قضايا

فالتر بنيامين

ترجمة : عبد الوهاب البراهمي

***

(ستشعرون كيف أنه كان على الشعوب أن تروي في طفولتها عقائدها وخرافاتها وتنشأ تاريخا لكلّ حقيقة أخلاقية)... جان ميشليه ، الشعب.

I

" إنّ الرّاوي، ومهما كان هذا الاسم مألوفا لدينا، فهو أبعد عن أن يكون حاضرا بيننا تماما في نشاطه الحيوي. إنّه بعدُ بعيد جدّا عنّا و يزداد بعدا. فليس تقديم شخص مثل ليسكوفي Leskov1  بوصفه راوٍ narrateur، هو تقريبه منّا ، بل بالأحرى زيادة المسافة التي تفصلنا عنه. وإذا ما لاحظنا من مسافة معينة  السمات الكبرى البسيطة التي تكوّن الراوي تفوّقت عليه. فتبدو بأكثر دقّة على نحو ما نقف أحيانا على صخرة ، حالما نلحظها من نقطة مقصودة، شكل رأس أو جسم حيوان. إنّ ما يرسم هذه النقطة لدينا هي تجربة يومية. فهي التي تخبرنا بأنّ فنّ الحكاية يقترب من النهاية. ومن النادر جدّا اللقاء بأناس قادرين على حكي شيء ما في المعنى الحقيقيّ للكلمة. من هنا يكون الإرباك العام حينما  يقترح أحدهم ، أثناء سهرة ، أن نروي لبعضنا بعضا حكايات. وقد نقول بأنّنا نفتقر الآن لملكة تبدو لنا غير قابلة للإستيلاب ، وأكثر ضمانة من سائر الملكات: ملكة تبادل تجاربنا.

من اليسير تصوّر أحد أسباب هذه الظاهرة: انخفاض مسار التجربة. انخفاضا يبدو أنه يمدّد في انهيارها. ما من يوم لا يثبت لنا بأنّ هذا الانخفاض قد بلغ مستوى قياسيا، وأنّ صورة العالم الخارجي لم تتأثرّ فحسب بالتغيرات الكبيرة التي تبدو مستحيلة من قبل، بل أيضا صورة العالم الأخلاقي. ظهر مع الحرب العالمية مسار، لم يتوقف منذ ذلك الوقت. ألم نلاحظ زمن الهدنة أن الناس عادوا صامتين من جبهة القتال ؟ هم لم يغتنوا فيها بتجربة تواصلية بل عادوا منها فقراء. وما الغريب في ذلك؟ ما من تجربة قطّ قد وقع نفيها بالأساس، قدر ما كان من التجارب الاستراتيجية لحرب المواقع، التجارب المادية بفعل التضخّم والأخلاقية بالحكومات. فالجيل الذي يركب بصعوبة الترامواي للذهاب إلى المدرسة،  يجد نفسه في الهواء الطلق، في منظر لم يبقى فيه شيء لم يتغيّر سوى السّحاب؛ و، وجسم الإنسان الصغير الضعيف في مجال عمل التيارات المميتة والانفجارات المؤذية.

II

إنّ تجربة النقل الشفوي هي المنبع الذي يشرب منه جميع الرواة. ومن بينهم من وضع حكايات بواسطة الكتابة، فأولئك هم الرواة الكبار الذين يبتعد النص لديهم على الأقلّ عن كلام الرواة المجهولين الذي لا يحصرهم العدّ. يجب فيما يبقى أن نميّز من بين هؤلاء الرواة فريقين لا يكفاّن عن التداخل فيما بينهما. فشخصية الراوي لا تستمدّ اكتمالها إلاّ من هذا الأصل المزدوج. يقول المثل السائر الأماني :" بعضهم شاهد كثيرا ليحتفظ بالكثير"، ويقدّم الراوي نفسه بوصفه إنسانا عائد من مكان بعيد. غير أننا نجد لذّة كبيرة في الاستماع لمن ظلّ في بلده ويعرف حكاياته وتقاليده ، و يكسب قوته بشرف. هكذا يمثلّ كل من الفلاح المقيم في أرضه والبحّار التاجر، النمط التقليدي للفريقين. وبالفعل، تنتج بيئة كل منهما سلالتها الخاصة من الرواة. ولا يبقى على الأقلّ سوى أن نتصوّر مجال الحكاية في كلّ اتساعها التاريخي دون تداخل حميميّ متبادل لكل من هذين النمطين التقليديين. إنّ العصر الوسيط بالخصوص الذي، وبفضل الترافق في العمل، قد حقّق مثل هذا التداخل. فصاحب العمل المقيم ومرافقيه يقومون بجولة في فرنسا وهم يعملون معا في الورشة، وكلّ صاحب عمل يقوم بجولته في فرنسا قبل أن يستقرّ في بلده أو بلد آخر. فإذا صحّ أن المزارعين والبحّارة كانوا هم أسياد فنّ الحكاية، كان الصانع من جهته أرقى توجهات هذا الفنّ. فلديه ترتبط رسالة البلدان البعيدة التي يحملها كلُّ من سافر كثيرا، برسالة الماضي التي تحبّذ في الحضريّ أو المقيم كونه إنسانا كاتما للسرّ. على هذا النحو تكوّنت شخصية الراوي الذي، مثلما قال جان كاسو، وهب للحكاية نبرتها وأدرك واقعها، الذي يودّ القارئ أن يلجأ إليه أخويا وأن يعثر فيه على قدرِ، ومستوى المشاعر والوقائع الإنسانية العادية. (....)

إنّ المؤشّر الأوّل لمسار أفضى إلى انهيار الحكاية هو تطور القصّة في بداية العصور الحديثة. إنّ ما يميّز القصّة عن الحكاية أو الرواية (وعن جنس الملحمي تحديدا)، هو كونها ترتبط أساسا بالكتاب. فلا يمكن للقصّة أن تنتشر إلاّ انطلاقا من اختراع الطباعة. بينما تكوّن التقليد الشفوي - وريث الجنس الملحمي - على نحو آخر غير ما يصنع أساس القصّة. إنّ ما يقابل القصّة بكلّ أشكال النثر وقبل كلّ شيء بالحكاية أو الرواية، هو كونها لا تنتج عن التقليد الشفوي ولا تعرف كيف تلتحق به.

إنّ ما يحكيه الراوي ، يستقيه من التجربة، من تجربته الخاصّة أو التجربة المتبادلة. فيجعل منها بدوره تجربة من يستمع لحكايته. وعلى العكس، فقد انحبس القصّاص في عزلته. لقد تكوّنت القصّة في أعماق الفرد المنعزل، الذي ليس له القدرة على أن يتكلّم بطريقة دقيقة عما هو أحبّ إلى قلبه، والذي يفتقر إلى النصح ولا يعرف كيف يقدّمه.

إنّ كتابة قصّة، هو أن نخرج بكل ّ الطرق ما يتعذّر قيسه في الحياة. في فسحة الحياة بالذات و تكشف القصّة، بتمثيل هذه الفسحة، عن عمق وهن إرادة الكائن الحيّ. وأولى الأعمال لهذا الجنس من الكتابة هو دون كيشوت، الذي يبيّن لنا كيف أنّ عظمة الروح والجرأة ودأب الإنسان الأكثر نبلا على المساعدة هي خالية تماما من النصح السديد ولا تتضمّن أي قبس من الحكمة.

VI

يجدر أن نتمثّل تغيّر أشكال ملحمية في إيقاع على نحو إيقاع التحوّلات التي عرفتها الأرض طيلة آلاف السنين. ومن بين جميع أشكال التواصل بين البشر، لم يوجد أكثر من القصّة شكلا اكتُسب ببطء وانحلّ ببطء. كان على القصّة التي تعود جذورها إلى العصر القديم، أن تنتظر قرونا عديدة قبل أن تعثر في البورجوازية الصاعدة العناصر التي لابدّ أن تولدّ ازدهارها. إنّ ظهور هذه العناصر الجديدة هو الذي أثار الاستبعاد التدريجي للحكاية في المجال التقليدي؛ فإذا استخدمت الحكاية غالبا المحتوى الجديد ، فهو لم يكن مع ذلك محتوى محدّدا حقّا. ونرى من جهة أخرى، في قمّة العصر البورجوازي الذي وَجد في الصحافة أحد أدواته الأكثر أهمية ، ظهور هذا الجنس الجديد من التواصل.  وأيّ كان منبته قصيّا ، فهو جنس لم يؤثّر بعدُ على الشكل الملحمي بصورة محدِّدة. بيد إنه يفعل ذلك الآن. ونحن ندرك أنه ليس أقلّ غرابة قطّ ، بل أكثر فتكا بالحكاية كما القصّة التي ستشهد من جهتها في النهاية أزمة. وهذا الجنس الجديد من التواصل هو الإعلام".

***

..............................

* فالتر بنيامين " الرّاوي".. تأملات في مؤلف نيكولا ليسكوف (القسم الأول).

LE NARRATEUR. RÉFLEXIONS À PROPOS DE L’ŒUVRE DE NICOLAS LESKOV (PREMIÈRE PARTIE), PAR WALTER BENJAMIN.

عندما يتم الحديث عن السياسات الكونية، يتبادر إلى الذهن مباشرة انشغال مصادر القرار العالمي (المستخلفون أرضا) بمستقبل شعوبهم بشكل خاص والإنسانية بشكل عام. في نفس الآن هذا الانشغال تتمخض عنه في كواليس السياسة مفاوضات وتوافقات في شأن المصالح الحيوية وأسس وطبيعة زعامة أو زعامات قيادة التغيير كونيا (مسألة التقاطب). الصراعات الاقتصادية والسياسية والعسكرية تعتبر أمرا طبيعيا وحتمية تاريخية، لكن من الصعب التكهن بتحويلها إلى مصدر لهدم ما بنته القوى العالمية من حياة مزدهرة لشعوبها (الولايات المتحدة الأمريكية، الصين الشعبية، روسيا القيصرية، والهند الديمقراطية، والمجموعة الأوروبية). هناك انطباع كون استقطاب الكفاءات والنوابغ العلمية في مختلف المجالات لا يتم بطريقة عشوائية بل يتم على أساس ميثاق توافقي غير معلن يوجه من خلالها أصحاب المادة الرمادية إلى الفضاءات التي تستجيب لتطلعاتهم واهتماماتهم. الهندسة في هذا إطار المتحكم فيه تحتل مكانة مرموقة. فضاءات علومها زاخرة بالإبداعات لربط الكشوفات العلمية بواقع حياة الشعوب والأمم. أسرار الكون في الأرض والفضاء والبحار والمحيطات زاخرة بالخيرات والثروات الطبيعبة النفيسة. الكشوفات مكثفة في الوكالات البحثية والمختبرات المقاولاتية والجامعات والمعاهد المتخصصة.

كما أشرت إلى ذلك في مقالات سابقة، القوى العالمية تراكم الجهود بسرعة مبهرة لتحقيق السبق في الابتكار العلمي والتكنولوجيا. قطعت البلدان المتقدمة أشواطا بعيدة في مجال الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة وما تتيحه من تحليل للبيانات وتحسين للقرارات وتجويد للتنبؤات وتنفيذ للمهام في مختلف المجالات الإنتاجية والمعرفية، خاصة الصحة والأدوية والزراعة والتجارة والتصنيع والتكنولوجيا الحيوية والطب الجيني ومختلف شعب العلوم الإنسانية. كل الدول الرائدة علميا تسعى إلى الوصول بسرعة فائقة لاستدراك التأخر في مجال الطب والصيدلة بحثا عن تطوير علاجات جديدة وحلول طبية مبتكرة. استخدام تقنيات التعديل الجيني في البحوث الطبية والزراعية أصبح أمرا طبيعيا.

في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، شبكات الجيل الخامس تغزو فضاء عيش الشعوب جنوبا وشمالا، وقدرات حماية البيانات الشخصية وتعميم الهوية الإلكترونية وضمان الأمان السيبراني في طريقهم ليصبحوا قدرا محتوما على الجميع. في نفس الآن الجهود تتزايد في مجال الطاقة المستدامة بحثا عن تعزيز الطاقة المتجددة وتطوير تقنيات تحزينها وتحسين كفاءة استخدامها. وسائل النقل تعرف بدورها تطورا ملحوظا. السيارات الكهربائية تكتسح الأسواق بوثيرة عالية. وجودها محبذ جدا لكونها تعتبر صديقة للبيئة وملاذا للحيلولة دون تدمير الحياة أرضا. داخل المدن بمختلف أحجامها، التوصيل الذكي والمشاركة في نقل وتوزيع السلع والخدمات أصبح مدبرا إلكترونيا ببرامج وتطبيقات جد متطورة يتقاسمها المستهلكون والعملاء عبر شبكة الانترنيت. في هذا الشأن، كثافة مرور الدراجات الهوائية والنارية الكهربائية تزداد ارتفاعا يوما بعد يوم داخل المدارات الحضرية. في نفس القطاع، تطور الذكاء الاصطناعي في طريقه لتعميم تحويل السياقة اليدوية للسيارات والشاحنات والقطارات والطائرات والبواخر إلى قيادة ذاتية. لقد التحمت تقنيات الاستشعارات الروبوتية المرتبطة اللاسلكيا بالرادارات والأقمار الاصطناعية بهذا القطاع محققة أهدافها في مجال السلامة الطرقية والفضائية والبحرية. الطائرات بدون طيار ستتحول إلى وسيلة سريعة لنقل البضائع بأقل التكاليف والرفع من مستوى الكفاءة في الشحن والوصول حتى إلى المناطق النائية والوعرة.

أما المجالات العذراء التي تزخر بالثروات والخيرات فتتعلق بأعماق البحار والمحيطات والفضاء وكواكبه. لقد قطعت الإنسانية خطوات هامة في مجال تعميق المعرفة بالتنوع الحيوي في البحار والمحيطات، وفي فهم العمليات البيئية داخلها بما في ذلك دراسة أنواعها المائية وأنماط الحياة بها وتكيف الكائنات بيولوجيا في أعماقها. كما تشتد الأبحاث لاكتشاف مدى تأثير التغيرات المناخية على بيئة البحار والمحيطات وتياراتها وحرارة وحموضة مياهها وعلاقتها بالارتفاعات عن سطح الأرض. إن المتتبعين والمختصين يعتبرون أن ما تختزنه هذه الفضاءات من ثروات لا يعد ولا يحصى. لا يزال هناك الكثير من الكائنات البحرية غير معروفة بالكامل. تحتوي المحيطات على مواد غنية مثل الأسماك والمعادن والمركبات الكيماوية الثمينة. والحالة هاته، يعتبر اكتشاف الأعماق رهان البحث العلمي في الحاضر والمستقبل. أعماق الأنهار في الفضاء الأزرق والهوتسبوت والخنادق العميقة لا زالت مجهولة. الأبحاث في هذا القطاع تتواصل لاختراع التقنيات والروبوتات والغواصات ذات الأشعة تحت الحمراء لرصد كل صغيرة وكبيرة في هذه المناطق.

على مستوى الفضاء، الدول الرائدة تجاوزت الاهتمام بالقمر لتهتم كذلك بكوكب المريخ. في هذا الباب، تطوير الوكالات والمؤسسات الفضائية أصبح من الانشغالات الأساسية للدول القوية عالميا. كل الدول المتقدمة مشتركة اليوم في محطة الفضاء الدولية (ISS) التي تنخرط فيها ناسا بشكل فعال، وتساهم بشكل متواصل في تشغيلها وتمكين روادها في الفضاء من القيام بمهمات تطوير الأبحاث العلمية. تمويل الوكالات والمؤسسات الفضائية المعروفة يخضع بدوره لهاجس المنافسة والتسابق. الإدارة الوطنية للفضاء في الصين (التي تأسست سنة 1993) لا تدخر جهدا في تمويل تطوير تكنولوجيتها واكتشافاتها الفضائية والعلوم التطبيقية الهندسية المرتبطة بها. هذه المؤسسة تقود تنفيذ برنامج الفضاء المأهول، وتكثف عمليات اكتشافاتها الكوكبية، بحيث نجحت في جمع عينات من سطح القمر، ونجحت في إطلاق وتشغيل عدد كبير من الأقمار الصناعية لتطوير مجالات الاتصال والمراقبة البيئية والملاحية والتنقلات المختلفة.

بدورها الوكالة الفضائية الأوروبية تسعى للحفاظ على مكانتها الدولية بحيث تقوم بدورها بإطلاق المهمات الفضائية الخاصة بها وتشارك في المشاريع الدولية وتتعاون مع الوكالات الأخرى. روسيا، ذات الأبعاد الجغرافية الأوروبية، تتوفر على أقدم وأبرز وكالة اسمها روسكوسموس (1992). تستثمر بدورها بقوة في تطوير وإطلاق المهمات الفضائية وتنشيط البحوث لاكتشاف الكواكب والمراكب الفضائية. إلى جانب الناسا، تتوفر كندا على وكالة التي تقوم بنفس الأدوار وتهتم بنفس الانشغالات الدولية. انخرطت الهند في نفس المسار وأصبحت تتوفر على وكالة فضائية ناشئة ومتقدمة بالرغم من تأسيسها المبكر.

النجاح في اكتشاف كوكب المريخ أصبح انشغالا مؤرقا للدول العظمى. الولايات المتحدة الأمريكية أطلقت مهمة مارس بيرسيفيرانس (2020) باحثة عن أدلة وجود حياة قديمة على الكوكب الأحمر وفهم تاريخه الجيولوجي. كما أن الطموحات الدولية تجاوزت اليوم المجموعة الشمسية، بحيث أصبحت تهتم بجدية ملفتة بالكواكب الخارجة على النظام الشمسي. كما تستثمر في مشروع توجيه الكواكب الصخرية الصالحة للحياة. في مجال بذل الجهود لاكتشاف الفضاء العميق والكون البعيد ودراسة تكوين الكواكب والمجرات والثقوب السوداء تم اكتشاف تلسكوب جيمس ويب الفضائي. أكثر من ذلك أعطت الولايات المتحدة الأمريكية الانطلاقة لمهمة "باركر سولار بروب" التابعة لناسا لدراسة الشمس عن قرب وفهم الظواهر الشمسية مثل الانفجارات والرياح الشمسية.

استحضارا لما سبق يتبين أن المهندس يوجد في صلب الانشغالات المستقلبية. فهو إذن في جوهر صناعة السياسات العمومية في الحاضر والمستقبل. كلما تقدمنا في الزمان بتطوراته، تزداد مكانته أهمية في السياسة. وجوده حيوي في تصميم وتنفيذ السياسات أصبح أكثر إلحاحا. هو مصدر فوار بالنصح والاستشارات والخبرات الفنية التي ترتكز عليها السياسات والتشريعات والتوجيهات في كل دول العالم. تخصصات المهندس الحيوية والمتطورة زمنيا كانت ولازالت وستبقى الاسمنت الذي يوطد الترابط بين العلم والمجتمع والبيئة والاقتصاد والمستقبل. يشخص ويبدع ويطبق ويتأمل بنظارات الاستدامة والتكنولوجيا النظيفة. يربط في تصوراته العلمية بين التكاثر الطبيعي للشعوب والبنية التحتية والتخطيط الحضري والقروي والبيئة (الطرق، الجسور، المباني، النقل العام، الأحياء الصناعية، تدبير النفايات الصلبة والسائلة وتدويرها، الحفاظ على الثروة المائية..). يعمل المهندسون كذلك في مجالات الأمن والدفاع على تطوير التكنولوجيا والأنظمة التي تحافظ على سلامة الدولة وتحمي المواطنين. كما يشاركون في بلورة السياسات الخاصة بالدفاع والأمن القومي.

تعتبر الديمقراطية بيئة ملائمة للمهندسين للتأثير والمساهمة في السياسات العامة، وضمان تطوير السياسات التي تعكس الاحتياجات التقنية والتكنولوجية للمجتمع وتستجيب للتحديات المستقبلية. مشاركتهم المكثفة في الأحزاب السياسية جد محبذة. تواجدهم الفاعل في العمل الحكومي للدول ضرورة ملحة للغاية.  يتمثل دورهم في تقديم الخبرات والتوجيه الفني للقرارات السياسية، والإسهام في تعزيز القضايا بالغة الأهمية، وتقديم الاستشارات الضرورية في مجال تشكيل السياسات المختلفة بمنطق يراعي هاجسي التوازن والتكيف وتقوية القدرة المجتمعة على الإسهام في بناء المستقبل.

***

الحسين بوخرطة

مفتتح: بعيدًا عن طبيعة المواقف والقناعات من ظاهرة الربيع العربي وتحوُّلاتها المختلفة، من الضروري الالتفات إلى حقيقة عميقة في مسار هذه التحوُّلات الكبرى التي جرت ولا زالت تداعياتها قائمة في أكثر من بلد عربي. ويمكن بيان هذه الحقيقة كالآتي:  إن ما سُمِّي بالربيع العربي هي عبارة عن ظاهرة سياسية - مجتمعية عميقة جرت في بعض المجتمعات العربية،  وهي وليدة عوامل وأسباب عديدة، ولها جوانب مختلفة، ولا يمكن اختزالها في بُعد أو جانب واحد. فهي كأيِّ ظاهرة سياسية - مجتمعية، لها عواملها المتعدِّدة وأسبابها المختلفة، وإن هذه الظاهرة في تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة لا زالت قائمة ،ومن الصعب اختزال هذه الظاهرة وأمثالها في برهة زمنية وجيزة. وإن طبيعة المآلات التي وصلت إليها هذه الظاهرة، ليست نهاية المطاف، بل ثمَّة تحوُّلات قيمية ومجتمعية عديدة تحتاج إلى تظهير تشهدها مجتمعات الربيع العربي .

ونودُّ في هذا السياق الالتفات إلى طبيعة الخيارات والمآلات التي وصلت إليها جماعات الإسلام السياسي في بلدان الربيع العربي .

وقبل توضيح هذه الخيارات والمآلات، من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن جماعاتالإسلام السياسي ليست على رأي واحد أو قناعة سياسية ومجتمعية واحدة،  بل هي طيف من القوى والمجموعات التي تتبنىَّ المرجعية الإسلامية، وتتطلَّع إلى سيادة الإسلام والشريعة الحياة العامة للمسلمين، إلَّا أن هذه المجموعات متفاوتة ومتنوِّعة في خطابها السياسي ومقارباتها الاجتماعية وطبيعة نظرتها وقناعاتها إلى طبيعة اللحظة الراهنة وكيفية التعامل مع الأطراف والأطياف الأخرى. وبالتالي فإننا لا نتحدَّث عن مجموعات متجانسة في كل شيء، بل هي مجموعات متنوِّعة ومتعدِّدة إلَّا أنها جميعًا تتبنىَّ المرجعية الإسلامية .ولكونها جماعات غير متجانسة وتعيش التعدُّد في أكثر من مجال؛ لذلك لا يصح إطلاق أحكام ومواقف واحدة، على مجموعات متمايزة فكريًّا وسياسيًّا .

الأصولية والسياسة

لذلك فنحن نودُّ تركيز الحديث حول القوى السياسية الإسلامية التي تصدَّرت المشهد العام في دول الربيع العربي. فالأداء السياسي لحزب النهضة في تونس مغاير للأداء السياسي لحركة الإخوان في مصر .

فالأولى تعاملت بواقعية مع مشروع التحوُّل نحو الديمقراطية، وابتعدت في خطابها السياسي عن النزعة الدعوية التي تخلط بين إدارة ما هو كائن مع ما ينبغي أن يكون. وجماعة الإخوان في مصر تعاملت -في أدائها وخطابها السياسي- بنزعة دعوية طاغية، وصنعت للناس أوهامًا وآمالًا غير قادرة على تحقيقها في أقل التقادير في المدى المنظور، كما هيمنت على علاقاتها مع الأطراف والأطياف السياسية نزعة الهيمنة والسلطة. فالأطراف التي لا تتَّفق معها في الخطاب أو الأولويات أضحت من الفلول، ولا تتناغم مع خطابها وأدائها؛ لا موقع له في الخريطة السياسية .

وبالتالي فإن التباين والاختلاف في الخطاب والأداء بين المجموعات الإسلامية ،ليس ادِّعاءً يُدَّعى، وإنما هو حقيقة قائمة وشاخصة في كل بلدان الربيع العربي .

وعلى ضوء هذه الحقيقة نعمل على الاقتراب من تقويم الأداء السياسي لهذه الجماعات من خلال النقاط التالية:

1- ليس من ينجح في مشروع الدعوة قادر على النجاح في مشروع العمل السياسي وإدارة التنافس السياسي مع مختلف الأطياف في المجتمع .

فأغلب هذه الجماعات استطاعت -عبر أدوات وآليات عديدة- النفاذ لدى شرائح

المجتمع المختلفة، وتمكَّنت من تحقيق منجزات ومكاسب عديدة، سواء على مستوى الدعوةوإقناع الناس بالخطاب والمشروع الإسلامي،  أو على مستوى الخدمات ومشروعات الحماية الاجتماعية والاقتصادية للفئات الاجتماعية المهمَّشة.  ولكن هذا التميُّز في الحقل الدعوي والاجتماعي، لم يؤدِّ إلى تميُّز في الحقل السياسي. بل على العكس من ذلك نتمكَّن من القول: إن بعض هذه الجماعات ارتكبت خطايا في عملها وأدائها السياسي، مما أربك قاعدتها الاجتماعية، وأدخلها في أتون المقارنة مع المجموعات السياسية الأخرى. وعلى ضوء هذه الحقيقة يمكن الوصول إلى نتيجة أخرى، ومفادها: أن الجماعات الإسلامية في مرحلة الدعوة والأنشطة الاجتماعية والخدمية المختلفة، تتَّسع قاعدتها الاجتماعية وتزداد شعبية. وإن انخراطها السياسي ووصولها إلى الحكم يخسرها شعبيًّا، ويسحب من رصيدها الاجتماعي. وبالتالي فإن هذه الجماعات بحاجة إلى لياقة إذا صحَّ التعبير في العمل السياسي مختلفة عن لياقتها في العمل الدعوي .

وإن النجاح والتميُّز في الحقل الاجتماعي لا يساوي النجاح المضمون في الحقل السياسي.

فجماعة الإخوان في مصر في مرحلة الدعوة والأنشطة الاجتماعية والخدمية المختلفة ،تتصدر المشهد العام، ويشار إليها بالبنان في التميُّز وحسن الأداء .

ولكن حينما وصلت إلى الحكم وإدارة جمهورية مصر العربية من موقع السيطرة على الحكومة والرئاسة، فإنها ارتكبت الكثير من الأخطاء التي ساهمت في تبديد بعض مكاسبها في الحقلين الدعوي والاجتماعي .

وإذا استمرت هذه الجماعة بدون تصحيح أخطائها الفادحة،  فإنها ستستمر في التراجع وخسارة بعض قاعدتها الشعبية .

2- أبانت الجماعات الإسلامية عن خلل حقيقي في مشروع بناء التحالفات السياسية مع الأفرقاء الآخرين، وقدرة هذه التحالفات على البقاء في ظل صراعات سياسية واجتماعية .وينعكس هذا الخلل بشكل أساسي في رفض هذه الجماعات التعامل مع الحقل السياسي والمنافسين السياسيين بعقلية تسووية، تدفع هذه العقلية جميع الأطراف للتنازل من أجل بناء أوضاع سياسية أكثر استقرارًا وقدرة على الصمود أمام التحوُّلات السياسية المتسارعة .

فالإخوان مثلًا في مصر تمسَّكوا بنتائج الانتخابات البرلمانية، واعتبروها هي النتيجة التي تُخوِّلهم ممارسة السلطة بمفردهم أو بدون منافسين حقيقيين. لذلك -وبفعل هذه العقلية- خسروا بعض حلفائهم،  كما خسروا جرَّاء التباين في مشروع الترشيح لرئاسة الجمهورية بعض قياداتهم وكوادرهم الفاعلة. ولعل ما تمتاز به جماعة النهضة في تونس هو قدرتها على بناء التحالفات السياسية وعدم استعجالها الوصول إلى القمة السياسية. فهي تتحرَّك بواقعيةسياسية، وتعمل على بناء حياة سياسية مستقرِّة وملتزمة بمقتضيات الدستور. وإن هذا العمل يستحق من الجميع التنازل حتى لا تفشل العملية السياسية برمَّتها .

فالمهم ليس أن تصل جماعتي إلى السلطة، المهم بناء واقع سياسي جديد، يعرقل أيَّة نزعة استبدادية، أو يحول دون استفراد أيَّة قوة سياسية بالمشهد السياسي. وإن هذا الهدف الاستراتيجي يستحق من جميع الأطراف التنازل وإنجاز تسوية سياسية - تاريخية لصالح التحوُّل نحو الديمقراطية والاستقرار السياسي العميق .

فطبيعة تحوُّلات الربيع العربي ومحطاتها المختلفة، تجعلنا ندرك أن هذه التحوُّلات لا يمكن أن ينتصر فيها طرف انتصار كاسح مهما أوتي من قوة شعبية أو إرث تاريخي ونضالي .

فالتحوُّلات لا تفسح المجال لطرف واحد للتحكُّم في الساحة والمشهد .

من هنا فإن طبيعة التحوُّلات والقوى الفاعلة فيها تقتضي -أيضًا- بناء التحالفات ،والذهاب بعيدًا في مشروع التسويات السياسية. والقوى السياسية التي ترفض هذا النهج والخيار، فإنها شيئًا فشيئًا ستخرج من المعادلة القائمة. وهذا ليس تبريرًا لبعض المآلات، وإنما للقول: إن طبيعة المرحلة تقتضي التقاطع مع القوى السياسية المنافسة، وتنمية المساحات المشتركة معها، من أجل الخروج من المرحلة الانتقالية بأقل خسائر ممكنة .

3-  لا يمكن لمن يتوسَّل وسائل العمل السياسي المختلفة أن يحُقِّق إنجازات وانتصارات كاسحة، بحيث تُغيِّب جميع المنافسين أو المناوئين. فطبيعة العمل السياسي أنه يحُقِّق الغايات والأهداف على مدى زمني طويل ومتدرِّج في آن .

ولعل من الأخطاء البارزة التي وقعت فيها التيارات الإسلامية، أنها انخرطت في العمل السياسي بذهنية «لنا الصدر دون العالمين أو القبر»، وبالتالي فإن هذه الذهنية تفتح حالة المغالبة مع المنافسين إلى أقصى حالاتها، مما يُهيِّئ المناخ لصناعة الخصوم وخسارة الأصدقاء.

لهذا من الضروري أن تلتزم هذه الجماعات -وهي تنشط في الحقل السياسي- بمقولة الفلاسفة: «الوجود الناقص خير من العدم المطلق .»

وعليه فإن العمل السياسي لا يوصل إلى انتصارات كاسحة، وإنما يوصل إلى بناء شراكه واسعة مع بقية القوى، لإنجاز ما يمكن إنجازه .

وإن الكثير من الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها جماعات الإسلام السياسي، يعود -فيتقديرنا- إلى تلك الذهنية التي تحكَّمت في هذه الجماعات التي عاشت فترات طويلة من النضالالسلبي، وترى فيما سُمِّي بالربيع العربي فرصة استثنائية، مماَّ يدفعها نفسيًّا وسلوكيًّا للاستعجالفي مشروع التمكُّن. ومن المؤكد أن نزعة الاستعجال مع قصر التجربة وقلَّة الخبرة، يقود إلى ارتكاب خطايا أساسية، تضر بسمعة هذه التيارات وصدقيتها في العمل العام .

وخلاصة القول:  إن السياسة لا يمكن أن تمُارس وتُدار بذهنية الدعوة،  وإن الانخراط فيها بنسق ما ينبغي أن يكون، يجعلها ترتكب أخطاء تصل في بعض الأحيان إلى حماقات تحرق بعض أجزاء التاريخ النضالي لهذه التيارات والجماعات .

الدين وأنماط التديُّن

على المستوى المجتمعي ثمَّة خلط جوهري بين الدين بوصفه مجموعة من القيم والمبادئ المتعالية على الأزمنة والأمكنة، وبين أنماط التديُّن، وهي مجموع الجهود التي يبذلها الإنسان فردًا وجماعةً لتجسيد قيم الدين العليا. فكل محاولة إنسانية لتجسيد قيم الدين أو الالتزام العملي بها، تتحوَّل هذه المحاولة الإنسانية إلى نمط من أنماط التديُّن، قد يقترب هذا النمط من معايير الدين العليا وقد يبتعد. قد تكون أنماط التديُّن منسجمة ومقتضيات قيم الدين، أو قد تكون متباعدة أو مفارقة. ولكون حظوظ الناس في الالتزام متفاوتة ،كذلك هي أنماط التديُّن متفاوتة من فرد إلى آخر ومن بيئة اجتماعية إلى أخرى. وبالتالي فإن أنماط التديُّن ليست خارج سياق التطوُّر الإنساني. فطبيعة الظروف والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تعيشها البيئات الاجتماعية،  ستنعكس بشكل مباشر أو غير مباشر على أنماط تديُّنها وأشكال التزامها بقيم ومبادئ دينها. لذلك نستطيع القول: إن الإنسان (الفرد والجماعة)، وظروف هذا الإنسان الاقتصادية والاجتماعية، وأنماط علائقه العامة ونوعية الثقافة ومنظومة القيم التي يحملها، هي من الناحية الواقعية التي تصنع أنماط تديُّن والتزام هذا الإنسان. فإذا كان الدين يساهم في صنع الإنسان، فإن الإنسان هو الذي يصنع نمط تديُّنه والتزامه الديني. لذلك نجد في الساحات الإسلامية والاجتماعية المتنوِّعة أنماط تديُّن متنوِّعة ومتعدِّدة، وكلها تُشكِّل حركة الدين في المجتمع. ولا يمكن أن نفصل بين قيم الدين وتاريخ المسلمين الذي هو نتاج جهد المسلمين الفردي والجماعي في تنفيذ قيم الدين والالتزام بهدي الإسلام وتشريعاته المختلفة. ولعل هذا ما يُفسِّر لنا وجود أفهام متعدِّدة ونماذج تاريخية متنوِّعة في إطار الإسلام الواحد.

وكل محاولة سلطوية أو دعوية - دينية لقسر الناس على فهم واحد أو معنى واحد للممارسة الاجتماعية، هي محاولة فاشلة ودونها خرط القتاد؛ لأنه خلاف طبائع الأمور، كما أن هذه المحاولات تساهم في إفقار المجتمعات الإسلامية على المستويين التاريخي والمعرفي .فالإنسان ليس كائناً سلبيًّا فيما يرتبط وعلاقته بقيمه الكبرى وتشريعات دينه. فهوكائن إيجابي ويتفاعل مع تشريعات دينه. وطبيعة موقعه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي تُحدِّد شكل وطبيعة النمط الديني الذي يُؤسِّسه الإنسان لبيئته أو لواقعه.

لأن أنماط التدين هي انعكاس مباشر لطبيعة الإنسان وطبيعة ظروفه وبيئته الاجتماعية. فإذا كان الدين متعاليًا على ظروف الزمان والمكان، وليس خاضعًا لمقتضيات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ فإن أنماط التدين على العكس من ذلك تمامًا؛ لأنها نتاج الظروف والبيئة، ولا يمكن أن تتشكَّل أنماط التديُّن بعيدًا عن جهد الإنسان ومستوى وعيه وإدراكه لعناصر واقعه وراهنه.

وثمَّة دائمًا مفارقة بين الدين وأنماط التديُّن. وهذه المفارقة تصل في بعض الأحيان أن تكون بعض حقائق وأنماط التديُّن هي مناقضة في جوهرها لمقتضيات الدين. وحينما تبرز المفارقة بين الدين والتديُّن، ثمَّة حاجة إنسانية ودينية ملحَّة للانخراط في مشروع الإصلاح الديني. والذي هو في بعض جوانبه محاولة لردم الهوَّة وتجسير الفجوة بين الدين وأنماط التديُّن التي تعيشها المجتمعات الإسلامية. فالدين في كل مراحله هو طاقة توحيدية في الواقع الإنساني، ولكن بعض أنماط التديُّن السائدة هي طاقة انشقاقية - تجزيئية لواقع العرب والمسلمين .

ولعل هذه المفارقة هي التي تُوضِّح طبيعة تجربة الإصلاح وفعاليته في المجتمعات الدينية. بمعنى أن المجتمع الإنساني في المرحلة الأولى لتجسيد قيم الدين وتفاعله الإنساني مع مبادئه، تكون حركة المجتمع في خط مستقيم مع الدين وتوجيهاته، ولكن بعد فترة من الزمن قد تقصر وقد تطول، تبدأ المفارقة بالبروز بين جهد الإنسان - المجتمع، وتوجيهات الإسلام ومعاييره الأخلاقية والمعنوية. وتبدأ هذه المفارقة بالاتِّساع، مما يُفضي إلى نتيجة عملية وواقعية ،وهي أن توجيهات الدين في وادٍ وحركة المجتمع في أغلبه في وادٍ آخر. مماَّ يُؤسِّس لمناخ اجتماعي وثقافي يفرض ضرورة الإصلاح وتجسير الفجوة والمفارقة التي تشكَّلت في التجربة العملية .

لذلك نجد أن كل التجارب الإصلاحية تستهدف بالدرجة الأولى خلق الانسجام والتناغم بين التاريخ والرسالة، بين الشريعة وفهم الشريعة، بين الدين والتديُّن. وإن جوهر الجهد الذي يبذله الإصلاحيون هو خلق التماثل بين القيم والواقع .

وإن جوهر المشكلة تتجسَّد في وجود مفارقة وابتعاد بين الدين والتديُّن، والإصلاح الديني يستهدف تجسير العلاقة وخلق التناغم بين حقائق الدين ومعطيات التديُّن. ولعل هذا هو أحد أهم القوانين الجوهرية التي تتحكَّم في سياق أي حركة إصلاحية في الاجتماعالإسلامي المعاصر .

ولو تأمَّلنا اليوم في طبيعة المشاكل الكبرى التي تعاني منها المجتمعات العربيةوالإسلامية المعاصرة لوجدنا أن من أبرز هذه المشاكل، هو شيوع أنماط من التديُّن، تتبنىَّ خيار العنف والإرهاب، وتعمل عبر هذه الوسيلة لإنهاء المفارقة بين الدين والتديُّن. ولكن المحصّلة العملية لذلك هو المزيد من الإخفاق والمآزق والتأزيم. فالعنف لا يجُسِّر الفجوة ،وإنما يُعمِّقها، والإرهاب هو سبيل تعميق المفارقة وليس إنهاءها .

ولعل هذا من أهم المآزق التي تعانيها الساحة العربية والإسلامية اليوم. فثمَّة جماعات وحركات عنيفة وإرهابية، تحمل لواء الدين وترفع شعاراته، إلَّا أن المحصّلة العملية لجهدها وأفعالها الإرهابية والعنفية، هو المزيد من تشويه الإسلام وتعميق المفارقة والفصام النكد بين الدين وأنماط التديُّن السائدة في الاجتماع الإسلامي المعاصر .

ويبدو أنه لا تجديد في العقل الإسلامي ولا إصلاح في الواقع الإسلامي، إلَّا بنقد وتفكيك أنماط التديُّن التي تنتج باستمرار ظواهر العنف والتكفير والإرهاب في الواقع المعاصر؛ لأن هذه الظواهر ليست رافعة للواقع الإسلامي، وإنما هي ومتوالياتها وتأثيراتها المتعدِّدة تزيد من الأزمات والمآزق، وتُفضي إلى تدمير النسيج الاجتماعي للمسلمين، وتجعل جميع البلدان العربية والإسلامية مكشوفة أمام الإرادات الإقليمية والدولية التي تستهدف أمن واستقرار المسلمين في كل بلدانهم وأوطانهم.

وإن إحباطات الراهن الإسلامي ينبغي ألَّا تقود إلى تبنيِّ بناء مجموعات وتشكيلات أيديولوجية تتبنىَّ خيار العنف والإرهاب سبيلًا لإنجاز رفعة وعزَّة المسلمين جميعًا؛ لأن هذا الخيار يُعزِّز الإحباطات، وساهم في تدمير ما تبقَّى من وحدة وتفاهم وألفة بين المسلمين بمختلف مذاهبهم ومدارسهم .

فالوعي الديني الصحيح والذي يرفض خيار العنف والإرهاب مهما كانت الظروف والصعاب، هو الذي يُؤسِّس لوقائع وحقائق إسلامية جديدة ،تُحرِّر الواقع الإسلامي من ربقة الأفهام العنفية التي تُقدِّم الإسلام بوصفه ديناً للقتل والتفجير والإرهاب .

ولعل من الأهمية في هذا السياق القول: إن نقد أنماط التديُّن ليس نقدًا للدين، وإن الوقوف ضد بعض أشكال التديُّن، ليس وقوفًا في مقابل الدين، وإن حرصنا على الدين ينبغي أَلَّا يقودنا إلى رفض عمليات النقد التي تتَّجه إلى أنماط التديُّن؛ لأننا نعتقد أن المستفيد الأول من عمليات النقد العلمي لبعض أنماط التديُّن هو الدين نفسه؛ لأن بعض أشكال التديُّن، تُشكِّل عبئًا حقيقيًّا على الدين والمجال الاجتماعي للدين .

وعليه فإن الضرورة المعرفية والاجتماعية تقتضي التفريق الدائم بين الدين وأنماط

التديُّن. وإن الكثير من البلاءات التي تواجه الواقع الإسلامي اليوم، هي نابعة من بعضأنماط التديُّن. وإن هذه البلاءات لا يمكن مواجهتها إلَّا بتفكيكها ونقدها من جذورها ،حتى نتحرَّر من سجنها، ونتفاعل بوعي وحكمة مع قيم الدين الأساسية، التي هي قيم العدالة والمساواة والحرية بعيدًا عن إكراهات بعض أنماط التديُّن التي لا تُقدِّم حلولًا، بل تضيف إلى مآزقنا مآزق جديدة .

العالم العربي ودولة المواطنة

لعلَّنا لا نأتي بجديد حين القول: إن أغلب المجال العربي بكل دوله وشعوبه يعاني من تحدِّيات خطيَّة وأزمات بنيويَّة، تُرهق كاهل الجميع، وتُدخلهم في أتون مآزق كارثية.

فبعض دول هذا المجال العربي دخلت في نطاق الدول الفاشلة، التي لا تتمكَّن من تسيير شؤون مجتمعها، مماَّ أفضى إلى استفحال أزماتها ومآزقها على كل الصعد سواء الاقتصادية أو الأمنية أو السياسية. والبعض الآخر من الدول والمجتمعات مهدَّد في وحدته الاجتماعية والسياسية، حيث هي قاب قوسين أو أدنى من اندلاع بعض أشكال وصور الحرب الأهلية.

ودول أخرى تعاني من غياب النظام السياسي المستقر، ولا زالت أطرافه ومكوِّناته السياسية والمذهبي، تتصارع على شكل النظام السياسي، وطبيعة التمثيل لمكوِّنات وتعبيرات مجتمعها.

إضافة إلى هذه الصور،  هناك انفجار للهويات الفرعية في المجال العربي بشكل عمودي وأفقي، مماَّ يجعل النسيج الاجتماعي مهدّدًا بحروب وصراعات مذهبية وطائفية وقومية وجهوية. ونحن نعتقد أن اللحظة العربية الراهنة مليئة بتحدّيات خطيرة، تهدّد استقرار الكثير من الدول والمجتمعات العربية، وتدخل الجميع في أتون نزاعات عبثية ،تستنزف الجميع وتُضعفهم، وتُعمِّق الفجوة بين جميع الأطراف والمكوّنات.

وفي تقديرنا، إن المشكلة الجوهرية، التي ساهمت بشكل أو بآخر في بروز هذه المآزق والتوترات في المجال العربي، هي غياب علاقة المواطنة بين مكوّنات وتعبيرات المجتمع العربي الواحد.

فالمجتمعات العربية تعيش التنوُّع الديني والمذهبي والقومي، وغياب نظام المواطنة كنظام متجاوز للتعبيرات التقليدية، جعل بعض هذه المكوّنات تعيش التوتُّر في علاقتها ،وبرزت في الأفق توتُّرات طائفية ومذهبية وقومية.. فالعلاقات الإسلامية - المسيحية فيالمجال العربي، شابها بعض التوتُّر، وحدثت بعض الصدامات والتوترات في بعض البلدانالعربية التي يتواجد فيها مسيحيون عرب.

وفي دول عربية أخرى، ساءت العلاقة بين مكوّناتها القومية، بحيث برزت توتُّرات وأزمات قومية في المجال العربي. وليس بعيدًا عنا المشكلة الأمازيغية والكردية والأفريقية.

وإضافة إلى هذه التوتُّرات الدينية والقومية، هناك توتُّرات مذهبية بين السنة والشيعة ،وعاشت بعض الدول والمجتمعات العربية توتُّرات مذهبية خطيرة تُهدِّد استقرارها السياسي والاجتماعي.

فحينما تتراجع قيم المواطنة في العلاقات بين مكوّنات المجتمعات العربية،  تزداد فرص التوتُّرات الداخلية في هذه المجتمعات؛ لهذا فإننا نعتقد أن العالم العربي يعيش مآزق خطيرة على أكثر من صعيد، وهي بالدرجة الأولى تعود إلى خياراته السياسية والثقافية .فحينما يغيب المشروع الوطني والعربي، والذي يستهدف استيعاب أطياف المجتمع العربي ،وإخراجه من دائرة انحباسه في الأطر والتعبيرات التقليدية إلى رحاب المواطنة.

فإن هذا الغياب سيدخل المجتمعات العربية في تناقضات أفقية وعمودية،  تهدّد استقرارها السياسي والاجتماعي.

وإن نزعات الاستئصال أو تعميم النماذج لا تُفضي إلى معالجة هذه الفتنة والمحنة، بل توفّر لها المزيد من المبررات والمسوغات.

فدول المجال العربي معنيَّة اليوم وبالدرجة الأولى بإنهاء مشاكلها الداخلية الخطيرة ،التي أدخلت بعض هذه الدول في خانة الدول الفاشلة، والبعض الآخر على حافة الحرب الداخلية التي تُنذر بالمزيد من التشظِّي والانقسام.

فما تعانيه بعض دول المجال العربي على هذا الصعيد خطير، وإذا استمرت الأحوال على حالها فإن المجال العربي سيخرج من حركة التاريخ، وسيخضع لظروف وتحدِّيات قاسية على كل الصعد والمستويات.

وإن حالة التداعي والتآكل في الأوضاع الداخلية العربية لا يمكن إيقافها أو الحد من تأثيراتها الكارثية، إلَّا بصياغة العلاقة بين أطياف المجتمع على قاعدة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.

وإن غياب مقتضيات وحقائق المواطنة في الاجتماع السياسي العربي سيُقوِّي من اندفاع المواطنين العرب نحو انتماءاتهم التقليدية،  وعودة الصراعات المذهبية والقومية والدينية بينهم، وسيُوفِّر لخصوم المجال العربي الخارجيين إمكانية التدخُّل والتأثير في راهن هذا المجال ومستقبله.

فالمجتمعات العربية كغيرها من المجتمعات الإنسانية،  التي تحتضن تعدُّديات وتنوُّعات مختلفة، لا يمكن إدارة هذه التعدُّديات على نحو إيجابي إلَّا بالقاعدة الدستورية الحديثة )المواطنة( كما فعلت تلك المجتمعات الإنسانية التي حافظت على أمنها واستقرارها.

فالاستقرار الاجتماعي والسياسي العميق في المجتمعات العربية، هو وليد المواطنة بكل حمولتها القانونية والحقوقية والسياسية.

وأي مجتمع عربي لا يفي بمقتضيات هذه المواطنة فإن تباينات واقعه ستنفجر وسيعمل كل طرف للاحتماء بانتمائه التقليدي والتاريخي،  مما يصنع الحواجز النفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية بين مكونات المجتمع الواحد.

وفي غالب الأحيان فإن هذه الحواجز لا تُصنع إلَّا بمبرِّرات ومسوِّغات صراعية وعنفية بين جميع الأطراف، فتنتهي موجبات الاستقرار، ويدخل الجميع في نفق التوتُّرات والمآزق المفتوحة على كل الاحتمالات.

لهذا فإن دولة المواطنة هي الحل الناجع لخروج العالم العربي من مآزقه وتوتُّراته الراهنة.

فدولة المواطنة هي التي تصنع الاستقرار وتحافظ عليه، وهي التي تستوعب جميع التعدُّديات وتجعلها شريكة فعليَّة في الشأن العام، وهي التي تجعل خيارات المجتمع العليا منسجمة مع خيارات الدولة العليا والعكس، وهي التي تُشعر الجميع بأهمية العمل على بناء تجربة جديدة على كل المستويات، وهي التي تصنع الأمن الحقيقي لكل المواطنين في ظل الظروف والتحدِّيات الخطيرة التي تمرُّ بها المنطقة.

والمجتمعات لا تحيا حق الحياة إلَّا بشعور الجميع بالأمن والاستقرار؛ لهذا فإن الأمن والاستقرار لا يُبنى بإبعاد طرف أو تهميشه، وإنما بإشراكه والعمل على دمجه وفق رؤية ومشروع متكامل في الحياة العامة.

وهذا لا تقوم به إلَّا دولة المواطنة، التي تُعلي من شأن هذه القيمة، ولا تُفرِّق بين مواطنيها لاعتبارات دينية أو مذهبية أو قومية.

فهي دولة الجميع، وهي التمثيل الأمين لكل تعبيرات وحراك المجتمع..

فالمجال العربي اليوم من أقصاه إلى أقصاه، أمام مفترق طرق، فإما المزيد من التداعي والتآكل،  أو وقف الانحدار عبر إصلاح أوضاعه وتطوير أحواله،  والانخراط في مشروعاستيعاب جميع أطرافه ومكوِّناته في الحياة السياسية العامة. فالخطوة الأولى المطلوبة للخروج منكل مآزق الراهن وتوتُّراته، في المجال العربي، هي أن تتحوَّل الدولة في المجال العربي إلى دولة استيعابية للجميع، بحيث لا يشعر أحد بالبعد والاستبعاد.. دولة المواطن بصرف النظر عن دينه أو مذهبيه أو قومه، بحيث تكون المواطنة هي العقد الذي يُنظِّم العلاقة بين جميع الأطراف .

فالمواطنة هي الجامع المشترك، وهي حصن الجميع الذي يحول دون افتئات أحد على أحد.

وجماع القول: إن دولة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات هي خشبة الخلاص من الكثير من المآزق والأزمات.

العالم العربي والحكم الرشيد

يعيش العالم العربي بكل دوله وشعوبه اليوم الكثير من التحوُّلات والتطوُّرات المتسارعة، حيث دشَّنت لحظة سقوط نظام بن علي في تونس عملية التغييرات والتحوُّلات التي لا زال تأثيرها ممتدًّا ومتواصلًا في كل أرجاء العالم العربي بمستويات وأشكال متفاوتة ومختلفة. ولا ريب أن ما يجري من أحداث وتطوُّرات في بعض البلدان العربية هو مذهل وغير متوقَّع، وكل المعطيات السابقة لا تؤشَّر أن ما حدث سيكون قريبًا.

لهذا فإن كل هذه التطوُّرات والتحوُّلات هي بمستوى من المستويات مفاجئة للجميع.

فالفكر السياسي العربي وخلال العقود الثلاثة الماضية كان يُبشِّر بأن الثورات والانتفاضات الشعبية لم تعد هي وسيلة التغيير السياسي في المنطقة، وأن ثورة 1979م في إيران هي آخر الثورات الشعبية في المنطقة.

لذلك فإن النخب السياسية في العالم العربي بكل أيديولوجياتها وخلفياتها الفكرية ،كانت تعيش حالة من اليأس تجاه قدرة الشعب أو الشعوب العربية على إحداث تحوُّلات دراماتيكية في واقعها السياسي وواقع المنطقة بشكل عام. ولكن جاءت أحداث وتطوُّرات وتحوُّلات تونس ومن بعدها مصر، لكي تُثبت عكس ما كانت تُروِّجه بعض الأيديولوجيات والنخب تجاه الجماهير وقدرتها على إحداث تغيير سياسي في واقعها العام. والملفت للنظر والذي يحتاج إلى الكثير من التأمُّل العميق هو أن جيل الشباب، أي جيل الإعلام الجديد من الفيسبوك وتوتير ويوتيوب، هو الذي قاد عملية التغيير، وهو الذي تمكَّن من تحريك الشارع العام في تونس ومصر. فالجيل الجديد الذي كانت تصفه بعض النخب والجماعات ،بأنه جيل ترعرع بدون قضية عامة يسعى من أجلها ويناضل في الدفاع عنها عكس أجيال الخمسينات والستينات، هو الذي قاد عملية التغيير، وبوسائله السلمية استطاع أن يحُرِّك كل النخب وكل شرائح وفئات المجتمع الأخرى.

لهذا فإن ما حدث ويحدث في العالم العربي اليوم هو مذهل، وقد أنهى حقبة وتداعياتأحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث كان الغرب ينظر إلى شرائح المجتمعات العربية المختلفة بوصفها مشروع قائم أو محتمل للإنسان الإرهابي الذي يُفجِّر نفسه، ويقوم بأعمال عنفية لا تنسجم وقيم الدين وأعراف العالم العربي وتقاليده الراسخة.

فما جرى في تونس ومصر، حيث حضر الشباب، ومارسوا حقهم بالتعبير عن الرأي ،أنهى على المستوى الاستراتيجي حقبة بقاء الشباب العربي تحت تهمة وتداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

فالنموذج الجديد الذي قدَّمه الشباب العربي في تونس ومصر وغيرهما من الدول العربية التي تشهد حراكًا اجتماعيًّا وسياسيًّا ومطلبيًّا هو أنه جيل يستحق أن يعيش حياة كريمة،  وأن تعاطيه الشأن العام عبر عنه خارج الأطر والأحزاب الأيديولوجية،  وإنما مارسه بطريقته الخاصة، والمذهل في الأمر أن هذه الطريقة غير المتوقَّعة هي التي آتت أكلها ،ونجحت في إحداث تغييرات وتحوُّلات سياسية واجتماعية كبرى في أكثر من بلد عربي. لهذا فإننا نعتقد أن المنطقة العربية بأسرها، تعيش مرحلة جديدة على أكثر من صعيد. وما نودُّ أن نؤكِّد عليه في هذا السياق هي النقاط التالية:

إن المجتمعات والشعوب العربية تستحق حكومات وأنظمة سياسية متطوِّرة ومدنيَّة، وتفسح المجال للكفاءات الوطنية المختلفة للمشاركة في تنمية الأوطان العربية وتطويرها على مختلف الصعد والمستويات.

والذي يلاحظ أن الدول العربية التي كانت أو لا زالت في منأى من موجة المطالبة بالإصلاحات والتغييرات، هي تلك الدول التي تعيش في ظل أنظمة وحكومات فيها بعض اللمسات أو الحقائق الديمقراطية، أو تمكَّنت من حلِّ بعض مشاكل شعبها الاقتصادية والاجتماعية،  ومع ذلك فإننا نعتقد أن هذه الموجة ستطال بشكل أو بآخر كل الدول والشعوب العربية.

ونحن نعتقد أن مسارعة الدول العربية في القيام بإصلاحات سياسية ودستورية واقتصادية، ستُقلِّل من فرص خروج الناس إلى الشارع إلى المطالبة بحقوقهم. وما جرى في تونس ومصر يُوضِّح بشكل لا لبس فيه أن المجتمعات العربية تستحق أوضاعًا سياسية واقتصادية وقانونية أفضل مما تعيشه الآن.

إن التحوُّلات السياسية الكبرى التي تحقَّقت في تونس ومصر،  وموجاتهماالارتدادية في أكثر من بلد عربي، تجعلنا نعتقد وبعمق أن المشاكل الكبرى وبالذات علىالصعيد السياسي متشابهة في أغلب الدول العربية. فالحكومات والأنظمة السياسية في هذه الدول هي أنظمة ذات قاعدة اجتماعية ضيِّقة، مع تضخم في أجهزتها الأمنية التي تمارس الإرهاب والقمع بكل صوره وأشكاله، مماَّ زاد من الاحتقانات، وراكم من المشكلات البنيوية التي يعيشها المجتمع والدولة في هذا البلد العربي أو ذاك.

