قضايا

المواطنة لغة: جاء في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي. المواطنة في اللغة العربيّة مشتقة من الوطن، وهو المكان الذي يولد الإنسان ويعيش فيه، وهي مصدر للفعل واطن بمعنى يشارك بالمكان الذي يعيش فيه مولداً أو إقامة. ويشتق منها مستوطنات ومستوطنون واستيطان وتوطن ووطني، وغير ذلك.

المواطنة اصطلاحاً: تعني، تمتع الفرد بعضويّة بلد أو دولة ما، ويستحق بذلك ما ترتبه تلك العضويّة من امتيازات أو حقوق وواجبات. وفي معناها السياسي على سبيل المثال، تُشير المواطنة إلى الحقوق التي تكفلها الدولة لمن يحمل جنسيتها والالتزامات التي تفرضها عليه، أو قد تعني مشاركة الفرد في أمور وطنه، وما يشعره بالانتماء إليه.) (1). ومن المنظور الاقتصادي الاجتماعي، يُقصد بالمواطنة إشباع الحاجات الأساسيّة للأفراد، بحيث لا تشغلهم هموم الذات عن أمور الصالح العام، أي تدفعهم لتحقيق التفاف الناس حول مصالح وغايات مشتركة، بما يؤسس للتعاون والتكامل والعمل الجماعي المشترك.

والمواطنة في أعلى تجلياتها تتجاوز القضايا الدستوريّة والقانونيّة، لتعبر عن حركة الإنسان اليوميّة المباشرة، مشاركاً ومناضلاً من أجل حقوقه بأبعادها المدنيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة، على قاعدة المساواة مع الاخرين دون تمييز لأي سبب كان. وإن اندماج هذا المواطن في العمليّة الانتاجيّة بما يسمح له باقتسام الموارد الوطنية، أي الدخل الوطني بطريقة عادلة في إطار الوطن الواحد الذي يعيش فيه مع الآخرين.

فالمواطنة بهذا المعنى، لا يمكن تجريدها عن سياقها الاجتماعي التاريخي بكل مستوياته الذي تُمارس فيه، ولا يمكن فهمها دون فهم البناء الطبقي السائد في المجتمع، والأيديولوجيا السائدة فيه، وهيكل الدولة، وطبيعة النظام الحاكم، وطبيعة نمط الانتاج، وموازين القوى الاجتماعيّة، ونمط توزيع الثروة والسلطة فيه.

هكذا يتحرر مفهوم المواطنة من مجرد كونه قيمة مثاليّة أخلاقيّة أو قيمة فرديّة يجب أن يعتنقها المرء أو يؤمر باتباعها، أو كونها مجرد قرار أو نص قانوني أو دستوري. فالمواطنة نتاج لحركة المجتمع بما يضم من مواطنين ومن المكونات والمصالح المشتركة لهم. ولهذا تطور مفهوم المواطنة تاريخيّاً، ليأخذ مفهوماً أكثر عمقاً وتعقيداً يتجاوز الجانب الخاص بالحقوق السياسيّة المباشرة للمواطن ليستوعب:

أولاً: إن الحقوق المدنيّة التي تشمل حريته الفرديّة في التعبير والاعتقاد والايمان والملكيّة والحصول على العدالة والمساوة وتكافؤ الفرص في مواجهة من يظلمونه، بأنها هي الحقوق التي يجب أن تجسدها وترعاها وتحميها المؤسسات القضائيّة والدستوريّة بشكل عام.

ثانياً: إن الحقوق السياسيّة والتي تضمن حقه في المشاركة السياسيّة ناشطاً وعضواً فاعلاً في بنية النظام السياسي أو كناخب، هذا ما يجب أن تتضمنه وتجسده مؤسسات البرلمان والمجالس المحليّة والأحزاب السياسيّة ومنظمات المجتمع المدني.

ثالثاً: إن الحقوق الاجتماعيّة، وتعني ضمان الرفاه الاجتماعي والتمتع بحياة إنسانيّة كريمة ومتحضرة، وفقاً لمعايير واضحة متفق عليها، هو ما تجسده نظم التعليم والرعاية الصحيّة والاجتماعيّة في الدولة والمجتمع.

رابعاً: وبأن هذا الفهم لروح المواطنة، علينا أن ندرك  بأن المواطنة لا يمكنها أن تلغي التفاوت الطبقي في المجتمع، أي كل تناقضات المجتمع وصراعاته، ولكنها تحد منها إلى حد كبير، وتحقق قدر متساوي من الفرص للجميع، تعمل – أي الفرص - على خلق حالات من العدالة والحفاظ على كرامة الإنسان ومساواته أمام القانون، وظهور المهارات الفرديّة الإبداعيّة والفسح في المجال لها لممارسة نشاطها.

ثقافة المواطنة:

“ثقافة المواطنة”، هي تلك الثقافة التي ترتكز على “مبدأ المواطنة” كمحور أساس حاكم لمجمل تفاعلاتها. وعلى اعتبار المواطنة كما بينا أعلاه، هي جملة من الحقوق والواجبات تتحقق من خلال قدر من الوعي والمعرفة، يسعي الفرد من خلالها إلى تحصيل حقوقه الطبيعيّة والمكتسبة، وسعيه للوفاء بالتزاماتها. وهذا المسعى لابد أن يتم من خلال وسائل مشروعة يحددها النظام ويتعلمها ويعيها الفرد. أهمها:

وسائل وشروط معرفة وتطبيق ثقافة المواطنة:

التطبيق الديمقراطي:

إنّ معرفة الوصول إلى مجتمع المواطنة يتطلب السعي إلى الايمان بالديمقراطيّة وتطبيقها. ذلك أنّ المواطنة هي محور الممارسات الديمقراطيّة، وهي هدف ووسيلة معاً. وبلا مواطنة تضحى الديمقراطية شكلاً بلا محتوى، وبناء على ذلك يحظى الموضوع بأهميّة كبيرة من هذا الجانب. ومثلما لكل نظام سياسي ثقافة تسانده، فإن للنظم الساعية لبناء الديمقراطيّة ثقافة المواطنة، التي تتجسد في قيم ومعايير سلوكيّة وتقاليد متعددة، مثل: احترام الآخر فلا يعود هنالك أنا مطلقة تحتكر الحقيقة والكمال لنفسها وتنكرها على غيرها. وبلا شك أنّ احترام الآخر يعني الاقرار بوجود رأي آخر، مما يتيح المجال لحريّة الرأي والتعدديّة الفكريّة والسياسيّة.

قيمة وثقافة التسامح:

وأيضاً من شروط تطبيق قيم المواطنة، لا بد من معرفة قيمة التسامح، إذ بقدر ما تبدو قيمة التسامح معنويّة وأخلاقيّة، فأنها بالضرورة تعني القبول بالآخر فكريّاً وسياسيّاً، والاستعداد النفسي لتقبل حلول الأخر في السلطة وبالتداول السلمي والدوري لها. وصناديق الاقتراع تعتبر ميدان حسم الصراع السياسي لتعزيز مفهوم المواطنة، وليس الاحتكام إلى السلاح.

لقد عد اعتماد الجزء الأكبر من الشعب على الحكومة في معيشتهم بطريقة أو أخرى، أو العمل لديها كموظفين عاملاً من عوامل تحكم الدولة عبر حواملها الاجتماعيّة بالمواطنين. فمعرفة الاستقلاليّة عن الحكومة بدرجة كافية تجعل المواطنين أكثر قدرة وحرية على الدفاع عن حقوقهم الخاصة، كما تنمي لديهم روح المبادرة والتنظيم المستقل بما يقوي روح ونفوذ المجتمع المدني.

تعدد مركز السلطة والرقابة:

لا بد من معرفة أهميّة وجود مراكز متعددة للسلطة، ورقابة متبادلة بين مؤسساتها، كمؤسسات قادرة على القيام بأعمالها في تناسق وتناغم دون اللجوء إلى الأساليب الإداريّة الخشنة التي تتمثل في الاعتداء على حقوق الأفراد والجماعات.

شرعيّة السلطة:

أي ضرورة معرفة تعبيرها الواقعي والحقيقي عند مجمل فئات الوطن، وانعكاس هذا في مشاركة المواطن مشاركة حقيقة في إدارة شؤون أو نظام الحكم، والتي تجسدها قدرة الفرد على الترشيح والتصويت في الانتخابات العامة والإسهام عبرها في حماية الحقوق العائدة إلى المجال الخاص باختيار ممثليه الحقيقيين.

فاعلية السلطة:

بمعنى معرفة قدرتها على إدارة شؤون الوطن، ولصالح كل فئاته، وحماية حقوقهم بشكل عادل ومتوازن دون الانحياز لفئة دون الأخرى.

على العموم: لقد اتسع مفهوم المواطن في الوقت الحاضر، ليتجاوز المفهوم التقليدي الذي يقصره بالمقيم على أرض الوطن، ليصبح مفهوم المواطن هو الإنسان المشارك في الحكم والسلطة السياسية، والمؤثر عليها بوسائل متعددة. ولتعزيز ثقافة المواطنة، فأن عدداً من الشروط يجب توافرها، كفيلة بتحقيق ذلك. منها: شروط سياسية، وشروط قانونية، وشروط اجتماعية. وشروط تربويّة وثقافيّة. (2)

شروط سياسية: أي المعرفة العقلانيّة والعلميّة بالسياسية وآليّة عملها وأهدافها. وشروط قانونيّة: أي المعرفة العلميّة بمفهوم الدستور وكيفيّة تشكله وآليّة عمله ودور ومكانة واستقلاليّة السلطات في.  وشروط اجتماعيّة: أي معرفة الوجود الاجتماعي ومكوناته السياسيّة والثقافيّة والعرقيّة والدينيّة وتفريعاتها، ومدى درجة تحكم المرجعيات التقليديّة في آلية عمل المجتمع . وشروط تربويّة وثقافيّة: أي معرفة الأساليب التربوية المتبعة في الاشتغال على المواطنة فكراً وممارسة، ثم معرفة البنى الثقافيّة السائدة في المجتمع ومدى توافقها مع روح المواطنة دينيّة كانت أم وضعيّة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة.

..........................

1- الويكيبيديا

2-..(لمعرفة المزيد عن ثقافة المواطنة راجع المركز الديمقراطي العربيى - عن ثقافة المواطنة.. متى تبدأ ؟ - اعداد : أ.  نجاح عبدالله سليمان.). و(مجلة العلوم القانونيّة والسياسيّة – تصدرها كلية القانون والعلوم السياسية  - جامعة ديالي – العراق - ثقافة المواطنة : مفهومها – شروطها الموضوعية - شاكر عبدالكريم فاضل.)

في صيف عام 2012 نشر البروفيسور القانوني وعالم الجيولوجيا كيسي لوسكين casey Luskin قائمة بعشر مشاكل تواجه نظرية الاختيار الطبيعي لدارون، وبعدها بفترة طُلب اليه عرض قائمة بالمشاكل الكبرى المتعلقة بالتفسيرات الكيميائية لأصل الحياة على الارض.هناك عدد هائل من المشاكل تتعلق بنظريات أصل الحياة الاولى على الارض لكن التركيز هنا فقط على المشاكل الخمس الرئيسية:

1- لا وجود لآلية عملية لتوليد الحساء البدائي:

طبقا للتفكير التقليدي السائد بين منظّري أصل الحياة، فان الحياة نشأت عبر تفاعلات كيميائية تلقائية على الارض المبكرة قبل حوالي 3 الى 4 بليون سنة. معظم المنظرين يعتقدون ان هناك العديد من الخطوات اشتركت في أصل الحياة، لكن الخطوة الاولى تطلبت انتاج الحساء البدائي – ماء في بحر من الجزيئات العضوية البسيطة برزت منه الحياة. وبينما وجود هذا "الحساء" جرى قبوله كحقيقة ثابتة لعقود، لكن هذه الخطوة الاولى في معظم نظريات أصل الحياة تواجه صعوبات علمية هائلة.

في عام 1953 قام أحد الباحثين في جامعة شيكاغو واسمه ستانلي ميلر ومعه المشرف في الكلية هارولد يوري بإجراء تجربة لغرض انتاج اللبنات الأساسية للحياة في ظل ظروف طبيعية على الارض المبكرة. هذه التجربة لكلا الباحثين قُصد بها محاكاة لصاعقة يصطدم بها البرق مع الغازات  في جو الارض المبكر. وبعد إجراء التجربة والسماح للمنتجات الكيميائية بالبقاء لفترة من الوقت،اكتشف ميلر تكوين  الأحماض الأمينية وهي القاعدة الأساسية للبروتينات .

ولعدة عقود، جرى الترحيب بهذه التجربة كونها تُظهر بأن "اللبنة الاولى" للحياة نشأت في ظروف طبيعية وواقعية مشابهة للارض، وبما ينسجم مع فرضية الحساء البدائي. ولكن ايضا كان يُعرف منذ عقود ان جو الارض المبكرة كان مختلف جذريا عن الغازات المستعملة في تجربة ميلر- يوري. ان الجو المستعمل في تجربة ميلر – يوري كان مؤلف اساسا من مركبات مثل االميثان والامونيا ومستويات عالية من الهايدروجين. علماء الجيوكيمياء يعتقدون الان ان جو الارض المبكرة لا يحتوي على كميات كافية من هذه العناصر. المنظّر في اصل الحياة ديفد ديمر يوضح في مجلة علم الاحياء المجهرية وبيولوجيا الجزيئات:

"هذه الصورة المتفائلة بدأت تتغير منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي عندما أصبح واضحا ان جو الارض الاولى كان بركانيا في الأصل، مركب بشكل كبير من ثاني اوكسيد الكاربون والنيتروجين بدلا من مزيج من الغازات  التي افترضها نموذج ميلر- يوري. ثاني اوكسيد الكاربون لا يساعد مجموعة غنية بالمسارات التركيبية التي تقود الى جزيء بسيط محتمل او monomers".

وكذلك في مقالة في مجلة العلوم "اعتمد ميلر ويوري على جو  فيه الجزيئات غنية بذرات الهايدروجين. وكما أظهر ميلر لاحقا، هو لم يستطع صنع اشياء حية في جو مؤكسد(فيه اوكسجين). المقالة أعلنت بشكل واضح:  ان"الجو المبكر لايشبه ابدا الموقف لدى ميلر – يوري". وبالانسجام مع هذا، لم تكشف الدراسات الجيولوجية دليلا عن وجود الحساء البدائي.

هناك اسباب جيدة للاعتقاد بعدم إحتواء جو الارض المبكرة على تركيز عالي من الميثان والامونيا والغازات الاخرى. جو الارض الاول يُعتقد انه جاء من إطلاق الغازات من البراكين، والمركب الناتج من غازات البراكين تلك ارتبط بنسب كيميائية لغطاء الارض الداخلي. الدراسات الكيميائية وجدت ان النسب الكيميائية لغطاء الارض كانت في الماضي هي ذاتها كما هي الان. لكن اليوم، الغازات البركانية لا تحتوي على الميثان والأمونيا .

وفي ورقة في رسائل علم الارض والكواكب وجدت ان النسب الكيميائية لباطن الارض كانت بالضرورة ثابتة عبر تاريخ الارض وهو ما يقود الى استنتاج بان "الحياة ربما وجدت اصولها في بيئات اخرى او بآليات اخرى". وهكذا يكون الدليل قوي جدا ضد التوليفة ما قبل الحيوية للّبنة الحياة الاساسية لدرجة ان دراسات الفضاء عام 1990 لمجلس البحوث الطبيعية نصحت محققي أصل الحياة ليعيدوا اختبار التركيبة البايولوجية في ظل بيئة الارض البدائية التي كشفت عنها النماذج الحالية للارض المبكرة. وبسبب هذه الصعوبات، أهمل بعض كبار المنظّرين نموذج ميلر – يوري و نظرية "الحساء البدائي" . في عام 2010، أعلن البايوكيميائي نك لين Nick Lane في كلية لندن الجامعية بان نظرية الحساء البدائي "لا تحمل ماءً" وقد تجاوزت تاريخ صلاحيتها. بدلا من ذلك، هو يقترح ان الحياة نشأت في ممرات مائية حرارية تحت البحر. لكن كلا الفرضيتين الحساء البدائي والممرات الحرارية تواجهان مشكلة اخرى كبيرة.

المشكلة 2: تكوين مركب كيميائي (polymers) يتطلب تركيبة جافة

لنفترض ان هناك طريقة لإنتاج جزيئات عضوية بسيطة في الارض المبكرة. ربما نشأت من حساء طبيعي او ظهرت قرب بعض الفتحات الحرارية. مهما كانت الطريقة، يجب على منظّري أصل الحياة توضيح كيف ارتبطت الأحماض الامينية او الجزيئات العضوية الاخرى الهامة لتشكل سلسلة طويلة من مركب البوليمير مثل البروتينات او RNA.

كيميائيا، آخر مكان ربما انت تريد ان تربط  فيه الاحماض الامينية الى سلسلة سيكون بيئة مائية شاسعة مثل "الحساء البدائي" او تحت الماء قرب الفتحات الحرارية. وكما تؤكد الاكاديمية الوطنية للعلوم، "اثنان من الاحماض الامينية لايرتبطان تلقائيا في الماء، وانما رد الفعل المقابل  هو تفضيل الديناميكية الحرارية. بكلمة اخرى، الماء يحلل سلسلة البروتين الى احماض امينية او الى مكونات اخرى، جاعلا من الصعب جدا انتاج بروتينات في الحساء البدائي.

مشكلة 3: فرضية RNA العالمية تفتقر للدليل المؤكد

دعنا نفترض مرة اخرى، ان البحر البدائي الممتلئ باللبنات الاساسية للحياة هو موجود حقا في الارض المبكرة، وشكّل بطريقة ما بروتينات وجزيئات عضوية معقدة اخرى. منظّرو أصل الحياة يعتقدون ان الخطوة القادمة في أصل الحياة هي – مصادفة تامة – جزيئات اكثر واكثر تعقيدا تشكلت حتى بدأ بعضها بالاستنساخ الذاتي . من هنا هم يعتقدون انطلاق مسؤولية الاختيار الطبيعي الداروني، مفضلا تلك الجزيئات التي هي اكثر قدرة على الاستنساخ. بالنهاية، هم يفترضون، انه اصبح حتميا ان تلك الجزيئات سوف تطوّر آلات معقدة مثل تلك المستعملة في الكود الجيني حاليا – لتعيش وتتكاثر.

هل استطاع المنظرون الحديثون توضيح كيف حدث هذا الجسر الخطير والحاسم من كيمياء خاملة غير حية الى أنظمة جزيئات تُستنسخ ذاتيا؟ كلا ابدا . في الحقيقة، حتى ميلر اعترف بصعوبة توضيح هذا في مجلة إكتشف Discover Magazine:

" اول خطوة، هي عمل مركب المونومور ، ذلك سهل. نحن نفهم هذا جيدا. لكن بعد ذلك عليك ايجاد اول بوليمور يُستنسخ ذاتيا. ذلك جدا سهل، هو يقول، بسخرية. مثلما من السهل عمل نقود من سوق الاوراق المالية – كل ما عليك تشتري بسعر أقل وتبيع بسعر أعلى. لا احد يعرف كيف تم ذلك".

اكثر الفرضيات البارزة في اصل الحياة تسمى RNA world(فرضية عالم الحمض النووي). في الخلايا الحية، المعلومات الجينية تُحمل بواسطة الـ DNA ومعظم الوظائف الخلوية تتم بواسطة البروتينات. لكن RNA هي قادرة على الاثنين حمل المعلومات الجينية وتحفيز بعض التفاعلات البايوكيميائية. وبالنتيجة، بعض المنظرين يفترضون ان اولى الحياة ربما استعملت الـ RNA وحدها لتقوم بكل هذه الوظائف.

لكن هناك العديد من المشاكل في هذه الفرضية. احداها، ان أول جزيئات RNA كان يجب ان تنشأ بعمليات غير بايوكيميائية. لكن الـ RNA لا يُعرف انها تتجمع بدون مساعدة كيميائي ماهر مختبريا في توجيه العملية. الكيميائي من جامعة نيويورك روبرت شابيرو Robert Shapiro انتقد جهود اولئك الذين حاولوا عمل RNA في المختبر قائلا: "العيب هو في المنطق – افتراض ان هذا التحكّم التجريبي من جانب الباحثين في مختبر حديث كان موجودا في بدايات الارض".

ثانيا: بينما RNA تبيّن انها تؤدي عدة أدوار في الخلية، لكن لا وجود هناك لدليل بانها يمكن ان تؤدي كل الوظائف الخلوية الضرورية التي تُنفذ الآن بواسطة البروتينات.

ثالثا: فرضية الـ RNA  العالمية لا يمكنها توضيح أصل المعلومات الجينية. أنصار الـ RNA العالمية يقترحون انه اذا كانت اول حياة مستنسخة ذاتيا مرتكزة على الـ RNA ذلك سيتطلب جزيء بين 200 و 300 من جزيء الـ nucleotides (الحجر الاساس في الاحماض النووية) في الطول. غير انه لم تُعرف هناك قوانين كيميائية او فيزيائية تملي نظاما لتلك الجزيئات. لتوضيح ترتيب النيكلوتايد في اول جزيء من RNA المستنسخ ذاتيا، يجب ان يثق الماديون باحتمال قليل جدا. لكن الغرابة في تحديد 250 نيكلوتايد على سبيل المثال  في جزيء الـ RNA بالصدفة هو دون عتبة الاحتمالية الكونية بواحد في  10150 ، وهو التعبير الذي يصف أحداثا لا تقع الاّ باحتمال ضعيف جدا ضمن تاريخ الكون او يمكن اعتبارها غير ممكنة. شابيرو يعبر عن المشكلة بالطريقة التالية:

"الظهور المفاجئ لجزيء مستنسخ ذاتيا مثل RNA هو غير محتمل بدرجة كبيرة ... الاحتمالية صغيرة جدا الى حد الضآلة لدرجة ان حدوثها مرة واحدة في أي مكان من الكون المرئي سيُعتبر جزءاً من حظ استثنائي".

رابعا: وهي الاكثر جوهرية ان فرضية RNA العالمية لايمكنها توضيح أصل الكود الجيني ذاته. لكي تتطور الـ RNA الى حياة مرتكزة على بروتين DNA/ الموجود اليوم، ستحتاج الـ RNA العالمية لتطور مقدرة على تحويل المعلومات الجينية الى بروتينات. لكن هذه العملية من النسخ والترجمة تتطلب مقدارا كبيرا من البروتينات والآلات الجزيئية – التي هي ذاتها مشفرة بواسطة المعلومات الجينية. كل هذا يخلق مشكلة الدجاجة والبيضة حيث تظهر الحاجة الى انزيمات وآلات جزيئية ليؤديان المهمة التي تؤسسهما.

المشكلة 4: العمليات الكيميائية التلقائية لا تستطيع توضيح أصل الكود الجيني

لكي نقدر المشكلة، لننظر في أصل اول اسطوانة DVD و مشغل اسطوانة  DVD  player. الـ DVD غني بالمعلومات لكن بدون الة DVD player لقراءة الاسطوانة، ومعالجة معلوماتها وتحويلها الى صوت وصورة، فان  الاسطوانة (الدسك) ستكون بلا فائدة. لكن ماذا لو كانت التعليمات لبناء اول DVD player مشفرة فقط في الـ DVD ؟ انت لن تستطيع ابدا تشغيل الـ DVD لتتعلم كيف تبني  DVD player. اذاً كيف يظهر أول دسك وأول نظام لـ DVD player ؟ الجواب واضح: لابد من عملية موجهة الهدف – مصمم ذكي – لإنتاج كل من مشغل الاسطوانة والاسطوانة. 

في الخلايا الحية، الجزيئات الحاملة للمعلومات (مثل الـ DNA  او الـ  RNA) هي مثل الـ DVD ،والماكنة الخلوية اتي تقرأ تلك المعلومات وتحوّلها الى بروتينات  هي تشبه الـ DVD player. كما في مقارنة الـ DVD، المعلومات الجينية لايمكن ابدا تحويلها الى بروتينات بدون آلة ملائمة. ايضا في الخلايا، الآلات المطلوبة لمعالجة المعلومات الجينية في الـ RNA او الـ DNA هي مشفرة بواسطة نفس تلك الجزيئات الجينية – انها تؤدي وتوجّه نفس المهمة التي تبنيهما.

هذا النظام لايمكن ان يوجد مالم تكن كل من المعلومات الجينية وآلة النسخ والترجمة كلاهما حاضران في نفس الوقت، ومالم يتحدث كلاهما نفس اللغة. بعد وقت قصير من اكتشاف الكود الجيني، اوضح البايولوجي فرانك سالزبري Frank Salisbury في ورقة نُشرت في معلم البايولوجي الامريكي American Biology Teacher التالي:

"جميل الحديث عن استنساخ جزيئات الـ DNA في بحر من الحساء، لكن في الخلايا الحديثة هذا التطبيق يتطلب وجود انزيمات ملائمة ... الربط بين الـ DNA والانزيمات معقد جدا حيث يستلزم RNA وانزيم لتركيبه على الحامض النووي والانزيمات وبناء خلوي داخلي مصنوع من البروتين والـ RNA لغرض تفعيل الأحماض الأمينية وتحويل جزيئات الـ RNA ... في غياب الأنزيم النهائي كيف يمكن للاختيار ان يؤثر على الحامض النووي وجميع آليات استنساخه؟ انه كما لو ان كل شيء يجب ان يحدث دفعة واحدة: كامل النظام يجب ان يأتي للوجود كوحدة واحدة، والاّ فانه بلا طائل. هناك ربما طرق للخروج من هذا المأزق ولكن لا أرى ذلك حتى الآن".

نفس المشكلة تواجه باحثي عالم الـ RNA وهي لاتزال بلا حل. وكما لاحظ اثنان من المنظرين عام 2004 في مقال نُشر في بايولوجيا الخلية الدولية:

"سلسلة مركب النيلوتايد هي ايضا بلا معنى بدون مخطط مفاهيمي ناقل وقدرات "آلات" مادية. جميع البناء الخلوي الداخلي وتركيبة الـ RNA والاحماض الامينية هي عناصر آلية لـ "المستلم". لكن التعليمات لهذه الآلة هي ذاتها مشفرة في الـ DNA وتُنفّذ بواسطة البروتين "العمال" المنتج بواسطة تلك الآلة. بدون الآلة وعمال البروتين، لايمكن استلام الرسالة وفهمها. وبدون تعليمات جينية لايمكن تجميع الآلة.

مشكلة 5: لا وجود لنموذج عملي لأصل الحياة

رغم عقود من العمل، لم يتمكن منظرو أصل الحياة في توضيح كيفية نشوء هذا النظام(1). في عام 2007، مُنح الكيميائي من جامعة هارفرد جورج وايتسايد مدالية بريستلي وهي أعلى جائزة للجمعية الكيميائية الامريكية. اثناء حديثة الافتتاحي عرض هذا التحليل المثير، واعيدت طباعته في اخبار المجلة الكيميائية والهندسية:

"أصل الحياة. هذه المشكلة واحدة من أكبر المشاكل في العلوم. انها تبدأ بوضعنا نحن والحياة معنا في الكون. معظم الكيميائيين يعتقدون كما انا، ان الحياة نشأت تلقائيا من مزيج من الجزيئات في الارض ما قبل الحيوية. كيف؟ لا أعلم ذلك".

العديد من المؤلفين الآخرين طرحوا تعليقات مشابهة. ماسيمو بيجو يقول: "صحيح ليس لدينا فكرة عن كيفية نشوء الحياة على الارض". او كما كتب الكاتب العلمي كريك ايسبروك في مجلة ويرد،" كيف خُلقت الحياة بحيث صُنعت أشياء حية من مركبات ميتة ؟ لا أحد يعرف. كيف جرى تجميع اول الاشياء الحية؟ الطبيعة لم تعطنا أقل لمحة. الاسطورة تعمقت بمرور الزمن".

نفس الشيء، تستنتج المقالة المشار اليها انفا في بايولوجيا الخلية الدولية:

"مطلوب اتجاهات جديدة للتحقيق في أصل الكود الجيني. القيود على العلم التاريخي هي ان أصل الحياة ربما لا يُفهم ابدا". انها لا يمكن فهمها ما لم يرغب العلماء بالتوضيحات العلمية الموجهة نحو هدف مثل المصمم الذكي.

***

حاتم حميد محسن

..................

Evolution News and Science Today, Dec, 12, 2012

الهوامش

(1) بالاضافة الى تلك النظريات عن أصل الحياة، هناك نظرية تفيد ان أصل الحياة جاء من كوكب آخر غير الارض عن طريق النيازك او المذنبات، لكن هذه النظرية لن تحل المشكلة ويبقى السؤال ذاته كيف نشأت الحياة في ذلك المكان من الكون.

الاتجاه الغالب المميز للأدب الجديد هو أدب الحياة، أو الأدب في سبيل الحياة، حيث كل أدب حتى المأخوذ من بطون الكتب القديمة في السير والحكم والبلاغة، إنما هو في سبيل الحياة وتجميلها وتهذيبها، يقوم الأدب على التجربة الحية للإنسان أوالعصر أو الشعب، وأن تكون هذه التجربة صادقة خالصة، لا تزيف الصور ولا تهويل الوقائع، لا تفسد التاريخ ولا تحجب الحقائق، تلك الحقائق التي وسيلة العصر الحديث للكفاح من أجل التطور والتقدم، وبذلك يخرج الأدب من وظيفة الحلية البديعة الساكنة فوق الصدور، إلى وظيفة النور البراق المتحرك الذي يفتح الأبصار، ويثير ما داخل النفس البشرية، ويبرز ما في الأذهان من أفكار معاصره.

إن أدب الحياة لا يكون عميقا إلا إذا كان الأديب نفسه عميقا في اطلاعه وفكره وفنه، ومتمسكا بالصبر والجلد، مشيدا على العمل والجهد والإطلاع على ما كان ويكون، ليبرز للناس "الحياة" في عمقها وإتساعها وشمولها للفكر والمعرفة والتجربة، لأن تلك هي "الحياة" تجربة وفكر ومعرفة. 

 ومن أبرز سمات الأدب الجديد "التجربة الحية"، ومعنى ذلك أن يكون الأدب ذاته عنصرا فعالا حيا في العصر الذي يعبر عنه، أو في المجتمع الذي يصفه، أو في البيئة التي يسجل أحداثها، ومن هنا كانت المشاركة الذاتية أهم أركان التجربة في الأدب الحديث، وعلى وجه الخصوص أدب القصة، لأنها تستمد مادتها من الكتب والوثائق القديمة، ولا تنبع من الوثيقة الحية التي هي الأديب نفسه، فالأديب اليوم في نظر الأدب الجديد هو شاهد عيان يقسم أن يقول الحق أمام محكمة الضمير الإنساني.

وهناك يطرح سؤال مهم، وهل معنى ذلك أن الأدب الجديد يطرد من حضيرته كل عنصر تاريخي، فالجواب يكون، بالطبع..لا... ولم يعد الأدب الجديد مجرد تسجيل للقديم، بل هو إعطاء روح جديدة للزمن الغابر، وبعث جسد قديم برأس حديث. ولم يزل التاريخ، ولم تزل القصصص والأساطير وكل صور التراث القديم مهبط وحي لكثير من الأعمال الأدبية الحديثة، ولكن الأدب الجديد عندما يستلهم المادة الجديدة يستهدف إلى غرض آخر، وهو البعث في الحياة الجديدة  بلباسها الجديد وأفكارها الحديثة.

  الأدب الذي ينتجه من الوثائق الشخصية المعهتمدة الصالحة للشهادة على روح عهد من العهود، أو حديث من الأحداث،إنما هو أدب الصياغة أو الصناعة أوالبراعة، فالأدب الجديد فلا بد أن يكون من صميم التجربة الحية لعامل في مصنعه، أو جندي في معركته، أو فلاح في حقوله، أو كل شخص في مجاله.. كل من اجتاز تجربة إنسانية أو فكرية، واستطاعت ظروف المجتمع أن توفر له الثقافة التي تؤهله لحمل أداى التعبير الأدبي والفني.

 ولن يكون الأدب مجرد رغبة في الكتابة، ولا مجر تريده لألفاظ لغوية، إنما الأدب الجديد سيكون هو أداة التعبير الفنية في يد التجربة الحية، فالأديب الحي الجديد يجب أن يستمد حياته من الأرواق الخضراء لا من الأوراق الصفراء. الأدب ليس هو فنا مطلقا يقصد منه مجرد الفن، الأدب بنحوعام رسالة في الحياة، وبهذه الرسالة يكتسب الأديب مكانته وقيمته الحقيقية بوصفه راعيا لقيم الخير في المجتمع، وموجها للثقافة النافعة التي تسهم في البناء الحضاري. ولايكون الأدب أدبا إلا يعكس فيه الحياة بكل ما فيها من أفراح وأتراح، ومن ألام وأحزان، حيث الأدب بمفهوم وسيع هو مرآة المجتمع وتصوير الحياة.

***

الدكتور معراج أحمد معراج الندوي

الأستاذ المساعد، قسم اللغة العربية وآدابها

جامعة عالية ،كولكاتا - الهند

الغرض من هذه الكتابة هو إيضاح الحاجة للفصل بين الدين والعلم، في الوظيفة والقيمة ومناهج البحث، لا سيَّما أدوات النقد.

لا نريد مجادلة القائلين بأنَّ العلم جزء من الدين، أو أنَّ الدين قائم على العلم، فهذه تنتهي غالباً إلى مساجلات لفظية قليلة القيمة، تشبه مثلاً إصرار بعضهم على أن قوله تعالى «وعلّم آدم الأسماء كلها» دليل على أن العلم والدين كليهما يرجعان لمصدر واحد، لهذا فهما متصلان. هذا النوع من الجدل لا ثمر فيه ولا جدوى وراءه.

- ربما يقول قائل: فلنفترض - جدلاً - أنَّنا قبلنا بهذا التمهيد، فما جدوى هذه النقاشات التي أكل عليها الدهر وشرب؟

جواباً عن هذا، أقول إن غرض النقاش هو التشديد على استبعاد المؤثرات العاطفية، عند النظر في هذه المسألة وأمثالها. وهي مؤثرات مُحرّكها - فيما أظن - ارتياب في الأفكار الجديدة، لا سيما إذا لامست قضايا مستقرة لأمد طويل. واقع الحال يخبرنا أن الإصرار على ربط العلم بالدين أدى إلى إقصاء المنطق العلمي الضروري لمواجهة المشكلات. فكأن العقل الكسول يقول لنفسه: ما دمنا نستطيع تحويل المشكلة على الغيب، والخروج بحل مريح، فلماذا نجهد أنفسنا بحثاً عن حلول غير مضمونة؟ ولعل بعضنا يتذكر الواعظ، الذي هاجم الداعين لإغلاق الجوامع والمشاهد التي يزدحم فيها الناس أيام وباء «كورونا»، وقال ما معناه: إن العلاج الحاسم للوباء يكمن في التوسل إلى الله والاستشفاع بأوليائه كي يُنعم على المرضى بالشفاء. وهذا غير ممكن إلا بترك أماكن العبادة مفتوحة للمصلّين والداعين، أما المرض فهو موجود في أماكن الإثم وليس في أماكن العبادة، المرض لا يأتي إلى محل التشافي منه!

ومن ذلك أيضاً التوافق القائم منذ قرون، على أن «علم الدين» ينبغي ألا يتجاوز الحدود التي رسمها العلماء الماضون، لهذا اقتصرت بحوث المعاصرين على شرح أقوال السابقين، أو تحقيقها، أو التعديل عليها قليلاً، ونادراً ما تصل لنقضها أو اقتراح بدائل تُعارضها جوهرياً. بمعنى آخر، فإن «علم الدين» المعاصر ليس أكثر من تأكيد لأخيه القديم.

ونظراً لشيوع هذا المفهوم وتلبُّسه صبغة الدين، فقد تمدَّد في غالبية نظم التعليم والبحث العلمي العربية، لهذا ترى العلم القديم حاضراً بقوة في معظم الأبحاث، لا كموضوع للنقد والمجادلة، بل كأساس يقف عليه الباحث أو دليل يرجع إليه، مع أن القاعدة العقلانية تفترض أن العلم الجديد أكملُ من سابقه.

العلم والدين عالمان مختلفان في الوظيفة، فالعلم غرضه نقض السائد والموروث، واستبدال ما هو أحسن به، ولذا فإن معظمه يركز على مساءلة الأدلة والتطبيقات، والعمل على نقضها والبحث عن بدائلها، أما الدين فوظيفته معاكسة، يوفر الدين اليقين؛ أي الرؤية الكونية التي تجيب على أسئلة الإنسان الوجودية، فتولد الاطمئنان إلى المصير. كما توفر الشريعة الأرضية الفلسفية للقانون، والمضمون المناسب لقواعد العمل الفردي والجمعي في المجتمع الإنساني. ونعلم أن تواصل الإنسان مع الكون الذي يعيش فيه ليس من نوع الآراء التي يمكن تغييرها بين حين وآخر. كذلك فإن الاستمرارية جزء من طبيعة القانون، حتى لو قلنا بإمكانية تغييره وتحديثه.

نظراً لاختلاف الوظيفة، فإن منهج البحث في الدين مختلف عن نظيره في العلم. وهنا لا بد من التذكير بضرورة التمييز بين الدين والمعرفة الدينية، حيث يراعى في الدين مصدره الإلهي، بينما المعرفة الدينية بشرية وغير معصومة، فهي تخضع لنفس قواعد وأدوات النقد المتعارفة في العلوم العادية.

***

د. توفيق السيف

العمليات الحسية  ما هي العمليات الحسية؟ العمليات الحسية هي تلك العمليات التي تساعدك على فهم أو إدراك الطريقة التي يتبعها العالم من حولنا. لديك خمسة أعضاء حسية. إنها تشفر العالم المادي تعطيك التفسير لانك بشر. التفاعل مع العالم يمر بشيء يسمى عملية حساسة أو أنظمة حسية. ما هي العمليات الحسية، ولماذا هي ضرورية وكيف تصبح جزءا من علم النفس. دعونا في الواقع نوظف سيناريو لبيان ما تعنيه العملية الحسية. تخيل أنها ليلة رائعة مليئة بالنجوم وأنت جالس على مقعد في الحديقة, الليل رائع، النسيم يهب. وفي هذا الوقت، عندما تجلس في هذه الليلة على مقعد الحديقة، هناك العديد من الأشياء التي تسمعها ,هي عدة أنواع من المحفزات التي تؤثر عليك، عدة أنواع من الإشارات من البيئة. على سبيل المثال، حفيف الأشجار الذي يدخل أذنك، الضوء الذي يأتي من عمود الإنارة المقابل لك. الخدش الذي تشعر به في ساقك. وزن الزهور أو الحقيبة التي لديك على كتفك. الطائر الذي يزقزق قريبا. نسمات الريح والعديد من الأشياء الأخرى الموجودة هناك والتي تصطدم بك.

أعضاؤك الحسية المختلفة، على سبيل المثال العيون ترى شيئا ما، أنت تنظر إلى شيء ما، وبالتالي هناك الكثير من المعلومات التي تجمعها. وهي المعلومات التي يمكنك قراءتها. هذه الاصوات التي يمكنك سماعها. هذه المدخلات التي يمكنك استلامها أو الانتباه إليها. لكن هذه ليست المعلومات الوحيدة التي تدخل عليك. هناك العديد من المعلومات التي تأتي إليك بشكل أساسي، لكن لا يمكنك استلامها. على سبيل المثال، يرسل جهاز إرسال الميكروويف الموجود في مكان ما أسفل التل إشارات ميكروويفية أو الهواتف المحمولة، وهي في الواقع تنتهك جسدك عنوة  لكن لا يمكنك سماعها لأنها خارج نطاق السمع.

ضوء الأشعة تحت الحمراء الذي يأتي من بعض الأبراج في مكان ما، برج الميكروويف أو من برج الهاتف الخلوي الذي يرسل الترددات ولكن لا يمكنك رؤيته بالفعل، وهناك العديد من الأنماط والموجات الكهرومغناطيسية وغيرها من الأنواع الأخرى التي لا يمكنك رؤيتها.

 لذا فإن جزءا من الأطياف المرئية أو جزء من التحفيز الذي يمكنك سماعه والذي يتم ضبطك عليه وجزء من الأطياف لا يمكنك سماعه. لذلك مجرد الجلوس على مقاعد الحديقة,أنت لست وحدك هناك أشياء كثيرة. هناك الكثير من المحفزات او الاشارات التي تصل اليك. كيف تقوم بالتشفير أو كيف تلاحظ هذه الإشارات، هذه الإشارات تجعلك تفهم العالم من حولك العالم .

هناك نافذة، ومن تلك النافذة طلبت منك أن ترى أن هناك شيئا ذا طبيعة معينة، كائن أسطواني بني في القاعدة وأخضر على الجانب العلوي، ماذا ترى؟ ما تراه عيناك في الواقع هو الفوتونات المنعكسة من هذا الهيكل. لذا فإن العين ترى في الواقع فوتونات، جسيمات ضوء. وهذه الجسيمات الضوئية التي تسقط على العين يتم نقلها بعد ذلك إلى منطقة معينة من الدماغ، والتي تنظمها، وتقارنها ببعض الهياكل، وتقارنها ببعض المنظمات، وتقارنها بتمثيل شيء تم ترميزه من قبل ويقول إن هذه شجرة. لذلك إذا كان شخص ما يرتدي بنطالا بني اللون و قميص أخضر اللون في الأعلى، فهو ليس شجرة. ولكن إذا كان هناك شيء يحتوي على عمود بني وورقة خضراء اللون فوقه، فهو شجرة. فكيف تميز بينهما؟ هذا هو الشيء المثير للاهتمام. إذن ما تراه العيون في الواقع هو المثير الفيزيائي، وهو في الأساس الفوتونات. لكن ما يدركه البشر، ما يراه منه هو شجرة وأشياء من هذا القبيل.

إحساسنا هو الجزء الذي تقوم فيه بالفعل بتشفير هذه الفوتونات إذا كان ضوءا أو ضغط موجات صوتية أو لمسية إذا تم لمسها وما إلى ذلك. إذن كيف يمكنك ترميز درجة الحرارة والضغط، هذا النوع من التحفيز المادي هو كيف يأخذ النظام البشري أو كيف يأخذ النظام الحسي البشري هذه المعلومات ومنها يخلق عالما نفسيا هو ما يدور حوله الإحساس.

ولتبسيط ذلك، علي أن أخبركم بالعمليات الحسية بهذه الطريقة، هذه هي بيئتي الخارجية وهذه البيئة الخارجية لديها أشياء مثل الفوتونات وضغط الهواء ودرجة الحرارة. إذن هذه هي الصفات الفيزيائية، الأشياء التي تصنعها الفيزياء. ولكن بعد ذلك هذه الأشياء، تقع في النظام البشري, النظام المادي، و النظام النفسي. لذلك في النظام النفسي هذه الفوتونات هي الضوء، أمواج ضغط الهواء هي الصوت، درجة الحرارة هي الشعور بالدفيء او الحرق. عندما تقع هذه الاشارات على الأعضاء الحسية للإنسان، كيف تترجم هذه الأعضاء الحسية هذا؟ الفوتونات والضغط ودرجة الحرارة إلى فعل رؤية ضغط الهواء حيث الصوت ودرجة الحرارة الأشياء الباردة والساخنة، هذا هو كل ما تدور حوله العمليات الحسية . لذلك في هذه الواجهة حيث يتحول العالم المادي إلى عالم النظام الحسي. النظام الحسي هو آلية كشف إنه في الواقع يشفر العالم المادي في العالم النفسي.

 في العالم المادي لديك درجات حرارة، على سبيل المثال، درجتان، ثلاث درجات، أربع درجات، 18 درجة، 20 درجة، 40 درجة. في العالم النفسي تسمى هذه الأرقام ساخنة، باردة,دافئة. في العالم المادي لديك فوتونات. 4 فوتونات، 8 فوتونات، حفنة من الفوتونات، عدد كبير من 1 مليار فوتون في العالم النفسي لديك اشراق او أضاءة، أقل سطوعا، سطوع أعلى يخلق لك تدرج أقل حيث اللون غير اللون، في العالم المادي لديك نغمات مثل واحد هيرتز 5 هرتز، 10 هرتز، 50 هرتز، 20 هرتز، 200 هرتز 1000 هرتز. في العالم النفسي لديك صوت عالي، نغمة منخفضة، نغمة عالية. إذن كيف يتم تحويل هذه المحفزات الجسدية إلى قواعد علم النفس المخصصة وكيف يتم مطابقة ذلك؟ هو ما يدور حوله الإحساس. لذا فإن الإحساس هو عملية تشفير الحافز المادي وادخاله مرة أخرى أو تحوله بشكل أساسي إلى شكل حتى يتمكن الدماغ من فهمه وجعل المعنى منه هذه الأحاسيس.

يحصل البشر في جميع الأوقات على هذا النوع من المعلومات. حتى في الظروف الشائعة، يقصفنا زخم من المعلومات. الكثير من المعلومات تصل إليك و من هذه المعلومات فأن الكائنات الحية تحتاج إلى استيعاب العالم. كيفية تحويل المثير المادي إلى محفز هو في الأساس العنوان. كيفية تشفير هذه المعلومات من البيئة بشكل أساسي في شكل يمكن للدماغ قراءته وتفسيره، عملية من جزأين. الاول، جوانب من المعلومات البيئية تسجل معنا. لذا فإن إحدى مشاكل الإحساس هي ما هي جوانب العمليات الحسية أو المثير الحسي الذي نحتاجه بالفعل؟ ومن الصعب جدا الإجابة هنا على هذا السؤال بالمعرفة الحالية. على سبيل المثال، انظر إلى الخفافيش يمكن للخفافيش سماع صوت عالي النبرة فقط، لكنها لا تستطيع الرؤية، وبالتالي هناك أنظمتها الحسية أو أنظمة السمع، ما يحدث هو أنها عندما تطير، فإنها تحصل على صدى من أي مادة في طريقها، ومن ذلك تختار المسار. انظر إلى الكلاب، لديها رؤية ضعيفة للغاية، لكن لديها حاسة شم قوية للغاية.

في الأساس الإجابة السريعة على هذا هو أنه يأتي من التكيف. إنه قادم من سلالة طويلة من التكيف. إنه في الأساس لماذا لا يستطيع البشر رؤية النطاق المرئي للطيف كله؟ الجواب هو أن البشر يمكنهم الرؤية فقط من الأشعة فوق البنفسجية إلى الأشعة تحت الحمراء، وبعد ذلك لا يمكنهم الرؤية. الطيف البصري هو الألوان. ولكن عيون البشر تتدرب بهذه الطريقة وتتكيف و يمكنهم الرؤية بهذه الطريقة ولكن الكلاب يمكنهم رؤية الأشعة تحت الحمراء، و الأشعة فوق البنفسجية، يمكن لبعض الحيوانات رؤية الأشعة فوق البنفسجية.

 الثاني هو كيف تعمل الأعضاء الحسية للحصول على المعلومات التي يمكن اكتسابها بشكل فعال. إذن ما هي خصائص الأعضاء الحسية أو كيف يجمعون هذه المعلومات وليس فقط جمع المعلومات، بل هم يكتسبون هذه المعلومات بشكل فعال ويجعلون المعنى مثاليا. الأحاسيس والمستوى النفسي، هي القانون الأساسي للتجارب المرتبطة بالمحفزات. ما يحدث حقا هو أن الأحاسيس هي تفسيرات للتحفيز البدني. التحفيز الفيزيائي مثل درجة الحرارة والضغط وشدة الضوء وعدد الفوتونات وضغط الهواء. أحاسيس البصر  وهو اللون إذا نظرت إلى الفوتونات. يحتوي نفس العدد من الفوتونات على العديد من المتغيرات أو عدة معلمات. نفس المستوى من عدد الفوتونات يمكن أن يحدد أيضا الحقائق النفسية مثل الشدة، والحقائق النفسية مثل تدرج اللون. حقائق أخرى مثل اللون و التشبع. لذلك عندما تدرك العين شيئا ما، فإنها لا تدرك فقط نوع الكائن، بل و شكل الكائن.

العيون ذات خلايا خاصة تتعرف على الزوايا والخطوط والمنحنيات. لذلك يمكن أن تخبرك الأحاسيس كيف يكون هذا الكائن أو ما هي طبيعة هذا الكائن. اما مستوى الإدراك فهو تجارب المعالج لذا فإن المعلومات الخارجية أو المحفزات الخارجية، عندما تطبع على أنظمتنا الحسية، فإن أنظمتها الحسية تدمج أو تأخذ هذه المعلومات بشكل أساسي و تجمعها في شكل حتى يتمكن الدماغ من قراءتها وفهم معناها. لذا فإن صنع المعنى من تجاربنا الخام يسمى الإدراك، العملية التي يتم من خلالها تشفير المحفزات من البيئة الخارجية في الدماغ أو في أنظمتنا الحسية أو في أذهاننا. ما هو الفرق بين الإحساس والإدراك؟ الإحساس هو نظام يقوم بتشفير المعلومات المادية في الدماغ. الإدراك هو نظام يأخذ هذه المعلومات الأولية في صناديق البريد الوارد ثم يجعل منها معنى.

مدى حساسية أو دقة نظامك الحسي. بعض خصائص أو بعض طرق أو بعض صفات الجهاز الحسي هي الحساسية. الحساسية هي مدى سهولة فهم نظامك الحسي أو إدراكه لما يرده من البيئة. هناك نوعان من الخصائص المشتركة بين جميع الطرائق الحسية. وهاتان هما المعلمتان الرئيسيتان لأي أعضاء حسية واي محفزات تضرب الأذن تضرب العين أو الجلد أو أي الحواس الخمسة الأخرى. تتمتع هذه الحواس الخمسة بجودة تخبرك بمدى دقة ذلك ومدى حساسيته.

تكون حساسية الجهاز الحسي بحيث يمكنه تلقي التحفيزات عالية الكثافة و منخفضة الشدة. تصف الحساسية الطريقة الحسية والمستوى النفسي. إنها تقول كيف الجودة، جودة المعلومات، كم من جودة المعلومات يمكن للنظام الحسي تضمينها بالفعل. هناك ترميز حسي، والذي يصف الطرائق الحساسة مثل الترميز الحسي البيولوجي.

 الأنظمة الحسية، الحس البشري؟ الحساسية هي في الأساس مدى دقة نظامنا الحسي على المستوى النفسي، ما هي جودة المعلومات التي يقدمها لك النظام الحسي؟ هل يمكن أن يعطيها اللون، هل يمكن أن تعطيك تدرج اللون؟ هل يمكن أن تعطيك التشبع؟ يمكن أن تعطيك الرقم والخلفية. إذن ما مدى دقة الأنظمة الحسية من حيث الترميز الحسي، هذا يعني كيفية تشفير هذه المعلومات في الدماغ؟ بمجرد سقوط جسيم ضوئي في العين، جسيم فوتون، يسقط في العين، كيف يتم تفسير هذا الفوتون من حيث اللون، في علم النفس، يتم التعبير عن الحساسية باستخدام مفهوم العتبات.

يحتوي الدماغ البشري على عدد من الخلايا العصبية وهذا يخلق ضوضاء في حد ذاته. سأعطيك مثالا. حاول أن تغمض عينيك حاول أن تكون ساكنا. في اللحظة التي تفعل فيها ذلك دماغك يستمر في إطلاق الضوضاء في جميع الأوقات. من الصعب جدا التزام الصمت, هذا هو الضجيج العصبي .

إحدى ميزات قياس حساسية النظام هي قياس العتبة المطلقة، الحساسية هي دقة النظام أو دقة نظام الكشف. الآن في حالة البشر، نظام الكشف مرتفع. لذلك إذا أخطأت العين، إذا لم تستطع العين اكتشاف شيء ما، فلن يتمكن الدماغ من صنع معنى منه. عندها لن تفهم ما يدور حول العالم المادي، وبالتالي يعتمد نظام الدقة على الحساسية، وتعتمد حساسية النظام على مدى سرعة أو مقدار الدقة التي يمكن للنظام اكتشافها.

