قضايا

فلاسفة غربيون في مواجهة " النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني".. بين الالتزام الخجول و"فلسفة الحياد" المزعوم والدعم السياسيّ " الخفيّ" لحقّ الأقوى".

***

(كل ما في اﻷرض من فلسفة لا يعزّي فاقدًا عمّن فقد).. إيليا أبو ماضي

(إن الفلسفة التي لا تشفي آلام البشرية هي محض هباء. فالفلسفة التي لا تبرئ الرُّوح من معاناتها، لا تختلف عن طب لا يداوي مريضًا ولا يشفي عليلًا).. أبيقور

(ليس العالم، تحديدا، كما يوجد في الظاهر، عالم الجميع. ذلك أن ّ الديمقراطيين، أصحاب الشعار(الديمقراطي)، وأناس الغرب، يحتلّون في هذا العالم موقعا أعلى، بينما الآخرون من عالم آخر، ليس عالما بحقّ، بحكم كونه آخر. هو حيّز للبقاء فحسب، ميدان للحرب، والفقر والحواجز والأوهام. نقضّي الوقت في هذا الضرب من " العالم"، من الميدان، في جَمْعِ أمتعتنا للفرار من الرعب)... (آلان باديو - الشعار الديمقراطي)

(أعرف بوضوح أكثر مما مضى بأنّ إمكانية تدمير إسرائيل يجرحني في أعماق نفسي . كثير من مثقفي اليسار قاموا بنفس تجربتي: ينسون لفترة " الإمبريالية " و" الواقع الاستعماري"، ويتذكّرون أصولهم ويجدون أنفسهم لدهشتهم، يهودا"... (ر. آرون)3942 فلاسفة

يقدّم الفيلسوف نفسه بوصفه "صديقا للجميع"،" و"مفكّرا كونيا" و"مواطنا عالميا أ و" أبا مشتركا لكلّ المواطنين، مُصلحهم ومرشدهم وحاميهم، يهب نفسه للجميع حتى يشارك في استكمال كل خير، فرحا مع أولئك الذين تغمرهم السعادة، متعاطفا مع أولئك أصابهم الحزن ومواسيا لهم".( إيبكتات " الدليل المختصر" 32- سطر 154 نشر " هادو"، لايد، بريل 1996.). هذه هي صورة الفيلسوف عامّة، تلك التي تتراءى لنا حينما نقرأ خطاباتهم. لقد كانت الفلسفة دوما " خطابا"كونيا من أجل الإنسان ومدار التفكير فيه هو " الإنسان" أيّ كان، "إنسانا كليا" لا يعرّفه لا لونه ولا دينه ولا انتماءه إلاّ أن يكون " انتماء إلى الإنسانية"، بل " إنسانيته " أي بوصفه " إنسانا" لا غير، قيمة القيم أو " الغاية القصوى" كما يقول كانط. الموقف الفلسفي إذن " موقف أخلاقي" بالأساس من جهة مقاصده ومشروعية وجوده. بالرغم من أنه غالبا ما يجد صعوبة بل استحالة في " تبرير مشروعية " وجوده بالنسبة للآخرين. صعوبة تقوم في " استحالة " أن يكون الموقف الفلسفي موقفا " مفيدا نافعا " على نحو مباشر في حياة الناس و بالمعنى المادّي والحسي للمنفعة. ولعلّ هذا ما يفسّر صعوبة العلاقة بين الفلاسفة وعامة الناس. إنّ خصوصية الموقف الفلسفي، بوصفه " موقفا إيتيقيا" لم يستطيع، مع ذلك، ردم المسافة بين الفيلسوف والعامّي . بل لعلّه يزيد الهوة بينهما اتساعا حينما يترجم الموقف الفلسفي إلى سلوك حياتي، في علاقته بالبشر، من خلال التعبير عن " حضور الفيلسوف" التاريخيّ" كفرد " يعيش حاضره " على نحو " مخصوص" بمحاولته فهمه والتفكير فيه واتخاذ موقف منه وربما السعي إلى" تغييره" أيضا... وذلك تجسيدا " لصداقته" للمدينة وانشغاله بالإنسان في أحواله...هكذا كان " الفيلسوف " سقراط نموذجا " لهذا الموقف الفلسفي " الملتزم" بالتفكير في "الإنسان" والمنشغل بحاضره . وهكذا كان الفلاسفة من قبله و من بعده على هذه الصورة وإن تعدّدت زوايا وأبعاد النظر إليها بل وسياقات تشكلها كصورة " عامّة" للفيلسوف " الملتزم"، الفيلسوف "بوصفه سياسيا" لا تتعارض لديه غايات الفعل الأخلاقي مع " غايات الفعل السياسي" . غير أن الواقع، في معنى " معيش البشر ووضعهم"، ظلّ دوما مجالا " لاختبار" هذا المعنى في " صدقيته " ومشروعيته " الأخلاقية " خاصّة.باعتباره كما أسلفنا القول، " موقفا سياسيّا- أخلاقيا" بالأساس. ولما كانت الأخلاق ليست سوى الصلة بين منظومة قيم عليا وممارسة لهذه القيم، فإنّ مجال الممارسة أو " البراكسيس" كثيرا ما يكشف عن " حرج " dilemme بين " الأخلاقي أو " الإيتيقي " وبين " السياسي" بوصفه وجها من وجوه الممارسة أو الفعل " الذي يحتكم إلى " معايير " ومعقولية خاصّة غير التي تقوم عليها " الأخلاق"، حرجا بين " الوقائع والقيم" بعبارة ماركوز، بين الوسائل والغايات . انتبه الفلاسفة دون شك إلى " إشكالية " الأخلاقي والسياسي" وبحثوا لها عن صور عديدة لإمكان " علاقة بينهما، على صعيد نظري بالأساس. بيد أن المعضلة تظل قائمة في مواجهة الأخلاق لواقع الممارسة " السياسية" ذات معقولية تحتكم إلى مبادئ المردودية والنجاعة . من هنا كثيرا ما يجد الفيلسوف نفسه في " مأزق" حقيقيّ حينما يحمله الواقع، واقع الممارسة السياسية والوضع السياسي أو " الحاضر المعيش" على اتخاذ موقف وترجمة التزامه " الأخلاقي" إلى موقف سياسيّ وهو الذي يطرح نفسه دوما رجل "الأخلاق والسياسة" من حيث انه مضطلع بمسؤولية " تحرير الإنسان من كلّ أشكال استعباده".

يكشف التاريخ عن مراحل عديدة عن " مسافة " يؤسف لها بالرغم من إمكان تفسيرها نظريا، بين أفكار الفيلسوف وأقواله وبين "مواقفه" من قضايا الإنسان . ولعلّ قضايا " التحرر" الوطني " بالذات أبرز " المحطات" التي تنكشف فيها هذه المسافة بوضوح برغم جهد الفيلسوف غالبا في تبريرها " إيديولوجيا" على صعيد " الوعي" .وذلك لأنها تضع الإيتيقي والأخلاقي في مواجهة " السياسة". وتمثّل " القضية الفلسطينية" أبرز القضايا المعاصرة التي ما تزال تشكلّ " اختبارا حقيقيّا" " لالتزام الفيلسوف " الأخلاقي، لأفكاره حول " الإنسان" . ذلك أن القضية الفلسطينية ومن وجهة نظر " فلسفية" هي قضية " الحريّة" في أعمق معانيها، قضية " الإنسان المضطَهَد "، وهي " قضية تحررّ الإنسان من أشكال اضطهاد التي يمارسها الإنسان على الإنسان. من هنا فلا مناص للفيلسوف من أن " يفكّر فيها " ويضطلع بمسؤوليته الفكرية تجاهها، بل وبمسؤوليته " السياسية والإيتيقية" تجاهها. وبالفعل فقد كان للفلاسفة الذين عايشوا ميلاد هذه " القضية" وعاصروها مساهمتهم في "الانشغال بها " على صعيد " الفكر " وحتى الممارسة في " الانخراط" في " مواقف" إيديولوجية " تشرّع سياسيا"، وربما فلسفيا أيضا وأخلاقيا "وضع الإنسان الفلسطيني والإسرائيلي" على حد السواء باعتبارهما موضوع مواجهة بل وصراع على جميع الأصعدة . اختلفت مواقف الفلاسفة المعاصرين من " هذه القضية بحكم " الموقع والانتماء " الحضاري والثقافي. ولم يكن طبعا بين الفيلسوف " العربي" و" الفيلسوف الغربي" في شأن قضية " التحرر الوطني للشعب الفلسطيني" أيّ نوع من التجانس . غير أن" القضية الفلسطينيّة" كانت لكليهما " اختبارا حقيقيّا " " لإيتيقا التفكير الفلسفي " وللالتزام " الأخلاقي" للفيلسوف بوصفه ناصرا للإنسانية أيّ كانت. غير أن هذا الذي سمّي "اختبار " الإيتيقا في السياسة كان أشدّ وقعا وأكثر دلالة لدى " فلاسفة غربيين" معاصرين بحكم المنزلة و" الصيت" وشيوع أفكارهم وكتاباتهم. ولعلّ هذا ما قد يبرّر انصرافنا إلى الاهتمام بمواقف بعض من هؤلاء الفلاسفة الغربيين المعاصرين بالرغم من أهمية التحليل المقارن بين" مواقفهم ومواقف فلاسفة مفكرين أو فلاسفة عرب فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.3943 التشبث بالارض"عندما رأيت شجرة الزيتون مدمرة على أيدي المستوطنين حضنتها كأني أحضن أحد أبنائي وقد سقط شهيدا"ا (لحاجة محفوظة، فلسطينية مرابطة)

قد يكون " سارتر " الفيلسوف الفرنسي هو أوْلى من نبدأ به في هذا الباب، بحكم ما عرف عنه من نزعة " إنسانية" و" التزام" فكري وسياسي" وانتصار لقضايا " التحرّر" . وبالفعل، فقد كان سارتر دوما نصيرا - أو هكذا عرف- لحركة الشعوب المضطهدة في " التحرّر" من ربقة "الاستعمار " أو" الاستغلال الاقتصادي الخ .. وقد أدى به التزامه هذا إلى رفض جائزة نوبل للآداب. وكان لا يتردّد عن المشاركة في المظاهرات ودعم الثورات وحركات التحرّر وبشكل مخصوص موقفه المعروف من " حركة التحرّر الجزائرية" من الاستعمار الفرنسي. بيد أن التزامه هذا " فكريا وإيتيقيا" بالدفاع عن قضايا التحرّر، يجد نفسه أمام اختبار عسير، حينما يتعلّق الأمر " بالقضية الفلسطينية"، لينكشف " السياسي" حدّا " للإيتيقي" يحمل سارتر على ضرب من " الحياد الزائف" والمقنّع، فيصبح " صديق الجميع" (الفلسطينيين والإسرائيليين على حدّ السواء!) هكذا دون أن يحسم موقفه بوضوح تجاه " الكيان الإسرائيليّ" بوصفه " محتلاّ" . إذ يقول:" لقد كنت آمل دوما وما أزال بأن تجد المسألة اليهودية حلاّ نهائيا في إطار إنسانية بلا حدود لكن، بما أن أيّ تطوّر اجتماعي لا يمنع من وجود مرحلة تحرّر وطني، فلابدّ من أن مسرورين بأنّ دولة إسرائيل المستقلة تأتي لتضفي مشروعية على آمال وكفاح يهود العالم بأسره" (تصريح سارتر عام 1949 بعد إعلان الأمم المتحدة قيام "دولة إسرائيل" يوم14 ماي 1948). يوم النكبة بالنسبة إلى الفلسطينيين) . يأتي هذا التصريح بعد ثلاث سنوات من قول آخر لسارتر في كتابه " تأملات في المسألة اليهودية " بأنه " لا وجود لتاريخ يهوديّ " وأنّ العداء للسامية هو ما صنع اليهود (...) وحملهم على اختيار أن يكونوا يهودا رغم أنفهم". هذا القول ينكر على " اليهود" تكوّنهم كشعب على أساس التاريخ والثقافة . وبالرغم من ذلك فإن سارتر لا ينكر لليهود الحق في الوجود على أرض فلسطين دون أن يساءل نفسه أو بالأحرى يتجاهل طرح السؤال عن كيفية وصولهم إلى هذه الأرض، وعن حركة " الاستيطان" لليهود وهجرتهم من كافة بلاد العالم إلى فلسطين. بل إنه يعتبر إقامتهم أمرا واقعا وان على الفلسطينيين قبول ذلك . يقول سارتر بكل بساطة:" لقد استقرّ الإسرائيليون بإسرائيل وأضحى لهم أطفال بل إنّ منهم من له أحفاد . إنّ هؤلاء الذين ولدوا على هذه الأرض والذين ليس لهم مكان غيرها، قد تعلموا مهنة وهو يعملون .فلهم إذن الحقّ في السيادة على الأرض". غير أن سارتر، وفي تنازع بين دعوى الالتزام أخلاقيا بـ"الحقّ الإنساني في الحرية" وبين " الاعتراف " بالدولة الإسرائيلية " سياسيا" ككيان، يعبّر سارتر عن " حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم" وأهمية ذلك في تحقيق السلم وإنهاء النزاع بين اليهود والعرب . فيقول:" يجب اعتبار إنشاء دولة فلسطينيّة حدثا من أهم الأحداث في عصرها وواحدا من الأحداث التي تسمح لنا بالتفاؤل". نلاحظ كيف أن سارتر لا يذهب بالتزامه الإيتيقي تجاه الإنسانية إلى موقف حاسم يعترف فيه بالاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين أي بتوطين الإسرائيليين على أرض فلسطين. ذلك أن وجود إسرائيل في نظره لم يكن حدثا استعماريا.إذ يقول:" لا يمكن أن نسحب السيادة من الإسرائيليين لأنهم موجودون في فلسطين لأجيال ولا يستغلون البلد استعماريا. وأقول أيضا بنفس الطريقة: إنّ الناس الذين وقع طردهم، فلابد من أن يكون لهم حقّ العودة". هكذا، يسمّي الإسرائيليين باسمهم ويعتبر ويشير إلى الفلسطينيين " بعبارة الناس". وذلك باسم " حياد " هو في الحقيقة زائف . وحينما يتعلّق الأمر بتبرير "دفاع" الفلسطينيين عن أرضهم لا يتردّ سارتر في اعتبار ذلك " إرهابا" وإن كان "مشروعا" في نظره فيقول:" اسمعوا، انأ لا أرى مع الأسف، حلا آخر (غير الإرهاب)في هذه اللحظة. لا ألوم الفلسطينيين أن يفعلوا ما فعلته جبهة التحرير في الجزائر، ولا أن يخوضوا المعركة بما لديهم من وسائل.فلو كانوا أكثر عدد لحاربوا على نحو آخر- إن الإرهاب سلاح الفقراء، وقد كان دوما موجودا- لكنه في النهاية، هو أيضا في حالات معينة طريق نحو حرب شعبيّة...". ولأنّ سارتر صديق " الجميع ": الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء، (وقد ذهب إلى إسرائيل وإلى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين صحبة بارنار ليفي، في محاول للإطلاع على وجهات النظر وتصوّر حلول للنزاع بينهما )، فإنّه لا ينكر على الإسرائيليين حقّ الردّ على " اعتداءات " الفلسطينيين فيقول:" ولا أنكر على الإسرائيليين أيضا أن يردّوا على الهجوم عليهم لأنه لا يمكن أن نطلب منهم أن يتركوا أنفسهم كلّ مرّة عرضة للقتل ." يجد سارتر، دون شكّ، حرجا شديدا في حسم موقفه الذي يتّسم بالتعقيد وبضرب من الشعور بالألم تجاه نزاع لا منته فيقول:" إنّنا نجد تضادّ العالم العربي وإسرائيل بمثل انقسام فينا ونحن نحيا هذا التضادّ كما لو كانت مأساتنا الشخصية." - سارتر 1966 في محادثة مع رجل السياسة الإسرائيلي سيمها فلابان ). ينتهي موقف سارتر " المحايد" وغير القادر على الحسم إلى حلّ الدولتين.

وغير بعيد عن هذا الموقف المركّب، نجد " حنّا آرنت" الفيلسوفة " اليهودية الأصل" تنقد اليهود في علاقة بعض الجمعيات بالنازية ولكن دون أن تنكر على " إسرائيل" إقامة دولتها طبعا بل تتحمّس لذلك وتشارك في ترحيل " أطفال اليهود في فرنسا إلى " أرض الميعاد" . فلقد اعتبرت " آرنت" قيام " الصهيونية" " تحوّلا كبيرا " ثوريا " في حياة اليهود" من حيث أنها " محاولة لحل المشكل اليهودي"، " بتحويل اليهود إلى شعب مثل سائر الشعوب". وهو ما سيؤدّي في نظر مؤسس الصهيونية ( هرتزل) إلى نهاية " كراهية اليهود". غير أنّ هذا كان حلم هرتزل " كما هو حلم حنا آرنت، الحلم الذي كذّبه التاريخ بحكم أن قيا م "دولة إسرائيل " كان في مجال جغرافي، في منطقة حيث تحاط هذه الدولة الناشئة " غصبا" بشعوب تحمل " كراهية " لهذا الكيان لأنه بالذات غاصب . لقد أقيمت دولة إسرائيل في نظر آنت على " حلم صهيوني" لم يأخذ بعين اعتبار " الشعوب المجاورة" وهو ما سيؤدّي إلى نزاع لا منته . تقول آرنت:" يتظاهر بعض القادة الصهاينة بالاعتقاد بأنّ اليهود يمكن أن يظلّوا في فلسطين ضد رغبة الجميع وأنهم يستطيعوا أي هؤلاء القادة أن يواصلوا سياسة كل شيء ولاشيء تجاه وضدّ الجميع وضدّ كل شيء .(...) يتخفّى وراء هذا التفاؤل يأس عميق وقبول عميق للانتحار". لأجل ذلك فقد كان موقف حنا آرنت من " الصهيونية" موقفا نقديا حذرا لا يتردّد في نقد مسارها التاريخي ومآلات سياسة القادة الصهاينة في التعامل مع الشعب الفلسطيني والشعوب العربية عامّة. وترى حنا آرنت أن " دولة إسرائيل الصهيونية " دولة شمولية قمعية لا تكترث " للشعب الفلسطيني" بل تنتهج سياسة محور حضوره التاريخي وهنا يكمن موطن الداء وأصل الصراع . تقول آرنت:" لقد كان الصهاينة منشغلين جدّا بفكرة أن الشعب الذي لا أرض له في حاجة إلى أرض خالية من أي شعب إلى درجة نسوا فيها ببساطة السكّان المحلّيين". غير أن الكيان الصهيوني لم ينسى وجود السكان المحليين" بل الأصليين، إنما تناسى وجودهم وتصرف كأنهم غير موجودين . تلك هي سياسة اللامبالاة والإنكار التي عبرت عنها حنا آرنت في معنى " حلم إسرائيلي" ببلد لا يوجد:" إن البلد الذي تحلم به إسرائيل لا يوجد (...) فان تكون فلسطين، فهي ليست مكانا حيث يمكن لليهود أن يعيشوا معزولين، وليست هي بأرض ميعاد حيث يمكن أن يتخلّصوا من عداء السامية". تتهم حنا آرنت قيام دولة إسرائيل " بمنطق الإقصاء " للآخر وإنكار وجوده وتقوقعها على ذاتها داخل دائرة حكم " كلياني" . بيد أنها لا تعتبر وجود إسرائيل وجودا استعماريا من حيث أنها لا تستغل السكان المحلييّن، لكنها تتغافل عما هو أخطر من ذلك، أي تهجيرهم من أرضهم والتعامل معهم "كمهاجرين" وغرباء عن الأرض وهذا شكل من " الاستعمار" التخريبيي إن صحت العبارة، ليس هم بالأعمار بل " الإخلاء" للأرض. وذلك حتى يكون " الإسرائيليون هم " أصحاب الأرض " الأصليين، وملاّك أرض " خالية" لا سكان فيها. " أرض بلا شعب" . لم تستطع حنا آرنت أن تذهب بتحليلها إلى حدّ " سحب المشروعية" أو حتى التشكيك في وجود "إسرائيل" على أساس " الحق" بل على العكس تقرّ لها بالحقّ في الوجود بل وتعتبر ذلك منعرجا تاريخيا بالنسبة إلى اليهود وبذلك تكون وفية لأصولها " اليهودية"، للحلم اليهودي بـ"إسرائيل كبرى "." فحقّ اليهود في فلسطين قائم على عمل اليهود ". غير أنها وبضرب من الحياد " المزعوم" لا تنكر على الفلسطينيين حقهم في الوجود جنبا إلى جنب مع اليهود، في " كنفيدريالية". لكن قيام الكيان الصهيوني على " الغصب" للأرض لم يساعد على تجسيد هذا " الحلم"، بل زاد الوضع تعقيدا وحمل العرب والفلسطينيين على " معاداة" دائمة مبدئية لليهود وجعل الصراع بينهما غير منته، صراعا عنيفا بالضرورة. لا تعترف حنا آرنت بمشروعيته من جهة " الفلسطينيين" حينما تعتبره كغيرها إرهابا" لا مقاومة. بل وتتحدّث عن انتصارات لليهود في " معركتهم مع العرب"، انتصارات لئن لم تضع حدّا للكراهية لليهود، فإنها وطّدت وجود إسرائيل في " دولة قومية ". غير أنها تقرّ مع ذلك بأنّ" الكيان الإسرائيلي" مارس سياسة اقتصادية وثقافية..بدولة شمولية عسكرية، غير مكترثة بالفلسطينيين والعرب المجاورين ولذلك فإنّ مستقبلها غير "مضمون" بل إنّ صراعها مع العرب لن يفضي إلى "وجود آمن" . تقول حنا آرنت:" لم تغيّر الحرب وانتصارات الإسرائيليين شيئا ولم تحلّ المشكلة..." بل على العكس، " فإنّ منزلا لا يعترف به جاري بما هو كذلك ولا يحترمه، فليس منزلا . إنّ وطنا قوميا يهوديا لا يعترف به الشعب المجاور ولا يحترمه ليس وطنا، بل وَهْمًا - حتى يصبح ميدان حرب.(...) إنّ دولة يهودية حتى في فلسطين أغلبيتها يهودية، وبعبارة أخرى حتى لو كانت فلسطين يهودية خالصة، فستكون تشكيلا فقيرا جدا دون اتفاق مسبق للشعوب العربية المجاورة". لكن كثيرا ما كانت الأحداث في المنطقة العربية وفي علاقة بالنزاع العربي الإسرائيليّ مناسبة لكشف هشاشة وربما زيف هذه النظرة " المحايدة" لحنا آرنت . ففي حرب 67 والعدوان الثلاثي انتصرت حنار آرنت وبوضوح شديد لإسرائيل إذ تقول:" لقد قام الإسرائيليون بعمل رائع" وتضيف في رسالة إلى كارل جاسبرس بأنّ "جمال عبد الناصر يجب أن يشنق مباشرة". هكذا تكّذب الوقائع السياسية مزاعم " الخطاب الإيتيقي" لآرنت عن تعايش وسلم بين الفلسطينيين والعرب وإسرائيل. وتكشف عن زيف خطاب آرنت حول " الاستعباد والاستغلال " ونقد الرأسمالية العالمية واضطهاد الإنسان! لقد كانت آرنت دوما مع قيام دولة إسرائيل، دولة قومية لليهود وتعتبر ذلك " أمرا واقعا " على الجميع قبوله وعدم التشكيك في مشروعيته بأي وجه من الوجوه. غير أنها قيام دولة إسرائيل لا على أساس تاريخي ولا ثقافي بل " بقرار سياسي" لا يتعارض لديها مع الدعوة إلى "حسن الجوار مع الدول العربية فتقول:" إنّ التصرّف الواقعي الوحيد يتمثّل في سياسة تحالف مع شعوب متوسطية أخرى يدعمّ التموقع المحلّي في فلسطين ويضمن تعاطفا حقيقيّا مع الجيران". تعبّر آرنت عن " حلم" بالتوافق بين العرب وإسرائيل، توافقا يكاد يكون مستحيلا لغياب شروط تحقّقه فعليا بالنظر إلى سياسة "إسرائيل الصهيونية " العنصرية وسعيها الحثيث إلى إبادة " الشعب الفلسطيني"، فعن أي توافق نتحدّث والحال هذه؟!!

يعبّر جاك دريدا عن " هذا الحلم" في موقف " خجول" يترجم عن التزام إيتيقي غير حاسم بالقضايا الإنسانية . إذ يحرص داريدا على " الصداقة" للجميع ويساوي الضحية والجلاّد. داعيا بعبارته الشهيرة " يجب فعلا أن نعيش معا " فليس هناك خيار، في التعايش، فيقول:" لا يمكن للإسرائيليين والفلسطينيين أن يعيشوا معا حقا إلا يوم يكون السلم ( وليس إيقاف الحرب،أو مسار السلام) يصبح قائما في الأجساد والقلوب، حينما ينجز الضروري من أولئك الذين يملكون سلطة اتخاذ المبادرة بطريقة حكيمة أفقية أولا ". وحيث أن درايدا لا يطرح بوضوح " نشأة إسرائيل " إلا على نحو تلميح إلى مفارقات النشأة، فسيظلّ موقفه على صعيد الواقع الفعلي مجردّ " حلم يقظة" لمفكّر لم يستطع أن يحسم بشكل قاطع حتى على صعيد " الفكر" في "الانحياز " إلى " صاحب الحقّ. " إذ يقول بأسلوب " حذر" خجول:" هل حدث فعلا هذا الاختراع السياسي في إسرائيل؟ أنا من الذين ينتظرونه، هذا " الحدث السياسي" في إسرائيل، ومن أولئك يطلبونه في الأمل، واليوم أكثر من أي وقت مضى وبيأس من الأحداث الأخيرة، حتى لا نتحدّث عن سواها، لا تأتي إلاّ لتكثيف ( على سبيل المثال (...) استمرار " الاستيطان" الاستعماري أو قرار كهذا للمحكمة العليا تجيز التعذيب، و، بوجه عام، كلّ المبادرات التي توقف، وتحوّل وجهة أو تقطع ما نستمرّ في تسميته، كطريقة في التعبير " مسار السلام". وبالرغم من انتقاد داريدا " أحيانا وبالمناسبة " سياسة " دولة إسرائيل"، بل ونشأتها " العنيفة "، فإنه لا يتردّد في اعتبار " المقاومة " إرهابا".منكرا " الحق" في الدفاع عن النفس " ورفض الفلسطينيين الاحتلال الإسرائيلي" فيقول زاعما ضرورة " الحكم بإنصاف على واقع الصراع" وتجميل المسؤولية لكلا الطرفين المتنازعين:" الحكم بإنصاف على المسؤوليات المتبادلة والمتباينة وغير القابلة للمقارنة: فمن جهة النشأة العنيفة لدولة إسرائيل مع تواطؤ عديد الدول القوية، وفي الأثناء تمديد وتطوّر قمع من نوع استعماري وتقليدي(ّ...) وفي المقابل، الإرهاب، وسياسة آثمة لعديد الدول العربية في المنطقة، لدول قليلة الديمقراطية، وسلطة فلسطينية أثقلتها الأحداث، وبالكاد ديمقراطية، وتغريها وتكرهها المزايدات. يمكننا ولا بد لنا من الاستمرار في هذا النهج، التشديد ومزيد تكثيف الدعوات( إلى التعايش والسلم..)". يكتفي جاك داريدا في النهاية مثلما حال سارتر وغيرهما بالدعوة المتكرّرة إلى "السلام" والتعايش بضرب من الأمل في " مستقبل أفضل "، مع القفز على " واقع الهيمنة والاحتلال والتعذيب والاستيطان بل والإبادة الجماعية التي ينتهجها الكيان الإسرائيلي فيقول بتفاؤل " الحالم":" ربما هو الوقت قد حان لصنع المستقبل مع ألم غير قابل أن يصلح، إذا ما أردنا أن نفقد أيضا، مع أرواحنا حياتنا.(...)ودون سابقية إضمار، لابد من أن نجبر الضرر قدر الإمكان حيثما يوجد إمكان لذلك، ولابد أن نعيد المهجّرين قدر الإمكان ويجب أن نقوم بعمليات التطعيم الأكثر مشروعية، ولابد بالخصوص مشاركة الأرض". هكذا إذن يكون من الضروري خاصّة في نظر داريدا " مشاركة الأرض" بين الفلسطينيين " وهم أصحابها" وبين " الإسرائيليين وهم " غاصبوها" ومفتكّوها عنوة من " أصحابها . يتساوي عند داريدا " صاحب الحقّ وغاصبه . ولا يرى أيّ حرج أخلاقي بالمرّة في أن يقبل " صاحب الحق" واقع " الاحتلال " في وقت يسلّم فيه داريدا " بما يسمّيه " النشأة العنيفة " (عبارة لطيفة خجولة للدلالة على الاحتلال الإسرائيلي) "لدولة إسرائيل"؛ بل نجده كما سارتر وآرنت يعتبر وجود أو قيام ّدولة إسرائيل" " حدثا بارزا يبعث على الأمل" في نهاية معاناة " اليهود" . ودون تقدير لمعاناة " الفلسطينيين وقد اغتصبت أرضهم، يدعو بكل " حياد" هؤلاء إلى القبول " بالأمر الواقع" بوجود " الكيان الإسرائيلي " والتعامل معه بما هو كذلك بل والجهد في التصالح معه " ونسيان" كل الآلام والعذابات...بل والتطلع إلى مستقبل أفضل "لتعايش" يظلّ في نظرهم ممكنا مع كلّ ما يشهده الواقع من استمرار " الكيان الصهيوني" في سياسة " الإبادة الجماعية " لشعب فلسطين، فأي تعايش يمكن مع هذه الإبادة؟! يغمض داريدا عينيه عن هذا الواقع الصارخ ويسلك مسلك "النفاق" والتمترس وراء " إنسانية " كونية وخطاب إيتيقي حول " التعايش والصداقة والسلم الخ" وهو يعلم أن " الواقع " السياسي يكذّبه ويجعله خطاب " حالم" يأبى أن يفتح عينيه على هذا الواقع المأساوي الذي لا يترك أي طريق إلى الحلم . كيف يمكن " الحلم " بالسلام مع " استمرار الاستيطان" والتعذيب اليومي والتهجير والإبادة وافتكاك الحقوق الخ ؟! وبضرب من " السلوك الدبلوماسي" السياسي، يعبّر داريدا عن انشغاله بوضع الفلسطينيين والإسرائيليين على حد السواء، انشغالا " منصفا" وجدانيا وملائما سياسيا، حتى لا يتهم بالعداء " للسامية"، تهمة يخشاها المثقفون حينما يتحدثون عن "اليهود "، وحتى لا يتهم بالانحياز إلى " الظلم" فيما يتعلق بالفلسطينيين فيقول:" أفكّر فيهم دائما، بكل صداقة ومواساة:... في الفلسطينيين الذين، وفي الوقت الذي يكافحون فيه من أجل استقلالهم الشرعي وتأسيس دولتهم،لا يدينون مع ذلك الهجمات الانتحارية، لكن أيضا في الإسرائيليين الذين يكافحون ضدّ (السلطة) ويرفضون أحيانا بعض المهاّم التي توكل إليهم". (داريدا من مقابلة سنة 2004). ولابد لنا بالمناسبة لفهم هذا " الحياد الكاذب" أن نطّلع على كتاب داريدا عن "الصفح" وموافقته جانكليتفيتش الفيلسوف اليهودي الذي يرى أن الجرائم التي ارتكبت ضد اليهود لا تغتفر وغير قابلة للصفح. وداريدا هو الآخر من أولئك" المثقفين الغربيين" الذين يحملون " إثم" اليهود المضطهدين والشاعرين بمسؤولية ما عانوهم تاريخيا في أوروبا من " النازية" لوصفها " اختراعا أوربيّا"، وهو من هؤلاء الذين يساندون " اليهود" مساندة مطلقة ويرون في نشأة دولة " إسرائيل" " مكافأة سعيدة" لمعاناتهم الطويلة وتكفيرا أوروبيا غربيا " عن ذنب اضطهادهم. أما اعترافه بالحقّ الفلسطيني فيأتي " محتشما" خجولا من باب " الحياد" الزائف والإلزام "الإيتيقي" الكاذب حتى لا يتهّم بالتناقض وازدواجية الخطاب الخ ...

إنّ مواجهة هؤلاء الفلاسفة بالقضية الفلسطينية سرعان ما يكشف عن "زيف" إدعاءاتهم بالدفاع عن " المضطهدين" والمستضعفين في العالم، وعن الإنسان أينما كان ...ويجعل من " التزامهم الأخلاقي والإيتيقي " الذي يدّعوه ويكرّسوه في خطابهم الفلسفي أضعف ما يكون في مجابهة " الواقع السياسي" أو بالأحرى " التزامهم السياسي" تجاه " إسرائيل " والسياسات الداعمة لها بالنصرة لها بل ودعمها " سياسيّا" فعليا حينما يلزم ذلك.

ولم يكن الفيلسوف اليهودي الأصل " لوفيناس" خارجا عن هذا الموقف العام بل كان أكثر وضوحا في التزامه به . فبالرغم من دعواه الفلسفية إلى " الانفتاح على الغيرية " والالتقاء بالآخر المغاير وجها لوجه الخ، فإنّه - حينما يتعلّق الأمر "بالمسألة اليهودية "، يكون حاسما في الإقرار بحق اليهود في بناء دولتهم والإقامة في أرض " فلسطين" أرض " الميعاد". يقول لوفيناس:"لا يتمثل المهمّ لدولة إسرائيل في تحقيق وعد قديم، ولا في بداية عهد أمن فعليّ - إشكالية مع الأسف- بل في الفرص التي أتيحت أخيرا لإتمام القانون الاجتماعي لليهودية. لقد كان الشعب اليهودي متعطّشا إلى أرضه ودولته، لا بموجب استقلال دون محتوى ينتظره، بل بسبب إنجاز حياته الذي يمكن له أن يبدأه في النهاية". (لوفيناس "الحرية الصعبة. (1984). يعتبر لوفيناس نشأة " دولة إسرائيل" عملا خالدا رائعا " فيقول" لقد حانت في النهاية ساعة العمل الخالد. إنه لشيء فظيع مع ذلك أن نكون الشعب الوحيد الذي يعرّف بمذهبه في العدالة والوحيد الذي لا يستطيع تطبيقه". ويعتبر لوفيناس وهو" اليهودي" أن اليهود " شعب الله المختار" في معنى للاختيار بأّنه:" وعي بالواجبات الاستثنائية". يستند لوفيناس إلى التاريخ التلمودي ليبرّر وجود " الكيان الصهيوني"، معتبرا إياه مشروعا وليس" احتلالا" بالمرّة، إذ يقول:"إنه لمشكل حادّ، أنه ومنذ إنشاء دولة إسرائيل على قطعة من أرض قاحلة كان ملكية أبناء إسرائيل منذ أكثر من ثلاثين قرنا، وبالرغم من هدم يهودا سنة 70، لم تخل المجموعات اليهودية المكان، وأنه في الشتات أو التيه لم تكفّ عن المطالبة ومنذ بداية القرن قاموا بإعادة إعمارها بعملهم؛ لكن، وفي قطعة الأرض التي توجد أيضا منذ قرون يسكنها أولئك الذين، محاطين من كلّ جانب على مساحات كبرى، هم الشعب العربي الكبير الذين هو جزء منها ويسمون فلسطينيين". يريد لوفيناس كما هو بيّن أن يقرّ بأن قيام " دولة إسرائيل لم يكن بالعنف بل على أساس "التاريخ والثقافة". ومن هنا فليس وجودها استعماريا. ومن هنا أيضا فلا مناص للعرب وللفلسطينيين أن يقروا لها بالحقّ في الوجود بل لابد من التوافق والتصالح وقبول هذا الوجود "الشرعيّ". وان أصل النزاع في هذا الرفض الذي يكاد يكون غير "مبرّر" خاصة على أساس تاريخي. فالإسرائيليون " هم أصحاب الأرض" كما الفلسطينيين وهذا ما قامت عليه " الصهيونية " بوصفها بعبارة لوفيناس "أحد أهم الأحداث الكبرى للتاريخ البشري". وإذا كان وجود: الكيان الصهيوني" في المنطقة العربية يجعله محاطا "بأعداء" فذاك أمر يؤسف له في نظر لوفيناس، ولكنه واقع لابد من أخذه بعين الاعتبار في تحقيق " السلام" , ويمتدح لوفيناس بالمناسبة "خطوة السادات في تحقيق السلام بين مصر وإسرائيل. ويذهب لوفيناس إلى الاعتقاد انه لا مناص من التعايش، على معنى "داريدا" كاضطرار، بين العرب وإسرائيل فيقول:" ليس ليهودي من حاجة أن يكون " نبيّا ولا ابن نبيّ" حتى يرجو و يأمل في مصالحة يهودية -عربية، وكي يرى فيه، من وراء التجاور السلمي، بمثل جماعة أخوية". هكذا كان أيضا حلم " ريمون آرون" الفيلسوف وعالم الاجتماع اليهودي الأصل، تحقيق المصالحة بين " العرب وإسرائيل" ؛ مصالحة، لئن كانت صعبة وعسيرة جدا، فإنها مع ذلك ممكنة لو اعترف " العرب " بإسرائيل أمرا وقعا لا مجال لرفضه آو إنكاره أو التشكيك في شرعيته. يقول آرون:" سيستمرّ النزاع طويلا قائما بقدر ما لم يعترف جيران إسرائيل بها (...) فلا يمكن لإسرائيل، وحي متفوقة عسكريا أن تحلّ مشكل وجودها بالقوّة. وفي المقابل فإنه يوم يصبح جيرانها أكثر قوة منها فسيكون لهؤلاء فرصة خلق الأمر الواقع". لم يخفي آرون انتماءه " اليهودي" حتى وإن لم يكن متدينا لكنه كان شديد الصلة وجوديا، وهو المقيم في فرنسا، بدولة إسرائيل. فقد كان متنصرا لها معترفا في الآن نفسه مع ذلك بمأزق " الصهيونية " التي زادت الوجود الإسرائيلي في المنطقة العربية تعقيدا بسياسة اللامبالاة بالعرب. غير انه لا يخفي تعاطفه إنسانيا مع اليهود في معاناتهم فيقول:" أتألم مثلهم، ومعهم مهما قالوا وفعلوا، لا لكوننا أصبحنا صهيونيين أو إسرائيليين، بل لتنامي المدّ التضامني فينا. وأي كان مصدره. وإذا كنت القوى لكبرى بموجب حسابها الرياضي لمنافعها، تترك هذه الدولة الصغير للهدم لكونها ليست دولتها، فإنّ هذه الجريمة، والمتواضعة قياسا بالعدد، فأنها تنزع عنّي الرغبة في الحياة واعتقد أنّ ملايين الملايين من البشر سيخجلون من الإنسانية". إنّ علاقة آرون بالـ" الكيان الإسرائيلي" ليست وجودية فحسب كما يبدو بل وجدانية إذ يقول:" أعرف بوضوح أكثر من الماضي بأنّ إمكانية تدمير إسرائيل يجرحني في أعماق نفسي . كثير من مثقفي اليسار قاموا بنفس تجربتي: ينسون لفترة " الإمبريالية " و" الواقع الاستعماري"، ويتذكّرون أصولهم ويجدون أنفسهم لدهشتهم يهودا".

على هذا النحو تضع " السياسة" كثيرا من المثقفين والفلاسفة الغربيين أمام: امتحان" عسير" لآرائهم حول " الحرية والعدالة وحقوق الإنسان وسائر القيم الأخلاقية وحول الإنسان قيمة كونية وغاية قصوى الخ .. . فينسون كل ذلك أو يتغيّر الخطاب الفلسفي، وقد كان من قبل، على صعيد النظرية، " حاسما " إيتيقيا " ليصبح " بفعل السياسة" وتأثير السلطة، وهيمنة الأقوى ( اللوبي الصهيوني) خطابا " ناعما" محايدا خجولا غير قادر على الحسم . فحينما يتعلّق الأمر بالقضية الفلسطينية بالذات " قضية القضايا "" حتى للإسرائيليين كما يقر بذلك من ذكرنا من الفلاسفة، ينكشف الزيف وازدواجية الخطاب والكيل بمكيالين والنفاق و" الديبلوماسية " الخ ...ليطرح " الفيلسوف نفسه" " صديقا للخصوم فيساوي بقصد منه وبشكل " وقح" بين الضحية والجلاّد زاعما " الحياد" فيما لا يستقيم فيه الحياد لو كان التزام الفيلسوف "حقيقيا" تجاه الإنسان، صاحب الحقّ. فكأنما " الفلسطينيّ" ليس إنسانا أو إنسانا من" درجة ثانية" بالنظر إلى الإنسان " اليهودي". من الثابت أن المثقف عموما، والفيلسوف خصوصا لا ينكشف " حقيقيّا" إلى في مواجهة " لحظة الحسم"، خارج " الحياد" . فالحياد كما يقول بارط " أملس وفارغ وغير ملتحم " . هو كذلك دوما وخاصّة حينما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية بالذات. يكتب " الفلاسفة " بكل أشكال الحياد، ليرتحلوا في " اليوتيوبيا" وفي الحلم، هروبا من مسؤولية " اتخاذ القرار ": الانحياز إلى الحقّ . يكتبون بكلّ أشكال الكتابة المحايدة بعبارات رولان بارط، بـ " الكتابة البيضاء، المعفاة من كلّ مسرح أدبي، اللغة الآدمية - التفاهة المستساغة- الأملس، والفارغ وغير الملتحم، والكلام المنثور ( صنف سياسي وصفه ميشليه)- التكتّم و شغور "الشخص"، إمّا ملغى أو على الأقلّ قد صار غير قابل للإصلاح- غياب الصورة الهوامية وتعليق الحكم، والمحاكمة، - التنقّل - رفض " أن نعطي لأنفسنا احتواء" ( رفض كلّ احتواء ) - مبدأ الرقّة- الانسياق - الاستمتاع: كل ما يراوغ أو يحبط أو يجعل الكلام تافها، التحكّم والتبكيت." ليس المحايد أمرا للغة. وَلْنَقُلهْا ( تقريبا) مثله: هو الإرتحال في يوتيوبيا."

وإذا كان الغالب على " المثقفين، حتى مثقفي اليسار، ومنهم فلاسفة لا يملكون الجرأة والشجاعة على قول الحقّ في وجه هيمنة "اللوبي الصهيوني "، فإنّ من الفلاسفة الغربيين من لا يتردّد في ذلك. ليفضح واقع " الخوف" والانحياز الفاضح والتناقض حتى بين " الخطاب الإيتيقي والأخلاقي لكثير من الفلاسفة الغربيين وبين مواقفهم " السياسية" تجاه واقع الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين على وجه الخصوص. هذا جيل دولوز أحد الفلاسفة القلائل الذين لم يتردّدوا في فضح ظلم الصهاينة وأوهامهم الكثيرة التي حملوا الكثير على " تصديقها" عنوة، بسيطرتهم على وسائل الإعلام. يقول جيل دولوز:" سوف تطالب الصهيونية ثم دولة إسرائيل الفلسطينيّين بأن يقرّوا لهما بالحقّ. في حين لا تكفّ دولة إسرائيل ذاتها عن إنكار حتّى واقع وجود شعب فلسطينيّ. لا نتحدّث مطلقا عن الفلسطينيين، بل عن عرب فلسطين، كما لو كانوا هناك بالصدفة أو على وجه الخطأ. وسنتصرّف فيما بعد كما لو أنّ الفلسطينيين المهجّرين قد أتوا من خارج، وسوف لن نتحدّث عن حرب المقاومة الأولى التي خاضوها لوحدهم. سنجعلهم أحفاد هتلر بما أنهم لم يعترفوا بحقّ إسرائيل. لكن إسرائيل تحتفظ بحقّ إنكار وجودهم الفعلي. هنا يولد توهّم لابدّ أن يتوسّع أكثر فأكثر، ويرمي بثقله على كل أولئك الذين يدافعون عن القضية الفلسطينيّة. يتمثّل هذا التوهّم وهذا الرهان لإسرائيل، في اعتبار أنّ كل من يعترض على الظروف الواقعية وأفعال الدولة الصهيونيّة، هو معاد للسامية . تجد هذه العملية منبعها في السياسة اللامبالية لإسرائيل تجاه الفلسطينيين.

لم تخف إسرائيل مطلقا هدفها منذ البداية: إخلاء الأرض الفلسطينيّة. بل أكثر من ذلك، التصرّف كما لو كانت الأرض الفلسطينية خالية، وكونها موعودة دوما للصهيونيين. يتعلّق الأمر طبعا بالاستعمار، لكن لا بالمعنى الأوروبي للقرن 19م: لا نستغلّ سكان البلد، بل نهجّرهم. ومن يتبقّى منهم، فلن نجعل منه يدا عاملة مرتبطة بالمنطقة، بل بالأحرى يد ا عاملة متنقّلة ومنفصلة، كما لو كانوا مهاجرين وضعوا في غيتو.

يتعلّق الأمر منذ البداية بشراء الأراضي وفق شرط وهو خلوّها من السكان أو قابلية إخلاءها منهم. إنها إبادة جماعية، لكن تظلّ التصفية الجسدية فيها لاحقة للإخلاء الجغرافي: يجب على الفلسطينيين باعتبارهم عربا على وجه العموم، أن ينصهروا مع العرب الآخرين. إنّ التصفية الجسدية، سواء أوكلت للمرتزقة أو لا، هي حاضرة. لكنها ليست إبادة جماعية في زعمهم، بما أنّها ليست " الهدف النهائيّ": وبالفعل فهي وسيلة من بين وسائل أخرى.

إنّ تواطؤ الولايات المتّحدة مع إسرائيل لا يعود فحسب إلى هيمنة اللوبي الصهيونيّ. فقد بيّن إلياس سانبار بوضوح كيف أن الولايات المتّحدة تجد في إسرائيل مظهرا من مظاهر تاريخها: القضاء على الهنود الحمر، الذي ليس، هنا أيضا، سوى جزء فيزيائيّ مباشر. يتعلّق الأمر بالإخلاء، وبما أنّه لم يحدث أن وجد هنود حمر في أرض فلسطين، اللهمّ في الجيتوات، حيث كثيرا من المهاجرين من الداخل. إنّ الفلسطينيين ومن نواحي كثيرة هم الهنود الحمر الجدد، الهنود الحمر لإسرائيل. يشير التحليل الماركسي إلى حركتين متكاملتين للرأسمالية: فرض حدود باستمرار، داخلها تنظّم الرأسمالية وتستغل نسقه الذاتي؛ والدفع باستمرار إلى أبعد ما يكون حدودها، وتجاوزها لإعادة بناءها الخاص على نحو أكبر أو أكثر كثافة. إنّ دفع حدودها، هو حركة الرأسمالية الأمريكية، للحلم الأمريكي، الذي استعادته إسرائيل وحلم إسرائيل الكبرى على الأرض العربيّة، وعلى كاهل العرب."جيل دولوز"نظامي حكم للمجانين "، مينوي 1983).

***

عبد الوهاب البراهمي

.....................

هامش:

وقع الاعتماد في هذا المقال بالخصوص على ملف (في 5 مقالات) في " المجلة الفلسفية " الفرنسية مقالات متسلسلة بعنوان:" الفلاسفة في مواجهة النزاع الإسرائيلي الفلسطيني" (أكتوبر 2023)

عند بداية الأعوام الأولى لسقوط النظام السياسي، كنت من أوائل الذين وقفوا الى جانب سياسة تشجيع ودعم الجامعات الأهلية في العراق، من منطلق اعتبارها منافس حقيقي وند مكافئ – هذا ما كنت أظن - للجامعات الحكومية التي كان مستواها العلمي قد شارف على التآكل، جراء تفشي علاقات الاستزلام والزبائنية المرتبطة بالانتماءات الحزبية والولاءات الإيديولوجية، ليس فقط داخل الحرم الجامعي وضمن مقرراته المنهجية فحسب، بل وكذلك بين أروقة ملاكاته الإدارية وهيئاته التدريسية التي كانت عقليتها وعلاقاتها قد تأدلجت الى حدّ يعيد .