وبفعل هذه الحقيقة تمكَّنت هذه الدول التسلطية من إفراغ كل الأشكال والحقائق الديمقراطية الموجودة في أكثر من بلد عربي من مضمونها الحقيقي،  حتى أضحت نموذجًا صارخًا للمقولة التي أطلقها المفكِّر المصري )عصمت سيف الدولة( بالاستبداد الديمقراطي. فالأشكال الديمقراطية أصبحت عبئًا حقيقيًّا على المجتمعات العربية ونخبها السياسية والاجتماعية والثقافية، لأنه باسم الديمقراطية يتم تأبيد السلطة، واحتكار عناصر القوة، وتستفحل من جراء هذا كل أمراض الاستبداد والديكتاتورية.

إن الإصلاح السياسي الذي نراه جسر العبور لكل الدول العربية إلى مرحلة جديدة، تُؤهِّلها لتجاوز بعض مشكلاتها، ومعالجة أزماتها الداخلية، ويحُصِّنها من خلال تطوير علاقة الدولة بمجتمعها تجاه كل التحدّيات والمخاطر.. أقول: إن هذا الإصلاح السياسي هو ضرورة حكومية - رسمية، كما هو حاجة وضرورة مجتمعية.

فهو (الإصلاح) ضرورة للحكومات العربية لتجديد شرعيتها الوطنية، وتوسيع قاعدتها الاجتماعية، ولكي تتمكن من مواجهة التحدِّيات المختلفة.. كما هو (أي الإصلاح) ضرورة وحاجة للمجتمعات العربية، لأنه هو الذي يخرج الجميع من أتون التناقضات الأفقية والعمودية الكامنة في قاع المجتمعات العربية، وهو الذي يصوغ العلاقة بين مختلف المكوّنات على أسس الاحترام المتبادل والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.

ومن المعلوم أن الانغلاق في السلطة سمة من سمات الدولة التسلطية (على حد تعبير خلدون النقيب()1).

وهو يُعبِّر عن حالة غير طبيعية في مسيرة الدولة الحديثة، هي حالة التماهي بين السلطة والدولة؛ لهذا فإن العالم العربي بحاجة إلى أنظمة سياسية حديثة تستجيب لشروط العصر ،وتتناسب والدينامية الاجتماعية المتدفقة.

إن التجارب والتحوُّلات السياسية الكبرى تجعلنا نعتقد أن الشيء الأساسي الذي يجعل عمر الدول طويلًا وممتدًّا عبر التاريخ، ليس هو ترسانتها العسكرية وموقعها الجغرافي والاستراتيجي، وإنما هو قبول ورضا الناس بها؛ إذ إن كل تجارب الدول عبر التاريخ الطويلتُثبت بشكل لا لبس فيه أن حكم الناس بالإكراه، قد يطول، إلَّا أنه لا يدوم، وإن عمر الدول واستمرارها مرهون بقدرة هذه الدول على تحقيق رضا وقبول الناس بها. بمعنى أن الدول حتى ولو كانت إمكاناتها البشرية محدودة وثرواتها الطبيعية والاقتصادية ومتواضعة ،إلَّا أن رضا الناس بها، وقبول الشعب بأدائها وخياراتها، فإن هذا الرضا والقبول يجبر الكثير من نواقص الدولة الذاتية أو الموضوعية، ويُمدُّها بأسباب الاستمرار والديمومة.

فالذي يُديم الدول ويُوفِّر لها إمكانية الاستمرار،  هو مشاركة الناس في شؤونها المختلفة،  واحتضانهم إلى مشروعها،  وشعورهم بأنها (أي الدولة) هي التعبير الأمثل لآمالهم وطموحاتهم المختلفة.

وما جرى في تونس ومصر من أحداث وتحوُّلات سياسية سريعة يؤكّد هذه الحقيقة . فكل المؤسسات والأجهزة العسكرية لم تستطع أن تُدافع عن مؤسسة السلطة التي يرفضها الناس ويعتبرونها معادية لهم في حياتهم اليومية وتصوُّراتهم لذاتهم الجمعية والمستقبلية؛ لهذا فإننا نعتقد أن إسراع الدول في إصلاح أوضاعها وتطوير أنظمتها القانونية والدستورية وتوسيع قاعدتها الاجتماعية وتجديد شرعيتها السياسية، كل هذه العناصر تُساهم في إعطاء عمر جديد لهذه الدول.

فتحريك عجلة الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي في دولنا العربية ،أضحى اليوم من الضرورات والأولويات، التي تحول دون دخول دولنا العربية في أتون المشكلات والأزمات التي تعوق من مسيرتها ودورها في الحياة الوطنية والقومية والدولية.

ومن المؤكَّد أن اقتراب الدول العربية من قيم ومعايير الحكم الرشيد،  هو الذي سيعيد الاعتبار إلى المنطقة العربية، وهو السبيل المتاح والممكن اليوم للخروج من العديد من الأزمات والمآزق على الصعيدين الداخلي والخارجي.

وحده الحكم الرشيد بكل قيمه ومضامينه ومقتضياته، هو الذي سيُعيد العالم العربي إلى حركة التاريخ، ودون ذلك ستبقى المنطقة بكل ثرواتها البشرية والاقتصادية بعيدًا عن القبض على أسباب التقدُّم والاستمرار الحضاري.

دولة الإنسان

تعدَّدت الأيديولوجيات والأفكار والمرجعيات المفاهيمية والفلسفية التي سادتفي العالم العربي، وتمكَّن بعضها من الحكم وإدارة بعض الدول العربية على أسس ومبادئتلك الأفكار والأيديولوجيات، فأصبحت في العالم العربي دول تتبنىَّ النظرية الماركسية ،وتعمل بإمكانات الدولة إلى تعميم الرؤية الماركسية، وإخضاع كل الشرائح والفئات إلى تلك الرؤية الأيديولوجية، كما تشكَّلت دول وفق النظرية القومية، حيث عمل أصحاب هذه النظرية إلى تسيير شؤون الدولة والمجتمع وفق الرؤية والمعايير القومية.

وتعدَّدت في العالم العربي الدول التي تتبنىَّ رؤية أيديولوجية، وعملت على إخضاع كل مؤسسات الدولة إلى الرؤية الأيديولوجية،  التي تحملها وتتبناَّها النخب السياسية السائدة.

ودخلت هذه الأيديولوجيات في حروب وصراعات مفتوحة،  ولقد شهد العالم العربي -وعبر فترات زمنية مختلفة- تلك الصراعات والحروب التي عمل كل طرف على إثبات أيديولوجيته ومصالحه بعيدًا عن مصالح الأمة وأمن المجتمعات العربية. ومع أن هذه الأيديولوجيات، دخلت في حروب وصراعات دامية مع بعضها، إلَّا أن بينها قواسم أيديولوجية وسلوكية وسياسية واحدة.  ولعل من أهم القواسم المشتركة بين أصحاب الأيديولوجيات التي سادت في العالم العربي، وسيطرت بشكل أو بآخر إما على الدولة ومؤسساتها أو المجتمع ومؤسساته هو أن أصحاب هذه الأيديولوجيات لا يعتنون كثيرًا بحاجات الإنسان العربي ومتطلَّباته الأساسية.  فكل الجهود والإمكانات تُصرف باتجاه تثبيت وتعميم ونشر المقولات الأيديولوجية،  بعيدًا عن الاهتمام بحاجات الإنسان أو الإنصات إلى مطالبه ومطامحه.

لذلك فإن الكثير من ثروات وإمكانات الدول الأيديولوجية صرفت على نشر المقولات الأيديولوجية والحزبية، وكأن نشر هذه المقولات هو الهدف الأسمى والغاية العليا .ووفق هذا السلوك والتصرُّف الذي مارسته الدول الأيديولوجية، كما مارسته الجماعات الأيديولوجية،  ضاعت حاجات الإنسان فردًا وجماعة،  واضمحلَّت حقوقه الأساسية ،واعتبر الإنسان كقيمة وحقوق وكرامة في أدنى سُلَّم الاهتمام. ولا نحتاج إلى كثير عناء لإثبات هذه الحقيقة الناصعة في الكثير من الدول والتجارب. فيكفي أن تذهب إلى أي دولة أيديولوجية أو تقدُّمية في العالم العربي لاكتشاف هذه الحقيقة، حيث كل الإمكانات تتَّجه إلى الشعارات وتخليد الزعيم وإثبات صحَّة المقولات الأيديولوجية والحزبية التي قامت عليها الدولة، بينما الإنسان في هذه الدول يعيش العوز والضنك والصعوبات الحياتية المختلفة ،كما يعاني من الكبت والقمع والخوف الدائم من زُوَّار الفجر وأجهزة الاستخبارات.

فهذه التجارب والدول تحارب وبشعارات ثورية وتقدُّمية حقوق الإنسان، وتعمل على إبقاء مواطنيها يلهثون ليل نهار من أجل لقمة العيش اليومية؛ لذلك فإن هذه الدول لمتُحقِّق أي إنجاز يُذكر لمواطنيها، كما أنها لم تُحقِّق وخلال سنين طويلة من الحكم والسيطرة على مقاليد الأمور الشعارات التي رفعتها حينما وصلت إلى سدَّة الحكم.

فالدول التي رفعت شعار الوحدة لم تُنجز إلَّا المزيد من التجزئة والتشظِّي. والدول التي رفعت لواء الدفاع عن الطبقات المحرومة في المجتمع أضحت هذه الطبقات هي أول ضحايا هذه التجربة وهذه الدولة.

ويشير إلى هذه المسألة الدكتور برهان غليون(2) بقوله:  أزمة الدولة أعمق إذن مماَّ تبدو عليه عادة وكأنها أزمة نظام، إنها أزمة فكرتها ذاتها. وتلاشي روح الولاء للسلطة الوطنية والانتساب للمشروع الذي كانت تقترحه على المجتمع نابع بالضبط من انكشاف عجز السلطة هذه عن إنجازه، أي عن خيانتها له، وليس بسبب تحقُّقه. وهذا يعني -أيضًا- أنه نابع من تنامي الاقتناع بأن هذا المشروع بالصورة التي تبلور فيها لا يمكن أن يُشكِّل مدخلًا إلى التقدُّم الإنساني. وهكذا، وفي أقل من عقدين، أصبحت القيم التي كانت تُغذِّي لدى الجمهور الواسع شعبية دولة التقدُّم، وتُثير حماسة للانخراط فيها والتماهي معها، هي نفسها القيم التي تدفع الجمهور إلى رفضها والتنكُّر لها. لقد كان يكفي أن تظهر لا فاعلية البرنامج الوطني أو عيوبه، عروبيًّا كان هذا البرنامج أم قطريًّا، حتى تفقد الدولة توازناتها المادية والمعنوية، وتضيع هي نفسها هويتها وتفقد مقدرتها على استقطاب الولاء وتحقيق الاندماج والإجماع.

فالدول الأيديولوجية والتي استخدمت كل إمكانات الدولة لتعميم أيديولوجيتها وقهر الناس على خياراتها ومتبنياتها السياسية والثقافية، هي ذاتها الدول التي أجهضت كل مشروعات التحرُّر الحقيقي والخروج من مآزق الراهن. وهذه الدولة بنمطها القروسطوي وعنفها وجبروتها وعسكرتها لمجتمعها، أجهضت الكثير من الآمال والتطلُّعات .

لذلك فإن المطلوب اليوم هو الخروج من هذه الشرنقة الأيديولوجية، التي تُحيل كل شيء إلى قانون إما مع أو ضد، وبناء دولة القانون والإنسان، التي تسعى لصياغة قانون لضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع، وإلى تأهيل الإنسان، وإطلاق حرياته وتطلُّعاته.

فإننا كعرب لم نحصد من الدول الأيديولوجية إلَّا المزيد من الصعاب والتراجع والتقهقر إلى الوراء. فالوحدة التي حلم بها الآباء انتهت إلى دولة أيديولوجية مغلقة تكرّس التجزئة وتنمّي العصبيات، وباسم التنمية والعدالة الاجتماعية حصدنا نمو رأسمالية الدولة وتضخَّمت شريحة الانتهازيين والوصوليين .

ولقد علَّمتنا التجارب أن الدول التي تنفصل عن مجتمعها، وتحاربه في معتقداته واختياراته الثقافية والسياسية، وتفرض عليه نظامًا قهريًّا، فإن مآلها الفشل وفقدان المعنى من وجودها. وهكذا وبفعل عوامل عديدة وعلى رأسها سيادة الدول الأيديولوجية التي لا ترى إلَّا مصالحها الضيِّقة، وتُوظِّف كل الإمكانات من أجل إثبات مقولاتها وأيديولوجيتها ،وضيَّعت بفعل ذلك مصالح شعبها وامتهنت كرامته، اختلطت المعايير، واشتبكت القضايا ،وسقطت الكثير من الشعارات المرفوعة. فالقتال أصبح داخليًّا، والحرب أضحت أهلية ،والتطرُّف والإرهاب أصبح من نصيبنا جميعًا. لهذا كلّه إننا أحوج ما نكون اليوم إلى تلك الدولة التي تعتبر أيديولوجيتها وشرعيتها هي في خدمة الإنسان وصيانة حقوقه وكرامته بصرف النظر عن أصوله الأيديولوجية أو القومية أو العرقية.

إننا في العالم العربي بحاجة إلى تلك الدولة التي تحتضن الجميع، وتصبح بحق وحقيقة دولة الجميع .

والوصول إلى دولة الإنسان والقانون في العالم العربي ليس مستحيلًا، وإنما هو بحاجة إلى الكثير من الجهد المتواصل لإنجاز هذا التطلُّع التاريخي. وإن دولة الإنسان التي تصون حقوقه وتحفظ نواميسه وكرامته ليست يوتيبيا تاريخية، وإنما هي حقيقة قائمة، ولقد تمكَّنت بعض المجتمعات الإنسانية من تحقيقها.  وإن شعوبنا العربية بطاقاتها العلمية وقدراتها الاقتصادية وطموحاتها الحضارية وأشواقها التاريخية، تستحق دولة تكون رافعة حقيقية لهذه الشعوب، لا قامعة وكابحة لطموحاتها وتطلُّعاتها الضاربة بجذورها في عمق التاريخ والإنسان .

وإنه بدون توجُّه العرب نحو بناء دولهم الوطنية على أسس القانون وحقوق الإنسان ،فإن مشاكلهم ستتفاقم وأزماتهم ستستفحل وضغوطات الخارج ستؤثِّر على مصيرهم ومستقبلهم .

وإن التحوُّل نحو دولة القانون والإنسان بحاجة إلى الأمور التالية:

الإرادة السياسية التي تتَّجه صوب تجاوز كل المعيقات والمشاكل التي تحول دون بناء دولة القانون والإنسان، حيث إنه لا يمكن بناء دولة جديدة في العالم العربي بدون إرادة سياسية تُغيِّر وتُطوِّر وتُذلِّل العقبات وتواجه كل ما يدفع نحو إبقاء الأمور ساكنة وجامدة ومتخشّبة. فالإرادة السياسية بما تعني من قرار صريح وعمل متواصل ومبادرات نوعية وتطوير للمناخ والبيئة الاجتماعية والثقافية، هي من العوامل الأساسية للتحوُّل نحو دولةالقانون والإنسان في الفضاء العربي.

تحرير المجتمع المدني ورفع القيود عن حركته وفعاليته، حيث إن الدولة بوحدها لا تتمكَّن من خلق كل شروط ومتطلّبات التحوُّل. وإنما هي بحاجة إلى جهد المجتمع المدني، الذي يستطيع القيام بالكثير من الخطوات والأعمال في هذا الاتجاه؛ لهذا فإن رفع القيود اليوم عن أنشطة مؤسسات المجتمع المدني يُعدُّ من الأمور الهامة، التي تساهم في تعزيز الأمن الاجتماعي والمحافظة على الاستقرار السياسي. فالحاجة ماسَّة اليوم لتذليل كل العقبات التي تحول دون فعالية المجتمع المدني في العالم العربي. وإن الفرصة مؤاتية اليوم لإنهاء تلك الحساسيات التي تحملها بعض النخب السياسية السائدة، تجاه مؤسسات المجتمع المدني ووظائفها وأدوارها. فإن هذه المؤسسات ليست بديلًا عن الدولة، ولا تستهدف في أنشطتها تضعيف دور الدولة، بل هي مساند حقيقي ومؤسسي للدولة، كما أنه لا تقوم لها قائمة بدون دولة مستقرِّة وثابتة .

فالدولة اليوم في العالم العربي بحاجة إلى جهد مؤسسات المجتمع المدني،  كما أن المجتمع المدني بمؤسساته وهياكله، هو بحاجة إلى الدولة الحاضنة والراعية والضامنة لعمل مؤسسات المجتمع المدني. فالحاجة متبادلة، والأدوار والوظائف متكاملة. وإن الظروف السياسية التي يواجهها العالم العربي تتطلَّب بناء الدولة في الواقع العربي على أسس جديدة وبمضامين جديدة. فالدولة التي ألغت المجتمع وحاربت قواه الحيَّة هي أحد المسؤولين الأساسيين عن الواقع المتردِّي الذي وصلنا إليه جميعًا. وسنبقى نعيش القهقرى ما دامت الدولة العربية بمضمونها الأيديولوجي التي صحرت الحياة المدنية هي السائدة..  فثمَّة ضرورة ملحَّة اليوم لإعادة صياغة مفهوم ومضمون الدولة في التجربة العربية المعاصرة .

فالدولة التي لا تحترم حقوق الإنسان، وتتجاوز الدستور والقانون لأتفه الأسباب ،هي الدولة التي أخفقت في مشروعات التنمية والبناء الاقتصادي، وهي التي انهزمت أمام التحدِّيات والمخاطر الخارجية. والعلاقة جدُّ عميقة بين إخفاق الدولة الداخلي وهزيمتها الخارجية. ولا سبيل أمام العرب اليوم إلَّا بناء دولة الإنسان والقانون وصيانة الحقوق والنواميس، هذه الدولة حتى ولو امتلكت إمكانات محدودة وقدرات متواضعة، هي قادرة -بتلاحمها مع شعبها وبتفاني شعبها في الدفاع عنها- على مواجهة كل التحدِّيات والمخاطر .فلتتَّجه كل الطاقات والقدرات والكفاءات نحو إرساء مضامين دولة الإنسان في دنيا العرب.

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث

......................

هوامش:

(1) خلدون النقيب، الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر.. دراسة بنائية مقارنة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية 1998م، ص531.

(2) برهان غليون، المحنة العربية الدولة ضد الأمة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى

1993م، ص111.

نتعاطى ضمن هذا المقال مع مفهوم (الدين) من منطلق كونه (عقيدة) تحتوي على مجموعة من الوصايا المحددة والتعاليم الحصرية التي يؤمن بها الإنسان ويحاول مقاربة تفاصيل حياته وفقا "لشرائعها وتوجيهاتها، وليس من منطلق اعتباره مجموعة (شعائر) تقام و(طقوس) تمارس من قبل هذه الجماعة أو تلك، رغم ان كل اعتقاد ديني – وثني كان أو سماوي - لا يمكن له الاستغناء عن الفعاليات الشعائرية والممارسات الطقوسية تعبيرا"عن تفرده وخصوصيته. أي بمعنى إننا – في هذا الإطار – نتحدث عن (الدين) بصيغة الإيمان الثابت بالمطلق، وليس (التدين) بصيغة الارتهان للنسبي والمتغير.

وبهذا المعنى، فان صيغة السؤال المطروح في العنوان سوف تحتمل إجابتين: كلا، ونعم. ففي الحالة الأولى التي اعتبرنا فيها أن الدين (عقيدة) تتمحور حول قضايا (اللاهوت) المفارق، نستطيع الجزم بانعدام أية علاقة ما بين الاعتقاد الديني وبين الشعور بالاغتراب، من حيث ان هذا الاعتقاد نابع من خيار طوعي لا إلزام فيه أو إجبار عليه. أما في الحالة الثانية، والتي افترضنا فيها أن الدين لا يعدو كونه مجموعة من الشعائر والطقوس التي يمكن إدراجها تحت مسمى (التدين)، والتي تتمحور حول شؤون (الناسوت) المحايث للواقع، فان العلاقة – في هذه الحالة – غالبا"ما تكون متواشجة ومتلازمة، وخصوصا"في المجتمعات التي تستغل فيها مشاعر الجمهور الدينية لأغراض المصالح السياسية والاقتصادية.

ولعل ما كرس هذا الانطباع ورسخه لدى عامة الناس حيال قضية التلازم القائم ما بين الشعور الديني وظاهرة الاغتراب، ما نسب الى مؤسسا الماركسية (ماركس وانجلس) قولهما ان (الدين أفيون الشعوب)، والذي فسّر على أنه (إدانة) صريحة لمظاهر الوعي الديني من حيث دوره السلبي في تبرير سياسات التفاوت والاستغلال الطبقيين، فضلا"عن تأثيره إزاء حرمان المنتجين (العمال) من التمتع بثمار عملهم الإنتاجي والمطالبة بحقوقهم الإنسانية، على خلفية تسويغ عملية الفصل ما بين المنتج – بكسر التاء – والمنتج – بفتح التاء – الأمر الذي تمخض عنها وترتب عليها (العملية) استحالة العلاقات الإنتاجية من طابعها الإنساني الى طابعها السلعي، أو ما يسمى بعلاقات (التشيؤ) بين الإنسان المنتج من جهة، وبين السلعة المنتجة من جهة أخرى. 

وفي إطار هذه العملية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية – وليس الدينية بالمعنى الذي قدمناه – فان من المرجح أن تتبلور لدى الإنسان المستغل اقتصاديا"والمضطهد سياسيا"مشاعر ما يسمى بظاهرة (الاغتراب) أو (الاستلاب) كما يرد في بعض الكتابات. بمعنى ان حالة (الانفصال) الوجداني التي يستشعرها الإنسان المقصود عن الواقع الاجتماعي المعيش ومن ثم يستبطن إيحاءاتها وتمثلاتها السلبية، ليست هي بالضرورة نتاج (المعتقد) الديني الذي يعتنقه ويؤمن به على مستوى الوعي، بقدر ما تكون حصيلة (تجاربه) الدينية التي قيض له خوضها على مستوى السلوك ضمن سياق اجتماعي معين، ونسق ثقافي خاص، ونظام رمزي محدد. ولعل مواقف الجماعات الإسلامية المختلفة من هذه المسألة تبدو شديدة الوضوح وحاسمة الدلالة، لجهة التباين في مناسيب الانغمار بتلك المشاعر الروحية، فضلا"عن التفاوت في مستويات الإحساس بوطأتها سوسيولوجيا"وسيكولوجيا"- ناهيك عن بعدها السياسي – كفيلة بتوضيح الصورة المشوشة وإبراز ملامحها الغامضة.

وهكذا، فعلى الرغم من تماثل تلك الجماعات لجهة اعتقادها بوجود اله واحد (الله) وإيمانها (بدين) مشترك (الإسلام) – والأمر ذاته ينطبق على بقية الأديان الأخرى – إلاّ أنها حالما تشرع بالتعبير عن ذلك الاعتقاد وتجسيد ذلك الإيمان حتى تسارع لإظهار ميلها نحو الاختلاف، بلّه الخلاف، الذي غالبا"ما يكون مصدرا"للاستقطابات المتعصبة والحساسيات المتطرفة، عبر تباين أنماط (التدين) التي تتبناها وتمارسها كل جماعة من تلك الجماعات الطائفية والمذهبية، لاسيما على صعيد إقامة الشعائر وممارسة الطقوس وتفسير النصوص وتبني الرموز.

وإذا ما خلصنا الى استنتاج أن اقتران ظاهرة (الاغتراب) بنمط (التدين) لا تتأتى من (الدين) بذاته كاعتقاد شخصي، بقدر ما تتأسس على طبيعة ما يتمثله وعينا الاجتماعي من رؤى وتصورات خاصة، فان ذلك لا يعني تعميم هذا المعنى وفرض سريانه على مختلف القوى الفاعلة في المجتمع. فمن جهة الأطراف المسيطرة، لا يشكل (الدين) ولا (التدين) بالنسبة لها مصدرا"لأي نوع من أنواع (للاغتراب)، بل هي قد تستفيد من هذا الأخير لجهة منحها قدرة إضافية على تقوية مركزها وفرض إيديولوجيتها، أما من جهة الأطراف المسيطر عليها فان الاعتقاد (الديني) غالبا"ما يختزل لديها الى مجموعة من الممارسات (التدينية) حيث تتخذ منها سبيلا"؛ إما (للاحتجاج) على سوء أحوالها أو (كسلوى) لانعدام حيلتها، وفي كلا الحالتين تعبيرا"عن (الاغتراب) الإنساني الذي تكابده وتكتوي بلظاه.

***

ثامر عباس – كاتب وباحث عراقي

             

 بقلم: شهرزاد حمدي، جامعة محمد لمين دباغين سطيف2.

باحثة دكتوراه تخصّص فلسفة عامة، وأستاذة بجامعة 8 ماي 1945 قالمة.

ومحمد بهاء الدين بوسبحة، جامعة باجي مختار عنابة

الجزائر

***

إنّ أنفع الطُرق وأكثرها ضَمانة لنهاية مُشرقة لأجل الفلسفة إلاّ من تعنّت تعصُّبًا وجُحودًا، هي التفكّر بجدّية في كيفية التدليل على كونها العقل القلِق الناظِر باحتراق واختراق في موضوعات الحياة المُختلفة، فهي ليست من قبيل الألوان الفكرية الطامِعة في تمضية أوقات الفراغ وتسلية الذات المُتسلِّل إليها المَلل، أو أنها تسكُن أبراجًا عاجية مفصولة عن ضَجيج الواقع. بل إنّ الفلسفة حياة بالحياة وللحياة، فالأولى مَدَار إشكالاتها وتحليلاتها النقدية، والثانية هدفها المُعلن دائِمًا؛ فهمًا وتفاعُلاً. ومن بين هذه المدارات الشاهِدة على الحُضور القويّ للفلسفة طيلة تاريخ نشاطها المعرفي والمنهجي، نجد الشقّ السياسي وما يبعث به من ضرورة الاستشكال والاستدلال منطقيًا ومن جوف الواقع. وارتباطًا بالجزائر وما شهدته من حراك شعبي جذب إليه كلّ الأنظار، مُعبِّرا عن نهضة الشُعب وأن تفكيره وضَميره قد استُفِز أخلاقيًا، يستحق أن نتأمّل فيه فلسفيًا نقديًا، لنُبرز إشراقاته وظلاميته، وأن نُخصِّص المقام لإحدى ولايات الجزائر التي أدركت كغيرها زمن الحراك. ولأن الإشكال عصب الفلسفة؛ إذ لا يُمكن الخوض في التحليل والتفصيل ومحاولة النقد والحُكم، من دون سند الأشكلة وشريطة صياغتها باهتمام وانهمام، وعليه: بالاعتماد على التأمّل الفلسفي النقدي، إلى أيّ مَدَى استمر الحراك الشعبي الجزائري في الدِفاع عن جوهر رسالته؟ وماذا عن الفرد العنّابي كواحِد من أبناء الحراك؟

الحراك الشعبي الجزائري والثقافة السياسية، ولادة لم تشهد حياة

بقلم شهرزاد حمدي

مفهوم الثقافة السياسية

كأيّ مفهوم له أصول وإرهاصات أولى، تشكّلت الثقافة السياسية منذ القرن التاسع عشر إلى أواسِط القرن العشرين كلحظة تأسيسية فِعلية، في تركيز على إيلاء أهمية لدور القيم والثقافة في النشاط السياسي، وأن دِراسة المُؤسّسات لا يقتصِر على جانِبها الداخلي، بل تُدرس بموجب علاقتها بالعوامِل الخارجة عنها، أهمّها منظومة القيم والثقافة. وفي سياق الحديث عن الجُهد التأسيسي لمفهوم الثقافة السياسية، يتمّ استدعاء كتاب عالمَي السياسة الأمريكيين "غابرييل ألموند"Gabriel almond  (1911_2002م)، و"سيدني فيربا" Sidney verba (1932_2019م) المُعنون ب: "الثقافة المدنية: المواقف السياسية والديمقراطية في خمس أمم" The civic culture: political attitudes and democracy in five nations، عرّفَا فيه الثقافة السياسة، على أنها المُصطلح الذي يُشير إلى التوجّهات السياسية على وجه الضَبَط تُجاه النظام السياسي بأجزائه المُختلفة، والمواقِف بشأن دور الذات في العالمَ. نتحدث عن ثقافة سياسية مثلمَا نتحدث عن ثقافة اقتصادية أو ثقافة دينية، فهي جُملة من التوجّهات نحو مجموعة خاصّة من الأشياء والعَمليات الاجتماعية، لكنّنا نختار أيضًا الثقافة السياسية، بدلاً من بعض المفاهيم الأخرى، لأنها تمكّننا من استخدام الأطر والمُقاربات التصوّرية لعِلم الأناسة وعِلم الاجتماع وعِلم النفس(1). يُقصد بمفهوم الثقافة السياسية، التوجّهات السياسية إزّاء النظام السياسي القائِم وشكل الحُكم، والمواقِف تُجاه دور الذات وآرائِها. والحديث عن الثقافة السياسية كالحديث عن الثقافة الاقتصادية مثلاً، غير أن اختيار الثقافة السياسية جاء  بسبب أهميتها، فهي مفهوم مُركّب يتألّف من عدّة تخصّصات مُهمّة، تُعنى بالدور الإنساني والاجتماعي والفردي، وهي بهذه الكيفية تُقدِّم قيمة مُعتبرة للقيم والثقافة. يُضاف إلى أن مفهوم الثقافة السياسية يُتيح فرصة استخدام المُقاربات التصوّرية الخاصّة بالعُلوم السالِفة الذِكر، بهدف حُصول فهم أعمق والوصول إلى تفسيرات وتحليلات بشأن التفاعُلات والنشاطات الثقافية بين الشعب والنظام السياسي، من طبيعة، أشكال، عوامِل ونواتِج. ومن منظور "ألموند" Almond و"باول"Powell ، تتكوّن الثقافة السياسية من المواقِف والقيم والمهارات السارِية في جميع السكان، تلك النزعات والأنماط التي يُمكن العثور عليها في أجزاء مُنفصلة من المجتمع(2). إذن، فالثقافة السياسية هي مجموع الآراء والقيم والمواقف والأفكار التي يُعبّر عنها الشعب خِلال تفاعُله ضِمن الحياة السياسية، وهي ترتبِط بجميع الساكِنة المُجتمعية ولا تتعلّق بفرد بعيّنه، فوجودها ضروري ويُمكن إيجاده في أجزاء مُتقطِّعة من المجتمع، لأنها سارية فيه.

جزائرنا نموذجنا، الحَراك الشعبي كثَمرة لثقافة سياسية تراجَعت

بعد رِحلة طويلة من نظام مُستبِد، نهب وسرق وأدخل الشعب في متاهة من التأزيم، كانت مُستمِرة نحو نُقطة أكثر انسدادًا، بسبب فَسَاد الحكومة وتجذّر ذِهنية العُهد المُتوالية، ليكون الاستقلال المُعلن عنه في الخامِس من جويلية 1962م، ليس لحظة تصفية، بل هو انطلاقة جديدة لاستعمار جديد مسعور، فالعدو لم يخرج نهائيًا، وإنَما ترك من يخدمه في الداخِل وهو خارِج الجزائر. طوال فترة من الزمن كان فيها الشعب الجزائري صامِتاً يعيش على وقع الإنذار بقُرب الهاوية، ولا يَعِي ذلك، وحتى وإن حدث وانتبهت شريحة منه إلى خُطورة الوضع، وأن النظام يمتهن لُعبة التمويه، ويُجيد الاستغفال بإحكام، لم تكن قادِرة على المواجهة بمُفردها، فإن فعلت اتُّهِمَت بجريمة تقسيم البلاد وإثارة الفِتن. لكن ولأن الأزمة تنتهي بانفجار، جاء تاريخ 22 من فيفري عام 2019م، ليَحمِل معه شعبًا مُنتفِضًا، مُحاجِجًا ومُناهِضًا، وكأنّه فِكرًا فلسفيًا ثائِرًا ضِدّ الأفكار البالية التي ترأسُ ومن دون وجه حق ولا كفاءة. إنه الحَراك الشعبي الذي انطلق مُعارِضًا لعُهدة خامسة للرئيس المخلوع، الراحِل "عبد العزيز بوتفليقة"Abedlaziz bouteflika  (1937_2021م)، من ثم تصاعد منسوب الرفض، وكانت المُراقبة فاعِلة والمُعاقبة حاضِرة بضرورة إزالة كلّ شائِبة من شوائِب النظام السابِق تحت شعار: "يتنحاو قاع"، كتعبير من اللهجة الجزائرية يُرادِفه في اللغة العربية: "رحيل الجميع". وما ميّز الحَراك الشعبي الجزائري أنه كان سلميًا عبّر عن مطلبه بكلّ حضارية، وكان مُطّردًا اختار النُزول إلى الشارع كلّ يوم جمعة، فكُنّا نحن الجزائريون أمام لحظة تاريخية مفصلية لم نشهدها من قبل، خِلال فترة النظام الذي خرج الحَراك ضِدّه. ولقد أبان الحَراك الشعبي في تِلك الفترة الزمنية عن ثقافة سياسية خاصّة به، تجلّت في تلقائيته واندفاعه الحُرّ من دون تأطير ولا اختيار لقادة له، وفي الإصرار الكبير على تقديم المطالب بكلّ سلمية بعيدًا عن التعنيف والتكسير والتدمير، على الرغم من انتهاج الدولة للعُنف وسجن بعض أبناء الحَراك، وفي شُمولية الوعي بالخروج والانتفاضة، فكانت كلّ ولاية من ولايات الجزائر تشهد جمعة الحَراك، وحتى الطلبة في الجامعات كانوا يُندِّدون بتنحية النظام الفاسِد واختاروا يوم الثلاثاء. إنها ثقافة سياسية جزائرية، تضمّنت قيم ومواقِف وآراء، أثّمرت عن انبثاق الحَراك الشعبي، الذي حمِل روح فلسفية عالية، سواء على مُستوى النظر؛ بمعنى المبادئ التي انطلق منها كالوعي، النقد، التغيير والثورة، وعلى مُستوى العَمل؛ أيّ تجسيد تِلك المبادئ في السُلوك. غير أن هذه الثمرة "الحَراك الشعبي" المُتمخِّضة عن ثقافة سياسية، تراجَعت وانطفأت جذوة نارها؛ وذلك بِداية بتحوّل الطلب من مطلب رئيسي للشعب إلى مطالب فِئوية، فهُناك من دخل الحَراك من بوابّة الزيادة في الأجور، تحسين أوضاع بعض القطاعات كالصّحة والتعليم، وهي مطالب شرعية، ولكن لا الزمان ولا المكان مُناسِبين، ثمّ إن مُناسَبة الحَراك كانت لأجل وقف تيار النظام الفاسِد وطَمعه في استمرار القمع والقهر، بما أن مصالحه جارِية، بالإضافة إلى بُروز بعض الشخصيات التي أرادت أن تترأّسَ الحَراك وتُؤطِّره. سوف نفهم أنه بحاجة إلى تنظيم، ولكن جوهر الحَراك في اندفاعيته الحُرّة وكأن كل فرد من أفراد الشعب قائِد له، واليوم لم نعد نرى خُروج الشعب إلى الشارع ورفع اللافتات والتعبير عن رفضه المُتواصل لأيّ شكل من أشكال الفَساد الحُكومي، بل على النقيض تم تنميطه مُجدّدًا، وإخراسِه، من ذلك، الإعلان الدائِم عن غَلاء المعيشة، ونُدرة مواد المائِدة كالزيت والدقيق، في حين أنه احتكار وسلب لوعي الشعب في ربط همومه بهمّ البطن لا أكثر، حتى لا يستيقِظ عقله ويُفكِّر في توفير حاجيات أخرى تتعدّى الأكل والشرب أو مُشكلة النقل، هي سياسة السُلطة والبطن، واختزال البحث في الجانب البيولوجي، فكيف لشعبٍ ينهض يوميًا والنهوض هُنا من نوم الليل وليس من نوم الغفلة، على أخبار نُدرة الزيت والدقيق، أن ينخرِط نقديًا في الحياة السياسية؟ وكيف له أن يُزيل الغِطاء وهو مُكبّل بسياج حِفظ البقاء؟ والحقّ أن المُتّهم ثُنائي، هي الدولة بمُمارساتها المُريدة لإحلال ذهنية شعبية موصولة تحتيًا، والشعب أيضًا بقبوله الوضع والمُشاركة في استمراريته حتى من دون وجه دِراية. والنتيجة كان بالإمكان أن يكون الحَراك الشعبي الجزائري صورة حيّة لا تموت عن قيمة الثقافة السياسية وبالتحديد حينمَا تأتي مُستقلة مدعومة بوعي واستيعاب، فلقد كان ولكنه لم يزِل في انتظار المستقبل القريب وما يُدري العقل الباحِث سوى نتائج بحثه الآنية؛ لأن الاستشراف مكانه المُحتمل واللامُحتمل لا يغيب.

***

عنابيون

بقلم: محمد بهاء الدين بوسبحة

منذ نجاح الهدف الأول للحراك الجزائري، والذي هو إزاحة الرئيس "عبد العزيز بوتفليقة"، ومنعه من المكوث رئيسًا للأبد لهذا البلد الواسع جغرافيًا، تشهد أغلب الولايات الجزائرية تقدّمًا لا بأس به في كل المجالات تقريبًا، من الناحية الاقتصادية، من الناحية الصحية، من الناحية التعليمية، وحتى من الناحية السياسية، واعتبارًا للاحتجاجات التي كانت تحدث في عهد الرئيس "بوتفليقة" فنحن لا نرى الآن تقريبًا أي نوع من تلك الاحتجاجات، كل هذا يبدو مُطمئنًا حتى الآن، لكن الفرد الذي يتنقل في ولايات هذا البلد يلاحظ أن ثمة تفاوتات واضحة في الحقوق المقدمة لمواطني كل ولاية، وربما قد تملكتني بعض العاطفة قبل كتابة هذا المقال لمَدَى البؤس الذي رأيته في الولاية التي نشأت بها، ولاية عنابةAnnaba ، فالملاحظ أن هذه الولاية وسكانها قد تم تهميشهم من كل مخطط للتقدم، ليس هذا فحسب، وإنما بدأت تظهر بعض بوادر العنصرية تجاه سكان هاته الولاية، ليست عنصرية بسبب الجنس، أو اللون، وإنما بسبب طبيعة الفكر الذي يحكم هاته الولاية، والحق يقال: فسكان مدينة عنابة قد تخلّفوا عن باقي الولايات -وخاصة ولايات الوسط والغرب- في احتضان أوجه الثقافة العصرية، وقد يقول الكثيرون منهم أن هذا من حسن حظهم، طبعًا من نظرة -شبه دينية-، إلا أن الحقيقة أن هذا أسوأ ما يمكن أن يحدث، فيمكن لأي شخص أن يلاحظ مَدَى تخلّف سكان هذه المدينة في أهم أساسيات الثقافة الجديدة، سواء في مجال المعلوماتية، أو التجارة، أو التعليم، أو السياسة، أو في أي مجال آخر، وقد صار اليوم سكان مدينة عنابة يلقبون من سكان الولايات الأخرى بالمتخلّفين، والمساجين، والمُحتالين، و"الموسوسين": والتي تعني الشخص الذي لا يتقبل أي أحد آخر، وما إلى ذلك، أمّا عن سكان هذه المدينة، فقد أظهروا حقيقة كل هذه الكلمات واحدة تلو الأخرى، بأفعالهم غير مفهومة بتاتًا، فالعنابي اليوم لا يبدي أي تقبّل لأي فرد خارج ولايته الصغيرة، أما داخل الولاية: فكل عنابي يريد النجاة بنفسه عن طريق قتل العنابيين الآخرين.

يستيقظ العنّابي كل يوم، وهو يفكر بكيفية قضاء يومه –أو القضاء على يومه-، سواء كان عاملاً أو عاطلاً عن العمل، أو طالبًا أو أستاذًا، فالسؤال هذا سيتبادر إلى ذهنه بلا شك، وبنفس القدر من الأهمية، فمشكلته لا تتمثل في قضاء الوقت فقط، بل في القدرة على قضاء هذا الوقت، ولابد هنا أن نشير إلى أن سبب هذا السؤال ليس الوقت نفسه، بل ما سيتلقاه إبان هذا الوقت، هذا ما يجعل من كل يوم عسير جدًا عليه، فأغلب مشاكل العنابي، إن لم نقل كلها، هي مشاكل اجتماعية، مشاكل تتعلق بالمجتمع الذي يعيش وسطه، وطبعًا فكل فرد في هذا المجتمع يرى أن الجحيم هو المجتمع، أو على حد تعبير سارتر "فالجحيم هو الآخرون"، إن عقل العنابي يكاد يولد مبرمجًا بهذه الفكرة، ولو جبت يومًا واحدًا في المدينة تتحدث إلى هذا وذاك، للاحظت أن كل فرد يعلن بصراحة بأن مجتمع المدينة هذه، هو المجتمع الأسوأ بين كل مجتمعات العالَم، وهل لك أن تخبره بأن هذا الكلام ينطبق عليه أيضًا، بصفته فردًا من هذا المجتمع؟ طبعًا لا.

عبر العالَم، تجري ثورة هائلة في مجال التكنولوجيا، حتى أنه يمكنك القول إنها بنفس القيمة مع الثورة الصناعية التي حدثت في أوروبا العصر الحديث، إننا نسجل اختراعًا أو اكتشافًا كل يوم على الأقل في مجال التكنولوجيا، ولازال هذا العلم يحمل في طياته الكثير من الأمور المجهولة، حتى أن التكنولوجيا قد صارت بطريقة ما، تمثل العلم كله، وصارت علوم كبرى، كالرياضيات والفيزياء مثلاً، في نفس موضع الفلسفة في القرون القليلة الماضية، مع كل هذه الأحداث والتطورات في العالَم، نجد العنابي لا يزال يفكر في كيفية قضاء يومه، من نظرة فيزيائية بحتة، يمكننا القول بصريح العبارة أن المجتمع العنابي في حالة عطالة، لكن السؤال هنا، هل يكفي العنابي وجود قوة خارجية تأثر عليه ليتحرك؟ لو لم نكن قد رأينا بالفعل تجارب لهذا الأمر، لتفاءلنا كثيرًا، وقلنا أنه ربما ينجح ذلك، لكن التجارب التي مرت، تفسر لنا أكثر من أي أمر آخر، أن الخلل في العنابي ليس فيزيائيا فقط، بل إن العنابي عاطل نفسيًا، وعقليًا أيضًا.

بدأ الحراك الجزائري في الثاني والعشرين من شهر فيفري 2019، ومعه بدأ أمل جديد للشعب، حيث شهدت تقريبًا كل ولايات الوطن تظاهرات ضخمة في شوارعها، ترفض ترشح الرئيس السابق "بوتفليقة" من الترشح للعهدة الخامسة، حيث حكم الأخير البلاد قرابة العشرين سنة، كان الشعب يندد بحراك سلمي، لا يريد أحد تكرار ما حدث في سنوات التسعينات من القرن الماضي، حيث صار الموت صاحب كل جزائري، ولم يكن أحد يُؤمن أن يعيش لليوم التالي، وقد زاد الأمل في تحقيق هذا الحراك السلمي في العاشر من مارس من نفس السنة، حيث خاطب رئيس أركان الجيش "قايد صالح" الشعب قائلاً إنه يقف في صفوف المتظاهرين، وأن الجيش هو ابن الشعب، وأنهما يتشاطران القيم نفسها.

لم يطل الأمر كثيرًا، فبعد خطاب "القايد صالح" بيوم واحد، أعلن الرئيس السابق "بوتفليقة" انسحابه من الترشح للعهدة الخامسة، وبالتالي حقق الشعب غايته الأسمى والأولى من حراكه، لكن، هل توقف الحراك بعد ذلك؟ طبعًا لا، كان الوعي الجمعي للشعب الجزائري آن ذاك يستمر في التطور شيئًا فشيئًا، فقد عَلِم الشعب أن "بوتفليقة" لم يكن هدفه الوحيد منذ البداية، إنما كل من كان ينتمي إلى ما سُمّي بـ: "العصابة"، ويقصد بها كل من ينتمي إلى النظام القديم، والذي يتفق كل الشعب الجزائري على أنه سبب تخلّف ودمار هذا البلد.

استمر الحراك أسبوعًا بعد أسبوع، كان ثمة استمرارية واضحة في عدد الجماهير المتظاهرة، لكن، لم تكن الاستمرارية في المطالب نفسها، فكل من شارك في الحراك يمكنه أن يخبرك أن الثورة قد تحولت إلى احتفال، تحديدًا بعد عزوف الرئيس السابق عن الترشح للعهدة الخامسة، فخروجك للحراك أصبح يقتضي عليك أن تحمل هاتفًا جيّدًا للتصوير، وأن تحفظ بعض الأغاني التي كانت تتغنّى بها الجماهير في الملاعب الجزائرية، وأصبح هناك تنافس واضح في إبداع لافتات جديدة، حتى إن كانت لا تمت للحراك بصِلة، وأصبح كل من هبّ ودبّ يحاول قيادة الشعب للمطالب القادمة، كما رأينا أيضًا العديد من الوجوه المعروفة أو غير المعروفة تحاول الوصول لكرسي الرئاسة، وصار استعطاف الجماهير مهنة لهم، وقد تفنّنوا فيها على كل حال، بعبارات كـ: "البطل الوحيد هو الشعب!"، "ألقوا الثورة للشارع فسيحتضنها الشعب!"... وغيرها من العبارات المُلفتة للنظر، والتي تعطي الشعب الثقة في نفسه على أنه الحاكم الوحيد للبلد.

وبعد أسابيع قليلة، صار من السهل أن تلاحظ مَدَى انحراف الشعب عن مساره الأول، أي عن الثورة، ويمكن القول، أن الحراك ليس سوى الأربع أسابيع الأولى، وأن كل ما حدث بعد ذلك لم يكن سوى تظاهرات سلمية يقوم بها الشعب ليُروّح عن نفسه بعد نهاية أسبوع عمل طويل، وقد انتهى الحراك ببداية حقبة جديدة في العالَم، حقبة فيروس كورونا، والطريقة التي انتهى بها، أكدت بأن نهايته كانت بعد أقل من شهر من بدايته.

تم انتخاب رئيس جديد للبلاد، قرر أغلب الشعب في البداية أن يعزفوا عن الترشح، وذلك بسبب أن المُترشحين الخمسة لم يكونوا ممن أرادهم الشعب حقًا ليحكموا هذا البلد الكبير، لكن ما بليد حيلة، وقرر الشعب بعد ذلك أن يختاروا أحد هؤلاء الخمسة، وكان "عبد المجيد تبون" هو قرار الشعب الأول، وبالفعل فقد فاز بالعدد الأكبر من الأصوات، ومعه بدأت قصة جديدة لهذا البلد، ولهذا الشعب.

كان للرئيس الجديد "تبون" قصة سياسية مُغرية بالنسبة لشعب عانى الأمرين من قبل النظام القديم، وبالطبع فالقصة وحدها لا تكفي لنيل إعجاب الشعب، بل إن الخطابات التي قام بها الرئيس الجديد مُلفتة للنظر، وباعثة على الأمل، وبالرغم من أن بعضها كان يصرح بوضوح على حقبة صعبة تلوح في الأفق، وعلى تحدٍّ جديد لهذا الشعب، إلا أن الكثيرين، تحديدًا من ولايتنا هذه لم يلاحظ ذلك، وهو أحد الأسباب في الواقع الذي جعلت من العنابيين يتخلّفون في الركب عن الولايات الأخرى، ففي إحدى الخطابات الرئاسية التي قام بها " تبون" للشعب الجزائري، يقول بصريح العبارة: "لي حاب يخدم يشمّر على ذراعه!"، فليس هنالك حتى مجال لتحليل مثل هذه العبارة، ببساطة شديدة، يخبر الرئيس شعبه، أنه في حالة تخلّف عن الركب، فإن ذلك بسبب عدم استعداده، والحق يقال، فإن الرئيس الجديد يقوم ببعض التغييرات التي من شأنها أن تغير ولو قليلاً جدًا من مصير هذه البلاد، ولعلّ هذا سيتضح أكثر لو سئلت سكان الولايات الوسطى، الغربية، وكذا بعض سكان الولايات الصحراوية، ولو أن الشرق يعاني بعض التهميش كمَا هي الحال دائمًا، إلا أن النظرة العامّة للوضع تجعلنا نرى النُقص فينا كشعب أكثر من أي سبب آخر ممكن.

إن أفضل القرارات التي جاء بها الرئيس الجديد هو بالتأكيد إطلاق وزارة المؤسسات الناشئة، فنحن نلاحظ مَدَى فعالية هذه الوزارة في إنماء الاقتصاد الوطني، وليس مهمَا حاليًا رؤية أرقام كبيرة، بل ما يهم حقًا أن ترى بعض الشباب الجزائري وهو يتحول إلى نموذج القيادة المعاصر، ولا يهم ما تنتجه هذه المؤسسات أو الخدمة التي تقدمها، بل ما يهم هو الطريقة التي تنتهجها هذه المؤسسات، والطريقة التي أنشأت بها، وكيف صارت الدولة تستثمر في أفكار شعبها، فما كنا نراه سابقا في عهد الرئيس القديم من هجرة الشباب وموت الأفكار العظيمة قد بدأ على الأقل بالتناقص، وصرنا نرى تنافسًا احترافيًا واضحًا بين هذه المؤسسات بين بعضها البعض، سواء في تقديم منتج حصري، أو خدمة أفضل، وما إلى ذلك.

وبين كل هذه الأحداث، وهذه التطورات، نجد العنابي قد بدأ يُنمّي شيئًا فشيئًا وعيه بمَدَى تخلفه عن كل ما يحدث، ولسنا على يقين مما سيحدث بعد ذلك، هل ستكون ثورة داخلية لهذا الشعب، يظهر من خلالها أنه هو الآخر قادر على تغيير مصير هذا البلد؟ أم هل سيكتفي العنابي بمشاهدة هذه الأحداث من بعد، منتظرًا مجيء أحد ما، شيء ما، حدث ما، يجعله يتحرك أخيرًا؟ أم هل سيبقى هذا الشعب مصرًا على الاستمرار في حالة العطالة هذه، مُلقيًا كل انتباهه وتركيزه على الأخطاء التي ترتكبها الدولة، مُتناسيًا بذلك أن التغيير لا يكون من داخل الذات نفسها؟ وتبقى كل هذه التساؤلات بلا إجابة، فالوحيد الذي يمكنه الإجابة عنها هو الشعب العنابي نفسه، وبدِقّة أكثر: الفرد العنابي نفسه.

وبهذا القدر، تأمّلت الفلسفة نقديًا في الحراك الشعبي الجزائري، مُبرِزة أنه يستحِق التفاتتها النقدية بما تضمّنه من قيم وما طاله من تحوّلات استدعت حُضورها بالمُعاينة والمُناقشة. والسؤال المطروح: كيف سيكون الحراك إذا عاد مُجدّدًا؟ هل سيفتح المجال مرة ثانية لإقامة تأمّلات فلسفية نقدية بشأنه؟ وهل سيشهد ذات المَسارات أم سيتّخذ خِلافها؟

***

.....................

الهوامش:

(1)   Almond, g, Verba, s, the civic culture, political attitudes and democracy in five nations, London, library of congress catalog, printed in the united states of America, 1989, p 12.

(2)   Aparajita, topic: political culture, rambagh, bihta, patliputra university, G.J.College, department of political science, p 2.

 

أصر الجاحظ أن ينقل لنا أخبار بخله وشحه، فرسم في كتابه الشهير: "البخلاء" صورة مضحكة لواحد من أشهر الفلاسفة العرب، والذي يُوصف بانه اول فيلسوف عربي خالص، فيروي الجاحظ عن أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي، وصيته لإبنه التي يقول فيها:" وقول لا، لا يصرف البلا، وقول نعم، يزيل النِعم، وسماع الغناء برسام حاد، لأن الإنسان يسمع فيطرب فينفق فيسرف، فيفتقر، فيَغتم فيَعتل ويموت .. يابني كُن كلاعب الشطرنج مع الناس تحفظ شيئك وتاخذ من شيئهم، فإن مالك ان خرج من بين يديك، لم يعد إليك . واعلم ان الدينار محموم اذا صرفتنه مات " واذا صحت رواية الجاحظ، أو انها نوع من المبالغة، فنحن ازاء شخصية أتسمت بالغرابة والعبقرية في نفس الوقت، وكما يذكر ابن النديم في كتابه " الفهرست "، أَميل الى طلب الفضيلة والسعي الى حياة الزهاد والعزوف عن البهرجة والبذخ رغم كونه ابن أحد ولاة الدولة العباسية، فقد كان أبوه اميراً على الكوفة . يصفه لنا المسعودي في " مروج الذهب "، بأنه كان مربوعاً، حسن الوجه، يمشي على نحو غريب، يرتدي الملابس البسيطة برغم غناه . ويذهب البعض الى ان زهد الكندي لم يكن بخلاً كما صوره الجاحظ، وانما إعجاباً بشخصية فلسفية أثرت على حياته كثيراً، وهي شخصية الفيلسوف اليوناني " سقراط "، والذي ترجم له الكندي بعضاً من شذراته، ولهذا نجده في كتابه " السيرة الفلسفية "، يضع سقراط بمنزلة الإمام، ويرد على الذين سخروا من حياة التقشف والزهد التي عاشها الفيلسوف اليوناني، ويصفهم بالجهلة، مشيراً إلى عظمة سقراط لأنه كان يستخف بالملوك، ويرفض لبس الثياب الغالية، ويحب الحديث مع الناس . اضافة الى شخصية سقراط اعجب الكندي بفيلسوف يوناني آخر غريب الطباع اسمه " ديوجين "، كان يرى في فلسفته طريقاً لأن يتعلم الانسان كيف يشبع احتياجاته بطريقة مناسبة وبسيطة جدا، وينقل الكندي في احدى رسائلة الحوار الذي دار بين ديوجين والاسكندر، حيث يقال إن الإسكندر الكبير مر يوما بديوجين فوجده جالسًا في برميله يستحم بأشعة الشمس، فوقف الإسكندر أمامه قائلاً: أنا الملك الإسكندر الكبير.. فرد عليه ديوجين: وأنا ديوجين الكلبي.. فقال له الإسكندر: ألست خائفًا مني؟ فرد عليه ديوجين: وهل أنت رجل صالح أم شرير؟ فقال له الإسكندر: بل أنا رجل صالح.. فرد عليه ديوجين: ومن يخاف من الصالح إذًا! ثم سأله الإسكندر: هل تعيش في هذا البرميل فقط لكي تلفت انتباه الناس وإعجابهم بك؟ قال ديوجين: وهل فعلا تريد أنت فتح بلاد فارس وتوحيد كل بلاد الإغريق.. أم تفعل ذلك فقط لتنال الإعجاب؟ ابتسم الإسكندر وقال: هذا برميل مليء بالحكمة، فقال ديوجين: أتمني لو كان لدي بدل هذا البرميل المليء بالحكمة.. نقطة واحدة من الحظ الجيد.. للحكمة طعم مر.. وأحيانًا تؤدي بك إلي الهلاك.. بينما الحظ يفتح لك أبوابًا ويحقق لك السعادة ما كنت تحلم بها! أعجب الإسكندر.. الذي يعرف جيدًا معني الحظ.. بكلام ديوجين، ثم أخبره أن يطلب منه ما يشاء ليلبيه له.. فأجابه ديوجين بهدوء: أريد منك شيئًا واحدًا.. إنك الآن تقف أمامي وتحجب عني أشعة الشمس.. لذا لا تحرمني من الشيء الوحيد الذي لا تستطيع منحي إياه.. لا تحجب شمسي بظلك! .