***

د. احمد المغير

تطرقنا في الحلقة السابقة كيف كانت الشخصية المحمدية تمتلك قابليات فطرية وأخلاقية كبيرة ساهمت في أختيار القدرة الألهية له كنبي مرسل للبشرية كافة (وما أرسلناك الا كافة للناس)(سبأ:28)، ولكن هذه القابلية لم تكتفي القدرة الألهية بها لأتمام المهمة الرسالية، فالبيئة الأجتماعية والظرف التاريخي الذي عاش فيه الرسول يضفي بظلاله، ويترك بصماتهِ عليه، وهذه مسألة بديهية  لايفلت منها احد من البشر، لذا لم تتركه عين الله في رعايته له، والتوجيه بأعداده  (وأصبر لحكم ربك فأنك بأعيننا وسبح بحمد برك حين تقوم)(الطور:48) . فكما هو معلوم أن سياقات التربية والتعليم تتضمن التوجية، والتنبيه، والتحذير، وأحياناً التقريع والتهديد، ولو ننظر في القرآن لوجدنا هذه المفردات لها حضور في توجيه الله له، فمثلاً نجد تحذير الله واضح لنبيه في هذه الآية (ولئن اتبعت أَهواءهم بعدما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واقٍ)(الرعد:37)، كما أن توجيهات النهي له من الله في أكثر من آيه (ولاتطع المكذبين....ولاتطع كل حلاف مهين)(القلم:8،10) و (ولاتصل على أحد منهم مات أَبداً ولاتقم على قبره.....)(التوبة:84) كذلك (ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون)(النمل:70)، كما نجد نداءات التنبيه له من الله كثيرة، وتأتي على هيئة ياء النداء، مثل (يا أيها النبي اتقِ الله ولا تطع الكافرين والمنافقين) (الأحزاب:1) و (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أَزواجكوالله غفور رحيم)(التحريم:1) و (يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال)(الأنفال:65) (ياأيها النبي بلغ ما أُنزل أليك من ربك..ز(المائدة:67) (ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم...)(التوبة:73)، كما نلاحظ صيغ التنبيه للنبي من الله بصيغ فعل الأمر، وارده بأكثر من مكان في آيات القرآن، ومنها (فأعرض عنهم....)(النساء:73)

فأصدع بما تؤمر...)(الحج:94)

(وأصبر على مايقولون وأهجرهم هجراً جميلاً)(الزمل:1)

(خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)(الأعراف:199)

(قم وجهك للدين حنيفاً ولاتكونن من المشركين(يونس:105)  حيث في هذه الآية تجمع الأمر والنهي معاً، يتضح من هذه الآيات، وهذا الأسلوب من الأمر والنهي بصيغ ذات بُعد تعليمي، حيث نلاحظ  هناك جدلية من الفاعلية الألهية والمفعولية الرسولية المحمدية .

كما يمكننا بعد ذلك الأنتقال الى صيغة قرآنية تبدأ جملتها بقل، وهذه الصيغة تكشف عن بعدين، البعد الأول هو التوجيه والأرشاد الألهي  للرسول، وبدوره يبلغ الناس بها، وهذه هي مهمة الرسول في وظيفة التبليغ والتبشير، كما ان هذه الصيغة  تكشف لنا أن الله هو القائل وليس الرسول، والرسول ليس عليه الا البلاغ المبين، وهناك عدة آيات تبدأ بكلمة قل، الذي يكون فيها القائل الله، والمخاطب اليه الرسول، الذي بدوره يمررها الى الناس الموجه لهم الخطاب، ومنها الأتي:

قل لا أَقول لكم عندي خزائن الله (الأنعام:50)

قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً الا ماشاء الله (الأعراف:188)

قل انما أنا بشر مثلكم يوحى الي (فصلت:6)

قل اني أُمرت أن أكون أول من أسلم (الأنعام:14)

قل أنما أمرت أَن أعبد الله ولا أشرك به (الرعد:37)

وكما قلنا أن الرسول خضع للأعداد الألهي بكل  الطرق والأساليب التي تطرقنا لبعضها من صيغ الأمر، والنهي، كذلك لم تخلو من التنبيه الشديد، الذي يقترب من لغة التهديد، والآية القرآنية التالية واضحة في ذلك ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا اليك ثم لاتجد لك به علينا وكيلاً)(الأسراء:86) هذه الآية وغيرها من الآيات كما الذي جاء في آية ( ياأيها النبي بلغ ما أُنزل أليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته) لتدل دلالة واضحة، تضع حد لقول البعض بأن القرآن من وحي محمد (ص)، وأنه منتوج ثقافته بل نجد في آية قرآنية ترد به على هذا الأفتراء الذي ينسب فيه النص القرآني الى محمد ( قل ان افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً)(الأحقاف:8) . كما هناك أحداث وقعت تدل دلالة واضحة على بشرية الرسول، وما قد يتعرض له من حالات تلامس ما مألوف من طبائع ذلك المجتمع عند التفاعل معهم في مسائل أستدراجهم للدين الجديد، فنراه وقد كاد أن يستجيب لطلب ثقيف، حين طلبوا منه أن يؤجلهم سنة لكي يتمتعوا باللات وأن لا يأخذ عشور الأموال، ولايسجدوا في صلاتهم ولايكسوار اللات عند رأس الحول ... وقالوا له أذا سألك العرب، فقل لهم أن الله أمرني بذلك، وكاد الرسول أن يقبل بعرضهم هذا أملاً بأستدراجهم  الى الأسلام في العام القادم، وأن المسألة مسألة وقت، ولعل هو أبن هذا المجتمع وأرتأى بأن هذا الأسلوب يُلين به قلوبهم، ولكن الله لما عَلم ما في نفس الرسول، أنزل عليه آية ( وان كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا اليك لتفتري علينا غيره ...)(الأسراء:73)، فهنا أُلغِت الأراده المحمدية أمام أرادة الله، وصَرف الرسول ما في نيته، وما هم به، وفُرضت أرادة الله بأعتباره هو الآمر، ومحمد هو المأمور، ولا أرادة فوق أرادة الله، وكما أسلفنا أعلاه بأن عين الله هي الراعية، وأرادته هي الطاغية وهي من تسير الرسول، وقد وضحتها الآية الكريمة ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن اليهم)(الأسراء:74)، وقد نقل الواحدي هذه الرواية عن ابن عباس، والذي ذكرها الطبري في جامع البيان في تأويل القرآن ج17، ص508، ويُذكر أن النبي قال بعد نزول هذه الآية (اللهم لاتكلني الى نفسي طرفة عين)(جامع البيان في تفسير القرآن:ج15،ص69-71، من هذا لايبقى شك في رعاية الله وحماية الرسول في المسيرة التي خطها الله له في تبليغ رسالته، وأن رعاية الله له كالغمامة تسير فوق رأسه، تحميه من أحتمالات الزلل .

فالقرآن الكريم يرسم بوضوح تام مهمة الرسول (ص) ويحدد وظيفته في النقل والتبليغ، ولا مصدر للأجابة الا الله، حيث الناس تسأل والله يُجيب على لسان النبي ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج )(البقرة:189) و (يسألونك ماذا  ينفقون...)(البقرة:215) و (يسألونك عن الخمر والميسر...(البقرة:219 ) و(يسألونك عن المحيض....)(البقرة:222 ) و(يسألونك ماذا أحل لهم ..)(المائدة:4 )، وهناك آيات تأتي بصيغة  الأستفتاء مثل (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم ....)(النساء:127) فنلاحظ أن هناك سائل وهو الناس، وهناك مجيب وهو الله، وأن الرسول واسطة في هذه العلاقة (ان أتبع الا مايوحى اليَّ)(الأنعام:50)..يتبع

***

أياد الزهيري

إنّه أمرٌ في غاية الخطورة، عندما يُسعَى إلى إرضاء العوام، ففكرة «النَّاس على دين ملوكهم» (ابن الطّقطقيّ، الفخري)، أو «على دين الملك» (ابن خلدون، المقدمة) فاعلةٌ، فإنْ ارتفع الملوك بالنَّاس حلقوا، وإن نزلوا بهم هبطوا، وهذا ما ظهر جلياً عندما تفاقم أمر الأحزاب الدِّينيّة وصحواتها، هبط العديد مِن الأنظمة، فتبنت ما أشاعته تلك القوى نفسها، بإظهار الحملات الإيمانيّة، وهذه حصلت عبر التّاريخ.

نجد في سياسة الحاجب المنصور ابن عامر(ت: 392هج)، مثالاً على هذه المسايرة، وما ترتب عليها مِن انهيار معرفي وثقافي، ظلت تعاني منه الأندلس طويلاً، فكان حاجباً لخليفةٍ صبيٍ، قيل كان مع ابن عامر «صُورةً بلا مَعنى»(الذَهبي، سير أعلام النُّبلاء).

قام الحاجب بجرد خزائن الكُتب، التي جمعها المستنصر بالله الأمويّ(ت: 366هج)، والد الخليفة، المركون في قصره، وكانت مكتبات عظام، تحوي مِن الكُتب «يُضاهي ما جمعته ملوك بني العباس في الأزمان الطَّويلة»(الأندلسيّ، طبقات الأُمم). أخرج منها كتب الفلسفة والمنطق والفلك، وكُتب الأقدمين، وأمر بحرقها ورُميها في آبار القصر، وهيل التَّراب عليها. لم يكن الحاجب كارهاً للكتب ومؤلفيها، ولا صاحب موقف فكريّ أو عقائديّ، كي يثأر مما يخالفه، إنّما كان الغرض تحبباً للعوام، أيّ طلب الشَّعبية بلغة اليوم، وإن لم يكن آنذاك انتخابات وتصويت، لكن رضاء العوام يعينه على التمكن مِن ابن المستنصر الذي حجبه تماماً، بالوصاية عليه.

خلاف ما كان عليه عهد الخليفة المستنصر بالله، ففي عهد الأخير كانت الحياة العقلية منتعشة، أراد الحاجبُ احتواء النّاس بأسهل الطّرق، بمحو كلِّ ما عمله الخليفة المتنور، فصار مَن قرأ المتعلم المجادل «متهماً عندهم بالخروج عن المِلة، مظنوناً به الإلحاد في الشَّريعة، فسكن أكثر مَن كان تحرك للحكمةِ عند ذلك، وخمدت نُفوسهم، وتستروا بما كان عندهم مِن تلك العلوم»(طبقات الأُمم). استلم ابن عامر النّفوذ السَّنة(366-392هج) أي استمر كتم أفواه وأقلام الفلاسفة والمفكرين، لستٍ وعشرين سنةً، وظل الحال عليه بوراثة ولده لمنصب الحِجابة، والسَّير على النّهج نفسه، حتَّى «افترق المُلك إلى جماعة مِن المخربين»(نفسه).

هذا ولكم تقدير محنة مَن صعب عليه قفل عقله، ونُكب بتدمير كتبه، فهرب بعيداً ومات بمنفاه الاختياري! وصل الحال بالأندلس، التي فتح المستنصر أبواب المعرفة والفنون بها، وتشجيع كلِّ ما يفيدُ العقلَ ويضرُ الجهلَ: «إنه كُلما قيل فلان يقرأ الفلسفةَ، أو يشتغل بالتَّنجيم، أطلق عليه العامة اسم زَنديق، وقُيدت عليه أنفاسه، فإن زل في شبهةٍ رجموه بالحجارة، أو أحرقوه، قبل أنَّ يصل أمر السُّلطان، أو يقتله السُّلطان تقرباً لقلوب العامة»(المُقريّ، نفح الطَّيب).

هنا استغل الفقهاء، مِن خصوم الفلاسفة وأهل المعرفة، فقاموا بتحريض العوام ضدهم، استغلالاً لمنزلة الدّين الرّوحيّة عند النَّاس، ورضاء الحاكم، ففي زمن المرابطين مثلاً «كانوا يُسمَّون الأَمير العظيم منهم، الذي يريدون، بالفقيه»(نفح الطّيب).

لو تنظرون في الثَّلاثين سنة الماضية، وبما حصل لبلدان، عبر غزو وعبر ما سميّ بالرّبيع العربيّ، ستجدون سياسة ابن عامر الحاجب ماثلة أمامكم، تسير أمور بلدان بمجاملة العوام، وتُفشي الجهل بها، وهنا لا يبرز غير «الأدب الكابي»، بدلاً مِن العلم والمعرفة، ومَن راقب المشهد العراقيّ خصوصاً مؤخراً لا يكون جاهلاً بأحوال الحاجب ابن عامر، بينما ارتفع حُكام ببلدانهم، وشيدوا المكتبات العظام وبثوا المعرفة العقليّة. نذكر ما يُعبر عن الحال: «وزُمرةُ الأدبِ الكابي بزُمرتهِ/ تَفرَّقت في ضَلالات الهوى عُصَبا/ تَصيَّد الجاهَ والألقابَ ناسيةً/ بأنَّ في فكرةٍ قُدسيَّةً لَقبا»(الجواهريّ، قف بالمعرة 1944). يستقيل بمسايرة العوام العقل، فلا مكان له، بانتعاش الأدب الكابي. هذا، ومعنى الكابي الرّماد أو الفحم.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

هل يغير القانون الواقع؟

أم أن الواقع يعدل القانون؟

هناك ثلاث عوامل أساسية في أي مجتمع: الدين، القانون والواقع الاجتماعي، وهذه العوامل الثلاثة يمكن أن تكون مترابطة فيحصل الانسجام والتكامل النفسي والاجتماعي في المجتمع وذلك لانسجام أفراد المجتمع مع بعضهم البعض دينياً وقانونياً وواقعياً. ولكن تختلف المعادلة وتختل وتصبح بحاجة إلى الإضافة أو الحذف المتواصلين بحال اختلال أحد هذه العوامل.

فمجتمع يحترم فقط القانون دون مبادئ دينية سوف يحتاج إلى المزيد من القوانين وإلى القوة الرادعة لقهر نوازع الشر. ومجتمع لا يحترم القانون ولا يتمسك بالقيم الدينية هو مجتمع يعيش في واقع الجريمة والعنف وانعدام الضمير الأخلاقي الفردي أو الجماعي.

هناك مجتمعات اختارت سيطرة القانون وأن القانون هو الذي يغير المجتمع ويقوم بعملية تطويره، وأصبح لديها أكوام هائلة من القوانين الزاجرة التي تردع أو ترصد أي تصرف مخالف للمجتمع أو للدولة أو للأفراد، ولكن المشكلة بهذه المجتمعات هو أنه بمجرد أن تحدث أي فوضى شعبية بها يفقد القانون أي سيطرة وتتحول تلك المجتمعات إلى بيئة بدائية لم تعرف ولا تعترف أبداً بما يُسمى بالقانون.

وهناك مجتمعات محكومة بالواقع الاجتماعي ويقف القانون عاجزاً عن تغير العديد من الظواهر الاجتماعية لشدة تجذرها في ذلك المجتمع حتى ولو نتج عنها جرائم قتل أو تشريد الأسر، وهنا يقف القانون عاجزاً عن التغيير وعن مقاومة ذلك الواقع الحديدي الصدئ.

وهناك مجتمعات اختارت الأحكام الدينية ولكنها تصطدم أيضاً بنوازع الشر الموجودة بأي مجتمع والتي لا يكبحها أو يحد من خطورتها إلا القوة الجبرية للقانون.

القانون أداة تغيير هامة للمجتمعات، بل هو أقصر الطرق لإحداث هذا التغيير ولكن الخطورة هي أنه إن لم يكن هناك نضج اجتماعي وديني وثقافي لهذا التغيير فسوف يكون تطبيقه مقتصر على قاعات المحاكم، فتعقيد الذات البشرية يكمن جزء منه برفض المفروض والتمرد على الأحكام. هناك حالة واحد حيث تستجيب الذات الإنسانية للقانون ويكون المجتمع مطواع للقانون وهي انسجام الدين والقانون والمجتمع معاً، فأي خلل أو تشرذم بهذه المعادلة سوف يكون هناك تناقض أو رفض أو تحدي، وسوف تكون علاقة الأفراد محكومة بنصوص القانون وليس بالضمير الجماعي والقيم الأخلاقية.

من الحكمة أن تكون مؤسسات تشريع القانون لديها من الخبرات النفسية والدينية والاجتماعية الكافية والتي تُسهم في تشريع القانون وألا يكون المشرع شخص قانوني منفصل عن التغيرات الاجتماعية والصراعات والانتماءات الدينية.

القانون ليس قوة قاهرة فقط بل هو منظم للمجتمعات ومطور لها وإلا سيكون عامل من عوامل هشاشتها، القانون لابد أن يتحلى بروح الحكمة قبل الإصرار على العقوبة. ونحن جميعاً نتاج لعملية قانونية منذ ولادتنا حتى مماتنا؛ ومن هنا تنبع ضرورة انسجام القانون مع الدين ومع الواقع الاجتماعي لتحقيق التطور المُستديم للمجتمع.

***

د. سناء أبو شرار

قبل خمسة سنوات كنت أدردش مع صديقة مصرية، فقصت علي بعضا من حكايا طفولتها المخيفة والمرعبة، فقد كان جارها عم عبد السلام رجلا طيبا حنونا ويتعامل معها كابنته التي لم ينجبها  لأنه لم يرزق بأبناء، فيجلب الحلوى والورود ويصطحبها يوم عطلته الأسبوعية الى السينما وتشاركه هوايته مشاهدة افلام دراكولا وتعود الى اهلها خائفة مذعورة !!!

بالوقت نفسه كانت تستمع لحكايا مرعبة بشأن الماكينة التي تدار لنقل صور الفيلم على الشاشة، لا تعمل بداية تشغيلها الا اذا وضع فيها طفلا بريئا وتسيل دماؤه الطاهرة !!!

صديقتي لم تنس يوما هذه الحكايا ولا دراكولا، وكانت تظن ان مثل هذه الحكايا مجرد أقاويل تتناقلها البلدة كنوع من الفانتازيا، وظننت مثلها ايضا ان هذه الحكايا محض فانتازيا، حتى طلت حكاياها بأم رأسي مجددا، وخاصة بعد ان انتشر الحديث عن عبدة الشيطان وطقوسهم ومن بينها تقديم قرابين بشرية لإبليس اللهم احفظنا واياكم .

فمن اين جاء انسان عصرنا الحالي بهذه الافكار والطقوس الشيطانية، وهل هذه الوثنية الممجوجة والوحشية بالتهامها الاطفال القرابين لها أصل في ثقافة البشرية بالأزمنة السحيقة أم لا؟

وهل تقديم السينما شخصيات الوحوش ودراكولا مصاص الدماء كفنتازيا، كان تمريرا لعقول الناس وقبول فكرة الاله الوثني وابراز قوته وتفوقه على بني البشر؟!!

مولوخ والاطفال

بالرجوع الى الميراث البشري وجدنا تقديم الاطفال قرابينا للنار موجودا بالعديد من الثقافات القديمة بأفريقيا وآسيا التي ارتبطت بالنار وعبدت الاله الوثني مولوخ، والذي ايضا تعددت مسمياته .

فهو الإله الفينيقي بَعْل مُولُوخ شرها إلى الدماء، مُغرَماً بالقرابين البشرية، وخاصة الأطفال وحرقهم على مذبحه، فيُنزل بركاته على أتباعه، وتقدم لها الأضاحي بشهر أبريل ويحتفل البستان البوهيمي في كاليفورينا بحضور شخصيات كبيرة بهذه الطقوس ّ!!!

وبمنطقتنا العربية كان حضور مولوخ قويا بالمناطق الكنعانية والتي تشمل حاليا إسرائيل وفلسطين وبعض أجزاء من الأردن وسوريا ولبنان .

بالتأويل الاسلامي يذهب المفسرين الى ان مولوخ هو بعل بمعنى السيد أو الحاكم ورد اسمه في سورة الصافات في قصة النبي الياس وقومه الذين عبدوا صنم بعل لاستنزال المطر.

وفي بابل خلال عهد النبي إبراهيم حيث انتشرت عبادة الشمس بواسطة حاكمهم النمرود، وتسلطت الشياطين على قومه، وأكبرهم مولوخ السيد او الملك يقدمون له اطفالهم لدفع الشرور عنهم والحصول على القوة عبر طقس قرع الطبول والحان المزامير ليأتي دور الكهنة بإشعال النار تحت الصنم ووضع الطفل بداخله فيحترق حتى الموت.

كنا نظن هذه اساطير خرافية لكنها كانت حقائق واقعية أثبتتها أدلة عديدة منها ما نعيشه في عالمنا المعاصر من افعال شيطانية .

بالتأويلات الاسلامية، فقد حارب الله مولوخ في العراق، بأبي الانبياء ابراهيم عليه السلام وابنه اسماعيل الذبيح، عندما ضحي به وقدمه كبش فداء، حيث كان الشيطان فوميت يتشبه بالكبش والماعز فكان ذبح الكبش كناية عن ذبح عقيدة الشيطان و شطبها من اساسها .

في اليونان عرف مولوخ بأسماء مختلفة مثل ميلكوم أو مولك أو مولكوم أو مولوك .

و في نصوص الكتاب المقدس عرف اسم مولك في سفر ارميا عرف هذا الاله الوثني بالبعل.، كما عرف ايضا لدى الشعوب التي عبدت الشمس، والأخرى التي عرفت البومة .

أخذت عبادة مولوخ طقوسا متنوعة، بعضها ذو طبيعة لها اختراقات اخلاقية عديدة، وتقديم الأطفال قربانا بجعلهم يمرون على النار، وكانت الاسر تعتقد بأن تقديم الابن الاكبر قربانا يحقق لهم الوفرة الاقتصادية لباقي الابناء .

ونصوص العهد القديم تشير لوجود معبد في الهواء الطلق بالقرب من القدس تقدم فيه قرابين الأطفال ومعروفًا باسم توفة، و يقع في وادي بن حنون، ولم يعثر على بقاياه الاثرية .

كاإلاه بجسد رجل ورأس ثور، و عرف باسم  Topheth يجسد مولوخ بتمثال “ الثور المقدس". و تتخلل تماثيل مولوخ المصنوعة من البرونز سبعة ثقوب تعتبر غرفًا، في كل واحد منهم يودع قربان من طحين، طيور، شاة، أبقار وأطفال.

وارتباط مولوخ بالبومة له تأويلات مختلفة في العالم بين الحضارات القديمة.

ففي حضارتنا الحديثة يؤل رمز مولوخ بالبومة كرمز للحكمة، اما الشعوب القديمة كاليونانيين والعبرانيين والعرب تعبر عن الشياطين والموت .

ويذهب بعض المؤرخين الي بأن عبادة مولوك لا تزال سارية حتى يومنا هذا بفضل الماسونيين، ووجودها ايضا لدى النادي البوهيمي في الولايات المتحدة التي اأنشئت عام1872 ولها رموزها الخاصة بها أشهرها بومة مرتبطة بمولوك.

تجسيدات مولوخ الفنية والادبية

حضرت تمثيلات مولوخ في الأدب ببعض القصائد والروايات كما فـي أعمال مثل روبين داريو وفريدريك نيتشه ودان براون . وقدمته السينما في صورة وحش، وفي شخصيات ألعاب الفيديو كإلاه قديم، بينما يحفظ مولوخ إلهًا لوسيفيريًا، في متحف تورينو السينمائي .

اخيرا، بعد هذه الوقائع هل يمكننا تصديق فكرة ان الاخيلة العديدة التي عشناها وقرأناها بأعمال أدبية واخرى فنية هي مجرد اساطير خرافية ؟ شكي هو يقين بأن هذه الاساطير نسيج لإبليس و اعوانه مثل مولوخ والذي يتشكل في كل عصر بأشكال مختلفة ومسميات متنوعة لتدفع الناس بالنهاية بتكريس عبادة ابليس بالارض من دون الله الواحد القهار، عبر قضاء البراءة والطهارة المتمثلة في دماء الاطفال الاطهار .

***

 سارة طالب السهيل

يجدر بنا الحديث عن احد اهم المعالجين للازمات في التاريخ، فالأمام الحسن بن علي (ع)، قاد وبنجاح مرحلة خطيرة من مراحل تأسيس الحضارة  الاسلامية، بالرغم من المعوقات التي وضعها واسسها ضده البعض منالمجتمع المحلي والخارجي .

وفي وقت شهد فيه القرن السابع الميلادي (زمن حياة الامام) توترات عالمية مثل انتهاء الحروب الرومانيةالفارسية والقضاء على سلالة سوي الحاكمة في الصين وتأسيس لسلالة تانغ وايضا انتهاء فترة ممالككوريا الثلاث واستقرار القبائل الجرمانية والسكسون بأراضي هولاندا كما احتلت الامبراطورية الساسانيةمصر والقدس بالإضافة الى حروب في البلقان وبلغاريا، فانه وفق كل هذه الاحداث برزت الحضارة الاسلاميةبصورة مثالية ومجددة للفكر والحياة الانسانية، مدعومة من السماء، ودخلت معترك التاريخ بوصفها احداهم المتغيرات العالمية ضمن مفهوم الدول او الحضارات العظمى، فقد انهت او حجمت حضارات الفرسوالرومان الهند، وفتحت حضارات العالم الاخرى من المشرق والمغرب والشمال والجنوب .

وقد دخل الامام الحسن في افق تلك الاحداث العالمية، بوصفه راس الهرم والقائد العام للقوات المسلحة للدولالاسلامية التي ضمت الشعوب المختلفة لاهم حضارة فتية، وقد دُجنت الحضارات ضمن الوجود الاسلاميالوليد وانتشاره، من خلال السياسة والثقافة والجانب العسكري .

ان الدورالاستراتيجي للإمام المجتبى في ادارة الدولة وترويض الازمات، سار بنحوين: الاول هو انه كان وزيراومساندا لأبيه الامام علي في المساهمة او بمعالجة ازمات الحروب العديدة فقد التحق بجيش عقبة بن نافعبأفريقيا، كما ذكر ابن خلدون، مع عبد الله بن عباس والحارث بن الحكم بن أبي العاص وعبد الله بن جعفر بنأبي طالب والحسن والحُسين، وفتحوها سنة 26 هـ أو 27 هـ. كما شهد فتح طبرستان تحت قيادة سعيد بنالعاص وشارك بمعركتي الجمل وصفين .

اما الجانب الاخر فهو الذي اختص باستيعاب وتذويب الازمات، وهي التي برزت في مرحلة استلامه الحكماثر استشهاد والده، فقد اعد للحرب وفاوض ورسم الطريق لثورة الامام الحسين، وهذا يعني ايضا مساران فيحياة هذه الشخصية المقاتلة والمحاورة والمفاوضة، المسار الاول هو فهم طبيعة الارض والمجتمع والعدو،والثاني هو فهم تداعيات المرحلة الخطرة والاعداد للمستقبل، بإخراج ثورة الامام الحسين بوصفها وجودامستقلا يغطي المرحلة من زاوية الظرف الاجتماعي والنفسي والسياسي ويتوافق مع السنن الالهية، وقد جمعبين فهم الحتمية الالهية والتاريخية لشهادة الحسين (ع) والمروية عن جده المصطفى، وبين الاعداد الواقعيالتطبيقي والراهني لتلك الثورة، كما انه (ع) تلافى سيناريو القتل الجماعي له وللإمام الحسين معا واهلبيتهم، ويمكننا تخيل ان الطف وقعت بمشاركة الحسن والحسين (ع) مما يعني مقتلهما واهل بيتهما بوقتواحد، وهنا ستختلف المعادلة من الناحية التاريخية و الاستراتيجية والمستقبلية وهي التي توجب لها انتتألف من:

1. التمهيد والاعداد للثورة وقد اسس ذلك الامام الحسن (ع) .

2. التضحية من اجل طلب الاصلاح (وقام بتنفيذه ببسالة الامام الحسين(ع) واهل بيته) .

3. تعرية الباطل واختبار الامة وكشف المخططات الخارجية والداخلية بالإضافة الى الاعلام ونشر مبادئ ذلكالفعل النقي (وهو جهد المراة الباسلة، التي الجمت الطاغية و التي جرجرت القلوب لضفة ال محمد، وخبأت التاريخ في اكمامها (السيدة زينب ابنة علي والامام السجاد (عليهما السلام) . وهذه التضحية وتلك الادوار منعت الوقوع في فخ ال امية (معولالشيطان) و معاوية وبطانته التي ارادت قلب الحقائق وتخريب الامة وزرع الفتن واستخدام السفسطةوالجانب النسبي وتحويل الامة من المنهج السماوي الى الملكي طبقا لما يطبقه الروم . 

ان خارطة المعادلة اعلاه تمثلت بفعل الامام الحسن والحسين (عليهما السلام) بتعرية المنهج البركماتيالسفسطائي النسبي الاموي، وتوضيح الجهة التي هي احق بتولي الحضارة الوليدة ثم المرحلة الثانيةبرزت معادلة التضحية التي غيرت ومازالت تغير وجه التاريخ اليوم ومن ثم الجانب الثالث وهو الرساليوالاعلامي للسيدة الطاهرة زينب بنت علي (ع) والامام السجاد (ع) .

لقد كان الفهم الاستراتيجي للأمام الحسن يشير الى الهدف والغاية بوضوح والى المنهج والرؤية الشاملة للوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعسكري، والى متابعة قوة الادوات التي يستخدمها (الافراد).

***

ا. د. رحيم محمد الساعدي

إعداد الرسول محمد: 

كما ذكرنا في الحلقة السابقة بأن الرسول محمد (ص) أُسند ألية مهمة الإبلاغ عن الله الى الناس، وهي مهمة تتطلب صفات قيادية، ودرجة عالية من الإعداد والتدريب، مؤطرة بنسق أخلاقي عالي. أن مهمة الرسول (ص) مهمة ثورة حضارية مخطط لها أن تحدث أنعطافة تاريخية في مسيرة الأنسانية، فكان الأختيار الألهي لمحمد (ص) قائم على أستعداد فطري لدى الرسول (ص)، وهي مَلَكَة القيادة، وهي مَلكَة فطرية صقلها الله بتأديبه له، وهو من قال في حديث نبوي شريف (أدبني ربي فأحسن تأديبي)، والأدب يعني الخُلق، وقد وصفه الله في القرآن الكريم (وإنك لعلى خلق عظيم)(القلم:4) وهذا الخُلق العظيم الذي تَخَلق به الرسول الأكرم محمد (ص)، هو ما أهله لمهمة أُوكلت له، في نشرها، وأشاعتها بين بني البشر، وقد عبر عن هذه الوظيفة بحديث له (انما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) و(يا أيها النبي انا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً)(الأحزاب:45). يتضح للقاريء الكريم أن الرسول كان يحمل صفات قيادية أهلته للتصدي لموقع النبوة، والتي كملها الله بجولة من الإعداد والصقل لشخصيته الرسولية، وفي هذه الحلقة سنرى كيف أَعده الله عن طريقِ التوجيه والمتابعة لحركته في حقل عمله التبليغي، ونذكر هنا بعض الآيات التي يُنبهه الله فيها، ومثال ذلك هو عدم تحديد زمن لأجابة السائل وهو لم يمتلك الأجابة عنها من الله، وخاصة فيما يتعلق بأمور العقيدة والشريعة، لأن الأمر يتعلق بالله وليس به، وقد جاءت الآية التالية مصداق لذلك الأمر ( ولاتقولنَّ لشيء اني فاعل ذلك غداً)(الكهف:23)، هذه الآية تنبه النبي أو تذكره، ليس لك أن تحدد زمن الأجابة، وهو أمر ليس من صلاحيته يامحمد، وهذه الآية جاءت على ما سُئل به الرسول (ص) بثلاث أسئلة من قريش، والتي تَمركزت عن أخبارهم بالفتية الذين ذهبوا بالدهر الأول، وهم أهل الكهف، والثاني عن الرجل الذي طاف في مشارق الأرض ومغاربها (ذو القرنين)، والثالث عن الروح. فقد حدد الرسول لهم الأجابة بالغد، وقد رد الله عليه بالآية التي ذكرناها، وهو ضرورة أنتظار الجواب من الله لينقله اليهم، وليس من صلاحيته تحديد الوقت لأن زمام الأمر بيد الله، وليس بيده، بأعتبار أنه مُبلغ، وليس منتج للرسالة، ومن مقتضيات المُبلغ أن يلتزم بما يمليه عليه الذي يُبلغه، أما السؤال الثالث الذي سألوا به قريش عن الروح، فقد أحتفظ الله به لنفسه، ولم يُعلم به البشرية، ومنهم محمد رسول الله، وجعلها الله من خصوصيته، وهكذا تستمر الملاحظات والتنبيهات الآلهية من الله الى رسوله، والتي تسير بالتوازي مع العملية التبليغية، ومثال آخر عليها هو عدم التعجيل بأي أمر، قبل أن يُقضى اليه، وأن لا يفصح عن ما تخالجه به نفسه، بل ينتظر الى ما يوحى اليه، وهذه الآية توضح ذلك (ولاتعجل بالقرآن من قَبل أن يُقضي اليك وُحيه وقل ربي زدني علماً)، وهي آية واضحة المعنى في تسديد خطى الرسول (ص)، والتحذير من أستباق القول بالقرآن، قبل الأذن من الله. فهاتين الآيتين المذكورتين أعلاه تُلزم وتعلم الرسول الحذر والأنضباط والتأني في أصدار الأقوال خاصة التي يُسأل عنها، والتي يستمد جوابها من الوحي لأن أمانة الرسالة تقتضي هذا الأنضباط العالي، والدقة المتناهية في القول، بأعتبار ماينقله للناس هو كلام الله، وهو كلام تترتب علية أمور عقائدية وآخرى تشريعية، وتنبوئية وتاريخية تخضع للتطبيق العملي في الجانب التشريعي، وللنظرالفلسفي والعبادي في الجانب الأعتقادي، وللفحص والتدقيق في الجانب التاريخي، وهذه عملية يكون الخلل فيها كبير وخطير، ويرتد على الدين نفسة، وعلى الرسول (ص) بذاته أمام الله وأمام التاريخ. ومن مستلزمات النبوة وأستعدادات الرسولية ومتطلبات التبليغ الذي كُلف بهما الرسول الأكرم هو الحصول على العلم والأستعداد اليه، ومنطوق الآية الكريمة خير دليل على ما يسوقه الله له من طلب العلم (...وقل ربي زدني علماً) (طه:114)، وحث الله له في أول آية نزلت عليه بصيغة الأمر هي (أقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم....)(العلق:3). كما أشار الله الى صفة مهمة أراد الله لرسوله التحلي بها،الا وهي الصبر (فَاصبر كما صَبَر أُولو العزم من الرسل ولا تستعجل....)(الأحقاف:35) وكذلك (أصبر لحكم رَبك فانك بأعيننا....)(الطور:48) و(أصبر صبراً جميلاً)(المعارج:5) وكذلك (أتبع مايوحى أليك وأصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين)(يونس:109). فالرسول كان شخصية صبوره، وبيئته القاسية ساهمت في طول أناته، ولكن النبوة، ومهامها العصيبة تحتاج من الصبر ماتنأى منها الجبال، لأنه سوف يواجه في دعوته مجتمع صعب المراس، وقاسي الطباع، يتطلب تغيرهم طاقة كبيرة، وجهود عظيمة، ونفس طويل تجعل منه أن لايضعف أمام خصومه، ويهتز أزاء تقلبات الأمور، وتغير المواقف، وفعلاً كان لصبر الرسول (ص) الأستثنائي هو ما لفت الكاتب الأمريكي (مايكل هارت) في كتابه (العظماء مائة وأعظمهم محمد) بأن رشحه على رأس قائمة أعظم شخصية عبر التاريخ، وصاحب الكتاب عالم فيزياء فلكي أمريكي الجنسية، ويهودي الديانة، كما نشر عنه الكاتب المصري أنيس منصور الذي ترجم كتابه المذكور الى العربية. من الأمور التي تبين الرعاية والمتابعة والأعداد الألهي له هو عندما شاهد ما حدث لعمه الحمزة في معركة أحد وكيف قُتل بطريقه وحشية، حتى أَخرجت قلبه، ولاكت به هند زوجة أبي سفيان، فتعصب الرسول (ص) وقال (والله لأقتلنَّ بك سبعين منهم)، وكان الرسول في حالة أنفعالية، وهو كما قلنا بشر له عواطفه وأحاسيسه كباقي البشر، ولا يمكن عن يتجرد منه، ولكن كما قلنا أن رعاية الله له حاضرة، وتسديده له دائم،فنزلت الآية ( وأن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عُقبتم به)(النحل:126)، فالرسول (ص) تراجع عن وعده هذا وأمتثل لأمر الله الذي تحدد بهذه الآية، فالرسول ليس أصيلاً في أحكامه، بل هو ذو صلاحية محددة ومقننة بشكل صارم.

كما أن لصاحب الدعوة شخصيته الكارزمية التي تشد الجمهور له، ولكن كما قنا كانت هذه الشخصية المحمدية تحت أعداد وتوجية ورعاية الله (المرسل)، فكانت من أشتراطات هذه الشخصية الدعوية والقيادية أن لا تكون لينة فتعصر، ولا صلبة فتكسر، فقد خاطبه الله ( ولو كنت فظاً غليظ القلب لأنفضوا من حولك)(ال عمران:159)، وهذه الصفة من أكثر الصفات أهمية للشخصية القيادية على كل المستويات،سواء كانت اجتماعية أو عسكرية أو سياسية، وهذا مانلمسه في شخصية الرسول من صلابة في الحق، وقد أمره الله في ذلك (فصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) (الحجر:94) أنه أسلوب الشدة والأقرار والصرامة، والموقف القوي الذي يجب ان يتخذه الرسول(ص) في مواقف يستدعي لها الظرف، في حين يدعو الله نبيه الى العفو في مواقف آخرى (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)(الأعراف:199)، كما نرى الدعوة الى السماحة في آيات أُخر (فبما رحمةً من الله لِنت لهم...)(ال عمران:159)، وما دعوة الرسول في فتح مكة وما دعى مايشبه بالعفو العام لمشركي مكة والذين بعضهم مم تلطخت يده بدماء المسلمين، حيث قال لهم (أذهبوا فأنتم الطلقاء)....يتبع

***

أياد الزهيري

تتلاحق الاخبار وتتناسل الرسائل والتغريدات والفيديوهات عبر منصات التواصل الاجتماعي حول مخططات الخداع المقبلة نهاية هذه السنة، وعبر تصريحات رسمية لبعض الدول العظمى ضد شرطي العالم الفاسد، هناك جائحة جديدة بدأت تظهر ملامحها ضمن يوميات كندا والولايات المتحدة الأمريكية والاصابات الجديدة بأوروبا واحتمال عودة الاحترازات مع منتصف شهر ايلول القادم، هذه المعطيات والصور والقراءات والتحليلات التي تملأ الاعلام وصفحات الشبكة العنكبوتية ما محلها من الاعراب في راهن العرب والمسلمين؟

هل قدرنا ان نظل الصدى وفئران التجريب لمختبرات شيطانية لا تعرف سوى الاصفار بعد الارقام الربحية من الدولار واليورو؟ الجائحة الفائتة فاجأت العالم برمته لكن كما يعرف لا يلدغ المؤمن من جحره مرتين، هناك رهانات كبيرة بعد جائحة كورونا الفائتة اشتغلت عليها امم ودول من اجل تعزيز أمنها القومي العام من صحة واقتصاد وحياة اجتماعية، الى الان يمكن رفع منسوب الوعي والضبط لدى مجتمعاتنا حتى لا نكون أول المستغفلين عالميا، التحدي القادم هو تحدي ادارة ازمة، مركز الثقل فيها هو اعلام رصين وارشادي صادق، لان حرب الجيل الخامس سلاحها المحوري هو تحطيم القدرة الدفاعية الاعلامية القائمة على التوجيه والارشاد للإرادة البشرية، ومن جهة أخرى ترتيب حركة الاسواق المحلية لمدى سنة او سنتين كاستراتيجية احترازية ضد الاضطرابات القادمة في السوق العالمية من جراء الترهيب الاعلامي من سيناريو الجائحة الجديد، والعنصر الثالث والاهم في جغرافيتنا العربية والاسلامية هو برامج التكافل والتعاون الاجتماعي في مجتمعاتنا من جمعيات ومؤسسات خيرية ومجتمع مدني خاص وقوي بشبابه واجتهاداتهم، هذا العنصر موجود في غير المجتمعات العربية والاسلامية وقوي جدا بأنظمته وطاقاته لكن ببيئتنا الحاضنة له يكون فعال ومؤثر وذا قوة طويلة المدى اذا ما سارعنا في تفعيله من خلال مقاربة عملية لمقومات الوقف الاسلامي على طول السنة وفي جل الميادين بما يشكل جدار صد منيع ضد كل المحاولات الخبيثة لضرب أمن مجتمعاتنا..

في ظل هذه التحديات التي تواجه الانسانية جمعاء ونحن ضمنها كأمة لها كيانها ووزنها في معادلات الحضارة الانسانية، هناك تكتلات اقليمية واخرى شبه قارية وثالثة عالمية، قد تصمد امام الهزات والاضطرابات التي ستحدثها الجائحة الجديدة، لكننا سنكون رقما ثانويا في السيطرة والصمود اذا لم نتحرك بفكرة القوة الاستباقية وإنشاء الغيمة الاحترازية للعرب والمسلمين، غيمة تحمي على الاقل مجتمعاتنا من مجاعات وتجويع وتطهير ممنهج متوقع في العقود المقبلة!!

أمام العقل القيادي العربي والمسلم بضعة أيام حتى يتحرك استراتيجيا وبإرادة إنسانية راسخة كما تحددها قيمه الاسلامية الخالدة، لابد من حركة استراتبجية ذات تكتيكات سريعة لتخليص واقعنا من فوضى التبعيات والعنتريات والجاهليات، الرهان الاول قبل ان يقع الضياع الشامل هو استثمار المتوفر بأكبر قدر ممكن من الدقة والتركيز في تحقيق أكثر مصالح ممكنة على المدى القريب والمتوسط...

إدارة الأزمات أول ما تعنيه استغلال الواقع بعمق واتقان ووعي بماهية الأمن الاجتماعي العام أي الحفاظ على القيم وتفعيلها في حركة الدفاع الاستباقي، فبيولوجيا الازمات المفتعلة هي واقع تاريخي يراهن على مستويات العقل والواقعية والصبر والامل والصمود لدى الشعوب، فتفكيك الازمات عملية ثقافية بإمتياز، أي توفر ثقافة مواجهة ونصر ضد كل مخططات القهر والترويض والابادة والمليار الذهبي!!

و عسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم.. فلسفة الحياة اسلاميا ذات قيمة عظمى لا تتوقف عند الماديات ومعادلاتها الربحية بل هي هندسة دقيقة وعميقة لكرامة الانسان في مشوار الحياة ومسؤولياتها.. لذلك وعينا للمنعطفات التاريخية لابد ان يكون منطلقا من صميم مسؤوليتنا الوجودية كمسلمين، حتى نضع الخطوة الاولى في طريق "كنتم خير أمة أخرجت للناس" نناضل من أجل الحياة الكريمة للانسانية وليس الاستغراق في سيناريوهات الموت المبرمج والخبيث..

لم يبق من الوقت البدل الضائع في لعبة الأمم التي خطفت القرارات الاممية وتاجرت بمصائر الشعوب وسرقت ثرواتها، الشيء الكثير، فالسودان سيضيع لو بقينا ننتظر واليمن.

سيضمحل اذا ما تكاسلنا عن جبر كسوره وسوريا لابد ان نوقف نزيفها ولا نظلمها زيادة وفلسطين المحتلة لن تنتظرنا لنقتلع السرطان الجاثم على ترابها الطاهر..

القفزة الاستباقية الضرورية هي ثقافية اجتماعية شبابية بإمتياز لحماية دولنا من التيه والضياع في ظل مسلسل خدع أبناء العم سام، وايضا ذات أبعاد اقتصادية طويلة المدى فيما يتعلق بخصائص العمل الأهلي الانساني والتنموي الاجتماعي مما يشكل سياجا مناعيا للمجتمعات ضد المشكلات والامراض والمخاطر بشتى اشكالها في الصحة والتعليم والبيئة والعلاقات العامة والسلم الاهلي العام..

وأهم حقل راهنا هو الإعلام بمختلف وسائله، خصوصا منصات الحوار والتواصل الاجتماعي التي لابد ان لا تستغرق في العناوين العريضة التي تسقط المعنويات وتدمر النفسيات وتفتن البلدان، لابد من خطاب رصين ومؤثر لنظم امور مجتمعاتنا سواء بلغة الثقافة الحية او القيم الدينية او الفن او الأدب حتى نؤسس لمرحلة استثنائية في مواجهة الخدع الغربية الامبريالية المقبلة..

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال : 30]

***

أ. مراد غريبي

نحن كمسلمين لا نرى في الذات الآلهية الا كنه يصعب أدراكها، وهي ذات لايمكن لقدرة الأنسان أن تستوعبها، لا من حيث الجوهر، ولا من حيث القدرة (ليس كمثله شي...)(الشورى:11)، وهنا نذكر رأي للفيلسوف الألماني كانط رأيه في مسألة الله ومدى أمكانية العقل في أدراكه فأشار الى أن العقل يسبك التجربة وينظمها في أطار الزمان والمكان وينظمها وفق مقولاته. لكنه لا يستطيع تجاوز الظواهر والمحسوسات. فالعقل مسوق الى التصور بأن وراء كل حد شيئاً أبعد منه، وهكذا الى مالا نهاية،  ومع ذلك فأن اللانهاية في حد ذاتها شي لايمكن أدراكه. محصلة ذلك أن العقل مصمم ألهياً للتعامل مع الطبيعة ومحسوساتها فقط، ولابد من ترك أمور ماوراء الطبيعة (الميتافيزيقا) للقلب والشعور الذين هما أسبق من العقل. هذا رأي كانط في محدودية العقل في أدراك الخالق، مما حول أمره الى الشعور والقلب ليلتقط نفحاته وتلمس وجوده، والسبب يرجع الى أختلاف الطبيعة الأنسانية عن الطبيعة الألهية فالذات الألهية والذات الآنسانية ذات طبيعتين ذاتيتين مختلفتين يمتنع التواصل بينهما، ولكن حتمية التواصل بين الخالق والمخلوق، أختار الله وسيلة النبوة، والتي أمن لها وسيلة الوحي، وهذا ما جعل لوجود الوسيط بينهم أمر ضروري للتواصل والتخاطب بين المخاطِب والمخاطَب، بين الآمر والمأمور، وهذه ضرورة حتمية، لأن الخالق لم يترك مخلوقه سدى، فكما جعل الله للقوانين الطبيعية مرشداً للطبيعة ينظم أمرها بها، فلابد من أن يجعل للأنسان كمخلوق لخالق أن يجعل له نظام من نوع آخر يتناسب وطبيعته العقلية، وما يملكه من أرادة حرة، فما كان الا أن يكون هناك رسول من طبيعة هؤلاء المخلوقين (لقد مَنٌ الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسول من أنفسهم يتلو عليهم آياته)(ال عمران:164). أذن تقتضي الضرورة أن تكون حلقة الوصل من نوع الأنسان فتجتمع أدوات المعرفة، وهي العقل والقلب والرسول ۞ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾(الشورى:51)

فهذه الأدوات الثلاثة مجتمعة تكمل بعضها بعضاً لتأمين التواصل مع الذات الألهية، لأيصال خارطة طريق للأنسان، وهو الكائن الذي سيتخذ من الأرض مسرحاً حياتياً له.

قد يسأل سائل، ماضرورة الرسول والرسالة للأنسان، فلماذا لا يدعه الخالق ونفسه، هنا نحن نسأل، هل الشركات المصنعة للأجهزة بكل أنواعها وأشكالها، وخاصة المنتجات البالغة التعقيد أن تكون بدون مندوب بيع وتسويق وأرشاد للمستهلك والمشتري لها؟!، كما هل من المعقول أن تسوق منتوجاتها بدون أرشادات وتعليمات في كيفية الأستعمال الصحيح؟!، أي ما يٌسمى بال(كتلوك)، فأكيد الشركة التي لا تزود منتجاتها بهذه الأشياء تُعتبر شركة غير رصينة، ولا يمكن الركون أليها، فهذه المستلزمات تكفل الأستخدام الحسن لها، وتجنب الوقوع بالضرر، كما من مستلزمات التسويق الناجح لهذه المنتجات، أن يكون هناك مندوب تسويق لهذه المنتجات التابعة لهذة الشركة، يشرح للمستهلك تعليمات التشغيل الصحيح، وكيفية تجنب الوقوع بالخطأ، وهنا يكون المندوب هو رسول الشركة والشارح عن منتجاتها. السؤال الذي يطرح نفسة، وهو هل من المعقول أن تهتم شركة وترعى مستهلكي منتجاتها؟!، ولا يرعى الله مخلوقاته مع الفارق الكبير بين أنتاج منتوجات مادية وبين خلق الأنسان سيد الكاىنات، هذا الأنسان الذي هو خليفة الله بالأرض، وهو مقام ومسؤولية تتطلب تأهيله لها بأحسن مايمكن من ناحية التكوين وكذلك التوجية والتعليم (علم الأنسان مالم يعلم)(العلق)، وهكذا يكون الرسول محمد (ص) بوصفه مندوب الله الى خلقه، حيث هو حلقة الوصل بين صاحب الخطاب والمخاطب، فهو ليس أكثر من ناقل للخطاب ومبلغ له (وما على الرسول الا البلاغ المبين)(النور:54)، ومن خلال هذه الآية تتضح مهمة الرسول (ص) وتتحدد وظيفته من قِبل الذات الألهية بمهمة التبليغ، وأكيد للتبليغ أدواته التي ينبغي عليه القيام بها، كما أن وظيفة التبليغ يُختار لها شخص على قدر أهمية ووزن الرسالة التي يحملها، وخاصة أذا كانت بمقام عالي من التقديس، وهذا ما حتم على صاحب المهمة أن يتصف بالثقة والأمانة والذكاء، والشعور العالي بالمسؤولية، وأن يتمتع بقدرات وطاقات تستوفي المهمة الملقات على عاتقه، فالله هو المشرع، والرسول هو المشرع اليه، أذن مسألة التشريع مناطة بالذات الألهية، وهو من يختص بها حصراً، وما على الرسول الا البلاغ المبين، أي لا حق له بالتشريع، والآية واضحة في هذا الأمر (ليس لك من الأمر شي) (آل عمران-128)، فمنطوق الآية تمنع الرسول من أن يضيف أو يحذف شيء مما كُلف بتبليغه، بل ويحذره من حتى تأخير التبليغ (بلغ ما أُنزل اليك من ربك وأن لم تفعل فما بلغت رسالته)، فهو ليس مطلق الحرية، بل محكوم بأوامر مشددة، وهذه العملية تحتاج الى مصداقية عالية، بحيث ينسى المكلف في نقل الرسالة حتى  ذاتيته، لكي ينقلها بحذافيرها، والى شخصية غاية بالألتزام العملي والأدبي، وهذا ما جعل الله أن يختار محمد بن عبد الله (ص) لهذه المهمة الخطيرة لما يتمتع به من تلكم الصفات التي تأهله لذلك، وقد وصفه الله نظراً لأمتلاكه لهذه الصفات ( وأنك لعى خلق عظيم)(القلم:4)، أنها عملية نقل لأمانة عظيمة، وهي نقل الرسالة المعدة للبشرية، ولكل الأجيال وعبر العصور والأزمان، وهذا التخطي للبعدين الزماني والمكان هو ما جعل الرسالة خاصة بخالق الأنسان، لأن الذات الألهية، هي الوحيد القادرة على تخطي هذين البُعدين، وهي القادرة الوحيدة بمعرفة كينونة الأنسان بحقيقتها المطلقة، لذلك حصر الله الأمر به، ولا يتعداه الى غيره، وهذا ماتوضحه الآية الكريمة (ماينطق عن الهوى أن هو الا وحي يُوحى)(النجم:3، 4).

