قضايا

طاب مساؤكم عزيزاتي أعرّائي. أحيّيكم أطيب تحيّة، وأشكر لكم تفضّلكم عليّ بهذا الحضور الكريم؛ كما أشكر للجمعيّة العراقيّـــة الكنديّة في أتاوا دعوتهـــا إيّاي، لأتحـدّث إليكم في هذه الأمسية الثقافيّة عن تجربتي الشعريّة. ولاريب في أنّ الحديث عن تجربة شعريّة جاوز عمرهــا نصف قرن أو أزيد ليس بالأمر الهيّن ولا السهل؛ لكنّي سأختصر القول فيها، وأحصره في ارتبـاطي بالـواقـع، والتزامي بـحاضره، ورؤيتي في تغييره.. وأعني بالواقع البيئة العراقيّة التي ولدت فيها سنة خمسين وتسعمائــة وألف للميـــلاد، ونشأت فيها حتى أدركت معنى الحريّة، فقاومت الترهيب والترغيب السلطويين اللذين أراداني، في السبعينيّــات من القرن الماضي، على أن أشارك الشعراء العبيد في جرّ عربات االسلطة المستبدّة، فأتخلّى بشعري عن كرامتي الإنسانيّة والوطنيّة وعن قيمتي الفنيّة. وحين " بلغ السكّين العظم"، كما يقال، اضطررت الى الهجــــرة القَسريّة من وطني إلى المغرب الأقصى في سنة تسع وسبعين وتســعمائــــــة وآلف للميلاد، وزاولت التعليم هناك مدّة عشرة أعوام، ثَمّ اضطررت إلى الهجرة القسريّة ثانية حتّى استقرّ بي المقام بينكم في كندا. ومن باكورة شعري في غربتي واغترابي بعض قولي في رسالة شعريّة جوابيّة لأبي وقتذاك:

"أبَتِ الحنونْ

لا. لن أعودْ

لا. لن أعود الى القيودْ

لا. لن أعود إلى اليبابْ

وإلى السرابْ

مزّقتُ تذكرة الإيابْ

لا لن أعود لغربة تُدعَى وطنْ

ولمُخبرٍ يُدعَى صديقْ

لا لن أعود الى الكفنْ

وإلى اللحودْ

لا. لن أعودْ.

لا. لن أعودْ.

قرَّرتُ كالرّيح العتيّةِ أَن أَثورْ،

لا كالنسيمْ.

قرَّرتُ كالأشواكِ أنْ أَبقَى عنيدْ.

لا كالأزاهر في الربيعْ.

ورضيتُ أنْ أَحيا شريدْ.

مثل الصّقورْ.

لا كالدواجنِ في القَفَصْ.

لا. لن أُباعَ وأُشترَى مثل العبيدْ

لا. ألْف لا.

لا يا أَبي!

لاتخشينَّ عَلَيَّ إنْ نضبتْ من النَّقدِ الجيوبْ.

لا لن أموتْ

من فرط إملاقٍ وجوعْ

الموت في ذلّ الشعوبْ

والموت في عمق السكوتْ

لكمْ اللّجــــامْ.

وليَ الكــلامْ.

لا. لن أَعودْ. "

ولئن كان الواقــع العـراقيّ يعاني من التخلّف السـيـاسيّ والإجتـمـــاعيّ والدينيّ وحتّى الإقتصاديّ، وكنت محتجّاً على تخلّفه كلّ الإحتجــاج؛ فإنّي، على الرغم من تخلّفه واحتجاجي عليه، لم أتنكَّر له البتة، بل بقيت مرتبطاً به داخل العـراق وخارجــه، وملتزماً بالعمــل الجادّ للنهوض بـه، مهما كلّفني ذلـك العمـل من ثمن؛ لأنّي لم أرَ غير الإرتباط به والإلتزام بحاضره من سبيل لتغيير مستقبله. وقد أعلنت هذه الرؤية في شعري تصريحاً وتلميحاً.

ومما يدلّ على ارتباطي بمصير العراق قولي:

"لو أسهو يوماً عن وطني. لو أنساهْ.

آهٍ وطني آهٍ آهْ!

لم تبقَ سوى الذكرى منك، ولم تبقَ سوى الآهْ!

آهٍ وطني آهٍ آه!"

أو قولي:

"أنا ابن المجد والشهــــداء فخــرا** ببذل النفس للبيض الرقاقِ

أأغضي الطرف عن وطن تدمّى** بطعن جـاهــليّ لانشـقــاقِ"

وممّا يدلّ على التزامي بحاضره لتغييره قولي:

"تعبتُ ولـــم يتعبْ بأَعمـاقــيَ الحبُّ** وشـبـتُ ولـــمْ يَبلـــغْ صباباتيَ الشيبُ

وأَشــغلَ جنحيَّ الزمــــانُ بغربــــــةٍ** ولم يَنشـغــــلْ عمَّن أُحـبُّ ليَ القلـــبُ

لئِنْ غيَّبتْني عن بــــلادي عصابــــةٌ** ففي كلِّ ليلٍ من حضوري بهـــا شُهبُ

بـــلاديْ بها جـذريْ ومائيْ وطينتي** وضوئيْ وإنّي من قطافٍ بهــــــا اللبُّ

إنْ ابتسـمـتْ بِشــراً، فإنِّي شـفاهُهــا** وإنْ دمِعـتْ حـزنـاً، فـإنِّي لـهــــــا هدبُ

يَسيــرُ معي النَّخــلُ الجميـــلُ وظلُّـه** ويَجثو معي النَّهرانِ والطّينُ والعشبُ

وللسعفـــةِ الجــــرداءِ منِّيَ خضــرةٌ** وللطائـــرِ الظمآنِ من أَدمعيْ شـــربُ

وما كان بُعديْ بُعدَ مَن نَسيَ الهـوَى** ولكنّـــه بُعــدٌ يزيـــــدُ بــــــه القُـــربُ

فَديــتُ بنفسي بلـــــدةً لـــمْ تُعــــزَّنيْ** ولــمْ يَتّســعْ فيهــا لعاشــقِهــــا الدَّربُ

أُريـــدُ بهـــا شــربـاً وأَكوابُــهـــا دمٌ** وأَبغيْ بهـــا أَمْنـاً وأَحـلامُهـــــا رعبُ

وأَنسَى لهــا ســمّاً وإنّــيْ صريعُـــه** وأَهوَى لها وصــــلاً وما بيننــا حربُ

صُلبتُ بهــا أَلْفــاً ومــازالَ في دمي** حنيــنٌ لعينيهـــا يَطيـبُ بــــه الصَّلبُ

حبيبـــةُ قلبــي لا حبيبـــةَ بَعــدَهــــا** فِدَى حَبّةٍ من رملِها الشَّـرقُ والغـربُ"

كما أنّني أعلنت في شعري قبولي بدفع الثمن الباهظ مقابل ذلك الإرتباط وذلك الإلتزام كقولي:

"تعالَ وخذْ ياجـوعُ قمحَــك من دمي ** ودعني أمتْ وحدي على رمح آلامي

وخلِّ عــراقَ الحـزن يَبتـلَّ رملُــــه ** وتخضرَّ باليــــوم المذهَّب أحــــلامي

أنا المغــرم الهيمــان شـعبي حبيـبتي** وأنفاســـه لحني وعينــــاه إلهـــــامي"

أو قولي لصاحبي:

"تعـالَ، إذن، نفتـحْ شـبابيـــــكَ من دمٍ ** تُنـــــوِّر بيـتــاً فيـــــه يختبئ الغـيــبُ

إذا أنا لــم أُحــرَقْ ومثليَ صــاحبــي** فمن ذا يضئ الدربَ إنْ أظلم الدربُ؟

لقــد ملّني صبــري. أُريــــدُ جنـــازةً** لحبّيَ أو شـمسـاً يُغـنّي لهــا الشعـبُ"

أو قولي:

"إنّني أخرج من غمد السكوتْ.

إنّني أحمل قدّام الغيومْ.

لافتات المطرِ،

ومرايا الشجرِ.

فاقتلوني واقفا كالنخل في وجه الرياحْ.

واقفاً إنّي أموتْ. "

وسأترك الحديث عن الجانب الاقتصاديّ لأهله، وأقصر حديثي على ثالوث التخلّف العراقيّ أي السياسيّ والإجتماعيّ والدينيّ الذي تتناقض صوره فيما بينها حزبيّاً وعشائريّاً وطائفيّاً إلى درجة دمويّة بحيث يخرج بها الإنســـان من صفته الحضاريـّـــة التي تميِّــزه عن وحوش الغاب إلى صفته البدائيّـة الهمجيّــة. فالحاكم السياسيّ يقتل المعارض السياسيّ باسم الخيانة الوطنّية، والرجل العشائريّ يقتل المرأة المتمرّدة على قيوده باسم الشرف والأخلاق، والمؤمن الدينيّ يقتل أخاه المؤمن الدينيّ باسم الإيمان والدفاع عن المذهب. وقد انتقدت بشعري العقـل الجمعيّ لذلك العنف السلوكيّ في الصراع الداخليّ. ومنه هذه الأبيات:

"أعقاربٌ مسمومــــةٌ أم نــاسُ ** أم إنها الآثــام والأرجـــــــاسُ؟

لم يشربوا غير الدمـاء ولـم تقـمْ** إلا على جثثٍ لهـم أعــــــراسُ

متوحّشون فلاتغرّك بـسـمـــــةٌ ** إنسيّةٌ أو يخدعنْــك لبـــــــــاسُ

سُحقاٌ لقـوم كالذئــــاب وهالـــكٌ** من ليس بينهـمُ لــه أضــــراسُ

فكأنَّ سمَّ الموت وسط كلامهـمْ ** يجري وبين حروفــه الأرماسُ

إنّي لأكفرُ بالإخوَّة زهـرهـــــــا** نابٌ يعضُّ وعرقهـا دسـّــــاسُ

ألقَى بيَ الرحمن وسط بهائــــمٍ ** جرباءَ لا طابتْ لهـا أنفـــــاسُ

وقد ابتــلاني بالمصائـــب غدوةً** وأجلُّ كـلِّ مصائبي الإحسـاسُ

عشـرون ماتمّتْ فأذبلني الأسى**زهراً، وأوشك أنْ يشيب الراسُ"

غير أنّ هذه الصور المتناقضة مع بعضها إلى حدّ سفك الدمـــاء أحياناً؛ تتّفق كلّهــــا ضدّ التفكير العلميّ والوعي الوطنيّ. ولاتتورّع، حين تعجز عن مناقشة المفكّــر التنويري أوالمناضـــل الإجتمـــاعي، من أن تتّهمه بمختلف الإتهامات الجاهزة، ومن أن تجوّعه أو تشرّده أو تقتله دون أن تبـالي بأهميّة عقله النظريّ وفعله العمليّ في تطوير البـــلاد وتقدّمهــا. ومن تلميحي إلى المعاناة العامّــة للمثقفين التنويريين في العراق قولي:

"أدري وتدرين يابغــــداد كـــــم نغــمٍ**حلوٍ تلعثـــم بين البــوم والحجـــــــرِ

أدري وتدرين كـم قيثــــــارةٍ صُلبتْ** أوتارها السُمـر في هــمٍّ وفي كــــدرِ

أدري وتدرين كم شمسٍ وكم شهبٍ** مذبوحــة الضـوء قد راحت لمنحـــدرِ

هاتي المرايــــا أَرينا كيف أوجهنــا** أضحت صحارَى دمـوعٍ ذلـّةٍ خَـورِ؟

وكيــف ألقـتْ منــاراتٌ أشـــعّتهـــا** إلى الرماد، ودبّ الصمت في الشررِ؟

خلّي الحكايــة ســــكّينــاً تَجـزّ بنــا ** وزغــردي فغـداً لابــدّ مـن مطــــرِ"

ومن تلميحي إلى معاناتي الخاصّة قولي:

"أجرمتُ من فرط إِحساسي ومن فِكَري** وغـربـتـــي بين قــــــومٍ لــيـس كالبـــشـــــــــــــرِ

وتهمتي أَنّهـــــمْ نامُــــــوا وأَقلقَهـــــمْ **ضوئي، وأَزعجهمْ من أَجلِهم سهَـــري

وتهمتي أَنَّ كلَّ الأَرضِ قـــد لبِســـتْ ** صخراً، ومازال مُخضرَّاً لهم شجـري

وتهـمـتي أَنّني أَجــريــتُ مـن قــلقـي** نهـــــراً، لأُنقذَهــمْ من قبضةِ الحجـَــرِ

وتهمتي أَنّني أَدعـــــــو الريــــاحَ إلَى** رمـادِهـم، وأَصبُّ الزيـتَ في الشَّـــرر

إِذا يقولونَ:"مجنـونٌ" فقـد صــدقــــوا** فيما يقولونَ عن رعدي وعن مطري"

وأحسب أنّ سلطة الدولة في العراق هي أوّل المسؤولين عن كلّ ذلك التخلّف المتداخـل نــسيجـــه سياسيّاً واجتماعيّاً ودينيّاً، لأنّ زمام التشريع والتنفيذ بيدهــا. ولو كانت سلطـــةً وطنيّــــــةً حقّاً؛ لأصلحت الواقع المتخلّف، وحسّنته لإسعاد الإنســـان العراقيّ؛ لكنّها سـلطة فساد واســتبــداد. . غايتها تناقض غاية الشعب فضلاً عن انّها تابعة للأجنبيّ على الرغــم من الاستقــلال الشكليّ. وعلى الشاعر العراقيّ في مثل هذه الحال أن يختار موقفاً من موقفين. إمّا أن يكون دميـــةً بيـد الحاكم الفاسد والمستبد، ويشاركه في فساده واستبداده ضدّ شعبه وسيادة وطنه، وإمّا أن يكون إنسـاناً وطنياًّ صادقاً يقــاوم ظالــم شعبه وخائن بلاده. ولكم كنت صريحاً باختيــــار الموقــف الإنسـانيّ والوطنيّ من خلال شعري المناهض للحكّام العراقيين، كقولي:

"بيننا والقادةِ (الغُرِّ) ســيــاجُ ** لهم النفط وللشعب العجــــاجُ

كلّهــم صاروا ديوكــــاً معنـا ** ومع الديك الحقيقيّ دجـــــاجُ

نرجـسيّـــون طفيليّـــون. لــــم** ينضجوا. حُمقٌ مخانيثُ سِماجُ

ليس تعنيهـم ضحايــــا وطـنٍ** ونزيفٌ له في الكون ارتجـاجُ

همّهم أنْ يقسمـــوا الحبّ ولا** يتبقّى بيـن قلبيــن امتــــــزاجُ

وادّعوا الدين ولا دينَ لهــــم**مالهم في جوهر الدين احتيـاجُ

كلّهـــم جانٍ فإنْ غـــاب فمي** فلشعبي لم يغب فيه احتجــاجُ

وطني عرشي وفخـري أنّــه** فوق رأسي أينما سافرت تاجُ"

أو قولي:

"أصـاروا الله متجــرةً بســــوقٍ** وخيرَ الأنبيـاء ذوي ارتـــزاقِ

لقد باعـوا العــراق، وهـانَ حتّى**لأخجـلُ أنْ أقــول أنـا عــراقي

رأيـت الشـــعــب مختلفـاً ولكـنْ** على كرهٍ لهــــم هو في وفـاقِ

لصــوصٌ إنَّ أنظفـهــــــم لقـذْرٌ** وأحلاهـــــــم لمـرٌّ كـالزُعــاقِ

ستكنسهــــم يــد التاريــخ حتماً ** ولايبقَى لهم في الأرض باقي"

أو قولي في أعوان الحكّام:

"يُحاربون يزيـدَ الأمس في خُطبٍ** وإنّهـــم ليزيـد اليــــوم خــدّامُ

إنّ الشعـوب إذا أخبتْ مشاعلهــا ** قامت عليها من الأشباح حكّامُ"

ولاشكَّ في أنّ من يختارالإنسانيّة والوطنيّة صادقاً في ظلّ هذا التخلّف الشامل، سيشعر بالإغتراب بين أهله في وطنه الذي لم يعد وطناً إلا بالاسم، بل صار قبراً يضمّ مواطنيه الأحرار بين أطباقه وهم مايزالون أحياء. ومهما تكن الغربة خارج الوطن، تكن أهون من الإغتـراب داخلـه. وقـد عبّرت عن هـذا الشعـور المريــر في أغلب قصائــدي. ومن شعوري أنّي في مقبرة لا في وطن قولي:

" تبّاًّ لحاليَ نسراً ليس يُنجدُني ** جنحي علَيّ من الأشراك أكوامُ

قد صرت أبحث عن طهري بمقبرة** لكثر ماحاط بالأحياء آثـامُ"

وكقولي:

"إنّي سـأرحــل عن أرضي وجنّتهــا**كرهاً، وأَبعدُ عن نخلي وأنهـاري

قد طال صبـري خفيضاً رهن مقبـرةٍ** فما انتظاريَ نسراً بين أحجـارِ"

ومن شعوري بالإغتراب بين قومي داخل الوطن قولي:

"وليت همّي كهمّ النـاسِ مأدبةٌ** وكنـزُ مالٍ وكرسيٌ وأربــــاحُ

يذوب بينهـــمُ قلبي وقد جـلدوا** كما يذوب بعمق الليل مصباح

أكاد أبكي عليهم كلّما ضحكوا** أكاد أضحك منهم كلّما ناحـوا"

وكقولي:

"أنا الظمأ المهمـوم ألهث حامـــلاً ** على ظهريَ المسبيِّ تابوتَ أحلامي

فـلا فـرسـي يعـدو فانقــذَ رايـــتـي** ولاحربتي تُردي ولاساعـــدي رامي

وهـا أنـا يـابغـــــــداد جئتــــك ميّتاً** قفي واخلطي الحنّاء بالمدمع الهـامي

هبيـني رصيفــاً تــستـكنّ حقائـبـي** عليه فقد ماتت من السيـــر أقــــدامي

فمـا مَنحتْـني غيــر حزنٍ مدينـتي ** وغيــر انكســـاراتٍ وذلٍّ وأوهــــــامِ

أنا القمح والنخـل العـــراقيّ أنحني** جفافاً وأهوي جانب الشاطئ الطامي

أنا القريـة الخضــراء قحطٌ أذلّــني** فأطفـأتُ فانـوسي وأخفيتُ إكــرامي"

وأحسب أنّ أساس كلّ هذا الخراب الذي ذكرت، بصوره السياسيّة والإجتماعيّة والدينيّة في العــراق، يكمن في وضع المرأة فيه، لأهميّة دورها في العطاء الإجتماعيّ. وبدلاً من أن تحتفي السلطة الذكوريّة في العراق بهذه الإنوثة الخلاّقة المعطاء، وتساعدها علي نيل حريّتها واستقلالها؛ نراها ترهقها بقــيود العبوديـّـة والتبعيـّـة وتستهين بكرامتها وقيمتها الإجتماعيّة. ولعمري لا أكاد أرى إستهانة في الحيــاة أقسى من الإستهانة بالإمومة التي هي رمز الخصب والتجديد في المجتمع. ولقد أعظمت معنى الإمومة بشعري وأشدتُ به. ومن قولي في ذلك المعنى:

"ياعالم السحـر ياجمـــــالاً** يصيح. حُسنٌ يَشدّ حُسنا

ياأنتِ معنى الوجـود لولا **كِ لــم يكن فيـه أيّ معنى

ثوري نحطّمْ معاً قيـــوداً **غاصت عميقاً بنا وسجنا"

أو قولي في مخاطبة الأمّ:

"من نفح روحكِ هذا الطيب في طيني** كالله أنت وقــد أحسـنتِ تكويــني

سبحان نوركِ. روحي بعض خمرتــــه** وبعض أكؤســه شــكلي وتزييني

إليّ صــدركِ يـا ظـــلاً ألـــــوذ بــــــه** حبّاً ليُنسيَني حقدَ الســـكاكيــــــنِ

هيّآ لنهـــرب من سجنٍ نمــوت بـــــــه** ذلاً، ونخلص من حكم السلاطينِ"

وما إسراف أكثر الرجال بظلم نسائهم إلا دليل على عجزهم عن مواجهة سلطة الأقوى، وعلى رضوخهم لحكمه وطغيانه. ومهما يكن من شيء، فإنّ وضع المرأة في العراق وخصوصاً المسلمة هو مخالف لحقوقها المدنيّة، ومخالف لحقوقها الشرعية أيضاً.

وكيف لايخالف وضعُها حقوقها المدنيّة وقد ميّزتها االسلطة الذكوريّة عن الرجل على أساس الجنس، ولم تقرّ المساواة بينهما في الحريّة الشخصيّة الكاملة التي أصبحت تخصّه هو وحده ولاتخصّها هي؟ولكم دعوتها في شعري للثورة على ذلك التمييز لكي تتحرّر من قيود العبوديّة والتبعيّة،. وممّا يدلّ على تثويري إيّاها في هذا الميدان قولي:

"ثوري على القيدِ في اللَّيلِ.

ثوري أُقبّـلْـكِ. ثوري أُعانقْـكِ. ثوري أَرينيْ

جماحَ الخيولِ بعينيكِ. لستُ أُحبُّـك تابعةً كالكلابْ.

ولستُ أُحبُّكِ عصفورةً مُفزَعهْ

تلوذُ بريشِ انحناءْ.

أُحبُّـكِ عُريانةً في المساءْ.

تَشعِّينَ كالنَّجمةِ النائيهْ.

أَأَنتِ الإلهْ؟

يُميتُ، ويَبعثْ

سأُعلنُ رغم ذكوريّةِ الأنبياءْ،

سأُعلنُ:إِنَّ الإلهَ مؤنّثْ.

وإنّكِ كلِّي.

وفيكِ اندمجتُ، وفيَّ اندمجتِ

أَأَنتِ أَنا أَمْ أَنا هو أَنتِ؟

كلانا هو الله وحدَه. ما مِن إلهٍ سواهْ"

وممايدلّ على إصراري على مساواتها قولي:

"ولتكوني شريكتي** بصعودٍ إلى الذرى

أنا طيـــر ولم أزل** فيك أرجو تحرّرا"

أو قولي:

وأَحبّيـــني عميـــقـــاً إفعــلي **تجدي ردّي لفعــــلٍ أعمقا

وليَقــلْ عنـــك وعنّي جاهـــلٌ** خالفا العرفَ وساءا خُلُقا"

وكيف لايخالف وضعها حقوقها الشرعيّة أيضاً، وقد اتهمتها السلطــة الذكوريـّـة بنقصان العقل والدين خلافاً لنصوص التنزيــل والحديـث التي ساوت بينها والرجـل عقليّاً ودينيّاً؟ولكـم أكّدت بشعري آنّ المرأة ليست جسدا منفصلاً لهدف بيولوجي وحسب، وانّما هي النصف البشــــــريّ والرجل هو النصف الآخر. والنصفان يلتقيان في وحدة الإنسان العقليّة والنفسيّة والجسديّة. ولقد عبّرت عن مثل هذا المعنى بقولي:

"أخرجيــني من جنــــانٍ أغلقتْ** كوّةَ الضــوءِ على كـــلّ فطيـــنِ

وإلى صـدري هلمّي شــجـــــراً** وإلى صـدرك عصفـــوراً خذيني

خـوّفــــوك الأهـــل منّي، وأنـــا ** منك باســم الدين أهلي خوّفــوني

فتعـالي نتعــــانـــــقْ قبــــلمـــــا** يتلاشى العمر في صمت المنونِ"

وبناءً على نقصانها العقليّ والدينيّ المزعومين ركّزت السلطة الذكوريّة على حجابها الشكلىّ الذي لــيس هو من الفرائض الشرعيّة بشئ. ولم تلتفت تلك السلطة كثيراً إلى حجابها الجوهريّ الكامن في علمها وفي عملهــــا المؤكّدين في التنزيل والحديث؛ وهي تظن (أي السلطة الذكورية) أنّها بذلك الحجاب الشكليّ تحمي المرأة من السوء. وكيفما يكن الحجاب الخارجي، فإنه لايقي نفس المرأة إذا أمرت بالسوء حتّى لو كان من حديد. إنّ الذي يقيها من السوء هو وعيها وعلمها وتربيتها. وقد أشرت في أبيات لي إلى هذا التناقض بين صورة الداخل الحقيقيّة وصورة الخارج غير الحقيقيّة بإزاء نقد الشكليّة في الحجاب؛ إذ قلت:

"أريني غير همّــك بالحجــــابِ** فما أهوَى القشور بلا لبـــابِ

أتخفيــن الهــوَى عبثــاً بثــوبٍ ** وهل يُخفَى حريقٌ بالثيـــابِ؟

وتُبدين الوقــارَ بخفـض صوتٍ** وفي عينيك زلزال الشــبـابِ

أتخشيــن الحســـاب وأيَّ شيء**جنيتِ لكي تُساقي للحســـابِ؟

فـلاتثــقي بمــا قــــالــــت رواةٌ** بهم من غابـةٍ طبـع الذئـــابِ

فمـا في الحبِّ تخريــــبٌ ولكن** رأيت بحقدنا كـلّ الخـــــرابِ

فكــم من زوجــــة زُفّت بعقـدٍ ** وكان زواجها شبـه اغتصابِ

أفكّـــر ضدّ مملكـتي وعـرشي** على حكم الذكورة بانقـــلابِ"

وأخيراً إنّني أنادي بحريّة المرأة العراقيّة، لسببين. الأؤل هو أنّها هي أسـاس البناء الإجتماعيّ في العـــراق الذي لايمكن أن يكون قويّاً صحيحاً مالم تتحرّر المرأة فيه من هيمنة ثالـوث سلطات التخلّف التي ذكرتها آنفاً. والآخـر هو آنّ حريّتي الشخصيّة لا يكتمـل معناهــا من دون معنى حريّتهـا هي.. كيف يمكن لي أن أكـون حرّاً في وطني وأمّي أو أختي أو بنتي أو حبيـبتي، مثلاً، تعيـش فيــه غيـر حرّة؟. كــيف؟إنّ حريتهنّ هي جزء لايتجزّأ من حريّتي الشخصيــّـة التي هي جوهـــر حيـاتي، ومعنى وجـــودي. وما كان لكائن بشريّ أن يكون إنساناً ذا قيمة من دون حريّته وحريّة الآخرين الذي يعـيشــون معه. هذا وشكراً لكم جميعاً.

***

عبدالإله الياسريّ

.........................

* هذه محاضرة. ألقيتها مساء الأحد المصادف 12 أيّار/ماي 2024م استجابةً لدعوة الجمعيّة الكنديّة العراقيّة في مدينة أوتاوا بكندا، واحتفاءً بمهرجانها الثقافيّ. وهي على الرابط الآتي:

https://www. com/Ottawaicso/videos/1343407859866021

لعل القراء الأعزاء يلاحظون معي أن غالبية الناس يتعجلون نسبة الحوادث والأسئلة إلى تفسير وحيد، مع أننا جميعاً ندرك أن كل قضية، صغيرة أو كبيرة، نتاج لسلسلة من التحولات والعوامل. وثمة - إضافة لهذا - من يميل أيضاً إلى ربط تلك الحوادث والظواهر بعوامل خفية، لا يمكن التحقق منها ولا لمسها والتحكم فيها.

هذا ميل إنساني عام. فالبشر بطبعهم ينفرون من الغموض والنهايات المفتوحة، ويريدون تفسيراً كي يتجاوزوا الحدث وأسئلته. وتدرّس هذه الظاهرة في علم النفس تحت عنوان «الإغلاق المعرفي» Cognitive closure وهو مصطلح صاغه عالم النفس الأميركي آري كروجلانسكي، لوصف موقف الإنسان الذي يواجه سؤالاً محيراً أو ظاهرة غير مفهومة، أو حتى موقفاً غير مقبول من جانب شخص آخر، فهو يريد أن يتخلص من الحيرة بإضافة وصمة أو عنوان يفسر هذا الحدث، كي ينتهي منه.

كل الناس إذن يكرهون الغموض ويريدون تفسيراً. لكن ما يلي هذه النقطة محل اختلاف كبير بين المجتمعات. فهناك من يتخذ السؤال أو الحدث المحير نقطة انطلاق للتعرف إلى موضوعه. وهناك من يتعجل بنسبة الحدث إلى قوى غيبية أو بعيدة عن متناول الإنسان، مادياً أو معرفياً.

خذ مثلاً سلوك المجتمع الأميركي، حين فوجئ بالهجوم على نيويورك عام 2001، فقد انصرف إلى القراءة حول الإسلام وحول الإرهاب. وذكر تقرير اطلعت عليه قبل سنوات أن عدد الكتب حول الإسلام والمسلمين، التي نشرت في الولايات المتحدة، خلال السنوات الثلاث التالية لذلك الحادث قد تجاوز 600، فضلاً عن مئات المقالات العلمية حول مختلف أوجه الحدث. هذا يعني أن المجتمع الأميركي يميل بقوة لفهم المشكلات التي تواجهه، فهماً علمياً. لا أريد القول إن كل أميركي يفعل هذا، لكنني أشير إلى وصف عام مقارن.

السلوك المقابل هو إغلاق السؤال بنسبته إلى قوى بعيدة عن متناول الإنسان. خذ مثلاً النقاشات التي دارت بعد السيول الغزيرة التي شهدتها الإمارات وعمان وأفغانستان وإيران في أبريل (نيسان) الماضي. فقد قطع بعضهم بأنها نتيجة الاستمطار الصناعي، وادعى آخرون أنها عقوبة للناس على ما ارتكبوه من آثام. وعلى النقيض من هذا، اعتبرها فريق ثالث تمهيداً للوعد النبوي بتحول الجزيرة العربية إلى مروج وأنهار.

هذا النوع من التفسيرات يصدر عن قناعة مسبقة، فحواها أن كل ما جرى وسيجري له تفسير مختزن في الثقافة الموروثة. ولهذا فكل الأجوبة تأتي على النسق المعتاد، وتنتهي بإقرار أن الأشخاص الذين واجهوا الحدث، لا يحتاجون للمزيد من البحث والتفكير في ما وراء ذلك التفسير الجاهز.

أود استعارة وصف «الثقافة المتصلبة» الذي أطلقه منقذ داغر على الميل الذي شرحته آنفاً، أي الاعتقاد بأن كل الإجابات مختزنة في الثقافة السائدة، وأن ما فيها يكفي لتفسير كل جديد.

حين يتأكد هذا الاعتقاد في نفسك، فلن تفكر في احتمالات أخرى ربما تختفي وراء الحدث أو الظاهرة التي شهدتها. ومن هنا فإن هذا الشيء الغريب لن يلعب دور المحفز لعقلك كي يفكر ويتأمل ما حوله. الواقع أن هذا ما حدث تكراراً في المجتمع العربي. فحين تعرفوا إلى الراديو، قرروا فوراً أنه «صندوق فيه جني». ويوم رأوا البوصلة، قرروا أنها عمل سحري.

بعبارة أخرى فإن التعجل بنسبة الحدث الجديد إلى قوى ماورائية، بل حتى نسبته إلى المؤامرة أو ما يسمى بالدولة العميقة، تلعب كلها دور الحاجب الذي يمنع عقل الإنسان من رؤية الإمكانات البحثية، التأملية أو التجريبية، التي ينطوي عليها ذلك الحدث أو السؤال.

أريد الخروج بنتيجة محددة، هي دعوة القراء الأعزاء إلى عدم التعجل بتفسير الأشياء الجديدة أو نسبتها إلى قوى بعيدة المنال. تحملوا قليلاً ودعوها سؤالاً مفتوحاً، فقد تجدون الجواب وقد لا تجدون، لكنكم بالتأكيد ستربحون ثمرة التفكير.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

(سَيَكُونُ الاُّنسانُ المنحى الظُّهْر، اَلْمُسْتَغلُ المُقاتِلُ مِنْ اَجَلِ الِاسْتِقْلالِ، هوَ اَلَّذِي سَيُقَرِّرُ مَا اَلَّذِي يَخْتَارُهُ. وَهُوَ حَتْمًا سَيَخْتَارُ الحُرّيَّةَ)... كُوَامِي نُكُروما

الاستعمار من الظواهر المؤثرة في تاريخ الشعوب، ويمكن القول ان تاريخ الاستعمار يلخص بالضرورة تاريخ الإنسانية في جانبها المأساوي المؤلم والمظلم، بداية من الكولونيالية و الإمبريالية ووصولا الى الاستعمار الجديد أو ما يسمى الاستعمار المعاصر،هذا الاخير أصبح يتميز بالتخفي و بالقدرة على اعادة انتاج نفسه والتحور تماما كالفيروسات القاتلة لكن بصورة تجعله أكثر فتكا وغير قابل للملاحظة لذلك سنحاول في مقالنا هذا النبش والحفر في ظاهرة الاستعمار الجديد و هي ظاهرة مركبة ومعقدة يتقاطع فيها ما هو تاريخي مع ما هو ثقافي واجتماعي انطلاقا من تساؤلات نراها ضرورية لممارسة فعل التفكيك

فماهي الدلالات التي يحملها مفهوم الاستعمار عبر محطاته التاريخية المختلفة؟ ما هو الثابت والمتغير في هذه الظاهرة؟ وإذا كان هناك اختلاف بين الاستعمار الحديث والمعاصر كيف نفهم هذا الاختلاف وماهي ملامح ونتائج هذا التحول؟ وهل يمكن القول اننا مازلنا اليوم نعيش تحت وضع استعماري؟ ثم ماهي ألياته وكيف السبيل الى التحرر منه؟

من التصور الكلاسيكي للاستعمار إلى المفهوم المعاصر

لاشك ان الاشتغال على المفاهيم يعد بحد ذاته مشكلة ففي كل الحالات هناك دائما عوائق وعقبات  تقف في وجه تحديد مفهوم محدد ودقيق للظواهر الانسانية ليس فقط لتشابك هذه الظواهر وانما ايضا لصعوبة تحقيق الموضوعية في الطرح لاسيما ان هناك دائما أحكام عاطفية تتأرجح بين الاستهجان والاستحسان وهذا ما ينطبق على ظاهرة الاستعمار واول هذه العقبات صعوبة التعريف والتصنيف و التفسير ومن ثمة سيكون الرهان على فهم هذه الظاهرة والتنبؤ بها صعب وسنلاحظ منذ البداية ان التحديد المعجمي لا يساعدنا على فهم حقيقة هذه الظاهرة سواء في اللغة العربية او اللغات الاجنبية لأنه يحمل تناقضا وينطوي على مغالطات ولو عدنا الى ابن فارس مثلا- في معجم مقاييس اللغة- نجد ان مفهوم الاستعمار يحمل من الدلالات التي تجعله يندرج في  دائرة الافعال المستحسنة :" ..عَمَرَ الناس الأرض عِمَارةً، وهم يعمُرونها، وهي عامِرةٌ معمُورةٌ، وقولهم عامرة محمول على عمرَت الأرض، والمعمورة من عَمرت، والاسم والمصدر: العُمران، واستعمر الله الناس في الأرض ليعمروها" هذا المفهوم في ظاهر دلالاته يحول الاستعمار الى فاعلية انسانية تروم تحقيق منافع وفق غايات اخلاقية غير ان الدلالة المعجمية تتناقض مع حقيقة الاستعمار كواقعة تاريخية فالاستعمار كان يستهدف دائما- ولايزال- إحلال الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية  وإلغاء هوية الاخر واستلابه والحجر عليه واستنزافه سواء من الناحية المادية أوالمعرفية وهذا ما اشار اليه رامون غروسفوغل في حوار له متحدثا عن الاستعمار الاوربي الحديث او ما يسمى الكولونيالية قائلا:"لقد سرقوا المعارف والعلوم من باقي الشعوب ثم أعادوا تدويرها و نسبوها لأنفسهم على أساس أن العلم كان شيئا خاصا بهم و بطبيعتهم كأوربيين، مع أن أوربا و حتى القرن الخامس عشر كانت قرية مظلمة مهمّشة من قبل باقي العالم، فعلم و تطور القارة جاء بفضل حضارات أخرى، جاء من حضارة الهنود في أمريكا و من الحضارة الصينية و الاسلامية و الهندية و الافريقية، و كل هاته المناطق كانت تعرف تطورا اقتصاديا و سياسيا و اجتماعيا و علميا ضخما، فيما كانت أوربا مهمشة و فقيرة مقارنة مع الاخر"

نفس المغالطة نلمسها في المصطلح اللاتيني colonus وهذه الكلمة تعني المزارع وهنا نقع في ما نسميه منطقيا سوء الدلالة بالألفاظ على المعاني  ذلك ان الأصل في مفهوم الكولونيالية ارتبط بفعل انتقال مواطنين من دولة الأمة المحتلة إلى الأرض الواقع عليها الاحتلال، واستعمل المصطلح غالبا لوصف أماكن مثل أمريكا الشمالية ونيوزيلندا وأستراليا والبرازيل والجزائر، حيث انتقلت أعداد كبيرة من المواطنين الأوروبيين، وأنشأوا مستعمرات منفصلة عن أماكن معيشة السكان الأصليين وممارسة الهيمنة العسكرية والثقافية-  والحقيقة انه عبر مراحل تاريخية مختلفة حافظ الاستعمار على نزعته التسلطية اتجاه الاخر وتجلى كنوع من الهيمنة سواء هيمنة افراد او جماعات على اقليم او سلوك اشخاص وجماعات اخرى. او تغيير وضع ثقافي بالإكراه في مجتمع ما .وهذا ما أشار اليه أيضا  -هورفاث جيه رونالد- في مقال له عن الاستعمار الجديد حيث اشار الى ان الهيمنة التي يمارسها المستعمر تمت بطريقتين :اولا بين الجماعات وثانيا داخل الجماعة ذاتها ففي بريطانيا سابقا والى الان نلاحظ هيمنة الانجليز على الويلزيين والإسكوتلنديين والايرلنديين وداخل المجتمع البريطاني نجد تراتبية من حيث السلطة والمال والمكانة وفي نظره ان العلاقة بين الْمُسْتَعْمِرُ وَالْمُسْتَعْمَرِ تأخذ ثلاثة اشكال فهي إما عــلاقة ابادة ومثال ذلك  الاحتلال الاوربي لجزر الكاريبي او ما حدث في امريكا وأستراليا او ما يحدث اليوم في غزة  وإما تداخل اجتماعي كما وقع في امريكا اللاتينية او التوازن النسبي كما حصل في مصر مثلا.

وفي كل شكل من الاشكال الثلاثة عمل الاستعمار على تغيير فلسفته ومن ثمة ادواته مرتكزا على تفوقه العسكري وقدرته على القمع وعلى تفوقه المعرفي مستفيدا من بحوث فلسفة التنوير والاستشراق من هنا اشار إدوارد سعيد الى أن الخطاب الاستشرافي ليس خطابًا علميًّا بل نتاج للقوى الإمبريالية الغربية فالاستعمار بحسب ادوارد سعيد كان بحاجة الى اقامة حاجز كبير بين الشرق الذي وصف بالتقليدي والرجعي البدائي الخال من العقل والغرب الحداثي العقلاني التنويري كي يتمكن من الهيمنة والنفوذ على البلدان التي يستعمرها.

وفي نفس السياق تحدث احمد رهدار عن الاستعمار الجديد من حيث انه نوع يكون فيه القادة من نفس البلد المستعمر حيث يلاحظ ان القادة المحليين يتمتعون بحماية خاصة واضحة ومباشرة هذه الحماية يتمتع به ايضا بعض من النخبة المثقفة حيث يعمل المستعمر على تحقيق اهدافهم في الحصول على مناصب سياسية وعزل منافسيهم مقابل الدفاع عن مصلحة المستعمر وفي مرحلة لاحقة يكون المستعمرون واتباعهم المحليين متخفيين وغير ظاهرين للعيان.

آليات الاستعمار المعاصر

قوة الاستعمار المعاصر تتجلي في تحكمه في الحقول البرمجية من خلال سلطة العلم او ما يسمى التحكم في الثقافة ومثال ذلك ISI وهو مُصطلح مُختصر لجملة ISTITUTE FOR SCIENTIFIC INFO، بمعنى (معهد المعلومات العلمية) والذي يقع مقره بولاية بنسلفانيا الأمريكية، ويُعَدُّ تصنيف ISI أشهر التصنيفات للمجلات الدولية المحكمة، ووضع إطار ذلك التصنيف العالم "يوجين جارفيلد"، أحد مؤسسي المعهد في بداية ستينيات القرن الماضي. وفي فترة التسعينيات قامت مؤسسة "ثومسون رويترز" بالاستحواذ على المعهد، وأصبحت هي المتعهدة بذلك التصنيف، وفي ظل ظهور شبكة الإنترنت ظهرت مواقع متنوعة خاصة بتصنيف ISI، وتُعرف باسم INERNATIONAL SCIENTIFIC INDEXING"، وتتضمَّن قواعد بيانات ISI عددًا كبيرًا من المجلات التي تتضمَّن مادتها ملخصات بحوث وتقارير وأوراق علمية، وتُقاس قيمة هذه المجلات وفقًا لمعامل التأثير IMPPACT FACTOR.مما ادى الى ما يسمى وهم الانتشار العلمي عن طريق زيادة المقالات في فهرسة ISI وبالتالي تحولت الجامعات -وهذا ما نلاحظه في الجزائر مثلا- الى مراكز للفهرسة ونشر المعلومات وبدل الاهتمام بالمضمون اصبح الاهتمام بالشكل حيث افرغ البحث العلمي من محتواه القيمي وقدرته على التأثير في الواقع وقد سجل احد الباحثين ان ربط مسالة الارتقاء في المراتب الجامعية بامتلاك مقالة في ISIليس بالأمر الجيد وربما يتعارض والروح العلمية هذه الالزمات عادة ما تتخذ بناء على خلفيات سياسية حيث ان اجبار الجامعي على كتابة مقالة في المجلة الفلانية لتأكيد مصداقية صلاحيته العلمية هو امر بالغ في عدم الاحترام لكلا العلم والعلماء فالعلم حيثما كان فهو علم والعلم هو الذي يعطي الصلاحية للمجلات وليس العكس.

وهكذا الاستعمار المعاصر أصبح يمارس سلطته عبر التحكم الثقافي وهذه مسألة يجب الانتباه الى خطورتها فلا يمكن ان نتصور تاريخا حقيقيا للتحرر بلا ثقافة والشعب الذي فقد ثقافته فقد ولا شك تاريخه كما كان يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي لاسيما إذا فقدت الثقافة المبادئ التي يجب ات تقوم عليها كالمبدأ الاخلاقي الذي يحدد الدوافع والغايات والبعد الجمالي الذي يشكل الصياغة والمنطق العملي الذي يحول الفكرة الى انتاج يستفاد منه اجتماعيا والعلم الذي يزودنا بالوسائل لتحقيق هذه الغايات.

والواقع ان محاولة فرض نمط ثقافي واحد ممثلا في الثقافة الغربية قوبل بالرفض حتى داخل الجامعات الاوربية فقد عبرت منظمات طلابية في بريطانيا عن نبذها لتاريخ البلاد الاستعماري لكن الغريب في الامر ان جامعة مثل جامعة "أوكسفورد" رفضت دعوات اتحاد طلبتها بإزالة تمثال سيسيل رودس (1853-1902) من كلية أوريل، أحد أبرز الشخصيات الاستعمارية البريطانية في جنوب أفريقيا، مؤسس De Beers الشركة التي تملك أكبر مناجم الألماس، والتي كانت حتى وقت قريب مسيطرة على 90% من سوق الألماس في العالم. وبدلاً من أن يرتبط اسمه بالضحايا الذين قضوا في مناجمه أو جرائم الاستعمار، يرتبط اسمه بمنحة دراسية رفيعة تقدّمها أكسفورد التي درس فيها. وذات ملاحظة نسوقها ونحن نرى اعتصامات الطلبة في الجامعات الامريكية وبدل من معاقبة الجاني يتم توجيه اللوم الى الضحية في مفارقة حزينة.

ويمكن القول أيضا ان الاستعمار المعاصر هو بالأساس استعمار لغوي واللغة ليست مجرد رموز للاتصال والتواصل او اداة للتخاطب والتعبير عن المشاعر والافكار اللغة في جوهرها أكثر من ذلك انها تشكل روح الامة والإطار الذي تشكلت فيه ثقافتها ولذلك قيل انت تتكلم لغتي انت تنتمي الى مجموعتي واهمية اللغة تتجلى في كونها تشكل جهاز الادراك عند الفرد فهي تحدد له  زاوية النظر الى العالم الداخلي والخارجي وحياة او موت الامة متوقف على حياة او موت لغتها الام  من هنا اشتغل الاستعمار الكلاسيكي و المعاصر على هذه المسالة ووظفها لصالحه من خلال فرض لغته يقول فيليبسون صاحب كتاب الهيمنة اللغوية : “هناك نظام لاختيار اللغات في كل دولة، وليس بالضرورة أن تشمل الخيارات الإنجليزية أو أن تكون الإنجليزية الخيار الأول في كل مكان! في تنزانيا مثلا تتصدر الإنجليزية المشهد ويتلوها السواحيلية ثم عدد من اللغات المحلية، وانطلاقاً من هذا الوضع فإن عددا ًمن اللغات في نيجيريا وتنزانيا ستنقرض مع مرور الوقت، وتلك مأساة، لأن معرفة أن الثقافات مندمجة في اللغات سيعني أن عددا ًمن الثقافات ستخرج وتنتهي من التعدد الثقافي في ذلك البلد، وربما من العالم… والسبب الرئيس في هذا هو الفشل في التخطيط اللغوي خاصة على مستوى التعليم”.حيث خلص البروفيسور البريطاني روبرت فيليبسون في كتابه “الإمبريالية اللغوية” إلى أن تعليم الإنجليزية هو في الحقيقة فعل استعماري بأدوات لغوية. ويضيف البروفيسور البريطاني: أن الرئيس السنغافوري لي كوان يو قد ندم كثيراً على اهتمامه المبالغ بفرض الإنجليزية مقابل التقليل من شأن المحليات وأهمها اللغة الصينية ذات الثقل الكبير اقتصادياً.

وتذكر احصاءات انه بإنجلترا وبسبب السياسات الاستعمارية اللغوية ذهبت لغة الأيرلنديين والأسكتلنديين أدراج الرياح ولم يبقى منها إلا النزر اليسير (أقل من 2%) يتحدثها وأقل من ذلك من يكتب أو يقرأ بها. لقد استعادت إيرلندا استقلالها، لكنها لم تستطع استعادة لغتها!

ومن المفارقات ان الدول التي لها تاريخ استعماري تدرك خطورة الهيمنة الثقافية كفرنسا مثلا التي تعمل على فرض لغتها في العديد من المستعمرات السابقة لكن في نفس الوقت تضع القوانين التي تحمي لغتها مثل قانون رقم 94-665 في 4 أغسطس 1994 المتعلق باستخدام اللغة الفرنسية ويعرف باسم (قانون توبون (‏، نسبة إلى وزير الثقافة جاك توبون، يرتكز على ثلاثة أهداف رئيسية هي: إثراء اللغة؛ والالتزام باستخدام اللغة الفرنسية ؛ والدفاع عن الفرنسية كاللغة الرسمية للجمهورية كما تهدف لضمان أسبقية استعمال المصطلحات الفرنسية التقليدية، لضمان السيادة الفرنسية في فرنسا. واستجابة لتزايد استخدام اللغة الإنجليزية في فرنسا، ولا سيما في الإعلانات التجارية، حيث يلزم قانون توبون جميع الإعلانات والملصقات الترويجية أن تكون مكتوبة باللغة الفرنسية. والمجالات التي يسرى عليها الحظر هي:

- كافة الوثائق والمستندات والإعلانات المسموعة والمرئية.

- كافة مكاتبات الشركات العاملة على الأرض الفرنسية، وبوجه خاص المحلات التجارية، والأفلام الدعائية التي تبث عبر الإذاعة والتلفزيون. وعقوبة المخالفة تتضمن السجن أو غرامة مالية. وقد اثار مقطع فيديو لحفيدة الرئيس الأميركي السابق  دونالد ترمب وهي تغني وتنشد باللغة الصينية ضجة كبيرة كما تداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي الصينية مقطعاً آخر لابنة الملياردير الأميركي جيم روجرز وهي تردد بطلاقة أغنية صينية. وكان المستثمر الأميركي قد أشار في تصريحات صحفية إلى أنه عادة ما يشدد في محاضراته على ضرورة تعليم الأطفال الصينية باعتبارها لغة القرن الجديد. وقال إن القرن التاسع عشر كان قرن بريطانيا، والقرن العشرين قرن أميركا، وتوقع أن يكون القرن الواحد والعشرين قرن الصين.

من اليات عمل الاستعمار الجديد التحكم في الخارطة السياسية لدول العالم الثالث

عموما والدول العربية على وجه الخصوص والعمل على لجم الثورات العربية التي عجزت عن تحقيق اهدافها وقد استنتج حكيم بن حمودة في مقالٍ له نُشر في شباط/فيفري 2011:" انّ اليقظة العربيّة الثانية- وكان يقصد الربيع العربي - لن تُترجم بعمليّة دمقرطة، بل بتغيير في قمم (رؤوس) الطبقة الحاكمة، وفي بعض الحالات، بتغيير الأنظمة. عمومًا، مع ذلك، هم لن يتغيّروا. المصالح الداخليّة والخارجيّة التي تحميهم قويّة جدًّا. وفق هذا التفسير، فإنّه من المرجّح أنّ قدر «الربيع العربيّ» هو أن يصبح، بسرعة، خريفً قاسيًا، دون المرور بصيف أو خريف. الإصلاحات التي ستجرى لن تكون إلّا شكليّة، سيتمّ إرساء ديموقراطيّات معادية لليبراليّة شبيهة بسابقاتها. ويرى بعض المعلّقين الأكثر تشاؤمًا، أنّها يمكن أن تكون الجديدة أسوأ ".

وجدير بالملاحظة ان الاستعمار الجديد يتغذى على  نشر نظام التفاهة وتغليب الكم على الكيف وتغييب النظرة النقدية وقد اشرنا الى ذلك في مقال سابق عن اغتيال الفلسفة والتأسيس لنظام التفاهة نضيف هنا فقط قول مالك بن نبي وهو يتحدث عن القابلية للاستعمار :" هذا الوجه المتخلف الكئيب مازال حيا ...نصادفه في المظهر الكاذب الذي يتخذه ابن صاحب المليارات نصف المتعلم الذي انطبع في الظاهر بجميع اشكال الحياة الحديثة فاكسبه مليار ابيه وشهادة البكالوريا مظهر الانسان العصري بينما تحمل اخلاقه وميوله وافكاره صورة انسان ما بعد الموحدين" كما يمكن العودة الى احدى نصوص ابن خلدون وهو يحلل ظاهرة تقليد المغلوب للغالب في كتابه المقدمة يقول :" والسبب في ذلك ان النفس ابدا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت اليه،اما لنظرة بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه،أو لما تغالط به من انقيادها ليس لغلب طبيعي،انما هو لكمال الغالب،فاذا غالطت واتصل لها حصل اعتقادا،فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به،وذلك هو الاقتداء.....ولذلك ترى المغلوب يتشبه ابدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه ..بل وفي سائر احواله،وانظر ذلك في الابناء مع ابائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائما وما ذلك الا لاعتقادهم ان الكمال فيهم .وانظر الى كل قطر من الاقطار كيف يغلب عليه زي الحامية وجند السلطان في الاكثر،لانهم هم الغالبون لهم،حتى اذا كانت امة تجاور اخرى ولها الغلب عليها فيسري اليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير،كما هو في الاندلس لهذا العهد من امم السلاجقة،فانك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم واحوالهم،حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت،حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة انه من علامات الاستيلاء .والامر لله.

وكتخريج عام نقول إنه في كل المحطات التاريخية اقترن مفهوم الاستعمار بالهيمنة والتعالي والسيطرة على الاخر والتعامل معه وفق ثنائية السيد والعبد وثنائية الشرق المستبد والغرب الحداثي الديمقراطي او ثنائية الجنوب المتخلف والشمال المتقدم بل ان الاستعمار الغربي لايزال يواصل حربه القذرة بأسلحة اخرى ولكنها أكثر فتكا. ويمكن القول اننا لا زلنا نعيش حالة من الاستعمار والإستدمار وانه لا سبيل للتحرر الا من خلال تحرير الانسان المستعبد ونشر قيم التسامح اتجاه الاخر والتواصل معه والاعلاء من شان التفكير النقدي والاحتكام الى منطق العقل لا العاطفة وهذه مهمة المثقف الثوري فإما فلسفة جديدة للحياة او الكارثة والاُّنسانُ المنحى الظُّهْر، اَلْمُسْتَغلُ، اَلَّذِي يُعَانِي مِنْ سُوءِ التَّغْذِيَةِ، المُقاتِلُ مِنْ اَجَلِ الِاسْتِقْلالِ، المُغَطَّى بِالدَّمِ، اذا ما احسن اختيار الطريق الذي يسلكه هوَ اَلَّذِي سَيُقَرِّرُ مَا اَلَّذِي يَخْتَارُهُ. وَهُوَ حَتْمًا سَيَخْتَارُ الحُرّيَّةَ"

***

علي عمرون – أستاذ فلسفة - الجزائر

................

هوامش

01-   كُوَامِي نُكُروما: فَيْلَسوفٌ وَرَجُلٌ سياسيٌّ وَقائِدٌ وَطَنيٌّ ثَوْريٌّ غاني 1909 – 1972

02-   رامون غروسفوغل باحث بورتوريكي متخصص في السوسيولوجيا. يشغل منصب أستاذ بجامعة بركلي بالولايات المتحدة الأمريكية، مهتم بسؤال الكلونيالية والسلطة.

يعد التعليم العالي حجر الزاوية في اي مجتمع متقدم، وقياس نجاحه يشير إلى مدى تقدم هذا المجتمع وازدهاره. لكن، ما هي حقيقة التعليم العالي في جامعاتنا اليوم؟ هل هي فعلاً ورش عمل لبناء جيل المستقبل، ام انها ساحات تعج بالمشكلات والتحديات؟ هذه بعض الاراء ابداها لي شخصيا عدد من القيادات الاكاديمية والتربوية العراقية عن المشاكل والتحديات التي تواجه التعليم العالي حاليا، قمت باختصارها واعادة صياغتها، وعرضها حسب تواترها. واعتذر لوجود تكرار او تشابه بين بعض الاراء.

استهلال

أحد الأساتذة الموقّرين أجابني في بداية حديثه عن جوانب الضعف في التعليم العالي ومشاكله بقصة شبّه فيها تلك المشاكل بحكاية ذلك العراقي الذي شرب الخمر حتى الثمالة، فقرر في تلك اللحظة كتابة رسالة للرئيس يشرح فيها حالته. وعندما جلس صباحاً واستيقظ من سكره، قرأ الرسالة وانهار بالبكاء. سألوه: لماذا تبكي؟ فقال: كل هذه المشاكل عندي ولم أكن أعلم بها؟

عرض المشاكل:

1. التضخم في أعداد الطلاب:

ازدحام هائل في الجامعات، يفوق قدرتها الاستيعابية.

توسع غير مبرر في القبول بالدراسات العليا.

2. ضعف التوجه للتعليم المهني والتقني:

عزوف عن الدراسة في المعاهد التكنولوجية والتطبيقية.

تهافت على الكليات النظرية، خاصة الأهلية.

3. أوجه قصور في بحوث الدراسات العليا:

ضعف جودة البحوث، خاصة في التخصصات التطبيقية.

قلة فرص التمويل.

شبهات حول نزاهة بعض البحوث.

4. غياب التنسيق بين الجامعات واحتياجات السوق:

عدم وجود خطط لربط مخرجات التعليم العالي باحتياجات سوق العمل.

ضعف التواصل بين الجامعات والمؤسسات والشركات.

5. منح درجات الامتياز دون استحقاق:

منح درجات علمية عليا دون تقييم موضوعي.

ضغوطات على لجان المناقشة.

6. تراجع الموضوعية العلمية في المناقشات الأكاديمية:

حضور غير أكاديمي في مناقشات رسائل الدراسات العليا.

ضغوطات سياسية أو اجتماعية على لجان المناقشة.

7. ضعف انضباط أعضاء هيئة التدريس:

تأخر عن الدوام.

قلة التواصل بين أعضاء هيئة التدريس.

ضعف التزامهم بالتطوير المهني.

8. نقص التطوير المهني لأعضاء هيئة التدريس:

عزوف عن تطوير المهارات العلمية والتربوية.

قلة فرص التدريب والتطوير.

9. مناهج دراسية قديمة وتركيز على التلقين:

مناهج دراسية غير محدثة.

تركيز على التلقين وحفظ المعلومات.

قلة فرص التقييم المستمر.

10. صراعات بين أعضاء هيئة التدريس:

تنافسية غير صحية بين اعضاء هيئة التدريس.

محاربة المتميزين.

11. غض الطرف عن سلبيات بعض أعضاء هيئة التدريس:

عدم محاسبة أعضاء هيئة التدريس على تقصيرهم.

غض الطرف عن سلوكياتهم السلبية.

12. المحسوبية في التقييمات:

عدم تقييم أعضاء هيئة التدريس ورؤساء الأقسام والعمداء بشكل موضوعي.

المحسوبية والمنسوبية في التقييمات.

13. غياب التخطيط الاستراتيجي:

عدم وجود خطط واضحة لتطوير التعليم العالي.

ضعف التنسيق بين مختلف أطراف العملية التعليمية.

14. سوء إدارة الموارد المالية:

عدم وجود خطة لتوظيف الموارد المالية بشكل فعال.

هدر للموارد في بنود غير ضرورية.

15. ضعف الولاء والانتماء للمؤسسة:

شعور أعضاء هيئة التدريس بالإحباط وعدم الانتماء للجامعة.

غياب الرؤية المشتركة للمستقبل.

16. غياب التنسيق بين وزارتي التعليم العالي والتربية:

عدم وجود خطة تعليمية تكاملية بين الوزارتين.

فجوة بين المناهج الدراسية في المراحل المختلفة.

17. سوء اختيار القيادات الأكاديمية:

الاعتماد على المحاصصة الحزبية أو الطائفية في اختيار القيادات.

غياب معايير الكفاءة في التعيينات.

18. انتشار التملق والمداهنة:

غياب الشفافية والنزاهة في العمل.

سيطرة بعض الشخصيات المتنفذة على القرارات.

19. ضعف الإدارة الأكاديمية:

قلة الخبرة والكفاءة لدى بعض القيادات الإدارية.

انتشار البيروقراطية.

20. هوس التصنيفات العالمية:

تركيز مبالغ فيه على تحسين ترتيب الجامعات العراقية في التصنيفات العالمية دون التركيز على الجودة الحقيقية للتعليم.

اتباع ممارسات غير أخلاقية لتحسين التصنيفات.

21. كثرة الشهادات الممنوحة من جامعات ضعيفة او غير معترف بها:

سهولة الحصول على شهادات عليا من جامعات غير رصينة خارج العراق.

معادلة هذه الشهادات مع الشهادات الصادرة من الجامعات العراقية.

22. تولي الخريجين الجدد لمناصب إدارية دون خبرة:

تعيين خريجين جدد في مناصب إدارية دون خبرة أو كفاءة.

إهمال الكفاءات العلمية المتمرسة.

23. التركيز على الجوانب النظرية وإهمال التطبيق:

تركيز المناهج الدراسية على الجوانب النظرية دون التركيز على التطبيق العملي.

نقص في الوسائل التعليمية الحديثة.

24. ضعف البنية التحتية للجامعات:

نقص في المباني والمرافق الجامعية.

قلة فرص حصول الطلاب على خدمات تعليمية مناسبة.

ضعف التمويل لصيانة البنية التحتية.

25. محدودية الموارد المالية:

قلة الموارد المالية المخصصة للتعليم العالي.

عدم كفاية التمويل للبحث العلمي.

26. نقص الاستقلالية للجامعات:

تدخلات حكومية في شؤون الجامعات.

قلة حرية الجامعات في اتخاذ القرارات.

27. تقادم النظام التعليمي:

عدم تحديث المناهج الدراسية والبرامج التعليمية.

غياب التطوير المهني لأعضاء هيئة التدريس.

28. الفساد والتدخلات السياسية:

انتشار الفساد في الجامعات.

استخدام المناصب الأكاديمية لتحقيق مكاسب شخصية.

تدخلات سياسية في شؤون التعيينات والترقيات.

29. انعدام الاستقرار الأمني:

الأوضاع الأمنية غير المستقرة في العراق.

تكليف التدريسيين بمهام امنية.

30. محدودية التعاون الدولي:

ضعف التواصل بين الجامعات العراقية والجامعات العالمية.

قلة فرص تبادل الخبرات والبحوث.

31. نقص النزاهة في بعض جوانب التعاون الدولي:

انتشار ظاهرة شراء الشهادات والاستشهادات العلمية من مؤسسات أجنبية مشبوهة.

التعاون العلمي المزيف المبني على شراء البحوث المشتركة.

32. تقادم التشريعات والقوانين:

عدم تحديث القوانين والتشريعات المنظمة للتعليم العالي.

قلة المرونة في التعامل مع التطورات المتسارعة.

33. فقدان الثقة في الجامعات:

شعور الطلاب والمجتمع بفقدان الثقة بالجامعات كمؤسسات أكاديمية نزيهة.

34. تزييف البحث العلمي:

انتشار ظاهرة سرقة البحوث العلمية.

تزوير البيانات والنتائج.

35. ضياع التقاليد والأعراف الجامعية:

تراجع احترام المعلم والأستاذ الجامعي.

انتشار ظاهرة الغش والتزوير.

ضعف الوعي بأخلاقيات البحث العلمي.

36. هيمنة أصحاب الجامعات الأهلية:

تزايد نفوذ أصحاب الجامعات الأهلية على القرارات الإدارية في الجامعات والكليات.

تهميش دور أعضاء هيئة التدريس.

37. منح النجاح دون استحقاق:

منح درجات النجاح للطلاب دون تقييم موضوعي.

انتشار ظاهرة الغش والتزوير والمحسوبية.

38. إهدار ثروة الكفاءات العلمية المتقاعدة:

عدم الاستفادة من خبرات الكفاءات العلمية المتقاعدة.

إقصاءهم عن المشاركة في العملية التعليمية.

39. تخبط القرارات الوزارية:

عدم وضوح الرؤية في القرارات الوزارية المتعلقة بالتعليم العالي.

تردد الجامعات في اتخاذ القرارات.

40. هوس النشر العلمي وعرض الإنجازات الوهمية:

تركيز بعض أعضاء هيئة التدريس على نشر أوراق علمية في مجلات غير رصينة.

عرض إنجازات وهمية لتحسين الصورة الشخصية.

41. نقص الدعم المالي لبحوث الدراسات العليا:

عدم حصول الباحثين على تمويل لبحوثهم.

ضعف البنية التحتية للبحث العلمي.

42. عيوب قانون الترقيات العلمية:

وجود ثغرات في قانون الترقيات العلمية تفتح المجال للظلم والمحسوبية.

تركيز معايير الترقية على النشر يهمش جوانب أخرى مهمة من العمل الأكاديمي.

43. إشغال أعضاء هيئة التدريس بأمور غير أكاديمية:

تكليف أعضاء هيئة التدريس بمهام إدارية غير مرتبطة باختصاصاتهم.

عدم توفير الوقت الكافي للبحث العلمي والتدريس.

44. افتقاد فلسفة تعليمية تربوية:

غياب الرؤية الواضحة للتعليم العالي في العراق.

عدم وجود خطة استراتيجية لتطوير التعليم.

45. تراجع مكانة الأستاذ الجامعي:

فقدان احترام الأستاذ الجامعي.

ضعف المشاركة الاجتماعية.

46. القبول الواسع غير المدروس في الجامعات:

قبول أعداد كبيرة من الطلاب في الجامعات دون تقييم قدراتهم وإمكانياتهم.

عدم وجود خطط لتنظيم عملية القبول.

47. تحول الجامعات إلى مدارس ثانوية:

ضعف الأنشطة الطلابية والرياضية والثقافية في الجامعات.

غياب دور الجامعات في تنمية مهارات الطلاب الشخصية.

48. ضعف الإبداع والابتكار:

تركيز المناهج الدراسية على التلقين وحفظ المعلومات دون التركيز على تنمية مهارات التفكير النقدي والإبداع.

ضعف بيئة البحث العلمي في الجامعات.

49. هجرة الكفاءات العلمية:

شعور الكفاءات العلمية بالإحباط وعدم وجود فرص مناسبة في العراق.

ضعف مكانتهم الاجتماعية.

50. ضعف استخدام التكنولوجيا في التعليم:

نقص في استخدام التكنولوجيا الحديثة في العملية التعليمية.

عدم توفير البنية التحتية اللازمة لاستخدام التكنولوجيا.

51. ضعف التعاون بين الجامعات والمجتمع:

قلة التعاون بين الجامعات والمجتمع المحلي.

عدم وجود خطة للتواصل بين الجامعات والمؤسسات المختلفة.

52. غياب الرؤية المستقبلية للتعليم العالي:

عدم وجود خطة استراتيجية واضحة لتطوير التعليم العالي في العراق.

عدم وجود رؤية واضحة لمستقبل التعليم العالي في العراق.

خاتمة:

يواجه التعليم العالي في العراق العديد من المشكلات والتحديات التي تتطلب حلولاً جادة وفعالة. ويعتبر معالجة هذه المشكلات مسؤولية وطنية تقع على عاتق الجميع. فمن خلال العمل معا، يمكننا ضمان حصول الأجيال القادمة على تعليم جامعي عالي الجودة يساهم في بناء مستقبل أفضل للبلاد.

***

ا. د. محمد الربيعي

 

كان لودفيج فان بيتهوفن ونابليون بونابرت من الشخصيات المؤثرة التي شكلت مسار التاريخ في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. على الرغم من أن حياتهما لم تتقاطع بشكل مباشر، إلا أن بيتهوفن ونابليون كانا معاصرين تربطهما علاقة معقدة اتسمت بالإعجاب وخيبة الأمل وفي النهاية الخيانة.

ولد بيتهوفن في بون بألمانيا عام 1770، قبل سنوات قليلة من ميلاد نابليون الذي ولد في جزيرة كورسيكا عام 1769. جاء كلا الرجلين من بدايات متواضعة وأظهرا علامات مبكرة على الموهبة في مجال تخصصهما. كان بيتهوفن معجزة موسيقية وسرعان ما صعد إلى الشهرة كملحن وعازف بيانو، بينما أظهر نابليون براعة عسكرية استثنائية ومهارات قيادية قادته في النهاية إلى أن يصبح إمبراطور فرنسا.

في السنوات الأولى من حياته المهنية، كان بيتهوفن من أشد المعجبين بنابليون واعتبره بطلا للحرية والمساواة. حتى أن بيتهوفن أهدى سيمفونيته الثالثة، المعروفة أيضا باسم "إيرويكا"، لنابليون، الذي كان يعتقد أنه يجسد مُثُل الثورة الفرنسية. كان اسم السيمفونية في البداية "بونابرت"، لكن بيتهوفن غيرها لاحقا إلى "إيرويكا" بعد أن أعلن نابليون نفسه إمبراطورا، الأمر الذي خيب أمل بيتهوفن بشدة وأثار غضبه.

من ناحية أخرى، كان نابليون يدرك جيدا إعجاب بيتهوفن به وقدّر التكريم الذي حظي به في موسيقى الملحن. اعترف نابليون بموهبة بيتهوفن ودعاه إلى الأداء في بلاطه، وهو ما رفضه بيتهوفن من حيث المبدأ. وعلى الرغم من ذلك، استمر نابليون في دعم موسيقى بيتهوفن، بل ومنحه معاشا تقاعديا لضمان استقراره المالي.

ومع ذلك، فإن سياسات نابليون القمعية والفتوحات العسكرية أفسدت في النهاية رأي بيتهوفن فيه. أصيب بيتهوفن بخيبة أمل بسبب طموحات نابليون المتعطشة للسلطة وتجاهله للمثل الديمقراطية التي دافع عنها ذات يوم. ردا على ذلك، قام بيتهوفن بتأليف أوبراه الوحيدة "فيديليو"، والتي عكست إيمانه بانتصار الحب والعدالة والحرية على الاستبداد والقمع.

ومع انتهاء عهد نابليون بهزيمته في معركة واترلو عام 1815، أصبحت مشاعر بيتهوفن تجاهه واضحة. في سيمفونيته التاسعة، أدرج بيتهوفن "نشيد الفرح" لفريدريك شيلر كخاتمة، والتي احتفلت بالأخوة العالمية للإنسانية وانتصار الروح الإنسانية. كانت هذه السيمفونية بمثابة شهادة على إيمان بيتهوفن الدائم بقدرة الموسيقى على نقل المشاعر العميقة وإلهام التغيير الإيجابي في المجتمع.

وفي الختام، كان بيتهوفن ونابليون يمثلان قوتين متناقضتين في أوائل القرن التاسع عشر ــ قوة الموسيقى في الارتقاء والإلهام، وقوة القوة العسكرية في الهيمنة والسيطرة. وبينما اتسمت علاقتهما بلحظات من الإعجاب وخيبة الأمل، إلا أن إرثهما لا يزال يتردد صداه حتى اليوم. لقد صمدت موسيقى بيتهوفن أمام اختبار الزمن وتبقى مصدر إلهام للأجيال القادمة، في حين أن تراث نابليون هو إرث الغزو والقوة، مشوب بطعم الخيانة المرير. في نهاية المطاف، يعمل بيتهوفن ونابليون بمثابة تذكير لتعقيد الطبيعة البشرية والصراع الدائم بين المُثُل والواقع.

فهل نعي دروس الحياة؟

***

محمد عبد الكريم يوسف

المملكة المغربية، الأرض الضاربة في عمق التاريخ الغني والفسيفساء الثقافي النابض بالحياة، تتنقل بدورها كباقي دول المعمور العريقة في هذا المشهد الرقمي الراهن والمتشابك حيث تلوح الإنترنت والذكاء الاصطناعي بعصر مزدهر من التواصل الفائق وتدفق هائل لأنهار من المعلومات والبيانات الضخمة.

وبينما توفر هذه التطورات التكنولوجية إمكانيات مثيرة للغاية ، فإنها تمثل أيضًا تحديات لخصوصية الهوية الثقافية المتفردة للمغرب.

إن التراث الثقافي المغربي هو مدارة التقاء الروافد الأمازيغية والعربية والإفريقية والأندلسية. والدين الإسلامي الحنيف يعتبر بمثابة العماد العقائدي الذي تقوم عليه الدولة منذ إثنا عشر قرنا، وكياننا الرصين متشابك مع تقاليدنا الأمازيغية العريقة وغني بالمرجعيات الدينية وخصوصا الإسلامية واليهودية.

إن هذه الفسيفساء الرائعة والملهمة تتألق بتنوعها المتأصل، والذي يتم التعبير عنه من خلال الموسيقى العريقة النابضة بالحياة وسرود الحكايات الشعبية وآلاف القصائد الملحونية الحكيمة وأطباق الأطعمة والتصاميم المعمارية القديمة والعصرية..إلخ

ومع ذلك، فإن هذا التنوع الغني والمتفرد في المنطقة العربية يصطدم بتحديًات العصر الرقمي إذ يمكن لشبكة الإنترنت، بميولاتها المتشابكة وإمكاناتها كفضاءات لترديد الصدى، أن تؤدي عن غير قصد إلى التآكل المبطن لهذا النسيج الفسيفسائي حيث التدفق لهذا المحتوى الأجنبي، الذي غالبا ما يفتقر إلى التنخيل وإلى السياق المرغوب فيه أو لا يراعي القيم المغربية قبل كل شيء، يمكن أن يخلق فينا شعورا بالاغتراب الداخلي ويقوض تماسكنا الثقافي الجماعي.

فعلى مستوى التجانس الثقافي يمكن للسرديات الأدبية والترفيهية الغربية المسيطرة على العالم في الوقت الراهن أن تطفو على المحتوى المغربي المحلي. وهذا يمكن أن يؤدي إلى الشعور بمركب النقص الثقافي وإذكاء الرغبة في محاكاة الآخر وتقليد التيارات الأجنبية الوافدة عبر الطرق السيارة الرقمية ، مما قد يؤدي أخيرا إلى اضمحلال تقاليدنا المغربية.

إنه لم يعد خاف على أحد أن شبكة الإنترنت تزدحم بالمعلومات المضللة والملغومة. وهذا يمكن أن يؤدي إلى إذكاء لمختلف التوترات والنعرات الإثنوغرافية والسياسية ، مما سيشكل عائقا لترسيخ الوحدة الوطنية من الشمال إلى الجنوب أي من مدينة طنجة بوابة المغرب نحو أوروبا إلى مدينة الداخلة جنوب الصحراء المغربية بوابتنا نحو القارة الإفريقية .

يمكن لطبيعة شبكة الإنترنت غير المفلترة أن تعرض المواطنين، وخاصة الشباب منهم، لمحتوى يتناقض مع القيم والأعراف الاجتماعية. وهذا يمكن أن يؤدي إلى اختلالات أخلاقية وتراجع في التماسك الاجتماعي.

يمكن لخريطة الطريق الهندسة الثقافية ، عندما يتم توظيفها بشكل رصين ومدروس، أن تكون بمثابة درعا قويا لمواجهة هذه الاتجاهات السلبية والهدامة لشبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي من خلال دعم إنشاء المحتوى المحلي حيث يعد تشجيع ودعم إنشاء محتوى مغربي أصيل وعالي الجودة عبر مختلف المنصات الإعلامية الورقية منها والرقمية أمرًا بالغ الأهمية. يمكن أن يشمل ذلك مختلف فنون التعبير مثل الموسيقى والأفلام الروائية والوثائقية والمواد التعليمية التي تحتفي بالثقافة والتراث المغربي.

كذلك من خلال المعرفة الرقمية ومهارات التفكير النقدي حيث إن تزويد المواطنين بمهارات القراءة والكتابة الرقمية يمكّنهم من تمييز المعلومات الموثوقة من المغلوطة. إن مهارات التفكير النقدي ستسمح لهم بتقييم المحتوى عبر شبكة الإنترنت من خلال مجهر ثقافي مغربي أصيل.

وتطوير التواجد القوي على شبكة الإنترنت باللغتين العربية والأمازيغية يمكن أن يؤمن وصولاً أوسع للمحتوى المغربي ومواجهة هيمنة اللغات الأجنبية على الإنترنت.

كما إن رقمنة وأرشفة التراث الثقافي المغربي، من الموسيقى التقليدية إلى المواقع التاريخية والمخطوطات القديمة ، سيضمن إمكانية الولوج إليها والحفاظ عليها للأجيال القادمة.

ومما لاشك فيه أن الذكاء الاصطناعي من جانبه يمكن أن يكون وسيلة قيمة في جهود إرساء هندسة ثقافية ناجعة. هناك بعض التطبيقات المحتملة التي تشمل إنشاء المحتوى حيث يمكن للأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن تساعد في إنشاء محتوى جذاب وذي صلة ثقافيا بالهوية المغربية ، مثل الألعاب التعليمية أو تجارب سرد الحكايات التفاعلية التي تحتفي بالتقاليد المغربية.

ومن جانب آخر يمكن لأدوات وكفايات تعلم اللغة المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن تساعد المغاربة في الوصول إلى المحتوى عبر الإنترنت بلغات أخرى مع الحفاظ على المحتوى الخاص بهم. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لأدوات الترجمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي ضمان وصول أوسع للمحتوى المغربي المترجم إلى لغات كونية أخرى.

وعلى مستوى الإشراف على مكونات المحتوى يمكن تدريب خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحديد المحتوى المسيء أو الذي لا يحترم القيم المغربية والمؤسسات السياسية والإبلاغ عنه. ومع ذلك، يجب النظر بعناية لتجنب الرقابة أو التضييق على المعارضة الفكرية المشروعة.

ويجب أن تحقق جهود الهندسة الثقافية كذلك توازناً دقيقاً بين الحفاظ على التراث الثقافي وتكريس الانفتاح على العالم الخارجي حيث سيستفيد المكون الثقافي المغربي الغني من التبادل الثقافي السليم. والهدف هو ضمان دمج التأثيرات الأجنبية بشكل مدروس وعقلاني ورصين، وإثراء الثقافة المغربية من خلال المثاقفة دون المساس بقيمها الأساسية.

إن حماية الهوية الثقافية المغربية في العصر الرقمي تتطلب مجهودات تشاركية مكثفة حيث يمكن للحكومة من خلال وزارة الثقافة والاتصال إلى جانب المجتمع المدني أن يلعبا دوراً حاسماً من خلال دعم المبادرات التي تدعم منتوج المحتوى المحلي، ومحو الأمية الرقمية، والحفاظ على الثقافة عبر شبكة الإنترنت. بالإضافة إلى ذلك، يمكنها بلورة قوانين عمل لتطوير الذكاء الاصطناعي المسؤول والإشراف على المحتوى.

أما على مستوى المؤسسات التعليمية بكل أسلاكها فيجب أن تلعب دورًا حيويًا في دمج المعرفة الرقمية ومهارات التفكير النقدي في مناهجها الدراسية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تشجيع إنشاء محتوى تعليمي يحتفي بالثقافة المغربية بجميع وجوهها وأشكالها الأدبية والفنية والفلكلورية.

أيضا على مستوى صناعة الإعلام بجميع أسانيده يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا من خلال إنتاج محتوى عالي الجودة يعكس الثقافة والقيم المغربية إذ يمكن أن يشمل ذلك الأفلام والبرامج التلفزيونية الجادة والهادفة والأشكال الموسيقية والمحتوى عبر الإنترنت الذي يلقى صدى لدى الجماهير الشابة.

ومما لاشك فيه أن منظمات المجتمع المدني يمكنها المساهمة من خلال رفع مستوى الوعي الجماهيري حول تحديات وفرص العصر الرقمي، ودعم السلوك المسؤول عبر الإنترنت، والدعوة إلى السياسات التي تدعم الحفاظ على الثقافة.

من جهة أخرى يلعب المواطنون دورًا حيويًا من خلال التفاعل النشط مع المحتوى المغربي عبر شبكة الإنترنت، والتقييم النقدي للمعلومات، وتعزيز شروط الحوار السوسيوثقافي المسؤول.

إن التراث الثقافي المغربي هو عبارة عن فسيفساء نابض بالحيوية الراسخة، وهو محبوك بخيوط من التقاليد والتنوع والابتكار. ومن خلال تبني آلية الهندسة الثقافية كأداة للوحدة والمرونة، يستطيع المغرب أن يبحر في العصر الرقمي بأمان مع الحفاظ على خصوصية هويته المتفردة. ومن خلال الجهد التشاركي، يستطيع المغرب الاستفادة من التكنولوجيا لإنشاء هوية رقمية مزدهرة تحتفي بتراثه الثقافي الغني مع البقاء منفتحًا على التأثيرات الإيجابية للعالم المترابط به.

