قضايا

شهرزاد حمدي: أصداء البكالوريا في الجزائر

مُفْتَتَح: تبقى لشهادة البكالوريا مكانة خاصّة ضِمن أولويات المُجتمع الجزائري، على تغيّر الزمن وانبثاق العديد من المُستجدّات. ويختلِف مَرَدّ ذلك بين من يطمح لها بدافِع عِلمي، وبين من يُريدها بُغية التفاخُر بين العائلات والأصدقاء. ومَهّمَا يكُنّ، فإنّ المُتّفق عليه، أنها المفتاح الجوهري من أجل دُخول الجامعة، وهُنا تتكثّف أهميتها ويقوى الطلب عليها أكثر. يأتي امتحان البكالوريا في الجزائر كخِتام للمرحلة الثانوية بعد أن يدّرُس التلميذ في شُعبة من الشُعب المُتاحة سنتان، تكون السنة الثالثة هي سنة هذا الامتحان. وتجد أولياء المُترشّحين سواء كانوا نِظاميين أم أحرار قَلِقين طيلة السنة، ليزداد هذا القَلَق عشية الامتحان وأثنائه ويوم إعلان النتائج. ولهذا نُقرّ بأن للبكالوريا في الجزائر حظوة مُتميّزة على الرغم من أن أسئلة الامتحان أصبحت سهلة نوعًا ما مُقارنة بسنوات مَضَت، أين كان عدد الناجحين قليل. إنّ المُتأمّل في ردود أفعال المُجتمع الجزائري بعد إعلان النتائج وتحوّلها إلى قضية راهنية بمثابة الحدث، وتسليط الضوء على التلاميذ الأوائل على مُستوى الوطن، يبعث بإشكالات ويُعيّن حالة من التأزّم تترسّخ مع كلّ سنة، مِمّا يستدعي الكَشفّ عنها بالتحليل والنقد من حيث العِلّة والمعلول. فكيف تتعامَل الذهنية الجزائرية مع امتحان البكالوريا، بالأخصّ بعد إعلان النتائج؟ وما مصير شرطية بِناء الإنسان؟ 

1- الإعلاء من شأن الشُعب العِلمية والتقليل من شأن الشُعب الأدبية:

بعد صُدور النتائج، تُصدِر الوزارة مُعدّلات القبول في تخصّصات مُعيّنة من أجل الالتحاق بها في الجامعات أو في المراكز الجامعية والمعاهد، والمُلاحظ عليها في كلّ عام أنها تشترِط مُعدّلات عالية من صِنف جيّد جدًا وممتاز بالنِسبة إلى تخصّصات عِلمية وتجريبية كالطب، طب الأسنان، الصيدلة، وأيضًا فيمَا يخصّ المدارس العُليا كالمدرسة العُليا للإعلام الآلي والذكاء الاصطناعي. في حين تكتفي بمُعدّلات مُتوسِّطة تصِل إلى حدّ مُعدّل: 20 / 10,00 كأدنى مُعدّل يُعتبر صاحبه ناجِحًا، بالنِسبة للشُعب الأدبية من تخصّصات العُلوم الإنسانية والاجتماعية والحقوق والعُلوم السياسية. حقًا إنّ للتخصّصات العِلمية والتقنية والتجريبية أهميتها في تطوير المُجتمع والدفع بحركة التنمية، ولكن للتخصّصات الأدبية أيضًا قيمتها التي لا تنضبّ، لأنها عُلوم الإنسان الذي يُعدّ شرطًا رئيسيًا من شُروط بِناء الحضارة والتقدّم المُستمر. ثمّ إنها عُلوم تُعلِّم التفكير الجريء والنقد والفهم وتُمكِّن من استكشاف الإنسان بماهو تركيبة مُعقّدة وليس فقط إنسان الفيزيولوجيا والجسد. ويُشار إلى أن تخصّصات عِلم الأحياء والاقتصاد مُعدّلات القبول فيهما أيضًا مُتوسِّطة. والحقّ أن حال العُلوم الإنسانية والاجتماعية في العالَم العربي ككلّ يُعاني من ضُعف إقبال وإحاطة بحثية نقدية عارِفة، رُغم إمكاناتها وأهميتها في عديد المجالات.

