قضايا

هنالك إشكاليات حقيقية في المجتمع بصورة عامة والإسلامي بصورة خاصة. منها الخلط بين الحرية والفوضى فهي أعظم مآسي عصرنا، والحل في الخلاص من هذه الإشكالية هو الارتقاء بالعلوم الانسانية* من خلال تنشيط العقل بالفكر، وتوسيع الذكاء الاجتماعي، والنمط الثقافي، حيث "لا شيء يتأبد في الحياة الاجتماعية، ليمنع العقل من بناء المعرفة الجديدة؛ إذ شحذ العقل باستخدامه الحر العام – بوصفه أداة الانتصار الإنساني- يشكل إدراكًا معرفيًا عماده القراءة، يحرر المجتمع من عطالته، ويفتح نوافذ التأمل التي تدفع المجتمع إلى رؤية أشد تحولًا، وتؤسس لتفعيل إرادته وتحرير مصيره (1)".

أولا: القيادة والعلوم المتعددة في وقتنا الحاضر.

من أبرز ما تعانيه القيادات السياسية والدينية في البلد، على اختلاف مسمياتها، هو فقدان الدراية الكافية بل غيابها عن العلوم الانسانية المتنوعة كالتاريخ الاجتماعي والسياسي والحضاري والنفسي للمجتمعات المختلفة، ومعرفتها بفنون الإدارة العامة والاقتصاد، وأصول القانون، وهذا ما ينعكس على قدرتها على استيعاب المفارقات التي تعيشها مجتمعاتها. فتكون في مورد التحديات الكبيرة، والتساؤلات الحرجة شهوانية غرائزية. بعبارة أخرى: تكون اجاباتها ومواقفها حسب الحالة النفسية التي تمر بها، فالحدة والتعنت في مواطن الغضب، والتراخي والانكفاء في مواطن السكون والبرود العصبي. كل ذلك لأن هذه القيادات غير خبيرة بعلوم متعددة ترفدها بالمعطيات الصحيحة في اتخاذ القرار. وعليه، ان الحل هو اتسام القيادات الدينية والسياسية بتنوع مشارب العلوم والآداب والفنون لتوسعة الفكر. وعدم الاقتصار على علم واحد. فإن ذلك يضيق زاوية الرؤية.

ثانياً : "أمة تسير إلى الأمام وراسها للخلف"

عندما ننظر في السلوك المجتمعي ندرك أنه مرتبط بالتاريخ السياسي الإسلامي. وهذا التاريخ مشدود بثلاث أنواع من الأفكار، فهناك الفكر القاتل، وهناك الفكر الميت، وهناك الفكر النشط. والغريب أن روافد السلوك المجتمعي يُغذى بالفكر القاتل والميت على طول الخط، فاغلب المنابر الدينية والإعلامية وحتى الجامعية تعكس هذه الحقيقية بخطابها، فبين التشجيع على الاحتراب الطائفي وبين الحقن الفكري الميت تترنح الأمة لنجد المجتمع يدور في حلقة التشدد والخرافة. ومن أبرز الحلول المناسبة التي أشار بعض العلماء على تشخيصها هو تفكيك التاريخ الإسلامي الذي احتضن العقائد والتشريع الديني الذي يرسم محددات العقل المعرفية الإسلامي، لعزل الأفكار القاتلة والميتة واستحضار النشطة فقط.

***

سُميَّة إبراهيم الجنابيِّ

دكتوراه علوم قرآن، جامعة بابل

.......................

* بوصفها الحلقة الأهم التي تؤثر على استمرارية المجتمع وتطوره واستقراره.

( 1) محمد عثمان الخشت، نحو تأسيس عصر ديني جديد، القاهرة: الهيئة المصرية ااكتاب،2019، طبعة خاصة تصدرها نيو بوك ضمن مشروع مكتبة الاسرة، 5.

(إنّا نحنُ نَزلنا الذكر وإنّا لهُ لحافظونَ)

(لايغرنكَ تقلب الذين كفروا في البلادِ.متاعٌ قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد).. ال عمران 196

إزدراء الاديان أو التجديف هو إساءة أو استخفاف يصدره شخص أو هيئة ما بشأن معتقدات وأفكار ديانة ما.

و مفهوم التجديف في مختلف الاوساط الدينية والفكرية والحقوقية العالمية، يقصد به الحد من السلوكيات التي تنال من الاديان بصورة خاصة أو عامة الهدف منها الاتي:

- تعمد الاساءة الى دين محدد أو مذهب أو طائفة.

- الاساءة الى الذات الالهية أو الانبياء والرسل أو الكتب السماوية أو الكل مجتمعة لاشاعة الافكار السلبية النمطية المسيئة.

- تبني مواقف متعصبة أو تميزية الهدف منها اثاة النعرات الطائفية وازدراء الاديان لزرع الفرقة والكراهية والعنصرية واثارة الفتن لازهاق المبادئ وتمزيق المعتقدات.

والحقيقة ان سن قوانين منع ازدراء الاديان الهدف منه (حماية المقدسات الدينية) وتحديد او تطويق مشاعر الكراهية للاديان لان انتشارها يهدد التعايش السلمي بين المجتمعات والامم ويدق ناقوس الخطر الى الاخلال بالسلم المجتمعي و الدولي ويشكل مساسا خطيرا بالكرامة الانسانية التي تتبنى دينا محددا ومعتقدا خاصا واختراق الخصوصية العقائدية للانسان.

ومن الجدير بالذكر ان سن قانون التجديف جاء بعد سلسلة انتهاكات وخروقات اساءت بصورة مباشرة للاديان والكتب السماوية والانبياء والرسل من خلال حرق الكتب السماوية والاساءة الى الذات الالهية والرسل والانبياء والرموز الدينية بقصد اثارة الفتنة.

وقد ظهرت بالاونة الاخيرة خروقات وتجاوزات على الدين الاسلامي من خلال الرسوم المسيئة للرسول وانتهاك حرمة الدين من خلال الاساءة للذات الالهية وتمزيق وحرق كتاب الله بمحاولة للاساءة وتشويه صورة الاسلام واثارة الفتنة وتعزيز النمطية العنصرية بالتعامل التي تبنى عليها اعتبارات كثيرة منها :

- عدم احترام مشاعر المسلمين والذين يشكلون نسبة كبيرة في ارجاء المعمورة.

- انتهاك الخصوصية الفكرية والعقائدية من اجل زرع الفتنة وازدراء الخصوصية الدينية ومايترتب على ذلك من انتهاكات.

لقد دعانا الله في كتابه العزيز الى احترام الاديان والكتب السماوية والرسل والانبياء وعدم الاساءة لاحد (آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه كل آمن بكتبه ورسله لانفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربي واليك المصير)285 البقرة

هذه الروحية لاحترام الاخر التي جاءت لتعزيز الاخاء بين ابناء الامم والشعوب والتي تدعوا الى التعايش السلمي الذي يبنى على تقبل الاخر ومؤاخاته، وقد كفل الله لعباده حرية الدين (لا إكراه في الدين) ولم يدعوا الى التعصب الاعمى واثارة الاحقاد التي تمزق الامم وتجعل الضغينة الهدف الاسمى لبث روح التعصب والعنصرية.

ان المسلمين في كل أرجاء المعمورة يجمعهم كتاب واحد قائم على احترام الخصوصية الدينية لكل امة من الامم والايمان بجميع الكتب المنزلة على الرسل والانبياء وتكاد لاتخلو سورة من القرآن من ذكرالانبياء والرسل وتذكيرنا للايمان بهم كشرط اساس للايمان بالله .

فهل نتبادل هذه القيم السماوية الرفيعة أم نتجاهلها لتعم الفوضى والبغضاء وتنتشر الحروب والانتهاكات وتعاني الشعوب بسبب استهتار نفر ضال يدعوا الى الفناء!

إن مبدأ التعايش السلمي الذي يدعوا اليه جميع مسلمي العالم واضح المعالم وهو احد شروط الايمان بالله جل وعلا، و التعايش بين مختلف الشعوب والاعراق والجماعات الدينية والعشائر والقبائل وطيف كبير من الهويات هو التحدي الكبير للقرن، فقد دعانا الاسلام الى ان نتشارك الطعام ونتبادل الزيارات ونبارك الاعياد ونحسن الى جيراننا حتى نعيش بسلام . (قولوا آمنا بالله وماأنزل إلينا وماإنزل الى إبراهيم واسماعيل وإسحق ويعقوب والاسباط وماأوتي موسى وعيسى وماأوتي النبيون من ربهم لانفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) البقرة

ان اللجنة الاوربية لمناهضة للعنصرية والتعصب تدين بشدة التحريض على العنف او الكراهية او التمييز ضد الافراد والجماعات، ومجلس حقوق الانسان يدعوالى اهمية احترام وتفهم التنوع الديني والثقافي واعرب عن قلقه ازاء النظرة النمطية السلبية الى جميع الاديان وازاء مظاهر التعصب والتميز ضدها وحث على اتخاذ اجراءات تمنع نشر افكار ومواد تنطوي على عنصرية وعلى كره اي دين من الاديان مما يشكل تحريضا على العنصرية والكراهية الدينية والعداوة والعنف والارهاب الفكري والديني.

ان ماحدث في اول ايام عيد الاضحى من استهتار سافر لمشاعر المسلمين في جميع ارجاء المعمورة وهم يؤدون الشعائر الخاصة بالعيد حينما أقبل احد كاملي النقص ممن بصق في الاناء الذي اطعمه والبئر الذي ارتوى منه والحضن الذي آواه وخرق كل قوانين الانسان باعتباره مسخ أراد ان يلفت الانظار الى الكم الهائل من الحقد والضغينة واللوثة الفكرية التي دعته الى حرق الكتاب الكريم ناسيا ومتناسيا قوله جل وعلا (انّا نحنُ نزلنا الذكرَ وانّا لهُ لحافظون) فجنة المؤمن في صدره وعقله وجوارحه ومافعله لم يسئ الى الدين والكتاب بل اساء الى انحطاط الفكر وفجور النفس الامارة بالسوء، فهو عندما اقدم على فعله القبيح هذا انما أحرق اوراقا ولم يحرق ذكرا وحرق سمعته وادميته وعائلته التي انحدر منها وان عاش فهو ملعون شأنه شأن اي مرتد عاش حقيرا ومات خالدا في جهنم (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. خالدين فيها لايخفف عنهم العذاب ولاهم ينظرون) البقرة 171

وحقيقة فان إقدام اي ضال على هذه الخطوة الكسيحة للنيل من كرامة المسلمين وايمانهم بالله لن تزعزع الثقة أو تزرع الفرقة لكنها ستزيد من قبح من قام بهذا الفعل الشنيع وهي ليست بالمرة الاولى فقد حدث وان أحرق اليميني المتطرف رامسوس بلودان نسخة من المصحف في ستوكهولم وسط حماية من الشرطة، فهل تحمي الشرطة المسئ وتباركه !!مما أثار حفيظة كل انسان غيور على دينه، لكن كل هذه الاساليب لن تكون سوى ورقة يابسة زفرتها احد اشجار الخريف (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون)البقرة28- 29.

***

مريم لطفي

من أين لنا بمعرفة خير ما يصلح للمجتمعات الإنسانية ممّا يفسدها إذا لم نكن على علم باللغة التي جاء بها النفع والصلاح؛ فإذا هي مُوجِّهة الإنسانية قاطبة إلى خير ما ينفع، زاجرة لها ناهية عمّا يضر ويفسد؟ وليس من شك في أن الأمر والنهي الإلهيين إنما هما في الأصل لغة قائمة، مجرد نصوص من كلمات جامدة تتحول مع الممارسة في أجواف القارئين إلى حياة؛ فاللغة هنا رموز وإشارات لا قيمة لها بغير الفاعلية التطبيقية.

وتلك هي بالحقيقة لغة القرآن في بساطتها وخلوّها من التعقيد الخاوي والتكلف الممقوت. ونحن لا نعلم في لغة من اللغات مدى عنايتها بالسلوك والتهذيب وإثراء الجانب الأخلاقي على الجملة فضلاً عن التفصيل كما عنيت لغة القرآن بضوابط الحركة والسلوك : انتقال الفكرة فيها إلى دائرة العمل المشروع؛ فإذا لم يتح للمتلقي أن يعمل بما وَصَل إليه من فكر في هاته الأداة المبينة، أو في اللغة التي عرفها؛ فعرف من أسرارها الشيء الكثير أو القليل على قدر استعداده؛ إذا لم يتح له في ميدان العمل أن يعمل بما عرف من فكر مؤدَّى بلغة مُبينة، كان ما عَرَفَه أنقص ممّا جهله على المستوى التطبيقي؛ لأن السلوك هنا هو بمثابة اكتمال دائرة لا تكتمل الحركة إلا به؛ فحركةُ في الذهن يصحبها عمل، وعملُ نتاج حركة ذهنية، وكلما أحكم وضبط، أحكمت مراحل التوجيه وضبطت لكي تؤدي الغرض الساري منها قصداً؛ فدائرة الأخلاق ناقصة إنْ لم تكن اللغة فيها فكرة عملية قابلة للممارسة التطبيقية، وكل كمال على هذا النحو ناقص ما لم يكن الفكر فيه لغة مُوحية بالعمل مُوجبة لإرادة التنفيذ .

فما كنَّا لنستطيع أن نعرف مجمل الخصائص العقائديّة والأخلاقية، ولا سائر العبادات والآداب الإسلامية، ونحن بمعزل عن لغة القرآن. وما كنا لندرك شيئاً عن هذه اللغة، ونحن بمعزل أيضاً عن العمل بفكرتها التأسيسية، تؤديها على أكمل ما تكون تأدية الأفكار وتوصيلها إلى المؤيدين والمنكرين سواء .

ولو لم تكن اللغة في أدائها موصّلاً جيداً لما فيها من أفكار ومعان وإيحاءات وتعاليم (أغراض كما في خصائص ابن جني حيث حدّ اللغة فقال إنها : أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم) (الجزء الأول من تحقيق محمد على النجار ص 33) ما كان يقرّها منكر قبل مؤيد، وما صارت قط موضع لغط كبير أو ضئيل من قبيل نفر يجيدون اللغط حتى على الثوابت الرواسخ، ولا ينفرون من إجادة اللغظ؛ فيريدون أن يجعلوه قاعدة التجديد المبتكر والتحديث من بعد التحديث من بعد التحديث إلى غير انتهاء في مثل هذه “التحديثية” الغريبة والمنفّرة، بدعوى مسايرة العصر وحداثته الفجة الكسحاء، وهو عصر كم اللغط المنفر والدردشة الفارغة فيه، أعمُّ وأشمل من كم الصدق والعمل النافع والاستقامة الخالصة.

وليس أغرب من أن تجئ هذه الدعوات على ألسنة وأقلام لأناس يمتلكون في الغالب الإحساس باللغة، ورهافة الذوق، والقدرة على التعبير، والتوظيف بكلمات ذات مساقات أصيلة، ومع ذلك يريدون أن يتقدّموا ولشعوبهم أن تكون مستنفرة تجاه اللغة على حساب التأخر والخسارة، وأن يرتفعوا على فريضة الإهمال، غاية ما هنالك أنهم يضربون اتجاه فكري باتجاه آخر حتى إذا ما أهملوا هذا أخذوا بذاك، وفرضوه على أنفسهم وعلى غيرهم، فإذا الإنسان معه يسير كما الأكتع بغير استقامة، إذ لم يكن عقلاً كله ولا علماً كله؛ بل له من العلم والعقل جوانب تمتلئ بها مناطق ولا تزال فيه مناطق لا يملأها العلم التجريبي ولا العقل المحدود، جوانب أخرى وجودية تحتاج إلى امتلاء. وما كان التقدّم ومسايرة العصر أبداً ضرباً من خسارة القيم الروحيّة التي شكلت حضارات وقوّمت أمثلة نادرة في التاريخ الثقافي الإسلامي وغير الإسلامي على حدٍ سواء.

وما كان الارتفاع قط مطلوباً من جرّاء فريضة الإهمال لمقوم الهُويّة النشطة والفعال في حياة الفرد أو في حياة المجموع، أعني هُوية العقيدة واللغة والأخلاق.

وعندي أن أخصّ ما يكون مكنون فيها هو اللغة المُعبرة عن وجود الإنسان الحق، الإنسان الإنسان لا الإنسان الحيوان، ولو شئت لقلت الإنسان الكامل. هذه اللغة، ولا ريب، أسهل مأخذاً وأبلغ قناة إنْ في ألفاظها وإنْ في معانيها أو في مساقاتها من كثير من اللغات العصرية تلك التي لا تعرف لها مؤدّى ولا مرفأ أميناً ترسو عليه. 

نعم! هي لغة، ولكنها تجري على ألسنة المحجوبين، وتعوج بهم بمقدار ما ينسدل عليهم حجاب الغفلة والاعوجاج، هي اللغة المفككة عن الضوابط والأحكام، المنحلة عن القواعد والأصول التي تربطها بالقيم الداخلية وأخلاق الكمال في مطمح كل إنسان شريف.

هذه اللغة ـ من تلك الجهة ـ تمثل عائقاً معرفيّاً كما يمثل الاعتماد فيها على العلم أو العقل هذا العائق الذي يسير فيه المرء بمقتضاه كما لو كان أكتعاً يشعر بالنقص والاعوجاج، لأنه ملأ جانباً في وجوده على حساب جانب آخر، حتى أن الفراغ المتروك يطالبه دائماً بتغذية وجوده فيه، الأمر الذي تحدث معه هزّة باطنة هى المقصودة عندنا بالعوائق المعرفيّة.

وكما تكون اللغة من تلك الجهة مدعاة للعوائق المعرفية، تكون سبباً لإزالتها فيما لو صدق صاحبها في استخدامها، واستعمال أنشتطها في تغذية وجوده الروحي؛ فالتجرد والصفاء من علامات حسن الاستخدام للغة وإزالة العوائق المعرفية، وهما من علامات الترقي المعرفي ومن موجباته كذلك.

فليس علماً على التحقيق ما كان صادراً عن حكاية أقوال الغير؛ ولتلحظ أن أقوال الغير هذه، إنْ هي إلا مجرد لغة؛ لأن أقوال الغير ليست إلا أحوالهم، فالذي يحكي عنها هو لا محالة يصف حال صاحبه وقت أن صدر عنه هذا القول أو ذاك، والأحوال تتبدل ولا تستنسخ كما تستنسخ الآلات آلاف آلاف النسخ المكررة فيما تريد استنساخه؛ فأحوال هذا ليست كأحوال ذاك، وأقوال هذا لا يمكن تبعاً لذلك أن تكون هي نفسها أقوال ذاك. فليس علماً ما كان صادراً عن حكاية أقوال الغير؛ إذْ العلم بداية المعراج المعرفي، ما فوقه أسمى منه وأرقى.

أمّا العلم في ذاته، فليس أسمى منه في الحياة، ولكنه مع ذلك ليس هو كل ما في الحياة، لأن في الحياة ما هو أعلى من العلم وأسمى، إذْ من شرط العلم النافع أن يقود إلى المعرفة، وأن يؤدي إليها بالتحقيق لا بالاستشراف. ومن شرط المعرفة أن تقود إلى شهود الفضل الإلهي ومعاينته كما يُعاين المحسوس.

وليس هناك أفرح للقلب ولا أدعى للرحمة من ذلك الشهود على التحقيق :” قل بفضل الله وبرحمته؛ فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ ممّا يجمعون” (يونس: ٥٨). وعليه؛ يصبح العلم الذي لا يؤدي بدوره إلى مثل هذا الشهود، شهود الفضل الإلهي، ليس بنافع ولا هو أهل لأن ترقى معه حياة صاحبه إلى منازل المحققين. إنه ليمثل عائقاً معرفيّاً في ذاته، كما تمثل اللغة فيه نوعاً من التحجير والتضييق؛ لتصبح هي الأخرى نفسها عائقاً معرفياً يؤخر ولا يقدّم، يحصر المرء في منطقة محدودة بحدود الأفق الذي يتحرك فيه العلم المحدود والعقل المحدود .

وفي المقابل؛ لاحظ اللغة في الآية الكريمة، ولاحظ المعراج الدلالي فيها، فإنّ فضل الله مدعاة للفرح، وأن فضل الله هذا مقرون بالرحمة، وهما معاً أفرح ما يُفرح قلب السائر مع الشهود، فليس من فرح أسمى ولا أعلى من الفرح بفضل الله وبرحمته. فاللغة هنا معراج، تجربة، والمعراج باللغة ليس لفظاً يكرر، ولكنه حقيقة واقعة وحياة تعاش مع أن اللغة في عين هذا الشهود لا أثر لها على الإطلاق.

اللغة هنا في هذه الحالة العليا ليست عائقاً معرفيّاً؛ بل نقلة إلى ما بعد العلم والمعرفة، إلى الحقيقة مباشرة. أجواء الآية بفضل رهافة الإحساس باللغة فيها، تقضى بمثل هذا العروج إلى منازل الشهود حيث لا لغة هنالك ولا واصف ولا موصوف.

***

بقلم : د. مجدي إبراهيم

في الحديث عن السلطة في العالم العربي والإسلامي تواجهنا إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، تلك الإشكالية التي بدأت مع انتقال المجتمع الإسلامي من مرحلة الوحي الى مرحلة الوعي بإنتقال النبي الخاتم الى الحياة الآخرة، تاركاً أمته على مقربة من يوم الغدير الذي إتفق المسلمون عليه كحدث تاريخي بكل ما تضمنه من تفاصيل، واختلفوا فيما بعد على تأويلات تلك المضامين، واخذت هذه الإشكالية تفرض نفسها بإلحاح على الفكر العربي والإسلامي المعاصر في ضوء معطيات الثورة الصناعية الغربية في مراحلها المتقدمة، وما نتج عنها من تقنيات متطورة ارتبطت بشكل مباشر بعصب الحياة اليومية للناس، الأمر الذي أثار في أذهان الأجيال المعاصرة استفهامات كثيرة حول فاعلية علاقة الدين بثنائية السلطة والمجتمع خصوصاً وإننا صرنا مرتبطين بنظام عالمي تتحكم فيه مشاريع الإقتصاد الصناعي بمجالات الحياة السياسية والإقتصادية، واتسعت اكثر في الآونة الأخيرة لتشمل مجالات ثقافية وإجتماعية، ونفذت من خلال واقع الناس وظروفهم الى معتقداتهم وطقوسهم الدينية فظهرت طروحات وافكار تطال بعض الثوابت الصحيحة المتفق عليها في التاريخ بدعوى التجديد وحرية التفكير وحرية التعبير وإعادة قراءة التاريخ ونقد احداثه، يحدث كل ذلك كنتائج لفشل السلطة في مجتمعاتنا في تقديم انموذج يرقى الى مستوى تلك الحضارة الإسلامية التي أسس لها نبي الرحمة في إطار أخلاقي انساني تتحرك فيه روح العقيدة في منظومة المجتمع النابض بحب الحياة التي اخبرهم نبيهم انها " حلوة خضرة والله مستعملكم فيها فانظروا كيف تعملون"، لكنهم وبعد اكثر من الف عام على ذلك الربيع الإنساني وجدوا انهم يعيشون إحباطاً واضطراباً متواصلين في علاقتهم بسلطة تقر بالدين منهجاً دستورياً، في الوقت الذي تمكن فيه العلم بعيداً عن الدين في الغرب من إنتاج سلطة مضت بالناس الى التحضر والتقدم ..

يمثل يوم الغدير بما تضمنه من حدث البيعة مرتكز انطلاق المجتمع نحو مرحلة الوعي حين أبلغ النبي الخاتم الناس بقرب إنتهاء مرحلة الوحي في حجة الوداع " اني قد يوشك أن أدعى فأجيب وإني مسؤول وإنكم مسؤولون .."  وبدأ إعداد المسلمين لهذه المرحلة الجدية بالإستفهام: "ألستم تعلمون اني اولى بالمؤمنين من انفسهم ..؟" في وقت كان المسلمون فيه على مقربة من أجواء الروح وهي تطوف حول الكعبة في طقوس الحج بحضور نبي الرحمة، وما ادّته هذه الأجواء من دور مهم في الوصول بالمنظومة الآدمية للفرد المسلم الى حالة من التوازن والطمأنينة فجاء جوابهم " بلى" إيذاناً بإستعدادهم للإنتقال الى مرحلة ما بعد إنقطاع الوحي إنتقالاً ضرورياً يمليه عليهم وعيهم بمصيرهم ..

يعنى علم الانثروبولوجيا (علم الانسان) بدراسة كل ما له علاقة بطبيعة المجتمعات البشرية ويشتمل على علم الإنسان الثقافي المعني بدراسة ثقافة المجتمعات وتنوعها وإختلافها على وفق التجارب التي يمر بها كل مجتمع في مكانه وظروفه المحيطة ويراه أمراً طبيعياً لا يدعو الى التفريق بناء على وحدة الفكر الإنساني .. وعلم الإنسان الإجتماعي المعني بدراسة القضايا الإجتماعية التي تعترض مسار الحياة اليومية للفرد وللأسرة وللمجتمع والوقوف عندها من أجل الوصول الى حلول تضمن سلامة النسيج الإجتماعي وتحفظ بناءه وتحمي بنيته التحتية من أي أضرار تلحقها به الظروف المرحلية التي يتعرض لها الناس .. وعلم إنسان اللغة المعني بدراسة تأثير اللغة في الفرد والمجتمع .. وعلم الإنسان الحياتي المعني بدراسة منظومة جسم الإنسان وتأثير وضعها الصحي في شخصية الفرد في مجالاتها النفسية والسلوكية والأخلاقية والعقلية.

يدرس علم الإنثروبولوجيا واقع المجتمعات البعيدة، ويدرس علم التاريخ ماضي المجتمعات المعاصرة، لذا نحاول من خلال هذه المحاور أن نقف على ذلك الحدث التاريخي الذي مرّ عليه أكثر من الف عام، وقفة معاصرة يقتضيها واقعنا كأمة مسلمة تحمل شعار " محمد يجمعنا " ونحاول من خلالها أن نعاير صحّة مسار واقعنا اليوم باستحضار أجواء يوم الثامن عشر من ذي الحجة حيث بيعة الغدير، للبحث في التشابهات والإختلافات في الأفكار والميول والإعتقادات من أجل الوقوف على المشترك الإنساني في جميع المراحل التاريخية، يقول الفيلسوف الألماني فالتر كولد "ان الحضارات متعددة مع ان الإنسان واحد"، إن إختلاف الثقافات ضرورة تفرضها ظروف الإدراك وتباين مستويات الوعي والجو العام والبيئة التي تتدخل كثيراً في صياغة تعبير الناس عن مواقفهم وعواطفهم، وبعيداً عن الآراء المتباينة التي مضت بكلمة "أولى" و"مولاه" في فضاءات التحليل النفسي والقلبي والعقلي للمسلمين، قريباً من مفهوم السلطة اليوم على وفق البعد الإجتماعي والإداري والثقافي للخط الرسالي السماوي الذي اختطه بنجاح كبير سيد الخلق وخاتم النبيين وأسس عليه حضارة إنسانية إسلامية تواجه اليوم تحديات كبيرة جديدة من حيث الأدوات المستخدمة التي جاءت مع الثورات الصناعية والعلمية والتكنلوجية والمعلوماتية وبرامج الذكاء الإصطناعي ورأس المال والشركات العابرة للقوميات والنظام العالمي الجديد الذي يراد له أن يسود العالم ويحكمه عبر برامج الكترونية عالية الدقة فائقة السرعة وشبكة إتصالات تربط الناس فيما بينهم بكبسة زر وتفتح أمامهم نوافذ لم يكن ممكناً فتحها من قبل، وهي في الوقت ذاته تهددهم بمشاكل كثيرة ترتبط بمصيرهم ووجودهم في هذه الحياة، فعلى الرغم من وفرة المعلومات هناك فقر ثقافي، وعلى الرغم من سرعة الحصول على المعلومة هناك بطؤ شديد في إدراك الواقع ووعي المصير ..

من اهم المشتركات التي توافر عليها يوم الغدير هو حضور المجتمع الإسلامي حضوراً واعياً لما حدث في ذلك اليوم، وكان النبي الخاتم والإمام علي محوري ذلك الحدث، فبإستخدام لغة الإنسانية نحاول أن نقرأ أحداث يوم الغدير بعيداً عن الذهنية الغالبة على المناخ التفكيري لمساحات كبيرة من مجتمعات تعيش المذهبية والعصبية وتستخدمها في صناعة مواقفها والتعبير عن عواطفها بمعزل عن الموضوعية في كثير من الأحيان، نحاول أن نصنع وعياً ينهض بمجتمعاتنا اليوم الى ما ينبغي أن تكون عليه، لا البقاء على ما هي عليه، والإستفهام من أهم ادوات صناعة الوعي، استخدمه النبي الخاتم في ذلك اليوم والناس يعيشون ثلاثية النفس والقلب والعقل في أجواء الحج الروحية التي ينتج عنها إستقرار يهيء إتصالات هادئة هادفة بين النفس والقلب والعقل ليكون جواب أحدهم حراً بالمعنى الذي يتجاوز فيه حريته الشخصية الى الحرية المسؤولة وطاعته العمياء الى طاعة واعية فكانت كلمة " بلى "

وبصرف النظر عن ملابسات ما حدث من مواقف كثير من المسلمين بعد وفاة النبي الخاتم، فإننا بحاجة الى أن نرجع الى يوم الغدير لننطلق بواقعنا اليوم الى ما نتجاوز به ملابسات الأمس ..

ذكر النبي الخاتم في سياق حديث الغدير ما جاء في سورة الأحزاب الآية 6 " النبي أولى بالمؤمنين من انفسهم .."، وبعيداً عن أسباب النزول وعن تنوع الآراء بخصوص معنى " أولى " فإن سورة الأحزاب مدنية نزلت حيث أسست دولة الإنسان الجديد على يد النبي الخاتم، يضاف الى ذلك ذكر المسؤولية في قوله صلى الله عليه واله وسلم " اني مسؤول وانكم مسؤولون " في سياق الإستفهام " الستم " الذي يوفر مساحة كافية للحرية كي تتحرك بوعي الإجابة، وهذا ما نحتاجه اليوم حيث يأخذ مفهوم الحرية مديات اكبر في أذهان الناس تصل عند بعضهم الى تعريض وجودهم واستقرارهم الى الخطر، ومع تطور أدوات التقنية الصناعية وشبكات الإتصال ومواقع التواصل الإجتماعي وجد الشباب العربي أنه أمام إستفهامات خطيرة تلح عليه في موضوعة تأثير الدين في الحياة المدنية للمجتمع في ضوء هذا التسارع الملفت للثورات العلمية والتقنية والذكاء الإصطناعي، ووجد ان حريته منقوصة في هكذا جو وهو ما دفع بكثير من الشباب العربي المسلم الى التغريب الثقافي مع إحتفاظ كثير منهم بإنتمائه لبيئته الإجتماعية بمنظوماتها الدينية والإخلاقية والقيم والعادات، لكن المشكلة تبدو اكبر من مجرد تشخيص، انها بحاجة ماسة الى علاج قبل أن يتحول المجتمع الى تجمعات بشرية أو كتل بشرية فاقدة لمعنى البناء الإجتماعي الذي عمل عليه الإسلام المحمدي منذ خطواته الأولى والذي يتوافق مع الصفة الإجتماعية  لطبيعة الشخصية العربية، ولعل مجتمعنا العربي يمرّ اليوم بالمحنة ذاتها التي مرّ بها المجتمع الغربي بعد الثورة الفرنسية والثورة الصناعية مع الفارق بين طبيعتي المجتمعين وإختلاف الدوافع، فقد وجد الإنسان الغربي ان بمقدور العلم معالجة جميع المشكلات التي تواجه الجنس البشري ووجه إنتقاداته للكنيسة حينما بدت له غير قادرة على مواكبة التطور العلمي وتقديم حلول ورؤى تناسب أدوات المجتمع الجديدة خصوصاً ما يتعلق منها بالشباب وتحديداً النساء في مجالات الحرية والمساواة وتحديد النسل لمواجهة النمو المطرد في السكان ومراعاة الوضع المعيشي في ظل التطور الصناعي الذي يستوجب نفقات اكثر مما كانت عليه الحياة قبل ذلك، ومع ان محنة الغرب لم تمر بسهولة فقد أخذت نصف قرن تقريباً حتى إنتقل المجتمع من العاطفة والخيال الى المادة والواقع، يبدو ان مجتمعنا العربي اليوم يواجه ما يشبه أجواء محنة المجتمع الغربي، لا من حيث إنه مجتمع علمي منتج صناعي، ولكن من حيث هو مجتمع إستهلاكي موجود على خط مباشر مع الغرب بحكم مشاريع الإقتصاد الصناعي العابرة للحدود الجغرافية والمتخذة من المصالح لغة تعامل مشتركة ومن المال وسيلة إدامة تلك المصالح، وأسهمت أنظمة الحكم في العالم العربي في دفع الناس بهذا الإتجاه جرّاء إخفاقاتها المتراكمة في إيجاد حلول لمشاكل الناس، لذلك اتسعت الفجوة بين المجتمع والسلطة، ثم بدأ المجتمع يوجه إنتقاداته لواقعه والبحث عن حلول فكان من نتائج تلك الإنتقادات أن ظهرت دعوات لفصل الدين عن الدولة، ودعوات تهميش الدين في حياة المجتمع وإقصاره على الفرد كحرية شخصية يعيشها بينه وبين معبوده ولا يحملها معه خارج البيت حيث توجد قوانين وضعية تحكم العلاقات بين الناس وبين المجتمع والدولة  أسوة بما يحدث في الشارع الأوربي الذي قد لا تفرق فيه أحياناً بين بناية المطعم وبناية المول والكنيسة إلا من خلال عنوان اللافتة، وحيث ان المجتمع الشرقي لا يزال على الرغم من محنه المستمرة يعيش حضور البعد الروحي في تفاصيل حياة الناس، بل لعل اكثر الناس يحرصون على تفعيل تلك الروح وكثيراً ما يبدون إنتقاداتهم لحكوماتهم من خلال هذا الدافع، لأنهم لا يزالون يتصورون في السلطة قدرتها على إدارة جميع شؤون البلاد بما فيها الثقافية والإجتماعية، وهو بإعتقادي خطأ وقع فيه الناس منذ زمن بعيد عندما صوّرت لهم السلطة ان الحاكم هو خليفة الله على الارض وان عليهم طاعته والإمتثال لأوامره التي هي بالنتيجة سبب سعادتهم، وكان على المجتمع أن يدرك إن ذلك لم يعد كما كان على عهد النبي الخاتم بعد أن إختط بعضهم للمجتمع خطاً جديداً لمسار العلاقة بين السلطة والناس، ولعل في قول الإمام علي " لقد علمتم إني أحق الناس بها من غيري، ووالله لأسلمن ما سلمت امور المسلمين .."  إشارة واضحة الى الخلل الحاصل في ثنائية العلاقة بين السلطة والمجتمع بعد النبي ..

 إذا اخذنا مفردة الحرية إنموذجاً، كما وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر سنة 1948م وقارنا معناها  التطبيقي العملي اليوم بما ورد في قاموس سلطة الإمام علي عنها، سنجد ان في إختيار شخص الإمام يوم الغدير من قبل النبي القائد ومنحه درجة "الولاية" على الفرد والمجتمع بصرف النظر عن الأبعاد التأملية والتأويلية التي اعطيت لهذه المفردة من قبل العلماء والباحثين والنقاد، فإننا سنجد ان وراء " من كنت مولاه فهذا علي مولاه " بعداً ثقافياً لأنسنة الوجود البشري، عابراً للظرف الزمكاني في ذلك الوقت بكل أبعاده الدينية والسياسية والجغرافية والقومية ..

تنص المادة الأولى في الميثاق على " يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الاخاء"، بهذا المضمون تتحرّك كثير من الفعاليات والأنشطة الفردية والجماعية حول العالم بصفة خاصة وبصفة مسؤولة .. يشتمل البحث الإنثروبولوجي على مرحلة الوصف ومرحلة التحليل، يتم في الأولى وصف وتدوين الأحداث كما هي، تعقبها مرحلة التأمل في ذلك الوصف من أجل تكوين رؤية واضحة للقضية أو المشكلة موضوع الدراسة، لتقديم الحلول الأنسب التي لا تتقاطع مع طبيعة المجتمع، كان من ضمن الأحداث المهمة التي اثارت عندي فكرة إعادة قراءة مفهوم الحرية الوارد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، هو التصريح الرسمي للسلطات الفرنسية الذي جاء رداً على تزايد حالات الإحتجاج والغضب في الشارع الإسلامي حول العالم على إثر الرسوم الكاريكاتيرية التي نشرتها إحدى الصحف في 2020م، فقد رأت الحكومة الفرنسية ان ما حدث يندرج ضمن حريات التعبير والنشر التي كفلتها المادة التاسعة عشر في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي تنص على " لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير ويشمل هذا الحق حرية إعتناق الآراء دون أي تدخل، وإستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية"، ثم تلتها تصريحات لمسؤولين في دول كبرى اعتبروا فيها ان لكل شخص الحق في حرية تحديد ميوله الجنسية، وان المثليين أشخاص شجعان لأنهم واجهوا مجتمعاتهم بالإعلان عن رغباتهم الجنسية دون خوف، ودعا بعضهم الى توفير أجواء حرة لأولئك المثليين حول العالم وحمايتهم طالما انهم يمارسون تلك الحريات دون ان يلحقوا ضرراً بغيرهم، هكذا أخذ مفهوم الحرية يتسع دون ضوابط ليكون اقرب الى الرغبة المادية للإنسان منها الى الرغبة الوجودية التكوينية .. بمقارنة هذا المفهوم مع ما جاء في نهج علي السلطة عن الحرية تبرز أهمية إستحضار ذكرى بيعة الغدير من حيث هي رسالة تاريخية عمرها أكثر من الف عام، تدعونا مستجدات الواقع الإنساني العالمي اليوم الى إعادة قراءتها للوقوف على عمق البعد الثقافي لإعلان ولاية الإمام علي الذي يقول في مفهوم الحرية "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً " ..

بين أن يعرف الشخص إنه حر بحكم وجوده البيولوجي، اي ان حريته مرتبطة بولادته، كما في المادة الاولى " يولد جميع الناس أحراراً .."، وبين أن يعرف انه حر من خلال وعيه بالحرية كما في قول الإمام "وقد جعلك الله حراً" و"جعل" عمل وهيأ وخلق، وجعله: صيّره، كما في لسان العرب لابن منظور، وقوله تعالى "وجعلني نبياً" و " جعلناه قرآنا عربياً " " وجعلنا من الماء كل شيء حي " " وجعلوا لله شركاء " ..

عن الدكتور فاضل صالح السامرائي: (الجعل) هو إخبار عن ملابسة مفعولة بشيء آخر بأن يكون له أو منه أو فيه أو حالة من الحالات، في الغالب الجعل يتعلق بشيء آخر وليس فقط جعل أي خلق هكذا لكن هناك شيء آخر في المفعول يتعلق به، جعل تقتضي اكثر من شيء واكثر من ان تذكر المفعول وحده وهذا ما نص عليه اهل اللغة..

ان تعريف الحرية في إطار فطري من شأنه ان يحددها عملياً في النشاط المادي لحياة الشخص، لكن تعريفها في إطار فكري من شأنه ان يفضي الى تحركها عملياً في النشاط التكويني لوجود الشخص، ففي " جعلك الله حراً " دعوة الى إدراك الذات وتنمية وعي النهضة في الفرد والمجتمع والسلطة، وفي " يولد جميع الناس أحراراً " دعوة الى تلبية إحتياجات المنظومة الجسمية للشخص في الجانب المادي للتفكير، لذا جاء تبرير الإساءات التي صدرت عن أشخاص ومؤسسات بحق شخصية النبي الخاتم على الرغم من الأذى الكبير الذي الحقته بمساحات كبيرة من الناس الذين صنفهم الإمام علي (إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) وهو التصنيف القائم على أساس وحدة الإنسان وتعدد الإتجاهات وتنوع الأفكار، فلو أضيفت عبارة " دون مساس أو دون إساءة الى ثقافات الآخرين) في آخر المادة التاسعة عشر لحقوق الإنسان لربما تجنب العالم الآثار الجانبية للأذى المعنوي الذي لحق بملايين المسلمين بسبب تلك الإساءات ..

يذهب علم النفس الى ان كل شخص أياً كان وضعه وموقعه ولونه وميوله ومعارفه إلا وله رسالة في حياته، لكن أكثر الناس يخطئون إدراك رسائلهم لجهلهم بأنفسهم وعدم إحاطتهم بما يكفي بذواتهم، ويتحقق هذا الإدراك وتلك الإحاطة عندما تمر الشخصية بحالة توازن في جوانبها النفسية والعقلية والأخلاقية، واذا كانت النبوة بحضور الوحي دافعاً لتعريف الناس بأنفسهم وإحاطتهم بذواتهم، فإنه بعد إنقطاع الوحي يظهر الوعي الذي كانت الرسالة المحمدية في جانبها الإجتماعي تعدّه في شخصية علي عليه السلام حتى اذا ما جاء التوقيت الملائم لإظهار ذلك نادى النبي القائد بالناس "من كنت مولاه فهذا علي مولاه"، تلك الولاية التي ترى في حرية التعبير والنشر وإعتناق الآراء والأفكار، حرية مرهونة بعدم تجاوزها على المشترك الإنساني لجميع الناس على إختلاف السنتهم والوانهم وتوجهاتهم ..

***

د. عدي عدنان البلداوي

البعيد عن العين، أبعيد أو قريب عن القلب؟

 القرن الحادي والعشرين جاء بتغيرات جوهرية من الدرجة الأولى في حياة البشر وأسلوب المعيشة. بدأت تلك التغيرات مع الثورة الصناعية والاكتشافات الكبيرة والتطور العلمي مع نهايات القرن التاسع عشر. كل ذلك اثرت على العلاقات بين ابناء المجتمع وداخل العائلة الواحدة. جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى لديهم من الذكريات التي لا تشبه أبدا بذكريات جيل اليوم. التطور التقني الكبير في عالم الاتصالات  واختراع التلفون الارضي ومن ثم الجوال ووسائل الاتصالات عبر الانترنت وسهولة السفر بين البلدان البعيدة و مع تطور أدواتها أدى إلى سهولة التواصل بين البشر وصولا إلى ما يسمى اليوم بالقرية الكونية.

 كانت أيام زمان العلاقات الأسرية وروابط القرابة محكمة وحتى حين يكون خصام بين شخصين أو طرفين كانت هناك دوما حلول يرضي الطرفين. كانت هناك كذلك دوما طرفا ثالثا في حل النزاع. ففي العلاقات البشرية تكون الخصام خالة طبيعية في عدم توافق الآراء ونتيجة مباشرة للجدال والنقاشات بين البشر. قد يكون الخصام ضمن أبناء العائلة أو الأقربون ومن ثم بين العشيرة الواحدة وقل تنتقل لتكون بين عدد من العشائر وحتى بين القوميات المختلفة داخل الدولة أو مع الدول المجاورة. لكن في الماضي كانت هناك منظومة اجتماعية تدير الحوارات وفي النتيجة يتم الصلح. بين القبائل المتنازعة أو بين الأشخاص. كان لديوان القوم والعشيرة مكانة مهمة في تمتين عرى الصداقة ونشر المحبة بين الناس. كان لشيخ القبيلة دورا مهما في تمتين أواصر العلاقات بين أبناء العشيرة. كانت المؤسسة الدينية أيضا تقوم بدور النشاطات بين المتنازعين بالإضافة إلى وجود المحاكم المدنية والشرعية.ز كانت الجوامع ملتقى لأداء الشعائر الدينية ولها دورا اجتماعيا كذلك. إما المقهى فكان بالإضافة إلى دوره كأماكن للترفيه عن كاهل المواطن له دور مهم في الجمع بين الناس والتصاهر وحتى إجراء العقود التجارية وفك المنازعات.3430 توفيق التونجي

الدور الحضاري لجميع تلك المؤسسات خرجت إلى الوجود مع سقوط الدولة العراقية اثر الاحتلال دول التحالف وأسقط النظام فيها عام ٢٠٠٣. أي أن تلك المؤسسات عادت إلى أداء نفس أدوارها السابقة وقد كان الإنكليز في احتلالهم وانتدابهم للعراق إبان وبعد الحرب العالمية الأولى قد ذكروا تلك التركيبة العشائرية للمجتمع العراقي الذي أبدع  د. على الوردي في وصفها في لمحاته الاجتماعية. الغريب أن في الاحتلال الأخير أي في عام ٢٠٠٣ كان نفس ذلك التركيب العشائري لا يزال حيا وأعيد إليه النشاط خاصة التركيب الديني ورجال الدين بعد أن كانوا لفترة وجيزة من تاريخ العراق بعيدون من الساحة السياسية الفعلية ويؤدون دورهم الطبيعي في المجتمع ويؤدون دورا محددا اجتماعيا و دينيا.

إما على مستوى العائلة فقد كانت التواصل قويا بين أبنائها من ناحية ومع الأقرباء وأبناء العشيرة كذلك وكان العديد من الأجيال يسكنون ويعيشون طول حياتهم في بيت واحد. صعوبة المواصلات كانت تؤدي أحيانا كثيرة في صعوبة التواصل بين أبناء العائلة خاصة لموظفي الدولة المعتقلين بين المدن جراء متطلبات عملهم. كانت الحالة أسوء القرويين اللذين يعيشون في مناطق نائية والتي لا تربطها مع المدن حتى الطرق المبلطة. كان القروي يعيش طول حياته في قريته دون أن يرى المدينة.

 إما المدينة فلم تكن كبيرة إلا قياسا بالنسبة للقرية خذ مثلا مدينة طوز خورماتو كانت تعتبر مدينة كبيرة بالنسبة إلى أبناء قرى منطقة افتخار المحيطة والقريبة منها، مثلا. لذا كان العديد من أبناء القرى المحيطة لمدينة كركوك لم يشاهدوا حتى كركوك نفسها طول حياتهم. إما العاصمة بغداد فكانت حلما وربما كنا نجد أحدهم قد حج إلى الحجاز يتجمع الناس حوله التبرك وسماع الروايات عن تلك السفرة المتعبة والشاقة إلى مدينة النبي صلوات الله عليه وسلامه وموطن هبوط الوحي وللعلم كان الحاج يتوجه أولا إلى المسجد الأقصى في القدس الشريف قبل أن ينعطف ويتجه جنوبا إلى الحجاز.

العالم الجديد الذي نعيش فيه اليوم اثر على تكوين العائلة. في الثقافة الغربية نجد ثقافة الأنا إي إن الشخص فقط مسئول عن أعماله ولا ينعكس تلك الأعمال على العائلة. المجرم في العائلة مسئول عن أفعاله بنفسه ولا يجلب العار للعائلة. إما في ثقافة الشرق " ثقافة نحن" فان الفرد جزء من الكل إي كل اعمله من خير أو شر ينعكس مباشرة على العائلة.

هذا الخلاف الجوهري ينعكس على مجمل العلاقات الإنسانية. صلة الرحم ونقصد به طبعا بين أبناء العائلة من المقربين وممن تربطهم رابطة الدم والانتماء. هذه الرابطة مختلفة كذلك هنا في الغرب. نحن لسنا هنا بصدد التقييم وإصدار الأحكام على الصحيح من تلك العلاقات والخطأ منها. لأنني كما أسلفت لا يمكن التقاء ثقافتين متناقضتين من حيث المبدأ. الجدير بالذكر إن هناك اختلافا واضحا بين الجنسين. بناتنا أكثر التصاقا بالعائلة من الذكور مثلا. تحاول جاهدا الزواج من نفس ثقافتها طبعا إذا أمكن ذلك. بالإضافة إلى ذلك تبقى على صلة وارتباط مع عائلتها. الذكور أكثر ثورية ويحبذون الانتقال وهجر العائلة وهناك دوما استثناء لكل قاعدة.

المهاجرين من العراقيين والقادمين من دول الشرق عامة يحتارون في انتمائهم الثقافي فهم ذو ثقافة شرقية في مجتمعاتهم في الغرب ولكنهم حين يزورون وطن أجدادهم ينظر إليهم بعيون ملئها الشك ويراقب كل حركة وكلمة ينطقون بتا وأخيرا يقولون لهم:

 انتم تغيرتم بعد الهجرة وترك اوطانكم والعيش في الخارج.

لكن طبعا هذا صحيح فهم يفكرون بالعلوم التربية التي حصلوا عليها في مدارسهم ومنذ أيام الحضانة في الغرب. وتأثروا بتلك التربية والتعليم التي حصلوا عليها ومختلفون مع أبناء البلد  لأنهم  تربوا ضمن العائلة الشرقية التي تسود فيها الأعراف ومبادئ الدين ورموز الثقافة الشرقية. لا ريب إن الانتماء والتربية الدينية أؤثر في سلوكهم كذلك خاصة ن يخص العبادات والشعائر. لعدم إلمامهم الكامل باللغة العربية. من ناحية ومن ناحية أخرى اختلاطهم مع العديد من الثقافات لمواطني الدول الأخرى من المهاجرين. هذا الاحتكاك يؤدي إلى تغيرات عديدة في تحليلهم و رؤيتهم إلى الأمور. إشكالية الانتماء الثقافي يولد حاجزا بينهم وبين اقرأنهم من أقربائهم في وطن إلام وهنا اقصد العراق. ختاما قد يتسائل المرء هل يمكن العودة الى ما كانت عليها اواصر المحبة والتضامن في العلاقات الاسرية وبين الإخوان والأقرباء ام انها تبقى كموروث ثقافي للامم. الجواب على هذا التسائل ومع الاسف سيكون بالنفي ليس فقط لان سلم التطور الانساني والتقني في الكون ياخذ مسارا صاعدا الى الاعلى ولا نرى وجود أي نقطة رجوع في الافق خاصة في المجال التقني العلمي والتطورات الحديثة في عالم السفر الى الفضاء واكتشاف المجهول. ليس هذه الإجابة من باب الياس بالمستقبل لكنه من الناحية العلمية لا عودة الى مجتمعات الماضي (الجميل) الابايقاف التطور العلمي والتقني في المستقبل. فكيف لنا في عالم يعيش جزء منه في مجرات بعيدة ويفصلها مع الارض سنوات ضوئبة ان نتصور العلاقات الأسرية الحميمة مثلا. واليوم  كيف نقنع الشاب وحتى الطفل الذي بيده احدث تلفون خلوي بان الجلوس حول صوبة (مدفئة) علاء الدين

والتمتع بمشاهدة فلم اسود ابيض في التلفزيون افضل من عالم الانترنت و وسائل التواصل الاجتماعي.

يبقى ان نعلم بان استمرارية الموروث الثقافي الديني في المستقبل خاصة في دول الشرق ستبقي على حميمة بعض العلاقات الأسرية خاصة في المناسبات الدينية والأعياد.

***

د. توفيق رفيق آلتونجي

...................

* الصورة لأحفادي - الأندلس

كثير من المتخصصين في علم النفس والأمراض النفسية، لا يهتموا كثيرا بظاهرة الرهاب الاجتماعي. من الطبيعي أن يشعر المرء ببعض التوتر والقلق في حياته، وهذا أمر طبيعي. ولكن قد يزداد هذا الشعور عن حده بحيث يؤثر حتى على تفاعلاتنا اليومية مع الآخرين، وهذا ما يسمى \"بالرهاب الاجتماعي\"...

الرهاب الاجتماعي هو خوف وقلق من التعرض لبعض المواقف الاجتماعية أو الأداء الاجتماعي. وغالبا ما يجري تجنب هذه المواقف أو تحملها على حساب الكثير من الضيق والإزعاج...

هو عبارة عن اضطراب مزمن يتميز بخوف مفرط وغير مبرر من الإحراج والهوان في المواقف الاجتماعية مما يؤدي إلى ضيق شديد وعدم القدرة على أداء الوظائف اليومية...

يعتبر الرهاب الاجتماعي من أسوأ أنواع السلوك التي من الممكن أن تسيطر على الإنسان، وذلك لما له من تأثير سلبي على صاحبه، فهو يعبر عن ضعف الشخصية، وعدم مقدرة الشخص على القيام ببعض الوظائف الحياتية، وهذه الصفة قد تسبب له مشاكل ومتاعب كثيرة، داخل محيطة البيئي إذ إنه من الصعب العيش في عزلة عن الآخرين، والخوف والقلق المستمرين، وضياع الكثير من فرص الحياة، وخسارة أصدقاء ومقربين، وكل ذلك يتسبب به الرهاب الاجتماعي...،

لذا يجب على كل شخص يعاني من هذه المشكلة أن يعمل بجدية للتخلص منه، فالرهاب الاجتماعي يختلف عن الخجل، فالخجل عادة طبيعية وليس لها أي تأثير سلبي على حياة الأشخاص، بل يعتبر من الصفات المحمودة.: الحياء"

أعراض الرهاب الاجتماعي

ومن الأعراض التي تظهر على الشخص والتي من خلالها نستطيع أن نؤكد إصابته بالرهاب الاجتماعي-- فتتمثل في ما يلي:

1- الخوف الواضح من المواقف الاجتماعية، حيث يتجنب التصرف أمام الآخرين خوفا من أن يظنوا أنه شخص غبي وغير مدرك للأمور.

2- الخوف من أي مناسبة اجتماعية، ويكون ذلك في التجمعات وبين الحضور الكبير والقلق من الظهور أمام الجميع، وفي بعض الحالات يمنعه هذا الخوف والقلق من حضور مثل هذه المناسبات. أفراح أو مؤتمرات أو عزاء خوف أن يتصرف بتصرف عفوي يجعله في تصرفا محرجا...

إن الشخص نفسه يستطيع تقييم حالته ومعرفة مدى إصابته بالرهاب الاجتماعي أكثر من أي شخصا آخر.