في واحدة من رسائله الفلسفية يحاول الكندي ان يسير على خطى سقراط في وصاياه لتلامذته:" قال سقراط الزموا العدل تلزمكم النجاة، العدل أمان النفس من الموبقات، والحكمة سلم العلو، فمن عدمها عدم القرب من باريه، وكان يقول راحة الحكماء في وجود الحق، وراحة السفهاء في وجود الباطل، وقال له رجل: " ياسقراط، ما الذي أغنت عنك الحكمة وانت لا تستتب، فقيرا، فقال: اغنت عني ما آلمك مني ". . وكان يقول: " أما ينبوع فرح الإنسان، القلب المختلف المزاج، وينبوع حزن العالم، الملك الجاير، وثبات الأشياء بالعدل، وبالجور زوالها . لأن المعتدل هو الذي لايجور " . ومثل سقراط كان الكندي يرى ان الفلسفة هي السلم لهذا العالم من الُمُثل، ولكن ليس كل شخص بقادر على صعوده، فدرجاته العليا محفوظة لمن يتمتعون بمهارة المحاججة والسؤال .

يعرف الكندي الفلسفة، بانها السعي ان يكون الإنسان كامل الفضيلة، وهي إماتة للشهوات . ثم يضع لها تعريفا علمياً يقول فيه انها:" علم الأشياء الابدية الكلية: انباتها، ومائيتها، وعللها بقدر طاقة الانسان " .كان سقراط يقول "ان الفضيلة ما هي الا دعوى دائبة لإعمال العقل." وعرف الكندي الفضائل الإنسانية بانها هي الخلق الانساني المحدود، واما الحكمة فهي فضيلة علم الاشياء الكلية، ولذلك كان الكندي يعتقد ان السعادة تتحقق للانسان عندما يكتشف اهمية الحكمة في حياته . ومثل سقراط فقد تبنى الكندي مذهباً يميل إلى المساواة بين المعرفة والفضيلة . في محاكمته الشهيرة قال سقراط:" الحياة التي لم تخضع للأختبار لا تستحق ان تعاش "، وكان الكندي يؤكد في رسائله الفلسفية:" ان كل فرد لديه القدرة على تمحيص حياته وأفكاره وان يعيش حياة ذات قيمة "، ولم يقتصر شغف الكندي بسقراط على تتبع نمط معيشته وتمثل سيرته، بل تعداها إلى تاثره بمفاهيمه الفلسفية، وهو ما نجده في رسائله التي حققها محمد عبد الهادي ابو ريدة، حيث يستخدم فيها الكندي عدداً من مقولات سقراط عن طلب الفضيلة والإهتداء بالعقل دون سواه في مقارعة احداث الزمان، والإيمان ان ما كتب علينا من ألم وموت هو من مقومات أنسانيتنا:" فلو لم يكن موت، لم يكن انسان "، وكان الكندي مثل سقراط يؤمن ان الحياة أن لم تخضع للأختبار لا تستحق ان تعاش..ويذكر ابن النديم في كتابه الفهرست ان الكندي كتب عددا من المؤلفات التي تدور حول سقراط وسيرته منها رسالة في خير فضيلة سقراط، ورسالة محاورة جرت بين سقراط واحد تلامذته، ورسالة في الفاظ سقراط .

***

بدأت الحكاية باليتم، فالأب الذي كان والياً على الكوفة توفى وترك غلاماً لا يتجاوز عمره الثلاثة اعوام، عاش في ظل عزٍ زائل، حيث لم يبق للصبي اليتيم إلا امه التي اخبرها بعد ان بلغ الخامسة عشر من عمره بنيته الرحيل الى البصرة:" في البصرة علم كثير، وعلماء كبار، خاصة في علم الكلام " وتقرر الام ان ترافق ابنها، ولم يطل به المقام طويلا في البصرة فبعد ثلاث سنوات قرر السفر الى بغداد، فدخلها سنة 819 للميلاد، واستقر في جانب الرصافة حيث كان أبوه قد ترك له دارا واسعة وبستاناً.

منذ ان ولد ابو يوسف بن اسحق الكندي عام 801 للميلاد، وحتى وفاته عام 871 وهو يسعى الى العِلم، قالت امه لإحدى جاراتها وهي ترى الفتى مهموم بالبحث والإنقطاع الى دروس المتكلمين: " ابني جائع إلى الكتب .. ولن يهدأ له بال، الا مع امراة عاقلة وجميلة " ..ووافقت الجارة ان تزوج ابنتها لسليل عائلة الامراء، لكن الكندي الشاب لم يجد في الزواج ضالته مثلما وجدها في كتب الأقدميين، قالت زوجته عنه:" كان قد اصبح مهموماً، تغلغلت حروف القرطاس في داخله واختلطت مع عطشه للعلم " . في البصرة تَتلمذ على يد المعتزلة واخذ عنهم اصول التحرر العقلي ومسؤولية الإنسان الكاملة عن اعماله، واستقلاله المطلق عن القدر وقدرته على التوصل الى الجميل والقبيح دون حاجة الى من يبلغه ذلك، وفي بغداد دخل بلاط المامون بعد ان كتب له " رسالة في العلة والمعلول "، وكتب للمعتصم " رسالة في الفلسفة الأولى "، ثم صار معلماً لاحمد بن المعتصم .ولعل قائمة الكتب التي الفها الكندي تدل دلالة واضحة على المدى الواسع الذي وصل اليه في مجال الفلسفة والفكر واللغة والعلوم .يكتب ابن النديم في الفهرست:" قد يقع في تعداد كتب الكندي خلاف بين المؤرخين، بالزيادة والنقصان، لكنهم متفقون على ان له في اكثر العلوم، مؤلفات من المصنفات الطوال والرسائل القصار " ويأخذ ابن النديم بتعداد مؤلفات الكندي كتاباً كتاباً، ليصل الى انه كتب في الفلسفة والهندسة والسياسة والمنطق والموسيقى والرياضيات، وكان اول فيلسوف يكتب في باب جديد اسمه علوم النفس، وقد اتبع الكندي في تحرير كتبه طريقة جديدة لم تكن معتمدة من قبله، فكان يبدأ رسالته بتحقيق وفحص الموضوع بعدها يبدأ بتحليله، ثم يخرج من ذلك بما يريد من أحكام ونتائج، ونجده يؤكد على أن التحليل والإستنتاج هما اساس كل معرفة حقة، فهذا بن موسى البيهقي في كتابه السنن والأثار يكتب:" انه كان فاضل دهره وواحد عصره في معرفة العلوم القديمة بأسرها " .

يقال دائما إنّ الفلسفة العربية قد بدات مع الكندي، الذي ادرك منذ البداية ضرورة صياغة منهج دقيق للبحث، ولانه كان مولعا بالرياضيات والموسيقى والفلك منذ صغره، فقد انتهى إلى انه يمكن صياغة منهج للفلسفة يشبه العزف الموسيقى او العمليات الحسابية ونجده يحدث تلميذه ماسويه قائلا:" الرياضيات اولا .فلا سبيل إلى استخدام علم المنطق، إلا اذا سُبق بدراسة علوم الرياضيات، من حساب وهندسة وفلك، فمقدمات المنطق وأقيسته واشكاله تعتمد على الرياضيات " . وفي الموسيقى وضع الكندي عددا من الرسائل في التاليف الموسيقي، وصناعة الموسيقى واخبارها، وطرائق الالحان، حيث مزج فيها العلم بالفن،ولاول مرة في تاريخ الموسيقى العربية، نجد سلماً للموسيقى العربية، لايزال مستعملا الى اليوم،استرشد فيه الكندي بالسلم الموسيقي الذي وضعه فيثاغورس، ووزع الكندي انغام سلمه على اوتار العود الخمسة، فصار لكل وتر ستة انغام، اي ان اوتار العود تنتج ثلاثين نغما، وفي رسالة الكندي عن التاليف الموسيقي اكد ضرورة التاليف في العزف عند الانتقال من نغمة الى نغمة:" الموسيقى هي فن تالف النغم، وهو فن قائم على النسبة العددية رياضيا " .

كانت الفكرة المهيمنة على الكندي هي أنه لا مفر للإنسان من تحكيم العقل، فهو المحرك لكل المخلوقات، ويضع الكندي بعض الوسائل التي يمكننا بها تحرير عقولنا من سطوة الإرادة . يعتبر الزهد أحد هذه الوسائل، وهناك أيضًا الموسيقى . حيث نتأثر شعوريا بتلك الإشارات الصوتية أو المرئية التي نستمدها من سماع الموسيقى، ولهذا نجده يضع تعريفا متميزا للموسيقار يقول فيه ": الموسيقار الباهر الفيلسوف يعرف ما يشاكل كل من يلتمس اطرابه من صنوف الايقاع والنغم والشعر، مثل حاجة الطبيب الفيلسوف الى ان يعرف احوال من يلتمس علاجه او حفظ صحته " .

اضافة الى ان تجربة الكندي الفلسفية تميزت في تبيان معاني الفلسفة الصحيحة، وكشف امكانياتها ورسم حدود مفاهيمها، ووضع حجر الأساس في الفكر العقلي العربي، كان الكندي يدرك قيمة الفلسفة ووظيفتها في الثقافة الانسانية، والإيمان بان الفلسفة ملك الناس جميعا، وان هذه الفلسفة مهمتها بناء الحقيقة الواحدة، لاقامة صرح انساني متوحد .

في " رسالة في الفلسفة الاولى " يقدم الكندي تعريفا للفلسفة، ومهمة وعمل الفيلسوف، حيث ذكر ان:" الفلسفة هي التشبه بافعال الله تعالى بقدر طاقة الانسان "، والانسان الكامل الفضيلة، هو التعريف الذي يستحوذ على انتباه الكندي، ونراه يوضح في اكثر من رسالة الجانب الأخلاقي في تعريف الفلسفة، ليبين لنا انها صناعة الصناعات، وحكمة الحكم، وهي حياة الخير، ويضع الكندي فعل الشر نقيضا للفلسفة، ويعرفه بانه:" تشاغل بالذات الحسية وترك استعمال العقل "، ومن هذا التحليل يبرز اهتمام الكندي بوظيفة الفلسفة ومنزلتها ونحن نراه يعبر عن رأيه الخاص حين يذكر في احد رسائله الى ان:" اعلى الصناعات منزلة واشرفها مرتبة، صناعة الفلسفة التي حدها علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الانسان، لأن غرض الفيلسوف في علمه اصابة الحق، وفي عمله العمل بالحق، ولذا كان الفيلسوف التام الاشراف، هو المرء المحيط بهذا العلم الاشرف، وكانت الفلسفة عالمة بالأشياء التي علمها بحقائقها "، وان: " علم الفلسفة هو كمال العلم بالحقائق " . كما نجد الكندي يدعو الى مبدأ الانفتاح الذهني والروحي على الأمم والشعوب، ومحاربة كل مظاهر الإنطواء والعزلة الفكرية مؤكداً ان الافكار لاحدود لجغرافيتها و لا جنسية لها، ولهذا فالإنسان لايمكنه ان يكتفي بنفسه، فيستغني عن معارف وافكار الآخرين، ويتفق الكندي مع سقراط وافلاطون على الوسيلة التي توصلنا الى المعرفة، فهو يحدد وسيلتين، الاولى هي الإدراك الحسي وهو مشترك بين الانسان والحيوان وهو يدرك المحسوسات المادية الجزئية الدائمة التغير التي لها صورة في المخيلة، والمعرفة الناشئة عن الإدراك الحسي غير ثابتة نظرا لعدم ثبوت موضوعاتها، والوسيلة الثانية العقل الذي يدرك الحقائق العميقة التي هي أبعد عن الانسان، لكنها اقرب الى طبيعة الأشياء، ونجده يرهن وجود المادة بتصورها في العقل .

وكان الكندي اول فيلسوف عربي يهتم بموضوعة الفيزياء .. ونجده من اوائل الذين تطرقوا لمفهوم النسبية، فقد صرح بان العالم لمادي وجميع الظواهر المادية تتسم بجوهرها النسبي، حيث تعد النسبية جوهر قانون الوجود . ووفقا للكندي فإن الزمان والفراغ والحركة والجسم تعتبر جميعها نسبية، وليست مطلقة . الجدير بالذكر ان كل هذه الظواهر قد اعتبرها جميع المتخصصين في علم الميكانيكيا امثال غاليليو وديكارت ونيوتن نسبية وهو ما اتفق عليه اينشتاين ايضا . يقول الكندي:" إن كانت هناك حركة وجد زمان، وان لم تكن هناك حركة لم يكن زمان .والحركة انما هي حركة الجسم، فان كان هناك جسم كانت هناك بالضرورة حركة " .بناءً على هذه العبارة التي ادلى بها الكندي فإن كل الظواهر الفيزيائية ترتبط ببعضها البعض، فهي ليست مستقلة، وبالتالي ليست مطلقة . وهذا ما عبر عن اينشتاين عندما تطرق لشرح نظرية النسبية العامة، حيث قال:" قبل النظرية النسبية العامة اعتبرت الفيزياء الكلاسيكية دائما ان الزمان مطلق، وهذا يعني ان الزمان مستقل عن حركة أي جسم، ولكن من الواضح اننا اظهرنا عدم كفاية تلك النظرية مع التعريف الحقيقي للزمان " – اينشتاين النسبية النظرية الخاصة والعامة ترجمة رمسيس شحاتة - . ووفقا لما ذكره الكندي وايضا اينشتاين، لا يتسم الجسم والزمان والحركة والفراغ بالنسبية فقط بالنسبة لبعضهما البعض، بل ايضا بالنسبة للاجسام الاخرى والفرد المتابع والمراقب لهما . وهذا ما يفسره الكندي بمثال شخص يرى جسما اصغر او اكبر وفقا لحركته العمودية بين الارض والسماء، فإذا اتجه الشخص لأعلى نحو السماء سيرى الاشجار اصغر حجما، اما اذا اقترب من الارض فسيراها اكبر حجما، ووفقا للكندي لا نستطيع ان نقول إن هناك شيئا صغيرا او كبيرا في المطلق، بل يمكننا القول عنه أصغر أو اكبر بالنسبة لجسم آخر محدد . وبالمثل، خلص اينشتاين إلى انه لا توجد قوانين مطلقة في ظل كون القوانين فيه مستقلة عن الشخص المتابع او المراقب للجسم المرئي، ومن ثم يجب اثبات القانون من حيث القياس الخاص بالشخص المتابع للجسم المرئي . من ناحية اخرى يقبل الكندي تلك الحقيقة التي مفادها ان الانسان نفسه يتسم بالنسبية والمحدودية . كذلك يتسم كل من الزمان والحركة والجسم بالمحدودية، ونجد اينشتاين يعبر عن هذه الفكرة فيقول:" يتسم هذا العالم الذي يضم كل هذه الكائنات بمحدوديته، على الرغم من وجود كل هذه الكائنات بشكل محدود " .

***

يعود الفضل في الصياغة الاولى لفكر الفلسفة الاسلامية بمعناها الدقيق، للكندي .. ويعد كتابه حول الفلسفة الاولى عملا اصيلا ولا يعتبر شرحا، كما انه ليس ملخصا لميتافيزيقيا ارسطو، ولان الكندي كان معاصرا للوقت الذي تم فيه ترجمة الاعمال الفلسفية اليونانية الى العربية، فان كتابه " رسالة في حدود الاشياء ورسومها " وهو كتاب صغير لكنه قاموس فلسفي دقيق، وربما يكون اول قاموس للفلسفة باللغة العربية، يتضمن ما يقارب المئة مصطلح، بعض هذه المصطلحات وضع لها الكندي تعريفا فلسفيا خاصا .إن الفلسفة يجب ان تستخدم المنهج الذي يثبت او يدلل على معنى كل كلمة او لفظ او مفردة، وقيمة كل تاكيد . وبالتالي فان من يجهل علم الرياضيات والمنطق لايمكن ان يتخصص في الفلسفة لان الاستدلال او الاستنتاج فقط هو الذي يقودنا الى العلل الاولى .

وثمة رواية توضح لنا كيف حاول الكندي الدفاع عن الفلسفة ضد خصومها، اذ يروي لنا احد تلامذة الكندي وهو احمد بن الطيب السرخشي ان الخليفة المعتصم سأل الكندي ذات يوم عن غاية الفلسفة، وهل تتعارض مع الدين، فقرر ان يكتب له رسالة يدافع بها ضد من يسخرون من الفلسفة وان يرد عليهم  وكانت عدته في ذلك مجموعة من الأفكار والاسئلة التي حددها بثلاثة اسئلة رئيسية هي:

1- السؤال عن أنية الشيء، هل يعني هو موجود بالإطلاق

2- السؤال عن ماهية الشيء، يعني ما هو؟ أو تحت اي جنس يقع؟

3- السؤال عن غاية الشيء، يعني لِم هو؟ اعني السؤال عن علته الغائية، او بمعنى ادق عن غايته

ويقول الكندي اذا اجتمع السؤال عن: ما هو الشيء؟ واي شيء هو، كان ذلك نوعا من الفلسفة .

ويسعى الكندي ان يمزج هذه الاسئلة بوظيفة العقل عند الانسان:" من ادرك طريق الحق، فليكثر مسائلة الحكماء ومشاورتهم، وليكن اول شيء يسأل عنه العقل، لأن جميع الاشياء لاتدرك الا بالعقل "، وكان الكندي مؤمنا بان لا تعارض بين الفلسفة والدين، وقد حمله هذا الايمان على التصريح بالفلسفة وبحثها دون خشية، بل ذهب اكثر من ذلك فوصف اعداء الفلسفة بالكفار وانهم لا يؤمنون بدين، وسعى الى التوفيق بين الاراء المختلفة في الدين ليخرج منها برأي فلسفي يقول ان الآراء مهما ظهر من تباعدها في النظر إلى الله متفقة على انه واحد وخالق، وبذلك نجد ان الكندي حاول ان يدخل الفلسفة الى عالم الدين بوصفها عامل توفيق تذوب فيه الأختلافات وبسبب هذه الآراء التي كانت تطرح للمرة الاولى في المجتمع الاسلامي، تعرض الكندي لمحنة شديدة وواجه عداء رجال الدين الذين وصفهم باصحاب:" الكراسي المزورة التي نصبوها من غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين، وهم عدماء الدين، لان من تجرأ بشيء باعه، ومن باع شيئا لم يكن له، فمن تجرا بالدين لم يكن له دين، ويحق ان يتعرى من الدين من عاند الفلسفة وسماها كفرا " . ويصر على أن يضع الفلاسفة في موضع الورثة الجديرين بالأنبياء، وبحسب الكندي تعد الفلسفة استمرارا للمعرفة النبوية، استمرار اكثر منه قطيعة، والإختلاف بينهما في الاسلوب، ليس اختلافا يتعلق بالحقيقة، هو اختلاف في شكل نقل الحقيقة . لان الحقيقة تظل واحدة، وهذه الاستمرارية طبقا للكندي بين هذين الضربين من الكلام، (النبوي والفلسفي)، تتم تحت سلطة العلم، ولهذا ينبغي ان نُدين الدجالين الذين يوجهون امة المسلمين ضد المعرفة العلمية، اولئك الذين يزعمون ان الفلسفة عدو للدين، رجال الفرقة هؤلاء كما يقول الكندي " يتاجرون بالدين في حين انهم بلا دين " .

وبسبب هذه الاراء اشاع بعض رجال الدين بان الكندي ليس عربيا وانه من اصل يوناني، وانه كفر بعد الأخذ باراء الفلاسفة اليونانيين، ونجد احد الشعراء " ابو العباس بن محمد الناشيء " يؤلب عليه السلطة:

اتقرن الحادا بدين محمدا

لقد جئت فينا يا اخا كندة غدا

وتخلط يونان بقحطان ضلة

لعمري لقد باعدت بينهما جدا .

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

الفكر اليساري التقدمي هو الخميرة الإنسانية الأولى دون شك لكل مراهق ثوري في زمن المراهقة، وخميرة اليسار واليسارية ضرورة للوعي النقدي ولكل أديب ومثقف، لكن التحول قد يحصل حال اكتمال الفكر بعد سن المراهقة، وقد تكون خاتمة العلاقة مع جميع الأحزاب، لأن الفتى السياسي في عمله الحزبي في سن المراهقة كان وحشاً كاسراً في تمسكه بموقفه ودفاعه عن فكره وعقيدته، لكن استمرارية العمل السياسي والحزبي حتى سن الكهولة سيصبح جحشاً ينفذ ما يرغب به قيادات الحزب من اعمال ومهمات سياسية وحزبية، وهذا ما يؤكده الدكتور ميثم الجنابي في كتاب (العراق حوار البدائل) وقد حاوره مازن لطيف، إذ يؤكد (من لا يكون يسارياً ثورياً زمن المراهقة فهو وحش! ومن يبقى يسارياً ثورياً بعدها فهو جحش!) ص32.

علماً أن وجود الأحزاب والأفكار جميعاً ضرورة ولكن بوصفها جزءاً من منظومة عليها أن تحتكم إلى الاعتدال وتسترشد به في الحياة العامة والخاصة للأفراد والجماعات والمجتمع والدولة والثقافة.

وقد أوصلتني تجربتي السياسية والحزبية إلى أن الأحزاب السياسية جميعاً لا يمكنها أن تكون ميداناً ولا ممراً للحقيقة والبحث عنها. والأحزاب السياسية اليوم جميعها هي مصيدة شرسة لقتل الثقافة والمثقفين والروح النقدي الحر. وهو السبب الذي جعل منها أن تقتل أنبل القلوب وأصفى العقول وأشد العزائم دون أن يخامرها الشك بأن ما تقوم به هو عين النبل والعقل والعزيمة! وهي نتيجة يمكن العثور عليها عند الأحزاب المسترشدة بعقائد دينية ودنيوية.

فالأحزاب اليوم هي تجمعات قوى اجتماعية رثة، وأقليات ضعيفة، تعاني من أزمة النمو والتكامل، وتقلد بطريقة فجّة كل موضة إيديولوجية يدفعها المركز المتخلف! من هنا تحولت بعض الأحزاب إلى تجمعات يصعب تحديد هويتها، لأنها منذ البدء بلا هوية وإنما تابعة لدول أخرى ترعاها، فتحولت إلى مسخ ومن ثم إلى صراع حزبي دموي، بحيث أصبحت فكرة الحزب والقيادة الحزبية رديفاً للمؤامرة والمغامرة وانعدام الأخلاق، ورديفاً لكل الرذائل الواقعية والممكنة، وبالتالي صعوبة توقع ظهور شخصيات سياسية لها وزن وطني ودولتي، وإنما ظهور شخصيات طفيلية همها المناصب والمكاسب والكذب على الجمهور واعضاء الحزب، وبعض القيادات تجدها ناقصة وجاهة أو خرجت من مجتمعات قروية متخلفة فتأخذ من الأحزاب قيادات لملأ النقص فيها. والشيء الوحيد الذي تتفنن به تلك القيادات السياسية هو احتراف الخديعة والدخل والمكر والكذب، بوصفها الصفات المعوضة عن غياب الكفاءة المعنوية والمهارة العلمية والاحتراف العلمي.

وليس مصادفة أن تكون الأحزاب السياسية في العراق هي احزاب أهواء إيديولوجية. إنني لم أعثر لحد الآن على دراسة جديدة واحدة كتبها أي من قياديي الأحزاب السياسية المعروفة في العراق، أو حتى عند الحزب السياسي بأكمله، يمكن اعتبرها دراسة ذات ابعاد وطنية واستراتيجية متكاملة أو ذات أفق يشمل رؤية واضحة الآفاق تطور الدولة بمختلف ميادينها على أسس فكرية مستقلة وعلمية. لككني أجد جميع الأحزاب لها اجترار للأهواء الإيديولوجية، وحالما تنظر إلى تاريخها الآن فأنك تصاب بالغثيان من هذه الكمية الهائلة والسطحية بلا سياسة ولا فكر.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

في عالم الوجود الاجتماعي المصطخب بهدير الصراعات السياسية، والتناقضات الاجتماعية، والانقسامات الثقافية، والاحتقانات النفسية، والصدامات الحضارية، والحساسيات التاريخية. لا وجود لمؤسسات أو كيانات أو ظاهرات خارج إطار الكينونة الزمكانية التي تتبلور على أساسها الأنماط والدوار والوظائف. بحيث تتمكن من فرض حضورها البنيوي وتمارس تأثيرها الرمزي، الذي من خلاله تفصح عن ماهيتها / هويتها في خضم هذا المعترك الوجودي الصاخب. وبرغم أن الدولة – بحسب علم السياسة - كيان (اعتباري) عديم الفعالية بدون سلطة تدعمه وتبث الحياة في أوصاله، إلاّ أنها تعد واحدة من أبرز وأخطر المؤسسات التي استطاع المجتمع الإنساني – على مدار تاريخه المديد – ابتداع فكرتها لضمان أمنه وتنظيم شؤونه وتحقيق مصالحه.

والمفارقة ان الضرورات الإنسانية الملحة التي استدعت وجود مثل هذه المؤسسة الحيوية في حياة الإنسان المادية والمعنوية، لم تكن على الدوام ضمانة أكيدة لدرء المآسي السياسية والفواجع الاجتماعية والكوارث الاقتصادية، لاسيما في المجتمعات المتصدعة البنى والمتهتكة القيم. حيث كانت هي السبب الرئيسي في اصطناع أزماتها، والعامل الأساسي في إشعال فتيلها، والمحرك الدافع لإيقاع مصائبها على من يفترض أن تكون المسؤول الأول والمباشر، ليس فقط عن احتضانهم (كمواطنين) ينعمون بالأمن والسلام والرفاهية وفقا "لمبادئ العدالة والمساواة، مثلما التعبير عن (هويتهم الحضارية) كجماعات قومية لها تاريخ وجغرافية وثقافة فحسب، بل وكذلك لاستمداد الشرعية الوطنية والمشروعية الدستورية عبرهم ومن خلالهم.

ولعل الدولة العراقية كانت – ولا تزال  - سواء في حضورها الطاغي (الشمولية) أو غيابها المجحف (الفوضوية)، من أكثر العوامل المسببة لتفكيك مدماك المجتمع العراقي الى شظايا جماعات متناثرة، وتدمير معماره الحضاري الى بقايا أصوليات مبعثرة، ليس لأنها مارست سياسة (مركزية) مفرطة في الحالة الأولى، أو أجبرت على انتهاج (حيادية) مفرّطة في الحالة الثانية. فتلك – على أية حال – نتيجة لتضافر ظروف داخلية وعوامل خارجية ما كان بمقدورها أن تتغلب على شروط صيرورتها أو أن تفلت من سياقات سيرورتها، وإنما جرّاء تاريخها الموسوم (بالغربة) عن كيان المجتمع العراقي والانقطاع عن تواريخ جماعاته والانفصال عن ثقافات مكوناته. إذ لا يخفى ان ولادة الدولة العراقية لم تكن ولادة طبيعية - كما في غالبية الدول - نمت وترعرعت داخل حاضنة محلية (عراقية)، بحيث استمدت من أمشاج جماعاتها السوسيولوجية وتفاعل مكوناتها الانثروبولوجية مقومات كينونتها الحضارية، وتحمل بالتالي خصائص تلك الجماعات والمكونات من خلال التشبع بقيمها والتمثل لرموزها والانعكاس لذاكرتها والتماهي بمخيالها. وإنما انبثقت الى الوجود بإرادة أجنبية وقرار خارجي لا يمت الى الواقع التاريخي والحضاري العراقي بصلة، وهو الأمر الذي ترتبت عليه جملة من الإشكاليات والمفارقات شكل لديها بمثابة (عقدة نقص) لم تبرح تطاردها منذ عام 1921 ولحد الآن.

ومما فاقم من أعراض (القطيعة) التاريخية والسوسيولوجية ما بين الدولة (الوطنية) والمجتمع (العراقي)، وضاعف من تبعاتها وتداعياتها على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، هي أن جميع الأنظمة التي وثبت الى سدة الحكم واعتلت صهوة السلطة – سواء عن طريق الانقلابات أو المؤآمرات – بدلا"من أن تعمل على تجسيير أو تقليص تلك الفجوة / الهوة التي لا تني مساحتها تتسع وأبعادها تتعمق، سعت الى تكريسها مؤسسيا"وترسيخها سيكولوجيا"، بحيث لم يعد هناك ما يجمع بين الطرفين سوى انعدام الثقة المتبادل وغياب لغة التواصل والتفاعل البيني. وذلك على خلفية ما كانت تكنّه الجماعات والمكونات من مواقف سلبية حيال (دولة) طالما أثبتت عجزها – رغم كل ما بحوزتها من إمكانيات مادية ومعنوية – عن إثبات صدقية تمثيلها مصالح المجتمع (العراقي) الكلي، بدلا"من كونها أضحت مؤسسة تعمل لصالح جماعات أو مكونات بعينها على حساب مصالح جماعات ومكونات أخرى، كما عودتنا على ذلك طيلة تاريخها المعمد بالعنف والقسوة.

وعلى هذا الأساس، فقد واجهت (الدولة) العراقية إشكاليتان لا يمكن دون استيفاء شروط تخطيهما والمضي باتجاه حل ألغاز المآسي والكوارث والفواجع، التي لم تفتأ مكونات المجتمع العراقي من تجرع مرارتها والاكتواء بلظاها والاحتراق بسعيرها من حين لآخر كما لو أنها لعنة أبدية. هذا وقد تمثلت الإشكالية الأولى بتجاهل مسألة (تعريق) الدولة وحسم موقفها من الانتماء الى العراق أرضا"وشعبا"، دون تمييز أو تفضيل على أساس سياسي / حزبي أو إيديولوجي / عصبوي. أي بمعنى ان الدولة العراقية لم تكن منذ تأسيسها دولة (مجتمع) كلي، وإنما كانت – ولا تزال – دولة أصوليات ؛ إيديولوجية أو اقوامية أو طوائفية أو قبائلية أو عشائرية أو جهوية، والآن بات عليها أن تستحيل الى كيان مؤسسي يتمتع بالسيادة الوطنية والقوة الشرعية التي من شأنها السمو به فوق تلك الأصوليات الفرعية والعصبيات التحتية. أما ما يتعلق بالإشكالية الثانية، فقد تمثلت بعجز تلك الدولة وانعدام قدرتها على حيازة (هوية حضارية) عامة وشاملة عابرة للانتماءات التحتية والولاءات الفرعية، والتي طالما شكل غيابها عائقا" جديا"في تحوّلها من دولة (رعويات) أصولية (اثنية ومذهبية وقبلية) متكارهة، الى دولة (مواطنة) عراقية (معيارية ودستورية وإنسانية) جامعة وموحّدة.

وعلى هذا الأساس، فان قضية (استعصاء) حيازة الدولة العراقية لكينونة حضارية عليا تتميز بها وتدل عليها، وتكون لها بمثابة (هوية) وطنية جامعة تنضوي تحت رايتها – ولا نقول تنصهر في بوتقتها - مختلف أنماط الهويات والثقافات التي يتشكل من تفاعلها وتواصلها وتكاملها النسيج الفسيفسائي للمجتمع العراقي، ستبقى العائق الأكبر والتحدي الأخطر ليس فقط حيال معضلة (اغترابها) المزمن عن بيئتها الاجتماعية الحاضنة (الوطنية) فحسب، مثلما (فشلها) في استعادة سلطتها المنتهكة وإمكانية فرض هيبتها المستباحة فحسب، بل وكذلك ستمنح للجماعات والكيانات الأصولية المنفلتة المبررات الواقعية والمسوغات المنطقية، لكي تستمر بالتمترس داخل حصون عصبياتها الأولية والتحصن وراء جدران نوازعها البدائية.

***

ثامر عباس

يبدو من المعطيات القائمة اليوم، أن ثمة عودة للخطابات التحريضية الطائفية التي توزع الأحكام المطلقة الكاسحة، وتبث الكراهية بين المواطنين، وتسعى نحو خلق حواجز عميقة بيم مواطن خليجي وآخر باعتبارات مذهبية.. فأصبحنا صباح مساء نسمع الرديح الطائفي الذي يوغل الصدور، ويشحن النفوس بغضا وكراهية وعداوة ضد الآخر المذهبي.. والذي يثير الأسى أن هناك شخصيات أكثر حكمة ووعيا وإدراكا لمآلات هذه الخطابات والنزعات، إلا أنها ولأسباب نجهلها وقعت في الفخ الطائفي، وبدأت تمارس عملية التحريض الطائفي.. والمادة المستخدمة في عملية التحريض وبث الكراهية المذهبية، هي مزيج بين أحداث التاريخ وأحداث الراهن، ومعادلة صفرية يعمل أصحاب هذا الخطاب على تعميقه في المشهد الإعلامي والثقافي والسياسي الخليجي.. 

فالأحكام والأوصاف الشنيعة،لا تتجه نحو  فرد ارت كب خطأ أ وخطيئة، وإنما نحو مجتمعات بكاملها، يوصف بصفات أقل ما يقال عنها أنها ضد ومخالفة للتوجيهات القرآنية التي تقول [ ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ].. فغابت ثقافة التمحيص والتبين، وشاعت الأحكام الجاهزة والسهلة، التي تعادي مجتمعات، وتطلق أوصافا مقززة للنفس لم يطلقها رسول الله صلى ال عليه وآله وسلم وأهل بيته وصحبه على أعدائهم وخصومهم من الكفار والمشركين والمنافقين.. 

وفي زمن التحريض الطائفي، الجميع يدعي أن واجبه الديني والأخلاقي والوطني، يقتضي فضح هذه الفئة أو تلك، دون أن يتبصر أحد بمآلات ما يقولون أو يطلقون أحكاما ظالمة تجاه بعضهم البعض.. فليس سرا أن المسلمين اختلفوا أو توزعوا في مذاهب فقهية عديدة منذ مئات السنين، وأن لكل مذهب منظومته الفقهية والعقدية، وإن لكل مذهب مبرراته النقلية والعقلية لما يذهب إليه أو ما يؤمن به.. وهذا الأمر حقيقة تاريخية لا يمكن نكرانها وتجاوزها.. وإن الخلاف بين المسلمين لم يبدأ اليوم، وإنما من مئات السنين.. لهذا فإن التحريض المذهبي والطائفي اليوم، ليس بريئا، وإنما هو جزء من أجندة سياسية، تستهدف زيادة الشرخ الطائفي في منطقة الخليج، وزيادة وتيرة السجالات المذهبية لتمرير خطط ومؤامرات تضر بالسنة والشيعة في الخليج معا.. وإن صمتنا تجاه عمليات التحريض والتوتير الطائفي أو مشاركتنا فيها، هي جزء من الخطايا التي نرتكبها بحق أنفسنا وبحق المجتمعات التي نعيش فيها.. 

فالتحريض الطائفي لن ينهي السنة أو الشيعة من الخليج، وإنما سيوفر لهما أسباب الاحتراب والكراهية.. وإن أسباب الاحتراب والكراهية حينما تتعمق في نفوس الناس، فإننا جميعا نصبح أمام خطر حقيقي على أمن واستقرار المنطقة بأسرها.. فالنار الطائفية حينما تشتعل فإنها لن تحرق فقط خصمك المذهبي وإنما ستحرق أيضا شاعلها.. 

لهذا فإننا نحذر الجميع من الصمت تجاه عمليات التحريض والتوتير الطائفي التي تشهدها منطقة الخليج هذه الأيام.. وأرى إن أي جهد تحريضي بين السنة والشيعة في الخليج، فإنه ينذر بمخاطر جسيمة علينا جميعا.. لهذا فإن المصلحة الخليجية العامة، تقتضي الإسراع في إخماد نار الفتنة والتحريض الطائفي،و عدم السماح القانوني لخطابات الفتنة والتحريض من الاستمرار في خلق الفتنة أو التحريض الطائفي بين مجتمعات الخليج.. 

ولعل من أهل المغالطات التي تلوكها الألسن هذه الأيام، أن من أجل الوحدة الوطنية في بلدان الخليج العربي، نحن نمارس عملية فضح هذه الجهة المذهبية أو تلك.. لأن التحريض الطائفي بكل أشكاله ومستوياته، هو مناقض للوحدة الوطنية في الخليج.. فالوحدة الوطنية في الخليج، لا تبنى بمحاربة السنة أو الشيعة، بل تنهدم كل أركانها حينما نسمح للحروب الطائفية بالاستمرار.. فالوحدة الوطنيةكمفهوم وكحقائق اجتماعية وسياسية وثقافية، هي على النقيض من خطابات التحريض الطائفي.. وإن من يبحث عن تعزيز قيم الوحدة الوطنية في مجتمعات الخليج، فعليه أن يكف عن ممارسة التحريض الطائفي..لأن مآلات خطاب التحريض المذهبي لا ينسجم ومقتضيات الوحدة الوطنية.. 

وإن السمح لأي طرف في أي دولة خليجية للاستمرار في خطاب التحريض وبث الكراهية المذهبية بين المواطنين، يعني على المستوى الواقعي السماح له بهدم مرتكزات الوحدة الوطنية في المجتمعات الخليجية.. وإن الوقائع الطائفية التي تجري اليوم في أكثر من بلد عربي، ليست مدعاة للاصطفافات الطائفية والتمترسات المذهبية، وإنما هي مدعاة للوحدة وبناء حقائق الائتلاف والتلاقي بين مختلف التكوينات المذهبية، وخلق الإرادة العامة والجماعية لمعالجة تلك الوقائع الطائفية المقيتة.. ليس مطلوبا من النخب الثقافية والعلمية والسياسية،  في ظل هذه الظروف الحساسة، التمترس المذهبي والتخندق الطائفي، وإنما المطلوب هو العمل على معالجة كل الوقائع الطائفية، التي تضر الجميع ولا يربح فيها أحد.. 

فالمسألة الطائفية في منطقة الخليج العربي، لا تعالج بالانكفاء والعزلة، ولا تعالج بتوتير الأجواء وخلق الخطابات التحريضية التي تزيد المشكلة اشتعالا.. وإنما تعالج بالوعي والحكمة والإرادة السياسية والعامة التي تفكك المشكلة من موقع التعالي عن الاصطفافات الطائفية.. فالدعاة والعلماء والخطباء والمثقفيم والأدباء، ينبغي أن يكونوا جزءا من الحل، وليس جزءا من المشكلة.. وإننا مهما كان الوضع على صعيد العلاقات المذهبية صعبا ومتوترا، ينبغي أن نستمر في حمل مشعل الوحدة والتفاهم والتلاقي والاحترام المتبادل.. ولا بد من الإدراك أن الخطابات الأخلاقية والوعظية بوحدها، لا تعالج المشاكل الطائفية.. وثمة ضرورة فائقة لإسناد هذه الخطابات والتوجيهات الأخلاقية، بسن منظومة قانونية متكاملة، تجرم وتعاقب كل من يسيء إلى مقدسات الآخرين.. وندعو هنا كل دول الخليج وهي جميعا تحتضن في مجتمعاتها تعددية مذهبية، إلى الإسراع في سن القوانين التي تجرم أية ممارسة تمييزية بين المواطنين على أسس مذهبية، وتحث من  موقع القانون والإجراءات الدستورية والإدارية إلى الدمج بين المواطنين وجعل قاعدة العلاقة على كل المستويات هي قاعدة المواطنة بصرف النظر عن الانتماء المذهبي للمواطنين.. 

وفي تقديرنا أن التوترات الطائفية بين الشيعة والسنة اليوم في كل البلدان العربية والإسلامية، هو ليس بفعل الخلافات العقدية أ والفقهية أو التاريخية، وإنما بفعل عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية.. لذلك نجد أن موضوعات التوتر الطائفي اليوم، كلها أو أغلبها ليس له صلة بالخلافات التاريخية (مع إدراكنا أن بعض الأطراف تعمل على تفسير هذه التوترات بفعل هذه الخلافات) وإنما صلته الحقيقية بدائرة المصالح السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. وعليه كلما كانت مشروعات التنمية متوازنة، وفرص العمل متكافئة، تتضاءل فرص التوتر الطائفي.. 

وأود في هذا السياق أن أثير المفارقة التالية وهي: 

أن الإسلام في تجربته الأولى كان طاقة توحيدية ووحدوية واستيعابية خلاقة، فاستوعب جميع الأفرقاء والأقوام والقبائل تحت مظلة الإسلام.. أما ما يقدمه بعض دعاة وخطباء اليوم باسم الإسلام، فهو مفارق في المظهر والمضمون لتلك الميزة الاستيعابية الهائلة للإسلام في تجربته الأولى.. فبعض دعاة اليوم يتحدثون عن فهم وسياق فكري وثقافي وتاريخي واحد، والرافض لهذا الفهم والسياق، هو خارج عن الملة ومتورط في عملية هدم الإسلام من الداخل.. كما أن بعض خطباء اليوم يقدمون الإسلام وكأنه طاقة للتصنيف والتجزئة وكل القيم المضادة للتوحيد والوحدة.. 

لهذا فإذا أردنا أن نساهم في ضبط النزعات الطائفية في مجتمعاتنا، علينا التعامل مع الدين الإسلامي بوصفه طاقة توحيدية – استيعابية للجميع، وإن قسر الناس على فهم بشري واحد، هو مناقض لسعة الإسلام وتيسيره، كما أنه مضاد لتجربته الأولى التي جمعت أمزجة وأقوام شتى، جميعهم وجدوا في الإسلام ضالتهم الذي أشبع روحهم وعقولهم.. فتعالوا أيها الأحبة يا دعاة الإسلام من كل المذاهب والمدارس الفقهية، لا تضيقوا الإسلام، ولا تحولوه إلى عنوان للتمزق والاحتراب والكراهية بين الناس.. فالإسلام هو دين الرحمة، فلانحوله بعصبياتنا الطائفية إلى دين القتل والاقتتال.. إنها مهمة وجودية ومعرفية قادرة على إخراج المسلمين اليوم من مآزق ومشكلات عديدة.. 

وحراسة قيم الدين وثوابته، لا تتأتى بطرد المختلفين معنا في الفهم والإدراك لقيم الدين، ولا باستعداء السلطات عليهم، بل بمساواتهم مع الذات في الفهم والالتزام والحقوق..

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

ختم معرض أبوظبي الدُّولي للكتاب دورتَه (32)، بندوة «ابن خَلدون.. المُقدمة والتَّاريخ» (28/5/2023)، فابن خَلدون (732-808هج) الشَّخصيَّة المحتفى به. كان الحضور يرجون الرَّأي بابن خلدون، أمَّا سيرته وتفاصيل التَّحقيق فمجالها آخر. يُعد ابن خَلدون الثَّاني، مِن الأقدمين، كتب مذكراته بقلمه، بعد أسامة بن منقذ (ت: 587هج) في «الاعتبار». فهما خصصا كتابيهما لسيرتيهما.

يظن المقدسون أنْ ما كتبه ابن خَلدون لم يسبقه سابق، مثلما قال: «وأكملت المقدّمة على ذلك النَّحو الغريب، الّذي اهتديتُ إليه في تلك الخلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام، والمعاني على الفِكر» (المقدمة). يقصد خلوته بقلعة بني سلامة (776هج)، غير أنّ مقدمته، على فصاحتها، لم تكن «نحو غريب»، ولا تُقصد ببيت كعب بن زُهير(ت:25هج): «ما أرانا نقول إلا مُعاراً/أو مُعاداً مِن قولنِا مكرورا» (ابن عبد ربه، العقد الفريد)، ففيها الجديد ومنها تطبيقات آراء السّابقين على الدّول والمجتمعات التي أدركها.

كان ابن خَلدون حريصاً، يذكر مصادره، مشارقةً ومغاربةً، إلا رسائل إخوان الصَّفا، التي ظلالها وارفة على مقدمته (مقالنا في الحياة 21 يناير1997): مِن دورة نشأة الكائنات، والعلوم، والموسيقى، عنده «صناعة الغناء»، إلى السِّحر وعلاقته بالحروف، وما بين النَّبي والفيلسوف، عنده النَّبي والحكيم، كلها واحدة، وفلسفة الدَّولة أهمل منها دولة الخير، ومراتب «مجتمع الإخوان»، وكل ما تعارض مع عقيدته، مع الغرابة بأخذ فكرتهم في التَّكوين نصاً، التي لا تنسجم مع أشعريته.

لم يكن «إخوان الصَّفا» ينتمون لمذهب، كي نعذر ابن خَلدون بعدم ذِكرهم، ولا اتجاه سوى الفلسفة، فالمثقف لا تحتمله المذاهب. قد يُقال: كيف أطلع ابن خَلدون المغاربي على رسائل فلاسفة عراقيين؟! يُجيب صاعد الأندلسيّ (ت: 462هج) أنّ عَمرو الكرماني (ت: 450هج) كان ببغداد فـ«جلب معه الرِّسائل المعروفة برسائل إخوان الصّفا، ولا نعلم أحداً أدخلها الأندلس قبله» (طبقات الأُمم).

كان ابن خَلدون، ابن عصره عظيماً، في كتابة التاريخ والأسلوب الذي كتب به مقدمته، لكنه ليس الأول الذي أستهل تاريخه بمقدمة فكريّة، سبقه ابن الطّقطقي (ت: 708هج) في «الفخريّ»، مع الاختلاف، وأنْ ما ورد في مقدمته كان استيعاباً للرسائل المذكورة.

لسنا مع تقديس عليّ الورديّ (ت: 1995) عندما اعتبر المقدمة: «مِن فيض الخاطر» (منطق ابن خلدون)، ولا ساطع الحصريّ (ت: 1968): «تدفق مفاجئ بعد حدس باطنيّ» (دراسات في المقدمة). بالمقابل لسنا مع تبخيس سامي شوكة (ت: 1986)، مدير المعارف العراقيّة: «لو كنَّا وطنيين حقَّاً لنبشنا قبر ابن خَلدون، وأحرقنا كتبه» (الحصري، مذكراتي). فالعِلم ليس إلهاماً وفيوضَات، تراكم معرفيّ. كذلك لو أمتلك شوكة حِجةً لقدمها.

ابن خَلدون ابن زمانه، لا يُحاسب بروح زماننا هذا. لأنه قال عن تيمورلنك (803هج): «مدّ يده إليّ فقبّلتها» (كتاب التَّعريف)، أو لأنّ تيمورلنك طلب منه كشفاً بجغرافيا المغرب - بنية غزوها –: «وأحبُّ أنْ تكتب لي بلاد المغرب كلّها، أقاصيها وأدانيها، وجباله وأنهاره، وقراه وأمصاره، حتَّى كأني أشاهده». فكتب له: «مختصر وجيز يكون قدر اثنتي عشرة مِن الكراريس» (التَّعريف)، أو مخاطبته: «ما أعتقد أنه ظهر في الخليقةِ، منذ آدم، لهذا العهد مَلكٌ مثلك، ولستُ ممن يقول في الأمور بالجزاف، فإنّي من أهل العلم»(نفسه).

مَن يؤاخذ ابن خَلدون، ويعتبره خنوعاً للسلطان التَّتري، ليفهم أنّ ذلك كان عصر الإمبراطوريات المتغلبة، لا يُقاس بالخيانة والوطنيَّة. فالمعتزلة، الذين نعتز بهم، وننتقد ابن خَلدون لأنه أشعريٌّ ضدهم، كان قطبهم عبد الجبار بن النُّعمان السَّمرقنديّ المعتزليّ(ت: 808هج)، ترجماناً عند تيمورلنك، ترجم بينه وبين ابن خَلدون (التَّعريف)، وطاف معه البلدان (حاجي خليفة، سلم الوصول إلى طبقات الفحول)، فشهد الفظائع، وآلام مَن غزاهم.

أقول: إنَّ سبيلَ العلم لا تقديسٌ ولا تبخيسٌ، إنصافٌ باعتماد دراية، وتحقيق رواية.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

حين تنظر في الخريطة الاقتصادية للعالم العربي، ربما يلفت انتباهك الانحسار المتواصل للاقتصادات القديمة، والتوسع المتسارع لأنماط الاقتصاد الحديث. بعض هذه الأنماط يملك مقومات ذاتية أو موضوعية تسمح له بالتجذر في البيئة المحلية، وبعضها الآخر مجرد نسخ سطحي من أسواق العالم.

لو تأملنا حال أي مجتمع عربي في بداية القرن العشرين، من 1901 إلى 1920 مثلاً (هذا اختيار عرضي لمجرد المقارنة)، وتساءلنا عن مصادر الإنتاج الأكثر تأثيراً، ونمط المعيشة الذي يتبعه غالبية الناس، وبموازاة هذين، نظرنا في طبيعة الثقافة السائدة يومذاك. ثم وضعنا هذه المعلومات على طاولة المقارنة، مع نظيرتها في الفترة نفسها من القرن الجديد، أي الفترة من 2001 إلى 2020.

فما الصورة التي نتوقع أن تولد من تلك المقارنات؟ وفي الأساس، لماذا نحتاج هذه المقارنة وماذا نستفيد منها؟

أنا لست خبيراً في الاقتصاد، ولذا لا أطالع الموضوع من زاوية اقتصادية بحتة. لكني أعلم أن الاقتصاد ليس عالماً مستقلاً بذاته، بل هو جزء من المنظومة الحياتية الشاملة التي نسميها «النظام الاجتماعي»، الذي يلتزم بمقولاته وحدوده غالبية أعضاء المجتمع. من هنا، فإن السؤال عن مصادر الإنتاج وأنماط المعيشة، يشكل مدخلاً لفهم الثقافة السائدة وكيفية تفاعلها مع الحياة اليومية للأفراد، وكيف يعاد إنتاج تلك الثقافة أو بدائلها، بتأثير التحولات التي يمر بها المجتمع في جانبه الاقتصادي أو السياسي. أما مقارنة نظام الحياة بين زمن وآخر، فهي تساعدنا على فهم التحولات التي جرت في هذا المجتمع، والعوامل التي حركتها أو تلك التي تسهم في استمرارها وتحدد اتجاهاتها.

بديهي أن حديثنا يتناول الثقافة بالمعنى السوسيولوجي، أي بوصفها الخلفية الذهنية التي توجه 90 في المائة من السلوك اليومي للفرد، وهي بالتالي جزء مما نسميه العقل الجمعي. الثقافة العامة لأي مجتمع هي التي تحدد المقبول والمرفوض من أنماط العيش، ما يستحق التقدير وما يستوجب اللوم، وبالتالي فهي مؤثرة جداً في تحديد نوعية الحياة والإنتاج، أي الحياة الاقتصادية لهذا المجتمع أو ذاك. وعلى الجانب الآخر، فإن هذه الثقافة لا تبقى على حال واحدة، فهي أيضاً تتحول باستمرار، ولكن ببطء. وحين تتحول، سنرى انعكاس هذا التحول على شخصيات الأفراد وعلاقتهم ببعضهم، وعلى نوعية الأعمال التي يميلون إليها أو ينفرون منها.

لقد أثرت حتى الآن قضايا كثيرة، لا يتسع المجال لشرح أي منها، وهذا عيب معروف في تناول القضايا العامة. لكن يهمني الإشارة إلى أننا بحاجة فعلاً إلى دراسة الأنماط الاقتصادية المستمرة منذ القدم، في مقابل الأنماط التي كانت ثمرة للانفتاح على أسواق العالم. وفدت بعد اتصاله بالعالم أو تغير ظروفه الاقتصادية والسياسية.

دراسة هذه الأنماط مفيدة جداً في تحديد ما هو راسخ الجذور، ثم تطويره إن كان قابلاً للتطوير، بحيث يتحول إلى مصدر إنتاج رئيسي قابل للتطور المستمر اعتماداً على تفاعلات محلية.

يمكن أن نضرب مثالاً على هذا بالسياحة (بمختلف أغراضها) والزراعة والتعدين، إضافة إلى الصناعات التي كانت في الماضي متميزة.

الذي أرى أن كثيراً من المجتمعات العربية يميل إلى التفريط في هذه الموارد، ثم يعيد استيراد وسائل إنتاجها أو منتجاتها من السوق الدولية. نحن الآن نستورد مفاهيم صناعة السياحة والفنادق، كما نستورد أساليب الزراعة وعناصر إنتاجها، وأمثال ذلك من البدائل الحديثة لقطاعات الإنتاج القديم، البدائل التي تطورت في مجتمعات مختلفة، وكان الأمثل تطويرها كجزء من نظام الحياة في مجتمعاتنا.

هل أدى هذا السلوك المزدوج إلى إضعاف روحية الإنتاج في ثقافتنا العامة (العقل الجمعي)؟ هل عزز ميلنا للاستهلاك والتفاخر بالاستهلاك؟ أم ساعدنا في التحرر من عقلية قديمة؟

***

د. توفيق السيف

تعد الرقابة ظاهرة إنسانية متجذرة في البنية التكوينية للكائن البشري؛ إذ إن لها حضورا في المجتمعات البدائية الأولى، واستمرارا حتى حياتنا المعاصرة. بيد أن أسبابها، الظاهرة والمضمرة، والأهداف المرجوة منها، وتمظهراتها وتجلياتها، ودرجة حضورها تختلف باختلاف المجتمعات البشرية، والشروط التاريخية والثقافية والاجتماعية لهذه المجتمعات. ومن ثم، أخذت الرقابة وأشكالها وطرق ممارستها تتطور بتطور الوعي والفكر والأهداف على مر التاريخ.

في هذا المساق، تأتي دراسة الباحث المغربي سالم الفائدة، المعنونة ب"الثقافة والرقابة، دراسة تاريخية معرفية"، لمقاربة هذه الظاهرة من خلال تتبع حضورها في التاريخ البشري منذ المرحلة البدائية إلى القرن العشرين، مقاربة يتقاطع فيها التاريخي والمعرفي والثقافي.

على أن الباحث انطلق من خلاصة مفادها أن الدراسات العربية السابقة التي تناولت الرقابة، لم تدرسها دراسة شاملة تقف على مختلف أبعادها وتجلياتها التاريخية والسياسية والثقافية والأدبية في الثقافة الإنسانية. ومن ثم، رام الباحث مقاربة الرقابة على مجال الفكر والإبداع الأدبي، والثقافة عموما في السياقين الغربي والعربي.

هكذا، تحددت إشكالية الدراسة في التساؤل عن الكيفية التي تمارس بها الرقابة؟ وما تجلياتها عبر التاريخ الغربي والعربي؟ فضلا عن رصد الأسباب التي حفزت الرقيب على ممارسة سلطته الرقابية؟ وما تجليات الصراع الديالكتيكي بين الإبداع والحرية؟ وما طبيعة العلاقة التي تجمع بين المثقف والسلطة، بين المعرفة والسلطة؟ والعوامل التي دفعت إلى استمرار الحظر والمنع على الخطاب الأدبي والفكري؟ وما أوجه الاختلاف والائتلاف بين التجربتين الغربية والعربية؟

أما المنهج المتوسل في دراسة الظاهرة ومقاربة إشكاليتها، فإنه يجمع بين التحليل التاريخي من خلال تتبع تاريخ الرقابة في الفكر الإنساني، والحفر المعرفي الذي يتخذ التحليل النفسي (سيغموند فرويد، كارل يونغ)، وأركيولوجيا المعرفة كما بلورها ميشيل فوكو، واجتهادات الباحثين في البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمعات الغربية، فضلا عن الاستفادة من مفاهيم النقد الثقافي لفهم المنظور الثقافي العربي لمفهوم الرقابة.

أ‌- الرقابة تاريخيا:

على مستوى الثقافة الغربية، يذهب الباحث إلى أن تجليات الرقابة بدأت منذ عهد الإغريق، لتستمر ممارستها بأشكال وضروب مختلفة باختلاف السياق السياسي والثقافي والديني، في القرون الوسطى، وعصر النهضة، وصولا إلى الفترة التاريخية التي انفتحت فيها أوربا على أنوار العقل، إلى حدود القرن العشرين.

