قضايا

أحمد السنوسي: التاريخ: علم المستقبل

إن التاريخ بما هو علم المستقبل لا يخبرنا عن أحداث وأحوال مضت لتكون بمثابة الضبط الزمني لواقعنا على إيقاع ذلك الزمن المنقضي إنما هو إخبار عن اعتمالات وسياقات وتيارات من الأحداث والتفاعلات التي تدفقت لتنتج حدثا ما في لحظة بعينها.

ليس للتاريخ قيمة إذا توقفنا معه عند معنى " الإخبار " والنقل القصصي لما وقع دون الذهاب لجوهر المسؤولية وهو النظر والتحقيق بما يعنيه من التحام بالواقع واستيعابٍ لتأثيراته وتعرجاته وحجم التعقيد فيه إضافة للتحلي بروحية انتصارية تفهم هذا الواقع كذات فاعلة فيه لا رازحة تحته كما تتطلع لتجاوزه وتنجذب نحو المستقبل تستجلي ممكناته وترسم آفاقه متسلحة في ذلك بسلطة المعنى والفكرة.

كثير من الأحداث التي وقعت في التاريخ لازالت تشكل حاضرنا إلى الآن وقد يتجلى أثرها المادي في واقع دولنا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا لكن هذا الأثر يتوارى خلف بُنى الوعي والإدراك والذائقة والشعور ليكون فاعلا ومؤثرا بشكل أكبر. لا يكمن المشكل في الذاكرة ذاتها إذ لا يمكن فصلها عن حركة الإنسان بما هو كائن تاريخي لا تنتجه الصدفة إنما مكمن الخلل في صورة تلك الذاكرة في أذهاننا وفي الخيال الجمعي.

على أي نحو نتذكر ما حدث؟ وكيف نراه في علاقة بواقعنا ومستقبلنا؟

إننا لا نتذكر الأحداث في جوهرها إنما نتذكرها صورا وتلك الصورة هي " قشرة الماضي " التي تشكلت منذ لحظة حدوثها إلى غاية وصولها لنا، لا يأتينا الحدث مجردا " عاريا " - وقد لا يكون هذا ممكنا إذ لا موضوعية مطلقا مهما صحّت العلوم فدائما هناك فرصة لتسربات الذاتية - لنمحّصه دون الشحنات النفسية والحمولات الدلالية التي تحيط به أو على الأقل دون هالة التحيّز التي تبدو جليّة حتى ونحن نبحث عما وقع فقط. إن هذا المشكل يعيدنا للنقطة الأولى وهي أن التاريخ " علم المستقبل ". إذ يمكن انطلاقا من هذا المفهوم أن نعيد النظر في حاجتنا لما سبق أن حدث وكيف نراه فاعلا في عالمنا أو العالم الذي نأمله.

لا أعتقد أننا نحتاج الماضي ظلا يلقي بثقله على واقعنا ونهدر أعمارنا بحثا عن التطابق الشكلاني بيننا وبين أسلافنا لعلنا نجد " صاحب الحق " لنتبعه وكأن الحق والخير والحرية وُجدت في صورها التامة التي يجب أن نستعيدها دائما بقياس درجة قربنا لتلك الصورة. إن التعامل مع التاريخ كماض هو الذي أنتج هذه المنهجية التي رسخت حالة التدوير المستمر للفشل والخيبات إذ ألغت كل الديناميات التي تعبر عن عالم الإنسان وحولته إلى عالم من الأصنام / الملائكة تتحسر على ماض تتخيّله فتحاول استعادته فتفشل ثم يصيبها فشلها باليأس فتعيد المحاولة مرة أخرى مع صورة مختلفة في تكرار مستمر لدورة الوهم والفشل واليأس. أعتقد أن ما يجب أن نفكر فيه جديا هو كيفية الخروج من صنم الصورة / الماضي إلى فاعلية الإختراع / التاريخ، نحتاج أن نعيد اختراع الماضي ليتخلّق تاريخا يستعيد حيويته وتدفقه وفاعليته ولن يحدث هذا إلا إذا أعدنا التفكير في عالمنا كعالم للإنسان يتسع لشجاعة التجربة وجرأة الإختيار ورحابة الممكن خطأً وصوابًا فيكون الذي حدث رصيدا لا عبئا وتصبح الذاكرة أحد روافد الفعل المشتبك مع الواقع إذ أن الدورة هي دورة اندفاع للأمام (irréversible ) لا دورة انتكاس للوراء ( réversible ) ومن هنا يبدأ التعامل مع كل ما حدث سابقا خاضعا لمنطق الفاعلية التي تنقّب عن الجوهر وتقشر عن الأحداث " قشرة الماضي " التي شابتها.

