قضايا

تتمدد مدينة بريستول حول شبكة من الانهار الصغيرة، تتصل في نهايتها بخليج يعرف أيضا بقناة بريستول، جنوب غرب انجلترا. وخلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر، عرفت المدينة كأبرز مركز لصناعة السفن في غرب اوروبا.

كنت متشوقا لرؤية المتحف البحري للمدينة، ولا سيما السفينة "بريطانيا العظمى" التي كانت اعجوبة تكنولوجية، من حيث الحجم والحلول الهندسية المبتكرة يوم صنعت في 1845، وساهمت في اشهار مصممها ايسامبارد برونيل كأعظم مهندس بريطاني في تلك الايام.

قبل صناعة السفن، اشتهرت بريستول كمركز لتجارة الرقيق. ولو قدر لك ان تقرأ عن تاريخ تلك الحقبة، ثم تمشيت بين حاراتها ومبانيها القديمة، فلعلك تشعر ان هذه المباني التي تشع بالجمال والمهابة، توحي بنفس القدر، وربما اكثر، بالكآبة والألم. فكأنما هي مسكونة بأرواح الآلاف من العبيد التي فاضت بعدما حطوا فيها ثم نقلوا الى موانيء الشرق الامريكي.

كان ذهني يغص بالصور المتخيلة عن تلك الحقبة الملعونة، حين وقعت عيني على حجر تذكاري ثبت في جدار يطل على الميناء والسفينة. وقد اختير موقعه بعناية كي يلفت أنظار العابرين. يحمل الحجر عبارات اعتذار وتمجيد لآلاف العبيد الذين عانوا وعذبوا، ثم قضوا في الطريق بين قراهم والبلاد التي كتبت فيها نهاياتهم.

قرأت العبارات المنقوشة على الحجر تكرارا. وشعرت بدافع يشدني بقوة لفهم السبب الذي دعا ادارة الميناء-المتحف،  لتذكير زواره بان هذا المكان لم يكن جميلا دائما، وان العابرين به او العاملين فيه لم يكونوا سعداء دائما، وان اصحابه ومن يديرونه، اي الاقوياء واصحاب القرار فيه، لم يفعلوا الصواب دائما، ولم يكونوا عادلين مع الضعفاء في معظم الاوقات.

هل هو اعتذار متأخر عما جرى قبل قرنين؟ وهل يشفي تلك الجروح القديمة؟

التأمل في هذه القصة لفت نظري الى جانب ذي صلة عميقة بقيمة التسامح، أعني به الاقرار بالخطأ، على النفس او على الغير.

  بيان ذلك: ذكرت في مقال سابق، ان جوهر مفهوم التسامح هو احترام حق الآخرين في اختيار ما تمليه عليهم عقولهم، من دين او مذهب او طريقة حياة، كما تتوقع منهم احترام خياراتك. هذا مبدأ اخلاقي مبني على حكم عقلي عام. واساس الحكم العقلي هو الاعتقاد بان الانسان خطاء، بمعنى انه يجتهد في حياته، فيصيب حينا ويخطيء حينا آخر، وانه لا عيب في اقرار الانسان بانه اخطأ في حق نفسه او في حق الاخرين.

بل لعلي لا أبالغ لو قلت ان اعتراف الانسان بخطئه في حق الآخرين، حاجة لنفسه، مثلما هو حاجة للآخرين. انها عملية تطهير للذات، واعادة تموضع للأنا العاقلة فوق الغرائز، لمنع احتمالات الانزلاق مرة أخرى في حمأة الظلم والاحتقار.

لوح الحجر ذاك، يشكل بوجه ما، إقرارا بالآثام التي ارتكبتها بريستول في حق الافارقة الأسرى، واعتذارا لكل أحد عما جرى في الماضي. قد يكون هذا شافيا للضحايا وقد لا يكون. لكن المهم فيه انه سيشكل بالتأكيد سدا يمنع تمجيد الماضي الاسود، فضلا عن احيائه او تكراره.

دعنا نقول اذن ان الطريق الى التسامح قد يبدأ باقرار الانسان امام نفسه وامام الغير بانه مثلهم، خطاء، وانه ربما يكون قد اخطأ في حق نفسه والآخرين بقدر ما أصاب.

***

د. توفيق السيف

في بداية الأمر لعلنا لا نضيف شيئا إلى علم القارئ والمتتبع حين القول: أن المجتمعات الإنسانية كلها اليوم، تعيش تعدديات وتنوعات متفاوتة. بحيث لا يخلو مجتمعا إنسانيا من وجود حالة تعدد وتنوع..فهناك مجتمعات تتعدد دينيا، حيث يوجد فيها أتباع ديانات مختلفة.وهنالك مجتمعات تشترك في الانتماء الديني إلا أنها تتنوع على الصعيد المذهبي. وهناك مجتمعات تتفق في المذهب إلا أنها تختلف وتتنوع على الصعيد العرقي والقومي. ولو بحثنا اليوم في واقع كل المجتمعات الإنسانية، سنجد أن التعدد بكل مستوياته هو السمة الملازمة لهذه المجتمعات.. ولكن الاختلاف الحقيقي على هذا الصعيد بين هذه المجتمعات، يكمن في طبيعة وآلية إدارة هذه التعددية القائمة في المجتمعات.

فهناك مجتمعات تعاملت مع حقيقة تعددها بعقلية حضارية، لذلك صاغت لنفسها أنظمة وقوانين استوعبت هذه الحقيقة، وضمنت لها المشاركة في بناء مجتمعها ووطنها..وهناك مجتمعات أخرى ضاقت ذرعا بالتعدد الموجود في فضائها، وسعت عبر وسائل مختلفة لدحر هذه الحقيقة بوسائل قسرية - قهرية..فأضحت التعددية بكل مستوياتها في المجتمعات الأولى، أي المجتمعات التي تعاملت بعقلية حضارية معها، إلى مصدر للقوة والثراء المعرفي والمجتمعي.أما المجتمعات التي ضاق صدر بعضها لحقيقة التعددية الموجودة فيها، فإن هذه التعددية تكون عنوانا للخلاف والاختلاف ورافدا من روافد التشظي والاهتراء الداخلي. ومجتمع المملكة ليس بدعا من المجتمعات، وإنما هو كغيره من المجتمعات,الذي يضم تعدديات مذهبية وتنوعات ثقافية واجتماعية، إلا أن الجامع الديني والوطني هو الذي يحتضن الجميع ويرفدهم بأسباب التلاقي والتفاهم والوحدة.

من هنا فإننا نشعر بأهمية العمل على تعزيز وحداتنا الاجتماعية والوطنية على قاعدة احترام واقع التعددية الموجود في كل مجتمعاتنا وأوطاننا..لأن هذا الاحترام بكل مضامينه ومداليله، هو القادر على إفشال كل المخططات التي تستهدف تمزيق الأوطان وإدخالها في نفق الحروب والصراعات والنزاعات على أساس مذهبي - طائفي..فهذه الطريقة والوسيلة هي القادرة على إفشال هذه المخططات والمؤامرات التي تستهدف أمن واستقرار أوطاننا ومجتمعاتنا.

ومن الضروري أن ندرك أن تقسيم أبناء الوطن على أسس مذهبية ، لا يضر حاضر الوطن فقط، بل يهدد مستقبله. لذلك فإننا جميعا ومن مختلف مواقعنا، ينبغي أن نقف ضد كل مظاهر التقسيم الطائفي والمذهبي، وذلك لأن هذا التقسيم لا يضر فقط الطرف الموجهة ضده، بل يضر وحدة الوطن والمواطنين، ويزيد من فرص الاحتراب الداخلي.

التعددية ومفهوم المواطنة:

فنقد الطائفية وفضح ورفض كل مظاهرها ووقائعها، هو الخطوة الأولى في مشروع بناء الوحدة الوطنية الصلبة وتطوير مستوى الانسجام والاندماج الاجتماعي.والاجتماع الوطني الصلب، لا يبنى على قاعدة محاربة حقيقة التعدد بكل مستوياتها الموجودة في المجتمع. فكل المجتمعات تحتضن تعدديات، وبنيت الأوطان دائما على احترام هذه التعدديات.

والأوطان التي عملت سلطتها السياسية على دحر حقيقة التعدد ومحاربة وقائع التنوع، فإنها أوطأن هشة لا تستطيع أن تصمد أمام رياح التغيير والتحديات المختلفة.. والاتحاد السوفيتي كتجربة مجتمعية، ليس بعيدا عنا، بل هو أحد النماذج الصارخة على أن الأوطان لا تبنى بمحاربة وقائع التعدد بل باحترامها وتقديرها وتوفير كل مستلزمات فعاليتها الإيجابية..

وتجربة العراق الحديث ليست خافية علينا، فمهما كانت سطوة الحكم وقسوته، إلا أن حالة التعدد في المجتمع العراقي قائمة وراسخة. والمطلوب ليس محاربتها وإنما إدارتها على نحو سليم وحضاري، حتى يتسنى لجميع الأطياف المشاركة الفعالة..فقوة الأوطان في قدرتها على صياغة نظام متسامح وقادر على استيعاب كل التعدديات وفسح المجال لها بل تشجيعها للمزيد من الاندماج الوطني.

والمواطنة لا تقتضي بأي حال من الأحوال أن تندثر خصوصيات الأفراد، بل إنها تقتضي صياغة منظومة قانونية وسياسية لجميع المواطنين على قاعدة الاعتراف بتلك الخصوصيات، والتعامل الإيجابي والحضاري مع متطلبات التعدد بمختلف أشكاله ومستوياته.

فالتعدد المذهبي ليس حالة مضادة للمواطنة، بل هو الجذر الثقافي والاجتماعي لبناء مواطنة حقيقية بعيدا عن الشعارات الشوفينية واليافطات الشعبوية والعدمية. فاحترام التعدد المذهبي وحمايته القانونية والسياسية، هو الذي يوجد الشروط المجتمعية الحقيقية لبناء مواطنة مندمجة مع بعضها البعض في مجتمع متعدد مذهبيا أو قوميا أو سياسيا.. فالتعدد المذهبي في الاجتماع الوطني الحديث، لا يؤسس للانزواء والانكفاء، بل يؤسس للتواصل المستديم بكل صوره على قاعدة المواطنة الجامعة.. ولا سبيل لخلق مجتمع وطني متراص ومتماسك ونسيجه الداخلي صلب إلا بحماية هذا التعدد ودفعه صوب المشاركة الإيجابية والاندماج الوطني. الذي لا يعني الإلغاء والنبذ والخصومة، وإنما المشاركة والمسؤولية والبعد عن النزاعات الشوفينية والنرجسية سواء إلى الذات أو إلى الآخر.

نقد التعصب:

والحوار الدائم والمتواصل بين مختلف المكونات والتعبيرات، هو الذي يسمح للجميع من التجاوز الدائم للمشاكل والأزمات. لهذا كله فإن نقد العصبية والوقوف بحزم ضد كل أشكالها ومستوياتها، هو الذي يؤسس لثراء معرفي ومجتمعي من جراء حقيقة التعدد في الاجتماع الوطني.. فالتعددية ليست هي الحالة المضادة للمواطنة، وإنما الحالة المضادة للمواطنة هي التعصب وبناء التكتلات الاجتماعية على قاعدة عصبانية طاردة ونابذة للغير والآخر.. فالتعصب الأعمى للذات بكل عناوينها، هو الذي يخلق حالة العداء بين المختلفين.

والنسيج الاجتماعي لأي مجتمع، يصاب بالضعف والاهتراء، حينما تستحكم فيه نزعات العصبية والتعصب.لذلك فإن العدو الحقيقي لاستقرار المجتمعات والأوطان، هو التعصب. لأنه هو الذي يقضم المساحات المشتركة بين المواطنين، وهو الذي يثير النعرات والغرائز.وليست هناك علاقة عميقة وطردية بين التعددية والتعصب.فبإمكان المجتمع المتعدد أن يخلق ثقافة التسامح والحوار والتواصل.كما بإمكانه أن يخلق ثقافة القطيعة والنبذ والإقصاء. وجذر التحول في هذا يعتمد على طريقة التعامل مع واقع التعددية في الاجتماع الوطني..فإذا كان التعامل راقيا وحضاريا وبعيدا عن لغة الإلغاء والنبذ.فإن هذا التعامل يؤسس لثقافة التسامح والأخوة والاندماج. أما إذا كان التعامل فوقيا وإقصائيا وطاردا، فإنه ينم عن عصبية تخلق بدورها عصبية معكوسة. فتكون النتيجة العملية لكل ذلك سيادة العصبية ونزعات التعصب في الفضاء الاجتماعي والثقافي، فتضمحل المساحات المشتركة، وتغيب الحكمة، وتتصاعد نزعات الاتهام والاتهام المضاد..فعدو الوحدة والاندماج، ليس التعدد والتنوع، وإنما هو التعصب الذي لا يرى وقائع الحياة والمجتمعات، وإذا رأى لا يرى إلا بعين واحدة.وهي عين مهما كان اتساعها فإنها قاصرة ولا تستطيع الإلمام بكل الحقائق والوقائع.

ولعل من العناوين المعبرة عن هذه الحقيقة، هو عنوان الكتاب الأخير للدكتور (وجيه كوثراني) وهو (هويات فائضة.. مواطنة منقوصة). وكذلك عنوان كتاب الأديب أمين معلوف (الهويات القاتلة). فحينما يتعصب الإنسان لجماعته المذهبة أو العرقية أو القومية أو ما أشبه ذلك، تعصبا أعمى، فإن هذه الهوية القائمة على العصبية، إما أن تنتقص من مضامين المواطنة وحقوقها، أو تتحول إلى منطلق إلى النبذ والإقصاء والذي قد يصل إلى ذروته القصوى وهو القتل والإعدام.

الانفتاح وبناء الهوية الوطنية:

فالهويات الوطنية لا تتشكل على نحو إيجابي وبعيد عن نزعات الشوفينية والتعصب الأعمى، إلا إذا انفتحت هذه الهويات على حقائق مجتمعها، وتواصلت مع مكونات وطنها الدينية والمذهبية والقومية والأثنية.. بحيث تكون الهوية أو الهويات الوطنية، تعبير دقيق عن حياة المجتمع الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بكل تنوعها وتعددها. وفي المحصلة النهائية فإن الثقافات الإنسانية في أي بيئة اجتماعية كانت، هي ثقافات متداخلة، ومتشابكة، بحيث أن الأفكار الرئيسية موجودة في كل الثقافات.ونزعات الاصطفاء الثقافي، لا توجد إلا في عقول أصحابها. حيث أن جميع الثقافات والهويات متداخلة مع بعضها، ومن الصعوبة بمكان أن تعبر ثقافة أو هوية عن نفسها بعيدا عن روافدها المتعددة القادمة إليها من ثقافات وهويات مجاورة.

وتشير الباحثة ( سعيدة لطفيان ) إلى أن 95 بالمئة من دول العالم هي دول متعددة القوميات، أي تتألف من أمم متعددة.فإذا أحصيت الأثنيات والأقوام أي الجماعات المتمايزة لغويا أو دينيا أو مذهبيا أو عرقيا في العالم لاستنتجنا أن دول العالم تمارس السيادة على خمسة آلاف أمة وشعب.

لهذا فإن نزعات الاصطفاء، هي نزعات ذهنية أكثر منها اجتماعية واقعية. حيث أن الهويات متداخلة والثقافات متشابكة. ولا يمكن بناء الاجتماع الوطني الحديث بلغة الاصطفاء والهويات الخالصة. لأن هذه اللغة لا تبني مجتمعا وطنيا بل تبني كيانا اجتماعيا خاصا ومنعزلا وغير قادر على استيعاب كل التعبيرات والمكونات. والأوطان دائما تتسع لكل القوى والتعبيرات، وأية محاولة لحصر الوطن بفئة أو شريحة، فإن هذه المحاولة تضر بالوطن مفهوما وكيانا أولا، وتضر بالنسيج الاجتماعي ثانيا.

فالاجتماع الوطني المستقر والحيوي في آن، لا يبنى على دحر التعدديات أو محاربتها، وإنما ببناء نظام اجتماعي - ثقافي - سياسي، قادر على استيعاب كل حقائق التعددية، ويبلور للجميع خيار المشاركة الذي يزيد من فرص التفاعل والاندماج الوطني. وإننا هنا لا ندعو إلى إيقاظ العصبيات المذهبية أو القومية أو الأثنية، وإنما ندعو إلى التعامل مع الوجودات المذهبية والقومية والأثنية، بعقلية الاستيعاب وبمنهج الجوامع المشتركة، التي تضبط بطبيعة الحال إذا أحسنا التعامل معها، كل النزعات التي تضر بمفهوم الوحدة وحقائق الشراكة الوطنية.

- انتهى –

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

ذهبتُ إلى مكتبة في الكويت بمعية الصديق العزيز د. حسين الفضلي سنة 1980، أستاذ علم الاجتماع بجامعة الكويت سابقًا، فنبهنا صاحبُ المكتبة، وهو رجلٌ كهلٌ يعتنق عقيدةَ جماعة دينية مغالية، إلى كراس بعنوان: "مذكرات مستر همفر"، مدحه كثيرًا، وقال إنه مترجم عن الإنجليزية. اشترينا نسختين، أول ما لفت نظرَنا عدمُ ذكر اسم المترجِم، ولا الأصل الإنجليزي المترجَم عنه النصُّ العربي، ولم نعرف من قبل رحالةً ومستشرقًا انجليزيًا باسم "مستر همفر". فور العودة لمقرّ إقامتي قرأتُه في ساعةٍ واحدة، وجدتُ هذا الكراس كلَّه أكاذيب، سطرها شخصٌ مسكون بالتآمر إطارًا للتفسير، بلغةٍ بليدة مبتذلة. تذكرتُ عدةَ كتب كنا نتداولها في مراهقتنا السياسية في المضمون ذاته، تتفاوت في الدرجة، وتتطابق في الكيفية والغرض الذي تنشده، مثل كتابات أنور الجندي وأمثاله. ضاعت أيامٌ ثمينة من عمري بقراءة كتبٍ تعتمد التآمر إطارًا لتفسير كل واقعة.كلُّ شيءٍ في السياسة وغيرها يحدث في بلادنا تخضعه تلك الكتبُ لهذا النوع من التفسير الأُحادي. كان لتفشي هذه الكتابات أثرٌ فتاك في تزييفِ وعي الشباب، وتخريبِ التفكير السليم.

الإنسان الذي لا يفكر بهدوء وتأمل يلجأ دائمًا للإجابات والتفسيرات الجاهزة المبسطة لأعقد المشكلات. التفسيرُ الأُحادي الذي يفسّر كلَّ شيء بشيءٍ واحد، ويختزل كلَّ الأسباب بسببٍ واحد، جاهزٌ ومُشاعٌ لمن لا يطيق التفكير. إنه تفسيرٌ عاجل لا يتطلب أيَّ تأمل، يشجع كلَّ إنسان، مهما كان مستوى وعيه، للتشبث فيه واعتماده في الجواب لما يسمع ويرى من وقائع. ليس كلُّ إنسان قادرًا على إيقاظ عقله وتوظيفه في الفهم، العقلُ النائم مرتاح، الإنسانُ كسولٌ يزعجُه إيقاظُ عقله، يلجأ بسهولة لاستعارة التفسير الأُحادي المتداول بشكل واسع. التفسير الأُحادي لا يتطلب يقظةً للعقل وتأملًا صبورًا، ولا يدعوه للتقصي عن نسيج العوامل المتشعبة المتنوعة لإنتاج الواقعة. تداولُ أيّ تفسير بشكل واسع يرسخه، ويرتقي به إلى بداهات العقل الجمعي، ويصيّره حقيقةً نهائية لا تقبل النقاشَ لدى أكثر الناس. التفكيرُ الهادئ لا تطيقه إلا العقولُ الحاذقة، ولا يلجأ إليه إلا إنسانٌ ذكي قادرٌ على إيقاظ عقله وتوظيفه في فهم الأشياء والظواهر والأحداث. التفكيرُ الهادئ الصبور يتوغل في البنية العميقة للأشياء، ويكتشفُ العواملَ المستترة للواقعة، ويقدّم تفسيرًا لمختلف الأشياء والظواهر والوقائع في ضوء حفر وتنقيب يسعى لبلوغ المديات القصوى، وهو يحاول التعرفَ على العوامل الظاهرة والخفية لها. هذا التفكيرُ لا يطيقه كثيرٌ من الناس لأنه مرهِقٌ للذهن، وطالما شغل الإنسانَ عن متع الحياة الحسية، وعكّر مزاجَه الشخصي.

التآمرُ بوصفة إطارًا لتفسير الأحداث والمواقف الفردية والمجتمعية قديمٌ في التاريخ قدم الإنسان، وخبرته بحماية ذاته والإعلاء منها، وتبريره المتواصل لأخطائه، وعجزه عن الاعتراف بضعفه وهشاشته، والتنكر لكونه كائنًا مطبوعًا على النقص والخطأ. الإنسان بارع في حماية نفسه وتنزيهها والإعلاء منها، دائمًا يبحث عن مشجب يعلّق عليه عجزَه وفشلَه. لا يختصّ هذا التفسيرُ بفرد أو مجتمع أو ثقافة أو ديانة أو معتقد أو حقل معرفي، يوجد حيثما وجدت أحداثٌ مثيرة ومواقفُ غريبة، ويتغول باستمرار في السياسة. ازدادت فاعليتُه هذا التفسير بشكلٍ لافت، وصار أحدَ الظواهر المتفشية في المعرفة العاميّة غير العلمية، والأدبيات الشعبوية للجماعات الراديكالية اليسارية أممية وقومية، وانتقلت عدوى هذا التفسير للجماعات الأصولية، وهي الأكثر دراية بمخزونٍ لا ينضب في اللاوعي الجمعي يمدّ التآمرَ بوصفة إطارًا للتفسير ويجذّره. تمرست هذه الجماعاتُ بابتكارِ صيغٍ جديدة للتفسير التآمري لأكثر ما يجري من تحولات وأحداث ومواقف، وغرسِها واستنباتها وتعميمها بسهولة. أمسى إنتاجُ كتابات تعتمد هذا التفسير حرفةً تتخصص بها دوائرُ تمتلك خبرةً مهنية في الحرب النفسية، وبثِّ الشائعات، وصناعةِ الرأي العام، تحترفها أجهزةُ مخابرات الأنظمة الشمولية، ومختلف الحركات اليسارية والقومية والأصولية في بلادنا.

لا أنكر وجودَ مؤامرات، بمعنى أنه كلّما كان الإنسانُ أذكى كان أكثرَ دهاء، وأكثرَ قدرةً على ابتكار مختلف الخطط والأساليب والوسائل للتمويه والخداع لبلوغ أهدافه، ما يخفيه مثلُ هذا الإنسان أكثر مما يظهره، يسعى لتحقيق غاياته عبر مختلف الوسائل. كلّما كانت غاياتُه أعظمَ وأكثرَ عرضةً للرفض والإجهاض كان تخطيطُه لها أدقَّ وأخفى. يحاول دائمًا أن يسلك سبلًا مراوِغة، أكثر من المباشرة، ومكتومةً أكثر من المعلنة من أجل بلوغ غاياته، وأحيانا يلجأ لاستخدام وسائل غير مشروعة أخلاقيًا.

لا أريد التنكرَ للأشكالِ القديمة والحديثة للغزو، وكيفيةِ اجتياح الإسكندر المقدوني العدواني للعالم القديم، وكيف اجتاحت الحروبُ والفتوحات العالمَ القديم، وما راكمته من أموال وممتلكات وأراضي ورقيق. التقدمُ الذي وصلته العلومُ والمعارف والفنون والآداب والتطور في الغرب لم تصله البشريةُ من قبل في كلِّ تاريخها، غير أن هذا الغربَ الحديث صنع الاستعمارَ، وهو ظاهرةٌ مقيتة لم تتردّد في استعبادِ مجتمعات بأسرها، والسطوِ على ثرواتها، واستنزافِ مواردها وكلِّ ما تمتلكه. الغزاة يقتلون ويسترقون الإنسانَ وينهبون كنوزَ البلاد المنكوبة وثرواتها ومواطنها، غير أن الغزو الإسباني سنة 1492 ثم الأوروبي للأمريكتين تمادى في التوحش فأباد الحضاراتِ وسكانَها واستولى على ديارها. هذه الحضاراتُ مازالت شواهدُها وأطلالها ترثي أهلَها، مثل: حضارة نورتي شيكو، حضارة أولمك، حضارة المايا، حضارة الإنكا، حضارة الزابوتيك، حضارة نازكا، حضارة إمبراطورية تيواناكو، حضارة واري، حضارة المسيسيبي، حضارة الأزتك. الاحتلال والاستعمار ضربٌ من التواطؤ الفردي والمجتمعي اللاأخلاقي لاستعبادِ الغير وتسخيرِهم لخدمة المُستعمِر والمحتل. المفارقة أن الغربَ الحديث ذاته ابتكر أحدثَ صيغةٍ للتداولِ السلمي للسلطة، وفصلِ السلطات، وبناءِ الحكم والإدارة ونظم الدولة المتنوعة الحديثة، وتأسيسِ الدولة الديمقراطية، وضمانِ حقوق مواطنيه وحرياتهم، داخل حدود دولته خاصة.

الكلام عن التآمر بوصفه إطارًا للتفسير ليس دفاعًا أو تبريرًا للاستعمار، لا أثق بالاحتلال مهما كانت الأسماءُ التي يتخفى خلفها، أنا ضدّ كلّ شكل من أشكال انتهاك الإنسان واستعباده واستلاب حرياته وحقوقه تحت أيّ شعار وتسمية، سواء كانت تلك الانتهاكاتُ تحت راية الرأسمالية أو الليبرالية أو القومية أو الاشتراكية أو الأصولية. الكفاحُ الذي خاضته البشرية منذ فجر التاريخ حتى هذه اللحظة ‏كان وما زال من أجل استرداد الكرامة والحريات والحقوق الإنسانية، الغزو والاستعمار والاحتلال وكلّ أشكال الاستغلال والعنصرية لا يمكن الشفاءُ منها بشكلٍ تام في كلّ المجتمعات والدول والحضارات أمس واليوم.

التنكرُ للأخطاء أحدُ أهم عوامل العجز العربي والإسلامي المزمن، وهو أحدُ بواعث تسيّد التآمرُ بوصفة إطارًا لتفسير الأحداث. الإنسانُ كائن مسكون بإعلاء ذاته، وحماية صورته أمام نفسه وغيره بمختلف الوسائل، هذا الضرب من التفسير يمثل حيلةً لحماية الهوية المغلقة للجماعات من أن تتصدع أو تنثلم أو تتهشم. نرى هذا التفسيرَ ماثلًا في تفسير الصراعات والمعارك المريرة بين الفرق والمذاهب في الماضي، بعض الكتّاب يحيل نشوءَ أكثر الفرق والمذاهب والفلسفة والتصوف في تاريخنا إلى مؤامرات أعداء الإسلام، ويفسِّر كلَّ ما حدث في تاريخنا البعيد والقريب إلى عدو خارجي يخطّط وينفذ بخفاء ويزجّنا في معارك مفتوحة،كما نرى هذا التفسيرَ ماثلًا اليوم في تبرير ما نعيشه من انقساماتٍ تتوالد منها نزاعاتٌ وصداماتٌ متواصلة، تستقي من إكراهات التاريخ وتراث تكفير المختلِف في المعتقَد. يتسيّد يقينٌ راسخ في أذهان بعض الكتّاب بأن كلَّ شيء في الماضي مؤامرة،كلّ شيء في الحاضر مؤامرة، كلّ شيء في المستقبل محكومٌ مسبقًا بأنه مؤامرة. يصعب جدًا على الأفراد والمجتمعات قبولُ إخفاقاتها وأخطائها وفشلها، تخاف دائمًا من فضح عوامل عجزها الداخلية، ودراسة الأسباب الماضية والحاضرة الكامنة لفشلها. يلجأ الإنسانُ لصناعة العدو والتفنن في تصويره ورسم مهاراته وقدراته الاستثنائية على اختراق وإفساد كلِّ شيء مهما اتخذنا حياله من حصون.

"ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة"1، هذا شعار ضجّت به شوارعُ العراق سنة 1959، بعد الإعلان عن انقلاب في الموصل بسبب الصراع على السلطة والثروة داخل جماعة الضباط الأحرار الذين قاموا بالثورة. العراق من أكثر البلدان حديثًا عن المؤامرة، منذ ثورة 14 تموز 1958 وتسلم الجنرالات للسلطة إلى 9 نيسان 2003 يوم احتلال بغداد وسقوط صدام حسين ونظامه. تورطت الأنظمةُ المتعاقبة والأحزاب السياسية والإعلام والثقافة والتربية والتعليم في هذا البلد بتبني التآمر بوصفه إطارًا للتفسير. ذبح صدام رفاقَه في مجزرة قاعة الخلد، بذريعة التآمر عليه، في 22 تموز 1979 بعد 6 أيام من وصوله الى الرئاسة، وبدأ بتصفية رفاقه بالتدريج منذ انقلاب 17 تموز 1968، واعدام الأحرار في العراق بوحشية بتهمة التآمر على الحزب والثورة، ولم تنشر أجهزتُه الأمنية والمخابراتية أيةَ وثيقة يُطمئَن إليها تفضح ذلك التآمرَ المزعوم.

عملت التعبئةُ الأيديولوجية وخطاباتُ صدام حسين وأمثاله على ترسيخ التفسير التآمري، بنحوٍ صار مكونًا غاطسًا في اللاوعي الفردي والجمعي، يتحدث فيه الناسُ بحماس بلا تدبر، ويصعب جدًا وربما يتعذر معه حضورُ التفسير الواقعي. كتّابٌ شعبويون كانوا ومازالوا مسكونين باتخاذ التآمر إطارًا للتفسير، سيئو الظن بالمواطن الذي ينتمي لحزبٍ غير أحزابهم، وأيديولوجيا غير الأيديولوجيا التي يعتنقونها، ومعتقَدٍ غير معتقَدهم، وهويةٍ غير هويتهم. هؤلاء المولعون بهذا التفسير يعجزون عن رؤية أيّ عامل يساهم في إنتاج الواقع، ما هو مكشوفٌ أمامهم يغمضون عيونهم ويصمون آذانهم عنه، يتجاهلون العواملَ الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية الداخلية المنتِجة للواقع الذي يعيشه المواطن. التفسيرُ السياسي متهمٌ في بلادنا، إن لم يعتمد التآمر إطارًا للتفسير، ولو حاول اكتشاف العوامل المحلية للفشل والإخفاق والتخلف، مهما كانت تلك العواملُ مكشوفةً وتعلن عن حضورها بكثافة وقوة. أظن هذه المقالة يضعها بعضُ هؤلاء في خانة التآمر.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

....................

* "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة" باللهجة العراقية، تعني: ليس من مؤامرة إلا وحبال المشنقة معدة لها.

كثر إقبال الشعوب العربية على ولوج مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة عامة، وموقع "يوتوب" خاصة. إذ بتنا نرى تواجدا كبيرا لأشخاص كثيرين بوصفهم مؤثرين بآرائهم وأفكارهم وتصوراتهم. ذلك أن وسائل التكنولوجيا أتاحت للكل إمكانية ولوج عوالم التواصل المختلفة، وتقديم بضاعته كيما تتنافس مع بضاعات أخرى، ليغدو مقياس ومعيار جودة البضاعة هو ما تحققه من نسبة مشاهدات وإعجابات واشتراكات، أي ما تدره من أموال على صاحبها، وليس معيار جودة الأفكار وأصالتها وجدتها، ولا وضوح توجهات المؤثر وتصوراته، أو علمية وموضوعية "المعرفة"، البضاعة" التي يعرضها.

بيد أن المشكلة الكبيرة تتمثل في الأمراض الاجتماعية والنفسية والاخلاقية والفكرية والثقافية التي أصبح "اليوتوب" يبثها في الجسم الاجتماعي للشعوب العربية. على هذا الأساس، سنحاول عرض هذه الأمراض بناء على ما استخلصناه من متابعتنا لبضاعة مؤثرين عديدين، تناولوا قضايا المجتمعات العربية والإسلامية عموما، والمجتمع المغربي خصوصا.

هكذا نجد أمراضا من قبيل:

- ادعاء امتلاك الحقيقة الساطعة التي على المشاهد/المتابع أن يبتلعها دون هضم نقدي، أو تدقيق ومساءلة علمية حقيقية لمشروعية هذه الحقيقة، وانطباقها على المجتمع واستجابتها لمجرياته وتحدياته. حيث يزعم الزاعم أنه سيقدم للمشاهد الحقيقة التي يجهلها، والتي سيسمعها لأول مرة، ومن ثم، ضرورة وحتمية تصديقها ما دام العلماء الحقيقيون قد أخلوا المجال لمدعي المعرفة الشاملة بكل حدث ويحدث وسيحدث في العالم.

- بيد أن تقديم هذه "الحقيقة المزعومة" يستدعي من المشاهد مقابلا؛ وهو تسجيل الإعجاب بالقناة ووضع ملصق إعجاب كيما يتوصل بالجديد. وهكذا، لا يخفي المؤثرون هدفهم الربحي الأساس؛ إذ همهم، الظاهر أو المضمر، هو تحقيق أرباح مادية كبيرة، وليس تقديم معرفة علمية وموضوعية تحقق إضافة للمجتمع، أو تسهم في حل مشاكله.

- تربية المشاهدين الأحداث على التعصب القبلي والفكري، الشيء الذي يترتب عنه رفض للاختلاف في الرأي والفكر والاعتقاد، ومن ثم، يسلبونهم حق النقد والمساءلة والفحص ما دام ما يقدم لهم يدعي "المصداقية والموضوعية".

هذا ما تعرب عنه الأفعال التي تصدر من أصحاب القناوات؛ إذ يقومون بحظر كل شخص قدم رأيا مخالفا لهم، ويرمونه بالجهل وضيق الأفق والتعصب.. إلخ، دون أن يعلم هؤلاء المؤثرون أنهم هم من يستخف بعقل المتلقي، ويسهم في تسطيح وعيه، وتضييق أفقهم المعرفي والنقدي.

- شخصنة الصراعات الشخصية وإضفاء بعد الوطنية عليها؛ ذلك أن أغلب المؤثرين يزعمون أنهم يدافعون عن أوطانهم، وأن ما يقومون به ما هو إلا خدمة للوطن وشعبه، في حين أنهم يعملون على إحداث التفرقة بين أفراد المجتمع، وخلق الفتنة وتوسيع الصدع، وتفكيك الروابط التي تجمع بين أفراده المختلفين.

- إلهاء الشعوب العربية عن مشاكلها الحقيقية، والزج بها في عالم التفاهة والاقتات على أعراض الناس وأخلاقهم. الشيء الذي يجعل المشاهد غارقا في مشاكل تافهة، وغافلا عن التحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والوجودية التي تتهدد وجوده وكرامته وإنسانيته.

إن الشعوب العربية في غنى عن معارك فارغة، ومشاكل مصطنعة عابرة، وفي حاجة إلى معرفة تنمي منسوب وعيه، وتشحذ عقله وفكره النقدي الحر، وتساهم في تحرره فكريا واجتماعيا من براثن الجهل، وسجن الفقر والبطالة.. إلخ.

- التشجيع على النفاق الاجتماعي والسياسي والأخلاقي؛ إذ إن المؤثر ليس له مبدأ ثابت، ولا رأي مستقر، وإنما تتغير مبادئه وآراؤه بتغير أعدائه الوهميين، والأشخاص الذين يغدقون عليه العطاء، ويضفون على كلامه وقناته مشروعية، ويخلقون له أتباعا من أفراد المجتمع الجوعى والغرباء في وطنهم، والنتيجة هي أن المؤثر يساهم في الإلهاء والتجهيل والتسطيح.

- زرع بذور الخلاف والشقاق والنفاق بين أفراد المجتمع، وخلق أتباع ومريدين يدافعون وينافحون عن أفكار المؤثر وتصوراتهم حتى وإن كانت خاطئة، ومليئة بالديماغوجية والدعاية الفجة. وهكذا، يرى المؤثر في من يتقدم إليه ببضاعته مجرد مستهلكين سلبيين، وينظر إلى عقولهم على أنها مرتع للمخلفات الفكرية، وحاوية للنفايات العرقية والإثنية والعنصرية.

- نزع الخصوصية عن الحياة الشخصية لأفراد المجتمع؛ لأن كل شيء مباح في مواقع التواصل الاجتماعي، وبإمكان أي شخص أن يكشف أسرار الآخرين، ويهتك حجب حياتهم الحميمية لمجرد اختلاف في الرأي والفكر والثقافة والمعتقد، فضلا عن تعامل المؤثر مع متتبعيه بشخصية مزدوجة. فهو لا يظل على سجيته، كما أنه يفرض على نفسه نوعا من الانفصام والازدواجية في الشخصية والمواقف والمبادئ، ويتعامل بنوع مقيت من المجاملة والمواربة؛ إذ يغدو كل المشاهدين إخوة وأخوات له، ومن ثم، يحرك عواطفهم بكلماته العاطفية، ويتلاعب بعقولهم بمغالطاته وخطله المعرفي، والنتيجة أنه يقدم نفسه باعتباره ذا أخلاقية مفتقدة، ومحب الخير للجميع، ومساعدا للمشاهدين على حل مشاكلهم.

إن الأمراض التي تتهدد وجود الإنسان العربي بسبب "اليوتوب" كثيرة ومتعددة، وإن لها تأثيرا كبيرا على الجسد الاجتماعي العليل؛ لأنها تسهم في تعميق الجراح المندملة، والإبقاء على الأوضاع المزرية كما هي. لذلك، على الدول العربية والإسلامية التي تحترم شعوبها، ولا تستخف بعقولها وفكرها، أن تسن قوانين ضابطة للبضاعة التي تعرض على شعوبها تفاديا للنفاق الاجتماعي والسياسي والديني، وصيانة للمجتمع من الشقاق والافتراق شيعا وطوائف عرقية إثنية.

وعلى المثقفين أن يقوموا بدورهم في محاربة التفاهة والتافهين، والحد من سطوتهم على العقول والنفوس الهائمة في أوضاعها الاجتماعية المجحفة. فما دام المسؤولون السياسيون والمدنيون، والمثقفون والمفكرون، والأساتذة والمعلمون، قد أخلوا المجال وغادروا مضمار الصراع الفكري، فإن فعل المؤثرين سيلقى صدا متسرعا من قبل أفراد المجتمع، وسيزيد من محن وإحن الإنسان العربي، وسيربي فيه أخلاق التفاهة، وقيم النفاق والكذب، والتعصب للجماعة واللغة واللون والعرق.

***

محمد الورداشي

اذا كنا نغفر للدولة والمسؤولين القائمين على خدمة مواطنينا إهمالَ الناس نتيجة ضعف الخدمات وقلة الرعاية التي تقدم اليهم وانعدامها طوال سنوات عديدة  تقارب العقدين ؛ غير اننا من الصعب ان نتقبل الاهمال الذي يعاني منه مواطنونا المعوّقون والذين فقدوا اجزاءً من اعضائهم وأصيبوا بعاهات جسمية سببت لهم الاعاقة.

فالكثير منهم لا يستطيع القيام بأيّ شيء وآخرون يعانون صعوبات جمة في ممارسة حياتهم على الوجه الطبيعي اذ لابدّ من الالتفات اليهم وتقديم ما يمكن تقديمه للعناية بهم فهم أحوج الى العون والسند نتيجة اوضاعهم الصحيّة.

لا يخفى ان بلادنا قد مرّت خلال اكثر من أربعة  عقود بحروب مريرة كان من نتيجتها ظهور بضعة ملايين من معوّقي الحروب الكارثية ناهيك عن الاعاقات الطبيعية التي اصيب بها الكثير من الولادات وظهور التشوهات الخلقية واختلال في الجينات بسبب ما وقع على العراق من قذائف ذات دمار شامل واستخدام اسلحة غير تقليدية على أبناء بلدي خلال سنوات حرب الخليج الاولى والثانية وما تبعها من غزو همجي وحشي شنته الولايات المتحدة على بلادي عام /2003 وما لحقه من انهيار في هياكل الدولة ومنها الهيكل الصحي، ويقدّر المختصون ان في العراق ما يربو على الاربعة ملايين معوّق بإعاقات مختلفة منها طبيعية ومنها بسبب الرعونة في استخدام السلاح الكيمياوي او البايالوجي غير التقليدي.

ومهما كان نوع العوق ونسبة العجز فيه فلابد من ايلاء الرعاية القصوى لهؤلاء العاجزين لكي تمضي حياتهم بشكل اكثر يسرا واقل وطأة مما يعانون ، ونركّز هنا على الخدمات والرعاية الصحية اول الامر للتخفيف عن كاهلهم وتوفير مستلزمات الحياة في حدها الادنى على الاقل.

لست في حاجة الى التذكير على انّ العالم المتحضر يولي لهؤلاء المعوقين المتعبين عناية اكبر مما تقدّم الى الأصحاء والأسوياء من خلال توفير التأمين الصحي المجاني وتهيئة مستلزمات الطبابة التي تعينهم كالأدوات التي تعينهم على الوقوف او الجلوس والحركة من خلال توفير الاطراف الصناعية والكراسي المتحركة وغيرها الكثير من وسائل الإعانة.

فالمعوقون في أبدانهم لم تكن يوما حائلا ومانعا لتحريك عقولهم وتنشيط مواهبهم بل بالعكس، فالله يعوّض من أٌخذ من أعضائه شيء وأفقد حاسّة وحرم خلقه من عضو نافع لكنه يعوّضه عقلا وموهبة وتنويرا في النفس.

واذا كان قسم منهم من لا يستطيع الحركة او يبقى قعيد البيت بسبب عجزه الكلي لكن نباهة فكره أثمرت للبشرية ابداعات جمّة والكثير ممن أصابهم العوَق اثْروا حياتنا علما وادبا وفنا راقيا وقدموا للانسانية خدمات ترقى كثيرا عما قدم الاسوياء من المبدعين وهم اكثر من ان يعدّوا لا لشيء إلاّ لان الخالق لا نظير له في عدلهِ وكم يكون الامر مبهجا اكثر حينما تقوم الدولة برعاية معوقيها كما ترعى أصحّائها بل ان الاولين اكثر حظوة واهتماما في تقديم الخدمات الممكنة لهم، ولنضرب مثلا على من عاصرنا الذي مات مؤخرا ممن ابتليَ بالعوق وهو" ستيفن هوكينغ " الذي ظلّ قعيد كرسيّه المتحرك طوال اربعة قرون ولم ينعم بنومٍ هادئ على سريره طوال مديد حياته وقدم ابتكاراته في علوم الفيزياء وتقف البشرية اجلالا له على ابتكاراته الخلاّقة مثلما سبقَهُ الموسيقار الشامخ " بيتهوفن " الذي لا يضارع في رقيّه وعبقريتهِ والذي امتع العالم بموسيقاه من خلال سيمفونياته وسوناتاته الساحرة ، فهذا العبقري المعوّق الذي كان جنينا في بطن امه وعزمت هذه الام على إسقاطه وإجهاضه لانها موقنة انه سيولد معاقا حتما لان ثلاثة من أخوته الثمانية الذين يفوقونه عمرا مصابون بالصمم التام واثنين مصابين بالعمى وواحد متخلّف عقليا، ووالدته ايضا كانت تعاني امراضا عديدة في أحشائها واخذَ مرض الزهريّ يفعل فعله في جسدها ولكن في اللحظة الاخيرة قررت الابقاء عليه في احشائها ؛ فالربّ الكبير هو الراحم على عباده وهكذا كان، وفي تاريخنا العربي نرى العديد من مبدعينا المعاقين الذين اثروا الانسانية بعطائهم سواء من الاسلاف أومن الاخلاف امثال ابو العلاء المعري وبشار بن برد والخطاط الذي لا يضاهيه أحد في عصرهِ ابن مقلة يوم قطعت يده المبدعة اليمنى فاستعان باليسرى ثمّ قطعوا لسانه لكنه مرّن يده اليسرى وأبدع اكثر مما كان من الاول، والامام الترمذي صاحب السنن الذي يعدّ مرجعا امينا للاحاديث النبوية وسيرة الرسول (ص ).

ومن قادة الفتوحات الاسلامية موسى بن نصير الذي أوسع رقعة البلاد الاسلامية وهو المصاب بعرَجٍ شديد واعوجاج في ساقيه ومثله الأحنف بن قيس ومن المحدثين طه حسين الأعمى ومصطفى صادق الرافعي الأصمّ اللذان ابتكرا النهج السليم لكتابة النثر العربي المعاصر والمقالة الحديثة بالاسلوب والطريقة التي نقرأها الان.

هلاّ سعيتم وحثثتم الخطى لانتشال معوّقينا من الوضع المزري الذي يعيشونه اليوم ايها الساسة المسؤولون على هذا الشعب المقهور وخاصة شريحته المعاقة وليتكم تبدأون بالمعْوزين والفقراء منهم عسى ان تخففوا من الأعباء التي أثقلت كاهلهم، لا نريد عطفا وانكسارا وجبرا للخواطر وتأسّيا فارغا لا يسمن ولا يشفي ولا يغني عن حاجة ، شـــمّروا عن سواعدكم وأعطوهم ما يحتاجونه من علاج ورعاية واهتمام ليشعروا انهم مازالوا في عداد الأحياء الفاعلين في المجتمع، وكم يحزّ في نفوسهم حينما يشعرون انهم منسيـون ويعيشون مهمشين وكأنهم ينتظرون موتهم بين لحظة واخرى فارحموا من في ارض السواد من معوقينا عسى ان يرحمكم الخالق الرؤوف الذي وسعت مغفرته كلّ الذنوب والآثام الكثر التي اقترفتموها.

***

جواد غلوم

تعددت وتكاثرت الصور والأحداث، التي تساهم في تشويه الإسلام وتقدمه، وكأنه دين للقتل والإرهاب بكل صنوفه وإشكاله. ولعل آخر هذه الأحداث، هو قيام حركة بركوحرام في نيجيريا في اختطاف طالبات بريئات وصل عددهن (223) في شمال البلاد وإعلان أحد قيادات هذه الحركة التكفيرية أنهم ينوون بيع هذه النساء في سوق النخاسة.. إضافة إلى استمرار عمليات القتل العشوائي والتفجيرات التي تطال الأبرياء في أكثر من بلد عربي وإسلامي. وكلها أحداث تجري باسم الإسلام، والإسلام منها بريء براءة الذئب من دم يوسف..

و لكن الذي ينبغي إثارته ومناقشته حول ظاهرة هذه الأحداث العبثية والخطيرة في آن، هو كيف نساهم في وقف هذه الإحداث الإرهابية، وكيف نحول دون استمرار تشويه سمعة الإسلام من جراء أفعال هذه الجماعات التكفيرية والعنفية، التي لا تتورع عن القتل وسفك الدم.. نحاول أن نجيب على هذه الأسئلة من خلال النقاط التالية:

1ـ تتأكد الحاجة العربية والإسلامية في كل أمصار البلاد الإسلامية، إلى ضرورة السعي والعمل من أجل تفنيد وتفكيك خطابات جماعات العنف والتكفير، والتي تغطي أفعالها الشنيعة بمفردات دينية وخطابات إسلامية عامة. لأن الصمت تجاه خطابات العنف والتكفير والإرهاب، يساهم في اتساع رقعة هذا الخطاب الذي يحث على العنف والإرهاب ويبرر ممارستهما.

