قضايا

بورزيق خيرة: الاستهلاك العادل.. ركيزة أساسية لترسيخ قيم المسؤولية الاجتماعية

مقدمة: في إطار تطور مفاهيم الاقتصاد الحديث، أصبحت الشركات والمؤسسات أو نقول الأشخاص الاعتباريون لاعبين أساسيين كمستهلكين في الأسواق. فعندما يبرم المستهلك المعنوي عقدا استهلاكيا مع شركة عادية أو شركة ذات مسؤولية اجتماعية أو عون اقتصادي أو محترف، لا يكتفي فقط بشراء المنتج أو الخدمة بناء على السعر أو الجودة التقليدية بل يتعدى ذلك إلى التحقق من التزام البائع بالمعايير الاجتماعية والبيئية، مما يجعل هذا النوع من العلاقة التجارية جزءا من الاستهلاك العادل.

ويعد الاستهلاك العادل بمثابة فلسفة شاملة تسعى إلى تحقيق التوازن بين الاقتصاد والمجتمع والبيئة، من خلال اتخاذ قرارات شرائية واعية. إذ يمكن للمستهلكين أن يكونوا جزءا من حلول طويلة الأمد للتحديات العالمية مثل الفقر، عدم المساواة، والتغير المناخي. مثال ذلك: شراء منتجات تحمل شعار "التجارة العادلة" التي تضمن دفع أجور عادلة للمنتجين، أو التعاقد مع شركات تستخدم تقنيات صديقة للبيئة وتقلل من بصمتها الكربونية.

إن الاستثمار في الاستهلاك العادل هو استثمار في مستقبل أفضل لنا جميعا، فنحن في عصر يشهد تزايدا ملحوظا في الوعي المجتمعي والبيئي، مما يستدعي تحديد ملامح الأسواق وتوجيه الشركات نحو اتباع ممارسات أكثر شفافية وعدالة.

وسبب تركيزنا في هذا المقال على المستهلك وبالتحديد عندما يكون شخصا معنويا هو قوته التأثيرية، والذي قد يتمثل في المؤسسات والإدارات العمومية (عندما تقتني السلع والخدمات قد تضع شروطا صارمة على الموردين تتعلق بالمعايير الاجتماعية والبيئية، أو يمكن أن تتطلب الحكومة من الشركات الموردة استخدام طاقة متجددة أو توفير فرص عمل). أو قد يكون هذا المستهلك المعنوي شركات خاصة أو منظمات (فمثلا بعض الشركات الكبرى تلتزم بسياسات مشددة فيما يتعلق بالمشتريات، على سبيل المثال قد تختار شركة متعددة الجنسيات التعاون فقط مع الموردين الذين يلتزمون بممارسات التجارة العادلة).

لذا يتميز المستهلك المعنوي في أن دوره يتجاوز الأبعاد الفردية لاتخاذ قرارات استهلاكية قائمة على المعايير الاجتماعية والبيئية، وله من القوة مالا نجده في الشخص الطبيعي (الذي عادة يبرم عقود الاستهلاك بكونها عقود إذعان، وإن كان في غالبية التشريعات له مفهوم مقيد وليس مطلق كاستثناء على عقود الإذعان الإدارية). هذا النهج يعكس التزاما أعمق بالاستدامة والمسؤولية الاجتماعية، وذلك من خلال وضع آليات اتخاذ القرارات الاستهلاكية بعدالة ضمن استراتيجيات المستهلك المعنوي.

أولا- أهمية تعزيز الاستهلاك العادل من قبل المستهلك:

يشكل المستهلك المعنوي رافعة قوية لتغيير ممارسات السوق نحو الأفضل. فهناك عدة أسباب تجعل هذا الدور محوريا:

1- القوة الشرائية الكبيرة:

بسبب حجم المشتريات الكبير الذي تقوم به الشركات والمؤسسات، يمكن لهذه الكيانات أن تؤثر بشكل كبير على سياسات الشركات البائعة. فعلى سبيل المثال إذا قررت شركة كبيرة عدم التعامل مع موردين لا يلتزمون بالمعايير الاجتماعية والبيئية، فإن هذا القرار يمكن أن يدفع العديد من الشركات الأخرى إلى إعادة النظر في ممارساتها.