ولعل الخطأ الذي اركبته، هو الاعتقاد بان من مزايا الجامعات والكليات الأهلية كونها مؤسسات تعليمية تعود ملكيتها للقطاع الخاص كمشروع تجاري، يستهدف الأرباح المالية لقاء الاستفادة من مخرجاته العلمية والمعرفية. هذا بالرغم كونها (الجامعات الكليات) ملزمة بمراعاة بعض الشروط العلمية والفنية والإدارية التي تحددها وزارة التعليم العالي كجهة حكومية مسؤولة . غير أنها لا تخضع – شكليا"على الأقل - لأية اشتراطات سياسية أو اعتبارات إيديولوجية، لا بالنسبة لسياسة قبول الطلبة ولا بالنسبة لطبيعة المناهج الدراسية المقررة مثلما هو شأن نظيرها الجامعات الحكومية . بحيث يتيح لها هذا الأمر أن تكون بمنأى عن الالتزامات والاملااءات التي تخضع لها نظيرتها الأخيرة وتكون ملزمة بمراعاتها والتقيد بضوابطها . هذا وقد فاتني في حينها أن شروط نجاح المشاريع ذات الطابع الخاص – بما فيها مشاريع المؤسسات التعليمية / الجامعية - تحتاج الى أوضاع سياسية مستقرة ومتوازنة، تكون فيها (الدولة) هي الجهة المسؤولة والوحيدة عن تنفيذ القوانين وسريان التشريعات، دون السماح لأية جهة أخرى التدخل في شؤونها الوطنية والمساس في صلاحياتها السيادية . 

ونظرا"الى ركام الخلفيات السياسية والمرجعيات الإيديولوجية الموسومة بالتحزب والتعصب التي هيمنة – على مدى عقود عمر الدولة (الوطنية) - على عمل المؤسسات البيداغوجية (المدارس والمعاهد والجامعات) في المجتمع العراقي، حيث سيادة الرؤى الواحدية لسيرورات الواقع وهيمنة التصورات النمطية لثقافات المجتمع، فقد كان حصول أي تغيير في هذه المسارات أو وقوع أي تحويل في تلك العلاقات، كفيل باستقطاب المشاعر الرافضة وتحفيز النوازع المناهضة التي كانت تنظر بعين الرضى والقبول الى كل ما كان يطرأ على أنظمة الحكم السياسي الشمولية من انكسارات إيديولوجية وانهيارات مؤسسية كنوع من أنواع (الثأر) للأنا المخصي والمقموع ، وذلك بصرف النظر عن طبيعة المصدر أو الجهة التي أحدثت التغيير وساهمت في التحول . بحيث ان لحظة سقوط النظام السابق كانت بمثابة دعوة مجانية لإطلاق تلك النوازع الثأرية المختزنة من عقالها، لاختراق تلك الشقوق والتصدعات التي كانت سلطات الأنظمة السابقة تحاول إخفائها وترميمها دون جدوى .

والمشكلة هي انه كلما تطاول العهد بالأنظمة السياسية التوتاليتارية وتصلبت قبضتها السلطوية في الردع والقمع، كلما تزايدت انحرفات المجتمع وتعاظمت إخفاقات الدولة، الأمر الذي يفضي بالمكونات الاجتماعية المتذررة اثنيا" وقبليا"وطائفيا"الى استمراء مظاهر الفساد في المؤسسات الحكومية واستشراء ظواهر الفوضى في العلاقات الجماعية كنوع من أنواع التعويض عن الحرمان الاقتصادي والامتهان الاجتماعي . بحيث تستطيع تلك المكونات من تحقيق مصالحها الشخصية كأفراد وبلوغ مآربها الفئوية كجماعات، عبر توظيف واستثمار علاقات الاستزلام والربائنية التي سرعان ما تنتعش في مثل هذه البيئات الموبوءة والأجواء المشبوهة.

وإذا ما كانت مظاهر الفساد وظواهر الفوضى على مستوى النظام السياسي قمينة بضعضعة كيان (الدولة) وانحسار هيبتها واضمحلال تأثيرها، فان عواقبها على مستوى النظام الاجتماعي كفيلة بتفكك عرى (المجتمع) ونخر بناه وتآكل قيمه واندثار أخلاقياته . ولعل مكمن الخطورة في هذا المجال هو تسارع التحول فيما هو (طارئ) من قيم و(استثنائي) من علاقات، الى ما يشبه (المأسسة) و(الشرعنة) لظواهر الفساد والفوضى، لاسيما في ميادين العلم والفكر والثقافة التي من شأن التفريط بمعاييرها والاستغناء عن شروطها، الانحراف بسيرورة المجتمع صوب مئالات الانحطاط الأخلاقي والخراب الحضاري .       

***

ثامر عباس

ـ (من السهل فِهم النقد المُبْغِضِ للبَشّرِ. ومع ذلك، فقائِمةَ بالأخطاء البَشّرية غَير كَافية لتأمينِ ما تَدعيه فلسفة البُغْضِ..) ـ إيان جيمس كيد

تعيد سردية "المكارثية" إنتاج مفهومها التآمري الموجه، بتخوين وترهيب كل من يتضامن مع الحركة الفلسطينية المقاومة "حماس"، ويتبنى نظريتها الحربية "طوفان الأقصى" التي أطلقتها في السابع من أكتوبر 2023.

وانبرت القوى الغربية الداعمة للمجازر المقترفة في قطاع غزة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوربية أخرى، لتفتك بكل مقاييس حقوق الإنسان وديمقراطيتها المزعومة، وتزيح الستار عن الوجه الحقيقي المقنع للمؤسسات الدولية ومكاييلها المختلة، وانتقامها المبطن لكل توجه إسلامي وعربي محض، أو فلسطيني تاريخي بوجه خاص.

وعادت "فلسفة الغرب المكارثية" من جديد، لتعيد التفكير في جدلية الصراع الغربي الإسلامي، ليس من زاوية التفكيك التاريخي الثقافي، كما اصطلح عليه، عند كبار مفكري الهجنة الأمريكية، من مثل صامويل هنتغتون، الذي يرى أن "صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية لعوامل سياسية أو اقتصادية أو أيديولوجية، لكن توقع أن تظهر مواجهات حضارية لأسباب دينية وثقافية".، أو زبيغينيو برجنسكي، الذي يذهب في كتابه "الموجة الثالثة، إرساء الديمقراطية في نهاية القرن العشرين" إلى أن العالم الغربي مقبل على توظيف قوته العسكرية والسياسية لتحييد الثقافة المغايرة، وإعادة تشكيل وحدته داخل منظومة تؤسس لنظام عالمي جديد ..".

وهو نفس الأسلوب "الكولونيالي" المتحول، الذي ينظر بعيون إسرائيلية، مستقاة من "فعل الترهيب الدولي" وتخنيع الأحلاف، وتركيع مناهضي سياساته ومحوريات ألاعيبه.

وتحول هذا المفهوم المتداول، على طول خط الهجوم الوحشي الشرس على غزة، إلى خوالف عشوائية غير مسبوقة في مفاهيم العلوم السياسية الدولية. فالخيانة المحاذية للجنون الحربي، هي قيمة مضافة لمنظور "الدفاع عن النفس". والقتل المنظم والإبادة ونسف المؤسسات الصحية، هو مشروع استباقي تحت أي طارئ، مادام يعزز قدرته الضاغطة لتجفيف الإرهاب المخصوص. وهكذا تصبح "المكارثية" عنوانا أيديولوجيا مفتوحا، يصادر الحقوق الدولية للحياة الإنسانية، ويوجه الإعلام المسيطر عليه، لتحقيق قيم الاختلال والمجاهرة بالتفوق والقوة المسيطرة؟. حتى راج المثل الأمريكي السائر على كل لسان إعلامي، من كون "أن أي خطر خارجي على أميركا يجب الا يواجه على حساب الدستور والحريات الأميركية"، وهو الأثر القائم الآن حرفيا في مسار السياسة الصهيونية، المستقوية بالفيتو الأمريكي وسلاحه الفتاك.

ومن يتابع الأحداث اليومية المنشورة في وسائل الإعلام العالمية، والمرتبطة بمستوى هبوط الوعي الغربي، واستمناءاته الفجة تجاه حقيقة استفراده بنظرية "المكارثية الإسرائيلية الجديدة"، والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، (نذكر على سبيل المثال لا الحصر ما يتعرض له معارضو هذا التوجه الشوفيني الأخرق، خصوصا من نخب الثقافة الغربية المتنورة، كالكتاب تشارلز دانس وستيف كوغان وميريام مارغوليس وبيتر مولان، والمخرجين السينمائيين مايكل وينتربوتوم، ومايك لي، وآصف كاباديا، ومن الكتاب المسرحيين تانيكا غوبتا وآبي سبالن وغيلين سلوفو، ومن الفنانين روبرت ديل ناجا وتاي شاني وأوريت آشري ولاريسا سنسور وروزاليند ناشاشيبي وفلورنس بيك وجورجينا ستار..إلخ)، يلاحظ أن عماء الحرب وأحقاد الحضارة ونيران الكراهية، قد أغمضت الضمائر واستأثرت بتدجين شعارات مأفونة، من قيم القطيعة الإنسانية، مليئة بثقوب التجويف والمهاترة، وناقمة على أقل الأبعاد الكونية التي تتشدق بها.

إن "المكارثية" النسقية الجديدة، هي جسر ثقافي سياسي أيديولوجي، متصل بتداعيات تلك المحطة الأمريكية المكسوة بفوبيا "الشيوعية والجاسوسية" في بدايات القرن الماضي. وعلى الرغم من أنها تآكلت مرحليا بفعل ذوبان جليد الحرب الباردة إبان فترة الصراع والتوتر والتنافس والسباق العسكري والأيديولوجي بين المعسكرين الغربي والسوفياتي، فإن عودتها الطارئة من باب القضية الفلسطينية اليوم، تؤشر على انتقالها من ساحة معركة الفكر والوجدان الهوياتي والثقافي، إلى واجهة القوة العسكرية والاحتلال الجغرافي وتحطيم المنظومة القيمية والأخلاقية المتعارف عليها.

***

د مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

قد يراها القارئُ اللَّبيبُ غريبةً، بأنّ الإمام أبي حامد الغزالي (ت: 505 هـ) ينتقد التكفير، وهو الذي كفّر الفلاسفة في: «تهافت الفلاسفة»، «مقاصد الفلاسفة» و«المنقذ مِن الضلال»، حتى قيل لكثرة انشغاله بهم: «بلَعَ الفَلاسفَةَ، وَأَرَادَ أَنْ يتقيأَهم، فما استَطَاعَ» (الذَهبي، سير أعلام النُّبلاء)، وأتهمهم بـ«استدراج العوام» (المنقذ)، مع أنَّ الفلاسفة المتهمين ليس لديهم ما يُغري العوام كي يستدرجوهم. بيد أن الغزالي الأشعريّ، ويُشهد له كان إماماً في التَّأليف والفقه، عانى الأشاعرة أنفسهم، لما تعرض لمحنة التسقيط، وبهذا صار لا يعطي الفقهاء الحق بالتكفير، وبالتالي التحكم بدماء النَّاس، لأنّ فتوى التّكفير خطيرة، باعتبارها «حكماً شرعياً، يرجع إلى إباحة المال، وسفك الدَّم، والحُكم بالخلود في النَّار» (الغزاليّ، فيصل التفرقة بين الإسلام والزَّندقة).

اقتنع الغزالي بخطورة التكفير بعد أن طاله، فتراه يقول لأصحابه ممَن أغاظه الهجوم عليه: «رأيتك أيها الأخ المُشفق، والصَّديق المتعصب (التَّعصب له)، موغر الصدر، منقسم الفكر، لما قرع سَمعك مَن طعنِ طائفةٍ مِن الحَسَدة، على بعض كُتبنا، المصنفة في أسرار معاملات الدِّين، وزعم أن فيها ما يُخالف مذهب الأصحاب المتقدمين، والمشايخ المتكلمين، وأنَّ العدول عن مذهب الأشعريّ، ولو في قيد شبرٍ كفر، ومباينته ولو في شيءٍ نزرٍ ضَلالٌ وخُسرٌ».

يغلب على الظن أن قول الغزالي بخطأ التكفير والمكفرين، واستيعاب التّجربة التي مر بها، له علاقة بما تشبعه مِن الفكر الفلسفي، فالفلسفة علم تبادل الآراء والأفكار، لذا عندما أُفتي بحرق كتبه، كان مهيئاً بها، مِن دون أن يدري، لنبذ التكفير، باعتباره خوضاً في الضّمائر والدّماء. حدد أصحابه الأشاعرة تهمته بالغلو في التصوف: «الشَّيْخ أَبُو حَامِدٍ ذُو الأَنباء الشنِيعة، والتَّصانِيفِ العَظِيمة، غلا فِي طرِيقَة التَّصوف، وتجرَّد لنَصر مذَهبهم، وصَار داعِيةً فِي ذلك، وأَلَّف فيه توَاليفه المشهُورَة، أُخِذ عليهِ فيهَا مواضِع، وساءت بهِ ظُنون أمةٍ، واللهُ أعلمُ بسرِّه، ونفذَ أمرُ السلطان عِندنا بالمَغرب، وفَتوى الفُقهاء بإِحراقهَا» (الذَّهبيّ، سير أعلام النُّبلاء).

حتى صار ينتقد المفتي بالتَّكفير قائلاً: «كلِّ فرقةٍ تُكَفر مخالفَها، وتنسبه إلى تكذيب الرَّسول عليه السَّلام، فالحنبليّ يُكفر الأشعريّ زاعماً أنه مشبَّه، وكَذبَ الرسول في أنه ليس كمثله شيء، والأشعريّ يُكفر المعتزليّ زاعماً أنْه كَذب الرَّسول في جواز رؤية الله تعالى، وفي إثبات العِلم والقُدرة والصِّفات له، والمعتزليّ يُكفر الأشعريّ زاعماً أنَّ إثبات الصِّفات تكفير القُدماء... ولا يُنجيك مِن هذه الورطة إلا أنْ تعرف حدَّ التَّكذيب والتَّصديق، وحقيقتهما فيه» (الفيصل). لم ينفع الغزالي اعتبار الفلسفة بوابةَ الخراب الفكريّ، فظل يُلام على «إِدمَانِ النَّظَر فِي كِتَاب رسَائلِ إِخوَانِ الصَّفا، وَهو دَاءٌ عُضَال، وَجَرَبٌ مُرْدٍ، وَسُمٌّ قَتَّالٌ، وَلَوْلاَ أَنَّ أَبَا حَامِد مِنْ كِبَارِ الأَذكيَاء، وَخيَارِ المُخلِصينَ، لَتَلِفَ، فَالحِذَارَ الحِذَارَ مِنْ هَذِهِ الكُتُب» (الذَّهبيّ).

حصل هذا، لأنّ الخلاف داخل الجماعة الدّيِنيّة، سرعان ما يتحول إلى خلاف مع الله، مع أنّه خلاف بالأفكار، مثله مثل الخلاف داخل العقائد المدنيَّة. صحيح أنَّ الفقيه المغربي علي بن محمد الصدفيّ (ت: 509 هـ) أفتى، بعد حرق كتب أبي حامد مِن قِبل المرابطين، بتأديب الذي نفذ الفتوى، وتغريمه قيمتها «لأنّها مالُ مسلمٍ» (ابن الأبار، معجم أصحاب القاضي أبي عليّ الصّدفيّ)، لكن ما حصل أيقظ الغزاليّ.

أقول: لو يضع تجربته المُكفِرون أمام أعينهم، ويأخذون بفائدة درس الفلسفة، لأنها قد تحررهم مِن طامة التَّعصب. تخيل أن الغزالي، على فخامته داخل الإسلام عامة، يحل به ما حلَّ بالشَاعر إبراهيم بنُ سَيَابَةَ (ت: 198هـ) أحد المتهمين بالزَّندقة: «قَد كُنْتُ قبَلَ اليَومِ أَدعَى مُسلِمًا/ واليَومِ صَارَ الكُفرُ مِنْ أَسمَائِي» (ابن المُعتز، طَبقات الشّعراء). ختاماً: إذا كان هذا حال الغزاليّ فما حال الآخرين؟!

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

ما بعد الديمقراطية ـ لا ديمقراطية

ألقى الرئيس الأمريكي بايدن خطابًا حماسيًا قبل أيام ربط فيه الصراعات في أوكرانيا وإسرائيل. حيث قال إن كلاً من النظام الديكتاتوري في الكرملين وحركة حماس الإسلامية المسلحة "يمثلان تهديدات مختلفة، لكنهما يشتركان في هذا الأمر: كلاهما يريد القضاء تماماً على ديمقراطية مجاورة". لكنه تجاهل العربدة الصهيونية المنفلتة، وتجاهل صور الدمار المرعب في غزة، وتجاهل آلاف الشهداء الفلسطينيين جلهم من الأطفال والنساء تم ذبحهم أمام أعين الغرب المنافق الذي توحد في مواجهة روسيا واعتبرها تهديداً للأمن الدولي.

ولكن في غزة كان لهم موقف مختلف حيث احتشدوا للبكاء على إسرائيل، وسارعوا في مناصرة الموقف الصهيوني وتسويق روايته، والدفاع عنه في حرب الإبادة التي يستعرض من خلالها الجيش الصهيوني النازي قوته لقتل النساء والأطفال والمدنيين الأبرياء، وتدمير الشجر والحجر. هذا النفاق الصارخ من قبل الغرب وخاصة الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وكندا يؤكد زيف ادعاءات هذا الغرب بالتفوق الأخلاقي والإنساني، ويميط اللثام عن وجهه الحقيقي الذي كان يخفي رذائله بفضائل زائفة.

ما هي الديمقراطية التي يخشى عليها الغرب؟

بالرغم من تعدد المفاهيم لمصطلح الديمقراطية، لكنها تُجمع على أهم مقياس للديمقراطية هو مقياس الحرية الذي يصفه الغرب بمؤشر الديمقراطية. وفقاً لهذا تُظهر التجربة الغربية تحقق بعض معايير الديمقراطية وغياب الكثير منها. إن القول السائد في الغرب أنهم عاشوا عصر ازدهار الديمقراطية، هو كذبة كبيرة صدقها الكثيرون. إن بريق الديمقراطية اللامع في الغرب قد خفت منذ سنوات، بدءًا من بحر البلطيق إلى البحر الادرياتيكي ـ في فترة تصاعد فيها الأفكار العنصرية والمتطرفة ـ لتحل مكانها نزعات ثأرية واستياء قومي مرعب يمور تحت رمال متحركة، تتيح للأفكار المتشددة موطئ القدم الذي تحتاجه.

حتى القرن الثامن عشر كانت الديمقراطية ملاحقة، وكافة المنشقين والمعارضين كانوا يسمون أنفسهم سراً بالديمقراطيين. هذا الحال لم يبدأ بالتغير إلا في نهاية القرن الثامن عشر مع بداية الثورتين الفرنسية والأمريكية.

تعرضت الديمقراطية لانتقادات شديدة من قبل عقول فلسفية غربية مهمة. سقراط اعتبر أن ليس جميع الناس يمتلكون الذكاء الذي يتيح لهم إدارة الدفة. وافلاطون أشار إلى أن الديمقراطية واحدة من المراحل الأخيرة في انحدار الدولة المثالية، إذ اعتبر أنها سوف تجلب الطغاة.

أرسطو اعتقد أن الديمقراطية نسخة فاشلة من حكم الجماعة، وكان يرى أن أثينا مدينة تتداعى لأنها تبتعد عن دستورها الذي وضعه الحكيم "سولون".

إن فكرة قابلية الديمقراطية للتصدع، كانت فكرة منتشرة بشكل واسع في التاريخ القديم. حتى الفيلسوف الفرنسي "فولتير" الذي كرس حياته في مواجهة التعصب والتطرف، ودفاعاً عن حرية التعبير والحريات العامة، كان له موقف إشكالي من الديمقراطية حين اعتبر أنها منفصلة عن مفاهيمه الليبرالية.

أصبح مصطلح الديمقراطية متداولاً بين المثقفين والمتنورين في أوروبا، وتشكل رأي عام حول مفهوم الديمقراطية وسط المفكرين رداً على تسلط الكنيسة التي كانت تمتلك سلطات كبيرة على الناس من خلال تحالفها مع الإقطاعيين.

مع ظهور علماء الطبيعة "نيوتن" و"غاليلو" في بداية عصر النهضة، وجهت لهم الكنيسة تهم الزندقة، وحرضت العامة الذين أحرقوا بعض المفكرين والعلماء وهم أحياء. في هذا الصراع تم التوصل إلى اتفاق بين الكنيسة والمفكرين المتنورين وبعض أصحاب رؤوس الأموال من أهل النفوذ، على عقيدة "فصل الدين عن الدولة". وبذلك تم تحديد دور الكنيسة بالسلطة الروحية. من هنا شقت الديمقراطية طريقها الذي كان سبباً في تغير الطبقات الحاكمة، ومهدت لسقوط عروش وممالك أوروبية وتحويلها لرموز دون سلطات فعلية "بريطانيا، السويد، الدنمرك، النروج، إسبانيا، هولاندا، بلجيكا".

أوهام الديمقراطية

إن الديمقراطية التي مارستها أثينا تختلف عن الديمقراطية المعاصرة. فالديمقراطية القديمة كانت فعلاً مباشراً حاداً إلى درجة لا يمكن معها تحقيق أي استقرار. وكانت ديمقراطية تحتكرها نسبة ضئيلة من السكان اللذين يمتلكون حق التصويت وكلهم من الذكور الأصليين. لكنها ديمقراطية أتاحت إمكانية تبوأ العديد من المواطنين العاديين مناصب حكومية. سقراط اعتبر وصول المواطنين إلى مناصب عليا إشكالية. وهي إشكالية لا زالت قائمة من وجهة نظر البعض ومنهم عالم الإثولوجيا البريطاني "ريتشارد دوكينز" Richard Dawkins.

يعتبر سقراط أن في الحياة شيء واحد صالح ومفيد هو المعرفة، وهناك شر واحد هو الجهل. لذلك يعتبر أن التعليم هو أفضل رجاء للديمقراطية. ذلك أن الشعب المتعلم يستطيع مراقبة عمل السلطة وتمييز السياسي المخادع من الصادق.

كان التعليم لدى اليونانيين القدماء يتعلق باللغة، والمنطق، والهندسة، والحساب، والفلك، والموسيقى. هذه العلوم تحولت فيما بعد إلى أساس للتعليم اللبرالي الحديث. إن العلاقة بين الديمقراطية ومستوى التعليم علاقة جدلية تبادلية. تقوى الديمقراطية كلما زاد التعليم وانتشر وعلت قيميته ونوعيته، وتضعف الديمقراطية وتصاب بالوهن في مجتمعات ينخرها الجهل.

هذا ما تستغله الديمقراطيات الغربية التي تقوم بدعم الطغاة والديكتاتوريات في المنطقة العربية، وفي المناطق الأخرى الأكثر قهراً وجهلاً في العالم، وتساندهم سياسياً وأمنياً لقمع الشعوب. وحين يرى هذا الغرب "الديمقراطي" أن مصالحه تتعرض للخطر في هذه البلدان، سواء من قبل الشعوب المضطهدة، حينها يتنكر للديمقراطية، وإن تهددت مصالحه من أطراف في الأنظمة الاستبدادية نفسها، فإنه حينها يرفع في وجههم راية الديمقراطية "المسكينة" التي لم تُحترم، ويتم تحريك ملفات الفساد وملفات حقوق الإنسان التي تنتهك، ليتحول المواطن المقهور في دول العالم البدائي إلى مجرد أداة ضغط وابتزاز لتأمين مصالح الدول العرقية البغيضة، وحقوق شعوبها البيضاء التي وحدها جديرة أن تنعم بمكارم السيدة "ديمقراطية".

ما بعد الديمقراطية

تم استخدام مصطلح ما بعد الديمقراطية لأول مرة من قبل عالم الاجتماع السياسي البريطاني "كولن كراوتش" Colin Crouch في كتابه "التعامل مع ما بعد الديمقراطية" Coping with Post-Democracy. وقد حدد الدول التي تعمل وفق أنظمة ديمقراطية ـ أي أنها تجرى الانتخابات، وتسقط الحكومات، وتوفر حرية التعبير ـ ولكن تطبيقها يصبح محدوداً تدريجياً. وهذا يعني أن نخبة صغيرة تختار المؤسسات الديمقراطية لتمنح نفسها سلطة اتخاذ القرار. قد يشير المصطلح أيضاً إلى مفهوم عام لنظام ما بعد ديمقراطي، قد يتضمن هياكل أخرى لصنع القرار الجماعي والحكم، غير تلك الموجودة في الديمقراطية المعاصرة أو التاريخية.

وبرأيي أن ذلك شكل نعياً لموت الديمقراطية الاجتماعية بصورة غريبة، وظهور الليبرالية الجديدة. فالمجتمع ما بعد الديمقراطي هو المجتمع الذي يستمر في امتلاك واستخدام جميع المؤسسات الديمقراطية، ولكنها تصبح فيه على نحو متزايد قوقعة رسمية. وتنتقل الطاقة والدافع الابتكاري من الساحة الديمقراطية إلى دوائر صغيرة من المجتمع السياسي، أي إلى النخبة الاقتصادية. وهذا ما يحصل الآن في المجتمعات الغربية وفي الولايات المتحدة. فهم لا يعيشون في مجتمع ديمقراطي، وإن بدا غير ذلك.

يعود ذلك بصورة رئيسية إلى عدم وجود أهداف مشتركة بالنسبة للأشخاص في المجتمعات ما بعد الصناعية. فمن الصعب عليهم بصورة متزايدة تعريف أنفسهم كمجموعة، وخاصة بالنسبة للطبقة الدنيا. وبالتالي يصعب التركيز على الأحزاب السياسية التي تمثلهم. على سبيل المثال، لم يعد العمال أو المزارعون أو رواد الأعمال يشعرون بالانجذاب إلى حركة سياسية واحدة، وهذا يعني أنه لا يوجد هدف مشترك لهم كمجموعة وهو الاتحاد أو النقابة.

وتأثيرات العولمة تجعل من المستحيل تقريباً على الدول أن تضع سياساتها الاقتصادية الخاصة. ولذلك، تُستخدم الاتفاقيات التجارية الكبيرة والاتحادات فوق الوطنية (مثل الاتحاد الأوروبي) في صنع السياسات، ولكن من الصعب جداً التحكم في هذا المستوى من السياسة باستخدام الأدوات والطرق الديمقراطية.

بالإضافة إلى ذلك، تمنح العولمة الشركات عبر الوطنية المزيد من النفوذ السياسي نظراً لقدرتها على تجنب التنظيم الفيدرالي والتأثير بشكل مباشر على الاقتصادات المحلية.

وهناك عامل آخر لانحسار الديمقراطية في معظم الدول "الديمقراطية" لأن مواقف الأحزاب السياسية في معظمها أصبحت متشابهة إلى حد كبير. وهذا يعني أنه ليس هناك الكثير للاختيار من بينها بالنسبة للناخبين. والنتيجة هي أن الحملات السياسية تبدو أشبه بالإعلانات لجعل الاختلافات تبدو أكبر. كما أصبحت الحياة الخاصة للسياسيين عنصرا هاما في الانتخابات. في بعض الأحيان تبقى القضايا "الحساسة" دون مناقشة.

ثم عامل التشابك بين القطاعين العام والخاص، حيث هناك مصالح مشتركة كبيرة بين السياسة وقطاع الأعمال. ومن خلال شركات الضغط، تستطيع الشركات المتعددة الجنسيات وضع التشريعات بشكل أكثر فعالية من سكان أي بلد. لأن تلك الشركات ترتبط مع الحكومات بعلاقات وثيقة بحكم حاجة الدول إلى الشركات لأنها أصحاب عمل رائعون. ولكن بما أن قسماً كبيراً من الإنتاج يتم بالاستعانة بمصادر خارجية، ولأن الشركات لا تواجه أي صعوبة تقريباً في الانتقال إلى بلدان أخرى، فإن قانون العمل يصبح غير ودي للموظفين وتنتقل اللقمة الضريبية من الشركات إلى الأفراد. لذلك أصبح من الشائع أكثر بين السياسيين والمديرين تبديل وظائفهم عبر ما يسمى (الباب الدوار).

ولا ننس الخصخصة. أي الفكرة النيوليبرالية للإدارة العامة الجديدة (الليبرالية الجديدة) لخصخصة الخدمات العامة. ومن الصعب السيطرة على المؤسسات المخصخصة بالوسائل الديمقراطية، وليس لديها ولاء للمجتمعات البشرية، على عكس الحكومة. والنتيجة وجود آلاف "الشركات الوهمية" التي تتسم بالمرونة والمراوغة وتنحني لتقلبات السوق. وتلك الشركات الخاصة لديها الحوافز الكبيرة لتحقيق الربح الفردي بدلاً من تحسين رفاهية الجمهور.

ما بعد الديمقراطية ـ لا ديمقراطية

في الديمقراطيات الغربية، يصل الحكام فيها إلى سدة السلطة عبر الانتخابات، من خلال ترشيح من أحزابهم السياسية. فالأحزاب السياسية هي التي تقترح أسماء من طرفها ليكونوا ممثلين لهذه الأحزاب في السلطة التشريعية، وهم من يقوم الشعب بانتخابهم عبر انتخابات حرة ونزيهة ومباشرة. هذا الأمر يتم في كافة الدول الغربية بغض النظر عن شكل الحكم فيها، سواء أكان رئاسياً مثل الولايات المتحدة، أو كان حكما وزارياً مثل بريطانيا، أو نظاما مختلطاً كفرنسا. ويقولون لقد انتخب الشعب ممثليه، وأن الشعب يشارك في الحكم والسلطة.

لكن الحقيقة أن ممارسة الناس لحقها في التصويت لا تعني شيئاً حقيقياً في الواقع، لأن مراكز المال وكبار الصناعيين وأصحاب الثروات هم من يمتلك القرار الحقيقي في الدولة. وهم الذين يسيطرون على الأحزاب وعلى المجالس التشريعية وعلى النقابات والبلديات. ولا يمكن لأحد من خارج هذه المنظومة أن يشغل مقعداً في هذه الهيئات. ومن أجل أن تكتمل أكذوبة الديمقراطية يتم توظيف وسائل الإعلام هنا لتنجز مهمتها في الكذب والتزييف والتدليس، ومن سوء طالع الديمقراطية فإن أصحاب الثروات هم أنفسهم أصحاب وسائل الإعلام، وهم الذين يسيطرون على الشركات الكبرى التي تستطيع صناعة الحرب والسلام، يمكنها افتعال الحروب لتحريك العجلة الاقتصادية، ويمكنها اللعب في الاقتصاديات كما تشاء عبر تغيير أو إصدار قوانين تتعلق بالتجارة أو الضرائب. إن سيطرة رؤوس الأموال في الدول الغربية هي مصدر السلطات. والشعوب التي تظن أنها تنتخب بحريتها من اختارتهم هي شعوب واهمة، لأن الحقيقة أن من ينتخب هي القوى التي تمتلك رأس المال المتنفذ.

إنها ديمقراطية الكذب التي تضمن لك حرية أن تفعل ما تريد لكن ضمن القوانين التي رسم خطوطها أصحاب القوة الاقتصادية التي تسيّر القرارات، فأنت تختار بإرادتك ما حددوه هم لك.

ديمقراطية تافهة خالية من أي معنى حقيقي. تجعل المجتمع ووسائل الإعلام منشغلة بقط تم دهسه في الطريق العام، بينما لا تلقي بالاً تجاه الآلاف الذين يموتون في أماكن متعددة في هذا العالم المجنون، ولأسباب مختلفة.

ديمقراطية مزيفة تتلاعب بها وسائل الإعلام ومراكز الأموال، وتتحكم بمسارها من داخل غرف سوداء، كي تقوم بتزييف الحقائق وخداع الشعب، وتوجيه القضايا العامة في تجاه محدد بعد أن يتم إلباسها ثوب الديمقراطية، كما حصل في العديد من الملفات الكبرى التي تم الكشف عنها.

ديمقراطية منافقة تعتبر الحرب بين روسيا وأوكرانيا غزواً روسياً لأوكرانيا يشكل انتهاكاً مروعاً للمبادئ الأخلاقية والقانونية الأساسية. وترى في المقاومة الفلسطينية المشروعة للاحتلال الصهيوني عملاً إرهابياً مداناً.

هل فشلت الديمقراطية الغربية؟

نعم فشلت فشلاً ذريعاً. ألم يحكم هتلر ألمانيا النازية بانتخابات ديمقراطية؟ والفاشية الإيطالية ألم تنجب موسوليني بواسطة انتخابات ديمقراطية؟ نتنياهو الصهيوني قاتل الأطفال والنساء يحكم باسم الديمقراطية، ووصل إلى سدة السلطة بواسطة انتخابات ديمقراطية كذلك! وكذلك الأحزاب اليمينية الشعبوية الغربية أوصلت قادة إلى المناصب العليا بواسطة الديمقراطية.

لقد بلغ عدم الرضا عن الديمقراطية داخل الدول الغربية إلى أعلى مستوياته منذ ربع قرن تقريباً وفقاً لباحثين من جامعة كامبريدج. ارتكز البحث، الذي يغطي 154 دولة حول العالم، على سؤال الناس عما إذا كانوا راضين أو غير راضين عن الديمقراطية في بلادهم.

أظهر البحث أن نسبة غير الراضين كانت 33% في عام 1995، وصلت إلى 58% في عام 2021 وهو أعلى مستوى مسجل.

إنها الديمقراطية الغربية التي وصفها جان بول سارتر بأنها "فخ الحمقى". واعتبرها الزعيم البريطاني ونستون تشرشل أسوأ نظام. ديمقراطية تعتمد التكييف الاجتماعي للبشر مما أوجد الغالبية الصامتة. إنها ديمقراطية الحرية والمساواة والعدالة ومنح السلطة للشعب غير المخول بممارستها أصلاً. لهذا قال عنها "جان جاك روسو" أن الديمقراطية الحقيقية بمعناها الدقيق لم توجد أبداً ولن توجد أبداً.

ديمقراطية هلامية يشن الغرب باسمها الحروب على الدول النامية، ويحاول فرضها على دول أخرى. هي ذاتها الديمقراطية التي تضج بها الوسائل الإعلامية الغربية وتحاول تعميمها، في وقت يرفضها الكثير من المفكرين الغربيين وعلماء الاجتماع، وغالباً لا نسمع أصواتهم. ومن المستغرب أنه رغم فشل الديمقراطية بنموذجها الغربي، إلا أننا نجد محاولات الغرب لا تتوقف إلى نشرها وتعميمها بالترغيب أو الترهيب.

إن الديمقراطية في العصر التنويري الغربي تتشابه مع تلك الديمقراطية اليونانية. حيث كان الحكم للنبلاء في العصر الإغريقي، وأصبح الحكم للطبقة البرجوازية بعد الثورة الفرنسية، وفي كلا المرحلتين كان حق التصويت حكراً على الأحرار والملاك.

أما الديمقراطية في العصر الحديث فهي تفرض الوصاية على الشعب، لأن الأحزاب السياسية لا ثقة لها بقدرة الشعب على حكم نفسه بنفسه.

عالم المصالح الكبرى

اتسم القرن الواحد والعشرين بسقوط الأيديولوجيات والنظريات. والنظام السياسي العالمي لم يعد يخضع للتصنيف المألوف، فهو لم يعد لا يسارياً ولا يمينياً ولا ديمقراطياً. إنه قرن المصالح الكبرى، حيث تتصارع فيه قوى عظمى تبحث عن آليات لتحقيق مصالحها، في ميدان يعتبر أن القوة الحقيقية هي القوة الاقتصادية التي تتمكن من الاستحواذ على الأسواق لتلبية الاحتياجات البشرية المتزايدة.

دخلت المجتمعات الغربية -بمعظمها- عصر الشعبوية ما بعد الديمقراطية، التي أظهرت الانتخابات الأخيرة التي تم تنظيمها في العديد من الدول الأوروبية خلال الأعوام الأخيرة، الوجه الصريح الواضح لها، إذ حققت الأحزاب اليمينية المتطرفة توسعاً جماهيرياً وصعوداً انتخابياً. واعتبرت الأحزاب العنصرية أن هذا الفوز بداية ما أسماه رئيس الوزراء الهنغاري "فيكتور أوربان" بالديمقراطية غير البرلمانية، وكان يقصد فصل النظام الانتخابي عن القيم الحداثية الغربية. فيما دعت أحزاب أخرى إلى العودة للهوية المسيحية التقليدية التي كانت محور الخصوصية الأوروبية.

وهذا ما ذكره عالم الاجتماع "ايمانويل تود" حيث حدد خمس سمات للظرف الراهن في بلد مثل فرنسا اليوم وهي عدم اتساق الفكر، والتواضع الثقافي، والعدوانية، والحب المرضي للمال، وعدم الاستقرار العاطفي والعائلي. ويقابل هذه السمات برأيه انحسارا في الديمقراطية وخللا في التربية وفراغا روحانيا وزيادة في فقر الشرائح الشعبية.

إن عالم ما بعد الديموقراطية هو عالم تتراجع فيه السياسة لمصلحة الاقتصاد و/أو الأمن و/أو الثقافة الخاصة. إنه أيضاً عالم تتقوض فيه الأسس المعرفية للعلوم الاجتماعية، بفعل القوة الناعمة للنظام الجديد.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

يضرب العنف جذوره في الفعل التاريخي للبشر، فمنذ فجر الطبيعة والإنسان يَقمع و يَضطهد ويَتحايل على أبناء جنسه، وتكشف قصة الحضارة عبر سيرورتها الطويلة ما أُزمت به الأرض من جرائم عرقيّة وصراعات دينيّة.

 واللافت أنّ الحضارة كلما تقدّمت بالإنسان أسرع ليتوّسلها في ابتكار أدوات خطيرة للتحايل وأساليب مختلفة للترميز العنفي، والذي يظهر أنّ منطقة العُنف تتشخّص بطبيعة العلاقة المركبة بين (المُعنِّف والمُعنَّف)؛ فلا يختار المعنِّف إلا الأسلوب المتاح له إمكاناً والمؤثّر تمكّناً بالآخر المعنَّف به، ولعل أبرز معايير اختيار أسلوب العنف هو ما تتلذذ به الطبيعة البشرية وما يغطس في لا شعورها من أنانيات متراكمة، فذو الطبيعة الشرسة لا يفضّل الأسلوب العنفي الذي يختاره ذو الطبيعة الهادئه!

 حدّثني أحد الأصدقاء الكادحين في سبل العيش، أنّ مرؤوسه في العمل إذا سخط عليهم، أثقلهم بساعات عمل طويلة أزاء أجر زهيد، حتى إذا اقترب رأس الشهر أبطأ عليهم استحقاقهم قصداً منه، وتمنّن لسانه جميلاً عليهم، والتوت كلماته بما يبرّر أفعاله، وقد يرهف جسد بلغةٍ تلوح بما هو ودود وتخفي ما هو أناني، ويستطرد الصديق ليقول:(إنّ بعض العاملين معنا ينصاع للباقة حديثه، وآخرين يقتنعون بتبريراته، وطرفاً ثالث يفضّل أن يتعايش بصمت)

في هذه القصة الحيّة تلّبس العنف بثوب يبدو لطيفاً وعقلياً (التمنّن الجميل، التبرير المنطقي)، ولكنّه في الحقيقة يضمر ما هو قهريّ وتحيّزيّ وإجباريّ.

يشخّص علماء الانثروبولوجيا هذا النوع بالعنف الرمزي، ويعني أن يفرض المسيطرون طريقتهم في التفكير والتعبير والتي تكون أكثر ملائمةً لمصالحهم وتسلّطهم عبر أسلوب لطيف وعذب

والأخطر من هذا ما ذهب إليه بورديو أنّ العنف الرمزيّ قد يكون " غير مرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم، عنف يمارس عبر الطرائق والوسائل الرمزية الخالصة".

 ويظهر أنّ استعماله الرموز هو ما يجعله خفيا من جهة وهلامياً واسعاً من جهة أخرى، فالرموز تتعدى ما هو لساني لتشمل الأيقونات ولغات جسد ونبرات الصوت وكل هذه علامات قد تتخفى لتطلب ذهنية وقادة لتشخيصها، الرموز عالم واسع وفضاء متحرّك.

العنف الرمزي هو ايديولوجية تعمل بخلسة على توجيه ضحاياها واستغلالهم بالكيفية التي تريد، وقد يكون غير مرئي لأنّه يأخذ حالة بداهة مُلقنة مؤسّس لها لا يحق لأي أحد الخروج عليها، وقد يكون مبطّن بمشاعر معنوية وبتواصل حميم يصعب معها كشفه، العنف الرمزي يصادر حقوق العقل والوجدان معاً.

أظن أنّ هذا النوع هو أكثر أنواع العنف شهرتاً وتأثيراً في عالم يكتظ بالتكنولوجيا وماكنات التواصل الاجتماعي فمع السيولة المستمرة للحداثة الرقمية والفهم المغلوط للحرية، اتسعت أشكال العنف الرمزي وأخذت صوراً عديدة من الابتزاز والتشهير والتنمّر.

 أتساءل أخيراً، عن امكانية معالجة هذا المشكل، هل يمكن للدين بما يوفّره من رقابة وجدانية وايقاظ للضمير أن يخفف حدّة هذا النوع من العنف؟

هل للعقد الاجتماعي والقوانين الوضعية أن تحجّم مَن يعنّف الآخرين رمزياً؟

 هذه أسئلة ملحّة تنتظر جواباً واقعياً.

***

عبد الخالق الفتلي

 

"واعتقادنا أن النهضة لم توفق هذا التوفيق إلا لأنها امتازت على ما تقدمها من النهضات بمزيتين ظاهرتين: أولاهما أنها كانت نهضة أمة كاملة وجدت زعيمها ولم يكن زعيم رهط محدود أو طبقة خاصة، والثانية أنها طلبت الاستقلال حيثما وجدت إليه سبيلا ولم تقيده بوسيلة من الوسائل أو نظرية من النظريات" (العقاد في كتاب سعد زغلول زعيم الثورة). لا يهدف هذا المقال للتنظير لماهية الهوية وتعريفاتها والخلافات الفلسفية والاجتماعية وغيرها حولها، وإنما ينطلق من مشكلة ازدادت في الظهور بقوة بعد السابع من أكتوبر وبدء عملية طوفان الأقصى، وهي التشكيك في الهوية العربية والاستنقاص منها، مما يسبب مشكلة أعمق، لأن الصراع مع دولة الاحتلال ليس سياسيا وعسكريا واقتصاديا فحسب، بل هوياتيٌّ أيضا!

إن نقاشا قديما كان يجري والهدف منه تفتيت أطراف ومراكز الهوية العربية بهدف الوصول إلى حالة من الهويات المتعددة -غير العربية- في العالم العربي، وقد ذكر جمال حمدان في شخصية مصر هذه المسألة:

"ونبدأ فنقول إن مصر لم تكن الوحيدة التي أثير حولها هذا الجدل، فالسودان وُصف بأنه إفريقي وليس عربيا، والمغرب زعموا أنه بربري لا عربي، وقيل عن لبنان حينا والشام حينا آخر إنه فينيقي أو سوري وليس عربيا، والعراق كذلك لم ينج من الاتهام. بمعنى آخر، أن كل أجزاء العالم العربي خارج الجزيرة العربية دمغت بصورة أو بأخرى بأنها ليست عربية، ولكنها مستعربة على أساس أن السكان قبل التعريب لم يكونوا عربا جنسيا". والحقيقة أن هذا الادعاء يتساقط إذا عُلم بأن ما يشكل الهوية العربية هو الثقافة لا العرق، بمعنى أن الهوية العربية تعتمد بشكل مركزي على وجود اللغة العربية مع حامليها وبالتالي الثقافة والذاكرة والفكر العربي، وكان هذا دأب العرب منذ القدم، إذ أن كثيرا من مشاهير التاريخ العربي -إذا صح هذا التعبير- ليسوا من العرب عرقيا، غير أن انتماءهم للثقافة العربية وتشبعهم بها جعل التشكيك في عروبتهم باعتبار العرق ضربا من المغالاة الشعوبية لا غير، ويبرز منهم كثير مثل عنترة وبلال بن رباح ثم الجاحظ وسيبويه وأبو نواس وغيرهم الكثير. ولما كان الأمر كذلك فإن كل من انتمى ثقافيا إلى العروبة فهو داخل في الهوية العربية غير خارج منها حتى وإن كان عرقيا من بعيد أو قريب ليس عربيا، وفي هذا أيضا يبرز كلام تاريخي وأنثروبولوجي كثير يطرح سؤالا ما إذا كان كل من هم خارج الجزيرة العربية ليسوا عربا عرقيا، والنتيجة التي يُمكن الوصول إليها -إذا ليس يسع تفصيل المقدمات هنا- هو أن هناك ترابط أنثروبولوجي-عرقي كبير بين العالم العربي حاليا، ويكفي القول بأن محمد عزة دروزة في كتابه "الوحدة العربية" قد وصل إلى أن هناك أكثر من عشرة آلاف كلمة بين المصرية القديمة (الحامية) والعربية (السامية)، لذلك فإنه لا معنى للقول بأن كل من يقع خارج جزيرة العرب ليسوا عربا سواء من الناحية الثقافية وهي المبدأ الأولي الذي تقوم عليه الهوية العربية، أو من الناحية العرقية، والنتيجة هي التي يصل إليها جمال حمدان حين يقول "ومن ثم بالتالي كان مصير مصر عربيا من الناحية السياسية، بمثل ما أن مصير العرب مصري من الناحية الحضارية"، وهو يؤكد بهذا الاتصال الكامل بين المنطقة العربية بمعنى أن مصير الجزء هو مصير الكل والعكس، مع الاحتفاظ بالخصوصيات الثقافية والاجتماعية وحتى السياسية -في ظل انعدام الاتحاد السياسي والاقتصادي والمعوقات التي تحد من وجوده- لكل جزء من هذه الأجزاء، كما أن هناك خصوصيات ثقافية واجتماعية لكل مجتمع داخل الدولة الواحدة غير أنهم جميعا يتأثرون بمصير الدولة، أو كما جاء في التعبير النبوي" ... إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

من الأسباب كذلك لاتهام الهوية العربية بالنقص والقصور هو ربط الهوية بالحكومة، باعتبار أن الحكومات هي الممثل لهذه الهوية، وعلى الرغم من بديهية بطلان هذا الادعاء -غير المصرح به- إلا أنه ينتشر لا سيما بين المستائين من عدم وجود ردة فعل حقيقية -كما يتصورونها- من الحكومات للحرب على غزة. والحديث عن الهوية العربية لا يتخذ الطابع القطري للهوية باعتبارات الحدود القائمة وإنما الطابع القومي الثقافي الذي سبق الحديث عنه، لأن الهوية القطرية لها أبعاد تتعلق ببناء الدولة ذاتها أو كما يصف كينيث هوفر في إجابته على سؤال: لماذا الهوية؟ فيقول:" بأن الناس يخلقون الدول لإثارة النقطة حول من هم، وكم هم مختلفون عن أناس آخرين في الجانب الآخر للحدود" وهذا غير متحقق -حاليا على الأقل- مع الهوية العربية، وعليه فإنها تتخذ الطابع الكلي لا الجزئي، وهذا ما تدل عليه المناصرة العابرة للحدود للقضية الفلسطينية والشعور بأنهم جزء من هذه المعاناة لا خارجها.

 إن هذا الارتباط بين أفعال الحكومة وقوة أو ضعف الهوية قد ساهم في تفكك الهوية العربية إلى هويات قطرية-جزئية، جعلت من كثيرين -في الجانب المقابل- يعتقدون بأنهم غير ملزومين إلا بما يقع داخل حدود دولتهم، وعلى هذا جاء حديث بعض "رجال الدين" حول عدم إلزامية القيام بأي شيء "إلا الدعاء" للفلسطينيين.