2- التباهي بالكمّية أو في الخِطاب الكمّي العَدَدي:

في كلّ مرة تُصرّح الوزارة الوصيّة وتتبجّح بإنجازات مادية كمّية؛ حيث تُقرّ وزارة التربية والتعليم بعد إعلان نتائج امتحان البكالوريا بنِسبة النجاح وتُبدي مُقارنة بينها وبين السنوات الماضية، وعدد الناجحين في كلّ شُعبة مع تحديد النِسبة المئوية، وأمّا وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، فتُسارِع للحديث عن فتح مراكز جامعية جديدة واستقبال عدد أكبر من الطلبة، وتخرّج عدد مُعيّن منهم آخر السنة. إنه خِطاب كمّي عَدَدي يسير وفق منطق الأرقام وكأنها الإنجاز الحقيقي، في حين الأسئلة البارِزة، تكون حول مصير الطلبة بعد التخرّج وعن كيفية الاستثمار في الكفاءات، وعن نوعية البُحوث العِلمية المرجوّة، وعن التلاميذ المُتوفقّين في شهادة البكالوريا، وعن الصياغة المطلوبة المُنتِجة لأسئلة الامتحان، وغير ذلك. يجب الإحاطة الجادّة والسّعي الحثيث من أجل بِناء منظومة تعليمية وبحثية مُثمِرة، وعدم الاكتفاء بتحسين الجانب الكمّي، الذي سيتحسّن تلقائيًا بتحسّن الجانب النوعي والكيّفي.    

3- التصحيح المُتكرّر وتدنّي مُعدّلات النجاح: البكالوريا تتهاوَى:

لقد سَجّلت بكالوريا دورة جوان 2024م حدثًا لم سبِق أن شهدناه في الجزائر، تمثّل في المرور إلى التصحيح الرابع والتصحيح الخامس لإجابات التلاميذ، بعد أن كان الأمر يقتصِر على التصحيح الثالث في دورات سابِقة، وقد أثار هذا موجة من السّجال وتجاذب الرأي بين مُختلف الشرائح المهتمّة بالشأن التربوي عامّة وهذا الامتحان خاصّة، بين من رحّب بالإجراء على أساس أنه في صالِح التلميذ، وبين من استنكر ذلك بتبرير أن الهمّ الرئيسي قد تحوّل إلى رفع نِسبة النجاح، وبدأت قيمة هذا الامتحان تتهاوَى. وقبل ذلك وتحديدًا في سنوات انتشار جائحة كورونا وصل الأمر إلى حدّ أن التلميذ الذي يحصُل على مُعدّل: 9,50 من 20 يُعدّ ناجحًا! بحُجّة الظُروف الصحّية وتذبذب وتيرة التدريس التي قُسّمت على فترات. ولكن هل يُعقل أن ينزِل المُستوى إلى هذه الدرجة؟ ليس هُناك من داعٍ أبدًا للتحجّج بالجائحة، فالبُلدان العارِفة بقيمة الأزمة في توليد الهِمّة، قد استثمرت فيها وطوّرت من سياساتها في التنمية والاقتصاد والتربية والتعليم والبحث العِلمي والثقافة وفي السياسة ذاتها.