هل يوجد علاج للرهاب الاجتماعي...؟

1- انتباه الشخص لنفسه: أي عليه ملاحظة كل تصرفاته، وعند القيام بعمل ما عليه الفصل بين التفكير الشخصي والتفكير الناتج عن الرهاب الاجتماعي، فإذا قام بعملية الفصل، سيكون في المسار الصحيح للعلاج.،

2- تحكم الشخص في أفكاره: فهي خطوة أخرى للتخلص من الرهاب الاجتماعي عن طريق التحكم في تسلسل الأفكار، والتخلص من الأفكار السلبية التي تقود إلى الخوف والقلق، ومحاولة التفكير بطريقة إيجابية.

3- التخلص من الخوف عن طريق مواجهة المخاوف: وهذه الخطوة من أصعب خطوات العلاج، وتتطلب قوة وجرأة، إلا أنها أكثر الطرق فاعلية ونتائجها مضمونة وسريعة.

4- العلاج عن طريق الأصدقاء: فهذه خطوة مهمة لعلاج الرهاب الاجتماعي عن طريق كسب أصدقاء جدد، والتقرب من الأصدقاء القدامى، ومحاولة التقرب من أشخاص يعززون التفكير الإيجابي والدعم النفسي.

5- قيام الشخص بإشغال نفسه وشغل وقته بالمفيد: وذلك لتجنب التفكير السلبي، ومن هذه الوسائل منها: العبادات والتقرب إلى الله بالصلاة وقراءة القرآن، ممارسة التمارين الرياضية، قضاء أكثر وقتا ممكنا مع العائلة والأصدقاء... وللأسف في مجتمعنا الريفي الذي أعيش فيه. مع هذه الحالات وحالات الأمراض النفسية نعاملهم على أنهم ؛ مجانين " ونتجنب الاقتراب منهم على أنهم مجانيين... ونعاملهم بقسوة وفي غياب دور كبير للاهتمام بهم من قبل الدولة... تركوا جارنا وهو في العقد الخامس بعد أن رفضت كل المستشفيات قبوله يصارع المرض وحيدا حتى مات من البرد والإهمال...؟!\"

***

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث مصري متخصص في الجغرافيا السياسية

ليف تولستوي [ت 1910م] مصلح وأديب مسيحي روسي، أنهى مقالته الطّويلة: ما الدّين؟ وأين يكمن جوهره؟ عام 1902م، والّتي طبعت ضمن نصّ في كتاب: في الدّين والعقل والفلسفة، وتولستوي لم يخرج من الإطار اللّاهوتي، ولكنّه لم يفصل الجانب الإنساني عن هذه العلاقة الّتي يسميها بين الإنسان واللّامتناهي من جهة، وبين الإنسان والعالم من جهة ثانية، إلا أنّه يرى ضرورة حضور العقل في هذه العلاقة، وحضوره يجمع بين تفعيل الدّين في خدمة البشريّة جميعا في ضوء مبدأ المساوة من جهة، وفي تطوير هذا الدّين ذاته بما توصل إليه العلم من جهة ثانيّة بما يحقق مبدأ المساواة والوحدة بين البشريّة.

فيرى تولستوي أنّ "العقل هو القوّة الّتي تمكّن البشر من تحديد علاقتهم بالعالم، وكما أنّ البشر جميعهم في مصاف واحد من ناحية وجود علاقة تربطهم بالعالم، فكذلك الدّين الّذي يؤسس لهذه العلاقة يوحّد البشر، وتؤدي هذه الوحدة إلى رخاء البشر روحيّا وماديّا"، لهذا "إذا حاد العقل عن دوره الطّبيعيّ في تأسيس العلاقة مع الله، والنّشاط الّذي يتلاءم مع هذه العلاقة، لا يوجه البشر فقط لخدمة أهوائهم، ولا حتّى حرب شريرة بين البشر بعضهم وبعض، بل يبرر هذه الحياة الشّريرة المتناقضة لسمات ودور الإنسان، فتحدث هذه المجاعات المريعة الّتي يعاني منها الآن معظم البشر، وتصبح العودة إلى هذه الحياة العاقلة والصّالحة مستحيلة تقريبا".

فالدّين عنده "هو الّذي توافق مع العقل ومعرفة الإنسان، ويحدّد علاقته بالحياة اللّانهائيّة من حوله"، وبالتّالي التّطور ملازم لأيّ دين، "فليس الدّين إيمانا يتأسس مرة واحدة في العمر كاملا، كالخرافات والصّلوات والطّقوس العبثيّة الشّهيرة .... بل يشكل الدّين علاقة الإنسان بالله القابلة للتّطوير بشكل يتّفق مع العقل ومعارف الإنسان، وهذه العلاقة من شأنها أن تحرك الإنسانيّة للأمام ....".

لهذا يرى أنّ فكرة التّطور في الأديان يلزم منها تعدد الأديان، وهو شكل طبيعيّ جدّا، ويعلل ذلك "لأنّ التّعبير عن طبيعة العلاقة الّتي تربط بين الإنسان واللّانهائي – الله أو الآلهة – مختلفة من زمان لآخر، وحسب درجة تطوّر الشّعوب المختلفة"، وهنا يضرب مثلا أنّ "في الدّين البرهمي العميق .... بمجرد أن شاخ وبدأ في الذّبول مبتعدا عن فكرته الرّئيسة، متحوّلا إلى عقائد متحجرة، ظهرت من إحدى الجوانب حركة إعادة بعث للبرهميّة، ومن ناحية أخرى تعاليم البوذيّة الّتي عملت على تقدّم فهم الإنسانيّة في علاقتها باللّانهائيّ، نفس الانحطاط حدث مع الأديان اليونانيّة والرّومانيّة، والّذي تلاه ظهور المسيحيّة، الأمر ذاته مع المسيحيّة الكنسيّة والّتي انحطت في بيزنطة إلى مستوى الوثنيّة وتعدد الآلهة، بينما على الجانب الآخر من هذه المسيحيّة المشوهة ظهرت من جانب الحركة البولسيّة، ومن جانب آخر ظهر الإسلام بعقيدته التّوحيديّة الصّارمة ردّا على عقيدة التّثليث وعبادة العذراء، الأمر ذاته مع مسيحيّة القرون الوسطى البابويّة، وردّا عليها ظهرت تعاليم الإصلاح الدّيني".

بيد أنّ دخول السّلطة، والمصالح النّفعيّة كما يرى تولستوي أحدثت انحرافا في الدّين، وبالتّالي تولدت تحريفات داخليّة مضافة إلى النّص الديني نفسه، فكل دين يولد بسيطا ثم يتضخم تأريخيّا، وهذا التّضخم يتزاوج مع المصالح النّفعيّة لفئة من النّاس [سياسيّا، دينيّا، اجتماعيّا]، فيكون العقل خادما في تفعيل هذه النّفعيّة باسم العلم الدّيني، لا أن يكون خادما للدّين الحقيقي لا التّأريخي، وهذا لا يكمن إلا بالعودة من خلال العلاقة بين الإنسان واللّامتناهي شريطة أن لا يخرج إلا من خلال الوحدة بين البشر جميعا، فكلّ دين "يؤسس لعلاقة بين الإنسان واللّانهائي، وهي علاقة واحدة لكلّ البشر .... لذا يحوي كلّ دين مفهوم مساواة جميع البشر أمام من يدعونه إلها"، فلهذا يرى تولستوي أنّه لا يمكن فصل هذه العلاقة عن مبدأ المساواة، وهي الّتي جاءت الأديان لتقريرها.

ومن خلال هذا المبدأ يظهر مدى التّحريف الّذي أضيف إلى هذه الأديان والابتعاد عن جوهره، فهي في الابتداء جاءت مؤكدة أنّ "مفهوم مساواة البشر يشكّل سمة رئيسة في كلّ دين"، بيد أنّه يطرح تساؤلا تعجبيّا من خلال القراءة التّأريخيّة لكلّ دين، فيخلص "في الواقع لم تحدث في أيّ وقت، وفي أيّ مكان مساواة حقيقيّة بين البشر، وهي ليست موجودة الآن أيضا"، فهل الأديان فشلت في تحقيق هذه المساواة، أو انحراف حدث في ذاتها؟ فالأديان أفقيّا من مبادئها الواضحة المساواة، وجاءت لتحقيقها بين البشر، إلا أنّ هذه القيمة انحرفت لسببين، الأول: تّأثير النّفعية البرجماتيّة على الدّين نفسه لكن ليس باسم المجموعة، وإنّما باسم فئة منتفعة من هذا الدّين ذاته: " فكلما يظهر تعليم ديني جديد يحوي في تعاليمه المساواة بين البشر، يحدث مثلما يحدث مع النّاس في الواقع، يحاول المنتفعون من عدم مساواة البشر أن يخفوا هذه [القيم] الرّئيسة للتّعليم الدّيني بتشويه أصل هذا التّعليم .... ينتج فقط بسبب أنّ المستفيدين من لا مساواة بين البشر، الموجودين في السّلطة والأغنياء ... وحتّى يبرروا موقفهم أمام أنفسهم دون أن يغيروا من أوضاعهم، يحاولون بكل ما لديهم من قوّة أن يلصقوا بالدّين تعليما يمكن أن تكون فيه عدم المساواة ممكنا، وينتج عن ذلك حتما أنّ دينا يتم تحريفه يمكن لمن يتسلّط فيه على الآخرين أن يجد لنفسه مبررا، ينتقل إلى العامة أيضا، ويوحي إليهم بأنّ خضوعهم لمن يتسلطون عليهم أمر من متطلبات الدّين الأساسيّة".

والسّبب الثّاني أنّ هذه القيمة تغيّب مقابل طقوس وخرافات فتغيب  أدبيات القيمة ذاتها "مثل: عامل الآخرين كما تحبّ أن يعاملوك .... لا تستغل احتياجات إخوتك من أجل تلبية رغباتك أو رغبات آخرين، أن تكون موحية بقوّة وملزمة للبشر، مثل الإيمان بقداسة القربان، والأيقونات عند النّاس ...".

ولكون تولستوي مسيحيّا، ويناقش المجتمع المسيحيّ، نجده يناقش مبدأ المساواة في المسيحيّة، وكيف استطاعوا تحريفه في الدّين المسيحيّ ذاته منذ فترة مبكرة جدّا، حيث يرى أنّ "المسيحيّة قد أعلنت أنّ مساواة البشر لا تنتج فقط عن علاقة البشر بالله اللّانهائي، بل إنّها تعليم رئيس عن أخوّة البشر جميعا، كما أنّ البشر جميعا أبناء الله، لذلك يبدو من المستحيل تحريف المسيحيّة كي نزيل حالة مساواة البشر بينهم وبين أنفسهم"، وهذا من قراءته لأصل النّص المسيحيّ، إلا أنّ التّأريخ كما يقول أثبت العكس، فيدرك أنّ "العقل الإنساني مراوغ، وبلا وعي أو بنصف وعي تمّ ابتكار طريقة جديد للمراوغة ... كي تجعل من التّحذيرات الإنجيليّة، والتّصريحات الواضحة عن مساواة كافّة البشر غير حقيقيّة، هذا العمل البارع بتأسيس [العصمة] ليس فط لكتابات معينة، بل لبشر معينيين أيضا، تعيّنهم الكنيسة، ولديهم الحق في نقل هذه العصمة لأناس آخرين يقومون بدورهم ...]، وهكذا عن طريق هذا الكهنوت انتقلت العصمة من النّص إلى بشر مثلنا، وبهم غلبت النّفعيّة والتّحريف في صرف هذه المساواة الّتي جاء بها حقيقة الدّين المسيحيّ.

ومع بداية عصر التّنوير، وظهور العلمويّة في الغرب، التفت الفلاسفة والعلمويون إلى مبدأ المساوة من جديد في ظلّه النّاسوتي الشّامل عند الفلاسفة الشّموليين، أو النّاسوتي الخاضع للعلمويّة عند التّجريبيين والعلمويين، وهؤلاء أدركوا أن الدّين بالكليّة ضدّ المساواة، وقسّموا العصور – كما يرى تولستوي – إلى ثلاثة عصور: العصر الدّيني، والعصر الميتافيزيقي، وعصر العلم القطعيّ، ونحن نعيش العصر الثّالث، لهذا رأى العلمويون "أنّ احتياجنا إلى الإيمان بالدّين قد انهار"، وأنّ الدّين "صار عنصرا ضارا بحياة المجتمع"، لهذا يرى تولستوي أنّ سبب هذه الرّؤية ليس الدّين ذاته، بل أنّ السّبب الحقيقي أنّه "في كافة المجتمعات الإنسانيّة وفي فترات معينة من حياة تلك المجتمعات دائما ما حلّت بعض الأوقات انحرف فيها الدّين عن معناه الحقيقي، ثمّ أخذ هذا الانحراف يزيد أكثر فأكثر، حتّى فقد الدّين معناه الرّئيس، وحين تحوّل إلى صيغ متحجرة أخذ يذبل، ومن ثم أخذ تأثيره على حياة النّاس يضعف أكثر فأكثر"، وقد قدّم فلسفته في هذه من خلال العلاقة بالإنسان مع اللّامتناهي في ضوء فلسفة الدّين والأخلاق والعلم، ويصعب هنا بيانه والإسهاب فيه لضيق المقالة.

إلا أنّه جملة يرى أنّ الانحراف في تحقيق مبدأ المساوة لم يقتصر عند الدّين نفسه؛ بل حتّى في ضوء الدّول المبنيّة على دساتير الأصل حافظة لقيمة هذه المساواة، فيجد التّناقض في التّطبيق ليس تحت مظلّة الدّين؛ بل حتّى تحت مظلّة الدّولة ذاتها، فأمّا عن الأول فيرى تولستوي "كما أنّ كافّة البشر إخوة ومتساوون؛ فعلى كلّ منهم أن يتصرف مع الآخرين كما يريد الآخرون أن يتصرفوا معه، لذا فالأمر كلّه يعتمد على ترك القانون الدّيني الكاذب، ولكن الأمر لا يقتصر على أنّ مثقفي العالم المسيحي لم يفعلوا ذلك؛ بل على النّقيض من ذلك، يحاولون أيضا إخفاء إمكانيّة هذا الحل عن النّاس، ومن أجل القيم بذلك يقومون بكلّ هذه الجهود العقليّة البطّالة الّتي يطلقون عليها اسم علم" أي العلم الدّيني.

وأمّا عن الدّولة فيرى أنّهم "يكتبون مئات الكتب عن المبادئ المختلفة: المدنيّة، والجنائيّة، الشّرطيّة، والكنسيّة، والماليّة، الخ، ويتحدّثون ويتجادلون وهم على ثقة كاملة أنّ ما يفعلونه مفيد ... ولكن التّساؤل عن سبب إمكانيّة إدانة وإجبار بشر متساويين بالطّبيعة، وسلبهم وإعدامهم، لا يجيبون عنه أبدا ... هذا العنف لا يقوم به النّاس، بل كائن مجرد يدعى الدّولة".

هذه المقاربة الّتي قدّمها تولستوي قبل مائة سنة ينطلق من خلاصة الفكر الإنساني أنّ فهم الأديان وتحليلها لا ينطلق من الدّين التّأريخي، بل من القيم الكبرى المطلقة بين البشر جميعا والمرتبطة بالإنسان، والمحددة علاقتها باللّامتناهي، وهي الّتي جاءت الأديان الحقيقيّة في بساطتها لتفعيلها، فكلما اقتربنا منها لن نجد فارقا كبيرا بينها وبين العلم والفلسفة، بل تساهم بشكل كبير في رقي المجتمع الإنسانيّ أخلاقيّا وروحيّا.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

إن التعبير الإسلامي الشامل، الذي يحتضن مفردات التسامح وتجلياته الخاصة والعامة، الثقافية والاجتماعية والسياسية، هو تعبير ومبدأ العدل والعدالة.. قال تعالى [فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا وإليه المصير]. إذ هو(العدل) يستوعب كل مفردات التشريع الإسلامي، والعدالة هي أم القيم وتجلياتها جميعا. وفي هذا السياق أيضا تأتي مفردات (العفو – الإحسان – دفع السيئة بالحسنة – الإعراض عن الجاهلين). إذ يقول تبارك وتعالى [والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار]. ويقول عز من قائل [وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما]. وغيرها من الآيات التي تحث المؤمنين على تجسيد هذه القيم في حياتهم وأحوالهم المختلفة.

وإن هذه القيم بحاجة إلى سياق اجتماعي، يتوجه صوب بناء هذه القيم وإرساء دعائمها لبنة لبنة، وخطوة خطوة. وذلك لأنه من المستحيل أن تتحقق هذه القيم في الفضاء الاجتماعي والإنساني دفعة واحدة، وإنما تنجز بالتدرج والتراكم. لذلك ينبغي أن نقوم بدعم وإسناد كل خطوة في هذا الطريق الطويل والشاق. وإننا من الضروري أن لا نستعجل النتائج. قال تعالى [سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين]. ونحن مأمورون دائما بإتباع الأحسن. إذ قال تعالى [الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم ال وأولئك هم أولوا الألباب]. فحينما تتطور الظروف وتتبدل الأحوال وتزداد وتيرة المتغيرات، فعلينا استنادا على هدى القرآن الحكيم ونور العقل وبصيرة الإيمان من إتباع الأحسن في القول والفعل. وهذا النهج يؤسس لنا منهجا واضحا في طبيعة التعامل مع مستجدات الحياة وتطوراتها على الصعيدين النظري والعملي. إذ أننا مطالبون من الاستفادة من كل هذه المنجزات والمكاسب على قاعدة [فليأخذوا أحسنه] و" إن ما نعيه من مقصد الشريعة في إثارة العقل، ومخاطبة العقلاء، وفي رفع حجب الشهوات، عن العقل، وفي تنمية الإرادة ضد من يصادروا العقل. إن مراد الشرع من كل ذلك – حسبما نعيه – هو العمل بما يقتضيه العقل والعلم، وبما يكشفان من حقائق الحياة وواقعياتها، فإن كانت الحقائق ثابتة عملنا وفقها، وإذا كانت متغيرة عملنا وفقها ".

والحرية الحقيقية للإنسان تبدأ حينما يثق الإنسان بذاته وعقله وقدراتهما. وذلك لأن التطلع إلى الحرية بدون الثقة بالذات والعقل، تحول هذا التطلع إلى سراب واستلاب وتقليد الآخرين بدون هدى وبصيرة. لذلك فما لم يكتشف الإنسان ذاته ويفجر طاقاته المكنونة، لن يستطيع من اجتراح تجربته في الحرية وبناء واقعه العام على قاعدة الديمقراطية والشراكة بكل مستوياتها.

والعدالة هي الناموس العام والإطار الأكبر الذي يحتوي ويتضمن كل الفضائل والضرورات الدينية والدنيوية. والحرية لا تنمو في واقع إنساني بعيد عن مقتضيات ومتطلبات العدالة. إذ أن الظلم وهو نقيض العدالة، حينما يسود في أي واقع اجتماعي، فإنه يزيد من إفساد الحياة العامة، ويحول دون المساواة والحرية وكل الفضائل الإنسانية. فالظلم هو البوابة الكبرى لكل الشرور والرذائل، كما أن العدالة هي بوابة كل الحسنات والفضائل. ولذلك جاء في الحديث الشريف أن [العدل رأس الإيمان، وجماع الإحسان، وأعلى مراتب الإيمان].

ولو تأملنا قليلا في مضامين الحرية الإنسانية، نجدها حقائق جوهرية في مفهوم العدل والعدالة. فلا مساواة مع ظلم. لذلك فإن طريق المساواة هو أن يعدل الإنسان مع نفسه ومع غيره. كما أنه لا حقوق محترمة ومصانة للإنسان، إذا كان الظلم هو السائد، لأنه هو بوابة انتهاك الحقوق.

من هنا فإن طريق صيانة الحقوق، هو إحراز العدالة بكل مستوياتها وجوانبها.

وهكذا نجد أن كل تجليات مفهوم الحرية، ترجع في جذورها العميقة والإنسانية إلى قيمة العدالة. فهي طريقنا إلى كل الفضائل. ولا حرية خاصة أو عامة بدون عدالة في حقول الحياة المختلفة.

والعدالة كمفهوم في هذا السياق، هي أوسع وأعمق من القوانين والإجراءات الديمقراطية. إذ هي تتعلق بالممارسات والمواقف كما تتعلق بالبواعث والدوافع. فهي الدعامة الأساسية لأي نظام ديمقراطي حقيقي. والنظام الذي يفتقد العدالة، لا يمكن أن يكون ديمقراطيا حتى لو تجلبب بكل شعارات الديمقراطية. فالعدالة هي جوهر الأنظمة الديمقراطية، وهي جسر توسيع رقعة الحرية في مجالات الحياة المختلفة. وعلى هذا فإن الحرية هي ذلك الحيز الذي يستطيع فيه الإنسان التصرف في أموره وقضاياه دون أن يصل إلى ظلم نفسه أو الآخرين. بمعنى أن حدود هذا الحيز الذي يستطيع الإنسان التصرف في فضائه هو العدالة.

فالحرية تتسع وتضيق من خلال علاقتها بقيمة العدالة. وبهذا تتضح العلاقة العميقة في الرؤية الإسلامية بين مفهومي الحرية والعدالة. فلا عدالة حقيقية بدون حرية إنسانية، كما أنه لا حرية بدون عدالة في كل المستويات.

فالحرية لا تعني التفلت من القيم والضوابط الأخلاقية والإنسانية، كما أن العدالة لا تعني قسر الناس على رأي واحد وقناعة محددة. لذلك فإننا ينبغي أن ننظر إلى مفهوم الحرية بعيدا من لغة الحذر والتوجس والتسلسل المنطقي الذي قد يوصل إلى مساواة معنى الحرية إلى التشريع للانحراف والرذيلة، ونعمل على توضيح العلاقة الجوهرية التي تربط معنى الحرية مع مفهوم العدالة. وبالتالي فإن الحرية عامل محرك باتجاه إنجاز مفهوم العدالة في الواقع الخارجي. كما أن العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية هي التي تكرس مفهوم الحرية في الواقع المجتمعي.

وعلى هذا فإننا لا بد أن " نميز بين الحرية كحق اجتماعي والحرية كخطوة وجودية. كحق، لا تشمل الحرية خيار ما هو محرم، ولكن كحالة وعي وجودي فهي تشمل جميع الاحتمالات، كما سبق وبينا. ففي المفهوم الوجودي يستطيع الفرد أن يقرر ما يشاء وهو عالم بتبعات قراره، ولا يحتاج إلى إجازة من أحد، بينما طالب الحق مقيد بما هو مجاز، ومن ذلك شرعية المطالبة بما هو محرم، ولكن ليس باختيار المحرم.

وأخيرا، لا بد أن نتذكر أن ما هو جائز يظل أمرا خاضعا لتفاسير مختلفة، باختلاف الأفراد والجماعات.

المفهوم الاجتماعي للحرية يتعلق بخيارات متاحة في حيز مباح، كالتعبير الخاص والعام عن الآراء والأفكار، والعمل السياسي بمختلف أوجهه، وحرية العبادة والمعتقد، والبيع والشراء والتعاقد وغيرها، وهي في مجملها حقوق محددة المعالم ومكتسبة، وما هو مكتسب بفعل اجتماعي يفقد بقرار اجتماعي. إن نقد الحكومة والقانون في النظام الديمقراطي حق قائم، ولكن مخالفة القانون أو التمرد عليه غير مباح، المباح هو العمل على تغيير الحكومة والقانون بالطرق المشروعة ".

فأجواء الحرية وممارستها تحسن من قدرات المواطنين، كما أن العدالة ومتطلباتها توجه هذه القدرات باتجاه القضايا والموضوعات ذات الأولوية. فكلما تتوسع مساحة تأثير العدالة في المجتمع، فإنه يفضي إلى تكريس قيم الحرية ومفرداتها المتعددة في الأمة والمجتمع والوطن. فالحفاظ على الحرية يقتضي ممارسة العدالة في مختلف المستويات. كما أن ممارسة الحرية تكون في فضاء الالتزام والتقيد بمتطلبات العدالة. لذلك لا يجوز أثناء ممارسة الحرية الإضرار بالغير. فلا يجوز من الناحية الشرعية والفقهية مثلا أن المالك لأرض في حي سكني، أن يبني عليها مصنعا يلوث البيئة والهواء ويؤدي إلى الإضرار بالجيران. فممارسة الحرية في الملكية، ينبغي أن يكون في إطار العدالة. وأية ممارسة تتجاوز هذا الإطار أو تضر به، فإنها تصبح ممارسة غير شرعية. فالإنسان الذي لا يتمتع بالحرية، لا يستطيع إنجاز عدالته. كما أن الإنسان الذي يعيش واقعا اجتماعيا بعيدا عن العدالة وتسوده حالة الظلم واللامساواة، فإنه لن يستطيع أن يدافع عن حريته ويجذرها في واقعه العام.

ولكن لا يمكن أن يتم الحفاظ على حقوق الأفراد والجماعات ومكتسباتهم الحضارية بدون العدالة. فهي حصن الحقوق، وهي بوابة الأمن الشامل. وبدونها تشيع الفوضى، وتزدهر الفتن والإضطرابات، وتزداد أسباب الاحتقان والانفجار في المجتمع. فالعدالة بمفرداتها (القسط والبر والإحسان) هي التي توفر الأمن والاستقرار في حياة الأفراد والجماعات. فلا فلاح إلا بالعدل، فهو سبيلنا الوحيد لإنجاز الاستقرار والأمن والتقدم. وإن الخروج من سجن التخلف والتأخر إلى رحاب التقدم والحرية والتطور بحاجة إلى العدالة..

وإن جوهر التقدم الإنساني والتطور البشري، هو الحرية، حرية الاختيار والتعبير، ونفي الإكراه بكل صوره وأشكاله، وغياب الحتميات التي تحول دون ممارسة الإرادة الإنسانية.

- انتهى –

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

صار حرق المصحف الشريف ظاهرة ببلد عريق في حرياته وديمقراطيته مثل مملكة السُّويد؛ مملكة قصدها اللاجئون مِن مختلف بقاع العالم، حيث يوجد التَّوتر، أو انهيار الاقتصاد، وحصة المسلمين بينهم الأكبر. فسمحت السُّويد بتشييد المساجد والمعابد، بعرضها وطولها، ولكلّ عقيدة دينية حقها في ممارسة طقوسها، مثل بقية بلدان القارة الأوروبيَّة، غير أنَّ الوجود الدّينيَ المختلط، وبهذه الكثافة، بحاجة إلى ضمان قانونيّ لحمايته، والحول دون تحوله مِن نعمة التَّعايش والتّساكن إلى نقمة الكراهيَّة، بإثارة الغرائز المتطرفة، التي طالما توجعت منها السُّويد والعالم بأسره.

أخذ كتاب المسلمين، وهو تاج مقدساتهم، يُهان بالحرق بين فترة وأخرى، مارسه متشدد، لا يقل عن متشددينا إيذاءً، يدعى راسموس بالودان، ومارسه اليوم سويدي بالتجنيس يدعى داس سلوان موميكا، ولأن السُّويد بلد قانون وشريعة مدنيّة، لا يمارس التّظاهر فيها إلا بإجازة مِن شرطتها، وبالتّالي يكون الحرق قد تم بموافقة رسمية، وهذا ما نفهمه، وليس لنا بالتفاصيل.

بيد أنّ الأغرب والأعجب أن يحصل هذا التصعيد بالكراهيَّة ضد المسلمين، وقد كان ملكها في القرن التَّاسع عشر خصص جائزتين لأعمال بحثيّة وثقافيّة تخص الشرق الإسلاميّ، خصصهما الملك أوسكار الثَّاني (توفي عام 1907) ملك السُّويد - كانت والنّرويج مملكة واحدة - جائزة تمنح لمَن يؤلف كتاباً في تاريخ تمدن العرب قبل الإسلام، ففاز العلامة محمود شكري الألوسي (توفي عام 1924) بكتابه «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب».

قدمت عدة أعمال، لكن الجائزة ذهبت إلى الألوسيّ، وقد أرخ تلميذه محمَّد بهجة الأثري للجائزة التي حصل عليها أستاذه. كُلفت قنصلية السُّويد بالقاهرة بالمراسلات والتنسيق. وصلت رسالة موقعة مِن قِبل القنصل بالقاهرة، الكونت كرلو دي لندبرغ، إلى الألوسي، مؤرخة في الرَّابع مِن يوليو (تموز) 1882، وبعدها بحين استلم البشارة بنيله الجائزة في رسالة أخرى مِن القنصل نفسه المؤرخة في الخامس مِن نوفمبر (تشرين الثَّاني) 1889 (أعلام العِراق سيرة الإمام الألوسي الكبير).

كان الوسام أو الجائزة ممهورة باسم الملك أوسكار الثَّاني، وقد أشارت مجلة «الهلال» المصريَّة إلى اهتمام الملك بالآداب الشّرقيَّة، وزينت الجزء السَّادس منها، بصورة الملك، في عددها 15 نوفمبر (تشرين الثَّاني) 1897 موشحة بعبارة «نصير العلم والأدب وخصوصاً الآداب الشَّرقية».

حضر وفد مصري للمشاركة في المؤتمر العلمي للمستشرقين (1889)، المقام باستوكهولم، الذي أعلن فيه الفائزون، فيرصد أحد مرافقي الوفد يوميات رحلته إلى أوروبا، ويُصنف فيها كتاب «إرشاد الألبَّا إلى محاسن أوروبا» (مطبعة المقتطف 1892). كان ضمناً قد رصد ندوات المؤتمر وجلساته، تعذر على الألوسي الحضور، فتلي أمر الملك: «منح مؤلف (بلوغ الأرب) الميدالية الذَّهبية المعدة للفنون والعلوم، ليحملها على صدره معلقة في شريط واز (هكذا وردت)، وسترسل تلك الميدالية إلى الشَّيخ الألوسي بواسطة سفير مملكة السُّويد والنَّرويج (بالقاهرة)» (إرشاد الألبَّا، ص 626).

أنجز الألوسي كتابه «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب»، حسب خاتمته في نهاية الجزء الثَّالث منه عام 1304هـ/1887م، أي عمل فيه عاماً كاملاً مِن تاريخ تكليفه، ثم نُشرت طبعته الأولى عام 1314هـ/1896م، وذلك حسب مقدمة الكتاب للأثري، طُبع بثلاثة أجزاء. بعد إنجاز الكتاب أُرسلت مخطوطته، وفاز بالجائزة. مِن فحوى الرسالة الأولى يغلب على الظَّن أن الألوسي كان قد عمل في مثل هذا الكتاب قبل التكليف، أو كان لديه مخططٌ أرسله، فجاءت الموافقة على العمل فيه، أو أن رسالة التكليف لم يعثر عليها الأثري وينشرها، كلُّ هذا وارد.

تسلم الألوسي رسالة من القنصل العام لمملكة السُّويد بالقاهرة؛ يبلغه فيها بفوز كتابه في المسابقة والجائزة الملكية، جاء فيها:

«حضرة العالِم الفاضل السَّيد محمود شكري أفندي أعزه الله. أيد الله الأستاذ وشرح بالمعارف صدره، ورفع بالكمالات قدره، ولا زالت تُحييه المعالي، وتخدمه بأبيضها وأسودها الأيام والليالي. نكتب إليه وفضله لدينا أظهر مِن الظُّهور، وأشهر مِن كلِّ مشهور، معتقدين أن يسرّ بما نتلوه عليه، إذا ألقى بمقاليد سمعه إليه، وذلك أن كتابه بلوغ الأرب جليل في بابه، وقد استحق التقدم على أضرابه، فإن جميع الكتب التي وصلتنا، في هذا الصَّدد، مع ما بلغت إليه مِن كثرة العدد، واختلاف مصادرها شرقاً وغرباً، وبُعداً وقُرباً، مِن أوروبا ومصر والشَّام والعِراق، وغيرها مِن الآفاق، لم يحصل سواك في أربابها أحد، على تلك الجائزة، التي سبق بها الوعد، لأن الموضوع واديه عميق، بعيد الطَّريق، غير أن كتاب الأُستاذ أجمع الكلَّ مادةً، وأوسعها جادةً، فلذلك أنعم عليه صاحب الجلالة مولانا ملك السُّويد والنَّرويج بنيشان مِن ذهب، أخضر العلاقة لا أخضر الجلدة مِن بينت العرب، وهذا النّيشان لا يناله إلا عالم فاضل، وقد خُصص به الأستاذ دون سواه على كثرة الآمل. فيجعل صدره له حلية، وليفخر به على نظرائه، فإنما يُحسن الفخر على العلية. وليعلم أننا قد عزمنا على طبع ذلك الكتاب، تخليداً لمآثر صاحبه في خزائن الأدب، فلينشط لمثله همته، وليُجرد على أعناق الخمول عزمته، والسَّلام عليه ورحمة الله» (القاهرة 12 ربيع الأول 1307هـ المصادف 5 نوفمبر/ تشرين الثَّاني 1889م).

تمعنوا في فقرات رسالة القنصل ووكيل مملكة السّويد أعلاه، وما بها مِن اهتمام وموضوعيَّة، ومحاولة اقتراب مِن الشّرق الإسلاميّ، وانظروا إلى ما يمارس على أرض تلك المملكة مِن تهييج للمشاعر، واتجار بالكراهيات، والدولة السُّويدية قادرة على لجم مثل هذا التَّهور بالحريات، فما حصل سيترجم وبطرفة عين إلى دماء وأشلاء.

أقول أين سويد الأمس عن سويد اليوم؟! سيقول قائل: إنها الحرية والتعبير عنها، ولكن على ما يبدو أنّ ضرر التَّضييق على الحريّة، الذي تدافع عنه السّويد، كبلد حريات، لا يختلف بشيء عن فوضى التَّعبير عنها، وبإجازة رسميَّة. يوم منحت الجائزة، التي وصلت إلى محمود شكري الألوسيّ، مِن السّويد عبر القاهرة إلى بغداد، لم يعرف عنها إلا قلة مِن النَّاس، قد لا تتعدى الحاضرين في احتفال إعلانها، لكن «حرق المصحف» اليوم علم به العالم بأجمعه، وبالصورة والصّوت، فأقطاب الأرض واتجاهاتها الأربعة طويت كأنها الخاتم. فكيف يكون حرق كتاب يقدسه أكثر مِن مليار إنسان حرية تعبير؟! إن مثل هذا الفعل، الذي أضاع ما سعى إليه ملوك السّويد الأوائل، سيوّلد كراهيات، ويؤسس لجماعات متطرفة، تنتظر استفزازاً يستفزها، كي تعود التفجيرات والكارثيّة، وكأن هناك مَن خسر وجودها مِن ساسة الغرب!

***

د. رشيد الخيون

جيوما پولينييه Guillaume Apollinaire (1880 – 1918) شاعر وكاتب وناقد فني يعتبر من اهم الادباء في جيل الرواد الطليعيين Avant-Garde، وابرز من أسسوا للثقافة الفرنسية الجديدة التي تبلورت في مطلع القرن العشرين. وهو أول من بدأ التنظير في الفن الحديث فكتب عن التكعيبية وهي ما تزال في المهد.

فيما يلي مقتطفات مختارة من اهم ثلاثة نصوص كتبها پولينييه عن الفن الحديث والتكعيبية بين 1911 و1913. وهي النصوص التي تضمنها كتاب Art in Theory: An Anthology of Changing Ideas 1900-2000 الذي حرره چارلس هاريسن و پول وود والمنشور من قبل مؤسسة بلاكويل عام 2003.

ولابد لي في البدء أن اقول بأنه كان صعبا علي ان ارى بأن ما كتبه پولينييه يعتبر من قبيل النظرية، كما اشيع خلال اكثر من قرن من الزمن! إذ ان تصريحاته الوصفية المنطوية على العاطفة واللغة الشعرية لم تتح المجال لتأسيس اي قواعد نظرية، ولم تحتو على أي تحليل علمي، في اعتقادي. ولكن يبدو لي ان المقصود بالـ "نظرية" هو "الرأي"! وهذا هو الاستعمال الشائع للكلمة، فنقول مثلا "ماهي نظرية فلان في هذا الحادث" أو كما يسأل الحاكم "ماهي نظريتك في الدفاع عن نفسك". بهذا المعنى، نعم، اقول ان هذه هي آراء پولينييه، وليس نظرياته. فالاكاديميون الذين يبحثون فيما كتبه الاوائل عن نظرية بمعناها العلمي، لا يجدونها.

النص الاول هنا هو مقالة پولينييه الموسومة "التكعيبيون" المنشورة في : L’Intransigentالباريسية في العاشر من اكتوبرعام 1911.

كان تركيزه في هذا النص على التمييز بين الخصائص النوعية للتكعيبية بالمقارنة بمدارس فنية معاصرة كالانطباعية والوحشية. يرى پولينييه ان التكعيبية ليست صرعة فنية طارئة، انما مدرسة رصينة لم تتخل عن المبادئ الفنية الاولى المستندة على الخط والكتلة والفراغ واللون والانشاء. ولو انها كانت برغم تمسكها بتلك الجذور صدمة للمتلقي الذي تعود ان يرى الاعمال الانطباعية بهارمونيتها الساحرة ودقة وانسجام تفاصيلها. فها هو الآن امام تناوب السطوح بين الظل والنور حيث يفرض خيال الفنان حضوره المتميز من دون حشر اللوحة بالتفاصيل الفوتوغرافية ولا بخزعبلات الفن المفرط بحداثته الثورية. ان هذه المدرسة الجديدة ستمثل تيارا جادا ونبيلا ومؤهلا لطرح الاعمال المذهلة التي لم يخطر على بال الانطباعيين او الوحشيين اعتبارها. ويضيف: سأذهب ابعد من ذلك لأقول ان هذه التكعيبية هي اكثرالمدارس الفنية فخامة وتهذيبا في مسيرة الفن الفرنسي.

النص الثاني هو مقالته الموسومة "حول الموضوع في الفن الحديث" المنشورة في Les Soirees de Paris في شباط عام 1912.

يعتقد پولينييه انه طالما بدت التكعيبية وكأنها بداية الطريق للتجريدية، فان ذلك أجاز لموضوع اللوحة ان يحضر أو يغيب. وحتى في حضوره المحدد فان عنوان العمل قد يصف الموضوع او لا يصفه، وقد لاينطبق بالضرورة على مانراه في سطح اللوحة. ومن هذا المدخل نستطيع ان نتبين نزوع بعض الفنانين لاستخدام عناوين شعرية مثيرة لا علاقة لها بالمحتوى، أو عناوين عامة بديهية كأن يكون عنوان اللوحة "كرسي" أو "كتاب على منضدة" من دون ان يرى المتلقي اي اشارة بصرية للكرسي او الكتاب والمنضدة.

يفخر پولينييه بالتكعيبية بانها المدرسة التي تقدم لنا فنا، تماما غير الذي كان، خاصة بمعنى الاقلاع عن ما يحاكي الواقع الفيزياوي. وبذلك فلم تعد متعة المتلقي، كما كانت تجاه اعمال الفنانين الاوائل، مقرونة بطبيعة خلابة قد تكون ازهى واجمل من الواقع، أو نساء عاريات تقترب اجسادهن الى كمال الملائكة، أو تفاصيل مدروزة ومصقولة باعلى درجات الحرفة. فالفن الحديث بهذا المعنى وخصوصا التكعيبية معنية بان تقدم للمتلقي فنا اجردا متقشفا منزوعا من التزويق وخال من الزينة. ويعتقد بأن مثل هذا التجرد والغموض هو سبب تصاعد شعبية التكعيبية بين طبقات المجتمع الراقية، ذلك ان واقعية الفن بمواضيعه الواضحة ومعانيه المدروسة المؤثرة اصبحت في عداد الماضي وبقيت تثير الجمهور الذي لايتطلع الى التغيير. ويضيف بانه اذا كان المتلقي اليوم يبحث عن امتاع عينه واشباع جوارحه بما يتوقع ان يوفره الفن، فان عليه ان يبحث مليا الآن عن منابع اخرى للامتاع ليجد ضالته في التكوينات التكعيبية الساحرة. وهذه هي مهمته الجديدة، ولا خوف على الطبيعة والواقع الذي يعكسها لانها ستبقى مشرعة الابواب كمصدر اولي للامتاع.3421 نظرية الفن

التكعيبية فن نقي نبيل! يعيد هذه العبارة مرارا وتكرارا ويقصد انه فن خال من الزوائد والشوائب والمتعلقات، ويشبهه بالموسيقى باعتبارها الفن عالي المقام الذي يثير حواسنا ويهيج عواطفنا دون ان نشعر بالحاجة لوجود موضوع او معنى او اي شئ يحاكي الطبيعة ويعيد صورة الواقع. ويتوقع ان ينتشر هذا الفن الجديد ويطغي على الحيا ة الثقافية لكنه سوف لن ينبذ الطبيعة واستلهام الواقع ولا يتسبب باندثار الفن التقليدي. ذلك انه مجرد طعم جديد لمتعة الفن مثل طعم التدخين بعد الاكل بالنسبة للمدخن.

ويعرج على استحدام التكوينات الهندسية التي تميز التكعيبية والتي كانت موضوع انتقاد من قبل الجمهور الاول. يؤكد ان التكعيبيين، بالرغم من عملهم الدقيق كعمل خبراء الرياضيات، لايطمحون ان ينافسوا او يغيروا من هندسة اقليدس Euclidean Geometry لكنهم يوظفونها كما يوظف الكتاب والشعراء قواعد النحو في نتاجاتهم. انهم يستخدمونها للتعامل مع فضاء اللوحة من اجل تنغيم انشائها. وهم في ذلك يتحلون بالعناية والدقة والحذر كما يعمل الطبيب في تشريح الجثة. ويذهب ابعد من ذلك فيقول ما معناه ان التكعيبية في توظيفها للتكوينات الهندسية تتسامى الى عالم لا نهاية له. انها تتخطى استخدام الابعاد الثلاثة وتسمو الى بعد رابع فتصبح تناسبات الاجسام في الانشاء الفني غير ما هي عليه في الواقع الفيزياوي. بعبارة اخرى يصبح التناسب مركّزا وعقليا بدلا من كونه حسيا وعاطفيا كما نحسه في الرسم التقليدي. أي الانتقال بنسب الاشكال من التصوير الحرفي الى عالم آخر مفترض! وبهذا يتسع التعبير عن الاشياء الى ما لا نهاية له من تجسيدات تشكيلية. ويكرر بان الفنانين المجددين لايحصرون تصوراتهم في صندوق الابعاد الفيزياوية الثلاثة الضيق، بل لابد لهم من التحليق عاليا والامساك بالبعد الرابع.

المنشور الثالث هو كتاب پولينييه الشامل الموسومCubistes Meditations Esthetiques: Les Pentres المنشور عام 1913.

في هذا الكتاب يعود پولينييه لموضوعة الواقع فيؤكد اولا ان التكعيبية تختلف عن بقية المدارس بانها ترفض تصوير الواقع كما هو بل تميل ان تكون نتاجاتها مفاهيمية خلاقة. فحين يقوم الرسام بتكعيب قسمات المشهد، سوف لن يكون بالضرورة ان يظهر المشهد كما هو عليه! وهنا يكمن فعل الخلق والابداع. أي ان الرسام يقدم المشهد بمفهومه الخاص الذي يختلف ظاهريا عن المشهد كما نراه.

ويواصل ليميز بين انواع مختلفة من التكعيبية:

التكعيبية العلمية Scientific Cubism

التي يصفها بانها انقى صنوف هذه المدرسة التي تتلخص برسم المشهد ببناء جديد ولكن باستخدام عناصر مأخوذة من المشهد، ليس بواقعيتها، انما بالهيئة التي يتصورها الرسام ذاتيا. وهذه العناصر التي يستعيرها الرسام كمواد ضرورية لتشكيل البناء الجديد هي التي تسهم في تمثيل جوهر ذلك المشهد. وما نرى من تشكيلات هندسية ماهي الا اشارة لذلك الجوهر.

التكعيبية الفيزياوية Physical Cubism

هي التي تبقى مخلصة للطبيعة الفيزياوية للمشهد فتستعير العناصر التي تحتاجها من الواقع البصري للاشياء. وهنا يعتقد پولينييه ان هذا الصنف لا يحقق النقاء الكافي الذي تسعى اليه التكعيبية العلمية.

التكعيبية الأورفية Orphic Cubism

نسبة الى الاله الاغريقي أورفيوس Orpheus وهي التي يعمد فيها الفنان لصنع تلك العناصر بدلا من استعارتها من الواقع البصري او المفاهيمي. وهي بذلك، حسب مذهب پولينييه، فن نقي صافي كما تهدف اليه التكعيبية الاصيلة. وهذا الصنف له القدرة على ان يمنح المتلقي متعة فنية مباشرة وعظيمة.

التكعيبية الحدسية Instinctive Cubism

هنا لايميل الفنان الى استعارة عناصر بناء المشهد التكعيبي، لا من الواقع الظاهري ولا المتخيل، انما يعتمد الفنان على حدسه وبديهته وامكاناته الغريزية لهضم المشهد وتحليله لعناصره الاولية واعادة تشكيله بما يراه الفنان مناسبا. قد يفتقر هذا الصنف الى المذهب الجمالي الذي يربطه ببناء التكعيبية الاصيل.

وينتهز پولينييه هذه الفرصة ليقول : التكعيبية تتطلب النظرة الجمالية المثالية التي تقدم نفسها بجرأة وهي تقطع وشائج الصلة بالواقع الفيزياوي للاشياء. ويؤكد مرة اخرى بانها فن نبيل مفعم بطاقة الفنان الشجاع الخلاقة، ويصفها بانها فن النور المتوهج. يدرج پولينييه الرسامين الذين يراهم أعمدة التكعيبية الاساسيين. فيما يلي الرعيل الاول كما يراه پولينييه:

- پابلو پيكاسو Pablo Picasso

يصف پولينييه بيكاسو مرة اخرى بالطبيب الذي يدرس تضاريس الجسم قبل تشريحه. ويقول انه رغم ميله لتسطيح الاشياء فانه يبني تلك السطوح المستوية بطريقة شاملة لتظهر وكأنها اشياء مجسمة ذات احجام مختلفة.

- جورج براك Georges Braque

يقول عنه ان هذا الفنان الملائكي الشجاع هو أول من استخدم الطابع الهندسي Geometrical للاشياء عام 1908، والذي كان متناغما مع حالة المجتمع آنذاك، فكان فنه معبرا عن الرقة والهدوء، جميل ومشع كاللؤلؤ.

- جان متزنگر Jean Metzinger

يصفه پولينييه بأنه التكعيبي الثالث بعد بيكاسو وبراك. ويقول انه فنان رائع لم يعطه الجمهور حقه المستحق. يمتاز بتصميمه الساحر وانشائه المتقن وتميزه بتضاد الظل والنور.انه ثمرة المنطق الدقيق الذي اعطانا فنا نقيا خال من كل غموض او تشويش ومفعم بالضوء والوضوح.

- ألبرت گليسز Albert Gleizes

يصف پولينييه هذا الرسام بأنه فنان الانسجام الجبار ذي السطوة الآسرة الذي يرسم بعقل وتبصر في فنه الجديد الذي يريد له ان يعود الى المبادئ الاولية بتكوين ساحر ذي جلال دراماتيكي.

- هوان كرس Juan Gris

وهذا هو فنان التكوينات العلمية الذكية التي تجسد ذلك الصفاء والنقاء الذي تنشده وتتميز به هذه المدرسة الجديدة.

- فرناند ليجيه Fernand Leger

يقول پولينييه "احب هذا الفنان الموهوب" الذي يقدم اعمالا جدية لاتستكين للتأثيرات الهابطة ولاتعتذر عن جرأتها وشجاعتها.

- فرانسز پيكابيا Francis Pikabia

تشكل اعمال هذا الفنان انتقالة منيرة وهي لاتنشد الترميز للموضوعات ولا تأبه بمعانيها ودلالاتها، بل تعتبر اللون هو البعد المثالي للتشكيل.

- مارسيل دوشامپ Marcel DuChamp

هذا هو الفنان المصر على قطع الوشائج مع الفن التقليدي لكنه يستخدم الفورم واللون، ليس لمحاكا ة أي شكل في الواقع، انما لاختراق جوهر الاشياء من أجل ان يضعه على الكانفس مع تجرده الكامل عن المفاهيم التي سبق ان ترسخت في ملكة عقله.

***

ا. د. مصدق الحبيب

(يا واد يا يويو يا مهلبية

فوق الصواني

سايحه وطريه

فى كل جلسه تلبس قضيه

وتخيل عليها

يا مشخصاتي

حسب الوظيفة .. ) أحمد نجم فؤاد

ليعذرني شاعر مصر الكبير الراحل أحمد فؤاد نجم، وأنا أتماهى بافتتان وخجل مع عنوان قصيدته الباذخة ( ياواد يا يويو)، حيث ينتقل بنا عبر خيال تصويري شفيف، من وصف ذيل السلطة، المائل المتلون، الخفيف العجيني، الساخر المتذلل، إلى الأدوار السخيفة التي يؤمر بأدائها تحت الطلب، بكل أبعاد العبودية والتبعية والامتثال. فالمثقف "اليويو " هو هو كائن سيروري متغفل لا يتغير، مطبوع على السمع والطاعة، أعمى الرؤية والبصيرة، لا يجد مانعا من تدوير علاقته بالقابض على السلطة، متقمصا أعنة الهش، حتى يصير خوَّارًا ضعيفًا، يقايض ويناقض، يحاذر ويمتهن، بكل إيقاعات التخفي والتقنع بأشكال الكمون والاستعلام...

وهو على هذا النحو من البشاعة، يقارب عين حجة الاعلامي، ربيبه في العته، وناقله في الطريق والطريقة. وإن كان المفهوم الصحيح للاعلامي مخالف لما هو رائج اليوم، وما ينتبد من تشوهات الممارسة الإعلامية وأخلاقياتها الحذيرة.

وإذا كان المثقف يجتز قطائعه المعرفية وأبنية تصريف هذه الملاذات، من واجهة موقعه كفاعل إصلاحي ومجتمعي عضوي، فإن الاعلامي يترجم هذه الفعالية على مبضعين متنظمين، واحدتهما المعرفة بالأخلاق وفهمها وتأسيسها، وثانيثهما نشرها ومراقبة تنفيذها ورصد تأثيراتها على المجتمع والإنسان. وهو على هذا، فإنه الأقرب إلى الفعل العضوي منه إلى العمل المحدود.

فمن يرتضي قلب منظومته إلى مجرد لعبة أطفال، تستعاد نقرتها على المساحة فور انتهاء مهمتها في التحرك والمراوغة، ثم الالتفاف والتخفي؟ هل هو الاعلامي "اليويو" أم لعبة التحفيز على رهن المجتمع والحرية والمساواة والعدالة؟.

عندنا في تاريخ لعبة "اليويو" التي يطلق عليها باللهجة المغربية الشعبية "الطرمبيا"، يقتضي أن يستأثر اللاعب بها، بكل ماجريات الميدان. من واقع الأرضية ومحيطها وزمنها وشخوصها المحتملين.

وإذا انزلقت إحدى ورقاته عن تضمين روح هذه الخريطة، يصبح النفاذ لقاعدة اللعبة منذورا للتشوه والابتذال، والنقص والتقصير في تشكيل المنتوج وتحقيق أهدافه.

فالمثقف الذي لا يستحضر بدائله الإصلاحية، ولا يرتقي بمواقفه وقناعاته لمراتب التأثير وإحداث التغيير والتحول الديمقراطي، هو في مرتبة الاعلامي "اليويو"، المتصنع، الواجهة المدلسة للسلطة الآمرة، يستطيع أن يبيع أصوله الأخلاقية، ويعرض خدماته المحضية لمن يدفع الثمن؟!.

ولا يبقى لمثل النموذجين قائمة، فالتاريخ لا يرحم المدلسين، ولا يفتدي معدومي الضمير وبائعيه.

فانظر كيف رفع شأن الأصفياء القابضين على الجمر، ممن سجلوا مواقف الفخر والعزة والحرية الشامخة، كما هو الشأن بالنسبة لمواقف وآراء لازالت محفورة في ذاكرة التاريخ، نذكر من بينها مثالا لا حصرا، موقف الفيلسوف الفرنسي الفرنسي جون بول سارتر الذي أبدى النظر بكل تجرد من مسألة استعمار بلاده للجزائر، رغم صعوبة وضعه كمثقف مقرب من محيط الحكم، وهو ما اعتبر التزاما حقيقيا، بمحافظته على مبادئه حتى وإن اقتضى منه ذلك الوقوف ضد سياسة الدولة التي تحتضنه.

"إن قول الحقيقة وتصرفها بثبات ودقة يكاد يكون صعبًا، وربما يكون جادًا، مثل التحدث عنه تحت الترهيب أو العقوبة" كما يذهب إلى ذلك جون روسكين، لكن الافق الصعب غالبا ما يخرج من الآلام المبرحة، تلك التي ينتظرها الضمير الجمعي لتصير سلوكا بارا وقدوة يحتذى بها، كبذور الغموض عند لاوزي، بذور "تكمن في المياه الموحلة". يسائلها "كيف يمكنني إدراك هذا اللغز؟ يصبح الماء صافياً من خلال السكون. كيف يمكنني أن أصبح ساكنا؟ عن طريق التدفق مع التيار".

هذا المسار الطاعن في الحكمة هو السبيل الوحيد لضبط بوصلة النخب الثقافية والسياسية والاعلامية، حتى نتمكن من تصفية مياهنا السخيمة بقليل من السكون الذي يتدفق فينا مع تيار لا يرحم ؟!.

***

د مصْطَفَى غَلْمَان

"الم. تلك آيات الكتاب الحكيم. هدىً ورحمةً للمحسنين".. لقمان4

مدخل الى كنه الحرف..

يعرف الحرف لغة على إنه الطرف والجانب ومنه قوله تعالى (ومن يعبد الله على حرفٍ فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه).. الحج11 اي على طرف وجانب من الدين، ومثله حرف السيف وحرف الجبل وحروف الهجاء (اطراف الكلمة).

