قضايا
عبد الله الفيفي: في محكمة العدل التاريخيَّة.. قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة
كانت المرحلة المكِّيَّة من عُمر الرسول، عليه الصَّلاة والتسليم، بعد البعثة - أي الثلاث عشرة سنة الأُولى - هي مرحلة العقيدة، كما يُمكِن أن تُسمَّى، على حين جاءت المرحلة التالية- مرحلة (المدينة المنوَّرة)، المتمثِّلة في العشر السنوات بعد الهجرة- لتكون مرحلة الشريعة. فكان طبيعيًّا، من الوجهة التاريخيَّة، أن تجيء فيها الأحكام والتشريعات، التي لم يكن لها ذِكر من قبل، لأسباب منهجيَّة وأسباب واقعيَّة. والمنهج والواقع كانا صِنوَين. فكيف يُشرَّع في (مكَّة) لِما لم يكن بعد؟ كيف يُشرَّع لدولةٍ لم تَقُم أُسُسُها، ولم تواجه مقتضياتها، ولمَّا تشرئب في وجهها التحدِّيات بعد، أو تنزل بساحتها النوازل التي تستدعي الأحكام التشريعيَّة، ولمَّا يحاصرها العدو من كُلِّ طَرَف، من أعرابٍ وثنيِّين ويهود؟!
هكذا استهلَّ (ذو القُروح) مرافعته في محكمة العدل التاريخيَّة أمام مدَّعي النصارى وأنصارهم من مدَّعي الليبراليَّة الحربائيَّة. فقلتُ:
- على أنَّ هؤلاء يتجاهلون، عمدًا- إلَّا إنْ افترضنا غباءهم المطبِق وجهلهم المطلَق- أنَّ مبدأ حُريَّة الدِّين بقي مكفولًا: «وَقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكُمْ؛ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»!
- لكن «مَن شاء» هذا عليه أن يحترم نفسه؛ فلا يقاتل المسلمين، ولا يتآمر عليهم. وفي (سُورة الزُّمَر): «قُلِ: اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي؛ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِن دُونِهِ. قُلْ: إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، أَلَا ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ.» وفي (سُورة الجاثية): «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا: يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ؛ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا، ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ.»
- غير أنَّ هؤلاء يقولون: إمَّا أن يكون خِطاب الإسلام سِلميًّا دائمًا، أو حربيًّا دائمًا، وإلَّا فهذا تناقُض، أو مَكْرٌ بالناس.
- وربما استشهدوا بمرويَّات مُنْكَرة المتن، بمعايير «القرآن»، وإنْ صَحَّ سَندها. وهذا بلاءٌ عظيمٌ في الثقافة، من الانشغال بالأسانيد وصِحَّتها، وجعل المتون وما بينها من تباين مسألةً لاحقة، أو ثانوية. وزاد الطينة بِلَّة القول بالنَّسخ، أو بهيمنة المرويَّات على الكِتاب، الذي قال عن نفسه: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ، مُصَدِّقًا لِـمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ؛ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ، وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ؛ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِن لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ، فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ، إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا، فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون.» [سُورة المائدة، ٤٨].
- وهكذا صار المهيمِن مهيمَنًا عليه!
- ومن هنا فإنَّ ذلك المنهاج المقلوب هو الذي يُزلِف بين يدَي العابثين كثيرًا من أدواتهم، ويقدِّم أمام الخِطابات المغرضة زادًا يكاد لا ينضب من مَداخل الادِّعاء.
- ثمَّ إنَّ هؤلاء يتجاهلون- عن تقصُّد، وكأنهم بعض كُفَّار (قريش)، أو يهود (خيبر)- مَن الذي كان المعتدي على الآخَر؟ ومَن كان الظالم؟ ومَن المعذِّب للمسلمين في (مَكَّة) لمجرَّد عدم عبادة الأصنام، أو تتويجها بعبارات التمجيد؟ ومَن المنكِّل بالعبيد والنساء والمستضعفين؟ ومَن المُلاحِق لمن قالوا ربنا الله وحده؟ ومَن المُخرِج لهم من ديارهم، تارةً فرارًا إلى (الحبشة) وأخرى هجرةً إلى (يثرب)؟ ومَن المتآمر لاجتثاث الفكرة الجديدة في حَدِّ ذاتها، بعد هجرة المسلمين إلى يثرب؟ مَن مقترف كلِّ ذلك الطغيان، والتصفيات؟ ومَن أرباب التحزُّبات، والاستبداد، والحصار؟ حتى جاء الإذن بالقتال للدِّفاع، بعد أن ضَجَّ المعذَّبون ممَّا حاق بهم من جبروت المشركين وتآمُر اليهود، وحتى أوشك بعضهم أن يُفتَن في دِينه، ويشكَّ فيما وعد الله ورسوله. و«القرآن» يَرُدُّ عن هذه المسألة في قوله من (سُورة الحَج)- وهي مَكِّيَّة، وإنْ قيل بأنَّ فيها آيات مَدَنيَّة(1)-: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا: رَبُّنَا اللهُ؛ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ، لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا، وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ؛ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.» كما يُجيب عن تَهَوُّكات أولاء الذين يلعبون على وَتَر المكِّي والمَدَني، ومعزوفة أنَّ الرسول والمسلمين قاتلوا المشركين واليهود، هكذا حُبًّا في القتال والعُدوان، غير محترِمٍ أولو الأهواء من هؤلاء الحقيقةَ التاريخيَّة، والأسبابَ الموضوعيَّة في ذلك القتال، مِن نَكْث الأيمان والمعاهدات، والإخراج من الدِّيار، والبَدْء أوَّل مرَّة بالعُدوان!