و هذا بطبيعة الحال يتطلب القيام بهجوم علمي ـ ثقافي على كل الخطابات التي تسوغ ممارسة العنف والإرهاب، وبيان تهافت هذه الخطابات، وعدم انسجامها مع ثوابت الدين والشريعة..

فلا صمت أمام ماتقترفه جماعات العنف والإرهاب باسم الإسلام.

ولعلنا لا نجانب الصواب حين القول : أن التبرير الديني أو السياسي لأفعال العنف والإرهاب، يعد مشاركة مباشرة في عمليات العنف والإرهاب. لأن هذه الجماعات تتغذى من منظومة قيمية فكرية، وإن ممارسة التبرير لهذه الأفعال، يعد وفق كل المقاييس مساهمة معهم في فعل العنف والإرهاب.

و لعل الصمت المريب الذي مارسته أكثر الجهات الدينية والفعاليات الإسلامية، هي ساهمت بطريقة أو أخرى، في استمرار عمليات العنف والإرهاب، وأتساع رقعتها. وإن استمرار الصمت يعني المزيد من أتساع رقعة العنف والإرهاب. وهذا بطبيعة الحال له مضار وسيئات نوعية كبرى على كل البلدان والأوطان، وعلى طبيعة النظرة والتعامل مع الدين الإسلامي. لذلك ثمة ضرورة دينية وأخلاقية لتراكم كل الجهود العلمية والثقافية والاجتماعية، صوب تفكيك الخطابات التي تبرر ممارسة العنف وتحرض على فعل الإرهاب..

2ـ آن الأوان بالنسبة إلى كل النخب الدينية والسياسية والثقافية لإنهاء ازدواجية الخطاب والتعامل مع الإرهاب وممارسة العنف لأغراض سياسية.. فلا يوجد على المستوى الواقعي إرهاب مقبول وإرهاب مرفوض، لعنف نساهم في التحريض على ممارسته، وعنف آخر نحاربه ونسعى لتجفيف منابعه. إننا نعتقد أن هذه الثنائية والازدواجية ساهمت بطريقة غير مباشرة في حماية جماعات العنف والإرهاب. لذلك ثمة حاجة لإنهاء هذه الازدواجية ورفض كل أشكال العنف والإرهاب، ومحاربة كل الجماعات والتيارات التي تمارس الإرهاب وتحرض على العنف. لأن فعل الإرهاب ينبغي أن يدان بصرف عن إستهدافاته أو المصالح السياسية التي قد تجنيها بعض الأطراف من هذه الممارسات الإرهابية والعنفية. فقتل الأبرياء لا يمكن تبريره في كل البلدان والمجتمعات، وينبغي علينا جميعا أن ندين جميع عمليات القتل والتفجير. لأن رفع الصوت حول أحداث بعينها وصمتنا المريب حول أحداث أخرى مشابهة، يثير الكثير من علامات الريبة والاستفهام. وهي على المستوى الواقعي شكل من أشكال تأييده لأغراض سياسية.

و هذا بطبيعة الحال يجعل من أصحاب هذه المواقف المزدوجة، في محل حماية واقعية لمن يمارس الإرهاب في سياق سياسي يفيدني أو لي مصلحة في استمراره. وهذا بطبيعة الحال يحول الإرهاب وممارسته إلى حاجة لدى بعض الأطراف في صراعاتها الدينية والسياسية. لذلك آن الأوان لرفع الصوت ضد الازدواجية في الخطاب والتعامل مع ظواهر العنف والإرهاب. فكل جماعات العنف والتكفير والإرهاب، ينبغي أن تدان وتحارب. ولا يجوز أن يتم التعامل مع الممارسات الإرهابية والعنفية في بعض الساحات وكأنها أعمال شرعية ـ جهادية، وفي ساحات أخرى هي أعمال إرهابية ـ عنفية.. فلا ثنائية في التعامل مع هذه الآفات التي تهدد الجميع. ولقد أبانت الكثير من التجارب السياسية والاجتماعية أن الازدواجية في التعامل مع هذه الظواهر الخطيرة، سينعكس سلبا حينما تتغير الظروف والأحوال على من حابى الإرهاب في أي ساحة من الساحات. لذلك لا خيار حقيقي أمام كل الأطراف والفعاليات إذا أرادت محاربة العنف والإرهاب على نحو حقيقي، إلا رفض كل الخطابات والممارسات الازدواجية في التعامل مع جماعات العنف والإرهاب.

3ـ حين التأمل في مسار وتجربة الكثير من جماعات العنف المسلح، والتي مارست الكفاح المسلح لأغراض سياسية واجتماعية. نجد أن بعض هذه الجماعات وفي لحظات وظروف زمنية معينة، تحولت هذه الجماعات إلى ما يمكن تسميته (بندقية للإيجار). بمعنى أنه في الظروف الذي ينسد فيها أفق العمل المسلح، تتحول هذه الجماعات إلى بندقية للإيجار وتقوم ببعض العمليات المسلحة لأغراض ليست من صميم مشروعها وكفاحها. وفي مستوى آخر فإن أغلب هذه الجماعات ذات عقل سياسي محدود وضيق، فيتم التقاطع معها من بعض الأطراف سواء محلية أو إقليمية ودولية، مما يفضي إلى استخدام قوتها المسلحة وخبرتها العسكرية لأغراض سياسية مرتبطة بشكل مباشر بتلك الأطراف التي تقاطعت مع جماعات العنف المسلح. لذلك فإن استقرار مجتمعاتنا وأوطاننا، يقتضي الوقوف بحزم على مختلف المستويات ضد جماعات العنف والإرهاب. وإن هذا الوقوف يقتضي العمل على رفع الغطاء الديني والاجتماعي عنها، والعمل على تفكيك خطاب هذه الجماعات الديني والثقافي وتضافر كل الجهود من أجل صياغة مشروع وطني متكامل في كل البلدان العربية والإسلامية لمحاربة جماعات العنف والإرهاب.

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

النقد تفاعل حضاري يساهم في التطور والرقاء، وبحاجة إلى وعي جمعي وثقافة تسامحية تفاعلية ذات قيمة إنسانية، مؤثرة في صناعة الحياة الأفضل.

وفي مجتمعاتنا يغيب النقد، وتتخمر السيئات في أوعية التجاهل والغفلة وعدم الشعور بالمسؤولية.

ومن الواجب أن تدرك الأجيال قيمة النقد للوصول إلى الحقيقة، التي بموجبها تتحدد مسارات الصيرورة الجماعية، وتتحقق الأهداف المنشودة.

وهذه إطلالة على النقد من بعض الزوايا:

أولا: نقد العقل أم السلوك؟!!

المفكرون العرب إهتموا بنقد العقل، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، ولا تزال مشاريعهم في ذروتها، لكنها لم تخلص إلى نتيجة ذات قيمة حضارية وتفاعلية تساهم في البناء والتقدم والتحضر.

والعلة تكمن في أن النقد موجه إلى حالة غير موجودة أو مفقودة ومغيبة ، وكأننا ننتقد السراب أو الدخان، ولهذا لم ينجح المفكرون في بناء المناهج المعاصرة الكفيلة بنقل العرب إلى حالة متفاعلة مع زمانها ومكانها.

فأين العقل الذي ننتقده؟

وما هو ذلك العقل؟

وهما من الموضوعات اللا مُفَكر بها عبر الأجيال.

فالخطاب يتوجه نحو العقل، والعقل غائب أفقيا وعاموديا، فالمجتمع لا يستعمل عقله، ومنذ الصغر ينشأ الناس على تعطيل العقل، والجري وراء "قال"، وكل ما عداها محال.

فالمجتمع فيه قِوى وإتجاهات تلغي العقل وتحرّم إستعماله، وتدعو للتجهيل والتعويل على الذين يوهمونهم بأنهم يمثلون الدين، فتحول البشر إلى عبيد عندهم، وبضائع في أسواق متاجراتهم بالدين.

ولهذا فأن نقد العقل لا يمكنه أن يأتي بنتيجة ذات قيمة، لأن البشر عبارة عن مقاطعات مملوكة لقوى تسخرها لما تشاء، ولا يمكنها أن تتصرف وفقا لما تشاء، وإن تساءلت أو نظرت وتفكّرت، فأنها ستحسب من الخارجين عن التقاليد ومن المرتدين والكافرين .

إن مخاطبة العقل أو نقده لن تأتي بأكلها إن لم يتحرر الإنسان العربي من أصفاده ويدرك أن في رأسه دماغ ومن واجبه أن يستعمله مثلما يستعمل يديه، ولا يكون خانعا وتابعا ومعتقلا في أضاليل الذين يمتهنونه، ويحاصرونه بالفقر والقهر والحرمان من أبسط الحاجات.

فالأمة بأجيالها تضع العقل على الرف، ولا تعرف أن تفكر، و تسأل و تتصور وتبحث عن جواب غير الذي يتم تلقينه لها مرارا وتكرارا وعبر الأجيال.

وهكذا فأن الخطاب العقلي لا يلقى رواجا، والذي يسود هو الخطاب الإنفعالي العاطفي الذي يتفاعل مع النفوس ولا يقترب من العقول.

ومن هنا فأن الواجب يقع على الذين يجيدون مخاطبة النفوس، وإخراجها من أقبية الضلال التي تكبلها وتقضي على الوجود المجتمعي، بما تؤججه فيها من مرادات السوء والبغضاء والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، الذي تسوغه أنى تشاء أسواق بضائعها النكراء.

ثانيا: القائد بحاجة إلى نقدٍ ومعارضة!!

القائد هو الذي يعبّر عن إرادة مَن يقود، فهو صاحب مؤهلات وقدرات إستشرافية وآليات إدراكية، ومهارات تنفيذية تساهم في تحقيق مصالح شعبه أو مجتمعه أو دائرته ومؤسسته، أيا كان موقعه القيادي.

ولابد من إمتلاكه لقدرات إلهامية وقابليات تحفيزية، تثير في مَن يقود الحماس والإرادة للوصول إلى الهدف المطلوب وفقا للرؤية القيادية، ويكون صاحب أفكار، ويتمكن من التواصل بوضوح مع الآخرين.

ونزيها وأمينا صادقا، يقدّم حلولا ويحلل المواقف والمواجهات، ويبحث عن النتائج، ناجحا في علاقاته، مهنيا، يمتلك ستراتيجية، ويساهم بتطوير الآخرين وإبتكار القدرات.

ولا يمكنه أن يصل إلى نتائج ذات قيمة إنجازية ومؤثرة في التقدم والرقاء إن لم يكن متفاعلا، وقادرا على قراءة ما يجيش في أعماق الذين من حوله وتحت إمرته، ولهذا فهو بحاجة إلى نقدٍ وتقييم وتقدير لما يقوم به ويقرره، بمعنى أن عليه أن يُخضِع قرارته وتصوراته للنقد ولفحوصات معارضيه لكي يبصر سواء السبيل، وإلا فأنه سيكون كالميت الذي يتفاعل مع الحياة.

وهذا المفهوم للقائد يغيب في المجتمعات التي تقاسي ويعم فيها الفساد، وتهيمن على وجودها التداعيات والإنكسارات المتنوعة، ويخيّم على وجودها الإحباط واليأس والقنوط، وعدم الثقة بنفسها وحاضرها ومستقبلها.

فأول عاهة إعتبار المعارضة أعداء، وأي رأي معارض عدوان، والنقد إعتداء سافر على مقام السلطان، فالواقع الذي يؤدي إلى تداعيات مريرة، يؤكد إنتفاء مفهوم القائد وسيادة مفهوم الفردية والنزقية والتبعية، وتعطيل العقل ومصادرة الرأي، والقضاء على ما هو صالح لخدمة الوطن والمواطن.

فالعلة الكبرى أن الذي يتسنم المسؤولية في هذه المجتمعات يعيش في عالم منقطع عن الواقع الحقيقي للحياة، ويكون متأثرا بالمراسيم البروتوكولية والتفاعلات التبجيلية، التي تخرجه من كونه من بني آدم وتوهمه بأنه قد إعتلى عرش فرعون وأكثر، حتى ليُصاب بتشويشات إدراكية وتفاعلات هذيانية ووهمية تدفع به إلى إتخاذ قرارات فجائعية بحق نفسه وحزبه وشعبه وغير ذلك، وقد حصلت مثل هذه الحالات في مجتمعات عديدة أودت بالقادة إلى نهايات مروعة، بسبب الإنقطاعية وفقدان الحاسة القيادية الحقيقية، وعدم الشعور بأن الزمن يتحرك والدنيا تتبدل، فيتوطن القائد بركة من الأفكار والأوهام التي تتعفن وتفسد وتقضي على مَن فيها.

وعليه فأن القائد الحقيقي هو الذي يكون متقبلا للنقد ومُراجعا لما يقوم به، ومصغيا للمعارضين وتقييم وجهات نظرهم وآرائهم، والعمل على الأخذ بها أو ببعضها وعدم إهمالها والنظر إليها بعين الكراهية والعدوانية التي تتسبب بزيغان البصر.

فهل لدينا قادة بهذه المواصفات لكي تتقدم مجتمعاتنا ؟!!

ثالثا: النقد الحُكمي والسلوك الحتمي!!

أجاب أحد القراء الحاذقين عن سؤال، لماذا يتخذ الناس سُبلا تتعارض مع الحقائق والأدلة العلمية ويجنحون نحو إتباع الغيبيات، بقوله أن المثقفين والكتاب يوجهون لهم إنتقادات عامة وشديدة، مما يجعلهم في موقف دفاعي وتحدي رافض لما يصفونهم به!!

توقفت عند هذا الرأي أو الجواب وتفحصته جيدا!!

فهو رؤية من زاوية مختلفة تماما ويشير إلى نظرة تستحق الدراسة!!

فالسائد في الكتابات المنشورة أن الكاتب يضع نفسه في صومعة المثالية والعلائية، ويبدأ بالكتابة عن الحالة التي يتصدى لها، وأول ما يتناوله أنه يلغي العقل الجمعي ويحسب الناس قطيعا خانعا لقوة ما تتحكم بمصيرها، فينهال عليها بالأوصاف والتسميات التي تستحضرها ذاكرته ويبدعها قلمه، ولو أنه وُضِع مكانها لتصرف بأشد مما تتصرف به!!

فالأقلام تنهال على المجتمع وتشحذ فيه طاقات التمسك بما يقوم به وإن عَرَفَ بأنه خطأ، وذلك ردا على العدوان الواقع عليه من الكتاب والمثقفين، وبسبب ذلك فقدَ الكاتب والمثقف دوره في بناء الإنسان ومساعدة المجتمع للخروج من محنه المتواكبات.

أي أن الكاتب يساهم في شل المجتمع وتحرير طاقاته السلبية، ولا يعرف كيف يساعده على الإستثمار بطاقاته الإيجابية الصالحة لبناء الحياة الأفضل.

والواقع الحقيقي أن الناس موضوعة في صندوق، وتنهال عليهم القوى الطامعة فتجردهم من الإرادة والخيار وتندفع في تعليمهم العجز والإستسلام، ويأتي الكتاب ويزيدون الطين بلة، فيعززون السلوك الذي تريده القوى الطامعة بالبلاد والعباد.

والمطلوب أن يتنبه الكتاب إلى ما يكتبون، وكيف يكتبون ويختارون المفردات ويضعونها في عبارات ذات قيمة إيجابية، بدلا من التفاعل السطحي الإنفعالي الحُكمي المؤذي لمسيرة الحياة، والذي يدفع إلى مزيد من التداعيات والخسران.

فهل لنا أن نكون مع الجماهير وفيهم عندما نتناول ما يخصهم من الموضوعات، ونبتعد عن الخيالات والتصورات المستحضرة من المدن الإفلاطونية، والأوهام والهذيانات السرابية، التي إنشغل بها المفكرون والمثقفون العرب، وما إستطاعوا أن يؤسسوا لتيار فكري حضاري نهضوي معاصر.

رابعا: النقد النفسي!!

هو القراءة الموضوعية المحايدة للحالة بمنظار نفسي سلوكي بحت، ولا يعنيه الخطأ أو الصواب، وإنما تسليط الأضواء النفسية والسلوكية، ولتأكيد الرؤية التي تظهرها الأسئلة التي تطرحها، وهي مساهمة في التنقية والتطهير من الأضاليل الملوثة للحالة أيا كانت.

فالنقد النفسي ناصع طاهر مجرد من الميول العاطفية والمواقف المسبقة والتصورات المؤدلجة.

إنه ينظر بعيون السؤال ويبحث عن الجواب، ويغوص في حيثيات الحالة وفقا لمعطيات مكانها وزمانها، ولا يفرض عليها ما يعيشه في عصره الذي قد يبعد عنها قرونا عديدة.

ويبدو أن ما ينقص الواقع الفاعل فينا، أن القراءة النفسية غائبة، وما يسوده القراءات الإنحيازية المؤدلجة المتطرفة، الغارقة بالتبريرية والتسويقية، والهادفة لإستعباد الأجيال وتضليلها لأغراض معادية لروح الأمة وجوهر دينها، ومانعة لتطلعات أجيالها وقدرتهم على الحياة الأفضل.

وقد يرى فيها البعض غير ما تذهب إليه ويحسبها عدوانا عليه، وهذه مشكلته لأنه متسلح بعواطفه ومتخندق في ترسانة إنفعالاته، التي تمنعه من إعمال العقل وتوظيف طاقاته لما يحقق طموحاته ويكشف الغشاوة عن بصيرته، ويريه الحقيقة ويجرده من الضلال والبهتان والدجل المعفر بالقدسية والإمتهان.

وقد يبدو النقد النفسي خطيرا وخارجا عن النهج العام ويتجاوز الخطوط الحمراء، وقد يُتهم أصحابه بالكفر والزندقة والإلحاد ويتحقق الإعتداء عليهم.

وهذا سلوك المعادين للصراط المستقيم، الذي ما أن تلد الأمة من يأخذها إليه، حتى تثور ثائرة الوحوش الكامنة فيها، فتكشر عن أنيابها ومخالبها وتنقض على أصحاب الرأي من المصلحين والمفكرين والمنورين.

وكم عانت الأمة وأعطت من الشهداء على هذا الطريق الذي لا بد لها أن تسلك لأن ما ينفعها سيبقى وسيذهب الجفاء.

ويموت الضلال والتضليل وتدرك الأمة جوهرها وحقيقة دورها، ومعنى ذاتها الإنسانية.

وهكذا فأن من ضرورات المواكبة والمعاصرة والجريان الدافق في نهر الحياة، أن تستوعب المجتمعات أهمية النقد ودوره في إطلاق ما فيها من الطاقات والقدرات الأصيلة، لكي تكون بحجم ذاته ويسطع جوهرها.

فهل من جرأة في إعمال العقل، والنقد العلمي الواعي البنّاء؟!!

***

د. صادق السامرائي

أثار الروائي واسيني الأعرج ضجة ثقافية حول قصيدة " حيزية " للشاعر الشعبي محمد بن قيطون وما توصل إليه واسيني الأعرج من فرضيات أن حيزية ماتت مسمومة وأن الشاعر محمد بن قيطون هو عاشق حيزية وشخصية سعيد هي وهمية. كل هذا آثار نقاشا بين الكتاب والمثقفين وهو ظاهرة صحية حركت المياه الثقافية الراكدة.

يبين لنا الكاتب " مفيد نجم " العلاقة الملتبسة بين الرواية والتاريخ فيقول: "  تطرح العلاقة الملتبسة بين الرواية والتاريخ جملة من الأسئلة المنهجية والبنيوية حول طبيعة هذه العلاقة وحدودها، نظرا للتداخل الحاصل بينهما على مستوى الشكل والوظيفة من جهة، وعجز هذه الثنائية عن تقديم هوية سردية جامعة من جهة ثانية. يتم التعبير عن هذه الإشكالية من خلال الجدل المستمر حول المصطلح الدال على هذا النوع من الرواية بين كتاب الرواية والنقاد والدارسين. 

يتنازع مصطلح الرواية التاريخية طرفان مختلفان في الرؤية والمفهوم هما الرواية والتاريخ، فالرواية التي هي عمل ذاتي وفني وتخييلي يتميز عن الكتابة التاريخية التي تدعي الموضوعية وتعمل على تفسير التاريخ. من هنا كان الجدل وما زال مفتوحا بين النقاد والدارسين حول هذا المصطلح الملتبس والإشكالي وقدرته على التعبير عن واقع الرواية التي تظل محكومة بتأثير التاريخ عليها"(1).

قضايا التاريخ دائما تثار حولها ضجة خاصة إذا تناولها الروائيون في أعمال سردية والروائي بطبعه ليس مؤرخا بل يصنع من المادة التاريخية عملا سرديا متخيلا وإن كان يستند على الوقائع التاريخية..

وهذه  القضايا التاريخية التي تناولها الروائيون في أعمالهم الإبداعية وأثارت تلك الأعمال أثناء صدورها ردود أفعال متفاوتة بين متقبل للعمل وناكر له هي من صميم إبداعهم ككتاب مبدعين رأسمالهم الخيال فلا نحاسبهم على التفاصيل الدقيقة للأحداث التاريخية، فهناك من النقاد والدارسين من يكيلون الاتهام للروائي لأنه منحاز لوجهة نظر تاريخية على حساب وجهات نظر أخرى فكأن هذا الكاتب الروائي يسلط الضوء على مرحلة تاريخية معينة تخدم إيديولوجيته أو إيديولوجية دولة معينة طمعا في الفوز ببعض الجوائز وانتشار عمله الروائي على نطاق واسع وهذا مطمح كل كاتب.. فأين الحقيقة من كل هذا وكيف نظر النقاد إلى تناول الرواية للقضايا التاريخية؟

في البداية ينبغي أن نفرق بين التاريخ والتأريخ هكذا يقول الكاتب زياد الأحمد: "نبدأ بالتفريق بين التّاريخ والتأريخ: فالتأريخ بالهمز: هو الكتابة عمّا حدث أمّا التّاريخ فهو إعادة قراءة ما حدث، وإعادة كتابته بصورة أخرى أقرب إلى الحقيقة التاريخيّة ومن هنا كان الإشكال بين الرواية والتاريخ وليس التّأريخ (بالهمز) لأنّ الأديب يقرأ الأحداث بعينين: الأولى واقعية والثانية تخييلية ويعيد كتابتها في بنية فنية"(2)

فالكاتب ليس مؤرخا ينقل الأحداث كما وقعت نقلا حرفيا بل هو فنان يملك القدرة على التخيل فيستلهم من الواقع التاريخي مادة للأعمال الروائية يصبغها بذاته وتصوراته ويسقطها على الواقع المعاصر وكل هذا في عمل بنائي فني جمالي مبهر.

والسؤال المطروح هل الرواية تمثل تعويضا للتاريخ وبديلا عنه ؟فحسب  كارلوس فونتيس الروائي وعالم الاجتماع المكسيكي (1928-2012) فإن الرواية هي تعويض للتاريخ فهو يقول: “أعتقد أن الرواية تمثل الآن تعويضا للتاريخ، إنّها تقول ما يمتنع التّاريخ عن قوله…. نحن كتاب أميركا اللاتينية نعيد كتابة تاريخ مزور وصامت، فالرواية تقول ما يحجبه التّاريخ” (3).

وحتى يخرج النقاد من هذا الجدل حول إشكالية الرواية والتاريخ واتهام الروائي في كثير من الأحيان أنه يشوه الحقائق التاريخية لحساب قراءة منحازة إيديولوجية كما حدث للروائي الشاب " عبد الوهاب عيساوي " في روايته الفائزة بجائزة البوكر العالمية " الديوان الإسبرطي" ففي تقديمه لكتاب" الرواية والتاريخ، وقائع الأرشيف ومجازات السرد" لصبحي حديدي يقول الكاتب محمد بكري: "دعا عبدالله إبراهيم، في كتابه “التخيّل التاريخي” إلى إحلال مصطلح “التخيّل التاريخي” (الذي يعني المادة التاريخية المتشكلة بواسطة السرد، وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقية والوصفية وأصبحت تؤدي وظيفة جمالية ورمزية) محل مصطلح “الرواية التاريخية”، مؤكدا أن هذا الإحلال سوف يدفع بالكتابة السردية إلى تخطي مشكلة الأنواع الأدبية وحدودها ووظائفها، ويفكك ثنائية الرواية والتاريخ، ويعيد دمجهما في هوية سردية جديدة، فلا يرهن نفسه لأيّ منهما، كما أنه سوف يحيّد أمر البحث في مقدار خضوع التخيلات السردية لمبدأ مطابقة المرجعيات التاريخية، فينفتح على كتابة لا تحمل وقائع التاريخ ولا تعرّفها، إنما تبحث في طياتها عن العبر المتناظرة بين الماضي والحاضر، وبين التماثلات الرمزية فيما بينهما، فضلا عن استيحاء التأملات والمصائر والتوترات والانهيارات القيمية والتطلعات الكبرى، فتجعل منها أطرا ناظمة لأحداثها ودلالاتها"(4).

بهذا يتحرر الكاتب من تهمة تزوير التاريخ ويحاكم وكأنه مؤرخ ينقل الأحداث والوقائع كما هي لا كسارد يعتمد في كتاباته على مخيلته وإن كانت مستندة على مادة تاريخية فكتابته هي تاريخ متخيل او خيال يركن إلى فترة تاريخية معينة ..

***

الكاتب والباحث في التنمية البشرية

شدري معمر علي

........................

المراجع:

1- مفيد نجم، حوار الرواية والتاريخ: مشكلة المصطلح، مجلة الجديد.

2- زياد الأحمد، العلاقة بين الرواية والتاريخ، مجلة الجديد .

3- مجلة الكرمل العدد 18 نقلا عن مجلة الجديد..

4- محمد بكري، صبحي حديدي يدرس علاقة التاريخ بالرواية في أعمال سردية، جريدة العرب

(هكذا استثمر المبشرون في الثورات والحروب الأهلية بين الأنظمة والحركات الإسلامية)

يبحث المبشرون اليوم عن سبل العودة للمغرب الإسلامي مستغلين في ذلك تردي الأوضاع في البلدان العربية التي عاشت الثورات والحروب الأهلية كما تستغل مباحث تاريخ الأديان ومقارنتها في جامعات المغرب العربي لتطرح مشروعيتها، حيث اتجهت بعض المنظمات التنصيرية إلى أساليب جديدة في عملياتها التبشيرية، باستغلالها الأغاني الشعبية التي تغلب عليها الصبغة "الصوفية" وتحويلها إلى أغنية تنصيرية تدعو للتحول إلى النصرانية، وهي تعد من أخبث ألوان التخطيط، يحدث هذا أيضا في منطقة القبائل بالجزائر عن طريق تعليم تلاميذ المدارس أغاني تنصيرية.

يعود الاهتمام بالمغرب العربي كونه يعد من أكثر الأقطاب والبلدان ثراءً من ناحية الكثافة السكانية التي يزخر بها، حيث كان مسرحا للتنوع الثقافي، فكان اللعب على وتر هذا التنوع عاملا مساعدا للسيطرة على المنطقة وتنفيذ المخططات والقضاء على الوحدة القومية للمغرب العربي ونشر الأباطيل والشبهات حول الدين الإسلامي، ونشر كذلك الانحلال والتفسخ الأخلاقي ومظاهر الفسوق والمجون داخل المجتمع، والقضاء على التنوع الثقافي والعادات والتقاليد ونشر الثقافة الاستهلاكية والتبعية للغرب، فتاريخ التنصير في المغرب العربي بدأ منذ انحسار ظل الدولة الفاطمية وتدهور أوضاع دولة الموحدين، وهجرة رهبان الفرنسيسكان والدومنيكان إلى دول المغرب العربي والحملات التي قادها رامون لول، إلى غاية الاحتلال المسيحي لدول المغرب العربي، وشجع تسامح الحكومات المغاربية مع المسيحيين توغل المسيحيين والمتنصرين.

فبين الإسلام والغرب ضراوة أحقاد قديمة وعداء ديني من قبل الكنيسة كرد فعل للفتح الإسلامي الممتد في أوروبا وشقيقاتها، ما أدى إلى تحول الكنيسة إلى العالم الإسلامي وبالخصوص المغرب العربي، وما ساعد على الغزو التنصيري توافر المناخ الثقافي من خلال اللغة الفرنسية، على الرغم من أن مسار التعريب يواصل مجراه، فإن اللغة الفرنسية ما زالت تشكل أداة العمل في كل المواقع الإدارية منها والبيداغوجية، وقد كان لها دور كبير في تأهيل شعوب المغرب العربي في استقبال الإرساليات التنصيرية من خلال التبادل الثقافي، وقد سبق وأن سلط أكاديميون ومختصون في مقارنة الأديان الضوء على ظاهرة التنصير في المغرب العربي عامة وفي الجزائر خاصة في ملتقى حول الحركة التنصيرية في المغرب العربي، ناقش فيه أكاديميون ظروف تعرض أقطار المغرب العربي للظاهرة الاستعمارية الاحتلالية الحديثة وكيف مكنت هذه الأوضاع المبشرين من أن يندسوا ويبثوا سمومهم في نشر العقيدة الإنجيلية تحت كل المسميات: الإغاثة، التطبيب، حوار الثقافات وحوار الأديان.

لم يكن عامل الفقر والبطالة الخيط الذي ربط به المبشرون الشباب العربي وحده، فالمخطط النصراني شمل مختلف الجوانب الدينية والسياسية والثقافية من أجل خلق الصراع بين المسلمين، تذكر الأرقام أنه في الأيام الأولى من استقلال الجزائر (كعينة) كان هناك 327 كنيسة لأقل من 700 معمر أوروبي مسيحي ممن لم يرحلوا مع فرنسا وأثروا البقاء في الجزائر وبالمقابل لم يكن يتعدى عدد المساجد 116 مسجدا لأزيد من 08 مليون جزائري مسلم، وبعد اعتماد الكنائس من السلطات الرسمية في الفترة بين 1969 و1974 تأسست جمعيات تنصيرية، أهمها الجمعية الأسقفية الجزائرية واللجنة المسيحية للخدمة في الجزائر، تشير المصادر الى وجود 16 جمعية تنصيرية في الجزائر العاصمة وحدها، و20 جمعية في منطقة القبائل، هذا وبداية من سنة 2004 اجتاحت حملة تنصيرية شرسة ترمي إلى تمزيق الشعب المغربي المسلم عرقيا وعقديا وأخلاقيا، وتفتيت قوته وإضعاف مقاومته لإلغاء هويته الإسلامية وعروبته على يد أجنبي متكالب كي يتمكن من مسخ هويته واستنزاف ثروته الوطنية وتوسيع رقعة ما يطلق عليه اسم " فرنسا ما وراء البحار"، تذكر الدراسات عن ارتداد 2000 مغربي عن الإسلام في ظل وجود أكثر من 800 منصر، ومصادر أخرى تقول 500 منصر حسبما جاء في دراسة أجراها الباحث المغربي العايب يوسف نشرت في صحيفة المساء المغربية.

وفي تونس زاد عدد المسيحيين خلال السنوات الأخيرة وشكل قدوم أعداد كبيرة من الأفارقة المعتنقين للدين المسيحي، وامتد اعتناق المسيحية في تونس إلى مدينة جربة السياحية جنوبا، وفيها أعيد افتتاح كنيسة القدّيس يوسف بعد 30 سنة من إغلاقها، في تونس يفوق عدد المسيحيين اليوم 20 ألف مسيحي لهم 11 كنيسة، وتكشف نفس الدراسة أن الأرقام في موريتانيا تبقى شحيحة جدا لكن نشاط المنظمات التنصيرية يلقى تجاوبا كبيرا من المجتمع الموريتاني بسبب الفقر والجهل، وتوجد في موريتانيا أكثر من 100 منظمة غربية..، ولكون مسألة التنصير لم تطرح في ليبيا، شرعت بعض المنظمات في غرس هذا السم في قلب الشعب الليبي، تذكر تقارير تورط قساوسة ووعاظ يعملون لدى شركة أمريكية تعمل على نشر التبشير في ليبيا في إطار منظمة تحمل اسم "جماعة الله" وهي مؤسسةً دينيةً تضم أكثر من 13 ألف كنيسة منتشرة حول العالم، ومقرها في أمريكا، وتضمّ نحو 53 مليوناً من المسيحيين البروتستانت وينصبّ تركيزها على فئة الشباب، ولديها مؤسسات تعليمية خاصة، وتمتلك فروعاً في آسيا وإفريقيا وبعض الدول العربية وتهدف إلى نشر الديانة المسيحي.

الأسباب تعود إلى الأوضاع الحالية التي تمر بها البلاد، ضف إلى ذلك غياب الدعوة الإسلامية والصراعات التي تدور بين الحركات الإسلامية وانشغالها بالنزاعات السياسية إن استهداف ليبيا واستغلال ظروفها يعود إلى كونها من الدول السادسة عشر على مستوى العالم من حيث المساحة وتملك من بين الدول المطلة على البحر المتوسط ساحل عريض يبلغ طوله حوالي 2000 كلم، تتكون من ثلاثة أقاليم: طرابلس، برقة وفزان)، وتعد ليبيا من حيث الديانات متجانسة إلى أبعد ما يمكن حيث يدين غالبية البلاد بالدين الإسلامي ويتبع أغلبهم المذهب المالكي، والأقلية البربرية تتبع المذهب الإباضي، حيث يمثل عدد المسلمين بليبيا نسبة 67 بالمائة، و03 بالمائة فقط ينتمون إلى ديانات أخرى، وقد نبه باحثون ومنهم الدكتور محمد عبد الدايم علي سليمان محمد الجندي إلى الخطر الذي يهدد الشعوب العربية والإسلامية وبخاصة دول المغرب العربي، وهو أن بعض المنظومات التنصيرية اتجهت إلى أساليب جديدة في عملياتها التبشيرية، بحيث أصبحت تستغل الأغاني الشعبية التي تغلب عليها الصبغة الصوفية وتحويلها إلى أغنية تنصيرية تدعو للتحول إلى النصرانية، وهو من أمكر وأخبث ألوان التخطيط التي تستعملها المنظمات التبشيرية.

فقد اتخذت هذه المنظمات من مهنة التطبيب كذلك وسيلة لتحقيق مآرب التنصير، وخصوصا عند تقديم العلاج والكشف المجاني على الفقراء وصرف أدوية مجانية من طرف البعثات الطبية، ويسعى المبشرون الى تكريس مفهوم عولمة ديانة الإمبراطورية الأمريكية عن طريق التنصير الإلكتروني، وقد اشار إلى ذلك باحث جزائري هو الدكتور الحسين عمروش من جامعة المدية في إحدى دراساته، حيث تسيطر الولايات المتحدة على أغلبية المواقع الإلكترونية وتحارب عن طريقها العقائد والقوى العسكرية والاقتصادية المعادية، مستخدمة التكنولوجية الضخمة التي توفرها المؤسسات التنصيرية من جعل الفضاء الإلكتروني مسرحا للحرب المقدسة والتي تطال شريحة الشباب باعتبارهم الشريحة الأكثر قابلية للتأثر، ما جعل العلماء والدعاة دق ناقوس الخطر، والدعوة إلى وضع آليات سياسية وقانونية لمواجهة ظاهرة التنصير في المغرب العربي

***

علجية عيش 

قيل إن التكنولوجيا خطر يتهدد الكتاب المطبوع وأن عصر الكتاب المقروء انتهى، فهل حقاً من الممكن أن يتهدد العقل عقلاً أقل تطوراً؟! أم أن الخطر الحقيقي على الكتاب هو اللاعقل؟

قديماً كانت الحروب الهمجية هى العدو الأول للكتب، إذ كانت تقام محارق جماعية لكبري المكتبات العالمية الشهيرة تأكيداً لانتصار المنتصر، وطمساً لذاكرة الشعوب. واليوم نشهد سلوكاً مماثلاً لبعض الهمج من الحاقدين على الإسلام يحرقون المصاحف جهلاً منهم بأن كثيراً من المسلمين هم مصاحف تمشى على الأرض يحفظون القرآن عن ظهر قلب. فهل باستطاعة أعداء الكتب أن يهزوا عرشه؟

الآن هناك موجة قادمة من التقنيات المتطورة تتمثل فى الذكاء الاصطناعى والميتافيرس وتكنولوجيا الجيل الخامس..تأتى تلك الموجة فى ظل مخاوف من انهيارات اقتصادية ومجاعات تتهدد البشرية فى المستقبل طبقاً لبعض الدراسات المتشائمة، فهل يصبح الكتاب المطبوع عبئاً يتم التخلص منه تدريجياً لصالح الكتاب الإليكترونى؟ 

إعدام الكتاب عبر التاريخ

شهدت الحروب والصراعات الهمجية واللاأخلاقية استهدافاً متعمداً للنيل من التراث الحضارى للأمم عبر حرق الكتب والمكتبات الضخمة الجامعة لمختلف علوم الأرض، وقد تكرر هذا كثيراً فى التاريخ الإنسانى منذ ما قبل الميلاد؛ كما حدث من حرق مكتبة آشور بانيبال عام 612ق.م وحرق مكتبة برسيبوليس 330 ق.م والأشهر منهما ما حدث من حرق مكتبة الإسكندرية العظمى 48 ق.م على يد يوليوس قيصر.

المغول فعلوا ما هو أفظع وأفدح؛ فكانوا يبيدون فى طريق اجتياحهم لبلدان العالم كل ما هو حضارى ومنه الكتب..وعندما دخلوا بغداد عاصمة الخلافة العباسية آنذاك أتوا على كل ما تحويه مكتبة بغداد الكبري من كتب وصنعوا بها جسراً لعبور نهر الفرات حتى أن النهر تحول من البياض إلى السواد جراء ما سال من أحبار الكتب داخل النهر الجارى!

الحملات الصليبية أحرقت عشرات المكتبات الكبري فى طريقها لأورشليم واعتبرت أن مثل تلك الفعلة الشنعاء نوع من التقرب للرب! ومثل هذا حدث عندما سقطت الأندلس فى قبضة الموتورين.

حرب ضد القراءة

فطن الغزاة القدامَى إلى حقيقة أن التخلص من الكتب بالحرق والإغراق والإعدام والمصادرة لا يوقف سريان الأفكار واستمرارها ربما بصورة أقوى وأشد رسوخاً مما سبق. ما جعلهم يتخذون منحى مختلفاً يعمدون من خلاله إلى مواجهة الأفكار بأفكار مضادة، أو تزييفها بإدخال ما هو مكذوب بها، أو مجابهة الأفكار بالصور والمرئيات بأساليب متنوعة عرفت بالغزو الفكرى.. إنه نوع جديد من الحرب ضد الكتب بطريقة ناعمة ماكرة لا تصادرها وإنما تدمر ما بها من أفكار سليمة لتستبدلها بأفكار مضللة.

مثل تلك الطريقة الخبيثة استطاعت أن تفعل ما لم تستطعه الحروب والمحارق..فأمكن عن طريقها تشويه العقائد وتزييف التاريخ ونشر التطرف وإخضاع الأمم. التليفزيون والسينما والفضائيات والسوشيال ميديا تلك هى الآن سارقات الأبصار والعقول، فلا وقت لقراءة كتاب ولو لساعة واحدة كل يوم، لكن الوقت كله متاح للبقاء أمام الأفلام والبرامج والإعلانات والأغانى لساعات أطول من ساعات النوم! ذلك هو التحدى الأكبر أمام الكتاب المطبوع اليوم..

طبقاً لبعض الدراسات الحديثة أن العرب لا يقرأون إلا فى النادر إن قرأوا..وأن متوسط عدد ساعات القراءة لديهم يبلغ من خمسمائة إلى ستمائة دقيقة فى الشهر أى ما يعادل نحو عشر صفحات سنوياً أكثرها لمطالعة الصحف والمجلات! وأن ما يتم طباعته من الكتب سنوياً إذا قورن بتعداد العرب فى الوطن العربي فإنه يوازى كتاب واحد لكل 12 ألف عربي! بينما على الناحية المقابلة فإن الدول الغربية المصدرة لثقافة الصورة والمرئيات بها أرقام مختلفة لعدد المطبوعات والكتب ومدى انتشارها بين العامة فى المتنزهات ووسائل المواصلات بل وحتى فى السجون. إنهم يحضوننا لاستهلاك ثقافتهم المغرضة، ويحتفظون هم بهويتهم الثقافية التى يضمنون بها تفوقاً حضارياً  يدوم!

ذخائر الغد

الحرب المدعاة بين الكتاب الرقمى والمطبوع تأتى فى صالح الكتاب المطبوع وتحوله فى حقيقة الأمر إلى كنز وتحفة وتراث يحرص أبناء اليوم على اقتنائه، خوفاً من أن يقل إنتاجه غداً..

كثيرة هى الندوات والمحاضرات والمساجلات التى شرحت المخاطر التى تواجه الكتب المطبوعة بسبب ارتفاع تكلفتها واحتياجها لخدمات كتابة وطباعة وتوزيع ونقل وتخزين وإمكانية تعرضها للتلف. بينما الكتاب الإليكترونى على عكس ذلك زهيد التكلفة طويل العمر قليل الحاجة للخدمات يمكن تخزين آلاف منه فى ذاكرة إليكترونية ضئيلة الحجم. لكن فى المقابل يدافع الناشرون التقليديون عن مهنتهم بأن عشاق الكتاب التقليدى لا يستطيعون الاستغناء عن سحر الكتاب الورقى وأن القراءة الإليكترونية المثيرة للملل لا يمكن مقارنتها بالقراءة الحية الممتعة لكتاب تحبه وتصحبه وتستمتع بمظهره وملمسه.

مثل تلك الحالة من المواجهة لا تثير عندى مخاوف أو شكوك فى ضياع المعرفة ذاتها، لأن الاختلاف بين الكتاب الورقى والإليكترونى هو مجرد اختلاف وسائل وشكليات لا اختلاف فى الجوهر. تماماً كما تطورت الكتابة على الحجر إلى العظام والأخشاب والجلود ثم إلى الرقاع والأوراق، وكما تطورت الكتابة باليد إلى الطباعة اليدوية ثم الطباعة الآلية.. إنه اختلاف وسائل لا أكثر.. بل حتى لو شهدنا يوماً يأتى فتختفى فيه الكتب المطبوعة لتحل محلها الكتب المرئية والمسموعة، فسوف تتحول المكتبات العامة والخاصة إلى نوع جديد من المتاحف التراثية، وسوف يصير اقتناء الكتب المطبوعة نوعاً من الرفاهية لا يملكها إلا أصحاب الثروات.. ستتحول الكتب المطبوعة حينئذ لكنوز حقيقية!!

الإعلام والنشر.. بالذكاء الاصطناعى

أحدث صيحات الكتابة والنشر التجريبية تقنية تشات جى بى تى التى طورتها شركة أوبن للذكاء الاصطناعى من خلال تدريب الذكاء الاصطناعي باستخدام قواعد البيانات النصية على اختلاف مصادرها بما في ذلك الكتب والمجلات ونصوص ويكيبيديا، بحيث تم إدخال 300 مليار كلمة في ذاكرة العقل الإليكترونى بغرض إعادة تقديمه فى أية صورة تُطلب منه..هكذا يمكن لتشات جي بي تي عند الطلب أن يصوغ لك نصاً معقداً يبدو وكأنه كُتب من قبل محترفين... سواء كان هذا النص علمياً أو أدبياً أو صحفياً، الأمر الذى قد يفتح الباب للاستغناء عن قطاع كبير من العمالة فى مجالات الكتابة بأنواعها ومنها الكتابة البحثية والأكاديمية وفى مقدمتها النشر والصحافة والإعلام! بل إن إمكانيات مثل هذا الشكل من الذكاء الاصطناعى تصل إلى حد إمكانية استنساخ طريقة كبار الأدباء القدامَى كأن نجد روايات لنجيب محفوظ لم يكتبها قط! فإذا كانت مثل تلك القدرات الهائلة فى الكتابة تولدت لدى الذكاء الاصطناعى وهو لم يزل بعد صبياً يافعاً، فما بالنا إذا نضج وتطور أكثر؟!

السؤال الأهم فى حالتنا هو : كيف نعبر نحن تلك الفجوة بين أمية معرفية وثقافية وتقنية وغزو فكرى أعطب العقل العربي لنقفز إلى عصر قادم يختلف فيه شكل الثقافة عما هو الآن؟!

***

عبد السلام فاروق

لماذا تدخلت أوروبا مرتين لإنقاذ عدوتها "الدينية المفترضة" الدولة العثمانية من السقوط بعد هزيمتها العسكرية أمام مصر محمد علي باشا، ثم تدخلت ثالثةً لإنقاذ حكم حفيد محمد علي (الخديوي توفيق) من ثورة أحمد عرابي ووضعت مصر تحت الحماية البريطانية. عن هذه المحطات التأريخية الكبرى التي ربما يجهلها البعض أدرج أدناه الخلاصات التالية من أكثر من مصدر:

* اسمه الكامل محمد علي باشا المسعود بن إبراهيم آغا القوللين، من بلدة "قولة" التابعة لمحافظة مقدونيا شمال اليونان عام 1769، ومن أسرة ألبانية. (ادعى آخر ملوك هذه الأسرة الألبانية وهو فاروق نسبا هاشميا حسينياً وفق ما جاء في بيان نقابة الأشراف برئاسة "محمد الببلاوى"، المنشور في صحيفة الأهرام بتاريخ 6 أيار/مايو 1952، وهو ادعاء لم يؤكده طرف آخر). بدأ محمد علي حياته عسكرياً بسيطاً، لم يكن يتكلم غير اللغة الألبانية وشيئا من التركية، ضمن قوة "المتطوعين" الذين أجبرت المدن التابعة للسلطنة العثمانية - ومنها الألبانية - على تقديمهم عقب غزو نابليون لمصر في عام 1799، ثم عُين محمد علي قائدا مساعدا لهذه المفرزة المؤلفة من مئات الجنود. ولكنه برز سريعاً بفضل كفاءته وبراعته وشجاعته وترقى في السلم الوظيفي العسكري. في عام 1802 عُين محمد علي رئيسا لجميع الوحدات الألبانية في الجيش العثماني حتى هزيمة نابليون وانسحاب حملته من مصر إثر ثورة المصريين في 21 أكتوبر 1798، وبعد هزيمة نابليون أمام أسوار عكا وتحت الضغط البحري البريطاني المنافس.

* في مارس 1804، عيَّن الباب العالي والٍ عثماني جديد يدعى «أحمد خورشيد باشا»، الذي استشعر خطورة محمد علي وفرقته الألبانية، فتمكن الوالي من إجلاء المماليك إلى خارج القاهرة، وطلب من محمد علي التوجه إلى الصعيد لقتال المماليك، وأرسل إلى الآستانة طالباً بأن تمده بجيش من "الدلاة" وهم قوة من الجنود الأكراد ضمن الجيش العثماني عرفت بالبسالة والتهور والقسوة ولذلك أطلق عليهم اسم الدلاة أي "المجانين". وما أن وصل هذا الجيش حتى عاث في القاهرة فساداً ما أثار غضب الشعب، وطالب زعماؤه الوالي خورشيد باشا بكبح جماح تلك القوات، ولكنه فشل في ذلك، فاشتعلت انتفاضة شعبية أدت إلى عزل الوالي العثماني، واختار زعماء الشعب بقيادة عمر مكرم -نقيب الأشراف- محمد علي ليجلس محله. وفي 9 يوليو 1805، وأمام حكم الأمر الواقع، أصدر السلطان العثماني سليم الثالث فرماناً سلطانياً بعزل خورشيد باشا من ولاية مصر، وتولية محمد علي على مصر. اتبع محمد علي منذ الأيام الأولى من حكمه سياسة مستقلة، ولم ينسق قراراته مع اسطنبول.