والواقع أن الجانبين مردود عليهما، فإن الهوية العربية أولا غير مرتبطة بأفعال الحكومات كونها ليست ممثلة لها للاعتبارات السياسية من حيث العلاقات الخارجية مع الدول الأخرى ومع النظام العالمي، ولذلك تجيء الأهمية الشعبية لمطالبة الحكومات بعدم الرضوخ كليا لهذه الاعتبارات وإنما عليها اتخاذ موقف ثابت وحازم من القضية، ولذلك فإن هذا الربط لا معنى له، كون أن المجتمع هو الممثل الأول لهذه الهوية، وكما هو معلوم فإن الشعوب -أغلبها على الأقل- لا زالت على فطرتها السوية المناصرة القضية الفلسطينية والغاضبة على الاحتلال واعتبار أن المقاومة بكل أشكالها هي السبيل الوحيد لإنهاء هذه الجرثومة القابعة في صدر الوطن العربي. وأما ثانيا فإن الهوية العربية عابرة للحدود ولا تلتزم بالاعتبارات القطرية، فإن مصير كل من يقع في هذا الإطار واحد -كما تم تبيينه سابقا- ولا يُمكن الاكتفاء بما يقع داخل الحدود، حتى من الجانب الأمني-البراغماتي فإن كل صراع في جزء واحد أو عدة أجزاء من المنطقة، له تأثير بالغ على الأمن القومي لباقي دول المنطقة كونها مرتبطة ماديا ولا ماديا، والشواهد التاريخية على هذا كثيرة وواضحة.

إذن من المستفيد من ضعف الهوية العربية وتفتيتها؟، إن المستفيد الأول من هذه المسألة هي بلا شك إسرائيل، فإن تفتيت الهوية العربية إلى هويات فرعية تتعلق كل واحدة منها بحضارة قديمة لا تأثير مباشر لها في الواقع المعاصر يجعل من الهوية الصهيونية متقبلة وواقعية في المنطقة، وهذا ما لا يتحقق في ظل وجود هوية عربية شاملة وعميقة وقديمة، في مقابل هوية صهيونية قليلة وسطحية وحديثة. ويطرح الدكتور عبد الوهاب المسيري هذه المسألة فيقول:" ولكن الدولة الصهيونية تريد أن يصبح الشرق الأوسط مقسما إلى دويلات إثنية ودينية وعرقية، ومن ثم تصبح الدولة العبرية مسألة طبيعية للغاية، لأنه داخل التشكيل الحضاري العربي تبقى مثل هذه الدولة كيانا دخيلا شاذا. وقد ترجم المخطط الصهيوني نفسه في الآونة الأخيرة إلى فكرة السوق شرق الأوسطية ثم مشروع الشرق الأوسط الكبير، حيث يتم تفتيت الهويات لتظهر الهوية العبرية وتقوم بقيادة المنطقة وتوظفها لصالح الغرب."

وأما بذكر الشرق الأوسط الكبير، فإن هذه الخطة لا زالت قائمة، ولا يُظن أنه تم التغافل عنها، غير أنها تأخذ أسماء أخرى، ولعل من أكبر الأدلة على هذا، الخريطة التي رفعها نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة وتحمل اسم "الشرق الأوسط الجديد" وقد وضع اللون الأخضر على دول "الشرق الأوسط الجديد" هذا، دون أن يَذكر وجود دولةٍ فلسطينية، والواقع أن الشرق الأوسط الذي تحلم به الإدارتان الأميركية والصهيونية لا يتم إلا من خلال هذه الأساليب التي تحاول تفتيت الهوية العربية مبدئيًا واستقلال كل شعب بهويته القطرية، بل زاد الأمر عن هذا فظهرت أصوات تقسم الهوية القطرية نفسها إلى هويات أصغر، مثل القول بأننا وإن كنا جزءًا من نسيج اجتماعي عربي في دولة عربية في جزيرة العرب غير أننا لسنا عربا!، فتجد أن الهويات تصير أصغر فأصغر للوصول أخيرا إلى نتيجة مفادها أن الهوية الصهيونية واحدة من هذه الهويات الصغيرة الموجودة في الشرق الأوسط. لذلك فإن كل انتقاص من هذه الهوية العربية الشاملة هو خدمة للمشروع الصهيوني.

في النهاية أقول بأن الحال يقتضي الحفاظ وإعادة بناء الهوية العربية من أجل الوصول إلى حالة من مقاومة الهوية التي تريد دولة الاحتلال فرضها على الواقع العربي، ولا يتم هذا إلا بالجهود الشعبية الثقافية بداية، ثم يُمكن تطوير الأمر إلى بناء مؤسسات تُعنى بهذا من جميع الجوانب المركزية التي تشكل الهوية.

***

جاسم بني عرابة

"قد جاءَكم بصائِرُمن رَبِّكمْ فمن أَبصرَ فلِنَفسهِ ومَنْ عَمى فَعليها وما أنا عليكمْ بحفيظٍ" سورة الانعام: 104

البصرهو النور الذي تدرك به الجارحة المبصرات، ويقال أبصرته برؤية العين إبصارا، والإبصار هو النظر الدقيق والإشراف، وهو أعم من الباصرة وهي العين (ألم نجعل له عينين) البلد8 أما الباصرة الباطنة فهي القلب، فالبصر إذن هو حاسة النظر الذي به تدرك العين صور الاشياء، فالرؤية والنظر مطلق غير مقيد بقيد العلم والعلم مطلق غير مقيد بقيد النظر .

فالنظر هو التحديق والتقليب في حدقة العين لادراك الصور وبه تبدأ مرحلة الابصار وهو أول مراتب الابصار أي إن النظر يتم دون استخدام للعقل وبالتالي عدم الاحاطة الكاملة بالشئ المرئي، فهو إذن نظر خاطف، ويحدث كثيرا أن ينظر الانسان لامر ما دون التركيز عليه وفكره مشغول بأمرٍ آخر فيبدو له الامر وكأنه لم يرَ شيئا ! وعندما يُسأل عما رآى فإنه سينكر رؤيته لاي شئ !وهو صادق لانه لم يُبصر شيئا بسبب عدم قيام مركز الابصار بعمله وقت النظر، فالنظر تم بلا رؤية وبالتالي بلا إبصار ! ويحدث ذلك عندما يكون الناظر شارد الذهن أو في حالة ذهول أو واقعا تحت تأثير مسكر، فهذه الامور تسبب عطلا مؤقتا لخلايا المراكز العصبية في المخ (بما فيها مركز الابصار) والنتيجة هي عمى مؤقت يزول بزوال اسبابه، أما إذا أصيبت خلايا مركز الابصار بتلف عضوي فالنتيجة هي العمى الدائم، وحالة النظر بلا رؤية معناها عدم القدرة على الابصار بسبب انعدام الركن الفعلي أو الادراكي وهو الرؤية قال تعالى"وتراهُم يَنظرونَ إليكَ وهم لايُبصرونَ" ..الاعراف 198، كما وإن الرؤية بلا نظر يمكن ان تحدث نتيجة استحضار بعض المشاهد القديمة المخزونة على شكل ذكريات من عمليات ابصار سابقة تامة وهذا مانعبر عنه (احلام اليقظة ) ومن الجدير بالذكر ان احلام اليقظة تتم بصورة اوضح في حال اغماض العينين ليتسنى للعين الا تتداخل صورها مع الصور الانية و حدوث (تشويش) على مركز الرؤية، وحقيقة الامر إن العين طالما تتجاهل بعض المشاهد أوتخدع العقل بارسال صورا سطحية أو فارغة، شأنها شأن الفلم الغير محمض، و قد ينخدع الدماغ بها ليعطي انطباعه على ضوء تلك الصورة وهذا مايسمى "خداع البصر"فهي كالحارس المرتشي الذي يغض الطرف عن بعض الامور ويهرّبها دون فحص وتمحيص (قالَ إلقوا فلمّا ألقوا سَحروا أعينَ الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحرٍ عظيم) . فالاية القرانية واضحة كعين الشمس فالعين من الممكن جدا أن تُخدع أو تُسحر لتنقل تصورا مغلوطا الى الدماغ، فالبصر يُخطف ويُزيغ ويُخدع.

ويقال إن فلانا مبصرا أي عكس ضرير ولكن ينادونه بالبصيرتكريما له بمعنى إنه يشاهد الاشياء كلها ظاهرها وباطنها بقلبه وجوارحه وليس بعينيه.

والابصار هو إدراك الصور ورموزها وانعكاساتها مع تحليل العصب البصري للمخ لترجمتها وتحليلها، لذلك فهو رؤية الاشياء مع استخدام العقل للاحاطة التامة بالشئ، أي إنه لايحدث بمجرد النظر السطحي إنما يتم عن طريق الاتصال بالمخ وهنا تظهر الحكمة الالهية في (غض البصر) لانه تعدى مرحلة النظر وزاد عن الحد المطلوب الذي حرك الاحاسيس معه قال تعالى"قُل للمؤمنين أن يغضّوا من أبصارهم ذلك أزكى لهم" النور30

فالبصرهو حاسة الرؤية الواضحة للاشياء، والرؤية هي الصورة الحقيقية بعد مرورها بمرحلة النظر ثم البصر انتهاءا بالرؤية قال تعالى"رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت" الاعراف198

أي إن النظر قد اقترن بالعين التي تدور في محجرها حسب الاية الكريمة

والنظر نعمة كبرى بل إنها أعظم النعم التي من الله بها على عباده

ونحن في بحثنا هذا نحاول تسليط الضوء على بعض الفروق البلاغية بين النظر والبصر والبصيرة في القرآن الكريم التي شملها في عدة آيات للتفريق سنختار بعضا منها:

- النظر للتأمل: قال تعالى (فلينظر الانسان مم خُلق) (أفلا ينظرون إلى السماء فوقهم) (ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) فالنظر هنا استشعارا لعظمة الخالق .

- النظر لاهل الجنة بغير إحاطة (وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة) القيامة23

- النظر بمعنى المعاينة (انظروا إلى ثمره إذا أثمر) الانعام99

- النظر للاستشهاد (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) الاعراف143

- النظر للتيسير (وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) البقرة280

- النظر للتميز بين الامور (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها) البقرة259

- النظر المستحب للتمتع بجميل خلق الله (أفلا ينظرون إلى الابل كيف خُلقت) الغاشيى17

- النظر المكروه وهو النظرة السيئة التي تطال ماحرم الله (ولاتمدنّ عينيك الى مامتعنا به أزواجا منهم..) الحجر88

- طرفة العين وهي المدة الزمنية اللزمة لالقاء نظرة واحدة سريعة (قال الذي عنده علم الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ طرفك) النمل 40

أما البصرفهو إدراك العين وهو الحاسة التي توصل الى الرؤية المتكاملة للصورة قال تعالى (أم لهم أعين يبصرون بها) الاعراف 19

- النظرة الخاطفة وهي التسريع والتعجيل (وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر) القمر50

- الكفر والجهل (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم و على أبصارهم غشاوة) البقرة 7

- بصر الادب والطاعة والعفاف (مازاغ البصر وماطغى) النجم 17

- الزيغ وهو الميل عن الاستقامة والانحراف عن الحق (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) الصف5

- الغشاوة وهي حالة إعجازية تتعطل أمامها كل القوانين السارية في الامور الاعتيادية (وجعلنا من بين أيديهم سدّا ومن خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لايبصرون) يس 9

- غض البصر (فل للمؤمنين أن يغضوا من أبصارهم) النور30

أما البصيرة فهي قوة الادراك والفطنة والحجة والدليل وهي القوة المدركة في القلب، ومن وفقه الله جعل بصره في خدمة بصيرته فالمعرفة القلبية والفراسة والقوة الايمانية الحقة هي بصيرة مبصرة، وللبصيرة ايضا درجات منها:

بصيرة الايمان: وهي أن لايتأثر الايمان بشبهة عارضة تعارض ماوصف الله به نفسه ورسوله، فالله منزها عن العيوب والنقائص وهو حي لايموت لايخفى عليه مثقال ذرة في السموات والارض، وهذه البصيرة تجعل الانسان يسمو على منهج الصراط المستقيم، فهي نور يقذفه الله في قلوب المؤمنين لإبصار حقائق الاشياء (وابصر فسوف يبصرون) الصافات 179

- بصيرة العقل والحكمة وهي نور العقل والضمير التي يهتدي من خلالها الانسان بهدي الله"قد جاءكم بصائِر من ربكم"الانعام 104

- بصيرة الوجدان و التحكم بالحواس وهي بناء الافكار واتخاذ القرارات الصحيحة"قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني"يوسف108

- بصيرة الوعد وهي الايمان المطلق بالحياة الاخرة وان الانسان سوف يحاسب على أعماله وان أول المحاسبين له هي نفسه (بل الانسان على نفسهِ بصيرة) الاسراء 14

- بصيرة الجوارح وهي الرؤية القلبية الخالصة لله (ماكذب الفؤاد مارآى) النجم 12

- بصيرة البيان والتذكير (تبصرة وذكرى) ق 8

- لبيان الايات (وجعلنا آية النهار مبصرة) الاسراء12

- خصوصية المعنى وهي الوظيفة الدقيقة وراء كل لفظ بعينه (وتراهم ينظرون اليك وهم لايبصرون) الاعراف198 فلنتأمل هذا الثراء اللفظي الذي يظهر جمال اللغة القرآنية وبلاغتها فقد وردت فيه ثلاث ألفاظ تباعًا وهي الرؤية، النظر، والبصر، هذه الاية تجعل القارئ يتأمل جميل التخصص وفرادة المعنى وغنى المفردة.

فالبصيرة تنبت في رياض القلب المؤمن وهي الفراسة التي يميز الله بها بين عباده، فعندما يبعث الله الرسل مبشرين ومنذرين ومتحصنينين بنور الوحي وهو نورينبع من نور الله وينتشر ويستمر بزيادة الايمان والهدى

والبصيرة ثلاث درجات:

- اليقين فهي حق يمتثل بأوامرالله جل وعلا (قد جاءكم بصائر من ربكم) الانعام104

- اليقين بالعدل والحكمة الالهية (أليس الله بأعلم بالشاكرين) الانعام53

- الفراسة الصادقة والصراط القويم وهي فراسة يختص بها اهل الايمان وهي متصلة بالله متعلقة بنور الوحي (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم) محمد30

ومما سبق نصل الى نتيجة مفادها إن وظيفة البصر عملية مركبة من شقين هما النظرويقوم بها مركز عصبي خاص في قشرة المخ (الدماغ) وهو متصل بشبكية العين عن طريق العصب البصري، فالابصار هو الادراك الحسي لعالم المرئيات ذات الكيان المادي بعد النظر اليها في الضوء، أما البصيرة فهي الفكر المتقد والخلفية المخزونة عند الانسان التي تمكنه من التمييز والادراك واتخاذ القرارات والاهتداء الى الخير بنفس مدركة وبنظرة ثاقبة وفراسة وسرعة بديهية، فهي إذن المخزون والمكنون الداخلي للانسان والذي نعبر عنه بالعقل الواعي والقلب الناضح بالحكمة والمنفتح على تعاليم الله، وعندما يقال إن فلانا أعمى البصيرة فهذا تعبير مجازي لايراد به التعبير عن عمى العين بل يعني إنه لايرى حقيقة الاشياء بانطباعها في عقله وقلبه وعليه تكون بصيرته عمياء (ونُقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا) 110 الانعام

فالبصيرة تنظر للاشياء بعين القلب ويدركها العقل النير دون الحاجة الى حاسة البصر، هذه الخصيصة التي يخصها الله لبعض من عباده تجعلهم من الذين أبصروا الحياة بقلوبهم المؤمنة، فالبصيرة مصدرها الايمان بالله وتوحيده وترك الظلم و الملذات والبدع والخرافات التي تذهب البصيرة وتمحوها، وإن عمى البصيرة والقلب لهو العمى المبين والبلاء الحقيقي "أفَلَمْ يَسيروا في الأرضِ فَتَكونَ لَهُم قُلوبٌ يَعقَلونَ بِها أوآذانٌ يَسمعونَ بِها فإنّها لاتعمى الأبصارُ ولكن تعمى القُلوب التي في الصدور"..الحج46، وعندئذ لن يلتفت المرء الى ماأحله الله وحرمه ولن يرى شمس الحق ولاظلمة الباطل ولن يجد غضاضة في تعدي الحدود ولاحرجا في الايغال بالظلم فتراه يتخبط بالضلالة كالذي يتخبطه الشيطان من المس و فقد البصر وتاه عليه طريق الصراط وزين له سوء عمله طريق الشر الذي خلط عليه الاوراق فاتخذ العدو صديقا والظالم سندا وتعدى على حقوق الاخرين واغتصب المحرمات وخان الامانة وأراق العهد واستباح الاعراض ومن أضله الله فماله من هاد (ومن أضلُّ ممن اتبع هواهُ بغير هُدى من الله إنَّ الله لايهدي القوم الظالمين) القصص 50 والزيغ هو الميل والانحراف وعدم الهداية وتثبيت للزيغ الذي تلبسوا به بسبب فسوقهم واختيارهم الكفر على الايمان والباطل على الحق وذلك هو العمى المبين، فالبصرمداده الافق والبصيرة مدادها العمق، واذا كان البصر يرينا ظواهر الاشياء فالبصيرة ترينا كنه وحقيقة وجوهر الاشياء، ومدار عمل البصيرة هو القلب العامر بالايمان.

وحقيقة فإن من يتدبر معاني كلام الله جلّ وعلا في مجال البصر والبصيرة سيجد إن الله خصّنا بأجمل النعم وأعظمها وهي حاسة البصر، كما أتم نعمته علينا بأن أنار بصائرنا كما أبصارنا فهو نور السموات والارض بنوره نهتدي وبهدايته نسير (لاتُدركهُ الابصار وهو يُدركُ الابصار وهو اللطيف الخبير) الانعام 103

***

مريم لطفي الآلوسي

 

يعتبر التأويل، كعملية فكرية فقهية صرفة، الأساس الضامن لديمومة الدين في حياة الإنسان. التاريخ يتطور بسرعة، وعلى الفقهاء ورواد الفكر الإسلامي أن لا يتعبوا من تعميق التفكير في النصوص الدينية. لقد أبانت أحداث التاريخ البشري المتتالية أنه كلما تفاقمت الهوة بين التأويل والنصوص الحرفية كلما ساد الصراع والاقتتال أو التسلط والخضوع. فبفعل طبيعة تعاطي العقل البشري مع العلوم والتكنولوجيا والمادة، تسارعت الأحداث التاريخية في العالم، وتطورت الحياة بشكل ملفت، وتداخلت بشكل غامض النزعتين الاستهلاكية والإبداعية، والمادية والروحية. دواسات السرعة أصبحت بيد الرأسمال، بل أصبح يحتكرها بالقوة والمال وكشوفاته العلمية وتقنياته الهندسية المتطورة.

في هذا السياق، تزداد مشاق الفقهاء ورواد الفكر الإسلامي تعقيدا على مدى الساعة. فأمام تأويل سابق للتراث تبرز الحاجة بسرعة فائقة إلى تأويل جديد، وكأننا أمام صيرورة مركبة ومعقدة لا تمنح الوقت الكافي للتموقع زمنيا في نسق التأويل بقواعده ومتطلباته الجديدة. الإنسانية اليوم تحتاج لتأويل التأويل لإنتاج تأويل جديد وبالسرعة المطلوبة. الحفاظ على توازن تفاعل الروح والمادة أصبح صعبا ومعقدا للغاية. السرعة في هذا المجال مطلوبة بإلحاحية. إنها الحقيقة البارزة التي نستنبطها من استنتاجات المفكر المغربي الدكتور عبد الله العروي. نفهم من كلامه أن الارتماء في أحضان التلكؤ في هذا المجال ستكون له عواقب خطيرة على الحضارة العربية الإسلامية. القرآن هو الأصل وكلياته صالحة لأي زمان ومكان، وجزئياته في حاجة إلى تأويل مسترسل ومنتظم زمانيا. العروي يقول أن لا أحد يستطيع أن يقر أن التأويلات القرآنية المتعلقة بالزمان والمكان صحيحة 100%. التأويل بالنسبة له هو مجرد قراءة وليس حقيقة متفق في شأنها. من ادعى أو يدعي قطعيا صحة تأويله أو تأويلاته، فقد ادعى النبوة، وهذا أمر مرفوض. النبوة انتهت، والتأويلات صالحة لزمانها والنص هو الباقي. العلوم تتقدم، والاختراعات تتراكم، وأنماط الحياة تتنوع وتتغير بسرعة مذهلة. إن أفق المسلمين في العالم وحاجتهم إلى تأويل مستمر وسريع يراعي مصالحهم، مصالح الأحياء منهم وليس الأموات، في مخاض يكتنفه الغموض بفعل الضبابية التي تميز علاقة العلوم والتكنولوجيا والروح والمادة في حياتهم اليومية.

بالنسبة للمغرب وليد الثقافة الأندلسية، البلد المتميز بخصوصيته التاريخية، الحل الذي يفرض نفسه باستعجال، يقول العروي، هو مساعدة الدولة بإسلامها الفقهي الواضح على تحقيق القطيعة المنهجية مع التراث قبل العودة إليه بمنطق الحداثة، وبالتالي تمكينها من الآليات الناجعة لترسيخ ثقافة التفريق بين السياسة الشرعية والسياسة المدنية. مرجعه في ذلك هما ابن رشد وابن خلدون. لقد دعا هذان المفكران إلى التفريق بين الحقيقة التاريخية والحقيقة النصية، بين التفسير أو موقف الفقيه أو القاضي الأصولي ومواقف المحدثين. منطق المحدث شيء، ومنطق المؤرخ شيء آخر. الفقيه الأصولي مرتبط بالتاريخ وليس بنصوص المحدثين.

***

الحسين بوخرطة - المغرب

قال (ذو القُروح) الزوجيَّة، وهو لا يحاورني:

- ثمَّة نمطٌ من النِّساء لا تعدو قضيَّةُ النِّسويَّةِ لديهنَّ المناكفة، والاستفزاز التقليدي، فإذا المرأة تُثبت من خلال هذا السلوك أنَّها أشدُّ ضيقًا في الأفق من غيرها، وأنَّ اهتمامها منحصرٌ في الغيرة من بنات جنسها على الرَّجُل.

- وهي لهذا أُنثى تقليديَّة الفكر، كما ترى؟

- تمامًا! رأس همِّها التفكير النسويُّ البدائي: زواجًا، وغيرة، وخيانة، مع "برانويا paranoia" مزمنة، وعُقدة شعورٍ بالاضطهاد. امرأةٌ مستعبَدةٌ للذُّكورة بامتياز، غير متحرِّرة الفكر والمطامح، وإنْ عبَّرت عن شخصيتها تلك بخطابٍ مناقض، لم ينشأ إلَّا عن أنها مهووسة بأن تغدو فَلَك الرَّجُل الوحيد، وأن "يُسَتِّـتَها" مولاها، كما يقال في بعض اللهجات؛ ولذلك فقد صارت قضيَّة القضايا في ذهنها أن تكون زوجةً وحيدةً، لا شريكة لها.

- فيما هناك خطاب مستنير آخَر، قد يعجبك، كذلك الذي عبَّرت عنه الكاتبة (نورة علي)، في (صحيفة الجزيرة، الخميس 4 جمادى الآخرة 1430هـ، العدد 13391)، تحت عنوان "عن التعدُّد.. عذرًا بنات جنسي"، حيث تقول:

"الرجُل ليس إلاهًا تعبده الأُنثى؛ لكلِّ إنسان في هذه الحياة دور يؤدِّيه، ولكل إنسان إنسانيَّته، حياته الخاصة. والمرأة إن لم يكن لها اهتمامات وأهداف، لن تشعر بوجودها كفردٍ فعَّال منتج، وسيتقوقع اهتمامها في فَلَك الزوج، أين ذهب؟.. ماذا يفعل؟.. من يحدِّث؟ بماذا يفكِّر؟.. وتستهلك وتهدر وقتها في مراقبته، فتتأجج داخلها نار الشكِّ والغيرة.  في نظري.. المرأة التي ترضى بالتعدُّد، فتكون زوجة لرجل معدِّد، من غير مرضٍ ولا عقمٍ أو غيرهما من الأسباب التي يتيح فيها الشرع والمجتمع الزواج بأخرى، امرأة ذات شخصيَّة فذَّة، واعية، مدركة لدَورها وحقِّها في الحياة، حريصة على أن تترك بصمة وأثرًا في كل مكان، تتفاعل مع المجتمع، تساهم في حل مشكلاته. أمَّا أن يتحجَّم تفكيرها، وتدور كل أنماط حياتها في فَلَك الزوج، فهذا ضياع لمعنى الحياة."

- هذا من أطرف الآراء لامرأة قط، وأكثرها صدقًا، وعقلانيَّة، واستنارة، وتجاوزًا للتفكير النِّسويِّ النمطي؛ لأنه خارج الصندوق، أو قل: خارج عُشِّ الزوجيَّة، كما يسمُّونه.

- بالتأكيد أعجبك لأنك تنوي التعديد، أيها الذُّكوريُّ المفتري!

- كلَّا.  وهذا لا ينفي أن التعديد يُفترَض فيه أن يكون مقنَّنًا تقنينًا صارمًا. وقد أشار "القرآن" إلى أنَّه محفوفٌ بالظُّلم، والظُّلم قد حرَّمه الله على نفسه، وجعله بين الناس محرَّمًا. ذلك أنَّ الآيات تشير إلى استحالة العدل بين النِّساء مطلَقًا، في الآية من (سورة النِّساء): "وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء، وَلَوْ حَرَصْتُمْ؛ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ، وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا، فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا". العدل، إذن، غير مستطاعٍ بين النِّساء ، مهما حرص الزوج. والنَّصُّ مطلَق، لم يَنُصَّ على العدل في الحُبِّ فقط، كما مال بعض المفسِّرين، ممَّن قد يضيفون على النصوص من رؤوسهم.

- ومن ثَمَّ فالأمر في التعديد سبيلٌ إلى الظُّلم؟ هكذا ببساطة؟

- وما عدم العدل، سِوَى الظُّلم؟ وهو ظُلم مُتَعَدٍّ، إلى الأولاد والمجتمع.

- لِـمَ يُجاز، إذن؟!

- لم يُقفَل باب التعديد، ولم يُعَدَّ زانيًا مَن عَرَفَ غير واحدة من خلال الزواج، كما في ديانات أخرى، يبتدع أهلها طهوريَّةً ورهبانيَّة، ما كُتِبت عليهم، ثمَّ لا يستطيعون رعاية ما ابتدعوه حقَّ رعايته.

- لماذا؟

- لماذا؟ لأنَّ ثمَّةَ ضرورات ثَبَتَ في المجتمعات "التوحيديَّة"، التي تُحرِّم التعديد، أنَّ مفاسدها كثيرة، بل أنَّ هناك تحايلات لإقامة علاقات عديدة، غير معلنةٍ ولا شرعيَّة، خارج نظام الزواج.

- أي؟

- أي مسافحةً ومخادنة.  مع أنَّ المرأة نفسها قد ترغب في أن يُعدِّد زوجها لسببٍ أو لآخَر.

- فما الحل؟

- الكلُّ يعرف الحلَّ، لكن الحلَّ لا يريده الكل!

- الحلُّ إجازة التعديد؟

- من حيث المبدأ، ولكن مع جعله في دائرة الخوف من الظُّلم والتحذير منه.

- والظُّلم ظُلمات يوم القيامة.

- وفي جعل مخافة الله، ومخافة الظُّلم، أمام الإنسان، وتحذيره الصريح، شديد اللهجة من التعديد، ما يفضي إلى توقِّي الوقوع في الظُّلم بالاكتفاء بواحدة: "وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى، فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النِّسَاء، مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا، فَوَاحِدَةً، أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ؛ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا."

- الخلاصة؟

- الخلاصة: هذا هو ميزان العقل والعدل والواقع، الذي تُلْوَى أعناقه من ذوي الأهواء لفتح باب الرُّخصة في التعديد على مصراعَيه- متفاخرين بزرائب من النِّساء وقطعان من الصِّبية- أو تُلْوَى أعناقه من ذوي الأهواء النقيضة؛ لتصوير الأمر ذُكوريَّةً محضةً وظُلمًا مطلَقًا للمرأة.

- لا تُكابر، يا رجُل، ولا تغالط؛ أنت تعلم أنَّ المرأة مستضعفةٌ مضطهدة غالبًا!

- البكاء على المرأة المظلومة التي يتآمر عليها الرجال عبر التاريخ، وإدارة المعركة الأزليَّة بين آدم وحواء، لا يفيد المرأة.

- المجتمع كلُّه نتاج مدرسة المرأة أوَّلًا وأخيرًا.

- طبعًا.  لكن لا قيمة للقِيَم، لدَى تيارٍ أيديولوجيٍّ، خارج ما اعتنقه من أفكار، من حيث هو لا يرى الحياة، ولا يُبصِر الواقع، ولا يشاهد الطبيعة من حوله. كأنَّ الله لم يخلق في الطبيعة إلَّا الإنسان، وكأنَّ التمايز بين الأُنوثة والذُّكورة، في الطبيعة والوظائف والقدرات، ليس إلَّا في عالم الإنسان!

- وبعدين؟

- ولأنَّه منهج تفكيرٍ مستلَب البصيرة والمنهجيَّة، فإنَّ نموذج المرأة الغربيَّ هو النموذج المثالي، الأمثل، والأوحد، لدَى الشرقيَّات.

- ألا ترى في هذا مبالغة خياليَّة؟

- كيف؟

- معظم هؤلاء يجهلون الغرب ونموذجه، أصلًا! وبعض الناشطات والناشطين من عتاة التيَّار النِّسوي لا يمتلكون من الثقافة ولا من الفكر ما يتيح لهم القرب من واقع المجتمع الغربي، بما يؤهل حتى للمحاكاة!

- وهنا بيت الداء المضاعف! حيث تنبني الأحكام على السماع، أو عبر الإعلام، أو التصوُّر الطوباوي للغرب وأهله. ومن هنا فإنَّ تلك الشطحات المعرفيَّة والوجوديَّة لا تتأتَّى عن عَمَالَةٍ ثقافيَّة، ولا حتى من انبهارٍ بالضرورة، ولكن عن ضحالةٍ فكريَّةٍ ومعرفيَّة، مع تعصُّبٍ يُعمي ويُصِم!

- أراك ما أسلمتَ أحدًا من لسانك، يا ذا القُروح!

- لِسـانُ الفَـتَى نِصْفٌ، ونِصْفٌ فُؤادُهُ؛

فَلَم يَبْقَ إِلَّا صُورَةُ اللَّحمِ والدَّمِ!

- لاحظْ الذُّكوريَّة حتى في هذا البيت..  قال الشاعر: "الفتى"، ولم يقل "الفتاة"!  ولذلك تعاورَ البيتَ غيرُ شاعرٍ من أجدادك الذُّكوريِّين، فنُسِب إلى (الأعور الشني، 50هـ= 670م)، و(زياد الأعجم، 100هـ= 718م)، و(عبدالله بن معاوية، 129هـ= 746م).

- لا، ليس السبب عن ذُكوريَّة، لكن الحقيقة أنَّ لسان الفتاة "كُلٌّ"، لا "نِصْفٌ" فقط!

- عليك من القُروح ما تستحق!

- وعليك!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

خطوات عملية لمواجهة "ظاهرة الطلاق"

استيقظت في الصباح الباكر يوم إجازتي على صوت رنات مكالمة على الماسنجر، اعتقدت أنها من أختي الوسطى تبلغني بالاعتذار عن المجيء هي وأبنائها لقضاء العطلة معنا في منزل العائلة، إلا أن المكالمة من حساب جدتي "أمامة بنت حارث" لا أصدق نفسي -إحدى فصيحات العرب في الجاهلية، وزوجة "عوف بن محلم الشيباني"، أحد أشراف العرب- تتواصل معي. وبمجرد أن فتحت المكالمة إذ بها تقول لي: صباح الخير يا ابنة الشرق أما زلتِ نائمة ؟ -

 صباح الخير جدتي يسعدني تواصلك معي..

- جدتي أمامة: اتصلت في الصباح الباكر بعد أن غاب عني النوم وأشتد عليا القلق؛ بسبب ما توارد في وسائل التواصل الاجتماعي من الحديث عن زيادة نسبة الطلاق بين الشباب في الآونة الأخيرة بمجتمعاتنا العربية.

- نعم، جدتي فقد تفاقمت المشكلة في عديد من الدول العربية، وأصبحت مصر في صدارة دول العالم من حيث ارتفاع عدد حالات الطلاق.

. -جدتي أمامة: من أجل ذلك يا فتاة الشرق ستصل إليك هديتي بعد ساعة من الآن.

- قبل أن تمر ساعة دق جرس الباب واستلمت علبة داخلها مطوية، وقد كتبت جدتي يا فتيات الشرق جئت لأذكركن بما أوصيت به ابنتي "أم إياس" قبل زفافها إلى عمرو بن حجر. فقد حدثتها أن تحفظ عني خصالا عشرا في تعاملها مع زوجها، ولتكون دستورًا للعلاقات الزوجية وهي: أما الأولى والثانية: فالمعاشرة له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة، فإن في القناعة راحة القلب وفي حسن السمع والطاعة رأفة الرب. وأما الثالثة والرابعة: فلا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشم أنفه إلا أطيب ريح، وأن الكحل أحسن الحسن الموجود. وأما الخامسة والسادسة: فالتعهد لوقت طعامه، والهدوء عند منامه، فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة. وأما السابعة والثامنة: فالاحتفاظ بماله، والرعاية على حشمه وعياله، فإن الاحتفاظ بالمال من حسن التقدير، والرعاية على الحشم والعيال من حسن التدبير. وأما التاسعة والعاشرة: فلا تفشي له سرا، ولا تعصي له أمرا، فإنك أن أفشيت سره لم تأمني غدره، وان عصيت أمره أوغرت صدره، واتقي الفرح لديه إن كان ترحا، والاكتئاب إذا كان فرحا، فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، واعلمي أنك لن تصلي إلى ذلك منه حتى تؤثري هواه على هواك، ورضاه على رضاك فيما أحببت أو كرهت، والله يخير لك بخبرته، ويصنع لك برحمته.(1)

- وبعد قراءتي لنصائحها شرد ذهني عن المطوية المفتوحة أمامي لدقائق معدودة، ثم أرسلت لجدتي "أمامة" عبر حسابها على "الفيس بوك" أننا في حاجة ماسة لاسترجاع نصائحك لابنتك، حينما تزوجت ب"عمرو بن حجر" أمير كندة، والتي تعد من واجبات الزوجة الصالحة. لا أنكر جدتي أن تزايد نسبة الطلاق كانت من أكثر المعضلات التي شغلت بالي، وأخذ التساؤل عن سبب ارتفاع معدل الطلاق في مجتمعاتنا الشرقية يراودني دوما؟ ولقد رأيت أن الإجابة تكمن -فيما أرى- بالنظر إلى طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة بوصفهما شريكين تنقسم إلى مرحلتين: المرحلة الأولى "مرحلة ما قبل الزواج"، وهى ما تسبق نصائحك هى مرحلة اختيار شريك الحياة، حيث يتغيب على كلا الطرفين معرفة معايير اختيار شريك الحياة والتي منها وأهمها فيما أرى: الصراحة والوضوح بين الشريكين وضرورة التعامل بشخصيتهما الحقيقية على ما فيها من إيجابيات وسلبيات حتى لا يحدث صدام ما بعد الزواج، فليس هناك أجمل من الصدق والعفوية؛ الذي سيترتب عليه الاستعداد لقبول كل منهما للآخر بكل ما فيه من اختلافات، مع السعي لمعالجة الصدامات والتحديات بنوع من الحكمة بين الشريكين. كما نجد أمثلة كثيرة من الخاطبين يكون شغلهم الشاغل الإعداد لمنزل الزوجية وحفل الزفاف دون التأني بالتعرف على شخصية شريك الحياة أو التغافل عن الاختلافات، والتي تعد مؤشراً لانهيار علاقتهما واعتقاد كل منهما بتغير شريكه بعد الزواج. أما المرحلة الثانية "جدتي أمامة" : هى مرحلة الزواج وهنا أؤكد على كافة نصائحك حول أسرار نجاح العلاقة الزوجية. وأود أن أشير إلى ما يجب أن يلتزم به الشريكان لاستقرار الأسرة.

وأولها وأهمها الخصوصية: فعلمتني الحياة جدتي أن شريكي الحياة لا يمكن أن ينسيا ما بينما من مودة وحب وسكينة بين عشية وضحاها ما دامت حياتهما خاصة ولا ثالث بينهما، سواء في أوقات الود أو الخلاف، وأؤكد خاصة في وقت الخلافات ينبغي عدم تدخل طرف ثالث من الأهل أو الأصدقاء؛ لما سيترتب عليه من تأثير سلبي على العلاقة الزوجية. وليعلم الزوجان أنه لا توجد حياة زوجية دون خلافات لذلك لابد من تجنب اتخاذ قرارات أثناء الغضب والانفعال وضرورة التحلي بالصبر.

ثانيا- تقبل وجود فروق ثقافية واجتماعية بين الزوجين، والتي تعد ناتجة عن اختلاف التنشئة الاجتماعية وطبيعة التفكير والتعليم، وقد تتسبب في صعوبة التفاهم بين الشريكين.

ثالثا- وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت وهى مشكلة مستحدثة في زماننا "جدتي" تسببت في إحداث حالة من الخرس الزوجي بين شريكي الحياة داخل المنزل؛ بسبب الاهتمام بشكل مرضي بمتابعة وسائل التواصل الاجتماعي طوال اليوم، وكذلك التعرف على الأشخاص الافتراضيين ومتابعة أحداثهم والاستغناء بهم عن الأنس برفيق دربه. بل وتصور الحياة الزوجية في العالم الافتراضي بشكل نموذجي الأمر الذي يجعل شريك الحياة ينظر إلى الآخر باعتباره شخصاً غير مناسب له. وقد تتسبب لدي بعض الحالات في الخيانة الزوجية لغياب الوازع الديني.

رابعًا- العنف الأسري والذي يعد سبب انهيار الأسرة وتزايد معدل الطلاق، حيث يسيطر على أذهان الذكور استخدام الضرب باعتباره في معتقداتهم أنه الوسيلة الفعالة لفرض الهيمنة على الزوجة وإلزامها بالطاعة العمياء، ولعل انتشار ظاهرة الضرب أدى لقتل المودة والسكينة في قلب شريكة الحياة، وتحول حياتهما إلى معركة اندلعت فيها نيران الكراهية وانعدام الثقة.

- من أجل ذلك جدتي يجب على الدول العربية ومؤسسات المجتمع المدني أن تسعى إلى الحفاظ على كيان الأسرة في القرن الحادي والعشرين، والحد من تفاقم مشكلة الطلاق بين الشباب بشكل عملي وفعال على النحو الآتي:

 - لابد من التركيز على دور الآباء والأمهات في ترسيخ مفاهيم تحمل المسئولية، والاحترام بين الفتيان والفتيات من خلال معرفة كل منهما واجباته وحقوقه داخل الأسرة لإعدادهما للمستقبل.

- لابد من تكاتف الأزهر الشريف والكنيسة ووزارة الشباب والرياضة ووزارة الثقافة والإعلام في الدولة في عقد دورات لتدريب المقبلين على الزواج، للتعرف على أسرار الحياة الزوجية الناجحة التي يعلو فيها دستور العلاقات الزوجية لجدتي "أمامة بنت الحارث" فيما يخص بنات الشرق، وكذلك تحمل الرجال لمسئولية الحياة الزوجية واحترام واحتواء الزوجة رفيقة دربة وتوأم روحه. وقد ساهمت الدولة المصرية بتدشين عديد من المبادرات تهدف إلى توعية الشباب على كيفية تكوين حياة أسرية يسودها الود والرحمة.

- توجيه وسائل الإعلام كافة بعرض بعض من النماذج المشرقة من الأسر المترابطة، كنماذج يُحتذي بها للشباب

-استثمار التكنولوجيا الحديثة من خلال إعداد دورات ومنصات تعليمية من قبل خبراء الطب النفسي والمتخصصين في الإرشاد الأسرى؛ لتأهيل الشباب المقبل على الزواج، وذلك بتعليم المرأة كيفية التعامل مع سيكولوجية الرجل وفهمه، وكذلك تعليم الرجل كيفية التعامل مع طبيعة الأنثى، حيث أن فن إدارة الحياة الزوجية يقع على عاتق الزوجين ولابد من إعدادهما لمواجهة المشكلات الزوجية، وكيفية التعامل مع الأبناء وإعدادهم للمستقبل، خاصة وأن معظم الشباب في يومنا يتزوجون وهم غير مؤهلين اجتماعيًا أو نفسيًا لتحمل المسئولية.

وعقب الانتهاء من كتابتي إلى جدتي "أمامة بنت الحارث" دخلت أختي وأبناؤها مع أبي، وكانت بجانبي المطوية فأهديتها إياها، وبدورك أيها القارئ الكريم سارع إلى أهدئها للمقربين إليك من فتيات الشرق. 

***

آمال طرزان

دكتوراه في الحركة النسوية

...............................

(1) محمد صادق عبده عوض: دستور العلاقات الزوجية في ضوء أمامة بنت الحارث،ط1، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض

يقال إن الأزمات الكبرى هي أم الأفكار الكبرى. ويخبرنا تاريخ العالم أن كثيراً من الاختراعات المؤثرة في حياة الإنسان، ولدت في رحم الأزمة. خذ مثلاً الطيران التجاري، الذي أثمرت عنه أبحاث خصصت في الأصل لتعزيز القوات المسلحة، في خضم الحرب العالمية الثانية وسنوات الحرب الباردة. ومثلها أنظمة الاتصالات اللاسلكية، وشبكة الإنترنت التي غيرت حياة العالم كله. وثمة قائمة طويلة من الأغذية والأدوية ومواد البناء والنظافة والإلكترونيات والمصنوعات الهندسية، تطورت كلها في ظروف التأزم. ولعلنا نذكر تجربة التعليم والعمل عن بعد، اعتماداً على تقنيات الاتصال الحديثة، في ظروف الحصار الذي فرضه وباء كورونا على العالم كله. هذا التحول ليس بسيطاً، فقد أنتج اقتصاداً جديداً وأنماط حياة جديدة. وسيبقى مؤثراً لزمن طويل في المستقبل.

حسناً، ماذا عن الأفكار التي لا تتعلق مباشرة بالتقنية وأدوات العيش؟ أعني الأفكار الجديدة في الفلسفة والسياسة والأدب وعلوم الدين والاجتماع... إلخ. هل تخضع لنفس القاعدة، أعني: هل تشكل الأزمات بيئة خصبة لولادة الأفكار الجديدة في تلك المجالات؟

أظن أن الأزمة المقصودة باتت قريبة من ذهن القارئ، أعني بها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وسكانه. خلال الأسابيع الأربعة الأخيرة، حاولت التعرف إلى رأي عدد من البارعين في التحليل السياسي، فوجدت آراء قيمة، قد تعارضها أو توافقها، لكنها – بشكل عام – جديرة بالمناقشة والتفكير، لأنها تحاول الإجابة عن أسئلة مهمة، مثل سؤال: ما هي نقاط الضعف ونقاط القوة التي كشفت عنها هذه الحرب، في الموقف السياسي والشعبي.

وجدت أيضاً قراءات جادة في التأثير المتوقع للحرب على نظام الأمن الإقليمي، ومواقف الأطراف الإسرائيلية والفلسطينية من المشروع المسمى «حل الدولتين»، وإمكانية نيله الدعم الإقليمي والدولي في الأشهر المقبلة.

ثمة مسائل حظيت باهتمام أقل رغم أهميتها، مثل التحولات المتوقعة داخل حركة حماس، واحتمالات الانشقاق في حركة فتح، نتيجة التناقض الشديد بين القناعات المؤسسية والموقف الرسمي الحالي. ومنها أيضاً انعكاس الحرب على ميول الأقليات المسلمة في الغرب، للاندماج في المجتمعات المضيفة أو البقاء على الهامش. وكذا تأثير الحرب على الاقتصاد المحلي في مصر، وعلى مشروعات الطاقة المخططة شرق البحر المتوسط إلخ. وجدت أيضاً كتابات مفيدة عن اقتصادات الحصار، وطب الطوارئ، تحاول الإجابة عن سؤال: ماذا يمكن لشعب محاصر أن يفعل في ظل الحرب وما يترتب عليها من انقطاع للاتصالات وإغلاق الحدود.

وذكرني هذا بالنقاشات الواسعة التي شهدناها سنة 2020 - 2021 حول سلاسل الإمداد والتموين وما واجهته من تقطع بسبب القيود المرتبطة بوباء كورونا، ومثلها النقاشات الخاصة بالعمل والتعليم عن بعد، وانعكاساتهما الاجتماعية والاقتصادية، وحتى تأثيرها على الهوية الفردية والوطنية.

لقد أتاحت الحرب فرصة ثمينة لطرح آراء غير تقليدية في قضايا عظيمة الأهمية. لكن معظم تلك الكتابات ضاعت فعلاً أو ستضيع، وسط الركام الهائل من الردود والمجادلات السطحية، التي تتنوع بين مدائح فارغة وإساءات قبيحة، لشخص الكاتب وبلده والتيار الاجتماعي أو السياسي الذي يعتقد المجادلون أنه ينتمي إليه.

يغريني التشاؤم بالقول إن المجتمع العربي عاجز عن النقاش العقلاني. ثم يردني عقلي للقول إن التشاؤم طبيعي في ظل الأزمة، وإن التراجع المتوقع للأزمة سيسمح بنقاش مستأنف. على أي حال يهمني أن أدعو القارئ وكل من يتصل به إلى تجنب الردود الخشنة على الآخرين حتى لو كانوا على الطرف النقيض. النقاش المنفتح قد يقود إلى اختراق في جانب ما من حياتنا. أما الردح والشتيمة والسخرية، فليس وراءها سوى إيذاء الذات وإثارة الكراهية. دعونا نسمح بمختلف الآراء، وخصوصاً الآن، فلطالما كانت الأزمات أماً للأفكار العظيمة.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

العروي من أكبر المنظرين للنهضة القطرية العربية والمغاربية. أساس التنمية بالنسبة له هو خلق الشروط الواقعية للمرور إلى الحداثة بتربية الأجيال على الدرابة اليدوية واكتساب الخبرة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والمالية. على غرار رفيقه في دروب الفكر السياسي، الراحل محمد عابد الجابري، فند العروي مبكرا كل المشاريع العربية المتعصبة للقومية والسلفية بمختلف ألوانها ومشاربها، وبقيت فكرتي "القطيعة المنهجية مع التراث" و"العودة إلى التراث وغربلته" تشكلان توجهين مختلفين أسهب المفكران في تحليلاتهما منذ عقود في إطار مشروعين فكريين متباينين للنهضة القطرية في المنطقتين العربية والمغاربية.

الحداثة في مشروع العروي هي مجرد تجربة تاريخية (مرتبطة بتطور الأحداث التاريخية) أعطت نتائج مبهرة للإنسانية. فهي بذلك ليست قيمة يجب التشبث بها ووضعها في نفس مصاف القيم الأخرى. لقد تحول ارتباطها كمفهوم بالتجربة والواقع إلى رافعة حقيقية للتنمية، بحيث تقسم العالم إلى معسكرين الأول متقدم والثاني متخلف. فبعدما تعبت وضاقت العديد من الشعوب من التخلف والتقليدانية، تحول اقتناعهم بالنتائج، بعدما تشربوا عبر التجربة مزايا الفكر الحداثي، إلى إرادة لبناء نسق معيشي جديد لا يستوعب إلا الفضاءات المنتجة للقوة الذاتية والنفوذ والرفاهية. بنفس المنطق، وفي إطار التنافس التاريخي الشرس للحضارات، تخلصت الدول المعاندة، كالصين وروسيا وتركيا واليابان وبعض الدول الأسيوية...، من ترسبات الإيديولوجيات التقليدية القاتلة، بتشديد الحرص على الحفاظ على هويتها التاريخية، وحققت بامتياز المقومات التي أهلتها لمراتب التباري على قيادة العالم. وبذلك برز من حقبة تاريخية إلى أخرى مفهوم جديد للحداثة مثبتا تجربة أو تجارب متقدمة تفرض إجبارية الاقتناع كون التخلي عن الأصالة لا يؤدي إلى التخلي عن الهوية بل يرفع من قيمتها على المستوى العالمي.

