قضايا
ضياء خضير: عن د. علاء بشير وعشتار وأختها ارشيكيكال.. والفن العراقي المعاصر
في جلسة حميمة جمعتنا خلال زيارتي للندن قبل سنتين أنا والصديق العزيز الشاعر عدنان الصائغ مع الدكتور الفنان علاء بشير في صالة فندق الهلتون متروبول، تحدث الفنان علاء بشير عن أشياء وقصص عديدة حول أعماله الفنية في العراق ورأيه في الفن العراقي المعاصر والقديم بشكل عام، والذي يرى فيه أن أغلب الأعمال الفنية العراقية المعاصرة تبدو خاوية، فارغة، وبلا أصول تربطها بتاريخ البلد وحضارة وادي الرافدين العريقة، كما لو كانت شجرة بلا جذور، وأن كثيرا من الفنانيين العراقيين قد سقطوا في المحذور حينما ملأوا لوحاتهم بألوان الفلكلور والطبيعة الصامتة والبورتريهات ذات الطابع التجاري، وأن أية مقارنة نجريها بين أية لوحة أو عمل فني مما أنجزه الفنانون العراقيون القدماء مثل ذلك التمثال الصغير للإلهة العراقية الشهيرة عشتار المعروض في المتحف البريطاني لكفيلة وحدها أن تظهر لنا الفرق بين ما تنطوي عليه تلك الأعمال الخالدة من إبداع وعبقرية وغنى وقوّة ودلالات لا تكاد تقع تحت حصر، وبين الغالبة العظمى من أعمال الرسم والنحت العراقي المعاصر من التي لا نكاد نعثر فيها على شيء يربطها بالواقع المعاصر، وما ينطوي عليه من انكسارات وأحداث وحروب وتحولات كبرى شهدها المجتمع العراقي الحديث.
وهو رأي يبدو للوهلة الأولى صادما لما هو سائد من آراء عن الفن العراقي المتميّز عربيا في كثير من إنجازاته الجادة والكثير من فنانيه الكبار من الذين تختلف أعمالهم عما أشار إليه الدكتور علاء من أعمال (فنية) فارغة في موضوعاتها وأساليب تنفيذها. وهي، في مجموعها، مختلفة بالتأكيد عن خطاب التشكيل الفني السائد في العصور التاريخية القديمة (السومرية والبابلية والآشورية) المحتشدة بالغيبيات والقوى الأسطورية غير المرئية؛ مع أن عديدا من الفنانيين العراقيين قد درسوا بعض تلك الأعمال ونفذوا أعمالهم في الرسم والنحت بوحي منها.
وقد كان ذلك التمثال - اللوح الذي أشار إليه الدكتور علاء يعكس، مثل غيره من أعمال النحت العراقي القديم، هذه المعاني والدلالات ذات القوى الماورائية المتحكمة بفكر الإنسان الرافديني القديم ورؤيته للعالم والكون من حوله، والتي تجسّد، في سطوحها وتكويناتها وما تنطوي عليه من تبسيط واختزال ورموز، موهبةً وقوة فريدتين في التمثيل والخلق اللذين يتجاوزان محدودية المكان والزمان المحليين والدلالات الطقسية والشعائرية الخاصة بزمنها القديم لتظل ملهمةً وخالدة عبر العصور.
لقد كان ما تحدث به الدكتور علاء بشير بتلك الطريقة الحميمة والواثقة مما تقول نوعا من التحدي الشخصي الذي صارت فيه رؤية بعض الأعمال العراقية القديمة الخالدة على مرّ العصور والتي يقبع بعضها في المتحف البريطاني القريب، فرصةً ثمينة لا تعوض بثمن ولا بدّ من القيام بها خلال زيارتي القصيرة تلك للندن، بعد أن فتح الدكتور علاء عيني على ما لم أفكّر فيه حول الموضوع بنفس الطريقة، على الرغم من زيارة سابقة قمت بها قبل أكثر من عشرين عاما لهذا المتحف. وهو ما يدفع أيضا إلى إعادة التفكير برؤية الدكتور علاء وفلسفته الفنية المختلفة، وبما تنطوي عليه من ولع بوجود الرموز والقيم الفكرية والفنية ذات الدلالات التكوينية واللونية والتخطيطية الخاصة في معظم لوحاته وأعماله النحتية، والتي تحاول أن تبرز محنة الإنسان العراقي الراهنة بالارتباط مع ذلك التاريخ الغائر في عمق تربة الحضارة العراقية القديمة بمختلف عصورها.
ولقد توثّق هذا الشعورُ في نفسي وأنا أقف في صباح اليوم التالي مذهولا أمام العشرات من الأعمال الفنية العراقية المعروضة في القاعة البابلية بالمتحف البريطاني بلندن، ومنها ذلك التمثال الذي استشهد به الدكتور علاء، والذي يظهر معي في الصورة المرفقة.
والتمثال الذي عثر عليه في مقبرة أور الملكية، كما يظن، ينطوي، كما هو واضح، على ما يزيد عن صورة جسد امرأة عارية لها جناحان وتقف بقدميها اللذين ينتهيان بمخالب على أسدين، وتمسك بدوائر تشير إلى رموز الحكمة الكونية ذات الطبيعة الدائرية، وقرون في الرأس ترمز إلى الأصل الإلهي لهذه المرأة العجيبة. وهو، كما يصفه الدكتور علاء "عمل اعظم من رائع، يتوحّد فيه البصر والبصيرة بشكل مذهل، وتبدو امامه معظم الاعمال الحديثة خائبة فارغة". وهناك، فضلا عن ذلك، بومتان تحيطان بالتمثال عن يمين وشمال لم نستطع أن نفسر ما يعنيه وجودهما، لا أنا ولا الدكتور علاء الذي اضطر لدى سؤالي له عن ذلك أن يتصل بالدكتور خزعل الماجدي في هولندا، الذي أوضح في ردّه أن هذا التمثال ليس لعشتار – إينانا، إلهة الحب والجمال والخصب، وإنما هو يعود لاختها الهة العالم السفلي، [وإن كتب عليه اسم عشتار]، واسمها (ارشكيكال)، هذا العالم الذي يسوده الموت والظلام، والذي دلالته البوم التي تنشط في الليل. والجناح هنا يشير إلى أنّ باستطاعتها الصعود إلى عالم الضياء. وهي تمسك بيدها العدالة والقانون وتقف على لبوتين، وليس أسدين، كما تفعل أختها عشتار. وعلى رأسها غطاء يحمل قرونا دلالة على أنها إلهة.
فهي إذًا الوجه الآخر لأختها عشتار، إلهة الحب والجمال الشهيرة.
والمهم في كلّ هذا هو ما ينطوي عليه هذا العمل الفني المثير من معان ودلالات استطاع صانعُه المثّالُ العراقي القديم أن يجسدها فيه، في حين تفتقد كثير من أعمالنا الفنية المعاصرة هذه الروحَ العظيمة التي ترتبط فيها كل حركة وكل تكوين وإشارة ولون بمعنى ودلالة ما، تومئ إليه وإليها وتجسّدهما.
وهو سؤال عن الفن العراقي القديم والمعاصر مطروح على الأصدقاء ليفكروا فيه ويشاركوا في محاولة الإجابة عنه...
***
الدكتور ضياء خضير