أن يكون المغربي أو العربي بشكل عام راغبا في التفاوض أو ركوب أمواج الحداثة دون أن يكون متصالحا مع ذاته، الذاكرة بوصفها منبع للصور والذكريات، وكل ما ترسخ من أفكار ومسلمات، أن تتغير الذاكرة باستمرار دون التغذي على الماضي أو إسقاطه بشكل عمودي على الحاضر، القطيعة هنا معرفية وسياسية واجتماعية، فكان الخطيبي يدعونا إلى المواكبة والاستجابة لروح العصر دون السقوط في النزعة التاريخية، وقراءة الحاضر بناء على أحداث الماضي. فكل أمة هي فسيفساء متعددة الثقافات واللغات وصيغ التفكير، الأمة المغربية كما يرغب في تحقيقها الخطيبي حداثية بالمعنى الفكري، موجودة في قلب العالم، تحيا وتنمو من كل الأطراف والمستويات، لذلك نجد الخطيبي لا يتنصل خدمة بلده، ويرد على الأسئلة التي تعتبره غريبا أو بعيدا عن الوطن بالقول دائما إنه ساهم في أشياء متعددة، وعندما يكتب كتابات لا يعني أنه يكتب من فراغ ودون مواضيع قلقة من عالمه، هاجس التنمية وبناء الإنسان نابعة من مبادئ وتربية، النقد الموجه للعقليات نداء للتحدي والتجاوز لما هو تقليدي، يكبل الطاقات الإبداعية، ويبقي على الجمود الفكري، وترسبات التقاليد الجوفاء .

الحضارة المعاصرة مبنية على العلم والتقنية، شروق الحضارة من الشرق نحو الغرب في تحليل "هيجل" للتاريخ والحرية، الحضارة عكس ذلك عصارة منجزات الإنسانية، مستمرة باستمرار العطاء والتفكير، متطلبات الشعوب المغاربية ليست مستحيلة، ويمكن إجمالها في الديمقراطية والتنمية والهوية، حلم الخطيبي كغيره من المثقفين المغاربة والعرب، التحرر من الاضطهاد، وفك قيود الاستبداد بأنواعه، حلم يرافق المفكر في رحلته لأنه مسكون بالوطن وهاجس التقدم، مولع بالاختلاف وتفكيك الرموز، حيث يحلل المفكر عقلية المغربي وشخصيته، ويلقي اللوم على العوامل الموضوعية والذاتية معا، وينتقل صوب العقلية العربية، ويحدد الوجود والقوة بإعادة صياغة الذاكرة الفردية والجماعية، يقول في هذا الشأن "يكون عربيا كل من يؤطر ذاكرته وفضاءه المتطور في قوته الحيوية"، لعل الخطيبي يفند فكرة الأسباب الخارجية، ويولي أهمية لما هو ذاتي، فكيف تتشكل الهشاشة والتخلف الفكري والجمود إذا بقي الوعي الذاتي في سبات ؟

إننا نجهل الكثير عن ذواتنا، إننا سقطنا في الإتباع والنمطية، اعتبرنا الحاضر نسخة مشوهة للماضي، وهنا يكمن الخطأ، وقعنا فريسة أشكال متنوعة من الخطابات، وكلها قدمت رؤية أحادية اختزالية لمشاكلنا وإخفاقاتنا، الأمر ليس بالبساطة التي نضع فيها الأسباب، ونعطي الحلول السحرية للتقدم، لا بد أن يكون التقدم كميا وكيفيا، لا بد من فحص الوعي الذاتي وترسبات الأفكار القاتلة، أن نكون معاصرين في وطن يشمل الكل دون إقصاء، أن تكون الوحدة شمولية للمغاربيين، في جوهر الوحدة يتم تذويب المشكلات السياسية، وتنمو اليقظة أي أن الخطيبي يدعونا للتخلص من الماضي، وما يحمله من تهويل وتهوين، التاريخ هنا وأحداثه وقائع ولت وعلى الشعوب أن تدخل في نطاق العصر ومشاكله، التعميم والتقليل والبتر ليست من أدوات السوسيولوجي، إنه يقرأ الأحداث في صميمها ومنبعها، يحدد بعض الأسباب التي ساهمت في ذلك.

ذاكرة العرب تشتغل من خلال ثلاث حركات أساسية وهي : الانكفائية والانفجارية والتناوبية، ذاكرة تختزن صور الماضي من خلال نموذج مثالي يجسد الوحدة بين مدينة الله ومدينة الإنسان، وهنا يتجلى الانكفاء على الذات، ذاكرة تواجه واقعا متحولا ومغايرا عن الماضي، تنفجر عندما تنحصر الآفاق، ولا يتجلى التطابق بين الحاضر والماضي، أو عندما يشتد الصراع بين القوى، وهو صراع إرادات دوافعه متعددة، الأمم محكومة بالسياقات والتنوع في مكوناتها، تتدخل السياسة لتعيد ترميم الأشياء وتصويب الذاكرة، الاستجابة للتغيرات الآنية في عالم الصور والرموز ما يجعل العرب يلجون هذا العالم ويكتشفون خيوط اللعبة. اللعبة هنا إستراتيجية، ولكل عصر ما يوازيه من تنمية وثقافة، الحداثة والليبرالية الديمقراطية وفلسفة حقوق الإنسان وثقافة الاختلاف والهويات المتعددة مفاهيم مغايرة داخل الفكر الليبرالي المشبع بالعقلانية الغربية في بعدها السياسي والاجتماعي، وعصر ما بعد الحداثة في لغة الصور والعلامات والرموز والية التفكيك والنقد، فلا بد من ذكاء اصطناعي، ومدن ذكية، أما التقنية هنا لا تكفي، لأن العالم يعرف انزياحا نحو مسارات جديدة أكثر تعقيدا وتطورا. رسالة الخطيبي صريحة وواضحة موجهة للمواطن المغربي والعربي على السواء، نابعة من هموم المثقف من أجل الفهم والتعلم أولا، ومن أجل حل المشكلات اليومية وبناء مشروع مجتمعي، لا بد من نقطة البداية، وهي العناية بالفرد أي الوعي الفردي الذي يؤسس للوعي الاجتماعي، صياغة تبدأ من الداخل لأكثر الأشياء حميمية قبل التوجه نحو الخارج، هناك بالفعل أفكار ميتة وقاتلة لم تعد تجدي نفعا في الزمن الآني، هناك تحليل وقائع لا تصلح للبناء، وهناك وعي سطحي وعقليات متحجرة شكلت "المخيال الاجتماعي"، وساهمت في التخلف واستمرارية الانحطاط الفكري .

الديمقراطية في عالمنا ممكنة، أن نمنح للنقابات والأحزاب السياسية والجمعيات جوهرا أعمق، وهامشا أوسع من الحرية للعمل، ولمجالسنا المحلية قدر من السلطة في التدبير لأمورنا مع المحاسبة والمراقبة والتحفيز كذلك، المغرب العربي أفقا للفكر، والمغرب أفقا أرحب للنماء والتطور، منطق التقدم يبدأ من الثقافة والتعليم، وللأسف في ملاحظات الخطيبي أن البورجوازية الوطنية المهيمنة على القطاع الخاص لا تهتم بالثقافة، ولا تولي أهمية بالغة للصالح العام، قطاع مسكون بالمصلحة الخاصة، والسعي نحو الأرباح . فالسبب حسب الخطيبي يكمن في غياب دولة منظمة بيروقراطيا على شاكلة الدولة الحديثة في الفكر التعاقدي، وفي النظرية الاجتماعية عند ماكس فيبر، والمنظرين للفكر الليبرالي الرأسمالي، ومن هنا يعتبر الخطيبي أن المغرب لم يطور ثقافة تاريخية مكتوبة، وشارك بشكل هامشي في تكون الثقافة العالمية، وبكل جرأة ومسؤولية يخلخل الخطيبي العقليات ويكشف عن بعض الأسباب عندما يقوم بالتحليل لمعالم الشخصية المغربية والعربية في كتابه "المغرب العربي وقضايا الحداثة" من خلال الصورة ودلالتها في الواقع المادي ومن خلال تمثلات عالم الاجتماع، يفكك دلالة الاسم" عبد الكبير"، وما يحمله من رمزية دينية وقيمية في احتفال المغاربة والطقوس المرافقة للعيد، تيمنا بالعيد والمواليد، تمنح الأسماء، لكنها تحتوي على معاني، وليست دائما عشوائية أو خالية من الدلالة والمعنى .

قراءة في الصورة لا تنم عن فكرة ثابتة لأن الشخصية عموما مجموع السمات والخصائص التي تميز فردا أو جماعة أو أمة ولأنها قابلة للتغير، وليست صورة نمطية ثابتة، صورة المغربي والمغاربي عموما، تلك العلامات التي يفصح عنها الخطيبي في عملية تفكيك وتحليل للإنسان في المجتمع الزراعي الرعوي وفي المجتمع المعاصر، المغربي كائن إشكالي وتجزيئي يعاني من انفصام في الشخصية، ومن صورة هشة عن نفسه، لكن في مجموعة بشرية يعتبر كائنا تكتيكيا ماهرا ومحنكا، وسليل محارب فتاك، خصائص أخرى تشير للولع بالطقوس والاحتفالات والولائم، ناهيك عن صفة اللباقة وحسن الضيافة، وبالمقابل فالإنسان المغربي ينتمي للجماعة ومهموس بالانتماء إليها، وبذلك يكره العزلة والتفرد، يملك مهارات عائلية، ينمحي أمام السلطة ويتآلف معها، تجتمع فيه مجموعة من الصفات والطبائع، يكون مسالما وصامتا وأحيانا كاتما غيضه، وعندما يثور يكنس ما يعترض طريقه، هنا يستند الخطيبي على آليات التحليل السوسيولوجي في الدراسة للمجتمع المغاربي بالاحتكاك والملاحظة، وبالمقابل يضع مجموعة من الأسباب العامة عن الشخصية المغاربية وما هو مشترك، منها ضعف المجتمع المدني، وطبيعة السلطة الاستبدادية، وغياب الحرية، وصعوبة فصل الدين عن الدولة، وضعف صورة المغاربي عن نفسه، ومشكلة الفساد والمحاباة، والتقليل من النساء، وأشياء جوهرية موجودة في التربية والتعليم، كامنة وظاهرة في تركيبة المجتمع، أما الحل فإنه يكمن في تحويل الضعف إلى نقطة قوة متححرة، وطاقات متجددة تحرر الوعي الفردي والجماعي من التقليد والجمود .

التنقيب في الهوية والتمزق الذي أصاب الذات، وهذا الضعف في المستوى الثقافي والتعليمي، يعود الخطيبي كذلك للتراث المكتوب والشفوي، يذكر المغاربة بالهوية المركبة، يدعو إلى تدريس اللغة العربية باعتبارها لغة رسمية، واللغة الأمازيغية باعتبارها لغة ثقافة، تراث وذاكرة، وبذلك فالثقافة المغربية غنية من حيث المكتوب والمنطوق، تراث يمد الأدب والسينما والمسرح وأشكال ثقافية أخرى بالمادة المعرفية والحكاية، هذا الغنى والتنوع مفيد للتعريف بالثقافة المغربية عالميا، للخروج من نطاق المحلية نحو العالمية، ويمنح المغرب قدرة لاستقطاب السياحة والاستثمارات والترويج لنفسه بين الأمم . الخطيبي مفككا وناقدا للفكر الأحادي المطلق لا يقدم حقائق ثابتة، ولا يدعي امتلاك المعرفة والحل السحري في تطوير المجتمع المغربي، يرسم الممكن لمغرب يتسع للجميع، مغرب حداثي وديمقراطي، مغرب التنوع والتعدد، مغرب الحداثة والإجماع، تحقيق الصورة المرغوبة رهين بتجاوز النزعة التاريخية، وتفكيك الطابع العشائري للمجتمع، ومحاربة مجتمع الزبونية العائلية والقبلية .

إن المغرب حسب الخطيبي يتحدد بناء على ثلاث اتجاهات وهي: التراثوية والسلفية والعقلانية، تقسيم ثنائي للمغربي ما قبل التقنية وما بعدها، مغربي في المجتمع الفلاحي الزراعي، مغربي في المجتمع الصناعي الحديث، نقد للصورة النمطية الثابتة، وتفكيك للعلامات والرؤى الأحادية، نقد للتراث وللغرب والذات معا، نقد يرسي معالم الأفكار النقدية، ويهدف إلى تعرية المسكوت عنه أو "اللامفكر فيه" بلغة أركون، نقد بأدوات فلسفة ما بعد الحداثة، سلاحه التفكيك والخلخلة، وكذلك استنطاق الهامشي، وما هو ثانوي، من رموز وعلامات وأشياء جزئية في الثقافة، ذاكرة موشومة بالمكان، وسفر وترحال في أمكنة وأزمنة مختلفة، غربة قصيرة وعودة من جديد. يترك الخطيبي انطباعا عن ذاته وبلده ويمضي، وهنا يترك الفكرة لأجيال المستقبل لعلها تجد طريقا نحو التطبيق أو لعل المغاربة يستنيرون من أفكاره التي يقال عنها دائما أنها تنتمي إلى تيار ما بعد الحداثة، ما قيل عنه من قبل "جاك دريدا" وكذلك "رولان بارث" والشاعر "أدونيس" يعبر عن اعتراف صريح بالذوق وأصالة التفكير المتشعب، يأخذك بعيدا عن وطنك إلى عالمه، يجعلك تتأمل في العوالم المتعددة بلغته الخاصة، باعتراف رولان بارث عندما قال"إنني والخطيبي نهتم بأشياء واحدة، بالصور والأدلة والآثار، بالحروف والعلامات، وفي نفس الوقت يعلمني الخطيبي جديدا، يخلخل معرفتي" .

يترك القلم أثرا من نقد وتفكيك للعلامات والصور، النقد المزدوج والذاكرة المثقلة بالماضي، ليس الخطيبي غريبا عن المكان، وليس فردا متفردا أو منعزلا عن الجماعة وقيمها، ولا يعني انحيازه للحداثة الغربية، بل المحترف الناقد والمفكك لثقاتنا وتراثنا على ضوء مستجدات العصر بعيدا عن الرؤية التاريخية والتأملات الفلسفية، يبقى عبد الكبير الخطيبي مثقفا وشعلة يمكنها أن تنير درب السياسة المغربية في ركوب أمواج الحداثة والقطع مع التقليد، الركوب هنا لا يعني التماهي مع الغرب ولا رفضه، ولا يعني التنصل من قيمنا وتاريخنا، لكننا نستحسن المفيد، ونعمل على تطويره مع ما يناسب ثقافتنا، وأجمل الأفكار تلك التي تجد طريقها عندما يموت أصحابها . إننا في زمن الاستهلاك وعصر الصورة، زمن الذكاء الاصطناعي، أصبحت آليات الفهم معقدة وأصبحنا في حاجة للنقد والتفكيك لكل ما يتوارى ولا ينكشف.

***

أحمد شحيمط

إن من الأعمال ذات الطابع الإستراتيجي التي ينبغي أن يهتم بها المثقف ويعتبرها من أولويات أعماله ونشاطه هو العمل على تأسيس حقائق ثقافية في المحيط الاجتماعي لأن تأسيس هذه الحقائق هو الذي يجعل للمثقف دوراً حقيقياً ويمتلك تأثيرا فعليا في الوسط الاجتماعي.

في هذا العصر الذي تتكاثر فيه التطورات كما تتكاثر التحديات وتتوسع آفاق الفعل ورد الفعل.. في هذا العالم الذي يموج بالتطورات على مختلف الصعد والمستويات.. بحيث أصبح الثقافي متأخراً درجات عديدة بل مسافة طويلة عن السياسي والتقني. لدرجة أن الإنسان التقني بدأ يكتسح الساحة ويأخذ مجالات عديدة كانت في فترة زمنية سابقة من قلاع المثقف وساحاته العتيدة.

وإننا في هذا المقال نؤكد على جملة من الأمور والقضايا التي ينبغي للمثقف العربي اليوم أن يعتني بها ويجعلها من اهتماماته الإستراتيجية.

الحقائق الثقافية في المحيط الاجتماعي:

إن من الأعمال ذات الطابع الإستراتيجي التي ينبغي أن يهتم بها المثقف ويعتبرها من أولويات أعماله ونشاطه هو العمل على تأسيس حقائق ثقافية في المحيط الاجتماعي لأن تأسيس هذه الحقائق هو الذي يجعل للمثقف دوراً حقيقياً ويمتلك تأثيرا فعليا في الوسط الاجتماعي.

والمقصود بالحقائق الثقافية هو السعي الجاد لتحويل مجموعة من الأفكار والقناعات الثقافية إلى مؤسسات ونويات اجتماعية تمارس دورها باعتبارها خلايا اجتماعية تهتم بالشأن الثقافي وتسعى نحو تطويره وتجذيره في الحركة الاجتماعية.

والجدير ذكره في هذا المجال هو: أنه بدون تأسيس هذه الحقائق الثقافية سيبقى المحيط الثقافي طارداً الكفاءات الثقافية أو غير مستوعب بشكل سليم لها.. مما يدفع المثقف إلى العزلة والانفصال الفعلي عن المحيط الاجتماعي. ولعل هذا هو الذي يفسر ظاهرة هجرة الأدمغة المفكرة من العالم الثالث عموماً.. لأن هذا المثقف في العالم الثالث وغالبا لظروف موضوعية لا يستند في محيطه الاجتماعي على حقائق ثقافية ثابتة وتعتبر جزءاً من المنظومة الاجتماعية العامة.

فالمثقف لا يمكنه أن يعيش في محيط اجتماعي لا يعلي من شأن الثقافة وحاملها ومنتجها.. لهذا فإن العمل الحقيقي الذي لا بد أن يقوم به المثقف ليس الهروب من المحيط الاجتماعي والانعزال عنه وإنما السعي الجاد لتأسيس الحقائق الثقافية التي تمارس دوراً تنويرياً في المحيط الاجتماعي.

فرجل الاقتصاد والمال لم يمتلك تأثيره في المحيط الاجتماعي من وجود الثروة وحدها لديه.. وإنما امتلك التأثير حينما حوّل إمكاناته المادية إلى مجموعة من الحقائق الاقتصادية والتجارية في المحيط الاجتماعي.. وبالتالي مارس رجل الاقتصاد والثروة دوره وتأثيره في المجتمع عن طريق هذه الحقائق.. فينبغي ألا يكتفي المثقف بنتاجه النظري وإنما من الضروري أن يسند هذه الأنشطة بحقائق ثقافية تعطي لهذه الأنشطة بُعد الديمومة والاستمرار. ففاعلية القول المجرد في التأثير ضعيفة واكتفاء المثقف بذلك يجعله في الكثير من الأحيان خارج الحراك الاجتماعي.

أما العمل الجاد من أجل تكريس حقائق ثقافية في المحيط الاجتماعي فهو الذي يجعل المثقف كفرد ونخبة من الأعمدة الأساسية لعملية الحراك الاجتماعي المتجهة إلى التطوير والتقدم.

المثقف ومشروع الأمة:

ان رسالة المثقف الحضارية تتجسد في العمل على بلورة المشروع الثقافي للأمة الذي يجعلها تتواصل مع تاريخها المجيد دون الغيبوبة فيه. ويبلور لها النظام الثقافي الفاعل في حاضرها والمتناغم مع متطلبات عصرها والمجيب على تساؤلاته وتحدياته.

من هنا من الضروري أن يخرج المثقف عن أناه ومصالحها الضيقة ويفكر بمستوى الأمة وتطلعاتها.. فالمثقف لا يقاس بحجم المعلومات المتوفرة في ذهنه أو الأوسمة المعلقة على صدره وإنما يقاس بمدى مساهمته الجادة في مشروع الأمة الحضاري وبمستوى التزامه بتطلعاتها وهمومها.. وينبغي التذكير بأن التاريخ لم يخلد أولئك النفر من المثقفين الذين تخلوا عن الأمة وتطلعاتها وإنما خلدوا أولئك النفر الذين وظفوا إمكاناتهم المعرفية والثقافية في سبيل إعلاء شأن الأمة معرفياً وحضارياً.. وهذا بطبيعة الحال يفرض على المثقفين قاطبة أن يعيدوا التفكير في النظام الثقافي السائد وتوجيه الطاقات والإمكانات من أجل إعادة النظر في السائد لإصلاحه وتطويره بما ينسجم ومشروع الأمة الحضاري.

وعلى ضوء هذه المهمة التاريخية للمثقف ينبغي أن يصقل مواهبه ويبلور طاقاته حتى يكون عنصراً فعالاً في تحقيق هذه المهمة التاريخية. وعلى هذا فإن قيمة المثقف تتحدد بما ينتجه نظرياً أو يقوم به عملياً وإذا كان في اطار خدمة الأمة ثقافياً وحضارياً.

أما إذا خرج المثقف في إنتاجه النظري أو نشاطه العملي عن الأمة ومتطلباتها.. فإنه يفقد دوره الطبيعي في وسط الأمة ولا يحظى بالتقدير اللائق به من قبل جمهور الأمة.. وهذا بالطبع لا يعني أن يتحول المثقف إلى مسوغ ثقافي إلى سائد الأمة من العادات والتقاليد والأفكار.. وإنما يعني ضرورة أن يشعر المثقف بمسئوليته العلمية والحضارية تجاه مجتمعه وأمته.

وأن هذا الشعور بالمسئولية هو الذي يجعل المثقف يبحث عن أطر وأوعية يقوم المثقف من خلالها بتجسيد مفهوم المسئولية تجاه المجتمع والأمة.

كلمة أخيرة: وعلى هذا فإن كلمتنا الأخيرة إلى المثقفين هي: العمل على تمتين العلائق والروابط مع الأمة حتى يتحول المثقفون إلى جسر عملي ينقل المجتمع إلى رحاب التقدم وآفاق العلم والمعرفة.

فالمثقف في الفضاء المعرفي الغربي كان له الدور الكبير والفعال في نشر أفكار التنوير ومفاهيمه ونقل المجتمعات الأوروبية من واقع القرون الوسطى المليء بالجهل والخرافة ونبذ العلم والمعرفة إلى واقع المجتمعات الصناعية التي تقدس العقل وتعلي من شأن العلم وترحب بالإبداع الإنساني.

فالمثقف حينما يتحمل مسئوليته التاريخية يضحى قدرة خلاقة يرفد مجتمعه بالكثير من الأفكار الحضارية ويعمل وينشط ثقافياً واجتماعيا من أجل الوصول إلى النموذج الحضاري الأمثل للمجتمع.

فتحديات المستقبل لا يمكن أن تواجه بفعالية إلا بمزيد من الحضور النوعي للمثقف في مسيرة الأمة ومشاركته الإيجابية في قضاياه واهتماماته الكبرى.

والمثقف أي مثقف بصرف النظر عن أيدلوجيته وقناعته الفكرية لا يستطيع أن يقوم بدوره الثقافي والمعرفي في محيطه الاجتماعي بدون العطاء الثقافي المتميز ذلك العطاء الذي يقوده إلى الالتصاق بهموم مجتمعه ويتحول برؤيته لذاته وما يحمل من قيم وتطلعات إلى مشعل هداية ونور ومصدر إشعاع فكري ومعرفي في المجتمع.

وإن التحديات الجسيمة التي تواجه أمتنا اليوم على أكثر من صعيد ومستوى لا يمكن مواجهتها بالتمنيات المجردة وإنما بالالتزام النوعي بقضايا المجتمع والأمة.

وآن الأوان بالنسبة إلى العديد من المثقفين أن يخرجوا من بروجهم العاجية وينخرطوا انخراطا إيجابيا وفعالا في قضايا مجتمعهم وأمتهم ويساهموا على نحو فعال في صياغة وبناء حاضر الأمة ومستقبلها.

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

ليس غريباً أن نرى اليوم في زمن التكنلوجيا الرقمية الفائقة السرعة وبكل فضاءاتها الثقافية والعلمية وبأغلب جامعات العالم تحتوي على قسم " علم الأساطير " mythology، وربما تراها شاخصة في متحف اللوفر فرنسا أو متاحف دول الغرب مثل حضارات: الخلق البابلي والفرعوني والأغريقي والروماني والفينيقي والهندوسي والفارسي.

الاسطورة هي ظاهرة سوسيولوجية من صنع الانسان تكتب على الورق بفنتازية خيالية مجتمعبة بتوليفة رؤى ثرة وثرية من خيالات الشعوب وأحاسيسها وعواطفها وتأملاتها القابلة للجدل عبر حقب تأريخية يأخذ الأنسان الدور القيادي المحوري فيها كالحياة والموت والدين والآلهة وأنصاف الآلهة والكون وغيبيات اليوم الآخرة، والأسطورة ليست بالضرورة أن تكون كاذبة ضمن الأطار العلمي لأن كلمة الأسطورة تعني حكاية مقدسة عن الدين والآلهة.

وكما تبين لي من خلال رغبتي وشوقي لكشف المزيد عن هذا الموضوع وجدتُ:

أن الأساطير حضارة والحضارة أساطير، ولا توجد حضارة مؤرخنة زمكنتها دون أساطير مخالفة للعقل البشري فالمجنون يعتبرها حقيقة والعاقل يعتبرها وسيلة للتسلية والعبرة، وهنا يدخل على الخط الفيلسوف البريطاني برنت راند رسل قائلا:

(--- يلومون الأديان أنها مليئة بالأساطير، وماذا تكون الدنيا بلا أساطير ؟ أعطوني حضارة دون أساطير ! إن الأنسان نفسهُ أسطوري بالفطرة، قيل إن الأنسان حيوان عاقل، أبحث طيلة حياتي عن أدلة يمكمها تأكيد ذلك). أنتهى

الأساطير والتأريخ توأمان أحدهما رديف للأخركما الكيمياء والسحروجهان لعملة واحدة، ومن خلال تراتيبية أرخنة حقبات التأريخ البشري على كوكب الأرض الجميل تترى الكم المثير للأهتمام والتأمل!؟

أساطير الخلق البابلية وملحمة كلكامش التي تعود للألفية الثانية قبل الميلاد، وأكتشفتَ آثارها ولقاها وكنوزها سنة 1875 وبرزت أسماء مشهورة للآلهة البابلية مثل (أبسو ومردوخ وتيمات) وحكاية الخلق لم تنضج وتظهر للوضوح إلا بعد دخول الآلهة في صراعات مريرة وصعبة يكون المنتصر فيها القوة الجبارة الخارقة وأن تكون آلهة وليست أنصاف آلهة.

أساطير الحقبة الفرعونية: ظهرت في وادي النيل حسب التراتيبية التأريخية أسطورة خلق الكون وأسطوزة أوزيريس وأسطورة إيزيس، وأكدت هذه الأساطير ا لدينية توحيد الآلهة بعبادة (قرص الشمس) والأعتقاد بالحياة الأخرى، لذا وُجدت آثار بضع قبضات من سنابل الحنطة مع مومياء أحد ملوك الفراعنة لتكون مؤونة له بعد بث الحياة فيه.

ماذا تعني الأساطير للأنسان؟

أن البشرية منذ الأزل بحاجة ماسة للأساطير لتفسير ماهية الحياة وصيرورتها الغامضة والصعبة لذا تستنجد بالفنتازيا الخيالية لإقناع ذاتها المتعبة الملوثة بالأرهاصات الجدلية في تفسير الظواهرالحياتية والكونية الخسوف الكسوف الزلازل البراكين الدين الموت الألهة، فالفوبيا من ماهية الحياة تلازمه بأستمرار وحتى العصرنة الحداثوية ولأجل الوصول إلى البعض من الحلول أخذ يلجأ إلى (الخيال) الذي يكمن وراء الكثير من الأختراعات بحيث أصبح المصدر الأساسي لجميع الأكتشافات في العالم.

نماذج (مؤرخنة) للميثيولوجية والأساطيرفي حضارات الشعوب:

- كتاب كليلة ودمنة لأبن المقفع: الكتاب قصة أستعارية دالها الحيوان ومدلولها الأنسان، ودعوة أصلاحية للبحث والنقد اللاذع للساسة بحيث يتستر فيها الفيلسوف المؤلف وراء شخصيات حيوانية درءاً من غضب الحكام، ويناقش الكتاب الصراع الأبدي بين قوة المنطق ومنطق القوة، وليست الشخصيات الحيوانية في كليلة ودمنة إلا وسيلة فنية وظفها أبن المقفع لنقد الواقع الفكري المزري وهبوط المنظومة الأخلاقية السياسية فهو:

يفضح تدهور القيم وأنهيار المنظومة الأخلاقية، يفضح ظلم الحكام وتفردهم بالسلطة، يكشف تآمر الحاشية لأجل مكاسب ذاتية، ويشخص الكتاب المتصوف والمتدين والمتمرد والشقي والملحد، ويبقى هدف الكتاب الوصول إلى المدينة الفاضلة والأنسان النموذجي.

- الفنتازيا في أدب الرحلات – في رسالتي (الملهاة) لدانتي الأيطالي ورسالة (الغفران) لأبي العلاء المعري: إن الرسالتين من وحي علم الأساطيربهدف خصوبة وثراء فكرة الرسالتين في التنافس ألأنساني المشروع في الوصول إلى تحديث التراث الثقافي العربي والأطلاع على حضارة الغرب الأوربي ومدى التلاقح الفكري والثقافي بين الحضارتين، وغدت الفكرة مرغوبة لدى المفكرين وكتاب القصة بالركون إلى الفنتازيا السحرية الخيالية التي تجلب الأهتمام وتأسر المتلقي بشكل طوعي لا قسري، ففي الرسالتين للمعري ودانتي يسير السرد القصصي بسلاسة وأبداع وشوق، وإن هاتين الجوهرتين النفيستين تعتبران من أبدع روائع الأدب العالمي من خلال أطلاق أعنة الخيال الأفتراضي للبحث عن المدينة الفاضلة والأنسان المصلح النموذجي.