* ظهر البريطانيون في مارس عام 1807 في حملة عسكرية قادها الجنرال ألكسندر ماكنزي بقوة قوامها 6000 عسكري أمام السواحل المصرية وتمكن من احتلال الإسكندرية، إلا أن محمد علي صد البريطانيين بهجوم مضاد وأجبرهم على الجلاء عن مصر.

* بعد أن ثبت أركان حكمه، شرع محمد علي في إصلاح الدولة، وبدأ بمساعدة ضباط أجانب في تحديث الجيش المصري، وتخلى عن التقاليد العسكرية القديمة التي اتبعها المماليك، وأعاد تشكيل قوات المشاة والمدفعية وجهزها بأسلحة حديثة، ومضى أبعد ببناء أسطول بحري قتالي.

* على خلفية تمرد بقايا الماليك على الإصلاحات الجارية وحرمانهم من امتيازاتهم، لم يتردد محمد علي في القضاء على تلك البقايا في ما عرف بمذبحة القلعة (سنة 1811 وقُتل فيها 470 مملوكاً) وعزز سلطاته بإنهاء الحكم المملوكي لمصر إلى الأبد.

*في عام 1831 شنَّ الجيش المصري بأمر من محمد علي حربا ضد السلطان العثماني، وزحف شمالا وسيطر على سوريا الغربية (وكانت تشمل لبنان الحالي، ومعه فلسطين والأردن)، وعبر الجيش المصري الأناضول وهدد بشكل مباشر القسطنطينية، إلا أن القوى الأوروبية ضغطت على محمد علي باشا وأجبرته على التراجع.

* بعد محاولة عثمانية فاشلة لاستعادة السيطرة على سوريا في عام 1839، أرسل محمد علي باشا حملة عسكرية جديدة ضد الدولة العثمانية في عام 1840، وهزم قواتها وانفتح الطريق أمامه رحباً للتقدم إلى القسطنطينية. وهذه المرة أيضا لم ينقذ الدولة العثمانية من السقوط في قبضة الجيش المصري إلا تدخل بريطانيا والنمسا. حيث قطعت الدولتان اتصالات الجيش المصري البرية والبحرية في خريف عام 1840، واستولى البريطانيون على بيروت وعكا، وأجبر محمد علي بموجب اتفاقية وقعت في 13 تموز /يوليو 1841 على إعادة معظم الأراضي في سوريا إلى الدولة العثمانية، إضافة إلى الأسطول العثماني الذي كان قد انشق في السابق وانضم إلى الجيش المصري. وتعرف هذه الاتفاقية باتفاقية المضائق بين (فرنسا وانكلترة والنمسا وبروسيا) والدولة العثمانية. وقد "تطورت اتفاقية المضائق كوسيلة لحماية الدولة العثمانية من الانهيار. فمصر في ذلك الوقت، بقيادة محمد علي باشا، ثارت على الدولة العثمانية. وقرر القيصر الروسي، نيقولاي الأول، أن سقوط العثمانيين سيكون كارثياً/ اتفاقية المضائق في "موسوعة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المعاصر".

* ثم تدخلت بريطانيا للمرة الثالثة وأنقذت حكم الخديوي توفيق من انتفاضة الجيش المصري الاستقلالية بقيادة أحمد عرابي وعززت حكم الخديوي ووضعته تحت حمايتها ووصايتها بعد هزيمة عرابي في معركة التل الكبير في 13 أيلول /سبتمبر عام 1882، وعززت سيطرة الخديوي توفيق مرة أخرى من الإنجليز بعد هزيمة الجيش المصري.

* بعد أن تمكنت أوروبا من انتزاع مخالب وأنياب محمد علي تركت له ولخلفائه حكم مصر والسودان وراثيا، وبقيت سلالة الخديوي في سدة الحكم حتى عام 1952، حين أطاحت حركة الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر بالملك فاروق، وتأسست جمهورية مصر.

* السؤال المركزي هو، هل كان هذا الصراع صراعاً دينياً كما يزعم البعض، فلماذا إذن تدخلت أوروبا في كل مرة نشأت فيها حالة حكم استقلالي في العالم العربي، ووقفت ضد انتصار الدولة المصرية الوليدة والمتمردة على العثمانيين الذين يزعم الخطاب السياسي الرسمي للطرفين أنهما (أوروبا والدولة العثمانية) عدوان تقليديان وتاريخيان دينياً، ثم وقفت - بريطانيا - ضد انتفاضة أحمد عرابي وأنقذت حكم حفيد محمد علي، الخديوي توفيق، ووضعت مصر تحت الوصاية البريطانية ثم تتالت التدخلات اللاحقة وصولا إلى العدوان الثلاثي سنة 1956 ضد مصر الجمهورية وما بعده؟

* هذا السؤال قد يبدو نافلا ولا يحتاج إلى جواب سريع ومختصر بل إلى تفكير طويل مشفوع بالممارسة الاستقلالية المقاوِمة للغرب الإمبريالي وإلا فلن تقوم قائمة لأي محاولة استقلالية "سياسية أو اقتصادية أو ثقافية" في المنطقة العربية كلها.

تلك هي حكمة التاريخ وخلاصة تفاصيل العلاقة الصراعية العنيفة، ذات الأساس الجغراسياسي والاقتصادي، بين ضفتي البحر المتوسط، الجنوبية الشرقية العربية والشمالية الأوروبية في القرنين الماضيين وقبلها دارت تجارب استقلالية مشرقية مشابهة بين هاتين الضفتين، أقدم عهداً وتمتد إلى العهود الوثنية كما هي الحال في الحروب البونيقية الثلاث بين روما الإمبراطورية وقرطاجنة الفينيقية الساعية إلى الاستقلال. لقد اختتمت تلك الحروب بهزيمة حنة بعل (247 ق.م) وتدمير قرطاجنة من قبل الجيوش الرومانية التي رفعت شعار "قرطاجنة يجب أن تزول إلى الأبد"، وبعد ذلك في تجربة دولة زنوبيا (272م) في تدمر الوثنية الآرامية، والتي انتهت بدورها نهاية مأساوية بسيوف جيوش الإمبراطور الروماني أورليان وماتت زنوبيا أسيرة في روما حسب بعض الروايات، ولكن تدمر انتفضت في ثورة عارمة بعد عام واحد فعادت إليها جيوش أورليان ودمرتها تماما. ولكن نزوع الدويلات العربية لم ينته، وتوِّج بحرب الفتح والتحرير العربية الإسلامية وتم تحرير العراق وبلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا في القرن السابع الميلادي، لتبدأ صفحات أخرى من الصراع بين ضفتي المتوسط وما تزال تترى فصولا حتى يومنا هذا!

***

علاء اللامي

تتعلق الفلسفة بالذكاء الاصطناعي بشكل كبير من حيث تناولها للأسئلة الأساسية حول طبيعة الذكاء والوعي والحوسبة  ..إلخ حيث تعتبر أساسًا لتطوير الذكاء الاصطناعي لأنها تساعد في تحديد الأسئلة والإشكاليات التي يجب حلها، وتساعد على تحليل وتفسير النتائج التي يتوصل إليها الذكاء الاصطناعي.

على سبيل المثال، تتعلق الفلسفة بالأسئلة المرتبطة بالوعي والذات والأخلاق، وتلعب هذه الأسئلة دورًا هاما للغاية في تطوير الذكاء الاصطناعي، حيث يتم الاعتماد على مفاهيم الوعي والذات في تصميم وتطوير الأنظمة الذكية التي يمكنها اتخاذ القرارات والتفاعل مع العالم بطريقة تشبه الإنسان.

بالإضافة إلى ذلك، تساعد الفلسفة في تحديد الآثار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للذكاء الاصطناعي، وتحديد النقاط القوية والضعيفة للتطبيقات الذكية في المجتمع. وبهذه الطريقة، تساعد الفلسفة في توجيه التطور التقني نحو الفوائد الأكبر للإنسانية بشكل عام لأنها تشكل إطارًا نظريًا يمكن من خلاله تحليل الآثار الاجتماعية والأخلاقية والسياسية للتطور التقني.

فعلى سبيل المثال، عندما يتم تطوير نظام ذكاء اصطناعي جديد، يمكن للفلسفة أن تساعد في تحديد الآثار الاجتماعية لهذا النظام، مثل تأثيره على سوق الشغل والاقتصاد، وتحديد مدى تأثيره على الحياة اليومية للأفراد في المجتمع. كما يمكن للفلسفة أن تساعد في تحديد الآثار الأخلاقية للنظام، مثل مسألة الخصوصية والتحكم في البيانات الشخصية، ومسألة تأثير النظام على حرية الأفراد.

كما يمكن للفلسفة أن تساعد في تحديد النقاط القوية والضعيفة للتطبيقات الذكية، وتحديد المجالات التي يمكن للتكنولوجيا أن تقدم فيها أكبر قدر من الفائدة للإنسانية.

ولذلك، فإن الفلسفة تلعب دورًا هامًا في توجيه التطور التقني نحو الفوائد الأكبر للإنسانية بشكل عام، وتساعد في تحديد السبل الأفضل لاستخدام التكنولوجيا لتلبية احتياجات الإنسان وتحسين جودة الحياة في المجتمع ، لأنها توفر الإطار الفكري اللازم لتحليل وفهم الآثار الاجتماعية والأخلاقية والسياسية للتكنولوجيا والابتكارات التقنية المختلفة.

فالتكنولوجيا ليست مجرد مجموعة من الأدوات والأجهزة التي يمكن استخدامها لتحقيق أهداف محددة، بل هي أيضًا نظام من القيم والمعتقدات والمفاهيم الفلسفية التي تحكم استخدام هذه التكنولوجيا وأثرها على الإنسان والمجتمع.

وعلاوة على ذلك، فإن الفلسفة تساعد في رسم خريطة للمخاطر والتحديات التي تواجه التكنولوجيا والابتكارات التقنية، وتساعد في تحديد السياسات والإجراءات التي يجب اتخاذها للحد من هذه المخاطر والتحديات وتعزيز فوائدها للإنسانية.

أخيرا إن الفلسفة تساعد في تشجيع النقد والتفكير النقدي حول التكنولوجيا والابتكارات التقنية، وتساعد في تحديد الاحتياجات والاهتمامات والأولويات التي يجب أن تتوجه إليها الأبحاث والتطور التقني.

وبهذه الطريقة، يمكن أن تلعب الفلسفة دورًا هامًا في توجيه هذا التطور التقني في مجال الذكاء الاصطناعي نحو الفوائد الأكبر للإنسانية، وفي تحقيق التوازن بين الاستفادة من التكنولوجيا والحفاظ على القيم الأخلاقية والاجتماعية الهامة للإنسانية.

***

عبده حقي

اختراق سيادة المهن الهندسية والقطاعات الحكومية

اجتمعت رسميا مع بعض المهندسين في إطار تظاهرة خاصة. لم أجد كتقديم لمداخلتي بعد إعطائي الكلمة سوى التنبيه بالغزو المتوغل المخيف للإلكترونيات والذكاء الاصطناعي للعالم ثم الحديث عن ما تعرفه المهن الهندسية التقليدية والقطاعات الحكومية الكلاسيكية من اختراق لسيادتها. كل الدول عزمت على استثمار الغالي والنفيس من ثرواتها الوطنية واضعة نصب عينيها حاجتها الملحة لرفع التحديات المفروضة لتجنب المخاطر المستقبلية متشبثة بالاستماتة في الصمود لإعلان حضورها الوازن في المواعيد الزمنية المحددة مسبقا، وبالتالي لعب الأدوار المنتظرة منها في مجالات المنافسة والتباري والدفاع على حق وجودها المستقل، ومن تم ضمان الاعتراف المستحق بأحقية إسهامها في الدورات التفاوضية على المصالح المشتركة بمنطق "رابح - رابح".

إن توقيت إعلان لحظة الحسم الدولي في تقييم مستوى قدرات المجتمعات ومؤسساتها على الاستمرارية في إطار الاستقرار وشيك للغاية. لقد تم فرض إجبارية تجاوز التقليد في الرؤية وبلورة السياسات العمومية وتنفيذها. الظرفيات الاقتصادية والسياسية الكونية المتعاقبة في الزمن لن تحتمل مستقبلا ككيانات تاريخية فاعلة إلا من صُنِّفَ منها ضمن لائحة الدول القادرة على تحقيق المؤشرات التنموية المتوافق في شأنها، والتي تمنحها المصداقية في مقاومتها للتقليدانية في منطق ممارسة السلطة وتجاوزها. إن سر وجودها سيرتبط بطبيعة أداء فعلها العمومي. بكل تأكيد، ترسيخ شروط الاستمرارية سيرتبط بالكفاءة في مراكمة مقومات الاستحقاق الوجودي. إنه عصر لن يتيح إمكانية التموقع الطبيعي في سوق المنافسة العالمي بشقيه السياسي والاقتصادي إلا للدول التي تبذل الجهود الحقيقية لتقوية الروابط بين المجالات السالفة الذكر (إذكاء حياة الإنسان، تقوية الروابط بشكل قار بين العلوم والهندسة الرقمية والبرامج الحكومية القطاعية والذكاء الاصطناعي). الديمقراطية في هذا السياق تحتاج إلى أحزاب وجماعات ترابية حديثة ببنيات عصرية منفتحة وأساليب عمل متطورة وأنماط تدبيرناجعة وقدرة عالية على تحمل المسؤولية في خلق التحولات المؤسساتية برهاناتها الصعبة.

التكنولوجيا الإلكترونية تتطور ماديا بسرعة فائقة. في نفس الآن، يشتد الحرص لدى المبرمجين للرفع من مستوى استغلال امكانيات مكوناتها الدقيقة الذكية. الحواسيب تحولت إلى وعاء لبلورة وتجريب التطبيقات والبرامج الجديدة. وهنا، برز ما يسمى اليوم بالذكاء الاصطناعي. انتشرت تطبيقاته المتطورة بشكل كبير. يقتنيها المهندسون والمحررون والمحامون والإداريون والسياسيون وأصحاب المهن الرائدة لتسهيل مأمورياتهم ومشاريعهم وانشغالاتهم. السلط القيادية المتنافسة على المصالح الحيوية في العالم بمجتمعاتها المختلفة ثقافيا تسعى إلى تحرير شعوبها من الأشغال المضنية ليتفرغوا للتفكير والإبداع والابتكار. التطور الديمغرافي للعالم لا يسمح بتضييع الوقت في اعتماد الطرق المتجاوزة في صياغة الخطابات وتحرير التقارير والمحاضر وتركيب الفيديوهات وملصقات الإعلانات الإشهارية والتسويقية..... الذكاء الآلي يكتسح العالم بدون مقاومة تذكر. لقد أصبح أكثر انتشارا وعرفت التطبيقات المتعلقة به طفرة استثنائية مخيفة لا يمكن أن يصدقها إلا المتتبعون النبهاء.

إن إنتاجات التطبيقات الذكية (Outputs) تقتات من أجمل الإبداعات البشرية وتقدم عروضا تحاكي أفضل الموجودات تفكيرا وتعبيرا وجمالية. عندما يصل التفكير المجرد والتطبيقي الهندسي إلى نقطة النهاية في موضوع ما، لا يجد رواده أدنى صعوبة في عرض وإبراز قيمة إبداعاته المكتملة على العملاء والمهتمين. هؤلاء الرواد أصبحوا يتقنون التحرير الآلي للكتابات المهنية وتصميم الصور والفيديوهات التسويقية والمصادقة على صياغتها النهائية. المهنيون تحرروا إلى حد بعيد من جل الصعوبات المادية والمعنوية التي كانت تعترضهم في جمع المعلومات والتكوين والتسويق والتدبير الإداري والمالي.

التطبيقات المتطورة اليوم تتفاعل بقوة مع المُستخدِم مُكَثفَة التواصل معه. إن ما يصدر عنها يوازي أجود ما أنتجته البشرية لغويا وفنيا. ارتقى المنتوج الإبداعي وأصبح يتوفر على بنيات جذابة شكلا ومضمونا. اُمْتُزِج في تشكيلهما الحرف والصورة والصوت والألوان المغرية. أكثر من ذلك، لقد أصبح بمقدور هذه التطبيقات فهم مقصود المُستخدِمين. تجيب عن أسئلتهم، فتحقق في النهاية ما يصبون إليه بإتقان مبهر. المنتوج المستخلص يشعرهم بالرهبة، فتتاح بذلك فرص اتخاذ القرارات الصائبة ذات الجودة العالية. هذا التفاعل يمكن كذلك من تحليل ما يصدر عن عصفهم الذّهني من أفكار وانفعالات، فتنبعث على إثره على الشاشات الكبرى الأفكار الراقية والموضوعات النصية الاحترافية، واللوحات التسويقية الجذابة ذات القدرات الهائلة لاستقطاب العملاء التجاريين والمستهلكين. بهذه البرامج لم يعد عسيرا أمام المهنيين كتابة النصوص المهنية ولا ترجمتها بإتقان. حتى نصوص البرامج المعلوماتية الشخصية (Codes) يتم تصحيحها واقتراح حلول لتحسينها.

في هذا العصر المخيف بعالمه الافتراضي المغمور بالنصوص والصور والفيديوهات، يجد المستهلكون أنفسهم أمام مخاطبين آليين. يستقبلون محادثات وتعليمات صوتيَّة، يتحدثون مع حواسيبهم وسياراتهم.. يختارون المخاطبين، ويُجْرُون مُكالَمات، ويرسلون رسائل نصيَّة، ويجيبون على الأسئلة المطروحة ويقدمون التّوصيَات المناسبة. إنها برامج ذكية تحاكي الكلام الطبيعي وتجيب بالدقة المتناهية على الاستفسارات والتساؤلات.

من الناحية الأمنية، تم إعداد التصاميم لضمان حماية سرية المحادثات بين المستعملين. كل التطبيقات تتمتع بخاصيَة التشفير التام لما يصدر بين الأطراف المتفاعلة. البيانات الحرفية والصوتية والفيديوهات والصور لا يمكن الاطلاع على مضمونها حتى وإن تمت قرصنتها. تحولت الترجمة الآلية إلى دعامة للسياحة عبر العالم. لم يعد هناك ما يستدعي التردد في السفر إلى الخارج بسبب عدم الإلمام بلغة شعوب الأقطار التي يراد زيارتها. بهذا الذكاء كذلك، أصبح يسيرا تذكر الأمكنة والتوجه إليها بسهولة والعثور على الحاجيات المسروقة أو الضائعة والولوج إلى مرافق الإيواء والتغذية.

المكونات الإلكترونية الصغيرة أصبحت تتلقّي الأوامر الصوتيَّة وتحللها ثم تقوم بتنفيذها بدقة عالية. كما يمكن استغلالها في البحث عبر الإنترنت وفحص البريد الإلكتروني وإعداد وتنفيذ مخططات البرامج اليومية.. كما تمكن من ربط أجهزة الكمبيوتر بالهواتف الذكية، وبالتالي تبادل التنبيهات الضرورية والاطلاع عن بعد على الملفات ومعالجتها. بهذا الذكاء الخارق للعادة، توفرت فضاءات الكترونية للتمتع بالموسيقى وإمكانيات التحكم عبر الهاتف في تجهيزات المنازل الذكيَّة (جهاز التلفزيون والتكييف والسيارة وكاميرات المراقبة..). كما أصبح بإمكان المستعملين الاستفادة من برامج التنبيه والتذكير بالمواعيد المُستقبليَة وطلب الحاجيات عن بعد، وتسجيل المكالمات الهاتفيَّة.

الإبداع في هذا المجال يتيح اليوم إمكانية المحادثة الشخصية مع مُساعِد افتراضيّ مُبرمج بلغة وأسلوب راقيين. لقد أصبح في متناول مستخدمي التكنولوجيا توطيد علاقة صداقة مع كائن آلي تُشبه الصداقات الحقيقيَّة. يتدرب التَّطبيق على أنواع الحوار ويراكم ويبلور منطقا يتقن الإجابات والمحادثات، وكأننا أمام روبوت يترعرع وينمو إدراكه كالإنسان. يراكم وينضج ويتمكن من الاحترافية في تصنيف الردود واختيار الكلمات والعبارات المناسبة. تربية الروبوت، بالرغم ما يحمله هذا التطور من مخاطر في السلوكات النفسية للإنسان أصبحت أمرا ممكنا. يقوم المربي البشري في البداية بتوجيه مجموعة من الأوامر السَّريعة المعروفة إلى الروبوت فيقوم بتنفيذها على الفور.

فكر رواد قيادة العالم أكثر في تسويق وترويج جودة الخاصيات الذاتية للإنسان ومراكز جودة خدماته وسلعه. صناعة المحتوى المرئي باحترافية أصبحت أمرا شائعا ونافعا. هناك تطبيقات لجمع المعلومات وتحليلها وتقديم إجابات على الأسئلة المُختلفة وتحليل الإشكاليات المعقدة. الروبوتات بالتطبيقات الحالية تعلم نفسها بنفسها وتقدم مع مرور الوقت إجابات مثلى على أعقد الأسئلة وتنجز الحسابات الرقمية المعقدة. أما تعلم اللغات، فأصبح يتم بطريقة منهجية عالية الجودة. التطبيقات تساعد اليوم المستعمل على تجويد نطقه اللغوي وتتابع تطور مستواه وتقيمه باستمرار. أما أجيال السيارات الجديدة فأصبحت ذاتية التحكّم ومجالات عبورها يمكن أن تتجاوز الطرقات لتطفو فوق الماء وتخترق الفضاء بسرعة متزايدة.

لقد نحج الإنسان في مساعيه البحثية لخلق وسائل تمكّن الآلة من محاكاة جوانب الذكاء البشري. سنة 2016 كانت محورية في هذا الشأن. تشعّبت بعد ذلك التطبيقات المعلوماتية في الحياة العملية. الكل يعترف اليوم بالضجة الإعلامية التي خلقها الآلي الذكي "صوفيا" وقدراته على بناء علاقات شبه حقيقية مع البشر.  تتفرع اليوم أنواع الذكاء الاصطناعي إلى أقسام. مرت من أبسط أنواعه المركزة على الوظائف الأساسية فقط ثم شملت الأنواع الأكثر تقدّمًا. هي اليوم بمثابة كيان واعٍ تمامًا بذاته وبما يدور حوله، ويشبه إلى حدّ كبير الوعي البشري. لقد تم تجاوز الآلات التفاعلية محدودة الذاكرة. هناك طموح لاعتماد نظرية العقل في تقوية الوعي الذاتي، ليصل عالم اليوم إلى ممارسات بجاذبية قصوى وبإمكانيات برنامجية جديدة لا تتيح الفرصة بضغوطاتها للتفكير في مخاطرها. لقد اكتسحت الآلات التفاعلية حياة الإنسان كونيا. لقد تمكن برنامج ذكي من هزم بطل العالم في لعبة الشطرنج.

برامج التعرّف على الصوت والصورة متعددة ومتنوعة. روبوتات المحادثة على المواقع الإلكترونية غمرت حياة الإنسان ألفة. أبحاث نظرية العقل كمرحلة مقبلة تم وضعها على طاولة القرار السياسي العالمي. الآلة ستكون مستقبلا جد ذكية في فهم الإنسان المتفاعل معها. ستعبر لا محالة عن قدرة عالية لاستيعاب احتياجات المخاطبين ومشاعرهم وحتى مبادئهم ومنطق تفكيرهم وتساعدهم على الشعور بحال أفضل. الأبحاث مستمرة ومكثفة في مجال الذكاء العاطفي الاصطناعي والوعي الذاتي، وقد يصل مستوى الابتكار إلى تطوير ذكاء اصطناعي واعٍ بنفسه وله ذكاءٌ خاصّ ومستقلّ بذاته. قد يتفاوض الإنسان مع الآلة وقد تتفاوض الآلة مع مثيلتها. لقد فسح المجال اليوم للتفكير في الكثير من الافتراضات والتوقّعات والتخيّلات. قد يتواجد إنسان إلى جانب كائن آلي تمّ تصنيعه بغاية التسويق مثلا. نفس التطور سيغزو الخدمات المصرفية. سيستفيد العملاء من الدعم الدائم، ومن إمكانية اكتشاف التلاعب والنصب وعمليات الاحتيال في التعاطي مع الحسابات البنكية (مثلا تدعيم الرقم السري للزبون بصمة اليد أو العين أو الصوت). على المستوى الصحي، تتطور التطبيقات الذكية لتحسين نظام الوقاية من السكتة الدماغية والكشف عن أمراض القلب وتتبّع أداء الأشخاص المسنّين ومساعدتهم على تطويل سن استقلاليتهم الوجودية، واختراع وتطوير أدوية جديدة واستعمالها بطريقة صحيحة... في مجال اكتشاف الفضاء (الفلك) والتعلم الآلي، لقد تمت الاستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعي لدراسة وتحليل البيانات الفضائية وتحديد واكتشاف أنظمة مجرات وأنظمة شمسية وكواكب تبعد عن الأرض بآلاف وملايين السنين الضوئية. بهذا الذكاء كذلك طورت الدول المتقدمة المسبارات والمركبات الفضائية التي تجوب كوكب المريخ وتكتشف خفاياه وكذا التقدم في الأبحاث العلمية لاختراع المركبات التي ستقل آلاف المسافرين إلى هذا الكوكب العجيب. على مستوى التعليم، قد نفترض في المستقبل القريب خلق روبوتات تلعب دور المعلّم وتقوم بإعطاء المحاضرات والدروس. الذكاء الاصطناعي يساعد اليوم المعلّمين في أداء بعض المهام الإدارية كإجراء التقييمات وإعداد الدروس والاختبارات.

وعيا بمتطلبات المستقبل، تحول الذكاء الاصطناعي إلى تخصص هندسي أكاديمي وارتبط بقوة الواقع بكل المهن الهندسية التطبيقية الأخرى. تطبيقاته ستخترق حدود سيادات الوظائف المستقبلية. على الأحزاب السياسية أن تؤسس مختبرات قارة لتعميق البحث في تقوية الروابط بين العلوم المجردة والإلكترونيات والهندسة والذكاء الاصطناعي. إنه المطلب الذي سيرفع مستقبلا من الوعي الحكومي لتعميم هذه المختبرات على مختلف القطاعات الحكومية.

***

الحسين بوخرطة

أعرف أشخاصاً يقرؤون كلَّ شيء يقع بأيديهم منذ عشرات السنين، لكنهم مصابون بسوء هضم. مطالعاتهم لا تعمل إلا على تكديس المزيد من المعلومات العشوائية، بلا أن تلهمهم أسئلةً جديدة، أو تضيء عقولَهم رؤيةٌ أعمق وأدق للعالم، أو تضعهم تلك المطالعاتُ في الأفق الراهن لزمانهم. ليس المهم كمية ما يقرأ الإنسان، المهم نوعية ما يقرأ، وكيفية تلقيه لما يقرأه، وقدرة عقله على تمثله وتوظيفه، وتجلي أثرِه في نمط تفكيره وشخصيته وسلوكه. بعضُ القراء ليس له من قراءته إلا المزيد من التيه والتخبط وتشوه الوعي. إنه كمن يأكل الكثيرَ من الطعام بشراهة، إلا أنه مصابٌ بسوء هضم، فمعدته تعجز عن هضم معظم ما يأكله، ما تهضمه من الطعام يعجز جسدُه عن استثماره في عملية التمثيل الغذائي وبناء الجسد. أعرف رجلًا في العقد التاسع من عمره، بدأ يقرأ منذ بداية حياته، يقرأ حيثما يكون، يقرأ كلَّ كتاب يقع بيده مهما كان، ‏إلا أن وعيَه لم يتطور أبدًا، لبث قابعًا في بيئته الأولى، لم تمنحه القراءةُ القدرةَ على اكتشاف آفاق رحبة في الحياة، ولم تلهمه أيةَ أسئلة. لا يمكن أن يصدق على أمثال هذا الإنسان عنوانُ قارئ، على الرغم من غزارة قراءاته وتنوعها. قراءاته كانت ومازالت حتى اليوم تتخبط بشكلٍ عشوائي بين عشرات الكتب الرثة، وهذا الصنف من الكتب رائج في أسواق الكتاب. القراءةُ العشوائية عاجزةٌ عن التمييز والفرز والتمحيص، تفتقر للقدرة على الإنصات لأيّ صوتٍ ينبعث من الكتب، كأن كلَّ الكتب في هذه القراءة لغتُها ومضمونُها وأفكارُها متشابهة. الكتبُ الجيدة يتطلب اكتشافُها خبرةَ قارئٍ ذكي، ويتطلب التعلّمُ منها عقلًا شجاعًا، والتفاعلُ معها استعدادًا نفسيًا. أعرف مدرسًا للتراث، يقرأ الفلسفةَ والأدب والفن والسينما والمسرح والرياضة والعلوم، يشتري الكتبَ مهما كان ثمنُها، يمتلك مكتبةً تزدحم فيها أصنافٌ لا تأتلف من الكتب والدوريات، يمضي كلَّ أوقات فراغه في المطالعة، يسهر الليلَ غالبًا أيام العطل إلى الفجر، يلتهم بشغفٍ كلَّ شيء تحت يده من رواياتٍ عالمية، وأعمال فلاسفة ومفكرين كبار، ذهنُه مخزنٌ واسع مكتظّ بمعلومات مكدّسة، كأنها مطموراتٌ تحت ركامٍ معتم، لا تنتظم بسياقٍ منطقي، ولا ينبثق منها ضوءٌ يبدّد عتمتَها. رأيتُه كلّما قرأ أكثر ازداد انغلاقًا وتشدّدًا ومعاندة لأية رؤيةٍ مضادة لما يتبناه. يمتلك قدرةً على إماتةِ بذرة أيِّ سؤال، وإسكاتِ أيّ صوتٍ غير مألوف في قراءاته، وإغلاقِ النوافذ أمام كلِّ ما يمكن أن يزلزل شيئًا من أحكامة النهائية وقناعاته الصارمة. كأن ذهنَه تشكله قوالبُ خرسانية غير قابلة للاختراق أبدًا، مهما كان إبداعُ ما يقرأه من روايات مشاهير، وعقلانية وعمق نصوص فلاسفة أمثال كانط، وحفريات أعمال مفكرين في الشرق والغرب. أظنّ البنيةَ اللاوعية لتفكيره، وأفقَ انتظاره وتمنياته وأحلامه ورغباته، تجعل ذهنَه يتحصن بأسوار منيعة، ذهنُه قادر على إجهاض أية محاولة لإيقاظه، وإطفاء شعلة أي تساؤل غريب يمكن أن يخترقه. أراه يشعر بأمان وهو يتشبث بهذه اليقينيات، يظل يحرسها بطريقة لا تسمح لأية فكرةٍ مهما كانت عقلانيةً أن تتسلل إلى حصونها.

بعد مدة من السياحة في عالم الكتب ينبغي على القارئ أن ينتقي ما يقرأه بنباهة ويقظة. العناوين الجذابة كثيرة، غير أن مضمونَ معظمها رديء.كلُّ يوم تضيف دورُ النشر أكداسًا من الكتب في مختلف الآداب والفنون وحقول المعرفة، لا يكفي العمر مهما امتدّ حتى لمطالعة ما هو جيد منها، فكيف يضيّع الإنسانُ العمرَ بكتب بائسة. كما يعمل الإنسانُ على انتقاء أحسن الأشياء من كلِّ شيء، عليه أن ينتقي الكتابَ الذي هو منبعٌ أساسي في بناء وعيه بمهارة. القراءةُ العشوائية إن كانت بدايةً لقراءة تنشد الاكتشافَ واتساعَ آفاق ثقافة الإنسان فهي ضرورية، غير أن من الضروري عبورَها عاجلًا، قبل ضياع سنوات بتخبط فيها الإنسانُ بين الكتب، ربما تقوده إلى متاهات مظلمة يغرق فيها ويعجز عن انقاذ نفسه منها إلى اليوم الأخير من حياته. أتحدثُ عن العشوائية بوصفها حالةً ملازمة للقراءة، تأكل عمرَ القارئ، وتستنزف وقتَه، ولا يجني منها ثمارًا تنعكس على وعيه وثقافته، ولا تترك أثرًا ملموسًا في حياته. إن كانت القراءةُ لغرض التسلية فهي ضروريةٌ أحيانًا مهما كان نوعُ الكتب المقروءة، ضروريةٌ للترويحِ عن النفس، وكسرِ الرتابة الصارمة، وربما للخلاصِ من الملل والسأم والضجر.

ما يخدع القراء من الكتب ويزيّف وعيَهم ليس قليلًا، مثل هذه الكتب ينبغي الفرار من شراكها. لا يعكس تعدّدُ عناوين الكتب ‏واختلافُها تنوع مضمونها، أحيانًا التعدّد تكرارٌ مملّ لكلمات خاوية، لا تجيد رسمَ صورة ما تنشده بلغةٍ صافية، قلّما نقرأ مَن يمتلك موهبةَ إعادة بناء الكلمات ورصفها بتشكيلةٍ معمارية فاتنة. تسود مجتمعنَا حالةُ شغفٍ بالكلام، وطالما تحول الكلامُ إلى ركام كتبٍ مبتذلة لا تقول شيئًا مفيدًا، يضيع فيها عمرُ القراء ويزيف وعيُهم. أعرف رجالَ دين لا يعرفون الكتابة، يتحدثون كثيرًا بثقة عن كلِّ شيء يعرفونه ولا يعرفونه، تتراكم تحتَ أيديهم أموالًا لم يبذلوا جهدًا في اكتسابها، يجندون طلابَ العلم المحتاجين إلى قوتِ يومهم، لينتجوا لهم كتبًا من ركام كلماتهم، بعد سنوات قليلة يباغتون القراء بنشر عشرات المجلدات بأسمائهم.

‏‏القارئ المتمرّس مولعٌ بالاكتشاف، يحاول عبر مطالعة ‏الكتب ممارسةَ هواية ممتعة، يسعى أن يعثر على الكتاب بنفسه، دون أن يدلّه عليه أحد. لا أبحث كثيرًا عن أفكار جديدة في مطالعاتي، أهتمّ بلغة الكتابة غالبًا، لا أواصل قراءةَ الكتاب لو لم أتذوق كلماته. أحاول رصدَ أسئلةٍ جديدة لم تولد بذهني، شغفي الكتاب الذي يحرّض أسئلتي على توليد أسئلة أكبر منها. لا تثير مخاوفي الأسئلةُ الحائرة، مثل هذه الأسئلة تضع الذهنَ في مواجهة مباشرة مع قناعاته، وتقوده لإعادة النظر في وثوقياته وتمحيصها كلّ مرة. ‏أكثر من مرة طالعتُ كتبًا يمتدحها قراء غير أني عجزتُ عن إكمال مطالعتها، ‏بعضُها أتركها بعد مطالعة المقدّمة، وبعضُها أقرأ بضعَ صفحات منها، فأتركها الى الأبد، ‏ذلك ما دعاني لأن أمارس طريقتي الممتعة في اكتشاف الكتب التافهة والثرية بنفسي. القراءةُ ضربٌ من الدهشة، القارئ الحاذق مكتشِف، القراءةُ متعةُ الاكتشاف. عندما يقاد القارئ كأعمى يخسر بهجةَ الدهشة، ويخسر متعةَ الاكتشاف. كلٌّ منا يقرأ على شاكلته، إن قرأ الكتبَ الجادة. ليس بالضرورة أن تكون كلُّ الكتب مناسبةً للكل، لأن مسارَ حياتي يختلف عن مسار حياة غيري، وجيلي يختلف عن الأجيال الأخرى، ‏احتياجاتهم العقلية والعاطفية ليست بالضرورة تتطابق مع احتياجاتي كلها في محطات زمنية متوالية من صيرورة حياتي.

لكلّ مرحلة من مراحل العمر عند أكثر القراء المتمرسين كتبُها وكتّابُها. بعضُ الكتب تدهش القارئَ لأول مرة، وحين يكرّر مطالعتَها في مراحل لاحقة بعد سنوات يفتقد دهشتَه. الوعي يتطور، التجارب تعلّم الإنسان، الجروح توقظ الإنسان، العالم يتغيّر، والإنسان يتغيّر. ربما يصبح القارئ المتمرس مصابًا بالملل وسريعَ الضجر من تشابه الكتب الجديدة الرتيب في اللغة والمضمون مع ما قرأه من قبل، وربما يكتشفُ في رحلة القراءة فجأة كتبًا ثمينة كان غافلًا عنها تفضح انتحالَ كتب كان يعتز بها مما قرأ، فلا تعود الكتبُ الصديقة أمس صديقتَه اليوم. بعضُ الكتب يظلّ يحتاجها الإنسان ولا يستغني عنها في مختلف محطات حياته، مثل الكتب المقدسة، وأعمال الفلاسفة الكبار، والمؤلفات الخالدة في الأدب، يقال إن كارل ماركس كان يعيد قراءةَ شكسبير كلَّ سنة في حياته. ليس هناك وصفةٌ جاهزة كالوصفات الطبية تنطبق على كلِّ إنسان في القراءة أو الكتابة أو غيرها. القراءة تختلف باختلافِ الناس وشخصياتهم ونوع احتياجاتهم المتنوعة، وطبيعةِ الظروف التي يعيشونها.

أفرح بهدية الكتب الثمينة مثلما يفرح الأطفالُ الفقراء بالهدايا النادرة. ‏قليلٌ من الكتب لا تحذفها ذاكرةُ المكتبة، ولا يمحو بصمتَها النسيان. عندما أقرأ مثلَ هذه الكتب أحيانًا أحزن في فقرة، وأفرح في فقرة أخرى، أبتهج في فقرة، وأكتئب في فقرة أخرى. المبدع يبتكر موضوعاتِه الفريدة، وطريقتَه الخاصة في التأليف، ولغتَه الصافية بالكتابة. نادرًا ما أعثرُ على كتابٍ يعلِّمني صنعةَ الكتابة، كتابٌ يختصر مكتبة، كلّما كرّرتُ مطالعتَه أكثر تعلّمتُ أكثر. وأندرُ منه أن أكتشفَ كتابًا بقدر ما يدهشني يبهجني، لا ‏أكتفي بقرائته مرةً واحدة، لا أعرف، ربما لفرط دهشتي لا أستطيع تصنيفَه أو توصيفَه، كلّما أردتُ أن أعرّفه يعاند تعريفي، أستمع فيه إلى: ألحان عازف، أغاني شاعر، مكاشفات عارف، وتأملات ‏فيلسوف، أراه كلوحةٍ فنية تتناغم ألوانُها، وتتحدّث رموزُها لغةً لا يفكّ أسرارَها إلا مَنْ يتذوقها.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

يُقال في القاعدة المشهورة: (لا مُشَاحَّة في الاصطلاح) ونريد أن نخالف هذه القاعدة، بالوفرة المتحصلة بدلالة المعاني الواردة لكل كلمة، لا سيما في سياقها القانوني الذي يتجه صوب حفظ الحقوق، ومراعاة العدالة، وتحقيق المعنى المثيل لطبيعة الحدث. قد تتوارد وتتوالد العبارات، بطريقة تتجه بنفس الوصف، المتداول بين الناس شعبياً، وكما وصفت لأول وهلة، وقد لا تحضر بذلك المعنى وذات الوقع، الا بالتعبير عنها بنفس المفهوم العميق الذي ألفته أسماع الناس.

فكلمات مثل: جريمة، ومجزرة، ومذبحة، وإبادة، كلها تشترك بنتيجة القتل ومآلاته، وإن كانت كلمة جريمة تصدق على أفعال أخرى مختلفة، ولكن المراد بذكرها هنا "جريمة القتل" على نحو خاص. فما شأن بقية الكلمات التي لم نشأ أن نعالجها معجمياً، بقدر ما نريد إن نحدها اصطلاحياً بكونها مصطلحات ترد في العادة في مسودات، وقرارات قوانين في مجال القانون الجنائي، والقانون الحقوقي،والتشريعات القانونية والفقهية.

ونريد أن نشير في هذا المقال إلى الأشكال القانوني الظاهر في توصيف (جريمة سجناء بادوش) ونقول عنها جريمة لنختصر القول فيها بنتيجة الحدث الواقع. ولنأخذ معاً بالتوصيف المناسب لطبيعة هذه الحادثة، ونحن نقف على عدة مصلحات ومفاهيم، لم نجد استقراراً في استعمالها، مثلاً توصف على أنها: (جريمة حرب) (جريمة ضد الإنسانية) (جريمة إبادة جماعية) وهذا ما وحدته لجان حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بتوصيفها كلمة "جريمة" بكونها تشير إلى فعل جنائي صرف بكل الأحوال. ولكن حاجتنا إلى التوصيفات المكملة والمضافة إلى كلمة جريمة، هو بسبب أبعاد عرقية، ودينية، وقومية، وسياسية، وهوياتية. وهنا يتحقق الإشكال في معنى الوصف! وهنا ممكن أن نخالف القول الدارج لا مشاحة بالمصطلحات، بل هنا يتطلب الأمر لرفع المشاحة، ومخالفتها والقول بنقيضها، وما يزيد في القول الواصف، وتحقيق الوفرة.

ظهر هذا الأشكال الاصطلاحي في قرار رقم (4) لسنة 2015 المشرع من قبل البرلمان العراقي،والمصادق عليه من قبل رئيس الجمهورية، وكذلك في الدوائر المعنية بتنفيذ هذا القانون وتصريحاتهم بخصوص هذا الأمر.

ذكر المشرع العراقي في الفقرة الأولى من القانون اعلاه، واصفاً الجريمة على إنها "مذبحة سجن بادوش"، وفي الفقرة الثانية من القانون ذكرها على أنها "مجزرة " تشبه مجازر أخرى ذكرها القانون في نفس الفقرة. وذكر المشرع في هذه الفقرة إن هذه المجزرة يجب أن توثق توثيقاً معتمداً وتقدم إلى فريق التحقيق الدولي الذي شكلته الأمم المتحدة والمنتظر قدومه للعراق في حينه! علماً إن هذا الفريق يعتمد توصيفات محدده في بنوده بين جريمة حرب، أو جريمة إبادة، أو جريمة ضد الانسانية!

وأشار التقرير مُجدداً في الفقرة الثالثة إلى مصطلح "مذبحة سجن بادوش" وإن المذبحة على وفق التعريف الدقيق للكلمة هو من يفعل به فعل "الذبح" كما تذبح المواشي، بينما فعل بهم، وقد يكون كذلك، كل أنواع القتل، ذبحاً وقتلاً بالرصاص، وقد يكون خنقاً، أو غرقاً، أو حرقاً جزئياً، وهنا يكون الاستعمال الادق للمعنى، ولأول وهلة، وبكون مجريات التحقيق لم تتم بعد،يكون من المناسب استعمال كلمة "جريمة" (جريمة سجن بادوش). بينما نجد المشرع العراقي يستعمل في الفقرة الرابعة منه كلمة "مجزرة". وكلمة "مجزرة" لها مدلول مختلف من حيث تطابق عدة أفعال لإكمال معناه وتحققه. وكذلك في الفقرة الخامسة يستعمل كلمة "مجزرة"، بينما نجد في الفقرة الأخيرة من القانون، وهي الفقرة السادسة لا علاقة لها بباوش! وإنما تخص جرائم داعش بحق النساء، ولا نعلم هل سجناء بادوش هم من الرجال والنساء معاً؟ أم للرجال فقط؟

كما أن المشرع العراقي في نفس القانون وعنوانه، يشرع بتصنيف المذبحة على إنها جريمة إبادة جماعية! وهو لا يملك قانون يعرف بالإبادة الجماعية، حتى نعرف هذا التصيف ينطبق عليها فعلا أم لا؟! وكيف للمشرع العراقي أن يستعمل كلمة مذبحة مرتين في القانون! ويستعمل كلمة مجزرة ثلاثة مرات! ولم يلتفت إلى توحيد المسمى والتوصيف! وأهميته في ذلك.

ونسمع أيضاً بتوصيف آخر من خلال تصريحات المسؤولين التنفيذيين وهو مصطلح "ضحايا سجناء بادوش" ولم نجد أكثرهم يستعمل المصطلحين الرسميين الواردين في القانون المشار إليه في أعلاه وهو "مذبحة سجن باوش" أو "مجزرة سجن بادوش" بل يذهبون إلى استعمال ما يتم تداوله إعلامياً أكثر وهو "ضحايا سجن بادوش" أو ما يعبر عنها أيضاً بمصطلح "ضحايا مجزرة بادوش".

بينما تفضل بعض وسائل الاعلام استعمال مصطلحي "شهداء سجن بادوش" و"ضحايا نزلاء سجن بادوش "، وعبر عنهم بالشهداء؛ لأنهم قتلوا على الهوية الطائفية!، وهو السبب الرئيس لحدوث الجريمة! ولم يذكر القانون إنهم شهداء بل وصفهم "بالمغدورين"، واستعمل بحقهم ايضاً كلمة نزلاء؛ لأنهم أنزلوا في هذا السجن واودعوا به بعد نقلهم له من سجون من وسط العراق وجنوبه، بخطأ استراتيجي من قبل الحكومة التي لم ترع أي اعتبار للموقع الجغرافي، ولا الإنساني، والاجتماعي، من حيث صعوبة تنقل الاهالي لهم في أوقات الزيارة والمواجهة.

كثيرة هي الأخطاء التي أودت بحياة العراقيين وزيادة مآتمهم ومصائبهم التي تتكرر عليهم يومياً بعناوين شتى، بالأمس كانوا يسمون بالمفقودين، واليوم بالموتى، وما بين الأولى وتأكيد الثانية، ألف لوعة ولوعة، في نفوس أهاليهم، وذويهم، وألف ألم تحكيه تجاعيد وجوه أمهاتهم وآبائهم التي تسببت بها أنظمتهم السياسية الفاشلة، وحظهم بها ومنها مزيد من آلم الفقد والخراب!

***

د. رائد عبيس

أسهب العلماء في الحديث عن نشأة الكون الأولى، ولهم في ذلك نظريات عديدة ومتنوعة، لا زالت رؤاها تتجدد مع كل اكتشاف واختراع جديد تجود به علوم الفضاء المعاصرة. وإذا ما كان الحديث العلمي في هذا الشأن قد جاء متأخرا نسبة إلى العمر الحقيقي للكون، فإن كتب الأديان السماوية المقدسة، اهتمت بهذا الجانب من أجل توظيفه في تبيان قدرة الله تعالى. وكانت الديانتان اليهودية والإسلامية من أكثرها حديثا عن النشأة الأولى، ففي التوراة هناك سفر كامل بعنوان (سفر التكوين)، جاء في الإصحاح الأول منه حديثٌ عن تفرعات بداية الخلق، وفيه عن بدء الخليقة: (في البدء خلق الله السموات والأرض)، وجاء وصفٌ لها بأنها: (وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه)، ثم جاء عن خلق النور والليل والنهار: (وقال الله ليكن نور فكان نور..  ودعا الله النور نهارا والظلمة دعاها ليلا وكان مساء وكان صباح يوما واحدا)، ثم جاء حديث شامل عن خلق الأرض وسمائها ومياهها ونباتها ومخلوقاتها؛ التي كان الإنسان آخرها خلقا. أما في الإصحاح الثاني فتحدث بداية عن الفراغ أو الانتهاء من خلق النشأة الأولى التي تلتها الاستراحة: (وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل)، وهكذا.