في حين، أنه يفند الرأي القائل بأن العصر الجاهلي لم يعرف ظاهرة الرقابة، ومن ثم عدم الاهتمام ببحث الظاهرة في هذا العصر. وهذا ما سعى الباحث إلى القيام به؛ إذ إنه حفر في مصنفات التاريخ العربي القديم التي تضمنت مجموعة من القصص والحكايات تقدم نظرة شاملة عن الحياة في ذلك العصر. كما أن الباحث تتبع تجليات الرقابة على الفكر والأدب في صدر الإسلام، ثم في العصر: الأموي، والعباسي، والأندلسي، والحديث؛ إذ أكد على أن العصر العباسي، عصر الانفتاح والتقدم الفكري والحضاري، قد عرف ظاهرة الرقابة. ومن ثم، يخلص إلى أن الغزل كان سببا للرقابة على الخطاب الشعري في العصر الأموي؛ والهجاء في العصر العباسي.

والآتي أن الظروف الاجتماعية والمادية للشعراء الذين تجرعوا علقم الرقابة أكثر من غيرهم في تلك المرحلة التاريخية، تظل سببا في عدم ثباتهم على مبدأ أو موقف؛ لكونهم كثيرا ما يتأرجحون بين الهجاء والمدح. يقول هادي العلوي في سياق عرضه أسباب محنة الشيرازي: "فالمثقفون ليسوا أقل من سائر الناس حبا للثروة، وتمرغا على أعتاب السلطة، وتكالبا على المنصب والجاه"(1).

أما عن العصر الحديث، فإن الباحث بين أن ثمة تحولا في أدوات الرقابة وتجلياتها؛ إذ تختلف عن رقابة الماضي بكونها" أدركت أن القمع الزائد لكتب الفكر والأدب والعلم، أكبر وسيلة دعائية لها، لذلك صارت توظف أدوات خفية لممارسة الحظر، في ظل عصر الحاسوب والإنترنيت والسماء المفتوحة"(2).

على هذا أساس، يلاحظ أن الأعمال السردية الأدبية التي لاحقتها يد الرقيب في التاريخ الحديث، تحظر وتمنع بتهم ومزاعم لا تخرج على الثالوث المحرم: الدين، السياسة، الجنس (الأخلاق). ذلك أن المؤسسة السياسية العربية تتحرك كلما أحست أن في العمل السردي نقدا لاذعا لها؛ في حين أن المؤسسة الدينية تتحرك بدعوى أن العمل السردي يهتك حرمات الدين والأخلاق، ويخدم الحياء ويفسد السلوك المجتمعي.

تتجلى الرقابة، في الثقافتين الغربية والعربية، في مصادرة الكتب، وسجن مؤلفيها وناشريها ومروجيها، وأحيانا كل من يقرؤها، وقد يصل فعل الرقابة إلى القتل والتصفية. وهكذا، خلص الباحث بعد تتبعه لتاريخ الرقابة في الثقافة العربية، قديما وحديثا، إلى أنها اتخذت بعدا جديدا يتمثل في "قوانين وتشريعات وممارسات زجرية وقمعية مختلفة. تشتد وتخف تبعا للعوامل السياسية والدينية"(3).

بيد أن الباحث لم يتطرق إلى تبيان الكيفية التي تمارس بها الرقابة عبر/على وسائل الاتصال الجماهيري الحديثة، ولا الآليات والأدوات التي تتوسلها لمراقبة وتضييق الخناق على حرية الرأي والتعبير والفكر في مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت متنفسا متاحا لجميع الأفراد. كما أن السياق، يستدعي كشف آليات الرقابة على الصحفيين، والمدونين في مواقع التواصل.

ب‌- الرقابة معرفيا:

تناول الباحث، في الفصل الثاني، مفهوم الرقابة ودلالته والتصورات المعرفية التي أنتجت حوله، ومن ثم، الحاجة إلى دراسة مفاهيم تتداخل مع مفهوم الرقابة من قبيل: الكبت، والقمع، والتابو، والمحرم، والمقدس، والمدنس..إلخ؛ وذلك في سياق اجتهادات التحليل النفسي. في حين، أن الرقابة في تصور أركيولوجيا المعرفة كما بلوره فوكو هي "عبارة عن آليات وتقنيات ينبغي استعمالها بشكل ملائم، لا يبدي معه أفراد المجتمع أي مقاومة أو رفض للسلطة وآلياتها المتعددة"(4).

وهكذا، يبدو أن مفهوم السلطة، بناء على ما خلص إليه الباحث من قراءته لفوكو، صار يعرف ب"السلطة الانضباطية"، والنتيجة أن السلطة لم تعد "في المجتمعات الحديثة غاية، بل وسيلة لبلوغ غايات محددة؛ فهي استراتيجية التطويع التي لا يمكن تملكها"(5). ومن ثم، فإن ظاهرة الرقابة، تبعا لفوكو، "ليست سوى وهم تم الانخداع به عبر التاريخ"(6)؛ لكون الظاهرة تتحدد في "أن ثمة أجسادا وقوى تتصارع وتحاول أن تضمن استمراريتها بلعب دورها المرسوم ضمن الاقتصاد السياسي للمجتمع"(7).

أما الرقابة في المنظور الثقافي العربي، فإنها تجلت في: 

- القرآن الكريم؛ إذ إن فهم كلمة "الرقيب" ومشتقاتها "يمكن السلطة الدينية من إيجاد مبررات لرقاباتها المتعددة، ذلك أنها تخول لنفسها السهر على تطبيق أوامر الله ونواهيه"(8).

- المجاميع اللغوية العربية القديمة: تُقدم معانيَ ودلالاتٍ متعددةً للجذر اللغوي "ر ق ب"؛ ذلك أنها تدل "على الإشراف من مكان عال لغاية الحراسة أو الرصد أو المراقبة، وذلك لأهداف قد تكون حسنة أو سيئة"(9). فضلا عن كون الباحث يقيم تشاكلا دلاليا وثقافيا بين دلالة "الرقيب" على الإنسان الذي يقوم بفعل المراقبة من مكان عال، والحية السامة التي ترصد وترقب مَنْ تَعَضُّ.

- معجم المحدثين: خلص الباحث، بعد تتبع المعاني والدلالات اللغوية والاصطلاحية للمفردة، أن التصورين العربيين، القديم والحديث، يتفقان في كون الرقابة "تهدف إلى الحماية ودرء الخطر، تمارس من قبل القوي على الضعيف، العارف على الجاهل، والسلطة تجاه المجتمع، و"الفوق" تجاه "التحت"(10).

إن المثقف العربي قد أنتج تصوره المعرفي حول ظاهرة الرقابة/التحريم؛ إذ ربطها، من جهة أولى، بقضية الحرية في كل مجالات الفعل الإنساني؛ ومنطلقه في ذلك هو نظرته الشمولية لخطاب التحريم، والنتيجة ضرورة تحرير الفن بحسبانه مدخلا للحرية الإنسانية وممارستها. ومن جهة ثانية، يقيم تعالقا جدليا ماركسيا بين البنية التحتية للمجتمع، ونوع الرقابة، وطنية ديمقراطية، أو قهرية، التي تتمخض عن هذه البنية.

على أن ثمة تصورات أخرى للرقابة، أو الوصاية، على الفكر في العالم العربي، من بينها تصور المفكر الجزائري محمد أركون، في سياق تفكيكه وكشفه للآليات المعرفية للفكر العربي الإسلامي، متوسلا في ذلك الثالوث المفاهيمي: المُفَكَّرُ فيه، اللا مُفَكَّرُ فيه، المستحيل التفكير فيه. على أساس أنه حاول تفكيك وتعرية الجوانب التي لم يفكر فيها الفكر العربي والإسلامي، أو تلك الجوانب التي استحال عليه التفكير فيها بحسبانها ممنوعا ومحظورا(11).

لقد سعى الباحث، سالم الفائدة، إلى الكشف عن الكيفية التي تحول بها الدين والسياسة والجنس إلى طابوهات ومحرمات، فضلا عن علاقة هذه الأخيرة بالسلطة من جهة، وبالمعرفة من جهة أخرى. كما رام البحثَ في الخيط الناظم بين مكونات الطابو، وكيف يتواشج و"يتزاوج" السياسي بالديني.

ففي الثقافة الغربية، تم التعامل مع الثالوث تعاملا فكريا نقديا وتفكيكيا مكّن من إنتاج معرفة وخطاب حول الجنسانية. أما الثقافة العربية، فقد تناولت الموضوع من زوايا دينية وأدبية بوصف الجنسانية محظورا من قبل السلطتين الدينية والسياسية، علاوة على ثقافة المجتمع العربي وشرطه التاريخي والحضاري؛ حيث نبع تناول الجنسانية "فيما يبدو من حاجة اجتماعية وإنسانية إلى علم للجنس"(12).

إن ما اهتم به الباحث في هذا السياق، يمكن صياغته في السؤالين الآتيين: ما علاقة الرقابة بالثالوث المحرم؟ ولمَ تُمارس الرقابةُ على الأدب إن اقتحم هذه المنطقة المحرمة؟

- على سبيل الختم:

من خلال تتبعنا دراسة الباحث لظاهرة الرقابة، تبين لنا حجم هذه الظاهرة ومدى شموليتها؛ ذلك أن الرقابة موجودة في كل مكان وزمان، إذ يمكن تشبيهها، مجازا، بأفعى تغير جلدها بتغير السياقات حتى لا تهلك، والنتيجة أن الرقيب يتفنن في ممارستها، ويبدع في طرق وأشكال ممارستها بناء على تطور الحياة الفكرية والاجتماعية والعلمية في المجتمع.

لعل هذا الاهتمام بظاهرة الرقابة من في الدراسة، يفتح آفاقا رحبة للتساؤل أمام القارئ؛ ومن ثم، فإننا نبسط التساؤلات التالية بناء على تفاعلنا مع دراسة الباحث، من قبيل: كيف يتصور الإنسان العربي العادي الرقابة؟ وكيف يمارسها على من هم أضعف منه أو أنداد له؟ وما نوع الرقابة التي يمارسها على نفسه وغيره؟ وما أدواتها وآلياتها وتجلياتها؟ وما الأهداف والدوافع الثاوية خلف هذه الرقابة؟.

***

إعداد: محمد الورداشي.

............................

- المصادر والمراجع:

(1) هادي العلوي: نظرية الحركة الجوهرية عند الشيرازي، ط2: 2007، دار المدى للثقافة والنشر، ص: 34.

(2) سالم الفائدة: الثقافة والرقابة دراسة تاريخية معرفية، ط1: 2019، منشورات القلم المغربي- المغرب، ص 108.

(3) المرجع نفسه، ص 125.

(4) المرجع نفسه، ص 145.

(5) المرجع نفسه، ص 150.

(6) المرجع نفسه، ص 151.

(7) المرجع نفسه، ص 151.

(8) المرجع نفسه، ص 155.

(9) المرجع نفسه، صص: 156-157.

(10) المرجع نفسه، صص: 159-160.

(11) للمزيد من التوضيح، ينظر: محمد أركون: الفكر الإسلامي قراءة علمية، ط2: 1996، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، ت. هاشم صالح، ص: 18.

(12): سالم الفائدة، ص: 188.

الكل يتابع اليوم الوثيرة والمستوى العاليين لاندماج وتضامن رواد المعارف الهندسية التقنية والتجارية والمالية. المقاولة العصرية، خاصة ذات البنية المعقدة، تسعى باستمرار لتقوية التكامل وزيادة فرص النجاح والرفع من مستوى أدائها التجاري إلى أعلى المستويات. المعرفة الهندسية التقنية التحمت مع المعرفة التجارية والمالية. لم يعد مستساغا، في زمن التكنولوجيات المتطورة، الحديث عن الهندسة كمجالات معرفية منعزلة داخل المقاولة، بل برزت منذ مطلع الألفية الثالثة التقائية قوية بين ملاكي الأموال والمعارف والتقنيات فارضة وقعها الكبير على مصادر القرار السياسي في العالم.

كل المنابر الإعلامية تروج اليوم بكل الوسائل المتاحة لما يسمى بمفهوم هندسة المقاولة. هذه الأخيرة أصبحت عالية الكفاءة في توفير الموارد والمال إلى درجة أصبح تركيزهما يسيرا على المستثمرين. الاهتمام انصب اليوم أكثر على أنماط إدارة وتنفيذ المشاريع من خلال نهج مخططات هندسية شاملة ومتعددة الاختصاصات، وتغطى التفاصيل الكاملة للأنشطة انطلاقا من البلورة، ومرورا بالتنفيذ، ووصولا إلى التقييم المصاحب. تتفاعل المهارات الهندسية في الإنتاج والتسويق والمبيعات وتحليل السوق وإدارة المخاطر وتدبير العقود. المهندس، بمجاله التخصصي الذي يتقاسمه مع باقي زملائه وشركائه، يراكم بشكل دائم معلومات جديدة في مجال الخبرة في تقييم توافر الموارد، وتخطيط المشاريع الكبرى، ومواجهة التحديات بفعالية، وتوجيه الفرق الفنية بمردودية ونجاعة كبيرتين. تتسع لدى الكل المعرفة التقنية والتجارية والفنية، وكذا الكفاءة في تحديد الفرص التجارية في العالم.

الهندسة الفلاحية مثلا اندمجت مع الهندسة الصناعية بشعبها المتعددة. المقاولة الهندسية الفلاحية الصناعية تتطلب اليوم معرفة متخصصة تشمل الزراعة والصناعات الفلاحية. بالإضافة إلى الخبرة في الهندسة المدنية والهندسة الزراعية، يتعين على المقاولين المهندسين أيضًا التعامل مع التحديات الفنية والتنظيمية، مثل الالتزام بالمعايير الزراعية والبيئية والصحية والسلامة من المخاطر. التضامن في إنجاز المهام أخضع المبادرات الاستثمارية لمنطق السلسلة. تبتدئ هاته المبادرات من مرحلة إنجاز البنية التحتية والتجهيزات المتطورة التي تشمل إنشاء الطرق والشبكات الكهربائية والمياه والصرف الصحي، وتأمين التزويد بالمياه اللازمة للري والزراعة، وتوفير البنية التحتية لتخزين وتوزيع المنتجات الفلاحية، وبناء المستودعات والمصانع الزراعية والمناشير والمصانع اللازمة لتحويل المنتجات الزراعية إلى منتجات نهائية، وتجهيز وتركيب وصيانة المعدات الزراعية والصناعية (كالآلات الزراعية، ومعدات التجهيز الغذائي، وآلات ومعدات الصناعات التحويلية والتعبئة والتغليف...)، وتصميم وتنفيذ أنظمة الري الحديثة (مثل الري بالتنقيط والري بالرش والري الموضعي وإنشاء الأحواض وتركيب وصيانة الأنابيب والمعدات اللازمة...)، وتقديم الاستشارات الهندسية للعملاء، بما في ذلك تقييم المشاريع المقترحة وتصميم الحلول الهندسية المناسبة.

أما المختص في مجال الإحصاء والاقتصاد التطبيقي وعلوم الإعلام، فيعتبر بالنسبة للمقاولات الهندسية المعقدة القلب النابض لمسارها الزمني والجغرافي. يستخدم علم الإحصاء في تحليل البيانات المتعلقة بالمشاريع السابقة والحالية، مما يساعد على توقع النتائج المستقبلية وتقدير الأداء المالي والجدوى الاقتصادية للمشاريع المقبلة. يستخدم كذلك تقنيات الاحتمالات والتوزيعات الإحصائية لتحليل البيانات وتوقع المخاطر المحتملة. كما يطبق طرق المراقبة الإحصائية لتمحيص جودة المنتوجات. كما يسهر على جمع البيانات وتحليلها بشكل دوري للتأكد من أن المشروع يلبي المعايير المطلوبة وأنه لا يوجد به عيوب أو انحرافات غير طبيعية.

في نفس الآن عمل الإحصائي واستنتاجاته هو الأساس المعرفي الميسر لمهام الفريق القيادي المكلف باتخاذ القرارات الإستراتيجية. يستخدم تقنيات الإحصاء في تحليل البيانات المالية والتجارية والتنبؤ بالاتجاهات المستقبلية وتقدير الاحتمالات والمخاطر المرتبطة بالقرارات المتخذة. يعتمد النماذج الإحصائية ويحلل البيانات الرقمية التاريخية لتحديد المخاطر المحتملة وتقدير احتمالات وقوعها، مما يساعد في اتخاذ إجراءات ملائمة لإدارة وتقليل حدوثها. يركز يوميا على تعميق البحث في العلاقات بين المتغيرات المختلفة في المقاولة وعلى تحليل التباينات ومناحي انحداراتها وصعودها، بحيث يستنتج بوضوح تام حدة تأثير المتغيرات المختلفة على الأداء والنتائج في المشاريع، وبالتالي اتخاذ القرارات المناسبة في الأوقات المحددة.

الإحصائي يوجد في جوهر الفعل المقاولاتي. يجمع البيانات، يرتبها، وينتقيها، ويفهمها، ويحللها بشكل كمي وكيفي، ويستخدم الأدوات والتقنيات العلمية التي تساعد على اتخاذ القرارات المستنيرة وإدارة المخاطر في المقاولة. هدفه السامي هو الإسهام القوي في تحسين الأداء والكفاءة وربحية المشاريع.

التطورات في أشكال وبنيات المقاولات لا تتوقف إلى أن عم الحديث عن المقاولة الهندسية المعقدة. هذه الأخيرة تتميز بمستوى عالٍ من التعقيد والتحديات التقنية. تشمل هذه المشاريع الاستثمارات في البنية التحتية الكبرى مثل الجسور الضخمة، والأبراج العالية، والمصانع الصناعية الضخمة، ومشاريع الطاقة الكبيرة مثل المحطات النووية والمحطات الكهربائية... التصاميم الهندسية المطلوبة أصبحت أكثر تقدما وتعقيدا. حاجيات البنيات الإنتاجية من هذه الأصناف الجديدة تميل اليوم إلى التعقيد والإبداع المعرفي. إنها تستند اليوم على تقنيات تحليل هندسي جد متطورة، وعلى أحدث طرق تصميم الهياكل المعقدة، وعلى أنجع منظومات تنسيق الأنظمة والتجهيزات المختلفة.

المقاولة المعقدة المعاصرة لا ولن تطيق الخلل. التنسيق اللوجستي بها يجب أن يكون دقيقا وإدارة مشاريعها فعالة. المقاولين المهندسين يوردون أو يصنعون الآلات والمعدات والجزيئات الإلكترونية الدقيقة، ويقومون بتنسيق الأعمال بين الفرق المختلفة، ويسهرون على بلورة وتنفيذ إدارة الجداول الزمنية والمالية بالدقة المتناهية. كسب رهان المنافسة يجبر العقل المقاولاتي الهندسي على اقتناء أو تطوير أحدث الروبوتات والاعتماد الكلي على التحكم الآلي. يحتكم في مرحلة الإنشاء على تقنيات البناء المتقدمة مثل البناء الجاهز والإنشاء بالوحدات المعيارية. في مجال الإنتاج، أصبح هذا العقل حريصا على ضمان ديمومة تنفيذ إجراءات رصد الجودة ومراقبتها بشكل مستمر، وترسيخ ثقافة التعاون والتنسيق الوثيقين بين الفرق المتعددة والمتخصصة.

التعقيد في البنية والشكل المقاولاتي عزى كذلك المقاولة الهندسية الصحية والصيدلانية (الأطباء والمهندسون يعملون جنيا إلى جنب). فلبلورة وتنفيذ المشاريع في هذا المجال الحيوي يعني تنفيذ المشاريع الهندسية في مجال الرعاية الصحية والصيدلية. ويتعلق الأمر ببناء وتجهيز المستشفيات والمراكز الطبية والصيدليات والمختبرات الطبية وغيرها من المرافق ذات الصلة. فنجاح هذا النوع من المشاريع يستند على التخصص المعرفي بمعاييره ولوائحه الصحية والصيدلانية المتطورة. فبناء مجمع صحي بالمعايير الحديثة يتأسس في بدايته على الخبرة في الهندسة المعمارية والهندسة الميكانيكية والكهربائية والإلكترونية والمعلوماتية. وتستمر هذه الخبرة في أداء أدوارها التجديدية لتشمل حتى مجال الصيانة والتجديد. علبة الخدمات التي تتضمن تخطيط الفضاء والتصميم الداخلي والتهوية والتبريد والتدفئة وأنظمة السباكة والصرف الصحي والإضاءة والكهرباء وأنظمة السلامة والأمان تبقى جد حيوية ولا يفقدها الزمن فائدتها ونفعها الجوهريين. المقاولة الهندسية الصحية الصيدلانية في حاجة مستمرة لتوريد وتركيب المعدات والأجهزة الطبية وأنظمة التحكم والمراقبة وأنظمة تكنولوجيا المعلومات الصحية وأنظمة الاتصالات والأنظمة الصوتية والبصرية. أما التنمية المستدامة بالنسبة لهذا النوع من المقاولات فلا تستوي إلا بتوفر منشآتها على أنظمة مصممة ومركبة بالدقة المتناهية للصرف الصحي والمياه النظيفة وفقًا للمعايير واللوائح الصحية المعمول بها، وكذا على أنظمة للتصريف والتنقية والتحلية ونقل المياه وتخزينها واستغلالها من جديد، وتدبير النفايات الطبية، والتزامها بالمعايير واللوائح المتعلقة بالسلامة والأمان في عامة مرافقها. كما أن الوفاء لشرط الديمومة يتطلب نجاعة تدبير أنظمة الحماية من الحريق وأنظمة الإنذار وأنظمة الحماية الكهربائية والتهوية المناسبة، وإنعاش التنفس بالأكسيجين.

هذا النمط من المقاولة، الذي نجح في فرض ذاته كونيا، أصبح حقيقة. مشاريعه تستوطن أتربة الأوطان شمالا وجنوبا. إنه نمط مشاريع ما بعد الحداثة النيوليبرالية بشقيها الغربي والشرقي الذي يتطلب مستويات عالية ومتطورة من الخبرة والمهارات التقنية، وإلمام عميق بمفهوم الإدارة الفعالة للمشاريع الإنتاجية، وقدرة هائلة على التنسيق الدقيق بين الفرق المختلفة. فخبر تعيين أول مدير عام روبوتي بالصين، كإشارة واضحة لمرور العالم إلى نمط المقاولة المعقدة، يضع الآباء والأمهات في وضع اضطراري للتفكير في مستقبل فلذة أكبادهم بنفس وطموح جديدين.

***

الحسين بوخرطة

منذ أكثر من مائتي عام، توهم الفيلسوف الألماني إمانويل كَنْت بأنه يمكن أن يقدم مشروعاً للسلام الدائم، حين نشر في العام 1795 كتيباً يتضمن فكرة انشاء حلف بين الشعوب من أجل وضع حد للحروب وشرورها وأهوالها. ولأن الفلاسفة حالمون بطبعهم مثل الشعراء الرومانسيين، ولأن الحرب هي « حال الفطرة للإنسان»، فإن الحروب والنزاعات بين البشر لم تتوقف لا قبل ذلك التاريخ ولا بعده، ومنها حربين عالميتين مدمرتين، وحروب أخرى كبرى وصغرى، وطويلة وقصيرة، وعادلة وعدوانية، وحروب أهلية، وصراعات دولية، ونزاعات إقليمية، لم توقفها لا عصبة الأمم، ولا هيأة الأمم. صحيح أن الرئيس الأميركي ويلسون الداعي إلى إنشاء عصبة الأمم- كما ينقل عثمان أمين مترجم «مشروع للسلام الدائم» إلى اللغة العربية، عن بعض الكُتاب تأكيدهم – أنه كان يحتفظ لقراءاته اليومية بهذا الكتاب، لكن واقع الحال يؤكد إن الإنسان بفطرته مجبول على الحرب، أكثر من نزوعه للسلام، وبدليل هذه الحروب المتصلة والمتسلسلة في مختلف بقاع الأرض، فما تكاد حرب في جبهة ما تضع أوزارها، حتى تنشب في جبهة أخرى، بذرائع ومسببات لا حصر لها.

وفي عالمنا هذا الذي تسوده الفوضى والاضطرابات والنزاعات المسلحة، وتحتكم فيه الشعوب والجماعات إلى منطق القوة الغاشمة والغلبة وشريعة الغاب، وتتواتر فيه صور وأخبار القتل المريعة والإجرام، والبشاعة في ابتكار وسائل القتل والتعذيب والانتقام، لا يبقى للإنسان الذي خصه الخالق من دون الكائنات الحية كلها بالعقل المبدع والروح السامية، من خيال رومانسي وإبداعي، إلا ما يعينه على حماية نفسه من الأذى، وما يسانده في صراعه من أجل البقاء، شأنه شأن أي حيوان بري، لا هدف لحياته ولا معنى لها إلا بتدبير ما يقيه من الموت جوعاً وعطشاً، والبحث عما يفترسه من حيوانات أضعف منه، والاختباء والهروب عن حيوانات أقوى منه وأشد فتكاً وافتراساً في معركة البقاء من أجل الحياة. ولقد مرت البشرية بحقب تاريخية من العنف والحروب والإرهاب والترهيب والدمار والاقتتال الوحشي وقساوة القلوب ومكر العقول الدواهي في الكر والفَّر، وقعقعة السيوف ودوي المدافع، واكتوى ملايين البشر بنيران الحروب ومصائبها، وذهبت ملايين الأرواح البريئة ضحية لا إنسانية الإنسان، فما أنتجت لنا تلك الأزمان غير التخلف والآلام والتقهقر في الخيال والابتكار والإبداع البشري، مثلما مرت البشرية بحقب قصيرة من السلام والتآلف والتعاون والوئام، فازدهرت الحضارة الإنسانية علماً وبناءً وأدباً وفناً، حتى إذا ما انتهى الإنسان إلى عصرنا الراهن، الذي يسمى عصر العلم  والتقدم والتكنولوجيا وثورة الاتصالات، وجد نفسه في أسفل سافلين، بعد أن فقدت الروح الإنسانية سموها الذي خصها بها الخالق، وتبارت العقول في ابتكار أبشع وسائل القتل والتدمير وانتهاك المحرمات، فأينع خيال الشر في الإنسان، وجَّفت منابع الخيال الإنساني الخَّير، ونهضت إرادة الشر في الإنسان، وتوارت إرادة الخير خلف حجاب. وإن الإنسان المسالم البسيط ليعجب اشد العجب من هذه القدرة العجيبة التي يمتلكها الآخر في ابتكار وسائل القتل والإيذاء والإجرام والانتقام والتباهي بها، وكيف اتخذت مسيرة البشرية هذا المسار الذي عاد بها القهقري إلى منطق القوة وشريعة الغاب، وظلام الكهوف، وفحيح الأفاعي، وصوت الخفافيش، في زمن تتحدث فيه الحكومات عن لوائح حقوق الإنسان، ويتبارى فيه المتبارون والخطباء في كل مناسبة للحديث عن الحق والعدالة والجمال وإنسانية الإنسان.

ولأن الفيلسوف كَنْت، يُعد من بين أكبر الفلاسفة الأخلاقيين في الفلسفة الحديثة، فقد كان يحلم بالتوافق بين السياسة والأخلاق: السياسة تقول « كن مستبصراً كالثعابين» وتضيف الأخلاق شرطاً مقيداً «وكن بسيطاً كالحمائم»، هكذا يكتب، ثم يتحدث عن الأساليب الملتوية المنافية للأخلاق التي تعمد اليها السياسة «بدعوى قيادة الشعب من حال الحرب – التي هي حال الفطرة – إلى حال السلام»، وتتمثل تلك الأساليب في مقولات مثل « افعل ثم برر»، و « إذا فعلتَ فأنكر»، و» فرق تسد»، ومن ذلك: « إذا كنتَ قد دفعتَ الشعب إلى اليأس وإلى العصيان، فأنكر أن يكون الذنب ذنبك، وأنسبه إلى عناد رعاياك، وإذا استوليت على شعب من جيرانك، فألق الذنب على طبيعة الإنسان، وقل إنك إذا لم تسبق جارك بالعدوان، فلست تأمن ألا يبادرك هو، ويستولي عليك». أما المواد التمهيدية التي وضعها كَنْت لتحقق سلام دائم بين الدول، فهي تبدو في عالمنا المعاصر أشبه بالنكت والطرائف، ومنها المادة التي تنص على الغاء الجيوش الدائمة الغاءً تاماً على مر الزمان، وكذلك المادة التي تقول أنه : « لا يجوز لأي دولة أن تتدخل في نظام دولة أخرى أو في طريقة الحكم فيها».

عُرف كَنْت بفلسفته النقدية التي هيمنت على توجهات الفلسفة الحديثة، والتي أسس لها في مؤلفاته الثلاثة:» نقد العقل المحض» الذي خصصه لنقد مبادئ العلم، و» نقد العقل العملي» لنقد مبادئ الأخلاق، و» نقد مَلَكة الحُكم» لنقد مبادئ الذوق، لكنه في محاولته الفلسفية هذه، كان ناقداً سياسياً وقانونياً وأخلاقياً واسع الخيال، حين توهم بإمكانية وجود عالم خالٍ من النزاعات والحروب والشرور بين الأمم.

وتبقى مشاريع الفلاسفة مجرد أحلام وأمنيات لا توقف شناعات الإنسان وأفعاله المنكَرات، مادامت ثعابين السياسة تنتصر دوماً على حمائم الأخلاق.

***

د. طه جزّاع – كاتب وأكاديمي

للزبائنية السياسية (Clientelism) عدة تعريفات في علم الاجتماع السياسي، أشهرها يقول إنه "نظام سياسي واجتماعي قديم نجد جذوره في دولة روما القديمة (ونجد ملامحه خلال حكم معاوية في بلاد الشام)، ولكنها زبائنية هرمية وغير متكافئة، وقد جرى تحديث هذا المفهوم وتبنية في العلوم السياسية في العصر الحديث. إنه نظام من العلاقات غير المتكافئة وغير الندية بين مجموعات من الفاعلين السياسيين ينقسمون إلى رعاة (أصحاب عمل/ باترونات) وزبائنهم الجمهور والأحزاب سياسية. وهي علاقات قائمة على المحسوبية. يعتبر هذا النظام سلبيا، لأنه يرتبط بالفساد السياسي والإداري وعرقلة مؤسسات الدولة ومخالفته للقيم الديمقراطية.

في العصر الحديث تحولت الزبائنية إلى ظاهرة واسعة وعالمية في العديد من البلدان، وخاصة تلك التابعة وذات المجتمعات الاستهلاكية وغير المنتجة والتي يقوم اقتصادها على الريع الواحد المتأتي من الثروات الطبيعية كالنفط والغاز (كالعراق) أو الزراعية ذات المنتوج الواحد كالقهوة أو الشاي (سريلانكا) وغيرها، أو كونه ممرا للتجارة الدولية عبر قناة مائية أو برية (دولة قناة بنما) أو مقصدا سياحيا كلبنان.  وحتى في الدول الصناعية وجدت هذه الممارسات الزبائنية وقد اتخذت بعض الدول إجراءات محدودة وشكلية لمكافحتها؛ ففي الولايات المتحدة وفرنسا وغيرهما تم تجريم شراء الدعم غير قانوني في الانتخابات وغيرها، سواء كان عن طريق نقل السلع مباشرة أو توفير فرص عمل مقابل التأييد (في العراق نتذكر مثال توزيع البطانيات وبطاقات الهاتف ودجاج الكفيل ...إلخ، خلال الانتخابات).

* من التعاريف الأخرى الحديثة للزبائنية نقرأ الآتي في الموسوعة السياسية / مترجمة: "الزبونية تشمل تقديم الموارد كالوظائف أو العقود والمخصصات للجمهور الزبائني، مقابل الدعم السياسي. وهو يختلف عن شراء الأصوات من نواحٍ عديدة، أهمها امتداد الصفقة لفترة زمنية أطول ولا يقتصر على فترة الحملة الانتخابية. وهناك من المتخصصين من يعرّفها على أنها تحالف عمودي ثنائي بين طرفين غير متكافئين في الوضع أو القوة أو الموارد.

*عن الزبائنية السياسية في لبنان القريبة من التجربة العراقية كتب الباحث ألبر داغر"حين يكون دأب النخبة السياسية تجيير الموارد العامة لتوزيع منافع خاصة، تكون الدولة نيو-باتريمونيالية الطابع، أي يتعاطى السياسيون معها وكأنها إرث لهم. لكنّ الأدبيات النظرية أكدت العلاقة القائمة على عدم تكافؤ شديد بين "رئيس شبكة المحاسيب" وبين المستفيدين من أعطياته. وأظهرت أن تقاسم المغانم والمكاسب على أساس إثني أو طائفي بين أطراف النخبة هو ما يُعطي نظام الزبائنية السياسية قوّته.. لكنّ الوجه الآخر للصورة تمثّل بالتردي الهائل لفعّالية الدولة، باعتبار أن توزيع المواقع والموارد والتنفيعات كان يجري لمصلحة المحاسيب، وأن التمثيل في الإدارة العامة كان يتم على حساب الاستحقاق والإنتاجية هذا ما يُسمى في لبنان "المحاصصة".

* في العراق، يعتبر نموذج الحكم، قبل وبعد الاحتلال الأميركي نموذجاً صارخاً ورثاً للزبائنية المدَمِّرة الفظة ذات السمات الفاشية في أسوأ صورها ونتائجها في بلد استهلاكي ونفطي بشكل تام ويتوجه نحو كارثة اجتماعية واقتصادية وبيئية حتمية إذا استمر نظام الحكم القائم اليوم على أسس المحاصصة الطائفية والعرقية وبدعم المرجعيات الدينية والقبلية المحلية والدول الأجنبية ولم يتم تفكيكه وتغيير دستوره المكوناتي!

* يصف عالم السياسة والإناسة الأميركي جيمس سكوت العلاقات الزبائنية بأنها صداقة منفعية بغرض الاستفادة يستخدم فيها الطرف الأول "الباترون/ صاحب العمل/ السياسي النافذ" وضعه الاجتماعي والاقتصادي الأعلى إضافة إلى نفوذه وموارده لتوفير الحماية أو الامتيازات للطرف الثاني وهو شخص أقل مكانة مقارنة بالطرف الأول.

هذه العلاقة قد تكون أو تبدأ طوعية وأقرب إلى فعل الارتزاق وقد تأخذ شكل تهديدات بدلاً من الإغراءات المادية وهو ما أشارت إليه سوزان ستوكس، وعبّر عنه كيتشليت بقوله: "الزبائنية تنطوي على المعاملة بالمثل والطوعية ولكن أيضا بالاستغلال والسيطرة".

* وقد قام الباحث أوليفييه روا بحصر الزبائنية في أنماط ثلاثة:

- الشبكة المعاونة التي تتشكل حول رجل يتمتع بسلطة ما والتي تزول بزوال هذه السلطة.

- العصبية التقليدية المتمثلة في العشيرة والقبيلة والطائفة.

- العصبيات الحديثة الاجتماعية والسياسية (النقابات، الأحزاب).

من حيث النتائج تعتبر الزبائنية شكلا من أشكال الفساد ومشكلة حقيقية ومرضاً ينخر في جسد الدول والديموقراطيات المعاصرة، وقد اعتبرها الباحث الجزائري مالك بن نبي (1905-1973م)، ظاهرة مَرضية في المجتمعات. سياسياً وأيديولوجياً، اختلفت وجهات النظر حول آثار الزبائنية بين اليمين واليسار التقليدي، فاليمين يراها أمراً طبيعياً يجب توظيفه لحسن تسيير المجتمع، واليسار التقليدي يحاربها عالمياً ويتعايش معها محليا. وعلى العموم فإن آثار الزبائنية مدمِّرة للاقتصاد وهي محبطة لتطلعات الناس نحو المساواة، ومعرقلة للتنمية المستدامة".

وفي التراث العربي الإسلامي يمكن أن نجد مثيلا لحالة الزبائنية في حكم معاوية بن أبي سفيان لبلاد الشام، قبل وبعد أن نجح تمرده على الدولة الإسلامية الراشدية، وصار خليفة لكل بلاد المسلمين. فقد دأب معاوية - بدهائه الخارق وميكافيليته التكتيكية - على أن يسوس أهل الشام بكياسة ويكسب طاعتهم مقابل إغراقهم بالعطاءات السنوية والجرايات والمِنَح والغنائم والقيعان الزراعية. لقد عاملهم بلين وتسامح، ولكن أيضا بحزم وصراحة وفق مبدأ الإعارة الذي أسس له بشعاره الذي بدأ به واحدا من خطاباته الحربية حين قال: "أيها الناس: أعيرونا جماجمكم وأنفسكم.."! ولكنه كان يتجاوز حتى حدود الإعارة ويتدخل في تفاصيل وجودهم الفيزيقي فلم يكن مثلا يسمح لهم بالإقامة الطويلة في أقطار أخرى كالعراق ومصر والحجاز بعد أن ينجزوا مهماتهم الحربية هناك "حتى لا يتغيروا عليه"، ولهذا أوصى ابنه يزيد قائلا: "وأنظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، فإن نابك شَيْءٌ من عدوك فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إِلَى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم. وأنظر أهل العراق، فإنْ سألوك أن تعزل عَنْهُمْ كلَّ يوم عاملاً فافعل، فإن عزل عامل أحب إليَّ من أن تُشهر عَلَيْك مائة ألف سيف / الطبري –مج 5 –ص222".

ويبدو أن التاريخ قد انقلب في عصرنا رأساً على عقب في عهد الزبائنية النفطية الحديثة فأصبح الجمهور في العراق يستطيب السكوت والمسكنة والتفرج على خيرات بلاده وهي تنهب وأنهاره وهي تزول وصناعته وزراعته وثقافته وهي تدمر!

***

علاء اللامي

في العراق علماء موهوبين بوسعهم ان يتعاملوا مع تحديات البلاد، وان يوجدوا حلولا لمشاكله، لكن الافتقار الى التمويل يعيقهم.

كيف، بدون تمويل كاف، يمكن لأساتذة الجامعات وللباحثين من استثمار عقولهم في ايجاد حلول للمشاكل الاقتصادية والطبية والهندسية والزراعية والاجتماعية العديدة في هذا البلد المنكوب بالآفات والسرقات، وكيف يمكن لهم من التصدي للتحديات التي تواجه الجامعات في مواكبة التقدم العلمي العالمي، وكيف لهم من الاشراف على بحوث رصينة وعالية الجودة تستحق ان يمنح منتجها شهادة عليا او ان يستحق على اساسها ترقية علمية لدرجة اكاديمية اعلى؟

أضحت اليوم قضية انعدام التمويل تشكل عائقا كبيرا أمام تطور البحث العلمي وتقدمه في العراق.

فهل يمكن حقا الاستمرار في الطلب من الباحثين العراقيين بتقديم ما يستحيل تقديمه وبدون منح مالية للبحث العلمي، علما ان كثيرا من البحوث العلمية إن لم نقل كلها، تحتاج الى مصادر للتمويل الدائم ومبالغ مالية وفيرة حتى يتم انجازها على اتم وجه؟

لقد مرت سنوات طويلة والبحث العلمي يتم اجرائه بتمويل فردي وبجهود فردية. لا توجد استراتيجية للبحث ولا سياسات مالية، ولا اولويات تمويل حكومية، مع انه توجد دوافع وضغوط على الطلاب والأساتذة لإجراء البحوث لانها المرتكز الاساسي للحصول على الشهادات العليا وعلى الترقية الوظيفية، وكذلك على التكريم والتقييم والرقي الوظيفي.

انعدام المنح البحثية نتج عنه ظواهرسلبية كانتشار دكاكين تجارة الرسائل والأبحاث العلمية والجامعية، وشراء اوراق البحوث الجاهزة دون بحث، ودون بذل اي مجهود للحصول على المعلومات في المكتبة او المختبر او الحقل. وكنتيجة انصرف الباحثون نحو تمويل ذاتي للنشر العلمي في مجلات الوصول المفتوح والمجلات المفترسة والتجارية، وهو النشر الذي لا يخضع الى رقابة ذاتية صارمة ونزيهة مثل النشر في المجلات التقليدية.

الحكومة العراقية ووزارة التعليم العالي مطالبة اليوم اكثر من اي وقت مضى بتخصيص منح بحثية، واموال للبحث والابتكار والتطوير، وبوضع آليات ملائمة لاستخدام هذه المنح في تنفيذ سياسات رائدة لانجاز بحوث ممولة لباحثين، وعلماء عراقيين فرديا او جماعيا وفق خطط شفافة وأولويات هدفها دفع عجلة البحث العلمي نحو تحقيق الريادة في التقدم العلمي والتكنولوجي في المنطقة والعالم.

البحث العلمي الرصين يحتاج الى اموال لتوفير مستلزماته من مختبرات وأجهزة ومعدات ومواد ومكتبات، كما يحتاج الى عقول مؤهلة ومتوثبة دائما للتعلم ومواكبة التطور العلمي وعن طريق التعاون العلمي العالمي، والمشاركة في المؤتمرات العالمية المهمة. وهذا كله يحتاج بدوره الى تمويل حكومي واسع لكي يتمكن كل الباحثين من ترويج نتائج بحوثهم عالميا ومواكبة التطور العلمي والتربوي والتكنولوجي ولكي ننفض رداء الحصار الذاتي، ومشاركة الباحثين في العالم جهودهم لخدمة الانسانية .

التمويل الحكومي مهم ايضا لتثمين جهود الباحثين ومكافأتهم كما هو مهم في توفير البيئة التحتية لإجراء البحوث وتطبيقها وتسجيلها عالميا كابتكارات واختراعات مما يحفز الباحث والطالب ويشجعهما على الاستمرار في مسيرتهما البحثية لأنهم سيدركون ان مجهودهم لن يترك سدى بل سيؤخذ به ويطبق ليكون له الاثر في تقدم العراق والعالم.

ولي امل كبير في ان تتضمن الموازنة الجديدة اموال مخصصة للبحث العلمي والابتكار، كما اتمنى ان تتبنى وزارة التعليم العالي والجامعات العراقية فكرة التعاقد مع الوزارات والمؤسسات والشركات اي الطلب من الباحثين الاتصال بالجهات المستفيدة وطرح المقترحات البحثية عليهم والطلب منهم تمويل هذه الابحاث، وهنا لابد من الاشارة الى المشاكل التي تواجه التنفيذ. المشكلة الاولى هي صعوبة اختيار المشاريع البحثية المناسبة للجهة المستفيدة لعدم تمكنها من تحديد احتياجاتها بطريقة صحيحة، والمشكلة الثانية انه بعد الوصول الى اتفاق على المشروع البحثي تحتاج الجهة المستفيدة سنة او سنوات لتوفير التمويل. وتكمن المشكلة الثالثة في ان معظم البحوث التطبيقية لحل المشاكل المحلية غير ملائمة للنشر العلمي، وهو ما يتعارض مع سياسة الوزارة في تأكيدها على اهمية نشر نتائج البحوث لأغراض الترقية الوظيفية.

باختصار، تحتاج النخب العلمية في العراق الى دعم وتمويل حكومي كاف للتمكن من العمل على انجاز الابحاث ذات الاولوية والأهمية العالية بدلا من العمل على بحوث سطحية وغير مجدية. وعلى الحكومة ان تعيد النظر في سياستها المالية وتعطي الاولوية لتمويل البحوث العلمية والابتكار، وتوفر الدعم المالي والموارد اللازمة للعلماء والباحثين العراقيين لتمكينهم من الاسهام في تطوير البلد وحل مشاكله.

***

ا. د. محمد الربيعي

لـ "تشوانغ تسو" و"هان فاي تسو"

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

1- "أُطْلِقُ العنان لقوى الفكر"

"تشوانغ تسو " Tchouang-Tseu

"ذبح الجزّار تينغ ثورا للأمير "وانهاو Wenhouei". وكان إذا ما قبضت يده الذبيحة، والتصقت كتفاه بكتلتها اللحمية، ونزل بركبتيه وغرسها فيها، نسمع رنين صوت "تشيك"!؛ ليردّ سكّينه على الصوت بآخر"تشاك"! في إيقاع يبدو كأنّه يستعيد رقصة قديمة "بستان التوت"، مستجيبا لمناخ سلالي " رأس مقطوعة".

صاح الأمير: "آه! إنّه لرائع !أن يكون بالإمكان إدراك مثل هذا الكمال التقني!"

فيجيبه الطبّاخ، وقد وضع سكّينه: "إنّ ما يأتيه خادمكم في عمله، هو الطريقة ذاتها التي تسير عليها الأشياء، فيما وراء مجرّد التقنية. فحينما باشرت مهنتي أوّل مرّة، كنت لا أرى إلاّ الثور أمامي. وبعد ثلاث سنوات لم أعد أنظر إليه ككلّ. وفي الحاضر، أجده و أتمثّله بالفكر دون اللجوء إلى البصر: فليس لمعرفة حواسيّ أن تتدخّل وأطلق العنان لقوى الفكر، التي تستهدي الهيكل الداخلي للثور. يقصّ سكّيني بين الفواصل، ينتقل عبر التجاويف متّبعا ما هو كامن. وتسير شفرته إذن دون أن تصطدم بالعروق و الشرايين، ولا بالأربطة والأوتار، ولا، طبعا بالعظام. يغيّر الجزّار الماهر شفرة سكّينه مرّة كلّ سنة، لأنّه يصقلها. ويغيّرها جزّار عاديّ كلّ شهر، لأنّه يقطع. إنّ السكّين الذي تشاهده مرّ عليه تسعة عشرة سنة، لقد قصصت به آلاف الأبقار، غير أنّ شفرته ظلّت حادّة كما لو كانت للتوّ على حجر الشحذ. يوجد بين المفاصل فجوة؛ بيد أنّ حافّة الشفرة رقيقة. فإذا ما نفذنا إلى هذا الحيّز الفارغ أو الفجوة بواسطة شفرة غير متينة، كانت لنا فسحة أن ننسلّ إلى الداخل؛ بل إنّنا نضمن فيه هامشا! لأجل هذا أستعمل هذا السكّين منذ تسعة عشر سنة، وهو شديد الحدّة كما لو كان قد شحذ للتوّ. بيد أنّه حينما أصِلُ إلى مفصلٍ معقّد، أحدّد كيف تبدو الصعوبة؛ وأتوقّف للملاحظة، متحوّطا، ثمّ أتصرّف بتِؤدة. وأستخدم السكّين بمرونة فائقة، ثمّ " بوف" ! هذه الأجزاء تتساقط على الأرض وقد قسّمت، لتمرّ البقرة من الحياة إلى جثّة هامدة دون أن تحسّ بذلك! فأسحب إذن الشفرة، وألتفت وأنظر حولي، مغتبطا، راض، وأنظّف سكّيني وأضعه في مكانه."

-" ممتاز! يقول الأمير وهو يستمع لكلمات الجزّار تينغ، لقد أدركتُ معنى أن يغذّي المرء حياته".

Tchouang-tseu, chap. 3, «Clef pour nourrir sa vie», trad. Romain Graziani dans Fictions philosophiques du «Tchouang-tseu» © Gallimard, 2006

....................

2- "تَخَلّص ممّا تحبّ وتكره"

هان فاي تسو Han Fei-tseu

" يتحكّم صاحب السيادة المستنير ويراقب رعاياه بواسطة مقبضين، ولا حاجة له لغيرهما. " وهذان المقبضان هما العقاب والثواب. ماذا نعني بهذا؟ " يُتَرجم العقاب بالاتهام والحكم بالموت. و الثواب بالشرف والمكافأة." وحينما يستقيم احترام الرعايا بالعقوبات و يلتمسون نفعهم في نيل الشرف والمكافآت، فإنّه يكفي الحاكم تطبيق نظام العقوبات عن طواعية حتّى يعبّر رعاياه، مهما كان عددهم، عن خشية واحترام أمام سلطته وينضمّون إلي نفعه.(...) ولكن في عصرنا الحاضر ومع وجود الوزراء الخونة والمخادعين، يكون الأمر على نحو آخر:" يناولون من الحاكم اتهام أعداءهم والزيادة في مكافأة من نال رضاهم." ففي أيامنا، ليس الحاكم أصلا للمنافع التي نغنمها من نظام المكافآت. ولا يتمتّع حتى بالسلطة الناجمة عن مختلف العقوبات الجزائية. بل نرى أكثر الحكّام يطيع وزراءه حينما يوزّع العقوبات والمكافآت. وهو ما ينتج عنه خشية البلاد كلّها للوزير الأول ولا يجدون ذلك للحاكم على أيّ حال. (...) ذلك هو بلاء حاكم البشر حالما يفقد التحكّم في العقوبات والمكافآت. بيد أنّ النّمر يتغلّب على الكلب بفضل أنيابه ومخالبه. لكن أقْنِعوا النّمر بالتخلّي عن أنيابه ومخالبه لفائدة الكلب، فسترون الكلب يتغلّب على النّمر. (...)" قوجيان، ملك يو Yue، يجدّ في طلب الشجاعة، فكان العديد من أفراد شعبه يعلنون كرههم للموت. أمّا لينغ ملك شِي Chu، فيعشق ذوات القوام الرشيق: فشاع التدرّب على فقدان الشهية في بلده. ويوهان دوق كي Qiقد عرف بغيرته من وزراءه وضباطه وإيلائه كامل اهتمامه لحياته الخاصّة: شو دياهو Shu Diao كان يعذّب نفسه أيضا لأجل أن يدير القصر (حيث يقيم النساء)؛ وكان الدوق يوهان أَكُوًلا: فطبخ يي يا Yi Ya رأس ابنه وقدّمه له؛ ولمّا كان زي كييا Zi Kuai ملك يان Yan يحبّ الحكماء، كان زيزهي Zizhi يؤكّد أنّه لن يقبل بقيادة البلاد. وحينما علم الحاكم ببغضه، أخفى كلّ وزراءه دوافعهم ومبرّراتهم. وحينما علم بميولاته، كان الرعايا يتكتمون على قدراتهم الحقيقيّة. إنّه لمّا تقع خيانة رغبات حاكم البشر، يعدّ جمهور الرعايا أنفسهم للتصرّف على نحو يخدم جانب الحاكم. من هنا كان القول:" تخلّص ممّا تحبّ وتكره، فسينكشف جمهور الرعايا على حقيقتهم . فمن المستحيل خداع حاكم كبير حينما يكشف الرعايا عمّا في قلوبهم".

Han Fei-tseu, chap. 7, trad. Romain Graziani.

***

ليس من قبيل الاكتشاف القول إن جميع الأديان (الوثنية والتوحيدية) تحيل ضمن نصوصها وخطاباتها إلى أزمنة ماضية موغلة في القدم، تتمحور حول بدايات الخلق والصيرورات الأولى للكائنات والموجودات، بحيث إن أتباعها ومريديها غالبا"ما يضفون على ما حدث في الماضي من وقائع وما تمخض عنه من معطيات طابع التوقير والتبجيل، من منطلق نشوء هذه الأخيرة في حضن الدين ومن ثم حملها لقيمه واكتسابها لاعتباره. ولهذا فقد عبّرت الفيلسوفة (ميريام ريفولت دالون) عن هذه العلاقة بالقول (إن يكون المرء (متدينا") يعني أن يكون متصلا"بالماضي (...) فللديني دلالة ترتبط بالماضي، أي ببداياته الخاصة)(1).

وعلى الرغم من ادعاءات الإنسان المعاصر إزاء دور (الحداثة)(2) وما بعدها في تطهيره من (خرافات) الماضي وتطعيمه ضد (أساطير) الدين، بحيث بات يعتقد انه أصبح في حلّ من أي التزام حيال علاقاته بالماضي أو خالي الوفاض من أي شعور بالدين، باستثناء انصياعه لمتطلبات الحاضر واستجابته لتطلعات المستقبل. بيد إن الواقع أثبت إن الأمة التي لا ماض لها مجبورة على إيجاده حتى وان اضطرت إلى اختراعه، وان المجتمع الذي لا يدين بدين معين لابد أن يحصد عواقب هذا الإنكار على شكل اغتراب نفسي وضياع إنساني. وكما توصل (مرسيا الياد) إلى قناعة مفادها إن (الإنسان الكلي (total man) لا يسعه البتة أن يكون تماما"منزوع القداسة (Desacralized). ويحق لنا أن نشكّ في أن كان ذلك ممكنا"أصلا". إن العلمنة تحرز نجاحا"كبيرا"على مستوى الحياة الواعية: فالأفكار اللاهوتية القديمة والعقائد الجامدة (Dogmas) والمعتقدات والطقوس (ٌRituals) والمؤسسات... الخ. أخذت تفرغ تدريجيا"من المعنى. ولكن ليس ثمة إنسان سوي يمكن أن يختزل إلى مجرد نشاطه الواعي والعقلاني)(3)، وبالتالي فانه سيبقى يدور ضمن فلك جاذبية التصورات الدينية أو الميتافيزيقية، التي تلون أنماط وعيه للماضي وللتاريخ بألوان أطيافها المختلفة والمتنوعة .

وبقدر ما يحاول الإنسان الغربي - متسلحا"بادعاءات العلمنة والعقلنة - الإفلات من أسار الماضي وملابساته، والتخلص من بقايا الدين ومخلفاته التي لازالت عالقة بين ثنايا وعيه ومترسبة تحت طمى لاوعيه، فان الإنسان الشرقي لا يفتأ متشبثا"بالأول كما لو أنه وسيلة مضمونة لإنقاذه من احباطات ضياع الأمل وفقدان المعنى من جهة، ومحتكما"ومتوسلا"، من جهة أخرى، إلى الثاني عسى أن يمنحه دفء الشعور بالأمان في واقع بات يلفه الغموض، ويحقق له من ثم ما عجز أن يناله حتى ولو بالعالم الآخر. ولذلك فالشرقيون – كما لاحظ الروائي (عبد الرحمن منيف) – (مغمورين بأمرين: الماضي والكلمات الكبيرة، ثم بالتدريج يصبحون عبيدا"لهما. قد يقرأون التاريخ أكثر من غيرهم، لكنهم بسرعة يحولونه إلى كلمات ضاجّة، ويستريحون في ظلال الكلمات، لا يعرفون أن الماضي ذهب ولن يعود، كما لا يدركون إن الذي يعيشونه حاليا"مختلف. هذا ما يجعلهم سكارى تائهين، فلا هم في الماضي، ولا هم في الحاضر، وان ما كان صحيحا"أو قويا"في الماضي لم يعد كذلك الآن، وفي الوقت الذي يعتبرون أنفسهم ورثة أكثر من حضارة وأكثر من إمبراطورية، إلاّ إن الحضارة كالنهر، لا تعرف التوقف ولا تثبت على حال)(4).

هذا وقد كان المؤرخ (جوزيف هورس) اعتبر – وهو يتحدث عن شعوب الشرق الأدنى – (إن معرفة الماضي بقيت على صلة بالدين في هذه البلاد)(5)، وهو الأمر الذي أبقى مواريث الماضي حية وفاعلة لدى شعوب هذا الشطر من العالم، ليس فقط على مستوى التدوين الأكاديمي / والمؤسسي عبر الدراسات والأبحاث من جهة، والاستثمار الرسمي / الإيديولوجي عبر الممارسات والخطابات الحكومية من جهة أخرى فحسب، وإنما على صعيد الإدراكات الذهنية والعلاقات التواصلية من لدن مختلف الفئات و الشرائح والطبقات الاجتماعية أيضا"، للحدّ الذي بات – عبر اقترانه بالوعي الديني – لا يؤطر فقط معطيات حاضرها المعيشة فحسب بل وكذلك يقنن خيارات مستقبلها المتوقعة. بحيث ان أي تفكير يذهب باتجاه الماضي، لابد أن يستحضر في التو واللحظة ما يوازيه من تصورات دينية التي يفترض بها – وفقا"لمسلمات الوعي التقليدي - أن تبرر وجوده وتسوغ مضامينه وتشرعن سردياته، وذلك بصرف النظر عن الكيفية التي تم بموجبها فبركة ذلك الماضي 

ولتوضيح أبعاد هذه الفكرة على صعيد التجربة الخاصة بالمجتمعات العربية والإسلامية، التي لم يختلط في وعيها فقط التصور الديني بالتصور التاريخي فحسب، وإنما تمكن الأول من تأطير مضامين الثاني وتحديد خياراته كذلك، فقد لاحظ أستاذ التعليم العالي في جامعة محمد الخامس المغربية (إن فلسفة التاريخ الإسلامية ما فتئت تكرر القول بأن التدوين التاريخي، بل الثقافة التاريخية الإسلامية، ليست سوى نتاج التصور الديني، كما أن (تاريخ التاريخ) العربي لم يكف عن التذكير بأن التدوين التاريخي هو مجرد تعبير عن حاجة دينية، والحال أن (فلسفة التاريخ) و(تاريخ التاريخ) تجاهلا تكوين الوعي التاريخي، بل تكوين الوعي الديني الإسلامي نفسه الذي ليس في نهاية المطاف سوى نتاج التدوين التاريخي)(6).

