قضايا

يدل عنوان رسالة النائيني تنزيه الملة على قصد تبرئتها مما ألصقه بعض رجال الدين بها من مقولات هي ليست منها. ولا تتبناها مثل حرمة الخروج على الظالم. ونظرية المفضول. ونظرية عدم جواز تدخل الامة في سياسات الحاكم. وسبي نساء الفتوحات. وتكملة العنوان تنبيه الامة يعني ان الناس اعتقدوا ان تلك من الشريعه فاقتضى تنبيههم انها من عقول الفقهاء وليس من الشريعه وهذا الركنان في العنوان يقتضيان مقدمات نقدية للفهم السائد ومن ذلك:

1- يرى النائيني ان العقل لو عزل عن الحكم الشرعي لهدم اساس الشريعه.

 2- ان الممارسة العقلانية النقدية سواء صدرت من اتباع دين او من غيرهم فانها عمل فطري ويرجع الحكم العقلي انا الى خلاصات تفكير العقلاء او الى الفطرة (القانون الطبيعي الكوني)، وكلاهما حجة ذاتية لا تحتاج الى امضاء النص وهو راي الاخوند ايضا لذا فان التوسع في مصادر المعرفة لتشمل التجارب الانسانية بلا تقييد بالمسلمين من مقتضيات احترام العقل والفكر الانساني ويتوافق مع ابن رشد بالقول ان القطعي منها لا يتعارض مع الشريعه ويترتب على ذلك ان تجارب الانسان مصدر للمعرفة العلمية الشهودية والوحي مصدر للمعرفة الشهودية ايضا والغيبية اذا فالدين لا يضاد العلم ولا يصادره ولا يهيمن عليه ولا اساس علمي لممارسات ما يسمى (اسلمة العلم).

3- يرى النائيني ان افة الاستبداد لا تنخر الممارسة السياسية انما تدخل بسهوله للعقل الفقهي وقلعها في المجال السياسي أسهل من المحال الفقهي لذلك فلاهوت التحرير يتوقف على سد باب تسرب الاستبداد للعقل الديني لانه بوابة التطرف والغلو والعنف مثل تفكير الخوارج والتكفيرين المعاصرين ونزعات التعصب.

4- ان المساواة والعدل ليسا فقط اوامر دينية انما ترجيح فطري ومقولات عقلية اكدها المشرع فهي في اساسها دنيوية وفي تطور نماذجها كذلك فلا انموذج واحد لتطبيقها.

5- ان معضلة التخلف تكمن في خطابات الفقهاء نفسها ويحسب الناس انها كامنه في الدين لانهم لم يعملوا بمقاصد الشريعه لذلك فانهم يعانون من عجز في توظيف الدين لخدمة الانسان وعلتهم الكبرى مناهجهم الجامدة اللاعقلانية المتبعه وتحرجهم من من ممارسة نقد الذات.

6- انهم لم يفصلوا التاريخ عن الدين ففسروا الدين كما فسره الاوائل بكل ما علق بهمن التاريخ وضاع المائدة بين الثابت الجوهري والمتحول الزماني وتوسعوا بافراط بنظرية التعبد.

7- غادر العقل الفقهي اليات نقد المتن الحديثي وتوغلوا في السند بقواعد ابدا من قبول عقيدة الراوي اولا فلا توخذ الرواية من الاخر المختلف معهم.

8- ركزت اغلب مدونات الفقه على ضرورة التمييز بين المسلم وغيره والحر والعبد والرجل والمراة والعربي والمولى والهاشمي وغيره فاسسوا قاعدة للصراع بدل تاسيس قاعدة للاندماج والتفصيل على الكفاءة والنزاهة فغادروا جعل المعتقدات دافع لصنع مجتمع رشيد متحضر.

***

ا. د. عبد الامير كاظم زاهد

إذا كانت منطلقات الماضي تؤطر معطيات الحاضر، فان مؤشرات هذا الأخير ستقرر – بالمقابل - خيارات المستقبل. ومن منطلق هذا القانون التاريخي الغائب عن أفق وعينا التاريخي، يمكن للمرء أن يتوقع أي مصير مفجع سيؤول إليه المجتمع العراقي وهو يتطلع إلى تخوم القادم من الأيام. إذ ليس هناك من ينكر أن الحالة / الوضعية التي يشهدها واقع العراق الحالي – رغم كل ما يقال عن الأسباب – ما هي إلاّ نتاج عقود متطاولة – إن لم تكن قرون متقادمة – من القمع السياسي، والردع النفسي، والتجويع الاقتصادي، والتبضيع الأخلاقي، والتركيع الإنساني، التي أناخت بوطأتها ليس فقط على إرادة ووعي وكرامة الإنسان فحسب، بل وكذلك طالت مقومات وجوده الاجتماعي والتاريخي والحضاري. بحيث استحال إلى كائن هلامي لا هوية له ولا انتماء، تتقاذفه تيارات متلاطمة من التجهيل السياسي والتضليل الثقافي والتهويل الديني.

ولغرض الوقوف على الأسباب المانعة لتعافي المجتمع العراقي من أمراضه وعلله المستديمة، والتشخيص الدقيق للعوامل المعيقة لنهضته والمانعة لتطوره والحائلة دون تقدمه، فقد استخلصنا بعد بحث وتأمل في ميادين الجغرافيا والتاريخ والسياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة والدين، الى نتيجة مفادها أن مشاكل العراق واشكالياته تتمثل بثلاث معوقات أساسية مستعصية لا سبيل الى حلها وتخطيها دون اختراق بنيتها واستعراض محتوياتها ومعالجة تراكماتها، نوجز مضامينها على النحو التالي: 

المعوّق الأول ونلخصه بحالة (التباس سرديات الماضي): وهو ما يتمثل بمظاهر تشظي الجماعات وتذرر المكونات إزاء مواقفها من مواريث الجغرافيا والتاريخ والدين والثقافة والهوية، التي شكّلت عبر تفاعلها وتواصلها ما يسمى ب (الكيان) العراقي، كما وتمخض عن سيروراتها ودينامياتها ما يعرف ب(بالمجتمع) العراقي. إذ لا يخفى ان تاريخ معظم الجماعات العراقية القديمة والحديثة، لا يعدو أن يكون سلسلة متواصلة ومتوارثة من الحساسيات المتبادلة والكراهيات المتقابلة إزاء نظرتها لتلك المواريث وكذلك حيال تعاطيها مع سردياتها، والتي نادرا"ما اتفقت جماعة من تلك الجماعات مع نظيرتها حيال محتوى وتفاصيل تلك المواريث ومن ثم كيفية استثمارها لصالح الجميع.      

المعوّق الثاني ويمكن اختصاره بحالة (انتكاس معطيات الحاضر): وهو ما يتمثل باستعصاء توافق الإرادات وتضارب التصورات حيال تشخيص العوامل الموضوعية والدوافع الذاتية المسؤولة عن ظواهر تراكم الأزمات وتفاقم الصراعات . إذ طالما كان  لكل مكون من المكونات أو جماعة من الجماعات رأي مختلف وتصور مغاير إزاء دور ووظيفة تلك العوامل والدوافع، بحيث ان ما يعتقده هذا الجانب أو تلك الجهة دائما"ما يكون متعارضا"ومتقاطعا"مع اعتقاد بقية الشركاء في الوطن والنظراء في المسؤولية. الأمر يتعذر معه الوصول الى اتفاق – ولو بالحد الأدنى - الى رأي موحد أو تصور مشترك يفضي لتشخيص مصادر الأزمات والصدمات واكتشاف مكامن الحلول، وبالتالي استمرار حصاد الانتكاسات والانهيارات على الصعد كافة.

المعوّق الثالث (احتباس توقعات المستقبل): وهو ما يتمثل بانسداد الآفاق الموجهة وانعدام الرؤى الواضحة، التي من شانها أن تكون مثابات / دلالات للإرشاد الجماعات والمكونات المنطوية على (أناها) العصبوي، للخروج من أنفاق ماضيها المختلق والتخلص من شرانق تاريخها الملفق، والتي طالما كانت حائلا"دون اهتدائها الى السبل التي يفترض أن تقود خطاها صوب استشراف، ليس فقط ما كانت تتوقعه من أحداث تاريخية وتترقبه من مئآلات سياسية فحسب، وإنما تجنبها المزالق الاقتصادية والمتاهات الاجتماعية التي من المحتمل مواجهتها عند كل منعطف.

والحال، انه إذا كانت واحدة من تلك المعوقات كافية لإحداث ما يكفي من الإضرار في سيرورات البنى والأنساق والسياقات، مثلما في ديناميات العلاقات والتواضعات والسلوكيات. فكيف ستكون النتيجة، إذن، حين يكون المجتمع عرضة لتفاعل تداعيات وتأثيرات تلك المعوقات الثلاث مجتمعة في آن واحد، سوى تفكيك كيانه الاجتماعي وانهيار معماره القيمي واندثار مدماكه الحضاري !.

***

ثامر عباس

ما زلت أذكر اليوم الذي وصلنا فيه إلى درس نواصب الفعل في «شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك»، وهو من الكتب التي ينبغي دراستها للمتقدم في علوم اللغة. وسبب استذكاري لهذا الدرس خصوصاً هو بيت الشعر المشهور

«يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما

قد حدَّثوك فما راءٍ كَمَنْ سَمِعَا»

فقد أنفق أستاذنا، رحمه الله، وقت الدرس كله في بيان الفارق بين تحصيل العلم بالملاحظة المباشرة والتجربة الشخصية، وتحصيله بالسماع والرواية. وكان المشهور يومها أن رؤية الشيء في الواقع، طريق لتحصيل العلم القطعي، بينما يُصنَّف السماع عنه كمعرفة ظنية، وليس مَن رأى كمن سمع. وكنا نأخذ هذا الرأي أخذَ المسلّمات. ولو جادَلَنا فيه أحدٌ لأجبناه بأن التجربة الحسية أصدق الأدلة، والعين أصدق وسائل الإحساس.

في سنوات لاحقة من مشوار الدراسة، بدأتُ أفهم أن رؤية الأشياء وتجربتها الحسية، لا تعطيك دليلاً قطعياً، فهي تتأثر بزاوية النظر أو ما يسمى «أفق التوقعات». وأذكر واحداً من الدروس الأولى التي اطَّلعت فيها على تأثير خلفية الفرد ومعارفه السابقة على ما يتعلمه لاحقاً، فقد عرض الأستاذ بعض الأمثلة عن أحكام شرعية أصدرها فقهاء من سكان الريف وآخرون من سكان العواصم، في نفس الموضوع، وكان الفرق بينهما شاسعاً. وأذكر خصوصاً الجدل الساخن الذي ثار، حين اعترض زميل متقدم على قول الأستاذ بأن كل فرد يميل لترجيح دينه على بقية الأديان، لأنه أَلِفَه منذ الصغر، سواء وجد عليه دليلاً أم لم يجد. وقد ذهب هذا الجدل إلى مسافات أبعد مما تخيلنا.

مع الوقت، يدرك الإنسان أن ما يراه لا يختلف كثيراً عمّا يسمعه، فكلاهما لا يفيد إلا ظناً. أو لعلنا نقول إن رؤية الشيء لا تكشف عن غير ظاهره، وربما تكشف عن جانب من حقيقته، وربما لا تكشف له إلا عمّا أراد سلفاً أن يراه. لتبسيط الفكرة دعنا نسأل ثلاثة أشخاص عن القيمة الأخلاقية للمؤسسة المالية التي نسميها «البنك»: لو سألت فقيهاً تقليدياً فسيخبرك بأنها محلٌّ لغضب الله، لأنها تدير المعاملات الربوية. ولو سألت خبيراً في المالية لقال إنها محور المعيشة والنشاط الاقتصادي لأي بلد. ولو سألت مناضلاً ماركسياً لأخبرك بأنها رمز من رموز الاستغلال. سبب هذا التفارق في الوصف والقيمة، هو التصور السابق عن أجزاء التجربة والنتائج المتوقعة منها.

في ماضي الزمان كان الاعتقاد السائد أنه لا يوجد وسيط بين العين والواقعة. ما تراه بعينك هو عين الحقيقة. ولذا فالرؤية دليل على الحقيقة. لكننا نعرف اليوم أن العين مجرد ناقل للصورة الخارجية، أما تعريف الصورة ثم تحديد طبيعتها وقيمتها، فهو من أعمال العقل.

ونعرف أن العقل لا يعمل في فراغ ولا يبدأ من الصفر، فهو يبدأ أولاً بتصنيف الصورة التي تلقاها ضمن واحد من آلاف الإطارات والقواعد التي يختزنها، والتي تشكِّل ما يشبه المنظار الذي يرى من خلاله الأشياء الجديدة. من هنا ثمة إجماع في العلم الحديث على أن المفاهيم والتصورات المختزَنة في الذهن، تعمل وسيطاً بين عينك وبين الواقع. أي إنك ترى الأشياء الجديدة من خلال التصورات المختزَنة في ذهنك.

يختلف الناس في تقييمهم عناصر الواقع، كما يختلفون في وصفها، لأنهم في الأساس لا ينظرون إليها كعنصر بسيط مستقل، بل كجزء في مركّب له صورة وقيمة خاصة في أذهانهم. هذه الصورة قد تكون مستمَدَّة من علم سابق أو تصور شخصي أو تجربة مع المركب ككل أو بعض أجزائه.

مثال البنك المشار إليه نموذج عن كل شيء آخر نراه في حياتنا، حيث نتعامل معه استناداً إلى فهم مسبق لذلك الشيء، أو على الأقل تصور مسبق أو حتى تخيل لماهيته وموقعه. العين مجرد ناقل للمشهد، أما الذي يرى فهو العقل.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

كانت ظاهرة طمس التاريخ سياسيّة قديمة، ولعلّ القلائل لفتوا الأنظار إليها. ذَكرها ابن بحر الجاحظ (ت: 255هج)، وهو يتحدث عن الكتب، وأهميتها في تخليد الأخبار: «والكتب بذلك أولى مِن بنيان الحجارة وحِيطان المدرِ(المدن)، لأنَّ مِن شأن الملوك أنْ يطمسوا على آثار مِن قبلهم، وأنْ يميتوا ذكر أعدائهم، فقد هدموا بذلك السَّبب أكثر المدن، وأكثر الحصون، كذلك كانوا أيام العجم وأيام الجاهلية، وعلى ذلك هم في أيام الإسلام» (كتاب الحيوان).

نقف في التَّاريخ السّياسيّ المعاصر، على ممارسةٍ مِن بنات ما ذكره الجاحظ، طُمست صفحة أساسيّة مِن سيرة الشّخصيّة الشّهيرة، في التّاريخ اللِّيبي والعالمي المعاصر، عمر المختار(أعدم: 1931)، وليس المقصود المختار ذاته، إنما كان القصد طمس أي أثرٍ للأسرة والحركة السّنوسيّة، التي يعود الفضل إليها بظهور ليبيا المعاصرة، حصل هذا بعد انقلاب (1/9/1969)، فجُرف تاريخها، بمعاول المنقلبين.

قصة ذلك: ألفَ أربعة باحثين طليان كتاباً عنوانه: «عُمر المختار وإعادة الاحتلال الفاشيّ لليبيا»(إيطاليا 1981)، وكان نص الكتاب الأصل قد بنى تاريخ المختار الجهاديّ على علاقته بالسُّنوسيّة، فهو أحد أعضائها البارزين، بدأ حياته شيخ زاوية فيها. بعدها صدر مترجماً إلى العربيَّة (1988) و(2005) عن «مركز جهاد للدراسات التّاريخيّة في الجماهيريَّة العربيَّة اللّيبيَّة الشّعبيَّة العظمى)، لكن بعد طمس كلّ قولٍ وفعلٍ للحركة السُّنوسيّة، فجاء النّص العربيّ خالياً تماماً مِن أي صِلة للمختار بها. نفهم مِن ذلك أنَّ (الجماهيريّة العُظمى) عاشت مرعوبة مِن اسم لم يبق منه سوى لفظه، وكيانٍ لم يبق منه غير الذِكرى.

ظهرت حركة «الإخوان السَّنُوسيَّة»، طريقةً صوفيةَ بمكة(1837) على يد محمد بن علي السَّنُوسي(1778-1859)، ثم تشكلت بليبيا(1843). عُرفت رسمياً بـ «الإخوان السَّنُوسيون»، وحدت القبائل الصَّحراويّة، بنشر الزّوايا. وقفت ضد الاحتلال الإيطالي لليبيا، إلى ظهور أول وآخر ملك ليبي مِنها(الصَّلابي، تاريخ الحركة السَّنُوسيَّة في أفريقيا). بمعنى لم تكن طارئة على ليبيا، فهي حركة وطريقة صوفية ومملكة، كي يُعمد إلى تَجْريف تاريخها بهذه السُّهولة.

لهذا تصدى الرِّوائي اللِّيبيّ محمّد عبد المطلب الهونيّ، وأعاد ترجمة الكتاب إلى العربيّة، ليُقدم النص الإيطالي إلى أصله. كتب يقول: «عندما اطّلعت على الكتاب (النص الإيطاليّ) وجدت أنّه ترجمةٌ ناقصةٌ، قد تمّ حذف كلّ ذِكر للحركة السّنوسيّة وزعمائها، ولم يكن ذلك حسب ظنّي قصوراً من المترجم، أو غفلة من كاتب المقدّمة، الّذي تحامل على السّنوسيّة والملك إدريس، وإنّما كان السّبب أنّ النّظام القائم، الّذي موّل التَّرجمة ونشر الكتاب، أراد طمس الحركة السّنوسيّة وزعمائها، باعتبارها حركة أنتجت دولة الاستقلال، التي أقام الّنظام شرعيّته على إسقاطها وتخوينها»(عمر المختار وإعادة الاحتلال الفاشيّ بليبيا/ طبعة دار الجمل 2023).

اعتبر أحد مؤلفي الكتاب الأربعة المختار مِن الأشخاص الأكثر أهميّة في السّنوسيّة، فطمس تاريخ الحركة التي كان ينتمي إليها، يعني طمس تاريخه، ليظهر أنه حالة فرديّة لا أكثر، وبهذا لم تعد السُّنوسيَّة، ولا الملك إدريس السّنوسيّ(حكم: 1951-1969)، والمتوفى (1983) بالمنفى، لهما وجود في التّاريخ الليبيّ.

إنَّ ممارسة الطّمس أو التّجْريف للتاريخ، في ظل الانقلابات والثّورات، غير مقتصرة، في عصرنا هذا، على ليبيا، فإذا عدنا إلى التّاريخ، وما نوه عنه الجاحظ نجدها مورست بطمس القبور والشّواهد، والعبث بالهياكل العظمية، ويصبح ذِكر اسم المنقَلب عليهم محرماً، يُعرض صاحبه إلى الاجتثاث، المفردة الجديدة بين المصطلحات السّياسيَّة، التي ظهرت ذات أنياب بعراق(2003).

هذا، ولو كان الفاتح مِن سبتمبر/ أيلول انقلاباً على عمر المختار نفسه، ما وجد الليبيون لبطلهم اسماً، ولا تذكاراً، ولا ضريحاً، لهذا غدت المَتاحفُ، ومراكز بالبحوث شحيحة الآثار، لعبث المتأخرين بميراث المتقدمين، بسبب دورات الانتقام المتعاقبة.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

إزاء الهَلْهَلَة في الحُكم على الأشياء، والمزاجيَّة في نقد المجتمعات، لا بدَّ أن تتبادر مساءلة أولئك الذين لا يرون للمرأة العَرَبيَّة أيَّ شخصيَّة ولا هويَّة مختلفة، كما لنساء الشعوب، المحتفظات بشخصيَّاتهن القوميَّة والثقافيَّة. أفما يتسع المجال عقلًا وتصوُّرًا لوجودٍ مغايرٍ خارج محاكاة الآخَر؟  ذلك أنَّ التذمُّر الغالب إنَّما يدلُّ على أنَّ النموذج الغربيَّ هو المثل الأعلى، والغاية القصوَى للعصريَّة والحداثة.  ثمَّ في نهاية المطاف والتحليق لا تقف إلَّا على سفسطة تُدعَى نقدًا اجتماعيًّا، لا ترى من الأمر إلَّا القِطَع القماشيَّة الفارقة بين المرأة الشَّرقيَّة والغَربيَّة، من حيث النوع والحجم واللون.  وعليه فلا يمكن للمرأة- كما يرى أصحاب ذلك الخطاب، ومعظمهم من الرِّجال- أن تكون شيئًا مذكورًا ما لم تأت نسخةً مفصَّلةً وَفق "كتالوج" المرأة في أقاليم ما وراء البحار! أ فهؤلاء أنصار المرأة حقًّا؟ أم هم أنصار أنفسهم؛ إذ يَبدون مجرَّد أرباب أزياء نسويَّة، وبائعي أقمشة خاصَّة، وأصحاب مشاغل خياطة، تلبِّي متطلَّباتٍ أُغرموا بها؛ لأنها تجذبهم بسُلطة الغالب على المغلوب؟

الحقُّ أنَّ من يتتبَّع ذلك الخطاب النسوي يُلفيه منكودًا باللِّباس قبل كلِّ شيء وبعده، وبصرف النظر عمَّا وراءه من إنسان. ومن هنا فلا فُجاءة في أن تجدهم يمارسون العنصريَّة في تعاملهم، والتمييز في تقييمهم، والتطفيف في نظرتهم إلى المرأة، بناء على تحقُّق شرطهم الجوهريِّ لولائهم وبرائهم؛ فإنْ توافرت مقاييس تفصيلهم، فالمرأة لديهم راضيةٌ مرضيَّة، وإلَّا فهي سقيمة الثقافة، غير واعية، ولا مؤمنة بقضيَّتها/ قضيَّتهم!

وهكذا، فكما ابتُليت الثقافة العَرَبيَّة بالانتقائيَّات الفقهيَّة، والاجتزاءات النُّصوصيَّة، فإنَّ لأمثال هؤلاء فقهاؤهم المصطفين الأخيار أيضًا؛ ما أَفْتَوا به فهو الحقُّ المحض، وما عداه فهو من مزالق الزيغ والتضليل، وربما لا علاقة له بالعصر والنور والمستقبل، من قريب أو بعيد.

تُرى هل يبقى لدعاوَى الحُريَّة التي يتشدَّق بها أولئك أيُّ مصداقيَّة، وهم ينتقون ما يعجبهم؟ فيما ينتقمون ساخرين ممَّن يخالفهم النهج، وممَّن يفارقهم الرأي، ناعتينه بالتخلُّف، والانغلاق، والذُّكوريَّة، في مقابل ما يُضفُونه على ذواتهم العَليَّة من العصريَّة، والانفتاح، والمساواة، ورعاية الحقوق!  وكأنَّما تلك هي ديمقراطية العُربان الاجتماعيَّة المزمنة، جاعلةً وكدها الإقصاء والإلغاء والعنف اللُّغويَّ ضِدَّ مخالفيها الرأي، في الوقت الذي لا تكفُّ فيه عيناها عن الشكوى، وكفكفة الدمع من ظلم المخالف، وغياب إيمانه بالحُريَّة؟  أفهذا هو مبلغ العقل، والعدل، والحُريَّة، وقبول التعدديَّة، والرأي الآخَر؟  إنَّما هؤلاء- بلا ريب- وجهٌ آخَر لعملتنا الثقافيَّة العتيقة، وما في الجعبة لا يَعْدُو تبنِّي الوجه المعاكس، لسببٍ أو لآخَر.

على أنْ ليس هذا بسوى عَرَضٍ لمَرَضٍ قديم، أعمق استشراءً.  وما العنف اللُّغوي بسوى تمظهرٍ صوتيٍّ للعنف الدموي الوشيك:

يا سادتي!

بِخنْجَرِي هذا الذي تَرَوْنَهُ

طعنتُهُ في صَدرِهِ والرَّقَبَةْ

طعنتُهُ في عقلِهِ المنخُورِ مثل الخَشَبَةْ

طعنتُهُ باسمي أنا..

واسْمِ الملايينِ من الأغنامْ

يا سادتي!

أعرفُ أنَّ تُهْمَتي عِقابُها الإعدامْ..

لكنَّني..

قَتَلْتُ إذْ قَتَلْتُهُ

كُلَّ الصَّراصير التي تُنْشِدُ في الظَّلامْ

والمستريحينَ على أرصفةِ الأحلامْ

قَتَلْتُ إذْ قَتَلْتُهُ

كُلَّ الطُّفَيْليَّاتِ في حديقة الإسلامْ

كُلَّ الذين يطلُبُونَ الرِّزْقَ من دُكَّانَةِ الإسلامْ

قَتَلْتُ إذْ قَتَلْتُهُ..

يا سادتي الكرامْ

كُلَّ الذين منذُ ألفِ عامْ

يَزْنُونَ بالكَلامْ...

هكذا يقول شاعر المرأة الشعبي الهُمام (نزار قبَّاني)(1).  وأمَّا ألاعيب الشعراء والنقَّاد المبرِّرة لمثل هذا العنف اللُّغوي- بما ينطوي عليه من تبريرٍ للقتل وتحريضٍ عليه- فلا تنطلي إلَّا على الثقلاء من أتباع الهوى.  فلئن قيل إنَّ القتل هنا قتلٌ معنوي، لا حقيقي، فلا فرق!  ولو سلَّمتَ بهذا، فأنَّى للجمهور، الذي يصفِّق عادةً لمثل هذا الشِّعر، أن يفقه "إيضاح" (القزويني) في الفرق بين الحقيقة والمجاز، أو نظريات (كلود ليفيشتراوس) في المعاني الرمزيَّة للكلمات؟!  إنَّ النصَّ سيحمل إلى المتلقِّي المصفِّق- من شاعره المحبوب- رسالةً تسويغيَّةً للكُره، وتوصيةً مباشرةً بالقتل، أو قل تحفيزيَّةً عليه، متى واتت الفُرص.

وفي المقابل فإنَّ ثَمَّة مجتمعات بدائيَّة- تستوطن (الرَّقَّة) أو غيرها- لا مساحة ذهنيَّة لفضِّ الخصومات الفكريَّة لديها إلَّا بالتصفية الجسديَّة.  وستنفِّذ حكمها في خصيمٍ خُلِق شَكْسًا للأعادي مِشْكَسًا، هو الأديب والمثقف، إنْ عاجلًا أو عاجلًا.  والملصَق السياسيُّ التقليديُّ القديم في يديها هو: "الزندقة"، و"الكُفر"- منذ (عبدالله بن المقفَّع) إلى آخر المقفَّعين- في واجهةٍ أخرى لملصَقات حداثيَّة شبيهة، كـ"الإرهاب"، و"التآمر"، و"العمالة"، إلى نهاية هذا السرداب من الألاعيب اللفظيَّة لنَفْي المخالف، وإقصائه، وقصف عمره، سياسيًّا وثقافيًّا.

تلك مجتمعات لم تتعلَّم، مع الأسف!

لم تتعلَّم أنَّ لإدارة الخلافات آليَّات حضاريَّة، دون الرِّقاب، وأنَّ الأدغال القديمة، التي ما زالوا يعتزُّون بعقليَّاتها، قد تخطَّاها التاريخ.  ولهذا فإن الأُمم المتحضِّرة التي ترقَّت عن أطوار الثارات المتداولة إلى إرساء القوانين العدليَّة وأنظمة المجتمعات المدنيَّة، قد تقف مدهوشة إزاء ما يجري في أدغال أفريقيا وآسيا من أكل الناس بعضهم بعضًا بسبب اختلافاتٍ لفظيَّة، أو خلافاتٍ في الرأي، كان يمكن أن يُتَوصَّل فيها إلى كلمةٍ سواء، لو كان العقل والعدل هما الفيصل في الخصومات.  ذلك أنَّ تلك الأدغال ما برحت تراوح في ضلالها القديم، غير مستوعبة أنَّ أكثر الأفكار الجدليَّة حيويَّة في العالم هي تلك التي أُشعِلت جذوتها بالرفض والإقصاء، وأنَّ القمع يحوِّل الفكرة من وجهة نظرٍ يمكن أن تُجادَل، فتُردَّ أو تُقبَل، أو يُؤخَذَ منها ويُرَدَّ، إلى قضيَّةٍ شعبويَّةٍ معمِّرة، وإنْ كانت لا تستحق التعمير.  أجل، ربما تقف المجتمعات المتمدِّنة مدهوشة، على المستوى الإنساني، إزاء ما يدور في أدغال العالم، غير أنَّها لا تجد سبيلًا إلى تلقين ضواريها الدرس، كي تختصر عليها المرور بالتجربة نفسها قبل الاهتداء إلى السِّراط المستقيم.  فليس أحكم، إذن، ولا ألأم، من أن تدع تلك الأدغال في غيِّها تَعْمَه، مستغلِّةً في الآن نفسه، ما أمكن، من سفاهاتها وحماقاتها، في سبيل مصالحها الحيويَّة، وفي تصفية حساباتها هي الأخرى بالوكالة، وكأنَّ لسان كُفرها: إنَّك لا تهدي من أحببتَ، ولكنَّ الله يهدي من يشاء!

***

أ. د.عبد الله بن أحمد الفَيفي

.................................

(1)   قصيدة "الاستجواب"، (1968)، ضمن "الأعمال السياسيَّة الكاملة"، (بيروت: منشورات نزار قباني)، 3: 134- 136.

أمَّا لقب شاعر المرأة، فلقبٌ لا يكرم المرأة، بل يهينها.  لا نكران أنَّ (نزارًا) كان شاعرًا مرموقًا، لولا جناية التصفيق على تجربته الشِّعريَّة، وشهوة الجماهيريَّة على حِسِّه الثقافي.

من الأسئلة الأساسية التي تواجهنا كمجتمعات عربية، تحتضن في نسيجها الاجتماعي عدة عناوين تعددية وتنوعات في مجالات الفكر والدين والإجتماع وما هنالك من عناصر تتداخل وتشترك في تكويناتها التاريخية الإنسانية والثقافية والحضارية، سؤال التعارف الذي يفرز محددات ومنطلقات وآفاق، تتطلب المعرفة ثم التصور والتخطيط والتسيير والتوظيف العملي في واقع مجتمعاتنا العربية المعاصرة ...

يبدو للوهلة الأولى أن التعارف في أساسه البسيط ما هو إلا تبادل معرفي متوالد بين طرفين، لكنه يبقى مفتوحا على أبعاد متعددة، لأنه كمعطى حضاري وأساس في بناء الأمن الثقافي للأمم وإستقراراها السياسي والإجتماعي، كونه منتج حركة وظائفية واسعة لقيم مدنية اجتماعية، ومن القيم المدخلية في مشروع التعارف، الحوار العلمي والانفتاح الثقافي... حيث لا يمكن الحديث عن التعارف أو التطلع إليه في جوهر المجتمعات العربية كأساس للتنمية الإجتماعية التي تعتبر أس التنمية المستدامة في أدبيات التفكير الحضاري الاستراتيجي المعاصر، دون إدراك أول لمسة في رسمه على لوحة مجتمعاتنا: قيمة الحوار العلمي والإنفتاح الثقافي بين مكونات التنوع والتعدديات، حيث ربطنا بين الحوار والانفتاح هو من قبيل التقريب لحقيقة تتمثل في كون لا حوار بلا انفتاح، لأن التاريخ الإنساني ككل أثبت الانتكاسات التي عرفتها مشروعات الحوار التي انطلقت من عقليات منغلقة ومسدودة الأفق، وعلى هذا الأساس يكون الحوار العقلاني –العلمي- وفق قاعدة الانفتاح الثقافي بين الذات والآخر الجنب، حتى يصبح إنتاجيا للتمدن وتنمويا على المدى المتوسط والبعيد، لا بيزنطيا تسلطيا أو حوارا بجوهر تسجيل النقاط على بعض، مما ينسف تطلع التعارف من الشعور قبل الواقع ...

لا مناص أن هناك حلقة مفقودة في واقعنا العربي، إبتداءا من النواة الأولى في المجتمع ألا وهي الأسرة إلى أكبر دوائر تفاعل إجتماعي، تتمثل في ثقافة الحوار العلمي والانفتاح الثقافي على بعض عبر تداول الرأي والرأي الآخر بين الوالدين وبين الآباء والأبناء، مما جعل مجتمعاتنا مهددة عمقا بظواهر اجتماعية خطيرة جدا، تتعلق بالتربية وإخفاق العلاقات الزوجية والجيرة والتوافق الأسري والترشيد المؤسساتي وما هنالك، يكفينا الاطلاع على احصائيات النزاعات في المحاكم على طول طنجة - مسقط، وكل هذه تعتبر معوقات قوية واستدمارية ناتجة إما عن تقاليد بالية أو طبائع فئوية لا تؤمن بالحقيقة العلمية أو المناط العقلاني...

إن واقعنا يعاني من محنة ضمور الحوار العلمي والجاد، ولعل جذر المشكلة هو تربوي من جهة وثقافي اجتماعي من جهة أخرى، مما شوه قيمة الحوار وشكك في مطلب الإنفتاح، في تفاصيل معاملات إنساننا وسلوكياته ومواقفه اليومية، هذا الواقع يمثل مطب كارثي أمام تطلع التعارف بين مكونات المجتمع، فوعي ماهية الحوار وأهميته تتمثل في حضور الشخص المنفتح الباحث عن المشترك الوطني الجامع وليس المستغرق في الذات والجهة والمصلحة والطائفة والفكرة والرأي دون الالتفات إلى المسؤولية الاجتماعية والوطنية الواسعة التي ترتفع بمنظور الولاء الوطني الحميمي نحو استدراك الواقع الإجتماعي الواقف على شفا جرف هار بالعصبيات والانغلاق والهمجية اللغوية والتصور السلبي الاستباقي المتبادل ...

لذا التعارف كبديل ثالث، ينطلق من فكرة الإيمان بأنه في بدء الحقيقة الوجودية كان الحوار عبر الإنفتاح الإنساني الثقافي الخلاق، وبمراجعة سريعة إلى تاريخنا الثقافي العربي نلحظ كيف أن الحوار بين أصحاب الفكر الإسلامي وبين الفكر القومي ظلً غائباً لعقود طويلة، وأدُّى في الماضي إلى صدامات عنيفة أضرًت بالجميع، ليكتشف الجميع في الآونة الأخيرة بوجود مساحة كبيرة مشتركة في ساحات السياسة والاقتصاد والثقافة . وينطبق الأمر نفسه بين حراس المدارس الفقهية ورواد الفكر التجديدي، بين الآراء المختلفة في المذهب الفقهي الواحد، وبين الإيديولوجيات في الدولة الواحدة، والتيارات الفكرية في المجتمع الواحد، بين مكونات المجتمع المدني العاملة في نفس الحقل، بين الشركات الاقتصادية العربية في المجال الواحد، بين الدول العربية أو الدول الإسلامية . إن كل هذا يعني أن هناك حاجة مصيرية لإستراتيجية حوارية مبنية على أسس فكرية وقيمية لتفعيل حوارات صحية وتنموية بين ملايين الأطراف المتصارعة في مجتمعاتنا.

وهنا ننوه أن الاتجاه والهرولة للحوار مع الآخر الخارجي البعيد هو خطأ استراتيجي، بل الأولوية لترسيخ لغة وثقافة الحوار العلمي البناء والإنفتاح الثقافي السليم فيما بين عناصر الداخل العربي والإسلامي المتصارع على أوهام وأهواء. ولعل خير مثال ودليل على ذلك، هو الاخفاق الذريع في الهرولة نحو الحوارات الميتة والقاتلة مع الكيان الصهيوني المغتصب للأرض العربية والمتآمر على افشال كل مشروع نهضوي في الأمة العربية والإسلامية، وما أنتجته هذه الحوارات والمفاوضات البائسة من سلام مزعوم هو في الحقيقة خنوع وتبعية جديدة للمحتل والمجرم، هذه النتائج جاءت من أمة منقسمة ومجتمعاتها لا تجيد ثقافة الحوار والانفتاح، والتي يجب أن تكون الإطار الذي تدور في داخله كل أنشطة وقضايا المجتمعات في الأمة، فالحوار الداخلي والإنفتاح الثقافي والتسامح واللقاء وابداع التعاون الإجتماعي تورثنا أسس فكرية وفلسفية ومواقف صلبة في ممارستنا للحوار مع الآخرين بنديًة فكرية واستقلالية ذاتية عن أي مؤثر أو ضغط استدماري امبريالي. والحوار الداخلي يمثٍّل أولوية قصوى في حياة العرب والمسلمين الراهنة، وعليه تعارف العربي على العربي والمسلم على المسلم يجب أن يعطى الأولوية القصوى عبر إرساء مقتضيات الحوار العلمي والانفتاح الثقافي فكرا وممارسة وعبر وسائل الاعلام ووسائط التواصل الاجتماعي كالمنصات الاعلامية الثقافية الهادفة للنهوض بالوعي الحضاري الانساني في عمق الثقافة العربية والاسلامية اليومية. فبدل الهرولة نحو عواصم الغرب والشرق للحوار مع أصحاب الديانات والثقافات الأخرى يجب أن يكون التركيز على نشر خطاب الحوار والانفتاح بين العرب والمسلمين أنفسهم.

الحوار العلمي الحقيقي هو أن نواصل الانفتاح على بعضنا البعض واللحاق بعبقات التعارف لنبدع في لمساتنا الإنسانية الحضارية الراقية على لوحة المجتمع والوطن على طول تفاصيل الزمن القادم...

***

أ. غريبي مراد

جاء في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: قوله تعالى "وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيتكم سنزيد المحسنين (161) فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون (162) وسلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون (163) وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون (164)" (الاعراف 161-164) "القرية" بيت المقدس، وقرئ: (تغفر لكم خطيئاتكم) و(خطيئتكم) أيضا، وقرئ: (نغفر لكم) بالنون (خطيتكم) و (خطاياكم)، "وسلهم" (الاعراف 163) وسل اليهود، وقرئ: (وسلهم) وهو سؤال تقرير وتقريع بقديم كفرهم وتجاوزهم لحدود الله "حاضرة البحر"  (الاعراف 163) قريبة منه "إذ يعدون في السبت" (الاعراف 163) إذ يتجاوزون حد الله فيه وهو اصطيادهم في يوم السبت سورة الأعراف / 155 و 156 "وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ" (الاعراف 155-156) وقد نهوا عنه، والسبت مصدر سبتت اليهود: إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبد، وكذلك قوله: "يوم سبتهم" (الاعراف 163) معناه: يوم تعظيمهم أمر السبت، و "إذ يعدون" (الاعراف 163) محله جر بدل من "القرية" والمراد بالقرية أهلها.

عن ادارة أوقاف القدس: باب حطة: الموقع: يقع في الجهة الشّمالية للمسجد بين بابي الأسباط وشرف الأنبياء، يبعد عن باب الأسباط حوالي (120) مترًا. التاريخ: جُدد الباب بالفترة الأيوبية سنة 617 هـ، وفي العصر العثماني سنة 989 هـ، وسنة 1231 هـ على يدي حسن اغا. سبب التّسمية: تذكيرًا بالآية الكريمة: "وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ" (البقرة 58)، أي حُطّ عنّا خطايانا. وقد ثبت عن النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (مَنْ أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ، خَرَجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ مِثْلَ يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ). الوصف: مستطيل الشّكل، على جانبيه مثبتتان عليمهما محاريب محفورة بالحائط.

جاء في صفحة دوز عن الكاتب زكريا محمد: وردت جملة "وقولوا حطة" (البقرة 58) (الاعراف 161) في القرآن مرتين: مرة في سورة البقرة، وأخرى في سورة الأعراف. 1- "وإذ قلنا ادخلوا القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين" (البقرة 58). 2- "وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين" (الأعراف 161). ويعتقد كثير من المفسرين أن لهذه الجملة علاقة بـ (باب حُطّة) في القدس، وهو أحد أبواب الحرم القدسي، الذي يحيط به حي يدعى (حي باب حطة). انا أظن أن لاسم هذا الباب فعلا علاقة بما ورد في القرآن. كما أظن أظن أنه اسم قديم جدا، انحدر إلينا من الوقت الذي كان فيه الحرم القدسي معبدا وثنيا، مكرسا للإلهة الزهرة. ولعل الاسم كان في الأصل لقبا للإلهة الزهرة، التي أسقطت الملاكين هاروت وماروت. بذا فباب حطة هو باب الإلهة الزهرة في الأصل. وقد ناقشت مسألة (حطة) في كتابي (مضرط الحجارة: كتاب اللقب والأسطورة)، وفي فصل (المعبد المقلوب) على وجه الخصو.

***

د. فاضل حسن شريف

خَصَصَ د. علي سامي النَشّار الباب الرابع من كتابه: نَشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ج2 ـ نشأة التشيع وتطوره، طبعة دار السلام الأولى 2008 في القاهرة، للشيعة الإمامية، وقد إشتمل الباب على ثلاث فصول سأذكرها في ثنايا المقال، وشغل الباب الصفحات: من 839 الى 893

تناول في الفصل الأول شخصية الإمام جعفر الصادق، وقد وصف ظهوره بالحدث الأكبر في تاريخ الشيعة (لقد كان ظهور جعفر الصادق الحدث الأكبر في تاريخ الشيعة. لقد نسبت الشيعة الإثنى عشرية، وهم جمهرة الشيعة، إليه فلُقبوا "بالجعفرية" ونُسب الفقه الشيعي الإثنى عشري إليه، فأطلق عليه الفقه الجعفري)

وللنَشّار "رأيُ صادمٌ" للإثنى عشرية، إذ يقول (وما أبعدَ آراء جعفر الصادق الكلامية، وما أبعدَ فقهه عن آراء وكلام وفقه الإثني عشرية بعد وفاة أو إختفاء الإمام الثاني عشر)

أما الفصل الثاني فهو "فصلٌ صادمٌ" من العنوان: "مُجَسّمَةِ الشيعة الإمامية"، تناول فيه النَشّار أكبر تلميذٍ للإمام الصادق، وهو هشام بن الحكم، وقد حظيت هذه المدرسة ـ مدرسة هشام ـ بتأييد الصادق وعَبَرَت عن آرائه، بحسب النَشّار.

وقد شغل الفصل الحيز الأكبر من هذا الباب، 34 صفحةً تقريباً.

كان هشام بن الحكم (أكبر شخصية فلسفية في عصره، أحاطَ بثقافاتها، ونزل في معترك الفِرَق، فجادلها أشدَ جدال) وقد تَتَلّمَذ على الجهم بن صفوان، ومن أكبر تلامذة هشام "إبراهيم النَظّام" شيخ المعتزلة الكبير.

لندخل الآن في صُلب الموضوع، أي التجسيم المنسوب لهشام:

أقَرّ د. النَشّار بدايةً، بصعوبة الوصول لفلسفة هشام كما هي، فكتبه مفقودة، وما وصل إلينا عنه (إلزامات على مذهبه، ولا نجد عند الشيعة أنفسهم تفسيراً لهذه الإلزامات)

هشام بن الحكم هو أول من قال إن "الله جسمٌ" في الإسلام (أجمع مؤرخو الفكر الإسلامي القدامى ـ شيعة وسنة ومعتزلة ـ على أن هشام إبن الحكم هو أول من قال "الله جسم" وأن مقالة التجسيم في الإسلام إنما تُنسَب إليه)

فما معنى مقولة هشام "الله جسم"؟

بعد أن نقل النَشّار نصوصاً عن إبن حزم، إستخلص منها (إن ما نستخلصه من هذا الكلام أن هشام بن الحكم يعلن أن الله جسم بمعنى شيء أو بمعنى موجود وأنه قائم بنفسه. وأن كُل ما ذُكِرَ منسوباً إليه ـ فيما سوى ذلك ـ هو إلزامات)

وكان هشام صاحب نزعة علمية حسية (ويبدو أن نزعة الرجل العلمية الحسية ملكت عليه كل تفسيراته) ثم يُوردُ النشار نصوصاً عن هشام يُفسر بها الزلازل والمطر.

وينقل النَشّار عن الشيخ المفيد رأيه في التجسيم المنسوب لهشام، فقد رجع هشام عن إعتقاده بأن "الله جسم لا كالأجسام" برأي الشيخ المفيد. ويُعَقِّب النَشّار:

(وهذا خطأٌ بالغٌ من الشيخ المفيد، فهشام بن الحكم لم يرجع عن مذهبه الجسمي، وإلا إنهدمت النظرية الهشامية كاملة)

(ولم يفهم الشيخ المفيد حقيقة فكرهشام بن الحكم ولم ينفذ الى أعماق مذهبه المتكامل. بل راح تحت تأثير معتزلي متأخر يحاول تبرئة هشام بن الحكم من القول بالجسمية)

طَيّب، والإمام الصادق؟ (ولم يكن جعفر الصادق في حاجة الى أن يأمره بالكف عن مذهبه، طالما أن الفرق المختلفة يجادل بعضها البعض في حقيقة "الوجود" "والله" وكان تَصَور "الجسم" سائداً لدى بعض الفِرق، تتناوله ببساطة، وتذكره بدون ما حرج)

وبشأن الفصل الثالث فَخُصَصٌ ل"مدرسة هشام بن الحكم"، تناول فيه النَشّارأربع شخصيات:

1ـ هشام بن سالم الجواليقي: هو الشخص الأول في هذه المدرسة، وقد إختلطت أراؤهما ـ الهشامان ـ إختلاطاً كاملاً، وقد نُسبَ التجسيم والتشبيه لإبن سالم أيضاً.

2ـ زرارة بن أعين.

3ـ يونس بن عبد الرحمن القمي: أجمعت المصادر على أنه كان "مُشَبّهَاً.

4ـ أبو جعفر الأحول "صاحب الطاق": أهم شخصية في مدرسة الإمام الصادق، وكان مُجَسّمَاً.

والمُلفت للنظر هنا هو إبن تيمية:

فقد سكت إبن تيمية عن هشام بن الحكم (ولعل سكوت إبن تيمية عنه، وهو الذي لم يسلم عالمٌ من علماء المسلمين من قلمه، أن تجسيمه قد صادف هوىً في نفس إبن تيمية)

ومن الجدير بالذكر هنا، أني قد تذكرتُ مرجعاً هاماً خلال كتابتي لهذا المقال، والمرجع موجودٌ في مكتبتي، ومن حُسن الحظ أن تذكرته في هذه اللحظات، وهو: مقالات الهشامين ـ هشام بن الحكم وهشام بن سالم، للدكتور خضر محمد نبها، ط1 2013 دار المحجة البيضاء. فرجعتُ إليه فوراً، ووجدته يذكر إبن تيمية (ويعتبر إبن تيمية هشاماً مُجَسّمَاً كبيراً، بل أولٌ مُجَسّمٍ في الإسلام، فلذلك كان إبن تيمية لَيّنَاً وهَيّنَاً تجاهه) ص13

وهذا ما إحتمله النَشّارُ أيضاً.

وبشأن مصادر د. خضر فكانت كتب الحديث ورجاله، وكتب العقائد والكلام. لكن د. خضر قد أقَرَ ـ حاله كحال د. النَشّار ـ بفقدان النصوص المباشرة عن الهشامين. ص7

ويحاول د. خضر ـ ما وسعته المحاولة ـ لدفع "تهمة" التجسيم والتشبيه عن الهشامين. ويخلص بعد فقرة طويلة تحت عنوان "هشام ومقولة جسم لا كالأجسام" الى:

(يبقى، أن آراء هشام الكلامية، في هذه المسألة وفي غيرها من المسائل، إنما هي مُستَخلَصَةٌ مما روي عن هشام من آراء، لا هي مأخوذة من كتبه نفسها، لضياع مؤلفاته، ولذلك، الموقف النهائي والفصل من آراء هشام لعله مرهون للزمن، في حال العثور على بعض مؤلفاته أو كلها، عندها نستطيع الجزم بآراء هشام النهائية) ص57

وقبل أن أختتم المقال، لا بُدَّ من تثبيت الملاحظة التي سَجّلتها على د. النَشّار:

صّرَّحَ النَشّار في فصل "مُجَسّمَة الشيعة الإمامية" في ص854  بأن الأشعري (أدَقُ من ينقل لنا أخبار الفِرَق).