يظل إذن مفهوم الهندسة الثقافية مفهوما ديناميكيا يتطور باستمرار جنبا إلى جنب مع التقدم التكنولوجي. ومع استمرار نمو إمكانات الذكاء الاصطناعي، سيكون من الأهمية بمكان ضمان استخدام هذه الأدوات بشكل أخلاقي ومسؤول في سياق الحفاظ على هوية الثقافة المغربية.

كما يجب أن تكون خوارزميات الذكاء الاصطناعي المستخدمة لإنشاء المحتوى أو الإشراف عليه شفافة وخاضعة للمساءلة . وتساعد في بناء الثقة وضمان عدم استخدام هذه الأدوات لأغراض عنصرية أو تمييزية.

إنه من خلال تبني هذه الخارطة، يمكن للمغرب أن يضمن تكريس هندسته الثقافية كقوة من أجل الوحدة والخير العميم، وحماية هويته الثقافية المتفردة مع دعم مساحة رقمية مزدهرة تحتفي بالوحدة والتنوع والمرونة.

إن التراث الثقافي للمغرب وموقعه الجغرافي الإستراتيجي يجعله منارة للعالم، وشهادة فخر على قوة احتضان التنوع في إطار الوحدة والقيم المشتركة. وفي العصر الرقمي، يتمتع هذا الفسيفساء الغني بالقدرة على الازدهار عبر شبكة الإنترنت، والوصول إلى جمهور عالمي وإلهام جيل جديد. ومن خلال توظيف الهندسة الثقافية بشكل مدروس، يمكن للمغرب أن يضمن استمرار فسيفساءه الثقافي في التألق لأجيال قادمة.

***

عبده حقي

 

(منصة (X) نموذجا)

الطبيعة الإنسانية هي علائقية بالدرجة الأولى، بمختلف دوائر الاجتماع البشري من أسرة وبيئة عمل ونحوه، وما التفاعل الذي تعجّ به منصات التواصل الاجتماعي، إلا دائرة من تلك الدوائر التي تشغل حيزا كبيرا في تفاعلنا الإنساني، إن لم تكن الأكبر لأسباب متعددة، فهو عالم حقيقي لا افتراضي كما هو المفهوم السائد، لكننا ندخل إليه بنسخة معدّلة منّا بما تقتضيه الشخصية التي نريد أن نظهر بها للعالم سواء وراء معرّف حقيقي أو وهمي.

ولعل منصة (X) من بين أعلى منصات التواصل الاجتماعي التي تستحوذ على نصيب الأسد من التفاعل الكتابي في ارتباطه بـ (الترندات) والتي تعطي مؤشرا على الرأي العام لديموغرافيا محددة تجاه مسألة جدلية.

إن التفاعل الكتابي في منصة (X) يمثّل مساحة حيوية لمظاهر ذَوق المُخالطة، الذي أعني به هنا فن التعامل الحضاري في العلاقات الإنسانية، إلا أنّنا نشهد كيف أنّ هذا التفاعل الكتابي يرصد جانبا كبيرا من العنف اللفظي، خصوصا لدى طرح القضايا ذات الطابع الجدلي.

وأودّ أن أقدّم تعريفا للعنف اللفظي لأستند إليه في طرحي، فيكون: استعمال لغة هجومية مفرغة من الإنسانية، تتراوح من مجرد تراكيب ومفردات استعلائية إلى أقذع ألفاظ السباب والانتقاص والطعن في الشخوص.

إنّ الحَيدة عن لُبّ الأفكار - محلّ النقاش - صوب التعدي اللفظي على الآخر، أمسى مشهدا بديهيا في (الترندات) اليومية على منصة (X)، فأصبح عالم (الشخوص) متسيّدا عالم (الأفكار)، وهي ظاهرة لا تتواءم والانفتاح المعرفي والحضاري.

ولنا أن ندّعي أنّ هذا العنف اللفظي لا يأخذ نمطا مماثلا لِما لو كان النقاش وجها لوجه، ويزداد تكهرب الشحنة الهجومية فيما لو كان التفاعل يحدث عبر المعرفات الوهمية وليس الحسابات الشخصية، إذن عامل التخفي أو البُعد الفيزيائي له تأثيره على كثافة ونوعية العنف اللفظي الممارَس؛ والذي تزداد رعونته مقارنة بالوضع على الأرض.

وأراني مضطرا هنا للإشارة إلى أنني أجد صعوبة في مساواة العنف اللفظي بوصفه فعلا ابتدائيا معه بوصفه ردةَ فعل، ففي حين يكون الأول جليّ السوء، فإنّ الثاني يعكس قدرا معقولا من الطبيعة البشرية، والناس تختلف في الاستجابة، من التغاضي أو الرد بالتي هي أحسن، وحتى المعاملة بالمثل، بل وقد يصل الأمر إلى ردّ الصاع صاعين.

ومهما يكن، فإن علم نفس اللغة يقضي بوجود دوافع نفسية تُذْكي جذوة العنف اللفظي، سأتعرّض لبضعة دوافع منها، مع التنبيه على أنني لا أسعى إلى تخطئة مَن يصدر عنه العنف اللفظي بقدر ما أبغي تفهّم الدوافع وطرح بعض أدوات التحكم.

١. قصور الوعي في إدارة الشعور:

عند استعراض هرم غراهام للاختلاف، الذي يضم سبعة مستويات في كيفية الاستجابة للاختلاف في الآراء، فإنّ أول مستويين متعلقان بالوقوع في الطرف الآخر شتمًا وانتقاصا، فاللغة تَبَعٌ لمستوى الوعي، فإذا كان الوعي مُنمّطا بالتهجّم الشخصي في حالة الاختلاف فإنه يَعتبر العنف اللفظي التعبير الأمثل للرد على الرأي الآخر.

إن اللغة بطبيعتها حيادية، فحين تكون الاستجابة بالشخصنة يتم استحضار قاموس العنف اللفظي لأداء مهمته، والشعور عقبها بأريحية نفسية، وكأنّ حِملا كبيرا قد أُزيح عن العاتق، فالعنف اللفظي يصدر - فيما يصدر بسببه - لإشباع رغبة نفسية، وتضميد جرح غائر، فهو إسكات للصراخ الداخلي وتنفيسٌ عن مكبوتات متراكمة، وقد اعتبرتُ قصور الوعي دافعا للعنف اللفظي؛ كونه البيئة الحاضنة والمبارِكة والمبرِّرة، ففي هذا المستوى تكون لغة الاختلاف هي العنف اللفظي!

٢. الارتباط العاطفي:

من الطبيعي أن يخبو وَهج العنف اللفظي لدى الانخراط في مواضيع لا تشكّل أهمية بالغة، لكن ما إنْ يتصل الأمر بالانتماءات الذاتية كالدينية والوطنية والقبلية فإنك تكاد ترى نسخة متطرّفة من الشخصية المتزنة عادة، وفي الحقل الديني يكون الأمر أخطر؛ إذ يستمد العنف اللفظي شرعيّته من المقدّس، فيتحول المذموم إلى محمود بل وواجب، ويتم استحضار نصوص دينية في سياق الطعن الشخصي، فيكون العنف اللفظي مادةً تعكس الغيرة الدينية - بحسب تعبير المبررين - كما أنه يعدّ قُربةً يتعبّد بها مرتكبها، فيغدو الحطّ من المخالف الديني بما يضادّ الأخلاق الإنسانية سبيلا للذَّود عن حِمى الدين الذي يتم تصديره في الأساس حاميا لحياض الأخلاق!

إن التعلق العاطفي بالأفكار محل النقاش بسبب الانتماء، يُضعف التحكّم بالقاموس اللغوي، فيعيش (ذوقُ المخالَطة) أسوأ لحظاته، وعند عتبة الردود تُقطَّع أوصاله، وتُسقى الأرض بدمائه قربانا للانتماء!

٣. الاحتياج لأنْ نُسمع:

في تقديري أن محورية (أنْ نُسمَع) راجعة في الأساس لـ (الاحتياج للتقدير) وليس غريبا أن يضعه ماسلو ضمن هرمه المشهور للاحتياجات الإنسانية، ‏فنحن كائنات معبّرة ومدنية! ‏ولذا كانت ماهية تكويننا البشري تحتّم علينا الرغبة العارمة لأنْ نُسمع، ‏ونميل لمن يستمع لنا، ‏ونغبط مَن يجد قلبا ينصت لهواجسه مهما كانت ساذجة وواهمة.

فإذا كان ذلك كذلك، فإنّ أي قصور في تلبية هذه الحاجة حال النقاش ينبري العنف اللفظي يدًا تأخذ ما تراه حقَّها عنوة! فهو إعادة صياغة فَظّة لـ: أنت لا تكترث للاستماع إليّ.

٤. التشفّي الاجتماعي:

العَمْد إلى الهجوم اللفظي على الطرف الآخر على انفراد يكاد لا يعدّ شيئا بإزاء أن لو كان الهجوم ذاته أمام الملأ، فالنيل اللفظي من الإنسان وسط الأعين مؤذٍ لدرجة مهولة؛ لأنّ الاعتراف الاجتماعي ضرورة بشرية؛ ولذا لا يكون ثمّة تشويه ولا تشهير بلا مجتمع يشهد على ذلك، فيكون العنف اللفظي هنا ممارسة متعمَّدة ومنظَّمة وجماعية! والعقل الجمعي يستمرئ الهجوم اللفظي الأهوج على الشخوص تحت أي شمّاعة كانت، ويجد الأفراد مبررا وبيئة حاضنة ودعما اجتماعيا يرعى العنف اللفظي بهدف التحييد الاجتماعي.

هذا التطواف العام يجرّنا للبحث عن أدوات من شأنها أن تعيننا على التحكم بعنفنا اللفظي، مع الأخذ في الاعتبار أن العنف اللفظي قد يكون عَرَضا لمرض نفسي أو عاهة شخصية مزمنة كالتنمّر، وهذا له معالجة مختلفة، وفيما يلي عدة مقترحات تمثّل لَبِنة جادّة في بناء استجابة واعية ومسؤولة في التعبير عن الاختلاف:

١. خلق عادة التركيز على النقد الموضوعي، وإدراك أنّ الشخصنة تَشِي بضعف مستوى الإنسانية وتدنّي النضج المعرفي، علاوة على الظهور بمظهر ضعيف الحجة، إذْ اللجوء للهجوم على الطرف الآخر عوضا عن التعاطي الصحي مع جوهر الفكرة، هو هروب ينضح منه الافتقار للبراهين، فيتم تغطية العجز وتمويه الإفلاس من البرهان بمثل هذه الأساليب.

إنّ خلق هذه العادة البديلة ليس من السهولة بمكان، ولكن يمكن البدء بطرح هذا السؤال: أين محلّ النزاع؟ أي: أين موضع الاختلاف بين الرأيين؟ وفي ضوء ذلك يتم النظر في الحجج والحجج المضادة، هذه العادة من شأنها أن تجفف منابع العنف اللفظي إلى حد كبير، إذ يتم استدعاء الفكرة بدلا من الآخر المختلف، فيتم توجيه التركيز للوجهة الصحيحة، واللغة تَبَعٌ لهذا الاستدعاء الواعي، مع التأكيد على أنّ العادة حتى تترسّخ يجب التدريب عليها ردحًا من الزمن حتى تنتقل من منطقة الشعور إلى منطقة اللاشعور لتستقرّ ردةَ فعلٍ تلقائية فيما بعد.

٢. تجنّب الاسترسال مع أي طرف يوظّف العنف اللفظي في ردوده، سواء بالانسحاب أو بالتنبيه الصريح؛ حيث إن الردود اللطيفة في مقابل العنف اللفظي يُنظر إليها - في الجملة - على أنها ضربٌ من الضعف، والضعف يستميل الطرف الهجومي لزيادة وتيرة العنف اللفظي، كما أنّ استفزاز المعتاد على العنف اللفظي خاصة في المواضيع المتعلقة بالانتماءات سهلٌ للغاية، وبإمكان هذا الأسلوب أنْ يدفع الآخرين للتعرّف على منهجيتك الحوارية الحازمة، وفي المقابل تجنّب نفسك من الانزلاق إلى مستنقع اللغة السوقية.

٣. تدوين عبارات تعبّر بشكل صحي عن الاختلاف، والتدرّب عليها، حيث إنّ ذلك يساعد بشكل فعّال على ترويض ردة الفعل الارتجالية في المستوى اللاواعي على تراكيب مسؤولة، عِوَضا عن الأساليب الرعناء، فإيجاد البديل الحاضر في مستوى اللاشعور دافعٌ متين للعمل بالنهج الجديد في التحكم بانفعالاتنا اللفظية بوجه عام.

أود أن أُلملم طرحي بالزعم بأنّ التفاوت في الاستجابة اللغوية على المستوى الفردي يُحيل على وجود عدة قواميس لفظية للفرد الواحد - إن صحّ التعبير - ونحن نصطفي منها ما هو أليق وألصق وأوفق بالموقف، أو بشخصية محدد من شخصياتنا! بحسب مفهوم عالم النفس الأمريكي روجرز حول التمثيل الذاتي، دوائر روجرز متحدة المركز (Rogers Concentric circle) الذي يرى أن الذات تتمظهر في (٣) شخصيات، الشخصية الذاتية والشخصية الخاصة والشخصية العامة، فالشخصية الذاتية تكون خاصة بصاحبها، لا تشارك منطقتها غيرها كالأسرار والتخيّلات، وتكون هي المهيمنة في المعرفات الوهمية! وأمّا الشخصية الخاصة فهي تتضمّن ما تشاركه دائرتها المقربة من حبيب وصديق مقرب وعائلة، في حين تأتي الشخصية العامة لتمثّل ما تختار إظهاره أمام عموم الناس من اهتمامات وممارسات وغيره.

فالشخصية الأولى تمثّل الشخصية الحقيقية في أصدق تجلّياتها، وفي الثانية رغم نسختها المعدّلة يمكن أن تتلمّس فيها جوانب شفافة من الشخصية، فمع الأحبّة ترتفع الكُلفة، أما الثالثة فهي الأكثر تهذيبا وتشذيبا لتتواءم وأعرافَ المجتمع وإكراهات القوانين، ولكل شخصية قاموسها اللغوي الخاص! فحين تتم ممارسة العنف اللفظي رغم ذاك فهو بشكل ما خرقٌ لسمات الشخصية العامة، وكأن الشخصية الذاتية أو الخاصة تتعدى على حدود الشخصية العامة وتخترق فضاءاتها، سواء في حالات معدودة أو حالةً ذات ديمومة، وما هذا الاختراق إلا لداعٍ ذاتي قوي، يجب تفهّم جذوره النفسية، وإيجاد آلية جادة لضبطه.

***

بقلم: محمـــد سيـــف

مفتتح: قرأت مقالة (مؤسسة تكوين وضجيج مؤتمر التأسيس) للصديق الأستاذ بدر العبري من سلطنة المحبة والتسامح والحوار والتعارف والابداع الثقافي حول الضجيج الذي انتشر في ربوع أرض الكنانة مصر الحبيبة بخصوص المؤتمر التأسيسي لمؤسسة تكوين، للأسف مصر عاصمة الفكر والثقافة والتأليف والطباعة، التي قرأنا وسمعنا عنها أيام الدكتور طه حسين والأديب العالمي نجيب محفوظ والدكتور نصر حامد أبو زيد والدكتور حسن حنفي والدكتور عبد الفتاح إمام وغيرهم كثر، هذه البلاد التي لا تكف عن ميلاد العباقرة والعلماء والمفكرين الأحرار والمجددين والمصلحين المميزين في التفكير الديني وغيره، للأسف غابت عنها تقاليد الحوار وإحترام الرأي الآخر والفكر الآخر وما هنالك من صور التمدن الذي راح ضحيته عمالقة في الفكر والثقافة والدين، ليس مصر العربية وحدها التي أصبح الفكر الحر فيها غير محترم رغم الاختلاف مع بعض تفاصيله، إنه العالم العربي برمته كذلك حيث اكتسح التلوث الفكري – كما يعبر المفكر الراحل حسن التل- كل أركان التفكير العربي الحديث والمعاصر، فلا غرابة في هكذا ضجة مفتعلة – كما يعبر المفكر الفلسطيني الشهيد فتحي الشقاقي-  لأن ضرورات دوام التلوث والضمور والتطرف ووالتسقيط تستدعي مثل هذه السيناريوهات عبر الاعلام وعبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي الأماكن العامة وكأن القيامة قامت، لا لشيء سوى لأن الحرية الفكرية والحوار العلمي والتعارف الثقافي مهددات لواقع التفاهة والرداءة المستشري من طنجة إلى مسقط ..

الراهن الثقافي العربي:

هذه اللحظة الثقافية المشوهة من المشهد الثقافي الأصيل هي محل إشكال ليس مصري فقط بل عربي أيضا وبإمتياز: لماذا هذا التشظي في تركيبة الذهنية العربية المعاصرة ؟ ومتى تنتهي الخصومة في الثقافة العربية برسالة تسامح ضد التخلف والرجعية والحاكمية الثقافية المطلقة بلا شرعية ولا أدنى مسوغ منطقي؟

بكل بساطة إن من يفكر بحرية في جغرافية مأسورة للتطرف الطائفي وو الإثني والجهوي والحزبي لا يمكنه أن يرفع رأسه، لأنه بالأساس فوق ميول مجتمع ملوث فكريا وبيئيا والمنحرف أخلاقيا، هنا بالتحديد تبرز وظيفة المثقف الحر النزيه المخلص الكوني – بتعبير صديقي الدكتور سامي عبد العال-[1] على طول المحاور الثقافية في العالم العربي، لأن المثقف الكوني ( هناك مفهوم أراه مماثل المثقف الرسالي عند الأستاذ ماجد الغرباوي[2]) يحمل غاية واحدة هي بعث الوعي بالكرامة للجميع لذلك كان يمازح الدكتور علي الوردي -و هو القامة العراقية العربية التي عاشت وماتت دون أن تنتبه لها المجتمعات إلا بعد عشر سنوات من رحيلها - لا تتحدثوا علانية عن ابن خلدون لأن اسمه فقط مستفز للرداءة والتلوث وما هنالك...

هناك حاجة ماسة للوقوف والمعاينة والتمحيص بكل قوة وحزم وصلاية على ردود الفعل – المسماة ثقافية- وهي واقعا إفرازات لقيم اجتماعية وأخلاقية لا حضارية، هناك أعطاب أخلاقية وإنحرافات إجتماعية تمكنت من ترسيخ "البلطجة" كثقافة تهدد كل فكرة حرة تطرح للنقاش أو للحوار أو للمداولة بين من هم أهل لذلك، مما ضيق الخيارات على الأحرار في الفكر والثقافة والدين والجامعات رغم رحابة بلادنا العربية وغنى مخزونها الثقافي الخلاق للوعي والنباهة والابداع، أليست القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت والجزائر العاصمة وطنجة وتونس والكويت كانت مدن حافلة بالانتعاش الثقافي في سبعينيات القرن الماضي ومسقط مع نهايات القرن الفائت، كلها كانت مقاصد المثقفين العرب بكل مشاربهم وتوجهاتهم، لقد كانت تحتوي كل التنوعات لذلك انتعشت ولم تتسم بالأحادية الفكرية الخانقة لثقافة السؤال والضاغطة على رقاب الوعي، حيث أجدني هنا مضطرا للتنبيه أن كل ما يفتعل من ضجات مرجعه الأساسي هو القبلية الثقافية ( قيم العشيرة الناتجة عن الاستبداد الديني والسياسي كما يعبر عن ذلك المفكر الغرباوي[3]) حيث يعبر بالقول: الفرد الغربي يعتز أيضا بإنتمائه لعشيرته وبيته، لكن الفارق أن قيم العشيرة لا تفرض سلطتها عليه، ولا تنافس القانون في ولائه، فهو منحاز دائما للقانون وسلطته، وعليه ينبغي لنا من أجل نهوض حضاري ناجح تحرير عقل الفرد من سلطة العشيرة وقيمها، حينما تتعارض مع القيم الإنسانية أو تتقاطع مع القانون. فيكون ولاء الفرد أولاً للقانون، وليس العكس كما في المجتمعات المتخلفة . بل يجب التحرر من سلطة كل نظام أبوي، في البيت والمدرسة والعمل والسلطة[4]. ولعل هناك سبب آخر يوافق ما سبق ذكره، ساهم في صناعة التلوث الثقافي في المجتمعات المهزومة أو الضعيفة وهو الانشداد إلى الماضي والجمود الفكري وتقديس غير المقدس، وهذه حالة شعورية تسيطر على المهزوم وتجعله – هاربا من تحديات الواقع وإخفاقات الوعي المتحكمة فيه- فيلوذ بالماضي ويقدسه بغثه وسمينه بحيث يصبح لا يفرق بين المقدس وغيره وما هو دليل أصلي عما هو فرعي وتابع كما لدى الأصوليين، لذلك نلاحظ إعلاء غير عقلاني للماضي ومكوناته كلها بلا تحقيق ولا تمحيص، والأكيد أن هذه الظاهرة موجودة لدى كل المجتمعات البشرية وعاشتها في مرحلة ما، كل ما هنالك أن هناك من تجاوزتها وتحررت من قيودها وأخرى ظلت أسيرة فيها، وهنا الضحية الأولى هي الحقيقة والوعي والموضوعية، لأن الواقع الذي يتعاطى مع الأسئلة والنقاشات ومداراتها ومضامينها وآفاقها بعقلية ملوثة وجامدة في مرحلة تاريخية معينة وبخطاب تحنيطي للتخلف سيشكل – بلا أدنى شك- عائقا ومعوقا وسدا أمام حركة التجديد الثقافي والتنمية الحضارية، لأن العقل المستغرق في التلوث الطائفي وملكية الحقيقة وهالات الشرعية وما هنالك من شعارات محرفة محجوب عن بلوغ الحقيقة، هذا العقل الفرعوني البيزنطي المهووس بالأحادية الفكرية لا يتحمل حضور العقل النقدي في المشهد الثقافي..

ماذا عن مفهوم السلم الثقافي الصحيح؟

إن انحسار دور العقل النقدي في المجتمعات العربية، يعني تفسير الواقع وظواهره بتفسيرات غيبية وأسطورية أحيانا بعيدا عن منطق الأسباب والمسببات، ولعل العلة الأولى لذلك أن ذوي العقول الملوثة هم المسيطرين على الشأن الثقافي غالبا والديني تحديدا منه في الأغلب وإلا لماذا هناك توجس غير طبيعي من أي محاولة لمناقشة سبل التجديد والإصلاح ونقد التراث وما هنالك، فالمقدس معلوم ومحدد وليس هناك أية جهة لها سلطة منح القداسة لما ليس بمقدس، لكن العقل الملوث فكريا يعمل على شيطنة كل ثقافة السؤال حتى يبقى الحال على حاله ولا يتجاوز المجتمع إخفاقات الوعي لديه في تفاصيل واقعه، والمؤسف أن تلفق مفاهيم حضارية لتعمل عمل المخدر ويبقى الواقع في رداءته والمدينة تترّيف أكثر فأكثر حتى تنتفي معالم التمدن نهائيا، فمفهوم السلم الثقافي يراد له أن يتماهى ومفهوم الخمول الثقافي، لأن اللوثة الثقافية التي لا تعالج، تستشري وتسيطر فتروض المشهد الثقافي لتنطفئ مصابيح الوعي فيه وعندها تدرج مفهوم السلم في سياق معاكس كليا وتماما لمدلوله الصحيح، بينما السلم الحقيقي لا يجنح إلى العنف ويخضع للاعتدال والحوار العلمي الموضوعي، ولا يتحقق إلا في جو من الديمقراطية السليمة من الفساد والعجز الفكري ودناءة السلوك، لأن السلم الثقافي يعني فيما يعنيه الشعور بالآخر واحترامه والدفاع عن حقوقه والتعارف معه والإحساس بجمال التنوع والتعدد الذي يقوي الوحدة الجامعة والعادلة..

السلم الثقافي ومحنة المثقف:

هناك شرائح عدة من المثقفين في عالما العربي أو كما يسميهم الدكتور سامي عبد العال بأنماط المثقفين، شريحة انبهرت بالغرب لحد الذوبان فيه، وهذا ما يطلق عليه الإغتراب الثقافي بحيث يعمل هذا المثقف على إجراء قطيعة مع تكوينه الثقافي ورؤاه وقيمه الأخلاقية والاجتماعية، لكن الخطورة بالنسبة لهذه الشريحة أنها خدمية في الغالب وليست موضوعية كل همها إرضاء الآخر الغربي بمشروعها الذي يسعى لللحاق بمشروع القطيعة مع ثقافة العصر الوسيط لدى الغرب، فمشكلة الثقافة لدى هذه الشريحة قد تصل لحد الخيانة وقد تسمى اندماجا ثقافيا ولكنها في الحقيقة انسلاخ عن التكوين الثقافي واللهث وراء الثقافة الغربية بلا كرامة ولا حتى موضوعية في ذلك سوى هروب من محنة الثقافة في الوطن العربي لا هي علمانية بالمعنى العلمي ولا هي ملحدة بالمعنى اللا ديني، فقط تعاني من لوثة ثقافية أفقدتها وعي المخاض وسبل الخلاص.

بينما الشريحة المقابلة هي على العكس تماما من الشريحة الخدمية للغرب، إنها شريحة مستبدة فكريا وسلوكيا وتجنح للعنف بشكل مروع، لا تقبل نهائيا الرأي الآخر، تمتهن الابتزاز الفكري والإعلامي والثقافي الاجتماعي وتسعى للسيطرة على المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية ومحاصرة الخطاب الثقافي وتسييجه بحدود تتوافق مع مداراتها الفكرية والعقائدية والثقافية، فتعادي الغرب بكليته حتى علومه، بينما هي تستخدم تقانته تحت غطاء أنه مسخر لخدمتها ضمن معادلة القداسة التي ترسم معالمها في اللاوعي الجمعي حولها، فالسلم الثقافي لدى رواد هذه الشريحة هو ما يقبلونه ويدعون إليه غير ذلك فهو عدو وخطر ولابد من محاربته، ولا تقتصر على الدينيين فقط لأن خلفية هذه الشريحة هي العصبية القبلية والإثنية والدينية والطائفية والسياسية، يمتازون بالتثبيط الثقافي إلى درجة العنف بشتى أشكاله من أجل تحقيق استبدادهم الذي يعبرون عنه بهتانا وزورا بالسلم الثقافي الذي يتأسس بثقافة "البلطجة" السيئة الصيت !!

في حين الشريحة الأخيرة وهي المثلى والتي كانت ولا تزال وسطا في ركوب أمواج البحث عن الحقيقة دون التفريط أو الإفراط في الدين والأخلاق والعلم والمعرفة والتكنولوجيا، هذه الشريحة رسالتها إنسانية وليست من أجل الغرب وعيونه أو العصبيات ونزواتها، وتعمل جاهدة من أجل تجاوز أشكال الاستبداد والقابلية للإستعمار وتنقية التلوث الفكري الكاسح للعقول والمجتمعات والمتحكم في الواقع بالتثبيط والإخفاق والرجعية والشذوذ، هذه الشريحة سلمها سلم لأنها تستمد رؤيتها من ثقافة السلام العادل والكريم والحضاري، هذه الشريحة تؤمن بالحوار العلمي والتعارف الثقافي والاحترام المتبادل بين الذات والآخر الجواني والبرّاني، أهدافها واضحة في البحث عن الحقيقة، لا تتوقف أمام الضجيج المفتعل لأنها تدرك حالة إخفاق الوعي لدى ذلك المبرمج لتعطيل كل مشاريع النقد والإصلاح والتجديد والتنوير في العالم العربي، تعلم أن هناك يد للمستعمر تتلخص في مناهج فكرية وثقافية محددة يراد لها أن تنتشر دون أخرى، وتركز بجسارة في مشروعها التنويري حتى لا تستقطب نحو مستنقعات التنويم الثقافي للشعوب والقتل البربري للأفكار والمشاريع الفكرية الهادفة للتجديد والإصلاح، إن مثقف هذه الشريحة لديه كامل الوعي والأهلية والمصداقية في تصور مناورات الاشتباك الثقافية، إنه مثقف رسالته إنسانية كونية تحترم الإنسان وتسعى من أجل تخليصه من إخفاقات الوعي الحاصلة لديه، إنه مثقف أفكاره حية بحياة الإنسان وليست قاتلة أو مميتة أو ميتة...

و كما يعبر المفكر الغرباوي "سلسلة اليقينيات-طبعا السلبية- تتناسل في ثقافتنا" في معرض تحليله لما يطلق عليه اليقين السلبي والذي أراه يقينا مبتلى به أتباع الشريحتين السابقتين كل بحسب مقاصده ومصالحه، لكن ما يهمنا بهذا الخصوص هو اليقين الإيجابي لدى المثقف الكوني والرسالي في محنته الثقافية داخل المشهد الثقافي العربي، لكن هذا اليقين هو مغاير تماما لليقينيات السلبية المسيطرة على مجتمعاتنا والتي تحاط بقداسة عظيمة أحيانا تستغرب أن أغلبها لا تعرف من أين حصلت على القداسة تلك !!

يقين المثقف الكوني الرسالي هو يقين يتطور بالايجابية أي هو تحصيل مسيرة بحث وتنقيب وتمحيص وتحقيق متجدد وليس جامدا كمجمل اليقينيات السلبية المقيدة للوعي والنباهة والنهضة في عالمنا العربي، ولعل هناك طرفة فيزيائية إن صح التعبير، المتيقن أن كل ماهو سلبي يتطلب إيجابي حتى ينتج طاقة، لذلك سلبية الواقع الثقافي المنتشرة بحاجة لمثقف يفكر بإيجابية حتى تنتج طاقة التغيير والتجديد والتنوير، فليس هناك مبرر للسلبية في التعاطي مع النقد والحوار فحتى الدين شرّع السؤال ليكون الإيمان نتاج مسيرة البحث عن اليقين، الله تعالى يدعو الناس لسؤال أهل الذكر إن كانوا لا يعلمون، فتركوا الأمر بالسؤال وانشغلوا بالصراع حول أهل الذكر، رغم وضوح معالم أهل الذكر عقلا ونقلا، هنا طبيعي أن ينتج يقين سلبي جامد مستغرق في التفاصيل وغافل عن الأساسيات ومنقلب على الضروريات للتقدم نحو اليقين الإيجابي والاقتراب من مقتضيات القلب السليم، وأحد مسببات هذا التلوث الفكري في جمهور الشريحة الثانية أن علم الكلام في تموضعه التاريخي في الثقافة العربية الإسلامية أصيب بالركود والخمول بسبب التقليد الذي ساد العقل الفقهي في حقبة من تاريخ المسلمين وخصوصا مرحلة أفول الحضارة الإسلامية- يمكن البحث حول حركة علم الفقه وعلم الكلام ما بعد الموحدين- فتمدد التقليد لكل أبعاد المعرفة الإسلامية خصوصا علم الكلام إلى يومنا هذا، حيث نجد أغلب من اشتغلوا ونادوا بإحياء علم الكلام وسموه علم الكلام الجديد هم من غير المثقفين العرب، بل أكثر من ذلك كانوا من المثقفين النقاد وأصحاب مشاريع فكرية حساسة[5].

عموما محنة المثقف الكوني أو الرسالي تتلخص في انه مجمل المشهد الفكري في الفضاء العربي يفتقد للسلم الثقافي، مما طور الحساسيات على حساب مناهج البحث والحوار والتفكيك والتحليل، فأصبح الإبداع ابتداع والعنف وسيلة في فرض الإستبداد المدعى أنه سلماً، فالتقليد في علم الكلام جعل القوم جامدين في عصر غير عصرهم ويدّعون فهم تحديات معاصرة مركبة وخطيرة بمنهج كلامي تقليدي لو حضر أصحابه لاستنكروا صنيعهم هذا، وفي السياق أستشهد هنا بما تمناه الكاتب المصري أحمد أمين من عودة الفكر المعتزلي إلى واقعنا في كتابه ضحى الإسلام: لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي، وقد أعجزهم الضعف وشلهم الجبر وقعد بهم التواكل"[6]..

و عليه إن الضجة المفتعلة بخصوص مؤتمر التأسيس لمؤسسة فكرية ثقافية، التي وقع فيها هؤولاء الرافضين للآخر هي في العمق عجزهم عن الموائمة بين الحرية الفكرية الذاتية والقراءة المتعددة فكريا في الواقع، إننا أمام هذا الشكل من أشكال الغطرسة الفكرية والثقافية التي تبخس الآخر حقه في التفكير والتعبير والمواطنة، مع تهميش دوره وعزله لا يسعنا سوى القول: إن هذه الضجة سوى تلوث فكري يحاول تطويق المشهد الثقافي العربي بأي شكل من الأشكال العنفية مسيئا لكل ماهو مقدس حقيقي للإنسان العربي ويؤثر بسلبية بالغة في الواقع العربي..

إن الهدف من السلم الثقافي وتحققه هو البناء المعرفي والابستيمي للفكر والثقافة العربية والإسلامية، ولقد حاولت الوقوف على عدة صور ومشكلات وإشكاليات بعجالة حيث واقعنا مليء بالطروحات الطائفية والعصبية الجاهلية المنافية لمفهوم السلم تماما، وتناولت بالشيء من الإسهاب الشريحة الثالثة من المثقفين لمحاولاتها التوفيق والعمل بجد واجتهاد وحزم وجسارة في التفكير الحر والبناء والبحث عن الحقيقة خارج الصندوق العربي المتوقف في ما بعد الموحدين أو أكثر رجعية من ذلك، كما أشرت في عدة مواضع لضرورات الوعي الثقافي بالدراسات النقدية وخصوصا الظاهرة الدينية، فبينما الغرب انتقل بهرمس إلى اللغوس، نَقَلنَا أهل الضجيج والبلطجة من السلم إلى الاستبداد، ولن يكون هناك سلم ثقافي ما لم يتصالح الفقيه مع الفيلسوف في راهننا... لابد للصراع الفكري في البلاد العربية أن يتهذب بالحوار الموضوعي والحماية الفكرية والقبول بالآخر والتعارف معه، تأسيسا لمجتمع مدني حقيقي مرتكز على قيم التسامح والحوار والتعارف والسلم ...

أختم بحوار جرى بيني وبين أحد الأصدقاء طبيب ببلد أوروبي قبل مدة، حيث قال لي: إنني مندهش في القوم يقرأون في كل مكان حتى في وسائل النقل المكتظة بالناس، فسألته: هل تعلم لماذا يقرأون في كل مكان؟ فأجابني: أكيد للزيادة من المعرفة والثقافة !! فأجبته: هذه جزئية، لكنهم يقرأون في كل مكان لأنه الهدوء متوفر للتركيز والنهل المعرفي، والهدوء دليل احترامهم لبعضهم البعض، وغالبا يقرأون الروايات الهادفة في الأماكن العامة بينما العلوم فلها أمكنتها وأهلها كونهم يحترمون والعلوم وتخصصاتها والآخر المفكر ومشاريعه، هناك سلم ثقافي فعلي نتاجه مجتمع مدني متقدم، وصل لما بعد الحداثة لأنه مجتمع مفتوح على آفاق المعرفة العظيمة كما عبر كارل بوبر وفريديريك هايك...

***

أ. مراد غريبي – كاتب وباحث ومترجم

................

[1]

  https://almothaqaf.com/aqlam-3/969699

[2] يمكن العودة إلى كتاب إشكاليات التجديد للمفكر ماجد الغرباوي

[3] راجع كتاب تحرير الوعي الديني الجزء 5 من سلسلة متاهات الحقيقة لماجد الغرباوي، ص 388

[4] ن، م

[5] يمكن العودة لكتاب علم الكلام الجديد للدكتور عبد الجبار الرفاعي للاستيعاب أكثر

[6] ضحى الإسلام الجزء 3 ص 70

 

(التراث كائن حي يحيا في وسط تاريخي ولغوي وجغرافي ويتغذى على التأويل وإرادة الفهم)... غادامير

اللغة روح الأمة والتاريخ ذاكرتها، والأمة التي تجهل او تتجاهل تاريخها هي أمة مريضة بلا ذاكرة اما الأمة التي تتنازل عن لغتها فهي دون ريب في عداد الأموات هكذا كان يفكر المرحوم ساطع الحصري وهو يناقش مسألة العلاقة بين الاصالة والمعاصرة، والحقيقة انه لا يجب ان يفهم من الاعتزاز بهوية الامة وتراثها التنكر لقيم العصر ورفض الاخر، بل ان الحكمة تقتضي المزج بينهما والعمل على احداث التفاعل بين منهج العلم ونسقه التقني الذي يعكس روح هذا العصر واحياء تراثنا المادي واللامادي.

لقد شهدت الجزائر في الأيام الماضية حراكا ثقافيا على مستوى الإعلام الرسمي ومنصات التواصل الاجتماعي حركية أوحت للبعض بوجود ما يشبه الزخم الفكري او السحاب الثقافي لكن لم يكتب لهذا السحاب المفكك ان يتحول الى مطر يسقي العقول ويحيي النفوس المتعطشة لدهشة السؤال والباحثة عن التحرر من قيود السذاجة والتفاهة، فقد غلبت الكثير من المؤسسات والهيئات الرسمية الشكل على المضمون وتجلى ذلك بوضوح ضمن فعاليات الاحتفال بشهر التراث (18 أفريل-18 ماي) وهذه الفعاليات تتوافق في اجندتها مع اليوم العالمي للمواقع الأثرية والمعالم التاريخية واليوم العالمي للمتاحف والذي جاء هذه السنة تَحت شعار "التراث الثقافي الجزائري وامتداداته الافريقية" تزامنا مع ذلك احتفلت الشقيقة تونس على غرار باقي بلدان العالم بشهر التراث تحت شعار “تراثنا ..رؤية تتطور..تشريعات تواكب”

والمجتمع الدولي يوم 18 أبريل سنوياً يحتفل بفعاليات يوم التراث العالمي. باعتباره اليوم الذي حدده المجلس الدولي للمباني والمواقع الأثرية للاحتفاء به كل عام برعاية منظمة اليونسكو ومنظمة التراث العالمي. وذلك بحسب الاتفاقية التي أقرها المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة في باريس في عام 1972.وقد جاء الاحتفال بيوم التراث العالمي بغرض حماية المواقع التراثية من العبث وتدميرها. وذلك من خلال إعداد التشريعات والأنظمة والسياسات العامة التي تلزم المؤسسات والأفراد بالحفاظ على المواقع التراثية والأثرية. وفقاً للاتفاقية التي وقعتها اليونسكو.

في مفهوم التراث؟

يمكن العودة الى الندوة التي اشتغلت عليها مجلة الفيصل ضمن اعدادها القديمة في حديثها عن ندوة التراث وسنحاول في هذه الورقة الإشارة الى بعض ما جاء فيها فقد حدد الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، مفهوم التراث قائلا: " تراث أي أمة من الأمم هو موروثها الحضاري في شتى العلوم والفنون والآداب، وتراثنا العربي هو كل ما أبدعه العقل العربي من ذخائر الفكر والعلم والأدب، والفن، وبقي لنا ساطعاً في كتب مخطوطة أو مطبوعة، وهذا التراث العربي يتناول ما دون من آثار أدبية مأثورة عن العصر الجاهلي، ومن معارف وأساطير، وقصص وأحداث تاريخية مروية للجاهليين، كما يتناول الآثار الدينية والأدبية والعقلية والعلمية والفنية التي تركتها الحضارة الإسلامية، والعبقريون من أسلافنا المسلمين على اختلاف عصور التاريخ، منذ ظهور الإسلام حتى العصر الحديث بل حتى اليوم " ويطلق لفظ التراث، بالمعنى الواسع، على نتاج الحضارة في جميع ميادين النشاط الإنساني، من علم وفكر وأدب وفن، ومأثورات شعبية وآثار ومعمار، وتراث فلكلوري واجتماعي واقتصادي و كلمة تراث مأخوذة من مادة (ورث) والتي تدور معانيها حول حصول المتأخر على نصيب مادي أو معنوي ممن سبقه، ويقول الأستاذ عبد السلام هارون مانصه: أجمع اللغويون على أن التراث ما يخلفه الرجل لورثته، وأن (تاءه) أصلها (الواو) أي: (الوراث)، وله نظائر في كلمات أخرى منها: التجاه وأصلها الوجاه أي الجهة .. وهكذا يدور قلب الواو المقصورة لهذه الكلمات ثاء، لأنها أحيذ من الواو، ولا تتغير بتغير أحوال ما قبلها كما يقولون . ولعل من أقدم النصوص التي وردت فيها هذه الكلمة ما جاء في القرآن الكريم من سورة الفجر: (وتأكلون التراث أكلاً لما) كانوا في جاهليتهم يمنعون توريث النساء وصغار الأولاد ... ومدلول التراث عرف حركية وتبدلا في العصور الحديثة فقد تشعب البحث في كل الميادين وأصبح هناك تراث تاريخي. وتراث حضاري وتراث في الفن والأدب.

وتاريخيا العلماء العرب كان لهم السبق في شتى مجالات الفكر الإنساني ويرجع اليهم الفضل في كثير من العلوم المستحدثة، وتذكر (ابن فارس) في كتابه (مقاييس اللغة (الذي استطاع أن يستنبط نظرية لغوية دقيقة لم يسبقه إليها مفکر، حيث أرجع كل مادة لغوية من مواد المعاجم إلى أصل أو أصلين أو عدة أصول معنوية، وهذه النظرية تعتبر من الأعمال الفريدة في عالم التأليف، وكذلك (ابن خلدون) في كتابه (مقدمة ابن خلدون)، والزمخشري في كتابه أساس البلاغة)، وابن سينا في كتابه (القانون)، ونصير الدين الطوسي صاحب على حساب المثلثات، وكذالك الخوارزمي صاحب علم الجبر والبصري صاحب علم الضوء .. ...

أهمية التراث تتمثل فيما يلي:

- إنه يمثل قيمة تاريخية فريدة ثمنه

- انه يكشف لنا عن تطور الإنسانية في عصورها الماضية، الأمر الذي يجعلنا على قدرة من استكشاف المستقبل واستشعاره.

- إنه يمثل قيمة قومية فهو يحمل قيمة تعلو على كل قيمة.

- إنه الأساس الذي يجب أن نبني عليه نهضتنا المعاصرة.

كيف يمكن الاعتناء بالتراث؟

يجيب الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي عن هذا التساؤل بأن أي خطة لأحياء التراث والاستفادة منه يجب ان تتضمن ما يلي:

- نقيم المؤتمرات العلمية الدائمة من أجل خدمة التراث .

- زيادة عناية مراكز التراث في جامعاتنا به عناية أكثر .

- ضرورة الاستفادة بما سبق من تجارب الأمم الأخرى

- تدريب طائفة كبيرة من المشتغلين بالتراث على العمل من أجل خدمته وتحقيقه

- نشر خلاصات علمية لأهم ما نقف عليه من كنوز علمية .

- الفهرسة البيبليوجرافية الكاملة لمخطوطاتنا،

- تحسين مردودية التراث الوطني بين مختلف القطاعات ليصبح قطاعا واعدا وحيويا خالقا للثروة.

- أهمية التراث وقيمته العلمية والإنسانية لنا عملية معقدة تحتاج إلى (التمويل)، فإن وجد هذا التمويل بالقدر الكافي وضعت الخطة اللازمة لإنقاذ التراث من الدمار.

النصوص القانونية لحماية التراث في الجزائر

النصوص عديدة ولا يمكن حصرها وسنكتفي بالإشارة الى بعضها

1- الدستور:

أولى الدستور الجزائري الجديد ولأول مرة وبشكل صريح أهمية للتراث الثقافي، حيث نصت الفقرة الثالثة من المادة 76 ما نصه: "تحمي الدولة التراث الثقافي الوطني المادي وغير المادي، وتعمل على الحفاظ عليه" (الجريدة الرسمية، 2020، ص. 18).

2- قانون الولاية:

تضمن قانون رقم 12 – 07 مؤرخ في 28 ربيع الأول عام 1433 الموافق 21 فبراير سنة 2012 المتعلق بالولاية مادتين فيهما ما يفيد بضرورة مساهمة المجلس الشعبي الولائي في إنشاء الهياكل الخاصة "بحماية التراث التاريخي والحفاظ عليه بالتشاور مع البلديات وكل الهيئات الأخرى المكلفة بترقية هذه النشاطات أو الجمعيات التي تنشط في هذا الميدان" حسب المادة 97.

كما يساهم حسب المادة 98: "في حماية التراث الثقافي والفني والتاريخي والحفاظ عليه بمساهمة الصالح التقنية المؤهلة وبالتنسيق مع البلديات وكل هيئة وجمعية معنية. ويطور كل عمل يرمي إلى ترقية التراث الثقافي والفني والتاريخي بالاتصال مع المؤسسات والجمعيات المعنية ويقترح كل التدابير الضرورية لتثمينه والحفاظ عليه" (الجريدة الرسمية، 2012، صص. 5-25).

3- قانون البلدية:

تضمن قانون رقم 11 – 10 مؤرخ في 20 رجب عام 1432 الموافق 22 يونيو سنة 2011، يتعلق بالبلدية في المادة 116 ما فيه إشارة إلى أن البلدية بمساهمة اJصالح التقنية المؤهلة، على المحافظة وحماية الأملاك العقارية الثقافية والحماية والحفاظ على الانسجام الهندسي للتجمعات السكنية وذلك في إطار حماية التراث المعماري وطبقا للتشريع والتنظيم المعمول بهما المتعلقة بالسكن والتعمير والمحافظة على التراث الثقافي وحمايته (الجريدة الرسمية، 2011، صص. 4-28).

4- قانون الجمارك:

نص القانون رقم 79 – 07 مؤرخ في 26 شعبان عام 1399 الموافق 21 يوليو سنة 1979 يتضمن قانون الجمارك، المعدل والمتمم بالقانون رقم 98 – 10 مؤرخ في 29 ربي الثاني عام 1419 الموافق 22 غشت سنة 1998، والمعدل والمتمم أيضا بالقانون رقم 17 – 04 مؤرخ في 19 جمادي الأولى عام 1438 الموافق 16 فبراير سنة 2017، في فقرة من المادة الثالثة منه على أن إدارة الجمارك من مهامها السهر على حماية "التراث الفني والثقافي"، و"مكافحة المساس بحقوق الملكية الفكرية والاستيراد والتصدير غير المشروعين للممتلكات الثقافية"، وقد أوجد المشرع من أجل ذلك عدة إجراءات عقابية في حق مرتكبي جرم تهريب أو بيع وتصدير أو استيراد بدون وجه قانوني لكل ما له صلة بالتراث الثقافي (الجريدة الرسمية، 1979، ص 678. الجريدة الرسمية، 1998، صص. 6-60 ؛ الجريدة الرسمية، 2017، ص. 5).

5- القانون البحري:

تضمن الأمر رقم 76 – 80 مؤرخ في 29 شوال عام 1396 الموافق 23 أكتوبر سنة 1976 يتضمن القانون البحري، المعدل والمتمم بالقانون رقم 98 – 05 مؤرخ في أول ربيع الأول عام 1419 الموافق 25 يونيو سنة 1998، والقانون رقم 10 – 04 مؤرخ في 5 رمضان عام 1431 الموافق 15 غشت سنة 2010، نصوصا تحمي حطام السفن وكل الممتلكات الثقافية والتاريخية الغارقة في عرض البحر ضمن حدود المياه الإقليمية للجزائر، وحدد الآليات والعقوبات المرتبطة بها في القسم الرابع منه والخاص بإنقاذ حطام السفن، خاصة المادة 358، 360، 381 (الجريدة الرسمية، 1977، العدد 29؛ الجريدة الرسمية، 1998، العدد 47 ؛ الجريدة الرسمية، 2010، العدد 46).

6- قانون الأملاك الوطنية العمومية:

أكد المشرع الجزائري في القانون رقم 90 – 30 المؤرخ في 14 جمادي الأولى عام 1411 الموافق أول ديسمبر سنة 1990 يتضمن قانون الأملاك الوطنية المعدل والمتمم بالقانون رقم 08 – 14 المؤرخ في 17 رجب عام 1429 الموافق 20 يوليو سنة 2008، على أن "الآثار العمومية والمتاحف والأماكن الأثرية" و"الأعمال الفنية ومجموعات التحف المصنفة" و"المحفوظات الوطنية" و"حقوق التأليف وحقوق الملكية الثقافية الآيلة إلى الأملاك الوطنية العمومية" تعد من ضمن الأملاك الوطنية العمومية (الجريدة الرسمية، 1990، العدد 52 ؛ الجريدة الرسمية، 2008، العدد 44).

7- قانون التهيئة والتعمير:

أولى المشرع في مختلف النصوص القانونية المتعلقة بالتهيئة والتعمير عناية كبيرة بأخذ كل الاحتياطات الضرورية التي يستوجبها التراث الثقافي المادي خاصة المواقع والمعالم الأثرية والتاريخية أثناء إعداد مخططات التعمير وشغل الأراضي، حيث أفرد لها قسما ضمن القانون رقم 90 – 29 مؤرخ في 14 جمادي الأولى عام 1411 الموافق أول ديسمبر سنة 1990 يتعلق بالتهيئة والتعمير، المعدل والمتمم بالقانون رقم 04 – 05 مؤرخ في 27 جمادي الثانية عام 1425 الموافق 14 غشت سنة 2004 (الجريدة الرسمية، 2001، العدد 77 ؛ الجريدة الرسمية، 1990، العدد 52).

8- قانون العقوبات:

تضمن الأمر رقم 66 – 156 مؤرخ في 18 صفر عام 1386 الموافق 8 يونيو سنة 1966 يتضمن قانون العقوبات، المعدل والمتمم نصا صريحا في المادة 160 من هي جرم ويعاقب مرتكبي مختلف المخالفات التي تخص التراث الثقافي بما فيها الاتلاف أو الهدم أو التشويه والتخريب (الجريدة الرسمية، 1966، العدد 49). كما حددت المادة 350 مكرر 1 و350 مكرر 2 من القانون رقم 09 – 01 مؤرخ في 29 صفر عام 1430 الموافق فبراير سنة 2009، المعدل والمتمم للأمر رقم 66 – 156 مؤرخ في 18 صفر عام 1386 الموافق 8 يونيو سنة 1966 يتضمن قانون العقوبات على أنه يعاقب "كل من سرق أو حاول سرقة ممتلك ثقافي منقول محمي أو معرف" (الجريدة الرسمية، 2009، العدد 15).

9- قانون مكافحة التهريب:

حدد الأمر رقم 05 – 06 المؤرخ في 18 رجب عام 1426 الموافق 23 غشت سنة 2005 والمتعلق بمكافحة التهريب المعدل والمتمم عقوبات مشددة على مرتكبي جرم تهريب "التحف الفنية أو الممتلكات الأثرية" حسب المادة 10 والتي تصل العقوبة إلى الحبس لمدة 10 سنوات، وغرامات مالية تساوي عشر مرات قيمة البضاعة، وتتضاعف هذه العقوبات في حالة استعمال وسيلة النقل حسب ما جاء في المادة 12 منه (الجريدة الرسمية، 2005، العدد 59).

***

علي عمرون  - الجزائر

 

لا ندري أين وصل المشروع العراقي للطاقة السلمية، وهل أجازته الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) وهي التي لها شروط ومتطلبات وإلتزامات وضمانات أساسية هامة عديدة، تُلزِم البلد تنفيذها قبل منحه الرخصة والضوء الأخضر للشروع بإنشاء المفاعل النووي أو محطة للطاقة النووية السلمية.

الوكالة الدولية مخولة دولياً في هذا المجال، وهي تحتكم لمعاييرها التي توفر نظاماً لمبادئ الأمان الأساسية، وصولآ لضمان حماية الناس والبيئة من التأثيرات الضارة للإشعاعات المؤينة. وقد ُوِضعتها لتطبق في جميع أنواع مرافق الإستخدامات النووية السلمية، وكذلك في الأنشطة النووية التي تُستخدم في الإجراءات الوقائية لتقليص المخاطر الإشعاعية القائمة. وتتحقق من خلال نظام المراقبة والتفتييش، وامتثال الدول الأعضاء للإلتزامات التي قطعتها على نفسها بموجب الإتفاقيات الدولية المتلقة بحظر إنتشار الأسلحة النووية، والإمتناع عن استخدام المواد والمرافق النووية لغير الأغراض السلمية.

وعدا هذا، فالوكالة الدولية تُعُدُ محور المشروعات النووية للأغراض السلمية. وهي تروج وتعمل مع الدول الأعضاء والشركاء في جميع أنحاء العالم لتعزيز الإستخدامات الآمنة والمأمونة والسلمية للطاقة الذرية وللتكنولوجيات النووية.

ضمن توجيهاتها، تنبه الوكالة الدولية الحكومات التي تفكر بإختيار الطاقة النووية السلمية الى ان إنشاء المنشأة/ المفاعل/ المحطة/ ووسائل السلامة والأمان النووي لعملها وإنتاجها، وتوفير المعدات والتكنولوجيا، الى جانب الكوادر العلمية والفنية، الخ. تتطلب أموالآ طائلة لابد من توفيرها.

ووضغت الوكالة وثيقة إرشادية ليسترشد بها صانعي القرار عند التفكير بالمشروع. وتبين إمكانية تقسيم الفترة ما بين الفكرة المبدئية لتبني خيار الطاقة النووية السلمية وحتى البدء في تشغيل محطة الطاقة النووية / المفاعل، الى 3 مراحل:

1- إجراء دراسات قبل إتخاذ القرار، والبدء بإطلاق برنامج الطاقة النووية.

2- القيام بأعمال تحضيرية لإنشاء المفاعل/ المحطة/ بعد إتخاذ القرار السياسي.

3- أنشطة لتنفيذ برامج الطاقة النووية.

ومن هذه الأنشطة ما يتعلق بإحتياجات البنية التحتية، التي تشتمل على مكونات متعددة، بدءاً من البنية التحتية الصناعية، مثل مرافق التصنيع، والإطار القانوني والتنظيمي، والإجراءات المؤسساتية لضمان الأمان والأمن، وحتى الموارد البشرية، والمالية، كإدراك مطلوب بان الطاقة النووية تقوم على تكنولوجيا متقدمة، ولذا تتطلب بنية تحتية متقدمة مماثلة.

ومن الشروط والإلتزامات ما يتعلق بالمشروع وحيثياته وأغراضه. وأخرى بالمفاعل النووي/ المحطة النووية. وثالثة بالقوى البشرية المطلوبة لإدارته و لضمان تشغيله وفق الأمان النووي والإستعداد للطوائ، وغيرها.

إن جميع الإلتزامات والمتطلبات مشروطة بعقد إتفاق للإلتزامات وللتعهدات والضمانات، يُعقد بين حكومة البلد والوكالة الدولية، هدفه تأمين السلامة النووية والإشعاعية، وصولآ لتحقيق أعلى معايير الأمان والأمن للمفاعل النووي، ولأنشطة مرافق المشروع، والحماية الملائمة للإنسان والبيئة من آثار الإشعاع المؤين الضارة، ومن أي تعرض إشعاعي فعلي أو محتمل. وكذلك الأمان في سلامة نقل المواد المشعة، وعند استيراد وتصدير المواد النووية ومتعلقاتها.

وهكذا، في تسلسل المتطلبات يأتي: إستحصال الموافقة الأصولية، أي الإجازة، من الوكالة الدولية. وأول الضمانات الألتزام بتنفيذ بنود المعاهدة الدولية لحظر إنتشار الأسلحة النووية، ثم الإنضمام إلى الأطراف المتعاقدة في اتفاقية الأمان النووي، التي تهدف إلى إلزام البلدان التي تشغِّل محطات قوى نووية أرضية بالحفاظ على مستوى رفيع من الأمان، والتخلص الآمن من النفايات النووية الخطرة، وتجنب مخاطر الطاقة النووية الضارة بالإنسان والبيئة معاً، ومنها تسرب مياه المفاعل أو مواده المشعة، و حدوث ذوبان للمفاعل النووي، مما يؤدي الى كارثة وخسائر بشرية ومادية جسيمة، لا تقتصر على البلد وإنما تهدد الدول المجاورة. ولذا تُعدُ الطاقة النووية من الصناعات المرتبطة بالمجتمع الدولي، رغم كونها محلية بطبيعتها، ومن هنا مشاركة عوامل دولية عديدة يتعين أخذها في الحسبان عند إنشائها، ومراقبة تشغيلها، وقبل ذلك، في مساندة إجازتها أو معارضتها..

ومن المتطلبات أيضاً ما يتعلق بالبنية التحتية للمفاعل النووي للإستخدامات السلمية، بدءاً من موقعه، الذي ولو يشغل مساحة جغرافية ليست كبيرة نسبيا من الأرض، لكنه يستلزم بنية تحتية خاصة، بحيث تكون الأرض، التي يُبنى عليها، أرضاً صلبة، ومتينة، وملائمة. وان يبنى المفاعل النووي عقب إجازته ً في موقع مناسب، ويُشترط ان لا يقع في منطقة زلازل أو معرضاً لكوارث طبيعية أخرى. ويكون بعيدً جداً عن المناطق السكنية، وعن مقرات مراكز ودوائر الدولة والمؤسسات الأخرى، كالمدارس والمحال التجارية والمعامل والمتنزهات وأماكن الراحة..

ولابد من الأخذ بالحسبان إزدواجية الطاقة النووية السلمية، فهي عدا فوائدها العديدة، ثها مخاطر تهدد الإنسان والبيئة معاً. فالمفاعلات النووية لتوليد الطاقة النووية السلمية تحتاج إلى وقود من اليورانيوم المخصب عالي الإشعاع (U-235). وان عملية الحصول عليه تخلف نفايات مشعة بالغة الخطورة على البشر والحيوانات والنباتات. كما يسبب الماء المستخدم في المفاعلات النووية بمشكلات تهدد سلامة البيئة والمياه الجوفية بإشعاعاتها الخطيرة.

إقترانا بذلك، يتعين ان يتوفر في المشروع جناحاً لعملية معالجة منتوجات المفاعل الثانوية المشعة، والتخلص من النفايات النووية الخطرة، الناتجة من عمله، بطريقة تتفق مع المعاهدات الدولية، وتحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي تشترط وتراقب وتشرف على تطبيق إستخدام العلوم والتكنولوجيا النووية إستخداماً سلمياً واَمناً. وهذه المهمة تتطلب تقنيات عالية لتفادي الأضرار، إضافة لتوفير كوادر علمية وفنية متدربة وكفؤة للتعامل بها.

نتوقف بإختصارعند المشروع العراقي المطروح، والذي أُطلقت عنه تصريحات رسمية إفتقرت للدراية بمتطلبات الوكالة الدولية. ففي 26/3/ 2024 أدلى رئيس هيئة الطاقة الذرية والوزير نعيم العبودي بتصريح أعلن فيه: " الموقع المختار لإقامة المفاعل سيتم تطهيره من التلوث الإشعاعي".. أي أن المفاعل النووي للطاقة السلمية العراقي، سيبنى في موقع أقل ما يقال عنه غير ملائم تماماً، وذلك لكونه ملوث بالإشعاع. وهذا مخالفة صريحة لمتطلبات وضمانات إجازته..

فالموقع الذي تحدث عنه يقع، غالباً، في التويثة، أي في الموقع السابق لمقر الطاقة الذرية العراقية، الذي تم قصفه من قبل إسرائيل في عام 1981، ومن ثم قصفته القوات الأمريكية عدة مرات، في أعوام 1991 و 1998 و 2003. ولم يعد سراً انه ملوث بإشعاع عالي وخطير جداً. فوفقاً للدكتور م. د. أستاذ الفيزياء الذرية السابق في جامعة بغداد، يُعدُ (مفاعل تموز) في التويثة من أكثر المناطق الملوثة إشعاعيا في العراق. وان مخلفات المفاعل وركامه ملوثة بنسب تصل إلى أكثر من ألف ضعف الحد المسموح به دوليا، وهذه النسب حددها فريق خاص في الأمم المتحدة كان قد زار الموقع.

وليس سراً أيضاً ان عمليات تنظيف الموقع بدأت منذ 18عاماً، ولم تنته لحد اليوم. و ليس مستبعداً سوء الإدارة البيئية، وتجاهل إدارة الطوارئ، إضافة للإستهانة بمخاطر التلوث، هي التي حالت دون إتمام تنظيفه لحد الآن. وقد كشفت تقارير إستقصائية وتسريبات وجود تعتيم وتستر على واقع حال التلوث الإشعاعي الخطير في موقع التويثة، الذي بسببه سمي "تشرنوبيل العراق"، والذي حصدت إشعاعاته القاتلة أرواح أعداداً كبيرة من المواطنين، من سكان المناطق القريبة للموقع، كالرياض والجعارة والوردية وجسر ديالى والزعفرانية والمدائن، إضافة للعشرات من الموظفين التابعين لدوائر وزارة العلوم والتكنولوجيا، الذين شاركوا في عملية التنظيف، وأُصيبوا بالسرطان وعلل أخرى غير قابلة للعلاج..

وكانت عضو لجنة الصحة والبيئة البرلمانية النائبة اكتفاء الحسناوي، قد كشف تقديم الوكالة الدولية للطاقة الذرية 80 ملاحظة بشأن اشعاعات (مفاعل تموز) وتصفيته، جواباً على استفسارات وزارة العلوم والتكنولوجيا. ونصحت بعدم طمر نفاياته المشعة إلا بتطبيق التوصيات التي وضعتها بشكل صحيح. وتحدث عضو مجلس النواب، محمد البلداوي، عن صعوبات بمعالجة التلوث الإشعاعي للمفاعل المضروب، مؤكداً " ان المعالجة ليست بللمعايير العالمية". ودعا الحكومة الى " التعامل مع ملف التويثة على أنه ملف خطر".. سنعود للملف لاحقاً..

ختاماً، إذا صح ما كشفه العبودي، نجزم بأن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لن تسمح بتشييد مفاعل نووي في منطقة موبؤة بالإشعاع القاتل. وإذا واصل المسؤولون العراقيون تخبطهم، وإفتقارهم للمعرفة، فان المشروع العراقي للطاقة النووية السلمية برمته لن يرى النور لا الآن ولا بعد 10 سنوات !

***

د. كاظم المقدادي

أكاديمي عراقي متقاعد - مقيم في السويد

 

مع أن مؤسسة تكوين افتتحت قبل فترة بشكل غير رسمي عن طريق موقعها في الشبكة العالمية؛ إلا أنه لم يحدث ذلك الضجيج في وسائل التواصل الاجتماعي، وإنما حدث في مؤتمرها الأول في المتحف المصري الكبير، والذي سمي بمؤتمر التأسيس، وقد ظهر فيه أمناء المؤسسة، وهم: يوسف زيدان وإبراهيم عيسى وإسلام بحيري من مصر، وفراس السواح من سوريا، وألفة يوسف من تونس، ونايلة أبي نادر من لبنان، وقد شارك في المؤتمر مجموعة من الباحثين والناقدين وعلماء من المسلمين والمسيحيين.

والمؤتمر كعادة المؤتمرات تمر أوراق أيامها دون ضجيج، ويخلصون إلى توصيات تنشر في وسائل الإعلام، قد تتحول إلى مشروع عملي، وقد تبقى -كالعادة - في ذاكرة التأريخ، ولكن ما حدث هنا؛ أن هناك من أثار ضجيجا حول مؤسسة تماثل مسجد الضرار، هدفها نشر الإلحاد، وهدم ثوابت الدين، والتشكيك بمسلمات المسلمين، وإباحة الفواحش والمحرمات، وإنكار السنة، وأنها ممولة من جهات مشبوهة، جعلت القاهرة مقرا لها، واتخذت من اسم أول سفر في التوراة عنوانا يميزها.

ولولا هذا الضجيج لما علم الناس عن المؤسسة ولا عن مؤتمرها الأول شيئا، إلا من قبل المهتمين بالفلسفة والفكر والتنوير، ثم من حقهم النقد، وهذه حالة صحية، لكنه ليس صحيا أبدًا هذا التجييش - إن صح التعبير- الذي هو أقرب إلى العاطفة والإقصاء منه النقد والتفنيد العلمي، وهذه التهم الجاهزة، والتي تظهر الأديان ومنها الإسلام، وكأنها في حال ضعف يرثى له، وأن الإسلام سوف يسقط بالكلية لوجود مؤسسة كهذه، أو مؤتمرات تقام بين فترة وأخرى.

مع أن مصر نفسها يوجد فيها أكبر مؤسسة إسلامية في العالم، وهي مؤسسة الأزهر الشريف، وفيها من الإمكانات والأوقاف ما لا يقارن بما عند مؤسسة تكوين، فضلا عن جامعتها ومدارسها وفروعها داخل وخارج مصر، وعن منشوراتها ومطبوعاتها ومؤتمراتها الدورية، فضلًا عن المؤسسات الإسلامية والمسيحية الأخرى في مصر ذاتها، وفي غير مصر بالمئات، مع رابطة العالم الإسلامي، وهيئة التقريب بين المذاهب الإسلامية، والحوزات والجامعات شرقا وغربا، فهذه تستطيع التفنيد والنقد بإمكاناتها العديدة بكل سهولة ويسر، بيد أنهم بهذا الضجيج يظهرون الإسلام أنه سوف يسقط بوجود مؤسسة أو مؤتمر له صبغة فلسفية علمانية أو حداثوية أو تنويرية في مصر أو غيرها، كما حدث سابقا مثلا مع مؤسسة (مؤمنون بلا حدود).

والضجيج فيما يبدو لي ليس مع المؤسسة كمؤسسة، فشعارها كما في موقعها «تطوير خطاب التسامح، وفتح آفاق الحوار، والتحفيز على المراجعة النقدية، وطرح الأسئلة حول المسلمات الفكرية، وإعادة النظر في الثغرات التي حالت دون تحقيق المشروع النهضوي الذي انطلق منذ قرنين»، الضجيج في نظري كان مع بعض الرموز الذين بفكرهم أثاروا شيئا من الجدل سابقا، فهو ضجيج أقرب إلى شخصنة المؤتمر أو المؤسسة من نقد ما خرج به المؤتمر ذاته، وكان على الأقل في الاتجاه المقابل لها أن يخرج من مرحلة الضجيج إلى ردات الفعل إذا كان نقديًا، وإذا لم يستطع أن يكون في مرحلة تأسيس الفعل، وهي حالة متقدمة جدا.

فالضجيج لا يجدي شيئًا من الجانبين، أو من أي جانب آخر، فهناك ضجيج أيضا يحدثه الطرف الآخر ضد اتجاهات إسلامية أو أصولية أو حركية، نراه بين حين وآخر، ولا يصح لأحد إقصاء الآخر، وكأن الفضاء ملك له، ثم لا يجوز استجداء السلطة، والأصل في الدولة أن تكون مركزية تحمي الجميع، وتترك التدافع بشكل طبيعي ليتهذب، لا ليتصارع ويتنافر.

هذا الضجيج بسلبياته وإن ظهر مناصروه البطولة فيه لا يجدي شيئا كما أسلفت، فالفكرة تتقوى وتنتشر بأي ضجيج حولها، بينما تتدافع وتتهذب إن قوبلت بالنقد والفكرة الأخرى، وفي مصر الحديثة ذاتها نماذج عديدة، فمحمد عبده اتهم بالماسونية، ومنهم من كفره ومنع من التدريس في الأزهر، وتعاونت السلطة الدينية مع السلطة السياسية لينفى خارج مصر، ثم حدث الأمر مع تلميذه قاسم أمين ورؤيته حول تحرير المرأة، وعلي عبد الرازق وكتابه الإسلام وأصول الحكم، ثم محمود أبو رية ورؤيته حول السنة وأبي هريرة، وخالد محمد خالد وكتابه من هنا نبدأ، وهكذا حتى طه حسين وكتابه حول الشعر الجاهلي، فذلك الضجيج ذهب كغيره، فهو أقرب إلى الهواء المرسل، وبقي ما تدافع معه نقدا وتفكيكا، لتتقبل العديد من أفكارهم المؤسسة الدينية نفسها، ومنها الأزهر فيما كتبه هؤلاء أو بعضه، ويتدافع معه حتى اليوم في حوزاتها وجامعاتها، ولهذا رفض محمود شلتوت مصادرة الكتب وما يحمله من فكر، فالكتاب يواجه بالكتاب، والفكرة تواجه بالفكرة.

ثم إطلاق التهم جزافًا عن طريق الضجيج إن كان كلامًا مرسلًا سيمر كغيره من الكلام، ولكن تهييج العقل الجمعي به من جهة، واستجداء السلطة من جهة ثانية، قد يؤدي إلى نتائج سلبية، تسجل كنقاط سلبية في تأريخ مجتمعاتنا المعاصرة، فعلي عبد الرازق أقصي وطرد من وظيفته، ونجيب محفوظ طعن في رقبته، وفرج فودة قتل وهو في طريقه ومعه ابنه الصغير، ونصر حامد أبو زيد حكم عليه بالردة، وأرادوا إبطال رابطته بزوجه ابتهال يونس.

أيضا علينا أن ندرك أن فضاء المعرفة اليوم، ومنها المعرفة الدينية ليست حكرًا على المؤسسة الدينية، وليست حكرًا على رجال بأعيانهم، ولا على مؤسسات معينة، ولو غلقنا دولنا القطرية لأي اتجاه آخر؛ فإن الفضاء اليوم لا يمكن غلقه، والعالم مفتوح على بعضه، وأصبحت في المقابل رموز عقلية لها مكانتها المعرفية والنقدية، لا يخلو منها قطر إسلامي أو عربي، ولهم حضورهم في وسائل التواصل وغيرها، فلا مفر اليوم إلا أن نعترف بالآخر، وأن نتدافع معه علميا وفكريا، وأن نتجاوز مرحلة الضجيج والتهييج السلبي وإصدار الأحكام المسبقة، وألّا ندور في دائرة الشخصنة والخوف وردات الفعل بشكل سلبي ومبالغ فيه.

***

بدر العبري

على الرغم من اندياح صيت العقيدة الماركسية على مستوى جهات العالم الأربع، بسبب كونها من أكثر الفلسفات تعبيرا"عن التصورات (العقلانية)، وأشدّ المنهجيات تمسكا"بالأساليب (الواقعية). إلاّ أنها وبرغم ذلك – وربما بسبب طابعها الكوني ونزوعها الشمولي – تعد من أكثر الفلسفات عرضة لسهام (النقد) وطعون (المراجعات) منذ أن أبصرت النور عند منتصف القرن التاسع وحتى يومنا هذا، ليس فقط من جانب خصومها العديدين وأعدائها المتنوعين فحسب، وإنما من قبل المنتمين إليها والمحسوبين عليها من مختلف تيارات الأنصار والمشايعين أيضا".

ولما كانت الماركسية تتكون من ثلاثة أقسام رئيسية هي؛ المادية بشقيها الفلسفي والتاريخي، والاقتصاد السياسي، والشيوعية العلمية. فقد أثيرت حول الأقسام المتعلقة بقضايا التاريخ وشؤون المجتمع الكثير من التساؤلات والعديد من الإشكاليات التي لا يبدو أنها ستقف أو تنتهي عند حدّ معين، طالما أن مباحثها تتناول تلك القضايا بطريقة أعمق وأوسع مما تفعل بقية الأقسام المعنية بالجوانب الفلسفية المجردة. ولعل مسائل من مثل؛ مراحل التطور الاجتماعي، وأنماط الإنتاج الاقتصادي، والتشكيلات الاقتصادية – الاجتماعية، كانت الشغل الشاغل لأجيال متعاقبة من المنظرين والباحثين الماركسيين، الذين حاول كل واحد منهم إثبات وجهة نظره الخاصة حيال الكيفية التي تعمل بها السيرورات والديناميات والتفاعلات المسؤولة عن حصول التغييرات والتطورات في البنى والأنساق والسياقات، على إيقاع الأواليات الجدلية التي تخترق الظواهر الاجتماعية عموديا"وأفقيا"لتعيد تشكيلها على نحو دائم.

وفي هذا الإطار، فقد تربعت مقولة (التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية) وما يترتب عليها ويتمخض عنها من (أنماط إنتاجية) متنوعة، صدارة الجدالات النظرية والنقاشات المنهجية لا على مستوى العالم الغربي بصيغ فلسفات ونظريات ومنهجيات فحسب، بل وكذلك على مستوى العالم الشرقي ولواحقه بصيغ خلافات واختلافات وتقاطعات. ففي الوقت الذي لم تعد فيه الأطروحة الماركسية التقليدية حول التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية الخماسية (المشاعية، والعبودية، والإقطاعية، والرأسمالية، والشيوعية) تحظى بالقبول والموافقة من لدن الكثير دون نقاش أو تساؤل كما لو أنها معطيات تعلو على الواقع وتتسامى فوق التاريخ , بحيث ينظر إليها كمعيار مطلق لكشف ميول (الأصدقاء) أو (الأعداء) الافتراضيين، سواء ممن ينتمون الى معسكر اليسار أو ينخرطون في مواقف اليمين.

ولذلك فقد أظهرت الدراسات والبحوث التاريخية والاقتصادية والاجتماعية اللاحقة التي أنتجها طيف واسع من الماركسيين (الجدد)، ان جدليات التطور والتغير في المجتمعات البشرية من التعقيد والتشابك والتفاعل بحيث لا يمكن حشرها ضمن أطر نظرية ثابتة أو صبها في قوالب إيديولوجية جامدة. وهو الأمر الذي حدا بالانثروبولوجيان الغربيان (كريس هان) و(كيث هارت) تضمين كتابهما المشترك (الانثروبولوجيا الاقتصادية)، بعض الإشارات والملاحظات المنهجية التي مؤداها (ان أفكار ماركس عن تعاقب أنماط الإنتاج في التاريخ هي، في أحسن حالاتها، أفكار تمهيدية)، مثلما ان (الانثروبولوجيا الاقتصادية عند ماركس هي مجموعة من البناءات التحليلية عن نمط الإنتاج الرأسمالي، يعدّلها وعي العالم الذي سبق الرأسمالية ويقع خارج نمطها).

والحقيقة ان هذه الإشارات والملاحظات لا تعدو أن تكون تتويجا "لسلسلة طويلة من السجلات المتقادمة والتحليلات المتراكمة، التي اندلع النقاش حولها منذ خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي تعبيرا "عن طبيعة الانقسامات الحاصلة داخل المعسكر الشيوعي - الماركسي ذاته حول جملة من القضايا الفكرية والمنهجية التي لم يعد ممكنا "تخطيها أو تجاهلها. ففريق أول استمر مصرا"على التمسك بالمقولات والأطروحات التقليدية التي تعكس الصور النمطية لسيرورة التشكيلات (الخماسية)، دون السماح بإدخال أية تعديلات يمكن أن تحيد عن الصراطات المستقيمة التي أضحت من جملة عوائق تطور العقيدة الماركسية. في حين ارتأى فريق ثان ضرورة إخضاع تلك المقولات والأطروحات لسنّة التطور الاجتماعي، ليس فقط تمشيا" مع المنهجية الديالكتيكية للماركسية التي شكلت حجر الأساس في منظوماتها فحسب، وإنما لمواكبة التحولات النوعية التي لا تفتأ تتعرض لها المجتمعات الغربية والشرقية على حدّ سواء.

وفي خضم تلك السجالات والجدالات العاصفة والساخنة في بعض الأحيان، ظهرت العديد من الآراء والأفكار الداعية الى الخروج عن قوالب النسق التقليدي لأنماط الإنتاج (الخماسية) المتداولة، والتي اجترحت بالأصل كمقاربة لتفسير الإيقاع التطوري في المجتمعات الغربية، كون هذه الأخيرة لا تستجيب أو لا تتوافق مع أشكال التمرحل الإنتاجي للمجتمعات الشرقية – الآسيوية كما أوضح أصحاب تلك الآراء. وكما لاحظ المؤرخ والمفكر الاقتصادي العراقي (عصام الخفاجي) انه (في أواخر الستينات وطوال السبعينات كانت الموضة السائدة بين الانثروبولوجيين الماركسيين أن يختتموا دراساتهم العميقة لمناطق أو جماعات معينة بمحاولة البرهان على أن تلك الأشكال من التنظيم الاجتماعي التي درسوها تمثل نمط إنتاج متميز، فخرج علينا دوبري وراي بمفهوم (نمط الإنتاج السلالي)، في حين وصفت كوكري فيدوفيتش ما أسمته (نمط الإنتاج الإفريقي). هذا بالإضافة الى (نمط الإنتاج الآسيوي) الذي سبق لماركس أن أشار إليه في إطار تحليلاته لبنى المجتمعات الزراعية ما قبل الرأسمالية، مثلما (نمط الإنتاج البدوي) الذي اقترحه المؤرخ (بيري أندرسون) لتفسير الطبيعة النوعية لتلك المجتمعات التي لا تزال عالقة بين الطورين البدوي والإقطاعي.

أخيرا"، ولأن طبيعة الموضوع لا تتناسب وحجم المسموح به ضمن هذه الصفحة، فإننا نأمل ان الإجابة عن سؤال؛ هل يعكس هذا التشظي في المقولات والمصطلحات دلائل (مكاسب معرفية أو انحرافات إيديولوجية)، ستكون حافزا" لمقالات أخرى.

***

ثامر عباس – كاتب وباحث من العراق

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

رُوي أنَّ (حُيَيَّ بن أَخْطَبَ النَّضْرِيَّ) خرج «حَتَّى أَتَى كَعْبَ بن أَسَدٍ القُرَظِيَّ، صَاحِبَ عَقْدِ بَنِي قُرَيْظَةَ وعَهْدِهِمْ، وكَانَ قد وَادَعَ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، عَلَى قَوْمِهِ، وعَاقَدَهُ عَلَى ذَلِكَ وعَاهَدَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ كَعْبٌ بِحُيَيِّ بن أَخْطَبَ أَغْلَقَ دُونَهُ بَابَ حِصْنِهِ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَأَبَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ.» فدار بينهما هذا الحوار، الذي يصحُّ أن نُسمِّية (حوار وَيْحَ)؛ لكثرة ما تردَّدت فيه هذه العبارة:

- «وَيْحَكَ، يَا كَعْبُ! افْتَحْ لِي!

