قضايا
قاسم حسين صالح: سركون بولص.. تحليل سيكولوجي لشخصيته واغترابه
تنويه: مرت في 22 تشرين/ أكتوبر ذكرى رحيل الشاعر السرياني سركون بولص في (2007). ومع انه يعدّ من أبرز ايقونات الحداثة في الشعر العراقي والعربي ايضا، فان ذكراه مرت دون ان يحتفى بها، حتى من الأوساط الثقافية، بما يليق به شاعرا انسانيا خالصا ترك ست مجموعات شعرية بنكهة تميزه عن شعراء زمانه، بدءا من مجموعته :الوصول الى مدينة أين، مرورا بحامل الفانوس في ليالي الذئاب، وانتهاءا بالعقرب في البستان.. فضلا عن كتاباته القصصية وترجماته.
ولأنني انشغلت من زمن بدراسة سيكولوجيا الشعر والشاعر بهدف توثيق العلاقة (المعدومة عراقيا!) بين الذين يصفون المشاعر والانفعالات بأرق ما في اللغة من مفردات (الشعراء)، وبين الذين يكشفون عن اسرارها وكيف تتشابك العاطفة مع الحالة النفسية والمزاج والشخصية والخبرات (السيكولوجيون)، فأنني وجدت في شعر سركون ما قاله عنه ابن مدينته وعضو جماعته (الكركوكية) الصديق فاضل العزاوي بأن (عمارته الشعرية ذات أعال وسفوح، وفي أعاليه قول للأعالي وفي سفوحه قول للسفوح).. وان التنقل بين الأعالي والسفوح يوحي بان صاحبه مصاب بالأغتراب، فرحت اقرأ اشعاره.. لأحلله واحلل شخصيته سيكولوجيا.
الأغتراب.. ماذا يعني؟
قد تبدو مفردة (الأغتراب) عادية حتى عند مثقفين، مع أن هذه المفردة كتب عنها فلاسفة وعلماء نفس واجتماع.. المئات من المؤلفات.. اليكم موجزا بهم وبها.
يعد ماركس وهيغل اول من لفت الانتباه الى (الاغتراب) حين اوضحا ان بداية تغريب الانسان تنشأ من انفصاله عن الطبيعة من خلال العمل والانتاج. ومع تزايد قدرة الانسان في السيطرة على الطبيعة فانه يواجه نفسه كشخص غريب، حيث يكون محاطا بأشياء هي من نتاج عمله لكنها مع ذلك تتخطى حدود سيطرته وتكتسب في ذاتها قوة متزايدة.
ولقد ركز ماركس على اغتراب العامل في أربعة ابعاد: عن ناتج عمله، عن عمله، عن نفسه، وعن الآخرين، ووصف الاغتراب بانه ظاهرة تاريخية تتعلق بوجود الانسان، وان مصدره هو الانسان ذاته وليس التكنولوجيا، ورأى ان الحل يكون في الاشتراكية التي يتحرر فيها الانسان من تبعية المال والملكية الفردية.
وبعكسه، منح الفيلسوف الالماني فويرباخ الاغتراب معنى دينيا، ورأى انه يتطلب دينا انسانيا يتعلق بالانسان وليس بالآلهة، فيما حاولت نظرية ريزمان عزو سبب الاغتراب الى كون سلوك الانسان اصبح يوجّه من قبل الآخرين، وأن الانسان لم يعد يتلقى مؤشرات سلوكه من اعماق ذاته بل من استحسان واستهجان من يحيطون به.
ويعدّ روسو اول من اعطى (للغربة) بعدا سياسيا بقوله: حين يتولى بعض النواب "تمثيل" الشعب، فان هذا الشعب لا يمارس سيادته بنفسه، ويبدأ بالانعزال داخل وطنه، ويشعر بالغربة. واضاف بان السيادة لا يمكن ان تمارس بالانابة، فهي اما ان تمارس بالذات واما لا تمارس اصلا.. وأن الحضارة سلبت الفرد ذاته وجعلته عبدآً للمؤسسات الاجتماعيه التي أنشأها هو واصبح تابعآ لها.
وتعد نظرية سارتر اكثر نظريات الاغتراب شيوعا في القرن العشرين، وفيها يرى ان الاغتراب النفسي حالة طبيعية لوجودنا في عالم خال من الغرض، وكذلك نظرية ماركوس الذي يعزو الاغتراب الى فشل الحضارة في ادراك الأمكانية الخلاقة للطبيعة البشرية.
ويظهر الاغتراب بشكل واضح لدى ممثل (الوجودية الجديدة).. كولن ولسن الذي رأى ان الانتماء صفة تطبع نفسيات الكثير من الكتّاب والمفكرين والفنانين التي فصلها في كتابيه (اللامنتمي) و(ما بعد اللامنتمي) ثم كتابه (سقوط الحضارة)، مشيرا من خلال معالجته لنتاج الكثيرين من المبدعين امثال: (ويلز، هنري باروس، كامو، سارتر، دستيوفسكي.. ) الى حالة الغربة التي عاشوها بوقوفهم خارج المجتمع وضده.
