قضايا

غريب دوحي: هل كان سقراط نبياً...؟

سقراط (469-399 ق.م) هذا الفيلسوف العظيم ولد في أثينا وعاش فيها. عاش في جو تزدحم وتتفاعل فيه الأفكار الفلسفية المختلفة، لقد كانت الفلسفة قبل سقراط تركز همها في العالم الخارجي والأجرام السماوية غير أنها وجهت من قبل سقراط نحو البحث عن الإنسان لذلك قيل عنه أن استنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض.

لقد دخل سقراط في جدل فلسفي مع السفسطائيين، فبينما كان السفسطائيون يجوبون شوارع أثينا لتعليم الفلسفة مقابل أجور معينة يأخذونها من تلاميذهم كان سقراط يسير في هذه الشوارع حافي القدمين يناقش كل من هب ودب طالباً استخلاص الحقيقة عن طريق الحوار.

نبوءة كاهنة دلفي:

لما سئلت كاهنة معبد دلفي: من هو الأعظم من بين الأحياء أجابت: سقراط فألتف حوله فريق من التلاميذ أشهرهم (أفلاطون) ومعبد دلفي هذا يقع في وسط اليونان على سفح جبل وهو أقدم معبد ديني في البلاد للإله (أبولو) إله النبوة. وقد تصور اليونانيون انه مركز للأرض وكانوا يحجون إليه حيث الكاهنة العذراء ليطرحون عليها الأسئلة فهو إذاً بمثابة (كعبة اليونان) يحجون إليه كل عام ويوصف في كتب التاريخ بأنه.. (أشهر هياكل اليونان حيث كان البخار يصعد من شق عظيم وعميق في الصخور فكانوا يعتقدون ان هذا البخار هو (نفس) الإله (أبولو) وقد أشادوا هيكلاً احتراماً للوحي وعندما تتكلم الكاهنة يقوم الكهنة الآخرون بتدوين أقوالها

الحكمة والإلهام والنبوة:

أما الحكمة فتعني (المعرفة الخاصة بالآلهة وهي معرفة مطلقة وأبدية لا متناهية وهي عند الكندي: علم الأشياء بحقائقها وهي فضيلة القوة النطقية، وعن الفارابي: معرفة الوجود الحق، والوجود الحق هو واجب الوجود بذاته) وقد وردت الكلمة في القرآن بقوله: (... وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ...) البقرة 269.

أما الإلهام فيعرّفه الجرجاني: (الإلهام ما وقع في القلب من علم وهو يدعو إلى العمل من غير استدلال بآية ولا نظر في حجة وهو بهذا المعنى يكون مرادفاً للوحي. ويستطرد قائلاً: هناك وجه شبه بين الإلهام والإيحاء فالملهم يجد نفسه يتكلم أو يعمل مدفوعاً بقوة خارجية غريبة..) وقد عبر أفلاطون عن هذا المعنى عندما قال: أن الشاعر يكون فاقد العقل عندما ينشد شعره..

ويعرف الجرجاني النبي بأنه (من أوحى إليه بملك أو ألهم في قلبه أو نبه بالرؤى الصالحة فالرسول اتصال بالوحي الخاص الذي فوق وحي النبوة لأن الرسول هو من أوحى إليه جبريل خاصة بتنزيل الكتاب من الله..) نفس المصدر، ص691.

العرافة والكهانة:

ولم تقتصر ظواهر العرافة والكهانة والنبوة على شعب من الشعوب فقد عرفت في الحضارات القديمة في وادي الرافدين ووادي النيل وفارس والهند والصين. ففي بلاد الرافدين تشير الأساطير البابلية ان الإله (مردوخ) إله بابل يظهر للشعراء أثناء منامهم (الرؤية) وهو يملي عليهم قصائدهم، اما في جزيرة العرب فقد عرف العرب الكهانة والعرافة قبل الإسلام كما هو في اليمن مثل (شق) و(سطيح) و(طريقة) الكاهنة. ولم تكن كلمة (نبي) غريبة عن العرب لكثرة اليهود والنصارى. وقد اتهم الرسول محمد (ص) بأنه كاهن، وقد ظهر الأحناف الموحدين في شبه الجزيرة العربية في فترة زمنية متقاربة كأمية بن أبي الصلت وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل والمعروف ان ظاهرة الإلهام تلازم الفلاسفة والعلماء والشعراء والفنانين، وقديماً قالت العرب: لكل شاعر شيطانه وقد عبر عن هذا أحد شعراءهم بقوله:

انا وكل شاعر من البشر

شيطانه انثى وشيطاني ذكر

هكذا تكلم سقراط:

تركزت ظاهرة وجود الأنبياء على الشرق بظهور فرعون مصر (أخناتون) (000-1362) ق. م. ونبي الفرس زاردشت (660-583) ق. م. وبوذا في الهند (563-483) ق. م. ثم كو نفوسيوش في الصين (551-479) ق. م. ثم ظهور ماني في بابل وفارس وقد أكملت هذه الحلقة بظهور الأنبياء المرسلين: موسى وعيسى ومحمد، لقد وضع سقراط نفسه كنبي وصاحب رسالة غير أن ظهوره هكذا لم يكن ترفاً فكرياً وإنما كانت نتيجة معاناة طويلة استمرت حتى ساعة إعدامه، لقد كان سقراط يردد دائماً أن هاتفاً داخلياً يدعوه إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر فلنتأمل أقواله التي تفوح منها رائحة النبوة:

- قال سقراط يوماً (من صدق نفسه بفناء الدنيا زهد فيها، ومن صدق نفسه ببقاء الآخرة رغب فيها). فقد كان يؤمن بخلود الروح وبالحياة الأخرى.