وأخيرا ليس آخراً وهل يغيب القمر في لجوء المكتبة العربية والعالمية إلى العالم الأفتراضي الأسطوري: نماذج

- الحبكة السحرية الفنتازية في رواية المعجزة الأدبية " إزابيلا أللندي " وروايتها السحرية (بيت الأرواح) والتي عبر عنها الروائي الكولومبي المشهور: غابريل غاريسيا صاحب رواية (مئة عام من العزلة) والتي هي الأخرى من النمط الفنتازي الخيالي السحري: تقمصت أليندي الواقعية السحرية بتوليفة الحبكة السردية مع الأسطورة لملحمة عائلية ترقى إلى ما يعرف بالأدب الملحمي.

- نقرأ للمتنبي الأسطورة والرمزية في شعر الفخر فيها من المبالغة ما لا يصدقه العاقل وهو يقول:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعتُ كلماتي من به صممُ

- نقرأ الأسطورة والرمزية التصويرية في شعر (السياب) بالأستعانة بالميثيولوجية بتوليفة حبكة سحرية مع الأشارات التأريخية، وهذا مقطع من قصيدته الملحمية مطر مطر والتي ترقى لأيقونة سامقة ضمن الأرث الثقافي العراقي والعربي حينها تمييز عند أدباء العصرنة الحداثوية ضمن دراسة (الأدب المقارن) للمقاربات الفكرية الجلية الواضحة بين شعر السياب وأليوت وأبي تمام:

قصيدة مطر مطر (بعض أباياتها)

عيناك ِغابتا نخيل ساعة السحرْ

أو شرفتان راح ينأى عنهما القمرْ

عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ

وترقص الأضواء كالأقمار في نهرْ

كالحب كالأطفال كالموتى هو المطرْ

***

عبد الجبار نوري

كاتب وناقد أدب عراقي مقيم في السويد

أثبتت أحداث خلق القوانين في التاريخ المغربي أن المشرع يفكر بمنطق العصر والتطورات البشرية في احترام تام لثوابت الأمة الحضارية. وبذلك يكون منطق الدولة القانوني متقدما إلى حد ما على المجتمع بعاداته وتعوداته، خاصة تلك التي أصبحت غير صالحة زمانيا وجغرافيا. زمن ترسيخ القيم والسلوكات الجديدة قد يطول أو يقصر في الماضي، لكن سرعة التحولات التي ميزت العشرية الثالثة من القرن الواحد والعشرين فرضت متغير السرعة بضغوطاته الجبارة على حياة الإنسان. في هذا الصدد، منعرجات ومنحدرات سنة 2023 أصبحت صعبة إلى حد الخطورة، إلى درجة حل التهديد متسلطا عن الفضاءات الترابية ضعيفة اليقظة المتميزة بردود أفعال تفتقد للدقة المدروسة والسرعة. لقد سيطرت الإلكترونيات والرقمنة على حياة الأمم والمجتمعات، وبرزت مسألة الهوية على رأس الأولويات. المستجدات تتراكم بسرعة بطابع المباغتة والفجائية. تقوية سلطة الدولة في هذا السياق تحولت إلى أبرز انشغال لدى الفاعلين، وأصبح تفعيل تطوير القوانين مسؤولية كل القطاعات. فربط رسوم سجلات الحالة المدنية المحينة إلكترونيا ببصمات اليدين أو العينين لأصحابها (لكل مواطن رسم واحد وهوية واحدة) يستلزم تكثيف التنسيق والتضامن والتعاون بين كل المؤسسات المعنية.

رقمنة الحالة المدنية تعد من أصعب الأوراش المفتوحة مغربيا نظرا لتطور شكل ومضمون رسومها وبياناتها الهامشية ونوعية سجلاتها. بفضل الجهود المضنية وحصائلها المتراكمة، أصبحت المملكة المغربية تتوفر على منظومة رقمية وطنية وسجل وطني أعطيا القوة اللازمة لأدوار المؤسسة في مجال ارتباط الهوية الدقيقة بالمواطنة وبالحاجة إلى الترسيخ النهائي لمقومات وركائز الأمن العام (المقاربة الأمنية)، والرفع من جودة الخدمات المقدمة للمرتفقين (المقاربة الحقوقية)، وتقوية سلطة الدولة ونموها المستدام (التوفر الآني على الإحصائيات الديمغرافية). لقد تم تعميم إجبارية التصريح الأولي المؤسساتي بكل الأحداث الديمغرافية وبما يترتب عن الأحكام القضائية والأذون الإدارية من تغييرات قانونية لبيانات رسومها. لقد اعتبرت الدولة، بهذا المشروع الوطني الرائد، تسجيل كل الولادات والوفيات، وما يرتبط بهما من مصالح ذاتية وعمومية، بمثابة ركيزة أساسية في العمل العمومي والخاص. الوليد والمتوفى هما من سلالة الأسر والوطن في نفس الوقت. وبذلك يكون التسجيل الشمولي لأحداث ووقائع الحالة المدنية من مسؤولية الدولة بامتياز.

بهذه الأرضية المعلوماتية، كنظام مركزي مندمج، تيسر فعليا وإجرائيا لمختلف السلط الرسمية بالبلاد تسجيل كل الوقائع المدنية الأساسية للأفراد من ولادة ووفاة وزواج وانحلال ميثاق الزوجية، وضبط جميع البيانات المتعلقة بها من حيث نوعها وتاريخ ومكان حدوثها. لقد اتخذت كل الإجراءات المطلوبة قانونيا لتطوير عملية سيولة تبادل وتضمين البيانات والمعلومات الهوياتية والتخطيطية بين المؤسسات المعنية بها. من خلال مقتضيات القانون رقم 36.21 ومرسومه التطبيقي 2.22.04 يتبين بجلاء أن الدولة قد رسمت كأولوية الأولويات في نموذجها التنموي الجديد تحقيق الاندماج الكلي للمقاربات الأمنية والحقوقية والتنموية وتعمل على ارتقائه ليصبح وعاء قانونيا واقتصاديا وثقافيا في خدمة المستقبل. فبتحقيق الالتحام المثمر الدائم والمؤمن (الحرص على ضمان الطابع الفوري للتصاريح الأولية وتأمين قاعدة المعطيات الشخصية) بين المنظومة الرقمية الوطنية وبوابة الحالة المدنية، سيتحول هذا النظام في الآجال القريبة إلى وعاء متطور لترسيخ الضبط الأوتوماتيكي لتفعيل البرامج التنموية والقوانين المؤطرة في مختلف المجالات الحيوية للوطن (الهوية الإلكترونية وتسهيل المعاملات القطاعية وتطوير العلاقات الدولية).

إننا بصدد بناء نسق رقمي جامع للإرادات والأهداف، ومحدد بطبيعته للمسؤوليات في كل الميادين. الآنية كصفة أصبحت ملتصقة بالالتزام بالمسؤولية والشفافية تحولت إلى أمر واقعي معتاد . لقد مكن هذا النسق من تفعيل المقاربة التشاركية بالحس الوطني المطلوب. كل أفعال ومبادرات الإدارات والمؤسسات والهيئات العمومية والجماعات الترابية والهيئات الخاصة المؤهلة سيتم التعبير عنها بكامل المسؤولية في إطار حماية سلطة الدولة وخدمة الوطن.

الدولة المغربية اليوم تبذل أقصى الجهود لتغطية التراب الوطني بشبكتين رقميتين، الأولى داخلية خاصة (Intranet) لربط كل مكاتب الحالة المدنية الترابية بالمنظومة الرقمية الوطنية، والثانية عمومية تتعلق بتعميم ربط المجالات الترابية بشبكة الانترنيت (internet). لقد استحضر القانون الجديد في مضمونه وبنيته وأهدافه تقريب الإدارة من المواطنين. فإضافة إلى عقلنة وتسهيل مسطرة إحداث مكاتب جديدة للحالة المدنية، والحفاظ على الأدوار الريادية التي يلعبها رؤساء مجالس الجماعات وطنيا بصفتهم ضباط الحالة المدنية الأصليين، سيصبح ممكنا لأصحاب المصلحة القانونيين الاستفادة من جيل جديد من الخدمات عن بعد ومن أي مكتب للحالة المدنية داخل المملكة أو خارجها.

خطاب العرش لسنة 2023 هام للغاية. الجدية خاصية مغربية تاريخية. ناقوس زمن التحولات العميقة قد دق بقوة هذه المرة في إطار التراكم. السجلات الإلكترونية المختلفة، بما في ذلك سجل التصريح بالممتلكات على أساس الهويات المضبوطة بأصولها وفروعها، ستتم تعبئتها والمصادقة عليها في الآجال القريبة. الشفافية والمسؤولية بالإلكترونيات وبنخب تدبيرية جديدة ستتحول إلى أساس دائم  للتخليق والتنمية المستدامة.

***

الحسين بوخرطة

نقول إن فلاناً تفكيره عقلاني، ونعني أنه ملتزم بالتأسيس المنطقي لقناعاته. لكن التفكير العقلاني أوسع من قواعد المنطق، إلا إذا توسعنا في تطبيق هذه القواعد، فقلنا مثلاً إنها تنطبق على كل تفكير يتبع مساراً معروفاً مترابطاً، بحيث يمكن للنهايات أن تفسر البدايات، تفكير يمكن لكل من اتبع مساره نفسه، أو التزم بقواعده نفسها، أن يصل إلى النتائج ذاتها.

ومن أركان التفكير العقلاني، أن المعارف والأعراف والعلوم والأخلاقيات والجماليات، جميعها مؤقتة، بمعنى أنها تعبير عن مستوى ذهني - معرفي، أو هي مرحلة في فهم الذات والعالم، ما إن تتحقق أو تتجلى حتى يتجاوزها العقل إلى ما وراءها. التفكير مثل النهر، كلما استلم موجة دفعها واستلم غيرها. ولو توقف عن هذا الفعل لركد الماء وتحول النهر إلى مستنقع آسن.

وقد تأملت يوماً في نواعير الماء التي تشتهر بها مدينة حماة في غرب سوريا، ولفت نظري خصوصاً أن الغرض الوحيد لهذه الآلة الجميلة، هو ملء أوعية الماء وحملها إلى الأعلى. فما إن تصل الدلاء إلى قمة العجلة، حتى تسكب الماء كله، ثم تعود إلى القاع كي تملأ الدلاء من جديد. قلت في نفسي إن عقل الإنسان يشبه - من أحد الوجوه - هذه الناعورة، كلما تخيل الإنسان أنه امتلأ بمعرفة من نوع ما، سكبها في الجانب الآخر وعاد إلى البحث عن غيرها، مثلما فعلت الناعورة حين ملأت الوعاء وحملته إلى الأعلى، فألقت به وذهبت تأخذ غيره. وهذا يوضح معنى زعمنا بأن المعارف مؤقتة. وأظن أن الفيلسوف المعروف كارل بوبر (1902-1994) هو أفضل من وصف هذه الحقيقة، حين قال إن النظريات العلمية لا تحكي حقيقة ولا تصف حقيقة، بل هي ببساطة احتمال راجح في وقته probability، والإعلان عن أي نظرية هو بذاته المسمار ألأول في نعشها. فما إن يعرف الناس بها حتى يهلكوها درساً وتجريباً، فيكشفون عن عيوبها، فيقترحون صيغة أرفع منها أو نظرية بديلة عنها. وهكذا تتحول من احتمال راجح في وقته، إلى احتمال مرجوح، ثم يتركها الناس إلى غيرها، وهكذا يتقدم العلم.

النظريات التي نؤمن بها ونطبقها اليوم لم تنبت في الصحراء، بل كانت ثمرة لمجموع المعارف والنظريات التي سبقتها، ولولا ظهور هذه لما اكتشفنا خطأها، ولولا تخطئتها لما عرفنا البدائل الأفضل منها. ومن هنا قال بوبر بأنه لا بد للنظرية أن تكون قابلة للتفنيد falsifiable كي نسميها علماً. فإن لم تكن قابلة للتفنيد، فهي إما علم زائف أو ميتافيزيقا أو آيديولوجيا، أو أي نوع آخر من المعارف غير العلم.- ترى... هل كانت النظرية التي تخلينا عنها خطأ، فاخترنا البديل الصحيح؟ أم كانت صحيحة لكننا وجدنا ما هو أصح منها؟

الواقع أن هذا السؤال ليس واقعياً وليس مفيداً أيضاً. فما المفيد في وصف نظرية ما بأنها صحيحة أو خاطئة، مع علمنا بأنها - في كل حال - تلعب دوراً في إضاءة الطريق أمامنا إلى النظرية التالية؟. إنها أقرب إلى الجسر الذي حملنا إلى ضفة النهر الأخرى وبقي في مكانه، فهل نشتمه أم نهدمه بعدما تجاوزناه، هل نعدّه جامداً أم كسولاً لأنه لم يرافقنا إلى نهاية الطريق؟

حسناً... هل يمكن تطبيق هذه الأوصاف على المعارف التي تنتمي إلى تراثنا الديني أو القومي أو أعراف مجتمعنا وتقاليده؟

إنني أسمع أشخاصاً يرفضون - من حيث المبدأ - نسبة هذه المعارف إلى العقل. وهم لا يقولون إنها غير عقلانية، بل يقولون إن العقل عاجز عن استيعابها والحكم عليها. وأظن أن السطور السابقة قد أوضحت لماذا نحتاج إلى التفكير العقلاني.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

تنماز الشعوب ذات التاريخ العريق أن لها ذاكرة جمعية تبقى فاعلة ومؤثرة مهما تغيرت ظروف معيشتها ودرجات وعيها، وقد عرَّف الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي "موريس هالبفاكس" (1877-1945) الذاكرة الجمعية بأنها: ذاكرة ثقافية، وهي صدى في الوقت الحاضر لذاكرة جمعية محيت أو توارت في الرتبة الثانية، هذه الذاكرة عبارة عن تعديل وتدليل مستمر، مرتبط بالتغيرات والتحولات التي تمس جماعة معينة، والتي تفرض توافقات، وتقسيمات ينتظم مختلف أعضاء الجماعة لها وفقا لصالحهم الخاصة، محتفظين في نفس الوقت ـ حسب كل حالة ـ بهذا القدر أو ذاك من الذكريات، ينتج عن ذلك أن الذاكرة الجمعية التي تنتشر بعد الآن كذاكرة اجتماعية، تكون منسوجة من تيارات فكرية، دون أن تكون منغمسة مباشرة في جماعة مرجعية معينة. والذاكرة هي اللّحمة والبنية ذاتها للهوية الجمعية والهوية الفردية (1).

نعم تخلت بعض الشعوب عنها، وطورتها شعوب أخرى إلا نحن العرب والمسلمين، كنا في بداية أمرنا قد حصرنا أنفسنا ضمن دائرة التاريخ تحت سطوة الذاكرة الجمعية، وآمنا أن هناك قوتان توجهاننا، الأولى: قوة عمودية، هي قوة الإيمان، والثانية: قوة افقية هي قوة المكون والمجتمع والفئة والمذهب وثقافاتها الموروثة والمؤثرة، وقد نجحنا من خلال ذلك في تحقيق مكاسب عظمى، ما كانت لتتحقق لولا هذه الدائرة التي شحذت هممنا، وأعطتنا القوة لننتصر في نزالات كثيرة، أهلتنا لقيادة العالم ردحا من الزمان.

وبقوة المنتصر كان المفروض بنا مغادرة دائرة التاريخ، والتخلي ولو جزئيا عن بعض موروث الذاكرة الجمعية، والبدء بتأسيس ذاكرة جمعية مستحدثة ومُستلهمة من الواقع، ولاسيما بعد النصر الذي حققناه، لنبدأ التعامل مع التاريخ الطولي الذي يتطلع إلى الأمام، ويتوكأ على فلسفة التاريخ وأستكناه المستقبل، ولكننا استنبطنا شكلا هندسيا تاريخيا جديدا يتكون من دائرة ومستطيل متداخلان، وكانت إحدى عيوبنا أن إحدى عيوننا تتطلع نحو المستقبل والعين الأخرى كانت مشدودة إلى التاريخ والموروث بما فيه مواريث الجاهلية والقبلية. وحتى هذا الاكتشاف المبهر كان له أن يحقق لنا نتائج عظيمة لو أحسنا التعامل معه وتوظيفه بحكمة وعقل، لكننا استخدمناه على هوانا، وصرنا نغلب المستطيل ردحا من الزمان، ثم ننكفئ نحو الدائرة حتى في الجلسة الحوارية الواحدة نفسها، فإذا تحدثنا عن متع الدنيا ولذاتها، سرنا في طريق التاريخ الطولي، لنشرعن الغوص في عمق اللذات المتاحة، وإن تحدثنا عن الدين ومبانيه عدنا إلى التاريخ الدائري وحصرنا أنفسنا فيه، بل في أضيق مناطقه وأكثرها توحشا، على خلاف العالم كله الذي ابتدأ وفق استطالة التاريخ من: ما قبل التاريخ، ما قبل الجغرافيا، ما قبل الإنسان، ما قبل العقل، ما قبل الحداثة، ما قبل العلم، ما قبل الدولة، ووصل إلى: التاريخ والإنسان والعقل والحداثة وغيرها، ومر بما بعدها: ما بعد الحداثة، ما بعد البنيوية، ما بعد النسوية، ما بعهد الكولنيالية، ليستقر عند: نهاية التاريخ، نهاية الفلسفة، نهاية الإنسان والإنسان الأخير، وليصل اليوم إلى: ما بعد الإنسان، هذا المصطلح الذي يترجم قلق رجال الدين والفلاسفة والعلماء على مستقبل الإنسانية بسبب ما تصنعه مختبرات البيوتكنولوجي (Biotechnology) أو التكنولوجيا الحيوية (2)، وهو الأمر الذي سيخلق حالة تتجاوز حدود تصور الإنسان وقدراته الذهنية، أملا في تغيير طبيعة الحياة والموت ومستقبل الكون ما بعد الكائنات الحية، وكناتج عرضي لفوضى التجديد حدثت جميع التبدلات الأخرى التي رافقت وزامنت مرحلة تغيير معاني المصطلحات التي أحدثها "البرادايغم" (Paradigma) هذا المصطلح الذي أستحدث في نهاية ستينات القرن الماضي للتعبير عن النموذج الفكري، أو النموذج الإدراكي، أو الإطار النظري، وأثر الثورات العلمية في استبدال أي إطار مفهومي بواحد جديد آخر، يناسب رؤاهم ومخططاتهم، ولا يشترط أن تكون له علاقة بأي مفهوم متداول آخر. ويمثل البرادايغم مجموع القوانين والفرضيات والنظريات العلمية المتداولة بما فيها المعارف الأساسية؛ التي يرى أنه سوف يقوم بتحويلها عن معناها القديم بما يعني أن مخططا خطيرا جدا معد لإحداث تغيير وتجديد عام وثورة شاملة في جميع المفاهيم المتداولة، وأهمها مفهومي الدين والأخلاق، وقد بنت بوادر هذه المخططات من خلال الثورة التجديدية التي تقودها الدول الغربية، وتدعمها بجميع قدراتها لتغيير جميع المفاهيم والمصطلحات الموروثة والمتداولة التي انهزمت أمام مصطلحي الجندر والنوع الاجتماعي.

وأعود وأقول: إن كل هذا يدعونا كأمة مستهدفة دينيا وقوميا؛ وبشكل فوري لتكون ردودنا واستجابتنا فورية، فالسكون والركود والتكاسل يعني أن قوة المنافس سوف تتعاظم، فيتعذر علينا مواجهتها، وقد نصح العقلاء عبر التاريخ أن يتم التصدي للمشكلة وهي في طريق سيرورتها، لا انتظارها لتصل إلى هدفها، ومن ثم التفكير بكيفية التخلص منها.

إن كل المخرجات المعاصرة تنبئ أن العالم يمر الآن في أخطر مرحلة من مراحله التاريخية، وأنه مهدد إن لم يكن بوجوده الفعلي وبقائه، ففي فقد هويته الإنسانية، بعد أن أقرت حكومات الغرب قوانينها الجندرية الجديدة، تلك القوانين التي خلطت الأوراق بشكل يوحي بخطر ماحق يستحيل معه بعد سنين قليلة فهم الكثير من المصطلحات الموروثة التي صاغتها وابتدعتها العقول الإنسانية بدعم من الأديان وقيم التحضر بعد سنين طويلة من المعاناة والوجع والتجارب القاسية، لترسم من خلالها ملامح جوهر وجودها المثالي، الذي يفيد من كل ما يحيط به من أجل غد أسعد وعيش أرغد ونعيم يتجدد.

إن خلط الأوراق أفقدنا تلك الفرصة الرائعة التي أتاحت لنا تسمية الأشياء بمسمياتها الأقرب إلى نفوسنا، وعلمتنا منافع التخصصية والتحديد والجزئية البنائية، وهم من خلال عملهم القبيح هذا ألجأوا العالم للبحث عن مسميات جديدة تحدد العلاقات بين البشر ليس من بينها تسمية الأسرة أو المحارم أو الجنس، وأنا واقعا لا أدري إن كان فلاسفة ما بعد الحداثة هم الذين أسسوا لهذا الانحراف من خلال تنبيههم لمواطن الصراع بين الفلسفة والواقع المتغير أم أن ما حدث هو سُنَّةٌ أخرى من سنن الحياة التي مرت بها جميع الحضارات التاريخية المعروفة، تلك الحضارات التي ما إن وصلت إلى هذه المرحلة الخطيرة حتى بدأ الهرم والتآكل ينخر بجسدها، فتلاشت إلى الأبد، وأن انتباه هذه السنة وصحوتها في عصر حضارتنا الراهنة القلق ما هو إلا إيذاناً بقرب نهاية حضارة الإنسان الأخير. فهل ستكون حضارتنا المعاصرة آخر الحضارات، أم أنها عملية ولادة جديدة لنوع إنساني جديد له قدرة إدراك إنسانيته بعيدا عن سياسة خلط الأوراق التي تقود العالم اليوم نحو الجنون المطلق؟

إن ظني يدفعني للاعتقاد أن أربعة فلاسفة فرنسيين هم الذين مهدوا لهذا التبدل، ومنهم: ميشال فوكو (1926 - 1984) وهو: فيلسوف فرنسي، وواحدا من أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين، تأثر بالبنيويين ودرس وحلل تاريخ الجنون في كتابه (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي)، وعالج مواضيع مهمة مثل الإجرام والعقوبات والممارسات الاجتماعية في السجون. وهو الذي ابتكر مصطلح أركيولوجية المعرفة. فضلا عن ذلك أرّخ للجنس ومعالجاته الجدلية المعاصرة كما في كتابه (تاريخ الجنسانية)، أما على أرض الواقع ففوكو كان مثليا معروفا ومولعا في العلاقات الجنسية الشاذة المتطرفة. ومثله مواطنه رولان بارت (1915ـ 1980) وهو ناقد أدبي، دلالي، ومنظر اجتماعي. كان أستاذا للسميولوجيا في كولج دي فرانس. وزميلهم الفرنسي الآخر جيل دولوز (1925 ـ 1995)، ولا أعتقد أن المصادفة وحدها هي التي اختارت أن يكون الثالث منهم فرنسيا هو الآخر، كان بارت من الداعمين للمذهب السبينوزي ومتأثرا بدراسات سبينوزا في الفلسفة القارية. كتب بالاشتراك مع المحلل النفسي فيليكس غوتاري مجلدين عن الرأسمالية والانفصام: مكافحة العقد النفسية عام 1972 وألف هضبة عام 1980، وهو صاحب أطروحة ميتافيزيقية هي الفرق والتكرار (1968) أثر عمله على مجاميع متنوعة من التخصصات عبر الفلسفة والفن. وآخرهم هو الفرنسي جان بودريار (1929 ـ 2007) وهو عالم اجتماع اشتهر بتحليلاته المتعلقة بوسائط الاتصال والثقافة المعاصرة والاتصالات التكنولوجية، وكان مهتما بالأدوار الجندرية.

نشأت فلسفة ما بعد الحداثة لتخوض في الثقافة والهوية والتاريخ واللغة، وهذه المسميات هي أصل المكون الثقافي والفكري الإنساني، ثم سعت لإعادة صياغة مفاهيم في غاية الخطورة مثل: الاختلاف، والتكرار، والتتبع، والفرط الواقعية، وغياب الوجود واليقين المعرفي، في محاولة منها لبناء حقيقة وآراء العالم بعيدا عن الموروث. وكانوا يعتقدون أن مهمتهم التاريخية هي استكشاف مسار جديد للأفكار والرؤى بعيدا عن الطريقة القديمة الموروثة ورؤيتها للأشياء. وهذا بالضبط ما روجوا له، واعتنقته عن طريقهم المنظمات السرية التي تسعى لإعادة تراتبية العالم وفق رؤية تتيح لها قيادته دون مشاكل، وهم يعلمون أم لا يعلمون خلقوا أعظم المشاكل التي لم يحلم العالم يوما أن يمر بمثلها، في الأقل منذ أن استقر الإنسان البدائي وعرف الأسرة والزراعة، وأنشأ المجتمعات وابتكر الآلات، وأتعب نفسه في نحت المصطلحات التعبيرية التي ترجمت الواقع وأعطته دلالات مفهومة، يعني ضياعها ضياع جهد الإنسانية التاريخي.

نعم أنا لست جامدا على النصوص، وأدعو في أحيان كثيرة إلى تجديد الكثير من مفردات الموروث، ولاسيما تلك التي لا تتوافق مع ما وصل إليه الإنسان اليوم، ولكن القضاء المبرم عليها يعني قتل التراث الإنساني الذي بنت البشرية عليه مقومات وجودها. وإذا وصلت الأمور إلى هذه المرحلة، وهي قد وصلت فعلا، وبدأ العمل بمشروع التبديل من خلال دعم البديل، ومعه بدأت القيم والسلوكيات تتبدل بشكل سريع جدا وخطير جدا، تُسهم في انضاجه جميع القوى وفق أيديولوجيات مرسومة ومعدة للتطبيق الميداني بدأً برياض الأطفال والمدارس الابتدائية والثانوية والجامعات والمؤسسات العامة وأجهزة الدولة والمؤسسات والشركات الإنتاجية والخدمية والأسرة والحياة العامة برمتها، والحياة الشخصية لكل فرد، فالمنتظر وقوعه لن يتجاوز مجرد فوضى شاملة عارمة يمكن السيطرة عليها أو تجنبها، ذلك لأن ما سيحدث سوف يقتلع الإنسان من واقعه الحياتي النسقي، ليدخله في عالم افتراضي هلامي الشكل، يُفَصِلُهُ كل إنسان على هواه، فتنفصم عرى علاقاته مع كل الآخرين بما فيهم الأب والأم والأخ والأخت؛ الذين سيتحولون تلقائيا إلى (آخر) يجوز التعامل معه مثلما يتم التعامل مع أي آخر غيره بما في ذلك إقامة العلاقات الجنسية.

وتكمن الخطورة في أن من أدخل هذه الفوضى التي ستصادر جميع خصوصياته وخصوصيات العالم كله، لن ينجح بمغادرتها مطلقا، ولذا.. ولأننا لا زلنا نتفرج على ما يحدث، ولم نحشر أنفسنا فيه بشكل مباشر إلى الآن، لأنه يبدو بعيدا نوعما عنا، مع أنه يقف على أعتاب بوابات مدننا، وقد اخترق بعض خطوط دفاعاتنا، فالمفروض أن نعتبر بما حدث ويحدث، وأن نتسلح بكل قوانا التاريخية لنحمي أنفسنا من الوقوع في أتون نارهم الحارقة، وهذا لن يتحقق إلا إذا ما وحدنا صفوفنا، ولا يمكن لوحدة الصف أن تتحقق إلا من خلال تفعيل المشتركات التي تُكَوِّن وتُؤسس الهوية الجمعية؛ التي نفتقد إليها اليوم بسبب كم الفتاوى العملاق الممتد على مدى أربعة عشر قرنا، والذي يحدد لنا مساراتنا قسرا وإكراها، ويتحكم بعلاقتنا لا مع المختلف عنا فحسب بل وحتى مع من نأتلف معه، كل حسب مرجعيته، رغم علمنا اليقيني أن تلك الفتاوى كانت لها دوافعها الدنيوية التي أفرغت الكثير من الجانب الروحي والديني للأحكام، وحولتها إلى ملهاة تشغلنا عن تتبع منهج النجاة، ولن ننتبه إلا بعد أن نجد أنفسنا في طابور الخاسرين، لأننا شئنا أم أبينا سوف نرضخ للإرادات الخارجية سواء كانت من قبل المنظمات الدولية ذات القوانين الإكراهية، أم كانت دولا عظمى ترفض أن يقول لها أحد ما: كلا.

***

الدكتور صالح الطائي

..............

الهوامش

(1) ينظر: دانيال ليجيه وجان ويليام. سوسيولوجيا الدين، المجلس الاعلى للثقافة، القاهرة ـ مصر، 2005م. ص269.

(2) التكنولوجيا الحيوية تعني: علم مبتكر يركز على المبادئ الأساسية لعلم الوراثة وعلم الأحياء الجزيئي (البيولوجيا الجزيئية) وبيولوجيا الخلية في محاولة لإدخال تعديلات بنيوية على الكائنات الحية جينياً (الإنسان والحيوان والنبات) وفق برامج التربية التي تستخدم الانتقاء الاصطناعي والتهجين من خلال التلاعب بالهندسة الوراثية عن طريق تقنيات زراعة الخلايا والأنسجة.