4- تعظيم مقياس الأرقام:

بعد إعلان نتائج البكالوريا، يتركّز النظر والبحث عن أصحاب المُعدّلات الـمُرتفعة، الذين تصدّروا ترتيب الثانوية ومنه الولاية والأهمّ من تزعّم النتائج وصُنِّف الأول على مُستوى الوطن. إنّ هذا لأمر إيجابي أن نهتمّ بالمُتفوّقين ونُعطيهم القدر اللازِم من الاعتزاز والتشجيع، وأن نُؤكّد من خِلالهم على الآثر البَيّن للاجتهاد والـمُثابرة. لكن ما يُؤزّم الوضع أن الكلّ يجري وراء الأرقام والمُعدّلات من صِنف: جيّد جدًا، ممتاز، ويُدار الاهتمام في رِحى شُعب العُلوم التجريبية، الرياضيات والتقني رياضي كأكثر الشُعب استقطابًا، في حين ونظرًا لخُصوصية شُعبة الآداب والفلسفة مثلاً، فإنّه من الصّعب تحصيل مُعدّل: 18 أو 19 من 20، فليست القضية مُعادلة رياضية ولا تجرُبة عِلمية، إنّما الأمر مُرتبِط بمواد مُنفتِحة على إجابات لا يضمن التلميذ فيها العلامة الكامِلة أو الاتّفاق الكُلّي رُغم وجود إجابة أنموذجية بالطبع. وتأكيدًا مرّة ثانية على أهمية تخصّصات العُلوم الإنسانية والاجتماعية في الجامعة، هُناك من الطلبة الذين نجحوا في البكالوريا بمُعدّلات من تقدير قريب من الجيّد، جيّد، لهم إمكانات على العطاء والإنتاج، شَريطة توفّر الدعم المادي والمعنوي. وبالتالي وما نُريد طرحه، أن لكلّ التخصّصات والشُعب قيمتها على صعيد الحياة العِلمية والحياة العَمَلية، وأنه من وجوب الفِعل أن تتغيّر الذهنية الـمُستصّغِرة لشأن العُلوم الإنسانية والاجتماعية، لأنها ذهنية جاهِلة بالإمدادات التي يُمكن تحصيلها من هذا المجال، إمدادات لن يجدها العقل حتى في الذكاء الاصطناعي الذي أصبح البشرية الجديدة. وتجدُر الإشارة الواعية هُنا إلى أنّ القيمة المعرفية ثابِتة لتخصّصات العُلوم التجريبية والرياضية والتقنية، وأن جُهود الشريحة المُتفوّقة كذلك ثابتة ومحطّ اعتبار وتحفيز، والقضية كُلّها في ضرورة هدمّ مركزية هذه التخصّصات والانبهار بمُعدّلات الأوائل، مع تبنّي ذهنية مُنفتِحة، عارِفة بأهمية كلّ شُعبة وأن المُعدّل المُتوسّط ليس في مُنتهاه ضُعفًا أو أن صاحبه لن يُقدّم الإضافة مُستقبلاً، فالكفاءة لا تُقاس بشكلٍ كُلّي على الأرقام، فالرقم جُزء منها وليس مُكوّنًا ماهويًا لها. ولذلك فإنّ شرطية بِناء الإنسان تتعدّى مُستوى الأرقام أو الوقوف عند طبائعه الخارجية كالقول بأن هذا التلميذ هادئ، راكز ولا يتحدّث كثيرًا؛ إذ هُناك من تجده مُبدعًا وهو حركي جدًا ويُطيل الحديث. إنّ بِناء الإنسان من أهمّ الأبنية التي تُثبِت الحاجة المُلحّة لها مع كلّ تطوّر حضاري يتّبعه تقدّم مادي صِناعي وتقهقر معنوي إنساني، وسوف يتحسّس الفلاسِفة خُطورة هذا الحال، حينمَا يُؤكّد الفرنسي "إدغار موران"Edgar Morin  (1921م) على تعقيدية الإنسان وضرورة احتواء هذا التعقيد، ويذهب المغربي "طه عبد الرحمان"  Taha Abdurrahman(1944م) إلى أن الأمة بحاجة إلى الشُروع بتجديد الإنسان منها في تشييد العُمران.