لا يقدر على هذا الجهد إلا الفاعل التاريخي الذي يبني واقعه بوعي وعزم مترادفين فلا يُثنيه تخذيل ولا تُلهيه صراعات دورة الإنتكاس إذ هي في زمن غير زمنه لأنه يتحرك وفق محور زمني آخر خاص بدورة الإنجذاب إلى المستقبل. إن هذه الحركة المندفعة إلى الأمام تُعيد اختراع الماضي لأنها تهبه معنى جديدا متجاوزا للمعنى الذي ارتبط به لحظة حدوثه وهذا يعود أساسا لمفهوم خاص عن الزمن الذي يمثل علامة التفاعل والتقدم في هذا العالم إذ لا يتوقف عند صورة ولا شخص ولا حدث بل يستمر في تقدمه ما بقي الجوهر الإنساني ولا يتوقف إلا إذا ضاع هذا الجوهر وبدأت دورة الإنتكاس. إن هذا الجوهر هو الذي يحوّل الذاكرة إلى رصيد رمزي ومعنوي ذو فاعلية وتأثير كبيرين فلا يراها ظاهرا إنما يطلب جوهرها وينجذب إليه انجذاب الشيء لما يجانسه ويوافقه. مر في عمر البشرية الطويل كثير من الأمم والممالك والحروب والصراعات التي مثلت وجه العالم في وقت ما ولا نسمع اليوم عنها في عالمنا بما هي وقائع وشخوص ووجوه دالة على وجود الأحداث لكنها تخلدت في اللحظة التي اختار الجوهر الإنساني أن يظهر فوصلت لنا الإلياذة والأوديسا وجلجامش وقصائد المتنبي وغيرها من الملاحم التي جلّت اللب وأظهرته واخترعت معنى جديدا أكثر جمالا وأدوَم أثرا لجزء من تاريخ البشر.

إن العبور من " ظاهر العبارة " إلى " جوهر الإشارة " يحتاج عقلا متفاعلا وقلبا عارفا لا يرى في الاختلاف تهديدا بقدر ما يراه محفّزا وعامل التقاء وتعارف ومحرك هذا النوع من الفهم مقترن بالقوة والاقتدار. إذ لا يمكن للضعيف المتخاذل أن ينظر للعالم إلا كعدو يتهدده من كل جانب فيستدعي الماضي لتأصيل العداوة ويتخذ المستقبل حلبة حسم لتأبيد العداوة وهي حالة تخبر عن درجة العجز والتوجّس التي تنتج الإرتباك والخوف الدائم. وحده المقتدر الواثق الذي يرى في عالمه ميدان فعل يجد حاجة ملحّة في بناء ذاكرته على النحو الذي يخدم موازين القوة في واقعه ويزيد فرصه مستقبلا إذ يعيد اختراع تاريخه كجوهر يُفيد ويُثري لا كعرضِ يبدّد ويفرّق.

ختاما، إن الأمم ذات العمق التاريخي والتجذر الحضاري تستدعي تاريخها وذاكرتها كمحفّز في اللحظات المفصلية التي تمرّ بها ليكون دليل ثراء وتنوّع وقدرة على استيعاب الاختلافات وتبديد الخلافات وبناء المشتركات على قاعدة الإقتدار ولا أرى لحظة مفصلية ومختلفة كالتي نعيشها مع طوفان الأقصى. ما أهدرنا فيه عقودا من الشقاوة والتناحر والدماء تأتي إجابته كاملة من ساحات الصمود على كل جبهات المقاومة وما رأينا فيه خلاصنا تبيّن أن فيه حتفنا وهلاكنا - لذلك ليس من الواجب فقط - اقتضاء اللحظة وروحها أن نعيد النظر في طبيعة صراعاتنا وأن نستجلي الجوهر من كل ما فات نظرا للواقع الماثل أمامنا والذي لا أدلّ منه على حقيقة الصراع، لسنا أمام رفاهية الإختيار بقدر ما نحن أمام إلزامية النظر والاعتبار.

***

أحمد السنوسي - تونس

في المثقف اليوم