إن من طبيعة الأدب هو البحث عن مستلزمات النهوض بالإنسانية، بغية أن يستكمل بها مهامه على أفضل وجه ممكن، ولما وجد في قلب الطبيب نبضا فاعلا وهدفا مشتركا لإسعاد البشرية فقد دخله بلا استئذان، فتفاعل مع علمياته حتى أصبحت مُدافة مع الخيال الخصب الموصل الى خدمة الحقيقة، لأن رسالة الأديب الى الإنسانية هي رسالة منمقة قد صاغها في قالب جميل .. فهو لايكتب او يقول رسالته في أي أسلوب الا بعد ان يختار أفضل ما في اللغة من كلمات ومضامين الى الإنسانية لتجد فيه جميع الأجيال ما يخاطب وجدانها ويشبع حاجة من حاجاتها النفسية والعقلية، فالأديب الذي قرأ كتب الفلسفة مثلا، يستخدم المصطلحات الفلسفية فيما يسوقه من أدب، وكذلك الحال بالنسبة للأديب الطبيب او الأديب الذي يصطبغ أدبه بالعلوم الفيزاوية او الكيميائية او غير ذلك من سائر العلوم.. ولايختلف اثنان في ان كل عالم يستأنس بالأدب سواء أكان ذلك مصادفة ام اختيارا، لان الأدب ملاذ الوجدان وأنيس الولهان، ولكن لماذا كانت وما زالت صحبة الأدب للطبيب صحبة دائمة بتواصلها وتؤكد وجودها نظريا وعمليا..؟

إن من طبيعة ومن صميم مهنة الطبيب هو الاتصال الدائم بالأجسام والأمزجة، بينما يتصل عالم الفيزياء بحكم معلوماته مع ظواهر الكون، والمهندس مع المساحات والآلات، وفي ضوء ذلك وغيره من الأمثلة، يمكن أن نقول إن رفقة الأدب الذي يمثل المشاعر والأحاسيس، مع الطبيب الذي يمثل الحفاظ على سلامة تلك الانفعالات، لتؤدي دورها الإنساني في الحياة، هي رفقة دائمة دوام الحياة ودوام نبضات القلب وايعازات الدماغ،وقد عززت البحوث والتجارب التي قام ويقوم بها الطب النفسي في مجال العقل والأمزجة ان الطب رديف الأدب في توجهه الإنساني الهادف الى تقديم ما هو أمتع وأجمل واسلم من اجل حياة ترفل بالسرور وعزة النفس وبمجتمع واع يعرف أفراده أصول التعامل، ولما كان أسلوب الطبيب يعتمد على تعامل خاص مع المريض، بهدف إبعاد الأوهام والوساوس، بسبب ما أوجده المرض، فإن رسالة الأديب هي تهذيب النفس ومنحها أجواء رفيعة المستوى ترفدها الوجدانيات لتخلق من الصياغة التعبيرية مضمونا شافيا ومؤنسا للنفوس.

لقد أراد الأدب من الطبيب ان يقف عند علة المرض، بغية نقل المريض من التعاسة الى السعادة، ليصبح لديه استعداد نفسي هادئ لاستقبال انفتاحات النص الأدبي وما فيه من استكمال بهجة الحياة وسرورها والتي هي في الوقت نفسه انسجام الافراد الموصل في نهاية المطاف الى أجواء من التعامل الإنساني الواعي المؤهل للإسهام في بناء صرح الحضارة ومعالم الرقي والازدهار.

لقد أحس الطبيب الأريب ان مهمته لاتقف عند تشخيص خلل في الكبد مثلا، بل راح بفضل التفاف عناصر الأدب حول مدارات أفكاره يبحث عن الدوافع، وهذا ماجعله يروّض لسانه وقلمه،ليصوغ عبارات أدبية مطعمة بمصطلحات علمية تسهم في تقديم صورة مؤثرة الى المريض تنقله الى حالة نفسية أفضل، وقد أشار أبو بكر الرازي الى ذلك بقوله:

(يجب على الطبيب ان يوهم المريض أبدا بالصحة ويرجيه بها، لأن مزاج الجسم تابع لأخلاق النفس..)

ومن المعاصرين يقول الدكتور محمد الخليلي صاحب كتاب معجم أدباء الأطباء (إن كلا من الأديب والطبيب يعتمد على الحدس والمنطق)  ومن حديث للدكتورة نوال السعداوي الباحثة الروائية المصرية تقول (إن الأدب والقصة والرواية هي تشريح نفسي للناس والمجتمع).

ومن تحصيل حاصل الممارسة العملية لمهنة الطب التي ترافقها المشاعر الإنسانية يقول الطبيب جورج دوهاميل الأديب الفرنسي الشهير:

(في مطلع هذا القرن تعرفت على هنري زميلا يدرس الطب والجراحة مثلي، وأدركنا ان معرفة الإنسان وطبيعة البشر أمثالنا لاتتم بالعمل على سرير المرض والألم، بل نعايشهم ونراهم في حياتهم يعانون الحب والغيرة والصداقة والطموح، وبذلك اشتركنا في مشاطرة الناس آلامهم، وعرفنا ان من واجبنا الكتابة عن الإنسان للإنسان..)

اما تراثنا فقد زودنا بضخ متواصل من نتاجات الشعراء والكتاب، التي تؤكد صلة الانفعالات وأثرها في نتائج السلوك وصحة البدن .

وتقدمت العلوم لتؤكد ان تلك الاستنتاجات لم تكن حصيلة علوم نظرية او مشاهدة أحداث وحسب، بل هي حصيلة متابعة علمية لكيفية تأثير تلك الانفعالات في الجسم، فمما قدمه المختصون بعلم النفس والطب النفسي

(إن المشاعر الايجابية السارة تصحبها تبدلات جسمية ملحوظة، كقلة الإدرار وتناقص كمية الفوسفات وكلوريد الصوديوم في الجسم، والمشاعر الايجابية هذه تؤدي عند استمرارها الى السمنة وتنشيط الدماغ والى زيادة طافة الجسم على بذل الجهد المطلوب،ويحصل العكس في حالة المشاعر السلبية، اذ يفقد الذهن نشاطه ويتعرض الجسم الى الهزال ويفقد المرء ثقته بنفسه وتطغى عليه حالة القلق والتخاذل كما تزداد كمية الإدرار وتزداد كمية كلوريد الصوديوم والفوسفات في الدم ويفقد الدماغ قدرته على مواصلة العمل ويتشتت الانتباه ..)

وفي ضوء ذلك وغيره تأمل الطبيب الأريب فلم يجد ما يعزز رسالته الهادفة الى النهوض والرقي بالإنسان صوب السعادة إلا في الأدب، فتقارب معه بلا نسب وتآلف مع مضامينه الهادفة صوب مسار التألق.

***

عدنان عبد النبي البلداوي

العدمية موقف فلسفي من الحياة ووجود الانسان، فهي ترى ان الحياة لامعنى لها وان وجود الانسان عديم القيمة لذا نرى اصحاب هذه الفلسفة لا يأبهون لأهمية وجودهم ويفرطون بأرواحهم دونما أي تردد أو مراجعة، وتتجسد ملامح هذه الفلسفة في سلوك العديد من الأفراد والجماعات البشرية المنضوية تحت لواء الحركات المتطرفة الذين يلقون بأنفسهم الى التهلكة بتأثير عاطفي شديد نتيجة الايمان القاطع بفكرة معينة ويستعدون للموت دفاعا عنها او نتيجة التدله بشخصية يحيطونها بالقدسية ويعتقدون انها تمثل الحقيقة الكاملة، واذا كان البعض يعتقد ان العدمية مذهب حديث ظهرت ملامحه في فلسفة نيتشه التي مضى اكثر من قرن على نشؤها او ينسبون ظهورها الى الصراعات السياسية الحديثة وانتشار الأفكار المتطرفة وعبادة الشخصية فأني أجد في هذا الاعتقاد تجاهل لأحداث اتسمت بالعدمية وقعت قبل زمن نيتشة وفلاسفة اخرين بفترة بعيدة وبالتالي هو مذهب قديم، فقد عٌرف عن الخوارج شغفهم الشديد بالقتال، فكانت غزواتهم وحملاتهم على المخالفين لهم تتوالى غير مبالين بقلة عددهم بالنسبة لأعدائهم، وكانت احدى نسائهم اللائي اشتهرت بالبسالة وتدعى أم حكيم تحمل على الأعداء في ميادين القتال وهي تنشد:

أحمل رأسا قد سئمت حمله

وقد مللت دهنه وغسله

ألا فتى يحمل عني ثقله

قد يفسر البعض ان هذا الاندفاع الأهوج نحو الموت شجاعة وبطولة متناهية، لكنه من جانب آخر يعبر عن اليأس وغياب الأمل والنظرة الى العالم والطبيعة من زاوية مظلمة سبق ان أطل منها الشاعر المعرى في قوله:

ألا إنما الدنيا نحوسٍ لأهلها .. فما من زمانٍ أنتَ فيه سعيد

وقد تسلل هذا المذهب الى الأدب فظهرت كتابات عالمية قامت على تبخيس الذات والوجود والحط من قيمة الحياة من بينها كتابات البيركامو (الغريب) و(اسطورة سيزيف) و(المتمرد) التي قامت احداثها على هذه الفلسفة حيث يرون ابطالها ان وجودهم في الحياة بلا طائل وبلا معنى ويفضي بهم هذا الشعور الى الانتحار، كما ظهرت ملامح هذه الفلسفة في رواية (الآباء والبنون) للكاتب الروسي تورجنيف التي أظهرت الصراع الفكري والاجتماعي بين الشباب والشيوخ في روسيا ويتمثل بمبدأ رفض الابناء لمشاعر واخلاق الاباء الذي يتسم بالعدمية في بعض مواقفه،  كما ان من ابرز الذين تبنوا هذه الفلسفة في القرن الاخير هو الكاتب الروماني (أميل سيوران 1911 ـ 1995)،  الذي يعد من أشهر العدميين المعاصرين، ومن أعماله (لو كان آدم سعيدا) الذي ترجم الى العربية عام 2014 وكذلك كتابه المهم (مثالب الولادة) الذي يسخر فيه من الوجود ويطرح تساؤلات جريئة عن سر الحياة التي مصيرها الموت لامحالة حيث يقول (الولادة، أو قل كارثة الولادة، هي مغامرةٌ عبثيَّةٌ لا جَدوى منها، لأنَّ مصير الإنسانِ مرتبطٌ بنهايةٍ حتميَّةٍ يغيبُ فيها وعيُه ووجودُه، ويكونُ مصيرُه كمصيرِ أيِّ كائنٍ آخر، إذًا لمَ كلُّ هذا النواحِ؟ فإذا كانَ مصيرُ الإنسانِ هو الموتُ، ما قيمةُ الولادةِ أصلاً، هل ولدَ الإنسانُ ليموتَ؟) .

***

ثامر الحاج امين

بين آونة وأخرى، تتناقل الصحافة ووسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي أخباراً عن قيام بلديات بعض المدن التركية بحملات لإزالة اللافتات المكتوبة باللغة العربية من واجهات المطاعم والمحال التجارية ومكاتب الترجمة القانونية المُجازة التي قد يمتلكها أو يديرها العرب، وهم في الغالبية العظمى من السوريين، أو أنها تستخدم اللغة العربية في المدن التي يسكنها الآلاف من العرب لأسباب شتى بين لاجئين ومتوطنين ومقيمين وسُيَّاحاً عابرين، وعادة ما تثير مثل هذه الحملات الكثير من التساؤلات عن دوافعها وأسبابها، فهناك من يعدها أمراً طبيعياً ينسجم مع قانون البلديات التركي الذي يحظر رفع اللافتات المكتوبة بلغات أخرى غير التركية، بما في ذلك العربية والإنكليزية، وهناك من يحملها وزر العنصرية القومية وخصوصاً في المدن التي يهيمن العلمانيون على بلدياتها، بل ويدرجها ضمن اعمال هستيريا الإسلاموفوبيا التي تجتاح العالم الغربي، وتعبر عن نفسها بمظاهر شتى من التطرف العنصري والعدوانية والكراهية المقيتة.

والحقيقة أن قضية اللغة العربية في تركيا تكتسب أهمية خاصة، ذلك لأنها ترتبط بالهوية الإسلامية لهذا البلد المتأرجح بين العلمانية التي أرسى قواعدها مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، وبين صحوة إسلامية شعبية جارفة أوصلت منذ ستينيات القرن الماضي عدنان مندريس رئيس الحزب الديمقراطي إلى سدة الحكم مدعوماً من الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان المقارع البارز للعلمانية، غير أن هذه التجربة تعرضت إلى انتكاسة خطيرة بعد الانقلاب العسكري الذي أجَّل إلى حين حلم الإسلاميين بوصولهم أو وصول الأحزاب القريبة من توجهاتهم إلى تولي زمام الأمور في تركيا وتعزيز هويتها الإسلامية. لقد خرج مندريس من معطف أتاتورك  وخليفته عصمت إينونو، لكنه اتخذ اتجاهاً مخالفاً لاسيما في التعامل مع الهوية الإسلامية لتركيا، إذ قرر إعادة رفع الأذان باللغة العربية، واعادة افتتاح المساجد، وسمح بتعلم العربية وتشجيع مدارس تحفيظ القرآن ومعاهد تخريج الخطباء والوعاظ، وكانت مثل هذه الخطوات كفيلة بانقلاب الجيش عليه يوم السابع والعشرين من أيار 1960 وتقديمه للمحاكمة بتهمة العمل على تغيير الهوية العلمانية لتركيا، والحكم عليه بالإعدام شنقاً حيث تم تنفيذ  الحكم في أواسط أيلول 1961. لكن وبعد أقل من ثلاثة عقود تم رد الاعتبار الى مندريس ورفاقه تزامناً مع الذكرى التاسعة والعشرين لإعدامهم وتم نقل جثمانه مع جثامين وزيريه فطين رشدي وزير الخارجية، وحسين بولاتكان وزير المالية من مثواهم في جزيرة ياسي أظه إلى ضريح أقامته بلدية إسطنبول في منطقة توب كابي، مع صدور قانون رد الاعتبار لهم في عهد الرئيس توركت أوزال، والاقرار بأن التهم التي وجهت اليهم كانت ظالمة. وأصبح هذا الضريح من الأماكن التي يزورها كبار المسؤولين في المناسبات الوطنية للترحم على مندريس ورفاقه الذين علّقهم العسكر على مشانق العلمانية، وهو مشهد ربما كان سيتكرر ثانية في تاريخ تركيا، لو قُدِر للانقلاب العسكري الذي شهدته تركيا في 15 تموز قبل تسع سنوات أن ينجح، ولولا التصدي الشعبي الواسع للانقلابيين في شوارع إسطنبول، وأولها شارع وطن بالقرب من ضريح مندريس، دفاعاً عن الديمقراطية.

يظن الكثير من الأتراك والمؤرخين والباحثين في التاريخ السياسي التركي أن عدنان مندريس قد دفع ثمن توجهاته الإسلامية التي جسدها في عدة إجراءات اعادت إلى اللغة العربية اعتبارها، وهذا أيضاً ما دأبت عليه الحكومة التركية منذ العام 2002 بصعود حزب العدالة والتنمية مُمثلاً بالرئيس رجب الطيب أردوغان السائر على طريق مندريس وأربكان، والذي عبّر في أكثر من مناسبة عن اعتزازه بلغة القرآن، واتخذت حكومته على مر السنوات الماضية خطوات مهمة لتعزيز مكانتها، والتشجيع على تعلمها، وافتتاح المزيد من المدارس الدينية ومعاهد ودورات حفظ القرآن الكريم. لذلك فإن المرء ليصاب بالحَيرة من تلك الحملات المتكررة لإزالة اللوحات التجارية المكتوبة باللغة العربية. علماً أن اللغة التركية، تحتوي على 6463 كلمة عربية كما احصاها المعجم التركي، وتزيدها مصادر أخرى إلى أرقام أعلى من ذلك. وفي دراسة حديثة أنجزها الباحث آية نصر محمد ما يؤكد:» أن تأثير اللغة العربية في اللغة التركية كبير، وذلك يعود إلى وحدة الدين. فاعتناق الأتراك للإسلام جعلهم يتأثرون بالثقافة الإسلامية، إذ نرى أن تمسك الأتراك باللغة العربية، لغة القرآن والأذان والصلاة، جزءاً من التكوين الثقافي للمجتمع التركي». كما يشير الباحث إلى أن اللغة التركية اقترضت من اللغة العربية كلمات كثيرة سواء استخدمت باللفظ والمعنى نفسه، أو أنها اختلفت في المعنى، أو أضيفت لها معانٍ جديدة في اللغتين العثمانية القديمة أو التركية الحديثة.

ومع ذلك، فإن إزالة لافتات مكتوبة باللغة العربية مثير للشجن، والأمر لن يكون هكذا بالطبع لو أزيلت لافتات باللغات الإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية، أو غيرها من اللغات، لأن ذلك لا يمس المشاعر الدينية ولا يتحدى الهوية الإجتماعية، ولن يكون مؤشراً على علمانية الدولة أو إسلاميتها، كما أنه لا يجعل التركي المؤيد لذلك متناقضاً مع هويته وهو محاط بالحروف العربية على واجهات القصور والمساجد والأضرحة والحمامات والأسواق التراثية العثمانية وأروقتها واقواسها وعلى شواهد القبور في كل مكان، فهل عليه أن يقتلع كل تلك الآثار النفيسة الشاخصة لأنها تحمل حروفاً عربية ؟.

لا يملك المواطن التركي المتصالح مع نفسه وتاريخه وهويته وثقافته، إلّا أن يقول وهو يشاهد مثل هذه الأعمال : Maalesef، وترجمتها إلى اللغة العربية : مع الأسف!.

***

د. طه جزّاع

الحكاية: كان السيد ميرزا صالح القزويني (ت 1304 هج).. احد أنجال الامام السيد مهدي الحسيني القزويني، يقيم مجلس عزاء في العاشر من محرم . وتروي مصادر تاريخية إنه في سنة (1303 هــ المصادفة 1885 م)، وبعد أن وصل السيد القزويني في قراءته المقتل الى استشهاد الإمام الحسين، اجهش الحاضرون بالبكاء والنحيب، فطلبوا منه أن يتوجه بهم إلى ضريح الامام الحسين، فاستجاب لهم وركب على ظهر فرسه وتوجهوا من منزله في قضاء طويريج الى كربلاء وهم يبكون ويلطمون ويرددون (لبيك ياحسين).. تلبية لنداء الحسين: (هل من ناصر ينصرنا).. مخترقين سوق ابن الحمزة مرورا بسوق الصفارين والعلاوي فسوق الخفافين وصولا الى ضريح الامام الحسين فضريح اخيه ابي الفضل العباس، ثم التوجه الى مكان المخيم الحسيني، حيث اعد اهالي كربلاء خيمة لحرقها استذكارا لما قام به جيش يزيد من حرق خيمة الامام الحسين واهل بيته واصحابه يوم عاشوراء.

واستمرت هذه الركضة التي تنطلق بعد صلاة الظهر عند قنطرة السلام التي تبعد (2كم) عن ضريح الامام الحسين تقام كل سنة، الى عام 1991 حيث قامت جماهير الشيعة باسقاط مدن في الوسط والجنوب اثر انسحاب الجيش العراقي المذل من الكويت اطلق عليها (الأنتفاضة الشعبانية) اضطرت نظام صدام الى حظرها، واعتقال من قام باحيائها، لتصبح بعد (2003) واحدة من اضخم الطقوس البشرية في العالم، وأطولها عمرا، اذ يذكر المؤرخ الكربلائي سعيد رشيد زميزم (ان تأريخ تأسيس هذا العزاء في احدى الروايات سنة 1855ميلادية وفي رواية اخرى سنة 1872ميلادية اي يكون عمر هذا الموكب قد ناهز ال150 عاما).. وقد تدوم دهرا بعد ان شارك فيها عرب ومسلمون أجانب.. وبعد ان تحدت بتظاهرتها الضخمة في (30 آب 2020 و 19 آب 2021) أوامر الحكومة وتوجيهات المرجعية المحذرة من وباء كورنا الذي فتك بالملايين.

تنـويـــه

يودّ الكاتب التنويه الى انه ليس معنيا هنا بالاسباب أو الدوافع الدينية، فتلك من اختصاص رجال الدين وهي محترمة ولا يحق لأحد المساس بها لكونها تتعلق بحرية الدين والمعتقد، انما الذي يعنينا هو دور الطقوس الدينية في التحكم بسلوك ومشاعر الجموع الغفيرة من الناس، وتفكيك تركيبتها السيكولوجية من حيث تكرارها وقواعدها ودلالات رموزها.

لنبدأ التحليل بتحديد معنى مفردة (الطقس) ليكون لنا فهم مشترك.. فهي تعني وفقا للـ(المعجم الوسيط) الكيفية التي يتمّ بها أداء الأنشطة المقدّسة وتنظيمها في إطار احتفالي.وتعني من حيث اصلها اللغوي في اللاتينية:”الأنشطة والأفعال المنظمة التي تتخذها جماعة ما خلال احتفالاتها”، فيما تعني باللغة الانجليزية Ritual الشعيرة الدينية وفقا لقاموس المورد، وفي المعنى ذاته باللغة العربية ايضا.

وما يعنينا هنا هو التحليل السيكولوجي للطقوس الدينية، من حيث “قواعدها” التي تنظم الممارسات المقدسة للأفراد، ودلالات رموزها، وقدرتها على التحكم في السلوك، وسيطرتها على اللاوعي الجمعي للجموع باعتمادها ايقاعا واحدا وتقاليد موحدة من قبيل ارتداء المشاركين ملابس معينة، وقيامهم بحركات او افعال مشتركة: بكاء، لطم، اهازيج، اشعار، تلطيخ الوجه والرأس والملابس بالطين او التراب وخاصة النساء.. ، تثير لدى المشاركين انفعالات تتصاعد احيانا الى حالة جيشان مصحوبة باتقاد المشاعر الجماعية وهيجانها في احياء ذكرى اوتمجيد صاحبه، مشحونة بانفعالات توحّد الجموع وتضبط أداءها كما يضبط قائد الاوركستيرا أداء العازفين والمنشدين.

تساؤلات خطيرة

تثير الطقوس الدينية التي تظم جموعا غفيرة متنوعة، تساؤلات نراها نحن السيكولوجيين خطيرة من حيث انعاكاستها على الفرد والمجتمع والوطن، نوجزها بالآتي:

– هل تعمل الطقوس الدينية على تعبئة الجموع وشحن الوجدان وتجييش الوعي الجمعي بما ينسجم مع متطلبات العصر أم ضدها؟

– هل تنسجم الطقوس الدينية الجماهيرية مع القيم الديمقراطية ام تعارضها؟

– هل ينجح السياسييون في توظيف الطقوس الدينية لصالح بقائهم في السلطة ام ان الطقوس الدينية يمكنها ان تطيح بالسياسي الذي يستغلها لمصلحته الشخصية ؟

– هل تعمل الطقوس الدينية على اضفاء الشرعية على سلطة غير عادلة ام تعمل على سحبها منها؟

– وثمة اشكالية جدلية تخص ما اذا كانت جميع ممارسات الناس في الطقوس الدينية، عقلانية ام غير عقلانية، صحية نفسيا ام غير صحية نفسيا؟

لقد راجعنا كتابات أهم السيكولوجيين والاجتماعيين والمفكرين الذي كتبوا في الطقوس الدينية وسيكولوجيا الجموع (اميل دروكاييم، فولتير، ارك فروم، ميرسيا إلياد، فولتير، روبار ميرتون، رولان بارت، يونغ..) فوجدنا انهم ركزوا على ثلاث عمليات مصاحبة للفعل الطقسي هي: (الشحن الرمزي والتقعيّد والتكرار).. تعمل بشكل تفاعلي على تثبيت قواعد لأحياء واقعة مضت تشحن بالقداسة، وتسرتجع احداثها برموز تلهم الذاكرة الجمعية بدلالات ومعاني لها قيم عليا، تمكّن الممارسين لها ان يعيشوا زمنين في آن: زمن متخيل لواقعة حدثت في الماضي، وآخر حقيقي في الحاضر.. يحصل لحظة التقائهما ان الزمن المتخيل يوقف الزمن الفعلي، وعند “وقوفه ” تنشط آلية التكرار والاسترجاع المميزة للطقس”.\

كان تنبؤ “دوركايم” صحيحا يوم قال: (سيأتي يوم تعرف فيه مجتمعاتنا لحظات من الفوران الخلاّقة، تنبثق من خلالها أفكار جديدة وتتبلور صيغ صالحة -خلال الزمن- لتكون موجّها للإنسانية.. وتثبت أنّ في عمق الذات الفردية ذات جماعية كامنة تجعل هذه الممارسات الطقوسية الخلاّقة تستفيق).. فيما اوضح “جلبار دوران” آلية التكرار المصاحبة للطقوس في علاقتها بالزمن بقوله:(اننا حين نكرر ونعيد الأفعال الطقوسية، بحسب القواعد المتعارف عليها، يعني أننا نحيي زمنا ماضيا ونقاوم تجدد زمن حاضر).

وفي المعنى ذاته توصل “بيار بورديو” الى ان (تكرار الإتيان بشعائر الطقوس الدينية بحسب توقيتات زمنية، أسبوعية، سنويّة.. ، يعمل على ترسيخ المعتقد في “تطبع” الذهن والجسد، لأن الاستعدادات dispositions)) والطباع تترسّخ تباعا عبر عمليات التكرار والتطويع، لاسيما تلك المصحوبة بالشحنات الروحية والوجدانية).. ما يعني ان تكرار الطقس بعمليات الشحن الروحي والنفسي الاجتماعي يؤدي الى انتقال قواعدها عبر الاجيال بعمليات تنشئة واكتساب ثقافي، يفضي الى ترسيخ المعتقدات والقناعات والميول في الجسد والذهن معا.

ويرى علماء الاجتماع الذين انشغلوا بتحليل الطقوس، ان السبب الرئيس في صيرورتها ظاهرة يعود الى (الاختلال) الناجم عن التغير السريع في الحياة الاجتماعية للناس، وان ممارسات الطقوس تأتي ردّا لردم هذا الخلل وسدّ ما ينجم عن التغيرات من اختلالات. وبتعبيرنا نحن السيكولوجيين، انها تعمل على اعادة توازن نفسي تمّكن الفرد من التوافق الحياتي والاجتماعي وخفض الخوف الناجم من قلق وجودي في عالم متغير.

وهذا ما تفعله الطقوس الدينية في المجتمع العراقي بخاصة، أنها تنشّط اللاوعي الجمعي لدى جماهيره في الوسط والجنوب بشكل خاص، لمعالجة الحرمان والأغتراب والشعور باليأس من خلال استحضار الماضي والشكوى لأشخاص قضوا نحبهم والتوسل بهم لحل مشاكلهم والتخفيف عن معاناتهم.. وهذا ما اثبتناه في دراسات ميدانية.

وثمة تساؤل افتراضي يجيب عن التساؤلات في اعلاه:لو ان الانسان يعيش حاضرا يمنحه حياة كريمة ويؤمن احتاجاته المادية ويحرره من الخوف وقلق المستقبل، فهل تبقى الطقوس الدينية بهذه الجموع الغفيرة؟.

يقدم عراق 1959 اجابة عملية، ففي ذلك العام كانت الحكومة قريبة من الشعب، وفيه منح العراقيون عبد الكريم قاسم لقب (ابو الفقراء).. لأنه بنى مدينة الثورة لساكني الصرائف في منطقة الشاكرية، واكثر من 400 مدينة جديدة وعشرات المشاريع الاروائية، بفضل اختياره لوزراء وفقا لمعايير الكفاءة والخبرة والنزاهة ، ولأن الرجل، بشهادة حتى خصومه، كان يمثل انموذج الحاكم القدوة من حيث نزاهته.

والذي حصل عندها ان الناس توحدوا سيكولوجيا بحاضرهم وما عادت بهم حاجة لأن يستحظروا الماضي ويتوسلوا باشخاص قضوا نحبهم.. ولهذا ما كانت هنالك طقوس دينية بهذه الجموع الغفيرة، بل كانت مناسبات احياء ذكرى لرموز دينية عظيمة تجري خالصة لأصحابها لتشبع فيهم محبتهم وتقديرهم اللامحدود لتلك الرموز الخالدة.

والمفارقة، ان العراقيين في الزمن الديمقراطي الذي يفترض فيه ان يحقق لهم حياة كريمة، صاروا يتوسلون بمن يقصدون زيارته في جموعهم، تحقيق مطالب حياتية وخدمات تخص الحكومة، كنا وثقنا احداها في (2007) بطلبهم من الأمام الكاظم توفير الماء والكهرباء!، وما يزالون الى (2023) يعرضون مظالمهم على الرموز الدينية دون ان يتحقق منها شيئا. وطبيعي ان لا شأن للامام في ذلك، بل ان أي امام (شيعي او سنّي) لو خرج الآن ودعا المتخاصمين من السياسيين إلى المصالحة لما أطاعوه، ولو أنه حظر اجتماعا واحدا للاحزاب والكتل السياسية لراعه أن يجد المسؤولين فيها على هذا المستوى من خيانة الذمة وتردي الأخلاق.

والحقيقة السيكولوجية الخفية هي ان العقل الشعبي المشحون بانفعال الطقس الديني، لن يتحرر إلا بذهاب سياسيين خبثاء يوظفون الطقوس الدينية للبقاء في السلطة، ومجيء حكومة تؤمن لهم حياة كريمة آمنة، وعندها سوف لن تكون غاية الطقوس الدينية تفريغ هموم، او متعة سيكولوجية في استحضار الماضي هربا من الحاضر، او عرض مظالم على اشخاص قضوا نحبهم.. بل اشباع حاجات روحية آخروية وتعبير عن مشاعر حب وتقدير خالصين لرمز ديني يعدّ انموذجا للقيم الدينية والأخلاقية..