- وَيْحكَ، يَا حُيَيُّ: إنَّكَ امْرُؤٌ مَشْؤومٌ! وإِنِّي قَدْ عَاهَدْتُ مُحَمَّدًا، فَلَسْتُ بِنَاقِضٍ مَا بَيْنِي وبَيْنَهُ، ولَمْ أَرَ مِنْهُ إلَّا وَفَاءً وصِدْقًا.

- وَيْحَكَ، افْتَحْ لِي أُكَلِّمْكَ!

-مَا أَنَا بِفَاعِلِ!

- واللهِ، إنْ أَغْلَقْتَ دُونِي إلَّا عَنْ جَشِيشَتِكَ، أَنْ آكُلَ مَعَكَ مِنْهَا!

فَأُحْفِظَ الرَّجُلُ(1)؛ فَفَتَحَ لَهُ، فَقَالَ:

- وَيْحَكَ، يَا كَعْبُ، جِئْتُكَ بِعِزِّ الدَّهْرِ وبِبَحْرٍ طَامٍ، جِئْتُكَ بِـ(قُرَيْشٍ) عَلَى قَادَتِهَا وسَادَتِهَا، حَتَّى أَنْزَلْتُهُمْ بِمُجْتَمَعِ الأَسْيَالِ مِنْ (رُومَةَ)، وبِـ(غَطَفَانَ) عَلَى قَادَتِهَا وسَادَتِهَا حَتَّى أَنْزَلْتُهُمْ بِذَنَبِ (نَقْمَى) إلَى جَانِبِ (أُحُدٍ)، قَدْ عَاهَدُونِي وعَاقَدُونِي عَلَى أَنْ لَا يَبْرَحُوا حَتَّى نَسْتَأْصِلَ (مُحَمَّدًا) ومَنْ مَعَهُ.

- جِئْتَنِي، واللهِ، بِذُلِّ الدَّهْرِ، وبِجَهَامٍ قَدْ هَرَاقَ مَاءَهُ، فَهُوَ يَرْعُدُ ويَبْرُقُ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَيْحَكَ، يَا حُيَيُّ! فَدَعْنِي ومَا أَنَا عَلَيْهِ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ إلَّا صِدْقًا ووَفَاءً.

فَلَمْ يَزَلْ حُيَيٌّ بِكَعْبِ يَفْتِلُهُ فِي الذُّرْوَةِ والغَارِبِ، حَتَّى سَمَحَ لَهُ، عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ عَهْدًا مِنْ اللهِ ومِيثَاقًا: لَئِنْ رَجَعَتْ قُرَيْشٌ وغَطَفَانُ، ولَمْ يُصِيبُوا مُحَمَّدًا أَنْ أَدْخُلَ مَعَكَ فِي حِصْنِكَ حَتَّى يُصِيبَنِي ما أَصَابَكَ. فَنَقَضَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ عَهْدَهُ، وبَرِئَ مِمَّا كَانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ رَسُولِ الله.»(2)

كذا ناوشنا (ذو القُروح) بحكاية (حُيَيٍّ وكعب) المشار إليها. قلتُ:

- فما جزاء من فعلَ ذلك؟! 

- إنَّما نَكَب نفسه بنفسه.  فاليهود أخربوا بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، ونالوا جزاء خياناتهم المتعاقبة؛ «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِه».  وما أشبه حِوار (حُيَيٍّ وكَعْبٍ) بالأمس بحِوارهما اليوم، متمثلَين في (الكيان الصهيوني المحتل) و(الولايات المتَّحدة القُرَظِيَّة)!

- قد يقال: هذه رواية المسلمين، وقد اختلقوها؛ إذ مَن كان يسجِّل حِوار حُيَيٍّ وكعب بتفاصيله المذكورة في «السِّيرة النبويَّة». 

- وهذا تساؤلٌ مشروعٌ من الوجهة العِلميَّة.  لكنَّه لا يُعْشِي الناظر عن خيانة هؤلاء، بقطع النظر عن التفاصيل؛ بدليل أنَّ مَن وَفَى بعهده من اليهود أو صالحَ، لم يمسسه سوء.  وذلك مثل أهالي ما سُمِّي بمنطقة (الكتيبة) في (خيبر)، التي صالح أغلبُ آطامها الرسول، فأقامهم على أراضيهم، ولم يُمَسُّوا، هُم ولا مزارعهم ولا ذراريهم.(3) 

- ما حدث، يا ذا القُروح، أنَّ هؤلاء الذين لجؤوا ذات فرارٍ إلى (الحِجاز)، وهم لا يمُتُّون إلى الحِجاز بصِلة، فارِّين من (الرُّومان) في (الشام)، فاستوطنوا في أحياء من أرض العَرَب، وبين ظهرانيِّ أرباب الأرض الأصليِّين، لم يحفظوا جميلًا، كنهجهم التاريخي، ولم يَرعوا جِوارًا، ولم يحترموا عهدًا، فنالوا جزاءهم، ثمَّ أُعيدوا من حيث جاؤوا، ما دامت تلك حالهم وذاك سلوكهم. 

- أجل، فلقد جاء (محمَّد)، لا رسولًا فحسب، ولكن أيضًا محرِّرًا للعَرَب ولأرضهم من الاستيطان الأجنبي، ومن الاستعباد الفارسي أو الرُّوماني.  والحقُّ أنَّ كلَّ منصفٍ يُدرِك سياسة اليهود الحمقاء في مواجهة المدِّ الإسلامي.  فـ(بَنُو النَّضير)، مثلًا، لم يكفُّوا عن التآمر على المسلمين، بعد إجلائهم، بل عادوا إلى التآمر، فسعى زعيمهم (حُيَيُّ بن أخطب) ثانيةً، كما رأينا، للتغرير بـ(بني قُريظة)، الذين كانوا ما يزالون على معاهدة مع محمَّد، فحَمَلَهم على نقض تلك المعاهدة.  ولمَّا حلَّ ببني قُريظة ما حلَّ بسالفيهم، بسبب نقضهم عهدهم هم أيضًا، ظهر التآمر مرَّةً أخرى في أهل (خيبر) للانقضاض على (المدينة)، للقضاء على المسلمين، وجعلوا يحرِّضون (قريشًا) و(غطفان) على ذلك.(4) وبعيدًا عن اختلاف الروايات الإسلاميَّة في أسباب ما حلَّ باليهود في الحِجاز، فسنَدَع الشهادة هنا لمؤرِّخٍ يهودي، هو (إسرائيل ولفنسون).

- إذن، دَعْ عنك المؤرِّخين المسلمين، وهات ما يقوله (ولفنسون)؛ فالحقُّ ما شهدت به الأعداء!

- يقول: «ينبغي أن لا يغيب عن البال أن الخسارة القليلة التي لحِقت يهود بلاد الحجاز ضئيلة بالقياس إلى الفائدة التي اكتسبها العنصر اليهودي من ظهور الإسلام، فقد أنقذَ الفاتحون المسلمون آلافًا من اليهود كانوا منتشرين في أقاليم الدولة الرُّوميَّة، وكانوا يقاسون ألوانًا من العذاب.»(5)  ثمَّ يقول: «كان يهود يثرب يتشوَّقون لرؤية الرَّجُل الذي ينشر دعوةً دِينيَّةً تتفق في جوهرها مع عقائدهم، وكانوا يعتقدون أنَّ ظهور رَجُل ليس من بني إسرائيل يدعو إلى توحيد الإلَه وإلى تعاليم التوراة وإلى تمجيد إبراهيم وموسى إنَّما هو ظاهرةٌ غريبةٌ في التاريخ البَشري.  ولا شكَّ أنهم سمعوا من مُصعب بن عُمير بعض الآيات القرآنيَّة، وأنه كان لهذه الآيات وقعٌ حَسَنٌ في نفوسهم جعلهم يؤمِّلون في هِجرة النبيِّ إلى يثرب آمالًا كِبارًا.  ويظهر أنهم كانوا يعتقدون، أو على الأقل يرجون، أن يتمكَّنوا من التأثير فيه حتى يَدخُل في دِينهم، حيث يتعاونون على محو عبادة الأصنام، وقد يُحتمل أنهم كانوا يرجون أيضًا أن يتمكَّن الرسول من التأليف بين البطون اليثربيَّة وجعلها كُتلةً واحدةً تتعاون على النهوض بهذه المدينة التي كانت في حاجةٍ شديدةٍ إلى الهدوء والسكينة، وكانوا يعتقدون أنه لو تمَّ ذلك لأصبحت يثرب أعظم مركزٍ للتجارة في الجزيرة، ولتمكَّن أهلها من أن يضربوا تجارة مَكَّة وغيرها.»(6)  واعترفَ في موضعٍ آخَر بأنَّ «الذي يلامون عليه بحق، والذي يؤلم كُلَّ مؤمن بإلَهٍ واحد، من اليهود والمسلمين على السواء، إنَّما هو تلك المحادثة التي جرت بين نفرٍ من اليهود وبين بني قريش الوثنيِّين، حيث فضَّل هؤلاء النفر من اليهود أديان قريش على دِين صاحب الرسالة الإسلاميَّة.  نعم، إنَّ ضرورات الحروب أباحت للأُمم استعمال الحِيل والأكاذيب، والتوسُّل بالخدع والأضاليل للتغلُّب على العدو، ولكن مع هذا كان من واجب هؤلاء اليهود أن لا يتورَّطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش، و أن لا يصرِّحوا أمام زعماء قريش، بأنَّ عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامي، ولو أدَّى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطلبهم؛ لأنَّ بني إسرائيل الذين كانوا مُدَّة قرونٍ حاملي راية التوحيد في العالم بين الأُمم الوثنيَّة باسم الآباء الأقدمين، والذين نُكِبوا بنكباتٍ لا تُحصَى، من تقتيلٍ واضطهادٍ بسبب إيمانهم بإلَهٍ واحد، في عصور شتَّى من الأدوار التاريخيَّة، كان من واجبهم أن يُضَحُّوا بحياتهم وكلِّ عزيزٍ لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين.  هذا فضلًا عن أنهم بالتجائهم إلى عَبَدة الأصنام إنَّما كانوا يحاربون أنفسهم بأنفسهم، ويُناقضون تعاليم التوراة، التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام والوقوف منهم موقف الخصومة.»(7)  وينقل عن (البلاذري) ما يؤيِّد شكَّ بعض العلماء والمستشرقين في صِحَّة بعض الأحاديث التي تقول إنَّ البقية الباقية من اليهود في المدينة قد تمَّ جلاؤها عنها في حياة الرسول، قائلًا: «ويؤيِّد شَكَّهم ما وجدنا من رواياتٍ ونصوصٍ تاريخيَّةٍ تدلُّ على أنَّ الرسول كان يُعامل اليهود بعد غزوة خيبر بروح التسامح، حتى إنَّه أوصی عامله معاذ بن جبل (بأن لا يفتن اليهود عن يهوديَّتهم).  وعلى هذا النحو عُومل يهود البحرَين؛ إذ لم يُكلَّفوا إلَّا بدفع الجِزية، وبَقُوا متمسِّكين بدِين آبائهم.»(8)

أ فمن يُنكر وقائع التاريخ، ولا ينظر إلَّا بعينٍ واحدة، هي عين أيديولوجيَّته، متجاهلًا سياقات الأحداث، التي يشهد بها كلُّ موضوعيٍّ منصف.. أ فمثل هذا يُحكِّم العقل، أو يستطيع تحكيمه؟!

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

.................................

(1)  في الأصل: «فاحفظ الرجلَ».  ولا معنى لهذا.  وإنَّما الصواب ما أثبتناه، أي أنه اغتاظ من كلام حُيَيٍّ ففتح الباب.  والغريب أن محقِّقي «السِّيرة» شرحوا كلمة «أُحفِظ» بمعناها الصحيح في الحاشية، وأثبتوها في المتن غَلَطًا، كما ضبطوا المبني للمجهول بعدها منصوب الآخِر!

(2)  ابن هشام، عبدالمَلِك، (1955)، السِّيرة النبويَّة، تحقيق: مصطفى السَّقَّا وآخرَين، (مِصْر: مصطفى البابي الحلبي وشركاه)، 3: 220- 221.

(3)  يُنظَر: ولفنسون، إسرائيل، (1927)، تاريخ اليهود في بلاد العَرَب في الجاهليَّة وصدر الإسلام، (القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر)، 174.

(4)  يُنظَر: م.ن، 157- 000.

(5)  م.ن، ي.

(6)  م.ن، 110- 111.  ويُنظَر عموم: الباب السادس من كتابه، 110- 140.

(7)  م.ن، 142- 143.

(8)  م.ن، 177.

 

إن الموجات القوية المتزامنة من التكامل الأوروبي والتفضيلات المناهضة للهجرة التي تجتاح أوروبا، والتي تستفيد من الخطابات الشعبوية، تعكس مخاوف المواطنين الاقتصادية الناجمة عن الأزمة المالية، والمخاوف الثقافية الكامنة، والشكوك واسعة النطاق تجاه المؤسسات الدولية، والإحباط من الأزمات المالية والسياسية العالمية. توفر الأبحاث الانتخابية وأبحاث الرأي العام المتوفرة روايات مجزأة ومتضاربة حول الأصول النفسية لهذه التفضيلات المناهضة. نحاول تحديد إطار نظري شامل جديد يركز على رد الفعل كتوجه سياسي، وتقديم اختبار تجريبي للنظرية المقترحة باستخدام بيانات من المسح الاجتماعي الأوروبي. إن تفسير رد الفعل السياسي كمحرك للتفضيلات السياسية يمكن أن يدفع البحث إلى الأمام حول التحديات التي تواجه التمثيل الديمقراطي، وخاصة فك الارتباط السياسي، والاحتجاجات العنيفة، والتصويت الشعبوي، والأحزاب المناهضة للمؤسسة في سياق الأزمات المالية والسياسية.

يمكن مقارنة حجم المواقف التي يتخذها الرجال والنساء المختلفون تجاه التغيير الاجتماعي بالطيف الشمسي. وعلى الطرف المقابل يقف التطرف ورد الفعل الذي لا هوادة فيه.

تهدف هذه المقالة إلى التعبير نظرياً عن الخصائص النفسية للرجعية باعتبارها توجهاً سياسياً جماعياً في سياق الأزمة المالية وصعود السياسات الحزبية الشعبوية، وتقديم اختبار تجريبي للرجعية كمحرك رئيسي للمقاومة المتزامنة. تفضيلات التكامل في الاتحاد الأوروبي والهجرة. يُشار إلى الرجعية على أنها النظير الأيديولوجي للتطرف والتقدمية. في شكله المعاصر، يستخدم الباحثون هذا المصطلح بشكل متزايد لوصف خطاب الأحزاب الشعبوية اليمينية والنظرة السياسية لمؤيديها في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.

إن الإشارات إلى "العقل الرجعي"، و"المزاج الرجعي"، و"القلب الرجعي"، و"المد الرجعي"، و"الناخب الرجعي"، و"الأحزاب الشعبوية الرجعية والمعادية للأجانب" تعترف بالروابط المفاهيمية بين الرجعية وكراهية الأجانب، والمطالب المناهضة للهجرة، العنصرية، والتشكك المناهض للخبراء، والمشاعر المناهضة للمؤسسة، والمواقف المناهضة للاتحاد الأوروبي، لكنها تترك خصائصها النفسية غير مستكشفة إلى حد كبير.

عرّف الأكاديمي والسياسي اليوناني "كونستانتينوس ديمرتزيس" Konstantinos Demertzis الرجعية بأنها "مفهوم جماعي يصف توجهاً سياسياً معقداً، يجمع بين العاطفة الاستيائية والرغبة القوية في العودة إلى الماضي". يعتمد التوجه الرجعي على قيم المحافظة والنفور مما هو جديد. إن طابعها العاطفي هو المشاعر المعقدة للاستياء، ومزج الغضب والخوف والأمل والحنين والخيانة والشعور بالظلم المتصور. إن الأدلة على الرجعية يمكن تتبعها تجريبياً في المشاركة والدعم الخامل للأعمال السياسية غير القانونية والعنيفة، والتي يحركها شعور متزايد بالركود الاقتصادي، والقلق الناجم عن الأزمة المالية، والمخاوف الاقتصادية والثقافية لدى العديد من المواطنين.

يعتمد تطبيق مفهوم الرجعية كمحرك للتفضيلات المجمعة المناهضة للهجرة ومعاداة الاتحاد الأوروبي على الأبحاث الموجودة التي تظهر أنهم يتشاركون في الخصائص النفسية العاطفية والتحفيزية، والذي يدعو إلى الفرضية القائلة بأن هذه التفضيلات يمكن أن تنبع من توجه مشترك. يتم تفسير التفضيلات المناهضة للاتحاد الأوروبي من خلال المواقف العاطفية تجاه الاتحاد الأوروبي التي تتغذى من قضايا الثقافة والهوية، والميول الاستبدادية، ومعارضة العالمية، والانفتاح.

 وبما أن الاتحاد الأوروبي يتطلب المزيد من التخلي عن السيادة الوطنية، فإنه يثير اعتبارات الهوية الوطنية والهجرة. وفي المقابل، ترتبط التفضيلات المناهضة للهجرة بالمشاعر تجاه المجموعات الخارجية (التي تشكل أيضاً العلاقات بين المجموعات) وتعتمد على الضعف الاجتماعي والاقتصادي، مثل المهاجرين. انخفاض مستوى التعليم، وضعف الوضع في سوق العمل، والحرمان الاقتصادي. وبما أن العديد من الأحزاب اليمينية تصور الهجرة على أنها الخطر المركزي على الدولة القومية، فإن التفضيلات المناهضة للهجرة تُستخدم لتفسير التصويت اليميني.

ترتبط التفضيلات المناهضة للهجرة أيضًا بقيم الحفاظ على البيئة، واعتبارات هوية الاتحاد الأوروبي، والمواقف المناهضة للاتحاد الأوروبي. العديد من أولئك الذين يرون تهديداً من المهاجرين لهويتهم الوطنية يكرهون المهاجرين ولا يرون أي فوائد في التعاون الدولي حتى في شكل عضوية الاتحاد الأوروبي.

تقدم هذه النماذج رؤى قيمة لفهم التفضيلات المناهضة للاتحاد الأوروبي والهجرة، لكنها تفشل في مراعاة جوهرها المشترك: رد الفعل والاستياء تجاه الحاضر والدافع لتغييره إلى الوراء - وبعبارة أخرى، الدوافع العاطفية والتحفيزية للتوجه الرجعي. نقترح أن تحليل هذه التفضيلات تحت العدسة المفاهيمية لرد الفعل عندما تحدث معاً، بدلاً من اعتبارها ظواهر مستقلة، سيسمح بفهم أوضح لدوافعها النفسية المعقدة. تدمج الرجعية تحت مفهوم عنقودي واحد المقاربات المجزأة الحالية التي تدرس فقط بعض أجزائها، مما يؤدي إلى تجزئة هذا التوجه السياسي المعقد. وعلى هذا النحو، فإنه يمكن أن يوفر رؤى قيمة نحو فهم التحديات المعاصرة للتمثيل الديمقراطي.

في البيئة الشعبوية المتصاعدة الحالية في أوروبا، أصبحت الرجعية آخذة في الارتفاع. إن تجميع التفضيلات المناهضة للهجرة والمناهضة للاتحاد الأوروبي أمر متكرر في الخطاب السياسي للأحزاب السياسية الرئيسية والجديدة، بهدف تعزيز الشعور بالسيادة الوطنية. إن الوقت غير المحدد الذي كان فيه كل شيء أفضل، عندما ازدهرت الأمة باستخدام سلطاتها الخاصة وكانت تبدو مستقلة، يتم تصويره بشكل مثالي من خلال شعار ترامب "اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى" في الولايات المتحدة أو هتاف حزب استقلال المملكة المتحدة "لاستعادة السيطرة" في المملكة المتحدة. في مثل هذه الروايات الشعبوية، يؤثر التنوع العرقي الثقافي، والاستيعاب الثقافي، والعولمة على سيادة الوطن بطرق تدمج المخاوف الثقافية والاقتصادية والسياسية. ولكي نكون واضحين، فإن هذه التفضيلات المضادة يمكن أن تحدث بشكل منفصل، وهنا لا يوجد افتراض بأنها تعتمد بالضرورة على توجهات رجعية. إن فرضيتنا هي أنه عندما تحدث معاً، فمن المحتمل أن تكون دليلاً على رد الفعل.

نحن نختبر هذه النظرية باستخدام بيانات من المسح الاجتماعي الأوروبي، والتي تم استخدامها على نطاق واسع لدراسة التفضيلات المناهضة للاتحاد الأوروبي. لقد وجدنا أن مكونات ما نطلق عليه "التوجه الرجعي" تتنبأ بتفضيلات مناهضة للاتحاد الأوروبي ومعادية للهجرة بين الناخبين في أوروبا، وتؤدي أداءً جيداً بشكل خاص بعد الأزمات المالية. مساهمتنا ذات شقين: نحن نوضح إطاراً نظرياً جديداً وشاملاً يركز على رد الفعل كتوجه سياسي، ونثبت تجريبياً أن رد الفعل يقع في قلب التفضيلات المعاصرة المناهضة للاتحاد الأوروبي والهجرة، بالاعتماد على مزيج من المشاعر العاطفية والعاطفية. الخصائص النفسية التحفيزية.

الرجعية: فصل رد الفعل عن المذاهب الأخرى

يوفر تعريف المفاهيم جنباً إلى جنب مع المصطلحات المجاورة وضوحاً، وهو أمر ضروري لتطوير النظرية وكذلك البحث التجريبي. نناقش هنا بإيجاز الخصائص التي تميز الرجعية عن المذاهب المرتبطة بها: الشعبوية، والراديكالية، والمحافظة، والتقدمية.

ـ الرجعية ليست نتيجة ثانوية للشعبوية وليست مرادفاً لها. الرجعية هي توجه سياسي مشترك بين المواطنين الذين يتبنون نظرة عكسية للحاضر. تتغذى الشعبوية، التي يتم تناولها إما كأيديولوجية رقيقة أو كنوع من الخطاب، على التوتر بين "الشعب" و"النخبة الفاسدة". وحتى يومنا هذا، فشلت الأدبيات في إظهار توجه أو أيديولوجية "شعبوية" واحدة بين المواطنين. يمكن أن تكون الرجعية أحد هذه التوجهات السياسية التي تفسر سبب دعم المواطنين الأفراد للأحزاب الشعبوية. نحن نرى أن الأحزاب الشعبوية تستغل النظرة الرجعية للرجعية، وتجمعها بنجاح مع الخطابات المناهضة للمؤسسة والنخبة. سوف تنظر الرجعية دائماً إلى الوراء. والأحزاب الشعبوية ليست بالضرورة رجعية، ولكنها يمكن أن تروق لتوجهات المواطنين الرجعية، فعندما يعتمد مزاج الناس بقوة على رد الفعل، تزدهر الروايات الشعبوية.

ـ الرجعية ليست يمينية أيضاً ولا يسارية. على الرغم من أن النظرة الرجعية للرجعية غالباً ما ترتبط بالإيديولوجيات اليمينية. تجدر الإشارة إلى أن الأيديولوجيات والسرديات اليسارية لا تتطلع بالضرورة إلى الأمام. فاليسار لديه رجعيون أيضاً. على الرغم من أنهم قد لا يرغبون في العودة إلى الماضي، إلا أنهم ينشرون ذكريات وأفكاراً من الماضي لتوضيح نوع معين من الحاضر والرؤية للمستقبل. على سبيل المثال، الحجج اليسارية المتشككة في أوروبا الداعية إلى عودة أوروبا الاجتماعية القديمة. قام الأكاديمي اليوناني "ديمرتزيس" بتحديد التوجهات الرجعية ذات الميول اليسارية في اليونان خلال الأزمة المالية، موضحاً كيف يتم الخلط بين الرجعية والراديكالية في كثير من الأحيان (خاصة في الإشارات إلى "اليمين الراديكالي"). كلا التوجهين يدعوان إلى الاقتلاع والانفصال عن الوضع الراهن؛ إنهم يفعلون ذلك، لكنهم يفعلون ذلك في اتجاهات متعاكسة. تؤوي السياسة الراديكالية رغبة في الجديد، في حين تعزز السياسة الرجعية الرغبة في إعادة الأمور إلى ما كانت عليه.

ـ الرجعية ليست محافظة أيضاً، لأن السياسة المحافظة تدعم الوضع الراهن، وتريد إبقاء الأمور كما هي، وتعارض التغيير. أما التوجه الرجعي فيحتفل بالماضي، ويكره التطورات السياسية الحالية، ولا يستمتع بالحاضر. الاستياء والحزن يقعان في قلب الحنين الرجعي. يشعر المحافظون بالارتياح تجاه التقاليد المألوفة ويتبنونها، ولكن من قاعدة عاطفية مختلفة: يمكن أن تكون درجة رضاهم عن الحياة عالية، ويمكن أن يكونوا متفائلين. ومن الممكن أن يتبنى المحافظون الذين يشعرون بالاستياء إزاء الظروف الحالية شوقاً رجعياً للعودة إلى أمان الماضي بمجرد أن يتخلوا عن الأمل في الحاضر.

ـ ترتبط الرجعية بالتقليدية، التي تعبر عن الرغبة في الحفاظ على المعتقدات والممارسات المشابهة لثقافة الفرد المألوفة وعدم الرغبة الواضحة في التغيير، ولكنها تضيف تأثيراً مستاءً على القيم التقليدية. وتتعزز إحباطات التوجه الرجعي في الرغبة الحازمة في التغيير إلى الوراء، واستعادة فترة زمنية غير محددة في الماضي، مقترنة بعاطفة الاستياء والشعور بالظلم. إن تفضيل التراجع والانشغال بما هو مفقود يضع الرجعية على الجانب الآخر من التقدمية، وهو ما يتجلى بوضوح في الهجمات اللفظية لليمين البديل ضد النخب التقدمية.

التوجه الرجعي: المجموعة المعقدة من التفضيلات والرغبات والعواطف

لتقدير جاذبية رد الفعل، فإننا نتعامل مع جذوره النفسية: تصوراته، وفهمه، ورؤاه (الإدراك) التي يتم التعبير عنها في مواقف القضية، والقيم والأهداف التي تحركه (الدوافع) بهدف تحقيق نتائج موجهة نحو الأهداف، والعواطف التي تستلهمها.

تفضيلات القضايا الرجعية في البيئة الاجتماعية والاقتصادية للأزمة

نحن نفترض أن محتوى رد الفعل هو وظيفة جانب العرض في السياسة. في الوقت الحالي، أصبحت الرجعية جزءًا لا يتجزأ من سياق سياسي تزدهر فيه الأحزاب القومية والشعبوية. يتم استخدام الخطابات المناهضة للهجرة والاندماج في الاتحاد الأوروبي من قبل الأحزاب المتخصصة التي تروج لاستحضار الحنين إلى الماضي المجيد المتخيل، حيث لم يتم الشعور بالقلق وتم تهدئة الشكوك. في حين أن المواقف المناهضة يمكن أن تنشأ في مكونات غير رجعية، ويمكن للمواقف الرجعية أن تمتد إلى ما هو أبعد من السياسات المناهضة للاتحاد الأوروبي والسياسات المناهضة للهجرة، فمن الجدير استكشاف مدى قدرة المجموعة الرجعية من القيم الرجعية والعاطفة الساخطة على تفسير هذه المناهضة للاتحاد الأوروبي المناهضة للهجرة. باقة تحديد المواقف المناهضة الأخرى المتعلقة بالرجعية يعتمد جزئياً على توفر البيانات ويفتح إمكانات كبيرة للدراسات المستقبلية. إن التشكيك في المناخ، والمشاعر المناهضة للخبراء، ومناهضة العولمة، ومناهضة التجارة الحرة، ومعاداة العلم، والتقارب السياسي، هي مرشحات محتملة في السياق الشعبوي الحالي.

القيم الأساسية كمحركات تحفيزية للرجعية

تعكس القيم السياسية، مثل العدالة والمساواة، والمركزية العرقية، والحد الأدنى من المشاركة الحكومية، والأمن الاقتصادي، والقانون والنظام، والتقليدية الأخلاقية المعتقدات المعيارية أو المثل العليا حول المسائل السياسية. إنها توجه السلوك السياسي وتعمل كأساس للمواقف السياسية والتفضيلات الفردية فيما يتعلق بالإنفاق الحكومي، والإجهاض، وإصلاح تمويل الحملات الانتخابية، والرعاية الاجتماعية، واتجاهات الثقافة السياسية، والتوجهات نحو الحرية.

ويعود القيد الداخلي للقيم السياسية إلى القيم الشخصية الأساسية، التي تعمل في جميع مجالات الحياة وتربط التفضيلات السياسية بظروف الحياة واختياراتها. القيم الأساسية (الإنجاز، ومذهب المتعة، والتحفيز، والتوجيه الذاتي، والعالمية، والإحسان، والتقاليد، والامتثال، والأمن، والقوة) هي معتقدات دائمة، مرتبطة بالأهداف المرغوبة وأنماط السلوك، وتوجه السلوك والعمل. وهي موجودة في مجموعات تمتد عبر الانفتاح مقابل الحفاظ على الذات، والسمو الذاتي مقابل تعزيز الذات. بالنسبة للمواطنين العاديين الذين ليسوا منخرطين بشكل كبير، وليسوا أيديولوجيين للغاية، وغير مطلعين جيداً على الأحداث السياسية، قد لا تكون القيم السياسية بارزة، لكن القيم الشخصية الأساسية تتنبأ بتفضيلاتهم السياسية لديهم.

تعمل القيم الأساسية عبر الثقافات وهي أكثر اتساقًا من التفضيلات العابرة، ولكنها تتغير أيضاً ببطء بمرور الوقت وفقاً للظروف المجتمعية والسياسية. إنها توفر أساساً مستقراً، ولكن مرناً لدراسة الرجعية. نحن ننظّر إلى القيم الأساسية التي تشير إلى دعم التقاليد والنفور من التغيير كعناصر تحفيزية مركزية للرجعية. هناك صلة ثابتة في الأدبيات بين القيم الأساسية (العالمية، والامتثال، والتقاليد) والمواقف تجاه الهجرة. علاوة على ذلك، وبما أن الخطابات الشعبوية تصف التكامل في الاتحاد الأوروبي بأنه تهديد للشعب، فإننا نتوقع أن تكون التفضيلات المناهضة للتكامل مع الاتحاد الأوروبي مدفوعة بالقيم الأساسية المرتبطة بالنفور من المخاطرة. وهنا تتميز الرجعية بشكل واضح عن المحافظة الاقتصادية، التي تعتمد على القيم التقليدية، ولكن مع المخاطرة الإيجابية. ربما هذا هو السبب في أن التوجهات الرجعية التي تتنبأ بالتفضيلات المناهضة للاتحاد الأوروبي لا تترجم بالضرورة إلى (أو تنشأ فقط من) الأصوات المحافظة، ولكنها تمتد عبر تفضيلات حزب اليمين واليسار. ومن الممكن أن تجمع الرجعية بين المعارضة الحمائية اليسارية لقوى السوق المفتوحة، فضلاً عن المعارضة الثقافية التقليدية.

التفسيرات المتنافسة: التوجهات الرجعية مقابل مؤشرات الشخصية

وجدت الدراسات الموجودة ارتباطات وثيقة بين القيم الأساسية والأيديولوجية والتفضيلات السياسية ومقاييس الشخصية. هذه البنيات مترابطة ويصعب تمييزها تجريبياً. إن الرغبة في اليقين والأمن (القيم) مرتفعة بين المحافظين (الأيديولوجية) الذين يسجلون أيضاً درجات عالية في الضمير ومنخفضة في الانفتاح على التجارب (الشخصية). تجمع الدراسات الاستبداد كمقياس للشخصية بين احترام التقاليد والامتثال والطاعة للسلطة والنظرة الأيديولوجية المتطورة.

وقد يبدو هذا بمثابة المؤشر الواضح لدعم الأحزاب الشعبوية. وفي حين يبدو أن الاستبداد والدعم الشعبوي مرتبطان في بعض البلدان، إلا أنهما ليسا كذلك في بلدان أخرى. قد يكون للاستبداد قاعدة قيمية مماثلة للرجعية، ولكن لا يبدو أنها توظف أو تشير ضمناً إلى الرغبة المزعجة في إعادة الأمور إلى الوراء. علاوة على ذلك، فإن التوجه الرجعي ليس سمة شخصية، وبالتالي فهو لا يحدد هوية الأفراد خلال حياتهم. بل هي طريقة منسوبة ذاتياً للتواصل مع العالم السياسي. فبالنسبة لبعض المواطنين، يعد هذا توجهاً ذا معنى، والبعض الآخر أقل من ذلك. وبمرور الوقت، يتم تعزيزها والإشراف عليها وإبطالها بناءً على كيفية تفاعل المواطنين مع بيئتهم السياسية. فهو يشكل الكيفية التي يختبر بها المواطنون السياسة، ولكنه لا يتطلب نظرة أيديولوجية راسخة.

ويترتب على ذلك أن الأيديولوجية المحافظة والشخصية الاستبدادية والتوجه الرجعي ترتكز على قيم جوهرية تظهر تفضيل المألوف، أي احترام التقاليد والحفاظ على الأعراف العائلية والدينية القديمة. إنهما مختلفان بقدر ما قد يجادل المحافظ بأن الوضع الراهن يستحق الحفاظ عليه، والشخصية الاستبدادية سوف تطيع السلطة وتتبع تفضيلات أيديولوجية منظمة، في حين أن التوجه الرجعي سيضع نفسه ضد الوضع الراهن غير المرغوب فيه ويتطلب تحسينات عاجلة من خلال الشوق إلى العودة إلى الوراء.

يعد انخفاض القبول مقياساً آخر للشخصية يرتبط بالتصويت للأحزاب الشعبوية في الولايات المتحدة وألمانيا وهولندا. ترى بعض الدراسات أن التصويت الشعبوي هو عمل يتوافق مع شخصية الفرد، وتجادل بأن الناخبين ذوي القبول المنخفض ـ المسمى "المتشككين" حساسون للرسائل المناهضة للمؤسسة من الأحزاب الشعبوية. لكن السمات هي صفات شخصية غير ملحوظة يتم قياسها بالتقريب باستخدام المؤشرات السلوكية. لذا فإن ما يُلاحظ في أحسن الأحوال هو وجود نمط ثابت بين السلوكيات السياسية وغير السياسية. بالإضافة إلى ذلك، فإن القبول مثل جميع السمات، هو بحكم تعريفه سمة شخصية دائمة إلى حد ما.

 فهل يعني هذا أن الأحزاب الشعبوية تكتسب زخماً في مجتمعات ذات أنماط شخصية معينة؟ هذا سيناريو غير محتمل. علاوة على ذلك، فإن الأفراد ذوي القبول المنخفض ليسوا بالضرورة "متشككين"، فمن الممكن أن يكونوا منعزلين، أو ساخرين، أو غير مبالين بالمجتمع ولا بالسياسة، وهي صفات ذات خصائص نفسية مميزة. ومن المرجح أن يكون الارتباط بين مقاييس الشخصية والتفضيلات السياسية هو قطعة أثرية تفسرها القيم. نحن نرى بشكل أساسي انخفاض القبول كمقياس سلوكي لرغبة الأفراد في مقاومة التغيير، المرتبط بانخفاض الثقة الاجتماعية والسياسية، والتعصب، وقلة التعاون، وانخفاض الإيثار. وكلها متوافقة مع التوجه الرجعي. اقتراحنا هو أن القيم العميقة الجذور (وليس شخصيات المواطنين) هي التي تحفز التوجهات الرجعية، والتي يتم تنميتها أو تقويتها أو التقليل منها. وفي البيئات الشعبوية، يتم التعبير عنها على أنها تفضيلات مناهضة للهجرة ومعادية للاتحاد الأوروبي.

العاطفة الاستياء: الأصول العاطفية المعقدة للرجعية

لفهم المحتوى المعقد للتوجه الرجعي، نحتاج أيضاً إلى التعامل مع جوهره العاطفي. تتحول الدراسات الحديثة إلى مشاعر مثل الغضب والخوف لتفسير التوجهات المناهضة للاتحاد الأوروبي، مما يساهم في المناقشات التي تركز على الهوية أو أخذ الإشارات. ورغم أهميتها في تسليط الضوء على الكيفية التي يشكل بها التأثير عملية صنع القرار السياسي بشأن الاتحاد الأوروبي، فإن النماذج التي تعتمد على المشاعر المنفصلة مقيدة بالحدود التشغيلية الثابتة لهذه التدابير.

يجادل الأكاديمي والسياسي اليوناني "كونستانتينوس ديميرتزيس" Konstantinos Demertzis بأن الرجعية مبنية على مجموعات معقدة من التجارب العاطفية المفعمة بالاستياء والتي تكون سائلة ومتطورة باستمرار وليس على مشاعر منفصلة. ولأن رؤية رد الفعل تقع في الماضي، فإن أصولها العاطفية ليست بسيطة. أولئك الذين يشعرون بأنهم متخلفون عن الركب يريدون الرجوع إلى الوراء. رد الفعل هو استجابة للقلق وعدم اليقين، ومشاعر الخسارة من التفكير في التخلي عن الشخص، مما يولد أيضاً الغضب والتظلم. وبعبارة أخرى، فإن الرجعيين ليسوا غاضبين فقط بشكل رئيسي. هناك خوف (غير) عقلاني في الشعور "بالتخلف عن الركب"، في تجربة إدراك أن المرء غير قادر على مواكبة التعقيد الاجتماعي والاقتصادي المعاصر.

إن الحديث العاطفي للرجعيين يحمل في طياته الاستياء. يشعر الرجعيون بالإهمال من قبل دولتهم ويشعرون أن مصالحهم يتم التغاضي عنها. توفر هذه العاطفة الغاضبة مورداً مهماً للشعبوية المناهضة للمؤسسة والتي تتغذى منها أيضاً حسابات الحنين الشعبوية للفخر والشعور بالقوة، ولكن أيضاً الإحباط والقلق.

في الوضع الراهن، يعتمد القادة والأحزاب الشعبوية على هذه البيئة العاطفية المعقدة التي تروّج لسرديات ووجهات نظر العظمة الوطنية والمشاعر القوية المناهضة للمؤسسة. إنهم يستحضرون القوة العاطفية للاستياء لتسليط الضوء على الفروق الثنائية بين "نحن" و"هم". عندما يتم تصوير النخب السياسية بشكل متكرر على أنها شريرة، يتآكل إحساس المواطنين بالكفاءة السياسية والثقة، ويجد من السخرية السياسية أرضاً خصبة. ويترتب على ذلك أن المواطنين ذوي التوجهات الرجعية سيكونون أقل تفاؤلاً وأكثر هياجاً من المحافظين، وعندما يتواصلون مع الخطابات الشعبوية، سيشعرون بالحسد ويكونون أقل فعالية أيضاً. سيكونون غير راضين عن الحاضر ويريدون التراجع إلى الماضي. وبالنسبة للتوجه الرجعي فإن الحل هو تصفية النظام السياسي الحالي، والعودة إلى الماضي الذي لم يعد موجوداً. إن الرجعية تحب ما يمكن التنبؤ به: الهياكل الأسرية التقليدية، والثقافة المشتركة، والدولة القومية ذات السيادة الواحدة، والضوابط الحدودية القوية. ولكن إذا تجاوزنا التقليدية، سنجد أن الرجعية أصبحت ساخنة: حيث يتم التعبير عن مشاعر الاستياء في صورة كراهية الأجانب والعنصرية المقنعة. يتم تقديمه على أنه دعم للأحزاب الشعبوية، لكن لا يتم احتواؤه ولا يتوقف عند الشعبوية. ويمكن أيضاً توجيهه إلى سلوكيات عنيفة ومتطرفة أو يؤدي إلى السخرية وفك الارتباط مع الآخر.

نحو تحقيق تجريبي في علم النفس السياسي لرد الفعل

نحن نفترض أن التوجه الرجعي يحمل طاقة عاطفية مستاءة، ويحفزه القيم المحافظة. ونعتقد أيضاً أن التفضيلات المناهضة للاتحاد الأوروبي والهجرة ـ عندما يتم تجميعها معاً ـ هي مؤشر محتمل لرد الفعل. لذلك نتوقع أن تكون القيم المحافظة بمثابة تنبؤات مهمة للتفضيلات المناهضة المجمعة وأن تكون آثارها أضعف عندما لا تقترن التفضيلات المناهضة للهجرة والاتحاد الأوروبي معاً. يمكن التعبير عن العاطفة الرجعية المفعمة بالاستياء على أنها عدم رضا عام، ومشاعر سلبية تجاه مستقبل يعيد إنتاج الاتجاهات الحالية ويحافظ عليها، وانخفاض الكفاءة، وارتفاع الشعور بالظلم، وانخفاض مستويات الثقة الاجتماعية، وعدم الثقة في المؤسسات الوطنية والدولية. لم تتم دراسة الاستياء فيما يتعلق بمناهضة الهجرة والتفضيلات المناهضة للاتحاد الأوروبي، وذلك بسبب عدم وجود تدابير تجريبية متاحة، ولكن تعبيراته العاطفية أظهرت روابط: ترتبط مشاعر انخفاض الفعالية الخارجية بالخطاب الشعبوي؛ يرتبط انخفاض الثقة تجاه الأفراد والمؤسسات السياسية بالتشكك في أوروبا والتفضيلات المناهضة للهجرة. وبالتالي فإننا نتوقع تأثيرها الكبير كمتنبئ للتفضيلات المجمعة المناهضة للاتحاد الأوروبي والهجرة.

توضح الأبحاث السابقة أن التوجه الرجعي يتنبأ بالانخراط في أعمال سياسية غير تقليدية ويقلل من المشاركة التقليدية. ولذلك فإننا نتوقع أن الرجعية الساخطة من شأنها أن تمنع المواطنين من الانخراط بنشاط في السياسة السائدة، وهو ما يتجلى في انخفاض المشاركة في المظاهرات السياسية وانخفاض معدلات المشاركة.

في نموذجنا النظري، التوجه الرجعي هو أكثر من مجموع أجزائه. ويتجلى ذلك في شكل مجموعة من المكونات المتزامنة: القيم التي تشير إلى تفضيل تغيير الأمور مرة أخرى، والعاطفة الاستيائية التي تتجلى في انخفاض الثقة بين الأشخاص، وانخفاض الثقة في المؤسسات، وانخفاض الكفاءة خاصة في الأوقات الشعبوية، وانخفاض المشاركة (مثل تكرار التصويت). وبطبيعة الحال، تعمل بعض هذه العناصر كمحددات للمعارضة غير المجمعة للهجرة أو معارضة الاتحاد الأوروبي، ولكن تأثيرها يجب أن يكون أقوى بالنسبة للأفضليات المناهضة المجمعة. كما تم وضع نظرية مفادها أن التوجهات الرجعية تتزايد في أعقاب الأزمة المالية حيث تبرز الخطابات الشعبوية ولا يمكن لنماذج العقاب الاقتصادي التقليدية أن تنجح. لذلك نتوقع أن تكون المكونات التحفيزية والعاطفية للرجعية بمثابة تنبؤات أقوى للتفضيلات المضادة المجمعة في مرحلة ما بعد بدلاً من بيئة ما قبل الأزمة.

الاختبار التجريبي

لتفعيل الرجعية في نقاط ما قبل وما بعد الأزمة، استخدمنا المسح الاجتماعي الأوروبي الذي تم استخدامه على نطاق واسع لدراسة التفضيلات المناهضة للاتحاد الأوروبي ومناهضة الهجرة. وتم اختيار وحدات 2016 و2020 لأنها تحتوي على الوكلاء اللازمون لتحديد التوجهات الرجعية: القيم الشخصية للتقاليد والنفور من التجارب الجديدة، والديناميكيات العاطفية الاستيائية المرتبطة بعدم الرضا، وانخفاض الثقة، وانخفاض الكفاءة ومشاعر الظلم، والسيطرة على الأيديولوجية والتركيبة السكانية. لضمان تكافؤ القياس، قمنا بتضمين 17 دولة تتوفر فيها نفس المقاييس لكلتا نقطتي البيانات: النمسا، بلجيكا، جمهورية التشيك، الدنمارك، ألمانيا، إستونيا، فنلندا، فرنسا، بريطانيا العظمى، المجر، أيرلندا، هولندا، بولندا، البرتغال. وإسبانيا وسلوفينيا والسويد.

تحددت أربع مجموعات من التفضيلات تجاه التكامل مع الاتحاد الأوروبي والهجرة. التفضيلات المجمعة المناهضة للتكامل مع الاتحاد الأوروبي، والتفضيلات المناهضة للهجرة المؤيدة لأوروبا، والتفضيلات المناهضة للتكامل مع الاتحاد الأوروبي، والآراء الداعمة للتكامل في الاتحاد الأوروبي والهجرة. ولرسم خريطة تجريبية لنموذج رد الفعل النظري الخاص بنا، استخدمنا وكلاء لمكوناته. ولتقريب القيم الأساسية ذات النظرة الرجعية، تم اعتماد احترام التقاليد والنفور من الانفتاح على التغيير. ولمراعاة الانفعالات الاستيائية، تم قياس الرضا العام، والشعور بالظلم، والثقة الاجتماعية والسياسية، والشعور بالفعالية. ولاختبار المشاركة السياسية النشطة، جرى استخدام نشاط التصويت والتظاهر.

بشكل عام، ساهم مزيج معقد من العوامل المتوافقة مع التوجهات الرجعية في الانتقال إلى التفضيلات المضادة، ولكن بغض النظر عن الديناميكيات النفسية، فإن السياق مهم. أدى العيش في نظام شيوعي سابق إلى تقليل احتمالية الانتقال من مؤيد للمؤيد إلى مناهض للمعارضة. ولكن في عام 2016، كانت أوروبا الشرقية عرضة بنفس القدر للتحول الرجعي. كما أدى العيش في بلدان الإنقاذ (البرتغال، أيرلندا، إسبانيا) إلى تقليل احتمالية الانتقال من مؤيدي المؤيدين إلى مناهضيهم. ويشير هذا التأثير، الذي ظل سلبيا باستمرار في عام 2020، إلى أن الحرمان الاقتصادي في حد ذاته لا يبرر ولا يولد هذه الأفضليات السياسية، بل يخفف منها. إن التأثير الإضافي للعوامل النفسية هو الذي دفع التحول من دعم الهجرة والاتحاد الأوروبي إلى مناهضة ردود الفعل.

تمت دراسة العوامل التي حولت تفضيلات الهجرة من مؤيدة إلى معارضة، مع الحفاظ على دعم الاتحاد الأوروبي. في عام 2016، أدت القيم التقليدية ومعارضة المغامرة إلى جانب التأثير السلبي (انخفاض الرضا العام والثقة الاجتماعية والسياسية) إلى زيادة احتمال الانتقال من الموقف المؤيد إلى الموقف المناهض للهجرة، وأن يكون المرء يمينياً، وذكراً، وذو مستوى أقل. وقد ساهمت مستويات التعليم وقلة التصويت والمشاركة الأقل في المظاهرات في هذا التأثير. بحلول عام 2020، أصبحت القيم التقليدية مؤشراً أقوى للتفضيلات المناهضة للهجرة، حيث يؤدي عدم الرضا العام إلى زيادة تأثيرها المناهض للهجرة، وتصبح الكفاءة المنخفضة ومشاعر الظلم كبيرة، كما أن انخفاض التعليم وانخفاض المشاركة لهما التأثير المتوقع.

ننتقل إلى احتمال التغيير من المواقف المؤيدة لأوروبا إلى المواقف المناهضة لأوروبا مع الحفاظ على دعم الهجرة عبر النقطتين الزمنيتين. في عام 2016، لم تكن القيم ذات أهمية بالنسبة لتفضيلات المتشككين في أوروبا والتي تم التنبؤ بها من خلال الاعتبارات العاطفية (واضحة في انخفاض الرضا العام والثقة الاجتماعية والمؤسسية)، ومستويات أعلى من الفعالية الداخلية، والتوجهات الأيديولوجية المعتدلة. كما أدى الانخفاض في التصويت والمظاهرات وانخفاض مستوى التعليم إلى زيادة تفضيلات المتشككين في أوروبا التي تشير إلى فك الارتباط بدلاً من الرجعية. بحلول عام 2020، يتغير محتوى المتشككين في أوروبا بشكل كبير. أصبحت القيم التقليدية والنفور من المغامرة ذات صلة في مرحلة ما بعد الأزمة. وبالإضافة إلى ذلك، أدى عدم الرضا وانعدام الثقة إلى استمرار التوجه المتشكك في أوروبا، جنباً إلى جنب مع الشعور بالمعاملة غير العادلة، والتطرف الإيديولوجي، والمواقف اليمينية. مع أخذ ما سبق في الاعتبار، يمكننا القول بأن الصورة النفسية للتشكيك في أوروبا خضعت لتغيير كبير يشير إلى التفضيلات الأيديولوجية المتطرفة، والقيم الرجعية، والتأثيرات الاستيائية التي تعمل فوق وتجاوز حواجز التعليم التقليدية، والعمر، والدين. إن العيش في بلدان الإنقاذ أو أوروبا الشرقية أدى باستمرار إلى انخفاض احتمالات تبني تفضيلات مناهضة لأوروبا.

التوجه الرجعي والتفضيلات المضادة

أثبتت الأدلة التي تمت مراجعتها أن التحول إلى تفضيلات مناهضة الهجرة والاندماج في الاتحاد الأوروبي كان مدفوعاً بمزيج معقد من القيم والعواطف الأساسية المتسقة مع التوجه الرجعي. لقد افترضنا أن النظرة الرجعية للرجعية تعتمد على الحفظ والنفور من المغامرة.

- عرضت تفضيلات مكافحة المجمعة أعلى الدرجات في توجهات القيمة هذه. وأظهرت التفضيلات المناهضة للهجرة والاتحاد الأوروبي أيضًا آثاراً لرد الفعل: فقد تنبأ احترام التقاليد بمناهضة الهجرة جنباً إلى جنب مع العناصر العاطفية المتمثلة في عدم الرضا، والشعور بالظلم، وانخفاض الكفاءة، واكتسبت التفضيلات المناهضة للاتحاد الأوروبي لوناً رجعياً، مدفوعة بالقيم. التأثير السلبي، والشعور بالظلم، وانخفاض الفعالية.

لقد تم الافتراض أيضاً أن النغمة العاطفية للرجعية تعتمد على الاستياء، وهي عاطفة جماعية تجمع بين التأثير السلبي ومشاعر الظلم المتصور وتدني قيمة الذات. وقد أدى عدم الرضا، المقترن بالشعور بالظلم، إلى تفسير التفضيلات المناهضة للاتحاد الأوروبي والهجرة، وهذا يتطلب المزيد من التحقيق. يمكن توجيه العواطف إلى أشياء محددة وتكتسب معاني مختلفة لمن يختبرونها. من المرجح أن يكون المواطنون المناهضون للاتحاد الأوروبي ومؤيدو الهجرة حساسين للمخاوف المتعلقة بالمستقبل الاقتصادي المجهول للاتحاد الأوروبي وأقل حساسية للمخاوف المتعلقة بالتقاليد والثقافة.

 وترتبط معارضة الهجرة، إلى جانب دعم الاتحاد الأوروبي، بالمخاوف بشأن تآكل التقاليد. وفي كلتا الحالتين، يشعر المواطنون بالقلق، لكن محتوى قلقهم مختلف. ويتناسب هذا بشكل جيد مع التفسيرات الموجودة للتشكك في أوروبا والتي تشير إلى أن الأحزاب اليسارية المنتقدة لأوروبا مثل "بوديموس" و"سيريزا" تعمل على حشد المشاعر المناهضة للتقشف، في حين أن الأحزاب اليمينية مثل الجبهة الوطنية الفرنسية، أو حزب الشعب الدنماركي، أو أحزاب الحرية في هولندا. والنمسا تتغذى على المخاوف المناهضة للهجرة.

تعمل النتائج التي التوصل إليها أيضاً على تسوية التوتر بين الدراسات التي تربط الميل إلى المخاطرة بزيادة الدعم لحزب استقلال المملكة المتحدة في المملكة المتحدة وغيرها التي تربط الشعبوية بسمات الشخصية التي تتجنب المخاطرة. وكما أشرنا سابقاً، فإن التوجه الرجعي لا يتطابق مع التوجه المحافظ، وليس كل الرجعيين يرغبون في تجنب المخاطر. بالنسبة للمحافظين، فإن جمود الوضع الراهن أمر مهم. بالنسبة للرجعيين الذين يعارضون الوضع الراهن، ولكن إلى الوراء، يمكن أن تكون المخاطرة مقبولة، ومع المخاطر يأتي القلق. يمكن أن ينجم القلق أيضاً عن الخوف من المجهول الذي يعتبر غير مرغوب فيه. ومعها يأتي الاستياء، ومشاعر الخيانة، والشوق لاستعادة الماضي (المتخيل). إن العاطفة الاستيائية للرجعية معقدة، وتتطلب دراسة أعمق واستخدام مقاييس متطورة لفهم تأثيرها.

الحاجة إلى إطار نظري لسيكولوجية رد الفعل السياسي

لقد أصبح من الواضح أن الرجعية تستحق دخولها كأداة لفهم التحديات التي تواجه التمثيل الديمقراطي في أوروبا والعالم اليوم. يمكن للأسس النفسية لهذا التوجه أن تسلط الضوء على المخاوف الأساسية التي تنطوي على الجاذبية المتزايدة للشعبوية والقومية، والتفضيلات المناهضة للمؤسسة والمناهضة لليبرالية، والاغتراب، والعمل السياسي غير المعياري أو العنيف، والاستقطاب المجتمعي، وتحديات التكامل في الاتحاد الأوروبي.

وقد لاحظ علماء السياسة الحزبية أن التصنيفات السياسية السائدة على طول الطيف اليساري واليميني لم تعد تستجيب بشكل كاف لرغبات العديد من المواطنين. وبدلاً من ذلك، فإن نشر الماضي المثالي والنظام الاجتماعي والرغبة في استعادة الماضي يمثل روايات متشابهة إلى حد كبير للأحزاب السياسية المعاصرة "الراديكالية" الشعبوية والنازية الجديدة والقومية العرقية مثل حزب استقلال المملكة المتحدة (المملكة المتحدة)، والجبهة الوطنية (المملكة المتحدة). فرنسا)، أو حزب الحرية خيرت فيلدرز (هولندا)، أو حزب الفجر الذهبي (اليونان)، أو حزب جوبيك (الحركة من أجل هنغاريا الأفضل)، أو حزب الحرية النمساوي (حزب الحرية في النمسا). وكما تشير أسماؤها في كثير من الأحيان، فإن هذه الأحزاب والحركات تنشر موقفاً وطنياً ومناهضاً للمؤسسة، والذي يَعِد بالحفاظ على قيم ومصالح مؤيديها وحمايتها. ويقدم مرشحوهم وقادتهم روايات تتبنى وتعزز الرغبة في استعادة العصر الذهبي، والعودة إلى الماضي المجيد، من خلال تأييد الغضب العام والفزع والوعد بإنجاز الأمور لصالح المواطنين "المتروكين".

وبدلاً من الابتكار، فإنهم يحتضنون الترميم بشكل طبيعي. ولنتأمل هنا رسالة "استعادة السيطرة" التي حملتها حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لقد احتوت على تصوير الحاضر المتوقف والمستقبل الذي تتعرض للخطر بسبب التغييرات التي لا يمكن وقفها والتي فرضتها النخب على البلاد رغما عنها. كانت السمات الأساسية لهذا الخطاب المناهض للمؤسسة هي الإشارات إلى العظمة الوطنية والتفوق الاقتصادي، بالإضافة إلى الحجج القوية المناهضة للهجرة والتكامل المناهضة للاتحاد الأوروبي، مما يوفر العودة بالحنين إلى الماضي كاحتمال بديل. وقد زادت هذه الأحزاب من قوتها في الأعوام الأخيرة، ولم يعد إدراجها في الحكومات الائتلافية صادماً كما كان الحال في الماضي. ومع ذلك، لا توجد نظرية أساسية تشرح العنصر النفسي لهذا التصويت.

وتحظى هذه الأجندات السياسية بصدى جيد لدى الناخبين الذين يدعمونها. فهم يشعرون بالاستياء من النخب السياسية، ويشعرون بالإحباط إزاء "السياسة المعتادة"، ويشككون في المؤسسات المتعددة الجنسيات والدولية والوطنية، ويشعرون بالخيانة الشخصية والاجتماعية، ويحملون شعوراً قوياً بالظلم. إنهم ينتقدون العولمة، ويحتقرون نموذج التعددية الثقافية، ويفضلون المبادرات التصالحية. غالباً ما يشار إلى تفضيلاتهم بشكل وصفي على أنها مشاعر شعبوية، لكن التيار النفسي الكامن لهذا التوجه السياسي المعقد يحتاج إلى فهم أفضل، لأنه ليس عاطفياً تماماً، ولا هو شعبوي في حد ذاته، كما هو بحكم التعريف جانب العرض في السياسة. وفي الوقت الحاضر، يعتبر هذا التوجه الذي يسخره الخطاب الشعبوي رجعيا في جوهره. ومن خلال وصفها بأنها "شعبوية"، تظل خصائصها العاطفية والتحفيزية المعقدة موضع تجاهل إلى حد كبير.

وفي حين يجد بعض الناخبين ملاذاً لهم في الخطابات المناهضة للمؤسسة التي تقدمها الأحزاب الشعبوية، ينسحب آخرون من الأنشطة السياسية السائدة، ويشاركون في الحركات الشعبية مثل "indignados" (إسبانيا) أو "aganaktismenoi" (اليونان) (ديناس، وجورجيادو، وكونستانتينيديس). ينخرطون في أعمال سياسية شاذة وعنيفة تقع في أقصى الحدود، أو يظلون داعمين سلبيين لخطابات الكراهية. هذه الميول، التي غالباً ما توصف (خطأ) بـ “الموجة الجديدة من الراديكالية السياسية”، لها آثار مهمة على السياسة الديمقراطية وتستحق الاستكشاف المنهجي. إذا كانت، كما نقترح، رجعية بطبيعتها، فإن أصولها النفسية واحتياجاتها وأهدافها ستكون مختلفة تماماً عن أصول الحركات الراديكالية، وهناك حاجة إلى مزيد من البحث لفهمها بشكل كامل.

ونختتم بالملاحظة لمقاومة الثنائيات المعيارية للخير والشر التي يمكن أن تصف هذا التوجه الرجعي بأنه ضار أو خطير أو علامة على الخلل السياسي. من المهم إجراء تقييم نقدي حول ما إذا كانت الرجعية يمكن أن تكون بمثابة قوة مستنيرة وبناءة، ومتى يمكن ذلك، تقديم تقييم نقدي للحاضر. إن الخصائص التي تعزز المشاركة التداولية في السياسة - على سبيل المثال، الثقة والكفاءة والأمل - تظهر بشكل أقل في سياق رد الفعل. لقد حاولنا الربط بين النقاط: إن الفعالية المنخفضة للتوجه الرجعي تسير جنباً إلى جنب مع الرغبة في تبني خطابات الضحية التي تروج للحجج المناهضة للهجرة والتكامل في الاتحاد الأوروبي، ويمكن أن تفسر عودة الظهور الحالي وزيادة جاذبية الشعبوية والقوميات والحركات المتطرفة. والأجندات الحزبية المتطرفة. هناك إمكانات غنية لمزيد من البحث في هذا السياق. إن الروايات التي تجمع بين قوة الشعب الضحية ضد النخب، ومشاعر الظلم، والحنين، والخيانة، والاستياء، يمكن أن تكون جذابة للمواطنين الذين يحملون أوهام رجعية عن الماضي المثالي. يجب علينا أن نحقق أكثر في هذا الأمر، وفي البداية، يجب أن نتعامل مع علم النفس السياسي لرد الفعل باعتباره تحدياً تجريبياً ونظرياً.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

لم يكن من المبالغة فى شيء تأكيد القول إنّ الإمام عليّ رضوان الله عليه كان يمثل فضائل الإسلام مجتمعة هو الوعاء الذى أنقدح فيه العلم الإسلامي. وقد سبقت الإشارة فيما تقدّم إلى أن أسس العلوم الإسلامية برمتها ترتد إليه سواء كانت علوماً مستيقنة من طريق الذوق أو كانت علوماً مستنبطة عن طريق العقل؛ فهو من بين الصحابة جميعاً فارس الطريقين، وقد شهدوا له فقال عمر كان عليُّ أقضانا. وعن هذين الطريقين تفرّعت العلوم الإسلامية الأصيلة، ومصدرها وجذرها الإمام عليّ، ومصدره هو رسول الله ثم معايشة القرآن معايشة حقيقية مع النبيّ أثناء حياته وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى.

وقد عاش رضوان الله عليه فى خلافة الشيخين حياة الفقيه العابد المتبتِّل، وكان يجمع القرآن؛ عهداً قطعه على نفسه حين قبض الرسول، ثم تمضى الليالى الطوال وهو يتعبّد ويتهجّد ويُمعن فى تأمل القرآن، والشيخان يلجأن إليه فى الفتاوى العويصة التى كانت تلم بالمسلمين فى هذا العهد المتطور، وسبقت له فى المشورة سوابق مأثورات، وعرف عنه من سرائر العلم ودقائق الفهم ما عز على غيره؛ الأمر الذى دعى الشيعة من بعدُ ينسبون إليه (العلم السّري)، وأن هذا العلم أورثه إيِّاه النبيَّ، ودعى الصوفية أيضاً ينسبون إليه (العلم اللدنّي)، مع فارق شديد بين التصوف والتشيع، وفارق شديد أيضاً بين محبّة الإمام عليّ وآل البيت لدى أئمة الصوفية، وهم من أهل السنة، وبين نظام التعبد الشيعي.

هذا الفارق نفسه هو الذى يحدّد الفرق بين العلم السّرى والعلم اللدني، بين المحبة والموالاة، وهما وصية رسول الله صلوات الله عليه، وبين أخذ العلم السرى من طريق الإمام المعصوم كما هو الحال فى التشيع. ولسنا بحاجة إلى تأكيد هذه المحبة مع الموالاة لدى أئمة التصوف استناداً إلى أحاديث النبيّ فى مناقب عليّ : مَنْ كنتُ مولاه، فعليٌّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه)، (أنت منى بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبيّ بعدي).

وحديث الخيمة الذى رواه الصديق، رضوان الله عليه، حيث قال :

(رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خيّمَ خيمة، وهو متكئ على قوس عربية، وفى الخيمة عليَّ وفاطمة والحسن والحسين، فقال معشر المسلمين: أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، حرب لمن حاربهم، وليٌّ لمن والاهم، لا يحبّهم إلا سعيد الجد طيب المولد، ولا يبغضهم إلا شقى الجد ردئ الولادة).

وكثير غيرها أحاديث صحيحة من وجوه كثيرة تواترت عن أمير المؤمنين عليّ وهو يتواتر أيضاً عن النبى عليه السلام رواها الجم الغفير عن الجم الغفير ولا عبرة بمن حاول تضعيفها، وقد ورد الأول مرفوعاً عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، والعباس بن عبد المطلب، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وبريدة بن الحصيب، وأبى هريرة، وأبى سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عباس، وحبشى بن جنادة، وعبد الله بن مسعود، وعمران بن حصين، وعبد الله بن عمر، وعمار بن ياسر، وأبى ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وأسعد بن زرارة، وخزيمة بن ثابت، وأبى أيوب الأنصاري، وسهل بن حنيف، وحذيفة بن اليمان، وسمرة بن جندب، وزيد بن ثابت، وأنس بن مالك، وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم، وصحّ عن جماعة منهم من يحصل القطع بخبرهم، وثبت أيضاً أن هذا القول كان منه صلى الله عليه وسلم يوم غدير خمّ، وذلك فى خطبة خطبها النبى عليه السلام فى حقه ذلك اليوم، وهو الثانى عشر من ذى الحجة سنة إحدى عشر لمّا رجع النبيّ من حجة الوداع.

ولا يُخفى محبّة النبى لعليّ، لكنها المحبّة التى تعلو على نظرة العصبية والقرابة وتتجرّد عن نوازع الإثرة لأنه يحبه ويحبِّب الصحابة فيه، ويريد أن يختاروه من بعده عن قناعة ورضى وحبور، لعلمه وفضله وسبقه إلى الإسلام.

وللإمام أبى الخير شمس الدين محمد بن محمد بن محمد الجزْريّ الشافعى (ت 833 هـ) كتاب : أسنى المطالب فى مناقب سيدنا على بن أبى طالب، يقول فى نهاية الكتاب (ص 121): (انتهت إلى الإمام عليَّ رضوان الله عليه، جميع الفضائل من أنواع العلوم، وجميع المحاسن وكرم الشمائل من القرآن والحديث والفقه والقضاء والتصوف والشجاعة والولاية والكرم والزهد والورع وحُسن الخلق والعقل والتقوى وإصابة الرأي. فلذلك؛ أجمعت القلوب السليمة على محبته، والفِطَر المستقيمة على سلوك طريقته، فكان حبُّه علامة السعادة، وبغضه محض الشقاء والنفاق والخذلان).

عِلمُ الإمام طاقة نورانيّة من علم رسول الله ولا شك؛ لكن أعجب العجب أن نجد فينا من يعرف هذا الفضل الجامع الكبير ولا يذكر للإمام فضله خشية أن يصاب بالتشيع وكأن الشيعة من عالم آخر محجوب عن الإسلام، ولو سقط النزاع لتوحدت الغاية على القصد وحلّ الوفاق.

(وللحديث بقية)

***

د. مجدي إبراهيم

حياة الكتابة ومهنة الكتابة شيئان منفصلان

بقلم: لان سامانثا تشانج

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

أثناء حديثي مع صديقة عزيزة ليست كاتبة، ذكرت أنني كنت أفكر كثيرًا في أهمية الحياة الداخلية. بدت صديقتي، وهي طبيبة متزوجة من أستاذ جامعي وأم فخورة لطفلين مثاليين، في حيرة من أمرها. وتساءلت: "ماذا تقصدين بـ ’الحياة الداخلية؟‘؟ "عندما نقول أن شخصًا ما يتمتع بحياة داخلية غنية، أليست هذه طريقة للقول أنه يبدو وكأنه في حالة من الفوضى من الخارج؟" بالنسبة لها،فإن وصف شخص ما بأنه يتمتع بحياة داخلية غنية هو مكمل غير مباشر أشبه بالمراوغة في الصين في عهد ماو، حيث عندما يحاول الناس وصف امرأة شابة لم تكن جذابة جسديا، يقولون: "إنها وطنية للغاية".

يوضح سؤال صديقتي الضغط الكبير الذي يتعرض له الناس في هذا المجتمع من أجل الحصول على حياة خارجية قوية ومحمية بشكل جيد. وفي نيويورك، قد يشمل ذلك العقارات والمدارس الخاصة. في ولاية أيوا، قد يشمل ذلك وجبات العشاء العائلية المنتظمة المصنوعة من الأطعمة البرية التي يتم حصادها شخصيًا. بدأ هذا الضغط منذ زمن طويل مع مؤسسي بلادنا، الذين آمن الكثير منهم بوجود المختارين، في فكرة أن البعض منا مقدر له الخلاص. يمكن توسيع هذه الفكرة منطقيًا لتعني أن البعض منا ليس كذلك. لأنه ليس لدينا طريقة، عندما نكون على قيد الحياة، لمعرفة أي منا قد تم تعيينه مسبقًا، فمن المهم أن نتصرف كما لو كان.

لا أحاول إلقاء اللوم على أي شخص لأنه يريد أو يمتلك عقارات جميلة، أو أطفالًا لطيفين، أو حيوانًا أليفًا رائعًا. كل ما أؤكده هو أن الناس يعيشون في قلق، بل وفي خوف، من معرفة ما إذا كانت حياتهم الخارجية كافية لهم. من السهل أن نصدق أنه إذا نظرنا بشكل جيد بما فيه الكفاية، فربما تكون حياتنا ذات معنى، بل وحتى مباركة. في كل مكان نذهب إليه يمكننا أن نرى دليلاً على ذلك. أثناء السير على طول نهر السين، سترى العشرات من الأشخاص من جميع أنحاء العالم يقفون وظهورهم للمنظر، ويبتسمون على هواتفهم المحمولة. يتم نشر الملايين من صور السيلفي بدافع الأمل والخوف.

يتزايد القلق المماثل لدى الكتّاب الجدد الذين يشعرون بالضعف عند مشاركة أعمالهم مع أشخاص آخرين، خاصة بعد نشر كتاب ما. لقد تعلمنا أن نعتقد أن نشر كتاب ما هو تتويج للعمل الشاق والجهد الطويل، ولكن وفقا للعديد من المؤلفين الجدد الذين تحدثت معهم بشكل متكرر خلال هذه العملية، فإن النشر هو مجرد بداية رحلة التعلم للتنقل في العالم ككاتب عام، وهو عكس صناعة الفن، ويتطلب تعلم كيفية حماية تلك الذات الداخلية التي نشأ منها الفن في المقام الأول.

وفجأة، يتعين على الكاتب الجديد أن يبذل جهودًا مضنية لوصف ما كتبه. يقرأ البعض التاريخ والنظرية والعلوم في محاولة للعثور على المفردات التي تنير إبداعاتهم. أعتقد أن هذا الصراع يحدث لأن رد الفعل الصادق لصنع فن ذي معنى غالبًا ما يكون الصمت. نحن نصنع فنًا حول ما لا يمكننا فهمه بأية طرق أخرى. المنتج النهائي يشبه اللؤلؤة، كامل وجميل، ولكنه صامت في نفسه. لقد أعطانا الكاتب هذه القطعة من كتاباته الداخلية، وفي كثير من الأحيان لا يوجد تفسير لها، ولا شيء ليقوله عنها. غالبًا ما يكون لدى الكاتب نفسه فكرة قليلة جدًا عما أنشأه.

لا يهم بالنسبة للمؤلفين الجدد، الذين هددوا بأن كتابهم سوف يفشل ما لم يستمروا في التغريد، وإعطاء القراءات (إذا كانوا محظوظين)، وقراءة المراجعات (إذا كانوا محظوظين)، وكتابة العشرات من المقالات الصغيرة والأسئلة والأجوبة التي ستبقى على الإنترنت إلى الأبد. أصبح نشر الكتب أكثر عمومية من أي وقت مضى. هذه معلومات عامة مفادها أن كتابًا ما قد تم عرضه أو لم يتم عرضه ككتاب لمشاهدته على مواقع ويب معينة، أو أنه/لم يتم وضع قوائم مفضلة معينة، أو قوائم المبيعات، أو مائة قائمة نهاية العام. ناهيك عن موسم الجوائز، الذي يمكن أن يجعل الكاتب محظوظًا بما يكفي ليشعر بأنه وصل إلى المرحلة النهائية في مسابقة ملكة الجمال. ذات مرة، كان كاتب وصل إلى المرحلة النهائية ولكنه لم يكن فائزًا بجائزة كبيرة يسير في أحد شوارع مدينة آيوا. توقفت سيارة، وسقطت النافذة، وصرخ أحد أعضاء قسم اللغة الإنجليزية للكاتب: لقد تعرضت للسرقة!

إذا أتيحت لي الفرصة لتقديم نصيحة واحدة لكاتب ناشئ، أود أن أسلط الضوء على الحاجة الملحة للتمسك بالحياة الداخلية. أفكر كثيرًا في G.K. اقتباس تشسترتون قدمه لي العبقري كيفن بروكماير، والذي يعد في رأيي أحد أنجح كتابنا في حماية الذات التي يكتب منها: لكنني مهتم بالأحرى بالداخل وليس بالحقيقة الداخلية؛ وكما قلت من قبل، فإن الحقيقة الداخلية تكاد لا توصف.عليك أن تتحدث عن شيء ما، ولهذا السبب لا يتحدث الناس عنه؛ لا ينبغي لنا أن نترجم ببساطة من لغة أو كلام غريب، بل من صمت غريب.

الكثير من عملي كمدرس ومرشد يتضمن إخبار الكتّاب بعدم القلق بشأن الأشياء. إن تعلم عدم القلق كثيرًا أمر بالغ الأهمية، ليس فقط لأننا لا نملك سوى القليل من السيطرة على الكتاب بعد أن يترك أيدينا، ولكن أيضًا لأن هذا النوع من القلق سام للإبداع. نحن نعيش في ثقافة تنشر فيها صحيفة وول ستريت جورنال مقالاً على الصفحة الأولى عن طبيب أمراض جلدية يقوم بفقع البثور على اليوتيوب، ويحصل على 2.4 مليون مشترك. باعتبارنا حراسا لحياتنا الداخلية، يجب علينا أن نحمي أنفسنا الداخلية من الجزء البافلوفي فينا الذي يجيب: "2.4 مليون مشترك!" يجب علينا بدلاً من ذلك أن نتذكر كلمات سانت إكزوبيري بأن "ما هو ضروري غير مرئي للعين". يجب علينا أن نعزل ذواتنا الداخلية عن الجزء الاستعماري الذي يقيم، ويحدد، ويحكم.

الحياة الداخلية هي الطفل الذي يزدهر في مكان هادئ وغير مسبوق. الحياة الداخلية لها قيمة قليلة جدًا في البيئة الاجتماعية ولكنها ثمينة. ولا يمكن العثور عليها في أي شخص آخر، ولا يمكن لأحد أن يراها. إنها سر. على حد تعبير السيدة باسل فرانكويلر: "ولكن يجب أن يكون لديك أيضًا أيام تسمح فيها لما هو موجود بداخلك بالانتفاخ بداخلك حتى يمس كل شيء. ويمكنك أن تشعر به بداخلك. إذا لم تأخذ الوقت الكافي للسماح بحدوث ذلك، فإنك ببساطة تقوم بتراكم الحقائق، وتبدأ في التأثير عليك. يمكنك أن تحدث ضجيجًا معها،ولكنك لا تشعر أبدًا بأي شيء معها. إنها جوفاء."

تمسك بهذا الجزء منك الذي أجبرك على البدء بالكتابة. تمسك بهذه الذات خلال تقلبات "المهنة". إن حياة الكتابة ومهنة الكتابة شيئان منفصلان، ومن المهم الحفاظ على الأولى. إن مهارة البقاء الأساسية الوحيدة لأي شخص مهتم بإبداع الفن هي تعلم كيفية الدفاع عن هذه الحياة الداخلية من العالم. اعتز بنفسك وخصص غرفة داخلية حيث يمكنك أن تنسى حياتك المنشورة ككاتب. تنفس بعمق. داخل هذه الغرفة المسيجة، الزمن مختلف، فهو مرن وطيّع. يُسمح لنا بثنيها، وتسريعها، وإبطائها، والقفز ذهابًا وإيابًا، تمامًا كما يفعل عقلنا. يمكننا العودة إلى أفكارنا وذكرياتنا من خلال اختيار الأفكار الأكثر أهمية بالنسبة لنا. هناك صوت هادئ ومشرق، مثل الصوت القادم من داخل الصدفة.

***

..............................

المؤلفة: لان سامنثا تشانج / Lan Samantha Chang: روائية أمريكية وكاتبة قصة قصيرة. وهي مؤلفة كتاب The Family Chao (2022) ومجموعة القصص القصيرة Hunger. تعيش تشانج في مدينة آيوا.

كثيراً ما يتم طرح سؤال بخصوص النتاج الفكري لأساتذتنا في الفلسفة من الجيل الذهبي الذين غزوا جامعات عالمية كبرى، وعادوا منها بشهادات عليا كانت هي الأساس الذي بنوا عليه بحوثهم وكتبهم اللاحقة، فهل قدم هؤلاء ما يوازي سمعتهم العلميَّة ومكانتهم الأكاديميَّة، وما يجعلهم أصحاب اضافات جوهريَّة في مسار الفكر الفلسفي العربي؟

قد يكون الجواب المجرد من المسببات غير منصف بحقهم، إذا ما تمت المقارنة مع أساتذة الفلسفة العرب والمصريين على وجه التحديد، ومنهم أصحاب المدارس والاتجاهات الفلسفيَّة والمذاهب والتيارات التي شهدتها العقود الأولى من القرن العشرين، تلك التي أحصاها ونظمها جميل صليبا بداية الستينيات، وعاد اليها معن زيادة في مقدمة المجلد الثاني للموسوعة الفلسفيَّة العربيَّة، وقد صنّفها صليبا بسبعة تيارات رئيسية يمكن ايجازها بتيار الفكر المادي ممثلاً بفكر الطبيب اللبناني والمفكر الذي هاجر إلى القاهرة شبلي شميل، وتيار العقلانية كما فهمها مفكرون عرب من أمثال محمد عبده ومحمد فريد وجدي، وتيار المثالية وفي عداده وجدانية عباس محمود العقاد وجوانية عثمان أمين ورحمانية زكي الأرسوزي، والتيار الذي مثلته المدرسة التكاملية في علم النفس ولا سيما تكاملية يوسف مراد التي اهتمت بدراسة العلاقة بين الظواهر النفسية والظواهر الفسيولوجية، والتيار الوجودي وفي طليعته عبد الرحمن بدوي، وتيار الشخصانية الذي أراد أصحابه الرد على الوجودية من جهة، وعلى الماركسية من جهة أخرى، ومن كبار ممثليه رينيه حبشي ومحمد عزيز الحبابي، والتيار السابع والأخير هو تيار الاتجاهات العلمية ويمثله يعقوب صروف صاحب مجلة المقتطف، وإسماعيل مظهر وزكي نجيب محمود الذي نجح في تأسيس مدرسة وضعية عربية، لكن هذا التصنيف كما يراه معن زيادة غير شامل "ويقف عند الفترة الزمنيَّة التي وضع فيها من جهة، ويهمل تيارات فلسفيَّة عرفها الفكر العربي الحديث منذ مطلع القرن الماضي، كلماركسي والاشتراكي والتيار القومي من جهة أخرى".

أكررالقول ان الجواب قد لا يكون دقيقاً، لسبب بسيط ان أغلب تلك المدارس والتيارات الفلسفيَّة قد سبقت ظهور الجيل الفلسفي الأكاديمي الأول في العراق، من دون أن نهمل رواد النهضة الفكرية العراقية الحديثة الذين كان لهم دور تنويري مؤثر مع نهايات السيطرة العثمانية وبدايات تأسيس الدولة العراقيَّة مطلع العشرينيات، أما الجيل الفلسفي الذي تدرّج في تحصيله الأكاديمي فإنه في الأعم الأغلب لم يعط ثماره الفكريَّة والفلسفيَّة إلا مع مطلع الستينيات ولعقدين لاحقين آخرين، وهي ثمار لم تسهم لأسباب لا علاقة لها بشخصياتهم العلميَّة، في خلق تيار فلسفي عربي مجدد بروح عراقيَّة، مثلما حدث في حركة الشعر الحر، والفنون التشكيلية، وبقيت نتاجات الجيل الذهبي الأول في الفلسفة محدودة التأثير، إلا في حدود الجدران الأكاديمية المغلقة.

