قضايا

خالد اليماني: الصخب بوصفه أفيوناً: من أجل استعادة وعينا

في هذا العصر.. تحوّلت الأماكن العامة إلى مصادر إزعاج تُخلّ بصفو الحياة وسلامة العقل. فحتى المقاهي، التي يُفترض أن تكون ملاذًا للاسترخاء، وتناول القهوة، والمذاكرة، وتأمل الأفكار، باتت تعجّ بالموسيقى الصاخبة، وتُسمَع في الخلفية موسيقى المحالّ المجاورة كذلك. في الأسواق التجارية الكبيرة، تتداخل الأصوات بلا هوادة، وكأنّ الصمت أصبح تهمة، والهدوء جريمة في حقّ الروح المعاصرة.
يُسرق الوعي من المرء.. ويُشتّت الانتباه عمدًا لأغراض تسويقية، على حساب كل شيء آخر، بما في ذلك صحته العقليّة والنفسيّة. وكأن الإنسان خُلق ليستهلك، لا ليحيا.
هي ماكينة الرأسمالية التي جعلت من الإنسان أداة شرائية، وربطت سعادته بكمّ المال والأغراض التي يمتلكها، حتى أصبح كائنًا مغيّبًا، منفصلًا عن كينونته الحقيقيّة.
إذا لزم المرء بيته، دون تواصل مع الآخرين، عُدّ في نظر البعض شخصًا غريبًا أو منطويًا أو حتى متكبرًا، وكأن في العزلة عيبًا. والواقع أن بنية المجتمع الجماعي المعاصر غدت سطحية، خاضعة «للرغبات السوقية»، وعاجزة عن إنتاج أيّ قيمة فكرية أو أخلاقية أصيلة.
وفوق كلّ هذا، كثيرًا ما يُجبر الإنسان على التملّق والنفاق ليضمن استمرار حياته بسلاسة. حتى أكثر الناس استقلالًا – فكريًّا وماديًّا – يبقى بحاجة إلى الآخر، محتاجًا إلى قدرٍ من "التواطؤ الاجتماعي" حتى لا يُسحق؛ فلا فكاك من روح العصر؛ تلك الروح التي قدّمت كل شيء، على حساب الإنسان، وسلبت منه محاولة فهم حقيقته، وتحرير روحه من كلّ الآلهة المزيفة!
النوم – ذاك العدوّ الطفولي – غدا اليوم ملاذًا مقدسًا، وغايةً في ذاته، لا يعلو عليه شيء. إنّه التجربة الأكثر أصالةً في وجودنا الحالي؛ الوقت الوحيد الذي فيه نكون على سجيّتنا، ونُطلق فيه العنان لحاجتنا في توقّف اغتصاب الأفكار، وتبدّد الفوضى التي تلتفّ حولنا من كلّ صوب.
لا عجب أن أغلب العقلاء في كل زمن آثروا البُعد عن العامة. ليس ترفعًا، وإن كان الترفّع في بعض الأحيان مستحقًا، بل من باب رحمة الذات واحترامها، وحمايتها من العذابات الوجودية كما فعل ابن باجه باختياره التوحّد على حياة السوق.
نحن نرتدي أقنعة لا تمثّلنا حين نكون بين الجموع، ونتقمّص أدوارًا زائفة فقط لننجو من معاناة أكبر: معاداة المُجتمع لنا. فـ«الجحيم هو الآخر»، على حدّ تعبير سارتر، رائد الوجودية الحديثة.
لستُ من أولئك الذين يريدون الهروب من الناس أصلًا، فأنا إنسان إجتماعي، وبطبيعتي علائقي؛ لدي حاجة فطرية للإتصال ببني آدم، لأني جزء منهم وهم جزءٌ مني، نحن أغصان في شجرةٍ واحدة. ومع ذلك، روح هذا العصر لا تُشبهني البتّة. ففي الجماعة أخسر ذاتي الداخليّة، ومع نفسي أشعر باغترابٍ تام، وكأنني معلّقٌ بين طرفي نقيض: الحاجة للانعتاق من روح الجماعة، والعجز عن التعايش مع الصخب الإنساني المفتعل.
والصخب الذي أعنيه لا يقتصر على الأصوات المرتفعة، بل هو أشمل وأعمق؛ أنه كلّ أشكال سرقة الوعي التي تُمارس يومياً: تشويش الفكر، وتقييد الإنسان داخل أنماط لم يخترها، إلى آخره.
ولبّ القول، ما يؤرقني حقًّا في هذه الحقبة من التاريخ، هو أن التفكير لم يعد ممكنًا في الفضاء العام؛ فكلّ مكان تحوّل إلى ملهى سمعيّ وبصريّ. الناس يركضون خلف الملهيات والاستهلاك بلا انقطاع، وكأنّ الانشغال الدائم غاية في ذاته. لعلّنا بحاجة إلى «فضاءات الصمت»"، أماكن يُمنع فيها الكلام والهواتف، لا للبيع، بل للسكينة، للتأمل، للانعتاق من سطوة التشويش المستمر.
المعارف اليوم حُوّلت إلى سلعٍ تُعرض، لا أدوات تنوير. وهذا هو الجوهر اعتراضي، حتى يُقدّر الناس فضيلة الصمت والتأمل، ستبقى الرداءة والتقليد سيّدا الموقف. لأنّ الإنسان – للأسف – تحكمه المدخلات، فهو، في الغالب، لا يُعالج أو يرفض أو يُقيّم تلك المفاهيم والأفكار، ولا مقاصدها، بل تستولي عليها التكرارات لا المعقولات.
***
خالد اليماني

 

في المثقف اليوم