وتلك هي مهمة العقل التنويري في العراق.. علمانيا كان ام دينيا.. لم ينتبه لها بعد!

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

لا شك ان الثقافة والبنى الفوقية التي تتواشج مع البنى المادية التحتية تتناسب تناسبا طرديا. فكلما صلحت البنية المادية التحتية من حيث انعدام مؤثرات التفاوت الطبقي بالمجتمع وزيادة الفجوة بين الذين يملكون وبين الذين لا يملكون من الفقراء والشغيلة العاملة وصغار الفلاحين. اقول كلما حسنت هذه البنية المادية التحتية بتنوعاتها المعيشية والاقتصادية وسادتها العدالة والمساواة كلما ازدهرت البنى الثقافية والتمدينية الفوقية عليها المرتبطة بها تخارجيا جدليا.

هذه الرؤية الايديولوجية الماركسية لا زالت حاضرة في التفسير لما عليه حال الوطن العربي من أسى كارثي. اذ ان التشرذم السياسي والايديولوجي الذي انجب اكبر مسخ في غالبية البلدان العربية جعلت من حضور المنهج الايديولوجي الماركسي المتجدد المطعّم بالديمقراطية واستيعابه متغيرات الوضع العالمي وبروز اكثر من رأس ثقافي دوليا يريد توثيق حضوره الثقافي الدولي باستثناء دول الوطن العربي التي تتمركز هذه المقالة الحديث عنهم لما تمتاز به من خصوصية تخلفية وجهل وفقر وفوضى سياسية وثقافية كارثية حاضرا ومستقبلا.

من يستقريء الاسباب الحقيقية الكامنة وراء تخلف الوضع الثقافي العربي يجدها عديدة التنوع منها:

محاصرة روّاد الثقافة العلمية التقدمية اليسارية العربية لما يزيد على نصف قرن ومحاولة ازالة تاثيرهم الفكري الملتزم قضايا الانسان العربي الغاطس في مستنقع التخلف والجهل وفوضى سياسة التجهيل المبرمج.

دفع العديد من هؤلاء نخب المفكرين والمثقفين العرب ضريبة التزامهم التثوير الشعبوي النهضوي في رفع مستوى الوعي الجمعي الى مصاف التفكير القائم على العلم والتحضر ومعايشة العصر بروحية حضارية ذات خصوصية بنا هكذا فعلت الشعوب العديدة وتفعل اليوم.

حاولت هذه النخب التنويرية تجربة ثقافية مميزة ولا نقول حضارية بعيدة المنال خاصة بنا غير تابعة ولا منكفئة على نفسها ولا منصهرة في بوتقة عولمة العالم بالاستهلاك الحضاري وليس الاسهام بخلق الجزء اليسير منه.

القطبية الراسمالية المعولمة واتباعها من دول تضع كافة امكانياتها الراسمالية المتغوّلة عالميا في مصادرتها المنع بكل وسيلة ان يكون لدول العالم الثالث اي قامة مستقلة اقتصاديا وثقافيا في محاربتها المستميتة استهدافها قادة ومفكري اليسار الماركسي العربي ومفكرين قريبين من الطروحات الماركسية الفكرية الثقافية... وفرض مفاهيم عولمية في تكسير عظام العمود الفقري النهضوي العربي لمنع نهضة هذه الشعوب في محاربتها العدائية الشرسة للفكر التقدمي اليساري المتحضر الذي اثبتت وقائع الوضع العالمي بعد اسقاط منظومة الاتحاد السوفييتي حقيقة ان العالم باسره يتراجع اقتصاديا وزادت نسبة الفقر والجوع عالميا زد على ذلك التغيّر المناخي وانتشار التصحر وارتفاع درجات الحرارة التي تسببت في حرائق غابات شاسعة والتنازع على المياه العذبة. قبل اسبوع نشرت وسائل الاعلام الاميريكية والبريطانية خبر زيادة شساعة مساحة الهوة الغائرة العميقة مجتمعيا بين الغنى والفقر بما يجعل اميركا وبريطانيا تعيشان اسوأ حالات التقاطع الطبقي والانقسام بين من يملكون اموال العالم ويتمتعون بمباهج الحياة دون غيرهم من الشرائح الاجتماعية المحرومة من مقومات الحياة الكريمة بعيدا عن التشرد وادمان المخدرات والاباحية الجنسية وتفكك الاسرة...

التراتيبية الخاطئة سياسيا في تسيّد عودة الاحزاب السياسية العربية التي باءت تجاربها بالفشل الذريع فقد حكمت بعض القيادات المحسوبة على اليسار العربي اسوأ اشكال الدكتاتوريات المنقسمة على نفسها في ازدواجية المتاجرة بادبيات الفكر الماركسي في تنظير بعيد جدا عن كبوات التنفيذ الفاشل الذي اعطى اغلى التضحيات الوطنية تاريخيا على امتداد اقطار البلدان العربية التي طالت التصفية الكوادر الفكرية الثقافية المبدئية الشابة التي كان من المؤمل في حال وصول هذه الطاقات الشابة الماركسية وغيرها من قادة الاحزاب التقدمية المؤهلة سدة قيادة الفكر اليساري عربيا ان تضع الامور في مساراتها الصحيحة وهو ما لم يحصل.

لان هذه الكوادر الشابة المؤهلة نضاليا كانت محاربة من مربع عدائي شرس الاول سلطة الحكام الدكتاتوريين وبطشهم بقادة وكوادر الاحزاب الماركسية واليسارية. الراس الثاني محاربة الاحزاب القومنجية والاسلاموية للفكر اليساري بكافة عناوين تجمعاته التنظيمية. الراس الثالث هو محاربة القيادات الكلاسيكية المهادنة في تطويع وجودها مع الوضع الحكومي الفاسد وهم يتفرجون. الراس الرابع هو تخلف وجهل الجماهير التي وصل وعيها السياسي في بعض البلدان العربية ادنى درجات الزيف التضليلي الممنهج. الذي مارسته القوى الرجعية الفاشية معاداتها اليسار العربي تحت لافتة القومنة الوحدوية وتضليل الوعي الجمعي الجماهيري باسم اقامة خلافة الاسلام المتطرف.

بعد فشل او بالاحرى نجاح تآمر الافشال لتجربة بعض القيادات الوطنية الصادقة اليسارية التي كانت جماهيرها ضحية اخطاء بعض قياداتها القاتلة مثال ذلك اجهاض تجربة الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم الوطنية اليسارية بامتياز بالعراق. وفشل تجربة انقلاب الحزب الشيوعي السوداني مطلع سبعينيات القرن الماضي وغيرها من انتفاضات دفع اليسار العربي دماءا زكية شابة هي ذخيرتها بين الجماهير الشعبية..

استلمت الحكم في الاقطار العربية المتحررة من التبعية الاجنبية دكتاتوريات المد القومي العربي الغاطس في ممارسة التصفية الدموية الوحشية لكل اتجاه وطني والتناحر المفلس في ما بينها على استلام الحكم واعلان التبعية لزعامات تنادي بوحدة الامة العربية لتبني لها امجادا دكتاتورية من المحيط الى الخليج تنافس التبعية الخليجية لمجلس التعاون الخليجي قبل وبعد تشكيله لامريكا وبريطانيا والدول الراسمالية.

لقد فتحت تجارب حكم المد القومي الدموي الفوضوي ابواب الانقلابات العسكرية على مصاريعها والتبعية للاقوى نفوذا بالمنطقة من الدكتاتوريات فدخلت جميع تجارب المد القومي المتاجر بعواطف الناس البسطاء الراكضين وراء توفير العيش الاقتصادي والوطني الكريمين في اقسى فشل كارتوني سياسي باسم قومنة الوحدة العربية.

اكبر افلاس وانتكاسة لتجارب المد القومي الدكتاتوري التي حكمت اقطار الوطن العربي بايديولوجيات لا تستحق حكم قرية وادارة شؤونها كانت نكسة حرب حزيران 1967 امام اسرائيل. وكان من اهم اسباب النكسة محاربة الفكر اليساري الماركسي بوحشية وهمجية طالت ليس رؤساء الاحزاب بل النخب الثقافية اليسارية التقدمية ومحاربتها وسحقها وتغييبها بالسجون نهائيا.

بعد فشل المد القومي العربي الدكتاتوري لم يكن مثيرا ان تبدأ مرحلة ثورات الربيع العربي التي ولدت ميتة رغم قيامها باكبر انجاز وطني تحرري هو كنسها لجميع رؤوس الدكتاتورية التي حكمت عقود طويلة بالحديد والنار والفساد والعمالة.

لم تكن الجماهير العربية الثائرة بالملايين التي نجحت بالقضاء على تلك الدكتاتوريات تدرك وتحتاط ان بطانة تلك الانتفاضات بما اطلق عليه ثورات الربيع العربي تستبطنها احزاب اسلاموية وبقايا قومنجية وتكتلات تسايركل اساليب الانتهازية في تاييدها من الذي يحكم لتتبعه. ممثلة بمافيات حزبية عميقة فاشيّة تحكم وتديّر تلك الجماهيرالغاضبة في تظاهراتها المليونية نحو هدف ان زعامات تلك الدول العميقة هدفها الذي افتضحه التطبيق كما في مصر وتونس استبدال دكتاتورية القومنة الوحدوية بابشع دكتاتوريات جاءت باسم الاسلام ودولة الخلافة وكانت همجيتها ووحشيتها وتخلفها وجرائمها فاقت جرائم اوربا القرون الوسطى ولا زالت بقاياهذه القوى المتخلفة تحارب كل النخب الثقافية رغم هزائمها المزرية وكل فكر تقدمي في المقدمة منها ايديولوجيا احزاب اليسار الماركسي الجديد.

المثقف العربي والوضع العربي الماساوي

كثيرون هم المفكرون العرب الذين تناولوا مصير ابرز قادة نخب مثقفي الوطن العربي وسط تلاطم امواج الفوضى السياسية الدكتاتورية الدموية التي مررنا عليها بعجالة نستطيع تلخيص :

- بعض مثقفي الوطن العربي توزعتهم مواقفهم السياسية فالمثقفين من اليسار الماركسي الذين آثروا البقاء باوطانهم بمبدئية وطنية صادقة طالتهم التصفية الجسدية والسجون وطواهم النسيان الى يوم اعلان مماتهم وذهب استكمال ماحلموا به وماتوا من اجله قطيعة مفروضة بقوة جبروت الطغاة من الدكتاتوريات المتسيدة التي لاحقت بضراوة وحشية تصفية ما بقي من كوادر تنظيمات ماركسية وغير ماركسية يسارية تقدمية شابة مبدئية ارادت تجديد اساليب النضال الكلاسيكية التي اتبعتها القيادات الكلاسيكية الشائخة..

- الذين آثروا الهرب خارج اقطار الوطن العربي من المصير الذي راح ضحيته اصحاب المبدئية السياسية والثقافة التقدمية  فتوزع هؤلاء لاجئين يمارسون النضال من عواصم العالم في جنيف ونيويورك ولندن ومدريد وباريس فكانت كتاباتهم النضالية ابشع وسيلة في الممارسة الانتهازية التي تتاجر بقضايا اوطانها باضعف الايمان الكلمة المكتوبة والمصدرة لنا من باريس ولندن وغيرهما. كلمة مفعمة بالالتزام الوطني على الورق. بينهم من بلغ به الياس والتقدم بالعمر ماجعله يعتزل السياسة حتى الكتابة الانشائية.

- بعضهم اختاروا تدجين كتاباتهم من قبل دول الخليج التي تقولب كل مقالة ثقافية بما يعزز التبعية الاستهلاكية لصادرات مركزية امريكا وبريطانيا. وكل وطنيتهم في الكتابة بناء امجاد ثقافية زائفة. الجزر الثقافية الاستهلاكية حضاريا في دول الخليج قتلت روحية جميع المثقفين والمفكرين والفنانين من العرب المهاجرين الى الخليج ومعهم بقايا الاحساس الوطني الملتزم الذي احتواها تغييبا السعي وراء الشهرة والحصول على رغد العيش بما يجنونه من مال ومستوى معيشي خاصة الاكاديميين منهم المهاجرين الى الخليج غالبيتهم اشترتهم دول الخليج باغراءات مالية ما انساهم همومهم الوطنية والوطن.. لا يوجد اليوم قطر عربي واحد لا يملك موضع قدم ثقافي اكاديمي وغير اكاديمي في اقطار الخليج .

- بعد هيمنة القوى الظلامية الاسلاموية على اكثر من نفوذ علني ومستور داخل وخارج البلدان العربية رافقتها العولمة ما شجع على بروز ظاهرة الالحاد وفوبيا الاسلام في اوربا وامريكا من العرب المسلمين قاطبة ماجعل الفكر التقدمي الذي يعيش بؤس حياة المهجرورذائلها الجنسية الاباحية وتعاطي المخدرات والتمييز العنصري ينزوون في عزلة تحاشي البطش بهم وترحيلهم. والذي اتيح له الهرب خارج البلدان العربية لم يتخلف ساعة عن حمله حقيبة سفره..

- اتطرق لاخر نقطة اعتبرها اهم نقطة بما تم ذكره سابقا هو ان غالبية النخب الثقافية التقدمية خاصة التي استوطنت باريس بديلا عن عواصم العروبة في مقدمتهم مفكري ومثقفي بلدان المغرب العربي من المتفرنسيين بضمنهم مثقفي موريتانيا ونخب لبنانية مميزة وعراقية وسورية ومصرية. غالبية هذه النخب التي كانت تشكل (عجينة) بلورة وعي جمعي عربي تقدمي تمديني متحضر يعيش عصره وضعهم التوصيفي الثقافي اليوم الخصه بالتالي:

نستطيع تصنيف هذه النخب الثقافية العربية المهاجرة حسب اهتماماتها السياسية والثقافية فهي جميعها هاربة متملصة من اي انتماء لبلدانها بالوطن العربي في اسقاطها مفهوم الالتزام الوطني من حساباتها في المهجر. تمركزت هذه النخب حول قضية مركزية مصيرية هي (التراث والمعاصرة) واطلق المفكر اللبناني الباريسي جورج طرابيشي على هذه الاشكالية مصطلح (مذبحة التراث) حيث لا وجود لمفكر يعيش بالمهجر وداخل بلدانهم العربية لم تستنفذ طاقته الفكرية الثقافية مسالة اكثر اهمية من الدوران غير المنفلت المؤدي الخروج عن دائرة مركزية  البحث عن كيفية ايجاد الحلول لمشكلة علاقتنا بالحداثة العالمية وهذه المسالة عمرها ما قبل القرن العشرين بما لا يقل عن نصف قرن..

- بعض هؤلاء النخب اليوم من مقيمي المهجر خاصة الباريسي واللندني كان همهم الوحيد بناء امجاد ثقافية زائفة عمادها اجترار ما كتبه السابقون من الاسلاف من مجلدات عفى عليها الزمن وتعتاش عليها بعض الاقسام بالجامعات العربية والاجزاب السلفية لا تجديد ولا اضافة ولا نقد حقيقي ولا توعية جماهيرية من وراء هذا العبث الاجتراري حول مشكلة معيشتنا علاقة التراث والمعاصرة مركزية تخلفنا التي يستتر وراءها كل مخلفات التضليل المتحجر باسم الحفاظ على الخرافة والتضليل الممنهج.

- البعض الاخر هو الذي وجد ضالته في الهجوم النقدي الكاسح على غيره من مفكري النخب الثقافية العربية ليس في السعي لوضع اسس منهجية تؤسس لنهضة تعبوية شعبية بل لاثبات قامته الثقافية اطول من غيره وهو المفكر الذي يتوجب اخذ افكاره النقدية لغيره منزلة المقدس الفكري في حل اشكاليتنا مع الحداثة والمعاصرة. على سبيل المثال قام المتغرب الباريسي المفكر جورج طرابيشي باصداره سلسلة مؤلفات في محاربته المشخصنة للمفكر المغربي محمد عابد الجابري وتفنيد افكاره بما اطلق عليه توصيف (نقد النقد) الذي مارسه بريادة بايخة طرابيشي ليتسلم الراية منه اثناء حياته وبعد مماته غالبية المفكرين. مفكر عربي واحد شخص هذه المشكلة وادانها بوضوح قاس هو علي حرب في كتابه (نقد الحقيقة).

- ما بقي من النخب الثقافية المهاجرة خاصة الذين يكتبون في الاجناس الادبية شعرا ، قصص قصيرة، روايات، ونقد ادبي وغير ذلك فهؤلاء في غالبيتهم تنصلوا عن مسالة الالتزام بقضايا اوطانهم الغارقة بالجهل والفقر والامراض. هؤلاء اسوأ نموذج في اسقاطهم اي نوع من الالتزام الوطني سياسيا بالوسيلة التوعوية الثقافة.

خارطة المشهد الثقافي العربي اليوم

1. المشهد الثقافي العراقي اصبح اليوم تحكمه الطبقية السياسية المنتجة لثقافة سطحية خرافية تقوم على الاكاذيب والممارسات الرخيصة من المجاملات النفاقية وملء المؤسسات الثقافية بنكرات ليس لهم بصمة ثقافية مشهود له بها، تسندها احزاب ومؤسسات لا تعرف من هي سوى امكانيتها تنصيب سفيرا للعراق لا يمتلك شهادة اعدادية. الثقافة العراقية الرسمية لا تؤمن بثقافة عراقية تحتوي مكونات الشعب العراقي بلا تمييز كما هي ابعد ما يكون عن ثقافة تحمل هوية عربية.

2. ثقافة دول الخليج العربي هي ثقافة العطايا والهبات رشى لرموز ثقافية تعيش بالمهجر لكسب ولاءها الصامت عن ثقافة خليجية تنتسب للعروبة زيفا هي مفرخة تفقيس وتخريج جوقات متتالية من المثقفين والفنانين المغسولة ادمغتهم بالتنكر لاوطانهم والعيش في نعيم كل هابط اخلاقيا بالادب والفن. ثقافة الخليج الرسمية ثقافة الترويج لنيل الجوائز وتقليد الحداثة الغربية بكل سوءاتها وعوراتها وهم بالترويج للرقص الشرقي وسراديبه الخفية لا تظاهيهم بها الحداثة ولا ما بعد الحداثة ولا مابعد البعد.

3. الثقافة المصرية اليوم، عملاق ولسان حال التعبير عن الثقافة العربية باهلية وامتياز ايام زمان  غادرت عظمتها برموزها عمالقة الادب والفن والسينما والمسرح لتخلي مكانها لمن يعتاش على ذلك الموروث الذي انجب امثال نجيب محفوظ بالعشرات. الثقافة المصرية اليوم خنقت تنويرها العربي احزاب وتكتلات واشخاص هي تمثل الردة التمدينية الحقيقية الرجعية بنصف قرن على الاقل. ذهبت قبل فترة قليلة نخب ثقافية صمدت وقاومت ولم تتراجع امام امواج متلاطمة من العداء الوحشي الغادر التي تحاول تجذير الطائفية والمذهبية والعرقية وكل اشكال الاختلافات المشبوهة المصدر والتمويل وبعضهم من افذاذ مثقفي ومفكري مصر اعطى حياته بالغدر والغيلة فداءا لمصر العربية.

4. ثقافة لبنان وسوريا اليوم تعيش دمار ما خلفته الحروب الاهلية والمصنّعة خارجيا اغلقت معظم دور الطبع والنشرفي لبنان وسوريا ، غادرت وأغلقت ابوابها اكفأ وأرصن المجلات الادبية والفلسفية التي كانت منارا هاديا لكل مثقف يريد تحصيل معرفة ثقافية حقيقية اصيلة الانتماء والتوجه القومي العربي الذي يضم فسيفساء التنوع الوطني اللبناني في التزامها هموم وقضايا الانسان العربي..

كل ما له اهتمام بالثقافة يجد اليوم في دور النشر اللبنانية التي لم تغلق ابوابها الى الان تطبع (خريط) لمن يدفع مصاريف الطبع والنشر والتوزيع. اكفأ دور النشر اللبنانية اليوم باعت مضطرة مغلوبة على امرها تحسبا من الافلاس غير المعلن باعت سمعتها عندما قامت تطبع وتكرر طباعة مجلدات اشبعت طباعة ولا قيمة ثقافية لها اليوم. مجلدات تراثية لا تنفع اليوم بل يضر طبعها ونشرها لقاء المال. مجلة مثل الاداب توقفت او انحدرت الى ادنى مستوياتها الثقافية الا يدعو ذلك رثاء القلب للثقافة بلبنان. ابرز مفكري وادباء لبنان الذين ملات قدراتهم وسمعتهم الثقافية ارجاء العالم العربي ينشرون اليوم من بقي منهم حيّا في صحف ومجلات رخيصة عربية غير لبنانية لقاء المال الا يدعو هذا الى الصمت الذي يقطر دما على ثقافة لبنانية عربية عظمى ضاعت.

5. ثقافة اقطار شمال افريقيا من اقطار الوطن العربي المنكوب ثقافيا. ثقافة هذه الاقطار ينطبق عليها قول العظيم المتنبي غريب الوجه واليد واللسان قبل ان يتنبأ بمقتله قرب النعمانية التابعة لمحافظة واسط بالعراق.

القائمون على المؤسسات الثقافية في هذه الاقطار بعضهم لا يعترف باللغة العربية ولا بانتمائهم لامة العرب والاسلام. المؤسسات الثقافية المغاربية المالكة لكل ما يمت للثقافة بصلة هي جذر تغذية الانقسامات والتشرذم الثقافي في اعتبارهم ثقافة المهاجرين المقيمين عقودا طويلة في فرنسا وفي باريس تحديدا هم المرجعية الام المرضعة لتغذية ما يسمى ثقافة تكتب بالعربية فقط وهي معادية لكل ماهو عربي حقا وباطلا.

رغم اجلالي واقتدائي بمفكر فيلسوف امثال عابد الجابري يعود لاحياء نزعة الخلاف الموروث بين الغزالي ذو النزعة الصوفية وابن رشد ذو النزعة العقلية. معتبرا المشرق العربي هم المفلسين فلسفيا وثقافيا لانهم يحاربون العقل بمنظوره الرشدي فهم اصحاب العقل المستقيل على خلاف المغرب العربي الذين مرجعيتهم المعترف بها اوربيا هو عقلانية ابن رشد. من يصدق ان هذه النظرة الاختلافية التي يصل عمرها الى ما قبل 600 عاما هجريا تكون الدستور الهادي لمثقفي اقطار المغرب العربي اليوم فهم لا يدعمون من لا يعطيهم رأيه المماليء لهم ولا يمجدون ادباء ومفكرين خارج دائرة سيطرتهم المزعومة انهم ورثة الفلسفة العقلانية الاسلامية ولا يعترفون بخرافات الفكر المشرقي ولا بشعرائه وادبائه ومفكريه ويمارسون التفرقة بالنشر والترويج بين الانحياز الى مثقفي اقطارهم واقول ذلك عن تجربة عشتها. .

***

علي محمد اليوسف/الموصل

عنصران اثنان اشتركا في تشويه صورة الإسلام، وتجريده من الرحمة؛ التي هي واحدة من متبنياته الأساسية، وأسهما في وصمه بالدموية والعنف:

الأول: أبناؤه المتطرفون الجامدون على النص، الذين أعطوا لعقولهم إجازة مفتوحة، وتمسكوا بالشاذ والمختلق والكاذب. وهؤلاء هم الذين تسببوا في نشر ثقافة القطيعة بين المسلمين، وروجوا لها مستغلين ما أنعم الله به عليهم مع حاجة الشعوب الإسلامية وفقرها إلى القليل منه لتقيت نفسها، وتدفع فقرها، وهؤلاء هم الذين راهنوا على الجانب الخبيث في الإنسان، فأحيوا الذئب في داخله، وغذوه بالكراهية والعنف، وهم الذين أججوا نار الكراهية العالمية ضد الدين، وهم الذين تسببوا بحرق القرآن؛ التي هي أولى مراحل الهجوم الكبير المرتقب لقص أجنحة الإسلام، وليست أكثر من بالون اختبار لقياس ردة فعل المسلمين، لكي يتم توجيه دفة المعركة المرتقبة تبعا لذلك. وقد أعانهم ما جاد الله به عليهم من خير، ومكنهم من تغيير المعادلة لصالحهم، فبدوا وكأنهم انتصروا أو باتوا قاب قوسين أو أدنى من النصر الناجز، وهم لا يعلمون أن انتصارهم هو الهزيمة الكبرى للإسلام، لأنهم تحولوا إلى جيش مرعب يهاجم الإسلام من داخل قلاعه وحصونه.

أما المساعد الحقيقي لهم فهو الذي شغل نفسه وشغل المسلمين معه بحثا في بطون كتب التاريخ الصفراء ليرد عليهم بلسان معاصر، وقلب غارق في التراث المشوه الذي يقدسه، وقد نجح هؤلاء أيضا في بناء جيش يدعي أنه عقائدي، وأنه يريد أن يحارب جماعات الإسلام الراديكالي المتطرف لنصرة الدين، ناسيا أن العدو الحقيقي ليس المسلم الذي يقف قبالته، بل هو من يرفع نجمة داود شعارا، وخادمه الأمين العم سام، ومعهم كل جيوش الإباحية والفسق والفجور الجندرية، والرايات الملونة.

والثاني: هي؛ القوى الخفية العالمية التي أيقنت منذ زمن طويل أن الإسلام هو العائق الوحيد الذي يقف متصديا بصلابة قبالة تحقيق مشروعها الخبيث الساعي إلى استعباد البشرية وتحويلهم إلى خدم مجانيين للبنائين الماسونيين. وأيقنت أنها لا يمكن أن تحقق مبتغاها إلا إذا ما أخرجت الإسلام من المعادلة، وركنته في حيز مهمل، وفي ذات الوقت كانت على يقين تام أن هذا العمل مستحيل أن ينجح ويتحقق وفق منظور معطيات الواقع، ومشهور حرص المسلمين على دينهم، واستعدادهم للدفاع المستميت عنه حتى النهاية.

 وبالتالي سوف تقف جميع جيوش العالم في موقف العاجز عن تحقيق مجرد نصر زائف، وأنه لا يمكن تحقيق النصر التاريخي إلا من خلال اختراق الإسلام، ومهاجمته من الداخل، من دهاليز بؤرة الصراع الطائفي التاريخي الظلماء فيه، تلك التي أكل الدهر عليها وشرب، بدأً من اليوم الذي تحول فيه الدين إلى خمسة، وتحول العقيدة الواحدة إلى خمسة، وصار كل حزب بما لديهم فرحون، وهم الناجون، وغيرهم في السعير.

أما ما يحتاجه المشروع خارج قلاع الإسلام فقد تكفلوا به بأنفسهم، ونجحوا في تشويه صورة الدين في عقول غير المسلمين بوسائل عديدة، منها الجانب التشهيري الإعلامي؛ الذي يسهم في الترويج له بعض المسلمين للأسف.

ومن تلك الوسائل الدنيئة كان ما أخبرني به صديقي البروفسور أبو نمر أستاذ وخبير دراسات بناء السلام والتفاوض بالجامعة الأمريكية بواشنطن، من أنه كان يسعى عام 1993 لتأليف كتاب عن السلام في الإسلام، ليس تبريرا ولا تبشيرا، وإنما سعيا لتعزيز استراتيجيات صنع السلام واللاعنف والقيم المتجذرة في السياقات الدينية والثقافية الإسلامية، في سعي منه لتأييد فرضية أن الإسلام دين حي، يعزز فرضيات صنع السلام الدولية، وتسوية النزاعات العالمية سلميا. وأنه خلال مرحلة البحث عن مصادر رصينة لمؤلفه المرتقب، زار العديد من كبار دور العلم، ومنها مكتبة الكونغرس الأمريكي؛ التي تعد من أكبر مكتبات العالم، فوجد أنها تضم ما يزيد عن (50000) مرجع في هذا المضمار، تربط أغلبها بين الإسلام والعنف والحرب والدموية والتطرف، وتؤكد أغلبها تلازم هذه الطباع مع روح عقيدته، ومن بين كل هذا الركام الهائل لم يجد سوى (5) مراجع تكاد نكون غير مهمة ولا ملهمة؛ تتحدث عن الإسلام والسلم والسلام في عقيدته.

ولك أن تقيس نسبة الخمسة إلى الخمسين ألف لتعرف مقدار الجهد التخريبي الذي يبذلونه، وماذا سيحقق، قبالة عدم وجود أي جهد للمانعة والتصدي، والنكاية الكبرى أن المسلمين أنفسهم دمروا خط الصمود والتصدي يوم أباحوا العراق، وهتكوا عرض ليبيا، وأحرقوا جمال سوريا، وأججوا النار في سعادة اليمن.

***

الدكتور صالح الطائي

إغتيال الورد مع سبق الاصرار

(ولا تَقتلوا أولادكُمْ خشيةَ إملاقٍ) الاسراء31

خلق الله الأنسان وخلق زوجه وبث منهما رجالا ونساءا ليرفدوا الحياة بجيل يفتخر بقيمه النبيلة وخلقه الكريم ويترك بصمته واضحة في كل ميادين الحياة. وقد جبلت الاجيال السابقة على قيم الفضيلة والخلق الحسن وكان نتاجها الأنسان الأنسان الذي يحمل كما هائلا من القيم التي تجعله فخورا بذاته وبمن انتهل من فيضه .