لعل أحد الأسباب التي حجبت المشاركة الفكريَّة والفلسفيَّة العراقيَّة في خلق تيار فلسفي عربي له بصماته وهويته، ظروف العراق الخاصة وأوضاعه السياسيَّة المتقلّبة، وغياب البنية المؤسساتية التي ترعى العلماء وتنشر نتاجاتهم، لكن بعضهم أيضاً لم يكن متفرّغاً لقضية الفلسفة، وكانت جهودهم مشتتة بين تخصصاتهم وهواياتهم الأدبيَّة، وإلا بماذا نفسّر أن يختتم مفكر وباحث حياته بديوان شعري شخصي ضخم بعدد صفحاته، ولم يختمها بعمل فكري، أو بكتاب يدوّن ذكرياته الدراسيَّة ومسيرته الأكاديميَّة والفلسفيَّة الطويلة؟.

***

د. طه جزاع – كاتب أكاديمي

(وجهة نظر)

سؤال مشروع يطرحُ نفسه بقوة علينا نحن أبناء دول العالم الثالث عموما، ومنها دول الوطن العربي على وجه الخصوص، هذه الدول التي كثيرا ما نعتها العديد من السياسيين والمهتمين بالفكر السياسي، بالدول المتخلِفة، أو المخلّفة، وهم بهذا التوصيف مصيبون تماما لإدراكهم حالة التخلف البنيوي المزري الذي تعيشه هذه الدول على كافة مستوياتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، هذا التخلف الذي راح يتجلى ساطعاً في سيادة العديد من الأنظمة التوتاليتاريّة/ الشموليّة، التي رهن قسم كبير منها قرارات البلاد الاقتصاديّة والسياسيّة للخارج، كما تجلى هذا التخلف في حالات الخلل الواضح في العلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة التي يأتي في مقدمتها تبلور سلطات العشيرة والقبيلة والطائفة والحزب الواحد، والتمسك في إعادة إنتاج عصبيات هذه السلطات اجتماعياً وسياسياً وقفافياً، وكل ما يتفرع عنها من قضايا حالت دون تحقيق المقدمات الأساسيّة الموضوعيّة منها والذاتيّة للمجتمع المدني ودولة القانون والمواطنة، أما حالات التخلف على المستوى الثقافي والفكري، فقد تجلت في سيادة الجهل والتجهيل معا بحقائق الأمور التي تهم حياة الوطن والمواطن ومستقبلهما في هذه الدول، إضافة لزرع الخوف والعبوديّة والذل في وعي ونفسيّة الرعايا ولا نقول المواطنين من قبل هذه الأنظمة الشموليّة الاستبداديّة، بدلاً من التأكيد على قيم الشجاعة والحريّة والعزّة في قول الحقيقة وممارستها.

من هذه المعطيات تأتي مشروعيّة التساؤل عنوان موضوعنا، هل الديموقراطية أولا؟، مع إدراكنا بأنه لم يزل الكثير من السياسيين والمهتمين بالفكر السياسي يراهنون على أن الديموقراطية هي الدواء السحري لكل مشاكل تخلفنا، في الوقت الذي يبدو أن هؤلاء يجهلون أن الديموقراطيّة في الغرب ذاته لم تكن هي الحل أولا، بل هي ذاتها كانت نتاج تحولات بنيويّة عميقة في  حياة هذه المجتمعات، حيث شكلت هذه التحولات (الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة) الأرضيّة التي قامت عليها الديمقراطيّة والدولة المدنيّة وترعرعتا، مع علمنا وإدراكنا أن الغرب وعبر سلطاته الحاكمة منذ أن وصلت الطبقة البرجوازيّة إلى السلطة، قد عمل على دفع الديمقراطيّة وبأقصى حد ممكن في الاتجاه الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، في الوقت الذي قوننها أو حاصرها في الجانب السياسي كما هو معروف للجميع.

على العموم، تظل الديمقراطيّة في سياقها العام إشكاليّة في مفهومها ودلالاتها وأهدافها وحواملها الاجتماعيّة، وما تعدد المفاهيم أو التعريفات التي تناولت ظاهرة الديمقراطيّة من قبل المفكرين والسياسيين الذين تعاملوا معها عبر التاريخ إلا تأكيداً على هذه الإشكاليّة، علما أن هذه التعدديّة جاءت في حقيقتها محكومة بمواقف طبقيّة وسياسيّة وأيديولوجيّة ينتمي إليها حاملها الاجتماعي، أو من نَظَرَ لها من المفكرين والكتاب والسياسيين، وهذا ما يؤكد تاريخيّة الديمقراطيّة، والدور الكبير الذي تمارسه هذه المرحلة التاريخيّة أو تلك، التي أنتجت هذه الصيغة من الديمقراطيّة أو تلك على الديمقراطيّة ذاتها أيضاً. لذلك من هنا جاء تعريف الديمقراطيّة أو مفهومها عند بعضهم، بأنها الحياة اليوميّة المباشرة، التي أفضل ما فيها ممارسة الفرد وتعبيره عن رأيه وقناعاته بعيدا عن أي خوف من سلطة أو قانون، طالما أن الذي يريد قوله أو ممارسته يصب في مصلحة الوطن والمواطن. أو جاء عند بعضهم الآخر أيضا، بأنها ظاهرة اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة، لها قوتها الماديّة في جوهرها، ولها أشكالها وحركتها وتعدد محطاتها المتوافقة مع تعدد أشكال النظام السياسي القائم بشكل خاص.. عدوها الجهل، وحليفها الدائم العلم والعلمانيّة، وصندوق أسرارها وقوتها الجماهير المقهورة والمضطهدة والمستلبة بكل فئاتها وشرائحها .(1).

أما نحن فيمكننا أن ندلوا بدلونا في السياق ذاته إذا جاز لنا أن نعرفها لنقول بأنها: منهج في التفكير العقلاني، وأسلوب في الممارسة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة.. ترمي أهدافها وحواملها إلى تحقيق الاستقرار الاجتماعي، وتأمين العدالة للمجتمع بكل مستوياتها وفقا لطبيعة المرحلة التاريخيّة المعيشة.. حواملها الاجتماعيّة تتبدل وفقا لطبيعة الصيغة الديمقراطيّة المنتجة أو السائدة وأهدافها عبر مراحل التاريخ المتتالية، وهذا في الحقيقة ما يؤكد عندنا أيضا، أن الديمقراطيّة وفقا لهذا التعريف تخضع  للتطور والتبدل في جوهرها مع تطور وتبدل عوامل نشوئها عبر التاريخ، كما يؤكد نسبيتها وينفي إطلاقيتها، في الوقت الذي يؤكد عناصر استبدادها مثلما يؤكد عناصر قوتها وعدالتها وإنسانيتها .

إذن إن الديمقراطية وفقا لهذه المعطيات ليست مقتصرة في ممارستها وأهدافها على تحقيق البعد السياسي للمجتمع كما يعتقد بعضهم، بل أن ممارسة الديمقراطيّة وأهدافها تصبان في مجمل النشاط الإنساني اليومي لحياة الفرد والمجتمع، بغية تحقيق العدالة والمساواة والاستقرار الاجتماعي. كما أنها ليست صيغة واحدة مطلقة، تُفرخ مجردة، صالحة لكل زمان ومكان، بل هي صيغ مشخصة ببعدها الاجتماعي التاريخي، وبحواملها الاجتماعيّة التي تأتي من داخل التاريخ وتعمل على تحديد أهدافها ووظائفها وطبيعة المؤسسات التي تنشط عبرها، وذلك وفقا لمصالح هذه الحوامل، ومصالح القوى الاجتماعيّة التي تعبر عنها في فترة تاريخية محددة.

نقول: إذا كانت هذه هي الديمقراطية في مفهومها ومعطياتها، فما هي أبرز مقوماتها، وبالتالي معوقاتها أيضا؟ .

مقومات الديمقراطيّة:

كثيرا ما اعتقد بعض المبشرين بالديمقراطيّة والمطالبين بها، كما أشرنا في موقع سابق، بأنها في حال تطبيقها لدى هذا المجتمع آو ذاك، ستشكل الرافعة التي بها ستتحقق النهضة والتقدم والرقي والخلاص من كل عوامل التخلف، وبالتالي فهي هنا الترياق الذي سيحقق الشفاء للمجتمع المُمَارس لها من كل أمراضه المستعصية منها والطارئة. وهذا الموقف من الديمقراطية برأيي هو موقف يفتقد إلى الكثير من المنطق والعقلانيّة والتاريخيّة بحق الديمقراطية وأهدافها وحواملها معاً، بل هو الجهل المعرفي بعينه، الذي إذا ما سعى دعاة الديمقراطيّة إلى تطبيقها في المجتمع بعيدا عن فهمها في نطاق تاريخيتها ونسبيتها، وهذا سيسيئ بالضرورة إلى الديمقراطيّة ذاتها، والانتقاص في المحصلة من أهميتها ودورها في بناء المجتمع. لذلك ومن هذا المنطلق المنهجي في فهم أهمية الديمقراطيّة، ودورها في بناء المجتمع، لابد لنا من الوقوف قليلا للإشارة إلى أبرز مقومات الديمقراطية هنا وهي:

أولا: الوعي الديمقراطي: لا يمكن أن تكون هناك ممارسة ديمقراطيّة سليمة، إذا لم يكن هناك وعي ديمقراطي سليم أساسه التربية والتعليم لدى حملة المشروع الديمقراطي عبر التاريخ، بحيث يستطيع حملة هذا المشروع أن يدركوا عبر تربيتهم وتعليمهم آليّة عمل الديمقراطيّة وإنتاجها، وكذلك عوامل نشوئها، وما هي المساحة الاجتماعيّة والأخلاقيّة التي تستطيع هذه الصيغة أو تلك من صيغ الديمقراطيّة أن تمارس نشاطها فيها. فامتلاك هذه الوعي/المعرفة، يشكل القدرة على التحكم وضبط آليّة ممارسة الديمقراطيّة وتحقيق الأهداف المرجوة منها، وبالتالي فإن أي جهل في هذه الآليّة المركبة والمتداخلة في مكوناتها، سيؤدي بالضرورة إلى إخراج الديمقراطيّة من تاريخيتها، ووضعها في دائرة مبدأ "سرير بروكست"، حيث سيعمل حملتها هنا، إما على مطمطة، أو قصقصت  الواقع المعاش، كي ينسجم مع رغباتهم وشعاراتهم الديمقراطيّة، وليس وفقا لخصوصيات هذا الواقع .

ثانيا: المسؤوليّة: تشكل المسؤوليّة الشرط الأساس لنجاح التطبيق الديمقراطي، فلا ممارسة حقيقيّة للديمقراطية دون تحقيق شرط مسؤوليّة الفرد تجاه نفسه، ومسؤوليته تجاه الآخرين. فالمسؤولية تشكل في الواقع الشرط الأخلاقي / ألقيمي لحاملها الاجتماعي، الأمر الذي يفرض عليه – أي الحامل الاجتماعي – أن يخضعَ لشروط عقلانيّة وعي وممارسة الديمقراطية، وبخاصة تاريخيتها ونسبيتها، بما يخدم المجتمع ومصالحه وفقا لطبيعة المرحلة التاريخيّة المعيشة .

ثالثا: توافر الحامل الاجتماعي للمشروع الديمقراطي: نستطيع القول في هذا الاتجاه: بأنه، لا ديمقراطيّة بدون ديمقراطيين. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا هنا، هو، ما هي طبيعة هذا الحامل الاجتماعي للمشروع الديمقراطي؟ .

لقد أشرنا في موقع سابق، أن لكل صيغة من صيغ الديمقراطيّة حواملها الاجتماعية المسؤولة عن تطبيقاتها، ومعرفة آليّة عملها، وظروف إنتاجها، والمساحة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة التي يجب أن تتحرك فيها أو تشتغل عليها. وهذا يعني أن الصيغة الديمقراطية المطروحة للتطبيق وحواملها الاجتماعيّة كلاهما يرتبطان بجملة الشروط الموضوعيّة والذاتيّة التاريخيّة للوجود الاجتماعي في مرحلة تاريخيّة محددة، فعلى سبيل المثال لاالحصر، إن الصيغة الديمقراطيّة وحواملها من الطبقة الارستقراطيّة لدى اليونان التي كانت تعبر عن عدالة اجتماعيّة تقر بالعبوديّة والتفاوت الطبقي، هي غيرها في المرحلة التاريخيّة للنظام الرأسمالي، أو لدول العالم الثالث التي يغيب فيها الوضوح الطبقي ولم تزل تتحكم في بنيتها الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة- أي وجودها الاجتماعي- المرجعيات التقليديّة، من عشيرة وقبيلة وطائفة.. الخ . إذن، نستطيع القول أو التأكيد مرة أخرى في هذا الاتجاه: إن طبيعة الحامل الاجتماعي ومدى وعيه لمفهوم الديمقراطي ودرجة مسؤوليته تجاه المهام المناطة بالديمقراطيّة التي عليه ممارستها في مرحلة تاريخيّة محددة، هي التي تلعب الدور الكبير في تحديد طبيعة النشاط الديمقراطي، ومستوى درجة نجاحه في تطبيق أهداف الديمقراطيّة من عدالة ومساواة واستقرار، التي يتضمنها هذا النشاط، ثم مستوى مطابقته للظروف الموضوعيّة والذاتيّة لهذا المجتمع في المرحلة التاريخية ذاتها .

معوقات الديمقراطيّة:

إذا كانت القضايا التي جئنا إليها أعلاه تشكل مقومات التطبيق الديمقراطي، فإن معوقاته تكمن حقيقة في غياب هذه المقومات. فغياب الوعي الديمقراطي أولا، والشعور بمسؤوليتها الأخلاقيّة لدى حواملها الاجتماعية ثانيا، إضافة إلى غياب هذه الحوامل الاجتماعيّة التي تمتلك هذين الشرطين ذاتها ثالثا، دفع بالديمقراطيّة أن تتحول إلى وسيلة لتحقيق المصالح الأنانيّة الضيقة لمن يحمل المشروع الديمقراطي في عالمنا الثالث المخلّف بشكل خاص، والذي غالبا ما تكون فيه الصيغ الديمقراطيّة المطروحة في مثل هذا الغياب، سلعا مستوردة من مجتمعات أكثر تطورا من المجتمع الذي يعيش فيه دعاة هذه الديمقراطية الفاقدة لشروطها الموضوعيّة والذاتيّة، أو هي تُفصل على قياس القوى الحاكمة، كما هو الحال لمن يطالب بديمقراطيّة وعدالة اقتصاد السوق الاجتماعي التي تطبق في الصين المتقدمة حضاريا اليوم بكل مستوياتها، على واقع دولة متخلفة ومنهارة اقتصادياً، ومعظم اقتصادها اليوم في يد القوى الأجنبيّة والبرجوازية المحليّة من الفئات الطفيليّة والسماسرة. والنتيجة ستكون هنا تحقيق ما نستطيع تسميته بـ" فوضى الديمقراطيّة الاقتصادية والسياسيّة معاً على اعتبار السياسة هي الاقتصاد المكثف، وهذا ما سيزيد في النتيجة من تعميق أزمات المجتمع بدلا من انفراجها، بل سيدخل المجتمع في صراعات داخليّة وحروب أهليّة بغية تحقيق مصالح أنانيّة ضيقة أبرز ما تسعى إليه القوى الحاكمة هنا من  مهام ووظائف هو الوصول إلى السلطة لتحقيق هذه المصالح والبقاء بها، هذا  وغالبا ما تتحرك في هذا الدولة أو تلك من مستوردي الديمقراطية، الصراعات الداخلية وفقا لمرجعيات ضيقة (عشيرة، قبيلة، طائفة، دين)، بالرغم من السعة الاجتماعيّة والوطنيّة في بنية الشعارات الديمقراطيّة المطروحة من قبل هذه الحوامل الاجتماعية المتصارعة على المصالح الأنانيّة الضيقة، وهناك أمثلة كثيرة على مأزق أو (فوضى الديمقراطيّة) في دول العالم الثالث بشكل عام، ومنها دولنا العربيّة بشكل خاص، التي سببتها تلك الشعارات الديمقراطيّة الفضفاضة المستوردة من مجتمعات أكثر تطورا، ستساعد في المحصلة شاؤا أم أبو على تعميق أزمة المجتمع والديمقراطية معا.

أما إذا أخذنا الجانب السياسي للديمقراطيّة في هذه المجتمعات أيضا، فنستطيع القول في هذا الاتجاه: إن الديمقراطيّة السليمة هنا تشكل عنصر إصلاح أساسي في المجتمع، وخاصة إصلاح السلطة، أي هي ستعمل في أبسط صورها على تحقيق تداول السلطة، وهذا في الواقع ما لا تسمح به السلطات الحاكمة في دول العالم الثالث ومنها دول وطننا العربي الشموليّة/ الكليانيّة على سبيل المثال، وهذه إشكاليّة قائمة بذاتها، غالبا ما كانت وراء قيام المعارضة وطرحها لشعارات المجتمع المدني ،هذه المعارضة التي لا تختلف هنا من حيث طبيعة تكوينها ومرجعياتها التقليديّة عن السلطات الحاكمة الشموليّة، وبالتالي ستكون دوافع ونوايا قسم كبير من هذه المعارضة شبيهة، إن لم تكن متطابقة مع مواقف ونوايا القوى الحاكمة ذاتها. لذلك ماذا يعني أن تلتقي المعارضة في سوريا - على سبيل المثال لاالحصر- في منزل شيخ عشيرة وهي ترفع شعرات المجتمع المدني، في الوقت الذي لا يمكن أن تتطابق فيه شعارات المجتمع المدني مع عقلية شيخ العشيرة أو القبيلة أو الطائفة.

من هنا نجد أن كلاً من السلطة وقوى المعارضة يدعيان بأنهما يعملان لمصلحة الشعب وحريته وعدالته وتحقيق مواطنته. هذا إذا ما أضفنا معوقاّ آخر من المعوقات التي تحول دون ممارسة الديمقراطيّة في عالمنا الثالث، وهو موقف الأصوليّة الدينيّة المتزمتة من ممارسة  الديمقراطيّة، حيث لم يزل قسم واسع من حملة هذا الفكر الأصولي يرفضون ليس قبول ممارسة الديمقراطيّة ممثلة بآلياتها ومؤسساتها في واقعنا، وإنما يرفضون مصطلح الديمقراطيّة ذاته، على اعتباره عندهم مصطلحاً غربيّا قادما من دار الكفر والرذيلة، وهو يناقض الشورى التي أقرها الله في كتابه العزيز، في الوقت الذي لم يستطيعوا حتى هذا التاريخ الاتفاق على تحديد آليات عمل هذه الشورى وتبيان أهدافها وحواملها الاجتماعيّة، وهم بذلك يبرهنون على جهلهم بمعرفة الشورى والديمقراطيّة معا، مثلما يسيئون لهما أيضا .

ختاما نقول: تظل الديمقراطية مشروعاَ إنسانيّا بالنسبة للمجتمعات البشريّة عموما ومنها مجتمعنا العربي على وجه الخصوص، يهدف في سياقه العام - إذا ما توفرت شروط تحققه الموضوعيّة والذاتيّة - إلى سعادة الإنسان وتقدمه ورقيه، بل وتفجير إمكاناته وإبداعاته وقواه الحيّة التي تعمل على إثبات وتنمية إنسانيته .

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

...............................

الهوامش:

1- راجع كتابنا: الديمقراطيّة بين الفكر والممارسة – إصدار دار العلم – دمشق – 1993- ودار التكوين دمشق – 2005.

تحليل من منظور علم النفس وألأجتماع السياسي

تنويه: معظم المنشغلين في السياسة سوف لا يقرأون هذا المقال لأنهم ينفرون من عنوانه، مع انه يشخّص الحقيقة. فأحدى اهم نقاط الخلاف بيننا نحن علماء النفس والاجتماع السياسي والأخوة السياسيين، انهم يشخصّون الخلل في الانتحاري الإرهابي بالاستيلاء على السلطة عن طريق العنف، فيما نشخصّه نحن في المعتقد الذي يحمله في رأسه ويسوقه إلى تحقيق هدفه. فنحن نرى أن السلوك، أيا كان نوعه: عبادة، قتل، تطرّف، تسامح.. ناجم عن فكرة أو معتقد، وأن اختلاف الناس في أفعالهم ناجم أساسا عن اختلافهم في الأفكار والمعتقدات التي يحملونها.

التحليل

ثمة حقيقة سيكولوجية هي.. إن كلّ المنتحرين، عدا الحالات الفردية، يقدمون على الانتحار إخلاصا لمعتقد يؤمنون به. ولا اختلاف في الفعل بين الطيارين اليابانيين الذي انتحروا بضربهم، في لحظة مباغتة، البوارج الأميركية الحاملة للطائرات وتفجيرها بطائراتهم في ميناء بيرل هاربر، وبين انتحاري إرهابي يفجّر نفسه بين الناس. فالفعل هو انتحار، والفرق يكمن في نوعية المعتقد الذي يدفع صاحبه إلى الانتحار. فهو عند الطيارين اليابانيين كان من أجل الوطن، فيما هو عند الانتحاري الإرهابي إلحاق أكبر الأذى بالآخرين. ولهذا علينا أن نجيب على هذا السؤال:

كيف تشكّل هذا المعتقد لدرجة أنه يجعل الفرد يستسهل إفناء نفسه والآخرين بعملية قتل بشعة؟

الانتحاري الإرهابي.. صناعة عربية

من متابعتنا الميدانية وجدنا أن الانتحاري الإرهابي هو صناعة عربية، وأن المصدر الأول في تشكيله هو السلطة العربية، وأنه ابنها بامتياز. وأن هذا لا يعود لظلم السلطة بالدرجة الأولى، بل لانعدام العدالة الاجتماعية المتمثل بثراء فاحش ورفاهية خرافية تتمتع بها قلّة، وحرمان تعاني منه الأكثرية، أفضى إلى اغتراب بين المواطن العربي وسلطته. وما لا يدركه كثيرون أن الاغتراب، فضلا عن كونه حالة مأزقية بين الفرد والسلطة، فإنه يجعل صاحبه يشعر بأن وجوده لا معنى له، وأنه يعيش حياة بلا هدف.

ولأن الحاكم العربي تتحكم فيه “سيكولوجيا الخليفة” التي يرى فيها نفسه انه امتداد للخليفة من 1400 عام، ولأنه استفرد بالثروة لضمان ديمومة سلطته، فإن بين المغتربين عن السلطة العربية من راح يبحث عن سلطة أخرى يجد فيها لوجوده معنى ولحياته هدفا، فوجدها في القاعدة ثم في داعش، بعد أن زين له من يراهم قدوة أنه سيكون بين هدفين لا أروع منهما: إما أن يفوز بتحقيقه دولة إسلامية يكون فيها أميرا، وإما يموت ويفوز بالجنّة، في حياة أبدية بها ما لذّ وطاب وحور عين وولدان مخلدون بخدمته.

ولهذا فإن الانتحاري الإرهابي ليس فقط يستسهل تفجير نفسه بل يستعذبه، لأنه مؤمن إيمانا مطلقا بمعتقده الذي لا أروع وأكرم وأعظم منه في نظره. ولهذا لم تستطع أميركا بعظمتها العسكرية ومعها حلف الناتو القضاء على الإرهاب، لأن السلطة العربية “ولادّة” لانتحاريين إرهابيين يعدّون الحياة أمرا تافها إزاء حياة أبدية في جنّات النعيم، ويعدّون النيل من حاكم يعيش حياة الأباطرة، فيما هم غرباء أذلاّء في وطنهم.. قصاصا عادلا وأمرا جهاديا.

الشخصية الإرهابية.. في اطروحة دكتوراه

في عام (2009) اشرفت في جامعة السليمانية على اطروحة دكتوراه للسيدة جوان احسان (صارت فيما بعد عضوا في البرلمان العراقي) تعدّ الأولى عراقيا وعربيا ودوليا من نوعها، وقد استضافتها اميركا لتقدم محاضرة عنها.

ما يعنينا هنا ان الباحثة التقت بالمحكومين بجرائم الإرهاب في السجون التابعة لوزارة الداخلية في اقليم كوردستان ومؤسسات السجون التابعة لوزارة العدل العراقية لتطبيق الاختبارات واستمارات المقابلات عليهم. وتبين ان نصف الإرهابيين يحملون الجنسية العراقية فيما توزع نصفهم على عشرة بلدان عربية هي: سوريا، السعودية، اليمن، السودان، تونس، فلسطين، الاردن، مصر، الكويت، والجزائر.. لتؤكد مقولتنا ان الإرهابي هو صناعة عربية.

وتوصلت في نتائجها الى ان الإرهابيين (لديهم شعور دائم بالغبن وغير راضين عن السلطة ومن يواليها)، وان الإرهابي يعتقد (ان ضحايا التفجيرات والعمليات الانتحارية.. شهداء) وان تلك العمليات (هي قمة الاستشهاد ) وان هدف الإرهابي في حياته هو (نصرة دينه والفوز بالجنة).

البندقية.. لن تقضي على الشخصية الداعشية

ثمة حقيقة سيكولوجية.. إن البندقية وحدها لن تخيف من يستسهل ويستعذب إفناء نفسه والآخرين، وليس بمستطاعها القضاء على داعش، وإن عقد مؤتمرات دعائية لمكافحة الإرهاب تبدأ ببهرجة وتنتهي بوضع توصياتها في الأدراج، وأخرى تدعو لتوافق سياسي ومصالحة وطنية تلتقي بوجوه متآلفة وتنتهي بقلوب متخالفة، لن تجدي نفعا، ما لم يتم توظيف السلاح المفقود في هذه المواجهة باستقطاب خبراء سيكولوجيين وعلماء تربية واجتماع يضعون إستراتيجية علمية يشكل تحقيقها ظهيرا اجتماعيا وسيكولوجيا يسهم في إنهاء داعش بزمن أقصر وتضحيات أقل.

وهنالك مفقود آخر لم تفكر السلطات السياسية باستخدامه في مواجهة داعش، هو أن المسألة الحاسمة في الفكر الداعشي هي التكفير، إذ يرى أن تفسير القرآن والسنة النبوية بكلام الفقهاء بدعة أبعدت الناس عن معرفة الحقيقة التي جاء بها القرآن، وقد تبناها جمال الحمداني (أبو نوح قبر العبد) وجماعته المنتشرة في الجزيرة والقرى بين الحدود العراقية والسورية، التي تكّفر من لا يقول بمثل قولها، فيما هنالك جماعة أشد غلوا يمثلهم أبو علاء العفري نائب البغدادي، لا يعذرون بالجهل مطلقا، حدثت بينهم ومجموعات أخرى خلافات تجاوزت الطرد والتسفيه إلى التصفية الجسدية، بينهم قاضي داعش التونسي أبو جعفر الحطاب الذي كفرته وقتلته، وقبله تمت تصفية قاضيها السابق الكويتي، أبو عمر الكويتي، الذي كفّر البغدادي. وقد أدى مسلسل التكفير إلى قتل 18 قائدا من أصل 43 من قيادات الصف الأول بين يونيو 2014 وأبريل 2015، ما يعني سيكولوجيا أن الحول العقلي( وهو مصطلح ابتكرناه وادخلناه في علم النفس العربي) يتحكم بالتفكير الداعشي. ولأن المصاب بالحول العقلي ينظر إلى الأمور الجدلية على أنها أبيض وأسود فقط، ومنغلق ذهنيا على معتقدات جزمية، ولن يتخلى عن آرائه حتى لو بدا له خطؤها، فإن هذا يعني أن هنالك خطرا كبيرا يتهدد داعش من الداخل، وهذا هو المفقود الفكري الذي لم يتم التفكير به أصلا في مواجهتها، ولم يفكر به القائمون على شبكة الأعلام العراقي، والاعلام العربي.

في ضوء منظورنا هذا، نرى ان العالم لن يستطيع القضاء على الإرهاب، وهذا ما اكده الجيش الأمريكي بتصريحه في (6 / 4 / 2024) بأن داعش ما يزال قويا في العراق وسوريا. ومع تعدد وتنوع الأسباب، فأن السبب الرئيس هو ان السلطة العربية ما تزال ولّادة للإرهابيين ممن باتوا يعدّون حياتهم البائسة أمراً تافهاً إزاء حياة أبدية يسعون إليها في جنات النعيم، وهم يعدون النيل من حاكم يعيش حياة الأباطرة، فيما هم غرباء أذلاء في وطنهم.. قصاصاً عادلاً وأمراً جهادياً، وأن فساد واستبداد الأنظمة العربية وعجز المواطنين عن تحقيق التغيير السلمي، يشكل بيئة مناسبة لتغذية الأفكار المتطرفة وبروز الجماعات الإرهابية.

اقتراح

نكرر القول بأن البندقية تقضي على الإرهابي جسديا ولن تقضي على افكاره التي يبثها بين الأطفال والمراهقين والشباب والمضطهدين ومن يرى أن السلطة مصدر شقاء له.

ولو كانت ظاهرة الإرهاب تقتصر على بضعة أفراد لأمكن القول أنهم قلة من المجرمين المرضى نفسيا في المجتمع، لكن الحديث يدور اليوم عن ملايين يسمون أنفسهم مجاهدين ويقتلون الناس بدم بارد. بل انهم نجحوا في ان يجعلوا صانعة الحياة ومانحة الحب ورمز التضحية والايثار والعطاء غير المحدود.. المرأة.. ان تكون قنبلة تقتل من حولها!

وعليه نقترح عبر جريدة (المدى ) العراقية عقد مؤتمر عربي في بغداد يشارك فيه أكاديميون وسياسيون ورجال دين واعلاميون من المعنيين بالإرهاب تحديدا لوضع استراتيجية لمكافحة الإرهاب تنفذ على مراحل، تبدأ من المناهج الدراسية بمرحلة الدراسة الأبتدائية وتنتهي بسياسة الدولة وخطط المؤسسات الامنية في مكافحة الإرهاب في العالم العربي.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

بقلم: فرح عبد الصمد

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تتشكل حياة سكان شمال إفريقيا في فرنسا من خلال صراع مروع من أجل الانتماء، والذي يوصف بصدمة ما بعد الاستعمار

لم أتمكن من تناول الكثير من الطعام وكنت أترنّح معظم الوقت. غادرت القوة جسدي الضعيف. قلت لأولئك الذين استمعوا إلي: "أشعر أنني لست على ما يرام". أضفت: "إنه أمر مؤلم"، وأنا أشير إلى معدتي، ورأسي، ومعصمي، في حين أن ركبتي أو رقبتي لم تكن هي التي تزعجني. خلال تلك الأوقات، كان جسدي يشعر بأنه متأرجح بين التوتر وقلة النوم: مملة، تتخللها أحاسيس الطعن والالتواء والطعن. تمنيت أن يضغط أحد على ذراعي، فيعلمني أن كل ما يسحق دواخلي سوف يُهزم قريبًا. كلما حدثت حالات تفشي المرض، كنت أختبئ ممسكة بقلادة مرجانية تونسية تقليدية جعلتها بمثابة تعويذة.

كنت طفلة مريضة مجعدة الشعر تتجنب اللعب في الخارج. نشأت في غرب باريس، وقد برزت بالفعل بين أصدقائي الفرنسيين كطفلة كانت مثلهم ولكن ليس تمامًا - نصف بيضاء، عن طريق أمي، ونصف عربية، عن طريق والدي، الأمر الذي حكم عليّ بالعيش في غرب باريس. فئة مختلفة من الفرنسية. كنت أرغب بشدة في الاندماج، لأكون نسخة مما اعتقدت أنه "طبيعي". لكن معاناتي جعلت هذا الأمر أكثر صعوبة. لقد شكلت ذخيرة مدمجة تشمل الالتهابات الشبيهة بالأنفلونزا والبرد التي تركتني أسعل بانتظام حتى تحترق أضلاعي. لفترة من الوقت، كنت مصابة بقروح البرد المشوهة.

لقد رفض الأطباء والأصدقاء وحتى أفراد الأسرة تشخيصاتي الذاتية، وأصروا على المصطلح الغامض المألوف "الفيروس". أوه، إنه مجرد فيروس، كما يقولون، على أمل أن يقلل ذلك من قلقي. لكنها أثارت فضولي فقط. أي فيروس؟ ألديه اسم؟ هل يمكنني إجراء الاختبار؟ لماذا يأتي لي، على وجه التحديد وبانتظام، وليس لأي من أصدقائي البيض؟

بينما قام الأطفال الآخرون ببناء حصون من الوسائد، قمت بتطوير البروتوكولات الصحية (الأطعمة والفيتامينات والأعشاب) والحاسة السادسة لعلامات المرض. عندما ضرب الفيروس، قمت بنشر ترسانتي من الجرعات والعلاجات. وعندما فاجأتني قوتها، تركت نفسي يجرفني الضباب. كنت أخشى الليالي أكثر من أي وقت مضى، ونادرًا ما أجرؤ على التحقق مما كان تحت سريري.3879 مظاهرة في باريس

في مظاهرة في باريس بفرنسا، عقب إطلاق الشرطة النار على ناهل مرزوق في ضاحية نانتير؛ 2 يوليو 2023.

الحالة المزمنة التي عانيت منها تشبه الحالة التي تم تسميتها قبل وقت طويل من ولادتي. في عام 1952، كان فرانتز فانون البالغ من العمر 27 عامًا قد نشر للتو كتابه الأول، بشرة سوداء، أقنعة بيضاء، وهي أطروحته للدكتوراه المثيرة للجدل والمرفوضة حول آثار العنصرية على الصحة. كان فانون يتدرب في مستشفى سان ألبان في جنوب فرنسا عندما لاحظ سريعًا أن العاملين في المجال الطبي غالبًا ما يتجاهلون قلق المرضى في شمال إفريقيا ويقللون من شأنه. في ذلك الوقت، كان المغرب والجزائر وتونس (حيث ولد والدي) إما مستعمرات فرنسية أو محميات، وكان هؤلاء المرضى من المهاجرين من الجيل الأول، وهم رجال عبروا البحر الأبيض المتوسط في أعقاب الحرب العالمية الثانية لإعادة بناء فرنسا المتروبولية. ولم تكن الحياة سهلة بالنسبة لهم. عاش معظمهم في عقارات الطبقة العاملة غير الصحية الذين استفادوا من دخولهم الضئيلة واحتلوا أدنى درجات المجتمع الفرنسي. لقد نجوا من مجرد حنين عميق للوطن والعائلة التي تركوها وراءهم. وكان لديهم أعراض مماثلة لمرض غير معروف. ومن خلال ملاحظات فانون السريرية - التي من شأنها أن تؤثر على كتابه المؤثر بشكل كبير وتدفعه للانضمام إلى مستشفى البليدة-جوانفيل للأمراض النفسية في الجزائر - كتب مقالًا أساسيًا يكشف عن مجموعة مشتركة من الأعراض لما أسماه "متلازمة شمال إفريقيا".

اشتكى سكان شمال إفريقيا من الألم المراوغ. أوصافه، بحسب الأطباء الفرنسيين، كانت غير موثوقة. ويبدو أنهم يكذبون بشأن أمراضهم أو يبالغون فيها، ولم يصبحوا أكثر من مجرد إزعاج طبي. لكن فانون خصص وقتًا للاستماع. وعلى أسس تقليدية، كان من الصعب تفسير آلامهم. كتب فانون أنهم «يصلون محاطين بالغموض»، وباستثناء حالات نادرة، لم تظهر عليهم أي آفات جسدية. إنه يؤذي "في كل مكان" وليس في أي مكان على وجه التحديد. أراد الأطباء تشخيصهم من أجل إعطاء الدواء بشكل صحيح، لكن المرضى أصبحوا منزعجين من كل الأسئلة لأن معاناتهم كانت موجودة، وواضحة بشكل لا يطاق لوصفها. "إنه أمر مؤلم" - ولكن ما طبيعة هذا الأمر؟

فضح فانون الأحكام المسبقة التي غالبًا ما كانت تساوي هذه الآلام الغريبة بالغباء أو الجنون

في الخمسينيات، كانت فرنسا عند نقطة تحول. اندلعت حرب الاستقلال الجزائرية في عام 1954، والتي دعمها فانون بنشاط لبقية حياته القصيرة، وخسر الاتحاد الفرنسي (الذي حل اسمياً محل الإمبراطورية الاستعمارية) مستعمراته في جنوب شرق آسيا. عشية الاستقلال وإنهاء الاستعمار، وضع فانون نظرية مفادها أن الألم الجسدي الذي يعاني منه المهاجرون من شمال إفريقيا كان تجسيدًا للاغتراب العميق الجذور، ومظهرًا من مظاهر تبدد الشخصية. وقام بتحليل شكاواهم المشتركة من المعاناة الجسدية باعتبارها "نظرية اللاإنسانية":

بدون عائلة، بدون حب، بدون علاقات إنسانية، بدون شركة مع المجموعة، سيحدث أول لقاء مع نفسه في الوضع العصابي، في الوضع المرضي؛ سوف يشعر بأنه فارغ، بلا حياة، في صراع جسدي مع الموت، موت على هذا الجانب من الموت، موت في الحياة – وما هو أكثر إثارة للشفقة من هذا الرجل ذى العضلات القوية الذي يقول لنا بصوته المكسور حقًا: دكتور، سأموت؟

ناضل العمال في شمال أفريقيا للتعبير عن عجزهم الاجتماعي والعاطفي، المحفور في العنف الاستعماري والاقتلاع. أوصى فانون بالعمل بشكل جماعي على "معنى الوطن" لمعالجة حرمانهم وألمهم. لقد فضح تحيزات أقرانه التي غالبًا ما كانت تساوي هذه الآلام الغريبة بالغباء أو الجنون. على سبيل المثال، أصبح "الداء الخطير" ــ وهو التشخيص الذي تم اختراعه في مطلع القرن العشرين لمراعاة ميل العمال المفترض إلى تضخيم الحوادث بهدف المطالبة بالتعويض ــ مرتبطا فيما بعد بسكان شمال أفريقيا على وجه الخصوص: حيث تقاربت المخاوف الطبية والسياسية. لكن سكان شمال أفريقيا الذين دخلوا مستشفى فانون لم يكونوا مختلين أو ماكرين. لقد كانوا على ما يرام لأن الظروف المعاكسة في المجتمع الفرنسي سحقت إنسانيتهم.

قادني مقال فانون إلى التساؤل عن سبب إصابة سكان شمال إفريقيا الفرنسيين بالألم أكثر من غيرهم، وما إذا كان الأمر لا يزال كذلك، وما الذي يمكننا تعلمه من المدى الذي تلعب فيه ظروفهم الاجتماعية والثقافية دورًا حاسمًا في تشكيل وفهم الأمراض. أنا لست طبيبة مثل فانون؛ تجربتي أكثر ذاتية من كونها قابلة للاختبار بشكل موضوعي. بالنسبة لي، الألم شخصي وعالمي بشكل عميق. لديهما القدرة على جعلنا نشعر بالوحدة في العالم، ولكن أيضًا للتواصل مع مجموعة أوسع تعاني من نفس المحنة. لقد واجهت هذه الازدواجية منذ وقت ليس ببعيد.

في يونيو/حزيران 2023، بعد ساعات قليلة من قيام شرطي بقتل مراهق فرنسي من شمال إفريقيا يبلغ من العمر 17 عامًا يُدعى ناهل مرزوق، عند نقطة قريبة في ضاحية نانتير بباريس، أصابني ألم شديد لدرجة أنني بالكاد أستطيع التحدث. وخلافاً لعمليات القتل الأخرى – ما لا يقل عن 20 قتيلاً سنوياً على يد الشرطة الفرنسية في العقد الماضي – فقد تم تصوير هذه الحادثة. في التسجيل القصير، توقفت سيارة صفراء محاطة بدراجات نارية تابعة للشرطة وشرطيين راجلين. في البداية بدا الأمر وكأنه تفتيش عادي، إلا أن أحد رجال الشرطة يحمل مسدسًا موجهًا نحو السائق ناهل، ويحذره من أنه سيطلق النار. وعندما بدأت السيارة في التحرك، أطلق الشرطي النار، فاصطدمت السيارة على بعد أمتار قليلة. مات ناهل. وسرعان ما تم دحض المحاولة المؤسسية للتستر على الحادث عندما تسرب الفيديو عبر الإنترنت.

باعتباري مواطنة فرنسية من شمال إفريقيا، كان لدي شعور رهيب بأنني رأيت مثل هذا من قبل وثمة حسرة في القلب. وانضم إليها شعور مشترك بالغضب، مما أدى إلى احتجاجات عنيفة على مستوى البلاد اندلعت بعد وقت قصير من اغتيال ناهل. وكانت في ذهني ذكرى ناهلز آخرين، مثل الشاب زيد بينا وبونا تراوري، اللذين توفيا في عام 2005 أثناء مطاردتهما من قبل الشرطة في ضاحية باريسية أخرى، كليشي سو بوا. إن صور الهوية غير الواضحة لزيد وبونة، والتي تم تداولها على نطاق واسع في التلفزيون والصحف، قريبة إلى قلبي. كتبت سوزان سونتاغ في كتابها "فيما يتعلق بألم الآخرين" (2003): "عندما يتعلق الأمر بالتذكر، فإن التصوير الفوتوغرافي له التأثير الأعمق". "التصوير الفوتوغرافي هو بمثابة اقتباس أو حكمة أو مثل. " وفي حالة زيد وبونة، فإن صورهما بمثابة تحذير. إذا كنت تبدو هكذا، فقد تكون في خطر.

عرضت القنوات الإخبارية خبراء يلقون اللوم على ناهل في قتله (أو، إذا لم يكن هو، فوالدته).

سأل أحد الصحفيين بعد أسبوع من مقتل ناهل: "هل تعتقد أن هناك عنصرية في [قوة] الشرطة؟". أجاب قائد شرطة باريس: «لا على الإطلاق». لقد شعر بالصدمة من إمكانية اقتراح مثل هذا المصطلح. تواصل العديد من المؤسسات إنكار وجود العنصرية النظامية في فرنسا. ولكن، كما قالت عالمة الاجتماع كوثر هارشي* في مقال نشرته ذلك الصيف، فإن حياة الفرنسيين الأفارقة "أصبحت معرضة للقتل" بسبب فكرة كونهم عنصريين بشكل واضح. وكتبت: “إن العيش حياة كرجل عربي، رجل أسود، في فرنسا العنصرية هيكليًا، يعني العيش على مسافة قريبة من الموت”.

إن تجربة العنف هذه أعمق من مجرد حالات معزولة لوحشية الشرطة. في عام 2017، أفاد 80% من الشباب الذين يُنظر إليهم على أنهم عرب أو سود أنهم أوقفوا مرة واحدة على الأقل من قبل الشرطة، مقارنة بـ 16% لبقية السكان. في الفرنسية، تسمى هذه العنصرية السيطرة على الوجه أو "التحكم في الوجه"، وهو ما يشير بشكل فظ إلى أهمية المظهر العرقي، وهو نوع آخر من عدم المساواة الذي يحدد المساحات المتاحة لسكان شمال إفريقيا للعيش بأمان، وخاضعة لوصفات البيض حول ما يعنيه الأمن.

ومع انتشار الاحتجاجات في الصيف الماضي، تحولت في بعض الحالات إلى أعمال عنف. بعد ثلاثة أيام من وفاة ناهل، وسط فرض حظر التجول على نطاق واسع، أدانت اثنتين من أهم نقابات الشرطة "جحافل المتوحشين" وتعهدتا بمحاربة هذه "الآفات". باتباع مبدأ فوكو القائل بأن العقوبة ليست عملاً من أعمال العدالة، بل هي عمل من أعمال القوة، وعدوا بتهدئة السكان الأصليين المتمردين في القرن الحادي والعشرين والحفاظ على النظام (نظام من؟)أصبحت العقوبة الجماعية للمتحدرين غير المنضبطين من الرعايا المستعمرين، الذين كانوا ميالين عرقيًا للعنف مثل أسلافهم، مشهدًا عامًا على القنوات الإخبارية، حيث يتهم النقاد ناهيل بقتله (أو، إذا لم يكن هو، فوالدته) ). لقد تم إطلاق العنان لأسوأ الميول العنصرية في فرنسا. ولم تعترف النخب بالاختلاف العرقي باعتباره حقيقة أساسية فحسب، بل قامت بإضفاء طابع عنصري عليه وتسييسه لتقسيم الرأي العام. وكما تساءلت جوديث بتلر ذات مرة: متى تكون الحياة "حداداً"؟ فقط عندما تُفهم حياة المرء على أنها حياة – حياة محفوفة بالمخاطر ومحدودة. لكن نخب المجتمع الفرنسي لم تنظر إلى ناهل وأمثاله إلا على أنهم مجرد تهديد، ولا شيء غير ذلك. بالنسبة لهم، لم تكن حياته حزينة.

لقد نشأت أيضًا في إحدى ضواحي باريس، لكنني لم أكن في فرنسا الصيف الماضي. ومع ذلك فقد قمت بإعادة تشغيل مقطع الفيديو الخاص بمقتل ناهل مرارًا وتكرارًا على أمل أن تظهر المشاهدة المختلفة ذنب ناهل بطريقة أو بأخرى أو ربما اللجوء المشروع للدفاع عن النفس من قبل الشرطة. لكن كل مشاهدة كانت تؤكد عكس ذلك،، مما أثار استياءً متزايدًا من أن ألمي لم يكن يشاركني على نطاق أوسع من قبل أشخاص لا يشبهونني أو يشبه ناهيل. ولا يحدث العنف في عزلة، أو في الماضي فقط، كما حدث في عام 1961، عشية استقلال الجزائر، عندما قتلت الشرطة 100 متظاهر، وتم دفع الجزائريين إلى الغرق في نهر السين. هذه الأحداث، مثل ألمي المزمن، موجودة هنا والآن وهي حاضرة دائمًا.

الألم موضعي في الجسم. على هذا النحو، فإنه يعيدنا إلى دستورنا الجسدي، والذي يعتبر بالنسبة لمواطني شمال إفريقيا في فرنسا مرادفًا للهوية السياسية. أجسادنا هي مواقع ذات أبعاد متعددة ومتداخلة – رمزية، وحقيقية، وذاتية – تعمل معًا في تضاريس اجتماعية هرمية اكتسبت مؤخرًا من الإسقاطات الاستشراقية الاستعمارية. يقال لنا إننا ننتمي إلى أراض غريبة، تختلف جوهريا عن أوروبا، وأننا يجب أن نكون "متحضرين" ومحتلين. نحن موضوع للبحث العلمي الخارجي، ممنوعون من رواية قصصنا الخاصة - يجب أن يخبرنا الخبراء الأوروبيون عن هويتنا.

الألم هو "تجربة حسية وعاطفية غير سارة مرتبطة أو تشبه تلك المرتبطة بتلف الأنسجة الفعلي أو المحتمل"، وفقًا للرابطة الدولية لدراسة الألم. الألم يأتي من التمزق. يرسل الجسم إشارات إلى الدماغ بأن شيئًا ما ليس على ما يرام وأننا يجب أن ننتبه إليه. نحن الآن نفهم فكرة فانون عن "متلازمة شمال أفريقيا" تحت الشعار الواسع لصدمة ما بعد الاستعمار. هذا هو المجال الذي يدرس التفاعل بين الأقليات العرقية (أو المجموعات غير الغربية) وفشل علم النفس والطب النفسي التقليدي في تفسير الإرث أو الميراث أو ذكرى القهر عبر الأجيال. يسعى الانضباط إلى تحديد علاقات جديدة بين الشخصية والخبرة والجروح. ولا يتعلق الأمر بتأكيد الحتمية البيولوجية ــ فكرة أن جينات المرء تتحكم في سلوكه ــ أو تصنيف العرب على نحو ما على أنهم عرب. يتعلق الأمر بالاعتراف بمجموعات محددة من التجارب الموروثة والمكتسبة التي تظهر صراعًا بين كيفية تمثيل الفرد وكيفية تجربة هذا التمثيل، والذي قد ينشأ من إرث تاريخي مشترك. ولكن على عكس النهج التقليدي تجاه الصدمة أو الألم الذي يفضل صياغة نموذج قائم على الحدث (محفز واحد، استجابة واحدة)، أو الفصل الصارم بين ما قبل وما بعده، فإن ألم ما بعد الاستعمار مستمر. إن صدمة ما بعد الاستعمار هي "أسلوب حياة، وحالة دائمة من الأشياء"، كما كتبت الباحثة والمحللة النفسية جينيفر يوسين.

لا يمكن لأحد أن يصنف شخصًا ما على أنه إسباني من الجيل الثالث، لكن "المهاجرين" تعني العرب والأفارقة

المرضى الذين وصفهم فانون عاشوا، أو بالأحرى نجوا، في حالة متواصلة من الاغتراب، تفاقمت بسبب ظروفهم المادية. انضم العديد منهم إلى منازل العمال أو عاشوا في الأحياء الفقيرة الموحلة في نانتير، والتي وصل عدد سكانها بسرعة إلى 10000 ساكن، ومنها انضم مئات الجزائريين المؤيدين للاستقلال إلى الاحتجاجات التي تم قمعها بوحشية في باريس عام 1961. غالبًا ما اعتبرت الدولة الفرنسية الأحياء البائسة التي يكتظ بها سكان شمال إفريقيا خطيرة لأنها توفر أرضًا خصبة للنشاط السياسي، الذي يغذيه عزلتهم وفقرهم. تم تجديد حي نانتير الفقير في السبعينيات، وقُتل ناهيل في نفس المدينة بعد 50 عامًا، وهو مراهق يعيش حياة على هامش فرنسا. وكما كان الحال في الماضي، تظل الضواحي أماكن للنشاط والاحتجاج لأنها تبقي المواطنين والمهاجرين في مرحلة ما بعد الاستعمار في ما يسمى بـ "المناطق المحظورة".

في الخمسينيات من القرن الماضي، كان بإمكان فانون أن يقول عن المرضى في شمال إفريقيا إنهم "ضغطت عليهم فرنسا"، وبالتالي، فإن إرسال هؤلاء المرضى إلى شمال إفريقيا ليس له أي معنى. واليوم، يدعو اليمين المتطرف إلى "الهجرة مرة أخرى" لتطهير فرنسا من هؤلاء غير المرغوب فيهم. ولكن على الرغم من كون سكان شمال أفريقيا فرنسيين بأغلبية ساحقة، إلا أنهم ما زالوا يتميزون بجيلهم - الثاني والثالث والرابع. ومن خلال القيام بذلك، يخبرهم المجتمع الفرنسي أنهم لا ينتمون بشكل كامل. لا يمكن لأحد أن يعتبر شخصًا إسبانيًا من الجيل الثالث، لكن الجميع يعلم أن كلمة "المهاجرين" تعني العرب والأفارقة. بينما يمثل جيل واحد مرور الزمن، فإن تجربة العنف في شمال أفريقيا هي تجربة تحددها حوادث متكررة ضمن إطار أوسع من التهميش. العنف هو ثعبان ملتف يخنق بقوة أكبر عند كل منعطف.

نظرًا لأن العديد من سكان شمال إفريقيا الناطقين بالفرنسية يشعرون بشيء مزعج وغير طبيعي عالق في أجسادهم، فإنهم يبحثون اليوم عن متخصصين في الصحة العقلية ويكسرون المحظورات الثقافية. إنهم بخير جسديًا باستثناء هذا الألم الحارق الغريب والانزعاج الذي لا يمكن تحديده، مما يجعلهم قلقين إلى حد الجنون وفى حاجة إلى الاستماع إليهم. في عيادة فاطمة بوفيت دو لا ميزونوف للصحة العقلية غرب باريس، يتحدثون بصراحة عن الألم الناجم عن الهويات المتضاربة والاعتداءات الصغيرة ومختلف أشكال التمييز، وتأثيرات الخطاب اليميني المتطرف المتصاعد المناهض للعرب في وسائل الإعلام الرئيسية وفي الطبقة السياسية. قال بوفيت دو لا ميزونوف، وهو طبيب نفسي ومؤلف فرنسي تونسي، لصحيفة لوموند في عام 2019 إن هؤلاء المرضى يعيشون مع "ألم حقيقي غير مفهوم"، بعد أن تعرضوا لمعاناتهم على مدى عقود. لم يغير الزمن بشكل جذري متلازمة شمال أفريقيا، وهي صدمة منتشرة في فترة ما بعد الاستعمار تكافح من أجل التوفيق بين الخارج والذات.

يتطلب كونك مريضًا أن تتم مراقبتك، وخلع ملابسك، وفحصك، والحكم عليك. فهو يضع المرء بالفعل في علاقة غير متكافئة مع سلطة طبية، مما يضع الباحث في مواجهة متبرع، وشخص عادي وباحث، وهي ديناميكية السلطة التي تضع المريض في دور ثانوي.(التي اعتاد عليها سكان شمال أفريقيا، بحكم ظروف الحياة وثقل تاريخهم).ولا يختلف هذا التشابه عن التغطية الإعلامية الفرنسية لمواطني شمال إفريقيا، حيث تقوم النظرة المتطفلة بتشريح كل علامة انحراف من شأنها أن تبرر وضعهم الأدنى، وترفع دائمًا الأخبار التي تثبت صحة التحيزات الموجودة مسبقًا. كتب عالم الأنثروبولوجيا وعالم الاجتماع ديدييه فاسين عن امرأة من غرب إفريقيا تم إحالتها إلى عيادة نفسية عرقية خارج باريس بسبب مشكلة الأبوة والأمومة: "كل عبارة نطقتها أصبحت علامة تستحق التفسير، وهذا أيضًا يسبب الألم".

أنا الابنة الوحيدة لأم فرنسية بيضاء وأب تونسي عربي. لم أختر الواصلة واعتمدت على تفسيرات بهلوانية كلما سُئلت من أين أتيت حقًا، وهو سؤال تم طرحه بشكل متكرر محير لأنني كنت كبيرة بما يكفي لفهم ما يعنيه نصه الفرعي. لم أكن فرنسية بالكامل - وهذا ما كنت أعرفه من خلال نبرة سؤالي - ومع ذلك فقد استغرق الأمر مني عقودًا للوصول إلى الإجابة: لقد جئت من باريس وتونس، وبلاد الغال وقرطاج، والصليب والهلال، والبحر الأبيض المتوسط وحدائق مونيه، والزبدة وزيت الزيتون، والنبيذ والليمون. أنا الزيت والخل. أنا من دم لا يمتزج تقليديًا. قد لا يكون الأمر منطقيًا بالنسبة لك ولكنه ليس كذلك أو. سعيد الان؟ لكنهم لم يكونوا سعداء ولا مقتنعين. في بعض الأحيان يشكل هذان المكونان من هويتي اتحادًا خجولًا، وأحيانًا ينفصلان. وفي كثير من الأحيان، يبدو الأمر وكأنه عبئًا مستعصيًا يتطلب شرحًا وتنقلًا وتفاوضًا مستمرًا. في فرنسا، التمييز بين كونك فرنسياً أو الرغبة في أن تكون فرنسياً لا يرحم. أنت كذلك، أو لا تكون، وعندما لا تكون كذلك، فهذا أمر وحشي ولا رجعة فيه.

لقد نشأت في أواخر سنوات فرانسوا ميتران في فرنسا، في شفق مخيب للآمال لمسيرة عام 1983 من أجل المساواة ومناهضة العنصرية. وخلال تلك المظاهرة، قُتل السائح الجزائري حبيب غريمزي بوحشية على متن قطار ليلي على يد ثلاثة فرنسيين، بينما كان عشرات الآلاف من سكان شمال أفريقيا (وبعض الحلفاء) يسيرون من مرسيليا إلى باريس للتنديد بالانتهاكات اليومية والتمييز.على الرغم من هذا المظهر للمحاسبة المجتمعية التي يقودها الجيل الثاني من سكان شمال أفريقيا الذين سعوا إلى حياة أقل عنفاً من حياة آبائهم، فإن زخم التغيير لم يدم.ونتيجة لذلك، لم يكن هناك الكثير من الروايات المفعمة بالأمل التي يمكنني الاتصال بها.في دائرتي، كانت المسيرة مزحة؛ غالبًا ما تم تقديم الاستقطاب السياسي لقادتها كقصة تحذيرية لمواطني شمال إفريقيا بأنهم يجب أن يظلوا مذعنين من أجل تحقيق النجاح (يشار إلى "الرجل نعم" باسم بني أوي، وهو أيضًا مصطلح من الحقبة الاستعمارية تم تصديره من الجزائر).

لغتي الأم هي الفرنسية؛ أشعر بالألم بالفرنسية

لم أكن أنتمي إلى القصص والأساطير الوطنية الفرنسية على الرغم من أنني ولدت فرنسيًا لأبوين فرنسيين. لقد كنت ملطخًا بالنقص، وكان اسمي غريبًا، ولم يكن لدي أحد أتطلع إليه. لم أكن أعرف "نصفين" آخرين مثلي، ولا أن البوصلة يمكن أن تشير ليس فقط إلى شمال أو جنوب البحر الأبيض المتوسط - تلك الحدود الحضارية المزعجة - ولكن إلى مركز في مكان ما بينهما. في ظل غياب القدوة، كان علي أن أوضح بنفسي الأحاسيس التي بدت حقيقية ومخيفة. نظرت ووجدت نفسي على خلاف مع الأطفال الفرنسيين البيض من حولي، الذين يكافحون من أجل مصادقة "الفيروس" الذي هاجمني. شعرت وكأنني أشغل مساحة كبيرة جدًا، واضحة جدًا بملامحي العربية بينما لم تكن إنسانيتي مرئية بدرجة كافية. في كثير من الأحيان أردت ببساطة أن أختفي.

كانت تونس أرضًا غامضة رأيتها منذ صغري من خلال عدسة استعمارية: متخلفة وفقيرة وعنيفة ومنحطة. والدي (ألم يغادر هو نفسه للحصول على فرص أفضل؟) لم يخبرني كثيرًا حتى زيارتنا الأولى معًا في أواخر التسعينيات، الأمر الذي تركني في حالة من الصدمة الثقافية والمزيد من الارتباك حول سبب وجوب أن يكون هذا المكان الآخر جزء من وجودي. على أية حال، لم نتحدث العربية مطلقًا في المنزل، وهي لغة لا أتقنها بعد. لغتي الأم هي الفرنسية. أشعر بالألم بالفرنسية. فرنسا "محصورة فيّ".

لسنوات، شننت حربًا ضد نفسي حتى هدأت المتلازمة التي أعاني منها مثل الحكة. أدخلني والداي إلى مدرسة خاصة حيث كنت الطفل الوحيد من شمال إفريقيا في صفي، وكان من المتوقع مني أن أكون شخصًا آخر غير عربي من ضواحي باريس. لقد تجولت بقناعي الأبيض الرمزي وأسعدت الناس، بما فيهم أنا، إلى حد الاغتراب عن الذات. ولكن بعد وقت قصير من الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، أدركت أنني أنتمي إلى مجموعة تابعة غير قابلة للتغيير يُلقى عليها اللوم عن كل شيء، وأنني لن أستطيع أبداً أن أكون جيداً بالقدر الكافي، أو ذكياً بالقدر الكافي، أو لائقاً بالقدر الكافي، أو ودوداً بالقدر الكافي ــ أو إنسانياً بالقدر الكافي ــ لهؤلاء المراقبين.

وفي هذا الخطاب العام البغيض الذي شكله التمييز بيننا وبينهم، أصبحت "هم" مرة أخرى. لمرة واحدة، لم أشعر بالوحدة، حتى لو كان ذلك يعني أن أدرك أن مكاني كان في الأسفل، في الخارج، بعيدًا. عندها بدأت بقراءة فانون وأدركت أن ألمي كان حقيقيًا. لقد طمأنتني كلماته وبدأت أرغب في علاقات جديدة. إن التهميش والتمييز الواسع النطاق ضد العرب والمسلمين في ذلك الوقت دفعني إلى التفكير سياسياً في أسلافي وفي نفسي من خلالهم. أدركت العيش تاريخيًا وتعلمت أن الألم يلخص حكاية جسدية عن الحياة المعقدة لسكان شمال إفريقيا في فرنسا. إنه سؤال لا ينتهي أبدًا.

(تمت)

***

..........................

*كوتار هارتشي، من مواليد عام 1987 في ستراسبورغ، كاتبة وعالمة اجتماع في الأدب الفرنسي. نشأت في ستراسبورغ لأبوين من الطبقة العاملة من أصل مغربي (والدها عامل صيانة ووالدتها تعمل في دار للمسنين)

المؤلفة: فرح عبد الصمد كاتبة/Farah Abdessamad ناقدة فرنسية تونسية مقيمة في مدينة نيويورك.  تتمحور مقالاتها ومراجعاتها حول مناقشة الأفكار واللحظات التاريخية من منظور متعدد الثقافات .

 

"ما طار طير وارتفع ...إلا كما طار وقع"!!

منذ الصغر وهذا البيت الشعري الذي يجري مجرى الأمثال يتردد في خاطري ومن حولي، وقد سمعته من العديد من الذين مرَوا وأثروا بحياتي، ولا يزال مترددا، ويحضرني اليوم وأنا في خضم محاورة عميقة مع عدد من الزملاء عن الصيرورة الآتية للواقع السلوكي فوق التراب!!

إبتدأت المحاورة باستغرابي من سرعة الزمن وفقداننا الإحساس بالوقت، فالأيام تجري بسرعة فائقة، حتى ليفقد الناس طعمها وقيمتها ومعانيها، فالمخلوقات بأسرها في دوّامة الحركة المتسارعة التعجيل والساعية إلى آفاق المجهول المتسع المتشاسع.

قال زميلي: أن الضخ المعلوماتي وآليات التواصل وشبكات التفاعل الآنية، أفقدت الحياة الكثير من خصائصها التي عهدتها الأجيال السابقة، فأصبحنا نطارد سرابا!!

وبعد أن تشعب الحوار، ختمه بالقول: أخشى أن التوسع  سيدفع بنا إلى الإنكماش، وكأنه يلوح في أفق الواقع العالمي المعاصر!!

قلت إنها فكرة تصلح للكتابة!!

ضحك زميلي مودعا، وبدأت أكتب!!

إن ما يحصل في أي جرم كوني لا يمكنه أن يحيد، أو يشذ عما يتحكم بالكون المطلق من قوانين ومعايير ونواميس، لا تقبل أي خطأ مهما كان ضئيلا، فالمفردات الكونية تتحرك وفقا لنظام دقيق، وتحكمها معادلات متوازنة، ذات عوامل مساعدة أو معوّقة، وفقا لآليات التفاعل والعناصر الداخلة فيه، والنتائج المطلوبة.

وبما أن الأرض جرم ينتمي لمجموعة شمسية لازلنا لا نحيط بها علما، وأنها واحدة مما لا يحصى من المجموعات الشمسية، التي تمر بدورات حياتية وإستحالات كونية، وتدخل في محتدم الإحتراب المستعر في أرجاء الكون المعتم الحرّاق اللهّاب المعتقلات، فأن الأرض تعبّر عن تلك القوانين والسيرورات، وما فيها مختصر لآليات التفاعل الكوني الأعظم، وما في مخلوقاتها كافة يحقق ما فيها من الحالات المتواصلة مع مطلق معادلات الوجود الصاخبة المتعالية الأزيز والفوران.

فسلوك الموجودات الأرضية يتوافق مع إيقاع سلوك الأرض، ولا ينفصل عنه أو يشذ عن طبيعته ومراميه الدورانية الخلاّطة الولاّدة، المنهمكة بإعادة تصنيع الموجودات من عناصرها الأولية، الداخلة في جوهر كيانها وما تحتويه من طاقات تطلعية وإرادات صيروراتية.

وعندما ننتقل للإنسان فما في الأرض فيه، وما فيها من كونها الأكبر، وهذا يعني أن الإنسان فيه مختصرات كونية، وتعبيرات سلوكية متفقة والتفاعلات الحاصلة في أية بقعة كونية متحركة، ومحكومة بقبضة الدوران الخارقة الخانقة.

والكون يتسع وكل إتساع موعود بإنكماش أو إنكباس في مركزه، بقوة متناسبة وشدة إتساعه وتعاظم مطاطية قدراته الإنجذابية والتنافرية، المتحكمة بمصيره ومنتهياته المتماوجة المتقادحة، والمتسابكة في أوعية الفراغ الفوارة، والأرض يتمدد ما فيها وعليها وينقبض، وظاهرة المد والجزر تعبير واضح عن هذا النشاط الدوراني المتواصل مع موجودات كونية في مدارات مجموعتنا الشمسية، ومدارات وجودها  الفائقة الحركة والتفاعلات.

والأرض مضغوطة بغلافها الجوي أو قشرتها الغازية، التي تتدرع بها وتغلفها بقدرات كهرومغناطيسية ذات خصائص إنجذابية وتنافرية، فهي تتحرك كما تتحرك الرئة ما بين الإتساع والإنكماش، أي أن الأرض تتنفس كما الأحياء تتنفس، وهذه الحركة المنتظمة تشترك فيها المخلوقات وبدرجات وتنوعات متباينة وفقا لطبيعتها ودورها الحياتي.

ولا يمكن للأرض أن تحيا إذا إتّسع غلافها الجوي وترسها الغازي وتزعزعت طبقاته، لأنها ستكون عرضة لإختراقات إشعاعية وجُرمية هائلة، تقضي على الحياة فيها، ولهذا فأن عليها أن تحافظ على قدراتها الإحتضانية الكفيلة بديمومة الحياة وتجددها.

فالأرض كينونة حية متحركة ذاتيا وموضوعيا، وترتدي ثيابها وتتدرع بأواصر غازية متماسكة، ومقتدرة على مقاومة الصولات العنيفة، التي تستهدفها بتواصل وإنقضاض تدميري نيراني الطباع والتفاعلات، وهي تدرك مقومات حياتها وشروط بقائها وتدافع عنها، وكأي موجود حي تصاب بالخوف والقلق والإضطرابات السلوكية، التي تتلخض بالبراكين والهزات الأرضية والأعاصير والفيضانات وغيرها من التفاعلات التي تحققها الطبيعة الأرضية، وهي تحاول الحفاظ على حالتها الموائمة لأحيائها، وشخصيتها الكونية التي تتميز بملامحها وعلاماتها الفارقة.

ومشكلة الأرض أن مخلوقاتها تتناسى وتتعامى، وتنحدر إلى مسارات ذات متاهات ونهايات خطيرة، وكأنها منوّمة أو مخدرة بالأفكار والتصورات والمعتقدات التي تعاديها، وتقتلع إرادة قوانينها من أعماق موجوداتها، وخصوصا البشر الذي تسيّد على جميع المخلوقات، وتفوّق عليها بأعداده وقدراته الشرسة، وأصبح المالك الحقيقي للآرض والمتحكم بإتجاهات تفاعلات ما عليها، فهم الذي يقرر وينفذ ويتصور ويتوهم ويمضي في سلوكياته الفردية والجمعية القاسية.

وبما أن قوانين الوعاء تتحكم بمصير ما يحتويه، فأن الأرض تفرض قوانينها وإرادتها على ما يدور فيها وعليها من الأحداث والتطورات، ولا بد لها أن تتدخل وتدفع البشر إلى مواضعه التي يجب عليه أن يكون فيها.

فالأرض متوازنة السلوك، ولا تسمح بالإتساع الفائق، لأن ذلك السلوك لا يتفق ومناهجها الدقيقة المتعادلة، لكن البشر قد إتسع وتمدد وتمادى في نأيه عن التراب، وصار يمتلك القدرات الهائلة الكفيلة بصناعة الجحيمات الأرضية، والجهنمات المحتملة فوق الماء والتراب وفي الفضاء، أي أنه وكأنه قد بلغ منتهاه الإتساعي، الذي يعني أنه على شفا حفرة الإنكماش الرهيب، والمحق والغياب والعودة إلى مبتدءات المسيرة البشرية فوق التراب الحامي المتأهب المتقطب الملامح، والغاضب المتناقم المتحامل على موجوداته التي أنجبها من رحم ما فيه.

والإتساع البشري إتّخذ منحى توالد الأفكار العلمية ذات القدرات الفتاكة بمحيطها البيئي والتواصلي، إذ بلغت التصنيعات المدمرة أوجها، وصارت المصانع المتوثبة للصراع والتخريب الدامي في تسابق كمي ونوعي، لإنتاج ما هو هائل المحق والشراسة والتوحش، فما عادت القنابل الذرية والهيدروجينية وأخواتها بكافية، وإنما تعددت أنواع الأسلحة النووية وتداخلت حتى صارت الأرض قابضة على جمرة الهلاك، ولا تحتاج إلا لمجنون متهور يمتلك حق إتخاذ قرار الإنتحار الأرضي الذي تحققه ضغطة  على زر في حقيبة تحملها الأيادي المتأهبة للإنقضاض على الوجود الأرض بأكمله.

وذهبت الأفكار إلى مديات ما عاد البشر بقادرٍ على التحكم بها، لأنه أوجد ما يتحكم به ويسيّره ويستعبده، فالبشر هو المخلوق الوحيد الذي يبتكر ويخترع ما يًستعبده ويمتلكه تماما، ونحن نعيش في عصر الإستعباد بالمخترعات التي تعزلنا عن أنفسنا وبعضنا البعض، وتحوّلنا بموجبها إلى موجودات سرابية أو أرقام على شاشات ضوئية ملونة.

كما أن المعارف قد بلغت مستويات كبيرة أعجزت الرؤوس البشرية على إستيعابها وبرمجتها، بل أنها عطّلت الأدمغة وجعلتها مدمنة على أجهزة كأنها أذكى من البشر، حتى ليبدو أمام قدراتها المعرفية متضائلا متصاغرا ومفرّغا من آليات النشاط المعلوم، أي أن البشر أجهَز على ذاته وأفرغها من محتوياتها، بل وخربها ونسف أسس صيرورتها التماسكية القوية، حتى أضحى ما بين الحالة الإسفنجية والصلدة، وبهذا الكيان صار من الصعب عليه هضم المعلومات ووعي التطورات، مما سيؤدي به إلى الوقوع في حفر الإنكماش الرهيب، كما يشهد الزمن المعاصر العديد من مظاهرها التي أخذت تسري وتنتشر بوبائية غير مسبوقة، وبعدوى عولمية دامية محطمة لأركان الأمن والسلام والرحمة والطمأنينة.

وكذا يبدو أن بلوغ الذروة المعرفية قد بدأ بأخذنا إلى منزلقات تهالكية إنكماشية، ذات تعجيل متسارع ومتوثب للسقوط في وديان السكون، الذي يحلم بالحركة من جديد على سفوح أخرى ذات قمم أعلى، ليبلغها وقد تأهب لمنزلق بعيد!!

***

د. صادق السامرائي

 

""وفي هذا الواقع يُطلّ علينا التاريخ من نوافذ متعددة... ومادمنا نعود إليه مختارين أو غير مختارين واعين أو غير واعين، وما دمنا نستلهمه ونستوصيه، فمن الخير لنا أن تكون عودتنا أصيلة متبصرة"[1]

لماذا الوعي في الخطاب؟ لماذا الآن؟ في نظر المثقف المتأثر بالتاريخ أي تاريخ، هل هو المؤهل للتحدث للناس حول الحاجة لوعي في خطاب التاريخ، من يمكنه إقناع المجتمع القائمين على الثقافة أو كليات التاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية؟ أصحاب المشاريع الأكاديمية ذات العلاقة بالتاريخ؟ لا: فأولئلك كلهم يأتون ويذهبون. المثقف أم المؤرخ؟ نعم، ولهما فقط. شرح سبب حاجتنا للوعي التاريخي لأنه ببساطة هو سبب وجود خطاب الوعي في حركة الثقافة الإجتماعية.

إن المؤرخ هو الذي يتخذ قرار إطلاق هذه المبادرة مفضلا على الآخرين، والأمر متروك له أيضا لجعل نفسه مبشرا بها مع أولئك المثقفين والأكاديميين الفاعلين الذين تأثروا بخطابات الوعي التاريخية. لماذا المؤرخ هو الناقل الرئيسي لرسالة " إننا بالحاجة إلى تغيير الخطاب من أجل الوعي بتاريخنا"، هذا هو جوهر خطاب الوعي، هناك عدة أسباب لهذا:

أولا: سبب عملي: كان على المؤرخ في عالمنا العربي الفعالية لإفساح المجال للمبادرة ومشروعها ضمن الحقل الثقافي الخاص. ومن الطبيعي أن نطلب منه أن يشرح قراره لمن يعنيه الأمر.

ثانيا: ثم هناك سبب تنظيمي: التسلسل الهرمي يدعو كل الفاعلين في مجال الثقافة التاريخية للعب الأدوار ابتداءا بالمؤرخ.

ومن أجل الالتزام بالجهد المطلوب، يحتاج الجميع إلى طرح سؤال مصيري قبل الانطلاق نحو فهم سبب تغيير شيء ما: ماهي مواصفات الشخص الشرعي"المؤرخ" القادر على تفكيك إشكاليات الحاجة إلى تغيير وتجديد الخطاب عن التاريخ من أجل بناء الوعي؟

وبالتالي، يكون هنا أساس مطلق المبادرة لتجديد الوعي التاريخي عبر تجديد الخطاب مهمة المثقف العارف بماهية التاريخ ومرتكزاته ومنعطفاته وآفاقه، أتوقع أن يأخذ المثقف- المؤرخ زمام المبادرة ويتحدث ويدافع عن المبادرة علنًا. شفهياً وكتابياً، بأي وسيلة متاحة له بلا تحيزات. ويمكن لنا الاستفادة من دراسات وأفكار بول ريكور في مجال السرديات التاريخية وأهمية الكتابة التاريخية ونظريته حول الخطاب التي جاءت لنقد الحداثة العلمية والتقنية التي صبغت الحياة الغربية بتصوراتها المتطرفة، ولعل عبارته المشهورة في كتابه (نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى) " فإنّ التخارُج القصدي المناسب لمختلف طبقات الفعل الكلامي هو الذي يجعل التسطير بالكتابة ممكنا [2]" ثم إن ما أثير في الندوة حول النفسية والإيديولوجية أمر واقعي ولكن ريكور يرى ضرورة إطلاق فاعلية البحث عن المعنى الممكن في النصوص التاريخية، فما يهم فعلا، هو الدلالة، والمعنى، والعالم الذي تقترحه وإمكانيات الوجود الجديدة التي تتضمنها. فلا يتعلق الأمر بالبحث عن نفسية ما، أوايديولوجيا في داخلها، بل الفهم الذي تقدمه لنا لكي نقيم فيها فإنّ " ما نفهمه في خطاب ما، ليس شيئا آخر بل تطلُّع ما [3]".3874 الوعي التاريخيكعادته في اقتناص الأفكار التجديدية، والعناية بالفكرة، والتلطف في العرض، والهدوء في الحوار، جاءت طلة المثقف المميز في تجربته الفكرية والفلسفية، الدكتور قادة جليد؛ فالفكرة ذاتها تقع ضمن النسق التاريخي الواقعي، إلا أنها كما هو متعارف عن صاحبها ليس توثيقاً للتاريخ بل توعية للمؤرخ والمثقف والأكاديمي وغيرهم، كون صورة واقعية للتاريخ، هي تجميع للعناصر الأنثروبولوجية في بناء الوعي الإنساني وشكل المكان في ذلك الزمن تطلعا بحسب نظرة ريكور لصياغة الفكرة الحضارية الراهنة، واستحضار المؤثرات غير المرئية في بلورة العامل الثقافي والاجتماعي لإنسان تلك الفترة الزمنية، ضمن الإطار السياسي الصاخب في كفاح الأجداد ضد الغزاة آنذاك.

لعلي ما استلهمته من مقالة أ,عيش حول الندوة ونظرة الدكتور قادة جليد، أننا ضمن أطروحة تجديد وعي الخطاب التاريخي في بناء النباهة السوسيوثقافية تواجهنا إشكالية ذات علاقة بالتاريخ ومطارحاته : هل يمكن الحديث عن التحولات القيمية في أي مجتمع دون العودة إلى السردية التاريخية الثقافية في هذا المجتمع؟

لا مناص أن الرؤية تحتاج إلى بيانات ومعطيات علمية تتناول الثابت والمتغير في القيم الاجتماعية والأخلاقية والفكرية عبر التاريخ بمراحله المتعددة، لكن هناك بعد منهجي يجب مراعاته، كون مجتمعنا ليس بنية متجانسة ومتشابهة، مما يعني أن التحولات القيمية ليس لها الإيقاع نفسه في جميع المجالات، عموما، شهد مجتمعنا تحولات على مستوى العمق السوسيوثقافي، كالزيادة الديموغرافية والأماكن الحضرية (المدن) وتراجع لنسبة الأمية، انحسار العائلة لصالح الأسرة النووية، وهذه التحولات كان لها وقع كبير في البنية الثقافية، على مستوى الذهنيات والأفكار والتصورات والمعتقدات والقيم . ومن بين القيم:

- انفتاح الشباب على التواصل الافتراضي، وتخلي بعض الآباء والأمهات عن المسؤوليات التربوية

- تفشي قيم سلبية مثل الغش والخيانة وعدم الجدية في العمل والأمانات والبحث عن الربح الجاهز والسهل وبأية وسيلة على حساب على الغير والمجتمع والوطن ...

لعلي لا أبالغ إذا قلت أن أغلب المجتمعات التقليدية إن لم تكن كلها تنتج رموزها التاريخية وتنقلها إلى أجيالها المتلاحقة وتربّيهم عليها. فهناك إذن ثقافة تاريخية موروثة؛ فالشخص لا يختار ثقافته التاريخية بل يرثها كما يرث البيوت والأراضي والأنتيكات والآثار عن والديه وأجداده. بينما مجتمع حضري أفراده تماهوا في حراك ثقافي نشط ويومي، مما جعل الأشخاص يتيهون داخل سوق دولي كبير للرموز الثقافية التاريخية (الدينية غالبا)، فيختارون منها ما يشاءون ويعرضون عمّا لا يتناسب وتطلعاتهم. وعليه تشكلت توليفة (bouquet) للرموز التاريخية الخاصّة بالمجتمع، ويأخذ من تلك الرموز القليل الذي يحتاجه لبناء هويّته في مشروع معيّن. وبذلك يتم إختزال ثقافة التاريخ في سرديات رمزية محددة. كما هناك صورة أخرى أنّ الثقافة التاريخية أصبحت سؤال وجواب (على طريقة المسابقات)؛ فالمتفاعل التاريخي في مجتمعاتنا يذهب إلى الأنترنت ويأخذ منها ما يريد، وهو سلوك عام حتّى عند غير الناشئة المتمدرسة. والمسألة متعلّقة بالذاكرة والخطاب وتوسع دوائر النسيان؛ فالناس لا يحفظون القيمة الوجودية في سرديات التاريخ ولكن الأنترنت توفّر لهم المعلومات الشكلية المطلوبة.