ثم ذكر في الصفحة التالية 855 (إن من الثابت تماماً أن الأشعري كان ينقل عن أعداء هشام بن الحكم من المعتزلة وبخاصة عدو هشام الكبير أبا الهذيل العلاف ... ومن الخطأ الكبير أن ننقل أقوال المفكر عن آراء خصمه، وهُما في معركة عقلية تتناولها الإلزامات).

السؤال الآن:

كيف يمكن أن نجمعَ بين: أن الأشعري "أدق" من ينقل لنا أخبار الفِرَق، وبين "ثبوت" نقله ـ الأشعري ـ عن أعداء هشام، وهو خطأ كبير كما ذكر النَشّار نفسه؟!

الإجابة بسيطة: فالنَشّار أكبر من هذا التناقض الكبير، لكن "الأيديولوجيا" قد فَعَلَت فعلتها. فالأشعري "إمامُ الهدى" كما ذكر النَشّارُ مراراً، وهنا مربط الفَرسِ كما يُقال.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

في البداية يمكن تعريف الخداع الإعلامي بأنه أحد أدوات التلاعب النفسي بالعقول والأفكار عن طريق حجب الحقيقة وإظهار الخدع كأنها حقائق، والخداع الإعلامي اليوم هو من أهم أسلحة القرن الجديد في حرب الأفكار للهيمنة على العقول.

ان مسار وطبيعة حياتنا المعاصرة تؤكد أن الإعلام أضحى لجاماً للناس، ويمثل مرجعية ثقافية وسياسية واجتماعية وحتى دينية في بعض الأحيان.

وأصبح الانسان خاضع للآلة الإعلامية بل ومستكين في ظل تعهده بوظائف حيويّة مثل بث ونشر وتعميم المعلومات والثقافة والأخبار.. الأمر الذي أعطاها قوة وتحكم يصل الى حد السيطرة الكاملة على طريقة التفكير.

فتلك الآلة تستخدم أساليب قتل العقل لأنها تحيل الإنسان إلى كائن لا حول له ولا قوة، وتخضعه إخضاعا لتعاليمها، إذ تتضافر فنون الضغط الثقافي والعاطفي للسيطرة على الفرد الضحية، وتحويله إلى فرد له عقلية جديدة.

وإلى هنا يبدو الأمر في إطاره الطبيعي، لكن هناك طرق عديدة تم رصدها تستخدمها وسائل الإعلام لخداع الناس لا في إطار السياسة.

السياسة في وجهها الكالح لا تدخل في شيء إلا ووصمته بالعار، وهي مثل كلمة خبيثة لو مزجت بماء البحر لمزجته.

ومن طرق الخداع (بَرْوَزَة) المحتوى الإخباري لبعض الأحداث وإطفاء أسماء وصفات مُنفرة في سياق مخادع باعتبارها مصطلحات أو مفردات محايدة حيث يُبان انها وردت بشكل تلقائي أو بريء، مثل كلمة متمردين، او مثيري الشغب، او الإرهابيين، أو وصف تغيير سياسي ما بالانقلاب العسكري، أو العكس.

وقد شرح أحد خبراء الإعلام نظريات الخداع الإعلامي بشكل مفصل راصدا عدداً من الطرق والأساليب، وأكد أنه لا توجد مؤسسة إعلامية في العالم تستطيع رصد كل ما يحدث.

وهنا يبدأ الخداع.. فهناك معايير لانتقاء الأخبار التي يضعها الإعلامي على شاشة التلفاز أو على صفحات الصحف، فيحدد الصحفي أو الإعلامي للمشاهد ما يراه ويحجب عنه ما لا يجب أن يراه. وهنا تبدأ فكرة الهيمنة على الأفكار والعقول.

وعلى ذكر الانتقاء الإعلامي، هناك العكس وهو الإغفال، إذ إن هناك حوادث وكوارث تحدث يومياً على مختلف الصعد لا يُشير إليها الإعلام ويكاد لا يوجد لها أي أثر في سياق أخبار بعض المؤسسات الإعلامية الكبرى.

وعلى الرغم من كثرة ما يحدث ويتجدد يومياً من أحداث وأخبار، إلا أن هناك أخبارا يجب أن تتكرر لتثبيتها في عقل المشاهد والمتلقي حتى وإن كانت مغلوطة.

وأحيانا عندما لا يجد الإعلامي سبيلا أو حجة تسند نقده لفكرة ما فإنه يلجأ إلى انتقاد صاحب الفكرة لإحداث تشوهاً فكرياً لدى المتلقي عن الفكرة وصاحبها ومن ناحية أخرى لإخفاء مضمون الموضوع والوقوع في شرك التصنيف وعدم الموضوعية.

ومن أساليب الخداع الإعلامي كذلك ما يُعرف بالهجوم الاستباقي، وهذا يحدث لأجل منع شيء من الحدوث أو من أجل فعل شيء لمصلحة السلطة او جهة سياسية، فعندما أرادت وزارة الدفاع الأمريكية زيادة ميزانيتها بدأت بتوجه الإعلام في تلك النقطة وأشاع الإعلام أن الولايات المتحدة تُحارب في أكثر من جبهة، ولها قواعد كثيرة في العالم ويجب زيادة ميزانية الدفاع.

بل هناك أخبار تُنقل بسطحية مفتعلة ولا يظهر لها أي مضمون، لأنه يقصد ألا تثبت في عقول الجمهور والمتلقين، لأنها تحتوي على مضمون يضر بمصالح السلطة السياسية.

كذلك عندما لا يجد الإعلامي طريقا للهروب من إظهار الحقيقة الضارة بالسلطة او الحهة السياسية يلجأ إلى تغيير الموضوع حتى يستطيع الهرب من مواجهة الحقيقة.

ومن أهم أساليب الخداع الإعلامي افتعال التوازن بين ما يحدث وبين ما يقال، لأن ذلك يوحي للمتلقي أن كل ما يراه حقيقة مُسلّم بها، لأنه لو أدرك الفرق بين ما يراه وبين ما يحدث حقيقة سيتبين كذب الإعلام، وهنا يبدأ الإعلامي في عمل توازن مفتعل عما يقول وعما يحدث حتى يصدقه الناس ويثقوا في كلامه.

إن سلاح الإعلام يُستخدم في الأغراض السّياسية بشكل كبير جدا، بل إن البعض يذهب إلى القول إن كثيرا من الأجهزة الإعلامية حول العالم ليست إلا مشاريع سياسية بأهداف محددة، وتؤكد المدرسة الغربية في العلوم السياسية على أهمية الإعلام والاتصال باعتباره أبرز مكونات النظام السياسي المعاصر.

بل إن بعض المختصين الأمريكان ينظرون إلى النظام السّياسي باعتباره شبكة من الاتصالات والقنوات الاتصالية، وأن النظم الفرعية للنظام عبارة عن نظم اتصال مصغّرة، وأن النظام السّياسي هو نظام تاريخي له ذاكرة ولديه طوفان مستمر من المعرفة.

وتقول لجنة شون ماكبرايد في تقريرها الشهير لليونسكو: إنه لا يمكن فهم الاتصال حين يُنظر إليه في مجموعه، بدون الرجوع إلى بعده السّياسي، ومشكلاته التي لا يمكن حلها بدون أن نضع في اعتبارنا العلاقات السّياسية.

فللسّياسة إذا ما استخدمنا العبارة بمعناها الرفيع علاقة لا تنفصم عن الاتصال في عمومه، والإعلام بشكل خاص.

والمعنى الرفيع للسياسة يتطلب أن تتحد العلاقة مع الإعلام في إطار واجبات صُناع القرار السّياسي، وتوجيه وسائل الإعلام بحيث ترتبط ارتباطا محكماً بقضايا الوطن وقيمه الثقافية وتوجهاته الحضارية، التزاما وتغييرا وتطويرا، بحيث تخدم مصالح الشعب كله في نفس الوقت التي تظل فيه متفتحة على ثقافات الأمم الأخرى وحضاراتها ومتفاعلة معها.

بيد أن ذلك لم يتحقق بالنظر إلى تفشي أساليب وطرق الخداع آنفة الذكر.

استراتيجية الخداع الاعلامي

تشكل إستراتيجية الخداع الإعلامي أهم الوسائل الفاعلة في حروب الجيل الرابع والخامس الحالية، وكذلك في تشكيل وتجذير النظام العالمي الجديد.

فمثلاً نرى إن مسؤولي البنتاجون والأمن القومي الأميركي قد إعترفوا أن قناة سي إن إن كانت قد اعلنت بان الهجوم قد بدأ على الفلوجة في العراق، لكن في الحقيقة ان الوقت الذي حصل فيه الهجوم كان بعد ثلاثة أسابيع من إعلان «السي إن إن» الخبر، والهدف كما يقول العسكريون الأميركيون من هذا الإعلان الوهمي كشف تحركات المقاومين، بل أكدوا أنه ليس إلا جزءا من خطة كاملة إستخدمها البنتاجون في العراق.

وأشارت الصحيفة إلى أن هذه الخطة تعد امتدادًا للخطة التي اتبعتها وزارة الدفاع الأميركية في عام 2002 حيث سعت لإنشاء مكتب الخداع الإستراتيجي والذي كان من مهامه الرئيسة ترويج الأكاذيب وإمداد وسائل الإعلام بالمعلومات المضللة.

إن من وسائل الخداع التي إتبعتها البنتاغون كذلك هي اختيار ناطقين عسكريين أميركيين لديهم كفاءة عالية في الحرب النفسية، مما يجعلهم من أكبر اللاعبين في إطار العمليات النفسية في العراق، وإضافة إلى ذلك محاولة الجيش الأميركي إمداد مصادر وسائل الإعلام بمعلومات مضللة.

أن قادة الجيش الأمريكي قرروا دمج إدارة الشؤون العامة والعمليات النفسية وجمع المعلومات في مكتب واحد يحمل اسم «اتصالات إستراتيجية» الهدف من ورائه التحكم في سير المعلومات عن حرب العراق.

على ضوء ما ذكر أعلاه يصبح الإعلام احدى أهم الأدوات الميسورة للحرب النفسية، حيث الاستخدام المنظم لوسائله ومواده للتأثير على قناعات الطرف المستهدف دون تجاوز استخدامات القوة العسكرية والإمكانيات الاقتصادية والتحركات السياسية وغيرها، لكن الإعلام من ناحية أخرى يتميز عن كل تلك الأدوات كونه القاسم المشترك لها جميعا والناقل الأساس لأهدافها وتوجهاتها في التأثير على الطرف المستهدف لأنه :

- هو الذي ينقل أخبار العسكر وتفاصيل الحروب بصيغ تزيد المعنويات أو تضعفها.

- هو الذي يقلل من قيمة انتصار عسكري حصل بالفعل، أو يزيد من وقع خسارة لم تكن كبيرة في الواقع بغية تكوين حالة إحباط مؤلمة.

- هو الذي يهول أيضا من أثر الحصار الاقتصادي على بلد ما بهدف سحبه لتنفيذ أهداف محددة.

- هو الذي يضخم كذلك من القدرة الدبلوماسية لدولة معينة لإجبار الآخرين على السير مع توجهاتها المرسومة.

وإذا ما أضفنا إلى ذلك كله مهامه وطريقته في نقل الأفكار والأخبار والمعلومات، وحاجة الجمهور إليه في المتابعة والترويج وإشباع الحاجات، وكذلك قدرته وشموليته في التأثير، يكون الإعلام في هذه الحالة الأداة الأكثر فاعلية من بين أدوات ووسائل الحرب النفسية المتاحة في وقتنا الراهن خاصة مع تطور تقنيات التواصل والتوصيل وسبل التأثير في نظام كوني شامل (النظام العالمي الجديد).

وإذا ما عدنا إلى موضوع الإعلام كاحدى أدوات الحرب النفسية في النظام العالمي الجديد يتبين لنا بعض الحقائق ذات الصلة وهي أن وجوده أو بالمعنى الأدق غالبية وجوده الفاعل بات بيد واحدة (القطب الواحد)، إذ إن:

- غالبية الشركات العملاقة (متعددة الجنسيات) للصحافة والبث التلفازي والأقمار الصناعية الناقلة للبث الفضائي موجودة في اليد الأمريكية التي أنشأت النظام العالمي الجديد.

- أساس عمل شبكة المعلومات (الانترنيت) أميركي ورأس مالها أميركي ومراكزها عبر العالم أميركية، والقدرة على مراقبتها والتحكم بها في يد أمريكية تسعى لتعميم النظام العالمي الجديد.

- 80 % من الأنباء العالمية التي تتداولها وكالات الأنباء في الدول النامية مصدرها الوكالات الأمريكية الغربية القادرة على الفبركة والصياغة حسب توجهات النظام العالمي الجديد.

- خمس عشرة شركة إعلامية أميركية غربية تتحكم في المواد والوسائل والمؤسسات والتقنيات الإعلامية، والإعلانية في العالم. وأن 75% من إجمالي الإنتاج العالمي من البرامج التلفزيونية أميركي. و90% من إجمالي الأخبار المصورة و82% من إنتاج المعدات الإعلانية والإليكترونية. و90 % من المعلومات المخزنة في الحاسبات الإلكترونية جهد أميركي.

- رأس المال البالغ نحو (489) مليار دولار الذي يتحكم في سوق التقنية الإعلامية غالبيته أميركي، يسعى أصحابه إلى استثماره للامتداد إلى السوق العالمي بدفع من النظام العالمي الجديد.

إن العرض الموجز لمفردات الإعلام واستراتيجية الخادع التي ينتهجها يدفع إلى جملة استنتاجات أهمها:

- إن الدول النامية وبينها العربية والإسلامية ينبغي أن تعيد الكثير من حساباتها فيما يتعلق بالعلاقات وأساليب التعامل مع شعوبها، وبما ينسجم ومعطيات النظام الدولي الجديد.

- إن تقنيات الاتصال التي تتطور بسرعة مطردة لا تسمح بالتوجه للتعامل معها على أساس المنع والتشويش كإجراءات وقائية. بل يتطلب الواقع التوجه بكل القدرات المتاحة لأعمال الوقاية.

سياسة تجفيف المنابع

أن الإعلام يقوم بدور ملموس فى الترويج لسياسة تجفيف المنابع، حين يعرض لأنماط من العلاقات الاجتماعية تتنافى مع قيم الدين، وللأسف فهذه السياسة ينتهجها كل من الإعلام الحكومى والخاص.

وعلينا ان ننتبه إلى خطورة الترويج لنماذج الشباب؛ الذين لا يبالون بالحدود والضوابط الشرعية ولا الأسرية، بل ويتجرأون عليها، ويتجاوزونها بدعوى الإنفتاح والتحرر والانطلاق.

كما أن أسلوب التنشئة والقيم التى يربى عليها الآباء أبناءهم تمثل فى المقام الأول دافعا نحو السقوط فى فخ الابتذال الإعلامي، أو حصانة فى مواجهته من خلال تنمية المراقبة الذاتية سواء فى وجود الآباء أو فى غيابهم، لأننا كآباء لا يمكن أن نلازم أبناءنا فى كل خطواتهم، فنحن نربى ونعمق وحود الله في داخلهم ثم نتركهم يتحركون فى ظل عصمة الضمير ومراقبة الله، وتظهر آثار هذه التربية فى كيفية استقبال الشباب للمضامين الإعلامية والإعلانية التى تعرض عليهم استقبالا انتقائيا أم سلبيا.

ويجب عدم التفرقة بين الولد والبنت فى التربية على ضوابط العلاقة بالجنس الآخر، وكذلك بعدة ترتيبات نظامية عامة فى البيت منها:

- التحكم فى الكمبيوتر

- تشفير المواقع الإباحية

- وضع التليفزيون فى الغرف العامة في البيت

فإذا كان واقع ومضمون الإعلام العربى الحكومى والخاص يخيف الأسرة على حال أبنائها ومستقبلهم، فإنه يمكن فى الوقت نفسه أن يؤدى إلى ما نسميه (تأثيرا مرتدا لدى شباب المستقبل لهذا المضمون)، بمعنى أن يدفعه إلى مزيد من التقرب والفرار إلى الله والاطمئنان فى رحاب طاعته، فنجد بعض الشباب بعد أن جربوا هذا الزيف الإعلامى وكشفوا خداعه يتجهون إلى الانتظام فى الصلاة أو الحجاب بالنسبة للفتيات، أو اللجوء إلى صحبة طيبة تجهض أثر هذه المضامين.

أن الإعلام للأسف قد يتناول العلاقات بين الفتى والفتاة داخل الجامعة، وفى النوادى، ويقدم صورة هذه العلاقات بشكل يعمقها أو يجسدها فى صورة طبيعية حسية وجسدية، ويصحبها ملامسات وقبلات، وقد يحدث نوع من التبسط، بحيث تصل العلاقة إلى البيت وفى حضور الأب والأم، وكأن البيت يوافق على هذه العلاقة، مما قد يدفع إلى فتح البيوت بشكل منفلت تقليدا لما يحدث فى هذا المسلسل أو ذاك من اجتماع شاب و شابة ليذاكرا معا كزميلين، وبعد ذلك يشكو الأهل من الزواج العرفي والسري لأبنائهم.

كما أن الافلام يمكن أن يكون هدفها نقد ظاهرة الزواج العرفى والسري أو الاختلاط، ولكن فى سياق الفيلم تأخذ المشاهد الحسية والإيحاءات والتخيلات مساحة كبيرة، فيقوم المشاهدين الشباب والمراهقين بتقليد هذه المشاهد دون أن ينتظروا الوصول إلى هدف الفيلم.

كما أنه فى بعض الأعمال، قد يعكس البطل جزءا من حياته الشخصية الخاصة، ولا يعكس واقع المجتمع العام كشرب الخمر أو السهر فى الملاهى أو إقامة العلاقات العاطفية مع الأخريات، فى حالة الغضب أو الخلافات الزوجية، لكن قد يقلدها على أنها التصرف الأمثل فى مثل هذه المواقف، كما أن الأعمال الدرامية قد تجسد الخيانة من خلال استغلال جسد الأنثى، ولا تقدم النماذج الإيجابية للمرأة فى صورتها المهنية الملتزمة (الطبيبة - الطالبة الملتزمة - المهندسة الناجحة)، وإذا كان مظهر المرأة مدخلا لأسلوب التعامل معها سلوكيا، فإن الحشمة فى الملبس والانضباط فى السلوك، ووضع حدود فى العلاقة بالجنس الآخر يقلل من حجم العلاقات غير المشروعة.

خاصة أن الإعلام يقدم نماذج سلبية للفتاة فى الإعلان والكليب، تركز عليها كأنثى ومفاتن بغض النظر عن إمكاناتها الفنية، وكذلك يقوم الكليب بدور وسيط الغرام المعيب بين الجنسين من خلال رسائل SMS.

وعن إجراءات مواجهة هذا الخداع الإعلامى لشبابنا ، نُشير إلى ضرورة وجود ميثاق شرف إعلامى من اتحادات الإذاعات والتليفزيونات العربية، حتى لا يتركوا الإعلام بهذا الشكل الفاضح الذى يجسد المرأة كأنثى، ويتجاهل عقلها ودورها فى نهضة المجتمع.

فضلا عن وجود وسائل بديلة للمقاومة ، منها:

- التربية.. بمعنى أن تقوم الأسرة على الالتزام والحدود فى الزي، والعلاقات والتعامل مع الجنس الآخر، ويأتى النسق الدينى لتنظيم الجانب الدينى للتربية الدينية المتوازنة التى توازن بين الإنفتاخ والوعى والانضباط والحدود والواجبات، إلى جانب التعامل الانتقائى مع الإعلام، بمعنى أن أختار منه ما يناسب القيم والأخلاق، وأتعرف على ما يحدث من قبيل المعرفة والثقافة على ألا أحاكيه، ويبقى دور قادة الرأى من المدرسين والمفكرين والمثقفين، وكتاب السيناريو، ودعاة الإسلام ، الذين ينبغى أن يعرفوا جمهورهم، ويعايشوا مشكلاته، ويتحدثوا بلغته، ويعرفوا مطالبه، حتى يستطيعوا أن يمسوا مشاكله، ويقدموا حلولا مقنعة قابلة للتطبيق.

***

بقلم: د. نبيل الأمير التميمي

الحقيقة الوحيدة التي بين أيدينا هى أن نعمل وننتج، وألا نضيع أوقاتنا هدراً أو عبثاً..

يموت الإنسان راضياً عن نفسه يوم أن يكون قد أدّى رسالته في هذه الحياة.. والعظماء من الناس يشعرون بقيمة الحياة، فيمضون إلى تأدية الرسالة التي نيطت بهم على أكمل وجه، وعلى أتمّ عمل تنتهي به غاية الطاقة يؤدّيه بنو الإنسان.

لا يموت العظيم إلاّ وفي نفسه راحة، وفي قلبه اطمئنان.

العظماء هم هم أنفسهم أبناء القدر الذي حركهم إلى الأعمال الخالدة فبعث إليهم - من حيث يشعرون أو لا يشعرون - برسائل التبعة والتكليف والمسؤولية الملقاة على عواتقهم مفروضة كواجب من قبل السماء.

من المؤكد أن الإنسان في جميع الأحوال ليس إلا الروح التي تتردد في جسد، وعلى قدر عظمة الأرواح تكون عظمة الأعمال، والأعمال العظيمة أرواح عظيمة ما في ذلك شك، وعلى كبر النفوس تأتي خوالد الآثار. يموت الإنسان وتطويه أسباب الفناء ومع ذلك قد لا يشعر أنه قد أدّى رسالته التي فرضتها عليه الأقدار ، لكنه مع هذا كله قد يستقبل الموت - من بعد هذا الشعور - بقلب راض وخاطر سليم؛ لأنه كان بذل غاية الطاقة من عمل العاملين على الإخلاص.. أي مفارقة تلك.. أهى همّة العاجز الذي لا يبالي ولا يكترث لخطوب المنون؟

كلا.. الأمر أبسط من ذلك.. إنها فقط علّة التفكير.

حقيقةً إنه لا يفزع من حق بعد أن أدّى واجباً، ولا من حقيقة بعد أن قطع أشواطاً من الحياة عاملاً فيها بما يرضي الله ويرضي النفس، وإن لم يكن في الوقت نفسه يرضي الآخرين، فكما يكون رضى الناس غاية لا تدرك، فكذلك يكون رضى النفس ورضى الله أيضاً غاية لا تنال بسهولة ويسر إلاّ أن تكون المعرفة أساس هذا الرضى ومنبعه في فجاج الفكر وقرارة الضمير.

وهيهات للمرء أن يبلغ مستطاعه من معرفة الله ما لم يكن من قبل قد عرف نفسه.

أخوف ما يخاف عليه إذ ذاك هو دعوى امتلاك الحقيقة كونها غائبة عنه، غير أنه أقدر على البحث عنها وأخلق أن يجهد نفسه في البحث عنها بكل ما أُوتى من قدرة. والموت حق، والحق لا يظهر للعيان، ولا يتمُّ الكشف عنه في غير جهد من ترقية الذات.

الحقيقة الوحيدة الموكدة هى أن سبيل البحث عن الحقيقة أفعل في النفس من سبيل الكشف عنها ظاهرة لعيان المُبصرين.. أعني أن البحث عن الحقيقة أولى بالإنسان من دعوى امتلاكها؛ لأنه لا توجد حقيقة يستطيع أبناء الفناء امتلاكها.

لقد كان المفكر الألماني (لسنج Lessing) (١٧٢٩- ١٧٨١) يقول : إنّ متعة الإنسان ليست تنحصر في امتلاكه للحقيقة، وإنّما تنحصر في الجهد الذي يبذله من أجل العمل على بلوغها، ولا تنمو ملكات الإنسان بامتلاك الحقيقة أبداً بل بالبحث عنها، كما أن كماله المتزايد لا يتمثّل إلاّ في هذا المظهر وحده، أي مظهر طلب الحقيقة والبحث عنها ليس إلاّ.

هذا هو الجانب الإيجابي من علّة التفكير : ترقية الذات الإنسانية والبلوغ بها الى مستوى الكمال من خلال عملية البحث ذاتها، ليس أكثر.

على أن امتلاك الإنسان للشيء يميل به إلى الركود والتكاسل والغرور ويفضي به إلى الدعوى العريضة تقوم فيه بغير دليل. الأمر الذي يُفسّر لك معاناة الأوساط العلمية والثقافية الآن، كل شئ متاح، كل مطلب سهل. البحث العلمي بقضه وقضيضه تحصل عليه بضغطة زرّ على شبكة المعلومات، والمصنفات العلميّة ما أكثرها على الأنترنيت، والمقالات والبحوث، والمجلات، والسرقات، والتفاهات، والركاكات، وسقوط القيم في مستنقع آسن....

كل هذا أو نحوه يُخرّج أجيالاً ممسوخة تفتقر إلى البحث عن الحقيقة من جوانب ترقية الذات في عملية البحث ذاتها. وفاقد الشيء لا يعطيه، هذا سبب مباشر في انهيار منظومة التعليم والمتاجرة فيه بالسحت، واستغلال الطلاب والمساومة على نجاحهم أو رسوبهم بتوزيع المذكرات المسروقة.

لذلك، تجد أحدهم يحصل على الدكتوراه وهو أفسد الفاسدين أخلاقياً، مجرّد نماذج ممسوخة، فقيرة في طلب الحقيقة من طريق البحث أو من طريقة عذوبة التفكير التي يكون البحث أصلاً أصيلاً في الشوق إليها.

السهولة لا تشكّل ذاتاً علمية راقية ولا تنمي ملكات الإنسان الإبداعية، والحصول على المعلومة بيسر لا يعطي الفرحة الغامرة التي يتعذّب بها المفكرون حين يظفرون بعذاب التفكير دوماً في سبيل البحث عن الحقيقة والشوق إليها، مع الفارق الهائل طبعاً بين الحصول على المعلومة، ونحت الرأي والرؤية.

ولو أن الله - هكذا يقول لسنج - وضع الحقائق كلها في يميني، ووضع في يساري شوقنا المستمر إليها، وإن أخطأناها دائماً، ثم خيرني، لسارعت إلى اختيار ما في يساري قائلاً له : " رحماك يا الله، فإنّ الحق الخالص لك أنت وحدك".

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم 

غالبا"ما تختلط في الحوارات واللقاءات التلفزيونية الشكلية، لا بل حتى في البحوث والدراسات الأكاديمية – الجامعية، معاني ودلالات تعابير من مثل؛ (القبيلة) و(القبلية) حيث تحيل كل منهما الى الأخرى، دون أي اعتبار لما تشتملان عليه من اختلاف في الخصائص وتباين في الأدوار . وهو الأمر الذي كان – ولا يزال - يتسبب بالكثير من المشاكل والعديد من الإشكاليات التي كان من الممكن تحاشي الوقوع في محاذيرها الاجتماعية، وتلافي الانزلاق نحو صراعاتها السياسية .

وكما هو معروف، فقد اعتبرت (القبيلة) من المؤسسات الاجتماعية الأولية التي كانت مسئولة عن حياة الجماعات البدائية، لجهة تنظيم علاقاتها الاجتماعية، والذود عن حياض مجالها الجغرافي، والدفاع عن مصادر أمنها الغذائي، لاسيما في الحقب التاريخية التي لم تكن (الدولة) قد تحولت من الفكرة المجردة الى الواقع الملموس . هذا في حين اعتبرت (القبلية) بمثابة نزعة تعصبية تسعى للوثوب خارج إطارها السوسيو –انثروبولوجي الضيق، والعمل من ثم على اختراق المؤسسات السيادية للمجتمع بما فيها (الدولة)، وذلك عبر تضمين مصالحها الاقتصادية والاجتماعية والقيمية حقوقا" (سياسية) مفتعلة، على غرار حقوق الكيانات المدنية الأخرى مثل الأحزاب والمنظمات التي وان يكفل حقوقها الدستور ويصون كيانها التشريع، إلاّ أنها تبقى خاضعة لاملاءات سلطة (الدولة) وتحت إشراف قوانينها المركزية . ولمن أراد التوسع والاستزادة حول هذا الموضوع، نحيلة الى دراسة المفكر السعودي (عبد الله الغذّامي) حول الفوارق بين مفهومي (القبيلة) و(القبائلية) . 

ولكن الإقرار بهذه الحقيقة السوسيو- سياسية والاحتجاج بمنطقها، لا يعدم حصول ظاهرة ما يسمى ب (التخادم) البنيوي و(التناغم) المؤسسي، بين (القبيلة) كمؤسسة اجتماعية ذات خاصية أولية تسعى لحماية أعضائها وتأمين أقواتهم ودرء المخاطر عنهم، إزاء بيئة (صحراوية) قاسية تمتاز بشحة مواردها ونزق ظواهرها من جهة . وبين (القبلية) كنزعة عصبية بدائية تسعى لفرض إرادتها وتسييد ثقافتها وتأبيد قيمها وتعميم علاقاتها على بقية شركاء الجغرافيا والتاريخ والهوية، خصوصا"بعد إلباسها لبوس (الأحقية) السياسية و(الأفضلية) الاقتصادية و(الاقدمية) الحضارية من جهة أخرى . إذ ليس من المستبعد – تحت طائلة المصالح – أن تستعين (القبيلة) كجماعة اجتماعية بنوازع (القبلية) كعصبية سيكولوجية، لتعزيز كيانها البنيوي وتكوينها المؤسسي لتستحيل الى ما يسميه المفكر الكويتي (خلدون حسن النقيب) ب (القبلية السياسية)، حيث (تنزع في استمرار الى تعديل نفسها تبعا"للظروف المتغيرة) . مثلما بالمقابل، يستفحل شأن النزعة (القبلية) وتقوى شوكتها ليس فقط على صعيد شحن العلاقات الاجتماعية وتعبأة التصورات الثقافية فحسب، وإنما على مستوى تعصب الذهنيات وتطرف السيكولوجيات 

ولعل من أخطر عواقب هذه الحالة / الإشكالية (التخادم والتناغم)، ليس فقط على سرعة حراك المجتمعات المبتلاة بها وإيقاع تحولها من الطابع التقليدي الى الطابع الحديث فحسب، وإنما على ديمومة حرمانها من التمتع بمظاهر الاستقرار السياسي والتطور الاقتصادي والتقدم الاجتماعي والرقي الحضاري كذلك . حيث لا تلبث البنى المؤسسة (للقبيلة) من الانتحاء صوب نوازع (القبلية) والانتخاء بعصبيتها، كلما استشعرت ان حظوظها في تحقيق مصالحها وبلوغ مآربها باتت قليلة أو غير مجدية، إزاء بقية أقرانها / خصومها من القبائل الأخرى التي تنافسها على ذات المصالح والمآرب .

وفي المقابل لن يطول الأمر حتى تشرأب عناصر النزعة (القبلية) المتعصبة وتتحفز طاقاتها التخريبية والتدميرية، ليس فقط من باب الحفاظ على كيان (القبيلة) التضامني على الصعيد الداخلي وضمان وجودها الاجتماعي على الصعيد الخارجي ضد خصومها ومنافسيها من القبائل الأخرى فحسب، وإنما لتأكيد ذاتها المخفي والمستتر، وشرعنة وجودها الممنوع والمقموع، والإفصاح عن هويتها المسكوت عنها والمطعون فيها، وذلك عبر الاستعانة بقدرات المؤسسة (القبلية) التي تمتلك من التأثيرات المادية والإجرائية، ما يجعل من أمر هذا (التخادم) البنيوي و(التناغم) المؤسسي بين (القبيلة) ككيان و(القبلية) كنزعة، واقعة مسموحة أخلاقيا"ومقبولة اجتماعيا" ! .  

 ***

  ثامر عباس

ذكرت في مقال سابق أنني مؤمن بأن كل جيل من أجيال المسلمين، له الحق في صياغة النموذج الذي يراه مناسباً للإيمان والتدين في عصره. وأن هذه القناعة تعني إمكانية أن يكون لكل عصر نموذج في الحياة الدينية، مختلف عن العصور السابقة.

وكنت قد طرحت هذه الفكرة قبل سنوات على أستاذ لي، فأجابني بالقاعدة المعروفة في الفلسفة اليونانية «لكل سؤال صحيح، جواب واحد صحيح، ولا يمكن أن يكون أكثر من واحد».

وتطبيق هذه الفكرة أن الشريعة مجموع أجوبة الدين على أسئلة الحياة، لكل مسألة حكم واحد هو ما قاله الله أو الرسول.

أظن أن معظم من يسمع هذا الكلام، سيأخذه كأمر بديهي. لأنه يبدو معقولاً ومطابقاً لما تعلمناه منذ الصغر.

رغم ذلك، فهو لا يمنع تساؤلات جدية، أولها: من قال إنه بديهي. وإذا كانت الشريعة كاملة ناجزة منذ حياة النبي، فلماذا اجتهد القضاة والأئمة والفقهاء على امتداد القرون التالية حتى يومنا، فأبدعوا آلاف الأحكام والتفاسير التي لم يعرفها زمان النبي؟

قد يظن القارئ العزيز أن دور الفقيه مقتصر على تطبيق الآيات والأحاديث على القضايا الجديدة. وهذا غير صحيح. لأن السؤال الجديد وليد ظرف جديد، فيحتاج إلى اجتهاد في تحديد الموضوع، واجتهاد في تحديد النص الذي يناسبه.

وكلا الاجتهادين عمل بشري يعتمد قواعد العلم والمنطق. ونعلم أن عمل العقل محكوم بخلفية صاحبه، الثقافية والاجتماعية، فضلاً عن المستوى العام للمعرفة في زمنه.

وأحيل القارئ إلى ما نقله الدكتور حيدر اللواتي عن عدد من كبار المفسرين والمحدثين المسلمين، الذين أنكروا كروية الأرض، اعتماداً على آيات أو أحاديث توحي بأنها مسطحة (الرؤية 16 أكتوبر/ تشرين الأول). فهؤلاء الأعلام افترضوا أنه لا يمكن مخالفة النص، حتى لو قام الدليل على مخالفة الواقع لمفاده. لا نتوقع طبعاً أن يأتي مفسر أو فقيه معاصر بمثل هذا؛ لأن الزمن تغير.

إن الأفق التاريخي للناس (ومنهم صاحب الفكرة) يحدد طريقة فهم الموضوع وطريقة البحث عن جوابه. وبالتالي، فإن رأي الفقيه أو المفسر الذي نظنه مطابقاً لمفاد النص، هو في الحقيقة فهمه الخاص أو الفهم السائد في زمنه.

ولهذا يتغير مع تغير الزمان وموضوعات الحياة وأساليبها، فضلاً عن تطور المعرفة واتساع إدراك الإنسان لحقائق الطبيعة. أي أن الجواب الذي ظن أنه الوحيد الصحيح، ليس سوى الاحتمال الراجح في زمنه والمتناسب مع مستوى معارفه. وحين يتغير الزمان وتتسع المعرفة، فسوف يكتشف الناس احتمالات بديلة.

إن استقلال العلوم عن بعضها، واتجاهها للتخصص الدقيق هو أهم التحولات التي حصلت في القرنين الأخيرين. وبسببه ما عاد الفقيه قادراً على الإحاطة بعلم الطب أو الهندسة أو الفلك أو الرياضيات، كما كان الحال في الماضي. بل حتى العلوم اللصيقة بدراسة الشريعة، تحولت إلى تخصصات متوسعة ودقيقة، لا يمكن للفقيه أن يتفوق على المختصين فيها. ومن ذلك علوم النحو واللغة والأدب والمنطق والفلسفة والتاريخ، وكذلك العلوم الخاصة بالإثبات وفهم النزاعات، ومثلها العقود والتعويضات. وهي مما يحتاج إليه القضاة.

إن اعتماد العلوم المختلفة في تشخيص موضوعات الحكم الشرعي، وارتقاء فهم الفقيه نتيجة اطلاعه على العلوم الجديدة التي تطورت بعيداً عن مدارس العلم الشرعي، هي ما نسميه مشاركة عامة الناس، مسلمين وغير مسلمين، أي فهم موضوعات الشريعة، ثم في صياغة أحكام الشريعة.

ما ندعو إليه إذن هو إقرار المشتغلين بالفقه، بأنهم يعتمدون في كثير من عملهم على العلماء في الحقول الأخرى. فإذا كان لعمل الفقيه قيمة، فإن جانباً منها يرجع إلى أولئك. هذا ببساطة ما نسميه مشاركة أجيال المسلمين في صوغ حياتهم الدينية وتجربتهم الدينية. إنه واقع قائم، لكنه يحتاج إلى إقرار وتنظيم.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

ليس أكثر شهرةً مِن كتاب علي الورديّ (ت: 1995) «وعاظ السّلاطين»، عند صدوره. ففي العنوان جرأةٌ ظاهرة! أما مِن النّاحيّة البحثيّة فكان أقل مصنفاته علميّةً. رغبَ بالكتاب غير المختصين، غير السَّائلين عن مصدر المعلومة، وغير المميزين بين المصدر والمرجع.

اعتمد الورديّ، في الرّوايات وليس الآراء، على كُتب المعاصرين، مقتبساً منها منقولات تحفل بها كتب المصادر. فمِن الصَّعب اعتماد مؤلفات العقاد (ت: 1964) مصادرَ مثلاً، إلا إذا كنا نقصد رأي العقاد وليس المعلومة، وكذلك الحال بالنسبة لطه حسين (ت: 1973)، وغيرهما الكثير. لكنّ علينا أخذ الوقت الذي صنف به الوَردِيّ كتابه هذا، وهو (1954)، أي في بداية رحلة التأليف والبحث بعد أخذه الدُّكتوراه (1950)، وهو نفسه يعترف بذلك في مقابلةٍ أجرتها معه مجلة عراقيّة سنأتي على ذِكرها.

تورط أحد الكُتاب المعاصرين في جريدة ذات شأن، باقتباس نصٍ يخص العراق، ورفعه إلى الجاحظ (ت: 255هـ)، والنّص كان مهماً: «إن أهل العِراق أهل نظر وفطنة، وأهل الشَّام أهل بلادة وتقليد...»، ونسب صاحبنا الاقتباس إلى الجاحظ في «البيان والتّبيين». اتصلتُ بالكاتب وطلبتُ هدايتي إلى مصدر النّص عند الجاحظ، فعجز عن ذلك، وكنتُ أعلم أنه اقتبسه مِن عليّ الورديّ، لكنه أراد تقديم نفسه باحثاً في المصادر الأُصول، والورديّ نسبه إلى الجاحظ بذِكر الجزء والصَّفحة، بينما كُتب الجاحظ كانت خاليةً مِن النّص الذي أورده شارح «نهج البلاغة» ابن أبي الحديد المعتزليّ (ت: 656هـ)، مع العبارة: «قال شيخنا الجاحظ»، فالأخير أحد أبرز شيوخ المعتزلة. كان هذا مثالاً على عدم التثبت مِن المصادر، ويتورط بها اليوم جمهرة مِن الباحثين والكَتبة. بهذا وغيره كنتُ أعتبر «وعاظ السّلاطين» أقل كتب الورديّ علميّةً، ولم يكن ذا باع في البحث به، فهو كباحثٍ في عِلم الاجتماع يبني تصوراته الاجتماعيّة على المعلومات التّاريخيّة، فإذا لم تكن صحيحة، تكون التَّصورات خاطئة. ما كنتُ أطرق هذا الموضوع، وأنا أعد نفسي مِن عيال علي الورديّ في البحث والكتابة، لولا أنَّ الوردي نفسه تبرأ من هذا الكتاب الذي مازال منية كلّ قارئ، وفيه أخطأ بيقينه أن ما حدث بصفين (37هـ) وغيرها يتحمل مسؤوليته عليّ بن أبي طالب (35-40 هـ) دون سواه.

هذا، ولشهرة الكتاب أشعنا في المعارضة العِراقيَّة أن النّظام السّابق منع تداوله، واختلقنا قصة مثيرة عن ذلك (نشرناها في صحيفة المؤتمر). يقول الوَرديّ- بعد تسعة وعشرين عاماً (1954-1983) مِن تأليف «وعاظه»: «وإني لأشعر بالنَّدم على تأليفه، وإنّه حصل على أهمية أكبر مما يستحق.. حيث تَغْلب عليه الحماسة، والإثارة، وقد كان الواجب علي أن أبتعد عن ذلك جُهد إمكاني، لأنَّ المنهج العلميّ يوجب على صاحبه أن يكون موضوعياً، بذكر المحاسن والمساوئ معاً، بلا مبالغة ولا مغالاة» (حسين الحَسنيّ، حوار مع الدُّكتور عليّ الورديّ، الأقلام العراقيَّة، العدد 8 أغسطس 1983).

إنَّ المراجعة والاعتراف حسنةٌ مِن محاسن العلماء، والورديّ كان عالماً فذاً في اعترافه، بينما كم مِن المعدودين باحثين أخذهم العناد، ولم يعتذروا عن فضائح واجههم بها مخلصون للبحث. أقول: مَن يقنع «الرَّأي العام» الذي وصفه صاحب الوعاظ بالمقدس، في نظر بعض المفكرين (الوردِيّ، الرّأي العام والغوغاء، مناهل 4/1975)؟ الرَّأي المعتمد على الإشاعة والنَّقل الشَّفاهي، لا التّحقق والبحث، فكم باحث كشف أنَّ الوردي كان الأضعف في «وعاظ السّلاطين»؟ بل أخذوا ينتحلون منه، ويرتكبون خطأه، على أنهم باحثون، ولا يهمهم أنَّ كاتبه قد تبرأ منه!

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

مقدمة: من سارتر إلى ليفيناس، نظر الفلاسفة القاريون إلى مثال اليهودي كموضوع نموذجي ونموذج للتحقيق الأخلاقي. على سبيل المثال، يخصص ليفيناس كتابه الصادر عام 1974 بعنوان "خلافًا للوجود" لضحايا الهولوكوست، ويوجه الانتباه إلى حالة الفلسفة بعد أوشفيتز. تتحدى مثل هذه الأخلاق بشكل جذري المفاهيم السابقة للاستقلالية والفهم، وهما فكرتان رئيسيتان للنظرية الأخلاقية التقليدية، وبشكل أكثر عمومية، للتقليد اليوناني. ويسعى إلى احترام عتامة الآخر وتجنب مخاطر العنف التأويلي. ولكن كيف يمكن ترجمة أخلاقيات الآخر إلى حياة يومية حقيقية؟ ما هو الرهان في اعتبار الآخر يهوديًا؟ فهل غيرية اليهودي تتعارض ببساطة مع العالمية اليونانية؟ فهل يتعارض خطاب الاستثنائية، مع بقاياه الوجودية التي لا مفر منها، مع الحقائق السياسية المتغيرة؟ وضمن هذا النموذج، ما الذي يحدث إذن للعربي أو المسلم، أو الآخر اليهودي، أو الآخر المغاير، إذا جاز التعبير؟ يمكن القول إن هذا الخط من الفكر الأخلاقي - في رغبته في الشهادة على معاناة الماضي والتصالح مع الذاتية بعد أوشفيتز - يقع بين قوسين من تحليل عمليات القوة الحالية. فهل يؤدي التوجه التاريخي الأكثر حساسية إذن إلى كشف الفلسطيني باعتباره الآخر للإسرائيلي؟ وكيف يمكن من وجهة نظر القانون والحق التأسيس للدفاع عن الذات الفلسطينية؟

تاريخ المسألة الفلسطينية:

قضية فلسطين بدأت منذ أن أصبحت الضفة الغربية - بما فيها القدس الشرقية - وقطاع غزة، التي تحتلها إسرائيل منذ يونيو/حزيران 1967، تشكل الأرض الفلسطينية المحتلة. وتشكل هذه الأراضي، إلى جانب إسرائيل، منطقة الانتداب البريطاني السابق على فلسطين، والمقصود بموجب أحكام قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لعام 1947 أن يتم تقسيمها إلى دولتين، واحدة عربية والأخرى يهودية. وفي حين تأسست دولة إسرائيل في 15 مايو/أيار 1948 وانضمت إلى الأمم المتحدة، لم يتم إنشاء دولة فلسطينية.

وكانت الأراضي المتبقية من فلسطين ما قبل عام 1948، والضفة الغربية - بما في ذلك القدس الشرقية - وقطاع غزة، تدار من عام 1948 حتى عام 1967 من قبل الأردن ومصر، على التوالي. ومنذ احتلال إسرائيل للأراضي عام 1967، أكد المجتمع الدولي مرارا وتكرارا على ضرورة تنفيذ قراري مجلس الأمن 242 و 338، اللذين يدعوان إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة.

تهدف اتفاقيات السلام المبرمة بين منظمة التحرير الفلسطينية، التي تمثل الشعب الفلسطيني، وحكومة إسرائيل منذ عام 1993، إلى إنهاء عقود من الصراع من خلال تنفيذ حل الدولتين. وشهدت الفترة منذ عام 1993 الانسحاب العسكري الإسرائيلي من بعض أجزاء الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقيام منظمة التحرير الفلسطينية بإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية في عام 1994 لتتولى مهام الحكومة في هذه المناطق. وسارع المجتمع الدولي إلى دعم جهود بناء الدولة الفلسطينية وتنميتها، من خلال توفير الموارد المالية والمساعدة التقنية لمؤسسات القطاعين العام والخاص. ومع ذلك، فإن تفاقم الصراع والأفق السياسي القاتم منذ سبتمبر/أيلول 2000، والحصار المفروض على غزة منذ يونيو/حزيران 2007، وتشديد القيود الإسرائيلية على الحركة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، قد أدى إلى تراجع المكاسب الاقتصادية التي تحققت منذ عام 1993 مع عواقب اجتماعية واقتصادية خطيرة. علاوة على ذلك، فإن توسيع المستوطنات الإسرائيلية في الأرض الفلسطينية المحتلة، والذي أعلن أنه "انتهاك صارخ للقانون الدولي" بموجب قرار مجلس الأمن 2334 (23 كانون الأول/ديسمبر 2016)، يعرقل عملية السلام ويهدد عملية تشكيل الدولة الفلسطينية، ومع ذلك، فإن شرعية الدولة الفلسطينية، التي أيدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ فترة طويلة، حظيت بدعم إضافي بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1397 لعام 2002، الذي أكد رؤية المجتمع الدولي المتمثلة في وجود دولتين، إسرائيل وفلسطين، تعيشان جنبًا إلى جنب داخل حدودهما. حدود آمنة ومعترف بها. وأصبح هذا الإجماع العالمي منذ ذلك الحين أحد الأهداف الرئيسية لمبادرات التوصل إلى اتفاق سلام دائم.

نقطتنا المرجعية ليست تاريخية وانما قانونية:

لقد تم تصور فكرة القانون من أجل فلسطين لتتوافق مع فلسفة الأمم المتحدة التي تتناول "قضية فلسطين". وفي عام 1975، أنشأت الجمعية العامة للأمم المتحدة ما يعرف بـ”اللجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف” (القرار 3376)، والتي تم اعتمادنا بموجبها في يوليو 2022، ومنذ إنشائها، تمت ولاية لأن هذه اللجنة يتم تجديدها سنويا حتى الآن. وتهدف اللجنة إلى تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه غير القابلة للتصرف، بما في ذلك الحق في تقرير المصير، والحق في الاستقلال والسيادة، وحق إعادة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها. علاوة على ذلك، يشمل عمل اللجنة تنظيم المؤتمرات الدولية والتدريب، والعمل مع المجتمع المدني، وإنشاء نظام المعلومات التابع للأمم المتحدة بشأن قضية فلسطين. وبنفس الطريقة، تعمل منظمة القانون من أجل فلسطين بالتوازي، جنبًا إلى جنب، لتكون مكانًا مشتركًا للأشخاص المهتمين بالقانون الدولي وفلسطين من جميع أنحاء العالم، ولتوفير التدريب ورفع الوعي في هذا المجال. كما تسعى إلى إنشاء نظام معلوماتي يجمع كافة المواد المتعلقة بفلسطين والقانون الدولي. ولا تهدف هذه المبادرة إلى تغطية الأمم المتحدة فحسب، بل تشمل المواد المقدمة من الدول والمنظمات الحكومية وغير الحكومية، فضلاً عن المؤسسات الأكاديمية والبحثية حول العالم.

قانون المبادئ التأسيسية لفلسطين:

سيادة القانون الدولي: القانون من أجل فلسطين هو محاولة لدعم القانون الدولي وآلياته ومؤسساته والدفاع عن حقوق الإنسان في فلسطين-إسرائيل في إطار القانون الدولي. نحن نؤمن بأن آليات القانون الدولي، إذا تم توظيفها وتفعيلها بشكل جدي، يمكن أن تؤدي إلى واقع أفضل في فلسطين وإسرائيل.

لا تعطيني سمكة، علمني كيف أصطاد: المشاركة مع المجتمعات المتضررة بشكل مباشر وإشراكها. تعمل L4P مع المجتمع المتأثر بشكل مباشر ومن أجله، من خلال بناء قدراتهم القانونية، وربطهم بالمؤسسات القانونية حتى يتم سماع أصواتهم وحتى يتمكنوا من لعب دور استباقي إيجابي.

دماء شابة وروح شابة: تم إنشاء المنظمة القانون من اجل فلسطين وقيادتها من قبل جيل الشباب الذي يتوق إلى إحداث تغيير حقيقي، مع التواصل والاتصال بشكل إيجابي مع الخبراء الراسخين.

يدًا بيد: الرجال والنساء يعملون معًا: القانون من اجل فلسطين هو دليل على أنه عندما يتولى كلا الجنسين المسؤولية عن مستقبلهما ويتحملان المسؤولية عن مستقبلهما على قدم المساواة، فإنهما يحققان نتائج أفضل ويتم تمكينهما.

وجهان للعملة: إنتاج أدب قانوني موضوعي ذو وجهين: نحن على قناعة بأن عيناً واحدة لا ترى كامل الرؤية. ولذلك نحاول في تحليلنا وخطابنا وتفكيرنا وتخطيطنا أن نرى ونعرض أوجه العملة المختلفة، دون الانتقاص من الحقوق والمسؤوليات.

إحدى المجموعات، ولكن ليس مجرد مجموعة أخرى: نحن ندرك وجود مجموعات متعددة لحقوق الإنسان تعمل في نفس النطاق الجغرافي. رؤيتنا ليست تكرار عملهم، بل أن نكون نهرًا يمكنهم جميعًا الشرب منه. ونزودهم بالكادر المدرب والخطاب القانوني والاستراتيجيات الفعالة والتحليل والتقييم المتعمق.

الموقف الفلسفي من المسألة الفلسطينية

يجوز للفلسطينيين أن يناضلوا من أجل خلاصهم من الاختلال ولا يجوز لأحد أي كان ان يحرمهم من هدا الحقز ولكن هل للفلسطينيين حق المقاومة وما هي حدودها؟

1. يمثل الاحتلال غير القانوني استخدامًا غير قانوني للقوة (أي العدوان). وطالما استمر الاحتلال غير القانوني، فإنه يشكل، وفقاً لقواعد المسؤولية الدولية، عملاً غير مشروع مستمر، وبالتالي الحفاظ على الحق المستمر للدولة/الشعب المحتل في الدفاع عن النفس.

2. هل الاحتلال الإسرائيلي قانوني الآن؟ المواقف الأخيرة للعديد من الكيانات ذات السمعة الطيبة، بما في ذلك لجان التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن فلسطين/إسرائيل، والمقررين الخاصين الحاليين والسابقين للأمم المتحدة بشأن فلسطين، وهي دراسة أصدرها CEIRPP، إلى جانب العديد من الدراسات الأكاديمية ذات الصلة، تعتبرها غير قانونية (أي العدوان). وهذه المسألة قيد النظر حاليا من قبل محكمة العدل الدولية.

3. لا يمكن للفلسطينيين ممارسة الدفاع عن النفس إلا بعد تقييم مبادئ الضرورة والتناسب والوشيكة. ويتجلى استيفاء هذه المعايير في سياق الاحتلال الذي طال أمده، واستنفاد جميع الوسائل السلمية لإنهائه، وانتهاكات القواعد الآمرة، وقواعد القانون الدولي الإنساني، وحسن النية.

4. عشرات القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة تدعم حركات التحرر الوطني في نضالها من أجل الاستقلال وتقرير المصير، بما في ذلك الكفاح المسلح. فقط على سبيل المثال، الدقة. مرسوم رقم 2105 لسنة 1965 يدين الاستعمار البرتغالي في غينيا بيساو وفي وقت اعتماد هذا القرار، كان الحزب الأفريقي لاستقلال غينيا والرأس الأخضر قد انخرط رسميًا في نضال التحرير المسلح. وطلبت الجمعية العامة، في القرار نفسه، من جميع الدول "تقديم المساعدة المادية والمعنوية لحركات التحرر الوطني في الأراضي المستعمرة".

5. يعترف إعلان العلاقات الودية (القرار 2625 لعام 1970)، الذي يعكس القانون العرفي، بالحق في مقاومة الإجراءات القسرية الأجنبية التي تحرم الناس من حقهم في تقرير المصير (اعترفت الأمم المتحدة بالحق في تقرير المصير ل الشعب الفلسطيني). وينص على أنه يجب على كل دولة الامتناع عن أي إجراء قسري يحرم شعبها من حقه في تقرير المصير والحرية والاستقلال.

6. لذلك فإن إسرائيل هي المطلوب عدم قمع المقاومة، وليس العكس. وقد ردت محكمة العدل الدولية، في فتواها/الجدار (2004)، على الادعاءات الإسرائيلية ببناء الجدار دفاعًا عن النفس من خلال الإشارة إلى أن هذا الحق غير ذي صلة على أساس أن إسرائيل تمارس سيطرة فعلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة.

7. أوضح: في عام 1982، أكد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 37/43 على شرعية النضال من أجل الاستقلال والسلامة الإقليمية والوحدة الوطنية والتحرر من السيطرة الأجنبية والاحتلال الأجنبي بجميع الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلح. واعترف هذا القرار صراحة بالحق في استخدام القوة ضد الاحتلال الأجنبي غير الشرعي، الذي يعتبره تهديدا خطيرا للسلم والأمن الدوليين، مذكرا بحالتي ناميبيا وفلسطين.

8. علاوة على ذلك، فإن البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف (1977)، الذي انضمت إليه فلسطين في عام 2014 (انضمت إلى أكثر من 160 دولة)، في مادته 1 (4)، يصنف النزاعات التي تقاتل فيها الشعوب ضد الاحتلال الأجنبي والأنظمة العنصرية. كالصراعات المسلحة. الأفراد الذين يشاركون في مثل هذا "القتال"، إذا تم أسرهم، يجب أن يُمنحوا وضع أسرى الحرب، مما يعني أن قتالهم مشروع.

9- وتؤيد الأدلة التاريخية بأغلبية ساحقة أن تقرير المصير نادراً ما يتحقق دون استخدام القوة والكفاح المسلح. إن الفشل في الاعتراف بحركات المقاومة من شأنه أن يؤدي إلى موقف غير منطقي: حيث أن الاحتلال الأجنبي سوف يمر دون منازع، مما يجعل أي مقاومة ضد وضعهم غير القانوني غير قانونية في حد ذاتها.

10. وأخيراً تجدر الإشارة إلى أن حق المقاومة والدفاع عن النفس يخضع لقواعد القانون الدولي الإنساني، بما في ذلك احترام مبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين. باختصار: حق المقاومة، بما في ذلك المقاومة المسلحة: نعم. الحق في قتل المدنيين أو استهدافهم بشكل عشوائي: لا. الأمر بهذه البساطة.

فكيف السبيل الى الالتزام بهذه المواثيق الدولية وإلزام الآخر المتغطرس باحترامها؟ ومتى تنتهي هذه الهمجية الممارسة على الأطفال والعجز والنساء في غزة وترفع الصهيو-امبريالية قبضتها عن فلسطين؟ وألا يجب أن يسعى الفلسطينيون الى افتكاك حقوقهم التاريخية في أرضهم وأن يحصلوا على استقلالهم؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

لا يمكن الحديث عن سياسة عالمية في التجارة والتكنولوجيا دون أن نضع بعين اعتبارنا الوباء المستفحل والذي فرض مجموعة من المتغيرات العميقة:

في طبيعة التنقل بغرض العمل (الإنتاجي والتعليمي).

وهندسة المكان والفراغ والعلاقة بينهما.

وأخيرا تقسيم وتخصيص العمل ذاته.

وأول تبدل جوهري كان بالتخلي عن التلامس واستبداله بالتواصل عن بعد، وتبعه الركون للخبرة أكثر من الاختصاص. وترى أناستازيا تولوستوخينا  في مونوغراف نشره منتدى فالداي للحوار في موسكو بعنوان "التحكم الأوروبي بالتكنولوجيا وحدوده"* أن هذه الظاهرة أدت إلى انهيار  في الإنتاج وسلاسل التموين ص3. ولذلك سارع الاتحاد الأوروبي إلى الاهتمام بتحسين صناعة الإلكترونيات الدقيقة، وحوسبة الكوانتوم، والذكاء الصناعي، وسلاسل الكتل blockchains، لتحقيق ما يسمى الاستقلالية التكنولوجية ص4. وهي "كل ما يساعد على التحكم بالتكنولوجيا الرقمية ومحتوياتها". ويجب هنا التمييز بين البلدان المنتجة، والأقل اتكالا على الآخر، وبين بلد ينشر ويفهم هذه المعارف، ويتقن استخدام أدواتها دون مساعدة من الخارج، ويكتفي بعقد شراكات مفيدة ص4. ويُلاحظ أن أوروبا حتى الآن تقف في مكان وسط بين الاحتمالين السابقين (الإنتاج والشراكة). وتنقل تولوستوخينا عن ثيري بريتون أن التحكم بالتكنولوجيا لا يعني إغلاق الباب أمام تشكيل أحلاف وشراكات، ولكن التقليل من دور الطرف الثالث. وهو ما يتركنا أمام السؤال التالي: لمن الأفضلية، زيادة وترقية الإنتاج، أم البحث عن شريك أجنبي؟.

تعتقد تولوستوخينا أن أوروبا لم تبدأ رحلتها مع التكنولوجيا الفائقة من الصفر، وكان بمقدورها أن تغذي نفسها بأدوات ضرورية لإنتاج أشباه النواقل. ولكن هذا وحده لا يكفي في ظروف جيوبوليتيكة مضطربة وهائجة. وتضيف "ليضمن الإتحاد الأوروبي سباحة آمنة في المحيط الإلكتروني" اتبع خطة تضمن له توفير وحماية فضائه السبراني.  بهذا الخصوص لجأ لافتتاح مكتب في سيليكون فالي ليكون على اتصال مباشر بآخر الاختراقات ص6. وجاء ذلك ضمن خطة خمسية تغطي فترة 2022-2027، وبميزانية تبلغ 95.5 مليار يورو. ومن بين أهدافها إنتاج تكنولوجيا دقيقة محليا. ودعم هذه الفلسفة بقوانين صدرت عام 2022 لحماية "الرقاقة الأوروبية"، وكان من أول ثمارها الكومبيوتر الفائق السرعة الذي دخل الخدمة عام 2023.

ثم تنقل تولوستوخينا عن ثيري بريتون، أيضا، أن الانتقال الرقمي دون الاستعانة بالخبرات الأجنبية يواجه عدة عقبات. منها احتكار الصين لسوق المعادن النادرة، ولجوء أوروبا للاستثمار في منشآت قليلة التكاليف والأجور (تحديدا في منظومة العالم الثالث). ولكن أجهض هذه السياسة قرارات المقاطعة والحصار (والقائمة طويلة وغير مستقرة ويلعب بها المزاج الأمريكي المتقلب). بالإضافة إلى سباق التسلح الذي ظهر للعلن بعد الحرب الأوكرانية. فقد توسعت الميزانيات العسكرية بمقدار 200 مليار يورو كانت مخصصة للتكنولوجيا. ولا يجب أن ننسى التحسس التاريخي بين أعضاء الاتحاد نفسه، وخلافاتهم حول  إمداد الطاقة بكافة أشكالها. وهي مشكلة دائمة تذكرنا بموقف الدول العربية مع مصر وسوريا عام 1973 وإغلاق أنابيب النفط.  وحتى لو أن المسألة أصبحت من التاريخ البعيد، فهي مرشحة للتكرار. ولذلك خصصت شركات رائدة مثل شيرلي (ومقرها المدينة الإنكليزية ديدزبوري) ميزانية لإنتاج تجهيزات ثقيلة تستهلك الحد الأدنى من الطاقة.  وأعتقد أن أوروبا تعاني حاليا من اختناقات مع الغاز الروسي.  ولا يمكن في أي ظرف مقارنة نورد ستريم بخطوط افتراضية يجري التشاور عليها مع الجزائر ونيجيريا.

وترى تولستوخينا أن أوروبا تبدو عاجزة عن تلبية حاجاتها من التكنولوجيا الفائقة. ويؤخر خططها أمران اثنان.

الأول التباين في سياسة الحكومات. الثاني الاختلاف في الثقافة التكنولوجية، وعدم إيمان الجيل السابق بها، ورغبته بالاستجمام واللجوء لحلول سريعة. فالمواطن الأوروبي العادي غير جاهز لانتظار ما ستؤول له سياسة استعمار الفضاء، واستكشاف الكواكب المجهولة وإمكانية الإستفادة منها. وحسب الجداول، التي أصدرها الاتحاد الأوروبي، لا يعرف 43%  من طلاب المدارس طرق استعمال الجهاز اللوحي.  وفي بريطانيا لا تزيد نسبة التعليم بالكومبيوتر عن 6%.  أما أمريكا فهي لا تزال تختبر آثار هذه السياسة على البيئة والذاكرة والحياة النفسية للطفل والمراهق. بالمقارنة تتسابق دول العالم الثالث والصين على تبني سياسة "تعليم بلا ورق". وتقف وراء ذلك أسباب تجميلية. فالسياسة في العالم الثالث هي عملية تجميل وليس تلبية للحاجات. والهزائم المخزية التي تهدد وجوده، على المستوى السياسي والعسكري، تدفعه للاختباء خلف قشور الحضارة مهما بلغ الثمن. وحسب بيانات "إي ماركيت eMarket"  لعام 2022 تحتل أمريكا المرتبة التاسعة في الإنفاق على التجارة  الإلكترونية، وتترك المرتبة الأولى والثانية للبيرو والأرجنتين، رغم الفارق في حجم الميزان التجاري وقوة السوق. ويفاقم من المشكلة أن جزءا من هذا الإنفاق يذهب إلى اللوازم العسكرية المتطورة كالقذائف الذكية والرادارات والمسيرات. ولا يفوتني هنا أن الدول المتطورة هي أكبر منتج للسلاح ولكن الدول المتعثرة هي أكبر مستهلك لها. وتختتم تولوستوخينا كلامها بنبوءة كئيبة عن السوق. وتعتقد أن توزع قوة العمل في أرجاء الكرة الأرضية يتقلص، ويتحول لاقتصاد موضعي، تخنقه الخلافات السياسية التي تلغي فرص التعاون. ولذلك تتحسن شروط العمل في جزء من العالم، وتتراكم المهارات والقوة العاملة المعطلة في جزء آخر. ونصل بالنتيجة إلى كرة أرضية تعاني من الخلل، وينقصها التوازن.

ما يلاحظ على قراءة تولستوخينا هو النظر للاتحاد الأوروبي وكأنه شيء واحد. ولم تضع بعين الاعتبار المخاض الذي مر به منذ توحيد ألمانيا وسقوط جدار برلين، ولا الاختلاف العضوي بين اللاتينيين والسلوفانيين والجرمان. وفاتها أيضا أن تذكر أي شيء عن رقابة المنتوجات لضمان الجودة قبل التوزيع في المنافذ والأسواق. وبالتأكيد الرقابة هي الملاك الحارس للاقتصاد، ولتؤدي دورها هي بحاجة ماسة لصناعات رديفة ولتوحيد المعايير. ولكن حاليا يوجد  خلاف راديكالي بين رؤية العلماء الروس والأوروبيين والأمريكيين في قراءة المواصفات،  ولم ينجم ذلك عن مماحكة  أو بدوافع من الحرب الباردة، وإنما بسبب الاختلاف في تركيب ومعنى المؤسسة المكلفة بذلك (اسمها الشائع دوائر الجودة quality circles). وأي خلاف بين المعسكرين سيتبعه بالضرورة خلاف لاحق في المعسكر الواحد. ومن الأمثلة على ذلك تذمر النسخة الأمريكية في شركة أبل من بيئة الإنتاج في النسخة الصينية. وحاليا الأزمة مع فرنسا حول  درجة الإشعاع  والجدار الإلكتروني.

ولا أعلم لماذا أهملت تولوستوخينا الامتحان الصيني وعودة أوروبا للحروب الإقليمية. فمنطقة العرق الأصفر تسيطر على 90 % من أشباه النواقل، وهذا بالتأكيد سيرفع من درجة التأهب في الغرب. وقد بدأت ألمانيا بانتاجها محليا في مصانع أنشأتها شركة أنتيل في مدينة ماغديبورغ. ولكن من المتوقع أن يزيد ذلك من سعار الحصول على الجرمانيوم والسيليكون (وكلاهما ضرورة لهذه الصناعة). كما أن أكبر الاحتياطات محصورة في الصين وروسيا.  وأتوقع أن يتسارع التنقيب عنهما، وأن يؤدي إلى أزمة تشبه ما جرى في القرنين السابقين من حروب وصراعات على مناطق إنتاج الكساء والغذاء (المقصود حرب الموز وبلغت تكاليفها حوالي 13 مليار دولار، وإمبراطورية القطن التي استنزفت من الهند وحدها 45 تريليون دولار، والكلام لأوتسا باتنايك من جامعة كولومبيا). بمعنى أن البعثات التجارية ستكون ملغومة من الداخل، وكل شركة ستحمل في داخلها شركة غير منظورة (مسلحة بخطط واستراتيجيات استعمارية).  ولا سيما في الشركات الدولية التي تدير أعمالها من مكتب صغير في أوروبا (مثل معهد القطن الدولي IIC، وليفربول الدولية CE وغيرها).  ومع أن هدفها الحقيقي هو التجارة، لكنها عرضة للظن، على شاكلة الملحقيات التجارية والثقافية التابعة للسفارات. حتى أن منشوراتها أصبحت جزءا من أدبيات الاستشراق، فهي تتضمن وصفا، وبالتفصيل، لجغرافيا وبيئة المناطق التي تنشط بها، مع اهتمام غير مسبوق بالأساليب المتبعة في الإنتاج (انظر مجلة: بحوث زراعة القطن في الإمبراطورية. وكانت تصدر عن شركة تجارية لها فروع في آسيا وإفريقيا ويديرها مكتب كولونيالي في لندن. توقفت عن الصدور عام 1975 بالتزامن مع تمزق الهند واستقلال بنغلاديش وارتفاع الأصوات الداعية لوقف سياسة التمييز العرقي في جنوب إفريقيا). وعموما لا بد من التمييز بين الاستشراق العلمي والسياسي. الأول يساعد على تجاوز الفجوة الحضارية، والثاني يتكفل بتجميل الأخطاء (كما هو واقع الحال في إنتاجات هوليوود الضخمة - وما يزيد من الاستهجان توظيف أعلى مستويات التكنولوجيا من أجل تسويق التخلف، وستر وجهه القبيح بمكياجات وحسنات رومنسية مريضة، حتى أن وجه المشرق وماضيه لم يعد بالضرورة جزءا منه، وإنما سلعة تضاعف من دورة رأس المال الغربي). ولا يمكنني أن أعمى عن استغلال الثقافة الغربية للشرق التاريخي والحضاري. فهي لا تنقل التكنولوجيا للأفراد إلا بشرط التخلي عن هوياتهم الوطنية (وأعلى شريحة من المؤسسات المتخصصة بالتكنولوجيا الفائقة مغلقة أمام الأجانب - وينطبق ذلك مثلا في أمريكا على معاهد تعليمية وإنتاجية مثل AATCC)،  بالمقابل تفرض في حال إقامة مشروع تنموي إبراز هويته الغربية - حتى أن حق القرار لا يكون بيد الإدارة المحلية، على الأقل في أول عشر سنوات، بعدها يدخل المشروع في طور الماضي ويصبح علامة تدل على الجمود والتأخير، إن لم يتبعه الاتفاق على إجراءات تحديث وترقية. ولا استثني في هذا السياق أحدث الألعاب الإلكترونية التي يلهو بها الصغار في وقت الراحة، مع أن حكايتها تتلخص غالبا بالبحث عن عربي إرهابي و"تحييده". وهكذا عدا أننا نربي صغارنا على ثقافة تحض على كره الذات وتجريم الهوية الحضارية للعرب، نضيف للقاموس كلمة محملة بمعنى غريب، وهو القتل وسفك الدماء، والمفروض أنها تعني عدم الانحياز والامتناع عن المشاركة. وتعتبر كل هذا الأساليب ضربة موجعة للعالم الثالث، ويفاقم من أخطارها احتكار الدولة للسوق. ويعتقد حاليا أن الربيع العربي هو نتيجة تضارب في المصالح بين تجار المخدرات ومنتجي السلاح. ولا أستبعد أن الانقلابات الأخيرة في إفريقيا الوسطى جزء من هذا القلق.     

لا شك أن لدى أوروبا عدة مخاوف، وبمقدار ما هي غير جاهزة لاتباع النموذج الأمريكي السهل والسريع، فهي مترددة بحسم موقفها من التحالفات الجديدة التي كادت أن توحد الشرق لأول مرة. ولا أظن أنه يسعدها أن تجلس مكتوفة الأيدي وتراقب انضمام الباكستان وتركيا لهذا التحالف. مثل هذه الخطوة وحدها يدعونا لإعادة التفكير بنظرية هنتنغتون عن وجود حدود دينية تفصل ما بين الثقافات والحضارات. وعلى ما يبدو أن الكلمة اليوم هي للتكنولوجيا الفائقة - والصديقة والتي تحولت مؤخرا لخطر يهدد الليبرالية الجديدة.

***

صالح الرزوق

....................

*EU Technological Sovereignty and Its Limits by Anastasia Tolstukhina. The Foundation for Development and Support of the Valdai Discussion Club, 2022. Moscow, Russia.

أناستازيا تولستوخينا Anastasia Tolstukhina: باحثة في الشأن السياسي، ومديرة برنامج هيئة الشؤون الدولية الروسية في موسكو.

***

هل يعقل ان يكون هناك تطابق في القيم والسلوك بين جماعتين البعد الزمني بينهما اكثر من 1500 عاما؟!

الفلاسفة وعلماء الأجتماع واصحاب المنطق.. يقولون غير ممكن وفقا لقوانين التطور الأجتماعي والتحضر ويستشهدون بواقع المجتمع السعودي الآن وواقعه ايام كانت السعودية موطن البدو.. لكن واقع العراق الآن يؤكد ان حكامه (الأفندية) هم (كوبي بيست) من بدو الجاهلية.. واليك ما يثبت.

كان البدو في العصر الذي سبق دعوة النبي محمد الى الاسلام بـ(الروح القبلية).. يحكمهم الانتماء الى القبيلة ومناصرتها سواء كانت على حق ام باطل، والتي تعني في مصطلحاتنا العلمية الحديثة.. (التعصب Prejudice) الذي يعني انتماء الفرد المطلق الى قبيلة ، جماعة ، طائفة ، قومية ،او دين.. والدفاع عنها حتى لو كانت على باطل.

ويرى علماء الاجتماع (ابن خلدون، علي الوردي.. )، ونيكلسون الذي يقول ان شرف البدوي يفرض على الفرد ان يقف مع بني جلدته في السرّاء والضرّاء، وان فكرة البدو في ذلك ان يهبّوا لنجدة أبناء جلدتهم دون أن يسألوا عن السبب.وهذا ما كان يتصف به البدوي زمن الجاهلية.. أنه كان يعتبر القبائل الأخرى أقل شأنا من قبيلته وانها على حق حتى لو كان يعرف في سريرته انها على باطل!.

الاسلاميون في عصر التحضر

لنعد الى ما حصل في 2006 ، فحين تشكلت أول حكومة بهوية شيعية، تعمّق التعصب بين افراد الشيعة ، وصاروا يتباهون بأنهم الأفضل والأحق بالسلطة من طائفة السنّة التي راحت بدورها تسخر من الشيعة وتصفهم بانهم جهلة لا يصلحون للسياسة ، فيما راح رئيس وزراء تلك الحكومة ( نوري المالكي) يشيع مفهوما تعصبيا بمقولته (صارت عدنه وما ننطيها)، ويصف تظاهرات جماهير السنّة بأنها (فقاعات).. ما يعني ان هناك تطابقا تاما بين (الأسلاميين .. شيعة وسنة) في الزمن الديمقراطي وبين البدو في زمن الجاهلية.

ومن انغلاق عقولهم الناجم عن تحكّم (التعصب الجاهلي) في قيادات كتل واحزاب الأسلام السياسي، انهم لم يدركوا ان التعصب للطائفة يؤدي بحتمية اجتماعية الى حرب.. فحصلت بين عامي (2006 و2008) زمن حكم حزب الدعوة الأسلامي، وراح ضحيتها الآف الأبرياء وجعلوا من العراقي البسيط اكثر سخفا من البدوي الجاهلي بان اوصلوه الى ان يقتل الآخر لمجرّد ان اسمه (حيدر او عمر!).

و(بداوة) قادة كتل واحزاب الاسلام السياسي (شيعة وسنّة) الذين شكلوا الطبقة السياسية في العراق،انهم اعادوا احياء (الروح القبلية - التعصب) وغلّبوا الانتماء الى القبيلة على الانتماء للوطن، وعملوا بالضد من تعاليم النبي محمد الذي اضعف (الروح القبلية) وعزز مبدأ (المسلم اخو المسلم).ووصل حال (بداوة) حكومات ما بعد 2006 انها استمالت شيوخ العشائر فاستجاب لها كثيرون حتى لو كانوا يعلمون أنها على باطل.

وتكشف قراءتنا السيكولوجية التاريخية عن صفة ثابتة في شخصية شيخ العشيرة،هي أن الحمية على وطنه لا تأخذه قدر ما تأخذه الغيرة على الشرف،بمعنى أنه يغلّب قيمه العصبية ومصالح عشيرته على مصلحة الوطن،وانها ميالة إلى التباهي بما تملك من ثروة وخيول وأبقار وأغنام.. ونساء!. وقد توفرت الفرصة لعدد من الشيوخ أن يجمعوا في زمن بداوة حكومات النظام الديمقراطي! بين رئاسة العشيرة والعمل كرجال أعمال.

المفارقة.. ان من حكم العراق بعد 2003 هم في مظهرهم افندية وفي حقيقتهم (بدو) بقيم وسلوك جاهلي. والأغرب ان هؤلاء (البدو – الأفندية) ما زالوا يحكمون عراق الحضارات والثورات!

***

د. قاسم حسين صالح

الكتابة في موضوع الحداثة بالنسبة لمجتمعات الجنوب صعبة ومعقدة للغاية لكون شعوبها لم تمارسها بالعمق المطلوب بسبب خضوعها للاستعمار، وبالتالي لم تتمكن من مراكمة ما يكفي من مقومات التحديث بتفاعلاتها اليومية، ومن إضفاء النجاعة والفاعلية المطلوبة على محاولاتها لتأهيل هياكلها المؤسساتية والمجتمعية بالمنطق الذي يفضي على أوضاعها المتطورة ميزة "مجتمعات الحداثة".

كما هو معلوم، أساس الحداثة مرتبط أشد الارتباط بمفهوم النفعية، أو مفهوم المصلحة كما هو معروف في الفقه القديم الذي يعتبر البراغماتية المشروعة القيمة الأولى لتجسيد العقلانية المرسخة لقيم نماء وسعادة الشعوب بوتيرة مسترسلة في الزمن، أي المصلحة الجماعية وليست الفردية الأنانية. القيمة الثانية التي تستوجب العمل على تجسيدها في واقع الشعوب تتجلى في مردودية تحقيق الربط الوثيق بين النظرية والواقع أو بين إنتاج الأفكار يوميا والعمل المتوازي لتفعيلها ميدانيا، أي ترجمة الأفكار والإبداعات إلى تصاميم هندسية وأفعال على أساس تحقيق التراكم في المجالين النظري والتطبيقي من خلال الصقل اليومي للدرابة اليدوية والاحتراف في الاستعانة بالآلات الحديثة الميكانيكية والتكنولوجية. في هذا الصدد، وبشهادة كبار المفكرين العالميين، الدفاع الموضوعي المبرر للدكتور والمفكر المغربي عبد الله العروي على التاريخانية أكسب مشروعه الريادة على مستوى تاريخ إنتاج الأفكار كونيا في العصر الحديث، وحوله إلى مرجع لكل الشعوب الشبيهة بالشعب المغربي الطامحة لتحقيق نهضتها بعيدا عن آفة الهدر الزمني المنهكة.

في نفس السياق، أكد التاريخ البشري أن المجتمعات المؤسساتية (المنظمة) التي لم تدخر أدنى جهد لتحقيق ارتقاء قطاع الهندسة قد تمكنت من تحويل قيم الحداثة المنتجة إلى مصدر غذاء دائم لشروط الرقي والازدهار، ومن تم إلى عقيدة ثقافية راسخة ومتكاملة لتحقيق ديمومة ارتقاء حياة الأفراد والجماعات روحيا وماديا، جاعلة من الفاعل المنتج ركن من أركان الإيمان بالمستقبل.

واعتبار لما أبرزته الدولة المغربية من مقومات حضارية ذات خصوصية في السعي لترسيخ قيم الحداثة بالمنطق السالف الذكر، سأتطرق فيما يلي لبعض المحاور التي استهوتني فكريا في مشروع الدكتور عبد الله العروي بأبعاده الفكرية والعملية. لقد خصص هذا العلامة الوقت الكافي لبلورته بمنهجية جذابة. لقد راكم الكتابات والمحاضرات واللقاءات الإعلامية والمناظرات...، إلى درجة أصبح هذا المشروع في نهاية المطاف منتوجا متكاملا ودليلا جد موضوعي من الناحيتين النظرية والتطبيقية. مشروع العروي يعتبر اليوم من المشاريع البارزة في مجال التنمية. إنه زاخر بالمقومات الكفيلة بتيسير مرور الدول العربية والمغاربية الإسلامية إلى حياة الحداثة بمزاياها وترسيخ متطلباتها وأسسها على المدى المتوسط والبعيد.

الحداثة يجب أن تكون مشروع الدولة بالمغرب

بالنسبة للعروي، يجب المراهنة على الدولة الوطنية لتحديث وعقلنة المجتمع. عرف المغرب منطق الزعامة التاريخية كما عرفته الدول الريادية في مجال التنمية والتحديث الثقافي (ماوتسي تونغ في الصين، أتاتورك في تركيا، غاندي في الهند، لينين في روسيا،....). ثم مر من محطات عرفت أحداثا صعبة لتجديد وبناء كيان الدولة ومأسسته.

إن الوضعية التي عاشها العروي بالمغرب جعلته يستنتج أن الدولة في تطورها وفي سياساتها العامة كانت دائما أكثر تقدما من المجتمع. لقد ارتقى دورها التاريخي إلى أن تحولت إلى محور للتطورات ورفع التحديات. لقد لعبت دور التأسيس منذ زمن الأدارسة. هي التي كونت النواة الاجتماعية ترابيا (الأسرة، التعاونية، الحزب، النقابة، ...)، وطورت المؤسسات إلى أن أصبحت الأقوى تواجدا والأقدر بنية على التغيير. هي تعلم تمام العلم أن نظام تعليمها المستقل تم القضاء عليه أثناء الحماية الفرنسية، وأن تجربة المدارس الحرة جاءت متأخرة. إنها اليوم الراعية الأولى لهذا القطاع الحيوي، وتتحمل المسؤولية الجسيمة لتذليل الصعوبات المعرقلة لإدخاله بشكل نهائي في منطق الحداثة. الدولة هي القوة المؤثرة وصاحبة السلطة والقرار والمخاطب الوحيد في مسار التقدم في بناء نسق وطني للحداثة كما عرفناها أعلاه، والذي يجب أن يلعب فيه القطاع الهندسي (المادة الرمادية مصدر التصاميم التطبيقية وخطط التفعيل الميداني) دورا محوريا.

الدور الجديد للمثقف بالمغرب

بالنسبة لعبد الله العروي، المثقف لم يلعب الأدوار المطلوبة في حياة المجتمع المغربي، فانعكس ذلك على المهندس في مجال الفعل التنموي (ضعف الثقافة السياسية). شاعت تمثلات مغرضة صنفت المثقف في خانة المعاكس للسلطة. لقد لعب أكثر أدوار المقاومة والمعارضة متأثرا بعادات معاكسته للمستعمر. لقد تحول إلى فاعل معادي للنظام القائم. تأثر بالإرث الفرنسي الذي جعل المثقفين في فرنسا معادين للدولة مخالفين في ذلك منطق التفاعل المثمر بين السلطة والمثقفين السائد في بريطانيا وأمريكا. منطق الصراع ساهم بشكل واضح في تغييب نسبي لدور الحداثة في الفعل العمومي وحتى في تفاعلات القطاع الخاص.

أمام هذا التشخيص العقلاني الصريح، استوعبت المؤسسات الرسمية والمجتمع الرسائل المشفرة. شاع الاقتناع للتوجه إلى الدولة لكونها تمثل السلطة الجماعية المفوضة الراعية لمصلحة الأمة. لقد تقرر الدخول بحكمة في تجديد الثقافة بالشكل الذي ييسر اندثار مفهوم الولاء للتراث أو التقليد في النهار كما كان قديما. بالنسبة للزعيم أو المشير يقول العروي، المطلوب منه ليس هو التقليد، بل البحث عن طرق المصلحة أو المنفعة (تجربة الإصلاح الديني والتجديد القانوني المغربيين رائدين عربيا وجنوبا).

ملفات التحديات المطروحة اليوم على طاولة المسؤولين عن الشأن العام وعلى المثقف العارف تتجلى في الدفاع عن منطق جديد قد يستدعي الاضطرار إلى الدعوة للتخلي مؤقتا عن بعض التقاليد بدون أن يعني ذلك التنكر لها. التقاليد، يقول العروي، موجودة في المجتمع، ويجب التعايش معها بعقلانية، بدون أن تتحول إلى قيمة مسيطرة على كل القيم الأخرى. الخطر يتجلى في نزعة التعميم. وهنا لا مناص من تقوية الإرادة السياسية لتوثيق الصلة بين التنظير والهندسة التفعيلية. التقليد يمكن أن يستمر على مستوى الأسرة أو العائلة، ويجب أن يكون مصدرا للحماس. الفرد يمكن أن يبتهج يوميا من خلال العودة إلى مرقده ليلا ليختلي بنفسه ويفكر في تراثه وحضارته وخصوصية تاريخ بلاده، لكن مباشرة بعد سطوع شمس النهار، عليه الاعتكاف على الإنتاج وتفعيل الأفكار وتنمية خبرته العلمية والتكنولوجية ودرابته اليدوية والعقلية.

الوضع الاقتصادي والمالي ينبني على الابتكار والتجديد والمراهنة على التجربة وتراكم الاختراعات. وهنا يتموضع المهندس بخططه ومخططاته كوساطة بين العلوم النظرية والإجراءات التطبيقية. وتزداد جسامة مسؤولية المهندس كلما تقدمت العلوم والتكنولوجيا وغزوها لكل مجالات الحياة المهنية والاجتماعية. إنها التطورات العقلانية التي جعلت من الحداثة مجرد تجربة (وليست قيمة يجب التشبث بها) ظهرت في التاريخ وأعطت نتائج مذهلة. اعتنقتها حضارات أخرى غير غربية كالصين وروسيا والهند وتركيا واكتسبت بذلك القوة والنفوذ والرفاهية بدون أن تضحي بهويات مجتمعاتها. لقد أقرت التجارب المتطلعة لتحقيق النهضة أن الحداثة والأصالة لهما مجالين مختلفين يستدعيان التفريق بين الشعور والسياسة. فضاء الأولى هو السياسات العامة والمجتمع والمصلحة الجماعية، والثانية مرتبطة بمجال الشعور، بحيث يتم الحديث عن أصالة الفرنسي، وأصالة الياباني، وأصالة البريطاني ... بالرغم من كونهم يستثمرون الغالي والنفيس في مجال الحداثة. هذه الأخيرة مرتبطة بالعلاقات مع المكونات الخارجية التي لا تشاركنا قيمنا وحنيننا إلى الماضي. الغوص في مجالي الحداثة والأصالة بعقلانية يعطي للخصوصية الثقافية طابع التطور والتفوق. الياباني مثلا يعيش خارج البيت كأمريكي وداخله كياباني بدون أن ينفصل عن ذاته وهويته التاريخية.

تماشيا مع ما سبق، نجد أن هناك اعتراف عام لدى المراقبين دوليا أن المغرب يحاول أن يكون جزءا من العالم بتراثه، مفرقا بين خصوصيته الوجدانية ومجالات معاملاته التجارية والتصنيعية والمالية.

المغرب وفكرة القطيعة المنهجية مع التراث

الدولة المغربية القيادية للتغيير تستحضر بوضوح استنتاجات عبد الله العروي. بالنهار على المواطن المغربي أن يجد نفسه مضطرا للانفصال عن التراث منغمسا كليا في فضاء الإنتاج وقيم الحداثة، ثم يعود إلى التراث باحثا عن السكينة والذات متمسكا بدوام تحقيق التفوق وتراكم خبراته وطاقاته الإنتاجية.

حاجة السياسة إلى الحداثة

في كتابه "من ديوان السياسة" قال العروي: في ظل الأمّية، السياسة طاغية ومنحطة. في ظل الديمقراطية، مجال السياسة ضيق وقيمتها عالية. فالديمقراطية تحرّر السياسة، تنقذها من كل ما ليس منها. فتصبح الرياضة رياضة والفن فن، وكذلك العمل والفلسفة… أما إذا طغت السياسة على الكلّ، جرت الكلّ معها إلى الحضيض. فالعلاقة بين الديمقراطية والإبداع أعمق مما يتصوّر. وهنا كذلك جسد العروي بكلامه قوة مكانة المهندس في ترسيخ القيم السياسية بمنطق تنموي ونهضوي (تذوق المجتمع لانعكاسات السياسة في حياته).

أمام هذا التحليل، يتبادر إلى الذهن وكأن العروي يوجه الكلام لبعض دعاة ما بعد الحداثة من المثقفين المغاربة. لقد ادعوا ضرورة تجاوز الحداثة المفقودة عندهم وهذا في حد ذاته حديث غير مسؤول وغير معقول. يقول العروي كذلك، نقرأ اليوم كتبا تنتقد الحداثة، ونعتمد عليها للقول إن إشكالية الحداثة أصبحت كلها متجاوزة ....  وهذا دليل على أن المثقف عندنا يعيش في عالمين منفصلين يواجه يوميا مظاهر التخلف واللامعقول، وهي كلها تدل على عدم استيفاء شروط الحداثة في مجتمعنا، يتألم منها ويتشكى، لكنه عندما يكتب فإنه يبقى سجين الروايات والمقروآت، فيفعل كما لو كان يعيش في مجتمع متقدم ...فهل هذا معقول؟ هل نعيش فعلا في مجتمع متقدم؟ هل يحق لنا التصرف مثل الأوروبيين الذين عاشوا في أحضانها وتشبعوا بها. هل يصح لنا هذا الادعاء؟

في مثل هذه السياقات السياسية تضيق هوامش الفعل أمام المهندس، فتتحول السياسة إلى خطابة بعيدة كل البعد عن الواقع، فتختنق الإيديولوجيات بفعل طلاق القول مع الفعل، وتتراكم الخطط التصاميم الهندسية الواعدة على الرفوف ولا تفعل إلا الضعيفة منها).

التاريخ والفلسفة

ويمكن أن نقول إجمالا، أن التاريخانية كما يشرحها العروي تعتمد على أربعة مبادئ هي تباعا:

- ثبوت قوانين التطور التاريخي (حتمية المراحل).

- وحدة الخط التاريخي (الماضي نحو المستقبل).

- إمكانية اقتباس الثقافة (وحدة الجنس).

- ايجابية دور المثقف والسياسي (الطفرة واقتصاد الزمن).

في نفس الآن، عندما يستحضر العروي تاريخ حياته تبرز العبارة المدوية "الحقيقة أنني مشيت دوما على قدمين، التاريخ والفلسفة". الانفصال المؤقت عن التراث لن يقضي إلى القطيعة النهائية. استحضر علال الفاسي وعبد الله كنون فرضية عدم عودة العروي إلى التراث عندما قرر استكمال تعليمه الأكاديمي بالسوربون بفرنسا، لكنه عاد مؤرخا وفيلسوفا من العيار الثقيل. عاد مؤمنا أن التاريخ القديم يحتاج إلى تأويل للتأويل وإنتاج تأويلات جديدة تتماشى وإكراهات الزمن والجغرافيا. النص القرآني بالنسبة له هو الباقي، والتأويلات صالحة لزمانها وتصب في مصلحة المسلمين الأحياء، والنبوة انتهت، ولا يمكن لأحد أن يدعي أن تأويله هو الصحيح، لأن ذلك يعتبر نبوة جديدة.

خلاصة

استحضارا لمشروع العروي المتكامل، يتضح بجلاء أن تطوير عقيدة ربط إنتاج الأفكار الإبداعية في كل المجالات بالواقع والممارسة اليومية المنتجة للمنفعة والمصلحة يجب أن يكون من أولوية أولويات الدولة. وهذا الأمر يتطلب خطة واضحة لتمكين الهندسة من استرجاع وهجها وأدوارها التاريخية. المغرب، بارتباطاته الوثيقة بالفكر الأندلسي، جعل المغاربة يرضعون من ثدي أمهاتهم المنطق الحداثي الذي يجمع بين الذخائر الفكرية والفلسفية لكل من ابن خلدون وابن رشد وابن حزم وابن عربي .... المغاربة واعون أن المنطق الظاهري مرتبط بالإيمانيات والعبادات والربانيات، ومجال التأويل يستمد مقوماته من المصلحة الجماعية أو العامة. إثارة الخلط بين الدين والسياسة يذكرنا بتقابل واقع تأخر المسيحية البيزنطية وتقدم الإمبراطورية الرومانية. سلطة البابا غربا بقيت دينية منذ القدم وبعيدة عن السلطة الدنيوية.

فإذا كانت السلفية بالمغرب تختلف عن السلفية بالمشرق بسبب التركيبة الاجتماعية والتجربة التاريخية، فإن قيم الحداثة تحتاج إلى تقوية مكانة المهندس في الدولة والمجتمع.

***

الحسين بوخرطة

في العديد من المنظومات القانونية الدولية، هناك مفهوم يعرف باسم "الاستخدام العادل" الذي يسمح بالاستغلال المحدود للمواد المحمية بحقوق الطبع والنشر دون الحصول على إذن من المالك الأصلي. ينطبق هذا عادةً على المواقف التي يتم فيها اقتباس مقتطف أو جزء قليل من العمل الإبداعي أو استخدامه لأغراض مثل التناص أو الاستشهاد أو النقد أو البحث العملي أو إعداد التقارير الإخبارية.

يعتبر الحق في الاقتباس سندا هاما للغاية لتعزيز حرية التعبير وتبادل الأفكار، ويساعد على تقييد حق المؤلف إلى حد ما من السيطرة الشمولية على الإبداع وأي خطاب بشكل عام .

من ناحية أخرى، فالقرصنة هي الاستنساخ غير المصرح به أو توزيع أو مشاركة المواد المحمية بحقوق الطبع والنشر دون الحصول على إذن صاحب حقوق الطبع والنشر. يتضمن ذلك إجراءات مثل تحميل أو تنزيل الأفلام أو الموسيقى أو البرامج أو الكتب أو النصوص الأدبية بشكل غير قانوني، وغالبًا ما يكون ذلك بهدف الاستفادة من هذه الاستنساخات غير المصرح بها. وهي - القرصنة - تعتبر سلوكا غير قانوني بشكل عام وانتهاكًا لقانون حقوق الطبع والنشر.

إن التمييز بين هذين المفهومين – الاقتباس والقرصنة - أمر بالغ الأهمية فالحق في الاقتباس يدعم مبادئ حرية التعبير والتعلم والنقد، في حين يتضمن الحق في القرصنة أنشطة غير قانونية تقوض حقوق المبدعين والحوافز الاقتصادية والمادية لإنتاج الأعمال الإبداعية في مختلف المجالات.

إن التوازن بين حماية الملكية الفكرية وتعزيز حرية التعبير هو نقاش معقد ومزمن حيث تختلف القوانين والمساطر الإدارية بين البلدان والمجتمعات، وهي ماتزال تستمر في التبلور والتطور مع تغير التكنولوجيا لكيفية إنشاء المحتوى ومشاركته واستهلاكه.

إنه من الواجب على كل شخص احترام قوانين حقوق الطبع والنشر والحصول على الأذونات المناسبة عند استخدام المواد المحمية بحقوق الطبع والنشر، مع الدعوة أيضًا إلى أهمية الاستثناءات مثل التوظيف العادل للسماح بالاستخدامات المشروعة والمفيدة للأعمال المحمية بحقوق الطبع والنشر.

ومن المؤكد أن هناك بعض النقاط الإضافية التي يجب مراعاتها عند مناقشة "الحق في الاقتباس" و"الحق في القرصنة" ومن بينها على الخصوص موازنة المصالح بين الأطراف المعنية حيث يعكس التوتر بين الحق في الاقتباس والحاجة إلى مكافحة القرصنة التحدي الأوسع المتمثل في تحقيق التوازن بين مصالح المبدعين والمستهلكين على حد سواء.

إن قوانين حقوق الطبع والنشر تهدف إلى تحقيق هذا التوازن من خلال منح المبدعين حقوقًا حصرية لفترة محدودة مع السماح أيضًا باستثناءات يستفيد منها المستهلك والمجتمع.

في عصرنا الرقمي هذا أدت القرصنة الرقمية بالفعل إلى خسائر اقتصادية كبيرة في عديد من الصناعات الفنية والتكنولوجية مثل الموسيقى والأفلام والبرمجيات مما حتم على جميع الأطراف تكثيف الجهود المبذولة لتعزيز تنزيل وتنفيذ حقوق النشر وتدابير مكافحة القرصنة.

يرى بعض المهتمين على أن القرصنة تكون "مقترفة" باحتياجات المستهلكين المحتاجين، مثل توفر المحتوى وعدم القدرة على تحمل تكاليفه. وقد ظهرت خدمات البث القانونية والأسواق الرقمية بأسعار معقولة كبدائل للقرصنة، مما يسهل على المستهلكين الوصول إلى المحتوى مع تعويض المبدعين بشكل غير مباشر.

بالإضافة إلى الجوانب القانونية، هناك اعتبارات أخلاقية. غالبًا ما تنطوي القرصنة على مصادرة الإيرادات من المبدعين والعاملين في الصناعات الإبداعية. يمكن أن يكون لهذا عواقب وخيمة خاصة بالنسبة للفنانين المستقلين ومنتجي المحتوى المبتدئين.