ومع استعار أتون الحروب ومالحق بها من تبعات القت بظلال وضلال تعسفها على شريحة كبيرة من المجتمع حيث كثر الايتام والمشردون وكسدت النساء الارامل ،ثم تطور الامر الى البحث عن لقمة العيش بشتى الطرق في ظل غياب واضح للمنظومة الاخلاقية التي باتت هي الاخرى تعاني تشرذما لاحصر له في حضرة الوجه الاخر للنت!

ومن نتاج هذه الاوضاع وغيرها انقسم المجتمع الى ثلاثة أقسام :

-قسم منفتح الى حد الاستهتار بكل شئ وهذا ماتمثله شريحة كبيرة من المجتمع حتى باتت الظواهر الشاذة  التي لم ينزل الله بها من سلطان تحز جيد المجتمع وتدق ناقوس الخطر على أجيال تتوسم الرذيلة شعارا لها.

-قسم منغلق حد التطرف وهذا ليس بافضل حالا خصوصا إذا كانت سمة أفراده التمرد على واقع يفرض بالقوة وليس بالاقناع.

-والقسم الاخير هو القسم المعتدل وهذا تمثله شريحة المثقفين المعتدلين الذين اتخذوا الوسطية شعارا لهم وعليهم يؤول استمرار المجتمع وديمومته لما يتمتعون به من حرية الفكر التي تحددها ضوابط رصينة .تقوم على اسس تربوي قويمة لانتاج انسان معتدل ينظر الى نصفه المملوء من الكأس بعين الرضا والعرفان.

ومع تقدم الحياة العلمية وتراجع المنظومة الاخلاقية وتقهقرها- الا مارحم ربي- بدات تظهر على السطح ظواهريندى لها الجبين وانتهاكات تطال الحد الادنى من الانسانية، فبتنا نسمع بقتل الابن لوالديه واسرته وزنا المحارم واغتصاب الاب لابنته وتواطؤ الزوجة مع العشيق لقتل الزوج وحرق الزوج لزوجته تحت أي بند واغتصاب الاطفال ثم قتلهم دونما رحمة!!

ونحن اليوم أما جريمة يندى لها الجبين وخزي وعار يطالان المنظومة الاسرية والاخلاقية التي جعلها الله من المقدسات وخطا أحمرا لايمكن تجاوزه.

وحقيقة فالانسان المجرم ولد والاجرام في دمه،واكملت عليه البيئة الحاضنة، وهذه حقيقة ثابتة تفرضها الشخصية التي تستقبل امورا وترفض أخرى كامتداد طبيعي لقابيل وهابيل!

فاليوم تقدم من تخلت الادمية عنها وفتح الشيطان لها بابا لتغتال طفولة بريئة قسى عليها الزمن لتكون تحت موس الجلاد!

لقد أقدمت المجرمة المدعوة (.) على تعنيف وتعذيب إبن زوجها الطفل البرئ (موسى) ذات الستة أعوام على تعذيبه على مضض بمرآى من والده ومدرسته وجيرانه! وقد حاول الطفل مرارا الفرار من البيت واللجوء الى أحد المطاعم لايوائه، وقد بدت عليه علامات التعذيب واضحة ،لكن دون جدوى فلا أحد تتحرك عنده الشهامة ليحتضن الطفل أو ليخبر الشرطة المجتمعية عن ذلك.

ثم يظهر بصورة في المدرسة وهو يرتدي ملابسا شتوية في قمة الحر في حين يلبس اقرانه الملابس الصيفية، وهو يغطي الكدمات الزرقاء التي نالت من وجهه الغض بابتسامة بريئة_حسبنا الله ونعم الوكيل-

وتستغل الام غياب الاب الذي انتزع الحضانة من ام موسى انتزاعا تحت اي ذريعة مهددا اياها واهلها بعدم رؤيتهم ولايستغرب أحدنا فهذا النوع من الاشخاص النرجسيين موجودين وبكثرة في مجتمعاتنا ديدنهم التهديد والوعيد او حتى القتل!

كان الاب المغفل أو إنه تغافل عن تعنيف ابنه فهذه ليست المرة الاولى فقد قامت المجرمة بكسر ساقي الطفل باعتراف الاب وكان يرى كدمات في جميع انحاء جسمه وعندما يسالها تجيب ان الطفل عنيد ولايسمع الكلام!

أما دق ناقوس الخطر في هذا العقل المريض الذي آثر حياة ابنه المعنف على التنازل لزوجته الاولى واعتبار ذلك هزيمة له!فهذا النوع من الشخصيات لديه القابلية للتضحية بكل شئ إلا عنجهيته الفارغة.

والنتيجة ان المجرمة قامت وبكل وحشية بجعل الطفل يلتهم كيلو غراما من الملح وتهديده في حالة القئ سيلتهم المزيد ! ثم قامت وبكل العهر والجريمة بتشويه جسده الغض بالسكاكين والشوكات حتى فارق الحياة!

اي حياة فارقها ،حياة البؤس والتعذيب والحرمان من الام والجو الاسري ،فارق الحياة وهو يطفئ شمعته التي اوقدها غيره دونما ذنب،ولجأ الى رب كريم كملاك صغير تحتضنه الملائكة ليخلد في رياض الرحمة.

نحن امام جريمة مع سبق الاصرار والترصد قامت بها احدى ادوات الشيطان وبلا رحمة مستغلة وكافرة بكل شئ والادهى انها تضع زيفا على راسها العفنة خرقة تسميها حجابا والحجاب براء من  التدنيس.

قتلت الطفل وبقي مرميا على الارض تحت الدرج لعشر ساعات لحين قدوم والده-المزعوم- محاطا بالدود الذي ربما يكون اكثر رحمة من هذه الحثالة،والغريب بل الكارثة انها تطهو الطعام والحياة مستمرة عندها ،فالمكيف يدفع هواءا باردا وعلى الطباخ القدور تفور واطفالها يلعبون ويمرون بجانبه وكأن شيئا لم يكن،كل شئ بدا طبيعيا إلا سؤال الاب كيف مات هذالطفل؟ ومنذ متى ولما لم تخبريني ؟ليأتي الرد صاعقا وقحا لقد مات وانتهى خذه لتدفنه بلا جدال وإلاّ!وإلاّ ماذا ذلك هو السؤال إلاّ ماذا؟

لقد طلب الجيران الشرطة ولم يفعل الاب ،فماذا يحدث في المجتمع وعن اي أسر نتحدث! واي جيل ننتظر! في غياب الله كل شئ مباح.

ان الانفلات الانساني الذي يعاني منه المجتمع بات ظاهرة واقول ظاهرة لانها ظاهرة لشريحة كبيرة من المنحرفين اخلاقيا وانسانيا وسلوكيا،ونحن نطالب بقوانين صارمة تحمي الطفل من التعنيف والتعذيب مع استحداث (قانون الاحتضان) لايواء الطفل المعنف في اسرة ذات خلق ودين تعترف بنعم الله ولاتجحدها-وهذا لايعني بأي حال من الاحوال الانحياز لقانون انتزاع الاطفال الساري في أوربا تحت أي بند-! بل  خيرا الف مرة من بقاء الطفل فريسة التعنيف والحرمان والتشرد ،او انه ثمرة نزوات لاناس غير مسؤولين يدفع ثمنها طفل برئ ينتهي به المطاف في دور الايواءوهذا بافضل الاحوال و سهل جدا بل اسهل من السهل بوجود مقدم برنامج من الواقع (علي عذاب) الذي اخذ على عاتقه ايواء هذه الجحافل المجحفلة من الاطفال الى دور الدولة، الذين جحدتهم اسرهم تحت اي ذريعة.

وحقيقة وامام هذا الالم الكبير نحن نطالب السلطات المعنية بانزال اقسى العقوبات ليد تلطخت بدم طاهر لتكون عبرة لمثيلاتها الكثيرات!

كما نطالب السلطات وجمعيات المجتمع المدني بالسعي لاستحداث قانون الاحتضان الذي سيحل الكثير من الامور في ظل احتضان الطفل المعنف في اسرة صحية نظيفة ذات خلق واخلاق ،وهناك الكثير من الاسر التي حرمت من الانجاب وهي جديرة بهذا الدور،في حين يتوسد الاطفال المعنفون بين الثرى ليدفعوا ضريبة حياة ليس لهم من ذنب فيها.

واخيرا اقول اتقوا الله في خلق الله فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ورحم الله الارواح التي عافرت من اجل الحياة.

***

مريم لطفي/عراق الوالدين

الكونية دعوة الى البحث عن المشتركات من قيم الخير والعدل والمساواة والفضيلة والأخاء بين الإنسانية جمعاء، وتأكيد على ما هو قيمي من حقوق وحريات ومُثل ومبادئ وقيم. والحديث عن ثورة الإمام الحسين (ع) يحمل أبعاداً كونية عديدة رافقت أحداث المعركة وما بعدها، أضافة الى دلالاتها الإنسانية العظمية من تضحية ومبدئية وإيثار وبطولة وعنفوان ووو.. ذكرها أرباب الحوادث والسير في مجلداتهم. فالثورة الحسينية ليس كونية بأهدافها وغاياتها، بل رؤية كونية، وفق القوانين الكونية الإستثنائية. فأثر القضية كونها قضية إستثنائية وحدث كوني، أثارت دهشة الجميع في وقوعها، وعلى مختلف اتجاهاتهم الفكرية والايديولوجية وأديانهم ومعتقداتهم، فالتفاعل الكوني مع الثورة لم يكن وليد واقعة حدثت من قبل، وأنما جاء من عظيم الحدث وعظمة الموقف وفق نسق كوني أمتد إلى يومنا هذا، ليحكى للأجيال عظيم ما أرتكب من جريمة.

أن الثورة الحسينية تلتقي بالتأكيد مع الكثير من الثورات الكبرى العالمية ذات التوجهات الأصلاحية والتحررية من حيث الوقوف بوجه الظلم والإستبداد وإشاعة مبادىء الحرية وحقوق الإنسان، إلا أنها تفترق من حيث كونها وضعت آلية الإستمرار لها وأبتكرت أساليب الديمومة سواء عن طريق الأحاديث الشريفة الداعية الى زيارة الإمام الحسين (ع) أو أستذكار ثورته وشهادته عن طريق تعظيم شعائرها أو أستحضار قيمها الروحية وأهدافها الإنسانية السامية، فهي تمثل أنعطافة كبيرة في مسيرة الإنسانية ونقطة تحول في مسار حوادث التاريخ، نتيجة الزخم الهائل الذي ولدته هذه الثورة العظيمة في الضمير الإنساني، ولدى كل أحرار العالم، وأصبحت مثالاً يحتذي به.

الإمام الحسين (ع) إذاً ثورة كونية نوعية أصلاحية شمولية بكل المقاييس وأن جرت أحداثها في زمن محدد وبقعة محددة قد تبدو صغيرة بالمقارنة مع سعة المساحة التي كونتها في نفوس البشر، فهي حدثت في عصر معين لكن إشعاعاتها وقيمها ومثلها ومحتواها الإنساني الكبير أمتد الى كل العصور، وتشع على كل أمم الأرض مادام الظلم والقهر والأضطهاد قائم في هذا العالم. فهي منهج وسلوك إنساني وتضحية قل نظيرها في كل ثورات العالم الكبرى بدأً من ثورة سبارتكوس (111 ق.م-71 ق.م). في روما إلى الثورة الإنكليزية (1642-1688)، والثورة الأميركية (1774-1884)، والثورة الفرنسية (1789-1870)، وغيرها، تلك الثورات التي تلاشت بعد أن بعدت عن أهدافها التي قامت من أجلها.

فكانت الثورة الحسينية درساً عالمياً أقتدى به عظماء تاريخ النضال والتحرر في العالم أمثال: "المهاتما غاندي" زعيم الهند فخاطب الشعب الهندي وحثهم على أستلهام الثورة الحسينية: (لقد طالعت بدقة حياة الحسين شهيد الأسلام الكبير، ودققت النظر في صفحات كربلاء و اتضح لي ان الهند اذا ارادت احراز النصر فلابد لها من اقتفاء سيرة الحسين). و"ماوتسي تونغ" زعيم الصين الذي تعجب من قدوم "عبد الكريم الخطابي" للأستفادة من تجربة الصينين الثورية أذ يقول له:(عندكم تجربة ثورية وانسانية فذة قائدها الحسين و تأتون الينا لتأخذوا التجارب)، وأما المناضل "جيفارا" يقول:(على جميع الثوار في العالم الأقتداء بتلك الثورة العارمة التي قادها الزعيم الصلب (الحسين) العظيم والسير على نهجها لدحر زعماء الشر والأطاحة برؤوسهم العفنة)، وكثير من رجال الفكر والثقافة والمبادئ التحررية في أرجاء المعمورة الذين أرخوا بأقوالهم الثورة الحسينية، فقد فطن المؤرخون والباحثون الغربيون لرمزية ثورة الحسين (ع)، فكانت تمثل لهم ضمير الأديان، فهي تعبير عن رؤية للوجود وتصوير للواقع، وهذا ما أكده المستشرق الأمريكي "غوستاف غروينيام" حين قال: (أن وقعة كربلاء ذات أهمية كونية، فلقد أثرت الصورة المحزنة لمقتل الحسين ذلك الرجل النبيل الشجاع في المسلمين تأثيراً لم تبلغه أية شخصية مسلمة أخرى). أما الآثاري الإنكليزي "وليم لوفتس" فأكد عظمة شهادة الأمام الحسين: (قدم الحسين بن علي أبلغ شهادة في تاريخ الإنسانية وأرتفع بمأساته الى مستوى البطولة الفذة).

(أن القرون تأتي وتذوب قرناً بعد قرن، كما تذوب حبة الملح في المحيط. وهذا الحسين أسمه باق في القلوب وفي الأفكار والضمائر)، فهو أكبر من القرون وأكبر من الزمن. فثورته تبقى ثورة كونية تاريخية خالدة أستلهم منها كل ثوار وأحرار العالم وحركات التحرر العالمية في نضالهم من أجل الأرتقاء بكرامة الإنسان.

***

بقلم: حسين عجيل الساعدي

المبشرون كانت لهم فلسفة براغماتية لتنصير الشعوب

كانت البراغماتية ولا تزال، تهدد الشعوب والأمم للهيمنة عليهم وطمس هوياتهم، كونها وظفت سياسيا ودينيا، وهو ما نلاحظه في الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي توقع بين الحكومات والتحالفات في مختلف المجالات بما فيها مجال التسليح فقد جمعت بينهما البراغماتية، أي سياسة مصلحية، كلٌّ من موقعه ووفق حساباته حيث وصلت الأمور الى حد التطبيع مع إسرائيل، لولا ظهور جماعة من الإصلاحيين المسلمين الذي تطرقوا الى مفهوم البراغماتية في الإسلام ونشر الوعي محددين واجب الفرد والجماعة داخل المجتمع الإسلامي وتحقيق المعادلة بين الوسيلة والغاية.

كيف نفكر وفي ماذا نفكر وهل افكارنا سليمة أم يشبوها الغموض والضبابية؟، هل افكارنا سلبية أم إيجابية؟، هل هي حيّة أم ميّتة؟ هل تفكيرنا تفكيرٌ علميٌّ أم إصلاحي أم حداثي؟ وهل تفكيرنا نورانيٌّ؟، هي مفاهيم خاض فيها كثير من المفكرين والفلاسفة عرب وأجانب، ثم نتساءل إن كانت الفكرة إبداع أم هي مجرد فكرة تظهر في لحظة تأمل ليس لها ما يطابقها في الواقع، ودون أن نعرف ماهي فائدتها العلمية، كلنا يفكر ولكل واحد منّا طريقة تفكيره، لكن هناك هدف ما نريد الوصول إليه عن طريق تفكيرنا، وكم استغرق تفكيرنا من زمن للوصول إلى هذا الهدف، العالم طبعا مليئ بالمشكلات والتناقضات وهناك مشكلات معقدة، مستعصية، فأحيانا نجد من يقول لقد فكرت طويلا ولم أجد حلا لهذه المشكلة، يقول بعض المفكرين أن تفكيرنا مرتبط بالبراغماتية، إلا أنه ليس كل الناس براغماتيين، قليل من التأمل فقط نجد أن هناك فكر فردي وفكر جماعي.

ليس الغرض هنا الحديث عن الفلسفة البراغماتية، وإنما إلفات النظر الى الخطر التي يهدد الشعوب والأمم ومساعي البراغماتيين في طمس هويات الشعوب، كونها وظفت سياسيا ودينيا، ولعل السبب هو لما أثارته الفردية والجماعية من جدل بين المفكرين، ولكل واحد كان له رأي خاص لاسيما وأن هذا المفهوم لعب دورا خاصا في تسيير الحياة اليومية للفرد والجماعة، بل هيمن على منظومتنا السياسية، الإقتصادية، الفكرية الثقافية والتربوية وحتى المنظومة الدينية، فمصطلح البراغماتية مشتق من الكلمة اليونانية "براغما" ومعناه العمل وهي مذهب فلسفي يرتكز على أن معنى فكرة ما، تتحد بتأثير فكرة أخرى على الممارسة والسلوك وأن حقيقة المفاهيم لا تثبت إلا بالتجربة، والبراغماتية ارتبطت بالفيلسوف الأمريكي تشارلز بيرس وهو أول من صاغ هذا المفهوم في مقال له نشره عام 1878 بعنوان: " كيف نوضح أفكارنا؟" ووضع فيه أسس فلسفة البراغماتية، وهي من الناحية الفكرية تعني أن الإنسان مُكْرَهٌ على العيش في عالم لا عقلاني يتعذر فهمه، لأن كل محاولة لمعرفة الحقيقة تبوء بالفشل، والدليل ما نقرأه عن صراع الحضارات والثقافات وصراع الأديان.

فلا يزال النقاش حوله (أي الصراع) مفتوحا ولم ترفع الجلسات عنه الى يومنا هذا إلى أن ذهب البعض بالقول أنه لا يوجد صراع حضارات أو ثقافات أو أديان، وعلى الجميع أن يتعايش ليحقق كل واحد منفعته، وبالتالي عليه أن يتخلص من الشكوك التي تعرقل حياته طالما هو يريد أن يحقق منفعته حتى لو أدى ذلك انفصامه عن الدين أو بعده عن الأصالة وضربه قوانين الجمهورية في كل المعاملات، ونلاحظ ذلك حتى في المجال الديني، عندما عمل المبشرون على نشر عقيدتهم (المسيحية) بأسلوب براغماتي عن طريق مساعدة الشعوب وتقديم لهم الخدمات خاصة تلك التي تعيش الحروب وتعاني من المجاعة والجفاف والأمراض من أجل تنصيرهم ومحاربة الإسلام وتمكنوا من تعلم اللغة العربية نطقا وكتابة، مثلما حدث في الجزائر أيام الإحتلال، فهم آمنوا بدعوة البراغماتية إلى الاعتقاد بفكرة وإخضاعها إلى التجربة وما تقدمه هذه التجربة من فائدة عملية، وقد تمكن التيار التبشيري من طمس هوية المسلمين وإهدار كرامتهم، فلا تهمهم إن كانت الفكرة صحيحة أو غير صحيحة بقدر ما تحقق للإنسان المنفعة في حياته العملية، حيث ربطوها بالميكيافيلية التي تقول أن الغاية تبرر الوسيلة، لولا ظهور جماعة من الإصلاحيين المسلمين ومفكرين إسلاميين الذين تطرقوا الى مفهوم البراغماتية في الإسلام وراحوا بفكرهم ينشرون الوعي في الوسط الإسلامي محددين واجب الفرد والجماعة داخل المجتمع الإسلامي وعملوا بمقولة " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا" أرادوا أن يحققوا المعادلة بين الوسيلة والغاية، وما الصراع الدائر حاليا بين الأصوليين والعقلانيين التنويريين وفي مجال الخطاب الديني لدليل على أن هناك حرب حول الثابت والمتغير وبين المقدس والمدنس.

***

علجية عيش

سعيد حوا أنموذجاً

تُعْرَفُ السلفيّة في سياقها الفكريّ العام، بأنها منهج فكري يدعو إلى فهم النص المقدس، (الكتاب والسنة)، وفقاً لما فهمه سلف الأمّة في القرون الهجريّة الثلاثة الأولى، وهم صحابة النبي الكرام، والتابعون، وتابعوا التابعين، باعتبارهم يمثلون نهج الإسلام الصحيح، وهذا الفهم لمصطلح السلفيّة، تبنته القوى الإسلاميّة السياسيّة الجهاديّة ممثلة بعدد كبير من الفصائل والأحزاب الإسلامية المعاصرة كالإخوان وداعش والنصرة وجند الشام والقاعدة وبوكو حرام، وغيرهم ممن ظهر على الساحة العربيّة والإسلاميّة، وخاصة مع ما سمي بثورات الربيع العربيّ بشكل خاص، أو قبل هذه الثورات بشكل عام.

إن ما يهمنا في الحقيقة في هذه الدراسة هو تسليط الضوء بشكل أوليّ على الخطاب الإسلاميّ السياسيّ كما يطرحه "الإخوان المسلمون" عبر منظري دولتهم المنشودة وأخص بالذات هنا أحد المنظرين الجهاديين للحاكميّة "سعيد حوا" في كتابه "الإسلام". الذي حدد فيه المنطلقات الأساس التي يجب على المسلمين اتباعها لتحقيق دولة الإسلام المثلى وهي:

1- لكي يستقيم أمر الإسلام، لا بد له من حكومة تقيه وترعاه وتحميه. أي لا بد له من إطار سياسي وعملي تمثله هنا الدولة.

فالحكومة أو الدولة، ضرورة حتميّة من أجل حفظ العقيدة وحمايتها من عبث العابثين ولهو اللاهين المارقين وشبه الكافرين. أي هي حكومة ذات توجه واحد هو الإسلام الذي لا يقبل بالمختلف، الذي يعتبر هنا كافراً أو زنديقاً أو منحرفاً أو غير ذلك من صفات لا تليق بأنموذج المسلم الذي سيقود هذه الدولة.

2- والحكومة ضروريّة لإقامة حكم الردة على المرتدين. أي (من بدل دينه فاقتلوه). أخرجه البخاري. فسرير بروكست، (1) والمقصلة هي الحل أمام من يبدل دينه، فلا رأي ولا عقيدة غير رأي الإسلام وعقيدته وفق فهم الحوا.

3- والحكومة ضرورة أيضاً من أجل إقامة العبادات، فالكسالى عن الصلاة يؤدبون. والممتنعون عن الزكاة يغرمون ويعزرون، وتاركي الصيام يعاقبون، والمقصرون عن الحج وهو باستطاعتهم يزجرون. وهي بهذا المعنى حكومة (مطاوعة)، لمسنا تطبيقاتها العملية وفق هذا التصور في دولة داعش التي امتدت إلى مناطق كثيرة في سوريّة والعراق، وقبلها في السعوديّة قبل انقلاب محمد بن سلمان على الفكر الوهابي.

4- والدولة الإسلاميّة ضرورة لحفظ الأرواح (كتب عليكم القصاص في القتلى) البقرة 178. (ولكم في القصاص حياة يا ألي الألباب لعلكم تتقون.) البقرة 179. فالقصاص هنا أو الحسبة، أمر يُشرع الحكم فيه وفقاً لقيم وأخلاق ومثل القرون الهجريّة الثلاثة الأولى، دون مراعاة لخصوصيات العصر وحالات التطور والتبدل التي أصابت المجتمع.

وهي ضرورة لحفظ أعراض الناس (الزاني والزانيّة فاجلدوا كل واحد منهم مئة جلدة). النور- 2. والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة). النور – 4.

وهي ضرورة لحفظ الأموال (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل). البقرة 188. وأعتقد هنا أن أكل الأموال يأتي من خلال حالات فرديّة كالسرقة وأكل مال اليتيم على سبيل المثال لا الحصر، وليس على مبدأ النظر في تناقضات المجتمع والصراعات الطبقيّة التي تدور بين استغلال المالك للمنتج.

5- وهي ضرورة لإقامة الجهاد (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدو فيكم غلظة). التوبة – 123. وهذا الفهم في الجهاد سيشمل الذين جئنا عليهم وفقاً للبند أعلاه. وهم العابثون واللاهون والمارقون وشبه الكافرين. هذا إضافة إلى حمل مشروع الجهاد الذي مثلته مرحلة نشر الإسلام في مراحله الأولى أو ما سمي بالفتوحات الإسلاميّة.

6- وهي ضرورة كي تكون كلمة الله هي العليا. فإن الإسلام مالم تكن له حكومة تحمله وتحميه يكون ذليلاً، والنفوس تجد الانطلاق والانفلات إلى كل شهوة وهوى : (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن.). (المؤمنون – 71.). فلا بد إذن من حكومة تصرف الناس عن الهوى إلى الاستقامة. وقديماً قال الخليفة عثمان: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).

هذا ويأتي الإسلام عند "سعيد حوا" هو الصورة الوحيدة للتقدم البشري في كل زمان ومكان. وغير المسلم لا يؤتمن على حريّة العقيدة، ولا يؤتمن على العدل، ولا قانون ولا حق ولا مصلحة. (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين). المنافقين – 8. (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين). 139. (2).

إذاً بناءً على ما حدده " سعيد حوا" من معطيات جئنا عليها أعلاه، ترمي إلى ضرورة بناء الدولة الإسلاميّة المعاصرة، نستنتج مجموعة من السمات والخصائص التالية المتعلقة بهذه الدولة المنشودة إذا ما قامت، أهمها:

1- انحسار العقل عند من يتبنى إقامة هذه الدولة، عما كان عليه في الحركة الاصلاحيّة الأولى التي اشتغل عليها "الأفغاني" و"محمد عبده"، وتركيزهم على أهمية الايمان والتسليم المطلق قبل استخدام العقل والبحث عن الحقيقة، مما يجعل هذه القوى الدينيّة السياسيّة ذات توجه استسلاميّ وثوقيّ، أكثر منه توجه عقلانيّ نقدي، كون توجهاتهم الدينيّة تبدأ من الايمان كمسلمة لا تقبل النقاش والحوار حول العقيدة المطلقة الصحة وقداستها. وهذا التوجه الفكري والسلوكي ساهم كثيراً في سيادة العاطفة والتعصب وضيق الأفق والتصلب في الرأي، ورفض الحوار مع المختلف.

2- تبني فكرة "الحاكميّة لله" كأساس للدولة الإسلاميّة، وهذا التبني سيعمل بالضرورة على تقوض أنظمة الحكم القائمة على التشريع الوضعي أو بعضه، من حيث عدم شرعيّة وجودها، مع غياب فاضح عند هذه القوى لعمليّة بحث طبيعة النظم الحاكمة بحثاً موضوعيّاً، على اعتبار أن ليس كل ما في هذه الأنظمة هو من حكم الشيطان، وأن كل قوانينها المطبقة هي قوانين كفر، وأن المجتمع الذي يسير وفق هذه الأنظمة وقوانينها هو مجتمع الجاهليّة، وهذا ما رسمه "سيد قطب" أيضاً في عقليّة جماعة الإخوان، وكذلك "أبو الأعلى المودودي". علما أن في هذه الأنظمة الوضعيّة التي (كُفِّرَت) من قبل هذا التيار، فيها ما يتفق مع الشرع الإسلاميّ، وفيها ما يخالف الشرع، وهي الفكرة التي استخدمت كأهم معول في قتل أو اغتيال الكثير من القادة السياسيين المنتمين لهذه الأنظمة الوضعيّة الحاكمة على مستوى الساحة العربيّة والإسلاميّة من قبل الجناح العسكري لهذه القوى الإسلاميّة المتعصبة.

3- إقامة الدولة الإسلاميّة وتطبيق الشريعة الإسلاميّة كما تفهمها نخب هذه القوى الإسلاميّة الوثوقيّة، تنفيذاً لقانون إلهيّ وطاعة للإرادة الإلهيّة، دون إبراز لمصلحة الجماعة أو العامة (أي الشعب) الذي هو أساس التشريع. ودون النظر إلى الأضرار التي قد تنجم عن هذا التطبيق في المجتمعات المعاصرة، إذا ما كان تطبيقاً فورياً صوريّاً مفروضاً دون تهيئة الظروف الملائمة له والإعداد الصحيح لذلك. وهذا ما أوقع أصحاب هذا التيار في إشكالات تطبيقيّة انعكست سلباً على حياة الناس الذين راح معظمهم يتخذ موقفاً سلبياً من الدعوات الجهاديّة بشكل عام.

إن الشريعة الإسلاميّة وفق رؤيتهم الوثوقيّة الاستسلاميّة وتطبيقاتهم في بعض الدول التي وصلوا فيها إلى السلطة، كانت تعني (الحدود)، أي الحسبة أو تطبيق العقوبات، أي المحرمات دون المباحات، ومطالبة المسلم بواجباته قبل إعطائه حقوقه الطبيعيّة التي حددها لها النص المقدس نفسه، كحق الحياة والرأي، (تجربة داعش).

4- إحداث التغيير الاجتماعيّ من خلال إحداث انقلاب على السلطة القائمة والاستيلاء عليها عملاً بمقولة عثمان بن عفان: (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). ودون الانتظار في التمهيد للدعوة والتبشير بها، وتثقيف الناس بأهدافها ومدى إيمانهم بأفكارها. لذلك جاءت الدعوة على رقاب الجماهير بدلاً من أن تأتي على اكتافهم. هذا وإن وجد حالات من التثقيف أو النشر الفكري بين من انضم لهذه لهذا التنظيم، فهو تثقيف يشتغل كثيراً على تكفير المختلف وليس البحث عن القواسم المشتركة معه. والعمود الفقري لهذه القواسم هي مقاصد الدين الخيرة التي نزل أو جاء هذا الدين من أجلها.