ويعرف الحرف اصطلاحا بأنه لفظ يدل على معنى من خلال كلام.

وإذا أردنا أن نجد تعريفا منصفا للحرف فنقول إنه أصغر وحدة لتكوين الكلمة. وقد أختلف العلماء في عدد الحروف الهجائية، فذهب بعضهم إلى انها 28 حرفا على اعتبار إن الالف والهمزة حرفا واحدا، وذلك لأن الالف يسمى همزة وتنطق نطقها وهذا مادعا إليه الخليل بن أحمد الفراهيدي وطائفة أخرى من علماء اللغة، والحروف نوعان:

- حروف مبانٍ: هي التي تبنى منها الكلمة ويطلق عليها (حروف التهجي)

- حروف معانٍ وهي الحروف التي لها معنى مع غيرها مثل (حروف الجر).

وقد اختص علم الصرف بأبنية الكلام (اسم، فعل، حرف) واشتقاقاته، والميزان الصرفي هو المعيار الذي تقاس به الكلمة لضبط بنيتها ومعرفة حروفها من حيث اصالتها وزيادتها والمحذوف منها وهيأتها وضبطها بالحركات ومايعتريها من تغييرات.

وقد تناول علم الصرف الكلمات (الاسم الاصلي، والاسم المعرب) فوجد انها غالبا ماتكون على ثلاثة أحرف أصلية لذلك جعلوا ميزان الكلمة على ثلاثة أحرف هي (الفاء والعين واللام) وقد أختيرت كلمة (فعل) للفعل الثلاثي و (فعلل) للرباعي، وان سبب اختيار هذه الاحرف (ف، ع، ل) جاء للاسباب التالية:

- إن الفعل هو أعم الاحداث، وكل مايصدر عن الجوارح هو فعل مثل: قرأ كتب، سمع، قال، وهكذا.

- إنها تمثل مخارج الحروف وهي الشفة والحلق واللسان، فالفاء تمثل الشفة والعين تمثل الحلق، واللام تمثل اللسان.

وأما الفرق بين الحروف الاصلية والزائدة فهي كما يأتي:

- الحروف الأصلية: هي الحروف التي لاتحذف من الكلمة وإذا حذفت اختل معناها.

- الحروف الزائدة: هي الحروف الغير أصلية في الكلمة واذا حذفت لايحدث خلل في المعنى.

وتكمن أهمية الميزان الصرفي بما يأتي:

- معرفة الحروف الاصلية وتمييزها عن الزائدة وهي (س، أ، ل، ت، م، و، ن، ي، ه، ا) والتي تتجسد في عبارة (اليوم تنساه)-مع وجود عبارات اخرى- وهي على سبيل المثال لاالحصر

- الاهتداء الى مكان الكلمة في المعجم، فالمعجم مبني على الحروف الأصلية.

- معرفة الحركات والسكنات وطريقة نطقها ومعرفة مايزيد على الكلمة وماحذف منها، أو ماطرأعليها من تغيير في حروفها كالتقديم والتأخير.

وبعد هذه المقدمة البسيطة عن كنه الحرف وماهيته نأتي الى موضوع البحث وهو الحرف في القران الكريم.

والحقيقة يتناول موضوع البحث الحروف المقطعة أو النورانية في القران الكريم والتي حيرت العلماء والباحثين بتفسيرها، وقد خاض غمار هذا الموضوع الكثير من العلماء وتوصلوا الى نتائج شتى فهل أنصفوا الحرف باعتباره حرفا لذاته أو ضمن كلمة!

لنتأمل عدد الحروف العربية والتي عددها ثمانٍ وعشرون حرفا سنجد إن نصفها بالضبط، أي أربعة عشر حرفا وهو عدد الحروف المقطعة ولنطلق عليها في القرآن الكريم وهذا بحد ذاته إعجازلان الوسطية هي سمة من السمات التي دعا اليها الله في كتابه العزيز (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) البقرة 143، والحروف المقطعة-من الظلم ان نطلق عليها مقطعة لان كل منها آية والايات لاتقطع- والحروف بدون تكرار هي (أ، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ك، ل، م، ن، هـ، ي) والتي تتجسد بعبارة (نص حكيم قاطع له سر)، ومهما اختلف المفسرون في طريقة جمع هذه الحروف لتكوين عبارة مناسبة مع إن الله جل وعلا لم يشأ وضعها في كلمة أوجملة بل أنزلها كما هي.

فلنتأمل هذه العبارة التي ربما تكون الاقرب-وهذا لاينفي استقلالية الحروف- بشئ من التفصيل فقد وردت كلمة نص ورغم إن القران يتكون من الكثير من النصوص التي تتناول مجمل تفاصيل الحياة على شكل سور قرانية محكمة جاءت لتوضيح وتفسير كل أمر على حدة كالزواج والطلاق والميراث وغيرها من المواضيع التي تتصل اتصالا مباشرا بالحياة وأغلب القوانين المدنية استندت واعتمدت بشكل أوبآخر على هذه النصوص لكن ورود كلمة نص تدل على إن القران كل واحد لايتجزأ.

ثم نأتي الى كلمة (حكيم) وهي اشارة واضحة الى الحكمة الالهية التي وضعها الله في القرأن باعتباره كتابا مقدسا يدعوا الى الحكمة والموعظة، والحكيم من اسماء الله الحسنى.

ويلي الحكيم كلمة (قاطع) للدلالة على قطعية الحكم الصادر من الله جل وعلا، تليه (له) فاللام حرف جر والهاء ضمير متصل في محل جر بحرف الجر وشبه الجملة من الجار والمجرور في محل رفع خبر مقدم.

أما كلمة (سر) فهي المفتاح الذي يدعونافيها الله جل وعلا لتدبر كتابه (أفلا يتبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).. النساء82

 والحقيقة فعندما نخوض في أي موضوع فأننا نبدأ بالأصغر ثم الأكبر، وهو أمر منطقي للولوج الى أي موضوع، ونحن نبحر في عالم الحرف والذي يعتبر السر والمفتاح الذي ندخل منه الى عالم اللغة نجد إن الحرف الذي خصه الله بقسمه إنما هو سر من أسرار اللغة التي خص الله بها الأمة العربية وميزها على غيرها من الأمم (كنتم خير أمة أخرجت للناس) ال عمران 110 وهذا التميز يقابله تميز آخر وهو اللغة التي جعلها بلسان القرأن (وهذا لسان عربي مبين). النحل103

وإذا ماعدنا الى الحرف أو مجموعة الحروف المقطعة التي وردت في تسعٍ وعشرون سورة من سور القرآن والبالغ عددها أربعة عشرا حرفا كما ذكرنا والتي أطلق عليها العلماء اسم (الحروف النورانية) والتي اختلف العلماء في تفسيرها سنجد ان كل حرف من هذه الحروف هو آية قائمة بذاتها ولو شاء الله لجعلها ضمن كلمة لكنه جل وعلا خصّها بالقدسية وابتدأ بها اوائل السور فهل توجد حروف مقدسة وأخرى اعتيادية؟

في الحقيقة وبما إن كتاب الله كله مقدس وإنه جاء بلسان عربي مبين مايعني إن الحروف كلها مقدسة لكن الله جل وعلا قد جعل نصف حروف اللغة أكثر قدسية من الاخرى (ورفع بعضكم فوق بعض درجات).. الاسراء 21 وهذا التفاوت إنما لحكمة خص الله بها مايشاء من خلقه، ومادام الحرف آية فهو شأنه شأن المخلوقات الاخرى بحسب قوله جل وعلا (الم. تلك آيات الكتاب الحكيم).. 1 لقمان

وهذه الايات تشمل جميع الحروف المقطعة مثل (الم، المص، الر، كهيعص، طه، طسم، طس، يس، ص، حم، حم عسق، ق، ن)

ومما تجدر الاشارة اليه ان حرف (ن) جاء على صورتين في القران الاولى بشكله المستقل (ن) في سورة القلم والذي يعتبر من الحروف المقطعة أو النورانية حيث قال جل وعلا (ن والقلم ومايسطرون).. القلم1 وهنا ذكر المفسرون ان (ن) يعني الحوت استنادا الى قوله جل وعلا (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لاإله إلا إنت سبحانك إني كنت من الظالمين).. الانبياء 87

ومن المعروف إن ذا النون هو النبي يونس بن متى الذي بعثه الله لهداية قومه والقصة المعروفة عن ابتلاع الحوت له.

لكن في الحقيقة ان (ن) ليست هي نفسها (النون) والتي تعني الحوت كما ذكر العلماء، إنما جاءت بمعنى مختلف واختصت بشأنها لتكون آية مستقلة من آيات الله جل وعلا وسرا من أسرار اللغة العربية المقدسة والتي اكتسبت قداستها من قداسة القرآن (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل).. النحل101

هذه الايات وحروفها أنما تدعم بحثنا السابق عن اللغة والتي كما ذكرها القرآن هي أيضا آية خصنا الله بها لنحمده كثيرا ونسبحه كثيرا.

 هذه القداسة التي خصنا الله بها حين سخر آياته لتكون لنا قبسا لكي نحسن ضيافتها ونخصها بالشكر والثناء ونحمد الله علي جميل هباته وعظيم خلقه، فكم آية أنزلها الله لنا ليكرمنا بها وكم آية نزلت لهدايتنا سبيل الصراط، وكم آية نزلت لترينا الخيط الابيض من الاسود، وكم آية نزلت لبر الوالدين والاحسان لهما ولذي القربى، وكم آية نزلت وهي تحثنا حثا على احترام الاخر والعطف والمحبة ونشر السلام قال تعالى (وجعلنا آية الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب، وكل شئ فصلناه تفصيلا).. الاسراء12

***

مريم لطفي

يصعب أن تستقيم الحياة الإنسانية وتستوي موازينها دون فعل التعويض؛ ذلك أن الإنسان يعوض الغياب بالحضور، والفراغ بالامتلاء، والثبات بالحركة.. لدرجة أن كل شيء في حياتنا قابل للتعويض. لكن، كيف تعوض النفس غياب الأشخاص والأمكنة؟ هل ينتهي الاغتراب الروحي والوجودي بتعويض أشخاص بآخرين وأمكنة بأخرى؟ هل فعلا موطن النفس هو كل مكان أو فضاء، مادي أو معنوي، وجدت فيه نفسها الهائمة؟ هل يمكن للأشخاص أن يخلقوا اللحظة في الآن والهنا التي خلقها أشخاص آخرون في الماضي والهناك؟

يبدو هذا التعويض ممكنا نظريا، ولكنه مستحيل واقعيا؛ لأن اللحظة لا تكرر نفسها بالصيغة والكيفية نفسيهما، وإنما هناك لحظة مشابهة وليست اللحظة المفتقدة عينها. قد تبتعد عن الأشخاص والأمكنة التي يوجدون فيها، ولكن وجود أشخاص آخرين في الأمكنة والأزمنة نفسيهما لا يعوض ما افتقده المرء.. لذلك يبقى التعويض إيهاما للنفس أنها تكرر اللحظات نفسها، وأنها تعيش الأجواء عينها، وهي، إذ تفعل ذلك، فإنها لا تبرح دائرة ما اصطلح عليه فرويد "قهر التكرار". لكن هل الإنسان، فعلا، مجبور على السعي خلف التكرار: تكرار التجارب نفسها، والعلاقات الإنسانية والوجودية عينها؟ أليس للتكرار سبب وجودي يترك هوة ساحقة في النفس البشرية التائهة؟ ألا يعد التكرار سعي متواصل للوجود مرة أخرى في لحظة مختلفة ومع أناس مختلفين؟

فلئن نحن أخذنا العائلة مثالا، فإننا نلفي أنفسنا عاجزين عن تعويض أفرادها، والأجواء التي تخلقها.. صحيح أن للإنسان قابلية التأقلم والتعويض، والتأسي بالحضور تعويضا للغياب، ولكنه يبقى مع ذلك في حال ظمأ روحي ووجودي للعائلة وأجوائها حتى وإن كان بين أحضان عائلته الثانية، فإنه يظل مشدودا إلى العائلة. بيد أن هذا الفراغ والغياب اللذين يدخلان النفس البشرية في حال اغتراب روحي ووجودي لا يمكنهما أن يتبددا دون فعل التعويض النفسي والروحي. ولعل هذا ما يجعلنا كلما فقدنا شيئا سعينا إلى تعويضه بشيء آخر، والشيء نفسه يمكن أن ينسحب على الأشخاص والأمكنة والأزمنة. يفقد المرء أباه فيجد تعويضا مؤقتا له في أمه، ولكن هل الأم تملأ فراغ الأب؟ هل وجود الأم معناه نسيان الأب؟

إن الأمر ليس بهذه السهولة، كما أن الغياب والفراغ اللذين يتركهما الأشخاص لا يمكن أن يعوضا إلا تعويضا كاذبا؛ لأننا، ونحن نزعم أننا شفينا من جرح الغياب، لا نقوم إلا بإيهام النفس أنها في حال توازن، وأن الغياب لم يعد موجودا، وأنه مجرد لحظة خلخلة لأركان النفس سرعان ما تتخطاه بالتعويض.

ويبقى الأمل في عيش التجربة الأولى بكل تفاصيلها وجزئياتها، والانصهار فيها والتماهي معها، أي عيشه في أصالتها ونقائها حتى تترسخ في أعماق النفس، ولا يزعزعها الغياب والفراغ والفقد، لأنها تكون نفسا ممتلئة باللحظة والتجربة الوجوديتين الأصيلتين.

***

محمد الورداشي

جريمة حرق القرآن الكريم وتشويه صورة الآخر المسلم هي من مرتكزات الحضارة الغربية

إنَّ ما يحصل اليوم من أعمال مسيئة للقرآن الكريم وتتبعها هجمات تشويهية ضد الرسول محمد (ص) هي ليست نتاج فرد في دولة مثل السويد، أو مجموعة من الأشخاص، أو الجمعيات المناهضة للإسلام في الغرب، بل إنَّ القضية هي أبعد من ذلك بكثير، وهي أفعال مرتبطة بالسياسة الغربية عامة وبالعقل الغربي الذي تبني هذه المسألة منذ قرون عديدة مضت، وهي مبنية على دلالات قصدية هدفها ليس فقط أثارة ملياري مسلم في الوقت الحاضر، بل غرضها الإستمرار بنفس المخطط القديم الذي يتجدد في كل عصر بوصف معين وبصفات ونعوت مختلقة يتبناها الفكر الغربي تجاه الآخر العربي المسلم ونبيه الكريم وكتاب الإسلام المقدس (القرآن الكريم)

إنَّ تعاقب الحقب الزمنية على مجموعة من الدلالات القصدية تجاه ظاهرة تبناها العقل الغربي في تشويه الآخر المسلم،  وجعلها من أساسيات الحضور لديه في وصف هذه الظاهرة، التي أصبحت من المرتكزات المهمة في هذا الحضور الميتافيزيقي الغربي، في توصيف صورة الآخر المسلم، وهذه الظاهرة التي قامت عليها عملية تقييم الأنا الغربي تجاه الآخر في كل أبعاده ومسمياته، وأخذت حجم مهم في الحقول المعرفية والثقافية الغربية،  كون هذا الآخر من كان يخالف ويغاير النظرة الكونية الغربية في صياغة العالم ثقافياً ومعرفياً، وكانت لهذا الآخر دلالات يّعرف بها في الذهنية الغربية على مستوى الحضور في ذهنية الجمهور الغربي، ولكل طبقة أو شريحة يكون فيها الآخر ممثل بوصف معين، أو طريقة يحاكيها أبناء الحضارة الغربية، مثلاً كان الآخر وخاصة المسلم الشرقي، وأكثر تحديداً القريب الى الحدود الجغرافية الأوربية، يعرف في الديانات الغربية ومنها المسيحية، بأنه كافر وقاتل لأبناء الديانة المسيحية في الشرق، وما الحروب الصليبية التي أطلقها الغرب الأوربي بممالكه وحكوماته إلا صورة من صور التعبير عن هذا الآخر الكافر الخارج عن السياق الديني في الغرب، وليس المغاير الذي يشكل حلقة تكاملية مع الديانة الأخرى .

إنَّ (الأنا الغربية) وفي إحدى تمظهراتها وهي في حقبة القرون الوسطى وما بعدها وخصوصاً في أوج سيطرة الديانة المسيحية على أركنا القارة الأوربية، وما بعدها الأمريكية الشمالية كانت تعطي للآخر المسلم، الذي هو ند لها بحسب اعتقاد السلطات الدينية في الغرب المسيحي، أوصاف خاصة، إذ ظهر وفق توصيفاته، للشرقي، والعربي، والتركي، والفارسي، صورة للشهواني القاسي، أو صورة البربري الفظ يجمع بين هذه الصور دين بسيط وبدائي ومتعصب وعدواني هو الإسلام، وكانت مسيحية القرون الوسطى قد بنت هذه الصورة، ونسجتها مخيلة تمركزها اللاهوتي الذي دفع الى حدوث أكبر مواجهة دينية بين الإسلام والمسيحية خلال الحروب الصليبية التي دامت أكثر من خمسة قرون راح ضحيتها الآلاف من المسلمين والمسيحيين ودمرت مدن ودويلات، لسبب تبني العقل الغربي في هذه الحقبة أوصاف الآخر المسلم، وهي لم تكن وليدة لحظتها، أي أن هذه النظرة ودلالاتها التشويهية، هي كانت من ارتدادات أفكار سابقة جعلت من السابق بين الشرق المتمثل بالحضارات القديمة الى حين قدوم الإسلام في مقابل الإمبراطوريات الغربية في حوض المتوسط وما وضعوه من أوصاف مختلفة، ومنها البربري والهمجي الذي كان ينافس باعتقاد التفكير الغربي في تلك الحقب، بلاد اليونان وبعدها الرومان، وما الحروب التي شهدتها هذه المنطقة، أي منطقة التماس بين قارتي أسيا وأوربا، ما هي الا مشاهد لهذا التنافس، الذي كان يغلب عليه انتقال الغلبة بين الطرفين كلما كانت استعدادات أحد الطرفين أقوى من الآخر، لكن مع هذا التنافس الشديد، كانت هناك صفات وأوصاف ساقها الإغريقي ومن بعده الروماني ضد الآخر الشرقي سواء كان في بلاد وادي الرافدين، أو بلاد فارس، أو في مصر القديمة وحضارتها الفرعونية وما قبلها كان أسلوبهم في إخضاع الآخر اولاً، تم تثبيت أوصافهم على وفق ما يريدون، وخصوصاً ما فعل الرومان بالشعوب الأسيوية والأفريقية بعدما اجتاحوهم وأخضعوهم لسلطتهم، وهذه الطريقة في الإخضاع والتشويه يشير اليها (مونتسكيو) في كتابه(تأملات في تاريخ الرومان) إذ يقول عنهم : طريقتهم نوع من الغزو التدريجي، بعد فوزهم على عدو يكتفون بإضعافه، يملون عليه شروطاً توهنه من دون أن يشعر بالأمر، إنَّ انتعش عادوا وأهانوه إهانة أكبر حتى يصبح خانعاً خاضعاً وهو لا يعلم متى حدث ذلك بالضبط، فإن الخضوع والخنوع وما يرافقها من عمليات تركيع للشعوب الأخرى تضفي على هذه الشعوب مجموعة من الأفعال والتصرفات التي تصبح جزء من حياته دون أن يعرف من وضعها فيه ومن عمل عليها، لكن في الحقيقة هي يتم الاشتغال عليها بشكل مستمر على وفق تخطيط واستراتيجيات معينه، تصبح بمرور الزمان آليات عمل ممنهجة تجاه الشعوب المعارضة لهذه السياسات، وتصبح آليات التعامل والصفات التي ترافقها والتي وصمت بها الآخر ثابتة في هذا العقل، الذي مثله في بدايات الصراع، لا نقول الأولى، بل هي التي تؤسس للخلاف الثقافي عند اليونان الذين كانت لديهم نظرة استعلاء ضد الشعوب الأخرى التي يصفونها بأوصاف مشوهة لأبناء هذه الشعوب التي تقع خارج ما يسمى بالحضارة الغربية، ويسوق لنا (ول وايريل ديورانت) في (قصة الحضارة) جزءاً من هذه الحالة التي يوصف بها الشعوب الأخرى لديهم، أي أن مفكري الحضارة اليونانية قسموا الشعوب الى شعوب عقلية ومنهم (اليونان) وشعوب شهوانية (الشعوب الشرقية) لذلك كان رأيهم بأن كل شعب من هذه الشعوب يرزح تحت حكم الطغاة المستبدين، ويسلم أرواح بنيه الى الخرافات والأوهام ولا يعرف الا القليل من بواعث الحرية أو الحياة العقلية، وهذا السبب الذي حدا باليونان أن يطلقوا عليهم بلا تمييز أسم (Barbaroi ) أي الهمجي، والذي حاولوا تثبيته في ميتافيزيقياهم وتدوينه في مؤلفاتهم كصفات ثابتة لكل فعل بشري يقع خارج عقليتهم وحضارتهم، والتي أنتقلت الى من تبنى هذه الصفات وجعلها مركزية في تصوراتهم وفي مخططاتهم الأخرى. ومن ثم فإن دراسة الشعوب لا تقتصر فقط على الدراسة المباشرة دون سابق معلومات عن هذه البلدان والشعوب التي تقع خارج أرضهم، بل أن هذه الدراسات قائمة على اعتناق ما جاءت به كتب أسلافهم حول الحضارات الأخرى المنافسة، لذا فإن الأفعال الممنهجة التي نلاحظها حتى في الوقت الحالي في الحضارة الغربية جاءت منذ زمن بعيد وعقل ثابت وحضور ميتافيزيقي لكن البعض ومع الأسف، وخصوصاً في عصرنا الحالي يعتقد إنَّ كل الصفات الدونية التي تطبع بها حاليا بعض من أجيالنا توارثوها من الأجداد، على الرغم من أن ماضينا ورغم بعض الإخفاقات التي شابته، فإنه يروي لنا عن السابقين الكثير من الأعمال الجيدة التي قد لا تنطبق مع توصيفات الغربيين علينا، لكن في الوقت الحالي وجدنا أجيالنا والأجيال الأخرى المعاصرة لنا، تعترف بما يسوقه الغربي عن العربي المسلم، بل دائماً نرى أنفسنا أقل مكانه من الشعوب الغربية، حتى بدأ البعض من أبناء الشعوب العربية المسلمة يعتنق الأفكار الغربية عن الصفات المجعولة للمسلم العربي، لذا بدأت التراتبية تأخذ مأخذها من نظرتنا لأنفسنا وكأن مقوله (مونتسكيو)السابقة تنطبق على ما وصلنا اليه اليوم، كيف أصبحنا نوصف هكذا؟ ومتى بدأت هذه الأوصاف تأخذ مكانها في عقولنا ؟، فهل هي فعلاً من صفاتنا؟ أم إنَّ العالم الغربي بعد أن قسم العالم الى أول وثاني وثالث، أصبحنا نسمى بالعالم الثالث واقتنعنا بهذا المركز، وهو الأخير في التصنيف العالمي، حتى أن بعض مفكرينا عندما يتكلم عن مصطلح التقسيم يصف الشعوب العربية والمسلمة بهذا الوصف وهو منهم، بأنه من أبناء العالم الثالث، الذي يتخلف ثقافياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وحتى أخلاقيا عن الشعوب الغربية، ومن ثم فإن الدين الإسلامي هذه الرسالة العظيمة هي لأبناء العالم الثالث، وحتى نبينا محمد (ص) على وفق هذا التصنيف لا يصبح مرسل لكافة البشر، لأن الديانات الأخرى في أغلبها لا تعترف بالإسلام ولا بنبي الإسلام، وهو ما وصفوه بأوصاف غير لائقة حتى أصبح نبينا الكريم (ص) صاحب الخلق العظيم وهو أفضل البشر بحسب الوصف الإلهي، أصبح نبياً للعالم الثالث الذي أكثر شعوبه من المسلمين، أو بعبارة أدق أن كل شعوب العالم الإسلامي تقريباً تقع ضمن دائرة العالم الثالث.

إنَّ المثالين السابقين عن اليونان والرومان، وما تبعهما من تشويه ذات دلالات مختلفة كانت هي الأساس في صنع عقل ميتافيزيقي غربي حافل بأنواع الدلالات الأخرى، هي دلالة بسيطة على ما حفل ويحفل به الفكر الغربي من أشارات كثيرة لهذا التشويه، الذي تحول فيما بعد وخصوصاً في عصور أخرى لاحقة الى قاعدة أساسية يقيّم بها المسلم /العربي / الشرقي، كما في حقبه عصر التنوير وما تلاها وصولاً الى الوقت الحالي، ففي حقبة عصر التنوير تغير التوصيف من صراع بين (كافر، ومؤمن) الى (متخلف، ومتنور)، المسلم متخلف يسعى وراء السحر والشعوذة والغيبيات التي يعتقد بأن الدين هو أساس فيها وهو من أسهم في صنعها في المجتمعات الشرقية وخصوصاً (العربية) منها بعد أن كانت في أساسها تعيش في الحضارات الأولى في ظل أنظمة استبدادية كما يعتقده (أفلاطون وأرسطو) في تنظيراتهم الفكرية عن الشرق القديم، والتي يكون فيها الحاكم هو من يمتلك أرواح شعبه في الشرق ويضحي فيها للأفكار المبنية على الخرافة والأوهام، لذلك كانت العقول مغيبة وتسمح بانتشار مثل هكذا أفكار في العالم الشرقي وفيما بعد العالم الإسلامي، مما جعل الحملات الاستعمارية تأخذ دورها في سلسلة الإجراءات العملية التي جعلت من الشعوب العربية والمسلمة ترزح تحت حقب جديدة من التخلف، وتعمل هذه الحركات الاستعمارية كما هو في وصف (مونتسكيو) للرومان، تعمل هذه الحركات على جعل الشعوب خانعة وخاضعة وما أن تستيقظ من سباتها في ظل الاحتلالات، حتى تجد هذه الأوصاف قد ثبتت وبات المواطن العادي في الشرق وإفريقيا يقتنع بهذه الأوصاف الدونية، وأصبحت عملية تثبيت هذه المعاني في الذهنيات الشرقية أسهل على الحضور الغربي من أن يسهم بصنع أوصاف أخرى خارج السياقات الثقافية، فأن الخرافات والأوهام والسحر والغيبيات هي من تملأ الذهنية الشرقية، بالشهوانية وغيرها، وهي من تجعل الإنسان الشرقي العربي خاصة يبحث عن الجسد وملذاته، وأصبحت عدد الزيجات التي شرعها (الله جل جلاله) في القرآن من ضمن الأوصاف السلبية للإنسان العربي الذي أصبح يصور في الإعلام الغربي بأنه يشبه الإنسان البدائي عندما يجهز على الفريسة، بينما يقابله الإنسان الغربي الذي أصبح يبحث عن حقوق الحيوان الذي يضطهد في الشرق بعدما تقدم كثيراً حسب زعم مؤسساتهم في حقوق الإنسان، وهذه الأوصاف جعلت من (ماركس) يؤيد ويعلق بإيجابية ويناصر الاستعمار البريطاني للشرق عامة والهند خاصة لإن هذا الاستعمار حولها من دولة راكدة وشعوب منغلقة على نفسها الى أمة منتجة وقادرة على النهوض من بين الأمم الشرقية الراكدة فكرياً وعقلياً في سباتها ولهذا السبب أيضاً أعتبر أن (الدين أفيون الشعوب) وهذا الوصف يوافق وصف الشرق الغارق بالخرافات والغيبيات وغيرها.

إنَّ هذه الدلالات التي توجه الاتهام باللوم بشكل مباشر وغير مباشر الى الدين الإسلامي والى رسوله الكريم(ص) والذي اعُتبر بأنه هو من أسس مجتمع قائم على أسس منهجية تحمل في داخلها بذور التطرف والإرهاب وما هذه الحركات التي تدعي الإسلام من أمثال (داعش) ومثيلاتها ما هي الا سياق طبيعي ذات دلالات ثقافية وأخلاقية كبيرة عن المجتمعات الأولى للإسلام التي كان النبي محمد (ص) قد أسس لها، وهذه الادعاءات والتشويهات لصورة الرسول الكريم ساهمت في تثبيت هذه الدلالات المشوهة التي تسيء للرسول بقصيدتها وطريقة سوقها في الذهنية الغربية لدى المواطن الغربي البسيط، الذي بدأ ينظر للمسلم وخصوصاً بعد أحداث (11 سبتمبر2011) بأنه إرهابي حتى وإنَّ كان هذا المسلم ملتزم بالتعليمات والقوانين الغربية، وحتى لو كان متعايشاً منذ عشرات السنين مع الأمريكي الذي ينتمي للحضارة البيضاء والديانة المسيحية، بل ما كان من المسلمين في أمريكا أن يحاولوا إثبات حسن نواياهم للغربيين في كونهم ليسوا إرهابيين، وأن من يقتل بأسم الدين الإسلامي لا يمثل كل المسلمين، ولو أمنا بهذه النظرية بأن كل مسلم إرهابي، لكان الآن الغرب يغرق في بحر من الدماء، وذلك لكثرة الجاليات الإسلامية التي تعيش في الغرب منذ أزمان طويلة جداً.

لكن التحول الذي حصل في الغرب بعد أحداث (2011) أعاد الى الذهن الغربي وحفزته صورة الإسلام المشوه الذي كانت هذه الأحداث جرعة منشطة لإخراجه من عالم اللاوعي الى عالم الوعي الحضوري، ومن ثم فإن تحفيز الحضور الميتافيزيقي الغربي بصوره المشوهة عن الآخر المسلم كان لابد لها من أعادة ظهور في أوقات معينة تحت قضية أن الشعوب الأخرى يجب أن تبقى في وضعها وخانتها وخضوعها التي رُسمت لها منذ مئات السنين ولا تسعى مرة أخرى لعصيان النظام العالمي الجديد الذي بدأ بتشييد خارطته الهندسية على ارض الواقع مع اتفاقية (سايكس بيكو) وغيرها من الاتفاقيات التي دونت لعالم جديد، هو لنا وليس لهم، فإن عالمهم مبني على أسس مستقرة ومندفعة بطريقة سليمة الى الأمام لكن عالمنا الجديد يجب ان يظهر بحلة جديدة، ولكن بأوصافه القديمة، حتى إنَّ الرسم المعني للحدود سيجعل التنافس بين أبناء المرتسم الواحد يتنافسون في مبدأ التفضيل بينهم ومن هو مؤيد من قبل المرجعيات الغربية، وكأن مفكريهم يقولون : يتخاصمون العرب فيما بينهم، ونحن الذين نحكم من هو صاحب الحق، حتى يكون اشتغالهم ذاتي بأنفسهم دون الالتفات الى ما يُخطط لهم مستقبلاً، وهذا ما نعيشه اليوم، ويدفع ثمنه معنا الرسول الكريم (ص) الذي بدأنا نحمّله بعض سلوكياتنا بوعي أو بلاوعي منا، إذ أن الكثير من التصرفات التي نسبناها له وهو برئ منها، فنحن من صدقنا الغرب ونحن من صفقنا لهم ونحن من ثبتنا تعاليمهم علينا بحجة التفوق الثقافي، ونحن من أمددنا الغرب بثرواتنا وهو يتصدق علينا ونحن نتسابق على إرضائه، حتى وإنَّ كان ذلك على حساب الشعوب العربية والإسلامية، نحن من تركنا سيرة الرسول الكريم (ص) وتوجهنا لتصديق ما يقوله العالم الفلاني الغربي، من جمل وعبارات هي مكرر في أقوال رسولنا (ص)، بل أصبحنا نتعجب من أن المفكر الغربي قد مدح الرسول الكريم (ص) وكأنه يعطيه مصداقية في نفوسنا بدلاً من أن نقول بعبارة العالم الغربي بأن الرسول (ص) هو من يجب أن تقيم على شخصيته وكلامه وأخلاقه صور الآخرين، وليس هو من يقيم على لسان العالم الغربي الفلاني، ونحن نصدق بالمفكر الغربي ونندهش لوصف الرسول (ص) بهذا المعنى أو ذاك . ومن ثم فإن التشويه وقصديه الإساءة في الثقافة الغربية بحق الرسول (ص) كان لها وقعها في الواقع الثقافي الغربي على الرغم من قلة المدافعين عن الرسول (ص) من الغربيين الذين لا ننكر وجودهم في هذا المجال .

ومن ثم فإن كل ما يحصل من صورة التشويه وجريمة تدنيس القرآن الكريم وحرقه، وتشويه صورة الرسول الكريم من خلال الرسوم المسيئة وغيرها من الأفعال السيئة، أنها أفعال ليست بجديدة ولا هي قضية عابرة، بل هي من مرتكزات نظرة ثقافية مبنية على أساس التفوق العرقي للغربي الذي يرى العالم الذي يقع خارج الحضارة الغربية هو عالم يقع في المراتب الدنيا، وهذه الأفعال ستستمر لإن الآخر المسلم العربي خاضع لسياسة التهميش والأقصاء الحضاري .

***

الاستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

الشيخوخة هي عملية بيولوجية معقدة تعاني منها جميع الكائنات الحية. تتميز بتدهور تدريجي لا رجعة فيه في الوظائف الفسيولوجية وزيادة التعرض للأمراض المختلفة مع مرور الوقت. يتأثر معدل ومدى الشيخوخة بالعوامل الوراثية والبيئية، مثل النظام الغذائي ونمط الحياة والتوتر والتعرض للمواد الكيميائية السامة والمضرة. على المستوى الجزيئي والخلوي، ترتبط الشيخوخة بالعديد من الآليات التي تسبب الضرر والخلل في الحامض النووي والبروتينات والعضيات والخلايا. تتضمن بعض هذه الآليات الاضطراب الجيني، وتقصير التيلومير، والتعديلات اللاجينية، وفقدان البروتين proteostasis) (وضعف الالتهام الذاتي autophagy) (واختلال وظائف الميتوكوندريا، والشيخوخة الخلوية، واستنفاد الخلايا الجذعية، والاتصالات بين الخلايا، واستشعار المغذيات. يمكن أن يساعد فهم كيفية مساهمة هذه الآليات في أمراض الشيخوخة والأمراض المرتبطة بالعمر في تطوير استراتيجيات لتعديلها وتحسين النتائج الصحية. على سبيل المثال، ثبت أن بعض الفعاليات مثل تقييد السعرات الحرارية، والتمارين الرياضية، ومضادات الأكسدة، والعوامل المضادة للالتهابات، ومزيلات الشيخوخة senolytics) (وعلاج الخلايا الجذعية، والعلاج الجيني، والعوامل الدوائية تؤثر على بعض هذه الآليات وتؤخر أو تمنع ظهور الأمراض مثل السرطان والسكري وأمراض القلب والأوعية الدموية وأمراض التنكس العصبي وهشاشة العظام. لذلك، فإن توضيح الآليات الجزيئية للشيخوخة يمكن أن يوفر نظرة ثاقبة لبيولوجيا الشيخوخة ويقدم أهدافا محتملة لتمديد فترة الصحة والعمر.

على أية حال، الإنسان في الوقت الحاضر يعيش فترة لا تزيد عادة عن 100 عام اذا لم يقتله المرض او حادث سير او حرب او يد طاغية، بينما تعيش الفئران بضعة سنوات، والببغاوات فترة اطول من البشر، والسلاحف الى ما يصل لبضعة قرون، وفي النهاية يتثخن الجلد وتتوهن العضلات ويشيب شعر الرأس فيودع الانسان الحياة في نهاية المطاف، فكما يقول الشاعر:

كل ابن أنثى وان طالت سلامته

يوما على آلة الحدباء محمول

ابحاث الشيخوخة

أحد التحديات الرئيسية في أبحاث الشيخوخة هو التمييز بين التغيرات البيولوجية التي تسببها الشيخوخة وتلك التي تسببها الأمراض. الشيخوخة ليست مرضا بحد ذاته، لكنها عامل الخطر الرئيسي للعديد من الأمراض المزمنة، مثل مرض الزهايمر وأمراض القلب والأوعية الدموية والسكري والسرطان. ومع ذلك، فإن بعض الأمراض تؤدي أيضا إلى تسريع عملية الشيخوخة، مما يؤدي إلى انخفاض الأداء الوظيفي ونوعية الحياة.

تتمثل إحدى طرق دراسة علم الوراثة لشيخوخة الإنسان في إجراء دراسات الارتباط على مستوى الجينوم (GWAS)، والتي يمكن أن تحدد المتغيرات الموروثة المرتبطة بأنماط ظاهرية مختلفة ذات صلة بالشيخوخة، مثل العمر، والصحة، والضعف، والتدهور المعرفي، والأمراض المرتبطة بالعمر. كشفت GWAS عن العديد من المواقع التي تؤثر على سمات الشيخوخة البشرية الرئيسية، وبعض هذه المواقع مشتركة بين العديد من الأمراض المرتبطة بالعمر، مما يشير إلى آليات الشيخوخة الشائعة. على سبيل المثال، ترتبط المتغيرات في جين APOE بكل من مرض الزهايمر وطول العمر. يمكن أن توفر GWAS أيضا رؤى بيولوجية حول المسارات والآليات التي تشارك في الشيخوخة والأمراض.

هناك طريقة أخرى لدراسة جينات الشيخوخة البشرية وهي فحص الطفرات التي تسبب الشيخوخة المتسارعة في المتلازمات syndromes النادرة، مثل الشيخوخة المبكرة. تتميز هذه المتلازمات بالظهور المبكر للسمات المرتبطة بقصر العمر. غالبا ما تؤثر الطفرات التي تسبب هذه المتلازمات على الجينات المشاركة في صيانة الجينوم واستقراره، مثل إصلاح الحامض النووي، وصيانة التيلوميرmaintenance) (telomere، والتنظيم اللاجيني epigenetic) regulation). هذه الجينات ضرورية للحفاظ على سلامة ووظيفة الخلايا والأنسجة، ويمكن أن يؤدي اختلالها الوظيفي إلى عدم الاستقرار الجيني، والشيخوخة الخلوية، والالتهابات، والامراض.

تتمثل الطريقة الثالثة لدراسة العوامل الوراثية لشيخوخة الإنسان في التحقيق في التدخلات التي يمكن أن تطيل العمر وصحة حيوانات التجارب المختبرية، مثل الديدان والذباب والفئران والقرود. تشمل هذه التدخلات تقييد السعرات الحرارية، والتلاعب الجيني (genetic manipulation)، والعوامل الدوائية، والتلاعب البيئي. تستهدف العديد من هذه التدخلات نفس المسارات الجزيئية المتورطة في شيخوخة الإنسان بواسطة GWAS أو متلازمات الشيخوخة المبكرة، مثل إشارات الأنسولين / IGF-1، وإشارات mTOR. يتم حفظ هذه المسارات عبر الأنواع فهي تنظم جوانب مختلفة من التمثيل الغذائي والاستجابة للتوتر والنمو والبقاء.

واحدة من أكثر التدخلات الواعدة التي يمكن أن تطيل العمر والفترة الصحية في الحيوانات هي إزالة الخلايا الشائخة. الخلايا الشائخة هي خلايا فقدت القدرة على الانقسام والتكاثر، لكنها تستمر في إفراز الجزيئات التي تدمر الخلايا المجاورة وتسبب الالتهاب. تتراكم الخلايا الشائخة مع تقدم العمر وتساهم في الإصابة بأمراض الشيخوخة والضعف. اكتشف الباحثون مركبات يمكن أن تقتل بشكل انتقائي الخلايا الشائخة. لقد ثبت أن عقاقير(Senolytics ) تحسن الوظيفة البدنية والإدراك وعمر الفئران. دخلت أدوية Senolytics) (أيضا في تجارب بشرية في المراحل المبكرة للشيخوخة التي تمثلها مؤشرات مختلفة، مثل هشاشة العظام والتليف الرئوي مجهول السبب ومرض الكلى السكري.

من التدخلات الواعدة الأخرى التي يمكن أن تطيل العمر والفترة الصحية في الحيوانات تعديل التغيرات اللاجينية. التغيرات اللاجينية هي التغييرات التي تؤثر على التعبير الجيني دون تغيير تسلسل الحامض النووي، مثل مثيلة الحامض النووي (DNA methylation)، وتعديل الهيستون، وتنظيم الحامض النووي الريبي غير المشفر. تتأثر التغيرات فوق الجينية بالعوامل الجينية والبيئية، ويمكن أن تتوارث عبر الأجيال. يمكن أن تؤثر التغيرات اللاجينية (او فوق الجينية) على جوانب مختلفة من الشيخوخة، مثل التمايز الخلوي، ووظيفة الخلايا الجذعية، والالتهاب، وقابلية الإصابة بالأمراض. طور الباحثون طرقا لقياس العمر اللاجيني للخلايا والأنسجة بناءً على أنماط مثيلة الحامض النووي. يمكن استخدام العمر اللاجيني كمؤشر حيوي للشيخوخة البيولوجية والتنبؤ بمخاطر الوفاة. وجد الباحثون أيضا طرقا لعكس العمر اللاجيني في الخلايا والحيوانات عن طريق عوامل إعادة البرمجة أو العوامل الدوائية. يمكن لهذه التدخلات استعادة الوظيفة الخلوية وتجديد الأنسجة.

بالإضافة إلى هذه الأساليب، حدد الباحثون أيضا بعض الجينات التي ترتبط ارتباطا مباشرا بطول العمر عند البشر. تسمى هذه الجينات جينات طول العمر ويوجد حوالي 200 منها، منها 20 جينا بارزا جدا. ومن أبرز جينات طول العمر IGF-1 وFOXO3A وNF-kB وAMPK وCETP وSIRTUIN1. قد تساعد هذه الجينات في تنظيم الالتهاب والاستجابة المناعية وإزالة السموم والتمثيل الغذائي ووظيفة الخلية والالتهام الذاتي. ومع ذلك، فإن دور علم الوراثة في طول العمر لازال غير مفهوم جيدا، وليس كل الأفراد ذوي العمر الطويل الاستثنائي لديهم نفس الاختلافات الجينية. توجد بعض الاختلافات الجينية الشائعة التي قد تؤثر على طول العمر في جينات APOE وFOXO3 وCETP. جين CETP، على سبيل المثال، يشارك في تبادل الدهون وله تعدد الأشكال (polymorphism) يسمى (rs5882) الذي يرتبط بعمر أطول، وانخفاض خطر الإصابة بالخرف، وبمستويات HDL أعلى. قد تتفاعل جينات طول العمر أيضا مع خيارات نمط الحياة للتأثير على الشيخوخة.

ومن جانب اخر ظهرت حديثا دراسة أجريت عبر تعاون دولي لعلماء من 14 دولة اكدت بأنه لا يمكن إبطاء معدل التقدم في السن وذلك بسبب القيود البيولوجية. تم اختبار فرضية "المعدل الثابت للشيخوخة"، والتي تقول إن كل نوع لديه معدل ثابت نسبيا للشيخوخة من مرحلة البلوغ. تم مقارنة بيانات المواليد والوفيات من البشر والرئيسيات، ووجدوا أن النمط العام للوفيات كان هو نفسه لدى البشر وباقي الرئيسيات". وهذا يشير إلى أن العوامل البيولوجية، وليست العوامل البيئية، تتحكم في نهاية المطاف في طول العمر فمتوسط عمر الإنسان زاد بسبب التقدم الطبي والاجتماعي، وبات الناس يعيشون لفترة أطول، لكن المسار نحو الشيخوخة لم يتغير.

وفي المقابل اظهرت نتائج دراسة اجريت في جامعة اكستر الامريكية أن التخلص من الخلايا العجوزة في الجسم والحد من عددها يمكن أن يزيد من نشاط باقي الخلايا ويحسن من مقاومة الشيخوخة في الجسم. كانت هذه واحدة من الطرق التي استخدمها العلماء لمحاربة آثار الشيخوخة، بالإضافة إلى محاولتهم تحفيز الخلايا الأخرى لزيادة أدائها. وفقا للدراسة المنشورة، اكتشف الباحثون أن عامل كبريتيد الهيدروجين يؤثر على بعض عوامل التوصيل العصبي داخل الخلية، ويجعل الخلايا البشرية القديمة تستعيد نشاطها. لكن المشكلة التي تواجههم هي أن كبريتيد الهيدروجين بكميات كبيرة قد يكون ساما، لذلك يسعون إلى تحديد الجرعة المناسبة. كما وجد كاتب المقالة ان وجود السيرم في غذاء الخلايا المزروعة في الاطباق المختبرية ضروريا لالتصاقها في قعر الطبق وبذلك يحافظ على بقاءها ويزيد من عمرها.

مؤخرا نشرت مجلة الطبيعة بحثا لنتائج واعدة حول التغييرات المرتبطة بالشيخوخة. تشير الورقة البحثية إلى اكتشاف جديد مفاده أن سرعة الاستطالة النسخية (transcriptional elongation)، أو المعدل الذي يتحرك به RNA) polymerase II ( على طول قالب الحامض النووي، يزداد مع تقدم العمر في خمسة أنواع مختلفة: الديدان الخيطية، وفاكهة الفاكهة، والفئران، والجرذان، والبشر. يوضح الباحثون أن هذه الزيادة في سرعة الاستطالة تؤثر على تضفير الحامض النووي الريبي RNA splicing)) وتكوين الحامض النووي الريبي الدائري، والتي يمكن عكسها عن طريق تدخلات إطالة العمر مثل تقييد النظام الغذائي وتقليل إشارات الأنسولين وIGF. علاوة على ذلك، يوضح المؤلفون أن تقليل سرعة الاستطالة بوسائل وراثية أو دوائية يمكن أن يطيل العمر والفترة الصحية في الذباب والخلايا البشرية.

هذا الاكتشاف مهم لأنه يكشف عن آلية جزيئية أساسية تقوم على تنظيم الشيخوخة والعمر عبر الأنواع (across species). كما يشير إلى أن استطالة النسخ هي هدف محتمل للتدخلات المضادة للشيخوخة التي يمكن أن تحسن الوظيفة الخلوية وتمنع الاصابة بالأمراض المرتبطة بالعمر. توفر الورقة أيضا علامة بيولوجية جديدة للشيخوخة البيولوجية بناءً على سرعة الاستطالة، والتي يمكن قياسها من خلال تسلسل الحامض النووي الريبي. وهكذا فإن الورقة تزيد من فهمنا لعلم الوراثة وبيولوجيا الشيخوخة وتفتح آفاقا جديدة للبحث.

بعض الطرق الممكنة لمنع الشيخوخة:

1. تقييد السعرات الحرارية: يمكن أن يساعد الحد من تناول السعرات الحرارية في إبطاء عملية الشيخوخة.

2. التمارين: تحافظ التمارين البدنية المنتظمة على صحة الأنسجة ووظائفها ويعيد التوازن الأيضي.

3. مضادات الأكسدة: الأطعمة الغنية بمضادات الأكسدة يمكن أن تساعد في تقليل الإجهاد التأكسدي ومنع الشيخوخة.

4. العلاج بالهرمونات: قد تساعد الهرمونات مثل الإستروجين والتستوستيرون وDHEA في منع التدهور المرتبط بالعمر وتعزيز الصحة العامة.

5. العلاج الجيني: قد تسمح لنا تقنيات الهندسة الوراثية وتحرير الجينات بتصحيح العيوب المرتبطة بالعمر في الحامض النووي والهياكل الخلوية الأخرى.

6. العلاج بالخلايا الجذعية: قد يساعد استخدام الخلايا الجذعية لاستبدال أو إصلاح الأنسجة والأعضاء التالفة في مواجهة آثار الشيخوخة.

7. ادوية الشيخوخة (Senolytic drugs): تدمر هذه الادوية الخلايا الشائخة التي تتراكم مع تقدم العمر وتساهم في الإصابة بالأمراض المرتبطة بالشيخوخة.

8. تنشيط التيلوميريز: قد يسمح لنا تنشيط انزيم التيلوميريز، وهو الإنزيم الذي يحافظ على التيلوميرات، بإطالة عمر الخلية ومنع تقصير التيلومير.

9. الميتفورمين: الميتفورمين دواء يستخدم حاليا لعلاج مرض السكري، ولكنه قد يطيل العمر ويمنع الشيخوخة.

10. المركبات المضادة للشيخوخة: هناك العديد من المركبات التي تم تحديدها كعوامل محتملة لمكافحة الشيخوخة، بما في ذلك ريسفيراترول، رابامايسين، ومعززات NAD.

11. منع الطفرات الوراثية في عضيات الميتوكوندريا وهي مصادر الطاقة: استنساخ جينات الميتوكوندريا وحشرها في النواة حيث تكون محمية من مصادر استحداث الطفرات.

12. ازالة الخلايا غير المرغوب فيها مثل الخلايا الدهنية (خلايا السمنة): تحفيز جهاز المناعة للقضاء عليها.

13. التخلص من المواد السمية: تتراكم هذه المواد مع شيخوخة الخلايا حيث يمكنها ان تؤدي الى امراض كالخرف. هذه المواد يمكن تحطيمها  بالانزيمات التي يمكن صناعتها من قبل الخلايا الصحيحة.

14. تلف الاعضاء: يمكن تبديل الاعضاء التالفة باعضاء جديدة تم تكوينها عن طريق زراعة خلايا الاعضاء او زراعة الخلايا الجذعية.

في الختام، الشيخوخة هي عملية بيولوجية معقدة تحددها عوامل وراثية وبيئية. يمكن أن توفر العوامل الوراثية لشيخوخة الإنسان نظرة ثاقبة للآليات والمسارات التي تكمن وراء الشيخوخة والمرض، وتحديد أهداف التدخلات التي يمكن أن تطيل الفترة الصحية والعمر. تتضمن بعض الاكتشافات الحديثة في علم الوراثة للشيخوخة البشرية تحديد المواقع التي تؤثر على سمات الشيخوخة الرئيسية، ودور صيانة الجينوم واستقراره في الشيخوخة ومتلازمات الشيخوخة المبكرة، وإمكانية إعادة البرمجة الوراثية للشيخوخة لتأخيرها أو عكسها، وتحديد جينات طول العمر في البشر. توفر هذه الاكتشافات إمكانيات لتحسين صحة الإنسان واطالة عمره.

***

أ. د. محمد الربيعي

بروفسور في جامعة دبلن

 

دعاني مركز تجديد للفكر والثقافة للمشاركة بموتمرهم العلمي القراني الأول عن فهم القران الكريم في ضوء مستجدات العلوم الإنسانية مساء يوم 25حزيران 2023 وتكرموا بان خصصوا لي المحاضرة الافتتاحية للمؤتمر وقد قدمت في المؤتمر ورقة علمية اضع ملخصا لها

1- تنطلق الورقة من مشاطرة هدف الموتمر في إمكانية الإفادة من تطور العلوم الإنسانية ومنهجياتها المعاصرة لاستثمارها كاليات للتلقي القراني وتستثمر لكي تفتح افاقا جديدة لم تكن موضع بحث في القرون التفسيرية الأولى على ان تستخدم تلك الادوات البحثية بوجه دقيق في فهم القران الكريم فهما يتسق مع فضاء الحداثة وقضاياها المعرفيه ونزعاتها النقدية ومنهجياتها التي تطبق على عموم نتاج الانسانيات المعاصرة

ويقف في وجه ذلك احد رايين اما توصيف التجارب المعرفية السابقة في تفسير القران تراثا ثقافيا يشكل مرحلة من مراحل الصيرورة الفكرية لعلوم التفسير وانها كانت وفية لعصورها وقدمت ما بوسعها ان تقدمه من علم وتدقيق ولكن ذلك العلم كان نتاج عصره ومعبرا عنه بظروفه العديدة والثاني انها أي التجارب التفسيرية الماضية تخضع للنقد والمحاكمة والتفكيك بوصفها ثقافة بشرية قاصرة عن ادراك الحقيقة التامه تمهيدا لمسارات التجديد في الدرس التفسيري ، وكلا الامرين محاط بمحاذير وصعاب بحثية

2- علينا ان ناخذ بنظر الاعتبار ان الاستخدامات الأيديولوجية لهذه المعرفيات والمناهج سعت لاجراء دراسات كان لها غايات منحازة لاطراف الصراعات بين الشرق والغرب والمسيحية والإسلام واليهودية وصهيونيتها والصراع في الشرق الأوسط وتجارب الاستشراق المبكر الذي تنامى تحت عقد تلمودية وانجيلية لاثبات عدم الوهية النص القراني وانه من صنع النبي محمد فالحذر من ان تستغفلنا هذه الدراسات لتشوه الوعي التاريخي وعلينا ان نتبنى امر الإفادة منها بموضوعية وحيادية صارمة لتحليل جديد للقران والاضاءة على المكنونات القرانية.

3- لقد مر التفسير بأربع مراحل

كانت المرحلة الأولى مرحلة التفسير بالماثور والنص والرواية وكان الطبري والعياشي والقمي نماذج لها وكان النص القراني قد غمر تفكيرهم وثقافتهم ولم تكن لهم علوم بشرية آنذاك فاكتفى عصرهم بتفسير النص من خلاله ومن شروحات لسنة وفهم الصحابة والتابعين

بعد ان وفدت على العالم الإسلامي علوم الاقدمين الفلسفة والمنطق فقد تسربت الى التفسير فظهرت موجة التفسير بالراي والتاويل والمحاكمة العقلية للاراء فكانت المرحلة الثانية التي امتدت لقرون الى جنب الماثور فصار المسار التفسيري يسير بخطين متوازيين ومنهجيتين تلتقي أحيانا وتفترق غالبا والملاحظ ان التفسيرين احتضنا الخلافات الكلامية والفقهية وظهرت في ثنايا التاويل وفي الروايات المتعارضة المنقوله من الماثور وظهر الى جانب التاويل العقلي تاويل حدسي اشاري سمي بمنهجية التفسير الاشاري و استمر الحال على ذلك حتى القرن الثالث عشر الهجري الموافق للتاسع عشر الميلادي فظهرت تفاسير مثل المنار وتفسير طنطاوي جوهري انتهج نهج الإفادة من الإنجازات العلمية التي انتقلت من الغرب بل صاحبت غزو اوربا للعالم الإسلامي واستعماره وكان الغرض منها اسناد القران بادلة علمية

ونحن الان تحت تاثير الصدمة الثانية للهيمنة العلمية الاوربية مثل مناهج الدلالة الالسنية واراء سوسير واراء غادامير و التاويلية والبنيوية ومناهج الانثروبولوجيا والمنهح الفيلولوجي

وهذه هي المرحلة الرابعه التي دخلت فيها المقاربات التفسيرية المتاثرة بالثقافة الغربية عالم الثقافة العربية وكان من ذلك اجتهادات المفسرين الجدد مثل محمد شحرور في كتابه (الكتاب والقران) والجابري في فهم القران ونقد العقل العربي واركون في تاريخية الدين ونصر حامد أبو زيد في التص والسلطة والحقيقة وكتابه التاويل

4- هناك منهجيتان في التفسير، المنهجية التجزيئية والمنهجية الشمولية وهنا اشير الى ان التجزيئية نوعان احدهما ما يسع الجزء ان ينتظم مع الأجزاء الأخرى فيكون جهدا قابلا ان يكون ضمن مشروع الشمولية فيقبل والا فان التجزيئية ربما تفضي الى تشوهات في الوعي فلا يكون الخيار الا بالالتزام بالمنهجية الشمولية

5- ان النزعه النقدية في الثقافة الغربية الحديثة قد درست اكثر النصوص التاريخية دراسة نقدية وامتدت الى الكتب الدينية القديمة التوراة والانجيل لاسيما في خضم الصراعات بين العلمانية والكنيسة للوصول الى ان النص الديني ناتج عن الظرف التاريخي الاجتماعي والاقتصادي ولكي ينزل النص من سمة التعالي والقدسية الى انه نص غير متعالي ولا مقدس وزمني تمهيد لمرجعية العقل والعلم التجريبي

ويبدو لي ان سبب عدم ولوج أئمة الشيعه في ازمة خلق القران حيث لم يبدو رايا بها فلانهم ادركوا ان القول بخلق القران ربما يفضي اعتباره ناتج ظروف تاريخية يعبر عنها او يفض القول بقدم النص الى ان النص ازلي

6- بودي ان استعين بنموذج تطبيقي لما تقدم بان اشير الى مقاربة مشروع مهم اسمه (قران المؤرخين) للباحث امير معزي مع فريق عمل يشتغل معه يبلغ خمسة عشر باحثا كانوا قد كتبوا قرابة 4000 صفحة تحليلات للنصوص القرانية والتمسوا ما يشابهها من السرديات التاريخية ككتب الأديان التوحيدية والكتابات السريانية لاستثمار التشابه بينها وبين ما ورد بالقران لينتهوا الى ان التشابه يعني ب (ان محمدا اخذ هذه الأفكار من الثقافات السابقة وهي وان كانت تحمل سمة دينية غير انها ناتجة عن ظروفها التاريخية) وهي ليست متعالية ولا معصومة واخرجوا كتابا في تحليل سورتي العلق والطارق وتناولوهما من حيث البنية الموضوعية للسورة وعدد الايات وتحليل لاسم السورة وفواصلها وسبب النزول واستخدموا التناص مع ادبيات متعددة وصولا لهذا الغرض

بيد ان الايات القرانية قد عرضها النبي محمد بوصفها قراءة لاهوتية كونية للوجود ومشروعا للهداية والعرفان وانها خاتمة النصوص المنزلة ففي مضامينها خلاصة نهائية للاديان المتعاقبة لذا فان ارتباطها بالنصوص الدينية القديمة لايعد امرا غريبا ولعله ارتباط مضموني فقد ورد في اكثر من موضع قوله انه مهيمنا ومصدقا لما بين يديه وانه من قبيل صلة الأجزاء بالعام فقد قال (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) وقال (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيل) وقال (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) وقد يكون صحيحا القول ان الايات القرانية عبارة عن مجمع التراثات الدينية المتعددة او نقطة التقاء الديانات

7- ان معرفيات التفسير بوصفها جهدا بشريا ليس حجة على لاهوتية القران ولا على عدمها فلا مسوغ للاستدلال بالتفاسير على امر لاهوتية النص

8- القران ليس وثيقة تاريخية او مستند تاريخي حتى يجوز لنا ان نطبق عليه المنهج التاريخي ونلزمه بنواتج المنهج

9- ان إشكاليات التدوين الاول للقران واشكاليات جمع القران وتعدد المصاحف قد حسمت بالعصور الأولى وجرى عليها القبول ونقل قران المصاحف التي بين أيدينا بالتواتر وانتهى الامر علميا فاعادة الخلاف واستغلاله للاساءة للقران امر لا مبرر له

10- ان الرقم والاثار والالواح القديمة لا تشكل في البحث القراني الا قرائن معززة للافتراض وليست ادلة برهانية على دعوى لاهوتية النص او عدمه

11-  ان أي بحث علمي لن يتخلى عن المقاصد الذاتية والغايات الأيديولوجية

فان قيمته العلمية تنخفض الى درجة عدم الاعتبار العلمي له

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

كثر من الناس يستنفدون خياراتهم ويستسلمون لليأس. أكاد أقول، وعبر مراقبتي لحياة البشر والقراءة عنها في الكتب والمصنفات، أن غالبية البشر هم من هذا النوع.

ومن جهة ثانية فإن الإنسان، ومنذ أمد غير قصير، سعى ويسعى لأنسنة كل ما حوله إلا نفسه، رغم اعتراف الغالبية، وعلى رأسهم النخب الثقافية، بإن الإنسان يعيش حالة اغتراب مفزعة في عصره الحديث، وخاصة حقبة ما بعد الحرب الكونية الثانية.

قال أحد الكتاب عن هذه الحالة، في مقال له (إنها عملية اصطدام المرء بجدار الحياة غير المرئي، ذلك الجدار الذي يصادفه الجميع في كل مكان، رغم أنه بلا هيكل أو جسد وبلا أبعاد محددة)، وأنا، وعبر مراقباتي وقراءاتي التي أخبرتكم عنها، تفهمت هذا الوصف وكنت أحد المقتنعين بوجود هذا الجدار.

أين يقوم هذا الجدار وما هي أوصافه ومن يحميه ويديم بقاءه؟

حامل المطرقة (الفيلسوف، بحسب توصيف فريدريك نيتشه) يقول: الجميع وأولهم المؤسسات، وأول هذه المؤسسات هي المؤسسة السياسية، بعد أن تخلت عن المهمة التي تكونت من أجلها: صناعة الحياة.

من يصنع الحياة اليوم، بعد أن تفرغت المؤسسات، بقيادة المؤسسات السياسية، لصناعة الحروب ومصانع الأسلحة والأسلحة النووية والجرثومية والكيمياوية، التي تدمر الطبيعة، وقبل هذا وما هو أهم منه، ملاحقة الإنسان ومصادرة حريته والتنكيل به وقتله على رأيه وأفكاره وصوته إذا ما ارتفع محتجاً ومندداً؟

في زمن الثورة التكنلوجية، عندما صار مجرد هاتف، أصغر من حجم كف الإنسان، يقلب لك العالم ويأتيك بأخبار كل زواياه الضيقة، في هذا الوقت بالذات نجد أنفسنا في الزمن الأشد حماقة والأكثر التباساً وبؤساً: حروب مجانية تقتل مئات آلاف الأبرياء، مجاعات مخجلة، أوبئة، تدمير للبيئة، اضطرابات مناخية مرعبة، ارتفاع درجات حرارة الطبيعة من حولنا بصورة تحدث فيضانات وأعاصير مدمرة، وكل هذا موجه ضد الإنسان من دون المؤسسات التي ترتكب أفظع الحماقات وبكل ما تحوز من استهتار بالإنسان والقيم.. بل وكل هذا موجه إلى الإنسان الفرد وكينونته التي لا تريد أن تراها المؤسسات حرة مستقلة وتقول رأيها، المخالف لحماقات من يديرون المؤسسات، وأولها المؤسسات السياسية طبعاً.

لماذا؟ لماذا لا تستطيع المؤسسات التعايش مع الإنسان الفرد الحر وصاحب الرأي المستقل، وهنا لا نقصد الرأي السياسي المستقل بقدر ما نقصد الرأي الفكري العام وككل؟

لنعود إلى غرفة الفلسفة التي باتت باردة وشبه مهجورة، بعد أن فرضت عليها المؤسسات إقامة شبه اجبارية في أروقة الجامعات. هل مازالت ذات المطرقة، التي حملها سقراط وافلاطون ونيتشه وسبينوزا....، بيد أصحاب تلك الغرفة؟ هل مازال أولئك السكان قادرين على طرق صنج العقل البشري بذات الحدة، ومازالت ترددات طرقاتهم تسمع وتهاب بذات التقبل الذي كان لهم ذات يوم؟

كل شيء اليوم معجون في مرق (هل عليّ أن أقول في دم، كي أكون دقيقاً؟) السياسة ومصالح وعقد ولؤم محترفيها، من حبة البارستيمول إلى لقاح كوفيد 19 (بصفته آخر الأوبئة الخطرة المنتشرة حالياً على كوكب الأرض) وكل هذا على حساب الإنسان الفرد وحريته الشخصية، والأهم حريته في أن يصرح برأيه الخاص في مجريات حياته الخاصة ومجريات ما يدور من حوله، سياسية ودينية وثقافية واقتصادية وفكرية. لماذا؟ لأن الإنسان الفرد يرتكب الحماقات، كما تقول المؤسسات. ماذا ترتكب المؤسسات إذن عبر مراقبتها لرأي الإنسان وحرية ضميره ومعتقده وأفكاره... بل وحتى أحلامه وهلوساته عندما يغضب على ما تخيط له المؤسسات وتجبره على ارتدائه؟

ألا يحق للإنسان الغضب والصراخ عندما تمطره الطائرات القاصفة بالصواريخ والقنابل الذكية (التي لا تخطئه كهدف لها)، في حرب لا يعرف لم وقعت ولا يدري في أي جيب تصب مصالح وأهداف ونتائج انتصار أصحابها، من زعماء المؤسسة السياسية؟

ألا يحق للإنسان أن يتظاهر ويصرخ محتجاً وهو يرى أن النهر الذي يشرب منه ويسقي مزروعاته، يحول مجراه أو يقطع ماءه عنه لأسباب سياسية؟ ألا يحق له أن يغضب وهو يرى أن الحرارة ترتفع من حوله وتسبب له اضطرابات مناخية قاتلة ولم يعهدها، (بل ولم يقرأ عن مثيل لها في كل تاريخ البشرية السابق)، لأسباب سياسية تتعلق بما ينتج الساسة من حروب وأسلحة تنتج درجات حرارة وحرائق تدميرية، تكاد تقترب من درجة انفجارات الشمس؟

كل هذا يجري وعلى حامل المطرقة أن لا يقترب (وليس يهدم بمطرقته فقط) ما تبني مؤسسات السياسة، بل عليه فقط أن يجد مخرجات (فلسفية) مبررة لما ترتكب في حق الإنسان وحقه في الحياة والحرية، التي (على ما يبدو) أن لا حياة ولا يستقيم أمر ملاكها - المؤسسات السياسية – من دون مصادرتها وإذلاله وتحويله إلى إمعة. أليس هذا ما يفعله أغلب ساسة الأرض؟

ولنعود مرة أخرى إلى غرفة الفلسفة ونقلب بعض أدراجها، لنرى ماذا تملك مطارقها من توصيفات لهذا الوضع المختل. يقول نيتشه (حامل المطرقة الكبرى) في وصف الفلسفة بأنها السبيل إلى السخرية. السخرية مم غير الوضع المختل الذي فرض على الحياة، ممن نصبوا أنفسهم سادة وأوصياء على حياة ومصائر البشر؟ أما جيل ديلوز فيرى في الفلسفة وسيلة لمحاربة الغباء. هل هناك أكثر غباءً، مما يستحق محاربته، من إنتاج المؤسسات التي تفتك بالإنسان وتصادر حريته؟ أما فوكو فلا يرى بحامل المطرقة غير محارب، لا يهدأ، للحماقة. هل على الأرض أكثر حماقة من مصادرة حرية الإنسان وصناعة الأسلحة والحروب لإفنائه وافساد الطبيعة التي توفر له أسباب الحياة؟

نعم الثورة الصناعية، ومن بعدها الثورة التكنلوجية، قدمتا للإنسان الكثير؛ إلا أن نظرة متفحصة للجهة التي يحرف بها الساسة منجزات العلم والتكنلوجيا، والطرق التي يستخدمونها بها، تدفعنا للتساؤل: ماذا يفعل هؤلاء بهذا الكوكب وساكنه المسكين (الإنسان)؟ إنهم يفسدون عليه كل حياته وشؤونه؟ إلى أين يقود هؤلاء هذا الكوكب؟ إنهم يفسدون ترابه وهواءه وماءه بكل ما يتوفرون عليه من لؤم وبشاعة. لماذا؟ هل العالم بيد مجموعة من المنحرفين؟

يا للبشاعة قبل السخرية! إنهم يفرضون علينا (الوجود الزائف) بحسب توصيف الفيلسوف مارتن هيدجر؛ وهذا الوجود المصطنع يفرض علينا بقوة السلاح وأجهزة الشرطة والجندرمة والمخابرات والجيش والدرك ليصير هو وجودنا اليومي، والذي لا يجب أن نعرف سواه، ومن يرفضه أو يتمرد عليه فمصيره القتل أو التغييب في السجون. من منح الساسة حق تزييف وجودنا؟ القانون الذي وضعوه بأيديهم ووفق ما ترى مصالح هيمنتهم على السلطة.

ماذا بقي لحامل المطرقة ليفعله في عالم الحماقة والتفاهة هذا؟ كل منحى من مناحي الحياة من حوله تشيء أو في طريقه لذلك... بما فيها مطرقته (الفلسفة)، التي تسعى المؤسسات، بما فيها الأكاديميات للأسف، إلى تشيئها: تحويلها إلى ايديولوجيات سياسية تؤطر (فكرياً) لمشاريع الساسة أو إلى مجرد لذة نصوص (فخمة بغموضها) بعد أن كانت أداة التحرش بالغموض الكوني وطريقة الإحاطة به وتفسيره وفهمه.

من نافلة القول أن نذكر هنا أن من بين أهم مشاريع الساسة وأكثرها عتمة، كانت دفع حامل المطرقة (الفيلسوف) إلى ركن مطرقته والانزواء في برجه العاجي (الأكاديمي) ودفعه لإنتاج غموض مركب وتهويمات لقراءة التاريخ أو انتاج لوغارتمات جديدة تسند تطلعات الساسة إلى المزيد من كبح الإنسان ومصادرة حريته واحكام السيطرة عليه. وأمر مؤسف أن نجد بعض حاملي المطارق قد انساقوا وراء اللعبة من دون التوقف للنظر إلى الجهة التي يسير إليها هذا الكوكب، أو حتى للتساؤل عما سيحدث لهذا العالم، بعد أن صار حتى دخول الحمام يخضع لاعتبارات وأغراض سياسية!

هل لنا أن نتساءل، في النهاية، عن صورة العالم، فيما لو اختفى جميع الساسة منه؟ ربما لن يكون أجمل، ولكنه على الأقل سيكون بلا حروب ولا روائح جثث المقابر الجماعية المدفونة على عجل... وبالتأكيد ستعاود مطرقة سقراط العظيم التلويح من سفوح الأولمب.

***

د. سامي البدري - روائي وباحث

لمناسبة اليوم العالمي لمكافحة المخدرات

توطئة: أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً في العام 1987 حددت فيه، بأن يكون السادس والعشرون من يونيو من كل عام، يوما عالميا لمكافحة المخدرات، تقديراً منها للخطورة العالمية لتداعيات المخدرات، لما لها من أضرار جسيمة على النواحي الصحية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية.ولم تعد انواعها مقتصرة على (الحشيش، الماريجوانا، الكوكايين، والمورفين...) بل ظهرت مركبات جديدة لها تأثير واضح على الجهاز العصبي والدماغ، بل ان المخدرات نعدها بوصفنا انها (قاتلة الأحبة ومرتكبة الزنا)!.

والمفارقة ان العراق كان في السبعينات في ذيل قائمة الدول، فيما اصبح بعد 2003 من بين الدول الأكثر تعاطيا للمخدرات، وقد رجحت احصائية اصادرة عن الامم المتحدة ان السنوات العشر القادمة ستفتك بالشاب العراقي في حال بقي الوضع على ما هو عليه.

المخدرات في العراق

كان العراق في السبعينيات وما قبلها يعدّ الأقل نسبة في تعاطي المخدرات، وبنشوب الحرب العراقية الايرانية، بدأت المخدرات تدخل اليه.بل انها بدأت تزرع ايضا بحسب تقارير الاستخبارات الامريكية التي عزتها الى ان انقطاع التمويل المالي للجماعات الارهابية ادى الى زراعة اشهر نبتة مخدرات تسمى (الداتواره) بمناطق في محافضة ديالى، فيما افادت تقارير حديثة لمكتب مكافحة المخدرات التابع للأمم المتحدة تقول بوجود ممرين رئيسين الأول عبر الحدود الشرقية التي تربط العراق مع إيران وافغانستان، والثاني يوصل إلى أوروبا الشرقية، إضافة الى ممرات بحرية على الخليج العربي تربط دول الخليج مع بعضها.. وثغرات واسعة تستخدمها العصابات الإيرانية والأفغانية.

الجديد أن العراق لم يعــد محطة ترانزيت للمخدرات فقط، وإنما تحوَّل إلى منطقة استهلاك بين اوساط الشباب تحديدا. والاكثر من ذلك، ان فلاحين في ميسان وديالى كانوا يزرعون الطماطة توجهوا الآن الى رزاعة الخشخاش والقنب والنباتات المخدرة الأخرى، ونجحت في تسويقها لان الربح فيها سريع ومغري.

والمفارقة ان التقارير الرسمية تفيد بأن مدنا عراقية ذات طابع ديني (كربلاء مثلا) جاءت في مقدمة المحافظات في نسبة تعاطي المخدرات، وان احصائية لمستشفى الرشاد المتخصص في الادمان افادت بان نسبة المراجعين زادت على 70%، وأن التعاطي الذي كان على صعيد الشباب والراشدين، صار الآن على صعيد المراهقين والاطفال ايضا!.وان مخدرات ما كانت معروفة في العراق صار الشباب يتعطونها بالآلاف. فوفقا لوكالة عراق برس اطلق قسم الصحة النفسية بمستشفى البصرة العام صرخة استغاثة لمساعدته بعد رواج تعاطي مادة (الكرستال) بين الشباب ابتداءا بالمراهقين ووصولا الى طلبة الجامعات. والكرستال هذا الذي يشبه زجاج السيارة المهشم وصل سعر الغرام الواحد منه مئة دولارا، يجعل متعاطيه ينسى واقعه ويحلق منتشيا في الخيال.

لم يدرك حكام الاسلام السياسي كارثة اضرار المخدرات بين اوساط الشباب، فهي على صعيد الشاب تؤدي الى: تلف الجهاز العصبي، تعطل الطاقة الانتاجية، ارتكاب جرائم سرقة، الموت المفاجيء، والانتحار. وعلى صعيد الاسرة يصبح فيها الشجار افتتاحية الصباح وختام المساء، العدوان، قتل احد افراد الاسرة، الخيانة الزوجية، ممارسة البغاء والدعارة والقوادة واكراه محارمه على الزنا!.. والزنا بالمحارم!!.فيما تؤدي على صعيد المجتمع الى تهرؤ النسيج الاجتماعي، انحرافات سلوكية واخلاقية وجنسية، زيادة معدلات الجريمة، وتراجع القيم الاخلاقية الاصيلة، فضلا عن انها تشغل الدولة بمعالجة المدمنين وملاحقة تجار المخدرات والمتعاطين واضعاف الطاقة الانتاجية وشلل التنمية.

في العاصمة بغداد، افادت التقارير بانتشار تعاطي المهلوسات بين الشباب.ومع تعدد انواعها (سوبيتاكس، اكستازي، باركيزول.. ) فان اكثرها شيوعا هي حبوب «ال سي دي».. وكلها تعمل على جعل متعاطيها يفقد صلته بالواقع، بمعنى ان الشاب العراقي المحبط، المخذول، المأزوم نفسيا.. وجد فيها فرصة للهرب من واقع الخيبات والفواجع الى التحليق في عالم من النشوة والانطلاق بلا حدود.

ومرة اخرى نقول، ان السلطة لا تدرك حجم مخاطر هذه الحبوب، يكفي ان نقول عنها ان متعاطيها يذبح الانسان كما يذبح دجاجة، والشاهد على ذلك ان داعش كانت تستخدمه مع مقاتليها الذين كانوا يفجرون انفسهم ويتلذذون بقتل الآخرين ذبحا او حرقا.

وثالث الكوارث الاخلاقية، هي انتشار (الأيدز) بين اوساط الشباب، فوفقا لتصريح مدير عام صحة الكرخ لفضائية الشرقية، فان الايدز عاد الى العراق بعد خلوه منه لثلاثين سنة، وان بغداد تشهد اصابات كثيرة بين الشباب والشابات، المتزوجين وغير المتزوجين.

نظرية سيكولوجية عراقية

اعتاد علماء النفس في العالم استخدام الحيوانات (الفئران عادة) لاجراء اختبارات عليها تساعد على فهم الانسان حين يتعرض للضغوط مثلا. وعلى مدى السنوات العشرين الأخيرة، كان العراق فيها مختبرا سيكولوجيا على ارض الواقع تعرض فيها العراقيون الى ضغوط لم تحصل في تاريخ الشعوب المعاصرة، وقدمت نظريات جديدة لعلماء النفس.. نجود عليهم بواحدة منها نوجزها في الآتي:

(هنالك علاقة طردية بين تزايد اقبال الشباب على تعاطي المخدرات والمهلوسات

وبين تزايد شعورهم بالاغتراب والاحساس بانعدام المعنى من الحياة،

اذا كان حكاّم ذلك الوطن يزدادون ثراءا ويتركون اهله يزدادون فقرا).

اقتراحان

الأول خاص بالسلطة:

لأن الأطباء النفسيين وعلماء النفس المختصين بالصحة النفسية هم الأقدر على التعامل مع هذه القضايا، فان لدينا استراتيجية للتعامل معها والحد منها، وكل ما نطلبه من السلطة هو توفير الفرصة لنا لأنقاذ جيل كامل من الشباب يتعرض الآن الى اخطر ثلاثة قاتلة: المخدرات والمهلوسات والأيدز.. ورابعها الانتحار.

والثاني خاص بوزارة الصحة:

مع ان على رأس الوزارة شخص معروف بكفائته ونزاهته، وتربطنا به علاقة صداقة، فان معالي الدكتور صالح الحسناوي لم يشرك الجمعية النفسية العراقية في نشاطاتها، بل اقتصرها على الأطباء النفسيين، سواء على صعيد المستشارين او على صعيد نشاطات الوزارة الخاصة بالصحة النفسية، مع اننا كنا وقعنا مع رئيس جمعية الأطباء النفسيين السابق الدكتور نصيف الحميري وثيقة تعاون مشترك حققنا فيه نشاطات بينها مؤتمرات وندوات، وانا على يقين ان معاليه يدرك ان التعاون بين الأطباء النفسيين وعلماء النفس سيسهل تحقيق مهمتنا الانسانية النبيلة في حماية شبابنا من آفة المخدرات.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

لعل من مزايا المنهج الجدلي انه يحض الفكر على رفض كل ما يعيق تطلعه إلى فضائل (التغيير) الاجتماعي ومزايا (التطوير) الثقافي من جهة، ويحثه على مجانبة كل ما يشده إلى رذائل (الثبات) ورزايا (السكون) في مواجهة دفق الوقائع وفيض الأحداث من جهة أخرى . هذا في حين لا تفتأ رواسب الأصول الانثروبولوجية من السعي لإعاقة أي تقدم في مضامير الوعي وإيقاف أي تطور في ميادين السلوك . وكلما كانت سياقات المجتمع التقليدي أميل الى التأثر بتلك الأصول والانصياع لتلك الخلفيات، كلما تقلصت مساحات الجدلية الاجتماعية وضعف دورها في إيجاد المخارج المناسبة لتجنب الوقوع في شباك الخوانق البنيوية والعوائق الوظيفية المسؤولة عن تواتر الأزمات في الواقع وتكاثر الإشكاليات في الوعي .

ولعل من أسباب إعاقة أواليات التفكير الجدلي من اختراق حواجز البنية الاجتماعية المتكلسة والمتحجرة، ومن ثم حمل عناصرها على التفاعل والتمفصل البيني بما يفضي الى حراكها الدائم وتقدمها المستمر، هو رجحان كفة الأصول الانثروبولوجية المضمرة بين ثنايا الوعي الجمعي والمتحكمة في سيكولوجية مثل هذه الأنماط الاجتماعية التقليدية، خصوصا"وأن تلك الخلفيات والمرجعيات هي بمثابة مناجم لا ينضب ثرائها في مجال التصورات الاجتماعية، ولا يشح غناها في مضمار التمثلات التاريخية، ولا ينفد عطائها في ميدان الانزياحات الحضارية . لاسيما وأن الكيانات والتكوينات الجماعاتية (الأقوام والطوائف والقبائل) التي طالما كانت - وستبقى - الحاضنة العضوية لتلك الأصول، والمحفز الطبيعي لاجتياف أعرافها وقيمها والتماهي مع رموزها ومخيالها، لا زالت تتمتع بوجود اجتماعي طاغ وحضور ثقافي مسيطر .

ومما هو جدير بالذكر، ان دور هذه الظاهرة النكوصية لا يقتصر فقط على الإسهام في تأجيج الأزمات السياسية وتعقيد الإشكاليات الاجتماعية كما تقدم ذكره فحسب، بل ان تأثيرها السلبي يطال سيرورات الجدلية الاجتماعية ذاتها، من خلال عكس مسار الديناميات الموكول إليها تحقيق التطور الحضاري المنشود، كما سبق وبيناه في دراسة لنا تحت عنوان (الجغرافيا العراقية ومفارقات الديالكتيك الحضاري) . عازين ذلك الى دور (العوامل الذاتية) الناشطة في هذا النمط من المجتمعات المأزونة سياسيا"والمتشظية اجتماعيا"، والتي غالبا"ما كانت معرقلا"أساسيا"ومعيقا"فعليا" لأواليات وديناميات (العوامل الموضوعية) المشارك الرئيسي في دفع تلك السيرورات لبلوغ مراحل النضج والاكتمال . بمعنى ان الخاصية الجدلية للوعي لا تني تعاكس الخاصية الجدلية للواقع، إذ كلما أمعنت عناصر هذا الأخير في انتهاج مسار التقدم الاجتماعي والاستجابة لضرورات التطور الحضاري، كلما عمدت أصول الكيانات والمكونات الانثروبولوجية الى تحريف سيرورات الوعي باتجاه تصورات وسرديات وسياقات سابقة، كان الواقع التاريخي قد أسقط شروطها وتجاوز معطياتها وتخطى علاقاتها، الأمر الذي يجعل من عمليات الانزياح عن القديم والانفتاح على الجديد صعبة وغير ممكنة، ان لم تكن باهظة التكاليف "سياسيا" و"اقتصاديا" و"اجتماعيا" و"ثقافيا" و"حضاريا".

وكحال الغالبية العظمى من المجتمعات التي لا زال ماضيها يقرر توجهات حاضرها ويؤطر توقعات مستقبلها، فان ما يعيق قدرة الجماعات والمكونات العراقية على التفكير بكيفية (عقلانية) ناضجة تتيح لها فهم ما يضطرم في رحم المجتمع من تقاطعات وتصادمات، واكتناه ما يشترطه الواقع الموضوعي من ضرورات واستجابات، والاندراج، من ثم، داخل سيرورات التقدم الاجتماعي وديناميات التطور الحضاري وتفاعلات الترقي الإنساني، بما يجعلها تواكب تلك التحولات القيمية من شأنها تسهيل عمليات التحول والانتقال من طور (التبربر) الى طور (التحضر)، وتمكنها من مجاراة تلك الانتقالات الحضارية من حقبة (التبدون) الى حقبة (التمدن)، بأقل قدر ممكن من العوائق بنيوية، أو الانقطاعات التاريخية، أو الصدامات أصولية، أو الارتدادات القيمية .

ولعل ما يثير الأسى في النفس ان الأصول الانثروبولوجية المتحكمة بأواليات بنى الوعي وأنماط الثقافة لدى الجماعات العراقية المتذررة، لم تبرح تمتلك من مقومات القوة والصلابة ما يمكنها من مقاومة التغييرات الاجتماعية ومناهضة التحولات الحضارية فحسب، وإنما يجعلها مصدر لا يستهان بدوره في إثارة المشاكسات الذهنية وخلق الممانعات النفسية، إزاء كل محاولة يبديها الوعي التقليدي للتخلص من قيود الرتابة التي تكبل تطلعه، والخروج من شرانق العطالة التي تعيق تحرره .

***

ثامر عباس

يعد النهوض بتدريس مادة اللغة العربية في مناهجنا وممارساتنا الصفية هو نهوض بالعملية التعليمية التعلمية ككل، لأن اللغة العربية هي لغة التدريس بالمغرب في كثير من المواد، ولهذا فإن أي تقدم حاصل في درس العربية، وفي أي مكون من مكوناتها سينعكس بالإيجاب على المتعلم في كل المستويات التعلمية. ولا يمكن أن نجوّد ونطوّر من دروس اللغة العربية إلا بالوقوف على تجويد وتطوير الممارسات الصفية وكيفية التعامل مع هذه المكونات وإعادة النظر في البرامج التعليمية.

إن تطوير تدريس مكون النصوص ضمن مادة اللغة العربية  في السلك الثانوي التأهيلي يستوجب الوقوف أمام متطلبات تلاميذ هذه المرحلة وفهم حاجياتهم وتعثراتهم، بشيء من العمق والتحليل والتفسير، لهذا ارتأيت أن يكون موضوع مقالي هذه المرّة؛ حول تدريس النص النقدي، لمعرفة الطريقة التي يدرس بها هذا النص، ومعرفة أهم الصعوبات والعراقيل والتعثرات التي تواجه تلاميذ السلك الثانوي التأهيلي في دراسته بشكل عام، وتلاميذ السنة الثانية بكالوريا آداب بوجه خاص.

للنص النقدي  مكانة جد مهمة في منهاج اللغة العربية بالتعليم الثانوي التأهيلي، إذ نجد نصوصا نظرية في بداية كل وحدة من الوحدات، يتم بها التمهيد للنصوص  الإبداعية، وقد اعتبرت نصوصا نظرية، بينما هي نصوص نقدية، تعرف بالخطابات الشعرية  وبأسسها ومقوماتها، وتمهد لها مثل نص انبعاث الشعر العربي لمحمد كتاني، ونص الشعر الرومانسي لعبد المحسن طه بدر، ثم نص قضايا الإطار الموسيقي للقصيدة لعز الدين إسماعيل، وأخيرا قصيدة الرؤيا لأحمد سعيد أدونيس. كما نجد في المجزوءة الأخيرة من  هذا المنهاج مناهج  نقدية حديثة في المجزوءة الرابعة وهما منهجين اثنين، "منهج اجتماعي وآخر بنيوي" ، كما نجد نوع آخر من النصوص وهي النصوص التطبيقية، التي تطبق آليات المناهج النقدية المدروسة في مقاربتها لنصوص الأدب. وبالموازاة مع مكون النصوص يدرس تلاميذ السنة الثانية بكالوريا آداب النقد في مكون المؤلفات أيضا، من خلال مؤلف نقدي "ظاهرة الشعر الحديث "لأحمد المعداوي المجاطي.

ما يواجهونه تلاميذ السنة الثانية بكالوريا آداب وعلوم إنسانية من صعوبات وعراقيل في دراسة النص النقدي، قد يكون راجعا لعدم التعرف على مثل هذه النصوص في السنوات السابقة بالطريقة المرجوة، الشيء الذي يحول دون تفاعلهم وتواصلهم الفعال مع هذه النصوص وفهمها فهما جيدا. كما يواجه المدرس أيضا مجموعة  من الصعوبات في تدريس هذه النصوص.

لقد تم تقسيم منهاج السنة الأولى بكالوريا إلى أربع مجزوءات أساسية، حيث يشترط في النماذج المختارة أن تكون ممتثلة لخصائص الفنون النثرية، ومبلورة للقضايا النقدية والأدبية ومساعدة على استيعابها بكل وضوح وجلاء. فموضوع المجزوءة الأولى: الشعر العربي القديم بين التعبير عن الذات والتعبير عن الجماعة. أما المجزوءة الثانية: الشعر العربي القديم ومظاهر التحولت، ثم المجزوءة الثالثة:  بنية النص النثري القديم ووظيفته. وأخيرا المجزوءة الرابعة: قضايا أدبية ونقدية، وتشمل نصوصا تجسد القضايا التالية: (عمود الشعر العربي، أغراض الشعر العربي، التخييل الشعري، اللفظ والمعنى، الطبع والصنعة، الموازنة بين الشعراء).

وقد تم تصنيف قضايا عمود الشعر، وأغراض الشعر، والتخييل الشعري، ضمن قضايا أدبية . بينما تم تصنيف قضايا" اللفظ والمعنى، والطبع والصنعة، والموازنة بين الشعراء، ضمن قضايا نقدية".

وقد اختيرت مجموعة من النصوص لدراسة هذه القضايا في "كتاب الممتاز في اللغة العربية": نص " عمود الشعر" للمرزوقي، المقتطف من مقدمته، شرح ديوان الحماسة. ثم نص الأغراض الشعرية لحازم القرطجاني. إضافة إلى نص التخييل الشعري لابن سينا.أما في كتاب النجاح في اللغة العربية فنجد النصوص الآتية: نص " أبواب الشعر" للمرزوقي. ثم نص "أغراض القصيدة العربية "لأبي محمد عبد الله بن قتيبة ضمن كتابه "الشعر والشعراء". كذلك نص "الصدق و الكذب على التخييل"، لعبد القاهر الجرجاني،  المقتطف من كتابه أسرار البلاغة. بينما اختيرت للقضايا النقدية في كتاب النجاح في اللغة العربية، النصوص التالية: نص اللفظ و المعنى، لعبد القاهر الجرجاني، المقتطف من كتابه دلائل الإعجاز، ثم نص المطبوع والمصنوع، لابن رشيق القيراواني المقتطف من كتابه " العمدة في نقد الشعر". دون أن أنسى نص الموازنة بين الطائيين في الافتتاح بذكر الوقوف على الديار، من كتابه "الموازنة". أما في كتاب الممتاز في اللغة العربية، فنجد النصوص التالية:

نص اللفظ و المعنى، لعبد القاهر الجرجاني.، نص الطبعة والصنعة لابن قتيبة، نص الموازنة بين أبي تمام و البحتري، للأمدي. كما تم اعتماد مؤلف نقدي لعبد الفتاح كيليطو "الأدب والغرابة.

أما النص النقدي في كتاب الجذع المشترك لم تول له أهمية بالرغم من وجود نصوص نثرية وشعرية قديمة تناسب توظيفه للتعريف بها مثلا وبخصائصها، على الأقل توظيفه في نصوص قديمة نظرية، أو أقوال نظرية مثلا في التعبير والإنشاء، وبهذا يتم التمهيد لنصوص نقدية من بعد. فهذا المنهاج لم يهتم بالنص النقدي لا في نصوصه الأساسية، ولا في التقديم للنصوص الشعرية. فقد كانت هنالك إمكانية لإدراج النص النقدي في مجزوءة من مجزوءات هذا المنهاج، وهي مجزوءة الحجاج، خاصة أن نصوص هذه المجزوءة تعتمد على الحجاج والإقناع، وذلك باقتراح نص نقدي حجاجي حول قضية من القضايا التي اختلف بشأنها النقاد القدامى، مثل قضية اللفظ والمعنى، وذلك بشرط أن يكون النص مناسبا لمستوى المتعلم.

فمؤلفي هذا الكتاب لم يعملوا على إدراج المناهج النقدية داخل هذه السلسة، فقد اكتفوا بمجزوءة الحكي والحجاج والشعر العمودي، و ونعتبر هذا تقصيرا في حق هؤلاء التلاميذ.

بعد تكوين صورة عامة عن مسارات النقد وكيفية إدراجه في البرامج الدراسية  في السلك الثانوي التأهيلي، أتساءل عن ما مدى نجاعة توزيع النصوص المختارة التي ذكرناها سابقا؟.

للكتاب المدرسي أهمية كبيرة في العملية التعليمية التعلمية، وذلك بكونه "وسيلة ديداكتيكية منظمة لمحتوى مادة دراسية حددت موضوعاتها مسبقا انطلاقا من أغراض وأهداف معينة، حسب برنامج دراسي يلزم المدرس والمتعلم تطبيقه." فالكتاب المدرسي" ليس وسيلة فقط، بل هو جوهر العملية التعليمية التعلمية لكونه هو المحدد الأساسي للمعلومات التي ستدرس للتلاميذ كما وكيفا" .

أول ما سجلته من  ملاحظات في هذا الصدد تتعلق  بعدم إدراج النقد الأدبي في الجذع المشترك، أي السنة الأولى من السلك الثانوي التأهيلي، وهو ما ينتج في نهاية السنة متعلما غير قادر ولا يملك الاستعداد الكافي لتحليل نماذج النصوص النقدية في السنة الأولى بكالوريا، والتي كتبها نقاد بارزون في الساحة النقدية، فإذا كان هذا التغييب للنقد الأدبي في الجذع المشترك ،نظرا لأن مستوى التحصيل العلمي أو الاستعداد الإدراكي للمتعلم لا يسمح، فنصوص الأولى بكالوريا تضعف هذه الفرضية، لأن النصوص النقدية المختارة في السنة الأولى بكالوريا تتطلب متلقيا له دراية ومعرفة مسبقة بالنصوص النقدية العربية القديمة، وهذا الشرط للأسف لا يتوفر لا في التلميذ القادم من السنة الأولى من السلك الثانوي التأهيلي، ولا في تلميذ السنة الأولى بكالوريا الذي تراكمت عليه المجزوءات الثلاث، وما احتوت عليه من قضايا. وكل هذه القضايا التي تم طرحها في هذا المنهاج لم تراعي الفئة المستهدفة لأن النقد القديم يحتاج أولا إلى وقت طويل في عملية تدريسه، فالمتعلم هنا عليه أن يعرف المراحل الكبرى التي قطعها النقد  الأدبي خلال عصوره المختلفة، ومن جهة أخرى فهذه المواضيع في حاجة لقدرة التلميذ على التفكير النقدي.

وهذا صعب لأنه يحد من فاعلية تلقيه لمثل هذه النصوص، فالتلميذ لم يصل بعد إلى الحد الذي يتوفر فيه على أدوات تساعده على فهم وسبر أغوار هذه النصوص.

والسبب الرئيسي هنا يعود بالدرجة الأولى إلى طبيعة الموضوع النقدي من ناحية، وطبيعة النصوص المختارة الموجهة لهذه الفئة من التلاميذ من ناحية أخرى. كما أن التقسيم الذي تم اعتماده في هذا المنهاج لا يبدو مقنعا، لأن العناوين المدرجة ضمن ما اصطلح عليه ب"قضايا أدبية" وهي قضايا نقدية أيضا، بغض النظر عن ذلك فالمتأمل لهذه النصوص، يلاحظ أنه تم حذف فقرات مهمة من النصوص الأصلية، وتم التصرف فيها، ما يؤكد عدم مراعاة شروط النقل الديداكتيكي، وعدم المحافظة على وحدة النص النقدي وتماسكه، ومن زاوية أخرى فالطابع الطاغي في الكتاب المدرسي الخاص بالسنة الأولى بكالوريا هو طابع تكريس المعلومات، وشحن ذهن التلميذ بالمعارف الجاهزة، دون أن تترك له الفرصة لتنمية طاقاته وممارساته النقدية والتحليلية التي من الممكن أن تفتح أمامه فرصة للتفاعل مع النص الأدبي.

ولعل هذه الملاحظات المسجلة في مكون النصوص تنطبق على مكون المؤلفات أيضا، فيمكننا مناقشة كتاب "الأدب والغرابة" الموضوع في السنة أولى بكالوريا  الذي لم يكن اختياره صائبا، ولا متوافقا مع أفق انتظارات المتعلمين، ففي هذا المؤلف النقدي يشرح ويبسط عبد الفتاح كيليطو آراءه الدقيقة حول الأدب، والنوع الأدبي، وتصنيف الأنواع وشرحها وتوضيحها شرحا تاما، وبحث في تاريخ الشاعر وفي البلاغة، وغيرها من المفاهيم الإشكالية، إضافة إلى تقديمه تحليلات تأويلية طريفة لنصوص من التراث القديم.

والمؤكد أن الهدف من كتاب كيليطو هو تثبيت المعرفة النقدية، أما بالنسبة لقارئ هذا المؤلف فوجب أن تتوفر فيه مجموعة من الصفات لكي يفهم ما يرمي إليه المؤلف، منها توفره على ذاكرة معرفية غنية، لكي يكون قادرا على مواكبة ما يقدم له من معرفة نقدية. ولعل هذا الشرط لا يتوفر إلا في القارئ المتخصص، الذي له تجربة كبيرة في قراءة كتب النقد والأدب وغيرها من العلوم والمعارف الإنسانية العامة. لكن هل يجدر بنا إقراء هذا الكتاب لمتعلمين لم يسبق لهم أن اطلعوا على أي كتاب نقدي في تجربتهم القرائية؟ فالإجابة واضحة جدا. وهي أن هذا الاختيار كان غير صائب بحكم معارضته للمبادئ التربوية، التي تؤكد على مراعاة التوافق بين المعرفة وسياق التعلم ومستوى المتعلم.

ومن الجدير بالذكر أن هذه الاختيارات غير الصائبة تحول دون تحفيز وتشجيع التلاميذ على القراءة والمطالعة التي يعاني سياقنا التعليمي من النقص فيها، ذلك أن المتعلم في حاجة ماسة إلى معرفة أفكار يفهمها وتتناسب مع قدرته الاستيعابية والمعرفية، وإذا فرضت عليه مثل هذه المؤلفات التي لا يفهمها يهجر قراءتها، ويستعين بالكتب الموازية لمجاراة أنشطة الفصل عبر التلخيصات والأعمال الجاهزة على الشبكة الإلكترونية.

وبخلاف ما يتوفر في برامج الأولى بكالوريا، تبدو الدروس النقدية المقررة بالسنة الثانية بكالوريا، ملائمة لسياق التعلم، وذلك عائد  حسب وجهة نظرنا إلى الارتباط الوثيق بين النصوص النقدية والإبداعية، فقبل أن يشرع المتعلم  في سبر أغوار خطاب من الخطابات الإبداعية، يطلع على نص نقدي /نظري يقدم ذلك الخطاب ويعرف به ويبين خصائصه ومقوماته. وهذا يتكرر مع ستة  خطابات  إبداعية في الكتاب المدرسي "الخطاب الشعري الإحيائي، الاتجاه العربي الرومانسي، تكسير البنية الشعرية، القصة القصيرة، المسرحية"، كما هو الحال في الخطابين النقديين الأخيرين "المنهج البنيوي والاجتماعي" يتعرف المتعلم على نصين نظريين يقدمان المنهجين المقررين قبل الانتقال إلى تطبيقهما على نصوص أدبية، ولعل النقطة الإيجابية في هذا الترابط بين النقد وموضوعه، تتحدد في تقييد النص النقدي بموضوعه الأساسي وتوضيح وظائفه في صورة عملية تطبيقية في المقام الأول. ناهيك عن التكامل بين محتويات المؤلف النقدي "ظاهرة الشعر الحديث" ومحتويات الدروس الشعرية في مكون النصوص، فمن خلال تظافرهما المعرفي والمنهجي، تتكون الصورة العامة للتحولات التي عرفها الشعر الحديث سواء على مستوى السياق أو البنية أو الموضوع. وأخيرا تم اختيار نصوص ملائمة في عمومها في مستويات اللغة والبناء وطريقة التقديم. لكن ما يؤاخذ على هذا المنهاج هو الحيز (داخل الكتاب/ المقرر) الذي وضعت فيه المناهج النقدية، باعتبارها مناهج جد مهمة وسيمتحن فيها تلاميذ السنة الثانية بكالوريا.

وما ينبغي التأكيد عليه في هذا المبحث أن اختيار نصوص النقد بما فيها المؤلفات وكيفية إدراجها وتوزيعها في الكتب المدرسية، هما عمليتان تخضعان لرؤية قائمة على مستوى المتعلمين وتحصيلهم الدراسي، واستعدادهم للتلقي المعرفي والمنهجي، هذا بالإضافة إلى ضرورة الانتباه إلى التكامل مع المكونات الدراسية داخل مادة اللغة العربية ككل من جهة أولى، ومن جهة ثانية ضرورة الانتباه إلى التناسق المرحلي المتدرج في المعرفة النقدية المقدمة إلى المتعلم من جهة ثانية.

إذن هذه من أهم الأسباب الكامنة وراء نفور التلاميذ من النصوص النقدية، فالنصوص النقدية لا تراعي أفق انتظار التلاميذ في عملية التلقي  والتقبل، فإن قمنا بوصف عام للمناهج النقدية، والوقوف على ما تم تقديمه في المنهاج الدراسي من قبل المؤلفين من نصوص نظرية وأخرى تطبيقية، فإنّ أول ما يمكن ملاحظته هو الحيز المكاني الذي وضعت فيه هذه المناهج، حيث ساهم هذا الحيز بطريقة غير مباشرة في عدم تفاعل التلاميذ معها، خاصة وأن تلاميذ السنة الثانية بكالوريا مطالبين بامتحان وطني، لذا فهم يغادرون المؤسسات التربوية قبل إنهاء المقررات الدراسية، نظرا لكثرة الدروس مقارنة مع عدد الحصص، وإن تم إنهاء المقرر يتم بسرعة دون فهم أغلب التلاميذ لهذه المناهج ودون الوقوف على تعثرات التلاميذ فيها. من الممكن أن نقترح هنا أن يعتمد المتعلم على نفسه في البيت ويتمم المقرر، لكنه لا يمتلك ما يكفي من الكفايات التواصلية التي ستساعده على فهم وشرح وتحليل هذه النصوص بشكل فردي.

أما بخصوص الطريقة التي قدمت بها هذه المناهج فكان من الأفضل تقديم المنهج البنيوي على المنهج الاجتماعي، خاصة وأن المتعلم يجد صعوبة في فهم هذه المناهج وخاصة المنهج البنيوي لأنه لا يكشف عن كل ما بداخله، بل وجب على المتعلم أن يقوم بالكشف عن أسراره.

أما بخصوص نصوص المنهج الاجتماعي كما هو معلوم، فهذا المنهج انبثق من رحم المنهج التاريخي فالسؤال المطروح هنا إلى مؤلفي الكتاب المدرسي، بما أن التعريف الذي تم تقديمه في الكتاب المدرسي للمنهج الاجتماعي يوضح العلاقة بين المنهجين فلماذا تم فصل المنهج التاريخي عن المنهج الاجتماعي، ولم يتم دمجهما معا، ففي الممتاز على سبيل المثال تم وضع عنوان عريض للمنهج الاجتماعي، ما يعني أن نجد نصوصا تجاوز بين الاثنين والتي تدل على عدم الاختيار الصحيح للنصوص.

أما فيما يخص التمهيد الذي وضع في الكتاب المدرسي بمثابة إطار عام للتعريف  بالمناهج، فلم يتم فيها شرح بعض المصطلحات النقدية التي سيجد التلميذ صعوبة في فهمها. فالتمهيد هو اللبنة الأولى التي سيبني فيها التلميذ معارفه بخصوص هذه المناهج، أي ليست لديه معرفة مسبقة بها، والتمهيد هو المنطلق الأساسي الذي سيستطيع التلميذ أن يبني من خلاله أرضية معرفية للتفاعل مع النصوص المقررة داخل المنهاج الدراسي.

من وجهة نظري فالنصوص المقررة في الكتاب الدراسي الخاص بالسنة الثانية بكالوريا، هي نصوص تدرس بطريقة سكونية تقدم المعارف الجاهزة للتلميذ، وذلك كله من خلال التعريف بالكاتب وحياته وبمؤلفاته، انتقالا إلى الشرح اللغوي أي شرح الكلمات الصعبة، وصولا إلى القراءة المنهجية بمختلف مراحلها، وهذه الطريقة وإن كانت تدل على شيء فهي تدل على تلك المعارف التي وجب على التلميذ أن يكون على دراية بها، ما يمكن التلميذ من الحصول على كل شيء دون أي مجهود وفي نفس الآن لا يحصل على شيء. في حين أن إشراك التلميذ في العملية التعليمية لبناء تعلماته مهم جدا، وأول ما يشترط في هذه العملية هو أن يقرأ التلميذ تلك النصوص الأدبية قراءة منهجية وتحليلها وفهمها، باعتباره هو محور أساسي وطرف رئيسي في العملية التعليمية التعلمية، وليس مجرد مستهلك ومتفرج سلبي.

أنسل من هذا المنعطف وأحاول اقتراح حلول تم استنتاجها مما سبق؛  فتطوير وتجويد الممارسة الصفية يرتبط بالمدرس، المدرس/ة له الدور الأكبر  في نجاح تدريس النص النقدي، فهو وحده الذي يستطيع بتجربته وخبرته وممارسته للمهنة، أن يعالج الثغرات والتعثرات الحاصلة في اختيار النصوص المقررة، وكذلك اختيار الطريقة والمنهجية المناسبة من أجل نقل ديداكتيكي فعال لهذه النصوص هذا من جهة، ومن جهة أخرى دور المدرّس/ة يتضح جليا في تحفيز المتعلمين وتشجيعهم على تلقي هذا النوع من النصوص، عن طريق تشويقهم إلى أهميتها ووظيفتها في إضاءة النصوص الإبداعية. كما أن دوره يتضح أيضا في قدرته الخاصة على الربط بين المجزوءات، ووضع المتعلمين  في سياق النص وربط هذا النص بعلاقاته مع النصوص الأخرى.

هذا دون أن أنسى التدرج في وضع النصوص النقدية في الكتاب المدرسي والتمهيد لها منذ السنة الأولى من السلك الثانوي التأهيلي. وذلك عن طريق إضاءة النصوص الشعرية والنثرية بنصوص نقدية في بداية كل مجزوءة تعرف بها، أو أقوال نقدية لبعض النقاد في مرحلة القراءة المنهجية، أو أنشطة التقويم. كما أشير إلى اختيار نصوص نقدية ملائمة للفئة المستهدفة ولمستوياتهم المعرفية، وعدم التصرف في النصوص المختارة بشكل يخل بتماسك أفكارها ووحدتها. وإن كان من الضروري التصرف فيها فينبغي أن يكون هذا الأخير لأهداف تربوية وبيداغوجية.

كما يجب الحرص على الربط بين النصوص النظرية النقدية والنصوص الإبداعية، حتى يدرك المتعلم أن الهدف من النصوص النقدية هو التعريف بالنصوص الإبداعية وتقويمها والكشف عن عناصرها الفنية ومقوماتها. ثم مراعاة الترابط والتكامل بين المجزوءات والوحدات، وذلك بأن تكون النصوص النقدية تعالج قضايا تنسجم مع النصوص الإبداعية في منهاج السنة الأولى بكالوريا من سلك الثانوي التأهيلي، كما هو الحال في منهاج السنة الثانية بكالوريا من شعب الآداب والعلوم الإنسانية. إضافة إلى  النقل الديداكتيكي للنصوص الذي يجب أن يكون  ملائما، وذلك بنقل النص من سياقه النقدي الأدبي، إلى سياقه التعليمي مسطرا في ذلك مجموعة من الأهداف الواضحة ومراعيا في ذلك المستوى المعرفي للمتعلمين، معتمدا طرقا ومنهجيات واضحة تمكن المتعلم من أن يتعلم ما ينبغي أن يتعلمه، من أجل بلوغ الأهداف المرجوة والوصول إلى الكفايات الموضوعة .

***

من إنجاز الأستاذ: لوطة فؤاد

تنهمك الدول النامية وغالبية دول العالم الثالث بوضع خطط للتنمية في بلدانها سواءً أكانت غنية أو فقيرة في مواردها، ورغم أن بعضها حقق نجاحات عمودية في مجالات التصنيع أو الزراعة إلا أن غالبيتها أغفلت جوانباً غاية في الأهمية تلك التي تتعلق بنوعية الإنسان وأدائه الإنتاجي والاجتماعي والسياسي ودوره في عملية التطور النوعي للبلاد في مختلف القطاعات. وباستثناء مراكز المدن المهمة التي تتكثف  فيها الأنشطة الثقافية والسياسية والجامعية، فإن غالبية ما حولها من بلدات وقرى وتجمعات بشرية تعاني من إشكاليات معقدة في نظامها ووضعها الاجتماعي والوطني وما تمتلكه من ثقافة وتعليم، ناهيك عن ارتفاع مخيف في نسبة الأمية الأبجدية والحضارية رغم التقدم الهائل في وسائل التواصل والإنترنت، إذ ما يزال إهمال الدولة والإرث الاجتماعي الثقيل متكلساً في السلوك والعادات والتقاليد المرتبطة منها بالأديان والمذاهب أو بالأعراف الاجتماعية، ناهيك عما تفعله الأميّة والبطالة والفقر المدقع في تشويه وإلغاء مفهوم جامع للمواطنة والانتماء الموحد للوطن، حيث يُذيب الفقر وتدني المستويات المعيشية وانعدام العدالة كل هذه المفاهيم في المواطنة والانتماء والولاء بل يلغيها لصالح مفاهيم وتركيبات أخرى لا علاقة لها بالوطن والأمة.