تبسيطا للعمق الفكري لهذا التقابل، تقابل الحداثة والأصالة، يقول العروي أن المفهومين لهما مجالين مختلفين. فضاءات الحداثة هي السياسات العامة والمصلحة العامة للمجتمع، وهي مرتبطة بالإنتاج المادي خارج البيت وخارج الشعور. أما الأصالة فهي شعور وحنين يتيح الحق للرجوع إلى النفس. فكما يلازم الليل النهار، أصبح هذان الحقان الأساسيان متلازمان بالنسبة للإنسان العالمي الليبرالي. ففي النهار، لا يفكر المرء ولا ينشغل إلا في العلاقات الخارجية المبنية على الكسب المادي المترتب عن التفاعل المنتج لخبرته اليدوية والعقلية والتكنولوجية وطاقاته الإبداعية. أما الليل في نظر العروي، فهو الحيز الزمني الذي يضمن السكينة والتأمل في الذات (في البيت). فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم يقول العروي كان يعتكف في غار حيراء، لكنه كان يخرج لتفعيل كل ما راكمه خلال لحظات انعزاله وتفاعله مع ملائكة الرحمان. استمر على هذا الحال إلى أن استطاع الجهر بشعار "الإسلام يجب ما قبله" بدون أن يندثر التراث العربي الجاهلي من شعر وأدب ومعارف علمية وفلسفية وفنون متنوعة. بنفس المنطق، جاء لينين مناديا بنفس الشعار "الاشتراكية تجب ما قبلها" وأن نهاية التاريخ كأفق مرتبط بوصول البروليتاريا إلى الحكم. ثم جاءت الليبرالية ورفعت شعار "النظام العالمي الجديد الذي يجب ما قبله"، واستمرت مكتسحة ومعاندة أزماتها المرحلية ورافعة شعار توحيد قيم الإنسان العالمي. توالت التفاعلات والاصطدامات، والتي سماها البعض بصراع الحضارات، إلى أن وصل العالم إلى استنتاجات الدكتور عبد اله العروي. برزت الصين والهند وروسيا بحضارتهم ذات الخصوصية التاريخية. الحداثة بالنسبة لهم مرتبطة بالعلاقات البرانية (خارج البيت) التي لا تشارك شعوبهم قيمهم وحنينهم إلى الماضي. الحداثة ليست آلية لترسيخ الانفصال بين الذات والهوية، بل ترمي إلى عدم التعسف لربط الخصوصية الوجدانية بالمعاملات التجارية والمالية والتكنولوجية.

بالعودة إلى التاريخ يتضح أن الإنسان القديم قد استطاع بقدرات فلاسفته ورواده في الفكر والعلوم المختلفة أن ينفصل عن الفكر الأسطوري. تجاوز معتقد تعدد الآلهة، فكر في أصل الكون من مادة واحدة (الماء في أول الأمر)، ودخلت المجتمعات بعده إلى مراحل تاريخية جديدة. لاحظ طاليس أن الرطوبة هي أصل الحياة، وكلما تغيرت خواصها تغيرت الموجودات. تأمل طبيعة الماء في الوجود الإنساني، ووجد أنه يملك الرطوبة والجريان والتجمد والتبخر، فاهتدى إلى فرضية كونه أصل الوجود. إنه الاعتبار الذي جعل العروي يناصر فكرة تجريب "القطيعة المنهجية مع التراث". لا بد للإنسان العربي والمغاربي أن ينفصل مؤقتا عن تراثه، وينغمس بمعرفة ونباهة في الحداثة جاعلا المنفعة والمصلحة الجماعية أمام أعينه، ليعود إلى نفسه بنظرة جديدة وثاقبة بعد بلوغ الثقافة الحداثية. لا يمكن لمجتمعات المنطقة العليا الممتدة من المحيط إلى الخليج أن تبقى غارقة في الكيفية التقليدية التي تتلقى بها هذا التراث المنفصل عن مسار النبوغ العالمي لإنتاج المادة، بل عليها أن تدخل فضاء الحداثة بشكل كلي (100%)، ثم تعود بعد ذلك إلى تراثها وهويتها بنظرة مغايرة ومتطورة. الياباني لا يزال يبانيا وأفلام بلاده ذات خصوصية بارزة في العالم. الأمر ينطبق كذلك عن الفيلم الفرنسي والألماني.

***

الحسين بوخرطة

مهندس إحصائي ومهيئ معماري

تحدثنا في موضوعنا في الاسبوع الماضي، عن الموجة السائدة منذ سنوات لدى الباحثين العرب لـ(التشكيك بتاريخ الاسلام الاول والنبي والقرآن). ما يجلب الانتباه ان (غالبية) هؤلاء الباحثين يتجاهلون عن عمد حتى بالاشارة، الى ان هنالك ايضا ومنذ سنوات طويلة في الغرب وباقي العالم، عمليات تشكيك بتواريخ جميع الاديان المعروفة مثل: البوذية والهندوسية واليهودية والمسيحية، وغيرها.

نسجل هنا باختصار شديد الجدالات التشكيكية بخصوص هذه العقائد الدينية الكبرى، وغايتنا دفع القراء والمهتمين للبحث بانفسهم عن التفاصيل وخصوصا باللغتين الانكليزية والفرنسية:

ـ الهندوسية (البراهمية):

يدعي اتباعها انها اقدم ديانة حيّة ومستمرة في العالم، وانها موجودة قبل 3000 عام ق.م . ولكن هذا الادعاء يتناقض تماما مع الحقيقة التالية: ان جميع عقائد البشرية لا يمكن التأكد من صحة تاريخها الا بووجود آثار كتابية لها. فمثلا، ان العالم اجمع متفق على ان عقائد مصر والعراق ثم الشام هي اقدم عقائد البشرية، لانها قد تركت لنا اقدم النصوص المكتوبة في التاريخ(حوالي 3000 ق.م).

طبعا ان الجماعات البشرية كلها منذ بداية تكوينها كانت لها معتقداتها الروحية والغيبية، لكنها بقيت شفاهية ولم تدخل التاريخ الذي نعرفه الا بعد ان اصبحت مدونة وعثرنا على بعض نصوصها المكتوبة.

بالنسبة للهندوسية، مثل جميع عقائد البشر، قد تكون موجودة قبل مليون عام او اكثر، ولكن كيف نعترف بذلك ما دامت نصوصها لم تكتب الّا في القرن الثالث ق. م. لان الهند كلها لم تعرف الكتابة الا في هذا التاريخ،عندما انتقلت اليها (الكتابة الآرامية العراقية الشامية) التي اسموها(البرهمية)،عن طريق الايرانيين الاخمين الذين عرفوا، هم ايضا، لأول مرة الكتابة  بعد احتلال بابل عام 539 ق.م،إذ تبنوا الكتابة المسمارية العراقية ثم الكتابة ألارامية (الفينقية) الشامية. ([1])

ـ البوذية:

البوذيون انفسهم، حسب طوائفهم الصينية والتبتية واليابانية والهندية، يختلفون في تحديد تاريخ حياة (بوذا) في اكثر من خمسة قرون، تترواح بين اعوام 1000 ق. م حتى 400 ق.م

علما بأن اقدم نص بوذي يعود الى القرن الاول الميلادي، أي بعد التاريخ المفترض لحياة (بوذا) بحوالي الف عام. وقد عثر عليه  في افغانستان ـ قندهار وايضا في سيلان.([2])

ـ المجوسية او الزرادشتية:

وهي ديانة ايران القديمة قبل الاسلام. وهم يدعون ان(زرادشت) قد عاش حوال 2000 عام ق.م . علما بان ايران لم تعرف الكتابة الا بعد احتلال(الاخمين الايرانيين) للعراق عام 536 ق.م . ثم ان كتاب المجوس المقدس (أفستا: الابستاق) لم يتم العثورعلى أي نسخة قديمة منه، الا بعض الوريقات التي تحوي على بعض الاشعار التي ربما ويفترض لها علاقة به.  والمتفق عليه تاريخيا ان كتابهم المقدس قد دون لاول مرة بعد اكثر من ثلاثة قرون من الاسلام.[3] ولكن المجوس يدعون بانه كان مكتوبا وقد حرقه(الاسكندر المقدوني)، ثم بعدهم حرقه (المسلمون)؟؟!!!  لكن ليس هنالك اي مصدر او شهادة تؤكد إدعائهم هذا.([4])! علما بأن اقدم معابدهم:(معابد النار) تعود الى(الدولة الايرانية الساسانية) التي قضى عليها العرب المسلمون. اي ان الساسانيون هم الذي حولو هذه الديانة المجوسية الرعوية البدائية "الشفاهية"، الى ديانة رسمية مع معابد خاصة بها.([5])

ـ اليهودية:

تدعي بان كتابها المقدس(التوراة) قد كتبه(موسى) حوالي 1300 ق.م . ولكن جميع الابحاث الحديثة بما فيهم المؤرخون  تتفق على ان التوراة قد بدأ تدوينها منذ القرن السادس ق.م  في بابل (بعد السبي) وفي فلسطين، من قبل عدة جماعات مختلفة وفي فترات مختلفة، وتم جمعها فيما بعد، بحيث احتوت على نصوص مكررة ومتناقضة،  واسماء شخصيات تختلف اسمائها في نفس النص. ([6])

المسيحية:

وهي محل جدالات مستمرة حول صحة شخصية المسيح إذ كما صرحت احدى العالمات: «لا يوجد وصف واحد ليسوع أقنع جميع أو حتى معظم العلماء» وأن جميع صور يسوع تخضع للنقد من قبل مجموعة منهم) وحسب اقدم المصادر التاريخية هنالك اكثر من عشرين شخصا ادعى انه(المسيح)!([7]) كذلك هنالك جدالات حول صحة تواريخ ومؤلفي الاناجيل وهل هم فعلا تلاميذ المسيح، وحول ماهية لغتها، لان اقدم نسخة عثر عليها تعود الى 250 م، أي بعد حوالي قرنين من صلب المسيح. والغريب ان هذه الاناجيل الاولى قد كتبت كلها باليونانية،([8]) رغم ان المسيح لم ينطق كلمة واحدة يونانية، لأن لغته هي(الارامية) وبها نطق آخر عبارة وهو على الصليب:( (إيلي إيلي لما شبقتني؟: الهي الهي لما تركتني؟).

***

سليم مطر ـ جنيف

........................

* لمطالعة هذا الموضوع مع قسمه الاول، بالاضافة الى الصور والخرائط والمصادر العربية والاجنبية، في موقعنا بعنوان: الى المتشككين بتاريخ الاسلام الاول وكتابه ونبيه، نعم هذا من حقكم، ولكن لا تتعاموا عن الحقائق التالية:

https://www.salim.mesopot.com/hide-feker/158-%D8%A7%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%B4%D9%83%D9%83%D9%8A%D9%86-%D8%A8%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%88%D9%84-%D9%88%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D9%87-%D9%88%D9%86%D8%A8%D9%8A%D9%87%D8%8C-%D9%86%D8%B9%D9%85-%D9%87%D8%B0%D8%A7-%D9%85%D9%86-%D8%AD%D9%82%D9%83%D9%85%D8%8C-%D9%88%D9%84%D9%83%D9%86-%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%85%D9%88%D8%A7-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%82%D8%A7%D8%A6%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-2.html

[1] - ابحث عن: ويكيبديا  بمختلف اللغات:  تاريخ الكتابة: History of writing

ان (الخط البراهمي) هو الخط الهندي الهندوسي الحالي،  وان أقدم نقوشه وأشهرها هي المراسيم المنحوتة في الصخور للملك (أشوكا ) في شمال وسط الهند، والتي يرجع تاريخها إلى 250-232 قبل الميلاد. ابحث عن ويكيبيديا: الخط البراهمي: Brahmi script

اما ما يسمونه افتراضا (الكتابة السنكسريتية) الهندية، فان اقدم آثارها هي: مخطوطة جريد النخيل - Palm-leaf manuscript   ، وتعود الى بضعة قرون قبل الميلاد.  ابحث كذلك عن:  مخطوطة باور

كذلك للتفصيل ابحث عن:  Spitzer Manuscrip

كذلك موضوع بالفرنسي:  الكتابة الهندية عبر التاريخ

Les écritures indiennes au fil de l’histoire

ـ من المهم التوضيح ان اقدم (كتابة مفترضة)  في الهند هي(السندية: باكستان) التي تعود الى عدة آلاف ق.م. لكنها بالحقيقة غير مؤكد بانها كتابة، بل هي مجرد نقوش على الفخاريات لم تترك أية مدونات ولهذا يتمكن العلماء حتى الآن من فك رموزها، وهنالك اتفاق على انها محاولات اولية لرموز كتابية!!

ـ  نجلب انتباه القراء والباحثين، الى عميلة الخداع والايهام الخطيرة التي يمارسها بعض المؤرخين الغربيين لاسباب (عنصرية آرية)، عندما يقولون: ان تاريخ النص الديني المجوسي  وكذلك الهندوسي يعود الى ثلاث آلاف عام ق. م، رغم ان اقدم كتابة هندية وايرانية تعود الى بضعة قرون قبل الميلاد!؟ ولكن هولاء الباحثين يلجئون الى ما يسمى  (التحليل اللغوي: الفيلولوجي) لـ(يفترضوا؟!) ان هذه النصوص الدينية اقدم بكثير من تاريخ تدوينها وتاريخ الشواهد الاثرية على وجودها.

فمثلا، لو قام شخص في وقتنا الحالي بتأليف نص باسلوب قرآني، فهل هذا دليل على ان زمن تأليفه يعود فعلا الى عصر القرآن؟؟!!

فانتبهوا الى هذا الخداع اللغوي المقصود، والى الاختلاف الكبير بين (تاريخ النص: Text ) الذي يعتمد الافتراض اللغوي، و(تاريخ المخطوطة: manuscrip)  الذي يعتمد التحليل الاثاري للنص المكتوب. لهذا فانه مثلا، ان افضل طريق للبحث عن التاريخ الحقيقي  لاي عقيدة او كتابة ، البحث عن:(اقدم مخطوطة مكتوبة)،  فمثى بالنسبة للكتابة الهندية والهندوسية،  بعد جهود بحثية كبيرة لامعرفة التاريخ الحقيقي ، وجدنا هذه العبارة المناسبة للبحث:

ما هي اقدم مخطوطة  هندية وهندوسية؟

Hinduism: What's the oldest Hindu manuscript available

[2] ـ عن الجدالات عن تاريخية البوذية، ابحث عن:

(rouleau de Gandhara) (canon pâli)

(Un manuscrit bouddhique vieux de 2000 ans restauré et numérisé)

[3] ـــ  عن المجوسية وكتابهم الافستا ابحث عن:

ـ Avesta - World History Encyclopedia

ـ طالع: آرثر كريستنسن: إيران في عهد الساسانيين، ص130، 131.

ـ كتاب بالعربي تفصيلي مهم عن تدوين الأفستا في العصر الإسلامي:

ــ تحريف الزرادشتيين للديانة الزرادشتية في العصر الإسلامي/ د. خالد كبير علال.

[4] ــ طالع: أقدم مصدر تم فيه ذكر اسم (زرادشت) يعود إلى القرن الرابع ق. م، إذ ذكر أحد المؤرخين اليونان أن الفرس يقولون: إن (زرادشت) عاش قبل ستة آلاف عام.

ــ L’Avesta, Zoroastre et les sources des religions indo ــ iraniennes par Jean Kellens

ثم إن الطائفة المجوسية بقيت حيّة وإن ضعفت وقل عدد أتباعها، لكنها من المستحيل أن تستمر بدون كتابها المقدس إذا كان فعلا مكتوبا!! ثم لماذا اضطروا إلى تدوينه في القرن الرابع الهجري، إذا كان موجوداً؟! وقد أضافوا إليه الكثير من المؤثرات الإسلامية والمسيحية، وادعوا أنها موجودة منذ القدم!

ــ مثلا، عن حكاية (المعراج) المجوسية، (أردا فيراراز ــ ناماغ) (كتاب أردا وياراز)، فإن الباحثون اتفقوا على أنه دون في القرن الرابع الهجري بجانب كتابهم الأفستا. طالع:

ــ الموسوعة الإيرانية بالإنكليزية: encyclopaedia iranic/ مفردة(ARDĀ WĪRĀZ)

كذلك ابحث: Zoroastrian visions of heaven and hell/ The British Library

ــ إيران في عهد الساسانيين ــ ارثر كريستنسن ــ ص40 ــ ص41.

ــ عن مشكلة تاريخ زرادشت ونصوص المجوسية: هنالك جدل دائم بين المختصين الغربيين لتحديد الفترة التي عاش فيها (زرادشت) بعضهم يبلغ حد 2000 ق.م، وبعضهم يهبط إلى القرن الأول أي زمن المسيح! لأن المشكلة تكمن في عدم وجود أية أدلة آثارية وشهادات تاريخية على وجوده أصلاً. (هيرودوتس الرابع ق.م) لم يتحدث عن زرادشت بل ذكر (دين الفرس)، و(إنجيل متي) يتحدث عن (المجوسية 2/ 1ـ 16). أما الشهادات التي تذكر اسم (زرادشت) فهي باليونانية واللاتينية وتعود إلى القرن 1 م أمثال الإيطالي (Pliny the Elder) و(نيقولا الدمشقي)، وكلها نقلا عن مصادر شفاهية وأقاويل تتحدث عن زمن بعيد لقرون مختلفة. طالع بالفرنسي:

ــ Jean Kellens/ L’Avesta, Zoroastre et les sources des religions

ــ بل هنالك من يعتقد بأن هنالك (عدة زرادشت، وليس واحداً)، والطريف أن جدل المختصين يعتمد (فقط فقط فقط) على تقدير تاريخ (لغة ومعاني) النصوص المنسوبة إلى المجوسية والتي تتحدث عن نبيهم. علما بأن أقدم نسخ هذه النصوص الحالية يعود تاريخ كتابتها إلى ما بعد الإسلام، وهي نصوص (الخليقة: بنداهيش Būndahišn.). ابحث بالإنكليزي والفرنسي والألماني: Zoroaster

ــ كذلك طالع:

آرثر كريستنسن: إيران في عهد الساسانيين، ص130، 131.

[5] ـ  نفس المصدر السابق:  أشرف على هذا النهوض الديني  المجوسي الكاهن (كارتير Kartir: القرن الثالث م)، وهو (الموبدان الأكبر: أي الرئيس الأعلى لكهنة المجوس)، الذي جهد لجعل المجوسية الديانة الرسمية للإمبراطورية، على أمل مواجهة الاكتساح المسيحي والمانوي القادم من العراق.

وعلى غرار شخصيتي (ماني البابلي) و(النبي عيسى) جهد المجوس لإبراز شخصية نبي خاص بهم أحيوه من تراثهم الشعبي: (زرادشت)، ربما من شخصية زاهد إيراني قديم مقدس. كذلك بدأوا بتدوين بعض النصوص الشعرية الدينية التي نسبوها لنبيهم بأسم: (الزند الزرادشتي: أبستاق ــ الافستا: Avesta)! الذي ارجعوه الى شخصية زراشت، كما ارجع اليهود توراتهم الى موسى قبل قرون طويلة من كتابته الفعلية في بابل.

[6] ـ عن اليهودية وموسى ابحث عن ويكيبيديا:

ـ (تاريخية الكتاب المقدس: Historicity of the Bible)، كذلك: (حقيقة وجود موسى:

historicity of moses

وللتفاصيل الكاملة،  طالع ملفنا الكامل عن اليهودية:  اليهودية، ليست سماوية توحيدية، بل بابلية كنعانية؟! سليم مطر

https://www.salim.mesopot.com/hide-feker/156-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%87%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9%D8%8C-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D8%B3%D9%85%D8%A7%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%88%D8%AD%D9%8A%D8%AF%D9%8A%D8%A9%D8%8C-%D8%A8%D9%84-%D8%A8%D8%A7%D8%A8%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%83%D9%86%D8%B9%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9.html

[7] ـ للتفاصيل  المباشرة السهلة عن المسيحية والمسيح، ابحث عن:  ويكيبيديا:

ـ (نظرية أسطورة يسوع/ Christ myth theory)

(مصادر لتاريخية يسوع/ Sources for the historicity of Jesus)

[8] ـ عن تااريخ الاناجيل ابحث بالعربي عن: ويكيبديا: إنجيل

وعن الجدالات حول لغتها، ابحث عن: عبرانى أم يونانى.. ما لغة الكتاب المقدس الأصلية؟.. ومتى ترجم للعربية؟

لستُ أعلم، كيف أدخلَ المتنبيّ (اغتيل: 354هج) الكتاب في مدح كافور (ت: 357هج)، وذَهبت كنايةً: «أعَزُّ مَكانٍ في الدُنى سَرجُ سابِحٍ/ وخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كِتابُ». أقول: هل كانت رسالة معرفيّة بالفعل، أم حكمت القافية، فصار الاتفاق. خَرجتْ قراءةُ الكُتبَ أعاظم الثّقافة والأدب، فهذا أبو هِفَّان المِهْزَمي(ت: 257هج) يقول عن رائد البيان: «لم أرَ قط، ولا سمعتُ مَن أحبَ الكتبَ والعلومَ، أكثر مِن الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتابٌ قطُ، إلا استوفى قراءته، كائناً ما كان، حتَّى إنْه كان يكتري دكاكين الوراقين، ويبيت فيها للنظر... يحضر لمجالسة المتوكل(الخليفة)، فإذا أراد القيام (المتوكل) لحاجة، أخرج كتاباً مِن كمهِ أو خفهِ وقرأه... فإني ما دخلت إليه إلا رأيته ينظرُ في كتابٍ، أو يقلبُ كتباً»(الحمويّ، معجم الأدباء). فشاع عن وفاته: «بوقوع مجلدات عليه، وكان من عادته أنْ يصفها قائمةً كالحائط، محيطةً به»(أبو الفداء، المختصر). رواها صاحب المختصر فقط.

كان دافع المقال مهرجانَ «تحدي القراءة العربيّ»، المُقام بدبي سنوياً، يُختار المتبارون، صبايا وصبياناً، مِن مختلف البلدان العربيّة، يشارك كلّ واحد بقراءة خمسين كتاباً، وعددهم مليون، فيقرؤون خمسين مليون كتاب. بعد تسجيل التَّلاميذ، مِن قِبل مدارسهم، يتدرجون بالقراءة على خمس مراحل، لكلّ مرحلة جوازٌ خاص، وفي كلّ منها تُنجز قراءة عشرة كُتب، وتلخيصها في عشر صفحات، وهكذا دواليك، حتّى ينتهي إلى الخامسة، مرحلة الجواز الذَّهبيّ. رصدت المبادرة جوائز مجزية للفائزين، مِن قِبل مؤسسة «مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالميّة».

أُطلقت المبادرة لأهمية قراءة الكُتب في الثّقافة والمعرفة، ونقول الكُتب لدخول الإنترنت المنافس بتفوق، في المحتوى المختصر، أو السّماع السَّريع، أو المشاهدة الخاطفة. لا يُنظر لقيمة المقروء، أو المسموع، أو المرئي، فصُناع المحتوى لا تقيدهم تقاليد الكتابة، مجال لا يميز بين الغث والسّمين. حتَّى شاعت «كتابات يحررها كُتابها»، مع أنَّ التّحرير حِرفةٌ بذاتها، فصار المحتوى الهابط يملك ناصية التّوجيه. لذا قصدت المبادرة التّلاميذ إلى الصّف الثَّاني عشر، وهو سن التَّأسيس المعرفي والسلوكيّ، وبهذا تُعيد المبادرة دور الكِتاب في الوعي.

لم أخذ ما تعلمنا بالمدرسة، عن فك أسرى بدر مقابل تعليم الصِّبيان القراءة، على محمل الجد، حتّى عثرتُ على الرّواية، فكتبتُ معتذراً. وإذا قال مشككٌ في التّاريخ: إنها مِن تلفيق ابن سعد كاتب الواقدي(ت: 230هج)! أقول وليكن، مع استبعاد ذلك، فالتَّفكير بها زمن راويها يكفيها أصالةً.

قال: «كان فِداءُ أسارَى بَدرٍ أَربَعَةَ آلافٍ إِلَى مَا دُونَ ذلكَ، فمَنْ لم يكُن عندَه شَيءٌ أُمِرَ أَن يُعلِّمَ غِلمانَ الأنصارِ الكتابةَ... كانَ أهلُ مَكَّةَ يَكتُبون وأهلُ المدينَةِ لا يَكتُبون. فمَن لم يَكن لهُ فدَاءٌ دُفع إليهِ عشَرَةَ غِلمانٍ مِن غِلمان المدينَةِ فَعلَّمَهُمْ. فإِذا حذقُوا، فهو فِدَاؤُهُ»(الطّبقات الكبرى).

كنا نأمل أنّ تنال مبادرة الشّباب العراقيين «أنا عراقيّ أنا أقرأ»، منذ إطلاقها(2012)، الاهتمامَ، بعد إدراك القراءةِ بلسماً لدمل جِراح الحروب والحصار، وما خلفه الإرهاب، وما تبثه المنابر مِن جهالةٍ، لكنَّ أصحابَ المبادرة ظلوا يفرشون الحدائق والأرصفة، بما جمعوه مِن (المحسنين) مِن كتب، بينما الجهات الرّسمية لا تراهم ولا تسمعهم. هذا ما كان يشغل الذِّهن عند تكريم الفائزين، مِن بين قراء الخمسين مليون كتاب بدبي، على أنّ إشاعة المعرفة أهم مشاريعَ البُنى التّحتية، أعظم شأناً مِن الجسور والطُّرق والمصانع.

نعم، بالقراءة تنهض الأُمم، شرط الاهتمام بنوعيتها، وإلا فالأمية المبطنة فاشية اليوم، بين سطور مَن عوتب الزَّمان فيهم: «وأتى بكُتَّابٍ لو انطلقت يدي/فيهم رددتهم إلى الكُتَّابِ»(الثّعالبي، أحسن ما سمعتُ)، أيّ يردون إلى حلقات تعليم القراءة والكتابة، وهذه أمية ابتلى بها زماننا.

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

انتهت الحلقات التسعون من المسلسل اللبناني السوري (كريستال) المقتبس من دراما تركية بعنوان (حرب الورود) عرضت في موسمين بين عامي (2014 و 2016) وحظي بمشاهدات عالية.وكذلك حظي مسلسل (كريستال) بمشاهدة واسعة تأرجح فيها بين المرتبتين الأولى والثانية للأعمال الدرامية الأكثر مشاهدة، ليس في داخل البلدان العربية فقط بل والعرب ايضا في دول العالم.. جسّد اهم ادواره ممثلون لبنانيون وسوريون يتصدرهم: محمود نصر، باميلا الكيك، ستيفاني عطاالله، لين غرة، رولا حمادة، أنجو ريحان، خالد شباط،، إياد أبو الشامات، بلال مارتيني، علي سكر، وعلي فيمنه.. كتب له السيناريو والحوار كل من لبنى مشلح ومي حايك واخرجه الفنان التركي هاكان ارسلان.

ويرى بعض النقاد ان مسلسل "كريستال" تفوق غالبية نجومه في الأداء على المسلسل التركي "حرب الورود" وهو ما لم يتحقق في الكثير من التجارب العربية السابقة.

فكرة المسلسل

الفكرة او الثيمة الرئيسة في مسلسل كريستال هي (صراع حب) بين ثلاث شخصيات: مصممة أزياء شهيرة (عليا – باميلا الكيك)، وأبنة بستاني (في – ستيفاني)، وطبيب شاب وسيم وماهر في تخصصه (جواد- محمود نصر)، تجسّد ثلاثتها صراع الحب هذا بكل حالاته: عشق، غرام، حب من طرف واحد، كره، مكر، كيد... وانتقام.

يتوفى والد مصممة الأزياء (عليا)، فتعود الى الوطن لرعاية شقيقها المصاب بمرض عصبي عقلي (باسل- خالد شباط)، وتلتقي ثانية بصديق طفولتها وحبها الأول.. الطبيب جواد. ويحدث أن (في) ابنة الناطور وحارس (وحدقجي قصر عليا) تقع في حب جواد ايضا. وطبيعي ان نار الغيرة تشتعل في البطلة الثرية، وترى فيها اهانة ايضا اذ كيف لأبنة (حدقجي بيتها) وولية نعمة عائلته ان تقع في حب حبيبها.. والحبيب طبيب ايضا!.

غير ان ابنة البستاني (في) تتجرأ على تصعيد المنافسة وتنجح في جعل الطبيب جواد يحبها.. وتتعقد الأحداث، وتتعدد الشخصيات والأبطال الثانويين.. وحكايات وتفاصيل بعضها ادخل لغرض (التطويل).

افضل الممثلين اداءً

نرى ان افضل الممثلين اداءا في المسلسل هو الفنان السوري خالد شباط (باسل)، ولا يعني هذا انه افضلهم كفاءة في التمثيل، بل لأنه ادى ببراعة شخصية شاب مصاب بمتلازمة (اسبرغر)، وكان هو الوحيد بينهم الذي مثل دور شخصية مصاب باضطراب عقلي فيما الآخرون مثلوا ادوار شخصيات طبيعية.

وللتوضيح فان متلازمة أسبرجر، تعني في مصطلحات الطب النفسي: اضطرابا في النمو العصبي تتميز بصعوبات كبيرة في التفاعل الاجتماعي والتواصل غير اللفظي وتصرفات متكررة من السلوك والاهتمامات. و يعانى البالغون المصابون بها (مثل باسل) من مشاكل فى علاقاتهم الأسرية وحالات هوسية تقلق وتزعج من حوله. وعادة ما يكون الشخص الذى تم تشخيصه بمرض أسبرجر، غير سعيد عندما يكون بمفرده.

وأرجّح ان الممثل خالد شباط عايش حالات المصابين بمتلازمة اسبيرجر واضطراب التوحد الخفيف.. في احد مشافي دمشق او بيروت، لأتقانه ابرز اعراضها: صعوبة الكلام والحركات المتكررة و حالات الهوس.

وتميزت (باميلا الكيك – عليا) باداء متقن للشخصية الأرستقراطية في كبريائها وتفردها وذوقها الراقي في مظهرها الذي يجسّد دورها كمصممة ازياء ذكية طموحة، اذا وجدت تصميما لزي جميل.. اتقنت تنفيذه، وراحت تبحث عما هو اجمل. ويبدو ان باميلا وجدت في عليا ما يجسد حقيقتها من الداخل في جمالها وقوة وانفة شخصيتها وطيبتها وشطحاتها، ما جعل المتلقي يرى في عليا وكأنها باميلا.. فتوفر فيها شرط المصداقية الذي يعد اهم شرط سيكولوجي في الدراما.

واستطاعت باميلا تجسيد اهم حالتين سيكولوجيتين في ثيمة المسلسل (الحب).. حالة ضعفها امام جواد صديق صباها وحبيبها الأول يوم عاد من اميركا فوجدت ان حبه لها كان قد تحول الى حب لصديقة وليس حبيبة فيما هي كانت تريده ان يكون عشقا وغراما، فعاشت ضعف حالة الحب من طرف واحد. والحالة الثانية ان منافستها في حب حبيبها (جواد) ما كانت بمستواها اعتباريا وماديا، والأصعب انها ابنة (حدقجي بيتها!).

ولها ولباسل.. كان الدور الأكبر في متابعة المشاهدين للمسلسل.

فقدان الصدق السيكولوجي

الشرط الأهم في نجاح اي عمل درامي (مسلسل درامي، فلم سينمائي، مسرحية).. هو الصدق السيكولوجي.. ونعني به ان المتلقي يرى في الشخصيات التي يشاهدها انها موجودة في الواقع.. أولا، وان صفاتها العقلية والسلوكية والاجتماعية مطابقة لتركيبة الشخصية.. ثانيا.. وهذا لم يحصل في بطلي المسلسل (مي و جواد).

  • ستيفاني عطا الله. بطلة المسلسل (في) كانت هي السبب الأول في تحويل هذا العمل الى دراما مفتعلة.ولا يعود ذلك الى ادائها، فهي ممثلة قديرة، بل يعود الى تركيبة شخصيتها التي صاغها المؤلف. فهو منح فتاة من عائلة فقيرة(ابنة حارس وحدقجي) صغيرة في السن، لم تحصل على تحصيل دراسي عالي.. منحها موهبة فنية وذكاءا وحيلة و(شيطنة) وجرأة وتحديا تتفوق فيها على جميع ابطال المسلسل بمن فيهم مصمة ازياء شهيرة وولية نعمة عائلتها، وطبيب يدير اهم مستشفى في المنطقة.

 محمود نصر. السبب الثاني.. ان المؤلف ارتكب الخطأ نفسه في صياغة تركيبة شخصية الطبيب (جواد فياض) الوسيم والثري بأن جعله يقع في حب ابنة البستاني الناطور(في) كما لو كان مراهقا.. بل جعله يعيش حالة هيام وكانه لا تو جد بالدنيا غير (في)، وجعل (في) تلعب به كما تريد لدرجة انه يترك عمله المهني كمدير مستشفى اذا طلبت منه ان ياتيها.. وياتيها في المكان الذي تريد.وتتلاعب به وبمشاعره كيف تشاء، ما جعل المتلقي يرى فيه انه لا يمكن ان يوجد طبيب يماثله في الواقع وان وجد فأنه يكون سفيها وليس بمواصفات شخصية طبيب.

وكان يمكن ان يشكل عامل اخفاق للمسلسل لو ان احدا غير (محمود نصر) قد اداه، لكن موهبة الفنان محمود وقيامه بادوار مماثلة لا سيما قيامه بدور طبيب نفسي في مسلسل (60 دقيقة)، اسهم في استمرار متابعة المشاهدين لحلقات المسلسل التسعين.

السبب الثالث الذي اسهم في تحويل مسلسل كريستال الى دراما مرتبكة مفتعلة يكمن في السيناريو باعتماده (متلازمة تكرار الصدف).فحيثما كانت هناك شخصيتان تتحدثان في خلوة عن شخصية ثالثة، واذا بك ترى هذه الشخصية (خاتلة) تسمع ما يدور بينهما عنها!

شخصيات.. غابت فجأة

يفاجأ المشاهد للمسلسل بممثلين ادوا ادوارا مهمة وغابوا دون سبب، في مقدمهتم الفنان السوري علي سكر الذي قام بدور الطبيب النفسي (عامر) وعمل على معالجة (باسل) وتحليل شخصيتي صديقه الطبيب جواد، وعليا التي احبها.. وغيّب دون سبب مع ان دخوله شكل اضافة نوعية للمسلسل.

والمأخذ الأخير (القاتل) هو.. نهايته، بان جعل الباطل ينتصر على الحق لحظة قرا المحامي وصية (باسل) التي اوصى بجميع ما يملك الى (في).. مع ان في لم تتزوجه عن حب بل عن قصد يخص عليا، وانها لم تعاشره كزوجة، وانها خانته بعلاقتها مع جواد.. فكانت نهاية غيرمنطقية تضاف لعدم منطقية الكثير من أحداث المسلسل.

لماذا اذن حقق كريستال نسبة مشاهدة عالية؟

تتلخص الأسباب في ان موضوع المسلسل هو (الحب) بكل حالاته، لأنه يجذب عامة الناس لاسيما الشباب.. الشريحة الأوسع في المجتمع، ولأن معناه الحقيقي قد تشوه او ضاع في زمن التكنولوجيا. وان الذي جسد هذه الحالات هم نجوم عربية كانوا رائعين في اداء ادوار بحوار صيغ بشكل راقي وعمد الى ان يكشف الكثير من اسرار الحب بلغة شفافة ومواقف رومانسية، بسيناريو كان كاتبه كعازف بيانو ماهر يتنقل (بايقاعات مختلفة) ليضمن متابعة المتلقي لحلقاته التسعين.. فاستحق (كريستال) العربي ان يتفوق على من اقتبسه.. (حرب الورود) التركي.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

حين نقرأ بعض الدراسات أو المقالات التي تتعرض للمجتمع العراقي في مجالات التاريخ أو السياسة أو الاجتماع أو الثقافة أو الدين، تصادفنا في بعض الأحيان ألفاظ (طنانة) وعبارات (رنانة) تحاول إسباغ نوع من الصفات المثالية أو الخصائص الفريدة على طبيعة هذا المجتمع المحيّر، هي أبعد ما يكون عن الواقع وأقرب ما يكون الى الخيال . ومن جملة تلك الصفات والخصائص التي يطيب للبعض كيلها جزافا"عبارة (البوتقة) لوصف التفاعلات والديناميات التي استطاع من خلالها المجتمع العراقي – في ظنهم واعتقادهم - (دمج) مكوناته و(توحيد) جماعاته، ومن ثم بلورت شخصية اجتماعية (معيارية) متخطية للانتماءات الفرعية، وخلق هوية عراقية (حضارية) عابرة للولاءات التحتية .

وعلى الرغم من مواقف العلامة الراحل (علي الوردي) حيال موضوعة (الصراع الثقافي) في المجتمع العراقي وما تمخض عنها من انشطار في شخصية أفراده على مستوى التصورات والسلوكيات ما بين قيم (بدوية) وأخرى (حضارية)، إلاّ أنه كان يستبطن تصور أن الجماعات (الحضرية) رغم كونها شكلت قطبا"جاذبا"للجماعات (البدوية – القبلية) على أساس ما كانت تتمتع به الأولى من فرص وإمكانيات، فهي قادرة – علاوة على ذلك – لأن تصبح (بوتقة) حضرية لصهر لتلك الجماعات والمكونات التي كانت تعيش حياة (التبدون) و(التريف)، بحيث استطاعت في نهاية المطاف على دمجهم في كيانها المديني . مشيرا"الى أن العراق (أصبح من جراء ذلك كأنه بوتقة اجتماعية كبيرة تتفاعل فيها القبائل الجديدة القادمة من الصحراء مع سكان العراق الذين هم بقايا الأقوام القديمة)، كما أن العاصمة بغداد صارت (بوتقة اجتماعية ضخمة تذوب فيها خلاصة ما أبدعه البشر من تراث حضاري حتى ذلك الحين).

والحال أنه إذا ما رجعنا الى كرونولوجيا التاريخ (القديم والحديث والمعاصر) واستعرضنا أحداثها المؤلمة وأمطنا اللثام عن وقائعها المريرة، سنواجه بحقيقة سوسيولوجية لا يمكن بأي حال دحضها أو تكذيبها مفادها؛ ان (العراق) كجغرافيا بشرية، وان (بغداد) كمدينة حضرية، فشلا"فشلا"ذريعا"في أن يتحولا من كيان تستوطنه الجماعات الهلامية والكيانات الفضفاضة، الى (بوتقة) اجتماعية لصهر هذه المكونات المتنافرة والمتناثرة سواء منها المحلية المتوطنة أو الأجنبية الوافدة، بحيث تستحيل – كما يفترض - الى جماعة (وطنية) موحدة . كما إنهما عجزا عجزا" تاما"في دمج الثقافات والهويات سواء منها الأصيلة أو الدخيلة، بحيث تستحيل – كما ينبغي - الى شخصية (عراقية) جامعة .

ولعل هناك من يعترض على رأينا الرامي الى إزالة بعض الانطباعات العاطفية المتكونة لدى عامة الناس، بخصوص حقيقة (البوتقة) الاجتماعية وعملية (الصهر) الثقافي التي حصلت في العراق، لاسيما في العقود الأولى من عمر (الدولة) العراقية وعشية بناء كيانها (الوطني) إبان فترة الحكم الملكي العزيزة على قلوب البعض وما تلاها . وحيال مثل هذا الاعتراض المتوقع نقول : نعم فعلا"شهد المجتمع العراقي محاولات عديدة تعرضت من خلالها مجموعات عرقية وطائفية وقبلية لعمليات (صهر) قسري و(دمج) إجباري كانت الغاية منها (احتواء) كيانها الجماعي و(امحاء) موروثها الثقافي، بحيث تفقد أصولها التاريخية وتنسى هويتها الحضارية .

ولكن هل يا ترى ان فكرة (البوتقة) الاجتماعية تتأسس على مثل هذه السياسات (الاستيعابية) الظالمة والإجراءات (الاحتوائية) القاسية، التي عمدت لممارستها مختلف الأنظمة السياسية التي توالت على حكم العراق سواء في عهوده الماضية أو الحاضرة ؟! . الجواب: كلا بالطبع!. إذ ان ما كانت تستهدفه (البوتقة) المعنية لا يمكن موضعته في إطار سياسة تجميع وتوحيد شتات المكونات السوسيولوجية والانثروبولوجية العراقية حول مجموعة من (الرموز) التاريخية والوطنية، التي يمكن اعتبارها قواسم مشتركة تنظوي تحت لوائها تلك المكونات، دون أن تفقد – جراء ذلك - خصائصها القومية أو الدينية أو الثقافية أو اللغوية . بقدر ما ساهمت في مراكمة الكراهيات ومفاقمة الانقسامات على أسس من الأصوليات المجيشة والعصبيات المعبأة، بحيث دللت التجارب السابقة وأثبتت الممارسات اللاحقة ان سياسات (الصهر) وإجراءات (الدمج) التي اعتمدتها الأنظمة الدكتاتورية والشمولية، أفضت الى خلق مجتمع (تتآكل) مكوناته ذاتيا"تحت وطأة مشاعر التنابذ والتباغض المتبادلة، بدلا"من أن تكون عاملا"على اجتثاث الحساسيات التاريخية والاحتقانات الدينية والاستقطابات الإيديولوجية والتخندقات السياسية .  

***

ثامر عباس   

تنويه: مرت في 22 تشرين/ أكتوبر ذكرى رحيل الشاعر السرياني سركون بولص في (2007). ومع انه يعدّ من أبرز ايقونات الحداثة في الشعر العراقي والعربي ايضا، فان ذكراه مرت دون ان يحتفى بها، حتى من الأوساط الثقافية، بما يليق به شاعرا انسانيا خالصا ترك ست مجموعات شعرية بنكهة تميزه عن شعراء زمانه، بدءا من مجموعته :الوصول الى مدينة أين، مرورا بحامل الفانوس في ليالي الذئاب، وانتهاءا بالعقرب في البستان.. فضلا عن كتاباته القصصية وترجماته.

ولأنني انشغلت من زمن بدراسة سيكولوجيا الشعر والشاعر بهدف توثيق العلاقة (المعدومة عراقيا!) بين الذين يصفون المشاعر والانفعالات بأرق ما في اللغة من مفردات (الشعراء)، وبين الذين يكشفون عن اسرارها وكيف تتشابك العاطفة مع الحالة النفسية والمزاج والشخصية والخبرات (السيكولوجيون)، فأنني وجدت في شعر سركون ما قاله عنه ابن مدينته وعضو جماعته (الكركوكية) الصديق فاضل العزاوي بأن (عمارته الشعرية ذات أعال وسفوح، وفي أعاليه قول للأعالي وفي سفوحه قول للسفوح).. وان التنقل بين الأعالي والسفوح يوحي بان صاحبه مصاب بالأغتراب، فرحت اقرأ اشعاره.. لأحلله واحلل شخصيته سيكولوجيا.

الأغتراب.. ماذا يعني؟

قد تبدو مفردة (الأغتراب) عادية حتى عند مثقفين، مع أن هذه المفردة كتب عنها فلاسفة وعلماء نفس واجتماع.. المئات من المؤلفات.. اليكم موجزا بهم وبها.

يعد ماركس وهيغل اول من لفت الانتباه الى (الاغتراب) حين اوضحا ان بداية تغريب الانسان تنشأ من انفصاله عن الطبيعة من خلال العمل والانتاج. ومع تزايد قدرة الانسان في السيطرة على الطبيعة فانه يواجه نفسه كشخص غريب، حيث يكون محاطا بأشياء هي من نتاج عمله لكنها مع ذلك تتخطى حدود سيطرته وتكتسب في ذاتها قوة متزايدة.

ولقد ركز ماركس على اغتراب العامل في أربعة ابعاد: عن ناتج عمله، عن عمله، عن نفسه، وعن الآخرين، ووصف الاغتراب بانه ظاهرة تاريخية تتعلق بوجود الانسان، وان مصدره هو الانسان ذاته وليس التكنولوجيا، ورأى ان الحل يكون في الاشتراكية التي يتحرر فيها الانسان من تبعية المال والملكية الفردية.

وبعكسه، منح الفيلسوف الالماني فويرباخ الاغتراب معنى دينيا، ورأى انه يتطلب دينا انسانيا يتعلق بالانسان وليس بالآلهة، فيما حاولت نظرية ريزمان عزو سبب الاغتراب الى كون سلوك الانسان اصبح يوجّه من قبل الآخرين، وأن الانسان لم يعد يتلقى مؤشرات سلوكه من اعماق ذاته بل من استحسان واستهجان من يحيطون به.

ويعدّ روسو اول من اعطى (للغربة) بعدا سياسيا بقوله: حين يتولى بعض النواب "تمثيل" الشعب، فان هذا الشعب لا يمارس سيادته بنفسه، ويبدأ بالانعزال داخل وطنه، ويشعر بالغربة. واضاف بان السيادة لا يمكن ان تمارس بالانابة، فهي اما ان تمارس بالذات واما لا تمارس اصلا.. وأن الحضارة سلبت الفرد ذاته وجعلته عبدآً للمؤسسات الاجتماعيه التي أنشأها هو واصبح تابعآ لها.

وتعد نظرية سارتر اكثر نظريات الاغتراب شيوعا في القرن العشرين، وفيها يرى ان الاغتراب النفسي حالة طبيعية لوجودنا في عالم خال من الغرض، وكذلك نظرية ماركوس الذي يعزو الاغتراب الى فشل الحضارة في ادراك الأمكانية الخلاقة للطبيعة البشرية.

ويظهر الاغتراب بشكل واضح لدى ممثل (الوجودية الجديدة).. كولن ولسن الذي رأى ان الانتماء صفة تطبع نفسيات الكثير من الكتّاب والمفكرين والفنانين التي فصلها في كتابيه (اللامنتمي) و(ما بعد اللامنتمي) ثم كتابه (سقوط الحضارة)، مشيرا من خلال معالجته لنتاج الكثيرين من المبدعين امثال: (ويلز، هنري باروس، كامو، سارتر، دستيوفسكي.. ) الى حالة الغربة التي عاشوها بوقوفهم خارج المجتمع وضده.

وحديثا اسهم علم الاجتماع في تطور مفهوم الاغتراب وتركزت جهود علمائه في تفسير الاغتراب في الحياة الحديثة للفرد المغترب الذي يشعر بالضيق والعجز ويرى ان القيم السائدة لم يعد لها معنى لديه وانه صار يشعر بانه غريب عن جماعته. وعزا بعضهم الاغتراب في البلدان النامية الى التغيرات الاجتماعية السريعة والمتلاحقة التي تؤدي الى التناقض بين القيم الاجتماعية والفكرية التقليدية والمجتمع الجديد التي ينجم عنها تفكك في النسيج الاجتماعي وتباين في انماط السلوك الاجتماعي وتضاد بين قيم تقليدية ثابتة وقيم جديدة متطورة.. يحدث انقساما في انماط السلوك الاجتماعي للفرد يمكن تسميته بـ(الشيزوفرينيا الاجتماعية).

وكان اكثر المنشغلين بالاغتراب هم علماء النفس. فشيخهم (فرويد) يرى ان الاغتراب ينشأ نتيجة الصراع بين (الأنا) والضوابط المدنية، ويحدث نتيجة الانفصام بين قوى الشعور (الوعي) واللاشعور (اللاوعي).. وان اللاشعور هو القوة الأعظم والأكبر في شخصية الانسان حيث يحتوى على الرغبات والدوافع المكبوتة التي تحرك سلوكه.. ولا يستطيع اشباعها في عالم تنغصّه الحضارة.