غالبًا ما تتضمن مكافحة القرصنة مزيجًا من التنفيذ القانوني والتعليم العام. تعمل المؤسسات الصناعية ومنشئو المحتوى معًا لتنفيذ قوانين حقوق الطبع والنشر، بينما تهدف حملات التوعية العامة إلى تثقيف المستهلكين والجمهور عامة حول الآثار الوخيمة المترتبة على القرصنة.

ثم إن قوانين حقوق النشر ليست ثابتة وتتكيف باستمرار مع التقنيات الجديدة والاحتياجات المجتمعية. وسيستمر التوازن بين الحق في الاقتباس والحاجة إلى منع القرصنة في التطور مع تحديث الضوابط القانونية.

باختصار، يؤكد "الحق في الاقتباس" على أهمية حرية التعبير والتعلم مع احترام حقوق منشئي المحتوى الأصليين. ومن ناحية أخرى، يتضمن "الحق في القرصنة" أعمالاً غير قانونية تضر بالمبدعين والصناعات الإبداعية. ويشكل تحقيق التوازن بين هذه الحقوق والمسؤوليات تحديا مستمرا، ومن المهم أن يواصل المجتمع المدني والمؤسسات المسؤولة مناقشة الإطارات القانونية والأخلاقية وتكييفها وتحديثها لتعكس المشهد التكنولوجي والثقافي المتغير.

***

عبده حقي

من جديد تفاجئنا جائزة نوبل للاداب، وتسخر من توقعاتنا عندما نُصر ان الجائزة يجب أن تذهب إلى كاتب نعرفة وقرأنا الكثير من رواياته .كانت التوقعات تشير الى فوز الروائية الكندية مارغريت آتوود او مواطنتها الشاعرة " آن كارسون " وكنت قد اطلعت يوم امس على قائمة المراهنات على الجائزة، فكان اسم الياباني الشهير هاروكي موراكامي في المراكز المتقدمة، وايضا احتل سلمان رشدي موقعا، ومن افريقيا لا يزال الكيني نغوجي واثيونغو على القائمة منذ سنوات، واضيف للقائمة الصومالي نور الدين فارح، إلا ان السيد أندرس أولسون رئيس لجنة الجائزة ابلغنا ان الجائزة من نصيب الكاتب النرويجي " جون فوس " كما تَّردد الاسم في وكالات الانباء العربية أو "يون فوسه " كما جاء في الترجمات العربية لاعماله وهي رواية " صباح ومساء " التي ترجمتها شيرين عبد الوهاب وامل رواش عن النرويجية "، ورواية " ثلاثية" بترجمة شيرين عبد الوهاب وأمل رواش أيضاً، وصدرت له عن سلسلة المسرح العالمي مسرحية " الكلاب الميتة " ترجمة محمد حبيب .

لم يَّثر فوز جون فوس بالجائزة استغراب المتابعين في الغرب فهو على قوائمها منذ سنوات وكادت ان تذهب اليه عام 2021 عندما منحتها اللجنة للروائي عبد الرزاق جرنه. لكن هل تفاجأ جون فوس مثلنا وهو يستمع الى صوت سكرتير اللجنة ماتس مالم عبر الهاتف يخبره بالفوز؟. كان حينها يقود سيارته في الريف، توقف قليلا ليلتقط انفاسه، لاحظ سكرتير اللجنة ارتباكه فاوصاه أن يقود سيارته الى البيت بحذر . امام باب المنزل الانيق الذي يقع وسط مدينة اوسلو قرب القصر الملكي، وقد منحه اياه ملك النرويج تقديرا لمساهماته في الفنون والثقافة النرويجية. امام المنزل الملكي كانت وسائل الاعلام بالانتظار قال للصحفيين ان الأمر مدهش واصابه بالخوف الى حد ما .يخبر مراسل هيئة الاذاعة النرويجية انه كان يعد نفسه بحذر منذ عشر سنوات لتلقي مثل هذه المكالمة المدهشة، مضيفا ان الجائزة منحت " للأدب الذي يهدف أولا وقبل كل شيء إلى أن يكون أدبا، دون أي اعتبارات أخرى".

بيان لجنة الجائزة وصف "جون فوس"، بأنه "كاتب رائع في نواحٍ عديدة". وان ما يميز اعماله :" هو التقارب في كتاباته. فهو يمس أعمق المشاعر التي لدينا - القلق، وعدم الأمان، وتساؤلات الحياة والموت - مثل هذه الأشياء التي يواجهها كل إنسان "، واضافت اللجنة في بيانها أن :" هناك نوع من التأثير العالمي لكل ما يكتبه. ولا يهم إذا كان دراما أو شعر أو نثر، فهو يتمتع بنفس القدرة من الجاذبية "، فيما قال أندرس أولسون رئيس لجنة الجائزة ان فوس :" يؤثر علينا بعمق عندما نقرأه، وعندما، نقرأ عملاً واحدا، نجد انفسنا نستمر ونستمر " واصفا اياه بانه يمزج بين تجذر اللغة وطبيعة خلفيته النرويجية مع التقنيات الفنية في أعقاب الحداثة.

ناشر أعمال فوس قال للصحفيين الذين امتلأت بهم مكتبته: إنه كاتب استثنائي، تمكن من إيجاد طريقة فريدة تماما لكتابة الرواية، ما ان تفتح أي كتاب له وتقرأ سطرين، فستكتشفه انه كاتب متفرد ليس بامكان غيره ان يكتب مثل هذه الروايات والقصص " .

الكاتب البالغ من العمر 64 عاما يعد اشهر كتاب المسرح في النرويج يصر ان يكتب بلغة نينوشك أو النرويجية الجديدة، وهي لغة اهالي الساحل الغربي للنرويج، كتب حوالي 40 مسرحية بالإضافة إلى الروايات والقصص القصيرة وكتب الأطفال والشعر والمقالات التي وصفها الروائي النرويجي كارل كناوسغارد بانها :" تقف خارج الفن وتُمعن النظر فيه، تسبره وتستقصيه، متسائلة عن طبيعته بطرق مفهومة لي، لك، لنا، وترتبط بالتالي بالعالم الاجتماعي، متنقلةً بطريقة تبدو فيها، تلك المقالات، تشبه زمانها "، وهي حسب كناوسغارد تختلف عن ادبه الذي ينظر ابطاله من الداخل إلى الخارج، إلى العالم والقارئ معاً " .

ولد جون أولاف فوس في التاسع والعشرين من ايلول عام 1959 في هوجيسوند على الساحل الغربي للنرويج، ونشأ في مدينة ستراندبارم، لعائلة من الطبقة المتوسطة، تعرض في السابعة من عمره لحادث كاد أن يؤدي بحياته، يقول بأنه "أهم تجربة" في حياته، وانه صنعه ككاتب وفنان . كان يطمح في مراهقته أن يصبح عازف غيتار يقرر الانضمام الى احدى فرق موسيقى الروك قبل ان يتركها بعد ان وجد ان الكتابة هي طريقه الوحيد.نشأ في بيئة قريبة من " الحركة اللوثرية التقوية " مع جد من جماعة " الكويكرز" - جمعية الأصدقاء الدينية -، كان الجد ناشطاً من أجل السلام وتمنى ان يصبح حفيده سياسيا، لكن الشاب فوس نأى بنفسه عن محيط عائلته واعلن تمرده والحاده قبل ان يقرر اعتناق الكاثوليكية .

درس الادب المقارن واهتم بالفلسفة، شغف بكتابات جاك دريدا ادهشه كتاب دريدا " في علم الكتابة " قرأه عندما كان يعيش في الريف، أول نص ادبي كتبه عندما كنان في الثانية عشرة من عمره، كان كلمات أغنية. كتب بعض القصائد والقصص الصغيرة. يقول انه كان يشعر آنذاك انه يكتب لنفسه وبنفسه وليس للآخرين :" كان الأمر خاصا جدا. لقد وجدت مكانا أحببت الإقامة فيه " .

في الجامعة تشغله الافكار الماركسية ينضم لفترة مؤقته الى حزب ماوي، قرر دراسة علم الاجتماع، لكنه وجده علم غريب على اهتمامته، يلتحق بقسم الفلسفة، يقرأ هايدغر باهتمامه ويناقش كتابه " الكينونة والزمان، وجد فيلسوف متعب، لظل متعلقا بدريدا، يعترف ان كتاب دريدا " في علم الكتابه " اثر على طريقته في كتابة الادب . يدرس الادب المقارن، يبدا بكتابة روايته الاولى " "أحمر، أسود" والتي ستنشر عام 1983، وفيها يصفي حساباته مع الحركة اللوثرية التقوية التي كان جده يعتنقها ..فيما عرضت مسرحيته الاولى لن نفترق عام 1992 . قال ان دراسته للادب المقارن جعلته يسعى لكتابة نظريته الخاصة عن الرواية، والتي يرى ان الكاتب فيها يجب ان يكون هو المفهوم الرئيسي.

توصف اعمال جون فوس بأنها تنويع قريبة من افكار صامويل بيكيت التشاؤومية، وذاتية توماس بيرنهارد، قالت لجنة جائزة نوبل في بيانها ان :" فوس يمكن مقارنته بكتاب عظماء سابقين مثل توماس بيرنهارد وجورج تراكل وفرانز كافكا" واضاف البيان ان: رواياته تم تقليصها بشكل كبير إلى الأسلوب الذي أصبح يعرف باسم "البساطة الفوسية "

يعترف أنه اقرب الى كافكا الذي ترجم روايته الشهيرة " المحاكمة " الى النرويجية . كان كافطا افضل أدب عرفه قد فتحت عينيه على الطريقة التي يجب ان يكتب فيها الادب .

يصر على ان الكتابة دون ضرورة لا تعني شيئا:" عندما أكتب رواية. أغلبهم يقولون لا لهذا، أو نعم لذلك. واتباع كل هذه القواعد والاستماع إليها يتطلب ذاكرة وقدرة عقلية أكبر بكثير مما أعتقد أنني أملكه كشخص. لكنني أعتقد أننا أكثر بكثير مما نعرفه. نحن قادرون على أشياء غريبة. ومن بينها القدرة، أو ربما الفهم، على تنظيم علاقات أجزاء الرواية أو العمل الفني بالكل."

لا يؤمن بوضع مخطط للعمل الروائي، فهو يثق فقط بحسه الفني، يخاطب قراءه بالقول: أنتم لا تقرأون كتبي من أجل الحبكة" :"الطريقة التي أكتب بها عندما أركز، كل شيء يجب أن يكون دقيقًا وصحيحا."

حصل جون فوس على العديد من الجوائز، بما في ذلك جائزة المسرح الاسكندنافي الوطني، وجائزة مجلس الفنون النرويجي الفخري وجائزة الأكاديمية السويدية الشمالية (2007) وحاصل على جائزة الكاتب النرويجي هنريك ابسن والذي تاثر به كثيرا يقول فوس: "إنه الكاتب الأكثر هيمنة الذي أعرفه". يجد متعة بوصف النقاد له بانه ابسن الجديد . ترشحت بعض رواياته وترشيح على القوائم القصيرة لجائزة البوكر. هاجس الاختبار جلب لجون فوس القراء والشهرة وتعيش شخصياته في عوالم شعرية مجردة تعاني واقعا باردا وقاسيا يشبه الملاحم الشهيرة، وتتحدث شخصياته قليلا في نصوصه، لكنها تكشف عن مشاعرها الداخلية الدفينة. يوصف بانه " كاتب الصمت " اشارت لجنة جائزة نوبل الى ان " أعماله النثرية تعطي صوتاً لما لا يمكن البوح به " . يغيب الوصف الخارجي المكثف عن أدب فوسه، لكنه يستعيض عنه بكشف العواطف عبر الشعر والموسيقى اللذين يعتمد عليهما في إنجاز الحبكة، وهو بذلك يخرج عن المسرح والرواية السردية التقليدية. "لا أعتقد أن اعمالي متشائمة للغاية، لكنها ليست متفائلة أيضًا". واضاف : لم أحاول أبدًا الكتابة بطريقة معقدة. أحاول دائمًا أن أكتب ببساطة، وبأقصى ما أستطيع."

يقول فوس: "عندما أكتب بشكل جيد، ينتابني شعور واضح ومميز للغاية بأن ما أكتب عنه مكتوب بالفعل .إنه في مكان ما هناك. عليّ فقط أن أكتبه قبل أن يختفي" .

إن قراءة مسرحيات فوسه ورواياته يعني الدخول في شراكة مع كاتب يشعر القارئ بحضوره بقوة أكبر بسبب جوه المشحون بالمواقف القاتمة والكوميدية في نفس الوقت، يقول انه يؤمن بالحقيقة الانسانية التي قرأها في كتب الفلاسفة وبالهيمنة الالهية التي وجدها واضحة في متب اللاهوت :" في الظلام يجد المرء النور فعندما نكون في حزن، فإن هذا النور هو الأقرب إلينا من كل شيء" ويضيف :" أشعر أن هناك نوعا من من المصالحة في كتاباتي. أو السلام " .

" أذهب إلى المجهول وأعود بشيء لم أعرفه من قبل"، هكذا قال في مقابلة مع صحيفة "إندبندنت"، متجنباً البحث عن معنى أبعد من الكتابة. كتب الروائي كارل أوفي كناوسغارد مؤلف الرواية الشهيرة " كفاحي "، والذي يعترف بانه االمذ على يد جون فوس بأن فوس :" يؤمن بالكتابة كتمرين غامض وأن التناقض بين اللامتناهي بداخلنا والقيود الخارجية هو الذي يحرك كل ما لديه".

امام الصحفيين ووكالات الانباء وقغف حون فوس هادئا متحفظا في الكلام، وبدا متوترًا بعض الشيء عندما أجاب على أسئلة الصحفيين وعلق على جائزة نوبل التي حصل عليها. واعترف بأنها "أهم جائزة يمكنك الحصول عليها، لا أكثر ولا أقل"، ولكن عندما سئل عما سيعنيه ذلك بالنسبة لمسيرته المهنية وأسلوب حياته، أجاب "القليل، وقال إنه سيحتفل بجائزته "بهدوء شديد، مع العائلة، وأشار الى ان الكتابة بالنسبة اليه اهم من الجوائز انها "حياتي". .

جائزة جون فوس هي الرابعة التي تذهب الى كاتب نرويجي ذهبت عام 1903 الى " بيورنستيارنه بيورنسون " والذي يعد من ابرز شعراء النرويج، كتب النشيد الوطني لبلاده ويصنف كواحد من عظماء الادب النرويجي .

بعد " 17 " عاما ستعيد جائزة نوبل النظر في الادب النرويجي، وتمنح جائزتها عام 1920 الى الروائي النرويجي " كنوت همسون " 1859 - 1952 " صاحب الرواية الشهيرة الجوع – ترجمها الى العربية محمود حسني "، وقد تعرفت على روايات همسون بالصدفة حين عثرت في منتصف السبعينيات في دار الكتب القديمة التي كان يملكها الراحل " ابو يعقوب " على نسخة قديمة من رواية الجوع " . لم اسمع من قبل بـ" كنوت همسون "، لكنني قرأت على الغلاف ان صاحبنا فاز بجائزة نوبل . عندما صدرت رواية " الجوع " عام 1890، كان همسون في الواحدة والثلاثين من عمره – ولد في الرابع من اب عام 1859 وعاش حتى سنة 1952 – وخلال حياته اثار ضجة كبيرة عندما قرر ان يدافع عن احتلال المانيا النازية لبلاده، ووصف هتلر بـ" آخر العمالقة " وكان من الطبيعي ان يقدم الى المحاكمة بتهمة الخيانة، ليصدر الحكم بالإعدام سنة 1947، لكن حملة قادها سارتر وهمنغواي وفوكنر، ابعدت عنه شبح المشنقة، واكتفت المحكمة بمصادرة امواله، لكنه قبل وفاته بثلاثة اعوام كتب عن تجربته في الحياة، حاول فيها ان يطلب من الجميع ان يسامحوه على ما ارتكبه من حماقات في الحياة ..

عام 1928 تعود جائزة نوبل الى النرويج للمرة الثالثة حيث تمنح الى الروائية سيغريد أوندست صاحبة الملحمة الثلاثية " كريستين لافرانسداتر " - ترجمها الى العربية توفيق الاسدي – وهو العمل الروائي الذي منحت بسببه جائزة تنوبل وبه تصف حياة امرأة من الولادة حتى الموت.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

"إن كُنْتُ أعز عليك فخذ بيدي

...

إن كُنْتَ قويا

أخرجني من هذا اليمّ

فانا لا أعرف، لا أعرف، فن العوم.."

***

هذا ما قاله الشاعر نزار قباني في قصيدته المُعنونة "بِرسالة من تحت الماء" التي لحنها الموسيقار محمد الموجي وغناها العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ.

يطلب الشاعر ممن يعز عليه أن يأخذ بيده، أن ينقذه ويخرجه من بحر لا يدرك قعره خاصة أنه لا يعرف فن العوم وعلى الأرجح، إن لم يمد له أحد يد المساعدة فإنه سيغرق.

تطلق كلمة اليمّ في اللغة على البحر وتعني كلمة اليمّ بقعة من الأرض تكون ذات ماء مالح، أو عذب، وتكون أصغر حجما من المحيط. ويقال إنّ اليمّ بحر لا يمكن للإنسان أن يدرك قعره.

وردت كلمة (اليمّ) في القرآن الكريم مرتبطة بمعاني الهلاك والعذاب، كما في قوله تعالى (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ) بمعنى طرحناهم في اليمّ وهو البحر.

كما جاء في قوله تعالى (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) أي أغرقناهم في البحر الواسع.

همُوم كثيرة قد نغرق في غورها أو قد يغرق فيها أحبتنا. لعل أكثرها تهديدا للحياة هي تلك المقترنة بالطفولة إذ ترتبط حياة الإنسان بمختلف أوجهها، بما في ذلك اختياراته وعلاقاته، بفترة طفولته.

تخبرنا "ليز بوربو" وهي معالجة كندية أسست في كتابها الأكثر مبيعًا على مستوى العالم "الجروح الخمس التي تمنعك أن تكون على طبيعتك"، رابطا بين الجروح الداخلية والمظهر الخارجي للفرد.

وفقا لما تقوله "ليز" فإن هذه الجروح تؤثر علينا وعلى علاقاتنا.

تتمثل هذه الجروح في خمسة جروح.

أولها جرح الرفض وهو الجرح الأكثر إيلاما..هو يؤثر على الأشخاص الذين تم التعامل معهم في طفولتهم على أن وجودهم أوعدم وجودهم سيان.

كذلك جرح الهجر وهو ثاني أعمق أذى بعد الرفض، لأن كليهما يلامسان عمق الذات الإنسانية. أولئك الذين يعانون من الهجر لا يشعرون بالإشباع العاطفي الكافي. هم في حاجة دائمة إلى الاعتراف والدعم.

أما جرح الذل فيعاني منه من نشأ خلال فترة طفولته في بيئة جعلته يحس بأنه قليل الشأن.

ويرتبط جرح الخيانة بالتخلي. إن الشخص الذي عانى من الخيانة يريد إظهار قوته و يريد السيطرة. كما أنه يجد صعوبة كبيرة في التعامل مع الكذب لأن من يكذب عليه لا يمكن أن يكون من وجهة نظره إلا خائنا ومتخليا.

الجرح الخامس هو جرح الظلم وهو يتمثل في إصابة مرتبطة بالرفض. الشخص الذي يعاني منه يسعى إلى أن يكون كاملا وتبعا لذلك يفضل هؤلاء الأشخاص عزل أنفسهم عن مشاعرهم استباقا لمخاطرة التعرض إلى الرفض.

في بعض الأحيان نحن لا نفهم ردود أفعالنا أو تصرفاتنا مع الآخرين كما أننا قد نعجز عن فهم تصرفات هؤلاء، تجاهنا.

تبين لنا المعالجة "ليز بوربو" أن كل إصابة أو جرح ترتبط بما يطلق عليه القناع.

والقناع هو رد الفعل الدفاعي الذي يتبناه الشخص المصاب بجرح أو بجروح الطفولة في مواجهة بعض المواقف أثناء تعامله مع الآخرين.

تشرح الكاتبة أنّ "الرغبة في إخفاء هذه الجروح عن الذات أو عن الآخرين، تجعل كلّ واحد منا يرتدي قناعا ما، حسب جرحه الخاصّ".

نلاحظ أن الشخص الذي عاني في طفولته من جرح الرفض.. رفضه أهله.. يرتدي قناع الهارب. هو يهرب من الاهتمام.. يهرب من الحب.

أما الذي يعاني من جرح التخلّي فهو يرتدي قناع المتعلّق بالآخرين بشكل مرضيّ ليصبح الٱخر هو المصدر الوحيد لسعادته.

كذا من عانى من جرح الإذلال فهو يرتدي قناع المازوشي أي أنه لايرتاح إلا في الوضعيات أو مع الأشخاص الذين يشعر معهم أنه أقل بالمقارنة معهم ويفرحه أنه في خدمتهم وتحت أمرهم وأنهم راضون عنه.

أما الذي يعاني من جرح الخيانة فهو يرتدي قناع المتحكّم.

ومن يعاني من جرح الظلم فإنه يرتدي قناع الصلابة.

تقول الكاتبة إن ارتداء هذه الأقنعة يصبح ضروريا لحماية النفس من أن يضع أحدهم يده على مكان الألم.

إن التخلص من هذه الجروح المتربطة بالطفولة لا يبدأ إلا بنزع الأقنعة التي تغطيها. فالجرح لا تنفع تغطيته بل الطريق الوحيد لشفائه هو كشفه ومداواته.

كل من يريد التشافي من جروح الطفولة عليه أن يعي جرحه و يسامح نفسه ويسامح الآخرين.. عليه أن يخرج جرحه الأساسي إلى الوعي.. أن يواجه ذاته التي تعاني .. أن يسقط القناع الذي يغطيه.. أن يكاشف نفسه.. أن يكون على طبيعته دون خجل أو مواربة.

ربما لا نستطيع أن ننقذ من يعاني من جروح الطفولة على حبنا له فكل روح ترزح تحت حمل أثقالها.. مهما فعلنا ومهما قدمنا له، قد لا يجديه نفعا أن نكون أقوياء لإمساك يده وإخراجه من اليمّ على حد قول الشاعر نزار قباني لأنه لا يمكن لأحد أن ينقذه من نفسه إلا نفسه.

***

درصاف بندحر - تونس

..................

المرجع:

كتاب “الجروح الخمس التي تمنعك أن تكون أنت” للكاتبة أستاذة علم النفس في جامعة السوربون "ليز بوربو". يهتم الكتاب بشرح وتفسير الأزمات النفسية الكبيرة التي قد يتعرض لها الإنسان وتحرمه من العيش بطريقة سعيدة.

بعض المفكرين والمحللين التفتوا الى الدور الفعال والمهم الذي تلعبه الفلسفة في تفكيك الانظمة الاستبدادية والفاسدة. فاذا ما دخلت في صفوف الناس فان كل الخرافات ستنهار دفعة واحدة لان العقل سيسود الطبقة المثقفة وسيكون سدا منيعا امام العقول المتحجرة والمتخلفة. والمعروف ان الحكام يخافون من المنطق والفلسفة العقلية لانها تعريهم وتعرف الانسان بمكانته الطبيعية وحقوقه في المجتمع والحياة. وتسعى الى حكم الانسان الكوني وليس الطائفي او المذهبي.. واليوم نجد ان هناك غياب كامل للعقل الفلسفي في عالمنا العربي مما اتاح للحكام المستبدين الظلمة ان يحكموا بغطرسة وتعسف يدعمهم بعض العلماء ذو العقول المتحجرة التي لازالت تعيش على روايات وفكر الماضي السحيق والذي يسميهم علي الوردي بوعاظ السلاطين.

والفيلسوف ينظر الى الانسان بوصفه انسانا بغض النظر عن جنسه وقوميته او دينه ولهذا هناك فرق بين التفكير الأيديولوجي والتفكير الفلسفي. والفلسفة هي البحث عن الحقيقة بمعنى ان الفيلسوف لا يملك الحقيقة انما يبحث عنها.

 ومنذ عصر النهضة تعالت الاصوات في التأكيد على الاصلاح والتغيير ومعالجة الامور الانسانية بعقلانية والحد من قبضة سلطة الكنيسة التي تعتبر نفسها ممثلة عن الله في حكم الارض. واستطاع عدد من المفكرين من الثورة واعلان معارضتهم لحكم الكنيسة امثال روسو وفولتير وجون ستيوارت وجان بودان وغيرهم. فنجحوا في اسقاط سلطة الكنيسة وظهور النظم الديمقراطية.

الديمقراطية في عالمنا العربي

ولكن لماذا لم ينجح النظام الديمقراطي في بلداننا العربية؟.

قرأت عدد من الكتب عن تاريخ الحضارات الرافدينية. والرحالة الاوربيين الذين زاروها. منهم المؤرخ اليوناني هيرودوتس (480 ق م) فيذكر بان لباس اهل بابل مثل النعال والحذا كانا مقتصرا على الامراء والملوك والكهنة ورجال الحرب اما عامة الناس فهي تسير حافية الاقدام عارية الروؤس. كما ان ملابس الملوك مزركشة ومزخرفة بانواع الزخارف الجميلة الفاخرة وعرباتهم التي تجرها الخيل مزينة وخصوصية.. ولازالت هذه الفوارق الطبقية تعيشها المجتمعات الانسانية وكذلك في بلداننا العربية الذي يسودها التخلف والتعلق في نصوص خرافية جامدة من الصعب تفكيكها او المنع من تحليلها ونقدها وفق منظور عقلي عصري منورة.

ومن جانب آخر يذكر الدكتور خزعل الماجدي في كتابه – الميثولوجيا السومرية - بان الشخصية الرافدينية تحمل بعض صفات الآلهة السومرية مثل الاله - انليل - اله الهواء والقوة والسلطة والقسوة، وتسمي النصوص السومرية هذه الصفة ب (الانليلية) كما تبرز صفة اخرى ممثله بالاله – انكي – اله الماء والخصب والابداع والثقافة والفنون، وتسميه النصوص السومرية ب (الانكية) ومن هنا ينطلق الدكتور على الوردي في تشخيصه وتقييمه للشخصية العراقية.

نحن اليوم نحمل ارثا حضاريا قديما عمت ثقافته كل عالمنا العربي فلازالت الكثير من الاساطير والخرافات تعيش بيننا وفي حياتنا. ويذكر ان كعب الاحبار وهو من كبار علماء اليهود قد اسلم في زمن الخليفة عمر بن الخطاب وقد سمح له عمر بالتحدث في المسجد النبوي والقاء المحضرات، وكان هذا الرجل مشبع بالثقافة التوراتية والتي معظمها عبارة عن اساطير وخرافات كتبت في بابل ايام السبي في زمن الملك نبوخذ نصر، وقد دخلت الثقافة اليهودية الى الاسلام عن طريق هذا الرجل واطلق عليها بعض العلماء اسم - الاسرائيليات..

اليوم اصبح الخطاب الديني معظمه عبارة عن روايات لا تخضع للتحقيق والعقل وكأنها اشياء مسلم بها ومقدسة مما ادى الى غياب المنطق وتوقفه امام الرواية وعدم ديناميكية النص او الفكر ليتماشى مع العصر. فهي روايات اتت الينا من تلك العصور الخرافية الغابرة والمظلمة والتي دخلت فيها الاساطير البابلية والتوراتية.

 وامام هذه الظاهرة اصبح التفكير تكفير ومن الابداع الى الاتباع ومن التعقل الى الاسطورة والخرافة ومن التجديد الى التقليد والتحجر. وهذا هو واقعنا الذي نعيشه اليوم مع الاسف..

***

د. كاظم شمهود

"أن نتفلسف يعني أن نقاوم"

إذا كان التنوير بالنسبة لكانط هو "خروج الإنسان من عدم نضجه الذي جلبه على نفسه"، وهو عدم نضج ناجم عن "الافتقار إلى القرار والشجاعة"، فإن الثورة هي شرط الحداثة والفرد المستقل هو أساسها. لقد حدّدت الثورات السياسية تاريخ الحداثة؛ العلم والتكنولوجيا في حالة اضطراب دائم. تستمر الطليعة الفنية في الثورة وإعادة تعريف روح العصر. لقد تعاملت الفلسفة على نطاق واسع مع الثورة والحق في المقاومة. لكن العلاقة بين الاثنين تم فحصها بشكل سطحي إلى حد ما. يتم تناول استكشاف الفلسفة المتردد للعلاقة بين الثورة والحق في المقاومة. فما الذي يسبب العودة الدورية للمقاومة والثورة في مجال التاريخ؟ وهل تستطيع الفلسفة تفسير العودة الأبدية للمقاومة رغم محاولات القانون المستمرة لحظرها؟ وما الذي يجعلنا نقرر المقاومة بصورة جماعية؟ وبأي معنى تصير مقاوما فلسفيا في الفضاء العمومي؟

مصطلح المقاومة سمعناه في المظاهرات المطالبة بالحرية والاستقلال والسيادة وضد الغزو والاحتلال. وهو المصطلح الذي أصبح منتشرا في كل مكان منذ موجات المطالبة بتقرير المصير للشعوب. وهو بالطبع مصطلح يطارد ذاكرتنا منذ الحرب العالمية الثانية: نقاوم العدو، لا نستسلم، نصمد، لا نتفاوض. في مواجهة الرعب، نحن لا نخضع. وفي مواجهة ما لا يمكن تصوره، نبقى واقفين. بعد الاعتداءات، بدا أن المقاومة والتظاهر والتواجد معًا والتعبير عن الاشمئزاز، قبل الفهم أو الشرح أو التعليق، كان رد الفعل الوحيد الممكن، البداية الضرورية. لكن يجب أن أثير هنا شكًا، خوفًا: هل المقاومة، رغم أنها ضرورية، كافية؟ هل يكفي أن نقول "أنا أقاوم"، أن أقاوم الجمود، أن أواجه الغزاة والمحتلين للرد على المعتدين؟

في البداية المقاومة هي عمل فردي، لا مقاومة دون تفرد، دون الرجوع إلى الذات. لا يمكننا أن نتحدى نظام الأشياء دون الخوض في خصوصية ضميرنا. لكن هذا المشروع الجذري يسعى إلى استيعاب هذه الفردية، ومنع الجميع من التفكير بأنفسهم فقط، ودفعهم الى التفكير في غيرهم. لذا فإن تصور أن العالم يمكن أن يكون مختلفاً عما هو عليه يشكل تهديداً رهيباً لجميع المستبدين وحلما مطلوبا لكل المناضلين. الفرد هو رمز للمقاومة ولكن التحرر فعل دماعي ولذلك الحرية وحدها هي التي تجعل الإنسان حراً، وأننا من خلالها وباسمها نتعلم المقاومة. ولكن ما هو أساسي ليس الفعل الحر، بل الالتزام الجماعي بالمقاومة ومن خلال إعادة تملك لفرديتنا غير القابلة للاختزال نصبح مقاومين ونفتك حقنا في الحياة المشتركة. كما يمكن التطرق الى أشكال المقاومة التي افتتحتها ثلاثة تيارات فلسفية معاصرة رئيسية ويتساءل عنها. وبالتالي يمكن البحث عن أنماط محتملة للخلاص من النظام العنصري التمييزي الذي يميل، خلسة، إلى فرض نفسه كواقع لا مفر منه أكثر من كونه نموذجًا بسيطًا ممكنًا، يمكن تجاوزه ودحضه. والسؤال هنا ليس مدى حيوية النظام الاستعماري الجديد أو كفاءته أو استدامته. ولا يتعلق الأمر بشرعية المعارضة أو مزاياها. بل بالأحرى أشكال المقاومة وخطوطها وحدودها ومواقفها وأشكالها. يتم الالتفات الى مسألة المقاومة من خلال عدة قضايا، يتم فحص كل منها وتحليلها وإعادة تركيبها من خلال ثلاثة مناظير: الجدلية، والحيوية، والبديهية. الأول يحمله شخصيات هيجل وماركس وسارتر ومدرسة فرانكفورت. والثاني يجسده دولوز، وبدرجة أقل، برجسن ونيجري. والثالث يمثله ألان باديو بشكل حصري تقريبًا. ومع ذلك، فإن هذا المنهج ليس مجرد تصنيف. تساهم الأنماط المفاهيمية في تجديد مذهل لمجالات الرنين الخاصة بها. إن المواقف غير المتوقعة والتغيرات والتحولات التي تجري وتكمن في الخطاب تساهم في فتح خروقات غير متوقعة. التصنيف المنهجي والفوضى لبلعمة الآليات السببية للسوق. من خلال التشكيك في العقد، والمفاصل، والمشغلين، والمواقف، والتأثيرات، والحالات، والوجوه، والحيوانات الطوطمية، المواقف، والأوقات، وحدود مخططات المقاومة الثلاثة التي تم النظر فيها، يتم تأكيد فوارق بنيوية في المنهج بقدر ما تؤكد تواطؤها الضمني في كثير من الأحيان. إنها متشابكة في البادرة التمردية وترسم خطط المعارضة التي تتدخل في الصهارة الدنيوية لوقف سببيتها العنيدة. تظهر المقاومة هنا في نمط الخلق. يتم فحص كل شكل من أشكال الاستخراج من الحقل القمعي بدقة، وكشفه وإعادة لفه حول ماهيته المفاهيمية. يتم الاقراب من المقاومة ضد التيار، أي اتباع منطق مضاد يجعله أقليميًا بعيدًا عن أشكاله المعتادة، ويعيد إقليميته أحيانًا خارج الكاميرا، وأحيانًا يزيله جذريًا. في علاقة غير خطية بالنص، بالصورة لعلاقة غير كرونولوجية بالزمن، يتحرك الجدل بين المزالق ويتمفصل حول فكرة أصيلة عن الكارثة، عن "الانعكاس"، عن المطلق. هذه المقاومة غير متوقعة ولا يمكن التنبؤ بها بشكل جذري. ان المسار الأول هو المنهج الجدلي الذي يطرح اختلافًا داخليًا لنفس الشيء. الجدلية مدفوعة بالتناقض. إنها تتوقف على الانفصال بين الفكر والعالم. إنها تعمل من خلال "السلبية"، من خلال التناقض الداخلي. تتجلى المقاومة بطريقة حربية، في المعارضة المباشرة. يُنظر إلى التاريخ على أنه تناوب بين الفترات التي يهيمن فيها التطبيق العملي الشامل وأوقات الهدوء والسلبية. إن دينامية المقاومة الديالكتيكية تتخذ شكل الجاسوس: فهي تهاجم الأساسات، وتناور في الظلام، وتتسلل خلسة. وهو تعمل عن طريق إعادة التنشيط والتكرار، تفاضليًا أحيانًا، ومتطابقًا أحيانًا اخرى. المسار الثاني، وهو الموقف الحيوي، يصور، على عكس السابق، العلاقة بين نفسه والآخر خارج أي سلبية. حالة الآخر تصبح مكثفة هناك. تعتبر الحيوية، باعتبارها استمرارية بشكل أساسي، الفكر بمثابة "طية" للعالم، وامتداد للمادة. إنه يعمل بالتوكيد، متبعًا نقيضًا صارمًا للعوامل الجدلية. لا مزيد من المواجهة بين الوعي والعالم، بل عودة الفكر إلى "فوضى الكائن الذي ولّده". يعمل المسار الحيوي وفقًا لمنطق حرب العصابات: فهو لا نشاط نضالي ولا انسحاب إلى عبادة الباطنية، ولا يقتصر على الحاضر ولكنه يستكشف مجالًا من الافتراضيات. تتكشف الأنطولوجيا المرتبطة بها على طول خط الطيران. لم يعد خط الطيران موليًا (مع شرائح صلبة) ولا جزيئيًا، فهو يزيل المقاومة تمامًا وبالتالي يحميها من إعادة الامتصاص الجهازي. سيكون الحيوان الطوطمي المرتبط به هو الثعبان: حيث يتم استبدال الحفر العميق للخلد بالانزلاق السطحي. وتصبح الزمنية هي الاستمرارية، واستمرارية القيمة الافتراضية. وحتى لو فشلت الثورات، فإنها تظل – بغض النظر عن عواقبها – صالحة كإيماءات وإمكانات. أما المسار الثالث فهو المسار البديهي، أين يتم رفع الرياضيات إلى مرتبة فكر الوجود. يتم تقسيم الأنطولوجيا بواسطة البديهيات التسعة لنظرية المجموعات، في حين يتم تعريف الحدث من خلال تعليق إحدى هذه البديهيات. إنه ينفصل عن قوانين الوجود وينتهك البديهية الأساسية التي تحظر مثل هذه الخاصية على وجه التحديد. يحدث النشر بشكل متقطع، بعد الانفصال بين العالم والفكر الذي يتم التغلب عليه عن طريق إيقاف نفسه. المقاومة مسألة منطق. إن القطيعة والانفصال عن حالة الأشياء يحدث أولاً في مجال الفكر. الموقف هو المماطلة. كاستثناء لقوانين الوضع، يتعلق الأمر بالكشف عما تم تحويله إلى اللاوجود، و"إدراج المستحيل في سجل الممكن". حقيقة فعل المقاومة هي الإخلاص للحدث. إنه الطائر الذي يبرز هنا من الحيوانات الفلسفية لأنه يتقدم من خلال "حركة مزدوجة من الانسحاب والترتيب، والقطيعة مع مجرى العالم والانغماس مرة أخرى في حالة إعادة تشكيل الأشياء". لا إعادة التنشيط ولا البقاء، زمن البديهيات هو زمن البدء من جديد: الحدث صالح بقدر ما يمكن أن يبدأ مرة أخرى بشكل مطلق وإلى الأبد. وبالتالي يتركز الاهتمام على عدم القابلية للقياس المرتبطة بالتمزق. لم يعد من الممكن فحص العالم المقاوم في استمرارية النظام المفكك أو غير المنظم. ولم يكن الوضع الجديد تطوراً محتملاً للوضع السابق. سواء كانت جدلية أو حيوية أو بديهية، فإن مسارات المقاومة تشوه ترتيبات الركائز القديمة. إن المقاومة تخلق أكثر من مجرد الدهشة: إنها تحقق ما لم يكن حتى افتراضيًا، وتفتح الإمكانات بأثر رجعي. يتم وضعها خارج أو تحت الأفق. هناك شيء يفلت تمامًا من الحتمية. ومن خلال شكل جذري من أشكال التخريب النظامي، يتم فصل العواقب عن الأسباب. يتمحور موقف المقاومة حول التوتر بين التماثل العميق مع الوضع وعدم التجانس التام مع أشكاله المحتملة. ومن أجل إجراء عملية إعادة تشكيل دائمة للواقع وتحديد ما هو "غير قابل للاستيعاب" في عصر ما، يجب مسح التضاريس واستكشافها بعناية من أجل الاستعداد للاستجابة. بادرة المقاومة هي ترك عالم بلا خارج. إنها مسألة اختراع المظهر الخارجي للشمولية، الذي لم يتم التفكير فيه حتى الآن. نرسم خريطة فلسفية جديدة تربط طوبولوجيتها المعقدة بين أماكن متباينة ومستقلة حتى الآن. إنه يخلق ارتباطات سببية، ومعارض، وممرات. إنها ليست مسألة إعادة تعريف المشهد الطبيعي بقدر ما تتعلق بإنتاج الانهيارات الأرضية أو الانهيارات الأرضية. مثل اضطراب في قلب الساد النصي. ينطلق هيغل ودولوز وباديو من محيطاتهم ويصبحون ركيزة لكيان معارضة غير متجانس. من خلال معالجة الأشكال الرمزية والمادية بقدر ما يتم تناول الأشكال الفلسفية على وجه التحديد، يعد العمل المقاوم فريدًا تمامًا في المشهد المعاصر. مثل الطباق، يقدم كل صوت استقلالية ملحوظة دون إهمال التناغمات المعقدة التي يساعد على نشرها أثناء مواجهاته بين خطوط الشرود المختلفة. في علاقة مع النص الذي يتم الخلط بينه وبين "الكلمة الصائرة" الأصيلة، يتم استكشاف أساليب الكتابة المبتكرة التي يأسرها شعور الضرورة الذي يحيط بها. وبفضل الحرية والشجاعة الخلاقة التي لم تعد الفلسفة "المؤسساتية" تظهرها دائما، فإن هذا الفكر الجريء والمطلع يعيد تشكيل المفاهيم الرئيسية والثانوية في العقود الأخيرة بالتواضع والإلهام. بعيدًا عن الأماكن المألوفة والجرأة غير المبررة، يتم اللعب في مساحات ذات أبعاد متعددة ومتشعبة ترتبط وتتكشف وفقًا لمسار موجه وغير منتظم في نفس الوقت. فهي تشكل الجسور وتنشئ شبكات جديدة. حادة، ومزعجة ويتم اللعب بالحدود وما لا يمكن الوصول إليه، تشكل تفردًا جديدًا في إطار الأفكار المقاومة. فكيف ننتقل بالمقاومة من لحظة الانفعال والدفاع الى حقل الواجب والحق؟ وكيف يمكن استثمارها في عملية استرجاع ما تم افتكاكه ونهبه والاستحواذ عليه بالقوة؟ هل تقدر على وقف اداة التدمير الشامل؟ والى أي مدى تكون فلسفة المقاومة أداة خلاص جماعي من الظلم والاستيطان والاقتدار على الابداع التام والمبادأة من جديد؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

رغم حصول التحول السياسي والخلاص من عقود الديكتاتورية والشمولية نحو الحياة الدستورية الديمقراطية البرلمانية.. الا اننا لا نزال نشعر أن هذا التحول عبارة عن بنية فوقية يشيد بنيانه على إهمال متعمد وتقصير واضح في التأسيس الصحيح للبنى التحتية واعني بها بناء الإنسان العراقي لان شرط التقدم ان يبنى بناءً قيمياً عقلانياً نقدياً موضوعياً

 لقد أحدثت ثورة تموز 1958في المسار الاجتما- سياسي في العراق متغيرات كثيرة على مستوى القيم وأخلاق العمل السياسي والاجتماعي، بل والفاعلية الاقتصادية على مستوى الدولة والفرد، وما أن حلت سنة 1963 حتى تعرض البلد إلى (سلطة عدوانية) تقوم على أيدولوجية سوداء شمولية الطابع عنفية النزعة، انجازها الأساس مصادرة الحقوق والحريات فهي تجربة منحت (حزب البعث) كل السلطات، وولته على كل الموارد والامتيازات يتصرف بها على معيار الولاء السياسي الأضيق فقط وهو على ثلاثة مستويات اسرة الرئيس وعشيرته، أبناء المذهب السني، المنتمين لحزب السلطة

 ولم تعالج فترة (1968-1964) هذه التشوهات في المسار الأخلاقي والعقل السياسي العراقي بل مارستها هي ايضاً ولكن بشكل اقل حدة.. فلقد تحولت الطائفية السياسية من مكمن داخلي إلى سياسات معلنة، وأعقبتها الطائفية الثقافية وتحولت سمة الاعتزاز بالقومية إلى ايديولوجية عنصرية عدوانية تنظر للأخر القومي نظرة دونية أتهامية والى أبناء المذهب الشيعي انهم يجب ان يكونوا تابعين مع ولاء للسلطة من دون حقوق، وأصبحت الدولة هي خزينة الموارد والرواتب والرزق بل والوجود والحياة، وحلت الدولة من حيث الولاء محل القيم النهضوية التي كان المفترض أن تكون الأهداف والمرامي والغايات التي تتجه نحوها كل النشاطات المجتمعية بعد التحول من الأنموذج الملكي إلى الجمهوري، ثم جاءت فترة 1968-2003 وكانت عبارة عن ربع قرن مأساوي تميز بالقسوة المفرطة والقتل الجماعي والتعويل على الظنون ثم التدمير الممنهج للقيم المجتمعية الناهضة، فقد تحول الولاء فيه من الولاء للوطن إلى الولاء للحزب ثم للشخص، وأصبح الحزب مصدر الثقافة وصار التوجيه االسياسي وهو منتج نظرية العمل وغاب البرنامج الوطني والتنافس السياسي في مضمار التقدم وتكلمت الصحف والمجلات والتلفاز والمذياع بلغة واحدة، وعمم هذا الأنموذج على مراحل التعليم من رياض الأطفال حتى الجامعة، ثم أصبح الانتماء لحزب السلطة رديفاً للممارسة اليومية اللازمة التي يجب أن يؤديها العراقي طقساً سواء آمن به أو لم يؤمن، وبذلك سقطت الذات الفردية، والتفكير الوجداني، والتأمل المتفرد غير الخاضع للإرادة الجمعية سواء كانت أرادة حقيقية أو إرادة مفروضة .

ان اول انهيار في هرم القيم الإنسانية، أن الإنسان العراقي افتقد في تلك الأوضاع فردانيته، وحقه في التفكير المستقل والتعبير عما يفكر فيه، وثاني انهيار أن التفكير بمصير البلاد غيب عن العقول وحل محله التفكير بالخلاص الفردي من الأسر الفكري، وشاع إسقاط أو إقالة العقل والعقلانية لصالح الخرافة والثقافة الخطابية وثالث انهيار حصل حينما أصبح النقد والنزعة النقدية ممارسة ممنوعة تفضي بصاحبها إلى السجون أو الإعدام، وحل الخوف والرعب بدل سلوك الشجاعة والتفكير بصوت مسموع .

 في ظل هذا الوضع تحول الناس جميعا إلى متهمين وخائفين وعليهم تقديم إثباتات يومية أنهم موالون للسلطة الحزبية وعليهم ان يبرهنوا وان عقيدتهم الدينية لا تعارض ولاءهم السياسي بل يتنازلون صراحة عن (عقيدتهم، وعشيرتهم، بل حتى عن أنفسهم من اجل إثبات أنهم مخلصون للتجربة السياسية رغم أنها كانت ملوثة بالدماء والمآسي والويلات والقسوة واشد إشكال الإرهاب التي تمارسه دولة ضد مواطنيها فنما في نفوسهم سقوط الشعور بالتضامن من اجل الحقيقة وتغلبت الرغبة غير المسوغة في الحصول على الخبز على حساب الحفاظ على الكرامة والاستحقاقات الإنسانية

لقد غادر الناس الذين حسبوا أنهم ملاحقون من السلطة الى خارج البلد.. ورغم انهم سياسيون وقادة في تنظيمات مناهضة لكنهم عاشوا هناك غرباء، واحسوا أنهم عالة على تلك الدول ولاجئون عاديون فيها وشعروا بالقلق على وجودهم.. فقد كانوا مهددين أيضاً فقد اجبر اغلبهم على أن يكونوا جزءاً من تفكير (دول المنافى) حفاظاً على وجودهم فسقط الوجدان الوطني امام القلق على الوجود الشخصي لذلك فلم يفكروا في أن يمتلكوا المهارات والمؤهلات، ولم يفكروا في الحصول على الشهادات الأكاديمية ولم يتملكوا الخبرة لكي يعودوا للبلد فيديرونه على وفق نماذج الدول المتقدمة والحال انهم عادوا وفي أعماقهم نزعة الانتقام من مواطنيهم الذين تجرعوا المرارة والرعب وعاشوا في ضنك الحصار الدولي وتخفوا لئلا يكتشف النظام انهم يكرهونه لان النظام البعثي كان مهووسا بالشك والخوف بل نما في أنفس العائدين من المنافي هاجس كبير من الخوف على انفسهم من أولئك الذين تعايشوا مع التجربة الديكتاتورية بصرف النظر عن أنهم كيف تعايشوا فتنامى في نفوسهم عنصر الشك فيهم وعدم الثقة بهم لتصورهم أن ذلك الرعب القديم عندهم لم يتنه بعد ولم تقف أمام هذا الهاجس المقيت بقية من دين، أو صبابة من فروسية أو شيئاً من الشجاعة أو اوقيم الوطنية والمواطنة او الشراكة الجديدة في بناء الوطن بعد زوال الديكتاتورية ...