هذا البحث يركز على أنسانية الرسول (ص)، والذي سوف يتخذ من القرآن كمصدر وحيد للتعرف على شخصيتة وصفاته وأمكانيته كبشر يحمل مهام أبلاغ وتبشير لرسالة سماوية، وقد أعتمدنا في كشف هذه الصفات، على القرآن الكريم، كتاب الله، المصدر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي لا يمكن التشكيك في سلامة نصوصة من الأضافة والطرح، وهو النص الذي حمله رسول الله للناس، فعندما يكون الله هو الواصف لنبيه يكون هنا هو فصل الخطاب، ومادام الميزان الألهي هو من يوزنه، فلاينبغي أن نَزنه بميزان غيره، فلامقارنة نجريها بين الله الذي أنتخبه نبياً، وأميناً لرسالته، وبين غيره من البشر لأعتبارات كثيرة.، المهم في بحثنا أن أختيار الله له كرسول لا يخرجه عن كونه بشر، ولا يعطية أمكانات تخرجه عن دائرة باقي البشر، وأنه لا يختلف عن غيره من البشر في الأمكانيات الذاتية، ولا يتميز عليهم بقدرات خارقة، خارج قدرات البشر، ولا يتميز بصفات تجعل منه فوق البشر (أنما أنا بشر مثلكم يوحى الي....) (الكهف:110)، وهناك حديث نبوي يؤكد هذا المعنى، عن أم سلمه (أن رسول الله (ص) – سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج اليهم فقال: "ألا انما أنا بشر مثلكم، وانما يأتيني الخصم، فعل بعضكهم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم، فأنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها). هذه الآية، وهذا الحديث النبوي تعني بشكل واضح ان الرسول هو أنسان بكل ماتعني الكلمة من معنى، وان لا خوارق ولا أسطرة في سلوك الرسول (ص)، وأن الرسالة يكون المخاطبين بها على مقدار سعة أستيعابهم. عن أبن عباس عن النبي قال (نحن معاشر الأنبياء نخاطب الناس على قدر عقولهم)، فالله سبحانه وتعالى أرسل رسول من نوع المُرسل أليهم، وغاية ذلك بأن ما أرسله لهم يقع ضمن قدراتهم، وسعة أمكانياتهم، وأنه يمكن أن يكون نموذج عملي لغيره من بني البشر، لأن الله سبحانه وتعالى ليس من المنطقي أن يرسل لهم رسول ونموذج أيماني خارج نطاق قدراتهم، وبالتالي لا يمكن أن يكون عليهم حجة بأعتباره ذو قدرات خارجة عن المالوف، فشخصية الرسول (ص) لم تخرج تكوينياً ولا نفسياً عن مألوف البشر، فهو يأكل، ويشرب، وينام، ويتزوج النساء، ويتعب ويمرض ويفرح وينزعج (عبس وتولى...)(عبس:1).

وظيفة الرسول محمد (ص):

لاشك أن وظيفة الرسول (ص) واضحة ومحددة، وقد أفصح عنها القرآن بالآية (فهل على الرسول الاالبلاغ المبين) (النحل:35) (ما على الرسول الا البلاغ...)(المائدة:99)، والا هنا جاءت كصيغة استثناء، وتكون مسبوقة بكلام مثبت، ويُخاطبه الله ب (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك...)(المائدة: 67)، وأن النبي محمد (ص) يقر على لسان القرآن بأنه لا يتبع أحد ولا حتى نفسه الا ما أمره الله به (ان أتبع الا ما يوحى اليَّ) (يونس:15)، وهذا دليل واضح على العلاقة التشريعية التي مرجعها الله، والوظيفة التبليغية التي يقوم بها رسول الله محمد (ص)، كما أنه ينفي أي علم الا ماعلمه الله به، وفي حديث للرسول (ص)(واني والله ما أعلم الا ما علمني الله). فمصدر العلم الذي يبلغه للناس والمتمثل بالشريعة هو علم ألهي المصدر، وليس هناك ما أضيفه من عندياتي، فأنا لا أعدو أكثر من ناقل ومبلغ لهذه الرسالة التي كلفني الله بمهمة النقل وشرف التبليغ بها، وقد وضح ذلك ابن حيان الأندلسي في تفسيره الكبير المسمى بالبحر المحيط، حيث ينقل عن الرسول (انما أنا متبع ما أوحى الله تعالى غير شارع شيئاً من جهتي ولا أعلم ماوراء هذا الجدار الا أن يعلمني ربي)، وهذا يتضح بأن الرسول مقيد تماماً بقيد الوحي، وأن لا سلطان له في التشريع، وليس له الا الأمتثال والطاعة المطلقة لله، وخير دليل على ذلك، هو عندما سُئل عن معنى الكلالة، قال للسائل (هذا ما أُتيت، ولست أزيدك حتى أُزاد) (من أسلام القرآن الى أسلام الحديث ص23). يتبع

***

أياد الزهيري

توجد جامعات متخصصة لدراسة العلوم الانسانية فقط في العديد من بلدان العالم، بما فيها طبعا في بعض بلدان عالمنا العربي، ولكننا نريد التوقف في مقالتنا هذه عند جامعة العلوم الانسانية في روسيا بالذات، لاننا نتابع مسيرة التعليم العالي الروسي بكل ظواهره الايجابية والسلبيه، وذلك لأننا نظن، ان هذه المتابعة الدقيقة مفيدة لنا،  اذ ربما (نكرر – ربما) نستطيع ان نستخلص منها بعض الدروس والاستنتاجات المفيدة في حياتنا الجامعية العراقية، فالاطلاع على تجارب الاخرين في مسيرة التعليم العالي ضرورة  (ونحن بشكل عام لازلنا مبتدئين في هدا المجال،  فمسيرة التعليم العالي عندنا ترتبط زمنيّا ببداية القرن العشرين ليس الا)، والاطلاع على تجربة التعليم العالي في دولة مثل روسيا يعني، امكانيّة ان نأخذ بنظر الاعتبار ايجابيات تلك التجربة الجامعية (ولكن ليس بشكل تلقائي اعمى، وانما حسب واقعنا و ظروفنا وامكانياتنا طبعا)، وان نتذكّر دائما  سلبياتها و نتجنب تلك السلبيات قدر ما نستطيع، وهذه السلبيات ليست قليلة مع الاسف في الجامعات الروسيّة عموما (رغم كل ما قيل ويقال من هذا الجانب المؤيد او من الجانب الآخر المعاكس له، فالاقوال كثيرة ولكن الوقائع هي التي تحدد و تتكلم في نهاية المطاف، وهي التي يجب ان نستند عليها  عند التقييم الموضوعي العام  لمستوى تلك الجامعات) .

بدأ التفكير بتأسيس جامعة للعلوم الانسانية في روسيا في تسعينيات القرن العشرين من قبل بعض اعضاء اكاديمية العلوم الروسية، اذ لاحظ اعضاء الاكاديمية الوهن والضعف (ان صحّ التعبير) الذي اصاب المجتمع الروسي تجاه العلوم الانسانية حصرا، وقرروا معالجة هذا الجانب في المجتمع عن طريق تأسيس جامعة متخصصة تدرس العلوم الانسانية بالذات، وتحاول – بالتالي - الارتقاء بتلك العلوم وتوسيعها، كي تشغل هذه العلوم مكانتها الطبيعية في وعي المجتمع وتؤدي دورها المهم في مسيرته اللاحقة، وهي ملاحظة علمية صحيحة ودقيقة جدا في تلك المرحلة من تاريخ المجتمع الروسي وتشخيص موضوعي للخلل المرعب الذي اصاب الاوساط الاجتماعية الروسية، اذ انهارت الدولة السوفيتية عام 1991(وهو حدث هائل جدا محليا وعالميا !)، ولم تنهض بعد الدولة الجديدة و البديلة (اي روسيا الاتحادية) محلها كما يجب، وهي ظاهرة طبيعية في مثل تلك التحوّلات الاجتماعية الكبرى في تاريخ الامم والشعوب . وهكذا حققت اكاديمية العلوم الروسية افكارها تلك عام 1994 ضمن الامكانيات المتاحة لها آنذاك، واعلنت حكومة روسيا الاتحادية وفق أمر اداري رسمي  تأسيس - (جامعة العلوم الانسانية)، وقد تم تسجيل عدة صفات محددة في نفس التسمية تلك، منها – (الجامعة الحكومية الاكاديمية)، فهي (حكوميّة)، اي انها جامعة رسمية تكون  الدراسة فيها مجانا، وليست جامعة اهلية خاصة تعتمد على اجور الدراسة وتهدف للحصول على الربح من تلك الاجور (كما يحدث عندنا مع الاسف، وكذلك في بلدان اخرى في العالم، بما فيها روسيا)، وان هذه الجامعة (اكاديميّة)، اي تديرها اكاديمية العلوم الروسية وتابعة لها و وهي التي تشرف عليها، ولا علاقة لها مع اي مؤسسة اخرى . لقد اثبتت تجربة السنوات الاخيرة نجاح هذه الجامعة فعلا، فاعداد طلبتها كانت غير كبيرة، ويستمع طلبتها منذ البداية الى محاضرات يلقيها عليهم اكاديميون كبار متخصصون في تلك العلوم الانسانية، ولا تهدف الجامعة الى (تخريج!) موظفين هنا وهناك، وانما تسعى الى خلق متخصصين شباب في العلوم الانسانية، يعرفون قيمة تلك العلوم وكيفية استخدامها في مسيرة المجتمع الروسي واهميتها لهم ولمجتمعهم .

السؤال الذي يطرح نفسه بعد هذا التعريف الوجير بجامعة العلوم الانسانية في روسيا هو الآتي – هل يمكن للمجمع العلمي العراقي ان يقيم مثل هذه الجامعة في بغداد ؟ والجواب عن هذا السؤال – نعم (حسب اجتهادنا المتواضع)، فالمجمع العلمي العراقي يضم شخصيات علمية رفيعة المستوى، ويمتلك بناية كبيرة في قلب بغداد يمكن ان تستوعب المشروع، وليكن هذا المشروع في بدايتة مقتصرا على الدراسات العليا فقط، اي ان تكون هذه الجامعة مخصصة للحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراه ليس الا، وان تكون اعداد طلبة الدراسات العليا هؤلاء ضمن الحد المعقول وفي اطار الاختصاصات المتوفرة  في المجمع العلمي العراقي، مثل اللغة العربية، او الادب العربي، او التاريخ، او الفلسفة، او الاقتصاد، او علم الاجتماع . او علم النفس ...الخ، ومن المؤكّد، ان ادارة المجمع العلمي (ذات التجربة الغنيّة) تستطيع تنظيم هذه الدراسة حسب الضوابط الجامعية المعمول بها في العراق من طريقة قبول الطلبة واعداد كورسات دراسية وامتحانات شاملة واشراف علمي على الاطاريح من قبل المتخصصين المرتبطين بالمجمع ومناقشة تلك الاطاريح .... .

ان خطوة تأسيس جامعة خاصة للعلوم الانسانية باشراف المجمع العلمي العراقي ستكون الاجابة العلمية الحقيقية على هذا (السيل !) من الجامعات الاهلية، التي (غمرت!) العراق في السنين الاخيرة، والتي زادت من مشاكله المتشابكة، اضافة الى (السيل الهائل الآخر!)، الذي غمرنا ايضا من جامعات تجارية او شبه وهميّة تأتينا الى بيوتنا عبر اجهزة الكترونية (ليلا ونهارا!) .

يا رجالات العلم في المجمع العلمي العراقي العتيد، اتمنى ان تحاولوا دراسة هذا المقترح واتخاذ قرار مناسب بشأنه، فجامعة مثل تلك ستؤدي الى بناء جسر فكريّ صلب بين المجمع العلمي والمجتمع العراقي يربط علومكم بابناء مجتمعكم ، ويمكن له ان يساهم في اصلاح مسيرة التعليم العالي في العراق.

***

ا. د. ضياء نافع

وجهات النظر المختلفة في دراسة السلوك البشري

هناك وجهات نظر مختلفة في علم النفس لتفسير السلوك البشري . هناك خمسة وجهات نظر او منظورات في علم النفس وهي المنظور السلوكي، المنظور البيولوجي، المنظور المعرفي، منظور التحليل النفسي والمنظور الذاتي. ما  هي  وجهات النظر هذه؟ بادئ ذي بدء، يجب أن نعرف ما هو المنظور. المنظور هو طريقة تفكير، طريقة لتحليل مشكلة. لنفترض أن هناك حدثا. صبي يغضب ويضرب شخصا ما. فعل ضرب شخص ما هو  سلوك وفعل الغضب هو حالة معرفية، فعل ضرب شخص ما بسبب الغضب. يمكن تفسير هذا السلوك من خلال وجهات نظر مختلفة في علم النفس. ولذا ما سأفعله هو إخباركم بوجهات نظر مختلفة يمكن من خلالها تفسير هذا السلوك.

المنظور البيولوجي: والمنظور البيولوجي لفهم العلاقة بين السلوك والعمليات العصبية. ما يريد هذا المنظور فعله في الواقع، هو أنه ينظر إلى ما يحدث السلوك من حيث الوظائف العصبية؟ ما معنى هذا؟ هذا يعني أنه إذا غضب شخص ما، إذا أصبح شخص ما حزينا، إذا أصبح شخص ما سعيدا، إذا قدم شخص ما هدية لشخص ما أو أظهر تعاطفا أو أي نوع من الأفعال، أي نوع من السلوك فهو بسبب حافز، لأن معظم التحفيز يؤدي إلى سلوك. وإذا كنت ترغب في دراسة ذلك على مستوى الدماغ، فأنه عندما يقوم شخص ما بشيء ما، تكون الخلايا العصبية نشطة، و الناقلات العصبية تعمل، أي أن نوعا من النشاط يحدث في الدماغ، مناطق من الدماغ تتحد معا لإدراك التحفيز ثم في وقت لاحق أخبر أو أؤمر الشخص بشكل أساسي بالتصرف بطريقة معينة. وهذا ما يسمى المنظور البيولوجي. فهم السلوك في سياق علم الأعصاب، في سياق العمليات العصبية، في سياق عمليات الدماغ، في سياق الناقلات العصبية هو المنظور البيولوجي.

المنظور السلوكي :وما يقوله هو أن كل السلوك تقريبا هو نتيجة التكييف والتعزيز. لذا ما يقوله المنظور السلوكي هو أن أي سلوك يقوم به شخص ما هو بسبب مكافآت معينة حصل عليها من قبل لقيامه بهذا النوع من السلوك وقد تعلمها. فلماذا يقوم الناس بسلوكيات معينة؟ يقوم الناس بسلوك معين في مواقف معينة لأنه في الماضي أعطته تلك السلوكيات في الواقع نوعا من المكافأة وبسبب المكافأة تعلم أن القيام بذلك يعمل ويفيد.

لذا فإن المنظور البيولوجي يفسر سلوكنا في سياق الوظائف العصبية، والمنظور السلوكي يفسر سلوكنا في سياق التكييف والتعلم. تقوم بسلوك معين لأنه تمت مكافأتك على القيام بهذا السلوك.

المنظور المعرفي: وما هو المنظور المعرفي؟ أن السلوك يفهم من خلال مجموعة من العمليات العقلية بما في ذلك الإدراك والتذكر والاستدلال واتخاذ القرار وحل المشكلات. لذلك إذا كنت ترغب في شرح سلوكيات معينة، فيمكن فهمها أيضا من حيث ما يفكر فيه الشخص، وكيف يدرك الشخص. ما هي عملية التفكير الجارية؟ ما هي عملية صنع القرار التي تجري في دماغه. وبناء على عمليات التفكير هذه، واتخاذ القرار، والإدراك، والتذكر، والذاكرة تقود الشخص إلى القيام بعمل معين.

منظور التحليل النفسي: وهذا المنظور يقول أن معظم السلوك هو بسبب العمليات اللاواعية بما في ذلك الرغبة. وهذا المنظور يعتقد أن أي سلوك يقوم به الشخص، أي فعل يقوم به الشخص هو بسبب وجود بعض العمليات اللاواعية. هناك مخاوف معينة لدى الشخص مثل القلق او لدى الشخص رغبات ومخاوف معينة مخفية في عمق اللاوعي ولا تدرك تجعله يفعل شيئا. و مثال على ذلك هو أن شخصا ما يدخن في سن متأخرة  لأنه منع من مص إبهامه في وقت ما من طفولته وبسبب ذلك دخلت إليه رغبات معينة ولم يتم التعبير عن تلك الرغبات في ذلك الوقت. لذلك في وقت لاحق من الزمن، هذا التدخين هو في الواقع مظهر من مظاهر مص الإبهام الذي تم قمعه في طفولته. هذا ما يقوله فرويد. وبالتالي فإن معظم السلوكيات التي تجعل شخصا ما يفعل شيئا ما يمكن تفسيرها أيضا في سياق عملياته  اللاواعية، المخاوف اللاواعية،  الرغبات اللاواعية، الأفعال اللاواعية.

المنظور الذاتي: يقول أن السلوك يفهم على أنه تنظيم للناس والتجارب الذاتية وبناء العالم من حولهم, إنه أكثر من منظور اجتماعي. ولذا فإن ما يقوله حول لماذا يفعل شخص ما شيئا ما لأن هذا الشيء مقبول من قبل الناس من حوله أو تجاربه الذاتية وما تعلمه من المجتمع من حوله، بسبب أفعال معينة من المجتمع، يقوم بنوع معين من السلوك ويكافأ هذا السلوك. لذا فإن جزءا منه يأتي أيضا من السلوك. ولكن بعد ذلك يفعل، لأن المجتمع يريده أن يفعل بهذه الطريقة وهكذا يفعل.

 دعونا نأخذ سلوكا ونحاول شرح هذا السلوك باستخدام كل هذه المناظير. دعونا نأخذ مثال هناك صبي وهذا الصبي يغضب بالفعل وعندما يغضب يضرب شخصا ما، لذلك يضرب صبيا آخر. الآن لماذا هذا الشخص عندما يغضب يضرب شخصا ما. لنأخذ المنظور البيولوجي, يقول المنظور البيولوجي أن عملية الغضب تجعل مناطق معينة من الدماغ تستجيب وبعض الناقلات العصبية المتعلقة بالغضب تستثار وتفرز و عندما تكون هذه الناقلات العصبية مستثارة، يتم استقبالها من قبل مناطق معينة من الدماغ أو نوع معين من المستقبلات، مما ينتج عنه شعور بالغضب، وهذا الغضب يجعله يضرب بالفعل.

الآن، باستخدام المنظور السلوكي،  لماذا يضرب هذا الشخص عندما يغضب لأنه في وقت مبكر في وقت ما عندما ضرب هذا الصبي عندما كان غاضبا، تمت مكافأته. لقد حصل بالفعل على التشويق منه،  أو عندما يضرب الصبي الآخر، يهرب الصبي الآخر وهذه مكافأة. لذلك عندما تغضب وتضرب شخصا ما ويبتعد الشخص الآخر ولا يواجهك، فإنك في الواقع تحصل على مكافأة. وهكذا تعلم أن الضرب فكرة جيدة لأن ذلك يمكن أن يجعل أعداءك يختفون ولهذا السبب يضرب شخصا ما.

في المنظور المعرفي،  يغضب الصبي وبسبب الغضب، يضرب شخصا ما؟ الآن باستخدام المنظور المعرفي، يمكن القول أن الحافز كان سبب الغضب، وبسبب ذلك بدأ التفكير. عندما بدأ يفكر، أدرك أن هذه الكلمات هي شيء من المحرمات. شيء لا يعجبه، شيء  مهين وبسبب ذلك يبدأ الغضب فيه، يقرر طرقا متعددة لإخراج الغضب وإحدى الطرق التي تمت مكافأتها في وقت سابق أو التي تم اختيارها من خلال نفس عملية صنع القرار هي الرد وهكذا يضرب مرة أخرى لأن اتخاذ قرار هو عملية لأي أفعال قام بها من قبل كلما غضب، وبالتالي فإن عملية صنع القرار الخاصة به ستنظر في جميع السلوكيات، وأفضل سلوك يجب القيام به عندما يغضب وبسبب ذلك يختار سلوك الرد.

منظور التحليل النفسي لسبب رد شخص ما عندما يكون غاضبا هو بسبب مخاوفه الداخلية، وبالتالي فإن غريزته الحيوانية تستثار. يعتقد أن الشخص الغاضب، لديه في الواقع بعض الرغبات الخفية أو بعض الدوافع الخفية. وهذه الدوافع تجعله يرد لأن هناك مخاوف معينة فيه ويدرك أنه قبل أن يتمكن الشخص الآخر من ذلك، فهو في حالة ذهول، ويريد أن يحصل على مكافأة أو أي شيء آخر يجعله يرد.

ما هو رأي المنظور الذاتي في (لماذا يغضب شخص ما ويضرب). المنظور الذاتي هو أنه نظرا لأن المجتمع في حد ذاته يريد من الأولاد أن يردوا بالفعل، يجب أن يكونوا جيدين لأنه يرغب أن يكون لديه فتاة. لذا فإن المجتمع من حولك يريد من الأولاد أن يتولوا بالفعل مسؤولية المواقف. يقول المنظور الذاتي أن البيئة المحيطة به والأشخاص من حوله وتجاربه السابقة أظهرت أن هذا متوقع  منه.

لذا فإن نفس سلوك الغضب، يمكن تفسيره بخمس وجهات نظر مختلفة أو خمس مقاربات مختلفة. ما هي العلاقة بين المنظور السلوكي والبيولوجي، يختلف المنظور البيولوجي عن المنظور الآخر في أنه مبدأ مستمد جزئيا من علم الأحياء. يختلف المنظور البيولوجي في الواقع عن جميع المنظورات الأخرى لأن هذا المنظور يأتي من العلوم البيولوجية ومعظم العلوم البيولوجية تركز في الواقع على شيء يسمى الاختزالية. لذا فإن العلاقة بين المنظور النفسي والبيولوجي تتجمع حول شيء يسمى الاختزالية.

ما هو الاختزال او التخفيض؟ انظر إلى التفسير الذي يقدمه المنظور البيولوجي بالفعل. يقول المنظور البيولوجي أن الشخص الذي يغضب يتراجع. لأن منطقة معينة من الدماغ تطلق النار بطرق معينة. يتم إطلاق بعض الناقلات العصبية ويتم جمعها  والتقاطها بواسطة مستقبلات معينة وبسبب ذلك، يتجلى الغضب بالفعل. إذن ما نقوم به هنا هو شرح علم النفس، تفسير الضرب، السلوك مقسم في سياق اختزالنا، في سياق الخلايا العصبية والدماغ وبعض مناطق الدماغ، وهذا ما يسمى الاختزالية. العوامل المرتبطة بالعقل والدماغ لأي سلوك هي تبسيط الظواهر النفسية والاجتماعية المعقدة من حيث المبادئ البيولوجية. لذا فإن المبادئ البيولوجية أو  وجهة النظر البيولوجية تقلل أو تبالغ في تبسيط الظواهر المعقدة. لذا فإن الغضب في حد ذاته ظاهرة معقدة.

لذا فإن وجهة النظر النفسية تقول أنه إذا غضب شخص ما وأصيب بالإحباط فذلك لأن تجاربه السابقة قد عززت سلوكه بطرق معينة، ولهذا السبب يغضب. لذا فإن نفس الحالة البيولوجية لشخص ما يمكن أن تسبب الغضب أو يمكن أن تسبب شيئا آخر. لذا فإن نفس الناقلات العصبية، نفس العدد من الخلايا العصبية في الدماغ، نفس المنطقة من الدماغ يمكن أن تعبر عن سلوكيات مختلفة. لذا فإن علم الأحياء وحده غير كاف لأنه يتعين علينا أن نأخذ وجهة النظر النفسية والتجارب السابقة.

الآن، ظهرت وجهات نظر أحدث أيضا. مع مجيء القرن الجديد، وفي نهاية القرن 20 وهي في الواقع طريقة أخرى للنظر إلى الظواهر النفسية. أحد المنظورات التي ظهرت، منظور حالي يسمى منظور المكتب المعرفي للعلوم. وما هو هذا المنظور؟ هو يركز على فهم المعالجة المعرفية باستخدام تقنيات جديدة تشمل التصوير العصبي. يبحث هذا المنظور في الواقع في سبب قيام أشخاص معينين بسلوكيات معينة من حيث عمليات الدماغ. وهكذا مع ظهور آلات جديدة مثل التصوير بالرنين المغناطيسي أو التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني أو تخطيط كهربية الدماغ. وهذه التقنيات في الواقع يمكن أن تدرس الدماغ أثناء قيامه بأفعال معينة. وهكذا يمكن لعلم الأعصاب الإدراكي الآن أن ينظر إلى ما يحدث بالفعل في الدماغ، أي منطقة من الدماغ مسؤولة عن نوع معين من السلوك. سأعطيك مثالا. هناك   منطقة من الدماغ تسمى الفص الصدغي الإنسي  هي المسؤولة عن الذاكرة و عند القيام بالتصوير العصبي واثناء ما يتذكر شخص ما شيئا ما أثناء عملية التصوير سيجد نشاطا أكثر أهمية في الفص الصدغي الإنسي للدماغ. هذا يعني في الأساس أن الشخص يتذكر شيئا ما ، وعندما يقوم ببعض التخطيط، ويقوم باتخاذ القرار، وبالتالي يتم التعامل مع اتخاذ القرار من قبل الجزء الأمامي من الدماغ، المنطقة الأمامية من الدماغ، في حين أن التذكر يتم بواسطة المنطقة الصدغية الجدارية. حتى الآن السلوكيات التي تمت دراستها باستخدام الطريقة السلوكية في الأيام الخوالي يمكن الآن معالجتها في الواقع من حيث مناطق الدماغ.

هناك منظور جديد يسمى منظور علم النفس التطوري. وما يفعله هذا المنظور هو دراسة الأصول البيولوجية للآلية النفسية. كما يتضمن أفكارا من الأنثروبولوجيا والطب النفسي. ماذا يفعل هذا المنظور؟ يأخذ في الاعتبار البيولوجية  والسلوكية ويخلط بينهما، يأخذ في مدخلات من كل من الأنثروبولوجيا والطب النفسي. على سبيل المثال، لماذا يبتعد البشر عندما يشعرون بخوف الموقف ولكنهم لا يستطيعون القتال؟ أحد الأسباب هو تلك الطبيعة التطورية، أو لماذا تنام بطريقة معينة؟ لماذا يمكن لأمهات حديثي الولادة سماع صوت عالي النبرة فقط اثناء النوم. يحدث هذا لأن أمهات حديثي الولادة يمكنهن سماع صوته لأن الطفل يصدر صوتا عالي النبرة. لذلك إذا كنت تتحدث بنبرة همس أو منخفضة، فلن تتمكن الأمهات من سماعك. لكن الصوت عالي النبرة يمكن أن يخبر الأم في الواقع أن الطفل يبكي وبالتالي  يمكنها النهوض والاعتناء به. هذا هو المنظور الذي يأتي من   التطور ودراسة هذا النوع من السلوك هو في الأساس وجهة النظر التطورية لعلم النفس، علم النفس التطوري.

اما علم النفس الثقافي الذي يدرس كيفية حدوث الاختلافات الثقافية. يهتم علم النفس الثقافي بدراسة كيفية تفاعل الثقافات المختلفة مع شيء معين. على سبيل المثال، قول نعم ولا من خلال الإيماء. الآن إذا ذهبت إلى الغرب، نعم هو كذا ولا هو كذا. ولكن بعد ذلك إذا ذهبت إلى مكان ما عبر الدول الآسيوية، فقد يعني هذا أحيانا نعم وهذا قد يعني أيضا لا. أو قد يكون هذا يمكن أن يعني نعم. لذا فإن النوع المختلف من الأفعال، النوع المختلف من الأفعال يعني أشياء مختلفة. وهكذا يخبرك علم النفس الثقافي هذا كيف تشكل الثقافة السلوكيات . على سبيل المثال، في ثقافة يعد شرب الشاي أو المشي مع الطعام جيدا جدا في الغرب، لكن المشي مع الطعام في الشارع ليس جيدا في الشرق. وهذا هو السبب في وجود فرق بين هذين الشخصين والسلوكيات الاجتماعية لا يمكن التعبير عنها أو لا يمكن الجمع بين الثقافتين وبالتالي فأن سبب اختلاف هذه الثقافات هو وجهة النظر أو موضوع علم النفس الثقافي.

ثم هناك فكرة علم النفس الإيجابي. تقول الفكرة إنها تسعى إلى فهم ازدهار الإنسان والأساليب التجريبية. ينظر إلى كيفية سعي البشر ليصبحوا ناجحين. إنهم ينظرون إلى كيفية ازدهار البشر ويستخدمون الأساليب التجريبية ويختبرون أشياء مثل كيف يكون البشر سعداء، وكيف يسعون جاهدين ليكونوا ما يريدون أن يكونوا، وكيف يسعون جاهدين ليكونوا جيدين. لذلك فهو ينظر إلى الجانب الإيجابي للبشر وهذا هو الجوهر الأساسي لدراسة علم النفس الإيجابي.

***

د.احمد المغير/ طبيب اختصاصي

الدنمرك وألمانيا نموذجاً

يتعرض الناس في جميع أنحاء العالم للتمييز والمضايقة والاضطهاد لأنهم يعتنقون ديناً معيناً، أو لأنهم لا دينيين. في أجزاء كبيرة من هذا العالم يعيش بعض السكان في بلدان تتعرض فيها الحرية الدينية لضغوط شديدة ومتواترة.  ولم يحدث ذلك أبداً في الماضي حيث الناس أكثر هروباً بسبب إيمانهم مما هم عليه اليوم. هذه التطورات جعلت قضية الحرية الدينية على رأس جدول أعمال السياسيين والتنمويين في كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول الأوروبية الأخرى.

الحكومة الدنماركية كانت قد أعلنت عبر مؤسساتها الحكومية أنها ستركز بشكل خاص على تقوية التعاون الدولي لحماية الأقليات المسيحية.

يتعلق الحق في حرية الدين بالحق في اعتناق أو تغيير الدين (أو ألا يكون لديك دين كلياً)، وكذلك للتعبير عن/ أو ممارسة هذا (أو عدمه) بمفردك أو مع الآخرين.

تتعلق الحرية الدينية بكل من حرية الفرد في اختيار الدين وفي حرية الممارسة والعبادة. لا يمكن استخدام الحق في حرية الدين لتقييد حقوق الآخرين، ولا يعطي تفويضاً مطلقاً للتحريض على التمييز أو الكراهية أو العنف للسيطرة على الآخرين، ومنعهم من التعبير عن معتقداتهم، أو إلى قمع النقد الديني.

تُرتكب انتهاكات للحرية الدينية من قبل الدولة، وكذلك من قبل الجهات الفاعلة غير الحكومية، مثل المنظمات الدينية والحركات المتشددة أو من قبل المجتمع محلي. تتراوح الانتهاكات بين التمييز والتحرش، إلى الاضطهاد الذي قد يصل مرحلة الخطورة عبر الاعتداء الجسدي الذي يهدد حياة وحرية الفرد. والذي قد يحدث في سياق حيث الدولة لا تستطيع ـ أو لا تريد ـ حماية المضطهدين، أو حيث الدولة نفسها تكون نشطة ومشاركة في الاضطهاد.

تتعرض الأقليات الدينية بشكل خاص لانتهاكات حريتهم الدينية. الذي – التي نادرا ما تكون أقلية دينية واحدة فقط. إذا سمح المجتمع بذلك إن اضطهاد أقلية يفتح الطريق أمام اضطهاد الأقليات الأخرى. لكن الجماعات الأخرى تتعرض أيضاً للتمييز الديني والمضايقات والاضطهاد، بما في ذلك الملحدين، والمتحولين، والنساء، والمثليات، والمثليين، ومزدوجي الميل الجنسي، ومغايري الهوية الجنسانية.

يجب أن تكون الجهود المبذولة لتأمين الحرية الدينية وتعزيزها متاحة للجميع، بغض النظر عن الدين الذي يعتنقونه، وبغض النظر عما إذا كانوا ينتمون إلى أقلية دينية أم لا.

ترتبط حرية الدين بالتعددية والتسامح واحترام التنوع، وهو شرط أساسي للديمقراطية واليقين القانوني والسياسي والاستقرار المجتمعي. إذا تم إضعاف الحرية الدينية تضعف إمكانيات الديمقراطية، وتفشل سياسات التنمية، وبالتالي قد تضعف النمو الاقتصادي. لذلك من المنطقي تعزيز الحق في الحرية الدينية كعنصر مركزي في السياسة الخارجية والتنموية.

طبيعة التسامح وكيف نشأ

نشأ التسامح في شكله الحديث كرد فعل على حروب الدين في القرنين السادس عشر والسابع عشر. كانت السياسة والدين يرتبطان مع بعضهما البعض قبل الإصلاح. اعتبر جميع الأوروبيين المسيحية كأساس للحياة الاجتماعية والحضارية، ورفضوا الإصلاح لصالح فكرة أن كل فرد داخل الدولة يجب أن يتبع ديانة الأمير.

أدى ذلك إلى نشوب حروب بين كل من الأمراء البروتستانت والكاثوليك وداخل ممالك الأمراء الأفراد. فكان التسامح حلاً لهذه النزاعات بين الدول وداخل الدول من خلال الاعتراف التدريجي بالحرية الدينية، وبالتالي فإن الشرط الأساسي للتسامح هو وجود اختلاف أو خلاف مع طرف آخر، على سبيل المثال حول المعتقد الديني الحقيقي.

يمكننا أن تتسامح فقط مع ما لا نوافق عليه أو ننأى بأنفسنا عنه بطريقة أخرى. علاوة على ذلك، فإن احتمالات التسامح تظهر أيضاً فقط عندما تتاح الفرصة لأطراف الخلاف للتصرف عن بعد باستخدام القوة. على سبيل المثال الإبادة، طرد الآخرين أو قمعهم أو تحويلهم قسراً. عندما يتم استيفاء هذه الشروط المسبقة يكون التسامح ممكناً. لكن التسامح لا ينشأ إلا عندما تمتنع الأطراف - على الرغم من توفر إمكانية القوة للتدخل - عن القيام بذلك. وبالتالي فإن التسامح يتمثل في التمييز بين ما توافق عليه وتختلف معه من ناحية، وما الذي سيستخدمه الفرد لفرضه أو حظره على الجانب الآخر.

التسامح الديني قد لا يعني أكثر من الصبر والإذن الذي تمنحه أتباع الديانة السائدة للديانات الأخرى. على الرغم من أنه يُنظر إلى هذه الأخيرة باستنكار على أنها أدنى، أو مخطئة، أو ضارة. من الناحية التاريخية، إن معظم الحوادث والكتابات المتعلقة بالتسامح تنطوي على وضع الأقلية ووجهات النظر المعارضة فيما يتعلق بدين الدولة المهيمن. ومع ذلك فإن الدين أيضاً عمل اجتماعي، وممارسة التسامح كان لها دائماً جانب سياسي أيضاً.

نظرة عامة على تاريخ التسامح والثقافات المختلفة التي مورس فيها التسامح، والطرق التي تطور بها هذا المفهوم المتناقض إلى مفهوم إرشادي، يسلط الضوء على استخدامه المعاصر باعتباره سياسياً واجتماعياً ودينياً وعرقياً، ينطبق على مجتمع الأفراد والأقليات الأخرى، والمفاهيم الأخرى ذات الصلة مثل حقوق الإنسان.

يمكن وصف التسامح بأنه احترام لآراء ومعتقدات ومواقف وأفكار الآخرين. فقد نختلف في التوجهات، لكننا لا نلجأ إلى استخدام القوة أو التشريعات الذي تتعارض مع الطرف الآخر. وهذا النوع من التسامح في طريق الانحسار حالياً في العديد من الدول الأوروبية.

في العصور القديمة

في أوائل القرن الثالث حدد كاسيوس ديو سياسة الإمبراطورية الرومانية تجاه التسامح الديني:

لا يجب عليك فقط عبادة الإله في كل مكان وبكل طريقة وفقاً لتقاليد أجدادنا، ولكن عليك أيضاً إجبار الآخرين على احترامه. أولئك الذين يحاولون تشويه ديننا بطقوس غريبة يجب أن يُكرهوا ويعاقبوا، ليس فقط من أجل الآلهة، ولكن أيضاً لأن هؤلاء الناس ـ من خلال جلب آلهة جديدة ـ يقنعون العديد من الناس بتبني ممارسات غريبة تؤدي إلى المؤامرات، والثورات والفصائل التي لا تناسب الملك على الإطلاق.

وفي عام 311 م أصدر الإمبراطور الروماني غاليريوس مرسوماً عاماً بالتسامح مع المسيحية، باسمه وباسم ليسينيوس وقسطنطين الأول (الذي اعتنق المسيحية في العام التالي).

العصور الوسطى

في العصور الوسطى كانت هناك حالات من التسامح مع مجموعات معينة. كان المفهوم اللاتيني التسامح مفهوماً سياسياً وقضائياً متطوراً للغاية في اللاهوت المدرسي والقانون الكنسي في العصور الوسطى يتعلق بالمسلمون أو اليهود، ولكن أيضاً في مواجهة الفئات الاجتماعية مثل البغايا والجذام.

التحليلات والنقد الحديث

سلط الباحثون المعاصرون الضوء على المواقف التي يتعارض فيها التسامح مع المعايير الأخلاقية المعمول بها على نطاق واسع، أو القانون الوطني، أو مبادئ الهوية الوطنية، أو غير ذلك. يلاحظ المفكر الأمريكي "مايكل والزر" michael walzer أن البريطانيين في الهند تسامحوا مع ممارسة الهندوسية مثل حرق الأرامل حتى عام 1829. من ناحية أخرى رفضت الولايات المتحدة التسامح مع ممارسة المورمون لتعدد الزوجات. ويمثل الجدل الفرنسي حول غطاء الرأس تضارباً بين الممارسة الدينية والمثل العلمانية الفرنسية. والتسامح مع الغجر في الدول الأوروبية ما زالت قضية مستمرة.

تشير المؤرخة البريطانية "ألكسندرا والشام" Alexandra Walsham إلى أن الفهم الحديث لكلمة "التسامح" قد يكون مختلفاً تماماً عن معناها التاريخي. تم تحليل التسامح في اللغة الحديثة كعنصر من مكونات الرؤية الليبرالية أو التحررية لحقوق الإنسان.

وطالما لم يتضرر أحد أو لم تُنتهك حقوقه الأساسية، يجب على الدولة أن ترفع يدها وتتسامح مع ما يجده أولئك الذين يتحكمون في الدولة مثيراً للاشمئزاز أو مؤسفاً أو حتى مهيناً. كان هذا لفترة طويلة هو الدفاع الأكثر انتشاراً عن التسامح من قبل الليبراليين. وهو موجود على سبيل المثال في كتابات الفلاسفة الأمريكيين "جون راولز" John Rawls ، و"روبرت نوزيك" Robert Nozick ، و"رونالد دوركين" Ronald Dworkin.

مقترحات قوانين

في السادس من فبراير/شباط من هذا العام، طرحت وزارة العدل الدنمركية مشروع قانون للمناقشة في البرلمان بشأن تغطية الوجه في الأماكن العامة أو ما يسمى "النقاب". بحيث يتم اعتبار ارتداء ملابس تخفي الوجه جريمة جنائية، ما لم يخدم غرضاً يستحق التفهم، على سبيل المثال ـ الحماية من الرياح والطقس السيء، أو هو إجراء للسلامة المهنية. يعرف القانون بالعامية باسم حظر البرقع. ومع ذلك فإن فرض حظر محدد على البرقع يتعارض مع المادة 70 و71 من الدستور الدنمركي التي تضمن حرية العبادة والدين وتمنع التمييز.

وشهد الأول من فبراير/شباط محاولة جمع خمسة آلاف توقيع لتقديم اقتراح إلى البرلمان الدنمركي من المواطنين لتحديد سن ثمانية عشر عاماً كحد أدنى لختان الأطفال الأصحاء.

يختلف مؤيدو الاقتراح ومعارضوه حول ما إذا كان الحظر سيتعارض مع المادة 67 من القانون الأساسي للحرية الدينية. تنتقل الدنمرك خطوة إلى الخلف في موضوع التسامح الديني.

تجدر الإشارة إلى أن التسامح كان في السابق أمراً محوريًا لفهم الدنمارك الذاتي ، كما يقول البروفيسور الدنمركي "سون ليجارد" Søn Legard.

في العام الماضي ، كان البرلمان الدنماركي بصدد النظر في مشروع قانون قدمته الحكومة بشأن ما يسمى بحظر التنكر، وهو في الواقع حظر على النقاب والبرقع. ليس من قبيل المصادفة أن هذين الأمرين يحدثان في نفس الوقت. فقد وصف معهد حقوق الإنسان العام الماضي في وضعه السنوي بشأن حالة حقوق الإنسان في الدنمارك، اتجاهاً عاماً لتقليص حريات الدنماركيين.

تتعلق هذه القيود عموماً بأمور تتعلق بطريقة أو بأخرى باللاجئين والمهاجرين، وأكثرها لفتاً للنظر تتعلق بالدين. ويمكن وصف هذا الاتجاه عمومًا بالانتقال من درجة عالية من التسامح إلى درجة أقل من التسامح.

هذا الأمر جدير بالملاحظة لعدة أسباب. فالتسامح هو أحد أحجار الزاوية في الفهم الغربي الحديث للسياسة، وكان في السابق محورياً لفهم الدنمارك الذاتي.

حرية الدين في الدنمرك

التسامح يعني أنك تمتنع عن استخدام قوتك لاتخاذ إجراءات ضد ما تجده مستهجناً أو خاطئاً. وبالتالي يكمن التسامح في مكان ما بين المواقف التي يتفق فيها الجميع على ما هو جيد، ولماذا لا توجد حاجة لاستخدام القوة، وبين المواقف التي يستخدم فيها البعض قوتهم لفرض وجهة نظرهم حول ما هو صواب. إنها هذه المساحة بين الاتفاق واستخدام القوة ضد ما يختلف معه المرء، والتي تم تحديها في الاتجاه الموصوف في المقدمة.

وبعبارة أخرى، فإن الاتجاه هو أن يتحرك السياسيون والسكان بسرعة أكبر من مجرد إبعاد أنفسهم عن شيء ما، إلى الرغبة أيضاً في فرض ـ عن طريق استخدام القوة ـ لحظر ما لا يحبونه.

يظهر هنا سؤال مثير للاهتمام: لماذا تتقلص مساحة من التسامح تحت الضغط الآن؟

كان التسامح في الماضي شيئاً يتربى عليه العديد من الدنماركيين ويفخرون به. ومنذ الستينيات كان التسامح تجاه كل شيء من المواد الإباحية والمثلية الجنسية إلى التعبيرات الاستفزازية بشكل عام جزءًا من الهوية الدنماركية. هل أصبح الدنمركيين مختلفين جدًا بحيث لا يمكنهم العيش معًا؟ أحد التفسيرات المحتملة هو أنه في الماضي لم تكن هناك اختلافات كثيرة يجب التسامح معها. على الرغم من الاختلافات الطفيفة ، كان السكان متجانسين تماماً دينياً وعرقياً وثقافياً. حتى التجاوزات الوحشية يمكن اعتبارها تجاوزات يرتكبها البعض ممن يشبهون الأغلبية في نواح أخرى، لذلك كان من السهل نسبياً أن تكون متسامحاً. لكن اليوم لم تعد الدنمرك أحادية الدين والعرق، والثقافة، بسبب وجود اللاجئين والمهاجرين.

التسامح يعني أنك تمتنع عن استخدام قوتك لاتخاذ إجراءات ضد ما تجده مستهجنًا أو خاطئًا. ولا يجب أن يصمد التسامح حقًا أمام الاختبار إلا مع زيادة التنوع في المجتمع - بما في ذلك الوجود الواضح للأقليات الدينية التي يُنظر إليهم على أنهم غرباء..

يتضح هنا أن الدنماركيين ليسوا متسامحين كما كنا نظن. فهل أصبح العالم أبيض وأسود؟ تفسير آخر يرى أن الاتجاه هو تعبير عن فقدان أكثر عمومية للفوارق الدقيقة في السياسة. يمكن توضيح ذلك برسوم محمد.

لقد أدى نشر الرسوم المسيئة للرسول ـ صل ـ إلى نقاش مجتمعي واسع حول حرية التعبير. حيث انقسم المشاركون إلى مجموعتين متطرفتين إلى حد ما. في جانب كان الذي رأى الرسوم الكاريكاتورية مسيئة وفتح الطريق أمام تقييد التعبيرات الهجومية، مثل خطاب الكراهية. على الجانب الآخر كان هناك "أصوليو حرية التعبير" ،الذين يرون أن حرية التعبير مطلقة ولا يجب أبدًا ربطها بعلامة "لكن".

في هذا النقاش كانت وجهة النظر الوسطية التي تفصل بدقة بين مسألة الموقف من حرية التعبير عن مسألة تقييد حرية التعبير. الديمقراطية تعني أيضاً- احترام الأقلية مهما كان تفسير الاتجاه بعيدًا عن التسامح، فإنه يثير السؤال عما إذا كانت الدنمرك في ديمقراطيتها الليبرالية تتعامل مع أفراد الأقليات التي ترفض ممارستهم على أنهم مواطنين متساوين؟

وهل شرط حريتهم أن يستخدموها بطرق توافق عليها الأغلبية؟ وهل هي الحرية الحقيقية إذا كانت الحرية مشروطة بقبول الآخرين لكيفية اختيار المرء لعيشها؟

التنوع والتسامح الديني في ألمانيا

بالتزامن مع الذكرى السبعين لصدور القانون الأساسي لألمانيا، أعلنت مجلة Religion Monitor نتائج دراسة قامت بها حول العلاقة بين الدين والثقافة السياسية في ألمانيا. حيث تحظى المبادئ والقيم الديمقراطية الأساسية بتأييد واسع بين أعضاء الديانات المختلفة، وتوافق الغالبية على التسامح الديني، وهو أمر حاسم للتعايش السلمي في مجتمع متنوع. ومع ذلك لم يتم تضمين جميع الأديان على قدم المساواة.

يعتقد غالبية أعضاء الديانات المختلفة في ألمانيا أن الديمقراطية هي شكل جيد من أشكال الحكم. هذه إحدى النتائج التي توصلت إليها دراسة "التنوع الديني والديمقراطية" ، بناءً على مرصد الدين لعام 2017 واستطلاع متابعة في عام 2019، وآخر في عام 2023.

ووفقًا للنتائج فإن 89 %من سكان ألمانيا يدعمون الديمقراطية. من بين المسيحيين أعرب 93 % من الذين شملهم الاستطلاع عن هذا الرأي، وكذلك 91 % من المسلمين و83 % من غير المتدينين. ما يقرب من 80 % من المواطنين الألمان يقدرون أيضًا حماية مصالح الأقليات كمبدأ أساسي للديمقراطية الليبرالية.

عندما يتعلق الأمر باحترام التنوع الديني لا يزال هناك مجال لتحسينه. وجدت الدراسة أنه من حيث المبدأ 87 % من الذين شملهم الاستطلاع منفتحون على وجهات نظر أخرى للعالم. يقول حوالي 70٪ أن الأديان الأخرى تحتوي أيضاً على عناصر من الحقيقة. يعتبر هؤلاء المستجيبون متسامحين دينياً. لكن حوالي 50 % فقط من المستجيبين في ألمانيا يعتقدون أن التعددية الدينية تثري المجتمع. فيما يتعلق بالإسلام، فإن هذه الحصة أقل: ثلث السكان فقط يعتبرون الإسلام مُثرى. في المقابل ترى الغالبية أن المسيحية واليهودية والهندوسية والبوذية هي أديان مُثرية.

الإسلام يمثل تهديداً

بشكل عام، يرى حوالي نصف الذين شملهم الاستطلاع أن الإسلام يمثل تهديدًا. هذه النسبة ترتفع في مناطق شرق ألمانيا حيث تبلغ إلى 57٪، مقارنة بألمانيا الغربية التي تبلغ (50٪).

هذه النتائج، التي تم تسجيلها في ربيع 2023 تشبه إلى حد كبير نتائج استطلاعات السابقة التي أُجريت في 2013 و2015 و2017 و2019. من الواضح أن العديد من الناس في الوقت الحاضر ينظرون إلى الإسلام على أنه أيديولوجية سياسية أكثر من كونه ديناً وبالتالي لا يستحق التسامح الديني. يتم تضخيم هذا الموضوع من خلال النقاشات المجتمعية والتقارير الإعلامية في السنوات الماضية، والتي غالباً ما توجه للإسلام نقداً سلبياً يصل حد التهجم.

التشكك في الإسلام لا يعني بالضرورة كراهية الإسلام

لقد ألقيت نظرة فاحصة على نسبة السكان الذين يعتبرون الإسلام تهديداً. كان الاستنتاج أنه من المهم هنا التمييز. على الرغم من أن الدراسة تظهر أن التشكك في الإسلام واسع الانتشار إلى حد ما، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة رهاب الإسلام. حيث كثير من الناس يُعبرون عن تحفظات على الإسلام لكنهم لا يربطون ذلك بمطالب سياسية أو آراء معادية للديمقراطية. وتشير الدراسة إلى أن أقلية فقط من المواطنين تُظهر موقفًا معادياً للإسلام بشكل واضح، وتدعو إلى حظر هجرة المسلمين.

تصاعدت النسبة الإجمالية للأشخاص الذين لديهم مواقف معادية للإسلام في ألمانيا في السنوات الأخيرة، وفقًا لمرصد الدين من 13 % في عام 2017 إلى 20 % في عام 2023. وتظهر التحليلات أيضاً أن الأفراد الذين لديهم مواقف معادية للإسلام غالباً ما يرفضون الأقليات الأخرى حيث يناهضون التعددية، ويعتبرون ان ألمانيا للألمان العرقيين.

رفض التنوع يضر بالديمقراطية

النتائج الإضافية التي توصلت إليها الدراسة: موافقة أغلبية السكان على الديمقراطية كشكل جيد من أشكال الحكم،  تنخفض هذه النسبة إلى 68٪ بين الأشخاص الذين لديهم موقف واضح معاد للإسلام. النتائج متشابهة فيما يتعلق بحماية مصالح الأقليات: هذا المبدأ الديمقراطي يحظى أيضاً بموافقة ثلثي أولئك الذين يعبرون عن معارضتهم لهجرة المسلمين.

على الرغم من أن المواقف المعادية للإسلام يتم التعبير عنها بوضوح من قبل أقلية فقط، إلا أن الشكوك المنتشرة حول الإسلام تثير القلق، وبسبب هذه التحفظات الحالية يُفتح الباب للجماعات والأحزاب اليمينية الشعبوية لتصعيد مواقفها من الإسلام والمسلمين، ويمكن استغلال المخاوف من قبل تلك الأحزاب وتحويل الشك إلى رفض.

الاتصال الشخصي بين الجماعات الدينية يعزز التعايش الناجح

إحدى النتائج المهمة التي توصل إليها الدراسة هي أن الأشخاص الذين لديهم اتصال منتظم مع أعضاء الديانات الأخرى غالباً ما ينظرون إلى التنوع الديني والإسلام على أنه تهديد. في هذه المجموعة ، يعتبر 46٪ فقط أن الإسلام شكلاً من أشكال الإثراء. على النقيض من ذلك من بين الأفراد الذين نادراً ما يكون لديهم اتصال شخصي مع أتباع الديانات الأخرى يرى 64٪ منهم أن الإسلام يمثل تهديداً.

تُظهر هذه الدراسات وتجربتنا اليومية أن الناس من مختلف الأديان يتفقون بشكل عام بشكل جيد في الحياة اليومية. هذا هو بالضبط المكان الذي يمكن للمشاريع العملية أن تركز فيه وتعزز بشكل متعمد اللقاءات الشخصية وتبادل الآراء في محاولة للحد من التحيزات، وتعزيز الثقة، وتعزيز التعايش الناجح. وعلى وجه الخصوص فإن المنظمات مدعوة لخلق مساحات من أجل الناس للقاء والتفاعل.

على سبيل المثال، يمكن تعليم الأطفال في مراكز رعاية الأطفال والمدارس - بغض النظر عن الطائفة - عن الدين والتنوع الديني. سيسمح هذا للأطفال بالتحدث عن القواسم المشتركة والاختلافات بين خلفياتهم الدينية المختلفة والتعلم من بعضهم البعض.

تُظهر الاستطلاعات مدى مشاركة الناس لبعض القيم مثل قيم الديمقراطية الأساسية والرغبة في العيش معاً بسلام. ولهذا السبب من المهم الدخول في حوار مفتوح مع أتباع الديانات الأخرى.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

الأصول التاريخية لدراسة السلوك البشري

هل تذكر الحالة التي ذكرناها عن إعطاء البيتزا للطلاب الذين ينجزون؟ حيث أظهرنا بالفعل أن إعطاء مكافآت معينة جعل الطلاب يؤدون أداءا أفضل. الناس في مواقف معينة يتصرفون بطريقة معينة. إذا كان الفعل الذي يقومون به مجزيا، فإنهم يتعلمونه ويفعلون هذا الفعل مرة أخرى في المستقبل. إذا أصبح الفعل غير مجزي، فلن يقوموا بهذا الإجراء. وهذا ما يسمى قانون التأثير البسيط. يقول قانون التأثير أن الناس يتعلمون إذا كان القيام بشيء ما في موقف معين مجزيا، فسوف يفعلون ذلك مرارا وتكرارا وإذا لم يكن كذلك، فلن يفعلوه. ويمكن التحقق من ذلك لأن الشخص أكثر عرضة لفعل شيء ما في موقف معين، يمكننا بسهولة التنبؤ بأن الدخول في هذا الموقف حيث سيفعل الشخص الشيء نفسه، على سبيل المثال، شخص ما يخاف من أفلام الرعب سيغلق عينه.