وحديثا اسهم علم الاجتماع في تطور مفهوم الاغتراب وتركزت جهود علمائه في تفسير الاغتراب في الحياة الحديثة للفرد المغترب الذي يشعر بالضيق والعجز ويرى ان القيم السائدة لم يعد لها معنى لديه وانه صار يشعر بانه غريب عن جماعته. وعزا بعضهم الاغتراب في البلدان النامية الى التغيرات الاجتماعية السريعة والمتلاحقة التي تؤدي الى التناقض بين القيم الاجتماعية والفكرية التقليدية والمجتمع الجديد التي ينجم عنها تفكك في النسيج الاجتماعي وتباين في انماط السلوك الاجتماعي وتضاد بين قيم تقليدية ثابتة وقيم جديدة متطورة.. يحدث انقساما في انماط السلوك الاجتماعي للفرد يمكن تسميته بـ(الشيزوفرينيا الاجتماعية).
وكان اكثر المنشغلين بالاغتراب هم علماء النفس. فشيخهم (فرويد) يرى ان الاغتراب ينشأ نتيجة الصراع بين (الأنا) والضوابط المدنية، ويحدث نتيجة الانفصام بين قوى الشعور (الوعي) واللاشعور (اللاوعي).. وان اللاشعور هو القوة الأعظم والأكبر في شخصية الانسان حيث يحتوى على الرغبات والدوافع المكبوتة التي تحرك سلوكه.. ولا يستطيع اشباعها في عالم تنغصّه الحضارة.
وفي كتابه (المجتمع السوي) يرى فروم ان مصدر اغتراب الانسان هو (الهيكل الاقتصادي السياسي المعاصر)، وان ظاهرة الاغتراب هي في حقيقتها ناجمة عن الرأسمالية المستغلة للشخصية الانسانية. ويشخّص (الاغتراب عن الذات) بوصفه اهم حالات الاغتراب. ويحدد ثلاثة مجالات للاغتراب: الاغتراب والتميّز عن الآخرين.. بان يعي وجوده بوصفه كيانا منفصلا عن الآخرين، والاغتراب عن المجتمع بشعوره انه ما عاد منتميا نفسيا الى المجتمع الذي يعيش فيه، والاغتراب عن الذات المتمثل في عدم مقدرة الانسان على التواصل مع نفسه وشعوره بالانفصال عما يرغب في ان يكون عليه. ويضيف ان الانسان اصبح يحس بالاغتراب منذ فقد صلته بالطبيعة وانتظم في المؤسسات الاجتماعية التي يعدّها وسائل لامتصاص حرية الانسان. وشخّص أسباب الأغتراب بهيمنة التكنلوجيا الحديثة على الأنسان وسيطرة السلطة وهيمنة القيم والأتجاهات والأفكار التسلطيه، فحيث تكون السلطة وعشق القوة يكون الأغتراب.
ستة أسباب.. للأغتراب
نستنتج بأن نظريات الاغتراب تتفق على ان له سببا ولكنها تختلف في تحديد ماهية السبب، ونرى ان الاغتراب هو حصيلة تفاعل عدد من الاسباب نوجز اهمها بالآتي:
1. العجز: ويعني احساس الفرد بأنه لا يستطيع السيطرة على مصيره، لأنه يتقرر بعوامل خارجيةاهمها انظمة المؤسسات الاجتماعية.
2. فقدان الهدفية: او فقدان المعنى الذي يتمثل بالاحساس العام بفقدان الهدف في الحياة.
3. فقدان المعايير: ويعني نقص الاسهام في العوامل الاجتماعية المحددة للسلوك المشترك.
4. التنافر الحضاري: ويعني الاحساس بالانسلاخ عن القيم الاساسية للمجتمع.
5. العزلة الاجتماعية: وهي الاحساس بالوحدة والانسحاب من العلاقات الاجتماعية او الشعور بالنبذ.
6. الاغتراب النفسي: ويعد اصعب حالات الاغتراب تعريفا ويمكن وصفه بانه ادراك الفرد بانه اصبح بعيدا عن الاتصال بذاته.
وتفيد الدراسات التي قاست الاغتراب بان المغترب يعاني من واحد او اكثر من مكونات او عناصر الاغتراب كالاحساس بالعجز وفقدان القدرة على توجيه ما يقوم به من نشاط وفق تخطيطه، او حين تكون علاقاته بالآخرين او السلطة مصدر شقاء، فيشعر بالبؤس والقلق والاحباط وفقدان الولع والاهتمام بالامور الحيايتية والشعور بعدم وجود معنى في الحياة. وقد يحس المغترب بعدم جدوى الأخلاق فيسلك سلوكا يخرج عن المباديء الخلقية في سبيل تحقيق اهدافه وغاياته. ويؤدي احساسه بالعزلة الى التقوقع على نفسه، وقد ينقلب الى شخص ضد المجتمع. وحين يصل حد الشعور بأن ذاته اصبحت غريبة عليه، فانه يحقد عليها.. فينهيها بانتحار بطيء بالادمان على الكحول، او بانتحار سريع بطلقة!.