لقد رسم السياسيون المنفيون من وطنهم هواجس الخوف من مواطنيهم فشمل ذلك من يخشى منهم من اتباع النظام المقبور ومن لا يخشى منه سواء من تكونت عنده الرغبة في الانضمام للوضع الجديد والتخلي عن أفكاره التي غرر بها او اكره عليها بل شمل هاجس الشك من امن بافكارهم ومسلكهم وتحفظ فانجاه الله من قمع السلطة فانكفأوا على معرفهم واصهارهم والأشخاص الذين ليس لديهم ادنى خبرة سوى الملق وسقوط الذات

 ان هذه الهواجس المفترضة إزاء من نالهم الاستلاب الديكتاتوري وهم إخوانهم بيد انهم لم يحصلوا على فرصة الهروب من الوطن واللجوء للغربة كما فعل القادمون بعد 2003 .

و الحقيقة ان الذين: بقوا في اوطانهم قد عاشوا ثلاث تجارب عميقة الأثر في التكون النفسي وهي: (إجبار الإنسان على القتال مسمى مقاومة التمرد الكردي، وإجباره على فقدان الاروح في حرب الثمان سنوات بما فيها من ماسي فضيعة فتخلفوا عن الالتحاق بالجيش وعرضوا انفسهم لاقسى الانتقامات ثم تجربتهم مع الحصار وكان من نتائج التجارب الثلاثة سقوط قيم رفض السلوك السياسي المشين تحت استمرار الشعور بالخوف من الجوع والاقصاء والحرمان من الفرص ثم جاءت تجربة جديدة كانت مميزة بجهل الحاكمين وفسادهم فسقط التضامن الديني بعد سقوط التضامن الوطني) .

لقد كانت أول تجربة مأساوية في مرحلة اجبار الناس عل القتال في جبال كردستان وعندها بدأ الشعور بالمواطنة يتصدع، ويقبل الإنسان أن يقتل أخاه وشريكه في وطنه ثم تطور الحال إلى حرب مركبة من دوافع طائفية وأهداف سياسية لصالح استراتجيات إقليمية دولية (حرب الثمان سنوات) التي تهاوت فيها اغلب قيم الفروسية –مع رهبة الخوف من موت جماعي زاحف من جبهات القتال الممتدة أكثر من ألف كيلو متر، ورغم شعور المواطن العراقي إنها حرب لأجل الغير مثل امارات الخليج والسعودية ثم امريكا.. فقد صار في اغلب اللاوعي ميل مع الأناشيد الحماسية التي كانت تغسل الدماغ والتي لم تترك فسحة للإنسان أن يتامل خارج ذلك الضجيج الممنهج الذي كانت وظيفته أن يملأ الفراغ النفسي للإنسان العراقي حتى لا يراجع ولو للحظة لماذا هذه الحرب الضروس؟ لقد سقطت امام زحف الموت القادم من الشرق كل قيم المجد الشخصي، والاعتزاز بالذات في التعامل الاجتماعي فانتشرت الوساطة والرشوة، وقبول الإذلال لكي يتفادى العراقي الموت استشهاداً من اجل (البوابة الشرقية) وعاشوا في وطن اختطفته (قوى الجهل، واجبرته على ان تتصحر فيه القلوب وتتبلد فيه النفوس والعواطف وأصبح الموت والعوق الجسدي والترمل واليتم والمشكلات الاجتماعية يلف طيفاً واسعاً لم يكن العراقي يتوقعها في مجتمعه فضلا عن تاثيراتها على العقل والأخلاق والسلوك وقد اغتيلت الشجاعة وقتلت الفروسية، وأعيد الإنسان إلى دائرة الأشياء بعد أن أغلقت عليه نوافذ الأفكار والقيم.

لقد غيرت حرب الثمان سنوات مساحة كبيرة من قيم الإنسان في العراق.. وتكونت في ذاكرة الناس قصص كثيرة حصلت في تلك السنين (لو كنا سمعناها في الخمسينات لقلنا أي شعب يقدر أن يعيش وسط هذه المآسي لكننا قبلناها

والشعب حينما يتقبل أنموذج الذل والانحطاط، يتحول برمته إلى أغلبية مقهورة مستعبدة مشوهة يفتقد رأيها إلى أصالته وفردانيته ويصبح اغلب المجتمع قطيعا تقوده (عصا ومقصلة) وانتهت الحرب – بلا مبرر – كما بدأت بلا مبرر ولم يتساءل الناس لماذا دخلنا حربا مدمرة ولماذا قبلنا بانهائها ولا التساؤل بماذا انتهت حرب راحت فيها الالاف من البشر والمليارات من الثروة كل الذي كان ان الناس يستمعون إلى أناشيد الانتصار والنصر ويجبرون على تصديق هذه الخرافة ..وبذلك تكرس سقوط العقلانية المجتمعية بعد ان سقطت العقلانية الفردية.

لقد افرغ هذا النصر (البلد من كل احتياطي الثروة مما دفع التجربة الشمولية إلى اشعال حرب جديدة للاستيلاء على منابع النفط – بعد أن وجد انه قد غرر به فخسر كل شيء وبدل أن يعيد حساباته – لجأ مرة اخرى إلى – القوة غير العاقلة .. وبلع الطعم وكانت النتيجة انه في هذه الحرب الحمقاء فقد السيادة وأصبح تحت الوصاية الدولية وبدا مسلسل الموت المجاني (جوعا/و مرضا ) وتحت سيناريو الحصار الاقتصادي صار التسابق للحصول على الغذاء أو المال بأي وسيلة هو السلوك الاعتيادي ..فانهارت قيم (من أين يجب أن يكون مصدر الرزق) لقد سمع الناس آنذاك قصصا من إشكال الخديعة والسرقة والسطو والرشوة والفساد والهروب من الخدمة العامة والاشتغال بالإعمال المشبوهة لتحصيل المال تلك التي لم يكن العراقيون يعرفونها ولم يمارسها احد منهم لكن ذلك حصل ليتفادى الإنسان الموت جوعاً ومرضاً وهكذا أسقطت تجربة الرعب كثيراً من قيم النهوض على مستوى الفرد وقيم الأمة وضاعت الفرص الحقيقية لصنع المستقبل .

وجاء الفتح والفرج والانفراج في 2003 – رغم انه ليس فتحاً على يد أبناء الوطن فأنهم حينما ثاروا في 1991 ودفعوا تضحيات كبيرة جداً تخلت عنهم أمريكا وتأمرت عليهم دول الإقليم وتسمرت (جحافل المعارضة فى منافيها) ألا ما كنا نسمعه منها بين فترة وأخرى من اجتماع شكلي للمعارضة لاستغلال تلك التضحيات الكبيرة كمغانم خاصة لتلك الشخصيات والاحزاب وأخيراً جاء الأجانب وأسقطوا النظام المقيت وتكسرت المقصلة لكن أقيمت مكانها تجربة ديمقراطية على بنى تحتية مدمرة قيمياً صنعت دمارها في الإنسان العراقي (1958 – 2003) . وكان الامل ان تلفت التجربة الجديدة للذي ترسب في الوعي العراقي وفي السليكولوجيا العراقية لكن ما حصل أن تجربتنا السياسية المعاصرة لم تفكر في فلسفة نهضوية للمجتمع (المنكوب)، لإسعافه وإنعاشه وبناء أجياله الجديدة على أسس قيم النهوض والإيثار والصدق والمواطنة فلقد اختارت هذه التجربة ان تنطلق من (واقع أنساني قيمي مدمر) فسقطت في وعي سياسي مشوه، ولم تتفهم مشكلات الوطن. ومما زاد في البلاء ان كثيراً من (أهل الحل والعقد) اختاروا الرهان على بقاء جهل الغالبية، والتعويل على غيبوبة الوعي، وتفشي القيم الهابطة، لأنهم في اجواء خطاب يحشد لانتخابهم نواب ووزراء وليس بناة وعي..وها نحن نحصد كل ذلك : فقد تضاءلت في نفوس أهلنا قضية المشروعية وخبت بواعث الواجب وصارت مطامع الافراد هي الحق والقانون اما المصلحة العامة والمستقبل وحقوق الفقراء والأيتام فهي المثالية والطوباوية .

وصار: من يقف بوجه ثقافة (الأستغنام) من الدولة التي تحولت الى (غنيمة) متهماً بانه ضد التجربة ومن يقف بوجه هذا التوجه يجب ان يقصى وان يكون بعيداً اممنوعا عن حقوقه ومنها اشتغاله بدوائر تصنع القرار فقد جاءت زمرهم لا تفكر الا بالانتهاب المنظم وغير المنظم سواء على مستوى المال العام أو على مقترباته الوظائف والمناصب

لكل ذلك سقط في في ذهن المتصدين جميعاً احترام الكفاءة والمعيارية والحرفية والممارسة المهنية تحولت كل هذه القيم الى كلمات اذا احتجنا إليها رددناها تقية واذا فعلنا فعلنا فبخلافها،

أذن : دعونا نواجه أنفسنا بما حصل في التكون القيمي للشخصية العراقية ونعترف – رغم مرارة هذا الاعتراف أننا بحاجة الى برنامج تعليمي أخلاقي معرفي يعيد لنا ما افتقدناه من قيم الصدق والمواطنة والتضامن والاحتشاد من اجل الرفاهية والدولة الرشيدة ... والمستقبل الواعد.

و هذا يتطلب :

1- ان يكون لدولتنا فلسفة مجتمعية بدءاً من الدستور الى كل النظم والقوانين

2- ولدولتنا بكل مؤسستها رؤية وأهداف وبرامج، وخطط معيارية معلنة يكمل بعضها بعضا وتتجه نحو صنع الإنسان أولاً، ثم حماية الوطن والأمة من خلال تعزيز الشعور بالوطنية

3- يجب ان تكون للتعليم – بكل مراحله فلسفة وهدفاً تركز على – بناء الشخصية الإنسانية الرفيعة .

4- وان تتزايد الدراسات النفسية من اجل اكتشاف أفضل الوسائل نحو خلق مواطن يعشق وطنه، ويعمل لحاضره ومستقبله ويضحي من اجله ويحلم بكبريائه ومجده.

5- وان توجه كل وسائل الإعلام ضمن حملة وطنية منظمة نحو إدانة السلوك الذي خلقته تجربة عسكرة المجتمع وتجهيله ومحو اثار الرعب والظلامية( 1958 -2003) .

الخلاصة: نحن بحاجة ان نعيد صناعة الإنسان في العراق فهذا هو الطريق الانجح لمقاومة الفساد والارهاب.. الذي فشلت كل وسائلنا المعاصرة في إيقافهما بل هو الطريق الافضل لمكافحة الإرهاب الذي عجزنا ان نقنع المغرر بهم بأنهم واهمون، والوسيلة الناجحة لمنازله سلوكيات الاستغنام في أروقة السلطة

هذه دعوة للإخوة العلماء والباحثين لكي يفكروا بها تفكيراً جاداً ومبدعاً ثم تسطر أقلامهم – أوراقاً تلتمس الطريق في ضوء بصيص من نور ينير عقولنا لرؤية غدٍ كريم لكي يصبح.

***

أستاذ متمرس

د. عبد الأمير زاهد كاظم

العقل، العقلانيّة، الهويّة، التراث، الأصالة والمعاصرة، العلمانيّة، الحداثة، ما بعد الحداثة، الدين، كلها مفاهيم راحت تطرح نفسها على الساحة الثقافيّة والفكريّة العالميّة بشكل عام والعربيّة بشكل خاص في التاريخ الثقافيّ والفكريّ المعاصر، الأمر الذي يدفعنا بالضرورة أن ننظر إلى مدى أو سعة حضور هذه المفاهيم في ساحتنا الثقافيّة والفكريّة العربيّة التي راح الكثير من اشتغل عليها من المفكرين العرب وفقاً لمواقف أيدولوجيّة يساريّة أو دينيّة أو ليبراليّة. في الوقت الذي لم يزل الكثير منا على الساحة الثقافيّة والفكريّة العربيّة التي حُوصرت لمئات السنين في أسيجة عقليّة ومناهج ترتكز على البيان والعرفان، لم يزل يتعامل مع هذه الظواهر بالمناهج ذاتها التي تقوم على ما قدمه من اشتغل على الفكر العربي في العصور الوسطى، وخاصة من اشتغل على البيان والعرفان إلى حد كبير ً، مع تأكيدنا على أن هناك من تأثر بالمناهج الغربيّة لأسباب سنأتي عليها في هذه الدراسة.

لا شك أن هذه المفاهيم الحداثيّة المطروحة هنا... العقل، العقلانيّة، الهويّة، التراث، العلمانيّة، الحداثة، الايديولوجيا، الدين.. الخ. تشكل في وضعنا الثقافيّ العربيّ الحديث والمعاصر إشكاليّة قائمة بذاتها، لاعتبارات عديدة يأتي في مقدمتها، أن معظم هذه المفاهيم في صيغها المتعارف عليها اليوم، قد طُرحت في الغرب مع بداية عصر النهضة الأوربيّة، مروراً بعصر التنوير في القرن الثامن عشر، وفلاسفة القرن التاسع عشر والعشرين والواحد والعشرين. وإن هذه المفاهيم راحت تتسرب إلى نسيج خطابنا الثقافيّ العربيّ مع بداية القرن التاسع عشر، بفعل عوامل كثيرة منها:

1- تَأَثُر الطلاب العرب الذين أرسلوا إلى أوربا لمتابعة دراساتهم العليا هناك، وخاصة البعثات التعليميّة التي اشتغل عليها "محمد علي باشا" في مصر "، وخير الدين التونسي" في تونس، أو بفعل حملات التبشير الأوربيّة في المشرق العربيّ التي فتحت المدارس التبشيريّة الخاصة بها في هذه المنطقة، إضافة لما حققته البعثات أو المنح الدراسيّة التي خصصتها الإرساليات التبشيريّة للطلاب المتفوقين المتخرجين من هذه المدارس لمتابعة دراساتهم العليا في أوربا، والأهم تلك البعثات التعليمية التي قامت بها جامعاتنا العربيّة بعد الاستقلال حتى تاريخه. الأمر الذي أوجد العديد من المثقفين والمفكرين ممن تأثر بالفكر الغربيّ ومناهجه كأديب اسحق، وشبلي شميل، وفرح انطون، والبستاني، واليازجي ومعظم مفكرينا العرب المعاصرين في المشرق العربي ومغربه وبكل الاتجاهات الفكريّة.

2- لا شك أن الطلبة العرب الذين درسوا في أوربا منذ بداية القرن العشرين حتى اليوم، وهم كثر في الحقيقة، تأثر الكثير منهم بالفكر الغربيّ ومناهجه، وراح العديد منهم يشتغل بعد إنهاء دراساته في الغرب على مشاريع فكريّة تأثرت كثيرا بالمناهج الفكريّة الغربيّة في التاريخ والفلسفة وعلم الاقتصاد وغيرها، كالعروي الذي تأثر بالمنهج التاريخانيّ، وحسن حنفي بالمنهج الظاهري، والتيزيني بالمنهج الماديّ التاريخيّ، والجابري بالمنهج البنيوي إلى حد كبير برأيي ...الخ.

بيد أن التاريخ العربيّ في العصر الوسيط لم يعدم المفكرين والفلاسفة الذين اشتغلوا على العقل بشكل خاص، بالرغم من أن مفهوم العقل ظل عند الكثير من هؤلاء الفلاسفة والمفكرين العرب والإسلاميين ينوس بين الدماغ والقلب، وقليلون هم الذين عرفوا العقل بمخزونه الثقافيّ الذي تكون أثناء إنتاج الإنسان لخيراته الماديّة والروحيّة تاريخيّاً، كابن رشد وابن خلدون والكندي والرازي، وبالتالي فصلوه عن الدماغ ككتلة عضويّة في الجسد البشري له دوره الوظيفيّ في تخزين المعرفة عن طريق الحواس ومعالجتها ونشرها أو توظيفها وفقاً لما يريد صانع هذه المعرفة وحاملها الاجتماعيّ أو القوى الاجتماعيّة التي يمثلها هذا الحامل. علماً أن الذين قالوا بهذا الرأي، أي اعتبار العقل هو المخزون الثقافيّ المختزل في الدماغ، من فلاسفة العصور الوسطى العرب والمسلمين، تأثروا أيضاً بالفكر الفلسفيّ اليونانيّ بعد أن قاموا بترجمة كتب الفلاسفة الماديين اليونان. بغض النظر عن معاناتهم أمام السلطات الحاكمة ومشايخها الذين ناصبوا هذا التوجه العقلاني العداء.

أما في تاريخنا المعاصر، فقد درس الكثير من الكتاب والمفكرين العرب الفكر الفلسفيّ العقلانيّ للفلاسفة العرب والمسلمين في العصور الوسطى، وسلطوا الضوء على الفلسفة الماديّة منها، كحسين مروة في كتابه (النزعات الماديّة في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة) على سبيل المثال لا الحصر. مع تأكيدنا أن هؤلاء الفلاسفة والمفكرين العرب العقلانيين المعاصرين قد لاقوا المعاناة نفسها التي لقيها أجدادهم من فلاسفة ومفكري العصور الوسطى، كفر ج فوده، وحامد ابو زيد، وحسين مروة وغيرهم الكثير.

عموماً نستطيع القول هنا: إن كل تلك المفاهيم الحداثيّة، يظل العقل النقدي يشكل العمود الفقري لها، إذ لا يمكن لأي مفهوم من هذه المفاهيم أن يحوز على حقيقته أو مصداقيته التي طُرح من أجلها إلا من خلال ارتباطه بالعقل وبالواقع المعيوش. فالديمقراطيّة بدون عقلانيّة تتحول إلى فوضى ومجرد شعارات.. والهويّة الوطنيّة بدون عقلانيّة ستفقد جوهرها وترتكس إلى مرجعياتها التقليديّة من عشيرة وقبيلة وطائفة.. والتراث من غير إدخال العقل فيه وتحليله وإعادة قراءته كتاريخ شعوب تحركه تناقضات وصراعات مصالح الناس، سيظل تاريخ ملوك وأمراء وأيديولوجيا دينيّة، الأمر الذي سيدفعنا إلى التعامل معه بعواطفنا وأهوائنا ومرجعياتنا ومناهجنا التقليديّة أكثر من تعاملنا معه بعقولنا وحياديتها، وسنظل نتمسك بهذا الماضي كفردوس مفقود بِعُجْرِهِ وَبُجْرِهِ. أما العلمانيّة التي يغيب عنها العقل فستفقد مصداقيتها وتتحول إلى ترف فكريّ وشعارات براقة، بدل أن تمثل في واقع أمرها الدولة المدنيّة.. أو دولة المواطنة والقانون والمؤسسات... الخ ، وكذا حال التثاقف بين الحضارات إذا لم يرتكز على العقل عند تبادل المعرفة، سيتحول إلى مركزيّة أوربيّة أو شرقيّة، وظهور نرجسية الحامل الاجتماعي للثقافة وعدوانيته عند تداولها مع المختلف. وهذا حال الحداثة التي ستتحول إلى تقليد الضعيف للقوي في حال غياب العقل القادر على تحديد خصوصيّة المجتمعات وما هي حاجاتها الضروريّة من مفاهيم الحداثة، وما هو الصالح فيها القادر على تحقيق تنمية الفرد والدولة والمجتمع، وما هو الطالح فيها الذي سيعرقل تقدم المجتمع إذا ما أخذ منها. وهذا الموقف المنهجيّ من العقل، وضرورة التعامل معه ينطبق على الأيديولوجيا الوضعيّة والدينيّة معاً، فكلاهما سيتحولان إلى وعي جموديّ غير قابل للنزول إلى الواقع عند غياب العقل النقديّ الذي يعمل دائما على ربط الفكر بالواقع.

عند حديثنا هنا عن العقل، قصدنا به العقل النقديّ الجدليّ، وليس العقل البذيء القائم على المثاليّة الذاتيّة والحدسيّة أو المثاليّة الموضوعيّة.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

الدين صيغة بهلوية مشتقة من كلمة (داينا) الميدية التي كانت تعني الخصائص الروحية وقوة الوجدان غير المادي التي شكلت إحدى جوانب النفس الباطنية للإنسان لكي يميز الخير عن الشر. أما المسيحيون الأوربيون فيشتقون هذا المصطلح من الكلمتين اللاتينيتين religio أي (تبجيل الآلهة) وreligare أي (يربط)، ويشيرون إلى أن الدين هو صلة الإنسان بالله، وهو بالنسبة لأنصار وجهة النظر هذه، عبارة عن جمع من الشرائع والحقائق الإيمانية التعليمية، والمشاهد الطقوسية وشعائر العبادة ومعايير السلوك التي يؤكدون أن الله نفسه قد فرضها، وهي التي تربط المؤمن به، والمسلمون يقرون أن هذه الشرائع والمعايير السلوكية هي التي تضمن للمؤمن خلاصة وإستمرار صلته مع الله.

وفي الأزمنة القديمة كان الدين في الواقع يستند على الأساطير المثيولوجية، وارتبطت المثيولوجيا في مراحل مبكرة من تطورها ارتباطاً عضوياً بالطقوس الدينية، فكان الطقس الديني مع الأسطورة يؤلفان في الثقافات القديمة وحدة معلومة، نظرية وظيفية، بنيوية، وهما يبدوان وكأنهما جانبان للثقافة البدائية، فأسطورة العبادة دائماً كانت مقدسة وهي كقاعدة احيطت بسر عميق، وهي نفسها سر لا يملكه سوى ذاك الذي نُذرَ للطقس المعني، كما تؤلف أساطير العبادة الجانب (الباطني) للمثيولوجيا الدينية وهي تنمو وتترعرع في تربة الإتحاد السرية، في تربة عبادة الآلهة القبلية التي يحتكرها الكهنة؛ ثم فيما بعد، في اطار العبادات المعبدية التي نظمتها الدولة على شكل مضاربات لاهوتية يمارسها الكهنة. فالدين قبل كل شيء جزء لا يتجزأ من ثقافة الإنسان الروحية، وله صلة بين الإنسان مع الله وله مستويين، عقيدي وعاطفي، يعطيانه معاً جرعة من الراحة النفسية وأملاً في الخلاص، فالدين هو شكل من اشكال الوعي الاجتماعي، وهو انعكاس لبنية ذهنية تفسر طاقات الإنسانية والقوى الطبيعية على الأرض بشكل من الأشكال بأوامر القوى السماوية الخارقة، وهو في نفس الوقت عبارة عن منظومة من التصورات المثيولوجية العقيدية المحكمة الإعداد التي تعطي الإنسان راحة نفسية وتبرر عالم العلاقات الاجتماعية المتنوعة.

أن من بين النقاط التي جلبت انتباه العالم الأثري الأمريكي رالف سوليكي الذي قام بالحفريات في كهف شانيدرا بكردستان الجنوبية هو قيام إنسان النياندرتال في هذا الكهف ببعض الطقوس الدينية الجنائزية أثناء دفنه لموتاه خلال العهد الموستيري الذي يتزامن مع الكهوف هزارميرد وتمتم وبيهستون بكردستان الجنوبية وموستي بفرنسا.

مع مطلع عصر التدوين وظهور السيادة الأبوية في مجتمعات المدن الزراعية ظهرت اساطير تدعم سلطة الرجل على حساب الأساطير الأمومية، وبناءً على هذا الواقع تربع الإله كوماربي على عرش المجتمع الإلهي الخوري في كُردستان كما كان الإله إنليل يتربع على عرش المجتمع الإلهي في عقيدة السومريين الذين قسموا تأريخهم السياسي بأمر منه ومن أعضاء مجتمعه الإلهي إلى مرحلتين، مرحلة ما قبل الطوفان ومرحلة ما بعد انحسار المياه من على وجه الأرض. وقد اقتنعت الأقوام السامية وغير السامية من بعدهم بكون البشرية قد غرقت بحكم الآلهة واستمرت من بعد ذلك من صلب أولئك الذين نجوا مع أوتونابشتم (نوح الساميين الذي يعني "الراحة")، ثم أنزلت الملكية من السماء على مدينة كيش حسبما تورد هذه القصة في ملحمة كلكامش التي تُعتبر أقدم مرجع حول فناء البشرية وخلقها مرة أخرى بالصورة التي لا تزال نقرأها في التوراة والقرآن. وحوت هذه الملحمة على عنصرين أساسيين في وعي السومريين، هما هبوط الآلهة الأم إلى العالم السفلي ثم غرق دنياهم بمياه الطوفان.

ومن المعروف أن علية القوم في كل مجتمع قديم جعلوا من انفسهم وسطاء بين الآلهة وأفراد مجتمعهم، وذلك بإرجاع مبررات الظواهر الطبيعية إلى قوة واعية تحتاج إلى التقديس والتجسيد في تماثيل حجرية، ولكن كل ذلك لم يمنع القائمين بإدارة المعابد في العالم من إعادة النظر في العلاقات البالية للمجتمع وحاولوا إقامتها على أسس جديدة، دخل قسم كبير منها ضمن المواد القانونية التي سنتها الأنظمة السياسية التي استندت في الأساس على الانتماء الروحي للأمة. وحفظت لنا السجلات التأريخية التي تعود إلى الألف الثالث والثاني قبل الميلاد، اسماء عدد من الآلهة التي عبدها سكان كردستان القدماء وهي كانت على التوالي: الإله نينني، الإله موس، الإله أودو، إله الشمس سوريا (آسورا)، الإله تيشوب، حيبات بنت الإله أللاتوم، شاووشكا، الإله كوماربي، الإله نوباتيك، الإلهان شيميكا وكوشوخ، الإله نيگال، الإله أشتابي.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

 .................................

المصدر: جمال رشيد أحمد(د)، ظهور الكورد في التاريخ، ج2، ً341/366.

غالبا "ما يحلو للعراقيين التباهي بماضيهم التاريخي وإرثهم الحضاري، كما لو أنهم جبلوا من طينة خاصة غير طينة الجماعات البشرية الأخرى، التي تركت – هي الأخرى - بصماتها على مسارات التطور التاريخي وخلّفت من الانجازات الحضارية ما لا يقل إبداعا "وتميّزا" عن نظيره العراقي. والحقيقة إن افتتان العراقيين واحتفائهم بالماضي لا يصدر عن وعي بطبيعة ذلك الماضي وما ينطوي عليه من ذاكرة جمعية مثخنة بالأحداث ومكتنزة بالوقائع، وإنما لا يعدو أن يكون سوى (المعادل الموضوعي) لفرط شعورهم بفداحة معطيات الحاضر وطغيان إحساسهم بمخاطر توقعات المستقبل. وهو الأمر الذي ترجم على صعيد الواقع الاجتماعي والسياسي إلى تراجعات مستمرة وانكسارات متتالية وانهيارات متواصلة، دون أن يصار إلى الاستفاقة من السبات الحضاري الذي طال أمده وتفاقمت مضاعفاته.

وفي إطار الحديث عن أسباب إخفاق الذات العراقية في بلوغ مستوى الوعي بالذات التاريخي – الحضاري، يمكن اعتبار ظاهرة تصدع الذاكرة الجمعية وتفتت بنيتها إلى أصولها البدائية (الاقوامية والقبائلية والطوائفية والمناطقية)، هي من أخطر العوامل التي ساهمت بشكل فاعل ومؤثر في ديمومة حالة الاغتراب التي تعانيها الجماعات حيال انتمائها للشخصية الاجتماعية (المعيارية) من جهة، وإزاء ولائها للهوية الوطنية (العراقية) من جهة أخرى. ولهذا فما لم يعاد ترميم الذاكرة العراقية - عبر نقد السرديات الأسطورية وتعرية المرجعيات الأصولية – فان حالة الاغتراب المتفاقم بين الجماعات، لا تلبث أن تتحول إلى حالة من الاحتراب المعمم بين الأصوليات، على خلفية المخاوف البينية والكراهيات المتبادلة التي لم تخفي الأطراف الخارجية (الإقليمية والدولية) السعي لتأجيج أحقادها واستثمار تداعياتها بما يخدم مصالح تلك الأطراف المستفيدة ويعزز هيمنتها على الصعيدين الجيوبولتيكي والجيواستراتيجي.

ولعل هناك من يعتقد – خاطئا"- انه يكفي الإشاحة عن التذكير بأحداث ما جرى في الماضي من أحداث مفجعة، وإسدال ستار النسيان على ما حفل به التاريخ من وقائع مروعة، حتى تتمكن الذات العراقية المتشظية من لملمت شعث ذاكرتها المفتتة واستعادة زخم وعيها الوطني المتهتك، بعد أن تكون قد تخففت من أوهام ذلك الماضي وتخلصت من آثام ذلك التاريخ. دون أن يناهى الى إدراكهم ان عملية (الإشاحة) وتجربة (النسيان) - حتى وان كانت جادة – لا تعتبر (علاجا") ناجعا" لاحتقانات جروح المخيال المعبأ بالخرافات، بقدر ما تشكل (مهدئا") مؤقتا"لاعتلالات صدمات السيكولوجيا المجيشة بالأساطير.

والمفارقة ان غالبية من تقع عليهم مسؤولية إيجاد الحلول واجتراح المعالجات لمثل هذه الإشكاليات العويصة عبر مراحل تاريخنا السوسيولوجي والانثروبولوجي والسيكولوجي، كانوا – ولا يزالون - يعتقدون بكفاية التركيز على (مقومات) وطنية وقومية غالبا" ما كانت (افتراضية / متخيلة) لا أساس لها على أرض الواقع، سوى كونها ترتكز على خطابات إيديولوجية مفبركة أو سرديات تاريخية ملفقة، جردت العادة على تداولها وترويجها في الأوساط البيداغوجية بحماسة طفولية ساذجة، دون أن يصار الى شحذ أدوات الوعي التاريخي (المغيّب) لتدقيق مزاعمها وتحليل مضامينها.

وعلى هذا الأساس، فبقدر ما يتم الإلحاح على تبني مقومات واجتياف قيم اجتماعية وتاريخية وثقافية (مفترضة) و(متخيلة)، من لدن المعنيين بأمر توطين وتكريس هذه الرؤى والتصورات المؤمثلة داخل بيئة سوسيو – انثربولوجية، قلما كانت حاضنة حضارية مناسبة لاستنبات ورعاية مثل تلك العناصر والمثل، لاعتقادهم بإمكانية الارتقاء بقدرات (المواطن) على وعي ذاته (الوطنية) وإدراك أصالة شخصيته (الاجتماعية)، وبالتالي خلق ذاكرة عراقية موحدة. بقدر ما كانت تصدعات أساساته المعيارية تتزايد وتتضاعف، وشروخ منظوماته السيكولوجية تتعمق وتتوسع، وتهتكات علاقاته الاجتماعية تتواتر وتتوالى. وهنا تأتي لحظة الوقوع في المحظور، حيث الارتداد والنكوص من ذرى الوعي بالذات الى حضيض غربتها!. 

***

ثامر عباس

 (في مناهضة قضية الأم البديلة)

تزوجت نجلاء من زوجها خالد منذ أكثر من سبع سنوات تتميز بابتسامتها المشرقة التي لا تفارق وجهها رغم حزنها الدفين ؛ لحرمانها من تحقيق حلم الأمومة، فقد اضطرت إلى التلقيح الاصطناعي أكثر من مرة، ولكنه باء بالفشل، فقد صرح الأطباء لها ولزوجها باستحالة نجاح عملية التلقيح الاصطناعي لوجود مشاكل صحية في رحمها، إلا أنها ظلت ترد دائما العلم سيتطور ويتقدم فأجد المخرج والعلاج في يومٍ ما.

ومرت الأيام على " نجلاء" وهى تعيش في حالة من الانتظار لتحقيق حلم الأمومة والخوف من الوحدة المفترسة، وقد عثرت أخيرًا في إحدى الإعلانات التسويقية لإحدى الشركات الأجنبية المتخصصة في عملية تأجير الأرحام على مواقع التواصل الاجتماعي والذي مضمونة الأتي: أننا قادرون على أن نحقق لكِ حلم الأمومة بعد سنوات الحرمان، وذلك بتوفير الأم البديلة التي ستحمل بمولودك البيولوجي، وسوف نضمن لك طفلًا سليم البنية. لمعرفة المزيد عليك التواصل على هذه الأرقام أو من خلال موقع التواصل الإلكتروني أو بزيارة أقرب فروعنا إليك.

جاء هذا الإعلان لينقذها من الغرق في بحر الحزن واليأس، وعلى الفور تواصلت مع والدتها ودعتها لتناول وجبة العشاء معها ومع زوجها. عقب تناول وجبة العشاء الدسمة تحدثت إليهما بصوت حزين بعد إقرار الأطباء بأن مسألة الحمل بالنسبة لي غير ممكنة طبيًا، ووجدت حلًا وحيدًا لتحقيق حلم الأمومة –عليّ الإقدام عليه قبل فوات الأوان- ألا وهو إجراء عملية تعرف باسم الحمل البديل، نظر زوجها ووالدتها إليها بدهشة وتعجب!

- نجلاء: استكملت حديثها إنني سأقوم باستئجار رحم بديل ليحمل بويضة منى وتخصيبها من الحيوانات المنوية من زوجي، وسوف تتم عملية الحمل والولادة مقابل مبلغ من المال سيدفع للأم البديلة، سيصبح رحم تلك المرأة مجرد وعاء لحمل الجنين الخاص بنا.

والدة نجلاء: كيف سمحتِ لنفسك يا ابنتي أن تستغلي امرأة أخرى؛ بسبب ضيق معاشها وفقرها واحتياجها للمال بأن تستأجري رحمها وتقولي أن رحمها ليس إلا مجرد وعاء لإنتاج طفلك، فهذا أمر مناف للواقع؛ لأنه من الطبيعي أن يتأثر الجنين بالأم البديلة المساهمة في تكوينه الجيني لاختلاط دمه بدمها وهرموناتها. ألم تصاحبي نفسك في رحلة بخيالك كيف ستصبح بنية الأسرة مع هذا الحمل الذي يشارك في إنجابه ثلاثة من الأفراد أنتما بالخلايا الجنسية فقط والأم البديلة التي ستحمل بالجنين ثم تتخلى عن الطفل المولود. ألأ تعلمين يا ابنتي أنه مع الرحم البديل سينقسم مفهوم الأمومة إلى قسمين أمومة بيولوجية للمرأة صاحبة البويضة وأمومة إجتماعية للمرأة الحامل في الجنين. ويقف الطفل حائرًا بين أمه البيولوجية وأمه البديلة الذي رافق قلبها قبل عينها يأنس وحدته بنبضاتها تسعة أشهر ترى سينتمى إلى من؟ فمن الممكن أن يكون ولاؤه وانتماؤه بعد الإنجاب للمرأة التي حملته وأرضعته؟

- نجلاء: لعل رأيك متوافق مع آراء المناهضين لتأجير الأرحام في حين نسيت أنني لم أستغل الأم البديلة؛ لأن مؤجرة الرحم يحق لها أن تتصرف في جسدها بوصفه ملكا لها كيفما تشاء، وهى لا تتنازل لنا عن طفلها؛ لأنه ليس طفلها الجيني إنما هى ترد الأمانة إلى أصحابها؛ فنحن الأبوين الحقيقيَّن للطفل المولود أما بشأن ولاء الطفل فهو لن يلتقي بالأم البديلة سوى يوم مولده وهو يوم رحليها عنه، وسيصبح في حضني يتربى ويكبر وينضج

- الزوج: أخذ يوضح لها أن ذلك الأمر ليس أمرًا شرعيا، فلا تتركي حلمك بالأمومة يدمرنا، فنحن نعيش في سعادة ويجمع بيننا الحب والمودة فلما ندخل في مخالفة شرع الله، فمن حق الأم البديلة الاحتفاظ بالطفل ومخالفة العقد مع الأم الأخرى.

- نجلاء: لا تخف زوجي الحبيب فقد بحثت على الإنترنت ولقد وجدت من أباح ذلك وجعلته يقرأ إحدى النصوص الدينية في هاتفها تجيز مسألة تأجير الأرحام والذي كان نصه كالآتي: فقد استندوا إلى مسألة تأجير الثدي (الرضاعة)، استناداً إلى القاعدة الفقهية التي تنصّ على أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة، فالضرورات تبيح المحظورات. ولكن يشترط أن تكون الحيوان المنوي من الزوج والبويضة من الزوجة، ثمّ يتم التلقيح في رحم الأم البديلة، ثم يتم تسليم الجنين بعد الولادة لأبوية. فنحن لن نخالف الشرع ما علينا سوى أن نسافر بالخارج لإحدى الدول الأجنبية أو العربية التي تجيز العملية بشكل قانوني حتى يصبح الأمر رسميًا وقانونيًا. أدركت "نجلاء" من نبرة والدتها رفضها القاطع للموضوع.

والدة نجلاء: ليس كل ما يقدم من فتاوى دينية يؤخذ بها؛ فلابد من إعمال العقل يا ابنتي إذا كانت الأم البديلة الحامل لطفلك امرأة متزوجة ألم تضعي في تفكيرك باحتمالية أن تفشل عملية التلقيح بعد تلقيح رحم الأم البديلة، وأن تحمل هذه مستأجرة الرحم من زوجها حملا طبيعيًا؛ فيحدث اختلاط أنساب. ألم تعلمي أن في حالة كون الأم البديلة سيدة متزوجة خلال فترة الحمل تعد محرمة على زوجها؛ لأن رحمها مشغول بحمل الأم البيولوجية وأننا بذلك يا ابنتي نخالف الدين؟

- نجلاء: من الممكن اختيار المرأة حاملة الطفل إما عزباء أو مطلقة أو أرملة لا تقلقي يا أمي فهناك الكثير من الحلول والبدائل.

ومع ذلك أصرت الأم على موقفها، في حين أنهى زوجها الجدال بنبرة شديدة ممزوجة بملامح التعاطف والخوف الشديد على زوجته رفقَا بقلبها الذي يخفق بشدة من البكاء وهى تردد "حلمي بالأمومة أريد تحقيقه قبل فوات الأوان لما تحرماني منه؟"

وأخذت الأيام والشهور تمر عليها؛ فلا فجر جديد آت يبشر قلبها بتغير الحال بينها وبين زوجها وقد لاحظ الزوج إلى أي مدى كست علامات الحزن الشديد وجه زوجته واختفت بسمتها المشرقة في ظل مشيب القلب، وشعر بأن الحياة لديها قد توقفت. ولحبه الشديد لها وخوفه على فقدانها قرر الموافقة على السفر إلى المركز الطبي الشهير في إحدى الدول الأجنبية، في حين ظلت والدتها على رفضها الشديد للموضوع. وبالفعل سافرا وعند وصولهما إلى المقر الرئيسي للمركز الطبي التقيا بأحد الأطباء الذي يدعي "جون" وهو يجيد اللغة العربية بشكل جيد.

- الطبيب جون: "أهلا بكما أود أن أخبركما بضرورة أن تخضعا إلى عديد من الفحوصات حتى نحدد نوع عملية تأجير الرحم. وهنا قاطعته الزوجة أيوجد أنواع من العملية. نعم يوجد نوعان لعمليّة تأجير الرحم: الأولى استئجار الرحم التقليدي: حيث يتم استخدام بويضات الأم البديلة التي يتم تأجير رحمها؛ مما يترتب عليه ارتباط بيولوجي بين الأم البديلة والطفل المولود نظرًا لاستخدام بويضاتها. أما الثاني هو استئجار الرحم الحملي: يتم فيه استخدام بويضات الزوجة وتخصيبها عن طريق الحيوانات المنوية من الزوج، ثم يتم إجراء عملية التلقيح الاصطناعي في الرحم الأم البديلة في هذه الحالة يرث المولود جميع الخصائص الجينية من الوالدين البيولوجيين؛ لانعدام الصلة الجينية بينه وبين الأم البديلة.

نجلاء: لكنني ارغب في النوع الثاني ....قاطعها الطبيب قائلا: "الأمر ليس اختيارك إنما سيتم تحديد نوعية تأجير الرحم عقب الفحوصات الطبية".

وبعد الفحوصات الطبية للزوجين تم تحديد إجراء النوع الثاني من عمليات تأجير الأرحام لهما . وفي هذه اللحظة غمرت السعادة الغارمة قلب نجلاء، وقد التقت بالأم البديلة وهي امرأة عزباء تشبه نفس لون بشرتها الخمرية تحكى ملامحها ذكريات من اليأس والوحدة – لثواني معدودة ترددت من إجراء العملية وشعرت بانقباض قلبها، ولكن قالت لنفسها: "لما التردد أنه يتوافر فيها جميع شروط الأم البديلة" فعمرها أقل من خمسة وثلاثين عام والفحص الطبي الذي خضعنا له يؤكد عدم إصابتنا بأية أمراض معدية بجانب سلامة صحتنا النفسية والعقلية. كما أن الفحوصات الطبية أثبتت خلو الأم البديلة من الأمراض الخطيرة، فهي لا تعاني ارتفاع ضغط الدم أو مرض السكري وصورة الموجات فوق الصوتية طبيعية وتقرير الطبيب المتابع يؤكد سلامة رحمها. وبالفعل تم إبرام عقد الاتفاق بین الطرفين الطرف الأول المتمثل في الزوجان، والطرف الثاني المتمثل في الأم البديلة والذي ينص على حق استئجار الرحم البدیل الخاص بها من أجل حمل الجنين المتعلق بالطرف الأول على أن يسلم المولود لهما عقب عملية الإنجاب مباشرة مع التأكيد على عدم أحقية الأم البديلة في الاحتفاظ بالطفل أو الاعتراض على تسليمه للأبوين البيولوجيين. بالإضافة إلى تحديد المبلغ المالي والنفقات الطبیة داخل العقد.

وقد تم تحديد موعد العملية في المركز الطبي حين كان يوجد عديد من الأزواج على الرغم من اختلاف جنسياتهم إلا أنهم اتفقوا على الهدف نحو تحقيق حلم الأمومة والأبوة. بل ما أثار دهشة نجلاء وخالد وجود زوجين من نفس الجنس يرغبان في الإنجاب – نعم فالشركة على استعداد لمساعدة الأزواج المثليين لتحقيق حلم الأبوة والأمومة بتقديم خدمة الأم البديلة، فقد أصبحنا مع الأرحام المستأجرة نستطيع دعم حقوق المهمشين في تكوين الأسر غير النمطية بدعوة الحرية الفردية. وبعد إتمام العملية بنجاح شعرت "نجلاء" بإقبال الحياة عليها مرتدية ألوانها الزاهية.

وجاء اليوم المنتظر التي ظلت تحلم به منذ سنوات ولكن ما أصعبه من يوم كأن عقارب الساعة لا تتحرك وزوجها يقف بجوارها وإذا بهما يسمعان صوت عالي لزوجين يتحدثان اللغة العربية بلهجة لبنانية مع المسئول في المركز الطبي بأن الأم البديلة ترفض تسليم الطفل لهما متحدثة بأن القانون المدني يمنح الطفل للأم البديلة ما هو الحل لاسترداد طفلنا؟ . توتر كل من نجلاء وزوجها وفجأة استدعاهما أحد المسئولين بالمركز لرؤية الطفل المولود، فوجئت بما لم تضعه في الحسبان أنه معاق أخذت تشكك في أنه ليس بابنها وأصرت على إجراء تحاليل DNA وقد تبين من التحاليل بأنه طفلها. فقد أصيبت الأم البديل بمرض نادر أثناء شهور الحمل الأخيرة. أخذ يهتف قلبها المكلوم لم أضع ذلك في الحسبان؟ أنني لا أرغب في استلام الطفل وأريد طفلًا بديلًا سليم البنية ثم دخلت في حالة من الانهيار فنظر إليها زوجها نظرة غضب معلن فيها الانفصال عنها بعد تجردها من إنسانيتها في تعاملها مع الطفل المولود بوصفه سلعة متجاوزا حالة الصمت قائلا: كان الأمر قائمًا على وجود التراضي والمصلحة المشروعة بيننا وبين الأم البديلة ولكن تغافلنا بأن جسد الإنسان له قدسيته وليس سلعة يمكن استئجارها.

عزيزي القارئ عزيزتي القارئة ترى كيف يؤثر تأجير الأرحام على مستقبل مفهوم الأبوة والأمومة والروابط الأسرية بشكل عام؟ هل تؤدي عمليات تأجير الأرحام إلى الإتجار في الأطفال؟ وهل ستساعد تلك العمليات من تحقيق حلم الأبوة والأمومة للأزواج الذين يعانون من مشكلات في الإنجاب، أم أنها ستعمل على فكرة الاستغلال الجسدي للنساء الفقيرات؟

***

د. آمال طرزان

الشعر له تأريخ طويل وعريق في الثقافة العربية، وما زال هناك متذوقون وقراء للشعر العربي في الوقت الحالي، فالشعر يظل وسيلة تعبير فنية يُكتب ويُلقى لنقل الأفكار والمشاعر والتعبير عن الجمال بطرق فريدة.

وعلى مر العصور، قد تتغير أساليب ومواضيع الشعر، وتتطور مع التغيرات الاجتماعية والثقافية للزمن، لكنه لا يزال جزءًا حيويًا نابضاً من الثقافة العربية، وما زال هناك شعراء يكتبون قصائدهم الجديدة والمبتكرة بتنوع الأساليب الفنية، وهناك أيضًا جمهور واسع مهتم بالقراءة والاستماع إلى الشعر.

فالذي يسعى بالاهتمام في الشعر العربي، سيجد مجموعة متنوعة من الأعمال الابداعية الشعرية الكلاسيكية والحديثة التي تستحق الاستكشاف والتمتع بها بما تحمل من الصور البلاغية المعبرة، والمعاني والتجارب الانسانية، وما تحمل من دافع في تحريك المشاعر الانسانية.

 فالشعر العربي تحديداً، يمتلك من السحر والبيان والتأثير ليس على الساحة الثقافية العربية بل العالمية أيضاً، ولا يزال له مكانة خاصة في حياة الكثيرين، على الرغم من التغيرات في الثقافة المعاصرة والتطورالتكنولوجي، إلا أن هناك لا زالت مجاميع كبيرة من الناس المتذوقين له تستمتع بقراءته واقتناء ما يصدر من أصدارات شعرية حديثة.

ولا شك فأن طبقة المثقفين من الشعراء الذين يلقون ما يحملون من اختلاجات روحية تعتصر وجدانهم عن واقع، يتوزع بين الانطباعية الذاتية، أو عن واقع سياسي متردي يدعوه للثورة من خلال ما يصدر منهم إبداعاً شعرياً على الطغيان، وهذا ما وجدناه عبر العصور القديمة والحديثة، فضلاً عن هناك أغراض للشعر عديدة.

 كما يعتبر بعض الأشخاص، إن الشعر وسيلة للتعبير عن الهوية والثقافة الخاصة بهم، ولازلت تعقد المسابقات الشعرية والمهرجانات التي تجمع الشعراء و محبي الشعر وتعزز من حضوره الدائم على الساحة الثقافية، والتواصل بين المثقفين العرب من جهة وتلاقح التجارب بين الاجيال المختلفة، لذا، يمكن القول بأن الشعر لا يزال له مكانة مهمة في الثقافة العربية ومجتمعها، ولديه متذوقون وقراء وكتّاب نشطاء يستمرون في الاهتمام به ودعمه.