 وإذا أثبتنا هذا، فيمكننا بسهولة التنبؤ بأن هذا الشخص، عندما يذهب إلى الفيلم مرة أخرى، وهو فيلم رعب، سيغلق عينيه مرة أخرى لأن ذلك مجزي له. وهكذا يمكن إجراء هذا التنبؤ وليس هناك حاجة لفهم عقله، العملية العقلية، التفكير. إنه حافز يؤدي إلى الاستجابة ولماذا يفعل هذه الاستجابة؟ لأنها مجزية. إن إغلاق عينيه يجعله في الواقع غير خائف لأنه إذا فتح عينيه فسوف يشاهد الفيلم ويصبح خائفا. ولذا فإن إغلاق عينيه مرتبط بمشاهدة هذه الأفلام. وهذا ما يسمى السلوكية. كل ما يفعله علم النفس هو من حيث التحفيز والاستجابة. يتم تعلم الاستجابات التي تتم مكافأتها، ولا يتم تعلم الاستجابات التي لا تكافأ.

 علم النفس الجشطالت . في الوقت الذي توصل فيه جون واتسون إلى فكرة علم النفس الموضوعي ,ما فعلته هذه المدرسة في الواقع هو أنهم أرادوا دراسة الإدراك الحسي. أرادوا دراسة الإحساس والتصورات الحسية وأشياء من هذا القبيل. كان والد هذه المدرسة هو ماكس فارديمان و معنى الجشطالت باللغة الألمانية الشكل ولذا فإن ما قالوه هو أن الإدراك يعتمد على الخلفية التي يتم تقديم شيء ما. لذا فإن الإدراك يعتمد على الخلفية. كيف ندرك الأشياء؟ كيف نرى الأشياء؟ يقول هؤلاء أننا نرى الأشياء فيما يتعلق بأمرين. أولا، ما هي الخلفية التي يتم تقديمها فيها، وثانيا، كيف يتم تنظيمها. يتم تنظيم الأشياء بطريقة معينة او مفردة والطريقة التي يتم بها تنظيم الأشياء معا. لذا فإن بعض الأشياء القريبة من بعضها البعض، ندركها معا. جلبت لنا فكرة هذه المدرسة معرفة كيف يدرك الناس الحركة. كيف ينظر الناس إلى الأفلام. كيف نرى الأفلام؟ هناك 24 إطارا تتابع واحدة تلو الأخرى. وبما أن هناك 24 إطارا تمر امام العين واحدة تلو الأخرى، فإننا نرى الفيلم يتحرك بالفعل. إذا صنعنا 22 إطارا فقط أو أقل، فلن يرى الناس هذه الحركة لأن هذه الإطارات ال 24 تبدو مجمعة معا وهذه هي الطريقة التي نرى بها الأفلام. لذلك في الأساس هذا ما اقترحه علماء النفس الجشطالت أنهم يعتقدون أن الإدراك يدور حول الموقف والأشياء الموجودة حوله وكيفية تنظيمها. أيضا هناك شيء مهم مع الجشطالت، إحدى المعارف المهمة من الجشطالت هي أن الكل ليس مجموع الأجزاء. ما معنى هذا؟ التجربة التي لديك من خلال مراقبة شيء ما ككل لا يمكن أن تكون مكافئة لشيء يرى جزءا منه لوحده. فكر في الأغنية المفضلة التي يمكنك سماعها، عندما تسمع الأغنية، تحتوي على كلمات، وموسيقى، ولديها أشياء أخرى كثيرة فيها. الآن عندما تسمع الأغنية الكلمات والموسيقى وكل شيء، لديك تجربة مختلفة. الآن ازل الكلمات وفقط ليستمع الى الموسيقى. يزيل الموسيقى ويسمع فقط كلمات الأغاني ويزيل كلمات الأغاني ويسمع فقط اللحن وما إلى ذلك. إذا قمت بذلك واحدا تلو الآخر، فإن نفس التجربة التي تحصل عليها عندما تسمع الصوت أو عندما تسمع الأغنية الإجمالية لا تعادل مجرد سماع هذه الأجزاء. الموسيقى وكلمات الأغاني بمفردها، إذا قمت بدمجها معا، فإن التجربة التي لديك مختلفة تماما عن التجربة التي لديك من خلال النظر إليها جزئيا أو النظر إلى هذه الأشياء الثلاثة بشكل منفصل، مما يعني في الأساس أن الأغنية نفسها، كل شيء مؤلف معا، يمنحك تجربة مختلفة تماما. ثم يتم عزف اللحن بمفرده، ثم يتم تشغيل الكلمات بمفردها، ثم يتم تشغيل الموسيقى حولها.

 التحليل النفسي، بدأ التحليل النفسي من قبل سيغموند فرويد على أساس فكرة أن معظم السلوك البشري نتيجة اللاوعي. لذا فإن معظم رغبات الناس هي توقعات الطفولة. رغبات الطفولة، إذا لم تتحقق أو إذا كانت لا تستحق الوفاء يتم دفعها إلى اللاوعي. ما هو اللاوعي؟ اللاوعي هو جزء من الدماغ أو جزء من العقل لا يمكنك رؤيته، ولا يمكن لأحد رؤيته. وما آمن به فرويد هو أن اللاوعي يشكل وعينا. نحن، شخصياتنا، لذا فإن هذه النظرية هي في الأساس نظرية شخصية بالإضافة إلى نظرية التحليل النفسي أو نظرية العلاج النفسي. ما اعتقده فرويد أن السلوك الذي نقوم به، أي سلوك نقوم به، يحكمه كثيرا اللاوعي. ما هو في اللاوعي، اللاوعي يتكون من كل تلك الأفعال، كل رغبات الطفولة، كل تلك الرغبات التي لدينا، والتي لا يمكننا التعبير عنها علانية. لذلك يتم دفع تلك الرغبات إلى اللاوعي. على سبيل المثال، إذا رأيت فتاة، فأنت تفكر في تقبيلها، لكن لا يمكنك فعل ذلك. وهكذا هذا الفعل من تفكيرك، أو كنت تفكر في القيام بذلك، يتم دفعه إلى اللاوعي، أو دفعه إلى عقلك في أعماق الذهن حيث لا يمكن أن يأتي. وهكذا من خلال فعل عدم القدرة على تقبيل هذه الفتاة، ما يحدث حقا هو أنك تظهر سلوكا منحرفا. لذلك يمكنك تقديم تعليقو الآن هذا التعليق هو في الواقع تغطية لرغبتك في تقبيل هذه الفتاة ولكن لا يمكنك فعل ذلك، وبالتالي فإن التعليق هو في الواقع مظهر من مظاهر اللاوعي. اللاوعي يريد إظهار السلوك، الآن هذا السلوك هو هذا التعليق هو في الواقع سلوك يظهر بشكل أساسي أنك تريد القيام بهذا الفعل، ولكن بما أنك غير قادر على القيام بهذا الفعل، يتم استبداله بهذا الفعل. وهذا ما قاله فرويد. ومعظم ما قاله فرويد أو معظم ما قالته نظرية فرويد حول السلوك البشري هو من حيث الجنس، أن معظم السلوكيات لها جوهر جنسي أو قلق وراء سلوكها. لذا فإن معظم السلوكيات لها إما تفسير جنسي أو نوع من القلق أو العدوان.

 بدأ القرن 20 مع مجال جديد من علم النفس يسمى مجال معالجة المعلومات. لذلك مع اقتراب الحرب العالمية، كانت مدارس علم النفس هذه ذات طبيعة نظرية في الغالب ولديها بيانات لا يمكن التحقق منها على مستويات معينة. لذلك بعد الحرب العالمية الثانية جاءت معدات أحدث، جاءت طرق أحدث. نظرية معالجة المعلومات التي تعتقد الآن أنه يمكن دراسة السلوك البشري من خلال نموذج الكمبيوتر. بالطبع تم تطوير تصميم الكمبيوتر تشبيها بالإنسان. يمكن دراسة السلوك البشري من خلال نموذج معالجة المعلومات. ما هو نموذج معالجة المعلومات؟ تعتقد تكنولوجيا المعلومات أن البشر مجرد عمليات بسيطة. إنها آلات يمكنها معالجة المعلومات. لذلك لديهم نظام إدخال يأخذ مدخلات وبالتالي فإن أجهزة الاستشعار او الحواس هي نظام إدخال. ثم عقلك الذي لديك هو في الواقع نظام معالجة المعلومات. ومن ثم السلوك الذي تقوم به هو في الواقع نظام إخراج. لذا فإن نظام الإدخال، الطريقة التي يمتلكها العقل هي نظام المعالجة ونظام المخرجات يمكن أن يفسر أي سلوك نقوم به.

 مجال آخر مثير للاهتمام جاء مع القرن 20 كان فكرة ما هي اللغة البشرية، ما هي اللغة البشرية وما هي الهياكل العقلية الموجودة في اللغة البشرية. كيف اخترع الناس اللغة؟ اللغة شيء قوي جدا. الشيء الأساسي، الشيء الأكثر إثارة للاهتمام الذي يحدث للإنسان، هو اللغة. معظم الأشكال الدنيا من الحيوانات ليس لديها لغة. لديهم طريقة للتواصل، لكن ليس لديهم لغة. مع البشر لدينا لغة, يمكننا التواصل مع بعضنا البعض. وهكذا كان تطور اللغة دافعا كلاسيكيا لدراسة علم النفس. طور نعوم تشومسكي هذه الفكرة حول ماهية الهياكل العقلية التي تشارك في اللغة، وكيف يصنع الناس اللغة، وكيف يفهمون اللغة وكيف تتشكل اللغة. وهذه مدرسة أخرى مثيرة للاهتمام بدأناها في القرن 20 كانت حول ما هي الهياكل العقلية التي تشكل اللغة وكيف تتم معالجتها. كيف يتم استخدام اللغة من قبل الناس.

كانت المدرسة المهمة التي جاءت مع القرن 20 وبداية القرن 21 هي دراسة علم النفس العصبي. علم النفس العصبي هو المجال الذي يدرس في الواقع كيف يصنع الدماغ العقل. يدرس العلاقة بين الأحداث العصبية والعملية العقلية. على سبيل المثال، تظهر مناطق معينة من الدماغ نشاطا، لذا فهي تظهر بالتصوير بالرنين المغناطيسي، EEG، PT. كل تلك الآلات أظهرت في الواقع أنه كلما كان الشخص يفعل شيئا ما ويحدث حدث عقلي فأنه يمكن التقاط هذه الأحداث من خلال عمليات معينة في الدماغ. على سبيل المثال، تدفق الدم، نشاط معين في الدماغ، النشاط الكهربائي في الدماغ. لذلك هناك نشاط ارتباطي في وقت واحد في الدماغ. لذلك إذا كنت تفكر في شيء ما، فهناك نشاط للدماغ. ويمكن دراسة هذه الأنشطة في الواقع والتنبؤ حول ما تفكر فيه وما هي العملية التي تستخدمها، لذلك اذا كنت تستخدم الذاكرة، فهو الفص الصدغي الأوسط، إذا كنت تستخدم الإدراك، فهو تأثير الفص القذالي. لذا فإن المناطق المختلفة من الدماغ لها ادوار مختلفة، كان جورج بيري هو الشخص الرئيسي الذي طور هذا المجال من علم النفس العصبي وأظهر أن كلا المنطقتين من الدماغ متصلتان بشيء يسمى الألياف الرابطة وهو ما يعني في الأساس أن الدماغ ينقسم إلى جزأين وكلا الجزأين من الدماغ متخصصان للقيام بعمليات متخصصة، ولهذا حصل على جائزة نوبل . ما نوع المشاكل التي ندرسها في علم النفس وما هو نطاقها. كانت هذه الأسئلة هي التي يطرحها الفلاسفة، وكيف تعامل علماء النفس مع هذه الأسئلة. القينا نظرة على بعض المدارس الأساسية، وما هي أساسيات هذه المدارس؟ وكيف تتعامل هذه المدارس مع مشاكل السلوك، وكيف تشرح هذه المدارس في الواقع كيف يمكن تعريف السلوك البشري.

***

د.احمد المغير - طبيب اختصاصي

الجمال والقبح، لا وجود حقيقيّ أو خارجيّ لهما، سواء في الأشياء المادية أو المعنوية، إنّما وجودهما ذهني فقط، ومن يوجِدْهما في الذهن هو الشعور بهما؛ فما يشعر به الإنسان أنه جميل؛ فهو جميل في ذهنه، وما يشعر به أنه قبيح؛ فهو قبيح، وإلّا لا وجود لشيء قبيح أو جميل في هذا الكون. وليس الحديث هنا يرتبط بنسبية الجمال والقبح واختلاف الأذواق من شخص لآخر، أو الحسن والقبح العقليين وفق تصنيفات علماء الكلام، بل يختص الحديث في أصل الشعور بمصادق الجمال والقبح المحسوسة، التي تتفق عليها المشاعر الإنسانية عموماً.

وقد خلق الله للإنسان قدرة الشعور، التي تجعله ينجذب ويحب ويميل لأشياء، ويكره ويشمئز وينفر من أشياء أُخر، ويكون محايداً في مشاعره أو لا مبالياً تجاه أشياء ثالثة؛ فالعاطفة والوجدان والألم واللذة والشهوة والحب والبغض والكره والخجل وغيرها، هي المشاعر، والمشاعر هي نتاج الشعور. والشعور يحوِّل وجود الأشياء من القوة الى الفعل، أي أنّ الشعور بالشيء دليل على وجوده.

ولنتصور أجزاء الوجود الإنساني الخاص، التي تكوّن هويته الشخصية؛ فهي تتكون ــ حسب الموروث ــ من جسد وروح ونفس، ولعلّ الشعور هو جزء من خزين النفس، أي أنّ مخرجاته ونتائجه هي جزءٌ من مكونات النفس وخزينها. وسواء كان كذلك أو لم يكن؛ فهذا ليس موضوعنا، وليس موضوعنا أيضاً البحث في علاقة الشعور بالعقل والفطرة والوعي والإدراك والغريزة والقلب والفؤاد، وتداخلات وظائفها ومخرجاتهما، أو الغوص في منشأ الشعور؛ فهذه الموضوعات بحاجة الى مساحة بحثية أُخرى، أكثر سعة وعمقاً، ولكن نريد من الإشارة الى وجود أجزاء متعددة مكونة لوجود الإنسان؛ فهم موقع الشعور في هذا الوجود وحضوره الأساس كجزء مكوّن؛ فإذا كان جسم الإنسان هو الجزء المادي من الخلقة، والروح هي الطاقة التي تعطي هذه الجسم القابلية على العمل؛ فإن القدرة هي نقل قابلية الجسم وأعضائه في الأداء، من القوة الى الفعل، وهذه القدرة ليست هي الروح، بل هي سلطة مستقلة عن الروح والجسد؛ لأن الروح لا تتحرك بذاتها، إلّا بوجود أداة تعمل فيها هذه الروح، وهذه الأداة لا تعمل، مع وجود الروح فيها، إلّا بوجود قدرة على تفعيل هذه الأداة. وهذه القدرة تتجلى في الشعور والتعقل والإدراك والوعي والتفكير، أي أن الدماغ (أداة العقل) لا يعمل دون وجود الروح، كما لا ينتج العقل الإدراك والتعقل والوعي والتفكير دون وجود قدرة تفعّل عمل الدماغ.

إنّ مخرجات الشعور والعقل والقلب، هي أعظم مصادق الميتافيزيقا الإلهية، وإذا كانت جرم الروح قد تم قياسه، كما تمت مشاهدة حركة خروج الروح من الجسد عبر التصوير الحراري (الأشعة تحت الحمراء)؛ فإن المشاعر لا يمكن مشاهدتها إطلاقاً، ولا معرفة كنهها وأسرارها، رغم أن مخرجاتها وآثارها ملموسة ومحسوسة. وعندما خلق الله أعضاء جسم الإنسان، خلق معها وظيفتها، كما خلق معها القدرة على أداء هذه الوظيفة؛ فقد خلق وظيفة البصر مع العين، والتفكير والتعقل والوعي مع العقل، والشم مع الأنف، والتذوق مع اللسان، والسمع مع الأذن، وهكذا، ثم خلق القدرة على ممارسة هذه الأعضاء لوظائفها، وهذه القدرة التي يلخصها الشعور، هي الخلقة الأعظم على الإطلاق؛ صحيح أن خلقة الأعضاء وخلقة وظائفها هي خلق عظيمة، لكن القدرة على النظر والسمع والشم واللمس والتذوق والتفكير والتعقل، هي الخلقة التي تفوق خلقة الأعضاء بما لا يمكن قياسه وحسابه.

والجمال والقبح الاعتباريان، يخلقهما شعور الإنسان بالأشياء وتحسسها، من خلال وظائف أعضاء جسم الإنسان، أي أن الله لم يخلق جمالاً وقبحاً بذاتيهما، بل خلق الأشياء، وخلق الشعور، وقال للشعور: هذا قبيح وهذا جميل؛ فصار هذا المخلوق جميلاً في نظر الإنسان ومشاعره، وصار الآخر قبيحاً، سواء كان هذا المخلوق مادياً أو معنوياً. مثلاً: الكذب والنفاق والنميمة والفتنة، ليست قبيحة بذاتها، بل أصبحت قبيحة لأن الله أمر شعور الإنسان باستشعار آثارها وتحسسها، بل حتى هذه الآثار ليست قبيحة بذاتها؛ إنما صارت قبيحة لأن مشاعر الإنسان قادته الى استشعار قبحها، ولولا وجود الشعور لما كانت قبيحة.

وكذلك؛ لو خلق الله شعوراً معاكساً للإنسان تجاه منظر الماء والشجر والخضرة، أو تجاه الجنس المقابل (ذكر/ أنثى)، بل تجاه كل ما يعتبره الإنسان جميلاً؛ لكرهها واشمأز منها واعتبرها أشكالاً ومعاني قبيحة، والعكس صحيح تجاه الأشياء التي يعتبرها الإنسان قبيحة، وهي في الحقيقة قبيحة في ذهنه الذي دلّه عليها الشعور بها، وليست قبيحة بذاتها. والمرأة تميل بالفطرة الى الرجل والرجل يميل بالفطرة الى المرأة، والإنسان يحب الخضرة والشجر والماء والالوان بالفطرة. هذه الفطرة هي التي تخلق الشعور بالحب والكراهية، ولو انتجت الفطرة شعورا آخر، كأن يشعر الرجل ــ مثلاً ــ بقبح المرأة وجمال الخنزير البري، وتشعر المرأة بقبح أولادها وجمال الجثة المتفسخة؛ فسيكون ذلك طبيعياً. وإذا أخذنا خلقة التذوق أو حاسة التذوق؛ سنجد أنّ الأشياء الطيبة والحلوة التي يذوقها الإنسان، هي ليست طيبة وحلوة بذاتها، بل إنّ حاسة التذوق هي التي يقودها الشعور الى كونها طيبة المذاق. وكذلك خلقة اللمس، تقود ــ مثلاً ــ الى أن هذا ناعم الملمس وهذا خشن الملمس، أي أنّ هذه النعومة ليس نعومة بذاتها، بل الاحساس بها يجعلها ناعمة.

وبالتالي؛ ليس الخنزير البري قبيحاً بذاته ولا المرأة جميلة بذاتها، ولا وجود الأولاد جميل بذاته ولا الجثة المتفسخة قبيحة بذاتها، إنّما الشعور بذلك، هو الذي جعلها جميلة أو قبيحة. كما أن الشعور هو الذي يحدد للإنسان عظمة الأشياء المادية والمعنوية أو هزالها وضعفها، أي أن الكون بكل ما فيه ليس عظيماً بذاته، أو أنّ ما فيه من مخلوقات هي عظيمة وجميلة أو هزيلة وصغيرة وقبيحة، إنما يعود ذلك الى طبيعة الشعور بها.

صحيح أنّ خلقة الإنسان عظيمة، وهي دليل على عظمة خالقها، وصحيح أنّ وظيفة الأعضاء وآلية عملها عظيمة، وهي دليل آخر على عظمة الخالق، لكن الأعظم منها جميها هي حاضنة الوظائف، وأقصد بها القدرات التي تمكِّن الأعضاء من أداء وظيفتها؛ فخِلقة العين عظيمة، ووظيفتها أعظم، لكن الأعظم من كليهما، قدرة العين على أداء وظيفتها، وهذه القدرة هي قدرة النظر، أي أن خِلقة النظر هي أعظم من خِلقة العين ووظيفتها، وكذلك خِلقة الأذن عظيمة، لكن خِلقة السمع أعظم منها، وهكذا الحواس الأُخر؛ فلولا النظر والسمع والشم واللمس والتذوق لما كانت هناك أشياء خارجية، ولكان كل شيء عدم، حتى لو امتلك الإنسان ألف عين وأنف وأذن ولسان ويد. وبالتالي؛ فوجود الأشياء يتوقف على وجود الحواس والعقل والشعور، بل حتى وجود الله سيكون مخفياً (خلقتُ الخلق لكي أعرف).

ولذلك؛ يؤكد الله على خِلقة العقل والقلب والفطرة والشعور والفؤاد والسمع والبصر واللمس والتكلم، وقدرتها على أداء وظيفتها، وليس على خِلقة القلب (الأداة) والعين والدماغ والأنف والفم واللسان (والله أخرجكم من بطون أُمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلّكم تشكرون)، (وَلَا تَقْفُ ما ليس لك به عِلم إِنّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أُولئك كان عنه مسئولاً). وهنا لم يمنّ الله على الإنسان بأدوات الحس، بل بالحس نفسه وبقدرة الحس على ممارسة وظيفته؛ إذ لولاه لما علم الإنسان شيئاً، كما لم يحمّل اللهُ الأذن والعين واللسان أية مسؤولية؛ لأنها مجرد أدوات لا قيمة لها بدون وظيفتها والقدرة على أدائها للوظيفة، بل حمّل السمع والبصر والفؤاد كامل المسؤولية. وهذه المسؤولية تنسحب على فهم نوع العذاب والنعيم الأُخرويين أو الثواب والعقاب.

إنّ الشعور والوعي والإدراك والتفكير والتعقل (القدرة على ضبط الفعل بواسطة العقل) والقلب (بمعنى دليل الإنسان وقدرته على إنشاء الفعل)، هي قدرات عظيمة إعجازية خلقها الله ليمنّ بها على الإنسان، وهذه القدرات هي الخلقة الأعظم في الكون، وطبيعة عملها يخضع لقانون إلهي جبري، لكن توجيهها يتبع لحرية الإنسان. ولا شك أنّ قدرة الإنسان عليها، أي قدرة الإنسان على الشعور والوعي والإدراك والتعقل والتفكير والقلب، هي أعظم ما خلق الله، وأنّ مجرد التفكير بها والتأمل فيما تفعله؛ سيقود الإنسان الى معرفة الخالق المبدع؛ فهي هي أعظم الأدلة على وجوده، وهي أعظم من خلقة الإنسان والكون وكل الأشياء الأُخر. وهذه القدرة، بتجلياتها ومشاعرها الفطرية، يستحيل على أي مخلوق أو جهة أخرى خلقها، سواء كانت الطبيعة أو الصدفة، بل الإنسان نفسه، مهما بلغ من العلم، سوى صانع قادر مطلق؛ لأنها عالم عجيب سري لا مرئي، وهي مفاتيح الغيب: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هو).

ولعل قول الله في الحديث القدسي: (عبدي أطعني تكن مثلي، أقول للشيء كن فيكون، وتقول للشيء كن فيكون) يشير الى القابلية الفطرية الذاتية لهذه القدرة لدى الإنسان على التطور والتنامي، كلما اقترب الإنسان أكثر الى الله، حتى تتحول الى مراتب الكرامة والإعجاز، وحينها لن يقتصر الشعور على الجماليات المادية والمعنوية الدنيوية، بل يتعداها الى الشعور بالجماليات والقبائح الغيبية.

***

د. علي المؤمن

لا أحد يعرف على وجه الدقة واليقين، لماذا تجاهل عميد الأدب العربي طه حسين الرد الذي كتبه معروف الرصافي على كتابه الشهير «مع أبي العلاء في سجنه» وإن كان من المرجح أن حسين لم يطلع على كراسة الرصافي الموسومة «على باب سجن أبي العلاء» بسبب صعوبة توزيع ما يصدر من كتب ومطبوعات في تلك الحقبة من أربعينيات القرن الماضي، وخصوصاً الكتاب العراقي الذي لا يكاد توزيعه يتعدى حدود البلاد إلا ما ندر، وقد ينطبق الأمر إلى حد ما على الكتاب المصري وصعوبة وصوله إلى القارئ العراقي، بدليل أن الرصافي نفسه لم يطلع على كتاب طه حسين  إلا بعد ثلاث سنوات على صدوره عندما وجده عند أحد أصدقائه في حزيران 1942، ولم يكن له علم قبل ذلك بصدور الكتاب منذ سنة 1939 .

بل أن طه حسين- كما يخبرنا الكاتب والباحث العراقي ماجد شُبَّر- « لم يردَّ على نقد الدكتور علي الوردي عندما نشر دراسة نقدية عن كتاب في الشعر الجاهلي!!». ويضيف شُبَّر في تصديره لكتاب صادر عن دار الوراق، ضم الجزء الأول من رد معروف عبد الغني الرصافي على كتاب طه حسين : «وقد بحثتُ كثيراً وطويلاً في الكتب والمجلات عن ردّ أو تعليق من طه حسين على كتاب معروف الرصافي فلم أجد شيئاً»، لكن ذلك بالطبع لا يقلل من جهد الناشر في ترتيب الكتاب الذي يبدأ بدراسة شيقة من ثلاثين صفحة عن الرصافي كتبها الباحث محمد علي الزرقا، ومن ثم كتاب الرصافي «على باب سجن أبي العلاء» ملحقاً به كتاب طه حسين «مع أبي العلاء في سجنه»، مما شكل مادة أدبية- تاريخية – نقدية، مهمة وممتعة ونافعة ومثيرة, يُشكر عليها حقاً.

وقد أسهب الزرقا في تعداد مناقب الرصافي السياسية والأدبية وفهمه لغاية الأدب، فهو بحسب وصف الباحث «من الأدباء المناضلين الذين وَهبوا عبقريتهم وحياتهم لشعوبهم «. كَتبَ الرصافي رسالته في الأعظمية نهايات حزيران/ يونيو 1942 وهي بمثابة درس في أخلاقيات النقد الأدبي عند الكبار، ففيها يورد كل عبارات التبجيل والإحترام لعميد الأدب العربي، سواء في بدء رسالته أو بين سطورها وفي ختامها، مع ذكر وجهة نظره في أمور محددة جاءت في كتاب «مع أبي العلاء في سجنه» أغلبها يخص ديوان «اللزوميات»، فالرصافي يعتقد « أنَّ أبا العلاء هو أول من تعمد التزام ما لا يلزم في الشعر» وهو بذلك يرد على طه حسين الذي كان يرى» أنَّ اللزوميات ليست نتيجة عمل، وإنَّما هي نتيجة الفراغ، أو ليست نتيجة الجد والكد وإنَّما هي نتيجة العبث واللعب، وإن شئت فقل: إنَّها نتيجة عمل دعا إليه الفراغ، ونتيجة جد جرّ إليه اللعب» ثم يشرح الرصافي رأيه هذا مطولاً ضارباً فيه الأمثلة والمقاربات التي تؤيده، وينتقل من قضية الصناعات اللفظية إلى ما أسماه طه حسين بعبث أبي العلاء الفلسفي، العبث بالنحو أو بالصرف أو بهما جميعاً، ويورد الأمثلة على ذلك، ويخص بالذكر بيتين من شعر المعري، غير أنَّ الرصافي يستغرب من الدكتور طه حسين «جعله قول أبي العلاء في هذين البيتين من العبث الذي لا يصح إطلاقه إلاَّ على فعل لا فائدة فيه لفاعله « كذلك لا يتفق الرصافي مع اتهام المعري بالتشاؤم بسبب فقدان بصره الذي جعله ساخطاً على الحياة.

الطريف أنَّ الرصافي يروي حكاية ذهابه إلى لبنان مصطافاً ومعه الرسالة التي كتبها رداً على طه حسين، وبينما هو ينتظر جواب أصحاب مجلة» المكشوف» لطبعها، نشبت الحرب العالمية الثانية فعاد إلى بغداد مع العائدين، ومع أنَّ أحد أصدقائه في بيروت أخبره بعد شهرين ان الدار وافقت على طبعها، لكنهم أخّروا طبعها حتى تنتهي الحرب، لارتفاع سعر الورق هناك .

يكتب الرصافي: ولم تزل الرسالة حبيسة عند أصحاب « المكشوف» إلى يومنا هذا الذي لم تزل فيه نيران الحرب قائمة على قدم وساق.

***

د. طه جزاع

السلوك البشري بين الفطرة وتأثير المحيط

كان تعريف علم النفس هو دراسة الروح أو العقل ومعرفته مظاهره . وهذا تعريف قديم جدا، التعريف الأحدث والدقيق لعلم النفس هو الدراسة العلمية للسلوك والعمليات العقلية. السؤال هو ما هي الدراسة العلمية؟ كان الفلاسفة ينظرون ويخبرون الكثير من الأشياء عن ماهية علم النفس وبشكل غير مباشر، فما هي الروح، وما هي فكرة العقل، ما هي فكرة الوعي، وما إلى ذلك، لكن لم يكن أي منها علميا. إذن كيف أصف علم النفس بأنه علمي، لهذا عليك أن تعرف ما هو العلم. الفهم الأساسي للعلم هو نظام من أربعة أجزاء او مجموعات. يمكن تسمية أي مجموعة من المعرفة بالعلم عندما يكون هناك ما يسمى بالملاحظة. عندما يمكنك ملاحظة ظواهر معينة،أي تحدث أفعال معينة ويمكنك ملاحظتها. ليس فقط ملاحظتها، ولكن يمكنك تكرار هذه الظاهرة. لذلك إذا لاحظت ظاهرة وكررتها وكان بإمكانك التحقق من ظواهرك ودحضها. هذه الأربعة هي المعايير الذهبية للعلم. كلب ينبح، أشعر بالخوف. ما هي الطريقة الأكثر علمية لشرح ذلك؟ هل يمكنني ملاحظة خوفك عندما ينبح الكلب؟ إذا كان بإمكاني القيام بذلك، فإن ما أفعله هو دراسة علمية. هل يمكنني تكرارها؟ تكرارها بمعنى في بيئة طبيعية، بالطبع عندما ينبح الكلب ستشعر بالخوف، ولكن يمكن أن يأخذك إلى المختبر ويجعلك تسمع نفس الصوت حيث لا يوجد الكلب وإذا كان بإمكاني التخلص من الخوف، فهذا يسمى النسخ المتماثل. وبالتالي فإن المعرفة التي أجمعها علمية بطبيعتها. يعني في الأساس أنه في كل مرة ينبح فيها، فإنك تدخل في حالة قشعريرة وهو في الأساس رد فعل على الخوف أو مظاهره، ثم أقوم بالتحقق من ذلك ودحضها. إذا كان من الممكن ملاحظة مجموعة من المعرفة، وتكرارها والتحقق منها ودحضها، إنها دراسة علمية. وهكذا علم النفس. لماذا هو علم لأنه يمكن أن يفعل كل هذه الأشياء كلما حدث شيء ما، كلما حدث حدث، كلما تصرف شخص ما بطريقة معينة. وإذا استطعنا ملاحظة ذلك، ليس فقط الملاحظة، ولكن يمكننا تكرار هذا السلوك، يمكننا أن احداث هذا السلوك مرارا وتكرارا، نؤكد أن نفس السلوك سيحدث إذا ظهرت نفس الظروف، فهذا يسمى النسخ المتماثل. يمكنك التحقق من أنه في حالات أخرى أيضا يتصرف الشخص بنفس الطريقة وإذا كان بإمكانه دحض ما أثبتناه سابقا فهوعلم. فإن علم النفس، إذن، هو في الواقع دراسة علمية لما يفعله الناس.

ما هي العمليات العقلية؟ العمليات العقلية هي تلك الأحداث الذهنية التي تحدث في ذهنك أو سنقول الدماغ. أشياء مثل الذاكرة، الإدراك، التفكير، حل المشكلات، الانتباه، كل هذه عمليات عقلية. هذه عمليات سرية بمعنى أنها غير مرئية لك ولكنها تحدث في رأسك وهذه العمليات تجعلك في الواقع تتخذ قرارا.

علم النفس نفسه واسع النطاق للغاية حيث يبدأ بالإدارة من جانب وعلم النفس العصبي على الجانب الاخر. يمكننا أن ندرس في علم النفس، على سبيل المثال، التعرف على الوجوه هناك منطقة محددة جدا من الدماغ والتي يطلق عليها اسم التلفيف المغزلي يساعدك في الواقع في التعرف على الوجوه وبالتالي فإن تلف هذه المنطقة من التلفيف المغزلي يجعلك لا تتعرف على الوجوه الشهيرة أو المعروفة. وهذا ما يسمى حبسة الوجوه. الضرر الذي يلحق بهذه المنطقة يجعل المصابين لا يفهمون الناس، أو يجعلهم لا يتعرفون على الناس على الإطلاق. تمت دراسة العديد من الأشخاص و كمثال كانت لشخص كان يجلس في مطعم واشتكى الى النادل من أن شخصا ما كان ينظر إليه. أشار النادل إليه بهدوء شديد وبلطف، قائلا سيدي، إنها مرآة، لا يستطيع الشخص التعرف على نفسه.

المشكلة الأخرى المثيرة للاهتمام التي يمكن دراستها في علم النفس هي فكرة العدالة الاجتماعية. ماذا يعني الحكم الاجتماعي؟ لنفترض أنك تقف في طابور، الوقوف في طابورطويل جدا و تلاحظ أن هناك سيدة تشتري لوازم البقالة ويظهر شخص ما فجأة أمام هذه السيدة ويقول إنني أريد جمع بعض الصدقة. السيدة تعطي بعض المال للجمعيات الخيرية. ماذا ترى؟ هل السيدة كريمة؟ الآن معظم الناس، في الواقع سيخبرون أن هذه السيدة كريمة وتحب مساعدة الناس. لكن هل هذا صحيح؟ أليس صحيحا أنها تفعل ذلك لأنها امام الآخرين وهذا هو سبب كرمها. إذا درست هذه السيدة في مرحلة ما بمرور الوقت، فقد لا نرى انها كريمة وذلك لأن هناك أشخاص آخرين يقومون بتقييمها في ذلك الوقت ولا تريد أن تبدو غير كريمة وغير متعاطفة، فهي تعطي بعض المال لهذه المؤسسة الخيرية، ولكن اذا لم يكن هناك احد يراقبها قد يكون التصرف عدم الاعطاء وهي غير كريمة.

كيف قررنا أن هذا الشخص كريم أو هذه السيدة كريمة؟ فكرة تفسير سلوك الآخرين، فإن سلوك الآخرين يحمل مسؤولية شخصيتهم أو سماتهم لتكون سبب السلوك وهذا يسمى خطأ الإسناد الأساسي وبالتالي الأحكام الاجتماعية. في الواقع هي مثال جيد جدا على علم النفس. لذلك عندما ننظر إلى سلوك الآخرين، فإننا نعتبر أن شخصياتهم أو أنهم، أو أن سماتهم مسؤولة عن أي سلوك يقومون به. وهذا ما يسمى خطأ الإسناد الأساسي. وبالتالي فإن دراسة خطأ الإسناد الأساسي هي في الأساس انحراف. الانحراف هو عندما ندرس الآخرين ونعتقد أن شخصياتهم مسؤولة عن سلوكهم ولكن عندما يدرس هؤلاء سلوكنا، فإننا نحمل الظروف او المحيط المسؤولية. لنفترض أن شخصين في امتحان أنت وصديقك، فشل صديقك،ما هو سبب فشلك؟ أعتقد أنه كان سيئا، ولم يكن يدرس وهذا ما يسمى خطأ إسناد أساسي لأنك تضع وزنا أكبر عليه او على شخصيته. ما هو السبب في أن معظم الناس يصفون هذا بأن الاختبار كان صعبا، وكان الوضع سيئا، وكانت قاعة الامتحان حارة ولم يكن الوضع جيدا، والنظافة لم تكن جيدة، وكانت الخدمة بائسة، وكانت الضوضاء كبيرة، والعديد من الأسباب الأخرى. أنت لا تحمل نفسك المسؤولية أبدا، وبالتالي تحميل الظروف المسؤولية عن سلوكك .

هناك مثل اخر عن دراسات علم النفس،هناك نوع من الاضطراب في الذاكرة حيث يفقد الناس ذاكرتهم قصيرة المدى. في هذه الحالات ما حدث بالفعل هو أن الناس غير قادرين على التعرف على أي شخص، الأشخاص الذين فقدوا منطقة معينة في الدماغ تسمى الفص الصدغي، ليسوا قادرين على تكوين ذكريات قصيرة المدى. لذا فكر في شخص يتحدث إليك وفي غضون كل 5 دقائق يسأل من أنت. كيف يتم تخزين المعلومات،معلومات مثل القواعد الرياضية، مثل أين أمريكا؟ وهذا النوع من المعرفة المتعلقة بعيد ميلادك، المتعلقة بما حدث في يوم آخر أو حدث آخر.

الكثير من الناس في هذا العالم يعانون من السمنة المفرطة، وهذه مشكلة من مشاكل البشرية الكبيرة. أحد الأسباب هو أن بعض الأشخاص الذين حرموا من تناول الطعام في وقت ما في مرحلة الطفولة يصابون بالإفراط في تناول الطعام ومن الأسباب الأخرى هو أن الاكتئاب الذي يجعل البعض يأكل أكثر وأكثر.

العنف لماذا يمارس الناس العنف؟ لماذا يتحول الناس إلى عدوانيين؟ الذين يلجأون إلى العنف يعتقدون في الواقع أنهم يكافأون به وهكذا . تم إجراء تجربة بسيطة للغاية مع مجموعة من الأطفال حيث تم عرض فيلم عنيف على مجموعة منهم ولم يتم عرض فيلم عنيف على المجموعة الأخرى من الأطفال. وفي وقت لاحق تعرضت كلتا المجموعتين من الأطفال لشيء يسمى دمية القاذفة، وهي في الأساس دمية غير مؤذية وكان رد فعل الأطفال الذين شاهدوا أفلاما عنيفة عنيفا. في حين أن الأطفال الذين لم يشاهدوا فيلما عنيفا، كان رد فعلهم طبيعيا جدا على الدمية. هناك نوعان من النظريات. تقول إحدى النظريات أن هذا الفيلم يجعل الأطفال يدركون أنه عندما يفعل البطل عنفا، فإنه يكافأ. وهكذا يتعلمون هذا ويقومون بالعنف للدمية. لكن المجموعة الأخرى من الأطفال في الواقع لم يروا أبدا أن أي شخص قد حصل على مكافأة بسبب العنف. ولكن هناك نهج آخر يقول بشكل أساسي أنه عندما يمارس الأطفال العنف، فإنهم في الواقع يطلقون المشاعر المطهرة وبسبب ذلك يجب أن يشعروا بالرضا.

 شيء آخر مثير للاهتمام هو أن علم النفس يجب أن يقلل من الاختلاف. لذلك يتم إجراء البحوث لزيادة معرفتنا حول كيفية تفكير الناس وسلوكهم. في دراسات مختلفة لدينا أشياء مختلفة. لأن ما يفعله علماء النفس ليس فقط دراسة، بل يصممون تجارب لفهم العملية النفسية وراء أي فعل وليس فقط أنهم يطرحون دراسات ثم يقومون لاحقا بنوع مختلف من الدراسات التي تنفي أحيانا بعضها البعض أو تضيف أحيانا إلى بعضها البعض. لأننا لا نستطيع فقط الملاحظة والتكرار والتحقق، يمكننا أيضا الدحض. إذن هذه هي فكرة الدحض. يتم إجراء التجارب للنظر في كيفية تصرف الناس، وأحيانا يضيفون إليها أو ينفون في بعض الأحيان وهذا يزيد من معرفة سبب قيام شخص ما بشيء ما.

 تعود جذور علم النفس إلى القرن 4 و 5 و 6 قبل الميلاد ومن فلاسفة اليونان القدماء العظماء سقراط وأرسطو و آخرين، كانوا يعتقدون أن علم النفس هو دراسة الوعي، ودراسة النفس، ودراسة العقل، وما إلى ذلك. يعتقد معظم هؤلاء الناس أن سلوك الناس، الطريقة التي يفعل بها الناس ما يفعلونه يحكمها هذا الوعي أو العقل . ومن أشهر النقاشات حول الطبيعة الفطرية. هناك سؤال في علم النفس يقول أنه مهما كان السلوك الذي نقوم به فأنه يأتي من الطبيعة أو من الفطرة، ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أن السلوك الذي نقوم به، أي فعل نقوم به أي حدث والاستجابة، مهما كانت طريقة الاستجابة، شخصياتنا، أنفسنا، ذكرياتنا، انتباهنا، عملياتنا، إدراكنا، كل هذه فطرية في الطبيعة، فطرية بمعنى أنها تتسلل من الأب إلى الابن بشكل ما. الشخصيات هي الذات هي السلوكيات كلها موصولة بالدماغ. لذا فإن الجدل حول الطبيعة يعتقد بشكل أساسي أن معظم القدرات البشرية كالمهارة في الرياضيات أو الغناء أو أي قدرة أخرى تعتمد بشكل أساسي على الطبيعة او الفطرة.

***

د. احمد المغير

(الحمدُّ لله الَّذي خَلَقَ السَّمواتِ والأَرضَ وَجَعَلَ الظُلمات والنُّور) الانعام1

 الظلمة لغة: ضد النوربضم اللام والجمع ظُلمات وأظلم الليل أو ظلام الليل أي أول الليل والليلة الظلماء أي المظلمة.

والظلمة اصطلاحا: هو انعدام الضوء فيما من شأنه أن يكون مضيئا.

والظلام هو عكس السطوع ويعني غياب الضوء المرئي وغياب الضوء يعني ظهور اللون الاسود في المساحات الملونة.

والحقيقة فقد وردت كلمة الظلمة بالقرآن الكريم في مواضع عدة ،وكل ماورد من الظلمات والنور يعني (الكفر والايمان) إلا في الاية الأولى من سورة الانعام فالمراد بها (الليل والنهار) ،فعبر القرآن الكريم عن الصراط بالنور فيما عبّر عن الكفر والباطل بالظلمات فالابتعاد عن النور يعني الدخول في الظلمات وهي حقيقة ثابتة لايختلف عليها أثنان.

وقد خلق الله النور ليهدي به الانسان والنور الذي ذكره الله له عدة وجوه:

الاول: النور المحسوس (المادي) الذي يميز الليل من النهار وهو النورالذي تهتدي به كل المخلوقات بدون استثناء كضوء الشمس (وسخَّرلكُم الشَّمسَ والقَمَرَ دائبَينِ وسخَّرَ لكم الليلَ والنهارَ) ابراهيم 33

الثاني: نورالله وهونور الهداية وهو النور الي يخرج الله به الناس من ظلمات الكفر الى نور الايمان (قد جاءكم من اللهِ نورٌ وكتابٌ مبين) المائدة15

الثالث: نور الامتحان والغاية وهو النور الذي يمتحن الله به عباده الصالحين (يهدي الله لنوره من يشاء) النور35

وقد وصف الله القرآن بالكتاب المنير لانه ينير الظلمات فيهتدي به الناس (قد جاءكم من الله ِ نورٌ وكتابٌ مبين) النور 2

وقد وردت الظلمات على أربعة أوجه في القران الكريم:

-أهوال البر والبحر

-قل من ينجيكم من ظلمات ِ البرِّ والبحرِ) الانعام 63

-ظلمات ماقبل الولادة (يخلقُكم في بطون أُمهاتكم في ظلماتٍ ثلاثٍ) وهي ظلمة البطن والرحم والمشيمة

-ظلمة الشرك والكفرقال تعالى (يُخرجهم من الظُلمات إلى النور) البقرة257

-ظلمة الليل قال تعالى (الحمدُ لله الذي خَلقَ السماواتِ والأرضَ وَجَعَلَ الظُلمات والنُّور) الانعام 1

وتقسم الظلمات إلى حسية ومعنوية وسنحاول ان نتناولها بشئ من البحث.

اولا: الظلمة الحسّية وتشمل:

-ظلمة الليل قال تعالى (قُل أرأيتم إنْ جَعَلَ اللهُ عليكم الليلَ سَرمَدًا إلى يوم القيامة) القصص71

-ظلمات السحاب قال تعالى (أو كظلماتٍ في بحرٍ لُجّيٍّ يغشَاهُ مَوجٌ من فوقهِ مَوجٌ من فوقهِ سَحابٌ إذا أخرجَ يَدَهُ لم يكد يرأها ومن يجعل اللهُ لهُ نورًا فماله من هاد) النور40

وإذا تأملنا هذه الاية الكريمة لوجدنا،إن الظلمات فيها ثلاث وهي ظلمة البحر اللجي العميق متجسدة بظلمة الموج وفوقه موج آخر وفوقه سحاب ،فهي إذن ثلاث ظلمات ،وقد شبه الله هنا الظلمة بالبحر اللجي دلالة على العمق والاستئثار بالظلمات الثلاثة التي هي القلب والسمع والبصر، وهذه الجوارح الثلاثة إذا غشتها الظلمة تفقد جانبها المضئ وتبقى تتخبط بالضلالة والكفروالعصيان وهذا مثل الكفار الذين تراكمت عليهم الضلالة والشرك والفساد ومن يضله الله فما له من هاد.

-ظلمات البطن قال تعالى (يخلقُكم في بطون أُمهاتكم خَلقًا من بعدِ خَلقٍ في ظلُماتٍ ثلاثٍ ذلكم الله ربكم) الزمر 6

وهذه الاية توضح الظلمات الثلاث في بطن الام والتي تمر بثلاث أطوار هي البطن،الرحم،المشيمة –سبحان الله وقد أثبت العلم صحة هذه الاطوار الثلاثة وهذه الاية تعتبر من روائع الايات الاعجازية.

-ظلمات بطن الحوت قال تعالى (وذا النون إذ ذهبَ مُغاضِبًا فظنَّ أن لن نقدر عليه فنادى في الظُلمات) الانبياء87

والمقصود بهذه الاية الكريمة النبي يونس بن متى حينما التقمه الحوت بعد أن عجز عن هداية قومه فضاق صدره وقد ابتلاه الله بثلاث ظلمات وهي ظلمة البحر والليل وبطن الحوت وقد أقر بظلمه لانه لم يصبر على قومه فقال (لاإله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين) الانبياء87

والحقيقة إن هذه الآية الاعجازية إنما أراد الله بها أن يُري النبي يونس كيف خلقه الله في ظلمة مالها من قرار وكيف أخرجه منها إلى النور بقدرته جلّ وعلا ،ألا تشبه هذه الظلمات الثلاث ظلمات الجنين في بطن أمه؟

هكذا يكون الاعجاز القرآني وهنا تكمن سيميائية كل آية بكل ماتحوي من معان دعانا الله فيها للتدبر (كتاب أنزلناهُ إليكَ مُباركٌ ليدبروا آياتهِ وليتذكر أولو الالباب) ص 29

-ظلمات البر والبحر قال تعالى (أمَّن يَهديكم في ظُلماتِ البر والبحرِ) النمل 63

ثانيا: الظلمات المعنوية وتشمل:

-ظُلمة الشرك والكفر والنفاق قال تعالى (مَثلهم كمثلِ الذي استوقدَ نارًا فلمّا أضاءت ماحولهُ ذَهَبَ اللهُ بنورهِم وَتَرَكَهم في ظُلماتٍ لايبصرون) البقرة 17

-ظلمة الجهل (والذين كذَّبوا بآياتِنا صُمُّ وبُكْمٌ في الظُلمات) الانعام39

إن الظلمات التي ذكرها القرآن الكريم هي كل الامور السوداوية التي تجعل الانسان يقبع في ضلالة مدقعة يتخبط بخطى الظلام يزينها له القرين والنفس الامّارة بالسوء، أما غاية النور في القرآن الكريم فهو نور تام لاظهار حقيقة الاشياء بوضوح فهو نور معنوي وحسّي يشعر به الانسان المؤمن الذي يتخذه صراطا للهداية فيقال (جنة المؤمن في قلبه) وما أروعها من جنة تملأ دنياه وتضمن له الحياة الأبدية في جنان النور.

هذا العلم الغزير والخير الكثير الذي وضعه الله بين أيدينا انما هو نور يستضاء به في الظلمات ،وكل حكم فيه دليل قطعي على صحته ونشأته وتشريعه،هذه الحكمة من التدبر والتأمل انما اتت من دعوتنا الى تدبرها مرة بعد مرة وصولا إلى الادراك والتذكير بنعم الله جل وعلا وعلى رأسها نعمة العقل التي تجعل الانسان يفر ق بين الخير والشر على اسس رسمها الله له لكي يحيا بتقويمه الرائع الذي باهى الله به ملائكته (إذ قالَ ربُكَ للملائِكةِ إنّي خالقٌ بَشرًا من طينٍ فإذا سوّيتهُ وَنَفَختُ فيهِ من روحي فقعوا له ساجدينَ) ص71

ومن بحثنا هذا توصلنا الى حقيقة الظلمات التي حددها الله بثلاث ظلمات وهي كما اسلفنا ظلمة الجنين في بطنه الذي يمر بمراحل ثلاث،وظلمة النبي يونس في بطن الحوت وتحددت ايضا بثلاثٍ،وظلمة الضال التي تغشي جوارحه الثلاث القلب والسمع والبصر.

أن في كتاب الله لنا سفينة نجاة ولنا فيه نورا نستنير به من ظلم الظلمات فالظلم ظلمات واقبح الظلم هو ظلم الأنسان لنفسه عندما يختار طريق الضلالة،في حين إن الله وضع بين أيدينا ميزان عدله واشرق بنوره ليرينا طريق الحق.

فهل يوجد أعظم تكريما للانسان من هذا التكريم لاخراجه من الظلمات الى النور قال تعالى (وأشرقت الأرضَ بنورِ ربَّها ووضعَ الكتابُ) الزمر69

***

مريم لطفي الالوسي – العراق

ربما لا يخطر على ذهن أعتى مفكري أوروبا، من الذين يستشرفون المستقبل، أن الثورة  الثورة الفرنسية التي اندلعت عام 1789، وما حملته من شعارات الحرية والمساواة والإخاء وحقوق الإنسان، التي انتظمت فيما بعد تحت مسمى (الحداثة) أو (العلمانية)، وألقت بظلالها على كل أوروبا وأمريكا ومن ثم باقي العالم، ستشهد من التحولات ما يصدم الأسلاف والمؤسسون من آباء الحداثة والتنوير حد الذهول.

لقد ظهرت الحداثة بوصفها رد فعل على لاهوت العصور الوسطى، واستطاعت تحرير الفرد من ظلامية وقيود تلك الحقبة، وأعلنت عن تقديس الإنسان، والعقل، والحرية، والمساواة، لكن تحولاتها الدائمة، وطغيان مبدأ المنفعة، وتفشي الإلحاد الذي أدى إلى عزل المجتمع عن القيم الدينية والأخلاقية، وهيمنة الأيديولوجيا الرأسمالية التي تقدس الربح وزيادة الاستهلاك، والتوسع في مفهوم الحرية لدرجة هدم الثوابت... جميع هذه المظاهر آلت إلى أشكال خطيرة من القيم، تهدد الجنس البشري وتعلن الحرب على الفطرة الإنسانية، وهو ما يتعارض مع جوهر فكرة الحرية وحقوق الإنسان. وما إعلان الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بأن: (أمريكا أمة المثليين) سوى امتداد لهذه التحولات التي تطيح بالثوابت، بل وتحاربها لمصلحة الشذوذ والانحراف عن الفطرة السليمة.