إن عملية التحول للنظام الديمقراطي ليست قراراً تتخذه هيئة عليا في البلاد أو يتضمنه دستور دائم، بقدر ما هي نهج تربوي وسلوك اجتماعي، وليست ممارسات سطحية لا علاقة لها البتة بالفكر والنظام الديمقراطي، بل إن ما نشهده اليوم في بلداننا لا يتجاوز كونه ديمقراطيات فوقية تحاول اختزال هذا الفكر والنظام بعملية تبادل مواقع السلطة عن طريق الانتخابات التي تخضع لذات الأدوات التي استخدمتها النظم الشمولية في الشرق الأوسط والعالم الثالث في مجتمعات تعاني من ضعف في التعليم وأميّة بأشكالها المتنوعة تسود قطاعات واسعة من الأهالي في المدن وبشكل أوسع في الأرياف، وهي التي تنتج حينما تجتمع جميعها أمية وطنية.

ولا شك بأن هناك عاملين مهمين يعملان على إضعاف واضمحلال الثقافة الوطنية التي هي القاعدة الأساسية للنظام الديمقراطي؛ هذين العاملين يستخدمان كأدوات وسلالم لتسلق السلطة، وهما الشحن الديني أو المذهبي أو التكثيف العشائري، وفي الحالتين يتم مسخ النظام الديمقراطي وإضاعة فرصة لبلورة مفهوم جامع للمواطنة خاصة في البلدان متعددة المكونات العرقية والقومية والدينية والمذهبية، حيث تتلاشى فكرة المواطنة أمام الجهالة والضبابية في مفهومها الذي يُقزم البلاد ويختزلها في عرق أو قومية أو دين أو مذهب أو قبيلة أو فرد، وهي برأيي واحدة من امتدادات البداوة وتراكم التخلف والتجهيل المتعمد من قبل معظم الأنظمة التي تسلّطت على البلاد، وذلك من خلال عمليات غسل الأدمغة وتسطيح العقول الذي تعرض له المواطن طيلة عشرات السنين خاصةً في العراق منذ قيام مملكته مطلع القرن الماضي وحتى تقزّيمها في حزب أو عرق أو دين أو مذهب؟

إن ما يواجه العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان ومن ماثلهم في التكوين السياسي والاجتماعي اليوم ليس إرهاباً منظماً وتدخلات مخابراتية وسياسية أجنبية بقدر ما هو هذه الحاضنات الأمية والعقلية المسطحة التي أصبحت بيئة صالحة لانتشار الفساد والعصابات والميليشيات وأفواج من الإرهابيين والقتلة وتجار السياسة والمخدرات، تحت خيمة الولاء الديني والمذهبي والعنصري خارج أي مفهوم للانتماء الوطني الجامع خاصة في بلدان تعج فيها المكونات العرقية والقومية والدينية والمذهبية.

بلداننا اليوم بأمس الحاجة إلى تنمية الإنسان وتأهيله وطنياً أكثر من حاجتها الى تنمية في مجالات أخرى، لأن تنميته وتأهيله هي القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها كل تنمويات البلد، وبدونها لا يكتمل إعمار ولا تصنيع ولا إنتاج، إنها حقاً عملية إعادة تأهيل مجتمعاتنا بدءاً من رياض الأطفال وصعوداً حتى البرلمان!

***

كفاح محمود

سُئل قائد الهند العظيم المهاتما غاندي ما هي أحسن لحظة عشتها في حياتك ؟ فأجاب هي اليوم، أما اذا سئلت العربي والمسلم نفس السؤال يقول لك: هي عصر الاسلام الذهبي، عصر الخلفاء الراشدين، والأمويين، والعباسيين، فالماضي محفور في مخيلته حاجزا عنه صيرورة التاريخ، هكذا علمه منهج الدراسة. فحين يسود عصر الفقه الوهمي يختفي الوعي ليحل محله عصر الفوضى والجهل والتدمير، وهذا هو تاريخنا الاسلاي المكتوب.

وحين يسئلون عن عهد الخيانة للسياسيين الحاكمين عند المسلمين اليوم، نقول لهم منذ وفاة صاحب الدعوة، هذه حقائق التاريخ على المؤرخ ان يعترف بها امانة للتاريخ، فالوطن والانسان ينادي المؤرخ ضرورة الاعتراف بحقيقة فساد قلم المؤرخ والفقيه بعد ان دمرنا تاريخ السلطة ورجل الدين، وحولنا الى أكذوبة التاريخ، فالسلطة لهم والمال سائب لا مالك له في الوطن، انهبوه كيفما شئتم وهذا ما حصل ويحصل اليوم في وطن العراقيين دون قانون، أرث قديم حفره فكر التراثيين فينا وحسبناه دين.هنا يبرز دورالمنهج الأخلاقي في صحوة الوعي العقلي للتغيير، فأين المنهج الجديد، ؟

واليوم تظهر أول بادرة حضارية في عهد المسلمين حين ينبري الامير السعودي الشاب محمد بن سلمان ليقضي على اسطورة البخاري والتوجه نحو الاسلام الصحيح اسلام الحرية الحقيقية والدولة المدنية الدستورية، حاكم شاب يؤمن بالحداثة ويلغي من فكره التخلف والتخريف، لتنتهي الى الابد نظرية:"اعتزل الفتنة وصلي خلف الغالب" لأنهاء صحيح البخاري كذبة التاريخ، ونأمل ان يتوسع العمل لنكتب لنا تاريخ جديد قائم على الحق والعدل لا على باطل فقهاء الدين، فمتى نعرف خطي القوة والضعف عند المسلمين ونميز بينهما.

للضعف أصول، وللقوة أصول،

اصول الضعف ظهر مباشرة بعد وفاة صاحب الدعوة، وبدء التعامل مع الواقع الجديد حيث أصبح النص الديني لا يشكل المعيار الوحيد للسلوك السياسي، حين ظهرت العصبية التي تحيط بالحاكم، فبدء التزييف للتاريخ بما يناسب حاجة الحاكم المطاع، وبالتدريج اصبح الفقه خادم للسلطة فبدأ نظريات التبرير، حتى اصبح الحاكم الظالم وفق التنظير الجديد أفضل من انعدامه، فبدأت مظاهر هذا الاتجاه تبرز للعيان كقائد، فقلت جهة مابين الحياد وصاحب السلطة التي لجأ اليها كل متردد وضعيف.

والمظهر الثاني للضعف هوظهور تيار الارجاء، الذي كان نموذجا لخط الضعف وضياع الحق بالتقادم بعدان تم الوقوف مع صاحب الشوكة والاستسلام للمنتصر وان كان ظالماً.وظل النص يفسر لصالح صاحب السلطة، من هنا ولكي تستمر حالة الضعف أبتكروا نظرية أيقاف الاجتهاد وتقريب علماء الجبر وتشجيع فكرة القدر، اي ان ما حصل ويحصل مربوط بقضاء الله ولادخل للانسان فيه.:"وما تشاؤون الا ان يشاء الله، وهنا اصبح لا يصح انينسب الفعل الى فاعل غير مختار.

مثل هذا التوجه في العصر البويهي "334هج" الكليني صاحب كتاب الكافي والشيخ المفيد في كتابه الارشاد والطوسي في كتابه الاستبصاروكان تمهيدا لظهور علم الاصول ونمو حركة الاستنباط الفكري.بغيةالابتعاد عن عصر النصوص املا في الانفراج الذي اعتبروه تحديا علميا وفكريا لنظرية المذاهب وتشجيع علم الغيبة أملا بابعاد شرعية الخلافة العباسية واحلا التوجه العلوي.والهدف سياسي بحت لا ديني، وفي عهد كاظم اليزدي الذي مثل سلوك الضعف والطاعة للسلطة والتهاون مع الاحتلال البريطاني للعراق عام 1918 وطرد العثمانيين من العراق.

وهكذا فشل الفقهاء من نقل المبادىء الدينية الى تشريعات مطبقة.

ثم جاء العصر السلجوقي "450هج"الذي مهد لعصر الاستبداد والطاعة متمثلا بالماوردي" 450هج" حين اسس لنظريةاهل الحل والعقد الذين يضعون على البيعة واجب الطاعة والنصرة، والغزالي"ت505هج" ونظريتهالاعتراف بالسلطة القائمة لأن البديل هي الفوضى حتى لو كانت الخلافة غير مستوفية لشروط العقد وعدم محاربة استقرار الظلم والباطل وجاء من بعدهم ابن تيمية "ت728 هج" الذي اجاز فصل الدين عن الدولة يعني الفوضى".هؤلاء كلهم اسسوا لنظرية الفقيه السلطوية الدكتاتورية دون الشرعية.

وهكذا فشل الفقه وسلطتهم الجائرة من تحويل المبادي الدينية الى تشريعات مطبقة حتى استبد الضعف بالشعب حين جعلوا من الغنيمة بديلا للسيف، ومن المداورة بديلا للسياسة , ومن التبعية بديلاعن المشاركة.

ان أخفاء الوثيقة النبوية الدستورية طَمس التشريع في عهد الامويين والعباسيين لتعارضه مع حكم الغاصبين."فجاء الحكم العضوض" الذي يتداوله الحالكم الدكتاتوركما اسلفنا، فلم يعد قانون الشورى له مكانة الاحترام و التثبيت، فقامت الدولة على السيف والغاصبين والمُغتصبين، فكيف نطلب من سلطة الباطل اليوم تغييرحقوق الاجيال القادمة وهم بالقانون لا يؤمنون وبرسالة محمد لا يعترفون، وعن عصر التيقن بعيدين،؟.

هكذا ظهرت سلطة الاسلام التي يتباهون بها الفقهاء اليوم، سلطة بلا دستور ولا قانون، ولا حتى اخلاقية الحكم، فعن اي اسلام يتحدثون اليوم، اسلام مرجعيات الشيعة ام السُنة المبتدعة من الفقهاء دون تأويل، أم الداعشيين.

من هنا توقفت الدعوة الدينية ولم يعد لها من تأثير مباشر في التغيير، بل ظلت كعقيدة دينية مقدسة يفتي فيها الفقيه دون تأصيل.؟ أدخلت المنهج الدراسي واصبحت عند الطالب حقيقة دون تأصيل.حتى مات فينا اي أمل في التغيير.وها كما ترون اليوم كيف يتحكم الجاهل والعدو في حياة العراقيين.

وبهذا التاريخ المظلم الذي بنيناه فقدنا العقلانية الاخلاقية والدستورية والعلمية، وحقوق الانسان، فسمينا عصرنا بالعصر الاسلامي الذهبي، وان الاسلام هو الحل، "ولا ندري أي حل يقصدون، حل فقدان القانون، أم حل جز الرقاب، أو وما ملكت أيمانكم بأهانة المرأة وبيعها سلعة في سوق الاربعاء وتقديمها هدايا بين المتنفذين.

فحلت صناعة المؤمن الجاهل، بدلامن صناعة المواطن المخلص (أنظر تخريب التعليم)، وصناعة السيف، بدلا من صناعة القانون (انظر صناعة قتل العلماء والمفكرين، حين ادركوا ان أمتزاج الدين بالسياسة ينتج عنهما الأستبداد الكبير وخضوع الشعب بالترهيب. وهذا هو هدفهم في تفريق الحقوق ولا غير، كما نراه اليوم في سلطة الحاليين الذين حولوا الدولة الى عملية سياسية لأماتة مفهوم الدولة دون قانون، ومن أمثالهم كثير، حتى اصبح المواطن يعامل على اللقب والاسم والقبيلة،

على الكتاب والمؤلفين ان يبحثوا لنا بجدية البحث العلمي الرصين لا ان يجتروا في كتاباتهم واطاريحهم الجامعية والقصص اليومية والشعر الحديث، التراث الميت القديم، اذن لماذا نحن متخلفون عن بقية العالم الى اليوم حتى في الحقوق والواجبات.لكننا شطار حين نرفع شعار، الأسلام هو الحل" ولا ندري أي اسلام يقصدون، ؟ اسلام قيادات الشيعة اوالسُنة الفاسدين، ام داعش الاجرام، أم قتلة العلماء والمفكرين، قللوا ايها المثقفون من كتابات واطاريح التراث واتجهوا نحو حقيقة التغيير.مسئولية وطنية تقع على عاتق اساتذة الجامعات اليوم بالذات بعد ان اصبحت قيادات التعليم العالي تحتلها اللاكفاءات في التنفيذ من اصحاب شهادات التزوير.

ليس امامنا اليوم الا ما جاءت به الوصايا العشرلكتب السماء في كل الديانات في العدل والحرية والحقوق، "الأمن والأمان والأطمئنان والكفاية والعدل " لترفع عنا: نظرية الخوف، والهزيمة امام التجربة الاسلامية الفاشلة، ويرفع عنا اليأس والحزن والضعف من الفشل الروحي الكبير،؟ ولا يتم هذا الا بتغيير الرأي الفقهي الخاطىء الى علم تقني صحيح.

نعم، نحن نمر اليوم بمرحلة الجهل المطبق الذي خلفته لنا مؤسسة الدين منذ البداية ودكتاتوريتها الباطلة في التنفيد، التي فرقت المجتمع الى فرق واحزاب متناحرة 73 فرقة في النار الا واحدة ولا ندري من اين جاءت بالغيب الواحدة، والغيب محدد برب العالمين، احاديث مزورة أخذتها من مسلم والبخاري وبحار الانوار (أفة الاسلام الصحيح) وابن ماجة والاخرين المزورين فاضعفت الرابطة الانسانية والاحتياجات الاجتماعية والمالية فحل التذمر بدلا من الاخوة والوئام، والظلم بدلا من العدل، والخوف الدائم بدلا من الأمان، والسيف بدلا من القانون، والتخلي عن المُثل والقيم بدلا من الصدق واستقامة الصادقين.؟

ايها الناكثون للزمن والتاريخ، كنا نامل من التغييرالجديد حياة حرة كريمة سعيدة لحياة المشردين لا ان تحكمنا زمر الخيانة والفساد وقتل المخلصين.

ايها الحاكمون الباطلون: ان اوجه النفاق عندكم تتفاوت اليوم من نفاق اجتماعي الى سياسي ال ديني الى اخلاقي.حتى تلاحمت الاوجه كلها عندكم فلم نعد نفرق بينها فيكم، اصبحتم مزيجا مأساويا من مثالب تنخرسمومها في مجتمعاتنا البائسة، فتحولت الدولة الى عملية سياسية لصيقة بالخائنين، تتباهون بالسرقة و نظريات التفليش"مع التافهين.فلم يعد الاصلاح ينفع معكم الا بأجتثاثكم كما يجتث الفساد من عروقه مع الفاسدين، فمثلكم تعايش مع الباطل لا يعرف حقوق القانون، فأبقوا في المظالم سادرين، فحسابكم غداً عسير،

خذوا الثراء لكم ايها الفاسدون، وأعطونا الوطن، نحن ثراؤنا بمحبة الوطن والاخلاص له رصين، بالحب الصادق مع الاخرين الذين يحبون انسانية الانسان مؤمنين، سيبقى الوطن ثراؤنا وستبقون انتم في مذلة التاريخ.

حتى الطيور اصبحت لا تغرد في بلادي من جراء الفساد، بل تتذمروتزغزغ باصواتها تنادي بأزاحة الغمة عنها وعن الناس اجمعين، حتى اصبحت قصص القرآن الكريم التي نرددها، كل يوم

قديمة، تحتاج، الى تجديد،

***

د.عبد الجبار العبيدي

قالَ اللهُ تعالى: ﴿إِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾ [المنافقون: 4].

إنّ السُلوكَ الإنساني وما يُظهره من أفعالٍ، أو يُضمره من خَلَجات في نفسه، إنَّما هو في حقيقتهِ انعكاسٌ لطهارةِ النَّفسِ وَصَفائِها، أو إِتِّساخها وَتَكَدّرها. فالنَّفسُ إذا ما تَزَكّت وَصَلُحَت وَطَهُرت صَلَحَ بها السّلُوك وَسارَ بها الإنسان آمناً مُطمَئناً على المَحَجّة البَيضاء نَحوَ الخَير والصّلاح، وإنْ هِيَ تَشَبَّعت بالأوهام وفَسَدَت بالآثام وخضعت للغرائز الدنوية، كالأنا والغُرور وطَلَب الزّعامة والسلطة، فَإنَّ منسوبَ النّفاق والدَّجل حينها سيرتفع، وستتّسع معه الهُوَّة والتّناقض بين الظّاهر والباطن.

فالنّفاقُ أشدّ المصائب ضَراوة وأعظمها فتكاً بالإنسان، فحالَة الصّراع الداخلي التي يعيشها المُنافق هي خُلاصة الفراغ في مخزونه الرّوحي. والمنافقون هُم أهلُ الغِشّ والخِداع، مَنهَجُهُم قَلب الحَقّائق وتزييفها؛ يَسْتَميلون النّاس فَيَخدعونهم بِحَلاوة اللّسان وَلِباسَ الإيمان؛ يُظهِرُونَ خلافَ ما يضمرون؛ يُبعّدون القريب ويُقرّبون البعيد؛ يُطنطنون بكلمات الحَقّ ويكتمون الباطل؛ يستعينون بلباسِ الرّهبان وحلاوة البيان، ليخدعوا به الجهّال باسم الدين والقرآن. رويَ عن أميرِ المُؤمنين عَليّ (عَلَيهِ السّلامُ) أنَّه قال: " ولَقَدْ قَالَ لِي رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ إِنِّي لاَ أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِناً ولاَ مُشْرِكاً أَمَّا اَلْمُؤْمِنُ فَيَمْنَعُهُ اَللَّهُ بِإِيمَانِهِ وأَمَّا اَلْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ اَللَّهُ بِشِرْكِهِ ولَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنَافِقِ اَلْجَنَانِ عَالِمِ اَللِّسَانِ يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ ويَفْعَلُ مَا تُنْكِرُونَ ."1

فهؤلاء لا يفتأون يتجرَّؤون على اللهِ تعالى، وَمَا عَلِموا أنّه تَبارَك وتعالى خادِعُهُم، وأنَّهم لا مَحال سيسقطونَ في مستنقع مَكرِهِم، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 142].

إنَّهم لا يذكرون اللهَ تعالى إلا رياءً، ولا يَعبدوه إلا طَمَعًا؛ دَأْبهم التّضلِيل وَلأحكامِ الله وَشرعِه التّعطيل، فَكانَ جَزاءهم أنْ أعقَبَهُم اللهُ نفاقاً في قُلُوبِهِم، قال تعالى: ﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [التوبة: 77]. فَهُم كالأنعام يَهيمُون، وفي حَيرَةٍ يترددون، هَمّهم عَلَفهم، وشغلهم شهواته، وغايتهم رغباتهم.

يكفرون بقارونَ في العَلَنِ وَيَسيرونَ على نَهجهِ في السرّ، يهرولون كالجياع نحو المكاسب الدنيويّة والمغانِمَ الشيطانيّة، وقد مُلئَت بطونهم من المالِ الحرام، حتى قَبَعوا أذلّاءَ خاسِئينَ خَلفَ قُضبانِ سِجنِ الهَوى والنَزوات الحيوانيّة، فانسَلَخوا عَن آدَمِيَّتهم لِيَعيشوا تَثاقلاً ونفوراً عَن كُلّ ما يُقَرّبهم إلى الله تعالى، ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 23].

إنَّ التحرّرَ مِن عبوديّة الدُنيا، والخروج مِن مَحدوديّة الأَنا، والسَّير نَحو فضاء الصدق والاخلاص يستدعي إستنهاضاً كبيراً للنّفس لِكَي تُلامِس روحَ وَجَوهرَ العِبادة، وَتبتَعِدَ عَنِ النّفاق والخداع، فحينها فقط سَتَطهَر من جميع العلائق، وتَعبر مَجتازة جميع الحواجز والعوائق، وتسير بثبات واطمئنان لِتَصِل إلى محلّ التّطابق والتّكامل بَين الظاهر والباطن؛ حتى يختفي النفاق، وَتُحلّق الأرواح لتبلغ درجة من الكّمال والرقيّ، فَتَكون بذلك تجلياتٍ لأسماء الله تعالى وصفاته.

أن المُتابع الدقيق والقارئ للأحداث بِتَمعُّنٍ وإنْصاف يَجِدُ بين الفَيْنة والأخرى ظهور أفكارٍ ونظريات من رَحِمِ تَيّارات وأحزاب ثَبُتَ نفاقها وأنحرافها، فَقَد كانَت تَغْرُزُ أنْيابها لِتَشُلّ العُقُول بِشِعاراتٍ ظاهِرُها مُقَدّس وباطِنُه سُمٌّ زُعاف، وَلِتَسير بالأمّة نَحوَ المَزيد من التَشَظّي والانقسام والإبتعاد عَن جَوْهَر الدّين، وعَن حَقيقتة الإلهية كما أراده اللهُ تعالى وأمَرَ به، وَهذا لَعُمْري أعْظَم أنواع الفِتَن وأشَدُّه فَتْكاً بِجَسَدِ الأمّة.

أورَدَ الشيخ الكليني في الكافي عن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ اَلنَّوْفَلِيِّ عَنِ اَلسَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قَالَ قَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ : " سَيَأْتِي عَلَى اَلنَّاسِ زَمَانٌ لاَ يَبْقَى مِنَ اَلْقُرْآنِ إِلاَّ رَسْمُهُ ومِنَ اَلْإِسْلاَمِ إِلاَّ اِسْمُهُ يُسَمَّوْنَ بِهِ وهُمْ أَبْعَدُ اَلنَّاسِ مِنْهُ مَسَاجِدُهُمْ عَامِرَةٌ وهِيَ خَرَابٌ مِنَ اَلْهُدَى فُقَهَاءُ ذَلِكَ اَلزَّمَانِ شَرُّ فُقَهَاءَ تَحْتَ ظِلِّ اَلسَّمَاءِ مِنْهُمْ خَرَجَتِ اَلْفِتْنَةُ وإِلَيْهِمْ تَعُودُ ."2

إنَّ مراتب الإيمان تستدعي حالة التلازم بين الظاهر والباطن، وتستلزم في القلوب التي مُلأت إيمانًا أن يكون لها أعمالًا ظاهريّة تطفح عن ذلك الإيمان، وأما إذا رأيت الإنسانَ يتصنّع في قوله ومشيته وحركاته وقد انغمس في الشهوات والملذّات الحيوانية، والحياة القارونية، فأعلَم أنّ النفاق قرينه، فالإيمان لا يُقيمه التصنّع في الشّكل والمَظهر، إنّما التدبّر في الأركان والإمعان في الجّوهر. فالمؤمنُ الصادق همّه طَيّ المَراتب نحو مقام القُرب؛ لِيَتّخذ من الدنيا ممراً نَحوَ الآخرة، يرتشف ماء الحياة من نَبع العالم الأُخروي ما يَرتوي به مِن عَطَشِ الدّنيا، ويَعيش الدنيا من أجل أن يبلغ بها القُرب من الكّمال المُطلق.

إنَّ الاندماجَ والتَّلاحُم بَين الرّوح والجّسد والمُتَمثّل بالتّوجّه القّلبي والخُشُوع الرّوحي الممزوج بأفعال جَسَديّة تَحمِل مِعانٍ صادقة، حيث يَتَوَحّد فيها الظّاهر والباطن، والسرّ والعَلَن، والشّكل والمَضمون، هو مسلك يَملأ القلوب بأنوار اليقين، والصدور بالإيمان؛ يُجسّد فيها العابد حقيقة العبوديّة، فَتَطمئنَ بها القلوب التي ما فتئت تَقتَبِسُ أنْوارها مِن فيوضات النُّور المُقدس، لِتَستَضيئ بِه، ولتُزيلَ به العَوائق والعَلائق، وَتَسير بأرواحِها وتَشْخَص بأبصارها نَحوَ مَصدَر الجّمال الحَق؛ تلك هيَ النفوس السليمة، والقلوب المُطمئنة، أدْرَكت كمالَ اللّطف الإلهي، فَوَعَت، وَعَلِمَتْ فَعَمِلَت، ثُمَّ أدْرَكَت وسارَت فَنالَت، فَرَضِيَت، واطْمَأنّت.

***

د. أكرم جلال كريم

............................

المصادر

1. نهج البلاغة، ج1، ص383. وبحار الأنوار، ج33، ص581.

2. الکافي، ج8، ص307. وثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ج1، ص253. وأعلام الدین، ج1، ص406. والوافي، ج26، ص459. وبحار الأنوار، ج2، ص109.

(تقام العلاقات مع النرجسيين على أمل أن تتحسن يوما مع قليل من الادلة التي تدعم ذلك).. راماني دورفاسولا

تعود تسمية النرجسية الى الاسطورة اليونانية، حيث ورد فيها ان نرسيسوس –نرجس- بالانكليزية والذي كان آية من الجمال وقد عشق نفسه حتى الموت عندما رآى صورته في الماء!

وتعرف النرجسية على انها حب النفس أو الانانية، وهو اضطراب في الشخصية حيث تتميز بالغطرسة والغرور الاعمى، التكبر، التعالي، الشعور بالاهمية ومحاولة الكسب بأي طريقة على حساب الاخرين.

والنرجسية حالة مرضية تؤثر على الصحة العقلية للمريض الذي ينتابه شعورمضخم للذات على اعلى درجات المبالغة من الاهتمام، وهذا الاهتمام يتطلب إدامة وديمومة لاتنضب من الاعجاب والاهتمام والاطراء من قبل الاخرين بشكل مبالغ فيه وزائد عن الحد، كما يصاحب هذه الشخصية شعور غير عادي بالعظمة، وانه شخص نادر الوجود، فريد من نوعه لايمكن ان يفهمه الا خاصة الناس، وهو بالحقيقة يتعامل مع نفر من الناس يخدعهم باكاذيبه لينال اعجابهم أو انه يتعامل مع من لايعرفه تمام المعرفة.

والمشكلة الحقيقة للنرجسي لاتكمن في حبه لنفسه بل انه يتغذى ويقتات من استغلال الاخرين وبابشع الطرق، هذا المرض الذي يؤدي الى انعدام الاحساس بالاخرين تماما، حيث يغالي المريض وتكون لديه حاجة مفرطة للاعجاب والتقديس وهي إحدى سمات الثالوث المظلم، ومن الجدير بالذكر ان النرجسية تختلف عن مفهوم مركزية الذات.

والغريب بالامر إن هذا الهيكل الفارغ الممتلئ بالهواء لحد التخمة والذي يرى نفسه بمرآة محدبة، قد يكون أول الكارهين لنفسه ويمكن ان ينهار كيانه وينفجر البالون الفارغ من شكة دبوس صغيرة!

فهل قابلت شخصا بهذه المواصفات في حياتك! مكان عملك! أو بيتك!ت

هل تعيش مع شريكا يعتاش من استغلالك!

هل عانيت من تسلط نرجسي لحد التخمة يعد عليك الانفاس!

هل سأمت الانتقادات المتوالية على طريقة كلامك او لبسك او سعيك لتحقيق هدف ما!

هل صودر رأيك وخنقت كلماتك لمجرد انك تعاشر نرجسيا في البيت او العمل او اي مكان آخر!

هل سأمت من العطاء بلا حدود وبلامقابل!

هل تسلل احد النرجسيين الى حلمك للقضاء عليه!

هذه التساؤلات وغيرها قد تكون أشد وأقسى تبعا لنوع الحالة ودرجة استفحالها سنتناولها بشئ من البحث ..

بالحقيقة إن لكل مرض سبب أو عدة أسباب أدى الى إنهيار جانبا معينا من النفس وأدى الى سلوكيات معتلّة وهذا ليس تبريرا لانحراف السلوك لكن التاريخ المرضي يحرث اولا في ماهية الاسباب والدوافع التي أدت لذلك وسنلقي الضوء على الاسباب التي انتجت مرضا عضالا بحجم النرجسية:

- الوراثة:يعتبر هذا المرض من الامراض الذي تتحكم فيه الجينات بامتياز حيث يكون أحد الاباء او كلاهما مصاب بهذا المرض الذي يقدمه مع الكثير من التوابل والاضافات الى الابن الذي يجتهد بدوره للاجتهاد واضافة بصمته الخاصة التي ينال بها رضا الممول اولا ثم رضا نفسه.

- البيئة:وهي الحاضنة الاولى التي تتجسد بالوالدين وعلاقتهم التربوية مع الابناء، وهذه تمثل البذرة الاولى التي سقيت بابشع الصفات لتزهر!

الافراط بالتعامل :وهذه تتمثل بالدلال الزائد حد الفساد، أوالاضطهاد والتعسف حد المسخ!

- عوامل بيولوجية:تتمثل بقابلية الشخص على استقباله لهذا النوع من المؤثرات المرضية والسلوكية وتتويجها بالاستجابة القصوى نتيجة لخلل واعتلال في المنظومة العصبية.

هذه العوامل وغيرها انتجت شخصا نرجسيا بامتيازيرى الكون كله مسخرا له ولتحقيق أهدافه بشتى الطرق وعلى حساب الاخر مهما كان هذا الاخر بعيدا أو تربطه به صلة قرابة من أي نوع.

وإذا توقفنا قليلا بل كثيرا عند شخصية النرجسي سنجد الاعراض الاتية:

- انه شخصا ساديا بامتياز يقوم على استغلال الاخرين والاستمتاع بايذائهم بل والتلذذ باهانتهم وتحقيرهم والتقليل من شأنهم والشخصية الضعيفة هي ضالته الاولى ومكافأته التي يسعى للنيل منها.

- النرجسي شخص ماسوخي لمن هو أقوى منه وقيام الاقوى بتحقيره واذلاله يعيده الى حجمه الاول ويحدده.

- النرجسي شخص ميكافيلي عنده الغاية تبرر الوسيلة، وبامكانه سلك جميع الطرق للحصول على مايريد، مع وجود الدافع والمبرر مسبقا لكل عمل مهما كانت قباحة العمل.

- يعاني النرجسي من الوسواس القهري الذي يجعل حياته أتونا مستعرا يتغذى على أحقاده وسوء ظنه بالاخرين الذي يؤرقه ويحرمه من أبسط متع الحياة ويكون طاحونا مفزعا يطحن نفسه والاخرين بلا رحمة وهذا يتمثل بحرمانه من النوم واصراره على وجود خطر دائم يهدده وفقدانه للكثير من العلاقات الانسانية والاصدقاء الذين سرعان مايكتشفون مرضه ليلوذوا بالفرار.

- الاجرام الفكري :والذي يتمثل باستغلال نقاط الضعف عند الاخرين والسعي لاستخدامها في ابتزازهم بشتى انواع الابتزاز المادي عن طريق التحايل والنصب واستخدام الطرق الملتوية كا لتهديد او الاستعطاف حتى ينال مبتغاه بكل دونية! والجسدي الذي يتمثل بالحرمان من كل الحقوق وانتهاك الحرية الشخصية والاغتصاب والتعنيف الجسدي الذي يصل الى حد القتل! والمعنوي الذي يتمثل باحتقار الاخر وازدراءه ومناداته باقبح الالقاب ثم التسلل الى عقله وتحطيم البنية التحتية لنفسه حتى يشعر الاخر –وغالبا مايكون الشريك- بانه اقبح مخلوق وانه بلافائدة ولايملك من حطام الدنيا الا هدفا واحدا وهو الخلاص من هذه الدوامة التي تنتهي اغلب الاحيان بالطلاق –في حال الزواج- او الانتحار.

عقدة الاضطهاد:وهذه تتمثل بنظرته الى النصف الفارغ من الكأس الذي غالبا مايذكره بطفولة معنفة وحرمان أبوي أو تفرقة بين الاخوة جعلته يشعر بالدونية والغيرة القاتلة من إخوته التي تؤدي الى الكراهية وربما الى الجريمة! وتبقى هذه السمة تلازمه وهو الشعور بانه مضطهدا ومنبوذا لترافقه مدى الحياة، فبعد أن يجد ضحيته المثلى- والتي يذبح لها القطة من اول ليلة – لتتحمل شذوذه وانحرافه واعتلاله النفسي تحت اي بند!و من ثم يكوّن اسرة واطفال ليشعر ثانية بنفس العقدة والدونية بانه ليس أبا أو أما إنما خادما عليه القيام بهذا الدور مرغما وهو ماينعكس على نفسية الابناء الذين يعانون بانهم حمل ثقيل على اب مريض يعاني شتى انواع الاعتلال، وهذا الطريق يؤدي الى نتيجتين: الاولى أن يعتمد الابناء على انفسهم في ادارة شؤون حياتهم من خلال العمل او التفوق وهذا بافضل الاحوال والثانية هي سلوك طريق الانحراف والجريمة لاثبات ذواتهم المعتلة! وهذا مايدفع ثمنه الاسرة اولا والمجتمع ثانيا.

وبالاضافة الى ماسبق فهناك الكثير من الاعتلالات التي يعاني منها النرجسي والتي يعتبرها هو سمات فريدة يتفرد بها عن الاخرين منها:

- التردد باتخاذ القرارات وتكون الخطوة الاولى بالنسبة له مرعبة وهي الولوج الى عالم مجهول يخيفه الى حد اللعنة.

- الانطواء والابتعاد عن الاخرين مهما كانت صلة قرابتهم.

- الاكتئاب والقلق فهو دائم الشكوى من اي شئ، متمارض، كسول، جزوع،

نكدي بامتياز، يبحث عن المرض والنكد ويدعي الفقر حتى لو كان مليارديرا، يتباهى بانه غير مهندم وغير مرتب ويعتبرها سمة فريدة يعنونها بالتواضع وهو أبعد مايكون عن التواضع، فوضوي ويتفنن ببث الفوضى باي مكان يرتاده مع رغبة شديدة بتدمير الممتلكات العامة والخاصة، أوإنه يهتم بمظهره لايهام الاخرين باناقته ونظافته والحقيقة غير ذلك.

- التنابز بالالقاب:وهذه تتمثل باختياره الفاظا واسماءا وعبارات لكي يحط من شأن الاخر بمحاولة منه لازدراءه واهانته والتقليل من شأنه خصوصا في التجمعات والاماكن العامة.

- المشاعر المتبلدة وفقدان القدرة على تكوين حياة زوجية سعيدة بسبب السلوكيات المريضة التي يغلب عليها السلوك الدرامي والانفعالي وغالبا مايكون الطلاق هو الحل.

- عدم القدرة على التعبير عن المشاعر لاعطاء انطباعا على القوة الوهمية.

- عدم تقبل الانتقادات السلبية واعتبارها هجوما مضادا لابد التصدي له.

- التعامل مع الاسرة والاهل بقلة تهذيب و عدم الاحترام واللامبالاة وخصوصا الاستهزاء بألام وعلل الاخرين واعتبارها عارا!

- السعي لجذب الانتباه بأي طريقة.

- الشعور الدائم بالنجاح رغم الفشل وادعاء المواهب الخارقة.

- الخوف المرضي والاعتقاد بنظرية المؤامرة حتى من اقرب المقربين.

- التعامل مع الشريك او الحبيب بمنهج فردي بمعنى ان النرجسي لايبادل الشريك العاطفة وان قدم له الشريك تلك العاطفة مجانا لانه يعتبرها حق مكتسب.

- ادمان الكحول والمخدرات لكي يؤجج المرض بداخله ويساعده على المواجهة لانه بالحقيقة وكما ذكرت مخلوقا ضعيفا .

- التلاعب بالالفاظ فقد يلجأ الى حفظ بعض العبارات التي تجعل منه مميزا لبقا في المواجهة، فالحياة بالنسبة له حلبة مصارعة ولابد ان يكون الفوز حليفه.

- الشهامة الزائفة والثقافة الوهمية التي يدعي بها، والقدرة على الاقناع مهما تطلب الامرللحصول على ضحيته .

سياسة التجويع وهي تشمل التجويع المادي وادعاء الفقر للاستحواذ على مقتنيات الشريك باي طريق فالنرجسي لايغمض له جفن وهو يعلم ان الشريك لديه مبلغا من المال او بعض المقتنيات الذهبية فهو لايدخر جهدا بالحصول عليها واعتبارها حقا شخصيا (انت وما تملك لي).

والتجويع الجسدي حيث ان النرجسي شخص متبلد المشاعر يشعر بن الشريك اقل منه لذا فهو دائم التلاعب بهذا الموضوع وهو حرمان الشريك من العلاقة الحميمة خصوصا اذا علم ان هناك ميلا لهذا الموضوع.

- النرجسي غالبا مايكون جمهوره من المعدمين فكريا ليستطيع التغلب عليهم ونيل اعجابهم

- جنون العظمة وهذه تتمثل بتأليه الذات وتضخيمها الى حد إنه يقارن نفسه بالفلاسفة والعظماء والاولياء..

- الابتعاد عن الله جوهريا بل ان النرجسي في اغلب الاحيان لايؤمن بالله لان رأس الحكمة مخافة الله وهذا ماينعكس على شخصيته المريضة التي تعاني اعتلالات ماانزل الله بها من سلطان وفي ذات الوقت هو يدعي بالايمان الظاهري لكي يجذب اكبر قدر من المغفلين!

- الايحاء المرضي وهذا يتمثل بقدرته الهائلة على اللعب بمقدرات الاخرين عن طريق دس السم في العسل!

- النرجسي يكره الانسان الناجح بل ويحاربه ويحاول بكل طاقته النيل منه وتدمير سمعته والاساءة اليه.

- الخزي والعار وهوالشعور الذي يعاني منه النرجسي وعدم القدرة على معالجته.

- الحسد:النرجسي شخص حسود ينظر الى ابسط الامور التي يمتلكها الاخرين ويتمنى زوال النعم مهما كان هذا الاخر.

وتصنف الشخصية النرجسية الى عدة اصناف:

- النرجسية المعلنة وفيها يركز النرجسي على المكانة والثروة والقوة ويعتقد انه ينال هذا الاستحقاق وبجدارة.

- النرجسيةالخفية: وهي اقل وضوحا وفيها يشعر النرجسي الى اهميته وتظهر عليه سلوكيات معادية مثل لوم الاخرين والتشهير والتلاعب بمقدرات الاخرين.

- النرجسية المعادية وهي استغلال الاخرين للوصول باي طريقة.

- النرجسية الخبيثة:وهي اكثر الانواع خطورة فهي بالاضافة لكل ماذكر فهو يعاني من اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع(سايكوباث) مثل جنون الارتياب وانعدام التعاطف واستفحال السادية.

والحقيقة ان الاعتلالات النفسية التي تؤدي الى تدمير المريض الذي يقوم بدوره بتدمير كل المحيطين به دونما رحمة بل وتزين له نفسه انه العاقل الوحيد في مجتمع مريض، ومع ان لكل مرض سبب ونتيجة وعلاج لكن النرجسي شخص عصي على الشفاء اذا اخذنا بالحسبان ان جميع الامراض النفسية والسلوكية وامراض الثالوث المظلم(ميكافيلية، سايكوباث، السادية) تجتمع وتنصهر في بودقة النرجسي.

وهناك بعض النصائح التي قد تساعد الاشخاص الذين تضطرهم ظروف الحياة الى معاشرة النرجسي منها:

- وضع حدود غير قابلة للتجاوز، ومثال على ذلك ان النرجسي شخص غير مهذب يلجأ الى السب واللعن واستخدام الشتائم اثناء الحديث، وعلى الاخر ان يرفض هذه الوقاحة وان لم يستطع فالانسحاب افضل الحلول ..

- عدم الاهتمام لمواضيع النرجسي أو الاصغاء لما يقول.

- محاولة الحصول على الدعم المعنوي والمادي المناسب من الاهل لان النرجسي يستغل غياب الاهل والاقارب ليقوم بكل ماتغذيه نفسه المريضة من اعمال كالحرمان مثلا وسياسة التجويع المادي والجسدي!

- التجاهل وهو السلاح السري والعلاج الناجع للنرجسي الذي يقلب الطاولة عليه غيضا ويجعله يشعر بانه صغير جدا.

- التحلي بالصبر خصوصا اذاكان هناك اطفال يجب مراعاتهم ومحاولة ابعادهم عن ساحة المعركة باي طريقة.

- تحقيق الاهداف من خلال ممارسة هواية ما أو عمل ما يعود بالانجاز والنفع.

- الرحيل في حال تعذرت الحياة واصبح من المستحيل استمرارها في ضوء الانتهاكات المستمرة والتعنيف والحرمان والتحقير والاذلال.

- الاستقلال ماديا ونفسيا يجعل الشريك اكثر راحة بادارة شؤون حياته بعيدا عن الذل والاحتقار.

ورغم ان التقدم بالطب النفسي اتخذ خطوات واسعة لكن بقي العلاج متواضعا لايتعدى مرحلة التخدير وليس الشفاء التام.

النرجسية في القرآن

"حب لاخيك ماتحب لنفسك"

إن طاقة الحب هذه العاطفة الجياشة التي تغمر الانسان بكل ماهو جميل فتكون كشجرة مثمرة تؤتي اآكلها كل حين وعاطفة الحب ينطوي تحت جناحها كل انواع الحب كحب الوالدين لابناءهم وحب الانسان لاخيه الانسان وحب الوطن والارض والمكان وحب الابناء للوالدين وبقية افراد الاسرة وحب الزوج لزوجته والعكس بالعكس، هذه العاطفة من شانها ان تجعل المجتمع مبنيا على اسس قوامها الحب والتضحية من اجل الاخر، ولكن اذا انحرفت هذه العاطفة وجنحت وتشرذمت اهدافها فهي تتحول الى سرطان خبيث ينهش بجسد الامة، والقران فيه الكثير من النرجسيين على مر العصور التي ظهر فيها انبياء الله الذين بعثهم لتحجيم هؤلاء الذين طغت عليهم صفة النرجسية امثال فرعون و وقارون وهامان الذين جمعهم الله في أية واحدة" وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا" والسامري وجالوت وابو لهب والنمرود"قال أنا أحيي واميت" وهؤلاء الطواغيت يشتركون بصفة واحدة وهي النرجسية العالية التي اعمتهم واضلتهم فتكبروا حتى على الله، ومابعث الله الانبياء والرسل الا لمحاربة الطغاة أو هدايتهم لكن الله لايهدي القوم الظالمين .

يعتبر التكبر والتعالي من صفات النرجسي وهي صفات مذمومة واخلاقيات وسلوكيات منبوذة قال تعالى "والذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان"

والنرجسي هو شخص يشعر بالعظمة وقد تصل به الحال الى ان يتخيل نفسه إلها ويعلن ربوبيته كفرعون حينما قال"انا ربكم الاعلى"

واذا ماعدنا الى بدية الخلق سنجد إن النرجسية من صغات الشيطان الذي تكبر وتجبر وتمرد على الخالق جل وعلا"قال أأسجد لمن خلقت طينا" فهي العودة اذن الى طريق الخير والشر طريق الهدى والضلالة.

واخيرا علينا أن نقر بان الابتعاد عن الله يجعل الانسان عرضة لوساوس الشيطان الذي يجعل من الشخص مطية لاهواءه، فالروحانيات تطهر النفس من الدنس وتزرع قيم الفضيلة والمبادئ السامية من خلال جهاد النفس الذي يعتبر اعظم جهاد لانسان سليم من الامراض النفسية والاخلاقية، قال تعالى في كتابه العزيز"إنك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا" صدق الله العظيم.

***

مريم لطفي

لقد اشتغلت هذه الأحزاب براغماتيّا على مستوى الخطاب الديني عندما ربطت برؤية توفيقيّة/ تلفيقيّه ما بين العروبة والإسلام، لاعتقادها بأنها قادرة بهذا الربط أن تُكسب مشروعها السياسي مشروعيته أو مصداقيته عند الجماهير التي يغطي الخطاب الديني حيزاً كبيراً من وعيها أولاً، ولمنافسة الأحزاب الدينيّة، وبخاصة (الإخوان المسلمون) الذين ربطوا الدين بالسياسة أيضاً عبر طرحهم مشروع الحاكميّة لله ثانياً، ثم منافسة الأحزاب اليساريّة (الشيوعيّة) التي تشاركها الشعارات النهضويّة والتقدميّة وإظهارها معادية للدين أمام الجماهير ثالثاً. هذا دون أخذها بالاعتبار أنها بربطها بين العروبة والإسلام كانت تعمل على تعميق أزمة خطابها السياسي، كون الدين (الإسلامي) بشكل خاص بالنسبة هو في المحصلة أيديولوجيا ترفض الفكرة الوطنيّة والقوميّة، كما ترفض فكرة المواطنة وكل ما يتعلق بمفاهيم الحداثة والعلمانيّة التي تتبناها هذه الأحزاب في خطابها الأيديولوجي، فالأيديولوجيا الدينيّة غيبيّة لا تؤمن بوجود فكر وضعي قادر أن يتحكم بأليّة عمل الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة، كما لا تؤمن أيضاً بوجود أي قوى اجتماعيّة قادرة على التشريع لحل قضايا الناس بعيدا عن التشريع الذي وضعه الله وأقره السلف الصالح. وهذه المسألة يقرها خطاب الإخوان وكل القوى السلفيّة المعاصرة في خطابهم السياسي الذي يكفر كل من يخرج عن فكرة الحاكميّة كما جاء في كتاب (الخلافة والملك) لأبي الأعلى المودودي، وكتاب سيد قطب (معالم في الطريق)، أو في أدبيات القاعدة وفروعها مثل داعش والنصرة ومن يلتقي معها. وإن ما تقوم به هذه القوى الأصوليّة اليوم في ثورات الربيع العربي يؤكد ذلك.

إن مسألة الاشتغال على الخطاب الديني لتحقيق مصالح سياسيّة لقوى اجتماعيّة ذات توجهات دينيّة سياسيّة محددة، يبقى لها مخاطرها ومحاذيرها إذا ما اشتغلت عليه الأحزاب التقدميّة، وذلك كون الدين إذا ما تجذر ايديولوجيّا في عقل لإنسان، لم يعد من السهل بمكان توجيه عقل وتفكير هذا الإنسان خارج توجهات هذا الدين الذي امتلك عقله ورحه معاً، ففكرة الانتماء للمواطنة أو الوطن أو الانتماء القومي، تتنافى مع مسألة الانتماء الأممي للدين، وهذا ما أكده الكثير من رجال لدين ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الشيخ الإمام "محمد عبده" حيث يقول: (لأن جرثومة الدين متأهلة في النفوس بالوراثة من أحقاب طويلة، والقلوب مطمئنة إليه... فلا يحتاج القائم بإحياء الأمّة (قصده الأمّة الإسلاميّة) إلا إلى نفحة واحدة يسري نفثها في جميع الأرواح... ومن طلب إصلاح أمّة شأنها ما ذكرنا بوسيلة سوى هذه، فقد ركب شططاً وجعل النهاية بداية.). (1). ثم يقول أيضاً: (إن الأجناس قامت على العصبيّة القوميّة. لأن أفرادها تلاحموا حفاظاً لحقوقهم من جور حاكم من جنس آخر، أما الوضع فيختلف بين المسلمين. وأضاف : وهذا هو السر في إعراض المسلمين إلى اختلاف أقطارهم عن اعتبار الجنسيات، ورفضهم أي نوع من أنواع العصبيات ما عدا عصبتهم الإسلاميّة. فإن المتدين بالدين الإسلامي متى رسخ فيه اعتقاده يلهو عن جنسه وشعبه ويلتفت عن الرابطة الخاصة إلى العلاقة العامة.) (2). ثم أن الأحزاب التي تربط بين العروبة والإسلام سيؤدي هذا الربط بالضرورة إلى تجاهل وجود وتاريخ ومكانة مكونات دينيّة أخرى في مجتمعات هذه الأحزاب وستتحول بالضرورة إلى رعيّة، بل إن التجاهل سينال حتى بنية هذه الأحزاب التنظيميّة ذاتها، كالمكوّن المسيحي وغيره من المكونات الدينيّة التي لها انتماءاتها الدينية الخاصة بها من جهة، والتقليل من أهميّة انتماءاتها القوميّة والوطنيّة وإيمانها بدولة القانون واعتبار نفسها جزءاً أساسيّاً من نسيج الوطن لها حقوق وعليها واجبات، وأن المواطنة بالنسبة لها هي المخرج الوحيد لخروجها من مازق الأقليات أو أهل الذمّة الذي يتبناه دعاة المشروع الإسلامي السياسي الرافض للآخر. وما جرى ويجري اليوم تحت مظلة ما سمي بثورات الربيع العربي من ممارسة مشينة من قبل الإسلاميين المتزمتين (السلفيين) بحق الأقليات الدينيّة يثبت ذلك.

إن من يتابع كتابات عبد الرحمن الكواكبي منذ نهاية القرن التاسع عشر، يجده أكثر قدرة على فهم مسألة الدين وخطورة اللعب على وتره، وخاصة في المجتمعات المتعددة الديانات والطوائف والمذاهب، من فهم بعض هذه الأحزاب التي تدعي القوميّة والعلمانيّة المطالبة بالربط ما بين العروبة والإسلام، متناسية مكوّن هام من مكونات المجتمع وهو الأقليات الدينيّة، حيث يقول عبد الرحمن الكواكبي عن خطورة اللعب على الدين، ومحاولة ربط الدين بالدولة (السياسة) في المجتمع السوري الذي ينتمي إليه:(دعونا يا هؤلاء ندبر شأننا بالفصحى ونتفاهم بالإخاء ونتواسى بالضراء ونتساوى في السراء، دعونا نتدبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط . دعونا نجتمع على كلمة سواء ألا وهي فلتحيا الأمّة، فليحيا الوطن، فلنحيا طلقاء.) .(3). أما ساطع الحصري المفكر القومي الأصيل الذي يعتبر المنظر الأكثر اهتماماً وعمقاً في الفكر القومي على الساحة العربيّة في القرن العشرين فيقول حول مسألة ربط العروبة بالإسلام: (إن الأبحاث التي نشرتها في مؤلفاتي المختلفة، أظهرت إلى العيان وبأجلى المظاهر وأجلها، الدور العظيم المنقطع النظير الذي قام به ظهور الدين الإسلامي في تكوين الأمّة العربيّة وتوسيع نطاق العروبة، وترسيخ كيان بنيانها، وتشديد مقاومة التجزئة التي عصفت بها، ومع ذلك لم تر تلك الأبحاث مجالاً ولا لزوماً لاعتبار الدين من المقومات الأساسيّة للقوميّة العربيّةّ.). (4).هذا في الوقت الذي نجد فيه مفكراً إسلاميّاً مرموقاً في سورية وله حظوته ومكانته في دولة البعث، وهو الشيخ "محمد سعيد رمضان البوطي"، يقف ضد العلمانيّة بعد مئة عام من مقولة الكواكبي السوري حول هذه العلمانيّة في كتابه (العقيدة الإسلاميّة والفكر المعاصر)، وهو كتاب مقرر لطلاب الشريعة في جامعة دمشق: حيث يقول البوطي: (أما الدين الإسلامي فيحوي في أصله إلى جانب مبادئ الاعتقاد، والأحكام التي تضبط شؤون الدولة وتتكفل بإقامة أنظمتها وقوانينها، فحجزه عن ممارسة صلاحياته ومسؤولياته، ففي ذلك تغيير لجوهره وإبطال لكثير من مضمونه... ). (5). ثم يتابع ناعتاً من يؤمنون بالعلمانيّة ضمناً، ويتقربون إلى الإسلام قولاً، قائلاً: (إن التظاهر بالخضوع له – أي الدين - بعد ذلك كذب عليه ومخادعة له ولمشرعه.) (6)، بل هو لم يتوان أمام اعتبار الإسلام بداية ونهاية كل شيء، ويدفعه هذا الاعتقاد إلى نزع الأخلاق عن العرب قبل الإسلام وعن العروبيين المعاصرين كما ذكر في إحدى حلقاته التي تبث على قنوات التلفاز السوري وهي بعنوان، (لا يغير الله بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) حيث يقول: (إن العرب ليس لديهم أخلاق قبل الإسلام، وإن القوميين العرب الذين يقولون بأن العرب كان لديهم أخلاق قبل الإسلام هم كذابون.). هذا في الوقت الذي يُعتبر فيه حزب البعث الذي احتضنه حزبا عروبيّاً، وهو المنادي بالآمّة العربيّة الواحدة ذات الرسالة الخالدة.

نقول: إن الأحزاب القوميّة العربيّة (العلمانيّة) قد اشتغلت على تثبيت سلطتها في الحكم، بالتوازي مع الاشتغال على الدين، وربط العروبة بالإسلام في سياق عملها أكثر من اشتغالها على الفكر القومي ذاته، للأسباب التي أشرنا إليها سابقاً، بل أثبتت عجزها عن تحقيق أيّة قضيّة من قضايا مشروعها القومي، هذا العجز الذي غالباً ما يزيد الطين بلّة من حيث زيادة عمق التناقضات وحدّة الصراع ذاته بين القوى الوحدويّة ذاتها والقوى المناوئة لها عند سعيها لتطبيق أي مشروع قومي، كما هو الحال على سبيل المثال لا الحصر، مشروع الوحدة بين مصر وسوريّة الذي خلق للدولتين وللأمّة العربيّة أزمات وصراعات وحسابات سياسيّة من قبل القوى التقدميّة والرجعيّة المناوئة للوحدة معاً لم تزل قائمة حتى الآن، الأمر الذي جعل القوتين تتمسك بورقة الدين أكثر، وذلك للحفاظ على السلطة من قبل القوى الوحدويّة التقدميّة أومن قبل القوى الرجعيّة المعاديّة لها.

وفي ختام عرضنا لهذه المسألة أحب أن أضيف هنا مسألة أخرى حول ربط هذه الأحزاب براغماتيّا بين العروبة والإسلام وهي: إن هذه الأحزاب تعني بالعروبة هنا المشروع القومي، والمشروع القومي في جوهره مشروع يعمل على تحقيق الوحدة العربيّة، وهذا العمل هو في المحصلة عمل سياسي، والسؤال هو: كيف تبرر هذه الأحزاب لنفسها هنا ربط السياسة بالدين، في الوقت الذي تحرم وتحارب الأحزاب السياسيّة الدينيّة التي تربط بين السياسة والدين؟!.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

..........................