2- السياسات المسؤولة اجتماعيا:

إن الشركات والمؤسسات التي تعمل كمستهلكين غالبا ما تكون لديها التزامات اجتماعية وبيئية اتجاه مجتمعاتها، وبالتالي فإن اختيارها للمنتجات أو الخدمات يكون مدروسا ليتماشى مع هذه الالتزامات. هذا يعكس نموذجا جديدا من الاستهلاك القائم على القيم وليس فقط على المصالح الاقتصادية.

3- تعزيز الشفافية في السوق:

من خلال مطالبة البائعين بالإفصاح الكامل عن ممارساتهم، يساهم المستهلك المعنوي في تعزيز الشفافية في السوق. هذا يؤدي إلى بناء علاقة ثقة بين الشركات والمستهلكين، مما يعزز من كفاءة السوق وتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

ثانيا- الآليات المسؤولية لاتخاذ القرارات الاستهلاكية:

عندما يبرم المستهلك المؤمن بالاستهلاك العادل عقدا استهلاكيا مع شركة عادية أو شركة ذات مسؤولية اجتماعية، فإن أولوياته تختلف عن تلك الخاصة بالمستهلك العادي الذي يركز فقط على السعر أو الجودة، حيث يقوم هذا المستهلك العادل بفحص مدى التزام البائع بالمعايير الاجتماعية والبيئية قبل إتمام الصفقة والتي تكون على الخصوص من خلال:

1- التحقق من الالتزام بالمعايير الاجتماعية والبيئية:

قبل الشراء، يقوم المستهلك المعنوي بإجراء تقييم شامل للبائع لمعرفة إذا كان يتبع سياسات مستدامة وممارسات عادلة. ويشمل ذلك مثلا التأكد من أن الشركة المنتجة تلتزم بدفع أجور عادلة للعمال، وتحافظ على البيئة من خلال استخدام مواد خام صديقة للطبيعة، وتتجنب أي ممارسات تمثل استغلالًا للإنسان أو الأرض. والتأكد من أن الشركة توفر معلومات دقيقة عن منتجاتها أو خدماتها دون إخفاء أي بيانات حساسة.

2- الحق في الإفصاح والإشهار غير المظلل:

للمستهلك المعنوي الحق في طلب الإفصاح الكامل عن جميع المعلومات المتعلقة بالمنتج أو الخدمة المقدمة. يجب أن تكون الإعلانات والإشهارات واضحة وغير مضللة سواء حول المنتج أو ممارسات المسؤولية الاجتماعية، بحيث لا تغطي على الحقائق أو تضخمها بشكل غير صحيح، هذا الأمر يعزز الثقة بين الطرفين ويضمن أن القرار الاستهلاكي يتم بناء على معلومات دقيقة وشفافة.

3- بنود الإذعان المتبادلة:

غالبا ما تحتوي العقود الاستهلاكية على بنود الإذعان التي تفرض شروطًا مسبقة على المستهلك دون السماح له بإدخال تعديلات. ومع ذلك، للمستهلك الشخص المعنوي الحق في مناقشة هذه البنود وإجراء التعديلات اللازمة لضمان أنها تتوافق مع معايير الاستهلاك العادل. هذا يضمن أن العلاقة بين الطرفين قائمة على الشراكة والمساواة وليس على الهيمنة أو الإجبار. كما أن شرط احترام المعايير المسؤولة الذي يفرضه المستهلك في هذا العقد يعد شرطا أخلاقيا وبندا من بنود الإذعان الذي لا يقبل المناقشة، ويبقى للمنتج أو البائع هو الآخر وضع البنود الإذعانية المتعلقة بسلعته أو خدمته ضمن ما هو مقرر قانونا ويخدم مصالحه الاقتصادية.

خاتمة:

من خلال ما تقدر نلاحظ بأن المستهلك يمكنه أن يلعب دورا حاسما في تعزيز مفهوم الاستهلاك العادل من خلال التزامه بمعايير اجتماعية وبيئية قبل إتمام الصفقات، سواء كان ذلك من خلال مطالبة البائعين بالإفصاح الكامل، أو مناقشة بنود الإذعان، أو التركيز على الممارسات المستدامة، فإن هذا النهج يساهم في تحقيق توازن بين المصالح الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. في النهاية، يصبح الاستهلاك العادل ليس مجرد خيار بل ضرورة لتحقيق تنمية مستدامة وبناء مجتمعات أكثر عدالة وإنصافا.

***

بقلم: الدكتورة بورزيق خيرة

أستاذة جامعية، محامية ومتخصصة في مجال المسؤولية الاجتماعية / الجزائر

في المثقف اليوم