***

ثامر عباس

.........................

الهوامش

1. مريام ريفولت دالون؛ سلطان البدايات: بحث في السلطة، مصدر سابق، ص68 وص69.

2. كتب المؤرخ جان شينو يقول (فككت الحداثة العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل) . مذكور لدى فرانسوا دوس؛ التاريخ المفتت: من الحوليات الى التاريخ الجديد، ترجمة الدكتور محمد الطاهر المنصوري، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2009)، ص282.

3. مرسيا الياد؛ البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، مصدر سابق، ص45.

4. عبد الرحمن منيف؛ أرض السواد، ج3، (بيروت، المركز الثقافي العربي 1999)، 201.

5. جوزيف هورس؛ قيمة التاريخ، ترجمة نسيم نصر، (بيروت، منشورات عويدات، 1974)، ص22. وتأييدا"لوجهة النظر هذه فقد أشار (مرسيا الياد) إلى إن (الثقافات غير الأوروبية، سواء أكانت شرقية أم بدائية ما زالت تتغذى من تربة دينية خصبة). للتوسع في هذا الموضوع، راجع مؤلفه الموسوم؛ البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ترجمة الدكتور سعود المولى، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2007)، ص49.

6. الدكتور رضوان سليم؛ نظام الزمان العربي: دراسة في التاريخيات العربية – الإسلامية، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2006)، ص51.

ظلت العلاقة المعقدة بين الديمقراطية والتنمية مثار بحث سواء على المستوى الأكاديمي أو مستوى المنظمات الدولية المتخصصة. ويحتدم النقاش ويتعقد البحث أكثر خصوصا عند تناول هذه العلاقة في إطار البلدان النامية؛ نظرا لأن مسار بناء الديمقراطية ومقدماته وعوامله وتحولاته وفق النموذج الغربي خصوصا في أوروبا، قد بُحث لفترة طويلة ومع ذلك فهو لا يزال يُبحث، وهذا هو ديدن المعرفة. أما في البلدان النامية التي لا تزال تجربتها في التحول الديمقراطي حديثة العهد، ومن ثم فإن معطياتها التجريبية والنظرية المشتقة من هذا التحول لا تزال أيضا في طور البحث والاستنتاج ولو بمديات أقل، بل أن هناك بلدانا نامية أخرى لا تزال لم تشهد هذا التحول وتعيش في ظل نظم مستبدة، هذه البلدان هي أيضا موضع بحث في سياق هذه العلاقة بين التحول الديمقراطي والاستبداد والتنمية.

تهدف هذه المقالة البحث في هذه العلاقة من خلال التعرف موجزا على تطور الديمقراطية، وتناول الجانب النظري ذي العلاقة، وفحص الدولة الهشة، وبعض الدروس المستخلصة، وإلقاء الضوء مع شيء من التركيز على تجربة البلدان النامية، وأخيرا التوقف عند تجربة العراق. نأمل أن تُسهم هذه المقالة في توضيح بعض جوانب هذه العلاقة الشائكة واستخلاص بعض الدروس لعلها تكون نافعة.

نبذة عن تطور الديمقراطية

تُعد اليونان القديمة (خصوصا أثينا) على نطاق واسع المكان الذي نشأت فيه الديمقراطية الغربية والفكر السياسي، وكلمة ديمقراطية تمت صياغتها من الكلمتين اليونانيتين demos تعني "الشعب" و kratia تعني "الحكم". نظريا، كان هذا يعني حكم الشعب للشعب عكس حكم الفرد (الأوتوقراطية) أو حكم الأقلية (الأوليغارشية)، أي على شكل ديمقراطية مباشرة، حيث يمكن لجميع المواطنين أن يتكلموا ويصوتوا في الجمعية العامة. عمليا، لم تشمل الديمقراطية الأثينية بالمساواة وحق الانتخاب جميع الأشخاص، لذلك سُمح للمواطنين الذكور فقط بالمشاركة المباشرة، ونخبة سياسية صغيرة، واستُثنيت غالبية عامة الناس المتكونة من النساء والرقيق والمقيمين الأجانب. في الواقع، لم تشمل الديمقراطية اليونانية معظم العناصر الرئيسة للديمقراطية الحديثة – المساواة لجميع الأشخاص قبل القانون وحق الانتخاب. وبالتالي، مثّلت المشاركة المباشرة في الحكومة من قبل قلة خاصة فحوى الديمقراطية الأثينية(1) . وعند عرض هذه التجربة لابد من أخذ السياق التاريخي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في الاعتبار ودوره في نشأة هذه التجربة وتطبيقاتها.

وبعد قرون تلت، شهدت إنكلترا تحولا بطيئا من المجتمع الزراعي إلى الديمقراطية البرلمانية. وفي فرنسا، كانت هناك حاجة إلى ثورة لإزالة العقبات من أمام الديمقراطية. وفي ألمانيا، أدى نضال الاشتراكيين الألمان في البداية إلى قيام جمهورية فايمار، وهي محاولة هشة لديمقراطية برلمانية والتي ثبت عدم قدرتها على الصمود أمام الكساد الكبير والنازية. واستمر النضال من أجل قيام ديمقراطية دائمة بعد الحرب العالمية الثانية، وأدى ذلك إلى قيام نموذج ديمقراطي ناجح في ألمانيا الغربية. وفي هولندا، لم يُقر حق الاقتراع العام حتى عام 1919، وفقط في عام 1922 ثبت في الدستور حق النساء في التصويت. ويلقي بارينغتون مور الضوء على الظروف التاريخية التي حدثت فيها هذه التحولات، في أوروبا وأماكن أخرى، ويبيّن الدور الأساس الذي لعبته المجموعات الاجتماعية في العمليات السياسية هذه(2). طبعا، كان لعصر النهضة بدءا من القرن الرابع عشر وعصر التنوير الفكري والديني في القرن الثامن عشر اللذين شهدتهما أوروبا والتحولات الاجتماعية - الاقتصادية التي تلت ذلك وتمثلت في زوال الإقطاع وصعود البرجوازية التجارية ومن ثم الصناعية دورا أساسيا في نشوء الديمقراطية الليبرالية وتطورها وتعززها.

هناك العديد من الطريق لفهم الديمقراطية التي تُرتكب باسمها في كثير من الأحيان أكبر الانتهاكات. بالنسبة إلى الإغريق القدماء، تعني الديمقراطية "حكومة الشعب"، كما اشرنا. وبالنسبة إلى مونتسكيو تتضمن الديمقراطية توزيع سلطات الدولة لتأسيس توازن بين هذه السلطات. مع ذلك، بالنسبة إلى البلدان النامية، على سبيل المثال، بلدان أمريكا اللاتينية، أصبحت الديمقراطية تعني فقط حق أي شخص بالإدلاء بصوته بحرية في الانتخابات. لم يُمارس في الحقيقة هذا الحق بشكل كامل وأسوأ من ذلك، أن الناخبين في الغالب ليس لديهم خيارات حقيقية. وعندما يجري النضال من أجل الديمقراطية في سياق إقليمي من التدخل الأجنبي المستمر تقريبًا، فإن النتائج، تميل إلى التطور نحو أشكال أكثر تعقيدًا من الهيمنة(3) سواء الداخلية منها المتمثلة بالأحزاب السياسية والمجموعات الاجتماعية والاقتصادية والدينية المهيمنة أو الجهات الخارجية متمثلة بالدول الغربية خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية التي لها تاريخ طويل في التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان وتغيير نظمها السياسية بالقوة كما حصل في دعمها الانقلاب الدموي في تشيلي عام 1973 ضد حكومة منتخبة دمقراطيا؛ لأنها تعارض توجهات الولايات المتحدة في الهيمنة، وهذا مجرد مثال.

في الجانب النظري

لاحظ عالم الاجتماع الأمريكي سيمور ليبسيت لأول مرة عام 1959 بأن الديمقراطية ترتبط بالتنمية الاقتصادية. هذه الملاحظة ولدت كما كبيرا من البحث في موضوعات السياسة المقارنة ذات العلاقة. فقد جرى دعم هذه الفكرة والاعتراض عليها، ومراجعتها وتوسيعها، وإهمالها وإنعاشها. وعلى الرغم من إعلان الخروج بخلاصات من هذا النقاش إلا أنه لم تظهر نظرية ولا حقائق واضحة حول هذه العلاقة(4).

ظلت العلاقة بين الديمقراطية والتنمية مثارا للنقاش وسط العلماء ويبدو أن هناك وجهات نظر مختلفة بشكل أساسي بشأن تأثير هذا التفاعل. من ناحية، يناقش بعض المنظرين بأن الديمقراطية والتنمية الاقتصادية يعزز كل منهما الآخر. من ناحية ثانية، يرى آخرون بأن الديمقراطية تضر بالتنمية. وما يزال البعض يؤيد فكرة عدم وجود علاقة ملموسة بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية. علما أنه في العقود الثلاثة الأخيرة، حاول العديد من الباحثين تأكيد مواقفهم بشأن هذه العلاقة، لكن انتهوا إلى استنتاجات متباينة.

يجادل بعض المنظرين أن الحكومة الديمقراطية هي الأنسب لتعزيز النمو الاقتصادي المستدام. إضافة إلى ذلك، فإن العمليات الديمقراطية ووجود الحريات السياسية تولد الظروف الاجتماعية التي تكون ملائمة أكثر للتقدم الاقتصادي؛ إذ يستنتج البعض بأن هناك علاقة ثابتة وإيجابية بين التنمية الاجتماعية - الاقتصادية والديمقراطية، وهذا واضح من حالة كثير من الدول التي مرت بالتجربة الديمقراطية.

هناك مقاربة واسعة الانتشار تعتبر أن الديمقراطية هي ثمرة للتنمية الاجتماعية -الاقتصادية. ومن بحوث تجريبية لمجموعة مختلفة من البلدان خلصت إلى أن التنمية الاقتصادية تتضمن التصنيع والتحضر (ارتفاع نسبة سكان المدن) ومستويات عالية من التعليم وزيادة منتظمة في الثروة الإجمالية للمجتمع، وتكون هذه الشروط أساسية لديمقراطية مستدامة. وعلى الرغم من اتفاق هؤلاء المنظرين بأن الديمقراطية تتطلب مسبقا مستوى معينا من التنمية الاقتصادية، ولكن لا يوجد اجماع واضح حول هذا المستوى ونمط التنمية الذي يخدم هذا الهدف، مع أنه يوجد اعتقاد واسع بأن الفقر يشكل عقبة أساسية أمام التنمية الاقتصادية والديمقراطية.

إنّ نظرة عابرة للعالم ستظهر أن البلدان الفقيرة تميل لتكون ذات نظم مستبدة، بينما الدول الغنية تميل لتكون ذات نظم ديمقراطية، (توجد دول غنية لكنها ذات نظم مستبدة وهذا ينطبق على الدول ذات الاقتصاديات الريعية خصوصا) مع ملاحظة بأن الديمقراطية ترتبط بدون شك مع مستوى معين من التنمية الاقتصادية. ومع أخذ الأهمية المركزية للتنمية الاقتصادية بالاعتبار، ينبغي التمييز بين آليتين قد ولدتا هذه العلاقة وذلك بالتساؤل فيما إذا كانت البلدان الديمقراطية قد انبثقت على الأرجح من تطور اقتصادي في ظل نظام دكتاتوري أو ظهرت لأسباب أخرى غير التنمية، والملاحظ أنه تستمر الديمقراطية على الأرجح في البلدان التي كانت متطورة بالفعل(5). ومن الضروري الأخذ في الاعتبار عند التحليل، تجربة النمو الاقتصادي للفترة السابقة من الحكم الاستبدادي عند تقييم "نقطة البداية" للديمقراطيات الجديدة مقارنة بحالات الديمقراطيات الأكثر استقرارا(6). وكما لاحظ البولندي برزيورسكي وآخرون فانه يبدو من المعقول الافتراض أن الفقر يولد الفقر والدكتاتورية. كما أن انتشار فكرة التنازل عن ميزة من أجل الحصول على ميزة أخرى بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية لا يبدو سليما.

تعكس العلاقة القوية بين الديمقراطية والتنمية حقيقة أن التنمية تفضي إلى الديمقراطية. لكن يثار سؤال لماذا تقود التنمية بالضبط إلى الديمقراطية؟ هذا ما جرت مناقشته بصورة مكثفة من قبل الباحثين. بالطبع لم يكن نشوء المؤسسات الديمقراطية تلقائيا وذلك عندما يحقق بلد ما مستوى معينا من الناتج المحلي الإجمالي. ثم أن التنمية الاقتصادية تجلب تغيرات اجتماعية وسياسية وبالتالي تفضي إلى الديمقراطية إلى الحد الذي تخلق طبقة وسطى كبيرة ومتعلمة وواضحة، وأن يرافق ذلك حدوث تحول في قيم الناس ودوافعهم.

ولكن إذا كان لنظرية التحديث من أي قوة تنبؤية، فلا بد أن يكون هناك مستوى معين من الدخل يؤشر نسبيًا إلى أن البلد سيتخلص من ديكتاتوريته. ومن الصعب على المرء أن يعثر على هذا المستوى: حتى وسط البلدان التي تفي بنظرية التحديث؛ إذ يكون مدى الدخل واسعا جدا، حيث يمكن للدكتاتوريات الاستمرار. علما أنه تطورت نظم مستبدة قليلة على مدى فترة طويلة، وحتى لو تحول معظمها في النهاية نحو الديمقراطية، لكن لا يوجد مستوى معين من الدخل يمكن على ضوئه توقع متى يجب أن يحدث ذلك التحول(7)؛ إذ أن هذا التحول يرتبط بجملة من المتغيرات ذات التأثيرات المتبادلة الاجتماعية - الاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية والبيئية الخارجية والتي قد تساعد هذا التحول أو تعيقه.

الدرس الأكثر أهمية الذي تعلمناه أن البلدان الثرية التي تميل أن تكون ديمقراطية ليس لأن نشأة الديمقراطية جاءت نتيجة التنمية الاقتصادية في ظل الدكتاتوريات ولكن بسبب - كيفما نشأت- أن الديمقراطيات من المرجح أكثر أن تبقى على قيد الحياة في المجتمعات الثرية. يمكن أن تفتح التنمية الاقتصادية إمكانيات التحول إلى الديمقراطية، عندما تكون ظروف الديمقراطية ناضجة، وأما الصراعات السياسية فتكون نتيجتها غير معروفة. لذلك من الصعب كشف أي عتبة للتنمية من شأنها أن تجعل نشوء الديمقراطية أمرا متوقعا. باختصار، يبدو أن نظرية التحديث تتوفر على القليل من القوة التفسيرية، إن وجدت مثل هذه القوة(8) أصلا.

أثيرت بعض الأسئلة ذات البعد التاريخي مثل من يسبق أولا الديمقراطية أم التنمية؟ وهل أن الديمقراطية شرط مسبق للنمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي؟ وهل ستكون الديمقراطية فقط قابلة للتطبيق وتتعزز عندما يكون هناك مستوى معين من التنمية قد انجز؟ وهل يجب أن تكون المجتمعات مؤهلة للديمقراطية أو تكون كذلك من خلال تطبيق الديمقراطية؟ وهل تكون التنمية الاقتصادية مستدامة بدون التطور السياسي والعكس بالعكس؟

من ناحية أخرى، تظهر العلاقة الطردية في الاقتصاد الريعي ما بين الاعتماد القوي للدولة في إيراداتها على النفط مثلا وضعف القاعدة الاقتصادية التي تجمع الافراد للمطالبة بحقوقهم السياسية. وبما أنهم لا يساهمون في الدخل لذا يصبحون اقتصاديا وبالتالي سياسيا رعايا يسعون وراء منافع فردية أثناء قيام الدولة بإعادة توزيع الريوع النفطية في شكل إنفاق حكومي هدفه الأساس الحفاظ على الأوضاع الراهنة وتناسب القوى السائدة وتأبيدها(9)، وهذه تُعد من العوامل المهمة في إعاقة التحول إلى نظام ديمقراطي حقيقي كما في حالة العراق. علما أنه لا يكون النضال من أجل الديمقراطية يتعلق فقط بإقامة نظام سياسي، بل يكون الأمر الحاسم قيام ديمقراطية دائمة.

لا بد من التذكير بأن وجود اقتصاد متنوع كأساس يساعد على إقامة ديمقراطية حقيقية لا يعني أن دول الإنتاج ذات الاقتصاديات غير الريعية هي دول تشهد ازدهارا ديمقراطيا، ولكنها الأقدر على التحول نحو الديمقراطية من البلدان النفطية(10). وهذا يتفق مع ما أشرنا إليه أعلاه.

في الواقع، وجد أن استمرار الديمقراطيات من السهل جدا توقعه. على الرغم من أن بعض العوامل الأخرى تلعب أدوارا، إذ أن معدل دخل الفرد هو إلى حد بعيد أفضل مؤشر على بقاء الديمقراطيات على قيد الحياة. تستمر الديمقراطيات في المجتمعات الثرية على الرغم مما يحدث لها، بينما تكون الديمقراطيات هشة في البلدان الفقيرة. ولكن لا يحكم دائما عليها بالموت. ويساعد التعليم على استمرارها بشكل مستقل عن الدخل، ويجعلها التوازن بين القوى السياسية أكثر استقرارا. وتكون المؤسسات أيضا مهمة: فتتوافر الديمقراطيات الرئاسية على احتمال أقل للاستمرار في ظل جميع الظروف التي يمكننا أن نلاحظها مقارنة بالديمقراطيات البرلمانية(11) التي هي أكثر شيوعا على ما نعتقد.

هناك سببان واضحان لقيام الديموقراطية قد يكونان مرتبطين بمستوى التطور الاقتصادي: قد يزداد احتمال قيام الديمقراطية مع تطور البلدان اقتصاديا، أو بعد قيامها لأي سبب من الأسباب، وقد تتوافر الديمقراطيات على احتمال أكثر للاستمرار في البلدان المتطورة. علما أنه يُدعى التفسير الأول "ذاتي النمو" ويُدعى الثاني "خارجي المنشأ"(12).

أخيرا، هناك عوامل أخرى تؤثر في البناء الديمقراطي منها: الارث السياسي، أي هل كان البلد مستقلا أم خضع للسيطرة الاستعمارية (في كثير من الدول كانت الديمقراطية من ارث الاستعمار لكنها لم تستمر)، والتاريخ السياسي للبلد وعدد المرات التي حكم فيها من قبل النظم المستبدة، والبنية الطبقية والدينية والمذهبية والبنية الإثنية واللغوية، والبيئة السياسية الدولية ونسبة النظم الديمقراطية في العالم خلال فترة معينة وغيرها.

الدول الهشّة

عندما نعالج الدول الهشّة(13) فإنه من الخطأ الفادح تجاهل أهمية الشرعية؛ إذ إما بسبب نقص الشرعية تصبح الدولة هشة، وإما لأنه يجب بناء دولة قابلة للحياة وبالتالي شرعية في بلد ما بعد الصراع. في الوقت نفسه، علينا التأكد من أن المؤسسات تتلقى الإشارات من المجتمع وتستجيب لها على نحو كاف. لذلك من المهم ليس فقط دعم القدرات الفنية للبرلمانيين، لكن مساعدتهم أيضا لزيادة شرعيتهم كممثلين من خلال محاسبة ناخبيهم لهم على أفعالهم. من الأهمية بمكان عدم التقليل من مخاطر الاستعانة بمصادر خارجية في ما يخص مهام ومسؤوليات الحكومة الرئيسة. ومن الطبيعي أن تكون الخدمات الأساسية عاجلة، لكن ينبغي أن تؤخذ الشرعية في الاعتبار في ضمان استلامها(14) من قبل المواطنين. وهذا الحالة تنطبق على العراق، حيث أن نقص أو انعدام الخدمات الأساسية يضعف شرعية النظام السياسي.

يُعد نسبيا تقدم الديمقراطية هدفا جديدا في التعاون الإنمائي، إذا فُهم بالمعنى الدقيق للكلمة، فهو يعني التطور السياسي. لكن ينبغي أن يميز بوضوح تعزيز الديمقراطية عن حقل تقوية نظام الإدارة العامة، حيث للأخيرة تاريخ طويل في التعاون الإنمائي. يظل في الواقع كثير مما يُطلق عليه حاليا بتعزيز الديمقراطية في سياق برامج الحوكمة الجيدة ذات الطبيعة التقنية: المساعدات الانتخابية ودعم الخبراء والدعم المادي للمؤسسات ذات العلاقة مثل البرلمان(15)، وهو غير كاف لتعزيز الديمقراطية في البلدان النامية.

هناك من يرى أن إجراء الانتخابات خلال عمليات الإصلاح الأولية يعمل عمليا على إبطائها؛ لسبب بسيط يتمثّل في أنه في البيئات ذات الدخل والتعليم المنخفضين جدا، تميل الانتخابات إلى أن تطغى عليها الأجندات الشعبوية. وستنتصر الشعبوية تقنيا على الاستراتيجيات الأكثر تطورا في هذه البيئات(16)، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك ومنها ما يجري في العراق.

بعض الدروس

في الواقع، تستمر الدكتاتوريات لسنوات في بلدان كانت ثرية، استنادا إلى معايير المقارنة ذات العلاقة. ومهما كانت العتبة التي من المفترض أن تؤدي التنمية عندها إلى حفر قبر النظام المستبد، إلا أنه من الواضح أن الديكتاتوريات لا بد أن تكون قد مرّت بهذه العتبة وهي في وضع جيد. علما أنه ازدهرت أيضا الدكتاتوريات في سنغافورة وتايوان وإسبانيا والمكسيك وبلدان أخرى لسنوات عديدة بعد أن ارتفع الدخل فيها فوق 5000 دولار، هذا الدخل الذي لم يكن لدى أستراليا وبلجيكا وفرنسا وألمانيا الغربية وإيسلندا وإيطاليا وهولندا والنرويج بحلول عام 1951. وهناك دكتاتوريات استمرت على الرغم من الاحتمال القائل أنه ينبغي ان تتحول إلى الديمقراطية، إذ جرى توقع ذلك استنادا إلى مستوى التنمية وحده(17). وهذا يُظهر مدى تعقد العلاقة بين التحول الديمقراطي والتنمية وارتباطه بعوامل أخرى أكثر تشعبا.

فُرضت الديمقراطية في بعض البلدان من قبل دول الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية. تشمل هذه البلدان ألمانيا الغربية التي بحسب التوقع كان ينبغي أن تصبح ديمقراطية بحلول عام 1952، واليابان التي أصبحت ديمقراطية عام 1965(18)، علما أنه ذُكر هذان المثلان مرارا في خضم احتلال العراق من قبل أمريكا وبريطانيا لتبرير الاحتلال وفرض ما ادعي أنه ديمقراطية.

حاليا، من الممكن أكثر مقارنة بالسابق قياس التغيرات الرئيسة والمدى الذي تقدمت فيه بلدان معينة. فقد جعل التحليل المتعدد المتغيرات من استطلاعات القيم ذلك ممكنا لفهم التأثير النسبي للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأشارت النتائج إلى خلاصة تقول بأن التنمية الاقتصادية تفضي إلى الديمقراطية بقدر ما تحدث من تغييرات هيكيلية معينة (خصوصا صعود قطاع المعرفة) وتغييرات ثقافية معينة. كما تؤثر الحروب، والاضطهاد والتغييرات المؤسساتية، وقرارات النخب وقادة معينين في ما يحدث، لكن تعد التغييرات البنيوية والثقافية عوامل رئيسة في نشوء الديمقراطية واستمرارها.

وهناك من يرى أنه من أجل تعزيز الديمقراطية نحتاج أن نتعلم من أخطاء الماضي. ولا يمكن للدمقرطة أن تتعزز بالاعتماد على النماذج الغربية فقط. إذ أن الدعم المؤثر للدمقرطة ينبغي أن يركز على المبادئ الديمقراطية العامة في سياق اجتماعي - اقتصادي، سياسي معين.

في الهند مثلا، لم تتغير بشكل جذري نسبة السكان الذين يمكن تصنيفهم كفقراء بالمقياس المطلق منذ الاستقلال. يعني هذا أن التجربة الهندية لا تؤكد توقع الأداء الجيد للنظم الديمقراطية في جميع الأحوال بشأن الرفاه الاجتماعي. إذ من ناحية بُعد النمو تبدو الصورة أكثر تعقيدا قليلا: حيث كان هناك تأكيد على التصنيع، ولكن بسبب المعدل المنخفض للنمو في القطاع الزراعي، كانت النتيجة الإجمالية نموا ضعيفا إلى حد ما.

لم تعتمد كوريا الجنوبية على الاطلاق في بداية التصنيع على الديون الخارجية أو الاستثمارات الأجنبية، وبدلا من تطبيق توصيات صندوق النقد الدولي الدوغمائية (المتزمتة)، اختارت قيادة كوريا الجنوبية تبني استراتيجية تنمية خاصة بها. وتميزت سياساتها البديلة باستبدال الواردات مترافقة مع ترويج أو تعزيز مكثف للصادرات، وكلها مدعومة بتدخل الدولة القوي كمخطط وقائد ومحفز التنمية. وفيما بعد، جرى فتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة من أجل جذب رأس المال، وكان الهدف من ذلك هو توجيهه نحو الشركات، حيث يمكنها بلورة نقل التكنولوجيا والمساعدة على بناء قدرات تكنولوجية محلية(19). وكانت النتيجة تحقيق تطور اقتصادي وصناعي لافت، وأصبحت الشركات الكورية تستحوذ على عدد غير قليل من المشاريع الصناعية في العديد من البلدان ومنها العراق، حيث على سبيل المثال أن الشركة الرئيسة التي عُهد إليها بإنشاء ميناء الفاو هي كورية. على الرغم من أن هذا التطور لم يكن بعيدا عن الازمات التي هي سمة النظام الرأسمالي، كما حدث في أزمة عام 1998 في منطقة شرق آسيا، حيث أن كوريا الجنوبية جزء منها.

البلدان النامية

ينبغي علينا أن ندرك أن الحد من الفقر البنيوي لا يمكن تحقيقه دون ديمقراطية حقيقية. لكن هذا لا يعني فرض الديمقراطية بالقوة، أو الترويج لإرساء الديمقراطية كحل سريع لمشاكل التنمية المعقدة. وينبغي أن يشجع التعاون الإنمائي ويدعم عمليات التغيير والتحرر السياسيين الناشئة في البلدان النامية والتي ستساهم في نهاية المطاف بوجود عالم مستدام مع فقر أقل ومزيد من المساواة. للقيام بذلك، هناك حاجة إلى التركيز على زيادة وصول الفقراء أنفسهم إلى هذه العمليات والمشاركة فيها. لقد حان الوقت لفاعلي الديمقراطية والتنمية لتوحيد جهودهم .إذ يتطلب هذا النوع من التعاون الإنمائي مؤسسات سياسية، وطموحات واقعية، واستراتيجية تتناسب مع الحقائق السياسية على الأرض. في الواقع، يتطلب الأمر، عين على الإصلاحات الديمقراطية الضرورية وعين على ميزة الديمقراطية. وفي السياق العالمي المضطرب الذي نعيش فيه خصوصا، فإن أوروبا ملزمة بأن تفعل أكثر بكثير مما فعلت حتى الآن؛ إذ أن مصداقية جهودها الإنمائية على المحك(20) في الوقت الحاضر في ما يخص دعم البلدان النامية أكثر من أي وقت مضى.

لا توجد علاقة تلقائية بين الشكل الديمقراطي للنظام وإجراءات تحسين الرفاه الاجتماعي للجماهير.  تتوافر الديمقراطية على إمكانات في هذا الصدد، والتي قد تتكشف أو لا تتكشف، وهذا يعتمد على عدد من العوامل من بينها الأكثر أهمية، الموارد والقوة والوعي والتنظيم والتأثير السياسي للقوى الشعبية. وينبغي أن يُنظر إلى هذا الأمر في ما يتعلق بطابع النخب وقوتها، التي تتعاون غالبا في تحالف مهيمن. ويكون وضع النخبة الزراعية ذا أهمية خاصة، بسبب من أنها قد تمنع إجراء الإصلاح في المناطق الريفية، والذي غالبا ما يكون حيويا لتحسين الرفاهية بشكل عام(21) ويمكن مقارنة ذلك بالعقبات الإدارية والاجتماعية التي واجهت تطبيق قانون الإصلاح الزراعي في العراق الذي شرع عام 1958.

عندما يشرع النظام العسكري في تبني نسخة من النمو المركزي الذاتي والذي يكون موجها بشكل خاص إلى النخبة، في جانب كل من العرض (التركيز على السلع الاستهلاكية المعمرة) والطلب (التصنيع ذو رأس المال الكثيف مع تحقيق معظم الفوائد لطبقة قليلة من الموظفين والعمال المهرة وذوي الياقات البيضاء). فإن هذا يعني أن الغالبية الفقيرة من السكان لم تكن تشارك حقا في عملية التنمية؛ إذ أن الاحتياجات الأكثر إلحاحا بالنسبة لهذه الغالبية هي الصحة الأساسية والسكن والتعليم وفرص عمل مجزية(22).

هناك مشكلة أخرى تثار بشأن برهان الاستقرار. فعلى سبيل المثال، يكون في الغالب الاستقرار في الشرق الأوسط إما ظاهريا وإما هشا في أفضل الأحوال. إن القيام بإصلاحات ديمقراطية سيمكن بلدان المنطقة من الارتباط مع عالم آخذ في العولمة. وكما في أماكن أخرى، فإن الدمقرطة تُشكل شرطا أساسيا للعدالة والازدهار في هذه المنطقة. اليوم، وبعد الفشل في العراق، نحن نشهد إعادة التأكيد على الاستقرار كهدف رئيس. ولكن يمكن فقط أن يكون للاستقرار معنى عندما يستند إلى التنمية والسلام والأمن. لذلك ستزيد في النهاية الإصلاحات الديمقراطية الحقيقية من داخل المجتمعات الاستقرار الحقيقي(23) . وما اندلاع الانتفاضات الشعبية في عدد من البلدان العربية، بدءا من عام 2011، إلا محاولات أولية لإقامة نظم ديمقراطية في المنطقة العربية، وعلى الرغم من الفشل الذي أحاط بتحقيق أهدافها فيمكن القول أنها تمثّل بروفات أولية تنبئ بحدوث تحولات أكثر عمقا واتساعا مستقبلا.

إذا كانت مؤسسات دولية خصوصا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي قد أدت دورا في دفع بعض النظم العربية التي لجأت إليها بهدف جدولة ديونها والحصول على قروض وتسهيلات اقتصادية، للسير في طريق التعددية السياسية والانفتاح السياسي، وذلك باعتبار أن هذه المؤسسات تشدد على مسائل مثل حقوق الإنسان وسيادة القانون والشفافية، إلا أنه في المقابل، فإن سياسات التكيف الهيكلي التي اضطرت النظم المعنية لتنفيذها بحسب وصفات الجهتين وبضغوط منهما قد كان لها تأثيراتها السلبية في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الدول المعنية، حيث أدت إلى تزايد حدة مشكلة البطالة، وتفاقم التفاوت الاقتصادي والاجتماعي، وتدهور معيشة قطاعات واسعة من المواطنين وخصوصا الفقراء ومحدودي الدخل. ونظرا لذلك فقد ترتب على هذه السياسات اندلاع تظاهرات وأعمال عنف في العديد من الدول، اصطلح على تسميتها بـ "إضرابات صندوق النقد"، ما دفع النظم الحاكمة إلى اتخاذ إجراءات غير ديمقراطية بهدف مواجهة هذه الاحتجاجات الجماعية، والاستمرار في تنفيذ السياسات المعنية(24). وهذا ما فاقم الأوضاع أكثر وعجل باندلاع الانتفاضات العربية المشار إليها.

في البلدان الأفريقية، وبسبب تقصير أداء جميع المؤسسات الرسمية بشكل نظامي في نظر التوقعات الشعبية، سوف يسد الناس الثغرات المؤسساتية بالعلاقات غير الرسمية. وكما في أماكن أخرى، تقرر فعالية الديمقراطية مقدار المساحة المتبقية للمؤسسات غير الرسمية لتقويض التنمية المستدامة والمنصفة(25). وينطبق هذا الحال على العراق، حيث تقوض المؤسسات غير الرسمية ومنها المليشيات أي تنمية حقيقية بمعناها الشامل.

طالما طُرح سؤال هل التدخل الخارجي وتعزيز الديمقراطية يتوافقان في ما بينهما على طول الخط؟ إن المساعدات الإنمائية في نموذجها التقليدي من شأنها أن تقوض الديمقراطية بدلا من تعزيزها فعليا؛ بسبب من أن مثل هذه المساعدات تقدم في الغالب في ظل شروط غير شرعية، فعلى سبيل المثال، جعل المساعدات هذه عرضة للنقاش واتخاذ القرار بشأنها في الهيئات الوطنية مثل البرلمان، كما وضح ذلك إنيك فان كيسيل في بحثه حول مستقبل الديمقراطية في إفريقيا(26)  وهذا ينطبق أيضا على بلدان أخرى خارج القارة.

في ضوء مشكلات التنمية المعقدة، وعدم المساواة والاستبعاد الاجتماعي والعنف والإفلات من العقاب التي ابتليت بها أمريكا اللاتينية. سيتعين على الديمقراطيات في المنطقة إيجاد الحلول لهذه المشكلات قريبا إذا هي أرادت الاستمرار. وعندما لا يستطيع عدد كبير من الشباب المشاركة في التقدم الاقتصادي، فهم ليس لديهم ثقة في المؤسسات الرسمية الحاملة للديمقراطية. وإذا ترك التهميش دون معالجة، فإنه سيقود إلى المزيد من العنف والاجرام المؤسساتي. إن منع ذلك هو أكبر تحد لبقاء الديمقراطية في أمريكا اللاتينية(27) التي شهدت نظمها السياسية تقلبات ما بين الدكتاتورية والديمقراطية بتأثير العوامل الداخلية والخارجية.

هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن العامل المهم لاستقرار النظام هو أيضا توزيع الدخل بين المجموعات المختلفة. ويمكن أن يحفز التفاوت الكبير في الدخل في ظل النظم الدكتاتورية، الحركات التي تجذبها وعود المساواة في الديمقراطية. وقد تسعى المجموعات الاجتماعية المهيمنة في ظل الديمقراطية إلى اللجوء إلى الاستبداد عندما يمارس الفقراء حقوقهم السياسية- سواء في شكل حق الاقتراع أو حرية تأسيس الجمعيات- التي تنتج منها الضغوط  المطالبة بالمساواة.

لسوء الحظ، يكاد يكون من المستحيل اختبار هذه الفرضيات. إذ أن أفضل معطيات متوفرة بشأن توزيع الدخل العائدة إلى دينينجر وسكوير عام 1996، لا تزال بعيدة عن الاكتمال وتجمع بين الأرقام التي جرى جمعها بطرق مختلفة. وبالنسبة إلى كثير من البلدان الأخرى، فإن المعلومات إما غير متوفرة على الاطلاق، وإما متوفرة فقط لسنوات متفرقة وبشكل غير مُنظم(28) . وهذا ما يعيق التحليل المنهجي والخروج بخلاصات أكثر موثوقية.

هناك حاجة لإلقاء نظرة نقدية على الحكومة وأعمال مانحيها، وعند الضرورة، اتخاذ خطوات لضمان أن التعاون من أجل التنمية لا يُضعف المؤسسات الديمقراطية الوطنية أكثر. وإذا أثر هذا الجانب في التعاون الإنمائي، فإن المساعدة ستكون في الواقع غير مسؤولة(29) ، لأنها تمثُل تدخلا في الشؤون الداخلية.

العراق

بالنسبة إلى العراق، فقد جاءت تجربته الديمقراطية المتعثرة إثر احتلال، وكان البلد قبل ذلك منهكا بسبب الحروب الداخلية والخارجية والعقوبات القاسية التي فرضتها الأمم المتحدة بعد غزو الكويت من قبل نظام صدام حسين عام 1990؛ إذ انتشر الفقر على نطاق واسع وتراجعت الخدمات الأساسية والتعليم والصحة. ونتيجة تبني نهج المحاصصة الطائفية والإثنية الحاضن للفساد المالي والإداري بعد سقوط النظام عام 2003، لذلك لم تنطلق تنمية اجتماعية - اقتصادية حقيقية ترافق التغيير السياسي وتعززه نحو بناء نظام ديمقراطي على الرغم من ارتفاع عائدات العراق من النفط، بل ظلت أغلب المصانع معطلة والزراعة تتراجع، وتعزز التفاوت الطبقي وانتعشت الفئات الطفيلية وتفتت النسيج الاجتماعي وضعفت الهوية الوطنية أمام انتعاش الهويات الفرعية، الطائفية والإثنية والقبلية والمناطقية. وكل هذه الأمور لا بد أن ترتبط بعلاقة عكسية سلبية مع تعزيز الديمقراطية وتزيد من تعثرها وتشوهها.

ونحن نعرف من تجارب المجتمعات أنه كلما انتشر الفقر والعوز وضعف الأمن فإن المطالبة بالحريات والحقوق السياسية تتراجع، وتصبح الأولوية لمتطلبات الحياة الأساسية. وقد لاحظنا ذلك من شعارات انتفاضة تشرين 2019، التي ركزت في مضمونها على العدالة الاجتماعية ولم تركز على تعزيز الديمقراطية كنظام. بل هناك من يبحث عن منقذ حتى لو كان مستبدا عندما تتردى الأوضاع، وتجربة تونس شاهد على ذلك، إذ مهد ضعف التنمية الاجتماعية-الاقتصادية إلى عودة الاستبداد.

من جانب آخر، بات الريع النفطي عائدا مباشرا للدولة العراقية يمثّل المفترق الأساس في الفلسفة الاقتصادية-السياسية، وهو أما السير في طريق التنمية والتحديث والتحول من المجتمعات ما قبل الرأسمالية إلى حالة اجتماعية-اقتصادية جديدة تتمثل بآفاق دولة المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية ونشوء الدولة الديمقراطية الحديثة أو الغاء الهياكل المؤسسية والتمحور حول نمط انتاج يعتمد الريع النفطي أداة لمركزة السلطة الذي يزيد من استبدادها(30). وهذا هو المتحقق في الواقع في مجرى التراجع في مجال حقوق الإنسان وحرية التعبير وقمع الحريات.

وعلى الرغم من كثرة الحديث عن إعادة الإعمار في العراق، إلا أن ما تحقق حتى الآن محدود ومتواضع بكل المقاييس. ومن أسباب ذلك أن هناك مشكلات ارتبطت بعملية إعادة الإعمار ذاتها، وخصوصا في ما يتعلق بخطط إعادة الإعمار، وعمليات تميلها وإدارتها، ناهيك عن حجم الفساد المرتبط بهذه العملية. وهذه الأوضاع خلقت مشكلات وتحديات تُعقد بكل تأكيد عملية بناء مؤسسات ديمقراطية(31). وقد ثبت أن نهج المحاصصة الطائفية - الاثنية هو الحاضنة الأهم لتوليد الفساد الإداري والمالي وانتشاره في مفاصل الدولة والمجتمع، وأن مكافحته سوف لن يكتب لها النجاح  - بل الحديث عنها مجرد للاستهلاك – في ظل هذا النهج وباستخدام أدواته نفسها.

***

د. هاشم نعمة

.....................

الهوامش

(1) European Parliamentarians with Africa, Democracy: Cornerstone for Development, Amsterdam: 2012, p. 15.

(2) Bert Koenders, Democracy Meets Development in Democracy and Development, Amsterdam, KIT Publishers, 2008, p. 104.

(3)Victor Manuel Figueroa Sepulveda (ed.), Development and Democracy: Relations in Conflict, Leiden/ Boston: Brill, 2017, p. 112.

(4) Adam Przeworski et all., Democracy  and Development, Cambridge University Press, 2000, pp.78-79.

5)) Ibid., p. 78.

6)) Georg Sorensen, Democracy, Dictatorship and Development: Economic Development in Selected Regimes of the Third Word (Hampshire/ London: Macmillan, 1990(, p. 177.

7)) Przeworski et all., p. 97.

(8) Ibid., p. 137.

(9) صالح ياسر حسن، الريوع النفطية وبناء الديمقراطية الثنائية المستحيلة في اقتصاد ريعي، بغداد، مركز المعلومة للبحث والتطوير، 2013، ص 173.

(10) المرجع نفسه، ص 174.

(11) Przeworski et all., p. 137.

(12)Ibid., p. 88.

(13) لمقارنة مفهوم الدولة الفاشلة ومقررات فشلها، راجع: هاشم نعمة فياض، دراسات في الدين والدولة، بغداد، المركز العراقي للدراسات والبحوث المتخصصة، 2018، ص 101-106.

(14) Koenders, p. 117.

15)) Bert Koenders & Cor Beuningen, "Democracy, Nation Building and Development", in Democracy and Development, Amsterdam, KIT Publishers, 2008, p. 82.

)16) Paul Collier, "Fragile States", in Democracy and Development, Amsterdam, KIT Publishers, 2008, p. 93.

(17) Przeworski et all., p. 94.

18)) Ibid., p. 87.

)19) Cristina Recendez Guerrero, Economic Growth, Democracy and the Construction of Citizenship in South Korea, in Development and Democracy: Relations in Conflict, Leiden/ Boston, Brill, 2017, pp. 109-110.

(20) (20) Koenders, p. 103.

(21) Sorensen, p. 166.

(22) Ibid., p. 181.

(23) Koenders, pp. 109-110.

(24) حسين توفيق إبراهيم، العوامل الخارجية وتأثيراتها في التطور الديمقراطي في الوطن العربي، في الدولة الوطنية المعاصرة: أزمة الاندماج والتفكيك، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2008، ص147 - 148.

(25) Koenders, p. 112.

(26) Koenders & Beuningen, p. 73.

(27) Koenders, p. 113.

(28) Przeworski et all, p. 117.

(29) Koenders, p. 115.

(30) حسن، ص 182.

(31) إبراهيم، ص 155.

إن المشاكل الأسرية عرضة لجهات عدة في الاستشارة:

- مراكز الاستشارات؛ والتي أغلبها لا تنطبق عليها المعايير والضوابط المطلوبة، والتي تتناسب والأسس العلمية والشرعية في هذا المجال؛

- مؤسسات المجتمع المدني، التي تتذرع بالثغرات الموجودة في المحاكم الشرعية، وتستغلها لتدخل على خط الأسرة وخاصة المرأة، لتجد ضالتها فيها، فتستغل مظلومية بعضهن، للترويج لأفكارهم، وقناعاتهم العلمانية والنسوية المتعلقة بالمرأة، وتجدها فرصة لمواجهة الدين بحجة عدم عدالته مع المرأة، وتعلي مطالبها في تحرير المرأة بذريعة ظلم الدين والمجتمع بعاداته وتقاليده للمرأة؛

- المحاكم الشرعية، والتي أغلبها بات يفتقر للتجديد والمراجعة بما يتناسب وفاعلية الدين والشّريعة، وتحقيق العدالة المتعلقة بالأسرة والمجتمع.

فلعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن كثيرا من المتصديين في الساحات الاجتماعية للاستشارات الأسرية غير مؤهلين بما يكفي في هذا المجال، بل بعض هؤلاء يكون سببا في دمار الأسرة بدل أن يكون سببا في تذليل العقبات بين الطرفين. وفتح الساحة بهذا الشكل دون رقيب ومتابعة من قبل الجهات المعنية، لكفاءة هؤلاء في حل مشكلات الأسرة، يجعل الساحة فوضوية، ويزيد من تعقيد المشهد الأسري والاجتماعي.

خاصة أولئك الذين يسطحون المشكلة بتشخيصات ما أنزل الله بها من سلطان، ووفق فهمهم المحدود للنصوص الدينية والأخلاقية من جهة، أو للحقوق والواجبات من جهة أخرى، دون بذل جهد واقعي في فهم التشابكات بينهما، وفهم آليات التشخيص والتطبيق، وغلبة العاطفة في التشخيص على العقلانية والرشد والحكمة والإنصاف والعدالة النفسية.

إن المؤسسة الأسرية من المؤسسات المهمة جدا، وحينما نرى حجم اهتمام الإسلام بها، يوجب ذلك علينا إيلاء اهتمام مضاعف للأسرة، ولتأهيل المقبلين على الزواج، ولتصدي الكفاءات العلمية المحيطة بالأسس الدينية الشرعية وبالنظريات المتعلقة بالأسرة والزواج، فلا يكفي أن تكون رجل دين لتصبح مؤهلا للاستشارات الأسرية، وحل مشاكلها، ولا يكفي أن تكون أكاديميا في مجالات علم النفس والأسرة لتصبح مؤهلا في ذلك.

إن الكفاءة تعني جامعية الشخص لفهم الدين وفق مقتضيات ومتطلبات العصر، وفهم إشكاليات الواقع المعاصر وتحدياته، وقدرته على تحليلها وتشخيصها، وتمكنه من آخر النظريات المتعلقة بالأسرة ومتطلباتها كافة، و قدرته على تطبيق العدالة إجرائيا في المجال الأسري، دون قراءة تجزيئية للأحكام الشرعية من جهة، ودون تبسيط وتسطيح للمشكلة من جهة أخرى، ودون بخس لطرف لحساب طرف آخر من جهة ثالثة، بل يمتلك قدرة على إدراك موارد التزاحم، والترجيحات، والقدرة على إدراك مصلحة كل حالة ومعالجتها وفق ما يقتضي حالها. أي قدرة تشخيصية في فهم المشكلة وأبعادها، ومن ثم تشخيص العلاج من حيث الأدوات، هل هي أدوات حقوقية، أو أخلاقية، أو مزيج منهما، وقدرته على التطبيق الإجرائي للعدالة في هذا الصدد.

فالملاحظ في بعض من يتصدى للاستشارات الأسرية تعميمه للمشكلات، وبالتالي تعميمه للحلول، وهو ما يعقد المشهد، إذ إن الأصل هو دراسة كل حالة على حدة، وقدرة على تحليل وتشخيص الحالة نفسها، وفهم تعقيداتها والبناء على الشيء مقتضاه.

وهذا ينطبق أيضا على كثير من مؤسسات المجتمع المدني، والتي تستغل الثغرات المفتوحة في جروح المشاكل الأسرية، التي لا تجد لها حلا وعلاجا عند من يجب أن يعالجها، فيلجأ كثيرين وخاصة النساء إلى هذه المؤسسات التي لديها أجندة تستهدف هوية المجتمع وثوابته وهويته، وتستهدف المؤسسة الأسرية برمتها تحت شعار حقوق الإنسان وحقوق المرأة. وهي تشكل أيضا خطرا آخرا يضاف إلى الأخطار التي تواجه الأسرة، وبدل أن تقدم حلولا في الأعم الأغلب، تعقد المسألة وتكرس مسار تفتيت الأسرة والدعوة لما يسمى تحرير المرأة وفق فهمهم للتحرير.

كذلك الحال ينطبق على محاكم الأحوال الشخصية، حيث يزداد تعقيد المشهد الأسري داخل أروقتها، وعدم فعالية القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية، والتي يعود جلها كتقنين إلى عام ١٩٢٣م، دون تَجَشّم العناء في إعادة النظر بهذه القوانين وتطويرها، أو حتى الوقوف على الإشكاليّات والتحديّات المعاصرة التي تواجه الأسرة.

بل نجد أغلب هذه المحاكم تزيد من الظلم بدل أن تحقق العدالة، وتعقد المشهد الأسري بدل أن تحل عقده، وتحولت إلى معول هدم للأسرة لا بناء غالبا. وتتعرض المرأة في هذه المحاكم للظلم أكثر من الرجل، دون أن يكون هناك وقفة حقيقية لقوانين الأحوال الشخصية وإعادة النظر فيها لتحقيق العدالة، ثم حينما تلجأ المرأة لمؤسسات المجتمع المدني، وخاصة المؤسسات النسوية منها، يتم رميها بكل التهم، ويتحول المجتمع إلى سبع ضار ينهش بها، فقط لأنها لم تجد العدالة عند من يفترض به أن يحققها، ولجأت نتيجة التقصير والقصور في هذه المحاكم، إلى من يقدم لها حلولا وإن كانت للأسف حلولا غير عادلة، ولا تتوافق ومبادئ التشريع الديني، وبدل أن تتصدى نخب المجتمع لمواجهة هذه الإشكاليات ومعالجتها، والضغط على المعنيين لحل تعقيدات المشهد، فإن أغلب هذه النخب في المجتمع والمجتمع بذاته، تكونان معولا من معاول الهدم الأسري.

والأنكى من ذلك نجد بعض العاملين في هذه المحاكم من الذين يتصدرون المشهد الاجتماعي، سواء من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، أو المنصات الإعلامية كالتلفاز والإذاعة والصحف، ليوزعوا النصائح الأسرية، رغم أنهم أحد أهم أسباب هدمها بمعول القضاء.

بل جلّهم يصيح ليله ونهاره عن اختراق المجتمع وقيمه، واختراق الأسرة وتهديد وجودها، دون أن يتجشّم عناء تشخيص الأسباب ورسم صورة ومنهج لمعالجة الثغرات وردمها، لمنع هذا الاختراق، بل دون حتى أن يعترف بأن أغلب هذه المحاكم هي أحد أهم هذه الثغرات التي تسبب توسيع الاختراق، وتؤدي إلى هذا التسريب القاتل للوجود الأسري، والمفاقم للمشكلة.

فحينما لا يتم مواجهة المشكلة وتشخيص العلل بشكل صريح وجريء ومنصف، والاقتناع الوهمي بما هو موجود من قوانين وحلول ترقيعية سطحية، فإن الاختراق والتسرب سيكون البديل للمجتمع وللمقبلين على الزواج، ولأفراد الأسرة، لأنهم سيجدون في الثقافة البديلة المخترِقة حلول بديلة، وهو ما فقدوه عند من يفترض أن يكونوا مرجعية تحقيق العدل، والرشد، وتقوية مرتكزات الأسرة، وإن كانت هذه الحلول وهمية تعمل عمل مسكن الآلام، لا هي العلاج الناجع للمرض، الذي يجتزه من جذوره.

فعند فقدان العلاج عند أهله، فإن المريض سيذهب إلى البدائل التي غالبا ما تكون ترقيعية ووهمية ومسكنة لآلامه لا معالجة لها.

إن مواجهة المشكلة تكون أولا بالاعتراف بوجودها وبحجمها، وبتشخيصها وفق مقتضيات الواقع وتحدياته، ووضع الحلول المناسبة لها، لا المناسبة للعادات والتقاليد والأعراف، وأمزجة القائمين على حلها.

ويكفينا كشاهد على إخفاق أغلب هذه المحاكم، مشكلة المعلّقات من النساء، والتي قد تبقى معلّقة دون زواج ودون طلاق لعقد أو أكثر من الزمن، وهي مشكلة بدأت تزداد وتتفاقم مع الأيام، دون تصدي حقيقي من المعنيين لحل هذه القضية، وما يترتب عليها من مفسدة كبيرة على المجتمع. فيكتفي أكثرهم بالمشاهدة، أو مواجهة من تحاول منهن تخليص نفسها من هذا الوضع السّاكن، والمعيق لحركتها كإنسان نحو الله، فيصبح هؤلاء حوائط صد عن الله، بدل أن يكونوا جسورا يعبرها الإنسان نحو الله تعالى بسبب فهم أغلبهم التوقيفي للدين، لا العابر بتطبيق الدين إلى كل العصور والأزمان.

وهذا الموضوع (موضوع الاستشارات الأسرية والمحاكم الأسرية) يحتاج إفراد بحث مستقل له، لحجم إشكالياته، ولدوره في تعقيد المشهد الأسري، بدل أن يكون الأقدر على تفكيك العُقَد، وحلها وفق العدالة والإنصاف.

***

أ.إيمان شمس الدين

كاتبة و أكاديمية من الكويت

(كثيرا ما تخدع المظاهر البراقة الشعب فيسعى الى حتفه بظلفه. وكثيرا ما يسهل التأثير عليه بالآمال الكاذبة والوعود المتسرعة بسهولة)... ميكيافللي

(الحمار قد يختار التبن على الذهب)... هيراقليطس

مدخل عام

تشتغل الأخلاق كمبحث فلسفي على بيان ما هو أخلاقي، وتبحث في الأسس والمعايير التي تبنى عليها القيمة الخلقية ويفكر رجل الاخلاق في الراهن وكيفية ترجمة المبادئ الأخلاقية الى معاملات في الحياة اليومية. بينما تتساءل الفلسفة السياسية عن معنى السلطة والحقوق والعدالة والملكية وتتحدث عن الالتزام السياسي.. فالسياسة في معجم روبير هي: " فن حكم المجتمعات الإنسانية "، وتاريخيا لم تكن السياسة في علاقة متوترة مع الاخلاق دائما - كما هو واقع في عصرنا هذا مع تزايد معدلات الجريمة والفساد السياسي وعودة الأنظمة الاستبدادية ومع بروز مشكلات الموت الرحيم، والإجهاض، وحقوق المثليين، وأبحاث الخلايا الجذعية، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء مما ولد حالة من السخط الشعبي وعدم الثقة في اخلاق الطبقة السياسية- بل عرفت اشكالا من التوافق والانسجام لاسيما في العصور القديمة سواء في الفلسفة اليونانية او الفلسفة الإسلامية والمسيحية. حيث كان ينظر الى الأخلاق والسياسة على انهما من مظاهر الحكمة والقيم العملية ورمزا للفضيلة. هذا التوتر في العلاقة بين السياسة والأخلاق انفصالا واتصالا يدفعنا الى التساؤل:

هل نجاح الممارسة السياسية يقتضي التضحية بالأخلاق؟

هل يمكن للسياسة أن تقوم دون بعيدا عن الفضيلة؟

هل من الممكن ممارسة السياسة دون التضحية بالمعايير والقيم الأخلاقية؟

يمكن ان نميز هنا بين اطروحتين: أطروحة منطوقها يدور حول فكرة ان السياسة والاخلاق متصلان وهم ينطلقون من مسلمة مفادها ان غاية الدولة اخلاقية وهذه الغاية تتمثل في تحقيق العدل ومن ثمة سعادة الانسان. ففي كتابه الاخلاق الى نيقوماخوس وضع ارسطو السياسة فوق علم الاخلاق وهي عنده علم العمران الذي تقوم عليه مطالب الانسان كلها وكتب قائلا: ” نقطة أولى يظهر انها بديهية، وهي ان الخير يتبع العلم الأعلى بل العلم الأساسي أكثر من جميع العلوم. وهذا هو على التحقيق علم السياسة.. انه في الواقع هو الذي يعين ماهي العلوم الضرورية لحياة الممالك، وماهي التي يجب على اهل الوطن ان يتعلموه، والى أي حد ينبغي ان يتعلموه، ويمكن ان ينبه فوق ذلك الى ان العلوم الأعلى مكانة في الشرف هي تابعة للسياسة، أعنى العلم الحربي والعلم الإداري والبيان " [1] وهكذا في السياسة اليونانية، يتم التعرف على المواطن على هذا النحو فقط من خلال اندماجه في المجتمع السياسي والسبب العملي الذي يوجه عمل المواطن اليوناني يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأخلاقيات "[...] التي تُفهم على أنها مجموعة من التقاليد والعادات وقيم الحياة في البوليس او ما يسمى المدينة.