وأخطر ما في تصريح الرئيس الأمريكي هو تبني إدارته العلني لظاهرة الشذوذ ودعمها. ذلك أن هذا الدعم والترويج سيلقي بظلاله على باقي دول العالم. ويكمن جوهر الخطر، في أن تبني أمريكا لقيم ونماذج ما، فإنها لا تكتفي بإبقائها داخل حدودها، وإنما تعمل على تصديرها للآخرين كما تصدر سلعها ومنتجاتها. وتلك هي العولمة التي تعني تعميم الشيء وجعله عالمي التداول والانتشار، أي تحويل الظواهر والنماذج من نطاقها المحلي إلى مستوى العالمي والكوني واسع الانتشار. وظاهرة الشذوذ موضوع وثيق الصلة بما يعرف بــــ (العولمة الثقافية). وهو مصطلح يقصد به نقل قيم وعادات شعب ما إلى شعوب أخرى. والمصطلح يشير أيضاً إلى هيمنة الثقافة الأمريكية وسيطرتها، وذلك نتيجة قدرتها على التأثير في ثقافات المجتمعات الأخرى ونقل قيمها وأفكارها. 

إن صعود هذه الظاهرة وتداولها على نطاق واسع، أعلام ترفع، مهرجانات تقام، رؤساء يصرحون علناً بتأييدهم للشذوذ، مؤسسات دينية لها منزلة وأتباع (الفاتيكان وموقف البابا الأخير المؤيد صراحة للمثلية)، وكالات تجارية عالمية وأندية رياضية شهيرة (مثل نادي برشلونة)، وسائل إعلام (صحافة، تلفاز، سينما)..... أقول إن هذا الصعود جزء من سياسة تعميم الشذوذ والتحول الجنسي على أوسع نطاق ممكن، الأمر الذي يجعل مما هو محرم ومنبوذ مقبول ومتداول. وإذا كان بدايات هذه الظاهرة يصدم حد الذهول، ولا سيما في المجتمعات التي نطلق عليها تقليدية ومحافظة، فإن الحديث عنها وتداولها على نطاق واسع، كما يجري منذ مدة، سيجعل منها أمراً طبيعياً ولا إشكال فيه في المستقبل.

ولعل المشاهد البصير لم تغب عنه سياسات هوليود الأخيرة وشبكات التلفاز والإنتاج السينمائي، مثل(Netflix، HBO، Cinemax،APPLE TV + )، وخاصة Netflix، إذ يندر وجود عمل من أعمالها (فلم، مسلسل)، لا نجد فيه مشاهد تروج للشذوذ وتسوقه للمتلقي في إطار درامي لا يخلو من المكر والدهاء. يتجلى ذلك في طريقة بناء شخصية البطل أحياناً، محور العمل ونقطة جذب المتلقي. طبعاً، البطل هنا، كما في كل الأعمال، يقدم بوصفه مثالاً للخير والوفاء، أو للشجاعة ورفض الظلم، أو للحب والتضحية، ما يجعل من المتلقي يتفاعل معه، يتأثر به، يعجب بشخصيته، وربما يعمل على تقليدها.

ولكن هذا البطل، وبعد تحقيق تأثيره في المتلقي، يرفع الستار عن ميوله، عما كان يخفيه صانع العمل بمكر ودهاء، فإذا هو شاذ أو من مؤيدي الشذوذ والمتسامحين معه !!! والمهم أن ثمرة هذا الأسلوب، جعل شذوذ البطل آخر ما نفكر فيه ونستهجنه أو ندينه، لأن تعاطفنا معه والتأثر به، هو من سيتكفل محو ما يبدو أنه مخالف لقيمنا وسلوكنا، فيغدو انحرافه في النهاية شيئاً طبيعياً لا مشكلة فيه، ما دمنا نرى فيه نموذجا للإنسانية في محاربة الشر، أو عمل الخير، أو التضحية والوفاء.

على هذا النحو تمرر هذه القنوات أجندتها. فهي (ولا مبالغة في ذلك) أكثر الأدوات خطورة وتأثيراً على قيم المجتمع وتقاليده، شأنها في ذلك شأن مناهج التربية والتعليم والقوانين، إن لم تكن أكثر. وما يبدو صادماً وغير مقبول، مع مرور الوقت سيجعل الأعلام والسينما والتلفاز منه طبيعياً ومتداولاً، بل ويعمل على دمجه في حياتنا، جاعلاً منه جزء من قيمنا وسلوكنا.

وهذا ما حصل في الغرب. فهذا الأخير مثله مثل باقي الأمم والشعوب فيما مضى، كان يفرض أِشد العقوبات على ظاهرة الشذوذ، بما فيها القتل والحرق، ومن ثم انتقل إلى عقوبة السجن والغرامة، وبعدها أكتفى بالغرامة فقط، إلى أن خلص، في أحدث تحولاته، إلى تشريع القوانين التي تحمي الشذوذ. لكنه لم يكتف بذلك، فذهب نحو مرحلة أشد خطورة، وهي الترويج للشذوذ والدفاع عنه، في سلوك يبدو أن مريديه والمدافعين عنه قد أعلنوا الحرب على الفطرة البشرية، وعلى كل الديانات والأعراف والتقاليد التي عرفها الإنسان واتفق عليها الحكماء والعقلاء. 

***

د. عدي حسن مزعل

وإشكالية تهديد تماسك الأسرة والمجتمع بالتفكك

مع تسارع تأثير تداعيات العصرنة في مجريات الحياة اليومية المعاصرة للناس، ومن خلال وسائلها المفتوحة في كل الاتجاهات، وبلا قيود، ازدادت المناكفات اليومية في حياتنا الأسرية، والمجتمعية، حتى أضحت تهدد وحدة صف العائلة والمجتمع بالتفكك، بعد أن تعمقت مشاعر الإنفلات والتسيب، وبما باتت تتركه من مفاعيل مؤذية، نفسيا، ومنهكة إجتماعيا.

ولاريب أن تداعيات العصرنة السلبية، بما أفرزته من وسائل الإتصال الرقمي، على كل إيجابياتها، من انغماس الجيل، آباء وأبناء، في فضائها، وما تركته من عزلة بين أفراد العائلة، وداخل أفراد الوسط الاجتماعي العام، قد عمقت حالة التفكك، ووسعت الفجوة بين الناس، وألغت ترادف الأجيال بين الناشئة والآباء؛ مما خفف من جذوة التفاعل بالحضور الوجاهي الحقيقي، وأضعَف صميمية العلاقة الحميمة التقليدية بين أفراد الأسرة ببعضهم البعض، وبين أفراد المجتمع من جهة أخرى، وذلك بسبب التنشئة الخاطئة، وغياب دور الآباء والأمهات، في الإشراف العملي المباشر على تربية الأبناء، وإهمال مراقبة سلوكياتهم، وغض النظر عن مدى تطابقها مع معايير الصلاح، والتصرف الرشيد.

ولعل من الملاحظ على سبيل المثال، ان ظاهرة الانغماس الكلي في فضاء الواقع الافتراضي، قد أفضت إلى استلاب إجتماعي نتيجة انفصال المستخدم تدريجياً، عن واقعه الحقيقي، متمثلاً بعزله عن أسرته، وانفصاله عن أصدقائه، ومجتمعه، بعد أن حل محله، الاندماج التام بالواقع الافتراضي الجديد، الذي انغمس فيه. وهكذا فقد باتت هذه الظاهرة تشكل مصدر قلق للمجتمع، ولمؤسساته التربوية، والتعليمية معاً، بل وحتى الدينية، بعد أن أوشكت هذه الظاهرة ان تعزل المستخدم، وتقصيه عن أداء واجباته الدينية، والاجتماعية.

ولا ريب أن تسلل الواقع الافتراضي الجديد إلى حياة الناس، ليحل محل الواقع الحقيقي لهم، قد بات يطرح من بين الكثير من التداعيات السلبية، محاذير إشكالية التفاعل مع المحتوى الهابط، الذي يطرح للتداول عبر منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، مع أنها ليست هي من يصنع هذا المحتوى، لكنها تظل، مع ذلك، وسيلة نقل المحتوى، الذي قد تقف وراءه أوساط غير منظورة، لها مصلحة في صنع المحتوى، أو فبركته، بالطريقة التي تخدم مصالحها الخاصة، دون مراعاة لمشاعر المستخدمين، أو ملاحظة لمعايير الأخلاقيات العامة للمجتمع، حيث تنجح مثل تلك الفبركة، في كثير من الأحيان، في تغيير القناعات، والتأثير في المزاج الجمعي العام للمجتمع، بشقيه، الافتراضي، والحقيقي، وفقا لأغراض تلك الأوساط، وما قد يترتب على ذلك بالمحصلة، من منعكسات اختلاط الرؤى، وتشويش القناعات، والتأثير في السلوك.

 وهكذا فنحن اليوم، شئنا أم أبينا، أمام تداعيات ضاغطة باتجاه تفكيك الأُسرة، وهدم المجتمع، سواء من خلال ما باتت هيمنة الإنترنت تتركه بالإدمان على استخدامها، او التفاعل مع محتوياتها الهابطة، ناهيك عن الدعوات الأخيرة، لشرعنة ثقافة الشذوذ الجنسي المنحرف عن الفطرة الإنسانية، والقوانين السماوية والأرضية، والترويج لها، ومحاولات دعمها، سياسيا وفكريا وقانونيا، من قبل أطراف دولية، من خلال سعيها المستمر لتقنين حقوق الشواذ، بذريعة حقوق الإنسان، والحرية الشخصية، مما سينعكس سلبا على تماسك الأسرة، بسبب الانحلال الأخلاقي، والتسيب، وضعف الانضباط داخل الأسرة، والمجتمع، في نفس الوقت، ولتكون بذلك عامل هدم مضاف، في كيان الأسرة، والمجتمع.

 ولا ريب أن مثل هذه التداعيات السلبية، ستكون لها آثارا حادة، تنخر في كيان الأسرة، وتهدم أركان المجتمع، لاسيما وان الكثير من مجتمعات اليوم تعاني من إشكاليات التفكك العائلي والاجتماعي، بسبب المساوئ الناجمة عن ضعف آليات التربية للأبناء داخل الأسرة، وغياب الدور الاجتماعي، والتربية الدينية المتوخاة، في تحصين أفراد الأسرة، ضد كل أشكال الانحلال الأخلاقي والقِيَمي، والانحراف عن صراط الله المستقيم .

ولذلك يتطلب الأمر الانتباه إلى مخاطر التداعيات السلبية لمخرجات العصرنة، والحرص على تقوية الوازع الأخلاقي، وتقوية الوازع الديني لدى أفراد الأسرة ابتداءً، والجيل الصاعد من الشباب، بقصد التحصين، وذلك لغرض النأي بهم عن مسارات التسيب، والانحلال، والضياع، والانغماس في مواقع التواصل الرقمي الضارة، وبالشكل الذي يضمن الحفاظ على وحدة الأسرة، ويعزز استمرار تماسك المجتمع، ويديم أواصر التواصل الاجتماعي الحقيقي المباشر وجها لوجه، ويحد من ظاهرة العزلة والانحدار الأخلاقي، وذلك من خلال اعتماد نهج المسؤولية الجمعية في التربية .

وهكذا يتطلب الأمر الحرص على التوعية الدينية اجتماعيا، ومدرسيا، وإعلاميا، لتعزيز المعايير التربوية الفاضلة بين أفراد الأسرة والمجتمع، والارتقاء بمستوى ثقافة الآباء والأبناء، والحرص على تعميق ثقافة تماسك الأسرة فكرا وسلوكا، وبالشكل الذي ينعكس إيجابا على إرساء وتعميق دعائم المجتمع الرشيد الذي ننشده.

***

نايف عبوش

زميل عزيز كتب لي عاتباً على إلحاحي غير المبرر - كما قال - على دور العقل في التشريع، ومساواته بالنص، فكأنه لم تبق في العالم قضية غير هذه، وكأن أحوالنا كلها صلحت واستقامت، فلم يبق سوى هذا.

والحق أني لم أجد جواباً مناسباً على عتاب الصديق. لكني تساءلت عن الداعي للعتاب، مع أن جدل العقل والنقل دائر منذ قرون. ولم أعرف الجواب في أول الأمر. ثم تذكرت لاحقاً أن زميلي لا يتحدث عن «دور العقل» على النحو المتعارف في مجامع العلم الشرعي، بل يركز خصوصاً على ما زعمته من تنافر بين العلم والدين. ويهمني التذكير بأن هذا هو قلب إشكالية العقل والنقل، في رأيي.

علاقة الدين بالعلم، تبدو عند عامة الناس محسومة. لكنها في واقع الأمر محكومة بفرضيات متوهمة. وسأعرض هنا لواحدة منها، وهي الفرضية القائلة بأنه لا خلاف مطلقاً بين العلم والدين، والدليل عليه الآيات والروايات التي تبجل العلم وأهله، فضلاً عن تبجيلنا للعلماء الذين عرفهم تاريخ الإسلام القديم.

ولهذه الفرضية نصيب من الحقيقة، على المستوى النظري البحت. لكنها تستعمل دائماً في الموقع المضاد للنظرية. وهذا سبب وصفها بالوهم؛ لأننا نتحدث في مستوى الفعل الواقعي اليومي للناس، وليس في مستوى المجردات.

يعلم القرَّاء الأعزاء أن المجتمع الديني يطلق وصف «العالم» على دارس العلوم الشرعية فقط. فالطبيب والمهندس والفيلسوف والفيزيائي واللغوي وأمثالهم، لا يعدّون - في العرف الديني - علماء.

- لكن... ما الداعي لهذه الإشارة؟

هذه الإشارة مهمة؛ لأن مدارس العلم الشرعي تعدّ العلم حجة على صاحبه. فلو علمت باتجاه القبلة مثلاً، وجب عليك الاتجاه إليها في الصلاة، حتى لو خالفك جميع الناس. حجية العلم من القواعد المشهورة في أصول الفقه. لكن - وهنا يأتي دور العرف المذكور سابقاً - جرى التعارف على أن تلك الحجية محصورة في العلوم التي يألفها طلاب الشريعة، وهي عدد قليل جداً، أبرزها علوم اللغة، فقول اللغوي عندهم حجة في فهم النص. ويميل الأكثر إلى قبول رأي بقية العلماء في تشخيص موضوعات الحكم، وليس أدلة الحكم. ومنه مثلاً قبول رأي الطبيب في تحديد قدرة المريض على الصوم أو عدمها. لكنهم لا يقبلون رأيه أو رأي غيره من حملة العلوم الحديثة، في الأمور التي تحدث فيها قدامى علماء الشريعة، مثل عدد سنوات الحمل، وتحديد سن البلوغ والرشد، وتعيين أوقات الصلاة وإثبات الهلال، والشهادة في القضاء. كما لا يقبلون رأيه إذا تعلق بأدلة الأحكام (وليس موضوع الحكم). ومن هنا فهم لا يقبلون رأي عالم اللسانيات أو الفيلسوف في تفسير النص أو تأويله. ولا يقبلون رأي عالم الاقتصاد في تحديد المفيد والضار من المعاملات المالية والمصرفية. كما أنهم يرفضون – من حيث المبدأ – أي بحث يعتمد معايير ومناهج العلم الحديث، في موضوعات مثل المساواة بين الذكور والإناث، في الحقوق والواجبات، وأمثالها.

هذه الأمثلة، وهي قليل من كثير، توضح المسألة التي بدأت بها، وهي أن نقاشنا في دور العقل في أمور الدين، لا يتعلق بالموازنة بين العقل والنقل، كما يفهمه غالب الناس، بل بالتناقض الحاصل بسبب ادعاء بعضهم امتلاك العلم وتبجيل أهله، بينما يرفضون أي علم غير العلم الذي ألفوه واعتادت عليه نفوسهم. والحق أن العلم دليل على الواقع، وصفاً أو تفسيراً، فينبغي أن يكون - بذاته - حجة مقبولة في أي أمر شرعي، كي يبقى الدين متصلاً بالواقع. ولو قبلنا بهذه القاعدة، فسوف ينفتح الباب لتطورات عظيمة في الفكر الديني وفي القانون.

***

د. توفيق السيف - السعودية

هذا السؤالُ يحتاج منّا الى وَقفَةٍ وَتَأَمُلٍ، فهل الانسانُ كائنٌ مُتَفَرِّدٌ في خصائِصِهِ وسماتِهِ كَنَوعٍ مُتَمَيِّزٍ أَم أَنَّهُ جزءٌ لايتجزأ من أفرادِ المملكةِ الحيوانيَّةِ والاختلاف في الدرجةِ فقط؟ القول الثاني قالَ به التطوريُّون وَأَتباع نظرية التطور وَكُلُّ من قالَ بقولهم. أَمّا القولُ بِتَفَرُّدِ الانسان وتَمَيِّزِهِ فقد أكَدَتْهُ الابحاثُ العلمية، حيثُ اكدت أنّ الانسانَ يتميّز بتَفَرُّدٍ مُذهل عن سائر أفراد الحيوان، فهو متفردٌ في دماغهِ وخصائصه وحجمه وقدرته الهائلة في التفكير والاستنتاج. وهو متميزٌ بعقلهِ الذي هو ظاهرة انسانيّة متفردة ؛ فانَّ العقلَ الذي هو مشتقٌ من عقلَ بمعنى ربطَ، أي ان الانسانَ هو الكائن الوحيد الذي بامكانه ان يربط بين الاحداث المتسلسلة ويستنتج منها نتائجَ هائلة، وكذلك الانسان له قدرة على الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، وهذه خاصيَّة انسانيَّةٌ ؛ فالحيوانات لاتأريخ لها ولامستقبل وليس بامكانها أن تصنعَ حضارةً وتقيمَ مجداً .هناك خصائصُ كثيرةٌ يتفردُ بها الانسان عن سائر افراد الحيوان، وهذا يؤكد على التفرد الانسانيِّ، وان هذا التفرد ليس تفرد درجة، اي درجة في سلم التطور، وانما هو تفرد نوع مختلف لهُ خصائِصُهُ ومزاياه.

الانسان كائنٌ مُتَفَرِّدٌ في القُرآنِ الكريمِ

الانسانُ - وبعيداً عن النظرةِ الداروينيَّة - التي تختزلهُ في جانبهِ الحيواني، وتعتبرهُ كائناً حيوانيّاً يختلفُ عن سائر الحيوانات بالدرجة فقط لابالنوع . وكذلك بعيداً عن النظرةِ التي تجعل الانسانَ شيئاً من الاشياء، اي تختزله في عالم الاشياء.

 فانَّ النظرةَ القُرآنِيَّةَ تُعلي من قدر الانسانِ وتتحدثُ عن تَفَرُّدِهِ،  الله تعالى خلق الانسان بيديه، وهذا تعبيرٌ عن التكريم والا فالله تعالى ليس له يدان كاليدين المتعارفتين:

(قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ).ص: الاية:(75).

واسجد الله له ملائكته :(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ). الحجر: الاية: (30).

والله تعالى كَرَّمَ هذا الكائن مميِّزاً له عن سائرِ أفرادِ الحيوان:

(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ). الاسراء: الآية:(70).

وعلمّهُ الله البيان ليبين عمّا في نفسه يقول الله تعالى:

(عَلَّمَهُ الْبَيَانَ).الرحمن: الآية: (4).، وَعَلَّمَهُ مالم يعلم:

(عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ).العلق:الآية:(5). وعلَّمَه بالقلم، والتعليم بالقلم خاصيَّةٌ انسانِيَّةٌ تفَرَّدَ بها الانسانُ، يقول الله تعالى:

(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ). العلق:الآية:(4).

القرآنُ الكريم يُعلي من قدرِ الانسانِ ويطرح بقُوَّةٍ تَفَرُّدِهِ عن سائر الحيوانات بل عن سائر الاشياء في هذا الوجود؛ لانَّ الله ارادَ لهُ أن يكونَ سيدَ الوجود وخليفة الله في هذه الارض .

***

زعيم الخيرالله

ما هو السلوك البشري:  كيف ندرس ونفهم السلوك البشري وما هي الحاجة لدراسة السلوك البشري، دراسة البشر هو أصعب شيء حدث منذ بداية الزمن. ولماذا هو صعب؟ لأن البشر لا يتبعون المسارات التنبؤية تماما مثل العلوم الكيميائية أو العلوم الفيزيائية، حيث تتبع الذرات والجزيئات والكواكب والأجسام الأخرى قوانين معينة ويمكن دراستها. لا يمكن دراسة البشر وفقا لقوانين الكون المحددة، والسبب هو أن البشر يريد دراسة البشر وهذه واحدة من المشاكل الأساسية التي نواجهها بصدد هذه الدراسة ولذا فإن علم دراسة الإنسان مثير جدا للاهتمام، أحد أكثر القوى الاولية التي أراد البشر السيطرة عليها هو السيطرة على البشر الآخرين. وهذا مثير للاهتمام للغاية لأنه تخيل انك حصلت على فرصة أو أصبحت لديك القدرة على التحكم في الآخرين، يمكن أن يفعل ذلك المعجزات حيث يمكننا التحكم في فكر الآخرين، يمكننا الدخول في أذهان الآخرين، يمكننا التنبؤ بما سيفعله الآخرون وسيكون عالما أجمل بالنسبة لمن يحصل على ذلك، لكن المشكلة هي أننا لا نملك هذه القوة. لذا فإن أفضل خيار ممكن، وهو قريب جدا من السيطرة على الآخرين هو دراسة السلوك البشري. وهو في الأساس علم احتمالي. لذا ما يمكننا فعله هو ملاحظة ما يفعله أشخاص معينون في مواقف معينة وبناء على ذلك نقوم بعمل تنبؤات حول كيفية رد فعل شخص ما في فترة زمنية معينة وهذا هو علم النفس. تلك الأساليب، تلك الطرق، تلك التقنيات التي تساعدنا في الواقع على فهم أنفسنا. وهذه قوة عظيمة جدا، القدرة على فهم البشر. لفهم لماذا يفعل البشر ما يفعلونه، وما هي نتائج كل ما يفعله الشخص أي دراسة السلوك البشري.

 دعوني أعطيكم مثالا، وأخبركم بما يمكن أن يفعله علم النفس. لنفترض أنه لم يكن الطلاب في مجتمع معين قادرين على التركيز في الدراسة والحفظ. وهكذا قرر المجتمع المحيط بهم أن يساعدهم على الدراسة. إذن ما الذي يمكن أن يفعله المجتمع؟ جاءت سلسلة مطاعم بيتزا إلى معلمي المدارس وعرضت عليهم المساعدة قائلة إن الطلاب الذين يؤدون أداء جيدا جدا في امتحاناتهم، سيحصلون على رموز من قبل المعلمين. ويمكن بعد ذلك استبدال هذه الرموز في وقت لاحق بخصومات على البيتزا والبيتزا طعام يحب الناس تناوله. وهكذا تم تطوير هذا النوع من العروض، وما حدث بالفعل هو أن الطلاب بدأوا الدراسة والأداء الجيد في امتحاناتهم واستبدالها بالبيتزا أو للحصول على خصومات على البيتزا . كان هذا الشيء جيدا جدا لأن الأطفال بدأوا يدرسون أكثر فأكثر مع مرور الوقت. بعد فترة من الزمن ولأن هذه الشركات هي شركات ربحية لذا قرروا أن يوقفوا هذا العرض، لتقديم البيتزا. وبمجرد توقف عروض البيتزا هذه، فأن أداء الطلاب، وقدرة الطلاب على الدراسة، نزل الى الادنى. بدأ أداء الأطفال يضعف. وهكذا كان هذا أحد الأمثلة لإظهار أن التحفيز الخارجي والتعزيز الخارجي أو المكافأة يمكن أن تجعل الأشخاص يؤدون أداء أفضل في مهام معينة. ما حدث هو فكرة أنهم سيحصلون على شيء جيد، سيحصلون على شيء يستحقونه، سيحصلون على شيء يريدونه، البيتزا جعلتهم يعملون بجد أكبر في اختباراتهم ويكسبون علامات جيدة. هذا مثال لإظهار ما يمكن أن يفعله علم النفس. لذلك عندما كان الطلاب غير قادرين على الأداء أو لم يكونوا على استعداد لأداء جيد في الامتحانات، تم دفعهم أو ربطهم باستخدام نظرية التعلم. هذه المكافأة المستحقة لديها القدرة على جعل الناس يؤدون أداءا أفضل وأيضا بعد فترة زمنية معينة عندما تم ايقاف المكافأة، كان أداء هؤلاء الأطفال أكثر سوءا.

تم تمديد هذا المشروع حيث تم أخذ مجموعتين من الأطفال وكل مجموعة من الأطفال أعطيت بعض المهام، بعض الألغاز الرياضية للعب بها. الآن بدأت كلتا المجموعتين من الأطفال في اللعب بهذه الألغاز وبعد فترة من الوقت، تم منح مجموعة واحدة من الأطفال مكافأة بالفعل والمجموعة الأخرى من الأطفال لم يحصلوا على مكافأة على الإطلاق وبدأوا في اللعب بمفردهم. مرت فترة زمنية معينة وبعد ذلك تم إيقاف المكافأة. وقد تبين أن الأطفال الذين حصلوا بالفعل على مكافأة لأداء أفضل، انخفض أدائهم بشكل حاد. من ناحية أخرى، الذين لم يمنحوا أي مكافأة ولعبوا في المهمة بمفردهم، فإن أداءهم كان على المستوى الأمثل. لم يكن هناك انحراف، لم يكن هناك تغيير في أدائهم. بعد مرور بعض الوقت، أعيدت المكافآت مرة أخرى إلى هؤلاء الأطفال وتبين أن الأطفال الذين لم يحصلوا عليها عندما يتم منحهم مكافأة لاحقا، يؤدون على مستوى عال جدا، ثم الأطفال الذين حصلوا بالفعل على مكافأة ثم منعوا المكافأة، ثم تم منح المكافأة. ماذا يمكن أن يكون السبب؟ والسبب هو أن الأطفال، الذين لم يحصلوا في الواقع على مكافأة في البداية، بدأوا في الاستمتاع بالمهمة، ولم يكونوا يقومون بالسلوك أو لم يلعبوا بالمهمة فقط من أجل البيتزا أو لمجرد المكافأة التي أعطيت لهم. كانوا يلعبونها لأنهم أحبوها، وبالتالي عندما تمت إضافة مكافأة إليها  زاد الأداء. ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أن المكافأة تزيد بالفعل من الأداء .

هل العلامات التي يحصل عليها الطلاب هي مكافآت أيضا؟ وهل يجب إعطاء الناس علامات، لأنه إذا أعطيت فأداء الناس سيكون أفضل. هل يجب منح الناس درجات أعلى لأداء أفضل؟ الجواب الواضح هو لا. هذه العلامات التي يحصل عليها الناس ليست في الواقع مكافأة لأن المكافآت التي تحصل عليها ثابتة وبالتالي فإن العلامات التي تحصل عليها ليست في الواقع مكافأة والسبب هو أن العلامات التي تحصل عليها تعتمد على أدائك. كلما كان أداؤك أفضل، كانت العلامات أفضل. لذا فإن العلامات ليست شيئا يعطى لك أو يعطى للناس بأي طريقة موحدة كما كانت البيتزا التي أعطيت كمكافأة للأطفال. لنفترض أنه تم إعطاء شريحة واحدة للجميع، ولكن فيما يتعلق بالعلامات التي نحصل عليها في الامتحانات، فهي ليست علامات مماثلة للجميع. العلامات مشروطة أو تعتمد على كيفية أدائك وبالتالي فإن العلامات ليست جزءا من المكافأة إنها في الواقع مقياس لأدائك وهذا هو السبب في أنها ليست مجزية.

ما هو علم النفس؟ ما سنفعله هنا هو تعريفكم بمفاهيم ما هو علم النفس، ما الذي يفعله علم النفس وما هي طرق القيام به وما هي مجالات علم النفس وما هي المشاكل الفرعية لعلم النفس.

مجالات علم النفس مثل دراسة الذاكرة، دراسة الإدراك، دراسة الإحساس لأن كل هذه عمليات نفسية. الإحساس والوعي، الذاكرة والتعلم والتأثيرات الاجتماعية. كيف يتصرف الناس في المجتمع،كيفية دراسة الناس في مجموعة اجتماعية؟ ما هي الشخصية، ما هو الذكاء؟ كل هذه سوف تتحد معا في علم النفس.

تعريف علم النفس: كلمة علم النفس تأتي من كلمتين هي النفس، أو في بعض الأحيان يطلق عليها العقل. ولوغس أي علم لذا فإن علم النفس هو دراسة أو معرفة النفس. والسؤال هو، من أين بدأت؟ من أين بدأت فكرة علم النفس بأكملها؟ من الواضح أننا أثبتنا أنه علم. علم النفس هو علم. لماذا العلم؟ لأن علم النفس يفعل كل ما يفعله العلم. ماذا يفعل العلم؟ يعتقد علم النفس السابق أو أنصار علم النفس الأوائل أن علم النفس ليس علما، لكن الدراسة الحديثة لعلم النفس تقول إنه علم. بدأ علم النفس من الفلسفة وفي الفلسفة، الأسئلة الرئيسية. في القرن 4 و5 و6 كان اهتمامها يدور حول الوعي، حول فكرة الروح، حول فكرة العقل. وهذه هي الأسئلة التي كان الفلاسفة ينظرون إليها. لكن ما كانوا يفعلونه لم يكن علميا والسبب هو أنهم كانوا يقترحون نظريات. لذلك أشخاص مثل أرسطو وسقراط وفلاسفة آخرين، كانوا يقترحون نظريات، نوعا من بنوك المعرفة، لكن بعد ذلك لم يتمكنوا من وصف ما يدور علميا. وهكذا من الفلسفة ظهر فرع في علم أو مجال، والذي سمي فيما بعد بعلم النفس، وحاول هذا الفرع دراسة هذه المشكلات علميا. إذن في الأساس علم النفس هو دراسة العمليات العقلية والسلوك (التعريف). والسلوك هو أي فعل نقوم به. شخص ما غاضب منك، يأتي إليك ويصفعك ورد الفعل على هذا هو سلوكك. كيف تتفاعل مع ذلك هو ما يسمى السلوك وهذا السلوك يتأثر بأشياء كثيرة ويمكن أن يتأثر بتجاربك السابقة. يمكن أن يتأثر بحكمك على الموقف، على سبيل المثال إذا كان الشخص الذي صفعك، طويل القامة، أضخم منك. قد لا تفكر في ضربه مرة أخرى، ولكن إذا كان أصغر منك، يمكنك معالجة الموقف، وسوف تضربه مرة أخرى. لذلك هذا يعتمد بشكل أساسي على إدراك هذا السلوك للرد، على سبيل المثال بعض الأشخاص عدوانيون وهكذا إذا ضربتهم، فسوف يضربونك مرة أخرى. بعض الأشخاص ليسوا عدوانيين، هم أشخاص هادئون، لذلك سوف يفكرون مرة أخرى ثم سيتفاعلون لاحقا. لذا فإن فعل العودة إلى السلوك هذا يتأثر بأشياء كثيرة كما يتأثر بالعمليات المعرفية. على سبيل المثال، كيف ترى الموقف؟ ربما يضربك رئيسك، فأنت لا تريد أن تضربه لأنك تفكر في فقدان الوظيفة. ولكن من ناحية أخرى، إذا كانت شخصيتك مختلفة، فقد تضربه ولا تفكر في فقدان الوظيفة. ولذا فإن هذا السلوك أو فعل ضربه يتأثر بالعديد من الأشياء. لذا علم النفس هو في الأساس دراسة السلوك، وكيف نتصرف والعمليات الذهنية، وهذا هو السبب وراء ذلك. ما الذي جعلك تتصرف بهذه الطريقة؟ وهكذا علم النفس ليس فقط دراسة السلوك او ببساطة ما تفعله أو ببساطة كيف تتصرف، ولكن أيضا دراسة العمليات العقلية او التفكير الذي ادى إليها، نوع الخيال الذي كان لديك، نوع عوامل حل المشكلات، عمليات التفكيرالتي تحدث عندك قبل القيام بالفعل.

علميا، إذن ما فعله علم النفس هو تطوير طرق لدراسة الروح والوعي. الآن ما هي الروح؟ كانت فكرة الروح مرتبطة ارتباطا وثيقا بفكرة العقل لأن الروح لا تستطيع إظهار نفسها، وبالتالي فالعقل هو الأكثر وضوحا. لذا فإن مظهر أو فعل الروح أو أي شيء تريده الروح كان في الواقع ينعكس على شيء يسمى العقل اوالذهن. وما أراد الفلاسفة القيام به هو دراسة الروح.  ما فعله علم النفس هو دراسة هذا الذهن. كما كان الوعي مرتبطا بهذا العقل. الوعي هو في الأساس مدى إدراكك لميزاتك الخارجية، بيئتك الخارجية. والدراسة العلمية للعقل والوعي هي ما فعله علم النفس لكن المشكلة مرة أخرى هي كيف أدرس العقل؟ لأنه لا يوجد تركيب مادي يسمى العقل. أو أن الروح تسقط نفسها على الذهن، وفعل الذهن هو ما تريد الروح فعله. لكن لا توجد طريقة لدراسة العقل. إذن كيف ندرس الذهن؟ أو دراسة ما يفعله العقل، لا يمكن القيام به إلا من حيث السلوك. لنأخذ مثالا، أريد أن آكل شيئا،عقلي يقول أن آكل شيئا. الآن كيف أعرف أن هذا ما يريده العقل؟ لذا فإن الطريقة الوحيدة لفهم ما هو العقل هي في الواقع ما هو السلوك. لذلك إذا قلت إنني أريد أن آكل شيئا ما، فإن سلوكي سيصفه. لذلك أنا ذاهب إلى منفذ للطعام، وشراء شيء ما وتناول الطعام هو في الواقع مظهر من مظاهر العقل لأن العقل يريدني أن آكل شيئا والروح تريد أن يخبر العقل الجسم أن يفعل شيئا أو أن يتصرف وفقا لذلك يقوم الجسم بسلوك يتوافق مع العقل لذا علينا أن ندرس السلوك وهذا ما فعله علم النفس. درس علم النفس السلوك الذي اعتقدنا أنه مظهر من مظاهر العقل. هذا الإسقاط في الأساس كان من الروح. لذا فإن دراسة الروح أو العقل من حيث السلوك هو إنجاز علم النفس.

***

د. احمد المغير

كان يرتعش من الخوف، حين يُفكر بما سيقوله للخليفة عن خطته التي لم تنجح في وقف فيضان نهر النيل، يَّجمع شجاعته وفصاحته ويبدأ بمراجعة ما سيقوله امام الحاكم بأمر الله المعروف عنه حدة المزاج، توقف قليلاً، أيقن ان الحكم عليه سيكون شديداً، ليس أقل من قطع رقبته عقابا له على فشله .خمسة شهور من البحث والتقصي والدراسة ستكافأ بتعليق جثته على احدى بوابات المدينة . قال لأحد مساعديه: " اتركني وحدي يبدو أن الحمى تسيطر على جسدي " . كان قد وصل الى مصر بدعوة من الخليفة بعد ان قيل له ان هذا العالم البصري لديه خطة لتنظيم جريان نهر النيل، وإبعاد شبح الفيضانات عن المدن . ويخبرنا القفطي في كتابه اخبار الحكماء- تحقيق ابراهيم شمس الدين - ان الحسن بن الهيثم قال ذات يوم -: " لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملاً يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقصان، فأرسل اليه حاكم مصر جملة من المال وارغبه في الحضور، فسار نحو مصر، ولما وصلها خرج الحاكم للقائه، وامر باكرامه، وطالبه بما وعد به من أمر النيل " . جلس إلى مكتبته ينظر الى الخرائط التي وضعا لمشروعه الفاشل، قال مع نفسه لابد من طريقة تمنع عني غضب الخليفة ، بعد ساعات من التفكير المصاحب للخوف صرخ: وجدتها !. خرج على عائلته والشحوب يملأ وحهه، انه يتصرف تصرفات غريبة، ويتحدث بكلام غير مترابط، قال احد مساعديه أن الاستاذ يفقد عبقريته، ورأته زوجته شخصا آخر .قال الجميع ان الخوف اصاب عقله بلوثة فاصبح مجنونا، ارتاح لأراء الناس فيه، فادعاء الجنون أفضل من قول الحقيقة . يتصرف بجنون اكبر، وتنتابه حالات من الهذيان . يسمع الحاكم بما جرى له، فيقرر ان يعزله من منصبه وتجريده من كل الامتيازات وحدد اقامته في منزله. ما كان " ابن الهيثم " يطلب أكثر من ذلك، حتى يتفرغ لكتبه، ومن عتمة الاقامة الجبرية تولدت نظرية التي سيقدمها في كتابه المناظر " – ترجمة وتحقيق عبد الحميد صبرة، وقد ترجم الى اللغة اللاتينية عام 1270 بعنوان " كنز البصريات "، ويعد هذا الكتاب اول مساهمة حقيقية في علم البصريات، وكان له تاثير كبير على كل من الفيلسوف الانكليزي فرانسيس بيكون ‏والالماني يوهانس كيبلر، وعلى بعض ما كتبه يوهان غوته في نظرية الالوان، وفي هذا الكتاب يصدر سلسلة من الشكوك على نظرية بطليموس التي كانت تقول ان اشعة الضوء تخرج من مقلة عين الشخص الرائي، وكان ابن الهيثم يسخر من هذه النظرية ويقول إذا كانت الاشعة تخرج من العين فلم لا نرى في الظلام . وهكذا نجد ابن الهيثم يضع نظرية للبصر ايضا اضافة الى نظرية الضوء، وكانت هذه المرة الاولى التي يتم الفصل بين النظريتين، حيث تمكن من الوصول الى استنتاج يقول ان ظاهرة الرؤية تحدث نتيجة انعكاس الضوء على الاجسام ودخول الضوء المنعكس الى العين وليس نتيجة مسح الاشعة الصادرة من العين لهذه الاجسام . يصف رشدي راشد كتاب المناظر بانه: " إحدى الإضافات الأساسية في تاريخ العلوم في كل الأزمنة، حيث نجح ابن الهيثم في عزل دراسة انتشار الضوء عن دراسة الأبصار، ما مكنه من استخلاص قوانين المناظر الهندسية، وكذلك قوانين المناظر الفيزيولوجية، كما مكنه أيضاً من أن يلج موضوع المناظر الفيزيائية. ولقد ترك هذا الكتاب بصماته على التاريخ بنتائجه العلمية وكذلك بتأثيره في علماء الحضارة الإسلامية وفي الكتابات اللاتينية ومؤلفات عصر النهضة والقرن السابع عشر الخاصة بهذا الموضوع" – دراسات في تاريخ العلوم العربية –،.ويكشف كتاب " المناظر " مقدرة ابن الهيثم في الطب بالاضافة الى الفيزياء، حيث يبدأ بدراسة تشريح وفسيولوجية العين ويتتبع عمل العين، ويصف بطريقة بارعة كل اجزائها، كذلك قدم عرضا موسعا لظاهرتي الخسوف والكسوف، وكان اول من قال ان ضوء القمر يستمد نوره من ضوء الشمس، ولا يضيء بذاته .

كان البحث في البصريات يُنظر اليه في العالم اليوناني هلى انه احد فروع الرياضيات شأنه شأن الفلك والميكانيكيا والموسيقى .واعتبره ارسطو من البحوث الرياضية " الأكثر قرباً من العلوم الطبيعية " – تاريخ العلم جورج سارتون -، فيما اعتبر ابن الهيثم البصريات بحثا مركبا من العلوم الطبيعية والعلوم الفلسفية حيث اعتمد في دراساته على المنهج التجريبي، فهو يكتب عند البحث في كيفية الابصار: " نبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح احوال المبصرات، وتميز حواص الجزئيات، ونلتقط باستقؤاء ما يخص البصر في حال الإبصار، وهو مُطرد، وظاهر لا يشتبه، من كثرة الاحساس، ثم نترقى في البحث والمقاييس على التدريج والتدريب، مع انتقاد المقدمات، والتحفظ من الغلط في النتائج " – كتاب المناظر –

في تاريخ الفكر اليوناني كانت هناك الكثير من المتناقضات عن موضوعة " الابصار "، فقد كانت هناك نظريتان في الفكر الاغريقي الأولى: نظرية سميت الانبعاثات التي تفترض أن الإبصار يحدث اعتمادا على أشعة الضوء المنبعثة من العين، وقد نادى بها إقليدس وبطليموس، أما النظرية الثانية: نظرية الولوج، التي تقول بدخول الضوء إلى العين بصورة فيزيائية كان قد أيدها أرسطو وأتباعه، فجاء ابن الهيثم ليضع تمييزا لاول مرة في تاريخ علم البصريات بين شروط انتشار الضوء وشروط رؤية الاشياء . ولم يعد للبصريات المعنى الذي كانت توصفه به سابقا: هندسة احساس . لقد اصبحت تتضمن جزءين: نظرية للرؤية تشارك بها فيزيولوجيا العين وسيكولوجيا للإحساس، ونظرية للضوء يرتبط بها علم هندسي للضوء وفيزياء للضوء .كما قدم ابن الهيثم أول وصف واضح وتحليل صحيح للكاميرا المظلمة والكاميرا ذات الثقب. وكان أول من نجح في مشروع نقل صورة من الخارج إلى شاشة داخلية كما في الكاميرا المظلمة .

أرسى كتاب "المناظر"، بالإضافة إلى فيزياء البصريات، أُسس علم نفس البصريات. وبرع ابن الهيثم في دراسة ظاهرىة الالوان التي راى انها ظاهرة طبيعية اولية لحاسة العين تتجلى مثل بقية الظواهر من خلال عملية الفصل والتضاد والمزج والربط، ويؤكد حركية الالوان وتبدلها وسرعة نشوئها واختفائها وارتباطها وانفصالها . وهو يرى ان هناك علاقة فعلية بين اللون والاحساس، فكل لون يؤثر في الوجدان تاثيرا واضحا، والانسان ينشرح صدره للون بصورة عامة، انه يحتاج الى اللون احتياجه الى الضوء، وكل لون يهيء لحالة نفسية خاصة .

وأكد ابن الهيثم خلال كتاباته ضرورة تطوير النظريات بالاعتماد على التجريب وجمع البيانات بديلا عن التفكير المجرد، وفي كتابه "الشكوك ضد بطليموس" قال "على دارس الكتب العلمية بهدف معرفة الحقائق تحويل نفسه خصما لكل ما يدرسه، إن اتباع الدارس لهذا المسار يضمن كشفه للحقائق".

***

إن سيرة " ابو علي الحسن بن الهيثم " قصة عن مواجهة المعاناة، كما هي حياة الكثير من الفلاسفة في تاريخ الفكر الانساني ، إلا ان ابن الهيثم كان يدرك ان المعاناة توحد البشر جميعا، وان الطريقة المثلى للتغلب عليها ان نتجاوز معاناتنا من خلال التعليم، كان يصنع نفسه بنفسه عن طريق العمل المتواصل والمثابرة، يصفه ابن ابي اصيبعة: " كانت نفسه تميل إلى الفضائل والحكمة والنظر فيها، ويشتهي أن يتجرد عن الشواغل التي تمنعه من النظر في العلم. فأظهر خبالاً في عقله وتغيراً في تصوره وبقي كذلك مدة حتى مكن من تبطيل الخدمة، وصرف من النظر الذي كان في يده. ثم إنه سافر إلى ديار مصر، وأقام بالقاهرة في الجامع الأزهر بها. وكان يكتب في كل سنة إقليدس والمجسطي ويبيعهما، ويقتات من ذلك الثمن " - عيون الأنباء في طبقات الأطباء تحقيق عامر النجار -

الطفل الذي ولد باحدى ضواحي مدينة البصرة في الاول من تموز عام 965 م وجد صعوبة في اكمال تعليمه، فقد توفى والده وهو صبي، وكان عليه ان يعمل ليعيل امه وشقيقته، كان ضعيف الجسد، قصير القامة اصيب بعدد من الامراض، لكنه تغلب عليها، شعفه بالتعليم دفعه لان يذهب الى سوق الوراقيين للحصول على بعض الكتب، قلة المال والعمل في النهار جعلته يفكر أن يعمل ليلا عند احد الوراقين ينسخ الكتب، كانت هذه حياته الثانية كما سماها، يمسك الورقة يخط عليها حروفا، ويستمر في هذا العمل سنوات، حتى اصبح من اشهر النساخين . يكتب ابن القفطي في اخبار الحكماء: " سمعت ان ابن الهيثم كان ينسخ في مدة سنة ثلاثة كتب، فإذا انتهى من نسخها جاء من يعطيه فيها بعض النقود، وكان يجعلها مؤنة لسنته "، واثناء عمله في مهنة النسخ كان يَّدرس كتب الفلاسفة الاغريق ويضع ملخصات لها وشروح ويضيف لها بعض اراءه . في العشرين من عمره ينشر كتابه الاول " الجامع في اصول الحساب " مما يلفت انظار والي البصره اليه، فيطلب منه ان يترك مهنة نسخ الكتب ويلتحق للعمل في ديوان الولاية، لم تمض شهور قليلة في عمله الجديد، حتى وجد نفسه غريبا على المكان، فقد اعتاد مهنة نسخ الكتب التي تتيح له القراءة والبحث، فيقرر ان يقطع علاقته بالوظيفة: " ان الحياة الحقة هي التي نقضيها بين الكتب " . قال لاحد اصحابه الذي حذره من غضب الحاكم، فرفض الوظيفة يعني عصيان للاوامر، ولم يكن هناك من سبيل سوى مغادرة البصرة ليلا، والفرار الى بغداد، هناك يتفرغ للكتابة والقراءة ويعود لنسخ الكتب، كان ابن الهيثم يعلق اهمية كبيرة على دراسته للفلك ، فقد كان يسعى الى تأسيس علم فلك جديد قائم على مبادئ التناسق بين الواقع المادي للعالم الذي نعيش فيه وعلم الرياضيات، وقد كان يسخر من الحديث عن الحركات الخيالية للكواكب كما كتب عنها بطليموس . ليضع اسسا جديدة لعلم الفللك العربي الذي اراد من خلاله ان يبرهن ان التراث الفلكي اليوناني يعاني من العيوب ومن التاقضات وعلى حد تعبير المؤرخ سيد حسين نصر فان الابداع الذي قدمه ابن الهيثم يعد: " الاكثر اهمية والابرز بعيدا عما جاء به بطليموس من آراء ونظريات في علم الفلك .. وان الابتكار الذي توصل اليه كوبرنيكوس في علم الفلك موجود بالفعل في اعمال الحسن بن الهيثم ونصير الدين الطوسي " – العلوم في الاسلام ترجمة مختار الجوهري.

كان التشرد صفة لازمت ابن الهيثم، فما ان وجد فسحة من الاستقرار والعمل في بغداد حتى تعرض الى محنة جديدة وهذه المرة بسبب كتابه " في علم الهيئة " حيث اثار الكتاب حفيظة رجال الدين الذين وجدوا فيه زندقة وخروج على ثوابت الدين لانه يتعرض لحركة الكواكب، ولم يكن هناك من خيار سوى الهروب من جديد وهذه المرة الى يلاد الشام، حمل معه كتبه وقليلا من المال يكفيه لاشهر لانه اعتاد على حياة الزهد، قرر ان يتفرغ للكتابه فانجز كتابه " حل شكوك اقليدس " ويخبرنا ابن النديم ان سمعة ابن الهيثم سبقته الى الشام، حيث يقرر احد الامراء ان يمنحه بعض الاموال لمساعدته رفض ذلك فائلا: " يكفيني قوت يومي، فما زاد على قوت يومي إن امسكته كنت خازنك وإن انفقته، كنت قهرمانك، ووكيلك، وإذا اشتغلت بهذين الامرين فمن الذي يشتغل بامري وعلمي ."، في دمشق يبدأ بحوثه عن السدود والفيضانات ويطرح فكرة بناء سد على النيل .

بعد سنوات من العزلة في القاهرة، تأتي الاخبار بوفاة الحاكم بامر الله، فيقرر ابن الهيثم الخروج من منزله، لقد تحرر اخيرا من الخوف، ولم يعد هناك سببا لتمثيل حالة المجنون، ويستطيع الآن ان يواصل عمله، يلقى عناية واهتمام من شقيقة الحاكم بامر الله " ست الملك " التي كانت وصية على العرش .. يسكن في مسكن صغير قرب الجامع الازهر، ويتفرغ لدراسة الرياضيات وينخرط في اعمال تتعلق بعلم الضوء، ويواصل عمله بنسخ الكتب، يعاني من تكاثر الامراض وسوء حالته الصحية ،، صاب بضعف في البصر، في العام 1039 تشتد عليه امراض الشرايين ، فتضعف قدرته على العمل شيئا فشيئا، ليتوفي في السادس من اذار عام 1040 م . قبل ان يتم عامه الخامس والسبعين بشهور قليلة .

***

قليل من المفكرين والعلماء العرب من قاموا بمهمتخم بجدية وصمت وانعزال كامل عن العالم كما فعل الحسن بن الهيثم، فرغم فقره وحاجته الى المال، لكنه كرس حياته للفكر إيمانا منه بأن ما تقدمه المعرفة للانسان من يقظة للعقل تجعله يتغلب على مصاعب الحياة ، ولهذا نجد ان الاعمال التي قدمها تزحر بحيوية فائقة من خلال طرحها موضوعات تثير الجدل وتساهم في تنمية الفكر العلمي، يكتب المستشرق دي بور: " ابن الهيثم احد اقطاب الرياضيين والطبيعيين العرب، وكان عالما ايضا بالطب وبسائر علوم الاوائل خصوصا فلسفة ارسطو " – تاريخ الفلسفة في الاسلام ترجمة محمد ابو ريده - .كان ابن الهيثم قد استنتج ان الانسان ليس بحاجة حقيقية إلا لاشياء قليلة تساعده على العيش . وقد اقترح أن نفكر في ممتلكاتنا من زاوية الحد الادنى الذي يسمح لنا بالاستمرار بدلا من تكديس الاموال . وكان يرى ان المال امر لا موجب له، لأنه لا يفيدنا في تطوير عقولنا . وعلى غراره الفارابي الذي كان يقدر اعماله الفلسفية كثيرا، كان يحب العزلة لأنه يرى فيها تمرين للعقل .كما ظل يردد ان الفلسفة اقصر الطرق لمعرفة الحق: " خضت ضروب الاراء والاعتقادات وانواع علوم الديانات فلم احظ من شيء منها بطائل، ولا عرفت منه للحق منهجا ولا الى الرظا اليقيني مسلكا جديدا، فرأيت انني لا اصل الى الحق إلا من آراء يكون عنصرها الامور الحسية وصورتها الامور العقلية . فلم اجد إلا فيما قرره ارسطوطاليس . فلما تبينت ذلك افرغت وسعي في طلب علوم الفلسفة وهي ثلاثة: علوم رياضية وطبيعية والهية .. ثم شفعت جميع ما صنعته برسالة بينت فيها ان جميع علوم الامور الدنيوية والدينية هي من نتائج العلوم الفلسفية " – الحسن بن الهيثم بحوثه وكشوفه مصطفى نظيف - .وهكذا نجد ابن الهيثم يرى ان الفلسفة وحدها التي باستطاعتها حل المسائل الدينية والعلمية والحياتية، وهو رأي يناقض الكثير من اراء الفلاسفة المسلمين الذين حاولوا الجمع بين الفلسفة والدين .