المهم أن الحديث التوراتي جاء عاما روتينيا قصصيا سرديا يكاد يكون خاليا من العمق الفكري والاستراتيجي والوجداني وحتى الوعظي، وهذا ليس لعيب فيه، وإنما لأنه جاء لتغطية حقبة زمنية، ستكون البشرية خلالها بعيدة عن إدراك حقائق النشأة، لأنها لا تملك الإدراك الكامل ولا الوسائل العلمية التي تعينها على فهمها.

أما القرآن؛ الذي يتفق المسلمون على أنه كتاب هداية لا كتاب علوم وقصص، والذي يمثل آخر رسالة سماوية إلى الأرض وسكانها، بمعنى أن حقائقه سوف تصطدم بالحقائق العلمية التي ستبتكر من خلال التطور العلمي المستقبلي، فقد تناول الحديث عن النشأة الأولى بكثير من الجدية والتركيز الذي يتماهى مع مساعي وتطلعات واستنتاجات العلماء المعاصرين، كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ* وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ* وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِهَا مُعْرِضُونَ* وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الَّليْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، هذه الآيات التي قال ابن كثير في تفسيره لها: "كان الجميع [أي الكون كله] متصلا بعضه ببعض، متلاصق متراكم، بعضه فوق بعض؛ في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه. فجعل السماوات سبعا، والأرض سبعا".

وهذا أقرب ما يكون، بل هو تصوير في منتهى الوضوح لما اتفق عليه العلماء الفلكيون والفيزيائيون المتأخرون؛ الذين أطلقوا على عملية (الفتق) هذه اسم (الانفجار العظيم) (Big Bang)؛ الذي تناولته الكثير من الدراسات المعاصرة ووضعت بشأنه نظريات عديدة لا زال العمل على تطويرها جاريا.

كما أنه ليس من قبيل المصادفة أن تولد هذه النظرية العلمية التي تدعم الرؤية الدينية على شكل فرضية على يد رجل دين (كاهن) كاثوليكي بلجيكي هو العالم "جورج لومتر (1894ـ 1966) أستاذ الفيزياء في الجامعة الكاثوليكية، وهي التي تحولت في حدود عام 1927 إلى ما عرف لاحقا بنظرية الانفجار العظيم.  وقد اعتمد الإطار العام لنموذج الانفجار العظيم المتخيل على نظرية (النسبية العامة) لألبرت أينشتاين، وعلى تبسيط عدة فرضيات مثل: تجانس نظم الفضاء، وتوحد خواص الفضاء من خلال وضع معادلات رئيسية للنظرية على يد عالم الكون الفيزيائي والرياضياتي السوفيتي "ألكسندر فريدمان" (1888ـ 1925) ومن خلال الصيغ البديلة التي أضافها لها الرياضياتي والفيزيائي وعالم فلك الهولندي "فيليم دي سيتر" (1872ـ 1934).

لكن هذا لا يعني أن النظرية أصبحت من المسلمات العلمية إذ هناك من نفى وقوع الانفجار العظيم، ولكنه عجز عن نفي الوجود الأول المجتمع الموحد للكون، وبالتالي كان مطالبا بالبديل الذي عجز عن تقديمه، ومن هؤلاء العالم الفيزيائي الهولندي "إريك نوردنسكيولد فرلنده" (1832ـ 1901) الأستاذ في جامعة أمستردام؛ الذي يرى أن هناك وجودا قبل الوجود، وأن الكون لم ينشأ نتيجة الانفجار، بل نشأ من شيء كان موجودا بالفعل، نشأ من المادة المظلمة والطاقة. ولكي يثبت نظريته أنطلق من فرضية أنه كان هناك دائما شيء ما موجود، انبثقت منه المادة كما نعرفها الآن، ويمكن لها أن تختفي فيه مجددا، هذه عملية لا تنتهي أبدا.

رأي إريك كان عبارة عن فرضية فلسفية وجدت بالتأكيد من عارضها من العلماء، مع أن قوله كاد أن يكون في منتهى القرب من قول القرطبي في تفسيره: "كانت السماء مخلوقة وحدها والأرض مخلوقة وحدها، ففتق من هذه سبع سماوات". وبين القرطبي أن المقصود بالفتق: "فتق السماء بالمطر، والأرض بالنبات"، ولكنه رأي يأتي على خلاف ما أكدته التقنيات العلمية الحديثة، التي أكدت بالملاحظة الدقيقة حقيقة حدوث الانفجار العظيم، ولاسيما بعد اكتشاف الخلفية الإشعاعية للكون في عام 1964، واكتشاف أن طيفها يتطابق مع الإشعاع الحراري للأجسام السوداء، الذي دعمته المعلومات التي أرسلتها المحطات الفضائية السوفيتية عام 1986 مؤيدة نظرية الانفجار العظيم، والتي توافقت كليا مع المعلومات الدقيقة التي أكدها القمر الصناعي الذي أطلقته وكالة الفضاء الأمريكية (NASA) عام 1989 وهي معلومات عن صحة نظرية الانفجار العظيم.

وإذا ما كان سفر التكوين قد تجاوز الحديث عن عودة الكون إلى نشأته الأولى، فإن القرآن لم يهمل هذا الجانب، وهناك عدة آيات صريحة تتحدث عن فناء الأكوان في آخر الزمان، منها في الأقل قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}؛ التي قد تفسر على أن المقصود بها هو أن خلق الإنسان من العدم لا يستحيل معه إعادته في يوم الحساب من العدم مرة أخرى، هذا بالرغم من ارتباط الكلام بما سبقه ارتباطا وثيقا، وقد ذهب إلى ذلك ابن كثير في قوله: "وقوله: (كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين) يعني: هذا كائن لا محالة، يوم يعيد الله الخلائق خلقا جديدا، كما بدأهم هو القادر على إعادتهم، وذلك واجب الوقوع". وهذا أحد رأيين أوردهما ابن كثير، والرأي الثاني منهما، يناقض القول الأول، وفيه، "عن ابن عباس في قوله: (كما بدأنا أول خلق نعيده) قال: نهلك كل شيء، كما كان أول مرة"، وهو قول يناقض قول القرطبي السابق وقول إريك أيضا.

أما العلم فإنه لا يستبعد فناء الكون، وللعلماء نظريات كثيرة في هذا الشأن، منها ما يتحدث عن دمار شامل، ومنها ما يتحدث عن الدمار الجزئي مثل انتشار الفيروسات مثلما حدث مع فيروس كورونا، وهذا الدمار الجزئي هو الذي سيغير وجه الكون ويمهد للفناء الكلي، وكانت من آخرها نظرية عالم الفيزياء الفلكية في جامعة سوسكس (University of Sussex) الفيزيائي "جيليان سكادر" التي تتحدث عن الدمار الجزئي؛ الذي سيتسبب في فناء الأرض، والذي قال عنه: "إن اليوم الذي ستدمر فيه الشمس كوكب الأرض سيكون أقرب مما نعتقد، وأن الشمس سوف تفقد كل مدخراتها في نهاية الأمر، لتتحول إلى قزم أبيض، سوف يتلاشى من الوجود كما لو أن الشمس لم تستضيف الكواكب الأكثر حيوية على الإطلاق من بين كل الاكتشافات السابقة في الكون".

أذَّكر في الختام أننا كدين سماوي لا يمكن أن نعوِّل على نتائج الأبحاث العلمية فيما يخص الغيبيات أو الأمور المتنازع عليها، ولا نؤمن بها كمسلمات يقينية؛ لعدة أسباب منها:

- إيماننا الراسخ بقوله تعالى: {يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلْكِتَٰبِ}.

- ولأننا نعتقد أن تطور العلم لابد وأن يُسْقط نظريات، ويأتي بنظريات أخرى، قد تكون مخالفة لها.

ولكن ذلك لا يعني أن جميع ما يأتي به العلم لا يؤخذ به، فالإسلام أولا وأخيرا دين علم، أمر بطلب العلم ولو كان في أقصى الدنيا، وأوجب طلب العلم على المسلمين من كل الأعمار، وفي كل الأوقات، من المهد إلى اللحد. والعلم عند الله سبحانه وتعالى.

***

الدكتور صالح الطائي/ الكوت 

الاستدلالُ سلوكٌ يوميٌّ لا ينفك الإنسانُ عن ممارسته بغضّ النظر عن مَبلغ علمِه ومقدارِ ثقافتِه، فلا ينحصر أمرُه في العالِم وبحوثه أو في السياسي وجمهوره أو رجل الدين ومصدّقيه أو المعلم وتلامذته، أو أصحاب الحرف والصناعات بل يمكن القول إنَّ الاستدلال ممارسةٌ إنسانيةٌ تصدر من مطلق الانسان مع نفسه وأسرته ومجتمعه، وربِّه أيضا. فإذا ما دعاه قال: أنت الذي دللتني عليك .

والاستدلالُ مقياسُ قدرة الإنسان الذهنية وعلمه وفهمه، فالطبيب إذا ما ربط عرضاً بمرضٍ وأعطانا دواء لم يشفِ، صرنا نَصَفُه بالضعف وعدم الفهم . والعالم الهولندي فرانك هوغربيتز الذي استدل بحركة الكواكب على وقوع الزلازل وصادف حدوث زلزال أنطاكيا، قد عظُم شأنُه عند الناس وازداد متابعوه؛لأنَّهم استدلوا على صدقه بذلك التصادف، وهذا هو حال الناس مع أصحاب النبوءات الذين يدّعون علْمَ ماسيكون .

الاستدلال فعلٌ ذهنيٌّ يكشف عن علم الإنسان وعقله، فالانسان الذي يستدل بالمحسوس على المحسوس فقط، أو بالظاهر على الظاهرفحسب لن يكون بدرجة الذي يستدل بالمحسوس على المعقول أو بالمعقول على المعقول، وهذا محل تفاوت العلماء وتفاضلهم في كل علم وصناعة، وهو موضع تتفاوت فيه الأديان والمذاهب والنظريات، ويتحدد في ضوئه قبولُها الاجتماعيُّ والعلميُّ، فمتى ما كان استدلالها قويّا مستحكماً مقنعاً لوضوحه وبيانه ازداد عددُ المصدّقين والأتباع، وشاعت الأفكار كالنار في الهشيم . وهذا ما انتبهت له الحضارة الغربية، إذ عَلمتْ أنَّ خلخلةَ استدلال أيّ فكرٍ تعني إقصاءه، وإنهاءه. وإحكام استدلاله وتمتينه يؤدي إلى بقائه، واستمراره . ووجدنا أنَّ القرآن الكريم لا يفتأ يُنهي استدلالاً حتى يبدأ بآخر، ما يسوّغ لنا أن نصفه بأنَّه بنيةٌ استدلاليَّةٌ محكمةٌ. وهذا ما يبين لنا أهمية دراسة الاستدلال وتحليله وضرورة إدراكه، وتعلمه، وتعليمه لرفع وعي طلبتنا، واكسابهم المعرفة، وتحصيلهم العلم .

***

أ. د. علي جاسب عبد الله

نشرت هذا الأسبوع تدوينة قديمة حول التسامح الديني. فأثارت نقاشاً غير متوقع. وجدت الأسئلة الرئيسية تكراراً لما عرفناه قبل عقد من الزمان، مع أنها تطرح الآن بلغة لينة. وهذا يكشف عن حقيقتين متزاحمتين نوعاً ما: فمن ناحية نستطيع القول إن مجتمعاتنا تتحرك بصورة ملموسة، نحو تقبل الاختلاف وتداعياته. لكنها - من ناحية ثانية - غير قادرة على حسم بعض الإشكالات الرئيسية في هذا الموضوع نفسه، الأمر الذي يستدعي نقاشاً أكثر تركيزاً على نقاط التوقف.

أبرز أسباب الجدل في ظني مبدأ تعدد الحق. أي أن نكون على أديان مختلفة بمذاهبها أو حتى من غير المتدينين، من أجل العيش جميعاً في توافق وسلام. ولهذا سوف أخصص مقال اليوم لتوضيح الفكرة، وتمهيد أرضيتها لمن أحب مزيداً من النقاش.

نفهم تعدد الحق على وجهين:

الوجه الأول: أن الحق في طبعه الأولي، لا ينحصر في تطبيق واحد، بل يتجلَّى في صور عديدة، يمكن لكل منها أن يكون طريقاً إلى الله. فالذي آمنت به هو أحد احتمالات الحق أو تجلياته. والذي آمن به غيري هو احتمال آخر للحق أو صورة ثانية. وهناك صورة ثالثة ورابعة وخامسة... إلخ. بمعنى أن كل الناس متجهون إلى الحقيقة المطلقة، وهي الخالق سبحانه، عبر الطريق التي يراها أقرب وأوضح. وكل شخص مسؤول عن خياراته. لن يقف أحدنا نائباً عن غيره يوم الحساب، ولن يحمل أوزاره. وهذا مذهب ابن عربي، الفيلسوف والمتصوف المعروف.

الوجه الثاني: إنَّ الحق هو الصورة المثلى للحياة الفاضلة، وليس شيئاً منفصلاً عن الحياة أو مختلفاً عنها. وهو يتجلَّى في كل فعل إنساني خيّر. إنَّ اختلاف الأعمال والمشارب وسبل العيش ومصادر القوة والمعرفة، هو الحيز الحيوي لتجلي قيمة الحق، بوصفها المستوى الأرفع في كل مجال، الأرفع موضوعياً وأخلاقياً. إن الاختلاف الطبيعي بين سبل الحياة - وبالتبعية تجليات الحق في كل منها - عامل مؤثر في ارتقاء الإنسان والعمران.

في هذا المعنى، يتطابق مفهوم الحق مع سعي الإنسان لإتقان عمله. ونعتبر هذا المسعى جزءاً من التجربة الدينية الواسعة، التي نسميها عمران الأرض. الفلاح يسعى إلى الكمال من خلال توفير الغذاء للناس، والطبيب يسعى من خلال حمايتهم من الأمراض، وهكذا البناء الذي يبني البيت، والصانع الذي يوفر السيارات وأجهزة الاتصال، والفقيه الذي يعلّم الناس الشعائر، والفنان الذي يحول الفكرة إلى مشهد للتأمل من خلال لوحة أو مقطوعة موسيقى... إلخ.

جوهر الحق في الوجه الأول علاقة واعية بين الخلق والخالق. مركزها الخالق، والطريق إليه نية التقرب. أما في الوجه الثاني فالحق يتجلَّى في تفاعل البشر مع بعضهم، تفاعلاً بناء وأخلاقياً، يؤدي - موضوعياً - إلى تطور حياة الإنسان وارتقاء الجوهر الإنساني، أي العقل - العلم والأخلاق. وهذا - في اعتقادي - الغرض الجوهري للرسالات السماوية وجهود المصلحين في كل المذاهب والمشارب.

كلا المفهومين يبدو غريباً شيئاً ما، لأننا تعلمنا منذ نعومة أظفارنا أن الدين مطابق للتعريف الفقهي. وهو تعريف ينطلق - بالضرورة - من التزام إطار اجتماعي وعرفي خاص، لا يتعداه. لكنه - رغم غرابته - ليس جديداً. وقد أشار إلى جانب منه غالبية المفسرين حين وصلوا إلى الآية المباركة «ولو شاء ربك لجعل الناس أمَّة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم». وفحواها أن الاختلاف أصل في الخلق وضرورة للحياة. وهكذا أراده الله. فهل أرادنا أن نقتتل مثل حيوانات الغابة، أم نتسالم - رغم اختلافنا - كما يحكم العقل السليم؟

***

د. توفيق السيف – مفكر وباحث سعودي

كُتب التاريخ الإسلاميّ بمنطقين، تجاه الخلافة والثَّورات عليها، فمَن اعتبر عليّ بن محمد صاحب الزِّنج (قُتل: 270هج) خبيثاً (الطَّبريّ، تاريخ الأُمم والملوك)، ومَن عدَّه مُحرراً مِن العبوديَّة (السَّامر، ثورة الزُّنج)، ومَن اعتبر بابك الخُرميّ (قُتل: 223هج) «أَخَذَ فِي الْعَيْثِ وَالْفَسَادِ» (ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ)، ومَن اعتبره ثائراً على الاقطاعيَّة (العزيز، البابكيّة)، والكتابان «الزِّنج» و«البابكيَّة» صُنفا في ظل تقاليد ثورة أيضاً، الثَّورة الرُّوسيّة. أما «تاريخ الأمم...» و«الكامل...» فصنفا في عهد الخلافة التي لم يمر عام عليها من دون ثورةٍ!

حسب فيصل السَّامر (ت: 1982)، وحسين قاسم العزيز (ت: 1995)، أنَّ أيّ تمرد ضد سلطة ما أنه الحقّ. أما الطَّبري (ت: 310هج) وابن الأثير (ت: 630هج) فيؤمنان بالمقابلة بين مفسدة السُّلطة ومفسدة الثَّورة، أيهما أهون، فوجدا الأول أهون، أما السَّامر والعزيز فلا يقابلان بين المفسدتين! ولم يفكرا أنَّ لا صاحب الزّنج ولا بابك سيشيدان العدالة الاجتماعيَّة.

هذا، والسَّامر والعزيز، وهما يعيدان كتابة التَّاريخ، يؤمنان تحقيب التَّاريخ على أساس خمس حِقب متتالية (مشاعيَّة، عبوديَّة، إقطاعيَّة، رأسماليَّة، شيوعيَّة)، فمِن غير الوارد، وفقاً لعقيدتهما، الماركسيَّة، أن يتجاوز صاحب الزِّنج العبودية، و«بابك» الإقطاعيَّة، لأنهما مرحلتان حتميتان، يكون إسقاطهما خارج حتمية التاريخ، لهذا يكون مِن الجهل أنّ يُطلب مِن صدر الإسلام إلغاء الرِّق أنذاك. غير أنّ الطَّبريّ وابن الأثير، إذ نعتا الثَّائرين بأرذل النُّعوت، لم يغفلا مساوئ الخلفاء.

ذكرني بهذه المقدمة إيريك دورتشميد، وكتابه «همس الدَّم.. قصص الثورات والفوضى والخيانة والمجد والموت» (دار المدى 2020). تحدث عن ثورات كبرى، منها: الفرنسية (1782) والبلشفيّة (1917). كان الجدل جارياً بين الثوار عن قتل أو بقاء الملك، فمَن قال انتصرنا ولنوجهه بما نريد، وقتله سيصبغ مجدنا بالدَّم!

هل كان الثوار، بعد انتصار الثَّورة البلشفيَّة، ونفي الأسرة المالكة إلى سيبيريا، بحاجة إلى قتل طفل أمام أمّه، لأنه نطفة الملك؟ أو إبادة العائلة الملكيّة بالعراق (1958)؟ هل كان الثوار المنتصرون، وهم يحملون الدِّين والعدل شعاراً، بحاجة إلى الإعدامات المريعة؟ ينقل المؤلف ما قرره أحد قادة الثَّورات أن الرُّعب (الثَّوريّ) فضيلة.

ظهر في إحدى الثَّورات المنطق الآتي: «الدّفاع عن الوطن في الدَّولة البروليتاريَّة هو واجب ثوريّ، لكنه في الدَّولة البرجوازيَّة خيانة» (همس الدَّم). كان مِن المحرضات مِن أجل الثَّورة الإساءة للفقهاء، لكن عندما استحكمت حلقاتها، أخذت تُحاكم الفقهاء بالخيانة!

عرفنا الثَّورات المسلحة دَمويَّة، لكنّ ماذا عن الثَّورات المسالمة، كشباب «تشرين» ببغداد، لم يحملوا حتى خيزرانة، وكذلك ثورة النِّظام على نفسه، لتصحيح مساره. غير أنَّ هذا التّصحيح يُؤخذ مِن قِبل خصومها انتكاسةً، فمجلس الإعمار العراقي (1951)، الذي جعل واردات النِّفط كافة لتشييد البُنية التّحتيّة، سماه خصومها بمجلس الاستعمار. كذلك مثال «الثَّورة البيضاء» في عهد الملكيَّة، اشراك العمال في المصانع، وتأميم المراعي والغابات، ومشاركة النّساء في السِّياسة، لكنَّ الثّوار قدموها «خطورة في طريق التَّرويج للفساد والفحشاء» (رفسنجانيّ، حياتي).

قال محمَّد محمود الزُّبيريّ (اغتيل: 1965) لثورة (26 سبتمبر) بصنعاء: «يومٌ مِن الدَّهرِلم تصنع أشعته/شمس الضُّحى بل صنعناه بأيدينا»، والشَّاعر نفسه قال لثورة العراق (1958): «صيحة الشَّعبِ في بلد الرَّشيد/أشعليها ناراً وثوري وزيدي/ فاحذري يا بغداد إنَّ أفاعينا/ أشرُ مِن ألف نوري السَّعيد» (الدّيوان). لكنّ ما لم تصنعه الشَّمس للزُّبيريّ، أخذ يردده الثُّوار والثّوار المضادون أيضاً، وأجلس عصابةً تلو عصابة على قلب صنعاء، وأنَّ أحفاد جيل نوري السَّعيد، ممَن شهدوا سحل ما تبقى مِن جسده، صاروا يتغزلون بعراقيته.

إنَّ أول ما يلفت نظرك في «همس الدَّم...»، أنَّ الثَّورات، من اليوم الأول، ينمو فيها عِرق خرابها، وسرعان ما تختفي شعاراتها، الدُّم صار فيها شلالاتٌ لا همسٌ.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

انتصرت العلوم كونيا وتكسرت وتفتت أسس الخطابات التقليدانية العاطفية والحماسية الواهية. تم إعلان انتصار العقل. السلطة التقديرية للدول المتقدمة، المتصارعة مصلحيا تارة والمتوافقة تارة أخرى، اكتسبت ما يكفي من الخبرات لتشخيص استعدادات الشعوب لركوب قاطرة التطور العالمي بشعبه العلمية والهندسية وتفاعلها القوي مع العلوم التكنولوجية والذكاء الاصطناعي. هذا الأخير يتطور بسرعة فائقة كل يوم مثبتا أوضاعا اضطرارية تفرض واقعا متطورا يجعل الأفراد والجماعات أمام إجبارية رفع تحديات التخلي على أنماط تفكير سابقة والتسابق لفهم وإثمار الأنماط الجديدة.

لقد تقوى التلاحم بين العلوم والهندسة والذكاء الاصطناعي إلى درجة كبيرة. لم يعد الوقت يسمح بالتراخي والمسايرة. الأسرة أصبحت مطالبة بالتفكير المستمر المتفاعل مع ميولات فلذة أكبادها واضعة نصب أعينها حلم التفوق في انتقاء تخصصات تخدم مستقبل أبنائهم ومجتمعهم.

والحالة هاته، وجدت نفسي هذه المرة أمام إشكالية تحليل منحى تطور الترابط والتفاعل بين العلوم والهندسة والذكاء الاصطناعي زمن ما بعد الحداثة (العشرية الثالثة من الألفية الثالثة).

تشكل العلوم القسم الأكبر والهام من أقسام المعرفة. مكانة كل علم أصبحت مرادفة لقدرته على مراكمة المعلومات والمعارف المتطورة ذات طبيعة تمكن الإنسان من فهم الكون الشاسع وضمان الحفاظ على شروط العيش فيه بسلام وطمأنينة. الالتزام بالتفكير العلمي من أجل الفهم واكتشاف المزيد من أسرار الحقائق المطلقة أصبح مؤشرا أساسيا لاستشراف مكانة الفاعل في وطنه وإقليمه وجهته. لم يعد هناك سبيل أمام الفرد البشري سوى الانخراط في العقلانية التي تقوده إلى تطوير فهمه ونظرته للحقائق الكونية وللتفاعلات والاستراتيجيات العالمية.

الانطلاقة بالنسبة للمتعلم لا يمكن أن تتم إلا من خلال الانخراط الواعي في استيعاب قوانين الشعب المعرفية المجردة والإلمام بتراكماتها النظرية والتطبيقية (الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك ...). إنه شرط النجاح في اكتساب المهارة والكفاءة في ممارسة المهن الهندسية. إنهما القطاعان (العلوم المجردة والهندسة) اللذان تحديا كل العراقيل، وتمكنا من التفاعل المثمر القوي، ليخرج من رحمهما ما نسميه اليوم بالذكاء الاصطناعي المبهر. بهذا التطور، تحول التفاعل بين التشخيص المرئي بحمولته النفسية والروحية والتفكير العلمي إلى مصدر فوار لإنتاج النظريات والتفسيرات التطبيقية، والوصول إلى مستويات عالية من الخلق والمنفعة والاستفادة. لقد تيسرت أمام الإنسان إمكانيات اكتساح الطبيعة وسبر وفهم أسرار أغوارها. انطلاقا من الملاحظة وإشكالياتها وفرضياتها المعرفية المعقدة، تتبلور الفكرة والتجربة والاستنتاج، وتستخلص النظريات الجديدة.

لقد تحولت بقوة الواقع تربية الأجيال على التفكير العلمي إلى خيار وحيد لكل من يطمح لتطوير انشغالاته المدرة للدخل، وبالتالي الإفلات من وضعيات الركود والإشباع المرادفين لتهميش الكفاءات في عصرنا. وصول بعض التخصصات إلى حد الاكتفاء في سوق الشغل وعدم القدرة على خلق مناصب جديدة ليس قدرا محتوما بقدر ما ترتبط هذه الآفة بتفاقم التقاعس في التفكير والاختلال في تدبير الوقت. ما حققه الإنسان من ابتكارات وكشوفات في علوم الأحياء والكيمياء والفيزياء والاقتصاد والهندسة وعلم النفس والطب والصيدلة ... لا زال ضعيفا مقارنة مع حجم ما تختزنه الطبيعة وما يتوارى في الكون من حقائق مطلقة لا تعد ولا تحصى. كل العلوم تحتاج إلى مواكبة دائمة ومتابعة متواصلة لتجعل من التطور المعرفي والتكنولوجي عقيدة تتحكم في سلوك الأفراد والجماعات. التشبع بالتفكير المستمر في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك يعتبر في هذا الزمن دعامة قوية للنجاح. لا يمكن للفرد أن يغامر في تفسير القواعد والقوانين العلمية والسعي إلى تطبيقها على أرض الواقع بدون اكتساب الأدوات المعرفية للتفكير المجرد. إضافة إلى ذلك، أصبح الشباب يجدون أنفسهم أمام شعب هندسية متطورة بفعل تلاحمها المبهر مع التكنوجيات المتطورة. الرقمنة والروبوتات والذكاء الاصطناعي اكتسح وبدون رجعة كل المهن الهندسية: الهندسة الإنشائية والفنية، والهندسة المعمارية، والهندسة المدنية، والهندسة الكيماوية والصناعية والبيئية والميكانيكية، والطب بمختلف تخصصاته، والصيدلة، والهندسة الطاقية، والهندسة الزراعية والبيطرية، والهندسة النووية، والهندسة الكهربائية، والهندسة التجارية .....

الكل يتحدث اليوم عن القوة المتصاعدة لتلاحم العلوم والهندسة والذكاء الاصطناعي. الحداثة لم تعد اليوم مجرد خطابات ونقاشات وموضوع صراعات إيديولوجية. بفعل طبيعة الإبداع والاختراع ومهارات التواصل وصناعة القرارات والسياسات الجديدة تَشَكَّل وعي عالمي جديد أبكم أفواه رواد التقليد بشكل نهائي.

التطورات السريعة فرضت على الجميع إجبارية الارتباط اليومي بالتفكير الإبداعي والخيال المنتج والشغف للعمل الميداني المسؤول والقيام بالواجب بمهارات التخطيط والتنظيم، وبالتالي العمل بالصبر المطلوب لاكتساب الحق في التموقع بمعية المتميزين أكاديميا ومهنيا.

***

الحسين بوخرطة

دائما المجتمعات الساكنة والجامدة، تخاف من التغيير والتجديد. وهذا الخوف يتحول بفعل عمق الجمود والتكلس إلى رهاب. أي إلى مرض مجتمعي يحول دون أن ينفتح المجتمع على آفاق التغيير والتجديد وموجباتهما.

وفي هذا السياق تبرز المفارقة الصارخة، التي تعيشها المجتمعات الجامدة. فهي تعيش التخلف والجمود والسكون على كل الأصعدة، وتعتمد على غيرها من الأمم والمجتمعات في كل شيء، وترضى بكل متواليات هذا الواقع السيء. وفي ذات الوقت تخاف التغيير، وترفض التجديد، وتقبل العيش في ظل هذا الواقع السيء..

ولعلنا لا نبالغ حين القول: أن الخوف من التغيير والرهاب من التجديد، ليس خاصا بمجتمع دون آخر، وإنما هي من خصائص المجتمعات المتخلفة والجامدة، بصرف النظر عن أيدلوجيتها وبيئتها.. فكل المجتمعات الجامدة تخاف من التغيير، وكل الأمم المتخلفة تخشى من التجديد لمستوى الرهاب.

من هنا فإن لحظة الانطلاق الحقيقية في هذه المجتمعات، تتشكل حينما تتجاوز هذه المجتمعات حالة الخوف والرهاب من التغيير والتجديد. فحينما يكسر المجتمع قيد الخوف من التغيير والتجديد، حينذاك يبدأ المجتمع الحياة الحقيقية، التي تمكنه من اجتراح فرادته وتجربته. أما المجتمعات التي لا تتمكن لأي سبب من الأسباب من تجاوز حالة الرهاب والموقف المرضي من التجديد، فإنه سيستمر في التقهقر والتراجع على جميع الأصعدة والمستويات.. والفئات والشرائح التي لها مصلحة في استمرار التقهقر والجمود، ستستثمر هذه الحالة المرضية وتبني عليها الكثير من المواقف والإجراءات، والتي تعمق حالة التخلف وتزيد حالة الخوف المرضي من كل آفاق ومتطلبات التغيير والتجديد.

وينقل في هذا الصدد عن التاريخ الصيني القديم، أنه في ظل سلالة هان (25 - 220 ب م) صدر مرسوم إمبراطوري ينص على أنه لا يجوز لأي متأدب أن يطرق، بصورة شفهية أو خطية، أي موضوع لم يعينه له أستاذه. فليس يحق لكائن من كان أن يتخطى ميراث معلمه.وكل من تسول له نفسه أن يتعدى الحدود المرسومة يغدو مبتدعا.

وهكذا تأسس رهاب البدعة الذي شل قدرة المثقفين الصينيين على التفكير كما على التخيل. فلكأن عقولهم قد حبست في أكياس من البلاستيك حتى لا يتسرب إليها أي جديد.

فالنزوع القهري إلى رفض التغيير والخوف من التجديد، هو حالة مرضية، تزيد من انحطاط المجتمعات، وتبقيها تحت ضغط الجمود والتخلف. ولا تقدم لهذه المجتمعات إلا بإنهاء حالة الرهاب من التغيير والتجديد..ونحن هنا لا نقول أن التجديد في المجتمعات بلا صعوبات وبلا مشاكل، ولكننا نود القول: أن مشاكل المجتمعات من فعل التغيير والتجديد أهون بكثير من استمرار حالة التخلف والجمود.. وإن المجتمعات لم تتقدم إلا حينما انخفض منسوب الخوف من التغيير والتجديد إلى حدوده الدنيا. بدون ذلك ستبقى مقولات التقدم والتجديد والتغيير، مقولات جامدة ومنفصلة عن الحياة الاجتماعية. وهذا ما يفسر لنا حالة بعض المجتمعات العربية والإسلامية على هذا الصعيد. فهي مجتمعات مليئة في الإطار النظري بمقولات التقدم والحرية والتجديد، إلا أن واقعها الفعلي، أي واقع النخب وأغلب الشرائح والفئات الاجتماعية، تتوجس خيفة من هذه المقولات، وتنسج علاقة مرضية مع مقتضيات التقدم والحرية والتجديد.فتجد الإنسان يصرخ ليل نهار باسم التغيير والتجديد، إلا أنه في ذات الوقت يقف موقفا سلبيا من كل الوقائع الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تنسجم ومقولة التغيير والتجديد، فتتضخم لديه الخصوصيات إلى درجة إلغاء مقولة التجديد.. فهو باسم الثوابت يحارب المتغيرات، وباسم الخصوصية يحارب التجديد، وبعنوان عدم التماهي مع الآخر الحضاري يقف ضد كل نزعات التغيير والتجديد.فهو على الصعيد النظري، جزء من مشروع الحل، إلا أنه على الصعيد الواقعي، جزء من المشكلة والمأزق. وكل ذلك بفعل رهاب التجديد والتغيير.وهي عناوين ومقولات لا يكفي التبجح بها، وإنما من الضروري الالتزام النفسي والعقلي والسلوكي بمقتضياتهما ومتطلباتهما.وهنا حجر الزاوية في مشروعات التجديد في كل الأمم والمجتمعات..

لهذا من الضروري لأي إنسان ومجتمع، أن ينسج علاقات جدلية ونقدية مع مقولاته وشعاراته، حتى لا تتحول هذه المقولات والشعارات إلى أقانيم مقدسة، تحارب التجديد في العمق والجوهر، وهي تتبناه في المظهر.

ويبدو من خلال التجارب الإنسانية المديدة، أن المجتمعات تتمايز على هذا الصعيد في هذه المسألة..فكل المجتمعات تصدح بضرورة التطوير والتجديد والتغيير، إلا أن هناك مجتمعات تخاف حقيقة من التجديد، لذلك فهي على الصعيد الواقعي تحارب كل ممارسة تجديدية.فالتمايز يكون بين المجتمعات، بين مجتمعات ترفع شعار التجديد وتلتزم بكل مقتضياته ومتطلباته. ومجتمعات ترفع شعار التجديد دون الالتزام بكل المتطلبات.  ولعل من أهم الأسباب لهذا التمايز بين القول والممارسة هو في الخوف من التجديد والرهاب من التغيير. صحيح أن هذه المجتمعات ترفع شعار التجديد، إلا أنها على الصعيد النفسي والثقافي تخاف من المقتضيات والمتطلبات. فهي مع التجديد الذي لا يتعدى أن يكون شعارا فحسب، أما التجديد الذي يتحول إلى مشروع عمل وبرامج عملية متكاملة، فهي ترفضه وتخاف منه. وأي مجتمع لا يتحرر من رهاب التجديد، فإنه لن يتمكن على المستوى الواقعي من الاستفادة من فرص الحياة ومكاسب الحضارة الحديثة.

ولكي تتحرر مجتمعاتنا من رهاب التجديد والتغيير، من الضروري التأكيد على النقاط التالية:

1- إن التجديد والتغيير في المجتمعات الإنسانية، لا يحتاج فقط إلى توفر الشروط المعرفية والثقافية والسياسية، وإنما من الضروري أن يضاف إلى هذه الشروط، شرط الاستعداد النفسي والعملي لدفع ثمن ومتطلبات التجديد في الفضاء الاجتماعي. وبدون توفر هذا الشرط، لن تتمكن المجتمعات من ولوج مضمار التجديد. لأن التجديد بحاجة إلى جهد إنساني متواصل، واستعداد نفسي مستديم لإنتاج فعل التجديد والتغيير في الواقع الاجتماعي. والاستعداد النفسي الذي نقصده في هذا السياق، ليس ادعاء يدعى، وإنما هو ممارسة سلوكية، تحتضن وتستوعب كل شروط التجديد، وتعمل على تمثل وتجسيد متطلباته في الذات والواقع العام.

فطريق التجديد في مجتمعاتنا، ليس معبدا أو سهلا، وأمامه العديد من الصعوبات والمآزق، وبدون الاستعداد النفسي والعملي لدفع ثمن التجديد والتغيير، لن تتمكن مجتمعاتنا من القبض على حقيقة التجديد والتغيير. فالمطلوب دائما وأبدا ومن أجل الاستيعاب الدائم لمكاسب العصر والحضارة الحديثة، هو توفر الجهد الإنساني الموازي لطموحاتنا وتطلعاتنا.وبدون ذلك ستصبح دعوات التجديد في أي حقل من حقول الحياة وكأنها حرثا في البحر.فعليه فإن التجديد في المجتمعات الإنسانية، يتطلب وجود مجددين، يجسدون قيم ومبادئ التجديد، ويعملوا من أجل بناء حقائق ووقائع في الحياة الاجتماعية منسجمة وقضايا التجديد ومتطلباته.

2- إن قانون التغيير والتجديد في المجتمعات الإنسانية، لا يعتمد على قانون المفاجأة أو الصدفة، وإنما على التراكم. فالتجديد يتطلب دائما ممارسة تراكمية، بحيث تزداد وتتعمق عناصر التجديد في الواقع الاجتماعي. ولهذا ومن هذا المنطلق فنحن مع كل خطوة أو مبادرة صغيرة أو كبيرة، تعمق خيار التجديد وتراكم من عناصره في الفضاء الاجتماعي. وفي المحصلة النهائية فإن التجديد هو ناتج نهائي لمجموع الخطوات والمبادرات والممارسات الايجابية في المجتمع.

ويشير إلى هذه الحقيقة المفكر العربي (جورج طرابيشي) في كتابه (هرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية ) بقوله: والواقع أن قانون الترابط بين حركة الإصلاح الديني والتقدم الثقافي دلل على فاعلية نموذجية في الدول الصغيرة الحجم في المقام الأول. وتلك هي حالة السويد التي كانت أول بلد في العالم يطور برنامجا شاملا لمحو الأمية . فانطلاقا من فكرة لوثر البسيطة القائلة إن جميع المسيحيين بلا استثناء كهنة، وبما أن الكاهن هو بالتعريف في تصور بشر ما قبل الحداثة من يعرف القراءة، بات واجبا على البشر، كي يكونوا كهنة أي محض مسيحيين، أن يتعلموا القراءة. وعلى العكس من الكنيسة الكاثوليكية التي عارضت وصول العامة إلى النصوص المقدسة، شجعت الكنائس البروتستانتية أهالي المدن والأرياف على السواء على تعلم القراءة. ومنذ مطلع القرن السابع عشر أطلقت كنيسة السويد اللوثرية، بمساندة من الدولة، حملات واسعة النطاق لمحو الأمية. وفي أقل من قرن، كان ثمانون في المئة من السكان، في ذلك البلد القروي، قد أضحوا من المتعلمين.وما إن أطل القرن الثامن عشر حتى كان تعميم التعليم في السويد قد أضحى ظاهرة جماهيرية ناجزة، وهذا بدون وجود شبكة موازية من المدارس والأجهزة التربوية.

من خلال هذه التجربة نرى أهمية أن تترجم دعوات التجديد والتغيير إلى خطط وبرامج ومبادرات، حتى يتسنى للمجتمع اكتشاف بركات ومنافع التجديد على المستويين الخاص والعام.

وجماع القول: أن التجديد في مجتمعاتنا ضرورة قصوى. ولكن هذا لا يعني أن طريق التجديد سالكا ومعبدا وبدون مشاكل، بل على العكس من ذلك حيث أن طريق التجديد والتغيير مليء بالأشواك والصعاب.والشرط الضروري الذي يوفر لنا إمكانية تجاوز كل هذه العقبات وإبراز منافع التجديد والتغيير هو إنهاء حالة الرهاب والخوف من التجديد.

- انتهى -

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

الاطفال هم احلام مستقبلنا المضئ نجد ونتعب من أجلهم تربيتهم احسن تربية ونجاهد لنوفر لهم أحسن تعليم أحسن نادي واحسن كتاب ونغرس فيهم كل القيم الاخلاقية والدينية التي ترعرعنا عليها من الايمان وفعل الخير واشكال العفو والاحسان والفداء وغيرها من القيم .

كانت هذه الاحلام المشروعة محل تحقيق عبر عقود طويلة، ولكنها في زمن ألفيتنا الثالثة للميلاد باتت من أصعب الاماني ، ليس لقصور الاسرة في التنشئة فقط، ولكن بفعل متغيرات زمنية رهيبة صارت تتحكم بشكل أكبر في تنشئة الطفل وتغذية عقله ووجدانه أكثر من المنبع الرئيسي للأسرة، فصار الطفل تائها بين القيم التربوية والاخلاقية وبين قيم الميديا وتكنولوجيا العصر الفتاكة .

لعلي أظن ان الاسرة في كل بقاع العالم صارت محتلة من ملوك تكنولوجيا العصر ووسائط الميديا المذهلة التي سرقت عقولنا ووجداننا وباتت توجهنا في شكل حياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية وطرق تفكيرنا حتى صار تفكيرا معلبا جاهزا نشتريه من السوبر ماركت بضغط زر  يصل الينا ويلبي احتياجاتنا بلا عناء .

فاذا كان هذا حال الاسرة الكبيرة الناضجة والتي أمضت سنوات طوال في التعلم واكتساب الخبرات والمعارف تمت سرقتها بمحض اراداتها، فما بال الأطفال الصغار يجدون متع سريعة وجاهزة دون ان يعوا كيف يوضع السم بالعسل؟!!

فالطفل الضعيف الباسم فجأة صار عنيفا جدا اذا لم يتم اعطائه اغنيه او رقصة او لعبة حركية على الموبايل او التلفاز، اما اطفال المدارس فقد انشغلوا عن التعليم بالالعاب  الالكترونية التي تعلم مهارات مذهلة في فنون القتال وفنون السطو على البنوك، والقتل تحت مزاعم الدفاع عن النفس او المنافسة او الاستحواذ على السلطة .

والاهل هم ايضا مشغولون اما بالكد لتوفير متطلبات ذويهم او مشغولون ايضا بالالعاب الالكترونية، بينما يقضي الصغار معظم اوقاتهم بالمدراس الخالية من الرقابة، ووسائل الاعلام التي تشكل تفكيرهم خاصة الالعاب الالكترونية حيث اكتساب العنف والجريمة بسهولة  تدفع الطفل الى قتل نفسه بنفسه تطبيقا لخطوات اللعبة الالكترونية وانا اشدد انني لست ضد الاطار بل ضد المضمون وضد كمية الوقت المصروف .

الانكى من ذلك ما تمرره افلام ديزني من تقديم شخصيات غير سوية في الفئات الصغيرة بعيدا عن قيم الأديان السماوية والاخلاقية والمفاهيم الاجتماعية والثقافية المتفق عليها عبر العصور .

بظني ان المجتمعات البشرية كلها بحاجة الى يقظة من التيه العقلي الذي صنعته التكنولوجيا بنا، ووضع يدها على موطن الداء الذي ينتشر كالسرطان الخبيث بين أطفال العالم ويقودهم للضياع بفعل خضوعهم للوحش الرقمي الميسطر على عقولهم .

بظني ان البشرية كلها خاصة في منطقتنا العربية والشرق اوسطية  مطالبة بسرعة استعادة الوعي والحفاظ على القيم الاسرية التي تربينا عليها وغرس هذه القيمة بنفوس الصغار، عبر  اليات متعددة منها الدور الاسري في مراقبة ابنائهم في برامج  التواصل الاجتماعي والاستفادة من برامج  الخبراء والمتخصصين في معالجة ابنائهم من التنمر  واكتساب خبرات لحماية صغارهم وابنائهم من الابتزاز الالكتروني . بجانب الادوار المهمة للتثقيف والتوعية للمدارس والجامعات والمؤسسات الثقافية والتعليمية والاعلامية بتوعية النشئ من مخاطر الوحش الرقمي وضرورة تقليص نسبة مشاهدته والتواصل فيها الي اضيق الحدود .

والعالم العربي كله مطالب بالتعاون في انتاج اعمال فنية من تراثنا القديم وواقعنا الجيد الحديث وما نأمله من مستقبل متطور علميا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وتقديم هذه الافكار بوسائل عصرية جاذبة تغرس كل فضائل الاخلاق والقيم اللازمة لتنشئة الصغار وصون هويتهم .

وبتقديري اننا في أشد الحاجة لوضع خطة عملية لاستثمار فترة العطلة الصيفية بالمدارس في خلق أنشطة تستهوي الطلاب من انشطة رياضية وكشافة ومسابقات في الشعر والقصص واقامة المعارض للوحات الفنية والاشغال اليدوية والحرفية وتعليم الخياطة والزراعة والبحث العلمي والاختراعات العلمية وغيرها من الانشطة التي تستقطب وقت الطلاب في اعمال مفيدة وتحقق لهم ايضا مرودا عمليا ناجحا .

استغلال المدارس فترة الصيف لاستيعاب الاطفال من خلال نشاط صيفي يلعبون ويستمتعون ويقرأون قصصاً. كذلك تنظم المدرسة معارض للوحاتهم ومشغولاتهم اليدوية التي قاموا بها من انشطتهم ومواهبهم  وهو ما سيلقي ترحيباً من الاطفال .

وبظني ان الابوين عليهما ان يقدما الأسوة الحسنة في تقليص استخدامهم للموبايل  واوقات اتصالهم بقنوات التواصل الاجتماعي وان يشجعوا ابنائهم على اكتشاف مواهبهم والعمل على تنميتها داخل الاسرة قبل النادي والمدرسة .

من المهم استفادة الابوين من البرامج والتطبيقات المراقبة لحماية الاطفال ، فهي تعمل بلوك على المناظر والمواقع والدعايات الغير أخلاقية، كما يبنغي على الابوين تحديد الوقت الذي يقضيه الطفل على الموبايل،  وترسل اشعارات للابوين بالبرامج التي يستخدمها الطفل.

وعلى الابوين ايضا تقديم النصح المباشر وغير المباشر لابنائهم بعدم قبول صداقات غير معروفة لهم وعدم افشاء أسرارهم مع غرباء عبر الواتس اب والماسنجر وغيرها من وسائل التواصل .

***

بقلم: سارة طالب السهيل

أعتقد أن الكتب تحسب وتُقيَّم من حيث تأثيرها وفعاليتها وتداعياتها في المجتمعات والميادين التي ألفت فيها، وليس بعددها. وعلى الرغم من تراجع منزلة وانتشار الكتاب الورقي تراجعا خطيرا في أيامنا، واقتصار توزيعه خلال المعارض الدولية تقريبا، فإن القاعدة الذهبية والمجربة تبقى كما كانت من قبل وهي أن الكِتاب الأكثر تأثيرا والأطول بقاء هو الذي تمليه على كاتبه شبكة عوامل وظروف دافعة ومتداخلة في مقدمتها ذلك المزيج العبقري من الجدة والإبداع والتطوير وربما يأتي الدافع النرجسي والوجاهي في أخيرها وقد لا يأتي.

لنأخذ - كمثال أول - شاعرا معروفا كالفرنسي آرثر رامبو؛ لقد هزَّ هذا الشاعر قصير العمر ونادر المنتوج الشعر الفرنسي - والغربي- القديم والحديث وخضه خضاً، أو بعبارة الروائي والناقد الأميركي هنري ميلر - إن لم تخني الذاكرة - "أمسك بالشعر الفرنسي والأوروبي من أذنه وطرحه أرضاً ثم قَلَبَهُ رأساً على عقب"، واعتُبِرَ مؤسس الحداثة الشعرية في الغرب، هذا الشاعر لم يترك خلفه إلا كتابين صغيرين أو دفترين اثنين هما "إشراقات" و"فصل في الجحيم" وست قصائد أشهرها "المركب السكران" والتي ترجمت عدة ترجمات الى اللغة العربية، ثم طلَّق الشعر بالثلاث وهَجَرَ عالم الأدب نهائياً وهو شاب ثم تحول الى تاجر سلاح مغامر جوّال حتى موته وهو في الثلاثينات من عمره بعد حياة قصيرة صاخبة ومنفلتة ومضطربة. لست أقارن أحداً بأحد أو حالة بحالة محددة بل أذكر أمثلة لتعضيد الفكرة. 