أما في الفلسفة الإسلامية تطرق ابن رشد الى مشكلة التغيير السياسي وبناء الدولة وفق فلسفة تنويرية واسس قانونية أخلاقية حيث انطلق ابن رشد من مقاربة وصفية تحليلية فتحدث اولا عن أنظمة الحكم المختلفة ومنها: التيموقراطية (مدينة الكرامة) وتقوم على حكومة النبلاء وأصحاب الطموح الباحثين عن الشهرة وهي تنتج عن حب السيطرة والعنف، وحكومة الخسة والخساسة، وحكومة الطغيان (التغلب).. وهو يتحدث عن حكومة الطغيان وصف ابن رشد الطاغية بالسكران وبان نفسه مليئة بالعبودية والجور لايقدر على ضبط نفسه ومراقبة رغباته، هو بالمحصلة مريض نصب نفسه طبيبا لمعالجة الاخرين، ووفق مقاربة سيكولوجية حلل ابن رشد نفسية الشعوب الواقعة تحت حكم الطغيان ولاحظ انها شعوب تشعر بالحزن والقلق وتعيش محطمة في مهاوي الياس والفقر، وانهم تحت ضربات الطغيان وسياط الاستبداد يتجهون الى البحث عن قوت يومهم ومن ثمة ينزل سقف تفكيرهم فلا يتجاوز البحث عن الخبز.

لذلك تبنى ابن رشد الديمقراطية (السياسة الجماعية) كمنهج في الحكم ديمقراطية أسسها على مبدأين: هما الارتقاء بالحرية في أوسع معانيها والالتزام بالقانون والمبادئ الأخلاقية وجاء من بعده ابن خلدون: " حسن التصرف في الحكم يعود إلى الرفق، فإن الملك إذا كان قاهرا باطشا شمل الناس الخوف والذل وإذا كان متخلقا اشربوا محبته واستماتوا دونه في محاربة أعدائه " و نجد الماوردي يقول: " السياسة العادلة هي التي تجمع بين الاقوال والافعال وتدفع الحاكم الى عدم المعاقبة الا على ذنب "

ونفس الموقف نجده عند سانتهلير في مقدمة كتابه الذي ترجمه عن أرسطو المسمى « الأخلاق عند نيقوماخوس» عندما بين صلة السياسة بعلم الأخلاق فقال: "إن السياسة ليس لها مبدأ واحد لم تستمده من الأخلاق، فماذا عسى أن يكون التشريع في الممالك إذا كان لا يستند إلى علم الأخلاق؟ وما عسى أن يكون حال الحكومة وقد خلت من العدل؟ وما مصير الجمعيات الإنسانية بلا أخلاق؟ ولاحظ الفيلسوف البريطاني راسل أن العلاقات الدولية عندما ابتعدت عن الاخلاق اصبح أساسها الصراع والتنافس والسبب في ذلك الانفعالات السلبية مثل الحقد والكراهية وعلى السياسة أن تخرج من دائرة العاطفة وتعود إلى زاوية العقل وذلك من خلال الالتزام بالمبادئ الاخلاقية ومن هنا جاءت مقولة راسل: " الشيء الوحيد الذي يحرر البشر هو التعاون وان يتمنى المرء الخير لنفسه وللآخرين " وجاء في ميثاق الأمم المتحدة ما نصه: " نحن شعوب العالم القينا على أنفسنا أن نحمي الأجيال المقبلة من ويلات الحرب وان ندافع عن الرقي الاجتماعي في جو من الحرية" وهذه الاحكام مستمدة في الاصل من فلسفة كانط في كتابه " مشروع دائم السلام الدائم " * والذي وضع فيه ست مواد أساسية تبين الشروط السلبية للسلم أولها: " ان أي معاهدة للسلام لاتعتبر كذلك اذا انعقدت نية وضعها على امر من شانه اثارة حرب من جديد " وثلاثة مواد تضع الشروط النهائية والايجابية للسلم ولذلك يعتبر كانط من أنصار هذه الأطروحة والذي استعمل مصطلح الواجب الأخلاقي أي طاعة القانون الأخلاقي احتراما له وليس للمنفعة أو خوفا من المجتمع , والأخلاق عند كانط تتأسس على ثلاث شروط: "شرط الشمولية " وهذا واضح في قوله: " تصرف بحيث يكون عملك قانون كلية " و شرط احترام الإنسانية أي معاملة الناس كغاية وليس كوسيلة , وأخيرا ضرورة أن يتصرف الإنسان وكأنه هو مشروع الأخلاق.

كما نجد جون راولز يتساءل في كتابه العدالة كإنصاف: عندما ننظر الى المجتمع الديمقراطي نظرة تعتبره نظاما منصفا من التعاون الاجتماعي بين مواطنين معتبرين أحرارا وتساوين نسال ما المبادئ التي تلائمه اكثر من سواها ؟ ويقتضي هذا التساؤل التفكير في تطبيق العدالة الاجتماعية بطريقة عملية وهذا الامر مشروط بتقاطع وتوافق المؤسسات السياسية مع المؤسسات الاجتماعية وكيف تجتمع وتتناسق وتتكامل انطلاقا من منظومة أخلاقية، صحيح ان السلطة السياسية هي دائما سلطة اكراهية الا انها سلطة مواطنين يفرضونها على انفسهم مواطنين احرارا ومتساوين وقد أشار الى ذلك جون جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي قائلا: " ان القابضين على السلطة التنفيذية ليسوا اسياد الشعب بل هم موظفوه او خدامه..ان الشعب يقدر ان يعينهم وان يقيلهم كما يشاء " وهكذا المجتمع الحسن التنظيم هو المجتمع الذي ينظمه وبكفاءة مفهوم سياسي للعدالة وذلك بوجود قضاء مستقل وتحديد قانوني للملكية وبناء الاسرة للوصول الى العدالة الأخلاقية من خلال قوتين أخلاقتين هما الشعور بالعدالة كالتزام والزام أخلاقي والقدرة على الارتقاء الى الخيرية وهنا يظهر البيان الأولي لمبادئ راولز للعدالة كما يلي[3]:

وهناك أطروحة معاكسة يدور مضمونها حول فكرة أن السياسة والاخلاق منفصلان وهم ينطلقون من مسلمة انه من الضروري استبعاد القيم الأخلاقية عن مجال السياسة وان ماهية الاخلاق تختلف عن الممارسة السياسية. ومن ابرز ممثلي هذا الاتجاه ميكافللي ففي كتابه الأمير كتب قائلا: " كلنا نعرف مدى الثَّناء الذي يناله الأمير الذي يحفظ عَهْدَهُ ويحيا حياة مستقيمة دون مَكْرٍ، لكن تجارب عصرنا هذا تدل على أنّ أولئك الأمراء الذين حققوا أعمالا عظيمة هم من لم يصن العهد إلا قليلاً وهم من استطاعوا أن يؤثروا على العقل بما لَهُ من مَكْرٍ، كما استطاعوا التغلب على من جعلوا الأمانة هادياً لهم" وتصب بقية النصوص في كتاب الأمير في نفس الاتجاه حيث تبتعد السياسة عن النظرة المعيارية وتتغذى من الواقعية في الطرح لذلك في مستهل مقال السياسة والأخلاق علاقة متوترة أشار أليساندرو بينزاني الى اننا نتعامل مع مفهوم شخصاني للسلطة السياسية، حدده ميكيافللي بالقدرة على قيادة السكان المتجمعين في منطقة معينة والقدرة على الدفاع عن حدود هذه الأخيرة. مثل الأشكال الأخرى للسلطة مستدلا بان شواهد

التاريخ بينت لنا أن الامراء الذ ين لم يلتزموا بالأخلاق حققوا انتصارات ودام حكمهم طويلا ومن هنا جاءت مقولته (الغاية تبرر الوسيلة والضرورة لا تعترف بالقانون) يمكن العودة هنا الى كتاب مطارحات ميكافللي والذي تحدث فيه ضمن احد ابوابه عن ما يسهل اقناع الشعب به وما يصعب " اذا كنت تبغي اقناع الشعب بشيء ما تحتم عليك ان يبدو هذا الشيء في احدى صورتين، صورة المضمون وقوعه، أو صورة القضية التي لا أمل فيها، وصورة الشيء الذي يحمل طابع الجرأة أو صورة الشيء الذي يحمل طابع الجبن " على اعتبار انه عندما تكون الاقتراحات المعروضة على الشعب من النوع الذي يبدو مضموناً حتى ولو انطوى على الكوارث مختفية فيه، أو من النوع الذي يحمل طابع الجرأة حتى ولو كان خراب الجمهورية كامناً فيه، يكون من السهل دائماً اقناع الشعب بها ويكون من الصعب دائماً وبنفس الطريقة اقناع الجماهير باتباع سبيل يبدو لها منطوياً على الجبن أو اليأس حتى ولو كانت السلامة والامن قائمين فيه وهناك شواهد عدة، من رومانية وغير رومانية، ومن قديمة وحديثة تقيم الدليل على صحة ما قلت، فمثلاً ساءت نظرة الشعب في رومة الى فابيوس مكسيموس، عندما فشل هذا في اقناعه بأن من خير الجمهورية، ان تمضي ببطء في حربها مع هانيبال، وان تلجأ الى الدفاع بدل الهجوم، فلقد رأى الشعب في نصيحته جبناً لا ينطوي على أيه فائدة ملموسة، ولم تكن لدى فابيوس الحجج الكافية لحملهم على تبين وجهة نظره. وتكون الشعوب عادة على درجة كبيرة من العمى وعدم الادراك في القضايا التي تتعلق بسلامتها، فعلى الرغم من ان الشعب الروماني قد اقترف الخطيئة بتخويله قائد الفرسان عند فابيوس، بالهجوم على هانيبال، على الرغم من ارادة فابيوس نفسه، وعلى الرغم من ان هذا العمل، الذي تم السماح به رسمياً، كان من المحتوم ان يقضي على الجيش الروماني حتماً ويصيبه بالهزيمة، لو لم يسارع فابيوس بما امتاز به من حسن ادراك الى انقاذ الوضع، الا ان هذا الشعب لم يفد كثيراً من هذه التجربة.. والآن دعوني اقدم مثلاً آخر على هذا السلوك من تاريخ رومة. كان هانيبال قد قضى ثماني سنوات او عشراً في ايطاليا، وكان قد أعمل في الرومان تقتيلاً وذبحاً ذات اليمين وذات الشمال، في طول البلاد وعرضها، عندما جاء ماركوس سنيتونيوس بنيولا وهو انسان وغد على الرغم من انه سبق له ان اشغل منصباً في القوات المسلحة الى مجلس الشيوخ، وعرض عليه، اذا سمح له المجلس بتأليف جيش من المتطوعين يجمعه من أي مكان في ايطاليا، ان يقدم له هانيبال في وقت قصير، حيا او ميتاً. وبدا طلب هذا الوغد في عيني اعضاء مجلس الشيوخ شيئاً ينطوي على الحمق والجنون، ولكن لما كانت الحقيقة تشير الى انهم اذا رفضوا العرض، وعرف الشعب برفضهم، فستنشب في المدينة اضطرابات وستحل الكراهية على اولئك الذين ينتمون الى عضوية المجلس، ولذا فقد اجابوه الى طلبه مؤثرين تعريض كل من يلحق بالرجل الى الخطر، على ان يثيروا سخطاً جديداً عليهم بين جماهير الشعب، وذلك ادراكاً منهم لما يلقاه مثل هذا العرض من ترحيب عند العامة، ولما سيجدونه من صعوبة في اقناعهم لو حاولوا ذلك. وهكذا مضى الوغد على رأس جماعة من الدهماء يفتقرون الى النظام والانضباط باحثاً عن هانيبال، فهزمه هذا وقتله مع كل من كان بسیر تحت قيادته في أول معركة التقى بها معهم. وفي بلاد اليونان، لم يستطع نيكياس، وهو رجل عرف في اثينا، بسعة حكمته وثقل وزنه، اقناع شعب المدينة بحماقه ما ينوونه من غزو صقلية، مما أدى الى اتخاذهم قراراً خالفوا فيه مشورة كل من يقدر

ويؤكد جوليان فروند في كتابه ماهية السياسة على انفصال السياسة عن الاخلاق قائلا " إن الأخلاق والسياسة لا سبيل الى تماثلهما قط" وتبرير ذلك في نظره ان السياسة هي فن الممكن وترتبط بضرورة من ضرورات الحياة وهي تنظيم المجتمع وحماية الدولة وتقوم على الحيلة والصراع فطابعها واقعي اما الاخلاق فهي تهتم بما يجب ان يكون وبكمال الفرد فطابعها مثالي.وتاريخيا نجد أنظمة سياسية أسست مشروعها على القوة ونبذت كل القيم المرتبطة بالأخلاق وعلى رأسها السلام والتسامح يقول موسوليني: "إن السلام الدائم لا هو بالممكن ولا هو بالمفيد، إن الحرب وحدها بما تحدثه من توتر هي التي تبعث أقصى نشاطات الإنسان وهي التي تضع وسام النبل على صدور أولئك الذين لديهم الشجاعة لمواجهتها" ومن الأمثلة التي توضح ابتعاد الساسية عن دائرة الاخلاق مقولة قوبلز وزير اعلام هتلر الذي كان يقول: " الكذبة كلما كبرت سهل تصديقها " وهناك مقولة مشهورة للسياسي البريطاني الشهير تشرشل: "لا عداء دائم، ولا صداقة دائمة، بل مصالح دائمة"

ولكن هل يمكن للحكم القائم على القوة والمكر والحيلة والخداع أن يدوم؟ ألا يؤدي ذلك إلى زعزعة الثقة بين الحاكم والمحكوم وبالتالي انهيار الدولة؟ الا يمكن القول ان السلطة التي تبتعد عن الاخلاق سلطة مطلقة وهي بالضرورة مفسدة مطلقة

من الناحية الواقعية يمكن القول ان تدهور العلاقات السياسية في العالم في عصرنا هذا كان بسبب الابتعاد عن القيم الاخلاقية والبحث فقط عن المصالح الضيقة وهذا سلوك يقضي على كل أشكال التعايش الديني، العرقي، الفكري واللغوي ومثال ذلك حرب روسيا على أوكرانيا او الحرب في السودان... ويمكننا أن نعرض هنا موقف الُمفكر الجزائري مالك بن نبي من باب الاستئناس ففي كتابه شروط النهضة قال: " إذا كان العلم بلا ضمير خراب الروح فان السياسة بلا أخلاق خراب الأمة ". وشريعة الإسلام ترفض الصراع بين السلطة الروحية والسلطة السياسية ويعتبر الأساس في الحكم هو الأخلاق قال رسولنا عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وقال تعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) وهذه النظرة تجسدت في اول خطبة للخليفة ابي بكر الصديق رضي الله عنه.

وفي مقابلة مع هنري هود هل الحرب محفورة في الإنسان وهل هي بهذا المعنى حتمية؟ بعبارة أخرى، هل السلام الدائم بالمعنى الكانطي خيالي؟ أجاب ان الحرب ظاهرة تبدو عالمية في المكان والزمان. إنها متجذرة في الإنسان كما هو الإنسان. لذلك هناك بالتأكيد شيء ما في الإنسان يدفعه إلى الحرب. إن فكرة هوبز القائلة بأن "حالة الطبيعة" للإنسان تؤدي إلى "حرب الكل ضد الجميع"، على الرغم من التناقض، صحيحة تمامًا. يفسر ذلك حقيقة أن الإنسان يعرف قانونه الطبيعي، لكن حالته الطبيعية غالبًا ما تكون حالة ناتجة عن عدم تطبيق هذا القانون الطبيعي. هذا ما يخبرنا به القديس توما: "غالبًا ما يتصرف الحيوان العقلاني بطريقة غير معقولة". وبالتالي، إذا أردنا السلام، فسيتعين علينا تغيير سلوكنا بشكل جذري، وعلينا أن نجبر أنفسنا على أن نكون حكماء وأتقياء ومقدسين، لكن الكثيرين لا يريدون أن يكونوا كذلك.

كتخريج عام

يمكن القول ان الأخلاق والسياسة من المشكلات الكلاسيكية في الفكر الفلسفي ومع ذلك لا تزال مطروحة للنقاش والجدال والبحث والتقصي وعليه يجب اخلقة العمل السياسي يتعلق الامر بضرورة اداء الافراد لواجباتهم الاخلاقية والقانونية في الوظائف العامة، والتزام رجل السياسة واحتكامه الى صوت الضمير واداء واجباتهم التي تم انتخابهم من أجلها في مجتمع سئم افراده من كثرة الأخبار المتعلقة بفضائح الفساد.

***

الأستاذ عمرون علي أستاذ مادة الفلسفة

..........................

المراجع المعتمدة

[1]- علم الاخلاق الى نيقوماخوس، ارسطو، تعريب احمد لطفي السيد، مكتبة دار الكتب المصرية، ص: 171. 

[2]- مطارحات ميكافللي، نيقلو ميكافلي، تعريب خيري حماد، منشورات دار الافاق الجديدة، بيروت لبنان، ص: 390-392.

* يمكن العودة الى كتاب مشروع للسلام الدائم لكانط ترجمة عثمان امين.

[3] العدالة كإنصاف، جون رولز ترجمة، حيدر حاج إسماعيل، مركز دراسات الوحدة العربية.

يقول عامة الناس ما تجود به النفس، ونحن نقول ما يجود به اللاشعور، هو في الحقيقة لا يجود، هو اختنق بما لا يستطيع ان يحمله، فاض وكادت النفس ان تغرق في عواصف واعاصير لا يمكن تحملها، اين يذهب بها وهو يحمل ثقلها، يحمل آنينها، يسمعه ولا يسمع إلا حينما طفح الكيل وأنبأه انه يرزح تحت حمل لا يطيقه، خزنه ولا يدري أنه يحمل هذا المخزون الذي أثقل كاهله، ظهر في هفوة، في زلة لسان، في شيء اضاعه في مكتبه ولا يراه، وهو أمامه، في حلم أقض مضجعه، إذن لهذا اللاشعور لغة يتكلم بها،  يذهب به بعيدًا بصور متداخلة من زمن بعيد وقريب، أين الهروب من نفسٍ ضاقت بنفسها، هل يمكنه ان يجود وهو لا يستطيع، فتكون في نهاية المطاف ان النفس تنوء بحملها، كما يدرك صاحبنا الشاعر أو الاديب أو القاص بعد ثقل تفكيره بما تولد فيه من صور وأفكار، لابد ان يطرحها أو تجعله كما لدى اصدقائنا ممن أُثقل دماغه بما لا يطيق وبدأ يتحدث مع نفسه لنفسه، جعل العالم بما فيه في داخل دماغه، فتوسع مجرى التفكير، يهذي فلسفة، هذا الهذيان له دلالة ومعنى، له لغة خاصة، ولكن ضعفت الذاكرة المحيطة، لأنه غادر الواقع المعاش وبنى لنفسه عالم خاص به، وصارت لغته هلاوسه، ولسانه ينطق بخيالاته، لا يختلف عنا كثيرًا، نحن تحصنا بما نحمل من عصاب " أعصبة" قلق مرضي، وساوس، مخاوف غير مبررة، سيكوسوماتيك "اعراض نفسجسمية" أتعبنا نفسنا فأهلكنا المعدة بآلام نفسنا فكانت قرحت المعدة ذات الأصول المنشأ النفسي، أو  أكتئاب نفسي خفيف نعترف بوجوده، تداهمنا نوباته ونحاول أن .. عدة مداخل له ومنها العزلة والإنطواء، منا من يعيشه فيفرك يومه ويعيش التعاسة فينطوي على نفسه، والآخر منا يحقق له مكاسب آخرى يتعايش بها ومعها. 

يقول "فرويد.. فإن اعترض معترض بأن اللاشعور " اللاوعي" ليس له وجود واقعي بالمعنى العلمي، وما هو إلا مجرد قول نتخلص به من مأزق حرج، أعرضنا عنه نهز أكتافنا وأغضينا عن هذا الاعتراض غير المفهوم: أيصح في الأذهان أن يتمخض شيء غير واقعي عن شيء واقعي ملموس كالفعل الحوازي - الوسواسي؟ "فرويد، محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي، ص 308"                                                                                                                                     أما بعضنا الذي أستطاع إفراغ الانفعالات التي تحاول أن تؤدي إلى الاختلال المرضي بطريقة تحفظ لصاحبها اتزانه،  فقد نجح في تحويل ما يجول في فكره إلى لغة وأدب، فأنتج أجمل ما نقرأه وهو ما نطلق عليه الإبداع الفني والأدبي، وأطلق لسانه إلى شعر عظيم نابع من اللاشعور " كما يقول العامة ما تجود به النفس والقريحة"، والمسرحي حيث يتيح له تفريغًا يكسبه جمال الإنتاج حقًا اجتماعيًا، فضلا عما يتيحه من مشاركة الآخرين للفنان في معالجة الانفعالات على نحو مقبول كما يقول العلامة "مصطفى زيور" ثم إلى حركات تنسجم بايقاعات  يتقبلها المشاهد في المسرح، أو نحن نشاهدها على الشاشة الصغيرة- السينما، حيث يبهرنا بأداءه، أو تلك الموسيقى التي تزحزح ثقل وجودنا المادي فتهتز معها أطرافنا وأرجلنا، أو تهز بعضنا إيقاعات الرقص الديني عند البعض ممن يتناغم لاشعورهم مع الإيقاعات الدينية بالحركة، أو باللحن المؤثر في النفس، أو الحركات الجسدية في مناسبات نراها مقدسه لإنها تحرك ما بداخلنا من مشاعر واحساسيس نرغبها ولكن نذهب في حالة توحد "تجلي"  معها ويقول قارع ومحرك المشاعر من يدير جلسة الايقاعات الخارجية من لم يهتز في مجالسنا؟! أو من لا يحركه الايقاع فما في لاشعوره أعمق من ان تثيره هذه الايقاعات، ولكن يحرك سلوكه لاشعوره وهو في حالة اليقظة، لا يدري أن ما نعمله أو نفعله هو من ما خزن في دواخلنا، وعاد بشكل محرف ومختلف على غير ما خزن .. أنه اللاشعور – اللاوعي، هو يحركنا ونتحدث بما يمليه علينا، نعزل غير المقبول – المستهجن، ونطرح المنمق – الجميل الذي يرغبه من يسمعنا ونجمل كلماتنا بلسان حلو، وما أَمرهُ "مر"  وأخشنه، وأتعسه في اللاشعور، نشعر به حينما يوقظنا من حلم تَحول إلى كابوس، ونختم قولنا بما تركه لنا "مصطفى زيور": تبينا أنَّ الأحلام والأمراض العقلية أو النفسية والاساطير والفكاهة والإنتاج الفني، فضلًا عن بعض ما يقع لنا في حياتنا اليومية مثل الهفوات وما إليها، تصدر جميعًا عن منطق لاشعوري – لاواعي يختلف عن منطقنا العادي بل يكاد يناقضه، ونقول أن كل ما نفعله، أو نفكر فيه، أو نسلكه كتصرفات يومية هي مخزونة في اللاشعور – اللاوعي ومنذ زمن بعيد. ويقول سيجموند فرويد مؤسس التحليل النفسي فاللاشعور " اللاوعي" هو الواقع النفسي الحقيقي وهو في طبيعته الباطنة مجهول منا، ونجهله قدر جهلنا بحقيقة العالم الخارجي، كما أنه لا يمثل لنا بوساطة معطيات الشعور " الوعي" إلا مثولًا ناقصًا على نحو ما يمثل العالم الخارجي بوساطة وسائل أعضائنا الحسية" فرويد، تفسير الأحلام، ص 595" ويضيف "فرويد" بأن اللاشعور هو المنطقة الأوسع التي تضم بين جوانبها منطقة الشعور الأضيق نطاقًا، فكل ما هو شعوري له مرحلة تمهيدية لاشعورية" لاواعية"، بينما يظل اللاشعوري على هذه المرحلة ولا يفقد مع ذلك حقه في أن نسلم له بكل قيمة العملية النفسية. 

***

د. اسعد الامارة

عديدة هي المشاكل والأزمات التي يعاني منها مجالنا العربي والإسلامي، وتمارس دورها السلبي والسيئ في مسار حياتنا جميعا. إلا أن من أهم هذه المشكلات المعاصرة، هي تلك المفارقة التاريخية التي يعاني منها هذا المجال. ففي الوقت التي تتجه فيه أمم الأرض وشعوبها تحت عناوين ويافطات متنوعة نحو التكتل والوحدة والتعايش السلمي، في هذا الوقت بالذات تتجه أوضاعنا وأحوالنا في المجال العربي والإسلامي نحو التفتت والانفجار والمزيد من بروز عوامل الافتراق والتجزئة. ويبدو من الكثير من المؤشرات أن الأيام حبلى بالكثير من المفارقات على هذا الصعيد. حيث العالم يتجه بخطى حثيثة نحو الوحدة والاندماج، ونحن في الاتجاه المقابل نسير باتجاه الانحباس في أطر تمزيقية والمزيد من التجزئة والتفتت. ويبدو لي أن هذه المفارقة التاريخية ينبغي أن نقف أمامها لمعرفة جذورها وأسبابها الحقيقية، وكيف يمكننا وقف هذا الانحدار والتهاوي السريع نحو واقع لا نحسد عليه من أي عاقل.

ولعل من المشاهد العجيبة، التي يعيشها المشهد الثقافي والسياسي العربي، أنه في الوقت الذي تزداد فيه الدول المتقدمة قربا من بعضها، وتؤسس الظروف المؤاتية لوحدتها على مختلف الصعد، وهي المختلفة مع بعضها في الكثير من الأمور الجوهرية.

وفي هذا السياق، الذي تتكاثر فيه المؤسسات والشركات المتعددة الجنسيات، إذ يقدر عدد الشركات عبر القومية في الوقت الراهن ب37 ألف شركة على نطاق العالم. وتسيطر هذه الشركات على ثلث مجموع أصول القطاع الخاص، ووصلت مبيعاتها إلى 5،5 تريليون دولار، وهو ما يضاهي النات القومي الإجمالي في الولايات المتحدة الأمريكية. وكتب (إيغناسيو راموني) أنه: لا يمكن أن نتصور أسبوعا يمر دون أن تخبرنا وسائل الأعلام بكل أشكالها بزواج جديد بين شركات كبرى، بتقارب إستراتيجي معي أو بانصهار بعضها في البعض الآخر. ففي سنة (1997م) مثلا بلغ حجم الانصهارات والتحالفات ما لا يقل عن (1600) مليار دولار طالت عموما القطاعات التي تعتبر إستراتيجية في عصر العولمة. أي البنوك ووسائل الإعلام والاتصالات والسيارات والإلكترونيات وما إلى ذلك. ويضيف (راموني) بعض الأمثلة والحقائق ويقول إن: اقتناء صانع السيارات (كرايزلر) من طرف (دايمز بنز) بمبلغ (43) مليار دولار وبنك (ستيكورب) من طرف (ترافلرز) بمبلغ (83) مليار دولار وشبكة الهاتف (أمريتيك) من طرف (س. ب. س كومينيكاشيو ن) ب (60) مليار دولار وشركة الصيدلة (سيبا) من طرف (ساندوز) بأكثر م ن (36) مليار دولار والذي نشأت بمقتضاه (نوفارتيس)، والفاعل (م.س. ي) للاتصالات من طرف (وورلد كوم) ب (30) مليار دولار، وبنك طوكيو من لدن بنك (ميتسيبيشي) بحوالي (34) مليار دولار، وشركة البنوك السويسرية من طرف اتحاد البنوك السويسرية ب (24) مليار دولار. وكذا القرار الأخير بدمج العملاقة التاريخية للحديد بألمانيا (تايسي وكروب) والتي يبلغ رقم معاملاتها حوالي (63) مليار دولار.

و"لاشك أن النواة الصلبة التي يتربع على عرشها كهان الأممية المالية تتمثل أساسا في الشرك ات العابرة للحدود، فحوالي (37000) من هذه الشركات مع فروعها (170000) المنتشرة في جميع أصقاع المعمورة هي الماسكة في مطلع التسعينات بتلابيب الاقتصاد العالمي، فملياراتها العابرة للقارات بسرعة الضوء تحدد أسعار الصرف الأجنبي، وكذلك القوة الشرائية لهذا البلد أو ذاك، ولعملته إزاء بقية عملات بلدان العالم، وهي موزعة جغرافيا بين البلدان التالية: اليابان (62) شركة، الولايات المتحدةالأمريكية (53)، ألمانيا (23)، فرنسا (19)، بريطانيا (11)، سويسرا (8)، كوريا الجنوبية (6)، إيطاليا (5)، هولندا (4)، وكي يدرك المرء القوة المالية لهذه الشركات يكفي أن نذكر الأمثلة التالية: يفوق رقم معاملات جنرال موتور الدخل الوطني الخام للدنمارك ويفوق رقم معاملات فورد الدخل الوطني لجنوب أفريقيا، ويفوق رقم معاملات شركة تويوتا الدخل الوطني للنرويج ".

ونرى في مقابل ذلك، أن الواقع العربي يزداد انقساما وتشتتا وضياعا وبعداً عن حالات الوحدة والتوحيد، حيث أض حت هذه المفارقة من العلامات النوعية لنهايات القرن العشرين. فالنظام الدولي الجديد، يطرح العولمة والكوكبة كخيار إنساني قادم، تقوده دول الغرب المتحدة مصلحيا وحضاريا، وفي بعض الدوائر سياسياً واقتصادياً.

" ففي كل أسبوع من أسابيع السنة يستقبل العالم إضافة نوعية جديدة في مجال البرامج أوالأجهزة. هذه الإضافات ضاعفت من كفاءة الكمبيوتر بأكثر من مليون ضعف ما كان عليه أول حاسب آلي صنع عام 1946م، والذي كان في غ اي ة التواضع من حيث القدرات والإمكانيات. كان ذلك حال الجيل الأول من الكمبيوتر ثم تلاه الجيل الثاني 1958م وكل من الجيل الثالث والجيل الرابع عا م1978 م، وبدأ العالم حاليا يستقبل الجيل الخامس الذي يتصف بدرجة عالية من الذكاء والذي بإمكانه إجراء أكثر من ملياري عملية مختلفة في الثانية الواحدة، وهو الأمر الذي كان يستغرق ألف عام لإجرائه في السابق، وقبل عصر الجيل الخامس من الكمبيوتر. إن عالم الكمبيوتر لا يزداد سرعة فحسب، بل يزداد تخصصا ورخصا وصغرا وانتشارا. فعالم الكمبيوتر يتجه في العموم من الصغير إلى الأصغر، ومن السريع إلى الأسرع، ومن الصوتي إلى الرقمي، ومن المغناطيسي إلى الضوئي، ومن الثابت إلى المتحرك، ومن الجامد إلى الناعم، ومن المادة إلى الخلية العضوية ".

إضافة إلى ذلك دخل العالم اليوم عصر تكنولوجيا المعلومات ومعالجتها وتخزينها واسترجاعها بمعدلات وسرعات تتضاعف بكيف أسي. ف " ثمة ثورة تجتاح ما بعد بيكون الحالي. وما كان بوسع أي عبقري في السابق (لا سن تسو ولا مكيافيلي ولا بيكون نفسه) أن يتخيل ما تشهده هذه الأيام من منحى عميق في تحول السلطة، أي هذه الدرجة المذهلة التي أصبحت بها القوة والثروة تعتمدان على المعرفة حاليا. إن المعرفة نفسها ليست المصدر الوحيد للسلطة فحسب، بل أنها أيضا أهم مقومات القوة والثروة. وهو يوضح لماذا أخذت المعركة الدائرة من اجل التحكم في المعرفة ووسائل الاتصال تشتد الآن وتحتدم في جميع أنحاء العالم ".

وفي المقابل نجد المشهد العربي، يدخل في نفق التفتيت، وغياب البوصلة النظرية التي تحدد الأولويات وتبلور البرامج العملية، التي تساعد الواقع العربي في بلورة موقفه من تحديات العولمة والكوكبة.

يقول المفكر الفرنسي (دوبريه): أن العالم يزداد تشرذما بازدياد وتائر توحيده، فالوحدات الاقتصادية الكبرى، يقابلها حالة من التفتت السياسي والوطني.

وأصبح العالم العربي، جزءا من العالم الطرف، الذي تتحكم في مصائره السياسية والاقتصادية والحضارية دول المركز التي وجهت مسار العالم الطرف، بما ينسجم والمصالح الكبرى للرأسمالية العالمية. وسقطت في نسق التفتت الدائم، الذي يشهده الواقع العربي على مختلف الصعد، جميع خطوط الدفاع وإمكانات البقاء الجمعي ولم يبق في أيدي العرب سوى ثقافتهم التي ما زال منطقها توحيديا وتنحو أصولها وكلياتها نحو ضرورة التوحيد ونبذ التجزئة، ومحاربة التفتيت بكل أشكاله.

لهذا تتحمل الثقافة العربية في هذا الإطار، الكثير من المسؤولية للعمل على إعادة التوازن إلى الواقع العربي، ووقف الانحدار الذي يشهده الواقع العربي في الكثير من المجالات والحقول.

وينبغي أن ندرك في هذا المجال، أن تطلع الثقافة في كل العصور، هو تطلع التجاوز، وترسيخ قيم ثقافية جديدة، تجعل المرء اكثر قدرة على معرفة نفسه،واكتشاف العالم.

لذلك فإن الثقافة في جوهرها هي عملية تجاوز مستديم إلى تلك الأفكار التي أضحت جثثا هامدة لا تحرك ساكنا ولا تزيل الغبار والكلس من الحياة الاجتماعية.

فالثقافة دائما مع المستقبل لأنها قدرة دائمة على التجرد والتغير والتطور ومدارها هو الحلم الإنساني الخالد المتجه دوما إلى صناعة مستقبل أكثر امتلاء وأكثر إضاءة.

وهي (الثقافة) مشاركة دائمة في خلق المناخ والمحيط المؤاتي لهذه التطلعات النبيلة والأحلام الخالدة، وهي تأسيس لصورة جديدة للحياة، تتواصل مع الواقع بعناصره المتعددة، وتضفي عليه علاقة معرفية عليا.

من هنا فإن الثقافة العربية تتحمل مسؤولية عظيمة في هذا العصر، وبإمكاننا أن نحدد دور الثقافة العربية لإنهاء هذه المفارقة وإعادة التوازن إلى المسيرة العربية في النقاط التالية:

1) وقف الانهيارات النفسية والاجتماعية في الثقافة والمجتمع، حتى تعود الثقافة الحية فتنزرع في الأرض العربية، وتنهض الواقع ويصبح أكثر فاعلية ودينامية.

إذ أن استمرار حالة العجز في الجسم العربي يهدد مصير الأمة ويجعل مستقبلها رهن إرادة الآخرين الذين لن يألوا جهداً في سبيل إرضاخ الأمة وتعزيز هيمنتهم وغطرستهم عليها. وفي هذه الحقبة التي أخذت تقنيات الهيمنة ووسائل السيطرة طابعا كونيا في إطار العولمة الحضارية والتقنية تصبح إرادة الآخرين فاعلة ما دامت قوانا شائخة وما دام عجزنا سريا في أوصال الجسم العربي.

ومهمة الثقافة العربية في هذا الصدد، هو وقف حالات الانهيار وتحديد مواقع العجز ومنع امتدادها الأفقي والعمودي، حتى يتسنى للواقع العربي أن يسترد أنفاسه وتوازنه ويبدأ بترتيب أوراقه الاجتماعية والحضارية.

والثقافة التي نرى أن مهمتها الأولى في وقف الانهيار ومنع العجز من الاستمرار والتمرد، ليست هي كل ما هو غامض ومبهم وبعيداً عن مدارك الجمهور ووعيهم العام وإنما هي تلك الثقافة التي تزرع في نفوس الجمهور أملا وإرادة.

أمل بإمكانية تجاوز كل المحن والصعاب التي تعترض المسيرة العربية وإرادة وعزيمة راسخة لتحويل هذا الأمل إلى واقع ملموس ووقائع مشهودة.

ولعلنا لا نعدو الصواب إذا قلنا أن التخلف الثقافي والمعرفي الذي يجعل الحذلقة أسلوبا والتعليم هدفا، هو من أشد أنواع التخلف خطرا، لأنه يسري في كل الأفكار والقناعات ويصبغها بصبغته.

2) لا وقف لهذا الانحدار، ولا تجاوز لحالة العجز الذي يعيشها الواقع العربي إلا بتجديد الوعي والعقل وازدهار العلم والمعرفة ومؤسساتهما. إذ أن هذه هي الروافع الحقيقية التي تحدث تغييراً جوهريا في مسيرة العرب والمسلمين وتؤهلهم لتحديد مواقفهم بشكل جدي وفعال من تحديات العولمة والنظام الدولي الجديد، إذ أن تجديد الوعي بعناصره المذكورة هي المداخل الضرورية لإحداث واقع نهضوي في الجسم العربي، ينهي السلبية ويتجاوز التبريرات واللاأبالية ويعبئ الطاقات ويشحذ الهمم ويقوي العزائم، ويوضح الهدف والمقصد.

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

التطورات الرأسمالية بحلتيها الغربية والشرقية تضع البشرية اليوم في مخاض التحولات التاريخية العميقة. مصادر القرار السياسي الكوني حولت المهن الهندسية وتقنيات فرص الشغل الجديدة في مختلف المجالات إلى ركيزة لربط إبداعات العلوم بالواقع المعاش. لذلك، فإنها تعرف كل يوم تطورًا ملحوظًا نتيجة للتقدم التكنولوجي والتحولات الاجتماعية والاقتصادية السريعة. الحزمة المكونة من الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي وتدقيق الهويات إلكترونيا تتصدر قائمة البرامج السياسية في العالم وتغزو كل المهن الهندسية وتخترع أخرى.

لقد تمكنت الحواسيب والروبوتات من تحليل البيانات بشكل أسرع وتطوير حلول مبتكرة في مجالات مثل الهندسة الكهربائية والميكانيكية والمدنية. كما ازداد استخدام تقنيات التصميم والنمذجة ثلاثية الأبعاد في المهن الهندسية. لقد أصبح في متناول المهندسين إنشاء نماذج افتراضية دقيقة وتحليلها بشكل أفضل قبل بدء التنفيذ الفعلي للمشروعات القطاعية. الروبوتات والأتمتة غزت كل الصناعات والمجالات التي تتطلب دقة وإنتاجية عاليتين. أكثر من ذلك، برز بشكل لافت قطاع هندسي جديدة مختص في تصميم وبرمجة الروبوتات والعمل على تطوير أنظمة أتمتة متقدمة.

أما في مجال الطاقة المتجددة والاستدامة في التنمية، فالجهود متواصلة للوصول إلى الموعد الزمني للتخلي على الطاقات الملوثة. المهن الهندسية تركز أكثر على تطوير وتنفيذ مشاريع الطاقة المتجددة والخروج من مجال الشعارات بتعزيز ترسيخ ثقافة التنمية المستدامة في الواقع الترابي للأوطان والأمم.

الانبهار بالخلق والإبداع في البحث والعلمي والهندسة يتصاعد بدون انقطاع أملا وخوفا في نفس الوقت. الدول المتقدمة غربا (بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية) وشرقا (بزعامة الصين) تستثمر الميزانيات الهائلة في مجالين حيويين. الأول يتعلق بالتكنولوجيا النانوية، بحيث تعمل الدول المعنية على تطوير مهنها الهندسية بوثيرة متزامنة. تستخدم اليوم المواد والأجهزة على نطاق أصغر من الحجم الطبيعي، الشيء الذي يساهم بقوة في تطوير مواد جديدة وأجهزة متطورة تستخدم في مجالات مثل الإلكترونيات والطب والطاقة. والثاني يتعلق بالهندسة البيولوجية، بحيث تشهد تطورًا كبيرًا. الجهود تتراكم لتحقيق النجاح في دمج المبادئ الهندسية مع العلوم الحيوية لتطوير تطبيقات جديدة. وليس بالمشروع البعيد أن يتم تصميم أعضاء بشرية صناعية، وتطوير روبوتات متفاعلة نفسيا مع المتعاملين معها، وأجهزة طبية متقدمة، وتحسين عمليات إنتاج الأدوية والأغذية.

الثورة المبهرة اشتعلت كذلك في مجال أنماط العمل وتقنياته وتدبيره ونجاعة إنجازه. الاتصال عن بُعد والعمل البعيد أصبح سيد الموقف. أصبح في متناول العديد من المهندسين الالتزام بعدة وظائف عن بعد في العالم والتواصل مع فرق العمل والعملاء دون الحاجة إلى التواجد الجغرافي في نفس المكان. لقد أصبح متاحا للعديد من المهن أداء مهامها بشكل كامل من خلال العمل عن بُعد باستخدام التكنولوجيا الحديثة للتواصل. هذه الأخيرة اكتسبت الفعالية والسرعة العاليتين. البريد الإلكتروني، والمحادثات المرئية، والدردشة الفورية، ووسائل التواصل الاجتماعي، حولت العالم الافتراضي إلى المصدر الأقوى تأثيرا لخلق الثروات المادية والمعرفية للأفراد والشركات والمؤسسات. أكثر من ذلك، توجت الأنماط الجديدة  لتدبير وتحسين وتنسيق العمل وتبادل المعلومات بين الفرق والفاعلين بنتائج مبهرة.

والعالم يتطور في مجال انتشار المهن الهندسية الرقمية، تظهر بالموازاة مع ذلك مهن جديدة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتكنولوجيا الحديثة للتواصل. فمطوري البرمجيات ومصممي واجهات المستخدم ومسؤولي وسائل التواصل الاجتماعي ومحللي البيانات وصانعي المحتويات يشكلون اليوم أمثلة ملموسة للمهن الرقمية المزدهرة.

اخترقت سيادات الدول والمهن الهندسية الكلاسيكية، وانتزعت حواجز التضييق على الحريات. لقد توسع فضاء الفرص العالمية بشكل متصاعد ومبهج. لقد أصبح بإمكان الأفراد أن يوظفوا مهاراتهم بالتفاعل الآني مع عملاء وشركات ومؤسسات من جميع أنحاء العالم. هذا يتيح لهم فرصًا أوسع ويساعدهم على التكوين والاحتراف السريعين وتنويع ثقافاتهم بالعمل مع أشخاص من ثقافات وخلفيات مختلفة.

وبذلك، فقاطرة التطورات العالمية لا تنتظر الفاشلين أو المتقاعسين. الوقت قد حان للتخلي على النخب المعتادة للسير قدما لتيسير التملص من التقليدانية القاتلة. لقد غيرت طريقة عملنا وتفاعلنا مع العالم، وأثر ذلك بشكل كبير لا رجعة فيه على تطور المهن الهندسية والسياسات العمومية وفتحت آفاقًا جديدة للفرص والابتكار لعامة الشعوب والأمم.

***

الحسين بوحرطة

قل لي من تعاشر أقول لك من أنت؟

حكمة قالها من سبقونا، بعد تجربة خاضوها ونقلوها للأجيال، لمعرفة نمط الحياة التي ينبغي أن يعيشها الإنسان في بلد مليء بالتناقضات، تختلف فيه الذهنيات وتتغير كلما حظرت المصلحة، أصبح العيش مستحيلا ويحتاج إلى تغيير جذري وشامل، فهذه الحكمة لها ارتباط وثيق الصلة بماهية العلاقات الإجتماعية بين الناس ومدى تفهمهم لهده العلاقة، أراد قائلوها أن يعرف لإنسان كيف يختار الجماعة التي ينبغي أن ينتمي إليها ويرافقها، أو حتى اختياره الصديق ومعرفة كيف يفكر وماهي المواقف التي تجعلك جاهزا للتيبس في أفكار جامدة لا تقبل النقاش، إن كان من تحاوره شخص مزاجي كثير التقلبات إلى درجة العدائية، فكل الفساد ينشأ من الكراهية والعنف الفكري، والتغيير يجب أن يبدأ بالتخلص من هذه الشحنة التي تختبئ في حنايا بعض الناس، الذين عماهم التعصب عن رؤية الحق وأهله، فتسقط معه كل المبادئ كقشور يابسة.

إن مجتمعنا مركب من ذهنيات (سياسية، عسكرية، دينية)، ولاختلافهما ظل الناس في مفتقر الطرق ولم يصلوا الى نقطة الفصل في الموضوعات التي يراها البعض تقليدية، أو أنها لم تعد صالحة في الزمن الحاضر، كقضية العودة إلى الأصل، والتخلي عما زرعته الحضارات الغربية الزائفة والفصل في السلطات وغيرها من القضايا التي تتطلب على الجميع أن يقدموا للجيل الحاضر أشكالا فورية للأحداث التي يعيشونها، الأيام أثبتت أنه على الإنسان أن يختار الجماعة التي لا تشكل بينه وبينها حاجزا، بل تجعلك تبني جدارا سميكا لا يمكن اختراقه، مهما كانت الظروف، فالذهنية المتعصبة التي تريد أن تفرض فكرها على الآخر، وتحدد له ماذا يقول وما لا ينبغي قوله، هي (أي الذهنية) لا تريد فهمك أو حتى الإصغاء إليك، بل تتعمد استفزازك لغاية ما، لأنها تعادي الحق وترى الباطل على أنه حق، لدرجة أنها قد تلصق تهما باطلة بجماعات كانت ضحية نظام مستبد وانتزعت منها شرعيتها بالغصب، إنهم المتعصبون الذين تدور فلسفتهم حول تحقيق الإنسان وجوده وذاته فقط، يرون أنها هي من تسببت في العنف وجرت البلاد الى حرب أهلية، ويناضلون من أجل إقصاء أصحابها بل تدميرهم.

هو ما نلاحظه على الحكام المترفين ومن اتبعوهم من الطفيليات الانتهازية يستميتون على بقاء الأمور على حالها دون تغيير أو تبديل، لأنهم يخشون عواقب ذلك، بل إنهم مع الأيام يمنحون لأنفسهم صلاحيات وحقوق لا حصر لها ولا حدود، منها التفكير نيابة عن الأمّة، لاشك أن الحياة تعطينا دروسا تعلمنا كيف نتعامل مع الآخر ونتواصل معه، من خلال معرفة الناس الذين نعاشرهم، من هم أصدقاؤهم ورفاقهم، والنظر إلى أسلوبهم في التعبير للوقوف على نوعية تفكيرهم، في ظل التطور التكنولوجي الذي جعلت العالم قرية صغيرة وظهور مواقع التواصل الاجتماعي، (الفيسبوك) وتوسع العلاقات حتى مع الذين لا نعرفهم، فنجد البعض قبل الموافقة على طلب الصداقة مثلا يبحث عن أصدقائه من هم؟ وما هو مستواهم الفكري؟ وما هو المجال الذي يخضون فيه بالنقاش، فنحن نعيش في مجتمع نصفه مقنع وكان لابد من انتهاج كل السبل لمعرفة الناس،و لذا يجب ن يكون للإنسان هدف يسعى ويتطلع إليه في حياته، واختيار الإنسان من يشاركه افكاره واهتماماته يجب ان يكون مدروسا، حتى لا يبقى يدور حول بعض القضايا مثل الحمار (اكرمكم الله) في الرحى أو الثور في الساقية، يدور ويدور وينتهي للمكان الذي بدأ منه ونقف مع قول الفيلسوف الفرنسي جوستاف لوبون: (نحن إذا بحثنا في الأسباب التي أدت بالتتابع إلى انهيار الأمم وجدنا العامل الأساسي في سقوطها هو تغيير مزاجها النفسي تغييرا نشأ عن انحطاط أخلاقها ولم أر أمة واحدة زالت بفعل انحطاط ذكائها) وجمعة مباركة للجميع..

***

علجية عيش

رداً على سؤال لأحد الأصدقاء، تساءل فيه، إذا كانت الثقافة العالمة، وهي الثقافة بشقيها الشعبي والنخبوي كما تقول هي ثقافة دينيّة مشبعة بالخرافة والأسطورة والقصص والحكاية والكرامات، وغالباً اجتزاء النص المقدس من سياقه العام عند الاجتهاد به لتأكيد ما يراد إقناع المتلقي أو المتحاور معه، كذلك تتضمن هذه الثقافة تقديس (الفقيه أو صاحب الطريقة) وأقوالهم واعتبارها حقائق مطلقة لا يأتيها الباطل من تحتها أو بين يديها. فالسؤال هو هل كل ما نمارسه من فساد يتحمله الدين في جوهره، أم يتحمله الحامل الاجتماعي لهذا الدين؟.

أقول: إن الدين يا صديقي بمفهومه (التقليدي) هو مجموعة الرؤى والأفكار والمعتقدات التي يعتنقها الفرد أو الجماعة، ويمارسونها فكراً وممارسة في حياتهم لإيمانهم بأنها مقدسة ومتعالية على واقعهم، وهي من سيحقق لهم سر وجودهم ووجود هذا الكون بكل مكوناته ودلالاته. والدين من ناحية سياق إنتاجه الزمني، هو نتاج مراحل تاريخيّة سابقه لعصرنا بآلاف السنين، أي هو في جذوره الأولى يعود إلى العصور البدائيّة لحياة الإنسان الذي كان يعبد فيها قوى الطبيعة وما عليها من نبات وحيوان،(الديانة التوتميّة)، وآخر دين هو الدين الإسلامي الذي تجرد فيه الإله (الله) عن كل ماله علاقة بالوجود المادي المحيط بهذه الطبيعة  (ليس كمثله شيء)، ونحن نبتعد عن فترة ظهوره اليوم /1400/ عاماً ونيفاً.

إن كل الديانات التي أوجدها الإنسان، ومنها ما عرف بالديانات السماويّة، وهي (اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة)، هي ديانات  مترابطة ومتداخلة مع بعضها، ولكن وفقاً لقانون (التطور الحلزوني). أي أن كل دين منها يظل يحمل من الدين الذين الذي سبقه الكثير من قيمه ومفاهيمه التي لم يزل عصره يستوعبها، أو يجد مبرراً لوجودها فيه، وإلا ماذا يعني أن يظل (الحجر الأسود) يمتلك تلك المكانة المقدسة في الدين الإسلامي؟. أو بقاء تلك المفاهيم والقيم المشتركة ما بين الديانات السماوية الثلاثة؟، حيث نجد حتى هذا التاريخ في عالمنا الإسلامي تلك النظرة الدونية للمرأة وفقاً لرؤية التوراة لها، وكذلك تاريخ الأنبياء وقصص حياتهم، التي نتداولها، وهي القصص التي قصتها التوراة أيضاً، كسفينة نوح، وناقة صالح، وحوت يونس، وقوم لوط، وغير ذلك من الرؤى الإنسانيّة  أيضاً التي جاءت في الأناجيل، نجد مثيلها في القرآن.

إن مشكلتنا مع الدين تكمن في عقليّة من يقول: إن الدين كما أقره وفهمه السلف الصالح في القرون الثلاث الأولى، فقهاً وعلم كلام وتصوفاً وفرقاً وطوائف صالح لكل زمان ومكان، وبالتالي فكل شيء جديد يفرضه تطور الحياة ولا ينسجم مع ما أقره هؤلاء يعتبر بدعة وضلالة وكفر، متناسين مسألة أساسيّة في حياة الدين وخاصة الإسلامي بشكل خاص وهو موضوع التساؤل، بأن الدين جاء للواقع، والواقع بطبيعته يتغير ويتبدل في معطيات إنتاجه وتفكير حوامله الاجتماعيّة ومصالحهم وأحوال معيشتهم.

إن الله عز وجل علمنا منذ البداية بأن الزمن في حالات تطور وتبدل أحداثه هو أقوى من النص الديني ذاته، لذلك كثيراً ما أوقف العمل بآيات، أو فسرت أيات وأولت بما يوافق تطور الزمن. وكذلك فعل الرسول الكريم في هذه المسألة بالنسبة لما عرف من آيات (الناسخ والمنسوخ)، وكان فيما بعد موقف الخليفة عمر بن الخطاب الأكثر جرأة عندما تجاوز العمل بآية السرقة أيام المجاعة، أو آية توزيع الخراج، أو المؤلفة قلوبهم.

مشكلتنا إذاً ليست مع الدين في جوهره ومقاصده وما يمارس باسمه من قضايا لا يرضاها العقل والمنطق، بل هي مع هؤلاء المتخلفين من رجال الدين الذين أوقفوا الاجتهاد أو الأخذ بالرأي، حيث اقتصر فهمهم للدين على فهم أئمة القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الإسلام، وهؤلاء وقعوا في مزالق كثيرة أهمها:

أولاً: تقديسهم لكل ما جاء عند أهل السنة والجماعة أو آل البيت عند الشيعة، واعتباره صحيحاً لا يأتيه الباطل أبداً. وهذا ينافي موقف الناسخ والمنسوخ منهجياً ومعرفياً، وينافي مقاصد الدين ومصالح الناس المرسلة.

ثانياً: التمسك بروايات السير والمغازي، واعتبارها قيم ثابته وبخاصة من الناحية الأخلاقّية، علماً أن من كتب هذه السير والمغازي ليس من عاش عاصرها، حيث يقول ابن حنبل: (إن من كتب السير والمغازي وعرف أسباب نزول الآيات القرآنية قد مات). وهذا يدفعنا للوقوف كثيراً أمام مسألة مضامين هذه السير والمغازي التي كتبت بعد /130/ هـ، وبمواقف غالباً ما يطغى عليها البعد السياسي كما طغى على كتابة ووضع الأحاديث عن الرسول تماماً.

ثالثاً: مسألة إشكالية تفسير النص القرآني (الآيات) وفقاً لأسباب نزولها، أي السياق التاريخي الذي جاءت فيه من جهة، ثم للموقف التفسيري من الآيات المتشابهات بشكل خاص من جهة ثانية، حيث اختلطت الأوراق هنا، وراح الكثير من الأئمة منذ القرن الثالث للهجرة حتى هذا التاريخ، يفسرون هذه الآيات ويقدمون لها أدلة قدمها بعض الصحابة أو التابعين وتابعي التابعين، كانت قد وجدت هوى لدي بعضهم آنذاك، خدمة لمواقف لا ترضي الله ولا الرسول، ولا تتفق أصلاً مع بنية الدين الذي لم يأت لخدمة فئة معينة أو عائلة معينة. وهذا ما سيس الدين  في الحقيقة، فكثيراً ما سجن هذا الفقيه أو ذاك وعذب من قبل هذا الخليفة أو ذاك لتفسيره حديثاً أو آية لا تتفق ومصالح السلطة الحاكمة، أو لرفض تلبية رأي الحاكم في شرعنة مسألة تكمن فيها مصالح الحاكم،  ثم كان وراء هذا الموقف الديني ذاته حدوث تلك الصراعات التي راحت تتبلور فيما بعد وتتحول إلى صراعات مذهبية مورس فيها التكفير والزندقة للآخر، بل استخدام السجن والقتل للمخالف في الرأي .