 والذين يعتقدون أن لا زمن للشعر اليوم، إنما هو زمن الرواية، فهذا بعيد عن الواقع ! إذ لا يمكن التنبؤ بمصير الشعر العربي في المستقبل بدقة، فالشعر العربي له تأريخ طويل ومتنوع لا يمكن اجحاف هكذا رأي عليه من قبل البعض من الكتاب والنقاد، وقد شهدت تطورات وتغيرات عديدة على مر العصور، إلا أنه بقي الشعر وهاجاً في النفس الانسانية، على الرغم من التحولات التي قد تطرأ على الأدب والثقافة بشكل عام في حياتنا المعاصرة، إلا أن الشعر العربي يظل جزءًا هامًا من التراث الثقافي للعالم العربي.

قد يتأثر تطور الشعر العربي بعوامل مثل التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي والتغيرات الاجتماعية والثقافية، ومع ذلك، فإن الشعر لديه قاعدة وله عشاقه ومحبيه، وله مكانة خاصة في قلوب الناس، وحتى وإن قلنا بعض الناس، فالشعر للنخبة التي ترتقي بالذوق والاحساس وتتفاعل معه.

ما يمكن التأكيد عليه هو أن الشعر العربي سيظل موجودًا وله جمهوره ومتابعيه، إذا كان هناك تغييرات في تطور الشعر العربي في المستقبل، فإنها قد تكون مرتبطة بالتحولات الثقافية والاجتماعية والتكنولوجية التي تحدث في المجتمع، ولكنه من غير الوارد أن ينتهي الشعر العربي بالكامل أو أن يفقد جمهوره، كما لا يمكن التنبؤ بمستقبل الشعر العربي بأشكاله بدقة، لكنه من الصعب تصور انقراضه بالكامل.

يمكن أن تتغير أشكال الشعر العربي مع مرور الزمن بظهور مدارس شعرية جديدة او أجناس أدبية تنتمي لأصل الشعر كما ظهرت قصيدة التفعيلة و قصيدة النثر أو القصيدة الشاعرة و قصيدة الهايكو، ليلبي تطلعات واهتمامات الأجيال الجديدة وحركة الحياة السريعة ليبقى حاضرًا ومستمرًا ينبض مع نبض الانسان والحياة.

فالشعر العربي له أمتداده العميق وغني بالتجارب الانسانية عبر التأريخ، ولديه تأثير كبير على الثقافة العربية على مر العصور، حيث تطورت أساليب الشعر العربي وتغيرت مواضيعه ومضامينه، وظل هذا الفن الأدبي سيد الفنون ومحورًا هامًا للتعبير الثقافي.

إذن هل إنتهي زمن الشعر؟ ... هذا سؤال مطروح للجميع.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

بقلم: رونالد أرنسون

ترجمة: علي حمدان

***

تم تسليط الضوء على اهتمام سارتر بهذه العلاقة بين القدرة او فعل الانسان Agencyوالحتمية التاريخية في العنوان الذي أعطاه لمجموعته متعددة الأجزاء من المقالات، "اوضاع او حالات " Situations، والتي ظهر المجلد الأول في عام 1947، من خلال العنوان "الوجود في الحالة"، الكينونة والعدم، استكشف بإسهاب حريتنا الإنسانية التي لا مفر منها، المتجذرة في قدرة الوعي البشري على نفي او تجاوز " الواقعية" او المعطيات التي نجد انفسنا فيها. ان القول باننا دائما في حالة" هو الاستسلام بالوضع الذي يقيد افعالنا بواقعنا التاريخي والاجتماعي، من لغتنا وبيئتنا وخياراتنا الى طبقتنا وعرقنا وجنسنا وتربيتنا الاسرية. هكذا جادل سارتر" باننا موجودون-لكننا لسنا محدودين بهذا الوجود تماما". بالنسبة لسارتر ليس لهذا الوجود معنى خارج الحالات الواقعية. مهما كانت محدودة او قمعية. في سعيه لفهم ظروف – حالات- الاضطهاد، يدخل سارتر في حوار اعمق من أي وقت مضى مع المناهج الماركسية للهياكل التاريخية والاجتماعية. كان لنظرية المواقف تأثير هائل على الثقافة الفكرية في ذلك الوقت، من بين الاشياء الأخرى، ستجد تعبيرا في منظمة الوضعية الدولية(Situationist International )، وهي منظمة الثوريين الاجتماعيين التي ساعدت في التحريض على الانتفاضات الطلابية في عام 1968.

كان الاستقلال الفكري لسارتر واضحا خلال هذه الفترة: فقد تنصل في كل مكان من الدوغمائية، وفيا لروحه الفلسفية، تتغير التزاماته السياسية اعتمادا على تفاصيل الوضع، وعلى الرغم من انه ساعد في تأسيس حزب التجمع من اجل الجمهورية في معارضة صريحة للحزب الشيوعي الفرنسي. الا انه اصبح فيما بعد مناصرا للحزب الشيوعي الفرنسي عندما تعرض للحصار خلال الحرب الباردة. ولكن عندما فعل ذلك كان حريصا على اعلان ان "اتفاقه مع الشيوعيين " كان " حول مواضيع معينة دقيقة ومحدودة." مستمدا من مبادئي وليس مبادئهم". في نفس الوقت تقريبا انفصل بقوة وعلنا عن كامو في عام 1952، الذي اصبح حينها كامو معاديا للشيوعية بشدة.

مشروع الوجودية الماركسية

اصبح انخراط سارتر الفلسفي مع الماركسية اكثر منهجية في أواخر الخمسينات من القرن العشرين. اعلن نفسه صراحة ماركسيا في “البحث عن منهج” (1957)، مؤكدا ان الماركسية كانت "فلسفة عصرنا". لكنه اكد أيضا انها في ايدي" ماركسي اليوم"- أي الحزب الشيوعي الفرنسي – توقفت عن التطور. جادل سارتر بأن الماركسية تحتاج الى ذلك النوع من إعادة التفكير الذي يمكن ان توفره الوجودية للعودة الى الحياة. كان على الماركسية ان تستبدل حتميتها الميكانيكية بفهم ما اسماه سارتر التطبيق العملي البشري:

يصنع الرجال تاريخهم على أساس ظروف حقيقية مسبقة (من بينها تشمل الخصائص المكتسبة، والتشوهات التي يفرضها نمط العمل والحياة، والاغتراب، وما الي ذلك). لكن الرجال هم الذين يصنعون تاريخهم وليس الشروط السابقة. والا فان الرجال سيكونون مجرد وسائل لقوى غير إنسانية تتحكم بالعالم الاجتماعي من خلالهم.

والى ان تنصف الماركسية الفرد، كما ادعى سارتر، فان الوجودية ستبقى كفلسفة شبه مستقلة. هنا جاء ساتر بتفسير خاص به ومستقل للماركسية، موضحا الموضوعات الرئيسية لطريقة فهمه لكل من الوجود الاجتماعي للفرد وتقرير المصير الفردي. لايزال تأكيده المبكر على الحرية قائما، لكن ذلك الان صراحة مشروط بالتاريخ والمجتمع.

تم تطوير هذه الموضوعات بإسهاب اكبر في" نقد العقل الجدلي"، والذي اصبح “البحث عن منهج” كمقدمة للعمل. بدا النقد من التطبيق العملي الفردي وسعى الي وضع الاسس الفلسفية للماركسية، وكذلك لفهم سبب جمود الماركسية المجلد الأول- نظرية المجموعات العملية (1960) وفيه يتتبع بشكل تجريدي أصول النضال الاجتماعي، ويصف الخطوات التي يتحد بها الافراد لتشكيل حركة ثورية. لم يكن واضحا ما اذا كان من المفترض ان تكون هذه عملية تاريخية فعلية، او منطق عام لأي ثورة، او المسار الذي يجب ان يتبعه حزب لينيني ناجح. لم يتمكن سارتر من انهاء المجلد الثاني، الذي نشر بعد وفاته في عام 1985. كما جمع عمله الرئيسي التالي "احمق العائلة" The Family Idiot، بين الأفكار الماركسية والوجودية. كيف يمكن فهم فرد معين من خلال التحديات الاجتماعية. في هذه السيرة الذاتية متعددة الأجزاء، والتي نشر جزئها الأول عام 1971، اظهر سارتر كيف استوعب الروائي غوستاف فلوبير الواقع الاجتماعي ثم "أعاد إخراجه" في انسحاب حداثي مميز ومناهض للشعبوية، مثل "النقد"، سيبقى هذا العمل أيضا غير مكتملا.

اذا تم اخذ هذه الاعمال مجتمعة، "البحث عن منهج" و"النقد"، وسيرة فلوبير، والعديد من مقالات الحالات- فهي تحيلنا الى نظرية للماركسية الوجودية. الفلسفتان على نفس القدر من الأهمية بالنسبة لسارتر. كان سارتر يهدف وضع الوجودية في مواجهة التحريفية المبكرة للماركسية،" عدم مرونتها". لم يكن هدفه "رفض الماركسية باسم مسار ثالث او إنسانية مثالية، ولكن "لاستعادة الانسان داخل الماركسية". ومع ذلك، فانه يصر على رؤية الفعل البشري على انه تطبيق عملي دائما ما يقرره الفرد بنفسه، ويحدد دوره في الحالة او الموقف.

بإبعاد الحتمية والأخرويات عن الماركسية، يرفض سارتر الشعور بان لغز التاريخ على وشك الحل، وان البشرية تمر بتحول من شانه ان يتغلب أخيرا على الاغتراب ويدرك معنى التاريخ البشري. في إعلانه ان " الديالتيك لا يعني الحتمية"، شدد على البعد الذاتي للتاريخ وتخلى عن حلم التحول الطوباوي الذي تقرر مرة واحدة والي الابد مملكة النهايات الكانطية.

لم يكن هناك شك، بالنسبة لسارتر، في تبني الالية الماركسية أحادية الاتجاه حيث تحدد" القاعدة" "البنية الفوقية". وبدلا من ذلك، اصر على ان التاريخ يصنعه البشر وان المستقبل مفتوح دائما، حتى ان كانت هناك قيود موضوعية. كان الهدف من هذا التوجه يهدف الى تصحيح النمط المجرد والاستبدادية المحتملة للماركسية من خلال التأكيد على ان الفعل الذاتي والعمل مهمان بقدر أهمية الواقع الموضوعي الذي يمكن فهمه من خلال النظرية والعلم.

هكذا تخلى سارتر عن الحس الماركسي بالموضوعية (Objectivity)– الموروث من هيجل- والذي ينص على ان التاريخ يتكون من اتجاهات عامة تعمل من خلال اتجاهات عامة تعمل من خلال فاعلين بشر. لا تسبب الهياكل الاقتصادية اعمال البشر، بل تصبح متأصلة في داخل الانسان وتتجاوزه عندما يتصرف: "ما نسميه الحرية هو عدم قابلية النظام الثقافي للاختزال في النظام الطبيعي ". سواء على المستوى السياسي او كمشروع بحثي، اصبح للماركسية الوجودية الان معنى واضح: حيث يتم وضعها ضمن الهياكل الاجتماعية التي تشكلها وتحدها. وغالبا ما تضطهدها وتستغلها، ومع ذلك فان البشر يدلون ويتجاوزون ويتحدون ويتعالون.

فلسفة عصرنا

قلق سارتر حول علاقة الحرية والتشكيل تتحدث بلغة من حقبة ماضية. تبدو حججه الان للكثيرين قديمة الطراز او حتى غامضة، كانت استجابة لضغوط – تاريخية وفكرية- تلاشت منذ فترة طويلة. مع تراجع وانهيار الشيوعية، تحطمت كليا الية الماركسية. لم يختفى محاوري سارتر فحسب، بل انتهى نوع محاوريه، مؤسسة" المادية الجدلية". حتى سارتر نفسه بدا يبتعد عن الماركسية في نهاية حياته، جزئيا بسبب العمى الذي اعاقه عن اكمال اثنين من اعماله الكبرى في الماركسية " نقد العقل الجدلي" و"الاحمق في العائلة". كما انفصل عن الحزب الشيوعي الفرنسي بعد معارضة الحزب لأحداث الانتفاضة الطلابية في مايو 1968: كما فقد كل ايمانه بالاتحاد السوفياتي بعد غزو تشيكوسلوفاكيا في نفس العام، وطور علاقة هامة مع الثوار الشباب الماويين المعاديين للاتحاد السوفياتي والذين نشأوا عن حركة الطلاب.

 تبين، ان هناك مبالغة كبيرة في خبر وفاة الماركسية. الان بعد ان حكمت الرأسمالية العالم دون تحدي لجيل. شهد الفكر الماركسي تجديدا شعبيا، متحررا بشكل متزايد، حيث تخلص من اشباح مكارثي (في أمريكا) والحرب الباردة القديمة. وسارتر هو من يخبرنا لماذا:" لا يمكننا ان نتجاوزها (الماركسية) لأننا لم نتجاوز الزمن التاريخي الذي تعبر عنه". ذلك لأننا لم نتخلص من الرأسمالية التي واجهتها الماركسية-كتوجه فلسفي وطموح سياسي.

 هذه المرحلة من إعادة الاهتمام بالماركسية لم تأت على شكل حركات وأحزاب الطبقة العاملة، ولكن تجسد طرقا متجددة للتفكير بشكل نقدي حول الرأسمالية وقضاياه المستمرة من عدم المساواة والأزمات. لا عجب ان مثل هذا النقد قد شهد عودة بعد عقد من رأسمالية التقشف في اعقاب الازمة المالية والركود العظيم. قد زاد الوعي خاصة لدى الأجيال الشابة، بانه يجب ان يكون هناك بديل للرأسمالية- وان هذا البديل بغض النظر عن التفاصيل، يطلق عليه اسم الاشتراكية. للمرة الأولى منذ عقود، اصبح الاشتراكيون المعلنون في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قوة سياسية حقيقية، سواء على المستوى المحلي والوطني. أعاد على سبيل المثال بيرني ساندرز كلمة " الاشتراكية" الى حوار السياسة الوطنية.

هل هذا الاحياء للماركسية سينجح؟ مهما يكن فأننا سنضطر مرة أخرى الى اللجوء لسارتر- جزئيا لان تأكيده على الحرية يتفاعل مع ثقافة سياسية حديثة تعطي لحرية الفرد أهمية معينة، وجزئيا يساعدنا على فهم سبب فشل التجارب الماركسية السابقة. استكشف سارتر هذه المسالة في المجلد الثاني غير المكتمل من النقد.

كما فهم كثيرون من المثقفين السود، بان ماركسية سارتر الوجودية هي مصدر حيوي لفهم الذات والالهام، في مقدمة لكتاب" "المستضعفون في الأرض" لفرانس فانون (1961)، ابرز سارتر فكرة مناهضة العنف، واستكشف كيف يمكن لمواطني المستعمرات ان يتغلبوا على الخضوع، ويرفضوا التواطؤ، وان يكون لهم رأي، ويشاركوا في المقاومة. استلهم ستوكلي كارمايكل هذا الأسلوب من سارتر في خطابه الشهير" القوة السوداء" في عام 1966. في الواقع، كانت نظرية سارتر للحرية هي التي تأسست على أساسها مواقفه النضالية الى جانب المظلومين- من اليهود في المحرقة، الى السود الأفارقة تحت الاستعمار، والعمال الفرنسيين المهمشين، والمستغلين. في الجانب الاخر من هذا الدفاع عن المظلومين كانت كراهية سارتر للمستبدين البرجوازيين في " الغثيان". والارستقراطية الجنوبية البيضاء في الولايات المتحدة، وممارسي التعذيب الفرنسيين في الجزائر، والامريكيين المشاركين في الإبادة الجماعية في فيتنام، والمسؤولين عن الالة السوفيتية الشمولية.

ما نحن بحاجة ماسة اليه من الماركسية الوجودية اليوم هو فهم جديد للحرية. كما اشرح في كتابي "نحن: احياء الامل الاجتماعي". يساعدنا سارتر على تقدير كيف يتجمع الافراد لخلق الامل عن طريق النضال جماعيا، يصر سارتر على انه يمكننا دائما الاختيار، في كل وضع وموقف. وحتي عدم الاختيار هو اختيار في حد ذاته. وبهذا المعنى يؤكد سارتر اننا مسؤولون دائما عن انفسنا، وحتى وان كنا نتعرض للاضطهاد. فكما نعلم من الماركسية ان نقدر أعباء التاريخ والطبقة. سارتر لم يتخلى ابدا عن هذه العلامة المميزة لفكره، على الرغم من انه عمل على تلطيفها من حرية مجردة وكلية الى حرية ملموسه وموضوعية بعد الحرب العالمية الثانية. فانه يصر على ان ما يميز البشر عن الحجارة هو اننا نخلق دائما شيئا من الظروف التي تواجهنا.

من البديهي ان يختلف الناشطون في تعريف فكرة الحرية. ففكرة الحرية تطلب منا ان نتحمل المسؤولية عن الحالات التي وجدنا انفسنا فيها، ثم تجعلنا مسؤولين عن ما نفعله فيما يتعلق بهذه الحالات. قد يكون هذا خيارا صعبا القبول به. ولكنه يعتبر تذكيرا قويا بإمكانية النضال الفعال. تنبت المقاومة من نفس قوة الإرادة الذاتية التي ينبثق منها الخضوع واللامبالاة والتواطؤ والاستسلام. اذا كان الفرد في بعض الأحيان يستسلم ويتخذ موقفا متنازلا ويقبل القليل جدا من اجل تحقيق الهدف، ففي حالات اخرى ينضم الى الاخرين وينفجر الى العلن، ويقوم بإعادة تعريف الهويات وإعادة تشكيل الحالات وخلق الثورات.

***

......................

Ronald Aronson

Boston Review, November 14, 2018.

العبودية أو الرق مصطلح يشير إلى حالة امتلاك إنسانا لإنسانا آخر، حيث كان الأسياد يبتاعون العبيد في أسواق النخاسة، صحيح ان المجتمع الدولي قد اتجه في القرنين الماضيين لإلغاء العبودية بشكلها القديم الذي أخذ العالم القديم يتبرأ منها، ويسن القوانين لمكافحتها، إلا أنها بدأت في الظهور عبر أشكال جديدة، مثل الاتجار بالبشر، والمخدرات، والسلاح، وتبيض الأموال، والاتجار بالأعضاء البشرية، أو غيرها من أنواع التجارة التي تلحق ضررا بالغا بالإنسان، وكرامته وأدميته.

ولكن وفي ظل العولمة، وبفعل التطور العلمي والتقني والطفرة الرقمية (الديجيتال) ظهر نوع جديد من العبودية وهو ما يمكن أن نسميه " العبودية الرقمية"، حيث من الملاحظ أن الكثير من المنتوجات والخدمات أصبحت اليوم متاحة، ويتم استهلاكها عن طريق الإنترنت، من خلال عدد هائل من المعطيات الشخصية والتفاعلات والإلكترونية، وعليه فإننا كموجودات رقمية نعيش في المستودعات الرقمية ن ونعمل على طول منتوجات الاتصال، وهي منتوجات ومستودعات مملوكة من طرف الآخرين، وهذا يعادل إننا كموجودات رقمية يمكن أن نكون مملوكين من طرف الآخرين.

لقد تحرر الإنسان بفضل التكنولوجيا من الجهل والعبودية، لكنها أوقعته في عبودية من نوع آخر “عبودية التقنية ” التي اقتحمت أدق تفاصيل حياتنا مما أثر على سلوكياتنا. فرضت التكنولوجيا واقعا جديدا انعكس على حياتنا وبالتالي على الفن، فهناك من يرى أن القيم الجمالية قد تهاوت أمام الثورة التكنولوجية، بينما ترى فئة أخرى أن التكنولوجيا أوجدت مفاهيم وتقنيات جمالية جديدة، أثّرت بطريقة مباشرة على أداء الفنان الذي تخلى تدريجيًا عن الوسائط التقليدية ليستبدلها بالتجهيزات المتطورة والآلات الروبوتية، لتفسح له المجال للتساؤل عن مستقبل البشرية في ظل الهيمنة الرقمية.

فمنذ النصف الثاني من القرن العشرين، اتسم الإبداع الفني بالتطور المتسارع بفضل التقنيات الرقمية التي قادت الفنان نحو تطوير المفاهيم الجمالية عبر إدراج الفن الرقمي في الممارسة الفنية. مما أدى إلى تقديم تجارب وعروض حيّة غريبة ومدهشة تساءل الوسيط التكنولوجي وتقيّم حدوده. ويعد مارسيلي أرتينيز روكا من أوائل الفنانين الذين أقحموا التكنولوجيا الرقمية في ممارساتهم الفنية. ومارسليي فنان إسباني من مواليد 1959 ذاع صيته في الساحة الفنية من خلال عروضه الحيّة ذات الطابع التفاعلي التي يوظف فيها تجهيزات رقمية مكثفة. يعد عرضه الذي يحمل عنوان Epizoo”” أحد أهم عروضه التي بيّن من خلالها قدرة التقنية على استيلاب حرية الإنسان. يتسم العرض بالطابع الصادم والجريء يكون فيها المتلقي مشاركًا فاعلًا في عملية الإنشاء الفني. تتداخل في هذا العرض العديد من الأجناس الفنية المختلفة من مسرح وفنون تشكيلية وموسيقى. ساعدت التقنيات المتطورة على إلغاء الحدود والفواصل بين مختلف هذه الأنماط الفنية ليتم تقديمها بطريقة متجانسة. يغيب في هذا العرض النص الحواري لتحل مكانه الآلات المتطورة وخاصة الإيماءات والتعابير الجسدية. مما يجعلنا نمعن النظر في جميع هذه التفاصيل من أجل فهم مقاصد الفنان ومعانيه.

لقد بات من الواضح كيف أن شركات عالمية تستخدم بيانات الأفراد الشخصية من أجل أغراض مختلفة، كما حدث في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ويحدث ذلك في الانتخابات في معظم دول العالم، وهو فقط نموذج من أجل توضيح أن المعطيات الشخصية للأفراد في منصات التواصل الاجتماعي ليست في مأمن، بل هي مُعرضة لأت تُستغل من أجل أهداف تمس بحرية الفرد في اختياراته وتوجهاته من خلال الـ" بيغ داتا " ومعادلة التحكم والعبودية، فأمام هيمنة مخرجات الثورة الرقمية سيصير الإنسان عبدا أمام حفنة من الشركات المتعددة الجنسيات التي تتخصص في تجميع مدونة المعطيات الكبرى، وذلك بقصد التحكم في المجتمعات، وإحداث تجول جذري في أفكارها وأنماط حياتها، وتحويلها بالجملة إلى مجرد كائنات مطواعة تفعل ما تُؤمر به، أو ما تُقاد لذلك.

فالمدونة المسماة big Data أو البيانات الضخمة تقوم بتجميع كل المعطيات التي يقدمها المُبحرون في الهاتف النقال عن أنفسهم لفائدة هذه الشركات، سواء تعلق الأمر بالمعلومات الصحية، أو الأذواق والاختيارات، بل حتى الرغبات والميول الأكثر حميمية.

بعد ذلك يتم معالجتها وإيداعها في حواسيب لها قدرة فائقة على التخزين والإحصاء، حيث ستتمكن هذه الحواسيب، وفي وقت وجيز بمسح كامل وشامل حول الكائن البشري، فيصبح الأفراد مراقبون بطريقة ذكية، ولكنها غير محسوسة.

ظواهر رقمية جديدة تتشكل وتتغير في سرعة فائقة مع الحياة الرقمية، من ثم بدت مهمة للتحليل السوسيولوجي وفروعه، وحقوله المعرفية التي استقرت نسبياً عبر الزمن كما يقول الأستاذ نبيل عبد الفتاح مع تحول المجتمعات الغربية، وغيرها، في ظل بعض التحولات في المفاهيم والنظريات ومفاهيم التحليل السوسيولوجي، بل والاستقرار النسبي لآلة الاصطلاحات السائدة في هذه الحقول. الظواهر والمشكلات الاجتماعية في المجتمعات، وواقعها وتفاعلاتها الفعلية، استقرت نسبياً مع تراكم الدراسات الحقلية- الإمبريقية، وتنظيراتها في العلم الاجتماعي.

والظواهر الرقمية الجديدة، والمشكلات التى تتشكل حولها لا تقتصر على البحث عن سوسيولوجيا ولغة رقمية جديدة، وربما كما يقول الأستاذ نبيل عبد الفتاح مغايرة عن التنظيرات والبحوث السوسيولوجية والأنثربولوجية الميدانية، وإنما ثمة اهتمامات أيضاً لبحث ما تطرحه هذه الظواهر والمشكلات الرقمية من جوانب سوسيو-نفسية، لتحليل هذه الجوانب، ومنها الإدمان الرقمي، والسلوك العدوانى الرقمي، واللغة العنيفة المتفجرة بالعدوانية، والتحريض على العنف الرمزي والمادي، وخاصة من خلال الوصم السلبى للآخرين، أو اتهامهم بالكفر أو الخروج عن الملة كجزء من استعارات اللغة الدينية واللاهوتية من المتون التاريخية والتأويلية للغة واللاهوت التاريخي إلى الواقع الافتراضى، أو إشاعة مفردات ثقافية حول كراهية الآخر الديني، أو المذهبى من داخل الدين أو المذهب أو من خارجه! أو الكراهية العرقية والشوفينية والتعصب القومي!

ثمة أيضا الأبعاد النفسية لظواهر التحرش الجنسى الرقمي، أو بث فيديوهات، وجيزة، وصور شبقية، أو جنسية عارية، أو خطابات جنسية رقمية مثيرة، بعضها كما يقول الأستاذ نبيل عبد الفتاح للترويج ذو الطابع السلعى من أجل المتابعات التى تجلبُ بعضُ المال من الشركات الرقمية الكبرى، وبعضه الآخر محاولات لإثارة اهتمام الآخرين حول الشخصية العارضة، الساعية لتأكيد ذاتها الرقمية من خلال  الاستعراض الجسدى، وإثارته الحواسية، أو الجمالية، من خلال الصورة أو الفيديو الطلقة المصحوب أحياناً بالأقوال الإثارية. بعض الصور والفيديوهات الحاملة للأجساد والإثارات الحواسية، قد يستخدمها بعضهم/هن  في التشهير، والابتزاز، والضغوط إزاء بعضهن/بعضهم،وهي ظواهر خطرة تتعدى الفعل إلى دائرة التجريم في عديد من بلدان العالم.

إن هذا الزحف نحو العبودية الرقمية؛ في موازاة سقوط مجانيّة الإنترنت، ستكون له تداعيات طويلة المدى على صحة الأفراد العقليّة، وضغوط إضافيّة على ميزانياتهم، ولا بدّ من أنه سيخلق نوعاً من تفاوت طبقي في القدرة على الوصول للمعلومات بين الشعوب وداخل المجتمعات السكانيّة أيضاً، مما قد يعوق تشكيل ثقافات منسجمة على المستوى الوطني، لمصلحة ثقافات بديلة افتراضيّة عابرة للحدود تجمع بين فئات الميسورين دون غيرهم.

وهذا الفصل الرقمي سيدفع بالمتضررين إلى محاولة عبور الأسوار عبر المواقع والبرامج المقرصنة التي تحمل في طياتها غالباً مخاطرات التعرض إلى الفيروسات والبرمجيّات الضارة، وربما تتسبب لهم في خسائر مادية تضاعف من الفجوة الرقميّة، وتكرّس تهميش الذين يقفون على الجانب الخاسر من الصحراء السيبرانيّة الممتدة. وتهدد تكنولوجيات الذكاء الاصطناعيّ اليوم، مع تسارع اندماجها في مختلف جوانب الحياة، بتوسيع تلك الفجوات الرقميّة بشكل أكبر، وربما خلق أشكال أكثر جبروتاً مما عرفناه حتى وقتنا الرّاهن من عبوديّة رقميّة.

كذلك  لا شكّ أنّ التّقدم الهائل الذي يعرفه العالم في المجال الرّقميّ واستخداماته المتعدّدة، قد سهّل الحياة أمام الأشخاص الرّاغبين في البحث عن المعلومة، والاتّصال، والتّجارة، وتبادل الخبرات، وتسهيل العمليّات المصرفيّة، فضلاً عن استخدامه في الدّراسة والبحث والاتّصال بين مختلف مراكز الدّراسات والأبحاث والمراكز الطّبية والصّناعية وغيرها، ولا شكّ أيضاً أنّ هذا المجال الرّقميّ، مثل أيّ مجال آخر، له جوانب إيجابيّة وأخرى سلبيّة، أشدّها سلبيّة وأكثرها تأثيراً على صحّة الإنسان الجسديّة والنّفسيّة هو ما يمكن أن يُصطلح عليه «بالإدمان الإلكترونيّ»، وهو إدمان يحوّل حياة المرء إلى نوع من «الأسْرِ» السيِّئ والشّديد؛ حيث يكون فيها المدمن مقيّداً ومُستعبَداً لرغباته وحاجاته الإدمانيّة، فتضطرب حياته وتتمحور حول تلك الرّغبات الجامحة والقويّة للإدمان، وحين يتطوّر الإدمان يتقلّص التّناغم في الحياة بشكل تدريجيّ، وهذا إذا ما افترضنا – طبعاً - أنّ حياة المدمن كانت في الأصل سليمة ومتناغمة، هذا وقد بيّنت الحوادث أنّ ثمّة عدداً من المدمنين كانت حياتهم مفعمة بالعمل والإنتاج والتفاؤل والتّناغم العام، حتّى دخل الإدمان إليها، وبدأ الخلل يزداد يوماً بعد يوم.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة أسيوط

................

المراجع:

1-  قناة اليوم: العبودية الرقمية، يوتيوب.

2- نبيل عبد الفتاح: الحرية الرقمية والعبودية الطوعية: أثر الثورة الرقمية في تشكل الظواهر السوسيو –نفسية على الشبكات الاجتماعية، مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام.

3-أنظر مقال عبودية لا مفر منها قراءة في عرض مارسلي روكا، منشور يوم السبت 2022/10/01

4- أنظر مقال العبوديّة الرقميّة.. وهزيمة الثقافة، منشور يوم 25-07-2023 01:30 PM.

5- د. سعيد عبيدي: الإدمان الالكتروني أو العبودية الرقمية، مقال.

كرَّس الدكتور محمد الرميحي مقالته المنشورة في صحيفة الشرق الأوسطش، يوم السبت الماضي، للتعليق على جدل عنيف، نتج عن موقفه من دعوة بعض البرلمانيين لإلغاء الفصول المختلطة في التعليم الجامعي. اتَّسم هذا الجدل بعنفٍ لفظي واضح من جانب الذين يدَّعون الدفاع عن الفضيلة. عنف لا يقف عند تسفيه الرأي المخالف؛ بل يتعداه إلى شتم صاحب الرأي، واتهامه بالخيانة والجهل والمروق من الدين، وما أشبه.

وقد سبق للرميحي وغيره من أهل الرأي أن تعرضوا لاتهامات من هذا القبيل. لكن المقال آثار نقطة جوهرية، تستحق مزيداً من المعالجة، وهي إشارته إلى أن هذا الجدل وأمثاله يعبر عن «أزمة هوية»، تتجلَّى كلما برزت على سطح الحياة اليومية تحديات الانتقال من عصر التقاليد إلى عصر الحداثة.

وفقاً لتعريف إريك إريكسون، عالم النفس الأميركي، فإن أزمة الهوية تعبير عن إخفاق الشباب في الموازنة بين تطلعاتهم الشخصية ومتطلبات الحياة الاجتماعية؛ خصوصاً في المجتمعات التي تمر بتحولات متسارعة، ثقافية واقتصادية، تؤدي بالضرورة لتغيير مواقع الأشخاص ودوائر علاقاتهم، والأعراف التي تنظم هذه العلاقات.

وقد لاحظت أن أهم تحولات الهوية الفردية في مجتمعنا، نتج عن انفتاحه على مصادر تأثير ثقافي وأنماط حياة جديدة، تعارض ما ورثناه عن الأسلاف. وأميل للاعتقاد بأن بداية التحول العميق ترجع للعقدين الأخيرين من القرن العشرين، وساهمت فيها بشكل متوائم برامج تحديث الاقتصاد وتغيير سياسات التعليم، إضافة للتوسع في إلحاق الطلاب بالجامعات الأجنبية. أما ذروة التحول فقد حدثت –وفق تقديري– في السنوات الخمس الماضية، نتيجة لوصول الإنترنت السريع إلى كل قرية وبلدة في أنحاء المملكة.

وفَّر الإنترنت فرصة للشباب للانفتاح المباشر على عوالم جديدة. ولم يعد للعائلة والمدرسة والنظام الاجتماعي بمجمله، إلا القليل من التأثير على ذهنية الفرد، أما المساهم الأعظم فقد بات هو الفرد نفسه الذي يختار بوعي ومن دون وعي، من موائد لا أول لها ولا آخر، موائد بعيدة تماماً عن التجربة التاريخية لمجتمعنا.

كل من هذه التغيرات يواجه الذهنية التقليدية بتحدٍّ جديد، يدعمه نمط حياتي أكثر تقدماً وأكثر يسراً وجاذبية، الأمر الذي يضع الفرد على المحك: إما التخلي عن عالمه القديم، وإما الحرمان من ثمرات الحياة الجديدة.

وفقاً لرؤية إريكسون، فإن التحول المشار إليه، يؤدي لعسر في التفاهم بين جيل الشباب وآبائهم؛ ليس لأنهما يرفضان التفاهم؛ بل لأن اختلاف المشارب الثقافية يجعل كلاً من الآباء والأبناء ينطلق من خلفية مختلفة؛ بل عالم مفهومي ومعنوي مباين للآخر. إن حاجة الأب والابن للحفاظ على العلاقة القائمة، تؤدي بالضرورة إلى قدر من التكلف والعناء الذي ينعكس على شكل أزمة نفسية، هي ما نسميها أزمة الهوية.

رؤية إريكسون تنطبق على الشباب؛ لكني وجدت أزمة الهوية عند شريحة واسعة من الآباء أيضاً. وهي تتجلى في صورة رفض داخلي للقديم مع قبوله في الظاهر، أو رفض داخلي للحديث مع رغبة قوية في التمتع بخيراته. ينتج هذا التنافر ازدواجية في القيم، تمثل مظهراً آخر لأزمة الهوية.

أظن أن مرجع التأزم عند كلا الطرفين: الشباب والآباء، هو بطء التفاعل بين تراثنا الثقافي، الديني وغير الديني، وبين متغيرات العصر الثقافية؛ لا سيما منظومات القيم الجديدة، وما يترتب عليها من علائق بين الناس، وتموضعات اجتماعية مختلفة عما ساد في الماضي.

أعتقد أن شريحة واسعة من أبناء مجتمعنا، من الآباء خصوصاً، يعانون من عسر شديد في التوفيق بين قناعاتهم القديمة وحياتهم الجديدة. ولو نظرنا للسبب العميق وراء كل هذا، لرأيناه في حقيقة أن تراثنا الثقافي يريد للفرد أن يكون تابعاً مطيعاً، لا مشاركاً أو صانعاً للقيم التي تقود حياته. وهكذا يتوجب عليه البقاء منفعلاً ومتأثراً، إن أراد التمتع بفضائل النظام القديم.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

يقول أرسطو "أن ما دفع الناس في الأصل وما يدفعهم اليوم إلى البحوث الفلسفية الأولى هي الدهشة"

وحدها الدهشة تنزع عن الأشياء أُلفتها لنجد أنفسنا أمام حيرة السؤال.

الدهشة بالمعنى الفكري هي حالة التنبه الذهني اليقظ التي يتكثف فيها التأمل وتتسم بالانتباه الذكي.. هي حالة تنكسر فيها الرتابة، وتنقشع من خلالها الغفلة ليتجلى التبصر.

مفردة فلسفة مصدرها إغريقية وتعني ’’حب الحكمة‘‘. هي واحدة من أهم مجالات الفكر الإنساني في تطلعه للوصول إلى معنى الحياة.

في سعينا إلى معرفة الحكمة من وجود الحياة، الحكمة من الموت .. نحن نقوم بفعل فلسفي. ومن المفيد في هذا السياق الإطلاع على الفلسفة الرواقية.

ظهرت الرواقية لأول مرة في اليونان منذ حوالي 300 سنة  قبل الميلاد، عندما فقد تاجر يدعى "زينو" جميع ممتلكاته في سفينة غرقتْ. لمواجهة هذه الكارثة التي حلت به بدأ في ممارسة الفلسفة في "ستوا بويكيل"، أحد أروقة "أغورا "الأثينية، الذي تستمدّ منه الرواقية اسمها.

اهتم الرواقيون كثيرا بالتمييز بين ما نستطيع وما لا نستطيع السيطرة عليه، بأنه لا مفر من تنسيق أفكارنا وسلوكياتنا مع مسار الطبيعة الحتمي. كان الرواقيون يصنفون من ينجح في القيام بهذا الفعل بأنه إنسان فاضل. وبهذا الشكل، كانوا يصنفون الحزن على موتٍ الأحبة بأنه خطأ جسيم.

ربما يعد هذا القول للوهلة الأولى مبالغا فيه بل وشديد القسوة لأنه ليس هناك من شخص طبيعي لا يحزن على فقدان أحبته.

بالتمعن في الفلسفة الرواقية نتبين أن مشاعر الرواقيين تجاه من يحبونهم أكثر ثراءً من مشاعرنا نحن غير الرواقيين، لأنهم يُذكِّرون أنفسهم في كل لحظة بمدى قيمة اللحظة التي تجمعهم بمن يحبون. عندما يختبرون موت شخص عزيز، يشعرون ببداية حزن، لكنهم يسيطرون على حزنهم ويحولونه نحو كل ذكرى طيبة كانت قد جمعتهم بمن فارقهم وهو ما يمكنهم من تخطي الألم جراء خطب لا يملكون شيئا حياله.

إن العمل على تطوير قدرتنا على التكيف مع آثار الفقد على نفسيتنا يمكننا من أن  نحب إنسانًا ما، بكل صدق، وهو لا يزال على قيد الحياة. لكن موته لا يمنعنا من الحياة.

 ما يساعدنا على ألا نغرق في الحزن على من فقدنا هو المهارة في الانتقال من حالة الشجن إلى حالة الرضا والتسليم.

في رسالة العلامة العربي المسلم يعقوب ابن إسحاق الكندي*"في دفع الأحزان" يُعرِّف الحزن بأنه" ألم نفساني، ناتج عن فقد أشياء محبوبة، أو عن عدم تحقق رغبات مقصودة، وعلى هذا، فإن سبب الحزن هو إما فقد محبوب، أو عدم تحقق مطلوب."

ويضيف الكندي أنه علينا ألا نملك شيئا حتى لا نفقده، فيكون فقدانه سبباً للحزن، ولأن الحرص لا تدوم معه ملكية، فيجب علينا أن لا نملك شيئا.

ما يصفه الكندي هو حالة من الحرية تحلق فيها النفس عاليا دون قيود لتبلغ مرتبة السمو عن عالم المحسوسات إلى عالم أرفع، هو عالم الروحانيات.

نخلص من خلال هذا أن الحياة فرصة تجمعنا بمن نحب وجب علينا أن نستغلها في عيش لحظات السعادة معهم، في تقاسم مشاعر الود والرحمة والإيثار.

إن الفقد حتمي وهو خارج عن سيطرتنا.  الفقد ومن بعده الشعور بالحزن على شخص رحل، قد يحمل في طياته وجود ذكرى عذبة ذات قيمة. قد يكون الاحتفاء بالذكرى المبهجة هو العزاء.

ما يجعل لكل شخص، لكل ذكرى قيمة حقيقية، هو ادراكنا لعدم خلودها، لفنائها. حين ندرك هذه الحقيقة تصبح للمشاعر قيمة أرفع. هكذا يصبح الحزن متأصلا في الحب بسبب إداركنا العميق انه سيزول يوما.

***

درصاف بندحر – تونس

..................

الهوامش:

* أبو يوسُف يعقوب بن إِسْحَاق الْكِندي (185 هـ/805 - 256 هـ/873) علّامة عربي مسلم برع في الفلك والفلسفة والكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والموسيقى وعلم النفس والمنطق الذي كان يعرف بعلم الكلام.

يعرف عند الغرب باسم (باللاتينية: Alkindus)، ويعد الكندي أول الفلاسفة المشّائِين المسلمين (مؤسس المدرسة المشائية هو الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي سماه تلاميذه المشّاء لأنه كان يعلمهم وهو يمشي)

 كما اشتهر الكندي بجهوده في تعريف العرب والمسلمين بالفلسفة اليونانية القديمة والهلنستية.

قال الشاعر محمود درويش ما معناه أن فكرة التشبث بالحياة هي العذاب الحقيقي للذات؛ ذلك أن هذه الذات الساعية إلى الاستمرار في الحياة رغم الرتابة والملل اللذين يكتنفانها، ويدفعان المرء إلى مقصلة التعب التي تمزق الجسد والروح، تتجرع علقم الوجود، وتدفع ثمنه الرغبة في العيش أضعافا مضاعفة.

تمسي وأنت منهك الجسد ومتعب الروح، وتعزف عن تناول عشاءك، وتؤثر النوم على الأكل والسهر، ولكنك ما إن تسند رأسك على الوسادة حتى تقفز بنات الدهر إلى ذهنك، وتأخذ في رقصة مضطربة الإيقاع؛ إذ تتسم هذه الخطوب بالانتظام تارة لدرجة أنها تذوب في روحك كما يذوب الملح في الجرح، وتارة أخرى تضطرب في ذهنك فترهقك وتخطف النوم من عينيك، ثم ترميك نهبا للسهاد والأرق، فتجدك تتقلب على فراشك يمنة ويسرة، وبعد محاولات متكررة باءت بالفشل ارتأينا أن تتصفح كتابا كنت قد بدأت قراءته مساء، ولكنك لا تستطيع للقراءة سبيلا؛ ذلك أن الكلمات سرعان ما يدخل بعضها في بعض، حتى لتبدو لك السطور تتراقص على وقع روحك الممزقة المتعبة، فتفرك عينيك وتحاول جاهدا أن تفتحهما، لكنك لا تنجح في شيء من ذلك.

ترمي الكتاب جانبا، ثم تحمل هاتفك وتلج مواقع التواصل الاجتماعي بحثا عن صديق مزقه التعب والأرق هو الآخر، بيد أنك لا تجد من يشاركك همومك وما يسلب النوم من عينيك، فترمي الهاتف هو الآخر جانبا. وفجأة، يترامى إلى سمعك صوت بعيد لكنه استطاع أن يلفت انتباهك، فتقوم من فراشك متثاقل الخطى، تترنح كما يترنح الغصن المنفرد أمام هبات الرياح العاتية، وتقصد النافذة المطلة على الشارع، فتلفاه مضيئا بمصابيحه الباهتة، ويتراءى لك موحشا مقفرا ساكنا إلا من الصوت التي يخترق سمعك بين الفينة والأخرى.

يطول انتظارك ولكن صاحب الصوت لم يظهر، فتشعر برغبة شديدة في جرعة ماء تبلل ريقك، ولكنك لا تستطيع بلوغ ضالتك، وتأخذ في البحث عن أسباب عجزك وخورك؛ لأنك تخشى أن تطول حركتك في المكان الموحش، فتضن على ذاتك العطشى بجرعة ماء كما ضننت عليها بالعشاء، ثم تعود إلى فراشك متعطشا إلى غمضة نوم سريعة، أو رقدة طويلة تحول بينك وبين عالمك المدلهم، عالمك المضطرب بالأفكار التي تخز نفسك من حين لآخر، بالأحلام العابرة التي تضيق لها نفسك، بالآلام المبرحة التي تمزق جسدك، بالهموم الثقال التي تجثم على قلبك. لكن، هل بلغت غايتك وقصدك؟ هل زارك النوم المتمنع؟

طال سهادك وأرقك، وبلغ منك التعب مبلغا بعيدا لم يعد معه النوم ممكنا، فآثرت أن تجلس القرفصاء وحيدا عليلا، وتحمل الكتاب مجددا تلتمس فيه أنسا ومواساة؛ أليس الكتاب هو الرفيق الوحيد الذي لا يخون عهدا، ولا يخذل صاحبه ساعة الحاجة إليه؟ فما بال كتابك النقدي هذا لا يرد عنك وحشة، ولا يذود عنك تعبا ولا أرقا؟ هل حزن الكتاب لحزنك، ومل وتعب لمللك وتعبك، أم أن عينيك المسبلتين لم تطيقا مسايرة رقصات سطوره السريعة المضطربة؟

تبحث عن الجواب طويلا، ولما لم تظفر بما يشفي غليلك، قررت أن تؤقلم عينيك المسبلتين مع إيقاع السطور المتراقصة، فأخذت في القراءة الراقصة مدة، ثم بدا لك أن السطور ثابتة في مكانها على الورق، وأن الكلمات المضطربة لم تعد صاخبة ومتحركة، وإنما ألفيت أن مصدر الاضطراب والرقص هو روحك الممزقة المتعبة، فحاولت تضميد جروحها ورتق مزقها بالأناة والصبر على القراءة.

تتقدم في تصفح الكتاب، فتبدو لك الكلمات الغامضة واضحة مشعة في نفسك، وتحس آلام الشاعر وأحلامه في قصائده، وتلفي الناقد المؤول ذا كفاءة تأويلية كبيرة، وأنه استطاع أن يؤنسك في وحشتك بأن قدم لك السراج المنير الذي أضاء ما عتم عليك في كلمات الشاعر، فتشفق على هذا الشاعر الذي تعب من الحياة كما تعبت، واختار الرحيل عنها كما اخترتَ، إلا أنه استطاع اختراق حجب هذه الحياة، واكتشاف جدها وهزلها، وجدواها وعبثها، بيد أنك لم تستطع لما بلغه سبيلا، فتبحث سبب عجزك عن فهم الحياة وطبيعتها في نفسك، وبعد لأي، تجد الجواب هو عجزك عن البوح بما يعتمل في أعماقك، والتعبير عما يجول في ذهنك من أفكار، وما يتجلى في قلبك من أنوار ورؤى، فتقرر، وأنت خائر القوى، أن تبوح بما يضطرب في عقلك وقلبك، وألا تضن بذلك إلا على الذين ليسوا أهلا لمعرفته؛ لأن في نفسك سرا عظيما، ولكي تتحمل الحياة عليك أن تخترق حجبها في نفسك، وأن تكشف عن سرها الكبير في شطحات ذاتك كيما تنعم بفرح كينونتك ووجودك.

***

محمد الورداشي

يتم التعامل مع الرجال والنساء على قدم المساواة عند وصولهم إلى الدانمارك وتقديم طلب اللجوء، أو القدوم كأفراد من الأسرة عبر نظام جمع الشمل. إن مراكز اللجوء مختلطة وتخضع جميعها لنفس العملية لتقييم احتياجات الحماية أو الإلحاق. نظام التعليم الدنماركي وعروض العمل التي تقدمها البلديات تخضع هي الأخرى لنفس مبدأ المساواة بين للرجال والنساء دون أي تمييز.

تبنت الدنمرك سياسة المساواة بين الجنسين منذ عقود، وتعتبر أن المعاملة الخاصة والتقسيم إلى جنسين أمر سلبي وقديم الطراز. لكن عدم التفرقة في المعاملة لا يؤدي إلى المساواة. إذا كنت تريد معاملة جميع الأشخاص بنفس الطريقة، فهذا يتطلب أن يكون لديهم نفس نقطة البداية. وإلا فإنه يمكن أن يؤدي في الواقع إلى التمييز. من الأمثلة الجيدة على ذلك الصورة المستخدمة غالباً للمعلم الذي يقول: "لضمان الاختيار العادل، سيتم تكليفكم جميعًا بنفس مهمة الاختبار: يجب عليك تسلق الشجرة" لكن الطلاب هم بمثابة حيوانات مختلفة، مثل القرد والذئب والقنفذ والسنجاب - بالنسبة للبعض ستكون المهمة سهلة، وبالنسبة للآخرين ستكون المهمة مستحيلة.