- كأنَّ هؤلاء من المثاليَّة الكاذبة بحيث يتصوَّرون بَشَرًا يتعرَّضون للأذى والتنكيل، وعليهم مع ذلك أن لا يحرِّكوا ساكنًا في مقاومة الأذى والتنكيل، والدفاع عن النفوس والجموع، وأنْ يبقَوا مسالمين، فإنْ همُ فعلوا غير هذا، رُموا بالدَّمَويَّة والخروج على السِّلم العام! فأي منطق هذا؟
- هو منطق اللا منطق لدَى الظالمين في كلِّ زمانٍ ومكان! منطق الغرب اليوم مع الفلسطينيِّين في مواجهة محتلِّي أرضهم وتاريخهم.
- ألا ترى أنَّه منطقٌ يتظاهر أحيانًا بالأخذ بمقولة مثاليَّة، غير واقعيَّة، وهي إلى ذلك متأوَّلةٌ تأوُّلًا غير صحيح، تلك المقولة المنسوبة إلى (عيسى بن مريم): «أحبُّوا أعداءَكم، باركوا لاعنيكم!» وهي تدعو إلى حُبِّ الإنسان لإنسانيَّته، ولو كان عُدُوًّا. أي: حُبُّ الخير له.
- وما العداء في الله إلَّا من منطلَق هذا الحُبِّ لجماعة الإنسانيَّة؟! لكن قل لي: مَن ذا أحرق الأخضر واليابس في العالم، قديمًا وحديثًا، غير مدَّعي ذلك الحُبِّ للأعداء والمباركة للَّاعنين؟! فهم يروجون شِعار «أحبُّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم!» إذا تعلَّق الأمر بالآخَرين، أمَّا حين يتعلق الأمر بهم هُم، فشِعارهم الأبدي: «اكرهوا أحبابكم، والعنوا مباركيكم!» وأمَّا أن يُسقَط ذلك المعنى للقول بأنه يعني: اقبلوا الذِّلَّة والمسكنة أمام أعدائكم، فلعبةٌ مكشوفة، لا يقول بها عاقل، فضلًا عن أن يكون صاحب رسالة، تنطوي على ما لا يعمل به أحدٌ ولا يستطيع!
- ومن وجهٍ آخَر فإنَّ هذا المنطق يُمَجِّد الجلَّاد، ويعطيه الحصانة من العقاب، ويسلِّط اللوم على الضحيَّة، إنْ هي انتفضت في وجهه.
- إنَّه منطق الطغيان العالمي اليوم الذي يحتلُّ أرضك، ويستنزف ثرواتك، وينتهك حرماتك، ويسفك دمك، وينتظر منك أن تُحِبَّه، وتشكره، وتباركه! فإنْ أنت نهضت في وجهه، رماك بالإرهاب، وعَقَدَ التحالفات في حربك! وهو منطق الأنظمة الطغيانيَّة دائمًا، ومنطق من والاها، إنْ لأسبابٍ من المصالح أو لأسبابٍ من الأيديولوجيَّات. منطقٌ ليس منَّا ببعيد؛ فلقد بات جهاد الظُّلم والعسف والفساد سُبَّةً بعد الحادي عشر من سبتمبر 2000. ويأتي الحِلف عادةً بين السُّلطة الدِّينيَّة والسُّلطة الظالمة لترسيخ هذا المنطق الغريب في العقول والشرائع والمِلل، حتى لكأنَّ الظالم قد نُصِّب رَبًّا، لا يحقُّ للناس أن تسأله عمَّا يفعل وهم يُسألون؟ فإذا طالب الناس سِلميًّا بحقِّهم، قُتِلوا بدمٍ بارد، وإنْ اضطرهم الألم إلى التحوُّل من الكلمة والدعوة والسِّلميَّة إلى المدافعة والسعي إلى التغيير، أُطلِقت عليهم الألقاب! هذا ديدن الطواغيت السرمديُّ، وهكذا يأتي الخِطاب القرآني لتقويم ذاك المنطق الأعوج في الرؤوس. وما نشبت محاربة رسالة (محمَّد) لأنَّ القوم كانوا يكذِّبونه بالضرورة، بمقدار ما كانت من أجل المحافظة على حاكميَّة (النظام القرشي السابق) أصلًا، الدِّينيَّة والسياسيَّة: «أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ، وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ، وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؟! أَتَخْشَوْنَهُمْ؟! فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ، إِنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ.» [سُورة التوبة]. وذلك بعد الآية «فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الحُرُمُ، فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ، وَخُذُوهُمْ، وَاحْصُرُوهُمْ، وَاقْعُدُوا لَـهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ، فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.» وليست الآية هنا أمرًا بقتلهم هكذا ضربةَ لازب، وبلا مناسبة، وبلا سبب، كما يفهم من لا يفهم الخِطاب، أو لا يحبُّ أن يفهم، فيجتزئ ما يريد لما يريد، وإنَّما هي لبيان أنَّ ذلك مأذونٌ به، إذا انتهت الأشهر الحُرم. غير أنه بشروطه، لا عُدوانًا ولا همجيَّةً، وأوَّل تلك الشروط أن يقع العُدوان: «وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّة.» بَيْدَ أنَّ ذوي الأغراض، أو حتى ذوي الجهالة القرائيَّة، يفهمون النصَّ على أنَّه أمرٌ بإطلاق اليَد بالقتل بمجرد انسلاخ الأشهر الحُرم: اقتلوا، واسلخوا، واستأصلوا شأفة المشركين!
***
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي
.................................
(1) تُنظَر في هذا دراسة: الجابري، محمَّد عابد، (2006)، مدخل إلى القرآن الكريم، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العَرَبيَّة)، 1: 246.