5- استخدام العنف في التغيير عن طريق الأجهزة السريّة والجهاديّة للتنظيم، وهذا ما ادخلها في صراع مع الدولة القائمة الوضعيّة.

6- الوقوع في جدل الكل أو لا شيء، فإما أن يُقبل النظام الإسلامي كله أو يرفض كله. أي رفض الدولة العمانيّة ككل.

7- طريقة تفكيرهم هذه أو سلوكياتهم، حولت أصحاب هذا التيار إلى قوى خارجة عن القانون بنظر الدولة الحديثة، حيث راحت تتبعهم الأجهزة العسكريّة والأمنيّة وتنكل بهم وتزج دعاتهم والناشطين منهم في السجون، وهذا ما أخاف الشعب من الإخوان أو الاقتراب منهم.

8- اتسام نظام الجماعة بالنظام الهرميّ، الذي يستخدم الطاعة المطلقة من القاعدة إلى القمة، وبذلك يكون النظام قد توجه توجها سلطوياً أوامرياً.

9– رغم عداء الجماعة للاستعمار الغربي، وللنظام الشيوعيّ او الاشتراكي أو القومي، إلا أنها راحت في فكرها وممارساتها ضحية التصور الرأسماليّ للعالم، حيث ركزت على اقتصاد السوق والتجارة والربحيّة والملكيّة. فهو كله رزق من عند الله يعطيه لمن يشاء ويمنعه عمن يشاء وطبقاً للجهد. وقد اتخذوا من الصحابة قدوة في العمل التجاري كعثمان بن عفان وغيره من أغنياء قريش قبل الإسلام وبعده. (3).

إن كل هذه التوجهات الفكريّة للخطاب السياسي الإسلامي السياسي، عبر عنها حسن البنا في هذه النقاط الثلاثة الأساسيّة وهي:

آ- إن الإسلام نظام شامل يطور نفسه بنفسه تلقائياً. والإسلام هو الطريق الأساس والنهائي للحياة بكل مجالاتها المختلفة.

ب- إن الإسلام ينبثق ويرتكز على مصدرين هما : القرآن الكريم والسنة النبويّة الشريفة.

ج- الإسلام صالح للتطبيق في كل زمان ومكان، أي هو أيديولوجيا شاملة يقدم نظاماً قادراً تماماً على تنظيم كافة تفاصل الحياة السياسيّة. (4).

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية.

......................

الهومش:

1- بروكرست: شخصية من المثيلوجيا اليونانيّة، كان يعمل حداداً وقاطع طريق من أتيكا، وكان يهاجم الناس ويقوم بمط أجسداهم أو قطع أرجلهم لتتناسب أطوال أجسامهم مع سريره حديدي. ويطلق عادة لفظ البروكرستية، كنزعة فكرية وعمليّة على الذين «يفرضون قوالب جاهزة» على الاشياء (الاشخاص أو الافكار..) أو ليّ الحقائق وتشويه المعطيات، لكي تتناسب قسراً مع مخطط ذهني مسبق هم رسموه. راج الويكيبيديا.

2- حوا – سعيد - (كتاب (الإسلام) - إصدار دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع - (ص 325 وما بعد.).

3- للاستزادة في هذا الاتجاه يراجع كتاب: حنفي - حسين – "الدين والثورة في مصر – الأصولية الإسلاميّة -1952 – 1981 –" مكتبة مدبولي- القاهرة –-ص33 وما بعد.

4- راجع دراستنا (قراءة نقدية في كتاب معالم في الطريق لسيد قطب.) نشرت في العديد من المواقع الالكترونية. منها صحيفة المثقف وساحة التحرير .

يعتبر التعليم مهنة من أشرف المهن التي يقوم بها الإنسان كما يعتبر رسالة مقدسة بقدسية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فهو القائل :”العلماء ورثة الأنبياء”، وما أشدّ ما يتعرّض له صاحب رسالة التعليم اليوم “المدرّس” من السخرية والاستحقار والتنكيل على يد القاصي والداني في كل ربوع الوطن العربي وهي وضعية مشكلة – بلغة فقهاء التربية – متداخلة العناصر والأركان منها ما صنعه ونسجه المدرّس لنفسه إما لأخطاء ارتكبها، أو تقصير اعتراه، أو جهل مارسه، أو انحراف طاله ….، ومنها ما هو مفترى عليه لا يعدو أن يكون من باب تصيّد الأخطاء ووضع الفخاخ وجهل بمكانة العلم والعلماء…، والمدرّس في الحالتين معا في قفص الاتهام لذا وجب عليه أن ينتبه إلى رسالته النبيلة وينقيها من شوائب نزواته وعثراته والارتقاء بها من الدركات السافلة إلى درجات عليا لا يرضى إلا بها.

قبل الغوص في الموضوع لابدّ أن أشير إلى أنّ عالمنا تغيّر بسرعة، فالتعليم التقليدي متجاوز في معظم مناهجه ومحتوياته. لهذا يجب على الأطر التربوية والإدارية أن تكون متمكّنة من مهامّها، والسياسة التعليمية يجب أن تعيد النظر في استراتيجياتها، فمصادر المعرفة أصبحت متعدّدة خلخلت كل ما هو تقليدي بما في ذلك المفهوم والممارسة للعلاقة البينية (مدرّس/متعلّم). الكل يجب أن يراجع معطياته، ويحين ويتعلّم الجديد أكثر بروح مرحة لتجاوز ضغوطات تدفّق المعطيات وكثرة المطالب التي يجب أن تضبط بالعقل.

نلاحظ أنّ ظاهرة العنف بين التلاميذ والأساتذة أصبحت منتشرة وبقوّة في المدارس، وهذا راجع لمجموعة أسباب منها:

1- سوء تربية الوالدين:

أكيد أنّ التربية لا تكتمل إلا بمؤسسة مدرسية، لكن أصل التربية هو الوالدين، فالأسرة هي القدوة الأولى للطفل، إن الطفل ومنذ ولادته يعتبر والديه القدوة الأولى له، والقدوة الصالحة من أهم الوسائل الفعالة في التربية الخلقية والدينية، ولها التأثير الكبير على الطفل، سواء في محيط عائلته أو في المدرسة وغير ذلك، والطفل يبحث دائمًا عن قدوة؛ ليتمثل بأخلاقه وصفاته. خصوصاً في مرحله الأولى يبحث عمّن يقلد أعماله وتصرفاته، فلا بد في هذه المرحلة من الحرص على الأخلاق، والتربية الدينية السوية في الطفل، وذلك بتقديم القدوات الصالحة للطفل.

2- المحيط الاجتماعي:

التحصيل الجيد لما يتلقونه المتعلمين من معارف واقفٌ على شروط عدّة تتعلق بالمحيط أيضا، سواء المحيط الذي يعيش فيه أو المحيط المدرسي، فعندما يتعرّض الطفل للعنف ويمارس عليه في الشارع، أكيد عندما يكبر سيقوم بنفس الشيء، لهذا فاستقرار البيئة وعدم اضطرابها من أهمّ الأسباب الوثيقة في تماسك شخصية الطفل وازدهار حياته.

3- الدولة:

ينبغي الإشارة إلى أنّ الدولة مسؤولة بجميع مؤسساتها العامة والخاصة وجميع ممثليها، لذلك مهمة الدولة يجب أن تنطبق على جميع مراحل التعليم والتربية، فالدولة قادرة على إصلاح التعليم والرقي به ولها الإمكانيات والقدرات والشرعية لتحديد المشروع المجتمعي الذي تنبني عليه استراتيجية العمل في كل المجالات وخاصة في مجال التربية. فساد المنظومة التربوية والتنشئة الاجتماعية لأبنائنا عامل محدّد في تفشي ظاهرة العنف المضاد داخل المؤسسات التعليمية، وهذا لا يختلف في شيء عن العنف اللفظي والجسدي الذي أصبحنا نشاهده داخل مؤسسات الدولة كالبرلمان والأحزاب السياسية، فالتعليم مرآة تعكس واقع المجتمع من جهة، والمجتمع نتاج لما أفرزه تراكم التجارب الفاشلة في حقل التربية والتعليم. أؤكدّ على أنّ فساد أجهزة الدولة من الأسباب الرئيسية فيما وصلنا إليه الآن.

4- تعاطي المخذّرات:

تعاطي التلميذ للمخدرات زاد من إمكانية تعرّض أستاذه للعنف، يعتقد الكثير من الشباب أن تعاطي المخدرات يساهم في نسيان مشاكلهم وظروفهم أو في تنشيط الذاكرة ومساعدتهم على التحصيل الدراسي، ولكن هذا الاعتقاد خاطئ، لأن الاستمرار في تعاطي المخدرات يؤثر على التحصيل الدراسي ويسبب عدم القدرة على التركيز والإدراك، فيتولّد الشعور بالامبالاة  وعدم الاهتمام بالدراسة، مما يؤدي إلى تراجع المستوى الدراسي وخلق صراعات بين التلميذ والأستاذ.

5- وسائل الاتصال والتواصل:

بما أنّ التكنولوجيا الحديثة تعدّ من أهم العوامل المؤثرة على حياة الإنسان في عصرنا الحالي ، فقد أثّرت على  التحصيل الدراسي للتلاميذ كما أثّرت على سلوكاتهم وأخلاقهم وتربيتهم، ، لقد شغلت أكبر مساحة من الوقت في حياة التلميذ ، وزاحمت محيطه الأسري والمدرسي، ولازمت تفاصيل حياته الخاصة والعامة، ونحن نعلم بمحتوى ما يبث في قنواتنا التلفزيونية، ونعلم بمحتوى الفيديوهات المتصدر لعدد المشاهدات في مواقع التواصل الاجتماعي، أليس هذا سببا من أسباب تغيّر شخصية التلميذ من شخصية سلمية إلى شخصية عنيفة؟ !

6- المدرّس (الأستاذ):

من الأخطاء القاتلة التي قد يرتكبها المدرس اليوم (المدرس هنا ليس في عموميته) التكبر والتعالي على تلاميذه إذ يصنع لنفسه هالة تحيط به لا يفارقها ولا يغادرها ولو فكر قليلا لوجدها هي سبب جل مشاكله مع تلاميذه إن لم يكن كلها، فالنفس الإنسانية عامة ترفض المتكبر فبالأحرى المتكبر العالم، والمتعلم في هذا الوضع ينفر نفورا شديدا من هذا النوع من المدرسين ولا يتحمس للأخذ عنهم والاستماع إليهم والاستمتاع بما لديهم .

ومن أمثلة هذا التكبر نذكر طرق التعامل مع جماعة الفصل حيث يمارس المدرس أولى درجات وعلامات التكبر دون وعي منه أحيانا وذلك بعدم الاستئذان وقول السلام أثناء الدخول إلى الفصل ، والأمر على بساطته إلا أنه يكون مدعاة للانتباه والتساؤل من مجموعة من المتعلمين ،وقوله السلام من عدمها لا يمكن أن تحدد قيمة المدرس في عين التلميذ أبدا ولا تشكل أي نقص. يليها تكبر المعرفة المقترن بطرح المتعلمين لبعض الأسئلة التي أشكلت عليهم على المدرس الذي قد تعوزه الإجابة فيحول المتعلم إلى متهم لا سائل عن المعرفة، لتخرج إجابات على لسان المدرّس دون تخطيط مسبق أو وعي بها (أنت فقط الزم الصمت، ابحث أنت ،الالتفاف والهروب إلى موضوع أخر.. وزد عليها من أشكال التكبر).

والمدرّس الناجح هو الذي يسلك طريق الحلم والصبر في معاملته لمتعلميه، فيعترف بنقصهم ويفهم أنهم على أمزجة مختلفة ،ومستوياتهم في الفهم والإدراك متفاوتة وهم على كيانات مستقلة واستعداداتهم تتراوح بين الهمة تارة والخمول أخرى، وما ينتابه هو كانسان بين الفينة والأخرى يصيب هؤلاء التلاميذ، فلا داعي للوقوف عند كل كبيرة وصغيرة، والعيش في تفاصيل الأحداث الهامشية والجانبية .

المدرّس الذي يقدّر علاقته بتلاميذه ويبني معهم علاقة محبّة ويحسن التواصل مع جميع أصناف التلاميذ ويتجنّب العنف ويقدّر ظروفهم، لن يتعرّض للعنف أبدا سواء الجسدي أو اللفظي، ولن يرى منهم حتى ذاك الشغب والضجيج داخل الفصل.

إذن يبقى سرّ نجاح قيادة الفصل هو اعتماد المدرس على التواصل وطرائقه المختلفة والتقدير والاحترام وتجاوز قصور المتعلمين الأخلاقي وإدارة الفصل إدارة حكيمة فيها من التوازن النفسي ما يخدم المدرس والمتعلم معا. فمهارة التواصل من المهارات التي تحقق فيها إجماع كل الفاعلين في الحقل التربوي.  فمن الصفات التي تجعل الأستاذ عظيما في فصله هي التواصل ومهاراته، والاستماع الجيد للمتعلمين، وعمق المعرفة لدى المدرس والقدرة على تطوير العلاقات مع المتعلمين والقرب منهم والإعداد والتنظيم وحسن المظهر…وغيرها.

ونخلص أخيرا إلى أن مهنة التدريس مهنة راقية برقي أصحابها وسامية بسمو أخلاقهم. بها تبنى المجتمعات وعلى أساسها نعد الأفراد لتحمل المسؤوليات، ولا يمكن حصرها في صفتين أو ثلاثة صفات وانتهى الأمر، بل العكس فهي جامعة لكل صفة جميلة خيرة ودافعة لكل صفة ذميمة شريرة. تكتمل مهنة المدرس والتدريس باكتمال المحاسن والأخلاق، فالتدريس لا يستقيم دون إخلاص وتقوى لله عز وجل وتجنب النفاق والرياء، واعتماد الوضوح والتعاون وحب الخير لكل متعلم ساع إلى طلب العلم وتحقيق العدل بين المتعلمين وإنصافهم بغض النظر عن سلوكياتهم وتصرفاتهم.

***

بقلم: ذ. فؤاد لوطة

محوت الموت من خارطة الوجود بكلماتك يا حسين، لن أبايع، مثلي لا يبايع، البيعة كلمة، لن أقولها، أنه الحسين "ع" أستشهد ومعه أهل بيته، لن أعلن موت دين جدي ببيعتك يا أبن الدعي، أستشهد بعد غدر أهل الشجاعة له، موطأ قدم الخلافة الراشدية في الكوفة، سقط الحسين جسدًا، وأرتفع فكرًا هز الوجود الإسلامي في مطلع العقد السادس الهجري، منحى جديد في الاسلام المحمدي مقابل الإسلام الاموي، مات الحسين "ع" وأعيد فكر من الاصالة كاد طغاة الوراثة أن يعلنوا موته.

نتساءل ويتساءل معنا العقلاء من عرف الدعوة الإسلامية، هل أن الدين الإسلامي هو دين محمد؟ أم دين غيره ممن رفضوه وشتموا محمد ودعوته في مكة، أنهم قتلوا الحسين بأسم من شتم محمد، وحارب محمد، وحارب دعوته، هل تستقيم الدعوة بقتل حسين؟ لا يمكن أن تقوم أو تستمر، وإن نمت وكبرت ولم تنضج ولكن إنهارت فكان الرفض عبر التاريخ ثأرًا من أل بيت النبي، بمقتل الإمام الحسين حفيد النبي، ولن تكون الدمعة إلا لغة رفض لواقعة كربلاء ومأساة الطف، إذن للدمعة لغة حزن، ولو بعد قرون وتستمر اللغة بكل عام معلنة بلسان عربي وأعجمي.

 أتفق الكل أن يُعبر بذكرى مقتل فكر دين محمد، مقتل أبن فاطمة بنت النبي محمد، وأبن رابع الخلفاء الراشدين كما دون لنا التاريخ تسلسل الخلفاء الراشدين بعد محمد"ص" بلغة خاصة، واللغة هي مفتاح التواصل بين البشر، الدمع لغة، والآهات لغة، والكلام لغة، والحزن لغة، النوح لغة، وحركة الأجساد في حضرة الذكرى الحسينية هي الأخرى لغة أيضًا.. ما أصعب أن تتحول اللغة للتعبير عن ماساة في واقعة الطف في كربلاء.. أنه الحسين صاحب الكلمة، لن أقولها، ولم اقولها بلغة من لسان عربي هاشمي، لسان حفيد النبي محمد "ص"، فاللغة كلمة، ودمعة، وحركة جسد، ونياح، وآهات عبر التاريخ تشعل في الذي قتل الحسين عودة طبيعيه لعدائية لسلالة الحسين من بعده.. وهي عودة المبكوت.  

قُتل الحسين"ع" ولن يقول من بايع محمد وبايع آل بيته، أية معجزة تأتي بمقتل حسينًا، وأي دعاءٍ ملهوف بالمغفرة، وهل للبكاء لغة، أم هل للطم لغة، أم هل للحزن لغة؟ نعم أن للدمعة لغة، وللحزن لغة، وللطم لغة، لغة رفض مهما جار الطغاة، وفسد الساسة من الشيعة في إدارة دولة أموية بأسم الحسين.

واقعة الطف تعود ذكراها كل عام بمقتل الإمام الحسين "ع" وعيٌ لكل العصور ضد الطغاة، في كل مكان وزمان، كما زمجر الصوت من أعالي السماء ضد يزيد، قُلت ما أردت قوله يا حسين، أنك لن تبيع القضية، ولن تقول أبايع أبن الزانية، وإن جب الإسلام ما سبقه، لكن ظلت في دواخلهم كل معاني الجاهلية، وإشعار الأخرين بالدونية، وتقليل شأن بني هاشم بيت النبوة من الرسالة والنبوة، فهان عليهم أن تكون النبوة والسيادة في بيت محمد، فقتل الحسين كأنه كبش فداء لما جاء به محمد "ص" وعنفوان علي"ع" وكبرياء فاطمة"ع" أن يعود أكبر مقاتل في الفتوحات الإسلامية" وهو الحسين" ليعيد الوعي الجمعي لأمة غرر بهم طغيان أبا سفيان وساسة بني أمية، فكان الحسين"ع" يأمل أن يعيد الوعي الجمعي لدى هذه الأمة، أمة محمد" ص" لا أمة بني أمية، أمة الفتوحات ونشر الأصالة في الدين الإسلامي، لا الدين المزيف بتعاليم أل سفيان ومعاوية.. وهل نسى من أمن بمحمد وبرسالته والخلفاء من بعده وأخرهم علي بن أبي طالب "ع" بأن يرفض سليل أمية " معاوية" وشيطانها الأكبر ولاية علي بن أبي طالب؟. أية دعوة على الحسين "ع" أن يقول كلمة بلغة يعلنها بمبايعة دعي وخارج عن الإسلام في الخفاء والعلن، أقصد يزيد.

عرف سابقًا في تاريخ الأمم والحضارات فكرة توريث الروح، وتقوم على فكرة عند الأخذ بالرأي القائل إنه في قديم الأزمان كانت الملوك عند الأعراق الهمجية والبربرية أن لا تنقرض العائلة المالكة يكون تنصيب رجل لديه بُعد نظر نحو المستقبل وإدارة الدولة، ولكن لم نجد ذلك في توريث يزيد للدولة التي أسسها معاوية ضد الدولة الراشدية عنوة وبالأخص خلال تولي علي بن أبي طالب "ع" في الخلافة الراشدية.  

الإمام الحسين "ع" مطلق في الوجود فكرًا ونسبُا وتاريخًا، أليس هو حفيد محمد"ص" النبي الرسول وخاتم الأنبياء، آمن به الأولون بصدق، وأمن به نفرٌ من الرجال بعد فتح مكة غصبًا وعنوة، فردوا هذا الإيمان المزيف بمقتل إبن بنته وعزيزه، وأقرب أحفاده له محبة ومودة، أبن فاطمة "ع"، قتله من دخل الإسلام لا حبًا بالإسلام، ولا إيمانًا بالإسلام، بل مرغمًا، وكأنها صاعقة من ألهة قريش التي يعبدونها ويبيعونها كوهم مقدس للتجارة والسمسرة ومحطة للاستراحة لتجار الجزيرة من شمالها إلى جنوبها لليمن السعيد آنذاك، قتلوا الحسين نكاية بإجباهم دخول الإسلام، ونكاية بمحمد لأنه النبي المختار على كل تلك الاقوام والملل والنحل، رغم الحضارات التي بها أباطرة وملوك وتجار وأسياد.

الإمام الحسين "ع" كبش الفداء لدين محمد "ص" " عودة المكبوت عند بني أمية:

عُرف في الحضارات القديمة منذ الأزل بأن كبش الفداء يكون نحر حيوانًا لقضية مقدسة تعارفت عليها المجتمعات والشعوب والاقوام، ولكن لم يألف في التاريخ أن ينحر قائد من قادة المسلمين وأبن بنت النبي محمد "ص" أمام أهله ضحية لا ندري هي ضحية آلهية لبني آمية، أم قربانًا عَدوهُ لمن رفض دعوة محمد منذ بداياتها وحتى فتح مكة، ونعيد ونقول إن الإسلام يَجُبُ ما قبله.. والله أعلم !! وهل له أن يقدم بنت فاطمة بنت النبي محمد قربانًا لألهة بني أمية، وهو في الحقيقة تعبير رمزي عميق لما يدور في النفس الإنسانية وما عُلق في اللاشعور – اللاوعي الجمعي لدى بني أمية، فقتل الحسين بن علي بن أبي طالب "ع" أبن فاطمة بنت محمد نبي الإسلام، هو عودة المكبوت في لاشعور – لاوعي بني أمية الجمعي، وفي فكر حاكم بني أمية الجديد يزيد بن معاوية. واللاشعور – اللاوعي هو ما كبت في داخل النفس ربما كبتًا عميقًا، لو أنه كبتًا ثانويًا لاستعاد المكبوت عافيته بعد نضال مع النفس وجهاد ضد نزواته في المتعه والسلطة والمال وكل ما يؤذي معتقده، أو يسبب له إيلامًا في نفسه، وربما يشكل صراع غير منتهي.

عاش بني أمية في صراع مستمر منذ بدء محمد "ص" دعوته للإسلام في تغيير مجتمع بدوي جاهلي متعصب إلى مجتمع يسمو إلى الإنسانية، لكن قوة الدفعات ضد التجديد في المجتمع السائد آنذاك كانت أقوى لدى بني أمية بالأخص لأنهم يعتقدون أنهم أسياد قريش، وأسياد العرب، فظلت لغة التكبر والعنفوان هي السائدة لديهم، لغة السيد أو الأخ الكبير على جميع القبائل في الجزيرة العربية، ولأن الحسين هو روح النبي محمد وفكره الأصيل وسليله، فخافت بني أمية من روحه التي قد تسبب لهم أنتقامًا شديدًا لا طاقة لهم بها، فمارسوا ضد سليل النبوة نسبًا وخلقًا وتاريخًا، وهم "بني آمية" الذين لا ينتسبون للإسلام إلا مظهرًا فقط، فكيف يعود سليل من أحدث لهم كبتًا مزمنًا في لاشعورهم – لاوعيهم الجمعي مرة أخرى.

عندما نصب يزيد خليفة بعد معاوية نصب في موقع العبادة" أمير المؤمنين"، أسقطت عنه كل مخاوف "فوبيا – رهاب مرضي" بني آمية التي عاشوها خلال عقود حياة النبي محمد"ص" وإنتشار دعوته وأصبح المسلمين كثرة كاثرة لا قلة منزوية، وبدلًا من أن يصبح هو الرمز لهذه الامة ظلت دواخله تصرخ "لاشعوره" يئن من بني هاشم آل بيت النبوة، فأعلن الحسين نفسه رمزًا لدين محمد جده أبن بنته فاطمة، فكيف يكون الرمز المزيف "يزيد" الذي يحتمي به المتملقين ومن آمن برسالة محمد اسقاطًا لفرض في تغيير دينهم من الوثنية ومشاركة في بنية المجتمع، وبنفس الوقت أعطاه التنصيب قدرة وسلطة مطلقة يستطيع أن يفعل بلا حوار ما يريد مثل القتل " الحسين بن علي بن أبي طالب مثالًا"، التنكيل بأوائل من آمن بدعوة محمد "ص" وحفظة القرآن، التعذيب حتى الموت "عبد الله بن الزبير إنموذجًا"، لو تأملنا في كل تلك من جوانبها النفسية المعمقة لوجدنا أن مركب الخوف من أصالة الدعوة الإسلامية ورمزها الجديد "الحسين بن علي بن أبي طالب" هو الأساس في كل ما حدث، فهو صراع قبل وفاق، أعني قبل الإيمان بدعوة محمد للإسلام، وصراع بعد وفاق، بعد مقتل الإمام الحسين "ع" وهو صراع جمعي عند بني أمية ومن جاء بعدهم للحكم بأسم محمد، ورهاب "فوبيا" مزمن من آل بيت النبوة وسلالة محمد"ص".  

***

د. اسعد الامارة

تمر بنا ذكرى واقعة الطف الأليمة ونحن نعيش حالة من الفوضى في مجالات الحياة الشخصية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وليس للفوضى هدف تبلغه، بينما للنهضة هدفها الذي بدأت خطوات تحقيقه على ارض الواقع من خروج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة حتى وصوله الى طف كربلاء يوم العاشر من محرم، لذلك أحاول في أجواء هذه الفاجعة الأليمة أن أقدّم قراءة جديدة لعلنا نستفيد منها في توجيه واقعنا الفوضوي وجهة قد نصل بها الى ما نبتغي .

من يوم العاشر من محرم والى يومنا هذا تصلنا رسائل الحسين عليه السلام وأهل بيته وأنصاره عبر التاريخ الذي أراه أدّى دوره في توثيق وحفظ الأحداث ونقلها إلينا.

 كما أرى إن الأدب في فنونه المنوعة قد أدّى دوره في وصف أحداث النهضة وشخوصها والتعبير عنها شعرا ونثرا وبلاغة وإعلاماً، فكتب التاريخ وكتب الأدب حافلة بكثير من الإسهامات القيمة لكتاب وشعراء وأدباء ومؤرخين من مختلف الثقافات والاتجاهات والمعتقدات، جمعهم حول الحسين بعد نهضته الإنساني، رأيت كباحث في علم الإنسان أن انظر إلى أحداث تلك الواقعة بعيون الواقع الذي نعيشه اليوم وأتساءل هل هذا كل ما نريده من ثقافتنا كمسلمين بحق الحسين عليه السلام وتلك النهضة العظيمة وذلك اليوم الموعود؟

مفهوم الثقافة ..

قبل أن استرسل في البحث أقف عند مفهوم الثقافة الذي يحتمل تعريفات عدة، فأقول إن الثقافة عندي هي وعي الواقع وفهم حركة الحياة فيه ودراسة الطريقة التي  يعيش بها الناس، فهي تصل الى حدود الوعي الإنساني، لذلك أرى إن صناعة الوعي هي الرسالة الحسينية المعاصرة التي علينا أن نقرأها ونشتغل عليها اليوم خصوصاً في المرحلة التي يمر فيها المجتمع بثنائية التغيير والثبات..

التغيير والثبات ..

يرى علماء الاجتماع وعلماء الإنسان ان التغيير صفة طبيعية في كل مجتمع، لا يختلف مجتمع عن آخر في التغيير، إنما الاختلاف في درجات التغيير، فنحن كمجتمع إسلامي نرجو من عملية التغيير الإرتقاء بمنظومة الفرد والمجتمع وتطويرها ثقافياً وإقتصادياً وإجتماعياً وعمرانياً في إطار المشروع الإسلامي الثقافي الحضاري، وهنا أتساءل ما هو تقييمنا لحركة التغيير في المجتمع اليوم هل تتم في إطار المشروع الإسلامي الثقافي الحضاري؟

الأمر الثاني هو الثبات على القيم والمثل العليا التي لا تتضح في العربي المسلم معالم شخصيته بعيداً عنها والتي توافق عليها العرف الإجتماعي والدين، فصارت جزءاً أصيلاً في ذات الشخص، فهل يتفق الثبات مع التغيير الحاصل في المجتمع؟

ثمار الوعي الأولى ..

إذا أخذنا بنظر الإعتبار ان الظروف الزمانية والمكانية والبيئة تدخل عاملاً مهماً مؤثراً في جوانب الشخصية العقلية والسلوكية والعاطفية والنفسية فإنها تدفع بالإنسان إلى أحد اتجاهين:

الإتجاه الأول هو الإستسلام للواقع وقبوله بما فيه من دون الأخذ في نظر الإعتيار إن كان صحيحاً أم خطأ وإن كان على خط القيم والمثل العليا أم منحرفاً عنها .

الإتجاه الثاني هو رفض الواقع والإنقلاب عليه لتغييره الى ما ينبغي ان يكون ..

في التاريخ شواهد كثيرة على هذين الإتجاهين، تذكر كتب التاريخ والمصادر ان الإمام الحسين كتب الى  عدد من زعماء البصرة ممن كانوا على خط الإمام علي عليه السلام يوضح لهم خطورة الوضع الذي يمر به المجتمع ويدعوهم الى نصرته والوقوف معه لتغيير ذلك الواقع  ..

اختلفت درجات تفاعل الزعماء، فمنهم من لبّى الدعوة مسرعاً وهو عبد الله بن مسعود النهشلي، ومنهم الأحنف بن قيس الذي دعا الحسين الى التريث والصبر  ومنهم المنذر بن جارود العبدي الذي أمسك بيد رسول الحسين وسلمه الى عبيد بن زياد الذي كان والياً على البصرة حينها فأمر بقتل رسول الحسين ..

