قضايا
علاء اللامي: الحجاب الديني للنساء.. خلاف بين جناحي الحكم العلماني والديني بمصر (1)
يعتبر القاضي والباحث محمد سعيد العشماوي واحدا من أهم رجال المؤسسة الثقافية والقضائية الحكومية المصرية، وخصوصا في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك. تولى العشماوي مناصب عديدة منها رئيس محكمة استئناف القاهرة، ورئيس محكمة الجنايات، ورئيس محكمة أمن الدولة العليا. وهو إلى ذلك مبتكر مصطلح "الإسلام السياسي"، وقد صك هذا المصطلح لأول مرة في كتاب له بهذا العنوان صدرت طبعته الأولى في تشرين الأول سنة 1986. وهو مصطلح ملتبس وليس له نظير في اللغات الأجنبية كما بينا في مناسبة سابقة (1) وقد وصفت مواقف العشماوي الإسلامية بأنها "مستنيرة ومنفتحة على العصر" ولكنها أغاظت الإسلاميين المستقلين والمنتظمين في "حركة الإخوان المسلمين" معا، فناهضوه وناصبوه العداء. ولكنني أعتبره من أبرز علمانيي النظام الحاكم وليس صاحب موقف فكري تنويري مستقل ومعارض. وللعشماوي في ما يخص موضوع مقالتنا كتاب آخر بعنوان "حقيقة الحجاب وحجية الحديث" وهو ما سنتوقف عنده في هذه القراءة النقدية.
في هذا الكتاب "حقيقة الحجاب وحجية الحديث" نشر المؤلف محمد سعيد العشماوي إلى جانب آراءه ردود المؤسسة الأزهرية بقلم مفتى الجمهورية المصرية الشيخ محمد سيد طنطاوي على موقفه من الحجاب الديني للنساء إلى جانب ردوده على تلك الردود. فمن هو الشيخ محمد سيد طنطاوي؟ إنه واحد من علماء الدين الذين برزوا في العصر الحديث وبلغ منصبي مفتى الديار المصرية ورئيس مشيخة الأزهر الشريف عرف بتبني أهم المواقف التي تتبنى فكر النظام الحاكم وسياساته.
ومثلما اعتبرتُ العشماوي ذراع الحكم القضائي وأبرز العلمانيين الحكوميين فإن الشيخ طنطاوي يمثل من وجهة نظري الذراع الفقهي الديني للحكم وأبرز سلفيي الحكم القائم ومهندس سياسات النظام في مجال الشؤون الدينية. وسوف نأتي بعدد من المثلة الموثقة على مواقفه وتصريحاته تؤكد ذلك لاحقا.
في هذه المراجعة والقراءة النقدية لآراء الاثنين سأحاول أن أقدم خلاصات مركز مهمة لتوضيح موقفيهما. وإذا كان عشماوي يرفض الحجاب مصطلحا ومضمونا ويدعو إلى عدم الأخذ به، وإذا كان موقف الشيخ الطنطاوي على نقيضه تماما يرى في الحجاب فرضا دينيا واجبا، فإن موقفي الشخصي الذي عبرت عنه في أكثر من مناسبة ينأى عن كلا هذين الموقفين - العلماني الحكومي والسلفي الحكومي - ويعتبر أن موضوع حجاب المرأة أو سفورها يدخل في صميم خصوصيات المرأة وإنه مسألة شخصية تهم المرأة نفسها ولا علاقة لها بالرجل من قريب أو بعيد. وسواء فرض الرجل على المرأة الحجاب الديني أو السفور أو التعري على المرأة فهو يمارس ضدها قسرا ذكوريا وقمعا صريحا يسلب منها حريتها الشخصية ويهين عقلها ويتدخل بفظاظة في خصوصياتها كأنثى، وعليه فإن قرار التحجب أو السفور هو قرار خاص بكل امرأة من دون أي تدخل أو قمع مباشر أو غير مباشر من قبل الرجل وينبغي حماية حق المرأة هذا وحريتها الشخصية قانونيا ودستوريا.
هدفي من هذه الخلاصات من كتابات العشماوي والطنطاوي هو إطلاع الشباب المهتمين بهذا الموضوع على وجهات نظر الطرفين وعلى الحجج والأدلة الموثقة التي يسردانها ليكونوا على إطلاع تام عليها ومباشر عليها في أصولها:
1- يرى العشماوي أن "الحجاب" لغةً واصطلاحاً، ليس المقصود به لباس المرأة، بل هو ساتر أمر القرآن بوضعه بين نساء النبي والمؤمنين من الرجال. والأمر القرآني ورد في الآية 52 من سورة الأحزاب ونصها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا –الأحزاب 52}.