يمكن تعريف التفرقة بأنه تمييز غير معقول يؤدي إلى حصول الشخص على معاملة أو حماية أسوأ من غيره. ليس من غير القانوني معاملة الناس بشكل مختلف. بل على العكس من ذلك، غالبا ما يكون من الضروري ضمان معاملة الجميع على قدم المساواة. هذا ما يكتبه معهد حقوق الإنسان الدنمركي على موقعه الإلكتروني.

تقرير حقوقي جديد

قامت مِؤخراً منظمة مساعدة اللاجئين في الدنمرك بنشر تقرير بعنوان "إنهم لا يعرفون مقدار الضغط الذي نعانيه"، والذي يسلط الضوء على كيفية تعرض آلاف النساء للتمييز من جانب المجتمع الدنماركي - ليس عن وعي، ولكن لأن الناس يتجاهلون كيف تختلف ظروف النساء الأجنبيات مقارنة بأزواجهم وإخوانهم، وبالمقارنة بالنساء الدنماركيات. وفي العديد من النقاط، تكون فرصة النساء أقل بكثير للوفاء بالمطالب التي يتم تقديمها، على الرغم من أن النساء القويات غالباً ما يخضن معارك الحياة دون كلل.

على سبيل المثال لم يُسمح لـ "آشا" بالذهاب إلى المدرسة في موطنها الصومال. ولذلك فقد تم تسجيلها في مركز اللغة الدنماركية، اجتازت المستوى الأول، ولم تتمكن من اجتياز المستوى الثاني، وهو شرط للحصول على الإقامة الدائمة. بينما تخطي المستوى الثالث يعتبر شرطاً رئيسياً للحصول على الجنسية الدنماركية. وهي مطالب قد يكون لإخوتها بعض الفرصة للوفاء بها. إنه التمييز الهيكلي. من ناحية أخرى، كأم عازبة وبعد قضاء السنوات الست الأولى في مركز اللجوء، قامت بتربية ستة أطفال، وقد حصلوا جميعاً على التعليم العالي أو المهني فيما بعد.

تضمن التقرير وصف مشاكل المرأة الأجنبية في الدنمرك من خلال تسع عشرة قصة لنساء لاجئات، والكثير من الاقتباسات. على سبيل المثال قصة "سميرة" وهي لبنانية تعيش الآن في مركز مغادرة لأنها تركت زوجاً يسيء معاملتها.

تقول "أتيت إلى الدنمارك منذ أربع سنوات بسبب الزواج. لكنه ضربني وتركته بعد أربعة أشهر. لا أستطيع العودة إلى لبنان حيث تعيش عائلتي. يريدون قتلي لأنني مطلقة. والآن أعيش في أحد المراكز المخصصة لمغادرة طالبي اللجوء المرفوضين منذ عام، ولا أستطيع الحصول على المال أو المساعدة من أي شخص. إنه أمر صعب للغاية."

يتناول التقرير النساء والفتيات اللاتي، لأسباب مختلفة، لا يستطعن العودة في وطنهن، ويقيمن الآن في الدنمرك، بإذن أو بدون إذن أي من تحمل منهن تصريح بالإقامة قانوني، أو من لا تمتلك أوراق. لم يتضمن التقرير النساء اللاتي قدمن إلى الدنمرك كعاملات مهاجرات أو بسبب الزواج من رجل دنماركي. بل التقرير يستهدف الفتيات والنساء الأجنبيات اللاتي وصلن الدنمرك وحدهن، أو بسبب زواجهن من رجال أجانب.

البعض ترك وطنه بمفرده، والبعض الآخر مع أفراد الأسرة. وقد وصل البعض بعد رحلة محفوفة بالمخاطر بمساعدة مهربي البشر لتقديم طلب اللجوء، بينما كان آخرون ينتظرون الحصول على إذن للم شملهم مع الزوج أو الأب الذي سافر قبل ذلك وحصل على اللجوء. ولا يزال البعض الآخر يتم استدراجهم إلى هنا بوعود كاذبة، لكن ينتهي بهم الأمر إلى زيجات سيئة.

هؤلاء النساء ضمن الفئات التالية:

طالبات اللجوء.

اللاجئات المعترف بهن.

النازحات من أوكرانيا.

الموجودات بنظام جمع شمل أسرة اللاجئ.

نساء غير موثقات ـ على سبيل المثال بعد رفض اللجوء.

وتندرج العديد من هؤلاء النساء أيضاً ضمن فئة "غير غربية"، لكن هذا تعريف دنماركي يتضمن دلالات عرقية، تصفه كل من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي بأنه موصم وغير مناسب، وبالتالي لم يتم استخدامه في التقرير. غالبية النساء في الفئات المذكورة أعلاه يأتون من دول في الشرق الأوسط وأفريقيا، ولكن أيضاً من دول مثل أوكرانيا، والبوسنة، وسريلانكا، وتايلاند.

النساء، اللاتي يتحدثن إلى حد كبير عن أنفسهن في التقرير، غالباً ما يعانين من نقاط ضعف متعددة الجوانب في المجتمع الدنماركي، مما يتركهن في أسفل التسلسل الهرمي. على سبيل المثال "بينتا" من غامبيا. فهي ليست مجرد امرأة، ولكنها أيضاً مثلية، وأمية، وسوداء، ومسلمة، وفقيرة، وطالبة لجوء مرفوضة.

تقول "إستيلا " من أوغندا، التي أمضت خمس سنوات في مركز ترحيل مع طفلها الصغير "لا أحد يفهم ما نشعر به. إنهم لا يعرفون مدى الضغط الذي نعاني منه. إذا لم يسبق لك أن واجهت الإجبار على القيام بأشياء ضد إرادتك، لذلك تشعر حقاً بالضعف، فلا يمكنك إصدار الأحكام."

هؤلاء النساء لا يشكلن مجموعة متجانسة، فهن غير متشابهات، ويختلفن عن بعضهن البعض عرقياً وثقافياً. لذلك من المهم إدراك الخطر الكبير المتمثل في التعميم والوقوع في الصور النمطية أثناء النظر في قضاياهن. ومن المؤسف أن النظام الدنماركي يجد صعوبة في التعامل مع هذه الاختلافات. هؤلاء النسوة رغن أنهن ضحايا وضعيفات وتعرضن للعنف، ومعتمدات على الآخرين، ، إلا أنهن نساء قويات ويتحملن مسؤوليات كبيرة، ويعملن بعناد وعزيمة لتحقيق استقلالهن، رغم الاحتمالات المتدينة ارتباطاً بأوضاعهن العامة.

تشريعات قاصرة

اتم اتخاذ العديد من التدابير القانونية ـ على مدار تعاقب الحكومات ـ فيما يتعلق بنساء الأقليات العرقية في الدانمرك من أجل إدخالهن إلى سوق العمل والحد من عزلتهن في المنزل. اليوم، هناك تركيز كبير على مواجهة الثقافات والأنماط القمعية الآتية من البلدان الأصلية، أي الزواج القسري والمرتب، والرقابة الاجتماعية بشكل عام. ومن المؤسف أن الإجراءات المضادة المُتخذة كانت مقتصرة في كثير من الأحيان على العقوبات الصارمة للآباء والإخوان، الأمر الذي يهدد بفرض المزيد من المشاكل على النساء أنفسهن اللواتي يزعمن أن تلك الإجراءات تساعدهن.

وفي عام 2015، تم إلغاء تصريح إقامة "جميلة" رغم أنها أوضحت أن الطلاق كان بسبب العنف من قبل الزوج، وأنها عاشت في ملجأ لمدة ثلاثة أشهر. وشرحت أنها قبل ذلك أقامت مع الرجل خوفا من فقدان تصريح إقامتها. أكد الزملاء في المركز الذي تعمل فيه جميلة أنها أخبرتهم عن تعرضها للعنف سابقاً. لكن لم يكن هناك توثيق للعلامات المرئية بعد العنف، ولا تقرير طبي. ولم تعتقد السلطات أن العنف كان بالضرورة سبب الانفصال. علاوة على ذلك، تم التأكيد على أن جميلة احتفظت بارتباط قوي ببلدها الأصلي، وأن حقيقة أنها بدأت التدريب المساعد في النظام التعليمي لم يكن كافياً لاعتباره اندماجاً ناجحاً.

لقد تجاهل السياسيون والنظام العام، الدور الذي يلعبه النظام الهيكلي الدنماركي نفسه في الحفاظ على جزء من النساء في حالة اضطهاد واعتماد على أزواجهن.

لتوضيح هذا الادعاء، يجب النظر إلى ما تحمله النساء المعنيات معهن في أمتعتهن عند وصولهن إلى الدنمارك - وهذا ينطبق على تربيتهن والتجارب التي مررن بها أثناء الرحلة. تضطهد أفغانستان، والصومال، وإيران، النساء والفتيات بشكل مباشر في التشريعات، في حين أن دول مثل العراق، وسوريا، وإريتريا، وميانمار، تمنح النساء حقوقاً رسمية في التشريعات والقوانين، ولكنها في الواقع لا تمنحهن بأي حال من الأحوال فرصاً متساوية مع الرجال.

مستضعفات في الدنمرك

بشكل عام، تتمتع النساء في الفئات المذكورة بمتطلبات أقل لتحقيق أداء جيد في المجتمع الدانمركي بسبب الظروف التي نشأن فيها. يبدأ الأمر في مراكز اللجوء، وفي عملية اللجوء، وفي تقييمات اللجوء، حيث تكون النساء وحدهن بدون رجال. تشكل النساء في مراكز اللجوء أقلية ويشعرن بعدم الأمان بين العديد من الرجال غير المتزوجين. فالنساء أقل استعداداً لإجراء المقابلات الطويلة، كما أن دوافع لجوء النساء تؤدي إلى وضع قانوني أضعف بكثير من وضع الرجال، وهو ما يمكن أن يكون من الأسهل المشاركة فيه مرة أخرى. العديد من النساء يحصلن على اللجوء بسبب حالة أزواجهن، وبالتالي يرتبطن به.

تقول امرأة أفريقية عازبة "أحضرت طفلي معي في كل المقابلات. كان عمره عامين. جلس في حجري ثم أعطوه جهاز iPad وسماعات حتى يتمكن من مشاهدة الرسوم المتحركة. لكنه لم يتمكن من النظر إليها لساعات عديدة، وكان يبكي ويركض. كان من المستحيل بالنسبة لي أن أركز".

ومع ذلك، فإن ما يقرب من 80٪ من النساء يصلن بغرض لم شمل الأسرة، وبالتالي ليس لديهن تصريح إقامة خاص بهن على الإطلاق، لكنهن يعتمدن بشكل كامل على أزواجهن - ويخاطرن بفقدانه إذا انتهت المعاشرة.

إن خلفية المرأة تجعل من الصعب عليها أن ترقى إلى مستوى متطلبات المجتمع الدانمركي. لقد التحقن بمدارس أقل وحصلن على تعليم أقل من إخوانهن وأزواجهن. وهذا يعني أن عدد النساء أكبر من عدد الرجال المسجلين في أدنى مستوى من التعليم الدانمركي، والذي لا يتيح امتحان النجاح فيه الحصول على مزيد من التعليم أو الإقامة الدائمة أو المواطنة.

وقد تعرضت الأغلبية من النساء الأجنبيات للعنف من أقرب الأشخاص إليهم في مرحلة ما، ولم يُسمح للكثيرين باتخاذ قرارات مستقلة بشأن حياتهم الخاصة. هناك العديد من الأمهات العازبات في المجموعة، وحتى في العائلات التي لديها أب، تتحمل الأم دائماً المسؤولية الأساسية عن الأطفال، مما يربطهم بمراكز اللجوء والمنزل.

كما أن لديهم أيضاً خبرة عمل أقل أهمية ودخلاً مستقلاً أقل في وطنهم، مما يضعهم في وضع غير مؤات فيما يتعلق بدخول سوق العمل الدنماركي. يعاني العاملون الاجتماعيون في مراكز العمل من التحيزات التي تقول إن المرأة لا ترغب في العمل، وتقدم لهم أنواعاً أقل وأدنى من الوظائف من الرجال. ولم يكن للنسخ والتجارب والمشاريع المتغيرة من مساعدات بدء المشاريع للاجئين أي تأثير على جذب المزيد من النساء إلى العمل، وكان لها تأثير محدود فقط على الرجال. وقد أثرت المزايا المخفضة على الأمهات العازبات بشكل خاص، وفقا لمعهد حقوق الإنسان الدنمركي.

جاءت الإيرانية "شرارة" إلى الدنمارك مع ابنتها البالغة من العمر 16 عاماً، لكنها اضطرت إلى قضاء عشر سنوات في مراكز اللجوء قبل أن تتمكن أخيراً من إعادة فتح قضيتها والحصول على اللجوء.  تقول "لم تكن إيران هي التي منعت ابنتي من أن تصبح امرأة مستقلة. بل نظام اللجوء الدنماركي هو الذي منعها من القيام بذلك".

إصرار على التعلم

تجد النساء صعوبة في دخول سوق العمل، وعندما ينجحن، يحصلن على راتب أقل، ومعاش تقاعدي أقل، خاصة بسبب إجازة الأمومة - تماماً مثل النساء الدنماركيات، بالمناسبة. ومع ذلك، غالباً ما ينتهي بهم الأمر في أسفل التسلسل الهرمي، وتكون حالتهم الصحية أسوأ بكثير مما كانوا عليه

فيما يتعلق بالنساء المقيمات في الدنمرك، فإنه بحلول الوقت الذي يصلن فيه إلى سن التقاعد، تعيش 20-25% من النساء من الشرق الأوسط وتركيا تحت خط الفقر الذي تم إلغاؤه الآن، والذي ينطبق فقط على 10-15% من أزواجهن، و1% فقط من الرجال والنساء من أصل دنماركي عرقي.

في مجال التعليم، ترى شيئاً مثيراً للدهشة. عدد أقل من النساء حصلن على تعليم من وطنهن الأصلي، لكن عدد النساء اللاتي يتعلمن في الدنمارك ضعف عدد الرجال. ويلاحظ نفس الاتجاه بين الشباب والأحفاد، حيث لا تتفوق الفتيات على إخوتهن فحسب، بل تتفوق أيضاً على الفتيات الدانمركيات عرقياً. ولذلك فإن لدى النساء رغبة كبيرة في تحسين مهاراتهن ودعم أنفسهن. ولذلك، فمن الأفضل كثيراً لكل من السويد والنرويج أن تعمل على جلب النساء من الشرق الأوسط وتركيا وشمال أفريقيا على سبيل المثال - وهذا يتطلب استراتيجية طويلة الأجل تعتمد على تحسين المهارات بدلاً من الحل الدنماركي السريع المتمثل في الوظائف التي لا تتطلب المهارة في أقرب وقت ممكن.

على الرغم من أنها تتراجع في التصنيف العالمي على المؤشرات القابلة للقياس، فإن الدنمارك لديها صورة ذاتية مفادها أنها حققت المساواة الكاملة تقريباً بين الجنسين. الدنمرك حالياً في المركز التاسع والعشرين، في حين أن جميع دول الشمال المجاورة مستقرة في المراكز الخمسة الأولى. وحتى النساء الدانمركيات من أصل عرقي لم يحققن المساواة حتى الآن، على الرغم من تكافؤ الفرص في الالتحاق بالمدرسة، وحرية اختيار العمل، والزواج، وما إلى ذلك.

عندما تكون ظروف المجموعة المذكورة من النساء الأجنبيات في الدانمرك أسوأ من ذلك، ويظلن معتمدات على أزواجهن، فإن ذلك لا يشكل تعبيرا عن الرغبة في وضعهن في مكانة غير مناسبة من جانب المجتمع الدانمركي. وهو نتيجة لعدم الاهتمام بالجوانب المتعلقة بالجنسين وعدم الاهتمام بتنظيم العروض والطلبات بطريقة تتاح لهؤلاء النساء فرصة حقيقية للاستفادة منها والارتقاء بها.

توصيات الخبراء

ويحتوي التقرير على عدد من التوصيات لإجراء تحسينات، سواء في إجراءات اللجوء أو في مرحلة الاندماج أو الهدف النهائي المتمثل في أن تصبح مواطناً دنماركياً:

ـ هناك حاجة إلى المزيد من طرق الوصول الآمنة إلى الدنمارك.

ـ هناك حاجة لمراعاة سلامة النساء والفتيات في مراكز اللجوء بشكل أفضل.

ـ هناك حاجة إلى المساواة بشكل أفضل بين دوافع لجوء النساء والرجال.

ـ هناك حاجة إلى مزيد من الفحص والدعم والعلاج لضحايا العنف، ويجب أن تكون بعض أشكال العنف الجنسي مساوية للتعذيب.

ـ هناك حاجة إلى ضمان عدم بقاء أي امرأة مع رجل ضد إرادتها من أجل الاحتفاظ بتصريح إقامتها.

ـ هناك حاجة إلى تكييف التعليم الدانمركي بشكل أفضل مع النساء ورفع مستوى مؤهلاتهن لدخول سوق العمل.

ـ هناك حاجة إلى زيادة التركيز على صحة المرأة.

ـ هناك حاجة لتكييف متطلبات الإقامة الدائمة والمواطنة وفقًا لنقطة البداية والفرص المتاحة للفرد.

ـ يحتاج الوافدون الجدد من كلا الجنسين إلى تعليم الحقوق والمساواة.

ـ هناك حاجة إلى تعاون منظم مع المنظمات الإسلامية لتقديم الدعم للنساء والفتيات المسلمات اللاتي يعانين من مشاكل.

إن المساواة في المعاملة في الدنمرك تنطوي على تمييز لمجموعة معينة من النساء. إن التجاهل للجوانب الجنسانية يجعل النساء معتمدات ومستضعفات في نظام اللجوء وعملية الاندماج. لقد حان الوقت لكي تغير الدانمرك سياستها عندما يتعلق الأمر بالنساء اللاتي لجأن إلى هذا البلد والذين لم يحظوا بحياة مميزة مثل الدنمركيين. ليس رجالهم وحدهم هم المشكلة لهن. لا يرغبن في العودة إلى المنزل بمفردهن والعيش على أموال الرجل، لكنهن لا يستمتعن أيضاً بطلب سبع وثلاثين ساعة من التدريب غير مدفوع الأجر في أحد المستودعات، أو التهديد بفقدان تصريح إقامتهن إذا طلقن من أزواجهن. تطلب النساء المعلومات والعروض ذات الصلة والدعم لجعل الحياة اليومية ناجحة، لذلك يشعرن بالسعادة لبذل جهد كبير ويقبلن بفرح وفخر الفرص التي لم تتح لهن في بلادهن الأصلية.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

القيمة التشخيصية بين الفن التقليدي والفن الحديث

فرناند ليجيه Fernand Le’ger (1881 – 1955) رسام ونحات وسينمائي فرنسي وهو احد اهم مؤسسي المدرسة التكعيبية، رغم ان اسلوبه تميز بالتركيز على الخط المنحني والسطوح المحدبة والمقعرة اكثر مما هو على الخط المستقيم والزوايا الحادة والسطوح المستوية. ولذلك فقد تميزت بعض اعماله بمجسماتها الاسطوانية والانبوبية، مما دعى بعض النقاد الى تسمية اسلوبه المتفرد بـ Tubism بدلاً من Cubism.

في هذا النص حاولت ان استقي اهم الافكار التي طرحها هذا الرسام الهام حول معنى وضرورة الفن الحديث في بواكير ظهوره كاتجاه ومنهج فنيي، وباعتبار ان ما سطره هذا الفنان اصبح من اصول النصوص التنظيرية في الفن. جاء ذلك في مقالته الموسومة "القيمة التشكيلية في الفن التشكيلي" المنشورة في مجلة Montjoie عام 1913. وقد اعيد نشر المقالة في كتاب "الفن والنظرية 1900-2000" الذي حرره چارلس هاريسن وپول وود، كأ وسع انثولوجيا تخص افكاراهم المهتمين بالفن وتطوره من نقاد ورسامين وصحفيين خلال قرن من الزمن.

من البدء، يركز ليجيه على ما أسماه بواقعية التصور والادراك Realism of conception ويميزها عن الواقعية المألوفة لدينا والتي يسميها الواقعية المرئية Visual realism التي نراها ونلمسها في محيطنا والتي جسدتها اعمال مئات الرسامين التقليديين عبر السنين. فهو يعتقد ان الفن الحديث، وبالذات المدرسة التكعيبية فيه تحملنا على تصور ما هو واقعي رغم ان ما نراه على سطح الكانفس لا يحاكي بالضبط ما هو خارجه من اشياء. وانها تجسد ذلك الادراك بواقعية الاشياء من خلال علاقات التناغم والتضاد والتناقض فيما بين العناصر الصورية عبر انشاء اللوحة، ومن خلال تكسير المنظور وتجزئة المشهد الذي يعبر عن طبيعة وحال الحياة المعاصرة.

ويؤكد ليجيه ان قرونا من الفن التقليدي عوّدت المتلقي ان يقيّم العمل الفني بقدر ما يستطيع ذلك العمل من محاكاة ما هو موجود حولنا باكثر مايمكن من الدقة في التشخيص، واقرب ما تجسده اللوحة من الصفات الفيزياوية للاشياء حسب ما تراها العين خارج اللوحة. الا ان الامر اختلف في الفن الحديث. فلم يعد ذلك النقل الحرفي للواقعية المرئية هو المعيار الفني لقيمة العمل، ذلك ان قيمة العمل التشكيلي الآن لا تشترط المحاكاة أو بالاحرى لم تعد دقة التشخيص هي المعيار الامثل لفنية العمل. ويشدد على ان هذا التطور في التقييم ينبغي ان يكون بمثابة العقيدة الثابتة في الفن التشكيلي المعاصر، بل من بديهيات فهمه وتذوقه.

ويعتقد ليجيه بأن الواقعية المرئية تتجسد عند الفنانين التقليديين عن طريق تحقيق الترتيب المتزامن Simultaneous ordering للعناصر التشكيلية الاولى، الخط والفورم واللون، هذا التزامن الذي يضمن سلامة التشخيص التشكيلي وبدونه لا يمكن لأي عمل ان يدعي كلاسيكيته الخالصة. حيث ان اي اخلال في هذا التزامن او اي نقص في واحد من تلك العناصر سيفسد حال العنصرين الآخرين ويخل بالصفة التشخيصية التي تؤمن المحاكاة الدقيقة للواقع المرئي. كان ذلك شرطا اساسيا لتحقيق القيمة المطلقة Absolute value للعمل الفني في زمن ماقبل الانطباعية، ولم يحيد عنه اي فنان مبدع يسعى لبلوغ تلك القيمة الفنية المطلقة لعمله. ولكن جاء الانطباعيون وقلبوا الطاولة فرفضوا شرط القيمة المطلقة وابدلوها بالقيمة النسبية Relative value، فكان ذلك بمثابة انطلاق الشرارة الاولى للفن الحديث. يمضي ليجيه الى الجزم بأن الانطباعيين هم المؤسسين الأوائل لما تطور بعدئذ فاعطانا الفن الحديث باشكاله المختلفة. ذلك انهم رفضوا الانصياع لمحاكاة الواقع الفوتوغرافية وعمدوا الى الغاء شرط وحدة وتناغم العناصر التشكيلية الثلاثة فأعلنوا، ضمناً، ان نهجهم يركز على عنصر اللون فقط ويشتغل على ديناميته الفيزياوية. وبذلك لم يعد الانشغال بالعنصرين الآخرين، الخط والفورم مهما بقدر أهمية اللون لديهم. كما لم تعد وحدة العناصر التي لا تنفصم ضرورية لتحقيق القيمة الفنية. ولا ضير ان يؤول هذا الى الاخلال بالتشخيصية الدقيقة والابتعاد عن الواقعية المرئية.

هذا يقودنا ايضا الى ان موضوع العمل الفني لم يعد مهما ايضا، حتى في ثيمات الحياة الساكنة (الجامدة) Still life. فمثلا مشهد تفاحة خضراء موضوعة على قطعة قماش حمراء كان يشير في ما قبل الانطباعية الى العلاقة بين شيئين وعلاقتهما بما يحيط بهما من مشهد ومن نواحي عديدة كالمنظور ومساقط الضوء والوضعية والخلفية والانشاء. أما لدى الانطباعيين فلا يتعدى ذلك سوى الاهتمام بعلاقة تونات لوني التفاحة والقماش وتونات ما يحيط بهما وبموجب ما تقتضيه كمية الضوء في المشهد. 

ويعزو ليجيه ذلك التحول التاريخي في فهم الفن الى الانطباعيين الاوائل وبالذات سيزان Cezanne ومانيه  Manet اللذين يعدّهما بمثابة الرجال الذين اشعلوا فتيل الانتفاضة وقادوا الثورة في المسار الصحيح الذي يحمل روح العصر. ويؤكد انها ثورة وردة فعل تاريخية وليست امتداد او تطور لما كان قبلهما. ويستشهد بفكرة ان أي تحول تاريخي لاي حركة عظيمة يتطلب ثورة تقلب الامور على عقب بدلا من الاقتناع بسلسة اصلاحات يفترض فيها ان تهندس التغيير التدريجي "Revolution vs. evolution ". وفي هذا الصدد، لا يرى ليجيه ان الجمهور يعي هذه الثورة، بل يلاحظ ان اغلب الجمهور الفني يعتقد ان ما يشهدونه من فنون حديثة ماهو الا موجة ثقافية عابرة ستتكسر وتنحسر، وانها مسألة زمن ينتظرونها كما ينتظرون عبور موضة غريبة. وهذا بالطبع ما لا يليق بهذه الثورة التي تقدم فنا امتلك كل مقومات بقاءه وازدهاره، بل انه سيصبح الفن المهيمن لزمن قادم طويل. وما علينا الا ان نصيغ له مفهوما كاملا وشاملا يثبّت خطاه ويعزز مسيرته كما فعل من سبقونا في عهودهم المنصرمة.

وهنا يعترف ليجيه بانه ليس من السهل ان يتخطى الفن ما اعتاد الناس على رؤيته وفهمه كفن. وان ترسيخ هذا التحول كفن جديد لا يقتصر بالتأكيد على شجاعة او حماقة فنان معين منفرد يأخذ على عاتقه تحجيم دور التشخيصية وتقليل قيمتها لدى الجمهور بتحطيم المنظور والغاء الموضوع وفصل الروابط العاطفية للمشهد والاتيان بعناصر جديدة غير وثيقة الصلة بما هو مألوف! ان الامر، فيما اذا اردنا التعمق في حقيقته، عبارة عن انعكاس حتمي لتغير الواقع والحاجة الى التجاوب والانسجام مع معطياته وتغيراته. بل يمضي للقول انها مسألة ألفة روحية ومصاهرة وثيقة مع روح العصر الجديد بكل ما يتميز من سرعة وتجزئة وتشظي وانحسار عاطفي ووجداني.  يضرب ليجيه مثالا فيقول ان الطراز المعماري الذي كان شائعا وشعبيا في القرن الخامس عشر كان الطراز القوطي Gothic ولكن كل شئ قد تبدل في نهاية العصور الوسطى عندما اخترع گوتنبرگ آلة الطباعة التي آذنت ببدء عصر صناعي وتكنولوجي جديد انعكس على التصميم المعماري وبقية الفنون.

وهكذا فان احداثا كبرى كاختراع التصوير الملون والافلام المتحركة وتزايد شعبية مختلفة ونمو ذائقة جديدة للمسرح والسينما ساعد على بدء عصر جديد يتطلب وسائل تعبيرية مناسبة ومختلفة عما سبق. ووسائل التعبير الجديدة قد لا تستخدم العناصر القديمة كالموضوع والحبكة العاطفية وغيرها مما كان عمادا لوسائل التعبير السابقة. فلو تأملنا التصوير الفوتوغرافي مقارناً برسم البورتريه، على سبيل المثال: فالتصوير يتطلب جلسة واحدة قياسًا بعدة جلسات امام رسام البورتريه، اضافة الى ان الكامرة قادرة على ان تعطي شبها مضبوطا دقيقا وتفاصيل كاملة وبكلفة أقل. وهذا ما حتم على حرفة رسم البورتريه ان تذوي وتتضاءل في عصر اكتمل فيه بديلها الافضل.

ويختتم بالقول ان لكل فن زمنه، وعلى اي فن ان يتحرك ضمن فضاءه الخاص ويعمل بموجب وسائله التعبيرية التي تتيحها معطيات الواقع الحضارية والتكنولوجية. على ان المفهوم الحديث للفن ينبغي ان يؤكد على حقيقة انه لا يعني التجريد العشوائي العابر انما التعبير الكامل عن الاجيال الحاضرة والزمن الذي تعيشه.

***

ا. د. مصدق الحبيب

قد يكون عنوان المقال: «الورديّ.. مِن الإماميَّة إلى الزّيديّة» مثاراً للتساؤل، وخصوصاً عالم الاجتماع العِراقيّ عليّ الورديّ لم يكن له شأن بانتماء مذهبي أو عقيدة دينيّة، صحيح أنّه مِن أُسرة شيعيّة إماميَّة، ومِن سكنة الكاظميّة الشّيعيّة، إلا أنّه كان ناقداً رافضاً للجدل المذهبيّ العقيم، في كتبه.

فكان مِن الغرابة أنْ يكتب مقالاً عنوانه «لماذا صرتُ زيديَّاً، عندما لعنني النَّاس وشتموني»، نشره في مجلة «الأسبوع» (العدد 11/1957)، ومِن مقدمة المنشور نجده جاء تعليقاً على «الأسبوع» نفسها، عندما أجرت معه مقابلة عنوانها: «حوار على الدَّراجة مع علي الوردي»، وفيها سأله المحاور خليل الشّيخ عليّ: «إذا كان لا يزال كأحد أفراد الزّيديَّة»(مجلتا الأسبوع وقرندل: 10/ 1957).

قال الوردي في مقاله: «سألتني مجلة الأسبوع في العدد الماضي عن عقيدتي الدينية، حينها بأني زيديّ العقيدة، وأني من أتباع الإمام زيد بن عليّ، وقد أغضب هذا الجواب جماعة» (مجلة الأسبوع). على اعتبار أنّ هذا الإعلان كان تمرداً على مذهب الأسرة. ثم وضح ذلك قائلاً: إن اعتقاده بالزّيدية بشروطه هو، لا بشروط المذهب وتطوراته، «ولستُ أدعي بأن مذهب زيد خالٍ مِن العيوب، إذ إنَّ مِن المستحيل على أي إنسان أنْ يأتي بالكمال في شيء».

بطبيعة الحال، الزيدية لا يعتبرون زيداً معصوماً، لكن سيكون الغضب أشد لو قالها الورديّ في مذهب أبويه، حيث عصمة الأئمة. كان الوردي، حتى عام (1957) يقول: «الحقيقة التي لا أتردد عن إعلاني لها، هي أنني مازلتُ أعتبر عقيدة زيد بن عليّ، هي العقيدة الوسطى في الإسلام» (الأسبوع وقرندل).

لم نقرأ له بعدها عن انتماء لهذا المذهب أو ذاك، ففي الوضع العراقي لا يليق بالمثقف، مِن مستوى الوردي، حشر نفسه في مذهب دون آخر، وخصوصاً في الخلافات الكبرى، التي تُهدد الوطن ككل. فمِن رأيي في حدة الخلاف، الفاشي بين النّاس، أن يكون المثقف في الجدل سُنياً بين الشّيعة، وشيعياً بين السُّنة، كي يخفف مِن وطأة الاحتقان الطائفي.

إنَّ ظاهرة إعلان الورديّ اعتناق الزّيديّة، وهي ليست شائعة بالعراق، تُبنى عليه أفكار مهمة، ومنها أن الزيدية- مثلما كشف الورديّ عنها- تتحلى بوسطيّة، خصوصاً في الوضع العراقي، فزيد بن عليّ (قُتل: 122هـ) يعترف بخلافة الشّيخين، كواقع حال لا يمكن تجاوزه، ويعتبرهما مِن قادة الإسلام الأوائل، وثانياً، وهذا لم يذكره الورديّ، ربّما كان تجنباً للإثارة أو لم يطلع عليه، وهو أن الزّيديّة حلت مسألة خلاف الإمامة حلاً واقعياً، فالماضي لا يعود، والضَّغائن ستستمر تدمر الأتباع جيلاً بعد آخر، لذا أجاب زيد، عندما سئل عن الوصية لجده علي بن أبي طالب (اغتيل: 40هـ): أنّها إمامة العِلم والفقه، وليست السّيف والسِّياسة، فعندما أتاه المنصب السّياسي تولاه وأصبح خليفةً (انظر مصدرين زيديين مهمين: الحميريّ، الحور العين. ابن المرتضى، المُنية والأمل في شرح الملل والنِّحل). عندما أعلن الورديّ تحوله، قصد الامتعاض مِن الواقع المذهبيّ، فاندفع إلى الوسطية، وقد حسب التصريح بما اعتقد لا يغضب أحداً، فزيد ابن الإمام الرابع عند الشيعة، وفقهه منفتح على المذاهب كافة، وخصوصاً المذهب الحنفيّ(أبو زُهرة، الإمام زيد).

ظلّ الوَّرديّ (وهذا الموقف 1957) مع آراء الإمام زيد، وليس مع المذهب في تحولاته، والقول له: «كما حادت جميع الملل والنِّحل عن مبادئ مؤسسيها الأولين» (مجلتا الأسبوع وقرندل). غير أنَّ الورديّ لم يعش زمن ظهور الحركات التي ظهرت باسم زيد، وما جرى في العشرين سنةً الماضيّة، مِن كراهيات ومقاتل بعقر دار الزّيَّدية باليمن، وما حصل ببلاده. أقول: ومع غرابة الأمر، لمَن عرف وقرأ الورّديّ، كانت تجربةٌ لعالم اجتماع، دخوله المختبر بنفسه.

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

تمهيد

يتم الاحتفال باليوم العالمي للترجمة وذلك للدور الكبير الذي تضطلع به في مستوى نقل المعارف والمعلومات والخبرات من مجتمع الى اخر وللوظيفة الاتصالية التفاعلية التي تقوم بها في مجال التعارف والتثاقف والتخاصب بين اللغات والهويات والخصوصيات والابواب التي تفتحها للتلاقي بين الأفراد والمجموعات والشعوب. ولكن هذه العملية اللغوية تصطدم بالعديد من الصعوبات والعراقيل وتعاني من التشكيك في المصداقية والأمانة والموثوقية في عملية النقل للمعلومات والأفكار والمعاني والقيم من لغة الى أخرى.

الترجمة

"1. النسبية والعقلانية الكونية:

عندما يواجه المترجم نصًا، عليه أن يأخذ في الاعتبار أن منتج ترجمته موجه إلى أشخاص يأتون من خلفية مختلفة عن خلفية الجمهور المستهدف الأصلي. عندما نتحدث عن خلفية مختلفة، فإننا نشير إلى أشخاص لهم تاريخ مختلف، ويشاركون في ممارسات اجتماعية مختلفة ويتحدثون لغة مختلفة. يبدو أن الإنسان لا يستطيع أن يخترع أي شيء لا يستطيع تصوره. في الفلسفة، نواجه منظورين يمكن من خلالهما النظر في الترجمة. الأول هو النسبية. النسبية هي منظور فلسفي يعتبر أن ممارستنا المعرفية للفهم تمت تصفيتها من خلال طريقة تفكير مفاهيمية محددة ثقافيًا. ولذلك، فإن العوامل البيولوجية أو الجينية المشتركة، مثل العرق، ليست ذات أهمية في تكوين مخططات ومفاهيم المعرفة مقارنة بتلك العوامل التي توفر البيئة المحيطة التي تطور فيها الفرد. باختصار، يمكن القول إن الإنسان يولد بدون هذه المخططات المعرفية، وإن الثقافة هي التي تخلقها وتصوغ تطوره. يمكننا أيضًا أن نفكر في الترجمة من منظور ثانٍ مخالف، وهو منظور العقلانية العالمية. تقترح العقلانية العالمية الحتمية البيولوجية والنفسية. تدافع هذه النظرية عن النزعة القومية، التي تجانس جميع الممارسات والمفاهيم البشرية، في حين أن التنوع سطحي نسبيًا وذو أهمية ثانوية. في علم اللغة، أحد دعاة العقلانية العالمية هو تشومسكي، الذي اقترح في الخمسينيات نظرية تدافع عن الطابع الفطري لملكة اللغة. وفقا لتشومسكي، فإن أكثر من 4000 لغة موجودة تقدم تركيبا مماثلا بشكل مدهش، على الرغم من اختلافاتها الصوتية والصورية. تسمح هذه الحقيقة بترجمة اللغات من لغة إلى أخرى. إن اختيار أحد هذه المنظورات يعني وجود تصور مختلف تمامًا لوظيفة المترجم. من منظور العقلانية العالمية، يجب على المترجم أن يتتبع الواقع المكشوف في نص ما إلى نص آخر، ويقتصر على مجرد نقل واحد. يتشارك قارئ الترجمة في خصائص بيولوجية ونفسية مشتركة مع قارئ النص الأصلي. لذلك، من منظور العقلانية العالمية، لا ينبغي أن يجد المترجم صعوبة في تفسير النص الهدف، حتى لو كان النص الهدف يحتوي على إشارات إلى بيئة متميزة ثقافيًا. في الواقع، فإن الاختلافات في السياق ستكون محدودة بالتركيبة البيولوجية والنفسية لقارئ النص المصدر وقارئ النص الهدف. في هذه الحالة، سيتم تقليص عملية الترجمة بشكل أساسي إلى عملية لغوية. يختلف تمرين الترجمة من منظور النسبية عن نفس التمرين من منظور العقلانية العالمية في نقطتين. أولاً، على الرغم من أن المرء يقبل أن القراء المحتملين لهذين المنتجين يشتركون في خصائص بيولوجية ونفسية مشتركة، إلا أن الحتمية التي تمارسها هذه الخصائص على المستوى المعرفي هي موضع شك. لذلك، يتم التركيز على ما هو مشترك بين القراء، وليس على الاختلافات، واستراتيجيات التفسير المتميزة التي تنشأ كعواقب للسياق الثقافي المختلف. بهذا المعنى، يقوم المترجم بالتزام أكبر مع قارئ النص الهدف؛ وهذا يعني قول نفس الشيء مع رموز مختلفة، مع الحفاظ على التأثير الأسلوبي للأصل. لن تكون الترجمة مجرد مسألة لغويات. ينبغي للمرء أن يبدأ ليس فقط في ترجمة الكلمات، بل أيضًا المفاهيم وحتى السياقات.

2. مشكلة التكافؤ

أثارت الترجمات التي تستخدم المنظور النسبي جدلاً ساخنًا في العشرين عامًا الماضية. والسؤال الذي يطرحه أولئك الذين لا يؤيدون هذا النوع من الترجمة هو "هل نستمر بنفس النص؟" هذا السؤال، إذا ما أخذناه إلى أقصى الحدود، من شأنه أن يقودنا إلى الأسئلة الميتافيزيقية والما وراء النظرية للترجمة، لأنه قد يتطلب إعادة تعريف عملية الترجمة بأكملها. المشكلة التي نواجهها هي مشكلة التكافؤ في الترجمة. يجب أن يكون النص الهدف والنص المصدر متساويين في الكلمات، وفي الرسالة، وبقدر الإمكان، في الهياكل النحوية. سيكون الوضع المثالي هو نقطة وسيطة حيث يُلزم المترجم نفسه بدقة عالية على المستوى اللغوي طالما أنها لا تتعارض مع فهم النص الهدف. وهذا من شأنه أن يتفق مع نظرية بيرنارديز (1995) حول التنظيم الذاتي للاتصالات. ووفقا لهذه النظرية، فإن مرسل الرسالة، المترجم في هذه الحالة، سوف يضبط المعلومات وفقا لضرورات المتلقي والعوامل السياقية الأخرى في عملية التنظيم الذاتي التي لها ميل نحو حالة من الإنتروبيا أو الانتروبيا. حالة التوازن. يمكن فهم التوازن هنا على أنه النتيجة المثالية حيث تتمتع الرسالة بأقصى قدر من الفهم مع الحد الأدنى من التغيير في العناصر والهياكل اللغوية.

3. المدارس الألسنية المختلفة وأثرها في الترجمة:

ولا ينبغي لنا أن نبقى مدركين لحقيقة أن انتشار المدارس اللغوية المختلفة، ومن فترات زمنية مختلفة، كان له دور في اختلاف وجهات النظر حول الترجمة. لذلك، في إطار البنيوية، يميل المرء إلى رؤية اللغة كمجموعة من العلاقات، من الأنظمة الفرعية المترابطة. ووفقا لهذه المدرسة الفكرية، يتم تعريف كل عنصر وفقا للدور الذي يلعبه في هذه المجموعة من العلاقات. نظرًا للأهمية التي أظهرها هذا النموذج اللغوي منذ ثلاثينيات القرن العشرين وحتى وقت طويل من القرن، فلا عجب أن تركز الترجمة أكثر على البنية اللغوية وكيف يمكن الحفاظ على العلاقات البنيوية للنص المصدر في النص الهدف. أحد المدافعين عن التكامل الهيكلي كان كارتفورد (1965)، الذي ميز بين الترجمة المرتبطة بالرتبة والترجمة غير المحدودة. الترجمة المرتبطة بالرتبة هي طريقة للترجمة تحافظ على التكافؤ على مستوى الكلمة، أو حتى الصرف. وفقًا لكارتفورد، فإن الترجمة المرتبطة بالرتبة هي الطريقة الوحيدة الممكنة للاستخدام بين اللغات التي لها هياكل متشابهة على المستوى المورفولوجي والنحوي. وبقدر ما يتعلق الأمر بالترجمة غير المحدودة، يمكن العثور على التكافؤ في مستويات أكثر تعقيدا مثل الجمل. ومع ذلك، في السبعينيات، مع ظهور تيارات فكرية جديدة، مثل اللغويات المعرفية، ظلت النماذج مثل البنيوية في وضع هامشي، باستثناء الدراسات الكلاسيكية واللاتينية واليونانية. تم إدخال عوامل جديدة في دراسة اللغويات. ومن بينها الأنشطة المعرفية المختلفة مثل الإدراك والرؤية والتصور؛ بالإضافة إلى ذلك، اكتسبت جوانب مثل الحركة والتفاعل بين الجسم والفضاء الاهتمام. كما أن ظهور علم الأعصاب في السبعينيات وإنجازاته الأولى ساهم في ازدهار هذه المدرسة اللغوية الجديدة. يولي اللغوي المعرفي أهمية كبيرة لتكوين مخططات مفاهيمية خاصة بالمحيط الثقافي لمتحدثي اللغة. هذه الخصوصية هي التي تنتج فئات مفاهيمية مختلفة في أنظمة المعرفة المتنوعة مثل اللغة.

4. المساواة والاختلاف بين الثقافات: منظور أنثروبولوجي:

عندما نتحدث عن الخصوصية، فإننا نتطرق إلى السؤال الأنثروبولوجي حول إلى أي درجة توجد أرضية مشتركة بين الثقافات المختلفة أو بين المتحدثين بلغات مختلفة. من الواضح أننا لا نستطيع أن نفترض أن أي نظام قابل للترجمة إلى نظام آخر. لا يمكن تفسير نظامين مختلفين تمامًا ولا يوجد بينهما أي شيء مشترك بشكل كامل، أحدهما من حيث الآخر. من وجهة نظر الدراسات الأنثروبولوجية، لا يمكن لأفراد عالم معين أن يفهموا عالمًا آخر إذا كان مختلفًا تمامًا عن عالمهم. وقد أشارت هيلاري بوتنام (1981) إلى ذلك عندما تحدثت عن مبدأ المحبة. وفقا لمبدأ الإحسان، يشترك البشر في عدد كبير من المفاهيم، والفرق بينها هو الإدراك. ولذلك، فإن فكرة المفهوم سيكون لها طابع عام والطريقة التي يتم إدراكها بها سوف تتوافق مع التصورات المحددة المتميزة التي تحدث في كل ثقافة، أو في كل فرد، لمفهوم معين. وبطبيعة الحال، فإن التصورات المختلفة التي يمكن أن تكون لديك حول مفهوم معين، لا تظهر ببساطة بين الأفراد الذين تفصلهم ثقافة ما. يمكننا أيضًا التحدث عن المفاهيم التي توجد بها تصورات مختلفة في أوقات مختلفة. وهذا من شأنه أن يقودنا إلى الحديث عن نوع من الترجمة ليست بين اللغات أو بين الثقافات، بل بين الزمان. على سبيل المثال، تصور الحب ليس هو نفسه بالنسبة لأوروبي حضري من القرن الحادي والعشرين كما هو الحال بالنسبة لشخص من بلاط القرون الوسطى من أي مدينة أوروبية. ومع ذلك، في الوقت الحاضر يمكننا شرح الأفكار والمعتقدات والطقوس وما إلى ذلك، التي دعمت أشكال الحب لدى السكان في البلاط الأوروبي في العصور الوسطى، وهو ما يتضمن نوعًا من الترجمة على المستوى السيميائي وقد يرتبط بمسائل مثل التناص. على أية حال، إذا كان لا يزال بإمكاننا تفسير ممارسات أو سلوكيات معينة على أنها مرتبطة بالحب على الرغم من القرون التي مرت بين نموذجي مثالنا، فذلك لأنه على الرغم من وجود مفاهيم مختلفة للحب، لا يزال لدينا مفهوم واحد فريد. ومن الواضح أن هذا المثال سيقودنا إلى إعادة تعريف مفهوم الثقافة، والنظر فيما إذا كانت نفس الثقافة في مرحلتين مختلفتين من تطورها تشكل ثقافتين مختلفتين. ولذلك، إذا شرح أحد عصرنا، في أوروبا، ما يعنيه الحب لشخص من بلاط أوروبا في العصور الوسطى، فإنه يقوم بنوع من الترجمة. وبنفس الطريقة، لا يستخدم عالم الأنثروبولوجيا فقط موقعًا خارجيًا يساهم من خلاله بمعرفة علمية تسمح للمترجم بإعادة النظر في الإجراءات المعتمدة للقيام بعمله. عالم الأنثروبولوجيا هو أيضا المترجم. يدرس عالم الأنثروبولوجيا الممارسات الثقافية والتواصلية واللغوية لشعب ما حتى يتمكن لاحقًا من وصفها لأفراد غريبين تمامًا عن هؤلاء الأشخاص. ولتحقيق هذا الغرض، يجب عليه أن يصف الممارسات المختلفة وتحت أي سياق تحدث هذه الممارسات، بطريقة يمكن أن يفهمها المتلقي المستقبلي. سيصبح هذا الوصف أساسًا للمخططات المفاهيمية الخاصة به والتي يفسر من خلالها هذه الممارسات. وهذا يدفعنا مرة أخرى إلى الإصرار بالتشابه التي تحدث بين الشعوب البعيدة جغرافيا وثقافيا. إذا لم يكن الأمر كذلك، فلن نتمكن من فهم التنظيم الاجتماعي أو الطقوس أو الممارسات العامة للثقافات المختلفة عن ثقافتنا، ووفقًا لفولي ، "لا يمكن لعلم الإنسان أن يوجد كنظام". كما تظهر هذه التشابهات في مظاهر الإبداع والحرية العالية كما في المظاهر الفنية. لذلك، في الأفلام أو الأدب، عندما يحاول المرء سرد أحداث وقعت في عوالم خيالية أو غير حقيقية، بما في ذلك الكواكب الأخرى، يتم إعطاء الشخصيات خصائص أو سلوكيات تشبه الإنسان. يبدو أن الإنسان لا يستطيع أن يخترع أي شيء لا يستطيع تصوره. وينطبق هذا على الترجمة من النص المصدر إلى النص الهدف لأنه، وفقا للمنظور الذي نشير إليه، فإن إمكانية الترجمة هي عرض للتشابه الموجود بين عالمين. إن مهمة المترجم هي العثور على أوجه التشابه هذه واستخدامها وفقًا لذلك لصالح قرائه.