بالمقابل حفظ لنا التاريخ مواقف في الإتجاه المعاكس، فقد ذكرت المصادر ان رسول عمر بن سعد طلب الإذن بالدخول على الحسين عليه السلام فلما تم له ذلك قبّل يد الإمام ورجله وطلب الإلتحاق بمعسكره فقاتل حتى الموت، وكان حبشة بن قيس مقاتلاً في معسكر يزيد، انقلب الى معسكر الحسين عليه السلام واستشهد في الجولة الاولى، موقف بطولي آخر لأبي الحتوف واخيه سعد وهما من الخوارج لحقا بالمعركة بعد سماعهما نداء الحسين هل من ناصر ينصرنا فقاتلا دونه حتى قتلا ..

هؤلاء وآخرون معهم يمثلون الثمار الأولى للوعي الذي دعا اليه الحسين في نهضته والذي نراه ضرورة ملحة نحتاجها اليوم، لذلك ادعو خطباء المنبر الحسيني الى أن يسلطوا الأضواء على هذه الأسماء التي كثيراً ما يغيب ذكرها خلال الحديث عن أجواء وأحداث وظروف تلك الواقعة .

كيف تتم صناعة الوعي؟..

الوعي كما يعرّفونه في ابسط صوره هو الاحساس بالوجود الداخلي والوجود الخارجي، هو اليقظة المستمرة في حياة الإنسان، هو عكس الغفلة.

في محاضرة له، يقول السيد محمد باقر الصدر "ومجرد اننا نحب الحسين ومجرد اننا نزور الإمام الحسين ومجرد اننا نبكي على الإمام الحسين مجرد اننا نمشي الى زيارة الامام الحسين كل هذا شيء عظيم شيء جيد ممتاز شيء راجح لكن هذا الشيء الراجح لا يكفي ضماناً ودليلاً لكي يثبت اننا لا نساهم في قتل الإمام الحسين، يجب ان نحاسب أنفسنا، يجب ان  نعيش موقفنا بدرجة اكبر من التدبر والعمق والاحاطة والانفتاح على كل المضاعفات والملابسات لكي نتأكد من اننا لا نمارس من قريب او بعيد بشكل مباشر او بشكل غير مباشر قتل الامام الحسين عليه الصلاة والسلام"

تلك هي أجواء صناعة الوعي التي تبدأ بمرحلة الإستفهامات: لماذا وكيف ومتى وأين وما السبب، ثم تليها مرحلة  البحث عن إجابات، وقد يقتصر بعضهم على إجابة معينة وهو بذلك لا يستمر في صناعة الوعي، المطلوب هو مواصلة طرح الإستفهامات والبحث عن أجوبة، من تنوع وكثرة الإجابات تأتي مرحلة الفرز والإختيار التي تبدأ عادة إنفعالية عاطفية عصبية وبعد فترة من المواصلة ينتقل الإنسان الى مرحلة التأمل والتفكير وهذه المرحلة تأخذه الى مزيد من الإطلاع والبحث والقراءة التي بمواصلتها تبدأ معالم صورة الجواب والسؤال تتضح اكثر، هكذا هي عملية صناعة الوعي التي أراها من أهم الصناعات التي علينا ان نشتغل عليها في هذه الفترة القلقة من عمر المجتمع الإنساني وهو يتعرض الى محاولات إدخاله في خطوط إنتاج مشاريع الإستثمار الإقتصادي الصناعي السياسي الثقافي وهي تسعى الى انتاج عالم من الأشياء والأرقام تحكمه لغة رقمية بتقنية عالية وسرعة فائقة ..

دور الحب في صناعة الوعي ..

الحب هو أول وأقوى مستلزمات نجاح صناعة الوعي، وهو موجود في قلوب مساحة كبيرة جداً من الناس حول العالم بحكم التكوين الفطري، وتحظى نهضة الحسين بنصيب وافر من نسبة هذا الحب وهذا واضح في مراسيم عاشوراء وأربعين الإمام الحسين عليه السلام  التي نرى فيها أناساً يكلفون أنفسهم فوق طاقتها أحياناً من أجل أن يعبّروا عن حبّهم للقضية الحسينية ومن أجل أن يشاركوا في إحياء هذه الذكرى الأليمة..

لكي لا يقتصر دورنا المعاصر في محرم على إثارة تلك المشاعر وإظهار درجة حبنا للقضية الحسينية، علينا أن ننّمي هذا الحب ونوظفه عبر صناعة الوعي ليتحول الى طاقة إيجابية كبيرة لا تنطفىء جذوتها بعد مرور وقت الذكرى، ولعلنا نلحظ كثيراً من الناس يشاركون في مواكب العزاء لكنهم لا يجدون في أنفسهم القدرة الكافية التي ينقلبون فيها على واقعهم فيغيرونه، أكثر الناس يتحركون في حياتهم تحت تأثير الظروف المحيطة بهم، هنا تأتي أهمية صناعة الوعي في مساعدة أولئك للإنتقال الى مرحلة أهم واكبر نحن بحاجة اليها اليوم لأن المفاهيم التي لا زلنا نتداولها منذ القدم وحتى اليوم بدأت تأخذ تعريفات جديدة قد لا تتوافق مع التعريفات التي عرفناها عنها، فالحب والعاطفة والعشق الحسيني يفهم اليوم على انه مشاعر تقررها منظومة الجسم البيولوجية والسيكولوجية ومن حق الإنسان إبداؤها وإظهارها وعلى الآخربن إحترامها ..

بدون الوعي يحتمل ان تتحول المقدسات الى أماكن تراثية تندرج ضمن السياحة الدينية التي توفر لزائريها جواً من راحة النفس وفرصة للإطلاع على الماضي، وللتبرك، والتقاط الصور للذكرى . ولأن الحسين  وسائر ائمة أهل بيت النبوة عليهم الصلاة والسلام قدموا من العطاء ما يجعلنا أمام مسؤولية ثقافية تحركنا لرفض النظر اليهم في حدود الزمان والمكان الذي بذلوا فيه ذلك العطاء ويدفعنا الى تفعيل ذلك العطاء وتلك التضحية في حياتنا اليوم وفي حياة كل جيل قادم ..

صناعة الوعي تقدم للإنسان توازنا في جوانب شخصيته العقلية والعاطفية والسلوكية والنفسية، بدون الوعي قد يقع الإنسان تحت تأثير قوة من القوى فينتج عنها موقفاً قد يبدو للبعض غريبا، ولعل هذا يتضح فيما قدمه بعض الباحثين في قراءاتهم للنهضة الحسينية  فالمستشرق الفرنسي سيدو رأى ان الحسين عليه السلام لم يكن شجاعاً كأبيه، ورأى ابن خلدون ان حركة الحسين تمت على ضوء ثنائية أهلية الحسين لمواجهة فسق يزيد وقدرته على تحقيق ذلك، فرأى ان الحسين عليه السلام اخطأ في تقدير الثانية لأن عصبية مضر كانت في قريش بينما عصبية عبد مناف كانت في بني أمية وهو ما يجعل رجاحة كفة بني امية واضحة لا تحتمل اي مجال لتغيير المعادلة على وفق الحساب المادي لمفهوم القوة ..

التقنية الرقمية بوصفها مصدراً للمعلومة ..

من دواعي الحاجة الى صناعة الوعي، دخول التقنية المتطورة على خط تزويد المستخدم بمصادر المعلومة والخبر، وهنا يواجه الإنسان حيرة في الإطمئنان الى المصادر، تقول الإحصاءات الحديثة ان الجيل الجديد بين 20 و30 عاماً يعتمدون اعتمادا كلياً على التقنية في الحصول على المعلومة واذا اخذنا بنظر الاعتبار ظهور تقنية التزييف العميق التي يخشى ان يسهم مستقبلها في تزييف التاريخ وتقديم حقائق مزيفة للأجيال القادمة التي ستظنها حقائق موثقة تناقلتها التقنية، كما حصل خلال فترة جائحة كورونا عندما روّجت بعض وسائل الإعلام ومواقع الإنترنت ان مصادر وكتب قديمة ذكرت مرور البشرية بالوباء وجاءت على ذكر اسماء لمصادر ولمؤلفين اتضح انها وهمية لا وجود لها، واذا اخذنا في نظر الإعتبار آراء خبراء ومختصين في التقنية الحديثة قولهم ان ما يخشى عليه في المستقبل انه لن يكون بوسع الشخص التمييز بين ما هو حقيقي وما هو وهمي مما تعرضه هذه التقنية، فقد تجد أجيال المستقبل في المصادر الالكترونية ما يقدم لهم معلومات مغلوطة عن واقع النهضة الحسينية  ..

الحسين عليه السلام بين الأمس واليوم ..

من الأمور المهمة التي ينبغي اخذها بعين الإعتبار هي ان الحسين عليه السلام اليوم اصبح انتصاراً لا يحتمل الهزيمة بعد ان كان بالأمس انتصاراً من الممكن إحتمال هزيمته وعلى ذلك عملت القوة في المعسكر المعادي بكل جهدها لمنع الوعي الذي أراده الحسين في نهضته من أن يصل الى الناس وينتشر بينهم ، لأنها كانت نهضة شاملة لتصحيح الأخطاء من ظلم السلطة ومن تشويه فكري ومن تحريف عقائدي ومن تلويث أخلاقي ويؤكد ذلك قوله عليه السلام ( انما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي) بعد أن تأكد للجميع فسق يزيد وذكر ذلك ابن خلدون في مقدمته، بهذا فإن مفهوم النهضة أشمل من مفهوم الثورة وإن كان بعضهم يستخدم إصطلاح الثورة عندما يتحدث عن حركة الحسين عليه السلام لكني أرى إن في إصطلاح النهضة مدى أوسع من الذي يحققه مفهوم الثورة، فقد يشتمل مفهوم الثورة على تغيير نظام حكم معين أو تغيير اسلوب معين أو تغيير سياسة معينة وفي فصول حياة مجتمعنا مشاهد كثيرة لثورات حصلت لكنها لم تصل الى ما وصلت اليه نهضة الحسين عليه السلام من نتائج، ولا اظنني ابتعد عن الصواب اذا قلت إن أغلب الثورات في العالم العربي والإسلامي قد فشلت أو انها حكمت على نفسها بالفشل بعد وصولها الى السلطة بسبب إعتماد القائمين عليها على طريقة التفكير القديمة التي ثاروا بها على السلطة، فكانت ثورتهم عبارة عن تغيير في الوجوه والمناصب لذا اعتقد ان صناعة الوعي ستتيح المجال لإعادة تفعيل البعد الثقافي كخطوة سابقة اساسية وكقاعدة تقوم عليها ثنائية التغيير في السياسة والاقتصاد لكي لا تضمن السلطة بقاءها على الرغم من وجود المعارضين والرافضين والساخطين .

الفهم المعاصر للسلطة ..

مفهوم السلطة اليوم لم يعد كما هو بالأمس فقد كان الحاكم والخليفة يمثل الدين والسياسة كونه خليفة الله في الارض   فكانت السلطة تمثل التفكير والتقرير وعندما صدر من حكومة يزيد ما يقبح وجه الدين والسياسة ويصادر كل فكرة خارج مصانعها اقتضت المرحلة مواجهتها منعا للتلوث والتشويش الذي يمكن أن يطال المجتمع بسبب ذلك الإنحراف خصوصا وان ذلك حصل بعد وقت قصير على وفاة نبي الأمة بحوالي خمسين سنة، اما  سلطة اليوم فلم تعد تمثل الدين وصارت تعنى بالسياسة والإدارة، فهي توفر الحماية لزائري الإمام الحسين وتحمي مواكب العزاء وتقيم مجلس عزاء يوم العاشر من محرم ومع ذلك لا يزال الناس يعيشون الظلم ويتطلعون الى نهضة حسينية معاصرة، وحول العالم صار بمقدور الشيعة ممارسة طقوسهم في العلن وبحماية السلطة فقد ظهرت مسيرات العزاء ومواكب الحزن في شوارع اوربا بحماية اجهزة أمن الدولة، مثلما يجري اليوم إهانة المقدسات بحماية أمن الدولة كما حصل في السويد مؤخراً حين أقدم أحدهم على حرق القران الكربم وبررت السلطات انه عمل يندرج ضمن حرية الرأي والتعبير التي يكفلها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 19 التي تعطي الإنسان حق الرأي وإبداء الرأي والتعبير والنشر والإعلام بكل الوسائل دون قيود، مثلما بررت سلطات الدانمارك والسلطات الفرنسية قبل سنين تلك الرسوم الكريكاتيرية المسيئة لشخص نبي الرحمة ..

لا اظنني ابتعد عن الصواب اذا قلت ان المراقب لمشهد الحياة في المجتمع العراقي خصوصا والعالمي اجمع طيلة اكثر من عقدين من الزمن منذ بداية القرن الحادي والعشرين سيلحظ ان هناك مشاريع تحول دون توفر شروط ثقافية ودينية وسياسية واقتصادية امنة، وهذا ما يحفز فينا المضي في مشروع صناعة الوعي في المجتمع لاعادة توفير هذه الشروط الامنة ..

 لقد تغيرت المعادلة ولم تعد "لا" التي اطلقها الحسين عليه السلام بوجه فسق يزيد تفهم بالطريقة ذاتها، فاليوم يكفل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حرية إبداء الرأي والمعتقد ونشر الأفكار وبالطريقة التي يراها دون قيود أو ضوابط، وما دام الوضع الإنساني عالميا لا يزال مصدر قلق فإن صناعة الوعي تكفل فهما جديدا لهذه المتغيرات بأن مشاريع جديدة يراد لها ان تمر على الناس دون ان تترك انطباعا سيئا فيهم يمكن ان يحفزهم لمواجهة الوضع القائم ..

 لقد صار من حق كل مواطن ان يقول " لا "  وان يمتنع عن التصويت في الإنتخابات لكن قد لا يعيق رفضه وصول الفاشلين الى السلطة .

الحاجة الى التجديد في الخطاب الديني ..

ادى المنبر الحسيني دورا بالغ الأهمية في فترة كان محضوراً فيها على الناس صناعة الوعي لذا اعتمد المنبر على المادة الاساسية لصناعة الوعي وهي الحب والعاطفة وعمل على تحديثها باستمرار لكي تكون جاهزة وقت الطلب لإنجاح مشروع صناعة الوعي لذلك ينبغي على المنبر ان لا يقف عند مرحلة النعي وعليه ان يتحرك بخطابه للوصول الى مرحلة الوعي ويتم ذلك عن طريق تدريب المتلقي على اثارة الإستفهامات ودعوته الى التفكير اكثر من مجرد عرض الاخبار والروايات لمجرد عرضها مع بعض الإنتقادات المتعلقة بالواقع والتي لا تتحرك بالمتلقي الى مستوى تفعيله للنقد الذاتي ومراجعة ومحاسبة النفس واعادة تأهيلها من جديد ..

بين المجلس الحسيني والمجلس الثقافي ..

 مشروع صناعة الوعي الذي ادعو اليه يحتاج الى قوتين عمليتين لهما حضورهما في الشارع، قوة المنبر وقوة المجلس الثقافي لاعادة تنظيم هيكلة البناء الاجتماعي ليكون ملائما لبيئة واعية واعدة تنهض بالواقع .

قوتان تقفان وراء حراك الحياة الاجتماعية، قوة الدين وقوة العلم فقد تبدو قوة العلم غالبة على قوة الدين في مساحة كبيرة من مساحات العالم ولأننا نعيش في قرية كونية فالتأثر بالمحيط العالمي امر وارد، لذا فإننا بصناعة الوعي نتمكن من إعادة تفعيل قول النبي الخاتم " اطلبوا العلم طلبا لا يضر بالعبادة واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بالعلم"

الثقافة والوعي ..

بدون الوعي تصبح الثقافة والتعلم نشاطاً شخصياً، واقعنا اليوم بحاجة الى الوعي الجمعي حاجة ملحة لأن واقع العالم العربي والاسلامي اليوم يتوافر على عدد كبير من العلماء والكتاب والمفكرين والفلاسفة ومع ذلك لا يشهد الواقع حالة من المعافاة لذا فان الوعي يسهم في التشجيع على اشاعة الهوية الجمعية وهذا هو شكل النهضة الحسينية المرتقبة .

يقول الفيلسوف الفرنسي فيليب فينيكس ( فلكي يكون الفرد انسانا يجب ان يكون ذا قدرة على توسيع ميدان ادراكه وراء كل الحدود المباشرة التي وضعها الزمان والمكان وذلك عن طريق الذكاء والخيال الخلاق فالرجل الحر الذي يتبع العقل ويسمو بذاته لا يرث فقط بيئة يتكيف معها ولكنه يتصور عالماً جديداً ويبدأ في خلقه ويستطيع ان يقوم بذلك في كل مظاهر النشاط الثقافي بما في ذلك مهنته).

رسالتنا الثقافية ..

رسالتنا الثقافية اليوم هدفها حماية البسطاء من الناس ممن اضطرتهم ظروف الواقع الحياتي الجديد الى استخدام التقنية المتطورة وهم يجهلون الأضرار التي يمكن ان تلحق بهم جرّاء حاجتهم الضرورية الى استخدامها، لذلك ياتي دور صناعة الوعي في حماية هؤلاء من ان يطالهم الابتزاز الالكتروني وغسيل الادمغة وتشويه الافكار واحتلال العقول، كما تهدف رسالتنا الثقافية الى توضيح صور المشاهد الحياتية لواقع الناس من اجل توعيتهم لمنعهم من الإنخراط اكثر في مزيد من المشاكل الإجتماعية والمشاكل الشخصية، ولنا في طف كربلاء دروس يليغة كفيلة اذا نجحنا في اعادة صياغتها بما يتوافق والمدارك اليوم ..

*** 

د. عدي عدنان البلداوي

ليس من الغريب القول انه في المجتمعات المتصدعة البنى والمتشظية الأنساق والمتذررة الجماعات – كما هو حال المجتمع العراقي – غالبا"ما يعاني الوعي الاجتماعي من ظاهرة (الانكفاء) في الوظيفة النقدية و(التراجع) في الأنشطة التنويرية، الأمر الذي يفسر لنا سبب تعطل السيرورات الاجتماعية وتخلخل الديناميات الحضارية على النحو الذي يفضي بالمجتمع المعني الى الدخول في دوامات من التأزم السياسي، والتفاقم الاقتصادي، والتصادم الثقافي . هذا دون أن يتمكن من الاهتداء الى سبل الخلاص من هذه الخوانق التاريخية أو النجاة من تبعاتها المدمرة لكيانه والفانية لحضارته والمهددة لمصيره، طالما ظل حبيس تلك الخوانق (يجتر) أمجاده الزائلة و(يغتر) بمواريثه الآفلة .

وإذا ما فتشنا عن الأسباب وتساءلنا عن الدوافع التي تسوق المجتمع قهريا"صوب هذا الاتجاه (العدمي) والنزوع (التدميري)، سنلاحظ ان هذا الأمر ما هو إلاّ حصيلة تضافر إشكاليتين متعاقبتين ومتزامنتين في نفس الآن، لم يتسنى للمجتمع المقصود ليس فقط الظفر بإمكانية (المعرفة) بوجودهما فاعلين في بنيته التحتية والفوقية على حدّ سواء فحسب، وإنما انعدام قدرته على فضّ التشابك البنيوي والترابط الوظيفي بينهما لجهة التأطير الذهني والتأثير النفسي، فضلا"عن غياب الوسائل والأساليب التي من شأنها منحه ما يحتاجه ل (تفكيك) الأساسات التي بنيت عليهما تلك الإشكاليتين بالصيغ السليمة والطرق الملائمة التي من شأنها التمهيد للمعالجات والاستشراف للحلول، دونما خسائر كبيرة أو أضرار خطيرة قد يتعرض لها الكيان الاجتماعي برمته جراء ذلك التفكيك البنيوي للأساسات والتحليل المنهجي للديناميات، ومن ثم إعادة البناء من جديد على أسس تاريخية مختلفة وسياقات حضارية مغايرة .

ومن هذا المنطلق نجد في إطار الإشكالية الأولى المتمثلة (باحتباس) الوعي الاجتماعي داخل شباك (النسقيّة الثقافية) المتسمة بالطابع التقليدي المتقادم تاريخيا"والمتوارث انثروبولوجيا"، والتي رغم كونها تتقاطع مع أواليات التغيّر وديناميات التطور التي شملت كل المجالات الاجتماعية والقطاعات الاقتصادية والمنظومات الرمزية، إلاّ أنها لا زالت تحكم قبضتها القوية وتفرض سطوتها الشاملة على مجمل المسارات الحضارية والتوجهات الثقافية والنشاطات الفكرية، التي تعد - في الوقت الحاضر - من أبرز المعطيات وأقوى المؤشرات التي تقيّم على أساسها مستويات تطور مجتمع ما في مضامير العلوم الاجتماعية والمعارف الإنسانية والانجازات الحضارية، ناهيك عن ميادين الصناعات الإنتاجية المتعددة والمبتكرات التكنولوجية المتنوعة . هذا في حين نلمس على صعيد الإشكالية الثانية استمرار (تخبط)  ذلك الوعي في أتون ظواهر (الأصنمة) للتصورات السياسية ذات التوجه الانفرادي، و(الأقنمة) للمعتقدات الدينية ذات المنزع التعصبي، عبر الانتماء للراديكاليات السياسية (اليمينية واليسارية)، والانخراط بالأصوليات الدينية (المذهبية والطائفية)، والارتباط بالتكوينات الانثروبولوجية (القبلية والعشائرية) .

وهكذا، فبالنسبة للإشكالية الأولى المتمثلة بخاصية (النسقيّة الثقافية) فان وظيفتها على صعيد (الوعي) الاجتماعي، تتركز في شدّها المتواصل للفاعل الاجتماعي صوب سرديات (الماضي) والاستغراق بمواريثه التاريخية الملتبسة، وما قد يعنيه ذلك من تحيين مستمر لأرشيف (الذاكرة التاريخية) للجماعات السوسيولوجية والمكونات الانثروبولوجية من جهة، وتفعيل متواصل لمخزون (تمثلاتها) الأسطورية والرمزية والثقافية من جهة أخرى . لاسيما وإنها تعيش في مجتمعات أصبحت هي والأزمات البنيوية بمثابة توأم سيامي يتعذر فصل أحداهما عن الآخر، بحيث ان بنية (وعيها الجماعاتي) تبقى حصينة أمام التغييرات الداخلية الطارئة وعصية على الاختراقات الخارجية المفاجئة، التي من الممكن – في حال رجحان كفتها – إحداث انزياحات كبيرة في الأدوار وتبدلات واسعة في الوظائف .

أما بالنسبة لخاصية الإشكالية الثانية المرتبطة بطبيعة (النسقيّة الإيديولوجية) فان دورها لا يقتصر فقط على (اختزال) ثراء جدليات الواقع الاجتماعي الحافل بالخلافات والاختلافات، كما لا يقف عند حدود (تنميط) وعي الجماعات والمكونات بما ينسجم وطروحات المعتقد المؤسسي الذي تبنى عليه الأفكار والتصورات والتمثلات فحسب، وإنما تسهم في (أمثلة) الخيارات والتطلعات وتفضي بها الى الانغماس بالتأملات المخيالية واليوتوبية، بدلا"من التماس النهج المفضي الى المسارات الواقعية والاتجاهات العقلانية . أي بمعنى ان إشكالية (النسقيّة الثقافية) تقود الى التمسك بمواريث (الماضي) والرهان على أرصدة قيمه وعاداته وتقاليده ورموزه، بصرف النظر عن مستوى قيمتها التربوية والأخلاقية والإنسانية . هذا في حين ترمي بنا إشكالية (النسقيّة الإيديولوجية) في أتون التمثلات المتنابذة والسرديات المتصارعة، على خلفية انخراط المتخاصمين والمتكارهين في مساعي الارتقاء ب(النحن) الى مصاف (القديسين) من جهة، والانكفاء ب(الهم) الى حضيض (الشياطين) من جهة أخرى .  

***

ثامر عباس

(كل الوسائل التي كانت ستجعل الإنسانية أخلاقية قد كانت حتى الآن لا أخلاقية للغاية).. نيتشه

(هناك فوضى بالخارج والفوضى تعني فرصة).. مارك أوستروفسكي

تثير إشكاليات معالجة التحول الرقمي في مجال العلاقات العامة، جملة من الأسئلة المتصلة أساسا بالآثار الإيجابية والسلبية للرقمنة على ممارسات هذه العلاقات، وكيفية ابتداع أساليب واعية بطفرات ورهانات الاتصال الرقمي الجديدة.

ويطرح مفهوم العلاقات العامة الرقمية، في المنطلق، جدلا عميقا في اتصاله بمجال تسويق الأفكار والمنتوج الاستهلاكي، على وجه التحديد.

بيد أن ارتباطه بمصطلح "التسويق العام"، هو الأكثر حضورا في النظام الاتصالي للمنظومة الرقمية  (Le système numérique)، من حيث كونها مجموعة من استراتيجيات التسويق الهادفة إلى زيادة الوعي بالعلامة المسوقة والتواجد عبر الإنترنت، حيث يكون من ضمن أهداف ذلك، مساعدة تلك العلامات على تعزيز هويتها وظهورها بشكل لائق وذكي، حيث تعد الإشارات الاجتماعية والارتباطات الخلفية لها وحركة مرور الإحالة من الأهداف الرئيسية للعلاقات العامة الرقمية المرتجاة.

ولهذا فإن العلاقات العامة الرقمية هي أكثر من كونها مرئية وموثوقة، بحكم اشتداد المنافسة في مدى إقناع المستعملين والمتابعين لجودة عناصر الفكرة والمنتوج، تحت تأثير وضعيات الإخراج وإبداع العرض وطريقة التسويق.

وهو ما يفرض حدودا معيارية دقيقة، تتداخل فيها ضوابط مراقبة الوسائط ومتابعتها وتوجيهها وتكريسها القيمي طيلة زمن الترويج .

لقد أضحت العلاقات العامة في المجال الرقمي، متشعبة ومترامية الأطراف، تستدرج ضمن سياقاتها المنظورة وغير المنظورة، مواضعات تأسيسية للثقافة الجديدة، وخلفياتها التقنية والاجتماعية والسياسية، ومدى الاستفادة من ممارسات العلاقات العامة التقليدية من المساحات والأدوات الرقمية ، أو بعبارة أدق التفاعل بين الكلاسيكي والحديث ، مع التركيز بالأساس على مستويات كيفية تحويل الرقمنة للجمهور المستهدف من ممارسات العلاقات العامة وممارسات الاتصال للجمهور المعني ، وكذا معالجة جميع جوانب المساحات والأدوات الرقمية وطرق العلاقات العامة الجديدة المناسبة للاحتياجات المتصلة بالجمهور المستهدف .

إنها تيمات غير مسبوقة في حقل سوسيولوجيا الإعلام الجديد ، أو ما يطلق عليه "علم اجتماع الاتصال والإعلام"، ويمكن التداول في بعض مطامحها، خصوصا فيما يتعلق بما اقترحه سابقا المفكر الفرنسي ايريك ماجريت في كتابه "علم اجتماع الاتصال والإعلام"*، بخصوص دراسة الظواهر المرتبطة بالإعلام، كوجود خطابات أيديولوجية أو نفسية ، والاستخدامات النفسية والثقافية لما يسميه ب "الذعر الأخلاقي" المرتبط بظهور وسائل الإعلام "الجديدة"، وارتباطاتها بالأعمال "التأسيسية" للمجال (مدرسة فرانكفورت ، وأنثروبولوجيا الاتصال في أعمال مكلوهان) ، مع استحضار مشاكل المنهج" لمنظري مدرسة فرانكفورت وتلامذتها على وجه الخصوص، والتي تذهب إلى أن "تنظيم وعقلنة الإدانة الغريزية، تصب في نبوءة اجتماعية غالبًا ما تحتكر النقاشات العامة حول وسائل الإعلام" .

ويأتي سؤال "المنطق الاجتماعي الجديد لوسائل الإعلام" الذي يخضع منهجيا ومفاهيميا لنقد تجاوز التحليل المعياري للآثار الضارة للوسط الاجتماعي ، ليكرس مشكلات التفاعل مع بنية القيم حيث تتفكك الهويات وتفصل ويعاد تكوينها وتشكلها، وهي النقطة التي تتداخل فيها التقائية عالم الإنترنت وتقنياته الجديدة، مع الاعتبارات الثاوية لنسق الخطابات والممارسات المرتبطة بالوسائط إياها، وهو ما يحدد أيضا بعض مظاهر "الأيديولوجية الساذجة" كما يطلق عليها ...

نستحضر هنا الحافز التأويلي في الجانب الأخلاقي للتحول الرقمي في العلاقات العامة، وما يؤطره في الجانب الإعلامي على مستوى "الجمهور المستهدف"، وما تطرحه كذلك، الصناعة الثقافية للفضاءات المرصودة، واستخدامات ذلك كله في أحواز النقاشات ومضامينها النقدية السطحية، وما يتولد عنها من شروخات سلوكية وتفاهات أخلاقية.

إن ما يكرسه علم الاجتماع الإعلامي هنا، من أجل دراسة وسائل الإعلام ومدى تأثيرها في المجتمع السياسي والاقتصادي والثقافي ، سواء من خلال ما تنقله على مستوى المحتوى، أو عبر الوسائل المستخدمة، مع ما يرافق ذلك من طريقة استيعابية لرؤية العالم ناتجًا عن ما يمكن تضمينه كفلسفة لتحديد مهمة تحليل العلاقات المتبادلة بين الأفراد والجماعات، سيعيد من جديد تتوير المفاهيم وإعادة تشكيلها، وظيفيا ومنهجيا، بما يتناسب والثقافات السيبرانية المهيمنة، والتي تعمل على فرض آرائها بشكل احتيالي واستباقي، يتناسب والوضعية السائدة الآن، القائمة أساسا على حقيقة أن الحدود بين مرسلي ومستقبلات الوسائط الأكثر قابلية للاختراق، وهو ما يستدعي إعادة التفكير في دراسة وتنظيم مجالات أكثر تدافعا وأقوى نفوذا في متتاليات الدعاية / المهيمنة، والإنتاج الثقافي/ المهيمن عليه هو الآخر؟.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

......................