وفي كتابه (المجتمع السوي) يرى فروم ان مصدر اغتراب الانسان هو (الهيكل الاقتصادي السياسي المعاصر)، وان ظاهرة الاغتراب هي في حقيقتها ناجمة عن الرأسمالية المستغلة للشخصية الانسانية. ويشخّص (الاغتراب عن الذات) بوصفه اهم حالات الاغتراب. ويحدد ثلاثة مجالات للاغتراب: الاغتراب والتميّز عن الآخرين.. بان يعي وجوده بوصفه كيانا منفصلا عن الآخرين، والاغتراب عن المجتمع بشعوره انه ما عاد منتميا نفسيا الى المجتمع الذي يعيش فيه، والاغتراب عن الذات المتمثل في عدم مقدرة الانسان على التواصل مع نفسه وشعوره بالانفصال عما يرغب في ان يكون عليه. ويضيف ان الانسان اصبح يحس بالاغتراب منذ فقد صلته بالطبيعة وانتظم في المؤسسات الاجتماعية التي يعدّها وسائل لامتصاص حرية الانسان. وشخّص أسباب الأغتراب بهيمنة التكنلوجيا الحديثة على الأنسان وسيطرة السلطة وهيمنة القيم والأتجاهات والأفكار التسلطيه، فحيث تكون السلطة وعشق القوة يكون الأغتراب.

ستة أسباب.. للأغتراب

نستنتج بأن نظريات الاغتراب تتفق على ان له سببا ولكنها تختلف في تحديد ماهية السبب، ونرى ان الاغتراب هو حصيلة تفاعل عدد من الاسباب نوجز اهمها بالآتي:

1. العجز: ويعني احساس الفرد بأنه لا يستطيع السيطرة على مصيره، لأنه يتقرر بعوامل خارجيةاهمها انظمة المؤسسات الاجتماعية.

2. فقدان الهدفية: او فقدان المعنى الذي يتمثل بالاحساس العام بفقدان الهدف في الحياة.

3. فقدان المعايير: ويعني نقص الاسهام في العوامل الاجتماعية المحددة للسلوك المشترك.

4. التنافر الحضاري: ويعني الاحساس بالانسلاخ عن القيم الاساسية للمجتمع.

5. العزلة الاجتماعية: وهي الاحساس بالوحدة والانسحاب من العلاقات الاجتماعية او الشعور بالنبذ.

6. الاغتراب النفسي: ويعد اصعب حالات الاغتراب تعريفا ويمكن وصفه بانه ادراك الفرد بانه اصبح بعيدا عن الاتصال بذاته.

وتفيد الدراسات التي قاست الاغتراب بان المغترب يعاني من واحد او اكثر من مكونات او عناصر الاغتراب كالاحساس بالعجز وفقدان القدرة على توجيه ما يقوم به من نشاط وفق تخطيطه، او حين تكون علاقاته بالآخرين او السلطة مصدر شقاء، فيشعر بالبؤس والقلق والاحباط وفقدان الولع والاهتمام بالامور الحيايتية والشعور بعدم وجود معنى في الحياة. وقد يحس المغترب بعدم جدوى الأخلاق فيسلك سلوكا يخرج عن المباديء الخلقية في سبيل تحقيق اهدافه وغاياته. ويؤدي احساسه بالعزلة الى التقوقع على نفسه، وقد ينقلب الى شخص ضد المجتمع. وحين يصل حد الشعور بأن ذاته اصبحت غريبة عليه، فانه يحقد عليها.. فينهيها بانتحار بطيء بالادمان على الكحول، او بانتحار سريع بطلقة!.

الاغتراب.. عند سركون بولص

تشكّل شخصية سركون بولص انموذجا لأغتراب المثقف العراقي بشكل خاص، لأن فيها تجسّدت أهم انواعه. فالاغتراب حسب سارتر ناتج عن ظروف الحياة المعاشة في عالم يتسم باللامعنى والعبثية.. وكان قد عاشه سركون. والاغتراب حسب هيجل انفصال او تنافر بين الفرد والبنية الاجتماعية، وكان قد خبرها سركون. واذا كان الاغتراب يعني وعي الفرد بالصراع القائم بين ذاته والبيئة المحيطة به يتجسد في الشعور بعدم الانتماء والسخط والقلق والشعور بفقدان المعنى.. فقد عاشها سركون ايضا.

ان التحليل السيكولوجي لشخصية سركون يقدم لنا خمسة مؤشرات عن اغترابه:

- ان الذات لديه هاربة، وانه في بحثه عنها كمبحر نحو العدم.

- الاحساس بأنه مشتت الهوية identity diffused

- الصراع بين حس الأقلية والحس الأنساني المطلق

- الشعور بالانتماء واللاانتماء في آن معا، وتحديدا في السنوات التي عاشها في امريكا.

- صدمة الخيبة التي احدثها تجواله في مجتمعات العالم بأنه لا معنى لوجود الانسان وقيمته حتى في ارقاها.

لقد صعب على سركون التوفيق بينه وبين المجتمع الذي يعيش فيه حتى لو كان من ارقاها.

فبعد حرب الخليج 1991 ادرجت السلطات الامريكية العراقيين من حملة الجنسية الامريكية بمن فيهم الاشوريين الامريكان، على اللائحة السوداء كمشبوهين محتملين في التواطؤ مع العدو (العراق). وكان سركون في حينها ترك بيروت الى سان فرانسيسكو حيث لا اقليات بالمعنى الثقافي ليحظى بالحرية المطلقة والرحابة والمناخ المفتوح لكل ما يريد.. فكانت صدمة الخيبة التي احدثت لديه غربة المكان بعد ان خبر غربة الزمان، وشعر كمن هو منفي داخل نفسه.. وظلت الخصومة بينه وذاته الى يوم مماته.

ولم يكن ترحال سركون وتنقله بين المدن للمتعة والترفيه عن النفس بل كان حاجة قسرية، لأن الذي يعيش الاغتراب تنشأ لديه حلول قسرية للصراعات العصابية كالابتعاد عن الاخرين انفعاليا، او الحصول على محبتهم، او العداء لهم.. فيما كان الحل القسري لدى سركون هو السفر الدائم.

ولأن سركون كان وسيما، ولأنه كان شاعرا مبدعا، وكاتب قصة ورواية، وضليعا في الترجمة، وثقافة واسعة في الشعر العالمي.. فقد تولد لديه الشعور بالنرجسية، التي تفضي بآلية نفسية الى ان تجعل صاحبها ملتصقا بأوهامه عن نفسه.. وعن المجهول واللانهائي.

وسركون خبر الاضطهاد لاسيما في صباه وبدايات شبابه التي عاشها في كركوك: (ايهاالماضي.. ايها الماضي.. ماذا فعلت بحياتي).. ونقمته على ماضيه هذا مرتبطة بانتمائه الى أقلية وشعوره كما لو كان مواطنا من الدرجة الثانية في مجتمع عشائري متزمت، فيما هو يحمل فكرة انسانية عن الناس وفكرة نرجسية عن ذاته.

ولأغتراب سركون علاقة بالحضارة، فلأن لديه حساسية عالية، ولأنه يحمل صورة مثالية لما يجب ان تكون عليه حياة الانسان، فانه وجد ان منغصات الحضارة والتغيرات السريعة والتناقضات الاجتماعية والاقتصادية.. قد سلبت الانسان حريته وأنسانيته وحولته الى ما يشبه الآلة.. في حالة تناقض الطبيعة الجوهرية للأنسان التي قاسها سركون على روحه الشفافة وعقله المبدع. فالشعور بالاغتراب ليس شرطا في الابداع الشعري ما لم يمتلك الشاعر موهبة الابداع.. كتلك التي تميز بها سركون.. حتى في حياته التي انتهت بتراجيديا احتضاره في منفاه الالماني بشقة صديقه مؤيد الراوي.. من جماعة كركوك.. التي عاشت عصرها الذهبي قبل اربعين سنة.. وتشتت مبدعوها في المنافي!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

كيف موْضع المُثقّف نفسه من الصّراع؟

ألا يزال من المستبعد أن نناقش مسألة " المثقف السوداني"؟  ومساهماته في قضايا الشّأن العام أو بالأحْرى كيف يتعاطى الشّأن العام؟. ووجه الاستبعاد حين نُدرك أبعاد المسألة من  كلّ نواحيها. أعني تأثيرات عمل المُثقّف وتفكيره ومدى اسْهام  افهُوماته وسلوكه الفكري وانخراطه في الحراك الاجتماعي ونتاج ذلك على القضايا العامة.وبعد أن شهدنا عديد المشاريع الفكرية التي تحوّلت إلى (دوغما) وانتهت بالاستبداد والانغلاق على نفسها.  بل ورأينا المثقف نفسه أسيراً لايدولوجيا مقولاته وأفكاره والأسوأ من ذلك تحوله لمثقف  قبيلة/ عشيرة .

ومع تطور نقاشات جينالوجيا المثقف، ظهرت أطروحات مختلفة بشأنه، بدأت بتعيين زمن ظهور مفردة "المثقف" بدلالاتها الحالية، ونقاش الجينالوجيا والجذور وعمليات التأريخ للمثقف قادت إلى دراسة إشكالات المثقف في سياقه التاريخي(1)، مثل علاقته بالسلطة، وظيفته، موقعه من الخريطة الاجتماعية، واجبه الأخلاقي، ونقاش وجود واجب أخلاقي بالأساس يخص المثقف، وغيرها من الإشكاليات. إن ورقتنا لا تغوص عميقاً في الجدال الذي لم يحسم بعد حول من هو المثقف والذي ظهر تاريخياً مع قضية الفريد دريفوس.

طموحٌ وحيد تدّعيه هذه الورقة؛ وهي تعرية القبْليات التي توجّه رؤية المُثقف لذاته وللآخر  - بما هو آخر والمجتمع وموقعه من الحرب الجارية الان؛ وفضح البداهات المُحتجبة التي توارت خلف اطروحاته وكتاباته في الازمة التي تعيشها بلادنا حالياً. ولا أدّعي بانتماء للنّخبة والصّفوة على ما يشهد به تاريخنا السوداني من سجالات وكتابات لصفوة مقتنعة بأنه يقع على عاتقها تحرير المجتمع والجماهير وبناء الدولة والمشروع الوطني فاذا بها في أول اختبار أخلاقي تسقط  وتنحاز الى رواسبها الثقافية والاثنية  وموقعها الاجتماعي من حقل الصراع؛ انما انا فردٌ أعمل في ميدان الانتاج الفكري وانخرط في تجربة الكتابة وهي تجربة تشتبك فيها السّلطة مع المعرفة والاستنارة مع التّعمية، الصّراع والتّحولات، الأمل والاستحقاق على مايقول علي حرب.

نماذج مختلفة وأهداف موحدة:

 وأيّاً ما كان نموذج المثقف وحقل اختصاصه أو مجاله فهو من يهتم بتوجيه الرأي العام وينخرط في السجالات العمومية دفاعاً عن الحقيقة أو الحُرية أو مصلحة الشّعوب وإذ ذاك يصنف كمثقف عضوي ملتحم بالجماهير  و"المثقف العضوي" هو الملتحم عضوياً مع المجتمع الخاضع لبطش نظام توتاليتاري قد يكون محلياً وقد يكون خارجياً استعمارياً. وبسبب هذا التعريف والدور أصبح تعريف "المثقف العضوي" هو الأكثر جاذبية، رغم انه ينطوي على دفاع غير نقدي عن المجتمع أو الجماعة المعنية التي ينخرط المثقف عضوياً فيها على ما يرى غرامشي في اطروحاته وتهويماته؛ او مستقبل الدولة ومشاريع البناء الوطني الجامعة باعتباره المثقف الرسولي والنبوي على ما يرى جوليان بندا في طوباويته؛ واذا صحّ ذلك فاذاً هذه مهمته وبل مشروعيته ومسؤليته وهو بهذا المعنى الوجه الآخر للسياسي وربما المشروع البديل عنه.

ولكن؛ أي موقع يمكن أن يتموْضع فيه المثقف في ظل الأزمة الحالية التي تعيشها البلاد؟ أو بالأحرى كيف موْقع المُثقفين أنفسهم في ظل الصّراع الحالي؟ فما بين المثقف الذي احتمى باثنيته وتنازل عن مقولاته ووجّه معرفته لخدمة القبيلة  وذاك الحائر بسبب تشوش ذهنه والمختبئ خلف برجه العاجي وانتهازيته؛ والاخر الذي اكتفى بالحياد  وليس الصمت، وهو حياد يضمر فيه الاصطفاف مع أحد طرفي الصراع ولكنه خائفٌ من الاعلان عن ذلك؛ وما بين هؤلاء وأؤلئك مشتركاتٌ تتمثّل في غياب الرؤية وفهم الواقع بشكل ضباب بالاضافة للهشاشة  المعرفية وعدم معرفة المكان الصحيح الذي يجب أن يتموضع فيه المثقف في وقت الأزمات والشدّة وحين يوضع قدر الشّعوب على المحك.

أزمة فهم الواقع:

إن اللحظة التي يتعرض فيها نظام ما  فكري أم سياسي أو إجتماعي ...الخ إلى عطب أو اعطال تنجم عنه اضطراب وظيفي في آلية اشتغاله بحيث لايعود في وسع دورته الطبيعية أن تعمل على النحو الذي استقر  عليه أمرها في السابق(2)  يدعى هذا الامر بالأزمة . ومن نافل القول أن مناحي الحياة في البلاد  شهدت أزمة خطيرة جداً متمثلة في الاستقبال الخاطئ للواقع فكان أن هُزم المثقف في فهم الوقائع . فاليومي هو الحقل المُنخرط فيه على حساب الاستراتيجي الذي يمثل الهيكل والبنية والحافز لما يظهر عليه اليومي ويتبدى في الفعل والسلوك. وبالتالي تعرض  الاجتماع السياسي الى انسداد كامل وغاب التفكير الجاد في مشروع الدولة الوطنية والبناء الوطني مما أحدث شرخ وتفكك أمام أي قدرة لتشكيل الوجدان المشترك وبناء اللُّحمة الوطنية.لمجابهة التحديات التي مرت بها البلاد من الحروب الاهلية وانفصال جنوب السودان والابادة الجماعية وهما حدثان مهمان في تاريخ السودان الحديث والمعاصر.

انخرط المثقف السوداني يبني أفهوماته وخطابه ليتطابق الواقع معها وليست لتكون آلية لقراءة وفهم الواقع  بل سعى عبر خطابه لتزيف الواقع وانكاره تارة. فالحرب لم تفاجئه بفظاعتها وعنفها فقط بل جعلته يموضع نفسه وفقاً للحقل الاجتماعي الذي ينتمي اليه حيث تترابط هذه الأثننة مع علاقات السلطة وموقعه من الصراع يتحدد بمدى الخطر الذي يحيق بامتيازات كيانه الاجتماعي أو بما يمكن الحصول عليه كغنيمة تستوي في ذلك المؤسسات والسلطات والمكان ..الخ. وتخضع الارادة والكرامة ...الخ. ساهم عدم فهم الواقع في تعطيل العقل عن ممارسة التفكير في الوقائع الماثلة للعيان وبما يمكن أن يطلق عليه الاتصال الخاطئ مع المحسوسات والسيطرة الكلية للقبيلة والعشيرة على نمط تفكيره. .

فكر سياسي أم فكر عشائري:

ومثلما فضحت حراكات ديسمبر من العام 2018 سوْءات مجتمعنا السّوداني على كافة الأصعدة  فقدفضحت مثقّفنا وعرّته من ورق التوت المعرفي، أمّا الحرب الحالية  فقد أتاحت لنا أن نعرف من هو المثقف بمقولاته وتمثيلاته المُنحاز لشعبه وللحقيقة أينما وجدت. وذاك الذي هرب للقبيلة والاثنية ليجنّب نفسه طرح الاسئلة والاجابة عليها ؛ المُثقف الذي تتنازعه سلطتين سلطة الجيش  بكل ارث العنف وخلله  وسوءاته وكياناته الاجتماعية المُسيطرة على مراكز قراره منذ مائة عام؛  وسلطة الدعم السريع المولود من رحم الجيش ومن كيانات اجتماعية محددة استخدمت في ما مضى لتركيع واخضاع باقي الكيانات، اذ أن فشل  ما يسمى بالدولة ونخبها هو ما انتج كل المليشيا .

تميّزُ تاريخنا السّوداني بالعديد من التناقضات الفجّة؛ ففي مشهدنا السّياسي الذي أضحى مختبراً  لتجريب كل الايدلوجيات  التي أثبتت فشلها المريع من اليمين الى اليسار(...)؛ كانت القبيلة هي (الايدلوجيا) الوحيدة المستقرة التي لا تتغيّر أبداً والتي يلجأ اليها كل المهزومين من النخب السياسة والمثقفين باعتبارها البيت والحاضنة الرئيسية التي تؤمّن الفرد من غوائل الآخر؛ وسرعان ما يتم التخلي عن الايدلوجيا والفكر لصالح الكيانات الاثنية. ولا يجدي الهروب من الحقيقة في حال اردنا تشخيص وقائع بلادنا واحداثها المتسارعة؛ فقد صُمّمت هذه البلاد بشكل عنصري ومارست كل الحكومات المتعاقبة سياسات الاقصاء والاستلاب وقامت مشروعية الحكم على العنف. فالدولة هي دولة غلبة ومن يحكمها  يتعاطى معها باعتبارها غنيمة. فالذين يتحدثون عن الحفاظ على الدولة ؛يدركون تماماً أنه لاتوجد دولة بل توجد كيانات اجتماعية قبلية محددة تسيطر على الجغرافيا والموارد. إن وجود معنى "القبيلة" بوصفها حصناَ على سبيل المثال، سيسخر من معنى ووجود المواطنة والدولة، ومن ثم سيهدم الطريقة الحديثة في تكوين المجتمعات التي تدعمها الثقافة ويفككها النفاق الشوفيني، وفي كليهما تلعب الثقافة دورا في تذويب تلك التصنيفات لصالح الإنسان وحده، سواء كان أقلية او كان متسعا وواسعا ومساهما في صناعة "الأمة" بمفهومها القار والراسخ الذي لا يعترف بنزعة التقسيم العرقي او الديني او الطائفي. الثقافة على وفق هذا النسق ستعبر الى آفاق الإنسان وروحه المتطلعة الى الحرية والانعتاق من التبعية.

تجلّت أزمة المثقف في هذه الحرب بصورة كبيرة؛فقد اصطفّت النخب المُثقفة كلاً حسب موقعه القبلي والاجتماعي  من الصراع. وثمة محايدون ينتظرون آخر فرس في سباق الفوز بالسلطة ؛  فقد رأينا كتابات لمثقفين يقدمون نقداً صارماً للدولة وسلطتها وايدلوجيتها وعنفها وما ان بدأت الحرب حتى كفروا بما قالوا لأن امتيازهم أصبح مُهدداً ولأن موقعهم الاجتماعي سيتضرر منها. وموقفهم من الصراع الحالي هو موقف كياناتهم الاجتماعية وامتيازاتها لا موقف وقائع شعوبنا والحدث الذي تمر بها ومخاضها في أن تولد من جديد بوجدان مشترك لتبني دولة محترمة؛ فالصراع الحالي هو صراع سلطة لأن مفهوم الدولة في ذهنية من يتصارعون يرونها غنيمة ومن يفوز بها سيحكم بالمطلق؛ أما الاجندة الوطنية فهي غائبة تماماً ؛ وأما وقف الحرب في القريب العاجل فهو أمرٌ يتعذر حدوثه لاتساع الرقعة وتداخلات المصالح الاقليمية والدولية في البلاد.

مثقف تنظيمات ما قبل الدولة:

يشير مصطلح تنظيمات ما قبل الدولة اصطلاحا الى (القبيلة) ومثقف "القبيلة" متهم بالمساهمة في تعميق الجهل الذي يكبل القبيلة ومجتمعاتها وأفرادها وشرائحها، ويعيق بروز ما ومن يمكن أن يخفف من ذلك الجهل. فهو يبرر لها كل خطاياها، ويحسن لها مساوئها، ويجمّل صورتها لتبدو زاهية  وهي على النقيض من ذلك. هو يمتلك الخطاب، والوسيلة، والمصادر، والنبرة العالية، والشرعية القبلية كي يصوب ويخطئ أياً كان، ويطلق النيران على كل من تُسول له نفسه النظر إلى ذات القبيلة ونقدها، ولو على سبيل الملل من ديمومة نقد "الآخرين"، عند كل منعطف وعلى رأس أي قضية. في طول وعرض تاريخ صيرورة مجتمعات البشر واندياح مساراتها، توزع المثقفون والمهمومون بمصائر مجتمعاتهم إلى "مثقف قبيلة" متواطئ. ومثقف ناقد حريص على انبعاث التجديد في مجتمعه. من دون الحفاظ على تجديد دائم وانبعاث متواصل؛يتجمد المجتمع ويتكلس ويسير للخلف بثبات -ولا معنى أو مغزى هنا للتقدم المعماري وامتلاك سبل التكنولوجيا والحياة الحديثة ما دام المضمون "القبلي" هو الذي يعشعش في دواخل تلك الوسائل والأدوات.

مشكلة "مثقف القبيلة" أنه يشعر بالدفء المنبعث من جنبات الأمية الأبجدية والأمية الثقافية التي تحيطه بالتصفيق وتهيل عليه عبارات الإطراء والتأييد. يقع فريسة الخطاب الخادع والوعي الزائف الذي ينشره في مجتمع الجهل. وهكذا يدور "مثقف القبيلة" مع دوران قبيلته جهلاً وتجهيلاً معاكساً. وقد رأينا المُثقف القبلي  الذي يصارع من أجل قبيلته وامتيازاتها ذاك المثقف الذي وجّه كل كتاباته للكيان الاجتماعي الذي ينتمي اليه مستهيناً بالروح البشرية متلذذاً بالدماء التي تسيل هنا وهناك. فريق من المثقفين يرى أن الجيش بخلله وتشوهاته  يمثل الدولة نفس الجيش الذي قاد حروب على مناطق (جنوب السودان؛ دارفور؛ النيل الازرق؛ جبال النوبة) نفس الجيش الذي وأد كل السبل  لقيام دولة مدنية وديمقراطية أما الفريق الاخر فانه يرى أن الدعم السريع يمكن أن يجلب الديمقراطية والدولة المدنية...الخ من الترهات وقد بشّرنا هذا المثقف بنهاية وزوال دولة 1956 التي لم توجد أصلاً فدولة ما بعد جلاء المستعمر لم تظهر كدولة بهيكلها وبنيتها ومؤسساتها وأفهوماتها وخطابها بل ظهرت كأشكال بيروقراطية ومؤسسات قبلية تتنازع وتتصارع ما بينها منذا العام 1955 أي قبيل ولادتها المشوهة  وفي الجهة الاخرى المعاكسة يطالب المثقف بالحفاظ على شئ لم يوجد أبداً ؛ وهذه السردية التي يتنباها مثقف القبيلة تظهر لنا الكم الهائل من التشوهات المعرفية والخلل العقلي الذي أصاب المثقف. . ولا أبالغ حين نقول أن تأثير المثقف الاثني في بلادنا أضحى أكبر من أي تأثير آخر في هذه الحرب سواء كانت أحزاب سياسية أو إئتلاف سياسي أو منظمات المجتمع المدني أو النّقابات فمثقفنا يرى الدولة بمنظور مقولاته وتمثلاته لا بمنظور الواقع والحدث ويريد تطبيق مقولاته وخطاباته على  وقائع واحداث لا يفهم كيف بدأت متناسياً كرنولوجيتها قافزاً نحو النهاية.

أن الأشكال الطائفية والعشائرية السائدة في بلادنا ليست علاقات مترسبة ومتناقضة مع الأنماط السياسية والاقتصادية السائدة، بل هي علاقات سياسية واقتصادية في آن واحد، وعلى نحو أدقّ؛ هي علاقات سياسية - اقتصادية. فهذه الكيانات لا تقوم على علاقات إنتاج محددة بل على علاقات رواج. وظلت علاقات القربى تضطلع بمهمات العلاقات الموحِّدة للمجموعات التي ارتبطت بهذه الكيانات القائمة على التوازن.

تظهر الحرب الحالية وبشكلٍ جلي إن القبائل لا تزال تتمتّع بسيادةٍ ما على نفسها، وعلى مواردها، وتواصل حكم نفسها بنفسها في كثير من المجالات بحسب قوانينها أو تقاليدها الخاصة وسعيها لابتلاع كل الجغرافيا السياسية التي تسمى السودان، وهذا يفرض بعض التساؤلات؛ منها كيف يجري تقاسم السيادة بين القبيلة والدولة التي يقول بها البعض من دون إلغاء هذا أو ذاك ؟ حيث  أضحت القبيلة ؛عقبة أو تحدٍ لتشكّل وقيام الدولة الوطنية في بلادنا في ظل سيطرة النّظم القبلية والصراعات المتكررة في الاقاليم والأطراف.

وجه أخر للمثقف المختبئ أظهرته هذه الحرب وهو المغاير للمثقف الاثني  المقتنع فعلاً بصحة مواقفه وأفكاره؛ وهو نوعٌ من مثقفٍ كاذبٍ، تبريريٍّ ومراوغ، يعي في السر حقيقته وحقيقة موقفه الانتهازي، ويستخدم صفة الثقافة استراتيجيةً لإخفاء هذه الحقيقة. يتوارى المثقف المختبئ خلف ثقافته، ليُخفي تعاليه ونخبويّته وعقدة نقصه، وجُبنه أمام  ما يحدث، فهو، على سبيل المثال لا التخصيص، مثقف السلطة الذي لا يريد أن يعترف بذلك؛ على ما كتب ويرى عزام أمين في مقاله المنشور بالعربي الجديد.

أي مثقف نريد:

تطويراً على "مثقف غرامشي العضوي" اذدهر مفهوم "المثقف الناقد" والذي قدم تعريفاً أكثر عمقاً إزاء دور المثقف في مجتمعه وإزاء مصفوفة السلطات التي تواجه الأفراد. "المثقف الناقد" هو الذي يعتمد النقد رؤية لمقاربة المواقف والأنظمة والسياسات، حتى إزاء الشرائح والطبقات والشعوب المضطهدة.(3) مقارباته ابستمولوجية أكثر منها إيديولوجية، وتضامنه مع المظلومين وإن كان قائماً وحاسماً بيد أنه ليس تضامناً أعمى بل مرفوقاً ومشروطاً بالنقد أيضاً، ذلك أنه "لا تضامن من دون نقد"، كما قال إدوارد سعيد. "المثقف الناقد"، إذن، ينقد دكتاتورية السلطات وينقد أيضاً، بتمايز عن "المثقف العضوي"، دكتاتورية المجتمعات وأنظمتها الثقافية والدينية والاجتماعية.

يصعب القول أن بلادنا تمتلك المثقف الناقد؛ اذ الكل منخرط في خطاباته الايدلوجية ورؤيته القبلية وموضعة نفسه في حقل كيانه الاجتماعي فهو لايرى خارج حدود القبيلة والدين والمجتمع فشخصية المثقف منفصمة (4)سواء في بياناته في المعرفة والتنظير على الدوام، فهو الرجل المهووس بانتمائه العرقي المتفوق دائما، وهو نفسه المنزوع الى تمثلات المعرفة والثقافة التي لا تعترف بحدود هذه التمثلات وتعبرها الى الكوني والإنساني.. ومن ثم فنحن أمام شخصيتين تتصارعان في جسد واحد وفكرة واحدة، لكنهما – اي الجسد والفكرة – ستوحيان بالفشل الذريع في النظرة الى الكون والطبيعة والمجتمعات. وهي ذروة النفاق الاجتماعي الذي يشيعه المثقف بمناسبة ومن دون مناسبة وهو يستسلم بطريقة مروعة الى قاع تلك النزعة ونتائجها الكارثية على أهمية الثقافة في ترويض النزعة العصبية وتفسير أهمية أن يكون المرء إنسانا بالدرجة الاولى، وان الصفات التي نسبغها عليه ما هي إلا اضافات شكلية تأتي على وفق ضرورات ما ينجزه في الحياة من جهد وعطاء.

ماهو الموقف من الحرب:

يلعب المثقّفون دوراً بارزاً في مجتمعاتهم بتوجيهها وقيادتها الى التعايش المستدام في بلادنا التي عانت كثيراً من الحروب الأهلية ؛وإذا كانت الأنساق الثّقافية غير مدركة من قبل الجميع؛ نتيجة اتساع رقعة الجهل وتراجع مساحة التعليم، وسيطرة الإعلام الموجه الذي يركز على إنتاج الأتباع والقطيع بوصف ذلك أحد نتائج الحرب؛ فإن الأعمال الأدبية والثقافية والفنية والفكرية يفترض أن تكون قادرة على الغوص في عمق هذه الثقافة، ومواجهة أسس العنصرية ومظاهرها، وأن تجتهد بعد ذلك من أجل صناعة وعي  ثوري ثقافي واجتماعي مناهض للتمييز العنصري.وخطابات الكراهية وهزيمة مشاريع العنصريين واجتثاثها تماماً.

يقول البير كامو أنه: ليس بوسعنا إنكار الحرب، بل ينبغي أن نموت فيها أو نحيا بها. وإذا كان الامر كذلك  فلابد  للمثقف من اتخاذ موقف من الحرب العبثية التي تدور رحاها اليوم، سواء بالكلمة والجهر بالحقيقة متى تجلّت واضحة بلا مساحيق فلسنا في حوجة للمزيد من الضحايا أو النتائج الكارثية للحرب لكي نتخذ قبل كل شيء موقفا مناهضا لها في جميع الاتجاهات والمسارات والمآلات. ذلك أن الحرب في مطلق الأحوال هي الحرب بكل مخلفاتها وفظاعتها وشرورها؛ إذ هي مرفوضة أخلاقيا في أي ظروف جرت، وبأي مسوغات اندلعت، وبأي دوافع مشروعة من الناحية السياسية أو الأمنية انطلقت ووقعت ؛ لذا فإن المسؤولية الأخلاقية تفرض على المثقف الانتصار للعقل في صف الحق والوقوف ضد عبثية التاريخ وصناعة المآسي كما يقول عبدالرحمن السخيري في مقاله عن المثقفين والحرب.

وعلى خلاف كلاب الحراسة والكهنة من المثقفين القبليين   فالمثقف الاخلاقي والنّزيه، لا يُقايض موقعه في الصراع بالتوقيع على شيك بياض للعسكريين أو الطغاة (جيش ودعم سريع) في التصرف بمصير ملايين البشر ودفعهم إلى الجحيم غير مبال بالتضحيات الجسام التي تقع على كاهل كل أطراف الحرب؛ كما تقع ويلاتها على من هم خارج دائرة المواجهة العسكرية ومعاركها سواء اقتصادياً او اجتماعياً.

وليس المثقف خارج التاريخ أو النمط الاجتماعي فهو كغيره من البشر لديه نزعاته واطماعه وفكره ويرتبط بمصالح وحسابات  إيديولوجية أو ظرفية أو ما شابه ذلك، وتتوزّعه مشاعر الكراهية إزاء هذا أو ذاك من أطراف الحرب والصراع، لكنه في الوقت نفسه ينفرد بموقع أو صفة تسمح له باستعمال عقله بصورة نقدية وتشريحية للفصل بين الحقائق والأوهام، والتمييز بين المرئي من الحقيقة وبين الأكاذيب المفبركة، وليس الاحتماء بالاثنية والعرق والباس دفاعه عن كيانه الاجتماعي لبوس الدولة وأنه وحده من يمتلك الحقيقة المطلقة.

لا زلت اؤمن بان بلادنا تحتاج لثورة ثقافية قبل ثوراتها السياسية ؛ نحتاج لثورة ثقافية  تحدث تحولات في مسارات التفكير والإنتاج والترويج الثقافي لبلادنا يستجيب لمثيرات التحولات الاجتماعية ولتنوعنا وتعددنا ويحفزها فيتحول من نتيجة للتغير المحيط إلى سبب له. نحتاج لثورة ثقافية  لننتج ما يكفي من القطائع والتجاوزمن أجل مشروع جديد ومختلف. نحتاج  لثورة ثقافية تتفاعل مع الثورة السياسية التي تعيد تشكيل منظومات الفعل السياسي والاقتصادي والتنموي عامة وتعمل لاحقا على قيادته أو تقديم البدائل الجمالية له وتمنع النخب التي بلا ضمير وطني والمتسلقين والانتهازيين وأصحاب المشاريع الوهمية من الصعود.

***

أحمد يعقوب

....................

هوامش:

1- عن المثقف العربي والحرب – أيمن نبيل – العربي الجديد 9 اغسطس 2015

2- نهاية الداعية، الممكن والممتنع في أدوار المثقفين – د. عبدالاله بلقزيز – الشبكة العربية للابحاث والنشر الطبعة الاولى المركز الثقافي العربي الدار البيضاء 2000 ص 113.

3- مختصر محاضرة ألقيت في المركز الموريتاني للأبحاث والدراسات الإنسانية (مبدأ) ـ نواكشوط ٣ فبراير ٢٠١٧.

4- المثقف والقبيلة علي سعدون – الصباح 2-7-2020

مصادر:

1- أوهام النخبة أو نقد المثقف – علي حرب – المركز الثقافي العربي الطبعة الثالثة 2004.

2- سوسيولوجيا المثقف – جيرار ليكرك، ترجمة د. جورج كتورة دار الكتاب الجديد المتحدة كانون الثاني 2008

3- خيانة المثقفين – جوليان بندا

4- المثقف والسلطة – إدوارد سعيد

5- توماس سويل المثقفون والمجتمع – أنماط المثقفين العامة واثرها في حياة الشعوب – ترجمة عثمان الجبالي الطبعة الاولى 2011 فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر

6- نهاية الداعية، الممكن والممتنع في أدوار المثقفين – د. عبدالاله بلقزيز – الشبكة العربية للابحاث والنشر الطبعة الاولى المركز الثقافي العربي الدار البيضاء 2000

7- المثقف المشتبك والمثقف المختبئ – عزام الامين –العربي الجديد 2023

8- المثقفون والحرب – عبدالرحمن السخيري – الحوار المتمدن 2022

تختلف وجهات النظر من قبل الأباء في تربية أبنائهم وخاصة في عصرنا هذا والذي يعتبر عصر السرعة وعصر التكنولوجيا، لكن بغض النظر عن ذلك فالطفل يبقى طفلاً وفن التعامل معه هو أساس شخصيته وأساس تكوينه، فيصبح فيما بعد إنسانا فاعلا ومؤثرا في المجتمع ومن هنا يجب أن نحسب ألف حساب من أجل تنشئته تنشئة صالحة تحظى بالقيم والمبادئ الأخلاقية والإنسانية والتي لها دور مهم في صلاح الأمم والشعوب. فالبذرة الأولى هي أساس تكوين المجتمع فإذا كانت صالحة صلح المجتمع بأكمله والعكس صحيح أيضاً. ويتبادر للأذهان أن أفضل من يقوم بتربية الطفل هم الوالدين لكن في الحقيقة الكل مشترك في التربية وبكل تأكيد الأبوين هم الأساس لكن هناك عوامل أخرى تساعد في تنشئة الأطفال ليس فقط ما يتعلمه من والديهم، فالعائلة الكبيرة لها دور أيضاً في هذه التنشئة كالأعمام والعمات والاخوال والخالات والأجداد كل له بصمة معينة لها تأثيرها الإيجابي أو السلبي على تنشئة الأطفال فيجب الإنتباه لها، وبكل تأكيد المدرسة لها حصة كبيرة جداً في هذا الأمر. لكن ماهي أفضل الطرق التي يجب اتباعها عند التربية؟ أكدت الدراسات الحديثة أن أهم أمر يجب الإنتباه له عند تربية الأطفال هو الإستماع للطفل وترك مساحة ليعبر فيها عن كل ما يجول في خاطره والاستماع إلى مشاكله وإن كانت بالتفصيل حتى يبدأ الطفل يثق بوالديه ويخبرهم عما يحدث معه فيكونون هم الملجئ الأساسي في حياته خاصة في فترة الطفولة والمراهقة التي تعتبر من أهم المراحل العمرية خطراً. ومن المهم أيضاً أن يركز الأبوين على الأمور الإيجابية للطفل ومدحه عليها وبكل تأكيد يظهر ذلك من خلال مشاركة الأطفال لوالديهم في أعمالهم المنزلية وغيرها، ومن الأساليب الصحيحة هو الإبتعاد عن التوبيخ المستمر للطفل أو الصراخ والانتقاد فذلك يجعل من الطفل متقلب المزاج ويميل إلى العصبية وعدم الاستماع لأي نصيحة تقدم إليه. الحزم مطلوب في التربية وكذلك أسلوب الثواب والعقاب لكن يجب الإنتباه لهذه المسألة فالعقاب المفرط سيؤدي إلى نتائج غير مرغوبة أكثر الأحيان ولعل من أساليب العقاب حرمان الطفل من أمر يحبه لفترة محدودة حتى لا يعود للخطأ مرة أخرى من أنجح وسائل العقاب. ومن الطرق أيضاً المهمة في تنشئة الطفل هي تشجيع الطفل فمن الضروري جداً تشجيع الطفل حتى يبدأ الإعتماد على نفسه في أمور كثيرة و، وكذلك من المهم أحياناً أن نُعلم الأطفال بعواقب الأمور وليس فقط العقاب فمثلا رمي الألعاب بقوة يجعلها تنكسر وسيخسر الطفل لعبته لذلك يجب عدم رمي الألعاب حتى تبقى فترة طويلة. الروتين مهم للطفل في بداية حياته فيجعله ينضبط في سلوكياته مثل مواعيد النوم والاستيقاظ ومواعيد اللعب والتنزه ووو..الخ. الحب مهم جداً في التعامل مع الأطفال وتنشئتهم تنشئة صالحة فمن خلال الحب سيتولد لدى الأطفال رغبة في فعل الخير لجميع من يعرفونهم ويبادلونهم الحب فيتعلمون الاحترام والتضحية منذ الصغر. بقيّ أن أذكر أن الطفولة اليوم تحتاج إلى صبر أكثر من ذي قبل ولعل ما يحدث من إهمال الأهالي وإدخال أطفالهم إلى العالم الافتراضي في وقت مبكر سبب رئيسي في ظهور أمراض نفسية لم تكن موجودة في السابق لذلك من المهم أن نبعد الأطفال عن تلك الوسائل ولو في السنوات الأولى من حياتهم وجعلهم يعيشون طفولتهم بسلام دون ادخالهم في معتركات من شأنها إفساد حياتهم ولأمد طويل...

***

سراب سعدي

أنواع اليهود في عصرنا: السفارديم والإشكناز والمزراحيم والدونمة والسامريون وناطوري كارتا

إنَّ جيلنا الذي نشأ في فترة المد الوطني واليساري العالمي أواسط القرن الماضي فصاعدا وتأثر بالفكر الاشتراكي الأممي تعلم أن يفرق بين اليهود والصهاينة، وبين اليهودية كدين محترم كسائر الأديان والصهيونية كفكر رجعي عنصري لحركة رجعية خرافية عنصرية دموية... هذا التفريق تأخذ به اليوم غالبية القوى المقاومة في العالم العربي وهو موجود حتى في الخطاب الإعلامي للمقاومة الإسلامية في لبنان وحماس والجهاد في فلسطين المحتلة وعلى هذا يغدو مستهجنا تشويه الخطاب المقاوم باستهداف اليهودي لأنه يهودي أو ابن يهودية نتيجة جهل هذا البعض بهذه الحقائق فالحضارة العربية الإسلامية هي الوحيدة بين الحضارات والأمم التي أنصفت الأقليات ومنهم اليهود، بل وراح هؤلاء اليهود يتبعون العرب المسلمين في أي بقعة حلوا بها وفتحوها حتى بلغوا معهم بلاد الصين كما أكد ذلك المناضل والمؤرخ اليهودي الشيوعي الصيني يسرائيل إبشتاين.

أما في اللهجات العربية وخاصة اللهجة الفلسطينية فالأمر مختلف؛ وعامة العرب يستعملون كلمة اليهودي واليهودية كصفة نسبة عادية. وأتذكر خلال أزمة احتجاز القائد الفلسطيني جورج حبش في فرنسا سنة 1992 حين سافر للعلاج فيها بناء على اتفاق مسبق بين الحكومة الفرنسية وياسر عرفات. وحين اخترقت المخابرات الفرنسية المكالمات الهاتفية لعرفات وحبش اعتبرت كلامهما عن اليهود من قبيل معاداة السامية، وحين واجهت الحكومة الفرنسية عرفات بذلك سخر منهم وقال نحن الفلسطينيين نقول لليهود يهود ولا نشتمهم بهذه الكلمة مثلكم واذهبوا واسألوا سفيرهم في باريس. ويبدو أن الفرنسيين سألوا السفير الصهيوني فعلا فأكد لهم ما قاله عرفات، من أن كلمة يهود ويهودي ليست شتيمة أو سُبة في كلام العرب مثلما هي في لغات الغربيين بل مجرد صفة!

سأحاول في هذه المقالة أن أفيد القارئ ببعض المعلومات للتفريق بين اليهود حسب أنواعهم المعروفة من باب الاطلاع ومعرفة الآخر فالفرق بين السفارديم ومعهم المزراحيم والأشكناز كبير جدا وفي الإعلام الصهيوني داخل "إسرائيل" يستعملون عبارة "الأمتين" لهاتين المجموعتين أو المكونين لليهود المعاصرين:

1- اليهود السفارديم: هم الذين تعود أصولهم إلى إسبانيا والبرتغال. وبعض هؤلاء كانوا قد سبقوا العرب المسلمين إلى هناك، وانحازوا إلى جانبهم دائما، وحل بهم ما حلَّ بالعرب والبربر المسلمين بعد حروب الاسترداد وقمع محاكم التفتيش الكاثوليكية بعد سقوط الدويلات العربية الإسلامية هناك. والطريف أن اسم "سفارد" جاء نتيجة خطأ في الترجمة فالكلمة كانت اسم مدينة في آسيا الصغرى تم ربطها بإسبانيا عن طريق الخطأ، فتُرجمت الكلمة في الترجوم (الترجمة الآرامية لأسفار موسى الخمسة) إلى «إسباميا»، و«سباميا». وابتداءً من القرن الثامن الميلادي، أصبحت كلمة «سفارد» هي الكلمة العبرية المستخدمة للإشارة إلى إسبانيا.

شاع في الكتابات العربية خلط خاطئ بين كلمة «أشكناز» التي يعني بها البعض يهودا غربيين وسنأتي إليها بعد قليل، و«سفارديم» التي تعني يهـودا شرقيين. وهذا غير دقيق فكلاهما تعني "يهود غربيين". أما اليهود الشرقيون هم «عيدوت مزراحي» وتعني الجماعات الشرقية. والحركة الصهيونية منذ تأسيسها ومن حيث قياداتها ومنظريها كانت حركة أشكنازية بنسبة تفوق التسعين بالمائة إضافة إلى شخصيات نادرة من اليهود السفارديم ولم يعرف في قيادة الحركة الصهيونية أحد من يهود مزراحيم أي شرقيين. وبعض قادة الصهاينة من السفارديم لا يصرحون بأصولهم ويزعمون أنهم من الأشكناز لينجوا من التمييز العنصري الإشكنازي ضدهم.

2- اليهود الأشكنازيون: وهم من يهود دولة الخزر المنقرضة جنوب روسيا وهم من المتهودين ذوي الأصول التركية والسلافية وغير ذلك ولا علاقة لهم ببني إسرائيل شبه المنقرضين بل اعتنقوا الديانة اليهودية في عصور متأخرة ويشكل الأشكناز تسعين بالمائة من يهود العالم البالغ عديدهم قرابة الأربعة عشر مليون نسمة وما تبقى هم السفارديم والمزراحيم.

اليهود الأشكناز أوروبيون غربيون ثقافة وعادات وتقاليد رغم أن أصول غالبيتهم من أوروبا الشرقية التي هجروها بعد الاضطهاد اليديني الذي لاقوه، وهم يزدرون اليهود الآخرين ويكرهونهم. ومشهورة مقولة شاعر الصهيونية الأشهر نحمان بياليك، وهو إشكنازي، بأنه (يكره العرب لأنهم يُذكِّرونه باليهود المزراحيم "الشرقيين"). أي أن اليهودي الأشكنازي يكره في سريرته اليهود الشرقيين والعرب معا وهذه هي معاداة السامية الصافية! ويلجأ بعض يهود المغرب العربي إلى ادعاء أنهم من أصل فرنسي حتى يُحسِّنوا صورتهم أمام الأشكناز المهيمنين على الدولة ويتفادوا التمييز العنصري الأشكنازي ضدهم.

أما من الناحية العقيدية فالأشكناز يزعمون أنهم يتبنون الصيغة الفلسطينية لليهودية، مقابل الصيغة البابلية التي تبناها السفارد. ومع أن كلا الفريقين تَبنَّى التلمود البابلي، في نهاية الأمر، مرجعاً وحيداً في الأمور الدينية والفقهية، فقد ظلـت بعض نقط الاختلاف. فالسـفارد، على سـبيل المثال، يتسمون باتساع الأفق والانفتاح على الحضارات والمجتمعات التي عاشوا فيها، أما الإشكناز فلم ينفتحوا على الحضارات التي عاشوا بين ظهرانيها برغم تأثرهم بها، وانغلقوا على الكتاب المقدَّس والتلمود وعلى تفسير النصوص الجزئية وعاشوا في الغيتوات.

3-اليهود المزراحيم: وتعني كلمة مزراحيم المشارقة. وأصول هؤلاء من يهود العراق وهم من بقايا السبي البابلي وقد تفرقوا في الأرض وخصوصا في بلدان الجوار كتركيا وإيران والجزيرة العربية والبعض. وبعض هؤلاء وخصوصا ذوي الأصول الشمال أفريقية يسمون أنفسهم "اليهود العرب". وهناك جمعية علنية ومجازة من الشباب والشابات اليهود مقرها في فرنسا بهذا الاسم "جمعية اليهود العرب"، وهم مناصرون ومؤيدون لحقوق الشعب الفلسطيني، وقد كتبت عنهم ذات مرة قبل سنوات قليلة. دينيا يتبع اليهود المزراحيم، باستثناء يهود اليمن، المذهب اليهودي السفاردي الذي تطور لدى اليهود الخارجين من إسبانيا والبرتغال في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. أما يهود اليمن فيتابعون مذهبا دينياً يهودياً خاص بهم. ويشمل مصطلح المزراحيم أيضاً اليهود من تونس والجزائر وليبيا والمغرب الذين عاشوا في شمال إفريقيا قبل وصول السفارديم.

من وجهة نظر الحاخامية الإسرائيلية الرسمية، فإنَّ أي حاخامات من أصل مزراحي في إسرائيل يخضعون لسلطة حاخام السفارديم الأكبر في إسرائيل. واعتباراً من عام 2005، كان 61% من اليهود الإسرائيليين من أصل مزراحي كامل أو جزئي رغم أن نسبتهم من عموم يهود العالم صغيرة جدا كما قلنا (هم والسفارديم نسبتهم عشرة بالمئة)، ولكن حصتهم صغيرة وتافهة في قيادات الكيان السياسية والأدبية والاقتصادية، وهذا يعني أن دولة إسرائيل تحكمها أقلية من الأشكناز المتهودين الغربيين الصهاينة في فلسطين والذين لا يجمعهم جامع ولا كنيس باليهود وبني إسرائيل القدماء. وسبب هذا الوجود الكثيف لليهود الشرقيين هو نجاح إسرائيل والحكومات العربية العميلة في العراق والمغرب ومصر واليمن ...إلخ، بتهجير اليهود الشرقيين في الخمسينات والستينات إلى دولة الكيان التي كاد مشروعها يفشل بسبب رفض غالبية اليهود الأشكناز الغربيين الهجرة إليها.