و بالتالي نحن أمام صورة جديدة لمجتمع يلاحق الزمن المعاصر في تمثلاته وبالاعتماد على التعدد في مصادر المعرفة وتثبيط عامل الذاكرة ودورها، بمعنى أنّ هناك إنتقال أو تحول أنثروبولوجيّ يرتكز على معطيات ومتطلبات زمن الحداثة . وحتّى المؤرخ الذي نقول عنه إنّه مهتم بالذاكرة والخطاب والوعي التاريخية في مجتمعنا، يشتغل بنفس الميكانيزمات أو الآليّات التي يشتغل بها المؤرخ المعاصر نفسه في المجتمعات الأخرى لكنه لا يجد الأرضية البحثية الفعالة في تجميع المعلومات والتحقيق والمراجعة والتشذيب والتدقيق إلا بشق الأنفس .

هناك عدّة مستويات لهذا الموضوع تهمّ المؤرخ، مثلما تهمّ الهيئات والمؤسسات المهتمة بالتاريخ ومعطياته ؛ فلا بدّ في تقديري تحقيق مصالحة ثقافية، تُطرح في إطارها أسئلة تجديدية، وأن ينشأ منها تفكر تاريخي جديد، وهذا ما يمكن أن نسمّيه بلحظة الإصلاح التاريخي الفلسفي والفكري الذي ستتفرّع عنه خطابات معاصرة وكتابات نقدية هادفة تعمل على تفسير التاريخ وعلى تبسيطه حتّى يلقى القبول من المجتمع.

ثمّ إنّ هذا الفكر بطبيعة الحال سيقدم لشواغله التاريخية الأجوبة الملائمة للتطلع الحضاري؛ حيث أن تتصالح مع تاريخك يعني أن تتصالح مع فكر الإنسانيّة المعاصرة. فأنا لا أعتقد أنّ ضعف الفكر التاريخي في مجتمع ما آت من الفكر التاريخي نفسه. فالضعف، ههنا، كامن في الثقافة السائدة في المجتمع أيضا.و هذا ما لمح إليه الدكتور قادة بإشارته لمشروع مالك بن نبي رحمه الله، فلكي ينهض الفكر يجب أن ينهض التعليم والاقتصاد وأن تطرح الأسئلة في مناخ من حرّيّة الرأي والتعبير. وهذا ما يقيم البرهان على وجود تكامل بين المعارف الإنسانيّة وبين مختلف قطاعات المجتمع؛ فالنهضة الفكريّة في التاريخ لا تنتج خطاب وعي إلاّ إذا قامت نهضة فكريّة في علوم الاقتصاد والسياسة والمجتمع وتوفّرت الحرّية الفكرية والاحترام المتبادل بين الشركاء في الفعل الثقافي والاجتماعي.

واقعا إننا نصطدم بأسئلة محيّرة. وعصر ما بعد الحداثة يفرض علينا طرح هذه الأسئلة بجد والاجتهاد في الإجابة عنها، لأن الحداثة قامت تحت ضغط الآخر المنافس؛ فالفرنسي تحول إلى الحداثة عبر الإهتمام بإصلاح التعليم لأنّ أمته انهزمت في معركة سنة 1870[4] مع ألمانيا، وقارن الفرنسي الجامعات الفرنسيّة بالجامعات الألمانيّة وهذا ما نجده في كتابات بول ريكور الذي رفضت أفكاره بداية لأنه كان مشغوفا بالفلسفة الألمانية وكل ماهو ألماني. إنّ الحداثة في مجتمع معيّن تقوم على أساس وجود تحدّيات من مجتمع آخر. والتحدي هو المهمّة التاريخيّة للوعي.

نختم بالقول أن الوعي والخطاب التاريخيين بحاجة لدراسات بطريقة موضوعيّة حتى نتمكن من تفكيك وتجاوز تلك الصور النمطيّة المركبة في ذاكرتنا التاريخية. وعلم اجتماع التاريخ كتخصص يمكنه أن يساعد على دراسة هذه الصور ويعمل على تفسيرها. ولعل تركيز الدكتور قادة على جاك بيرك وهو السوسيولوجي الفرنسي المعروف يندرج ضمن هذا السياق،  وهنا علينا أن نستوعب الأدوات المعرفيّة التي يمتلكها الآخر وبذلك نستطيع أن نطلق خطاب تاريخي مفعم بالوعي ونشارك فعلا في إنتاج معرفة جديدة وحضارة إنسانية.

***

أ. مراد غريبي – كاتب وباحث

......................

[1] قسطنطين زريق، نحن والتاريخ، دار العلم للملايين، 1985م ص47.

[2] بول ريكور، نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى،المركز الثقافي العربي، 2003، صفحة69

[3] بول ريكور، من النص الى الفعل، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية 2001، صفحة 146.

[4] سبب المعركة كان طموح بروسيا بتوحيد الأمصار الألمانية وخوف فرنسا من تغير موازين القوى الأوربية إذا نجحت بروسيا في مسعاها. وتم ذلك سنة 1871م بقيادة بسمارك.

..................

للاطلاع على وقائع الندوة ومحاضرة د. قادة جليد

https://almothaqaf.org/qadaya/975478

 

(الخطاب الذي لا ينتج وعيا تاريخيا لا يمكن أن يكون خطابا تاريخيا).. د. قادة جليد

سؤال العقل والتاريخ إشكالية معقدة وخيوطها متشابكة تحتاج إلى نقاش عقلاني مثمر من قبل المفكرين والأكاديميين بعيدا عن العاطفة، والعشوائية للخروج برؤية جديدة موحدة ، وهو ما أشار إليه الدكتور قادة جليد باحث أكاديمي وأستاذ سابق بكلية الفلسفة بجامعة وهران (غرب الجزائر) داعيا النخبة إلى إعادة النظر في الخطاب التاريخي والثقافة الوطنية وأن يخضعان للبحث والتحليل حتى لا تبقى الأمة معطلة الطاقات، ويبدو أن الدكتور قادة جليد متأثر جدا بالفلسفة الهيغلية والنظرية الخلدونية وهو الذي اكد في محاضرته أنه يتبنى أطروحاتهما

المحاضرة التي ألقاها الدكتور قادة جليد في منتدى الكتاب بالمكتبة الوطنية الجزائرية كانت مشروع لكتابين حول نقد العقل الجزائري واستعمال هذا المفهوم يتجدد عند طرح أسئلة الناقوس لإصلاح الذهنيات في ظل التحولات التاريخية، التي فيها كل شيئ يتغير إلا المسألة الثقافية التي ظلت جامدة ما جعلها تمارس نوعا من المقاومة أي طريقة التفكير والطريقة التي يمكن الحكم على الأشياء، ومن خلالها يطرح السؤال إن كانت هناك إمكانية بناء نهضة بعقل غير واع، خاصة بالنسبة للعقل الجزائري ، وهل بمقدور الباحث الأكاديمي تفكيك العقل الجزائري وإعادة بنائه من جديد، وبالتالي زحزحة بعض التصورات، وهي إشكالية طرحها الدكتور قادة جليد ولأول مرّة في عالم الأفكار كون العقل الجزائري له بعدٌ معرفيٌّ ومضمونٌ تاريخيٌّ، فمن خلال ما جاء في المحاضرة نلاحظ أن الدكتور قادة جليد في أطروحته اعتمد على أفكار بعض المفكرين الغربيين على غرار جاك بيرك الذي قال أن شعبٌ غير مدروس لا يفهم نفسه ونقاط قوته وضعفه كيف يمكن له أن يتقدم ويدخل التاريخ؟ ، أمّا المفكرين الجزائريين ذكر الدكتور قادة جليد المفكر مالك بن نبي ورؤيته للزمن وهو يتحدث عن الدورة الحضارية ، كذلك الدكتور أحمد بن نعمان الذي تساءل عن نفسية الإنسان الجزائري وكيف ينظر إلى نفسه ؟، كما استدل بأفكار المؤرخ الجزائري أبو القاسم سعد الله عندما نادى بإعادة الاعتبار للثقافة الجزائرية وتقييمها، ومعرفة كيف يفكر العقل الجزائري، مبرزا كذلك رؤية المفكر محمد أركون للعقل والتاريخ، ودعوته إلى كتابة التاريخ الشفهي كما كتبه الغرب وانتقاده القراءة التاريخانية وما نقله التاريخ في كثير من المواضع، في مقابل التاريخية والوضعية التي لا تهتم إلا برصد الوقائع الثابتة وعدم الإهتمام إلا بالزمن التسلسلي للوقائع والأحداث.

من وجهة نظر قادة جليد فإن العقل الجزائري وبالرغم من أنه مرتبط بالتاريخ وبالتراث، إلا أنه موجود في الثقافة الشعبية ( الشفهية) فقط، مقدما مجموعة من الأفكار والمفاهيم التي لها علاقة بالبناء الحضاري كمفهوم "الزمن" ورؤية الجزائري له ، حيث يرى أن مفهوم الزمن يُعَبِّرُ عن مفاهيم أخرى كالموت والفقر والجوع وإعدام المستقبل وعدم البقاء، أي النهاية الكلية للإنسان، أما الشق الثاني من المحاضرة فهي تتعلق بالتاريخ من خلال طرحه سؤالا عن الطريقة والكيفية التي نكتب بها التاريخ وبخاصة تاريخ الجزائر الذي له حدود بين ما هو معرفي وما هو إيديولوجي؟، مشيرا إلى ما قدمته المدرستين التاريخية المعاصرة والمدرسة الفرنسية ، عندما قالت أن الجزائر ليست أمّة والرد عليها بأنها وقعت في الانتقائية التاريخية ، يقول قادة جليد أن هذه الأطروحات ما هي إلا انغلاقا دوغماتيا إلى حد أن أصبح التاريخ مسرحا لصراعات بين هاتين المدرستين، وهذا يحتاج إلى فتح نقاش فكري ثقافي حول هذه القضايا بعيدا عن الشخصانية أو تقديس الأشخاص والخروج من السجالات السياسية والإيديولوجية في التفكير من أجل تقديم البدائل، وانتقد الدكتور قادة جليد الجامعة الجزائرية التي - كما قال هو- لا تنتج سوى مفاهيم مجردة ولا تعتمد على مناهج تطبيقية، داعيا إلى دراسة تاريخ الجزائر في طابعه البنيوي التزامني الكرونولوجي بعيدا عن العاطفة والقبلية والعصبية ، لأن التجرد من هذه الصفات يزيل الإنغلاقات الدوغماتية والمدونات المغلقة في تحليل الأحداث مثلما نراه عند محمد أركون وأبو القاسم سعد الله، وتحدث قادة جليد عن الدور الذي قامت به الحركة الدوناتية الوطنية الأمازيغية في مواجهتها الاستعمار الفرنسي، معبرا عن اسفه للتغييب الكلي لما سمّاه بالرأسمال الرمزي كالملكة روبا وهي امازيغية دوناتة قاومت الإستعمار والملكة ديلتا وأوغسطين وسانتا مونيكا، ليؤكد أنه لا يمكن تحقيق التقدم دون إشاعة النقد الذاتي.

في تعقيبه على ما جاء به الدكتور قادة جليد من أفكار يرى المدير العام للمكتبة الوطنية الجزائرية الدكتور بهادي منير أن النخبة هي التي تنتج المعرفة بمختلف أشكالها والخطاب - سياسي كان أو تاريخي-، مرتبط بتصورات إيديولوجية وهذا النوع من الخطاب وجب الكشف عنه أمام التحوّلات التي نشهدها على كل المستويات اللغوية والفكرية، والتي من ورائها ظهرت تكتلات، فالمؤرخين اليوم كما يقول يكتبون انطلاقا من ضغوطات ولا يملكون البدائل لوضع مفاهيم جديدة ومنهم من لا يملك الجرأة لإعادة تفكيك الخطاب التاريخي وإعادة تشكيله من جديد، الملاحظ أن كل واحد من الطرفين له وجهة نظر مختلفة عن الآخر، فالفعل الثقافي في الجزائر كما قال الدكتور قادة جليد هو مقاومة ثقافية خاصة، خارج المؤسسات الرسمية، وأن النهضة العربية لم تتحقق بعد على أرض الواقع، والسبب كما أضاف يعود إلى غياب الإطار الإجتماعي، كما أن الفكر يفتقر إلى الخاصية الإجتماعية، والأطر الإجتماعية من وجهة نظره وحدها التي تدافع عن المشروع التنويري الذي يطمح إلى بناء العقل الجديد ، لفشارة فقط أن الندوة تخللتها نقاشات جادة فمنهم من قال أن المفكرين والمؤرخين كانوا مسيّسين وفي الغالب معارضين فحدثت صدامات وقال آخرون أن الحديث عن العقل الجزائري خطوة هامة جدا لتحليل الحالة العقلية للنخبة في الجزائر.

***

علجية عيش

 

بقلم: الدكتورة أنيا شتاينباور 2024

ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف

***

يصادف الثاني والعشرين من نيسان ٢٠٢٤ الذكرى المئوية الثلاثمئة لميلاد إيمانويل كانط. تقدم أنجا شتاينباور الرجل وتجعلك مستعدا لانتقاداته الثلاثة.

عندما سألني الطلاب أن أوصيهم بكتاب تمهيدي جيد للفلسفة، فقد اعتاد أستاذ الفلسفة القديم أن يتذمر من " نقد كانط للعقل الخالص ". للوهلة الأولى يبدو هذا سخيفا: لأن نصوص كانط، وخاصة أعماله المتأخرة، من الصعب قراءتها فهي تثير الخوف من الفلسفة في كثير من الذين يحاولون ذلك. حتى أن صديق كانط موسى مندلسون، أحد أعظم المفكرين في القرن الثامن عشر، أعلن أن نقد العقل الخالص كان "يزيل العصائر العصبية". ومع ذلك، أعتقد أن أستاذي القديم كان على حق. بمجرد أن تجد طريقة لقراءة كانط، يمكن لنصوصه أن تعلمك كيفية التفلسف جيدا. إنها معقدة ومنهجية ونقدية بشكل مُرض، وتحفزك على المصارعة والاختلاف معها.

إذا، كيف تبدأ؟ من المفيد معرفة القليل عن خلفيته واهتماماته وطريقة تفكيره بالإضافة إلى المفاهيم التي يستخدمها.

على عكس العديد من فلاسفة التنوير العظماء الذين لا نزال نتحدث عنهم، فإن إيمانويل كانط، الرابع من بين تسعة أطفال، لم يولد في عائلة تمتلك ثروة وامتياز. كان والده صانع لجامات، وكان اقتصاديا واجتماعيا أقل بكثير من محطة وآفاق السراج. كانت العائلة من أتباع التقوى، وهي جزء من حركة دينية ظهرت في القرن السابع عشر تهدف إلى تنشيط الحياة البروتستانتية وإحداث إصلاح في الكنيسة. على الرغم من أن كانط لم يكن متدينا كشخص بالغ - وهو أمر مشهور جدا لدرجة أن الكثيرين أشاروا بإصبع الاتهام إلى الفيلسوف المؤثر في الكنائس المهجورة بشكل متزايد في كونيغسبيرغ - إلا أنه كان يعتز دائما بهدوء العقل والإيجابية التي سيطرت على أسلوب حياة التقوى، الذي يذكره بالحكيم الرواقي. لقد اعترف بحرارة طوال حياته بالتأثير المبكر لطريقة تفكير والدته "الطبيعية" بالإضافة إلى مبادئها الأخلاقية القوية. وبدعم من الأصدقاء والجيران الذين اكتشفوا موهبة كانط، تم تجميع الرسوم الدراسية معا لإرساله إلى مدرسة جيدة، وإن كانت صارمة للغاية. على الرغم من أن التدريس كان جافا جدا لدرجة أنه بدا وكأنه مصمم "لإزالة أي اهتمام" حتى بالأفكار والأسئلة الأكثر إثارة، إلا أن كانط ظل صاحب فضول فكري. سجل كطالب في الجامعة، التي تمكن من إدارتها ماليا من خلال العمل كمدرس خاص وكذلك من خلال الفوز في لعبة البلياردو - وهي المهارة الأخيرة التي ساعدته على إعالة نفسه خلال معظم حياته المبكرة. وفي سن السادسة والأربعين، حصل أخيرا على درجة الأستاذية في المنطق والميتافيزيقا التي كان يتوق إليها، جالبا معها الأمن المالي.

عاش كانط طوال حياته في كونيغسبيرغ، التي كانت في ذلك الوقت المركز التجاري الصاخب لبروسيا. كان أصدقاؤه متنوعين - أفضل صديق له كان تاجرا إنجليزيا مهاجرا يُدعى جرين، وكان طلابه دوليين، يأتون من بروسيا والولايات الألمانية و خارجها، ولكن أيضا من روسيا ومنطقة البلطيق وبولندا. بقدر ما كان كانط مكرسا نفسه للأوساط الأكاديمية، كان النصف الثاني من كل يوم مخصصا للتواصل الاجتماعي: تناول الغداء مع الأصدقاء، ولعب البلياردو، ولعب الورق، والصالونات، والمسرح. تم تسهيل هذه الحياة الممتعة جزئيا من خلال التحول الثقافي أثناء الاحتلال الروسي لكونيجسبيرج بين ١٧٥٨ و١٧٦٢ مما جعلها أكثر ليبرالية وأقل صرامة اجتماعيا وتحيزا وانفتاحا على الكماليات.

في طليعة العلوم الطبيعية والميتافيزيقا، نشر كانط كتابه " التاريخ الطبيعي العام ونظرية السماوات" في وقت مبكر من عام ١٧٥٥. وفيه، اقترح تفسيرا ميكانيكيا بحتا لبداية الكون، والذي ظل لفترة طويلة كان الوقت بمثابة أساس جدي للمناقشات الفلكية. وبحلول الوقت الذي كان من المقرر أن تنشر فيه كتابات كانط النقدية حول الدين، كان عهد الحكام التنويريين الليبراليين المتتاليين فريدريش فيلهلم الأول وفريدريك الكبير قد انتهى، وكان الملك الجديد فريدريش فيلهلم الثاني قد أعاد تقديم تدابير أكثر صرامة، مما يعني أن كانط دخل في مشكلة مع الرقابة. لفترة طويلة من الزمن، كانت هناك شائعات بأنه قد يتم نفيه أو على الأقل تكميم فمه، مما يفقده الحق في النشر مرة أخرى. وبينما لم يحدث ذلك، تلقى كانط تحذيرا شديد اللهجة من الملك شخصيا، الذي اتهمه بإساءة استخدام منصبه كمربي للعقول الشابة لقلبهم ضد تعاليم الكنيسة. وبعيدا عن الخوف، رد كانط رافضا جميع الاتهامات، لكنه وعد بعدم نشر أي كتابات أخرى عن الدين طوال حياة الملك. في الواقع، بعد وقت قصير من وفاة الملك، نشر كانط أفكارا أكثر انتقادا للدين. في عام ١٧٩٦، عن عمر يناهز 73 عاما، ألقى كانط محاضرته الأخيرة.

الانتقادات الثلاثة

فقط بعد عقود من الانغماس في العلوم والفلسفة والعديد من المواضيع ذات الصلة والكتابة عنها، بدأ كانط عمله في مشروعه "النقدي". بمجرد أن بدأ البحث عن أشهر أعماله، نقد العقل الخالص ، تغير أسلوب حياته. لقد تحول من مثقف شجاع اجتماعي إلى أستاذ منعزل يتبع أسلوب حياة صارم، تحكمه الدقة والانضباط الذاتي المتزايد. ويشار إلى "فلسفة كانط النقدية" أيضا باسم "المتعالي". وهذا ليس مرادفا لـ "متعال": فهو لا يعني "ما وراء"، أو بطريقة ما من عالم آخر. بل إن الكلمة لها معنى تقني هنا. وهو يدل على التحقيق في "الشروط اللازمة لإمكانية حدوث ذلك". بكلمات أخرى، في نقد العقل الخالص يتساءل كانط: ما الذي يجب أن يكون موجودا حتى تكون المعرفة ممكنة؟ وقد تساءل فلاسفة آخرون: ما هو محتوى معرفتنا؟ ماذا يمكننا أن نعرف؟ وعلى النقيض من ذلك، يسأل كانط عن الشروط المسبقة للمعرفة الإنسانية. وبالمثل، في نقد العقل العملي يسأل كانط عن شروط الأخلاق، وفي نقد الحكم عن شروط الجماليات وغيرها من تطبيقات الحكم.

لماذا تُعرف انتقادات كانط الثلاثة الشهيرة بهذا الاسم؟ ما الذي ينتقدونه ولماذا؟ إنها انعكاس نقدي لحدود تطبيق العقل، وفي الوقت نفسه، لتقليد كانط الفلسفي. تلقى كانط تعليمه في العقلانية، وبالتحديد فلسفة لايبنتز كما نقحها كريستيان وولف. يعتقد العقلانيون أن المعرفة تنبع من العقل. لقد بدأت الشكوك حول دقة هذه الفكرة الأساسية تظهر عند كانط قبل سنوات من فترته النقدية، لكنه عندما قرأ ديفيد هيوم استيقظ تماما من “سباته العقائدي”. أصبحت "الدوغمائية" طريقة كانط للإشارة إلى العقلانية، في حين أشار إلى تقليد هيوم، التجريبية، باسم "الشك". التجريبيون، على عكس العقلانيين، يعتقدون أن المعرفة تأتي من الخبرة وحدها. من المفيد بشكل خاص توضيح التمييز بين العقل والفهم. "السبب" هو قدرة البشر على التفكير المنطقي. لا علاقة له بكونك ذكيا أو متعلما بشكل خاص. في حين أن هناك طرقا يمكنك من خلالها تحسين مهاراتك في التفكير، يعتقد كانط أن هذه قدرة نمتلكها جميعا، لذلك لا يُعفى أحد من التفكير بعقلانية. ويعني القدرة على استنتاج الاستنتاج من الأسباب وتجنب المغالطات مثل عقد معتقدات متناقضة بشكل متبادل. لذا فإن "العقل" هو ما نستخدمه للتفكير بشكل جيد؛ إنها مستقلة عن الخبرة. وعلى النقيض من ذلك، فإن "الفهم" يتعلق بالطريقة التي نفهم بها العالم، وبالتالي فهو يتعلق بالتجربة. ويأخذ هذا التمييز أيضا شكلا قبليا – “قبل الخبرة” وشكلا بعديا – “بعد الخبرة”. تنبيه المفسد: سيقول كانط أن العقل ليس شرطا كافيا للمعرفة. وهو يعتقد أننا بحاجة إلى مدخلات من العالم لامتلاك المعرفة، لذا فإن الفهم والطرق المعقدة التي يعمل بها العقل ويتفاعل مع الحواس والعالم الخارجي هي التي تمنحنا المعرفة. المعرفة هي أمر لاحق وأي محاولة للحصول على المعرفة بالعقل وحده لن تؤدي إلا إلى إغراقنا في "الظلام والتناقضات". في مجال الأخلاق، الذي يغطيه نقد العقل العملي ، يأتي العقل حقا في حد ذاته: يعتقد كانط أننا نستخدم العقل لنكون أحرارا في تفكيرنا حول المبادئ الأخلاقية، فهي بديهية.

لماذا هناك ثلاثة انتقادات؟ لماذا ليس فقط اثنين؟ من السهل رؤية الفرق في التركيز بين نقد العقل الخالص ونقد العقل العملي. في النقد الأول ، اكتشف كانط ما نحتاجه لاكتساب المعرفة. ومع ذلك، بالنظر إلى الطريقة التي نفكر بها في القيم الأخلاقية، سرعان ما أصبح من الواضح أن التفكير الأخلاقي يعمل بطريقة مختلفة. وهذا ما عبر عنه في النقد الثاني. إذن، ماذا يفعل النقد الثالث، نقد الحكم؟ إنه موجود للتوسط بين عوالم النقدين الأولين. عند قراءتهما، يبدو لنا عالم الخبرة الحسية والعالم الأخلاقي، الطبيعة والحرية، منفصلين. فالحكم قدرة إنسانية تجمع بين الاثنين. وهناك دراسة الحالة الجيدة علم الجمال. البيان الجمالي يختلف عن بيان المعرفة: "الوردة حمراء" تختلف عن "الوردة جميلة". ومع ذلك، فإن الحكم على الجمال يختلف أيضا عن البيان الأخلاقي. تتطلب الأحكام الجمالية الاهتمام بالطبيعة، والخبرة الحسية، واستخدام الحرية الإنسانية، والخيال الذاتي.

لماذا تعتبر الانتقادات مهمة جدا، ولماذا تظل كذلك؟ لماذا اعتبر شوبنهاور أن نقد العقل الخالص هو "أهم كتاب كتب في أوروبا على الإطلاق"؟ لماذا شعر كوليريدج، عند قراءته، بأنه "كتب على يد عملاق"؟ هل لأن كانط على حق في كل ما يقوله في حالات النقد الثلاثة ؟ بالطبع لا. لكن هذا سيكون الشيء الخطأ الذي يجب البحث عنه في أي فلسفة. على سبيل المثال، اعترض الكثيرون -بشكل مبرر- على استنتاج كانط في كتابه نقد العقل العملي بأن الأخلاق مبنية على قواعد يجب على كل شخص أن يختارها بحرية بنفسه، وأنه يجب عليه بعد ذلك أن يطيعها "بشكل قاطع". إن ما يسمى بـ "الضرورات المطلقة" تعتبر ملزمة مسبقا بغض النظر عن الوضع. من الصعب العيش بهذه الطريقة الرسمية للغاية للنظر إلى الأخلاق. ومع ذلك، هناك الكثير مما يمكن قوله عنه، لأن كانط يعبر عن شيء مهم حول طبيعة الأخلاق والتفكير الأخلاقي. ومن خلال القيام بذلك، فقد تقدم بشكل ملحوظ في المناقشة الفلسفية. وبينما يمكن أن نقول إننا لا نستطيع أن نتبع نظامه في حياتنا، فإننا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نتجاهله في الأخلاق الفلسفية. وينطبق الشيء نفسه على نقد العقل الخالص ، الذي غيرت أفكاره إلى الأبد طريقة تفكيرنا في كل من الميتافيزيقا ونظرية المعرفة. أخيرا، يقدم كتاب "نقد الحكم" عملا رائدا متميزا في وضع أسس الجماليات الفلسفية، والتي لا تزال صحيحة حتى اليوم. لذلك، بدلا من أن نتوقع من أي كتاب فلسفي أن يقدم لنا إجابات نهائية، فمن المفيد قراءته كمساهمة تفتح وجهات نظر جديدة وتجعل المزيد من الفلسفة ممكنًا.

الآن أنت جاهز تماما!

الآن لديك فكرة أساسية عن خلفية كانط ومشاريعه، لذا فأنت في مكان جيد بما يكفي لبدء قراءته، حتى انتقاداته الصعبة. كل شيء آخر تحتاجه سيتعين عليك إحضاره إلى الحفلة بنفسك. إن قراءة الفلسفة هي عملية بطيئة ويجب أن تكون هكذا دائما، لذا فإن الصبر هو أحد الأشياء التي لا يمكنك الاستغناء عنها هنا. يدعونا كانط، مثل العديد من الفلاسفة العظماء، إلى الانخراط بشكل نقدي في أفكاره، لذا كن مستعدا للتفكير بنشاط. وأخيرا، اتخذ قرارك بشأن قيمة مساهمته في عصرنا. لكن افعل ذلك بطريقة مستنيرة ومعقولة جيدًا. قم بعملك. هكذا تفلسف كانط، وينبغي لنا أن نفعل ذلك أيضا.

***

* الدكتورة أنيا شتاينباور 2024

.....................

المصدر

What You Need to Read Before You Read Kant

22nd April 2024 is the 300th birthday of Immanuel Kant. Anja Steinbauer.

https://philosophynow.org/issues/161/What_You_Need_to_Read_Before_You_Read_Kant

ماذا يعني حين يكون للمرء عينان في عالمٍ يكون فيه الآخرون جميعاً عمياناً، لستُ ملكةً هنا، كلا، أنا ببساطة الإنسانة التي وُلدتْ كي ترى هذا الرعب، يمكنكم أن تحسوا به، لكنني أحسه وأراه معاً" جوزيه ساراماغو (رواية العمى)

في متاهات الواقع المضطرب وتسارع وتيرة الأحداث من حولنا، نحاول أن نجتاز تضاريس الموضوعات والتحديات الملحة، ولكننا نظل غير مدركين لتداعياتها، تخيل مجتمعًا تتكشف فيه المناقشات، وتشتغل الأحداث، ويتم اتخاذ القرارات، واتخاذ الإجراءات، كل ذلك بينما يظل الأفراد في حالة من السبات المعرفي، وتقاعس الأدراك، هذا هو جوهر السرنمة الجماعية، وهي حالة ينخرط فيها الأفراد في عدد لا يحصى من المواضيع والقضايا دون أن يدركوا حقًا أهميتها أو تداعياتها فهي التفاعل والسير مع وتيرة الأحداث الاجتماعية دون وعي، ومن المناقشات السياسية إلى الخطاب الثقافي، يلوح في الأفق شبح المشاركة اللاواعية، الأمر الذي يلقي بظلاله على النفس الجماعية.

ويؤكد عالم الأجتماع العراقي الدكتور علي الوردي " ان الحياة الاجتماعية كلها عبارة عن شبكة من التنويم المتبادل، حيث ينوم الناس بعضهم بعضاً ويوحي بعضهم إلى بعض دون أن يشعروا، والتنويم الاجتماعي له أثر بالغ في شل التفكير، فالذي يقع تحت وطأته لا يستطيع ان يفكر الا في حدود ما يملي عليه الايحاء التنويمي العام، وأنت لا تستطيع أن تجادله أو تباحثه مهما يكن دليلك إليه صارخا، ان إطاره العقلي مغلق بشكل لا ينفذ إليه اي برهان مهما كان، يصح القول ان التنويم الاجتماعي موجود أينما وجد الانسان، ولا بد لكل انسان ان يقع تحت وطأته قليلا او كثيرا، وكلما ازدادت ثقافة الناس وتفتحت عقولهم ضعف فيهم اثر التنويم وقلت مخاطره".

في سياق المجتمع العراقي، الذي يتصارع مع عدد لا يحصى من التحديات الداخلية والخارجية، فإن ظاهرة السرنمة الجماعية أكثر تعقيداُ من ظاهرة التنويم الاجتماعي حيث تكاد تستفحل في ظل التأثير الرقمي متجسدة في الجري وراء الأيقاع الجمعي، فلم يعد الأيحاء الاجتماعي اللاعب الوحيد في صياغة السلوكيات الجمعية وأنما طريقة التفاعل مع الحدث وتشكيل التصورات الجمعية وخلق ردود فعل غير مسبوقة وتشكيل سلوكيات مركبة تتخذ وتيرة سريعة، ومن ثم تهدأ وتنتهي، وبالتالي تفاقم ذلك يسبب أزمة شاملة ومتعددة الأبعاد وغير مفهومة، نظراً لسيادة نمط خطي من السلوك الغير مستقر والغير قادر على تصور تعقيدات الظواهر، مما يزيد في الولوج بالعمى وسوء الفهم في وسط خلفية من الموروثات التاريخية، والتوترات الجيوسياسية، والفوارق الاجتماعية والاقتصادية، يتنقل الأفراد في تضاريس الحياة اليومية، وغالبًا ما يكونون غير مدركين للتيارات الأعمق التي تشكل تجاربهم، وسواء كان الأمر يتعلق بترندات الاحداث المحلية، أو الأنخراط والتفاعل مع الأحداث العالمية والقضايا الانسانية بشكل عام، فإن التأثير المنتشر للتأثر الغير واعي يتخلل النسيج المجتمعي، مما يحجب التصورات ويعيق الأدراك الواعي لما يحدث حولنا.

في جوهره مفهوم السرنمة الجماعية بمثابة تذكير بمزالق المشاركة اللاواعية و تعزيز الوعي والحوار، تستطيع المجتمعات تجاوز حدود السبات المعرفي، وتبني إحساس جديد بالقوة والفهم، وبينما نبحر في مشهد التحديات المجتمعية الذي يتطور باستمرار، من خلال تكثيف النداء للاستيقاظ من نشوة السرنمة الجماعية، لشق طريق نحو مستقبل أكثر وعياً...

**

د. فاطمة الثابت – أستاذة علم الاجتماعي في جامعة بابل

..........................

* السرنمة: هو  اضطراب النوم الذي ينتمي لعائلة الخطل النومي، ويُمثل هذا الاضطراب حالة مختلطة من النوم واليقظة، حيث يقوم المصاب بالاضطراب بأداء وظائف أو أعمال عادة تحتاج إلى حالة كاملة من الانتباه واليقظة، مثل التحدث، الجلوس في السرير، المشي تجاه الحمام، قيادة السيارة، الإيماءات العنيفة، الانتحار والقتل، وقد أستعاره عالم الأجتماع المعاصر إدغار موران كمصطلح، ووظفته بشكل أوسع في المقال أعلاه ..

 

أحياناً يصاب الانسان بالحيرة جراء رد الفعل الناجم عن سوء الفهم او حتى في موضوعة النقد وابداء الرأي . والنقد الموضوعي كما نعرفه حقيقة حضارية اكدها الفلاسفة الالمان في مقدمتهم " هيغل و هايدجر " وهما استخدما العقل النقدي الموضوعي في الحياة الثقافية حيث تشترط لغة التخاطب فيها (تفهم وجهات النظر، والإصغاء للطرف الآخر، وعدم المقاطعة في الحوار، وتجنب احتكار الرأي النقدي على أساس صورة الكمال، ورفض التعالي من باب ان النقد والناقد جناحان يتعاليان على الفكر والمفكرين والرأي والثقافة والمثقفين)، حتى ان الناس في المدينة الاغريقية الموغلة في القدم كانوا يتخاطبون بمنطق العقل ويتحاجون وفق منطق الاقناع، ومنطق الاقناع يسعف العقل النقدي في المحاجة العقلية القادرة على استقطاب الرأي الآخر.

والنقد العقلي، لا الإرتجالي، يعكس قيمة مهمة بين الاوساط التي تصغي وبين الذي يتحاور وبين الذي يمارس النقد .. والنقد من أجل النقد يعد قسرياً تهافتياً يخرج عن سياق المخاطبة العقلية، التي ترسم معنى للفكرة وتصحح مسارها او تضفي ما يغني جوهرها في محاجة برهانية موضوعية.. والغائية هنا تتمثل في إشاعة التخاطب في النشاط الاجتماعي الثقافي وتحويله الى ظاهرة ثقافية ليست نرجسية ذاتية قسرية تحتكم الى رد الفعل الانفعالي حين يقاطع هذا الرأي ويجاري ذاك .

إن النقد ووظيفته العليا التقويم والتقييم الموضوعيين اللذين يجعلان الناقد يعوف ذاته في خارج اطار الشخصنة، والاحتكام الى ثوابت النقد المتعارف عليها، وهي ثوابت ليست فردية ولا شخصانية ولا يسودها الاقحام الشخصي القسري للرأي ولا للانفعال، بل على العكس، الثابت في النقد يشترط الإقناع وتكريس المحاجة النافعة، وعدا ذلك يمسي هذا الاسلوب في النقد لآذعاً وهداماً وطارداً للإبداع الثقافي وبالتالي سلطوياً.

الفكر واطروحاته، عالم معقد بين الرؤى المتباينة والقضايا المتناقضة، والمحاجة في النقد الموضوعي تتيح للحياة الادبية والثقافية ان تحظى بمنظور اجتماعي يحقق رؤية اجتماعية عامة ذات منفعة تغني الفكر وتنعش الثقافة، وتستبعد احتكار الفكر واحتكار الثقافة، وبالتالي تشجيع الفكر المبدع لا كسر الابداع بقهرية النقد الانفعالي، وخاصة اسباغ صفة الناقد بصورة غير موضوعية لخلو المؤهلات والصفاة النقدية في إبداء الرأي والممارسة . فكيف يمكن تهذيب العقول بغية الارتقاء بمسؤولية الوعي النقدي الى المستوى الحضاري؟

الناقد يجمع بين الثقافة الواسعة والفكر العميق ويحيط بثوابت النقد وغائيته معرفية وليست غرضية أو نفعية أو تحريضية أو تهديمية، كما أنه ليس إحتكارياً في الرأي تزمتياً في إبداء النقد.. فكيف له أن يثبت العكس إذا لم يحتكم الى ثوابت الفكر وثوابت النقد الموضوعي سالفة الذكر؟

والناقد يتوجب ان يكون عليه رقيب يضبط مساره اذا ما خرج عن مسار النقد الموضوعي بإسباغ شخصنته، وإذا كان الناقد لديه وظيفة هي التقويم والتقييم وهو غير مؤهل لوظيفة النقد، فمن يضبط إيقاع الناقد الذي يمارس الإنتقائية الغرضية ؟

قال افلاطون (اذا كانت الفلسفة بنت العقل النظيف الحر، فإن الاستبداد يخنقها ويجهض ولادتها)، أما حيال منطق العقل النقدي نقول (إذا كان العقل النقدي يفتقر الى النضج فإن وظيفة الناقد تمسي قاصرة ومتهاوية والاحكام، التي تنضح عنها تكون احكاماً غير موضوعية وطارئة في عالم النقد وطاردة للإبداع .!!

***

د. جودت العاني

04 / مايس 2024

 

إن أحد أعمق المفكرين في القرن العشرين هو أكثرهم غموضاً. إن انتقاد "نيكولاس جوميز دافيلا" للديمقراطية قد يشرح إلى حد ما الأسباب التي تجعله يظل شخصية غير معروفة نسبياً في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، لأن الشعوب الغربية الحديث هم جميعاً أبناء عصر التنوير بطريقة أو بأخرى.

وُلد المفكر "نيكولاس غوميز دافيلا" Nicholas Gomez Davila سنة ١٩١٣ في بوغوتا، كولومبيا. وتوفي عام 1994 في نفس المدينة التي وُلد فيها. كان فيلسوفاً رجعياً كولومبياً يُشار إليه أحياناً باسم "نيتشه من جبال الأنديز".

سليل عائلة ثرية ذات علاقات جيدة مع، قضى دافيلا معظم شبابه في فرنسا، حيث التحق بمدرسة باريسية يديرها الـ "بينديكتين" Benedictine وهو نظام رهباني للكنيسة الكاثوليكية. أثناء تعافيه من نوبة طويلة من الالتهاب الرئوي، طور دافيلا حباً للأدب الكلاسيكي والذي استمر شغوفاً به طوال حياته. في الواقع، على الرغم من أن دافيلا لم يلتحق رسمياً بالجامعة مطلقاً، إلا أنه بحلول سن البلوغ كان بإمكانه التفاخر ببراعة فكرية واسعة النطاق تغطي كل شيء بدءًا من الاستفسارات الفلسفية واللاهوتية، إلى المشكلات التي لا تعد ولا تحصى في الفن والأدب والتاريخ.

بدأت شهرة غوميز دافيلا في الانتشار فقط في السنوات القليلة الماضية قبل وفاته، خاصة عن طريق الترجمات الألمانية لأعماله. لقد كان واحداً من أكثر منتقدي الحداثة تطرفاً، حيث يتكون عمله بالكامل تقريباً من الأمثال التي أطلق عليها اسم "المدارس" escolios ("scholia" أو "glosses").

كان غوميز دافيلا عالماً قضى معظم حياته في دائرة أصدقائه وداخل مكتبته. كان ينتمي إلى الدوائر العليا في المجتمع الكولومبي وتلقى تعليمه في باريس. بسبب التهاب رئوي حاد، أمضى حوالي عامين في المنزل حيث تلقى تعليمه على يد معلمين خاصين وطور حباً مدى الحياة للأدب الكلاسيكي. عاد في الثلاثينيات من باريس إلى كولومبيا، ولم يقم بزيارة أوروبا مرة أخرى، باستثناء إقامته لمدة ستة أشهر مع زوجته في عام 1948. قام ببناء مكتبة ضخمة تحتوي على أكثر من 30 ألف مجلد تمحور حولها وجوده الأدبي. وفي عام 1948 ساعد في تأسيس جامعة الأنديز في بوغوتا.

واقع لا يمكن تمثيله

على الرغم من درجة سعة الاطلاع التي يحسد عليها، لم يبذل دافيلا أي جهد كبير لنشر كتاباته. كان دافيلا رجلاً عادياً يفضل العزلة المنعزلة في مكتبته على الأضواء التي يستمتع بها من يسمون بالمثقفين العامين، وقد قيل إن دافيلا قال إن "الخطوة الأولى للحكمة هي أن نعترف، بروح الدعابة، أن أفكارنا ليس لها أي سبب للظهورقد لا تهم أي شخص." ومع ذلك، بناءً على طلب من أخيه، بدأ دافيلا في النهاية في تجميع ملاحظاته وتأملاته ومقالاته الغزيرة في عدد من المجلدات القصيرة. أشهرها، Escolios a un Texto Implicito (المقدم باللغة الإنجليزية باسم "شروح على هامش نص ضمني")، يتكون بالكامل تقريباً من "scholia" أو "glosses" - أقوال مأثورة موجزة مؤلفة بأسلوب أدبي يذكرنا الأعمال القديمة مثل حياة وآراء الفلاسفة البارزين لـ "ديوجين لايرتيوس" Diogenes Laertius وتأملات "ماركوس أوريليوس" Marcus Aurelius.

تشير كلمة "scholia" تاريخياً إلى التعليقات النحوية أو النقدية أو التفسيرية التي تحدد هوامش النصوص والمخطوطات. في كثير من الحالات (مثل تعليقات رئيس الأساقفة البيزنطي "أوستاسيوس" Eustasius على "هوميروس" Homer على سبيل المثال) أثبتت هذه النصوص الهامشية أنها مصادر معلومات مهمة للغاية حول جوانب مختلفة من الماضي القديم والعصور الوسطى. تتبع مدارس دافيلا نفس ترتيب الأفكار تقريباً، باستثناء أنها لا تصاحب أي نص مادي. بل هي تأملات في نص ضمني، وهو نص غير مكتوب لا يوجد إلا في ذهن المؤلف. على الرغم من إيجازها، فإن كتابات دافيلا (تشبه إلى حد كبير نظيرتها القديمة) تقدم للقارئ المتأمل تركيبة واضحة تعمل على إلقاء الضوء على التوجه السياسي والجمالي والروحي للعالم الحديث.

في عام 1954، نشر شقيقه المجلد الأول من أعمال غوميز دافيلا، وهو عبارة عن مجموعة من الملاحظات والأمثال تحت عنوان Notas I - ولم يظهر المجلد الثاني منه مطلقًا. ظل الكتاب غير معروف تقريبًا لأنه تم طباعة 100 نسخة فقط وتم تقديمها كهدايا لأصدقائه. وفي عام 1959، أتبع ذلك بكتاب صغير من المقالات تحت عنوان Textos I (مرة أخرى، لم يُنشر أي مجلد ثانٍ). تطور هذه المقالات المفاهيم الأساسية لأنثروبولوجية الفلسفية بالإضافة إلى فلسفته في التاريخ، وغالباً ما تكون بلغة أدبية مليئة بالاستعارات. في هذه المقالات، أعرب أولاً عن نيته في خلق "خليط رجعي" لأن الواقع، كما قال، "لا يمكن تمثيله في نظام فلسفي".

لم يقم غوميز دافيلا بأي محاولات لنشر كتاباته على نطاق واسع. فقط عن طريق الترجمة الألمانية (ولاحقًا الإيطالية والفرنسية والبولندية) التي بدأت في أواخر الثمانينيات.

على الرغم من أنه ليس من الواضح تماماً سبب اختيار دافيلا للـ "سكوليون" Scullion ـ أي آراء تم التعبير عنها في الأمثلة ـ كوسيلة تعبير مفضلة لديه، إلا أن المرء يشك في أن الاختيار كان مستوحى من قناعته الطويلة الأمد بأن الحياة لا يمكن اختزالها في أي نظام أو نظرية فلسفية فريدة. بعد أن شهد قرناً شابته الأيديولوجيات الشمولية المدمرة التي جلبت البشرية إلى حافة الغرق، بالنسبة لدافيلا كان أفضل ما يمكن أن يأمل فيه هو التطور المطرد لخليط فلسفي خيالي، على الرغم من عدم قدرته على فهم الحقيقة في مجملها.

في حين أن شك دافيلا في الأنظمة الفلسفية قد جعلته ـ كما لاحظ أحد الباحثين ـ "مفكراً في شظايا"، إلا أن هناك العديد من الموضوعات المتكررة المترابطة في جميع أنحاء عمله. من المهم بشكل خاص النموذجان الأساسيان اللذان رآهما دافيلا في التمثيل على مسرح تاريخ العالم. أول هؤلاء، والذي يمكن أن نسميه "الطوباوي التقدمي"، هو ـ كما يوحي الاسم ـ بطل القوى الديناميكية للتقدم. واقتناعا منه بأن "الأفضل دائما ينتصر، لأن ما ينتصر يسمى الأفضل"، يلتزم التقدمي الطوباوي بنظرة غائية للتاريخ. وهذا يعني أنه يعتقد أن التاريخ يتطور على طول خطوط عقلانية حتى يبلغ ذروته في نهاية المطاف في نقطة نهاية حتمية، مثل النهر الذي يتدفق ويتدفق على طول مجراه حتى يبتلعه بحر عنيد. كما يوضح دافيلا:

"يميل التقدمي الراديكالي نحو الحدث الوشيك من أجل تفضيل وصوله، لأنه في اتخاذ الإجراءات وفقاً لاتجاه التاريخ، يتطابق العقل الفردي مع عقل العالم. بالنسبة للتقدمي الراديكالي، فإن إدانة التاريخ ليست مجرد مهمة عبثية، ولكنها أيضاً مهمة حمقاء. مشروع عقيم لأن التاريخ ضرورة ومشروع أحمق"

زاهد في المناصب

بعد انهيار الدكتاتورية العسكرية في عام 1958، عُرض على غوميز دافيلا منصب كبير كأحد مستشاري رئيس الولاية، وهو ما رفضه كما فعل فيما يتعلق بالعروض اللاحقة، في عام 1974، ليصبح سفيراً في لندن. على الرغم من دعمه لدور الرئيس اللاحق "ألبرتو ليراس كامارغو" Alberto Lleras Camargo في إسقاط الدكتاتورية، إلا أنه امتنع عن أي نشاط سياسي بنفسه، وهو القرار الذي توصل إليه بالفعل في وقت مبكر من ممارسته ككاتب.

نتج عن هذا القرار انتقاداته القوية ليس فقط للممارسات السياسية اليسارية، ولكن أيضاً للممارسات السياسية اليمينية والمحافظة، على الرغم من أن مبادئه الرجعية الصريحة تظهر بعض أوجه التشابه مع وجهات النظر المحافظة. استندت أنثروبولوجيته المتشككة إلى دراسة وثيقة لـ "ثيوسيديدز" Thucydides و"جاكوب بوركهارت" Jacob Burkhart بالإضافة إلى تأكيده على الهياكل الهرمية للنظام في المجتمع والدولة والكنيسة. انتقد غوميز دافيلا بشدة مفهوم سيادة الشعب باعتباره تأليهاً غير شرعي للإنسان ورفضاً لسيادة الله. كما كان ينتقد بشدة المجمع الفاتيكاني الثاني الذي اعتبره تكيفاً إشكالياً مع العالم. وأعرب بشكل خاص عن أسفه لاستبدال قداس "ترايدنتين" Tridentine الكنسي اللاتيني بالقداس العامي لبولس السادس في أعقاب المجمع. على غرار "خوان دونوسو كورتيس" Juan Donoso Cortes. اعتقد غوميز دافيلا أن جميع الأخطاء السياسية نتجت في النهاية عن أخطاء لاهوتية. ولهذا يمكن وصف فكره بأنه شكل من أشكال اللاهوت السياسي.

إن الأيديولوجيات الحديثة مثل الليبرالية والديمقراطية والاشتراكية، هي الأهداف الرئيسية لانتقادات غوميز دافيلا، لأن العالم المتأثر بهذه الأيديولوجيات بدا له منحلاً وفاسداً.

انتقاد الحداثة

ناقش غوميز دافيلا الكثير من المواضيع والأسئلة الفلسفية واللاهوتية ومشكلات الأدب والفن والجماليات وفلسفة التاريخ وكتابة التاريخ. لقد استخدم أسلوباً أدبياً في العبارات الموجزة مع حساسية كبيرة لمسائل الأسلوب والنبرة. الطريقة الأدبية التي طورها هي اللمعان الذي استخدمه للتعليق على العالم، خاصة في المجلدات الخمسة من كتاب "الاختيارات على نص ضمني: الاختيار" Escolios a un texto implícito: selección الذي صدر عام 1977 وتم نشره لغاية التسعينيات. لقد خلق "الرجعي" كقناع أدبي لا لبس فيه، وجعله نمطاً مميزاً من التفكير حول العالم الحديث في حد ذاته. حاول في أعماله اللاحقة تعريف "الرجعي" الذي تعرف عليه بطريقة إيجابية من خلال تحديد موقعه في مكان ما خارج الموقف التقليدي لليسار واليمين. على أساس الكاثوليكية التقليدية المتأثرة بالاستقامة الفكرية لنيتشه وآخرين، انتقد الحداثة ورأى نفسه مناصراً لـ "الحقيقة التي لن تموت".

إن النظرة الـ "غائية" Teleology للعالم التقدمي الـ "يوتوبي"  Utopianتقطع شوطاً طويلاً في تفسير انجذابه المتأصل إلى الأيديولوجيات المسيحية. وسواء كنا نتحدث عن "الثورة العالمية" الماركسية أو "نهاية التاريخ" النيوليبرالية، فإن الطوباوي التقدمي يصر على إيمانه المتحمس بقدرة البشرية على تحسين نفسها والتغلب على قوى الطبيعة. ومن خلال القيام بذلك، فهو يحاول من جديد تحقيق طموح الأسطورة الـ "بروميثيوسية" Prometheus.

الرجعي الأصيل

في مقابل الطوباوي التقدمي يوجد الرجعي الأصيل الذي اقتلع من جذوره وتشرد من خلال ما وصفه الكاتب الألماني "إرنست يونغر" Ernst Junger بـ "العملية العظيمة"، هو ذلك "الأحمق الذي يتبنى غرور إدانة التاريخ وعدم أخلاقية الاستسلام له". وبدلاً من التوافق مع الأهداف البرنامجية التي حددها التقدمي الطوباوي وفرق التدمير التابعة له، فإن أبطال الرجعية الحقيقيين "يقظون ولا يظهرون على لوحة إعلانات التاريخ"، وبالتالي يحاولون تجميع أجزاء العالم الممزق معًاً. كما يوضح دافيلا:

"أن تكون رجعياً لا يعني تبني قضايا محسومة، ولا المطالبة باستنتاجات محددة، بل يعني إخضاع إرادتنا للضرورة التي لا تقيدنا، وتسليم حريتنا للضرورة التي لا تجبرنا؛ بل هو العثور على اليقينيات النائمة التي ترشدنا إلى حافة البرك القديمة. إن الرجعي ليس حالماً حنيناً إلى ماضٍ ملغي، بل هو صياد للظلال المقدسة على التلال الأبدية".

باعتباره رجعياً، وليس محافظاً، يفهم الرجعي الأصيل أن تبني موقف محافظ أمر جدير بالاهتمام فقط في تلك العصور التي "تحافظ على شيء يستحق الحفاظ عليه". على عكس المحافظ العاطفي أو الرومانسي، فإن الرجعي الأصيل لا تراوده أوهام حول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. بل إنه يفهم أن "المغامرة الزمنية بين الإنسان وما يتجاوزه" يجب تجربتها هنا والآن. وإذا استعرنا مقولة من الباحث النمساوي "إريك فون كويهنلت ليديهن" Erich von Kuehnelt Ledehn فإن الرجعي الأصيل "يريد أولا أن يكتشف ما هو صحيح إلى الأبد، وصالح إلى الأبد، ثم إما استعادته أو إعادة تثبيته". إنه يمتلك عقلاً "سيادياً وليس مقيداً بالزمن".

ويترتب على ذلك أن الرجعي الأصيل يميل أيضاً نحو النظرة الدورية للتاريخ، أو الاعتقاد بأن تكشف التاريخ ليس، كما يعتقد الطوباوي التقدمي، تطوراً خطياً لا مفر منه، ولكنه عملية عضوية مشروطة بالطبيعة وتخضع لنفس القوانين من الصعود والهبوط، الولادة والاضمحلال. وكما يلاحظ دافيلا، فإن "عجلة الحظ" تشبيه للتاريخ أفضل من تشبيه "تطور البشرية".

لكن هذا لا يعني أن الرجعي الأصيل لا يستلهم من الماضي على الإطلاق. على العكس من ذلك، من أجل “إعادة بناء الكون المتحضر الذي يختفي من حوله في داخله”، يعتمد الرجعي الأصيل على الحكمة المقطرة لأصوات الماضي، التي يحافظ معها على مراسلات حميمة. بالنسبة لدافيلا، يتم إنجاز هذه المهمة بشكل أساسي من خلال القراءة. بعد أن جمع بنفسه أكثر من 30 ألف كتاب على مدار حياته، عرف دافيلا جيداً قوة "الاتصال مع النفوس الأخرى" و"أفكارهم الغريبة والصعبة والحادة" لإيقاظ الروح من سباتها العميق. وفقاً لاعتقاده بأن "النصوص الأدبية هي صيغ تعويذة تنقلنا إلى مناخات فكرية مختلفة"، لم ير دافيلا القراءة على أنها مجرد وسيلة لتعزيز تعليم الفرد ـ على الرغم من أن الأمر كذلك بالتأكيد ـ بل بالأحرى ممارسة روحية أساسية.

ذكر أن "كل كتاب نقرؤه يجب أن يتركنا أكثر ثراءً، أو فقرا، أو أكثر حزناً، أو أكثر سعادة، أو أكثر أمناً، أو أكثر غموضاً، ولكن لن يكون سليماً أبداً. إذا لم نشارك عند فتح كتاب ما باشمئزاز أو حب، فمن الأفضل أن نتركه حتى توقظ حاجة غامضة أو طلب محدد في نفوسنا العاطفة التي تنيرها مثل هذه القراءة. أي كتاب لا يجد سرنا، عاريات، مضطربات، ودماء، هو مجرد ملجأ مؤقت".

الطوباوي التقدمي

إذا حصل الرجعي الأصيل على المساعدة في مساعيه الجبارة من خلال الانخراط الذكي في العلوم الإنسانية، فإن الطوباوي التقدمي يعتمد على قوة التكنولوجيا المنتشرة في كل مكان، والتي تهدد "بتقنين الإنسان" وقطع علاقته بالطبيعة. وبتأكيده على أن "العوز الروحي يدفع ثمن الرخاء الصناعي"، أدرك دافيلا أن العالم المتكامل على نحو متزايد (وبالتالي المعرض للخطر) الذي أصبح ممكناً بفضل التقدم التكنولوجي لن يبلغ ذروته، كما يفترض الطوباوي التقدمي، بتحرير الإنسان، بل إلى "الاستبداد التام". "

واليوم، أصبحت بصيرة كلمات دافيلا واضحة للعيان. للحماية من التهديدات الوهمية التي يشكلها كل شيء، بدءًا من الأوبئة العالمية وحتى الهجمات السيبرانية المزعزعة للاستقرار، أثبت الإنسان المعاصر استعداده التام للتضحية بما تبقى من سيادته على مذبح دولة إدارية دائمة التوسع تقوم على التكنوقراط.

تسلط ملاحظات دافيلا المتعلقة بالتكنولوجيا الضوء على اختلاف إضافي بين الطوباوي التقدمي والرجعي الأصيل، أي مفاهيمهما المتباينة عن الحرية الإنسانية. في حين أن الطوباوي التقدمي يقدم فهماً مجرداً للحرية يعطي الأولوية للتحرر من جميع القيود المتصورة، فإن الرجعي الأصيل يفهم أن الحرية الحقيقية لا يمكن تحقيقها إلا عندما تقع في تفاصيل الزمان والمكان، حيث يتم تخفيف الحقوق والحريات الفردية من خلال الشعور بالاستقلالية، والواجب والمسؤولية تجاه مجتمعه. وبالتالي فإن الحرية التي يقدرها الرجعي الحقيقي هي حرية لشيء ما. يكتب دافيلا: "الحرية ليست غاية، بل وسيلة". "من يظن أنها غاية لا يدري ماذا يفعل عندما يصل إليها".

بالنسبة لدافيلا، فإن السياسة الحكيمة تتكون من "تنشيط المجتمع وإضعاف الدولة". ولكن من خلال الدفاع عن مفهوم مجرد للحرية، فإن الطوباوي التقدمي يقلب هذه الصيغة رأساً على عقب، لأن الحرية المجردة تأتي حتماً على حساب تلك المؤسسات الوسيطة، مثل الأسرة والكنيسة، التي تغذي أشكالاً أكثر اكتمالاً من الحرية وتقف بين الفرد والدولة كحواجز وقائية. كما يلاحظ دافيلا:

"قد لا تكون المؤسسة الاجتماعية مثل الأسرة ضرورية للبقاء مقارنة باحتياجات مثل تنفس الهواء. لكن انتهاك هذا النظام قد ينطوي على تدمير كل ما يتواجد داخله. وهكذا، في حين أن النظام قد لا يكون ضرورياً لبقاء الكائن الحي، فإنه قد يكون ضرورياً للحفاظ على كل ما هو بشري بشكل صحيح".

يتضمن مفهوم التقدمي الطوباوي للحرية اعتقاده بأن الإنسان الحديث قد تغلب على الحاجة إلى الله. وكما تقترح قصة عدن في الكتاب المقدس، إذا نجح الإنسان في التخلص من كل القيود، فسوف يصبح إلهاً خاصاً به. "وقال الرب الإله: هوذا البشر قد صاروا مثلنا، عارفين الخير والشر".

من منظور تقليدي، فإن هذا هو على وجه التحديد الهدف الذي حددته البشرية لنفسها خلال عصر التنوير، الذي سعت إلى استبدال الإيمان بالله بالإيمان بالعقل البشري. ومن وجهة نظر دافيلا، فإن نسب هذا الخطأ اللاهوتي تديمه الديمقراطية الحديثة، التي تكمل الإطاحة بالله من خلال وضع الإنسان في مركز الكون. وكما نلاحظ في أعمال دافيلا:

"إن الألوهية التي تنسبها الديمقراطية للإنسان ليست مجرد كلام شعري، ولكنها تطرح مبدأ لاهوتياً بحتاً. إن الديمقراطية تتحدث إلينا ببلاغة، وباستخدام معجم غامض، تعلن الكرامة الإنسانية، ونبل الأصل والمقصد، والهيمنة الفكرية على عالم المادة والغريزة. الأنثروبولوجيا الديمقراطية هي التي تتفق مع صفات الله الكلاسيكية".

قد يفسر هذا النقد إلى حد ما سبب بقاء دافيلا شخصية غامضة نسبياً في العالم الناطق باللغة الإنجليزية. وفي السراء والضراء، فإن الغرب الحديث نتاج عصر التنوير بطريقة أو بأخرى، وأي هجر شامل للمؤسسات الديمقراطية لا بد أن يبدو اقتراحاً غير واقعي في نظر المراقب الصادق. ومع ذلك، كما ذكرنا سابقاً، فإن تفسير دافيلا على أنه ملكي مجنون يتوق لاستعادة الحق الإلهي للملوك هو إساءة فهم فكره برمته. من وجهة نظر دافيلا، فإن الخدمة المستمرة لمثل هذه "الحلول" السياسية الحالمة في كثير من الأحيان لا تؤدي إلا إلى تفاقم المشاكل ذاتها التي سعى مصمموها إلى حلها. يقول دافيلا: "إن المشاكل الميتافيزيقية لا تطارد الإنسان لكي يحلها، بل لكي يعيشها".

في الواقع، بالنسبة للرجعي الأصيل، فإن التكتيك الأضمن في التنافس المستمر مع الطوباوي التقدمي هو "متابعة آثار الخطى الإلهية في البرية البشرية" - ما وصفه الفلاسفة القدماء بالخير، والحق، والجميل. إذا كان صحيحاً، كما رأى دافيلا، أن "موت الله رأي مثير للاهتمام، لكنه لا يؤثر على الله"، فقد يكون هذا كافياً لتفسير مقولته "التاريخ الحديث هو حوار بين رجلين: أحدهما يؤمن بالله، والآخر يؤمن بأنه إله."

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

العديد من الفلسفات تعمل في ظل افتراض ان المعاناة سيئة. الهدف النهائي بالنسبة للبوذية، كما عبّر عنه بوذا في مثاله عن السهم المسموم، هو وقف المعاناة الشخصية من خلال القبول والتنوير. اما الرواقيون، فقد سعوا لإنهاء المعاناة في حياتنا من خلال العقلنة – خاصة التقسيم الثنائي للسيطرة.

فيلسوف القرن التاسع عشر فردريك نيتشة، يرى ان هذه الاتجاهات خاطئة: نحن يجب ان نصالح أنفسنا مع المعاناة ليس بالنظر اليها كشيء يجب تجاوزه، ولا كخطأ يمكن تصحيحه، وانما من خلال تأكيدها كضرورة وكجزء لا غنى عنه للحياة التامة.

في الحقيقة، بينما يسعى الرواقيون لتطهيرنا من الألم "اللاعقلاني"، وبينما يريد بوذا منا الهروب من دورة الشغف والرغبة (وبالتالي الهروب من المعاناة)، يرى نيتشه ان المعاناة يمكن النظر اليها كاستجابة أصيلة ومفهومة للحياة في عالم بلا نظام او هدف. في الحقيقة، العظمة غير ممكنة بدون المعاناة. في عمله (العلم المرح،1882)، يكتب نيتشة:

 "انظروا الى حياة أفضل الناس وأكثرها ثمارا واسألوا انفسكم هل ان الشجرة التي يُفترض ان تنمو الى علو كبير يمكن ان تتوقف عن النمو في الطقس السيء والعواصف، وهل سوء الحظ والمقاومة الخارجية، وانواع الكراهية والحسد والعناد وعدم الثقة والقسوة والجشع والعنف لا تنتمي الى الظروف المفضلة التي بدونها يصعب تحقيق أي نمو حتى في الفضيلة". وحول الدور الذي لعبته المعاناة في حياته، يكتب نيتشة في (نيتشة ضد فاغنر):

"بقدر ما يتعلق الأمر بمرضي، أليس من الصواب اني مدين له اكثر مما لصحتي؟ انا مدين له بصحتي وبفلسفتي ايضا".

اذا كانت هناك أشياء نقيّمها في حياتنا، فان نيتشة يريدنا ان ندرك باننا لا نستطيع تقييم تلك الاشياء بدون تقييم كل شيء أدّى لها. في مذكراته،يكتب:

"افرض اننا قلنا نعم للحظة واحدة، عندئذ نحن لم نقل فقط نعم لأنفسنا، وانما لكل الوجود. لأنه لا شيء يقف وحيدا، لا في أنفسنا ولا في الاشياء، واذا كانت ارواحنا قد اهتزت وفرحت على وتر السعادة مرة واحدة فقط، فان الامر كان ضروريا للابدية كلها لإحداث هذا الحدث الوحيد – وفي هذه اللحظة المنفردة عندما قلنا نعم، تكون كل الأبدية جرى احتضانها واستعادتها وتبريرها وتأكيدها".

السعادة لا توجد في عزلة، العظمة لا يمكن ان تحدث بدون معاناة. اذا اردنا تأكيد الحياة، لابد من تأكيد كل ما فيها، نتقبّلها بعيوبها. وفي العلم المرح، يكتب:

"فقط الألم العظيم هو المحرر الحتمي والنهائي للروح .. انا أشك بان مثل هذا الألم يجعلنا "أفضل"، لكني أعرف انه يجعلنا أكثر عمقا". ومع ان المعاناة ليست ممتعة تماما، لكنها تضفي علينا نوع من الحكمة المأساوية.

ربما المقياس الحقيقي للفرد، حسبما يقترح نيتشة، هو كمية الصدق الذي يمكنه تحمّله. وكما يذكر في Ecco Homo: "صيغتي للعظمة في الكائن البشري هي حب القدر: أي ان المرء لا يريد أي شيء يكون مختلفا، لا الى الأمام، ولا نحو الخلف، وليس في كل الأبدية. ليس فقط يتحمل ما هو ضروري، وانما يحبه".

نيتشه يطور هذه الأفكار الى مديات أبعد في عقيدته بالعود الأبدي، التي يتحدّانا بها لنعيش بطريقة نرغب بها ان نكرر نفس الحياة مرة بعد اخرى . كل غصة وحسرة، كل بهجة، كل يوم طويل من الضجر: هي في سلسلة متواصلة مرارا وتكرارا. فقط عندما نستطيع القول "نعم" للعود الأبدي يمكننا حقا مواجهة التحدي الذي أثاره حب القدر النيتشوي. 

***

حاتم حميد محسن

 

الفيلسوف كما اعتقد هو العقل الذي ينتج الأفكار والمفاهيم ويطرح الأسئلة الكلية الوجودية للوصول إلى ماهية الأشياء، والفيلسوف يسأل: ما الخير؟، ما الشر؟، ما المصلحة؟، أي يبد أ دائما سؤاله بما .. لماذا يبدأ الفيلسوف سؤاله بما؟ .. لأن السؤال بما هو سؤال عن الماهية؟.

أما المفكر، فقد يستعير مفاهيم الفيلسوف، ولكنه يفكر في جملة من القضايا أبعد من الفيلسوف، وبالتالي هو ينتج أجوبة عن مشكلات عامة وخاصة، فمثلا الذي يعرض لنا كتب التراث ويقرأها، فهذا يعد مفكر وليس فيلسوف، والذي يتحدث عن العادات والتقاليد في بلد من البلدان وفي علم من العلوم، فهذا نقول عنه مفكر وليس الفيلسوف، وكما قيل كل فيلسوف مفكر، وليس كل مفكر فيلسوف .

بيد أن الناس لا يميزون بين الفيلسوف والمفكر، وعندما سئل "مارتن هيدجر" قبل أن يموت: هل تجد مستقبلا للفلسفة للفيلسوف؟ .. قال لا، ولكن المستقبل للمفكر؟.. وعندما انتقد أحد الفلاسفة " لينين" .. قال عنه بأنه مفكر وليس فيلسوفا، بينما الفيلسوف لا حدود لفضائه، والفيلسوف جناح مفتوح يجتاح أقصى الحصون، وأكثرها انسدادا، ولهذا فالفيلسوف لا يجامل، وإذا رأيت فيلسوفا يجامل بحيث يكون من جهة يتحدث في اللاهوت ومن جهة يتحدث بالفلسفة، فهو واحد من أثنين: إما أنه ليس فيلسوفا، وإما أنه يكذب . فالفيلسوف لا يداهن مهما كان، وإذا ما حاول أن يداهن فربما يكون هناك نوع من الخوف، وهو ربما لا يريد أن يعرض نفسه للخطر فيستخدم التورية والرمزية وما شابه ذلك .

مثال ذلك ابن رشد حيث نجده في كتابه " تهافت الفلاسفة"  يختلف عن ابن رشد في فصل المقال فيما بين الحكمة من الشريعة والحكمة من الاتصال، فعندما تقرأ الكتابان لابن رشد تجد هناك فرق بين رشد هنا وابن رشد هناك، فابن رشد في فصل المقال يريد ألا يزعج الفقيه فقال:" لما كانت المعرفة بالمصنوعات كانت المعرفة بالصانع أتم "، وهنا استخدم ابن رشد كلمة الصانع ولم يستخدم كلمة الله، وفي نص آخر من ذات الكتاب قال ابن رشد " إن الحق لا يضاد الحق لما كان الشرع بمقصوده معرفة الصانع، ولما كانت الفلسفة أيضا معرفة الصانع، فالحق لا يضاد الحق" . وهنا نجد أن ابن رشد على الحقيقة لم بكن صادقا إذا كان مقصود الشرع معرفة الصانع، وكذلك الفلسفة نفس المقصد .

وهنا ابن رشد لم يكن صادقا، ولو كان صادقا لماذا لم يكتف هو بالشرع فقط بدلا من الفلسفة! . وهنا ابن رشد كان يخاف اللاهوتيين لأنهم فقهاء السلطان، وللأسف هم الذين طردوه من قصر السلطان .

ولهذا من النادر أن يُكتب نص خالٍ من المعنى، وما أكثر النصوص التي يجهد القارئ للوصول إلى معناها، ويصل. لأن الغموض في النص لا يعني خلو النص من المعنى، بل يعني أن المعنى ثاوٍ وراء النص.

لكن الفيلسوف ليس هو اللاهوتي  ولا يقترب منه إطلاقا، بل متحرر من الأجوبة اللاهوتية في سؤاله الفلسفي، والسبب في ذلك هو أن الفيلسوف ذو عقل برهاني، بينما اللاهوتي ذو عقل إيماني، وذلك دائما ما أقول عن القديس توما الأكويني بأنه لاهوتي وليس فيلسوف، وأقصد باللاهوتي هنا هو نفس ما قاله أستاذنا الدكتور أحمد برقاوي ذلك المؤمن بدين من الأديان ولكنه يسعى لتقديم خطاب تأويلي – عقلي للترسيمات الدينية المألوفة، والتي غالبا ما تكون أكثر قوة وتأثيرا من الترسيمات في حالها الأصلي، ولكنه، أي اللاهوتي يظل مشدودا إلى الكتاب المقدس أسماء النظر إليه أساسا لتفكيره.

والسؤال الآن: متي يتحول الفيلسوف إلى الأيديولوجيا، بحيث عنه بأنه فيلسوفا أيديولوجيا؟

اعتقد يكون الفيلسوف أيديولوجيا عندما تتحول بنية أفكاره التنظيرية إلى قبس من  الأفكار المعبرة عن غايات عملية، حيث يعتقد الفيلسوف عندئذ بأنها تعكس أهداف أمته أو طبقته أو فئته، في مرحلة تاريخية محددة، وتنطوي – هذه البنية –  كما يذكر أستاذنا البرقاوي على الوسائل الضرورية للنشاط العملي؛ من أجل تحقيق الأهداف التي تطرحها من خلال القدرة على الاقناع والإيمان بحقيقة أفكارها وإيمان -كهذا- هو الذي يحفّز الفاعلية النشطة للفلاسفة، ويوجد لديهم عصبية وحماسة شديدتين إن قوة الجانب الإيماني في الأيديولوجيا لا يكترث للجانب المعرفي، على الرغم من أنها تصاغ صوغًا نظريًا مفهوميًا في خطاب متماسك.

إذن الغاية من الخطاب الأيديولوجي غاية عملية كما قال البرقاوي، وليست علمية أو معرفية، لكن الأيديولوجي يسعى دائمًا لإظهار “علموية” خطاب غاياته، وفي كل الأحوال، إذا كانت الحقيقة العلمية حقيقية لذاتها، ومحكومة بطريقة إنتاجها والتحقق منها، وذات نتائج عملية غير مباشرة، فإن المعرفة الأيديولوجية ذات ارتباط لا تنفصم عراه بالوظيفة العملية التي تنشدها الأيديولوجيا.

ولقد شهدت السنوات الأخيرة مناقشات في الفكر الاجتماعي حول مسألة مهمة كما قال البرقاوي،، ألا وهي: هل يشهد عصرنا الراهن نهاية الأيديولوجيا؟ للإجابة عن هذه المسألة، يجب أن يميز بين مصير أيديولوجيا محددة، ومصير الأيديولوجيا بعامة.

إن لكل أيديولوجيا محددة عمرًا معينًا، والمقصود بعمر الأيديولوجيا المحددة ذلك الزمن الذي باستطاعة هذه الأيديولوجيا، أو تلك، أن تمارس في أثنائه تأثيرها في البشر، وتستمر في مد معتنقيها بطاقة روحية، تدفعهم إلى فاعلية نشطة، وتقيم في ما بينهم عصبية مشتركة.

إن أيديولوجيا ما تموت وتنتهي من أداء وظيفتها في حالين كما قال الدكتور برقاوي: في حال انتصار حاملها الاجتماعي، وبروز التناقض بين الأيديولوجيا، والممارسة العملية على نحو صارخ، فما إن يبرز تناقض كهذا، حتى تكف هذه الأيديولوجيا عن إنجاب القناعة بمنظومتها الفكرية، وبأهدافها العامة.

ألم تنظر الفلسفة وبخاصة الفلسفة الوجودية السارترية كما قال الدكتور برقاوي بأن الشخص مشروع، ولأن الشخص مشروع فإنه يغذ السير في الحياة من أجل تحقيق ذاته – المشروع . والمشروع هو ما لم يتحقق بعد، بهذا المعنى وبهذا المعنى فقط، فالمشروع هو الحلم. وكلامي ينصب على المشروع – الحلم بوصفه تصور الجماعات لعالم أرقى، مشروع الإنسان الذي يحلم بغدٍ أفضل، عن الجماعات التي تحلم بعالم سعيد، والمبدعون والمفكرون والفلاسفة والعلماء جميعهم يكتبون أحلامهم الكلية بوصفها أحلام الجميع. هذه الأحلام التي تتمنى عالماً أرقى هي أحلام يقظة، وكل أحلام يقظة هي في النهاية شكل من التفكير حتى لو كان بعضها غير واقعي.. وللحديث بقية..

***

د. محمود محمد علي – كاتب مصري

.............................

المرجع:

1- د. أحمد برقاوي: الأيديولوجيا وأصفادها، الأحد 2022/05/01

2- د. أحمد برقاوي: الأحلام والأيديولوجيات والأشرار، الجمعة 2022/07/01

3- أنظر حوار بدر العبري  مع د. أحمد برقاوي بعنوان العرب وعودة الفلسفة في الواقع المعاصر، يوتيوب..

الأفكار كالأشجار، ربما تذبُلُ أو تموت إذا حرمت من أسبابِ البقاءِ والديمومة. وسجنُ الأحياءِ قبرٌ لموتٍ مُعجَّل. ومصيرُ العقولِ مرهونٌ بحركتها الفكرية والعلمية. وربيعُها دوامُ النظرِ في صفحاتِ الكتبِ، وقراءةِ العلوم، وتدارسِ مسائلِ الخلقِ والكون.

قال لي يوماً: ما تفعلُ بكلِّ هذه الكتب، ولماذا تنفقُ كلَّ هذه الأموالِ من أجلِ شرائِها، العصرُ عصرُ التقنيةِ والسرعة، ولكَ أن تبحثَ ما تريدُ في محركاتِ البحث ومواقع الكتب، فتجدَ ضالتكَ!!

قلتُ له: نعم يا صديقي، هذا واقعٌ لا أتنصَّلُ من الاعترافِ به، والإذعانِ له، لكن هل برأيكَ، وبرغمِ كل هذه التقنياتِ، ارتقى فكرُ البشرية أم ارتدَّ ناكصاً إلى الوراء ؟َ! أتحدثُ بشكلٍ حصريّ عن الفكرِ العربي، والإسلامي بالذات.

قال: لا أظنهُ ارتقى إلى ما يجبُ أن يرتقيَ إليهِ البشرُ في أماكنَ أخرى من العالم.

قلتُ: العربيّ يا صديقي، وربما لأسبابٍ جينيةٍ أو تاريخية، أو نفسية، مجبولٌ على حب الدَّعةِ، واللهوِ والاتكالية. مطبوعٌ على حب الفوضى، وتخريبِ ما عمرهُ الآخرون. ومن سماتِ عقلهِ أنهُ يميلُ إلى التصلبِ في آرائهِ، ورفضِ كل تجديد إلا بشِقِّ الأنفس.

نشأت الحضاراتُ، وهي مجملُ النشاطِ البشريّ، في بقاعٍ عديدة من الأرض. قامت الحضارة الصينية في مكانها المعروف وبين الصينيين ومنذ آلاف السنين، وعرف عنها حب التصنيعِ وابتكار الأدواتِ والآلات. وقامت الحضارة السومرية والأكدية، محبةً للفنون والكتابة. وقامت الحضارة الإغريقية على حب التفلسفِ وكثرةِ الكلامِ، وروح الغزو، وتقديس الأرواح. وقامت الحضارةُ المصرية على تخليد الأحياءِ والاهتمامِ بما بعدَ الموتِ والتفنن بطرقِ حفظ الجثثِ والأموالِ، وتقديسِ الفراعنة. وقامت الحضارة الفارسيةُ على ابتداعِ الفنونِ والمهارات في صنعِ الجمالِ والزخرفةِ والنسج، بل والعلوم العقلية المختلفة والغلوّ في ما يختصّ بحيثياتِ الروحِ والتصوّف. كل هذا النتاج البشريّ تمَّ بإيحاءٍ خفيّ من سلطانِ الوراثةِ والجينات، وما اعتادَ عليه القومُ في كلِّ حضارة. ولو قرأنا التاريخَ القريبَ للعربِ والمسلمين على وجهِ الخصوص، ماذا تتوقع أن نجد؟ ما الذي قدّمهُ هؤلاءِ إلى إخوانهم البشر. جُبلَ العربيُّ المسلمُ على حبِّ أفكاره، وتقديسِ رموزهِ، والاستخفافِ بكل ما دونَ ذلك. يذمُّ الغربيّ وهو يكتبُ بالقلمِ الـ (باركَر) الذي صنعه الغرب، ويتشاتمُ القومُ وهم في مستنقعِ الخيبةِ سواء. يصدحُ بلسانهِ الطويل، على منابر المساجدِ بقتلِ الغربيّ المعتدي، والمخالفِ له في العقيدة، ولم يكن المقتولُ إلا عربياً مسلماً من أبناءِ جِلدَته، لأنه قال كلمة مدحٍ للغرب أو ظنّوا به هكذا. ينبذونَ المحتلَّ ونسوا أنهم قاموا في غفلةٍ من التاريخِ بغزوِ الآمنينَ واقتيادِ العذارى بين يديّ أمير المؤمنين!!! يتنافسُ الانجليزُ والعثمانيونَ على احتلالِ العراقِ وقبل أكثر من مئةِ عامٍ، فينتهزُ البشرُ الفرصة من أجلِ نهبِ بعضِهم بعضاً. لم يفكروا يوماً بتخليصِ أنفُسهِم من نير التسلط الفكري الجامد، قبل التخلص من سطوة المستعمرِ والغازي. يقضي الفقيهُ عمرهُ في صياغةِ الفتاوى التي تدعو إلى التخلصِ من أخيهِ المسلمِ، ولم يمس هذا الغازي بسوءٍ خوفاً من حرابِه وبطشه، أو قل: حفاظاً على مكتسباته. كانَ يؤمنُ بمقولةٍ خالدةٍ سمعتها من أفواهِ كثيرٍ من العقلاء وهي (كلُّ من يتزوجُ أمّي، فهو عمّي!!). ولي أن أسألَ سؤالاً لا أنتظرُ إجابته: هل نفعَ الدينُ البشرَ، أم كانَ أداةً وسلاحاً لإيقاعِ الضرر بالبلادِ والعِباد؟!