يوصف ابن الهيثم بانه فيلسوف علمي، فقد كان يرى ان المنهج العلمي القائم على المراقبة والتجربة هو المنهج الذي يجب ان يتبعه الفلاسفة الامر الذي دفعه الى نشر كتابه: " ثمرة الحكمة " – تحقيق عمار الطالبي – والذي تناول فيه تعريف الحكمة، ومدى اهميتها في حياة المجتمعات، ثم يتطرق الى مسائل مثل السعادة والخير، وموضوعة الانسلن الكامل، إلا ان المسالة المهة التي ناقشها ابن الهيثم هي دور الجانب التربوي في صياغة العقل البشري، ذلك انه ينصح بأن التعليم ينبغي ان يبدأ بالرياضيات اولا ثم المنطق ثانيا، فتكوين العقل كي يُعد للتفكير تفكيرا منطقيا، لا بد ان يبتعد عن التلقين والحشو والحفظ، فالرياضيات تعلم الصدق وتطرد الخرافات وانها: " علم به يصفو ذهن الانسان وتتهذب اخلاقه، نفي الاشياء التي لا حقائق لها، وإثبات الاشياء الحقيقية " – ثمرة الحكمة ابن الهيثم -، وهذا يعني ان غرض الفلسفة هو السعي الى نشر الحق والعمل به وتهذيب الأخلاق واشاعة المدنية، لأنّ صناعة الفلسفة كما يصرح بابن الهيثم " هي صناعة بها يرتاض المبتدئ في معرفة البرهان حتى تثبت في نفسه صورته، ولا يقبل من البراهين التي تعرض عليه إلا ما طابق ذلك البرهان وساواه "، والفلسفة التي قوامها الرياضيات والمنطق تساعد الانسان في بناء خطاب يتسّم بالدقة والصرامة والتماسك، وهي تنفع أيضاً في تدبير شؤون الإنسان. ولهذا يرى ابن الهيثم ان الانسان لا يمكن له ان يُصبح كاملا إلاّ إذا سار في افعاله وفق مقتضيات العقل، فالموجود الحقيقي إنما هو الموجود العقلي، لا الموجود الحسي ويعود ذلك في رأيه الى سببين احدهما ان الحواس كثيرة الاخطاء، والسبب الثاني ان الاشياء المحسوسة ليست لها حقيقة ثابتة . فالعقل اداة الفلسفة، لذلك يجب ان لا يستهان بقيمته ابدا . وبما ان وظيفة الحقيقة قيادة البشرية الى الخير والسعادة، فلا ينبغي اهمال دور العقل . كما ان العقل يجب ان يتحرر من الفردية الضيقة ليؤسس لعلاقة ممكنة مع الآخرين، فتهذيب العقل والنفس ليس نشاطاً معزولاً عن الآخرين، بل يفترض رباطاً اجتماعياً، ولا يكون ذلك ممكناً إلا إذا كان حياً ونابضاً بالحياة.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

توطئة: ما يدهشك.. يحيرك.. يؤلمك.. ان العراقيين (يتونسون) اذا وجدوا قضية خلافية.. فتراهم يخطّأون هذا ويصوبون ذاك، ويسخرون من هذا ويشيدون بذاك.. آخرها انهم قولوا (الجندرية) ما لم تقله.. وانهم ساووها بالمثلية! وصارت حديث منصات التواصل الاجتماعي والصحف ايضا في حال وصفه الدكتورعماد عبد اللطيف سالم بمقالته في المدى (لا أدري من.. أو ماهي الجهة، أو الجهات.. التي تُثير هذه الموضوعات في العراق، وتفتحُ بين فئات المجتمع العراقي المختلفة، جبهات حربٍ هي في غنى عنها، وكأنّ هذا المُجتمَع (المنقسِم أصلاً على نفسه)، لا يملِك من أسباب الخلاف والانقسام، ما يفيضُ عن حاجتهِ بكثير).. وكأن الجندر خطر قادم على العراق، في حال يبدو فيه ان العراقيين اصيبوا بما اصيب به السياسيون، فكما ان السياسيين صاروا على مدى العشرين سنة الماضية.. خالقي ازمات، فان العراقيين صاروا خالقي اشكاليات.. لا يرتاح فيها الفريقان ما لم تكن هناك ازمة او اشكالية!.. اوصلت الطبيب النفسي جميل التميمي الى ان يقول للجميع  (يا اخوان الامر ليس بهذا الشكل.. الحقيقة الطبية هي ان كل انسان من منظور جنسي يولد بشكلين)، فيما وصفتها مذكرة بعنوان عن الجندر والحريات والعدالة الاجتماعية وقعها اكثر من الف شخصية وطنية بأنها (حملة مسيسة قادتها قوى نافذة بالدولة وشخصيات ودوائر قريبة منها تقدم الجندر بوصفه تهديدا اخلاقيا خطيرا للمجتمع وتقويضا حقيقيا لمعنى العدالة و هدما للدين عبر ربط متعسف ومغلوط ومتعمد لهذا المفهوم بالمثلية والالحاد والتحول الجنسي)، اوصل الحال الى (اشو حتى الرادود الحسيني صار يحجي بالجندر!) بتعبير الدكتورة احلام شهيد التي كتبت لي تقول بان هذه الحملة ستؤدي الى المزيد من الفوضى والاتهامات والتسقيط والتجهيل بدعاوى بعيدة عن الحقيقة ولغة العلم.. فإحدى مهام الجندر، بتعبير الكاتب ماجد الغرباوي هي: (تأسيس وعي مختلف، يستعيد إنسانية المرأة بعيداً عن الدونية البايولوجية)، فيما شاعت الفكرة بين العراقيين عن (الجندره) بقول الشاعر الشعبي قاسم علوان (توني عرفت الجندره، لا هو رجل لا هو مره & زلمه الصبح بالديوان، بالليل حلوه محمره)!

ولأن الموضوع هو من اختصاص الأطباء النفسيين وعلماء النفس والأجتماع، فان هذه المقاله تهدف الى القاء الضوء على هذه (الأشكالية) من منظور علمي خالص.

الجندر (Gender) تحديد مفهوم

يعني مصطلح (الجندر) شعور الإنسان بنفسِه كذَكَر أو أنثى، ويشير الى الخصائص او الصفات الاجتماعية التي يتصف بها: الرجال، النساء، الاولاد، والبنات.. وتشمل التصرفات (السلوك) والأدوار الخاصة بكل من المرأة، الرجل، البنت، والولد .. والعلاقات فيما بينهم. ويقصد به النوع الأجتماعي او الحالة التي يكون فيها الرجل او المرأة بعلاقته المحددة بالأدوار الأجتماعية والثقافية التي يراها المجتمع مناسبة للرجال والنساء. ولأن الجندر مصطلح اجتماعي ثقافي، فأنه يختلف من مجتمع الى مجتمع آخر باختلاف التقاليد والثقافات والقيم والأنماط الفكرية التي يحددها المجتمع والخاصة بالجنسين، وعلاقاتها بالدين والعرق والطبقة الاجتماعية.

بتعبير آخر.. يعني الجندر (Gender) البعد الاجتماعي الحضاري لمفهومي الرجل والمرأة في المجتمع والخبرة النفسية للفرد من حيث كونه ذكرا أو أنثى، فيما يعني الجنس (Sex) البعد البيولوجي - الطبي للخصائص الجسمية (شكل الأعضاء الجنسية) التي تميز بين الذكر والأنثى.

بمعنى ان الجندر مصطلح يوضِّح الفروق بين الرجل والمرأة الناجمة عن الدور الاجتماعي المنوط بهما، والمنظور الثقافي والوظيفة لكلٍّ منهما الناجمة عن عوامل دِينيَّة وثقافيَّة، وسياسية واجتماعية صَنَعها البشر عبرَ تاريخهم الطويل يمكن تجاوزها في إطار المساواة بين الرجل والمرأة. والغالب أن يكون " جندر " الفرد و" جنسه " متشابهان، ويحصل أن بعض الأفراد الذكور بيولوجيا يشعرون نفسيا بالأنوثه ويكرهون أدوارهم الذكورية، وبعض الأناث يشعرنّ نفسيا بالذكوره ويكرهن أدوارهن الأنثوية. وان الهُوية الجندرية ليستْ ثابتة بالولادة (بحسب الموسوعة البريطانية) فهناك حالات لا يرتبط فيها شعور الانسان بخصائصة العضوية، بل تؤثِّر فيها العوامل النفسية والاجتماعية بتشكيل نواة الهُوية الجندرية، وتتغيَّر وتتوسع بتأثير العوامل الاجتماعية، كلما نما الطفل.

مؤتمرات الجندر

في العام 1975 انعقد المؤتمر العالمي الاول للمرأة في مكسيكوستي ترامناً مع السنة الدولية للمرأة، وأصدر اعلانا دعى فيه الى المساواة بين الرجل والمرأة، وطالبهن بالمساهمة في التنمية والسلام الدوليين. وفي العام 1980 انعقد في كوبنهاكن المؤتمر الثاني ناقش الفجوة بين المبادئ والتطبيق وانتقد الجهات الناشطة في الدفاع عن حقوق المرأة بأنها تحمل المبادئ دون التطبيق ودعى الى ممارسة الحقوق التي أُقرها المؤتمر الأول، والتوكيد على المساواة في فرص التعليم والعمل والخدمات الصحية.وفي العام 1985 انعقد المؤتمر الثالث في نايروبي وأكد على مقدار قياس التطور في المساواة بين الرجل والمرأة على الصعيد الدستوري والقضائي، والمشاركة الاجتماعية والسياسية في عملية صنع القرار.وفي 1995عقد المؤتمر الرابع في بكين وكان اهمها حضره أكثر من 17 الف مشارك و6 الاف مندوب حكومي واكثر من 4 الاف ممثل عن منظمات المجتمع المدني وحفل المؤتمر بمظاهرة اعلامية حضره 4 الاف صحافي وصحافية.ووقعت عليه 189 دولة وافقت على اعتماد مبدأ المساواة بين الجنسين .ودعى المؤتمر الى توحيد جهود دول العالم نحو تمكين المرأة، والتركيز على مبدأ النوع الاجتماعي لتحقيق كامل حقوقها من خلال تقسيم الحقوق والوضائف بينها وبين الرجل، فدعى المؤتمر الى اعادة الهيكلة الأساسية للمجتمع ومؤسساته وتقسيم الادوار والوضائف بين أعضاء المجتمع استناداً للنوع الاجتماعي، وأقر منح الافراد الحق في التحكم بشؤونهم الجنسية واتخاذ القرارات بشأنها بما فيها الصحة الجنسية والانجابية بلا أكراه ولا تمييز ولا عنف. فاصبحت الدول الموقعة على هذا الاعلان ملزمة بأحترام الحقوق الانسانية لجميع النساء وحمايتها والايفاء بها بغض النظر عما اذا كن مثليات أو ثنائيات أو متحولات الى الجنس الأخر او مخنثات او ميالات الى الجنس الاخر. وتشمل الحقوق الجنسية للمرأة؛ (السلامة الجنسية والاستقلال والخصوصية والاختيار) وهي دعوة للدول الى توفير خدمات الأجهاض للنساء الى المدى الكامل الذي تسمح به قوانينها الوطنية.

وفي اعقاب المؤتمر أصدرت منظمة العفو الدولية بياناً في اذار من عام 2010 ورد فيه؛ ان منظمة العفو الدولية تدعو جميع الحكومات الى اعادة التأكيد على التزامها التام باحترام الحقوق الاساسية للمرأة التي عبّر عنها اعلان ومنهاج عمل بيجين والوثيقة الختامية لعام 2000 وأعيد التأكيد عليها في الاعلان السياسي لعام 2005 وحثت منظمة العفو الدولية جميع الحكومات وغيرها من الفاعلين المعنيين بحقوق المراة على تنفيذ القرارات بصورة عاجلة وملحة،  وجاء البيان على ذكر التوصيات الثمانية المتصلة بحقوق المرأة.

المشكلة في .. سيمون!

في 1949 اصدرت الفرنسية سيمون دي بوفور كتابا بعنوان (الجنس الآخر) اعلنت فيه أن الرجل يمارس على المرأة سطوة عاطفية اوصلها الى ان تعاني من اضطهاد قاس، وأن الأنثى تتحوّل إلى امرأة ضمن واقع ذكوري متسلّط تشكّلت شخصيته انطلاقًا من مفهوم السلطة التي وضعت ملامحها وحدودها السلطة الاقتصادية عبر العصور. وترى أن تحرر المرأة رهين بمدى استطاعتها تغيير الصورة التي ينظر بها الرجل لها ولخصائصها الجسدية والنفسية، ومدى تحررها من الموروث الثقافي السلبي. ودعت الى ان تتحرر المرأة من هوية مستلبة صنعها الرجل،  يكون بقدرتها على الخروج من أصفاد الصورة النمطية التي صنعها المجتمع.

وبرغم ان (الجندر) كمصطلح ظهر في سبعينيات القرن الماضي الا ان كثيرين يرون ان سيمون هي التي مهدت للتنظير في مفهوم "الجندر". ويبدو لنا ان احد الأسباب للموقف السلبي لمفهوم الجندر في الدول الأسلامية، يعود الى انه مرتبط اصلا بأمرأة فرنسية وجودية متمردة اسمها سيمون.. مرتبطة بعلاقة غير شرعية وغير اخلاقية بشخص غير مرّحب به في العالم الاسلامي اسمه سارتر!

اتفاقية سيداو Cedaw

في 18 كانون الاول/ ديسمبر 1979 اعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة عن توقيع 190 دولة بضمنها 20 دولة عربية بينها العراق على اتفاقية حملت عنوان سيداو وترجمته: (القضاء على كافة أشكال التمييز ضدّ المرأة)، تضمنت ثلاثين مادة الزمت الدول الموقعة عليها بتنفيذها بدءا من 1981. وقد تصدرت الاتفاقية حيثيات بـ(11 اذ).. بدأتها:

(إذ تلحظ (الدول الموقعة عليها) أن ميثاق الأمم المتحدة يؤكد من جديد الإيمان بحقوق الإنسان الأساسية، وبكرامة الفرد وقدره، وبتساوي الرجل والمرأة في الحقوق)

وانتهت:

وإذ تدرك أن تحقيق المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة يتطلب إحداث تغيير في الدور التقليدي للرجل وكذلك في دور المرأة في المجتمع والأسرة،

وختمتها.. وعليه:

فان الأطراف الموقعه قد عقدت العزم على تنفيذ المبادئ الواردة في إعلان القضاء على التمييز ضد المرأة، وعلى أن تتخذ، لهذا الغرض، التدابير التي يتطلبها القضاء على هذا التمييز بجميع أشكاله ومظاهره،

وجاء في المادة الأولى منها:

لأغراض هذه الاتفاقية يعنى مصطلح "التمييز ضد المرأة" أي تفرقة أو استبعاد أو تقييد يتم على أساس الجنس ويكون من آثاره أو أغراضه، توهين أو إحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية أو في أي ميدان آخر، أو توهين أو إحباط تمتعها بهذه الحقوق أو ممارستها لها، بصرف النظر عن حالتها الزوجية وعلى أساس المساواة بينها وبين الرجل.

وقد امتدح مختصون بالشريعة الاسلامية عددا من مواد هذه الاتفاقية (بدعوتها القضاء على التحيزات ومكافحة جميع اشكال الأتجار بالمرأة.. .) ووصفوها بأن الأسلام سبقهم في ذلك وانه اعطى للمرأة حقوقا كاملة في اربعة مجالات: الأنساني، الأجتماعي، الأقتصادي والقانوني، والأسري.. ويستشهدون بآيات قرآنية وأحاديث نبوية (النساء شقائق الرجال.

وانتقدوا عددا من موادها بينها المادة الأولى في تفسيرهم لـ(التمييز) بانه يعبر عن الظلم والأجحاف اكثر مما يعبر عن التفرقة والأختلاف، وانه ليست كل تفرقة ظلما، بل ان العدل-كل العدل- يكون في التفرقة بين المختلفين، كما ان الظلم- كل الظلم- في المساواة بينهما والتفرقة بين المتماثلين، فالمساواة ليست بعدل اذا قضت بمساواة الناس في الحقوق رغم تفاوت واجباتهم وكفايتهم واعمالهم، فليس من العدل والانصاف، او المصلحة، ان يتساوى الرجال والنساء في جميع الأعتبارات، مع التفاوت في الخصائص التي تناط بها الحقوق والواجبات.

ويرى آخرون أن الاتفاقية .. مبدؤها ومنتهاها، ولحمتها وسداها، هو المساواة المطلقة والتماثل التام بين الرجل و المرأة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والرياضية والقانونية ونحوها، وهذا مبدأ مجانب للصواب، مخالف لظاهر الكتاب، وصريح السنّة وما استحسنته العقول السليمة وقرّرته الفطرة القويمة.

وانها تتجاهل في مادتها الرابعة الاختلافات الفسيولوجية؛ إذ أنها تحظر وضع معايير خاصة بالمرأة، وتسمح فقط بوضع قوانين مؤقتة خاصة بالمرأة للإسراع بتحقيق المساواة وعندها تصبح ملغاة.

ويرون انها دعت في مادتها الخامسة الى القضاء على الأدوار النمطية للمرأة، ولا تعني بها دور الأم المتفرغة لرعاية أطفالها فحسب، بل تعني كذلك أنه يمكن أن تقوم أسرة غير نمطية من أنثيين، كما يمكن أن تقوم من رجلين وفي هذا إقرار للشذوذ الجنسي.. اوصل الى اشكالية (المثلية الجنسية) ما اذا كانت جريمة او فاحشة او حق شخصي.. سنتناوله في مقالة قادمة.. بعد ان اوضحنا ما للجندر وما عليه.. بهدف ايقاف هذه الضجة الجندريه!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

اكاديمي وكاتب

تعبِّر المصطلحات الغربية (الرومانسية) المترجمة الى العربية عن الانجليزية أو الفرنسية ترجمة حرفية، لتوصيف الشذوذ الجنسي، كالمثلية، والمثلي، ومجتمع الميم، والميل المماثل، والعاطفة المطابقة، والخلل الهرموني، والتحور الجيني، والأقلية الجنسية، وغيرها؛ تعبِّر عن توصيف ثقافي غربي منحاز للشذوذ، بهدف تحبيبه الى النفوس، وتكريسه كظاهرة اجتماعية طبيعية، على غرار المصطلحات العربية (الرومانسية) الجميلة الشهيرة الأُخر، المترجمة عن الإنجليزية، كالاستعمار ( (colonization، في توصيف الاحتلال، والنوع الاجتماعي (Gender) في توصيف اللاجنس. وبالتالي؛ فإنّ التوصيفات الغربية التنظيرية لمظاهره وسلوكه، إنّما هو أمر بديهي وطبيعي بالنسبة للغرب، لأنها تعبِّر عن هوية الغرب وتفاعلات بيئته المحلية، وهي بالنسبة لهم لا تمثل نحتاً قبيحاً للمصطلحات، بل ولادات تلقائية لمخاضات محلية.

هذه المصطلحات هي ترجمة حرفية للمصطلحات الأصلية عن اللغة الإنجليزية أو الفرنسية، مثل: (Gender minority) بمعنى الأقلية الجنسية، و((homosexuality بمعنى المثلية، و(homosexual) بمعنى المثلي، و(LGBT) الذي هو اختصار لعبارة: (community Lesbian Gay Bisexual Transgender)، بمعنى مجتمع المرأة المثلية والرجل المثلي والمخنثين والمتحولين جنسياً.

وإذا كان المثقف والأكاديمي والكاتب والصحفي والسياسي الغربي، يتداول هذه المصطلحات ويرددها بعفوية، انسجاماً مع طبيعة بيئتهم العلمانية الليبرالية التي أنتجتها؛ فلماذا يقوم العربي والمسلم بتداولها والترويج لها، دون تمحيص وتدقيق في خلفياتها الاجتماعية الثقافية ودلالاتها المحلية، ليتحول الى مرآة عاكسة للفعل الغربي؟. فهذا الدور الببغاوي الذي يمارسه العربي والمسلم، وخاصة النخب الثقافية والدينية، إنما هو خضوع إرادي أو لا إرادي لمخرجات الغزو الثقافي الغربي.

وأقدِّر إن الملتزمين دينياً، الذين يستخدمون هذه المصطلحات العربية المترجمة، لا ينطلقون من القبول بالدلالات الاجتماعية الثقافية الغربية لهذه المصطلحات، بل ربما استسهالاً للقبول بالمصطلحات الغربية وعدم الالتفات لدلالاتها، أو غفلةً ناتجة عن الانسياق اللاشعوري وراء ضغط الدعاية والإعلام والثقافة والسياسة الغربية. وهذا الاستسهال أو الغفلة، تشبهان القبول باتفاقيات المنظمات الدولية بشأن (الجندر= (Gender، بمعنى النوع الاجتماعي أو الجنس الاجتماعي، أو (اللاجنس) بمعنى أدق، وأهمها اتفاقية (سيداو) دون الالتفات الى بعض مضامينها الخطيرة، المتعارضة مع بديهيات الشريعة الإسلامية.

***

د. علي المؤمن

شهدت السنوات القليلة الماضية تطورات كثيرة في التعليم العالي في الدول العربية فقد زادت معظم الدول من الإنفاق على التعليم العالي كنسبة من إجمالي نفقاتها العامة، بالرغم من ان هذه الزيادات لم تكن كافية لتحقيق الحد الأدنى من الجودة، وشهدت ارتفاعا في نسبة الملتحقين بالتعليم العالي، مع تفاوت واضح بين الدول العربية، لكنها مازالت دون دول كالولايات المتحدة الأمريكية (92%) وبريطانيا (52%) واليابان (45%).

ويبدو واضحا، وعلى الرغم من احراز بعض التقدم في مجال توسيع التعليم العالي وزيادة الانفاق عليه، ان العملية التعليمية تعاني عددا من اوجه الخلل والقصور التي تحد من فاعليتها وقوة التأثير التي يفترض أن تؤديها. كما انه أصبح من غير الواضح الإجماع على رؤية موحدة نحو تحديث وتطوير أهداف هذه العملية. وأن نظرة المجتمع والرأي العام للتعليم العالي يعتريها نوع من الارتباك وعدم الوضوح وتصل أحيانا إلى الاعتقاد بعدم فاعلية هذه العملية في تحقيق التغيير والتنمية المطلوبة، واعتبار الجامعات مجرد استمرارية للمدرسة وهدفها منح شهادات عليا في اختصاصات وظيفية ومن دون ان يكون لها دور اجتماعي ومصداقية في نشر وانتاج المعرفة.3579 محمد الربيعي

هناك مشاكل مزمنة وتحديات وصعوبات متعددة في تحسين جودة التعليم تواجه الجامعات العربية، بالرغم من وجود اختلاف كبير بينها. بعض الدول العربية تسعى لتطوير جامعاتها وتحصل على ترتيب عالمي مميز، في حين تراوح او تتراجع جامعات أخرى في مستواها. لكن هذه الجهود تصطدم بعوائق عديدة، تتطلب اصلاحات وسياسات فعالة للتغلب عليها.

ولعله من الممكن اجمال ما يعترى هذه العملية من خلل في عدد من المظاهر، أهمها:

- عدم توافق مخرجات التعليم مع احتياجات سوق العمل

- التركيز على الكمية على حساب النوعية

- ضعف جودة التعليم العالي والبحث العلمي ونتائج التعلم

- ضعف التمويل والتخصيص للأنشطة التعليمية والبحثية

لمواجهة هذه التحديات، يتطلب تعاون جميع الأطراف المعنية، وتحديث المناهج والبرامج التعليمية، وتوفير فرص التدريب والتأهيل للطلاب والخريجين، وتشجيع روح المبادرة والإبداع والريادة، وتوفير بيانات وإحصاءات دقيقة عن سوق العمل. كما تتطلب تغيير الثقافة السائدة التي تنظر إلى الجودة على أنها مجرد اجراءات روتينية أو مسؤولية محدودة، وتشجيع تطبيق نظام ضمان الجودة يستند إلى المراجعة المؤسساتية والبرامجية، والتعاون الدولي والتبادل العلمي، وتوفير الموارد والبيئة المناسبة للطلاب والباحثين. هذه الخطوات من شأنها أن تساهم في رفع مستوى الجامعات العربية، وتحقيق التنمية المستدامة في المجتمعات العربية، ولابد ان تؤدي نواتج طرحها ومناقشتها وتحليل اسبابها ومعالجتها الى:

- تحسين جودة التعليم

- زيادة الشفافية والحوكمة وتحسين معايير الجودة والمساءلة

- تحسين التواصل بين الجامعات العربية والمؤسسات الأكاديمية في العالم

- تحديد اوضح للأهداف والأولويات اللازمة لتحسين جودة التعليم العالي في الجامعات العربية ولضمان تلبية احتياجات المجتمع وسوق العمل.

من الواضح ان التحديات التي تواجه الجامعات العربية لتحقيق الجودة في التعليم العالي هائلة، وتحتاج إلى التصدي لها ومجابهتها لتلبية احتياجات التنمية، ولكنها تحديات ليست مستعصية على الحل. إذ يمكن التغلب على هذه التحديات من خلال الشراكة والتعاون على جميع المستويات، في العالم العربي وخارجه على حد سواء، فليس من الضروري أن نضحي بالجودة لمجرد تحقيق زيادة في عدد طلبة الجامعات.

من ضمن التحديات التي تواجه مؤسسات التعليم العالي العربية عدم وجود تناسب بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل. هذا التحدي يؤدي إلى استفحال ظاهرة البطالة وسط الشباب الخريجين، ويقلل من فرصهم في المشاركة الفاعلة في التطور الاجتماعي والثقافي والسياسي. وفقا لتقارير منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي (OECD)، فإن معدلات البطالة بين خريجي التعليم العالي في المنطقة العربية تصل إلى 25%، مقارنة بـ 8% على المستوى العالمي. كما أن نسبة كبيرة من الخريجين يشغلون وظائف غير متناسبة مع تخصصاتهم أو مستوى مؤهلاتهم، ما يؤثر سلبا على جودة أدائهم وإنتاجيتهم. أسباب هذا التحدي تكمن في عدة جوانب، منها:

- عدم توافق المناهج والبرامج التعليمية مع احتياجات سوق العمل المحلية والإقليمية والدولية، وانحصارها في المجالات التقليدية والنظرية دون التركيز على المهارات العملية والابتكارية والرقمية.

- عدم توفير فرص كافية للتدريب المهني والتطبيقي لطلاب التعليم العالي، سواء داخل المؤسسات التعليمية أو خارجها، بالتعاون مع القطاعات المختلفة.

- عدم اشتراك القطاع الخاص في تجويد التعليم وتحديثه، وضعف دوره في توظيف الخريجين وتأهيلهم لسوق العمل.

- عدم تشجيع روح المبادرة والإبداع والريادة لدى طلاب التعليم العالي، وضغطهم نحو اختيار التخصصات ذات الطلب المرتفع دون مراعاة اهتماماتهم وقدراتهم.

- عدم توفير بيانات وإحصاءات دقيقة ومحدثة عن سوق العمل واحتياجاته وتوقعاته، وعدم تبادلها بين الجهات المعنية بالتعليم والتوظيف.

لمواجهة هذا التحدي، يتطلب تضافر جهود جميع الأطراف المعنية بالتعليم والتوظيف، ووضع استراتيجيات وسياسات وبرامج تهدف إلى:

- تحديث المناهج والبرامج التعليمية لتتوافق مع متطلبات سوق العمل المتغيرة، وتنويعها لتشمل المجالات الحديثة والمطلوبة، مثل العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM)، والذكاء الاصطناعي، والاقتصاد الأخضر، والبيئة والمياه، وغيرها.

- تعزيز التدريب المهني والتطبيقي لطلاب التعليم العالي، من خلال إنشاء مراكز تدريبية متخصصة داخل المؤسسات التعليمية، أو توفير فرص التدريب في الشركات والمؤسسات ذات الصلة بالتخصصات المختارة.

- تشجيع القطاع الخاص على المشاركة في تجويد التعليم وتحديثه، من خلال دعم المشاريع التعليمية المبتكرة، أو تقديم منح دراسية أو فرص عمل للخريجين المتميزين، أو تقديم استشارات أو تقارير عن احتياجات سوق العمل.

- دعم روح المبادرة والإبداع والريادة لدى طلاب التعليم العالي، من خلال تنظيم مسابقات أو مهرجانات أو مؤتمرات تبرز مشاريعهم وأفكارهم، أو تقديم تسهيلات أو حوافز لإنشاء مشاريع صغيرة أو متوسطة.

- إنشاء نظام معلومات شامل عن سوق العمل، يضم بيانات وإحصاءات دقيقة ومحدثة عن الفرص والتحديات والتوقعات في كافة المجالات، وإتاحته لجميع الجهات المعنية بالتعليم والتوظيف.3580 محمد الربيعي

هناك نوع اخر من التحديات تكمن في ازدياد أهمية الحوكمة في التعليم العالي والبحث العلمي، في ضوء التغيرات التكنولوجية والاجتماعية السريعة، خاصة التعليم الرقمي والذكاء الاصطناعي. وبالرغم من وجود بعض الإنجازات والمبادرات التي تهدف إلى تطوير هذا المجال في بعض الدول العربية، ولكن توجد تحديات كبيرة تتعلق بانعدام الرؤية والاستراتيجية، وضعف المساءلة والشفافية، والخلل في الموازنة بين الاستقلالية والتنظيم، وضعف سياسات التنوع والإدماج والإنصاف، والعجز على التعاون والابتكار والتكيف مع المتطلبات المتغيرة. تتطلب مواجهة هذه التحديات وحل المشاكل المرتبطة بها مهارات وكفاءات وأساليب تربوية جديدة لجميع أصحاب المصلحة المعنيين، مثل الطلاب والتدريسيين والباحثين والإداريين وصانعي السياسات والمجتمع ككل. يحتاج أصحاب المصلحة هؤلاء إلى أن يكونوا قادرين على استخدام الأدوات الرقمية وأنظمة الذكاء الاصطناعي بشكل فعال، لتقييم جودتها وموثوقيتها بشكل نقدي، والتعاون عبر التخصصات والقطاعات، وابتكار حلول جديدة وخلقها، والمشاركة في عمليات صنع القرارات الديمقراطية والشاملة. لذلك، يجب أن تكون الحوكمة في التعليم العالي والبحث العلمي مستجيبة وقابلة للتكيف وتشاركية، من أجل ضمان جودة وملاءمة واستدامة التعليم والبحث في العصر الرقمي. في هذا السياق، من الضروري اتباع نهج محوره الإنسان تجاه الذكاء الاصطناعي ويحترم حقوق الإنسان والقيم والكرامة.

خلاصة الامر، التعليم العالي في الدول العربية يحتاج الى اصلاح جذري وهذا يتطلب إرادة سياسية وقيادات وزارية وجامعية ملمة بالواقع والمتطلبات الكبيرة والتي من ضمنها مراجعة البرامج الدراسية وطرق التدريس وضمان الجودة والمواءمة مع سوق العمل. الإصلاح قد يكون خطيرا سياسيا واجتماعيا، وسيواجه مشكلات مثل الفساد والبيروقراطية ومقاومة التغيير. انه صعب أو مستحيل بسبب هذه العوامل، فلابد من تفكيك وتهديم بعض أجزاء النظام القديم لإعادة بناء التعليم العالي بشكل صحيح.

ويكمن الاصلاح المنشود في ترسيخ أسس المنافسة بين التدريسيين داخل الجامعة وبين الجامعات، وتحقيق مبدأ استقلالية الجامعة وضمان الحرية الاكاديمية والانفتاح، واعتماد اسلوب الإدارة اللامركزية والمرونة التنظيمية والهيكلية بحيث تكون ملائمة لقبول التغيير السريع والمستمر، وتطوير التعاون الأكاديمي والعلمي مع جامعات الدول المتطورة، وتحقيق زيادة في التمويل وإيجاد مصادر أخرى للتمويل، وتنمية مستوى كفاءات ومؤهلات التدريسيين والباحثين، وتطوير المناهج وطرائق التدريس، وتأسيس نظام فاعل لتقيم الجودة، وتوفير الحوافز لكي تكون الجامعة مؤسسة لتكوين كوادر تلائم عصر اقتصاد المعرفة المدعوم بتكنولوجيا المعلومات، هذا بالاضافة الى التحول من التعليم الى التعلم، والتأكيد على نشاط الطالب وأنتاجاته من خلال أعادة إنتاج معارف الاخرين وإبتكار أخرى جديدة، وبناء المخرجات التعليمية على اساس "معرفة كيف" العملية في مقابل "معرفة لماذا" النظرية.

***

محمد الربيعي

بروفسور متمرس ومستشار، جامعة دبلن

مع انهيار الأيديولوجيات القومية والوطنية الجامعة لكل مواطنيها ومع تفجر الصراعات الطائفية والإثنية- القومية-والقبلية مع فوضى ما يسمى (الربيع العربي) تَشَذَّرَ الوطن والتبس مفهومه سواء عند المواطنين أو الأحزاب وأصبح انتماء المواطن لطائفته وقبيلته وليس للوطن والمجتمع الكلي، وأصبح نضال الأحزاب والنخب ليس من اجل الوطن بل من أجل السلطة، ليس سلطة الوطن وكل الشعب بل سلطة الطائفة والإثنية والقبيلة أو السلطة المطلقة للحاكم، فالوطن بالنسبة لهؤلاء هو وطن الشيعي أو السني أو المسيحي أو الأمازيغي أو دولة الخلافة أو وطن الحاكم وحاشيته، أما الآخرون فمجرد رعايا ومواطنين من الدرجة الثانية لأن كل دولة وسلطة طائفية هي سلطة عنصرية لا محالة.

 ليس بعد وصول هذه الجماعات للسلطة من جهد إلا للحفاظ عليها، وكل ما نشاهده ونسمعه عن ثورات وانقلابات وحروب أهلية ما هي إلا محاولات للحفاظ على السلطة أو الوصول لها حتى وإن كانت سلطة على جزء من الوطن وعلى حسابه، وليس من أجل الدولة الوطنية ومصلحة الشعب.

فأينما يممت النظر، في العالم العربي، أو الذي كان عربيا، من اليمن والعراق إلى لبنان وسوريا وفلسطين مرورا بالسودان وليبيا نشاهد دولا واوطانا تتدمر و تتجزأ بسبب الحروب الأهلية والصراع على السلطة حتى وإن كانت على جزء من أرض الوطن، وفي خضم هذا الصراع لا يتورع الفرقاء المتصارعون على طلب الدعم والاسناد من الخارج حتى وإن كان هؤلاء المُستعان بهم أعداء تاريخيين للوطن والدولة القومية و طامعين في أرضهم، هذا ما فتح المجال لتدخلات خارجية أفقدت الوطن والأمة حريتها واستقلالها، تدخلات من إيران وتركيا وأمريكا والغرب عموما وحتى من إسرائيل وهي تدخلات تتم غالبا بدعوة من الأطراف المتصارعة، فتكون النتيجة ضياع الوطن والتباس مفهومة.

فهل مفهوم الوطن والدولة عند الحوثيين في اليمن هو نفسه عند الحراك الجنوبي أو عند أحزاب السلطة الشرعية؟ هل مفهوم الوطن والدولة عند شيعة العراق نفسه عند البعثيين والسنة المُبعدين عن السلطة؟ هل مفهوم الوطن والدولة عند السلفية الجهادية في الجزائر أو عند بعض الأحزاب الامازيغية نفسه عند جبهة تحرير الجزائر وغالبية الشعب؟ هل مفهوم الوطن والدولة عند حركة حماس نفسه عند حركة فتح؟ هل مفهوم الوطن عند تنظيم القاعدة وداعش ومئات الجماعات الاسلاموية في أي بلد يتواجدون فيه نفسه مفهوم الوطن والدولة عند العلمانيين وغالبية أبناء الشعب؟ الخ.

أصبح لكل طائفة وجماعة دولة وسلطة داخل الدولة الأم، ففي لبنان دولة حزب الله، وفي العراق دولة الشيعة ودولة الأكراد، وفي اليمن دولة الحوثي ودولة عدن في الجنوب، وفي ليبيا دولة قبائل شرق ليبيا ودولة قبائل غرب ليبيا ودولة لداعش والجماعات الاسلاموية المتطرفة، وفي السودان دولة الدعم السريع وحلفائه من القبائل ودولة الجيش وجماعة البرهان ودولة دارفور وقبلهم دولة جنوب السودان، وفي فلسطين دولة حماس في غزة، وفي الجزائر يطالب أمازيغيون بدولة لهم في مناطقهم، وفي المغرب يطالب انفصاليون بدولة صحراوية في جنوب المغرب وكأن مجرد العيش في الصحراء يتحول لهوية وقومية ! الخ، وفي خضم كل ذلك يتحول الولاء من الدولة الوطنية الجامعة الى الطائفة والقبيلة.

في علم السياسية وفي الوضع الطبيعي فإن السلطة كأشخاص ومؤسسات وعلاقات سلطوية بين الحاكمين والمحكومين ليست الوطن، بل أداة تنفيذية للعمل على استقلال الوطن إن كان محتلا، وإدارته تطويره إن كان مستقلا، ولحمايته إن كان مهددا، ذلك أن هدف كل سلطة سياسية في أي مجتمع كلي هو تأمين المجتمع من المخاطر الخارجية وتحقيق الوفاق والانسجام الداخلي بين مكونات المجتمع، والسلطة أحد مكونات الدولة بالإضافة إلى الشعب والإقليم.

وفي جميع الحالات وبغض النظر عن مصادر شرعية السلطة السياسية القائمة يجب أن تكون العلاقة واضحة ما بين السلطة ذات السيادة والدولة والمجتمع، والانسجام بين هذه المكونات الثلاثة يُنتج ما يسمى الوطن كحاضنة مادية ومعنوية للمواطن وانتماء وشعور يحمله معه المواطن أينما حل وارتحل.

السلطة وحدها ليست وطنا والدولة وحدها ليست وطنا، فالمواطن يخضع لهما قانونيا ولكن بدون احساس بالانتماء وجدانيا، وحتى المجتمع قد لا يشكل وطنا لأبنائه في بعض الحالات، فكثير من الأفراد يشعرون بأنهم ساكنة وليسوا مواطنين حيث ينتابهم إحساس بالاغتراب الاجتماعي والسياسي في مجتمعاتهم ويتطلعون للهجرة للخارج.

في المجتمعات الديمقراطية العقلانية وحيث إن من يتبوأ مواقع السلطة منتخبين من كل شرائح المجتمع ويعبرون عن رغباته وتطلعاته ويستطيع الشعب التحكم في ممارساتهم ومراقبتهم وتغييرهم بالانتخابات وضغط الرأي العام الخ، فإن علاقة تصالحية توجد ما بين السلطة والمجتمع والدولة والوطن، وبالتالي فإن الأحزاب والقوى التي تتنافس أو تتصارع للوصول إلى السلطة لا تخرج عن إطار المصلحة الوطنية حيث يبقى التنافس والصراع ضمن ثوابت ومرجعيات الأمة.

صحيح أن السلطة تمنح امتيازات وتحقق مصالح للنخب الحاكمة ولا تخلو أحيانا من فساد واستغلال نفوذ، ولكن هذه النخب في المقابل تعمل من أجل المصلحة الوطنية أو الوطن بما هو المشترك بين كل مكونات المجتمع من أفراد وجماعات وثقافات فرعية واحزاب سياسية.

عندما نتحدث عن السلطة السياسية في الدول الديمقراطية إنما نتحدث عن أجهزة ومؤسسات عسكرية أو مدنية بيروقراطية ثابتة لا تتغير مع كل رئيس أو حزب جديد وعن نخبة سياسية حاكمة تعمل بتكليف من الشعب لفترة زمنية ثم تتغير لتحل محلها نخبة جديدة، دورة النخبة أو التداول على السلطة لا يسمح لمن هم في السلطة بترسيخ علاقات مصلحية أو طائفية دائمة حيث يوجد فصل ما بين السلطة والثروة ولا مكان للعصبوية الطائفية والاثنية حيث العلمانية والديمقراطية تنظم هذه الولاءات ومفهوم المواطنة يبطل مفعولها والقانون يكبح جماحها، وبالتالي فإن أصحاب الثروات والمكانات الاجتماعية الطائفية والعرقية في الغرب ليسوا أصحاب السلطة السياسية بالضرورة بل مجرد نخب اجتماعية واقتصادية وحتى إن تولوا السلطة فيحدث فصل بين إدارة ثرواتهم ومصالحهم الخاصة ومهامهم الوظيفية الرسمية،  أما في عالمنا العربي وحيث لا يوجد تداول على السلطة إلا ضمن نطاق ضيق، وحيث ان النخب الحاكمة تستمر لعقود فإن اقترانا وتداخلا يحدث ما بين السلطة والثروة، ولتحمي السلطة المقترنة بالثروة نفسها تلجأ للاحتماء بالطائفة والقبيلة ولإفساد كبار رجال الجيش والأجهزة الامنية وقادة الرأي العام من قادة أحزاب ومؤسسات مجتمع مدني ورؤساء تحرير أهم الصحف ورجال دين الخ، بالمال والامتيازات، كما تسعى لإنتاج نخب جديدة مستفيدة من السلطة القائمة لحمايتها وفي كثير من الحالات تكون نخب عائلية أو طائفية أو إثنية، وتصبح علاقة اعتمادية متبادلة ما بين الطرفين، ويصبح هدف السلطة والنخب التابعة ليس مصلحة الوطن بل الحفاظ على ما بيدهم من سلطة لأن السلطة هي التي تضمن الحفاظ على مصالحهم وحمايتهم من المحاسبة، وهذه الاطراف مستعدة للدخول في حرب اهلية ليس دفاعا عن الوطن بل دفاعا عن مصالحها، أو دفاعا عن وطن تضع السلطة مواصفاته ومرتكزاته بحيث يتماها مع السلطة وبالتالي يصبح المساس بالسلطة مساسا وتهديدا لهذا الوطن، وطن السلطة وليس وطن الشعب.

***

ا. د. إبراهيم ابراش

(مشروع من اجل مجتمع جديد)

"العقل الذكي شعاع من الضوء يريد لنفسه أن يشق العتمة ليضيء، فإذا أبيت عليه انطلاقة الحركة، انطفأ وانمحى"... زكي نجيب محمود (1993-1905)

مع حلول شهر سبتمبر تكون قد مرت ثلاثون سنة على رحيل المفكر زكي نجيب محمود وهو قمة شامخة وصاحب همة عالية وإرادة قوية وواحد من اساطين الفلسفة والثقافة العربية في القرن العشرين تميزت فلسفته بعمق التفكير والتحليل، وقوة النقد وروعة البيان وجودة التعبير وحسن التبليغ. تمثل القيم الأخلاقية والمبادئ الفلسفية فكرا وسلوكا لقد كان بالفعل عبقريا وصفه عباس العقاد بأنه: « فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، فهو مفكر يصوغ فكره أدبًا، وأديب يجعل من أدبه فلسفة»

جسد في كتبه القاعدة التي وضعها ابن رشد " كلما كان الأسلوب سهلا كان التلقي اسهل " فجاءت أقواله وافعاله نابضة بالصدق فسكنت القلوب قبل العقول، لقن لطلابه المنطق ومناهج البحث وكانت الفلسفة عنده منهجا للفكر منهج غايته تحليل الأفكار للوصول الى حقيقتها ونقلها من مجال التحليل والنظر الى مجال التطبيق والعمل، تصدى لمشكلات عصره - لاسيما المجتمع العربي- بفكر عقلاني حر ونظرة واقعية، تحليلا ونقدا، شرحا وتجديدا، فقد كان صاحب مشروع نقدي متكامل،امن بضرورة مواجهة الحياة بالجديد المبتكر، والله أراد لهذا الإنسان أن ينظر إلى الأمام، ومِن ثَم كانت أبصارنا في جباهنا، ولم تكن في مؤخرات رؤوسنا كما كان يقول زكي نجيب محمود .

فلسفته تقدس العقل ولا تتنكر للوجدان فلكل مجاله فهي فلسفة تنويرية تحررية فلسفة تمجد الوحي والعقل معا فللشرع التنوير وللعقل الاجتهاد ورؤية العقل في نظره هي مجال اليقين، وأما ميل العاطفة، فطريق معبأ بالضباب.بل انه إذا تعارض العقل وظاهر الشرع، أخذنا بما دل عليه العقل استنادا الى قول ابي حامد الغزالي: " إن لنا معيارًا في التأويل، وهو أن ما دل نظر العقل ودليله على بطلان ظاهره، علمنا ضرورةً أن المراد غير ذلك"

ونظرة العقلية التحليلية في فلسفة المرحوم زكي نجيب محمود تحيلنا الى ان مشكلات المجتمعات العربية والإسلامية هي في جوهرها مشكلات فكرية فلابد من ثورة فكرية سابقة لكل اصلاح سياسي او اقتصادي لأنه " لو كنا اكتفينا في الجانب السياسي بأن بدلنا حكومة بحكومة، لكان ذلك انقلابًا ولم يكن ثورة، ولو كنا اكتفينا في الجانب الاقتصادي بأن زدنا أجور العاملين، أو عملنا على تنشيط التجارة والصناعة وملكية وسائل الإنتاج والتوزيع كما هي، لكان ذلك انتعاشًا اقتصاديًّا ولم يكن ثورة والثورة هي أن يتغير الأساس" وشرط الثورة الفكرية عنده هو الانتقال من سلطان الحفظ والتلقين والترديد والاجترار الى سلطان العقل المتسلح بأدوات المنطق أي من فكر مغلق الى فكر متحرر تنويري من خلاله تصل حرية التفكير الى اعلى مراتبها وهي حرية مشروطة بالمسؤولية تحقق للإنسان انسانيته وتسمح له بأداء دوره الحضاري ككائن مكلف حر ومسؤول.

وإمام الإنسان الذي يهديه سواء السبيل في نظر زكي نجيب محمود هو " عقله، الذي يفرق به بين الحق والباطل، والذي على أساسه يريد ما يريده، لكي يكون مسئولًا عما أراده وعما فعله مسئولًا أمام ربه أولًا، وأمام الناس ثانيًا" وكل دعوة الى ترك الغير يفكر عنا ويقول ما تقوله السلطة العليا ويقرر لنا ما يشاء هو اهدار لإنسانية الانسان هذه الحرية الفكرية التي لا نجد له اثرا في المجتمعات العربية في زمن الاحتباس الحضاري وعصر التفاهة هي سبب تخلفنا و تغييبها دفع العقول المبدعة في البلاد العربية الى الهجرة بحثا عن تربة جديدة ومناخ فكري حر يسمح لها بالنماء والتفتح عقول ولدت بفطرة سليمة تتقد ذكاء اصلها طيب ولدت في ارض كانت خصبة تؤتي اكلها كل حين لكن حاصرتها الاشواك وكبلتها قيود الطغيان فهاجرت " والشوك الخانق للمواهب عندنا أنواع: منها — بل ربما كان أكثرها شيوعًا — الحالة التي يحاول فيها الكبير أن يبتلع الصغير في جوفه، إنه لا يمنعه من العمل، على شرط أن يكون اللسان الناطق هو لسان الكبير، وأن تكون اليد الموقعة هي كذلك يد الكبير، وإذا تململ الصغير من أن يفرض البكم على لسانه، والشلل على يده، حتى لا يكون للسانه صوت مسموع، أو ليده حركة مرئية، فعقابه هو أن يطمس عمله طمسًا فلا يشهد النور، فمن ذا يلومه إذا هاجر؟"

غياب النظرة الاستشرافية والتنكر لمنطق العلم والعمل

سبب تخلفنا هو الحجر على العقول وغياب الفكر الناقد والتنكر لمنطق العلم والعمل والابتعاد عن الواقعية في الطرح تخلف حضاري أنتج فكرا سطحيا وثقافة استهلاكية هي كلها «كلام في كلام في كلام» ثقافة تروج للتفاهة وتتغذى على الخرافة نصب فيها السياسي المعتوه في فكره واخلاقه نفسه فيلسوفا يعلم الناس الحكمة وفصل الخطاب غاب فيها التخطيط للمستقبل واتسعت فيها دائرة المتاعب والمخاوف لأنه كلما انعدمت القدرة على حساب المستقبل ورؤيته قبل وقوعه، على أسس علمية صحيحة في رصد الوقائع، وفي استدلال النتائج، زادت الأوهام والمخاوف وقد أشار الى ذلك ابن خلدون بقوله :" الحاكم اذا كان باطشا شمل الناس الخوف والذل واذا كان متخلقا اشربوا محبته واستماتوا دونه في محاربة اعدائه " فلا بد من تحرير عقل الانسان العربي واستشراف المستقبل وهنا يحيلنا زكي نجيب محمود الى ما حدث إبان العشرينيات من هذا القرن، حين اضطلع ناشر — في إنجلترا — بمشروع طموح ونافع، وهو أن طلب من مائة عالم وباحث وأديب، أن يتعاونوا على إخراج عدة كتب — كلٌّ في فرع تخصصه — تُصوِّر ما سوف تكون عليه حياة الناس بصفةٍ عامة، وفي إنجلترا بصفةٍ خاصة، بعد خمسين عامًا من ذلك التاريخ، وكان في ظنه أن تقديم هذه الصورة المستقبلية تتيح لكل من يهمه أمر أن يتدبره قبل وقوعه، وكان المفروض — بالطبع — أن يُدخِل هؤلاء المؤلفون في حسابهم ما عساه أن ينشأ خلال تلك الفترة من عوامل تؤثر في تشكيل الصورة المراد تصويرها

عدم القدرة على استشراف المستقبل انتج حالة من التخلف والانفصام داخل المجتمعات العربية وهي حالة مرضية ترى فيها الانسان العربي يقدس الماضي لفظا ويدوس على قيمه سلوكا ويتنكر لأسباب الغلبة في الحاضر ويعزي نفسه ببطولات السلف،يتحرك في زوايا ضيقة ومحددة بفكر سطحي خرافي يتعارض مع المرجعيات التي تحدد المستقبل لا يميز بين ما هو ثابت وما هو متغير،

واليوم لاتزال المجتمعات العربية تعيش أزمات سياسية واخلاقية ومتاعب اقتصادية وتفكك اجتماعي وتخلف ثقافي او ان شئت قل حالة من الجهل المركب والمقدس والذي من صوره شيوع أوهام مفادها انه لا سبيل للتطور الا بتحسين الأوضاع الاقتصادية و قد غاب عن هؤلاء ان الاقتصاد لا يزدهر وعقول وايدي الناس مكبلة بقيود التعصب والجهل كما قال زكي نجيب محمود والذي استشهد بقول احد الساسة في البلاد الغربية :" إن الاقتصاد جزء من نشاط الإنسان، فإذا أنت جعلت من كل إنسان في مجاله الخاص إنسانًا أكمل بالنسبة لذلك المجال، فقد ضمنت أن يجيء كل ضروب نشاطه — ومنها النشاط الاقتصادي — مسايرًا لما يحقق للأمة أهدافها، إذ كيف يكون «الاقتصاد» ذا أولوية على احترام القانون ومراعاة حقوق الآخرين؟ كيف تكون له أولوية على حياة الأسرة وعلى القيم الثقافية والروح القومية؟ إن هذه الخصائص كلها هي في حياة الناس بمثابة ما يسمى في مجال البحوث العلمية ﺑ «المتغير المستقل»، وأما الاقتصاد فهو «المتغير التابع»"

ضرورة التلازم بين السياسة والاخلاق

من معالم المجتمع الجديد في نظر زكي نجيب محمود الربط بين السياسة والأخلاق والاصالة والمعاصرة والعمل على ان يكون العدل مبصرا والارتقاء بالتعليم وتقديس العمل فالسياسة في جوهرها ذات طابع أخلاقي فهي تستهدف كمال الانسان " لعلي كنت فيما قلته متأثرًا إلى حدٍّ ما بما أعرفه عن رأي أرسطو في السياسة، وكيف يمزجها بمفهومه عن الأخلاق، فلئن كانت الأخلاق في نهاية أمرها تريد أن تحقق السعادة للفرد داخل المجتمع الذي هو عضو فيه، فإن السياسة هي في صميمها فرعٌ من الأخلاق؛ لأنها لا تريد شيئًا أكثر من أن يتحقق الخير للدولة في مجموعها، وأن هذا الخير العام لا يمكن فهمه فهمًا واضحًا، إلا أن يكون حاصل جمع الخير الذي يصيبه الأفراد، وإنه لمن الضلال والتضليل أن يقول قائل إن الأفراد قد تشقى في سبيل المجموع، كأنما هذا المجموع عفريت من الجن نسمع به ولا نراه" وعودة السياسة الى حضن الاخلاق يفتح الباب ام قيام مجتمع عادل لكن العدل في المجال الاجتماعي لابد ان يكون مبصرا ومنها كان لابد من التفرقة بين العدل حين يجعلونه معصوب العينين، حتى لا يبصر، والعدل حين يفتح عينيه ليرى ماذا هو صانع بالناس، الحالة الأولى في حالة العدل القضائي الذي نعهده في المحاكم، والذي مداره هو «الحقوق»، فهذا حقي وهذا حقك، ولا يجوز لأينا أن يعتدي على حق أخيه، فإذا اعتدى منا معتدٍ بغير حق، نصب له العدل القضائي ميزانه، عاصبًا عينيه، حتى لا يرى أين يقع عقابه؛ وذلك لأنه إذا نظر ورأى فيجوز أن يجد من يقف أمامه صاحب سلطان ممن يخشى بأسهم، فيخاف العواقب، فيجفل، فلا ينزل عقابه حيث ينبغي أن ينزله.