2- يذكر الكاتب سبب نزول هذه الآية وهو أن النبي عند زواجه بزينب بنت جحش - التي كانت زوجة لمتبناه السابق زيد بن حارثة وتنازل له زيد عنها - أولمَ لمجموعة من الصحابة في بيته وليمة. فلما طُعِموا ظلوا جالسين يتحدثون ووجه العروس إلى الحائط، فثقلوا على النبي فنزلت تلك الآية التي تحتوي على الأحكام الثلاثة الواردة فيها، وهي: تصرفات المؤمنين في بيت النبي كيف يجب أن تكون، ووضع حجاب أي ستار بين زوجات النبي والمؤمنين، ومنع زواج المؤمنين من زوجات النبي بعده. ويخلص العشماوي إلى أن الحجاب المقصود هنا هو "الساتر" الذي يجب وضعه بين نساء النبي وضيوفه من المؤمنين. وأن المسلمين صاروا يميزون بين زوجاته من أمهات المؤمنين المحجوبات وبين ما ملكت يمينه. وتأكد ذلك بعد زواجه من صفية بنت حُيي، فقالوا "إنْ حَجَبَها فهي من أمهات المؤمنين أي زوجاته وإنْ لم يحجبها فهي من جواريه".
3- آية الخمار: سورة التوبة – الآية 31 {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ...}. ويذكر سبب نزولها وعلة الحكم فيها هو تعديل عرف كان قائما عند نزول الآية وهو أن النساء كن يغطين رؤوسهن بالأخمرة – جمع خمار – ويسدلنها وراء ظهورهن فأمر الآية المؤمنات بلي أي إسدال الخمر على الجيوب أي على أعلى جلبابها لستر صدرها ولم يكن الهدف وضع زي بعينه.
4-آية الجلاليب: سورة الأحزاب آية 59 {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}. وذكر سبب نزولها المنصوص عليه في التفاسير ويتعلق بالنهي عن التبذل وكشف وجوههن حين يخرجن للتبرز وقضاء الحاجة قبل اتخاذ الكُنف "المراحيض" على عادة الجواري. والآية هنا تنهى عن هذا التبذل وتأمر النساء الحرائر بإدناء الجلاليب على الوجوه حين يخرجن الى الخلاء للتبرز حتى لا تتعرضن للإيذاء من قبل الفجار والعابثين وللتمييز بين الحرائر والجواري. ويعزز العشماوي فهمه هذا بما روي عن معاقبة عمر بن الخطاب للجواري اللائي كن يتقنعن أو يدنين عليهن جلاليبهن تشبها بالحرائر. في الجزء الثاني من المقالة نستكمل وجهة نظر العشماوي في الحديث النبوي الخاص بالحجاب وكيف رد شيخ الأزهر ومفتي الجمهورية الشيخ محمد طنطاوي على العشماوي؟
5- يخلُص العشماوي إلى الآتي: "الآيات أعلاه لا تفيد وجود حكم قطعي بارتداء المؤمنات المسلمات زيا معينا على الإطلاق وفي كل العصور. ولو أن آية من الآيات الثلاث الآنفات أفادت هذا المعنى على سبيل القطع واليقين لما تكرر النص على الحكم نفسه في آية أخرى.
6- بخصوص الحديث النبوي الذي روته أم المؤمنين عائشة بصيغة (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت – بلغت الحيض – أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى هنا" وقبض على نصف الذراع. والرواية الثانية للحديث مختلفة وتقول "يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح ان يرى منها إلا هذا"، وأشار إلى وجهه وكفيه. فهاتان الروايتان للحديث النبوي، كما يوثق العشماوي، هما روايتان لحديث آحاد وليس من الأحاديث المتواترة التي عليها إجماع أي إنه حديث للاسترشاد والاستئناس ولكنه لا ينشئ حكما شرعيا أو يلغيه. ورغم أن الروايتين مرويتين عن أم المؤمنين عائشة ولكنهما متناقضان؛ ففي الحديث الأول يجوز للمؤمنة أن تظهر نصف ذراعيها مع كفيها ووجهها وفي الثاني يحق لها ان تظهر كفيها فقط من دون ذراعيها ووجهها، فكيف ذلك؟
7- يرى العشماوي أن أسلوب القرآن ونهج الإسلام هو عدم الإكراه في الدين، وإذا كان الأصل هو عدم الإكراه في الدين فمن باب أولى أن يكون لا اكراه في تطبيق أي حكم من أحكامه. وحتى في أحكام الحدود (العقوبات) وإنما يكون التنفيذ دائما بالقدوة الحسنة والنصيحة اللطيفة والتواصي المحمود. ص 19.
8- خلاصات: يخلص المؤلف إلى الخلاصات التالية:
* الحجاب في القرآن يعني وضع ساتر بين زوجات النبي – وحدهن – وبين المؤمنين، وليس ارتداء زي معين.
* الخمار كان عرفا تضع النساء بمقتضاه مقانع وأغطية على رؤوسهن ويرسلنها وراء ظهورهن فتظهر صدورهن فأمر القرآن بتعديل هذا العرف بحيث تضرب النساء بخمرهن على جيوبهن ليخفين صدورهن العارية ويتميزن عن غير المؤمنات.
* إدناء الجلاليب كان القصد منه تمييز بين المؤمنات الحرائر والجواري وبما أن الجواري انتفين في عصرنا فقد انتفت الحاجة إلى هذا الحكم بالتعديل العرف السابق.