الهوامش:

1- (د. توما - أميل - الحركات الاجتماعية في الإسلام0 دار الفارابي. بيروت- 1981.). ص154

2- (المرجع نفسه- ص154).

3-(المرجع نفسه- ص155).

4- (توفيق – زهير - أديب اسحق مثقف نهضوي مختلف- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت -2003 – ص153).

5- د. البوطي - محمد سعيد رمضان. (العقيدة الإسلامية والفكر المعاصر). وهو كتاب مقرر لطلاب الشريعة في جامعة دمشق. ص 248

6- المرجع نفسه. 148

ـ في أهمية النقد التربوي:

يلعب النقد التربوي دورا هاما في مجال التربية والتعليم والتكوين؛ فهو يحسن الممارسات الصفية ويطورها إلى الأفضل بتصحيح أخطائها وتحدياتها، وبرفدها بالجديد من خلال الإبداع في مجالها، من واقع التجربة التعليمية نفسها أو من التفكير فيها، مقابل تطوير نظام التربية والتعليم والتكوين برمته. والنقد التربوي مكون من مكونات الفكر التربوي؛ لا تستقيم أية منظومة تربوية وتكوينية دونه، لأنها تتكئ عليه في استمرار تجددها وتطورها وتقدمها، فهو الدم الذي يدخ الأكسجين في عروقها الذي يبقيها حية تشتغل على أحسن وجه، ويبقيها فاعلة فعالة في المجتمع لأسباب عدة:

أ ـ النقد التربوي فرصة لا تعوض ولا تستدرك: إن فاتت هيئة التدريس والمهنيين والأطر التربوية في التفكير في الممارسات التربوية، من حيث التفكير في ديداكتيك التدريس والاستراتيجيات والأساليب التربوية والتعليمية، والبحث في بنياتها ووظائفها ونتائجها بما يقف على الإيجابيات للاستثمار، وعلى السلبيات والتحديات لتجاوزها. وفي ذلك تطوير لها وتجديد لبنياتها ووظائفها، وتجويد لنتائجها وعوائدها على التعليم والتعلم. والسؤال النقدي للممارسات الصفية سؤال   عن الاختيارات والتوجهات وتقويم الفعالية والأداء.

ب ـ النقد التربوي يبني ثقافة السؤال: وثقافة السؤال تبني ثقافة التجديد والتطور والتجويد والتحبير والتحسين المستمر؛ عبر تخليق بذرة البحث العلمي في الممارسات الصفية لأجل أن يصبح مكونا طبيعيا وعضويا في الفعل التعليمي التعلمي، لا يمكن الاستغناء عنه في البحث عن الإيجابيات والسلبيات معا؛ حيث تتوسل به في معرفة حيثياتها بشكل علمي وواقعي. فلا تستقيم أي منظومة تربوية وتكوينية دون النقد التربوي، لأنه موطن علامات الاستفهام الحرجة والمحرقة التي تتطلب الجرأة الأدبية للتعامل معها بروح رياضية ومرحة، لأنها ستتعرف على ما لا يعجبها خاصة عندما تكون الذات السائلة تهاب السؤال وتخاف منه كما في المنظومات التربوية والتكوينية المتخلفة، التي يعشش في عقلها التقليد والعادات ويعمر حاضرها الماضي ويستحوذ على كل شيء فيها حتى التفكير.

ج ـ الابتكار: النقد التربوي رديف مصطلحين في الفعل التربوي والتعليمي، وهما: التصحيح والابتكار، فهو عامل محفز على الابتكار في مجال التربية والتكوين والتعليم باقتحام مواطن الأساليب التقليدية وإزاحتها من المنظومات التربوية والتكوينية باستكشاف النظريات التعليمية والأفكار الجديدة فضلا عن التعليميات والتقنيات المبتكرة التي تفعل الدرس المدرسي وتطور نتائجه إزاء خلق متعلم/ة منهجي ومفكر وناقد ومبدع. فتظهر من خلال هذا الإبداع والابتكار ممارسات صفية ناجحة ومبتكرة، تبحث عن حلول إبداعية للتحديات والصعوبات والمشاكل التربوية والتعليمية والتكوينية التي تعترضها.

د ـ النقد التربوي يمنح أطر منظومة التربية والتكوين بما فيهم الممارس البيداغوجي والإدارة التربوية والإشراف التربوي فرصة معرفة ودراية أفكارهم ورؤاهم ومقترحاتهم وقراراتهم وأفعالهم ونتائجها، معرفة تامة تفصيلية تضعهم في مواجهتها مباشرة بالسؤال النقدي عما فعلوه وما أنتجوه؛ وتضعهم أمام ضمائرهم المهنية وأمام التاريخ والأمة وأجيالها، ليتحملوا المسؤولية عن اختياراتهم وقراراتهم وأفعالهم ونتائجها ضمن القبول بالمساءلة والمحاسبة خدمة للأجيال المقبلة، وبناء الالتزام والانضباط والشفافية تحسينا لجودة المنظومة التربوية. ولا تقدم ولا جودة للمنظومة التربوية والتكوينية دون وقوف أطرها أمام مرآتها مسلحين بالسؤال النقدي عما فعلوه لأجلها ولأجل روادها. وبدون السؤال النقدي تنتفي كل الممارسات الصفية الناجحة والفاعلة.

هـ ـ الحوار وتبادل المعرفة: النقد التربوي باب واسع للحوار وتبادل المعرفة وتقاسم الخبرات والتجارب ومعرفة الفعل، فهو يعزز ذلك في المجتمع المدرسي والمهني التربوي، خاصة بين جماعة الباحثين والدارسين، أي أولئك الأطر الحية في المنظومة التربوية والتكوينية التي تؤمن بالنقد التربوي مدخلا للتغيير. لإنه يخلق مساحات فكرية وثقافية شاسعة للمناقشة والحوار والتعاون والتكامل فضلا عن خلق الفكر العلمي الجمعي وفرق البحث الجماعية متعددة الاختصاصات، بل يمكنه أن يؤدي إلى خلق مراكز ومعاهد ومختبرات للبحث التربوي والعلمي في المؤسسات التعليمية. كما يؤدي إلى بناء مراجع تربوية لأصحاب القرارات السياسية والتربوية والتدبيرية.

وبناء على هذا المعطى، نجد النقد التربوي مطلبا ضروريا للمنظومة التربوية والتكوينية، لتطوير وتحبير الممارسات الصفية في ذاتها وناتجها، بجانب تعزيز التفكير الإبداعي الابتكاري مع تمكين أطر التربية والتعليم من تعزيز الحوار فيما بينهم، وتبادل المعرفة والمعلومات، وتقاسم الخبرات والتجارب ومعرفة الفعل، وبذلك يساهم بشكل كبير في تطوير النظام التربوي والتعليمي والتكويني إلى الأفضل، ويعمل على التحول الإيجابي للمنظومة وأطرها ومتعلميها.

ـ في أهمية الأسئلة النقدية للممارسة الصفية:

في الواقع التعليمي والتربوي والتكويني؛ ليست الممارسات الصفية متطابقة أو متشابهة إلى درجة كبيرة وبنسبة عالية، فقد يعتقد البعض أن الأداء الصفي متطابق أو متشابه نتيجة امتياحه نظريا وعمليا وبيداغوجيا من رسميات وزارة التربية الوطنية والتعليم، واعتماده على نفس المناهج ومحتوياتها، وعلى نفس الديداكتيك والتقنيات والمعينات البيداغوجية. لكنه في الممارسة العملانية والميدانية ينحو نحو التفرد، ويتجه نحو الأسلوب التربوي الخاص بالممارس البيداغوجي، الذي يتضمن خصوصيات وتفردات ومفردات لا تشبه ما في الأساليب التربوية الأخرى لمعطيات عدة تخص جماعة القسم ومكوناتها، ومستواهم العلمي والتحصيلي، والبيئة التعليمية، والشروط والمتطلبات الخاصة بهم. ومن ثمة يصبح التنظير التربوي والتعليمي والتكويني ممارسات صفية متنوعة.

لذا؛ نجد مجموعة الأسئلة النقدية تختلف من ممارس البيداغوجي إلى آخر تبعا لمعطياته الواقعية وتكوينه الأكاديمي والمهني والاجتماعي والثقافي، ووضعه الاقتصادي والاجتماعي، ومعتقداته الذاتية والخاصة وقيمه وأخلاقه وفلسفته في الحياة. ونتيجة معطيات جماعة القسم التي يدرسها، ونوعية         أسلوبه التربوي المتبع في تدريسهم المتن التعليمي. ونتيجة معطيات المجتمع الذي يؤدي رسالته التربوية فيه، ونتيجة علاقات الاجتماعية البينية خاصة في المؤسسة التعليمية. نتيجة ذلك وعوامل أخرى نجد كل ممارسة صفية هي تجربة ذاتية قد تتقاطع مع التجارب الأخرى وقد لا تتقاطع، لأن التقاطع حتمي بحكم الرسميات الوزارية التي يستقي منها الممارس البيداغوجي المتن التعليمي والديداكتيك أو التعليمية الخاصة به. وعدم التقاطع يحصل حتما عندما يخرج الممارس البيداغوجي عن الرسميات الوزارية التي يجد فيها تحديات للمتعلم/ة أو يلمس فيها انعدام الملاءمة والانسجام مع معطياته وحاجاته واحتياجاته.

ولهذا الاختلاف عائد إيجابي على العلمية التعليمية التعلمية من حيث تقاسم التجارب والخبرات وتلاقحها، والاستفادة منها في حل المشاكل والإشكاليات التي تعترضها، وتغني الخبرة الشخصية للمارس البيداغوجي بجديد الأفكار والرؤى والتقنيات والإجراءات. وتوسيع منظوره الذي يرى منه أداءه الصفي. وبالتي نجد الاختلاف بين الممارسات الصفية أمرا طبيعيا وإيجابيا، يمكن توظيفه في تطوير المنظومة التربوية والتكوينية نظريا وعمليا. ولكي تثرى وتنمى الممارسات الصفية لابد للمارس البيداغوجي طرح بعض الأسئلة النقدية الهامة والمحرقة في بعض الأحيان للتفكير في ممارسته الصفية، من قبيل:

ـ ما الأهداف التعليمية التي رصدتها للمتعلم/ة في ممارستي الصفية؟ هل تتلاءم وتتوافق مع منتظراته، ومع توقعات المناهج وحاجاته واحتياجاته؟

ـ هل ما قرر من متن تعليمي وتعليمية المواد الدراسية ومعينات بيداغوجية وشروط ومتطلبات تحقق أهدافها وأهدافي معا في انسجام مع معطيات المتعلم/ة؟

ـ ما كفاءتي في توليد الاستقلالية الفردية والحرية الشخصية والمسؤولية الذاتية عند المتعلم/ة نحو مسارهم التعلمي، والوعي بأهمية التفكير في التعلم الفردي لكل واحد منهم تحت سقف استحضار أهدافهم الشخصية؟

ـ ما الإشكاليات والمشاكل التي سيطرحها المتن التعليمي وتعليمية المواد والمعينات البيداغوجية وأساليب تديسي على المتعلم/ة؟ وسبل مقاربتها ومعالجتها؟

ـ ما خطة الطوارئ التي سأواجه بها تلك الإشكاليات والمشاكل والتحديات إن وقعت وحصلت في إطار إدارتي للأزمات؟

ـ ما الاستراتيجيات التعليمية وتقنيات التنشيط والأساليب التربوية التي يمكنني توظيفها من أجل تعزيز مشاركة المتعلم/ة في بناء درسه المدرسي؟

ـ ما كفايتي المهنية في ملاءمة أساليب التدريس المتنوعة مع مستويات المتعلمين/ات المهارية والتحصيلية، واهتماماتهم وانشغالاتهم ومنتظراتهم في تحقيق حاجاتهم واحتياجاتهم؟

ـ ما مهاراتي وقدراتي وكفاياتي الشخصية، وكفاءتي في خلق بيئة تربوية وتعليمية شاملة وعامة، يشعر فيها المتعلم/ة بالتقدير والاحترام، وباستقلالية التفكير وحريته، وبقيمته المضافة لجماعة القسم إنسانا؟

ـ ما التقويم الذي أجريه لقياس ناتج التعلم عند المتعلم/ة بشكل موضوعي ودقيق وعادل؟ وإلى أي حد فعلا أقيس معرفته وقدراته ومهاراته وكفاياته وناتج تعلمه في الاتجاه المستهدف؟ وما مدى مصداقية أداة القياس ومعاييرها وأسسها الإحصائية؟

ـ ما الموارد التربوية والتعليمية والتكنولوجية والتقنية والرقميات المتاحة والمتوفرة راهنيا، التي يمكنني توظيفها بنجاعة في إنجاح الدرس ودعم المتعلم/ة في تعلمه وأدائه؟

ـ ما كفايتي المهنية والاجتماعية في فتح دائرة العلاقات البينية مع الآخرين من ممارسين بيداغوجيين، وإدارة تربوية، وإشراف تربوي، وأسرة، ومتعلمين/ات، ومجتمع مدني... تعاونا وتكاملا من أجل تعزيز تربية وتعليم وتعلم المتعلمين/ات وتنميتهم في مجموع مناحي الشخصية، وتهيئتهم للاندماج الاجتماعي والمهني والثقافي والسياسي...؟

ـ ما مدى حضور ثقافة التكوين بكل أنواعه عندي وتشبعي بها، من أجل الانخراط الإيجابي والفاعل في تطوير مهاراتي وقدراتي وكفاياتي ومعطياتي الشخصية المختلفة باستمرار، وبوتيرة متدرجة تصاعدية لتحسين أدائي التدريسي والتعليمي والتربوي وتطويره بالجديد من معطيات متنوعة، وبمتابعة أحدث الأبحاث في مهنة التربية والتعليم وعلومها، وعلوم روافدها والاطلاع عليها، ومواكبة أجود وأحسن الممارسات الصفية؟ وما مدى قابليتي لاستنبات ثقافة التكوين في ذاتي المهنية والإنسانية؟

وتبقى منظومة علامات الاستفهام النقدية مفتوحة وفق معطيات كل ممارس بيداغوجي حسب سياق اشتغاله وأهداف التعلم المرصودة، والغاية من السؤال. وهي كما تفعل في الممارسة الصفية، تفعل في عملية التعلم.

ـ في أهمية الأسئلة النقدية لعملية التعلم:

الأسئلة النقدية الذاتية التي يطرحها الممارس البيداغوجي على ممارسته الصفية، لها وظيفة حيوية في تطوير عملية تعلم المتعلم/ة انعكاسا، من خلال خلق التفكير العميق، إن لم أقل التفكير الفلسفي عند المتعلم/ة، واستنبات التفكير النقدي لديه بما يديم يقظة الشك في تعلمه، من حيث يسائل شكا مجموع الأفكار والمعارف المسبقة لفحصها وتدقيق مصداقياتها من زيفها، فضلا عن تطوير التفكير الإبداعي عنده مع تحسين مجموع قدراته ومهاراته المختلفة من التحليل والتركيب والاستنتاج والتطبيق وغيرها. فهو يعزز آليات التفكير عند المتعلم، وينمي فضوله ويحفز مشاركته النشطة، من خلال طرح الأسئلة العميقة والمجدية التي تستوجب في الموضوع بكليته تفكيرا عميقا وتحليلا نقديا واستنتاجا علميا وموضوعيا وعقلانيا. كما تنقل المتعلم/ة من اكتساب المعرفة وترصيدها وتركيمها إلى اكتساب المهارات الأساسية المعرفية والعملية والأدائية لتنمية أبعاد شخصيته علميا ومعرفيا ومهنيا.

فالأسئلة النقدية تساهم وتساعد على تطوير وتعزيز ودعم عملية تعلم المتعلم/ة عبر:

ـ تحفيز التفكير: الأسئلة النقدية تدفع بالمتعلم/ة إلى التفكير العميق في المشكل أو الإشكالية والبحث فيها باستقلالية ذاتية من خارج الرؤى والأفكار المسبقة وربما المبيتة، وتحليل معطياتها المتنوعة بما فيها من معلومات ومعارف وطرق... بدقة وبشكل علمي وعقلاني والموضوعي، يتوخى الإمساك بمكوناتها وأدوارها ووظائفها داخل نسقها إزاء معرفة العلاقات القائمة بينها لتسهيل الملاحظة والاستنتاج. كما تعمل الأسئلة النقدية على إكساب المتعلم/ة مهارات وقدرات التفكير النقدي والإبداعي تجاوزا لحفظ الحقائق وتلقيها دون مساءلتها أو الشك فيها. فهي تنشئ عند المتعلم/ة ملكة التفكير بكل أنواعها بدل ملكة الحفظ فقط. كما تفعل داخل عملية التفكير العملية الأساسية لفعل المعرفة " الصورنة " التي تهيكل الموارد المعرفية وتعمل على بنائها وتخزينها لتوظيفها في سياقات مطلبية متنوعة بعد استدعائها واسترجاعها. وتكسبه القدرات اللسانية والاستدلالية والعملية أو الفعلية معنى آخر قدرات الفعل.

ـ تنمية ملكتي التحفيز والفضول: تنمي الأسئلة النقدية التي يطرحها الممارس البيداغوجي على الممارسة الصفية التحفيز والفضول عند المتعلم/ة ارتباطا وتبعا، من خلال بعض المداخل من قبيل:

* في ظل السؤال عن البيئة التعليمية الحاضنة لعملية التعلم في مساحة فعل التعليم عند الممارس البيداغوجي، يمكن خلق وتشييد بيئة قابلة لممارسة الاستكشاف بطرح من الأسئلة استشفافا للأفكار الجديدة والمتطورة والتعبير عنها. كما تزيد من فضول المتعلم/ة في اقتحام المجهول لمعرفته والإلمام به.

* في إطار السؤال عن مناهج التدريس واستراتيجيات التدريس وتقنيات التنشيط يتعزز فضول المتعلم/ة، وتفعل ملكة الاستكشاف عبر المتن التعليمي وتعليميات المواد الدراسية ومشاريع البحث الجماعية والفردية، والمناقشات والحوارات البينية. كما تشجع انخراطهم وتفاعلهم في النشاطات التعليمية بكل جدية وحماس

* في إطار سؤال المتن التعليمي؛ بمعنى مضمون الدرس المدرسي قد ينبع من أكثر من مصدر ومرجع، فقد يستقيه الممارس البيداغوجي من تجارب واقعية تقدم للمتعلم/ة لاستكشافها وسبر غورها، عبر نماذج متنوعة من الطرق والاستراتيجيات والتقنيات مثل الرحلات والخرجات الميدانية والعملانية لزيارة المتاحف والمعارض وورش العمل التطبيقية كالمراسم أو المعامل ودور الطباعة وغيرها، فتغذي المتعلم/ة بحقائق ومعارف ومعلومات مستكشفة جديدة أو يستكشفها بطريقة محسوسة وملموسة وعميقة بنفسه مدفوعا من فضوله للمعرفة. فيكتسب بذلك ثقافة البحث وحل المشاكل؛ فيذهب في تعلمه إلى حل مسألة أو وضعية معينة لم يسبق له أن صادف محتواها أو مضمونها من خلال مكتسباته من التجارب الواقعية.

وفي إطار هذا السؤال يمكن استدعاء توظيف تكنولوجيا التعليم بشكل مبتكر وإبداعي في عرض التجارب والمواقف الواقعية على شكل مقاطع للفيديو أو برامج وثائقية أو أحداث اجتماعية للدراسة والبحث، ما يثير الفضول عند المتعلم/ة، ويحفزه على البحث والاستكشاف. كما يمكن توظيف منصات التعلم الإلكتروني والمحاكاة في تحليل ومناقشة تجارب تعليمية مستجدة ومبتكرة.

من خلال ما سبق وغيره يقف المتعلم/ة على جدوى الفضول والحافزية في التعلم بما فيه التعلم الذاتي، من حيث التعرف على مجموع الأسئلة المطروحة على الممارس البيداغوجي في نقده الذاتي، يؤدي إلى التعرف على مجموع الأسئلة الممكنة والقابلة للطرح على المتعلم/ة لاستكشاف رؤاه وأفكاره، وتلمس جهوده وتقديره لصالح فعل التعلم، ما يشيد لديه الدوافع الذاتية للتعلم والمعرفة والمشاركة والانخراط الإيجابي في بناء مستقبله، والاستمرار في عملية الاستكشاف حتى تصبح ثقافة عنده وسمة من سمات شخصيته.

ـ تشجيع المشاركة الفاعلة والنشطة: الأسئلة النقدية تدفع المتعلم إلى المشاركة الفاعلة والنشطة للمتعلم/ة اقتداء بالممارس البيداغوجي، خاصة عندما يكون السؤال يتعلق به؛ كأن يسأل الممارس البيداغوجي عن أسباب انخفاض نتائج جماعة القسم أو ضعف الحافزية لديهم اتجاه تيمة أو موضوع معين... ففي هذه المنطقة من الأسئلة النقدية تحث المتعلم/ة إلى التفكير والتحليل والاستنتاج فضلا عن التقويم وتركيب النتائج على الأسباب، فهو أمام القول المنطقي والموضوعي لا القول الإنشائي. ومن يشارك ممارسه البيداغوجي في الإجابة عن بعض الأسئلة المطروحة.

ـ تطوير الكفايات التحليلية وقدراتها ومهاراتها بشكل أساسي: تقود الأسئلة النقدية المتعلم/ة إلى تعميق البحث والتحليل ومساءلة تيمة الاشتغال إلى غير ذلك، حيث هذه القدرات والمهارات تخلق من المتعلم/ة متعلما معرفيا أو المتعلم الإبستيمي الذي ينتج الجديد ويبتكر المعرفة الجديدة، التي تنمي مختلف التخصصات العلمية والتقنية والاقتصاد والتطور الحضاري. وتزيح مفهوم المتعلم/ة من متعلم/ة مشحون الرأس بالمعلومات والمعارف والمعطيات، حافظ لها إلى متعلم/ة مفكر معرفي باحث ناقد مبتكر. يولد المعرفة من المعرفة ويوسع قاعدتها ويضخم تراكمها وترصيدها ويبتكر الجديد، يتجه نحو استقلاليته وحريته في التفكير والأداء والتعبير عن ذلك بوجهات نظره وقراراته.

فأهمية الأسئلة النقدية في العملية التعليمية التعلمية لا تكتفي بهذه الأدوار فحسب، وإنما تتعداها إلى البعد النفسي حين تجعل من المتعلم/ة إنسانا موضوعيا مع نفسه، يتقبل النقد البناء ويعتمده في تطوير ذاته وإمكاناتها المتنوعة، ويتقبل الحق ولو على نفسه باستقلالية تامة ويعترف بحقوق الآخرين قبل حقوقه، ويعمل على تحمل كامل المسؤولية عن نتائج قراراته وأفعاله. وصريح مع نفسه وغيره لا يعرف الالتواءات الحربائية ولا النفاق الاجتماعي القاتل للإنسان... هي دائما الأسئلة النقدية مطلوبة في الفعل التعليمي التعلمي لأنها معالم للطريق في تصحيح الاختلالات واستثمار الإيجابيات.

ـ سؤال برسم المستقبل:

مشهد واقعنا التربوي يفيد قلة السؤال النقدي في الممارسة الصفية للممارس البيداغوجي وباقي أطر المنظومة التربوية والتكوينية؛ تخوفا من مشرط جراحته المألم، الذي لا محالة سيعري عما تحت جلد منظومتنا التربوية والتكوينية من أورام وبؤر مرضية في أعضائها ووظائفها. فإبقاء مستور الجلد أسكن للواقع وتجميل له بدل إظهار شكله المتورم المقزز؛ لكن الطبيب الجراح الحكيم، والمحترف، والخبير، والعالم العارف، والإنساني؛ لا يكتفي بتوصيف الحالة المرضية، ولا بتسكينها بالمسكنات، بل يذهب إلى استئصال الورم من أساسه أو من جذوره، ليصح الجسم والجسد طلبا لصحة الإنسان. ولا صحة للإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي والرقميات والعالم الافتراضي مع مرض عقله. فصحة الإنسان من صحة عقله، والإنسان يرقى بعقله لا بجسده؛ فهل من ارتقاء لنا دون نقد ذاتي؟

***

عبد العزيز قريش

كثيرة هي المؤثرات على تكوين شخصية الفرد والجماعة، وبالنتيجة الحتمية صياغة فكره وقناعاته وعقائده الدينية والفكرية؛ فعلم الاجتماع تحدث كثيرًا عن شخصيات كل بيئة وطرق وأساليب معيشتها وأنماط تفكيرها؛ سواء كانت شخصية مدنية أو جبلية وريفية أو بدوية صحراوية.

والبيئة بشكل عام وبمفرداتها المعروفة، لا يمكن أن تُنسب إليها كافة الصفات والطباع وأنماط التفكير والسلوك؛ فالاقتصاد له مفعول السحر كذلك في صياغة الشخصية وتوجيه سلوكها وتحديد أطر تفكيرها، ومن ضمن هذه الشخصيات، تأتي الشخصية الريعية والتي ينتجها عادة الاقتصاد الريعي (أحادي المصدر)، وكما هو الحال في أقطار الخليج العربية، فلو نظرنا اليوم حولنا لوجدنا أن أغلب الشخصيات والمجتمعات شكّلها الاقتصاد بطابعه ونوعه وثقافته المصاحبة له.

نحن في أقطار الخليج العربية، انتقلنا مع استخراج النفط من اقتصادات تقليدية تعتمد على الرعي والحرف اليدوية والصيد البحري والزراعة، إلى اقتصادات ريعية مصدرها الوحيد استخراج النفط وتدوير عوائده في مفردات التنمية، وهذا النوع من الاقتصاد أنتج لاحقًا عقلية الشريك النائم والتجارة المستترة وثقافة الثراء بامتياز؛ حيث رَكَنَ المواطن والتاجر والحكومة معًا إلى الدعة والراحة بانتظار عوائد الدخل الشهري، أيًا كان مصدره أو نوعه أو إدارته، أي عائد بلا جُهد.

الخطورة في عقلية الاقتصاد الريعي وثقافته تكمن في البقاء تحت رحمة المصدر الواحد للدخل وتذبذب أسعاره، مع التوسع التنموي غير المدروس، وبالنتيجة مضاعفة الإنفاق على حساب الدخل في كثير من الأحيان، والدخول في سقف المديونيات والقروض للحفاظ على معدل وتيرة الحياة، دون مراعاة عواقب ذلك.

كما إن عقلية الريع أنتجت أخطر وأسوأ أنواع الاقتصادات والتي تُعرف بالاقتصاد الطفيلي (عقارات، أسهم، تأسيس مصارف وشركات...إلخ)، وهذا الاقتصاد والذي لا يراعي شيئًا من قيم التجارة وثقافتها، ولا يحقق أي وزن للقيمة المضافة في مشروعاته واستثماراته؛ بل ولا يستفيد منه من هم أبعد من الحلقة الضيقة الأولى لأصحاب رأس المال، وهذه في مجملها من ظواهر ثقافة الثراء الخالية من قيم الاقتصاد وثقافة التجارة وقيمها.

يُمكن للشخص تمييز كل شخصية بتأثير اقتصادها وثقافته عليها؛ حيث تجد التجديد والتنوع والإبداع لدى أبناء الاقتصادات النوعية المتعددة المصادر، وتجد الانكماش التجاري والفكري لدى أبناء الاقتصادات الريعية.

لم يكن للعملاق الصيني أن يجتاح العالم بعقلية الفلاح التي أنتجتها ثورة الزعيم "ماوتسي تونج" الثقافية، لولا تطعيمها بعقلية الصناعة والإنتاجية، تلاها تطعيم الاشتراكية الصينية ببعض مفردات الرأسمالية المنضبطة، مثل: السماح بالملكية الفردية وحمايتها، وحرية تنقل رؤوس الأموال من وإلى الصين وفق المعايير المصرفية العالمية، كما إن ثقافة الاقتصاد الشامل التي غرسها الزعيم أحمد سوكارنو في شعبه الإندونيسي في الخمسينيات من القرن الماضي، حفّزت كل مواطن على إنتاج ما يجيده من موقعه بدءًا من منزله، وخلّقت عقلية إنتاجية تنافسية نقلت إندونيسيا إلى مصاف الاقتصادات العملاقة في العالم بخطى حثيثة.

الاقتصاد اليوم هو المؤشر القيمي والعلمي والأخلاقي للشعوب، ومن أراد التحكم في تلك القيم وتأطيرها، عليه تأطير قيم اقتصاده ورسم ملامحه أولًا وقبل كل شيء.

قبل اللقاء: لم تعد الحاجة أم الاختراع اليوم؛ بل الاختراع هو الحاجة بذاتها، فليس بالضرورة أن تخترع لحاجتك؛ بل ما يحتاجه غيرك كذلك.

وبالشكر تدوم النعم.

***

علي بن مسعود المعشني - كاتب عماني

بداية خلق الله سبحانه وتعالي المخلوقات وسخرها لبني الإنسان لتيسير أمور حياته ولقضاء حوائجه وإشباع لذاته ورغباته المشروعة، فهو المخلوق الوحيد علي سطح الأرض من سخرت له بعض المخلوقات حتي تكون تحت طوعهِ وإرادتهِ وتلبية رغباته سواء كانت من الحيوانات أو غيرها من المخلوقات التي يتحكم بها الإنسان في وجودها وبقاءها، ومن المعروف أن الأضحية في العيد الأكبر هي إحدى أهم شعائر الإسلام، والتي يتقرب بها المسلمون إلى الله سواء كانوا من الأغنياء أو الفقراء، بتقديم ذبح من الأنعام، وذلك من أول أيام عيد الأضحى المبارك، حتى آخر أيام التشريق الثلاثة، ولذلك فهي من أهم الشعائر المشروعة والمجمع عليها، فهي سنة مؤكدة لدى جميع مذاهب أهل السنة والجماعات الفقهية سواء عند الشافعية أو الحنابلة أو المالكية، ما عدا الحنفية.

وإيماناً منا لهذا الدين الحنيف بكل أصوله وفروعه التي شرعها الله سبحانه وتعالي، وبكل ما جاءت به الشريعة الغراء من فرائض وواجبات وسنن، كان لزاماً علينا الوقوف ضد الذين يبتدعون البدع، ولعل قائل بأن هناك بدعة حسنة وأخري سيئة! لا ليس هناك في الشرع تقسيم للبدعة إلي حسنة وسيئة، حيث أن جميع البدع سيئة كما أقر بذلك الإمام أحمد السرهندي(1)

فإذا نظرنا إلي أمثال هؤلاء من الحاقدين للإسلام نجد أنهم يحاولون أن يضعوا العسل في السم، ويخرجون إلينا أموراً وفتاوي مبتدعة لا أنزل بها من سلطان، إنما مقصدهم ومبغاهم الوحيد هو هدم شعائر الإسلام محو سننه التي جاءت به شريعتنا الغراء، لذا وقد كانت من الأسباب التي دعتني إلي كتابة هذه السطور هو أنني قرأت في إحدى صفحات التواصل الاجتماعي المشهورة تعليقاً نصه كالآتي (ذبح الأضاحي يساهم في إهدار الثروة الحيوانية، ولا يفيد فقير ولا جائع، أنصحكم بالتبرع بثمن الأضحية لعائلة فقيرة فقد يسد رمقهم شهر كامل) هذا هو نص التعليق، ونلاحظ أن هذه الكلمات وإن كان ظاهره الشهد إلا أنه في الحقيقة يحمل في أحشاءه السم، فقد بدأ كلامه بأن ذبح الأضاحي ما هو إلا إهدار للثروة الحيوانية، وهو السبب الذي دفع به إلي إنكار ورفض هذه السنة، وتابع كلامه أن هذا الفعل من الذبح لا يفيد فقير ولا جائع، وهنا سأقوم بالرد علي تلك الشبهة بما قدر لي الله تعالي أن أرد علي هذه الخزعبلات التي يريدون من وراءها هدم سنة من السنن المؤكدة في الإسلام.

والرد على هذه الشبهة من عدة جوانب:

1-الحكم الشرعي

2-الناحية الاقتصادية

3-الناحية العقلية

أولاً: من ناحية الحكم الشرعي:

فالأضحية: سنة مؤكدة، وهذا ما ذهب إلية الجمهور: المالكية في المشهور، والشافعية، والحنابلة، ومذهب الظاهرية(2).

أما الدليل الشرعي من القرآن فنجد أن هناك الكثير من الآيات القرآنية التي تناولت الحكم من مشروعية تلك الأضاحي.

قال تعالي: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر َفَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ)(3)

وقال تعالي (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعیَ قَالَ یَـٰبُنَیَّ إِنِّیۤ أَرَىٰ فِی ٱلمَنَامِ أَنِّیۤ أَذبَحُكَ فَٱنظُر مَاذَا تَرَىٰ قَالَ یَـٰۤأَبَتِ ٱفعَل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِیۤ إِن شَاۤءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِینَ)(4)

وقال تعالي: (وَٱلبُدنَ جَعَلنَـٰهَا لَكُم مِّن شَعَـٰۤىِٕرِ ٱللَّهِ لَكُم فِیهَا خَیر فَٱذكُرُوا ٱسمَ ٱللَّهِ عَلَیهَا صَوَاۤفَّ فَإِذَا وَجَبَت جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنهَا وَأَطعِمُوا ٱلقَانِعَ وَٱلمُعتَرَّ كَذَ لِكَ سَخَّرنَـٰهَا لَكُم لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ)(5)

وقال تعالي أيضاً: (وَلِكُلِّ أُمَّة جَعَلنَا مَنسَكا لِّیَذكُرُوا ٱسمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِیمَةِ ٱلأَنعَـٰمِ فَإِلَـٰهُكُم إِلَـٰه واَ حِد فَلَهُۥ أَسلِمُوا وَبَشِّرِ ٱلمُخبِتِینَ)(6)

قال ابنُ تيميَّة: إنَّها مِن أعظَمِ شعائِرِ الإسلامِ، وهي النُّسُك العامُّ في جميعِ الأمصارِ، والنُّسُكُ مقرون بالصَّلاةِ في قوله تعالى: (قُل إِنَّ صَلَاتِی وَنُسُكِی وَمَحیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلعَـٰلَمِینَ)(7)، وهي مِن ملَّةِ إبراهيمَ الذي أُمِرْنا باتِّباعِ ملَّتِه، وبها يُذكَر قصَّة الذبيحِ، فكيف يجوز أنَّ المسلمينَ كُلَّهم يتركونَ هذا ولا يفعَلُه أحدٌ منهم، وترْكُ المسلمين كُلِّهم، هذا أعظَمُ مِن تَرْكِ الحجِّ في بعض السنين. وقد قالوا: إنَّ الحجَّ كلَّ عامٍ فَرْضٌ على الكفايةِ؛ لأنَّه من شعائِرِ الإسلامِ، والضحايا في عيدِ النَّحرِ كذلك، بل هذه تُفعَل في كلِّ بلدٍ هي والصَّلاةُ، فيَظْهَرُ بها عبادةُ اللهِ وذِكْرُه، والذَّبْحُ له والنُّسُك له ما لا يظهَرُ بالحجِّ، كما يظهَرُ ذكرُ الله بالتكبيرِ في الأعياد(8)

وقد جاء في السنة النبوية:

عن البراء بن عامر رضي الله عنه: قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم: (من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نُسكُه وأصاب سُنة المُسلمين)((9)

وفي هذا الحديثِ يَرْوي البَراءُ بنُ عازبٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّه سَمِع النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو يَخطُبُ يومَ عِيدِ الأَضْحَى، فَبَيَّن النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ هَدْيَه وسُنَّتَه في يومِ الأضحَى: أنْ يُبدَأَ أوَّلًا بصَلاةِ العِيدِ، ثمَّ يَأتيَ بعْدَ ذلك ذَبْحُ الأُضحيَّةِ، فمَن فعَل ذلك فقدْ أصابَ السُّنَّةَ، ووافَقَ طَريقتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وحَصَلَ له الأجرُ(10)

ثانياً: من الناحية الاقتصادية

والرد على الشبهة المذكورة من الناحية الاقتصادية فإنه إذا نظرنا إلى الأضحية وأهميتها نجد أن الأمر ليس به إهدار للثروة الحيوانية إطلاقاً، وذلك لأن الإهدار في معناه من وجهة نظري هو التبذير في الشيء بغير وجه حق أو هو معناه ما يقابل عدم الاستفادة من الشيء، وهنا في ذبح الأضاحي في الإسلام لا يدعوا إلى الإسراف أو الإهدار كما يزعم البعض من الرافضين للأضاحي، بل أننا نجد أن الإسلام كان حريصاً كل الحرص على ان تكون تشريعاته متفقة مع منهج الإسلام العام وهو المنهج المعتدل الوسطي، فنجد أن جميع الجلود التي تخرج من الأضاحي يتم استغلالها ودبغها في شتي الصناعات المتعلقة بالجلود.

ثالثاً: من الناحية العقلية

أما من الناحية العقلية فمن المعروف أن من شروط الأضحية أو من شروط صحتها سواء كانت من الأبل أو البقر أو الشاة هو أن تكون قد أتمت السن المُعتبر لها، فبالنسبة للإبل فإن العمر المُعتبر لها للذبح هو أن تكون قد أتمت خمس أعوام، وبالنسبة للبقر لا بد أن تكون قد اتمت أيضاً عامين، وفي الغن عام واحد على الأقل، أما في الضأن فقد رُخص ما أتم ستة أشهر فما فوق علي أن تكون قد أجدع، لذا فمن الناحية العقلية لا يمكن التسليم العقلي بأن ما يترتب علي كثرة الأضاحي يكون نتيجة حتمية لإهدار للثروة الحيوانية.

وذلك لأن:

- أن المُعتبر في الثروة الحيوانية هي كل الحيوانات فالحيوانات تشمل جميع الفصائل المختلفة منها، ويمكن القياس على ذلك أن الأُضحية المشروعة في الشريعة الإسلامية ليست غير الفصائل المذكورة آنفاً كـ (الإبل والبقر والأغنام والمعز)

- كما أن الإسلام قد وضع شروطاً محددة للأضحية من ضمنها أن تكون قد بلغت العمر المذكور لها، علماُ بأن الإسلام يمنع أيضاً ذبح الحوامل من هذه الحيوانات، فمن أين يأتي إذاً الإهدار في الثروة الحيوانية، والسؤال هنا لو الثروة الحيوانية تتأثر بتلك الأضاحي فلماذا لم تنقرض بعد فمن العقل أنه لو كان هناك إهدار للثروة الحيوانية لكانت قد انقرضت تلك الحيوانات ونحن جميعاً نعلم أن هذه الشعائر الإسلامية تُقام منذ بعيد.

وخلاصة القول

أن هناك الكثير من المقاصد النبيلة والسامية من وراء هذه الشعائر الإسلامية فكما ذكرنا من قبل أن الإسلام كان حريصاً كل الحرص على أن تكون تشريعاته متفقة مع منهج الإسلام العام وهو المنهج المعتدل الوسطي، ومن تلك المقاصد الإمتثال لأوامر الله تعالي والإذعان له، ومن أنكر سنة من السنن النبوية الشريفة فيكون بذلك قد أنكر شيء معلوماً من الدين بالضرورة، كما أن المتمثل لأمر الله تعالي يُحيي ذكري قصة سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام وتعلم الدروس المستفادة من تلك القصة، كما أن المسلم بإحيائه شعائر الأضحية فإنه بذلك يتخلص من الشُح والبخل والضغينة وتطهير قلبه من تلك الرذائل، وعندما يشتري المسلم الأضحية ويقوم بتوزيعها علي الفقراء والمساكين فهو بذلك يكون قد أحيا بقلبه معني العطاء.

هذا والله أعلم

***

كتب أركان حربي العوضي

ماجستير فلسفة إسلامية كلية الآداب جامعة المنيا

......................

(1) هو الإمام أحمد الفاروقي السرهندي من مدينة سرهند بالهند لقب بمجدد الألفية الثانية، حيث كان السبب من وراء ذلك اللقب هو أنه كان السبب الرئيسي لبقاء الإسلام في الهند وللوقوف علي تفاصيل أكثر عن سيرته الشريفة، يمكن الاطلاع علي مكتوباته الربانية في ثلاث أجزاء المسماة بالدرر المكنونة.

(2) الدرر السنية، الموسوعة الفقهية: ذبح الأضحية، إشراف عام: علوي بن عبد القادر السقاف الرابط:https://dorar.net/feqhia/3074/

(3) سورة: الكوثر.

(4) سورة: الصافات، الآية 37.

(5) سورة: الحج، الآية 36.

(6) سورة: الحج، الآية 34.

(7) سورة: الأنعام، الآية162.

(8) شيخ الإسلام ابن تيمية: مجموع الفتاوي، جمع وترتيب: عبد الرحمن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد، السعودية، بدون ط، 1425هـ- 2005م، المجلد الثالث والعشرون، صـ162-163.

(9) أخرجه البخاري رقم (968)، ومسلم رقم (1961).

(10) مرجع سابق: الدرر السنية، الشروح الحديثية. الرابط: https://dorar.net/hadith/sharh/6045

لم تكن العِمامة قديماً، عند العرب، تخص فئةً مِن النّاس، وليس لألوانها دلالاتٌ دينيَّةٌ، وأول مَن جعل السوداء منها زياً رسمياً أبو جعفر المنصور(ت: 158هـ)، مع سواد الرَّاية أيضاً (العسكريّ، كتاب الأوائل). ثم انتقلت وصارت زياً لرجال الدِّين الشِّيعة الإماميَّة، المنتسبين لسلالة النُّبوة. بعدها صار لكلِّ مذهبٍ عمامتُه، حتَّى رأينا في إحدى ملتقيات الحوار الدِّيني رجل يعتمر عمامة خضراء، وفوقها مجسدٌ للقبةِ النَّبويَّة.

كثرت أخبار العمائم في كُتب الأدب العامة، وكُتب تشريفات الخلافة، ومَن أفرد لها كتاباً خاصاً: «دفع الملامة في استخراج أحكام العِمامة» لابن المُبرد(ت: 909هج)، جمع فيه أطرزة العمائم واختلافها. كذلك صدر كتابُ «العِمامة» أعده سعود الرُّومي (الرِّياض 2014)، لم يترك كبيرةً ولا صغيرةً في العمائم إلا ذَكرها. ولم أجد بينها طرازَ عمامةٍ رأيتها بهيئة مختلفة، ولحقتُ الرَّجل في أزقة سوق القلعة بأربيل، مِن زمن بعيد، وسألته عن شأن عمامتهِ؟! فقال: «يا ولدي، نحن في موسم الأمطار، لذا غلفتها بالنَّايلون كي لا تبتل». قالها بأريحيّة معهودة عند العديد مِن رجال الدِّين غير المتحزبين.

ظل السُّودانيون والعُمانيون واليمنيون متمسكين بها، دون شرطها الدِّينيّ. بقدر ما كثر معتمرو العمائم كثر خالعوها، وصلةٌ بخلعها أثير الجدل حول مقالتي عن الشَّاعر السُّعوديّ محمَّد العلي: «جِدَّة.. تُكرم العليّ زميل مروة بالنَّجف»(الاتحاد 21/12/2022)، مَن نفى صلته بحسين مروة (اغتيل: 1987) وَمن أنكر تعممه، لكنّ ما عرفته أنّ الرَّجل درس بالنَّجف وتعمم، ثم تخلى عن عمامته، وهذا شأن مروة أيضاً، وأخذتُ الزَّمالة في المجال العام، فكلاهما درسا بالنَّجف، وكلاهما لم تصمد العمامة فوق رأسهِ. خلعها مروة قُبيل نزوله بمحطة أور/النَّاصريَّة (بعد 1940)، ليستلم وظيفته مدرساً للأدب العربيّ بثانويتها (مروة، خبايا السّيرة)، ولم يعد لها، بعد أغراه الفكر الاشتراكيّ.

أمَّا معروف الرُّصافي (ت: 1945) فخلعها بإسطنبول مكرهاً، حين وصلها في الانقلاب الاتحاديّ(1908)، فحصل استبدال الطَّرابيش بالعمائم. دخل مقهى أحد السوريين فطرده، حتى وجد دكان ملابس، فارتدى بذلةً حديثةً واعتمر طربوشاً، تاركاً جبته وعمامته عند صاحب الدُّكان (الرُّصافيّ، يروي سيرته)، ثم عشق أبا العلاء(ت: 449هـ) حتَّى ناجاه «يا أبتِ»، وسمَّاه بشاعر البشر والمخلوقات (الرُّصافي، رسائل التعليقات)، ففارقها نهائياً. بينما ظل جميل صدقي الزَّهاويّ(ت: 1936) يناور بين الطَّربوش والبنطلون ليلاً، والعِمامة والجبة نهاراً، فهو ابن المفتي وأخو المفتي، حتّى اعتنق نظرية «أصل الأنواع»، وافتخر أنه أدخل دارون إلى العراق (الرُّشوديّ، الزّهاوي دراسات ونصوص)، فجفا العمامة إلى الأبد.

لم يقتفِ الرُّصافيّ ولا الزَّهاويّ أثر رجال الدِّين بتركيا ومصر والشَّام، لما سُمح لهم الاحتفاظ بعمائمهم بشرط يتوسطها الطَّربوش الأحمر، وظلوا هكذا إلى يومنا. أمَّا محمد مهدي الجواهريّ(ت: 1997)، فعمل مدرساً، وفي البلاط الملكيَّ، والعِمامة على رأسه، حتّى قال وتخلى: «قال ليّ صاحبي الظَّريف وفي/ الكفِّ ارتعاشٌ وفي اللِّسان إنحباسة/أين غادرت عِمةً واحتفاظا/ قُلتُ طرحتُها في الكُناسة»(النَّزعة: 1929).

وافقني أحد المعممين أنه قصد المحلة المعروفة بالكوفة، حيث صُلب زيد بن عليّ(122هج)، ولهذا قيل: «إنا وجدنا قفيراً في بلادكم/أهل الكُناسةِ لأهل اللؤم والعدمِ»(الحمويّ، معجم البلدان)، أو أنَّه ترك المعنى مشرعاً!

بسبب الإقامة الطَّويلة بطهران وقُمّ، والدّراسة في الحوزات الدِّينيَّة، تزايد عدد المتعممين بالعِراق، وبسبب الوضع الذي تتصدره الأحزاب الدِّينيَّة، والخطاب الهابط، والزيادة في الفساد، كثر أيضاُ خالعو العمائم، وبينهم مَن يتبوأ الآن الدَّعوة العاقلة إلى التَّنوير والتَّقدم، بالمقابل منهم مَن شطح وجهل «فوق جهل الجاهلينا». هذا، وبينهم مَن انقلب على شروط عمامته، لكنه ظل يعتمرها، سوداء أو بيضاء، سلاحاً في الجدل، متقلباً بين اعتمارها وخلعِها.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

   

الدِّين هو قوة روحية تسمو على الرغبة والرهبة، وتملأ النفوس بفيض من الحب والجمال والكمال والقدسية الإلهية التي تضبط أفعال الإنسان وانفعالاته، وتكون شخصيته وتفكيره وسلوكه وتعامله مع نفسه ومع غيره، وتجعل من ذاته رقيباً على ذاته، ومن ضميره وجداناً خالصاً لا يضل ولا يُخدع .

وإذا نحن أردنا التعرف على قيمة الدين، أي دين، في مجتمع ما، فلن يكون ذلك بالنظر إلى سلوكيات أتباعه بداخل مساجد وجوامع ومصليات وحسينيات المسلمين، ولا في كنائس وكاتيدرائيات المسيحيين، ولا في بيع اليهود، و لا في غردوارات السيخ، أو اواتات -ج وات- البوديين والهندوس، والتي يفرض التواجد بها جميعها، أنماطاً سلوكية استثنائية من التعامل الظاهري المليء بالمثالية غير الموجودة في الواقع، ويكون بالنظر لسلوكيات الناس في المجامع التي يرتادونها خارج تلك المعابد، كالشوارع والأسواق والمدارس والمعارض والملاعب الرياضية، حيث يخضع الناس فيها إلى جملة من التجاذبات والمؤثرات الخارجية المعقدة نفسيا وماديا، التي تشكل العامل الحاسم تكوين التصورات الخاطئة عن الدين والتعاطي السيئ مع تشريعاته وفرائضه ونواهيه، التي، ينصرف ممارسوها، وبلا حرج، للكذب والنفاق والرشوة وباقي أنواع الفساد المذمومة أخلاقيا، والمحتقرة اجتماعيا، والمحرمة دينيا، والتي غدت بعد أن تحولت في الحقب الأخيرة، إلى مجرد طقوس لا علاقة لها بالحق والعدل، وسمة وقاعدة عادية تؤثث المشهد الاجتماعي، وتمارس باحترافية، كهوية مفضلة لدى الأغلبية الساحقة، ضدا في الأخلاق الحميدة التي هي أساس قيام الحضارات، والوسيلة المثلى لتحقيق المساواة والعدالة الشاملة المفضية إلى تقدم الأمم ونجاحاتها، المؤدية إلى استتباب الأمن وشيوع الاستقرار في المجتمعات، التي تبحث عن البدائل الأنجع للقضاء على الفساد، أو ضمان الحد من تغوله، على الأقل، في حال العجز عن القضاء عليه نهائیا، كما هو حال العديد من الدول الغربية المتقدمة، التي تستخدم قوة إرادتها السياسية في تنفيذ ذلك بفعالية وصرامة في ظل القوانين والقيود والإجراءات العقابية والتربوية التي تعود إنسانها على تحمله لمسئولياته الذاتية، وعدم تعليق فشله على الأساب الغيبية البعيدة عن أدائه على الأرض، ودفعه لمحاسبة نفسه محاسبة تصفيها وتنقيها مما يمكن أن يبدرَ منها من أعمال، فيتابع ويكثرَ ما كان منها صالحا، ويتوب عما كان منها سيئا ويتعهد بعدم الرجوع إليه ثانيةً، بخلاف مجتمعاتنا المتخلفة التي لا يتورع أغلبية الناس فيها في استغلال أي فرصة تتاح لهم –وحتى التي لا تتاح - للسرقة والاختلاس، لما جبلوا عليه من الاستعداد الفطري لتقديم المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، وتأهبهم لاقتراف كل التجاوزات حتى التي يمكن أن يسقط بسببها أبرياء- والتي تفضحها الكثير من السلوكيات التي تعتبر لد ى الغالبية العظمى، مع الأسف، أنها تصرفات عادية وبسيطة وربما تافهة، رغم أنها تكشف عما لدى أصحابها من بوادر الفساد وميولات اللصوصية والإستعداد للانقضاض على المال العام، وميلهم للتسلّق على أكتاف الغير لتحقيق لمصالحهم الشخصية، والتي من بينها على سبيل المثال، تلك التصرفات التي يعتبرها البعض شطارة و "قفوزية "بينما هي أنانية و قلة احترام "للاتيكيت " واستغلال للفرص: كعدم احترام إشارات المرور، وتجاوزها عنوة وضدا في كل قوانين السير، و قلة احترام الطوابير وتخطيها دون أي اعتبار للواقفين فيها، و كما يقوم به البعض عندما يكونون في ضيافة غيرهم، أو عند تواجدهم بالمطعم أو الاماكن العامة، فيتعمدون وضع كميات من السكر في الشاي أو القهوة أكثر مما يفعلون في منازلهم، أو كاستخدامهم المزيد من المناديل الورقية أو الصابون أو العطور أكثر مما يستخدمونها في بيوتهم، أو كاستهلاكهم لكمية زائدة من الطعام أكثر مما يلتهمونه في بيوتهم، لمجرد أن غيرهم سيسدّد الفاتورة.

فمن يلتمس في نفسه بعض من هذه الخصال أو جميعها، فليعلم أن لديه ميولات غريزية للعنصرية والفساد واللصوصية والاختلاس وتبذير المال العام، ومن المُحتمل أن ترتكبها مجتمعة أو متفرقة، دون وعي منك إذا هي صبت في مصلحتك الشخصية، و تستسلم بسهولة لمغرياتها، حتى لو كانت ضد مصلحة وطنك ومصالح البشرية جمعاء، لأنك أناني ونرجسي ومغرور وتحب الكسب والربح لك وحدك، حتى لو كان على حساب الآخرين.

ملخص القول، على القيمين على شؤون الناس، إن هم أرادوا كسر هذه الحلقة المفرغة من السلوكيات المتخلفة، إلا إخراج دين الله من المساجد إلى الأماكن التي يرتادها عموم الناس، ليتشبع الجميع بتعاليم الدين الخالصة وقيمه النقية، وعندها سيبتسم الغد المشرف لهم وللبشرية جمعاء .

***

حميدطولست

التعدد العرقي واللغوي وأثره على ثقافة التعايش الحضاري والديني في المغرب

ما ان تطأ قدم أي مواطن عربي لأرض المغرب ويتجول في مناطقها المختلفة، حتى يستشعر الثراء الثقافي والحضاري، والجمال الأخاذ الذي يشع من جنبات البيوت،القصور، والجوامع والصوامع، والبساتين الفسيحة، والحدائق.

القادم لبلاد المغرب سرعان ما يتذوق جماليات فنونها وطقوسها وعاداتها وتقاليدها الاجتماعية والدينية المتنوعة، والذي تتميز به كل منطقة ومدينة وقرية عن الاخرى رغم الرابط الوطني الذي يجمعهم.

يظل للتعدد العرقي والديني واللغوي بالمغرب نكهته الخاصة في اصباغ الحياة الثقافية والاجتماعية والفكرية بطابع قبول الاخر والتفاعل معه ومعايشته على ارضية من التسامح والتعاون مع احتفاظ كل مكون عرقي بمكوناته الثقافية المتوارثة في نسيج يكمل بعضه بعضا وينصهر في فسيفساء بديع التكوين والجمال.