رابعاً: إن كثرة التعامل مع الآيات المتشابهات، وتدخل السياسة في الدين، وتعدد المدارس الفقهيّة، وانتشار علم الكلام، ودخول عناصر وقوى اجتماعيّة كان لها دياناتها وفلسفاتها من الحياة إلى الدين الإسلامي، وتأثير هذه الديانات ورؤاها الفلسفيّة في تفسير أو تأويل النص الديني، أما بشكل مقصود تطلبته طبيعة الصراع بين الشعوب التي دخلت الإسلام والعرب، وهذا ما سمي بالحركات الشعوبيّة، أو كان التأثير بشكل عفوي فرضته طبيعة التأثير والتأثر بين الشعوب وحضاراتها. كما كان لانتشار الفقر والجهل والتخلف، وغياب الرؤى الفكريّة الوضعيّة التي تفسر أسباب نشاط الإنسان، واقتصار ذلك على الرؤية الدينيّة فقط، كل ذلك أدى إلى ظهور تيارات ومدارس فكرية دينيّة ساهمت كثيراً في إغراق الدين الذي جاء ليتمم مكارم الأخلاق، في قضايا فلسفيّة أيضاً إلى جانب السياسية،  تتعلق بأسماء الله وتجسيده، أو نفي التجسيد عنه، ثم إدخاله في قضايا ذات بعد صوفي لا يمت إلى دور الدين بصلة، الأمر الذي جعل الدين يتدخل بكل شيء في حياة الإنسان، وبالتالي استغلال هذه المسألة من السلطات الحاكمة وحتى المستعمرة الأجنبيّة فيما بعد، لتوجه هذه الشعوب الإسلاميّة وفقاً لمصالحهم على حساب جهلها وتجهيلها معاً، عبر تغذية نزعات التمسك بالمذهب أو الطائفة وإغلاق الذات على الآخر وتكفيره أو الحط من قيمته ومكانته الاجتماعيّة والإنسانيّة والدينيّة، وصولاً إلى استباحة دمه، كما يجري اليوم مع من يدعي بأنه هو الفرقة الناجية، كالدواعش أنموذجاً.

وختاماً أحب هنا أن أقدم رأياً لأحد قناصل فرنسا في سورية  يشير فيه إلى أهمية الدين ومكانته في حياة شعوب الشرق عموماً وإمكانيّة استغلاله وتحويله إلى حصان طروادة للسيطرة على حياة هذه الشعوب الإسلاميّة باسمه، وهو السيد "دي ليسبس" قنصل فرنسا العام في سورية في /19/آب/1856/، الذي أرسل تقريراً إلى حكومته ضمنه مقتطفات من رسالة أشار له فيها القنصل العام في طرابلس، السيد" بلانش"، يقول فيها: (إن من أبرز الحقائق التي يلحظها من يريد دراسة الشرق، هي تلك المكانة التي يحتلها الدين في نفوس الناس والسلطة التي له على حياة الناس. فالدين يظهر في كل أمر، وفي كل مكان في المجتمع الشرقي، حيث يظهر أثره في الأخلاق العامة، وفي اللغة، وفي الأدب، وفي جميع المؤسسات الاجتماعيّة، والرجل الشرقي لا ينتمي إلى الوطن، فالشرقي ليس له وطن، بل إلى الدين ذاته الذي يعتنقه هو. وكل فرد خارج عن حظيرة الدين، هو بالنسبة إليه رجل أجنبي). (1).

إن هذه الرؤية تجاه الدين ومعرفة دوره في حياة الإنسان الشرقي بشكل عام، والعربي بشكل خاص، أستغلها أبشع استغلال (الحكومات العربيّة) في تبنيهم للفكر الصوفي أو الوهابي أو الأشعري، وكذلك المستعمر أثناء احتلاله لبلادنا، والكل لم يزل يستغل الدين حتى الآن ويحوله إلى "حصان طروادة" بالشكل الذي يريده خدمة لمصالحه، وتقديم الدعم من قبل أمريكا للقاعدة وداعش والفكر الوهابي أنموذجاً لذلك.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سورية

..........................

1- راجع كتابنا التبشير بين الأصولية المسيحية وسلطة التغريب – إصدار داري المدى والتكوين – دمشق . هناك الكثير من المواقف العمليّة والفكريّة التي استغل فيها المستعمر الدين للسيطرة على شعوب المنطقة العربيّة.

استطلاع وتحليل سيكوبولتك

ما سنقوله.. ليس رأيا شخصيا، بل نتيجة استطلاعين في فترتين زمنيتين متباعدتين، شارك في الأجابة عليهما أكاديميون ومثقفون ومفكرون وفنانون ورأي عام، الأول في (2018) والثاني في (2023).

استطلاع (25/ آذار/ 2018)

تضمن الأستطلاع تساؤلات عن حال المثقف ودوره في عملية التغيير، وما اذا كان المثقفون صنفا واحدا أم اصنافا.. اليكم نماذج من اجاباتهم:

* مثقف مساير للسطة لا يرى املا في اصلاحها وهو حلمان، ومثقف رافض للسلطة يرى ان لا جدوى من الانتخابات وهو غلطان، ومثقف يبحث عن تغيير في السلطة ولا يعرف اين يتجه وهو تيهان.

* ثلاثة اقسام: الامير الذي لم يبع قلمه للحاكمين، والاجير الذي باعه من اجل المصالح، والاسير الذي التزم الصمت.

* مثقف مساير مذعن، وآخر حالم مثالي، وثالث مثابر متاني، وآخر متردد انسحابي.

* مثقف ملتزم بالحقيقة منحاز لمجتمعه، ومثقف انتهازي انتقل من دور المعارضة في ساحة التحرير الى مكتب رئاسي.

* مثقف متمرد ثائر تعبوي صاحب مشروع (قلّة في العراق)، واكاديمي يعتبر نفسه مثقف وهو جاهل، ومثقف مطلّع ولكنه لا يحمل شهادة عليا.

* مثقف يواجه ثقافة دينية طائفية وهم قلة، ومثقف مساير للسلطة وهم كثرة، ومثقف يئس وهاجر.

استطلاع (25/مايس/2023)

بعد خمس سنوات على الأستطلاع الأول، اعدنا نفس التساؤلات.. اليكم نماذج من اجابات حرصنا ان تحمل افكارا مختلفة:

* عبد العزيز ججو: حسب رأي غرامشي فالاكثرية في المجتمع هم مثقفون لكن بثلاثة اصناف: التقليدي المهني مثل الموظف والمعلم، والثاني الذين يعرفون الأخطاء ويقبلون بها طمعا بعطاء من السلطة وهم الأغلبية في العراق من كتاب وفنانيين وآخرين، والثالث هم الذين يشخصّون الاخطاء ويعملون على تصحيحها ويدافعون عن التغيير نحو الأفضل.

* رعد ستار: المثقف العراقي الحقيقي غائب او مغيب في وسط هذا التزاحم والفوضى وقلة الوعي وانتشار الخرافة والتدين الزائف والجهل المدقع والتدليس والاميه بكل أنواعها .هناك مثقف اجتماعي يحمل هموم الناس ويسعى إلى تغير الواقع، واخر لا يهمه سوى منجزه الأدبي .أما الانتهازيون والمتكسبون فهم الفئه الأكبر الآن، وهولاء يلعقون ما ترميه لهم السلطه ويعتاشون على فتاتها.

* معن الحمداني: المثقف ليس أمامه الا الشارع وهو الان بيئة كبيرة للتجهيل والتسطيح الفكري، وذلك كون للسلطة أدوات ممتازة لفعل ذلك. المثقف العراقي صوت خافت وسط ضجيج هائل.

* د.علي: صنف ابن المؤسسات السياسية، وصنف غارق في العزلة، وصنف مهووس بوجع الوطن.

* طالب الزبيدي: الثقافة معرفة كل شيء عن الشيء ومعرفة الشيء عن كل شيء.المثقفون في وقتنا الحاضر قليلون جدا والسبب هو تغلب النزوات والغرائز على العقل بسبب ظروف الحرب وقساوة الحياة وتدمير عقل الانسان. المثقف هو الذي يعمل بكل الاتجاهات ويوازن بين التوافقات لحل لغز الحياة والحديث يطول يا دكتورنا الغالي .

* ريسان الركابي: الموجود منهم.. وعاظ السلاطين.

* أحمد العبيدي: المثقف العراقي انسان اولا، منهم النرجسي والموضوعي والذاتي والمتواضع والمتكبر .. وقد لا تغير ثقافته من طبعه.الكم الهائل من ثقافة العصر جعلت من الصعب على المثقف الحفاظ على موقعه، ولا اعتقد ان على المثقف ان يطلب من الآخرين جلد ذواتهم، وهو الأمر الذي يحدث لدينا ولا يحدث في العالم المتقدم الذي يعتبر المشاركة الثقافية فخرا لصاحبها.

* عامر محمد: الثقافة وعي واحساس بالحدث.. المثقف العراقي اليوم نتاج بيئة مجتمعية وسياسية متدنية، فاعتقد مثل هذه البيئة ستنتج عقلا ثقافيا يحاكيها.. لذلك امثالكم نتاج بيئة مستقرة كان فيها الحراك الثقافي والسياسي يستطيع الحركة.اليوم المثقف متعالي لاينزل للشارع وكأن الثقافة تقول له: تثقف لتعلو على الآخرين.المثقف لا زال بعيدا عن الناس والناس بعيدة عن المثقف، وحين يتحقق الاستقرار السياسي عند ذاك سيصل صوته والناس ستقترب منه، اما في ظل بيئة شائكة معقدة كالتي نشهدها فأن السعي وراء المال هو الهدف.وللاسف الكثير يحمل صفة المثقف لكنه لا يزال يفكر بعيون طائفية وما ان يمس طائفته (يعوج براطمه).خالص احترامي دكتور.

* يوسف حسين الهيازعي: مثقف عضوي، ومثقف لايسمعه الناس، ومثقف خامل.

* حمد عبدالرضا والي:المثقف الحقيقي ذو الكرامة والاحساس الوطني منزو (بامكاني أن أعطي اسماء ولكن أخشى أن أصحابها لا يوافقون).أما البقية فهم مثقفو الطموح.. أن يكون مستشارا في سوق بيع وشراء المثقف والثقافة والتجارة بها كما التجارة بالدين وهم كثر.

* حيدر عبد الخضر: والله دكتور هم تحولوا لفرق ومذاهب للاسف، والنادر منهم من يستحق كلمة مثقف.

* د . لطفي جميل محمد:ليس كل مثقف واع لكن ان كل واع مثقف . اذن من الضروري الفصل بين الوعي والثقافة.

* اثراء الجبوري: المثقف العراقي ثقافته تكون محدوده ويحب رأيه. والمثقف الواعي لازم يكون عنده مرونه برأيه ويسمع آراء الاخرين. والمثقفون اصناف.. مثقف ثقافة محدوده، متعلم وليس مثقف ويدعئ بانه مثقف ويعرف كل شي.. وهم الأكثر.

* وسام موسى: لا يوجد مثقفون في العراق، لان الثقافة تعني الوعي و الفكر و المحتوى المثمر، من يدعي الثقافة في هذا البلد اما ان يكون جزءا من ماكنة التجهيل او تراه صامتا.

* الاعلامي جعفر يونس العقاد:الثقافة العراقية الرصينة هي التي أرسى ركائزها ذلك الجيل الذهبي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ويعود الفضل لمثقفي الحزب الشيوعي الذين اسسوا مدارس في الشعر ظلت منهلا خصبا للباحثين عنها.الثقافة العراقية كانت مزدهرة في الستينيات بشكل رائع جدا في مجالات القصة والشعر والفن التشكيلي والنحت بحيث حتى دور الطباعة العربية أطلقت شعار حينها ان القاهرة تؤلف وبيروت تطبع وبغداد تقرأ.. اين نحن الآن من ذالك العصر الذهبي يادكتور؟!

المفكرون في العراق.. مهمشون

في (27 /5/ 2023) نشر الدكتور صالح الطائي في صفحته بالفيسبوك: (عش وحيدا تعيش سعيدا) وصورته وحيدا!، فوجدت في ذلك مفارقتين:

الاولى: ان دكتور صالح .. اكاديمي مرموق وشخصية محبوبة، فما الذي دفعه الى ان يدعو (للعيش وحيدا ليعيش سعيدا) وهو الباحث في الفكر الأسلامي ايضا!؟.

والثانية: ان معظم التعليقات ارتاحت لهذه الدعوة (صدقت القول، فعلا .. .) وبين المعلقين مثقفون معرفون.

الأغتراب .. دالته السيكولوجية

تعكس هذه الدعوة (عش وحيدا لتعيش سعيدا) دلالة سيكولوجية هي ان المفكر والمثقف في العراق يعيشان حالة اغتراب.. نفسي اجتماعي.

وفي تحليلي، ان اوجع اسباب الأغتراب عند الدكتور صالح هو انه يشعر بالتهميش، وانه اراد ان يعّبر بعبارته تلك عن حال المفكرين والمثقفين الحقيقيين الذين ما عادت الدولة تهتم بهم ولا ترعى منجزاتهم الابداعية، فيما الأقل منهم شأنا يحتلون مراكز متقدمة بمؤسسات الدولة ويحظون بالامتيازات.. وان مهمتي بوصفي سيكولوجست.. ان اتحدث للمثقفين والمفكرين عن خطر الأغتراب عليهم.

حذار من.. الأغتراب

شغلت ظاهرة الأغتراب اهتمام الفلاسفة وعلماء النفس والأجتماع.. وكتب عنه مجلدات، نوجز خمسة مفاهيم لمفكرين كبار يختلفون ايديولوجيا:

• الأغتراب هو انفصال او تنافر ينشأ بين الفرد والبيئة الأجتماعية (هيجل).

• هو تلك الحالة التي لا يشعر فيها الانسان بأنه المالك الحقيقي لثرواته وطاقاته، وخضوعه لقوى خارجية لا تمت له بصلة (اريك فروم)

• الأغتراب عن الذات أمر ناجم عن ظروف الحياة المعاشة في عالم يتسم بالعبثية واللامعنى (سارتر)

• الحضارة هي مصدر الأغتراب مع ان الانسان هو الذي اسسها دفاعا عن ذاته ازاء عدوان الطبيعة فجاءت على نحو يتعارض وتحقيق أهدافه ورغباته (فرويد)

• الأغتراب ناجم عن انفصال الأنسان عن الطبيعة عن طريق العمل والأنتاج، ومع ازدياد قدرته في السيطرة عليها فأنه يواجه نفسه كشخص غريب محاطا باشياء هي من نتاج عمله ومع ذلك تتخطي حدود سيطرته وتكتسب قوة متزايدة (ماركس).

وكان روسو اول من استخدم تعبير (الغربة) حين رأى بعض النواب لا يمثلون الشعب، فوصف الهيأة النيابية بأنها أداة حكم وليس أداة للتعبير عن الأرادة العامة، وأن مجلس النواب (لا يمثلون الشعب ولا يمكن أن يمثلوه، وأن السيادة لا تمارس بالأنابة). وفي مؤلفاته (اللامنتمي، ما بعد اللامنتمي، سقوط الحضارة) توصل ممثل الوجودية الجديدة، كولن ولسن، من تحليله لأعمال كتّاب وفنانيين معروفين (ويلز، كامو، سارتر، فان كوخ، دستيوفسكي..) الى ان حالة الغربة التي عاشوها كانت بسبب وقوفهم ضد المجتمع ومن اجله.

من جانبنا نرى ان الاغتراب هو حصيلة تفاعل عدد من الاسباب نوجز اهمها بالآتي:

1. العجز: ويعني احساس الفرد بأنه لا يستطيع السيطرة على مصيره، لأنه يتقرر بعوامل خارجية اهمها انظمة المؤسسات الاجتماعية.

2. فقدان الهدفية: او فقدان المعنى.. ويعني الاحساس العام بفقدان الهدف في الحياة.

3. فقدان المعايير: ويعني نقص الاسهام في العوامل الاجتماعية المحددة للسلوك المشترك.

4. التنافر الحضاري: ويعني الاحساس بالانسلاخ عن القيم الاساسية للمجتمع.

5. العزلة الاجتماعية: وهي الاحساس بالوحدة والانسحاب من العلاقات الاجتماعية او الشعور بالنبذ.

6. الاغتراب النفسي:ويعد اصعب حالات الاغتراب، لأن الفرد فيه يشعر بانه اصبح بعيدا عن الاتصال بذاته.. غريبا عنها (أنا .. منو؟!).

وتحذيرنا للمثقفين والمفكرين الذين يشعرون بالأغتراب، انه اذا وصل أحدهم الى قناعة بأن الآخرين أو السلطة صارت مصدر شقاء له، فانه سيشعر بعدم وجود معنى للحياة، ويصاب بالأحباط فينعزل عن المجتمع والسلطة او ينقلب ضدهما. وحين يصل حد الشعور بأن ذاته أصبحت غريبة عليه، فأنه سيحقد عليها وينهيها، اما بموت بطيء بالأدمان على الخمور او بانتحار سريع، بطلقة. وتعرفون من أدمن وانهاها.. ومن انهاها بطلقة!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

لعله من المتعذر إدراك طبيعة الماضي كمعطى زمني بعيدا"عن تخوم الأسطورة أو مفصولا"عنها، طالما كان يوحي – شأنه شأن هذه الأخيرة - بتشكيل الأصول وتكوين البدايات وشروع الانبثاقات الأولى، فهو – وفقا"لذلك - يقع على مقربة منها ومحاثيا"لها إن لم يكن متماهيا"معها في غالب الأحيان، حتى انه يصار في بعض الحالات أن يحيل الأول إلى الثانية وبالعكس في إطار الإشارة إلى المضامين والإيحاءات. ولهذا نجد إن مؤرخ الأديان المعروف (مرسيا الياد) يشدد على إن (الماضي الذي يرفع عنه الحجاب على هذا النحو هو أكثر من زمن سبق الحاضر، انه الينبوع الذي صدر عنه الحاضر. وعندما يرحل المرء إلى ذلك الماضي السحيق، فان عملية استرجاع الذكريات لا تقصد إلى تحديد الأحداث في إطار زمني، وإنما تستهدف بلوغ أساس الوجود، واكتشاف الأصلي، والواقع الأولي الذي انبثق من الكون، والذي يتيح فهم الصيرورة في مجملها)(1). وتماشيا"مع وجهة النظر هذه، فان ملاحظة العالم الانثروبولوجي البريطاني (برنسلاو مالينوفسكي) تأتي لتؤكدها وتضفي عليها المعقولية، من خلال الإشارة إلى إن (الأساطير هي قصص عن الماضي تصلح لأن تكون امتيازا"خاصا" يؤدي وظيفة تبرير بعض المؤسسات في الحاضر والحفاظ على وجودها)(2).

ولعل من الأمور التي ساهمت وساعدت على اقتراب – بلّه – تداخل الإيحاءات والتمثلات ما بين (الماضي) و(الأسطورة)، هي استمرار تمسك المجتمعات القديمة بأنماط بائدة من البنى الاجتماعية والأنساق الثقافية والسياقات الحضارية ذات الطابع التقليدي والمتكلس، ناهيك عن بقائها محافظة على أصولها الانثروبولوجية (عادات وتقاليد وأعراف وطقوس) في إدارة شؤونها الداخلية وتنظيم علاقاتها الخارجية، الأمر الذي غالبا"ما يستدعي لجوئها إلى مخزون ماضيها لتحيين قيمه المعظمة، والسعي لاستلهام رموزه المتسامية، والاحتماء بحصانة زمنيته المطلقة. ومثلما أوضح مؤرخ الأديان (مرسيا الياد) في أحد أعماله فإن (الإنسان التقليدي لا يقيم وزنا"للتقدم أو التطور الخطي للتاريخ وأحداثه ووقائعه: وحده الزمن الأسطوري له قيمة ووزن. وبغية إمداد حياته بقيمة ومعنى يمارس الإنسان التقليدي شتى أنواع الأساطير والرتب والطقوس)(3). وبما أن للأساطير حضورها الدائم في تاريخ الذهنيات الجماعية، فقد لبث الماضي يشاطرها في قيمتها الاعتبارية ويقاسمها في حضوتها الرمزية، للحدّ الذي استحال معه إلى ما يشبه الإيقونة الدينية التي تستوجب التبجيل والتقديس. وهنا يعطينا الباحث المغاربي (ميرال الطحاوي) نموذجا"واقعيا"لمثل هذه الحالة / الوضعية الإشكالية، مستمد من تجارب الإنسان العربي المقهور مع واقعه المأزوم قائلا" (إن حاجة الإنسان العربي للقدسي والماضي حاجة مزدوجة، حاجة الإنسان إلى كسر اغترابه عن الكون – كما يرى الياد – وحاجة لتأصيل هويته التي ضاعت، كما يتبناها القوميين العرب)(4).

ومن جملة العوامل المهمة الأخرى التي تقف خلف اقتران الماضي بالأسطورة، هي كونهما ينزعان إلى الإفلات من قبضة التاريخ والنأي عن كل ما يتضمنه من تفاعلات وسيرورات وتبدلات، بحيث يبقى كل منهما محافظا" على زخم حضوره في الوعي وفاعلية سردياته في الذاكرة. وعلى ذلك نجد إن صلات التقارب والتجاذب بينهما تبلغ ذروتها في الفترات التي تشهد تغيرات ثقافية جذرية وانعطافات تاريخية حاسمة، التي تضع كل ما له علاقة بالأسس الاجتماعية الراسخة، والثوابت الثقافية القارة، والمرجعيات الرمزية المتوارثة على المحك. وهو الأمر الذي تجسّده لنا حالات تفاقم الأزمات الاجتماعية والاضطرابات السياسية والاحتقانات النفسية، مع كل مسعى يستهدف إدخال الإصلاحات في البنى والتحسينات في الأنماط والتعديلات في الأنساق، واعتبار ذلك من ثم بمثابة إعلان حرب بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر، بين الأصالة والمعاصرة. صفوة القول – كم يشير مؤرخ الأديان (مرسيا الياد) - (إن الصفة التاريخية التي تغنى بها الشعر الملحمي ليست موضع بحث ونقاش. أما درجة تاريخيتها فلا تصمد طويلا"أمام عملية الحتّ والتآكل التي تعرضت لها بسبب دخولها عالم الأسطورة. المعلوم إن الحدث التاريخي بحد ذاته، مهما بلغت أهميته ومهما علا شأنه، لا يعلق في الذاكرة الشعبية ولا تلهب ذكراه مخيلة الجماهير إلاّ بمقدار ما يكون أكثر قربا"من طراز أسطوري)(5). 

***

ثامر عباس – كاتب وباحث عراقي

..................

الهوامش

1. مرسيا الياد؛ ملامح من الأسطورة، ترجمة حسيب كاسوحة، دراسات اجتماعية (20)، (دمشق، منشورات وزارة الثقافة السورية، 1995)، ص148. ويضيف مؤكدا"هذه الحالة قائلا" (إن الأساطير لتؤكد للمرء أن كل ما يأتي من أفعال، أو كل ما هو بصدد فعله، قد جرى فعله عند البدء، في ذلك الزمان القديم)، ص154.

2. بيتر بيرك؛ علم الاجتماع والتاريخ، ترجمة داوود صالح رحمة، (دمشق، منشورات علاء الدين، 2007)، ص50.

3. مرسيا الياد؛ البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ترجمة الدكتور سعد المولى، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2007)، ص31.

4. ميريال الطحاوي؛ محرمات قبلية: المقدس وتخيلاته في المجتمع الرعوي روائيا"، (بيروت، المركز الثقافي العربي، 2008)، ص60.

5. مرسيا الياد؛ أسطورة العودة الأبدية، ترجمة حسيب كاسوحة، دراسات فكرية (6)، (دمشق، منشورات وزارة الثقافة السورية، 1990)، ص75.

أم الفكرة تولد من خلال التخطيط؟

هناك منهجية متبعة عند كثير من الفنانين في طريقة التعامل مع التخطيط فمنهم من يجتهد بان الفكرة باعثة على ظهور التخطيط ومنهم من يرى ان التخطيط بشكل عشوائي دون تحضير مسبق للموضوع يولد ويبرز بعض الافكار والتصورات.. هذه النظرية تشبه نظرية بعض الفلاسفة الذين يقولون " انا افكر اذن انا موجود او " انا موجود اذن انا افكر " وهو طرح فلسفي شغل الفلاسفة منذ القدم ويرجع البعض فكرتها الى ابن سينا.. ثم تبناها بعد ذلك ديكارت.

ولكن عملية التخطيط في الواقع هي عملية تنافسية بين العقل والعاطفة او بين المنطق والمشاعر والاحاسيس الوجدانية الداخلية. فمرة يقود العقل عملية ممارسة التخطيط ومرة تقودها المشاعر والعواطف الثائرة لدى الفنان للبحث عن تصورات وافكار جديدة، ومرة اخرى يساهم الاثنان في عملية الابداع.. واتذكر عام 1974 كنا في درس الاستاذ كاظم حيدر في مادة التخطيط فطلب منا ان نأخذ قلم او فحم ونقوم بالشخبطة على الورق، ثم نتأمل فيها، ماذا يظهر لنا من صور او افكار؟.. وهو يريد بنا بهذا اللون من الممارسة الخروج من النمطية السائدة واحداث لطمة على الذهن. فالنائم لا يستيقض نائما انما اللطمة تستيقض النائم.3282 بولوك

1 - المحور الاول يتلخص في ان ولادة التخطيط عادة ما تأتي من خلال مراحل وظروف مر بها الفنان. كما هو عند المراة في حالة الحمل فلابد لها من ان تمر بفترة زمنية حتى ينضج فيها الجنين ثم تضعه.. او هو ما يشبه ظروف حياة فنان الكهوف الذي دفعته ظروف الطبيعة القاسية والوحشية ان يفكر بايجاد مخرج يدافع به عن نفسه فلجأ الى فكرة الرسم على الجدران، فجائت تخطيطاته بعد الايمان المسبق بالسحر وعالم الارواح. فكان يعتقد ان فعله هذا سيرفع من معنوياته ويعتقل ذلك الحيوان الذي رسمه..

لهذا فان ولادة التخطيط تأتي من مسيرة وظروف الفنان. حيث التفكير والتصورات المسبقة واسباب اخرى تفرزها البيئة وتشارك معها الوراثة في عملية التصور قبل ان يجهض التخطيط الى عالم الوجود المادي.... ان الحياة التي يعيشها الفنان بكل معطياتها الايجابية والسلبية تنعكس دائما على مشاعره واحاسيسه، وبالتالي تتبلور لديه الكثير من الافكار والمواضيع والذي يعمد راغبا في التنفيس عنها ونقلها واخراجها الى عالم الوجود الحسي، وتجسيدها على الورق، وهنا تبدأ مرحلة الولادة حيث يمسك الفنان القلم ويبدأ بالتخطيط لينقل تصورات وافكار مسبقة كانت مرسومه في الذهن.... ثم تبدأ مرحلة اخرى وهي نقل الفكرة للمشاهد من خلال التخطيط وهنا ايضا تتفاعل الاحاسيس مع بعضها بين الفنان والمشاهد تؤدي الى عودة الفكرة الى البيئة مرة ثانية بعدما هضمت ونضجت بشكل جيد عند الفنان. فتأخذ بالتالي طريقها النافع الى عالم الاصلاحي والجمال..

2 - المحور الثاني يكمن في ان الفكرة تولد من خلال التخطيط. وهي حالة عاشها ويعيشها الكثير من الفنانين ذوي الحس المرهف والمشاعر الفنية الفياضة والعواطف الثائرة. حيث يمسك الفنان القلم ويبدأ يرسم بشكل عشوائي مبهم غير مفهوم، وبدون تحضير اي فكرة مسبقة.. ومن خلال هذه العملية تبرز بعض الافكار والتصورات والتي سيبني عليها الفنان عملا فنيا ما..

هذه العملية تعتمد على المفاجئة او التلقائية او كما يقال- الصدفة - والبحث والاكتشاف للتعبير عن احاسيس وعواطف مزدحمة محبوسة في دواخل الفنان فيحاول اخراجها وابرازها الى عالم الوجود المادي..3283 دومير

بعض الاحيان لم يتوصل الفنان الى اي نتيجة مرضية ويتوخاها من خلال التخطيط وبالتالي تبقى العملية مجرد تخطيط يتكون من دوائر واشكال على شكل شخبطة كما هو عند الاطفال في اعمار الثلاث والاربع سنوات وهي طريقة تبناها عدد من الفنانين المعروفين مثل الفنان الامريكي سي تومبلي Cy Twombly 1928 برجينيا – والفنان جاكسون بولوك 1912 – وايومنج – ويعتبر الاخير واحد من زعماء المدرسة التعبيرية التجريدية اللاموضوعية. ويعتبره البعض اول مصور امريكي له تأثير عالمي.. هذه الطريقة وجدت لها تيارا كبيرا في اوربا في بداية القرن العشرين وكانت محاولة منها للتمرد على المدرسة الكلاسيكية والاكاديمية واطلاق العنان الى مشاعر الفنان وعواطفه الثائرة والتعبير عن رغبته في التجديد والتغيير والحرية في الفكر والرأى والعمل..

ان الفكرة بحد ذاتها هي نوع من التجريد والخط هو الآخر تجريدي والتجريد هو محاولة الهروب من العالم المادي الى عالم الروح اذن ان العنصرين ينتميان الى عالم واحد وهو التجريد غير ان الروح ليس لها شكل او بعد وغير مرئية. بينما الخط له شكل ولون وبعد واحد.. ولهذا نجد ان هناك بين الاثنين مشتركات. فمرة يولد التخطيط بفعل فكرة كانت تدور في ذهن الفنان ومرة اخرى تولد الفكرة في ذهن الفنان من خلال الممارسات التخطيطية المرئية على الورق او القماش حيث توحي له هذه الممارسات بفكرة ما او موضوع ما ثم يبدأ بالشروع في تنفيذ عمله الفني..

و خير ما نختم به هذه المقامة هو قول الفنان الكبير مايكل انجلو (ان الرسم اساس كل معرفة، فالمعاني لا تتضح الا اذا خطت على الورق، والخطوط انما تجلوا المعاني والافكار).

***

د. كاظم شمهود

جاء في بيان وزارة الداخليَّة العِراقيَّة، عن «جماعة القربان» العليلاهيَّة: «إنَّ وزارة الدَّاخلية أخذت على عاتقها متابعة الجماعات المنحرفة، والخارجين عن القانون، والعمل على بسط الأمن والاستقرار، وتحقيق السِّلم المجتمعي» (الموقع الرّسميّ 19/5/2023). حقَّاً كان بياناً يُثلج بغداد القائظة، ولكنْ تعلم الدّاخليَّة أنَّ هؤلاء غرس خطباء المنابر، العابثين بالعقول والمغالين بالكراهيَّة.

يتسع الانحراف، عندما لا يُسأل المعلم والمعلمة: ما شأن أطفال الرَّوضات والابتدائيَّات يتدربون كيف يحزنون ويلطمون؟! وتثقيفهم بالانتقام قبل الأبجدية؟! غدت المنابر أكثر مِن النخيل عدداً، وكلُّ خطيبٍ يغرس الجهلَ، لملء السَّامعين بثقافته.

مع تقديرنا للقلة مِن خطباء المنابر، المحاولين كبح جماح الغلو والكراهيَّة، مِن أصحاب العمائم السُّود والبيض، غير أنّ هذا الصَّوت يكاد يختفي وسط الزَّعيق، زعيق مَن أثمر «جماعة القربان»، ولا نظلم أحداً إذا أنشدنا: «صاح الغُرابُ وصاح الشّيخ فالتبست/ مسالك الأمرِ أيٌّ منهما نعبا» (الجواهري، قف بالمعرة 1944). أليس نعيباً مَن يقول: أنا وريث الإمام المنتظر؟! ومَن يقول: الله فوض الحسين قدرته، فلا يحتاج الاستئذان من القادر؟! هذا ما يُذاع غدواً وعشياً. فعن أيّ انحراف يُسأل فتيةُ «جماعة القربان»، ويُترك غارسوها أحراراً؟!

لم يلفت الأنظار انتحار شاب في موكب حسينيّ، بسوق الشّيوخ (ذي قار/النَّاصريّة)، إلا بعد تكرار المشهد، أنْ تجري «جماعة القُربان» قرعةً بينهم، لتقديم الأنفس قرابين لعلي بن أبي طالب (اغتيل: 40هـ). عندما سمعتُ الخبر الأعجب لم اُصدقه، فقلت أوهامَ إنترنيت! فـ «العليلاهيّة» لها زمنٌ، ومستوى وعيٍ قد مضى، حتَّى أقرت الدَّاخليَّة بوجودها، واستفسرتُ الثُّقات بسوق الشّيوخ، فتبين القلق قد أصاب النَّاس على مصائر أولادهم، يمسون مشاريعَ انتحارٍ عقائديَّة إسوة بما فعلته «داعش».

ظهرت جماعات الغلو بعليّ وأولاده قديماً، وعرفت بـ «العليلاهيَّة»، أيّ تعتبر علياً إلهاً، لكنَّ الجديد في عليلاهية «سوق الشّيوخ» تقديم القربان البشريّ! يُنبيك إنَّ العقائد الدِّينيّة إذا فُسح لها مجال الغلو، وصار حملة لوائه أقطاباً في الدَّولة، يوجهون التَّعليم، فلا يتوقف التَّمادي في هدم الدَّولة والسّلم الاجتماعي، الذي يحاول عودة روحه مِن جديد في الفترة الأخيرة.

لا يتوهم أقطاب التّشيع الرَّافضين لـ «الغلاة والحلوليين» (المظفر، عقائد الإماميَّة)، أنَّ ما جرى نصرٌ للمذهب، فالمنابر تُثقف بالغلو والحلول بلا مراعاة لدولةٍ ودين ومذهب.

أقول: على سادة التَّشيع تذكر ابن فلَاح المشعشع (ت: 1492م)، المازج التّصوف بالتَّشيع، والقائل: إنّه المنتظر، ثم ولده القائل: إنَّ روحَ عليّ حلّ فيه! فعاث بالنّجف وضريحها قتلاً وخراباً، لأنَّ عليّاً حيٌّ يُرزق في عقيدته (التَّستري، مجالس المؤمنين).

لم تنتهِ المشعشيَّة إلا بمثلها، قضى عليها الصَّفويون (1508م)، بيد أنَّ الاثنين كانا غلاةً، وعقيدتهما مهدويّة واحدة، فلماذا جرت الحرب سجالاً بينهما؟! غير طلب السُّلطة بالخرافة.

كم دعيّ بالمهدي المنتظر، وكم مغالٍ بعليّ وأنجاله، قد ظهر، لأنَّ الادعاء والغلو مصدر رزقٍ، وهو يُطبق داخل العراق بإصرار، حتَّى صار المشروع «الجهاديّ» قائماً على حطام الدَّولة والدّين، فأصبح ما نسمعه مِن أصحاب المنابر ليس بدينٍ.

لنجم الدِّين النَّشابيّ (ت: 657هج) في يومٍ مشابهٍ: «عن فتية فتكوا في الدِّين وانتهكوا/ حماه جهلاً برأي فيه إفسادُ/ وشيخ الإسلام صدر الدِّين همته/مقصورةٌ لحطام المال يصطادُ» (كتاب الحوادث). أقول: أليس إيصال الفتيان يقتلون أنفسهم قرابين، انتهاكاً للدين وفساداً في الرَّأي؟ أليس الاستحواذ على عقارات الدَّولة والمغلوبين على أمرهم، وباسم الدِّين، الغنى بحطامها؟!

لا تقوم قائمة للبلاد العراقيَّة، ولا تتوقف مثيلات «جماعة القربان» مِن الظُّهور، والتَّعليم مرتهن لأعواد المنابر، وهو البنية التَّحتية التي تقوم عليها حضارة العُمران لا حضارة القربان. قابلوا غزارة المال المهدور على الميليشيات، ونزارة المستثمر في التَّعليم؟! ستكتشفون الكارثة!.

***

رشيد الخيّون

بين يدي كتاب «إعادة التفكير في التنمية الثقافية»، وهو دعوة لإحياء الدور المحوري للثقافة العامة، في الحَراك الاجتماعي - الاقتصادي الذي ينشده عربُ اليوم. بذل الكاتب د. محمد حسن جهداً فائقاً في الربط بين الأساس النظري للموضوع والتطبيقات التي يدعو إليها. لكنَّه - مثل كثير من الدراسات العربية، أخفق في التحرر من مؤثرات الانتماء الاجتماعي، وإيفاء الجانب العلمي حقه. للمناسبة فهذه مشكلة يواجهها كثير منا، حين نقارب قضايا متصلة بالتراث أو القيم الدينية. في حالات كهذه يتراجع المنظور العلمي لصالح ما يعتقد الكاتب أنَّه حقيقة دينية، مع أنَّها قد تكون مجرد انطباع عام أو فهم من الأفهام المحتملة. لإيضاح هذه الإشكالية، سوف أركّز على مسألتين، تكرَّرت الإشارة إليهما في الكتاب، وشكَّلا خلفيةً لجانب من طروحاته، وهما مسألة العلاقة مع الغرب، وربط صلاح المستقبل بالرجوع للماضي. يظهر واضحاً أنَّ الكاتبَ منتبهٌ لكون العلاقة مع الغرب عنصراً محورياً، في أي نقاش جاد حول عصرنة الثقافة العربية. لكنَّه لم يبذل جهداً مناسباً في معالجة المسألة، بل أراد الجمعَ بين الأضداد كما يقال. وهذا يظهر في دعوته للتمييز بين ما سمَّاه «الغرب الثقافي والغرب الاستعماري العدواني». هذه الفكرة تمثّل بالتأكيد خطوة متقدمة على نظيرة لها شائعة في العالم الإسلامي، تدعو لتقبّل التكنولوجيا والعلوم التجريبية، بموازاة نبذ الثقافة والفلسفة التي تطوَّرت في الغرب، لأنَّ الأخيرة رأس جسر للنفوذ والهيمنة الأجنبية. هذه فكرة متقدمة نسبياً، لكنَّها لا تخلو من العلة الأكبر، أي التعامل مع القيم ككائنات ناجزة ومهيمنة، خارج الوعي الإنساني. وقد وجدت هذا المنهج انعكاساً لتصور عليل عن الإنسان، ينطلق من اعتباره كائناً منفعلاً متأثراً، تصوغ حياتَه عواملُ خارجَ وعيِه وخارج اختيارِه. وهذا يعاكس أول أسس النهضة، أي اعتبار الإنسان عدلاً كاملاً مريداً خالقاً لعالمه، صانعاً لمستقبله، مسؤولاً عن أقداره، أو على أقل التقادير شريكاً في كل ذلك. يتَّصل هذا المعنى بالمسألة الثانية التي أشرت إليها وهي النظر للماضي كمرجع ونموذج. وقد شاعت كلمةُ الإمام مالكِ بن أنس رحمه الله «لا يصلح آخرُ الأمةِ إلَّا بما أصلح أولها»، حتى ظنَّها الناس من كلام النبي. وذهبوا في تفسيرها كلَّ مذهب. والمفهوم أنَّه يقصد أنَّ صلاح الأمة بالدين. لكن تكرَّرت التجارب، بما فيها تجربة الإمام مالك نفسه، فما ظهر في الواقع شيء من هذا القول. والأصل أن التجربة المتكررة هي الدليل على صحة الرأي. ولنا في حقيقة ما جرى في الماضي حديث طويل، لا يتَّسع له المقام. لكنّي أريد التركيز على جوهر المسألة؛ أي النظر للإنسان باعتباره وعاءً فارغاً، تُلقى فيه القيم والأفكار والآيديولوجيات، فيتلقاها كما هي. وأظنُّ هذا قياساً على مكانة الدين، حيث افترض غالبية الإسلاميين أنَّ الإنسان لا دور له في هندسة حياته الدينية، بل هو متلقٍ منفعل، يتلقَّى القيم والتعاليم كما هي فيطبقها تعبداً وتسليماً، بلا نقاش ولا مراجعة. هذا تصور عن العلاقة بين الدين والمؤمنين، أراه فاسداً، بل سبباً لإخفاق كثير من المحاولات النهضوية. إنَّ فرضية كونِ الدين ضرورةً للنهضة، فرضية لا يدعمها دليل، وفرضية أنَّ الدين الصحيح هو دين الأقدمين، لا يدعمها دليل، كما أنَّ إنكارَ دور الإنسان الفرد في صنع تجربة الحياة الدينية وصوغ تفاصيلها، هو الآخر بلا دليل. النهضة – في هذا الزمن بالذات – مستحيلة، ما لم يسترجع الفرد مكانتَه ككائن حر عاقل وأخلاقي. لا يمكن للدين أن ينهضَ على أكتاف المنفعلين السلبيين، بل على يد صناع الحياة المتفاعلين مع تجارب البشرية في الغرب والشرق، في الماضي والحاضر، من دون انبهار أو استسلام، ومن دون ارتياب أو ترفع.

***

د. توفيق السيف

أصبح من المؤكد علمياً وطبياً أن الضحك يعدُ علاجاً فعالاً للكثير من الأمراض التي تصيب الإنسان، كما أن الكآبة النفسية تورث أمراضاً بدنية لا حصر لها، فيما يعرف بالأمراض النفسجسمية، أو « السيكوسوماتية « وهي الأمراض المتبادلة بين النفس والجسد. ومن الذين خضعوا للعلاج بالضحك منذ الستينيات الصحفي الاميركي نورمان كوزنز الذي أصيب بمرض نسيجي في مراحله المتقدمة حتى ظن الأطباء أن لا أمل في شفائه، غير أنه اهتدى ذات يوم إلى أن الضحك يحفز على الإقلال من كمية السموم المسببة لمرضه، ثم تأكد من ذلك بعد نتائج التحاليل المرضية التي كانت تشير إلى انخفاض كمية السموم في جسمه بعد كل جلسة ضحك، وبعد تماثله للشفاء الذي حصل بعد سماعه لمئات النكات ومشاهدته لمجموعة من الأفلام الكوميدية، هجر كوزنز الصحافة ليعمل في إحدى كليات الطب لمدة عشر سنوات توجها بتأسيس قسم طبي علاجي في الكلية أطلق عليه تسمية قسم « قوة الدعابة»، ثم أصدر في العام 1979 كتاباً عن تجربته المثيرة تلك تحت عنوان» تحليل مرض كما يراه المريض» قال فيه : لقد قمت بالاكتشاف الممتع وهو إن عشر دقائق من الضحك العميق لها أثر مسكن وتمنحني ما لا يقل عن ساعتين من النوم بلا ألم. وهو كلام أكده خبراء في العلوم الإنسانية بقولهم إن للبهجة بمفهومها الكامل تأثير السحر على الإنسان، وان وضع برنامج من المشاعر الايجابية كالحب والأمل والبهجة والضحك يزيد من خلايا المناعة التي تساعد على مقاومة المرض.

وقد شغل موضوع الضحك والهزل الكثير من الحكماء والفلاسفة والأدباء والأطباء على مر العصور وفي مختلف الثقافات، بل أن الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون وضع كتاباً خاصاً عن الضحك الذي يثيره الهزل، والهزل هو الإنسان بحسب فلسفته.. وان هناك من كرسوا جزءاً من حياتهم وعلمهم ووقتهم وبحوثهم لهذا الموضوع، مثل العالم آرثر ستون أستاذ علم المناعة النفسي والعصبي الأميركي الذي أنجز بحثاً مثيراً عن كيفية تقوية جهاز المناعة لدى الإنسان عن طريق الضحك، مؤكداً فيه إن الضحك هو الدواء الشافي لأمراض هذا القرن، وان ضحكة واحدة من القلب لها القدرة على شفاء الكثير من الأمراض المعقدة مثل الضغط والسكر والروماتيزم. وفي لقاء صحفي قديم نبه أحد الدكاترة المشايخ المتفقهين إلى ضرورة الفرز بين نوعين من الضحك، ضحك يقودنا إلى الجنة، وضحك يقودنا إلى النار، وقبل هذا الشيخ كان المعري فيلسوف معرة النعمان المتشائم قد استنكر الضحك على نفسه وعلى الناس بقوله: «ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة». ولما كان كل ما حولك يثير الضحك الذي هو ضحك كالبكا على رأي المتنبي، دع نفسك تأخذ راحتها، ودع جسدك يجد سبيلاً مجانياً للعلاج بالضحك، لكن حاذر من أن تقودك ضحكة إلى النار لا إلى الجنة، أو أن تضحك بلا سبب، لأن ذلك من علامات السفاهة أو الجنون، أو من قلة الأدب. وحاذر أيضاَ من أن يفسد لك الضحك في غير محله، أو السخافة في غير وقتها، موضوعاً مهماً، أو ربما يفقدك متعة في لحظة من اللحظات الحميمية، مثل تلك السخافة التي راودت «يان» أحد أبطال الروائي الفرنسي التشيكي ميلان كونديلا في قصصه المترابطة التي جمعها في « كتاب الضحك والنسيان»، وكاد « شيطان الضحك « أن يفسد عليه متعته، هو ورفيقته، وكانا وحدهما في الغرفة، والشيطان ثالثهما، و» كان الضحك في الغرفة مثل شرك ضخم يتربص بهما»!.

غير أن الفكاهة لا تستوجب بالضرورة متعة الضحك، «بل أحياناً تعني متعة الحكمة والدهشة أو المفارقة السياسية»، وفي ذلك يخصص المفكر والفقيه والسياسي ورئيس الوزراء السوداني لأكثر من مرة الصادق المهدي «ت 2020» كتابه « الفكاهة ليست عبثاً « للبحث التاريخي في الفكاهة والسخرية من بين عشرات الكتب الفكرية والأدبية والفقهية والسياسية التي أنجزها في حياته، وهو بحث تفصيلي يبدأه من الإغريق وصولاً إلى مشاهير العصر الحديث وفلاسفته ومفكريه وسياسييه، من دون أن يتناسى فكاهات الزعماء السودانيين الحاكمين في أيامه وطرائفهم التي يستخلصها من احاديثهم وخطبهم وتصريحاتهم، وكان من حظ رفاق الأمس، المتصارعون على سدة الحكم في الخرطوم هذه الأيام، أن لا يكون المهدي بينهم، وألا لضمهم بأقسى العبارات وأكثرها سخرية، إلى حاشية كتابه في الفكاهة، بعد العبث الذي عملوه في السودان وشعبه الذي لا يستحق كل هذا الدمار والقتال الذي جرى ويجري، ومازال مفتوحاً على كل الاحتمالات التي لا يحتملها مثل هذا البلد المدمر أصلاً من دون حاجة لحرب أهلية بين الفقراء.

أما لماذا « الهزل هو الإنسان» ؟ فلأنه لا هزل أخيراً إلا في شخصية الانسان، في الواقع والكلمات والأشكال والحالات والمواقف والاشارات والايماءات التي تصدر عنه لكونه «حيوان يعرف كيف يضحك» بحسب تعريف العديد من الفلاسفة، وأن الضحك: « هو قبل كل شيء تصحيح وإصلاح، وُضِع من أجل التخجيل. فيجب أن يُشيعَ في الشخص المضحوك منه إحساساً متعباً». كما أن المجتمع « ينتقم عن طريق الضحك للحريات التي أُخِذَتْ منه « على حد تعبير هنري برغسون.

لكن ما فائدة الضحك ممن لا يعتريهم الخجل؟!

***

د. طه جزّاع

وكالات الأنباء: (قالت كريستين اينارسون، رئيسة لجنة حرية النشر التابعة للأتحاد الدولي للناشرين:

"ان التزام مازن لطيف تجاه المجتمع الأدبي وحرية التعبير في العراق يجب أن يكون مصدر إلهام لنا جميعا، وندعو من أخذوه إلى إعادته سالما". وأوضح غفانستا جوبافا نائب رئيس الأتحاد : "ان إسكات التعبير الثقافي هو إحدى أدوات الأنظمة القمعية. يجب أن نقاوم ترهيبهم، وأن نحتفي بالمؤلفين والناشرين الشجعان".

واستلم الجائزة ابنه عبد المهيمن نيابة عن والده وقال: "لم أتخيّل من قبل أنني سأقف يوما ما في مثل هذا المكان المتميز لأتحدّث عن والدي، الذي كان دائما يملأ الأجواء بمحادثاته حول الثقافة والفكر. ولسوء الحظ، تم إسكات صوته، وكانت خطيئته أنه كان لديه شغف بحرية الفكر.").

من هو مازن؟ 

مازن لطيف علي، ناشر و كاتب واعلامي وناشط وطني، شارك في مؤتمرات سياسية وندوات ثقافية داخل العراق وخارجه. وكان حريصا على نشر نتاجات العقل العراقي من خلال دار نشر يمتلكها بأسم (ميزوبوتوميا).ومازن كان طالبا بقسم علم النفس بالجامعة المستنصرية، وكان يراجعني بمكتبي بقسم علم النفس بجامعة بغداد في تسعينيات القرن الماضي.

ومازن، كان صحفيا عمل في اكثر من هيئة تحرير (الحوار المتمدن، الجيران..)، واكثر من صحيفة (المدى، الصباح..) واعلاميا ايضا، وترأس قسم البحوث والدراسات في شبكة الأعلام العراقي، وله برنامج في فضائية العراقية، والتقاني اكثر من مرّة بينها حوار في معرض أربيل للكتاب.

ومازن محاور ذكي، واذكر انه التقاني في عام 2008 واجرى حوارا (موثقا في موقع النور) بعنوان:

النظام السابق احدث تخلخلا كبيرا في تركيبة المجتمع العراقي..

(هذا ما يؤكده الدكتور قاسم حسين صالح عالم النفس العراقي وصاحب المؤلفات العديدة منها على سبيل المثال الإنسان.. من هو؟ الشخصية بين التنظير والقياس، نظريات معاصرة في علم النفس، الاضطرابات النفسية والسلوكية، ازمة العقل العربي، الإبداع في الفن، سيكولوجية إدراك اللون والشكل، الإبداع وتذوق الجمال، التلفزيون والأطفال، سيكولوجية الحب، الطاقات المكبوتة، دراسة في سيكولوجية المرأة العربية....) تجاوز عدد القراءات له الخمسة آلآف قراءة.3272 مازن لطيف

لماذا اختطف؟

سألني اكثر من اعلامي.. لماذا اختطف مازن لطيف؟.. وكان جوابي: ان الذين قتلوا اكثر من ستمئة شاب تشريني.. هم الذين اختطفوا مازن وتوفيق التميمي.فكلاهما كانا ناشطين في انتفاضة تشرين /اكتوبر2019، وكلاهما كانا يحضران المحاضرات التي كنت القيها في ساحة التحرير على ثوار تشرين.

شخصيات وطنية طالبت باطلاق سراحه

بحكم صداقة ثقافية كانت تربطني برئيس الوزراء السابق السيد مصطفى الكاظمي، فأنني قدمت لمكتبه الأعلامي مذكرة بتاريخ (9 أيار 2020) حملت تواقيع 243 شخصية وطنية من داخل العراق وخارجه تناشده باطلاق سراحه.. كانت مقدمتها بالنص:

(لأن معاليك مثقف، فان انظار المثقفين متوجهة نحو شخصك الكريم في اطلاق سراح الكاتب والصحفي بجريدة الصباح الرسمية (توفيق التميمي)، والكاتب والاعلامي وصاحب دار ميزوبوتاميا، (مازن لطيف).. اللذين مضى على اختطافهما اكثر من ثلاثة اشهر، دون الأعلان عن تهمة او قيامهما بعمل يحاسب عليه القانون سوى انهما كانا يشاركان في تظاهرات ساحة التحرير.

ان قدرات جهاز المخابرات ومهارتك بالعثور على متظاهرات ومتظاهرين اختطفوا من قبل قوات مسلحة غير نظامية واطلاق سراحهم، تجعلنا نتوسم في شخصكم الكريم العثور عليهما واعادتهما الى اسرهم المنكوبة وجمهور واسع من المثقفين، وتثبت عمليا أن حكومتك ليست كسابقتها التي لاذت بالصمت عن عمليات الأغتيال والأعتقال التي تعرض لها الأعلاميون وهجرة العديد منهم الى مغادرة البلاد التي فيها اكتشف الحرف، وتقدم الدليل العملي بانها تحترم حرية الرأي والتظاهر السلمي، وانك رجل افعال انسانية وتختلف عن سابقيك بأنك مثقف). 

ومع ان الكاظمي وعد في لقاء تلفزيوني بالعمل على اطلاق سراح مازن وتوفيق، فانه لم يستطع.. لأن من اختطفهما يمتلك القوة والمال واللارحمة مع من يطالب (نازل آخذ حقي) او يريد (استعادة وطن). وأن ما حصل يذكرني برئيس الوزراء الأسبق الدكتور حيدر العبادي. فحين تولى الرئاسة اعلن قائلا:سأضرب الفساد بيد من حديد.. واضاف متحديا (يقتلوني.. خل يقتلوني).. وبعد كم شهر صرح في اعتذار ضمني.. الفاسدون يمتلكون القوة والمال والفضائيات.. انهم مافيا. واذا كانت حكومة السيد محمد شياع السوداني غير قادرة على معرفة مصير (مازن وتوفيق).. فان الواجب عليها ان ترعى عائلتيهما.. وقد يكون لمنح هذه الجائزة الدولية حافزا لأن تبادر.

نبارك لعائلة المغيب قسرا ومحبيه والناشرين.. منح فقيد الثقافة العراقية مازن لطيف جائزة فولتير الدولية من اتحاد الناشرين الدولي.. ونتمنى على السيد محمد شياع السوداني، الذي يرعى هذين اليومين(24 و 25 مايس) احتفالا ثقافيا لأيقونة الشعر العربي.. نازك الملائكة.. ان تحظى عائلتي مازن وتوفيق.. بالرعاية.. فقد كانا هما مصدرا رزقهما الذي انقطع.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

لقد برزت الحضارة العربية – الإسلامية بدور مؤثر في تطوير الرعاية الصحية، حين أدرك العديد من الأطباء العرب الآثار السيئة للعادات غير الصحية، كذلك أهمية الرياضة والسباحة واتباع نظام غذاء صحي، وتنظيم النوم للحفاظ على صحة جيدة، وهي مفاهيم تتشابه إلى حد كبير مع الطب الوقائي.

وقد جميع أبو بكر الرازي في كتابه " الحاوي في الطب" المعلومات المتاحة آنذاك حول السمنة، بالإضافة إلى آراء العلماء الذين سبقوه فيما يتعلق بالسمنة المفرطة، وأساليب التحكم بها. ووثق الرازي نقاشه باستخدام تقارير الحالات السريرية لمرضي السمنة، ممن نجح علاجهم، وذكر تفاصيل العلاجات المستخدمة والتي شملت نظامًا غذائيًا صحيًا، وأدوية، وتمارين رياضية، وعلاجًا مائيًا، وتغيير نمط الحياة.

كما يعد اين سينا الأكثر شهرة من الأطباء العرب اهتماما بداء السمنة، ففي كتابه " القانون في الطب " قد خصص الجزء الثالث منه ليناقش خطورة السمنة المفرطة وصنفها كمرض يمكن معالجته بممارسة التمارين الرياضية، وتناول الأطعمة الخالية من الدهون.

ومن أهم ما ورد في علاج السمنة ما جاء على لسان ابن سينا في القانون في الطب: “ومن أنفع الأشياء لأكثر من يفرط في السمن هو استعمال الأدوية الملطفة (وهي القوية جدا في إدرار البول) والاستفراغات (الإسهال والقيء وخروج الأبخرة والعرق) فإنها تفعل في الأخلاط ثلاثة أفعال، كل فعل منها يعين على التهزيل، من ذلك ترقيق الخلط فيهم، وإبعاده عن الانعقاد، وتعريضه للتحلل، ومن ذلك أنها تدرّ وتحرك الأخلاط إلى غير جهة العروق، ومنها أنها تفيد الدم كيفية حادة غير حبيبة إلى القوة الجاذبة… فتدبير التهزيل هو ضد تدبير التسْمين وهو تقليل الغذاء وتعقيبه الحمّام والرياضة الشديدة مع تبعيد وجعله من جنس ما لا يغذو أو من جنس ما غذاؤه يابس أو حريف أو مالح مثل العدس والكوامخ والمخلّلات… وليكن خبزهم خبز الخشكار وخبز الشعير…وليكن طعامهم وجبة.