5- الأصحّ كفاءات وليس عباقرة:    

في تقديري الذي أقتنع به أن التلاميذ الأوائل في شهادة البكالوريا وحتى الأول على مُستوى الوطن هُم كفاءات مُتميّزة لها قُدرات بحاجة إلى دعم وتعليم من أجل أن تُقدّم الإضافة وتصنع التغيير، وليسو عباقرة خارقين كمَا يصِف البعض من الرأي الجزائري. إنّ العبقرية فَرَادة استثنائية، وهي فِعل وتجسيد، إنتاج مُبدِع، وهؤلاء التلاميذ المُتفوّقين لم يُقدّموا بعد ما يُمكن الاستناد إليه بهدف تقرير العبقرية، هُم نجحوا في امتحان وطني وحصلوا على أعلى العلامات، أبرزوا من خِلالها أنهم كفاءات. نحن نعتزّ بهم ونرجو لهم كلّ الظُروف المُلائمة، لكن لا داعِ لتهويل الأمر، وجعله نُقطة لَصيقة بالحديث اليومي للجزائري سواء كان من الطبقة المُتعلِّمة المُهتمّة بالشأن التربوي والثقافي، أو من الطبقة العادية التي تعيش بانفعالات جيّاشة. فقبل أيّام أثارت رواية "الهوّارية" جدلاً ثائِرًا وفي الآونة الأخيرة أصبحت نتائج البكالوريا الهمّ الجديد، لنتساءل: هل يفتقر الشعب إلى طُموحات ومشاريع أخرى عدا البكالوريا يطرحها ويُناقِشها ويُبدي رأيه بشأنها؟ لـماذا كلّ هذا الصخب بخُصوص امتحان يُجرى كلّ سنة؟

إنّ امتحان البكالوريا بِداية مشوار عِلمي وليس نهايته، ولذلك فإنه حريٌّ أن نلتفِت إلى كيفية جعله مُناسَبَة حقيقية تُستنطق فيها الكفاءات وتُفجِّر طاقاتها، بدءًا بالسنة الأولى ثانوي، وصولاً إلى السنة الثالثة، نمط الأسئلة، نمط الأجوبة، عملية التصحيح، ومُعدّلات التوجيه في الجامعة.

على سَبيل الخَتَم

في نهاية هذه الورقة النقدية المُوجزة، نصِل إلى تأكيد المكانة المُترسِّخة لامتحان البكالوريا في المُجتمع الجزائري على اختلاف التطلّعات، وقد أبرزنا مُبرّرات ذلك، ورأينا كيف تتعامَل الذهنية الجزائرية مع النتائج والتلاميذ الأوائل أصحاب المُعدّلات المُرتفعة. في نتيجة مفادها أنه يجب تهذيب التفكير والتعاطي مع هذه المُجريات، وأن الأهمّ دومًا هو الاشتغال على الاستثمار في الإنسان من عِدّة نواحي، وتفادي هُجران الإنسان الذي مُعدّله مُتوسّط أو قريب من الجيّد، والكفّ عن تهميش العُلوم الإنسانية والاجتماعية، لأن الطبيب ومُهندس الإعلام الآلي والذكاء الاصطناعي يحتاج إلى زيارة الأخصّائي النفساني حينمَا يتعب، والاعتماد على روح الفلسفة الاستشكالية في البحث، وبحسّبِها منهج عَميق في الحياة، فإنه يعود إليها لفهم الحياة، وللباحث في عِلم الاجتماع من أجل إمداده ببعض المعلومات التي تخصّ الظواهر الاجتماعية، فالأمراض وإن كان ظاهرها جسدي فيزيولوجي فإنّ لها صِلة بالمُحيط الاجتماعي وبالحالة النفسية، وهكذا لن تكون هُناك تفاضُلية ميّتة، بل تكامُلية حيّة لها عوائِد إنمائية قيّمة.

***

د. شهرزاد حمدي، جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، الجزائر، تخصّص: فلسفة عامة

.......................

الهوامش:

(1) إدغار موران، نحو سياسة حضارية، تر: أحمد العلمي، ط1، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2010م، ص 65.

(2) طه عبد الرحمان.

 

في المثقف اليوم