وكان للموقع الجغرافي للمغرب دور في اشاعة هذا التنوع الثقافي بمدلولاته العرقية والدينية واللغوية فالمغرب جغرافيا يعد معبرا لتلاقي الغرب والشرق معا، حيث يتقارب مكانيا مع شبه جزيرة ايبيريا ويتماس مع الصحراء الكبرى وأفريقيا ودول المشرق العربي.

ولذلك عبرت الى المغرب العديد من الحضارات واللغات والثقافات القديمة كالفينيقية واللاتينية واليهودية والمسيحية والعربية والإسلام، وايضا الفرنسية والإسبانية والبرتغالية.

وهذه الثقافات مع انحسار بعضها بفعل تقادم الازمنة، الا ان اثارها قد انصهرت بالثقافة المغربية وامتزجت بها لتشكل هويتها الخاصة، وهو ما يتجلى في العديد من المظاهر الحضارية، منها على ـ سبيل المثال لا الحصر ـ الاثر الاندلسي في الموسيقى والمعمار، خاصة مدينة تطوان وطرازها المعماري الغرناطي.

وتعكس فنون المعمار بالذات عبقرية التلاقح الثقافي والحضاري المغربي، وتبرز في روعة العمارة الفنون الإسلامية التقليدية، مثل الصوامع التي تحذب السياح صومعتي الكتبية بمراكش، وحسّان بالرباط، وشبيهتهما “لاخيرالدا ” بمدينة إشبيلية بإسبانيا. والتي هي من بناء الموحّدين.

وايضا روعة الحصون، والأبواب الشامخة، والأضرحة، والمساجد المشهورة بالأسقف الخشبية المنقوشة والأعمدة الرخامية، والزلّيج الملوّن، الموزاييك ذي الرسوم والألوان والخطوط البديعة الزاهية.

ويتجلى التعايش اللغوي والعرقي من خلال اللغة العربية واللغة الامازيغية، والتلاقح بينهما قد لعب دورا في تشكيل الهوية الثقافية للمغرب، بجانب الثقافة الحسانية الشفهية والتي يمتزج فيها ثقافة عرب المغاربة بموريتانيا، ولا تزال تحافظ على ذاكرتها الجماعية عبر اللغة العربية العامية حتى اليوم عبر جلسات السمر واحتساء الشاي، بجانب حضور اللغات الأجنبية الفرنسية والإسبانية والإنجليزية.

والبصمة الافريقية لا يزال حضورها في المشهد الثقافي المغربي انطلاقا من دورها في نشر الدين الاسلامي بالمغرب والعلاقات القديمة مع الزنوج ومع السودان تجاريا وثقافيا واجتماعيا، قد ترك ارثه الثقافي بالمشهد المغربي وانعكس بالعديد من الطقوس المغربية التي تزال حية خاصة في مدينة مراكش وما تذخر به من فنون الحكايات والطرز المعمارية الافريقية.

وللثقافة العبرية حضورها بالمشهد الثقافي والاجتماعي المغربي كجزء أصيل من مكونات المجتمع عبر اليهود المغاربة، والتي تتجلى في العديد من الشواهد الحضارية كالمخطوطات المكتوبة بالعبرية على الطريقة المغربية، وصناعات الملابس، وأحياء الملاح السكنية التي يسكنون بها، والمعابد والمواقع الاثرية، كما ساهم اليهود المغاربة في تنشيط حركة الصناعة خاصة الحرف اليدوية وصناعات الذهب والفضة.

وألقى التنوع العرقي والحضاري بتأثيراته القوية على المطبخ فشهد تنوعا واسعا وابتكارات في أصنافه ارتباطا بانفتاح المغاربة منذ القدم بالحضارات المجاورة او التي هربت اليه واستوطنته، او التي حكمته.

فنجد ابداعات للمطبخ الامازيغي والاندلسي والتركي والمغاربي والشرق أوسطي والافريقي تتمازج فيما بينها لتقديم هوية خاصة للطبخ والذائقة المغربية.

الثراء والتنوع في الفلكلور المغربي يفتح شهية عشاق الفنون حيث تتعدد الايقاعات في الفنون الشعبية ارتباطا بتعدد البيئات بالقرى والبوادي، والمداشر، والأرباض، ونجد انعكاس الثقافات في الطرب الأندلسي، والغرناطي، والمدائح والفنون الأمازيغية، ورقصات اكناوة، ورقصات أحيدوس، والركادة، والدقّة المرّاكشية، والطقطوقة الجبليّة وغيرها

وللازياء خصوصية تاريخية بالمغرب وعلى رأسه " القفطان " الذي يرجعه المؤرخون الى عصر المرينييّن، فان للتبادل والتنوع الثقافي للمغرب أثره في نبوغ مبدعيه وفلاسفته مثل الفيلسوف والفقيه العلاّمة ابن طفيل صاحب ” حيّ ابن يقظان”، وتلميذه قاضي إشبيلية، وعالمها، وطبيبها، أبو الوليد محمّد بن رشد

هذا الغني الثقافي والحضاري التي يعيشه المغرب نتاج طبيعي لتعايش انساني بديع لكل المكونات الثقافية واللغوية والعرقية التي تحيا على هذه الارض الطيبة فهل كان هذا التمازج الثقافي الحضاري وقبول الآخر وعدم نبذ الثقافات والحضارات والديانات الاخرى و المختلقة سببا في التعايش السلمي السياسي والمجتمعي وهل كان عدم تصنيف وتوصيف المواطن بناء على دينه وعرقه سببا في الاستقرار السياسي ادامه الله عليهم ووهبه لجميع خلقه (آمين) وهل كان هذا التعايش والتبادل والانسجام سببا في تنوع مصادر التجارة والصناعة بل والسياحة في المغرب مما ادى لاستقرار اصحاب الثقافات المختلفة والديانات المتنوعة في وطنهم وحال دون هجرتهم وانقراض نوع معين او عدة انواع عن الساحة الوطنية؟ وهل كان لكل هذا دور في عدم تعرض المغرب لهجوم خارجي من قبل اصحاب المؤامرات او اصحاب اجندات الانتقام التاريخي؟ وهل المواطنة والانتماء مبني على عرق او لون او دين ام مبني على المساواة في الحقوق والواجبات واعطاء الفرص وهل سيأخذ باقي العرب المغرب نموذجا للاحتذاء به للمحافظة على مكوناته كل هذه اسئلة تطرح وربما اجوبة تستدعي النظر اليها ودراستها من قبل من يحب وطنه ويتمنى له الاستقرار والتقدم.

***

بقلم سارة طالب السهيل

لعبت منطقة الهلال الخصيب، ومحيطها الجغرافي، المُمْتَد شمالاً، من الشام إلى العراق؛ وصولاً إلى عُمق الجزيرة العربية، جنوباً. تلك الجغرافيا، التي تَكَوَّنَت أفكار ساكنيها، وثقافتها، ودياناتها القديمة، في فلك الثقافة العربية التي كانت سائدة، قبل المسيحية، بقرون طويلة من الزمان. والتي كان لها، حضاراتها، وممالكها، التي لَعِبَت أدواراً مهمة، في تاريخ المنطقة، والعالم.

تلك المنطقة؛ التي أطلق عليها مفكرنا الكبير د. يوسف زيدان تسمية (اللاهوت العربي) هذا المصطلح الذي يستخدم للمرة الأولى في مثل هذه الدراسات والأبحاث؛ هي منطقة (العروبة) التي توسطت، وتداخلت مع دائرتي، الانتشار المسيحي، والانتشار الإسلامي، الذي ظهر فيها من بعد. والتي وصفها د. زيدان بأنها، الدائرة المشتركة التي عاشت زمانين، الأول مطمور والآخر مشهور. وأعني بالمطمور يقول د. زيدان: الزمنَ السابق على ظهور الإسلام، وهو الزمن المسمى اتفاقاً بالزمن (الجاهلي) مع أنه كان زمناً عربياً مديداً، مجيداً. غير أن مجد العرب الممتد في الزمن (الإسلامي) كان من السطوع في وعينا، بحيث حَجَبَ المرحلة السابقة على الإسلام من حياة العرب، وتركها حالكةً في ناظرينا، بل مهملةً مظلمةً.

شهد قلبُ الشآم الكبير، والعراق، هرطقاتٍ متوالية التوالد يصعب تحديد زمن ظهورها الأول. وهذه الاجتهادات الهرطوقية العربية، الساعية إلى تأسيس لاهوت مسيحي، مضاد للكريستولوجيا الأرثوذكسية وهيمنة المؤسسة الكنسية؛ ظهرت كلها في محيطٍ جغرافيٍّ محدد، وبين جماعة بعينها من الناس. فكان ذلك المحيط الجغرافي وكانت تلك الجماعة، هما بذاتهما المجال الذي ظهر فيه، بعد ظهور الإسلام، ما سوف يسمى بعلم الكلام..

ظهرت بواكير علم الكلام، في النصف الثاني من القرن الأول الهجري. وذلك عقب انتشار الإسلام في البلاد المحيطة بجزيرة العرب، واستقراره فيها. كانت هناك بدايات (تراجيدية) انطلق منها علم الكلام ذاته، في منطقة الشآم الكبير والعراق. فقد ظهر هناك، قبل المعتزلة والأشاعرة، جماعةٌ من أوائل المتكلمين، كانوا بمنزلة (آباء الكلام) إذا ما استعرنا من التراث المسيحي السابق عليهم تعبير: آباء الكنيسة.. هؤلاء الآباء المسلمين، الذين استكملوا الطريق الذي سار فيه أسلافهم المسيحيون العرب، فظهر معهم، وبهم (علم الكلام).. وكان هناك، أربعة من أوائل المتكلمين، هم مَنْ حازوا على لَقْب، آباء الكلام، وهم:

مَعْبَدُ الجُهني: كان الجهني، عربياً من قبيلة جهينة، وقد عاش في البصرة، وتم وصفه (بنزيل البصرة) أي أنه كان يعيش بالمحيط الثقافي العربي، الذي عاصر المسيحية قروناً. وكان مَعْبَد معدوداً من (علماء) القرن الأول الهجري.. وقد دارت آراؤه الكلامية، أو بدعته (هرطقته) حول نقطةٍ وحيدة، هي نفي الَقدَر.. التي تَجَلت، برفضه، ومناقضته؛ للمذهب الجبريَّ الذي حرص الأمويون على تعميمه بين الناس، لقبول الحكم الأموي باعتباره من الله، وأن الإنسان عموماً ليس بيده شيء، لأنه لا يملك دفعاً للمقادير الإلهية. لأن الله له مشيئة واحدة، لابد أن تتحقق! وقد صيغ، في مقابله، المذهب (القدري) صياغته الأولى، في عبارة مشهورة تقول: لا قَدَرَ والأمرُ أُنُف. وهو ما يُفهم منه أن الأمر، أو السلطان، مفروضٌ بسطوة الحكام رغم أنف المعارضين؛ ولا شأن لذلك بالقضاء والقدر (الإلهيين) فالمفروض على الناس، فرًضَهُ أُناسٌ آخرون، لهم مصلحة بذلك.

وقد صار معبد الجهني، هذا الأب المؤسِّس، الذي تتلمذ للنصارى، لرجلٍ اسمه سوسن، أستاذاً لواحد من مشاهير آباء المتكلِّمين، هو غيلان الدمشقي.

غَيلانُ الِّدمشقي: عاش (غَيلان) في القرن الأول الهجري، في مدينة دمشق الذي نُسِب إليها. وكان يقيم في زقاقٍ فقير قرب أحد أبواب دمشق، اسمه: باب الفراديس. ومعروفٌ أن دمشق واحدةٌ من معاقل (العروبة) في المسيحية والإسلام. وكان غيلان على صلة بالخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (خامس الخلفاء الأمويين) وقد عهد إليه الخليفة بتصفية أموال الظالمين من أقاربه، فأخذ غيلان ينادي لبيعها للناس في المدينة، صائحاً: تعالوا إلى متاع الظلمة، تعالوا إلى متاع الخونة.

ومذهب غيلان الكلاميُّ، أو بدعته، أنه قَرَّر ما يوافق مَعْبَداً القائل بالحرية الإنسانية، فصار يخالف في الوقت ذاته ما كان الأمويون يؤكِّدونه من الجبرية، ومن تقريرهم، أن كل ما كان، وما هو كائن، وما سوف يكون، إنما هو أمر الله وقَدَرُه.. غير أن غيلان ناقضهم في ذلك حين قرر ضمناً، أي من دون تصريح، أن الإنسان مختارٌ وأنه سوف يُحاسب على اختياره. وقد رفض الخليفة عمر بن عبد العزيز (صديق غيلان) كلامه وآراؤه، وشدد عليه في عدم مناداته بالحرية الإنسانية. ثم قتله الخليفة هشام بن عبد الملك، بسبب هذه الأقوال (القدرية) وبسبب الذين شَّهر بهم من بني أمية، والذي وصفهم بالظالمين والخونة.

الجعدُ بن دِرهم: هو ثالث (الآباء) المؤسسين لعلم الكلام، عاش بالشام وفي دمشق تحديداً، وكان مؤدِّباً لأبناء الخلفاء. وهو مؤدِّب الخليفة مروان بن محمد، آخر ملوك بني أمية، الذي سُمِّي (مروان الجعدي) نسبةً لأستاذه. ويتلخص مذهب الجعد بن درهم الكلامي، في أنه كان يقرِّر أن الله مُنزَّهٌ عن صفات الحدوث، وكان ينكر بعض الصفات الإلهية القديمة، ومنها صفة الكلام. مما يعني أنه يرفض، بالتالي، القول (القرآني) بأن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وأنه تعالى كلَّم موسى تكليماً. لأن ذلك فيما يرى الجعد بن درهم، لا يمكن أن يجوز حقيقةً على الله. ولم يتوسَّع المؤرِّخون في بيان (المعتقد) الذي قال به الجعد بن درهم، وإنما اكتفوا بتلك الإشارات الواردة أعلاه، وعَدُّوها دليلاً على زندقته (هرطقته)..

الجهم بن صفوان: هو صاحب أول (كلام) متماسك، وآخر آباء الكلام، وأخطرهم جميعاً حسبما رأى معاصروه الذين فتكوا به، وفقهاء الإسلام اللاحقون الذين شنَّعوا به ووصموه بأبشع التهم.. وُلد أبو محرز الراسبي، المعروف بالجهم بن صفوان سنة (80هجرية) وانتهت حياته نهايةً مريعة سنة (128 هجرية). وفي ترجمة موجزة، (للذهبي) عرَّف بها الجهمَ قائلاً: جهمُ بن صفوان، الكاتبُ المتكلِّمُ، أسُّ الضلالة ورأس الجهمية. كان صاحب ذكاء وجدال، كتب للأمير حارث بن سريج التميمي. وكان ينكر الصفات، وينزِّه الباري (الله) عنها..، ويقول بخلق القرآن، ويقول إن الله في الأمكنة كلها.

وقد أخرج علماءُ الاسلام (الجهميةَ)، جملةً، من دائرة الإسلام. وهو ما يظهر من (فتوى) الإمام ابن تيمية الحاسمة التي نصُّها: اتفق سلفُ الأمة، وأئمتها، على أن الجهمية من شَرِّ طوائف أهل البدع، حتى أخرجهم كثيرٌ (من العلماء) عن الاثنتين والسبعين فرقةً (الإسلامية)...

وقد لقي آباءُ الكلام مصائرَ مفزعةً تذكِّرنا بعصر الشهداء، ومعاناة آباء الكنيسة الأوائل. فالجهم بن صفوان قتله الأمير (سَلْم بن أحوز) بأصبهان، مع أن الجهم كان لديه عهد أمان من الأمير، أبن القاتل! ولما ذكر له الجهم ذلك، رد عليه سًلْم بقوله: ما كان ينبغي له أن يفعل، ولو فعل ما أمَّنتك، ولو ملأتَ هذه الملاءة كواكب (دنانير) وأبرأك إليَّ عيسى ابن مريم، ما نجوتَ. والله لو كنت في بطني، لشققتُ بطني حتى أقتلك.. وقتله.

وقُتل الجعد بن درهم قتلةً أشد فظاعة مما لقيه تلميذه الجهم، فقد قتله الأمير خالد بن عبد الله القسري، بجامع واسط بالعراق. وقع هذا الأمرُ الشنيعُ صبيحةَ عيد الأضحى. كان الجعد مسجوناً في سجن الأمير، فأخرجوه مُقيَّداً بأغلاله، فَجْرَ يوم العيد، وجاءوا به إلى المسجد الجامع فأجلسوه أمام الناس، تحت المنبر. وفوق المنبر راح الأمير خالد القسري يلقي خطبة العيد، التي انتهى منها بقوله للحاضرين: "ارجعوا فاضحُّوا، تقبًّل الله منكم، فأني مضحٍّ بالجعد ابن درهم".. ونزل فاستلَّ سكيناً وذبح الجعد، تحت المنبر، وسط المصلِّين، والناسُ ينظرون.

وقُتل غيلان الدمشقي بأشنع مما سبق. قتله الخليفةُ هشام بن عبد الملك في مجلس الخلافة. روى ابن عساكر في تاريخه ما ملخَّصه أن الخليفة الحانق على غيلان من قبلها بسنين، زعق فيه: "مُدَ يدك". فمدَّها غيلان، فضربها الخليفةُ بالسيف فقطها. ثم قال: "مُدًّ رجلك". فقطعها الخليفة بالسيف الباتر... وبعد أيام مَرَّ رجلٌ بغيلان، وهو موضوعٌ أمام بيته بالحيِّ الدمشقي الفقير، والذبابُ يقع بكثرة على يده (المقطوعة) فقال الرجل ساخراً: يا غيلان، هذا قضاءٌ وقدرٌ! فَردَ عليه: كذبتَ، ما هذا قضاءٌ ولا قَدَر.. فلما سمع الخلفة بذلك، بعث إلى غيلان مَنْ حملوه من بيته، وصَلَبه على أحد أبوب دمشق.

ومات مَعْبَد الجهني مصلوباً أيضاً، بعدما أُهينَ إهانات مريرةً.. يقول الذهبي: كان الحجاج بن يوسف الثقفي يعذِّب معبداً الجهني بأصناف العذاب، ولا يجزع.. وقال سعيد بن عُفير: في سنة 80 (هجرية) صلب عبد الملك بن مروان (الخليفة)، معبداً الجهني، بدمشق.

وعلى هذا النحو، دفع آباءُ الكلام ثمناً باهضاُ لهذه (الأفكار) التي طرحوها على الناس في زمانهم، فنظر إليها معاصروهم على أنها كُفْرٌ (هرطقة) ورأى فيها الحكامُ وبعضُ علماء السُّنَّة المسلمين (الأرثوذكس) المتشددين، خروجاً عن الدين. خاصةً أن كلام الآباء الأربعة المذكورين، ارتبط بالتطبيق الواقعي للمعتقدات الخاصة بالحرية الإنسانية ونفي الصفات الإلهية التي تأوَّلها الحكام، بحيث تجعل أفعالهم قضاءً وقدراً، على اعتبار أن هناك إرادةً ومشيئةً إلهية واحدة (مونوثولية) لا مجال فيها لاختيار الإنسان.

وفي الختام: أرى، أن تلك الارهاصات المبكرة، والاجتهادات (الكلامية) اللاهوتية؛ التي ظهرت من خلال، المتكلمون الإسلاميون، عامةً، والآباء المؤسسين لعلم الكلام، بشكلٍ خاص؛ كانت تُبَشِّر، وتَعَد، بتأسيس فلسفة (لاهوتية عربية) تُنتِج ثقافة، وفكر عربي وإسلاميّ، قوامه، العقل والمنطق. لذلك، تم قمعها في مهدها، مبكراً، بعنفٍ ودموية قلَّ نظيرها؛ عندما استشعر الحكام خطرها، على ممالكهم. وهكذا، سادت سياسة العُنف والتكفير، وتكرَّست، إلى يومنا هذا!

إلى اللقاء..

***

سمير البكفاني – كاتب سوري

على المستوى الواقعي ثمة مشكلة فكرية ـ سلوكية يتورط بها الكثيرون. ومفاد هذه المشكلة أن الاختلاف سواء كان فكريا أو اجتماعيا أو سياسيا، في غالب الأحيان يبرر ويسوغ لأحد طرفي الاختلاف والتباين أن يمارس التسقيط  والاغتيال المعنوي للمختلف والتعدي على بعض حقوقه سواء كانت مادية أو معنوية.

وحين التأمل في هذا السلوك، نجده وفق المعايير الشرعية والأخلاقية، مما لا ينبغي الوقوع فيه. بمعنى لا توجد مسوغات شرعية تغطي أو تبرر لأحد طرفي الاختلاف التعدي على حقوق الطرف الآخر سواء كانت المادية أو المعنوية. وإن الاختلاف ليس مبررا كافيا للتعدي على حقوق المختلف.

ولكن على المستوى الواقعي ثمة وقائع عديدة تثبت أن الاختلاف سواء في دائرته الفكرية أو في دائرته السياسية يقود إلى انتهاك حقوق المختلف سواء كانت المادية أو المعنوية.

ولكي تتضح الرؤية لطبيعة العلاقة بين الاختلاف والعدالة نذكر النقاط التالية:

1ـ الاختلاف في كل دوائره ومستوياته، حالة طبيعية، لا يمكن أن تخلو أية ساحة اجتماعية منها. ولكن غير الطبيعي في هذا السياق، هو أن يدفعك هذا الاختلاف بأي مستوى من مستوياته، إلى التعدي المادي أو المعنوي على حقوق من اختلف معك..

ومعالجة هذا المسألة لا يمكن أن تكون بإفناء عناصر الاختلاف، لأنه من لوازم الحياة الاجتماعية، بمعنى حيث تكون هناك حياة اجتماعية، ستكون هناك اختلافات وتباينات في وجهات النظر، وإن هذه الاختلافات ستقود من يتخلى عن أخلاقه أو معاييره الشرعية إلى التعدي على حقوق من يختلف معه.

ولو تأملنا في طبيعة الإساءات التي تصدر في مجتمعنا فيما يتعلق وظاهرة الاختلاف، نجد حين التأمل العميق أن أحد أطراف الاختلاف يدفعه الاختلاف حقيقة أو إدعاء إلى تبني مواقف عدائية من الطرف الآخر المختلف معه.

وهذا يعني أن الاختلاف الفكري أو السياسي، يفضي على المستوى الواقعي إلى انتهاك الحقوق المادية أو المعنوية.

2ـ مع أن الاختلاف بمختلف دوائره ومستوياته، حالة طبيعية في حياة الإنسان فردا وجماعة، إلا أننا جميعا مقصرون في فقه الاختلاف. وهذا التقصير يساعد على أن يقودك الاختلاف إلى انتهاك حقوق من تختلف معه. لهذا فإن من الأمور المطلوبة في حياتنا الإنسانية والاجتماعية هو فقه الاختلاف بشكل جوهري وحقيقي.

لأننا نعتقد أن فقه الاختلاف سيقود إلى فك الارتباط بين الاختلاف بمختلف دوائره ومستوياته وانتهاك حقوق المختلف. بحيث يتم التعامل مع الاختلاف في سياق حدوده الطبيعية التي لا تتعداه إلى أي شيء آخر.

والمجتمع الذي يتمكن من فك الارتباط والاشتباك، هو المجتمع القادر على إدارة اختلافاته بشكل صحيح وإيجابي.

وأغلب المجتمعات التي تعاني من أزمات ومآزق في علائقها الاجتماعية سواء كانوا أفرادا أو مكونات، يعود في أحد جوانبه إلى هذه العلاقة الشائكة بين الاختلاف وانتهاك الحقوق. فمن يختلف معك ليس ساحة مكشوفة لانتهاك حقوقه أو التعدي على حقوقه.

الفصل بين الاختلاف والتعدي على الحقوق، هو الحل الأمثل لكل الأطراف.  والديمقراطية في التجربة الحضارية الغربية، هي في أحد جوانبها، محاولة مؤسسية لضبط الاختلاف وعدم استخدامه كمبرر أو مسوغ للتعدي على الحقوق.

والمجتمعات الغربية قبل لحظة التطور الحضاري، كانت تعاني من هذه الإشكالية، التي ساهمت في إدخال المجتمعات الغربية في حروب دينية وغير دينية مع بعضها البعض. وبداية اللحظة التي تمكنت فيها المجتمعات الغربية من الانتصار على واقعها المرير، هي تلك اللحظة التي فكت الارتباط فيها بين الاختلاف بمختلف دوائره ومستوياته، وأشكال انتهاك الحقوق.  و الديمقراطية في أبعادها الاجتماعية السياسية، هي التي جنبت المجتمعات الغربية الدخول في معارك دائمة على خلفية الاختلاف الفكري والسياسي.

ونحن في الدائرتين العربية والإسلامية، ومن أجل التخلص من الكثير من الأزمات والمآزق الداخلية، أحوج ما نكون لبناء العلاقة بين الاختلاف والعدالة. بحيث لا يتحول الاختلاف إلى مبرر للتعدي على الحقوق أو عدم الالتزام بمقتضيات العدالة.

3ـ العدالة الاجتماعية والسياسية تتجاوز في جوهرها، البعد الأخلاقي والوعظي. بمعنى أن المطلوب من الجميع سواء كنا نعيش لحظة اختلاف  أو لحظة صراع، المطلوب هو الالتزام بكل مقتضيات العدالة. وإن أحد الأسباب المباشرة لتجاوز حدود ومعايير العدالة، هو حينما تبرز ظاهرة الاختلاف بين البشر سواء بعنوان سياسي أو تحت يافطة فكرية بحيث يقود الاختلاف الفكري والسياسي إلى تجاوز حدود العدالة وممارسة العدوان المعنوي أو المادي مع من يختلف معنا سواء كان فردا أو جماعة.

لذلك ثمة ضرورة قصوى لسيطرة قيم العدالة على كل أطراف الاختلاف. بحث لا يتحول هذا الاختلاف إلى مبرر إلى انتهاك الحقوق أو التعدي على مقتضيات العدالة. فمن حقنا جميعا أن نختلف مع بعضنا البعض، ولكن ليس من حق أحد أن ينتهك حقوق من يختلف معه.

فالإنسان بطبعه نزاع إلى جعل الآخرين مثله في القناعات والسلوك، ولكن دون هذا خرط القتاد. وحينما لا ينضبط الإنسان بضوابط العدالة فإن هذه النزعة التي تتحكم في حياة الإنسان ومسيرته المتنوعة، هي التي تبرر له تدفيعه ثمن الاختلاف معي أو التباين مع وجهات نظري.

وعلى كل حال ما نود أن نقوله في هذا السياق: أن فك الارتباط والاشتباك بين الاختلاف والتعدي على حقوق المختلف المعنوية والمادية، هو أحد المداخل الأساسية لمعالجة الأزمات والمآزق التي تعاني منها مجتمعاتنا.

وإنه ليس ثمة مسوغات شرعية أو أخلاقية، للتعدي على حقوق المختلف. وإن المطلوب دائما صيانة حقوق المختلف. فمن حق الجميع أن يختلف مع الجميع، ومن حق الجميع أن يصون حقوقه ويمنع التعدي عليها، وإن التباين في الأفكار والآراء والمواقف، لا يسوغ لأي طرف التعدي على حقوق الطرف الآخر سواء كانت هذه الحقوق مادية أو معنوية.

وفي زمن التعصب المذهبي نحن أحوج ما نكون إلى ضرورة إبراز هذه القيم التي تمنع التعدي على حقوق المختلف معه. وإن الاختلاف المذهبي لا يشرع لأي طرف التعدي على حقوق الطرف الآخر. بهذا نصون مجتمعاتنا من الكثير من المخاطر التي تهدد استقرار المجتمعات ووحدتها الداخلية.

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

تحليل مُفَصّل للتحولات السوسيوسياسية وتجلياتها الأدبية

المقدمة: النظام الإقطاعي الأوروبي، بتداخل علاقات السلطة المعقدة فيه، كان يشكل النظام العالمي السائد حينها، في الداخل الأوروبي ومع العالم الخارجي على حد سواء. كان هذا النظام الهرمي له تأثير عميق على المجتمع والثقافة والوعي الجمعي في ذلك الوقت. توغلت ثقافة الإقطاع عبر أدوات السرد والمنطق والأمثال في الوعي الأوروبي وحيكت خيوطها في نسيج الحياة اليومية جميعها حول النظام الإقطاعي. حتى المنازل شيدت بالقرب من المزارع هنا وهناك مما جعل المدن في أوروبا أقل بكثير من عدد القرى الزراعية المبثوثة في الرقعة الزراعية الأوروبية. التخطيط العمراني الزراعي للقرى يؤكد الترابط المتبادل بين السادة الإقطاعيين والعائلات الزراعية التي تعمل على أراضيهم. كان النظام الإقطاعي يوفر مظهرًا من الاستقرار، مضمونًا الاستمرارية الاقتصادية للمزارعين من خلال ضمان السيد شراء إنتاجهم. ومع ذلك، فإن هذا النظام الموجود تم تقليصه على حين غرة بظهور الثورة الصناعية، التي أعلنت نظام عالم جديد.

ظهور الثورة الصناعية المضطربة

ظهرت الثورة الصناعية خلال فترة مضطربة عندما بدأ النظام التقليدي ينهار بعدم قدرته من مجاراة التطورات الكونية و لم يكن مجهزًا للتكيف مع عالم يتغير بسرعة. أدت هجرة الجماهير الأوروبية من المناطق الريفية إلى المراكز الحضرية النامية، حيث ازدهرت المصانع، إلى ارتكاب ظلمات جسيمة واستغلال للمزارعين غير المهرة وعائلاتهم ومجتمعاتهم. هذه الهجرة الجماعية أخلت بالهياكل الاجتماعية الموجودة، تاركة الأفراد الضعفاء رهن رحمة نظام صناعي يعطي الأولوية للربح على حساب الإنسانية. في هذا السياق، كتب آدم سميث، الذي نشر عمله الأصلي "نظرية الأحاسيس الأخلاقية" في عام 1759، لتغريس القيم في نظام العالم الصناعي الناشئ، والتصدي للمشاكل الأخلاقية التي تنشأ عن هذه التحولات.

استجابة فيكتور هوغو: "البؤساء"

في مواجهة هذا الخلفية من الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي، لاحظ فيكتور هوغو، الكاتب الفرنسي الشهير، التغيرات المتتالية وسجلها في أعماله الرائعة "البؤساء" المتكونة من خمسة أجزاء باعتبارها ردًا عميقًا. نُشرت موسوعة البؤساء في عام 1862، وتعتبر هذه الأعمال الضخمة تصويرًا مؤثرًا للواقع القاسي الذي تحمله العمال خلال الثورة الصناعية، حيث يظهر بوضوح ظروف عملهم القاسية والمعايير المعيشية المتدنية. يكشف السرد المتقن لهوغو عن عالم يستغل فيه أرباب العمل العمال، عبر تقديم أجور ضئيلة لا تكفي بالكاد للبقاء على قيد الحياة، مع اللجوء أيضًا إلى استغلال العمالة الأطفال المتفشي. علاوة على ذلك، يفحص بذكاء كيف تزيد إدخال الآلات الجديدة من مشكلات البطالة، خاصة بالنسبة للأفراد من الخلفيات المهمشة.

أهمية "البؤساء" في السياق المعاصر

لا يزال التصوير القوي لهوغو للحياة خلال الثورة الصناعية يرى لحد اليوم في المجتمع المعاصر، مما يجعل "البؤساء" عمل أدبي مهم ودائم الأثر. من خلال استكشاف تجارب الأفراد المتأثرين بهذه التحولات الاجتماعية بصورة شخصية، يقدم هوغو نظرات ثمينة إلى الأسباب الأساسية للثورة الفرنسية، وكذلك الموجات التالية للتقدم الاجتماعي وتحسين ظروف العمل التي نشأت بعدها.

ثورة 1832: حدث تاريخي يتم تصويره في "البؤساء"

أحد الأحداث التاريخية المحورية المصورة بوضوح في "البؤساء" هي ثورة 1832. نشأت هذه الثورة من رغبة في إجراء إصلاحات ديمقراطية، وهدفها الإطاحة بالحكومة القائمة وإقامة مجتمع أكثر مساواة. من خلال شخصية ماريوس بونتميرسي، طالب القانون الشاب الذي ينضم إلى الثوار، يقدم هوغو للقراء نظرة عن قرب على الأفكار المثالية الحماسية والالتزام الثابت لأولئك الذين قاتلوا من أجل تغيير المجتمع في هذه الحقبة المضطربة. تسجل الرواية بعناية تاريخ بداية الثورة وتقدمها وفشلها النهائي، مؤكدة التحديات والتعقيدات الجوهرية في مثل هذه الحركات الثورية.

انتقاد هوغو اللاجئ للأنظمة السوسيوسياسية

من خلال "البؤساء"، ينتقد فيكتور هوغو بلا تردد النظام الإقطاعي الأوروبي والظروف المقمرة التي أحدثتها الثورة الصناعية. يكشف تصويره الحاد عن الفروق الواضحة بين الطبقات الحاكمة والعمال المهمشين، مسلطًا الضوء على الظلم والفساد الذي ينبع من هذا النظام. علاوة على ذلك، يسلط الضوء على الجوانب الإنسانية للأفراد الذين يعانون من الفقر والحاجة، مع توجيه رسالة قوية بضرورة العدالة الاجتماعية والرحمة.

خلاصة

يعد النظام الإقطاعي الأوروبي والثورة الصناعية حقبة مهمة في التاريخ الاجتماعي والأدبي. تتعرض "البؤساء" للتحولات السوسيوسياسية التي نشأت في هذه الفترة بشكل متفائل وواقعي. تمثل الرواية صرخة واعية تدعو إلى العدالة الاجتماعية وتناصر النضال من أجل إصلاح الظروف الاقتصادية والاجتماعية غير المشجعة. وبفضل تأثيرها القوي وتصويرها المؤثر للحياة في تلك الحقبة، تستمر "البؤساء" في الإلهام والتأثير على القراء اليوم.

***

د. محمد الزكري القضاعي

............................

* جزء من محاضرة قدمتها لطلبة الماجستير في ألمانيا

أولا، أنا لا أدعي أن أنني راكمت تجربة مهمة أو حققت منجزا هائلا في ميدان الترجمة والدراسات الترجمية التي باتت تشغل اليوم حيزا مهما في مجالات عديدة ليس فقط داخل العلوم الإنسانية بل أيضا في العلوم الأخرى بعد أن كان ينظر إليها كنشاط ثانوي تابع لأنشطة ثقافية أكثر أهمية.  ولجت مجال الترجمة من باب الدراسات الأدبية وبالخصوص من خلفية ترتبط باهتمامي بالأدب المقارن والأدب العالمي الذي تعرفت على تاريخه ومدارسه ومبادئه من خلال اطلاعي على كتابات غوته، وويليك ووارن وإتييمبل ودامروش  وباسكال كزانوفا وغيرهم. انبهرت كثيرا بالقيم والمبادئ التي استند عليها الأدب المقارن، وبعده الأدب العاملي، بالرغم من الأزمات التي مر منها في تأثره وتفاعله مع نظريات ومنهجيات ومفاهيم أخرى لها علاقة بالانتماء الثقافي والقومي. شخصيا، لم يسبق أن فكرت في الأدب وقيمته كنسق أو نتاج جمالي يرتبط حصرا بقومية أو ثقافة أو جنس أو عرق أو لغة محددة، بل اعتبرته على الدوام حقلا معرفيا يهدف إلى تجاوز تخوم الانتماء وحدود القومية بتأكيده على أهمية الإبداع كخطاب عابر للقوميات والأوطان.

كانت قراءاتي الأولى لمختلف الأجناس الأدبية باللغة العربية في قرية أمازيغية صغيرة لا تتوفر على مكتبة مدرسية أو عمومية. اطلعت حينها على معظم القصص القصيرة والروايات والدواوين الشعرية التي كنت أشتريها أثناء زيارتي للأسواق الأسبوعية بالمدينة المجاورة. بعدها انفتحت على اللغة الفرنسية فقرأت بها أمهات كتب الأدب الفرنسي التي خطتها أنامل موليير، وراسين، ورونسار، وشاطوبريان، وهيغو، وبالزاك، وفلوبير، وزولا، وكامي، وسيلين، وسارتر، قبل أن أقع في حب اللغة الإنجليزية أثناء دراستي الثانوية. كان للغة الإنجليزية أثر كبير وراسخ في تكويني الشخصي والعلمي حيث فتحت لي آفاقا جديدة أطلعتني على ثقافات وشعوب وتجارب إنسانية مختلفة. أصبحت أقرأ لأدباء عالميين ينحدرون من افريقيا وأسيا وأمريكا وأستراليا وكندا، وأمريكا الجنوبية، وجزر الكرايبي، أدباء لم تتح لي الفرصة لأتعرف عليهم وعلى انشغالاتهم، وعلى أسلوبهم في الكتابة بسبب عائق اللغات المختلفة. بدا الأمر وكأن اللغة الإنجليزية قلصت المسافات واختصرت الأزمنة وحافظت على الجهد المبذول بما وفرته من ترجمات للآداب العالمية. كان الأدب بعوالمه المتخيلة يمثل بالنسبة لي العالم الذي كنت أتوق إليه والبديل الممكن لظروف الفاقة والحاجة التي كنت أعيشها. هناك في أحد أركان غرفة كئيبة ومهملة شيدت بلامبالاة على سطح المنزل كنت أنزوي وأتيه في عوالم شكسبير، ودانييل ديفو، وطوماس هاردي، واوسكار وايلد، وجيمس جويس، وهمنغواي، وجون ستاينبك، ولانغستون هيوز، وجيمس بالدوين، وشينوا أشيبي، ووول شوينكا، و أيي أرما، وماريما با، وديريك والكوت، وجميكا كنكيد، وجورج لامين، وبورخيس،  وماركيز، وكورتزار، وأوكتافيو باز، وفيرجينيا وولف، وجيرترود ستاين، ودستويفسكي، وتولستوي، وكوغي، وبوشكين، وكونترغراس، وهولدرلين وريلكيه وغيرهم. أدركت حينها أهمية الترجمة كمجهود نبيل يروم تقليص الهوة بين الثقافات والشعوب، كأداة تساهم في توسيع الإدراك ونشر الوعي، فانشغلت بتعميق إلمامي باللغات التي تعلمتها بالإضافة إلى لغتي الامازيغية. كنت كلما فرغت من قراءة نص أدبي في لغته الأصلية إلا وتمنيت أن أتقاسم هذه الغبطة الروحية واللذة الحسية التي اشعر بها مع أكبر عدد ممكن من القراء في اللغات التي أتقنها، وفي نفس الوقت كنت أتمنى أن أقرأ النصوص المترجمة في لغتها الأصلية والتي لم أكن أتقنها. كنت أحس بأن كل نص أدبي له تأثير خاص وهالة جمالية فريدة في لغته الأصلية يفقد جزءا منها في كل عملية نقل ترجمي يتعرض لها. وهكذا صرت اهتم بالترجمة كمجهود شخصي يسعى إلى محاولة نقل لذة الأدب والفن والفكر باعتبارها مجالات تمثل معينا لا ينضب لأسمى ما يصبو إليه الإنسان من قيم لتحسين ظرفه الوجودي.

كان للأدب والفكر في علاقتهما بالترجمة وما تحمله من قيم إنسانية مشتركة تأثير كبير على شخصيتي وتصوري للحياة فقد دفعت بي مجالات المعرفة تلك إلى الانفتاح على الآخر وجعلتني أتوق إلى استكشاف ثقافات وجغرافيات أخرى مختلفة عن موطني. كافحت بما توفر لي من موارد مادية محدودة للحصول على تأشيرات تسمح لي بالسفر إلى دول مختلفة تعرفت عليها من خلال الأدب والفكر، وتخول لي فرصة لقاء كتاب وشعراء وفنانين كنت أطلع على كتبتهم وكانت تشغلهم نفس القضايا الإنسانية التي ترتبط بالأساس بالحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة والتعايش السلمي والإيمان بالاختلاف. شكلت رحلاتي إلى أمريكا وكندا وتركيا وأستراليا وأوروبا منعطفا مهما في حياتي الشخصية وتحصيلي العلمي فقد استكشفت خلالها مواقع تاريخية وثقافية وأيكولوجية مهمة والتقيت بكتاب وشعراء وفنانين كانت تربطهم علاقة وطيدة بأدباء جيل البيت الذي كنت أعد حوله أطروحة الدكتوراه. في 2013 خلال مؤتمر عن جيل البيت، التقيت بآن ولدمان، إحدى أبرز شواعر مدرسة نيويورك وإحدى أقرب صديقات ألن غينسبرغ فاستدعتني للمشاركة في دروس الكتابة الإبداعية التي يلقيها مجموعة من الكتاب البارزين بمدرسة جاك كيرواك للشعر بجامعة نروبا بكولورادو كل صيف.  هناك سأتلقى دروسا في الكتابة الإبداعية وانفتح على الترجمة من خلال كتاب ومترجمين بارزين يهتمون بالإنسانيات المقارنة أمثال آن كارسن المتخصصة في الأدب الكلاسيكي، وجاك كلوم المهتم بالشعريات الإيكولوجية، وريد باي المهتم بالفكر البوذي، وسيسيليا فيسونا المهتمة بالفنون وثقافات الشعوب الأصلية، وإيمي كتانزانوالتي تدرس تقاطعات الشعر والعلوم في نظريتها عن "شعريات الكوانتم". هناك ستتبلور أولى أفكاري عن ترجمة أشعار جيل البيت، ومدرسة نيويورك، ونهضة سان فرانسيسكو وكوليج بلاك ماونتن إلى اللغة. كان لي أيضا شرف لقاء الصديق الشاعر مايكل روتنبرغ مؤسس حركة مائة ألف شاعر من أجل التغيير، والذي سبق أن تبادلت معه رسائل عن الكتابة الإبداعية والحياة الثقافية في السبعينات ومشاكل البيئة وبالخصوص عن تجربته مع بعض كتاب جيل البيت الذين كانت تربطه علاقة وطيدة بهم، خاصة الشاعر مايكل مكلور والشاعرة جوان كايغر اللذين عرفني عليهما خلال زيارات خاطفة. هناك في سانتا روزا بكاليفورنيا سيبدأ مشروع ترجمتي لديوان مايكل روتنبرغ الذي توفته المنية عام 2022، وبعد العودة من الغرب الأمريكي إلى الضفة الشرقية سألتقي ببوب هولمان وبعض شعراء جماعة نيوريكان كما التقيت أيضا بالشاعرة والفنانة أمينة بركة، زوجة الشاعر أميري بركة، أحد أقطاب حركة الفنون السوداء، والذي ترجمت بعض أشعاره ونشرتها في الأنثولوجيا المذكورة.

الترجمة إذن مشروع إنساني نبيل وضروري يهدف إلى نقل المعرفة والفكر الإنساني في شتى تمظهراته من حيز جغرافي معين ومن لغة معينة ويجعله متوفرا في مختلف بقاع العالم. إنها محاولة إنسانية، قبل أن تكون مهنة مدرة للربح أو مشروعا سياسيا يرجى من خلاله اخضاع الشعوب كما فعلت قوى الاستعمار في عصور مختلفة، الترجمة نابعة من قناعات الشخص، وتطمح إلى ربط جسور التواصل مع الذوات والألسن، والثقافات الأخرى من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والتعايش السلمي.

الترجمة عملية مضنية لأنها تتعامل مع أنظمة لغوية معقدة وغير متساوية كما تقول نظرية سابير-وورف، كما أنها يمكن أن تنطوي على تحيزات وتناقضات كما بين التوجه النسوي والتفكيكي الذي دعا إلى قراءة نقدية مزدوجة لما أنتجه الفكر الغربي من خلال تفكيك مكونات النصوص للوصول إلى المعاني التي تخفيها متجاوزا مفهوم الحقيقة الثابتة.  إنها مجهود فكري يبدو ضروريا ومستحيلا في نفس الوقت لأنها تخضع أيضا لعلاقات القوة الملموسة والمجردة، تلك التي تخترق الجغرافيات المتعددة للعالم وتكتسح البرامج السياسية والسياسات الثقافية لصانعي القرار. في هذا الصدد، يؤكد جاك دريدا على حاجة المترجم إلى التفاوض مع ما لا يقبل التفاوض من خلال نسق علاماتي معقد واعتباطي يحكمه سياق معين لترجمة ما لا يمكن ترجمته.

الترجمة بهذا المعنى تصبح ممارسة اقتصادية تتأرجح بين الاحترام والاستغلال لأنها تسعى إلى الاستملاك والاستيلاء الذي يهدف إلى نقل المعنى المناسب من النص الأصلي إلى اللغة الأم بالطريقة المناسبة بأقل عدد ممكن من الكلمات لتفادي أي خسارة. يتضح هذا العامل الاقتصادي وتبعاته في طبيعة العلاقة التي تربط بين المترجم والناشر والسوق حيث يجد المترجم نفسه في أغلب الأحيان يستجيب لاختيارات الناشر التي تفضل أعمالا ألفها كتاب معروفين يمتلكون قاعدة قراء واسعة، ويتخلى عن اختياراته الشخصية التي تحددها غاية نبيلة في تقاسم المعرفة ونشر الوعي، كما يضطر في نهاية المطاف إلى التخلي عن مقابل مادي يكلل جهوده في سبيل تأميم الرأسمال الثقافي المترجم. في ظل ظروف الرأسمالية المعولمة، يمكن للترجمة أن تصبح ضحية عندما لا تغدو أن تكون سوى أداة تواصلية للعولمة التي تصبو إلى جعل العالم قرية صغيرة في نفس الوقت الذي تهدد فيه باختزال اللغات الإنسانية في لغة واحدة لأغراض اقتصادية في غالب الأحيان، وهو خطر يجب أن ننتبه إليه كي نتفادى انقراض واختفاء اللغات العالمية التي تحمل في طياتها تجارب ثقافية إنسانية متميزة وتحمل ذاكرة تاريخية فردية وجماعية.

تقول غياتري شاكرفورتي سبيفاك أن «الترجمة هي فعل القراءة الأشد حميمية" وفيه يستسلم المترجم للنص بعد أن يحصل على إذن الآخر المختلف للتجاوز والانتهاك والخيانة من خلال اللغة حيث تتجاوز الذات حدودها. لهذا السبب نجد أنفسنا كمترجمين وكممارسين لفعل الترجمة مرغمين على دخول ما أسمته سبفاك حلبة الأخلاقي-السياسي لأن الترجمة في نهاية المطاف هي "محاكاة بسيطة لمسؤولية أثر الآخر في الذات" وتستدعي تجاوز أغلال الهوية الشخصية أثناء إعادة إنتاج النص وكأن المترجم يشتغل باسم أو بسند ملكية في ملكية الذات الأخرى1.   تدعو سبيفاك إلى أخذ المنطق بعين الاعتبار واستبعاد التشويشات والإزعاج الذي يمكن أن يأتي من البلاغة لضمان السلامة في عملية تحضر فيها المجازفة والعنف اتجاه الواسطة المستعملة في الترجمة. ولهذا يبدو أنه ضروري من الناحية الأخلاقية استحضار قيم مشتركة من قبيل الحصافة والعدالة والمساواة والديموقراطية والحق في الاختلاف وحتى الحب الذي تتساءل سبيفاك عن مكانته ودوره فيما هو أخلاقي. يكمن دور المترجم، في رأي سبيفاك، في تبسيط هذا الحب الذي يربط بين الأصلي وظله، حب يسمح بالإبلاء والإنهاك، ويبعد فاعلية المترجم ومتطلبات جمهوره المتخيل أو الحقيقي2 ، وهي إمكانية تلغيها سياسات الترجمة من نصوص لا تنتمي للموروث الأوروبي لأن المترجم لا يتفاعل بشكل كاف مع بلاغة النص الأصلي. لكي يكون المترجم إذن أخلاقيا وسياسيا في الآن نفسه يلزمه أن يعي هذه العلاقة الخشنة التي تربط المنطق والبلاغة اللذين يمثلان، حسب سبيفاك، شرط ونتيجة المعرفة، فالمنطق يخول الانتقال من كلمة إلى كلمة بواسطة قرائن مشار إليها بدقة بينما البلاغة تلتزم بالاشتغال على الصمت الموجود بين وحول الكلمات وتحافظ على أدبية ولذة النص3.

سأختم بالتذكير بأهمية اللغة والثقافة الأم في أي مشروع يهتم بالترجمة، خاصة في ظل ظروف العولمة التي تختفي فيها الخصوصيات الثقافية والممارسات الاجتماعية ذات البعد الكوني. يجب إعادة رد الاعتبار للغات الأصلية وللأدب الشفهي والشعريات الإثنية التي تذكر دوما بأهمية الحفاظ على النظام الايكولوجي المعقد على هذا الكوكب، وعدم تفويت جميع السلط وملكات التفكير الإنساني لآلات ميكانيكية مرقمنة تمارس نوعا من القمع أو العنف الإبستيمي دون أن تحترم خصوصيات الذوات الفاعلة وحساسياتها.

***

د. الحبيب الواعي

شاعر ومترجم وأستاذ مساعد بشعبة الدراسات الإنجليزية وآدابها بجامعة ابن زهر بأكادير، المغرب.

......................

1- ص 320.

2- نفسه ص321

3- نفسه ص 322

أنا على ثقة تامة بأن هناك الكثير ممن سيقرأ عنوان هذه الدراسة سيضحك بقرارة نفسه وهو يقول: هل من المعقول ان الدكتور عدنان عويّد لا زال يؤمن بهذه الترهات الفكريّة بعد أن أثبت التاريخ فشلها على مستوى الممارسة؟. على العموم هي قناعة ربما لا تختلف عن قناعة الذين لازالوا يعتقدن بأن الدين الإسلامي هو الحل لمشاكلنا اليوم، رغم الفشل الذريع الذي أصاب تطبيقاته العمليّة ماضياً وحاضرا. ولكن الفرق بيني وبين من يفكر بعودة الدولة الإسلامية، أن دعاة الحاكميّة ينطلقون من نصوص مقدسة لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من تحتها، فهي نصوص مطلقة غير قابلة للإلغاء والتعديل أو المراجعة. أما دعوتي أنا فهي لا تنطلق من النصوص المقدس، بل من الواقع ومدى ملاءمة الفكر الوضعي لهذا الواقع. فأفكار الاشتراكيّة ورؤاها وضعيّة في معطياتها، وهي قابلة للتعديل والمراجعة وحتى الالغاء إذا اقتضت مصلحة الواقع أي مصلحة الفرد والمجتمع. ولهذا السبب أقول: بأني لا أريد في بحثي هذا أن أقنع جميع من يطلع عليه أن يأخذ به، فالحقيقة نسبية وكل منا ينظر إليها من مصلحته ودرجة ثقافته ومدى اهتمامه بمصالح الفرد والمجتمع. لذلك أقول بأني لا أريد أن أقنع بما جئت عليه هنا، إلا هؤلاء الذين يؤمنون بالعدالة والمساواة وحريّة الفرد المشروط بالوعي وبالمسؤوليّة تجاه نفسه وتجاه المجتمع. أي هؤلاء الذين سيتخلون عن أنانيتهم ومصالحهم الفرديّة الضيقة، والنظر والعمل معاً لمصلح الدولة والمجتمع وحب الوطن والسمو به.

في صيف عام 2001وفي العدد (27) من مجلة "النهج" التي كان يرأس تحريرها السيد "فخري كريم"، كان محور العدد فيها (هل للاشتراكيّة مستقبل ؟). وقد ساهم في هذا المحور كل من الكتاب والمفكرين "كريم مروة" و" حسين عبد الرازق" و"الدكتور قدري جميل" و" حامد خليل" و " مصطفى الحسيني" وكان لي شرف المشاركة في هذا المحور بدراسة تحت عنوان: (الاشتراكيّة قابلة للتجديد والتطور).

لقد بينت يومها في تلك الدراسة المطوّلة بأن الاشتراكيّة – والمقصود بها " الاشتراكية العلميّة" - قابلة للتجدّد والتطور، كونها تحمل في جوهرها فهما وممارسة، الحل العقلانيّ والمنطقيّ لتجاوز الشعوب المتخلفة والمضطهدة والمستعمرة معاناتها إذا ما توفرت المقدمات الموضوعيّة المتعلقة بدرجة تطور قوى وعلاقات الانتاج، والمقدمات الذاتيّة المتعلقة بالحامل الاجتماعيّ لها، والمسلح بفكر وتنظيم ثوريين هدفهما بناء الإنسان وتقدمه.

اليوم وبعد اثنين وعشرين عاماً على نشر تلك الدراسة، وبعد كل تلك التحولات العميقة والواسعة التي انتابت العالم تحت مظلة النظام العالمي الجديد، وبعد انهيار المنظومة الاشتراكيّة ذاتها في العديد من الدول التي سارت على الخط الاشتراكيّ في التنمية، وفي مقدمتها الاتحاد السوفياتي، أجد بأن السؤال ذاته (هل للاشتراكيّة مستقبل؟.)، لم يزل قابلاً للطرح من جديد، بل وبإلحاح شديد، خاصة بعد أن تكشفت لنا الكثير من القضايا اللاإنسانيّة التي بشرت بها الليبراليّة الجديدة وعالم ما بعد الحداثة.

دعونا بداية نتعرف على أهم ما أفرزه النظام العالمي الجديد بعد انهيار المنظومة الاشتراكيّة وسيادة القطب الواحد.

إن من تابع حركة النظام العالمي الجديد من نهاية العقد الثامن من القرن العشرين، إلى نهاية القرن العشرين، كيف أخذت الولايات المتحدة الأمريكيّة تفرض نفسها على السياسة العالميّة بشكل عام، وعلى سياسات الدول الأوربية ذاتها وخاصة الدول الحليفة لها في المعسكر الغربي وهما فرنسا وبريطانيا بشكل خاص.