أما من حيث اللغة، فأن عبرية السفارديم والمزراحيم هي الأقرب إلى اللغة العبرية الفصيحة القديمة. وهي مختلفة عن عبرية الأشكناز المختلطة بلغات أخرى ومنها لغة اليديش الخاصة بالأشكناز. واليديش لهجة ألمانية بنسبة 70 بالمئة. إن فصاحة عبرية اليهود الشرقيين يعود إلى أن يهود العالم العربي كانوا منذ أيام الأندلس لا يتحدثون إلا العربية، واقتصر استخدامهم للعبرية على الكتابات والأسفار الدينية العبرية الفصيحة المتخصصة والتي بقيت سليمة ومستقلة. وقد كان لاحتكاك اليهود بالعرب أثر عميق في لغتهم، فقد ازدادت عبريتهم فصاحة بمجاورتها اللغة العربية التي تُعدُّ أرقى لغات المجموعة السامية كلها. وقد تَرتَّب على ذلك أن «دولة» إسرائيل، التي قامت على أكتاف الأشكناز، وجدت نفسها رغم كل شيء مُضطرَّة إلى اعتبار عبرية السفارديم هي اللغة الرسمية وفي السياسة والأدب والفن والإعلام والتعليم في الجامعات والمدارس. وقد اضطر المؤلفون في الأدب العبري الحديث، أو العاملون في مجال الدراسات اللغوية، حتى وإن كانوا من الأشكناز، إلى الخضوع المُطلَق للسان السفارد.

4- يهود الدومنة: وهم من أصول مختلفة وخزرية غالبا. برز منهم مؤسس طائفتهم شباتاي زيفي، ولد في يوليو 1626، بمدينة إزمير التركية من أبوين يهوديين مهاجرين من إسبانيا أي من يهود السفارديم. وكلمة دونمة تركية تعني "المرتدين/ الراجعين". فحين زعم مؤسسهم زيفي أنه المسيح المنقذ حوكم، وقبل أن يحكم عليه بالإعدام أعلن إسلامه فعفا عنه السلطان العثماني محمد الرابع في القرن السابع عشر. وقد قام زيفي لاحقا بنشاط كبير لبعث فكرته وتأصيلها بشكل سري وبعد أن توفي عام 1675م سار أتباعه على دربه في محاولة للحفاظ على وحدة وتواصل الجماعة. وهذه الجماعة ليس لها تأثير كبير في دولة الكيان المؤقت ولا خارجها.

5- ناطوري كارتا: والكلمتان باللغة الآرامية وتعنيان (حارس المدينة). هي حركة يهودية حريدية (أصولية) ترفض الصهيونية السياسية بكل أشكالها وتعارض وجود دولة إسرائيل. تعدادهم يقارب 5000 يهودي ويتواجدون في القدس ولندن ونيويورك. وهي جماعة دينية يهودية تم تأسيسها في سنة 1935، تنادي بخلع الكيان الإسرائيلي وتفكيكه سلميا، وإعادة الأرض إلى أصحابها الفلسطينيين. وتقوم هذه الحركة على أن تأسيس دولة إسرائيل مخالف للشريعة اليهودية التي قررت أن يبقى اليهود مشتتين موزعين في بلدان العالم حتى قيام "الماشيحا" أي المهدي المنتظر اليهودي.

6- الطائفة اليهودية السامرية أو السُمَرة وبالعبرية: «شمرونيم»، هي مجموعة عرقية دينية، تنتسب إلى بني إسرائيل وتختلف عن اليهود إذ يتبعون الديانة السامرية المناقضة لليهودية (رغم اعتمادهم على التوراة) لكنهم يعتبرون توراتهم هي الأصح وغير المحرفة وأن ديانتهم هي ديانة بني إسرائيل الحقيقية. يقدر عدد أفرادها بـ 820 شخصاً موزعين بين قرية لوزة في نابلس ومنطقة حولون بالقرب من تل أبيب. ويعادي اليهود الأشكناز يهود السامرية ويعتبرونهم غرباء عنهم وعن اليهودية وقد جاء بهم الآشوريون وأسكنوهم في السامرة العاصمة القديمة لإسرائيل المنقرضة. أما السامريون أنفسهم فيعتقدون أن تاريخهم قد بدأ منذ بداية الخلق مع آدم، ويعتبرون نوح جدهم العاشر، وإبراهيم جدهم العشرين، وصولاً إلى موسى الذي بعثه الله ليحررهم من عبودية ملك مصر القديم الذي تسميه التوراة "الفرعون" وسبق وأن ذكرنا أن هذه الكلمة "فرعون" لا وجود لها في السردية المصرية القديمة كلها. ويعتقدون أنهم هم الإسرائيليون الأصليون الذين ينتسبون إلى يوسف الصديق وكهنتهم ينتسبون لسبط لاوي، وأن اسمهم "شومريم" وليس السامريين التي تعني المحافظين، ويقصدون أنهم من حافظ على الديانة القديمة دون سائر بني إسرائيل.

***

علاء اللامي

اعتدنا دائما في حلقات الدرس الفلسفي أن نفرق بين السؤال الفلسفي وفلسفة السؤال. حيث الانتقال من ماذا ولماذا الي اين وكيف. فالسؤال الفلسفي بقف دائما أمام سؤالين ماذا يحدث ولماذا يحدث على كافة المستويات المختلفة. والمتأمل لتاريخ الفكر الفلسفي يجد أن الغالبية العظمى من المهمومين بالفلسفة يقفون عند هذه المرحلة ولكن الباحثين  عن المجتمع الأمثل منهم هم من يسعون دائما الي التحول من السؤال الفلسفي الي فلسفة السؤال وتكمن ضالتهم المنشودة متمثلة في كيفية التحول ومكانه. وبلغة مناهج البحث الفلسفي المعاصرة كيفية بلوغ كيمياء الفكر من ناحية وجغرافيا الفكر من الناحية الأخرى.

والناظر الي الواقع المعيش في تلك المرحلة الفارقة في تاريخ أمتنا العربية يجد أن معظمنا يقف عند مرحلة السؤال الفلسفي: ماذا يحدث؟ ولماذا؟.

ماذا تفعل إسرائيل وامريكا وفرنسا...الخ؟ ولماذا هذه الأفعال؟.

والإجابة ببساطة شديدة تتمثل في أن المصالح المشتركة هي ما تقود الى مثل هذه الأفعال دون مراعاة لأية ابعاد إنسانية أو قانونية. فما يلتقي مع مبدأ المصلحة هو الصواب وإن تعارض مع كل المبادئ والقيم الإنسانية وضرب عرض الحائط بكل القوانين والمعاهدات الدولية ؛وما يتعارض مع المصلحة هو الخطأ الأكبر الذي لا يجب الوقوع فيه. هذا هو منطق الفكر السائد في المعسكر الأول الذي يشن العدوان بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. واعتقد أن هذا الأمر لا يخفى على الإنسان العادي أو المثقف؛ لا يخفى على الرأي العام القادم أو الرأي العام التابع.

والجميع يعلم ألية حل هذه المشكلة والمتمثل في وجوب نحقق الوحدة العربية حتى يتسنى لنا مجابهة هذا الطوفان المدمر الذي لن تكون فلسطين بالنسبة له نقطة نهاية بل نقطة بداية . ففي الماضي القريب وبحيل مشابهة لما يحدث اليوم دمرت العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان...الخ من مآسي العالم العربي. واليوم هناك ثمة محاولة علي الصعيدين السياسي والعسكري – لا تخفى إلا على من يغمس رأسه في الرمال -لتصفية مصر من خلال جعلها طرفاً مباشرا في الصراع حتى يتسنى لهم تصفية القوة الوحيدة التي مازالت متماسكة في العالم العربي. هكذا نكون قد فهمنا ماذا يفعلون ولماذا؟. وبعبارة أخرى عرفنا الاجابه عن السؤال الفلسفي ولكن ماذا عن فلسفة السؤال؟.

أشرت إلى أن حل هذه الأزمة يتمثل في الوحدة العربية؛ وهنا تظهر فلسفة السؤال: كيف وابن.

ما أسهل الإجابة عن كيف: بنبذ الفرقة والتكامل على كافة المستويات المختلفة بحيث نتحول إلي قوة يخشاها القاصي والداني. ولكن السؤال عن اين فإن الإجابة عليه متروكة لمن بيدهم القدرة على الإجابة .

فهل آن لنا أن نتحول من السؤال الفلسفي الي فلسفة السؤال؟.

***

الدكتور شعبان عبد الله محمد

استاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب سوهاج

كتب الله للدين الجديد الغلبة والظفر، فلما ساد الإسلام فى شبه الجزيرة العربية ولم يعد بها صنمًا يُعبد، كان الاتجاه لنشر الدين خارج حدود شبه الجزيرة، وقبل أى فتوحات وقبل تحرك أى جيش، كان النبى ﷺ يبعث الرسائل إلى الملوك والحكام يدعوهم فيها للإسلام، من شاء قبل ومن شاء رفض، ومنهم من قتل مبعوث النبى ﷺ الذى يحمل رسالته، وهو شرحبيل بن عمرو الغسانى أحد ولاة قيصر على أرض البلقاء، وقد قتل الحارث بن عمير الأزدى مبعوث النبى ﷺ .

ولم يكن لهذه الفتوحات الإسلامية أدنى علاقة قتالية بأهل البلاد المفتوحة، وإنما قتالها كان من جيش الدولة التى تسيطر على هذه البلد، وفى تلك الآونة كانت البلاد خاضعة إما للدولة الرومانية وإما لدولة الفرس، فحرب المسلمين كانت مع الروم أو الفرس الذين يسيطرون على البلد المفتوحة ويسومون أهلها الذل والهوان والضرائب الباهظة، من هنا كانت سعادة أهل هذه البلاد بالفتوحات الإسلامية لأنها كانت الخلاص لهم من الظلم والهوان، وكل واحد على ديانته إلا من أراد باختياره أن يدخل الإسلام، ومن لم يرد فعليه دفع الجزية، وهى ليست من قبيل البلطجة على الضعفاء، وإنما هذه الجزية كانت نظير دفاع المسلمين عنهم، فإن نشبت معركة أو هبَّ هجوم على هذا البلد، فلا علاقة لأهلها بالمعركة، المسلمون هم من يدافعون عنهم وعن أرضهم .

وكما أن هذه الفتوحات كانت العامل الأبرز فى نشر الإسلام خارج حدود شبه الجزيرة، فإنها أيضـًا كانت العامل الأبرز والأول فى نشر اللغة العربية وتخطيها حدود الأطر الجغرافية لشبه الجزيرة، فكانت هذه الفتوحات هى جند من جنود الله لنشر العربية فى أصقاع الأرض، وكما كتب الله للإسلام الغلبة والظفر، فقد كتبهما أيضا للغة العربية .

فمع انتشار الفتوحات شرقـًا وغربًا، انتشرت العربية بالتبعية شرقـًا وغربًا، فمع كل بلد جديد يـُفتح، كان عدد وافر من أهلها يدخلون فى دين الإسلام، فكان لابد من تعلم العربية التى بها تتم شعائر الدين، كان لابد من تعلم العربية لغة القرآن الكريم، وقد حرص الولاة المسلمون على كل بلد من هذه البلاد وكذلك حرص من يتولون فيها القضاء، أن يعلموا أهلها العربية وأحكامها وقواعدها، حتى برع المسلمون الجدد من أهل هذه البلاد براعة مطلقة فى العربية وكأنهم عرب أبًا عن جد، حتى أصبح منهم ومن نسلهم عدد من علماء العربية الأفذاذ، مثل : سيبويه، أبو على الفارسى، ابن خالويه .

ولم تكن تفتح بلد حتى يرسل الخلفاء مع الجيش نفرًا من الصحابة أو التابعين لإرساء تعاليم الشريعة وتعاليم اللغة . ويُضاف إلى ذلك الهجرات التى خرجت من شبه الجزيرة إلى عدد من هذه البلاد المفتوحة، ضربًا فى الأرض، وسعيًا لحياة جديدة، أو مرافقة الأسرة لواحد من أفراد الجيش استقر به المقام فى الحامية العسكرية التى تظل فى البلد المفتوحة دفاعًا عنها، تعددت أسباب الهجرات وقد كانت هذه الهجرات من أبرز العوامل التى عملت على  نشر العربية .

ولذلك يقول المستشرق الألمانى "يوهان فك" فى الصفحة السابعة من كتابه " العربية " (لقد كانت هجرة القبائل عقب وفاة الرسول، إيذانـًا بشروق عصر جديد للعربية) ولم يكن لهذه الهجرات سبيل من التوسع والانتشار  إلا بعد الفتوحات الإسلامية .

ويضاف إلى ذلك أيضـًا أن من بقى على دينه ولم يدخل فى الإسلام، وكان يعمل فى الدواوين والمراسلات والمكاتبات أو جمع الخراج، لم يجد مفرًا من أن يتعلم العربية لكى يتمكن من القيام بعمله، حتى من أرادوا فيما بعد فى عهد الدولة الأموية التقرب من الولاة والحكام، كان لابد لهم من تعلم العربية .

إذن رأينا إلى أى حد، كانت الفتوحات الإسلامية ذات الأثر الأول والأبرز فى نشر العربية شرقـًا وغربًا، وكثير من العوامل الأخرى هى منبثقة وتندرج تحت تداعيات الفتوحات الإسلامية، التى لولاها لما كان لهذه العوامل وجود .

***

د. أيمن عيسى – مصر

الحاكم صاحب الحكمة مطلوب منه صد المظالم لحماية شعبه كما جاء في قوله تعالى " إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" (البقرة 246). لذلك فإن السكوت عن المعتدين مرفوض. ولهذا السبب فان الرسل والملوك بعثوا لحماية المجتمع من الظلم. والحكام الظالمون البعيدون عن الحكمة لهم نهاية مغزية، فهذا نمرود انهته بعوضة وفرعون الطاغية بعصا وغرق. وبسبب قتل داوود عليه السلام للظالم جالوت "وقتل دَاوُدَ جَالُوت وءاته الملك" (البقرة 251) فإن الله تعالى أعطاه الملك والنبوة والحكمة وجعل ابنه سليمان عليه السلام ملكا.

الحكم كمصطلح مشتق من الحكمة، لذلك فإن الحاكم القاضي عليه ان يتصف بالحكمة والا فإنه لا يسمى حاكما. والحكمة ذكرت في ايات عديدة منها "وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" (البقرة 151) وهذا يعني ان القاضي الحاكم عليه ان يتعلم الحكمة. فالقاضي بدون حكمة تصبح قراراته تحوي شيئا من الظلم لأن الحكمة عكس الظلم. ومن محاكم الأنبياء محكمة النبي ابراهيم عليه السلام الذي ترأسها الحاكم نمرود نفسه مع لجنة من قضاته الظالمين الذين لم يتصفوا بالحكمة. والدليل على ظلم المحكمة ان قرار الحكم كان سريعا بحرقه في أكبر محرقة، ولكن الله تعالى كان لهم بالمرصاد "إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً* وَأَكِيدُ كَيْداً" (الطارق 15-16) بان جعل النار بردا وسلاما "قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ" (الانبياء 69).

ومصطلح المحكم او التام مصدره من الحكم فعلى القاضي ان يكون حكمه تام لا ريبة او شبهة فيه لان المحكم عكس المتشابه "مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ" (ال عمران 7) وعن تفسير هذه الاية قال الامام الصادق عليه السلام (المحكم ما يعمل به والمتشابه ما اشتبه على جهله) وبتعبير اخر ان على الحاكم القاضي ان يدرس الامر او الشكوى بامعان ويصدر قراره بحكمة حتى لا يظلم احد. والقاضي وقت المحكمة ان لا يكون في غضب حيث قال الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لا يَقضينَّ حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان). وقد ذكرت المصادر ان الغضب له مقاصد مختلفة  فلا يجوز للقاضي أن ينظر في القضاء، أو يجلس إليه، وهو في حالة من الجوع المفرط، والعطش الشديد، والوجع المزعج، ومدافعة أحد الأخبثين، وشدة النعاس، والهم والغم، والحزن والفرح.

والإسلام دين فيه مبدأ الدفاع وليس الاعتداء، فالبداية مع العدو تكون كما قال الله تعالى "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل 125) و " وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا" (البقرة 83) حيث تتطلب الرحمة وعدم الغلظة "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" (ال عمران 159) وإذا لم يردعهم عفوك فاعزم وتوكل على الله. ولكن بعد مقدمات التعامل الحسن وعند استمرار الاعداء بغيهم فإن الله تعالى طلب من رسوله التعامل بقسوة وشدة مع هؤلاء الأعداء "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ " (التوبة 73) ولا يمكن تطبيق الآية فيهم "عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ" (المائدة 95).  ولا يلدغ المؤمن مرتين

عن المجتمع الإنساني في القرآن الكريم للسيد محمد باقر الحكيم: إن الله‌ سبحانه‌ وتعالى‌ أخبر الملائكة بالقرار الإلهي، في‌ أن‌ يجعل‌ في الأرض خليفة عنه يودع في فطرته (الإرادة المطلقة) التي تجعله قادراً على التصرف، حسب قدراته ومعلوماته التي لا يـمكن أن‌ تصل‌ إلى‌ مرتبة الكمال. وعـلى أسـاس هذه الإرادة المطلقة،‌ وهذا‌ العلم الناقص، عرف الملائكة أن هذا الخليفة سوف يسفك الدماء ويفسد في الأرض، لأن ذلك نتيجة طبيعية لما يتمتع‌ به‌ مـن‌ إرادة مطلقة يسير بها حسب علمه الذي لا يحيط بجميع‌ جوانب المصالح والمـنافع، الأمـر الذي قد يوجه الإرادة إلى خلاف الحكمة والمصلحة، فيقع في الفساد. وحين عرف‌ الملائكة‌ ذلك،‌ تعجبوا من خلافة هذا النوع من الخـلق الذي يسفك الدماء ويـفسد‌ في‌ الأرض لله تعالى، فسألوا الله سبحانه (عن طريق النطق، أو الحال، أو غير ذلك) أن يتفضل‌ عليهم‌ بإعلامهم‌ عن ذلك وبيان الحكمة لهم. وكان الجواب لهم على‌ ذلك،‌ هو‌ بيان وجوب الخضوع والتسليم، لمـن هـو بـكل شيء عليم، لأن هذا هو موقف جميع‌ المخلوقات‌ تجاهه،‌ لأنه العالم المحيط بـكل المصالح والحكم. على أن هذا النوع من الخضوع والتسليم‌ الذي‌ ينشأ من معرفة الملائكة بإحاطة الله بكل شـيء، قـد لا يـذهب الحيرة ولا‌ يزيل‌ الاضطراب،‌ وإنّما تسكن النفس بإظهار الحكمة والسر الذي يختفي وراء الفعل الذي حـصل مـنه تـعجب‌ الملائكة. ولذلك تفضل الله سبحانه على الملائكة، بأن أوضح لهم السر، وأكمل علمهم‌ ببيان‌ الحكمة‌ في هـذا الخـلق، فأودع في نفس آدم وفطرته (علم جميع الأشياء من غير تحديد ولا‌ تعيين)‌ الأمر الذي جعل لآدم امـتيازاً خـاصاً استحق به الخلافة عن الله في‌ الأرض.

والقضاء على الحكام الطواغيت في القرآن الكريم اعتبرها الله تعالى آيات "تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ" (البقرة 252) و (الجاثية 6). كل ذلك لان هؤلاء الحكام لم يتبعوا الحكمة لانهم لم يعطوا الحق للمستحقين ولم يحكموا بين الناس بالعدل "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ" (النحل 90). وعلى الرعية ايضا ان يتبعوا الحكمة وذلك بمساعدة الحاكم العادل والا فان الله يسلط عليهم غضبه كما حصل لقوم موسى كونه عليه السلام بمثابة الراعي الحاكم لهم بعد ان اعطاهم الملك ونجاهم من فرعون وجعل لهم الارض المقدسة ملكا لهم ولكنهم رفضو مجابهة الجبارين "يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ" (المائدة 21-22).

***

د. فاضل حسن شريف

ما هو الشيء الذي يجري ولا يمشي؟ هذا أحد الألغاز التي كنّا نتعالم بها ونحن صبية ويتحدّى فيها بعضنا البعض، ونادرا ما كان أحدنا يتوصّل إلى الجواب الصحيح المعتمَد وقتها، وهو الماء الذي يجري في البحر والنهر والمحيط دون أن يمشي على قدمين كإنسان أو على أربع كحيوان..

ومع كبر السنّ واتساع التجارب وتطوّر العقل وارتقاء الفكر، تحوّل الجواب من المادي إلى المعنوي؛ فإذ بهذا الذي يجري ولا يمشي هو الزمن، نعم، الزمن الذي نعته الروائي أيمن العتوم بأنه يجري كغزال هارب، وينسرب كماء يتسلّل من شقّ صخرة.

اليوم –الثاني من نوفمبر 2023م- حضرْت إلى العيادة وفي ذهني أنني بصدد يوم الأحد، وإذ بنظرة خاطفة على النتيجة المنبطِحة فوق المكتب تفاجئني بأن الأسبوع قد انقضى وها هو يوم الخميس قد أظلّني! وساعتها ضربْت كفًّا بكفّ، أهو الانهماك في العمل حدّ الغرق؟ أم بوادر ألزهايمر وبدء تشوّه الساعة البيولوجية؟ أم آخر الأمتار في ثوب الزمن حسب إشارة الحافظ ابن حجر قبل نحو خمسة قرون: "وقد وجد في زماننا هذا من سرعة مر الأيام، ما لم نكن نجده في العصر الذي قبل عصرنا".

بالتأكيد، الزمن في كل وقت هو الزمن ذاته، لا يبطئ من سرعته كسيارةٍ نضغط مكابحَها، ولا يزيدها كدابة نجلد بالعصا ظَهرَها؛ السَّنة اثنا عشر شهرا، واليوم أربع وعشرون ساعة، والدقيقة ستّون ثانية، ولكن إدراكنا للزمن هو الذي يتغير تحت تأثير ثلاثة عوامل؟

الحالة الشعورية عامل حاسم؛ فالزمن في لحظات الأُنس والفرح والسعادة يمرّ كالريح ويتطاير كالشظايا، ولكنه في لحظات الكرْب والمعاناة، مثل المرض والسجن والانتظار والملل، يطول كدهر ويبدو كأنه نسينا في مقعد سيارته الخلفي! وبلغة الكيمياء؛ وجد العلماء أنه كلما زاد إنتاج الدوبامين في خلايا المادة السوداء داخل الدماغ، تزايدت الإشارات التي يرسلها الدوبامين، ويؤدّي ذلك إلى قلة الفواصل الزمنية بين إشارات الأعصاب، ويفسّر إحساسنا بمرور الوقت بسرعة، بينما انخفاض نشاط الخلايا العصبية في أزمنة الكبت والقهر والعجز يؤدّي إلى إحساسنا بمرور الوقت ببطء.

العمر الزمني أيضا له دور؛ فكلما تقدّم المرء في العمر أَحسّ أن الزمن يلهث ويركض، على عكس الأطفال الذين يتعجّلون الزمن ويودّون لو قفز  بهم في طرفة عين إلى الشباب والكهولة، وهذا يعود إلى كثافة المُدخَلات الحّسية ويقظة الشعور في عهد الطفولة، على عكس الشيخوخة التي تكثر فيها المألوفات وتتراجع  الإدراكات بوجه عام، فيطول الزمن هناك في غير طول حقيقي، ويقصر هنا في غير قصر حقيقي..

العامل الثالث والمعتبَر، أننا وعلى خلفية ظهور العديد من علامات الساعة الصغرى، صرنا على أعتاب آخر الزمان، وبهذا انقبضت الأيام والشهور وتقاربَت السنون تقاربا معنويا مَجازيا بذهاب البركة، ويتبعه تقارُب مادي حقيقي في توقيت لا يعلمه إلّا الله ليصبح العام كشهر والشهر كيوم واليوم كساعة، وذلك مصداقا للحديث الشريف: "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر والشهر كالجُمعة وتكون الجمعة كاليوم ويكون اليوم كالساعة وتكون الساعة كالضرمة بالنار".

والسؤال الملحّ، ليس في كيفية جري الزمن وتوثيق جريانه؟ ولكن في كيفية مجابهة هذا التقارُب والتسارُع بطرق عملية تضمن لنا النجاة والفلاح؟

أظن حان الوقت لاغتنام كل لحظة فيما يفيد، ومحاسبة النفس على الدقيقة والثانية، وتقديم الأهم فالمهم، ونفْض اليدين من فضول القول والفعل والشعور..ولست في حاجة إلى إعادة التأكيد على أهمية الوقت ككنز يوشك أن ينفد وسيف إن لم تقطعْه قطعك..

ويكفينا، ما في الحديث الصحيح، أنّ رجلًا قال: يا رسول الله، أيّ الناس خير؟ قال: (مَن طال عمره وحسُن عمله)، قال: فأي الناس شرّ؟ قال: (مَن طال عمره وساء عمله)..

وما قاله الحسن البصري: "أدركتُ أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشدَّ منكم حرصًا على دراهمكم ودنانيركم".

***

بقلم د. منير لطفي - مصر

طبيب وكاتب

في ترجمتْهما لرِحلة الروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكيس إلى أرض فلسطين التي قام بها بين عامي 1926 - 1927 موفداً من إحدى الصحف اليونانية، لتغطية احتفالات عيد الفصح المسيحي، يكتب مترجما الرحلة إلى اللغة العربية عنواناً ثانوياً يشير إلى أنها "أخطر وثيقة ضد الصهيونية يكتبها روائي ومفكر عالمي في أوائل هذا القرن"، والمقصود بذلك القرن العشرين، فقد أنهت الأديبة الفلسطينية الراحلة منية سمارة مع الشاعر الأردني الفلسطيني الراحل محمد الظاهر ترجمة هذا الجزء من كتاب " ترحال" لصاحب رواية "زوربا اليوناني"، ونشراه بالعربية، في العام 1989 تحت عنوان "رِحلة إلى فلسطين".

" ترحال" ينتمي إلى أدب أو صحافة الرِحلات، وفيه كتب كازانتزاكيس مشاهداته وانطباعاته في عدد من البلدان، التي زارها في مهمات صحفية، ومنها فلسطين ومصر وإيطاليا وقبرص، وقد صاغها بلغته الأدبية المعروفة وإحالاته الكثيرة إلى النصوص الدينيَّة والأحداث التاريخية، فهو من الكُتَّاب المؤمنين بما جاء في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، ورِحلاته لم تخلُ من ذلك، مثل سيرته الذاتية الفكرية التي دوَّنها في " تقرير إلى غريكو"، وترجمها ممدوح عدوان. وفي التصدير الذي كتبه المترجمان للجزء الخاص بفلسطين، وهو تصدير يستند إلى المقدمة الإنجليزية للطبعة الكاملة لكتاب "ترحال"، فإن الروائي اليوناني قد أدان الصهيونية قبل أن يتنبه العالم إلى الخطر الصهيوني، وأنه حاول أن يطرح نبوءته للقرن العشرين حول الخطر القادم للصهيونية، "هذه النبوءة التي جاءت الوقائع لتؤكد صدقها".

لم يكن كازانتزاكيس معادياً لليهود، على العكس من ذلك فهو يعلن أنه يحب اليهود، لكنه كان مؤمناً أن الشتات هو قدرهم، ولا جدوى حسب اعتقاده للهرب من هذا القدر، أو البحث عن السعادة والأمن في هذا البلد النائي، ويقصد فلسطين الأرض التي سوغت الصهيونية للشعب اليهودي الهجرة إليها من شتى بقاع العالم، ليستقروا فيها بعد شتاتهم الطويل. وهو يرى " أن الحلم الصهيوني سينتهي بشكل تراجيدي، وكان ينظر إلى الشتات كخيمة تاريخية، شكلت الجنس العبري عكس مشيئته ورغباته "، وتتجلى أفكاره هذه بكل وضوح في محاورته مع الشابة اليهودية " جوديت " التي كانت تدرس الطب، ولم تكن لديها انتماءات لأي دين أو بلد، لكنها أصبحت صهيونية متحمسة فهاجرت إلى " أرض الميعاد".

يقول كازانتزاكس مخاطباً جوديت: " أنكم لن تجدوا السعادة والأمن هنا في فلسطين، الحركة الصهيونية منافية ومناقضة للمعالم العليا لجنسكم البشري". لكنه يذهب في خياله بعيداً حين يقول: "آمل – لأنني أحب اليهود – أن يتمكن العرب، عاجلاً أم آجلاً من طردكم من هنا، وأن يعيدوا تشتيتكم في هذا العالم"!.

***

د. طه جزاع

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت...فإن ذهبت أخلاقهم ذهبوا

انتشرت في الآونة الأخيرة أخبار مقلقة على وسائل التواصل الاجتماعي حول انتهاكات للنزاهة الأكاديمية والأدبية من قبل الطلاب والباحثين، مثل الغش والانتحال. تثير هذه الانتهاكات مخاوف حقيقية بشأن صدق ونزاهة الطلاب، ومدى قدرتهم على التعلم والتفكير النقدي. كما أنها تضع ضغوطا إضافية على المعلمين وأساتذة الجامعات والمشرفين، الذين يتعين عليهم تطوير أساليب جديدة لمنع هذه الانتهاكات وكشفها (محمد خليفة وعبد اللطيف خليفة).  بالإضافة إلى ذلك، تشير هذه الانتهاكات إلى تراجع القيم والمبادئ الأخلاقية مثل الصدق والنزاهة والاحترام والمسؤولية. فعندما يشعر الطلاب أن الغش والانتحال أمران مقبولان، فإنهم يرسلون رسالة مفادها أن هذه القيم ليست مهمة.

بالإضافة الى الانعكاسات الخطيرة لظاهرة الغش والانتحال في عملية التقييم من تضليل للنتائج، وفقدان أهميتها تعتبر هذه الظاهرة السبب الرئيسي لاستشراء الفساد والجهل المجتمعي، ونمو الأمراض المجتمعية وتدهور الاقتصاد. اما على الصعيد النفسي للفرد، فان نجاح الطالب في الغش والانتحال يزيد من غروره فيصبح الغش عنده أمراً طبيعياً، وتعاوناً بين الطلبة وحقاً مكتسباً وشجاعة يحسدها عليه اقرانه، ولربما يعمل الغشاش والمنتحل والمفترس على تعليم الآخرين السرقة الفكرية والخداع والاستهانة بالعمل الجاد والمثابرة. تصوروا مجتمعا قائما على مساهمات افراد حصلوا على شهادات مزورة وتعودوا على الاحتيال والغش في دراستهم ، هل يمكن ان يساهموا حقا في بنائه ؟ وهل يمكن الثقة بعدم خيانتهم لأهداف المجتمع ولمصالحه الحيوية؟ وهل يمكن الاعتماد على كفاءتهم ومؤهلاتهم الفكرية والعلمية والمهنية؟ اليس هناك صحة في تصور ان الغش مسؤول عن التخلف الذي يعاني منه المجتمع، وبأن الغش قد ينتج "متعلمين جهلة" او "عقول مغلقة" او افراداً عاجزين عن تقديم أي مشروع نافع للبلد مهما بلغوا من درجات وظيفية او مهنية عالية. ألا يمكن ان يكون سبب عدم معرفة الطبيب شيئا عن الأمانة الطبية، أو القاضي عن العدالة، أو المسؤول الإداري عن الانصاف والنزاهة، أو الأستاذ عن الاخلاق الاكاديمية يعود الى جرائم الغش التي تعودوا عليها في الامتحانات خلال دراستهم المدرسية والجامعية؟

أهمية تدريس الأخلاق

لقد كتبت سابقا عدة مقالات حول أخلاقيات التعليم والمهن الأخرى. نشأت رغبتي بالكتابة مرة اخرى حول هذا الموضوع نتيجة لطلب أحد الأصدقاء، وهو أستاذ جامعي متميز، مصادر حول الأخلاق وتعليمها، ورأيت أهمية الموضوع في الوقت الحاضر وضرورة توثيق الأفكار المعاصرة حوله.

تدريس الأخلاقيات هو عملية مساعدة الطلاب على تطوير المهارات والمواقف اللازمة لاتخاذ القرارات الأخلاقية والتصرف بمسؤولية في ظروف مختلفة. والأخلاق ليست مجرد جزء من التعاليم الدينية أو فرع من فروع الفلسفة، بل هي ممارسة مهمة في الحياة اليومية. يذكر د. عبد اللطيف خليفة في كتابه "اخلاقيات التعليم" بأن "الأخلاقيات هي مجموعة من المبادئ والقيم التي تنظم سلوك الإنسان في المجتمع. وهي ليست مجرد مجموعة من القواعد التي يجب الالتزام بها، بل هي أيضاً أسلوب حياة يعتمد على الصدق والأمانة والمسؤولية والاحترام للآخرين". ولذلك، فإن تدريس الأخلاقيات لا يقتصر على نقل المعلومات، بل يشمل أيضا إثارة المناقشات حول المعضلات الأخلاقية في العالم الحقيقي. كما أن تدريس الأخلاق يساعد الطلاب على الالتزام بالقيم الأخلاقية ويعزز ثقة المعلم او المدرس بهم.

فوائد تدريس الأخلاق

فوائد تدريس الأخلاق كثيرة، منها:

* تطوير مهارات التفكير النقدي والتحليلي: يساعد تدريس الأخلاقيات الطلاب على تطوير مهارات التفكير النقدي والتحليلي لديهم، مما يساعدهم على اتخاذ قرارات أخلاقية مستنيرة.

* تعزيز قدرة الطلاب على حل المشكلات: يساعد تدريس الأخلاقيات الطلاب على تطوير مهارات حل المشكلات لديهم، مما يساعدهم على التعامل مع المواقف الأخلاقية المعقدة.

* تشجيع الاحترام والتنوع: يساعد تدريس الأخلاقيات الطلاب على تطوير فهمهم للقيم الأخلاقية المختلفة، مما يساعدهم على احترام وقبول الآخرين من خلفيات وأفكار مختلفة.

* بناء مجتمع أكثر عدلاً وإنصافاً: يساعد تدريس الأخلاقيات الطلاب على تنمية الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع، مما يساعدهم على العمل نحو بناء مجتمع أكثر عدلاً وإنصافاً.

فيما يلي بعض الأمثلة المحددة لفوائد تدريس الأخلاق:

- يمكن أن يساعد الطلاب على اتخاذ قرارات أخلاقية حكيمة في حياتهم الشخصية والمهنية. على سبيل المثال، يمكن أن يساعد تدريس الأخلاقيات الطلاب على اتخاذ قرارات بشأن الصدق أو النزاهة أو الأخلاق في مكان العمل.

- يمكن أن يساعد الطلاب على فهم القضايا الأخلاقية المعقدة في العالم. على سبيل المثال، يمكن أن يساعد تدريس الأخلاقيات الطلاب على فهم القضايا المتعلقة بالحروب والعدالة الاجتماعية والبيئة.

- يمكن أن يساعد الطلاب على أن يصبحوا مواطنين أكثر فعالية: يمكن أن يساعد تدريس الأخلاقيات الطلاب على فهم حقوقهم ومسؤولياتهم كمواطنين، مما يمكنهم من المشاركة بفعالية في المجتمع.

تحديات تدريس الأخلاق

ومع ذلك، فإن أخلاقيات التدريس تفرض أيضا بعض التحديات والصعوبات على المعلمين والمدرسين. ويتمثل أحد التحديات في كيفية الموازنة بين تنوع وتعقيد وجهات النظر والمواقف الأخلاقية والحاجة إلى الوضوح والاتساق في التفكير الأخلاقي والأحكام. يحتاج المعلمون إلى احترام تنوع خلفيات الطلاب وثقافاتهم وآرائهم، مع مساعدتهم أيضا على تطوير إطار أخلاقي مشترك ولغة مشتركة. يمكن للمعلمين تفسير أهمية الأخلاق في مجتمع متنوع حيث يمكنهم التركيز على أهمية احترام وقبول الاختلافات بين الناس. التحدي الآخر هو كيفية تحفيز وإلهام الطلاب للاهتمام بالأخلاق وتطبيقها في حياتهم. يحتاج المعلمون إلى جعل الأخلاق ذات صلة وذات معنى للطلاب، من خلال ربطها باهتماماتهم وخبراتهم وأهدافهم. يؤكد د عبد اللطيف خليفة على حاجة المعلمون إلى إيجاد طرق لجعل الأخلاق مثيرة للاهتمام وذات صلة للطلاب. فعندما يرى الطلاب كيف يمكن للأخلاق أن تؤثر على حياتهم اليومية، فمن المرجح أن يكونوا أكثر اهتماما بها (من كتاب اخلاقيات التعليم).  التحدي الثالث هو كيفية تقييم الأداء التعليمي والأخلاقي للطلاب. يحتاج المعلمون والمدرسون إلى استخدام الأساليب والمعايير المناسبة لقياس المعرفة والمهارات والمواقف والسلوكيات الأخلاقية للطلاب، مع توفير التوجيه البناء.

طرق تدريس الأخلاق

يمكن للمعلمين والمدرسين استخدام مجموعة متنوعة من الأساليب لمساعدة الطلاب على تطوير أخلاق قوية. وتشمل هذه الأساليب:

* تزويد الطلاب بنموذج لاتخاذ القرار الأخلاقي: يمكن للمعلمين توفير إطار عمل أو نموذج للطلاب لمساعدتهم على تحديد وتحليل وحل المواقف التي تنطوي على صراعات أخلاقية. يمكن أن يرتكز هذا النموذج على مبادئ أخلاقية محددة، أو يمكن أن يكون أكثر عمومية. وكمثال يمكن تزويد الطلاب بنموذج لاتخاذ القرار الأخلاقي وذلك من خلال توفير إطار عمل أو نموذج للطلاب لمساعدتهم على تحديد وتحليل وحل المواقف التي تنطوي على صراعات أخلاقية. يمكن أن يرتكز هذا النموذج على مبادئ أخلاقية محددة، أو يمكن أن يكون أكثر عمومية.

* استخدام دراسات الحالة والأنشطة التفاعلية: يمكن أن تساعد دراسات الحالة والألعاب والمناقشات الطلاب على التفكير في القضايا الأخلاقية من منظور مختلف. ويمكن أن تساعد الطلاب على تطوير فهم أعمق للأخلاقيات وكيفية تطبيقها في العالم الحقيقي. على سبيل المثال، يمكن للمعلمين إنشاء لعبة أو محاكاة تتطلب من الطلاب اتخاذ قرارات أخلاقية. يمكن أن يساعد هذا الطلاب على ممارسة مهاراتهم في اتخاذ القرار الأخلاقي في بيئة آمنة

* دمج الأخلاق في جميع المواد الدراسية: يستطيع المعلمون دمج الأخلاق في جميع المواد الدراسية، بحيث يصبح الطلاب على وعي بالأخلاقيات كجزء من كل جانب من جوانب الحياة. وهذا يمكن أن يساعد الطلاب على فهم أهمية الأخلاق في جميع جوانب المجتمع.

* خلق بيئة تعليمية تشجع على الحوار والتساؤل: من المهم أن تكون البيئة التعليمية داعمة ومشجعة للحوار الأخلاقي. عندما يشعر الطلاب بالارتياح في التعبير عن آرائهم وأسئلتهم، فمن المرجح أن يتعلموا المهارات والمواقف اللازمة لاتخاذ قرارات أخلاقية. يشير د. محمد فتحي عبد الرحمن في مقالته: "أثر البيئة التعليمية على تنمية الأخلاق لدى الطلاب" الى الأبحاث التي تؤكد أن الطلاب الذين يتعلمون في بيئات تعليمية داعمة ومشجعة للحوار الأخلاقي هم أكثر عرضة لاتخاذ قرارات أخلاقية في حياتهم اليومية. على سبيل المثال، يمكن للمعلمين تكليف الطلاب بكتابة مقال عن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي أو إنشاء حملة لزيادة الوعي بالقضايا الأخلاقية في المجتمع. يمكن أن يساعد هذا الطلاب على فهم أهمية الأخلاق في العالم الحقيقي.

بعض القيم الأخلاقية المشتركة التي تواجه معلمي المدارس واساتذة الجامعة:

- الصدق: يجب أن يكون الاساتذة صادقين في عملهم الأكاديمي، مثل إجراء البحوث، ونشر الأوراق، وتدريس المواد، وتقييم الطلاب. ويجب عليهم تجنب أي شكل من أشكال الاحتيال أو التلاعب بالبيانات أو المصادر. ويجب عليهم أيضا أن يعترفوا ويستشهدوا بالآخرين الذين ساهموا في عملهم.

- النزاهة: يجب على المعلمين أن يكونوا صادقين في سلوكهم المهني، مثل احترام المعايير الأخلاقية والقوانين الخاصة بتخصصهم، وحماية حقوق الملكية الفكرية للآخرين، وتجنب أي تضارب في المصالح أو الالتزامات. ويجب عليهم أيضا الحفاظ على كفاءتهم والعمل في مجال خبرتهم.

- الاحترام: يجب على المعلمين احترام كرامة وحقوق وتنوع طلابهم وزملائهم. ويجب أن يعاملوهم بلطف وعدالة وحساسية. ويجب عليهم أيضا احترام حرية التعبير لأنفسهم وللآخرين.

- الواجب: يقع على عاتق المعلمين واجب تحمل المسؤولية عن أفعالهم وعواقبها على أنفسهم وعلى الآخرين. يجب أن يحافظوا على مستوى عالٍ من الجودة والاحترام في عملهم وفي تمثيل مدرستهم او جامعتهم ومجالهم. ويجب عليهم الالتزام بالواجبات والقواعد التي تحكم علاقتهم مع طلابهم وزملائهم والمجتمع. ويجب عليهم مساعدة طلابهم على تنمية قدراتهم الأخلاقية ورعاية اهتماماتهم.

- القدوة: من المتوقع أن يكون المعلمون قدوة جيدة في مجالهم وفي مجتمعهم. ويجب عليهم تشجيع وتحفيز ودعم طلابهم وزملائهم، والمساهمة في تقدم المعرفة والمصلحة العامة، والتصرف بشكل أخلاقي في كل ما يقولونه ويفعلونه.

وأخيرا، تعتبر أخلاقيات التدريس مهمة هامة وجذابة يستفيد منها الطلاب والمعلمون بشكل متبادل. ومن خلال تدريس الأخلاقيات، يستطيع المعلمون تزويد الطلاب بالمعرفة والمهارات اللازمة ليكونوا مواطنين فاعلين وصالحين، وأشخاصا قادرين على اتخاذ خيارات أخلاقية والتعامل بشكل أخلاقي مع المواقف المتنوعة (عبد اللطيف خليفة، محمد خليفة). ولكن يتعين على المعلمين والمدرسين أيضا التغلب على بعض التحديات والصعوبات التي تتطلب البحث والإعداد المستمر. ومن خلال اتباع الأساليب والاستراتيجيات الفعالة، يستطيع المعلمون تحقيق أغراض تدريس الأخلاقيات.

***

ا. د. محمد الربيعي

........................

مصادر المقالة:

- عبد اللطيف خليفة. أخلاقيات التعليم. الرياض: دار المسيرة، 2023

- محمد جمعة. أهمية تدريس الأخلاقيات في المدارس. مجلة التربية، 2022

- محمد خليفة وعبد اللطيف خليفة. ظاهرة السرقة العلمية مفهومها، أسبابها وطرق معالجتها. مجلة أفاق للعلوم، 2023

- عبد اللطيف خليفة: أخلاقيات التدريس: تحديات وإستراتيجيات. مجلة جامعة الزيتونة للبحوث والدراسات، 2023

أردت في مقال الأسبوع الماضي دعوة القراء للتفكير في قيمة المعارف التي يحملونها بالقياس لما عند غيرهم. ولعلي بالغت قليلاً إذ زعمت أن ما تراه العين وما تسمعه الأذن، كلاهما من نوع الظنون، ولا يرقى لمرتبة الحقيقة، رغم ما شاع بين الناس من اعتبار رؤية العين دليلاً لا يقبل الشك.

أعمق الردود على تلك الفكرة، هو قول أحد الزملاء، بأن مضمون المقال يساوي إنكار أي وجود للحقيقة في العالم، فكأن مراده أن الذي نراه أو نعرفه مجرد وهم، أو - على أحسن التقادير - مرحلة انتقالية بين الظن والحقيقة.

لكنني ما قصدت هذا بطبيعة الحال، بل أردت تشجيع القارئ على مجادلة قناعاته، لا سيما الراسخة والعميقة منها، التي نظنها حقائق نهائية لا تقبل الشك ولا التعديل. وقد وجدت أن طرح المسألة في صورتها الأكثر تطرفاً، أدعى لتحقيق المراد، وهو إثارة الأذهان. إن التفكير والتأمل هما الطريق الوحيدة في اعتقادي لاكتشاف حدود المعرفة وقيمتها، الأمر الذي يهدينا للتواضع والتسامح، واحترام الرأي المضاد، مهما بدا غريباً عما ألفناه أو ارتحنا إليه.

ما يثير الجدل في غالب الأحيان، ليس الحقائق الصريحة، بل الآراء الملتبسة بالحقيقة أو التي يدعي أصحابها أنها تطابق الحقيقة. إن إطلاق شخص مثلي صفة الحقيقة على رأيه، لا يزيل عنها صفة الرأي الشخصي، إلا إذا وافقه الناس جميعاً، أو غالبية معتبرة منهم، حيث تلبس حينئذ صفة الوجود الموضوعي، مثل وصف «آيفون» الذي اخترعه ستيف جوبز، فكان مجرد فكرة شخصية، لكنه تحول لاحقاً إلى حقيقة موضوعية تشبه الحقيقة التي نسميها التراب والشجر والحديد. فهل يا ترى يمكن إطلاق نفس الوصف على الآراء التي أحملها أنا وأنت أو سائر الناس، الآراء التي تتعلق بمختلف قضايا حياتنا أو حياة الآخرين؟.

كنت قد شرحت في كتابة سابقة رؤية الفيلسوف المعاصر كارل بوبر، الذي قسم موضوعات المعرفة إلى ثلاثة إطارات أو عوالم، أولها الكون المادي الذي نعيش فيه، والذي يتكون من عناصر واقعية نستطيع لمسها بأيدينا. يتأمل البشر في هذه العناصر ويسعون لفهمها واستكشاف الصلات التي تربط بينها، ثم يضعون استنتاجاتهم في صورة نظريات تتضمن وصفاً وتفسيراً لما تعرفوا عليه.

أما العالم الثاني فهو تصوراتنا عن ذواتنا وعن العالم المحيط بنا، والتي تتشكل على ضوئها مواقفنا من الأشخاص والحوادث. حركة الذهن في هذا الإطار هي ما يشكل عالمنا الذي نعرفه. بعبارة أخرى فإن مجموع تأملات البشر في أنفسهم وفي الآخرين، هو المصدر الذي يشكل معنى العالم ومعنى الأفعال التي يقوم بها البشر، حين يتعاملون مع بعضهم.

ثالث العوالم هو مجموع ما ينتجه العقل الإنساني، ويطرحه كموضوع مستقل عن صانعه وعن الأشخاص الآخرين، نظير مثال الآيفون الذي يبقى ويتطور بعد رحيل صاحبه، الذي - على الأرجح - ليس معروفاً عند غالبية مستعملي هذا الاختراع. ومثله أيضاً الآلات والشبكات والبرامج والأعمال الفنية والكتب والأدوية والأغذية، وكل شيء مطروح أمام البشر كمنتج نهائي، لا يرتبط استمرار وجوده بإرادة من صنعه.

هذه عوالم متفاعلة. فالعالم الأول يوفر موضوعات عمل الثاني، حيث يتحول التأمل إلى فكرة جديدة، يتحول بعضها إلى منتج معياري، يحفظ في العالم الثالث. رغم أنها مترابطة ومتفاعلة، إلا أن هذه العوالم الثلاثة لا تقبل التحديد أو الحصر، كما لا تقبل السكون والثبات، فهي في حال تغير دائم: في الوصف والفهم والاعتبار، كما في حالة العالم الأول، أو في التفسير وطرق الإنتاج، كما في الثاني، أو في نوعية المنتج النهائي وانتقاله من الأدنى للأعلى، الذي نسميه «الأحدث» كما في العالم الثالث.

عد الآن وفكر في رأيك: إلى أي من هذه العوالم ينتمي، كي تظنه حقيقة لا تقبل الشك أو الجدل؟.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

الحكم كمصطلح مشتق من الحكمة، لذلك فإن الحاكم اصلا عليه ان يتصف بالحكمة والا فانه لا يسمى حاكما وربما الأولى أن يسمى ظالما. والحكمة ذكرت في ايات عديدة منها " وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" (البقرة 151) وهذا يعني ان الحاكم عليه ان يتعلم الحكمة. وما لقمان الا نموذجا للحكام وان لم يكن حاكما "وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ" (لقمان 12). والله ينزل على الانبياء الحكمة "وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" (النساء 113) و"وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ" (البقرة 251) فالملك بدون حكمة لا فائدة منه. والحاكم في منهجه ودعوته عليه ان يكون حكيما "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ" (النحل 125) والذي لا يتصف بالحكمة عليه ان يغادر الحكم لانه يخرج عن الارادة الربانية "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا" (البقرة 269) كون الحكمة من معانيها الاصابة في القول والفعل وبالتالي فالحاكم الذي يؤتى الحكمة فان الخير يعم عليه وعلى شعبه. والحاكم الحكيم داوود عليه السلام الذي حكم 40 سنة كان جنديا في جيش الملك طالوت حيث تحول الملك اليه بعد هزيمة جالوت "فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ" (البقرة 251).

عن علاقة الحكم بالنبوة قال الله سبحانه و تعالى "مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَـٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ" ﴿آل عمران 79﴾، و "وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ" ﴿المائدة 20﴾، و "فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ" ﴿المائدة 44﴾. وعن علاقة الحكمة بالكتاب قال الله تعالى "وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" ﴿البقرة 113﴾، و "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ" ﴿البقرة 151﴾.

جاء في  تفسير غريب القرآن لفخر الدين الطريحي النجفي: (حكم) "منه آيات محكمات" (ال عمران 7) في المحكم أقوال للمفسرين والأصح منها على ما قيل: ان المحكم ما هو واضح قائم بنفسه لا يفتقر إلى استدلال كقوله تعالى "قل هو الله أحد" (الاخلاص 1) إلى آخر السورة، والمتشابه: ما يقابله، و "أحكمت آياته" (هود 1) أي بالأمر والنهي ثم فصلت بالوعد والوعيد أو أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال و الاشتباه، وحكم وحكمه، كما يقال: ذل وذله، وحكمة: اسم للعقل وإنما سمي حكمة لأنه يمنع صاحبه من الجهل، و "بالحكمة" (النحل 125) أي النبوة، و "الموعظة الحسنة" (النحل 125) أي القرآن، و "اتيناه الحكمة" (ص 20) أي الزبور وعلم الشرائع، وقيل: كل كلام وافق الحق فهو حكمة، ويقال: الحكمة فهم المعاني، وسميت حكمة لأنها مانعة من الجهل قال تعالى: "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا" (البقرة 269) وفي الخبر "ومن يؤت الحكمة" (البقرة 269) هي طاعة الله تعالى ومعرفة الإمام عليه السلام ويقال في قوله: "ويعلمه الكتاب والحكمة" (ال عمران 48) أي الفقه والمعرفة و "فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها" (النساء 34) أي حاكم، و "الحكيم" من صفات الله تعالى لذاته بمعنى العالم، ويجوز أن يكون من صفات الفعل، و "القران الحكيم" (يس 1) أي المحكم قاله أبو عبيدة. (فهم) "ففهمناها سليمان" (الانبياء 79) الضمير للحكومة والفتوى حيث حكم داود بالغنم لصاحب الحرث فقال سليمان: وهو ابن أحد عشر سنة غير هذا يا نبي الله أرفق بالفريقين قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بها، والحرث إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان فقال القضاء ما قضيت وأمضى الحكم بذلك، والصحيح إنهما جميعا حكما بالوحي إلا أن حكومة سليمان نسخت حكومة داود لان الأنبياء لا يجوز أن يحكموا بالظن والاجتهاد ولهم طريق إلى العلم وفي قوله "وكلا اتينا حكما وعلما" (الانبياء 79) دلالة على أن كلا منهما كان مصيبا. قوله تعالى "وآتيناه الحكم صبيا" (مريم 11) أي الحكمة والنبوة وهو ابن ثلاث سنين وهو يحيى عليه السلام. قوله تعالى "إذا قضى أمرا" (الاسراء 13) أي أحكمه و "وقال الشيطان لما قضي الأمر" (ابراهيم 22) أي احكم وفرغ منه ودخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار. قال تعالى "واتيناه الحكمة وفصل الخطاب" (ص 20) وعن مجاهد الفهم في الحكومات والفصل في الخصومات. قوله تعالى "ثم فصلت" (هود 1) أي كما يفصل القلائد بدليل التوحيد، والمواعظ، والأحكام والقصص أو جعلت فصولا آية آية، وسورة سورة، أو فرقت في التنزيل فلم تنزل جملة واحدة. قوله تعالى و "افتح بيننا" (الاعراف 88) أي أحكم "بيننا" (الاعراف 88).

قصرت معرفتنا عن جميع جهات الحكمة في أفعاله جلَّ شأنه: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" (البقرة 30). فسبحان من لا يسأل عن فعله لكمال حكمته وهم يسألون. قال الله تعالى "وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (يوسف 22)  ضرب الله سبحانه مثلا للفتيان والشباب هو النبي يوسف عليه السلام الذي اتاه العلم والحكمة عندما بلغ اشده حيث صمد امام الاغراءات صابرا محتسبا، وصبر امام الاضطهاد والقمع والمطاردة والتهديد بالسجن والنفي، وكافح امام المجتمع الفاسد.

الحكمة والموعظة متلازمتان والدعوة لهما ان تكون بالحسنة وسعة الصدر والتسامح "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ" (النحل 125) و "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً" (البقرة 83). وخطبة الوعظ تكافح الجهل "إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ" (هود 46). من معاني الموعظة في القرآن الحكمة  "حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ" (القمر 4). الخطيب الواعظ عليه ان يكون قدوة باخلاقه وسلوكه وكما جاء في الحكمة (كُونوا دُعاةً إلى أَنفُسِكُم بغيرِ ألسِنَتِكُم). قال الله تعالى "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ" (البقرة 44) و "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ" (الصف 2). وكتاب الله هو مصدر الوعظ الاساسي "وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِيَعِظُكُمْ بِهِ " (البقرة 231). والمشاكس عليك وعظه قبل انزال العقوبة عليه "وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ " (النساء 34) وتعتبر وصايا لقمان هي في حقيقتها وعظ "وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ" (لقمان 13). و الواعظ الجيد هو من ينهى مستمعيه او القراء عن الفحشاء والمنكر "وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (النحل 90). والشخص الذي يتعظ من الموعظة عليه ان يلتزم بها وان لا يعود لاعماله المنكرة "يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" (النور 17). كان الرسل خطباء يدعون اقوامهم إلى الله عز وجل، وخاتمهم النبي صلى الله عليه واله وسلم "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ (الحجر 94). أن كل نبي في خطبه عنده الحجة والبرهان من الكتاب المنزل عليه ويعلمهم ما لم يعلموا "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ" (البقرة 151).

***

د. فاضل حسن شريف

تناولنا في المقال السّابق، على صفحات الاتحاد (25/10/ 2023)، طمس إرث السّنوسيّة، وبالتالي إلغاء أثر المَلك المؤسس للدولة اللِّيبيّة الحديثة إدريس السّنوسيّ(تـ: 1983)، والعبث بتاريخ أحد أعلامها عمر المختار(أُعدم: 1931)، في ترجمة كتاب «عمر المختار وإعادة الاحتلال الفاشيّ لليبيا»، وقد هيجت تلك القصة مواجع تَجْرِيف التّاريخ، بما هو أشد وأنكى.

أفصحت زينة فلاح صباح نوري السَّعيد، عن واقعةٍ خطيرةٍ، في تاريخ العراق المعاصر، ألا وهي طمس تاريخ أشهر رئيس وزراء عراقيّ، واقعةٌ لم تسجلها الأقلام، ولم تتداولها الألسن، أنهت ماضي أسرة بغداديّة عريقة، جاء ذلك في سياق حديثها عن أسرتها آل السّعيد (قناة الفلوجة 6/ 6/ 2017).

قالت: إنَّ عمَّها عصام صباح السّعيد سعى إلى إعادة جنسيته العراقيّة؛ وكان موجوداً بلندن، عندما قُتل والده صباح وجده نوري (غداة 14 تموز 1958)، وقد اعتذرت دائرة الأحوال المدنيّة عن تلبية الطَّلب لعدم وجود قيد لأسرته، فالقيد جُرف مِن السّجلات تاماً، ولم يعد رئيس وزراء العراق نوري السّعيد لأربع عشرة وزارة، وأحد بناة الدّولة العراقيّة الحديثة، عراقيَّاً، ولحق الشّطب أحفاده، حتّى هذا اليوم.

لقد راجعت زينة وأختها، بعد (2003)، السّفارة العراقيّة، بالعاصمة الأردنيّة عَمان، فطُلب منها أوراق إثبات لجدها نوري السّعيد، ومنها شهادة ميلاده، فلم تنجح المحاولة للسبب نفسه، فيبدو تزامن قتل الجد وتَجرِيف تاريخه مِن قيد النُّفوس، وهنا نتكلم عن الحقّ الطَّبيعيّ بالمواطنة، والأمر يتعلق بأبناء وأحفاد، أمّا بقية المتعلقات كالمُلكيَّة الشّخصيّة، مِن العقار والمال، فلا أحد يسأل عنها، فِمن المؤكد أنَّ السّعيد كانت لديه دارٌ يرثها الأحفاد، وهذا متعذراً أيضاً بسبب مصادرة «الأموال المنقولة وغير المنقولة». ليس أكثر مِن سماع هذه العقوبة، على جُناة السِّياسة خصوصاً، لأنها كانت تُذاع عبر الرّاديو، وتنشر في الصُّحف.

إنها عقوبةٌ قديمةٌ، كثيراً ما نقرأ خبرها عند الإطاحة بوزير أو قاضي قضاة، أو أيِّ موظف كبير، على مدى تاريخ العهود العباسيّة ببغداد، بما عُرف بـ«المصادرات»(المُصادرات لتحسين حميد مجيد)، حتّى يومنا.

كان طمس المواطنة جارياً بشكل سريّ وعلني، كإسقاط الجنسية العراقيّة الأصليَّة، ولغرض سياسيّ. طال ذلك أعضاء في أحزاب سياسيّة، والأكثر مورس ضد يهود العراق(1951)، يوم تقرر السَّماح لهم بالمغادرة بشرط التّخلي عن المواطنة. حصل ذلك في العهد الملكيّ، الذي فتح هذا الباب وظل مفتوحاً، حتّى كان أفظعها عمليات التّهجير في الثّمانينيات، التي طالت الألوف المؤلفة ممِن عرفوا بالتّبعية وغيرهم، حيث الرّمي خارج الحدود، مع إسقاط القيود.

لم يكن شطب القيد أو التَسجيل، وبالتالي المواطنة، مقتصراً على آل السّعيد، كي نقلل مِن شأن عدم الاكتراث بها، مِن قِبل السَّاسة في مذكراتهم، ومِن قِبل أصحاب الأقلام، وبينهم مَن يعرف ذلك، وشهد الوقائع أو سمع بها، إنما يخص شعباً كاملاً، قامرت به السّياسة، حتّى لم تعد المواطنة ذات شأنٍ.

إنّها فاجعةٌ أنْ تعترف بوطنك ولم يعترف بك، كم تدنيه وكم يُقصيك، ولمعروف الرُّصافيّ(تـ: 1945): «هي المواطن أدنيها وتقصيني/ مثل الحوادث أبلوها وتبليني/ كأنني في بلادي إذ نزلتُ بها/ نزلتُ منها ببيتٍ غير مسكونِ»(الدِّيوان 1959).

صحيح أنَّ آل سعيد، أصبحوا مواطنين بدولة أخرى، عُزوا بها كلَ العزِّ، فلا يحتاجون جنسيةً ولا جواز سفرٍ، لكنه حقّ المواطنة الأصل، ففلاح وعِصام ابنا صباح السّعيد، تركا بغداد، والعِراق في ذاكرتهما كان وطناً وليس فندقاً.

لم تكن لآل السّعيد قصورٌ، كالخضراء اليوم، كي يبكوها، والقول لأحمد شوقيّ(تـ: 1932)، في عزل عبد الحميد الثّاني(1908): «ذَهب الجميع، فلا القصو/ رُ تُرى ولا أهل القصورِ»(الشّوقيات)، لكنَّ جرح المواطنة يبقى ثاغباً، عبر الأجيال.

***

د. رشيد الخيون

المقدمة: مثلما يصاب الأفراد بداء الإكتئاب، تصاب الأمم والشعوب به أيضا،  فدورة حياة المجتمعات البشرية كدورة حياة الأفراد، وما يصيبهم يصيب المجتمعات، أوَ ليست الأمم والشعوب حاصل تفاعل مجموع الأفراد مع بعضهم البعض وهو تفاعل شامل ومتشعب.

إن الاكتئاب من الأمراض الخطيرة، لأنه يقلب البشر إلى قوة مضادة لنفسه، ويجرده من التفاعل مع الآخر فردا أو محيطا، كما يسري في الأعماق بهدوء حتى يحيلها إلى عصف مأكول، وأعراضه تتغلغل فيها فتلوّنها بالسواد وتلغي أي لون آخر.

وكلما تأملنا حالنا في القرن العشرين، نكون أمام حالة من الإكتئاب الشعبي الشامل  (mass depression) الفاعلة في أركان الأمة وعلى مدى أجيال متعاقبة، وما إستطاع جيل أن يشخص الداء ويصف الدواء، بل أن عطاءاتها كانت مشحونة بالإبداع الفكري الإكتئابي، الذي يلوِّن الحياة بالدم والدموع ويحوّلها إلى معضلة، وكأنها في نفق مظلم طويل لا نهاية له، ولا شعاع ضوء قادر على التسرب إليه.

ويبدو أن حالة الإكتئاب الشعبي قد تفاقمت وتجاوزت القنوط واليأس، وراحت تتخذ مسارات موجعة في هذا البلد أو ذاك، مما يستوجب الدراسة والنظر!!

أسباب الاكتئاب النفسي

1-  الفقدان (loss) أن يفقد البشر شيئا مهما أو عزيزا

2-  تفاقم المشكلات وعدم وجود منفذ للخلاص منها

3-  عدم التوازن ما بين الطموح والقدرات

4-  الإحساس بالتخلف أو التأخر

5-  الخسائر بأنواعها

6-  التوتر المزمن أو المستديم (chronic stress)

الأعراض والعلامات

1- المزاج الحزين

2- سرعة الغضب

3- فقدان الإحساس بالمتعة

4- العزلة والإنشغال بالموت

5- فقدان القيمة الذاتية

6- الشعور بالذنب والندب ونقد الذات وتقريعها وإذلالها وإحتقارها

7- فقدان الأمل واليأس

8- ضعف التركيز وتشتته

9- عدم القدرة على إتخاذ القرار وفقدان الثقة بالنفس

10- الشعور بالتعب والعجز والهياج والإنكماش

11- التوقف والحركة البطيئة والمظهر الدامع الحزين

والآن لننظر حالنا في القرن العشرين وفقا لمنظور أسباب الكآبة:

1- الفقدان:

لقد فقدنا عبر مسيرتنا الحضارية الكثير من خصائص وجودنا القيادي المؤثر، وكانت فاجعتنا الكبرى بسقوط بغداد عام 1258 ميلادي.

وعبر تأريخنا وعلى مدى ثمانية قرون متلاحقة كنا الضحية والخاسر الأول دوما، وتكررت خسائرنا في القرن العشرين وتعاظمت في جوانب متنوعة.

وبرغم أننا حققنا ربحا في مسيرتنا العامة ووجودنا مقارنة بالقرن التاسع عشر، لكن الخسائر المتلاحقة حجبت عنا رؤية رافدنا الكبير، فغرقنا في الجداول والسواقي والبرك والمستنقعات، نحسبها كل ما في هذا العالم من حياة.

2- تفاقم المشكلات:

بلداننا قاطبة قد تحولت إلى مستودع للمشاكل التي تفاقمت مع الأيام، وأجادت الأنظمة السياسية مهارات إستثمارها وتطويرها.

وهذه المشاكل مختلفة ومتنامية بأقصى سرعة ممكنة، وفي كل يوم هناك إعلان عن مشكلة جديدة عديمة الحل.

فأصبح بشرنا من المحيط إلى الخليج يتخبط في أمواج المشاكل المتعاظمة، والتي إشتدت عليه بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية.

وكانت محورا لتلك المشاكل قضية فلسطين، التي رتبت لإستنزاف طاقات وجودنا الصاعد، إضافة إلى مشاكلنا القطرية التي لا تنتهي.

3- عدم التوازن ما بين الطموحات والقدرات:

إن الأهداف التي ترددت في بلداننا  كانت تدعو إلى الوحدة والحرية والتقدم والإصلاح والنهوض إلى حيث يليق بنا وبتأريخنا، وما تحقق منها شيئ يرقى إليها، بل أن جميع الأقطار إتجهت إلى ضد أهدافها وتطلعاتها.

وعلة ذلك عدم إمتلاكها القدرات السياسية الكافية، وغياب خطة العمل المتوازنة للوصول الى الأهداف، مما حقق إحباطا متراكما وشديدا في أعماق الناس، فتغلب عليهم الشعور بالأسى والخيبة الآمال وإنهيار التطلعات.

لقد أراد العرب أن يلتقوا بماضيهم المجيد الزاهر الذي يستحق الفخر والتقدير، وهو هدف مشروع وممكن لو أن الأمة أدركت وسائل الوصول إليه وعقلت المهارات اللازمة.

وبسبب غياب خارطة الطريق الواصل ما بين الإرادة والطموح، أصابها الضياع والتخبط الذي ولّد جروحا حضارية متقيحة ومتنامية، برغم توفر الإمكانات المادية والبشرية والفكرية، لكن القدرة على وعيها وإستثمارها كانت غائبة وما إمتلكنا إلا قدرات تدميرها وإتلافها.

فكنا نريد الوصول إلى مرتبة الأجداد ونحن نجهلهم تمام الجهل، ونسبغ عليهم من ظنوننا البائسة ما هو مشين وقاتل لنا ولهم.

4- الإحساس بالتخلف والتأخر:

منذ بدايات أيام اليقظة والنهضة العربية، صار العرب يقارنون بين حالهم في الماضي وواقعهم في الحاضر، فاكتسبوا إحساسا بالتخلف والتأخر عن حقيقتهم التأريخية وتأدية رسالتهم ودورهم الإنساني والحضاري.

وتم تغذية الشعور بالتخلف والتأخر بالإحتكاك المباشر مع الغرب، وتوفرت منابر فكرية عربية متنوعة لتأكيده وتعميقه والتخندق فيه إلى أبعد ما يمكن،  وكأن الأمر كان مطلوبا لتحقيق العجز الحضاري والشلل المعاصر للأمة.

ولا أدري لماذا لم يتأكد هذا الشعور في أمة الصين، التي أدركت حالها في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، ونحن أدركنا أنفسنا في بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكان علينا أن نكون ونتجاوز حالنا المتخلف كما توهمنا وفق أبسط الحسابات الحضارية، لكننا أمعنا في تأخير أنفسنا وشعورنا بأننا كذلك، برغم خطوات تقدمنا ونهوضنا وعلائم صيرورتنا.

5- الخسائر المتنوعة:

نحن عندما نتأمل أنفسنا نجد أننا في دوامة من الخسائر المتلاحقة، والإنهيارات المتواصلة على جميع المستويات. ولا يوجد شعور حقيقي لدينا بأننا ربحنا معركة أو دورا في الحياة، بل عندنا شعور بالإغتصاب والإنتهاب والإستعباد ومصادرة الحقوق الإنسانية والمادية، وسلطان الخوف يلاحقنا أينما نكون، فإذا نطقنا برأينا إما نموت أو نكون في ظلمات السجون، وما علينا إلا أن نذعن ونستسلم لإرادة العابثين بمصيرنا والسارقين لحقوقنا من أبناء جلدتنا.

فأبناء الأرض المبتلاة بالنفط يكابدون الفقر والجوع والمرض والخداع، وهم يعيشون على بحار من النفط الذي لا يعود عليهم إلا بالأسلحة التي تدمرهم، وتقتل  أبناءهم في حروب لا مبرر لها إلا إمتصاص طاقاتهم وزرع الأحزان في بيوتهم، وهذا يولد شعورا قاسيا بالخسران عند الأب والأم والأبناء، وعند كل من يعيش على أرض تحتها نفط.

6- التوتر المزمن:

منذ الحرب العالمية الأولى وحتى يومنا هذا نحن نعيش في دوامة التوترات المتفاقمة وعلى مختلف المستويات، وما إستطاعت الأجيال التخلص من التوتر والإضطراب، بل حجم التوترات في تنامي وإتساع، والقوى الطامعة في الثروات النفطية تجد وتجتهد في تأجيج نقاط التوتر، وخلق مراكز متجددة لزيادة شدتها وكثافة الأطراف المحترقة فيها.

ولا توجد دولة واحدة من دولنا معافاة من التوترات السياسية والعرقية والإقتصادية والعسكرية.

لقد تحولت أرضنا إلى مسرح للقتل والدمار وتجريب الأسلحة، والقتال بالنيابة عن أطراف الحرب الباردة، وجربت عليها كل مبتكرات التدمير ووسائل التخريب، وتحولت فيها الحقائق إلى غرائب وأوهام، والبديهيات إلى مستحيلات، ولا زالت تخضع لأحدث فنون الحرب النفسية الموجهة بقسوة ووحشية ضدها.

إن حالات التوتر المستديمة لها مصادر داخلية وخارجية، وكلها تتفاعل وتساهم في جحيمات التفاقم للأزمات وتنمية مآسينا وتدمير قدراتنا.

بل أن طاقاتنا تبددت وتجمدت وتحولت إلى ضديد لإرادتنا، وسُخرت لقتلنا والفتك بأهدافنا وطموحاتنا، فصرنا نُقتل بما نريد، لأن الآخر يعرف كيف يوظف ما نريد لتحقيق ما يريد. وما تعلمنا كيف نصل إلى ما نريد، لإهمالنا لأهم ركن من أركان الإرادة وهو العقل، وتدثرنا بالإنفعالات الحارة المؤذية.

الأعراض والعلامات:

1- المزاج الحزين:

الطابع العام لأمزجتنا هو الحزن، أما الفرح فأنه حالة طارئة وغريبة في حياتنا كعائلة أو أمة،  وهذا ينعكس في نتاجاتنا الأدبية والفكرية وأغانينا وأحاديثنا اليومية وسلوكنا العام. وبسبب ديمومة الحزن في أعماقنا، ترانا نشكو ونتأوه ونلقي بأسباب سوء الحال ورزاءة المآل على غيرنا، ونتهم الأقدار بما لم تفعل.

وفي أكثر الأحيان نتخذ من السلطات الحاكمة وشاحا نعلق عليه معاناتنا وويلاتنا وبكائياتنا، وما نفع تغيير السلطة مرارا في مداواة حزننا.

فلينظر كل واحد منا إلى نفسه وعائلته ومجتمعه، وسيرى مساحة الحزن الكبيرة في أيامه وأعماقه ومعظم أحاديثه وأحاديث الناس من حوله، وهذا يتكرر مع الأجيال بلا إنقطاع.

2- سرعة الغضب:

المعروف عنا -  قادة وأفرادا وأينما كنا-  سرعة الغضب وفوران دمائنا وإتلافنا لنفسنا بسبب ذلك.

ولولا نعمة الشمس التي تساعدنا على مجابهة الكآبة المستديمة فينا لساء حالنا، فالحمد لله على وجود النور الساطع في أرضنا، والبعض يعزو سرعة غضبنا إلى كثرة سطوع الشمس، وأخالفهم في ذلك لأنها أحد أسباب ديمومتنا وعلاجنا من كآبتنا.

إن السبب الحقيقي وراء غضبنا السريع هو الإكتئاب الشامل الذي يعصف في كياننا،  وعندما نتخلص من كآبتنا، ستزول عنا هذه الصفة ونؤوب إلى رشدنا، ونستخدم عقولنا بكفاءة.

لقد تم إستغلالها من قبل الآخرين فحققوا  مشاريعهم وطموحاتهم، وسخروها لإستنزاف طاقاتنا ومنعنا من الإمساك براية الإنطلاق الحضاري المتفق مع حقيقتنا ورسالتنا الإنسانية.

3- فقدان الإحساس بالمتعة:

إننا لا نتمتع بما نملك وبما في أوطاننا من الخيرات والشواهد والثروات ومواطن الجمال والبهجة، ولا نراها إلا شيئا جامدا ذليلا خاليا من تحقيق الشعور الإنساني الجميل.

نملك كل شيئ ولا نملك شيئا.

عندنا معظم ثروات الأرض وما عندنا شيئ.

كالجمال التي تقطع الصحارى وتعاني من الظمأ والماء فوق ظهورها محمول.

"كالعيس في الصحراء يقتلها الظمأ.. والماء فوق ظهورها محمول" أي أن قول الشاعر هذا ينطبق علينا تماما.

نحن عندنا ميزة عجيبة وفريدة ملخصها، إننا لا نرى ما عندنا ونرنو إلى ما عند غيرنا، فلا نتمتع بما نملك ولا نحصل على ما لا نملك.

والأنكى من هذا، إننا نبخس ما عندنا ونثمن ما عند غيرنا، ونضفي عليه من خيالات عجبنا ما ليس فيه. كأننا نحوله إلى معشوقة نهيم بها ونتغنى بهواها ولقائها، وهذه الميزة مستفحلة في شخصيتنا ومؤثرة في سلوكنا الفردي والجمعي.

4- العزلة والإنشغال بالموت:

الإكتئاب من أهم أسباب التخندق والإنعزال في وطننا الكبير، فالعربي يفضل العزلة عن أخيه وصار يشعر بالعزلة وهو في بلده، لأنه لا يجد من يتفاعل معه ويستمع إليه، لأن كل فرد صار مستودعا متزايدا للهموم والآهات والأوجاع ولا يعرف إلا كيف يتلفظها، ويأنس لتحمل تدفقها وإنبثاقها من جميع خلاياه ووديان أعماقه الجريحة.

وهذا ينعكس على كل مواطن مما رسخ التجزئة ومزق أية قدرة على التفاعل الصحيح مع أبناء الوطن، ومع تواكب الأعوام إزددنا عزلة وصارت بلداننا خنادق حزن تضمنا وسجونا تأوينا.

كما أن الهم الأكبر تحول إلى الإنشغال بالموت وإهمال الحياة، فصرنا نسفه مفردات الحياة أمام حقائق الموت وفاعليته وسلطانه، ففقدت الحياة قيمتها وتسلطن الموت في الأعماق، فصرنا نعبر عنه في أفعالنا وأقوالنا وإبداعاتنا.

وربما تغلب الموت بأفضليته على الحياة ورحنا نردد "من الأفضل أن نموت ففي الموت حياتنا"، وهذه أفكار إكتئابية عاصفة في حياتنا ومؤثرة في دورنا الإنساني وهناك الكثير من الشواهد عليها.

5- الإحساس بفقدان القيمة:

هذا الشعور القاسي الوخيم الذي لا يخلو منه بشرنا إستفحل في حياتنا وتنامى في ديارنا. فأخذنا نقرأ ونسمع ونرى ما يدهش من الإمعان بتصغير أنفسنا، وتجريدها من أية قيمة إنسانية أو حضارية.

وإمتد تأثير الإحساس بفقدان القيمة إلى تراثنا وحاضرنا ومستقبلنا. وكل يوم نقرأ في صحفنا مقالات تؤكد التعبير عن هذا الشعور الإكتئابي المريض،  وكم قرأنا مقالات تجرد لغتنا من قيمتها ودورها وتراثنا من جدواه، بل وتريد أن تلقينا في أحضان النسيان والإندثار.

6- الشعور بالذنب والندب ونقد الذات وتقريعها وإذلالها وإحتقارها:

الشعور بالذنب متفاوت في درجاته، لكنه قائم في معظم أركان حياتنا،  فكل فرد منا مشحون بطاقة الشعور بالذنب والإستسلام لعذابات الضمير، ونستطيع أن نجد الدليل على ذلك في الكثير من نشاطاتنا الفكرية والثقافية.

فلدينا درجة عالية من حساب الذات وهذا يدفع إلى الندب ونقد الذات وتقريعها وإذلالها وإحتقارها. فنحن من أقسى أمم الأرض على أنفسنا، ولا تخلو صحيفة من صحفنا من مقالات تهاجم حالنا وتندب وجودنا، وتنهال علينا بما يشتهي كتابها من الصفات المشينة.

ففي كتاباتنا الفكرية هناك تقريع ذاتي وهجوم شرس على وجودنا وواقعنا وبأقلامنا.

إننا دائما نتهم أنفسنا ونبخسها وما عرفنا الكتابات الإيجابية، بل إعتدنا على إبداعات الندب والنقد البائس الحزين.

7-  فقدان الأمل واليأس:

اليأس شعارنا وفقدان الأمل سلاحنا وأسلوبنا في عصرنا الدامع الحزين، وهما يلونان وجودنا ويطغيان على نشاطاتنا، ولا يوجد أوضح من ظهورهما في كتاباتنا وأحاديثنا.

فأثر اليأس على حركة الأجيال وسرق من شبابها كل همة وإندفاع نحو صيرورة متوازنة مع ما فيها من الطاقات.

إن آفة اليأس تأكل الإنسان  كما تأكل "الأرضة" جذوع الأشجار فتضعف مقاومتها للرياح وتبيدها بصمت وهدوء.

نحن يائسون قانطون، وعندنا فكر السماء ومفردات الإيمان والحياة الطيبة السعيدة، ومع هذا نعيش حالة مناقضة لما عندنا، فاليأس لا يتفق مع الإيمان وإن طغى اليأس ذهب الإيمان.

8-  ضعف التركيز وتشتته السريع:

نحن بطيئون في كل شيئ مقارنة بأمم الأرض الأخرى، وهذا ناجم عن ضعف التركيز وتشتته،  فتجدنا نقرأ ببطء لأننا لا نستطيع التركيز، فأفكارنا مشتتة وأدمغتنا ممزقة بالمشكلات اليومية المتفاقمة.

وبسبب ضعف التركيز فقدنا القدرة على فهم أحوالنا وفهم ماضينا وإستنباط الحقائق الضرورية لتطورنا وتنامي قدراتنا، فصار تراثنا عبئا علينا وإنتهينا إلى غربة قاتلة وجهل مروع.

9-  عدم القدرة على إتخاذ القرار وفقدان الثقة بالنفس:

وذلك بسبب ضياع القابلية على تجميع الأفكار وصياغتها بأسلوب علمي، ولطغيان الطاقات الإنفعالية على القدرات الفكرية وتحول العقل إلى عبد مطيع للعاطفة، وفي هذه الأجواء المشحونة بإضطراب التفكير وتلاشي التركيز، يكون القرار الصائب الصحيح غير ممكن، وأي قرار يمتلك نتائج سلبية أكبر من النتائج الإيجابية، مما يفسر سلبية القرارات وشيوع إضطرابها وإتيانها بنتائج وخيمة وتوليدها لمشكلات غير محسوبة، ويدفع بدوره إلى فقدان الثقة بالنفس. فهل نحن واثقون بأنفسنا؟

ومن أين نأتي بأسباب وعوامل تأكيد الثقة بالنفس؟

فالأكثرية منا منزوعة الثقة بنفسها، وإن هذه الصفة تنعكس على سلوكنا بمختلف مستوياته وتفرعاته، وتتأكد في سلوكنا السياسي كدول وقادة.

وقد تمكن الآخرون من ترسيخ فقدان الثقة بالنفس في جميع مفردات حياتنا، وصار الخوف والتردد والشك عوامل فاعلة في سلوكنا.

10- الشعور بالتعب والعجز والهياج والانكماش:

سمات مهيمنة على أيامنا، فطريقنا يزداد طولا وهمومنا تزداد ثقلا، وأمام كل خطوة نهم بالركون إلى قيلولة.

وصار القريب بعيدا في ديارنا، فتعلقنا بأحلام اليقظة وإستحضرنا السندباد ومصباح علاء الدين، وإذا ما نريده يصير ضبابا تبدده أنوار الحقيقة الساطعة وسقوط الأقنعة.

إننا نشعر بالتعب والعجز ولا شك في ذلك، والقارئ يرى ما تنشره صحفنا من آراء العاجزين وأقوال المتعبين، وكأننا في وادٍ مظلم ودوامة من المآسي المتزايدة.

ولا توجد أمة أشد عجزا منا في الوقت الحاضر أو إحساسا بالتعب والملل، وهذا يعني بأننا سنتبرع بما عندنا لغيرنا بسبب عجزنا على الإستمرار في إمتلاكه.

إن ما نعانيه من إضطرابات متنوعة، يؤكد درجة الهياج الإكتآبي الناجمة عن اليأس المروع العاصف في أرجاء النفس عندنا.

ويتخذ الهياج أشكالا مختلفة ومتنوعة ويعبر عنه بإنفعالات وأقوال وجرائم قد تكون بشعة جدا. لأن البشر في حالات الهياج الإكتئابي يفقد صلته بالواقع، وتضيع منه الحكمة والقدرة على إدراك نتائج ما يقوله ويفعله، مما يؤدي إلى تزايد المشكلات والمعاناة، وفي واقع أمرنا نتأرجح ما بين الهياج العارم والخمول الشديد، وفي هذا جزء كبير من مآسينا.

11- التوقف والحركة البطيئة والمظهر الدامع الحزين:

الأمة متوقفة عن المشاركة الحية والجادة في صناعة الحضارة البشرية المعاصرة -  ولو أن أبناءها يساهمون في ذلك في معاقل إغترابهم-  بل أن دورها غائب وكأنها نائمة ومنقطعة عن الحياة، وهي التي إبتدأت مشروع التقدم والإرتقاء منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ولا زالت تتحرك كالسلحفاة، وأكثر خطواتها تجرها إلى الوراء في حين أن أمما قد بدأت في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين سبقتها في كل الميادين.

إن التوقف الحضاري علامة واضحة تؤكد شدة الإكتئاب الذي نعاني منه.

أما المظهر الحزين، فصرنا معروفين بملامحنا المرسومة بمداد الألم والآهات والخسران. ويتفاوت مظهرنا من بلد إلى بلد حسب درجة المرارة واليأس المرسومة على وجوهنا، لكن المظهر العام لنا هو الكئيب المتجهم، الذي تشع منه علامات الإنكسار والغضب والجراح. كما أن أحاديثنا بث للشكوى وبكائيات ورثائيات وندب وتأسف، ونقد مرير لوجودنا وأحوالنا المتحركة من سيئ إلى أسوأ، وعبرنا عن ذلك بوضوح في أشعارنا وأغانينا ومظهرنا العام وبما يمت بصلة إلينا.

إن الأجيال في قاموس الأزمان تكون كفرد، وأجيالنا الحاضرة فرد دامع حزين ينفث الحسرات ويضرب كفا بكف!!

الخاتمة والعلاج

تلك هي أعراض مأساتنا الحضارية وعلاماتها، وبما أن الكآبة مرض يمكن علاجه، فعلينا أن نبحث في العلاج الذي يشفينا منها.

إن الأمة لا يمكن علاجها بالأدوية والعقاقير المضادة للكآبة أو بالصدمة الكهربائية.

إن العلاج الأمثل لكآبتنا الحضارية هو بالعلاج الإدراكي COGNITIVE THERAPY

وهذا العلاج يرتكز على أن الأفكار تؤثر في المشاعر والسلوك البشري، وإذا غير البشر طريقة تفكيره فأن سلوكه ومشاعره سيتغيران.

إن التشويه الإدراكي هو أصل الإكتئاب والتغيرات العاطفية والجسمية وباقي أعراض الكآبة. أي عندما نفكر بالأمور على أنها غير ما هي عليه، وننظرها بعيون أمامها عدسات تشويه ينعكس ما نراه على سلوكنا .

فعندما نكون بلا طاقة وعدم مبالاة، يكون ذلك ناتجا عن الإحساس بالفشل وتوقعه في كل مناحي النشاط الذي نقوم به.

وكذلك الشلل الشامل يكون بسبب اليأس وفقدان الأمل.

كما أن الإحساس السلبي للذات وإدراكها على أنها وجود سالب ومقيت يدفع إلى الشعور بلا قيمة الذات، وعدم كفاءتها وحرمانها ونبذها من قبل الآخرين، وهذا بدوره يصنع إدراكا سلبيا للعالم الخارجي، ويؤسس لهزيمة الذات وعقوبتها، وإستمرار توقعاتها للصعوبات والمقاساة والفشل.

إن العلاج الإدراكي يهدف إلى تشخيص وتحديد الذهنية السلبية، والتشويهات الإدراكية المتراكمة وإستبدالها بادراكات جديدة مرنة ومفيدة، لتحقيق قدرة على التفكير الذي يحقق إنسجاما ما بين الإدراك الإيجابي والسلوك الناجم عنه فيحقق الحياة الأفضل.

والخلاصة أن المشاعر والسلوكيات تتحدد بالطريقة التي نرى فيها العالم ونركبه في أذهاننا.  وهذا العلاج يصلح لنا لأننا نمتلك مستويات عالية من الإضطراب الإدراكي، ويؤهلنا للتمييز بين المشاعر والأفكار، ويمنحنا الرغبة والإمكانية لصيرورة أفضل، ويزودنا بمهارات عالية في السلوك الإيجابي.

علينا أن نحدد الأفكار التلقائية، التي هي أفكار مشوهة ومختلقة من خلال التعامل مع الأحداث والمواقف، وتعترض التفاعل ما بين الذات بإنفعالاتها وعواطفها والحدث الخارجي المحيط بها.

فقد تعتقد أن الشخص الذي لم يسلم عليك يكرهك، بينما قد يكون ذلك لأسباب أخرى منها مثلا أنه مهموم ومشغول بأمر كبير ومزعج.

إن تفحص هذه الأفكار وعدم تضخيمها والتصرف على ضوئها ، وتحديد التكيفات السلوكية الخاطئة الناتجة عنها ضروري لسلامتنا الفكرية والسلوكية.

إن التفسيرات السلبية لها فعلها في حياتنا، وتؤدي إلى آثار أليمة ونتائج وخيمة، فنحن مهرة بالتعميمات وتثمير الأحداث الصغيرة، وتحويلها إلى مسلمات وثوابت فكرية وسلوكية، فنقول أن المشكلة في المجتمع والوطن بينما هي مشكلة صغيرة في بيت من بيوتات مجتمعنا، فنلصق ما يحصل في بيت من بيوت المدينة بالمدينة كلها، وعلى ما يبدو فقد علمنا الآخرين إستخدام لغة التعميم ضدنا لكي يحققوا ما يسعون إليه.

أما الإسقاطات، فأنها واضحة في سلوكياتنا بصورة عامة،  فنتحدث بلغة "هو" ونجعل الآخر هو السبب الأول والأخير فيما يحصل وننفي عنا أية مسؤولية، وهذا نوع من التفكير السلبي العائر الذي يوفر لمن يرغب بنا أسلوبا لتحقيق ما يريد.

ويبدو أن من الضروري أن نمتلك القدرة على التمييز بين التفسيرات السلبية والإيجابية ونتمسك بالإيجابي منها.

وأن نسعى لكي تكون توقعاتنا ذات معاني إيجابية، ومشحونة بالأمل والتفاؤل والإيمان بأن الغد أفضل دوما.

كما أن التمسك بالواقعية والعلمية في تفسيراتنا يساعدنا على العلاج، ويوفر لنا الأرضية لحياة صحيحة طيبة.

وعلينا أن نكون معقولين وغير مضطربين بسبب إحتدام العواطف والإنفعالات في أعماقنا، مما يدفع إلى تشويه بصائرنا وإدراكاتنا وتعميم تصوراتنا. إن تنازلنا عن التعميمات وإبتعادنا عن الإسقاطات والتبريرات، ووقوفنا أمام أنفسنا بعلمية وثقة وصدق وإصرار على الصيرورة الحضارية الزاهية والدور الإنساني الواضح، يؤسس لتحقق حضاري جديد.

أما إذا بقينا نتعامل مع الأيام بعقلية إكتئابية وتأنيبية، وإمعان بالقسوة على الذات وتحجيم قيمتها، والتفتيش عن كل السلبيات والعثرات وصبها في بودقة واحدة ذات لون أسود، وتوفير ذهنية مشوهة، فأننا لن نخطو إلى أمام مثل باقي البشر، وستغلبنا السلحفاة في وصولها إلى حيث تريد.

إن إنجازنا في القرن العشرين أقل بكثير من أمم بدأت بعدنا بعقود عديدة، وهذا يؤكد ويشير إلى ما سنكون عليه في القرن الجديد.

إن المفكر العربي عليه أن يتخلص من الذهنية السلبية المشوهة، التي على ضوئها يغوص في تحليلات سلبية وينتهي إلى نتائج تصب في  ميادين إحباطنا، وزيادة شدة كآبتنا وإنكماشنا وتلاشينا الحضاري.

***

د. صادق السامرائي

.............................

المصادر

1- Diagnostic Criteria from DSM- IV، APA 1996، Page 161- 163

2- Kaplan& Sadock، Psynopsis of Psychiatry، 8th edition، 1997، page 919- 924

ملاحظة: هذه الكلمات مكتوبة في تسعينيات القرن العشرين ولم تنشر في حينها، ونشرت في بعض الصحف والمواقع في بداية القرن الحادي والعشرين.

في عالم تحكمه المرأة في كل جانب من جوانب الحياة فهي الزعيمة السائدة والقائدة والمسؤولة على كل الممتلكات وهي القول الفصل في مسائل النسَب والوراثة وانتقال الملكية وهي اليد العاملة ومالكة وسائل الانتاج وسيدة البيت والمصنع والمزرعة وراعية الأطفال؛ وباختصار شديد هي ربّ الاسرة وربة الاسرة معاً.

ربما لم تسمعوا عن قبيلة "الموسو" التي تدير نساؤها كل شيء وتحكم كل شيء ولا دور للرجل في كل ما يجري سوى الطاعة العمياء لحكم النساء والانصياع لأوامرهنّ، فالمالك هو المرأة؛ والوريثة هي المرأة؛ والمال والإرث تنقله الام الى بناتها الوريثات الشرعيات؛ اما الذكور من أبنائها فلا نصيب لهم لا في الممتلكات المنقولة ولا غير المنقولة، فلا مال في جيب الرجال كي يصرفه على ملذّاته وأهوائه حتى ان كلمة "أب" مشطوبة في لغتهم ولا تَعني شيئا ذا قيمة وأهمية على الإطلاق، فحينما تنجب المرأة يحمل الوليد اسم أمه وينتسب اليها فقط، وليس للأب حقّ في حضانة اولاده مهما كانت الظروف فهو مجرد وسيلة لا بدّ منها لإنجاب الذريّة فقط، اما الزواج والاقتران عند هؤلاء فلا قيمة له ولا يعتبر رباطا مقدّسا.

والجميل في هذا المجتمع انه يتّسم بعدم وجود جرائم السرقة وحوادث الاغتصاب والتحرّش الجنسي ولا معنى لكلمة حروب او سجون فهذه الجرائم مشطوبة تماما في سجلاّتهم فلا مطامع في دواخل نفس هؤلاء رجالا ونساءً ولا منظمات تنادي بحقوق المرأة ومساواتهنّ مع الرجل وزيادة كوتا النساء او حقوق الأطفال ولا نزاعات حول حول ملكية عقارٍ ما او قطعة أرض تعود لهذه المرأة او ذاك الرجل ولا قانون للأحوال الشخصية وخصومات المحاكم بشأن حضانة الاطفال ومصاريف النفقة وما الى ذلك مما تعجّ به مجتمعاتنا ومحاكمنا.

فالرجال هناك سعداء جدا عندما سلّموا زمام أمرهم لنسائهم لا لتفوقهنّ الجسدي بل لتقدير عالٍ لخصائص المرأة الانسانية وقواها الروحيّة الاصيلة والعميقة وقدراتها العاطفية التي تفوق كثيرا قدرات الرجل؛ فالقوة ليست في البناء العضلي للرجل وإنما بالقوّة الناعمة التي تتحلّى بها المرأة وإيقاع جسدها الذي ينسجم مع إيقاع الطبيعة، فمن عجائب الجسد الانثوي وشفافية روح المرأة انها كانت الوسيط بين عالم الانسان وعالم الالهة منذ عهود الانسان القديم وعلاقته بالمعتقدات التي كان يرتبط بها روحيا.

والمفرح ان رجال قبيلة "الموسو" لا توجد لديهم اية نوايا للتمرّد او تغيير قوانين حكم القبيلة وزعامة النساء لمجتمعهم، فهم سعداء بهذا الأمر؛ لكني احذّر رجالنا من ان يفكّروا باللجوء الى هناك والانضمام الى صفوف هذه المجموعة البشريّة فالنساء لا يقبلْن ايّ دخيل يحلّ بين ظهرانيهنّ او لاجئ يأوي اليهنّ فلديهنّ من الرجال ما يكفي لمهمة الإنجاب فقط.

وهؤلاء "الموسو" الذين يعيشون على ضفاف بحيرة / لوغو قريبا من حدود مقاطعتي يونان وزيتشوان في الصين لا صلة لهم بقوانين ونظم الدولة الصينيّة التي تحكم المليار ونصف نسمة ولا تربطهم مع الدولة الصينية سوى الانتماء والمواطنة.

ويجدر بنا القول ان دولة الصين متفهّمة للقوانين الخاصة بهم وأعربت مرارا عن عدم رغبتها في تغيير نظم ومفاهيم هذه الفئة الصغيرة طالما ان هؤلاء لا نيّة لهم للتمرّد او التغيير لا الآن ولا في المستقبل .

***

جواد غلوم

النهضة الحضارية الأولى بدأت في نهايات القرن التاسع عشر، وقد أذكاها التفاعل مع الدول الغربية، مما أشعر العرب بأنهم في حالة من التخلف، وعليهم اللحاق بركب الزمن المعاصر، وكانت تلك صدمة هزت العقول والنفوس، وإنبرى لها جهابذة الفكر والقلم، وطرحوا الأسئلة وبحثوا في الأجوبة، وكان للتدين وأساليبه الدور في تأمين العتمة الحضارية، وخنق الوجود العربي في صناديق الباليات وإستنقاعه في ظلمات الأجداث.

النهضويون الرواد بحثوا وتوصلوا إلى جوهر الأسباب، وكانوا في غاية الجد والإجتهاد، وحاولوا أن يضعوا الأمة على سكة التطور والرقاء، لكن الأحزاب الدينية الأصولية المتطرفة، التي تم إنشاؤوها بتمويلات وتأهيلات متنوعة المصادر والأجندات أجهضت المشروع النهضوي، فعاش العرب القرن العشرين في أروقة التخبط والضياع والخسران المتراكم.

وفي بداية القرن الحادي والعشرين، توهجت البلدان العربية وتنوّرت بتأثير آليات التواصل الإجتماعي والإنفتاح الإعلامي والمعلوماتي، ووجدت الأجيال نفسها أمام التأخر والإنقطاع عن الواقع العالمي الصاعد نحو المجد الحضاري والتكنولوجي المطلق، وتم طرح ذات الأسئلة وبرزت ذات الأجوبة، وما أن إستوعبت الأجيال  دورها ومسؤوليتها، حتى تم مرة أخرى رفع رايات الأصولية والتطرف والتشدد، وبدموية غير مسبوقة وبمهارات تدميرية مروعة، أحبطت الأجيال  وأججت التفاعلات السلبية والتصارعية ما بينها، بإتخاذ الدين ذريعة لسفك الدماء وتعطيل الجهود النهضوية في كل مكان.

ويلعب المتاجرون بالدين دورهم في تدمير العروبة والعرب والدين، فهم تجار مهرة بالدين الذي لا يمتون بصلة حقيقية إليه، فدينهم دنانيرهم وما يغنمون من المناصب والمكارم والسلطات.