* Sociologie de la communication et des médias

de Eric Maigret, 2003, Paris, Armand Colin

السطور التالية جواب عن سؤال وُجّه لي تكراراً، وفي صيغ مختلفة، محورها جميعاً هو المسافة بين الثقافة والوعي، على مستوى المجتمع أو البلد بأكمله. ويظهر لي أن هذا من نوع الأسئلة التي لا يمكن الجواب عنها بنحو قطعي.

بيان ذلك، أن الذين يطرحون السؤال، ليسوا متفقين على الإطار الموضوعي الذي يدور فيه نقاشهم. فهل يقصدون الوعي والثقافة بالمعنى العام الذي يملكه غالبية الناس؟. أم يا تُرى يعنون صنفاً خاصاً من الثقافة والوعي؟.

وقرأت قبل أيام مقالة تعيب على بعض كبار المثقفين العرب تقبلهم فكرة التطبيع مع إسرائيل، ويقول الكاتب إن أولئك المثقفين ينقصهم الوعي بحقيقة الصراع وأبعاده، وموقع التطبيع من هذا الصراع التاريخي. فالواضح أن الوعي واللاوعي يعادل - عند هذا الكاتب - تبني موقف محدد من الصراع مع إسرائيل، وليس الوعي في معناه العام.

وفي وقت مقارب ذكر كاتب آخر أن الشعب الأميركي مغيّب وغير واعٍ بما تدبره النخبة اليسارية من مؤامرات كبرى للسيطرة على مقدرات البلاد. وأظنه قد أشار إلى أن النخبة اليسارية التي يعنيها، تتألف من الأميركيين الأفارقة ورجال الأعمال الذين يديرون شركات التقنية الكبرى. ومعظم هؤلاء من المهاجرين الجدد. أما زعيم هذه النخبة فهو الرئيس الأسبق باراك أوباما، كما يظهر من سياق الكلام.

كما قرأت قبل سنوات مقالاً لكاتب أميركي يقسِم بالإيمان المغلظة، أن كل ما يجري في الولايات المتحدة من انتخابات ومؤسسات، ليس سوى مسرحية محبوكة جيداً، وأن الحكومة الحقيقية التي تدير هذه البلاد هي منظمة الأمم المتحدة، وهي التي تعيّن الرؤساء وقادة الجيش، وتسخّر الإعلام والفن لإبقاء الشعب مغيباً وغير واعٍ بما يجري من حوله.

وأعلم أن بعض القراء الأعزاء سيضحك في سره من هذه التقديرات المنحازة. لكنها أمثلة حية على أن الوعي المقصود في بعض الكتابات، هو تبني الموقف الخاص بالكاتب أو المتحدث: مَن قَبِله فهو واعٍ، ومَن أنكره أو تبنى غيره فهو مغيّب أو غافل.

ويغلب على ظني أن لا فائدة ترتجى من الأسئلة العامة التي لا تدري في أي عالم تدور. ولهذا؛ فقد يكون الأَولى أن «نفترض» مقصداً للسائل، فنحيل السؤال إليه، ونجيب عنه بما يقتضيه هذا المقصد. والغرض من هذا التحوير هو تلافي تضييع الفائدة المرجوة من النقاش. وقد رأيت عدداً من كبار الأساتذة يفعله صراحة، فيقول مثلاً: إنني لا أعلم المقصود بهذا السؤال، لكن سأفترض أنه كذا وكذا...

وعلى هذا المنوال، فسوف أفترض أن غرض السؤال الذي بدأنا به، هو المسافة بين الثقافة في معناها العام، وبين الوعي المؤدي لفهم الواقع والسعي لتغييره؛ فالوعي هنا يقابل القدرة على نقد الواقع، واكتشاف الفارق بينه وبين الوضع الأمثل، أي بين الحاضر والمستقبل، والدعوة إلى سلوك طريق التغيير.

الثقافة هنا تمهد للوعي وتوفر المادة اللازمة لاكتماله، فهي تحرك حاملها كي يلعب الدور التاريخي المطلوب من أهل العلم. وما دمت قد بلغت هذه النقطة، فلا بأس بالإشارة إلى أنني لا أرى المثقف مسؤولاً عن أي شيء، سوى أن ينتج شيئاً يليق بما يحمله من معرفة، تماماً مثل الطبيب والمهندس والفلاح الذين نطالبهم بأن يتقنوا مِهنهم، كي يسهموا في عمران الكوكب.

زبدة القول إذن، أن الوعي يساوي القدرة على نقد الواقع، أي فهم وتفكيك الثقافة التي تبرره، وكمال الوعي يكمن في تشخيص المسافة التي تفصل بين النقطة التي نقف عندها، والنقطة التي نريد الوصول إليها.

***

صادق السامرائي

لم يكن حرق الكتب، المقدسة منها بعيون معتنقيها كالمصاحف، او غير المقدسة فأنها تتمتع بمكانة خاصة لدى معتنقي محتوياتها الفكرية وأحيانا تتمتع الأخيرة بنفس قدسية ما تتمتع به الكتب المقدسة بأختلاف مصادر تلك الكتب، وأن الأمر يرتبط بتأثير الكتب بالعقائد الأيمانية لدى المعتنقين أو المؤمنين بجوهر المحتوى الذي أتت به وتأثيرها على الحياة الروحية والنفسية والسلوكية لمن تنسجم ممارساتهم مع ما أتت به بطون تلك الكتب والتي يفترض ان تشكل مع الزمن الطقسي والسلوكي مرجعية لا يمكن الأستغناء عنها بسهولة في حل مشاكل الوجود اليومي وتفسير مختلف الظواهر الطبيعية منها والأجتماعية.

وبالتالي وأنطلاقا من تلك الأهمية فأن الأقدام على حرقها تعسفيا من قبل الطرف الآخر الذي لا تعني له تلك القدسية او المكانة كما تعني لمعتنقيها يعبر بأي شكل من الأشكال عن تشوهات سلوكية وعقلية الى جانب أزمة فرديةـاخلاقية تعكس ابعادها في التعدي على حرية الآخرين ورموزهم المكتوبة لأثارة استجابة انفعالية مؤلمة وحادة لدى الطرف الآخر الذي يؤمن بها، والغرض من الحرق او السحق او الأتلاف هو محاولة مقصودة لزرع الألم لدى الطرف الآخر الذي وقع عليه فعل الحرق، ومن هنا تأتي استجابة الطرف المتضرر بأشكال سلوكية متنوعة تستند الى ثقافة المؤمن بها وفهمه لدوافع الحرق بعيدا عن قدسية المحروق، اي بمعنى سايكولوجي هناك "مثير" وهو الحرق وهناك "استجابة" ما للأفراد المستهدفة بفعل الحرق، وقد تتحول الأستجابة ذاتها الى مثير جديد لخلق استجابة ثانية وثالثة وكذلك المثير قد يتكرر، وبالتالي يقع طرفي الفعل في دائرة مغلقة من الأفعال وردودها والأخطر منها ذو النزعة الأنفعالية المدمرة.

وسلوك الحرق أو الأتلاف وغيره من أساليب التجاوز لا تمت بصلة لحرية التعبير، لأن حرية التعبير تكون مكفولة عند حدود عدم التجاوز على حرية الآخرين ومعتقداتهم، وبأمكان الفرد ان يمارس حرية النقد لفكر الآخر ومعتقداته من خلال الكتابة والتحدث وعقد مختلف الأنشطة الفكرية والثقافية من تأليف ونشر وندوات ومجالس ثقافية وغيرها، لأن الحياة بدون ممارسة للنقد البناء هو اقصاء للحياة ذاتها بما فيها من تنوع واختلاف في الثقافات والأفكار، وتلك مهمة التطرف الفكري والسلوكي والتي تصل الى حد تصفية الأفراد والجماعات ومعتقداتهم، وداعش وغيرها هي نماذج حاضرة بكل حمولتها الشرسة في الأقصاء.

وكل اشكال حرية التعبير تبقى مشروعة ومكفولة عندما لا تفضي الى اثارة النعرات الدينية والمذهبية وتهدد السلم المجتمعي وكذلك الى تهديد أمن المجتمعات المحلية والعالمية وتضعف النسيج الأجتماعي وتشرذمه. ووفقا للمواثيق الأممية فأن حرية التعبير هي إحدى حريات الإنسان الأساسية في الحياة، وقد أكدتها جميع الاتفاقيات الدولية والإقليمية حول العالم، على الرغم من ذلك لا تعتبر حرية التعبير من الحريّات المطلقة، وإنما تحددها مجموعة من القيود والمحددات. ويمكن تعريف حرية التعبير على أنها منح الإنسان الحرية في التعبير عن وجهة نظره، وإطلاق كل ما يجول في خاطره من أفكار بمختلف الوسائل الشفهية أو الكتابية، حيث إن بإمكانه الإفصاح عن أفكاره في قضية معينة سواءً كانت خاصة أو عامة بهدف تحقيق كل ما فيه خير لمصلحة الأفراد والجماعات.

وبشكل عام يمكن القول إن حرية التعبير هي قدرة الإنسان على أن يعلن عن الأفكار التي تجول في خاطره، وعن قناعاته المختلفة التي يعتقد أن فيها مصلحته ومصلحة غيره من الأفراد إزاء أمر معين. وتعتبر حرية التعبير حقاً من الحقوق الأساسية للإنسان، وذلك باعتباره جزءاً أساسياً من المجتمع ومكلفاً ومسؤولاً فيه. ومن المواد التي تنص على حق الإنسان في التعبير المادة رقم 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي تنص "على أن لكل فرد الحق في حرية الرأي والتعبير، والذي يتمثل في تلقي الأفكار والآراء واستقصائها وإذاعتها دون أدنى تدخل أو تقيد بالحدود الجغرافية ". وبالتالي نفهم من ذلك أن لا حرية للتعبير في التهكم والتهجم على الآخر المغاير لك في المعتقد او الرأي او الفكر، كما أنه لايجوز استخدام حرية التعبير في التنكيل والتشويه الشخصي أو الأفتراء والكذب على الآخر او التحايل عليه وتشويه سمعته الشخصية او الفكرية والأيمانية، فأن حرية الأفراد والجماعات وأمنها وتماسكها يجب ان يكون حاضرا في سياقات حرية التعبير ولا يمكن التأليب والتحريض على ما يحرض المجموعات الدينية والعقائدية الفكرية المختلفة الى الأزدراء والأهانات والفناء، كما ان حرية التعبير لا علاقة لها بتشويه السمعة الفردية والجمعية عبر وسائل التنكيل والأهانة وتزوير الحقائق والكذب ومصادرة حرية الآخرين بواجهات مختلفة وذرائع كاذبة.

لقد عملت الكثير من الأنظمة الدكتاتورية في العالم ومنها في العالم العربي والأسلامي على قمع حرية التعبير بأشكال مختلفة وبما يخالف المواثيق الأممية، كالأعتقال والتصفيات الجسدية وتجفيف الروافد الفكرية والسياسية لمعارضيها عبر اللجوء الى حرق وتمزيق ومصادرة واتلاف الكتب التي تجسد الرؤى الفكرية والفلسفية والسياسية للمعارضة ومنع تداولها وبيعها في المكتبات وتجريم حيازتها في المكتبات الخاصة للأفراد، ونرى الكثير من الأنظمة والحكومات والتي احتجت على حرق المصحف او تمزيقه تمارس شتى صنوف حرق ومصادرة المعارف الفكرية والفلسفية الأخرى بواجهات مختلفة غرضها البقاء على الأوضاع السائدة كما هي وبقاء الأنظمة القمعية المعادية لحرية التعبير، وطبعا مع الأختلافات النوعية بين حرق المقدس في اذهان مقتنعيه وحرق الوضعي، إلا ان الموقف من حرية التعبير واحد لا يتجزأ.

ورغم ان حرق المقدس وبما يمتلكه من اسباب نزول لمعتننقيه هو أخطر لما يمتلكه المقدس من كتلة بشرية ايمانية ذات طابع حشدي  يتجاوز الجغرافيا اشد خطورة من معتنقي الأفكار الوضعية والتي تكون في اغلب الأحيان منظمة ومنضبطة، إلا ان تجاوزات الأنطمة الدكتاتورية والقمعية لديها سجل حافل بالمظالم في التعدي على حقوق الأنسان وحرية التعبير. والكثير من الحكومات القمعية والبوليسية وجدت ضالتها في حرق المصحف في تعبئة الرأي العام وتحشيد الجماهير في محاولة للتخفيف عن مظالمها وسلوكها القمعي والبحث عن انجازات مؤقتىة لتصريف ازمتها المستعصية والتضليل على فسادها المالي والاداري والأجتماعي.. ومن السهل لنظام سياسي منافق او حركة ارهابية كداعش ان يضطهدوا معارضيهم ويقتلوا ابناء جلدتهم من المسلمين وغيرهم ويفصلوا الرأس عن الجسد لآلاف من الأبرياء ويحتجون على حرق المصحف دون اي اكتراث لبعض من نصوصه في قدسية الحياة وحرمتها، وهكذا تختلط الأوراق والمشاعر والنوايا بين مؤمن صادق مدافع عن دينه ومصحفه وبين فاسد سارق للمال العام ومجرم قاتل.

حرق المصحف لأكثر من مرة في السويد في دولة تتمتع بمدى واسع من حرية التعبير في اطار ديمقراطية عريقة وفي مجتمع مشهود له في الأمن والأمان والهدوء كان بمثابة قنبلة موقوته اختلط فيها ما هو قضائي ودستوري وقانوني، السويد من اكثر البلدان تسامحا وانسجاما مع الجاليات والثقافات المختلفة فيه، وخاصة الجالية الأسلامية التي يتجاوز عددها اكثر من 875 ألف مسلم، أي بحدود 8.5% من مجموع سكان البلد البالغ 10 ملايين للعام 2023 " حسب الأحصائيات الواردة من موقع المركز السويدي للمعلومات.كوم، وتقوم السويد وعلى مدى عقود بدعم الثقافة والجالية الأسلامية بكل مستلزمات الحفاظ على رموزها من مؤسسات مختلفة، جوامع ومساجد ومجالس عليا وهيئات تنسيقة واندية ثقافية، وتتلقى الجالية الكثير من الدعم المالي من قروض واعانات بما يدعم ثقافة الأندماج والعيش المشترك.والتسامج الديني، وعلى سبيل المثال فهناك " الرابطة الأسلامية "و " المجلس الأسلامي السويدي " و " ورابطة الجمعيات الأسلامية " و " اتحاد الشباب المسلم السويدي " والكثير من المؤسسات الأخرى المتشابهة، الى جانب انشاء مؤسسات تعليمية خاصة.

ومن الصعب هنا التحدث عن كتلة متحانسة من المسلمين في السويد، بل هناك تنوع داخلي كبير فكريا وسياسيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، وقد يلتقون عند مشترك واحد هو هجر بلدانهم الأم لأسباب من انعدام حرية التعبير بمعناها الواسع " السياسي والثقافي والأجتماعي والأقتصادي " والبحث عنها في بلدان المهجر كالسويد، وهم قد يشتركون في ذلك الموروث الديني المتداول في العقل الجمعي القادم من البيئة الأجتماعية والثقافية للعالم الأسلامي عموما، وكذلك يختلفون بطبيعة استجابتهم لمختلف الظواهر والأحداث في محيطهم القريب والبعيد بما فيه عملية حرق المصحف.

ان ما جرى في السويد من حرق للمصحف هو الأستغلال الوقح والنشاز لحرية التعبير الواسعة، وقد ادانت الحكومة السويدية تلك الواقعة واعتبرتها اضرار وتعسفا وتهديدا للأستقرار والأمن المجتمعي، كما ادانها الرأي العام السويدي واعتبره خروجا ومخالفا لحرية التعبير إلا ان المشكلة ذات ابعاد قانونونية ودستورية وتستحق المعالجة في المستقبل، طبعا كما ادانت المنظمات العالمية كافة من امم متحدة واتحاد اوربي الى جانب امريكا وبريطانيا والمنظمات العربية والأسلامية.واصدار قرارات اممية تمنع التجاوز على الكتب المقدسة.

نعتقد ان ما قام به كلا الشخصين وهم. سلوان موميكا من العراق، والدنماركي السويدي المتشدد اليميني راسموس بالودان في ظروف   اشتداد المد اليمني في اوربا عموما وفي السويد ايضا، فأذا كانت اجندة راسموس هي من ضمن امور كثيرة كالأحتجاج على الأشتراطات التركية لأنظمام السويد الى الناتو والطلب من تركيا ذلك، إلا ان اجندة اليمين تتجاوز تلك الجزئية الى ابعد من ذلك هو استهداف التنوع المجتمعي للسويد والتضييق على الهجرة واعادة النظر بكثير من القوانين التي تستهدف الانجازات السويدية في مجال الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والتعددية الفكرية والثقافية والدينية للسويد، اما اجندة سلوان موميكا سليل المليشيات المسلحة العراقية وينتمي تارة الى المسيحية وتارة الى غيرها فهل كان يستهدف ايضا كصاحبه راسموس الأحتجاج على الأشتراطات التركية لدخول السويد الى الناتو عبر اثارة المشاعر الدينية لأوردغان أم يستهدف اثارة مزيدا من الكراهية الدينية والطائفية في العراق " وخاصة انه تجاوز على القرآن ثانية قرب السفارة العراقية" وخاصة بين المكونيين الاسلامي والمسيحي، ام انه يريد الحصول على الجنسية السويدية بأسرع الطرق عبر ادعائه انه مهدد بالقتل بعد واقعة حرق المصحف، او يستهدف اثارة الأسلاموفوبيا في السويد وفي مجتمع تتضائل فيه تلك الفوبيا الى ادنى مستوياتها وفي مجتمع عرف بتسامحه الديني والعرقي والثقافي، وبالتأكيد فأن كل من راسموس وموميكا ينتميان الى ذات الأعاقة الفكرية ـ المعرفية والسلوكية.

بالتأكيد ان حرق المصحف والكتب المقدسة الأخرى لا يقع في اطار حرية التعبير لأنه يشجع على الكراهية الدينية والثقافية ويهدد السلم المجنمعي في السويد وخارجه ويسيء الى علاقة السويد مع العالم الاسلامي وغيره. ان اللجوء الى الأساليب العنفية من قبل بعض الدول كالعراق وغيره في غلق السفارة السويدية وحرقها او اللجوء الى المقاطعات الأقتصادية ومختلف الوسائل الأخرى التي تدهور علاقة السويد بالعالم العربي والاسلامي فأنه لا يجدي نفعا إلا بالارضاء المؤقت لحالات الانفعال الشديد، ونعتقد ان اللجوء الى المحافل الدولية والمنظمات العالمية للحد من اثار التصعيد واعادة بناء جسور الثقة بين السويد والعالم العربي والاسلامي هو افضل السبل واكثرها في الحد من ظاهرة الأسلاموفوبيا المنتشرة في بعض البلدان الاوربية والتي لم تجد طريقها بذات الحدة في السويد الى الآن وتفويت الفرصة على قوى اليمين احزابا وافراد لأستثمار الأحتقان لأهداف غير انسانية.

ويعتمد الكثير على عقلانية الأستجابة الرسمية والشعبية في العالم العربي والأسلامي لرأب الصدع الذي حصل بينهما وبين السويد، كما ان السويد مطالبة بأتخاذ الخطوات الرادعة الفورية في عدم السماح بحرق المصحف او اي كتاب مقدس له دلالته في نفوس اتباعه، واعتقد ان السويد كرأي حكومي وشعبي ادركت الآن مخاطر ذلك على الأمن والسلم المجتمعي، الى جانب احساس صحافتها المتزايد ان تلك الأفعال لا علاقة لها بحرية التعبير، وبالتالي على السويد ان تتجنب تلك السمعة التي بدأ الأعلام الآخر يروج لها بأنها دولة معادية للأسلام وهي خلاف ذلك لعقود عديدة خلت.

***

د. عامر صالح

إنّ الفكر الغربي بمرجعيتيه الدينية والفلسفية أسهم في تشكيل صور الاساءة والتشويه لشخصية الرسول الكريم محمد(ص) والقرآن الكريم، وتأتي هذه القصدية من رغبة في تشكيل الصور في الذهنية الغربية. قامتا هاتان القصديتان (الدينية والفلسفية) لغاية معينة، هي من أجل أنّ تكون هذه الصور غير قابلة للتكذيب في المجتمعات الغربية، لاسيما بعد دعمها بحجج قائمة على نظام متعالي يجعل من الشعوب الأخرى مخالفة وعدوة لها في أشياء كثيرة منها :(العقلية الفلسفية) و(أفضلية الديانة الغربية) على سائر ديانات العالم سواء أكانت منها الوضعية، أو السماوية، ومن ثم فإن رسم هذه الظاهرة التشويهية رافقتها ظاهرة تخويفية من الآخر، وخصوصاً المسلم، إذ جعلت من هاتين القصديتين ركيزتين في الوعي الغربي السلطوي الذي تأزر مع كل من الدين والفكر الفلسفي في جوانب مهمة في محاربة الأخر ثقافياً، لذا نرى أنّ ظاهرة الثنائيات التي كانت في البدء (متحضر وهمجي) هي نظرة أتت من الفكر اليوناني لتتحول الى ظاهرة (المؤمن والكافر)، التي أتت من الفكر الديني في القرون الوسطى والحروب الصليبية، وبعد ذلك تتحول الى ظاهرة (المتحضر والمتخلف) في الفكر التنوير، نلاحظ أنّ هذه الثنائيات شكلت حلقات وصل مهمة في بناء ظاهرة التشويه والقصدية في داخل البناء الفكري والديني الغربي.

إنَّ الرغبة في تشكيل الصور المتقصدة هي كانت مبنية على أساس الرغبة في تشكيل وعي جمعي غربي يحكمه الخوف من الآخر المسلم وخصوصاً الصفات التي حاول البعض لصقها بالرسول الكريم (ص)، على أعتبار هو من أوجد الإسلام ودولته، وهو من يتحمل مسؤولية هذه الدولة، التي أخذت من صفاته الكثير، وهذه الصفات التي ساقها الفكر والدين في الغرب ماهي إلا صفات الغرض منها صناعة شكل المسلم في العقلية الغربية.

ربما سائل يسأل ويقول ؛ أنّ الفكر الديني المسيحي المؤدلج في الغرب ضد الإسلام هو من تقع عليه المسؤولية، أو على بعض من رجالاته مسؤولية التشويه فما دخل الفلسفة اليونانية وغيرها في هذه المشكلة بين الديانتين ؟، وهنا نود أنّ نؤكد أنّ الصراع بين الشرق والغرب وتشكيل صورة الأخر في الذهنية الغربية هي لم تأتي فقط من فترة القرون الوسطى، وما بعدها من الحروب الصليبية وغيرها، بل أنّ تشكيل صورة الآخر ووصفه بأوصاف دونية استندت عليها فيما بعد العقلية الدينية الغربية في أكمال الثنائيات في داخل المنظومة العقلية الغربية السلطوية على مستوى الخاص، والمنظومة العقلية لدى الجمهور الغربي على المستوى العام.

أما الغاية الأخرى المهمة أيضاً، هي تدمير الذات الشرقية المسلمة من خلال تشوية وتدمير الشخصية الشرقية المتمثلة بشخصية الرسول(ص)، بمعنى أنّ الأوصاف التي أنتجها الفكر الغربي - وخصوصاً كما ذكرنا في بداية هذا الفصل- أصبحت قاعدة لدى البعض ممن تأثروا بهذه الأوصاف فيما بعد في إكمال هذه الصور المشوهة، ضد شخصية الرسول (ص)، وإنَّ عملية التوصيف هي امتداد طبيعي لأوصاف الشرقي ما قبل الإسلام، فهذه الشخصية الشرقية المستبدة الغارقة في الشهوانية والمغيبة للعقل في فترة ما قبل الإسلام، هي من إبداع الفكر اليوناني وما بعده، انسحبت على شخصية الرسول (ص) كجزء من ظاهرة التدمير للذات الثقافية الشرقية، فعند استهدافها سوف تنعكس سلباً على البناء السلوكي لدى أبناء الديانة الإسلامية التي تغطي معظم مناطق الشرق الاوسط والادنى.

لقد عمل تشكيل الانحراف والتشوية للصورة المحمدية أنطلاقاً من هذه الظاهرة التشويهية في داخل العقلية السلطوية الغربية ضد الآخر، التي كانت جزء منها العقلية الدينية الغربية، كان هدفها الهيمنة الثقافية، ودعم ما يمكن أنّ يقدم للثقافة الأخرى الأكثر تقدماً ووعياً من الثقافات المحلية التي تحكمها العقليات الهمجية، والشهوانية التي لا تراعي حقوق الإنسان والأقليات وغيرها في الشرق، ومن ثم عملت هذه الثقافة المتعالية على أنتاج بديل للحقيقة المحمدية وهي صور مشوهه قابلة للتطبيق، وما (داعش) ومثيلاتها إلا صناعة لهذه العقلية الغربية وصورة مهمة للتصوير المحرف والمشوه لشخصية الرسول الكريم محمد (ص) الذي حاول العقل الغربي تسويقها داخلياً كما قلنا لأجل التخويف الداخلي للشعوب الغربية، وكذلك لأجل تثبيت هذه الصفات في الذهنية الغربية من جهة، ولأجل التسويق الخارجي وفصل الشخصية الشرقية المسلمة في الوقت الحاضر عن ثقافتها الاصلية، التي عمل الغرب على تشويهها بكل جهد و اصرار وتقصد في هذا الاتجاه.

إنَّ الخطاب الثقافي الغربي الموجه الى الداخل و الخارج في رسم صورة الرسول محمد(ص) بهذه الطريقة هي تأتي من أجل بناء مركزية حتى تصبح جزء من ميتافيزيقية البناء العقلي الغربي الجمعي وجزء من ذاكرة تُحفز متى يشاء من يقوم على تحفيز هذه الصورة، لذا فإن حضورية تشوية الصور الذهنية في العقل الغربي في الوقت الحالي هي امتداد طبيعي لآفاق التشوية السابقة، وكأنها كونت قوالب جاهزة في وصف الآخر، وحتى البعض من أبناء الشرق المسلم أخذ يصدّق بهذه الصور، وخصوصاً ممن يرى بالثقافة والحضارة الغربيتين قاعدتين مهمتين في بناء الفرد، دون أنّ يدقق بمدى مصداقية هذه الصور، في تقيم موضوعي يفصل بين الحضارة الغربية، ومنجزاتها المادية، وبين النوايا التي تحاول أنّ توظفها في تشكيل ثقافة الآخر وبناء صورته كون كل من الحالتين منفصلتين، ولابد من الفرد في الشرق أن لا يتأثر بالحضارة الغربية فكرياً كونها متقدمة ماديأً من دون أنّ يكون لي خصوصية ثقافية أتعامل بها مع هذه الحضارة، حتى لا الغي هويتي الخاصة، ومن ثم الغي ثقافتي وأهم الشخصيات التي شكلت واقعي، ومن أهمها هي شخصية الرسول الكريم محمد (ص)، حتى لا أقع في التناقض، فالحضارة الغربية بمنجزاتها المادية نستطيع أن نتواصل معها كون أغلب المنجزات تخدم الإنسانية ككل، لكن تبقى عملية التغيير الثقافي قابلة للنقاش، والتساؤل حول أهم المقاصد التي يريدها العقل الغربي وهيمنته الثقافية من الآخر المختلف ثقافياُ، فتصوير أهم الرموز بصور مشوهه هو مخالفة فاضحة وأشاره دالة على سلوك الهيمنة الثقافية وتشويه ما في كتابه المقدس أيضاً مخالفة فاضحة، فلا بد أن يستوعب المندمج مع الحضارة الغربية هذا الفرق بين المنطلقين، حتى لا تصبح ذاكرتنا الجمعية مساهمة بظاهرة التشويه لشخصية الرسول (ص)، وحتى لا نصبح مدانين من قبل رسولنا الكريم بجزء من أذيته، كما قال في الاشارة الى الأذية التي تعرض لها ومازال يتعرض لها، وهي اكبر عملية تشويه يتعرض لها على مر التاريخ.

إنّ هاتين الركيزتين (الفلسفة والدين) ساهمتا بشكل مؤثر في تثبيت الأوصاف، حتى أصبحت هذه الأوصاف من المرجعيات التي يرجع اليها من يريد تأكيد هذه الصور، وأثارتها في أي وقت ضد الآخر المسلم. يساعدهم في ذلك ما يوفره الآخر من تطبيقات لهذه الصور المشوهة في أزمان مختلفة من الصراع بين الحضارتين الغربية والشرقية، والشواهد كثيرة ومنها ما وصلت إليه في الوقت الحاضر حركات التطرف الاسلامي التي أصبحت مساعدة للنوايا الغربية في تثبيت هذه الصور المختلقة عن الرسول (ص)، لذا يجب أن يصبح فضح وفصل هذه التطبيقات عن هذه الشخصية العظيمة من خلال العودة الى الصورة الحقيقية التي حفظها لنا بعض الثقاة ممن كتب التاريخ بصورة صحيحة.

***

الاستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

في المثقف اليوم