وهل لنا أن نتهمَ الدينَ بما حواه من تناقضاتٍ في طياتِ سُننه، بأنه هو السببُ في كل هذه الفوضى؟ أم أن الأداة التي اعتمدت في تطبيقه هي من الأدواتِ الجارحة لكبرياء الفكر الراقي للعقول البشرية. ما أعلمهُ عن الأنبياءِ، وهم الرجالُ الصالحون الذين بُعثوا من أجلِ سعادةِ البشر، أنهم يدعونَ إلى تحرير الرقابِ والأفكار من نير العبودية والتسلط والانغلاق بكل أشكاله. كونوا أحراراً في دنياكم؟ لا يستعبدكم الطمعُ؟ لكم دينكم وليَ دين، لا تُقصروا أولادكم على تربيتكم فهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم.... الخ.

حاول البشرُ السيطرةَ على جيرانه وبكل السبل المتاحة له، وحاول التخلص منهم حتى يرضيَ فضولَ وغرورَ عقله وجسده. وجاءَ من حفظ سطرين من سنن الأديانِ فحاول من جانبه أن يسيطر ويتسلط على أفكارِ البشر، لأنه يدرك مسبقاً أن السيطرة الفكرية تعني سيطرة تامة على كيان الإنسان تتبعها السيطرة المادية. ولا تستغربْ من أن هؤلاء لجأوا إلى ذاتِ الأدواتِ التي لجأ إليها المستعمرُ، من أجل إحكامِ السيطرة هذه. كلها حيلٌ ووجوهٌ تختلفُ أشكالُها، وتتفقُ في مضمونها ونتائجها الكارثية. ما وظيفةُ المثقفِ في ميدانِ هذه الإشكاليات المقلقة، والعواصف التي لا يهدأ لها أوارٌ، ولا تخفّ في وطأتها؟

على المثقفِ في مثل هذه الظروفِ والأوضاعِ أن يختارَ الطريقة الذكية والفكرية الخالصة كسلاحٍ مضادٍّ، من أجل كسرِ النعش الفكري وتخليص العقولِ من ظلمتهِ وضيقِ مساحته. هذا النعشُ هو الذي صممه ونقشه وصنعه الفكرُ الوصولي المستعمرُ مهما كانت صفته. لابد من كسرهِ، وإحراقه، حتى تعرجَ العقولُ بروحها الخلاقة إلى معارجِ الرقيّ، ومرافقة أشباهها من العقول المبدعة. لابد من الخروج على المألوفِ العتيق، ونبذِ التصلب والتطرفِ، وتوحيد الشخصية التي كثيراً ما وصفت بالازدواجية والوصولية والتبعية العمياء. وبعد الذي كتبتُه أعلاه، هل يمكنُ هذا، وهل لكل العقول أن تصل إلى ما ترسمه وتخطط له من تحول أم ستبقى هذه الكلمات محضَ أمنياتٍ فارغة، تجلس في نعش الأفكار؟!!

***

بقلم د. علي الطائي

 2024

مراجعة: جيفري هاوس، جامعة كريتون

ترجمة محمد عبد الكريم يوسف

***

يركز كتاب توبياس هوفمان على روايات اللغة اللاتينية عن الإرادة الحرة في أعمال الفلاسفة المسيحيين في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. يعتمد هؤلاء الفلاسفة على شبكة معقدة من التقاليد. إن تأثير أوغسطين واسع الانتشار، كما أن الأفكار الرئيسية من أنسيلم، وبرنارد من كليرفو، وبيتر لومبارد تشكل أيضا هذه المناقشات المدرسية. ومع تقدم القرن الثالث عشر، اكتسبت الأطر المفاهيمية للمفكرين القدماء الناطقين باليونانية - وخاصة أرسطو، ولكن أيضا نميسيوس وديونيسيوس الزائف - الهيمنة. وبطبيعة الحال، فإن الكتاب المقدس، الذي يتم تفسيره بعدد مذهل من الطرق المتنوعة، هو أيضا بمثابة مصدر موثوق. على الرغم من التعقيدات المختلطة أحيانا التي تحيط بهذا الموضوع، فإن هوفمان يقدم معالجة سهلة القراءة وواضحة وحتى ممتعة. يروي كتابه قصة عائلة من الأفكار أثناء توليدها، وتطويرها، وانتقادها، وإعادة تأهيلها، وإعادة تصورها، وقتلها، وإحيائها (حتى تحتوي هذه الدراسة على كل التقلبات والمنعطفات التي شهدتها رواية ثاكري). في الفصل الأخير، يتم تذكيرنا بالبراعة المذهلة للفلسفة المدرسية بالإضافة إلى حدودها.

يبدأ مسح هوفمان بتلخيص أغراض وحجج ثلاث شخصيات يختلف نهجها في حرية الإرادة بشكل لافت للنظر عن نهج خلفائهم في أواخر العصور الوسطى: أنسيلم، وبرنارد من كليرفو، ولومبارد. تناقش هذه الشخصيات السابقة ما يسمونه liberum arbitrium ، أو "القرار الحر"، في سياق الخطيئة، ويثير هذا السياق العديد من الأسئلة المركزية التي يطرحونها (مثل ما إذا كان القرار الحر يشمل حرية ارتكاب الخطيئة). نظرا لأنهم لا يعرفون شيئا تقريبا عن أخلاقيات أرسطو أو علم النفس الأخلاقي، فقد استمدوا إلهامهم بدلا من ذلك من الكتاب المقدس وأي وصول لديهم إلى المصادر الآبائية. أدت إعادة اكتشاف أعمال أرسطو الأخلاقية والنفسية إلى قيام خلفائهم في القرن الثالث عشر بإعادة تصور هذه الأساليب السابقة لاتخاذ القرار الحر. زود أرسطو الفلاسفة المدرسيين بتفسيرات للتداول والاختيار، بمخطط يمكن من خلاله تفسير التأثيرات السببية المختلفة للأشياء على قدرات النفس وتأثيرات تلك القدرات على بعضها البعض، مع تفسيرات لدور الإخفاقات المعرفية والشهية، وتلك الإخفاقات. ' الترابطات، لعبت في الخطيئة. لذا، بدءا من فيليب المستشار، نرى ظهور منظور جديد بشأن القرار الحر وأهميته. لا يضع فيليبس روايته في سياق الخطيئة، بل في سياق علم النفس. وهذه هي بداية ما يسميه هوفمان "المنعطف النفسي".

علم النفس البشري هو نظام فوضوي ومعقد من القدرات المعرفية والشهية العقلانية والحسية المترابطة. لكي نفهم الأخلاقيات المدرسية، علينا أن نفهم هذا النظام الرهيب. ومع ذلك، لكي نفهم القرار الحر، أو كما سيُطلق عليه في النهاية، الإرادة الحرة، فإننا لا نفعل ذلك. يتفق الفلاسفة المدرسيون عموما على أن القدرات المسؤولة عن الفاعلية والسيطرة والقرار الحر هما الوظيفتان اللتان يشترك فيهما البشر المتجسدون مع الملائكة غير الجسدية: العقل والإرادة. ولذلك يكمل هوفمان اعتبارات حرية الإنسان من خلال الاعتماد بحرية على المناقشات حول الحرية الملائكية. ليس فقط أن الروايات الأخيرة أكثر بساطة (حيث أنها مجردة من فوضى العاطفة الإنسانية والعقلية البليدة)، ولكن الأسئلة التي تتناولها - على وجه الخصوص، مسألة كيف يمكن لفاعل بدون عيوب أخلاقية سابقة أن ينتج خيارا شريرا - تتطلب من الفلاسفة تقديم تفسيرات مركزة حول أين تقع حرية الفاعل في التفاعل بين العقل والإرادة وأشياءهم.

يكرس هوفمان معظم جهوده لشرح الطرق التي يعالج بها المفكرون المدرسيون الأسئلة المستمرة حول الإرادة الحرة في الاستجابة لعلاجات بعضهم البعض. على الرغم من الاحتجاجات العديدة الأخيرة ضد هذه الممارسة، يقسم هوفمان فلاسفته المستهدفين إلى مثقفين، ومتطوعين، وتبديلات مختلفة للاثنين. المثقفون "يعرفون الفاعلية الحرة بشكل رئيسي بالإشارة إلى العقل"، ويعرفها الطوعيون "بشكل رئيسي بالإشارة إلى الإرادة" (5). ومن خلال نجاحه الواضح في إظهار خطوط التأثير والوراثة بين أعضاء كل مجموعة، يوضح هوفمان الفائدة الواضحة لهذه الفئات، بشرط أن يتم التعامل معها بالدقة والدقة التي يوفرها لهم: نحن نرى الطرق التي يتفاعل بها المثقفون والتطوعيون جادلوا ضد بعضهم البعض، والطرق التي عززت بها الأجيال المتعاقبة من كل مجموعة حجج أسلافهم، والطرق التي قدموا بها أحيانا تنازلات للمعسكر المعارض لخلق آراء صامتة أو هجينة (لم تكن ترضي أحدا بشكل عام). طوال العصر قيد المناقشة، ظلت المشكلات العامة لكل مجموعة كما هي: يجد المتطوعون صعوبة في تفسير مثل هذا الجهاز الغامض الميتافيزيقي مثل الإرادة ذاتية الحركة، بينما يجد المثقفون صعوبة في تفسير كيف أن الأسباب الطبيعية لا تتطلب العقل، ونتيجة لذلك، الإرادة أيضا.

يتفوق الكتاب في العديد من الفئات، وبشكل واضح في عرضه الصبور والواضح والمنهجي لأفكار معقدة بشكل محبط في كثير من الأحيان. أود التركيز على سمة من سمات العمل التي قد يتجاهلها القراء: فهي تحكي قصة عن تطور الأفكار حول الإرادة الحرة والتحكم والاستقلالية التي تعد نموذجا لطرق التدريس الفلسفية المتميزة لأي شخص يحتاج إلى التدريس أو الكتابة. حول تاريخ الفلسفة "المتعدد الأجيال". في معظم أجزاء الكتاب، "يختفي هوفمان"، جاعلا كل فيلسوف من العصور الوسطى إلى مركز الصدارة. وبالتالي، يتجنب الكتاب التحول إلى مجرد تلخيص أو إلى مناقشات عفا عليها الزمن تعرض اهتمامات معاصرة تفوق اهتمامات الفلاسفة قيد المناقشة. يسمح أسلوب العرض هذا أيضا للقارئ بفهم كيف تعلم مفكرو العصور الوسطى من بعضهم البعض (على سبيل المثال، يجمع دونس سكوتس بين تفسير بيتر جون أوليفي للصدفة المتزامنة مع وجهة نظر أنسيلم "الوصيتين" المعاد تصميمها لتطوير واحدة من الوصايا الثنائية). أكثر الروايات تأثيرا وإثارة للجدل حول الإرادة الحرة في الفلسفة المدرسية). نرى في هذه الأمثلة كيف توصل الفلاسفة، على مدى مائتي عام، إلى فهم أفضل - أو على أي حال، فهم أبعد - لهذه المشاكل. نرى أيضا كيف يؤثر تركيز الفيلسوف على مجال معين من مجالات الفلسفة دون المجالات الأخرى (مثل الميتافيزيقا على علم النفس) على تطور أفكار ذلك الفيلسوف. بحلول نهاية الكتاب، لدينا وجهة نظر متعددة الأجيال حول الاستراتيجيات البارعة التي استخدمها مفكرو العصور الوسطى لمعارضة آراء أسلافهم أو دعمها أو إعادة تصورها.

يقوم هوفمان ببناء دراسته للسماح لوجهات نظر كل فيلسوف مستهدف بالتألق دون تدخل كبير في المؤلف. لقد نجح في هذه المهمة من خلال إنشاء إطار عمل مبسط يقوم عليه بتركيب المشكلات الرئيسية التي سيتم مناقشتها مثل الطريقة التي يشرح بها الفلاسفة كيف أن الفاعل هو مصدر الفعل وكيف أن هذا الفعل مشروط. ثم يترك مفكري العصور الوسطى أنفسهم يناقشون هذه المشكلات. إحدى الطرق البارعة لتحقيق هذا الهدف هي البنية الموضوعية للكتاب. لا يبدأ هوفمان من البداية، إذا جاز التعبير، ويسير عبر كل ما يريد أن يقوله عن أنسيلم، ثم برنارد، ثم بونافنتورا، وهكذا حتى نهاية الكتاب الحتمية لوحدة أوكهام. يناقش كل فصل نطاقًا محدودًا من القضايا ويتعامل معها من منظور معين (على سبيل المثال، النظريات الفكرية الطوعية الهجينة أو الإرادة كمصدر للشر الأخلاقي). النطاق المحدود لكل فصل يعني أن المؤلف ليس مضطرًا إلى إجراء الكثير من التحولات بين أفكار الفيلسوف الواحد. يمكن للقارئ بسهولة أن يضع أهداف كل فصل في الاعتبار دون الكثير من التوجيهات المتطفلة من المؤلف. ومع ذلك، يقوم هوفمان بعد ذلك بتوزيع مناقشات كل فصل على الآخر بينما ننظر إلى المشكلات نفسها أو المشكلات المشابهة من وجهات نظر مختلفة. ولذلك فإن كل فصل متتالي يجلب شيئا جديدا إلى ما هو مألوف بالفعل.

قد يختلف المتخصصون في علم النفس الأخلاقي في العصور الوسطى مع تفاصيل بعض تفسيرات هوفمان، ولكن حتى التفسيرات الأكثر إثارة للجدل واضحة ومدافع عنها جيدًا ومعقولة. قام هوفمان أكثر من مرة بتصحيح التفسيرات الخاطئة الشائعة. هناك تفسيران فقط من تفسيرات هوفمان يبدوان لي مثيرين للإشكال، ولا يؤثر أي منهما على حجة الكتاب. الأول هو تأكيده على أنه، من وجهة نظر أنسيلم، بينما "من الممكن التصرف بناء على إرادة السعادة وعلى عكس إرادة العدالة، فإنه لا يرى أنه من الممكن تجاوز إرادة السعادة" (17). نظرا لأنه ليس من الواضح ما يعنيه "التجاوز"، فمن المحتمل أن يؤدي هذا الادعاء إلى تضليل القراء وجعلهم يعتقدون أنه من المستحيل على الوكيل تحقيق العدالة على حساب الميزة. ومع ذلك، في سقوط الشيطان ، يصف أنسيلم اختيار الملائكة الذين ثابروا على أنهم يفضلون العدالة على الميزة المتضاربة. ويشير هوفمان بحق إلى أن العدالة الطوعية، من وجهة نظر أنسيلم، هي شرط ضروري لضمان السعادة، لكن لا يترتب على ذلك أنه من خلال العدالة الطوعية يرغب المرء أيضا في السعادة.

أما الادعاء الثاني والأكثر إشكالية فيأتي في نهاية الفصل السابع، "الإرادة كسبب للشر". في الفصل السابق ("هل للشر سبب؟")، يقدم هوفمان عرضا لآراء أوغسطين حول أصل الشر الأخلاقي، أي إرادة الشر الأولى. يجادل أوغسطينوس بأن النية الطيبة لا يمكن أن تكون سببا لإرادة الشر؛ وبينما يمكن للإرادة السيئة أن تكون سببًا لإرادة الشر الأولى . بناءً على العمل السابق الذي قام به تي دي جيه تشابيل وبيتر كينج، يوضح هوفمان أن السبب الأول للشر (خطيئة لوسيفر)، والذي وصفه أوغسطين بأنه "سبب ناقص" ( مدينة الله 12.7)، ليس "سببا فعالا ناقصا" ولا "الحرمان من السببية الفعالة" (168). لا يمكننا أن نقول أكثر من أن السبب الأول للشر هو سبب ناقص، مما يجعل تفسير نقصه غامضا.

ثم يلجأ هوفمان إلى هذا العرض لأوغسطينوس ليبدأ فصله التالي بسخرية: يعتقد العديد من مفكري العصور الوسطى (مثل لومبارد، وويليام أوف أوكسير، وريتشارد مينيفيل) أنهم يتبعون خطى أوغسطين في شرح أصل الشر الأول ولكن وبدلا من ذلك يتمسكون بوجهة نظر متناقضة مفادها أن قوة الإرادة، التي هي خير، هي في الواقع سبب للشر الأخلاقي. بعد مسح وجهات النظر المتباينة لمفكرين مثل بونافنتورا، والأكويني، وسكوتس، وبويي، أنهى هوفمان الفصل بسخرية أوغسطينية ثانية: على الرغم من اختلاف هذه النظريات، "فإنها تتلاقى حيث قد لا نتوقعها على الأقل: حول فكرة أوغسطين بأن سبب الشر ناقص، أي أنه لا يوجد تفسير نهائي لسبب قيام شخص ما بفعل الشر" (195). ومع ذلك، لم يقدم هوفمان أدلة كافية لتأكيد هذا الاستنتاج الاستثنائي. على سبيل المثال، يشير بويي، الذي يوضح خطا فكريا اقترحه الأكويني، إلى أن تفسير الإرادة الناقصة هو الإهمال. هوفمان، مشيرا بشكل صحيح إلى أن هذا الإهمال ليس له سبب في حد ذاته، يقفز إلى استنتاج مفاده أن هذا الإهمال، من وجهة نظر بويلي ، "غير قابل للتفسير في الأساس" (195). بدلًا من ذلك، يبدو أن بويي اعتقد أنه قد شرح الأمر بشكل جيد للغاية من خلال اللجوء إلى السببية غير العرضية لكل حادث. ما فعله هوفمان هو ببساطة إثارة تساؤلات حول كيف يمكن للوكيل، في رأي بويلي، ممارسة السيطرة على الاجتهاد والإهمال من خلال مثل هذه الأسباب العرضية. ولا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يستنتج أن بويي يرى نفسه متقاربا مع أوغسطين؛ كما أن أي شيء يكتبه هنا لا يبرر التأكيد الأضعف على أن بويي ملتزم بوجهة النظر الأوغسطينية. يحتاج هوفمان إلى تقديم المزيد من الأدلة لمثل هذا الادعاء، استنادا جزئيا إلى تحقيق أعمق في كل من تفسير بويلي للسيطرة وفهمه للحركات الطبيعية واستعدادات العقل العملي.

لا توجد طريقة واحدة صحيحة لكتابة تاريخ الفلسفة، على الرغم من أن ممارسي الطرق العديدة الملائمة غالبا ما ينفذونها بشكل سيئ. لقد اختار هوفمان السماح للفلاسفة المستهدفين بعرض أنفسهم من خلال التقليل من صوته المؤلف والسماح للدراما الحقيقية للأفكار بالتكشف أمامنا أثناء قراءتنا. ولأنه ماهر للغاية في هذا الأسلوب، سيكون الكتاب نموذجا مفيدا لأي شخص يعمل في تاريخ الفلسفة في أي منطقة أو عصر. بالإضافة إلى ذلك، لأنه يرتب لتدفق واضح وجميل للأفكار والحجج والمناقشات، يمكن لأولئك الذين يعملون على الإرادة الحرة والفاعلية في الفلسفة المعاصرة الاستفادة من رؤية بعض الخلافات المألوفة تتكشف في سياق مختلف.

***

...............................

* توبياس هوفمان، الإرادة الحرة والملائكة المتمردة في فلسفة العصور الوسطى ، مطبعة جامعة كامبريدج، 2020، 292 صفحة، 99.99 دولارًا (HBK)، ISBN 9781107155381.

النص الأصلي:

Free Will and the Rebel Angels in Medieval Philosophy

Reviewed by Jeffrey Hause, Creighton University

2021.09.06

https://ndpr.nd.edu/reviews/free-will-and-the-rebel-angels-in-medieval-philosophy/

مدخل عام

التراث روح الأمة وذاكرتها وعنوان شخصيتها وعلامة حياتها فإنما الأمم تقاس عبقريتها بحماية تراثها فإن هي تنكرت لتراثها او عجزت عن حمايته فإنها ولا شك تكون قد انتقلت الى عداد الأموات

ومن المؤسف والمؤلم حقا  أن هذا الميراث الضخم من فلسفة وعلم وأدب وفن، وآثار و معمار، وتراث فلكلوري واجتماعي واقتصادي وهذا التراث الفكري الموجود في المخطوطات الذي خلفه لنا الأجداد، لا يجد العناية الكافية التي ينبغي أن نوجهها إليه في الوقت الحاضر، فميدان الاهتمام بالمخطوطات والباحثين العربية وتحقيق النصوص القديمة، لا يغري سوى فئة قليلة جداً من الدارسين، لأن العمل في هذا الميدان ربما لا يتيح لأصحابه ما تتيحه المجالات الأخرى من الصيت والشهرة، كما أن العمل في إحياء التراث ليس عملاً هيناً يسيراً، بل هو عمل شاق مرهق، تحف به صعاب لا تكاد تحصى (1) وعلى الرغم من ان  الدستور الجزائري في المادة 76 قد نص على ان  :" الحق في الثقافة مضمون وانه لكل شخص الحق في الثقافة بشكل متسا ٍو مع الآخرين وان الدولة تحمي التراث الثقافي الوطني المادي وغير المادي، وتعمل على الحفاظ عليه" الا ان واقع الحال لايتطابق مع ما قيل ويقال ضمن الدوائر التي تتكلم باسم الثقافة . لاسيما ونحن نرى ظاهرة الإهمـال، إهمـال المخطوطات وهي ظاهرة متعددة الأسباب ومختلفة باختلاف الدول العربية ومنها الجزائر، فهـي على العموم ظاهرة ملموسة. وهي إما إهمال من صاحب المخطوطة. أو إهمال في طريقة حفظ المخطوطة، أو تقصير من الدولة ومؤسساتها في غرس قيم الاعتزاز بالتراث عموما والمخطوطات على وجه التخصيص وحمايتها. فواقع المخطوطات في مؤسساتنا الثقافية أو المكتبات وهذا باعتراف اهل الاختصاص غالبا ما تنعدم فيها الفهرسة، وتقل فيها العناية بالمخطوطات، وكثيرا ما تكون عرضة للتمزق أو الإتلاف. (2)

من المفهوم الى الاشكال

يقول الأستاذ الدكتور / محمود فهمي حجازي:" المخطوطات كلمة بسيطة لكنها بالغة التعقيد، لأنه لا يوجد تخصص اسمه مخطوطات، بل هنـاك مجموعـة: تخصصات كالترميم والحفظ والخطوط والفهرسة والتحقيق، والتكشيف ذي الصلة بالتحقيق أو قد ينفصل عنه ثم التاريخ الثقافي. ولذلك هذه الأشياء أكثر تعقيداً مـن أن توصف بكلمة واحدة. إنها علم المخطوطات" وقد عرف المعجم الوسيط المخطوط بانه المكتوب بخط اليد أي انه كتاب لم يطبع بعد فهو لايزال بخط كاتبه او مستنسخ وكلمة المخطوط هي ترجمة لكلمة Manuscrit الفرنسية التي ظهرت الطباعة في مقابل كلمة مطبوع أما في اللغة انجليزية فيسمى Manuscript التي تعني في قاموس Colliers Dictionary الكتاب أو الوثيقة المكتوبة باليد، أو بالآلة الكاتبة، وخاصة قبل عصر الطباعة.وعلم صناعة المخطوطات باعتباره علما :عرفه أحمد شوقي بنين: (هو علم يبحث في تاريخ المكتبات وفي مصادر المخطوطات وفي الفهرسة وفي الوقفيات والتملكات وفي النساخة والمنسوخات وفي الجوانب المادية للمخطوط وفي كل ما هو خارج عن النص (Ex-libris). *ونحن من خلال هذا العمل الذي يغلب عليه الطابع الوصفي نسعى لاقتحام هذه الإشكالية التي اشارنا اليها في منطوق مقالنا من خلال التساؤلات التالية :

- ما واقع المخطوطات الجزائرية وما مصير ما هو مفقود منها؟

-هل نمتلك المعرفة الصحيحة والدراية اللازمة للمحافظة عليها؟ هل في عصر العولمة والكوكبة وثـورة الاتصـالات نمتلك القدرة على تأكيد هويتنا الثقافية والدفاع عن ميراثنا الحضاري واستراد ما سلب منا من مخطوطات؟ هل نمتلك كفاية الارتقاء الى ما يسمى علم المخطوطات؟ هل وفرنا الوسائل المادية والبشرية اللازمة للنهوض بالمخطوطات التي بين أيدينا وتسهيل الوصول اليها والاشتغال عليها تحليلا ونقدا؟ ما مدى قدرة مراكز المخطوطات في الجزائر على المحافظة على هذه المخطوطات وحمايتها؟

- وهل نحن نؤمن حقا بجدوى البحث عن هذا الكنز المفقود ونمتلك الإرادة الكافية للقيام بمهمة استرجاعه؟

هوية الجزائر الثقافية

يجب ان نعترف اننا سنعتمد في مقالنا هذا بشكل كبير على ما ذهب اليه الدكتور أبو القاسم سعد الله في مؤلفه الضخم تاريخ الجزائر الثقافي كفرش لموضوعنا ومادة تاريخية نؤسس عليها استنتاجاتنا فقد أشار رحمه الله الى انه كان هناك رصيد كبير من المكتبات قبل مجيء العثمانيين. فقد كانت تلمسان... عاصمة علمية مزدهرة بلغت فيها صناعة الكتاب، تأليفا ونسخا وجمعا، درجة عالية. وكذلك كانت بجاية وقسنطينة، بل إن إحدى الزوايا في مدينة وهران خلال القرن (15 م) كانت تضم مجموعة من الكتب العلمية والآلات الجهادية، فقد روى ابن صعد في (النجم الثاقب) أن زاوية إبراهيم التازي بوهران كانت تحتوي على الخزائن المملوءة بالكتب العلمية وآلات الجهاد وابن صعد التلمساني هو من علماء الجزائر البارزين عاش في القرن التاسع الهجري وترك جملة من المؤلفات منها مخطوط المناقب الذي تناول فيه عددا كبيرا من رجال التصوف، وروى التمغروطي في أواخر القرن العاشر:"  أن مدينة الجزائر كانت كثيرة الكتب وأنه لا يضاهيها بلد في ذلك من بلدان إفريقية، ولا سيما كتب الأندلس. وهذه هي عبارته :" والكتب فيها -مدينة الجزائر- أوجد من غيرها من بلاد إفريقية، وتوجد فيها كتب الأندلس كثيرا" وقد ذكر أيضا شارل فيرو الذي كتب عن المؤسسات الدينية في قسنطينة وعن العائلات الكبيرة بها، إن بعض هذه المؤسسات والعائلات كانت تحتفظ بمخازن من المخطوطات في حالة جيدة، وأن في هذه المخطوطات نوادر تعتبر فذة في موضوعها. وضرب على ذلك مثلا بمكتبة شيخ الإسلام بقسنطينة (عائلة الفكون) التي قال عنها إنها كانت غنية لا بالكتب الخاصة بالجزائر فقط، بل حتى بالكتب المتعلقة بالبلاد الإسلامية المجاورة ولقد كانت عائلة الفكون قد فازت بخطة إمارة ركب الحج منذ سنة 1638م ثم بوظيفة شيخ البلد في القرن الثامن عشر واستمرت في ورثتهم حتى سقوط المدينة في يد المحتلين الفرنسيين بل إلى غاية 1838. وقد روى العياشي في القرن الحادي عشر ) أنه شاهد بتكورارن (؟) بأعماق الصحراء مكتبة غنية يملكها الشيخ محمد بن إسماعيل وكانت تبلغ ألفا وخمسمائة كتاب) (3)

وفي سنة 1892 كتب المستشرق فانيان كلمة مؤثرة عن ضياع ما تبقى من مكتبة شيخ الإسلام الفكون، وروى كيف تفرقت وضاعت، وأن أحد الدائنين باعها بالمزاد العلني بطريقة وزن الورق القديم، وأن كيساً مليئاً بالكتب الثمينة قد يبع بثلاثين فرتكاً مما تضاءل عند مخطوطاتها ليصل إلى  2000کتاب

ولم يتبقى من أغنى مكتبة شرقية في الجزائر خلال العهد الاستعماري سوء 220 مخطوطة بعد الاستقلال وهي محفوظة بالمكتبة الوطنية الجزائرية حيث قام الباحث السنغالي حسن قوارزو بإحصائهاو فهرستها سن 1966 .

على أن الكثرة الغالية من المخطوطات الجزائرية تقلت إلى فرنسا عنوة يعد مصادرتها من قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر ابتداء من سن 1830م. والذي يرجع إلى مقدمة فهرس فانيان وهو أول قهر من مطبوع للمخطوطات الشرقية من عربية وتركية وفارسية محفوظة بالمكتبة الوطنية في الجزائر يجن أرقاما وأسماء لمخطوطات ضاعت من المكتبة، فقد ذكر من بين الوثائق الضائعة نحو 200 مجلد من بنتها سجلات القرارات الكايات والمئات من العقود والرسائل والوثائق الإدارية. وكما حدث الاعتداء على المكتبة الوطنية حدث أيضا على مكتبة جامعة الجزائر، وقد ثبت لأحد العلماء الجزائريين العاملين في حقل المكتبات والمخطوطات العربية خلافا لما شاع بعد الاستقلال أن مخطوطات مكتبة الجزائر لم تحرق مع غيرها من الكتب المطبوعة يوم احترقت المكتبة الجامعية في 7 جوان سن 1962 1962  حيث تم اتلاف و حرق أكثر من 400 ألف وثيقة و كتاب من مجموع 600 ألف، من طرف المنظمة الإرهابية: منظمة الجيش السري الفرنسية (OAS). كما تعرضت مكتبات المساجد وخزانات الزوايا والتكايا أكثر من غيرها للنهب والسرقة. وقد اتخذ هذا السطو أحيانا صيغة رسمية كما وقع لكتاب (العين) لعيد الرحمن بن خلدون الذي نقل من المكتبة الوطنية الجزائرية إلى المكتبة الأهلية في باريس.(4)

وقد شاعت حركة النسخ والاستنساخ في الجزائر حتى أنه كان لها اختصاصيون مشهورون. ومن شروطها جودة الخط وحسن اختيار الورق واتقان صناعة الوراقة والسرعة والمهارة في التوثيق والدقة في العمل وصحة النظر. وقد اشتهرت قسنطينة ببعض النساخ والخطاطين حتى قارنهم بعض الكتاب بابن مقلة في حسن الخط. ومن هؤلاء أبو عبد الله بن العطار الذي كان من أسرة شهيرة تولت الوظائف الرسمية في العهد العثماني. وقد عرف العطار بجودة الخط وربما اشتهر به على ابن مقلة الذي وضع أسس الخط العربي. وكان يقصده الخاص والعام في الوثائق والعقود. وكذلك اشتهر الشيخ إبراهيم الحركاتي. فقد كان مدرسا بالمهنة، ولكنه اشتهر أيضا بالنساخة وحسن الخط حتى أصبح مشهودا له بذلك.

وتشير المصادر إلى أنه كان بالجزائر خلال العهد العثماني بعض المشتغلين بصناعة الكتب عموما من وراقة وتجليد ونسخ وخط ونحو ذلك. فقد جاء في (منشور الهداية) أن الطالب محمد النقاوسي كان سمسارا في الكتب في قسنطينة وفي تلمسان اشتهر علي بن تجيرست بالاشتغال بالوراقة، كما كان يسمع الحديث في الجامع الكبير هناك. وروى ابن حمادوش عن نفسه أنه كان يشتغل بالكتب بيعا وتجليدا ونسخا في مدينة الجزائر وأنه كان يملك دكانا لهذا الغرض قبالة الجامع الكبير. وكان  في الجزائر سوق يدعى سوق الوراقين، ولعله هو سوق القيصرية الذي ذكر حمدان خوجة في (المرآة)أنه كان مخصصا لبيع الكتب وأن النساخين كانوا فيه بكثرة.

ولكن، أين ذهب كل هذا الكم الهائل من مخطوطات التراث؟

يقدر عدد المخطوطات العربية الموجودة في العالم بنحو مليوني مخطوط على أقل تقدير ويقدره الدكتور أبو السعود إبراهيم : بنحو ثلاثة ملايين مخطوط وفقاً لآخر إحصائية قامت بها هيئة اليونسكو التابعة لهيئة الأمم المتحدة .وما امتلكته الجزائر عبر تاريخها الثقافي يقدر بمئات الالاف على اقل تقدير.

فأين ذهب كل هذا التراث الضخم؟

أين هي مكتبة الجامع الكبير بالعاصمة التي تحدث عنها الرحالة والباحثون المسلمون؟ وأين مكتبات مساجد تلمسان وقسنطينة ومعسكر والبليدة والمدية وبجاية وعنابة ومازونة الخ؟ وأين الكتب التي حبسها صالح باي على مدرسته في قسنطينة، ومحمد الكبير على مدرسته في معسكر؟ لقد ضاعت وتبعثرت، ولم تعد تذكر في حوليات التاريخ. فعندما أراد ابن أبي شنب أوائل هذا القرن أن يصف ما بقي في الجامع الكبير بالعاصمة لم يذكر منها سوى بضع عشرات و في مكتبة شانتييه بفرنسا بعض بقايا مكتبة الأمير عبد القادر، أهداها الدوق دومال D'Aumale إلى بلدية هذه المدينة. وكان دومال هو قائد الجيش الذي استولى على الزمالة. ولكن ما (أهداه) دومال ليس سوى جزء ضئيل من مكتبة الأمير. وابن باقي المكتبات؟

ويضيف الدكتور أبو القاسم سعد الله في حديثه عن التاريخ الثقافي للجزائر انه اثناء البحث عن الزمالة كان الفرنسيون يستدلون عليها بأوراق الكتب والوثائق التي كانت تذروها الرياح وترمي بها في الأشجار. وكان بيربروجر وغيره صرحاء جدا حين أكدوا، وهم يحسبون أن التاريخ قد طوى تماما ولن يكشف عن أسراره، أن الضباط كانوا يشعلون غلايينهم بأوراق الوثائق في قصبة الجزائر سنة 1830، وأن الجنود كانوا يحسبون كل كتابة عربية قرآنا، فكانوا يحرقون الأوراق وما هي إلا وثائق ثمينة. ومع ذلك يتحدث الفرنسيون طويلا عن حرق العرب المسلمين لمكتبة الاسكندرية وينسون أنفسهم.

لقد اخذوا  معهم كل الوثائق والارشيف الذي جمعوه خلال حكمهم في الجزائر. وهو على ما قيل أطنان من الوثائق، والكثير منها مصنف، ولكن بقي أيضا الكثير غير مصنف ولا مفهرس. وهكذا حرموا الجزائريين إلى الآن من تراثهم الوطني، فالجزائري الذي يريد أن يبحث في حادثة أو شخصية أو ظاهرة اقتصادية أو مدينة من المدن ... عليه أن يحج إلى فرنسا وأن يقطع البحر لعله يحصل على معلومات عن أمر يتعلق ببلاده وجرى في بلاده، وربما قيل له ماذا تريد منه، وقد لا يبيحون له الاطلاع عليه أصلا رغم مرور الأجل الشرعي عليه.

لقد لعب الاستعمار دوراً خطيراً في تبديد الجزء الأكبر من التراث، ويتعجب المطلع على الكتب التي عنيت بحصر التراث وذكر أسماء المخطوطات من تلك الأعداد الهائلة التي نصت عليها، والتي ليس لها نظير في أية حضارة من حضارات العالم، ومنذ عصر التدوين.

ومن أسباب ضيع المخطوطات الإهمال والنهب والوباء. فقد روي أن الحاج أحمد قدورة وكيل ومفتي الجامع الكبير بالعاصمة كان مهملا لمكتبة الجامع، مما سمح لبعض العلماء بأخذ الكتب منها إلى بيوتهم وبيع بعضها خارج الجزائر. وقد تحدث ابن المفتي الذي وصف طابع وحياة العلماء خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر أنهم وجدوا عند الشيخ محمد بن ميمون، بعد وفاته، أكثر من أربعين كتابا من مكتبة الجامع الكبير. كما أخبر أنهم وجدوا عند الشيخ الطاهر بن الماروني عددا من الكتب التي أخذها من هذه المكتبة. وعند وفاة ابن الماروني أخذ ابنه الكتب إلى تونس وباعها وقبض ثمنها هناك. كما أخذ الشيخ عبد القادر بن الشويهت وعبد الرحمن المرتضى وابنه وغيرهم كمية أخرى من مكتبة الجامع. وهكذا تفرقت مكتبة الجامع الكبير نتيجة الإهمال وضعف الضمير.

ولعل أقسى تجربة مرت بها المكتبات هي التي عرفتها من الاحتلال الفرنسي وما رافقه من حروب وما نتج عنه من تخريب ومن هجرة كبار العلماء والأغنياء إلى الخارج مع بعض كتبهم ووثائقهم. وقد روى الفرنسيون أنفسهم قصصا مثيرة عما وقع لمكتبات قسنطينة ومعسكر وتلمسان وغيرها. والذي يطلع على تقارير بيروبروجر وديسلان المعاصرين للاحتلال ثم كتابات شارل فيرو ولالوي وأضرابهما يصاب بالاندهاش والصدمة والأسف. كما أن الذي يعرف ما وقع لمكتبة الأمير عبد القادر أثناء حادثة الزمالة لا يستغرب ما وقع لمكتبة الشيخ حمودة الفكون وباش تارزي في قسنطينة، ثم ما وقع لمكتبات الجامع الكبير وغيره من المساجد في هذه المدينة وفي معسكر وتلمسان وبجاية والعاصمة وعنابة، ومكتبات الزوايا ثم المكتبات العائلية في مختلف أنحاء القطر. وقد نفي المفتي ابن العنابي، من العاصمة فحمل معه بعض كتبه إلى مصر، وهي لا تزال إلى الآن تحمل ختمه وخطه. كما هاجر الشيخ الصديق بن يحيى من نواحي قسنطينة إلى تونس ومعه كل الوثائق التاريخية.

أما الكتب التي أرسلها الجنود الفرنسيون هدية إلى مكتباتهم المحلية في فرنسا فلا حصر لها .وبعد حوالي خمسين سنة من الاحتلال وجد السيد فانيان بقايا مكتبة الشيخ الفكون، التي كان يضرب بها المثل في الكثرة والتنوع والصيانة، تباع كما قال بطريقة مؤسفة وهي طريقة ميزان الورق القديم، وذلك حين اضطر بعض المدانين من العائلة إلى بيع كمية ضخمة من الكتب بثلاثين فرنكا فقط.

وفي سنة 1836 م كتب ادريان بيروبروجر إلى صديقه وأستاذه شامبليون فيجياك يخبره عن مغامرته في تلمسان ومعسكر لجمع المخطوطات العربية. فقال إنه تنكر في زي عسكري ورافق الحملة إلى معسكر لأنه قد سمع أن في تلمسان ومعسكر مكتبات تحتوي على مخطوطات (كثيرة جدا، بعضها عظيم الأهمية)، كما أخبره أنه قد جمع عددا كبيرا من المخطوطات (الشرقية) من معسكر وعاد بها إلى مدينة الجزائر في صندوق حمله على ظهر جمل. وفي الطريق مات له الجمل وضاعت الكتب ولم يحمل منها إلا ما رآه نادرا جدا واستطاع حمله على حصانه.

أما حظه في تلمسان فقد كان أحسن، حسب تعبيره. فقد جمع منها ومن ضواحيها (أكثر من مائتي مخطوط في مختلف الموضوعات كما كان حسن الحظ أيضا في حملها إلى مدينة الجزائر إذ استطاع نقلها في سفينة بخارية من وهران. ومما يؤسف له أن هذا التراث الجم الغفير، تفرق في جميع انحاء العالم، نتيجة الكثير من العوامل التاريخية والاقتصادية والسياسية والفكرية التي مر بها الوطن العربي، وما تعرضت له الأمة العربية من هجمات استعمارية ومحن فكرية وثقافية، وقد كان للبعثات التبشيرية والتجارية والسياحية والرحالة والغزاة المستعمرين، الأثر الكبير في جمع ما تضمه بلادنا من نفائس المخطوطات ونوادرها. وتهريبها إلى الخارج، بحيث أصبحت مكتباتهم ومتاحفهم تزخر بآلاف المخطوطات.

- ولكن ما هو حال ما بقي من المخطوطات في الجزائر؟

العقبات التي تواجه المشتغلين بفهرست المخطوطات.

يشير الدكتور عبد الكريم العوفي في كتابه صناعة فهرسة المخطوطات في الجزائر (من 1431م إلـى 1830)، الى ان العمل في حقل المخطوطات، ولاسيما فهرسة المخطوط من أصعب الأعمـال، وذلك لما يمتاز به عن غيره من خصوصيات، في نواح عديدة يعرفها، الخبراء في هذا المجال. والمفهرس يحتاج إلى ثقافة واسعة، وإحاطة بشتى فنـون المعرفة الإنسانية، ومهارات خاصة؛ مستندا الى الأستاذ محمد عصام الشنطي في قوله " بضاعة فهرسة المخطوطات العربية، بضـاعة نـادرة وصـعبة،تحتاج إلى شغف، وأناة، وصبر، وثقافة تراثية واسعة وخبرة تراثية طويلة"  وقد حدد الدكتور عبد الكريم العوفي عشرة عقبات :

1- ليس في الجزائر عامة ثقافة تراثية -ولاسيما في الوسط التعليمي - تشـعر الناس بالقيمة العلمية والحضارية للمخطوطات، على اختلاف المجالات المعرفيـة التي تحملها، والمشتغلون في هذا الحقل عندنا ينعتون بأصحاب الكتب الصـفراء، وبالسلفيين . 02*  كما هو الحال في البلاد العربية عامة أن العـاملين فـي حقـل المخطوطات والفهرسة هم أساتذة اللغة العربية وآدابها، وقلة أخرى من أساتــذة التاريخ، وغياب أساتذة المجالات الأخرى عن الميدان 03*  انعدام كلي لمركز يعنى بإحيـاء التراث ؛ تعريفـا، وصـيانة، وحفظـا، وفهرسة، وتحقيقا، ودراسة، ونشرا، وهذا جانب سلبي أثر على تراث البلاد عامة، 4 - كثرة المخطوطات وتوزعها في المراكز المختلفة(عامة وخاصـة)، وفـى أنحاء متفرقة من البلاد، مما صعب مهمة الباحثين في الوصول إليها بسـرعة، إذ تبعد مسافات طويلة تزيد عن (1500) كلم في المتوسط العام، وقد أصبح التنقل في العقود الأخيرة صعبا، ثم أن الباحث يقوم بمجهودات شخصية، ونـادرا مـا يلقـى دعـما مـن الجهات الرسمية المسؤولة 05* من العوائق التي تعترض الباحث صد مالكي المخطوطات مـن يقصـدهم وعدم تمكينهم من الاطلاع على المخطوطات، خوفا على موروثهم -كما يعتقدون - فالكثير يجهل القيمة الخطيرة للمخطوط في نقل العلم، وتنوير العقول 07* أغلب الفهارس التي أعـدها الطلبة بإشراف أساتـذة متخصصين، اشتكوا من انعدام الخبرة لديهم في التعامل مـع المخطوطات، وهـذا الأمـر لا يخـص الطلبة، بل هو عام .فقد ذكر الطلبة أنهم يبقون أسابيع في فك رموز بعض المخطوطـات لصـعوبة قراءة الخط المغربي والأندلسي وكذلك الح، ال بالنسبة لتحديد موضوع المخطـوط، فهم يجدون صعوبة في التمييز بين علم وآخر لفقر معلوماتهم، كما تطرح مشـكلة، المجاميع وتحديد عنوان المخطوط واسم المؤل، ف ؛ إذ الطالب يصعب عليه التمييز بين الاسم واللقب والكنية والنسبة إلى الجد أو البلد أو الحرفة. وقل ذلك عن تحديـد، نوع الورق والتجليد وتحديد تاريخ النسخ 07* لما كانت أغلب المخطوطات-باستثناء مخطوطات المكتبة الوطن غيـرمعالجة فإن المفهرسين يجدون صعوبة كبيرة في قراءة بعض المخطوطات التي لم تفتح أوراقها منذ مئات السنين، فهناك عوائق صحية تحول دون رغبـة المفهـرس والباحث عامة . 08* عدم تشجيع الجهات المسؤولة العاملين في هذا الحقل، يعد عامل تثبيط للعزائم09* خلو المكتبات العامة والخاصة من الفهارس المنجزة للمخطوطات العربية فـي المراكز العلمية، في العالم العربي، وفى بعض البلدان الأوربيـة، التـي تمكـنهم مـن الوقوف على النسخ الأخرى للمخطوطات الموصوفة، وكذلك المصادر والمراجع التـي تساعد على إعداد مداخل المؤلفين والعناوين، باستثناء المكتبة الوطنية10* عدم طبع الفهارس المنجزة في المكتبة الوطنيـة، وفـى غيرهـا مـن الأماكن أمر محير، لأن بقاءها في أماكنها دون أن يستفيد منها البـاحثون خـارج، الجزائر كأنها غير موجودة، كما أن المفهرس في الجزائر يحتاج إليها فيما ينجزه . من فهارس وهذه واحدة أيضا من الصعوبات التي يلقاها المفهرسون.

كيف السبيل الى تجاوز هذه العوائق؟

وللتغلب على بعض هذه العقبات أقترح عبد الكريم العوفي الآتي :

1-  دعوة الجهات الرسمية في الدولة إلى إشاعة الثقافة التراثيـة بـين عامـة الناس وخاصتهم، وذلك عن طريق وسائل الإعـلام المختلفـة، وإقامـة نـدوات وملتقيات فكرية حول المخطوطات في المراكز المختلفة، ودعوة الخبراء من معهد المخطوطات (الهيئة المشتركة لخدمة التراث)، أو من مؤسسات أخرى لها خبرات، في هذا الحقل ليقدموا خلاصة تجربتهم في الموضوعات المعالجة .

2- إنشاء مركز لإحياء التراث على غرار ما هو الحال في عدد من البلـدان العربية وتقام فيه دورات تدريبية، حول الفهرسة والترميم والحفظ والتحقيق وهذا هو السبيل الأمثل لتكوين الإطارات المدربة على الفهرسة العلمية الدقيقة وهو مـا . تفعله بعض البلدان العربية.

3- دعوة مالكي المخطوطات في المراكز المختلفة إلى تقديم العون للبـاحثين، قصد الكشف عن كنوز المعرفة التي تحتفظ بها مكتبـاتهم وزوايـاهم لفهرسـتها، وتمكين الباحثين من الانتفاع بها.

4- ضرورة طبع الفهارس المنجزة على اختلاف أنواعها، وتوزيعهـا علـى المراكز العلمية المعنية بالتراث في البلدان العربية والإسلامية، وكذلك في البلـدان  الغربية وذلك في إطار التبادل العلمي، لأن ذلك يكون مـدعاة لجلـب الفهـارس المنجزة في تلك البلاد .

5- إعادة تجميع وترتيب الفهارس المنجزة وطبعهـا فـي أجزاء وتوزيعها على المكتبات الوطنية ومراكز البحث في الجامعـات للاسـتفادة منها وكذلك الحال بالنسبة لفهارس المخطوطات الإباضية في غرداية .

6- المرجو من المكتبة الوطنية ووزارة الثقافة والاتصال العمل علـى تجميـع هذا التراث المتفرق هنا وهناك، وتوفير وسائل صيانته وحفظه في أمـاكن لائقـة، حتى تضمن له أداء وظيفته.

7- إدخال مادة علم المخطوطات في مناهج التعليم بمعاهـد علـم المكتبـات، ليتعرف الطلبة على قضايا المخطوطات، وإذا أمكن إنشاء دبلوم في الفهرسة .

8- القيام بمسح شامل لأهم المراكز التي تحتفظ بالمخطوطات، ومحاولة جلب وسائل علاجها في مرحلة أولية، في انتظار مرحلة الفهرسة .

9- استخدام الوسائل التيكنولوجية الحديثة في الفهرسة، كالحاسوب والأقـراص، المليزرة والماسح الضوئي . وغيرها، نيتوالأنتر، والهارديسك.

***

................

الهوامش

1- يمكن العودة الى ملف مجلة الفيصل حول التراث العدد36

02- فهرسة مخطوطات المكتبة الوطنية الجزائرية في أعمال المستشرقين الفرنسين، صورية متاجر

جامعة سيدي بلعباس.

* علم صناعة المخطوطات اطلالة على مفهومه وموضوعاته الأستاذ داودي خليفة.

3- انظر تاريخ الجزائر الثقافي، الجزء الخامس، أبو القاسم سعد الله

4- فهرسة مخطوطات المكتبة الوطنية الجزائرية في أعمال المستشرقين الفرنسين، صورية متاجر

جامعة سيدي بلعباس.

5- صناعة فهرسة المخطوطات في الجزائر (من 1431م إلـى 1830)، لصاحبه أ د عبد الكريم العوفي. وهو أسـتاذ فـي جامعـة باتنـة، وجامعة أم القرى بالمملكة العربية السعودية، متخص في علم التّحقيق.

مع بداية القرن الأول للهجرة، بدأ الصراع بين القدريّة والجبريّة... بين من قال بوجود حريّة الإرادة الإنسانيّة، وبين من قال بعدم وجودها، هذا وقد كان للسياسة في هذا الصراع الدائر بين أهل القدر وأهل الجبر، الدور الكبير في تعميق الخلاف بين أصحاب التيارين، والذي ظل - الدور السياسي – قائماً بالحفاظ عليه حتى هذا التاريخ. فهذا "عبد الله بن عباس" يقول بالمنهج السلفي، وهو من عاصر الرسول ومارس السياسة في عهد "علي بن أبي طالب" حيث كان واليّاً على الكوفة، ثم انقلب على "علي" لمصلحة "معاوية" والبيت الأموي، وهو من روي عنه قوله: (كان يقال عليكم بالاستقامة والأثر وإياكم والتبدع). (1). وهذا الموقف السلبي أيضاً تجاه أهل الرأي، نجده عند ردِّ الخليفة "مروان بن الحكم" على القدريّة من المعتزلة عندما راحوا يقولون له اتقي الله بالعباد، فخاطبهم: (إنكم تأمرونا بتقوى الله وتنسون أنفسكم، والله لا يأمرني أحد بعد اليوم هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه.).(2). وجاء هذا القول بعد أن نبه "مروان" "الحسن البصري" عن القول بالقدر برسالة جاء فيها: (... لقد بلغ أمير المؤمنين عنك قول في وصف القدر ولم يبلغه مثله عن أحد ممن مضى، ولا نعلم أحد تكلم به ممن أدركنا من الصحابة رضي الله عنهم، كالذي بلغ أمير المؤمنين عنك.).(3). وكذلك في رده على أهل المدينة ممن راح يضع الأحاديث ضد البيت الأموي بعد أن أوقف العمل بالرأي، حيث يقول: (لأن أحق الناس أن يلتزم الأمر الأول، وقد سالت علينا أحاديث من قبل هذا المشرق لا نعرفها ولا نعرف منها إلا قراءة القرآن، فالتزموا ما في مصحفكم الذي جمعكم عليه الإمام المظلوم. (4). أي عثمان بن عفان.

أما مسألة تجذر السلفيّة وتبلورها في بعديها الفكري والسياسي لاحقاً، فكانت مع الخلفاء العباسيين بعد أن ضعفت سلطتهم أمام الأعاجم في إدارة شؤون الخلافة والرعيّة، حيث راح الأعاجم يتدخلون في تعيين الخليفة أو عزله، بل تحول الخلفاء إلى ببغاوات في قفص الخلافة كما يقول أحد شعراء عصر ضعف الدولة العباسيّة في عهد حكم الأتراك: (خليفة في قفص... بين وصيف وبغا. يقول ما قالوا له... كما يقول الببغا.)، الأمر الذي فسح في المجال واسعاً لتأثيرهم على قرارات الخلافة السياسيّة والإداريّة إضافة لظلمهم الرعيّة، وهذا يتطلب بالضرورة شرعنة سلطاتهم وما يقومون به، فوجدوا في الفكر السلفي الوثوقي ما يبرر لهم كل ذلك، وفي مقدمة هذه الشرعنة جاء إصدار الفتاوى والكتب التي تبرر وصول الخليفة إلى السلطة حتى ولو كان أمر الموافقة يقوم على موافقة شخص واحد من الرعيّة، أو الوصول إلى هذه الخلافة بالغلبة. كما هو الحال عند "بدر الدين بن جماعة" في كتابة (تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام). أو كتاب 0الأحكام السلطانية) "للماوردي"، أو (الأحكام السلطانية) "لأبي يعلى الفراء" وغيرها من الكتب التي وضعت خدمة للسلطان قبل الرعيّة.

ومع توسع الفتوحات الإسلاميّة، ودخول شعوب كثيرة تحت مظلة الإسلام والخلافة الإسلاميّة معاً، فقد أعطي لهذه الشعوب  المجال واسعاً أيضاً، لتُدخل الكثير من مفردات ثقافتها وعقائدها في صلب العقيدة الإسلاميّة والتشريع الإسلامي وخاصة ديانات الفرس القديمة مثل المانويّة والزردشتيّة، وتعاليم الروانديّة والمقنعيّة وغيرها الكثير، وذلك خدمة لمصالح سياسيّة وقوى اجتماعيّة محددة وجدت في الدين الوسيلة الأكثر فاعليّة لتحقيق تلك المصالح، وخاصة مصالح القوى الشعوبيّة، الأمر الذي ساهم في كثرة الفرق والطوائف الإسلاميّة بفعل هذين العاملين، السياسة والفتوحات، وهذا ما جعل الخليفة العباسي "المهدي" في عصر القوة العباسي كما يقول السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء) يوجد ديوانا خاصاً لمحاربة كل من راح يدس على الدين الإسلامي ويحاول إدخال مفاهيم دينيّة غير إسلاميّة على العقيدة الإسلاميّة، وقد عين عليه رجل سمي (صاحب الزنادقة)، مهمته التأكد من صحة عقيدة المسلم، ومن تُثبت عليه التهمة بالزندقة كان يقتل. والزندقة هنا راحت تتوسع في دلالاتها ليدخل في مضمارها ليس الذين حاولوا إدخال تعاليم دينيّة كالزردشتية والمانويّة وغيرهما فحسب، بل أدخل في عالمها من أعطى للعقل والحريّة الإنسانيّة اعتبارهما في تفسير النص الديني وتأويله خدمة لمصالح الناس أو تحريضهم ضد الخلفاء وكشف فسادهم.

مع سيطرة الأتراك على الخلافة في زمن المعتصم،  بدأ الفكر السلفي يُفرض بقوة على مسلمي الخلافة، وخاصة في زمن الخليفة " الواثق" الذي وصل إلى الخلافة بإرادة الأتراك، وهو الذي وضع تاج الخلافة على رأس القائد التركي " إشناس" وسلمه مقاليد إدارة شؤون الخلافة. وعند استلام "المتوكل" طُلب منه أن يصدر فرماناً عام"232هـ" يأمر الناس فيه بالتسليم والتقليد بالفكر السلفي الجبري، ورفض العقل أو القول به، بعد أن ساد استخدامه زمن المأمون والمعتصم، وأمر الشيوخ والمحدثين، بالحديث في السنة والجماعة، واعتماد النقل على حساب العقل للوقوف بوجه القدريّة والتصدي لهم. وهنا راحت الأمور تأخذ منحىً معاديّاً للعقل وحريّة الإرادة الإنسانيّة، وخاصة في عهد الخلفاء  العباسيين اللاحقين للمتوكل، كما جرى في عهد الخليفة "المعتضد" عام "278هـ"،عندما منع بيع كتب الفلسفة والمنطق.(5).

مع فتح مظلة هذه الأجواء المشحونة بالفساد والظلم والقهر والثورات ضد الخلافة وتغييب العقل، أخذت السلفيّة الفكريّة طابعاً رسميّاً محميّاً من الدولة/الخلافة، وراحت تُشكل لمن يقول بالرأي/العقل، محاكم تفتيش شبيهة بمحاكم الخليفة "المهدي"، ولكنها هنا تعمل لمصلحة الأتراك وتبرير سلطاتهم كأمر مقدر من الله، دون أن ننكر بأن هناك نيات حسنة لدى بعض الفقهاء ورجال الدين ممن اتخذ الموقف السلفي الفكري هذا سلاحاً ضد الفوضى الفكريّة والفقهيّة التي بدأت تسيء للدين وتعمل على تشويهه من قبل الحركات الشعوبيّة، مع وصول العباسيين إلى الخلافة وتدخل الأعاجم في إدارة شؤونها، وهناك أيضاً من ساهم في تبني الفكر السلفي وتعميقه في الساحة الفقهيّة، خدمة لمصالح أنانيّة ضيقة سياسيّة أو ماديّة أو معنويّة، وهم الأكثريّة.

على العموم إن العقليّة السلفيّة هي عقليّة وثوقيّة، تعمل على تضخيم الانفعال والعاطفة والشعور والوجدان والإحساس لدى المسلم، على حساب العقل والمنطق والتمييز والإدراك، وهي عقليّة تقطع كل صلة بالعالم المعيوش، وتكفر كل ما هو حديث وإبداعي في حياة الناس بكل مستوياتها، طالما هي بعيدة عن حياة السلف، وبالتالي يجب محاربة هذه الحياة المعاصرة والنضال من أجل تجسيد أو تطبيق قيم ومثل الفكر السلفي ومنهجه. ومن هذا المنطلق أو المنظور الماضوي، اعتمدت الفقه وسيلة أساسيّة لخدمة أهدافها. أي (علم الفروع). أي المنظومة الفقهيّة لأهل الحديث، وهي منظومة معاديّة أو مناهضة للعقل وعلم الكلام، وقد كفرت وزندقت كلَ من اشتغل على المنظومة العقليّة وحريّة الإرادة، لذلك فإن من أولى أهدافها، تحريض المشاعر والعواطف وإلهابها، وجعلها بديلاً عن العقل في تقويم حياة الفرد والمجتمع، أو تقبيح وتحسين أفعالهم وتحديد ما عليهم أن يفعلوه وما عليهم أن يتركوه، مع اعتبار الماضي وحده هو المنطلق الوجودي والمعرفي لكل ما يعيشه الإنسان، وما سيأتي لاحقاً  في حياته.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من  سورية

................................

المراجع

1 – عبد الجواد ياسين- العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ- المركز الثقافي العربي- ط1- 1998- ص 157. \

2- عبد الجواد ياسين- العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ- المركز الثقافي العربي- ط1- 1998- ص 157.

3- المرجع نفسه- ص157.

4 – المرجع نفسه – ص 158

5- د0 حسن إبراهيم حسن- تاريخ الإسلام –ج1- دارالجيل – بيروت ط3- 1991- ص 23.

 

التجريد الصارخ من الإنسانية

فيما يلي الجزء الثاني من الدراسة التي قام الباحثان "إميل برونو" Emile Bruneau من جامعة بنسلفانيا University of Pennsylvania، و"نور كتيلي" Nour  Kteily من جامعة نورث وسترن Northwestern University بإنجاز دراسة مهمة شملت عينات كبيرة في أربع دول أوروبية: جمهورية التشيك (1,307)، والمجر (502)، وإسبانيا (1,049)، واليونان (1,049)، واليونان (1,307). = 934).

في الدراسة سعى الباحثان إلى فحص مدى التجريد الصارخ من الإنسانية وارتباطه بالعداء ضد اللاجئين في إسبانيا أيضاً، وهي دولة في أوروبا الغربية سبق أن أظهر الإسبان مواقف متسامحة نسبياً بين المجموعات في دراسات سابقة. تم بتوظيف عينة عشوائية عبر الإنترنت مكونة من 1188 مشاركًا إسبانيًا يمثلون كل إسبانيا تقريباً من حيث الجنس والعمر والمنطقة الجغرافية، وإن كانت ممثلة بشكل زائد قليلاً فيما يتعلق بالأفراد والنساء في منتصف العمر، باستخدام شركة استطلاع إسبانية "Netquest".

بالنسبة لمقاييس الحرارة التي يراجعها النظراء هنا مع المجموعات المستهدفة التالية: الإسبان، واللاجئون المسلمون والمسلمين، والغجر، والأفارقة، والأتراك، والمسيحيين، والأمريكيين، والفرنسيين، والألمان، والسويديين.  كما هو الحال في الدراسة تم تقييم المقياس السلوكي المعادي للاجئين مع تضمين الالتماس. ركزت التحليلات أولاً على المستويات المتوسطة للتجريد من الإنسانية ووجهة النظر من المواقف السياسية تجاه اللاجئين المسلمين. وكما هو الحال مع العينة التشيكية، تم تصنيف اللاجئين على أنهم أقل إنسانية بشكل ملحوظ من المجموعة: فقد صنف الإسبان اللاجئين المسلمين على أنهم أقل بـ 15 نقطة على مقياس الصعود من الإسبان.

تم تجريد اللاجئين من إنسانيتهم بشكل ملحوظ أكثر من جميع المجموعات التي تم فحصها باستثناء الأفارقة والمسلمين والغجر الذين نالوا الدرجات الأدنى. وعلى عكس النتائج التي تم الحصول عليها من جمهورية التشيك والمجر، كان الشعب الإسباني يعارض عموماً مناهضة اللاجئين. وظهر أكثر استعداداً بشكل ملحوظ لتقديم التماس لصالح مساعدة اللاجئين مقارنة برفضها. وكان الإسبان على استعداد لاستقبال ما يقرب من 20.000 لاجئ في المتوسط.

عند فحص العلاقة المتبادلة بين تجريد اللاجئين المسلمين من إنسانيتهم والتعاطف، لاحظنا أن تجريد اللاجئين المسلمين من إنسانيتهم كان مرتبطاً بشكل سلبي ضعيف مع سمة القلق التعاطفي. وبما يتوافق مع الدراستين في التشيك والمجر، ارتبط التجريد الصارخ من الإنسانية بقوة عند الإسبان مع كل من التحيز ومع المحافظة السياسية، والأهم من ذلك وجد الباحثان في سلسلة من الانحدارات المتزامنة أن التجريد من الإنسانية كان مرتبطاً بشكل فريد بكل من مقاييس النتائج، بما في ذلك المواقف (دعم السياسات المناهضة للاجئين، ورفض طالبي اللجوء اللاجئين) والسلوك (التوقيع على عريضة لدعم اللاجئين). بشكل منفصل.

في تحليل تصنيفات التجريد الصارخ من الإنسانية والتحيز تجاه المجموعة الداخلية مقابل كل مجموعة من المجموعات الخارجية المستهدفة، تبين أن الإسبان لم يجردوا الأمريكيين والفرنسيين من إنسانيتهم بالنسبة إلى المجموعة الداخلية، بل قاموا بتجريد مجموعتهم بشكل كبير من إنسانيتهم بالنسبة للألمان والسويديين. وعلى النقيض من ذلك، أعرب المشاركون الإسبان عن مستويات كبيرة من التحيز تجاه المجموعات الفردية (بما في ذلك الألمان والسويديون. ومن خلال تسليط الضوء على التمييز بين التحيز والتجريد الصارخ من الإنسانية، تم تصنيف الألمان، على سبيل المثال، أعلى بثلاث نقاط من المجموعة الإسبانية على مقياس التجريد الصارخ من الإنسانية، ولكن تم تصنيفهم أقل بمقدار 22 نقطة من حيث الدفء.

 واتساقاً مع العمل السابق، كان الإسبان في العينة بشكل عام داعمين للاجئين المسلمين مقابل معاديين لهم. على الرغم من ذلك، وجدنا أن اللاجئين المسلمين تم تصنيفهم على أنهم أقل إنسانية بكثير من الإسبان، والأهم من ذلك، أن التجريد الصارخ من إنسانيتهم كان مؤشرا هاماً على المواقف والسلوكيات العدائية المناهضة للاجئين، حتى عند السيطرة على التحيز، وسمة التعاطف، والمحافظة (كل منهما والتي تنبأت بشكل فريد ببعض النتائج على الأقل أيضاً). لذلك كانت النتائج متوافقة مع دراسة التشيك والمجر في توثيق الدور المهم والفريد للتجريد الصارخ من الإنسانية. تم ملاحظة وجود تناقض بين نمط التجريد من الإنسانية والتحيز عبر المجموعات، حيث يشعر الإسبان بالدفء تجاه مجموعتهم أكثر من أي شخص آخر، لكنهم ينسبون مجموعات أخرى معينة نفس القدر من الإنسانية - أو أكثر من ذلك - من المجموعة.

وعلى غرار العينة الإسبانية، صنف اليونانيون اللاجئين المسلمين على أنهم أقل بمقدار 15 نقطة على مقياس الصعود من اليونانيين. كما هو مشابه بشكل لافت للنظر للعينة الإسبانية، تم تجريد اللاجئين من إنسانيتهم بشكل أقل بكثير من المسلمين. وبمقاييس النتائج، كان اليونانيون في المتوسط على استعداد لاستقبال ما يقرب من 10.000 لاجئ. وعلى غرار الإسبان (وعلى النقيض من المجريين والتشيك)، كان اليونانيون يعارضون بشكل عام سياسات مكافحة اللاجئين. وبشكل ملحوظ أكثر استعداداً لتقديم التماس للحصول على مساعدة اللاجئين أكثر من معارضتها. كما هو الحال مع المجر والتشيك فإن تجريد اللاجئين المسلمين من إنسانيتهم كان مرتبطا بشكل سلبي ضعيف مع كل من الاهتمام التعاطفي. ويرتبط بقوة أكبر مع كل من التحيز والأيديولوجية السياسية.

 على الرغم من أن العينة اليونانية شملت نسبة أكبر من النساء مقارنة بعامة السكان، إلا أنه تمت ملاحظة عدم وجود فروق كبيرة بين الجنسين في تصنيفات الصعود اللاجئون المسلمون.

وعلى غرار العينة الإسبانية، وجدنا أن اليونانيين لم يجردوا الأمريكيين من إنسانيتهم، بل وجردوا أنفسهم من إنسانيتهم. المجموعة بالنسبة لكل من الفرنسيين والسويديين. على النقيض من ذلك، وبما يتوافق مع العينات الأخرى، أبلغ اليونانيون عن مستويات كبيرة من التحيز لجميع المجموعات الخارجية (على سبيل المثال، تصنيف السويديين أقل بأكثر من 16 نقطة من اليونانيين في الدفء على الرغم من تصنيفهم على أنهم "متطورون" بمقدار 3 نقاط أكثر من اليونانيين). تقدم هذه النتائج معاً دليلاً على الارتباط المستقل للتجريد الصارخ من الإنسانية مع المواقف والسلوكيات المرتبطة بشكل مباشر برفض وحجب الدعم عن اللاجئين المسلمين في جميع أنحاء أوروبا.

في التحليلات المقارنة للتحليلات الاستكشافية، سعى الباحثان إلى مقارنة النتائج عبر البلدان التي تم أخذ عينات منها. ولاحظوا أن قدرتهم على إجراء مقارنات منهجية بين البلدان التي قاموا بفحصها كانت محدودة بطرق معينة ينبغي وضعها في الاعتبار. على سبيل المثال، لم تكن التركيبة السكانية للعينات (على الرغم من حجمها الكبير وتمثيلها النسبي) متطابقة، وكان لديهم عدد محدود من العناصر المتطابقة عبر البلدان، وقاموا بجمع البيانات التشيكية في وقت لاحق مقارنة بالدول الثلاثة الأخرى.

في جميع أنحاء العالم، تم فحص مقاييس الاهتمام التي تم تقاسمها عبر العينات الأربع: التجريد الصارخ من الإنسانية، والتحيز، وقياس السلوك (التوقيع على عريضة مؤيدة للاجئين).

استخدم الباحثان نظام تحليل التباين (ANOVA) أحادي المتغير مع اختبارات t لفحص الاختلافات بين المجموعات، مع قيمة p مصححة بواسطة Bonferroni بقيمة 0.0083 لتحديد الأهمية (أي تقسيم عتبة 0.05 على ستة لحساب اختبارات المقارنة الستة). بالنسبة لقياس نتائج العريضة الترتيبية، تم استخدام اختبار Kruskal-Wallis Htest مع اختبارات Mann-Whitney U لإجراء مقارنات زوجية.

كان نمط النتائج واضحاً ومتشابهاً بشكل لافت للنظر بالنسبة لجميع المقاييس: بالنسبة للتجريد الصارخ من الإنسانية، كشف تحليل التباين عن اختلافات كبيرة عبر الدولة. أظهرت المقارنات الزوجية أن كان تجريد اللاجئين المسلمين من إنسانيتهم أعلى بين التشيك مقارنة بالمجريين. وأعلى بين المشاركين من كلتا المجموعتين مقارنة بالإسبان.

ومن المثير للاهتمام، أن مستويات التجريد من الإنسانية كانت قابلة للمقارنة بين الإسبان واليونانيين. بالنسبة للتحيز، كان هناك أيضاً تأثير رئيسي مهم. لاحظ الباحثان مستويات أعلى بكثير من التحيز بين التشيك من المجريين. ومستويات أعلى من التحيز بين هاتين المجموعتين مقارنة بالعينة من الإسبانية أو اليونانية.

كانت مستويات التحيز التي أبلغ عنها الإسبان واليونانيون متشابهة مرة أخرى، كما هو الحال مع التجريد من الإنسانية والتحيز، لاحظنا اختلافات كبيرة في توقيع الالتماسات عبر الدول. أظهر التشيكيون والهنغاريون ميلاً معادلاً للتوقيع على العريضة المعارضة لمساعدة اللاجئين. لم يلاحظ اختلافات كبيرة بين الإسبان واليونانيين للتوقيع لصالح تقديم مساعدات للاجئين.

كانت الارتباطات بين التجريد من الإنسانية وتوقيع العريضة متشابهة بالنسبة للإسبان واليونانيين. باختصار، أظهر التشيكيون والهنغاريون مستويات متوسطة أكبر من التجريد من الإنسانية، والتحيز، والسلوكيات المناهضة للاجئين مقارنة بالإسبان واليونانيين. علاوة على ذلك، كان الارتباط بين التشيك والمجريين بين التجريد من الإنسانية والتوقيع على العرائض العدائية أكثر وضوحاً منه بين اليونانيين. لم تختلف العينات من الإسبان واليونانيين عن بعضها البعض في أي من هذه المقاييس. أشارت العينة من التشيك إلى قدر أكبر من التجريد من الإنسانية والتحيز تجاه اللاجئين المسلمين مقارنة بالعينة من المجريين، ولكن حقيقة أن البيانات التشيكية تم جمعها في وقت لاحق مقارنة بالبيانات المجرية تجعل من الصعب التأكد مما إذا كان هذا يعكس اختلافًا حقيقياً بين هاتين المجموعتين، أو يوحي بذلك. هناك أدلة لصالح فكرة أن المواقف المعادية للأجانب ربما استمرت في الارتفاع في أوروبا الشرقية (وربما في أماكن أخرى) منذ ذروة أزمة اللاجئين.

وأخيراً، يجب ملاحظة أن الباحثان جمعا بيانات من عينة أوروبية تمثيلية كبيرة أخرى (العدد = 1,160) في الدنمارك في يناير 2021 - قبل 9 أشهر تقريباً من العينات المأخوذة من المجر وإسبانيا واليونان. نظراً لأن المسح الذي تم إجراؤه في الدنمارك سأل عن "المسلمين" وليس "اللاجئين المسلمين"، فإن الباحثان لم يدرجوه في النص الرئيسي في بالتحليلات الرئيسية، ولكنهم قاموا بتضمين هذه البيانات في المواد التكميلية لديهم.

 لاحظ الباحثان أن مستوى تجريد المسلمين من إنسانيتهم كان مرتفعاً جداً في الدنمرك، حيث حصل المسلمون على تصنيف أقل بمقدار 23 نقطة من الدول الاسكندنافية - وهو أقل بكثير من مستوى تجريد المسلمين من إنسانيتهم.

إن خلفية هذا البحث واحدة من أكثر الحالات دراماتيكية. شهد العصر الحديث هجرة جماعية بشرية، حيث فر ملايين الأفراد، معظمهم من المسلمين، من فظائع الحرب بحثاً عن ملجأ في أوروبا. وربما أدت هذه الهجرة (ولا تزال تؤدي) إلى توترات داخل الدول الأوروبية المتأثرة بالهجرة، ربما كان متوقعا نظرا لنطاقها. في هذه الدراسة، قام الباحثان بدراسة تأثير إحدى التصورات التي كانت في طليعة الخطاب المنبثق عن "أزمة اللاجئين" على قبول أو رفض اللاجئين المسلمين: التجريد الصارخ من إنسانيتهم. وباستخدام عينات كبيرة في أربع دول أوروبية (جمهورية التشيك، إسبانيا واليونان والمجر)، وجد الباحثان أن اللاجئين المسلمين قد تم تجريدهم من إنسانيتهم (ويكرهون) بشكل صارخ، وهو اكتشاف يشير إلى أن وجهات النظر اللاإنسانية الصريحة التي يواجهها المسلمون في الولايات المتحدة تمتد إلى مجموعة من الدول الأوروبية، وتؤثر أيضاً على اللاجئين بين صفوفها. وبعيداً عن دراسة المستويات المتوسطة، كان الباحثين مهتمين باستكشاف ما إذا كان التجريد الصارخ من الإنسانية مرتبطاً بدعم السياسات المناهضة للاجئين والسلوك المناهض للاجئين. واتساقاً مع التوقعات، وجد الباحثان أن درجة التجريد الصارخ من إنسانية اللاجئين المسلمين كانت مرتبطة بشكل فريد بمقاومة توطين اللاجئين، ودعم السياسات المناهضة للاجئين، والميل الأكبر إلى التوقيع على العرائض المعارضة لمساعدة اللاجئين. والأهم من ذلك، كان هذا صحيحاً على الرغم من إدراج مجموعة صارمة من الضوابط، بما في ذلك المحافظة السياسية، والتحيز، وسمة القلق التعاطفي وتبني المنظور (بالإضافة إلى المتغيرات الديموغرافية).

تقدم النتائج التي توصل إليها الباحثان عدداً من المساهمات المهمة. على الرغم من أن بعض الدراسات السابقة قد نظرت في دور التجريد الخفي من الإنسانية للاجئين المسلمين في المواقف المناهضة للاجئين على سبيل المثال. ركز الباحثان في هذه الدراسة على التجريد الصارخ من الإنسانية، وهو موقف واضح من التجريد من الإنسانية. والشكل العلني من التجريد من الإنسانية الذي يميل إلى أن يكون مرتبطاً بقوة أكبر من التجريد الخفي من الإنسانية بالمواقف والسلوكيات العدوانية.

في دراسة دور التجريد الصارخ من الإنسانية، قام الباحثان أيضاً بالتحكم في القلق المتعلق بالسمات التعاطفية وأخذ المنظور، وهي عوامل لم تؤخذ في الاعتبار من قبل عند تقييم الارتباط الصارخ للتجريد من الإنسانية مع النتائج بين المجموعات. لقد اعتقد الباحثان أن سمة التعاطف قد تكون ذات أهمية خاصة في سياق أزمة اللاجئين، لا سيما في ضوء الصور المؤلمة التي تم تداولها للاجئين وهم يغرقون أثناء قيامهم بالرحلة الغادرة إلى شواطئ أوروبا. من الجدير بالملاحظة أن سمة القلق التعاطفي كانت مرتبطة بالفعل بمستويات منخفضة من التجريد الصارخ من إنسانية اللاجئين، وكثيراً ما تنبأت بشكل فريد بانخفاض العداء تجاه اللاجئين (بما في ذلك التنبؤ بالسلوك في جميع البلدان الثلاثة - المجر واليونان وإسبانيا - التي تم تقييمها فيها).

لاحظ الباحثان أن الأفراد في كل من الدول الأربع التي تمت دراستها عبروا عن مستويات كبيرة من التحيز تجاه جميع المجموعات الخارجية، وغالباً ما يكون ذلك بهوامش كبيرة. وفي الوقت نفسه، وجدنا أن كلاً من الإسبان واليونانيين قاموا بتجريد مجموعته من إنسانيتها نسبة إلى مجموعتين خارجيتين (إسبانيا: السويديون والألمان، واليونان: السويديون والفرنسيون)، ولم يقم المجريون والتشيك بتجريد مجموعة واحدة على الأقل من إنسانيتها. وتبين هذه النتائج أنه حتى عندما يفضل الأفراد مجموعتهم على الآخرين، وقد لا ينظرون بالضرورة إلى أنها نموذج للإنسانية.

 تشير الدراسة إلى أن الأفراد في بعض الأحيان يصنفون مجموعتهم بشكل واعي وصريح على أنها أقل إنسانية من المجموعات الخارجية الأخرى، حتى على مقياس علني مثل التجريد الصارخ من الإنسانية. أمثلة على الذات - التجريد من الإنسانية في مجال العلاقات الشخصية). مزيد من تسليط الضوء على التمييز بين التجريد الصارخ من الإنسانية والتحيز: على سبيل المثال، على الرغم من أن الألمان يُنسبون عادةً إلى أعلى مستويات الإنسانية، إلا أنهم كانوا في كثير من الأحيان هدفاً لمستويات عالية نسبياً من التحيز. وفي جمهورية التشيك، تم تصنيف الألمان في مرتبة قريبة جداً من المجموعة من حيث الإنسانية، ولكن أقل بما يتراوح بين 20 إلى 35 نقطة مع مقياس الحرارة للشعور بالتحيز. ومن المثير للاهتمام أن هذا التمييز لم يمتد إلى جميع الفئات ذات المكانة العالية. على سبيل المثال، أبلغت جميع المجموعات عن انخفاض التحيز وانخفاض مستوى التجريد من الإنسانية تجاه السويديين، وارتفاع التحيز وارتفاع مستوى التجريد من الإنسانية لبعض المجموعات ذات المكانة المنخفضة (مثل المسلمين والغجر)، وانخفاض التحيز وارتفاع مستوى التجريد من الإنسانية بالنسبة للأهداف الأخرى ذات المكانة المنخفضة (على سبيل المثال، الأفارقة).