أما في عالم الرواية فكثيرون هم أولئك الذين هزّوا عالم الأدب والرواية بكتاب واحد ثم سكتوا حتى الموت؛ منهم مثلا: بوريس باسترناك في روايته اليتيمة والشهيرة «دكتور زيفاجو» التي فاز عنها بجائزة نوبل للآداب سنة 1958 ولكنه رفض استلام الجائزة أو كما قيل في الإعلام الغربي أجبر على رفض استلامها من قبل السلطات الستالينية في الاتحاد السوفيتي، وسيلفيا بلاث في «الناقوس الزجاجي»، وإميلي برونتي في «مرتفعات وذرنج» وآنا سويل في «الجمال الأسود» ومارجريت ميتشل صاحبة «ذهب مع الريح» التي تحولت إلى أيقونة سينمائية لاحقا. ونلاحظ أن أغلب هؤلاء المبدعين ذوي العمل الواحد من النساء (أربعة من خمسة أسماء)، ربما لأنهن أكثر شجاعة واستخفافاً بنشر إبداعهن الأدبي من الرجال. أما في مجال الأبحاث العلمية فالأمثلة أكثر من أن تختصر عن أصحاب العمل الواحد والعملين!

ولكن دعونا نأتي بمثالين عراقيين؛ لعل الباحث والعلامة العراقي الكبير جواد علي خير مثال على المُقلِّين الذين لم يبلغ عدد كتبهم أصابع اليدين، ولكنه أيضاً صاحب الموسوعة التاريخية الأشهر والأكفأ والأوسع والأوثق في اللغة العربية والتي تحمل عنوان "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" في عشرة أجزاء، وطبعت لاحقاً من طرف دور نشر لصوصية داخل وخارج العراق (أقول لصوصية لأتها لم تراع حقوق المؤلف العلمية أو حقوق ورثته) بعشرين مجلدا، وهو متوفر على الانترنيت بنسخ رقمية "بي دي أف" مجانية، وصار هذا الكتاب مرجعاً لكل من كتب عن تاريخ العرب قبل الإسلام. وحتى كتب المؤلف اللاحقة فقد كانت اشتقاقات وتنوعيات وتفصيلات على موسعته "المفصل" ككتبه "أصنام العرب" و "تاريخ الصلاة في الإسلام" و "التاريخ العام" إضافة إلى أطروحته لشهادة الدكتوراة التي قدمها في جامعة هامبورغ الألمانية سنة 1938 وهي بعنوان "المهدي وسفراؤه الأربعة"، ويقال إن له كتباً أخرى لم تنشر في حياته.

أما زميله ومجايله العلامة طه باقر فلا يكاد يُعرف له إلا عدد مقارب من الكتب قد لا يتجاوز الستة كتب، منها كتابه المهم "مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة" بجزأين، الأول عن العراق القديم، والثاني عن مصر (وشمل فيه حضارات بلاد الشام والجزيرة العربية وبعض الحضارات القديمة في بلدان فارس والإغريق والرومان)، وهو كتاب مرجعي مهم يَعْدِلُ مكتبة كاملة. وكتابه الثاني "المرشد في الآثار" وهو في ستة أجزاء وبحر تخصصي في بابه، والثالث "مقدمة في الأدب العراقي القديم" والرابع "موجز في تاريخ العلوم والمعارف في الحضارات القديمة والإسلامية"، والخامس كتاب شبه مفقود عن "بابل وبورسبا" صدر سنة 1959، وأخيرا وسادساً كتابه "من تراثنا اللغوي القديم" ويقول تعريف الكتاب "هذا الكتاب، يرد فيه طه باقر على عجز المعجميين العرب عندما تعوزهم الحيلة في إثبات أصل أو جذر بعض الكلمات والمصطلحات فيردوها نتيجة لهذا العجز إلى الدخالة أو العجمة. لقد أثبت طه باقر أصول هذه الكلمات والمصطلحات السومرية والآكادية، وبعضها شائع في اللهجة العامية العراقية لا سيما في الجنوب العراقي". وكنت قد قلدته وسرتُ على خطاه من دون أن أعلم أو أطلع على كتابه هذا، في تأليفي لكتابي "الحضور الأكدي والآرامي والعربي الفصيح في لهجات العراق والشام" ولعلني أكتب لكم ذات يوم شيئا عن هذا الكتاب الثمين الذي حصلت على نسخة منه متأخراً.

إضافة إلى ما سبق أنجز الراحل طه باقر بعض الترجمات المهمة وفي مقدمتها ترجمته الرائدة لملحمة كلكامش، وتحتوي أيضا على فصول بحثية مهمة بقلمه. كما ترجم كتاب "دراسة للتاريخ" للمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، وكتاب "ألواح سومر" لصموئيل نوح كريمر، وكتاب "الرافدان"، وكتاب "الإنسان في فجر حياته" لدوروتي إيفرسن، ترجمه بالاشتراك مع زميله الباحث فؤاد سفر، كما ترجم فصولا من كتاب "تاريخ العلم" لجورج سارتون. وهناك من يعتقد أن مؤلفاته أكثر مما ذكرنا، ولا أظنها تتجاوز ما ذكرنا ولكنه نشر العديد من الدراسات والمقالات في المجلة الفصلية التي أسسها سنة 1945 وحملت اسم "سومر"، وكانت أرقى مجلة آثارية وتأريخية صدرت باللغة العربية في زمنها، وماتزال مرجعا مهما حتى اليوم وهي منشورة بكافة أعدادها على الانترنيت.

أعتقد لو أن مؤلفات الراحل طه باقر الشهيرة الستة أنجزها باحث معاصر في أيامنا لتحولت الى ثلاثين أو أربعين كتاباً، فتأملْ وأنت تتذكر أمثال هؤلاء الكبار عطاءً وإبداعاً على قلة عناوين كتبهم!

***

علاء اللامي

مناقشة رسالة الماجستير أو اطروحة الدكتوراه حلقة تكاد تكون أخيرة في ترصينها العلمي أو المعرفي، زيادة على بنائها المنهجي، وخطواتها المنطقية كي تظهر بلباس علمي يجعل منها جهدا معرفيا حقيقيا تكون دليلا للباحثين من بعد، لا تبخس الموضوع حقه، ولا المسترشد بها سؤله، وهذه مهمة وذمة المناقش أولا وربما أخيرا أيضا، بيد أن الاتجاه العام عند بعضهم يسير باتجاه الاقرار الضمني والنفسي أن ما يقدم للمناقشة عمل متكامل لا تشوبه الا هنات بسيطة ليست بذي بال، والدليل على ذلك ما يأتي: مدة القراءة الممنوحة للمناقش التي تقلصت من شهر إلى أسبوعين -بما فيها من مداخلات واجبات علمية، ووظيفية أخرى، فضلا عن حاجات انسانية طبيعية للمناقش، فكم سيتبقى منها؟!- الزمن المخصص للمناقش الواحد، وأخيرا قراءة بعضهم للبحث التي تقلصت عنده إلى مبحث واحد وربما جاءت بما يزيد قليلا، يستعرض عبره عضلاته العلمية الشفوية التي هي في النسق العلمي العام للموضوع، وقد تكون خارجه نهائيا، لا بما انجز فعليا عبر الكتابة في البحث قيد المناقشة، وهذا الفاعل الأخير باستراتيجية (اسقاط الفرض) هو من مؤيدي تقليص زمن المناقشة إلى عشرين دقيقة لكل مناقش، يضاف إلى ذلك التبرم بأي مناقشة جادة حريصة على التقويم، والتقييم العلمي الحقيقي لا البهلواني، مما خلق عند بعضهم ما يمكن أن نسميه: (فوبيا مناقش) إذ يخافون كل مناقش جاد، وهذه السلوكيات آنفة الذكر كلها تدخل ضمن مشروع سابق لتمرير وتمشية حال ابناء السلطة، حيث بات المناقش مقيدا بمفردات العمل الذي أمامه، لا يحيل إلى خارجه قيد أنملة، كي لا تظهر ضحالة الطالب وجهله بقضايا محيطة بموضوعه هي من صميم رصانة البحث والباحث، والكفاءة العلمية الواجبة في حامل شهادة عليا من مؤسسة أكاديمية يفترض أن تكون رصينة - بغض النظر عن أي تفاوت بين هذه المؤسسة أو تلك مادامت تمنح هذه الشهادات العليا- ومن علل التضيق كذلك الخشية من اكتشاف سرقة المحظي عند أربابه الكاملة، او سرقاته وتدليسه، أو أن يكون قد كتبها له آخرون.

وعودة بمرور سريع إلى ما كتبه طه حسين في مذكراته عن دراسته في فرنسا وما يقوم به المناقشون في جامعاتها من سياحة علمية مع الطالب بمواضيع شتى؛ تاريخية، وجغرافية، وأعلام وأحداث كبرى في حياة الأمة،  وقضايا ثقافية وفنية عامة، فضلا على اللغوية والأدبية والقضايا التخصصية الدقيقة في موضوع المناقشة، لَبَانَ بشكل جليّ بُعدنا عن شروط وضوابط الحياة العلمية والعملية، وموقعنا الحقيقي منها، ولأجبرتنا على اعادة النظر في كثير من سلوكياتنا في المناقشات، واعداد الطالب علميا ومعرفيا وذهنيا، ونفسيا منذ بدأ التسجيل في الدراسات العليا، وما يتلو ذلك من مسيرة يفترض أن تكون منقطعة تماما للعلم والمعرفة، والدرس والدراسة، والبحث والكتابة دون تمويه، أو توهين، أو مداجاة وانحراف، ودون فوت وتقصير، أو زخرفة لغشاوة العيون، أو بهرجة لتضليل العقول، أو لمساومة لخلخلة المواقف، أو لخلق مجريات ما لإرضاء الأهواء، وتحصيل منافع ومصالح على حساب الضمير العلمي، ومستقبل البلاد والعباد، وتحقيق وجودهم أسوة بعالم يكاد يقبض على أجرام السموات ومقدراتها، كما فعل في الأرض باطنا وظاهرا، بحرا، وجوا، ويابسة، ونحن الذين سمعوا أول كلمة نزلت من السماء تدعو للعمل والجد وفق هذا الاتجاه )اقرأ)..!.  ونحن الذين استرشدنا بمثل قرآني قل نظيره عن الذين يحملون العلم، ولا يحيطون بشيء مما فيه،  فقال عز من قائل:(مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا)، فالذين حملوا العلم والقرآن ثم لم يفقهوا منه شيئا  كمثل الحمار تماما..!. لا يُحمّل أكثر من طاقته في الوظيفة؛ وهي حمل الأثقال، فلا شأن له بعلم، ولا بدرس، ولا بمراجعة.. ومن هنا صار لزاما علينا مراجعة  أشيائنا العلمية كلها، ونموذج صياغتها وصوغها، وإدارتها وضوابطها، وقوانينها بين فينة وأخرى، وفقا للحال العلمية القارة في محيطنا الناجح، أو في العالم. كي نلحق بالركب العلمي للعالم وواقعه المدني والحضاري كما هو في قواه الكبرى متسيدة العالم، ولا نبقى نقرن أنفسنا ونربطها بنماذج لم تقدم لأنفسها ما يحميها من السقوط او التيه. فمسافة الألف ميل للوصول إلى قمة الهرم العلمي لابد أن تبدأ بخطوة منهجية علمية مدروسة جيدا، تليها خطوات متراصة متتابعة لا غنى عنها ابدا لتحقيق ذلك الانجاز والوصول. ومن أبرز علامات تحققه حينئذ اجراء مناقشات (علمية) في كل أصناف علومنا، تستحق فعلا حمل هذا الوصف الأخير.

***

د. رياض الناصري

العالم يتغير بسرعة قصوى وكأنه ينذر بالموازاة أن التطور الحضاري في العقود المقبلة لن يحتمل إلا المنخرطين بمعرفة قصوى في البنية الأساسية للسحاب المحوسب والاستفادة العالية من الذكاء الاصطناعي. والحالة هاته، ليس أمام الآباء والأمهات وأولياء الأطفال سوى تدريب فلذة أكبادهم على المناهج والتقنيات التي ستمكنهم من الانخراط في التعلم الآلي وبالتالي الولوج إلى خدماته الرائدة. إن هذا السحاب الافتراضي يمكن اليوم عبر برامجه المذهلة وشبكاته المتطورة من رصد تحركات وأنشطة وهويات الفرد الواحد أينما حل وارتحل. في نفس الوقت تمكنه من الاستفادة من خدمات ذات جودة عالية تسرع من وثيرة تكوينه واستفادته من خدمات متنوعة وذات جودة عالية (التسوق عن بعد، التكوين بتحويل النص إلى كلام أي إلى خطاب نابض بالحياة، التكوين بتحويل الكلام إلى نص، التعلم الآلي ببرامجه الثرية، الترجمة الآنية، .....). كما تصبو المؤسسات الراعية لمشروع الرقمنة العالمية إلى ربط البيانات الهوياتية للفاعلين والزبناء التجاريين بكل الأنشطة المدرة للدخل بشقيها السلعي والخدماتي في القطاعين العام والخاص.

السيولة المؤسساتية في مجال الهويات الفردية، ستتحول مع مرور الوقت إلى امتياز يمكن الأفراد من قضاء مصالحهم بالسرعة المتناهية والجودة القصوى. على مستوى المغرب كنموذج، إذا ما تمت إضافة المجهود المبذول في مجال رقمنة الحالة المدنية بمشروعها الوطني إلى ما يتحقق من تراكمات في مجال بناء السجل الاجتماعي ومشاريع الرقمنة لتحديث جل الخدمات العمومية والخاصة تقريبا، سيجد المتتبع نفسه في أقرب الآجال أمام حقيقة بارزة ستؤكد لا محالة وباستحقاق أن المغرب قد اختار سبيل التأهيل عقيدة متشبثا بالوصول إلى مستويات تمكنه من لعب دور القاطرة إفريقيا وعربيا.

بلا شك، هذا المشروع تحول اليوم إلى جوهر التنمية الترابية وأصبح من أولوليات البرامج العمومية. في هذا الشأن تم اختيار إقليم سيدي سليمان من ضمن عدد من الأقاليم كمختبر لتيسير تعميم هذا المشروع الريادي على مختلف الوحدات الترابية للمملكة. فما تقوم به العمالة بتنسيق مع رؤساء مجالس الجماعات الترابية للتقدم في تحقيق الأهداف الاستراتيجية هو تعبير واضح عن طموح السلطات الإقليمية لإبراز النموذج الترابي الواعي بالرهانات المستقبلية للدولة المغربية في آجال معقولة. المشروع الإقليمي وقيادته يستمدان بذلك مقوماتهما من الإستراتيجية الوطنية المعبرة عن حكمة نظام سياسي له خصوصيته الإقليمية والجهوية والقارية وحتى الدولية. بالفعل، وزارة الداخلية لا تدخر جهدا من أجل ربط البيانات الهوياتية الفريدة (unique) على أساس التسجيل في الحالة المدنية (رسم ولادة واحد)، بسجل المعطيات المهنية والتعليمية والتكوينية وكذا بسجل الممتلكات القارة والمنقولة. هناك حرص ملموس لتنمية رأسمال معلوماتي بطبيعة الرفع من الثقة المؤسساتية وإضفاء المصداقية التامة على علاقة المواطنين (المجتمع) بالدولة. هذه الأخيرة على وعي تام بضرورة تحقيق هذا الرهان الصعب بطابعه الإجباري. الرقم الوطني الفريد المحدد للوجود الفردي (المرتبط بالصورة الفوتوغرافية والبصمات الجينية الفريدة لليدين والعينين) سيتحول مع مرور الوقت إلى مصدر من مصادر المشروعية للانخراط السهل في المهن المدرة للدخل مستقبلا وشرطا إجباريا للاستفادة من الخدمات المتنوعة وطنيا ودوليا. حتى المسلسل الديمقراطي سيجد في الإلكترونيات أرضية أوتوماتيكية لضبط عمليات الترشيح والاقتراع وإعلان النتائج بسرعة فائقة. أكثر من ذلك، سيادات الأوطان سترتبط بقوة في أقرب الآجال بمدى تطور شعوبها في التعاطي مع الذكاء الاصطناعي المقوي لتأثيرها وجاذبيتها عبر تقاسم البيانات الحيوية النافعة المعبرة عن إمكانيات نفوذ مجالاتها الترابية المختلفة والمتنوعة.

لقد تدخل الذكاء الاصطناعي بتطبيقاته في حياة الإنسان عالميا. لقد تيسرت أمامه المهام المُعقدة التي كانت تتطلب في الماضي جهودا بشرية مضنية. لم يعد أمام التعلم بالصور والنصوص والفيديوهات الإلكترونية أي عائق يذكر. الإنتاج بإبداعاته والتجارة بتقنياتها في طريقهما للاندماج الكلي في العالم الرقمي. الشركات الكبرى تستثمر بشكل كبير في علوم البيانات التي تعد اليوم مجالاً متعدد التخصصات العلمية. الهدف المسيطر على هواجس الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين عالميا هو تطوير الأساليب العلمية في هذا المجال للرفع من قيمة المعطيات ببعدها الكمي والنوعي. كل المهن ارتبطت اليوم بالرقمنة، وبرزت بشكل واضح المهارات في مجالات حيوية مثل الإحصاء وعلوم الكمبيوتر والمعرفة العلمية لتسهيل تحليل البيانات التي يتم جمعها من مصادر متعددة.

خلاصة: سأكتفي بهذا القدر مبرزا حرص المغرب الملموس لتصدر قائمة الدول الإفريقية والعربية في لعب الأدوار الريادية في ربط الهوية والذكاء الاصطناعي بكل المجالات الحيوية في المجتمع والدولة مع الحفاظ على سرية المعلومات الفردية.

فتعميم التصاريح الأولية الإلكترونية في كل المجالات، وإثباتها بالوثائق الرسمية الوثائقية، ستضفي على بيانات الفرد المصرح به وممتلكاته المنقولة والقارة وتكويناته المتراكمة طابع الهوية الإلكترونية الشاملة والقارة المتدفقة بسلاسة بين الحواسيب المؤسساتية الرسمية. بهذا الانشغال الدائم تقود السلطة الإقليمية بسيدي سليمان بحكمة وتبصر مشروع رقمنة الحالة المدنية وبناء السجل الاجتماعي. لقد أصبح من الواجب على المرتفقين تحمل المسؤولية الكاملة في تصريحاتهم. الدولة عازمة على تجاوز ثقافة الرعاية والرعايا لتحل محلها ثقافة المواطنة.

كما أن ربط وسائل الأداء الإلكترونية (البطاقات البنكية والتحويلات الإلكترونية ....) بالهوية الفردية الجينية والفواتير والطلبيات التجارية والاستهلاك اليومي سيضع البنيات الإنتاجية والخدماتية أمام بيانات اقتصادية وتجارية عالية القيمة. إن رقمنة الهوية يشكل اليوم دعامة أساسية للتطور المبهر والمتزايد الذي يعرفه قطاع النقل والتنقل بوسائله السريعة وكذا مجال الطاقات المتجددة (سيارات وقطارات وطائرات ومروحيات ودراجات نارية وهوائية ... عالية السرعة). الاستفادة السريعة من خدمات الوسائل المتطورة للنقل والتنقل على أساس الهوية الالكترونية تشكل اليوم إغراء لكل المجتمعات الكونية. فإضافة إلى التحديد المستمر لتطور الخريطة العالمية لتنقل الأفراد ونقل السلع والخدمات (Flux)، وتوقع حجم الاستثمارات والمهن المستقبلية المربحة في كل المجالات، تجد المؤسسات العامة والخاصة نفسها أمام إجبارية الاستثمار الهائل في التكنولوجيات الحديثة والرفع من الاستفادة من الذكاء الاصطناعي إلى أعلى المستويات القياسية. الهوية الالكترونية الدقيقة ستحل محل الوثائق ووسائل الأداء. الاندماج الكلي للأفراد والجماعات في السحاب المحوسب (Cloud computing) سيرفع من مستوى الأمن والاستقرار إلى أعلى المستويات. فالبرامج المستقبلية ستكون بلا أدنى شك مؤهلة لترقب التحركات غير الطبيعية للأفراد والجماعات. هذا عالم اجماع كوني جديد تتقاسمه القوى الكونية في الشرق والغرب.

***

الحسين بوخرطة

رحل من الدنيا مهموما مثقلا بالافكار مملوءا بالنظريات أنغمس بعقله لفهم الأزدواجيه لم يتعصب يوما يسمع ويبتسم لكثير من نقاده ليرد بالادلة القطعية والمنهج الموضعي، ولكنه سيبقى في ذاكرة التاريخ تلهج الألسن باسمه وتسطر الأنامل ارثه وضل منهجه محور الجدل مابين الحقيقة والبحث عنها والمجردة من فكره الاجتماعي ونقده السياسي الصريح والجريء البعيد عن المجاملة والمبالغة، ترك الدنيا من غير معرفة نهاية جولته ايهما المنتصر النهائي البداوة ام الحضارة، وتغالبت عليه صفحات وكتب النقد والتهجم عليه خلال حياته من قبل وعاظ السلاطين واذيالهم حتى استبيح دمه لأكثر من مره علنا ً، لم يشهد كاتب ومفكر دخل معترك الاجتماع والثقافة والدين وانتقد السياسة والنحو وابحر منهما دون أن يغرق في امواجها، أستراح في غرفته  وعلى سريره البسيط مسجى بعد تعب وكفاح طويل دام من ولادته عام 1913 الى يوم وفاته 13/7/1995، غادر عملاق الفكر الأنساني رائد علم الاجتماع الحديث في العراق ولم ينتهي الجدل بعد  وحصل كل عشاقه ومتابعيه على ذكريات مع كتبه من متعة فكرية وثقافة اجتماعية، معظم ابحاثه كانت مرٌكزة على صراع البداوة والحضارة والتناشز الاجتماعي وزدواجية الفرد العراقي والتي عممها على الفرد العربي ومعتركها في جميع المجتمعات، ووضع لها البلسم  وعلاج  لاغلب المشاكل والصراعات في المجتمعات بالديمقراطية الحديثه وهي اساس بنا الحضارة وتقدم الفكر الآنساني، كان على الوردي رحمه الله جريئاً بنقده المجتمع العراقي مما اظهر له الامر ان يجتمع بمخالفيه ويكٌونون جبهة ضده من اليمين واليسار، ووصف العراق في احد مقالته (عادة ما أشبه العراق بأمرأة اسمها (غنيه) حسناء لبيبه مترفه ثرية ومكتنزة بالحلي ومرتدية حل مقشبة يحف بها بداة حفاة اجلاف رث الثياب شبقين كل منهم يريد وطأها، لكن كل منهم يخشى سطوة الأخر وليس سطوتها كونه أمة واهنة.. ثم يقول الكل ينتهز الغفلة للانقضاض عليها، حتى وطئها الجميع وكانت ولادتها هجين من أرومات هولاء البداة) ثم بين الوردي على ان الفرد العراقي واقع بين القيم الاجتماعية المتناقضة من قيم البداوة وقيم الحضارة وقد نتج عن ذلك صراع مستمر بين بدوي غالب وحضري مغلوب، وهذا صراع عان منه الشعب العراقي، ومن زاوية اخرى يجد الدكتور العلاج الناجح للشعب العراقي وهو نظام الديمقراطي وكما وصفه (أن الشعب العراقي منقسم على نفسه وفيه من الصراع القبلي والقومي والطائفي أكثر من أي بلد آخر، وليس هنالك من طريق لعلاج هذا الانقسام سوى تطبيق النظام الديمقراطي، الذي يتيح لكل فئة منه أن تشارك في الحكم حسب نسبتها العددية، وعلى العراقيين ان يعتبروا من تجاربهم الماضية ولو فلتت هذه الفرصة من ايدينا لضاعت منا امداً طويلا!) ما اشبه ما قاله الوردي وتحديات المرحلة لهذا اليوم في العراق، ويحث العلامة الوردي رحمه الله بقوة على نظام التصويت منذ عام 1954 في كتابه وعاظ السلاطين  حينما قال (لو كنت من أرباب العمائم لا أفتيت باعتبار التصويت واجبا دينيا، ولجعلت التقاعس عنه ذنبا لايغتفر،، أني اعرض هذا الرأي على رجال الدين  واتحداهم أن يقبلوه او يحققوه) وقد تأثر الدكتور الوردي بطروحات وافكار ابن خلدون وبارائه ودرس المجتمع دراسة متمعنة، وكان اول من دعا الى علم اجتماع عربي يدرس المجتمع العربي في ضوء خصوصياته الجغرافية والثقافية انطلاقا من طروحات ابن خلدون، كما ركز الوردي ايضا على عامل البداوة وقيمها واثرها في تكوين الشخصية العربية، ومن حيث خصوصيات البداوة وتقاسيمها، انفرد الدكتور على الوردي في مركبات الثقافة البدوية بعد ماطرحها (براون) وهو احد المستشرقين  الانكليزي ونال شهرة في دراسته للابحاث الشرقية وكان يجيد التحدث باللغة العربية والفارسية، وقد طرح اربعة فضائل عن البداوة هي الشجاعة، والكرم، والولاء للقبيلة، والثأر، في حين يقول الوردي عن ذلك ان الفضائل ثلاث هي العصبية، والغزو، والمرؤة، وهذا دليل واضح ان العلامة الوردي استنبط ذلك من حصيلة افكاره ومايطرح في ظل معطيات ومناخات جمعها خلال دراسات ميدانية وكانت لديه زيارات الى البداوة مع طلابه لمعرفة الحقائق عن قرب لا بالوصف الخيالي والتخمن، وخلص بعد المقارنة الى هذه النتائج، كما اطلق على ظاهرة غريبة في تاريخ العراق الأجتماعي والتي اسماها  بـ(ظاهر المد والجزر) والتي يرى فيها أن ظاهرة البداوة تستفحل ثم تضعف او تتقلص من وقت لأخر تبعا لظروف الدولة وماتتعرضه من ضعف وقوة، وكلما قويت الدولة كلما اتسعت الحضارة وقلة فجوة الصراعات الداخلية وتعم الحياة السياسية والأقتصادية والأحتماعية بالاستقرار، أن تحليل الطبيعة البشرية والصراعات الفكرية والثقافية مع البداوة وتحليل الازدواجيات للمجتمعات العربية والأهتمام بالجوانب الاجتماعية للواقع العراقي، اخذت من منظور ما ركز به الوردي على مصادر مادية مختلفة من ضعفاء الواقع وأرباب المهن البسيطة ولمختلف جوانبها، كما اخفى الكثير من افكاره وطروحاته تقية لشدة المواقف السياسة وظلم الحكام ولم يتحدث الا ماهو ضمن المعطيات المطروحة، ولو امد الله بعمر الوردي لهذا الانقلاب الجذري لكافة الامور في يومنا هذا لوضع نظرية جديدة اصلاحية بانت نتائجها واخفت مجادلاتها وخصوصا انه درس التاريخ الاجتماعي للعراق الحديث وكيفية النهوض بالبنية الاساسية، فيما تعرض الدكتور الوردي لكثير من النقد سوى  في محاضراته او كتبه ولم يترك مجال الا ورد بأسلوبه العلمي والمقنع، وحين انتهائه من الجزء الاخير لكتابه لمحات اجتماعية تعرض لجملة من الانتقادات واتهمه الكثير من اصحاب العلم والدراية بأنه اصبح مؤرخا تاريخيا واهمل جانب علم الاجتماع فيما رد عليهم بما يلي : (مشكلة هولاء النقاد انهم لايفهمون علم الاجتماع فهما محدودا او مغلوظا من بعض الوجوه، ان الحقيقة التي اود ان يعرفها هولاء النقاد هي انه لايوجد فاصل حدي يفصل بين التاريخ والاجتماع فكلا الأمرين  مترابطان او هما وجهان لشيء واحد) كان الدكتور علي الوردي قبل رحيله بشهور اجريت له مقابلة تلفزيونية  من قبل قناة العراق الفضائية وسأله : المقدم ماهي الأخطاء التي ارتكبتها في حياتك ؟  فلم يظفر منه بجواب سوى ما ردده أن اخطأي كانت كثيرة، ثم حاول المقدم أن يجره للهجوم على ناقديه املآ للوصول الى  جواب عن السؤال نفسه، الا انه لم يفلح منه بجواب فكان الوردي يحترم الرأي الآخر ويتقبل النقد، وقد قال الوردي في أخر عبارة في البرنامج نصا: (لا أدري كيف سأقابل ربي)، واخيرا ترى ماذا يكون حال العراق لو انتبهوا منذ أكثر من نصف قرن لطروحات ومناشدات الدكتور علي الوردي في مجال التصويت وحث الناس والحكام على تطبيق الديمقراطية .

***

صادق غانم الاسدي

لعوامل ذاتية وموضوعية، اقتحمت فضائنا الثقافي والاجتماعي في الآونة الأخيرة، مجموعة من القيم والمبادئ، وأضحت هذه القيم عناوين إلى أنشطة ثقافية مختلفة.. وبعيدا عن المواقف الأيدلوجية المسبقة..

من الضروري أن ندرك أن رفع شعار الحرية أو التسامح أو التعددية أو الوسطية، لا يعني بشكل طبيعي وأوتوماتيكي إننا أصبحنا من أهل هذه القيم..

وإنما المطلوب بناء رؤية ثقافية متكاملة، تساهم في تفكيك القيم المضادة لهذه القيم، وبناء وقائع ومناهج وخيارات، تساهم في تعزيز خيار القيم الجديدة في الفضاء الوطني الخاص والعام..

وما ينقص المشهد الثقافي الوطني، هو صياغة كيفيات وآليات التحول نحو القيم الجديدة، وتوفير كل موجباتها في الحياة العامة..

من هنا فإنني أود في هذا المقال الاقتراب النظري من مفهوم الحرية.. وإن الخطر الحقيقي الذي يواجهنا كعرب ومسلمين على هذا الصعيد، حينما يتم التعامل مع هذا المفهوم بوصفه مفهوما ناجزا، وإنه الحل السحري لمشاكلنا المختلفة..

فالحرية في بعدها النظري وبعدها التطبيقي، ليست مشروعا ناجزا، وإنما هي من المشروعات المفتوحة على كل المبادرات والإبداعات الإنسانية.. من هنا فإنه لا حرية بدون أحرار، ولا ديمقراطية بدون ديمقراطيين.. وإن كل حرية أو ديموقراطية بلا أحرار فهي حرية وديمقراطية شكلية.. وإن حجر الزاوية في مشروع الحرية هو وجود الإنسان الحر، الذي يترجم قيم الحرية ويدافع عن مقتضياتها ومتطلباتها..

وإن هذه العملية، لا تتم اعتباطا أو صدفة، وإنما هي بحاجة إلى تهيئة وتنشئة وتربية..

من هنا فإن المطلوب ليس الصراخ باسم القيم الجديدة، وإنما العمل على التربية عليها.. لأن التربية على هذه القيم والمبادئ، هو الطريق الطبيعي لخلق وقائع مجتمعية منسجمة ومقتضيات هذه القيم..

والحرية في الرؤية الإسلامية، ليست بعيدة عن مرجعية التوحيد، وإنما هي منبثقة من هذه المرجعية، وهي التي تعطي للحرية معنى وهدفا وتشريعا. والشرك العقدي يعيق من انطلاقة فكرة الحرية ويضيف لها أبعادا ومضامين مناقضة للمفهوم الجوهري للحرية. فالحرية ليست تفلتا من القيم، وإنما هي انسجام تام مع النواميس والقوانين الاجتماعية والكونية.

كماان الحرية كممارسة مجتمعية تتسع وتضيق من خلال علاقتها بقيمة العدالة. فلا عدالة حقيقية بدون حرية إنسانية، كما أنه لا حرية بدون عدالة في كل المستويات. فالحرية هي عامل محرك باتجاه إنجاز مفهوم العدالة في الواقع الخارجي. كما أن العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هي التي تكرس مفهوم الحرية في الواقع الاجتماعي.

فالإنسان الذي لا يتمتع بالحرية، لا يستطيع إنجاز عدالته. كما أن الإنسان الذي يعيش واقعا اجتماعيا بعيدا عن العدالة وتسوده حالة الظلم، فإنه لن يستطيع أن يدافع عن حريته ويجذرها في واقعه العام. فالحرية التي تؤدي إلى الظلم أو تفضي إليه ليست مطلوبة. فالمطلوب دائما هو خلق منظومة متكاملة من القيم كالحرية والمساواة والعدالة. والتضحية بإحداهما من أجل الأخرى، يؤدي إلى بروز مشاكل اجتماعية أو سياسية أو هما معا. فكيف نؤسس لحرية لا تتعدى على حقوق وحريات الآخرين المادية والمعنوية. وكيف تقبض على العدالة بدون التضحية بقيمة الحرية. فالحرية هي جزى من أجزاء العدالة، ومن يطلبها يطلب جزءا من العدالة.

هذه الأسئلة وغيرها لا يمكن الإجابة عليها الا بتطوير (مجال التفاضل بين القيم). وهو من المجالات التي تحتاج الى الكثير من اعمال العقل والاجتهاد لبناء منظومة قيمية متكاملة.بحيث لايحدث تعارض بين هذه القيم على المستوى الخارجي.

كما أنه لا حرية في أي فضاء اجتماعي، بدون احترام وصيانة حقوق الإنسان، فهي بوابة القبض على الحرية وممارستها. فالحرية في جوهرها، ليست مقولة جاهزة، وإنما هي إجراءات وحقائق وممارسات تتمسك بحقوق الإنسان وتدافع عنها.

والحرية كممارسة، ليست خطابا يلقى، أو ادعاءا يدعى، وإنما هي إرادة إنسانية صلبة تتجه نحو التمسك بالحرية ومقتضياتها. وحيث تتوفر الإرادة الإنسانية المتجهة صوب الحرية، تتحقق بذات القدر حقائق الحرية. فحجر الزاوية في مشروع ممارسة الحرية، هو الإرادة الإنسانية. من هنا ينبغي الاهتمام بمفهوم (التربية على الحرية)، إذ أن المهمة العامة الملقاة على كاهل جميع النخب هي تربية شرائح المجتمع المختلفة على الحرية.

والتربية على الحرية تحتاج إلى:

أ‌- استعداد نفسي تام للقبول بكل مقتضيات الحرية.

ب‌- الاطلاع والتواصل الثقافي مع المنجز الثقافي الإنساني الذي يؤسس لخيار الحرية ويبلور مضامينها.

ت‌- الموازنة الواعية بين ثقافة الطاعة وثقافة المسؤولية.

وخلاصة القول: أن الحرية كقيمة فردية ومجتمعية، بحاجة إلى من يدافع عنها، ويبشر ببركاتها.

***

محمد محفوظ

من يحمل شمعة في درب حالك، لا محالة يأنس ويسعد إن وجد من يحمل شمعة أخرى إلى جانبه، فحلكة الدرب تحتاج كل الأنوار، من يحمل مشروع التنوير، لا يشعر بمنافسة أحد، بل يتعاظم لديه العزم ووتتقوى همته أكثر لنشر رسالته النبيلة كلما آنس قبسا من نور هنا أو هناك، وبخلاف ذلك يضيق صدر صغير النفس، ويحس بالخطر من الآخرين سطحيُ الفكر قصيرُ الرؤية وعديمُ الرؤيا، يَغرَق في أناه "المبدعة" المتضخمة من تعوزه رسالة الجمال، ولا يثق بما يكفي في مكانته وملكاته، فهذا صنف من المبدعين لا يرى فيما يبدع سوى نوازع نرجسية لا تتجاوز الذات المبدعة، هذا سقفه، فلا يطمح لطرق باب التاريخ بمشروع إبداعي أصيل من شأنه أن ينفذ إلى البنى الذهنية ويتغلغل في أعماق التفكير السائد ويساهم في تغييرها، فامتلاك مثل هذا المشروع الإبداعي ليس بالأمر الهين ولا المتاح لأي كان، ولذلك تجده يشعر بالتهديد عندما يقابل طرحا متماسكا ورؤيا جمالية، فيضيق به المجال ويعتقد أنه لا يسع أحدا غيره، فينكر الإبداع على الآخرين، وينخرط في حرب دونكيشوطية لا يجني منها شيئا سوى بضعة "مكاسب" صغيرة، يتقرب ويتزلف للسلطة إن كانت رمزية ثقافية اجتماعية أو سياسية أو مدنية... ليبقى في الهامش، وهو يعتقد أنه اخترق الآفاق ونطح السماء.

الفن ما لم يحمل نبله في رسالته الجمالية وفي سلوك الفنان، يبقى حبيس سقف الذات، صحيح أن الذات الفردية المبدعة الحرة هي صانعة الخلق ورافعة الإبداع، إلا أن لرسالة الجمال أفقا شاسع الرحابة، يرفع الفن والفنان إلى ذرى سامية راقية، تتجاوز أنانية الذات ونرجسيتها وتضخمها وأوهامها المثقفية العاجية نحو أمداء تنويرية لا حدود لها.

نحن في أمس الحاجة إلى هذا الوعي، من أجل الخروج من دوامة الضغائن والأحقاد الصغيرة والدسائس والمكائد من حيث نحن فنانين، موسيقيين شعراء مسرحيين سنيمائيين وتشكيليين وكتابا ... إذ لا يليق بمقامنا ورسالتنا النبيلة في الحياة مثل هذا الانحسار في جَزر النرجسية، تلك الرسالة التي لن تتحقق بالحلقية الضيقة والصراعات، وعندما نضع في أولوياتنا تنوير الدروب المظلمة، عبر نشر قيم الجمال والخير، نتغلب على فردانيتنا المقيتة، ونُسخر فرديتنا البناءة في الخلق ورفع ذائقة المجتمع وسلوكه نحو الأجمل، حب البيئة الطبيعية والكف عن تدميرها، وحب البيئة الاجتماعية والعمل على تعزيز جمالها وتشذيبها من شوائب القبح والشر...

بينما يكون هم الفنان الحامل لرسالة جمالية واضحة المعالم في ناظريه تنوير الناس ونشر قيمه النبيلة وذائقته الرفيعة، ومساعدة الآخرين على تعلم كيفية استشعار جمال الفن وكيف ينظرون إلى البيئة والعالم، يكون هم المبدع النرجسي إثبات ذاته بأية وسيلة كانت، حتى وإن اقتضى الأمر إخساء أنوار قناديل الآخرين، وبينما يترك حامل المشعل أعماله تتحدث عن مشروعه الإبداعي، وتشيع أنواره إلى أبعد مدى، ينشغل المبدع النرجسي بنفسه ويبحث في تكوين هالة حوله سرعان ما سيلفظها الزمن.

الفن الأصيل الراسخ يتغلغل في الوجدان الجمعي، يحمل في أتونه بذور توالد خلاياه اللامتناهي، فيستمر في الحياة، ويصمد في الزمن، وقد يدخل التاريخ من بابه الواسع عندما يسهم في تحقيق التراكمات الكمية والتحولات النوعية للذائقة الجمالية ولفاعلية التفكير الفردي والجماعي، فيشارك من ثم في وضع أسس الرقي البشري والابتعاد عن الهمجية المتلبسة بلبوس الحداثة أو التقليد أو بهما معا في ثنائيات ضدية فصامية.

الفن رسالة جمالية، والرسول يسخر ذاته لأداء رسالته وتبليغها على أحسن وجه، والرسالة هدف نبيل يرتكز على الطاقات الخلاقة للشاعر والفنان عامة وينطلق من وجدانه وذاته ثم يتجاوز فردانيته ويربأ بنفسه عن السقوط في مطبات الأنانية من أجل نشر الجمال وقيمه.

فإذا لم يكن الشعر بلسما شافيا للذات أولا من ضعف النفس ومركباتها وإسقاطاتها ونزقها السلبي الضار، إذا لم يجد الفن امتدادات جميلة في سلوك الشاعر الفنان، فما فائدة الشعر وما جدوى الفن؟

***

عبد القهار الحَجّاري

كلمات توراتية لا علاقة لها بالسرديتين الحضاريتين المصرية والعراقية القديمتين: ترك الخطاب التوراتي تأثيراته الواضحة والقوية على لغة ونتاج النخبة العربية المثقفة غالبا، بل وقد تجاوز ذلك فسادت بعض مفرداته في لغة الإعلام الشعبي والتعليمي؛ فكلمات مثل الفرعون والهيروغليفية والنيل كلمات لا علاقة لها بالحضارة المصرية القديمة، وهي مفردات لم يعثر عليها في أي نص أو أثر مصري قديم. وكذلك الحال مع كلمات من قبيل النمرود وميزوبوتاميا اللتين لا علاقة لهما بالسردية الحضارية العراقية القديمة. لنلقِ نظرة على جدور هذه الكلمات:

* الفرعون: لم يعثر أبدا على كلمة فرعون ومشتقاتها في السردية المصرية القديمة كمقابل لكلمة "ملك" أو "إمبراطور" وقد جاءت كلمة "فرعون: من التوراة حصرا حيث أشارت التوراة في سفري التكوين والخروج لملوك مصر بلقب «فرعون»، ولم تفرق التوراة في ذلك اللقب بين الملوك الثلاثة الذين كانوا يحكمون مصر في عصر الأنبياء التوراتيين: إبراهيم ويوسف وموسى. والمثير للعجب ولتساؤل هو أن الآثار المصرية على ضخامتها وكثرتها وشمولها لكل صغيرة وكبيرة من حياة المصريين القدماء لم تذكر كلمة فرعون ولا اسم أحد الأنبياء الذين ذكرتهم التوراة!

وقد حاول العلماء التوراتيون المعاصرون أن يجدوا جذرا لغويا لكلمة فرعون التوراتية في «برعو» في اللغة المصرية القديمة وتعني «البيت الكبير»، ولكن علماء المصريات غير التوراتيين أكدوا عدم وجود دليل في خرطوش واحد من الخراطيش الملكية المصرية التي تحمل أسماء الملوك يشير إلى ذلك اللقب «بر - عا». وعلى هذا سيكون من العلمي والأقرب إلى الحقيقة التاريخية أن نقول "الملك المصري" بدلا من "الفرعون".

وقد "كشف الباحث الأثري المصري أحمد عامر عن أن "المُسمي الصحيح للمصريين قديماً هو اسم "المصريين القدماء"، وليس الفراعنة، فهذه الكلمة عامية... وأن أصل كلمة "فرعون" جاءت من اللفظ المصري "بر_عا" الذي يشير أصلاً الي القصر كمؤسسة كبرى". ولكن عامر يعود ويؤكد الاسم التوراتي بشكل غريب، فيقول "وتدرج هذا اللفظ منذ عهد الدولة الحديثة ليعني الفرعون شخصياً" وهذا كلام لا دليل عليه كما قلنا في كل الآثار المصرية القديمة التي عثر عليها حتى اليوم. والأغرب أن هذا الباحث يضيف بعد أسطر ما يناقض عبارته الأخيرة فيقول إن الملك المصر القديم "كان يطلق عليه اسم "نسو" بمعني "جلالته"، وكان غالباً يُتبع بعبارة "له الحياة والصحة والكمال"، أما ألقابه أو المراسم الخاصة به فهي كانت تتضمن خمسة أسماء هي الاسم "الحوري"، والاسم "النبتي"، واسم "حورس الذهبي"، واسم ملك "الجنوب والشمال "، واسم "ابن رع"/ تقرير إخباري لأخبار اليوم - مارس / آذار 2019.

* كلمة الهيروغليفية: وهي كلمة يونانية وقد اشتقت كلمة «هيروغليفي» من الكلمتين اليونانيتين «هيروس» (Hieros) و«جلوفوس» (Glophos) وتعنيان «الكتابة المقدسة» جاءت كترجمة لعبارة مصرية قديمة هي "ميدو نتروا" وتعني النقوش المقدسة أو العلامات الروحانية، وكانت كلمة إله عند المصريين القدماء هي (mdw nṯr) وتلفظ من دون تحريك "مدو نتر". ولكن الذي حدث هو أن الترجمة اليونانية شاعت وانتشرت والكلمة الأصلية المصرية غابت وانطمست.

*النيل: كلمة النيل ليست ذات أصل مصري قديم. والمرجح كثيراً أنها - كما يقول الباحث العراقي الراحل طه باقر في كتابه / مقدمة في تاريخ الحضرات القديمة ج2 "حضارة وادي النيل"- [من الكلمات السامية القديمة - وربما تكون مشتقة - من «نهر» أو «نهل» أو «نخل» (بإبدال الراء لاما) فصارت الكلمة الثانية بصيغة نيل، ومنها الكلمة اليونانية ( Neilos ) واللاتينية ( Nilus ). أما المصريون القدماء فقد سموا نهر النيل وكذلك الإله الخاص بنهر النيل باسم "حعف" أو "حعفي". وفي الأزمان المتأخرة صار يلفظ بهيئة (هوفي وأوفي وحوفي) ولا يعلم معنى هذا الاسم المصري القديم، وقد أله النيل ونظمت في تمجيده التراتيل الدينية وخصصت له بعض الأعياد الدينية].

* مصر: يرى بعض الباحثين ومنهم مثلا طه عبد العليم في مقالة له في الأهرام اليومي، إن الاسم الذي عرف به المصريون القدماء موطنهم هو كمت أو كامى "ⲭⲏⲙⲓ " وتعني «الأرض السوداء»، كناية عن أرض وادي النيل السوداء تمييزا لها عن الأرض الحمراء الصحراوية المحيطة بها. وكلمة «مجر» التي كانت تعني معنى «الدرء -الدفاع»، ومعنى (البلد) «المكنون» أو «المحصور» واشتقت من كلمة «جرو» بمعني الحد، أو من كلمة «جري» بمعني السور، ثم أضيفت إليها ميم المكانية فأصبحت «مجر» وكتبت بعد ذلك بصور كثيرة مثل «مجري» و«إمجر». وقد استعملها المصريين القدماء فوصف أحد شعرائهم فرعونه سنوسرت الثالث بأنه «أمجر»؛ أي درء "دفاع/ يدرأ" وأنه أشبه بأسوار الحدود.

ويقول الكاتب فاضل الربيعي إن "اسم مصر ورد بهذا اللفظ في اللغة العبرية فقط"، وهذا غير صحيح إذْ أنه لم يرد في العبرية فقط بلفظ "مصر أو مصريم"، بل ورد أيضا باللفظ ذاته أو قريبا منه في لغات جزيرية "سامية" أخرى؛ فهو في الأكدية القديمة التي ظهرت وسادت في الألفية الثالثة ق.م، "مصري"، وفي الآرامية " مصرين"، وفي الآشورية "مشر"، وفي البابلية الحديثة "مصر"، وفي الفينيقية "مصرو".

أما كلمة إيجبت في اللغات الغربية فتأثيله -  كما يقول د. خالد أبو الحمد مدير عام آثار الاسكندرية - "إنه مشتق من الاسم المصري القديم (حت كا بتاح) والواضح أن اليونانيين وجدوا صعوبة في نطق حرف الحاء في بداية ونهاية الكلمة، وأنهم استبدلوا الجيم بحرف الكاف وهذا الابدال قائم في اللغات القديمة والحديثة وهكذا أصبح ينطقون الاسم ايجو بتس ثم أضاف اليها كما في هو الحال بالنسبة لأسماء الاعلام في نهاية الكلمة حرف السين مسبوقاً بحرف من حروف الحركة ليصبح ايجو بيتس".

وهناك تأثيل قريب آخر للكلمة يقول إن "كلمة «قبط» مشتقة من الاسم اللاتيني لمصر إجبتوس Aegyptus المشتق بدوره من اللفظ اليوناني أيجيبتوس Αίγυπτος، الاسم الذي أطلقه اليونانيون على أرض وشعب مصر، ويفسّر البعض ذلك الاسم على أنه مشتق من «حاكبتاح» الهيروغليفية أي "أرض روح الإله بتاح" وهو إله العاصمة القديمة منف «ممفيس»، واستبدلت بعض أحرفه على مر العصور، فأصبح «هكاتباه» وخلال العصر الإغريقي حوّر الإغريق المصطلح بما يلائم التلفظ بالحروف في اللغة اليونانية ومنها استبدال الهاء بالألف، وإضافة الواو والسين، وهما لازمتان لجميع أسماء العلم في اليونانية وكنتيجة للتحوير أصبح المصطلح «إيجيبتوس (باليونانية: Αιγύπτιος)».

وبناء على ما تقدم يمكن استعمال اسم مصر كاسم حقيقي لهذه البلاد وشعبها في عصرنا لأنه ورد بهذه الهيئة اللفظية في جميع لغات الشرق القديمة ولصعوبة التلفظ بالاسم المصري القديم (حت كا بتاح) ولإهماله طوال القرون الماضية حتى صار منقرضا.

النمرود: ورد في التوراة كاسم علم لملك رافداني قديم هو بحسب التوراة "ملك شنعار، التي يفسرها البعض بأنها تعني "سومر"، وكان النمرود وفقاً لسفر التكوين وسفر أخبار الأيام ابن كوش، وهو ابن حفيد نوح الذي ورد ذكره في قصة الطوفان في اللوحين العاشر والحادي عشر من ملحمة كلكامش باسم "زيوسيدرا باللغة السومرية و" أوتا نبشه -الباحث عن "نبشه/ نفسه" أي حياته" باللغة الأكدية البابلية. ويُذكر نمرود في بعض التفصيل في كتب اليهود الأخرى مثل التلمود والمدراش وتاريخ يوسيفوس، فالتلمود يربطه بشخصية الملك آمرافيل - وهو اسم لملك آخر لا وجود له في ثبت الملوك الرافدانيين - الذي كان حاكما أيام النبي التوراتي إبراهيم. ونمرود أيضاً اسم يطلق على مدينة رافدانية، هي العاصمة الآشورية "كالحو/ كالخو" التي أصبحت في القرن التاسع قبل الميلاد عاصمة الإمبراطورية الآشورية الحديثة زمن الملك آشور ناصر بعل الثاني. والفترة الزمنية الفاصلة بين الملوك المعتبرين سومريين في زمن إبراهيم والمولود وفق التوراة تخميناً بين 2324-1850 ق.م، والآشوريين، طويلة جدا وتصل إلى قرابة ألف وخمسمائة عام مع اخذ الفرق بين التخمينين وهو أكثر من أربعة قرون ونصف بنظر الاعتبار. ولكن الاسم لم يرد قط بلفظ "نمرود" في السردية الرافدانية والآثار المادية التي عثر عليها، وخصوصا في أثبات وسِيَّرِ الملوك والمدن القديمة، غير أن الاسم الذي ابتكرته التوراة ساد بعدها في الثقافات اللاحقة وفي العصر الحديث بجهود المستشرقين الغربيين وغالبيتهم من رجال الدين المتأثرين أو المؤمنين بالتوراة.

ميزوبوتاميا/ ميتسوباتاميا: وهي مفردة أخذتها اليونانية عن الترجمة التوراتية السبعينية لاسم العراق القديم باللغة آرامية "بث نهرين/ أي بين نهرين". نجد أن بعض الباحثين والمترجمين والإعلاميين العرب - وحتى بعض العراقيين- يستعملون الترجمة الإغريقية «ميزوبوتاميا» للمصطلح الآرامي العريق «بيث نهرين/ بين نهرين» دون الإشارة إلى أنها ترجمة لهذا الأخير. ويصرّون أحياناً على استعماله بما يوحي وكأنه الاسم الأصلي للعراق القديم. والنهران المقصودان هما دجلة والفرات. وهناك مَن لا يستعمل عبارة «ما بين النهرين» أو مرادفها المعاصر «بلاد الرافدين» التي تعنيها تماماً، بل يكرر الترجمة الإغريقية «ميزوبوتاميا» بالحرف العربي؛ أمّا عبارة «العراق القديم» فهي من المهملات أو ربما المحرمات عند بعضهم، ولهذا التصرف تفسيراته التي لا علاقة لها بالموضوعية البحثية غالباً بل الجانب النفساني والسلوكي للباحث الفرد وبعدم معرفته بهذه المعلومة.

إن اعتبار مصطلح «بلاد ما بين النهرين/ بلاد الرافدين» ترجمة عربية مأخوذة عن المصطلح الإغريقي «ميزوبوتاميا/ ميتسوبوتاميا»، هو كلام خاطئ جملة وتفصيلاً، يتكرر في الموسوعات المعلوماتية على النت وفي الدراسات الإناسية الاستشراقية والعربية، وقد فرح به بعض العراقيين فأطلقوه اسما على دور نشر وجمعيات ثقافية ظانين إنه اسم عراقي قديم في حين أنه ترجمة أجنبية لاسم عراقي آرامي.

إن عبارة «بيث نهرين» الآرامية هي الأصل، وكانت متداولة في عهد الدولة الآشورية. هذه العبارة «بيث نهرين» هي الأقدم تاريخياً من ترجمتها الإغريقية «ميزوبوتاميا»، ثم الروماني لفترة قصيرة كاسم لمقاطعة محتلة من قبل الرومان في شمال بلاد الرافدين في عهد الإمبراطور تروجان سنة 116 م، حتى انسحاب الرومان منها في عهد هادريان بعد سنوات قليلة، والتي ولدت في القرن الثاني ق.م. وكما أن اللفظة الأصلية الآرامية «بيث نهرين» هي الأطول عهداً والأوسع استعمالاً والأقدم من ميزوبوتاميا الإغريقية بعدة قرون، ومرادفها العربي الصحيح والحرفي هو بلاد «ما بين النهرين»، واختُصرت في الاستعمال اليومي إلى «بلاد الرافدين» لخفّتها وسلاستها النطقية. وتكون النسبة إليها «الرافداني» على منوال «البحراني» وصنعاني وبهراني كما ورد في موسوعة «لسان العرب» لابن منظور ومراجع أخرى، في موضوع النسبة العَلَمية.

إنَّ اسم العراق الآرامي موثّق منذ اعتماد الآرامية القديمة كلغة مشتركة للإمبراطورية الآشورية الحديثة في القرن الثامن ق.م، وبعدها الفارسية الأخمينية. أمّا الاسم اليوناني، ميزوبوتاميا، فالأرجح أنه صيغ لأول مرة كترجمة لبث نهرين الآرامية في القرن الثاني ق.م، من قبل المؤرّخ بوليبيوس خلال الفترة السلوقية. وهناك صِيَغ أخرى قريبة في السريانية الكلاسيكية «الآرامية» الأقل شيوعاً الأخرى للاسم منها "بيت ناهراواتا" أي بين الأنهار، و "مشآت ناهراويتا" أي وسط الأنهار، وقد استخدم مصطلح بلاد ما «بين نهرين» في جميع صفحات الترجمة السبعينية اليونانية للتوراة (حوالي 250 قبل الميلاد) كترجمة معادلة للمفردة الآرامية والعربية "نهرايم".

وقبل شيوع هذا الاسم الآرامي أو خلاله استعمل اسم قريب في لفظه من "العراق" وهو " آراكيا -آراقيا" في وثائق آشورية تعود إلى القرن الثامن ق.م، كما أعلن المؤرخ الأميركي ألبرت أولمستيد ونشر واحدة من تلك الوثائق في مؤلّفه الضخم «HISTORY OF ASSYRIA»، وهو كتاب مهم ولكنه لم يُترجم إلى العربية حتى الآن، وقد ذكره العلامة العراقي الراحل طه باقر في كتابه «مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة» الصادرة طبعته الأولى سنة 1951م، بشكل محايد وعرضي، ولكنه قال إن أولمستيد يعتقد أن اسم العراق جاء من إقليم أيرقا كاسم لبلاد بابل والذي انتشر في العهد الكيشي منتصف الألف الثاني ق.م في وثيقة تأريخية ترقى إلى القرن الثاني عشر («مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة» - مج 1 - ص 21.

***

علاء اللامي

على المستوى الفلسفي ربط الفيلسوف (باسكال) بين الحقيقة والعنف. إذ اعتبر ثمة صراعا خالدا ومفتوحا بينهما. إذ لا تستطيع الحقيقة القضاء على ظاهرة العنف في الوجود الإنساني، ولا يستطيع في المقابل أيضا العنف من حجب أنوار الحقيقة. فمهما تجلت الحقائق الذي يبحث عنها الإنسان، ستبقى ظاهرة العنف، وسيمارس من أجل الدفاع عن مبدأ وأفكار وعقائد. ومهما اكتشف الإنسان خطر ممارسة العنف ومتوالياته على الإنسان والوجود، فإنه سيمارس بذات الذهنية أي الدفاع وتعميم القناعات والأفكار والعقائد. وبالتالي على حد تعبير الفلاسفة ثمة ملازمة بين ظاهرة العنف بكل مستوياتها ودرجاتها وبين الوجود الإنساني. فلم تخلو أي جماعة بشرية من استخدام العنف سواء في إطار الدفاع أو التوسع والتعميم.

وما يستطيع أن يقوم به الإنسان أزاء ظاهرة العنف الملازمة لوجوده، هو ضبطها والتقليل من مساحة استخدامها وتربية الناس بطريقة مضادة للعنف،بحيث يصل الإنسان إلى مستوى ينبذ فيه العنف واستخدامه على المستوى النفسي والعملي. والملفت للنظر على هذا الصعيد أنه مع التقدم العلمي والتقني الهائل الذي حصل عليه الإنسان اليوم، إلا أن التقدم العلمي الهائل لم يمنع الإنسان من استخدام العنف ضمن استهدافاته البدائية والأولية، بل على العكس من ذلك. أي أن التطور العلمي والتقني اليوم استخدم لتطوير آليات ممارسة  العنف في الوجود الإنساني . فالإنسان اليوم ازداد علما وتقنية واستخداما لمنجزات العصر المختلفة، وفي ذات الوقت إزداد استخداما للعنف واقترب أكثر من استخدام وسائل عنفية لم تكن معهودة من قبل، لدرجة أن وسائل العلم والاتصال الحديثة ساهمت في تعميم صور العنف وآليات استخدامه. بل لو تصفح الانسان وسائل الاتصال الحديث، سيجد صفحات ومواقع تغذي الناس لدواع واعتبارات متعددة على الدعوة إلى العنف واستخدامه للدفاع عن الذات وأفكارها، ومواقع أخرى هي لتعليم المتصفح طريقة تفخيخ السيارات وصنع القنابل واستخدام مختلف الأسلحة الثقيلة والخفيفة. والعجب في الأمر أن فاعل العنف وممارسه، يستسهل ممارسته بل يعتبره من الأفعال التي يثاب عليها الإنسان. وبفعل استسهال ممارسة العنف والتغطية الدينية للفعل العنفي أضحى الواقع الإسلامي المعاصر يعيش مفارقة صارخة وخطيرة في آن. حيث عشرات التوجيهات الإسلامية التي تحث على الرفق والاعتدال والتسامح ونبذ الشدة والغلظة وضرورة الرحمة مع الجميع. وفي مقابل هذه التوجيهات ثمة ممارسات عنفية يندى لها جبين الإنسانية تمارس بأسم الإسلام ودفاعا عن مقدساته. وكأن الإسلام دين القتل والعنف لأتفه الأسباب. وكأن تمكين الإسلام في الواقع الخارجي، لا يحتاج إلا إلى بندقية وسيارة مفخخة لإشاعة الفوضى وتعميم القتل. ولكن ما نود أن نقوله في هذا السياق أن الله سبحانه وتعالى لا يطاع من حيث يعصى، مهما كانت التبريرات ومهما كانت اليافطات المرفوعة في هذا السبيل.

فالباري عز وجل يطاع من خلال الالتزام التام بتشريعاته وتوجيهاته، ولا يمكن أن يطاع بسفك الدم وقتل الأبرياء وتدمير أسواق المسلمين ومصادر رزقهم. فالله سبحانه وتعالى لا يطاع بقتل الأطفال والنساء، ولا يطاع بالإعدامات العشوائية التي نشاهد بعضها على اليوتيوب وشبكات التواصل الاجتماعي.

إن ما يجري اليوم من عمليات قتل وتفجير باسم الجهاد والدفاع عن المقدسات، هو ذاته مناقض بشكل تام لتوجيهات الإسلام وثوابته.

ونظرة بسيطة لأداب وأخلاقيات الحروب في الإسلام، سنكتشف أن ما يجري هو مناقض لأداب وتوجيهات وأخلاقيات الإسلام.

ويبدو أن الإنسان هو الكائن الوحيد على وجه هذه البسيطة الذي يقتل من أجل أفكاره ومنظومته العقدية والاجتماعية.

وهذا يعكس عجز هذا الإنسان عن إقناع الآخرين بأفكاره وقناعاته، فيلجأ إلى القتل والتدمير، وكأن هذا القتل والتدمير سيمكنه من الوصول إلى أهدافه.

وتعلمنا تجارب الأمم والشعوب المختلفة إن الوصول إلى الغاية بالظلم والتعدي على الحقوق والكرامات لن يدوم مهما طال الزمن. فالتمكن من الآخرين بالقتل والتفجير والإرهاب قد يطول إلا أنه لا يدوم مهما كانت الظروف والأحوال.

وتؤكد لنا جميع التجارب العنفية أنها إما مرتبطة بشكل مباشر بجهات إقليمية ودولية لها مصلحة مباشرة وأكيدة في تمزيق دول وشعوب المنطقة، أو تخدم مصالح أعداء الأمة بطريقة غير مباشرة. لأن جماعات العنف تساهم  بشكل أساسي في تمزيق نسيج الأمة ومجتمعات المنطقة، وتظهر للجميع صراع المسلمين مع بعضهم البعض، وهذا ما يريده أعداء الأمة لتمرير مشروعاتهم وأجندتهم الاستراتيجية والسياسية التي تستهدف إضعاف الأمة لأدنى الحدود ومن ثم إخضاعها لشروطها المجحفة التي تستهدف ثرواتها وقدراتها راهنا ومستقبلا.

فما يجري في المنطقة اليوم من انقسامات طائفية حادة واقتتال مذهبي وأهلي في أكثر من بلد وتقسيم ممنهج لبعض الدول والشعوب، ليس بعيدا عن إرادة الأجنبي ومصالحة العليا. فلحظة الانهيار التي تعيشها المنطقة وبفعل خيارات سياسية وفكرية صنعها أبناء المنطقة ويتم تغذيتها والاستفادة منها من قبل أعداء الأمة، عمل من أجلها الأجنبي منذ سنوات طويلة، ولكن كان وعي الأمة ووحدتها الداخلية هو الذي يفشل هذه المخططات. ولكن للأسف الشديد ومع تضخيم المشكلة الطائفية وتغذيتها من قبل جميع الأطراف بعضهم بوعي وإدراك والبعض الآخر بدون وعي وإدراك، أضحى الاهتراء  الداخلي في جسم الأمة حقيقيا وأضحت يد الأجنبي هي الأعلى في التحكم في مسار الأحداث والتطورات التي تجري في المنطقة.

وبفعل هذا التداخل والتشابك بين جماعات العنف وبعض الأطراف الإقليمية والدولية، أضحت هذه الجماعات هي عنوان حروب العرب الداخلية، التي تستهدف نسيج العرب الداخلي وتدمير إمكانية تجاوز عثرات الطريق في مشروع البناء والتنمية العربية.

***

محمد محفوظ

الطفل صفحة بيضاء نقية بالفطرة، جوهرة لابد من الحفاظ عليها من الملوثات والانتهاكات حتى لا تتهشم وتدمر، ولكن للأسف الطفل منذ الالفية الثالثة للميلاد يتعرض لمخاطر تقضي على فطرته وانسانيته في حملات ممنهجة عبر الالعاب الالكترونية التي تدعو للعنف والانتحار تارة وعبر الترويج للمخدرات في المدارس تارة اخرى واقحام الاطفال في العصابات والمليشيات والارهاب تارات اخرى ومؤخرا حملات ترويجية لإقناع الأطفال للانحراف عن الطبيعة.

هذه الاخيرة بدأت خطتها تنكشف فكلما تابعت برنامج او مسلسل او اخبار عبر وسائل الاتصال والاعلام تجد ترويجا بشكل او بآخر من اجل نشر هذه الظاهرة بين الناس وقد لاحظت بعض الاعلاميين عبر قنوات الفضائيات العربية رجال وسيدات بعضهم تحديدا بكل حلقه من برامجهم يتطرقون لهذا الموضوع وكأنما هناك من يدفع لهم اموالا للترويج فالأمر أصبح مفضوح .

فقد وصل الخطر الى عقر دارهم (الاطفال) ذهبوا إليهم في اماكنهم في العابهم في قصصهم في افلامهم (الكرتون) ومراكز الترفيه التي كنا نحبها مثل (ديزني لاند)

وصلوا لأبعد الحدود في خطة ممنهجة لنشر الشذوذ في العالم من ضمنها العالم العربي رغم انه الأكثر حرصا على تعاليم الاديان السماوية التي تحرم جميعها الانحراف عن الطبيعة ثقافيا واجتماعيا ليس فقط دينيا .

فالمنطق يقول ان كنت تستطيع ان تخلق انسان وقتها يحق لك ان تغير جنسه

فهل يمكننا تغيير شجرة البرتقال الى تفاح

وانا هنا اتكلم عن الاطفال وليس الكبار

وتحت شعارات انسانية كالحرية التي هي حق يراد به باطل، فقد بدأت في 2008 بعض المؤسسات الدولية خطة لنشر هذه الامور بالوطن العربي كما في محاولات "نتفلكس" و"ديزني" لترويجه بالعالم العربي بأفلامها والعابها للصغار من مدة .

وكانت المذيعة الأمريكية ميجان كيلي قد أطلقت صرخة تحذير من الانحراف، مُتهمة ديزني بالسعي لتعليم الأطفال المثلية

عنيت "ديزني" بتقديم شخصيات مثلية بفيلم "لايتيير"، للأطفال، وبحسب وكالة "أسوشيتد برس" الأميركية منعت 14 دولة عربية عرضه لاحتوائه على مشاهد محضورة ممثل خسارة مادية لمنتجيه.

وليست هذه المرة الاولى التي تمنع فيها الدول العربية والاسلامية افلاما لديزني، فقد منعت فيلم "دكتور سترينج في الأكوان المتعددة من الجنون"، لما تضمنه من توجهات تدعو وتروج لانحراف، وفيلم الرسوم المتحركة "حكاية لعبة" الذي نال جزؤه الرابع جائزة الأوسكار 2020.

ومنعت فيلم "الأبديون"، وحظرت أفلام "قصة الحي الغربي" بأغلب البلدان العربية لإدراجها شخصيات متحولة ومنحرفه عن الطبيعة.

وكذلك شكلت الالعاب الالكترونية خطرا داهما على الهوية الدينية والثقافية للأطفال، مثل لعبة "بابجي"، التي تحفز الصغار على تبني العنف والقتل والانتحار، مما دفع عدد من دولنا لحظرها كما حذر الأزهر الشريف من لعبة "فورتنايت" الإلكترونية لاحتوائها على تجسيد لهدم الكعبة المشرفة.

الخطر الداهم، هو أن ديزني تكرس لفكرة الاعتياد على مشاهدة الأطفال للمشاهد المثلية، وان بعض المؤسسات الغربية قدمت تمويلات مرعبة لنشر هذا الامر . وان كنا في الماضي لا نفهم المقصود بهذا العبث، فأننا بعد ان كبرنا فهمنا

كما ان الخطة بدأت تتضح بعد وباء كورونا والحديث عن المليار الذهبي قد فضح هذا المخطط الذي لا يهدف فقط لمحاربة الخالق في خلقه للانسان على احسن تقويم، وتحطيم الفطرة السوية للاطفال ونشر الفجور والفسق بكل انواعه، بل يتعداه الى هلاك بني آدم بالاوبئة وامراض الشذوذ

الاطباء والمتخصصون في الطب يؤكدون ان مشاهدة الأطفال للكرتون والألعاب المروجة للشذوذ قد يكون سببا في تحوله الجنسي بسبب فكرة الاعتياد.

في هذا السياق تشير د. هبة قطب الى ان التقارير الامريكية توضح ان 95% من الذكور يتعرضون للتحرش الجنسي بأمريكا 3 بالمئة منهم يكملون بهذا الطريق، وأكثر من 97 بالمئة من الشواذ يزورون أطباء نفسيين، و92 بالمئة من الشواذ يحاولون الانتحار خلال 5 سنوات.

وفي 29 مارس الماضي أعلنت مديرة "ديزني" كايتي بيرك، أن الشركة ستدعم وتروج من الآن فصاعدا لتلك القضايا.

المشكلة ان ديزني تغزونا بفكر الشذوذ بينما يعجز عالمنا العربي عن انتاج محتوى سينمائي يلبي احتياجات اطفالنا من المتعة والاثارة. في الوقت الذي تتحدى فيه كيري بورك رئيسة ديزني العالم باعلان انتاج أفلام جديدة أبطالها من الشواذ، واتجاه الشركة وتحويل نحو 50% من الشخصيات الكارتونية بـ ديزني إلى شخصيات شاذّة قريبا، لدعمهم.

ان هذه الكارثة التي اراها عالمية تتطلب التعاون الدولي والانساني لمنع بث هذه الافلام ونشر الوعي داخل الاسر والمجتمع بالرقابة على الصغار وتحصين فلذات أكبادهم من الوقوع في فخ الانحراف عن الفطرة

السؤال الأهم بهذا كله كيف يمكن ان يقتنع الناس ان من حق الطفل ان يرمي نفسه بالتهلكة

فهل من حرية للطفل بان يختار مثلا ان يشرب البنزين او ياكل الاسفلت ونقول ان هذا خياره ما هي مقومات الطفل العقلية التي تؤهله ان يختار؟ فكيف يمنع الطفل من التدخين مثلا او من شرب الكحول وهو صغير اذا كان منطقهم ان الطفل يحق له الاختيار

وكيف يمنع الطفل من تناول العسل مثلا قبل اكماله عامه الاول إذا كان كل شيءٍ في هذه الدنيا سداح مداح

لماذا يمنع الاطفال مثلا من مشاهدة الدم والقتل والعنف لماذا يوجد على الافلام +١٥ او +١٨ في سينمات اوروبا

ما هذا الاستهبال والاستدراج للناس بحجة التطور والتقدم والحرية؟

لماذا يسعى هؤلاء لتحويل طفل سوي الى مريض؟

إذا كان التعاطف مع من ولد مريضا جميل جدا ولكن لماذا تحول السوي لمريض ومن ثم تتعاطف معه انا لا افهم !

والنقطة الاكثر اهمية هي لماذا الطفل الذي لم يبلغ سن الزواج يجب ان تفتح عيناه ومداركه وحواسه على عالم الكبار والمشاعر التي لن يحتاجها بسنه هذا ولن يفهمها عقله ولا جسده

العالم أصبح شرير بامتياز

***

سارة السهيل

يقول المفكر مالك بن نبي رحمه الله: “وما كان لحضارة أن تقوم إلا على أساس من التعادل بين الكم والكيف،  بين الروح والمادة،  بين الغاية والسبب، فأينما اختل هذا التعادل في جانب أو في آخر كانت السقطة رهيبة قاصمة"

إنّ إدراكنا وفهمنا العميق لمقومات سيرورة أي حضارة يجعلنا ندرك أننا كأمة إسلامية نمتلك أهم مقوماتها وماتقوم عليه قوتها:

أول مقوّم: وهو المقوم الروحي والذي يتمثل في كل مانملكه من منظومة  قيم أخلاقية اسلامية سامية

وثاني مقوّم: وهو المقوم المادي والذي يكمن في كل مانملكه من ثروات وإمكانات مادية

وهذا التأمل ليس محض تمجيد أو صناعة للخيال والوهم، بل هو صناعة لأدوات حسن الإدراك والفهم، حتى  نضع أنفسنا موضعها الصحيح الذي من خلاله نمتلك وثاق الثقة بالإستحقاق، فنخرج من دوائر الواسطية التي جعلتنا مجرد دول وظيفية في خدمة الدول القطبية، ترسل من خلال ضعفنا الى العالم رسائل الإستعلاء والفوقية، فوجدنا أنفسنا بذلك وقد خرجنا للأسف من تاريخنا وجغرافيتنا وعقيدتنا، وصرنا مجرد صناّع لتاريخ غيرنا على جغرافيا أمتنا، فلم نتحرّج لأحقاب ونحن نتدحرج من هامات الحضارة الى أسافلها.

وإن أردنا تفكيك العلل والمسببات لوجدناها تبرز في:

تداعيات الحروب الطاغوتية، التي مرت بها المنطقة الاسلامية سواء كانت داخلية من خلال طاغوتية نظام الملك العاض أو خارجية من خلال طاغوتية الحروب الاستدمارية، والأكيد أنه لا يمكننا الإنعتاق من موضع الواسطية إلا باعتناق قيم الوسطية، وهي قيم ديننا الإسلامي الحنيف، فليست مثلا الدول الغربية من تجعل منا محاربين للتطرف والإرهاب، مستخدمة ذلك كأداة للتغلغل في منطقتنا الإسلامية، في حين وجب أن نمسك نحن بزمام هذه المهمة ونجعلها لنا وظيفة مهمة، فنحارب بوسطيتنا إرهابهم على جغرافيتهم قبل جغرافيتنا.

ولانريد من خلال هذا الطرح مجرد التحسر والتباكي على أحوال هذه الامة التي لايخفى حالها، إنما نريد البحث عن عاجل الحلول التي يمكن من خلالها التحول من أمة الإستضعاف الى أمة التمكين والإستخلاف.

وبسط الحلول برأينا لايكون الا بعد طرح أهم الإشكالات والتي نذكر بعضها على سبيل الذكر لا على سبيل الحصر:

أولا: كيف نغالب بقوتنا الروحية قوة العالم الطاغوتية لإحلال السلام في العالم؟

ثانيًا: لماذا لانشكل نحن كدول اسلامية أمم إسلامية متحدة لمحاربة التطرف في العالم؟

ثالثا: لماذا لانمنع نحن استخدام الأسلحة النووية بما نمتلكه من قوة قيمية روحية ؟

ولماذا نترك تلك المهمة لأنظمة فارغة من أي مقومات قيمية؟

رابعا: هل مشكلتنا كأمة اسلامية في استيراد الديموقراطية أم في تصديرها بوجه آخر غُيّبت عنه جميع مايجمعنا بها ولو بأهم تفاصيليها كالشورى، لتحل محلها أدوات الإستبداد والإستعباد، فتتشوه ملامح أنظمتنا السياسية برمتها، وتصبح أنظمة ديموكتاتورية أو ديكتاتورية دينية؟

خامسا: هل نحن بحاجة لفصل الحكم العسكري عن الحكم المدني أم بحاجة لفصل الحكم أيًّا كان مدنيًا أو عسكريًا عن التحكم الخارجي؟

سادسًا: لماذا نحن بحاجة أن نكون دوما ذيلا لقطب من الاقطاب العالمية؟ لماذا لانكون رأسًا

يحرك مفاصل العالم بما أوتي من حكمة وحاكمية؟

سابعًا: لماذا كلما ارتفع موج بحرهم أغرقنا بدلا من أن يغرقهم؟ فنرى حتى حروبهم تنطفئ باشتعالها في ديارنا؟

ثامنًا: الى متى نعتصم بجبل قوتهم ولا نعتصم باعتصامنا ووحدتنا؟

يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في إحدى محاضراته التي ألقاها في الجزائر: "إن تصحيح البواطن هو الأهم لتصحيح الظواهر، وإن أدق الأنظمة ينهار مع خراب النفوس، وإنّ الضمان الأوثق لنجاح الإقتصاد وانتصار الجيوش واستقرار الحضارة يعود الى البراءة من الأهواء والتجرد لله وايثار ماعنده"

إننا أمة أنزل إليها كتاب معجَز لاأمة كُتب عليها أن تعجَز، وأمة استخلاف لاأمة استضعاف، فكفوا عن جر ذيول الذل وارفعوا هامات العطاء والبذل، ولاتكونوا في مهب الريح وهبوا كالريح مجتثين جذور التضعضع والانهزامية، رافعين صوت الحق بأن الدين الحق هو من يجمع أمة الاسلام ليعم في العالم السلام.

***

بادية شكاط - كاتبة في الفكر، السياسة وقضايا الأمة

ممثلة الجزائر في منظمة اعلاميون حول العالم في النمسا

القلق من تأثير الذكاء الصناعي لا يختلف كثيرا عن القلق من تأثير الإنترنت. الأسباب التي تبرره، تشابه ما قيل في الماضي عن عواقب انتشار الإنترنت. سوف أعرض لبعض هذه المبررات بعد قليل. لكن يهمني أولا تطمين المتوجسين بأن كثيرا من أسباب القلق القديم، قد تم احتواؤها فعليا ولم تعد قائمة، أو - على الأقل - لم تعد قوية أو جدية مثلما كانت يوم تعرفنا على الإنترنت، قبل عقدين من الزمن.

بيان ذلك: أن معظم القلق ناتج - في المقام الأول - عن غموض المستقبل وانعدام اليقين، أي شعور الإنسان بأنه لا يتحكم في أقداره. أعرف أشخاصا كانوا يعملون في مجال التصوير، وفقدوا وظائفهم بعد انتشار التصوير الرقمي. وأعرف أن أكبر شركتين في هذا القطاع، قد أعلنتا إفلاسهما: الألمانية «آجفا» (2005) والأميركية «كوداك» (2012).

والعجيب في الأمر أن انهيار هذه الصناعة ليس سببه هجر الناس لهواية التصوير، بل العكس تماما: لأنها باتت هواية يمارسها كافة الناس، كلما تحدثوا أو نظروا في الهواتف الذكية، التي يحملونها في جيوبهم. لقد تسبب التصوير الرقمي وشبكات الإنترنت في إطلاق تدفق هائل للصور، فتحول عامة الناس إلى منتجين ومستهلكين في آن واحد، ولم يعد بوسع المحترفين السيطرة على المساحة التي تقوم فيها صناعة التصوير، في أي بعد من أبعادها. الشبكات ألغت الجغرافيا/المكان الذي يمكن التحكم فيه، فتولد منطق جديد للتبادل، مختلف تماما عن منطق المنتج/المستهلك في السوق القديم، سوق ما قبل الإنترنت.

هذا المصير نفسه واجه الشركات التي كانت تصنع أجهزة التسجيل والراديو والآلات الكاتبة والصحف الورقية، والمئات من الصناعات والتجارات والوظائف الأخرى التي يصعب عدها وحصرها. وتحدثت قبل زمن مع خطيب ذي شعبية عريضة، فوجدته ضجرا من تناقص ملموس في عدد الأشخاص الذين يحضرون خطبه. لأن مستمعيه المعتادين يبحثون الآن عن مصادر للمعرفة تتجاوز المصادر التقليدية.

لا بد أن كثيرا منا قد سمع بواحد أو أكثر من هذه الأشياء، التي حدثت منذ عقد أو عقدين. لكنك نادرا ما تسمع أمثالها في هذه الأيام.

- لماذا؟

لأن غالبية الناس، بمن فيهم القلقون، تعلموا استخدام أجهزة الإنترنت، واكتشفوا المساحات الرحبة التي تقودهم إليها هذه الأجهزة الصغيرة، أي الكومبيوتر والهاتف الذكي. ولعل بعضهم قد تأكد من أن مخاوفه لم تكن بلا أساس. لكن منطق الأمور يقول بأن القلق من المجهول طبيعة في الإنسان، وأن علاجه الوحيد هو تمزيق حجاب الجهل. حين يتعرف الإنسان على شيء، فسوف يسعى لاكتشاف مفاتيح التحكم فيه، أو على أقل التقادير سيتعرف على حدود تأثيره. وعندها سيتحول التعامل مع مصادر القلق إلى جزء من الروتين اليومي المعتاد.

من هنا فإني أود التأكيد على أن الحل السليم لما يبدو من قلق إزاء الذكاء الصناعي، هو نشر المعرفة به. بإمكاننا التعرف على الذكاء الصناعي، مثلما تعرفنا سابقا على الكومبيوتر والإنترنت، ومن قبلهما على الراديو والتلفزيون والبث الفضائي. وقبل ذلك على وسائل الاتصال والمواصلات على اختلافها. انظر كيف صار بوسع الإنسان أن يركب حديدا يطير في الهواء، دون أن يراوده أدنى قلق... أليس لأن هذه الوسيلة معروفة تماما، له ولغيره، وأن المعرفة تولد الاطمئنان؟. السبيل الوحيد لتحييد القلق المتولد عن التقنيات الجديدة، هو استثمارها واستعمالها، وأول خطوة في هذا الطريق هو التعرف عليها.

أريد دعوة كل قارئ لتخصيص بعض وقته للتعرف على الذكاء الصناعي، ثم استعماله، فهذا هو السبيل الوحيد لتحييد أضراره إن كان ثمة ضرر.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

توج تشارلز وريثاً لأمّه إليزابيث الثَّانية (توفيت: 2022)، ملكاً باسم تشالز الثَّالث (6/5/2023)، بعد الأول (أُعدم: 1649)، والثّاني (ت: 1685). لم تشهد بريطانيا مهرجانَ تتويج منذ سبعين عاماً، انقرض الجيل الذي شهده (1953)، وتبدلت الدّنيا، فتصدر الملك المتوج الحوار الدينيّ بعد أنْ بات الاختلاط الدّيني واقعاً، حتَّى صار هندوسيّ رئيساً للوزراء، ومسلم وزيرَ أسكتلندا الأول، ناهيك عن أعضاء البرلمان، والوزراء ليسوا بريطانيي الأصول ولا مسيحيين.

عدَّ الملك رأس الكنيسة، بعد تأسيس هنري الثامن الكنيسة الانجليكانية (1534)، يستمد شكلياً شرعيته مِن الكنيسة التي يرأسها، فترى رئيس أساقفة كانتربري المدبر لمهرجان التتويج، لقن حامل التاج القسم، وعمده بالزّيت، الذي يُحضر بالقدس، حيث كنيسة القيامة، بمشهد تكرر في التّاريخ القديم. كم يُذكرنا باستلام حامورابي (1792 قبل الميلاد) شريعته- الأصل في اللُّوفر- مِن الآلهة. بمعنى تتبدل الأزمان وللدين مكانته.

تحضر تلك الطقوس تاريخاً وتقاليدَ عريقة، تجذب الأنظار لفخامتها وغرابتها، وإلا فملك بريطانيا لا يملك مِن السلطة شيئاً، كي تحتشد الجموع بالإجبار لا الاختيار، لكنه رمز للدولة، قد يُنصَّبُ، في عام، رؤساء وزراء، والدولة لا تنهار لوجود الملك، فله التدخل إذا ما تعرضت للانهيار.

أظهرت مراسم التتويج الملكَ متواضعاً، كأنّ كبيرَ الأساقفة ينبهه: «فوق كلِّ عالمٍ عليم»، وينطقها أمامه: «المسيح ملك الملوك»! ثم يوصيه بصيانة التَّاج، ويكرر عليه مفردة «العدل»، دون إشعاره أنه نائب الله أو ظله! ولقنه القسم والتّعهد الجديد: قسم «التَّتويج»، مثبت منذ (1688)، يخص حماية كنيسة الدَّولة، والتَّعهد بحماية الأديان والمعتقدات. بعدها رفع يديه مبتهلاً: «يا ربّ احفظ الملك».

عندما يُجادل الدِّينيون السِّياسيون، عن طموحهم بدولة، يتخذون مِن بريطانيا بوجود الصَّليب، في رأس التَّاج، حجةً، لتبني الدَّولة الدّينية عالمياً، لكنَّهم لا يميزون بين معنوية ورمزية التاريخ والتّسلط بحاكميّة إلهيّة، تشريعيّة وتنفيذيَّة مطلقة، فإذا اشترطت الكنيسة الانجليكانيّة ألا يتولى العرش غير البروتستانتي، فهذا أثر مِن الآثار. يكفي كان حضور ممثلي الأديان والمذاهب، المتعايشة بالبلاد، حفلة التتويج، استجابة لتغيير فرضه الواقع، أنْ يتعهد الملك بحماية المعتقدات وليس البروستسانية فقط.

لم يعدّ الملك نائباً عن الله، ولا نائباً عن المسيح، مثلما واقع الولاية لدى الأحزاب الدّينية، ولا «ملك على الضَّمائر»، فهذا الجمهور المحتشد، منذ المساء حتَّى الصَّباح، حول مكان التَّتويج، والطَّريق بين القصر والكنيسة، لم تجمعه عقيدة دينية، فمِن المحتشدين أنفسهم انتخبوا هندوسيّاً ومسلماً لأرفع المناصب.

حضرت الحشود احتراماً لدور الملكيّة المعنويّ، في الحفاظ على البلاد، والدهشة مِن تقاليد عمرها مئات السنين. كانت المراسم مُتحفاً للنفائس، لا يُفتتح إلا بـ«مات الملك عاش الملك».

إنَّ حماية العقائد الدينيّة، بحساب مذابح الماضي، لا يوفرها الحُكم الديني، إنما توفرها العلمانيّة، الدّولة فيها لا تقرأ التَّراتيل، ولا تشعل الشّموع وتوقد البخور، هذا مِن شأن الكنائس.

بعد الهجرات، صار الواقع بالدول الأوروبية، لا تُحجب عقيدةً مِن العقائد الدينية، وذلك لعلمانيتها، وهو في صميم تعبير الصّوفيّ محيي الدِّين بن عربي (ت: 638هـ): «لقد صَارَ قَلْبِي قابلًا كلَّ صُورَةٍ/ فمرعىً لِغزْلَانٍ ودَيْرًا لرُهْبَانِ/ وبَيْتًا لأَصْنَامِ وكَعْبَةَ طَائِفٍ/وألواحَ تَوْرَاةٍ، ومُصْحَفَ قُرْآن/ أدِينُ بِدِينِ الحُبِّ أنَّى تَوَجَّهَتْ/ رَكَائبُهُ فالحب دِينِي وإيماني» (ابن نقطة، تكملة الإكمال)، فكل هذا التَّنوع موجوداً ومتعايشاً بالقانون، ومَن يحاول تغيير الواقع سيكون أول الخاسرين.

صحيح أنهم اعتبروها مِن شطحات ابن عربيّ، لكنَّ العالم في ظل ما وصفه شاعر العصر: «وتلاقت الدُّنيا فكادَ مُشرقٌ/مِن أهلِها بمُغرّبٍ يتعثرُ»، لم تبق فكرةَ ابن عربي شطحةً، و«لا محبة الزَّنادقة» (الحوالي، العقيدة الطَّحاويَّة)، إنما فلسفةٌ لتعايش مِن تعهد الملك حمايتهم مِن الأديان والمُعتقدات.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

سيزيف زمانه:

منجز للباحث "خالد أمين" المسرح والهويات الهاربة" باعتباره امتداد المشروع نقدي ومحاولة تنظيرية لمفهوم "الفرجة" إيمانا منه بأن: مهمة البحث المسرحي ما بعد "الكولونيالي" أكثر تعقيدا بالنظر للكم الهائل من الكتابات التي تؤرخ للمسرح لكن من وجهة نظر صرفة، إذ نلاحظ ان تجاربنا المسرحية بالكاد حاضرة في هوامش السرود المهيمنة للمسرح الغربي وتاريخه الاول(ص81) ففي هذا السياق هل استوفينا حقه من الشغب القرائي؟ والبحث عن فراغات وبياضات أغفلها الباحث؛وأغفلناها بدورنا. ليس من أجل ملئها، بل هي مداخل وسراديب؛ نستشف منها بكل جلاء الصعوبات التي اعترضت وأعاقت تصريف وتفعيل مفاهيمه النقدية – المثاقفة – البينية- الهوية-الهجنة- التناسج - في النسيج الإبداعي، إذ من زاوية نظر، لماذا المسرحي [العَربي] سيزيف زمانه؟ يكافح يجاسر ويتحمل المهام الشاقة فكريا / جسديا / من أجل إعلاء صولة الإبداع المشهدي، يراوغ السلطة بشتى تفريعاتها وأساليب استبدادها، ك [سيزيف] الذي راوغ وخدع "ثاناتوس" إله الموت في الميثولوجيا الإغريقية، هل هي رغبة جامحة في جينات المسرحي؟ أم قدره هكذا بأن يحمل الصخرة (مجازا) من أجل بناء حضارة ؟ أم أن المسرحي العَربي بشكل أو آخررمز للعذاب الأبدي؟ فمن خلال المنجز نستشف بأن الأستاذ " خالد أمين" قدره "تراجيدي" "سيزيفي" أليس "الفيلسوف" كائن تراجيدي؟ حسب رأي (نيتشه) وهكذا: يمكن اعتبار البحث العلمي في المجال المسرحي؛ بنية للتفكير بصيغة الجمع في أوضاع الممارسة المسرحية تتجاوز الشرح والتحليل والتوثيق إلى التوجيه والتفاعل الإيجابي(1) فحتى لا نتيه في تفكيك هاته الجملة، فلامناص أن نحسمها في سؤال استنكاري؟ هل لدينا بحث علمي في مجال المسرح ! وغيره من العلوم الإنسانية ؟ ورغم ذلك، يسعى لحمل الصخرة كرهان للتحول النقدي وتجدد فهمها، بين (الآنا / الآخر) لاكتشاف سراديب ومنعرجات الهويات الهاربة ؛ وذلك من خلال لعبة الإمكانيات ذات الصلة بالتعدد والاختلاف. ولكن بما أنني شخصيا أعتبر المسرح " لذة سيزيفية" فالصخرة / خالد أمين" تتحرك نحو أعالي الجبل/ المشهد لتستقر؛ لكي تنتج صورة جمالية ذات ألق نقدي خالص، لكن في غياب صيغة الجمع فالوضعية الجمالية والنقدية تصبح قاب قوسين ! ويضحى المسرحي/ الباحث/ المنتج [بطل اللاجدوى] وهذا ما سقطت فيه كل البيانات والتجارب العَربية والنداءات التأصيلية، بغض النظر عن هجانتها واستنساخها وتلصصها وتناصها من التجارب التي توهم نفسها أنها ترفضها، وتسعى لإحداث قطيعة إبيستمولوجية معها، لإعطاء طابع أو صبغة عربية لهذا الفن لكي يتميزعن (الآخر) لكن الإشكالية تكمن في ردة فعل غير محسوبة، بعيد الهزيمة العربية أمام الإمبريالية، وانغماس المفكرين والفلاسفة العرب "الجدد" في استلهام التراث وإيجاد الخط الرابط بين الماضي والحاضر والمستقبل. من هاته الممارسة الفكرية، انغمس المسرح العربي في عمق هذا الفكر التراثي العربي، مما أضحى إلى حد (ما) يترنح بين الإشراق والخفوت والتيه نظريا وممارساتيا، رغم العَديد من المحاولات الفنية والابداعية. ولكن طبيعة اختراق الهوية الثقافية في سياق الاستعمار البديل وابتذال الرؤى الفنيَّة والفكريَّة والإخراجيَّة ؛ الجاهزة والمنمطة، هي من بين أسباب التيه، ناهينا عن اصطدام المسرح، أمام الانتقال النوعي الذي أحْدثته الهجمة التكنولوجية وعوالم الرقمنة، وأمام التحولات والنقلات الجماليَّة المتنوعة. في المشهد المسرحي العالمي، خلال العقد الأخير: لهذا كله، أعتقد بأن مفهوم النص الدرامي في حد ذاته لم يعد يقتصر على قدسية المخطوط عند الكتاب الجدد، بل حتى النص المخطوط اليوم لم يعد يخضع لنفس آليات الكتابة الدرامية المعهودة في السابق.... مع التركيز على المقاربة الركحية لم يعُد المخرج المسرحي هو الموجه الأساس للممارسة الإبداعية كما هو الشأن بالنسبة للتقليد الألماني (ص123) وبالتالي فالمركزية الغربية، تتسابق وتجهد نفسها لتجاوزالأعطاب الطارئة والمعيقة في الجسد المسرحي، ارتباطا بكنه الصراع الثقافي بين الفرنكونية / الأنكلوسكسونيية،المغلف بالاقتصادي الصرف للتعمية والتمويه، لكي تظل الثقافة الاستعلائية مهيمنة بقيمها ومرجعيتها الاستعمارية، ولكن بأيادي ناعمة (الآن) ولكن الأستاذ " خالد أمين" ركز تصوراته النقدية، ارتباطا بتساوق المسرح المغربي بقوة مع الهجنة لدى المشروع الاستعماري، وبالتالي: لماذا نركز على الاستعمار الفرنسي؛ وهناك استعمار إسباني في الشمال؛ واختراق الفن الإيطالي ومنها زيارة الفرق الإيطالية...وهذه الزيارات سواء الفرنسية أو الإيطالية ساعدت بلاشك على صقل الشعور بالمسرح وخاصة لسكان المدن خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر... وتأثر بها الفن الشعبي وأخذ منها. إن معظم المراجع التي استند إليها ترجح كفة تأثير المسرح الإيطالي، ويقول بعضها إن المسرح الإيطالي استمر عدة سنوات (2) وأمام هَذا المنظور فالمنجز يطرح طلبا صداميا مفاده: ونحن على مشارف نهاية العقد الثاني من الألفية الثالثة اصبحنا مطالبين اكثر للحفاظ على وثيرة إرباك النموذج الغربي عَوض استنساخ وتكرار نماذج الصديقي علولة (ص65) ؟ لكن هذا الطلب يفرض سؤالا استفزازيا أكثر حدة، كيف أربكنا النموذج الغربي، والغرب فينا ومتهجِّن في هويتنا الثقافية/ اللغوية / الإبداعية ؟ وليس عن طريق "الحلقة" فقط؟

الحلقة والهوية:

إذا اعتبر الاستاذ" خالد أمين" وغيره من المهتمين بالمجال الفرجوي، ودعاة التأصيل بأن "الحلقة" شكل فرجوي بالأساس، لنقبل هذا الفرض والافتراض؛ باعتبار أن المنجز في العديد من صفحاته نجد مفردة (الحلقة) ك:* خاصة الحلقة بوصفها فرجة جامعة (ص 47) – *تعد الحلقة فرجة جامعة تشمل مجموعة من السلوكات الفرجوية التي تنتمي إلى أجناس وأنواع مختلفة (ص51)* انتقال الحلقة إلى الركح مراوحة إيجابية بين المتعارضات (ص58)* في تجارب الحكواتي والسامِر والحلقة لكن مع إضافة البعْد الوسائطي(ص155) لكن ما أثارني تركيزه على الفنان الجزائري الراحل (ع القادر علولة) الذي اتخذ من الحلقة حقلا خصبا لفرجته أكثر من الطيب الصديقي؛ علما أن "المنجز" يشير بأسطر فيها من الدونية ما يكفي: ففي الغالب يشار إلى إبداعاتنا المسرحية وفرجاتنا من حيث هي هوامش توجد في الحُدود الفاصلة بين الحضور والغياب(ص81) ورغم ذلك لم تتم الإشارة لتجربة الطيب العلج (قاضي الحلقة) و(الأرض والذئاب) ولتجربة عبد القادر البدوي (الحلقة فيها وفيها) ولتجربة عبدالسلام الشرايبي (الحَراز) مع فرقة الوفاء المراكشية.ومسرحية (الحلقة) لبوشعيب الطالعي و(الحلايقية) لتوفيق حماني (....) وإن كان تقديم بعض الأعمال وظفت الحلقة ك (سكيزوفرانيا / النمس / حروف الزين/ دموع بالكحول/ في انتظار عطيل/ الباشا حمو/ الرينك/ ولكن يؤطرها ضمن الحساسية الجديدة ؛ فهنا تكمن بعض المغالطات في الدراسات والبحوث، فمسرحية (الرينك) لا علاقة لها بالحساسية الجديدة ؛ لأنها جاءت تحت الطلب من طرف فرقة (مسرح اليوم) وهي بمثابة كولاج للقصص(إدريس الخوري) واستنباتها تزامن مع "هَرولة" أغلب المسرحيين (الهواة) إلى شق(الإحتراف) وبالتالي فطبيعة كتابة النصوص، بداهة ستميل للرؤية (الاحترافية) [الفلوس] مما اشتغلت فرقة وليلي (المكناسية) على (الرينك) مرة واحدة وماتت (تلك)الفرقة من سنة ولادتها، كأول فرقة تعلن الإحتراف؛ ولكنها قدمت ؛ وفرقة مسرح اليوم اشتغلت على (بوغابه) ككولاج عن[ماتي] لبريشت؟ لماذا أثرت هذا في سياق هاته القراءة ؟ للفت الانتباه بأن الإشكالية العظمى ! في بحوثنا أو أثناء أية قراءة أو مناقشة المسرح [في] المغرب، بأننا نقحم ما لا يقحم خارج عوامل نزوله و سياقه التاريخي/ السياسي، وسيستشف "اللبيب" أنه موجه حسب الأهواء وحسب المنطلقات الإيديولوجية أوالسياسَوية. وطبقا لحسابات شخصية محض " ضيقة" ! وبالتالي فأي عمل أشر عليه أو تلفظ به الراحل " حسن المنيعي" فهو عمل مسرحي(متميز) ؛ وبالتالي فالأعمال التي يحملها "المنجز" كلها مؤشر عليها، مما نلاحظ غياب (الطيب العلج) و(عبد الصمد الكنفاوي) و(عبدالرحمان ولد كاكي)[مثلا] هذا الأخير اعتمد على التراث وتوظيف الحلقة في مسرحية (ديوان القراقوز) و(القراب والصالحين) و(بني كلبون) وخاصة مسرحيته (أفريقيا قبل العام الأول) حيث:تأثر فيها بشكل الحلقة مع توظيف الشكل البريشتي، ومشاكلته لتقاليد الحكواتي لدى العرب (3) وقد حاول "ع القادر علولة" وهُو من:... الذين استلهموا آليات اشتغال فرجة الحلقة والقوال الشعبي في مسرحه المحكي حيث خصص كل طاقته الابداعية في العقد الأخير من حياته لتطوير منهج مسرحي يستمد نسغه من الحلقة بعْد أن استوعب الابداع العالمي (ص58) لكن تاريخيا سعى لاكتمال مشوار معلمه " ولدكاكي" الذي وظف الحلقة في(الخبزة /1970) وبشكل جيد في مسرحية (المائدة /1972) هاته الأخيرة عرضت في الهواء الطلق وتم التجوال بها في القرى والمداشرالجزائرية. وهنا فتوظيف "الحلقة" والتركيز على اللغة العامية. هي بمثابة " تقنية" لخلق التواصل وليس لترسيخ الهوية كما سيفهم، لأن المسرحية [المائدة] كانت تمهيدا لمشروع بناء" الثورة الزراعية " التي تم تنفيذها في 1974 لتحقيق القرى الاشتراكية، باستبدال الملكية الفردية للملكية الجماعية للأرضي. وبالتالي ف" علولة" هل كان يخدم الأطروحة المسرحية ؟ أم أطروحة نظام ذاك الوقت ؟ أم نموذجا لتحقيق التلاقح بين الأنا والآخر، عبر "الهجنة" لإنتاج شيء جديد ومختلف؟ فالفنان" علولة" ركز اهتمامه الإبداعي على القضايا الاجتماعية والإنسانية ومعاناة الطبقة الكادحة نموذج عمل (الأجواد / اللثام) ولا نغالي بأنه يعتبر ظاهرة متفردة في المسرح "العربي"، ولازال محط نقاش بين الباحثين الجزائريين حول تجربته المسرحية، لكن الأستاذ " خالد أمين" في منجزه يشير: يصبو مسرح علولة الى ان يكون تأثيره قويا على مستوى الحس الجماعي.... لهذا فإن تقنيات علولة المسرحية مسيسة جدا وهي بهذا الصنيع بريشتيه بامتياز(ص60/61) وبالتالي فمظاهر "الحلقة "كفرجة في سياق الممارسة الفرجوية؛ ليست نتاج الهجمة الاستعمارية، بل نتاج امتداد تاريخي وتفاعل الحضارات المتعاقبة على المنطقة المغاربية (نوميديا) سابقا ؛ وإذا أخذنا" البكري" بإطلالته الجغرافية، في وصفه لقرطاجنة: أن أعجب ما بها” دار الملعب وهم يسمونها "الطياطرو" قد بنيت أقواسا على سواري، وعليها مثلما ما أحاط بالدار، وقد صور في حيطانها جميع الحيوان وصور أصحاب جميع الصناعات (…) في غربيه قصر يعْرف "بالطياتر" وهو الذي فيه دار الملعب المذكورة، وهو كثير الأبواب والتراويح، وهو أيضا طبقات، على كل باب صورة حيوان وصور الصناع (4) فهذا الوصف الذي يعود للقرن (التاسع الميلادي) لم يأخذه الباحثون العرب بالدراسة والتحليل، كمنطلق للأنثروبولوجيا الثقافية، التي ستساعدنا وستحدد لنا بانوجاد "مسرح عربي/ أمازيغي"، فعلا أم لا؟ وذلك من خلال، هل كانت هنالك مثاقفة أو تلاقح قسري أو تناسخ أو تناسج أو تأثير وتأثر بين المستوطن والمستَوْطن / الغالب والمغلوب ؟ لهذا - ف "الحلقة" لم تأت من فراغ. وبالتالي هناك مسلسل تاريخي ينبغي القيام بتفكيكه وتحليله؟ ومن زاوية نظر" فالباحث "خالد أمين، بما أنه (الآن) يحتل: مكانة مرموقة في خريطة النقد المسرحي المغربي والعربي على السواء، اعتباراً لمنجزه النقدي الدؤوب، وحضوره المؤثر، وإشعاعه الثقافي …والمتتبع لمسير اجتهاداته المتواترة يتبين بأن الأمر يتعلق بمشروع معْرفي موضوعه "مسرح المثاقفة وأداته " (5) من هنا كان عليه أن ينطلق في بحثه عن الهويات الهاربة، باعتبارها ظاهرة كونية إنسانية في الفرجة المسرحية، بدل البحث عنها إبان الهجمة الاستعمارية ومابعْد (الكولونيالية) التي أحْدثت فعلا [صدمة الحداثة] لكن فالفنيقين والرومان وبيزنطة.... بدورهم أحدثوا صدمات ثقافية للمنطقة، ومعالم الحضور الثقافي/ الفني تتجلى في تلك المسارح المنبثة في شمال أفريقيا كمسرح / قرطاج/ الدقة / جرش/ بلاريجيا / وليلي/ ليكسوس/ قالمة /شرشال/ سكيكدة / مسرح أم قيس /مسرح صبراته / تيمگاد / تيبازة /... / فلهذا: أنّ فتح المجال أمام الاختلاف هو ما يفتحنا على الممكن والمتعدّد والمختلف،بَدلا من سطوة الضروري والمنطقي على الفكر.أمّا الاعتقادات الثقافية فهي غالبا ما تكون محكومة بظروفها التاريخية والاجتماعية، بالتالي فإنّ المحيط والبيئة يؤثران على الهويات الجماعية مع مرور الزمن، لذا، فحيثما تدخلت العوامل السياقية المرتبطة بالمجال التداولي الخاص بكلّ ثقافة من ثقافات الناس، أو بهوية من هويات الشعوب، إلا وكان لها الأثر البالغ في تشكيل البنيات الخاصّة بها وبمعتقداتها التبريرية وتمثلًتها الجماعية (6) لهذا فالحلقة التي تمركز عليها منجز الصديق " خالد أمين" فهي أساسا تحتاج لبحوث مفصلة، وإعادة قراءتها كسيرورة شديدة الخصوبة والتعقيد والتركيب. لأن مسألة الشكل الدائري، ليس معيارا تابتا، بل هنالك "الحلقة " نصف دائرية، وهذا لم يذكره (الكغاط) في كتابه؟ بحيث العديد من الرواة / الحكواتي/ بفاس /صفرو/ مكناس/ كانوا يتخذون السور(باب الساكمة/ باب المربع/ ساحة الهديم) واجهة لمواجهة المستمعين، إسوة بالمسر ح الروماني، ولنا نموذج في مسرح المقهى (الآن): لأنّ الحضارات الإنسانية عبر مرور الوقت استطاعت أن تبني أنساقا متباينة، ومختلفة للتفكير والاعتقاد والتصور معا، وهي بذلك غير قابلة للقياس بنفس المقاييس والمبادئ (7) لكن حاليا فالتغيرات المستجدة؛ تفرض تلقائيا تحديات مريبة أمام الهويات الثقافية التي تنطوي على معان طمس وتدمير ثقافي لصالح الهيمنة منظومات القيم التي يبشر بها المركز الثقافي الغربي، لأن: مفهوم الهوية حسب - جان فرانسوا بايار- وهماَ كبيراً في عالم تنداح فيه التخوم وتتداخل فيه الثقافات، ومن ثم يصبح التمسك بالهوية مقترنا بالتعَصب والشوفينية، وإننا نعترف بأن العولمة قد حققت – فعليا- نوعا من التقارب والتداخل بين الهويات والثقافات المختلفة عبر ثورة الاتصالات الجارفة (8) وبما أن "المنجز" اتخذ "علولة " نموذجا لتوظيف "الحلقة " فهويتها عنده تكمن في توظيف " القوال" ولكنها(الحلقة) مستقاة من بريشت الذي بدوره استقى [الحلقة] من [الشرق] كغيره من المبدعين، لخلق التلاقح الثقافي والحضاري، ولهذا: يلزمنا التأمل في مقتضيات المسرح الملحمي، يعَد مسرح بريشت الملحمي محاولة لوضع حد لهيمنة الإتجاه الدرامي في المسرح، إذ يتيح للعرض المسرحي دفقا ملحميا جذريا، ويقوم في الآن نفسه بتركيز الإهتمام حول التناقضات في المحيط الإجتماعي(ص121) وهذا الاستلهام مرتبط بقناعته الفكرية، والبحْث عن موطئ لتأكيد الذات في مواجهة الآخر. باعتبار أن المسرح (المغاربي/ العربي) أساسا، متأرجح بين الهوية والاختلاف، الأنا والآخر. هذا ما دفع "ع القادر علولة " أن يلتجئ مرة أخرى للاقتباس وترجمة أعمال عالمية؛ بحيث يبرر خوضه غمار هذه التجربة مرة أخرى بقوله: لم تحدث أية قطيعة بل على العكس، فالرجوع إلى المسرح العالمي وخصوصا الكوميديا ديلارتي كان بهدف جلب أنماط وأشكال أخرى، تساعد على مواصلة تجربة الحلقة بطريقة أخرى بحثا عن التواصل الموجود بين تراثنا التقليدي والتراث العالمي(9) فالمنظور كان لتطويع الأشكال الشعبية لخدمة العرض المسرحي، كالطيب الصديقي في بعض تجاربه. لكن الباحث "أمين" يطرح " الحلقة" كفرجة في سياق الحياة الاجتماعية:حينما يتحلقون طواعية حول "الحلايقي" ليعيشوا لحظات استثنائية، تبعدهم مؤقتا عن متاهات الحياة اليومية. هكذا تحدث الحلقة فرجة بوصفها فضاء بينيا ارتباكا مؤقتا لمجرى الحياة اليومية (ص51) وفي سياق آخرهي من ضمن الهويات الهاربة ! لكن يتدارك الطرح بأن:الجمع بين الحلقة والمسرح في اطار فرجة واحدة لا يمكنه أن يقدم سوى شكل هجين... هذه الموجة طمعا في تأسيس هوية خاصة للمسرح المغربي. إنها إحدى اليوتوبيات الكبرى لهذا المسرح تنكسر على صخرة أطروحة الهجنة (ص64) فالإشكالية الذي سقط فيه المبحث ألغى بشكل غير مباشر" تجربة " الصديقي وعلوله وغيره ؟ وفي نفس الإلغاء، يلغي فرجة "الموندراما "التي هي صلب " الحلقة " التي اخترقت بكل حمولتها الفرجوية الأصيلة، تقنيات الركح الغربي وعلبه المغلقة. باعتمادها على فرجة الجسد /الجسم/ جسد(المؤدي/ الممثل) باعتباره مادة لتمرير رسائل واستعمال وسائل تشخيصية من أفعال وغيرها... وبالتالي: فليست هناك فرجة فردية ومن ثمَّ لا يوجد مسرح فردي، لأن التحقق الفعلي للفرجة يكمن في وجود مؤدي/ مؤدين وجمهور (ص28) ولهذا يسعى جاهدا لتحقيق تخريجة تنم عن الهروب للأمام، مفادها: المطلوب الان تجاوز وضعية الهجنة واستثمار تراكمات وتجارب الجسد الفرجوي المغربي من منظور التفكير العابر للحدود وهو تفكير ينفلت من قبضة مركزية لغرب بنفس درجة انفلاته عن مركزية الشرق بداخلنا (ص64): الأمر الذي يطرح وضعية جديدة لمفهوم العلاقات الأدبية والثقافية بين الأمم، من زاوية أن العالم قد أخذ يتجه أكثر فأكثر نحو التداخل والعضونة، فلم تعد هنالك تلك المسافات و لا التخوم والخنادق المتباعدة، مما يخلق حالة مائعة ورجراجة لفكرة الأقاليم والكثل الثقافية، وهذا يعَد متغيرا بالغ الأهمية والخطورة في الآن ذاته؛ حيث تصبح الآنا الثقافية مختلطة... مما يؤدي إلى تهديد مفهوم الهوية القومية والخصوصية الثقافية (10) ولكن كيف يمكن تطوير وإغناء هَذه الآنا في الوقت ذاته هل عبر المثاقفة أم التناسج ؟

بين المثاقفة والتناسج:

من بين المفاهيم التي يركز عليها الأستاذ" خالد أمين" التناسج " ولكن بعْدما قام بتحليل المثاقفة كما فهمها في سياق مشروعه النقدي، وبالتالي فالهوية باعتبارها ظاهرة كونية إنسانية من صنع الأفراد، فهي في المنجز "بينية" بين المثاقفة والتناسج، ولهذا: إذا أمعنا النظر في "الهوية" فإننا نجدها تفتقد إلى مركز ثابت على الرغم من إصرارها المستمر على التشبث بالحضور Présence والأصل Origine بالإضافة إلى تموقعها في فضاء تخومي بيني يتراوح عموما بين الأنا والآخر(11) فالمسألة كذلك في" المثاقفة " التي تأبى الاستقرار والسكونية، لأنها غير مستقرة ك "الهوية" على حال، ومن ثمة تخضع للتأثير والتأثر بين الأنا والأخر/ بين المجتمعات والشعوب، ورغم ذلك "فالباحث" استخلص بأن: مسرح المثاقفة يشكل عقبة إبيستمولوجية أمام التطور المتسارع الذي يقع في المشهد المسرحي على المستوى الكوني جراء سيرورات التلقي المنتج. هكذا يمكن اعتبار مشروع التناسج مشروعا مراجعاتيا، منفتحا على أصوات العالم. إنه أفق مغاير يسعى إلى إعادة المعنى للهوامش المحايثة بعد تاريخ اقصاء طويل (ص105) هنا يلغي من حيث لا يدري ! منظور الحضارة الإنسانية المبنية (على) التفاعل بين الحضارات والتأثير والتأثر والتلاقح والحوار الثقافي والحضاري بين المجتمعات. وبالتالي فالمفهوم (المثاقفة) اتخذ عدة تفسيرات: كتداخل الحضارات/ التبادل الثقافي/ التحول الثقافي/: لأن المثاقفة لا تتحقق إذا لم يتوفر طرف آخر تتفاعل معه أخذا وعطاء. فهيَ تنتج عن احتكاك مستمر ومباشر بين مجموعات أفراد تنتمي إلى ثقافات مختلفة (12) وهكذا يتبين بأن المثاقفة بشكل عام تأخذ موقع الحضور الطبيعي والتبادل الطوعي، لتحقيق المشاركة والتفاعل. باعتبارها تعَد من أعظم الآليات في تلاقح المسرح فعبرها تم الإطلاع على الأدب اليوناني؛ وغيره. وهذا يخالف ما تمت اثارته في المنجز" أي: تثير حالة المثقافة،اذن إشكالات من قبيل التخوف على مصير الهوية الوطنية في ظل الثقافة العولمية وهيمنة النموذج الغربي على آخره والتبعية الثقافية(ص77) فهذا الطرح يقابله نقضيه من مرجعيته، بأنه لا داعي للتخوف لأن: المعرفة عند الغرب ليست كلا متجانسا، ولا كيانا متعاليا مركزا حول الإشكالية نفسها وموضوعات التحليل نفسها. إنها مقعرة من كل ناحية بفعل الفوضى التي تصاحب كل تحول تاريخي وعلمي. كذلك المعرفة العربية الحالية؛ فأرضيتها التنظيمية (التقليدية) هي مجموع تركيبي يشمل سواء اللاهوت أو الفلسفة أو المعرفة الخاصة بالثقافة العربية أي الآداب....هذه المعارف تخفي الفقر النظري، بواسطة عملية تكرار ما أنتج (13) لكن الملاحظ بأن مفهوم "المثاقفة" كانت أمريكا الشمالية سباقة لاستحداثه ونحته، لكن: انتعش مفهوم المثاقفة مع إشارة المستعربة الألمانية "روتراود فيلا ندت" التي تجاوزت المفاهيم السابقة مقدّمة مفهومها الجديد الذي يتشكّل بقوّة في مفهوم المثاقفة الحضاريّة فتنفي الاستتباع وتقرّ بالحوار الحضاري، تقول في خاتمة بحثها عن "صورة الأوروبيين في أدب المسرح والقصّة العربية:وإذا أراد الأوربيون جديّا أن يضعوا أساسا سليما للتّفاهم مع العرب في المستقبل، فعليهم أن يكفّوا نهائيا عن التكبّر السياسي والاستعلاء الثقافي، وكلاهما فيما مضى ركيزة الاستعمار الحديث (14) بالتقريب نفس المداورة في المنجز: والحال لا يمكن تفكيك مركزية الدراسات المسرحية الأوربية – الأمريكية، إلا إذا تجاوزت هذه الأخيرة الخطاب العنصري، وعادت إلى دائرة الرشد وأقرت بتعدديتها غير قابلة للاختزال، وبتفاعلها مع الثقافات الأخرى غير الأوربية (ص81) مقابل هذا نجد مفهوم " (التناسج)" تطرحه ألمانية [إيريكا فيشر ليشته] بفعل ما خلفته "(المثاقفة)" من استغلال وتحكم وإقصاء للشعوب المستضعفة عن طريق الثقافة، فهل هي مصادفة أم تعاون أم مثاقفة بين ألمانيا الاتحادية والمركز الدولي لدراسات الفرجة ؟ والذي يزيد في إثارة تلك الأسئلة؟ ما الهدف من وراء كل هذا؟ فكلا الطرفين يتبنيان "الحلقة " باعتبارها نموذجا مثاليا للتوليد الذاتي اللامتناهي، وفي هذا السياق، نجد في المنجز" ردا ذو وَجهَين (إ) تبرير اختيار مسرح التناسج كأفق بحثي في حركية الفرجة وتحولاتها (ب) نفي تهمة التبعِية لألمانيا: وهكذا دخلنا إلى التناسج من باب {النقد المزدوج} وهو صناعتنا المحلية التي أبدع في نحتها عبدالكبير الخطيبي. ولم نكن مجرد مستهلكين ومروجين لمفاهيم ألمانية، كما روجت بعض الجهات الخانعة، بل سعَينا للترافع عن ثقافتنا الفرجوية بدون مركبات نقص، وفتحنا نقاشا بناء مع رفاقنا في المحافل الدولية، وهاهي فيشر ليشته تقربهذا (ص104) ولكن أليس مسرح التناسج هو مسرح المثاقفة ؟ فالناقد" خالد أمين " يجيب على السؤال بأن: المقصود بالتناسج، والذي قد يفهم منه إبدال فقط لمفهوم المثاقفة. وجعل غيره مكانه (..) في سياق حديثنا الراهن، فإن الإبدال أو الاستبدال لا يستفاد منه الانفصال التام دائما. صحيح أن التناسج مبني على منطق آخر للنقاش يبرز العناصر المضمرة في رحلة المثاقفة. كما يعيد إثارة أسئلة أخرى مبنية على منطق الاستيعاب والتجاوز، لا القطيعة والانفصال (ص106) وبهذا المعنى، فأطروحة التناسج تنهض على الثوابت التالية:إعادة الاعتبار إلى الهوامش الفرجوية المحايثة، من تفكيك منظومة المركزية الغربية القائمة على القطبية الثنائية: المركز- الهامش.

ب- الإقرار باختلاف الثقافات الفرجوية، وفي ذلك اعتراف ب “الآخر” والإنصات له (15) ولكن السؤال الجوهري في كل هذا، فأي ثقافة الهامش يسعى التناسج إعادة الاعتبار إليها؟ قبل الاجابة نقبض في "المنجز"على استخلاص مهم مفاده: لم يطرح مشروع التناسج على أساس أنه نظرية جديدة في المسرح بل فقط أفق جديد للتفكير في حركية الفرجة المسرحية وتحولاتها وهي تنتقل في رحلة مستمرة عبر الأمكنة والأزمنة وحصيلة هذه الحركة الدؤوبة إنتاج الاختلاف عِوض تكريس المتشابة (ص110) من هنا جاء “التناسج الثقافي” منفتحا على أصوات العالم، للكشف عن المضمر وإعادة الاعتبار لثقافة الهامش التي نعتت دائما بالفارغة والسلبية. وبالتالي فهل المسرح العربي يكرس المتشابه؟ أم المسرح الغربي هو الذي يكرسها؟

اسْتخلاص: 

بداهة فمنجز [المسرح والهويات الهاربة.. رقص على حد السيف] يغري بالتأمل لتفكيك مضمر الخطاب النقدي الذي ينتهجه رفقة بعض الباحثين "الألمان" مثل "هانس ليمان" من خلال مؤلفه (مسرح مابعْد الدراما) وهذا ليس سبَّة أو اتهاما كما طرحه علانية " خالد أمين" بالعكس هو اشتغال و تطور يفرض نفسه بالتلاقح وتبادل الخبرات على المستوى الكوني وذلك لتطعيم والنهوض بالمشهد المسرحي في أفق مغاير، ومواكب للتحولات العولمية، وبالتالي فخلفية "المنجز" ترنو إلى تفعيل البعْد الملحمي؛ كصيغة لتحقيق الفرجة و لمواجهة المركزية الغربية، بغية إعادة الاعتبار لثقافة الهامش بشكل عام، وليس هنالك تخصيص: لأن دخول الخصائص الملحمية على الخط أربك الدراماتورجيا الدرامية (البرجوازية آنذاك) هكذا سيعتبر تاريخ المسرح الحديث مفعما بالصراع بين متطلبات الدراما الخالصة من جهة والمواضيع الحديثة التي اصبحت تتطلب معالجة ملحمية من جهة اخرى. لقد عد الطرح المسرح الملحمي البريشتي أهم انفلات جمالي من التقاليد الدرامية التي هيمنت على الساحة المسرحية الغربية (ص119) هذا إذا قمنا بجرد لكل ما أنجزه الأستاذ" أمين" إلا واستحضار بريشت وارد بشكل أو آخر، وعلى سبيل المثال:.. وإن المنتوج بالنسبة لبريشت كان يشكل مركز العملية المسرحية، وإن أعماله من الاتساق. بحيث بإمكانها أن تؤدي إلى وسائط سردية دقيقة جدا، وقد أثار موضوع التناسق في الاوساط المسرحية الفرنسية جدلا كبيرا؛ إلى درجة طرح السؤال التالي: ماذا نرى على خشبة المسرح، غير تناسق كبير؟ (16) هذا إذا قابلناه بقولة "فيشر ليشته": فجاء مشروع التناسج ليس بهدف تكريس هذه المركزية بل لدحضها، من خلال التفاعل التشاركي والانصات المتبادل وإعادة الاعتبار الى الهوامش الفرجوية المحايثة التي كانت بالأمس القريب مجرد روافِد تصب في المجرى الرئيسي لنهر المركزية العربية (ص110) أليس الهدف من كل هذا محاولة، لإحياء أو لدعم " المدرسة السلافية" التي حاولت: طرح مشروع منهجي مغاير للمقارنة بين الآداب، يقوم على ألية اجتماعية- تاريخية في فهم الظاهرة الأدبية وعوامل إنتاجها وانتقالها، مما يحقق نوعا من الندية في العلاقات الأدبية التي تقوم بين الأمم ص23) هذا لمواجهة المدرستين الأكثر انتشارا المدرسة (الفرنسية) والمدرسة (الأمريكية) اللتين انطلقتا، لتحقيق أهداف سياسية تكرس لوضعية المركزية الأوربية، تم المركزية الغربية [الأورو- أمريكية] لمحاولة إبراز علوية الأدب الأوربي تم الغربي....

***

نجيب طلال

..........................

الإستئناس:

1) المسرح والهويات الهاربة.. رقص على حد السيف: لخالد أمين[ص 225] عن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة/ سلسلة رقم 63-2021

2) سيكولوجية الفرجة لفتحي سلامة - ص44/45 مكتبة الأسرة / الهيئة العربية للكتاب القاهرة /1998

3) ألف عام وعام على المسرح العربي: لتامارا ألكسندر وفنا بوتنتسيفا- ت/ توفيق المؤذن ص: 257 مطبعة الفارابي بيروت لبنان ط2/ 1990-

4) المسالك والممالك: لأبو عبيد البكري: تحقيق أدريان فان ليوفن- أندري فيري ص702 ج الثاني- الدار العربية للكتاب1992

5) المسرح المغربي المعاصر[قراءات في العرض والنص والنقد]: لعبد الرحمان بنبراهيم- ص 194 – منشورات الهيئة العربية للمسرح – دراسات 96 – ط 1/ 2023 – الشارقة.

6) الدولة وسؤال الهوية في المنطقة المغاربية أوراق متكاملة – ص27- تقديم:وجيه كوثراني تنسيق:هشام الهداجي منشورات مركز تكامل للدراسات والأبحاث / 2021

7) نفسه – ص20

8) المثاقفة وسؤال الهوية: مساهمة في نظرية الأدب المقارن: لصلاح السروي ص24– دار الكتبي/ ط1-2012

9) التجربة الاخراجية في مسرح علولة: للخضر منصوري – ص 69 - جامعة وهران/ الجزائر- 2002

10) المثاقفة وسؤال الهوية: ص36– دار الكتبي/ ط1-2012

11) من مسرح المثاقفة إلى تناسج ثقافات الفرجة: لإريكا فيشر ليشته / ترجمة وتقديم: خالد أمين ص 13 منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة- سلسلة 22/ ط1 طنجة- المغرب،2016

12) قاموس المورد: لمنير بلعبكي- ص24- دار العلم للملايين/ بيروت 1994

13) النقد المزدوج: لعبد الكبير الخطيبي ص195/196 - منشورات عكاظ /2000

14) نقلا عن: المسرح العَربي من المثاقفة والتناسج إلى التطويع: لمنى برهومي – ص- 100/101 مجلة إشكالات في اللغة والأدب العدد التاسع / ماي 2016 الجزائر

15) المسرح المغربي المعاصر[قراءات في العرض والنص والنقد]: ص - 200

16) دراماتورجيا العمل المسرحي والمتفرج لمحمد سيف/ خالد امين ص91 عن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة/ سلسلة رقم 28-2014

17) المثاقفة وسؤال الهوية: ص 23

 

الإنسان في الإسلام: وفق الرؤية الإسلامية التوحيدية، فإن ماهية الإنسان وطبيعته، قد تحددت في العلم الإلهي قبل الوجود الإنساني العيني.. إذ يقول تبارك وتعالى [بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم] (الأنعام، الآية 101).

فالطبيعة الواقعية للإنسان محددة قبل الوجود العيني للأفراد.. إذ[يقول تبارك وتعالى [وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين] (الأعراف، الآية 172). فهذه الآية القرآنية الكريمة، توضح وتخبر عن وجود للإنسان سابق عن وجوده العيني، وتم فيه أخذ العهد بالإيمان لبني الإنسان جميعاً. ووفق الآيات القرآنية الكريمة فإن الماهية الإنسانية تتقوم بعنصر أساسي هو عنصر شهادة الربوبية واعتراف الإنسان المطلق بألوهية الخالق ووحدانيته كما توضح الآية القرآنية الكريمة السالفة الذكر. فالإيمان بوحدانية الخالق وألوهيته هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ولكن هذه الحقيقة الفطرية الراسخة في الوجود الإنساني، لا تتحقق بالنسبة إلى آحاد الإنسان إلا بالاختيار والجهد الإرادي الحر. وحينما يذهب الإنسان بعيداً في اختياره، فإن هذا الإنسان يضحى [كالأنعام بل هم أضل سبيلاً] (الفرقان، الآية 44). ويقول عز من قائل [لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين] (التين، الآية 4، 5). فالإنسان كما يقرر الراغب الاصفهاني، يحصل له من الإنسانية بقدر ما يحصل له من العبادة التي لأجلها خلق، فمن قام بالعبادة حق القيام فقد استكمل الإنسانية، ومن رفضها فقد انسلخ من الإنسانية.

" فالإنسان في التصور الإسلامي لا يبدع ماهيته كما تعتقد الفلسفة الوجودية، وإنما هو يحققها من خلال جهده الإرادي بإخراجها من طور القوة والكمون إلى طور الفعل والظهور " على حد تعبير الدكتور لؤي صافي.

والإنسان حين يعتقد ويؤمن بالحكمة الإلهية لوجوده [وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون] (الذاريات، الآية 56)، فإنه سيعمل ويكدح ويسعى لأجل تحقيق غاية هذا الوجود التي من خلالها يرتقي لتحقيق ماهيته الإنسانية. فإنسانية الإنسان لا تتحقق صدفة، وإنما هي بحاجة إلى تربية وتهذيب، وعمل وكفاح، واتصال دائم بالحقيقة المطلقة وهو الباري عز وجل. وبمقدار التصاق الإنسان بخالقه، عبر عبادته العبادة الحقة، والالتزام بتشريعاته ونظمه المختلفة في مختلف جوانب الحياة، بذات القدر يقبض الإنسان على إنسانيته، ويتخلص من كل رواسب ونزعات الشر والابتعاد عن الطريق المستقيم. والإرادة الإنسانية هي حجر الزاوية في مشروع تحقيق إنسانية الإنسان. أي أن الرغبة المجردة، لا تحقق ما يصبو إليه الإنسان. وإنما بحاجة دائماً إلى إرادة وعزم وتصميم لمحاصرة وضبط أهواء الإنسان وشهواته، والتدرج في مدارج الكمال الإنساني. وبمقدار ما يتخلى الإنسان عن نزعاته ونزواته الشريرة، يرتقي في مدارج الكمال، ويقترب من الصورة التي أرادها الله سبحانه وتعالى للإنسان.

لذلك نجد الآيات القرآنية الكريمة، تمتدح الإنسان الذي لا يخضع إلى شياطين الإنس والجن. قال تعالى[ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين * وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ] (سبأ، الآية 20، 21).

وقال تعالى [وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون] (الأنعام، الآية 112).

فالرؤية الإسلامية وضعت الإنسان في أشرف المراتب. فالباري عز وجل وضع فيه أشرف المخلوقات وهو (العقل)، واختاره لخلافته في الأرض. إذ يقول عز من قائل [وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون](البقرة، الآية 30).

فالوضع القيمي للإنسان يتميز بشكل نوعي عن بقية المخلوقات، كما أن الباري عز وجل منحه تكريماً لا يضاهيه أي تكريم، إذ سجل في محكم التنزيل [ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً] (الإسراء، الآية 70).

فالإسلام لا يعتبر الإنسان بوجوده، موجوداً عاصياً ومذنباً، بل ينظر إليه بوصفه موجوداً فطرياً مهماً احتجبت وتلوثت تلك الفطرة فيه نتيجة الغفلة والنسيان والذنوب. وهذا هو مقتضى قول الباري عز وجل [لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم] (التين، الآية 4)، والأديان والرسالات والتشريعات السماوية، جاءت لتظهير هذه الحقيقة المغروسة والموجودة في جوهر الوجود الإنساني.

"من هنا، دعانا الإسلام وقبل كل شيء إلى استحضار تلك المعرفة المغروسة في أعماق نفوسنا، وبسبب أهمية تلك المعرفة في رسم السعادة الإنسانية، فإن الإسلام خاطب الإنسان بوصفه صاحب عقل لا صاحب إرادة فقط، فإذا كان التمرد على الله وهو الذنب الأكبر عند المسيحية ناشئاً من الإرادة، فإن الغفلة تشكل الذنب الأكبر في الإسلام، والتي تكون نتيجتها عدم قدرة العقل على تشخيص الطريق الذي رسمه الله للناس، ولأجل ذلك، فإن الشرك من أعظم الذنوب التي لا تغتفر، وهو بعبارة أخرى يساوي إنكار التوحيد " (راجع كتاب قلب الإسلام من أجل الإنسانية، قيم خالدة، تعريب داخل الحمداني، ص 14)..

فالرؤية الإسلامية للإنسان، قائمة وبشكل جوهري، على أن الإنسان بعقله وإرادته وقلبه وبكيانه كله، لا بد أن يكون عبداً حقيقياً ومخلصاً لله سبحانه وتعالى، يأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه والتسليم المطلق للواحد الأحد.

وإن هذا التسليم ليس ضرباً من ضروب الجبر، بل نتيجة طبيعية للإيمان والرضا بما قدر الله سبحانه وقضى.

والإنسان حين يكون متصلاً بالله تعالى، وملتزماً بشريعته، فهو يتحرر من كل الضغوطات الداخلية والخارجية، ويصبح رأسماله الحقيقي هو كرامته الإنسانية. فالحاجة مهما كانت، لا تقوده إلى الذل وامتهان الكرامة.

فالكرامة الإنسانية والشعور العميق بها، هي وليدة العبودية لله وعدم الخضوع لأي حاجة قد تذل الإنسان، وتخرجه عن مقتضيات الكرامة والعزة.

الدين والإنسان.. أية علاقة:

ثمة حقيقة أساسية ينبغي أن ننطلق منها، حينما نود الحديث عن طبيعة العلاقة بين الأديان والإنسان. وهذه الحقيقة هي أن الأديان السماوية بكل أنظمتها وتشريعاتها، جاءت من أجل خدمة الإنسان وسعادته. بمعنى أن الالتزام بتشريعات الدين وأنظمته، تفضي على المستويين العام والخاص إلى سعادة الإنسان واستقراره على جميع المستويات. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتصور الدين الذي أنزله الباري عز وجل بمعزل عن الإنسان ومصالحه النوعية.

فالعلاقة جد وطيدة وعميقة بين تشريعات الدين ومصالح الإنسان الخاصة والعامة. فهي تشريعات تصون الإنسان وتحمي حقوقه ومكاسبه. لذلك نجد أن القرآن الكريم أنكر على أهل الكتاب تنازلهم عن حقوقهم المشروعة وحرياتهم الإنسانية التي ولدوا عليها، ورضوا بالعبودية لرهبانهم وأحبارهم الذين تبوؤا سلطة التشريع بدل الحق جل وعلا.

وفي هذا يقول ربنا سبحانه وتعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون).

فالأديان جاءت من أجل تحرير الإنسان من العبودية لغير الله سبحانه وتعالى، لذلك نجد القرآن الحكيم يدعو أهل الكتاب كافة ليتحرروا من هذه الأغلال والعبودية لغير الله، وأن يفردوا الله وحده بالعبادة والخضوع. إذ قال تعالى (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون).

فالإنسان وفق الرؤية الربانية هو أكرم المخلوقات حيث نفخ فيه من روحه، وهو الوحيد من مخلوقاته جل وعلا الذي اختاره ليكون خليفته في الأرض، وكرمه بالعقل وهداه السبيل، وعلمه البيان وسخر له ما في السماوات وما في الأرض، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.

وعلى هذا فإن جميع القيم والتشريعات الإسلامية، جاءت من أجل تحرير الإنسان وحمايته وتكريمه والسمو به في مدارج الكمال والرقي المادي والمعنوي.

وفي سياق بيان دور الأديان في بناء الإنسان، نود أن نثير النقاط التالية:

1- حينما نريد أن ندرس التجربة الدينية في حياة الإنسان المعاصر، من الضروري التفريق والتمييز بين مستويين وهما:

أ‌- المستوى المعياري: وهو مجموع القيم والمبادئ الخالدة، وهي العابرة لحدود الزمان والمكان. ولا مشكلة لدينا على هذا المستوى. إذ أننا نعتقد وبشكل جازم أن الباري عز وجل لم يشرع للإنسان القتل والعدوان وممارسة الكراهية بكل مستوياتها وأطوارها. فالأديان السماوية كما أنزلها الله هي منبع الخير المطلق.

ب‌- المستوى التاريخي: وهو مجموع الجهد البشري والدين كما هو معيوش.

ويبدو أن كل الإشكالات المتعلقة بين أهل الأديان التوحيدية الثلاثة، تستوطن هذا المستوى. وينبغي أن تتجه كل الجهود الحوارية نحو صياغة علاقة إيجابية بين أهل هذه الأديان، بعيدا عن إكراهات وعبء التاريخ.

وعلى أهل هذه الأديان في هذه اللحظة التاريخية الحساسة أن يتخذوا موقفا صريحا وواضحا تجاه الظواهر الثلاث:

1- ظاهرة الحركة الصهيونية في التجربة الدينية اليهودية، وهي الحركة التي اغتصبت أرض فلسطين، وهجرت وقتلت شعب فلسطين، وكل ذلك تم بغطاء ديني توراتي.

2- ظاهرة الاستعمار ونزعات السيطرة والهيمنة التي سادت المجال الحضاري الغربي، واستفادت من الغطاء الديني المسيحي، وصولا إلى ظاهرة المحافظين الجدد في التجربة الدينية المسيحية.

3- ظاهرة الغلو والتطرف والإرهاب الديني في التجربة الدينية الإسلامية. وهي الظاهرة التي عاثت في أصقاع الأرض فسادا وقتلا، وعملت كل هذه الجرائم بتفسير وغطاء ديني إسلامي.

إننا نعتقد أن بذل الجهود الثقافية والدينية لرفع الغطاء الديني عن كل هذه الظواهر، سيساهم في خلق السلم الإنساني والدولي.

2- إن التعايش بين أهل الأديان اليوم، بحاجة إلى التأكيد على المقولات التالية:

أ‌- ضرورة الانتقال في عملية الحوار من النطاق اللاهوتي إلى النطاق الثقافي الذي يبني حقائق التسامح والحرية واحترام الآخر وجودا ورأيا في الفضاء الاجتماعي.

ب‌- الاهتمام الجاد بمسألة حقوق الإنسان، فالاختلاف الديني لا يشرع بأي حال من الأحوال انتهاك حقوق الإنسان.

إننا نعتقد أن انفتاح الثقافات الدينية المعاصرة على ثقافة حقوق الإنسان، سيفضي إلى المساهمة في بناء عالم أكثر عدالة وتسامحا وحرية.

3- إن تنمية القيم الروحية في المجال الإنساني المعاصر، يتطلب ضمن ما يتطلب إلى أن تتبنى المؤسسات الدينية في كل الأديان مقولات بناء النظام السياسي المرن والديمقراطي.

فالأنظمة السياسية المنسجمة مع خيارات شعوبها الثقافية والسياسية، هي الأقدر على تنمية القيم الروحية في المجتمع.

فلنرفض جميعا كأهل أديان سماوية، كل أنظمة الجور والعسف والهيمنة. حتى تصيغ القيم الروحية المبثوثة في الأديان السماوية كما أنزلها الله سبحانه وتعالى حقائق المحبة والسلام في حياة الإنسان فردا وجماعة.

4- إن أحد وجوه الأزمة والتي تنعكس سلبا في مجالات الحياة المختلفة، هي تضاؤل النزاهة الأخلاقية والعملية لدى شريحة معينة من أهل الدين. فلم يمتثل هؤلاء مثل الدين الحقيقية تمثلا كافيا، كما أنهم لم يكونوا أمناء على حقوق مجتمعاتهم وأمتهم برغم كل الدعاوى التي صدروا عنها أو صدرت عنهم.

ويعبر عن هذه الحقيقة الدكتور فهمي جدعان بقوله:إذ إنه يؤسفني جدا أن أصرح بأن أغلبية الناس وأكاد أقول جميعهم، بإطلاق ـ ومن بينهم مفكرون ومثقفون كبار ـ، وأن كانوا يفاخرون دوما بأنهم يحتكمون إلى العقل ويسلكون وفقا لتوجيهات العقل، إلا أنهم في أغلبية الأحوال يتحركون بنوازعهم ورغباتهم وإيراداتهم وأهوائهم ولايستخدمون العقل إلا من أجل الوصول إلى هذه الأغراض بأدق الطرق وأحكمها و؟أكثرها ضبطا وإحكاما. ويستوي في ذلك الأخيار والأشرار. وهذه هي قضيتنا مع العقل. إنه أداة بالغة الخطر، ولكنه أداة لبا يستطيع أحد الاستغناء عنها، وكي تؤتي ثمارها الإنسانية الطيبة لا بد من إحاطتها بسياج من القيم العالمية ولا بد من تحريرها من رغباتها وأهوائها المضادة للموضوعية ولخير الإنسان وكرامته، ولا بد بشكل خاص من أن نحول دون تحول هذه القوة إلى سلاح ضارب يقضي على معاني الإنسانية فينا وعلى حساسيتها الجمالية، ويدمر قيم الحرية والكرامة والعدالة في عالم الإنسان.

وثمة مدارس وتجارب دينية عديدة، حاولت من خلال محطات تجربتها وآفاقها وممارساتها، أن تقدم إجابة أو إجابات على الأسئلة الوجودية التي تعترض الإنسان الفرد والجماعة في مسيرته الإنسانية. وهذه التجارب الدينية هي في تقديري، إحدى الإجابات التي قدمتها الحالة الدينية الإنسانية كوسيلة من وسائل السلم والسلام. حيث أن السلم الذاتي والانسجام الداخلي وارتفاع وتيرة الإيمان في نفس الإنسان، هي أحد المداخل الرئيسة لإنجاز مفهوم السلام في الحياة العامة.

ولعل التجارب أو المدارس العرفانية الإسلامية والمسيحية هي أحد نماذج ذلك "وهذا العرفان المدروس (على حد تعبير كتاب الأسس النظرية للتجربة الدينية – قراءة نقدية مقارنة لآراء ابن عربي ورودلف أتو)، ربما تختلف مفرداته، فيتم توظيف المفاهيم والأفكار التي تشرح بتفصيل أو بإجمال سير العارف العملي في أعماق الأنفس والآفاق، وهو ما يسمى بالعرفان النظري، الذي يمثل محيي الدين بن عربي عماده وركنه.

وإذا استهدفنا من العرفان النظري هذا دراسة وتدوينا وتعليما، الحصول على تصورات عقلية لظواهر غير عقلية كما يقول أصحابها، فليس ذلك بالأمر السلبي أو المحال، فبالإمكان خلق مفردات ونحت مصطلحات وابتكار سياقات لفظية للتعبير عن حالات روحية عميقة، وهو أمر يتصاعد في عسره كلما تعمق الإحساس وغاص في دهاليز الروح، وهو إن دل فإنما يدل على نضوج عقلي وثراء لفظي.

وهذا العرفان النظري، يخضع – هو الآخر – لنظام التعليم ونقل الأفكار وانتقالها طبيعة، ومن ثم فأحد أهداف هذا العرفان هو تكوين تصورات نظرية عقلية عن تجارب روحية، تماثل الدور الذي يلعبه علم النفس أحيانا. لكن السؤال البارز هنا، والذي كان محط خلاف بين المشتغلين بالعرفان، هو هل أن جذب السالك إلى هذا الطريق يكون عبر خلق تصورات نظرية عن التجربة، أم أن ذلك لا يتم إلا بأسلوب عملي ربما يكون قائما على ممارسات طقسية وذكرية، أو على أنواع تربوية تهذب النفس وتصفيها ؟ ".

ولقد جذبت هذه التجارب العديد من الشخصيات، وأضحت مدخلا هاما من مداخل اكتشاف مخزون ومكنون القيم الروحية في الديانات التوحيدية الكبرى. وذلك لأن حجر الأساس في هذه التجارب، هو الاندفاع القلبي - الطوعي - الاختياري الذي يدفع الإنسان صوب التفاعل الخلاق على صعيد القناعات والمسلك مع قيم الدين ومثله العليا. وتطهير الباطن أو توفير المقدمات الروحية هي الشرط الشارط للانخراط في هذا المسلك أو التجربة الدينية العرفانية. 

فالعلاقة بين الدين والإنسان، علاقة عميقة ودائمة. ولا يمكننا أن نتصور أن تكون القيم الدينية في موقع مضاد للإنسان وجودا ومصلحة. فدائما قيم الدين ومبادئه مع الإنسان، ووظيفتها الأساسية هي الحفاظ على الإنسان في مختلف المستويات والدوائر.

وفي المحصلة النهائية، الأديان جاءت من أجل خدمة الإنسان، لكي يعيش حياة سعيدة ومستقرة. لذلك قرر الفقهاء أن أحكام الشرع تدور مع المصلحة وجودا وعدما.

مختلفون ولكننا متساوون:

في سياق التوجس والتوتر، الذي يسود العلاقة بين المختلفين، لأسباب دينية أو مذهبية أو قومية أو أثنية، تبرز حالة العداء النفسي تجاه المختلف، والتي تأخذ أبعادا وصورا عديدة، وقاسمها المشترك هو نبذ الآخر المختلف، ووصمه بكل الصفات والخصائص السلبية سواء على مستوى الاعتقاد والتصور، أو السلوك والممارسة..