مؤتمر يالطا:

قام المشاركون في مؤتمر يالطا في 2 - 3 ديسمبر 1989 طرح ومناقشة النظام العالمي الجديد، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وظهرت مفاهيم وعناصر جديدة مختلفة في هذا النظام العالمي الجديد، حيث توقع المتابعون للحركة السياسيّة العالميّة بأن سياسة الاحتواء يمكن أن تُستبدل بتعاون القوى العظمى. وقد يعالج هذا التعاون مشاكل مثل الحد من التسلح ونشر القوات، وتسوية النزاعات الإقليميّة، وتحفيز النمو الاقتصادي، وتقليل القيود التجاريّة بين الشرق والغرب، وإدماج العديد من دول الاتحاد السوفياتي السابق في المؤسسات الاقتصاديّة الدوليّة وحماية البيئة. ووفقًا لتعاون القوى العظمى، تم توقع دور جديد لحلف الناتو، حيث اعتقد الكثير من المؤتمرين سيكون الحل الشامل لحلف الناتو وحلف وارسو، ومع ذلك، كان من المتوقع أيضاً أن يساعد الوجود العسكري الأمريكي المتواجد في أوروبا على احتواء "العداوات التاريخيّة"، مما يجعل من الممكن  وجود نظام أوروبي جديد خارج عالم الحرب الباردة. (1).

بيد أن الذي تم على أرض الواقع غير ذلك تماما، حيث تبين بعد سنوات قليلة من سقوط المنظومة الاشتراكيّة بأن ما سمي بـ" النظام العالمي الجديد"، هو ليس أكثر من حكومة عالميّة دكتاتوريّة سريّة ناشئة تقودها طبقة رأسماليّة متوحشة من خلال نظريات المؤامرة المختلفة. فجوهر الموضوع المشترك في (نظريات المؤامرة) في عالم النظام العالمي الجديد، هو أن نخبة القوة السريّة ذات الأجندة العالميّة، راحت تخطط لوضع خرائط طريق لحكم العالم في نهاية المطاف، من خلال حكومة عالميّة استبداديّة ستحل بالضرورة وفي نهاية المطاف، محل الدول القوميّة المركزيّة ذات السيادة، ومن خلال بروباغندا شاملة تعمل أيديولوجيتها عل تشييد هذا النظام العالمي الجديد باعتباره تتويجا لتقدم التاريخ أو نهايته. لذلك، تبين أن العديد من الشخصيات المعاصرة والمؤثرة على المستوى الاقتصاديّ والسياسيّ والثقافيّ بأنساقه الفلسفيّة والفنيّة والأدبيّة، راحت تُنَظِرُ وتبشر بهذا النظام العالمي الجديد، باعتبارها جزءاً من عصابة تقودها الطبقة الرأسماليّة المتوحشة، التي بدأت تعمل من خلال العديد من المنظمات الدوليّة على تنظيم الأحداث السياسيّة والفكريّة والماليّة الهامة، عبر خلق أزمات نظاميّة على المستويين الوطني والدولي، كخطوات مستمرة في تقدمها وتآمرها لتحقيق الهيمنة على العالم. (2).

ماهي أهم التجليات العمليّة للنظام العالمي الجديد.؟:

1- على المستوى السياسي: استغلال الأجهزة الرئيسة والفاعلة لهيئة الأمم المتحدة ومجالسها، وفي مقدمتها مجلس الأمن، ومحكمة العدل الدوليّة. بحيث استطاعت أمريكا عبر تحكمها بأعضاء مجلس الأمن، أن تَقَرِرَ الكثير من القرارات الدوليّة التي تخدم الطبقية الرأسماليّة المتوحشة المتحكمة في الاقتصاد العالمي، بل وعند الضرورة كانت تمارس أعمالاً ذات طبيعة عدوانيّة على الدول الأخرى دون أخذ موافقة مجلس الأمن كما جرى في احتلالها للعراق. أما محكمة العدل الدوليّة فهي سلاح آخر تهدد به الأنظمة التي لا تتفق ومصالحها، تحت ذريعة غياب الديمقراطيّة في هذه الأنظمة وممارسة حكوماتها الدكتاتورية ضد شعوبها.

أو بتعبير آخر نقول: لقد تحولت الهيئة العامة للأمم المتحدة ومجالسها أدوات ضغط بيد الولايات المتحدة وحلفائها من الدول العظمى، تمارس عبرها فرض هيمنتها على دول العالم، والعمل على تفتيت الدول المركزيّة، وإجبار من تريد أن تخضعه من الدول لإرادتها بالترغيب أو الترهيب، حتى ولو كانت دولة من الدول العظمى، كما يجري اليوم في محاصرة روسيا  من خلال الحرب الروسيّة الأوكرانيّة.

2- على المستوى الاقتصاديّ: نمو الشركات المتعددة الجنسيات وتضخم أعمالها على مستوى العالم، وإدخال دول العالم تحت مظلة أسواقها عبر خلق منظمات وصناديق دولية تمارس من خلالها فرض هيمنتها على دول العالم، وتحويل بلادها إلى أسواق تعمل لخدمة الطبقة الرأسماليّة المتوحشة التي تحولت إلى طبقة عالميّة، فوجد في هذا النظام العالمي منظمة الجات، أو السوق الحرة بكل أشكاله على مستوى العالم، إضافة إلى وجود السوق الأوربية المشتركة، وصندوق البنك الدولي للأعمار والتنمية، وصندوق النقد الدولي، وغير ذلك من اتفاقات ومعاهدات اقتصاديّة تفرض على هذه الدولة أو تلك لتحول بلادها إلى أسواق تخدم السوق الرأسماليّة العالميّة. هذا وقد أصبح لهذه الشركات المتعددة الجنسيات دوراً في التأثير على سياسة الدول الداخليّة وفرض هيمنتها على اقتصاد وسياسة بلادها، ولا تتوانى عند الضرورة من خلق مؤامرات وانقلابات على أنظمة حكم غير موالية لسياساتها إذا اقتضت الحاجة من أجل ربط دولها بعجلة اقتصاد السوق العلمية.

3- وعلى المستوى الثقافيّ بكل أنساقة الفلسفيّة والأدبيّة والفنيّة والدينيّة: راح كباتنة النظام العالمي الجديد يعملون على تحطيم كل قيم الحداثة ممثلة بقيم عصر التنوير، حيث اعتبروا كل هذه القيم قد تجاوزها الزمن، ولم تحقق شيئاً للفرد والمجتمع والدليل على ذلك بنظرهم قيام الحربين العالميتين وما تركته من نتائج مدمرة، متناسين أو مبعدين الأسباب الحقيقيّة التي كانت وراء قيام هاتين الحربين وهي الطبقة البرجوازيّة في مرحلتها الإمبرياليّة.

عبر هذا الهجوم على قيم الحداثة والتنوير بكل أبعادها الفلسفيّة والسياسيّة والدينيّة والفنيّة والأدبيّة، المشبعة بقيم العدالة والمساوة وحب الإنسان وتنميته، راحت تُطرح قيم الموت والنهايات، فالتاريخ انتهت حركته لتقف عند النظام العالمي الجديد، وعلى مستوى الفن طرح موت الفن وكذلك موت الأدب والدين وكل القيم النبيلة، وعلى المستوى الفلسفي تم التركيز على الفرديّة وحريّة الفرد وإرادته في تحقيق ذاته، وضرب كل ما يمت للروح والقيم الجماعيّة، فالفرد وقيمه المصلحيّة النابعة من ذاته هي القيم المطلوبة، وهي قيم لا يحددها العقل بقدر ما تحددها الرغبة الذاتيّة وجوانيّة الفرد وغرائزه، هذا وإن وكل الأيديولوجيات التي تدعوا إلى دور ومكانة الكتلة الاجتماعيّة، هي أيديولوجيات ربطت من قبلهم بالفاشيّة والنازيّة والشيوعيّة. وبناءً على هذه التوجهات ساد الضياع واللامعقول والعبث والوجوديّة بشقيها المادي والروحي عالم الفرد، فتذرر المجتمع وتنمذج الفرد، وأصبحت اللذّة والشهوة الغريزيّة هي المحرك لطوح الإنسان وإثبات ذاته، التي فقدت لونها وشكلها وقيمها وكل ما يعبر عن إنسانيتها.

هكذا نرى إذن، باسم الحريّة الفرديّة والإرادة الحرّة، راحت قوى النظام العالمي الجديد تعمل على إعادة هيكلة الإنسان عبر كل الوسائل المتاحة لديها الماديّة والفكريّة، وفي كل مجالات حياته، من أجل قبول ما خططت له هذه القوى من قبله، وبخاصة زرع قيم الحريّة الفرديّة، وجعل الفرد سيد نفسه وهو وحده من يقرر مصيره بيده.

بعد كل هذا الذي جئنا إليه في تحليلنا لطبيعة النظام العالمي الجديد، وما يصبوا إلى تحقيقه هذا النظام على مستوى الفرد والمجتمع، بل وإعادة هيكلة العالم وفقاً لمصالح الطبقة المتحكمة اليوم بهذا النظام، يأتي السؤال المشروع ليطرح نفسه علينا من جديد وهو:

لماذا الاشتراكيّة هي الحل:

نقول: باسم الحريّة والإرادة الحرة في النظام العالمي الجديد ضاع الفرد والمجتمع وفقد الإنسان إنسانيته وقيمه النبيلة، أي استلب وغرب وشيء وهجن ونمذج، وباسم الديمقراطيّة سيطرت حريّة السوق اللامشروطة على حياة الناس بقيادة زعماء الشركات المتعددة الجنسيات. كما غاب دور الدولة ومؤسساتها والمواطنة والقانون، بعد أن أعيد صياغة مضامينها وفقاً لمصالح قادة هذا النظام، إذ باسمها يمارس ويتحكم كباتنة الرأسمال على حياة الإنسان وتحديد مسارتها الماديّة والروحيّة كما بينا أعلاه. وهذا يعني أن النظام العالمي الجديد أصبح ضد الإنسان وعدوه اللدود. لذك لا بد من البحث عن نظام آخر يحقق للإنسان ذاته ويعيد له جوهر إنسانيته التي استلبها منه النظام الرأسماليّ منذ دخول الطبقة الرأسماليّة مرحة الإمبرياليّة وصولاً إلى النظام العالمي الجديد. وهذا لن يتحقق برأيي إلا بالنظام الاشتراكيّ الذي حورب سابقاً تحت أجندات دعائيّة عديدة منها: اتهامه  بقتل الروح الفرديّة لدى الإنسان باسم تحقيق المصلحة الجماعيّة، ومحاربة حريّة الفرد والمجتمع، وبالتالي اعتبار النظريّة الاشتراكيّة ومفاهيمها، لا تختلف من حيث الجوهر عن الروح الفاشيّة والنازيّة، وكذلك اعتبروا أن الاشتراكيّة تعمل على قتل روح المبادرة والإبداع، بسبب محاصرتها للسوق الحرّة، ففي السوق الحرّة تتجلى ابداعات الإنسان كما يدعون. هذا مع تأكيدهم بأن الفكر الذي تتبناه الاشتراكيّة هو ضد الدين، إن كان من حيث تحجيم دور الملكيّة الخاصة التي يبشر بها الدين، أو من حيث البنية الفلسفيّة لفكرها الذي يدعوا إلى الإلحاد، وعلى هذا الموقف وظفوا لمحاربة الاشتراكيّة التي نعتوها بالشيوعيّة كلاً من الكنسية والجامع، وكل القوى الأصوليّة الجهاديّة.

انهيار المنظومة الاشتراكيّة وتأثيرها على دعم واستمراريّة النظام الرأسماليّ بصيغة النظام العالمي الجديد:

لاشك أن سقوط المنظومة الاشتراكيّة التي لعبت عوامل كثيرة على مستوى داخل الدول المتبنية للاشتراكيّة نفسها، أو على مستوى الخارج ممثلاً بالدول التي حاربت الاشتراكيّة، وخاصة المعسكر الغربي، كان له التأثير الكبير على دعم واستفحال آليّة النظام العالمي الجديد والعمل للسيطرة على العالم. ومن أهم هذه العوامل التي ساهمت في سقوط المنظومة الاشتراكيّة التالي:

على مستوى الداخل:

غياب الحامل الاجتماعي الممثل الحقيقي للمشروع الاشتراكي، إن كان على المستوى الطبقيّ، حيث غابت هنا الطبقة العاملة كوجود مادي بسبب غياب مكونات وجودها، أي التطور الصناعي، فكثير من الدول التي تبنت النظام الاشتراكي أسلوب حياة، هي دول فقيرة متعددة الانماط الانتاجيّة وفي أضعف حالاتها، وبالتالي ساد فيها التعدد الطبقي في صيغته الهجينة، فكان الفلاح عموده الفقري، وهو يمثل قوى طبقيّة فقيرة ومجهلة وجبريّة في تفكيرها، ومعظمها يعمل لدى ملاكين لم يكتسبوا أصلاً ملامح الطبقة الاقطاعيّة الأصيلة في ملكيتها وطبيعة عملها في الدولة والمجتمع، وعندما استلمت الأحزاب الديمقراطيّة الثوريّة السلطة، قامت بإجراء الإصلاح الزراعي، فحولت الجميع الاقطاعي والفلاح معاً إلى ملاكين صغار ومنتجين، وفي بعض الدول ومنها الاتحاد السوفيات عملت الكولخوزات والفولخوزات، فسادت الملكيّة العامة للدولة في الزراعة وغيرها من قضايا الاقتصاد. فالملكية الأرض الصغيرة الموزع بقانون الاصلاح راحت تصغر مع مرور الأيام، ولم تعد كافية في إنتاجها بسبب تقسيمها بين الورثة، وهذا ما ساهم في دفع الفلاح إلى الهجرة الداخليّة والخارجيّة معا، ففي الهجرة الداخليّة تريفت المدن التي هي أقرب إلى المدن الريفيّة أساساً منها إلى المدينة، فعم الفقر في الريف وانتشرت الأحياء الفقيرة في المدينة. أما الذين هاجروا إلى الخارج، فراحت أموالهم تتجه إلى بناء الفيلات وتعدد الزوجات وبعض المشاريع الاقتصاديّة الصغيرة وخاصة مشاريع البناء السكني. وهنا دخلت الدولة في مآزق كثيرة في الجانب الاقتصادي، في الوقت الذي يتطلب منها النظام الاشتراكي تأمين التعليم والصحة والعمالة المجانيّة، وبناء قاعدة خدماتية مثل تأمين الكهرباء والمياه النقيّة، ومد طرق المواصلات وغير ذلك، وفي مثل هذه الأجواء تَحَمَلَ عبء مسؤوليّة قيادة الدولة والمجتمع ضباط الجيش وبعض النخب السياسيّة المثقفة، وهي بمعظمها لا تمتلك الثقافة الحقيقيّة لمعنى الاشتراكيّة، ولا أسلوب تطبيقها، الأمر الذي أدى إلى سيادة البيروقراطيّة في قيادة الدولة، رغم الانجازات الكبيرة التي حققتها هذه القيادات لشعوبها في هذه الدول على كافة المستويات مقارنة لما كانت تعيشه قبل التطبيق الاشتراكي.

أن شهوة السلطة التي تبلورت عند قيادات الأحزاب الاشتراكيّة، ساهمت في خلق طبقة جديدة من القيادين على مستوى الدولة والحزب، أخذت تهتم بمصالحها الخاصة، ووجدت في السماسرة أو الفئة الطفيليّة، ما يساعدها على سرقة الكثير من أموال الدولة والمجتمع، وبالتالي إدخال الدولة في عالم من الفساد، وهذا تطلب من القوى الحاكمة أن تمارس القمع وإرهاب الشعب كي لا يتحرك ضدها، فانتشر الكذب والتزلف والرياء والمطبلون والمزمرون والانتهازيون، وعبادة الشخص وغياب الديمقراطيّة بعد تحويل المنظمات الشعبيّة والنقابات المهنيّة إلى حزام ناقل للسلطة، وليس لخدمة الشعب أو المكونات التنظيميّة لهذه المنظمات والنقابات، وبناءً على ذلك تكلست السلطة والأيديولوجيات التي تحملها معاً. وهكذا راحت البلاد تُحكم بالحديد والنار، وأخذت تتسع الهوة بين الشعب والسلطة والأحزاب الحاكمة، الأمر الذي أدى إلى انهيار معظم هذه المنظومة الاشتراكيّة، وبخاصة الاتحاد السوفيتي، العمود الفقري لهذه المنظومة، أو تحول بعضها إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، أو اقتصاد السوق ودخول عالم النظام الجديد، ومنها من ثارت الشعوب ضدها وأجبرت الطبقة الحاكمة على تغيير نهجها تحت ضغط الشعوب وباسم التحولات الديمقراطيّة، بيد أن الطبقة الغنية من البيروقراطيين والطفيليين هي من استمر في قيادة الدولة والمجتمع بطريقة أسوأ من الماضي.

على المستوى الخارجية:

لقد لعبت الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، كما عرف سياسياً، دوراً كبيراً في إضعاف المعسكر الشرقي وإنهاكه، وترك دوله في النهاية تبحث عن تأمين لقمة العيش قبل البحت عن خلق تنمية متطورة ومستدامة في بلادها. فالحرب الباردة اتسعت مجالات نشاطها ودعمها الماديّ والمعنويّ بين المعسكرين، وصرفت مليارات الدولارات خدمة لهذه الحرب. هذا وقد عمل قادة هذا النظام على إعادة هيكلة الكثير من الدول وفق عمل السوق الرأسماليّة الحرة لمنافسة الدول الاشتراكيّة وإظهار التقدم التي حققته هذه الدول المدعومة بكل وسائل الدعم المادي والتكنولوجيّ والمهارات، كما جرى لدول النمور مثلاً، أمام دول المنظومة الاشتراكيّة المتخلفة.

فعلى المستوى العسكري: اشتغل قادة النظام العالمي الجديد على تطوير الأسلحة الفتاكة بكل اشكالها وفي مقدمتها السلاح النووي، والأسلحة الذكيّة الموجهة عن بعد، حيث وصلت فكرة هذا التطوير إلى ما سمي بحرب النجوم.

وعلى المستوى الاقتصادي: عملت وبكل الوسائل المتاحة لديها الماديّة والمعنويّة على تجذير وتعميم اقتصاد السوق الحرة عالميّا، وتعميق دوره في حياة الدول والمجتمعات، والعمل على الدعاية لهذه السوق إعلاميّا وتعليميّاً وثقافيّا وفنيّاً وخلق العديد من المعاهد والمؤسسات التي تشغل لمصلحة هذه السوق واقناع الفرد والمجتمع على تبنيه، بل جعله أنموذجا للحريّة الفرديّة التي سيجد فيها الفرد ذاته وقدرته على الإبداع.

وعلى المستوى الثقافي بعمومه: اشتغل قادة هذا النظام على تجسيد قيم الفرديّة المطلقة التي تدفع الفرد ليمارس حياته وفقاً لغرائزه وأهوائه ورغباته، فلا شيء يحد من هذه الحريّة الفرديّة التي ساهمت في تجميد العقل والمنطق واقصاء القيم الإنسانيّة على مستوى الفرد ذاته وعلى مستوى الكتلة، وما النظريات الفلسفيّة والأدبيّة والفنيّة الما بعد حداثويّة التي روج لها إلا لتحقيق هذه الغاية. فكل المداس المعروفة بالتفكيكيّة والبنيويّة والسرياليّة والوجوديّة والحدسيّة والوضعيّة والوضعيّة الجديدة .. وغيرها ليست إلا مشاريع فكريّة هدفها إعادة هيكلة البنية النفسيّة والعقليّة والأخلاقيّة للفرد بما يتفق وعالم اقتصاد السوق الحرة. أي نمذجة الإنسان وتعليبه خدمةً لهذه السوق التي أصبحت حتى غرائز الإنسان سلعاً تباع وتشترى فيه.

أما على المستوى السياسي: لقد أصبح حكام البيت الأبيض وبقيّة حكام الدول الموالية له، طيور جوارح في عالم الشركات المتعددة الجنسيات وأسواقها، وبالتالي راح هؤلاء الحكام يستخدمون جيوش دولهم  ومنظمات ومجالس الهيئة العامة للأمم المتحدة خدمة لمصالح عالم الرأسمال الاحتكاريّ المتوحش، وهذا ما لمسناه في العديد من دول العالم، وخاصة الدول التي لا ترضي مصالح قادة وأصحاب هذا الرأسمال، وهم الذين شكلوا حكومات الظل في هذه الدول العظمى.

ملاك القول:

أمام كل ما جئنا إليه أعلاه، من حيث قراءتنا وتحليلنا لمنظومة الدول الاشتراكيّة ومنظومة الدول الغربيّة الرأسماليّة، وكيف آلت إليه الأمور في كلا المنظومتين، إن كان من حيث سقوط المنظومة الاشتراكيّة، أو من حيث تشكيل وظهور النظام العالمي الجديد من صلب المنظومة الغربيّة، وكيف استطاع هذا النظام العالمي الجديد ان يعيد هيكلة العالم وفقاً لاقتصاد السوق الرأسماليّ المتوحش بكل تجلياته وأساليب عمله.

إن نظرة أوليّة لما جئنا إليه، يبين لنا أنه، باسم الديمقراطيّة والحريّة الفرديّة في الغرب دمّر الإنسان ذاته وشيء وغرب ونُمذج وذرر، وبالتالي فقد قيمه وسلع، وفسح في المجال واسعا أمام الطبقة الرأسماليّة العالميّة المتوحشة أن تفرض سيطرتها ووجودها ومصالحها على الساحة العالميّة. في الوقت الذي تحولت فيه الكثير من دول المنظومة الاشتراكيّة إلى ذيل تابع لمصالح هذه الطبقة، وراح الفساد وقيم اقتصاد السوق تعمل على تحطيم الإنسان ذاته وكل مابنته الأنظمة الاشتراكيّة على كافة المستويات سابقاً، بل أن الكثير من هذه الدول دخلت في صراعات دامية بين الحكومات وشعوبها حرقت الأخضر واليابس كما يقال.

نعود مرة أخرى لسؤالنا المشروع وهو: (لماذا الاشتراكيّة اليوم؟)، أوهل الاشتراكيّة صالحة للمستقبل؟.

أقول: نعم هي صالحة، بل هي الحل الوحيد لخروج العالم بشكل عام من هيمنة وسيطرة الطبقة الرأسماليّة المتوحشة بشكل عام، وهي الحل لعودة الإنسان إلى مرجعيته الإنسانيّة التي استلبت منه وخاصة في دول المنظومة الاشتراكيّة السابقة بشكل خاص.

إن ما تحقق من انجازات عظيمة لشعوب المنظومة الاشتراكيّة على كافة المستويات، رغم كل ما عانته دول هذه المنظومة من الداخل والخارج كما بينا في موقع سابق، لهو أمر على درجة عالية من الأهميّة، ومن الضرورة بمكان العودة للنظر برؤية عقلانيّة نقديّة إلى ما كنت عليه المنظومة الاشتراكيّة قبل انهيارها، وما آلت إليه اليوم. فعندما نقول الاشتراكيّة هي الحل، فقولنا هذا مبني على موقف منهجي عقلانيّ ينطلق من أن الاشتراكيّة بكل عيوبها هي نظام يحمل في طياته الكثير من العدالة لكل مكونات المجتمع، وهو النظام الذي يضع مصلحة الفرد والمجتمع موضع الاهتمام على كافة المستويات الماديّة والروحية معا. وعلى هذا فإن مسألة القول بأن السعي لعودة النظام الاشتراكيّ تشكل اليوم برأيي مطلباً عقلانيّا، وذلك انطلاقاً من فهمنا العميق لدور الاشتراكيّة والديمقراطيّة في تنمية المجتمع وتطوره. فمقولة: (مزيداً من الاشتراكية تعني مزيداً من الديمقراطيّة). لهي أكثر حيويّة وحاجة لعالمنا اليوم. فكلاهما مترابطتان مع بعضهما، ويعنيان بناء الدولة المدنيّة .. دولة المواطنة.. دولة القانون والمؤسسات والمشاركة. فالاشتراكيّة تحقق العدالة والمساواة وتكافئ الفرص واحترام المرأة ونشر التعليم بكل مستوياته وبناء قاعدة اقتصادية متينة، والديمقراطية تحقق العدالة والمشاركة واحترام الرأي والرأي الآخر، مثلما تمثل العلمانية التي تحترم الدين ولاترضى زجه في عالم السياسة، فالدين لله والوطن للجميع، وهذا يبعد المجتمع عن حروب طائفيّة ومذهبيّة، واعتبار المواطنة مرجعا أساس لوحدة مكونات المجتمع.. والديمقراطّية والاشتراكيّة كلاهما يدعوان إلى التقسم العادل للثروة الوطنيّة، وكلاهما يؤمنان بدور المنظمات الشعبيّة والاتحادات والنقابات المهنيّة في المراقبة والدعوة لمحاسبة المسيء، وتفعيل آلية الانتاج وتحقيق التنمية.. وكلاهما يؤمنان بدولة تقوم مرجعياتها الإداريّة والسلطوية للشعب، وفق دستور يقره الشعب.

هذه هي معطيات الاشتراكية، وهذا مآلها.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة.

...................

الهوامش:

1- (راج موقع معرفة – النظام العالمي الجديد – سياسة).

2-  ). (الويكيبيديا – النظام العالمي الجديد – نظرية المؤامرة).

"الرحمن،علم القرآن،خلق الانسان، علّمه البيان".. سورة الرحمن

عندما تُذكر اللغة فأول شئ يتبادر الى الذهن النطق الانساني بكل ما يحويه من مفردات ولهجات وقواعد وكل ما يخص هذا العلم من  تفاصيل، وإذا أردنا أن نعرّف اللغة اصطلاحا: هي نسق من الرموز والاشارات التي يستخدمها الانسان للتواصل مع البشر والتعبير عن مشاعره واكتساب المعرفة، وهي عبارة عن رموز صوتية لها نظم متوافقة في التركيب والالفاظ والاصوات، وهي أحدى وسائل التفاهم بين الناس داخل المجتمع، ولكل مجتمع لغته الخاصة به.

والحقيقة ومنذ فجر الحضارة الانسانية القديمة والعلماء في بحث دائب عن نشأة الكلام، وما من علم أخذ جهدا هائلا كعلم اللغة ونشأتها والذي كان مثار اهتمام الكثير من العلماء على مر العصور، وقد اختلفت النظريات وتشعبت الاراء حول أصل اللغة حتى اعتبرها بعض العلماء من الماورائيات وإن لاجدوى من الاستمرار بالبحث فيها خصوصا وإنها وصلت إلينا كلا قائما بذاته بقواعدها ومفرداتها ولهجاتها وتنوعها، وقد تبنت المؤلفات العربية نوعين من الآراء أو فريقين من الباحثين:

الأول: النظرية التواضعية، والتي تنص على إن اللغة من صنع الانسان بطريقة المحاكاة، وهي نظرية تغوص في الغموض الى ماهو أبعد من المعقول، خصوصا إنها ليست لغة واحدة ولو كانت كذلك لقُبل الامر الى حد ما، لكن الموضوع كبير جدا لتعدد اللغات وتنوعها، وكل فرضية تبحث على إن اللغة من صنع الانسان لن تكون إلا ضربا من الخيال والتخمين، حتى إن الجمعية اللغوية في باريس قررت سنة 1878 منع تقديم الابحاث في هذا الموضوع لأن الابحاث كان فيها من السذاجة والبساطة وعدم كفاية الادلة  مايدعو الى التوقف .

الثاني: إن اللغة توقيفية أي إنها وحي من الله تعالى ولادخل للانسان في نشأتها إستنادا الى الاية الكريمة"وعلّم آدم الاسماء كلها" والنظرية التوقيفية ثابتة بنص الاية الكريمة ويبقى الاختلاف في تفسيرها  تفسيرا قطعي الدلالة، ومااذا كانت هذه الاسماء متداولة في الجنة أم إنها نزلت الى الأرض مع آدم وذريته فيما بعد، والأسماء هنا يقصد بها المسميات وكل مايدخل في هذا الحيز إستنادا الى كلمة "كلها"في الآية الكريمة والتي تشمل الأفعال والحروف  وإن الله علم آدم ولم يوحي له بل علّمه تعليما خصه به دون الملائكة و هذا العلم هو علم البيان "هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين"..ال عمران 1283359 لوحة مريم لطفي

"قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" فلنتأمل معا هذه الاية الكريمة التي جاءت على لسان آدم وزوجه فهي جملة متكاملة مرتبة ترتيبا نحويا تحوي على اسماء وأفعال وحروف، وبما إن الآية جاءت على لسان آدم وزوجه فهذا يعني إن ذرية آدم قدتعلمت الاسماء والمقصود بها اللغة ككل عن طريق الوراثة والتربية"ومن آياته خلقُ السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآياتٍ للعالمين"..الروم22

فاللغة إذن نزلت مع آدم وزوجه وذريته فيما بعد وتناقلتها الالسن وسلقتها وربما أضافت عليها بعض المفردات كما يحدث عند الفتوحات أو الغزوات أن تتعشق اللغة ببعض المفردات الدخيلة من الثقافات الاخرى نتيجة الاختلاط أو التجارة أو المعايشة أو الهجرة أو الزواج وهكذا وفي هذالامر  الكثير من الامثلة عن وجود مفردات دخيلة نُسبت إلى موطنها لكنها بقيت قيد التداول سواء في اللغة العربية أوفي اللغات الاخرى..

وإذا ما دعتنا هذه الآية الكريمة لتدبرها بتأنٍ  فاننا سنجد الاتي:

-ان الآية جملة مضبوطة الشكل معنىً ونحوا.

-أن الله تعالى لم يخص آدم بالأسماء فقط بل كلما يخص المسميات من أفعال وحروف "علّمه الاسماء كلها".

-إن اللغة آية وقد خلقت مع خلق السموات والارض شأنها شأن آيات الله الاخرى وهذا الاستنتاج يقودنا الى أصل اللغة بانها آية من آيات الله جل وعلا وقد تنوعت واختلفت باختلاف الناس وألوانهم واللون هنا يعني الجنس البشري بعينه ولونه كالابيض والاسود والاحمر والاصفر..الخ

"إنا جعلناه قرأنا عربيا لعلكم تعقلون"..الزخرف3

فهذا الاختلاف في الاجناس تبعه اختلاف الامم"الوانهم" ثم إختلاف ألسنتهم" كيف لا والله هو الخالق المدبرلكل شئ"إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"..الحجرات

ودليلنا الآخر على إن اللغة من الله أن الكتب السماوية نزلت وكتبت بلغة الرسل والأنبياء الذيم بعثوا لكل أمة من الامم كالتوارة والانجيل  والزبوروالقرآن" لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين" ..النحل

وهذا يعني إن اختلاف اللغات إنما جاء بسبب إختلاف الامم والشعوب وإن كل رسول إنما بُعث بلغة قومه وكل كتاب نزل بلسان الرسول عن طريق الوحي لكيلا لاتبقى حجة للناس ليؤمنوا ويعلموا إن السموات والارض لها خالق عظيم وهو الاجدر بعبادته "وماخلقت الجن  والانس الا ليعبدون"..الذاريات56

وعليه فان الله قد وضع السر بين أيدينا ودعانا لتدبره من خلال ما جاء بالايات القرانية من اعجاز واسرار وآيات قال تعالى"قرأنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون"..الزمر28

***

مريم لطفي

الظّواهر الطّبيعيّة كالأعاصير والفيضانات وقوّة الرّياح والحرارة والرّطوبة والجفاف وغيرها ارتبطت بالطّبيعة منذ القدم، منها ما يكون الإنسان متسبّبا فيها كالاحتباس الحراريّ، أو تلوث المياه والبيئة وما يترتب على ذلك من آثار سلبيّة، من اضطراب في الطّبيعة، لمخالفة فعل الإنسان في تغيير ما جرت عليه من سنن، سواء تعلّقت بالأرض أو تعلّقت بالإنسان.

هذه الظّواهر الطّبيعيّة تطوّرت في تفسير الإنسان، وقديما ربطت بالأساطير والخرافة والسّحر، إلى حالة التّأويلات والتّفسيرات الماورائيّة، وربطها كليّا بالعالم الآخر كما في الأديان، ثمّ إلى العلم والفلسفة المعاصرة وارتباطها بالظّواهر من خلال تأويلها سننيّا وكشفيّا، فاستجدت جدليّة تفسيرها بين التّأويلات الماورائيّة والتّفسيرات العلميّة.

والعالم اليوم منه ما تجاوز التّأويلات الماورائيّة كالعديد من دول الغرب، وأصبح ماديّا عقلانيّا أو تجريبيّا صرفا في تأويلها، مصاحبا تقدّم العلم، وقدرته الفائقة في التّنبؤ والتّفسير، ممّا جعل من اللّاهوتيين تأويل ظاهر النّصّ المقدّس بما يوافق رأي العلم، والّذي كان يوما ما تأويلُ ذلك جريمة قد يصبح مصير المؤول الموت.

ومن العالم ما زال غارقا في الطّقسيّات الخرافيّة المرتبطة بأساطير سابقة كما في بعض أدغال أفريقيا، ومن العالم أيضا من يحاول الجمع بين اللّاهوت والعلم في ذلك، فلا يرفض العلم، ولكنّه تطبيقا وحكما يدور وفق النّصوص المقدّسة لديه، كان في الأديان الإبراهيميّة أم غيرها كما في أغلب الشّرق.

إنّ تجاوز مرحلة الدّين إلى العلم هذه لها اقتضاءاتها وأسبابها في أروبا خصوصا، وحاولت الكنيسة البروتستانتيّة تجاوز انغلاق الكهنوت الكاثوليكيّ حول العلم، ولكن الكنيسىة عموما في الغرب اليوم – في الجملة - تقف حول تأويلات ثلاثة في الجمع بين النّصّ المقدّس وتأويل الظّواهر الطّبيعيّة علميّا، ففريق يجنح إلى ظرفيّة النّصّ المقدّس، فذكره لهذه الظّواهر الطّبيعيّة كان ملازما للحالة الثّقافيّة والعلميّة في ظرفيّة وجود النّصّ، ولو جاء النّصّ اليوم لكان ملازما للحالة الثّقافيّة والعلميّة في عصرنا هذا، وهذا الفريق يحاول الجمع بين لاهوتيّة النّصّ وجوهره، فالجوهر هو الاهتمام بالعلم، ولاهوتيّا كان مراعيا لمفردات وتأويلات ذلك الزّمن، ليترك مساحة للعقل البشريّ لينطلق في كشف المجهول من سنن الكون والوجود والإنسان.

ومن هذا الفريق انبثق فريق يضع النّصّ كليّا في خانة الثّقافة، إذ هو يشكل حالة ثقافيّة لفترة زمنيّة أكثر منه حالة لاهوتيّة، فلا يتكلّف في تكييف ظرفيّته والتّبرير له، بقدر ما يجعله في الحالة الثّقافيّة المؤرخة لرؤية الإنسان للظّواهر الطبيعيّة وقت نزول النّصّ، وهذه الحالة المسيحيّة تمدّدت إلى اليهوديّة كما يرى يعقوب ملكين أنّ التّوراة والتّناخ "الأساس المشترك لثقافة كلّ تيارات اليهود .... ويحتوي الذّاكرة الجماعيّة لليهود"، وأقرب إلى "الأدب الكلاسيكيّ اليهوديّ".

وفريق ثالث من يحاول الجمع بينهما، كتأويل الأيام السّتة في بداية سفر التّكوين بالحقب الزّمنيّة، ومنم من يحاول استخراج معاجز النّصّ المقدّس، ومنم من يتوقف حال التّناقض، جاعلا حالة الحقيقة العلميّة لا تتجاوز حدّ النّظريّات النّسبيّة بالمفهوم الشّموليّ لا التّجريبيّ، الفارق اليوم أنّ الكهنوت الدّينيّ كما في كاثوليكيّة القرون الوسطى لم يعد متحكما في العلم، والّذي ينطلق اليوم في فضاء رحب بلا قيود سياسيّة أو دينيّة أو اجتماعيّة في الجملة.

ولقد كانت الحالة الإسلاميّة بما ورثته من ثقافات الأمم الأخرى غارقة أيضا في الرّؤية الماورائيّة، وتمّ التّعامل مع العديد من الظّواهر الطّبيعيّة وفق الاغتراب الماورائيّ، وقد قوبل العديد من الرّمزيّات الفلسفيّة الّتي اقتربت قريبا من التّأويلات الطّبيعيّة بالزّندقة، كما قوبل في الطّرف المسيحيّ بالهرطقة، مع وجود إضاءات متقدّمة كما عند الشّاطبيّ (ت 790هـ) حيث يرى أنّ "الشّريعة الإسلاميّة شريعة أميّة؛ لأنّ الله بعث بها رسولا أميّا إلى قوم أميين كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة/ 2] .... فيلزم أن تكون الشّريعة في معهودهم ومستواهم".

وإن كنّا لا نستطيع تحميل نصّ الشّاطبيّ فوق ما لا يحتمل وفق القراءات التّأريخيّة والظّرفيّة المعاصرة؛ إلّا أنّ العالم الإسلاميّ عموما، والعربيّ خصوصا؛ لمّا انفتح على أمّة كانت غارقة في الماورائيّات، ثمّ تجاوزت ذلك إلى الاستغراق الطبيّعيّ والعلميّ، إلى حدّ الاتّجاهات العلمويّة والإنسانويّة، مرورا بعصر الأنوار فالنّهضة والحداثة، حيث أفاق العالم العربيّ على هذا مؤخرا، فحاول الجمع بين النّصّ المقدّس وما بعده من تراث روائيّ وبين تفسير الظّواهر الطّبيعيّة، حيث بدأت بوادر ذلك عند محمّد عبده (ت 1905م)، وتلميذه محمّد رشيد رضا (ت 1935م) كما في المنار، ولازم العديد من الإصلاحيين إبعاد النّصّ المقدّس خصوصا عن النّظريّات العلميّة كما عند محمّد المراغيّ (ت 1945م) "فالنّظريّات الّتي لم تستقر لا يصح أن يردّ إليها كتاب الله"، وهي محاولة لعلمنة البحث العلميّ – إن صح التّعبير – أي المفارقة بين ظاهريّة آيات الظّواهر الطّبيعيّة في النّصّ الدينيّ، وبين البحث العلميّ ونتائجه،  ويعتبر طنطاوي جوهري (ت 1940م) من مؤسّسي التّفسير العلميّ للقرآن من خلال تفسيره "الجواهر في تفسير القرآن الكريم"، وهي محاولة مبكرة في رفع التّعارض بين النّصّ المقدّس والعلم، بما فيه تأويل الظّواهر الطبيعيّة.

ويرى رشيد الخيّون أنّ نظريّة التّطوّر لداروين (ت 1882م) اتّجهت سلبا في العراق في خمسينيّات القرن العشرين الماضي بسبب البعد السّياسيّ الّذي أدخلها كصراع من التّيارات اليساريّة، وقبل هذا لم تلق ذاك الاعتراض.

ونتيجة مرحلة الصّحوة، وارتباطها بإحياء التّراث، وأسلمة العلوم، والدّعوة تحت مظلّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بمعناه الكلاسيكيّ، وقف بعضهم سلبا من التّأويل العلميّ للحقائق والظّواهر الطبيعيّة ككرويّة الأرض ودورانها، والاستغراق الماورائيّ في تفسير الظّواهر الطبيعيّة وربطها بالعذاب الإلهيّ، ومنهم من بالغ في المعاجز كعبد المجيد الزّندانيّ وزعلول النّجار.

وبعيدا عن هذه الجدليّات الدّينيّة حول العلم والظّواهر الطّبيعيّة، فالمباحث حولها لا تتعدّى الحالة المعرفيّة؛ لأنّ العلم شقّ طريقه، بيد ليس الخطر – في نظري – في هذا الاختلاف الطّبيعيّ الّذي لا يتجاوز القول والخلاف الكلاميّ؛ الخطر في نظري هو  تقمّص دور الإله، والنّيابة عنه بلا برهان قطعيّ في الحكم على الخلق، وتصوير الإله بصورة الغاضب المنتفم الّذي لا يفتأ إلّا بإرسال الجراثيم والأمراض والأعاصير والفيضانات، ليهلك العباد والحرث والنّسل، ومنهم من يمايز بين قوم وقوم، فإن أصيب قوم ما قال ابتلاء، وإن أصيب آخرون اعتبره عذابا، وكأنّ الله أوحى إليه بذلك.

إنّ استجداء النّصوص المقدّسة في التّحذير من بلايا الذّنوب والمعاصي، أو مخالفة الطّبيعة لسننها؛ هذا من حقّ الإنسان في ذلك فيما يراه واجبا عليه دينيّا، ولكن أن يجعل من نفسه نائبا على الإله، ووصيّا له، في الحكم على العباد، وكأنّ هذا الإله ليس رحمانا ولا رحيما، فهو تأله وتقمص للإله بلا براهان ولا ولا وحي.

وفي بلدنا "عُمان" رأيتُ من التّغريدات والمنشورات التّويتريّة من يربط بين قدوم الفرقة الكوريّة  "كيبوب B.I.G" وبين الحالة المداريّة "بيبارجوي" المتكوّن حاليا في بحر العرب، وكأنّ لسان الحال أنّ قدوم هذه الفرقة قابله هذا الغضب الإلهيّ المتمثل في الحالة المداريّة أو الإعصار، ومنهم من يربط تكرار الحالات المداريّة بالذّنوب كليّا، ويرسل سخطه للدّولة ومؤسّساتها، بشكل خفيّ أو مباشر، ويحاول الرّبط في العقل الباطنيّ أنّ هذا مرتبط بحداثة الدّولة، وكأنّها لا دين لها، فهو ناقم ساخط عليها في الابتداء، ولو كان في مكان آخر مرتضيّا عنده لكان لا يتجاوز حدّ الابتلاء.

بيد هذه الظّواهر الطّبيعيّة هي حالات طبيعيّة ومتكرّرة منذ القدم، ولقد تكرّرت في عمان في وقت لا علاقة لهم بالحداثة وتمظهراتها كما يرى حامد البراشديّ في صفحته على تويتر أنّ "عمان تعرضت من عام 1891م وحتى 2010م لثلاثة عشر حالة عاصفة وإعصار، وأنّه كلّ ثلاث سنوات حالة مداريّة واحدة يمكن أن تعبر السّواحل العمانيّة، خمسون بالمائة منها يوصف بالعاصفة المداريّة أو الإعصار".

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

قبلَ الحديثِ عنْ مصدرِ الاخلاقِ، هل هو الهيٌّ أم بَشَرِيٌّ؟ لابد لنا من إِثارَةِ هذا السؤال وهو: هل يمكن للانسان أَنْ يضعَ منظومَةً أَخلاقِيَّةً، ام ليس بامكانهِ ذلك؟ وبتعبيرٍ آخر، هل الاخلاقُ مَصدرُها عُلوُيٌّ سماويٌّ اَم سُفلِيٌّ أَرضيٌّ؟ هل الطبيعةُ والمادةُ يمكنُهما اَنْ تنتجَا أخلاقاً؟ وهل الغريزةُ يمكنها ان تكونَ مصدراً للاخلاق؟ مانراهُ في الحيوانات من تضحية وايثار يؤدي بالام الحيوانيّةِ أن تُضَحِيَ بحياتِها من اجلِ صغارِها. هل يمكن أنْ نقولَ من خلالِ هذه المشاهداتِ أَن الحيوانَ يمتلكُ منظومَةً أخلاقِيَّةً؟ الدارونيُّونَ وفق الرؤية التَّطَوُّرِيَّةِ يرون ان الحيوانَ يمتلك أخلاقاً حسب درجته في سُلَّمِ التَّطَوُّرِ، والاختلافُ بين الانسانِ والحيوان هو اختلافٌ في درجة الاخلاق لافي نوعها.

البَشَرُ قَدَّمُوا لنا مفاهيم متضاربةً عن الاخلاق، بعضها يناقضُ البعض َالآخر.

افلاطون يرى وفقاً لنظريته في المثل ان الاخلاق مصدرها علويٌّ وهو الخير المطلق الذي يراه افلاطون فوقَ الوجودِ شَرَفاً وقُوَّةً، وكانط يرى ان الاخلاق مصدرُها العقلُ العمليُّ، وهي مجرَّدَةٌ من المنفعة الذاتيَّةِ، وبنثام وجون ستوارت مل قالا بالاخلاق النفعيَّة والتي تأسست فيما بعد انطلاقاً من هذهِ النظرةِ النفعِيَّةِ للاخلاق، الفلسفة البراغماتية في امريكا، والتي رأتْ كل شيء على اساس منفعته، وقد فَسَّرت الاخلاقَ على هذا الاساس.

اطلاقُ الاخلاقِ ونِسبِيَّتُها

القولُ بأنَّ الاخلاقَ مطلَقَةٌ أو نِسبِيَّةٌ، يرجعُ الى مصدرِ الاخلاقِ، فالقائِلُونَ بالمصدرِ الالهيِّ للاخلاق يقولون باطلاقِها؛ لانَّ القولَ بوجودِ اله وَأَنَّهُ مصدرُ الاخلاقِ يشكّلُ الاساسَ المَوضوعيَّ للاخلاقِ. والقائِلُونَ بالمصدرِ البشريِّ للاخلاقِ يقولونَ بِنِسبِيتها. الملاحدة لايمتلكون مرجعيَّةً للأخلاقِ؛ لأنَّهُم لا يُؤمنونَ بالهٍ للكونِ ولا يؤمنونَ بيومٍ آخِر، وكما يقول دستوفسكي: " اذا كانَ اللهُ غيرَ موجودٍ فكلُّ شيءٍ مُباحٍ". ولذلك بَنَوا مرجِعِيَّتَهُم الاخلاقيَّة؛ لانَّهُم لايمتلكونَ مَرجِعِيَّةً، بَنَوها على اساس الغريزة التي لاتصلحُ أنْ تكونَ مرجعيَّةً للاخلاق، فقالوا: ان اساس الاخلاق: جلب اللذة وطرد الالم، وهذا ماقاله ابيقور في فلسفته الاخلاقية القائمة على اساس اللَّذَّةِ.

ويمكننا الاجابةَ عن هذه المرجعيَّةِ للاخلاقِ التي يتعكَّزُ عليها الملاحِدَةُ بالقول أَنَّ الطبيعةَ والغريزةَ لايمكنهما انتاج اخلاق وتاسيسَ منظومَةِ أَخلاقِيَّةٍ، فالاشياءُ المادِيَّةُ التي تسيرُ بأَمرِ الله، كالشمس التي تُشرِقُ وتغربُ بنطامٍ ثابتِ مُحَددٍ. لايمكننا وصفَ هذه الحركةَ القسريَّةَ للشمس والكواكب بأَنَّها فعلٌ أَخلاقِيٌّ؛ لانَّ الفعلَ الاخلاقِيَّ ينطلقُ من ارادَةٍ واختيارٍ. وكذلك الامرُ مع الفعل الغرائزيِّ للحيواناتِ، فلا يمكننا وصفَ ما تقوم به الاُمُ في عالم الحيوان بأَنَّهُ التزامٌ أَخلاقيٌّ؛ لانَّهُ فِعلٌ غرائزيٌّ، الحيوانُ مجبورٌ على فعلهِ؛ وعليه فالاخلاقُ خاصِيَّةٌ انسانِيَّةٌ، يتَفَرَّدُ بها الكائِنُ الانسانِيُّ.

الفرقُ بينَ الاخلاقِ والآدابِ

هناك خلطٌ يقعُ فيه الباحثون في الميدانِ الاخلاقِيِّ بين الاخلاقِ والآدابِ، فالاخلاقُ مصدرها عُلويٌّ الهيٌّ، والآدابُ مصدرُها بَشَرِيٌّ. الاخلاقُ ثابتة لاتتغير بتغيّرِ الزمانِ والمَكانِ والاحوالِ بينما الآدابُ تتغيّرُ بتغيّرِ الزمانِ والمَكانِ والاحوال.الاخلاقُ فطريَّةٌ والآدابُ مكتسَبَةٌ؛ ولذلك المجتمعات تختلفُ بآدابِها وثقافاتِها واعرافها مع ثباتِ أخلاقِها. فدوركايم حين يقول بأنَّ المجتمعَ هو مصدرُ الاخلاقِ لم يميّز بين الاخلاق والآدابِ. المجتمع مصدر الآدابِ ولايمكن ان يكون مصدراً للاخلاق.

يتحدثُ عالمُ الاجتماعِ الفَرَنسِيُّ دوركايم في رؤيتِهِ لمصدرِ الأخلاقِ "أَنَّ مصدرَ الاخلاقِ هو المجتمع. ويؤكدُّ دوركايم  القولَ أَنَّهُ: (ليسَ هناكَ سوى قوَّة أخلاقِيَّةٍ واحِدَةٍ تستطيعُ أنْ تَضَعَ قوانينَ للناسِ هيَ المجتمع). ويقولُ أيضاً:(أَنَّ الفردَ دُميَةٌ يُجَرِّكُ خُيُوطَها المُجتَمَعُ). وحتى الضمير يراهُ دوركايم انعكاساً للمجتمع. أَمّا ليفي برول فيقول: (الاخلاقُ ظاهِرَةٌ اجتماعِيَّةٌ تَهتَمُّ بما هو كائنٌ، وظاهرةٌ مُتَغَيِّرَةٌ يمكنُ مُلاحَظَتُها).

القرآنُ الكريمُ يتَحَدَثُ عن اطلاقيَّةِ الآخلاقِ وتجاوزها للزمان والمكان والاحوال، يقول الله تعالى:

(قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). المائدة: الآية:(100).

فالآيَةُ تتحدثُ عن خبيثٍ مطلقٍ وطيبٍ مطلق؛ اذ لاقيودَ في الاية للطيب والخبيث. والنقطة الثانية أنَّ الانسانَ ليس هو مصدر القيم الاخلاقِيَّةِ؛ لانها قالت "ولو أعجَبَكَ كَثرَةُ الخبيث".

وخلاصةُ الكلامِ عن الاخلاقِ أَنَّها الهِيَّةُ المصدر، وانها مطلقة، وانّها مما يتفردُ بها الكائن الانسانيُّ، ولايمكن ان تكون الطبيعة أو المجتمع أو التطور البيولوجي الداروينيُّ مصدراً للاخلاقِ.

***

زعيم الخيرالله

أمام العالم الذي تعيشه، هناك أسئلة كثيرة محرّمة يجب عليك اكتشافها من خلال المجاهر التي تملكها المتمثّلة في العقل والإحساس، تسمع وتتحرك في سياق الاكتشافات المتواصلة التي تخترق وعيك الداخلي. إنّها نهضة طبيعية بيولوجية، لكنها محرمة في بعض مفاصلها، تصهل لكنك لا تتحدث، فعليك أن تكون إنسانًا بذاتك، وما الحياة إلا قشّة خفيفة تطير بفعل ذراتها إلى الآفاق التي قُدّر لها.

اختلافك مع نفسك لا يساوي جناح بعوضة وقفت على ضلعها، تسأل: كيف أتت؟ ولماذا أنا هنا؟

فعلك الطبيعي يستمر، إما خطأً أو صوابًا، شعورك بالمستقبل قد يصل إلى السآمة والضجر، وحاضرك المعيش هو من يبني تلك الطوبة العالية التي تتكون في صلد النفس العوراء المتعظمة بين بالحقيقة التي تدوّي بداخلك مُشكّلةً صورًا ميتافزيقية شرسة أمام حرب داخلية دائمة تقرع طبول السلام والحرب في آن معًا، إنّها التناقضات الشريفة التي تبحث عن الحقيقة الضائعة، وما إن تأخذ خطوتك الأولى تفشل ثم تتعثر بين عناقيد الأشجار التي تزحف معك في اشتباك قد لا يتوقف أبدًا.

الفكرة كانت دائمًا هي المساحة المتوفرة لعقلك هو أن تنمو بشكل طبيعي في سياق التطور العمري الذي يفرض عليك أن تكون ناضًجا بفعل المراحل المنتظمة، تؤهل أن تكون افتراضيًّا في داخل سرايا المختبرات التحليلية في إنشاء رؤية جديدة للبشرية أمام عظمة الكون في اكتشاف الأسرار العظيمة التي لا يعرف عنها من بحار عميقة وأكوان ما زالت في بدايتها؛ مما يؤثر على علوم الإنسان المعرفية التي تتقدّم بشكل مذهل تحت انتفاضة الثورة العقلية منذ بداية خلق الكون.

العقل يكتشف نفسه بالطبيعة، إنه السحر الذي تارة لا يستطيع البشر تفطّن الأسباب التي تنير العقول وتبسط النفوس، القدرات عاجزة عن تعيين البئر التي تنبع منها الحقيقة، إنه العقل، العظمة التي تشرئب لها النفوس الظمأى بين الخوف والشجاعة إلى الطريق المستقيم بعيدًا عن الظلام، للتجلي في داخل الروح الغائبة الحاضرة، وما البحث إلا رؤية ضبابية ابتلينا بها أمام التعسر في الإبصار البعيد، يتوقف الأفق في خط أفقي مستقيم ممتد، لكنه لا ينتهي في تحدٍّ أمام البصر اللامتناهي.

إنها حركة منتظمة مستقلة عاقلة ناقلة للأحداث ببساطتها وتعقيداتها المتأثرة بالمكان والوقت الذي لا يتوقف، وما الحياة إلا معركة وجودية عميقة تتأثر بألوان السعادة والشقاء، يقول "وليم جيمز": "على الإنسان أن يتخذ من أفكاره ذرائع لحفظ حياته، ثم السير بالحياة نحو الكمال ثانيًا، اقتباسًا، إنّ الفلسفة في أفضل حالاتها تجعلك أكثر تواضعًا، فهي تجبرك أن تدرك قصورنا ككائنات مفكّرة، الأخير أن تكون واثقًا في رؤيتك للحياة، وما البشر إلا قُراء ذلك الحدث.

***

فؤاد الجشي

في المثقف اليوم