الخاتمة

تعتبر الترجمة من أقدم الممارسات الإنسانية بشقيها المكتوب والشفهي. مما لا شك فيه أن الترجمة ضرورية لجعل التواصل بين الأشخاص من مختلف الثقافات ممكنًا. وبقدر ما إذا كان ينبغي أن يتمحور النقاش حول الجوانب الشكلية للنص أو محتواه، فيجب أن يأخذ النقاش في الاعتبار الطابع الوظيفي البحت للترجمة. لا تحدث جميع الترجمات في نفس السياق ولا يكون لها نفس الهدف. تتطلب هذه الحقيقة تنوعًا كبيرًا من محترفي الترجمة لدرجة أنها تتطلب في كثير من الأحيان تخصص المترجم. ومن جانبها، يمكن للعلوم الاجتماعية المختلفة، من الناحية النظرية، دراسة العوامل التي تشارك في عملية الترجمة. تسمح هذه المساهمات من مجالات مختلفة للمترجم بالتفكير في مهمة الترجمة من وجهات نظر مختلفة غير مستكشفة."

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

..............................

* بواسطة كارمن جوارددون أنيلو،2003

المصادر والمراجع:

Bernárdez, Enrique (1995) Théorie et épistémologie du texte, Madrid : Cátedra.

Cartford, John C. (1965) Une théorie linguistique de la traduction : un essai sur la linguistique appliquée, Londres : Oxford University Press.

Chomsky, Noam (1968) Langage et esprit. Édition augmentée. New York : Harcourt, Brace, Jovanavich.

Foley, William A. (1997) Linguistique anthropologique, Malden, MA : Blackwell.

Jakobson, Roman (1959) « Sur les aspects linguistiques de la traduction », dans R. A. Brower (éd.) On Translation, Cabridge, MA : Harvard University Press, pp. 232-9.

Putnam, Hilary (1975) Esprit, langage et réalité, Cambridge : Cambridge University Press.

قد لا أبالغ لو قلت إن هذه الأيام هي أفضل ما مرّت به الثقافة السعودية منذ زمن طويل. أحتمل أن بعض الناس من الجيل السابق لي سيبتسم قائلاً: إن النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي هي الحقبة الذهبية للثقافة، فهي التي شهدت أبرز المعارك الثقافية، وأرست حجر الزاوية الأبرز في تاريخنا الثقافي، بين التقاليد والحداثة. إنها الفترة التي انكسر فيها طوق التقاليد، ليس في المدن الكبرى والمجتمعات المعروفة بالانفتاح، بل في المجتمع السعودي كله، أقصاه وأدناه.

حسناً. أعرف أن هذا صحيح. لكن دعنا نستعرض باختصار معنى الثقافة، كي يتضح لماذا أرجّح المرحلة الحالية على غيرها.

ينصرف لفظ الثقافة إلى ثلاثة معانٍ كبرى، هي:

1- المعارف المكتوبة والمسموعة التي وُضعت على نحو منظم، واختُزنت في وسائل حفظ معيارية، كالكتب والأشرطة والخوادم الرقمية. وتشمل العلوم بمختلف حقولها، والبرامج والمعادلات الرياضية، والآداب بأنواعها والفنون المرئية كالأفلام واللوحات والخرائط وأمثالها.

2- ما تخزنه الذاكرة الفردية والاجتماعية من قيم وأعراف وقواعد عمل، هي - في الغالب - نتاج للمعارف الموروثة والتجربة التاريخية للمجتمع. وهي تتفاعل كثيراً أو قليلاً، مع النوع الأول فتعطيه وتأخذ منه. تتشكل هذه الذاكرة على صورة انطباعات وقيم وقناعات مستقرة، وتسهم بقدر كبير في تشكيل موقف الفرد والجماعة من البشر والأشياء ضمن نطاقهم الحيوي. هذه الذاكرة، التي نسميها أيضاً «الذهنية» أو «الخلفية الذهنية» أو «العقل الجمعي» مسؤولة عن معظم السلوك العفوي للإنسان، وهي أيضاً مسؤولة عن الأعم الأغلب من مواقف المجتمع تجاه ما يجري من حوله.

3- الطريقة التي يعبّر بها الناس عن ذواتهم وعن آرائهم ومواقفهم وتجليات حياتهم، في الفرح والحزن، وفي العلاقة مع الغير ومع البيئة الطبيعية في نطاقهم الحيوي. ويدخل ضمنها اللغة (واللهجات) والفولكلور والأزياء وطرق الاحتفال والعزاء، كما تدخل فيها نظم البناء والعلاج ومفاهيم الجمال والتجميل، وكل عرف أو تقليد يمثل مظهراً من مظاهر الحياة التي يختص بها المجتمع ويتمايز بكيفيتها عن غيره.

المعاني السابقة تكشف عن أن الثقافة ليست مجرد أفكار يتداولها الناس، وليست مجرد تعبيرات عن قضايا حياتية بعينها، بل هي الوسيط الذي يربط الإنسان بكل شيء آخر. إنها أقرب إلى ما يعرف في عالم الإلكترونيات بالبرامج التي تربط جهازاً بجهاز آخر، فتمكن الجميع من التفاعل والعمل بشكل متوائم. الثقافة إذن هي السوفتوير software أو الوسيط الذي يمتد من عقل الإنسان إلى كل شيء آخر، فيجعلها قابلة للتفاعل.

لأن الحياة متنوعة، فان كل مجتمع يتفاعل مع بيئته الطبيعية ومحيطه الإنساني على نحو معين، فيؤلف تجربة حياتية مختلفة كثيراً أو قليلاً عن تجارب المجتمعات الأخرى. إن مجموع التجارب المختلفة ينتج تاريخاً مختلفاً. ومن هنا يأتي التنوع الاجتماعي في التعبير عن الذات، أي محتويات المعنى الثاني.

في الأزمنة الماضية، كان الاحتفاء بالثقافة يعني بصورة محددة جانبين، هما الأدب ولا سيما الشعر، والمعارف الدينية. وهما جزء من محتويات النوع الأول. وكان النوع الثالث، ولا سيما الفولكلور والفنون يقام في نطاقات ضيقة جداً. بل أستطيع الادعاء أن بعض الأطراف كان مهتماً بحجب التنوع الذي تتميز به المملكة، وإظهار وجهها الثقافي أحادي اللون، لا يعبر عن أي بيئة من البيئات الاجتماعية الكثيرة فيها.

في هذه الأيام تعود الثقافة إلى دورها الطبيعي كتعبير عن حركة الحياة ذاتها، بما فيها من تنوعات وتموجات وألوان. نشهد الفولكلور المحلي يعود للواجهة بعد غياب طويل، كما نشهد عودة المسرح والسينما والموسيقى والتشكيل. الأزياء والطبخ وأنظمة البناء التقليدية، تستعيد مكانتها كتعبير عن ثقافة المجتمع.

ثمة عنصر في غاية الأهمية، أشعر بأنه ما زال بعيداً عن الاهتمام وهو البحث العلمي والنشر العلمي. لا تنمو الثقافة ولا يتقدم المجتمع دون حياة علمية نشطة. الحياة العلمية تعني إنتاج العلم وترجمة العلوم ونشرها وجعلها متاحة لعامة الناس صغاراً وكباراً.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 المف_قيه [1]

تستوقف الباحث والقارئ للفكر الإسلامي، ظاهرة غريبة، قديمة وحديثة، تتمثل في حضور مفكرين أو لنقل مثقفين، تميزوا باستيعاب وهضم فكر زمانهم ومعارف عصرهم الفلسفية والمنطقية والعلمية، غير أنهم، بدل الاستثمار فيما استوعبوا وهضموا، عملوا على تحويل رصيدهم الفكري والمعرفي إلى أداة خدمة؛ أداة لخدمة ما لم يوضع له الفكر والفلسفة والعلم في الأصل، وهو الإنتاج والإبداع، وما يحققه من رقي بالحياة، والارتقاء الروحي بالإنسان.

ولا يعني تحويل الفكر والمعرفة إلى أداة سوى إخصاؤهما وحرمانهما من أن يتطورا، وان يتم انتاجهما وابداعهما في الثقافة التي يوظفان في ميدانها بتلك الصفة. يتفق المثقفون-الظاهرة في حقل اشتغالهم، ووظفوا في سبيله الفكر والمعرفة إلى مجرد أدوات خدمة، هو السلفية التراثية التي تم تديينها في ظروف الصراع على السلطة والنفوذ بين مكونات المجتمع العربي الإسلامي القديم.

وقفنا في حدود ما أتيح لنا قراءته في مجال الفكر الإسلامي القديم والحديث، على ثلاثة شخصيات من منتجي الخطاب في الثقافة العربية الإسلامية؛ وهم كل من الغزالي، وأبي اسحق الشاطبي من القدماء، وطه عبد الرحمن من المعاصرين. وإذا كان المنجز الخطابي للغزالي قد حظي بالدراسة النقدية؛ فتأكد دوره في إعاقة الفلسفة، وهي لم يشتد عودها بعد في الثقافة، من النمو وتأخذ سيرها الطبيعي، بوصفها حقا مشروعا لهذه الثقافة، فإن كلا من الشاطبي وطه عبد الرحمن لا زال مشروعهما الخطابي لم ينالا ما يستحقان من النقد والتقويم.

وبخصوص عمل الشاطبي آمل أن يكون العمل الذي أنجزته حوله خطوة في هذا الطريق [2] وبقي المشروع الخطابي لطه عبد الرحمن مغمورا إلى اليوم لم يحظ بما يستوجبه من المراجعة والتقويم، ربما للمكانة التي يحضر بها طه في الساحة الفكرية والأكاديمية المغربية خاصة، والعربية الإسلامية عامة. ونظرا للحجم الذي بدأ يأخذه ويحتله في هذه الساحة؛ وهو حجم آخذ في النمو والاتساع إلى درجة قد يصبح حالة "فكرية" وثقافية يتم معها تحويل "فكره" إلى مشاريع عمل، وبرامج للتكوين في المؤسسات التعليمية والأكاديمية؛ وهو ما [3] توحي به مؤشرات من داخل الجامعة المغربية.

وأتمنى أن يحالفنا التوفيق، أنا وبعض الزملاء، في أن نخطو خطوة في هذا الطريق أيضا؛ بإنجاز قراءة، في حدود المتاح، خاصة أن ما كتبه الرجل ليس بالقليل؛ فقد جند نفسه وقلمه لمنع الفكر الإنساني الحديث بجميع أصنافه الفلسفية والمنطقية والسياسية من ان يثمر في بيئتنا وحياتنا، كما أثمر في بيئة نشأته، وفي بيئات ثقافية غيرها؛ بدعوى أن الثقافة العربية الإسلامية غنية بذاتها قيميا وفكريا ومعرفيا؛ بل يدعي الأستاذ طه ان هذه الثقافة تتفوق في هذه المجالات عما تقترحه الحداثة على الإنسانية. يقول عن واقع الحداثة: "فبعد أن ضل هذا الواقع طريقه إلى اسعاد الإنسان الذي كان مقصد روح الحداثة، فإن التطبيق الحداثي الإسلامي، بفضل رصيد الإسلام الغني من القيم، يمتلك من الاستعدادات الروحية ما يمكن أن يزود به الآخرين لتحقيق حداثتهم". (روح الحداثة: 41-42)

ولأننا في طور التسويد للمنجز القرائي المشار إليه، أردنا إطلاع القارئ على بعض ملامحه فكان هذا المقال. ونرى في هذا السياق ان المدخل المناسب، لما يسمح به المقام، هو السؤال عما إذا كان طه عبد الرحمن يمارس الفكر ويمتهن فعل التفلسف فيما كتب ويكتب؟ وهو العنوان الذي يحضر به في أذهان البعض؛ إن لم يكن لدى الكثيرين. ويساهم عمله الأكاديمي والجامعي في تثبيته.

يتأكد في الجواب، ما سبقت الإشارة إليه في البداية، وهو اتسام الأستاذ طه، مثل الغزالي والشاطبين بالتمكن من معارف زمانه وعصره، لكن بدل الاستثمار فيها في اتجاه تنميتها في ثقافته وبيئته، وهي في أمس الحاجة إليها، وظف الرجل تلك المعارف في اتجاه الدفاع عن التراث ومهاجمة المخالف الداخلي والخارجي.

يلتبس عمل طه وهويته الفكرية، بسبب الوجهين الذين يحضر بهما في الساحة الفكرية والثقافية؛ فهو يحضر فيها بوجه أستاذ الفلسفة والمنطق وفلسفة اللغة من جهة، ويحضر أيضا من الناحية الثانية بوجهين؛ وجه المريد التابع لشيخ الزاوية الذي اخترع له اسم "المخلق"، يستمد منه المدد والتخلق. ووجه المنظر الذي يعمل على إضفاء الطابع "الفكري" على التصوف الطرقي. ولكي يزول الالتباس بالنسبة لمن يبهرهم وجه الحضور الأول؛ أي طه عبد الرحمن مدرس الفلسفة والمنطق، لابد من فهم العلاقة بين الوجهين في شخص طه وفكره؛ فالأول هو مجرد أداة لخدمة الثاني. ويتم ذلك بوجهين؛ وجه رمزي يتصل بالسلطة المعرفية المؤسسة على المهنة الأكاديمية، ووجه يتعلق بإنشاء خطاب خصص بعضه، او في جزء منه للكلام في الفلسفة والمنطق والحجاج واللغة. (فقه الفلسفة، أصول الحوار وتجديد علم الكلام)

ويبدو أن تمكن الأستاذ طه من مهنته الأكاديمية، واتقانه لمهارة الإنشاء واقتداره اللغوي، والقدرة على تشقيق الكلام، وبراعته في اختراع المفاهيم والمصطلحات، يمنع المتلقي لخطابه من الربط بين ذانك الوجهين وإدراك العلاقة بينهما. ويزيد وضع عمل الرجل في الثقافة التباسا، ما يصرح به في مختلف كتبه حول طبيعة مشروعه "الفكري"؛ إذ يصرح في بعضها بأنه يكتب في مجال "العمل الديني" (مقدمة العمل الديني وتجديد العقل)، ويؤكد في كتب أخرى أنه يكتب في مجال إقدار العربي المسلم على التفلسف (فقه الفلسفة والحق العربي في الاختلاف الفلسفي، والحق الإسلامي في الاختلاف الفكري).

ويقول في مواضع أخرى من كتبه بانه يبدع فلسفة بديلة؛ يسميها بأسماء عديدة منها: الفلسفة الحية، وفلسفة الشهادة، وفلسفة التزكية (...) (روح الدين). غير أن ما يحكم عمله كله أمران؛ أولهما ادعاء التفوق القيمي والمعرفي واللغوي للخصوصية التراثية عامة، وفي صيغتها الصوفية الطرقية خاصة. ويشكل هذا الادعاء المنطلق أو لنقل الخلفية الموجهة لجميع أعماله خاصة في شقيها النقدي الاعتراضي، وشقها الذي ينسج فيه ما يعتبره "بدائل".

وثانيهما العمل على إخضاع المنجز الفكري والثقافي للحداثة لايديولوجيا الخصوصية. وكما اقتضى منه الأمر الأول إضفاء طابع العظمة والاجلال التفوق و (...) على التراث، فقد اقتضى منه فعل الاخضاع، الذي يسميه بأسماء متعددة منها: التقريب، والتأصيل، والتاثيل، النقد والاعتراض والهدم. ونظرا لصعوبة، إن لم يكن من المستحيل اثبات جميع الدعاوى التي يدعيها للتراث، والمواقف التي يتخذها ضد المخالف، فقد أكثر من النقد والاعتراض، فاحتلا حيزا كبيرا من خطابه؛ حيز يشعر من خلاله القارئ بان طه عبد الرحمن غير مطمئن فيما يكتب، وغير مرتاح عما يدافع عنه، وإلا لما طغى على أسلوبه وخطابه لغة الدفع والاعتراض والردود، إلى درجة تشكل منها معجم قائم بذاته يمكن تسميته ب:"معجم الدفاع والاعتراض".

يغيب طه الواقع التاريخي للتراث، وواقع الحياة الإسلامية اليوم التي هي نتيجة لذلك التراث، وصرح في هذا السياق بأنه يشتغل، ليس على الواقع؛ وإنما بما ينبغي أن يكون. يقول: "واضح أننا لا نقصد هنا بـ : (مجال التداول الإسلامي) المجتمعات الإسلامية في وضعها المتردي الراهن، وإنما المجتمعات الإسلامية كما يجب أن تكون لو أنها تمسكت بالمبادئ الإسلامية؛ ولا ينفع المعترض أن يقول إننا نهمل الواقع ونشتغل بغيره". (روح الحداثة: 18) ومكنه هذا الهروب من الواقع من صياغة دعاويه من خلال حبكة خطابية، ونسق كلامي يتسم بالاتساق والانسجام الصوري، بعيدا عن أي اختبار، ولهذا تغيب عن خطابه الأمثلة والشواهد غالبا.

يعتمد طه عبد الرحمن أسلوب الأخذ بالضد، الذي يؤطره منطق رد الفعل، فيما يدعي انه البديل او البدائل التي يقول بها، وهي البدائل التي تتنوع أسماؤها بتنوع السياقات التي ترد فيها، مثل التكامل في مقابل التجزيء، والوصل في مقابل الفصل، والائتمانية في مقابل الدهرانية، والعقل المؤيد في مقابل العقل المجرد والجواب الإسلامي في مقابل الحداثة، والتطبيق الإسلامي في مقابل واقع الحداثة (...). ومنطق رد الفعل لا يتمتع بالأصالة الفكرية، بحيث يفقد مبررات الوجود والكون بغياب الفعل الذي ينجزه الآخر أو المخالف.

تمتد جذور هذا الأسلوب في التراث الذي يدافع عنه طه، مما يبيح تأويل عمله بانه امتداد له، فهو العمل الذي اشتغل به أهل الحديث، يقول المحدث ابن عيينة: "يا أصحاب الحديث، تعلموا فقه الحديث لا يقهركم أصحاب الرأي، ما قال أبو حنيفة شيئا إل ونحن نروي فيه حديثا أو حديثين" (معرفة علوم الحديث للحاكم:66). كما أن "فكر" الفرقة الكلامية التي ينتمي طه إلى مذهبها الكلامي؛ وهي الفرقة الأشعرية، مبناه ومعناه كله هو عبارة عن ردود فعل على فكر المعتزلة شكلا ومضمونا. فكل ما قام به الأشعري هو قلب المعاني والمفاهيم التي حدد بها المعتزلة أصولهم مذهبهم الخمسة، والأخذ بضدها؛ بل إن "السنة" التي شكلت الإطار الأيديولوجي الجامع، لم تنشأ إلا كرد فعل على قراءة للتجربة النبوية الإسلامية، وللقرآن تحديدا، من طرف أهل الرأي والعقل [4]

يخوض الرجل ما يشبه "الحرب" ضد الكل، لذا كثر خصومه و"أعداؤه" من داخل الثقافة العربية الإسلامية وخارجها؛ وهكذا توزع خصومه من الداخل بين من يسميهم المتفلسفة والعلمانيين والحداثيين؛ أبرزهم محمد عابد الجابري، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد اركون (تجديد المنهج في قراءة التراث، وسؤال الأخلاق)، وبين الإسلاميين الذين يسميهم في كتاب: "روح الدين" بـ : "الديانيين"؛ فهو ينتقدهم ويدخلهم في جبهة "الخصوم" من زاوية عدم اعترافهم بالطقوس الصوفية التي يرى أنها السبيل الوحيد للتخلق، رغم ما سبق أن صرح به في كتاب: "العمل الديني وتجديد العقل"، من انه يعمل على خدمة مشروعهم الأيديولوجي، بتقديم السند الفكري له. أما خصمه الخارجي فهو الحداثة ومنجزاتها الروحية والعلمية والتقنية، وتحديدا نمط الحياة التي اقترحته وتقترحه على البشرية.

يقف القارئ لكتب الأستاذ طه ومتنه على بعدين لشخصيته؛ فهو شخص يتمتع بمؤهلات وكفاءات المفكر الذي بإمكانه الابداع والإنتاج في مجال الفكر الفلسفي (فقه الفلسفة: المفهوم والتأثيل)، فهو واسع الاطلاع على الفلسفة وتاريخها القديم والحديث، وهو ما يصدق على معرفته بالتراث، وهو متمكن من لغات الإنتاج الفلسفي القديمة (اليونانية واللاتينية)، والحديثة (الألمانية والإنجليزية والفرنسية)، إضافة على تمكنه من الة المنطق وفلسفة اللغة.

لكن بدل ان يستثمر في مجال هذه المعارف، فيفكر فيها وبها، حولها إلى مجرد آليات وظيفية لخدمة التراث والدفاع عنه، واداة لتأبيد الفقر المعرفي والفكري الذي عانت وتعاني منه الحياة الإسلامية. رغم أنه يتوهم ويوهم القارئ معه أنه بخلاف ذلك يعمل على تمكين المسلم من آليات الاقتدار الفكري، وتقنيات انتاج حداثة على الصيغة الإسلامية. يتجلى الوهم، رغم جاذبية الشعار، في السؤال عن نمط الحياة الذي يقترحه الرجل بديلا عن نمط حياة الحداثة، التي يصر على أنها غربية؛ وهو البديل لم يستطع ان يخترع له اسما واصطلاحا، وهو البارع في صناعة الاصطلاح، مختلفا يعبر عن "الخصوصية" التي هي شغله الشاغل، عن اسم "الحداثة" فسماها "حداثة إسلامية" بإضافة صفة "إسلامية"، وهو اعتراف ضمني بقوة وغنى الطرح الحداثي وقيمه ومنجزاته القيمية والفكرية والحياتية.

يخلط طه عبد الرحمن بين الايمان والدين؛ إذ يجعلهما شيئا واحدا في سياق تعقيبه على الفلاسفة الذين أسسوا الايمان بالله على العقل، فتولد عنه "ايمان العقل" (ديكارت) أو "الدين في حدود مجرد العقل" (كانط)، وفي سياق عمل هؤلاء الفلاسفة على عقلنة بعض القيم اليهودية والمسيحية. فأول الرجل عملهم هذا تأويلا بنى عليه دعوى كبيرة مفادها أن الفلاسفة إنما أخذوا القيم والخلاق من الدين متنكرين. وخلط أيضا بين الأخلاق والتصوف الطرقي، فجعلهما شيئا واحدا، فادعى أن هذا الأخير هو المعول عليه في تجاوز ما يسميه "آفات" الحداثة في مجالات الميتافيزيقا والسياسة والعلم والتقنية (سؤال الأخلاق).

لم يراع الرجل الظروف التاريخية التي فرضت العلمانية بمظاهرها الثلاثة (فصل الدين عن السياسة، وفصل الدين عن العلم، وفصل الدين عن الأخلاق)، رغم الإشارة إليها، لكنه لم يؤسس على ما تقتضيه أثناء التقييم والنقد؛ إذ استطاع مؤسسو الحداثة الكبار أن يميزوا في الدين بين ما سموه ب: "الدين الطبيعي" و "دين العقل"، وبين دين المؤسسة او دين اللاهوت. فأسس البعض منهم الأخلاق على المسلمة الأولى لدين العقل، وهي فكرة الايمان بالله (كانط).

ولم يراع أيضا؛ او لنقل تجاهل كليا، في موضوع الدين، مقررات ونتائج علوم إنسانية، أصبحت حاسمة اليوم، في هذا المجال، يتقدمها علم الآثار وعلم الأديان، إضافة إلى علوم الأنتروبولوجيا والحضارة والتاريخ، فاعتمد على ما قدمته السردية التوحيدية حول الدين ونشأته وبداياته، وحول تاريخ الإنسان وبدايته على الرض.

يؤسس طه عبد الرحمن الكثير من تصوراته ومواقفه، وكذا خلاصاته ونتائجه؛ بل أيضا انتقاداته واعتراضاته على المرجعية التراثية بوصفها مسلمة خارج النقاش، رغم أنه ميز بين ما يسميه "الصورة الفطرية للدين" و "الصورة الوقتية له" (بؤس الدهرانية)، لكنه لم يأخذ بمقتضى هذا التمييز في التحليل وصياغة النتائج وبناء المواقف. والتأسيس على ذلك، وهي مسلمة بالنسبة إليه، يخرج فكره ويفقده السمة الأساسية التي يتقوم بها الفكر الفلسفي وفعل التفلسف، وهي "الكونية"، فمخاطبه فئة محددة من الناس؛ وهم من يسلمون مثله بالمرجعية التراثية بحسب التصور الذي يصنعونه حولها.

لقد أخلف الرجل الموعد معنا، عندما حول المنجز الإنساني الحديث إلى مجرد أداة لخدمة أيديولوجية "مجال التداول"، التي يتعين اخضاع كل شيء لها ولمحدداتها: العقيدة، والمعرفة، واللغة. وهي مجرد صيغة طهوية لأيديولوجية تراثية بأضلاعها الثلاثة: الفقه، والأشعرية، والتصوف الطرقي.

***

حسن العلوي، كاتب مغربي

.....................

[1] الأستاذ طه عبد الرحمن في رأيي في منزلة بين المفكر والفقيه، وفي الاخير لا هو هذا ولا ذاك

[2] -عنوان العمل: تديين البداوة وتأبيد الجهل، مقاربة نقدية للمقاصد الشاطبية.

[3] -حضرت نشاطا حول الدرس الافتتاحي الذي نظمته احدى الكليات، استدعي له طه عبد الرحمن، وصرح مسير النشاط، وهو من تلامذة الرجل، تولى العمادة فيها مرتين، بأنه في عهده فتحت أبواب الكلية لطه عبد الرحمن وفكره بعد أن كانت موصدة في وجهه.

[4] -انظر فصل: وقفة مع الملحق الأول من الأدلة، في كتابنا: تديين البداوة وتأبيد الجهل، فقد وثقنا في لظروف وملابسات نشأة السنة.

عفيفي يدحض مقولات الاستشراق

بالعودة إلى موضوع جذور التصوف الإسلامي ونشأته الأولى، يمكن أن نجد دحضا قويا لمقولة وفادة وأجنبية التصوف الإسلامي التصوف الإسلامي وتفنيدها التطبيقي في ما كتبه أبو العلا عفيفي في كتابة "التصوف الثورة الروحية في الإسلام" قبل أكثر من نصف قرن، لنقرأ ما كتب وعذرا سلفا لطول المقتبس لضرورته القصوى: "الصورة الثانية هي الصورة الفارسية التي يدَّعي أصحابها أن التصوف الإسلامي نتاج فارسي في نشأته وتطوُّره، ولكنها أيضاً دعوى لا تقوم على أساس من التاريخ. نعم كان عدد كبير من أوائل الصوفية من أصل فارسي، ولكن أغلب متأخِّريهم كانوا من أصل عربي؛ كابن عربي وابن الفارض، وأكثر الذين تأثَّرُوا بابن عربي - العربي القح - كانوا من الفرس كالعراقي وأوحد الدين الكرماني وعبد الرحمن جامي وغيرهم".

ويُرجع عفيفي أصل هذه الفكرة عن هندية أو فارسية جذور التصوف إلى ما يسميه "التعصُّب لفكرة الآرية ضد السامية، وادِّعاء من جهة المتعصِّبين بأن العقلية السامية ليست أهلاً للفلسفة ولا للتصوُّف ولا للعلوم والفنون".

ثم يفترض عفيفي التسليم جدلا وافتراضا بصحة فكرة أن "التصوُّف كان رد فعل للعقل الآري ضد دينٍ سامٍ "الإسلام" فُرض على فارس فرضاً، وأن كبار المفكِّرين الفارسيين لم يَعتنقُوا الإسلام إلا صورةً، وكان غرضهم الأول تشويه الإسلام وقلب أوضاعه لأغراضٍ قومية وسياسية" أفلا تطعن هذه الفكرة بأفضلية العنصر الآري نفسه، وتوجه ضربة إلى كبار علماء الفرس وفلاسفتهم ومتصوفتِهم المسلمين من حيث إنها تُنكِر عليهم كل صدق وإخلاص في مجهودهم العَقلي والرُّوحي الإسلامي"؟

وعلى سبيل النفي، يتساءل عفيفي أيضا، إنْ كان هناك من يشكُّ في إخلاص سيبويه للنحو العربي، وصاحب الأغاني "الأصفهاني" للأدب والقصص التاريخي العربي، والفخر الرازي للتفسير، وابن سينا للفلسفة، وشقيق البلخي وأحمد بن خضروَيه ويحيى بن معاذ وأبي حفص النيسابوري، وأبي عثمان الحيري وأبي حامد الغزالي ومئات غيرهم في التصوُّف؟!

ويختم عفيفي مستنتجا من قراءة معطيات الواقع التاريخي الموثق في سجلات التأريخ وحولياته إنَّ هؤلاء الذين ذكرهم بالأسماء كانوا جميعاً "من أصل فارسي ومع ذلك لم نَجِد فيهم نزعةً نحو الانتصار للغتِهم الفارسية على حساب اللغة العربية، ولا انتصاراً لعقائدَ فارسية قديمة على حساب العقائد الإسلامية، بل بذلوا جهداً صادقاً في فهم الإسلام ونشْر عقائده (تفاخر الشيخ يوسف القرضاوي حين كانت علاقاته جيدة بالحكم في إيران بأنَّ أصحاب كتب الصحاح الستة الجامعة للأحاديث النبوية والمعتمدة من قبل المسلمين السنة بمختلف مذاهبهم كلهم من الفرس وهم البخاري والترمذي والنسائي ومسلم وأبو داود وابن ماجه وهم مبجلون وموقرون لدى المسلمين السنة حتى يومنا هذا، ومعلومة القرضاوي صحيحة تماما!)، إنَّ العكس هو الصحيح، وهو أن لغة الغازين وأدبَهم ودينهم لم تتأثَّر بلغة المغزوين وأدبهم وأصول عقائدهم، بل فرضت اللغة العربية كما فرض الدين العربي نفسيهما على أهل فارس وغيرها من البلاد الإسلامية غير العربية بحيث لم نَجِد بعد جيل أو جيلَين من بين العلماء من يكتب بالفارسية في فارس ولا باليونانية في سوريا ولا بالقبطية في مصر، وفيما يتَّصل بالتصوف بوجهٍ خاص، لم تكن العربية لغة التأليف وحسب، بل كانت لغة الوعظ والتعليم". المصدر: التصوف الثورة الروحية في الإسلام ابو العلا عفيفي. ويمكن أن نذكر بعض الاستثناءات التي تؤكد القاعدة المضمرة في ماكتبه عفيفي فإذا كانت الحالة العامة تؤكد إخلاص الفلاسفة والمتصوفة المسلمين الفرس لأنفسهم ولإيمانهم الديني أو الفلسفي فهي لا تنفي وجود حالات استثنائية من الفرس القوميين الكارهين للعرب وللإسلام والمفاخرين بديانتهم المجوسية ولكنها تظل حالات نادرة واستثنائية وعلنية تؤكد تلك القاعدة ولا تنفيها. ومن تلك الاستثناءات حالة الشاعر بشار بن برد والذي لم يُقتل بأمر الخليفة المهدي العباسي لأنه جاهر بمجوسيته وقد فعل ذلك شعرا بل لأنه هجا الخليفة العباسي المهدي وشتمه في عِرضه أي إنه يحسب على ملاك المعارضة السياسية لا الإيمان الديني المخالف وقد قال بشار بحق المهدي العباسي:

ضاعتْ خلافتُكم يا قومُ فالتمسوا........... خليفةَ اللهِ بين الناي والعودِ

وقال فيه أيضا:

خَليفَةٌ يَزني بَعَمّاتِهِ ........ يَلعَبُ بِالدَبّوقِ وَالصولَجان

أَبدَلَنا اللَهُ بِهِ غَيرَهُ ..... وَدَسَّ مُوسى في حِرِ الخَيزُران

والخيزران هي زوجة الخليفة المهدي، وهي جارية يمنية أعتقها ثم تزوجها وأنجب منها الرشيد وموسى الهادي.

والحالات المماثلة لحالة بشار بن برد نادرة ولا يخلو منها أي مجتمع بشري وهذا ليس تبريرا لقتل هذا الشاعر المسن بل هو إدراج للحالة في سياقها التأريخي الحقيقي لتفهم فيه وبموجبه.

بين أخلاقيات التصوف وأخلاقيات السلفية

 ينقل الباحث المحمد عن الجابري قوله حول نشأة التصوف "ذلك أن من شأن ظهور البذور الأولى للتصوف، ولا سيما الحركة الزهدية الممهدة له، كان في مدينتي الكوفة والبصرة. وجل سكان هاتين المدينتين من الفرس، الذين يعيشون وضعية نفسية وسياسية تحمل الحقد الدفين للعرب". وهذا الكلام ليس صحيحا كمعطيات تأريخية فالبصرة والكوفة حين مُصِّرتا من قبل العرب كانتا عبارة عن معسكرين حربيين للجيوش العربية أكثر منهما مدينتين عاديتين، أي انهما كانتا قاعدتين لتجمع المقاتلين العرب وأسرهم وحتى قبائلهم، وقد قسمت كل مدينة إلى أرباع، أي أحياء كل ربع خصص لسكن قبيلة معينة، ولم يسكن الفرس فيهما على الأقل في مرحلة التأسيس والإنشاء وطوال قرن أو يزيد، بل إنَّ القبائل العربية هي التي اتجهت شرقاً واستوطنت إيران حتى فاق العديد السكاني العربي في بعض الأقاليم كخراسان النصف وأصبح الفرس أقلية في تلك الأقاليم.  وإذا كان الجابري يرى في أن الكوفة كانت معادية للدولة الأموية ومنها جاءت الضربة التي قضت عليها وأن الفرس هم سكان أو غالبية سكان هذه المدينة وهذا أمر غير صحيح أو في الأقل مبالغ فيه كثيرا، فهو ينسى أن الحركة التي قضت على الدولة الأموية هي الحركة العباسية وقيادتها من بني العباس وهم عرب قرشيون، وكان لهم مساعدون ومعاونون من العرب والفرس وغيرهم من الشعوب التي ذاقت الأمرين من ظلم الدولة الأموية وخاضوا عدة حروب وثورات قبل أن يجدوا في الحركة العباسية ضالتهم. فحتى حتى العرب لم يسلموا من اضطهاد بني أمية فمأساة ضرب الكعبة بالمنجنيق، وإباحتها للمهاجمين لثلاثة أيام، وأول معارض قتله الأمويون صبرا " أعدم وهو أعزل وتلك نقيصة يشمئز منها العرب" هو العربي حجر بن عدي الكندي، ومقتل الحسين بن علي سِبط النبي ومعه صحبه في موقعة الطف بكربلاء وسبي نسائهم وتسييرها إلى الشام، ولقد كان ضحاياها هذه الكوارث وغيرها من العرب قبل غيرهم، ولكن الجابري يقفز على هذه الوقائع والحقائق التاريخية ولا يرى سوى الجواسيس الفرس يندسون في كل شيء من التصوف إلى الفلسفة إلى الحركات المسلحة دون النظر والبحث في السياق التاريخي الفعلي للأحداث ومضمونه الاجتماعي!

يقارن الباحث بين ما يطرحه الجابري حول أخلاق التصوف وما يطرحه العلوي ويتوصلان إلى أن الطرحين متعاكسان، ففي حين يقدم الجابري رأيا سلبيا من التصوف فهو يقول "وقد ظهرت أخلاق الطاعة الكسروية في المنظومة الصوفية في علاقة الشيخ بالمريد القائمة على طاعة المريد المطلقة لشيخه". ويضيف الباحث "ويذهب الجابري أبعد من ذلك في تأكيد قيم الخنوع التي تظهر في علاقة الشيخ والمريد، وذلك من خلال إظهار العلاقة بينهما بوصفها علاقة بين سيد وعبد، وتتجلى مثلاً من خلال قضاء المريد وقت فراغه في خدمة الشيخ من طبخ وغسيل وغيرها من الأعمال المنزلية. ويُخضع الجابري سيرة أقطاب التصوف لـ "تحليل نفسي"، ويخلص منه إلى القول بأن زهد أقطاب المتصوفة هو عبارة عن جريّ وراء الزعامة. ففشلهم في تحقيق الزعامة الدنيوية جعلهم يطلبون الآخروية عن طريق توسط التصوف والزهد". أعتقد أن هذا كلام الجابري هنا يمت بصلة وثيقة إلى البحث والتفتيش في النوايا والخواطر وأشبه بقراءة "الحظ" في فنجان القهوة منها إلى علم النفس التحليلي أو السلوكي فكيف يتمكن الباحث من معرفة حقيقة ما يفكر فيه الصوفي وما يعتمل في نفسه بهذه الدرجة من الوضوح والتقريرية الباتة.

العلوي ينتقد مفاهيم رينان

على المقلب الآخر يقدم العلوي صورة أكثر انسجاما للعلاقة المريدية، أي التلمذة بين المريد وشيخه وتقتصر هذه العلاقة للتلمذة على فترة المريدية ثم تنحل وتنتهي ويستقل المريد عن شيخه لنقرأ ما نقله الباحث عن العلوي بهذا الصدد: "في المقابل، يرى العلوي أن دخول المرء في سلك التصوف يتطلب بالضرورة أن يكون له شيخ يتتلمذ على يديه، ولكن الاستقلالية من لوازم الصوفية تمنع المريد من تقديس شيوخه، يكتب العلوي في هذا الصدد "الاستقلال في شخصية الصوفي أن لا يقدس شيوخه.  ولا يعني ذلك أن لا يوقرهم ويبجلهم التزاما بحقوق الأستاذ على التلميذ بل أن لا يعتقد فيهم العصمة".

وهنا، في هذا السياق، ينتقد العلوي المستشرق الفرنسي رينان الذي عدّ قول المتصوفة، بأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان دلالة تقييد، يكتب: "وقد وقع الفرنسي رينان في الجهل المركب لما اتخذ من هذه القاعدة دليلاً على أن العقل السامي مقيد، إذ لم يطلع على التوجيه المكمل بالانفصال عن الشيخ بعد إتمام التعلم". ويرى العلوي - بخلاف تصور الجابري – أن التصوف القطباني الإسلامي هو ثورة على الاستبداد بالقول والفعل منذ بدايته مع إبراهيم بن أدهم كقوله الذي رواه ابن كثير في البداية والنهاية: "كل سلطان لا يكون عادلاً فهو واللص بمنزلة واحدة"، فالهمّ المركزي عند أقطاب التصوف، في رأي العلوي، هو توفير الراحة للخلق وهذا الراحة لا تتحقق إلا بالوقوف في وجه الاستبداد". والخلاصة فالعلوي لا يرى أن هناك خنوعاً في علاقة الشيخ بالمريد في التصوف الحقيقي، ولا تتطلب الخدمة المتبادلة بين الشيخ والمريد هذا الجهد المضني، فهم لا يلبسون إلا للستر والدفء، ولا يتخيرون الأثاث لبيوتهم أما طعامهم فمقنن بحدود الكفاية اللازمة للبقاء".

التوبة والخلاص الهرمسي

قضية أخرى مهمة وددت التوقف عندها في قراءة الزميل الباحث، وهي قضية التوبة الصوفية وكيف فسرها الجابري على أساس أن التوبة بالمفهوم الصوفي لا علاقة لها بالتوبة بالمفهوم الإسلامي، بل تنضوي ضمن مفهوم "الخلاص الهرمسي عبر الفناء". يكتب الباحث "تتجلى رغبة الجابري في إسقاط صفة الأصالة الإسلامية عن التصوف في إظهاره مفاهيم التصوف كلها بأنها بعيدة عن الإسلام، وهو الأمر الذي لاحظناه في تناوله مجال التوبة عندهم، الذي هو ليس برجوع عن الذنب فحسب، وإنما رجوع إلى الله أيضاً، في حين أن الجابري يعتقد أن مفهوم التوبة في الإسلام يقتصر على توبة عن ذنب سبق اقترافه، ويخالف هذا الفهم الجابري بوضوح أهم ما جاء في نصوص الفقهاء بمختلف توجهاتهم المذهبية. إذ إن التوبة عندهم هي ليست متعلقة بتوبة من ذنب سبق اقترافه فحسب بل التوبة واجبة على من ترك ما هو مأمور به بالشرع، يكتب ابن تيمية في هذا الصدد "التوبة المشروعة هي الرجوع إلى الله، وإلى فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه. وليست التوبة من فعل السيئات فقط كما يظن كثير من الجهال، لا يتصورون التوبة إلا عما يفعله العبد من القبائح كالفواحش والمظالم، بل التوبة من ترك الحسنات المأمور بها أهم من التوبة من فعل السيئات المنهى عنها، يغيّب الجابري هذا الفهم المتطابق بخصوص مفهوم التوبة بين ابن تيمية والمتصوفة لسبب بسيط مفاده إبعاد التصوف وأخلاقه عن الإسلام بشكل كلي، وبهذا نكون مع التحليل الجابري أمام نقد إيديولوجي تضليلي ولسنا أمام نقد موضوعي". بمعنى، إن الجابري في غمرة حماسته وهجائه للتصوف والصوفية يشتط كثيرا ويفارق حتى الفهم السلفي للتوبة وهو الفهم الصوفي نفسه رغم ما بين السلفية التيمية والتصوف من عداء يبلغ أحيانا درجة تكفير الأولى للثانية.

خلاصات البحث

خلاصة البحث تأتينا على شكل مقارنة مكثفة بين رؤية الباحثَين الجابري والعلوي لموضوع الأخلاق الصوفية أو موقع الأخلاق في منظومة المفاهيم الصوفية القطبانية فيكتب: "إننا كنّا أمام قراءتين مختلفتين من الناحية المنهجية والأيديولوجية. فقراءة الجابري كانت مطابقة للقراءة السلفية، وخاصة المعاصرة منها، يكتب مثلا مقدم كتاب ابن تيمية "الصوفية والفقراء"، ومن الصوفية كما نعلم ويعلم شيخ الإسلام خرجت الزندقة، والهرطقة، والسفسطة، والمروق والفسوق". لنقارن القول الأخير مع النتيجة التي وصل إليها الجابري، يكتب جميع "المقدمات" في الكلام الصوفي تنتهي في النهاية إلى عكسها. وحقاً إنَّ "أخلاق الفناء" – المقصود لدى الصوفية ع.ل-  تنتهي إلى "فناء الأخلاق". ثمة تشابه ولقاء، لا فرق سوى أن الأول استخدم ألفاظاً مستخرجة من القاموس الديني التكفيري، أما الثاني "الجابري" استخدم ألفاظاً مستخرجة من قاموس الفكر المعاصر. في المقابل، جاءت قراءة العلوي امتداداً للقراءة الماركسية العربية التي يلخصها المفكر مهدي عامل بقوله "هل من مبالغة في قولنا - شطحاً؟- إن هذا الفكر الماركسي هو وريث كل فكر بقوله ثوري في التاريخ، وهو، لهذا، وريث فكر الإشراق والتصوف الذي هو، بحق، فكر الإسلام، أعني فكر الحق في الإسلام؟ والحق للحق وريث وإن اختلفا ". لذلك كان غرض العلوي من قراءة أخلاقيات التصوف هو دمج هذه الأخلاقيات في مشروعه القائم على ترسيخ قيم مثقفية مناضلة ومقاومة للواقع العربي الرث والمتخلع بفعل تبعية البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العربية للمراكز الرأسمالية الإمبريالية "..." وتساعد قيم التصوف القطباني التي استخرجتها قراءة العلوي في عملية خلق مجتمع عادل لا يكون متجذرا على العنف الإقصائي. كما تساعد أيضاً في العمل على تشكيل خطاب مفتوح ورحيم، بعيد عن أي نسق من التصنيفات القانونية والأخلاقية المتعالية والإلزامية التي تسعى إلى خلق فروق واضحة بين من يجب أن يُدرج في دائرة الأخلاق والقانون ومن لا ينبغي بالتالي أن يُدرج في داخلها. وأخيراً، تساعد قراءة العلوي لأخلاقيات التصوف في مواجهة التيارات العلمانية العربية الزائفة التي لا ترى من العلمانية سوى فصل للدين عن الدولة دون أن تلحظ أن العلمانية لا تكتمل دون فصل واضح بين الدين والأخلاق، لا سيما أن قراءة العلوي بيّنت أن أخلاق حركة التصوف القطباني الإسلامي كانت تجسيداً فعلياً للفصل بين الدين والأخلاق الأمر الذي يمكن التأسيس عليه في تشكيل ممارسة إتيقية تسهم في مواجهة خطاب الدمج بين الأخلاق والدين عند البرجوازيات العربية المسيطرة والتيارات الدينية النصية في أشكالها المتنوعة". وأعتقد المقصود هنا بالفصل بين الدين والأخلاق لا يبتعد عن معنى الفصل بين مضمارين مستقلين؛ مضمار الدين كشريعة ونصوص غيبية وطقوس دينية مختلفة باختلاف وتعدد الأديان، ومضمار الأخلاق كسلوكية وفعالية إنسانية فردية الأساس جماعية التمظهر الاجتماعي، قد تستلهم هذا الدين أو غيره وقد لا تستلهم أي دين ولكنها تنتمي للإنسان الفرد الممارس لأخلاقه الشخصية.

إن الجابري الذي يسفِّه أخلاقيات التصوف ويهجوها من مواقع سلفية ماضيوية يسكت تماما عن الآفات الأخلاقية لدى السلفيين والنصوصيين المحافظين من قبيل التسري وتعددية الزوجات وزواج القاصرات بهدف الاستمتاع والتلذذ الجنسي حتى خارج الشرط التشريعي الإسلامي الذي يبيح التعددية "الزواج الضرائري" بشرط العدل، وامتلاك العبيد والجواري والجشع إلى المال والمجوهرات والممتلكات الأخرى والجاه والسلطان والشهرة، ولكن الجابري، في المقابل، لا يقيم أدنى اعتبار للتجربة السلوكية الصوفية الزهدية المتسامية والتي سجلتها نصوص التراث العربي الإسلامي حتى تلك التي وردت في كتابات خصومهم وأعدائهم ومكفريهم، وهذا ما كرره الباحث بكلمات قليلة قالوا فيها: "أن الجابري لا يعير أي اهتمام بمسألة الرفض العملي عند أقطاب التصوف للتسري وامتلاك العبيد والجواري وتعدد الزوجات، ولا ينظر إليها كمعطى أخلاقي فريد في فضاء تشريعات دينية تبيحها، في المقابل ينظر العلوي إلى ذلك كجانب أخلاقي مضيء بالمقارنة مع الفقه السني والشيعي الذي يبيح التسري وتعدد الزوجات وامتلاك العبيد وزواج الطفلة الصغيرة".

وأخيرا، يمكننا الاتفاق مع ما عبر عنه الصديق الباحث في أن القيم والأخلاقيات الإيجابية التي تحلى بها أقطاب التصوف الإسلامي وعموم حركة التصوف القبطاني لا تشكل أصلاً أو جزءا دخيلا وغريباً عن الإسلام وإنما هي جزء أصيل منه نجد جذوره في النصوص القرآنية وخصوصا "المكية" قبل الهجرة، جزء يتماهى في سلوك وفكر بعض الصحابة والتابعين الذين يعدّون آباء للتصوف الإسلامي، مثل أبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي وعامر العنبري وأن الجوهر الاجتماعي الكفاحي لظاهرة وحركة التصوف القطباني يكمن في انحيازها إلى الخلق الفقير وهم الغالبية المجتمعية في كل زمان ومكان وعمل المتصوفة القطبانية على رفع الظلم والحيف والشرور الطبقية عنه ومقارعة الظالمين الكانزين للذهب والفضة وثروات الشعوب.

***

علاء اللامي- كاتب عراقي

في المثقف اليوم