ولا ريب أن حالة العداء والعداوة، من الحالات التي تحتاج إلى معالجة واعية ودقيقة، لأنها حالة نفسية سلبية ضد الآخر، بحيث تستهدف نفيه ونبذه، ورفضه في نفسه أو موقعه أو مصالحه، وتتحرك هذه الحالة العدائية بطريقة تدميرية، متوحشة على مستوى القول والموقف وعلى مستوى الشعور والفكر، وعلى مستوى الحياة بمختلف تفاصيلها ودوائرها..

لهذا تكثر الصور والأساليب المستخدمة، في ذم الآخر، وتسفيه آراءه ومعتقداته والعمل على إبقاءه في دائرة النبذ والقتل الاجتماعي والمعنوي..

وإذا أردنا أن نكتشف حجم وفداحة العداء النفسي والاجتماعي، الذي بدأ يستشري في مجتمعاتنا ضد الآخر الديني أو المذهبي أو القومي، فلنتصفح صفحات الانترنيت ونطلع بعض المواقع الالكترونية المتخصصة في تعميق حالة العداء بين المختلفين، وشحن النفوس تجاه المغايرين.. واستخدام في سبيل ذلك، كل المفردات وعمليات الشحن النفسي والتعبئة الاجتماعية التي تقشعر لها النفوس والأبدان..

لأنه حينما تتحول الاختلافات العقدية أو الفكرية، إلى حالة من الضيق النفسي والمشاعر الحاقدة، حينذاك تتحول هذه الحالة إلى خطر يهدد مجتمعاتنا، ويوفر كل أسباب الصدام لأي سبب من الأسباب..

لهذا يسجل لنا القرآن الكريم، أول حالة عداء حدثت في الوجود بين إبليس وآدم، من جراء حالة نفسية تمثلت في الحسد والكبر، تلبست إبليس، وحولته إلى رافض للامتثال لأمر الباري عز وجل.. إذ يقول تبارك وتعالى [فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين، قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين] (الأعراف 11، 12)..

فحينما يشعر الإنسان، بأنه أفضل من الآخر المختلف دينا أو أخلاقا أو أصلا اجتماعيا، فإن هذا الشعور الاستعلائي يقوده إلى الكثير من المهالك والمآزق..

وهي التي قادت إبليس إلى الطرد من الجنة..

إذ يقول تعالى، ونتيجة لاستعلاء إبليس وشعوره بأفضليته على آدم [قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فأخرج إنك من الصاغرين] (الأعراف 13)..

فنحن نختلف مع غيرنا، وغيرنا يختلف معنا، وشعور أحدنا بأنه الحق المطلق، ويمارس من جراء هذا الشعور ممارسات نابذة وطاردة إلى الآخر المختلف باسم تلك العناوين المختلف عليها، هي ذاتها النزعة الاستعلائية التي تقود إلى العداء والعداوة بين الإنسان وأخيه الإنسان..

نحن نعترف بوجود اختلافات بيننا، ولكن هذه الاختلافات، لا تعطي أفضلية لأحد على أحد، لأننا جميعا نمتلك أدلة وبراهين على ما نعتقد ونؤمن وكلنا ينشد الحق والحقيقة.. والطريق إليها يتطلب المزيد من الحوار العلمي- الموضوعي، بعيدا عن نزعة الاستعلاء والعداء، وبعيدا عن لغة التحريض والشتائم.. فنحن مختلفون ولكننا متساوون في الحقوق والواجبات..

ولا يجوز لأي طرف أن يستخدم عناوين الاختلاف كمبرر للاستعلاء أو العداء أو التحريض..

لهذا فإن تطهير النفوس جميعا من الأحقاد وسوء الظن ووساوس الشيطان ومفردات الكراهية، هي الخطوة الأولى في مشروع إدارة اختلافاتنا مهما كان حجمها بصورة حضارية ومنسجمة وقيم الإسلام العليا القائمة على الرحمة وحسن الظن والحرية والمساواة.. فلا يجوز لأي أحد منا، وباسم حماية الإسلام والعقيدة، أن ينتهك قيم الإسلام ويتجرأ على مبادئ العقيدة الإسلامية..

فالإسلام لا يحمى بزيادة وتيرة الكراهية بين الناس، والعقيدة لا تصان بإطلاق الأحكام جزافا بحق الآخرين.. فالإسلام يحمى بالوعي والحكمة وتجسيد مثله وأخلاقه..

والعقيدة تصان بطاعة الله وطلب رضوانه [وإن لم تفغر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين] (الأعراف 23)..

فالرؤية الإسلامية لا تؤسس لأي أحد، ممارسة الحقد والعداوة والبغضاء بسبب الاختلافات الدينية أو الفكرية أو السياسية..

وأي ممارسة لهذه الصفات، هي تجاوز على قيم الإسلام، ولا يطاع الله من حيث يعصى.. يقول تعالى [يا أيها الذين امنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون * ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور * إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط] (آل عمران 118 -120)..

فما يتم تداوله في مواقع الانترنيت تجاه بعضنا البعض كمواطنين، يعد كارثة أخلاقية وإنسانية.. لأن المواد التي يتم تداولها، تشحن النفوس، وتصور الآخر وكأنه الشيطان المتحرك، الذي لا عمل له، إلا الإساءة إلى الآخرين..

فتعالوا جميعا نرفع أصواتنا ضد الإساءات المتبادلة، التي تغذي الأحقاد، وضد عمليات التحريض التي تصورنا وكأننا أعداء بعضنا البعض.. فالاختلافات في الدائرة المذهبية أو القبلية أو المناطقية، لا تشرع لأحد إذكاء نار العداوة بين أبناء المجتمع والوطن الواحد..

فحالة العداء بين المواطنين المفتوحة على أحقاد التاريخ والتباساته وتشابكاته، تنذر بكوارث اجتماعية حقيقية..

ولا سبيل أمامنا إلا الوقوف بحزم، ضد كل من يحاول أن يبذر بذور العداء بين المواطنين لاعتبارات مذهبية أو قبلية أو مناطقية..

فالدين يحتضننا جميعا، وإن تعددت مدارسنا الفقهية، والوطن يستوعبنا جميعا، وإن تعددت قبائلنا وعشائرنا، والوطن لنا جميعا وإن كنا في مناطق وجهات مختلفة..

طبيعة التنوع وقانون الوحدة:

التنوع والتعدد في الآراء والقناعات والميولات، ظاهرة أصيلة وراسخة في حياة الإنسان الفرد والجماعة، ولا يمكن أن نتصور حياة إنسانية بدون هذه الحقيقة.. فإذا تشابه واتحد الناس في اللون، فهم مختلفون ومتنوعون في القناعات الدينية والثقافية.. وإذا تشابه الناس في القناعات الدينية والثقافية، فهم متعددون في القوميات والأثنيات..

وهكذا تصبح حالة التعدد والتنوع، حالة طبيعية في الوجود الإنساني.. ولكن هذه الحالة الطبيعية، قد تتحول إلى عبء على استقرار الناس وأمنهم، حينما لا يتم التعامل مع هذه الحالة الطبيعية بعقلية استيعابية، تبحث عن سبل لإدارة هذه الحالة، دون توسل أساليب عنفية وقسرية لاستئصالها..

فالتعامل الإنساني الخاطئ مع هذه الحقيقة الإنسانية، هو الذي يحولها من مصدر جمال وحيوية للوجود الإنساني، إلى فضاء للتناحر والتقاتل.. ومن منبع للخير المعرفي والاجتماعي، إلى مبرر للنبذ والاستئصال وتغييب المختلف..

وبفعل هذه الممارسة الخاطئة والقاتلة في آن، تجاه هذه الحقيقة الملازمة للوجود الإنساني، تنشأ ظاهرة تصنيف البشر وتوزيعهم ضمن دوائر انتماءهم التقليدية.. وبفعل هذا التصنيف الاجتماعي، تبرز الفروقات والتمايزات الحادة بين أبناء المجتمع الواحد، وتزداد الحواجز النفسية بينهم، وتتغذى الإحن والأحقاد..

فيصبح لدينا وتحت سماء الوطن الواحد والمجتمع الواحد، مجموعة من المجتمعات، لكل مجتمع عالمه الخاص ورموزه الخاصة وهمومه واهتمامه الخاص، مع انعزال وقطيعة تامة مع المجتمع الخاص الآخر..

وهكذا تتحول التعددية الدينية والمذهبية والقومية، من حالة طبيعية في الوجود الإنساني، إلى مصدر للشقاء والتباغض والإحن المفتوحة على كل احتمالات الخصومة والنزاع..

لهذا فإننا نفرق بين ظاهرة التنوع والتعدد في الوجود الإنساني، التي نعتبرها ظاهرة صحية وحيوية وذات آفاق ثرية على أكثر من صعيد، وبين خلق الحواجز بين الناس وتصنيفهم التصنيفات الحادة على أساس انتماءاتهم التاريخية والتقليدية، والتي نعتبرها ظاهرة مرضية، ومؤشر على فشلنا في إدارة تنوعنا بطريقة سلمية وحضارية..

فنحن مع احترام كل أشكال التنوع في الوجود الإنساني، والذي نعتبره جزء من الناموس الرباني، ولكننا في ذات الوقت لا نرى أن ظاهرة تصنيف الأفراد اجتماعياً بفعل انتماءاتهم التاريخية ظاهرة صحية، بل نعتبرها من الظواهر التي تساهم في تمزيق مجتمعاتنا وخلق الإحن والبغضاء بين أطرافه وأطيافه.. ولن نتمكن من إنجاز هذه المعادلة التي تحترم التنوع الإنساني ومقتضياته، دون أن نمنع أن تبرز ظاهرة التصنيف الاجتماعي، التي توزع الناس وتفصل بينهم شعورياً واجتماعياً، على أساس انتماءات لا كسب حقيقي للناس فيها..

وعلى المستوى المعرفي، من الطبيعي أن يلتزم الإنسان الفرد والجماعة إلى منظومة عقدية وفكرية واجتماعية، لأن الإنسان بطبعه يبحث عن من يشترك معه ويتشابه معه في فكرة أو انتماء أو أي دائرة اجتماعية أو معرفية، لكي يلتقي معه، ويحول الاشتراك في الدوائر المعرفية والاجتماعية إلى شبكة مصالح تديم العلاقة وتطورها أفقياً وعمودياً..

لهذا فإننا ننظر من هذه الزاوية المعرفية إلى حقيقة الانتماء الفكري والاجتماعي نظرة طبيعية وصحية.. ولكن هذه الظاهرة الصحية والطبيعية، قد تتحول إلى ظاهرة سلبية ومرضية، حينما يتحول الانتماء إلى مبرر للاعتداء على حقوق الآخرين المادية أو المعنوية، فتتحول هذه الظاهرة إلى ظاهرة سلبية.. حينما أمارس التعصب بكل صنوفه، بحيث أرى شرار قومي أفضل من خيار قوم آخرين، يتحول الانتماء إلى ظاهرة مرضية..

لهذا فإننا نعتقد أن التصنيف العقدي أو الفكري أو الاجتماعي في حدوده الطبيعية ظاهرة صحية، ومستساغة معرفياً واجتماعياً.. ولكن هذه الظاهرة تتحول إلى ظاهرة سلبية حين يتصف أهل هذا الانتماء بالصفات والممارسات التالية:

1. الانغلاق والانكفاء والديماغوجية في النظر إلى الأمور والقضايا، بحيث لا يتسع عقل الإنسان إلا لمحيطه الخاص، ويمارس نرجسيته المرضية تجاه قناعات وانتماءات الذات..

2. التعصب الأعمى للانتماء الخاص ونبذ كل المساحات المشتركة التي تجمعه مع أبناء المجتمع والوطن.

3. ممارسة الاعتداء على الحقوق المادية أو المعنوية على الآخرين بدعوى خروجهم عن الانتماء الصحيح أو ما أشبه ذلك.

حين تتوفر هذه القيم والممارسات (الانغلاق المرضي– التعصب الأعمى- الاعتداء على الحقوق) تتحول هذه الظاهرة الإنسانية الطبيعية إلى ظاهرة سلبية ومرضية.. وفق هذه الرؤية المعيارية، نتعامل مع ظاهرة التصنيفات في المجتمعات العربية.

فهذه الظاهرة تتوالد باستمرار، بحيث ينتقل التصنيف من العنوان الكبير إلى العنوان الصغير ويستمر في سياق دوائر صغيرة عديدة، بحيث يهدد هذا التصنيف المرضي نسيج المجتمع والوطن..

ولا خيار أمامنا للعودة بهذه الانتماءات إلى حالتها المعرفية والطبيعية والمقبولة اجتماعياً، إلا ببناء وعي اجتماعي وطني جديد، لا يحارب الانتماءات التقليدية للإنسان؛ وإنما يشبعها لدى كل إنسان دون أن ينحبس فيها، يحترم خصوصياته دون أن يتحول هذا الاحترام إلى مبرر لبناء كانتونات اجتماعية مغلقة..

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

توطئة: من خلال سفرتي السياحية لدولة الأمارات العربية لصيف 2020 كان للأعلام الحكومي بارزا ونشيطاً وبسبق صحفي في تغطية الحدث العلمي المدجن "معرض أكسيو" 2020 تحت شعار (تواصل العقول) وجدتُ ثمة فرصة ثمينة للأطلاع على النهضة التنموية لدولة عربية بتجربتها العلمية للنهوض بالواقع الأقتصادي بأستثمار عقول عربية وأجنبية بتطبيق منصة معرض أكسيو 2020، فهومنطلق أقتصادي تعبوي أستثماري أساسهُ الأستدامة المالية بفوائده الجمة والوفيرة في تطوير الأقتصاد ودعم الموازنات المستقبلية، أضافة حصول الدولة على فرصة الأختيار عند الأستدانة لتغطية العجز المالي، إلى جانب فوز الدولة بثقة الأسواق العالمية لقدرتها على الوفاء بألتزاماتها المالية، ويمكن للدولة التوسع في الأنفاق على المشاريع الأستراتيجية الكبيرة، وظهور الأبتكارات للبحث عن البدائل للحلول التقليدية .

الموضوع: مصطلح الأستدامة المالية  Financial Sustainability أو الحكومية هو أحد المصطلحات المستخدمة في السياسات المالية، أو أنهُ الحالة المالية التي تكون فيها الدولة قادرة على الأستمرارفي سياسات الأنفاق والأيرادات المتاحة الحالية على المدى البعيد دون خفض برمجتها المالية المستقبلية لجميع ملاءاتها، أو التعرض للأفلاس، أو عدم الوفاء بألتزاماتها المالية المستقبلية، وهوكذلك مصطلح بيئي يصف كيف تبقى النظم الحيوية متنوعة ومنتجة مع مرور الوقت، ومن ضمنها الأستدامة للنوع البشري التي هي القدرة على حفظ نوعية الحياة التي نعيشها على المدى المستقبلي البعيد وهذا بدوره يعتمد على حفظ العالم الطبيعي، والأستخدام الأمثل والمسؤول للموارد الطبيعية، لقد أصبح مصطلح: الأستدامة " واسع النطاق والمجال ويمكن تطبيقهُ تقريباً على كل وجه من أوجه الحياة عى الأرض بدءاً من المستوى المحلي ألى المستوى العالمي وعلى مدى فترات زمنية مختلفة، وهناك فارق بين الأستدامة المالية والتنمية المستدامة حيث تشير الأخيرة ألى تحقيق نمو أقتصادي مع مراعاة أبعادٍ بيئية تضمن الحفاظ على الموارد الطبيعية وعدم أهدارها وتزداد لتشمل مراعاة أبعادٍ أجتماعية في توفير الفرص لمحدودي الدخل، والذي دفع الدول ألى تطبيق الأستدامة المالية هو: التداعيات الكارثية للأزمات الأقتصادية الدورية في العالم الرأسمالي، والأرتفاع المضطرد في حجم التكاليف المالية اللازمة للأنتاج على المدى البعيد والمستقبلي الطويل، والتغيير الديموغرافي والمناخي الذي أصاب كوكبنا جراء الأحتباس الحراري، وزيادة الموارد الأقتصادية وأستغلالها أستغلالاً سيئاً من قبل الشركات العابرة للقارات والحدود، لذا أصبحت الحاجة ماسةً في أستُخدام مصطلح الأستدامة منذ ثمانينيات القرن العشرين ليأخذ بعداً عالمياً حيث عرفتهُ مفوضية الأمم المتحدة للبيئة والتنمية في 20 آذار 1987 أعلنت أهمية التنمية المستدامة:

1-لكونها تفي بأحتياجات الوقت الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة في تلبية أحتياجاتها الخاصة .

2- الأستدامة المالية تدفع الدولة ألى التوازن بين الملائة المالية في الأنفاق والأيرادات .

3- والأستدامة المالية تعني أمتلاك الدولة القدرة المالية أي أمتلاكها الأدوات التي تعطيها القدرة المالية الداخلية في أمتلاك مصادر توليد الدخل مثل الأستثمار وبيع السلع والخدمات .

4- وبالأستدامة المالية تصل الدولة ألى الحالة الصحية لأقتصاد الدولة بوجوب أمتلاك ميزانيتها خمسة روافد أو مصادر على الأقل في تغذية موجودات البنك المركزي للدولة بنسبة 60% .

5- وبالأستدامة المالية تزداد الدولة خبرةً في موضوع (المعرفة التسويقية) Marketing Know

لقد تدهورت أستدامة الموارد المالية في العراق منذ سنة 2014 ومستمرة حالياً وهي الفترة التي تلت الأزمة المالية للعالم في 2008 وأستمر ظهور العجز في الميزانية حتى وصلب ألى رقم كارثي بتجاوزه 111 مليار دولار وخُفض الرقم ألى 37 مليار دولار بعد شطب المانحين في نادي باريس لتلك الديون، مما دفعت الحكومة أن تنحو بأتجاه الأستدانة الخارجية والوقوع في مصيدة صندوق النقد الدولي وشروطها الظالمة، ولهذه الصدمة الأقتصادية من أسباب: أهمها الأقتصاد الريعي الذي دفع العراق للأرتماء في سياسة الأستيراد من جميع الأبواب العالمية، وأضمحلال أو موت الصناعات الداخلية، وفشل الدولة في السيطرة على المنافذ الحدودية، والفساد الأداري والمالي، وهبوط سعر البرميل النفطي، والحرب الأستنزافية المرعبة في نزيف دموي ومالي جراء حرب التحرير للأرض العراقية من الوباء الداعشي، وظهور تداعياتها الثقيلة على الوضع السياسي والأقتصادي والأجتماعي، والمؤلم منها تراجع ثقة الأسواق العالمية بقدرة الحكومة العراقية على الوفاء بألتزاماتها والتي أدت ألى توقف الدائنين عن أقراضها أو رفع معدلات الفائدة على قروضها ألى مستوياتٍ عالية ووضع شروط مشددة .

في نهاية هذا العام 2017 وأنتصارات جيشنا الباسل على الفلول الأرهابية وطردها من كامل أرض العراق وأستعاد الأقتصاد العراقي (عافيتهُ) في 16-أكتوبر 2017 بأستعادته مدينة كركوك المختلف عليها بما فيها خط التصدير وأكثر من 18 بئر نفطي وجميع الأراضي المختلف عليها في سهل نينوى وجميع المنافذ الحدودية ورفدت مواردها المالية لخزينة الدولة، وجاء أرتفاع سعر البرميل من النفط الخام ألى 64 دولار وهو ضخ جديد لصالح الخزينة المركزية أيضاً، وهذه البشائر والأنتصارات عززت مكانة العراق بين دول العالم وأستعادت هيبتها وسيادتها ومكانتها الأقتصادية فالفرصة متاحة أمام الحكومة الأتحادية وبالأستعانة بخبرائنا الأقتصاديين في تطبيق ( الأستدامة المالية ) في كونترول وضبط موازنة البلاد لمحورين الأنفاق والأيرادات والتي تعكس مستوى نجاح السياسات المالية العامة للدولة، وهي جرعة ثقة للقطاع الخاص للأستثمار، والأستدامة المالية (حصانة) للدولة من التأثر بالأزمات الأقتصادية، وكذلك هي علاج لتراجع الأيرادات الضريبية بسبب الركود الأقتصادي، وبالأستدامة المالية تتجنب الدولة من الأستدانة أو التخفيف منها، ويمكن حماية الأقتصاد العراقي من هزات تذبذب أسعار البترول، ومن العجوزات المالية، وعدم اللجوء ألى الديون الداخلية والخارجية التي ترهق الأقتصاد العراقي .

الطريقة السليمة لتطبيق " الأستدامة المالية " تكون بهذه الخطوات:

1-معالجة الأيرادات الغير نفطية وأخضاعها للأستثمار وأعادة الحياة بالمتوقف منها .

2- أتباع القواعد المالية في تحقيق الأستقرار الأقتصادي والمالي بأستنساخ النماذج الأقتصادية المتبعة في بعض دول العالم الغير نفطية .

3- تعزيز سياسات كفاءة الأنفاق العام، وتفعيل برامج الأصلاح الضريبي والسيطرة على المنافذ الحدودية وجميع المطارات بما فيها مطارات الأقليم ومطار النجف .

4- مكافحة الفساد المالي والأداري والضرب بيد من حديد وهو مطلب جماهيري منذ ستة سنوات وكذلك هي أرادة المرجعية الدينية .

5- ولتحقيق الأستدامة المالية يجب أعادة النظر في البنك المركزي العراقي بتجديد طاقمه ورئيسه بخبراء أقتصاديين ذوي كفاءات مشهودة والمراقبة الشديدة على كارثة تبييض الأموال ومزادات العملة الصعبة أو حتى ألغائها نظراً لترابط العجوزات المالية وموجودات العملة الصعبة وكميات الذهب كغطاء مالي التي ترقى ألى عصب حياتي لمستقبل الأجيال ....

6- وتتاح فرص واسعة في تأطير الأقتصاد العراقي بمصطلح الأستدامة في دعم رواد الأعمال والشركات الصغيرة والمتوسطة في الدولة العراقية ورفع مستوياتها الأنتاجية لتصبح قادرة على تقديم منتجاتها ذات نوعية أفضل .

***

عبد الجبارنوري

كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد

مايس 2023

لما وصلتُ الى الفصل السادس والعشرون من المقدمة قرأته أكثر من مرة لأجل أن أفهم قصد العلامة ابن خلدون جيدا...

هل أخطأ العلامة، أم نحن الذين فهمناه خطأً، وإنما قصد هو الأعراب أي البدو، وكل الحضارات الكبرى عاش على هامشها وحدودها المكانية وألزمانية البدو، بدو أعراب بجانب الحجاز ونجد والعراق وبلاد الشام، و بدو أتراك على حدود الدولة الساسانية، ومغول على حدود إمبراطورية الصين، وجرمان على تخوم روما، حتى في العالم الجديد عاش هنود رحل على حدود إمبراطوريات الإنكا والمايا والأزتيك ...

فالعرب قبل الإسلام كان لهم مدنية غير مدنيات اليمن وتدمر وإنما في مكة والمدينة والطائف ونجران، وهذه المدن كانت قائمة على أسس العمران التي ذكرها ابن خلدون وأصلها في مقدمته الشهيرة؛ من سياسة وملك وعلاقات دولية وتجارة وحروب وجند وطب وأدب وأساطير وعلوم وصناعة وإن كانت بسيطة، وهؤلاء العرب لما انتقلوا من هذه الحواضر الصغيرة الى العالم الواسع أنشئوا مدناً كبيرة عامرة ولم يخربوا وإنما عمروا بل وأوجدوا مدنا جديدة؛ الفسطاط، القاهرة، الكوفة، البصرة، القيروان، تيهرت، تلمسان، بجاية، بخارى، سمرقند، بغداد، خلب، اشبيلية، قرطبة، مراكش وغيرها من المدن والحواضر العامرة بالعلم والمدنية ، وهي مدن معروف دورها في تاريخ الحضارة الإسلامية والتاريخ العالمي ككل ...

فابن خلدون قصد الأعراب، ولم يقصد أبدا العرب وإلا كيف سيفسر الحضارة الراقية التي كانت في بغداد والأندلس وصانعوها عرب، بل إن بغداد لم تفقد بريقها إلا بعد أن تسلط عليها الترك، وكذلك الأندلس لما سيطر عليها الصقالبة .. حتى الأعراب الذين قصدهم العلامة سرعان ما اندمجوا في المجتمع الحضري للدول والإمارات التي كانت قائمة مثل بني هلال في المغرب أو المرابطون في الأندلس...

حتى الخراب الذين أحدثه أولئك لا يمكن مقارنته أبدا بالخراب والهمجية التي اتصف بها الواندال،الجرمان، الفيكينغ، الهون أو المغول ...

ومن يتصفح كتب التاريخ ويقرأها جيدا يلمحُ أن الخراب الذي لحق الحواضر العربية الكبرى إنما سببه الغزو الخارجي الذي له كان دور كبير في تعطيل و إطفاء نور التحضر والمدنية العربية، وبالأخص الغزو المغولي، الحروب الصليبية وحروب الأسبان على حواضر المغرب العربي ...

***

بقلم عبد القادر رالة

يقول الجاحظ: "وينبغي لمن كتب كتابًا ألا يكتبه إلا على أنّ الناسَ كلهم له أعداء وكلهم عالم بالأمور وكلهم متفرغ له، ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتابه غُفلاً ولا يرضى بالرأي الفطير فإن لابتداء الكتاب فتنة وعُجبًا فإذا سكنت الطبيعة وهدأت الحركة وتراجعت الأخلاط وعادت النفس وافرة أعاد النظر فيه، فيتوقف عند فصوله توقّفَ من يكون وزن طمعه في السلامة أنقص من وزن خوفه من العيب" .

تردني بين حينٍ وآخر تعليقاتٌ لاذعة، لا تخلو من سخرية، يكتبها قراءٌ على هامش نصوصي. اتألم وأغضب مما يُقال أو يُكتب إن كان افتراء، لا أردّ على ما يكتب. هاتفني قبل سنوات صديقٌ فقال لي: عثرتُ على عددٍ من المجلة الفلانية صادر قبل ثلاثة أعوام، خصّص كلمةَ التحرير ضد افتتاحيتك في مجلة قضايا إسلامية معاصرة. قلتُ له: نعم أعلم، قرأتُه لحظةَ صدور المجلة، وقرأتُ افتتاحيةً بمجلة أخرى خصّصها كاتبُها للتحريض ضد قضايا إسلامية معاصرة، وتصلني على الدوام رسائل على الخاص تتضمن كلامًا جارحًا، من أشخاص يختفون خلف أسماء شبحية. اندهش، وهو الشجاع الذي خاض بكتاباته معارك مفتوحة، فتسائل مستنكرًا: ماذا فعلت؟ أجبتُه: لن أكتب حرفًا واحدًا، على أي اتهام وتحريض مغرِض. ازدادت دهشته وتسائل: لماذا؟ أجبتُه: لا أجد عقابًا أقسى من الإهمال لمن يخرج على أدب النقد العلمي ويسرف بالهجاء، وأقسى من الإهمال ألا تكترث بالاتهام والتحريض، وتواصل عملَك وتثابر عليه، ويتحدث المزيدُ من إنتاجك نيابة عنك للقراء. واصلتُ عملي وأخلصتُ له وثابرتُ عليه أشدّ من السابق، أعمالنا إن كانت ذاتَ قيمة تفرض حضورَها، ولم تحتج لمن يتحدث ويدافع عنها. تعلمتُ من تجارب غيري أن الزمانَ يتكفل بمحو كلِّ الاتهامات والافتراءات والازدراء، لن يبقى إلا المنجزُ إن كان قادرًا على البقاء.‏ لستُ أولَ أو آخر كاتب يتعرض للهجاء، كلُّ كتابةٍ مشغولة ببناء معرفة علمية تخرج على المعرفة العامية لن يهادنها مَن يدركون تأثيرها، ويهرول إليهم أبواقٌ ممَن لا يقرأون ولا يكتبون، يُستدرجون في معارك ليست معاركهم. المنجز النوعي مزودٌ بإمكانات ذاتية للدفاع ومقاومة أية ضربات موجِعة، وامتصاص آثارها ولو كانت جارحة. الكاتب الذي يترقب أن تمكثَ أعمالُه في الذاكرة عليه أن يستعدّ للاتهامات في زمانه من كتّاب حانقين يستفزهم إنتاجُه. الافتراءاتُ ضريبةٌ باهضةٌ يدفعها مَن يثابر على الكتابة المغايرة للمألوف شاء أم أبى. تصدر على الكتابة المغايرة للمألوف أقوالٌ تتضمن اتهاماتٍ وأحكامًا باطلة، لن تتوقف مثل هذه الشائعات مادمتَ تصغي لنداء عقلك، وتنفرد بصوتك الخاص. لو انشغلتَ بملاحقة الافتراءات يتوقف عملُك، ولن يكفَّ هؤلاء عن ملاحقتك مهما كتبتَ ونشرتَ لفضح أكاذيبهم.لا أتحدث عن النقد العلمي، الذي أتعلم منه، ويرشدني إلى شيءٍ من وهن كلماتي وثغرات أفكاري. أتحدث عن الذي يتهكم ويتكلم بسخرية مبتذلة، لا شك أنه يزعجني ويؤذيني، لكنه يعمل على ترويج ما أكتب. الكلامُ المتواصل عن أيِّ كاتبٍ وإن كان هجاءً يؤشر إلى قوةِ حضوره واشتدادِ تأثير كتاباته. يخرس هؤلاء عندما يفرض منجزُك حضورَه ولو بعد حين، وتتردّد أصداؤه لدى القراء الأذكياء، ويهتمّ به الخبراء.

‏لم يألف ذهنُ القارئ كتابةً تعتمد العقلَ مرجعية، ولا تنسى متطلبات الروح والقلب والعاطفة، ولا يعرف أن الكتابةَ العقلانية تتطلب الوعيَ بالاحتياجات العميقة المتنوعة الأخرى للإنسان بكليته. عقلُ الجمهور أقربُ لقبول الأضداد في كلّ ما يسمعه، يصعب عليه جدًا تصورُ حالة خارج الثنائيات المتعاندة. ذهنُ القارئ أُحاديٌ مبرمجٌ على النفي والإثبات، لا يرى شيئًا خارجها، مَن يرى العقلَ لا يرى القلبَ والعاطفة والخيال، مَن يرى القلب لا يرى العقل، وهكذا. في تطور الفكر البشري كلُّ فكرة لا تكرّر المألوفَ تحدث ضجةً لحظةَ اطلاع القراء عليها، وتتعرض للكثير من الهجاء والتهكم والازدراء. على مَن يعتنقها أو يكتبها أو يتحدث بها أن يدفع ضريبةً باهضة. بعد أن تصبح مألوفةً، يزعم بعضُهم أنه تبناها، ويدعي آخرون أنهم قالوا بها من قبل، وبعد زمن يمسي أتباعُها كثيرون، ومَن يرفضها يعدّ متخلفًا.

واحدةٌ من ضرائب الكتابة الموجعة أنها تضعك في مواجهة أقرب الأصدقاء ممن يظهرون أحيانًا مودةً مفتعلة، وتخلق لك نماذجَ من الأعداء، بعضهم شبحيون يتقنون فنونَ المراوغة والاختباء. أكثر الناس يفرحون بما يصيب غيرَهم من أذى، هذه طبيعة البشر لن نستطيع تبديلَها مهما فعلنا، وإن تظاهر كثيرٌ منهم مجاملةً بالاحتفاء بمنجزك. ما عدا الأبوين، وبعض الاخوان، وقليل جداً من الأقرباء والأصدقاء، فإن أكثرَ الناس بطبيعتهم يستفزّهم أيُّ مُنجَز يقدّمه غيرُهم، وتؤذيهم نجاحاتُهم، خاصة مَن يمتهنون مهنتَهم، ومَن هم أقرب إليهم.

بدأتْ ردودُ أفعالي حيالَ الشرِّ الأخلاقي الصادر عن الإنسان أخفّ وطأة، ‏منذ أدركتُ سببَ مثل هذا السلوك الذي كان يصدمني سابقًا. القراءةُ المزمنة المتأملة الصبورة، ومعاشرةُ الناس، كشفتْ لي شيئًا مما هو مختبئ داخل النفس الإنسانية، وأرتني ما يثير الذعرَ أحيانًا من صراعٍ للخير والشرّ في أعماق الإنسان. كنتُ أجهل تركيبَ الإنسان جهلًا تامًا، بعد دراسةِ الفلسفة ومواصلة مطالعةِ علوم النفس والمجتمع الحديثة، والعيشِ في بلدان ومجتمعات متنوعة، أمسيتُ أعرف شيئًا عن هذه الطبيعة المركبة الغاطسة.كانت حياتي توجعها أحيانًا كلماتٌ عنيفة أتجرعها بمرارة، ومواقفُ لئيمة يجرحني فيها صديقٌ أحسبه مخلصًا، ولم أدرك آنذاك أن مثل هذا الإنسان تتحكم في مواقفه غيرةٌ مضاعفة، وعقدٌ تربوية، وأمراضٌ أخلاقية مزمنة، تسوقه كرهًا للحطّ من أيِّ منجز لأيِّ إنسان قريب أو بعيد منه. رأيتُ بعضَ الناس كأنه مدرّبٌ على العنف اللفظي، محترفٌ لجرح القلوب بكلمات كسهام. ‏لفرط الحياء الموروث من بيئة القرية البريئة، وجهلي بنزعة الشرّ الأخلاقي العميقة داخل الإنسان،كنتُ سابقًا أبتلع كلماتِ أمثال هؤلاء كمن يبتلع السمّ وأصمت وهي تأكلني من الداخل.

أحاول إكراهَ نفسي على المواقف الأخلاقية مع هؤلاء، على الرغم من أن النفسَ تنفر بشدّةٍ ممن يواصل الإساءةَ إليها باستمرار، وهي تواصل الإحسانَ إليه. يحتاج الإنسانُ الإحسانَ لتكريس تربية الذات أخلاقيًا، مع أن ذلك شديدٌ على النفس. الإحسانُ إلى المُحسِن لا تسامي فيه، الإحسانُ إلى المسيء، والإصرارُ على العفو والغفران في التعامل معه، هو ما تسمو فيه الذاتُ وتتكامل.

بمشقةٍ بالغة، وبعدَ مخاضِ علاقات واسعة مع الناس المختلفين في أديانهم ومذاهبهم وهوياتهم، والعيشِ في مجتمعات متنوعة، تراكمتْ لدي خبراتٌ مكنتني من ممارسة أقل الطرق كلفةً لإدارة العلاقات الاجتماعية بالأخلاقيين والمزعجين. الأخلاقيون قليلون في الحياة، المزعجون تركوا جروحًا عميقة في داخلي، تجاوزتها بصعوبةٍ شديدة واستطعتُ أن أتعامل معهم بإحسانٍ ورفق، وتعلمتُ كيفيةَ العيش وإدارةَ العلاقات بأقلّ ما يمكن من وجع. يبتهج مَن يعيشُ الرحمةَ بوصفها حالةً يتذوقها، والإحسانَ بوصفه مواقفَ نبيلة تصنعها أرواحٌ تجيد التغافلَ والصمتَ وكتمانَ الغضب. الإنسانُ تسعده الرحمةُ ومواقفُ الرفق والإحسان، بغضِّ النظر عن شخصية مَن يرفق به ويرحمه ويحسن إليه. وجدتُ لهذا النمط من السمو الأخلاقي تأثيرًا سحريًا في بناءِ الضمير وإيقاظه، واكتشافِ أن الأخلاق تحمي الإنسانَ من طيش نفسه ونزقها، مثلما تحميه من شرورِ غيره. رأيتُ المواقفَ الشريرة تنقلب على فاعلها فتعاقبه.

تأتي آلامُنا الموجِعة غالبًا ممن نحسن إليهم وهم يسيئون إلينا، إثر التوهم بخيرية كلّ إنسان، والجهل الشامل بطبيعة البشر. تصير الحياة أكثرَ سكينة وأقلَّ ألمًا، حين نكتشف التركيبَ المعقد لشخصية كل إنسان وإن كان يبدو ذلك الإنسانُ لنا بسيطًا. شخصيةُ كلّ إنسان يتجاور فيها الخيرُ والشرّ، ويتغلّب فيها الشرُّ على الخير لحظةَ ينامُ الضميرُ الأخلاقي. شخصيةُ الإنسان الذكي أعمق وأشدّ تركيبًا من غيرها، العقلُ كلّما كان أعمق يكون أقدرَ على المكر وأكثرَ قدرة على حجب دوافعه وممارسة الأذى بمكر واحتيال، لا يحمي الناسَ من الإنسان الذكي إلا يقظةُ ضميره الأخلاقي. مازالتْ رحلتي في اكتشاف طبيعة الإنسان المذهلة مستمرّة، أعرف أن هذه الرحلةَ لن تصل مدياتِها القصوى حتى اليوم الأخير لحياتي.كلّما عرفتُ الإنسانَ أكثر عرفتُ اللهَ أكثر، وأدركتُ الحاجةَ الأبدية إليه مادمتُ حيًّا، وأدركتُ الحاجةَ لحضور القيم الأخلاقية السامية، والقوانين العادلة وضرورة التطبيق الصارم لها على الجميع مهما كانت مواقعُهم الطبقية ومقاماتُهم الاجتماعية.

اتخذتُ قرارًا منذ سنوات طويلة، كان اتخاذُه شديدًا على نفسي، أن أمزّق رسائل الأذى وكتابات الازدراء والهجاء الورقية لحظة تصلني، وأمحو كلَّ ما يزعجني من رسائل الكترونية.كلُّ شيء يمكن أن يورث كراهيةً أتخلص منه عاجلًا، كي أحمي قلبي وأطهّره من الضغائن، القلبُ حسّاسٌ جدًا تمرضه الضغائنُ والأحقاد. رسائل الكلام القبيح والافتراء وسوء الأدب أمزقها لئلا تمزّق قلبي. أتحدث عن ضرورة حماية القلب من الكراهية، لا أدعو هنا إلى محبةٍ جزافية غير واقعية، لا يطيق الإنسانُ محبة مَن يعتدي عليه ويطعنه ويغدر به مرات متوالية. يتمكن الإنسانُ من أن يتغاضى ويقطع صلتَه بمثل هؤلاء، غير أنه لا يطيق أن يحبّ شخصًا مؤذيًا يتمادى ويواصل الاعتداءَ عليه. لا يطيق ذلك إلا إن كان إنسانًا استثنائيًا أو قديسًا، وأنا لم أكن يومًا ما إنسانًا استثنائيًا أو قديسًا.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

قد يبدو الحديث عن التربية الجمالية ضربًا من الترف الفكري إذا ما قورن بطبيعة وحجم الإشكالات التي يواجهها المجتمع العربي المعاصر، غير أن ما نعايشه من هبوط مريع في مستوى الذوق العام، وكيف أصبحنا محاطين بالقبح المتمثل: بالحقد والحسد والكره وتطاول الصغار على الكبار، والخوض في النميمة، وممارسة القسوة في أبشع صورها، فضلًا عن انسياق الإعلام عمومًا خلف تصور للجمال يقرنه بمبدأي اللذة والمنفعة، كل ذلك وأكثر منه بكثير يدفعان بهذا الحديث إلى تصدر قائمة الإشكالات.

من هنا يصبح الحديث عن الجامعة والجمال حاجة ملحة بعد أن غدت حياتنا في هذا الزمن القبيح خالية من الفرح والأمل والخير والحق والجمال، وهذا يعني أن الحديث عن الجامعة وثقافة الجمال له ما يبرره، وبخاصة إذا ما عرفنا أن التربية الجمالية لا تشمل كل ما نعمله لأنفسنا، أو ما يعمله الآخرون لنا بقصد تنشئتنا وتقريبنا من درجة الكمال ما أمكن ذلك، ولكنها فوق ذلك تشمل الآثار غير المباشرة التي تؤثر في أخلاقنا وطباعنا ومواهبنا الإنسانية، وكل ما يُساعد على صقل الشخصية الإنسانية، ويخرجها من قبحها حتى تصبح واعية لقيم الحق والخير والجمال.

وإذا كان حب الجمال قائمًا في بنية النفس الإنسانية، ويعكس صحة الذوق وسلامة الفطرة، فإنه يحتاج إلى تدريب على استدعائه لحظة التفاعل مع الموجودات، وهذا يتطلب من الجامعات ممارسة دورها في تنمية القيم الجمالية لدى طلابها، وحثّهم على تخطي عالم المادة، لأن الدخول إلى عالم الجمال أمر في غاية الأهمية، لما يعكسه هذا العالم من بهجة وفرح ومتعة.

وهكذا، فإن قيام الجامعة، من خلال أنشطتها المختلفة، ببناء خبرات جمالية لدى الطلبة يُعدّ من المسؤوليات المهمة التي يجب أن تعكسها العملية التربوية بكفاية عالية، لأن الخبرة الجمالية للطالب لا تنحصر في تأمل الطبيعة فحسب، بل هي مُصاحبة للسلوك الأخلاقي ومُجسدة في شتى مظاهر صلة الإنسان بالأشياء التي حوله.

ولهذا، نجد في البلدان المتقدمة أن التعليم يشكل موقفًا تكامليًا تجاه التربية الجمالية، ومعرفة الجميل من القبيح، وارساء دعائم وقيم جمالية فيه، ويكون دور التربية الفنية خلق أناس قادرين على ربط حياتهم بالقيم الجمالية، وهذا شيء متمايز من النشاط الفني المعتمد على الجمال في جملته، وهو النشاط الذي تعززه وتشجعه التربية الفنية عندهم.

مع ملحوظة أن اللامبالاة أو عدم الاكتراث بالقيم الجمالية قد أصبح شائعًا لدى الكثيرين، وتكفي نظرة واحدة في الأوساط والبيئات المتنوعة للخروج بهذا الانطباع، فالإنسان لن تظهر عظمته حين يكسب شيئًا ويخسر ذاته، لأن الفكر وحده لا يصنع إنسانًا عظيمًا، والعاطفة وحدها لا تصنعه أيضًا، والإنسان الحق فعلًا هو من يحقق التوازن الجميل بين القول والفعل، وبين الفكر والوجدان، وبين القلب والعقل.

من هنا نفهم، لماذا ربط "كانط" موضوع الجمال بموضوع الأخلاق، وأكد على أن الإنسان الذي يهتم بالجمال الطبيعي لابد أن يكون قد اعتاد من قبل حياة التأمل، ومن ثَمَّ فإن الخير الأخلاقي لابد أن يكون قد أصبح متأصلًا في نفسه. ومعنى هذا أن الاهتمام المباشر بجمال الطبيعة هو مظهر من مظاهر النزوع نحو الخير الأخلاقي، أو على الأصح أثر من آثار التربية الأخلاقية، وإذا كانت هناك قرابة بين الأحكام الجمالية والشعور الخلقي، فذلك لأن الطبيعة تخاطبنا بلغة رمزية عن طريق ما فيها من أشكال جميلة، وحينما يهتدي المرء إلى فك رموز هذه اللغة، فعندها سوف يعجب بمقاصد الطبيعة، ويفطن إلى ما في قوانينها من نظام، ويدرك أنها تنطوي على غائية خاصة هي في صميمها مرتبطة بغاية وجودنا، وبمصيرنا الأخلاقي.

ولأن الأمر كذلك، يصبح من الضروري أن تُعزز الجامعات الخبرات الجمالية في سلوك طلابها، بعد أن تُزودهم بالمعرفة اللازمة بهذه الخبرات، لأن مثل هذه الخبرات هي التي تضفي على أفعال الطلبة وأحاسيسهم وأفكارهم المبعثرة الوحدة والاتساق، مما يجعلهم أكثر قدرة على مواجهة ظاهرة التطرف الفكري، والسلوكيات السلبية، من خلال البحث عن الأسباب الداعية لها، ووضع حلول مناسبة لتلافي أخطارها.

وعليه، فإن الجامعات العربية عمومًا بحاجة إلى فلسفة تربوية تكون فيها غاية الغايات بناء الطالب في إطار خبرات مجتمعه الجمالية، وتكون التربية الجمالية وسيلة يتحقق من خلالها أسلوب حياة جميلة على أسس تربوية مخططة، وذلك لإكساب الطالب خبرات جمالية مربية في إطاره اجتماعي. وهذا يقتضي أن يكتسب الطالب الجامعي الخبرة الجمالية من خلال مراعاة ميوله واتجاهاته.

بالإضافة إلى ايمان الجامعات بالإيقاع المتسارع للتغيير، وأن تكون الوظيفة الخاصة لكليات الفنون فيها تسهيل الاتصال بالعالم الجديد الذي يشكله الخيال الخلاق، لا أن يكون الفن مجرد تقليد لعالم الأشياء الواقعية. ولذلك يجب ألاّ يكون الفن تكرارًا للأشياء كما هي، وإنما النظرة المتغيرة لعالم متغير، ومن هنا يكون هدف الفلسفة الجمالية تنمية قدرات الخلق والإبداع عند الطلبة.

هذه الفلسفة الجمالية للجامعات تقتضي أيضًا أن يتم تحرير التعليم، لأن غرس القيم الجمالية وتنميتها يتناقض مع الشمولية والأحادية، فضلاً عن أنه لا يمكن أن يتميز التعليم بطابع جمالي، إلاّ إذا تم تحرير المعرفة المقدمة إلى الطلاب، وتحرير القائمين عليها "المعلمين" من كل أشكال القهر والتسلط، سواء أكان قهرًا معنويًا أم رمزيًا أم ماديًا، ومن ثَمّ تحرير الخبرة الجمالية بوصفها منتجًا اجتماعيًا يُعبّر عن تطور الواقع في لحظة ما. ومن هنا يمكن القول: إن التربية الجمالية تستطيع أن تؤدي دورًا تنويريًا، وتعمل على ترسيخ القيم الجمالية، وبخاصة إذا ما انطلقت من فلسفة جمالية تؤمن إيمانًا مطلقًا بقدرة الإنسان على الخلق والإبداع.

ولهذا، لا بد من الانفتاح على الفكر التربوي العالمي من أجل إطلاق حوار تربوي ثقافي هدفه معرفة العلاقة بين الثقافات الإنسانية بوصفها قضية محورية يدور حولها النسق الثقافي الإنساني من جهة، والتعرف على الأفكار التربوية التي طرحتها المذاهب الفلسفية المختلفة، والاستفادة منها في التربية العربية ما أمكن ذلك، وبخاصة ما يتصل منها بالتربية الجمالية التي من خلالها تتاح الفرص الإبداعية، وتُكتسب المهارات، وتنمو المعرفة، ويتسع الإدراك، وتُعمق الرؤية، ومن خلالها أيضًا يمكن للفرد أن يكتسب الخصائص التي تنميه جماليًا.

ومن ثم، فإن الجامعات العربية اليوم مطالبة أكثر من أي وقت مضى بالنظر إلى مجالات الفنون بصورها التعبيرية المختلفة (الفنون التشكيلية، والغنائية، والحركية، والموسيقية)، كمصدر من مصادر المعرفة التي تُحرك وجدان الطلبة، ومشاعرهم الإنسانية، وتُهذب نفوسهم، عملاً بقول الإمام الغزالي: "من لم يهذبه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج".

***

د صابر جيدوري

في المثقف اليوم