ومن أقوال ابن سينا في السمنة :" ليس ثمة معجزات، بل هو العلم والإرادة، أما العلم فهو في كتب الأطباء، وأما الإرادة فهي مغروسة في البشر، فإن يعينوا أنفسهم بها، لم يستطع الطبيب عونه، ولهذا نظروا للبدانة على أنها داء، بل هي أصل الأدواء، ولكن لم يوقنوا أن البدانة تعود أسبابها مما لا حيلة للرجل فيه.. القاعدة الأولى أن يدع المريض مخادعة نفسه، فلا بنسب الداء إلى سبب متحكم لا قبل له به ليبرء نفسه من المسئولية..  إن في الجسم مضغة أو غدة تتحكم في إنفاق الطعام في الجسم ونشاطه وحركته، فإن كان الغذاء على قدر الحاجة والحركة،وكانت هذه المضغة على حالها القويم، كان الجسم في عافية من الهدنة أو النحول الزائد عن القصد، إلا أن تكون في أبدانُا وأحوالًا أنشط منها في عامة الخلق فيظهر النحول وإن زاد الطعام، وإذا كانت خاملة بأصلها، أو بطارئ استقر أثر الطعام الزائد في الجسم حتى يصير شحمًا بركم بعضه بعضًا..  ومن عواقب التخمة المتصلة والشراهة المفرطة وإدخال الطعام على الطعام، مع قلة النشاط والحركة خمول تلك المضغة، وبذا تصير البدانة سببًا في إخمادها، ثم بصير إخمالها سببًا في زيادة البدانة، وتلك عي الدائرة المغلقة كما يقول المناطقة.

كذلك اعتبر ابن سينا مزاج السمنة بلغمي، فانطلق من مبدأ التضاد في شفاء الأمراض، وقد  عالج السمنة بالنباتات الحارّة اليابسة، وتصوّر أن القوى الفاعلة في التهزيل في الأفعال الجوهرية التالية: التسهيل والإدرار والتعريق والهضم والتقطيع والتفتيح والتّحليل والجلي والإنضاج والتلطيف والتجفيف والتقوية.

ولقد ذكر ابن سينا السمنة ومزاجها في كتابه القانون فقال: “إن السمن المفرط قيد للبدن عن الحركة والنهوض والتصرف، ضاغطا للعروق ضغطا مضيقا لها فينسد على الروح مجاله، وكذلك لا يصل إليهم نسيم الهواء فيفسد بذلك مزاج روحهم ويحدث بهم ضيق نفس وخفقان، وهؤلاء معرضون للموت فجأة وللسكتة] والفالج وهم لا يصبرون على جوع ولا على عطش بسبب ضيق منافذ الروح وشدة برد المزاج وقلة الدم وكثرة البلغم.

ويؤيد ابن النفيس ما ذهب إليه ابن سينا حيث نجد يقول في كتابه «شرح تشريح قانون ابن سينا»،:" السمنة تقيد الإنسان وتحد من حريته في النشاط، وتتسبب السمنة في تضييق الهواء، وقد لا يتمكن الفرد من التنفس، فيعاني من بحة الصوت أو الخفقان. كما يتعرض الشخص البدين لخطر تمزيق الأوعية، مما يؤدي إلى نزيف في تجويف الجسم والدماغ والقلب، والتي من شأنها أن تؤدي إلى الموت المفاجئ ".

كما تحدّث ابن النفيس أيضا في مؤلّفه الموجز في الطب فقال:… وأمراض المقدار صنفان، فأمّا بالزيادة أو بالنقصان، وكلّ واحد إما عام أو خاص، كالسّمن المفرط…  ثم قال: … وقد عرفت أن اللحم هو متين الدم وكثرة الشحم والسمين الرطوبة والبرودة لأن البرودة هي التي تعقّد مائية الدم وتُصَوِّرُهُ بصورة الشحم والسمين … كما عرّف مادة الشحم بقوله:… ومادّة الشحم كما علمت هي مائيّة الدم.

***

أ.د محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

........................

المراجع

1- ابن النفيس، شرح تشريح القانون لابن سينا، الجزء الأول.

2- ابن سينا، القانون في الطب، فصل في عيوب السمن المفرط.

3- أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، الحاوي في الطب، الجزء الثاني.

4- أحمد توفيق حجازي، موسوعة الطب الشعبي والتداوي بالنباتات والأعشاب، دار البدر للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر.

5-شحاته القنواني، تاريخ الصيدلة والعقاقير في العهد القديم والعصر الوسيط، دار أوراق شرقية، الطبعة الثانية، بيروت، 1996.

تعد دراسة الشخصية علمًا يرقى في البحث النظري والتطبيقي إلى مصاف عالم معرفة أعماق الشخصية ومكوناتها وما يتداخل معها من عوامل ومتغيرات لا حصر لها، ولو تناولنا هذا النمط من الشخصية، أو تلك سوف نتعرف على أنماط متنوعه، وسأحاول قدر المستطاع أن أدون ما يمكن معرفته عن نمط شاع معرفته وهو نمط من أنماط الشخصية عرف بأسم الشخصية الهندسية وأزاء ذلك بينت هذه الشخصية التي ظهرت وسميت بنظرية أنماط الشخصية الهندسية في العام 1998 حيث تعود الى ديلينجر (Dellinger) .

تقوم هذه النظرية على فكرة اننا ننجذب الى اشكال وانماط معينة في بيئتنا تعتمد على شخصيتنا ومواقفنا وتعليمنا وخبراتنا وتعتمد أيضا على الطريقة التي تعمل بها عقولنا الفردية المتفردة. نحن نعرف أن كل شخصية متفردة في نوعها بمعنى أنها تختلف عن الشخصية الآخرى حتى وإن تطابقت في كل شيء، وحتى بين الأخوة التوائم المتطابقة .

من المعلومات المثيرة في هذا النمط من الشخصية بأنها تقوم على نظرية المخ، اذ ان بعض الناس يميلون الى الوصول للمعلومات عبر الجانب الايسر (الفص الايسر) من المخ، وآخرون يفعلون ذلك عبر الجانب الأيمن، وتترتب على مفهوم السيطرة المخية والتي مفادها إن سيادة وسيطرة أحد جانبي الدماغ لدى الأفراد يمكن أن يعبر عنها الفرد على شكل أسلوب أو نمط معين يتباهى في عمليتي التعلم والتفكير .

كانت وما تزال النظريات تقدم لنا مختلف المداخل حيث ترى أن هناك ثلاث أشكال من الانماط الخطية لهذه النظرية " الهندسية" وهي:

أ. النمط الخطي الأول (المربع): شخصية الفرد من هذا النمط ينصب تركيزها التام على النظام، وهذا النظام ينطبق على جميع مناحي حياته حيث يفضل هذا الشخص المعلومات الواقعية على العواطف أو الأفكار التجريدية، وهذا هو السبب وراء كون هذا النمط يعتمد بشدة على العمليات التحليلية في أسلوب حياته كما ان الافراد من هذا النوع يتسمون بأنهم منطقيون وعمليون بشكل قهري ويتصفون بالعناد ويتجنبون الصراع .

ب. النمط الخطي الثاني (المثلث): يتميز الافراد من هذا النمط بالقدرة على اتخاذ قرارات حاسمة سريعة، فهم شديدو الثقة بذاتهم يرغبون في أن يكونوا محقين قبل أي شيء آخر وبأي ثمن، وغالباً ما يفوزون بالفعل، لا يحبون أن يكونوا مخطئين، ويواجهون صعوبة في الاعتراف بأنهم مخطئون. ربما كانت السمة الأكثر قوة في الشخص من هذا النمط هي قدرته على التركيز، ولا يمكن تشتيتهم أو إبعادهم عن غايتهم، إنهم شخصيات متحمسة ومتحفزة وقوية ونشيطة، يضعون الأهداف ويحققونها فقط ابتعد عن طريقهم، والسلاح السري للشخص من هذا النمط هو قدرته على تركيز طاقته على الهدف الحالي، والمذهل أكثر هو قدرته على تغيير تركيزه بسرعة هائلة من هدف إلى هدف.

جـ. النمط الخطي الثالث (المستطيل): هذا الشخص يعاني من انعدام التوازن، واكثر ما يميزه هو سلوكه غير المتسق الذي لا يمكن التنبؤ به، وله بعض العادات الشخصية التي تميزه عن غيره وهي النسيان، العصبية، الحضور المتأخر أو المبكر جداً، السلوك القهرية، الثورات العاطفية، الحفاظ على الممتلكات، تجنب أي شيء قد يحتوي على أدنى قدر من الصراع، والتنوع والاختلاف والتواجد مع المجموعات الكبيرة والتحدث من غير تفكر وهذا ما طرحه ديلينجر في العام 1998 .

وهناك أنواعًا أخرى مثل النمط غير الخطي حيث يميل الأفراد الذين ضمن هذا النمط الى التفكير ومعالجة المعلومات التي يتلقونها بشكل اقل خطية، واكثر تصويرية، وإنهم اكثر اهتماماً بالكل وليس بالجزء، ويضعون تركيزًا اقل على المنطق والتنظيم.

وبينت لنا الجوانب الميدانية بأنهم يكونون اكثر ابداعاً واعتماداً على الحدس ويعالجون المعلومات بشكل غير تتابعي بل يقفزون من أ. الى د.، وهم خاضعون لسيطرة النصف الكروي الأيمن من الدماغ وهذا يميزهم بالقدرة على اكتساب الطاقة في ظروف مختلفة، فهم يجدون عادة أن الأشياء الروتينية الجامدة مضجرة وخانقة، ولذلك فهم يستمتعون بالتغيير وبرامج الأعمال المرنة، والعمل بصورة عفوية وحدسية وبمجابهة التحديات، والانشغال بأكثر من مشروع واحد خلال اليوم الواحد، وهم يجيدون أعمال عدة في ظل مواعيد محددة لانجاز المهام، ولهذا السبب يدع الكثير منهم المشروعات تستمر حتى الدقيقة الأخيرة، كما يتخذون من تحدي المواقف غير التقليدية مصدرا للتزود بالطاقة، ويفضل بعضهم جود عدد كبير من عناصر الاستشارة الحسية في منطقة العمل الخاصة بهم مثل الألوان الزاهية والملصقات، وألوان أخرى من الأعمال الفنية والموسيقي، ويذكرنا هذا النمط بأهمية البيئة الخاصة بالعمل وما تحتوي من مثيرات مختلفة، ويميل أفراد هذه الفئة أيضا إلى أعمالهم، فضلا عن أن الكثير من هؤلاء بارعون في حل المشكلات ويمنلكون قدرة عالية على إيجاد أساليب مختلفة ومتنوعة من البدائل للموقف الذي يحتاج إلى حل كما طرحه أيضًا دلينجر في العام 2005 . ويرتبط أيضًا بهذا النمط نمطين هما النمط الدائري والنمط المتعرج، أما النمط الدائري فهو يقوم على فكرة أساسها : عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك، وهذا هو المثل المفضل لدى هذا النوع من الانماط، وهو محب للناس وهذا شغله الأول والشاغل بالنسبة له . أما النمط المتعرج فصاحبه هو الشخص الذي يفكر باستمرار في خطط وأساليب جديدة، وإنه الشخص الأكثر اعتماداً على جانب المخ الأيمن بيننا، ويعني هذا أنه لا يعالج البيانات والمعلومات بأسلوب خطي منطقي وانما بأسلوب متعرج، وقولنا في الأخير أن لله في خلقه شؤون.

***

د. لمياء حطاب - استاذة علم النفس التربوي

ندرس التحليل النفسي اليوم بالتحديد لإن النفس أمتلأت بما لا تستطيع ان تنوء بثقلها من ضغوط الحياة اليومية الخارجية وانفعالات النفس الداخلية في مواجهة هذه الازمات والضغوط، إنها تبحث عن تفريغ مقبول لشحناتها التي تراكمت. وتؤكد أدبيات التحليل النفسي يحدث التنفيس أو التفريغ عندما يتحرر الإنسان من كبتهِ بإظهاره إلى الخارج، أو الإفضاء بسر من الأسرار، وهو تنفيس بسيط وصمام أمان وجداني لإعادة التوازن النفسي حتى كاد أحدنا يقول هذا السر يخنقني، الأن شعرت بالراحة النفسية بسبب الإفضاء به.

ان النفس وجدت نفسها تحت طائلة الصراع بين ما تم قمعه وربما كبته لأنه يتعارض مع قيم الفرد الخاصة، وبين ما هو في الخارج " أعني البيئة الخارجية في حياتنا اليومية"، ونحن نعلم تماما أن القمع الشعوري والكبت اللاشعوري – اللاواعي يثير أعراض مضنية داخل النفس مما تؤدي عمليتي القمع والكبت أعراض مموهة أحيانًا خلف سلوك يبدو سويًا، وهنا تكون السوية تقود إلى الأضطراب النفسي.

نحن ضحايا السياسة والاقتصاد والتلاعب بارتفاع الدولار ومعه ترتفع كل احتياجاتنا من مواد غذائية وطبية وأدوية، الحياة اليومية تلتهم كل طاقاتنا فضلا عن التهديد بما يدور من صراعات تهدد وجودنا ويمتد هذا التهديد الى تهديد الاسرة، والاسرة لها اكثر من تهديد خارجي وداخلي، فهو تهديد عالم الاتصالات والتواصل الاجتماعي وتلك البرامج التي تخترق ادمغة أولادنا حتى كونت لدينا إدمان آخر هو إدمان الانترنت وهو لا يقل خطورة عن إدمان المخدرات والكحول والتدخين .

أين تهرب النفس من نفسها؟ هل تستطيع النفس أن تلوذ من النفس إلى النفس؟ من منا يستطيع ان يوقف ما يعتمل بداخلها من صراع، لم يعد الحلم تفريغ مناسب لهذه الشحنات في ظرفنا الراهن، ولم يعد التنفيس عبر النكتة والفكاهة وزلة اللسان كافية لإن تعيد النفس توازنها، علينا ان نعرف التحليل النفسي بدقة وإمعان لكي نتعرف على ما يدور بداخلنا، ومن الممكن أن نقف أو على الأقل يمكنه تخفيف هذا الصراع، تقول الممثلة السويدية "انغمار بيرجمان" ليس هناك شك في أن تربيتي كانت أرضًا خصبة لشياطين العُصَاب" – العصاب هي الاضطرابات النفسية، ومن منا لم يتعرض لانواع هذه الشياطين ونحن نشاركها قولها لاننا لا نخلو من القلق المرضي أو فوبيا متعددة، أو وساوس رهيبة تشغلنا في كل لحظة، لا بل في كل ثانية وعلى مدار يومنا صباحًا ومساء ً وليلًا، لم يبقى لنا غير ان ننبش داخلنا لكي نخفف من وطأة ما يدور فيها.

ويدون لنا الدكتور عبد المولى البستاني في صفحته فكرة مهمة عن "جاك لاكان" المحلل النفسي الفرنسي حيث يرى أن الرموز التي تترجم رغبات الأحلام الليلية، وعقد العصابات – الأعصبة " الامراض النفسية" والذهانات- الأذهنة " الامراض العقلية " مشتركة بين جميع الشعوب، بهذا المعنى، فإن من ينتجها لا يتعلمها، على سبيل المثال : حلم السقوط من الأماكن المرتفعة، دلالة على القلق الأخلاقي، و الرغبة في عقاب الذات، عند كل البشر باختلاف لغتهم الشعورية. لأن لغة اللاشعور كما يسميها جاك لاكان " تحت لسانية" لأن منبعها يوجد في منطقة أعمق من المنطقة التي تقيم فيها التربية اللغة الشعورية .

علينا ان نتعلم التحليل النفسي فهو دليل لمشكلات حياتنا اليومية ومعالجتها، بوساطته يعرف الإنسان نفسه، يستطيع أن يقيم نفسه من داخل نفسه لكي لا يمسي غريبًا عن نفسه وهو في وطنه، بين أهله واسرته، ولكي لا تتحول حياته إلى جحيم في حياته اليومية.

موتٌ يكلم الذي يهذي !!

هو حقًا صامت يهذي بداخله، انفجارات شديدة، قوى متصارعه، يعتقد أنه مائت لا محالة، ولا جدال فيه ولكنه يهذي من داخلهِ، يتنفس ويسترجع قواه التي يشدها الخوار، هو الموت الذي يتكلم وهو صامت ويهذي مع نفسه، ترك ما حوله في خارج نفسه يتصارعون ويتعاركون، ينفجرون ويغضبون ويَطلقونَ نسائهم ويعنفون ابنائهم بلا سبب واضح وصريح، هذا السلوك كله يرتب بما يعتمل بداخلهم من مشاعر واحاسيس مدمرة تجاه العالم الخارجي، فتكون آلية – حيلة الاسقاط حتماً على الاضعف، والاضعف هنا هي الزوجة والأبناء ومن ثم الضعفاء من العاملين معه، نسى هذا الذي يهذي، أن الله منحه فرصة للاستمرار بالحياة والوجود، وربما مات في داخله رغم ان الله لا وجود له إلا في مخيلتنا، في اللاشعور - اللاوعي، وحتى في بيته لم يتواجد عبر التاريخ في مكانهِ لأنه يراه فقط في الشدة، ولا يراه في كل الأوقات والأزمان.

تشتد علينا في حياتنا اليومية مختلف أنواع الأزمات وعلينا أن نواجهها بكل قوة، لأن الحياة تستوجب منا جهاد مستمر، ويقود هذا الجهاد، الإرادة، فالبعض يقول أنني أستطيع أن أحب، وأحلم، وأتعلم، وأفهم، أستطيع كل شيء شريطة أن أعفى من الإرادة، وهنا يبدأ تساؤلنا كيف تسير الحياة بلا إرادة؟ ونحن على يقين تام أن البعض ممن أهتزت إرادتهم وسيطر العجز على نفوسهم، لم تشفع لهم رغباتهم، أو أمنياتهم لأن الثقة بالنفس أو التحكم في الغضب وأسلوب الإدراك فضلا عن المشكلات التي تواجه أيٌ منا خلال حياته اليومية في العمل والعلاقات العاطفية لم تعد كما ندركها، بل يعاني البعض منا عصاب الوسواس القهري من الشك في النفس، وتنشأ غالبًا هذه الأعراض بسبب الطفولة وعدم التقدير من الوالدين أثناء الطفولة.

أننا أزاء مواقف حياتية متنوعة نشأت من الطفولة ويكون التعبير عنها في البلوغ وتكون هذه المشاعر ممثلة في بعض الدفاعات بمعنى الآليات " الحيل – الميكانيزمات" النفسية مثل رد فعل أو انعزال الوجدان ويكون لدى بعضنا رغبة في أن يقوم الطرف الأخر بلفت الانتباه لما يدور في داخله لأنه يعاني من الوسواس القهري، وهذا يثقل عليه ويتعبه، حتى يتحول إلى عدوانية ورغبة في الإنتقام من الآخر، نحن بحاجة لمعرفة التحليل النفسي لما يتمتع به من معرفة عمق النفس وما يدور بين حناياها.

***

الدكتور اسعد شريف الامارة

هنالك تنويريون مغامرون مسكونون بالقلق والسؤال، شغلتهم أحوال مجتمعاتهم التي تدور فيها العدل، وكثر الظلم، متعثرة في خطواتها، تغرق في الآثم مخلفات التاريخ وتجتر الجاهز من الأجوبة، هم خردوا عن المألوف في التفكير وفي تشخيص أعطاب المجتمع، فآثارت أطروحاتهم عصفًا من السجال والنقاش لم يهدأ قبل أن اتخذ شكل مرتكزات جديدة في أنواع المعرفة، فصاروا من المؤسسين. لذا لم يكونوا عادلين في زمانهم أو مقلدين، بل مقيمين في أزمنة مستقبلية بعد رحيلهم، وذلك عبر انجازهم المعرفي الذي كسر ما مألوف ومطمئن؛ إذ إنهم حركوا الساكن، وتجرأوا على المسكوت عنه، فحُوربوا من الذين وجدوا فيهم تهديدًا لسلطتهم وطمأنينتهم، فهم لم يطرقوا الأبوال الموصدة لمتعة شخصية، أو غاية نرجسية، بل لغاية الإصلاح، وتطوير المجتمعات، وتحصينهم بالمعرفة الخلاقة، فهم زعزعوا الثابت، والذي يبدو أبديًا في الثقافة المتحجرة عبر تفكيكه وتشريحه لغرض الاستدلال والإشارة إلى أسباب العلة. هم فلاسفة ومبدعون.. علماء من بلاد العراق حطموا صدمية العقل.

قصدت من هذا القول الدكتور علي حسين محسن عبد الجليل الوردي (1913- 13 تموز 1995 م)، ذلك العالم العراقي الشهير الذي حاول تفسير المجتمع العراقي على ضوء فرضيات ثلاث: صراع البداوة والحضارة، التناشز الاجتماعي، ازدواج الشخصية. سنتناول الآن هذه الفرضيات بإيجاز.

1ـ صراع البداوة والحضارة:

يتضح هذا الصراع بأجلي مظاهره في العراق كما ذكر الوردي، فالعراق هو "بلد هابيل وقابيل" بحسب المؤرخ المعروف آرنولد توينبي، وهذا هو الذي جعل المجتمع العراقي عُرضَة لمد البداوة وجزرها على توالي العصور، يأتيه المد البدوي تارة وينحسر عنه تارة أخرى حسب تفاوت الظروف. وأطول فترة سيطر فيها المد البدوي على العراق، كما احتمل الوردي، هي الفترة الأخيرة التي بدأت بسقوط الدولة العباسية أو قبلها بقليل، لتستمر لستة قرون.

2ـ التناشز الاجتماعي:

جاءت الحضارة الحديثة إلينا بأفكار ومبادئ وقيم تناقض عاداتنا الاجتماعية القديمة، مثلًا: جاءت بمبادئ المساواة والعدالة والديمقراطية والحرية والوطنية، وهذه لا تنسجم في حقيقة أمرها مع قيم العصبية والقرابة والجيرة والنخوة والدخالة وحق الزاد والملح. جاءتنا هذه الأفكار الحديثة من طُرقٍ متعددة، المدارس والأحزاب والحفلات والمظاهرات والصحف والكتب والإذاعات والتمثيليات، فحفظناها بسرعة لأنها تلائم ما نشعر به من طموح أو نتحسس به من آلام، ولكننا حين فعلنا ذلك لم نستطع أن نُغير عاداتنا الاجتماعية التي نشأنا عليها بمثل هذه السرعة التي غيّرنا بها أفكارنا.

3ـ ازدواج الشخصية:

تعني أن يسلك الإنسان سلوكًا متناقضًا دون أن يشعر بهذا التناقض في سلوكه أو يعترف به، وهو ينشأ عن وقوع الإنسان تحت نظامين متناقضين من القيم أو المفاهيم. وينتشر الازدواج في البيئات الدينية المتزمتة التي تُكثِرُ من الوعظ، إذ يتأثر الشخص بالوعظ ظاهرا، لكنه يسير في حياته حسب القيم المحلية المناقضة للتعاليم الدينية كل المناقضة.

ولهذا فقد قال عنه الدكتور عبد الحسين شعبان بأنه امتاز بثلاث صفات مهمة : امتاز بالشجاعة اللامنتاهية، عارض الجميع أو عارضه الجميع ولم يبالي، واخذ يبشر بأفكاره ووجهات نطره واستنتاجاته، امتاز باستقلالية حادة كحد السيف، لأنه لم يتخلى عن استقلاليته على الإطلاق، والشيء الآخر الثالث أنه كان مجتهدًا لم يكرر مقولات تقليدية، وإنما جاء بأشياء جديدة، وأهم كتاب تأسيسي لفكر علي الوردي هو كتاب وعاظ السلاطين، وهذا الكتاب نشره عام 1954 حيث ثار على رجال الدين جميعهم : سنة وشيعة، وهذا ما أثار عليه اليساريين واليمنيين ورؤساء العشائر، وكذلك المؤسسة التقليدية بجميع أركانها حيث واجهته، حيث خاصمه الجميع ولكن بقىّ ثابتًا لا يبالي أحد، حيث كان يستدرجهم أكثر للحوار وللسجال وللنقاش لأنه كان يشعر أنه الأقوى، يختبر صحة الأفكار للتطبيق.

أما حسن العلوي فقد قال عنه في كتابه عمر والتشيع : علي الوردي رائدًا: يُحَدّد الدكتور علي الوردي ثنائية الانقسام بفصلٍ مُوَسّع من كتابه "مهزلة العقل البشري" على ضوء قوانين علم الاجتماع، وببساطة وعفوية وبحياد وشجاعة رائدة مما يوجب علينا التوقف عن السرد والاستطراد، لنفسح المجال لرؤية الوردي أن تأخذ مداها الكامل، باعتباره أول عالم اجتماع وأديب ينتسب إلى أسرة شيعية فيسخر من المنهج الصفوي ورواياته مثلما ينتقد المنهج الأموي في تفسير التاريخ الإسلامي. والذي يبدو أن علي شريعتي قد تأثر بمنهج الوردي، أو أن الوردي هو الذي أيقظ في روح هذا المفكر عنفوان الاحتجاج والتمرد.

كما قال عنه الدكتور على المهرج بأنه أهم المفكرين في علم الاجتماع وهو مفكر إشكالي.. استطاع أن يخترق الوسط الأكاديمي ليدخل في الوسط الثقافي بشكل عام والوسط الاجتماعي لحلل ويطرح مجموعة من الرؤى التي جعلت كثير من العراقيين يستشهدون بها، وكأنها بديهيات للحكم على الشخصية العراقية.

أما المفكر الماركسي فالح عبد الجبار فقال عنه : ابتدع الوردي في هذه الرحلة طريقا ثالثا للخروج من إسار الفكر القومي المتزمت، أو قواعد الفكر اليساري في صيغته المتحجرة. ولم يكن من باب المصادفة أن يدعو إلى مجتمع يعتمد الليبرالية السياسية. كان يحرص على تفرده في مجتمع يبغض الفردية، وينفتح على كل النظريات في مجتمع يُحوّل النظرية إلى معتقد ديني، ويمضي في البحث وسط مؤسسات علمية خاضعة لجبروت الدولة، ومجردة من حرية التفكير والبحث الطليق. هذا وحده إعجاز!

هذا وغيره من أفكار على الوردي جعله رائدًا من رواد التنوير، ودعاة التحديث والإجهاز ما يعيض الحركة، لذلك وضع التاريخ والأفكار على طاولة البحث والتشريح، وأشار إلى الأطراف الهالكة في جسم المجتمع والذي شوشت شخصيته وجردتها من حريتها وحركتها في التعبير والتأمل وأعاقت خطواته في التقدم للمشاركة للمنجز الحداثي فكرًا وعلمًا وتقنية.

ولهذا يعد علي الوردي كما قال ابراهيم الحيدري معلماً كبيراً من معالم الفكر الاجتماعي ورائداً من رواد الفكر التنويري، النقدي في العراق، الذي شغل فراغاً واسعاً في الحركة الفكرية والثقافية والاجتماعية، وخلف وراءه ثروة فكرية قيمة كانت حصيلتها ستة عشر مجلداً ومئات الدراسات والبحوث العلمية والمقالات الصحفية، في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي. وبوفاته خسر العراق رائداً من رواد الفكر الاجتماعي في العصر الحديث

لقد كان الوردي شاهداً على أحداث قرن بكامله تقريباً، فقد فتح عينيه مع بدايات الحرب العالمية الأولى، وأسدلها وما زالت حرب الخليج الثانية لم تنته بعد. وكان في كل ذلك حاضراً، يستقرء الأحداث ويحللها وينقدها بأمانة، نابعة من استقلاليته الفكرية وموضوعيته العلمية، كما كان حاضراً وما يزال في وجدان ثرائه ويريده وأصدقائه وحتى نقاده لأنهم وجدوا في آرائه وأفكاره النقدية كثيراً من الأجوبة على تساؤلاتهم وتشخيصاً للكثير من مشاكلهم، وبخاصة ما يرتبط بازدواجية القيم. التي نتجت عن الصراع بين البداوة والحضارة، ومحاولته رسم ملامح شخصية الفرد العراقي وازدواجيتها، وكذلك ما أفرزته الحداثة والتحديث من تغير وتحول وصراع وتناشز اجتماعي. وهي مؤشرات على ما يحمله عراق اليوم من معاناة، والتي تنعكس على حالة الشكوى والتذمر التي تلفه والضياع الذي يحيط به، وذلك بسبب ما أصابه من مآسي ومحن ومظالم خلفتها سلسلة الحروب والانقلابات وتغير الأنظمة والحكومات واستبدادها.

وكان الوردي قد أشار منذ أكثر من نصف قرن، وبجرأة متميزة وفكر ثاقب، إلى الكثير من الظواهر الاجتماعية السلبية والعادات والتقاليد البالية التي ما زالت تؤثر فينا وتنخر في مجتمعنا وتسيطر على تفكيرنا وسلوكنا، فكشف عنها وحذر العراقيين من مغبة استفحالها أو إعادة إنتاجها وترسيخها من جديد. وبذلك يمكننا اعتباره أول عالم اجتماع درس المجتمع العراقي وشخصية الفرد فيه دراسة اجتماعية-تحليلية رصينة، وأول من استخدم منهجاً أنثرو-سوسيولوجيا في دراساته وبحوثه، وأول من غاص في جذوره الخفية منقباً عن الظواهر الشاذة والغريبة وغير السوية، التي ليس من السهل التعرض لها ونقدها، لشدة حساسيتها الاجتماعية والدينية والسياسية.

ولذلك نستطيع القول كما قال ابراهيم الحيدري أن الوردي هو أول من شخص تلك الظواهر الاجتماعية المرضية التي رزح تحت ثقلها المجتمع العراقي سنيناً طويلة، وبذلك استطاع أن يضع يده على الجرح العراقي العميق وقال: هذا هو الداء..ساهم الوردي مساهمات جادة فيما طرحه من أفكار وفرضيات في دراسة المجتمع العراقي وكرس حياته كلها لها، محاولاً تحليل أنماط الثقافة والشخصية من خلال تتبعه للتحولات الاجتماعية والتبدلات البنيوية التي حدثت في العراق والعالم العربي والإسلامي منذ نهاية القرن التاسع عشر، وما أفرزته من صراعات وتناشز اجتماعي بين القديم والحديث وبين البادية والحضر، التي شرحها في كتابه "شخصية الفرد العراقي"

وتعتبر مؤلفاته العديدة، وبخاصة "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي"، وكذلك موسوعته الاجتماعية "لمحات من تاريخ العراق الحديث"، بمثابة مراجعة جديدة وشاملة لتاريخ العراق الاجتماعي وفتح فيه باباً واسعاً للوعي به وإعادة إنتاجه من جديد، ولكن بشكل جديد ونقدي، مثلما وضع تصوراً واضحاً للتركيبة السكانية والمجتمعية التي هي تشكيل لظروف وشروط تاريخية واجتماعية واقتصادية-سياسية ما زالت تعيد نفسها اليوم، تلك المقدمات السوسيولوجية التي بينت بوضوح عمق ما يحمله العراق اليوم من تناقضات وصراعات واختلاف لا نعرف بعد نتائجها الوخيمة. إن كتابات الوردي ومحاولاته ومناقشاته العلمية كانت إسهاماً ثرياً ومثيراً أغنى الحركة الثقافية والاجتماعية في العراق وتركت قراء وتلاميذاً ومريدين ما زالوا يستنيرون بأفكاره الاجتماعية الثاقبة وآراءه الجريئة ومنهجيته الفريدة التي حصلت على اهتمامات فئات اجتماعية عديدة ومختلفة وذلك كما قال ابراهيم الحيدري.

وللكاتب الماركسي صادق البلادي بضع مقالات نوعية ناقش فيها جانباً من جوانب فكر علي الوردي مناقشة هادئة وعميقة، كأن يقف عند مفهوم ما من مفاهيم الوردي أو يرصد لديه تأويلا معينا، فيجادله موافقا أو معارضا. وقد يثيره مقال كُتب عن فكر الوردي فيعمد إلى الإدلاء برأيه حول ما طرحه ذاك المقال من رأي، موظفاً معرفته بفكر علي الوردي وكيف أوصله التذبذب في تبني طروحات الماركسية إلى بعض الثغرات والهنات التي أخذها عليه معارضوه وبعض منهم من الشيوعيين الذين اعترضوا عليه بردود أفعال قوية تارة ولينة تارة أخرى وبحسب طبيعة الفكرة التي يبادر الوردي إلى طرحها.

وهذا برأينا هو ما جعل الدارسين لفكر الوردي ينقسمون بين اعتباره شيوعياً يوالي الفكر الماركسي ويتبناه، وبين من يعتبره لا منتميًا يصادي الماركسية، متحينا الفرص للإيقاع بالشيوعية في شرك التشكيك والدحض. وعلى الرغم من أن الدكتور الوردي كان معروفاً بميوله لثقافة الحوار والتنوير العقلي، وبهما تعدى حدود السياسة بكل تحزباتها وتنظيماتها اليسارية أو الديمقراطية، فإن هذه الميول لم تمكنه من صنع رأي عام ديمقراطي يساهم في تنمية الوعي الشعبي. هذا الوعي الذي لم يكن ضمن أولويات الوردي بعكس الأحزاب التي تضع الرأي العام في مقدمة أولوياتها ساعية إلى تحقيقه مناهضة بذلك الفكر الرجعي المتعصب والمحافظ ومقاومة الأساليب الفاشية الراكدة التي أكل الدهر عليها وشرب والتي هي بمجموعها تخدم المصالح الإمبريالية.

وكان يمكن للوردي أن يكون مساندا القوى التقدمية في معركتها مع القوى الرجعية لو أنه ناصر طروحات اليسار العراقي ولم يدخل في ما يشبه التعارض مع فكرهم حتى أن بعضهم تصور الوردي يعادي الشيوعيين ويكرههم.

ومن المقالات التي أثارت اهتمام الاستاذ صادق البلادي المقال الذي كتبه وليد نويهض في جريدة الحياة اللندنية عام 1996 وعنوانه” كيف قرأ علي الوردي الشخصية العراقية في ضوء منهج ابن خلدون.؟” متحصلا فيه على فكرة “أن علي الوردي يكره الشيوعيين وأن الشيوعيين يكرهونه”. الامر الذي جعل الاستاذ البلادي يكتب مقالا عنوانه( الشيوعيون وعلي الوردي) رد فيه على نويهض، نافيا فيه عن الوردي النظرة السكونية والأحادية، ملقيا باللوم لا على فكر الوردي وإنما على محللي هذا الفكر الذين يتناسون ما للقوى الحزبية من ثبات وانحياز وما للوردي من تبدل ولا انتماء.

تحية طيبة لأستاذنا الدكتور علي الوردي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

***

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

............................

المراجع

1- علي الوردي: من وحي الثمانين، جمع وتعليق: سلام الشمّاع، مؤسسة البلاغ، الطبعة الأولى 2007.

2- علي الوردي: وعاظ السلاطين، دار كوفان لندن، الطبعة الثانية 1995.

3- روافد | الكاتب والباحث العراقي علي الوردي - الجزء الأول يوتيوب.

4- د. نادية هناوي: علي الوردي في مرايا الآخرين.. مثال منشور في الصباح بتاريخ 2021/05/12

5-إبراهيم الحيدري : علي الوردي: شخصيته ومنهجه وأفكاره الاجتماعية، منشورات الجمل، 2006.

6- معاذ محمد رمضان: علي الوردي.. قنطرة المرور إلى التنوير، مقال منشور بالبوابة نيوز.. الثلاثاء 13/يوليو/2021 - 09:08 م.

الاسلام والعربية، ليسا فقط نتاج السماء والصحراء، قدرما نتاج 1500 عام من الانجازات: اللغة الآرامية، ثم اليهودية، ثم المسيحية، ثم الاسلام والعربية

(ملاحظة: ننشر هنا فقط مختصر دراستنا، فلاسباب تقنية تتعلق باظهار الصور والخرائط والمصادر، فان الدراسة المفصلة منشورة في موقعنا على الرابط في نهاية هذا المختصر)

هذه الدراسة غايتها تبيان الفكرة التالية: إن ظهور الاسلام والعربية وما اعقبه من انبثاق (الحضارة العربية الاسلامية)، مهما اعتقدنا بدور الارادة السماوية وكذلك تأثير البداوة، فأنه خصوصا نتاج تحولات تاريخية حصلت في منطقة الهلال الخصيب (العراق والشام ومصر)، وتراكم إنجازات ثقافية ودينية استغرقت أكثر من 1500 عام، قد شاركت بها الاقوام البدوية الجديدة الثلاثة التي ظهرت تقريباً في نفس الحقبة (حوالي ألف عام ق.م) وفي نفس المنطقة (بادية الشام والعراق وسيناء): الآراميون والعبرانيون والعرب!

دور قبائل الرُحّل (البدو) في تاريخ العالم

أمضت البشرية مئات الآلآف من الاعوام في (ترحال دائم) بحثا عن (الصيد وجمع الثمار). ولم تكتشف الاستقرار إلّا  قبل حوالي (12 الف عام) مع (أكتشاف التدجين والزراعة) وكان ذلك في (شمال بلاد النهرين والشام). ولكن مع ذلك ولأسباب بيئية يندر فيها الغذاء: (البوادي والثلوج والبحار والجبال..) استمرت أقسام من البشرية في ممارسة حياة الترحال: (مثل البدو ورعاة الجبال واسكيمو الثلوج)، خصوصاً بعد أن تحول كثير منهم الى (قبائل رعاة) يتنقلون مع مواشيهم بحثا عن المراعي.

إن هذه (الاقوام المترحلة) قد لعبت أدواراً حاسمة في تاريخ البشرية. فجميع الدول والحضارات السابقة للعصر الحديث، أقامتها هذه الجماعات البدائية. إذ طالما تكررت في التاريخ الحالة التالية: أقوام مترحلة تقوم بغزو مناطق: (قرى ومدن) زراعية مستقرة، فتقوم خصوصاً بتدمير قياداتها ودولتها، كي تقوم هي نفسها مع الزمن بتكوين قيادات ودولة جديدة، وربما أيضاً حضارة جديدة تهيمن وتزدهر، حتى تتعب وتفسد لتموت على يد أقوام بدائية نازحة جديدة. وهكذا دواليك. أمثلة: (القبائل الهندو اوربية: الآرية) التي كانت تعيش في جنوب روسيا الحالية منذ الالف الثالث ق.م وبفضل اتقانها استخدام الخيول تمكنت من غزو جميع اوربا وأقسام من آسيا لتذوب فيها الاقوام الاوربية والهندية والايرانية القديمة. كذلك (قبائل اللاتين) التي قضت على (دولة الاتروسك)، ثم أسست امبراطورية روما، التي قضت عليها (قبائل الجرمان ثم الفيكنغ) التي أسست غالبية السلالات الملكية الاوربية، وأطلقت اسم قبائلها على دول: انكلترا وفرنسا والمانيا..الخ. كذلك مثال (قبائل العرب) التي قضت على (امبراطوريتي الفرس وبيزنط الشرق)، لتأسس أكبر امبراطورية وحضارة عربية اسلامية. وبعد ان هَرِمَت (امبراطورية العرب العباسية) قضت عليها (قبائل المغول). ثم (قبائل الترك) التي قضت على(الامبراطورية البيزنطية) لتحل محلها (الامبراطورية العثمانية). بل حتى الآن، هنالك بعض المفكرين الاوربيين يقولون: ان (الحضارة الغربية) سوف تقضي عليها من داخلها: "قبائل!" المهاجرين؟!

آراميون وعبرانيون وعرب!

في (نصب: وثيقة: كورح) عن (معركة قرقر: 853 قبل الميلاد ) للملك الآشوري (شالم نصر الثالث) يذكر انه انتصرعلى جيش مشترك لتحالف قبائل: (آرامية وعبرية وعربية) قرب مدينة (حما) السورية: الاراميون (مشيخة دمشق)، والعبرانيون (مشيخة اسرائيل)، والعرب (مشيخة جندبة العربي). وهذا أقدم نص في التاريخ يذكر تسمية (عربي).

إن هذه المعركة تستحق اعتبارها اولى وأهم علامات البروز السياسي والعسكري لهذه الاقوام البدوية الجديدة المختلطة والمتداخلة بينها لغوياً وقبائلياً، إذ أعلنت اتحادها لتحدي أكبر امبراطورية في تلك الحقبة: النهرينية الآشورية. والاكثر من هذا إن هذه القوى الجديدة قد تلقت دعماً عسكرياً من دولة أيضاً قوية: (مصر) المنافسة الدائمة لـ (دولة النهرين: العراق) في السيطرة على الشام.

ليس صدفة إن هذه الاقوام البدوية الخارجة من واحتها الصحراوية (بفضل الجمل: أكثر من الف عام ق.م) (حصان الصحراء)، بدأ دورها يبرز في المنطقة في نفس الفترة التي بدأت فيها تهديدات (موجة القبائل الرحل الآرية: الهندواوربية) التي كانت قد برعت بتدجين واستخدم (الحصان)، كأخطر آلة حربية جديدة. ثم نجحت بتكوين اولى دولها في (اليونان وايران، ثم روما) حتى تمكنت أخيراً من القضاء على الدولتين العراقية والمصرية، المحتضرتين، واحتلال كل الهلال الخصيب، ثم شمال افريقيا، إبتداءاً من القرن السادس ق.م ، وقد اكتمل خضوع عموم الشرق مع نهاية (دولة قرطاجة الفينقية: الكنعانية) في شمال افريقيا على يد الرومان في القرن الثالث ق.م. 

إن خضوع المنطقة لهذا الاحتلالات الاجنبية: (الآرية: الايرانية واليونانية ثم الرومانية) كان اعلاناً عن نهاية (حقبة الحضارة الشرقية: الهلال الخصيب المصري ـ الشامي ـ العراقي) التي دامت أكثر من ألفي عام (من حوالي الالف الثالث ق.م حتى أواسط الالف السابقة للميلاد) ومعها انتهت كل (البنية الاقوامية والثقافية والعقائدية واللغوية) التي شكلتها. (هذا لا يعني ابدا ابادة السكان الاوائل بل ذوبانهم التدريجي في الاقوام البدوية الجديدة).

كان من الطبيعي ان هذا (الفراغ الكلي) في المنطقة يستحيل على المحتلين الايرانيين واليونان ثم الرومان ان يملئونه، رغم سيطرتهم السياسية العسكرية، وذلك بسبب اختلافهم الكلي (أقوامياً وثقافياً وعقائدياً ولغوياً) عن سكان المنطقة وتكوينهم البيئ الطبيعي. لهذا فأن هذه (الاقوام البدوية الجديدة: الآرامية العبرية العربية) كانت هي الوحيدة المهيئة لملئ هذا الفراغ الشامل، لسبيين:

ـ إنها من نفس الأساس الأقوامي والثقافي واللغوي (السامي ـ الحامي) لسكان المنطقة، لأنها من نفس البيئة والمنطقة، بالاضافة الى تمضيتها لقرون في تواصل فعلي غزواتي وتحالفي وتجاري ومشايخي مع أقوام المنطقة ودولها: العراقية والكنعانية والمصرية.

ـ إن حياتها البدوية وامتلاكها للجمال (خيول الصحراء) وخبرتها بالعيش في البادية، منحتها القدرات القتالية الفائقة بالكرّ والفرّ والاحتماء السريع في أعماق بواديها. بالاضافة الى قدرات التنقل التجاري بين مدن  الهلال الخصيب.

هكذا بدأ التاريخ يبلور بوضوح الدور المحتم وغير الواعي لهذه القبائل البدوية اليافعة والمحاربة، لتشييد مرحلة جديدة ومكملة للمرحلة السابقة المنتهية. استغرق هذا المخاض، منذ اول ظهورها ثم في ظل الاحتلالات الاجنبية: (ايرانية ويونانية ورومانية ثم بيزنطية) حوالي 1500 عام (بين 1000 ق.م  و 600 م) حتى تمكنت هذه الموجة الجديدة من تحقيق واجبها التاريخي المحتم، أي انشاء امبراطورية وحضارة جديدة، ألا وهي: (الحضارة العربية الاسلامية)! خلال هذه الـ (1500 عام) قامت هذه الاقوام البدوية بانجازات تاريخية متوالية ومترابطة، قبل بلوغ (المرحلة العربية الاسلامية العليا)، هكذا كالتالي:

الانجاز الاول: تدوين اللغة ألآرامية ونشر الابجدية الكنعانية في العالم، منذ القرن السابع ق.م

الانجاز الثاني: تدوين التوراة في بابل بواسطة العبرانيون، منذ القرن السادس ق.م

الانجاز الثالث: انبثاق المسيحية واللغة السريانية، منذ القرن الاول م، وبروز دور العرب في التبشير المسيحي، امثال: ((مملكة ابجر الخامس في الرها ونصيبين) و(دولة المناذرة في العراق) و(دولة الغساسنة في الشام).

الانجاز الرابع: انبثاق الاسلام واللغة العربية في القرن السادي م، ثم الحضارة العربية الاسلامية، وريثة الحضارة الشرقية القديمة: العراقية المصرية الكنعانية.

***

سليم مطر ـ جنيف

..................

اضغط على هذا الرابط لمطالعة دراستنا مع الصور والخرائط والمصادر، في موقعنا:

https://www.salim.mesopot.com/hide-feker/154-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9%D8%8C-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%A7-%D9%81%D9%82%D8%B7-%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%85%D8%A7%D8%A1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%8C-%D8%A8%D9%84-%D9%87%D9%85%D8%A7-%D8%AE%D8%B5%D9%88%D8%B5%D8%A7-%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%AC-1500-%D8%B9%D8%A7%D9%85-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AC%D8%A7%D8%B2%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A2%D8%B1%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9%D8%8C-%D8%AB%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%87%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9%D8%8C-%D8%AB%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%AD%D9%8A%D8%A9%D8%8C-%D8%AB%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9.html

كثيراً ما تساءلت خلال سنوات الثورة عن موقع الجامعات السورية من الثورة، ولماذا كانت المظاهرات تخرج من الجوامع وليس من الجامعات، مع أن المنطق يقول: إن الجامعات هي التي يفترض أن تغرس في نفوس الطلبة منظومة القيم والحقوق وطرق التفكير الناقد التي تدفعهم إلى الثورة إذا ما تعرضت حقوق الناس وحرياتهم للخطر، ففي كل الدول المتقدمة التي انتفضت شعوبها يومًا ما على الاستبداد مارس منطق النقد ذو الخلفية الحقوقية دورًا متميزًا في الثورة، ونزع عن قمة هرم السلطة السياسية قداسة الأب أو المعلم التي كثيرًا ما احتمى بها الحكام العرب عمومًا.

ولكن من المحزن القول: إنه منذ تسلم البعث السلطة في سورية ومهام الجامعات انحصرت في العمل التعليمي الأكاديمي فقط، حتى لا يستطيع أحد أن يرصد لها إسهامات متميزة في المجال الثقافي أو التنويري، وإن حصل ذلك فلا بد أن يكون منسجمًا مع نسق السلطة السياسي والثقافي، لذلك بقيت مسألة الثقافة مهمشة وخجولة ومحدودة جدًا، ولم تستطع الجامعات كمؤسسات تعليم عال أن تقوم بدورها في المساهمة البارزة في دفع الحراك الثقافي، لا باتجاه العلم والتكنولوجيا التي تدرسها وتخرج الطلبة على أساسها، ولا باتجاه تعزيز ثقافة الثورة، ولا في حل بعض المشكلات الثقافية، ويعود ذلك بطبيعة الحال الى محدودية استقلال الجامعات، وتدخل السلطة الرسمية بالإدارة، وتغليب السياسي على الفكري والثقافي، كما يعود أيضاً الى ضآلة الدور الذي قامت به الجامعات في انتاج علماء ومفكرين متميزين وبارزين، وعدم انتاج قادة رأي طليعيين مؤثرين في الرأي العام ومؤثرين في المجتمع، وقادرين على توجيهه بالشكل الذي يعزز النهوض في المستقبل.

وإذا ما أضفنا إلى ما سبق تحويل الجامعات إلى مراكز أمن لمراقبة كل ما يقال فيها من قبل الطلبة وأعضاء هيئة التدريس على حد سواء، عندها ندرك أن الجامعات لم يكن لها يومًا أية مساهمة بالثورة، بل نستطيع القول: إنها شكلت بمخزونها المعرفي قوة دعم للنظام في حربه على الشعب السوري، وهذا ليس غريبًا على الجامعات السورية التي تم تخريب منظومتها القيمية، والسيطرة عليها أمنيًا، مما جعل معظم أعضاء هيئة التدريس يسجلون مواقف مخزية من الثورة، ومن مختلف القضايا القائمة على الفساد والجريمة السياسية.

وفي هذا السياق أشار المفكر التربوي السوري "علي وطفة" في مقاله عن "أكاديميو الاستبداد" إلى أنه "خلاف الدور النقدي المتوقع من الأكاديميين بدا واضحًا أنهم كانوا أكثر وفاء للظلم والقهر. وعلى خلاف الدور الإنساني الذي يفترض بأساتذة الجامعات أن يقوموا به من نقد للظلم والعنف والاستبداد عمل فريق كبير منهم على تمجيد الاستبداد وتبرير البطش الذي يقوم به الطغاة ضد شعوبهم. ومن الواضح أن أنظمة الاستبداد وجدت في هذه الطبقة من أساتذة الجامعة طليعة آثمة متوحشة انبرت للدفاع عن القهر السياسي وتمجيد القمع الاجتماعي الذي تمارسه هذه الأنظمة السياسية ضد شعوبها".

إن المستقرئ لواقع الجامعات السورية يُدرك أنه من الصعب أن تنخرط الجامعات بالثورة للأسباب السابقة التي ذكرتها، ولأسباب أخرى يصعب حصرها في مقال، وحتى أعضاء هيئة التدريس الذي انتفضوا دفاعاً عن أهلهم، فمعظمهم أما قُتل، وأما سُجن، وأما في المنافي. لذلك عندما انطلقت شرارة الثورة في درعا انطلقت من جامع وليس من جامعة، لأنه يتعذر أن يجتمع عشر طلاب في جامعة، ويرفعون لافته ينددون فيها بممارسات النظام، أو يُرددون شعارًا ضد عبث النظام وفساده، وإن حصل ذلك لن يكون مصير الطلبة إلا الاعتقال والموت.

من هنا يمكن القول: إن تغييب دور الجامعات وعزلها عن الثورة قد أضر بالثورة كثيراً، لأن الجامعات لم تستطيع أن تمارس ما مارسته الجامعات الفرنسية في القرن الثامن عشر وما قبله، التي طرحت مبادئ مناقضة للواقع السائد سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا في فرنسا، والتي كانت من أهم العوامل التي وجهت الثورة الفرنسية لتكون مؤسسة على أيديولوجية المساواة والحرية في مواجهة النظام القديم المؤسس على الامتياز وسلطة الملك المطلقة.

***

د. صابر جيدوري

غالبا"ما ينظر الى الخطاب الإعلامي الرسمي على أنه وسيلة من وسائل الدعاية السياسية والتضليل الإيديولوجي، لا لشيء إلاّ لكونه ممهور بطابع الدولة المسيطرة ومنظور إليه كأداة فاعلة من أدوات سلطتها الناعمة في مجالات الضبط الاجتماعي والتوجيه الثقافي . ولهذا قلما عوّل الجمهور المتلقي على ما يطرحه هذا الخطاب من معلومات وما يقوم به من تحليلات، خصوصا"حين يكون هذا الخطاب صادر عن مؤسسات سلطة ساهمت سياساتها التعسفية وإجراءاتها القمعية في نسف جسور الثقة بينها وبين من تقع مسؤولية حمايتهم ضمن واجباتها الوطنية والأخلاقية .

ولكن، وبرغم شيوع هذا الانطباع بين الناس، فان وظيفة الخطاب الإعلامي - لم تكن ولن تكون - مقصورة على تبرير الممارسات وترويج الإجراءات التي تتبناها سلطة الجماعة الحاكمة دائما"وأبدا"، وإنما هناك نوع من الخطابات ساهمت – وستساهم – في نشر الثقافة الإنسانية وتعميم الوعي العقلاني، عبر قيامها بوظيفة (النقد) المعرفي والسوسيولوجي للانحرافات التي تتورط فيها الحكومات، واضطلاعها بدور (التنوير) للذهنيات التي أدمنت التخبط في التهويمات والتشبيحات . ولعل الكثير من التجارب والممارسات التي شهدنا معطياتها وعشنا تجاربها، سواء على صعيد بلدان العالم الغربي الذي قطع شوطا"بعيدا"في هذا المضمار، أو على مستوى بلدان نظيره العالم الشرقي التي لا يزال بندولها السياسي يتذبذب ما بين دكتاتوريات متشددة مدججة بالعنف وبين ديمقراطيات شكلية مبتلاة بالفوضى، ما يؤكد هذا النموذج أو يدعم هذا المثال من التعاطي الايجابي والبناء .

ولعل من أبرز خصائص (النقد) الهادف في الخطاب الإعلامي، هي تسمية الأشياء السلبية بأسمائها الصريحة دون لف أو دوران، وتشخيص العلل والأعطال الاجتماعية بجرأة دون القفز فوقها أو التعتيم عليها . بحيث يستهدف الظاهرة موضوعة النقد بصورة (علنية) وبطريقة (مباشرة) دون رتوش أو تزويق، متخليا"بذلك عن أساليب (المداورة) و(المراوغة) التي من شانها جعل عملية النقد ذاتها بمثابة ستار يخفي القباحات ويحمي التجاوزات، بدلا"من أن يسوق النظر الفاحص والفكر المدقق إليها، ويسلط الأضواء الكاشفة والفاضحة عليها كما ينبغي للنقد أن يكون، ويشير من ثمة الى سبل الإصلاح الواقعي والمعالجة الملموسة التي تسهم في تقويم الاعوجاجات وتصحيح المسارات  .

ومن هذا المنطلق، ليس من مصلحة الخطاب الإعلامي الجاد في وظيفته والحريص على رسالته، أن يتردد باللجوء الى اللغة التي تحتوي في أروماتها العبارات الصريحة حتى وان كانت قاسية والكلمات المباشرة حتى وان كانت حادة، سواء أكان أثناء وصف الحالة الشاذة أو الظاهرة المدانة، أو خلال نقد هذه وتعرية تلك بما يتناسب وخطورة عواقبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية على المجتمع . ذلك لأن استخدام هذه الطريقة في المواجهة لا يحقق فقط معدلات عالية في (التوعية) و(التثقيف) لجمهور العامة المخدر في وعيه فحسب، بل وكذلك يبصّر صاحب القرار المعني بمدى عمق الأزمات وجسامة خطورتها على الدولة والمجتمع، هذا بالإضافة الى إرشاده الى ماهية الإجراءات الواجب اتخاذها لوضع الحلول واقتراح المعالجات .

وعلى هذا الأساس، فان إيعاز المسؤولين عن وظيفة الخطاب الإعلامي، سواء داخل مؤسسات المجتمع السياسي أو داخل منظمات المجتمع المدني، حيال (تلطيف) عبارات (النقد) المعرفي و(اختزال) جمل (التحليل) السوسيولوجي، بقصد حمل الرعية المضللة بالأكاذيب على تكوين الانطباع بأن الأمور تجري على خير ما يرام وأن ليس هناك ما يقلق، سوف لن يفضي الى حل المشاكل الاجتماعية المتوطنة وإزالة الصعوبات الاقتصادية المزمنة، بقدر ما يفاقم الأولى ويراكم الثانية على المديين المتوسط والبعيد، بحيث لن يمر وقت طويل حتى تشرع الأوضاع السياسية والأمنية - المحتقنة أصلا"- بالتأزم والتفجر، ولكن هذه المرة بأشد ما يكون عليه العنف من قسوة والتطرف من ضراوة ! . ناهيك عن ان انتهاج مثل هذه الممارسة (الانتقائية) في اختيار لهجة الخطاب والسعي للحد من طابعه النقدي، سوف يحرم الجمهور المحاط بكل ما يجعله مدجن الوعي ومخصي الإرادة من فرصة التغلب على أميته الثقافية المزمنة، والتمكن من تحقيق تراكم معرفي هو بأمس الحاجة إليه يتيح له التعاطي مع المستجدات بمرونة عقلية وإدراك صائب .

***

ثامر عباس

في المثقف اليوم