- وقد كان أيضاً ينصح الناس قائلاً (أن عبادة الأصنام ضارة فاعبدوا الله الواحد الأحد الصمد الباري الذي خلق العالم بما فيه، الحكيم القدير ولا تعبدوا الحجر المنحوت الذي لا يسمع ولا ينطق ولا يحس بشيء من الآلات) نختار الحكم ومحاسن الكلم، لأبي الوفاء البشر بن فاتك، ص86.

- كان يعتقد ان روحاً حارساً يمنعه من ارتكاب الخطأ، وأنه يشعر بصوت داخلي إلهي يدعوه إلى العمل الصالح. وهكذا شغل نفسه بمكارم الأخلاق فقال (أن الفضيلة معرفة والرذيلة جهل).

- ومن أقواله .. (أن الله وحده هو الذي تفرد بالعلم والحكمة، أما البشر فإن كل ما يعرفونه أنهم لا يعرفون شيئاً..)

- .. (أنا مكلف بالقيام بأعباء رسالة إلهية مضمونها إرشاد الناس إلى الحياة الصالحة ولا يثنيني عن القيام بما تطلبه هذه الرسالة شيء وإني لا أخشى الموت في سبيلها فإذا قلتم لي يا سقراط إننا سنعفو عنك الآن ولا نشترط عليك إلا أن تكف عن هذه الرسالة فإني سأجيبكم قائلاً: إني أحبكم يا أهل أثينا ولكني سأطيع الله ولا أطيعكم ولن أمتنع ما دمت حياً عن أداء هذه الرسالة..)

هذه هي أقوال سقراط أمام قضاة محكمة أثينا التي حوكم فيها بتهمة إفساد عقول الشباب لأنه كان يدعو إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام والأوثان وقد ذكرها تلميذه أفلاطون في كتابه (محاورات أفلاطون) وكان أفلاطون قد شهد هذه المحاكمة ودوّن أقوال أستاذه سقراط. ومن بين الأمور التي ذكرت في هذه المحاورات ان سقراط رفض استرحام القضاة لإطلاق سراحه كما رفض ان يؤتى بأولاده باكين ليؤثروا في قلوب القضاة ببكائهم.

إن ما يؤيد صحة أدعاء النبوة ما كتبه عنه المؤرخون والفلاسفة المعاصرون له بقولهم .. (أنه كان رجلاً غريب الأطوار تنتابه بين الحين والحين نوبات فيسقط مغشياً عليه وكانت تطول به الغيبوبة ساعات .. وإنه ادعى النبوة وتلقى الوحي من الآلهة تعليماً مباشراً ..)

فالغيبوبة أمر ملازم لمعظم الأنبياء فهم يغطون في غيبوبة قد تطول أو تقصر ثم يستفيقون بعدها وقد تراءى لهم ان ملكاً يكلمهم أو يملي عليهم أقوالاً وأحكاماً ويطلب منهم ان يصدعوا بها للناس كافة.

وجد سقراط يوماً أعلاناً مكتوباً فيه .. سقراط مدان بارتكاب جريمتين: أولاً أنه لا يعبد آلهة المدينة بل يعبد إله من عنده، ثانياً أنه يضلل الشباب. وعقوبة هاتين الجريمتين: الإعدام (وكان الذي وجه إليه هذا الاتهام تاجر من تجار الجلود وكان يحقد عليه لأنه نصح أبنه بالانصراف عن دبغ الجلود وهي صناعة أبيه والتخصص في الفلسفة. لقد كانت هذه القضية: قضية العلم والجلد، كسبها الجلد وخسرها العلم)

وقف سقراط في المحكمة بكل شجاعة وأجاب عن كل الأسئلة الموجهة إليه وكان مصراً على أداء رسالته والمكانة التي أختارها الله له وقد آثر طاعة الله على طاعة الإنسان وقال .. (إني لن أتردد عن الصدوع بالرسالة الإلهية وأن تهددني ألف موت لا موت واحد.)

وقد قضت هذه المحكمة الاستبدادية على سقراط بالإعدام عن طريق تناول كأساً من السم وكان بإمكانه الحرب فتلامذته الذين حضروا محاكمته هيئوا له طريقاً للخلاص لكنه رفض هذا مفضلاً الموت على الهرب احتراماً لشرائع مدينته، ولما تناول كأس السم وسرى في جسده قال .. (أسلمت نفسي إلى قابض النفس الحكماء ..) وهكذا اعتبر سقراط الشهيد الأول للعقل.

***

غريب دوحي

في المثقف اليوم