يجب أن يأخذ العمل المستقبلي في الاعتبار بشكل منهجي مجموعة من العوامل التي تتنبأ عندما يتوافق أو لا يتوافق التحيز والتجريد الصارخ من الإنسانية، بما في ذلك على الأرجح أبعاد مثل الوضع الاقتصادي والعلمي والسياسي النسبي للمجموعات، بالإضافة إلى التاريخ المحدد للعلاقات بين المجموعات.

تجدر الإشارة إلى أن التحيز لعب أيضاً دوراً مهماً بالتوازي مع التجريد من الإنسانية في التنبؤ بالنتائج المعادية للاجئين - في الواقع، كانت تقييمات مقياس حرارة الشعور مرتبطة بشكل فريد بجميع مقاييس النتائج في جميع العينات، وكانت في عدة حالات يكون المتنبئ الأقوى (عددياً). على الرغم من أن نمط النتائج يضيف إلى الأدلة السلوكية الحالية والعصبية التي تشير إلى أن الأحكام الصارخة المتعلقة بالتجريد من الإنسانية ـ وبعيداً عن أحكام الكراهية ـ سيكون من المهم للعمل المستقبلي تحديد أسباب مساهماتهم المستقلة في النتائج بشكل أفضل. على سبيل المثال، من الممكن أن ينبئ التجريد الصارخ من إنسانيتهم بالرغبة في استبعاد اللاجئين والمسلمين لأنه يرتبط بالنظر إليهم على أنهم تهديد. من غير المرجح أن يساهم المتوحشون الذين يشكلون خطراً على المجموعة الداخلية. في حين أن كراهية اللاجئين قد ترتبط بشكل منفصل بالرغبة في الابتعاد الاجتماعي عنهم أو ميل أكبر لمعاقبة المجموعة الخارجية المكروهة على التجاوزات المتصورة، حتى لو لم يكونوا كذلك ويُنظر إليها بالضرورة على أنها أقل إنسانية.

 ويثير البحث أيضاً بعض الأسئلة الجديدة والمثيرة للاهتمام حول الاختلافات العابرة للحدود الوطنية في التجريد الصارخ من الإنسانية والمواقف المناهضة للاجئين. حقيقة أننا أرسلنا استطلاعات رأي مماثلة حول المواقف المناهضة للاجئين في أربع دول أوروبية كبيرة في وقت مماثل (وهام) سمحت لنا باستكشاف الاختلافات عبرها، على الرغم من أنه من المهم أن نأخذ في الاعتبار القيود المفروضة على هذه المقارنات. وعلى وجه التحديد، نلاحظ أن تم جمع العينة التشيكية بعد حوالي عام ونصف من تلك الموجودة في المجر وإسبانيا واليونان، مما يجعل من الصعب تحديد ما إذا كانت هناك اختلافات في هذه العينة بالنسبة للآخرين.

على الرغم من أنها أكبر وأكثر تمثيلاً من المعتاد في الأبحاث الأنثروبولوجية، إلا أن عينات هذه الدراسة لم تكن عينات احتمالية للدول المعنية، ولم تكن متطابقة تماماً مع بعضها البعض. على سبيل المثال، قامت العينة التشيكية بتقريب التوزيعات الوطنية عبر العمر والجنس والتعليم، بينما في هنغاريا وإسبانيا واليونان، تم تقريب التمثيل عبر العمر والجنس والمنطقة الجغرافية. علاوة على ذلك، نلاحظ أن البيانات اليونانية تضمنت نسبة أعلى من النساء (على الرغم من أن الجنس، وهو الأمر المهم، لم يتنبأ بالمقياسين اللذين تمت مقارنتهما عبر العينات - تجريد اللاجئين من إنسانيتهم والتماس دعم تمويل اللاجئين). ومع وضع هذه التحذيرات في الاعتبار، فإن الاختلافات بين هنغاريا وجمهورية التشيك من ناحية، وإسبانيا واليونان من ناحية أخرى، ملفتة للنظر.

قام اليونانيون والإسبان بتقييم اللاجئين المسلمين بحوالي 15 نقطة أقل من المجموعة في مقياس التجريد من الإنسانية، وحوالي 25 نقطة أقل على مقياس حرارة المشاعر. بالنسبة للهنغاريين، كانت مستويات التجريد من الإنسانية والتحيز أعلى بكثير، حيث حصل اللاجئون المسلمون على تصنيف أقل بـ 26 نقطة من المجريين على مقياس التجريد من الإنسانية، وأقل بـ 40 نقطة في مقياس التحيز. وأشار المشاركون التشيكيون إلى تصورات أكثر سلبية، حيث صنفوا اللاجئين المسلمين على أنهم أقل بمقدار 39 نقطة كاملة من مجموعتهم على مقياس الصعود، وأقل بمقدار 57 نقطة من مجموعتهم على التحيز. لوضع هذه النتائج في سياقها، تجدر الإشارة إلى أن مستويات تجريد اللاجئين المسلمين من إنسانيتهم بين المشاركين التشيكيين مماثلة لتلك التي لوحظت في عينة مجتمع عبر الإنترنت من الأمريكيين التي تم جمعها على موقع MechanicalTurk التابع لأمازون.

وهذا يضع تجريد اللاجئين المسلمين من إنسانيتهم في جمهورية التشيك من بين أعلى مستويات التجريد الصارخ من الإنسانية التي لوحظت تجاه أي مجموعة مستهدفة حتى الآن باستخدام مقياس "الصعود". ونظراً لأبحاث المسح السابقة فإن اكتشاف أن العينات في دول أوروبا الشرقية أبلغت عن معظم التصورات السلبية هو أمر غير مفاجئ نسبياً. والأمر الأكثر إثارة للدهشة، في ضوء هذه الأبحاث المتوفرة، هو التسامح النسبي مع اللاجئين المسلمين بين اليونانيين. تشير الأبحاث السابقة الوطنية من عدد من المصادر إلى أنه قبل أزمة اللاجئين، كان العداء تجاه المهاجرين والمسلمين مرتفعا في اليونان (أو أعلى) منه في المجر وجمهورية التشيك، وأن إسبانيا كانت أكثر تسامحا بكثير.

على سبيل المثال، أظهرت البيانات المستقاة من موجة 1999-2000 لدراسة القيم الأوروبية أن أكثر من 21% من اليونانيين كانوا غير راغبين في أن يكون لديهم جيران مسلمين، مقارنة بـ 15% من التشيك و11% من الإسبان.

وفيما يتعلق بالمواقف تجاه المسلمين، كانت الهجرة في المسح الاجتماعي الأوروبي 2008-2009 أسوأ بين اليونانيين من أي دولة من الدول الـ 23 الأخرى التي تم تقييمها (بما في ذلك المجر وجمهورية التشيك. ومع ذلك، في البحث المذكور هنا، كان اليونانيون - مثل الإسبان، وعلى النقيض من المجريين والتشيكيين - أكثر عرضة للتوقيع على الالتماسات لزيادة المساعدات للاجئين المسلمين بدلاً من تقليلها، وأظهروا بشكل عام مواقف إيجابية تجاه اللاجئين مثل تلك التي شوهدت في إسبانيا. علاوة على ذلك، كان الارتباط بين التجريد من الإنسانية والسلوك المناهض للاجئين في اليونان أضعف قليلاً من ذلك في المجر وجمهورية التشيك.

على الرغم من أننا لا نستطيع إلا أن نتكهن هنا، إلا أننا نرى بعض الاحتمالات التي يمكن أن تفسر هذا التحول (المحتمل) في اليونان والتي تستحق المزيد من الاستكشاف. على سبيل المثال، ربما تكون المواقف المتخذة وسياسات التكامل السخية نسبياً التي نفذتها الحكومة في اليونان في السنوات الأخيرة قد ساعدت في إرساء معيار العمل الإنساني والتسامح الذي شكل المواقف تجاه اللاجئين المسلمين.

إن التناقض ملحوظ مع الخطاب العدائي والسياسات التقييدية التي يطبقها كبار الساسة في جمهورية التشيك والمجر (والتي أقامت سياجاً مصمماً لإبقاء اللاجئين المسلمين خارج بلادهم). بدلاً من ذلك (أو بالإضافة إلى ذلك)، من الممكن أن يكون الاتصال المباشر وغير المباشر بين المجموعات الذي توفره قربهم الخاص من أزمة اللاجئين قد أثر بشكل إيجابي على مواقف اليونانيين تجاه اللاجئين المسلمين، بما يتوافق مع الأبحاث السابقة التي تظهر وجود علاقة بين الاتصال الإيجابي بين المجموعات وانخفاض التحيز، وانخفاض مستوى التجريد من الإنسانية (الخفي).

في الواقع، من الجدير بالملاحظة أن إسبانيا - وهي الدولة التي أظهرت باستمرار مواقف متسامحة نسبياً تجاه الهجرة - تحقق درجات أعلى في تقديرات التنوع الثقافي من جمهورية التشيك أو المجر، وكلاهما مجتمعات متجانسة نسبياً. وبطبيعة الحال، سيتعين على البحوث المستقبلية تحديد أي من هذه الاحتمالات (إن وجدت) يفسر هذه الأنماط بشكل أفضل. بالإضافة إلى القيود التي تمت الإشارة إليها بالفعل، من المهم أن ندرك أن البيانات الواردة هنا مترابطة، وبالتالي لا توفر سوى القليل من التبصر في العلاقات السببية. على سبيل المثال، نبين هنا أن التجريد الصارخ من الإنسانية يرتبط بشكل فريد بالمواقف والسلوكيات المناهضة للاجئين. من الممكن أن يؤدي التجريد من الإنسانية إلى ظهور مواقف وسلوكيات معادية للاجئين.

في الدول التي تم فحصها تمت ملاحظة أن التجريد الصارخ من الإنسانية كان مرتبطًا بشكل فريد بالمواقف والسلوكيات المناهضة للاجئين باستمرار. وفي مقارنات استكشافية، تبين أن درجة التجريد الصارخ من الإنسانية وارتباطها بالمواقف والسلوكيات العدائية مرتفعة بشكل خاص في عينات أوروبا الشرقية، حيث يكون الاتصال باللاجئين منخفضاً والخطاب المناهض للاجئين من قبل النخب السياسية بارزاً نسبياً.

بالنظر إلى الإمكانية الملحوظة لأولئك الذين يتعرضون للتجريد العلني من إنسانيتهم للرد بالتجريد من الإنسانية والعداء من جانبهم في ضوء حوادث العنف الأخيرة في عدد من البلدان الأوروبية، هناك حاجة ماسة إلى مزيد من العمل لفهم ومعالجة أفضل التجريد من الإنسانية هو السبب الجذري للصراع بين المجموعات.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

رداً على مقالة الأسبوع الماضي، كتب لي أحد الزملاء قائلاً: لو صحت الدعوى، لتحقق المراد اليوم. ففي العالم العربي عشرات الآلاف من مطوري البرامج الأكفاء، وثمة آلاف آخرون يتخرجون كل عام، من الكليات المتخصصة في فروع المعلوماتية. ومع هذا، لا نرى التطور الذي تزعمه المقالة. بل ما زالت الغالبية الساحقة من البرامج التي نستخدمها على مستوى الأفراد والشركات والحكومات أجنبية. حتى إذا كان للمطورين المحليين دور، فهو لا يعدو التنسيق والتهيئة، كي تلائم متطلبات البلد. وهذا عمل لا صلة له بالتطوير أو الابتكار.

فإذا كان الآلاف الذين لدينا اليوم لم يصنعوا شيئاً مهماً، فهل مضاعفة الرقم ستصنع التغيير... بعبارة أخرى: هل المشكلة في العدد؟ وهل نقول إنه يجب أن يكون لدينا مليون مطور ومبرمج حتى تتحول المعلوماتية إلى صنعة وطنية؟

رأيي أن هذا السؤال عبثي. لكنه - مع هذا - يلفت أنظارنا لنافذة مهمة، تكشف العوامل التي أدَّت إلى إخفاقنا في الماضي، والتي قد تؤدي إلى تكرار الإخفاق اليوم أو غداً. المسألة قطعاً ليست في العدد، مع أنه مفيد، في الجملة. دعوتنا تدور حول الإبداع والابتكار، وليس زيادة العدد.

ويتَّضح الفرق بين الكثرة والإبداع، من خلال المقارنة بين اقتصاديات الزراعة في الهند ونظيرتها في هولندا. يصل عدد المزارعين في هولندا إلى 660 ألفاً، يقابلهم 152 مليوناً في الهند (230 ضعفاً). وتبلغ قيمة الصادرات الزراعية الهولندية 132 مليار دولار، تقابلها 53 ملياراً في الهند (أقل من النصف). هل تعرف السر في هذا الفارق الكبير؟ السر هو أن هولندا واحدة من الدول العشر الأولى في قائمة الابتكارات التقنية الجديدة. وهي الأكثر إبداعاً في مجال الزراعة.

مرادنا إذن هو إيجاد البيئة الاجتماعية - الثقافية المعززة للإبداع والابتكار، وليس مجرد الزيادة العددية. نحن لا نستهدف تدريب مستعملين للبرامج والأجهزة المستوردة من الخارج، بل مبتكرين ومطورين يبدعون برامج وأجهزة جديدة. لهذا السبب دعوت في مقال الأسبوع الماضي إلى تعليم البرمجة في المرحلة الابتدائية، ثم جعلها إلزامية في المرحلة المتوسطة. ذلك أن الموضوع الذي يشغل ذهن الإنسان عند طفولته، سوف يتحول إلى هواية وشغف وجزء أساسي من حياته اليومية، حينما يكبر. كثير من الأطفال سوف يكتشفون برمجة الألعاب في سن مبكرة، وبعضهم سوف يتَّجه إلى حقول أخرى، مثل الزراعة والهندسة والعلوم الإنسانية، لكنه سيحمل معه القابلية لربط أي من هذه الحقول بحقل المعلوماتية، عندئذ سنرى الدخول السلس للذكاء الاصطناعي في الزراعة والطب والاتصالات والنقل والهندسة... إلخ. العنصر الرئيس في هذه الفكرة إذن هو تعميق انعكاس المعلوماتية في نفس الإنسان وعقله وجعلها جزءاً نشطاً من عالمه.

هذا شيء يختلف عن تعليم الحوسبة في الجامعة، وفق الطريقة التي اعتدناها في معظم الجامعات العربية حتى الآن. تعليمنا الراهن لا يهتم كثيراً بغرس الابتكار، بل يركز على إتقان استعمال الأجهزة والبرامج، ثم الحصول على شهادة جامعية تضمن للطالب وظيفة مريحة في حقل المعلوماتية أو في أي مجال آخر. أي أن الحوسبة جاءت في شكل إضافة إلى معلوماته، وليست كانشغال ذهني وشغف وهواية في حياته اليومية.

في الصورة الأولى نتوقع كثيراً من الإبداع. الأطفال الذين يتعلمون شيئاً، يبدعون فيه مبكراً. بل أدعي أن قابلية الإبداع واكتشاف الجديد لدى الشاب المراهق، أقوى وأكثر احتمالاً من نظيره المتقدم في العمر. والسرّ فيه أن خيال الطفل والشاب المراهق خيال منطلق، لا يتقيد بحدود العقل وقيوده، بخلاف الشخص الناضج الذي – تبعاً لموقعه الاجتماعي وقدراته المادية – يحصر تفكيره في المتعارف والمألوف، إلا في حالات نادرة. لقد بات مسلماً في عالم اليوم أن الخيال الجامح المنطلق، العابر للمعقولات، هو أبو الإبداع وأمه، وأضيف إليه أن زرع بذور الإبداع والابتكار، يبدأ في بواكير الحياة، كي يؤتي ثماره في تواليها.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

مدخل: من المفارقات اللافتة والمؤثرة عند الحديث عن الأمانة العلمية في المجال العلمي العربي والإسلامي المعاصر،  ما تطالعنا به التقارير العالمية من أخبار عن مؤسسات التعليم العالي العربية حول ظاهرة العبث الأكاديمي وتقنيات التزييف والغش والسرقة التي يتفنن فيها بعض من لبسوا لباس العلم والفكر والثقافة لباس الفرو مقلوبا ممن يسمون أنفسهم باحثين وأكاديميين وكتاب، وما خلفته هذه الظاهرة من كوارث في مستويات البنية الأكاديمية العربية، وعند تشريح هذه الجرائم الأخلاقية بحق المؤسسات والثقافة العلمية ونظم التعليم العالي عربيا من جهة، وفي حق أجيال الأمة من تحريف رسالة العلم وأمانة الضمير العلمي من جهة اخرى، نلحظ أن  الرداءة سلعة رائجة في أسواق التفاهة والتخلف السوداء ومجمعات الامتيازات العلمية المصطنعة تحت الطلب، ولا نستغرب ذلك في مجتمع أسئلة النقد والتحقق والمكاشفة والصدق والأمانة تمثل مثالية وحماقة وكفر وفسوق !!

ومصطلح "عبث" لا يعني "غير ممكن منطقياً" وإنَّما هو ما يتنافى مع المنطق، أو بالأحرى لا يحترم قواعده ولا يخضع لها، مع القيام بأعمال تجعل الآخر يقتنع بمعلومات ليست صحيحة، أو بجزء من الحقيقة الكاملة، أو ما يعرف بنصف الحقيقة إلى حين الفضيحة.. وترسخ المفارقات في الوعي العام وبعد تطورها تصبح  ثقافة إجتماعية في حقل من الحقول وذات أساس وجودي فعال بحيث تصبح ظاهرة قائمة بذاتها ومواضيعها، هذه الظاهرة ليست وليدة اليوم، وهي نتاج تاريخ من الانحراف والنكسة والتحريف والاستدمار  الممنهج للرمزية العلمية والفكر الحي في مجتمعاتنا حتى يتمكن التخلف وثقافته من السيطرة والوقوف على محطات التضليل والتجهيل من أجل السيطرة والدمج في مشاريع العقول المقعرة التي تلتقط أمواج محددة من الفكر والحركة..

ماهية العبث الأكاديمي؟!

غالبا العبث هو أساس ومنشأ المفارقات التي يعمل على تغطيتها لغاية تحقق التضليل، أي إخفاء الواقع عبر الزيف، وهذا ما يحصل في العديد من المؤسسات الأكاديمية العربية  التي صوريا هي مخابر للعلوم  لكنها ضمنيا تفتقد لهويتها الأصيلة التي تعكس الدقة المنهجية والموضوعية، والمسؤولية الأخلاقية  أي هناك مصداقية تشترط في إنتاج العلم الصادق والمعرفة الصادقة، حتى يكون المنتظم فيها  أهلا  للحاق ببساتين أكاديموس العربية الحضارية كما عرفتها الزيتونة والقيروان والأندلس وبغداد ودمشق والقاهرة  قبل عدة قرون عندما كانت مقاصد عشاق العلم والمعرفة والحكمة..و تكتشف المفارقات أكاديميا حين نرى أن صفة العلمية لا تشغل إلا حيزا ضيقا ومحدودا في يوميات السواد الأعظم من رواد الجامعات، حيث المردود العلمي ضئيل جدا أمام الترجمات الحرفية لأعمال وأفكار وأطروحات أجانب دون إذنهم، ناهيك عن الاستثمار الشخصي تحت يافطة البحث العلمي بينما الحال البحث النفعي الخاص على حساب مستقبل الطلبة والباحثين وتضييق الخناق على الأدمغة العبقرية إما بالتسفيه أو سرقة جهودهم البحثية واستغلالهم في بناء هالات كارتونية من ألقاب وهمية لا يصدقها سوى الجاهلين بمستويات أصحابها العلمية التي لا تكاد تعادل مستوى الإعدادي أو اقل، للأسف هذه الظاهرة اكتسحت ربوع الحقول العلمية والأكاديمية في العالم العربي، فصارت ألقاب الدكتوراه والبروفسور والمنظر والفيلسوف والخبير وما هنالك تطلق بعشوائية توازي عشوائيات إدارة مؤسسات العلم والمعرفة والثقافة..

لا مناص أن هذه الظاهرة، هي موضع  اختلاف عند القائمين على الشأن الأكاديمي في مجتمعنا، لكنه اختلاف ليس من قبيل تعدد وجهات النظر وضبط الحقيقة وإنما إختلاف بلا مبرر أخلاقي أو موضوعي، حيث الاختلاف حول قراءة مفارقات الراهن الأكاديمي العربي عبر المكاشفات ووفق معطيات ذات عمق ومصداقية من شأنه إثراء النقاش حولها-الظاهرة-تشخيصا  ونقدا وعلاجا، تشخيصا على مستوى الأفراد والمؤسسات، ونقدا على مستوى النظم والإعلام،و علاجا على مستوى الأداء والمردود والانتاج العلمي، لأن تفكيك ميكانزيمات هذه المفارقات المسيطرة على العقول والإدارات والنظم والمشاريع يمكن أن  يعدل سلم القيم الأكاديمية المقلوب،حتى تنتظم أمور  التعليم والبحث العلمي وتنال الاوسمة الأكاديمية بجدارة أكثر من نيلها بوساطة أو زورا وبهتانا.

تيارات العبث الأكاديمي واستنساخ الشهادات:

وصلت الحال ببعض المؤسسات الأكاديمية الرسمية وغيرها في المجال العربي إلى فتح أبوابها لمدمني الغش والتزوير والسرقة مما خلق تيارات من العبث الأكاديمي منها:

. تيار الفانتازيا الثقافية

.تيار إدارة الوساطات

. تيار التسويق والإشهار لمزادات الشهادات والألقاب والمشاريع..

حتى اصبحت جامعاتنا العربية تعج بدونكيشوتات العلم والمعرفة، بينما تقييمها العالمي لا يكاد يظهر الا بعد ثلاثمائة وخمسين جامعة، والذي يعكس التناقض الجوهري بالنظر لفائض الكوادر العليا داخل الجامعات والمعاهد ومراكز الابحاث ونسب وقيمة الإنتاج العلمي والمعرفي، هذا التناقض هو في الواقع واجهة خلفية للإستنساخ العشوائي للشهادات والرتب والامتيازات دون ادنى موضوعية وتحت طائلة فشل ذريع  في إدارة اقتصاد المعرفة!!

صور العبث الأكاديمي عربيا1:

المؤكد أن ظاهرة العبث الأكاديمي هي من الظواهر السوسيوثقافية القاتلة حالها كحال الأفكار القاتلة التي تحصل في حياة الإنسان من جهة علاقته بالفكر المتطرف أو المنغلق، حيث لا تنبثق هذه الظاهرة بشكل عفوي أو عابر، وإنما تحصل بشكل إرادي مخطط له مسبقا، كما أن وقوعها لا يعني أنها ترسخت وسيطرت وأصبح مستحيل  تجاوزها والتغلب على صورها، وإنما يمكن  الحد منها وتوقيف آثارها حالها كحال كل الظواهر السوسيوثقافية الأخرى.

هذه الظاهرة تحصل في مختلف محطات الأكاديمي المزيف في المسار الأكاديمي2، فقد تحصل عند البعض في بدايات المشوار الجامعي، وقد تحصل عند آخرين في مرحلة الدراسات العليا، او ما بعد التدرج وعند آخرين قد تحصل في مرحلة الإشراف والتوجيه العلمية أوعند تسلم المناصب الادارية، وفي كل مرحلة من هذه المراحل تبرز هذه الظاهرة بتمثلات معينة وإنعكاسات محددة وإنحرافات مختلفة لكنها ذات هدف واحد التضليل وتزييف الواقع.

من جانب آخر، تحصل هذه الظاهرة تارة برغبة من الشخص وبإدراك منه، وتارة تحصل من دون رغبة منه وبإدراك، تحصل برغبة حين يقرر الشخص بإدراك منه حرق المراحل والتعدي على حقوق الغير وبيع كرامته، وذلك لعوامل وأسباب تتعلق بالشخص نفسه، قد تكون قاهرة لأنها تعود لمرحلة تربوية عميقة، وفي مقدمتها العامل النفسي كشعور الإنسان بالنقص وعدم الجدارة، ومنها العامل الاجتماعي كالغيرة والسعي وراء الشهرة والوجاهة، ومنها عوامل وأسباب اقتصادية تتعلق بالثراء الفاحش الذي يوهم صاحبه أنه يمكنه شراء كل شيء وصناعة الأسطورة واستكمال أركان النفوذ لديه..

كما تبرز هذه الحالة من دون رغبة من الإنسان ولكن بإدراك، وتتعلق بالعامل القيمي الفاسد مجتمعيا وجامعيا، فالتأثير الذي يحصل من هذه الجهة، يظهر حين يكون المجتمع يعيش الرداءة والمحسوبيات، وحين يسير الفرد ضمن هذا المجتمع وفق التيار الاجتماعي الكاسح ولا يشغل نفسه بالأساس القيمي الأخلاقي، ولا يربي نفسه على الجد والإجتهاد  بعفة وسداد، وهكذا حين لا يمنح الأشخاص الذين يجتهدون في تحقيق النجاحات العادلة اي اعتبار، هذا الانحراف القيمي إذا ساد في المجتمع فإنه ينتهي بالكثيرين إلى الإصابة بكل صور العبث.

ومن الصور الدالة على ذلك، المجاملة في منح النقاط وتقييم رسائل التخرج وتقييم الاطروحات ومنح الرتب على أساس القرابات والصداقات والزمالة في الجامعة والتوصيات من قامات النفوذ سياسيا واجتماعيا، فبدل أن نرفع من مستويات الصرامة للنهوض بالجد والنزاهة الأكاديمية، ننعش ثقافة الوساطات والمجاملات على حساب مستقبلنا العلمي والمعرفي، وهناك صورة أخطر تتمثل في التوجيه نحو السرقات العلمية والغش وتزوير النتائج والابتزاز المالي والجنسي التي يكون خلفها مشرفين وأحيانا يغضوا الطرف عنها وتنال تلك البحوث مباركة لجان التقييم إما استحياءا من المشرف المخضرم أو الزميل الصديق الذي سيبارك البحوث التي يشرفون عليها، مما جعل  العديد من جامعاتنا مصابة بفقر النزاهة والكفاءة والأمانة والشرف ..

وهكذا تتعدد الصور والحالات الدالة على ما يتركه العبث الأكاديمي من تأثير في قتل كل فسلات النهوض والإبداع والنجاح العلمية والمعرفية..

سبل مكافحة ظاهرة العبث الأكاديمي؟

اتخذت العديد من الدول الغربية مجموعةً من الإجراءات اللازمة للحد من ظاهرة العبث الأكاديمي، بينما عالمنا العربي لايزال يراوح مكانه في الإطار، إما بفقدان الإطار القانوني للحد من الظاهرة او عدم الصرامة والجدية في تفعيل قوانين الردع وحماية الحقوق الفكرية والعلمية وفيما يأتي أهم السبل:

* دراسة الحالات: يُؤدّي إجراء الدراسات النفسية والاجتماعية اللازمة على كلّ شخص من رواد العبث الأكاديمي إلى فهم الظاهرة  والأسباب الكامنة التي أدّت إلى إنحرافهم وخيانتهم للأمانة والمسؤولية.

* تجريم كل صور العبث الأكاديمي: من خلال اعتبار كل أشكال العبث أكاديميا جريمة يُعاقب عليها القانون بأقصى العقوبات لأنها من رتب الخيانة مع السهر على تفعيلها وتطبيقها.

* المعاقبة: تتّخذ بعض الحكومات الغربية العقوبة كوسيلةٍ للحدّ من أشكال العبث أكاديميا، كسحب الشهادات والفصل من الجامعات لكل من ثبتت بحقه جريمة العبث الأكاديمي، أو من يُشجّع على شكل من أشكال العبث، وتُسحب منه كل الامتيازات  المُحصّلة من هذا الفعل المجرم قانونا وتغريمه ماليا.

* تطوير آليات التقييم وتقنيات الرقابة: وذلك بوضع أنظمة للرقابة وتمحيص المقالات العلمية والرسائل والأطروحات والشهادات، مع مقاييس حازمة للأداء الأكاديمي سنويا.

* التشهير الإعلامي: وذلك بعرض قضايا الغش والتزوير والسرقات العلمية بعد فصل الجهات القانونية فيها، عبر وسائل الإعلام الرسمية.

* الإرشاد القانوني للأكادميين: الإرشاد القانوني لأفراد الوسط الأكاديمي حول مخاطر ظاهرة العبث مهمّةً جداً للحدّ منها، ويُمكن تنفيذ برامج توجيه وإرشاد وتوعية عبر ندوات ومحاضرات وتوزيع منشورات قانونية حول ذلك..

عن المصداقية؟

لا تتحقق المصداقية في أي مجال من المجالات الحيوية إلا من خلال بوابة إدارة أداء الكفاءات العملية عبر ركائز أخلاقية وفنية ونظام المساءلة والتحفيز الأدائي المستمر، مع التأكيد أن المصداقية محلها من الإعراب أكاديميا الحرية مع الأمانة، وهكذا نصل إلى مسألة أساسية وهي: أن أحد الأسباب الرئيسية لبروز ظاهرة العبث هو غياب حياة جامعية سليمة ومدنية في العديد من بلدان العالم العربي.

لذلك من الأهمية بمكان أن نرفض الاستئثارات والانتهاكات التي تحصل داخل العديد من الجامعات العربية، مهما كانت المبررات المطروحة والتي تُسوِّغ ذلك، ونقف ضد كل أشكال الانحراف والتهميش والفساد مهما كان الذي يقف وراءها. ولا بد أن نأخذ الدروس والعبر من التجارب العالمية في إصلاح الجامعات بأمريكا اللاتينية وافريقيا وجنوب شرق آسيا وبالطبع أوروبا وأمريكا الشمالية والتي حدثت فيها انحرافات وانتهاكات للقوانين وللأعراف، حيث إن هذا الواقع الأكاديمي المزري  يدمَّر في كل لحظة المجتمع والاقتصاد والمستقبل  العربية، ولذلك هجَّرت الكثير من  العقول والأدمغة  نحو الغرب تاركة  كل شيء وراءها..

وبكلمة: إن تحصين الجامعة من مخاطر العبث، يتطلب بلورة حياة جامعية جديدة، تتجاوز إنحرافات الواقع، وتسعى نحو إرساء دعائم وتقاليد الإصلاح والتنمية على  صعيد  كل مكونات الفعل  الأكاديمي الجامعي والإبداع العلمي.

فالتحصين لا يتأتى بالشجب وزيادة قائمة اللعن، بل بغرس أسباب الجودة والحيوية  والفعالية في حياتنا الجامعية. فالجامعات الراكدة، هي أقرب إلى الاختراق والاستدمار والتزييف على مستوياتها كافة.

أما الجامعة التي تحترم نفسها،  فإنها تمتلك الدينامية الكافية التي تؤهلها إلى مقاومة كل الأميين والعابثين ومجابهة كل محاولات الاختراق التي تهدد مستقبل طلابها وكوادرها.. فوجود الحياة الأكاديمية الجادة بكل مستلزماتها ومتطلباتها وآلياتها، يساهم مساهمة أساسية في إرساء دعائم التنمية  العلمية والجامعية.

***

أ. مراد غريبي

...................

1- يمكن العودة إلى كتابات البروفسور محمد الربيعي بصحيفة المثقف والحوار الذي أريناه معه ضمن مرايا فكرية

2- هناك تفكيك عميق  لأبعاد  الموضوع في كتاب الدكتور علي أسعد وطفة  " الأمية الأكاديمية"

بقلم: جون كلارك

ترجمة محمد عبد الكريم يوسف

***

يقول الدكتور جون كلارك: إن عبادتنا للعقل أصبحت مرضية.

الفلسفة في تراجع. تسمع ذلك في كل وقت. يتم تقديم الأدلة بانتظام:  هناك عدد أقل من الخريجين، وانعدام الوظائف، وانعدام الآفاق، ونقص الاهتمام بالثقافة، وما إلى ذلك. لقد أصبح ذلك حقيقة مملة.

ولكن كيف يمكن أن يكون ذلك؟

هل أقلعنا عن حب الحكمة بشكل جماعي؟

في عالمنا الحديث، هل تخلصنا من عباءة كوننا الإنسان العاقل (الشخص الحكيم)؟

هل وصلنا بطريقة أو بأخرى إلى أن نكون فوق كل شيء؟

ألم نعد مفتونين بدورنا الجماعي بين جميع المخلوقات على هذا الكوكب المتمثل في كوننا عقلانيين؟

هذا لا يمكن أن يكون صحيحا.

المعرفة والاختيارات الجيدة – هذه الأشياء خالدة ولا مفر منها.

إذن ماذا حدث لنا؟

ماذا حدث لعقولنا الجماعية التي سمحت بتراجع الفلسفة؟

لا بد أن تكون الفلسفة مريضة.

من المؤكد أن هناك مرضا على قدم وساق، بلاء عقليا واسع النطاق ينتشر بين البشر – جائحة فكرية: مرض العقل، ومرض الثقافة، ومرض المجتمع. هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفسر عدم اهتمامنا الجماعي بالحكمة، وتراجع حبنا لجوهر هويتنا.

نحن بحاجة إلى طبيب. ويتبادر إلى ذهني والد الطب اليوناني جالينوس. قال جالينوس الشهير: "أفضل طبيب هو الفيلسوف أيضا". وربما يمكن للطب أن يساعد. لكن الطب مريض أيضا. الأطباء يقتلون أنفسهم بمعدل ينذر بالخطر. إن الإرهاق في الطب منتشر ومتوسع، وقد أصبح أكثر بروزا في الطب من أي مهنة أخرى. الأطباء يعانون ويموتون. المعالجون أنفسهم مرضى ويحتاجون إلى الشفاء. ربما أصابهم جائحة العقل أيضا؟

أنا طبيبة. لقد احترقت. لقد أصبحت مريضة نفسيا وكنت في حالة تدهور. لم أكن جميلة. لقد حاولت التعافي. ولحسن الحظ، لقد تم إنقاذي. لقد أنقذتني الفلسفة.

أنا جادة. حدث شفاء ذهني جاء على شكل شفاء حكمتي؛ من خلال شفاء معرفتي وإحساسي بالخير. وكما اتضح، فقد وجدت بنفسي أن الطب يحتاج إلى الفلسفة ليكون جيدا. لكنني توصلت أيضا إلى الاعتقاد بأن الفلسفة تحتاج إلى الطب حتى تتعافى من تراجعها. الفلسفة والطب يحتاجان لبعضهما البعض. يمكنهم مساعدة بعضهم البعض. أفضل فيلسوف هو أيضا طبيب، فهو شخص يفهم اضطرابات العقل وما هو مفيد للإنسانية. تحتاج الإنسانية إلى كلا الجانبين للعمل معا لشفاء حكمتنا الجماعية، وليس فقط إنقاذ الفلسفة، بل إنقاذ الطب، بل وإنقاذ عالمنا أيضا.

يحتاج الشفاء أولا إلى التشخيص، ومعرفة شاملة بالمرض قبل تطبيق العلاج المناسب. من خلال الإرهاق والتعافي، قمت بإجراء مثل هذا التشخيص، وقد ولد التشخيص من ملاحظة بسيطة مفادها أنه من خلال كوني أكثر عاطفية، تحسنت. ونشأت أسئلة عميقة، ليس أقلها: "ما هي العاطفة؟" مثل هذه الأسئلة تؤدي حتما إلى أسئلة المعرفة والخير - أسئلة فلسفية خالدة. لقد قادوني إلى تشخيصي الخاص، وتشخيص الطب. ومع ذلك، فقد أدت أيضا إلى تشخيص علل الفلسفة وانحدارها. لن يعجبك ذلك.

أتاراكسيا والفكر

أتاراكسيا هي الحالة الرواقية المثالية للهدوء، أو عدم اهتمام العقل. لكن بالنسبة لي، فإن الطمأنينة هي مرض الإفراط في التفكير، والغربة الشديدة عن عواطفنا. إنها حالة عقلية مجردة مرضية من الموضوعية الزائدة، والانفصال الذي لا ينضب، والافتقار العميق للحساسية. وتتمثل أعراضه في هدوء العقل، وعدم التأثر بالأحداث عدميا، والضياع في حالة ركود من المعرفة. وبالتالي فهو بطبيعته مرض أخلاقي ومعرفي.

لا يتم استخدام الطمأنينة هنا بالمعنى الأبيقوري للهدوء الدائم الناتج عن التحرر من المشاعر السلبية، ولكن بالمعنى الرواقي للتحرر من كل الاضطرابات العقلية/العاطفية على الإطلاق - على الرغم من أن كلتا الحالتين أعتبرهما مسجونتين عقليا وغير صحيتين بطريقتهما الخاصة. لفهم طبيعة مثل هذا المرض، يجب على المرء أن يفهم العقل البشري، وكذلك الاضطرابات في صيغته السائدة حاليا في الثقافة فيما يتعلق بالفكر والعاطفة، وكيف يساهم كل منهما في المعرفة والخير. سأكون مختصرا.

تطور الذكاء البشري لحل المشاكل. إنها تستخدم عملية عقلية يتم تنفيذها عن عمد، وهي عملية واعية، وبطيئة، ومنهجية، واختزالية، ومجردة، ومصممة لإنتاج معرفة موضوعية تمكن الفرد من ممارسة السيطرة على المستقبل؛ وبعبارة أخرى، للتخطيط. يشار إلى هذه العملية عموما باسم "التفكير". تعتبر مثل هذه العملية العقلية لعنة على عكسها - العاطفة - وهي عملية عقلية يتم تنفيذها غريزيًا وهي لا واعية، وعفوية، وسريعة، وشمولية (إجمالية)، وعلائقية، ومصممة لإنتاج معرفة ثمينة (ذات قيمة) بشكل حدسي. يشار إلى هذه العملية عموما باسم "الشعور". نظرًا لمركزية التحكم المتعمد من قبل العقل، فإن هذا يعني أن الإرهاق والطمأنينة هما من أمراض العقل الذي يتم التحكم فيه بشكل مفرط، وقمع للعقل التلقائي. يمكن ملاحظة علامات وأعراض هذا النوع من فرط الفكر وعلله على أنها تتراكم منذ العصور القديمة وحتى الوقت الحاضر.

إن الأمثلة على فرط الفكر لا تعد ولا تحصى في الفلسفة، وحتى المراجعة السريعة لتاريخ الفلسفة تسلط الضوء على الكثير منها. ديموقريطوس، فيلسوف ما قبل سقراط الذي أطلق عليه البعض لقب "أبو العلم الحديث" بسبب نظرياته الذرية المبنية على الملاحظة للمادة، اعتبر المعرفة المكتسبة من خلال التجربة الحسية بمثابة معرفة "غير شرعية" وهي خاطئة بطبيعتها، والمعرفة التي تم الحصول عليها من خلال تطبيق العقل الخالص بأنه "شرعي". رفع زينون، مؤسس الرواقية، العقل غير العاطفي بمصطلحات رواقية كلاسيكية على النحو التالي: "الشعور السيئ هو اضطراب ذهني بغيض للعقل، وضد الطبيعة". وبعد ذلك بوقت طويل، انتهى صراع رينيه ديكارت مع المعرفة بفكرته المبدعة: «أنا أفكر إذن أنا موجود» ــ وهو الاستنتاج الذي يستبعد بشكل واضح «الشعور» (كما في عبارة «أنا أشعر إذن أنا موجود») من عالم الحقائق البديهية. تحديد وجودنا. لكن ربما كان باروخ سبينوزا هو الأكثر صرامة في إعلانه عن أولوية العقل، في كتابه "

الأخلاق" الصادر عام ١٦٧٧:

"بدون ذكاء لا توجد حياة عقلانية: والأشياء جيدة فقط بقدر ما تساعد الإنسان في التمتع بالحياة الفكرية التي يحددها الذكاء. وعلى العكس من ذلك، فإن كل ما يمنع الإنسان من كمال عقله، وقدرته على التمتع بالحياة العقلية، فهو وحده يسمى شرا.

لم تكن الفلسفة الحديثة أكثر لطفا مع العواطف. يعبر فريدريك نيتشه، الذي كانت عدميته مؤثرة جدا في ما بعد الحداثة، عن إنكاره للعاطفة عن طريق رفضه للأخلاق، من خلال القول بأن الأخلاق “مجرد لغة إشارة للمؤثرات”. يستبعد جيسي برينز، في كتابه "ردود الفعل المعوية" (٢٠٠٤)، المشاعر غير المنضبطة من مجالات الإدراك من خلال الإعلان، "إذا كانت العواطف معرفية، فيجب أن تكون تحت السيطرة المعرفية". رونالد دي سوزا، في كتابه عقلانية العاطفة (١٩٨٧)، يجادل أيضا ضد الإدراك العاطفي بقوله أن “العواطف ليست معتقدات” وعلى هذا النحو لا يمكن تبريرها أو صحتها، وبالتالي لا يمكن أن تكون جزءا من المعرفة. وحتى نظرية العملية المزدوجة الحديثة، التي تزعم دمج الانفعالات في الوظيفة العقلية العالمية، تدرج الانفعالات تحت نموذج فكري ــ كما يتجلى في كتاب دانييل كاهنامان "التفكير بسرعة وبطء" (٢٠١١). ومع ذلك، في حين أن "النظام 2" الذي يبذل جهدا واعيا ومنطقيا يفكر بالفعل، فإن "النظام 1" التلقائي والحدسي والعاطفي لا يفعل ذلك؛ انها تشعر. الصيغة الأقل تحيزا فكريا هي "الشعور بالسرعة والتفكير البطيء".

من المؤكد أنه كانت هناك ردود فعل فلسفية ضد هذا الإفراط في الفكر. تتجسد فكرة تبني الدافع من خلال التخلي العقلي التلقائي في الحركة الألمانية  ("العاصفة والقيادة") في أواخر القرن الثامن عشر، والتي تمردت ضد القيود العقلانية لعصر التنوير من خلال تبني التعبير الحر عن المشاعر المتطرفة. أدت هذه الحركة إلى ظهور حركة مناهضة التنوير الألمانية والرومانسية في أوائل القرن التاسع عشر، وكانت الحركة الأخيرة بمثابة رد فعل ضد الترشيد العلمي الاختزالي للطبيعة ونسلها الآلي، الثورة الصناعية. تكمن الثقة في العاطفة أيضا في قلب الحركات الفلسفية مثل الفلسفة المتعالية، كما روج لها رالف والدو إيمرسون، وهنري ديفيد ثورو، ووالت ويتمان، مع إيمانها بخير الطبيعة البشرية وموثوقية الحدس البشري.

مثل هذه الصيغ المضادة للعقل البشري فيما يتعلق بالتأثير الحدسي قد يُنظر إليها على أنها دوافع تاريخية نحو التوازن العقلي. ومع ذلك، فقد تلاشت مثل هذه النوبات الفلسفية المتمثلة في اعتناق العواطف في عصرنا الحديث. إنهم لا يتركون خلفهم سوى أصداء روحهم.

علاوة على ذلك، لم تبقى الهيمنة الفكرية مقيدة في أذهاننا، بل تدفقت لتسيطر على ثقافتنا. لقد أصبحت الإنسانية تتماثل بعمق مع عقلها، وبالتالي تنظر إلى نفسها من خلال عدسة ميكانيكية اختزالية. تحظى علوم الدماغ بشعبية كبيرة عندما نعبر عن جوهر هويتنا من خلال عضو بشري واحد خارج السياق. إن العلم، وهو العملية النموذجية للمعرفة الفكرية، يتم توظيفه للإجابة على جميع الاستفسارات الحديثة تقريبا. نحن نعيش في عصر الفكر، ومنغمسون في منتجاته التكنولوجية الثانوية. فالمليارات اليوم يتغذون على أغذية مُدارة تكنولوجيا، ويعيشون في مساكن محوسبة، ويسافرون مسافات شاسعة في آلات متطورة، ويحيطون أنفسنا بجميع أنواع التكنولوجيات المتقدمة، ويتواصلون من خلال الوسائل الرقمية. لقد أثرت التكنولوجيا البشرية تأثيرا عميقا على الكوكب نفسه من خلال إضاءة الليل وتغيير الغلاف الجوي واستصلاح الأرض من خلال الزراعة والتعدين والسدود والمدن. يمكن الآن القول إن المنطقة التي تأثرت بالعقل البشري هي الكوكب بأكمله، مما أدى إلى تأسيس ما أطلق عليه البعض "الأنثروبوسين"، أو "عصر الإنسانية".

يتم تصور مستقبل البشرية إلى حد كبير من الناحية الفكرية أيضا. من الشائع في الثقافة اليوم أسطورة تتعلق بالإمكانات المطلقة للبشر؛ الإمكانية التي يعتقد أنها تكمن في مجال الفكر. حقيقة أن هناك جهودًا حثيثة يتم بذلها على الذكاء الاصطناعي ولكن لم نسمع شيئا عن "الحدس الاصطناعي" على الإطلاق، تدل على تحيز البشرية للجانب الإرادي الخاضع للتحكم في عقلها. حتى أن هناك حديثا أسطوريا عن "التفرد" القادم، عندما ستعمل معرفتنا الجماعية المتنامية بشكل كبير، من خلال التكنولوجيا، على تمكين البشرية بطريقة ما من "تجاوز علم الأحياء" وتصبح شيئا "ما بعد الإنسان". رجل الأعمال التكنولوجي بايرون ريس، في كتابه التقدم اللانهائي (٢٠١٣)، يعطي كلمات لأعلى حلم إيكاري للوعي البشري منذ ظهوره، فيما يتعلق بقدرة الفكر على حل المشكلة النهائية التي تواجه الحياة البشرية:

"بما أن التكنولوجيا تنمو بشكل كبير، وليس بطريقة خطية، فسوف نشهد تحسينات هائلة في أسلوب حياتنا في غضون سنوات قليلة فقط... هناك فرصة حقيقية أنك لن تموت أبدا، لأن الوفيات قد تكون مجرد مشكلة تقنية نقوم بحلها."

تفترض هذه الأفكار قدرة العقل البشري على الهروب ليس فقط من أجسادنا، بل من طبيعتنا أيضا.

جرائم الفكر

ولكن أليس كل هذا خللا؟ وفي حين أن قوة الفكر تتجلى بالفعل في كل هذه الإنجازات، فلا يحتاج المرء إلى النظر بعيدا للعثور على العلل التي يثيرها فرط الفكر لدينا. وأذكر القليل منها هنا:

- في أعقاب انحيازنا المؤيد للفكر في تصورنا لأنفسنا، قمنا بتفكيك الطبيعة البشرية، وبالتالي اختزلنا أنفسنا في مجرد آلات بيولوجية. ومن خلال القيام بذلك، فقد أبطلنا قيمة إنسانيتنا، حيث يتم تجاهل ونسيان الأجزاء التي لا تقبل الفهم والتحكم الآلي العقلاني.

إن القدرة المتقدمة على التلاعب بالجينوم البشري في خدمة المُثُل الجينية الاعتباطية تهدد بجعلنا ننسى طبيعتنا البرية الطبيعية والحد من الموارد الغنية التي تمثل تنوعنا.

لقد أبعدتنا التكنولوجيا عن ظروفنا المباشرة إلى واقع مجرد. لأغراض التواصل مع العالم، نتجول منبهرين بشاشات صغيرة متوهجة تجعلنا، ومن المفارقات، منفصلين عن علاقاتنا وغير مدركين لوضعنا الحالي. ومن الواضح أن مثل هذا التجريد يثير اشمئزاز العقل البشري.

لقد مات الملايين من الناس بطريقة عنيفة في الحروب الآلية الحديثة التي دارت رحاها من أجل السيطرة على الموارد الطبيعية والأسواق المفاهيمية ـ وهي الحروب التي أصبحت ضرورية بفضل استراتيجيات عقلانية قائمة على السكان، ولكنها بطبيعتها تتجاهل المعاناة الإنسانية الشخصية.

لقد استخلصنا القرارات المالية من عواقبها الإنسانية، وبهذا فقدنا تعاطفنا مع الآخرين. إن المسؤولية الاجتماعية التي نتحملها عن تأثيرات استثمارنا على الآخرين وعلى عالمنا، تم تبريرها إلى ضباب حسابي غير حساس من النسيان الأبرياء.

- ومن خلال الاستفادة المجردة من الدخل/الربح المستقبلي في يومنا هذا من خلال التلاعب بسوق الأوراق المالية، فقدنا قبضتنا على الحقائق المالية الصعبة في الوقت الحاضر، وخلقنا شراباً مالياً ساماً يهدد بكارثة اقتصادية.

- من خلال التحقيق الشديد في طبيعة المادة، أطلقنا العنان للقدرة النووية المختلة على الإبادة الذاتية الذرية.

- لقد أحدث التأثير التكنولوجي البشري على عالمنا فوضى واسعة النطاق في شكل كوارث مثل الغبار، والضباب الدخاني الملوث، والأمطار الحمضية، والقائمة المتزايدة باستمرار من الانسكابات النفطية الهائلة، وكارثة مصنع بوبال للكيماويات، وتشرنوبيل، وخليج المكسيك. "المنطقة الميتة"، ورقعة القمامة في المحيط الهادئ، والانقراض الجماعي السادس للحياة على الأرض، وغيرها الكثير.

- إن حرق الوقود الأحفوري على نطاق واسع، وكذلك حرق الغابات الحية على الأرض، في خدمة تعزيز جهودنا للسيطرة، يلوث الهواء نفسه الذي يغطي كوكبنا والذي نعتمد عليه بشكل وثيق، ويهدد حضارتنا بأضراره. الانهيار العالمي الساخن.

هذا كله جنون. يُنظر إلى الجنون تقليديا على أنه حالة خارجة عن سيطرة عقلك. لكن هذا نوع مختلف من الجنون، جنون يأتي من السيطرة المفرطة على العقل! لقد أدى سعي الإنسان غير المتوازن إلى السلطة والسيطرة إلى خلق مرض عقلي ذاتي في هيئة ضعف إدراكي من خلال العملقة الفكرية، التي تقود البشرية، على نحو معاكس، إلى الاغتراب، والفوضى، وتدمير الذات. دعونا نطلق على هذه المحنة الثقافية اسم "الخرف الإمبريالي" - "جنون السيطرة". إنها سليلة مباشرة لكوجيتو ديكارت – نتيجة لتقييم الوجود من خلال فعل التفكير فقط، وليس الشعور.

ردود فعال عاطفية

من خلال العدمية التي نشأت من خلال فرط الفكر لدينا عن طريق الاختزالات العقلانية والتجريدات الفكرية، يفقد جنسنا البشري معرفته الحدسية العاطفية بالقيمة. ولكن في ضبابنا الليثي نسينا مكاننا في العالم ويبدو أننا لا نعرف ما الذي نفعله بأنفسنا. وهكذا فقدنا عقولنا معًا. ويبدو أننا فقدنا غريزة البقاء لدينا أيضًا.

ومن الواضح أن الإنسانية لا تعرف أنها تهدد نفسها بخسارة كبيرة. إن الثقافة السائدة تبحر بشكل جماعي دون رادع عن مسارها كما لو كانت مصابة بالجنون، وتبقى مخلصة بشكل صارم لفكرة خلاصنا الفكري الذاتي، غافلة عن العواصف التي تلوح في الأفق.

وهنا يمكن للطب أن يساعد. ومن خلال صراعها مع معاناتها، يمكنها أن تقدم الحكمة في خدمة الشفاء من جائحة الجنون المفرط في الثقافة. خذ بعين الاعتبار استعارة "الإرهاق". لقد انطفأ شيء ناري وساخن ومشرق وديناميكي وحيوي ومفعم بالحيوية. ولكن ما الذي يناسب هذا الوصف في النفس البشرية؟

أليست هي عواطفنا؟

سوف يشفي الطب نفسه من خلال الخروج برأسه المتحكم فيه بشكل مفرط إلى براري القلب غير المنضبط لإعادة اكتشاف التعاطف الذي هو سبب وجوده، وبالتالي التعلم مرة أخرى كيف يكون ضعيفا و متأثرا بمعاناة الآخرين. وهذا أمر مخيف وصعب في نفس الوقت. ومع ذلك، فإن الطب على دراية بهذا الصراع بين ما هو خارج عن السيطرة وما هو خاضع للسيطرة، بين الغموض والمعرفة. يأتي المرضى إلينا ومعهم سر أعراضهم، ويجب على الطبيب أن يسعى جاهداً للوصول إلى معرفة شاملة من أجل محاولة الشفاء - التشخيص (كلمة "gnosis" هي كلمة يونانية تعني "المعرفة") - ولكن الجانب الرئيسي للحكمة الطبية هو القبول الرصين لما لا يمكن السيطرة عليه. إن الحقيقة الواضحة المتمثلة في الوفيات البشرية الشاملة تجعل هذه الحقيقة غير المنضبطة واضحة بشكل مؤلم في الطب. إن ممارسة الطب في مواجهة مثل هذا الواقع غير المنضبط تتطلب قبول عجز البشرية وعدم معرفتنا الجماعية، مع ممارسة التعاطف في الوقت نفسه.

وبتوسيع هذا الدرس ليشمل الثقافة: لكي تشفى من إمبراطوريتها الخرفية، ومن جنون السيطرة عليها، يجب على الثقافة أن تعيد اكتشاف أن عواطفنا تسمح لنا بالتعاطف، وأن صحة مجتمعاتنا مبنية على التعاطف. لذا فإن أملنا في مستقبل إنساني أكثر إشراقا يعتمد في الأساس على التزامنا الرحيم ليس فقط بالصالح الفردي، بل أيضا بالصالح العام.

توسيع درس الطب ليشمل الفلسفة: هناك حكمة في قبول الجوانب العاطفية غير المنضبطة وغير المعرفية للعقل. يمكننا أن نكون عاطفيين بشكل معقول وفيها خير.

لكي تشفى من طمأنينتها، ومن نزاهة عواطفها – ومن أجل شفاء حكمتها – تحتاج الفلسفة إلى قبول واحتضان براري العقل. في بعض الأحيان سيتطلب ذلك عبور العتبة النفسية بين الخاضع للسيطرة وغير الخاضع للسيطرة، للانطلاق في عوالم الفكر اللاشعورية التي تشمل المشاعر العفوية - ليس ككيانات مشوهة تحتاج إلى السيطرة، ولكن كحالات عقلية تشمل الحقيقة. لذلك تحتاج الفلسفة إلى تحقيق السلام مع براري العقل وإدارة الصراع بين تلك العوالم والعقل المستأنس بحكمة، من أجل إيجاد توازن عقلي لا يكون غريزيًا جدًا ولا عقلانيا جدا. الحكمة والعقل موجودان في هذا التوازن. ولكن للقيام بذلك، يجب على الفلسفة أولا أن تغامر بالخروج إلى مناطق جامحة من الوعي الإنساني، لإعادة اكتشاف نظرية المعرفة القديمة الخالدة: تلك المعرفة بالقيمة – الخير والشر – تنبع حصريا من براري العقل، وجوانبه العاطفية. في الأساس، يجب أن تصبح الفلسفة عاطفية. هذا أمر ضروري. لا توجد وسيلة أخرى.

لا يمكن العثور على تراجع الفلسفة في أي أخطاء في العقلانية في حد ذاتها، ولكن في اغترابها عن نصف التجربة الإنسانية على الرغم من العلل التي أصابتها بسبب فرط الفكر وما تلا ذلك من تجريدها من المساعي العاطفية، داخل حصن فكري جاف ومرجع ذاتي.  الآن الفلسفة نفسها تكافح ضد الإرهاق. نارها تتضاءل من خلال الفكر البارد. إذا كان للفلسفة أن تشفى يوما ما، فسوف تحتاج إلى الشجاعة للخروج من هذا السجن التافه. إذا أراد أن يكون سليما ومعافى، فسوف يحتاج إلى تحرير نفسه، والسماح لنفسه بالخروج عن المألوف. يجب أن يغامر بجرأة بالخروج إلى مناطق عفوية جامحة من الوعي الإنساني ليكتشف ليس الذات الإنسانية المسيطرة والمبنية والمتحضرة، بل الذات البرية والطبيعية والشرسة. الفلسفة تحتاج إلى أن تصبح شرسة! إنها بحاجة إلى الخروج من برجها الآمن والمنظم، والخروج إلى العالم الجميل المخيف والمتضارب والقذر والمؤلم والدموي الذي نعيش فيه. هذا هو المكان الذي يمكنها أن تفعل فيه الخير. لذلك، على مستوى ما، تحتاج إلى التخلي عن طبيعتها المبالغة في العقلانية والاستسلام للحب الناري الذي يحمل الاسم نفسه، لإنتاج حب ما وراء المعرفة للحكمة. عندها فقط يمكنها البقاء والازدهار حقا.

***

....................

الكاتب: دكتور جون كلارك، دكتوراه في الطب، 2024

عمل جون كلارك لمدة خمسة وعشرين عاما في طب الأسرة في ساليناس، كاليفورنيا، وهو أستاذ مشارك في الطب السريري في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو. يقوم بتدريس منهاج الفن والفلسفة في الطب لطلاب الطب والمقيمين في ساليناس.

المصدر

The Healing of Philosophy

John Clark, philosophy Now, 2024.

بقلم: آدم فرامك وآخران

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

من المغري الاعتقاد بأن العلم يقدم رؤية للواقع من وجهة نظر الله. لكننا ننسى قيمة التجربة الإنسانية.

مشكلة الزمن هي واحدة من أعظم ألغاز الفيزياء الحديثة. الجزء الأول من اللغز هو كوني. لفهم الزمن، يتحدث العلماء عن إيجاد "السبب الأول" أو "الشرط الأولي" - وهو وصف للكون في البداية (أو في "الزمن يساوي الصفر"). ولكن لتحديد الحالة الأولية للنظام، نحتاج إلى معرفة النظام الكلي. نحن بحاجة إلى إجراء قياسات لمواقع وسرعات الأجزاء المكونة لها، مثل الجسيمات والذرات والمجالات وما إلى ذلك. تصطدم هذه المشكلة بحائط صعب عندما نتعامل مع أصل الكون نفسه، لأننا لا نملك رؤية من الخارج. لا يمكننا أن نخرج من الصندوق لننظر إلى داخله، لأن الصندوق هو كل ما يوجد. السبب الأول ليس فقط غير معروف، ولكنه أيضًا غير مفهوم علميًا.

أما الجزء الثاني من التحدي فهو فلسفي. لقد اعتبر العلماء أن الزمن المادي هو الوقت الحقيقي الوحيد ــ في حين يعتبر الزمن التجريبي، أو الإحساس الذاتي بمرور الوقت، تلفيقاً معرفياً ذا أهمية ثانوية. وقد أوضح الشاب ألبرت أينشتاين هذا الموقف في مناظرته مع الفيلسوف هنري بيرجسون في عشرينيات القرن الماضي، عندما ادعى أن زمن الفيزيائي هو الزمن الوحيد. مع التقدم في السن، أصبح أينشتاين أكثر حذرا. حتى وقت وفاته، ظل منزعجًا للغاية بشأن كيفية إيجاد مكان للتجربة الإنسانية للزمن في النظرة العلمية للعالم.

ترتكز هذه المآزق على افتراض أن الزمن الطبيعي، بنقطة بداية مطلقة، هو النوع الحقيقي الوحيد من الزمن. ولكن ماذا لو كانت مسألة بداية الزمن غير مطروحة؟ يحب الكثير منا أن يعتقد أن العلم يمكن أن يقدم لنا وصفًا موضوعيًا كاملاً للتاريخ الكوني، متميزًا عنا وعن تصورنا له. لكن هذه الصورة للعلم معيبة للغاية. في سعينا للمعرفة والسيطرة، أنشأنا رؤية للعلم كسلسلة من الاكتشافات حول كيفية وجود الواقع في حد ذاته، وهي رؤية عين الرب للطبيعة.

ومثل هذا النهج لا يشوه الحقيقة فحسب، بل يخلق إحساسا زائفا بالمسافة بيننا وبين العالم. وينشأ هذا الانقسام مما نسميه النقطة العمياء، التي لا يستطيع العلم نفسه رؤيتها. في النقطة العمياء تكمن التجربة: الحضور المطلق والمباشر للإدراك الحي.

خلف النقطة العمياء يكمن الاعتقاد بأن الواقع المادي له الأولوية المطلقة في المعرفة الإنسانية، وهو رأي يمكن أن نطلق عليه المادية العلمية. من الناحية الفلسفية، فهو يجمع بين الموضوعية العلمية (يخبرنا العلم عن العالم الحقيقي المستقل عن العقل) والفيزيائية (يخبرنا العلم أن الواقع المادي هو كل ما هو موجود). الجسيمات الأولية، واللحظات الزمنية، والجينات، والدماغ – كل هذه الأشياء يفترض أنها حقيقية في الأساس. على النقيض من ذلك، تعتبر الخبرة والإدراك والوعي ثانوية. وتتمحور المهمة العلمية حول معرفة كيفية اختزالها إلى شيء مادي، مثل سلوك الشبكات العصبية، أو بنية الأنظمة الحسابية، أو بعض قياسات المعلومات.

ويواجه هذا الإطار مشكلتين مستعصيتين. الأول يتعلق بالموضوعية العلمية. نحن لا نواجه أبدًا الواقع المادي خارج نطاق مراقبتنا له. الجسيمات الأولية والوقت والجينات والدماغ تظهر لنا فقط من خلال قياساتنا ونماذجنا ومعالجاتنا. إن وجودهم يعتمد دائمًا على الأبحاث العلمية التي لا تحدث إلا في مجال خبرتنا.

هذا لا يعني أن المعرفة العلمية اعتباطية، أو مجرد إسقاط لعقولنا. على العكس من ذلك، فإن بعض نماذج وأساليب التحقيق تعمل بشكل أفضل بكثير من غيرها، ويمكننا اختبار ذلك. لكن هذه الاختبارات لا تعطينا الطبيعة أبدًا كما هي في حد ذاتها، خارج طرقنا في رؤية الأشياء والتصرف بناءً عليها. تعتبر التجربة أساسية للمعرفة العلمية تمامًا مثل الواقع المادي الذي تكشفه.

المشكلة الثانية تتعلق بالجسدية. وفقا للنسخة الأكثر اختزالا من الفيزيائية، يخبرنا العلم أن كل شيء، بما في ذلك الحياة والعقل والوعي، يمكن اختزاله في سلوك أصغر المكونات المادية. أنت لا شيء سوى خلاياك العصبية، وخلاياك العصبية ليست سوى أجزاء صغيرة من المادة. هنا اختفت الحياة والعقل، ولم توجد سوى مادة هامدة.

وبصراحة، فإن الادعاء بأنه لا يوجد شيء سوى الواقع المادي هو إما كاذب أو فارغ. إذا كان "الواقع المادي" يعني الواقع كما تصفه الفيزياء، فإن التأكيد على وجود الظواهر الفيزيائية فقط هو تأكيد خاطئ. لماذا؟ لأن العلوم الفيزيائية – بما في ذلك علم الأحياء وعلم الأعصاب الحسابي – لا تتضمن تفسيرًا للوعي. هذا لا يعني أن الوعي شيء غير طبيعي أو خارق للطبيعة. النقطة المهمة هي أن العلوم الفيزيائية لا تتضمن حسابًا للخبرة؛ لكننا نعلم أن التجربة موجودة، لذا فإن الادعاء بأن الأشياء الوحيدة الموجودة هي ما يخبرنا به العلم الفيزيائي هو ادعاء خاطئ. ومن ناحية أخرى، إذا كان "الواقع المادي" يعني الواقع وفقًا للفيزياء المستقبلية والكاملة، فإن الادعاء بأنه لا يوجد شيء آخر غير الواقع المادي هو ادعاء فارغ، لأنه ليس لدينا أي فكرة عما ستبدو عليه مثل هذه الفيزياء المستقبلية، خاصة في علاقتها بالوعي.

الموضوعية والجسدية أفكار فلسفية وليست علمية

تُعرف هذه المشكلة باسم معضلة همبل، والتي سُميت على اسم فيلسوف العلوم اللامع كارل جوستاف همبل (1905-1997). في مواجهة هذا المأزق، يرى بعض الفلاسفة أنه يجب علينا تعريف "المادي" بحيث يستبعد الطوارئ الجذرية (التي تنبثق الحياة والعقل من الواقع المادي ولكن لا يمكن اختزالهما إليه) والروحية الشاملة. (هذا العقل أساسي وموجود في كل مكان، بما في ذلك على المستوى الميكروفيزيائي).من شأن هذه الخطوة أن تمنح الفيزيائية محتوى محددًا، ولكن على حساب محاولة تقنين ما هو محدد مسبقًا لما يمكن أن تعنيه كلمة «مادي»، بدلاً من ترك معناها لتحدده الفيزياء.

ونحن نرفض هذه الخطوة. وأيًا كانت الوسائل "المادية" فيجب تحديدها من خلال الفيزياء وليس من خلال انعكاس الكرسي ذو الذراعين. ففي نهاية المطاف، تغير معنى مصطلح "جسدي" بشكل كبير منذ القرن السابع عشر. كان يُعتقد في السابق أن المادة خاملة، وغير قابلة للاختراق، وجامدة، ولا تخضع إلا للتفاعلات الحتمية والمحلية. اليوم، نحن نعلم أن هذا خطأ في جميع النواحي تقريبا: نحن نقبل أن هناك العديد من القوى الأساسية، والجسيمات التي ليس لها كتلة، وعدم التحديد الكمي، والعلاقات غير المحلية. يجب أن نتوقع المزيد من التغييرات الدراماتيكية في مفهومنا للواقع المادي في المستقبل. لهذه الأسباب، لا يمكننا ببساطة تشريع ما يمكن أن يعنيه مصطلح "مادي" كوسيلة للخروج من معضلة همبل.

فالموضوعية والجسدية أفكار فلسفية وليست علمية، حتى لو اعتنقها بعض العلماء. فهي لا تتبع منطقيًا ما يخبرنا به العلم عن العالم المادي، أو من المنهج العلمي نفسه. ومن خلال نسيان أن وجهات النظر هذه هي تحيز فلسفي، وليست مجرد نقطة بيانات، يتجاهل الماديون العلميون الطرق التي لا يمكن بها أبدًا فصل التجربة المباشرة عن العالم.

نحن لسنا وحدنا في آرائنا. يعتمد وصفنا للنقطة العمياء على أعمال اثنين من كبار الفلاسفة وعلماء الرياضيات، إدموند هوسرل وألفريد نورث وايتهيد. قال هوسرل، المفكر الألماني الذي أسس الحركة الفلسفية للظواهر، إن التجربة الحية هي مصدر العلم. ومن السخف، من حيث المبدأ، الاعتقاد بأن العلم يمكن أن يخرج عن ذلك. إن "عالم الحياة" للتجربة الإنسانية هو "التربة الأساسية" للعلم، والأزمة الوجودية والروحية للثقافة العلمية الحديثة - ما نسميه النقطة العمياء - تأتي من نسيان أسبقية العلم.

قال وايتهيد، الذي قام بالتدريس في جامعة هارفارد منذ عشرينيات القرن الماضي، إن العلم يعتمد على الإيمان بنظام الطبيعة الذي لا يمكن تبريره بالمنطق. ويعتمد هذا الإيمان مباشرة على تجربتنا المباشرة. تعتمد فلسفة وايتهيد المزعومة على رفض "تشعب الطبيعة"، الذي يقسم التجربة المباشرة إلى ثنائيات العقل مقابل الجسد، والإدراك مقابل الواقع. وبدلاً من ذلك، جادل بأن ما نسميه “الواقع” يتكون من عمليات متطورة مادية وتجريبية على حد سواء.

لا يوجد مكان يتجلى فيه التحيز المادي في العلوم أكثر من فيزياء الكم، وعلم الذرات والجسيمات دون الذرية. الذرات، التي يُنظر إليها على أنها اللبنات الأساسية للمادة، كانت معنا منذ زمن الإغريق. قد تبدو اكتشافات المائة عام الماضية بمثابة تبرير لكل أولئك الذين جادلوا لصالح مفهوم ذري واختزالي للطبيعة. لكن ما كان يقصده اليونانيون وإسحاق نيوتن وعلماء القرن التاسع عشر بالشيء المسمى "الذرة"، وما نعنيه اليوم، مختلفان تمامًا. في الواقع، إن فكرة "الشيء" ذاتها هي التي تثير التساؤلات في ميكانيكا الكم.

يتضمن النموذج الكلاسيكي لقطع المادة كرات بلياردو صغيرة، تتكتل معًا وتتدافع في أشكال وحالات مختلفة. ومع ذلك، في ميكانيكا الكم، تتمتع المادة بخصائص كل من الجسيمات والأمواج. هناك أيضًا حدود للدقة التي يمكن بها إجراء القياسات، ويبدو أن القياسات تشوش الواقع الذي يحاول المجربون قياسه.

اليوم، تختلف تفسيرات ميكانيكا الكم حول ماهية المادة، وما هو دورنا فيما يتعلق بها. تتعلق هذه الاختلافات بما يسمى "مشكلة القياس": كيف تنخفض الدالة الموجية للإلكترون من تراكب عدة حالات إلى حالة واحدة عند الملاحظة. بالنسبة للعديد من المدارس الفكرية، لا تتيح لنا فيزياء الكم إمكانية الوصول إلى الطريقة التي يوجد بها العالم في حد ذاته. بل إنها تتيح لنا فقط فهم كيفية تصرف المادة فيما يتعلق بتفاعلاتنا معها.

نحن نقيم صنمًا زائفًا للعلم باعتباره شيئًا يمنح المعرفة المطلقة

وفقًا لما يسمى بتفسير كوبنهاجن لنيلز بور، على سبيل المثال، ليس للدالة الموجية أي حقيقة خارج نطاق التفاعل بين الإلكترون وجهاز القياس. وتسعى الأساليب الأخرى، مثل تفسيرات "العوالم المتعددة" و"المتغيرات الخفية"، إلى الحفاظ على حالة استقلالية المراقب للدالة الموجية. ولكن هذا يأتي على حساب إضافة ميزات مثل الأكوان الموازية التي لا يمكن ملاحظتها. ويتخذ تفسير جديد نسبيا يعرف باسم النظرية البايزية الكمومية (QBism) ــ والذي يجمع بين نظرية المعلومات الكمومية ونظرية الاحتمالية البايزية ــ مسارا مختلفا؛ فهو يفسر الاحتمالات غير القابلة للاختزال للحالة الكمومية ليس كعنصر من عناصر الواقع، ولكن كدرجات اعتقاد لدى العامل بشأن نتيجة القياس. بمعنى آخر، إجراء القياس يشبه الرهان على سلوك العالم، وبمجرد إجراء القياس، يتم تحديث المعرفة. يصفه المدافعون عن هذا التفسير أحيانًا بأنه «الواقعية التشاركية»، لأن الفاعلية البشرية مندمجة في عملية ممارسة الفيزياء كوسيلة لاكتساب المعرفة حول العالم. ومن وجهة النظر هذه، فإن معادلات فيزياء الكم لا تشير فقط إلى الذرة المرصودة، بل أيضًا إلى المراقب والذرة ككل في نوع من "مشاركة المراقب".

الواقعية التشاركية مثيرة للجدل. لكن هذه التعددية من التفسيرات، مع مجموعة متنوعة من الآثار الفلسفية، هي التي تقوض اليقين الرصين للموقف المادي والاختزالي بشأن الطبيعة. باختصار، لا توجد حتى الآن طريقة بسيطة لإبعاد تجربتنا كعلماء عن توصيف العالم المادي.

هذا يعيدنا إلى النقطة العمياء. عندما ننظر إلى موضوعات المعرفة العلمية، فإننا لا نميل إلى رؤية التجارب التي تدعمها. نحن لا نرى كيف تجعل التجربة وجودهم لنا ممكنًا. ولأننا نغفل ضرورة التجربة، فإننا نقيم صنمًا زائفًا للعلم باعتباره شيئًا يمنح المعرفة المطلقة للواقع، بغض النظر عن كيفية ظهوره وكيفية تفاعلنا معه.

تكشف النقطة العمياء عن نفسها أيضًا في دراسة الوعي. تركز معظم المناقشات العلمية والفلسفية حول الوعي على "الكواليا" - الجوانب النوعية لتجربتنا، مثل التوهج الأحمر المتصور لغروب الشمس، أو الطعم الحامض لليمون. لقد أنشأ علماء الأعصاب ارتباطات وثيقة بين هذه الصفات وبعض حالات الدماغ، وتمكنوا من التلاعب بكيفية تجربتنا لهذه الصفات من خلال العمل مباشرة على الدماغ. ومع ذلك، لا يوجد حتى الآن تفسير علمي للكواليا من حيث نشاط الدماغ - أو أي عملية فيزيائية أخرى في هذا الشأن. ولا يوجد أي فهم حقيقي لما قد يبدو عليه مثل هذا الحساب.

يتضمن سر الوعي أكثر من مجرد الكواليا/ qualia. هناك أيضًا مسألة الذاتية. التجارب ذاتية بطبيعتها؛ تظهر بضمير المتكلم. لماذا يجب أن يشعر نظام مادي معين بأنه موضوع؟ العلم ليس لديه إجابة على هذا السؤال.

على مستوى أعمق، قد نتساءل كيف يمكن للخبرة أن تمتلك بنية الذات والموضوع في المقام الأول. غالبًا ما يعمل العلماء والفلاسفة على صورة عقل أو موضوع "داخلي" يستوعب عالمًا أو كائنًا خارجيًا. لكن فلاسفة من تقاليد ثقافية مختلفة تحدوا هذه الصورة. على سبيل المثال، كتب الفيلسوف ويليام جيمس (الذي أثرت فكرته عن “التجربة الخالصة” على هوسرل ووايتهيد) في عام 1905 عن “الإحساس النشط بالحياة الذي نتمتع به جميعًا، قبل أن يحطم التفكير عالمنا الغريزي بالنسبة لنا”. هذا الإحساس النشط بالحياة ليس له بنية من الداخل إلى الخارج/الذات والموضوع؛ إنه التفكير اللاحق الذي يفرض هذا الهيكل على التجربة.

منذ أكثر من ألف عام، انتقد فاسوباندهو، الفيلسوف البوذي الهندي من القرن الرابع إلى الخامس الميلادي، تجسيد الظواهر في موضوعات مستقلة مقابل أشياء مستقلة. بالنسبة لفاسوباندو، فإن بنية الذات والموضوع هي تشويه معرفي عميق الجذور لشبكة سببية من اللحظات الهائلة الفارغة من ذات داخلية تمسك بجسم خارجي.

لتوضيح هذه النقطة، ضع في اعتبارك أنه في بعض حالات الاستغراق المكثفة - أثناء التأمل أو الرقص أو العروض عالية المهارة - يمكن أن تتلاشى بنية الذات والموضوع، ويتبقى لدينا إحساس بالحضور المحسوس. كيف يكون هذا الحضور الاستثنائي ممكنًا في العالم المادي؟ العلم صامت عن هذا السؤال. ومع ذلك، بدون هذا الحضور الهائل، يكون العلم مستحيلًا، لأن الحضور شرط مسبق لكي تكون أي ملاحظة أو قياس ممكنة.

سوف يجادل الماديون العلميون بأن المنهج العلمي يمكّننا من الخروج من التجربة وفهم العالم كما هو في حد ذاته. وكما سيتضح الآن، فإننا نختلف؛ في الواقع، نحن نعتقد أن طريقة التفكير هذه تسيء تمثيل منهج العلم وممارسته.

بشكل عام، إليك كيفية عمل المنهج العلمي. أولاً، نضع جانبًا جوانب التجربة الإنسانية التي لا يمكننا الاتفاق عليها دائمًا، مثل كيف تبدو الأشياء أو طعمها أو ملمسها. ثانياً، باستخدام الرياضيات والمنطق، نقوم ببناء نماذج مجردة ورسمية نتعامل معها كأشياء ثابتة تحظى بالإجماع العام. ثالثًا، نتدخل في مجرى الأحداث من خلال عزل الأشياء التي يمكننا إدراكها والتلاعب بها والتحكم فيها. رابعا، نستخدم هذه النماذج المجردة والتدخلات الملموسة لحساب الأحداث المستقبلية. خامسًا، نتحقق من هذه الأحداث المتوقعة ومقارنتها بتصوراتنا. وتشكل التكنولوجيا أحد العناصر الأساسية في هذه العملية برمتها: الآلات ــ معداتنا ــ التي تعمل على توحيد هذه الإجراءات، وتضخيم قدراتنا على الإدراك، وتسمح لنا بالتحكم في الظواهر لتحقيق أهدافنا الخاصة.

تنشأ النقطة العمياء عندما نبدأ في الاعتقاد بأن هذه الطريقة تتيح لنا الوصول إلى الواقع الصريح. لكن الخبرة موجودة في كل خطوة. ولا بد من استخلاص النماذج العلمية من الملاحظات، التي غالبا ما تتم بوساطة معداتنا العلمية المعقدة.إنها تصورات مثالية، وليست أشياء فعلية في العالم. نموذج جاليليو للطائرة عديمة الاحتكاك، على سبيل المثال؛ نموذج بور للذرة التي تحتوي على نواة صغيرة كثيفة تدور حولها إلكترونات في مدارات كمية مثل الكواكب التي تدور حول الشمس؛ النماذج التطورية للمجموعات السكانية المعزولة – كل هذه موجودة في ذهن العالم، وليس في الطبيعة. إنها تمثيلات عقلية مجردة، وليست كيانات مستقلة عن العقل. وتأتي قوتها من حقيقة أنها مفيدة للمساعدة في وضع تنبؤات قابلة للاختبار. لكن هذه أيضًا لا تأخذنا أبدًا إلى خارج نطاق الخبرة، لأنها تتطلب أنواعًا محددة من التصورات التي يؤديها مراقبون مدربون تدريبًا عاليًا.

لهذه الأسباب، لا يمكن "للموضوعية" العلمية أن تقف خارج التجربة؛ في هذا السياق، تعني كلمة "الهدف" ببساطة شيئًا ينطبق على الملاحظات المتفق عليها من قبل مجتمع من الباحثين باستخدام أدوات معينة. العلم هو في الأساس شكل من أشكال الخبرة الإنسانية مصقول للغاية، يعتمد على قدراتنا على الملاحظة والتصرف والتواصل.

إن الزعم بأن العلم يكشف عن «حقيقة» موضوعية تمامًا هو زعم لاهوتي أكثر منه علمي

لذا فإن الاعتقاد بأن النماذج العلمية تتوافق مع حقيقة الأشياء لا ينبع من المنهج العلمي. وبدلاً من ذلك، فهو يأتي من دافع قديم ــ وهو دافع موجود غالباً في الديانات التوحيدية ــ لمعرفة العالم كما هو في ذاته، كما يعرفه الله. إن الزعم بأن العلم يكشف عن «حقيقة» موضوعية تمامًا هو زعم لاهوتي أكثر منه علمي.