* حديث النبي عن الحجاب هو حديث آحاد (لم تتوافر فيه شروط المتواتر، ويسمى خبر آحادٍ ومنه الصحيح، ومنه الحَسِن، ومنه الضعيف، ومنه المنكر، ومنه الشاذ، ومنه الموضوع). وهو أدنى إلى أن يكون أمرا وقتياً يتعلق بظروف العصر بتمييز المؤمنات عن غيرهن، أما الحكم الدائم فهو الاحتشام وعدم التبرج. ص 20.
* الحجاب –بالمفهوم الدارج حالا – شعار سياسي وليس فرضاً دينياً ورد على سبيل القطع والجزم واليقين والدوام في القرآن أو في السنة النبوية. فرضته جماعات الإسلام السياسي ثم تمسكت به كشعار لها وأفرغت عليه صبغة دينية.
* ننتقل الآن إلى ردود شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية الشيخ محمد طنطاوي على المستشار محمد سعيد العشماوي. وقبل ذلك ولكي نوثق قولنا إن الشيخ طنطاوي يمثل الجناح الديني السلفي لنظام الحكم في مصر بأمثلة ثابتة ندرج أدناه بعض مواقف الشيخ التي نشرت في الصحافة في وقتها والتي تؤكد مضمون قولنا هذا:
* أثار شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي ضجة كبيرة في الشارع المصري حين صافح الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز الذي يلقبه العرب بجزار قانا أثناء فعاليات مؤتمر «حوار الأديان» في 12 نوفمبر 2008.
* في شهر شباط -فبراير 2003، وقبل احتلال القوات الأمريكية للعراق أقال طنطاوي الشيخ علي أبو الحسن رئيس لجنة الفتوى بالأزهر من منصبه بسبب فتوى أكد فيها «وجوب قتال القوات الأمريكية إذا دخلت العراق". وموقف طنطاوي هنا مستل من صميم موقف النظام المصري المؤيد لتلك الحرب التدميرية للعراق.
* في نهاية أغسطس 2003 أصدر طنطاوي قراراً بإيقاف الشيخ نبوي محمد العش رئيس لجنة الفتوى وإحالته للتحقيق؛ لأنه أفتى بعدم شرعية مجلس الحكم الانتقالي العراقي الذي شكله الاحتلال الأميركي وحرَّم التعامل معه، وقال شيخ الأزهر أن الفتوى التي صدرت (ممهورة بشعار خاتم الجمهورية المصري وشعار الأزهر) «لا تعبر عن الأزهر الذي لا يتدخل في السياسة وسياسات الدول".
* في 30 ديسمبر عام 2003 استقبل طنطاوي وزير الداخلية الفرنسي آنذاك نيكولا ساركوزي في الأزهر وصرح طنطاوي أنه من حق المسؤولين الفرنسيين إصدار قانون يحظر ارتداء الحجاب في مدارسهم ومؤسساتهم الحكومية.
* في 8 أكتوبر 2007 أصدر طنطاوي فتوى تدعو إلى «جلد صحفيين» نشروا أخبارا فحواها أن الرئيس حسني مبارك مريض، وقد أثارت هذه الفتوى غضباً شديداً لدى الصحفيين والرأي العام.
* في 5 يوليو 2009 ظهرت مطالب برلمانية جديدة تدعو لعزله على خلفية جلوسه مرة أخرى مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز على منصة واحدة في مؤتمر حوار الأديان الذي عقد في الأول والثاني من يوليو 2009 في كازخستان.
ننتقل الآن إلى رد الشيخ طنطاوي على آراء المستشار العشماوي والذي نشر في مجلة روزاليوسف عدد 3446 في 27 حزيران – يونيو 1994:
1- يستعيد الشيخُ كلامَ المستشار بدقة ومن دون اختصار في الفقرة الأولى من رده. وفي الفقرة الثانية يكتب " والذي أراه أن تخصيص الحجاب بزوجات النبي كما يرى سيادته ليس صحيحا لأن حكم نساء المؤمنين - نلاحظ هنا أن الشيخ لا يقول المؤمنات بل نساء المؤمنين ولهذا دلالته - في ذلك كحكم زوجات النبي (ص) لأن المسألة تتعلق بحكم شرعي يدعو إلى مكارم الأخلاق وما كان كذلك لا مجال معه للتخصيص. ولذلك قال بعض العلماء: قوله تعالى "ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن" قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم. ص 26. ولم يتوقف الشيخ عند التفريق الذي قام به المستشار بين الحجاب بالمعنى القرآني أي الستار والمعنى المعاصر أي زي المرأة ولبسها. يتبع في الجزء القادم وفيه نستكمل ردود الشيخ طنطاوي.
***
علاء اللامي
......................
هوامش:
1-«الإسلام السياسي» مصطلح ملتبس لغةً ومريب مضموناً –علاء اللامي
https://al-akhbar.com/Opinion/291935