ومن شروط قيام المجتمع الجديد إعادة النظر في سلم القيم وترتيب الأفكار و الترتيب الجديد لتسلسل الأفكار هو هكذا: أمامنا مبدأ واحد هو وحدة الأمة، ويستتبع هذا المبدأ حالة هي حالة المسالمة بين أبناء هذه الأمة، ثم تقتضي الوحدة والمسالمة بين الأفراد شبكة معينة من علاقات تربط الأفراد في إطار المجتمع ومن واجب رجال الفكر المخلصين في البلاد العربية التفكير في الانتقال الى مواقع التأثير والتحول الى جماعات ضاغطة وسلطة اقتراح وتنفيذ والمساهمة في عمليات التحول الفكري والتطور الاجتماعي.

ذلك ان التفكير في بناء مجتمع جديد يتطلب مجموعة من الأسس أولها المساواة، مساواة على المستوى القومي ومساواة على مستوى العالم بأسره، فلكل إنسان على وجه الأرض — من حيث هو إنسان وكفى — حق نابع من فطرته البشرية نفسها في أن يشبع حاجاته الطبيعية الأساسية من تغذية وإسكان ورعاية صحية وتعليم؛ لأنه بغير أن تجد هذه الحاجات الأساسية ما يشبعها إلى الحد المعقول، فإنه يتعذر على الإنسان أن يشارك في الحياة الحضارية مشاركة مقرونة بالكرامة الواجبة المجتمع الجديد المقترح ليس مجتمعًا استهلاكيًّا على الصورة التي نراها اليوم في البلاد المتقدمة والغنية، بل هو مجتمع إنتاج، والإنتاج فيه تحدده الحاجات الطبيعية الضرورية لكل إنسان... ننتح ما يكون معظم الشعب بحاجة إليه، ونهمل ما ليسوا بحاجة إليه في المرحلة المعنية من العصر المعين .

المجتمع الجديد لابد ان تكون قاطرته هي التعليم فلابد من اصلاح تربوي شامل و إعادة التفكير في مقررات الفلسفة بالمرحلة الثانوية واشراك طلاب العلوم وطلاب الآداب جميعًا في إحدى المواد الفلسفية، وهي المادة المتصلة بمنطق التفكير العلمي وبناء مقرر جديد للمنطق من خلال موضوعات تتكامل معًا في وضع أساس للتفكير العلمي، لا يصدم طالب العلوم بغرابته وإيغاله في المصطلح الفلسفي لهذه المادة، ولا يصعب على طالب الآداب السير فيه.

ولا بد من إصلاح الجامعة وهنا يتساءل زكي نجيب محمود :فماذا تكون الجامعة إذا لم تكن مؤسسة أقيمت لتضطلع بحراسة العلوم والفنون، بمعانيهما التي تقررها لهما الحضارة البشرية، كما يشهد لها التاريخ، لا كما تتوهمه شطحات الحالمين، ماذا تكون الجامعة إذا لم تكن هي الحرم الذي تُقدَّس في رحابه روح البحث والكشف، ومغامرات التجربة والتأمل؟ ماذا تكون الجامعة إذا لم تجعل من نفسها حامية تذود عن دولة العقل، حتى لا يعتدي عليها أعداؤها بهدم حصونها — من الداخل أو من الخارج — وحتى لا يأخذ الضعف من رجالها، فيستسلمون لهجمات المعتدين؟ ولابد من ان نفسح المجال كذلك أمام الكاتب أو الفنان الذي يرى ضرورة التعديل أو التبديل فيما هو قائم، دون أن يكون هذا التعديل أو التبديل حقًّا متروكًا للسلطة وحدها، تجريه إذا شاءت، وتمنع عنه إذا لم تشأ. ولا بد من الترجمة لأعلامنا، ماضيهم وحاضرهم على السواء، وإلا فمن أين لشبابنا أن يرى الصور التي تكثفت فيها خصائص أمته وملكاتها؟ إنه لكثيرًا ما قيل عن التربية الخلقية إنها تركزت على ركيزتين، هما: «المبدأ» و«المثال» ولابد من ان يشتغل رجال الفكر والثقافة على الترويج للقيم العليا — أخلاقية أو جمالية — وان تجد طريقها إلى التطبيق في حياة الناس ولابد هنا من الربط بين اللغة والفكر فالعبارة المستقيمة الواضحة فكرة مستقيمة واضحة والعبارة الملتوية الغامضة هي لا شيء.

المزج بين الاصالة والمعاصرة

الاصالة والمعاصرة عند زكي نجيب محمود مركبين ثقافيين لكل واحد خصائصه وعناصره فالأصالة تستمد مرجعيتها من كون المبادئ الأساسية لحياة الانسان هي في جوهرها وحي نازل من السماء إضافة الى اللغة العربية التي لا يجب النظر اليها كقوالب جامدة بل باعتبارها خبرة حياة فهي الفاظ وعبارات نابضة بالحياة ومرآة عاكسة للوجدان العربي وهذا ما نلمسه في الادب العربي شعرا ونثرا باعتباره عنصرا من عناصر التراث العربي والمعاصرة يجب النظر اليها من خلال اهم عنصرين هما المنهج العلمي الجديد القائم على التكنولوجيا بوصفها منهجا للتفكير فحضارة هذا العصر تفكر من خلال الأجهزة العلمية ولكنها لا تهمل الادب والفن  ولابد من المزج بين الاصالة والمعاصرة والجمع بين الفعل والوجدان: نأخذ من الحضارة الغربية المعاصرة آية العقل فيها، اي منهج العلم ونسقه وتقاناته، ونبقي من تراثنا على ما يصون هويتنا من عوامل الوجدان كالدين والاخلاق واللغة والفن وفي مقال للكاتب والناقد اللبناني جهاد فاضل بمناسبة مرور مائة سنة على ولادة زكـــي نجيب محمود أشار الى ان ملامح الإستراتيجية التوفيقية لاستيعاب التراث في العصر عند زكي نجيب محمود تقوم على محورين:

الأول: أفقي حيث تجول مفكرنا في مكونات الثقافة الإنسانية وميز داخلها بين أربعة أنساق أساسية: الديني / الاعتقادي، ثم الأدبي / الفني ثم الفكري / القيمي، وأخيرا العلمي / التجريبي، فالدين مثلا يمثل الحد الأقصى للمعاصرة ويحق للعقل العربي أن يتمسك إزاءه بخصوصيته الكاملة إذ لا سبيل هنا إلى معاصرة اللهم سوى في كيفية قراءة النصوص، وفي القدرة على تأويلها حيث يمكن الاستفادة من المعارف اللغوية واللسانية والبلاغية الحديثة في الكشف عن باطن النص ومغزاه. أما العلم الطبيعي، فعلى العكس من الدين، يمثل الحد الأقصى من المعاصرة والحد الأدنى من الأصالة، فوسيلة إدراكه هي “العقل” ومن ثم يجسد النسق الأكثر كونية، ومن ثم يتعين ممارسته بموضوعية وحياد من قبل العقل العربي دونما اكتراث بنزعات من قبيل أسلمة العلوم.

أما الثاني: فرأسي، حيث تجول الرجل في طبقات تراثنا الذي هو “عالم أوسع من المحيط, يشتمل على جميع ما أبقت عليه الأيام بعد أن فعلت عوامل الفناء فعلها”، مثبتا الوقفات العقلانية فيه؛ لأنها تجسد منهجا للنظر يبقى صالحا للعصر، ونافيا الوقفات اللاعقلانية التي تجافي روح العصر. فعلى صعيد النفي مثلا يرفض “أن يكون صاحب السلطان السياسي هو في الوقت نفسه، وبسبب سلطانه السياسي، صاحب “الرأي” بل لا بد من أن يكون مجرد صاحب “رأي”، لا يمنع رأيه هذا أن يكون لغيره من الناس آراؤهم.

بالمحصلة لابد من الاشتغال على بناء مجتمع جديد او الكارثة ورحم الله فيلسوفنا زكي نجيب محمود.

***

عمرون علي - أستاذ الفلسفة

المسيلة – الجزائر

سأتخذ من ذلك المعطى الذي تمثله الناقد الثقافي والمفكر جيروم برنر نبراسا له متكأ لي عندما كان يرى في دراسته الشيقة " صناعة الذات وصناعة العالم "، أنه أخذ على عاتقه أن يستأنس بتصريح فيتجنشتاين القاضي بأن " وظيفة الفيلسوف مساعدة الذبابة على الخروج من عنق الزجاجة " (01). كان هذا أيضا شأني مع أساتذتي الأجلاء بختي بن عودة وهزرشي عبد الباقي وحميد ناصر خوجة. وهم الذين ساعدوني على الخروج من عنق زجاجة القراءات القاصرة لمناهج النقد المعاصرة مفصولة عن سياقتها التاريخية وجذورها الإبستمولوجية في جو من (التلمذة الفلسفية)، بنص العبارة التي وضعها الفيلسوف الالماني هانس جورج غادامير لسيرته الذاتية (التلمذة الفلسفية). وهي سيرة فكرية بالطبع السيرة التي اعترف فيها هانس جورج غادامير بالفضل لبعض أساتذته ويأتي على رأسهم مارتان هايدغر الذي كتب عنه كتابا حمل عنوان (طرق هايدغر).

الكتاب الذي عبر فيه عن الشغف اللامتناهي بعوالم هايدغر على ما يذكر ذلك مترجما كتاب (التلمذة الفلسفية) علي حاكم صالح وحسن ناظم في المقدمة التي كتباها للطبعة العربية من كتاب (التلمذة الفلسفية). وهو كتاب يعتبر في تقدير مترجما الكتاب درسا لأولئك الذين يدعون الأستذة بلا تلمذة، وهم كثيرون بلا شك، ويتواجدون في مختلف الفضاءات الثقافية والأكاديمية والمسرحية والمنابر الإعلامية. بنوع من الاعتراف الذي يظل اعترافا بالتفوق على ما يرى الفيلسوف الفرنسي بول ريكور الذي يربط هذا التفوق "بالفعل الصادر عن المتعلم الذي يقبل بتعليم المعلم له " (02). وبالطبع فبول ريكور ينفي تماما علاقة المعلم بالمتعلم بما يسمى ثنائية العبد / السيد. وأعتقد أن الأمر له صلة بأخلاق المتعلم. الأخلاق التي دفعت مفكرا عربيا من حجم سلامة موسى إلى تأليف كتاب حمل عنوانا لافتا للنظر هو (هؤلاء علموني).

اعترف فيه لعدد من المفكرين والفلاسفة الذين أثروا فيه وتعلم منهم بحيث أنه خص كل واحد منهم بمقال على حدة، ويأتي راسهم سارتر وفرويد وفولتير ونيتشة وتولستوي وغاندي وإليوت وجون ديوي وماكسيم غوركي وغيرهم.

وهو لا يتردد في الإعتراف بأنه قد تأثر بهؤلاء الكتاب الذين ذكرهم وأحبهم ووجد فيهم النور والتوجيه، ولكنه ايضا حاول الاستقلال عنهم، الأمر الذي جعله يعتقد بأن المؤلف العظيم " ليس هو الذي يجعلنا نرى الدنيا ونشهد على الناس والأشياء بضميره، ولكنه هو الذي يعلمنا الاستقلال عنه رائين ومشاهدين " (03).

وبهذا المعنى فلابد أن أعترف بأن الثلاثي بختي بن عودة وهزرشي عبد الباقي وحميد ناصر خوجة هم الذين فتحوا أمامي منافذ الرؤية لقراءة الفلسفة والدرس الفلسفي المعاصر وضرورة العودة إلى الجذور الإبستمولوجية والفلسفية لتشكل مناهج النقد المعاصر النسقية منها على وجه الخصوص التي لم تأت من فراغ.

بل تجد تجذرها و مرجعياتها النقدية في دروس الفكر المعاصر والفلسفة المعاصرة هذه هي علاقة الفلسفة بالنقد الأدبي والنقد الثقافي كما أراها.

ولا شك أن هذا ما جعل مفكرا بارزا من حجم إدوارد سعيد في كتابه الذائع الصيت (النص والعالم والناقد) بربط ربطا عضويا بين النظرية الأدبية وأصولها الفكرية، الأصول اللسانية والفلسفية، عندما يعود بها إلى من يسميهم بأسلاف منظري الادب الذين أخذوا على عاتقهم بحسب إدوارد سعيد " الحد من هيمنة الفلسفة الوضعية الحتمية وتشيؤ النزعة الإنسانية البرجوازية ومحاولة كسر الحواجز المتصلة بين التخصصات الأكاديمية " (04).

وبالطبع فإدوارد سعيد لم يشترط وجود فضاء مغلق كالفضاء الجامعي لإثبات فرضية ربط النظرية الأدبية بأصولها الفكرية واللسانية في كتاب هو (النص والعالم والناقد)، والكتاب كما يقال يقرأ من عوانه انطلاقا من وقع عبارة (العالم) على ذائقة القارئ المتخصص أو العادي، وهو موجه لعامة القراء وليس لفئة ضيقة من الطلبة والأساتذة، على الرغم أن الأمر يتعلق بمفكر وناقد ثقافي واستاذ للأدب المقارن في جامعة غربية بالولايات المتحدة الأمريكية.

بوصف الجامعة (فضاء عموميا) بمفهوم هابرماس، تحتاج أيضا إلى (مثقف عمومي) بالمعنى الذي يقترحه المفكر الفلسطيني عزمي بشارة.. ؟.

قادرعلى إخراج المقولات و المفاهيم العلمية والمعرفية والفلسفية ذات البعد الحداثي من دائرة (النقد الصالوني) بمفهوم عمار بلحسن إلى فضاء الاستخدام الوظيفي لها في الحياة العامة و في الرفع من مستوى الوعي السياسي والفكري للمواطن العربي المغلوب على أمره.

لكون هابرماس يقدم " الفضاء العام " بوصفه فضاء للمناقشة ضمن مشروعه النقدي "الحداثة التواصلية " بوصفها البديل عن " الحداثة الأداتية " المتمركزة حول ذات الإنسان الغربي، التي كان يرى هابرماس أنها "مشروع لم يكتمل ".

ومن داخل هذه الحداثة التواصلية يتطلع هابرماس للتأسيس لإتيقا المناقشة أو أخلاقيات المناقشة، رابطا إياها بالبحث عن الحقيقة في كتاب يحمل العنوان ذاته (إتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة).

لكن ينبغي أن نكون حذرين، فالفضاء العام كما يقدم في الفضاء الثقافي العربي الذي لم تهب عليه بعد رياح التعددية الثقافية إلا قليلا نتائجا عكسية، إذ يعمل على احتكار " الفضاء العام " لدى فئة ثقافية أو لدى " عصابة ثقافية " أو تكتل ثقافي أو جامعي، ولا يهم إلى أية جهة أو هوية تنتمي هذه الفئة أو العصابة ثم على مأسسة الخطاب الثقافي والتعامل معه بوصفه خطابا ملحقا بالخطاب السياسي الإيديولوجي الرسمي أو معبرا عنه.

وهذا هو بكل أسف حال بعض ممارسات المثقف العربي الخارج نصية بوصفها (نصوصا غائبة) بتعبير جوليا كريستيفا المنتمي أو (اللامنتمي) وليس المثقف الجزائري استثناء.

والتطلع إلى الآفاق الحديثة التي قطعتها المجتمعات المتقدمة، عوض الظهور بها في جو من الإستعراض المجاني أو البريستيج الأكاديمي الزائف، ومن دون أدنى تمثل فاعل لها يخرجها من دائرة التجريد والاستعراض اللغوي و المفاهيمي إلى فضاء الممارسة اليومية الحية النابضة بالمعنى والدلالة في محيطنا الثقافي والاجتماعي والسياسي البائس.

فإجترارالمقولات والمفاهيم ذات البعد الحداثي أو إنجاز بحوث جامعية تستقي موادها الرمزية والمفهومية والإجرائية من التحولات المتتالية لخطاب ما بعد الحداثة وما بعد العولمة، لا يعني أبدا أنه لدينا حداثة عربية حررت المواطن والمثقف العربي من الإستخدام النيوكولونيالي (لإمبريالية المقولات النقدية) بتعبير عبد الوهاب المسيري على صعيد التربية و الثقافة و المجتمع وفي الفضاء العام أو (الفضاء العمومي) بتعبير هابرماس.

ولا يعني سوى شيئا واحدا، وهو أننا لا زلنا في موقع التابع نجتر ونلخص ونترجم حداثة الآخر لنباهي بها بني جلدتنا من المواطنين البسطاء ضمن حالة يطلق عليها فيلسوف الحضارة شبنجلر عبارة (التشكل الكاذب) الذي لا أهمية له، ولم نتجاوز بعد ذلك السؤال الحيوي الذي كان قد طرحه أحد رموز النهضة العربية وهو شكيب أرسلان : لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون... ؟.

وبالطبع فحداثة الغرب حداثات وليست حداثة واحدة.

فهناك أولا "الحداثة الأداتية " التي لم تتجاوز إنسان الغرب كمحور لها وتصدى لها هابرماس مقترحا محلها حداثة أخرى هي الحداثة التواصلية عندما كان يرى أن " الحداثة مشروع لم يكتمل ".

وهو بالطبع يرد على دعاة ما بعد الحداثة وعلى رأسهم جان فرانسوا ليوتار صاحب كتاب (الوضع ما بعد الحداثي).

وقبل ذلك تصدى لردم هذه الفجوة الفلسفية فيلسوف إيطاليا هو جان فاتيمو في كتابه (نهاية الحداثة)، فأعتبر أن هناك قبل ما بعد الحداثة التي تزامنت مع انبثاق مع أصبح يسمى الدراسات الثقافية مرحلة وسطى هي " نهاية الحداثة ".

ومن داخل هذه النهاية يفرق فاتيمو بين "العدمية المتممة " عدمية نيتشة المعبر عنها بلغة عبد الكبير الخطيبي اليأس المطلق وبين عدمية الثلاثي فوكو ودولوز وديريدا والتي يسميها " العدمية المنفلتة ".

وفي فصل بعنوان " انكسار الكلمة الشعرية "، وهو لا يعني بالشعرية الشعرية الأدبية بل يحدثنا عن شعرية أخرى هي " انكسار الميتافيزيقا "، هذا ما يعني أن الميتافيزيقا لم تبلغ نهايتها مع نيتشة العدمي بل إنكسرت فقط، لكنها انتهت مع ديريدا وهذا التحقيب الفلسفي يعلمنا كثيرا في الوقوف على تلك الصلة المعدومة لعدمية نيتشة مع مبحث من مباحث المعرفة الإنسانية الباحثة عن أنسنة الثقافة والمعرفة لا عن اليأس منها، وحتى من داخل " العدمية المنفلتة " هناك تساؤلات وتحفظات كثيرة أخرى نجدها تترد في نصوص إدوارد سعيد وعبد الوهاب المسيري ومحمد أركون وغيرهم وهذا موضوع آخر بالطبع يكشف عنه جان فاتيمو في مضمون "الفكر الضعيف " المفهوم الذي خص به عددا من معاصريه المرتبطين مؤسسيا بسياقات إنتاج "الفكر الضغيف " في علائقه الأداتية والشكلية بسسوسيولوجيا التراتبيات المهنية الجامعية التي لا صلة لها بالعمل السياسي والنضالي الذي يتطلب الواقعية وعدم الاستغراق في التعالي النخبوي، الأمر الذي جعل جان فاتيمو حتى عندما أنتخب في الفترة الممتدة بين 1994 و2004 عضوا في البرلمان الأوربي.

وعندما كان بصدد تقديم أوراق ترشحه لم يقدم نفسه بصفته العلمية ولا بهويته الفلسفية. بل قدم نفسه بوصفه مواطنا أوربيا ليس إلا... رغم أن الرجل يعتبر أحد أهم فلاسفة ما بعد الحداثة وأستاذا محاضرا في جامعة تورينو واستاذا زائرا في عدد من الجامعات الأوربية الاميركية.

وهو يعتقد أن ذلك من علامات " الفكر الضعيف " الناتج عن غياب النقد العقلاني المرتبط بماهية البحث عن العقل العربي الذي يربط محمد عابد الجابري وجوده، من حيث انتهى في تشكله في بيان العقل اليوناني الأوربي فيسجل بأن الوقوف على ماهية العقل العربي معناه "القيام برحلة في أروقة الثقافة التي أنتجته وساهمت في إنتاجه وتشكيله فالتعرف على الشئ من داخله أفضل بكثير من الوقوف عند وصفه من خارجه " (05).

وهو ما أحسن فعله عندما خصص لهذا العقل في كتابه (تكوين العقل العربي) فصولا مهمة وقف فيها على سياقات تشكل هذا العقل من داخل تاريخ نظم المعرفة في الثقافة العربية.

وقد افتتح سفره النقدي بذلك السؤال التدشيني (العقل العربي بأي معنى...؟) منذ عصر التدوين الإطار المرجعي للفكر العربي، وهو عنوان المبحث الأول من كتابه (تكوين العقل العربي) وحتى لحظة قياس المعقول الديني بالمعقول العقلي للوقوف على أسباب العقل المستقيل في الموروث الديني وفي الثقافة العربية الإسلامية وهي من موضوعات الفصل الثامن والتاسع من (تكوين العقل العربي).

ولهذا السبب وربما لأسباب الأخرى لم تتردد باحثة مصرية هي الدكتورة يمنى طريف الخولي في الذهاب عميقا (لتثقيف السياسة بدلا من تسييس الثقافة) بمفهوم السوسيولوجي الجزائري عمار بلحسن، عندما أخذت على عاتقها تحليل الوضع السياسي العالمي بأدوات الثقافة من خلال العودة في مقالها " نموذج لفلسفات ما بعد الإستعمار " إلى نصوص الشعراء المغضوب عليهم من طرف المؤسسة الثقافية الرسمية ورديفتها الأكاديمية

فتعود إلى الشاعر المصري أمل دنقل لتستلهم منه ما يفيدها لتفكيك أسئلة ما بعد الاستعمار من منظور الفلسفة النسوية ما بعد الاستعمارية.

وسواء وفقت الباحثة في مسعاها أم لم توفق فما هو مهم أنها تكتب " انتهى الاستعمار الأوربي ليصعد الاستعمار الأمريكي مصداقا لقول أمل دنقل " لا تحلموا بعالم سعيد فخلف كل قيصر يموت هناك قيصر جديد " (06).

فهل حقا انتهى الاستعمار الأوربي.. ؟

وإذ ما انتهى الاستعمار الأمريكي وهو لم يبلغ نهايته بعد وفقا للمستجدات الراهنة فأي استعمار جديد سيصعد خلف قيصر واشنطن.. ؟.

لا أدري ولا أحد في إمكانه في تقديري الإجابة عن هذا السؤال الاستشرافي المهم.

وربما كان هذا السؤال على صلة بالسردية المضادة التي سكنت عقل الدكتور حسن حنفي وهو يقدم كتابه المهم (مقدمة في علم الاستغراب)، على الرغم من طوباويته المفرطة في الحلم.

عندما كان يرى بأن مشروعه النقدي (مقدمة في علم الاستغراب) مهمته " القضاء على المركزية الأوربية الغربية ورد الغرب إلى حدوده الطبيعية بعد أن انتشر خارج حدوده إبان عنفوانه الاستعماري " (07).

وهي مهمة عسيرة جدا بل صعبة التحقيق في ظل الظروف الراهنة.

ودع عنك أن يكون التساؤل عن واقعيتها الممكنة التي تتأسس على محو ثقافة المركز والهامش والنسق الثقافي الغربي المهيمن، من خلال عقدة التفوق الغربي والتي شحنت مضامينها منذ أرسطو وإلى الآن، هو تساؤل في محله انطلاقا من مسار الثقافة الغربية النقدي والأنطولوجي والثقافات الشرقية التابعة المسيطر عليها.

لقد صرت بعد سنوات أرى في هذه الدعوة مجرد فكرة طوباوية مثالية ليس لها من دلالة واقعيا وعمليا. بل هي أقرب إلى الحلم في ظل التخلف العربي السائد على أكثر من صعيد وانسحاب المثقف النقدي من دائرة البحث والسؤال وضعف المردود المعرفي داخل المراكز الجامعية ومؤسسات إنتاج المعرفة، مع بعض الاستثناءات التي لا تكفي لتحقيق هذا الحلم الكبير.

وهي طوباوية أقرب إلى التخييل منها إلى الواقع في ظل تبعية المثقف الشمولي للنظام السياسي الشمولي المولع باحتكار الحقيقة والتاريخ وضعف أداءه المعرفي.

وهذا لا يعني بالطبع الرضا بل والإذعان السريع لإغراءات المركزية الغربية تحت دعاوي ضعف المردود المعرفي للمثقف العربي والناقد العربي في سياق هو السياق الثقافي العربي.

فالنقد الثقافي الذي نمارسه أو نزعم ممارسته يرفض كل أشكال (العبودية المختارة) بنص العبارة التي وضعها إيتيان دي لا بوسيه لكتابه الذائع الصيت الذي يحمل العنوان ذاته (العبودية المختارة).

ويمكن اللجوء إلى نوع من (التعديل) بمفهوم غياتري سبيفاك بإتجاه تودوروف الذي يستعير منه خلدون الشمعة قوله " نريد تسوية لا تتضمن بالضرورة عنصر الهوية بل اختلافا لا ينحط إلى مستوى التفوق / التخلف " (08).

للحد من ابستمولوجيا التفوق الغربي، الأمر الذي يستدعي من جهة أخرى تفكيكا مقنعا لظاهرة سردية الأحلام العربية في بعدها المعرفي التحرري وهو حق مشروع لحنفي أو لغيره من المفكرين العرب أما شروط تحقيق أحلامه فلذلك ظروف أخرى لم يحن الحديث عنها بعد.

***

قلولي بن ساعد / كاتب وناقد من الجزائر

....................

إحالات

01) صناعة الذات وصناعة العالم – جيروم برنر ضمن كتاب السرد والهوية دراسات في السيرة الذاتية والذات والثقافة ص 47 – تحرير جينز بروكميير ودونال كربو ترجمة عبد المقصود عبد الكريم منشورات المركز القومي للترجمة القاهرة الطبعة الأولى 2015

02) الإنتقاد والإعتقاد بول ريكور ترجمة حسن العمراني ص 14 منشورات دار توبقال الدار البيضاء الطبعة الأولى 2011

03) هؤلاء علموني / سلامة موسى ص 09 منشورات مؤسسة هنداوي 2011

04) العالم والنص والناقد إدوارد سعيد ترجمة محمد عصفور مراجعة وتقديم محمد شاهين ص 34 دار الآداب بيروت الطبعة الأولى 2017

05) تكوين العقل العربي محمد عابد الجابري ص 29 الطبعة العاشرة مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 2009

06) ركائز في فلسفة السياسة – يمنى طريف الخولي – ص 74 منشورات مؤسسة هنداوي المملكة المتحدة بدون ذكر السنة

07) مقدمة في علم الإستغراب حسن حنفي ص 39 الدار الفنية للنشر والتوزيع 1991 القاهرة

08) المؤتلف والمختلف تمثيلات المركز الغربي والهامش العربي وشيطنة الآخر – خلدون الشمعة ص 11 منشورات دار المتوسط ميلانو إيطاليا الطبعة الأولى 2019

فى مقال سابق تحدثت عن مؤرخى مصر وقلت إن جهود المؤرخين فى مصر أكثرها جهود فردية، وأننا نفتقد للمنظومة أو الفلسفة العامة التى تجعلنا نستفيد من تاريخنا العريق خير استفادة..

هذا الأمر ينطبق أكثر ما ينطبق على علم المصريات.هذا العلم الذى بدأنا نلتفت إليه فقط فى أعقاب الاستعمار الفرنسي والاكتشافات الفرنسية والبريطانية لكنوز التاريخ المصرى القديم التى نهبوا زبدتها، وصنعوا بها أكبر متاحفهم. لكن حتى العلم ذاته بات حكراً على الفرنسيين والإنجليز، وغدت مصادرنا الرئيسية لعلوم الحضارة المصرية القديمة تُستقى من نبع الدراسات الغربية له! هذا الأمر يحدث رغم العدد الكبير لخريجى الآثار والباحثين الذين يتحولون فور تخرجهم إلى موظفين لا باحثين وعلماء..هناك مشكلة يجب الالتفات لها فى هذا الشأن.. هى أن علم المصريات كان وما زال علما غربيا بامتياز!

موسوعة واحدة فى قرنين من الزمان!

هناك عشرات الكتب والدراسات والأبحاث التى كُتبت وتكتب حول الحضارة المصرية القديمة، لكنها كلها تحصيل حاصل وصب من نبع راكد. أما الدراسات القائمة على علم موسوعى واطلاع على السابق واللاحق من الاكتشافات الميدانية، وإلمام بكل ما يخص هذا العلم الذى يتسع يوماً بعد يوم مع كل اكتشاف جديد، مثل هذا النوع من الدراسات غير موجود فى مصر بشكله المدروس المنظم القائم على فلسفة علمية ورؤية منهجية واضحة.. والدليل على هذا أن مكتبة المصريات لا نكاد نعرف منها إلا موسوعة سليم حسن التى هى بعض من كل، بينما تحتوى مكتبات الغرب على آلاف الموسوعات والدراسات والأبحاث فى هذا العلم المصري الخالص!

كيف يمكن لنا أن نتصور أن الجهد الأكاديمى والبحثى على مدار أكثر من مائتى عام منذ الاستعمار الفرنسي حتى اليوم لم يستطع أن يثرى المكتبة العالمية والمصرية إلا بموسوعة يتيمة، وعدة دراسات متفرقة لبضعة أسماء لم يشتهر منها إلا قليل. سليم حسن نفسه لم يكن إلا تلميذاً لعالم مصريات أعلى شأناً وأكثر علماً وأسبق جهداً نسيه المصريون رغم أنه رائد علم المصريات الأول أحمد  باشا كمال!

كم مصري مثقف، لا أقول جاهل، يعرف من هو أحمد باشا كمال رائد المصريات الأول فى مصر؟!

إنه رائد الدراسات الأثرية فى مصر فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والذى كان يجيد نحواً من سبع لغات حية وميتة، منها القبطية والحبشية وكان يجيد قراءة الهيروغليفية بشكل فورى..

إنه وباعتراف الجميع كان أول مؤرخ مصري عربي،تعود أصوله لجزيرة كريت، يكتب عن حضارة مصر القديمة، وعلى يديه تربي جيل كامل من الباحثين فى هذا العلم كان من بينهم سليم حسن صاحب الموسوعة الشهيرة. واهتم كمال بتوثيق الاكتشافات الجديدة أولاً بأول مع ما شارك فيه من عمليات البحث والتنقيب، وجمع دراساته الميدانية والبحثية فى عدة كتب قيمة هى من أهم وأقدم ما كُتب من أبحاث فى هذا المجال.

الغريب أنه لم يحظى فى البداية بفرصة العمل الرسمى كباحث فى علوم الآثار؛ إذ أن الإنجليز وقتذاك كانوا يحتكرون مصلحة الآثار ولقد منعوه من الالتحاق بها، فعمل فور تخرجه كمعلم للغة الألمانية التى كانت واحدة من عدة لغات يجيدها كالفرنسية والإنجليزية والتركية. وقد تحين الفرصة لوضع نفسه فى وظيفة مرتبطة بالآثار حتى أفلح فى تقلد منصب أمين مساعد بالمتحف المصرى وكان أول مصرى يحصل على هذا المنصب، ومن خلال تلك الوظيفة مارس هوايته المحبوبة المتعلقة بالآثار تنقيباً ووصفاً وبحثاً وتأليفا..

كتب العديد من الكتب أذكر منها كتاب (الحضارة المصرية فى مصر والشرق)، و(بغية الطالبين فى علم وعوائد وصنائع وأحوال قدماء المصريين) وغيرها من الكتب والمؤلفات.. إلا أن أشهر وأجل أعماله قاطبةً: (معجم اللغة المصرية القديمة) الذى كتبه فى 22 مجلداً ليجمع به مفردات اللغة المصرية وما يقابلها بالعربية والفرنسية والقبطية والعبرية. وقد أعيدت طباعة المعجم فى 23 مخطوطة تحت إشراف عالم الآثار الدكتور ممدوح الدماطي  وزير الآثار الأسبق عام 2002.

شاهد من أهلها!

قد يعترض أحد على ادعائى بأن علم المصريات ليس مصرياً صرفاً،لا الآن ولا فيما سبق. لهذا سوف أستعين بشهادة أحد الباحثين المرموقين فى مجال التاريخ المصري، وهو الدكتور لؤى محمود سعيد المشرف على مركز الدراسات القبطية بمكتبة الإسكندرية وهو يتحدث عن أحمد باشا كمال كنموذج للريادة والتفرد فى مجال دراسة الآثار ..

يقول الدكتور لؤى إن أحمد باشا كمال حالة استثنائية فى تاريخ العمل الثقافى الوطنى فى مصر وليس فى العمل الأثري فقط، وأن تأثيره فى هذا العلم نبع من دوافعه الوطنية والإنسانية السامية، وأن هذه الدوافع لا نجد مثلها لدى دارسي هذا العلم اليوم.. نحن لا نتحدث هنا عن تهريب أو تخريب الآثار، بل عن عدم الاكتراث بعلوم الآثار والمصريات وكيف أن مثل هذا الإهمال ذا أثر سلبي عميق على الاقتصاد المصري ذاته لأنه يؤثر بشكل غير مباشر على حركة السياحة فى مصر، لأنه حتى المختصين بهذا المجال لا يفكرون إلا بما يعود به عليهم من نفع مادى..

يعود الدكتور لؤى ليستطرد ناقداً تلك الحالة من اللامبالاة وضياع المغزى والهدف، فيؤكد أن علم المصريات بالنسبة للباحثين المصرين هو اقتفاء أثر العلماء الأجانب، وهذا ما رفضه أحمد باشا كمال بأن يكون نسخة من علماء الغرب مع الاعتراف بفضلهم في هذا العلم، حيث كان يسعى إلى تمصير علم المصريات وهو ما لم ننجح فيه حتى الآن،ولم تتحرر مصر بعد من المدارس الأجنبية في هذا العلم.

وأشار سعيد إلى أن المصريين يدرسون تراث مصر وحضارتها لهدف أساسي ووحيد وهو تقديمها في معلومات للمرشدين والسياح الأجانب ولم يستخدموه في الحفاظ على الهوية المصرية، إذ لا تزال دراسة علم المصريات خاصة بالغرب والمصريين ضيوف عليه حتى الآن.. وأكد إن أحمد باشا كمال كان يمتلك رؤية وطنية، ما دفعه للقيام بجهد شخصي منفرد لإبعاد المواقع الأثرية عن أعين اللصوص المصريين والأجانب من خلال ضمها لمصلحة الآثار لحماية تاريخ مصر خاصة أن القرن التاسع عشر شهد أكثر وأوسع عمليات السرقة،وكان كل القناصل الأجانب لصوص آثار!

لقد شدد الدكتور لؤى سعيد إن تمصير علم المصريات لابد أن يكون ولو جزئياً معتمدًا على الثقافة المصرية المعاصرة التي تُعد امتداداً للحضارة القديمة، وأن يكون لنا دوافع واضحة وأهداف سامية تجاهها من أجل تأصيل المنهج الذى من خلاله نستطيع الجمع بين الحضارة المصرية والثقافات المختلفة حولناا.

جهلاء فى عصر المعلومات

كثير من المصريين يجهلون كل شئ عن أقرب المتاحف والمعابد الفرعونية لهم، ولم يفكروا فى زيارتها إلا قليلاً، فضلاً عن أن يعرفوا طرفاً مما حوته من تاريخهم القديم العريق.. لكن حتى على مستوى المثقفين والنخب، هناك درجة أخرى من الجهل بالتفاصيل وعدم الرغبة فى التعمق والاهتمام بجوهر الأشياء.

ماذا لو أننا كنا المحتكرين الأوائل لعلم المصريات؟ ماذا لو أن هذا الاهتمام بات مشاعاً بين المصريين؟ ألن يكونوا هم أول الدعاة لتنشييط السياحة داخل مصر وخارجها.. إننى على يقين لو دار حوار بين مصري يعيش فى الخارج وبين أحد السياح الأجانب أن المصري هو صاحب المعلومات الأقل حول تاريخه القديم وآثاره المنتشرة هنا وهناك يؤمها الناس من أقطاب الأرض، وتجاهلناها نحن!

لو أننا قارنا بين مدى الاهتمام الذى تحظى به آثارنا فى متاحف أوروبا والعالم، لأدركنا حجم الإهمال والإغفال لما نملكه من كنوز، وأول الطرق لحسن استغلالها معرفتها وفهمها وإدراك كل صغيرة وكبيرة تخصها. ولا يمكن أن يتحقق هذا الهدف بجهد فردى لباحث أو عالم أو عدد من الباحثين، بل بجهد عام شامل لكل المصريين سواء كانوا باحثين أكاديميين أو عاملين بمجال الآثار أو مهتمين أو هواة..الجميع عليه أن يسهم بدور فى تحويل علم المصريات إلى باب يوصلنا إلى أن نصبح القبلة السياحية الأولى عالمياً كما ينبغى أن نكون.

***

د. عبد السلام فاروق

بناء مشروع حضاري، هو طموح أساسي ودائم لكل أمة. والمشاركة فيه هي غاية كبرى، من غايات الأمم الحية. والخيار الراهن هو، أن نكون شركاء فاعلين وقادرين، أو نتلاشى؛ حتى يزداد طمس الكيان العربي، حتى على مستوى التسمية، في كيانات إقليمية، أو دولية متعددة الأسماء؛ وصولا إلى مسح الهوية، ومصادرة الحقوق التاريخية، كأنه ليس هناك أمة أو حضارةعربية !

إن تدبر الوسائل، من أجل بناء مشروع حضاري عربي، والدخول في شراكة عالمية مستقبلية، لم يعودا مسألة ترف فكري، أو انشغالات مثقفين بقضايا كبرى؛ إنها معركة كيان، ووجود، لا يجدي معها سوى الحفاظ، على حق الأجيال الصاعدة، بكيان وهوية ودور وفرصة.

من هنا تصبح مسألة التنشئة، المستقبلية للطفولة العربية، قضية مصير وليس أولوية؛

فالطفولة حالة مستقبلية غير قابلة للتأجيل أو التفويض؛فإذا نحن لم نتول المسؤولية، فالزمن سيسير والطفولة ستنمو، إنما في اتجاهات وأشكال، لا نضمن معها مطلقا، مصالح الأمة وكيانها؛لأن ما لا نفعله نحن، لن يبقى معطلا، أو فراغا، يمكن ملأه لاحقا؛ بل هناك بدائل جاهزة، ستقوم بالدور؛ إنما لمصلحتها، ومن منظورها، وعلى حساب مصير الأ مة ومكانتها. فالمستقبل لم يعد مسألة، تترك للغيب، أو تحسب من خلال الركون إلى غنى ووفرة الموارد الطبيعية؛ لأن هذه الأخيرة، لا تصنع تنمية، ولا تضمن حصانة، بل على العكس، تكون هي ذاتها مواطن ضعف؛ لأ نها تشكل حالة استهداف..وحدها حالة الاقتدارالإ نساني، تشكل الحصانة، والضمانة لدخول شراكة عالمية مستقبلية !

ولن يتسنى لنا ذلك، إلا إذا نحن أخذنا بعين الاعتبار، أن الانسان هو الثروة الحقيقية للشعوب. لذا يجب ألا نقيّمه بما يملك، وما يستهلك...بل نقيّمه بقيمته الحقيقية، التي هي إنسانيته، وعطاءه، ومدى فعاليته في مجتمعه.

إن المجتمعات المتقدمة، دخلت عصر تنشئة الإنسان الذكي، الذي يتعامل مع الآلآ ت الذكية، ملْغية بذلك، كل الوسائل التي قد تبطيء، في إنتاج كائن بشري، يساهم في تسريع وتيرة التقدم، بينما نجد مجتمعاتنا، مازالت تتخبط في تغيير برامج ومناهج مستوردة، لم تنجح واحدة منها في تغيير واقعنا العربي، لأنها غريبة عنا، وعن أرضنا وتربتنا.

ومازالت في طموحاتها عند الأولويات، ولازالت تصارع الهدر والتسرب وشبه الامية، إن عالمنا العربي، يعاني من عدد من الأميات، التي تقف في وجه تطوره وتقدمه؛ وللأسف الشديد، نجد خلف ذلك أياد وعقول وجهات مسؤولة عربية، تعمل جاهدة في تخريب مجتمعاتنا.

نحن في حاجة إلى محو أميات متعددة ومتنوعة، إذا أردنا الوقوف، بوجه التحديات التي يعرفها العالم اليوم، ونكون شركاء فاعلين بعالم الغد:

1- الأمية التكنولوجية: إن تكنولوجيا المعلومات قد تخطت حدود الزمان والمكان، من خلال نقل المشاهد، وهو في أريكته إلى مختلف بقاع العالم؛ لمعايشة الحدث الحي لحظة وقوعه. ولا شك أن هذه فرصة للإغتناء المعرفي، لم تعرفها البشرية قبلا، ولم تزاحم الشاشة بقية وسائط الثقافة والتنشئة فقط، بل أخذت تزيحها وتحل محلها، بشكل متزايد مما جعل تسمية الجيل الجديد بأبناء الصورة؛ وهذا إدمان جديد، ينضاف إلى باقي أنواع الإدمان؛ إذ أصبحت شاشة الحاسوب، تشكل كل عالم الناشئة، بل وحتى الكبار رجالا ونساء؛ وذلك لقدرتها على تلبية حاجات الجميع، المعرفية والترويحية والتشويقية، والجمالية والإثارية.وجيل الكبار بصدد فقدان دوره المرجعي، لصالح المرجعية الإعلامية، التي أصبحت تقولب العقول، تشكل الاذواق،وتحدد أساليب الحياة.

وتكتسب المسألة أهمية أكبر، حين ندرك أن هذا الإعلام المهيمن، يقوم على الإبهار، وجذب الانتباه عن طريق تجارة الوهم، التي تستسهل كل شيء في الحياة؛ مما يجعل الكائن في غياب تام، عن واقعه دون وعي منه، أو إدراك لخطورة ما هو فيه وعليه.

2- محوالأمية المعرفية: إن الإمية الألف بائية، مازالت تشكل مشكلة جدية، في عالمنا العربي، خاصة وأن التعليم مازال يشكل أيضا أزمة فعلية، على صعيد محتواه، وتوجهاته، ومخرجاته ومدخلاته؛ فهو يتعامل مع العلم من أجل الامتحانات، والامتحانات من أجل الشهادات، ويبقى اكتراثه بتكوين المهارات والمعارف الفعلية،كما أنه متقادم في محتواه؛ حيث يتعلم الطالب معلومات، أصبحت في تاريخ العلم، كما أنه يميل إلى التلقين من أجل اليقين، دون الاهتمام ببناء القدرا ت المعرفية الحقة.لذلك لابد من العبور من تكديس المعلومات؛ لتفريغها في الامتحانات، إلى تنمية المهارات الذهنية العليا؛ للتعامل مع المعلومات واستيعابها، وصولا إلى توظيفها في الواقع العملي. التفكير المنطقي، القدرة على التحليل، التفكير النقدي، معالجة المعلومات، وحل المشكلات، تعلم المفاهيم، تنظيم المعلومات في بنى المعرفة.

يجب أن نتعلم كيف نتعلم، عن طريق المرونة الذهنية، والقدرة التكيفية للتعامل مع التحولات.إذا أردنا الخروج من الدائرة المغلقة بكوننا دولا استهلاكية بامتياز.

فهل استوعبت الجهات المسؤولة عن التربية والتعليم الدور الفعال للمناهج والبرامج؟ وهل استطاعت تكييفها؛ لتكون في مستوى التحديات، التي يعرفها العالم اليوم؟

3- محو الامية الاعلامية: إن الإعلام في بلادنا العربية، يحتاج الى محو أمية كاملة؛ إذا أريد تحويله إلى فرصة تعليم وتربية وتنشئة. إن أكثر المواد الإعلامية البريئة من مثل أفلام الكارتون، والصور المتحركة، تشكل حالة لبث النموذج والقيم والتحيزات بشكل ضمني، من خلال الشكل واللون والتشويق، وإشباع حاجات الطفل والراشد العاطفية والترويحة؛ لأنها تمرر رسائل خفية، أثبتت العديد من الدراسات، أنها لا تقل خطورة في مضمونها، عن النماذج الصريحة.وهذا عمل هام، يتعين القيام به لمحو الأمية الاعلامية، بتبيان المضامين الخفية، للمادة الإعلامية الموجهة للطفولة والناشئة.لابد من تحويل إمكانات الإعلام الهائلة إلى فرصة للثقافة اللامحدودة، والمعرفة المتجددة، والانفتاح الشامل على الكون، إلى تجربة تربية، طول الحياة وطول الوقت؛ وإلا فإن البديل هو التعرض لعملية التدجين، والتنميط والقولبة، من خلال عملة لا واعية، بواسطة إغراق المشاهد في الممتع والجذاب والمثير.

لابد لمحو الإمية الإعلامية، أن تصبح توجيها، وإرشادا يطال الصغار والكبار، في البيت والمدرسة والشارع، ويطال مسؤولي الإعلام العربي، والفنيين والمراقبين والمنفذين، والوقوف ضد التعتيم والتضليل والتجهيل الممارس، من طرف بعض الجهات، لصالح جهات أخرى، لأغراض آنية ومستقبلية.

محو الأمية الإعلامية، لا تقل عن تقديم إعلام نظيف، خال من حالات التلوث، ومن التضليل والتحريف.

فإلى أي حد، استطاع إعلامنا العربي الانتباه، إلى خطورة دور المواد المقدمة له؟

وما هي البدائل المطروحة، من أجل تفادي خطورة الإعلام الوافد؟

وهل المواطن العربي واع، بما يمارس عليه، من خلال القنوات الموجهة، نحو أقطاره العربية؟

4- محو الأمية الثقافية، نقصد بمحوا الأمية الثقافية، القضاء على القحط والجدب والرتابة والحشو والوعظ، وإنجاز مادة ثقافية تشبع حاجات الإنسان، المعرفية والنفسية، الانتماء، الازمات النفسية، الحس الجمالي، الترويح أي المتعة والعادة.

تقديم مادة ثقافية، تعكس الغنى الهائل، للثقافة العربية والإسلامية،على صعيد الشكل والمضمون واللون والزخرف والنغم والإطار البيئي، والطراز العمراني.باختصار لابد لمحو الأمية الثقافية من إنتاج، قابل للتعامل مع تحديات الإعلام الوافد، والثقافات الوافدة وموازنة ذلك ولو جزئيا.وهذا يحتاج الى فنيين واختصاصيين ومنتجين ومديرين، يعملون كفريق متكامل.وإلا فإن نتيجة الأمية الثقافية، لن تكون أقل من تهديد الهوية والكيان.

لابد من تثقيف، يجعل الناشئة العربية، تفكر كونيا، وتطبق وطنيا؛ فمحو الأمية الثقافية، هو من مقومات بناء القدرة، وتحصين الهوية.

فما هي البدائل التي انتهجتها دولنا العربية، لحماية مواطنيها، وتحصين هويتها؟

أليست الجهات المسؤولة في عالمنا العربي أدوات من أجل ترسيخ ثقافة وقيم الغرب؟

5- محو الامية الابداعية: يشكل شرطا وعمادا للولوج الى المستقبل.لأن الامم التي لا تأخذ مواقف ابداعية في حلولها لمشكلاتها ستهلك وتنقرض.الفكر المبدع هو الذي يكسر قيود العرف والعادة والسير على خطى الاولين.إنه الفكر الذي يجسر على التساؤل حول كل شيء والخوض في مغامرة تصور أي شيء. انه الفكر الذي يكسر القيود التي يفرضها الذهن على ذاته.وينطلق محلقا لايجاد روابط غير مألوفة. وتلك هي قوة الدماغ الحقيقية.

محو الامية الابداعية هي مشروع تربية مستقبلية متكاملة مادام الابداع ممكن عند جميع الناس إذا توفرت شروطه النفسية الداخلية وظروفه الاجتماعة اي توفير مناخ ثقافي غني بمثيراته وتحدياته وتحفيزه.لأن غنى الابداع يتوقف على مدى غنى الحصيلة المعرفية وعلى مقدار الجهد الدؤوب. لا ابداع الا من خلال استيعاب واسع للتراث الثقافي أو العلمي وتكامله وشموله.

فهل المحيط التربيوي والثقافي بالعالم العربي يملك من المقومات ما يساعد على استفزاز الابداع عند الناشئة؟ام انه يعمل على قتل الملكات وبالتالي قتل الابداع

حين يمارس القمع والعنف والتهميش والنفي والعقاب وكل انواع الارهاب؟

6- محو الامية الانسانية: لمحو الامية الانسانية لابد من التحول من الانسان الاداة والوسيلة.. الى الانسان القيمة والغاية.لذلك نجد المجتمعات النامية تنادي بمحو الاستيلاب المادي للانسان.والاعتراف بانسانيته وحقه في حصانتها وصيانة حرمتها.والاعتراف بقيمة الانسان وجهده وتقديره.

تلك هي المسألة المزمنة والمهلكة في العالم العربي.

محو الامية الانسانية هي الاساس لاستعادة الانسان لاعتباره وحرمته وكيانه والاعتراف بامكاناته وقدراته.

ان تحول الانسان من حالة القيمة الانسانية ذات الحصانة الى حالة الشيء الفاقد للحرمة والقابل لأن يكون ضحية شتى الاعتداءات والتجاوزات، الانسان الملكية..الاداة..والعبء. يفقد الانسان كل قيمة ولا يبقى سوى اسطورة الملكية..وكلها تفتح المجال أمام الاعتداء والقسوة والاهمال والاستغلال وممارسة كل انواع العنف الصريح النفسي والجسدي.

إن أي مشروع عربي لابد أن يبدأ من هذه القضية والا فانه لن يبدأ مطلقا

أن محو الامية الانسانة تشكل شرطا ملزما في أساس أي تحرك عربي مستقبلي

وما نشاهده اليوم من دماء تسيل على امتداد العالم العربي خير دليل على محاولة المواطن العربي استرجاع انسانيته المهدورة على امتداد عقود.

فهل سينجح في محو الامية الانسانية؟

أم أن جذورها مازالت ضاربة في عمق تاريخنا الموغل في ضرب كل معاني الانسانية؟

***

مالكة حبرشيد - المغرب

"نحن اليوم نعيش أزمة "رجال" والزعيم الحقيقي هو من يصلح العود المعوج دون كسره"

أشارت كثير من الدراسات ان المشيخة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالذهبية القبلية، فزعيم القبيلة أو العشيرة أو القرية هو من يكون الأكبر سنا والأكثر تعقلا، يتعايش مع كل الأزمات والمواقف، فهو العقل المدبر والعقل الجامع بين أفراد القبيلة أو القرية وهو الحاكم والآمر والناهي فيها، والكل يأتمر بأوامره، وهو الوجيه بالقول والفعل، فصلاحيته تشمل مختلف جوانب الحياة، ولذا يلقبونه بـ: "الشيخ"، فالشيخ كما تقول البحوث هو المسؤول الأول على القبيلة أو العشيرة ومع الدولة المركزية وهو الوحيد المطالب على الحفاظ على العلاقات الإجتماعية، أو كما يسمى عندنا في الجزائر بـ: "تاجماعت" TAJMA3T في منطقة القبائل، فقد كان أعيان المنطقة وأبناؤها يمتثلون لكل القرارات التي تصدر عن تاجماعت، ومن بين الباحثين الذي سلطوا الضور على ظاهرة المشيخة نجد الدكتور غسان الخالد لبناني مختص في العلوم الإجتماعية، ارتكزت بحوثه على التحليل الإجتماعي بالتركيز على النظريات الخلدونية (نسبة الى المؤرخ وعالم الإجتماع عبد الرحمان ابن خلدون).