لكن اللعبة الدينية هذه المرة ستنهار، وسيخرج أصحابها من الحياة العربية، لأنهم بأحزابهم الكاذبة الظالمة المصادرة لحقوق الناس، والمعادية للوطن والمواطنة،  برهنوا على عدوانيتهم وكراهيتهم للدين، وتضليلهم للناس أجمعين، فهم لا دين عندهم ولا أخلاق، وبالسلطة والتسلط يؤمنون ويعتقدون، فالدين وسيلة للضحك على عقول الناس الجاهلين بالدين.

ولهذا فالنهضة الحضارية العربية الثانية لا يمكن إيقافها وحرفها عن مسيرتها الصاعدة، لأنها أنجبت أجيالا من رحم عصرها، ولن تتقبل العيش في ظلمات العصور، ولا تؤمن بالتجمد والإنحباس في خنادق القرون وجحور السكون.

إنها أجيال كوكبية ستمحق كل مشين، فالعزة للأجيال الساعية نحو فضاءات كينونة إنسانية ذات مواصفات عالمية لا تفرق مابين الناس أجمعين!!

فهل إستيقظ المغفلون وإستفاقوا من الوهم السقيم؟!!

***

د. صادق السامرائي

الاحترام  هدية كباقة زهور كن حريصاً وأنت تصارع في هذا الزمن  الوحوش، كي لا تصبح واحداً منهم.،يقول الفيلسوف الألماني" فرويد نيتشة "

وليظل المرء متمسكاً بفضائله الأربع : فضيلة الشجاعة، والتبصّر، والتعاطف، وفضيلة الوحدة. وذلك لأن الوحدة فضيلة عندنا، كنزوعٍ مقدسٍ..،،

هل هناك الزام قسري يلزمنا باحترام الجميع بصرف النظر عن كل شيء...؟ في ظل سماء مفتوحة من شبكات التواصل الاجتماعي وحرية التعبير والثرترة علي مقاهي الفيسبوك ..،،!!يري بعض الفلاسفة ان

الاحترام  كالهدية والحب والشجاعة والجمال والكرم، يجب أن يعطى لمن  يستحق، لأن وضع الاحترام في غير موضعه، كمن يضع باقة ورد على رقبة خنزير، لا هو  مدرك قيمة الورد، ولا هو على علم به. كما ان مساواة الجميع في الاحترام هو ظلم  للإنسان المحترم وافراغ الاحترام من معناه ونثره على الجميع كمن ينثر زهوراً  في أمكنة نتنة أو يوزع هدايا على ضحايا وجلادين...،

كان العرب القدماء ينصحون بعدم "مؤانسة الذليل" لأن ملاطفة الذليل، واحترامه، يفقده توازنه ويجعله ينتقم من عاره، كما يفقد توازنه من ثروة هبطت عليه في غير توقع  من ارث أو ثروة حصل عليها بطريقه ما او غير شرعية ، واحترام الذليل يقوده الى مبدأ التعويض عن ذل معتوق واسقاط  عاهاته على الآخرين تهرباً من المسؤولية وهو سلوك دفاعي لا شعوري، اي التجاوز والتطاول ومتعة الانتقام من اجل اثبات ذات ممزقة ومكانة غير موجودة في بحث عن دور له داخل المجتع.

بالترشح تارة،أو بفرض نفسة في المجتمع المدني والجمعيات الأهلية تارة . ويرتدي ثوب اخر يهرب من عقدة  نفسية اجتماعية مثل عقدة فرويد  "أوديب"  . لأنه يعرف لا شيء فيه يستحق الإحترام.. في العلاقات الاجتماعية كما في صفحات التواصل الاجتماعي الفارق كبير بين حرية التعبير وحرية العهر الاجتماعي، وليس باسم الديمقراطية نسمح للحمقى بالثرثرة لأن الأحمق لديه ما يقوله عن كل شيء ولا شيء ويفسر اللامفسر في حين الحكيم قلق ومتريث.

لماذا نضع شروطاً للصداقة والحب والفن والشجاعة والكرم، مثلاً ولا نضع شروطاً للإحترام..؟! ممارسة الاحترام نوع من العدالة ومن  الجمال الذاتي، لكن شرط أن يكون في المكان الصحيح،

يقول الكاتب الانجليزي شكسبير: هناك مخلوقات مجرد التعرف عليها أو حتى مصافحتها يعد خطيئة...!!أحياناً تلتقي مصادفة.

بشخص في منعطف طريق، أو عبور شارع، أو محطة قطارات، أو مكان عام، لا تعرفه من قبل، لكنه يترك في أعماقك عطراً نادراً، كما لو ان هذا المرور العابر قد غير مصيرك في لحظات أكثر من كل الكتب والتجارب الشخصية ..،.

لكن، على الضد من ذلك، قد تتعرف على شخص، يجعلك لألف سبب تشعر أنك وضعت قدمك في مكان نجس، وان رائحة عفن تتسرب الى خلاياك، هناك صنف سلطوي النزعة في العلاقات الفردية  بالمعنى الواسع للسلطة يبني علاقات على القطيع والزبائنية ولا يترك لنا خياراً  إما النفاق وإما عبيد أو زبائن رحلة عابرة كما نلاحظة من زبائن أعضاء مجلسي النواب والشيوخ ..، إنّ السلطوي، مهما خادع، ينتهي به الأمر مخدوعاً، من ضحايا يبهرهم الطغيان .. يجتذبون شرّ الأقوياء .. يخترعون جلّاديهم .. لماذا لا ينبهر الناس بالمثقفين ؟" السبب أنهم لا يملكون أدوات النفاق الاجتماعي والسلطة ..!!إن

الاحترام يبهر النقي والشجاع والواثق كهدية مباغتة غير متوقعة.قد ترتطم بشخص في الزحام أو الظلام فيوقظ فيك حياة نائمة مشعة كأنك إرتطمت بشجرة مثمرة عطرة، وقد تكون في علاقة  مع شخص مشوه وسام يجعلك بحاجة الى ألف أغنية وألف حمام ساخن وألف رحلة حج  للتكفير عن هذه الخطيئة  والف قطعة موسيقية وسبعة بحار، وألف مصح عقلي، وعشرة آلاف طبيب نفساني، وصيدلية  حبوب مهدئة، والف لتر من الخمر في اليوم، لكي تنسى رائحة عفنة علقت بروحك وتستحم من خطيئة ومن نجاسة كأنك سحقت كلباً مسعوراً في الظلام.لحظة عابرة تصنع تاريخاً، لكن، في الكراهية والتشوه، يضيع الانسان  والتاريخ.

هناك علاقات ملهمة أنتجت أدباً وعلماً وفلسفةً وحياةً سعيدة مفرطة في الجمال، وهناك علاقات أطفأت حياةً.. وذلك الكثير في هذا العصر يفضل الوحدة فضيلة عندنا، كنزوعٍ مقدسٍ للنقاوة يجعلنا نحدس كيف أن احتكاك الإنسان بالإنسان داخل المجتمع يؤدي حتماً إلى "التدنّس".

‏...فكل جماعة تجعل المرء بطريقةٍ ما وفي وضعٍ ما وفي وقتٍ ما : خَسيساً....!!

***

بقلم: محمد سعد عبد اللطيف- مصر

قلة افتقار العربى المسلم إلى فهم غريزة التوحيد، لم تجعله يتمكن فى ذاته أن يُفعِّل هذه الغريزة على المستوى العقلى والثقافى ولا على المستوى العملى التطبيقى، غير أنه ينكص على عقبيه، ويعودُ أدراجه مستغرقاً فى التجزيئية المُفرطة، ولم يهيئه توحيده الفطري؛ لأن يجرى عليه ممارسته العملية والواقعية؛ فأضحى تدينه فى كفة، ونشاطه الفكرى والثقافى والعملى فى كفة أخرى، فجاءت عقليته عقلية فصل ومباعدة لا ربط فيها ولا توحُّد بين أجزائها، وليس بمقدورها أن تصل إلى الوحدة التى هى غريزتها الأصيلة المفطورة عليها.

لكأنما العربى لم يستطع أن يفهم: ماذا عَسَاها تكون فطرة الوحدانية؟ لكأنه لم يستطع بعدُ، لأجل تدينه الساذج البسيط، أن يكوِّن لديه رؤية موحَّدة، يجريها على الواقع الفكرى والنظري، تماماً كما يجريها على الواقع الفعلى والتطبيقى، كما هى مُقررة قبلاً فى الواقع الدينى بالفعل، إذْ إن فكرة الرؤية الموحدة تلك، إنما هى فكرة دينية بالأساس، وليس للعقل فضل فيها إلا فضل الشرح والتحليل.

ثم ما معنى أن تكون متديناً بدين التوحيد الذى فطرت عليه تمارسه شكلاً دون أنْ تجريه واقعاً فكرياً وثقافياً ومعنوياً وروحياً؛ ليكون هو عينه مجرى التجربة على المستوى الفعلى والتطبيقى؟

إنّما العائق الوحيد أمام العقل العربى يبدو ظاهراً جلياً فى قلة الفهم أو عدمه لفطرة التوحيد، وتعطيل فاعلية الوحدة على صعيد الممارسة السلوكية، ونبذ قوتها واستبدالها بضعف الفرقة والخلاف والتشتت الدائم والاستغراق فى التفاصيل والجزئيات؛ لتجىء التجزيئية هى العاملة فى واقع أسود مُغرق فى المحدودية النظرية والعملية؛ الأمر الذى يجعل الباحث يشك كثيراً فى أمته العربية والإسلامية: هل هذه بالفعل، والحال كما ترى، أمة تدين بالتوحيد عقيدة وعلماً ونظراً وسلوكاً وممارسة وتطبيقاً؟!

وهى إذا كانت تدين بالتوحيد فعلاً وتقريراً وواقعاً وتفصيلاً، فلماذا عزلته عن واقعاتها الحياتية، فلم يسفر إلا عن فرقة وشتات : عزلته عن الواقع الفكرى، فلم تستطع أن تتخذه أساساً لمنطلقاتها النظرية، وعزلته عن الواقع الفعلى، فلم تتحقق من مجرياته التطبيقية، ولم يؤثر قيد أنملة فى وقائع تلك المجريات، وعزلته مرة ثالثة عن الواقع الدينى، فأنتج واقع الأمة التى تدين بعقيدة التوحيد شكلاً ينقصه المضمون؛ أنتج أصناماً وأوثاناً تُعْبَد من دون الله فى أشكال جديدة، وقدَّست المخلوقين بدلاً من تقديس الخالق، وآمنت بالخرافة والتخلف دون الإيمان بالفهم البصير والعقل المستنير، وارتضت بالمذلة والهوان وقلة القيمة فى واقعها الأسود لا تملك فيه سوى شعارات الغضب.

ولم لا؟! فإذا لم يكن التوحيدُ معزولاً عن الواقع الدينى أصلاً لما أضحى معزولاً كذلك عن الواقع النظرى والفكرى ثم الواقع الفعلى، الأمر الذى جعل الإيمان الدينى لدى المسلم قشرة سطحية تخلو أو تكاد من المضمون العملى؛ وهو الذى لا نشك لحظة واحدة فى أنه ينتج لغة ومدنية وعلماً وفناً وحضارة، ولو كان تدينه بالفعل مرهوناً ببصيرة التذوق الدافعة إلى العمل والإنتاج لربط كل الأشباه والأضداد وصعد بها عارجاً إلى توخِّى الوحدة.

ولكن الواقع الثقافى العربى الحالى يقول لك بأبلغ لسان: إن هذه البصيرة الذوقية مفقودة أو تكاد، الأمر الذى أطمع الأغيار فينا حتى دهسونا بأقدم النعال.

***

د. مجدي إبراهيم

في أرض لا حدود لها، حيث يلتقي اليراع بالرق، يندلع صراعي من أجل مجد الكتابة. بدأ الأمر بهمسات تردد صداها في أروقة مكتبة قديمة، حيث كانت الريشة ترتجف ترقبًا، حريصة على حفر الحكايات على قماش الوجود.

الكلمات، غير ملموسة، لكنها تمتلك المعجزة على إنجاز كل شيء، رقصت على الرق المرتعش. لقد تألقت مثل النجوم في ليلة مديدة، لا نهاية لها، كانت مشتاقة للكشف عن عالمها الخاص. كانت كل ضربة قلم بمثابة صرخة معركة في البحث عن مجد التعبير السامي، حيث انطلقت في رحلة عبر متاهة الأفكار، باحثاً عن جوهر الحقيقة المحجبة خلف ستار الخيال.

في هذا الإعلان النثري الملغز، يتوقف الزمن لحظة عن الدوران في فناء ساعة الديك. ينسكب الحبر، ويتدفق سيلًا لا ينضب من الأحاسيس. كل قطرة شهادة على الحرب المتواصلة التي يتم إشعالها من أجل مجد الكتابة. لقد نسجت الجمل نفسها في توليفة من الأحلام والحقائق، مما أدى إلى طمس الخط الرفيع بين واقع الملموس وحدود المجرد.

في شوارع الوعي، أتصارع مع لغز الوجود، ساعيًا إلى توضيح ما لا يمكن توضيحه. لقد تطور الصراع مثل رقصة الفالس الرقيقة بين الفوضى والنظام، حيث أصبحت كل كلمة رمزًا غامضًا في رقصة الإبداع.

المحبرة نفسها، وهي وحي من الحكايات المكتومة، غير المروية، كانت تهمس بالأسرار إلى ريشتي. تحركت يدي بإيقاع شبه تلقائي، مستحضرة شظايا من جلال الفكر ودونية الدنيوي، وتشابكها مثل خيوط في نسيج كوني.

لم يكن سعيي وراء المجد الأدبي مجرد طموح؛ لقد كان معركة شرسة ضد قيود الفكر التقليدي. لقد كان تمردًا على الحدود التي يفرضها الفهم الدنيوي، ومحاولة لتحرير الأفكار المسجونة وإطلاقها في الشساعة اللامحدودة للخيال.

كانت كل كلمة عبارة عن ضربة فرشاة ترسم مناظر مفعمة بالحيوية، وصياغة عوالم لا تحدها قيود الواقع. لقد أصبح قلمي مايسترو في سيمفونية الأفكار، و ومؤلف نشاز عقل الباطن في نثر لحني جميل.

وسط فوضى الخلق هاته، سعيت إلى كشف النقاب عن الأسرار المختبئة في الصمت بين السطور وبين الكلمات، ما لم يُقال، وما لم يُعبَّر عنه. لقد كان صراعًا ليس فقط من أجل السرد، بل من أجل تجاوز حدود اللغة والوصول إلى ما لا يوصف وإلى ملاحقة ما لا يلاحق.

في متاهة الخلق هذه، لم يكن السعي وراء مجد الكتابة وجهة، بل بوصلة في رحلة أبدية. لقد كان سعيًا مستمرًا لالتقاط جوهر الوجود المراوغ وحفره في الوعي الجماعي للإنسانية.

سأواصل النضال، ليس فقط من أجل الإشادة بالكتابة، بل من أجل تحرير تأملات الروح المعتقلة، وتحرير همسات القلب النائمة، ومنح أصوات لأغاني الكون الأصم.

وعندما يهدأ القلم أخيراً، يشهد الرق على ذروة هذا الصراع الكوني. لقد كان النثر، وهو تحفة فنية مجردة، بمثابة شهادة على سعيي الأبدي لتحقيق مجد الكتابة - تحية للنضال الذي لا هوادة فيه من أجل التعبير عن الروح الإنسانية في رقصة اللغة الغامضة.

في أعقاب هذه الضجة المكتوبة، يحل هدوء أثيري في كوكب البشر. الكلمات يتردد صداها في الهواء، مثل ترنيمة قديمة يغنيها الكون. إن الرق الملطخ بالحبر، والمزين الآن بملحمة مجردة منسوجة من خيوط الفكر والخلق، يمثل شهادة على النضال المتواصل والسعي الدؤوب لتحقيق عظمة الكتابة.

كانت القصة المنقوشة على الورقة عبارة عن رقصة غامضة من الأفكار، وتعبيرات مغلفة بطبقات من الرمزية، حيث كانت كل جملة عبارة عن ضربة فرشاة، ترسم لوحة جدارية متقنة للحالة الإنسانية. لقد كانت أنشودة من المشاعر التي تجاوزت حدود اللغة، ودعت القارئ إلى عالم يرقص فيه المجرد جنبًا إلى جنب مع الواقع.

لقد غامرت، وأنا مسافر عبر أروقة الخيال، بالدخول إلى متاهة اللاوعي، حيث امتزجت الأحلام والصحو بيسر وسلاسة. لم يكن السعي وراء المجد الأدبي رغبة في الاعتراف، بل كان رحلة لاكتشاف عمق الروح، وتوقًا إلى فهم اللاملموس وبث الحياة في غير المعلن.

كانت كل كلمة، بمثابة جسر بين المرئي وغير المرئي، بمثابة مدخل إلى عالم يندمج فيه المنطق مع التجريد. النثر، المشبع بألوان السريالية، همس بأسرار عالم لا يوصف، حيث كان نسيج الواقع من خيوط الأحلام.

كانت بقع الحبر على الرق أكثر من مجرد علامات؛ لقد كانت آثار حوافر أحصنة تتتبع خطوات ملحمة لا هوادة فيها، سعيًا لفك لغز الوجود. لقد تحدثت عن الخسارات والانتصارات، والمعارك التي دارت في أعماق عقلي لإطلاق العنان لروح الخلق الحرة.

وبينما يتكشف السرد في تفاصيل مجردة، يشرع القارئ في رحلته إلى مناطق غير محددة من اللاوعي. كانت دعوة للتطواف في برية أفكاري، للمشاركة في رقصة الباليه الرقيق للعقل، حيث كل وقفة، كل إيقاع، همس أسرارا مخبأة في الفراغات بين الحروف والسطور وعلامات الترقيم.

لم تكن المعركة من أجل مجد الكتابة مسعى منفردًا، بل كانت عبارة عن شبكة مترابطة بيني والكلمات وروح القارئ المتقبلة ومزاجه المتلون. وكانت سيمفونية النثر والفكر المجرد بمثابة إكسير يسكر الحواس ويحفز الخيال.

من خلال هذه الرحلة المجردة، خلف السعي - النضال الأبدي من أجل ما لا يوصف، والسعي الدؤوب لالتقاط الجوهر العابر للوجود في التفاعل الدقيق للغة. لقد كانت قصيدة للمعركة التي لن تنتهي من أجل مجد الكتابة، وشهادة على رقصة الإبداع المتواصلة في عالم الروح الإنسانية الذي يتمدد باستمرار.

بالكلمات، تنوجد لوحتي،

كل آية هي مغامرة،

حيث تتشكل الأحلام،

ترقص بالريشة زينتي.

*

المقاطع، مثل رشقات نارية من اللحن،

نسيج القصص، سمفونية،

فكري يحلق بحرية

على أجنحة الإبداع.

*

الكتابة هي تشكيل الكون،

أفكار ومشاعر معكوسة،

القلم هو إزميلي الأمين

حيث يتم الحفر في سحر العمق.

*

وفي كل كلمة نور،

مرور،

أضيء به الدروب، وأبدد الألغاز،

أقاتل من أجل هذا المجد الأزلي،

تحت كل سطر ترقد،

روح النص الصادقة.

في وهج الفجر، أنطلق في رقصة محمومة مع الكلمات، باحثًا عن وهج مجد الكتابة ذلك البعيد المنال. يذوب عقلي المسافر في تقلبات الأحلام، حيث يطير الريش بعيدًا في تصميم رقصات اللا معنى، مما يخلق لوحات حية من الأفكار بعمر مديد.

العبارات، مثل أجزاء من أحجية مغرية ومشوقة، تدور في أثير الإلهام، تتصادم، تمتزج، تتشابك في سيمفونية ذات معنى وغموض لذيذ. تتحول المقاطع إلى فراشات ترفرف، هاربة من الأسر، متحدية المنطق الأرضي.

أكافح، ليس ضد خصم ملموس، بل من أجل التجريد ذاته المتمثل في التطلع إلى عظمة اللوحة الأدبية. كل فاصلة، كل فقرة، تصبح معركة، صراعًا داخليًا لالتقاط ما هو عدو للزوال، لأسر روح القراء المتقلبة.

يصبح القلم عصا سحرية، تقبض عليه يد غير واعية، ويكشف عن عوالم غير مستكشفة، عوالم موازية حيث يرقص الواقع والخيال رقصة بهوية مغربية آسرة. الكلمات، مثل السيل المندفع، تنحت مناظر طبيعية خيالية، وتكسر حدود الزمان والمكان.

وفي أعماق هذا المسعى المزمن، تنشأ أفكار من أعماق اللاوعي، أصداء للصراع الداخلي بين الشك واليقين، بين الظلام والنور. وفي هذا الاضطراب يتشكل جوهر الخلق، مثل اللغز الذي لا يمكن إلا لروح القارئ أن تقدم إجابة له.

هكذا، أواصل هذا النبش الأبدي، وأتجول في طقوس جمالية الكتابة المتقلبة، على أمل أن ألمس ولو للحظة المجد الدائم الذي ينبعث من الوئام بين الكلمات والروح.

في صمت الكلمات الراقصة،

من أجل مجد الكتابة،

أبحث عن القوافي،

الآيات في نشوة،

كتابة الصفحات هي كينونتي،

ولون جلدي وهويتي...

 *

من خلال الحبر تحلق روحي،

على أجنحة ملايين الجمل،

نسج القصص سرقة جميلة,

في سماء الصفحة البيضاء والواسعة.

*

كلماتي.. أبياتي.. يا حلفائي،

أيها الرفاق المخلصون،

أرشدوني إلى طريق الحروف هذا،

وأنحتهم في صلاة خلوة،

حتى لا يتوقف تألقهم أبدًا.

*

هكذا أتتبع مصيري، وطريقي،

بالحبر والقلم كدروع فقط،

في هذا الكون حيث تنتشر الكتابة

قوتها، سحرها،

وسحرها أيضا.

*

المجد للكتابة

يكمن في كل كلمة،

في كل آية، في كل سطر مرسوم،

لأن الكتابة هي أجمل هدية،

سماوية..

سيمفونية الروح، وجمالنا الساحر.

***

عبده حقي

"أن نقول هو أن نفعل والكوجيتو المقاوم هو الأنا الفاعل"

الوعي الكاذب هو قراءة الأحداث بصورة مقلوبة والوعي الثوري هو قراءة الوقائع وفق الافكار المطابقة لحقيقة ما يجري على الارض فنحن في زمن الاسترجاع ولا في عصر التبديد والتفويت والتنازل والتطبيع والخضوع والاستسلام. أما المواقف السلبية والمشككة والمتغافلة والمكابرة والمزايدة فهي ترجمة لحالة الاغتراب والضياع والتبعية من المغلوبين للغالب وممارسة لجلد الذات الحضارية وتقزيم الهوية الذاتية. ما تم ترذيله وشيطنته من العدو ليس فقط غزة وفلسطين والعرب والمسلمين ومناصريهم وإنما أيضا كل مقاوم أينما وجد ومهما كان أسلوبه. لكن في المقابل ليس من السهل أن تقوم بتحشيد الناس من أجل المطالبة بالعدل بين الأمم والمساواة بين الدول. ان العمود الفقري للمقاومة الفلسطينية والعربية يتكون من الذين لهم قناعات ثورية وممارسات جذرية وتشبيكات جذمورية ومن يفعل في المقاومة الشعبية هم الابطال الاصفياء للأمة العربية والإسلامية والإنسانية التقدمية. لقد أعادت عملية طوفان الأقصى إلى الواجهة حركة التحرير الوطني العربية لكي تستكمل مهامها المنقوصة. قبل 7 أكتوبر 2023 استفحل داء التطبيع حتى وصل المطبخ السياسي العربي. لقد تم استرجاع الشارع من حالة الانبطاح والاستسلام والهزيمة وعادت اليه الروح لكي يخرج القضية الفلسطينية من رفوف كتب التاريخ وتمارس السياسة المحضة على خرائط الدغرافيا خاصة وان المعركة التي تدور رحاها بين النحن والهم مصيرية والأمة تحتاج إلى كل مكوناتها ومن المفيد ترك التناقضات الثانوية والانتباه إلى التناقض الأساسي والجوهري ولذل يجدر الدعوة إلى عقد مؤتمر شعبي تنسيقي للتيارات الأساسية للأمة التي تساند المقاومة الباسلة. لك شيء في هذا العالم ينتظر قم ايها الفلسطيني والعربي والمسلم والانسان التقدمي وقاوم. ان التنوير الأصيل هو تحرير الارادة والعقلانية التواصلية النقدية هي المقاومة الثورية. ان الآخر الغربي حسم المسألة وانتهى به الأمر إلى الانحياز التام وعدم الاعتراف بكم ضمن محور الانسانية ولو تشبهتم له. يبدو الراي العام الغربي مصدوما ليس من الرد الفلسطيني المنطقي على جرائم الكيان ضده وانما من تحقيقه للانتصار ونجاح عملية طوفان الاقصى. ان ازمة النظام السياسي الذي يحكم الكيان المزروع تظهر بشكل واضح على الأداء المتخبط للآلة الحربية. اما أن الكيان الغاصب في حاجة إلى الدعم العالمي من أجل الرد او انه في حاجة إلى شن حرب من أجل الحصول على الدعم العالمي. لم تكن الحرب ليست بين الغرب والاسلام بل هي حرب بين التوحش الصهيوامبريالي والمدنية العربواسلامية. ان الكذب على الذقون ناتج عن خذلان عالمي للحقوق الفلسطينية فمن يوقف هذه العربدة الاسرائلية والتوحش المعولم والهيمنة الامبريالية ويضع حدا لممارسات التطهير العرقي التي تنتهجها الة الحرب الصهيوغربية ؟

ما بين الانا والاخر وقيعة لا مخرج منها. الإمبراطورية المتهالكة تعد العدة بكل قواها لشن حرب هوجاء على محور المقاومة دفاعا عن الكيان الهجين الذي زرعته الامبريالية الغربية في جسد الأمة العربية والاسلامية لكي يعيقها عن الاستئناف الحضاري و النمو والتوحد والانصهار والتحول الى قوة اقليمية. من يصنع المؤامرة العالمية هو عجز التابعين عن سرد قصة حياتهم الملطخة بالعذابات وسبب الهلاك الحتمي للدول هو الكذب على الذات وادعاء التفوق على الشعوب الأخرى. لقد سقط رهان السلام وتبخر حل الدولتين فهذه الأرض لم تعد تتسع لهويتين. لقد عدنا في مستوى التوازن بين القوى إلى ما قبل نكبة 1948. لكن العرب أمة مضطهدة وصاروا ظاهرة صوتية ومنذ جدهم يخسرون بالسلام ما يربحونه بالحرب والمسلمون فرقهم التمذهب وغلبهم الروم وفوتوا على انفسهم عروتهم الوثقى ومنحوا الحضارة لغيرهم. لم يتفق العرب على الا يتفقوا ومنذ ان فقدوا البوصلة اضاعوا كليا وجهة الطريق. يمكن العودة إلى آثار الحرب ، وإلى التخلي المتكرر عن الفلسطينيين، وإلى شعور التحيز في مواجهة موقف الغرب. "بالنسبة للغرب، لا يعقل أن يكون للفلسطينيين أيضًا الحق في الدفاع عن أنفسهم". ان الاستعمار اليومي لا يقتصر على الأرض والسماء والسكن والمياه، فهو لا يسعى إلى فرض نفسه بقوة السلاح فحسب، بل يعمل أيضًا على العقول، خلف الجبهات. "لقد انتهكت كل الدول دائمًا كل الحقوق. من يمتلك القوة يعتقد انه على حق، بحيث الدول الصغيرة تلتهمها الدول الكبرى." ان "الطريقة الدائمة هي إثبات الحق دائمًا من خلال حقيقة ما يجب أن يكون وهذا ما يسمى الحق العام وهو حق الناس، أو بالأحرى حق العقل". "يجب على المرء أن يعرف ما يجب أن يكون لكي يحكم بشكل صحيح على ما هو كائن". "الحق السياسي الفلسطيني لم يولد بعد، ومن المفترض عند العدو والاخر الغربي أنه لن يولد أبدا". لكن يوم العدل على الظالم أشد من يوم الجور على المظلوم والموقف المقاوم لا يباع ولا يشترى عند الأفراد ولدى الشعوب والدول ويجب أن تعرف بقضيتك بلغة سهلة حتى تتمكن من ايصالها إلى العالم. احقاق للحق الكوني ان  صعوبة الاوضاع الحياتية التي يمر بها سكان غزة يتطلب هدنة انسانية وتوزيع الاعانات الحيوية ويبدو أن الاشتباكات ستطول وان المواجهات قد تتمدد وكلما طال الحصار والاعتداء زادت طاقة التحمل والصبر وتضاعفت القدرة على الصمود ولقد تم تعطيل عملية الامداد وغلق المعابر ولا بديل عن الصوت الداعم ومساندة المقاومة للاستمرار في الصمود والكفاح. بيد أن قصف المستشفيات عبث غير مسبوق بأرواح الأبرياء تمارسه آلة حربية منفلتة من عقالها وبتبرير صهيوغربي امبريالي، فأين حقوق الطفل والمريض والمرأة والطاعن في السن في فلسطين وغزة؟ ومتى يتم معالمة الأسرى وفق ايتيقا الحرب؟

لقد عاشت غزة الابية ليال صعبة اخرى من القصف المدمر وكانت اطنان القنابل بردا وسلاما للغزاويين المرابطين. ما ينتظر الأصدقاء حتى يقدموا يدي العون للفلسطينيين. مع فلسطين وغزة ليست هناك مصالح انما الالتزام بالمبادىء . مستشفيات غزة في حاجة ماسة الى الوقود والطاقة والكهرباء لكي تعود من جديد وينبغي ان تكون الامدادات والمساعدات للاشقاء في شكل أدوية وقوارير مياه وفي مرحلة موالية الأغذية والملابس. المطلوب تفعيل الانتفاضة والرجوع الى المقاطعة والانخراط في الممانعة. من هذا المنظور أن نتفلسف هو أن نقاوم وان نقاوم هو أن نحرر الحياة حيثما كانت محبوسة. لقد عجزت الأنظمة السياسية التي اجتمعت في العديد من المرات برعاية دولية في إيجاد مخرج عادل للمازق الإنساني. ورغم قتامة الوضع الانساني في قطاع غزة فإن المقاومة صامدة وتعد بالانتصار. ان التعويل على الذات في زمن المعارك أفضل بكثير من التعويل على الغير حتى وان ادعى المساندة والمؤازرة. ولا يجدر تبني خيار المقاومة بسياسة ليبرالية وثقافة مخترقة وتعليم بنكي واقتصاد تابع ومجتمع منحط وفلسفة مقاولات ودين لايت وفن تافه واخلاق شكلية. "وفجأة، أصبح كل من على اليسار يتحدث عن المقاومة. وهذا شيء ينبغي لنا أن نحتفل به، مع الاعتراف بأنه ليس سوى نصف سياسة. لكن"من أجل تأسيس مقاومة مضادة لهيمنة رأس المال العالمي، يتعين علينا أن نبني كتلة تاريخية جديدة تجمع بين أهداف التحرر من الاستعمار واحراز السيادة والحماية الاجتماعية للمواطنين من الاستغلال". ان المقاومة الفلسطينية حطمت واجهة “التهدئة”. على المثقف المقاوم أن يمارس دوره الطليعي في التحريض. لانه لا تهجير لباق ولا فناء لمقاوم والبقاء للغزاويين والفناء للمحتلين. في الختام المجد والخلود للغزاويين الابطال والعزة والانتصار للفلسطينيين الاحرار. فهل هناك أيديولوجية فلسطينية للمقاومة؟ وهل تؤثر حركة المقاومة التي يشارك فيها عدد كبير من الفلسطينيين على مصير الشرق الأوسط والعالم؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

في الوقت الذي يهرب فيه غالبية الناس من هموم الحياة إلى العزلة أو السفر، يختار الفنانون الهروب الى الفن، ويقول احد الفنانين الفلاسفة (بالنسبة لي أعتبر الفن هو مرشدي النفسي الأول ومساحتي الآمنة للتعبير، ففي الوقت الذي تشتد به عواصف حياتي أهرب إلى الفن، أتحدث إليه، وأبكي عليه، وغالبًا ما أبحر في محاولة فهم وتحليل أعمالي الفنية واكتشاف مشاعري الكامنة وراءها).

كل فنان هو متأمل وليس كل متأمل فنانا، ففي الوقت الذي يخلو به الفنان بريشته أو قلمه، تهدأ أفكاره، ويسكن محيطه، وتبدو اللحظة بالنسبة له لحظةً أبدية، وكأنه أبحر بشغفه وسط محيطٍ بعيدٍ عن كل شيء.

الفنانون الحقيقيون غالبًا ما تنتهي خلواتهم الفنية باستنارة، فقد يمارس الفنان فنه بحثًا عن إجابات، أو بحثًا عن شيءٍ يصلح كسرًا ما في داخله، وغالبًا ما يحقق الفنان غايته في نهاية الأمر، من الممكن ألا يجد الفنان في بداية مسيرته مفتاح الاتصال مع ذاته، لذلك نجد الكثير من الفنانين المبتدئين يتخبطون في بداياتهم، فقد لا ينجحون في تهيئة مكانٍ مناسبٍ للخلوة الفنية، أو ربما تجدهم منشغلين في تقليد فنانين آخرين، أما بعضهم يعاني من هوس المثالية التي تفقده رؤية الصورة الكلية والعميقة للفن، كل هذه الممارسات تفقد الفنان اكتشاف الجواهر الثمينة الكامنة في داخله، مع ذلك يجب أن يدرك الفنان أن عملية الاتصال مع الذات من خلال الفن هي رحلة قد لا تبدو سهلةً وواضحة في بدايتها وغامضة في نفس الوقت، سوا أنه بالديمومة والاجتهاد سيتمكن الفنان من الوصول إلى أعمق نقطة في روحه وسيتمكن من الإبحار ببراعة هناك

وتقول لنا المصادر، ان تريسي إيمين - الفنانة البريطانية الشهيرة - على سبيل المثال مرت بالعديد من التجارب الصعبة والمعقدة في حياتها؛ لهذا قررت استخدام الفن كوسيلة للتعبير عن تلك التجارب، والشفاء منها بالوقت ذاته، والبولندية براونوسلافا كازينسكا كانت فنانة تشكيلية بجانب أنشطتها كشاعرة هي الأخرى تعرضت لتجربة صعبة في حياتها جراء تعرضها لحادثة حريق خطير، استخدمت الفن كجزء من رحلة علاجها وشفائها، إذ قامت بإنشاء مجموعة من الأعمال الفنية التي تعبر عن تلك التجربة وتساعدها على تجاوزها

يعتقد الكثيرون أن الفنان يرسم لأسبابٍ ماديةٍ بحتة أو ربما لكي يستمتع، ولكن العلاقة بين الفن والفنان أعمق من ذلك بكثير، يجد الفنانون في غرفة الفن الخاصة بهم الملجأ والرفيق، والمكان الذي يسمح للفنان بعيش لحظات تأمل خاصة بينه وبين فنه، الفن رحلة تشافي، ولو علم الناس ما في الفن من أهمية عظيمة لتطور الذات، لما بقي في الدنيا إنسان إلا وأصبح فنانًا.

***

نهاد الحديثي

المفكر المتتبع لنبض الحداثة بالمغرب بتفاصيلها التاريخية وتطورها الزمني هو الدكتور والأستاذ عبد الله العروي. الوضعية الخاصة التي عاشها الكاتب بالمغرب، والتي جسدها في كتابه "الفلسفة والتاريخ"، حولته إلى مدرسة ومصدر إلهام وطنيا وإقليميا ودوليا. تراكمات مسار حياته جعلته يستنتج بالدليل والبرهان أن الدولة المغربية في تطورها تعد اليوم من كبار دول الجنوب التي أحرزت تقدما واضحا عن مجتمعاتها. إنها دولة تاريخية مُؤَسِّسَة بامتياز. كونت النويات (جمع نواة) الأساسية في المجتمع (الأسرة، الحزب، النقابة، التعاونية، البنية المؤسساتية ....)، وسعت دائما لتطويرها، مستحضرة بالقوة اللازمة الحفاظ على الخصوصية التاريخية للبلاد.

لقد مرت أكثر من ستة عقود عن ثورة الملك والشعب، ليرتقي في نهاية المطاف دور الدولة ليصبح الكيان الأقدر على التغيير، والقيادي المستنير والحكيم لمختلف المشاريع التحديثية. لقد كفل لها التاريخ دور القوة النافعة ودور المخاطب الناجع صاحب السلطة المؤثرة. طورت مع مرور العقود ريادتها في بناء الحداثة بالرغم من الصعوبات التي واجهتها مع المثقفين. المثقف، يقول العروي، لم يكن في خدمة السلطة. ورث ذلك عن تقاليد النخبة في محاربة الاستعمار، نخبة تعودت على تقليد معاداة النظام القائم. ورث المثقف ذلك كذلك من احتكاكه بالإرث الفرنسي المخالف للتراث السياسي النفعي البراغماتي الثقافي المترسخ في المجتمعين البريطاني والأمريكي.

نتيجة لتجدر النظام الملكي المغربي شعبيا، واستحضارا للأدوار المعاكسة للنخبة المثقفة، ضيع المغرب فرصا عديدة لترسيخ الحداثة مبكرا كما عاشها الغرب منذ القرن الثامن عشر على الخصوص. بذلك، فمفهوم الحداثة، كوعاء سياسي للتركيز على المنفعة والمصلحة الجماعيتين، لاقى صعوبات لتثبيت ركائزه في الواقع. الدولة مطلعة معرفيا وفكريا بكل التفاصيل عن كيف ارتبط مفهوم النفعية بالتراث الفقهي المغربي القديم، وكيف تطور عبر الأزمنة. لقد كانت (النفعية) تمثل القيمة الأولى في المجتمع. كما أبرزت الوقائع التاريخية بشكل مواز كيف نجحت النويات المؤسساتية المغربية في تحمل سلطة التفويض باقتدار، وبالتالي رعاية المصالح الجماعية للمغاربة.

بتراكماتها الهامة والجادة، تسعى الدولة في مطلع الألفية الثالثة تفنيد كل السلوكات غير المبررة التي ميزت زمن ما قبل الحداثة. إنها لا تدخر جهدا للعمل على تجاوز التعاطي المفرط مع مفهومي الولاء والتقليد. المغرب يحاول بإرادة سياسية واضحة، كما فعلت المجتمعات الحداثية قبله، وضع التقليد في مرتبة معينة، جاعلة منه مقوما ومرتكزا للخصوصية الثقافية المغربية. التقليد بالنسبة للأسرة والطفل (التنشئة) ضرورة يقول العروي. أما بالنسبة للقائد والزعيم والمشير المؤسساتي، الذي يقود الحركة الاجتماعية، فالتقليد ليس هو المطلوب. دوره كفاعل عمومي سياسي هو البحث عن فتح السبل والطرق الممكنة لتحقيق المنفعة والمصلحة. لا يهم، بالنسبة للعروي، إن أدى الأمر إلى نسيان بعض التقاليد (النسيان يعني عدم الفائدة منها)، والتعايش مع أخرى النافعة بدون أن تكون القيمة المسيطرة على كل القيم الأخرى.

الداء الفتاك، كما فهمته من مشروع العروي، والذي يمكن أن يشكل حاجزا منيعا منتصبا في سبيل العبور إلى الحداثة، يتجلى في توفير ظروف تسلط نزعة تعميم التقليد وصد الأبواب أمام تراكمات الحضارات البشرية (الانغلاق). القيم التراثية النافعة هامة جدا في ترسيخ الخصوصية الحضارية المغربية (الأسرة والعائلية والجماعة)، لكن تعميمها على الاقتصاد والمالية والتكنولوجيات الحديثة والمكننة الإلكترونية غير مقبول نهائيا. إنها مجالات حضارية مشتركة كونيا تتطلب اليقظة الدائمة، وترسيخ النزعة الإبتكارية، وانتعاش الغريزة التجديدية عند الإنسان، والمراهنة على التجربة كأساس لربط الفكرة النظرية بالواقع. إنها الحرية بالمفهوم الإنساني التي خصص لها العروي كتابا خاصا إلى جانب كتب أخرى تناولت أربع مفاهيم متكاملة: مفهوم الإيديوبوجيا، ومفهوم الدولة، ومفهوم التاريخ، ومفهوم العقل.

خاتمة

يعد المغرب، بالنسبة للعروي، من البلدان العربية والإفريقية الرائدة والمؤهلة للتقدم بسرعة في المسار التحديثي. الحرية، وإن غابت عن الدولة الإسلامية أو في المجتمع الإسلامي التقليدي، فإنها في المغرب استطاعت أن تترعرع وتتغذى من مكوناته الثقافية الحضارية العربية والأمازيغية والصحراوية والأندلسية.... إنه البلد الأشد تقدما واستعدادا لقبول الحرية والحداثة والسعي لتطويرهما بالوثيرة المطلوبة.

لقد قام المغرب بعدد من الإصلاحات في العديد من المجالات موسعا بحكمة هامش نطاق الدولة على حساب العديد من الجماعات والبنيات التقليدية التي كان يحتمي وينغلق فيها الفرد كالأسرة والحرفة والعشيرة والزاوية. إنه المعطى التاريخي الذي ساهم في تداول مفهوم الحرية في المجتمع المغربي بمنطق حداثي. شاع المفهوم وترسخ بدعم الدولة المتواصل، وتنشيطها للنضالات المجتمعية المدافعة باستماتة على حرية الفرد كحق بديهي و طبيعي رافعة الشعار الدائم: "الحريات الفردية لا تقبل التفويت". والحالة هاته، استطاع المغرب بتجربته الخاصة وحنكة نظامه السياسي من الابتعاد عن نزعات التزمت في كل المجالات الأخلاقية والعقائدية والقانونية. التفوق المغربي وتميزه جعله يتجاوز بشكل ملموس العتبة التاريخية للدخول إلى زمن الحداثة. لقد تحرر الفرد المغربي اليوم بمستويات متقدمة، وأصبحت إرادته إلى حد ما تتطابق مع أهداف الدولة.

اقتباسا من مضمون الفصل الأخير من كتاب الحرية لعبد الله العروي، يمكن القول أن المغرب تَشَرَّب معنى الفائدة من العلوم الطبيعية وما تزخر به من قيم معرفية في خدمة حرية الأفراد. المؤشرات الحضارية المعروفة كونيا لقياس مستويات الحداثة تتحقق، وترتفع نسبها بوعي تام بالتحديات المستقبلية: مؤشر النمو الاقتصادي وتقدم علم الاقتصاد، ومؤشر استنباط نتائج علوم الاجتماع، ومؤشر انتشار نمط الفكر العلمي والعملي، ومؤشر الإيمان بالتجربة والمنافسة، ومؤشر الإبداع التكنولوجي، ومؤشر المشاركة السياسية الديمقراطية وجهود توطين علم السياسة.... لقد أصبح المغرب بالفعل مؤهلا لدخول مجال الأنشطة الصناعية الرئيسة (مجال الاختراع والإبداع)، وتقوية ميول الشباب إلى احتراف الدَّرَابَة اليدوية والتكنولوجية.

***

الحسين بوخرطة

مهندس ومهيئ معماري

الى المتشككين بتاريخ الاسلام الاول وكتابه ونبيه، نعم هذا من حقكم، ولكن لا تتعاموا عن الحقائق التالية:

في السنوات الاخيرة ثمة حملة كبيرة في مواقع التواصل وترجمات الكتب، للتشكيك الجذري بكل المكونات التأسيسية للاسلام. لا نريد هنا الجدال بمثل هذه الطروحات المعروفة، بل فقط نود التنبيه والتأكيد على ضرورة عدم تناسي هذه الحقائق المهمة جدا:

1ـ ان قضية التشكيك والرفض هذه لا تخص الاسلام وحده، بل متداولة بخصوص جميع الاديان المعروفة: البوذية والهندوسية واليهودية والمسيحية والتاوية.. وغيرها، وقد صدرت آلاف الكتب والبحوث بمختلف اللغات حول مدى حقيقة الروايات الدينية التأسيسية، بل ومدى حقيقة وجود مؤسسي هذا الاديان: بوذا وموسى وعيسى وزرادشت، وغيرهم. والقول بأن جميع هذه الاديان قد اسست من قبل جماعات روحانية اصطنعت شخصيات زعامية وهمية تدعي بعلاقة خاصة بالاله.

نعم يتوجب ان تذكروا دائما هذه الحقيقة الشاملة، كي لا يفهم الناس وكأن مشكلة المراجعة والتشكيك تخص الاسلام وحده.

بل ان هذا التشكيك التاريخي يشمل جميع نواحي تاريخ العالم، سواء الديني وغير الديني. فمثلا حتى الآن هنالك جدالات ودراسات حول: هل شكسبير حقا هو كاتب المسرحيات؟ وهل ستالين حقا مؤلف كتبه؟ وان نيرون لم يحرق روما.. وان الاسكندر المقدوني غير مؤكد الوجود.. وكل بضعة أشهر هنا في اوربا تظهر افلام وثائقية تبحث في فرضية جديدة عن الجهة التي اغتالت الرئيس كندي! وهكذا الكثير الكثير من اسرار التاريخ..

2ـ كذلك لا تنسوا بان الاسلام مثل جميع الاديان الكبرى، ليست قيمته فقط بكتابه المقدس (القرآن) و(نبيه محمد)، بل قيمته الكبرى في (انجازاته التاريخية الكبرى وميراثه الثقافي العظيم). فتحت راية الاسلام تكونت اعظم الامبراطوريات العالمية: الاموية والعباسية والاندلسية المغاربية، والعثمانية، والعديد غيرها من الدول الكبرى والصغرى..

3ـ الاسلام ليس فقط عقيدة دينية وطقوس، بل هو خصوصا (يشكل الجزء الاهم من الهوية الوطنية) لشعوبنا العربية والاسلامية لانه خلال 1400 عام راكم وتداخل مع الميراث الثقافي والشعبي لهذه الشعوب. تحت ظل الاسلام صدرت ملايين المجلدات بالعربية خصوصا، في مختلف المعارف والعلوم والمذاهب الفقهية والفلسفية خلال الحقبة العربية الاسلامية. ومن الجريمة والظلم والاستحالة المطالبة بتناسي الاسلام ومعه كل هذا الميراث الغني العظيم الثقافي والديني، لمجرد اننا نشكك بحقيقة من كتب القرآن ومن هو محمد؟؟!!

انظروا الى اوربا وامريكا، فرغم كل الضربات الكبرى التي عانت وتعاني منها المسيحية وعزلها الفعلي عن الحياة السياسية والثقافية، الا انها لا تزال تشكل جزءا مهما جدا من الهويات الوطنية للشعوب الاوربية والامريكية. نفس الحال بالنسبة للبوذية والتاوية في الصين وآسيا، والهندوسية في الهند.. وهكذا باقي الاديان.. ولا تنسوا الدور الاول والاوحد للدين في مشيخة بني عمومتنا بيت موشي..

4 ـ انا شخصيا رغم اني من عائلة مسلمة، الا اني لا اعتبر نفسي مسلما، بل افضل وصف نفسي بـ: روحاني انساني، ولكني رغم ذلك ادافع بصدق عن (الاسلام) كثقافة ودين وكذلك عن العرب والمسلمين، لاني مقتنع ان اضعاف الاسلام هو اضعاف للهوية الوطنية لشعوبنا، ولا يخدم سوى اعدائنا. ولكن هذا لا يمنع من العمل على اصلاحه بما يلائم عصرنا. وانا بنفس القناعة ادافع هنا في اوربا عن المسيحية، كما ادافع عن البوذية لدى شعوب آسيا، وهكذا..

فيا اخوتي العلمانيين الملحدين المشككين والمراجعين، اذا انتم فعلا تدعون الوطنية والاصلاح، لا تظلموا شعوبنا وتخدموا اعدائنا، وترتكبوا خطيئة: رمي الطفل مع ماء غسيله. او قتل المريض بحجة علاجه.

***

سليم مطر ـ جنيف

في المثقف اليوم