يجادل فلاسفة العلم المعاصرون الذين استهدفوا مثل هذه "الواقعية الساذجة" بأن العلم لا يبلغ ذروته في صورة واحدة لعالم مستقل عن النظرية. بل إن جوانب مختلفة من العالم ــ من التفاعلات الكيميائية إلى نمو وتطور الكائنات الحية، وديناميكيات الدماغ والتفاعلات الاجتماعية ــ يمكن وصفها بنجاح إلى حد ما من خلال نماذج جزئية. وترتبط هذه النماذج دائمًا بملاحظاتنا وأفعالنا، كما أنها مقيدة في تطبيقها.

تضيف مجالات نظرية الأنظمة المعقدة وعلوم الشبكات دقة رياضية إلى هذه الادعاءات من خلال التركيز على الكل بدلاً من اختزالها إلى أجزاء. نظرية الأنظمة المعقدة هي دراسة الأنظمة، مثل الدماغ أو الكائنات الحية أو المناخ العالمي للأرض، والتي يصعب نمذجة سلوكها: تعتمد كيفية استجابة النظام على حالته وسياقه. تظهر مثل هذه الأنظمة التنظيم الذاتي، وتشكيل الأنماط التلقائية والاعتماد الحساس على الظروف الأولية (يمكن أن تؤدي التغييرات الصغيرة جدًا في الظروف الأولية إلى نتائج مختلفة على نطاق واسع).

يقوم علم الشبكات بتحليل الأنظمة المعقدة من خلال نمذجة عناصرها كعقد، والروابط بينها كروابط. فهو يشرح السلوك من حيث طوبولوجيا الشبكة - ترتيبات العقد والاتصالات - والديناميكيات العالمية، وليس من حيث التفاعلات المحلية على المستوى الجزئي.

مستوحاة من وجهات النظر هذه، نقترح رؤية بديلة تحاول تجاوز النقطة العمياء. إن تجربتنا وما نسميه "الواقع" لا ينفصلان. المعرفة العلمية هي رواية ذاتية التصحيح مصنوعة من العالم وتجربتنا فيه تتطور معًا. يمكن إعادة صياغة العلم ومشكلاته الأكثر تحديًا بمجرد أن نقدر هذا التشابك.

لنعد إلى المشكلة التي بدأنا بها، وهي مسألة الزمن ووجود العلة الأولى. لقد تناولت العديد من الأديان فكرة السبب الأول في روايات الخلق الأسطورية. لشرح من أين يأتي كل شيء وكيف ينشأ، يفترضون وجود قوة مطلقة أو إله يتجاوز حدود المكان والزمان. مع استثناءات قليلة، يخلق الله أو الآلهة من الخارج ليؤدي إلى ما هو موجود في الداخل.

ولكن على عكس الأسطورة، فإن العلم مقيد بإطاره المفاهيمي للعمل على طول سلسلة سببية من الأحداث. السبب الأول هو قطيعة واضحة بين هذه العلاقة السببية ــ كما أشار الفلاسفة البوذيون منذ فترة طويلة في حججهم ضد الموقف الهندوسي الإيماني القائل بضرورة وجود سبب إلهي أول. فكيف يمكن أن يكون هناك سبب لم يكن في حد ذاته نتيجة لسبب آخر؟ إن فكرة السبب الأول، مثل فكرة الحقيقة الموضوعية تمامًا، هي فكرة لاهوتية في الأساس.

يعتمد الزمن الفيزيائي في معناه على تجربتنا الحياتية للزمن

تشير هذه الأمثلة إلى أن "الزمن" سيكون له دائمًا بُعد إنساني. وأفضل ما يمكن أن نهدف إليه هو بناء حساب كوني علمي يتوافق مع ما يمكننا قياسه ومعرفته عن الكون من الداخل. لا يمكن للحساب أن يكون وصفًا نهائيًا أو كاملاً للتاريخ الكوني. بل يجب أن يكون سردًا مستمرًا يصحح نفسه ذاتيًا. "الزمن" هو العمود الفقري لهذه الرواية؛ إن تجربتنا الحياتية للزمن ضرورية لجعل السرد ذا معنى. مع هذه الرؤية، يبدو أن وقت الفيزيائي هو وقت ثانوي؛ إنها مجرد أداة لوصف التغييرات التي يمكننا ملاحظتها وقياسها في العالم الطبيعي. إذن فإن الزمن الفيزيائي يعتمد في معناه على تجربتنا الحياتية للزمن.

يمكننا الآن أن نقدر الأهمية الأعمق لألغازنا العلمية الثلاثة: طبيعة المادة، والوعي، والزمن. يشيرون جميعًا إلى النقطة العمياء والحاجة إلى إعادة صياغة طريقة تفكيرنا في العلوم. عندما نحاول فهم الواقع من خلال التركيز فقط على الأشياء المادية خارجنا، فإننا نغفل عن التجارب التي تشير إليها. لا يمكن حل الألغاز الأعمق بمصطلحات فيزيائية بحتة، لأنها جميعا تنطوي على حضور لا مفر منه للخبرة في المعادلة. لا توجد طريقة لفصل "الواقع" عن التجربة، لأن الاثنين متشابكان دائمًا.

إن "رؤية" النقطة العمياء أخيرًا يعني الاستيقاظ من وهم المعرفة المطلقة. إنه أيضًا احتضان الأمل في أن نتمكن من خلق ثقافة علمية جديدة، حيث نرى أنفسنا تعبيرًا عن الطبيعة ومصدرًا لفهم الطبيعة لذاتها. ونحن لا نحتاج إلى أقل من علم يتغذى على هذه الحساسية لكي تزدهر البشرية في الألفية الجديدة.

***

....................

المؤلفون:

1- آدم فرانك/ Adam Frank: أستاذ الفيزياء الفلكية بجامعة روتشستر في نيويورك. وهو مؤلف العديد من الكتب، آخرها كتاب الأجانب الصغير (2023).

2- مارسيلو جليزر/ Marcelo Gleiser: عالم فيزياء نظرية في كلية دارتموث في نيو هامبشاير، حيث يعمل أستاذًا للفلسفة الطبيعية في أبليتون وأستاذًا للفيزياء وعلم الفلك، ومدير معهد المشاركة متعددة التخصصات (ICE). وهو مؤلف جزيرة المعرفة (2014).

3- إيفان طومسون/Evan Thompson: أستاذ الفلسفة وباحث في معهد بيتر وول للدراسات المتقدمة بجامعة كولومبيا البريطانية في فانكوفر. وهو زميل الجمعية الملكية الكندية. أحدث كتاب له هو "اليقظة، الحلم، الوجود" (2015). رابط المقال على أيون 2019:

https://aeon.co/essays/the-blind-spot-of-science-is-the-neglect-of-lived-experience

أو في "أسس مشروعية تأويليّة للصّورة في الفنّ"

بقلم: جوهان ميشيل*

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

" إذا لم يكن من طبيعة صورة مرسومة أو مصوّرة أن تدل على معنى (منطق المعنى)، بل أن تثير انفعالا (منطق الإحساس)، وإذا ما فضلنا الشكل الجمالي على المضمون الدلالي، وإذا ما رفضنا قراءة صورة بمثل نص (أفلا يجعل هذا)، قيام تأويلية للصورة في الفن موضوع اعتراض في أساسها بالذات، في ادعاءها إدخال قوّة التصويري في حضن الخطاب، وفي إرادة انصهار المحسوس في العقلي، وتعنيف الصورة بجعلها تتكلّم بدل النظر إليها والإحساس بها؟"

" إن سطح المرئيّ مضاعف، على كلّ امتداده، بمخزون لامرئيّ" (م.بونتي)

"إنّ اللوحة بالنسبة إلى الهرمونيطيقي (المؤوّل) مثلما هو الحال بالنسبة إلى المصوّر، هي صورة - أحجية يكبت صمُتها خطابا ضمنيا؛ ولابدّ كي نعرف المعنى، من إعطاءها الكلمة، وجعلها تتكلّم أو، بتعبير آخر، جعلها تعترف. فالأثر الفنّي بالنسبة إلى الفينومينولوجي هو حضور صامت (الرسم شعر صامت) مكتف بذاته، روعة ظهورها يحبس أنفاسنا، ويجعلنا "صامتين من فرط إعجابنا". (ج. ميشيل)

***

" يفترض تأويل صورة في الفنّ على الأقلّ ثلاثة أشياء. الأوّل هو أنّ الصورة حاملة لمعنى أو عدّة معاني، وأنه يوجد فيها معنى بدل لا شيء، وأنه يوجد فيما وراء أو عبر المادية أو التشكيل الفني للعمل، أفق لمعقولية . والثاني، أنه، إذا ما وجد معنى، فإنّه يتعذّر الوصول إليه مباشرة، وأنه في جانب منه أو في كليته مخفيّ، غير شفّاف، معتّم وغامض وأنه يحتاج بالتالي عملا تأمليا وبحثا عن المعنى تسمّيه نتالي هاينيش Nathalie Heinich " عملية ألغزة" mise en énigme، " كما لو كان من المنطقي أن يطرح العمل الفني سؤالا، ويشكّل لغزا، ويخفي معنى خارجا و حتّى قبل أن نبحث عنه " (1). والشيء الثالث هو أنه يمكن التعبير عن معنى الصورة في خطاب، وأنه يمكن أن نجعل الصّور تتكلّم.

إنّ هذه الأشياء الثلاث ليست بالمرّة بَدَهَّية، إلى حدّ إرباك إمكانية قيام تأويلية أو هارمونيطيقا للصورة. وهي ليست بدهية إذا ما اعتبرنا أنّه ليس من طبيعة صورة مرسومة أو مصوّرة أن تعني signifier (منطق المعنى)، بل أن تثير انفعالا d’affecter (منطق الإحساس)، وإذا ما فضلنا الشكل الجمالي على المضمون الدلالي، وإذا ما رفضنا قراءة صورة بمثل نص . إنّ تأويلية للصورة في الفن ستكون إذن موضوع اعتراض في أساسها بالذات، في ادعاءها إدخال قوّة التصويري في حضن الخطاب، وفي إرادة انصهار المحسوس في العقلي، وتعنيف الصورة بجعلها تتكلّم بدل النظر إليها والإحساس بها.

إنّ رهان هذه المساهمة هو تبرير إسهام تأويلية للصورة، مع الأخذ بعين الاعتبار الاعتراضات الكثيرة التي واجهتها. إن ّرهان هذه المساهمة هو البحث، لا الاعتراض، بل تجديل الانفعال والتأويل، المحسوس والذهني، الإحساس والكلام. إنّ رهان هذه المساهمة هو اللعب على تعدّد معاني " sens" في اللغة الفرنسية التي تحيل إلى ما يولّد الإحساسات (soma) بقدر ما تحيل إلى تأثيت المعنى (le sens- sèma)، حتى نستعيد التمييز الذي قوم به ديدي - هيبارمان .

إنّ هكذا جدلية لا يمكنها أن تظهر إلاّ بشرط تفادي مزلقين، توجّهين متضادين، من جهة هرمونيطيقا تذهنّية خالصة وجافّة، تجعل من الصورة مجرّد تعلّة للخطاب، ومن جهة أخرى استيتيقا ما يتعذّر التعبير، والذي يجعل كلّ تأويل غير مسموع، باسم أولوية الانفعال على المفهوم. إنّ الرهان هذه الجدلية هو إذن معرفة وفق أي طريقة يمكن لتأويل الصّور أن يساهم في الآن نفسه في إثراء ميلها إلى التأثير فينا. وفق أية شروط يمكن لتأويلية أن تجعل الصور تتكلّم دون أن تسكت قوّتها الانفعالية؟

الفينومينولوجيا وتأويليّة الصورة

تُطرح الصورة المرسومة لأول وهلة بوصفها ظاهرة محسوسة. وتقدّم الصورة للناظر صامتة.و يبدو أن فينومينولوجيا الإدراك، وبدل أن تكون تأويلية، هي معدّة أكثر لجعل الصورة تُرى في ظاهريتها بالذات. إن الفينومينولوجيا، بالرغم من هيمنة المنهج الوصفيّ فيها، لا تعترض بالضرورة وفق جاك دارّيلا Darriulat، على فكرة التأويل ذاتها، لكن في نمط هارمونيطيقا تأويل شبيهة، في نظره، بمنهج تفكيك رموز أو أمثولة حيث يتعلّق الأمر بالبحث عن معنى خفيّ، مستتر ومشخّص، من خلال إظهار معنى أوليا أو حرفيّا. تؤوّل الهارمونيطيقا الصورة- اللوحة مثلما نفعل لنص استعاري allégorique . ولأنّ الصورة لا تفصح لأول وهلة عن امتلاءها الدلالي، فهي تتطلّب عملا حقيقيّا لتفكيك الشفرات حتى نكشف فيها عن اللغز الحقيقيّ. وسيكون الخطاب الفينومينولوجي شيئا آخر وهو الذي لن يطمح إلى كشف معنى خفيّ، بل إظهار معنى الصورة في حركة تجلّيها و ظهورها، وفي " حضورها الخالص"، في " مرئيّتها" الخالصة.

لا قيمة للصورة بالنسبة إلى شيء آخر، مثل ظهور حسيّ لحقيقة ذهنية، ذلك أن لها قوّتها التشكيلية والتصويرية الخاصّة، بوصفها حضورا خالصا. سوف يحضر العَوْدُ إلى الصورة ذاتها، المماثل للعود إلى الأشياء ذاتها الذي تدعو إليه الفينومينولوجيا، التأويل الهرمونيطيقي للمعنى الخفيّ. إنّ " اللوحة بالنسبة إلى الهرمونيطيقي مثلما هو الحال بالنسبة إلى المصوّر، هي صورة - أحجية يكبت صمتها خطابا ضمنيا؛ ولابدّ كي نعرف المعنى، من إعطاءها الكلمة، وجعلها تتكلّم أو، بتعبير آخر، جعلها تعترف. فالأثر بالنسبة إلى الفينومينولوجي هو حضور صامت (الرسم شعر صامت) مكتف بذاته، روعة ظهورها يحبس أنفاسنا، ويجعلنا "صامتين من فرط إعجابنا". (3)

يستحقّ التعارض الذي أقامه داريولا بين هرمونيطيقا وفينومينولوجيا الصورة، عناء التوضيح. مع ذلك فهو يخطأ بطابعه الجد ّ تبسيطي. دون حتى أن تثير المنعرج الذي أحدثه هيدجر الذي يفتح إذن الطريق إلى فينومينولوجيا تأويلية للكائن بوصفها حجب - انكشاف، والفينومينولوجيا الهوسرلية ذاتها، إذا ما تحمّست لوصف ظاهرية كلّ ظاهرة في مرئيتها، فهي لا تستبعد قطّ إمكانية تأويل ما لا يفصح عن ذاته مباشرة في الحضور المحض للشيء.

وما هو حقيقيّ بالنسبة إلى كلّ شيء هو كذلك بالنسبة إلى صورة- لوحة. فلا تظهر الصورة المرسومة إلاّ من مقطع جانبي معيّن بالنسبة إلى مُشَاهد يتموقع هو ذاته في وضعية معينة بالنسبة إلى اللوحة. وينفصل المشاهد، بحسب هذا المقطع الجانبي، وبحسب تغيّر الوضعية التي يمكن أن نتبنّاها، وبحسب الإضاءة والوسط الخارجي الذي ينفصل عنه، فلا يرى الشيء نفسه فحسب بل لن يستطيع الإحاطة بالصورة بنظرة واحدة كي يُطلق الظاهرية الخالصة. فهو ملزم، ودون حتى أن يكون له افتراض معنى مجازي بالمعنى الرمزي للكلمة، بالاعتراف بأنّ الجوانب البارزة لصورة تظلّل (تقلي بظلالها) على جوانب خفيّة تتطلّب تأويلا. لا يمكن لمعنى صورة أن يتجلّى تماما بواسطة مقطع جانبي واحد، بل بفضل جهد تأليفيّي لرسومات ليست هي ذاتها قابلة للتشميل. وحتى نقول ذلك مع مارلوبونتي ," إن سطح المرئيّ هو مضاعف، على كلّ امتداده، بمخزون لامرئيّ". (4) . إنّه " المخزون اللامرئيّ الذي يجعل من الضروريّ، وهذا منذ مرحلة الإدراكيّ، وجود عمل تأويلي لمعنى الصورة (فيما يمكن أن نسمّيه مع مارلوبونتي " تفسيرا مُلهم"«  exégèse inspirée  ») لا يَمْثُلُ في الشفافية المباشرة لوجودها (الصورة) الحسيّ. لأجل هذا تسمّى الفينومينولوجيا بعدُ تأويلية أو هارمونوطيقا، دون أن تتطابق معها. ليست المعاني الخفيّة لصورة قابلة للاختزال بالمرّة في وظيفتها الرمزية أو المجازية، لكنها مكوّنة لنمط ظهورها بوصفها كائنا تشكيليا. إنّ التغيّرات التخيّلية حول الصورة، وحول وجوهها اللامرئية أو التي ليست بعدُ مرئية، والتغيرات الموضعية للذات لإبراز الجانبية أو البروفايل الجديد، هي كثير من التغيّرات التأويلية.

إنّ خداع المرئيّة الخالصة للصورة، وللأثر بوجه عام، دون ملحق تأويلي، موجود في بعض التيارات المعاصرة، مثل الحدنوية (أو التبسيطية) minimalisme. من الواضح أنّ الطموح هو تنقية كل وظيفة رمزية في أثر فني ما: فلا يوجد ما نراه غير ما نراه (what you see is what you see) حتى نستعيد تعبيرا لأحد رواد هذا التوجّه (فرانك ستيلاّ (Franck Stella. ما من معنى خفيّ، ولا شيء للتأويل من وراء ما يمكننا ببساطة رؤيته في إدراك مباشر. إنّ الأثر الفنّي الحدنويّ (مثل مكعب بلوري شفّاف) ليس له أيّ إلغاز. فهذا الأثر صغير الحجم يطمح إلى أن يهب نفسه في حضور ماديّ خالص وأن يعرقل عملية التلغيز، أي أن نقول أكثر ممّا نراه. إنّ الطابع الطوطولوجي أو الحشوي للأثر الحدنويّ، مثلما يلاحظ ديدي - هيبرمان Didi-Hubermann يقوّي طوطولوجيا كلمة السرّ («  what you see is what you see  ») ما تراه هو ما تراه" : ما من جوّانية intériorité إذن. وما من كُمون. لا شيء من هذا " الاستعادة"retrait أو هذا " المخزون" réserve الذي يتحدّث عنه هيدجر مساءلا معنى العمل الفنيّ. لا وقت، إذن لا وجود لموضوع فحسب، موضوع " خصوصيّ". لا تراجع، إذن ما من لغز. ما من هالة. ولاشيء هنا "لا يعبّر عن نفسه"، بما أنه لا شيء يخرج وبما أنه لا يوجد حيّز أو كمون - مستودع مفترض للمعنى - حيث يمكن لشيء ما أن يختفي كي يخرج من جديد، لينبثق من جديد في أيّ لحظة. (5).

ودون أن يكون لنا أن نفترض حتّى وجود " مستودع للمعنى"، يجعل الأثر الفني يتكلّم، وأيّ كانت "حدنوية" المعنى، فهو لا يمنح نفسه في ظهوره حضورا خالصا. لنشاهد إذن المكعبات الشفافة لروبار موريس. فهي لا تظهر للمتفرّج إلاّ من جانبية (بروفايل) خاصّة ولا قطّ في كليّتها (totalité) ؛ فليست وجوه كلّ مكعّب قابلة للإدراك في نفس الوقت. فترتيب المكعبات يحمل المتفرّج على التجوّل بينها، محوّرا إذن إدراك كلّ مكعّب. إنّ نمط الظهور له قابلية التحوّل أيضا في علاقة بالضوء، وفي علاقة بالألوان و مكوّنات الأرض وجدران وسقف قاعة العرض، وأجزاء أجسام المتفرّجين المنعكسة على المكعبات. يشفط انعكاس المكعبات خارجا متعدّدا يمنح نفسه في المرآة. كل شيء يحدث كما لو أن المكعبات تمتصّ قطع محطّمة من الواقع: هنا وجه، وهناك كعب، وهنالك يد...تصبح المكعبات مرايا لعالم محيط بـ، ومتحوّل، مانحة الفرصة لتطواف شعريّ وتيهيّ لصور متلاشية. ويُحمل المتفرّج ذاته، بفعل انعكاسه على المكعبات، على متابعة أثر الإبداع، وإعادة تشكيل معنى الصورة، وحتى لو كان ذلك من أجل أن يرى نفسه، على الأقلّ مجزأ . ما من حاجة للجوء هنا إلى استعارة أو مجاز لفهم أنّه يوجد شيء ما للرؤية، من وراء مجرّد مكعبات شفّافة، لكن من خلالها بعدُ . ولو تحدّثنا تداوليا، فإنّ التجربة الكلبية للمكعبات تنقض كلمة السرّ للحدنويين minimalistes. وإذا ما وجدت معاني خفيّة، فهي ليست رمزية أو مجازية ؛ إنما تستخدم في تجربة جمالية ذاتها للموضوعات التي يترك ظهورها مخزونا للامرئيات invisibilités، وأفاقا متحوّلة للإدراك تستدعي مسارا تأويليا للمعنى.3831 المرايا المكعبة

المرايا المكعبة روبار مورّيس (1965/1971)

التأويلية الحَرْفِية والتأويلية المجازية للصورة

ليست التأويلية منحصرة، في مقابل ما يقترحه دارييلا Darriulat، في المجازية l’allégorèse وبوجه عام في تأويل معنى خفيّ، مقابل لرؤية جدّ عنيدة. يتعلّق الأمر دون شكّ بإحدى التشعّبات التي تعود إلى الإغريق ... إنّ هذا المتحوّل للهارمونيطيقا الذي جعله الحديثيون دنيويّا sécularisée أو مُعَلْمَنٌا، هو بالخصوص مسلّح وملائم لتأويل كلّ جزء من تاريخ الفنّ التصويري الذي يستقي مباشرة منابعه الأدبية من الأساطير والرموز والاستعارات أو المجازات allégories المتأتّية من التقاليد اليهودية المسيحية من جهة، والإغريقية اللاتينية من جهة أخرى. هو صحيح لاسيما بالنسبة لفن رسم تاريخ النهضة الإيطالية (وأقلّ صحّة عن فن رسم منظر النهضة الهولندية) حيث قد يكون نقل المناهج الموروثة للتأويلية النصية في خدمة تأويل اللوحات الفنية. يسلك المؤرخ وناقد الفنّ إذن طريقة ليست بعيدة عن طريقة الفيلولوجي أو المفسّر . فتكون مهمته، بوصفه مالكا لرسوخ في العلم متين، ردّ المعنى الظاهر للصورة إلى معاني ثانوية أو مجازية، ورسم جينيالوجيا العمل الفني وإعادة وضعه في سياقه التاريخي، واستنباط المصادر الأدبية التي أثّرت فيه. والمدرسة السجليّة في تاريخ الفنّ لهذا المنهج في التأويل هو البراديغم الايقونولوجي الذي وضعه في البداية واربورغ Warburg وتابعه فيما بعد بانوفسكي Panofsky خاصّة . ومن دون هذا الإسهام الإيقونولوجي سنمرّ بالتأكيد بجانب ناحية جوهرية لمعنى أثر فنّي. يغنم المتفرّج بفضل التقنيات المتينة للتأويل في فهمه الصورة:" هكذا يوضّح المعنى الإيقونولوجي البعد التخيّلي للأثر الفني ويرجعه إلى سياق ثقافيّ وليس تاريخيا فحسب. نفهم إذن بشكل أفضل طموح التأويل الإيقونولوجي : فهم العمل الفني، هو العثور على النظرة التي ولّدته، هو اعتبارها بالعينين التي وقع تصوّره من أجلهما. تباشر الإيقونولوجيا بهذا المعنى أريكيولوجيا حقيقية للنظرة". (6) (جاك داريلا 2007) " تأملات في المنهج الإيقونولوجي لتأويل العمل الفني").

تصلح هذه الإركيولوجيا للنظرة بالخصوص، لرفع الالتباس أو التأكيد على تناقضات المشاهد والشخصيات والأشكال. يقوم بانوفسكي بالبرهنة البارعة على هذا في محاولته عن " مشكل وصف الأعمال"، فيما يخصّ تأويل لوحة رسام البندقية فراشسكو مافاي Francesco Maffei (انظر اللوحة)3832 سالومي

"أيوديث" أو "سالومي" فرانشسكو مافاّي1650

حيث يظلّ الشكّ قائما حول معرفة هل الشخصية المحورية هي، إمّا سالومي Salomé (براس بابتيتست، Baptiste)، أويوديث Judith (برأس هولوفارنو d’Holopherne). وبانتباه شديد لتفاصيل العمل ولمصادره من الكتاب المقدّس التي أمكن لها أن تلهمه، يشير بانوفسكي إلى قرائن متباينة يمكن لها أن تميل بالتأويل صوب جهة أو أخرى . فالقرائن التي تميل نحو سالومي بالفعل، في تطابق مع إنجيل متّى، هي كون الرأس المقطوع لإنسان يوجد في طبق (يتعلق الأمر إذن بباتيست Baptiste). يمكن لهذا التأويل مع ذلك أن يوضع موضع التساؤل بموجب أنّ المرأة تمسك في يدها بسيف (منبهة إلى أنها صاحبة التنكيل)، بينما لم تكن هي، في رواية متّى، من نفّذ بيديه القتل. من هنا كان افتراض أن الأمر يتعلّق إذن لا بسالومي، بل بيوديث التي، في رواية الكتاب المقدّس، هي من قامت فعلا بقتل هولوفارنو. Holopherne .غير أنّ هذا التأويل الجديد يصطدم بواقع أنّه لم يكن يتعلّق الأمر قطّ في هذه القصّة بطبق حيث وضع فيه رأس هولوفارنو، بما أنّ يوديث يقدّمه مباشرة إلى خادمته: " إنه لأمر غريب إذن، لنا للوحة واحدة، مقطعين من الكتاب المقدّس مختلفين كليا وكلاهما مناسب أيضا، وعلى نحو سيء أيضا، بما أنّ الطبق ولا السيف يناسب سالومي، بينما يناسب يوديث السيف لا الطبق. إلاّ أنّ نقص القرائن الإضافية يمنعنا عن الحسم لصالح أحدهما دون الآخر." (7).

إذا كانت الإيقونولوجيا لا تسمح بالحكم القاطع في شأن هذه التأويلات، فإن لها في المقابل فضل الزيادة في فهم الأثر، والشهادة فيم لا يمكننا أن نبقى في مستوى الحضور المباشر الخالص للصورة لإدراك تامّ للمعاني، وبيان بواسطة تاريخ"الأنماط"، مثلما يقترح بانوفسكي، بأنّ ازدواجية الصورة في لوحة مافاي ليست سوى حالة معزولة في الفنّ الناشئ لإيطاليا الشمالية حيث يمكن ملاحظة نقلة رأت في طبق جان باتيست وقد صار أحد لوازم تمثّل يوديث. سينبثق من جديد إذن الاعتراض الفينومينولوجي الذي وفقه تمرّ المقاربة الهارمونيطيقة، في صيغتها الإيقونولوجية (صيغة لا تغطّي كل التوجهات الهارمونيطيقية، خاصّة توجه هيدجر وغادامير)، تمرّ بجانب الظهور الحسّي للعمل الفنّي، وميله إلى التأثير فينا بحضوره الخالص. إنّ الصورة باختزالها في منزلة وثيقة تاريخية، لن تكون لها قيمة في ذاتها، بل بوصفها توحي بموضوع، بنمط وبأسلوب، أي بوصفها " رؤية للعالم"، بوصفها " شكلا رمزيا" :" إنّ الأثر الفني إذن هو " عارض" symptôme" لنسق كامل من القيم، لعالم ثقافي يتعلق الأمر بإحيائه، إذ في لعبة الجمع هذه تأخذ الصورة كامل معناها. (8) وستكون الصورة، بموجب جعلها تتكلّم ودفعها إلى الاعتراف، وإرجاعها إلى منابعها الأدبية، إلى شكلها الرمزي، في نهاية الأمر مختفية عن الأنظار أو فاقدة للأثر. وسيتفوّق الكلام على النظر..وسيلوّث الخطابُ الإدراكَ الحسّي للأشكال، والألوان والرسوم.

هل هذا هو الحال حقّا؟ ألا يمكن، على العكس، أن ننتصر لكون الهارمونيطيقا الإيقونولوجية تسمح بالنظر إلى الصورة على نحو آخر، بالنظر بشكل أفضل، على الصعيد القيمي أو الأكسيولوجي، والإحساس بأكثر قوّة، على الصعيد الوجداني؛ نظرا وإحساسا لا يكون ممكنا إلاّ إذا وثقنا فحسب بالحضور الحسّي لتمظهر الصورة؟ ألا يمكننا أن نسند القول بأنّ الخطاب التأويلي لا يأتي ليعتّم obscurcir بل على العكس ليكشفrévéler القوّة العاطفية التي تثيرها اللوحة؟ هل يمكن حقّا أن نُتَّهم بالفكرانية أو بنزعة تعقلّية، إيقونولوجيا سعت إلى إزالة الانتشار المؤقّت لـ" أشكال الباتوس" (التفخيم الدرامي) في تاريخ الفنّ، من حيث أن الصورة تحمل بصورة متينة شحنة عاطفية وتمثّلا إيقونولوجيا؟ يمكن أن نعترض عليها بالاستناد إلى الدراسة التي أضحت نموذجا من نوع واربورغ بخصوص لوحة الربيع Printemps لبوتشللي، واستعادتها المتميّزة من ديدي هيبرمان. Didi-Huberman .3833 الربيع

" الربيع " لساندرو بوتشللي.

فيم يتمثّل المنهج التأويلي هنا؟

يفترض الوصف الذي يقترحه واربورغ للشخصيات وللمشهد والحركات معرفة بالخلفية التي تغوص بنا في العالم القديم، لا بل المسيحي (بحكم غموض الشخصية المركزية، تحت بعض سمات العذراء) . تمسح إذن المصادر الأدبية للعصر القديم والمصادر التاريخية أربعة قرون، بتعيين الديكور (حديقة فينوس بما فيها من أشجار البرتقال). وفي أقصى اليسار، يمدّ عُطارد (مبعوث الإله، صائد النجوم التي قد تُخفي الحقيقة) نحو برتقالة، النعم الثلاث المُغطّاة كليا (الجمال والفضيلة والوفاء) تشكّل دائرة وترمز إلى الانسجام في الحبّ. وفي المركز، فينوس، بطنها مكوّرة، في وضع الولادة، تقوم بحركة باليد في اتجاه النّعم، رأسها مائلة قليلا نحو اليمين، فوقها كيوبيد مُجانبا إياها (رمز الحبّ الأعمى)، وسهم متجه صوب النِّعم . وعلى اليمين، آلهة الربيع، التي تحمل فرعا من شجيرة الورد كحزام لفستانها وإكليل من أوراق الشجر على رقبتها، تزرع الزهور وهي تمشي في اتجاه المشاهد.. وفي أقصى اليمين، يطلق زفير نفخة صوب كلوريس، قابضا في ذات الوقت على جزء من جسده. وكلوريس، بنظرة حائرة متوسّلا إله الريح، وبحركة دفاع عن النفس ضدّ من يتبعه، يتقيأ زهورا، رمزا لوحدتهما الجسدية وإعلانا بقدوم الربيع.

يلجأ واربورغ، قبالة صورة مكثفة بالرموز وشخصيات أسطورية، إلى مجاز حقيقيّ، بالكشف خلف المعنى الحرفي للصورة عن معنى مخفيّ مجازي للربيع تحديدا . وللتأكيد على ذلك قام مؤرخ عصر النهضة بتقصيّ حقيقيّ عن المصادر الأدبية، والتأثيرات والدوائر الثقافية التي حامت حول بوتشللي. تصوّر لوحة الربيع إذن الأحداث والتوصيفات والشخصيات الآتية بالخصوص من قصيدة لبوليتيا ("مستشار خبير لبوتشللي"، مثلما يصفه واربورغ)، والمستوحاة بدورها من" الأبهة" لأوفيدوس Ovide وكتاب "في الطبيعة " للوكريتس Lucrèce . هكذا يلحظ واربورغ في "أورفيو"l’Orféo فقرة من الروزنامة Fastes يروي فيها "فلور Flore كيف لاحقها " زفير "؛ وأنها حصلت إذن كهدية زواج، القدرة على تحويل كلّ ما تلمسه إلى زهور" (10). إلاّ أنّه توصيف مثيل لما نجده، في يمين لوحة بوتشللي، بين كلوريس وزفير والتي يصفها واربورغ بـ" مشهد ملاحقة إيروسية" . هل أن هذا التأويل العَاِلمَ savante للربيع الذي اختزلتاه في سمات كبرى، يُلحق ضررا بإدراك الصورة في ظهورها الخالص؟ هل يتعلّق الأمر بإفراط تأويل surinterprétation، لا بل بـ" إسراف تأويلي" حتى نتحدّث مثل إيكو، الذي يطبق اصطناعيا الخطاب على الصورة، إلى حدّ جعلنا لا نبصر حضورها الحسّي؟ إنّ الوفرة المفصّلة للتحليلات الإيقونوغرافية يمكن بالتأكيد أن تُتَوٍّه المشاهد، إلى حدّ صرفه في النهاية عن الصورة ذاتها. لكن يسمح هذا التَّتْيِيه الثمين في المقابل بالرفع إلى حدّ كبير من فهم الأثر. ودون هذا التيه، سيظهر التقبّل العفوي للصورة مفقّرا كثيرا، لا من حيث المعاني فحسب، بل أيضا من حيث الأحاسيس. يساهم التيه الإيقونغرافي إلى النظر على نحو آخر، بعمق أكثر، وبكثافة أكثر فيما يجري في هذه الملاحقة الإيروسية . ولا يعني هذا إذن أن نقول بأنّ " الحسيّ" سيكون مجرّد تعلّة لكشف "الذهني" «  l’intelligible  » في الصورة (حقيقته المجازية). بل هو القول، بطريقة جدلية، بأنّ الانعطاف détour بالذهني (التأويل الإيقونغرافي والإيقوني) يسمح بجعل الحسيّ المباشر وسيطا بفعل العودة نحوه لإثرائه، ولتغييره إلى " حسيّ" وسيط. إنّ النظرة الإيقونغرافية لا تجعلنا نفهم بشكل أفضل فحسب، بل تجعلنا نحسّ بصورة أفضل أيضا بالمشاعر التي تتناقل بين الشخصيات وأفعالها. رغبة بالتأكيد ولكن عنف أيضا يرتّد صداه إلى عالم الطبيعة مثلما فكّر فيه لوكريتس. يبيّن ديدي- هيبرمان بوضوح فيما توسّع هذه الهارمونيطيقا الإيقونولوجية في الجملة، والتي هي أبعد من أن تكون مفقّرة، كلّ طيف الانفعالات والمشاعر على الأثر في " الربيع":

" ماذا نرى فعلا في هذا المشهد الذي لا يصدّق، غير كونه لعبة معقّدة ونزاع تجاذبات و تدافع، وجمال وعنف، ورأفة ووحشية؟ أليس من الوحشية مثلا، أن تبصق فتاة مِسْبَحَة من الأزهار أو يكون محبّ شبه معلّق في الهواء بلونه الخاص المخضرّ؟ أليس من الغريب أن تمثل صورة أمام نظرنا، على نفس مستوى، ملاحقة تؤدّي إلى الممارسة الجنسية ونتيجتها، (ولادة الزهور، أي الربيع)؟ أليس من الفريد أن نلاحظ بأنّ هذه الصورة، وهي أبعد من أن تمثّل الكائنات" الواقعيةّ "والقابلة للمشاهدة، تتمسّك بالأحرى بتمثيل شيء ما مثل فوضى الكائن، أي اختراقا للحدود- الجدّ منحرفة في الظاهر، مثلما هو الحال غالبا لدى بوتشللي - بين اللذة والرعب، بين هبة الحبّ والعذاب المنزّل؟" (11).

لا تردّ الهارمونيطيقا بالمرّة إلى الاستعارة وبوجه أعمّ إلى مجرّد البحث عن معنى خفيّ، ثانوي وكامن، وإلى البحث عن " منجم للمعنى". لقد قلنا ذلك، إنّ هذا المنهج التأويلي ليس إلاّ تشعّبا، مهما كان جدّ مهمّ، فإنه يجد أصداء قويّة مع المنهج الإيقونولوجي والإيقونغرافي الذي روّجت له مدرسة واربورغ وبانوفسكي، إلى حدّ يمكننا أن نأخذ فيه الإيقونولوجي على كونه فيلولوجيا للصورة l’iconologue comme un philologue de l’image . يوجد مع ذلك تاريخ للهارمونيطيقا يركّز على المعنى الحرفي، دون أن يحيل بالضرورة إلى معنى خفيّ؛ تاريخ يعود إلى النحويين الإغريق، إلى تفسير الكتاب المقدّس لآباء الكنيسة، إلى فيلولوجيا الإسكندرية، كي يتجدّد عصر النهضة، ثم في عصر الأنوار. يمكن للمعنى الحرفي أن يطبّق على كلمة، على جملة أو على خطاب ويشير إلى " المعنى الأولي لعلامة أو علامات، من حيث أن هذا المعنى تتقاسمه جماعة ألسنية". (12) إنّ المعنى الحرفيّ (sensus litteralis) يمكن أن ينزاح بذاته إلى معنى نحوي sensus grammaticus ومعنى تاريخيّ sensus historialis حينما يروي النصّ أحداثا متضمنة في حكاية (السرد في الكتاب المقدس).

فيم يمكن أن يطرح المعنى الحرفيّ لكلمة أو لخطاب مشكلاتِ تأويلٍ ويستلزم بالتالي هارمونيطيقا؟

أن نقول بأنّ المعنى الحرفي يشير إلى المعنى الأوّلي فذاك لا يعني بأنّ فهمه سيكون مباشرا. هذه النقطة مركزيّة تماما. وبعبارة أخرى، يمكن للمعنى الحرفيّ أن يتأثّر بما نسمّيه البعد الإشكالي للمعنى problématicités du sens. هو الحال مثلا بالنسبة لـغموض l’obscurité كلمة، (لغريب الكلام) لمعجمية جعلها تطوّر اللغة قديمة ومعانيها تغيّرت بحكم الاستعمال. يصبح التفسير، كالذي تمارسه مدرسة الإسكندرية، ضروريا إذن لمعرفة أيّ معنى كان في الأصل، لتلك الكلمة أو ذاك التعبير. يمكن للمعنى الحرفي أن يتأثّر أيضا بـلُبسambiguïté حينما يُنسب مؤلّف خطاب معنىً لا يناسب المعنى المعتاد للعلامة، بالخلط بينها وعلامة أخرى (يمكن أن يعني هذا الخلط نفسه القارئ أيضا). يمكن للمعنى الحرفيّ أن يربكه لَبْسُ عندما يمنع غياب النظائر d’isotopes من تحديد المعنى الحقيقيّ للفظ متعدّد الدلالات polysémique . وهذا حقيقيّ أيضا بالنسبة إلى الضمنيات implicites واللّميات sous-tendus عندما لا يسمح سياق الجملة كفاية بتثبيت المعنى. يمكن أن نعدّد إذن قائمة مشكليات المعنى المتعلق بالمعنى الحرفي: تناقض، معاني مضادّة... (13). والمهمّ أنها تستدعي تقنيات تأويل (نسمّيها تأويلات (تخوّل لنا، في حدود الإمكان، بناء معقولية : توضيح، تفسير، التأطير السياقي (التسييق) contextualisation...

يكمن السؤال منذئذ في معرفة إذا ما كان بإمكاننا نقل نُظم مُشكليّة المعنى وتأويلاته إلى الصور أو العثور إذن على تقنيات مماثلة. ألا يمكن أيضا اعتبار صورة على كونها غامضة، قياسا بالنصّ، حينما لا يظهر معنى تصوّر شخصية أو فعل بوضوح أكثر، حينما لا يتوافق معنى رسم أو مشهد مع دلالته المعاصرة؟ إنّ عمل تأويل مؤرّخ الفنّ هو تماثليا ذا قرابة بعمل الفيلولوجي أو المفسّر الذي يبحث عن إيجاد المعنى الأصلي لكلمة، وإلى تحيين مرجعيات الماضي لصالح توضيح أو تأطير سياقي تاريخي. ويمكن تعبئة التأويلات Interpretatio أيضا عندما تتعلّق مُشْكِلية المعنى بالالتباس. ويمكن أن تتعلّق بنسبة لوحة حتّى، قياسيا مع نسبة نص ّ حينما يوجد شكّ (والتباس ممكن) حول المؤلف أو الفنان الذي أبدعه (في حالة النسخة مثلا).إنّ تأصيل L’authentification الأثر تقنية نجدها في التأويلية النصية يقدر ما نجدها في تاريخ الفنّ، مثلا، عندما يعمل مورللي Morelli على الفصل فيما بين لوحات بالاستقصاء حول الجزئيات الخاصّة بأسلوب فنّان (بطريقة مماثلة لسبينوزا حينما يعمل على رفع الالتباس عن مؤلفي أسفار موسى الخمسة). يمكن للتناقض أن يعاكس، قياسيا بالخطاب، معنى صورة. رأينا ذلك مع لوحة مافي Maffei الذي قد يؤوّل " نمطها" إمّا بوصفها جوديث Judith أو بوصفها صالومي Salomé. إنّ المماثلة بين الخطاب والصورة من وجهة نظر مُشكلية problématicités المعنى (مثل التماثل البنيوي بين الهارمونيطيقا وتاريخ الفن من وجهة نظر التأويل interpretatio) تجد سندا خاصا إذا ما توجّهنا من جديد إلى بانوفسكي . يؤكّد داريلا في تعليقه بكل تناسق على القرابة بين الهارمونيطيقا (منظورا إليها بوصفها استعارية) والمنهج الإيقونغرافي والإيقونولوجي على نحو ما هو مستخدم لدى منظرّ الفنّ. قليل من الأشياء قيلت في المقابل فيما يتعلّق بما يسمّيه بانوفسكي الماقبل إيقونغرافي le pré-iconographique.. لكن، مثلُ هذا المنهج هو الذي تردّد صداه القويّ في هارمونيطيقا المعنى الحرفي. يتعلّق التأويل الماقبل- إيقونغرافي تحديدا بما يسمّى " المعنى الأوّلي" لصورة يقسّمها هو ذاته إلى " معنى فعلي"«  signification de fait  » و " معنى تعبيريّ"«  signification expressive  » : " ندركها بتعيين صور خالصة (أي : تكوينات معينة للخطّ واللون، أو كتل برنز أو حجر معينة، مشكّلة على نحو خاص) بمثل تصوّرات لموضوعات طبيعية (مثل الكائنات البشرية وحيوانات ونباتات ومنازل وأدوات الخ .)؛ وبتعيين علاقاتها المتبادلة بوصفها إحداثا ؛وبإدراك خصائص تعبيريّة معينة، مثلا، سمة الحِداد التي تنطوي على سلوك أو حركة، ومناخ حميميّ ومريح لمحيط داخلي" (15). إنّ تعيين هذه الأشكال وهذه التعبيرات (التي تمثّل عالم "الأنماط" motifs في تاريخ الفن وفق معجمية بافنوفسكي) يمكن أن يحدث بطريقة سَلِسَة، دون جهد تأويلي ذي دلالة. إنه حينما يصبح التعيين في المقابل إشكاليا (التباس ممكن بين الكائنات؛ تعارض حول معنى فعل...) وحينما يصبح الاشتغال على المعنى ضروريا ويتحرّك الماقبل - إيقونغرافي حقيقة بما هو هارمونيطيقا.

أن تتعلّق بالمعنى الحرفيّ أو بالمعنى المجازي أو الرمزي، فإنّ الاعتراض الرئيسيّ الذي يمكن أن نقوم به تجاه التقارب بين الهارمونيطيقا والايقونولوجيا والذي يبدو أن جزءا فقط من تاريخ الفن يتبنّاه، خاصة رسم تاريخ النهضة، الذي ولع به واربورغ وبانوفسكي، أو أيضا الكلاسيكية التصويرية التي كان بوسان Poussin أحد روّادها. كان التطابق هو أقلّ صدفة بقدرٍ لم تلعب فيه النصوص الكلاسيكية للعصر القديم أو للكلاسيكية وظيفة الإلهام فحسب بالنسبة إلى رسامي عصر النهضة أو للمدرسة الكلاسيكية، بل أيضا وظيفة نفوذ أخلاقي حقيقي ووظيفة تشريع للفن التصويري الناشئ، في اللحظة ذاتها التي نشهد فيها " تحرّرا" لمنزلة الفنّان وتقاربا مع عالم الأدباء الذي تمّ الترفيع من شأنه اجتماعيا. حقيقيّ أنه أثناء النهضة الايطالية حيث كان الرهان " وضع الرسام- الذي هو إلى وقتئذ مجرد صانع مرتبط بالنماذج التقليدية لـفقه الممارسة ومطالب المُشْرِفين - في منزلة شاعر كبير، أي منزلة معرفة فكرية أصيلة مضاعفة بحريّة و"بسيادة" فنيّة". (16) وهو حقيقيّ أيضا في عصر الكلاسيكية الفرنسية : " إنّ دور تراتبية الأنماط، التي تضع في القمّة الرسم المسمّى " للتاريخ" - أي تحويل نص إلى صورة، سواء كان دينيا أو مدنّسا- كان جوهريا في تلك الأولوية للعقلي على الحسّي، ومرتبطا بشكل واسع بالبحث عن معنى أو تقدير دلالة ُأولى. ومنذ الجيل الأوّل الأكاديميّ، تشهد المحاضرات التي التحق بها نخبة الرسامين في حلقة واسعة من العارفين الأدباء للمطالبة بهذا الخضوع للصورة للنص، والإحساس للمعنى". (17).

وبعبارة أخرى، فإنّ فليلوجية هارمونيطيقا (تأويلية) نظرية الفنّ، مثلما يمكن ترجمتها في مشروع إيقونولجي، سيضمن ويولّد من جديد في نفس الوقت إبستيمية خاصة لتاريخ الفنّ تتطابق مع أوج نَصْنَصَة textualisation الرسم التصويري، حيث تستمدّ الصورة معناها ومشروعية النصوص الكلاسيكية للعصر القديم والوصايا اليهودية - المسيحية.

يمكننا الاعتراض على هذا الاعتراض بأنّ المنهج الماقبل- إيقونوغرافي يمكنه أن يطبّق تماما على عصور لاحقة للنهضة، وأيضا على المرحلة المعاصرة، بشرط أن نقدر على أن نستنبط منها معنى حرفيا أو معنى ثانويا، دون الإحالة مع ذلك إلى نصوص كلاسيكية. وهو أمر حقيقيّ ويسمح في نفس الوقت بتوسيع التأويلية الإيقونولوجية إلى ما بعد النهضة والمدرسة الكلاسيكية .

بيد أنه ينبغي الاعتراف، بأنّ عصورا أخرى وتيارات فنية أخرى تقاوم بوضوح المنهج الماقبل- إيقونوغرافي والإيقونولوجي، عندما لا يوجد تاريخ ولا شخصيات ولا معنى مخفي، حتى قبل الفنّ المجرّد أو المفهومي conceptuel، بدءا ببعض رسوم المناظر الهولندية. هل يؤدّي مع ذلك، وضع الإيقونولجيا خارج الدائرة، من طبقات كاملة من تاريخ الفنّ، بالتأويلية إلى الفشل؟ هل للتأويلية، بما هي في البدء وليدة النصوص، منابعَ لتأويل صورة متمرّدة على كلّ تاريخ، لا بل على كلّ مجاز، صورة لا يمكن أن تكون منصّصة textualisée ؟ هل يمكن في نفس الوقت، لتأويلية، مُبرّرُ وجودها، البحث عن المعنى، وأن تساهم في التقاط القوى الحسيّة للصورة، دون أن تتعرّض لذمّ الفكرانية l’intellectualisme؟

التأويلية وإستيتيقا الرائع

[...] تفترض الإجابة عن هذين السؤالين* وضع التأويلية في مختبر استيتيقا الرائع.ألا يشهد الرائع، بوصفه ما هو، ببساطة وبصورة خالصة، عظيما، باستحالة كل فهم، وكل تعقّل وكل استعادة للمحسوس (الإحساس) في العقلي (المعنى) ؟ وسواء تعلّق باللانهائي الرياضي، أو وبالقوى الديناميكية للطبيعة، وبالقدرة الجمالية لنصّ أو لصورة، فبإمكان الرائعle sublime أن يوقّع على فشل كلّ تأويلية. هذا حقيقي، على الأقلّ من أول وهلة، إذا ما التفتنا نحو إستيتيقا بوالو Boileau (18)، في ترجمته وتعليقه على "مقالة في الرائع" المنسوبة (خطأ) إلى المؤلف الإغريقي لونجان Longin. يترك بوالو، في معركته مع الاستيتيقا العقلانية المابعد ديكارتية التي تَرُدَّ الجميل إلى التوافق مع القواعد، وللأثر جانبا من الإلغازية التي لا يستوعبها منهج، ويحمل جانبا من اللاعقلانية والمتعذّر إدراكه. هذا رائع يُحَسُّ أكثر مّما يبرهن عليه، يكثّفه بوالو في صياغة لـعبارة " لست أدري ما يسحرنا". ذلك أنّ" لست أدري ماذا" تعبّر فعلا عن سمة اللاتحديد للرائع الذي يمنح حضورا لمنطق الانفعالات أكثر من منطق العقل. ليس هذا الخارق للمعتاد الذي "يسرّنا ويحملنا" نتاجا، وفق بوالو، لأسلوب خطابي يغذّيه التأكيد والمبالغة. بل على العكس يمكن أن يصدمنا " مثل صاعقة" في البساطة الكبيرة لجملة أو لصورة عادية في الظاهر (على نحو "كن فيكون" في سفر التكوين).

هل ينفلت الرائع مع ذلك من نظام المعنى ؟ ليس الأمر كذلك لو نظرنا إلى النصّ عن قرب. إن المفارقة هي كون الحساسية المفرطة تشهد بتجربة مافوق - حسّي، بشبه صوفي، بقدر ما " يرفعنا الرائع أعلى تقريبا من الإله:" أن نقرّ، كما يقول بوالو، بأنّ الرائع هو اندساس في الخطاب للـ"مافوق طبيعي"، للإلهي، وللعجيب، و يعني انفتاح النص على متعالي يفيض على الكلمات، ومطابقة التجربة الجمالية بالتجربة الروحية للرّحمة". (19) وإذا ما تعالى الرائع على اللغة، فهل هو مع ذلك خارج كلّ فهم؟ أليست التأويلية الضمنية فاعلة من حيث قدرتها على التفكيك، في الرائع، لرموز أصل المقدّس، وفي كونها تؤوّل " السرّ الإلهي" الذي تبلور في بساطة "رائع القدماء" والذي بإمكانه تغذية فنّ وأدب المحدثين؟

إنّ إقرارا شبيها، بالرغم من ذلك، في مقابل الفروق ذات الدلالة، يفرض نفسه في التحليلية الكانطية للرائع، في فكرة العظمة أو في قوّة لا تقبل أن تقارن بأيّ قوة أخرى. غير أنّه لا يُبحث عن الرائع لدى كانط في أشياء الطبيعة أو في الفنّ، بل فينا فحسب. أليست إذن تجربة طفح débordement أو فيض للحواس sens (الأحاسيس) وللخيال الذي يفضي إلى فائق الوصف l’ineffable واللامعقول؟ هو على خلاف ذلك تماما. يشهد الرائع بحدٍّ للحواس والتخيّل في القدرة على تمثّل شيء ما جدّ عظيم أو لامتناه، دون مقارنة ممكنة. يوضّح كانط ذلك، في نقد ملكة الحكم، حينما ندخل لأوّل مرة في كاتدرائية القديس بيار في روما : يكون الخيال وقد بلغ أقصاه، عاجزا عن تمثّل المَعْلَم ككلّ. فيم يكون الرائع إذن تعبيرا، إن لم يكن للحواس والخيال؟ إنه التعبير عن ملكتنا الفوق- حسية (العقل)، القادرة وحدها على إنتاج الأفكار (الكلّ، النهائي...).

"ومن هذه الزاوية، لا شيء مما قد يكون موضوع الحواس يستحق أن يوصف بالرائع. بل لأنه يوجد بالتحديد، في خيالنا جهد للتقدّم نحو اللانهائي، وفي عقلنا تجربة للكلية المطلقة المعتبرة بوصفها فكرة واقعية، فإنّ الخيال يثير فينا، بالنسبة إلى هذه الفكرة، لملكتنا على تقدير عظمة الأشياء في العلم الحسّي، الشعور بحضور ملكة فوق حسيّة فينا". (20)

هذا الشعور الأخلاقي ليس إلاّ الاحترام. هو الحال مثلا في الرائع الديناميكي للطبيعة . مشهد البرق والرعد المهدّد، يردّنا بالتأكيد إلى " صغرٍ لا يذكر" . لكن، كما يؤكّد كانط، إذا ما كنّا في أمان، فإنّ هذه الظواهر ترفع قوّة الفكر إلى كثافة خارج المعايير " وتكشف فينا عن ملكة مقاومة من نوع آخر تمنحنا شجاعة تقدير أنفسنا بالنظر إلى عظمة الطبيعة". (21) يحصل للفكر البشري بواسطة الرائع، وعي بالطابع الاستثنائي لوجهته (الأخلاقية) وبسموّه حتى على الطبيعة. إلاّ أن هذه الملكة في "تقييم عظمة الأشياء في العالم الحسّي، هذا الوعي بماهيتنا الفوق - حسيّة، ليست ممكنة دون تأمل تأويلي. يجب أن تكون لنا القدرة على ردّ معنى ما يظهر في الطبيعة الحسيّة إلى اتجاه مرمانا الأساسيّ: أن نرى في العظمة الظاهرة للطبيعة علامة لعظمتنا. تدعّم تأويلية خفية إمكانية تغيير معنى ما يأتي من العالم الحسّي إلى فكرة فوق - حسيّة. وحيثما يجب على اختراق الرائع أن يجعل ما قبليا التأويلية خارج اللعبة في بحثها المتعطّس عن المعنى، تعود هنا بالذات الطريقة الملتوية بوصفها فهما لعلامات الإلهي (بوالو) أو بوصفها إبانة للفوق- حسيّ عبر عظمة الأشياء الحسيّة (كانط) . ينبثق إذن نقد استيتيقا الرائع التي تحطّم القوّة الصامتة للحسيّ، التي تجعل الطبيعة تعترف، والأثر والصورة لتجعل منها علامات لأشياء أخرى. وإذا لم توجد نظرية للرائع لدى نيتشه، فسنجد في المقابل دعوة إلى قلب للحواس، لجعلنا في وضع أفضل للاستماع " الموسيقى الفرحة للاحتفالات الديونوزوسية، مدويّة بإيقاعات سحرية وساحرة، ومُطْلِقة ضجيجا هائلا إلى حدّ الصراخ الحادّ، لكلّ إفراط الطبيعة المبتهجة في الفرح، في الألم أو المعرفة !". (22) ليس للمغالاة النيتشوية، في صداها الديونوزوسي، أي شيء من سموّ مثل أعلى نحو عالم فوق- حسيّ؛ بل هي لصيقة بالأرض، تعيش الجسد، بالذات لحما ودما.

نرى بوضوح هذا الإرث النيتشوي شغّالا لدى دولوز الذي يعنينا أكثر حينما يخضعه لاختبار فلسفة الفنّ. ذاك شأنه في مؤلفه حول فرنسيس بيكون (23)، حتّى لو بالارتكاز عل طريقة الفنان ذاته في التنظير لفنّه الخاص (24). فيم يمثّل الرسم في ذاته لدى بيكون (ومفكر فيه من دولوز) تحدٍّ حقيقيّ للتأويلية؟ ليس بالتأكيد مجازيا أو رمزيا، لكنه، خلافا للفنّ التجريدي، يظلّ مرتبطا بـ" الأشكال". وإذا ما وجدت " الأشكال " عند بيكون، فلا تظهر بوصفها " تشخيصيّة" أو تصويرية، أي كنموذج للتمثّل وبوصفها تاريخا للسرد. وتبرز الصور في التشخيصي، موضوعا وتشكّل فيما بينها مجموعا مرتبطا بعملية سرديّة. بيد أنّ الرسم البيكوني لن يكون " مجازيا" بل " تمثّليا" figural بموجب جهاز عزل الشكل الذي يخرجه عن دائرة المنطق السردي :" العزل هو إذن أيسر السبل، وضروري وإن كان غير كاف، للقطع مع التمثّل،وتحطيم السرد، ومنع الإبانة، وتحرير الشكل: التمسّك بالحدث". (25).هو الحال إذن حينما تعزل الأشكال من مضمار، وكرسيّ، أرجوحة، مثلا في " اللوحة الثلاثية " Triptyque 1970). لم يعد الرسم الحديث في حاجة أن يصير " مجازياّ"، بحسب بيكون، لأنه يمكن، في الآن نفسه، للفتوغرافيا أن تُشغِل من هنا فصاعدا هذه الوظيفة ولأنّ المجازي أو الاستعاري كان مرتبطا في الرسم القديم بوظيفة دينيّة . يمكن للرسم المعاصر إذن أن يتحرّر من " المجازي" ويبتكر طريقة جديدة في تدبير " الأشكال".

يطرح بيكون، فضلا عن مسألة السرديّ والتوضيحيّ، تحدّ ثان على التأويلية بموجب موقع " الإحساس" في أعماله. يفترض أن تؤثّر الأشكال مباشرة على الجهاز العصبي، والتأثير مباشرة على الحواسّ، على نحو أخذ المحسوس بثأره من المعقول، المحسوس الحركي من المعنى - الدلالي . يمكن لمنطق الإحساس وحده أن يمسك " المجازي " في الصور. يتعلّق الأمر باستخراج المعاني أقلّ من التقاط القوى، وخاصّة فعل القوى اللامرئية (الضغط و العطالة والجذب والجاذبية ...) على الأجسام؛ مثلما نرى ذلك في الأثر الفني، في دراسته من خلال لوحة البابا البريء س (1953):3834 بيكون

ف. بيكون عن لوحة البابا البريء "س" فاليسكاز (1953)

إن فَمَ البابا وهو يصرخ هو نتاج " القوى اللامرئيّة" (الجاذبية)، وهو مرموز إليه بحقل خطوط كثافتها عمودية، تمارس ضغطا شديدا على الشخصية، وبالنقاط المتراصّة للحفاظ على الجذب، وأسفل الجسم مستوحى من نقاط تلاشي تبدو فائضة عن اللوحة . يستخلص دولوز انطلاقا من بيكون استنتاجا لا ينطبق فحسب على الرسم، بل على "مجموعة الفنون" :

"لا يتعلّق الأمر في فنّ الرسم كما في الموسيقى بإعادة إنتاج أو اختراع أشكال، بل التقاط قُوَى. بل إنّه هنا لا يوجد فنّ تشخيصيّ. والعبارة الشهيرة لبول كلي " ليس ردّ المرئي، بل جعله مرئيا " لا تعني شيئا غير هذا. تتحدّد مهمّة الرسم بوصفها محاولة لجعل قوى غير مرئية، مرئيّة (26) (جيل دولوز (1995) عن فرنسيس بيكون، ص 57.)."

هنا نلمس أكثر أثر نيتشه على دولوز :جعل القوى تتحرّك في مواجهة الشكل، والمحسوس ضد الفكري، والإحساس ضدّ التجريد.

يمكن أن نفهم، و في موروث مماثل، لكنه يحمل نفسا مضادا للتأويلية أكثر وضوح أيضا، دعوى سوزان سونتاغ ضد التأويل والدفاع المتصل بالإحساس، في مقال حدث. (27) فلا يمكننا بالتأكيد أن نُركّب تماما هذه الأنماط للتحليل على أنماط تحليل دولوز من حيث أنها تفترض، بصورة مدهشة، " الشكل" في دلالته الجمالية (التي تحيل في معناها إلى الإحساس ولا إلى " الفكرة") و" محتوى" (الذي يحيل إلى المعنى، إلى " الرسالة")، أثرا فنّيا. إنّ فلسفة الفن الغربية آثمة إذن بإقرارها أولوية تعقليّةntellectualisante، تنسبها منذ أفلاطون وأرسطو، إلى "المحتوى" على حساب " الشكل". و يعترف سونتاج Sontag بالتأكيد بفضل التأويلية الفلسفية للقدماء، خاصّة مدرسة الإسكندرية، طالما أنها تسمح بانفتاح النصّ الكلاسيكي على مكاسب جديدة. فيكون التأويل ضمن هذا السياق الثقافي، عملا تحرّريا. فهو وسيلة للمراجعة والتخلص من الماضي الميّت. لكن، ستصبح التأويلية، مع الحدثيين، مشروعا " محافظا"، اختزاليا، "خانقا" (منغِّصا)، خاصّة انطلاقا من ماركس وفرويد. فالبحث عن محتوى معنى خفيّ يقوم على أساس كرهٍ " للأشكال" الجمالية، في نسيان للحواسّ، وعلى حساب " الطاقة والقدرة الحسيّة" (28). يلتحق سونتاج بوضوح بالنداء الدولوزي والبيكوني بتفضيل فنٍّ يقدر على التأثير مباشرة على جهازنا العصبي، ويضاف إليه البعد الإيروسي، في " مباشرية خالصة، يتعذّر ترجمتها، و على نحو ما حسيّة ". (29)، من أجل رؤية أفضل، واستماع أفضل وإحساس أفضل. إنّ حكمه، سنوتاج، إذن جازم:" بدل تأويلية لابد أن توجد إيروسية للفنّ". (30)

إن سونتاج على حقّ في تحديد الاستعمالات السيئة غير المراقبة للتأويلية التي شاعت في عصور أكثر من أخرى، والتي تموّه اصطناعيا معاني خفيّة، إلى حدّ العمى عن رؤية الصور. هل يجب مع ذلك استبعاد كلّ تأولية ؟ هل مازال للتأويلية ما تقوله عن صورة لا مجازية، لا سردية، وخالصة الكثافة؟ توجد تأويلية بالتأكيد خارج اللعبة، على الأقلّ في أحد استتباعاتها التي تتعلق بالمجازات والرموز، وباختصار، بالبحث في معنى مخفيّ. إضافة إلى أن بعض لوحات بيكون بدءا بلوحة " دراسة انطلاقا من لوحة البابا البريء س" فالفاسكاز، تحيل إلى إيقونغرافيا تصويرية يمكن أن تكون موضوعا لتأويل عالمٍ érudite، دون الحديث عن تأثير سوزان الكبير وهوس بيكون بأشكال الجثث والمجزرة التي لا يمكن أن نمنع أنفسنا عن ترديد صداها، مثل " أعمال باقية"، مع " البقرة المسلوخة" (1655) لرامبرند أو " الثور ورأس العجل" 51925) لسوتين Soutine.هذه " الصيغة للباثوس" يمكن أن تصنع سعادة الإيقونغرافيا.

يمكن أن نقول الكثير عن بعض اللوحات التجريدية، التي لا تحيل فحسب إلى ذاتها، بل يمكن أيضا أن تحمل دوافع " بقائها" . لنفكّر في الألوان الموحّدة لإيف كلاين’Yves Klein والتي يذكّرنا فيها الأزرق" الخالص " بسماء بعض اللوحات لجيوتو Giotto، والتي لا تخلو دلالتها من " روحانية" : الأزرق المكثّف بوصفه علامة حسيّة عن العالم اللامرئيّ. ولا يتعلّق الأمر فحسب بالتقاط الصور، بل بالارتفاع من خلالها إلى عوالم معنى. إنها مفارقة التجريدي، اللاتشخيصي واللاسردي، الذي يبدو الأكثر استعصاء على التأويلية المجازية والحرفيّة، لكنه يستدعي، أكثر من غيره من الفنون، بحثا عن معنى طالما كان إدراكه المباشر معلّقا:

"توجد قليل من اللوحات التي علقنا عليها كثيرا كلوحة" المربعّ الأبيض على أرضية بيضاء" الشهيرة، التي عرضها مالفيتش Malevitch في ديسمبر 1918 في الصالون الثاني للدولة في موسكو. هكذا تكون لوحة، ليست مع ذلك سوى" مساحة مسطحة مغطاة بالألوان " (الجمع" ألوان في نظام تجميع"، وفق تعريف دونيس Denis، ليست هنا ضروريا حتّى) لوحة ليستبالرغم من ذلك خالية من المعنى، وتَحْمِل على التأويل". (31)

من الضروري مع ذلك، الاعتراف بأنّ التأثيرات التي تحدثها الصور، دون أن تكون بالضرورة " مثيرة" «  sensationnelles  »، يمكن أن يكون فعلا مباشر على الجهاز الحسّي، دون القدرة على أن تكون مترجمة في معاني، ودن إمكانية " بديل" في الفهم، فيما يسمّيه باتاي Bataille "استخدام صرف" (32)، ويسميّه داريدا بعده " هيجلية دون تكليف" (33). وفي هذه الحالة، فإنّ المحسوس ليس محفوظا ومتجاوز من الذهني. تقلب الصورة كثيرا المحسوس وتترك المعنى معلّقا. هنا نهاية التأويلية، كل تأويلية في ادعاءها الهيجلي تحويل كلّ علاقة قوّة إلى علاقة معنى، والسموّ بالباتوس إلى لوغوس. أي حدّا للتأويلية يحملنا على الاعتراف بوجود شيء ما في سلطة الصورة، يمرّ مباشرة من جسد إلى جسد، ويظلّ في دائرة المحسوس، ويجعلنا حرفيا بلا صوت. فحتى بول ريكور بوصفه تأويليا هو مهيأ لقبول ذلك، في "محاولته عن فرويد "، في خصوص قوّة الرغبة :" ربما في موقع الرغبة ذاتها تكمن إمكانية المرور من القوّة إلى اللغة، ولكن أيضا استحالة استعادة تامّة للقوّة في اللغة". (34)" استحالة استعادة تامة ..."، إذن إمكانية " طاقاتية" دون " تأويلية"، أليست في حدّ ذاتها ثغرة، ونقيصة، ونقصانا. إنها كذلك من منظور داخلي للتأويلية في بحثها الدائب عن المعنى. لكنها تفتح في ذات الوقت الطريق إلى أحساس دون تأويل، ليس بلا علامة، والذي يكون " نحوه " «  grammaire  » أو منطقه انفعالي وتحت مقالي. affective et infradiscursive. يسمّيه دولوز مع بيكون " منطق الإحساس"«  logique de la sensation  » ، ويسميه سونتاج،" إيروسي" .

ليس الاعتراف بحدود للتأويلية رفضها. فليست هي كذلك بموجب، مثلما يلاحظ ذلك بول ريكور، إمكانية مرور بعض الانفعالات إلى الخطاب، عن طريق وساطة تأويلية . لكن، وخلافا لتأكيدات سونتاج، ليست كل تأويلية، تأويلية أعماق (بحثا عن معنى خفيّ) أو تعقلّية.

وإذا كان من الضروري الاعتراف بإمكانية ومشروعية إحساس دون تأويل، وإذا آمكن لبعض التأويلات عرقلة ومنع المحسوس، فلن يقال بأن كلّ تأويل هو ما قبليا عائقا أمام الإحساس. إنّ تأويلية لسطح الحواس، التأويلية الفينومينولوجية للتشكيلات، تأويلية وصفية للمعنى الحرفي، وتأويلية تاريخية للمعنى المجازي، هي كثرة في مناهج التأويل، تساهم في مفصلة الحواس والمعنى، والمحسوس والعقلي، الباتوس واللوغوس للصورة.

إن التجديل لا يعني هنا أن المحسوس لن يحتفظ به إلا من أجل تجاوزه بشكل أفضل إلى ذهني، بل إنّ الانعطاف التأويلي يسمح في المقابل بزيادة الطاقة الانفعالية للصورة . إن المحسوس في توسّطه يكون بالتأكيد، قد فقد مباشريته الأولى، لكنه يكون قد غنم في كثافته."

***

...................

المصدر:

https://doi.org/10.4000/methodos.10421

- هوامش:

* - جوهان ميشيل (1972): أستاذ في جامعة بواتييه وباحث في مركز دراسة الحركات الاجتماعية للمدرسة العليا للدراسات في العلوم الاجتماعية وعضو شرفي فيالمؤسسة الجامعية الفرنسية.

1- ناتالي هاينش (2008)"ما يحدثه التأويل. ثلاث وظائف للنشاط التاويلي". سوسيولوجيا الفن اوبيس 13، ص 20.

2- جورج ديدي هيبرمان (2008) التشابه بالاتصال, اركيولوجيا، اللاتزامنية وحداثة البصمة . باريس نشر مينوي ص 254.

3- جاك داريللا 2007 " تأملات حول المنهج الإيقونولوجي لتأويل الأثر الفنّي"

4- موريس مارلو بونتي " المرئي واللامرئي" باريس غاليمار ص 197.

5- جورج ديدي-هيبرمان 1992ما نراه ما يرنا، باريس نشر مينوي. ص 35.

6- جاك داريللا 2007, "" تأملات حول المنهج الإيقونولوجي لتأويل الأثر الفنّي"

7- إيروين بانوفسكي 1976، " مشكلة وصف الأعمال". نشر إيروين بانوفسكي , المنظورية بوصفها شكلا رمزيا، باريس نشر مينوي ص 244.

8- جاك داريللا 2007، "" تأملات حول المنهج الإيقونولوجي لتأويل الأثر الفنّي"

9-حيلة فونوس يمكن ان تذكرنا إما بتماثيل الرومانية او مثلما يرحظ ذلك واربورغ سلوك العذراء في الجمة .

10- واربورغ 2015 محاولات فلوزرنسية باريس هازان ص 73.

11-جورج ديدي هيبرمان 2015 محاولة حول الرغبة- الغطاء باريس غاليمار ص84.

12- آدا ناشكوهانتشوكو Ada Neschke-Hentschke 2015" المعنى الحرفي"، التاويل ن معجم الفلسفة باريس فران ص432.

13- جان ميشيل 2017، اومو تأويل باريس، هارمان

14- جاك داريللا 2007, "" تأملات حول المنهج الإيقونولوجي لتأويل الأثر الفنّي"

15- إريوين بانوفسكي 2021، ماحولات في الإيكونولوجيا باريس غاليمار ص23.

16- جورج ديدي هيبرمان (2008) التشابه بالاتصال ص93.

ناتالي هانيش، سوسيولوجيا الفن 2008 ص 13

18- نيكولا بوالو 1966 مقالة في الرائع تمهيد، باريس بال لاتر.

19- طوني قريرات 2020،"الفنالشعري، مقالة في الرائع " كنش الفرضيات : بوالو، غيرالخاضع .

20- كانط 1985 نقد ملكة الحكم باريس غاليمار ص 189-190.

21- كانط، نفس المصدر ص 203.

22- نيتشه 1977 ميلاد الترجيديا باريس غاليمار ص 40.

23- جيل دولوز 2022 فرنسيس بيكون " منطق الإحساس" باريس سوي

24- دولوز "1995، فن المستحيل، محادثات مع دافقيد سلفاستر باريس نشر البار سكيرة.

25- جيل دولوز، فرنسيس بيكون " منطق الإحساس" باريس سوي ص 12

26- نفس المصدر، ص 57.

27- سيزان سانتاغ " استئناف التأويل" بيغان كلاسيك 2009.

28- نفس المصدر ص 4

29- نفس المصدر ص 6.

30- نفس المصدر ص 10.

31- جاك داريللا " تأملات في المنهج الإيقونولوجي لتاويل الأثر الفنّي" 2007.

32- جورج باتاي 1967، الجزء الملعون باريس نشر مينوي.

33- داريدا 2014، الكتابة والاختلاف. باريس نشر سوي.

34- ريكور، 1965، في التاويل محاولة عن فرويد، باريس، نشرسوي، ص 79.

قبل أن تتعرض شعوب البلدان العربية لاكتساح الظاهرة الكولونيالية، لم تكن تفقه شيئا"عن معاني ودلالات مفاهيم من مثل ؛ الرأسمالية والليبرالية والديمقراطية والاشتراكية والشيوعية، اللهم إلاّ النزر اليسير مما تنطوي عليه من أفكار مبتسرة وتصورات مبهمة، حيث ساهمت في نشرها وتداولها جهود بعض الرحالة والمترجمين ممن استهوتهم مضامين تلك المفاهيم والمصطلحات، بحيث ضمنوها كتبهم وأدرجوها ضمن مصنفاتهم بصورة لا تخلو من التبسيط الواضح والاختزال الفاضح.

ولكن مع مطالع القرن العشرين كان لتلك الشعوب التي أدخلت عنوة في دوامات السياسة الاستعمارية شأنا "آخر مع تلك المفاهيم والمصطلحات التي أحيطت بهالة من الإعجاب الفطري والافتتان الساذج. إذ ما أن عمدت السلطات الاستعمارية - لتسهيل ظروف احتلالها وتهيئة مستلزمات استغلالها - الى إدخال بعض ما اعتبره البعض (إصلاحات سياسية) و(تحسينات اقتصادية) و(خدمات اجتماعية) و(انجازات حضرية)، حتى تهاوت النخب في تلك البلدان صرعى (الوهم الليبرالي) الذي برعت في تزويقه وترويجه كيانات (مدربة) ومؤسسات (محترفة) أوجدتها السلطات الاستعمارية لهذا الغرض. هذا بالإضافة الى وجود ثلة منقاة من السياسيين والمؤرخين والمستشرقين كمشاركين ومتعاونين مع تلك السلطات ؛ إما بوازع الالتزام الوظيفي – الرسمي كخبراء ومستشارين، أو بدافع الاهتمام العنصري – الإيديولوجي كباحثين ومفكرين.

وعلى ضوء هذه المعطيات وتلك المؤشرات، فقد اعتقدت تلك (النخب) إن تلك السياسة الممنهجة وما تمخض عنها من إجراءات ملموسة وممارسات فعلية، وضعتنا على أعتاب عصر جديد من التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بحيث صار بمقدورنا ولوج طور الحداثة (الليبرالي) البعيد المنال، ان لم نكن قد بلغنا أوان قطف ثماره والتمتع بمزاياه. لاسيما وان سلطات الاحتلال لم تتوانى في تغذية ذلك (الوهم - الحلم) فكريا"وتضخيمه سيكولوجيا"لدى عناصر تلك النخب التي لم تتوانى - دون تبصر وبلا تحفظ – في السعي الى توطينه اجتماعيا"، ومأسسته سياسيا"، وشرعنته إيديولوجيا"، عبر بحوث كتابها ودراسات مفكريها الذين أخذوا بالمظاهر دون الجواهر، واحتكموا الى الشكل دون المحتوى. لا بل ان هناك رهط من الأكاديميين التقليديين ممن حاولوا إيجاد جذور محلية للفكرة (الليبرالية) داخل بيئتنا الاجتماعية، مثلما سعوا الى خلق أصول لها في أوساطنا الثقافية.

والحال إذا ما نظرنا الى الطبيعة السوسيولوجية لمجتمعات العالم الثالث – وبضمنها العربية طبعا"- سنلاحظ ان الغالبية العظمى منها ذات بنى اجتماعية أقرب الى (البطريركية) منها الى (الليبرالية)، وأنماط اقتصادية أقرب الى (الإقطاعية) منها الى (الرأسمالية)، وأنساق ثقافية أقرب الى (الفولكلورية) منها الى (العقلانية). وهو ما جعل قسم كبير من مكوناتها شديدة الممانعة إزاء أية محاولة تستهدف انفتاحها أمام تيارات الفكر الغربي، لاسيما الإيديولوجية (الليبرالية) وما تنطوي عليه من قيم ومبادئ. سواء جاءت هذه المؤثرات عن طريق (التدخل) الخارجي المقنن والمشروط كما فعلت القوى الاستعمارية مع مستعمراتها السابقة، أو عن طريق (التقبل) الداخلي الممنهج والمتدرج عن طريق برامج التعليم الأهلي والرسمي من جهة، والانخراط بالسلك الوظيفي الحكومي من جهة أخرى. بحيث تتساوق عمليات الاستقرار السياسي والاجتماعي مع عمليات التطور الثقافي والحضاري، وهو ما ندر تحققه وتعذر حصوله إلاّ في حالات محدودة وتجارب فريدة كما نعلم!. 

وبصرف النظر عما لحق بالإيديولوجية (الليبرالية) – في بيئاتها الجغرافية والحضارية - من تشظي الى أنواع (سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية)، إضافة لما طرأ عليها من ارتدادت وتراجعات في أصل قيمها وكنه مبادئها التي تميزها عن سواها من الإيديولوجيات الأصولية والراديكالية (القومية والاشتراكية والشيوعية) التي لا تزال أطيافها ماثلة في الوعي الجمعي للكثير من المجتمعات، إلاّ أنها لم تبرح – وهذا هو الانطباع السائد -  محافظة على طبيعة خصائصها النوعية وثوابتها الأساسية من حيث كونها التعبير المباشر عن (حرية الفرد) من كل قيد و(تحرر المجتمع) من كل عائق.

وفي حين ان الإيديولوجية الليبرالية – في صيغتها الكلاسيكية - لا تقوم فقط على مأسسة السلطات وشرعنة المؤسسات، أي ان (الدولة المركزية – كما لاحظ بحق المفكر الاقتصادي العراقي عصام الخفاجي – لا تعني الحداثة. أنها خطوة في هذا الاتجاه، لكنها ليست خطوة كافية بحد ذاتها) فحسب، وإنما ترتكز أيضا"على أنسنة العلاقات وعقلنة التصورات. فلنا أن نتصور كم هي خاطئة ومضللة تلك الدعوات والمحاولات التي يستهدف أصحابها تكوين الانطباع ان مساهمة المستعمر (الليبرالي) في تكوين (دولة) ما ووضع (دساتير) لها ورفدها ببعض (الإصلاحات) هنا أو هناك، هي بمثابة مؤشرات كافية على اختراق الإيديولوجية (الليبرالية) لبنى المجتمعات التاريخية الراكدة وتفكيك منظوماتها القيمية والرمزية، فضلا"عن دور تلك المؤشرات في كسر حدة الممانعات التي كانت تبديها الجماعات التقليدية إزاء كل ما يمت بصلة لمبادئ وقيم تلك الإيديولوجية.

***

ثامر عباس  

 

في المثقف اليوم