يقول الدكتور غسان الخالد أن مفهوم المشيخة أو الشيخ أنيطت بها مسؤوليات لابد على أن يتحلى بها، أول هذه المسؤوليات هي حل الخلافات داخل العشيرة وذلك للمحافظة على عملية الضبط الداخلي، أي تجنب الوقوع في الفوضى التي من شأنها أن تؤدي الى اشتباكات بين أفراد العشيرة، أي نبذ الاندفاعية والتهور في الممارسة واتخاذ القرارات من أجل إحلال السلام، حل الخلافات مع العشائر الأخرى أو إقرار التحالفات معها، والشيخ هو ممثل العشيرة في حالة الإعلان عن الحرب أو التفاوض، إلا أنه في هذه الحالات يشترط على الشيخ استشارة شيوخ الأفخاذ ووجهاء العشيرة (الأعيان) في إطار احترام مبدأ "الشورى" قبل اتخاذ أي قرار، كما أن هناك صلاحيات أخرى لها علاقة بالزواج والعلاقات بين الأفراد وغيرها من الصلاحيات التي لا تحق إلا لهذا الشيخ الذي يملك ما لا يملكه ابناء العشيرة من الحكمة والفِراسة والسياسة والتدبر والتعقل والمثالية ما تجعله يحافظ على أمن واستقرار العشيرة أو القبيلة، فلا يكون هناك عنف ولا تطرف ولا فوضى، فهذه الصفات لا تتوفر إلا في رجل يدرك معنى القيادة والمسؤولية، وبالتالي يستحق وصفه بالزعيم.

فالزعامة لها معاييرها وقوانينها وقواعدها، والزعيم وحده الذي يجعل الأفراد أكثر انضباطا، يمشون في صف واحد ويخضعون للقوانين الداخلية فلا يميلون مع الرياح والعواصف مهما كانت قوتها، وهو وحده الذي يصلح العود المعوج دون كسره، ونظرا لأهمية المشيخة في حياة الأفراد والجماعات عرف هذا المفهوم تطورا، وأعطيت له صبغة سياسية، جعلته يخرج من الإطار الإجتماعي التقليدي إلى الإطار السياسي، فظهر ما يسمى بـ: التيار "المشيخي" وتيارات أخرى، أخرجت مفهوم المشيخة من قالبه الأصلي، واختلفت هذه التيارات في توظيف المصطلحات كالشرعية والديمقراطية والحكامة والعدالة كما اختلفت في تحديد العلاقات بين الناس، وقد ساهمت التكنولوجيا الحديثة وظهور مواقع التواصل الإجتماعي في تشويه صورة "الشيخ"، وإعطائه أبعادا أخرى باسم الحرية في الكلام والحركة وتحت شعارات مختلفة لا تخدم مصلحة الجماعة، شعارات حولوها إلى عقيدة (عقيدة الولاء والبراء).

فنحن نرى اليوم كل تيار يرى نفسه هو الزعيم ووجب على الجماعة أن تطيعه ولا تناقشه، تمتثل لأوامره بعينين معصوبتان، ومن يعترض فهو خارج عن الجماعة ووجب إقامة عليه الحد، أو كما قال الحديث: من خرج عن الطاعة وخالف الجماعة فمات، مات ميتة الجاهلية، ومن قاتل تحت راية عميّة يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة... إلى أن يقول ومن خرج عن أمّتي يضرب برّها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي ذا عهد عهده فلي سمني ولست منه (فيما معناه)، هو ما يحدث الآن بين السلطة والمعارضة والتطورات المجتمعية المختلفة، دون أن يولي كل واحد منهما أولوية القضايا المطروحة اهتماما فوقع الشرخ، لأن كل واحد يرى نفسه على صواب وأنه هو صاحب الحق وله الشرعية .

***

علجية عيش

ان كتابة السير او التراجم، محاولة موغلة في القدم تكاد ترافق نشوء الكتابة، وكانت في بدايتها تعنى بسرد اخبار الرجال وذكر مآثرهم بإسلوب يفتقر اغلبه الى الجو البلاغي في التعبير، وهذا ما جعله يقترب الى التاريخ اكثر منه الى الادب، اضافة الى كون مضمونه بحاجة الى نقد وتحليل وتعليل لجوانب كثيرة في شخصية المكتوب عن سيرته، وهذا يعود بلاشك الى عدم توافر القدرة الكافية على الإلمام بظروف وجوانب حياة صاحب السيرة.

ولعل ظروف العصر القديم وأحواله الثقافية والاجتماعية قد ساهمت في ذلك ايضا .. وتأرجحت كتابة سيرة او ترجمة الشخصيات في اكثر عصورها بين الحقيقة والمجاملة ..!، ويكاد يكون للمجاملة نصيب اوفر في كتابة السير، لتأثر الكتاب في كل العصور وبفعل طبائع البشر بعلاقات صداقة او بصلات قرابة، لولا ان فطن بعض المؤرخين الى ذلك فأنقذوا الحقيقة من الضياع باتباعهم مناهج علمية موثقة في تقصي الواقع واقتناص الصواب، كما فعل الطبري مثلا في تاريخه المعروف الذي اعتمد فيه الإسناد لتأكيد صحة الرواية او الخبر ومدى توافر عنصر الصدق فيهما، وقد قامت العوامل الشخصية في كل الأمم بدور فاعل في ابعاد الحقائق التاريخية عن مضمون السيرة او الترجمة بدوافع كثيرة، منها الإعجاب المفرط بالشخصية المترجمة ومحاولة تقصي حسناتها دون الالتفات الى الحقائق النفسية والسلوكية الاجتماعية كما حصل مثلا للمؤرخ الروماني (تاسيتس) في القرن الأول الميلادي، عندما كتب (حياة اجريكولا) بدافع الاعجاب مضافا اليه صلة القرابة، وكما حصل في تراجم (فورد) المؤرخ الانكليزي الذي كان صديقا لـ(كارليل) ومترجما لحياته، تلك الترجمة التي اسرف في روايتها بدافع الصداقة والمجاملة حتى اصبحت ضعيفة من وجهة نظر المؤرخ الحقيقي.

هذه امثلة يسيرة حسبما يسمح به المقال، ولانريد هنا ايضا التعرض لموضوع المذكرات وكتابة السير الذاتية لأن لها حديثا خاصا ..وعلى الرغم من أثر العوامل الشخصية في كتابة السيرة، إلا ان نتاج المؤرخ او الكاتب في مثل تلك الأجواء يبقى متروكا أمام قناعة القارئ او الباحث سواء أغلب ذلك النوع من التراجم على غيره أم لا، فإن كتب التراجم الناطقة بالحقيقة التاريخية هي الأخرى متوافرة ولكل دوافعه وأهدافه، فمن القديمة مثلا (معجم الادباء) لياقوت الحموي الذي أكد في مقدمته انه ترجم للرجال بدافع ذاتي لخدمة الأدب والتراث، وليس بدافع التأثيرات الخارجية، او بفعل علاقات شخصية غيّرت مسار قلمه، وكذلك كتاب (وفيات الاعيان) لابن خلكان الذي يعد مرجعا امينا لتراجم الرجال على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم الثقافية، بعيدا عن الإسراف في القول وعن المبالغة في الصفات وعن المجاملة في سرد الحقائق، وفي ذلك يقول: (اني بذلت الجهد في التقاطه من مظان الصحة، ولم اتساهل في نقله ممن لا يوثق به، بل تحريت فيه حسبما وصلت القدرة اليه)، وبذلك لفت أنظار مؤرخي الآداب اليه في سائر الامم بعد ان كانت الأنظار موجهة بإعجاب الى كتاب (بلوتارك). وبالإضافة الى الامانة العلمية التي تحلى بها بعض المؤرخين في كتاباتهم، فإن الإنصاف والعدالة في اختيار الرجال صفتان قد غلبت عليهم ايضا .

ومنذ بداية القرن العشرين ظهر تحول جديد في كتابة السير، حيث اكتسبت الترجمة أجواءً أدبية أكثر امتزاجا بالتاريخ وأسرع احتكاكا بعلم النفس، بفعل خلفية الكاتب الثقافية وسعة أفقه، وعدم قناعته بما يقرأ إلا بعد تحقيق وتمحيص واجتهاد، كما حصل مثلا في كتابات الاديب الموسوعي عباس محمود العقاد في (العبقريات) وغيرها.

وعلى الرغم من سلوك بعض المؤرخين المعاصرين منهجا علميا أمينا قد شمل عند بعضهم حتى النواحي النفسية للمترجم له في ضوء الدراسات الحديثة.. إلا ان بعضهم قد أوجز فأحسن الإيجاز بروح علمية عالية، معتمدا في ذلك على مراجع ومصادر التراث، ومشيرا اليها في هامش كتابه كما حصل مثلا في كتاب (الاعلام) لـ (خير الدين الزركلي) الذي أشار فيه الى اسباب الايجاز بقوله: (وتعمدت الايجاز ما استطعت ولم أتعرض للأحياء من المعاصرين مخافة الوقوع فيما لا أحمد ..اما من أغدق عليه بعض مؤرخينا نعوت التمجيد وصفات الثناء اغداقا، كما صنع اصحاب (الريحانة) و(اليتيمة) و (السلافة) و(سلك الدرر) وعشرات اشباههم .. فقد تعمدت اهمال ذكرهم اجتنابا للإطالة على غير ما جدوى، ورغبة في الوقوف عند الحد الذي رسمته لنفسي في وضع هذا الكتاب) ان الإيجاز وإن كان مرغوبا في حالات معينة،إلا انه غير مطلوب في مواضع او اجواء اخرى، ومهما يكن من امر، فإن كتابة السير كتابة تاريخية حقيقية موثقة هي مسؤولية لا ينوء بحملها إلا من كان جديرا وقديرا، لأنها عملية تحتاج الى الدقة العلمية، والى الاحاطة الشاملة ثم الى قدرة الكاتب على تصنيف العلماء وغير العلماء،لكي لا يتساوى الطود الشامخ مع التل الهامد، ولابد ايضا ان يكون الاسلوب ممتعا، لأن القارئ المعاصر يبغي سهولة التعبير وجماله مع صياغة بيانية سريعة التوغل في النفس، فهو اذا اراد ان يقرأ سيرة عالم او اديب او شاعر مثلا، فإن اول ما يرغب فيه هو معرفة نفسيته وسلوكه مهما كان اختصاصه، سواء عرف القارئ ذلك من خلال النتاج العلمي او الادبي لصاحب الترجمة او من خلال الصورة التي رسمها المؤرخ او الكاتب لتلك السيرة باسلوب ممتع يجمع بين التراث والمعاصرة.

واذا كان القدماء قد اعتمدوا الإسناد في كتابة السيرة بعد جهد جهيد كوسيلة للوصول الى الحقيقة والصواب، واذا كان الخلاف ينشب بين حين واخر بين كتابنا المعاصرين حول حدث تاريخي قد مضى عليه كذا من السنين، او حول قضية شخصية لها علاقة بالمترجم له بسبب عدم تحقيق وتوثيق السيرة او الحدث في زمانه، واذا كان كل ذلك قد حدث، فلا أظنه يحدث في زمن المقابلات الفضائية واللقاءات الحيّة المباشرة مع ذوي العلم والمعرفة او مع من يترك بصمة مجد في التاريخ. وفي ضوء ذلك هل يجرأ الباحثون ان يضعوا في دائرة الضوء مضامين السير التي افتقرت و تفتقر الى المصداقية او في الأقل الاشارة الى ذلك الافتقار خدمة للحقيقة، منطلقين في تفعيل ذلك من الحكمة القائلة: (قيمة كل امرء ما يحسنه) .

***

د. عدنان عبد النبي البلداوي

في سنواتي الاولى مع القراءة والكتب عثرت بالصدفة على كتاب اسمه "هؤلاء علّموني"، الكتاب لم يكن رواية مثلما خمنت، لكنه أشبه برحلة يقوم بها المؤلف سلامة موسى متقصياً لحياة وأعمال عددٍ من الشخصيات. انزويت بالكتاب جانباً، كانت المرة الاولى التي اسمع فيها باسم سلامة موسى، في ذلك الوقت لم أكن أرى من الكتب سوى الروايات التي يصدرها محمود حلمي في سلسلته الشهيرة "كتابي". لكني الآن مع كتاب مختلف وصاحبه مختلف ايضا، كان قد نشر عشرات الكتب التي أثارت حفيظة المتزمتين آنذاك.

كان هذا أول عهدي بكتاب فكري، لم اسمع بأسماء الذين يروي سلامة موسى حكاياتهم، ولا أعرف ما معنى الانسان السوبرمان، ونظرية التطور، وما الذي يمكن ان ينفعني من منطق جون ديوي، لكن الكتاب استولى على عقلي، والحقيقة أنني انتهيت منه دون أن أعرف ماذا يريد المؤلف ان يقول، فهي المرة الأولى التي أقرأ فيها كتاباً لا حكاية ممتعة، ولا مسامرات بين الأبطال، كنت أقرأ في كلمات لا أفهمها، لكن الرغبة في أن أعرف جعلتني ألتهم الكتاب في يومين.

ثم كان أول لقاءٍ حقيقي لي مع سلامة موسى. كان لي صديق في مثل عمري، له أخ يدرس في كلية الآداب وكانت لديه مكتبة تضم عشرات الكتب، وكنت في كل مرة أدخل فيها الى بيتهم لابد ان أمرّ على هذه المكتبة وأتحسّس كتبها وأنظر اليها مأخوذاً أسأل نفسي: هل يمكن ان تكون لي مكتبة بهذا الحجم في يوم من الأيام ؟

بعد ذلك سيكون هذا الاخ الكبير ا أول من يشرح لي ألغاز كتاب سلامة موسى، وأخبرني، وهو يشير الى مجموعة من الكتب، أن هناك كتباً كثيرة لسلامة موسى، وأن لكلّ كتاب موضوعاً يحتاج منّي أن أقراه بانتباه. وأعتقد أنني بعد شهور من التفرغ لقراءة كتب سلامة موسى، بدأت أتذوق واستطعم هذا النوع الفخم واللذيذ من الكتابة.

في الرابع من كانون الثاني عام 1887، كانت ولادة سلامة موسى في بيت لموظف كبير يتقاضى نهاية كل شهر سبعة جنيهات. الطفل الذي رحل والده قبل عامين، لا يتذكر شيئا من هذا اليوم الذي اطلقت عليه والدته "يوماً أسود"، هكذا يخبرنا في كتابه "تربية سلامة موسى"، ولا ينسى ان يضيف أنه كان طفلاً منعزلاً، فقد كانت أمه تخاف عليه، فألبسته ملابس البنات اتقاءً للحسد، ومنعته من الخروج الى الشارع حتى نشأ على ما قال "محبا للوحدة والانطواء".

في مقدمة كتابه "أحلام الفلاسفة" يكتب سلامة موسى تعريفاً لحياته: "كنت ذلك الصبي الذي أرادت والدته ان تشكّله مثل عجينة طريّة ".. في تربية سلامة موسى التي أسماها سيرة ذاتية يقسم حياته مثل فصول الكتاب الى قسمين أساسيين، الأول بعنوان "تربيتي الادبية" والثاني "تربيتي العلمية". ويفسر لنا في السيرة، كيف أنه ربّى نفسه ثقافياً:  "عندما أرجع الى البذور الأولى والجذور التي نشأت ونبعت منها ثقافتي الحاضرة، أجد أنها تكاد جميعها تعود الى الفترة الواقعة بين 1907 و1911 حين كنت في لندن، ففي تلك الفترة كانت طائفة من المذاهب والنظريات في الأدب والعلم " تتجرثم" وقد كان من حظي ان أدركت الجراثيم الاولى لهذه الحركات ".

كان يتمنى أن يعيش مئة عام، يموت ومن حوله الكتب، مثلما كانت نهاية الجاحظ، لم تجتمع لكاتب عربي غيره قوة التأثير والتنوع في الكتابة، أصبحت كتبه مَعلماً من معالم المكتبة العربية، وتفشت أفكاره حتى اعتقد أدباء ذلك العصر ان هذا الرجل المتوسط القامة سيسحب البساط من تحت أقدامهم، ما دفع الكثير منهم ان يخصص جزءاً من وقته للرد على "هرطقات" سلامة موسى.

كانت كتبه أشبه بالتحدي لموقف المجتمع من العلم والحضارة والتطور، وبرغم العديد من الكتابات التي صنّفت سلامة موسى بخانة الأدب، إلا ان الرجل وهو الذي كتب عن تولستوي وبرناردشو والأدب للشعب، وفي الحياة والأدب، وخصص أحد كتبه للأدب الانكليزي الحديث، يرفض ان يكون أديباً، فقد ظل الى اللحظة الأخيرة من حياته يعتبر نفسه مفكراً: "لم تترك الكتب الأدبية في رأسي مركبّات ذهنية، كتلك التي تركتها كتب داروين ونيتشة ومقالات اينشتاين، فقد غيرني داروين، اما اوسكار وايلد وكارليل من الأدباء فقد نسيتهم."

كان يرى ان فكرة التطور التي أطلقت نهاية القرن التاسع عشر نجحت في تفسير الظواهر الإنسانية والاجتماعية والتاريخ، ويتساءل في كتاب "نظرية التطور وأصل الإنسان" الصادر عام 1928 عن إحساسه تجاه نظرية داروين فيقول:  "عندما استبطن إحساسي الديني أجد بؤرة هذا الإحساس هو التطور، فأنا أفهم أننا وجميع الأحياء أسرة واحدة بما في ذلك النباتات وان الخلية الأولى التي نبض بها طين السواحل، قبل ملايين السنين هي عنصرنا الأول وأننا مازلنا ننبض ونتغير في تجارب لاتنقطع وان سنّتنا هي سُنّة التغيير، وجريمتنا هي جريمة الجمود ".

كان سلامة موسى يرى ان المفكرين هم الذين يغيرون العالم. وتعريفه للمفكر هو الذي يصنع شسئا من اجل تطوير حياتنا وتغييرها، وهو الذي يوقضنا وينبهنا على افكار جديدة. وحين يتامل سلامة موسى تاشخصيات التي اثرت في حياته، سيشير في البداية الى نيتشه ومغامرته الفلسفية يكتب في هؤلاء علموني: " هبط عليَّ نيتشه كما لو كان وحيا أو كشفا، نثرٌ ساحرٌ كأنه أبيات من الشعر، وخيال يرتفع إلى آفاق المستقبل، وجرأة تكاد تجمِّد ذهن الناشئ رهبةً وجزعا. ثم إلى ذلك فلسفة تعلو على برود المنطق، وتأخذ بحماسة الإيمان وغلواء التفاؤل، وفي كل ذلك ارتباط بالتطور، ( إني أعلمكم علم السوبرمان، أو الإنسان الأعلى، ما هو القرد إزاء الإنسان؟ أضحوكة أو خزي، وكذلك يجب أن يكون الإنسان إزاء السوبرمان، أضحوكة أو خزي! إنما الإنسان معبر أو جسر يصل بين القرد والسوبرمان، سوف يكون السبرمان ازدهارًا وخيرًا وتعبيرا نهائيا للأرض، أستحلفكم أن تكونوا أمناء للأرض، وأن تكفوا عن التطلع إلى النجوم تنشدون منها آلاما ومكافآت، إن عليكم أن تضحوا بأنفسكم للأرض حتى يتاح لها أن تنجب يومًا ما السبرمان … الإنسان شيء يعلى عليه، فماذا فعلتم كي تعلوا عليه؟ )، كلمات رائعة كان وقعها في نفسي، وأنا حوالي العشرين، وحيا أو كشفا، فتعلقت به، وكتبت عنه مقالا في مجلة المقتطف في عام ١٩٠٩ بعنوان: (نيتشه وابن الإنسان) ". والفيلسوف الثاني الذي يستحوذ على اهتمام سلامة موسى هو كارل ماركس الذي يصفه في مقال نشره بعنوان " تربيتي العلمية " بان تاثيره يزداد بمرور السنين، ونظرياته تحيا في كل مكان: " المتعمق في دراسة ماركس لا يتمالك من الشعور بانه هو لا فرويد، الاساس الصحيح لفهم السيكولوجيا، فإن ماركس اثبت ان العواطف الاجتماعية، اي التي نكتسبها من المجتمع، اكبر قيمة وابغث على التغيير والتطور " – تربيتي العلمية – في حوار اجرته معه مجلة القاهرة عام 1996 يقول نجيب محفوظ: " سلامة موسى ابي الفكري، فهو استاذي العظيم. الشديد التطلع والشغف الذي لا يوصف بالعلم والحضارة "

لم تكن الفلسفة بعيدة عن تفكير نجيب محفوظ الذي بدأ حياته الادبية بكتابة المقال الفلسفي وقد نشر له سلامة موسى في مجلته " الجديدة " اول مقال وكان بعنوان " احتضار معتقدات وتولد معتقدات "، وفيه يشير نجيب محفوظ إلى أن " المدنيات القديمة قامت على معتقدات ترسخت في وجدان شعوبها، لأنها كانت بمأمن في نفوسهم من النقد والبحث اللذين يولّدان الشك والريبة، غير أن الوضع الحالي أصابه تغير بتسليط ضوء العقل على تلك المبادئ التي قامت بها تلك المعتقدات القديمة، ولذلك فإن العصر الحالي يعاني فيه الناس من الاضطراب والتخبط الفكري والمعرفي،لأنهم يشهدون عصر احتضار وتولد معتقدات. ولذلك فالمقياس الذي علينا أن نتشبث به هو العقل والتطور العقلي، لأنه سيجعلنا نتوجه إلى الطريق الأصوب، وإذا كانت الفلسفة تطرح الأسئلة، فبإمكاننا أن نقول إن الأدب يحاول طرح إجاباتها، وتشكيل زوايا لرؤية تفاعل الشخصيات مع تلك الأسئلة، وكذلك محاولاتها للحل في المعالجة الفنية. وهو ما يقوم به الأديب ذو الخلفية الفلسفية على وجه التحديد". كان ذلك عام 1930 وكان نجيب محفوظ يبلغ من العمر آنذال تسعة عشر عاما، ويتذكر في الحوار الذي اجراه معه رجاء النقاش ونشر في كتاب بعنوان " صفحات من مذكرات نجيب محفوظ " انه ارسل عام 1929 رسالة إلى سلامة موسى يبدي اعجابه بكتاباته، وكان نجيب محفوظ وقتها طالبا في الثانوية، ويقول ان صورة سلامة موسى في ذهنه في ذلك الوقت " كانت ترتبط بالعدالة الاجتماعية، والديمقراطية، والتصنيع، وحرية المراة، واهمية العلم، هذه المفردات كانت شاغل سلامة موسى الأساس ".. بعد ذلك سينشر نجيب محفوظ عام 1936 وفي مجلة " الجديدة " ايضا مقالا بعنوان " فكرة الله في الفلسفة " وفي نفس العام مقالا بعنوان " الثقافة والفن "، يقول نجيب محفوظ لانيس منصور ردا على سؤال حول اهم الاشكال الادبية التي جربها: " لقد بدأت حياتي بكتابة المقال، كتبت بصفة متواصلة بين عامي 1930- 1936 مقالات في الفلسفة، ثم اهتديت الى وسيلتي التعبيرية المفضلة، وهي القصة والرواية ".

تخرج نجيب محفوظ من قسم الفلسفة كلية الاداب عام 1934، وقضى عامين في اعداد رسالة لنيل الماجستير عن مفهوم الجمال في الفلسفة الاسلامية، باشراف الشيخ مصطفى عبد الرازق، لكنه تركها لينصرف الى الرواية،، وفي هذه السنة ينشر مقالات عن الفلسفة وكان واحدا منها بعنوان " ماذا تعني الفلسفة ؟ " يشير فيعه الى ان اهم وظيفة للفلسفة هي النقد: " ويشير بذلك الى الفيلسوف الالماني ايمانويل كانط الذي: " استطاع ان يمحص المذاهب الفلسفية السابقة، ويقصي عنها المبالغات والادعاءات المتطرفة لبنتخي بانشاء فلسفة قوية تُعد من امتن المفاصل في هيكل الفلسفة العامة " وهو يرى ان كانط يرجع كل المسائل الى العقل، فكل شيء صحيح مادام ننظر اليه بعين العقل. الى جانب كانط وسقراط وهيغل وشيلينغ وافلاطون، يولي نجيب محفوظ اهتمام خاص لفلسفة هنري برجسون وكان يتمنى ان يحصل على شهادة عليا في فكر الفيلسوف الفرنسي الشهير، وسيتناوله في اكثر من مقال، خصوصا عند الحديث عن الشخصية وسلوكياتها، وفي مقال بعنوان " فلسفة برجسون " يصف نجيب محفوظ هذه الفلسفة بانها اقوى رد على فلسفة القرن التاسع عشر، كما انها: " توجه الى المادية ضربات شداد، وسوف نلاحظ آثارها في الفلسفة الحديثة بوجه عام " – فلسفة برجسون 1934 –. ويمكننا تتبع اهتمام نجيب محفوظ بفلسفة برجسون من خلال ابطال رواياته. فها هو كمال عبد الجواد في السكرية يقرأ كتاب برجسون منبعا الاخلاق والدين: " لما فيه من نزعة رومانسية صوفيه " – السكرية –، ونجد نفس المشاعر لدى ابراهيم عقل في المرايا الذي يقرأ كتاب برجسون نفسه. ويصف نجيب محفوظ في السكرية حال كمال – الذي هو يجسد شخصية نجيب محفوظ – بانه: " قد يلوذ من الوجشة بوحدة الوجود عند سبينوزا او يتعرى عن هوان شأنه بالمشاركة في الانتصار على الرغبة مع شوبنهاور او يُهون من احساسه بتعاسة عائشة بجرعة من فلسفة ليبنتز في تفسير الشر او يروي قلبه المتعطش الى الحب من شاعرية برجسون " – السكرية -

العام 1939 ينشر روايته الاولى عبث الاقدار متسلسلة في مجلة " الجديدة " مع مقدمة بقلم سلامة موسى يبشر بولادة روائي جديد " خليق بالعناية والاعتبار "..العام 1956 حين ينشر نجيب محفوظ " بين القصرين " في كتاب، وكانت قد نشرت عام 1954 متسلسلة في مجلة الرسالة الجديدة، وهي الجزء الاول من ثلاثيته، يكتب طه حسين مقالاً في صحيفة الجمهورية المصرية يشيد بالرواية ويعتبرها: " اروع ما قرات من القصص المصري منذ ان اخذ المصريون يكتبون القصص " ثم يشير طه حسين إلى نقطة مهمة وهي علاقة الفلسفة برواية بين القصرين فيكتب: " وكل شخصية في هذه دليل واضح قاطع على ان الاستاذ نجيب محفوظ قد انتفع بما سمع في كلية الاداب من دروس الفلسفة.. لم يصبح فيلسوفا ولا مؤرخا للمذاهب الفلسفية، وانما اصبح فقيها بالنفس الانسانية بارعا في تعمقها وتحليلها، قادرا على ان يضع يد قارئه على اسرارها ودقائقها

كان نجيب محفوظ، يشعر بأنه أمضى حياته وهو يتجه نحو نقطة يتمكن معها من كتابة رواية عن مفهومه للدين والعلم، فهو الآن في الثانية والأربعين من عمره (عام 1953)، ويتذكر مقاله الذي كتبه عن فكرة الله في الفلسفة والذي نشره قبل اكثر من عشرين عاما، وفيه يقول : "شعر الفلاسفة المحدثون، كغيرهم من المفكرين في أي عصر آخر، بأننا نستطيع أن نعرف القليل عن الله، لكننا لانستطيع أن نعرف عنه كل شيء، فثمة طرق نستطيع أن نعرف فيها الله وأخرى لانستطيع أن نعرفه فيها".. ولهذا سيظل سؤال الوجود يطارده فنجده في الثلاثية يسلط الضوء على إزمة الإنسان الوجودية ورؤية أبطال الرواية الى الكون، وشكوك البعض منهم تجاه المعتقدات المتداولة آنذاك: "وجَّهني سلامة موسى إلى شيئين مهمين، هما العلم والاشتراكية، ومنذ دخلا مخّي لم يخرجا منه حتى الآن".

في الجزء الثاني من الثلاثية قصر الشوق - يرصد نجيب محفوظ القادم من الفلسفة الى الرواية، ما حصل لكمال عبد الجواد وهو يتعرف على أحدث النظريات العلمية: قبل الخروج الى صلاة الجمعة بساعة، دعا أحمد عبد الجواد، كمال الى حجرته. كان بعض أصحابه قد وجهوا نظره مساء أمس الى مقال ظهر في البلاغ الأسبوعي بقلم الأديب الناشئ (كمال عبد الجواد). ومع أنّ أحداً منهم لم يقرأ المقال إلا العنوان (أصل الإنسان) فإنهم اتخذوا منه مادة للتعليق والتهنئة وممازحة السيد.

قال بهدوء مصطنع: - لك مقال في هذه المجلة، أليس كذلك؟

رفع كمال عينيه عن المجلة، ثم قال بلهجة لم يمكنها من الإفصاح عن اضطرابه: بلى خطر لي أن أكتب موضوعاً تثبيتاً لمعلوماتي وتشجيعاً لنفسي على مواصلة الدرس.

قال السيد بهدوئه المصطنع: لاعيب في ذلك.. ماذا أردت بهذه المقالة؟ اقرأها واشرحها لي، فقد غمض عليّ مرامك.

-إنه مقال طويل يا بابا، ألم تقرأه حضرتك؟ إنني أشرح فيه نظرية علمية.

-ماذا تقول هذه النظرية؟ لقد لفتت نظري عبارات غريبة تقول إن الإنسان سلالة حيوانية، أو شيء من هذا القبيل، أحق هذا؟.

-هذا ما تقرره هذه النظرية.

علا صوت السيد وهو يتساءل في انزعاج:

-وآدم أبو البشر الذي خلقه الله من طين ونفخ فيه من روحه، ماذا تقول عنه هذه النظرية العلمية؟!

قال بصوت خافت: - دارون صاحب هذه النظرية لم يتكلم عن سيدنا آدم.

هتف الرجل غاضباً

-لقد كفر داروين ووقع في حبائل الشيطان، إذا كان أصل الإنسان قرداً أو أي حيوان آخر، ألم يكن آدم أباً للبشر؟

يكرّر نجيب محفوظ في معظم رواياته علاقته مع العلم والفلسفة. وقد كان يؤمن أن الفكر الفلسفي وحده يستطيع النفاذ والنظر الى مشكلة الألوهية والخلق، فهو يرى أنّ العلم هو الصورة الوحيدة للمعرفة البشرية،، وكان يرفض اعتبار اللاهوت أو الفلسفة الميتافيزيقية ميادين للمعرفة، فالعالم الذي يصفه العلم هو العالم الوحيد الموجود، وهو يرى أن مسائل الدين والأخلاق يجب أن تخضع لمعايير العلم.. يتذكر نجيب محفوظ أنه نشر عام 1933 مقالاً عن عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي أوغست كونت الذي أيقن في السنوات الأخيرة من حياته أن فلسفته تنطوي على أسس لعقيدة جديدة للبشرية وأنها هي وحدها الملائمة في نظره لعقل البشر في عصر علمي، فالأديان التقليدية تقتضي قبول معتقدات لاهوتيّة غير علميّة. لكنّ المؤسف أن كونت في السنوات الأخيرة من حياته أصيب بعلّة ذهنية اعتقد فيها أنه يبشّر بديانة جديدة، ولم يكتف بالدعوة الى عقيدته الجديدة، وإنما اتجه الى وضع طقوس خاصة لها، وكان يؤمن بأنه النبي الحقيقي لعقيدته الجديدة، وبأنّ زوجته هي القديسة الحامية لهذا الدين..يكتب كونت: "إذا كانت الأصولية المسيحية قد انهارت فهذا لا يعني أن الدين قد انهار، وإنما يعني أننا بحاجة إلى بلورة مفهوم جديد للدين: أي مفهوم كوني واسع يشمل البشرية بأسرها، مفهوم قائم على الحب وتجاوز الأنانيات الشخصية والمصالح العابرة للبشر."

في " ثرثرة فوق النيل" تتناثر على لسان ابطال الرواية عبارات العبث والتمرد والوجودية، حتى ان بعض ابطال الرواية يتهكمون على الفلسفة الوجودية التي يصفونها بانها تبيح كل شيء.. لا شيء يستحق الاهتمام هكذا يؤكد ابطال ثرثرة فوق النيل، فنجدهم يجربون حياة العدم الذي هو المحور المسيطر على حياتنا، كما يؤكد نجيب محفوظ في ثرثرة فوق النيل.

يكتب محمود امين العالم: " ان ادب نجيب محفوظ هو ارفع صورة بلغها الادب الفلسفي في تراثنا الادبي المعاصر، وإذا كان توفيق الحكيم هو فيلسوف الادب في فترة ما بين الحربين، فان نجيب محفوظ فيلسوفه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو فيلسوفنا بوجه خاص خلال السنوات الاخيرة ".

في كتابه " الدنيا بعد ثلاثين سنة " الذي نشره عام 1936 يكتب سلامة موسى: " التطور يسير بسرعة مذهلة.. لن ارى الاشتراكيىة عام 2000 كما توهمت " فيالرابع من آب عام 1958 يرحل سلامة موسى عن عالمنا وكان قد كتب في الصفحات الاخيرة من كتابه " تربية سلامة موسى " تعريفا بنفسه: " "وإذا شئت أيها القارئ، زيادة في التفاصيل فاعرف: 

1 - أني أؤمن بالحقائق. ومن هنا تعلقي بالعلم لأنه حقائق.

2- وإذا كان لا بد من عقيدة فإني أؤمن بها عندما تكون ثمرة الحقائق العلمية. فإني أعتقد مثلاً بالمستقبل الاشتراكي للعالم كما لمصر. وأعمل له. لأن الإقتصاديات العصرية تومئ بذلك.

3- وأؤمن بأنه ليس في الدنيا أو الكون أو المجتمع إستقرار. لأن التطور هو أساس المادة والأحياء والمجتمعات، أي أساس الوجود. وأن الجمود الاجتماعي هو معارضة آثمة من الأشرار لسنن الكون والحياة ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

تحتاج الأمم على الدوام إلى القيام بمراجعات نقدية لأنساقها الفكرية، وذلك قصد تجاوز كل ما قد يعرضها للتأخر وعدم مسايرة عصرها. فيما سيأتي محاولة متواضعة  للتساؤل ليس إلا، قصد محاولة اكتشاف أين الخلل في منظومتنا الفكرية خاصة في دول عالمنا الثالث، لهذا فمحاولتنا ليست تقديما لحلول سحرية أو ناتجة عن معرفة دقيقة، فلست مثقفا ولا مفكرا، ولكنني رجل يود أن يتساءل بدون توقف، فالتوقف عن السؤال توقف عن الحياة، وتوقف عن النمو والسير قدما. وتجدر الإشارة إلى أننا في عالم اليوم نحتاج إلى رؤية جديدة للتصالح مع بيئتنا الثقافية والطبيعية، لأن تجديد الفكر هو إحياء للعالم الذي أضحى يواجه أخطارا متصاعدة تقوده شيئا فشيئا نحو المجهول، هذه الأخطار نرجعها إلى عاملين رئيسيين أولهما بشري مرتبط أساسا بالممارسات السياسية والاقتصادية، خصوصا الناتجة عن ايديولوجات تسعى للهيمنة، ما يولد تفكيرا منفصما ووعيا شقيا في العالم بأسره، وسط دوامة يسودها التعصب القومي والديني، لنغلق القوس… وثانيهما، عامل طبيعي يؤثر في الأول ويتأثر به، فالممارسات السابقة الذكر أرضخت الطبيعة وجعلتها تعاني الويلات، فاستجابت بتغيرات مناخية تهدد مصير الأرض، وبتراجعات على شتى المستويات.

أولا: دور المثقفين في المراجعة الفكرية للمجتمع

المثقف في كل مجتمع هو بمثابة القلب النابض، فبدونه لا يمكن له أن يكتشف مميزاته التي ينبغي تطويرها ولا ثغراته التي يجب استدراكها قبل حلول الكارثة. له دور المصحح للمسار، ودور المتمرد دوما، وهو الذي يقول لا لكل أشكال الإضرار بالإنسان وبالطبيعة، له القدرة على الاحتجاج والترافع من أجل السير قدما بالحياة الإنسانية فوق الأرض، يشعر ويتحسس ألام الآخرين ويمنحهم الأمل ولو في دوامة من العدمية والسوداوية، يرفض الدوغمائية ويحتج على كل تطرف وكل تعجرف كيفما كان، هو الذي يتدخل باختصار حتى فيما لا يعنيه كما قال سارتر، وله وظائف مختلفة باختلاف المجتمع الذي ينتمي إليه، فمنه يستنبت مفاهيمه ومن أجله يبلور مشروعا مجتمعيا متكامل الأركان.

فللمثقف من هذا المنظور دور تاريخي، بما تحمله الكلمة من معنى. وعندما نقول دور تاريخي فإننا نقصد أن للمثقف مسؤولية جسيمة، تتمثل في  الإحاطة بماضي وواقع وحتى بمستقبل شعبه والعالم أجمع  لما لا.  نقول هذا لأن هناك من يرى التاريخ بمنظور ضيق، ويعتبره فقط كل ما مضى وعفا عنه الزمن. المثقف إذن هو الأقدر على فهم ماضي المجتمع وفق نسق فكري يقتضي التحقيق والتحليل للوقوف عند مكامن الخلل في حياة السابقين وإدراك المستوى الذي وصلوا إليه وتوقفوا عنده قصد الاستمرار أو إحداث القطيعة،  وهو أيضا ذو المكانة الأجدر لنقد حاضر وواقع مجتمعه من خلال آليات تهدف إلى تقديم التحليل العلمي والعملي لما يقع، وبهذا استشراف المستقبل ووضع الخطط الكفيلة بتفادي الأسوأ وتوفير ظروف لائقة لأجيال ستأتي، كل ذلك من المفترض أن يقوم به المثقف وهو محتفظ وحريص بشدة على الموضوعية، التي ظلت من أهم سمات كل من نسميهم مثقفين.

المثقف هو البوصلة لشعبه، وخصوصا إذا كان تائها كشعوبنا، وعليه أن يحارب ضحالة  الفكر والتفاهة ويحاول أن يفهم للناس أولا دور التغيير والمراجعة بشكل يومي لفكرهم، ويقنعهم بأهمية التفكير لتجاوز قصورهم والارتقاء لمرتبة تمكنهم من الحصول على صفة “الإنسان” بما للكلمة من معنى، لأن الشعوب ميالة إلى الاحتفاظ بنفس النمط ورفض كل ما  جديد، لأنه يزعزع استقرارها ويزرع الشك في يقينياتها، وهذه أيضا من المهام المنوطة بالمثقف، زرع الشكوك، إذن هو القادر على زرع الجرأة في استخدام العقل، كي يحقق مبتغى كانط في معرض حديثه عن الأنوار.  ومن هنا فمهمة المثقف أن يحاول مواجهة الأفكار القديمة والتي لم تعد صالحة بتبصر كي لا يصبح عدوا للجماهير فيما من المفترض أن يصاحبها وينصهر معها في مواجهة مصيرها، أن يصبح عضويا بتعبير أنطونيو غرامشي، لذلك فوظيفة المثقف صعبة جدا، بيد أنه اختارها عن طواعية وعليه أن يكون مستعدا لمواجهة شتى الأخطار. ولا ننسى أن للمثقف مكانة السفير لثقافته، فهو الذي يعكس فكره وثقافته، لذلك وجب عليه أن ينخرط في الانفتاح الواعي لمجتمعه على العالم، لاحتواء تعدديته واستيعابها والاستفادة من عصارة الفكر البشري، هو ما يسميه عبد الكبير الخطيبي “النقد المزدوج” في كتاب يحمل ذات العنوان، وسنعود إليه لاحقا، إذا سمحت الأقدار بذلك… ومعه واجب على المثقف أن يواجه وبوعي تام كل أشكال الهيمنة التي يواجهها مجتمعه في سياق الانفتاح على الأخر. انه إذن حامل لخطاب ورسالة وفي نفس الآن، هو مستعد للاستفادة من خطابات ورسالات أخرى، أو بعبارة أخرى تفكيك المفاهيم وبلورة أخرى.

ثانيا: المثقف في عصر التطور التقني الهائل والعولمة:

إن ما يعانيه مثقفو عصرنا هذا لا هو أمر مخجل للأسف. المثقف مغترب يواجه مخاطر متعددة، وهذا ما دفع بالكثيرين إلى الانزواء، بعد أن كانوا متحمسين للجهر بالحقيقة، فقدر المثقف الآن أضحى، لن أقول السباحة ضد أو مع التيار، إنما رفض للسباحة في غالبية الأحيان. وهناك آخرون يعانون ليس من بطش الأعداء، إنما من غربتهم وسط الأصدقاء، فهم يخاطبون الجثث اللاهثة وراء الاستهلاك الغير معقلن لمنتجات عصر العولمة، لا حياة لمن يخاطب المثقف للأسف، فلم تعد انتاجاته تغري أحد، فيقتله من يدافع من أجلهم. ولعل كل ذلك راجع للمنظومة الكونية المعاصرة التي بقدر ما قربت المعرفة من الجميع أبعدتها، فأضحى الجميع محللا في كل الميادين، ولكن الفهم مختل وأعرج، وحينما يتدخل المثقف يواجه بالتنكيل والإبعاد، فهو لم يعد محتلا لمكانة مهمة في المنابر الثقافية والفنية، أصبح حبيس غرفته أو مقر عمله دون صدى من المفروض أن يحدثه في العالم. أعطيت المكان الأولوية للتافهين، في الوقت الذي لاذ فيه المثقف إلى الصمت أو إلى التواطؤ، فيما تم احتواء آخرون وأصبحوا حاملين لخطابات تمويهية،  لنغلق هذا القوس.

خاتمة:

إن المثقف هو الذي يصغي لصوت العقل ويرشد التائهين، فهل يا ترى سيسمع صوت المثقف؟ أم أن العالم سيمضي في حماقته تجاه الآخرين والطبيعة؟ أي وعي ينبغي بلورته في عالم يعرف تقدما تقنيا وتدهورا إنسانيا؟ كيف يمكن في ظل هذه الأوضاع أن يتدخل المثقف؟ وكيف يمكن أن يجبر الآخرين على الرجوع إلى صوابهم؟

إلى ذلك الحين، رافقتكم السلامة…

***

محمد هروان - المغرب

(هو الذي جَعَلَ الشَّمسَ ضيَاء والقمرَ نُورًا وقدَّرهُ مَنازلَ لتعلموا عَدَدَ السنينَ والحسابَ ماخَلقَ اللهُ ذلكَ إلاّ بالحَقِ يُفصّل الآيات لقومٍ يعلمونَ) يونس5

لقد ورد الضياء والنور في القرآن الكريم بمواضع عدة وحسب الايات. وقدذهب بعض المفسرين والعلماء الى توحيد الضياء والنور بمعنى واحد، ونحن في بحثنا هذا نحاول أن نتناول الاختلاف والتشابه على إن التفريق بينهما يتسم بالوضوح معززا بالايات القرانية، فالضوء ماكان من ذات الشئ المضئ، أي أن يكون فيه ضوءًا وحرارة كالشمس ولذلك وصفت ب (السراج الوهاج) والوهج يصدر الحرارة والضوء (وجعلنا سِراجًا وَهّاجًا) النبأ13

بينما النور هو مايكون فيه إنارة فقط دون حرارة (تبارك الذي جعلَ في السماءِ بُروجًا وجعلَ فيها سِراجًا وقمرًا منيرًا) الفرقان61

إن الضياء يختلف عن النور وهذه حقيقة فيزيائية حيث إن الشمس والنار مصدرا للطاقة المباشرة التي ينتج عنها ضوءا وحرارة ودفء أي إنه غير مستمد بل مانح، في حين إن النور مصدر غير مباشر يعمل على انعكاس أشعة الشمس لكي يعم النور ويبدد الظلام.

 وعلى ذلك يُعرف الضياء على إنه المصدر المحسوس المضئ فيما يعرف النور على إنه إظهار الشئ الذي كان في ظلمة فيهتدى به (وجعلنا له نورًا يمشي بهِ) الانعام 122

ونحن بصدد البحث عن الضياء والنور في القرآن الكريم نتوصل الى حقيقة أثبتها الله في كتابه الكريم قبل أكثر من 1400 سنة فيما أكتشفها العلماء بكل ماأوتوا من تكنلوجيا وتقدم في علوم الفضاء منذ قرنين تقريبا، فاذا تأملنا القمر سنجده جسم بارد لايصدر الضوء بل يعكسه على شكل نور، وهذه الحقيقة ذكرها القرآن في وقت كان يظن الناس إن القمر جسم متوهج، أما الشمس فهي جسم ملتهب يصدر الضوء، وقد اثبت العلم ذلك حديثا على إن الشمس فرن نووي ضخم وقوده ذرات الهيدروجين، فهل هناك إعجاز أقوى من هذا الاعجاز الذي جاء به القرآن بدلائل ووصف علمي بمنتهى الدقة، فلم ينسب النور للشمس بل الضياء .

فإذا تأملنا الفعل (أضاء) سنجده مسندا إلى حقيقتين ثابتتين وهما النار والنور كقوله تعالى (مثَلُهُم كِمَثل الذي استوقَدَ نارًا فلمَّا أضاءتْ ماحولهُ ذهب اللهُ بنورِهم وتركهمْ في ظُلماتٍ لايبصرونَ) البقرة17 فهنا تحقق شرط الضوء من النار، فالنار المشتعلة هي مصدر ذاتي للضوء.

ثم ذكر في آية أخرى البرق والبرق كما نعلم شرارة كهربائية وامضة تضئ إضاءة خاطفة وكل شرارة تولد ضوءا قال تعالى (يكادُ البرقُ يخطفُ أبصارهُم كلما أضاءَ لهم مَشوا فيه وإذا أظلمَ عليهم قاموا) البقرة20

من ذلك نصل الى نتيجة مفادها إن الشمس والنار والبرق أجسام ذاتية الاضاءة تشتعل وتنتج الضوء.

وإذا تأملنا الآية القرآنية (وجعلنا سِراجًا وهّاجًا) النبأ 13والذي يعني الشمس فالسراج يتوهج ليبعث النار والضوء، فيما يعكس القمر النور (وقمرًا منيرًا) الفرقان 61ولم يقل مضيئا لانه يستمد النور من الشمس (والقمر إذا تلاها) الشمس2

وهذه آية إعجازية أخرى على إن القمر يستمد نوره من الشمس.

فالضياء إذن هو المصدر الذي ينبعث منه الحرارة والضوء، فالشمس والنار مصادرمشتعلة وكذلك السراج الذي جاء بمعنى الشمس كما في حالته الاعتيادية فهو يولد حرارة وضوء يستضاء به كضوء الفانوس ومثلها الشمعة المضيئة فنقول ضوء الشمعة دلالة على الاضاءة وليس نور الشمعة (تبارك الذي جعل في السماء بروجًا وجعل فيها سراجًا منيرًا)نوح16

وقد يتبادر الى الذهن سؤالا لطالما طرح نفسه وطرحه المغرضون وأثاروا الشبهات والتهم لتحقيق مكاسب واهية هدفها النيل من كتاب الله وهم في كل حال خاسرون، فقد وردت الاية الكريمة في سورة النور(اللهُ نورُ السمواتِ والارضِ مثلُ نورهِ كمشكاةٍ فيها مصباحٌ المصباحُ في زجاجةٍ الزجاجةُ كأنَّها كوكبٌ دريٌّ يوقدُ من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ لاشرقيةٍ ولاغربيةٍ يكادُ زيتُها يُضئُ ولوْ لمْ تمسسهُ نارٌ نورٌ على نورٍ يَهدي الله لنُورهِ من يشاءُ ويضرب الله الامثال للناس والله بكل شئ عليم)

واذا تأملناالاية الكريمة سنجد الاتي"

-إن الله يشبّه نوره بالمشكاة بدليل (الكاف) في كلمة(كمشكاة) والتي تفيد التشبيه والمشكاة هي الكوة ومكان الضوء.

- التشبية الثاني ورد في (كأنها كوكب دري) وهذا الكوكب (يوقد) من شجرة مباركة والوقود هنا مصدر الاضاءة (يكاد زيتها يضئ) ولو لم تمسسه نار، إذن تحقق شرط الوقود للاضاءة، ثم يقول نور على نور وهو التنوير والانارة للهداية إذن فهو تعبير مجازي إعجازي لمعنى النور، لماذا جاء بمعنى النور لان الضياء يشترط الوقود للاضاءة وهنا قمة الاعجاز والروعة فهو نور مضئ بذاته من غير وقود والذي جاء بمعنى الهداية، فقال (قد جاءكم من الله نور) أي ان الله هو مصدر الانوارو الذي يمنح نور الابصارو نور الهداية، فالنور نقي ومشرق ولايصحبه احتراق ولاتشوبه شائبة، فهو نور محض و اشراق بغير احتراق وهو صفة من صفات الله جل وعلا واسم من اسماءه الحسنى، ونورالله صفة كمال لايحتمل النقص يليق بكمال الله جلّ وعلا فهو النور الالهي الذي يغمر الكون بنوره.

ويأتي النور كتعبير مجازي فنقول نور الوجه، والعلم نور، والعقل المتنور، وطريق النور، ونور الهداية كقوله تعالى (جعلناهُ نورًا نَهدي بهِ من نشاءُ) الشورى 52

ثم نأتي إلى موضعا آخرا في قوله تعالى (ولقد آتينَا مُوسَى وهارُونَ الفرقانَ وضياءً وذكرًا للمتّقينَ) الانبياء 48

وقد اختلف المفسرون أيضا بتفسير هذه الاية فمنهم من قال إنها التوراة ومنهم من قال لتفرق بين الحق والباطل، فلم ذكر الله الضياء في هذه الاية ولم يذكر النور؟

والحقيقة فجواب هذا السؤال يردنا من القرآن الكريم بآية أخرى قال تعالى (إذ قالَ مُوسى لأهلهِ إنّي أنستُ نارًا سآتيكم منها بخَبَرٍأو بشهابٍ لعلكم تصطلونَ) النمل 7

فالضياء الذي ذكره الله يعني النار في آية (إنّي أنستُ نارًا)، فالضياء هو نار الطور التي بارك من فيها ومن حولها (وشجرةً تخرجُ من طُورِ سيناءَ) المؤمنون20

وبعد أن بينا مفهوم الضياء نأتي لنبين مفهوم النور، فالنور هو الضياء والسناء الذي يعين على الابصارأو هو شعاعه وسطوعه ومنه الفعل نار وأنارواستنار ونور بمعنى أضاء واستنار أي استمد ضوءه والتنوير يطلق على أسفار الصبح، والنور هو الظاهر الذي به كل ظهور.

وقد وردت كلمة النور في القرآن الكريم بمواضع عدة، منها للوضوح ومنها الهدى، ومنها القرآن، ومنها نور الله الذي هو اساس كل الانوار فقد ورد النور في القرآن الكريم بهذه المعاني :

-الله في قوله تعالى (اللهُ نُورُ السَّمواتِ والأرضِ) النور35

- الهداية قال تعالى (يَهدِي بهِ اللهُ مَن اتَّبَعَ رِضوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخرجُهُم منِ الظُلماتِ إلى النُّورِ) المائدة 16

-الاظهار قال تعالى (الر كتاب ٌ أنزلناهُ إليكَ لتُخرجَ الناسَ من الظلماتِ إلى النُّور) ابراهيم 1

-القرآن الكريم قال تعالى (آمَنُوا بهِ وعزَّرُوهُ ونَصَرُوهُ واتبعُوا النُّورَ الذي أُنزلَ معهُ).الاعراف157

-الحساب الدقيق قال تعالى (الشمسُ والقمرُ بحسبانٍ) الرحمن5

من هذا نصل الى نتيجة مفادها إن النور يطلق على مايُظهر الاشياء ويسمى منيرا، فالمصباح منير، والقمر منير، والنبي سراج منير (وداعيًا إلى الله بإذنهِ وسِراجًا مُنيرًا) الاحزاب 46

وقد هدى الله الشمس بنوره والقمر بنوره ووصف نفسه بالنورلما للنور من هداية وطمأنينة وإبصار وإظهار قال تعالى(يُريدونَ أن يُطفئوا نُورَ الله بأفواههم ويأبى الله إلاّ أن يتمَّ نورهُ ولو كرهَ الكافِرون) التوبة32

فلماذا اختار الله لنفسه أن يكون نورا، لأن النور هو الدليل في الظلمات وهو الاية المبصرة وطريق الهداية وصراط الحق فالله يظهر نوره بنوره ونور الله هو مصدر كل الانوار(اللهُ وليُّ الذينَ آمنُوا يُخرجهمْ من الظُلماتِ إلى النورِ). البقرة257

***

مريم لطفي - العراق

في المثقف اليوم