الاغتراب.. عند سركون بولص
تشكّل شخصية سركون بولص انموذجا لأغتراب المثقف العراقي بشكل خاص، لأن فيها تجسّدت أهم انواعه. فالاغتراب حسب سارتر ناتج عن ظروف الحياة المعاشة في عالم يتسم باللامعنى والعبثية.. وكان قد عاشه سركون. والاغتراب حسب هيجل انفصال او تنافر بين الفرد والبنية الاجتماعية، وكان قد خبرها سركون. واذا كان الاغتراب يعني وعي الفرد بالصراع القائم بين ذاته والبيئة المحيطة به يتجسد في الشعور بعدم الانتماء والسخط والقلق والشعور بفقدان المعنى.. فقد عاشها سركون ايضا.
ان التحليل السيكولوجي لشخصية سركون يقدم لنا خمسة مؤشرات عن اغترابه:
- ان الذات لديه هاربة، وانه في بحثه عنها كمبحر نحو العدم.
- الاحساس بأنه مشتت الهوية identity diffused
- الصراع بين حس الأقلية والحس الأنساني المطلق
- الشعور بالانتماء واللاانتماء في آن معا، وتحديدا في السنوات التي عاشها في امريكا.
- صدمة الخيبة التي احدثها تجواله في مجتمعات العالم بأنه لا معنى لوجود الانسان وقيمته حتى في ارقاها.
لقد صعب على سركون التوفيق بينه وبين المجتمع الذي يعيش فيه حتى لو كان من ارقاها.
فبعد حرب الخليج 1991 ادرجت السلطات الامريكية العراقيين من حملة الجنسية الامريكية بمن فيهم الاشوريين الامريكان، على اللائحة السوداء كمشبوهين محتملين في التواطؤ مع العدو (العراق). وكان سركون في حينها ترك بيروت الى سان فرانسيسكو حيث لا اقليات بالمعنى الثقافي ليحظى بالحرية المطلقة والرحابة والمناخ المفتوح لكل ما يريد.. فكانت صدمة الخيبة التي احدثت لديه غربة المكان بعد ان خبر غربة الزمان، وشعر كمن هو منفي داخل نفسه.. وظلت الخصومة بينه وذاته الى يوم مماته.
ولم يكن ترحال سركون وتنقله بين المدن للمتعة والترفيه عن النفس بل كان حاجة قسرية، لأن الذي يعيش الاغتراب تنشأ لديه حلول قسرية للصراعات العصابية كالابتعاد عن الاخرين انفعاليا، او الحصول على محبتهم، او العداء لهم.. فيما كان الحل القسري لدى سركون هو السفر الدائم.
ولأن سركون كان وسيما، ولأنه كان شاعرا مبدعا، وكاتب قصة ورواية، وضليعا في الترجمة، وثقافة واسعة في الشعر العالمي.. فقد تولد لديه الشعور بالنرجسية، التي تفضي بآلية نفسية الى ان تجعل صاحبها ملتصقا بأوهامه عن نفسه.. وعن المجهول واللانهائي.
وسركون خبر الاضطهاد لاسيما في صباه وبدايات شبابه التي عاشها في كركوك: (ايهاالماضي.. ايها الماضي.. ماذا فعلت بحياتي).. ونقمته على ماضيه هذا مرتبطة بانتمائه الى أقلية وشعوره كما لو كان مواطنا من الدرجة الثانية في مجتمع عشائري متزمت، فيما هو يحمل فكرة انسانية عن الناس وفكرة نرجسية عن ذاته.
ولأغتراب سركون علاقة بالحضارة، فلأن لديه حساسية عالية، ولأنه يحمل صورة مثالية لما يجب ان تكون عليه حياة الانسان، فانه وجد ان منغصات الحضارة والتغيرات السريعة والتناقضات الاجتماعية والاقتصادية.. قد سلبت الانسان حريته وأنسانيته وحولته الى ما يشبه الآلة.. في حالة تناقض الطبيعة الجوهرية للأنسان التي قاسها سركون على روحه الشفافة وعقله المبدع. فالشعور بالاغتراب ليس شرطا في الابداع الشعري ما لم يمتلك الشاعر موهبة الابداع.. كتلك التي تميز بها سركون.. حتى في حياته التي انتهت بتراجيديا احتضاره في منفاه الالماني بشقة صديقه مؤيد الراوي.. من جماعة كركوك.. التي عاشت عصرها الذهبي قبل اربعين سنة.. وتشتت مبدعوها في المنافي!
***
أ. د. قاسم حسين صالح
مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية