قضايا

مفتتح: يغري المشهد العربي وبالذات منذ انطلاق تحولات الربيع العربي ومتوالياتها السياسية والاجتماعية والأمنية، إلى معاودة النظر في مفهوم الاستقرار السياسي، وما هي السبل الحقيقية لإنجازه في أي بلد عربي؟ وهل تغوّل السلطة السياسية وأجهزتها الأمنية، ورفض مستويات المشاركة الشعبية في الحكم والشأن السياسي، يعد ضمانة للحفاظ على الأمن والاستقرار السياسي؟ أم أن تجربة الربيع العربي أثبتت عكس ذلك تماما؟

فالسلطات السياسية مهما أوتيت من قدرة عسكرية وقوة أمنية، إلا أنها إذا انفصلت عن شعبها، وأضحت تطلعات شعبها بعيدة أو غير منسجمة مع تطلعاتها، فإن النتيجة أن ما تمتلكه السلطة من قوة، هي قوة خادعة. بمعنى، ليست كافية لإنجاز مفهوم الاستقرار السياسي العميق. لأن ثمة شروط مختلفة في كل التجارب السياسية لتحقيق مفهوم الاستقرار السياسي. وهي شروط متعلقة بمستوى رضا الشعب عن سلطته السياسية، ومدى قدرة السلطة على تلبية حاجات وتطلعات الشعب على المستويين السياسي والاقتصادي.

ولكي نجيب على هذا السؤال الحيوي والمركزي في آن على ضوء تحولات الربيع العربي، سنؤسس لمقاربة الإجابة من خلال العناوين الفرعية التالية :

1- في معنى الاستقرار السياسي.

2- الديمقراطية والاستقرار السياسي.

3- العدالة والاستقرار السياسي.

4- مفهوم قوة الدولة وضعفها.

في معنى الاستقرار السياسي:

كثيرة هي الحقائق والمعطيات الموجودة في المشهد السياسي الإقليمي والدولي التي تؤكد أن الاستقرار السياسي في الدول الحديثة اليوم، لا يمكن تحقيقه بالقمع والغطرسة وتجاهل حاجات الناس وتطلعاتهم المشروعة. فالترسانة العسكرية ليست هي وسيلة جلب الاستقرار وحفظه. كما أن زهو القوة وخيلائها وأوهامها، ليس هو الذي ينجز مفهوم الاستقرار.. فالعديد من الدول تمتلك ترسانة عسكرية ضخمة وأجهزة أمنية متطورة، وكل مظاهر القوة المادية إلا أن استقرارها السياسي هش وضعيف، ومع أي ضغط أو تحول، نجد التداعي والاهتراء والضعف.

وفي المقابل نجد دولا لا تمتلك أسلحة عسكرية ضخمة، ولا مؤسسة أمنية متطورة، إلا أن استقرارها صلب ومتين، وقادرة بإمكاناتها الذاتية من مواجهة الأزمات ومقاومة المؤامرات، وحفظ استقرارها وأمنها العام..

فالاستقرار السياسي في جوهره ومضمونه، ليس وليد القوة العسكرية والأمنية، مع ضرورة ذلك في عملية الأمن والاستقرار، وإنما هو وليد تدابير سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، تجعل من كل قوى المجتمع وفئاته عيناً ساهرة على الأمن ورافداً أساسي من روافد الاستقرار. وتخطأ الدول وترتكب حماقة تاريخية بحق نفسها وشعبها، حينما تتعامل مع مفهوم الاستقرار السياسي بوصفه المزيد من تكديس الأسلحة أو بناء الأجهزة الأمنية، فالاستقرار الحقيقي يتطلب خطوات سياسية حقيقية تعمق من خيار الثقة المتبادلة بين السلطة والمجتمع، وتشرك جميع الشرائح والفئات في عملية البناء والتسيير.

ولذلك نجد أن الدول المتقدمة عسكريا وأمنيا والمتخلفة سياسيا، هي التي يهتز فيها الاستقرار السياسي لأبسط الأسباب والعوامل، أما الدول التي تعيش حياة سياسية فعالة، وتشترك قوى المجتمع في الحقل العام وفق أسس ومبادئ واضحة، هي الدول المستقرة والمتماسكة والتي تتمكن من مواجهة كل مؤامرات الأعداء ومخططاتهم.

فقوة الدول واستقرارها اليوم، لا يمكن أن تقاس بحجم الأسلحة وقوة الترسانة العسكرية أو عدد الأجهزة الأمنية، وإنما تقاس بمستوى الرضا الشعبي وبمستوى الثقة وبمستوى الحياة السياسية الداخلية، التي تفسح المجال لكل الطاقات والكفاءات للمشاركة في الحياة العامة.

فالاستقرار السياسي اليوم، لا يتأتى بالمزيد من الإجراءات الاحترازية أو تكثير لائحة الممنوعات والاستثناءات، وإنما ببناء حياة سياسية حقيقية تتنافس فيها الأفكار والتصورات والمشروعات بوسائل سلمية – ديمقراطية..

فالعراق هذا البلد القوي على الصعيدين الأمني والعسكري، لم يستطع أن يحافظ على نظامه السياسي الشمولي، لكون المجتمع هو الضحية الأولى لهذا النظام القمعي والشمولي.

فالاستقرار السياسي ومن وحي التجربة العراقية والتجارب السياسية الأخرى، لا يأتي من خلال نظام شمولي، يقمع الناس ويوأد تطلعاتهم ويحارب مصالحهم الحقيقية. لذلك نجد أن الدول التي تحكم بأنظمة قمعية وشمولية، هي المهددة أكثر في أمنها واستقرارها..

فالأمن المجرد لا يفضي إلى الاستقرار، والقوة العسكرية بوحدها لا تتمكن من مواجهة تحديات المرحلة.. لهذا كله فإننا ندعو كل الدول العربية والإسلامية، إلى إعادة صياغة وعيها وفهمها لمقولة الاستقرار السياسي.. لأن الرؤية التي ترى أن سبيل الاستقرار، هو المزيد من الإجراءات والاحترازات والتضييق على حريات الناس، رؤية أثبتت التجربة قصورها وخطؤها. فالقمع لا يصنع أمنا واستقرارا، بل يضاعف من عوامل وأسباب الانفجار السياسي والاجتماعي..

لهذا فإن المجالين العربي والإسلامي اليوم، بحاجة إلى صياغة رؤية ووعي جديد، تجاه مسألة الاستقرار السياسي.. لأن الرؤية السائدة في الكثير من الدول والبلدان لم تحقق الاستقرار، بل على العكس من ذلك تماما.. إذ أن أي خطر داخلي أو خارجي حقيقي كشف وهم الاستقرار الذي كانت تعيشه العديد من الدول والبلدان..

وفي تقديرنا ورؤيتنا أن مكونات الاستقرار السياسي في المجالين العربي والإسلامي هي:

1- وجود مصالحة حقيقية بين مشروع السلطة ومشروع المجتمع، بحيث أن كل طرف يقوم بدوره الطبيعي في عملية البناء والعمران. فالاستقرار السياسي لا يمكن أن يتحقق على الصعيد الواقعي بعيدا عن انسجام الخيارات السياسية والثقافية بين السلطة والمجتمع.. والدول التي تعيش حالة حقيقية من الوئام والانسجام على صعيد الرؤية والخيارات بين السلطة والمجتمع، هي الدول المستقرة والقادرة على مواجهة كل التحديات والمخاطر..

لذلك فإننا نرى أهمية أن تخطو الدول العربية والإسلامية والمهددة في أمنها واستقرارها، إلى بلورة مشروع وطني متكامل للمصالحة بين السلطة والمجتمع.. فالاستقرار السياسي الحقيقي يكمن في مستوى الانسجام السياسي والاستراتيجي بين السلطة والمجتمع..

2- وجود الثقة المتبادلة والرضا المتبادل بين السلطة والمجتمع. فالأنظمة التي لا تثق بشعبها أو الشعب الذي لا يثق بحكومته، فإنه مهدد بشكل حقيقي في أمنه واستقراره.. لأن الأمن الحقيقي والاستقرار العميق هو الذي يستند إلى حقيقة راسخة وهي توفر الثقة العميقة والمتبادلة بين السلطة والمجتمع. هذه الثقة هي التي تنمح القوة لكلا الطرفين. فقوة المجتمع في انسجامه السياسي مع نظامه السياسي، وقوة النظام السياسي في ثقة المجتمع به وبخياراته السياسية والإستراتيجية.. لذلك فإن الاستقرار السياسي يتطلب وبشكل دائم العمل على غرس بذور الثقة بين السلطة والمجتمع..

ولا ريب أن خلق الثقة المتبادلة بين الطرفين، يحتاج إلى مبادرات حقيقية وانفتاح متواصل ومستديم بين مختلف القوى، حتى يتوفر المناخ المؤاتي للثقة والرضا المتبادل بين السلطة والمجتمع..

3- توفر الحريات السياسية والثقافية.. فلو تأملنا في العديد من التجارب السياسية على هذا الصعيد، لاكتشفنا وبشكل لا لبس فيه أن الدول التي تتوفر فيها حريات وتمنح شعبها بعض الحقوق، هي الدول المستقرة والتي تتمكن من مواجهة التحديات والمخاطر.. أما الدول التي تمارس السياسة بعقلية الاستئصال والتوحش وتمنع شعبها من بعض حقوقه ومكتسباته السياسية فإنها دول مهددة في استقرارها وأمنها.. لأنه لا يمكن لأي شعب أن يدافع عن دولة هو أول ضحاياها.. لهذا فإن الاستقرار السياسي هو وليد طبيعي لتوفر الحريات في الداخل العربي والإسلامي..

ومن يبحث عن الاستقرار السياسي بعيدا عن ذلك، فإنه لن يحصل إلا على أوهام القوة والاستقرار.. واللحظة التاريخية التي نعيشها اليوم على أكثر من صعيد، تتطلب تجديد فهمنا ووعينا لمعنى الاستقرار السياسي، والانخراط الفعلي في بناء المكونات الأساسية لخيار الأمن والاستقرار..

فكل التحديات والمخاطر لا يمكن مواجهتها، إلا باستقرار سياسي عميق، ولا استقرار حقيقي إلا بديمقراطية وتنمية مستدامة.. لذلك فإن الخطوة الأولى والإستراتيجية في مشروع مواجهة تحديات المرحلة ومخاطرها المتعددة هو بناء أمننا واستقرارنا على أسس ومبادئ حقيقية تزيدنا منعة وصلابة وقدرة على المواجهة.

الديمقراطية والاستقرار السياسي:

  وعديدة هي الدول والنخب السائدة، التي تعتقد أن سبيل استقرارها، واستمرار سيطرتها وهيمنتها على مجتمعها، هو بالمزيد من الإجراءات والأنظمة التي تكبل المواطنين وتمنعهم من حرية الحركة وتحول دون ممارسة الكثير من حقوقهم ومكتسباتهم المدنية.

لذلك فإن هؤلاء يتعاملون مع مفهوم الاستقرار السياسي والاجتماعي بوصفه صنو الأمن وتوأم تقييد الحريات وملازماً للكثير من الإجراءات المقيدة للحريات والمانعة من ممارسة الحقوق. وعلى ضوء هذا الفهم للاستقرار وطريق الوصول إليه، فإن هذه النخب مع أي مشكلة تتعرض إليها أو أزمة تصيبها، لا تفكر في أسبابها الحقيقية وموجباتها العميقة، وإنما تعمل على زيادة الاحتياطات والاحترازات الأمنية، وكأن غياب الاستقرار أو تعرضه لبعض الهزات، هو من جراء تراخي الأمن.

وهكذا فإن هذه الرؤية تتعاطى مع مسألة الاستقرار ليس بوصفه محصلة نهائية للعديد من الشروط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، وإنما بوصفه نتاج القوة المادية وممارستها تجاه الفئات أو النخب الاجتماعية الأخرى.

ومن هنا نفهم طبيعة الخوف والحذر الذي تبديه النخب السائدة في العديد من الدول، من الحرية وتوسيع حقائقها وآليات عملها في الفضاء الاجتماعي. فتجعل وفق هذا المنطق قيمة الاستقرار مناقضة لقيمة الحرية وحقوق الإنسان. وإذا أردنا الاستقرار فعلينا أن نضحي بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولا سبيل إلى الجمع بين هذه القيم في الفضاء الاجتماعي. فيتم شراء الاستقرار بمنع الحرية وبانتهاك حقوق الإنسان الأساسية. وهكذا توفرت في العديد من الدول تقاليد لتعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي، مؤدى هذه التقاليد هو أن طريق الاستقرار هو التضحية بحريات الناس وحقوقهم الأساسية وبالمزيد من تعظيم دور الإجراءات التنفيذية والعملية كمقيد لحركة الناس وحرياتهم.

وفي مقابل هذه الرؤية التي تتعاطى مع مفهوم الاستقرار من زاوية أمنية محضة، هناك رؤية أخرى تحاول أن توفق بين مطلب الاستقرار السياسي والاجتماعي وضرورات الحرية ومتطلبات صيانة حقوق الإنسان. وأنه لا تناقض جوهري بين هذه الضرورات والمتطلبات والاستقرار السياسي والاجتماعي. بل على العكس من ذلك تماماً. حيث أن طريق الاستقرار الحقيقي لا يمر إلا عبر بوابة ممارسة الحرية ونيل الحقوق والمكاسب المدنية. وإن أي محاولة لفك الارتباط بين الاستقرار والحرية، بين الأمن وحقوق الإنسان، سيفضي إلى المزيد من تدهور الأوضاع وانهدام أسباب الاستقرار الحقيقية.

ويخطئ من يتصور أن طريق الاستقرار يمر عبر التضحية بحريات الناس أو التعدي على حقوقهم، وذلك لأن هذه الممارسات بتأثيراتها المتعددة وانعكاساتها المتباينة، ستزيد من فرص عدم الاستقرار وتدهور الأوضاع.

فالطريق إلى الاستقرار السياسي والاجتماعي، هو ممارسة الحرية وصيانة الحقوق الإنسانية والمدنية.

ولذلك نجد في المشهد السياسي العالمي، أن الدول التي تنتهك فيها الحقوق وتنعدم فيها فرص ممارسة الحرية والديمقراطية، هي ذاتها الدول التي تعاني الأزمات السياسية والاقتصادية وتعيش الاضطرابات الاجتماعية وتعاني الأمرين من جراء غياب معنى الاستقرار السياسي والاجتماعي الحقيقي.

أما الدول الديمقراطية والتي تصون حقوق مواطنيها وتعمل على تعزيز فرص المشاركة لدى مختلف فئات المجتمع في الحياة العامة، هي الدول التي تعيش الاستقرار والأمن، وهي البعيدة عن موجبات الاندحار وأسباب تدهور الأوضاع.

فالتجارب السياسية والاجتماعية في العديد من مناطق العالم، تعلمنا أن طريق الاستقرار السياسي والاجتماعي، ليس المزيد من تقييد الحريات، وإنما بصيانة الحرية وتعزيز وقائع وحقائق حقوق الإنسان في الفضاء الاجتماعي، فكلما توفرت أسباب الحرية وصيانة الحقوق الأساسية في الفضاء الاجتماعي، اضمحلت أسباب الأزمة وتلاشت عوامل النكوص وتدهور الأوضاع.. وخطيئة تاريخية وحضارية كبرى، حينما يتم التعامل مع مفهوم الاستقرار وكأنه مناقض لمفهوم الديمقراطية وحقوق الإنسان..

لأن هذا الفهم هو الذي يقود إلى الاستبداد بكل صنوفه، بدعوى المحافظة على الاستقرار. ولكن ومن خلال تجارب العديد من الأمم والشعوب فإن الاستبداد يحمل في بنيته وأحشائه كل عوامل الاضطراب وأسباب الفتن وموجبات التفكك السياسي والاجتماعي. فبدون معادلة متوازنة بين الاستقرار والحرية، بين السلطة وحقوق الإنسان، لن تتمكن مجتمعاتنا العربية والإسلامية من صيانة استقرارها والمحافظة على أمنها الوطني والقومي.

وكل محاولة لفك الارتباط بين الاستقرار والحرية، أو السلطة وحقوق الإنسان، هي في المحصلة النهائية دق إسفين في مشروع الاستقرار السياسي والاجتماعي.. لأنه لا يمكن أن نحصل على الاستقرار الحقيقي بانتهاك الحقوق وتكميم الأفواه، لأن هذه تزيد من تدهور الأوضاع وتؤسس على الصعيدين السياسي والاجتماعي لكل أسباب الاضطراب والفوضى والتمرد. فالعلاقة جد عميقة بين الاستقرار والحرية، فلا حرية بدون استقرار سياسي واجتماعي واقتصادي، كما أنه لا استقرار بدون حرية مؤسسية تسمح لجميع المواطنين من المشاركة في إدارة وتسيير شؤون حياتهم المختلفة.

ولعلنا لا نبالغ حين القول: أن العديد من أزماتنا ومشاكلنا في المجالين العربي والإسلامي، هي من جراء الخلل في العلاقة بين الاستقرار والحرية. فالنخب السائدة تسعى من خلال عملها وإجراءاتها إلى تلبية حاجات أحد الأطراف وهو الاستقرار، حتى ولو كانت هذه التلبية على حساب متطلبات وقواعد الحرية.

والنخب السياسية والاجتماعية الأخرى تكافح أيضاً من أجل الحرية دون الأخذ بعين الاعتبار قواعد الاستقرار السياسي والاجتماعي. وهكذا ومن خلال هذا الخلل ينتج الكثير من المشاكل والأزمات. فالإجراءات التي لا تتحدد بسقف الحرية وحقوق الإنسان، تكون إجراءات ظالمة ومفزعة ومؤسسة للحروب الداخلية الكامنة والصريحة. كما أن المطالبة بالديمقراطية التي لا تراعي قواعد اللعبة وثوابت المجتمع والوطن، تفضي إلى صراع مفتوح يضيع فيه الاستقرار، كما تتضاءل فيه فرص الحرية والديمقراطية. لذلك فإن عالمنا العربي وهو في سياق تحرره من أزماته الداخلية ومشاكله الذاتية، هو بحاجة إلى إعادة تنظيم العلاقة بين الاستقرار وحاجاته، والحرية ومتطلباتها.

لأن العلاقة الايجابية والدينامية بين الاستقرار والحرية، هي البداية الصحيحة للخروج من أزمات الراهن بأقل خسائر ممكنة.. وهنا يتطلب أن تلتفت النخب العربية والإسلامية السائدة إلى متطلبات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.. كما يتطلب من قوى المجتمع الأخرى أن تأخذ بعين الاعتبار وتحترم حاجات الاستقرار السياسي والاجتماعي.. فنحن بحاجة أن نلتفت إلى متطلبات الحرية، دون دفع الأمور إلى الفوضى والصراعات المفتوحة، كما نحترم قواعد الاستقرار دون التحجر والجمود واليباس.

فالمطلوب علاقة تفاعلية ودينامية بين متطلبات الحرية وحاجات الاستقرار. وذلك من أجل أن ينطلق مجتمعنا في التغيير والتطوير على قواعد متينة من الاستقرار الاجتماعي.. وإن التطورات المتسارعة التي تجري في المنطقة اليوم، تجعلنا نؤكد على أن طريق الاستقرار السياسي والاجتماعي، لا يمر عبر المزيد من الإجراءات والاحترازات الأمنية مع أهميتها وضرورتها، وإنما عبر إعادة تشكيل الحياة السياسية بحيث يتسنى لجميع قوى المجتمع وتعبيراته من المشاركة في بناء الوطن وتعزيز وحدته الداخلية وتمتين أواصر العلاقات بين مختلف المكونات.

فالاستقرار السياسي والاجتماعي اليوم، في الكثير من البلدان العربية والإسلامية، بحاجة إلى حزمة من الإجراءات والخطوات السياسية، التي تستهدف رفع الاحتقانات الداخلية وبلورة الأطر والمؤسسات للمشاركة الشعبية وإعادة تأسيس العلاقة بين متطلبات الحرية ومشاركة الناس في شؤون حياتهم المختلفة وحاجات الاستقرار والنظام.. بحيث لا تقود خطوات الإصلاح إلى فوضى، بل إلى بناء متراكم وعمل وطني متواصل، يستهدف تطوير التجربة وتحديثها، وإزالة عناصر الخلل والضعف منها.

وهذه المهام ليست مستحيلة، وإنما هي ممكنة وتتطلب من جميع الأطراف الاهتمام بالنقاط التالية:

1- إن القوة الحقيقية اليوم في أي مجتمع، لا تقاس بمستوى الكفاءة العسكرية أو الإجراءات الأمنية المحكمة، وإنما تقاس القوة اليوم بمستوى الانسجام والرضا بين مؤسسة الدولة والمجتمع بكل مكوناته وتعبيراته. فالدولة التي تمتلك أحدث الأسلحة، ولكنها منفصلة أو مفصولة عن شعبها فهي دولة ضعيفة. وذلك لأن قوتها الحقيقية ليس في الأسلحة والمعدات العسكرية، وإنما في رضا المجتمع عنها. وفي كفاح المجتمع في الدفاع عنها بكل مؤسساتها وهياكلها.. والدولة التي لا تمتلك الأسلحة الحديثة ولا الثروات الطبيعية الهائلة، إلا أنها تعبير حقيقي عن مجتمعها، فهي دولة قوية لأنها محتضنة من قبل شعبها ومجتمعها.. فقوة الدول ليس في ترسانتها العسكرية، بل في انسجامها مع مجتمعها في خياراتها ومشروعاتها. لذلك كله فإن استقرار الدول اليوم، مرهون إلى حد بعيد على قدرة هذه الدول في التفاعل مع قضايا مجتمعها والتعبير عن تطلعاته وحاجاته.

2- إن بناء العلاقة الايجابية والمتطورة بين الدولة والمجتمع في المجال العربي، بحاجة إلى جهود مشتركة بين الطرفين.. فالدولة تتحمل مسؤولية مباشرة في خلق الأجواء والوقائع التي تدفع الواقع صوب التفاعل الايجابي بين الدولة والمجتمع.. كما أن المجتمع بقواه المتعددة يتحمل مسؤولية مباشرة في إطار تطوير العلاقة بين الدولة والمجتمع في التجربة العربية المعاصرة.. فمؤسسات المجتمع المدني ليست بديلاً عن الدولة، كما أن مؤسسات الدولة ليست بديلاً عن فعاليات المجتمع الأهلية والمدنية.. فالاستقرار السياسي والاجتماعي بحاجة إلى جهود مشتركة ونوعية تقوم بها مؤسسات الدولة كما يقوم بها المجتمع عبر مؤسساته الأهلية والمدنية. فالاستقرار هو نتاج عمل متواصل ومتراكم يتجه صوب تعزيز حرية الإنسان وحقوقه الأساسية، كما أنه لا يغفل أو يتجاهل حاجات المجتمع إلى الأمن والاستقرار..

فالطريق إلى استقرار أوضاع العالم العربي اليوم، بحاجة إلى مبادرات وطنية نوعية، تتجه صوب إصلاح الأوضاع وتدشين مرحلة سياسية جديدة قوامها ممارسة الحريات وصيانة حقوق الإنسان.

العدالة والاستقرار السياسي:

ثمة علاقة عميقة، وعلى أكثر من مستوى، تربط قيمة الاستقرار السياسي والاجتماعي في أي تجربة إنسانية،وقيمة العدالة.. بمعنى أن كل المجتمعات الإنسانية، تنشد الاستقرار، وتعمل إليه، وتطمح إلى حقائقه في واقعها، إلا أن هذه المجتمعات الإنسانية، تتباين وتختلف في الطرق التي تسلكها، والسبل التي تنتهجها للوصول إلى حقيقة الاستقرار السياسي والاجتماعي..

فالمجتمعات الإنسانية المتقدمة حضاريا، تعتمد في بناء استقرارها الداخلي السياسي الاجتماعي على وسائل الرضا والمشاركة والديمقراطية والعلاقة الايجابية والمفتوحة بين مؤسسات الدولة والسلطة والمجتمع بكل مؤسساته المدنية والأهلية وشرائحه الاجتماعية وفئاته الشعبية.. لذلك يكون الاستقرار، هو بمثابة النتاج الطبيعي لعملية الانسجام والتناغم بين خيارات الدولة وخيارات المجتمع..

بحيث يصبح الجميع في مركب واحد، ويعمل وفق أجندة مشتركة لصالح أهداف وغايات واحدة ومشتركة..

لذلك غالبا ما تغيب القلاقل السياسية والاضطرابات الاجتماعية في هذه الدول والتجارب الإنسانية.. وإن وجدت اضطرابات اجتماعية أو مشاكل سياسية وأمنية، فإن حيوية نظامها السياسي ومرونة إجراءاتها الأمنية وفعالية مؤسساتها وأطرها المدنية، هي العناصر القادرة على إيجاد معالجات حقيقية وواعية للأسباب الموجبة لتلك الاضطرابات أو المشاكل..

وإذا تحقق الاستقرار العميق والمبني على أسس صلبة في أي تجربة إنسانية، فإنه يوفر الأرضية المناسبة،لانطلاق هذا المجتمع أو تلك التجربة في مشروع البناء والعمران والتقدم.

فالتقدم لا يحصل في مجتمعات، تعيش الفوضى والاضطرابات المتنقلة، وإنما يحصل في المجتمعات المستقرة، والتي لا تعاني من مشكلات بنيوية فيه طبيعة خياراتها، أو شكل العلاقة التي تربط الدولة بالمجتمع والعكس..

فالمقدمة الضرورية لعمليات التقدم الاقتصادي والعلمي والصناعي، هي الاستقرار السياسي والاجتماعي.. وكل التجارب الإنسانية، تثبت هذه الحقيقة.. ومن يبحث عن التقدم بعيدا عن مقدمته الحقيقية والضرورية، فإنه لن يحصل إلا على المزيد من المشاكل والمآزق، التي تعقد العلاقة بين الدولة والمجتمع وتربكها وتدخلها في دهاليز اللاتفاهم واللاثقة..

وفي مقابل هذه المجتمعات الحضارية – المتقدمة، التي تحصل على استقرارها السياسي والاجتماعي، من خلال وسائل المشاركة والديمقراطية والتوسيع الدائم للقاعدة الاجتماعية للسلطة، هناك مجتمعات إنسانية، تتبنى وسائل قسرية وتنتهج سبل قهرية للحصول على استقرارها السياسي والاجتماعي.

فالقوة المادية الغاشمة، هي وسيلة العديد من الأمم والشعوب، لنيل استقرارها،ومنع أي اضطراب أو فوضى اجتماعية وسياسية.. وهي وسيلة على المستوى الحضاري والتاريخي، تثبت عدم جدوائيتها وعدم قدرتها على إنجاز مفهوم الاستقرار السياسي والاجتماعي بمتطلباته الحقيقية وعناصره الجوهرية..

لأن استخدام وسائل القهر والعنف، يفضي اجتماعيا وسياسيا، إلى تأسيس عميق لكل الأسباب المفضية إلى التباعد بين الدولة والمجتمع، وإلى بناء الاستقرار السياسي على أسس هشة وضعيفة، سرعان ما تزول عند أية محنة اجتماعية أو سياسية..

وتجارب الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا والعراق، كلها تثبت بشكل لا مجال فيه للشك، أن العنف لا يبني استقرارا، وأن القوة الغاشمة لا توفر الأرضية المناسبة لبناء منجزات حضارية وتقدمية لدى أي شعب أو أمة..

فلا استقرار بلا عدالة، ومن يبحث عن الاستقرار بعيدا عن قيمة العدالة ومتطلباتها الأخلاقية والمؤسسية، فإنه لن يحصد إلا المزيد من الضعف والهوان..

فتجارب الأمم والشعوب جميعها، تثبت أن العلاقة بين الاستقرار والعدالة، هي علاقة عميقة وحيوية.. بحيث أن الاستقرار العميق هو الوليد الشرعي للعدالة بكل مستوياتها.. وحين يتأسس الاستقرار السياسي والاجتماعي، على أسس صلبة وعميقة، تتوفر الإمكانية اللازمة لمواجهة أي تحد داخلي أو خطر خارجي..

فالتحديات الداخلية لا يمكن مواجهتها على نحو فعال، بدون انسجام عميق بين الدولة والمجتمع.. كما أن المخاطر الخارجية، لا يمكن إفشالها بدون التناغم العميق بين خيارات الدولة والمجتمع.. وكل هذا لن يتأتى بدون بناء الاستقرار السياسي والاجتماعي على أسس العدالة الأخلاقية والمؤسسية..

وإن الإنسان أو المجتمع، حينما يشعر بالرضا عن أحواله وأوضاعه، فإنه يدافع عنها بكل ما يملك، ويضحي في سبيل ذلك حتى بنفسه.. وأي مجتمع يصل إلى هذه الحالة، فإن أكبر قوة مادية، لن تتمكن من النيل منه أو هزيمته..

فالاستقرار السياسي والاجتماعي المبني على العدالة، هو الذي يصنع القوة الحقيقية لدى أي شعب أو مجتمع..

لهذا فإن المجتمعات التي تعيش الاستقرار وفق هذه الرؤية والنمط، هي مجتمعات قوية وقادرة على مواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية..

ونحن كمجتمعات عربية وإسلامية اليوم، وفي ظل التحديات الكثيرة، التي تواجهنا على أكثر من صعيد ومستوى، بحاجة إلى هذه النوعية من الاستقرار، حتى نتمكن من مجابهة تحدياتنا، والتغلب على مشاكلنا والتخلص من كل الثغرات الداخلية التي لا تنسجم ومقتضيات الاستقرار العميق..

مفهوم قوة الدولة وضعفها :

من أين تستمد الدول قوتها، وما هو المعيار الحقيقي والجوهري لتحديد قوة الدولة أو ضعفها؟ حيث من الضروري على المستويات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، أن نحدد المعيار الأساسي الذي يحدد قوة الدول وضعفها. وذلك حتى يتسنى لنا كشعوب ومجتمعات من العمل من أجل توفير عناصر القوة في فضائنا ودولنا، وطرد كل عناصر الضعف والتراجع.

للإجابة على هذا السؤال المركزي، بإمكاننا القول أن الكثير من الإجابات والتصورات نستطيع اختزالها في إجابتين ورؤيتين وهما:

1- إن الدولة القوية، هي التي تمتلك إمكانات عسكرية واقتصادية هائلة، وتتمركز كل القرارات والصلاحيات في يدها. فتساوق هذه الرؤية بين المركزية والقوة.

فالدول ذات الطابع الشمولي والمركزي في سياساتها واقتصادها هي من الدول القوية، حتى ولو كان الشعب يعيش القهر والحرمان والاضطهاد. والمشروعات التقدمية التي سادت المجال العربي في الحقب الماضية، عملت على تأكيد هذه الرؤية، وإعطائها بعداً أيدلوجياً. لذلك رفعت هذه المشروعات شعارات: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ووحدة العرب في قوتهم. والمقصود بالقوة هنا القوة العسكرية والمادية. ولكننا وبعد تجارب ومحن مريرة مع هذه المشروعات، لم ننجز قوتنا القادرة على حمايتنا من المخاطر الخارجية والتحديات الداخلية. ولم نحقق انتصارنا على عدونا الحضاري التي توقفت كل المشروعات والسياسات من أجل التركيز على محاربته ودحره. ولكننا على الصعد كافة لم نحصد إلا الهزائم والانكسارات والإخفاقات.

فالمليارات التي صرفت على مؤسساتنا العسكرية والدفاعية لم تمنع العدو من الوصول إلى عواصمنا ومناطقنا الحيوية. والمركزية في الإدارة وصنع القرار، التي طبّلنا لها كثيراً لم نحصد من ورائها إلا التأخر عن ركب الحضارة والعالم المعاصر.

ولقد أبانت لنا التجارب الماضية والمعاصرة، أن قوة الدول العسكرية ليست هي القوة الحقيقية القادرة على إنجاز تطلعات الشعب أو الدفاع عن أمنه وحدوده. بل على العكس من ذلك، حيث أن الدول التي استندت في بناء قوتها على هذه الرؤية، لم تصمد أمام الأزمات والتحديات.

فالاتحاد السوفيتي بكل ما يمتلك من ترسانة عسكرية ضخمة وأجهزة أمنية عملاقة، لم يستطع الصمود أمام تطلعات شعوبه المشروعة. فتلاشى في فترة زمنية وجيزة.

والعراق هذا البلد الذي يمتلك أقوى الجيوش وأقسى الأجهزة الأمنية والقمعية وصلت الولايات المتحدة الأميركية إلى عاصمته في غضون (20) يوماً فقط و(130) قتيلاً..

فالدول التقدمية والأيدلوجية، والتي استخدمت كل إمكانات الدولة لتعميم أيدلوجيتها وقهر الناس على خياراتها ومتبنياتها السياسية والثقافية، هي ذاتها الدول التي أجهضت كل مشروعات التحرر الحقيقي والخروج من مآزق الراهن.

ودول المشروع التقدمي لم تزدنا إلا ضعفاً وتشاؤماً، وذلك لأن الإنسان هو أرخص شيء لديها. تصادر حرياته، تمتهن كرامته، تحاربه في رزقه وكسبه، يقهر ويهان ويسجن ويعذب لأتفه الأسباب. دولة اختزلت الجميع في دائرة ضيقة، لا تتعدى في بعض الأحيان شخص الأمين العام.

ولا نعدو الصواب حين القول: بأن هذه الدولة بنمطها القروسطوي وعنفها وجبروتها وعسكرتها لمجتمعها، أجهضت الكثير من الآمال والتطلعات. ولا يمكن بأي حال من الأحوال، أن نقول عن هذه الدول بأنها دول قوية. وذلك لأنها لم تستطع أن تنجز مشروعاتها وأهدافها، بل على العكس من ذلك، حيث أنها أنتجت النقيض. فأنتجت الاستبداد والقمع وتكميم الأفواه بدل الحرية، وتحولت إلى مزرعة خاصة لفئة محدودة بدل العدالة والاشتراكية، وعمقت في الفضاء الاجتماعي والسياسي كل مستلزمات التفتت والتجزئة والتشظي بدل الوحدة والاتحاد.

وهكذا نصل إلى حقيقة شاخصة، تبرزها خبرة الإنسانية جمعاء عبر العصور، أن الدولة التي تنفصل عن مجتمعها وتحاربه في معتقداته واختياراته الثقافية والسياسية، وتفرض عليه نظاماً قهرياً، فإن مآلها الفشل وفقدان المعنى من وجودها.

2- إن قوة الدول تقاس بمستوى ديمقراطيتها وانسجامها على صعيد الخيارات والسياسات مع شعبها ومجتمعها.

والثروات الطبيعية والإمكانات العسكرية، لا تتحول إلى عنصر قوة، حينما يكون هناك جفاء بين الدولة والمجتمع. ونحن نرى أن هذا هو المعيار الحقيقي لقوة الدول وضعفها.

فالدولة التي تعيش التوتر مع شعبها، ولا تنسجم خياراتها مع خياراته، فهي دولة ضعيفة في المحصلة النهائية حتى ولو امتلكت كل الثروات والإمكانات العسكرية. أما الدولة التي تشرك شعبها في القرار وصناعة المصير، وديمقراطية في بنيتها وممارساتها، فهي دولة قوية وقادرة على مجابهة المخاطر حتى ولو كانت فقيرة في مواردها وثرواتها وإمكاناتها العسكرية.

فقوة العرب والمسلمين اليوم، في حريتهم ومستوى انسجام الدولة مع خيارات وتطلعات شعبها.

والديمقراطية هي حجر الأساس في قوة الدول وضعفها. لذلك فإننا نرى أن كل مبادرة، تأخذها الدولة، وتستهدف توسيع مستوى المشاركة الشعبية في صناعة القرار وتسيير الأمور، هي مبادرة وخطوة تساهم في تعزيز قوة الدولة، أو بناء هذه القوة على أسس جديدة أكثر قدرة وفعالية.

وإن النهج السياسي المعتدل، والذي يتعاطى مع كل الأمور والقضايا والحقائق السياسية والاجتماعية بعقلية منفتحة ومتسامحة، هو القادر على توسيع هوامش الحرية في المجتمع، وهو المؤهل لمراكمة الفعل السياسي الراشد في المجتمع. وفي المقابل فإن النهج الاستئصالي، هو الذي يفاقم الأزمات ويعقدها ويحول دون بلورة نهج سياسي معتدل، ويدخل الدول والمجتمع في دوامة العنف والتطرف.

إننا مع الدول القوية التي تستند على القانون وتحترم حقوق الإنسان، وتدافع عن كرامة شعبها. حيث أن الدولة القوية المسيجة بسياج القانون والحرية والمسؤولية، هي القادرة على التفاعل والتكامل مع مجتمع مؤسسي - مدني، يمارس وظائفه الحضارية اعتماداً على إمكاناته وآفاقه.

وإن التحول نحو الحرية والديمقراطية في أي مجتمع، بحاجة إلى وعي عميق بضرورتها وأهمية وجودها في البناء الوطني السياسي والثقافي والحضاري، وهذا الوعي بحاجة لكي يترجم إلى وقائع قائمة وحقائق مشهودة.

وإن تنمية روح المسؤولية والتسامح والحقوق والكرامة، كلها عوامل تساهم في تنمية الحس الديمقراطي في المجتمع.

وإننا وفي ظل هذه التطورات المتسارعة والتحديات المتلاحقة، أحوج ما نكون إلى ممارسة القطيعة المعرفية والعملية مع تلك الرؤية التي تتعامل مع مفهوم القوة بعيداً عن خيارات المجتمع وتطلعاته المشروعة. وبناء مفهوم القوة ليس على أساس امتلاك أحدث الأسلحة، أو ضخامة الترسانة العسكرية، وإنما على أسس التوافق والانسجام بين الدولة والمجتمع.

هذا الانسجام الدينامي والفعال هو أساس قوة الدولة. ولا يمكن لنا وفي ظل هذه الظروف إلا الانخراط في مشروع تصحيح العلاقة وبناء القوة على أساس الانسجام بين الدولة والمجتمع. ولا ريب أن تحقيق الانسجام، يتطلب من الدولة القيام بخطوات ومبادرات، تستهدف توسيع المشاركة الشعبية وإزالة الاحتقانات وتوسيع القاعدة الاجتماعية للسلطة.

فالقوة الحقيقية اليوم، تتكثف في مستوى التناغم بين مؤسسة الدولة والمجتمع بمختلف تعبيراته وشرائحه. والفرصة اليوم مؤاتية للقيام بصنع فرص ومبادرات في هذا السياق.

والوظيفة الكبرى للجميع تتجسد في تكثيف الفعل الثقافي والاجتماعي لتحرير دينامية التحول الديمقراطي من كوابحها ومعوقاتها الذاتية والموضوعية، حتى تأخذ الديمقراطية موقعها الأساس في تنظيم الخلافات وضبطها، وحتى تتجه كل الجهود والطاقات نحو البناء والسلم والاندماج الاجتماعي والوطني، وتعميق موجبات العدل والمساواة والمسؤولية.

والاستقرار السياسي اليوم، لا ينجز في الكثير من الدول والبلدان العربية والإسلامية، إلا بتوافق حضاري بين الدولة والمجتمع. والإخفاق هو نصيب أي مشروع يقصي المجتمع ويهمش دوره في الحياة. كما أن النجاح تتبلور أسبابه وتتجمع عناصر إرادته من خلال التوافق الحضاري بين الدولة والمجتمع. والتوافق هنا يعني المشاركة والتفاعل والمراقبة والشهود والتكامل.

وخلاصة القول: إن ما تؤكده تحولات الربيع العربي، أن طريق الاستقرار السياسي العميق في كل البلدان العربية، هو تطوير نظام الشراكة السياسية، وتوسيع القاعدة الاجتماعية للسلطة وإيجاد معالجات حقيقية وفعالة للمسألة الاقتصادية والمعيشية. دون ذلك تبقى السلطات السياسية ضعيفة، حتى لو كانت مدججة بالسلاح، ومحمية من أجهزة أمن بالغة القمع والخبرة.

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث

السعودية

درج العديد من المعاصرين على استخدام مصطلح التّعايش كبديل عن مصطلح التّسامح، والّذي استخدم بصورة كبيرة في ظرفيّة زمنيّة نتيحة صراعات دينيّة بين الكاثوليك والبروتستانت في أروبا، فكان مصطلح التّعايش مجرّدا من أيّ غايات مسبقة عدا تحقّق العيش المشترك المنطلق من ماهيّة الإنسان الواحدة، والمبني على المساواة في المواطنة والعيش المشترك.

لهذا قد يسند التّعايش إلى المعنى الواسع فيقال "التّعايش الإنسانيّ"، فهنا الأصل باعتبار الماهيّة الإنسانيّة، فتتقبل الآخر ولو اختلف عنك فكرا أو دينا أو مذهبا أو توجها، فلابدّ أن تمايز بين ذات الإنسان في ضوء المساواة من حيث الذّات، وبين العدل في الإجراء المرهون بالمساواة ذاتها من حيث الابتداء.

وقد يسند التّعايش إلى المعنى الأخصّ، فيقال "التّعايش السّلميّ" مسندا إلى السّلم، إذا كان هناك صراع واضح بين الأطياف، وخصوصا في الصّراعات السّياسيّة، وقد يقال "التّعايش المذهبيّ"، أو "التّعايش الفكريّ"، أو "التّعايش الوطنيّ"، فجميعها أسندت إلى الأخصّ (المذهب والفكر والوطن)، حيث الغاية تحقّق التّعايش حول هذه المفاهيم الخصوصيّة.

ومن الإسناد إلى الأخص "التّعايش الدّينيّ"، على اعتبار هناك أديان متباينة في مجتمع أو دولة ما، أو باعتبار الإنسان ذاته وعالمه الأوسع، إلّا أنّ هناك من يرفض مصطلح تعدّد الأديان، ويرى الدّين واحدا، وبالتّالي يرفض عبارة "التّعايش الدّينيّ"، ليس رفضا للتّعايش بقدر ما هو رفض لمفهوم تعدّد الأديان، وهناك من يبالغ ويرفض حتّى مفهوم التّعايش بينها بناء على مصطلحات الولاء والبراء، وتقسيم النّاس ثلاثة، إمّا موحد مسلم، أو من أهل الكتاب وعليهم الدّخول في الإسلام أو الجزية، أو مشرك ليس لهم خيار إلّا الدّخول في الإسلام إذا بلغتهم الحجّة، خصوصا نتيجة حرب، واستثنوا قريشا فلا سبي فيهم عند العديد، وقد ناقشتُ هذا الأمر بإسهاب في كتابي "فقه التّطرّف".

إشكاليّة رفض عبارة "التّعايش الدّينيّ" في العقل الجمعيّ التّقليديّ يعود إلى ثلاث إشكاليّات: الأول مفهوم الدّين، والثّانيّ فلسفة تعدّد الأديان، والثّالث إسقاط نصوص وفق ظاهرها وجعل ظاهرها مطلقا قطعيّا.

وأمّا من حيث مفهوم الدّين فنجده واسعا عند العرب قديما وحديثا من حيث اللّغة، ففي "مختار الصّحاح" مثلا لمحمّد بن أبي بكر الرّازي (ت 666هـ) يضع الدّين بكسر الدّال وفق معنيين: الأول "العادة والشّأن"، والثّاني "الجزاء والمكافأة"، لهذا الأول عام، فتعدّد الأديان يدخل في العادة والشّأن، وأمّا تعليق الدّين بالجزاء والمكافأة فمتعلّق بالله وحده، وتعلّقه بالمعنى الثّاني لا يرفع المعنى الأول كما سيأتيّ، ولهذا جمع الرّازي الدّين على أديان، وفي "المعجم الوسيط" لأحمد حسن الزّيّات (ت 1968م) وآخرين، فيرى الدّين "الدّيانة، واسم لجميع ما يعبد به الله"، ويدخل فيه "الملّة والإسلام والاعتقاد" وغيرها، "والدّيانة ما يتديّن به الإنسان"، فهو عام، ولا يتعارض مع مفهوم "تعدّد الأديان"، ومن المعنى اللّغوي الواسع للدّين انطلق ابن عاشور (ت 1393هـ) في "التّحرير والتّنوير" في عموميّة مصطلح الدّين ذاته، فيرى "الدّين العقيدة والملّة، وهو معلومات وعقائد يعتقدها المرء فتجري أعماله على مقتضاها، فلذلك سمي دِينا لأنّ أصل معنى الدّين المعاملة والجزاء"، ويقول طنطاويّ (ت 1431هـ) في الوسيط: "والدّين يطلق بمعنى العقيدة الّتى يعتقدها الإِنسان ويدين بها، وبمعنى الملّة الّتى تجرى أقواله وأفعاله على مقتضاها، وبمعنى الحساب والجزاء، ومنه قولهم: دنت فلانا بما صنع، أى: جازيته على صنيعه".

ونجد في القرآن الكريم مصداقين مثلا لسعة اللّغة في مصطلح الدّين، المصداق الأول قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النّساء: 171]، وأهل الكتاب هنا اليهود والنّصارى، وسمّى ما عليه هم دينا، ولم أجد في التّفاسير أيّ تأويل متكلّف في هذا، فالطّبريّ (ت 310هـ) في "جامع البيان" يقول: "{لا تَغْلُوا فِـي دِيِنِكُمْ} ... لا تـجاوزوا الـحقّ فـي دينكم فتفرِطوا فـيه"، وعلى هذا درج المتأخرون إلى اليوم.

والمصداق الثّانيّ قوله تعالى:  {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، وهنا في الجزئين تقديم للمسند على المسند إليه في الجملة الإسميّة يراد به التّخصيص، فالدّين هو المبتدأ المؤخر الّذي هو المسند إليه، وأثبتت الآية سعته لغة، فللمشركين دينهم، وللرّسول – عليه الصّلاة والسّلام – دينه، وفي هذا يقول الطّبريّ في "جامع البيان": "لكم دينكم فلا تتركونه أبدا؛ لأنّه قد خُتِمَ عليكم، وقُضِي أن لا تنفكوا عنه، وأنّكم تموتون عليه، ولي دينِ الّذي أنا عليه، لا أتركه أبدا؛ لأنّه قد مَضى في سابق علم الله أنّي لا أنتقل عنه إلى غيره"، ويقول الطّبريّ (ت 671هـ) في "جامع أحكام القرآن": "وسمّى دينهم دينا لأنّهم اعتقدوه وَتَولَّوه"، وأمّا تعليق بعضهم بالجزاء فلا يتعارض، أي جزاء ما عليه من دين، وفي هذا يقول أطّفيش (ت 1334هـ) في الهيميان: "لكم دينكم تجازون به، ولي ديني أجازي به".

وإذا جئنا إلى فلسفة تعدّد الأديان فهي من المباحث المعاصرة الّتي أرجعها عليّ ربانيّ في الدّراسات الغربيّة إلى ثلاث نظريّات: التّعدّديّة والانحصاريّة والشّموليّة، وارتبطت هذه بالمباحث الملليّة أو الموسوعيّة قديما كالملل والنّحل لأبي الفتح الشّهرستانيّ (ت 548هـ)، أو موسوعات الأديان والمذاهب اللّاهوتيّة والفكريّة والاجتماعيّة المعاصرة، وهي كثيرة جدّا، أو الكتب التّخصصيّة المرتبطة بالآثار، أو بالاجتماع البشريّ، أو بفلسفة اللّاهوت المقارن، وهي كثيرة أيضا، لهذا مصطلح الدّين اليوم يطلق بمفهومه الواسع، ويرى تولستوي (ت 1910م) في كتابه "في الدّين والعقل والفلسفة" أنّ الدّين له ثلاثة معان، الأول الدّين المرتبط بكتاب مقدّس، "هذا المعنى يوصف به الدّين من قبل المؤمنين بإحدى الدّيانات الموجودة، والّذين يعتبرون ديانتهم الوحيدة الحقيقيّة"، والثّاني "مرتبط بإطار الخرافات تنتج عنها عبادات خرافيّة"، والثّالث "عبارة عن قوانين وتشريعات شديدة الأهميّة، سنّت من قبل بعض الحكماء للجموع الهمجيّة، كي تعمل على طمأنتهم وقمع شهواتهم البهيميّة"، فنرى العديد من الدّراسات اليوم تجاوزت الدّراسات اللّاهوتيّة أو الكلاميّة وفق الحقيقة الواحدة أو المطلقة، إلى الدّراسات التّأريخيّة والأثريّة والدّراسات المقارنة والفلسفيّة وغيرها، لهذا سيتسع مفهوم الدّين ذاته، كما أنّ لتقارب الواقع المعاصر طبيعيّ أن تطرح التّعدّديّة الدّينيّة في ضوء الانغلاق الدّينيّ، كما طرح مفهوم حوار الأديان كبديل عن صراع الأديان مثلا.

لهذا نأتي إلى الإشكاليّة الثّالثة وهي إسقاط نصوص وفق ظاهرها وجعل ظاهرها مطلقا قطعيّا، فاليوم لا تستطيع أن تتحدّث عن التّعايش الدّينيّ أو حول التّعدّديّة الدّينيّة إلّا ويأتيك أحدهم معترضا "الدّين واحد فقط"، أو "هذه شرائع وليست أديانا"، أو "الدّين عند الله الإسلام"، والإشكاليّة لمّا تكون هذه الاعتراضات المطلقة ممّن يدركون سعة ذلك، ويطلقون عمويّتها الضّبابيّة في العقل الجمعيّ، فيذكر مثلا يوسف القرضاويّ (ت  2022م) في موقعه على الشّبكة العالميّة حيث يقول: "أنكرتُ ما ذكره أحد العلماء في مؤتمر حضره عدد كبير من المدعويين، كان الحديث فيه عن حوار الأديان، والتّقريب بين أهلها ...  ولكنّ هذا العالم قام وقال بصراحة: لا يوجد هناك دين إلا دين واحد، وهو الإسلام، وهو الذي قال القرآن فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، حتّى ما يُسَمَّى (الأديان الكتابيّة) لا يُعْتَدّ بها، ولا تُعْتبر دينا، بعد أن حرّفها أهلها، وجاء الإسلام فنسخها، وقد ألزمني الواجب أن أردّ على هذا الكلام الّذي ينسف كلّ ما قيل في المؤتمر، بل جهود الحوار والتّقارب بين الأديان والحضارات، وقلتُ فيما قلتُ: إنّ هذا الكلام يخالف صراحة ما جاء به القرآن، فالقرآن يعتبر أنّ هناك أديانا أخرى غير الإسلام، وإن كنا نعتبرها أديانا باطلة، ولكنها أديان يدين بها أصحابها، والآية التي استشهد بها المتحدّث تردّ عليه، وهي قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً ...} الآية، فقد سماه الله دينا".

وبطبيعة الحال لا يمكن في مقالة سريعة كهذة تتبع هذه الآيات، بيد أنّه لا يمكن قراءتها بعيدا عن سياقاتها، وعن سعة لغة القرآن ذاته، فمصطلح الدّين لا يخرج في عن سعة اللّغة من الابتداء كما أسلفنا، ومن حيث الحكم الكلّي أو الجزئيّ المتعلّق بالله وحده، أو بالدّراسات اللّاهوتيّة توسعا، أو من حيث الشّرعة والمنهاج المبنيّة على التّعدّديّة، والمرتبطة بالأديان، وبها تتشكل الأديان وفق الاجتماع البشريّ، وتطوّر الاجتهاد الإنسانيّ، لهذا "التّعايش الدّينيّ" لا يعني الانصهار الدّينيّ، ولا يعني الحكم اللّاهوتيّ المسبق، وإنّما يعني تحقّق العيش المشترك من حيث المساواة والعدل على المستوى الشّموليّ في العالم، أو على مستوى القوميّة الواحدة، أو الدّولة القطريّة.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

دارُ الاسلامِ ودارُ الحربِ، هل هذه الثُنائِيَّةُ في التَّقسيمِ تُمَثِّلُ الرُؤيَةَ النِّهائِيَّةَ لِفِقهِ العلاقاتِ الدَّولِيَّةِ في الاسلام؟ أَمْ أَنَّها تُمَثِّلُ اجتهاداً فقهيّاً تأريخيّاً فَرَضَهُ الواقعُ التأريخي الذي عاشَهُ المسلمونَ آنَذاك؟

كانت العلاقاتُ الدَّوليَّةُ في الوقت الذي برزت فيه هذه الرؤيةُ الثنائيَّةُ للعالَمِ لاتعرِفُ إِلاّ لغةُ القُوَّةِ والحرب في حَلِّ المُشكلاتِ. كانت القُوَّةُ هي اللغةُ السائدةُ، وكانَ منطِقُ القُوَّةِ هو المنطِقُ المُهَيْمِنُ، كانَ القَوِيُّ يأكُلُ الضَّعيفَ. هذا هوَ المنطقُ السائدُ آنَذاك.

أَلأَصلُ في العلاقاتُ الانسانيَّةُ هو السلامُ، والحربُ هي الحالةُ الطارِئَةُ التي يُلجَأ اليها كضَرورةٍ وكحَلٍّ عندما لايكون هناك حلٌّ.

واذا كانتِ الحربُ هي الحالَةُ الطارئَةُ والشاذَّةُ ؛ يمكنُ ان تكونَ القسمةُ ثلاثيَّةً كما قَسَمَ البعضُ العالم الى: دار اسلام، ودار حرب، ودار عهد . وقسم بعضٌ آخر تقسيماً رُباعِيَّاً: دار اسلام، ودار حرب، ودار عهد، ودار حياد .

العالَمُ اليوم، محكومٌ بمواثيقَ ومعاهداتٍ واتفاقاتٍ دوليّةٍ، والاسرةُ الدوليَّةُ في الامم المتحدة، ترتبطُ بعهودٍ ومواثيقَ، والفرد يستطيعُ ان يتحرك في العالم وهو آمِنٌ على نفسهِ بموجب هذه المواثيق والعهود؛ وبالتالي يمكننا ان نعتبرَ العالم -اليوم- دار عهدٍ، باستثناء بعض الكيانات التي لاتلتزم بعهودٍ ومواثيقَ، وهي دائماً في حالَةِ تمردٍ على كل عهدٍ وميثاقٍ.

أنا لاأقولُ أَنَّ كلَّ الدول ملتزمةً بالمواثيقِ والعهود الدوليَّةِ، ولكن مع ذلك، وفي ظل هذه المواثيق والمعاهدات لايمكن أن يكونَ العالمُ في حالة حرب كما كان الوضعُ السابقُ في العهود الغابرة .

وعليه ؛ فالقسمة الثنائية ليست صالحةً في عالم اليوم ؛ فالدول التي يلجأ اليها المسلمون ليست دار حرب، بل هي دار عهد يستطيعُ المسلمون أن يمارسوا شعائرهم ويعبّروا عن معتقداتهم بحرية دون خوفٍ أو جلٍ .

يمكن ان يكون التقسيم رباعياً: دار حرب، ودار اسلام، ودار عهد، ودار حياد، من اجل ان يعيش العالم في أمنٍ وأمانٍ بعيداً عن شبح الحروبِ المُدَمِّرَةِ التي تأكل الاخضر واليابس وتحصد الارواح وتنشر الهلع والرعب.

***

زعيم الخيرالله

الأصل في هذه الموضوعة السياسية المحورية هي؛ أن (الدولة) تعتبر المسؤول الأول والمباشر عن استنبات وإنضاج عناصر الوعي الاجتماعي بقضية (المواطنة) قبل أن تتصدى أية مؤسسة أخرى من مؤسسات المجتمع السياسي والمجتمع المدني للقيام بهذه المهمة الحضارية والإنسانية، من حيث أن هذه المسألة تتعلق بتربية الإنسان وتوعيته على تغليب انتمائه الجمعي وولائه الوطني ورابطه الثقافي، على انتماءاته التحتية وولاءاته الهامشية وانحداراته الفرعية.

وأما في حال غياب الدولة وتعطل أجهزتها وخراب مؤسساتها وتخليها عن دورها، فمن الواجب على بقايا (المجتمع المدني) الإسراع في لملمت شعث شتاته، واستنفار كل ما بحوزته من طاقات بشرية وإمكانيات مادية ومحفزات معنوية للنهوض بهذه المهمة الصعبة والخطيرة. وإلاّ فان كيان المجتمع المعني سيصار الى التصدع القيمي / الأخلاقي، والتفكك الاجتماعي / الجماعاتي، والتمزق النفسي / الشعوري، والتناحر الديني / الطائفي، كما هو الحال بالنسبة للمجتمع العراق الذي سرعان ما انفرط عقده السوسيولوجي وتبعثر نسيجه الانثروبولوجي أثر أحداث السقوط المشؤومة.

ولعل هناك من يعترض على صيغة عنوان المقال التي يستشف منها؛ ان شعور (المواطنة) لدى الإنسان العراقي يمر في حالة من (الانكفاء) و(التراجع)، بعد أن كان يظن انه مغمور بذلك الشعور لحد التخمة على مدى العقود التي أعقبت تأسيس الدولة العراقية عام 1921 م على الأقل !. والحجة على ذلك، انه وان كانت مؤسسة الدولة تتأرجح بين طور مركزية خانقة وبين طور انحلال فوضوي، على خلفية استمرار توتر علاقاتها مع دول جوارها الإقليمي من جهة ومحيطها الدولي من جهة أخرى، إلاّ أن شعور الفرد العراقي ب (مواطنيته) لم يلبث راسخا"في وعيه وقارا"في سيكولوجيته، بحيث أن أية أزمة يتعرض لها كيانه الوطني سرعان ما ينتفض ذلك الشعور بالتأجج والعنفوان !.

والحقيقة التي ينبغي علينا تقبلها – رغم كونها مرة وقاسية – هي ان أن فكرة (المواطنة) وما يترتب عليها من أخلاقيات والتزامات، تعد الغائب الأكبر ليس فقط في وعي (المواطن) فحسب، بل وكذلك العنصر الأندر في علاقاته وسلوكياته. فلكي تتمكن مشاعر (المواطنة) من وجدان المواطن وتستقر في باطن وعيه، لابد لها من تحقيق شرطين أساسيين كنا قد أشرنا إليهما في كتابنا الموسوم (الهوية الملتبسة : الشخصية العراقية وإشكالية الوعي بالذات)؛ الشرط الأول ويتعلق بضرورة مرور الجماعات المحلية بحالة من (الانصهار الاجتماعي) التي يتمخض عنها ما يعرف بـ(الشخصية المعيارية)، حيث تذوب خلالها وتتلاشى مختلف النعرات الأصولية التي دأبت تلك الجماعات على اتخاذها عنوانا "انثروبولوجيا" لها، مثل (العشيرة / القبيلة، أو المذهب / الطائفة، أو القومية / الاثنية، أو الجهوية / المناطقية، أو اللسانية / اللغوية). أما الشرط الثاني فيتمثل بتخلي تلك الجماعات عن تلك العناوين الانثروبولوجية – طوعا"/ اقتناعا"لا كرها"/ فرضا"- والانخراط في مشروع تحقيق ما يسمى ب (الهوية الوطنية) العابرة للهويات الهامشية والتحتية والفرعية، والتي يتشكل من روابطها البينية وعلاقاتها المتقابلة نسيج المجتمع الحضاري.

والحال ما أن تصل تلك الجماعات الى هذا المستوى من النضوج الثقافي وتبلغ هذا الطور من الارتقاء الحضاري، حتى تتمكن من وضع أولى خطواتها على مسار طويل ومتعرج، ولكنه المسار الصحيح المفضي بها الى ولوج عصر (المواطنة الحضارية)، حيث لا رجعة الى (الوراء) لما قبل مؤسسات الدولة، ولا احتمال الانكفاء الى (الخلف) لما قبل كينونة المجتمع، ذلك المسار الذي طالما حلمت بانتهاجه - دون جدوى - أجيال وأجيال من المكونات العراقية المتعاقبة. ولعل السبب في ذلك يعود الى ما تتمتع به الأعراف والتقاليد والقيم العصبية من قدرات على اختراق البنى التحتية لوعي المكونات السوسيولوجية والكيانات الانثروبولوجية التي يتشكل منها (المجتمع المدني)، للحد الذي تستحيل معه الى ما يشبه (المعيار السيميائي) الذي يحتكم إليه الناشطون في هذا المجتمع من التعرف الى بعضهم والتواصل مع أقرانهم. ولهذا فقد اعتاد الجميع – مع بعض الاستثناءات – على تقديم أسمائهم مقترنة بألقابهم العشائرية والطائفية والمناطقية، كما لو أنها (تميمة) سحرية يتبجحون باستعراض حملهم إياها أمام بعضهم البعض !.

والغريب في هذا الأمر ان اللجوء لمثل هذا الضرب من السلوك البدائي، لا يقتصر فقط على جمهور (العامة) من الناس ممن يعانون لوثة الجهل الثقافي والتخلف الاجتماعي فحسب، وإنما راج سوقها وعلا شأنها – وهنا الطامة الكبرى – بين جماعات (الخاصة) ممن يحسبون على نخب المجتمع (المثقفة) كذلك. لا بل ان هؤلاء الأخيرين يكونون أحرص من سواهم على مراعاة التمظهر بتلك العناوين الانثروبولوجية، حتى ولو كانوا من أصحاب الشهادات المتقدمة والمناصب العليا في الدولة.

أخيرا"لنقلها وبصراحة؛ ان وعي الإنسان العراقي ربما يحتوي الكثير من الأشياء المتعلقة بمفاهيم الوطن والوطنية التي أكسبتها إياه تجاربه المريرة مع السلطات السياسية المتعاقبة، التي طالما رسخت لديه الاعتقاد (بشخصنة) المفهوم الأول و(أدلجة) المفهوم الثاني. ولكنه بالتأكيد لم ينعم يوما"بترف الشعور ب (المواطنة) التي لم تفتأ قيمها الحضارية ودلالاتها الإنسانية تتوارى خلف عناوين؛ انتماءاته القبلية – العشائرية، والمذهبية – الطائفية، والاثنية – العنصرية، والجهوية – المناطقية، واللسانية – اللغوية. للحد الذي أضحت معه مقولة خالية من أي معنى أو قيمة تتقاذفها الخطابات الأصولية والبرغماتية، على سبيل المناكفات السياسية والمزايدات الإيديولوجية ليس إلاّ !.

***

ثامر عباس

قد يبدو هذا العنوان غريبا أو مستفزا أو عبثيا، أو ليقل عنه القاريء ما شاء له عقله أن يقول، لكنّ منطق الأحداث السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثيوقراطيّة المعاصرة، يفرض علينا إعادة النظر في هذا المكسب الإنساني والوجودي العظيم، ألا وهو الحريّة المسؤولة. لقد تحوّلت الحريّة في المجتمعات المتخلّفة، وعند الجماعات المتطرّفة فلسفيّا ودينيّا وأخلاقيّا وسياسيّا، إلى مصدر من مصادر الفوضى. فباسم الحريّة يتقاتل الإخوة، وباسمها يخرج الناس إلى الشوارع، فيحدثون دمارا وخرابا في الممتلكات العامة والخاصة. وباسم الحريّة يطالب بعض الأفراد أو الجماعات بحقوق لا محلّ لها من العقل السليم، بل هي ضرب من البلاهة والجنون والتطرّف المقيت، وباسم الحريّة يخرج علينا داروين بنظريّة التطور المريضة – التي دحضها العلم، ليقول للبشر أنّ أجدادكم الأوائل، كانوا قرودا، أيّ أنّكم – أيها البشر – أنتم من سلالة القرود المتطوّرة، وأنّ كل شيء في الطبيعة خاضع لذلك. وهي نظريّة في غاية اللؤم والبهتان والانحطاط العقلي.

ثم، يخرج علينا أناس مرضى سيكولوجيا، ويبشّرون الإنسانيّة بمجتمع الميم الشاذ، ويدافعون عنه في المنابر الخاصة والعامة، وتشرّع له بعض الحكومات مراسيم الاعتراف والقبول. وفي الأونة الأخيرة، طالعتنا وسائل التواصل الاجتماعي، بظاهرة، أقلّ ما يقال عنها، أنّها أغرب من الخيال. ولكنّها تنم عن أعمق أزمة روحيّة تمرّ بها الفلسفة الغربيّة الماديّة.

كانوا جماعة من الذكور والإناث. في بلد أوربي - كان ينتمي إلى المعسكر الاشتراكي، الشيوعي، قبل سقوط جدار برلين، وتفكّك الإتحاد السوفييتي - بلد اسمه رومانيا. كانوا في مظاهرة، وهي ينبحون، كما تنبح كلاب الحي في الغرباء، ويطالبون بالاعتراف بأنّهم كلاب. كانوا يطالبون بحقّهم (في إطار احترام مباديء الحريّة وحقوق الإنسان) باعتراف من حكومتهم، بأنّه كلاب وليسوا بشرا. ولكنّ الغريب في سلوكهم الإشهاري ذاك، هو خروجهم جماعة إلى الشارع، وكأن دولتهم منعتهم من (تكلّبهم وتكالبهم). وأنا عي يقين، أن لا أحد قد منعهم من ممارسة حريّة (التكلّب) تلك. لكنّ السؤال المطروح : ما الذي دفعهم إلى الرغبة في مغادرة عالم البشر والانتماء إلى (مملكة الكلاب) وانتحال الكلاب النباح بدل الكلام؟ أهو الفراغ الروحي أم هو اليأس والقنوط، من بني جنسهم (البشر)؟

لا أحد ينكر فضل الغرب على الشرق، والإنسانيّة جمعاء. فقد استطاع العلماء والفلاسفة والباحثين في شتى ميادين العلوم الرياضيّة والطبيعيّة والكونيّة عامة، توفير وسائل الرفاهيّة الحضاريّة اليوميّة للإنسان المعاصر ؛ الغذاء والدواء والسكن ووسائل النقّل والسفر والترحال السريعة ووسائل الاتّصال والتواصل الرقميّة ووسائل اللهو واللعب، وغيرها من المخترعات والمنتجات، التي يصعب عدّها كلّها في هذا المقال. وبالمقابل لا أحد يعفل أو يتغافل عن المخرجات السلبيّة لهذه للطفرة العلميّة والتكنولوجيّة، التي أضرت بحياة الإنسان ولوّثت الطبيعة العذراء، ودمّرت مساحات شاسعة منها وأدّت إلى انقرض أصناف شتى من النباتات، وتناقص رهيب في الثروة الحيوانيّة البريّة والبحريّة على السواء. وتسابق رهيب في إنتاج الأسلحة التقليديّة الفتّاكة والأسلحة غير التقليديّة المدمّرة ؛ النووية والكيماويّة والبيولوجيّة.

لقد وهبت المدنيّة الغربيّة، تحت إمرة الفلسفة الماديّة، الحياة والموت معا. أي أنّها إن شاءت أحيت، وإن شاءت أماتت. شأنها شأن الملك النمرود بن كنعان بن كوش، الذي تحدّاه سيّدنا إبراهيم الخيل عليه السلام في مناظرته المشهورة.

إنّ منظر أولئك المتظاهرين في رومانيا، وهم يقلّدون الكلاب في النباح، ويطالبون حق الاعتراف بأنّهم كلاب، هو – ببساطة – ما آلت إليه الأزمة الروحيّة في الغرب، جرّاء طغيان الفلسفة الماديّة المتطرّفة، والنظام الرأسمالي البراغماتي المتوحش، وهو مقدّمة لإفلاس الوازع الروحي، وانهيار نظام القيّم الأخلاقيّة، وغياب التربيّة الروحيّة، القائمة على الفطرة السليمة والعقل الراشد. أيعقل أن يبلغ ابن آدم - الذي كرّمه الله تعالى، وخلقه في أحسن تقويم - هذه الدرجة من الانحطاط الأخلاقي في بلد وقارة، سلطانها العلم والتكنولوجيا المتقدّمة؟ قد يلجأ الإنسان أو يضطر إلى تغيير جنسيته أو مكان إقامته أو أفكاره أو مذهبه السياسي أو إيديولوجيته أو ملّته، وووو. لكن أن يغيّر جنسه، فيطالب علنا، وفي الشارع، بأن يصبح كلبا نابحا وينخرط في مملكة الكلاب الأليفة والضالة، فهذا عين العجب، ومنتهى الانحطاط، ومؤشر خطير على المأزق العميق، الذي وقعت فيه الفلسفة الغربيّة المعاصرة، وهو ملمح – أيضا – من ملامح قرب نهاية العالم، وسقوط الحضارة المعاصرة، كما سقطت قبلها وانتهت – منذ مئات القرون – حضارات عريقة في بلاد الشرق؛ كالحضارة الفرعونيّة والبابليّة وحضارات ما قبل الطوفان.

وهكذا، تستمرّ الفلسفة الغربيّة – منذ قرون عدّة – في مفاجأة البشريّة. وتواصل تسفيه المساجد والكنائس والمعابد، وهدم القيّم الأخلاقيّة الساميّة، ومحاربة المنظومة الروحيّة، تحت مسمّى محاربة التطرّف والإرهاب. وما يشغل الإنسان المعاصر – حقّا - اليوم هو : إلى أيّ مدى تتجّه هذه الفلسفة الماديّة الغربيّة؟ أما آن لها أن ترعوي الآثام التي ارتكبتها وترتكبها – باستمرار - في حق الإنسانيّة؟ ومتى تتحرّر الحريّة من الفوضى والأنانيّة؟

***

بقلم : الروائي والناقد : علي فضيل العربي – الجزائر

يُصادف غداً مرور الذّكرى الثَّانيّة والثّلاثين لرحيل الموسيقار محمد عبد الوهاب (4 مايو1991)، وبفضل «أرشيف المجلات» المصور طبقاً للأصل، الذي صنعته مؤسسة صخر لصاحبها الأديب محمد الشَّارخ، عجز الزَّمان عن ضياع المواقف، بسلبها وإيجابها، فهناك مَن ينفي أنّ للظلام السَّابق دوراً في ما فرض على مجتمعاتنا مِن صحوةٍ دينية مُهلكة، حَرمت الموسيقى، نظيرة حفيف الأشجارِ وأغاريد الأطيارِ. عبثت في العقول والأفئدة، إذا حسبنا أنّ في قطع حنجرةٍ مثل حنجرةِ الكروان محمد عبد الوهاب أساساً لصحوتهم، فالشَّر كلّ الشّر، وفق منطقهم، في الموسيقى والغناء، وهذا ما حصل.

بعد ثورة 23 يوليو 1952 بمصر كتب سيد قُطب (اعدم: 1966)، مقالةً «مهداةً إلى وزير الدَّولة وضباط القيادة»، ويقصد قيادة الثَّورة، نُشرت في مجلة «الرِّسالة» المصريَّة، مع أنَّ الإطراء الذي خُص به صاحبها الأديب أحمد حسن الزَّيات(ت: 1968)، يجعلنا غير مصدقين أنه شخصياً تبنى المطالبة بإخراس أصوات مصر الشَّهيرة، التي إنْ فاخرت مصر بحضارتها ومدنيتها تأتي بها في مقدمة الدَّلائل.

لقد تبنت مجلة «الزَّيات»، مِن قبل مهاجمة معروف الرُّصافي(ت: 1945) بسلسلة مِن المقالات، والزّيات نفسه هاجمه، بعد وفاته بعشرة أيام، وبابتذال للأسف(الرِّسالة، العدد: 612). كنا أشرنا إليها في مقال نُشر على صفحات «الاتحاد» «الرُّصافي.. تنويره وتكفيره»(16/3/2022). فإذا كان الإخراس هذا مِن حرية الرَّأي، الذي قد يدعي المدافعون عن الزّيات ومجلته، فالحقُّ مع إطلاق أيدي المطاوعة لكسر آلات الموسيقى، وقطع الحناجر!

كتب قُطب ونشر الزَّيات: «إنَّ الأصوات الدَّنسة، التي ظلت تنثر على الشعب رجعيتها، خلال ربع قرن مِن الزّمان، هي ذاتها التي تصبها الإذاعة على هذا الشعب صباً، وتُكثر مِن عرض أشرطتها المسجلة، بحجة أنّ الجماهير تحب هذه الأصوات»(الرّسالة، العدد 1003 والمؤرخ: 22/9/1952).

ثم يقرن قُطب أصوات الفنانين بالمخدرات، فيقول: «كما أن هذه الجماهير تحب المخدرات! ولكن واجبنا اليوم حماية هذه الجماهير مِن الأصوات التي تحبها، كما نحميها مِن المخدرات، التي تحبها كذلك» (المصدر نفسه). أما الفنانون المطلوب إخراسهم، فعند قُطب، والتَّيار الإسلامي الحزبي كافة «مخلوقات شائنة بائسة كعبد الوهاب، ومحمد فوزي، وفريد الأطرش، وعبد العزيز محمود، وليلى مراد، ورجاء عبده، وفايدة كامل، وشهرزاد وأمثالهم»(المصدر نفسه)، ووصفهم بالطَّابور المترهل!

غير أنَّ ما نفثه قُطب آنذاك، كان أساساً لما كتبه في «معالم في الطريق»، ومهد له أن يكون قطباً في جماعة «الإخوان»، فالكلُّ في منطقه جاهليٌ كافرٌ البراء منه، حتَّى صار له تيارٌ عُرف بـ«القطبيين»، اتخذته جماعات الإرهاب فِراشاً ودثاراً فكريَّاً، وبتلك الأفكار شُرعت حمامات الدَّم، التفجيرات التي طالت آلاف البشر، فوصل الحال إلى الإفتاء برفع الأهرامات مِن الوجود، لأنها مِن عهود الكفر. كانت مطالبة قُطب هجوماً على العهد الملكي، لأن هؤلاء المراد إخراسهم كانوا مِن ثمرات هذا العهد، بينما اتخذهم قُطب، في مطالبته، شاهداً على فساد ذلك العهد.

استشهد قُطب في بيانه الظَّلاميّ ببيت عليّ بن محمد التُّهاميّ(قُتل: 416هج)، دون أنْ يذكر اسمه، فظن البعض أنَّه مِن شعره: «وَمُكَلِّف الأَيامِ ضِدَّ طِباعِها/ مُتَطَّلِب في الماءِ جَذوةَ نارِ»، فإذا قصد أنَّ الفساد بالموسيقى والغناء طبيعةٌ، فالفساد بالدِّماءِ والتَّكفيرِ يبدو طبعيةً أيضاً، وأيٌ منهما أخف وأهون على النَّاس؟!

كان البيت مِن قصيدة رثى بها التَّهامي ولده، ومطلعها: «حُكمُ المَنِيَّةِ في البَرِيَّةِ جاري/ ما هَذِهِ الدُنيا بِدارِ قَرارِ»، ومنها البيت المشهور: «جاورتُ أعدائي وجاور ربَّه/ شتان بين جواره وجواري»(الصَّفديّ، الوافي بالوفيات). يتكرر المنطق نفسه اليوم، ويُفسر أبناء قطب، مِن أهل الصَّحوات، الموسيقى والغناء «تفكك وانحلال»، والعبارة لقطب في مطالبته.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

واجهت هذا السؤال في سياق النقاش المتعلق بكتاباتي الأخيرة. واكتشفت لاحقاً أنَّه مطروحٌ على نطاق واسع في الولايات المتحدة وأوروبا، وثمة مهنيون يجاهرون بالقلق على مكانتهم ووظائفهم، مع تزايد الاعتماد على الأنظمة الذكية (انظر على سبيل المثال البحث الذي نشرته مجلة البحوث الطبية JMIR حول الميل لمقاومة الذكاء الصناعي بين الأطباء وطلبة كليات الطب).

بالمثل فإن النقاش حول الموضوع قد بدأ بالفعل في مثل مجتمعنا. لكن يبدو لي أنه يلامس جوانب أكثر حساسية تتعلق خصوصا بالهوية الموروثة، الدينية والإثنية. ولعله سيزداد سخونة في الأشهر القادمة بعد تبلور التأثيرات الفعلية للوافد الجديد في السوق والمجتمع.

لا بد من القول ابتداء بأن هناك من لا يرى في الذكاء الصناعي خطراً داهماً، فهوية المجتمع لم تتأثر جدياً بتوسع شبكة الإنترنت ومن قبلها البث التلفزيوني الفضائي. وفقاً لهذه الرؤية فإن الهوية الموروثة قوية بما يكفي لاحتواء التحدي التقني أيا كان، كما أن الذكاء الصناعي ليس من نوع التحولات العميقة التي تلامس جوهر تفكير الإنسان أو رؤيته لذاته والعالم، أي ما نسميه هويته. هذا بالطبع جواب سهل ولا يثير القلق. غير أن مبرراته لا تبدو قوية أو مقنعة.

لكن لو أردنا النظر إلى التهديد المذكور كاحتمال قائم، بغض النظر عن مستوى تأثيره النهائي، فلعلنا نذهب إلى سؤال آخر تحليلي يتناول المسارات المحتملة لتأثير الذكاء الصناعي على الهوية، أي كيف يؤثر وأين يظهر تأثيره؟

أستطيع الإشارة بإيجاز إلى ثلاث دوائر يتجلَّى فيها ذلك التأثير، وأترك التفصيل لمناسبات أخرى في المستقبل. في كل من هذه الدوائر سنرى انكماشاً لقنوات التواصل بين الأجيال. وهي – كما نعرف– الأداة الرئيسية التي يستعملها المجتمع لتمرير هويته وثقافته إلى الأجيال الجديدة.

الأولى: الذكاء الصناعي مرحلة ثقافية/ تاريخية لها متطلبات تقنية تتجاوز المتطلبات الخاصة بتصفح الإنترنت أو الاتصالات الشبكية التي اعتدناها حتى الآن. ولهذا فإن المستفيد الأول من أدوات الذكاء الصناعي هو جيل الشباب وعدد قليل من المحترفين الأكبر سناً. أما الغالبية العظمى ممن تجاوزت سن الشباب فلن تستفيد منه، لأنها لا تطيق تعلم فن جديد، خاصة أنها لم تكن في حاجة ماسة إليه. لقد رأينا حالة شبيهة في مطلع القرن الجاري حينما دخل العالم عصر الإنترنت، وبات معظم المعاملات الرسمية والاقتصادية رقمياً. يومذاك وقف آلاف من كبار السن موقف الحائر، ثم قررت غالبيتهم الانسحاب إلى الهامش تاركةً للشباب هذا العالم الجديد. إن شباب ذلك اليوم هم كهول اليوم، ومن المرجح أن ينقسموا بين راغب في عالم الذكاء الصناعي وبين زاهد فيه.

الثانية: سوف تزداد قدرة الجيل الجديد على الوصول إلى مصادر المعلومات. وبالتالي سوف ينكمش دور العوامل الداخلية في تشكيل الهوية. كما أن أهمية المكان سوف تنكمش جديا، فلا يعود له تأثير حاسم على الوظيفة والمكانة، ولا على الالتزامات ذات الطبيعة الثقافية.

الثالثة: الذكاء الصناعي يؤذن بظهور اقتصاد جديد لم يسبق أن جرى تعريفه ضمن الثقافة ومنظومات القيم الخاصة بالمجتمع. وبالتالي فهو لا ينضوي تحت المنظومة الأخلاقية والعرفية القائمة. في هذه الحالة ستكون أخلاقيات وتقاليد الاقتصاد الجديد متأثرة بالمجتمع الجديد، مجتمع الشبكة حسب التصوير الذي اقترحه مانويل كاستلز، والذي يتألف من كافة الأشخاص الذين نتواصل معهم على نحو شخصي أو ثقافي أو اقتصادي، بواسطة الشبكة وباستعمال منطقها وأدواتها. نحن إذن بصدد مفاهيم جديدة لتعريف الذات وأخلاقيات التعامل ومعنى الاختلاف بينك وبين الآخرين، أي معنى الآخرية.

تشير كل من هذه المواقع الثلاثة إلى نقطة اشتباك بين مكونات الهوية الموروثة ومؤثرات/ تحديات العالم الجديد، في مرحلة تواصل مكثف يقودها الذكاء الصناعي. ما زلنا بحاجة إلى دراسة أعمق لهذه المسألة. ولعلنا نعود لمراجعتها مرة أخرى في المستقبل القريب.

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

يبدو أن المشهد السياسي والحضاري في المجالين العربي والإسلامي، أصبح أكثر إثارة للسؤال، ولعل سيرورته التاريخية وتنوع مكوناته وتوجهاته ورهاناته وإحباطاته كلها عناوين تزيد من عمق الحاجة إلى إثارة السؤال، ومعرفة إلى أين تتجه المجتمعات العربية والإسلامية في مسيرتها، ‏وهل واقعنا المجتمعي يمتلك القدرة على اجتراح سبل الإنطلاق والخروج من مآزق التاريخ والراهن أم لا.

والإخفاق التاريخي الذي نعانيه، ‏ليس وليد الدولة الظالمة والمستبدة والبعيدة عن خيارات الشعب فحسب، بل هو أيضاً وليد المجتمع الضعيف، ‏الجامد، ‏الذي فقد المبادرة، وتوقفت مسيرة البناء والتأسيس لديه. فالدولة في المجالين العربي والإسلامي، تعاني من أزمة شرعيتها وبنيتها ودورها ووظيفتها الحضارية، ‏كما أن المجتمع أيضاً‏يعاني من أزمة تتجسد في تفتته وتشرذمه وإستحكام نمط التبعية والإستهلاك الترفي في مساره السياسي والاقتصادي والحضاري.

لذلك فإن عملية الخروج من هذا المأزق التاريخي، ليس من خلال إصلاح جهاز الدولة فقط، وإنما هو بحاجة إلى عملية إنهاض شاملة، تستوعب جميع مناحي الحياة. فالدولة والمجتمع كلاهما يعيشان التسيب والضياع وانعدام الوزن، حتى بتنا في العديد من مناطق العالم العربي والإسلامي، نعيش الحرب الأهلية بكل عنفها وجشعها وتدميرها. والزمن ومتوالياته النفسية والمجتمعية يعمق التناقضات والأزمات، ويزيد من القلق واختلاط المسائل والقضايا، ‏وغياب بوصلة الخروج من الأزمة.

الأزمة الشاملة

إن الوعي السائد اليوم في أجهزة الدولة الحديثة في المجالين العربي والإسلامي، ‏يعاني من أزمة حادة، حيث انفصالها العميق عن الشعب وإرادته، وبعده عن خياراته وقناعاته الكبرى، مما يدخل الجميع في أتون الحروب الصريحة والمضمرة، ‏مما يرهق الجميع ويجعلهم على هامش حركة التاريخ.

«إن أزمة الدولة أعمق إذن مما تبدو عليه عادة وكأنها أزمة نظام. إنها أزمة فكرتها ذاتها. وتلاشي روح الولاء للسلطة الوطنية والإنتساب للمشروع الذي كانت تقترحه على المجتمع نابع بالضبط من إنكشاف عجز السلطة هذه عن إنجازه، ‏أي عن خيانتها له، وليس بسبب تحققه. وهذا يعني أيضاً‏أنه نابع من تنامي الإقتناع بأن هذا المشروع بالصورة التي تبلور فيها لايمكن أن يشكّل مدخلاً إلى التقدم الإنساني. وهكذا، فيأقل من عقدين، أصبحت القيم التي كانت تغذي لدى الجمهور الواسع شعبية دولة التقدم وتثير حماسة للانخراط فيها والتماهي معها، هي نفسها القيم التي تدفع الجمهور إلى رفضها والتنكر لها. لقد كان يكفي أن تظهر لافاعلية البرنامج الوطني أو عيوبه، ‏عروبياً كان هذا البرنامج أم قطرياً، حتى تفقد الدولة توازناتها المادية والمعنوية. وتضيع هي نفسها هويتها وتفقد مقدرتها على استقطاب الولاء وتحقيق الإندماج والإجماع. فالدولة التي تفتقر إلى المبدأ المعنوي الذي يشكل مقومها الأول، أي تفقد روحها وما يسمح لها ببلورة برنامج سياسي يتسم في نظر الناس بالحد الأدنى من الجدوى والمعقولية، تنحط لامحالة إلى مستوى الآلة الصماء، وتتحول إلى ميكانيك متوحش، لا إنساني وغير ممكن الاحتمال. ولن تستطيع بعدئذ أن تفرض نفسها وتستمر في الوجود إلا بالقوة: قوة القهر وقوة العطالة التاريخية أيضاً» (1) .

ويغيب في هذا المشهدالإتزان، وتندثر قيم الحوار والتسامح والتكامل، والبحث الجاد عن طرق أو طرائق للخروج من الأزمة. فالدولة تعيش الاغتراب بكل صوره عن المجتمع وهذا الأخير يعاني التردي والضياع، ‏وتستفحل في أحشائه كل التوترات والتناقضات.. دولة تستند على ثقافة القمع والإكراه والنفي وفعل الاستبداد والتهميش والإقصاء، ومجتمع لايعترف بحق الاختلاف والتسامح.. دولة تسلطية تلغي كل تنوع، ‏وتمارس الاستبداد بكل صوره وأشكاله، ‏ولاتنطوي ممارساتها على قيم العدل والتداول والحرية، ومجتمع يصادر حق أبنائه في التعبير عن آرائهم وقناعاتهم السياسية والفكرية والمعرفية. «والمشكلة العويص هو أننا لسنا أمام مشروعين للدولة، ‏يفصل في الإختلاف بينهما الحوار وصناديق الإقتراع، وذلك أن مجتمعات تكون فيها التنمية في درجة الصفر، هي بطبيعتها مولدة لعدم الاستقرار، ليس فقط للمجتمع وللدولة، بل لنجاح مسلسل ديمقراطي، وأية دولة تكون على رأس مثل هذا المجتمع يكون شاغلها الأول هو (الأمن). وينتهي الأمر إلى مبارزة بين جهاز الدولة والقوى التي يفرزها مجتمع مأزوم، ‏فيغرق الجميع في دوامة من العنف والعنف المضاد» (2) .

وغدت الأمة تعاني الأمرين من دولة تسلطية ـ قمعية لاهم لها إلا إستمرارها حتى لو كان هذا الإستمرار على حساب التاريخ والعصر والوطن. ومجتمع تسوده اللامبالاة والإذعان والجمود ويفتقد المبادرة ويحارب التجديد وتمور بداخله حالات التعصب الأعمى لعناوين ضيقة ويافطات تزيد من ضعف المجتمع واهترائه. وهكذا تطغى الشمولية في السياسة والفكر وكل دوائر المجتمع.

وعلى المستوى الثقافي تبرز ثقافة التسطيح وإبقاء ما كان على ما كان والطاعة والإستهلاك والتقليد والإتباع. وتضمر ثقاة الإبداع والحرية والإنتاج. وهكذا يتحول المشهد الثقافي إلى مشهد تكراري، ممل يشيع صوراً وهمية وزائفة عن الواقع. «فالقمع ينعكس على من يقع عليه، ‏فيتمثله ليغدو بعض تكوينه، ‏ويصدر منه كما لو كان بعض طبعه. وفي الوقت نفسه، ‏يعيد المقموع إنتاج القمع ويسلطه على نفسه، ويطلقه على غيره، ‏بالمعنى الذي يتحول بالمقموع إلى قامع، ‏وبالمفعول إلى فاعل، ‏في تراجيديا الإخوة من المقتولين القتلة» (3) ..‏وهكذا يستمر ويتسع مسلسل القمع والقتل ودائرة العنف، ‏بحيث تشمل الجميع ويصبح الكل يعيش في دوامة جهنمية من العنف والعنف المضاد.

«وحين يتعثر مولد الرأي، لايبقى إلا الاعتراض. والإعتراض بدوره محكوم عليه منذ البداية أن يكون صراعاً حدياً، ولاسبيل أمامه إلا أن يغتصب ذات أدوات الصراع المباشرة التي تمتلكها السلطة. وبذلك لاتكون سياسة في ظل الحراب، حراب الدولة وحراب المعترضين. فليس غريباً إذن أن تتعسكر السياسة العربية منذ نشأتها الأولى، عند كلا قطبيها: الحاكم والمحكوم، في معظم الأقطار المشرقية التي سبقت إلى دخول عصر الإستقلال الوطني، ‏وواجهت مبكرة في آن واحد إستراتيجية التنمية السريعة في بناها الإقتصادية والاجتماعية، ‏وإستراتيجية الإختراق من قبل الاستعمار الجديد. إن عسكرة الصراع بين المعارضة والسلطة، ‏تفرض أداة وحيدة للممارسة لكليهما وهي الإنقلابية العنفية. بحيث تطورت السلطة إلى شكل الانقلاب العسكري المستغني عن أية شرعية ما عدا قوته الخاصة. وتطورت المعارضة إلى بنية مشروع لإنقلاب عسكري آخر، هو في طور الإعداد والتهيئة لقوة الإٍتبدال العنفي الذي سيفرض شرعيته الأخرى بهذه القوة وحدها» (4) .

ويعزو المهاتما غاندي الخطايا والإضطرابات السياسية والاجتماعية إلى سبع: سياسة من دون مبادئ، وثروة من دون عمل، ومتعة من دون ضمير، وحكمة من دون شخصية، وتجارة من دون أخلاق، وعلم من دون إنسانية، وعبادة من دون تضحية..

وحين التفكير العميق نرى أن هذه الخطايا متوفرة في الجسم العربي والإسلامي، ‏لذلك مازال هذا الجسم ينزف دماً وجهداً ومالاً‏دون أن يحقق تطلعاته وآماله. وقد قال الشاعر.

تروم ولاة الجور نصراً‏على العدا

وهيهات يلقى النصر غير مصيب

وكيف يروم النصر من كان خلفه

سهام دعاء من قِسى قلوب

وتعثر مشروعات التقدم، ‏لا يعني مجافاة العرب والمسلمين لطبائع ومتطلبات التقدم والعمران الحضاري، ‏بل هو أمر يرجع إلى طبيعة الاختيارات المتداولة، ‏وخصوصية المجالين العربي والإسلامي. فظروف التقدم والتطور لدى الغرب تختلف عن ظروف التقدم لدينا. فلكل واقع خصوصية تطوره وآليات تقدمه. فالدولة كان لها الدور الحاسم في تجربة البناء والتقدم في الغرب حيث أن مؤسساتها هي التي حملت مشعل التنوير والتقدم. أما الدولة في المجالين العربي والإسلامي فلها الدور الحاسم في الإتجاه المعاكس. حيث أنها تحول بإجراتها وقمعها واستبداديتها دون إنطلاق مشروع البناء والديمقراطية والعمران. فالعطب التاريخي في واقعنا، ليس وليد بنيتنا الثقافية والاجتماعية، وإنما هو وليد ظروف تاريخية وعوامل سياسية ـ‏اجتماعية، ‏تصيب المجتمعات بصرف النظر عن ايديولوجيتها وثقافتها التاريخية. ومكمن العطب أو بدايته هو حينما تخلى المجتمع عن دوره ووظيفته التاريخية، ‏وغابت مبادراته الحضارية وتضخمت في أرجائه ثقافة التبرير والتقاعس والإستقالة من المسؤولية. وحينما تحولت أيضاً‏الدولة إلى مؤسسة استبدادية، ‏وبعيدة عن مشروعات المجتمع وخياراته الحضارية.

ما المخرج

إن الحاجة اليوم ماسة لبلورة صيغة حضارية، ‏تضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع، بحيث تكون العلاقة علاقة تفاعل وتكامل، ‏لا قطيعة وصدام. ومنهج التفاعل والتكامل، يقوم على سيادة مفهوم الديمقراطية والقانون. قد آن الأوان لنا في المجالين العربي والإسلامي للخروج من دولة المشروع التي حملت الشعارات واليافطات الكبيرة، وحاربتها أشد المحاربة على مستوى الفعل والواقع، ‏والعمل مع كل القوى والطاقات لبلورة دولة الإنسان والقانون. إن الدول التقدمية والأيديولوجية، ‏والتي استخدمت كل إمكانات الدولة لتعميم إيديولوجيتها وقهر الناس على خياراتها ومتبنياتها السياسية والثقافية، ‏هي ذاتها الدول التي أجهضت كل مشروعات التحرر الحقيقي والخروج من مآزق الراهن.

إن دول المشروع التقدمي لم تُزدنا إلا ضعفاً‏وتشاؤماً، وذلك لأن الإنسان هو أرخص شيء لديها. تصادر حرياته، تمتهن كرامته، تحاربه في رزقه وكسبه، ‏يُقهر ويهان ويسجن ويعذب لأتفه الأسباب. دولة بسلوكها المتعجرف عمقت الهوة والفجوة بين مؤسسة الدولة والمجتمع. دولة اختزلت الجميع في دائرة ضيقة، ‏لاتتعدى في بعض الأحيان مدرسة الأمين العام. ولانعدو الصواب حين القول: أن هذه الدولة بنمطها القروسطوي وعنفها وجبروتها وعسكرتها لمجتمعها، أجهضت الكثير من الآمال والأحلام. لذلك فإن الحاجة اليوم ماسة للخروج من هذه الشرنقة الأيديولوجية، التي تحيل كل شيء إلى قانون إما مع أو ضد، وبناء دولة القانون والإنسان، التي تسعى لصياغة قانون لضبط العلاقة بين الطرفين، ‏وإلى تأهيل الإنسان، ‏وإطلاق حرياته وتطلعاته. وبكلمة إننا بحاجة إلى الانتقال من دولة المشروع إلى مشروع الدولة. فالدولة التي حملت لواء الوحدة مثلاً وجعلتها محور نشاطها، على المستوى العملي، ‏هذه الدولة تكرس التجزئة وتنمي العصبيات، ‏ولانصيب للوحدة في فكرها الاستراتيجي والتخطيطي إلا نصاب الشعار واليافطة فقط. فباسم الوحدة تنمو التجزئة وباسم الاتحاد والإئتلاف، تنمو العنصرية والطائفية والجهوية، وباسم التنمية والعدالة الاجتماعية، ‏تنمو رأسمالية الدولة وتتضخم شريحة الانتهازيين والوصوليين وتبرز مستويات النمو المشوه والتابع، ‏وتزداد سيطرة الدولة على حركة الاقتصاد والتجارة، ‏تلك السيطرة التي تضعف الحركة، ‏وتدفع بالرساميل والإمكانات إلى الهروب خارج الوطن.

وباسم الشفافية والحرية السياسية والنقابية، ‏تتحول الدولة إلى مزرعة للزعيم، ‏أو الحزب والمقربين. وباسم الحريات الثقافية والأدبية، ‏تتحول الحياة الثقافية إلى تكرار مشين لمقولات الزعيم أو الحزب أو أي تكوين سياسي مسيطر، ويتشكل من جراء ذلك مسخ‏ثقافي. وهكذا يتم إختزال المجتمع والدولة في مؤسسة الحزب أو أي يافظة سياسية أخرى، ويقوم الزعيم بدوره بإختزال هذا التشكيل السياسي في شخصه ومن يلوذ به من أبنائه أو أصهاره أو أقربائه.

ولابد أن نلفت النظر إلى حقيقة أساسية في هذا المجال وهي: أن التطور التكنولوجي والتقني لم يصحبه تطور على مستوى الدولة في تعاطيها وتعاملها مع شعبها وحقائقه السياسية والثقافية، ‏وإنما قامت الدولة من الإستفادة من هذا التطور لإخضاع هذه الحقائق لمنطقها الأمني، الذي يسعى إلى محو هذه الحقائق أو تشويه مسارها وتطلعاتها الكبرى. ولهذا نجد أن التكنولوجيا الحديثة والتقنية المعاصرة، دخلت إلى البلدان العربية والإسلامية من البوابة الأمنية. أي أن المؤسسات الأمنية، ‏هي التي استفادت من هذه التقنية، ‏لتنظيم عملها وتركيز نشاطها وتضييق الخناق على حقائق المجتمع السياسية والثقافية. فسياسة استبعاد المجتمع عن الشأن العام، ‏تزيد من الإنقسام وتعمق حالة القطيعة وتكرس أيديولوجيا الحرب والصراع بين الطرفين.

وخبرة الإنسانية جمعاء، ‏تبرز أن الدولة التي تنفصل عن مجتمعها وتحاربه في معتقداته واختياراته الثقافية والسياسية، ‏وتفرض عليه نظاماً‏قهرياً، فإن مآلها الفشل وفقدان المعنى من وجودها. فجنوح السلطة إلى تقييد الحريات يؤدي في المحصلة النهائية إلى العنف والتطرف. فعنف المجتمع أو بعض قواه الاجتماعية والسياسية، ‏هو وليد عنف الدولة وقهرها وغطرستها. وهكذا اختلطت المعايير، ‏واشتبكت القضايا، وسقطت الكثير من الشعارات المرفوعة. فالقتال أصبح داخلياً، ‏والحرب أضحت أهلية، ‏والقمع والإرهاب أصبحا من نصيبنا جميعاً. فتعملقت الخلافات والتباينات الداخلية، ‏وارتفعت وتيرة الهواجس والحساسيات الداخلية. وأصبح الوضع العربي برمته متفجراً، ‏ويعيش الإحتقان على كل الصعد والمستويات، ‏وإن العالم العربي والإسلامي بحاجة إلى إرساء أسس الحياة الديمقراطية والقانونية، ‏والخروج من آسار الشعارات التمامية التي تحيل كل إمكانات الدولة والمجتمع إلى رهن إشارتها.

وإن خنق إمكانات الخروج من هذه المآزق، بالمزيد من الاستبداد وتغليب الخيارات الأمنية، ‏لايؤدي إلى الاستقرار، وإنما يزيد الوضع سوءاً، ويهدد الوضع كله بالانفجار والتشظي. و«إن أية أهداف تطرحها الدولة في عالم اليوم لايجوز وضعها فوق حقوق الإنسان والمواطن، ‏بل بالعكس يجب أن تكون جميع الأهداف نابعة من هذه الحقائق خادمة لها» (5) .

التسوية التاريخية

إن التسوية التاريخية بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي، ‏ليست مسألة سياسية فحسب، ‏بل هي قضية مصيرية وتاريخية. إذ أن الخروج من مآزق التاريخ الراهن، ‏لايمكن أن يتأتى إلى بمشروع حضاري تتكامل فيه الدولة مع المجتمع في الوظائف والأدوار والمهمات. وقضية مصيرية، ‏باعتبار أن بقاء الاختلافات الأمنية والسياسية والحضارية، ‏وهدر الإمكانات والطاقات، ‏وهجرة الكفاءات والعقول، ‏وانسداد آفاق المعالجة الاقتصادية والسياسية، ‏ودخول الجميع في أتون الصراعات المفتوحة التي ترهق الدولة والمجتمع معاً.

لذلك كله فإن التسوية التاريخية والحضارية بين الدولة والمجتمع قضية مصيرية. إذ يتوقف مستقبل المجالين العربي والإسلامي، ‏على قدرتهما على إنجاز هذه التسوية التاريخية. وإنه آن الأوان للدولة، ‏أن تخرج من العقلية الضيقة، ‏التي تستهدف إخضاع كل إمكانات المجتمع والأمة إلى مشروعها وبالآليات والأدوات التي تراها مناسبة. هذه العقلية التي تعاطت مع الدولة كمؤسسة أيديولوجية خاصة بالقائمين على شؤونها، ‏هي المسؤولة إلى حد بعيد عن إستفحال ظاهرة القطيعة بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي. «وإن التعبير الديمقراطي الحر والإعتراف بالإختلاف والتغاير، إضافة إلى تداول السلطة، ‏هي الشروط الضرورية التي تضمن ـ أو على الأقل تساعد على ـ‏تصريف الحركة والصراع داخل عملية التحول تلك تصريفاً سلمياً، وبالتالي تفسح المجال لقيام مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب وجمعيات ونقابات ومجالس منتخبة، وهي المؤسسات التي تؤطر الصراع والحركة والتحول داخل المجتمع في اتجاه التقدم التاريخي» (6) .

وهناك عوامل عديدة، ‏تدفع إلى القول بضرورة التسوية التاريخية بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي، ‏وأهم هذه العوامل التالي:

1ـ مواجهة تحديات الراهن العديدة والكبرى، ‏والتي تهدد الجميع من منطلقات ومستويات مختلفة. إذ أن التحديات الداخلية التي تواجه الأمة، تحديات لايمكن مواجهتها بفعالية إلا بتظافر الجهود وتكثيف الطاقات. ولاشك أن استمرار الصراع المفتوح بأشكاله السلبية والتدميرية والحربية بين الدولة والمجتمع في بعض مناطق العالم العربي والإسلامي، ‏يشتت الطاقات ويبعثر الجهود، ‏ويحول دون مواجهة فعالة لتحديات المرحلة.

2ـ وقف النزيف الهائل والشامل الذي يصيب المجالين العربي والإسلامي، من جراء استمرار الفجوة والهوة بين الدولة والمجتمع. ومن المؤكد أن هذا النزيف يساهم في إختراق المجالين العربي والإسلامي على المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية والحضارية، ‏ويفاقم من أزمات الواقع. فالحاجة الماسة اليوم تتجه إلى ضرورة التسوية التاريخية بين الدولة والمجتمع عن طريق إرساء نظام للعلاقات والتفاعل والتعاون بين الطرفين، ‏مما يعمق مفاهيم التكامل والإحترام المتبادل ونبذ كل أشكال الإرهاب والقمع والنزعات المتطرفة والمتعصبة في الفكر والسلوك.

3ـ إن المشكلات التي يعاني منها العالم العربي والإسلامي، بحاجة إلى أرضية اجتماعية ـ‏سياسية صالحة، ‏تهيئ جميع الظروف والإمكانات للمشاركة والمساهمة في إنهاء هذه المشكلات. ولعل من الطبيعي القول: أن التسوية التاريخية بين الدولة والمجتمع في العالم العربي والإسلامي، هي الفرصة التي توفر تلك الأرضية، ‏وتؤسس لمعنوية جديدة وإرادة جديدة، ‏تتجه صوب المشكلات لمعالجتها. فالتسوية التاريخية هي بوابة إشراك جميع القوى والإمكانات في عملية الإصلاح والتطوير.

4ـ إن المشروع الصهيوني في المنطقة، ‏والذي مازال خطره متعاظماً، نوفر له فرصاً‏عديدة للامتداد والتوسع، ‏إذا استمرت الجراح مفتوحة. ولاريب أن العدو الصهيوني يغذي بشكل أو بآخر تلك الخيارات التي تعقد المشاكل وتعمقها. لذلك من الضروري أن نلتفت إلى خطر المشروع الصهيوني على المنطقة العربية والإسلامية بأسرها. ولابد أن نخطو خطوات نوعية وعملية لسد ثغرات الداخل العربي والإسلامي، وتمتين الجبهة الداخلية.

ومن المؤكد القول، أن بداية تسوية تاريخية بين الأنظمة العربية والإسلامية مع شعوبها بقواهما السياسية وتعبيراتهما الثقافية والمجتمعية، ‏ستساهم مساهمة كبيرة في تقوية الجبهة الداخلية، ‏وتنهي صراعاً‏مفتوحاً مازال يكلف الجميع الكثير من الجهد والإمكانات، ويعرض الجميع أيضاً إلى مخاطر وآثار مدمرة. أبرزها أن استمرار هذا الصراع قد يسقطنا جميعاً (دولاً ومجتمعات) في النفق الصهيوني والاستتباع الحضاري.

فالتسوية التاريخية هي الخطوة الأولى في صوغ مشروع وطني جامع، ‏يستهدف البناء وتعميق الحريات والتنمية الشاملة على مستوى الداخل العربي والإسلامي، وبناء علاقات دولية متوازنة، ‏تعكس قيم الإستقلال والقوة الذاتية التي يتمتع بها العالم العربي والإسلامي. وينجز هذا المشروع الوطني الجامع وحدة القوى في مواجهة الأعداء، ‏ويشحذ الهمم نحو البناء، ‏ويبلور مقاصد الجميع على المستوى الحضاري.

كما إنه وسيلة العالم العربي والإسلامي، للخروج من المآزق التاريخية التي يعاني منها، ‏وهو جسر الوصول إلى التطلعات والأهداف الكبرى.. و«إن جوهر الحكم والدعوة الإلهية هو الارتفاع فوق مبدأ التسوية وتأسيس مبدأ الإحسان الذي يقضي بأن تكون الحسنة بعشرة أمثالها، ‏واليد العليا خير من اليد السفلى وأن تغفروا وتصفحوا، ذلك أن مبدأ المساواة وقاعدتها كافية لإقامة دولة أو حكم ‏سياسي، ولكن الإحسان هو الذي يصنع المدنية والحضارة، ‏يصنع الإنسان فيما وراء، وما هو أبعد من السياسة، ‏أي كتعاطف وتفاعل وتبادل وتآلف وتضامن وإنسانية، ‏أي كضمير حي. إن العدل القانوني يقيم الدولة لكن الجماعة الحية المبدعة ذاتها لاتقوم إلا بالكرم والعفو والتضحية والفداء ونكران الذات» (7) .

الخيار الديمقراطي

إن التحول الديمقراطي الحقيقي، ‏هو البوابة الفعلية للتسوية التاريخية بين الدولة والمجتمع، كما هو جسر الخروج من نفق دولة المشروع التمامية التي تلتهم كل شيء وتحيله إلى ملك خاص إلى الزعيم ودائرته القرابية أو السياسية. فتجديد القواعد السياسية والاجتماعية وتوسيعها للدولة، ‏هو الخطوة الأولى في مشروع التسوية التاريخية بين الدولة والمجتمع. والتحول الديمقراطي السلمي، ‏هو الذي يوفر للمجالين العربي والإسلامي الفرصة التاريخية للخروج من الأزمة والمأزق بسلم وبعيداً‏عن العنف والقتل والتدمير.

لذلك فقد «حان الوقت كي ينتقل الفكر السياسي العربي من حالة رفع الشعار الديمقراطي وكيل المديح له، ‏إلى صياغة خطط تلغيم الاستبداد وتدمير أسسه. أي آن للديمقراطية أن تتحول من شعار للدعاية أو التعبئة، ‏إلى منطلق للتفكير الجديد وللعمل الإصلاحي. وتحولها إلى منطلق يعني تحولهاإلى أساس لكل ممارسة سياسية، والأساس هو بالتعريف ما لايظهر من البناء ومالا يقوم البناء بدونه. ومادمنا نتحدث ليلاً‏ـ نهاراً عن الديمقراطية فهذا يعني أننا نفتقدها كأسس سواء كان على صعيد الفكر أو الممارسة» (8) . ومن الأهمية بمكان أن تتحول الديمقراطية في المجالين العربي والإسلامي، إلى نظام اجتماعي وسياسي، ‏بحيث هي التي تحدد نمط العلاقة بين أطياف المجتمع وقواه المتعددة، وعبر آلياتها وأخلاقياتها يتم فض النزاعات والصراعات، وبقيمها وآفاقها، يتم التوجه إلى بلورة نخبة سياسية ـ اجتماعية جديدة، ‏تتخذ من الديمقراطية منطلقاً‏وهدفاً. ويبقى سبيلنا جميعاً‏هو العمل على تنقية واقعنا في كل المجالات والمستويات من جراثيم الاستبداد والتفرد ونزعات الهيمنة والغطرسة والعدوانية، وبعث تراث الحرية والشورى والتسامح والعقلانية والعلمية من تاريخنا، والسعي للإستفادة من تراث الإنسانية في هذا المجال.

ينبغي أن نرفض الاستبداد مهما كانت أيديولوجيته، ‏ونقف ضد التنابذ والإقصاء مهما كان الفكر الذي يقف وراءه، ‏ولابد من تعميق مفاهيم الإختلاف والحوار والحرية والتسامح في ثقافتنا وواقعنا. ولكي نصل إلى هذه المستوى نحن بحاجة إلى «التحرر من الأنظمة الفكرية المغلقة التي تقسم في ضيق وتعسف الألوان إلى أبيض وأسود والقضايا إلى (أما وأما). فقضايا الإنسان شديدة التعقيد والتشابك ولاسبيل إلى علاجها إلا بإعتماد النسبية في معظم أحكامنا على الأشخاص والجماعات، فذلك هو منطق القرآن العام. فهو إذ يتحدث عن أهل الكتاب لايستعمل (كل) بل (من)، التبعيضية {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يرده إليك ومنهم، من إن تأمنه..}. وإذا تحدث عن علاقة المسلم بالكافر لايضع نقطة وإنما مجالاً، فهو ليسوا جميعاً‏أعداء بل منهم الصديق والعدو {لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}. وإذا كان الإسلام في ذاته حقاً مطلقاً فليس تمثلنا له في الغالب كذلك، ‏بل هو تمثل مبني على صعيد التصور والتنزيل في الواقع. فرق إذن بين الإسلام والفكر الإسلامي، ‏فمجال الأول الإطلاق، ومجال الثاني النسبية غالباً. إذن ليس في الإٍلام كنيسة تستطيع أن تكسي فهمها النص وتزيله أثواب الحقيقة المطلقة» (9) .

إن النهج السياسي المعتدل، الذي يتعاطى مع الأمور والقضايا والحقائق السياسية والاجتماعية بعقلية منفتحة ومتسامحة، هو القادر على توسيع هوامش الحرية في المجتمع، وهو المؤهل لمراكمة الفعل السياسي الراشد في المجتمع. وفي المقابل فإن النهج الإستئصالي، هو الذي يفاقم الأزمات ويعقدها ويحول دون بلورة نهج سياسي معتدل، ويدخل الدولة والمجتع في دوامة العنف والتطرف. فالإقتتال الداخلي والتناحر الأهلي، ‏لاينهي المشكلات العالقة، ‏ولا يضمر الحقائق السياسية والاجتماعية المتوفرة، ‏وإنما يزيد من غلوها وعنفها وتشددها ويضيف إلى الساحة الاجتماعية تعقيدات جديدة وأزمات متلاحقة.

والتضارب العميق في المصالح بين الدولة والمجتمع، ينذر بحدوث مشكلات وأزمات لاحصر لها، ‏وذلك لأن هذا التضارب سيدفع بالدولة بما تمتلك من أجهزة ردع وسيطرة لاستخدام القوة والفرض لتأمين مصالحها، ‏كما أن المجتمع ومن باب الدفاع عن ذاته ومصالحه، سيقاطع الدولة ولن يعتبرها تعبيراً سليماً‏وحضارياً‏لتطلعاته وآماله. مما يدخل الطرفين في نزاعات وصراعات مفتوحة. والخيار الديمقراطي ليس شعاراً‏يرفع، وإنما هو ممارسة اجتماعية متواصلة ومفتوحة على كل الإمكانات والقوى والآفاق من أجل ضمان مصالح الأمة والمجتمع. وهذا الضمان لايتأتى إلا بتنظيم المجتمع لنفسه على جميع المستويات، وزيادة فعاليته، وتعميق ثقته بنفسه وقدراته، ‏وتكريس ثقافة التضامن والتكافل والتعاون، واجتراح صيغة مجتمعية ـ‏حضارية لإدارة الاختلافات والتنوعات بما يخدم المصالح العليا للأمة وإن «الديمقراطية ليست وصفة سحرية تحل جميع المشكلات، ‏وإنما هي إطار عام يسمح للمجتمع بأن يجد حلولاً جديدة وأصيلة للمشكلات الطارئة. ومن ثم تصبح معركة الديمقراطية مقدمة للنجاح في المعارك الأخرى. وإنها معركة إصلاح السلطة التي هي عصب الحياة الاجتماعية ومن خلال إصلاح هذه السلطة ومن خلال النضال من أجل الديمقراطية، ‏يصبح من الممكن أكثر فأكثر بلورة حلول إيجابية للمشكلات الاجتماعية المتعددة. وبهذا المعنى أيضاً، الديمقراطية ليست مؤسسة جاهزة، ‏الديمقرايطة هي الكفاح المستمر من أجل تحويل السلطة القائمة في كل مجتمع إلى سلطة تعبّر عن مصالح الأغلبية الاجتماعية. وهذا الكفاح هو الذي يخلق الأشكال المشخصة لتحقيق هذه السلطة الشعبية، يخلق شروطاً جديدة، ‏يدفع بقوى جديدة إلى الساحة السياسية، ‏يعيد تغيير علاقة الناس بالسياسة ومفهومهم للسياسة، ‏يرجع إلى الناس فكرة الشعور بالمسؤولية الوطنية والشعور بالمسؤولية بشكل عام، ويخلق إطاراً ومناخاً سياسيين جديدين لطرح المسائل الصعبة» (10) . إننا ومن أجل بناء دولة عادلة، ‏ترعى حقوق الإنسان وتحترم إختياراته وقناعاته العامة، بحاجة أن لانكتفي في تقويم المشروعات بالشعارات الكبرى المرفوعة، ‏وإنما نحن بحاجة أن نرى مدى مشاركة هذه المشروعات الفعلية في بناء دولة الإنسان. وذلك لأنه تبين لنا في الكثير من التجارب العربية والثالثية عموماً، أن بعض الأنظم الفكرية والتي تحمل شعارات براقة، ‏حين وصولهاإلى السلطة، ‏قامت بممارسات استبدادية، ‏وزادت من تغوّل السلطة، واستخدمت كل أصناف القهر والإقصاء لإستمرار حكمها. فالشعارات ينبغي أن لاتخدعنا، والمراهنة الحقيقية ينبغي أن تكون على الممارسة الفعلية، ‏ومدى حجم التحول النوعي المرتقب الذي تحدثه هذه الأنظمة الفكرية على مستوى مسار الدولة والمجتمع. فالمطلوب من هذه المشروعات، ‏هو إضافات نوعية في مسار الدولة والمجتمع العربيين، ‏بحيث تكون الدولة أقرب إلى العدالة والإنصاف، والمجتمع يعيش الحيوية والفعالية بكل أشكالها ومجالاتها. ومن الضروري أن نشبع أجواءنا ومحيطنا الإجتماعي بعبق الحرية «أو ليس أقرب السبل إلى الحرية جعلها واقعاً‏يعيش بيننا؟ أو ليست الحرية سلاحاً نستخدمه ضد من يصادرها، وهي قوة تهاب، ‏وجمال يستهوي اللباب» (11) .

إننا وبعيداً‏عن المضاربات الفكرية والسياسية، ‏بحاجةإلى بناء دولة تستند على القانون وتحرص على تنفيذه، وتحترم الإنسان وتسعى لصون كرامته وحقوقه، وتجسد بالعدل والحرية عزتنا وقوتنا.

وهذا البناء بحاجة إلى جميع الجهود والطاقات. لذلك فقد آن الأوان لانتقال مجالنا العربي والإسلامي من دولة المشروع إلى مشروع الدولة الذي يحترم الجميع ويستوعب الجميع ويدافع عن الجميع بصرف النظر عن المنابت والأصول والإنتماءات والولاءات الفرعية.‏وهذا يتطلب بناء فلسفة جديدة للدولة، ‏قائمة على الدستور وحماية حقوق الإنسان وفقاً لإطار قانوني مستمد من الخصوصية الإسلامية ومكاسب الإنسان المعاصر الحضارية.

وتفعيل الممارسة الديمقراطية، ‏وتذليل معوقات التنمية السياسية، ‏هو الكفيل بإرساء نظام فعال للعلاقة بين الدولة والمجتمع. وأن هذا التفعيل هو الذي يساهم في إنضاج الظروف العامة والمناخ السياسي المواتي لتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع، وفق نمط مؤسسي، يكفل للطرفين حقوقهما وأدوارهما ومتطلباتهما.

كما أن مواجهة التحديات الكبرى، ‏بحاجة إلى تظافر كل الجهود والطاقات، ‏وأن سبيل تجميع هذه الطاقات والإمكانات، هو وقف النزيف الدائم بين الدولة والمجتمع عبر تسوية تاريخية، تعيد الأمور إلى نصابها، وتنجز مفهوم السلام الوطني على قاعدة التفاعل الخلاق والتكامل المتواصل بين الدولة والمجتمع. ولإنجاز هذا التطلع من الأهمية بمكان أن يسعى المجتمع لتأمين شبكةواسعة من الحريات والحقوق الأساسية، وتسييره لنفسه، وقدرته على حل مشكلاته بنفسه، ‏وإحتضانه لمؤسسات وأطر متعددة تقوم بدور البناء والتسيير والتطوير. والدولة التي تتكامل مع المجتمع هي «التي تضمن توزيع السلطة السياسية وشرعنة إستخدامها، ‏ووضع الحكم في أيدي الشعب عن طريق نوابه وممثليه، وهي أيضاً الدولة التي تقبل طواعية تقييد سلطتها الإكراهية (أي تقييد سلطة الحكام) وتأمين أكبر مساحة ممكنة لأفراد الشعب في تقرير شؤونهم الحياتية والأخلاقية، وذلك بحماية حرياتهم من أية صورة من صور الإكراه، ‏وهي ثالثاً‏الدولة التي تعمل على عدالة توزيع الموارد والفرص. وكما قيل بحق، فإن العدالة هي الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية، ‏وحريّ بالدولة أن تكون هي رائدة العدالة في المجتمع» (12) .

إننا مع الدولة القوية التي تستند على القانون وتحترم حقوق الإنسان، ‏وتدافع عن كرامة شعبها. حيث أن الدولة القوية المسيجة بسياج القانون والحرية والمسؤولية، ‏هي القادرة على التفاعل والتكامل مع مجتمع مؤسسي ـ مدني، يمارس وظائفه الحضارية إعتماداً على إمكاناته وآفاقه. وإن قوة المجتمع هي التي تعطي لمفهوم الحرية والتعددية والتداول السلمي للسلطة معانيها الحقيقية والفعلية. بمعنى أن كل أشكال الديمقراطية، بحاجة إلى مجتمع مدني قوي، حتى تكون لهذه الأشكال جذور مجتمعية.

إن قوة الدولة ضرورة لإستقرار عملية الديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة، ‏كما أن قوة المجتمع ضرورة لضبط العملية الديمقراطية وخلق حالة من الإستقرار السياسي والإقتصادي. وبالتالي فنحن بحاجة إلى مجتمع قوي ودولة عادلة (لأن العدالة بالمعنى العام، ‏هي مكون القوة الأساسي والمقصود)..‏«فالدولة والمجتمع المدني واقعان متلازمان. الدولة تستمد من المجتمع المدني قيمها، وقواها وسياساتها ومن ثم فلابد من وجود درجة من درجات السيطرة للدولة على مجتمعها المدني، ‏وفي الوقت نفسه، تمثل الدولة الوعاء أو الإطار الذي يحتضن ويؤطر حركة المجتمع المدني ونشاطه» (13) . فالحياد الإيجابي للدولة، ‏بمعنى أن تتعامل مع قوى المجتمع المتعددة على قاعدة قانونية واحدة، ‏هو المهاد الضروري والوعاء الأساسي لشيوع قيم التعددية والتسامح وسيادة القانون في المحيط الإجتماعي بأسره. فالتفاعل والتكامل بين الدولة والمجتمع سيرورة طويلة الأمد، وما ذكر أعلاه بمثابة الشروط الأولية لإنطلاق هذه السيرورة في الفعل الإجتماعي.

المجتمع الجديد

يبدو من جميع المعطيات المتوفرة، ‏أن العالم العربي والإسلامي، ‏لن يتمكن من بلورة مشروع للدولة وفق قواعد قانونية ودستورية، وتمارس وظائفها الحضارية على أكمل وجه، إلا بخلق مجتمع جديد، ‏يتجاوز فيه كل الرواسب والموروثات السيئة التي علقت بالواقع العربي والإسلامي من جراء مشروعات الإستبداد والإقصاء والتهميش.

فلا دولة قانونية بدون مجتمع تسوده قيم التسامح والعقلانية وسيادة القانون وإحترام حقوق الإنسان بكل أشكالها وأنواعها. وذلك لأن بوابة الدولة القانونية والإنسانية، هي وجود مجتمع ذو بنية قوية، ‏تتكامل فيه الأنشطة والقوى في سياق البناء والعمران، ‏ويتعاطى مع أفكاره وفق عقلية حضارية تبحث في سبل التنفيذ والتجسيد والتطوير. وبهذا تكون الدولة تجسيداً للمجتمع وملتصقة بالأمة وخياراتها وليست منفصلة ومنعزلة في ممارساتها وخياراتها عن الأمة.

وبمقدار التحولات الإيجابية والنوعية في المجتمع، تتوفر إمكانية مساهمة المجتمع في بلورة مشروع دولة الإنسان والقانون. فحركية المجتمع وفعاليته المتواصلة تساهم مساهمة كبيرة في صياغة نظرية أكثر عدالة وإنسانية للدولة. أما ضعف المجتمع وجموده، ‏فإنه يؤدي إلى تغوّل الدولة وإتساع نطاق هيمنتها وعسفها.

ومع التحديات الكبرى التي تواجه المجالين العربي والإسلامي، فإن الأمة والشعوب العربية والإسلامية، بحاجة إلى إحداث تحول نوعي وتاريخي في مسيرتها، حتى يتسنى لها الإستجابة الفعالة لهذه التحديات. «وحيثما نجحت الشعوب في إيجاد الرد الإيجابي على هذه المسألة، ‏وقبلت بتقديم الثمن المطلوب لذلك والتعديل الممزق في بناها التقليدية السياسية والإقتصادية والأخلاقية، أمكن لها الاحتفاظ بوحدتها المادية والمعنوية، ‏والتحول إلى مراكز نشطة للإنتاج الحضاري وبالعكس، حيثما أخفقت الشعوب في ذلك لأسباب ذاتية أو موضوعية، داخلية أو خارجية، فقدت السيطرة على مصيرها وتهدد مستقبلها، وحكمت على نفسها بالدخول، ‏بالرغم منها، في مسار خطير يختلط فيه التفكك المتواصل مع الفوضى السياسية والتبعية الإقتصادية والإنقسام الوطني والسقوط المعنوي. وهذا هو جوهر الأزمة التاريخية التي تقف وراء أزمة الهوية وأزمة السياسة والدولة والإقتصاد معاً، والتي لابد أن تتفاقم وتتسع بإتساع عجز المجتمعات التي تعيشها عن التحكم بالتاريخ وفقدانها السيطرة على الوقائع الموضوعية» (14) .

وفي هذا السياق فإنه لاخيار لواقعنا العربي والإسلامي اليوم، إلا الانخراط في مشروع التقدم، ‏وتوفير متطلباته الذاتية والموضوعية، ‏من مرجعية قيمية ـ‏حضارية، وجهد إنساني متواصل، ‏ووعي تاريخي عميق، ‏وإدراك نافذ بمتطلبات اللحظة التاريخية. والتقدم هو دائماً‏وليد قوى اجتماعية ـ‏تاريخية، تأخذ على عاتقها البناء وتذليل الصعاب وتجسيد الطموحات والتطلعات. فلا مانع فعلياً من تغوّل السلطة، إلا قوة المجتمع وقدرته على إدارة نفسه وحل مشاكله بنفسه. فالتحول النوعي في مسار المجتمع، بإتجاه القدرة والكفاءة والمبادرة هو الوسيلة الفعلية للحؤول دون تغوّل السلطة وإستبداديتها.

وافتقار المجتمع إلى بنية تحتية قوية، ‏يوسع بشكل أو بآخر هيمنة الدولة، ‏ويدخل نظام العلاقة بين الدولة والمجتمع إلى مستوى تبعي. دولة تسيطر وتهيمن على كل شيء، ‏ومجتمع جامد، ساكن إستهلاكي، يعتمد على مؤسسة الدولة في كل شيء. ولاشك أن هذه الحالة مكلفة للطرفين على المستويات كافة. بينما السياق المأمول للعلاقة هو وجود مجتمع يستند على ذاته وكفاءاته في تسيير شؤونه المختلفة، ‏ودولة قوية ترعى أمن المجتمع وتدافع عنه من الأخطار الداخلية والخارجية. ومن خلال هذه الدائرة المتكاملة من جهد المجتمع وجهد الدولة يبزغ فجر التقدم والتطور. وبقدر تكاملهما وتفاعلهما المشترك تتجسد القدرة الحضارية في الأمة.

ونحن هنا لاندعو إلى تحرر الدولة من التزاماتها الاجتماعية والوطنية، وإنما ندعو إلى توسيع دائرة الحريات، بحيث تتهيأ جميع الظروف لمشاركة قوى المجتمع في المشروعات الاجتماعية والوطنية. وبهذا لاتكون الدولة بديلاً‏عن المجتمع، وإنما شريكة معه في مشروع البناء والعمران. فالقوى السياسية والثقافية في الأمة، ليست نبتاً‏شيطانياً، حتى تتوجه كل الجهود لاستئصالها والقضاء عليها. وإنما هي تعبيرات مجتمعية متعددة عن واقع الحال، وهي جزء أساسي من حركة التاريخ والمجتمع. فالإنحراف في ممارسة السلطة، وتغوّل إجراءاتها الاستبدادية، واستمرار سياسة إقصاء المجتمع عن الشؤون العامة، هو قاعدة للكثير من الآثار السيئة التي يعيشها العالم العربي والإسلامي في المجالات كافة.

وسيبقى هذا الإنحراف مستمراً، مادم المجتمع ضعيفاً، وبعيداً‏عن الحياة النوعية. وهذا بطبيعة الحال يقودنا إلى القول: إن الخطوة الأولى لتحجيم انحراف السلطة وتغولها، هي إنطلاق المجتمع في بناء نفسه وتقوية بنيته التحتية، ‏وسد الثغرات في جسمه، ‏حتى يتسنى له أن يتساوى مع السلطة في الوزن والقوة والمبادرة.

****

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

...................

الهوامش

1ـ برهان غليون، ‏المحنةالعربية: الدولة ضد الأمة، ص216، مركز دراسات الوحدة العربية، ‏بيروت، الطبعة الأولى 1993م.

2ـ ندوة: التنمية البشرية في الوطن العربي، ‏ص354، بحوث الندوة الفكرية التي نظمتها الأمانة العامة لجامعة الدول العربية واللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الاسكوا) وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، مركز دراسات الوحدة العربية، ‏بيروت، ‏الطبعة الأولى 1995م.

3ـ جابر عصفور، هوامش على دفتر التنوير، ‏ص205، المركز الثقافي العربي، ‏بيروت، الطبعة الأولى 1994م.

4ـ مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 27ـ28، ص17، مركز الإنماء القومي، ‏خريف 1983م.

5ـ محمد عابد الجابري، الديمقراطية وحقوق الإنسان، ‏ص132، مركز دراسات الوحدة العربية، ‏بيروت، ‏الطبعة الثانية 1997م.

6ـ المصدر السابق، ‏ص136.

7ـ مجلة الإجتهاد، العددان العاشر والحادي عشر، ص354، السنة الثالثة، ‏شتاء وربيع العام 1991م ـ 1411هـ.

8ـ برهان غليون، حوارات من عصر الحرب الأهلية، ص129، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ‏بيروت، ‏الطبعة الأولى، ‏1995م.

9ـ ندوة الحوار القومي ـ‏الديني، ‏ص269، أوراق عمل ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، ‏بيروت، الطبعة الأولى 1989م.

10ـ برهان غليون، حوارات من عصر الحرب الأهلية، ‏ص177، مصدر سابق.

11ـ السيد محمد تقي المدرسي، من هدى القرآن، مجلد 12، ص375، البيان العربي، ‏بيروت، 1409هـ.

12ـ ثناء فؤاد عبد الله، آليات التغيير الديمقراطي في الوطن العربي، ص 225، مركز دراسات الوحدة العربية، ‏بيروت، الطبعة الأولى 1997م.

13ـ المصدر السابق، ص287.

14ـ برهان غليون، المحنة العربية، ‏ص13، مصدر سابق.

اثارت رغبة وزارة التعليم العالي في تطبيق بعض جوانب عملية بولونيا استنفار الجامعات وقلق تدريسييها لربما يعود ذلك لضعف المعرفة بجوانب العملية وبأهميتها وإمكانية تطبيقها في الجامعات العراقية. وقد يعود هذا القلق ايضا إلى المنطق المحافظ للمسؤولين والتدريسيين العراقيين الذين يتحلون بحذر شديد تجاه التغيير. لذلك سأحاول توضيح اهمية العملية واسسها لعل ذلك يساهم في دعم تطبيقها بما يخدم مسيرة الجامعات العراقية.

ما هي عملية بولونيا؟

أثبتت الجامعات الأوروبية من خلال عملية بولونيا وجودها، واستمرت في أن تصبح أكثر وأكثر جاذبية للطلاب من دول العالم الثالث والولايات المتحدة. ما الذي تغير ولماذا؟ هل ان تطبيق عملية بولونيا في العراق سيؤدي الى تطوير التعليم العالي، وان يصبح قادرا على الوقوف على قدميه ومنافسة دول العالم؟

يصادف هذا العام مرور اربع وعشرين عاما على اتفاقية بولونيا، التي أطلقت أحد أشهر مشاريع التعليم العالي في العالم. ففي عام 1999، اتفقت 29 دولة أوروبية على إنشاء منطقة أوروبية موحدة للتعليم العالي من أجل زيادة جاذبية وجودة التعليم العالي الأوروبي، وتشجيع انتشار القيم الأوروبية وتنقل الطلاب والتدريسيين.

يعتبر هذا المشروع اليوم فخر أوروبا ويسمى أحد أكثر المشاريع التعليمية العملاقة نجاحا في العالم. في عام 2012 ، نُشر في الولايات المتحدة كتاب "تحدي بولونيا" للكاتب بول غاستون، والذي يتناول الاجابة على التسائل الرئيسي التالي: "ما يجب أن يتعلمه التعليم العالي في الولايات المتحدة من أوروبا ولماذا من المهم أن نتعلم منها."

من الواضح أن المشروع نجح نجاحا باهرا. يمكننا اليوم تقييم جودة التعليم العالي الاوربي اليوم بشكل إيجابي بحيث يمكننا بثقة أن نضع الجامعات الاوربية ضمن افضل الجامعات العالمية، بالطبع، لا يزال هناك الكثير الذي يتعين القيام به، ولكن إذا تم تصنيف جميع الجامعات العالمية، فستكون مؤسسات التعليم العالي الاوربية مقارنة بالجامعات الامريكية والبريطانية من بين أول 500 جامعة.

العالمية هي سر نجاح عملية بولونيا

سر نجاح عملية بولونيا وهدفها في نفس الوقت هو العالمية. إنها ظاهرة متعددة الأوجه تشمل كلاً من تنظيم التعليم العالي وجوانب محتوى الدراسات. "ما هو التدويل في التعليم العالي اليوم؟" تتجلى العالمية في عدة أبعاد، أحدها افتراضي. في احد مؤتمرات مجلس الاتحاد الأوروبي، شارك مدرس هولندي تجربته في استخدام فضاء الإنترنت، حيث كان قد نشر محاضرات فديوية في علم السياسة الدولية، درسها 15 ألف طالب من داخل وخارج اوربا في نصف عام. قد لا يكون من الممكن تدريس هذا العدد من الطلاب بالطريقة المعتادة، ولكن بفضل التكنولوجيا والتعليم الدولي، اصبح ذلك حقيقة واقعة.

وفقا لخبراء التعليم، فإن الطابع الدولي للتعليم العالي لا يؤثر فقط على عملية تطوير الطلاب والعلاقة بين التدريسي والطلاب، ولكنه أيضا يغير عقلية المجتمع بأكمله بشكل عام. هذا جانب علينا تعلمه فلا يزال الطلاب العراقيون معزولين عن العالم بدرجة رهيبة ومقلقة. فهل سنتعلم من عملية بولونيا هذا الجانب الايجابي في اساليب التعليم وتصبح محاضرات استاذ متميز في جامعة الموصل على سبيل المثال متوفرة لطلبة جامعة بغداد ومتضمنتها مناهج الجامعة.

على الرغم من دعوة الوزارة للطلبة الاجانب للدراسة في العراق وتوفير عدد من المنح الدراسية لهم، إلا أننا لازلنا لسنا دوليين. وحتى بالنسبة للطلبة العراقيين الموفودين للدول الاوربية والأمريكية والعائدين للعراق، فإنهم يصبحون منبوذين داخل الجامعة. لذا يجب ان يصبح الهدف من اعتماد عملية بولونيا هو تغيير العقلية الداخلية بالكامل لمؤسسة التعليم العالي. التبادل على المدى القصير مهم جدا لهذا الغرض. لابد أن يتم منح التمويل للدراسات في البلدان الاوربية، وان يقضي الموفدين فيها فترة كافية لتتاح لهم الفرصة لفهم كل العادات والثقافات وتعلم اللغات، ومن خلال ذلك ستضطر الدولة إلى التغيير والتحسين من أجل تحقيق التواصل الفعال - تحسين البنية التحتية، والخدمات وتكييفها مع العالم بأسره.

اثبتت التجربة الاوربية أن الطابع الدولي للطلاب هو ميزة قيّمة في سوق العمل أيضا. تعد تجربة الدراسة الدولية أكثر من معرفة أو مهارات عالية الجودة في مجال معين - إنها القدرة على التواصل مع بيئة متعددة الثقافات، والاستقلالية، وإدراك أنه في العديد من المواقف يوجد أكثر من حقيقة واحدة أو حل واحد، إنه تفكير شامل ومتسامح، ويحظى بتقدير خاص على المستوى الدولي وبدأ تقييمها بالفعل في سوق العمل.

تعد صناعة التعليم العالي فرعا مهما من فروع الاقتصاد الحديث. أستراليا هي واحدة من البلدان التي يعتبر فيها التعليم العالي بالفعل أحد المجالات الرئيسية الثلاثة للاقتصاد الوطني. وفقا للجزء الذي تم إنشاؤه من الناتج المحلي الإجمالي، فإنه يتجاوز حتى العديد من مجالات الصناعة الثقيلة والتكنولوجيا العالية. التعليم العالي أيضا ذو قيمة في بريطانيا. يتم بالفعل تشكيل صناعة التعليم العالي بنجاح في ايران المجاورة لنا معتمدة على سوق الطلبة العراقيين. ومع ذلك، في العراق، لا يزال التعليم العالي يعامل تقليديا - كمجال من مجالات الإنفاق، وليس توفير الدخل. ويبقى تأثيره الشامل على النمو الاقتصادي للبلاد غير مرئي وغير مستغل. العراق هو الدولة الوحيدة في المنطقة التي تسعى الى جعل الشهادات العالية متوفرة لكل من يرغب بها او يطلبها سواء بصورة شرعية او بدونها.

واحدة من السمات الرئيسية لقطاع التعليم العالي العراقي، مقارنة بالدول الأخرى، لا تزال هجرة الكفاءات تسود وتنمو بين الاكاديميين. مع انه ينطبق على ثلثي دول العالم، خاصة في الدول النامية لكن شعبية التعليم العالي في السياق الدولي تعتمد بشكل مباشر على سمعة البلد.

من الطبيعي أن العراق، الذي يعاني من سوء التعليم ، لن يكون بين البلدان الاكثر شعبية للدراسات في المنطقة كمثل الاردن وتركيا وايران ومصر. من أجل جذب الطلاب من البلدان الأخرى، نحتاج إلى مؤسسات علمية معروفة دوليا تظهر نتائج بحثية عالية، وحرم جامعي جذاب، وبلد مستقر وامن فضلاً عن التواصل المستهدف لإنجازات التعليم العالي و إلا فان الدعوة لفتح الباب امام الطلبة الاجانب ستذهب سدى.

كما يفتقد التعليم العالي العراقي الى التغييرات الاستراتيجية على المستويين الوطني والمؤسسي. يتمثل أحد أوجه القصور الملحوظة في التعليم العالي في ازدواجية البرامج الدراسية وضعف التدريب الدولي وجمود المناهج وضعف البحث العلمي والتطوير والابتكار.

يجب على التعليم العالي العراقي ان لا يتخلف عن الركب وان يوقف التردي، ولكن من أجل تحقيق فوائد أكبر للدولة والمجتمع، ينبغي اتخاذ المزيد من القرارات الاستراتيجية، وبالطبع اتباعها. إن المجتمع المتسامح والسياسات المرنة تخلق ظروفا جذابة لإنشاء شراكات ذات مستوى عال خصوصا مع دول المجموعة الاوربية، لكي يتم تهيئة نفس الظروف لتطبيق خلاق لنظم التعليم العالي بدلا من تقليدها، وهو أساس الاقتصاد الناجح. الدول التي تجذب الطلاب، مثل الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، تحصل على المزيد من الآفاق والضمانات المستقبلية لكون تعليمها متفوقا وجذابا. لكي يصبح العراق أيضا جاذبا للطلبة الاجانب يجب عليه اولا من تطوير وتحسين مؤسساته العلمية ومن اعتماد النزاهة والحريات الاكاديمية هدفا للعملية التعليمية.

مسار الوحدات (ECTS) في عملية بولونيا

لربما من الافضل ان ننقل ما تشير له دوريات الاتحاد الاوربي ونقتبس منها بشأن ما اطلق عليه بنظام تحويل الوحدات المتراكمة (ECTS).

"نظام تحويل الوحدات المتراكمة الأوروبي (ECTS) هو مقياس لمنطقة التعليم العالي الأوروبية يهدف إلى ضمان قدر أكبر من الشفافية في الدراسات والمقررات. وفقا لهذا النظام، يتم ضمان تنقل الطلاب بين البلدان بسهولة أكبر ويتم الاعتراف بمؤهلاتهم الأكاديمية وفترات الدراسة في الخارج".

وفقا لـ ECTS، يُسمح بحساب الوحدات التي تم الحصول عليها في إحدى مؤسسات التعليم العالي (كمثال في جامعة المانية) في مؤسسة أخرى (كمثال في جامعة فرنسية)، حيث يدرس المرء من أجل الحصول على مؤهل. تعبر أرصدة ECTS عن التعلم بناءً على مخارج التعلم المحددة وعبء عمل الطالب student workload المرتبط بها. لاحظ ان عبء العمل هو الأساس في تحديد عدد الوحدات. لذلك لا يمكن وضع وحدات لأي مقرر إلا بعد معرفة عبء الطالب بالاستناد على مخارج التعلم learning outcomes. اؤكد على هذا الاسلوب لانتشار خطأ في مفهوم الوحدات بين الاكاديميين في العراق وهو تحديد وحدات المقرر على أساس عدد ساعات التدريس (وهو ما يسمى بعبء الاستاذ في النظام الامريكي). 

"يتيح نظام ECTS زيادة مرونة برامج الدراسة للطلاب. كما أنها تستخدم في تخطيط وتنفيذ وتقييم برامج التعليم العالي. إنها أداة رئيسية في عملية بولونيا، والتي تهدف إلى جعل أنظمة التعليم الوطنية أسهل للمقارنة دوليا. كما يجعل نظام ECTS استخدام المستندات الأخرى في بلدان مختلفة أكثر وضوحا وسهولة" ، بالإضافة الى انه يسمح بتطبيق نظام المقررات  the modular system بأسلوب سلس وبسيط.

من يحتاج ECTS؟

"يمكن أن تؤدي الاختلافات في أنظمة التعليم العالي الوطنية إلى مشاكل في الاعتراف بالمؤهلات وفترات التنقل المكتسبة في الخارج. تتم معالجة هذه المشكلة جزئيا من خلال تحسين فهم نتائج التعلم وعبء العمل في برامج الدراسة".

"يتيح نظام ECTS أيضًا الجمع بين أنواع مختلفة من التعلم، مثل التعلم الجامعي والتعلم في مكان العمل، في برنامج دراسة واحد أو برامج التعلم مدى الحياة".

فائدة هذا النظام بالنسبة للجامعات العراقية ومن دون المقارنة مع الجامعات العالمية محدودة وذلك لان مناهج وطرق التدريس والامتحانات متماثلة في الجامعات العراقية. 

كيف يتم تطبيع نظام الوحدات؟

"60 نقطة دراسية حسب نظام ECTS تقابل سنة كاملة من الدراسة أو العمل. في العام الدراسي القياسي، يتم عادة تقسيم هذه الوحدات إلى عدة وحدات أصغر. بشكل عام، مطلوب 90-120 ECTS وحدة للحصول على مؤهل دراسة قصير. تتطلب درجة البكالوريوس عادة 180 أو 240 نقطة دراسية حسب نظام ECTS.

تتوافق درجة الدراسات العليا (أو الماجستير) مع 90 أو 120 نقطة دراسية حسب نظام ECTS. يمكن تطبيق نظام ECTS على دراسات المرحلة الثالثة (الدكتوراه) بطرق مختلفة.

(ECTS) يستخدم لدعم تنقل الطلاب بين مؤسسات التعليم العالي. تساعد توصيف البرامج والمقررات واتفاقيات التعلم والشهادات الأكاديمية في التعرف على الوحدات المكتسبة في الخارج وتحويلها أثناء تنقل الطلاب. يتم وصف النظام واستخداماته بمزيد من التفصيل في دليل  يحدد فيه عبئ الطالب ومخارج التعلم في كل مقرر والذي على اساسها يتحدد عدد الوحدات".

واذ تم دمج نظام الوحدات الاوربي بنظام المقررات العالمي فانك ستحصل على نظام مثالي للتعلم والتعليم يمكن وصفه بأنه من ارقى الانظمة التعليمية في الجامعات وبتطبيقه ستخطو الجامعات العراقية خطوة جبارة نحو القرن الواحد والعشرين، بحيث ستمثل هذه الخطوة اصلاحا جذريا ونهجا مهما يضع الجامعات العراقية في مصاف الجامعات العالمية من ناحية نظام التدريس والتعليم والتعلم.

ضمان الجودة في عملية بولونيا للاتحاد الأوروبي

مع تغير أهداف التعليم العالي، يتغير مفهوم جودة الدراسة. ينتج هذا التغيير، أولاً وقبل كل شيء، عن البيئة الخارجية المتغيرة للتعليم العالي بسبب تنويع التعليم العالي، وتغيير مطالب أصحاب المصلحة لجودة الدراسات، وزيادة اهتمام الدولة، ومتطلبات المساءلة، وتغيير توقعات واحتياجات الطلاب من أجل التعليم. بالاضافة الى التغييرات في التمويل، وزيادة المنافسة المحلية والدولية، وتدويل التعليم العالي وعمليات العولمة والاهتمام العالمي بالجودة والمعايير فتتغير المحتويات والطرق. كل هذا يؤكد بشكل خاص على الحاجة إلى الجودة ويشجع مؤسسات التعليم العالي على البحث عن تدابير منهجية جديدة لتحسين جودة الدراسات. يُعترف بضمان جودة الدراسات وتحسينها في عملية بولونيا كمجال ذي أولوية للنشاط .

أصبح توافق هياكل التعليم الأوروبية أحد أهم الوسائل لتحقيق مساحة موحدة للتعليم العالي في أوروبا. في الوقت نفسه، أصبح ضمان جودة الدراسات مهمة ليس فقط ذات أهمية وطنية، ولكن أوروبية أيضا. تُلزم قوانين التعليم في كل دولة من دول الوحدة الاوربية كل مؤسسة للتعليم العالي بأن يكون لديها نظام داخلي لضمان جودة الدراسة بناءً على أحكام منطقة التعليم العالي الأوروبية. من أجل ضمان جودة التعليم المقدم، يُقترح توفير طرق ووسائل تطبيق اساليب مراقبة وضمان الجودة. تم تطوير نظام إدارة جودة الدراسة في كل جامعة مع مراعاة ثقافة الجامعة ورسالتها وأهدافها الاستراتيجية وقيم المجتمع والممارسات السائدة لضمان الجودة والتحسين. كما تم تطبيق المعايير والمبادئ التوجيهية التي صدرت عن منطقة التعليم العالي الاوربية (EHEA) كأساس لضمان الجودة في الجامعات الاوربية. یتمثل أحد الأھداف الرئیسیة للمعاییر والمبادئ التوجیھیة لضمان الجودة في المساھمة في الفھم المشترك لضمان الجودة للتعلم والتعلیم عبر الحدود وبین جمیع أصحاب المصلحة بحيث تشترك كل هيئات الجودة الاوربية باتباع الطرق التالية لفحص الجودة: 1) الاعتماد على مجموعة من التعليمات والمعايير، 2) مراجعة داخلية تعتمد على تقييم ذاتي من قبل المؤسسة، 3) مراجعة خارجية لبرنامج المؤسسة تبدأ بمراجعة التقرير الذاتي، ثم زيارة موقعية من قبل مجموعة المراجعة، 4) اخيرا نشر تقرير لضمان الجودة ووضع خطة للتحسين. وللحصول على تفاصيل اخرى حول طريقة فحص الجودة في الجامعات الاوربية في ضوء عملية بولونيا انصح بمراجعة كتابنا: (اطار ضمان الجودة وتحسين جودة البرامج في الجامعات العراقية) والذي اعتمدنا فيه على برنامجنا لضمان الجودة في الجامعات العراقية (2009-2015) وتم تنفيذه باشراف اليونسكو وعلى اساسه بني نظام الجودة الحالي في الجامعات العراقية.

***

أ.د. محمد الربيعي

........................

مصادر يمكن الحصول عليها من الكاتب: [email protected]

- عملية بولونيا

- نظام المقررات المبني على أساس الوحدات

- اطار ضمان الجودة وتحسين جودة البرامج في الجامعات العراقية

Professor Mohamed Al-Rubeai, PhD, DSc, FRSB

إحساس بارد بلا جدوى ما نفعل أو ما اعتدنا أن نقبل عليه، خُفوت جذوة الرغبة في القيام بما نحب، وضمور الحماس نحو كل شيء جميل كان في السابق مطلبنا بشغف، ممارستنا للحياة من دون إقبال، إنما نأتي إليها فقط بحكم الحاجة والعادة، باعتبارها احتياجات بيولوجية أو مسلكيات وطقوسا لا معنى لها؛ الأكل بلا شهية، النوم في أي وقت، ضعف الرغبة في السفر، شُحوب الطقوس والعادات الجميلة، الميل إلى العزلة، والعدول عن الرفقة في العلاقات الإنسانية، إنه طريق الجنون يتهدد الفرد والمجتمع اليوم، ويجعل الحياة بلا معنى.

العمل الذي كنا شغوفين به كل يوم، قد يصير مجرد أداء آلي لا روح فيه، مجرد واجب ثقيل نؤديه ونحن متذمرون مرغمون بحكم الحاجة، ننتظر ونحسب السنوات المتبقية لمعاشنا المبكر، كي نهرب من الشغل الذي فقد معناه ولم تعد فيه أية متعة، وقد يصير أقرب إلى الجحيم، والعمل يفقد معناه، إذا كانت وراءه طُغَم تحوله إلى صالحها، بما يخدمها وانتفاعَها، ويصبح بلا معنى بمجرد ما يدب إليه الفساد، هذه السوسة التي ما إن تتسلل إلى شيء حتى تأخذ في نخره من أعماقه.

تكريم المبدع أو العامل لا معنى له في نسق ثقافي فاسد أو في منظومة عمل فاقدة للمصداقية، يتعرض فيها الإنسان طوال مسيره الإبداعي والمهني لشتى صنوف الجحود والتنكر والتهميش والإقصاء والحصار... فالتكريم الحقيقي اعتراف صادق، يكون في سيرورة الحياة العملية، وليس لحظة نفاق عند الخروج إلى التقاعد، أو عند الرحيل من الحياة، فهذا رياء ونفاق تتسابق نحوه لمآرب ضيقة أزلام دواليب المجال الذي يعج بالمقت والكراهية والتناحر.

الصداقة تفقد معناها بفقدانها قيمَها، فتغدو علاقة شكلية لا روح فيها، يحل فيها الكذب محل الصدق، والخيانة محل الأمانة، والغدر محل الوفاء، والمجاملة محل الوضوح والصراحة، وتحل المنفعة الذاتية محل التضحية في سبيل الاستمرارية ونبل الصداقة.   

لقد قُلبت القيم رأسا على عقب، فأصبح الصادق الصدوق مغفلا، والصريح صاحب هبل، والمخادع الوصولي صاحب ذكاء اجتماعي ومهني عال...

العلاقات الأسرية والعائلية قد تفقد معناها إذا طغت عليها المصلحة والأنانية، فتصبح أركان البيت باردة فاقدة للدفء والحب، فتُبنى جدرانٌ فولاذية بين أفرادها، بين الزوج وزوجته، وبينهما والبنات والأبناء، وبين الأخوات والإخوة، فتبدأ في التلاشي تلك العادات الجميلة التي تجمع الأهل وتخلق بينهم أُلفةً منقطعة النظير، ليبحر كل واحد في الهروب نحو عالم وهمي خلف الشاشات الرقمية.

عندما يعجز الإنسان وهو يتقدم في العمر عن تطوير ذاته وتجديد منظوراته وشحذ طاقاته، يقع في مطب فقدان المعنى، خاصة إذا كان وعيه الحاد بالعالم قد زج به في شعور عميق بالاغتراب والشقاء، فالوعي الشقي قد يكون دعامة خطيرة لرسوخ الشعور باللاجدوى، وفقدان حاسة التذوق وتلاشي القدرة على الاستمتاع بالحياة، بسبب سيطرة رؤية سوداوية ناتجة عن  إدراك عميق لتفاهات العالم، ووعي ثاقب بمدى فداحة التدني والقبح.

ولئن كان فقدان المعنى مفهوما في بعض حالات شيخوخة الفكر وتكلس العقل وانكسار النفس بسبب تراكمات الإحباط والقهر والصدمات... فإن الحديث عن غياب المعنى لدى الشباب، مهما كانت مبرراته، يعد مؤشرا خطيرا على مستقبل منذور بعواقب وخيمة.

***

نحن متفقون أولا على أن التربية عملية هادفة ومتطورة، تحكمها قواعد وقوانين معينة، فهي تنمية الجوانب المختلفة لشخصية الإنسان عن طريق التعليم والتثقيف! عندما نقول الصراع التربوي ألا ترى أنهما مفهومان متناقضان لا يصح أحدهما مع الآخر في شيء؟ بمعنى آخر كيف لنا أن نتحدث عن تربية وصراع في الآن نفسه؟

لا أقصد الصراع التربوي بين المدرّس والمتعلّم، ولن أتحدث عن الصراع بين الوزارة والأطر الإدارية والتربوية، بل سأتحدث عن الصراعات بين الأطر الإدارية والأطر التربوية، وبين الأطر الإدارية فيما بينهم أو الأطر التربوية فيما بينهم.

لا أعمّم، لكن بعضهم تمكّنت الحزازات من نفوسهم فأعمت قلوبهم عمّا يوحّدهم، فالمدرسة كأي مؤسسة اجتماعية أخرى تضم عددا كبيرا من الأعضاء، وقد يحصل يوما ما سوء تفاهم أو خلاف، حينها نطرح السؤال: ما العمل؟ هل نترك الأمر يتفاعل باتجاهه السلبي أم ينبغي إيقافه بخطوات متحفظة؟!  ومن الذي له السلطة التشريعية وتقع عليه مسؤولية حل النزاعات داخل  المؤسسة التربوية؟

للأسف الشديد لم تبق النزاعات حبيس الأطر وسرّا بينهم، بل أصبح يتفرّج عليها المتعلمات والمتعلمون، كما حصل مؤخرا في مؤسسة تعليمية لا داعي لذكر اسمها، وكما يحصل في مؤسسات أخرى بطبيعة الحال. إذاً عن أي تربية وعن أيّ تعليم مازلنا نتحدّث؟

يمكن القول إن الصراع ظاهرة طبيعية ولا بد من وجودها في أية مؤسسة مهما كانت طبيعة عملها، فأصبح من واجب الإدارة الاعتراف بهـا، والتعـرف علـى أسبابها، سعياً للتوصل إلى الطريقة المناسبة للتعامل معها. فالصراع رغم ما يحمله من آثار سلبية إلا أنه لا يخلو مـن آثـار إيجابيـة تستدعي من الإدارة استغلالها لصالح التنظيم.  ومما لاشك فيه أن المـدير  في المجال التربوي بصفته رئيس المؤسسة تقع عليه مـسؤولية الارتقـاء بالعملية التربوية وبالمنظمة التي تقع تحت إدارته، الأمر الذي يتطلب منه كيفية مواجهة الصراعات السلبية التي تحدث في المؤسسة التعليمية وتحويلها إلى صراعات إيجابية تحقق أهدافها.

إن النظرة إلى إدارة الصراع بالمؤسـسات التعليميـة وغيرهـا ارتبطت بتطور الفكر الإداري عبر مراحله المختلفة؛ أولا مرحلة الفكر التقليدية أو ما يسمى بالمدرسة العلمية حيث انطلقت من ضرورة القضاء على الصراع أو الحد منه ما أمكن، لأنهـا تعتبر كل أنواع الصراع مخلة بوظائف النظام، بينما مرحلة الفكر السلوكية تبنت فكرة أن الصراع أمر ضروري في التنظيم ولا يمكن تجنبه، وما على الإدارة إلا أن تتعرف عليـه وتحدد المستوى المقبول منه بما يخدم أهدافها في ظل ظروفها القائمة، وأخيراً مرحلـة الفكر التفاعلية التي لا تنظر إلى الصراع على أنه يشكل قوة إيجابية في الجماعة فقط؛ ولكنها تشير  إلى أن بعض الصراع ضروري وحتمي لفاعلية عمل الجماعة وتحقيق الأهداف.

ومن أهم الأساليب التي أفضل الاستعانة بها في حل الخلافات والنزاعات داخل المؤسسة التعليمية هو أسلوب السيطرة: والهدف منه هو إدارة الصراعات التنظيميـة بأسرع وقت ممكن بعد التعرف على مصادرها الحقيقية، وهنا يتجلى دور رئيس المؤسسة، إذ يلعب دور الوسيط ويعتمد على الدخول الصريح والمباشر بين أطراف الصراع، ويدرس نقاط الخلاف بدقة وعناية، ويبذل الجهود  مـن أجل إيجاد الحلول لكل جزئية؛ تمهيدا وتسوية للصراعات القائمة.

كما يمكن استخدام أسلوب التهدئة: بمعنى تلطيف وتسكين الصراع عن طريق مواساة أطراف الصراع  بغرض تهدئتهم، وذلك عن طريق التواصل والحوار بلغة مؤثرة لإعادة العلاقة السليمة بين الأطراف المتصارعة وتهدئة العواطف.

ختاما أقول: لو قدّر الإنسان علاقته بربه أولا، وكان كل طرف على علم بما له وما عليه، والتزم  بالقانون وبالنظام الداخلي للمؤسسة التعليمية وبالمذكرات الوزارية وبالنظام الأساسي لأطر الأكاديميات الجهوية لمهن التربية والتكوين، لما أصبحنا نرى هكذا مشاهد!

أما إذا واصلوا على الحسد والضغينة التي يحملونها اتجاه بعضهم البعض فسنرى الأسوأ من ذلك، وهذا لا يليق بالتربية والتعليم وبمربي الأجيال.

***

ذ. فؤاد لوطة 

لو كان الاستبداد رجلا، وأراد أن ينتسب، لقال: أنا الشر، وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وعمي الضر، وخالي الذل، وإبني الفقر، وابنتي البطالة، ووطني الخراب، وعشيرتي الجهالة. عبد الرحمن الكواكبي

لا أحد يستطيع اليوم أن ينكر الدور الخجول للجامعات العربية طلابا وأساتذة في الممارسة الاجتماعية النقدية لقضايا مجتمعاتهم وتحدياته المصيرية. وقد لا نجد حضورا قوي الشكيمة واضح المعالم للمجتمع الأكاديمي العربي في أحداث الحياة الاجتماعية العربية نقدا أو تحليلا أو رفضا أو مقاومة لأوضاع القهر والاستلاب. وهذا لا يعني أبدا أننا نتنكر لبعض الجهود المميزة التي قام بها بعض الطلاب والأساتذة الجامعيين للمشاركة في حركات الاحتجاج ضد مظالم أنظمتهم السياسية كما حدث في تونس ومصر وسورية ولا سيما في بداية ما يسمى بالربيع العربي. ومما لا شك فيه أن هذا الغياب الكبير للفعل الاحتجاجي الجامعي في البلدان المنكوبة بالاستبداد يدل على جملة من الشروط التاريخية القائمة على الاستبداد التي مارستها الأنظمة السياسية في الجامعات فحولها إلى ترسانات أمنية مدمرة للعقول والقيم الأخلاقية والثورية.

وإزاء هذا الغياب الكبير للممارسة النقدية الجامعية في مستوى الطلاب فإن المؤرخين سيذهلون تماما للدور السلبي الكبير لأعضاء الهيئات التدريسية في الجامعات العربية (سوريا مصر السودان اليمن ليبيا العراق) الذين سجلوا أكبر درجة من التخاذل التاريخي والتواطؤ خلال موجة الانتفاضات الجماهيرية منذ بداية انطلاقها. وإذا كان الطلاب لا يستطيعون في ظل جامعات مخطوفة أمنيا أن يمارسوا حقهم التاريخي في الانتفاضة ضد أنظمة القهر والاستبداد فإن التخاذل بلغ حدوده القصوى لدى أساتذة الجامعات العربية وهم الذين يمتلكون القدرة (ربما) على إبداء الرأي فيما يحدث وفيما يجري من أحداث جسام على الساحة العربية بصورة أخلاقية وموضوعية.

لقد وقفت نخبة كبيرة من أعضاء الهيئة التدريسية في مختلف الجامعات العربية موقفا سلبيا من الثورة وغيرها من الأحداث الجسام وسجلوا أنفسهم في دوائر العداء للمجتمع وقضاياه المصيرية، وفي المقابل سجلت الأكثرية الساحقة من هؤلاء حضورهم في دوائر الصمت السلبي القاتل من مختلف القضايا الاجتماعية القائمة على الفساد والجريمة السياسية المنظمة.

وعلى خلاف الدور النقدي المتوقع من هذه الفئة الأكاديمية بدا واضحا أنهم كانوا أكثر وفاء للظلم والقهر. وعلى خلاف الدور الإنساني الذي يفترض بأساتذة الجامعات أن يقوموا به من نقد للظلم والعنف والاستبداد عمل فريق كبير منهم على تمجيد الاستبداد وتبرير البطش الذي يقوم به الطغاة ضد شعوبهم.  ومن الواضح أن أنظمة الاستبداد وجدت في هذه الطبقة من أساتذة الجامعة طليعة آثمة متوحشة انبرت للدفاع عن القهر السياسي وتمجيد القمع الاجتماعي الذي تمارسه هذه الأنظمة السياسية ضد شعوبها.

ومن المحزن والمذهل اليوم أن يكون أساتذة الجامعات العربية أوفياء لأنظمتهم الاستبدادية بدلا من أن يكونوا أوفياء لشعوبهم وأمتهم وقضايا مجتمعاتهم المصيرية. ومن المؤلم جدا أن يقوم كثير من هؤلاء الأكاديميين الأشاوس أن يستووا على منابر الأنظمة الشمولية لتبرير العنف وتمجيد التوحش والوحشية والإعلاء من شأن الظلم والقهر الذي تمارسه أنظمتهم القمعية ضد شعوبهم بلا رحمة أو شفقة. وإنك في حقيقة الأمر لتصاب بالصدمة والذهول تماما للكيفية التي يتدافع فيها أساتذة الجامعة من أجل الظهور الإعلامي في إعلام قاصر موتور تمجيدا بأنظمتهم الشمولية التي تمارس الظلم والقهر في مختلف أصقاع العالم العربي المنكوب بأنظمته الوحشية! وقد تصاب في حالة ذهول أكبر عندما ترى هذا الاستبسال الكبير لدى فريق من هؤلاء الأساتذة الأكاديميين للدفاع عن الظلم والقهر والاستبداد، وهم فوق ذلك كله يطالبون أنظمتهم الوحشية من على منابرها الإعلامية أن تكون أكثر شراسة وتدميرا وقتلا وسفكا للدماء في أوطانها!!!

ومن المؤسف والمأساوي أيضا أني يكون ينبع هذا التوحش من لدن الأكاديميين في كليات العلوم الإنسانية ولاسيما في كليات الحقوق الذين كان لهم الحضور الأكبر في مختلف المحافل الإعلامية والسياسية تمجيدا لأنظمة الاستبداد وتبريرا لبطشها. والغريب في الأمر أن يمارس هؤلاء الحقوقيون دورا مضادا لدورهم التاريخي الذي يتمثل في الدفاع عن الحق والكرامة والإنسانية والعدل والقانون. وعلى خلاف هذه الوظيفة الإنسانية الحقوقية مارس أساتذة الحقوق وما زالوا كل أشكال القمع الفكري والتزييف الأخلاقي والتبرير القانوني والدجل السياسي في مواجهة الإنسان والمقهورين في مجتمعاتهم متنكرين لأبسط القيم الأخلاقية والإنسانية.

والمخيف في هذا كله أن هؤلاء الأكاديميين يقومون بتدريس الأجيال نظريات الحق وحقوق الإنسان! والغريب حقا أن يقوم هؤلاء الأكاديميين الطغاة بتعليم الحقوق وهم الذين وقفوا ضد الحق والحقيقة والقانون والأخلاق أن يقوموا بتعليم الأجيال على قيم الحق والقانون والأخلاق؟

وليس غريبا أن تجد بين هذه الطليعة المخجلة تاريخيا أساتذة من كليات الآداب والطب والهندسة الذين تاجروا بدماء الشهداء والثوار من أجل لحظات خاطفة من الظهور الأكاديمي انتصار للاستكبار الظلامي والجبروت الوحشي للأنظمة السياسية القائمة على أبشع مقومات القمع والإكراه السياسي.

وكما أن الحرب تنتج أبطالا وقادة ومغامرين فهي تنتج جبناء ومراوغين ودجالين ومنافقين ومزاودين،  وهكذا أفرزت الأوضاع الكارثية العربية - القائمة على الظلم والقهر والاستبداد - هؤلاء الأكاديميين الجبناء المداهنين والمتاجرين بخبز الناس وكرامتهم.

وفي الختام نقول مع القائل إنه منذ أن اشتغل هامان لصالح فرعون وقارون وحتى هذه اللحظة هناك مثقفون.. وعلماء.. ورجال دين.. وفنانون" من مختلف الأحجام والمستويات والأيديولوجيات والجنسيات والطبقات والأديان والمذاهب والعشائر والطوائف والأسر.. يلمّعون أحذية من يدوس على البشر!!.. 

وسلام الله عليكم .

***

علي أسعد وطفة

تنطوي مقولة «انتصار الحضارة الغربية النهائي على العالم» على نزعة استشراقية بيّنة، ولكنها تحتوي أيضاً على جزء من الصحة في وصف الشكل الخارجي لواقع الحال العالمي الراهن، ويتعلق الأمر هنا تحديدا بتَكَرُّس الهيمنة الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية عسكرياً ومالياً على العالم؛ أي إنها هيمنة عدوانية لفترة تاريخية محددة بقوة السلاح والمال وليس انتصاراً نهائياً وحاسماً؛ فالصراع بين الغرب وباقي أجزاء العالم المستهدف بالعدوانية الغربية لم يتوقف بعد، ولن يتوقف قريباً.

لقد أصبحت هذه المقولة متداولة كثيراً في السنوات الأخيرة، وبات بعض الباحثين والكتّاب العرب والشرقيين يكرّرها وكأنه اخترع العجلة، رغم أنها مقولة خطرة ولا تاريخية ولا تعني من حيث الجوهر سوى تعميم الدعوة إلى الاستسلام والتبشير بانعدام أي خيار آخر أمام الإنسانية وشعوب الأرض غير الانخراط في الحضارة الغربية المضرّجة بدماء الشعوب والمساهمة فيها كمهزومين! سنحاول هنا تقديم محاولة تحليلية لتفكيك هذه المقولة نقدياً:

يستلزم التعرّض لمقولة «الحضارة الغربية» التفريق بين مصطلحين متداخلين بشدة هما الحضارة والثقافة أولاً، وبين «الحضارة الحديثة» و«الحضارة الغربية» ثانياً.

من المعروف أن بين الثقافة والحضارة وشيجة أشبه بالعضوية، ففي بعض اللغات الأوروبية الحية كالفرنسية تدلّ الكلمتان على معنىً واحد إلى درجة يمكن استبدال إحداهما بالأخرى، ولكن هذا التواشج قد لا يبدو واضحاً وحاسماً كفاية في العلوم التخصصية الحديثة، فقد انقسم الموقف من هذا الموضوع إلى ثلاثة اتجاهات:

الأول يذهب إلى أنَّ معنى الثقافة والحضارة واحدٌ، ولهذا السبب استخدم مصطلح (Civilization) للتعبير عن ماهية كليهما معاً، من دون وجود فرق أو تمييز بينهما، ويُلاحظ هذا الاتجاه عند الباحثين الفرنسيين الذين تحدّثوا عن أنّ الثقافة والحضارة لا فرق بينهما، فهما «مفهوم كوني وشامل لأمّةٍ واحدةٍ» كما كتب بعضهم.

ويرى أصحاب الاتجاه الثاني أن الحضارة هي فقط الجزء المادي من الثقافة. أما الفريق الثالث فيعتقد أنّ الثقافة هي جزء من الحضارة بشقّيها المادي والمعنوي، وهذا الاتّجاه الغالب في الغرب. آخذاً بنظر الاعتبار التفسيرات الثلاثة السالفة للعلاقة بين هاتين المقولتين، ومركّزاً على التفسير الأول أكثر من سواه، سأتناول بالتوضيح التفريق الذي قال به الباحث العراقي الراحل هادي العلوي بين الثقافة الحديثة والثقافة الغربية، بما يعني في الوقت نفسه التفريق بين الحضارة الحديثة والحضارة الغربية:

يفرّق العلوي بين الثقافتين تفريقاً شديد الوضوح، على الرغم من تعقيده الماهوي. فهو يقول (عندما قسمتُ الثقافة المعاصرة إلى ثقافة غربية وثقافة حديثة، وأخذت بالحديثة ورفضت الغربية، فهذا يعني أخذ الكثير مما هو معنون كفكر غربي ولكنه حديث، وميزته عن الفكر الغربي بخصائصه المعادية للآخر، سواء كان هذا الآخر جغرافيا سياسية أم جغرافيا اجتماعية تنتمي إلى معسكر الفكر نفسه «الطبقات العاملة في الغرب». الفكر المعارض في الغرب قام ويقوم بدور عظيم في إصلاح المجتمع الغربي وتخليصه من آثار الهمجية. وعلماء الاجتماع الغربيون أسهموا في دور عظيم في تحسين وضع السجون الأوروبية التي كانت حتى القرن التاسع عشر مسالخ بشرية، لكن هؤلاء العلماء أنفسهم لم يطلقوا صيحة واحدة ضد المسالخ البشرية التي يصنعها الغربيون في القارات الملوّنة. (هادي العلوي ، «حوار الحاضر والمستقبل» ص 107). وفي مواجهة الثقافة الحديثة التي هي ثمرة مشتركة أسهمت في إنضاجها الإنسانيةُ جمعاء وشعوب الأرض والحضارات كافة، يُلخِص العلوي الأسس التي تقوم عليها الثقافة الغربية في المزاعم الأيديولوجية الاستشراقية التالية: تفوّق العقل الغربي أمام العقول غير الغربية، وأبدية التجارة والتملك الخاص، وبالتالي حق الإنسان في امتلاك المال بأي وسيلة، وحداثة الرأسمالية وتخلف الاشتراكية، واقتران الرأسمالية بالرخاء والازدهار واقتران الاشتراكية بالفقر.

أما على صعيد ما يصفه بمستوى الفكر الجاد، فيسجل العلوي الآتي: «لقد حقق العقل الغربي فتوحات عظيمة في ميدان تفسير الطبيعة، وهذه هي الفيزياء، ومع ذلك أخفق الفيزيائيون الغربيون في استخلاص حقائق الفلسفة المعادلة لحقائق الفيزياء، بحيث نجد فلسفة الفيزياء قبل ماركس متعايشة مع الخرافة، وتكاد تتعاطى مع الأسطورة كإحدى حقائق الطبيعة». (ص 110 م. س.). ثم يعود العلوي إلى تأكيد أن «التمييز بين الثقافة الغربية والثقافة الحديثة، وكون الثقافة الحديثة هي أيضاً غربية ومعلّموها غربيون وإنما تميّزت عن الثقافة الغربية الأم بمصادرها الخارجية... فالفكر الاشتراكي الغربي مثلاً متطور عن الأناجيل الأربعة وهي مصدره الأكبر في هذا المنحى، لأن المجتمع الغربي لا يملك خلفية مشاعية تنعكس في فكره وتؤصل وعيه الاشتراكي». (م. س.).

القدر الحتمي

وكما أسلفنا، فإن هذا الاستنتاج العدمي القائل بانتصار الحضارة الغربية النهائي على العالم المعاصر، لا يختلف كثيراً من حيث الجوهر عن صيحة «نهاية التاريخ وسيادة العولمة بنسختها الليبرالية اليمينية المحافظة» التي أطلقها يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما في صيف 1989. إن الأطروحة الأساسيَّة لفوكوياما تقوم على «أن الديمقراطيَّة الليبراليَّة بقِيَمها عن الحرية، الفردية، المساواة، السيادة الشعبية، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، تُشَكِّلُ مرحلة نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان وبالتالي عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغةٍ نهائيةٍ للحكومة البشرية». ومعروف أن فوكوياما تراجع بهذا، بشكل ما، عن صيغة نظريته الأصلية هذه، كما يكتب مقتبساً د. أسامة سماق «نشر فوكوياما مقالاً في «ذا نيو ستايتسمان» بتاريخ 17.10.2018، يحوي معزوفة التراجع عن نظرته السابقة، نقتبس «إذا كانت الاشتراكية تعني برامج إعادة تصحيح الخلل الكبير في الدخل والثروة، فنعم، لست فقط أعتقد أنها يمكن أن تعود، بل بجب أن تعود، يبدو لي أن الأشياء التي قالها ماركس يتضح أنها صحيحة، لقد تحدث عن فائض الإنتاج وأن العمال سيصبحون أكثر فقراً، وأن الطلب على السلع لن يكون كافياً!».

وإذا ما عدنا إلى مقولة القائلين بانتصار الحضارة الغربية النهائي، نجد أن هشاشة هذه المقولة تبدو واضحة، ليس في جانبها الأخلاقي والاجتماعي التاريخي فحسب، بل أيضا في جانبها المعرفي والاجتماسي (sociopolitique)، فالغرب، لم ينتصر عملياً وبشكل نهائي؛ ولم تنتهِ مشكلاته العويصة مع العالم ومع نفسه. إنه لا يزال مشتبكاً في حروب ضارية تتخذ أشكالاً متنوعة من العدوان المسلح إلى الحصار الاقتصادي والسياسي إلى التهديد بالإفناء النووي ضد خصومه في جميع القارات. كما أن الغرب لم يتمكن، وقد لا يتمكن قريباً، من حلّ مشاكله الاجتماعية والتاريخية الموروثة حتى الآن مع أولئك الخصوم أو حتى في عقر داره.

من ناحية أخرى، فإن الغرب ليس صادقاً في مزاعمه عن نشر الحريات والديموقراطية، لا بل إنه بحركته السياسية والعسكرية العالمية وهيمنته الاقتصادية، يُعَدُّ أكبر عائق أمام انتصار الديموقراطية والحريات الفردية والجماعية في بلدان العالم، فهو يحاصر ويحاول إسقاط أنظمة ديموقراطية منتخبة من قبل شعوبها، لا لشيء إلا لأن هذه الشعوب تريد أن تختط لنفسها وبقياداتها الشرعية المنتخبة طريقاً مستقلاً في السياسية والاقتصاد والثقافة، والأمثلة الطازجة كثيرة، ولعل أوضحها مثال بلدان اميركا اللاتينية حيث تعيش عدة شعوب فيها تحت وطأة الحصار الأميركي والتهديد بالحرب التدميرية.

لتفحص جذور هذه المقولة لا بد من التطرق إلى ما يسمى مبدأ القدر المتجلي أو الحتمي (Manifest destiny)، هو اعتقاد جيوسياسي استراتيجي ذو مضمون سلفي ديني نشأ في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، وتحديداً في حرب التوسع والضم التي شنتها ضد المكسيك وانتهت بعد عامين بانتزاع ثلاث ولايات كبرى منها، ولم تحجم عن ضم العاصمة مكسيكو إلا لخشيتها من الاختلاط بسكانها الملونين الكثيري العدد. هناك ثلاثة محاور أساسية يتجلى فيها هذا «القدر المتجلي» كما يزعم القائلون به:

1-الفضائل الخاصة للشعب الأميركي ومؤسساته، أي إنهم يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار، كما قال الكاتب الأميركي هرمان ميلفيل حرفياً «نحن الأميركيين شعب متميز مختار، نحن بني إسرائيل زماننا. لقد خصّ الله شعبنا بالقضايا الكبرى، وبقية الشعوب ستسير خلفنا عمّا قريب، فنحن رواد البشر»، كما اقتبس عنه جون جوديس في كتابه «حماقة الامبراطورية» (The Folly of Empire).

2-مهمة الولايات المتحدة هي إعادة صياغة الغرب على صورة أميركا، والمقصود هنا بالغرب، الغرب في صورة «الإمبراطورية الرومانية المقدسة» الغابرة.

3- قدرٌ لا يقاوم لإنجاز هذا الواجب الأساسي. ويوضح المؤرخ فريدريك ميرك أن هذا المفهوم ولد من «الشعور بواجب استعادة العالم القديم من خلال القدوة المتعالية والناتجة عن إمكانات الأرض الجديدة لبناء سماء جديدة».

أما المؤرخ ويليام أي ويكس فيسجل أن المهمة الثانية لا تقتصر على جعل الغرب على صورة أميركا، بل جعل العالم كله على تلك الصورة، وإعادة تشكيله وفقها. أما الأساس الثالث، فهو كما يكتب ويكس «قرار الإله في تفويض الولايات المتحدة الأميركية في تحقيق هذه المهمة». وهنا تحديداً، لسنا بعيدين كثيراً عن الفكر الداعشي السلفي التكفيري، ولكن بنسخته البيوريتانية البروتستانتية في أميركا القرن الثامن عشر، وهو فكر لا يزال ينبض بالحياة حتى الآن في خطابات آل بوش وترامب وغيرهما من الرؤساء الأميركيين!

يمكن أن نضيف إلى ذلك، أن الولايات المتحدة نفسها، ودول غربية عديدة من حلفائها، تجلس وتتنعم بالرفاهية الظاهرية على قمة بركان اقتصادي ناشط، ويمكن التعبير عن إحدى صوره بترليونات الدولارات من المديونية الأميركية وبواقع 22 ترليوناً، تتبعها بريطانيا بثمانية ترليونات ونصف ترليون، لتأتي بعدها فرنسا وألمانيا بأكثر من خمسة ترليونات ونص ترليون لكل منهما. ومعلوم أن هذا الواقع الاقتصادي الشبيه بالبركان قد ينفجر بين يوم وآخر أو سنة وأخرى أو عقد وآخر، فأين هي إذن حقيقة انتصار الحضارة الغربية النهائي؟ أليس صحيحاً ذلك التشبيه الذي أطلقه اقتصادي أوروبي كبير حيث شبه دولة الولايات المتحدة بـ«قوّاد ثمل يجلس في باب المبغى وكيس النقود المزيفة في رقبته وبيده هراوة نووية يرعب بها الناس، وهي التي تعطي قيمة لنقوده المزيفة»؟!

أما إذا نظرنا إلى مقولة «انتصار الحضارة الغربية النهائي» داخل السياق السياسي التاريخي الحقيقي للدول الغربية نفسها، فسنجد أن ما يسميه البعض انتصاراً نهائياً متبوعاً بحالة سلام عام هو ليس ظاهرة جديدة في التاريخ. وإن الإمبراطوريات الزائلة قد حققت نسختها الهيمنية من العولمة على انحاء العالم المعروف في عهدها، ولعل من أشهر الأمثلة على ذلك الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي حققت السلام الروماني (PAX ROMANA) والذي هو ليس إلا حالة نجحت فيها تلك الإمبراطورية القائمة على العنف والدم والظلم والعنصرية في كتم أنفاس القوى والشعوب المستعبدة والثائرة والمتمردة ضدها. وفي عصرنا يرفع ورثة الإمبراطورية الرومانية الهمجية شعارها بعد أن «أمْرَكوه» فتحول إلى (PAX AMRICANA) يريدون فرضه على شعوب العالم المعاصر.

في المقابل، تقوم مقولة «الانتصار النهائي للحضارة الغربية» في زعم المدافعين عنها على ركائز عديدة؛ منها إنها أول حضارة تقوم على العقل والعلم وليس على الخرافات الدينية وغير الدينية، وإنها تقوم على نقد ذاتها وتصحيح مسارها باستمرار، وإنها تقوم على مبادئ الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، وأخيراً فهي أقل عنفاً ودموية من الحضارات التي سبقتها.

غير أن نظرة سريعة إلى ما تنقله وكالات الأنباء والصحافة العالمية ليوم أو يومين تقنعنا بهشاشة هذه المزاعم وكذبها. كما أن مراجعة سريعة لأحداث القرن الماضي المهمة تثبت لنا أن الحضارة الغربية هي الأكثر دموية وعنفاً وظلماً واستعباداً للإنسان من أي حضارة بشرية أخرى سبقتها، ويكفي التذكير بمجازر الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبمحارق النازيين الألمان، وبجريمتي هيروشيما وناكازاكي النوويتين، مروراً بالحصار الأميركي الغربي على العراق في التسعينيات من القرن الماضي، والذي قُتل بسببه أكثر من مليون عراقي، أغلبهم من الأطفال والفئات السكانية الضعيفة.

أما الخرافة والشعوذة في الغرب فلم تنقرضا بل تشهدا «ازدهاراً» كبيراً في العقود الأخيرة ولكن بأساليب وأشكال جديدة، حيث تحتشد الصحف الشعبية في أوروبا والولايات المتحدة بمئات الإعلانات والمقالات في ميدان السحر والشعوذة وقراءة الحظ والأبراج الفلكية، ولا يستطيع المواطن أن يحصل على موعد مع خدمات قراءة وتوقعات المستقبل إلا بعد أشهر نتيجة الزحام الشديد على هذه الخدمات من قبل الأوروبيين.

إن اتهام الحضارات الأخرى بأنها قائمة على العبودية والعنف وتبرئة الحضارة الغربية من العبودية والعنف هو الكذبة الأكبر التي يطلقها حاملو هذه المقولة والمبشرون بها؛ فالحضارتان الإغريقية والرومانية لديهما سجل من العنف الدموي انعدم نظيره في التاريخ البشري، أما «مجتمعات الأحرار والديموقراطية» في أثينا وروما فكانت خاصة بملاك العبيد والتجار والعسكريين فقط دون سائر البشر الذين هم من العبيد، سواء كانوا من أهل البلاد أم أسرى جرى استجلابهم بقوة السلاح من البلدان الشرقية الخاضعة. بمعنى أن ظاهرة العبودية ليست لعنة ميتافيزيقية حلت بالشرقيين دون الغربيين كما يحاول بعض الكتّاب العرب إقناعنا، بل هي ظاهرة تاريخية بشرية وعالمية تنبغي مقاربتها علمياً وبحياد وعمق حتى لا تتحول إلى نوع من الهجاء الأيديولوجي الذميم. وفي هذا الصدد، مفيد أن نعلم أن العنصرية ضد السود والملونين لا تزال تتحكم في المجتمعات والدول الغربية حتى يومنا، أكثر منها في غيرها من المجتمعات، بل إنَّ الأحزاب والشخصيات التي تتبنّى العنصرية والعداء للآخر غير الأبيض في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية في حالة تفاقم وصعود انتخابي وجماهيري متعاظم!

إنَّ ما يسميها الراحل العلوي «التكوينات المفهومية لمصطلح الثقافة الغربية» المعادي الجوهري للحضارة الشرقية تقوم في اعتقاده على الموروث الهمجي الروماني أولاً، والتجارة والتملك الخاص ثانياً، وانحلال العائلة ثالثاً، وحرية الفرد على حساب المجتمع رابعاً، والعنصرية المعبّر عنها بالإلغاء الجسدي للملونين كما هو جار منذ عام 1492 حتى الآن (سنة 1998) حيث يرفع الأميركيون شعار «العراق يجب أن يُدَمَّر» استكمالا لشعار أسلافهم في الإمبراطورية الرومانية المقدسة «قرطاجة يجب أن تُدَمَّر» - سنة 149 ق.م.!

إن تبنّي مقولات خطيرة كهذه المقولة الخاصة «بالانتصار النهائي للحضارة الغربية»، والتبشير بها بهذه المنهجية التجزيئية والسطحية التي تهدر السياق التاريخي للمقولة وللظاهرة التي تقاربها معاً، وتهمل ما لا يعجبها من مثالب السردية الغربية وتبرز ما يعجبها من مثالب السرديات الشرقية، كأن يلتقط باحث معين مجزرةً هنا وأخرى هناك من تاريخ الفتوحات العربية الإسلامية في القرن السابع الميلادي، ليحولها إلى ظاهرة ثابتة؛ إن هذا كله، لن يعني في نهاية المطاف سوى الانحياز الأيديولوجي الكامل من قبل الباحث المعني إلى الاستشراق الغربي العنصري المعادي للآخر، والتحول من باحث رصين إلى مبشّر أيديولوجي لا حظ له من العلمية بمقولة «انتصار الحضارة الغربية النهائي» التي لا معنى لها غير انتصار الإمبرياليات الغربية العنصرية على العالم.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

لا يصلح أي نظام اقتصادي في بلدنا سوى النظام الرأسمالي الذي يرغم الموظف على العمل بجدية وبدون تقاعس ويمنعه من هدر الوقت أثناء الدوام الرسمي بمختلف الحجج والبحث عن السمسرة والرشوة والوساطات والكلاوات كما يحدث في النظام الحكومي العام الذي راح ينهار في دول العالم تباعاً كما رأينا ما حل بالاتحاد السوفيتي ودوله ألاشتراكية أو بعض الدول الأفريقية امتداداً إلى دول في أمريكا الجنوبية (مثل كوبا وبيرو والاكوادور وكولومبيا) التي راحت شعوبها  تعيش في ظروف اقتصادية صعبة جداً .. فلا بد من خصخصة منشآت الدولة وتأجيرها من الغد الى القطاع الخاص بموجب قوانين تضمن الحقوق وترضي الجميع وسنرى كيف نتحول الى دولة صناعية تلتهم الأيدي العاملة من الطرقات والمقاهي والأحياء التي يعاني أهلها من الفقر والحرمان وإيجاد فرص عمل لأولئك المعذبون وسط معركة الحياة وبذلك نقلل من مشكلة البطالة المنتشرة في شرق البلاد وغربها والتي تحولت إلى آفة تنخر العقول وتفكك النسيج الاجتماعي وتقطع أوصاله، إن الصناعة تحت مظلة الرأسمالية أو القطاع الخاص أو بما يسمى بالخصخصة هي الوسيلة الوحيدة التي تطور الشعوب وتنمي الأمم لما لها من طيف وظيفي واسع وجدٌ ومثابرة في العمل تحت عيون الرقيب صاحب العمل وضرورة تأسيس المصانع المنتجة بسبب الحاجة الى التغيير والتطوير الصناعي على صعيد يكاد يكون يومي كما حصل مؤخراً في الصين وروسيا والكثير من الدول الاشتراكية التي أدخلت المستثمرين لبلداها فأصيبت بالانتعاش الاقتصادي والنمو المضطرد، على خلاف الزراعة التي تبقي الدولة راكدة على مدى طويل (ولو أنها مطلوبة ايضاً)  فطقوسها معروفة لم تتغير عبرا آلآف السنين فلا عمل حرث الأرض ونشر البذور وانتظار موعد المطر ومن ثم جني الثمار وهذا ما حصل عبر الأجيال المتلاحقة فقد تطورت الآلة الزراعية  قليلاً وصنعوا محراث تسحبه عجلة بدل الحمار فبقيت الدولة فلاحيه قروية متخلفة صناعياً واجتماعياً.. لاحل للبطالة أيها الأخوة سوى التحول الجذري نحو الرأسمالية كما نرى مايحدث الآن من تقدم عجيب في الدول الصناعية الكبرى والصغرى.. بالمناسبة أن هذه السطور  يرفضها الموظفون وخاصة أصحاب الرواتب العالية من المدراء والموظفين بدرجاتهم المختلفة لأنهم ينعمون برواتب خيالية يستلمونها في نهاية الشهر رغماً على أنوف المعترضين الحانقين فهم لم يبذلوا إلاّ جهودٍ بسيطة غير مضنية مقابل رواتب ضخمة تجعلهم ينعمون العيش أمام باقي شرائح الشعب العاطلة عن العمل من الذين لم يجدوا فرصة عمل لهم في الشارع أو في دوائر الدولة المتخمة بالكثير من الموظفين الجالسين على تخوم العجز والكسل والإهمال وقصر في  الإنتاج  .

***

ماهر نصرت – بغداد

بقلم: سوران كيركجارد

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

1- " في الحاضر كلّ شيء ساكن، غير أنه ليس سكون شغف  يحقّ له الصخب الأكثر ضجّة. لا. كل شيء ساكن في المعنى الذي يقصده التاجر:" سوق الحبوب ساكن، لا يوجد أيّ طلب"؛ ساكن مثل قرية ريفية حيث يلفّ السكون المكان لأنّه لم يحدث فيها شيء يذكر ولا ننتظر أيّ أحد، بخلاف الأشياء المعتادة: الديك يصيح فوق المدخنة، والبطة تضرب بجناحيها الماء ودخان منتصف النهار يتصاعد من المدخنة، ويعود مارتن فراندزان إلى منزله على متن سيارته، وكل شيء في حركة إلى حين يغلق المُزارع بابه ويلقي نظراته على هدوء المساء، إذ لم يكن هناك هدوء من قبل.

ساكن ، ليس في معنى غريب مثلما نقول عن منزل يخفي مخزونه شيئا نخمّنه ، بل في معنى بورجوازي لمنزل حيث تهتمّ كل عائلة من العائلات الهادئة بشؤونها وحيث كلّ شيء أُنجز على نحو ما ينجز دوما؛ هادئ مثلما نقول عن " عامّة الشعب الهادئين"، الذين يتوجهون كل أسبوع إلى أعمالهم، ويقومون بحساباتهم، ويغلقون دكاكينهم ويقصدون يوم الأحد إلى " الكنيسة / الجامع".

كلّما فكّرت أكثر في هذا السكون، تغيّرت طبيعتي أكثر. لقد تخلّيت عن الأمل في قرار شغوف، وكل شيء يحدث بالتأكيد بهدوء. لكن يبدو هذا السكون، وهذه الثقة هي الزيف الأكثر مكرا للوجود. نعم، حينما يكون السكون عدما لا متناهيا، و يأخذ شكلا رحبا لهذا السبب تحديدا، لإمكانية محتوى لا متناه، نعم، حينئذ أحبّه، إذ هو إذن عنصر للفكر وأكثر ثراء من تغيّر الملوك و الأحداث التاريخية الكبرى.

لأجل ذلك أحبّك، يا سكون القبور؛ إذ الأموات ينامون و، مع ذلك فإنّ هذا السكون هو شكل الوعي الأبدي لأفعالهم!

لأجل ذلك أحبّك، يا سكون الليل، حيث تنفضح الطبيعة الأكثر حميميّة بوضوح في الأحاسيس أكثر ممّا تفصح عن نفسها بصخب في الحياة وحركة كلّ الأشياء.

لأجل ذلك أحبّك، يا سكون ساعة الخيالات في غرفتي حيث لا يحدّ أي نغم ولا أيّ صوت بَشَرِي لانهائية الفكر والأفكار، وحيث تروق كلمات بتراركا:

" ليس في موج البحر قَدْرًا من الحيوانات، ولم يشهد الليل أبدا  قدرا من النجوم على قبّة السماء، ولم  تأوي الغابة قدرا من العصافير، ولم يوجد قدر من الأعشاب في الحقول والمزارع أكثر ممّا لقلبي من الأفكار كل مساء!".

لأجل ذلك أحبّك، أيها السكون الوَقُور لِقَبْلِ المعركة، سواء كان سكون الدعاء الذي لا نلهج به، أو سكون كلمة الاحتشاد المهموسة، سكونك يعني أكثر من ضجيج المعركة!

لأجل ذلك أحبّك مرتجفا، يا سكون الصحراء ، أنت أكثر رعبا ممّا يحدث وممّا حدث!

لأجل ذلك أحبّك، يا سكون العزلة، أكثر ممّا هو رَحْبٌ، لأنّك لا نهائيّ!

ولكن هذا السكون النباتي، الذي يسحر الحياة الإنسانية، حيث الزمن يجيء ويمرّ ويمتلأ ببعض الأشياء بحيث لن ينقصه شيء، إذ كلّ الجداول تصبّ في البحر ولا يمكنها مع ذلك أن تملئ البحر اللانهائي، بل تتحدث عن شيء و آخر يمكنه ملء زمن البشر-، هذا السكون النباتي كما قلت ، هو غريب عن روحي. ومع ذلك ، يجب عليّ في الحاضر أن أحاول اعتياده. "

***

(سوران كيركجارد " سكون الليل"  مقتطفات من " خطوات على طريق الحياة" ( 1845).

......................

2- " لا يمكننا أن ننكر أن السر و الصمت لا يمنحان الإنسان عظمة فعلية، بالرغم من الدقة التي يقتضيها الظهور إيتيقيا. إذ هما من محدّدات للحياة الباطنية (...) وإذا ما ذهبت بعيدا، فسأصطدم بالمفارقة ، أي بالإلهي والشيطاني، إذ الصمت  هو هذا أو ذاك. ذلك أنّ الصمت هو فخّ شيطاني؛ يكون مخيفا بقدر ما نحتفظ به، لكن الصمت هو أيضا حالة حيث يعي الفرد بوحدته مع الألوهية".

***

(كيركجارد - أبراهام - (أ. س.ف 176  (3 الجزء  مقطع 150)

..................

soren Kierkegaard: Le calme de la nuit.

Extrait de: Etapes sur le chemin de la vie (1845).

A présent tout est calme, mais ce n’est pas un calme acquis par une passion ayant raison du vacarme le plus bruyant. Non, tout est calme dans le sens où le négociant dit : les céréales sont calmes, il n’y a aucune demande ; calme comme une ville de province où le calme règne parce qu’aucun événement n’y a lieu et qu’on ne s’attend à aucun, tandis que les choses habituelles arrivent : le coq chante sur le fumier, et le canard bat l’eau et la fumée de midi sort de la cheminée, et Morten Frandsen rentre chez lui dans sa voiture, et tout est en mouvement jusqu’à ce que le paysan ferme sa porte et jette ses regards sur la soirée calme, car avant ce n’était pas calme.

Calme, non pas en un sens fantaisiste comme on le dit d’une maison dont la réserve cache quelque chose qu’on devine, mais comme on le dit en un sens bourgeois d’une maison où les familles calmes font chacune ses propres affaires et où tout se fait comme cela s’est

toujours fait ; calme comme on le dit des « gens calmes du peuple », qui toute la semaine vaquent à leur métier, font leurs comptes, ferment la boutique et, le dimanche, vont à «l’église/mosquée».

Plus je pense à ce calme, plus ma nature se transforme. J’ai abandonné l’espoir d’une décision passionnée, tout se passera sans doute calmement. Mais ce calme, cette assurance me semble être la fausseté la plus insidieuse de l’existence. Oui, quand le calme est un néant infini, et que, précisément en raison de cela, il prend la forme spacieuse de la possibilité d’un contenu infini, oui, alors je l’aime, car alors il est un élément de l’esprit et plus riche que des changements de rois et que des grands événements historiques.

C’est pourquoi je t’aime, ô calme des tombes ; car les morts dorment et, pourtant, ce calme est la forme de la conscience éternelle de leurs actes !

C’est pourquoi je t’aime, ô calme de la nuit, où la nature la plus intime se trahit plus clairement en pressentiments que lorsqu’elle se proclame bruyamment dans la vie et le mouvement de toutes choses !

C’est pourquoi je t’aime, ô le calme de l’heure des revenants dans ma chambre où aucun son et aucune voix humaine ne limitent l’infini de l’esprit et des pensées, où conviennent les paroles de Pétrarque :

« La mer n’a pas autant d’animaux dans ses vagues, jamais la nuit n’a vu autant d’étoiles sur la voûte céleste, la forêt n’abrite pas autant d’oiseaux, il n’y a pas autant d’herbes aux champs et aux prés, que mon cœur a de pensées tous les soirs ! »

C’est pourquoi je t’aime, ô calme solennel d’avant la bataille, que ce soit celui de la prière qu’on ne prononce pas, ou celui du mot de ralliement qui est chuchoté, ton calme signifie plus que le vacarme de bataille !

C’est pourquoi je t’aime en frissonnant, ô calme du désert, tu es plus terrible que tout ce qui arrive et qui est arrivé !

C’est pourquoi je t’aime, ô calme de la solitude, plus que tout ce qui est vaste, parce que tu es infini !.

Mais ce calme végétatif, dans lequel la vie humaine est ensorcelée, où le temps arrive et le temps passe et se remplit de quelque chose de sorte qu’il n’y manque de rien, car tous les fleuves coulent dans la mer et ne peuvent pourtant pas remplir la mer infinie, mais parler de choses et d’autres peut remplir le temps des hommes, — ce calme végétatif, dis-je, est étranger à mon âme. Et pourtant, c’est avec lui qu’à présent je dois essayer de me familiariser.

#anthologia.blog.

………………..

"Malgré  la  rigueur  avec  laquelle  l’éthique  requiert  ainsi  la  manifestation,  on  ne  peut

cependant pas nier que le secret et le silence ne confèrent à l’homme une réelle grandeur,

et précisément parce qu’ils sont des déterminations de la vie intérieure [...] Si je vais plus

loin,  je  m’achoppe toujours  au  paradoxe, c’est-à-dire au divin et au démoniaque, car le

silence est l’un et l’autre. Le silence est le piège du démon; plus on le garde plus aussi il

est  redoutable,  mais  le  silence  est  aussi  un  état    l’Individu  prend  conscience  de  son

union avec la divinité."

(OC V 176 [III 150 sq.]) Abraham- Kierkegaard

(السياسة، ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه رسول ولا نزل به وحي). (1)... اين القيم الجوزيّة

يعد الفكر السياسيّ في سياقه العام، شكلاً من أشكال الوعي الأيديولوجيّ، هدفه وصول حوامله الاجتماعيّة إلى السلطة بمشروع أو بأجندة تعبر عن مصالح هذه الحوامل. أو هو تعبير عن النظم الاجتماعيّة بكل مستوياتها الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة، مهما تكن طبيعة وشكل الحكم السائد في هذا النظام الاجتماعيّ أو ذاك، ودرجة تطوره، والمشكلات التي يعانيها. وبالتالي فإن هدف الفكر السياسيّ في المحصلة، هو حل المشكلات التي يتعرض لها أي نظام  بكل مكوناته، وتحقيق تقدم ملموس في بنيته العامة.

ابتدأت الإرهاصات الأوليّة لتسييس العقيدة في تاريخ الخلافة الإسلاميّة مع قيام خلاف السقيفة أولاً، عندما أطلق القريشيون (المهاجرون) المجتمعون في السقيفة حديثاً للرسول يقول "(الخلافة في قريش)، وذلك لإبعاد الأنصار من الأوس والخزرج عن الخلافة بنص مقدس (الحديث). ثم راحت العقيدة الإسلاميّة تأخذ لبوساً سياسيّاً أيضاً  مع  الفتنة الأولى في الإسلام، أي مع احتجاج الكثير من المسلمين ضد سياسة عثمان بن عفان، حيث ظهرت هنا السبئية (نسبة إلى عبد الله بن سبأ)، وطرحها لمسألة (الوصيّة في ولاية علي بن أبي طالب)، أي اعتبار عليّاً هو خليفة رسول الله وبنص دينيّ أيضاً هو حديث الغدير: ("... من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار، اللهم هل بلغت ". رواه مسلم.

أما موقف الخوارج من الصراع الذي دار بين عليّ ومعاوية على الخلافة، فكان الأكثر بياناً ووضوحاً بالنسبة لأدلجة العقيدة وتسييسها، وذلك كون ما طرحه الخوارج بالنسبة لقضيّة الخلافة، كان يدعوا إلى فصل العقيدة عن القبيلة، بل راح الخوارج يسيسون العقيدة  ويعملون باسم العقيدة ضد القبيلة. فهم أول من طرح فكرة الحاكميّة لله، والحكم شورى، وأحقية الخلافة حتى لو كانت لعبد حبشي، وتمسك الخوارج بأن القرآن لم يذكر نسلاً معيناً يكون منه الإمام، بل اشترط العدل فقط في الحاكم، فيقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا.(58) سورة النساء. وقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا.). (59). سورة النساء. إن تمسك الخوارج بهذا النص المقدس جاء للخروج من صراع البيت القريشي على السلطة (صراع معاوية وعليّ) في صفين. ففي هذا الموقف الخوارجيّ من السياسية والعقيدة معاً، نجد وبكل وضوح كيف راح يتبلور الموقف الأيديولوجيّ للعقيدة، والعمل على توظيفها وفقاً لتفسير وتأويل النصوص المقدسة.

مع وصل معاوية إلى السلطة، ظهرت مسألة توظيف النص الجبري لخدمة الحاكم وحكمه العضوض، وهنا بدأ الموقف الأيديولوجيّ يوظف تماماً العقيدة لمصلحة السلطان، حيث راح يوظف الحديث  (الذي لم يأمر الرسول بكتابته) ويوضع  كنص مقدس، ومنها حديث الخلافة الذي يقول بأن الخلافة ستؤول لبني أميّة بعد ثلاثين عاماً: (الخلافة في أمتي ثلاثين عاماً، ثم تتحول إلى ملك عضوض). (رواه أبو داوود والترمذي. وذلك لتأكيد خلافة معاوية الذي حولها فعلاً إلى ملك عضوض من خلال تسليمه الخلافة لابنه يزيد، ضارباً بذلك فكرة الشورى. واعتبار الخلافة أمرً مقدراً من الله. وهذا ما قاله معاوية عندما خطب بأهل الكوفة : (يا أهل الكوفة:  أتروني  قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج وقد علمت أنكم تصلون وتحجون وتزكون؟. لكني قاتلتكم لأتمر عليكم وعلى رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وانتم كارهون).  ثم قال بصدد البيعة ليزيد: (إن أمر يزيد قضاء وقدر وليس للعباد الخيرة من أمرهم فيه.). (2).

أمام هذا المواقف السياسيّة الجبريّة من الخلافة. بدأت توظف العقيدة وتتبلور أكثر كموقف أيديولوجيّ سياسيّ، وهذا وجدناه مع الثورات المناوئة للحكم الأموي، حيث اتخذت الأيديولوجيا الدينيّة سلاحاً ضد الأموين، وخاصة مواقف الشيعة، (ثورة التوابين، والمختار الثقفي. وزيد بن علي) وغيرها، وتبنيهم للنص الديني ومحاولة تسييسه تفسيراً وتأويلاً لصالحهم ضد سلطة الأمويين.

مع الدولة العباسيّة، وظهور الموالي واختراقهم للسلطة بسبب اعتماد الخلفاء العباسيين عليهم، كالفرس والديلم والسلاجقة والبويهيين.. الخ. راحت تظهر هنا الفرق والمذاهب الدينيّة بطابع أيديولوجيّ، لدى السلطة الحاكمة، ولدى المعارضة معاً، ففي هذه المرحلة بدأت مسائل عقيديّة كثيرة تتبلور ويتخذ منها مواقف سياسيّة ويوضع لها الأصول على مستوى الفقه وعلم الكلام والفلسفة، كما أصل الشافعي للفقه السني ضداً بالبرامكة وفكرهم الشيعيّ، وجعفر الصادق للفقه الشيعيّ، وأبو حسن الأشعري للفكر السنيّ، وبناءً على هذا التأصيل ظهرت مذاهب الفقه السنييّة، والمذهب الجعفريّ الاثنا عشريّ، والفرق الكلاميّة كالأشاعرة والماتريديّة والمعتزلة، والطوائفيّة كالإسماعيليّة والعلويّة والكيسانيّة والموحدين والطرق الصوفيّة. فكل هذه الفرق والمذاهب والطوائف راحت تؤدلج العقيدة وتتحصن خلفها.

إذن نستطيع القول إن تحول العقيدة إلى أيديولوجيا سياسيّة، بدأ يأخذ أبعاده وعمق تجذره، بسببين اثنين أساسيين هما: السبب الأول: الموقف السياسيّ ممثلاً بالخلفاء الأمويين والعباسيين، الذين وظفوا الدين لمصالحهم، وخاصة الآيات والأحاديث التي تدعو إلى الجبر، وهنا راح هذا التوجه السياسي السلطوي يوجه رجالات الفقه وعلم الكلام لتأصيل المواقف الأيديولوجية في العقيدة فقهياً كما بينا أعلاه بالنسبة للشافعي وجعفر الصادق

أما السبب الثاني، فيمثل الموالي الذين دخلوا تحت راية الخلافة الإسلاميّة، والذين عانوا من التفرقة بينهم وبين العرب، وما لقوه من ظلم بسبب هذه التفرقة، حيث اعتبروا كرعايا من الدرجة الثانية والثالثة أمام العرب الذين حملوا رايّة الإسلام أثناء ما سمي بالفتوحات، وخاصة من بقي منهم في الكثير من الأمصار واستقر فيها وهم يعاملون كأسياد يعيشون على الغنيمة كمجندين، أو مجندين متقاعدين. وشكلوا ثروات طائلة وعاشوا عيشة ارستقراطية بروح قبليّة. أو بسبب مواقف شعوبيّة مناوئة للعرب ومحاولة النيل منهم ومن الدين الإسلاميّ ذاته الذي يعتز العرب بأنهم هم حملته ودعاته.

نقول: إن الموالي الذين نالهم الاضطهاد وشظف العيش  والتفرقة العنصريّة، رغم دخولهم في الإسلام، وجدوا في الدين الإسلاميّ مرتكزاً لهم من خلال تفسير النص المقدس وتأويله لمصالهم كما فعل قائد ثورة (الزنج) في القرن الرابع للهجرة عندما اتخذ من نص الآية التي تقول: (ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين). (سورة القصص الآية 5). وهذا حال الحركات الأخرى كالخرميّة والقرامطة والبابكيّة، فكلها اعتمدت على العقيدة وقامت بأدلجتها، بعد أن قام هؤلاء الموالي بإدخال الكثير من معتقداتهم الدينيّة القديمة التي كانوا عليها قبل دخولهم الإسلام.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة.

...........................

الهوامش :

1- ابن القيم الجوزيّة – الطرق الحكميّة في السياسة الشرعيّة – تحقيق محمد جميل غازي- مكتبة المدني – 1977- ص 17.

2- (الجابري العقل السياسي. ص 260). 

إن تحول العقيدة إلى أيديولوجيا سياسيّة، بدأ يأخذ أبعاده وعمق تجذره، بسببين اثنين أساسيين هما: السبب الأول: الموقف السياسيّ ممثلاً بالخلفاء الأمويين والعباسيين، الذين وظفوا الدين لمصالحهم، وخاصة الآيات والأحاديث التي تدعو إلى الجبر،

في حديث لبرنامج «60 دقيقة» على قناة «CBS»، قال ساندر بيشاي، رئيس شركة «غوغل» الشهيرة، أن انتشار الذكاء الصناعي ينذر بتحديات جديدة، تستدعي حلولاً أخلاقية واجتماعية، ولهذا السبب فهو يدعو الفلاسفة لأخذ دورهم في هذا المجال، وعدم إلقاء المسؤولية على رجال الأعمال أو المهندسين وحدهم.

يثير اهتمامي أن عدداً متزايداً من العلماء والباحثين يوجه اهتمامه إلى الانعكاسات الثقافية للذكاء الصناعي. كنت قد قرأت في أول الأمر عن اهتمام وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر بالموضوع. وكيسنجر مفكر قبل أن يكون سياسياً، وقد بلغ الآن 99 عاماً (مواليد 1923م)، وقد أصدر في أواخر 2021 كتاب «عصر الذكاء الصناعي ومستقبل البشرية-The Age of AI and Our Human Future» بالتعاون مع إريك شميت، الرئيس السابق لشركة «غوغل»، والبروفسور دانييل هتنلوكر، الأستاذ بـ«معهد ماساتشوستس للتقنية– MIT»، والكتاب مكرس للموضوع المذكور أعلاه، وعنوانه يكفي للدلالة على محتواه.

وفي الشهر الماضي كتب المفكر المعروف نعوم تشومسكي مقالاً خصصه للحديث عن إطلاق منصة «تشات جي بي تي»، وهي محرك بحث يعتمد أدوات الذكاء الصناعي. وكان إطلاقها قد أثار ضجة كبيرة في شرق العالم وغربه؛ حيث قدمت نموذجاً أولياً لما يمكن أن يؤول إليه الذكاء الصناعي، ومدى ما يمكن أن يُحدثه من انعكاسات.

قبل هذا وذاك، كان المفكر الأميركي- الإسباني، مانويل كاستلز، قد كتب بالتفصيل عن التحول المنتظر في القيم والعلاقات الاجتماعية والثقافة، بعد قيام ما سمَّاه مجتمع الشبكة، أي نظم العلاقات والتواصل المعتمدة تماماً على الإنترنت، ونبَّه يومها إلى عالم جديد يوشك على النهوض.

نحن ندرك الآن التحول الهائل الذي أثمر عنه توسع الإنترنت، في الثقافة والأعمال وأنماط المعيشة والتعليم والهوية، وفي كل جانب آخر من جوانب الحياة، وصولاً إلى الحرب. إن عالم ما بعد الإنترنت لا يشبه ما عرفناه في القرن الماضي إلا قليلاً.

لا يعتقد تشومسكي أن الذكاء الصناعي سيحتل مكانة الإنسان أو يستعبده، كما يقول الخائفون. لن يمكن للآلة أن تسبق الإنسان في صناعة الفكرة، حتى لو سبقته في معالجة المعطيات. التفكير ليس فقط تقديم إجابات معروفة سلفاً، أو قابلة للاكتشاف بناء على المعطيات المتوفرة، وهذا ما تفعله الآلة. التفكير يبدأ من إعادة تركيب السؤال وإعادة تحديد المشكلة التي يطرحها، وقد يتضمن خلق احتمالات لم تكن موجودة قبل ذلك. وهذا ما يتجاوز قدرات الآلة. وبالتالي فإن الخوف من إلغاء العقل الإنساني لا مبرر له.

لكن كيسنجر وزملاءه يلفتون أنظارنا إلى مشكلة مختلفة نوعاً ما، هي ذاتها التي يشير إليها مدير شركة «غوغل»، وهي التي تحدث عنها أيضاً كاستلز: الذكاء الصناعي سيأتي بعالم مختلف في أسواقه، في مدارسه ومناهج تعليمه، وعلاقات الأفراد الذين يعيشون فيه. إذا أردت مقارنة شبيهة، فارجع خمسين عاماً إلى الوراء، أي إلى 1973، وقارن وضع العالم والحياة يومئذ بنظيره في 2023. هكذا ستكون المقارنة بين يومنا واليوم التالي لهيمنة الذكاء الصناعي.

هذا التحول سيخرج ملايين من البشر من دائرة النشاط الاقتصادي، كما سيغير بعمق في العلاقات الاجتماعية وفي منظومات القيم الحاكمة. نتحدث إذن عن تحول في المفاهيم والثقافة وسبل العيش، وليس فقط في التطبيقات. وهذا ما دعا ساندر بيشاي، مدير شركة «غوغل» لإلقاء الكرة في ملعب الفلاسفة وعلماء الإنسانيات: أن صياغة العهد الجديد ليست مهمة المهندسين ورجال الأعمال وحدهم، وليست -بالطبع- مهمة السياسيين وحدهم.

***

د. توفيق السيف - كاتب ومفكر سعودي

تاريخياً في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ظهرت الطبقة االبُرجوازية [١] وهي الطبقة المسيطرة والحاكمة في المجتمع الرأسمالي، وهي طبقة غير منتجة لكن تعيش من فائض قيمة عمل العمال، حيث أن البرجوازيين هم الطبقة المسيطرة على وسائل الإنتاج حتى قامت الثورة الفرنسية كأول ثورة شيوعية كبرى للعمال والفلاحين ونجحت بعدة عوامل بالإطاحة بالنبلاء والأرستقراطيين وأنهت الطبقية الجائرة وتقسيم المجتمع إلى فئات لها الحق في العيش بكرامة وأخرى مسلوبة منها.لن أدخل في تعقيدات أسباب سقوط الشيوعية وعودة الرأسمالية ومابعدها من نظم إقتصادية سياسية لأني لست منظّرة في هذا المجال حديثي هو مجرد نظرة تأملية لواقعنا والأبعاد المترتبة على هذا الموضوع

هل عادت البرجوازية في العصر الحديث؟

هنا أستطيع القول أن البرجوازية الحديثة عادت بصورة مغايرة عن الماضي حيث أن برجوازيين العصر الحديث لم يعودو يملكون وسائل الإنتاج والحقوق المدنية على حساب الطبقة العاملة بالمعنى الحرفي للكلمة فلم يعد هناك برجوازي يمتلك قطعة أرض مثلاً وعبيداً يشتغلون بالحقول بلا رحمة لزيادة الإنتاج.

برجوازيين العصر الحديث الآن طبقة مازالت غير منتجة تمتلك رؤوس الأموال  وتتحكم بشكل مباشر في الطبقية الإجتماعية بدلاً من سبل الإنتاج وتقسيم الناس بناءً على معايير سخيفة شديدة السطحية لا علاقة لها بالتربية أو المكانة او الإنتاج الفكري والبعد الأخلاقي قدر مالها من علاقة بالرصيد البنكي وحجم الممتلكات والعقارات والبذخ في السفر والشراء والحفلات والسهرات.

لكن ماهو أسوأ من البرجوازيين الفعليين هم برحوازيين الطبقة المتوسطة والفقيرة أشخاص يستدينون مبالغ طائلة أو قروضاً ضخمة لشراء شنطة او ساعة او سيارة ويقضون بقية حياتهم بسداد تلك الديون بغية الدخول عنوة في المجتمع المخملي والسعي المضني للإنتماء لطبقة معينة لاتملك قيمة عليا في شيء سوى المال وحينما يصبح المال والغنى الفاحش مسعى ينتشر الفساد والنفعية ونرى مع الوقت أبشع صور الرأسمالية. في التجمعات النسائية على سبيل المثال تشكّل هذه الرغبة الملّحة للظهور بالصورة الغنية المترفة ضغطاً إجتماعياً كبيراً مما يجعل الخروج في سهرة أو عزومة مرهق نفسياً ومادياًّ للواتي يعبدن المظاهرالأمر المحزن هو أن معايير (البرجوازية ) لايمكن أن تتناسب مع دخلهن المادي مهما بذلن من مال مما يدفعهن إما لشراء التقليد أو ماركات الدرجة الثانية أو الكذب والحرج الشديد من الإفصاح عن سعر الملابس أو علامتها التجارية.

أنا لا أعترض على شراء الماركات العالمية لكن إعتراضي هو أن لاتتجاوز نسبة شراء شيء ما ٥٪؜ من الدخل الشهري كلٌ حسب ظروفه المادية سواء كانت ماركة عالمية أم لا وأن يعكس الناس مستواهم المادي والمعيشي دون حرج أو نبذ أو تقزيم أما أن أقترض مبلغ من البنك لشراء شنطة أو ساعة بأقساط كبيرة فهذه الحماقة بعينها، عدا عن حقيقة أن مهما بذل أصحاب الطبقة المتوسطة من جهد كبير بمجاراة البرجوازيين سوف يظلون طبقة متوسطة بنظرهم ويدرجون تحت (low class).

محزن أن نرى هذه الطبقية والتقسيم والعنصرية المقيتة في المجتمع وضيق النظرة للآخرين بوصفهم (راقيين) لمجرد أنهم أغنياء ولاشيء آخر حتى بغض النظر عن مصادر هذا الغنى والترف التي ستؤدي إلى إنحدار في مستوى الوعي والقيم الإنسانية والأخلاقية.

المال والملابس والماركات لن تجعل من الإنسان شخصاً راقياً بل هو السلوك والوعي والإنتاج الفكري والمعرفي، هو العمل بشرف ونزاهه والعصامية والمسؤولية والإنسانية.

القيمة الحقيقية والجمالية للأشياء نحن من نضيفها فلا نجعل مانرتديه يرتدينا ويشل تفكيرنا ويعمي بصائرنا.

وبالمناسبة شخصياً أجد أن كل من يتمسك بهذه المفاهيم الحمقاء ويردد كلمات طبقية هم الأكثر بربرية وكثيراً ما واجهت صعوبة بالتواجد معهم بالأماكن العامة بسبب سوء سلوكهم وإستعلائهم عالآخرين

***

لمى ابوالنجا

مراجع

[١] المعجم المدرسيّ: محمد خير أبو حرب (1985)، المعجم المدرسي، مراجعة: ندوة النوري (ط. 1)، دمشق: وزارة التربية، ص. 138، OCLC 1136027329، ويكي بيانات Q116176016

عانت الكتابة الابداعية في العراق ازمة حقيقية في زمن حكم القوميين عام 1963، ثم عندما سيطر البعثيين على الحكم عام 1963 ولغاية 2003، وما خاضه البلد من حروب عبثية مرهقة ومتعبة، وقد ادرك النظام خطر الكتابة، لذلك اهتم بمنصب الرقيب، الذي يتابع ما يكتب ويدرك ما يهدف له الكاتب من كلماته، لذلك تكون جيش من الأدباء المقربين للسلطة الذين يمارسون دور الرقيب على باقي ادباء البلد لتمحيص نتاجهم وشرح بواطن ما يقصدون من رسائلهم الادبية، فكان خير اسلوب للتضييق على الادباء، بل انهم استغلوا قربهم من الأدباء الوشاية بهم، حتى دفع بالعديد الى مقصلة البعث.

فكان الرقيب الاديب المقرب من السلطة يجتهد في كشف دلالات النص، في سعي لحماية النظام من أي معارضة ممكنة حتى لو كانت مجرد نص أدبي.

مع هذا فإن هنالك العديد من نصوص نشرت خارج العراق، ولم يكن للرقيب اي سلطة، ولم يكن في مقدرته إصدار احكام بحقها، لأنه إذا فعل ذلك اصبح مكشوفا من دون قناع، وتلصق به تهمة (شرطي الثقافة).

شبح الرقيب المخيف

كان شبح الرقيب يلاحق الادباء، لذلك كانوا يقومون بمراجعة نصوصهم مرارا خوفا أن يفهم من كلمة ما انها ضد سلطة صدام! ويذهب بالاديب الى السجون السرية حيث التعذيب الذي لم يعرفه تاريخ الاجرام يبدأ بخلع الأظافر والأسنان وتنتهي باغتصاب الأدباء ليقضوا على فحولتهم ويتحولون الى شيء نكرة لا معنى من وجوده.

وقد سعى بعض الكتاب للتحايل على الرقيب بما يملكونه من شجاعة وفطنة، فنشرت ومرت من دون أن ينتبه لها الرقيب.

اتذكر احد الكتاب كنت قصة قصيرة عن الديناصور وعائلته القذرة بسرد أدبي ممتع، ونشرت في الصحف الرسمية للسلطة، وفاتها ان الكاتب كان يقصد راس السلطة وعائلته القذرة، لكنه التحايل والاسقاطات التي جعلت النقد ممكن ويمر وينشر، لكنها كانت مجازفة قد تدفع بالكاتب الى حبل المشنقة، وليس وحده بل هو وعائلته وكل من يعرفه بتهمة محاولة قلب النظام.

البعث وثقافة الرعب

يمكن القول أنه لم يكن هناك كيان رقابي واضح المعالم كمؤسسة ، لكن كان هنالك امور تجري بالخفاء، واخبار الاعتقالات والاعدامات لا تتوقف بحق كل من يكتب ضد السلطة، حتى أصبح الكاتب هو الرقيب على نفسه من شدة الهلع الذي يعيشه البلد تحت سطوة الطاغية صدام وزبانيته.

بل حتى التحايل الذي كان يظنه الكاتب نوع من المجازفة، أصبح أسلوبا يخدم النظام، حتى اختفى النقد الواضح والحديث عن مشاكل الامة، فتحول بعض الكاتب الى مسخ، لان اهم مهام الكاتب ان يعبر عن مجتمعه وهموم الناس لا ان يكتب عن عوالم خيالية وعن مناطق بعيد هربا من ملاحقة الرقيب! 

الكتابة الحرة

كان بعض الكتاب يمارسون العمل السري، حيث تتم طباعة نصوصهم بشكل محدود وبمطابع بدائية وعن طريق استنساخ الكتابة، ويتم توزيعه بالسر على أهل الثقة، كان عملا بطوليا في زمن الحديد والنار، القلة من الكتاب من فعلها، مع ان الهلع من الرقيب كان يطاردهم، لكنهم ينشرون خارج نطاق  مؤسسات الدولة من صحف ومجلات، أي نتاجهم في نطاق محدود.

وقد يسأل سائل: في ظل نظام قمعي رهيب ما جدوى الكتابة؟ والجواب أن الكتابة نوع من المقاومة، وبث روح الشجاعة في الامة، وتوثيق جرائم الطغاة، وكشف أساليبهم في تقييد الأمة ومنع الحرية.

ويجب ان نوثق لكل كاتب ضحى بروحه في سبيل ايصال الحقيقة للامة، ان يتم تكريم الكتاب الشهداء، الذين لم يسكتوا وحاولوا فضح النظام بكتابات واضحة وصريحة، ولم يرهبهم الرقيب ولا اجهزة النظام القمعية، بل كان كل همهم ان تصل رسائلهم للجماهير.

محنة الكاتب المهاجر

الكثير من الكتاب المهاجرين في زمن النظام البعثي كانوا يخشون الرقيب! مع انهم بعدين عن اسوار الوطن، لان الكاتب يخاف أن يكتب نقدا للنظام الحاكم، ليكون السبب في  اذى اهله واقاربه واصدقائه، لذلك يلتزم الكاتب المهاجر في عدم المساس بالنظام الدكتاتوري لحماية احبته داخل اسوار الوطن، فهنا شبح الرقيب يلاحق الكاتب حتى وهو بعيد عن الوطن.

بالاضافة الى ان النظام اشترى عديد المؤسسات الاعلامية العربية ووضع لائحة الممنوعين من النشر، فلا يجد الكاتب المهاجر من ينشر له او يهتم به.

فاصبح الكاتب المهاجر وهو في أرض الغربة ويعاني من الرقيب الحكومي.

شبح الرقيب ما بعد 2003

الان هاجس الرقيب مازال يلاحق الكتاب، والرقيب اليوم يمثل الديناصورات التي نمت وكبرت وتحولت إلى اله تعبد، فأي مساس بها يعتبر من الذنوب الكبيرة، و مصير من يتجاوز اي خط احمر القتل، لذلك الكاتب عاد لمحاولات التحايل على الرقيب، والكتابة عن اي شيء بعيد عن جنة الديناصورات، لذلك مازال الكاتب العراقي (داخل الوطن وخارجه) يعيش نفس المحنة، ولا يمكنه الخروج من الشرنقة، الرقيب الذي يتابع ما يكتب، والجيوش التي تلاحق كل متجاوز على ذات الالة المصطنعة.

ولا نعلم متى يتحرر الكاتب العراقي من شبح الرقيب ليكتب كل شيء بحرية تامة بعيدا من الخوف والقلق الذي يعيشه.

***

الكاتب: اسعد عبدالله عبدعلي

لم يعد ممكنا انتظار معجزة من نخب هشة منقسمة على نفسها، لم تستطع لحد الآن أن تتفق على الحد الأدني الذي يمكنها من أن تكون قوة رمزية فاعلة تستمع لها السلطة، وتأخذ بآرائها وتعود إليها لجس نبض الشارع والمجتمع الذي تدعي أنها تمثله وتنوب عنه في التفكير في المسائل والقضايا الثقافية والإجتماعية والتاريخية، خصوصا بعد الفراغ الذي عرفه الفضاء الثقافي والإجتماعي والسياسي في جزائر الديمقراطية والتعددية ولو في شكلها الواجهاتي .

أو تتخذ منها شريكا ثقافيا مهما يقدم رؤيته النقدية  للسياسة الثقافية الكفيلة بإخراج الفعل الثقافي المدني الجزائري من وضعه النمطي البائس إلى رحابة الإنفتاح الثقافي على محتلف الحساسيات الثقافية والأدبية، المشكلة للتنوع الثقافي الجزائري بمرجعياته المختلفة في إطار الوحدة الوطنية، قبل الشروع في المساهمة في تقديم مقترحاتها بشأن بنود المشروع الثقافي الوطني الذي لم ينجز منذ إستعادة السيادة الوطنية سنة 1962 .

بعيدا عن بعض أشكال الشراكة الثقافية بين المثقف والمؤسسة الثقافية الرسمية الشراكة السلبية التي تمثلها بعض مشتقات السلطة الجمعوية وشبه المدنية في تكتلاتها الفئوية والثقافية وآفاقها المحدودة النظر والرؤية.

منذ تشتت ما كان يسمى بالمدرسة السوسيولوجية الجزائرية بفعل الهجرة إلى دول عربية وأخرى غربية، أو الموت التي مثلها علي الكنز وعمار بلحسن وهواري عدي وجيلالي اليابس ومحمد بوخبزة وعبد القادر جغلول  التي تكونت وتشكل مسارها الفكري والمعرفي في أفق اليسار الجامعي الجزائري في نهاية الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم .

المنشغلة آنذاك بما كان يسمى المسألة الثقافية في الجزائر من المنظور السوسيو ثقافي، وعدم انبثاق نخبة أخرى بديلة عنها تستلم منها المشعل وتواصل المسيرة .

يحدث كل هذا في ظل استحداث ما أصبح يسمى في أقسام العلوم الإجتماعية بعلم الإجتماع الديني لتزييف حقل العلوم الإجتماعية المصدر الأساسي لفهم الحراك الإجتماعي الشعبي والإنتباه لدبيب وإنصهار المثقف النقدي في قلب وهموم الطبقات الإجتماعية خاصة منها الفقيرة أو المتوسطة الدخل .

علما أن إفرازات العلوم الإجتماعية هي كلها إفرازات ماركسية، ولا علاقة للرؤية الدينية بها وتاريخ الشعوب مثلما يقول ماركس هو" تاريخ الطبقات والصراع الدائر بينها "

من هنا يتبين الهدف الذي من أجله لجأت النخب الحاكمة في البلدان العربية إلى إستحداث ما يسمى بعلم الإجتماع الديني في الجامعات العربية، لإفراغ العلوم الإجتماعية من جدواها وفاعليتها وثوريتها في تماسها مع صيرورة المجتمع وتحولاته المفصلية على الأصعدة الإجتماعية والمهنية والسياسية وتحول المثقف النقدي إلى مجرد موظف يؤدي خدمة مهنية ليس إلا ..

هذا ما يؤكده الواقع وقد سبق للسوسيولوجي الجزائري عبد القادرجغلول أن نبه لعدم وجود إنتلجانسيا أو نخبة مثقفة بالمعنى الصحيح، وكل ماهو موجود في نظره "مجرد سديم ضبابي يتشكل من مجموعة من الأفراد بدون أي نسيج فكري أو ثقافي يربط بينهم" .

وبالتالي خلو الجزائر الثقافية والجامعية من " مثقفين عضويين" بالمعنى الغرمشوي للكلمة نسبة إلى أنطونيو غرمشي المفكر الماركسي الذي أعدمته الفاشية الإيطالية التي مثل لها غرامشي إزعاجا كبيرا، وهو الذي كان يهدف من وراء نحته لمفهوم " المثقف العضوي " على ما يرى المفكرالفلسطيني البارز أدوارد سعيد في كتابه (الآلهة التي تفشل دائما) " إلى بناء ليس فقط حركة إجتماعية بل تشكيلة ثقافية مرتبطة بهذه الحركة " .

وعليه ليس غريبا أبدا أن يستشرف مفكر بارز بحجم علي حرب في كتابه الشهير (أوهام النخبة أو نقد المثقف العربي ) ما سماه " بنهاية المثقف "، بعد أن لاحظ عدم جدوى أي دور للمثقف العربي وفشله الذريع في أداء الرسالة التي يتوهم أنه حاملا لها لتنوير الجماهير والنيابة عنهم في التفكير والتدبر،  يستوي في ذلك عنده الإسلاميون والعلمانيون واليساريون والقوميون وغيرهم.

والدليل على ذلك أن ما يعرف بثورات "الربيع العربي" بصرف النظر عن القوى المدعومة من طرف الإمبرياليات الغربية التي كانت تقف وراءها وموقف البعض منها أشعل شرارتها الأولى صاحب عربة لبيع الخضر والفواكه هو " البوعزيزي " وليس أركون ولا الجابري ولا أدوارد سعيد ولا عبد الكبير الخطيبي ولا نصر حامد أبوزيد .

وهم الذين غادروا الحياة قبل أن تحدث، على ما يستنتج ذلك الروائي الجزائري الخير شوار في مقال صحفي كان قد كتبه منذ سنوات، فكل هؤلاء لم يستطيعوا إحداث ثغرة في بنية المجتمع العربي بالرغم من الأهمية الكبيرة لمشاريعهم الفكرية في جانبها التحرري من الوعي العربي القائم .

ولذلك يدعوا علي حرب إلى محاولة التخلص من "أوهام النخبة " لإرتباطها بالنهاية الحتمية للمثقف الأمر الذي جعل علي حرب يتعرض لحملة إدانة واسعة وبعض ردود الأفعال المجانية والمتنشنجة .

فهناك من إعتبره نوع من الإستسلام والخضوع وتراجعا عن الدور المنوط بالمثقف، فيما هو شكل من أشكال "النقد الذاتي" الذي لا يزال المثقف العربي بعيدا عنه ويتهيب من طرحه لأنه يطال الذات العربية التي كان يرى محمد عابد الجابري أنها على الصعيد النفسي " لاتقبل النقد إلا في صورة مدح أو هجاء " .

لقد كان صعبا على المثقف العربي المستسلم لثقافة الوثوق الأعمى وللأوهام التي عششت في ذهنه ومخياله بسبب بعده واغترابه عن روح وجوهر " النقد الذاتي " وإعتبار ذاته بعيدة عن نقد الأنا، إن لم يكن يرى نفسه فوق النقد وفوق التاريخ أن يقبل بنوع من التفكيك والمساءلة الصادمة " لوعيه الشقي " بمفهوم عالم النفس الشهير جان بياجيه .

الوعي الذي لا يبدوا أنه سيمكننا من الإجابة عن ذلك السؤال المهم

وهو من يحرر المثقف...؟ .

***

قلولي بن ساعد / كاتب وناقد جزائري

.... أصبحت الكتابة عند كبار السن بشكل ٍ خاص رمزاً لوجودهم وتفاعلهم ، فهي الأمل الذي يصيب نفوسهم ويمنحهم دفعة جديدة نحو مواصلة التفاعل الإنساني ومن ثم ولادة رغبة متجددة لديهم في تقديم الإنتاج الذي ينطلق من أفكارهم على مدى الأيام... أن الكاتب الذي تحضى مقالاته بالنشر في الصحف والمجلات وعلى منصات التواصل الاجتماعي بشكلٍ مستمر يشعر بحضوره المتواصل في الوسط الكوني حتى وان كان مقعداً في بيته أو من الذين فرضت عليهم الظروف السيئة في معركة الحياة الانعزال وراء جدران إقاماتهم وصار عدم مقدرتهم على الاختلاط والتعايش مع الآخرين لأسباب كثيرة أولها اختفاء المنتديات الاجتماعية التي تمنحهم فرص اللقاء والتعارف وتبادل الحديث والأفكار مع الآخرين وخاصة مع الطبقة المثقفة لكي يتم من خلال تلك اللقاءآت تفريغ ماتراكم لديهم على مدى الأيام من شحنات ثقافية تحتشد في أنفاق الفكر وقد تتسبب في حال انحباسها الى اضطراب النفوس أو حتى جنونها بسبب تفاعلها وكبوتها هناك فهي تريد الانطلاق من انفاقها والتحرر لتريح صاحبها وتصيب اضطرابه النفسي بالسكون...

هناك رغبة فطرية لدى الإنسان السليم تميل دوماً إلى حب التعايش والاختلاط مع الآخرين ورفضه الانعزال والتقوقع منفرداً في ثنايا إقامته إلاّ اذا كان مصاباً بمرض التوحد أو مرض نفسي آخر مثل الفوبيا أو مايسمى (الخوف من المجهول) فقد تفرض عليه حالة (العقدة النفسية) الابتعاد عن أبناء جنسه والعيش وحيداً منعزلاً بشكلٍ يدعو الى الشفقة ، إن الكتابة هي الوسيلة التي يعملون من خلالها هولاء الثائرون على التحرر من ضائقة النفس ولوعة الوحدة وفي منظورهم ايضاً هي عملية تحدي دائمة للظروف الصعبة التي تصيب الضعفاء منهم على وجه الخصوص فلا حول ولا قوة لهم في معالجة مشاكلهم المتفاقمة إلاّ من خلال صرير أقلامهم كما يعتقد البعض منهم فهم يرون في كلماتهم سلاحاً للوقوف بحزمٍ وثبات أمام أعبائهم فيتصدون من خلال مقالاتهم اللاذعة إلى مشاكلهم بعزيمة لم يألفوها الا من خلال تلك الكتابات التي تخطها أقلامهم بالتوافق طبعاً مع رغباتهم وتطلعاتهم ومن الممكن أن يشعروا في النهاية بأن مقالاتهم التي ظهرت للعلن  قد نصرتهم على ضعفهم وظهروا أمام مجتمعاتهم بمظهر القوة والاقتدار أو الحضور الفاعل أمام الوجود على أقل تقدير .

ومنهم من يعتقد بأن الكتابة هي استعراض للعضلات الفكرية التي يحاولوا أن يثبتوا من خلالها إنهم مازالوا يمتلكون الإرادة في فرض الرأي وتوجيه النصائح الابوية إلى الآخرين وان كانوا كبار في السن عاجزون منعزلون في بيوتهم لا شغل لهم ولا مشغلة سوى انتظار أجلهم المحتوم.

نرى بان الكتابة من قبل هؤلاء الأفاضل هو عمل رائع يضيف إليهم سعادة غامرة وارتياح نفسي عميق وتساهم ايضاً في إطفاء نيران أعماقهم الناقدة المستعرة على الدوام.

إن الواجب الإنساني يفرض على أصحاب الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية أن يتقبلوا مقالاتهم ويعملوا على نشرها بجهد الإمكان لإضافة لمسة من السعادة والسمو والسكينة على عواطف أولئك الشيوخ الثائرون المرابطون في مساكنهم ليل نهار هذا بالإضافة إلى أنهم أصحاب خبرة عميقة وسط هذه الحياة المعقدة ولديهم تجارب كثيرة هنا وهناك  ومن الممكن أن نجد تلك التجارب والعبر قد هبطت من عقولهم لتستقر في مقالاتهم ، لذا نرى أن كتابات الأكثرية منهم مثمرة إلى حدٍ ما وتفيض بالمعلومات القيمة  والدروس المتقدمة هذا وللحديث بقية......

***

ماهر نصرت

في صباح عيد الفطر، أول أمس، السبت 22 / 4 / 2023م وبينما نكبر ونهلل في صلاة العيد، فوجئت بموت أعز حبيب وأوفي صديق، ألا وهو الأستاذ الدّكتور" ظريف حسين مصطفى أحمد حسين (أستاذ الفلسفة المعاصرة بكلية الآداب جامعة الزقازيق بجمهورية مصر العربية).. صمتّ وحدي عندما قرأت الخبر الفاجع على صفحة الأستاذ الدكتور حسن حماد (أستاذ الفلسفة  الحديثة والمعاصرة وعميد آداب الزقازيق السابق).. تعطّلت قواي، عادت بي الذّاكرة إلى مواقف كثيرة لا تنسى.. تذكّرت مقولة للإمام عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول فيها: "أكره الحق، وأهرب من رحمة الله، وأصلي دون وضوء! فسئل: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أكره الموت وهو حق، وأهرب من المطر وهو رحمة من الله، وأصلي على الرّسول دون وضوء."..  ووالله إنّ الموت مكروه مع أنّه حقّ على الأحياء كلهم، خصوصا إذا ما اختطف إنساناً أخاً وصديقاً وفيّا كالدّكتور " ظريف حسين " الذي ينضح حبّا إنسانيّا قلّ مثيله. رحل الإنسان النّقيّ الذي لم يحمل ضغينة لأحد كما اعتقد، رحل ليترك غصّة في قلب من عرفوه كلهم، فو الله إنّ العين لتدمع وإن القلب ليحزن، "وإنّا لفراقك يا ظريف لمحزونون".

أما أن ترحل قامة علمية مثل الدكتور "ظريف حسين"، دون كلمة رثاء في الإعلام المصري والعربي، فتلك علامة من علامات التردي، ودليل من أدلة الرداءة والعشوائية، فهذا الرجل كان من أولئك الرجال الذين يعيشون وفق ما يكتبون، ويظهرون ما يضمرون، ويعملون بما يؤمنون، فهو في نظري من النماذج الكبرى من أستاذ الفلسفة المعاصرة العملاق، حيث كنت واحدا من متابعيه عن كثب في كل ما يكتبه أو يخطه من منشورات ومقالات على صفحات الجرائد والفيس بوك، وفي كل مرة كان يثير انتباهي أسلوبه النقدي الحاد وتعبيراته الصادمة التي يمكن أن يلاحظها أي قارئ لكتبه ومقالاته.

واسمحوا لي أن استعرض الأبعاد والمعالم الرئيسة لمشروع ظريف حسين الإبداعي الفلسفي وأيضا انتاجه الشعري، ونبدأ بالفلسفة عند ظريف حسين، حيث كان دائما يقول بأن الفلسفة تمثل الفقه العام للواقع، ففيها يحيا الوعي من أجل الواقع، وهو ليس فقط وعيا موجها للواقع كما في حالة الفلسفات التصورات النظرية،وموجها إلى نفسه كما في حالة الاستبطان النفسي، فالفلسفة الحقيقية كما يراها ظريف حسين هي كل رؤية تدعم الحياة وتوجهها في الاتجاه الصحيح وتمنحها القوة والتجدد في السياق العام للحياة الإنسانية على مستوي العالم، ولذلك فإن الحقائق في نظر ظريف حسين تقاس بالعلم، وبقدرتها على نفخ الروح فينا بجعلنا قادرين لا على مجرد المواكبة، بل على المنافسة الحقيقية، وليس بالأيدولوجيات وادعاء التدين ولا الشعارات.

ويرتكز المنهج الفلسفي العام عند ظريف حسين على السلوكية التجريبية، ولكنه في تناوله للمشكلات الجزئية فقد كان يتبني جملة من المناهج الموثوقة في العلوم الإنسانية، ولذلك يعد منهج ظريف حسين شاملا وليس أحاديا أو جزئيا، ذلك أن المنهج الأحادي مناسب فقط للروئ الجزئية.

وعلاوة على ذلك فإن أساليب ظريف حسين في الكتابة الفلسفية نقدية حادة، وتعابيره صادمة، وقد حاول في كتاباته أن ينقل البحث في الفلسفة من مجرد التعريف العام بها أو الحديث الخطابي عنها إلى مستوى دراستها دراسة موضوعية، وكان رحمه الله في ذلك صادماً إلى أبعد حد، فالمشكلات الواقعية، وليس النصوص فقط هي مادة التحليل الأولى، ومضمونها هو أساس التقييم، وهدف ظريف حسين النهائي كان هو اقتراح الحل على أسس علمية، أو تبريرات عقلانية،وليس على مجرد تصورات جدلية تزيد المشكلات تعقيدا.

ومن ناحية أخرى فإن كتابات ظريف حسين تنتمي إلى بصفة عامة إلى نمط الكتابة ما بعد الحداثية ؛ أي الكتابة غير النسقية، وهي كتابة لا تتقيد ببناء محدد، أو خط سير معين، وإنما تمضي في كل اتجاه بحسب الحاجة والضرورة التي تفرضها المناسبات والقضايا الحياتية، ولكنها مع ذلك تخدم رؤية واحدة بشأن أعباء الحياة بوصفها رسالة لخدمة الإنسان والمجتمع والوطن وذلك كما أوضح في كتابه الفلسفة الأخيرة.

ولقد وفق ظريف حسين إلى رؤية واضحة عن تطور تاريخ الوعي الفلسفي عامة، والفكر العربي المعاصر بصفة خاصة، والحق يقال بأن ظريف حسين من نوع المفكرين الذين لا يعترفون بالحلول الجاهزة، ولا الإجابات المسبقة، ولا يؤمن بالمطلقات الإنسانية، أو الدوائر المغلقة للفكر.

ورغم أن مقدماته لكتب الاكاديمية تعد بمثابة دراسات تحما رؤئ متعمقة بمناسبات الموضوعات المبحوثة، فإنها كلها تخدم فكرة واحدة،مؤداها أن كل الفلسفات جزئية لأنها ترى الأشياء من موقف أحادي، وبذلك فهي في نظر ظريف حسين منحازة، وضيقة الأفق ومتزمتة، والحق يقال أن ظريف حسين رحمه الله  كان يرى أن الحياة أكبر من كل الفلسفات، وليس معني ذلك أن مهمتنا كما يري ظريف حسين تجمعية تلفيقيه، بل يجب إعادة إدماج الفلسفة في الجسم الثقافي العام جنباً إلى جنب في العلوم الإنسانية، بعد أن انعزلت جبراً،و طوعاً عن غيرها، ومن ذلك كان عقمها.

كذلك يرى ظريف حسين أن الفلسفات السابقة قد تعبر عن الواقع، لكنها لا تعبر عن الحقائق، لأن الفلاسفة في نظره حالوا الوفاق من أدوات العلم، وبذلك ليس بمقدورهم حل المشكلات، بل يزيدونها تعقيداً، ويضيفون إليها ركاماً إلى ركام، ومن هذا المنطلق فإن ظريف حسين رحمه الله كان من أكثر المهتمين بمصر والعالم العربي للفكر الأخلاقي والعقلانية.

في كتابه " الفلسفة الأخيرة رؤية معرفية سلوكية للفكر العربي" يصف الرجل رؤيته بأنها الأخيرة من حيث إنها نظام معرفي شامل يتأسس على كل المناهج العلمية للتفسير، ومن ثم فلن تكون في نظره مؤقته، وهي بذلك مختلفة تماماً عن أية فلسفة سابقة، وفي ذلك الكتاب أيضاً يتجه ظريف حسين إلى تعميق نظراته باستخدام معارفه،وأدواته الفلسفية لإصلاح منظومة التعليم والثقافة في المجتمعات العربية التي عانت ولا تزال تعاني من التدهور والانحطاط الحضاري مركزا رحمه الله على تطوير المناهج الدراسية، وطرق التدريس، والمحتوى الدراسي والخطط المسؤولة رسميا عن التعليم.

ومن ثم فإن أهم الهداف التي يصبوا إليه ظريف حسين في كتابه " الفلسفة الأخيرة"، هي اصلاح التعليم الفلسفي في العالم العربي، وذلك بتصحيح وضع الفلسفة، وإخراجها من قاعات الدرس إلى الواقع العملي، والاشتباك مع قضايانا ومشكلاتنا، وهمومنا الحضارية، وبيان أوجه القصور في ممارسة الأساتذة لها، فضلا عن تهافت الفكر العربي، ومشروعيته، وعقمه ونضوب روافده.

وينقسم كتاب " الفلسفة الأخيرة" إلى ثلاثة أقسام رئيسة:

1- القسم الأول: يتضمن الإطار النظري الذي يكشف عن رؤية ظريف حسين النظرية، وأراءه حول القضايا الفلسفية، ومواقف الفلاسفة منه، وموقف ظريف حسين نفسه منها، وهو ما كان يسميه رحمه الله بـ" إعادة تأهيل الفلسفة".

2- وأما القسم الثاني فيتناول بعض النماذج التطبيقية لرؤية ظريف حسين الفلسفية التي طرحها في الإطار النظري، ولقد اختار رحمه الله للتناول مشكلات بعينها لها صلة قوية بمشكلات مجتمعاتنا ومتأصلة في الواقع، ذلك أن جل اهتمام ظريف حسين بالمشكلات هي تلك المشكلات التي تؤرق الإنسان العربي عامة، والمصري خاصة، متبعا رحمه الله في ذلك كل المناهج المتاحة والمناسبة.

3- وأما القسم الثالث: فيتضمن باقة من المقالات الكاشفة في نظره حول المشكلات التي تشغل عقل الإنسان العربي، وهي مقالات تعمد فيها ظريف حسين على حد علمي بساطة العرض، مع العمق في التناول، والمعالجة بعيداً عن اللغة الأكاديمية الصارمة، والمصطلحات العلمية الرسمية التي تحتاج إلى أهل الخبرة والتخصص في فهمها، وذلك إيمانا منع رحمه الله بضرورة إعادة الفلسفة للعمل ضمن النسق الثقافي الجماهيري العام، كما كانت في بدايتها اليونانية الأولى.

وفي ضوء هذه الأقسام الثلاثة حاول ظريف حسين الإجابة عن العديد من التساؤلات كمت طرحها في الكتاب، وهي: كيف تتحول الفلسفة من مجرد نحلة سرية، أو تعاليم خاصة لجماعة معينة يطلقون على أنفسهم اسم " الفلاسفة"، ويتناقلون تعاليمها بمنهج نقلي – مدرسي صارم، وتنطوي مؤلفاتهم على تقديس عال للنصوص الأصلية لأسلافهم، والتي يعملون عليها وتتشكل جسد أبحاثهم التي يتكسبون من وراء تلقينها للطلاب، أو للحصول على الدرجات العلمية، كيف يتحول هذا الشيء المسمى فلسفة، إلى طريقة لفهم الأشياء، والعلاقات والشؤون الإنسانية بشكل فعال،ومنخرطة في العالم، ومشركة في تنشيط الحس الإنساني،والملكات الإبداعية.  كما طرح ظريف حسين أهم التساؤلات التي تتعلق بمصير الفلسفة بصفة عامة، والفكر العربي خاصة بمنهج نقدي، وبروح جديدة.

وهنا يمكن أن نقنتبس بعض من أقواله في هذا الكتاب حيث يقول: فالفلسفة ليست مجرد دراسة لنصوص الفلاسفة مطلقا، وإن كنا نُعلِّم الشباب في الجامعة كيف كان أسلافهم يفكرون، وكيف كانوا يكتبون عن مشكلات تشبه- إلي حد بعيد- مشكلاتنا، علي ألَّا يكرسوا حياتهم لقال فلان ولكن فلان، تماما كما يفعل دارسو السلفية الدينية الذين يحب المتفلسفون أن يكيلوا لهم السخرية من طريقتهم هذه المُثلَي!.. فأما انكباب طلاب الفلسفة والدراسات الدينية علي كتب التراث ومناهج الأسلاف، فمرود إلي اهتزاز الثقة بالنفس، والارتجاف، والهلع من مجرد الاختلاف. ومن ذلك أنك إذا خاطبتهم قالوا لك: قال فلان، ولكن فلان، في دائرة مغلقة تصيبك بالغثيان والدوار، وتغري كل محاولة وليدة بالانتحار!

وأما فلسفة ظريف حسين فمودعة إجمالاً في كتابين: الأول: نحو نظرية للأخلاق الكونية، والآخر بعنوان " الأزمة الأخلاقية في العالم الإسلامي المعاصر "، ويعد الكتاب الأول منهما تحليلاً نسقياً وعلمياً يستند إلى معطيات علوم الحياة، ووظائف الأعضاء، بالإضافة إلى علمي النفس والاجتماع بهدف تفسير موثوق لنشأة أفعالنا الأخلاقية، ولماذا نرتكب الأخطاء؟.. وقد تطلب ذلك من ظريف حسين مسحاً شاملاً لأهم نظريات الأخلاق برؤية شاملة،هدفها تركيز أفعال البشر نحو أداة مشتركة من جهة، وحل المشكلات الأخلاقية القائمة في مجتمعاتنا، وخاصة ما يتصف بعلاقتنا بالعلم والدين والقانون والعادات والتقاليد من جهة أخرى.

كما قدم ظريف حسين خطة للإصلاح الأخلاقي عبر خطوات محددة مستفيدا رحمه الله من الثقافات الراسخة في العالم، والذي حصرها في فضائل تبدأ بالشهامة والأريحية والميل إلى سعادة الآخرين، والعدالة والإنصاف،وانتهاءا بثقافة نشر السلام بين الناس، وذلك في ضوء تحليل مسهب للمفاهيم والنظريات الأخلاقية عبر أربع فصول تحدث رحمه الله في أولها عن إعادة تعريف الأخلاق، والثاني عن الأساس الطبيعي للأخلاق، والثالث عن تحليل الفعل الأخلاقي، وفى الرابع عن محركات الخير والشر، أما الفصل الأخير فقد خصصه للحديث عن كونية الأخلاق، وفى ثنايا هذه الفصول تعرض كما يقول الدكتور مصطفي النشار لكل ما يمكن تصوره من القضايا الاخلاقية بحرفية شديدة بدءا من علاقة الأخلاق بالدين والقانون وانتهاء بقضايا اصلاح المجتمع والبيئة والمرأة وأصل الرذيلة وفكرة الكمال الأخلاقي والكمال الشخصي وفلسفة الفعل والربط بين الأخلاق النظرية والأخلاق التطبيقية، وفى الختام كان تساؤله الكاشف: هل ننجح في تصميم آلية سلوكية تجعل الأفراد حساسين دائما من مجرد الاقتراب من مساس النظام الأخلاقي عوضا عن انتهاكه وبطريقة تشبه الآلية التي تعمل بها الوساوس القهرية ولكن لأهداف ايجابية فيحترم المواطنون اشارات المرور مثلا حتى لو لم تكن هناك رقابة حكومية  عليهم من أي نوع ؟!

ومن خواطره إزاء هذا الكتاب: لقد كنت أقَبِّل يد والدي ووالدتي وأخوالي، وعمي، وأخوتي الأكبر سنا، وربما أكون قد قبلت يد أستاذي، (بعد حصولي علي الدرجة العلمية) ولم تكن هذه "عبودية" علي الإطلاق، بل محبة، وتقديرا واحتراما لمن جاءوا بي إلي الحياة، أو كان لهم عليّ فضل، أيُّ فضل.. وأنا أعبد الله وأوقِّره بالمنطق السابق هو نفسه، حتي لو زعم الملحدون أن الله مجرد "وهم"؛ فلا محيصَ عن الإقرار بأن هناك مبدأً للحياة، ولن يكون هذا المبدأ هو" الحياة نفسها"، ولن يكون - من باب أوْلَي- هو المادة الخاملة!.. وهكذا فإن مبدئي الأخلاقي هو أساس "عبادة الله" التي هي، بالأساس، تقدير وتقديس، وما دام لكل شيء مبدأ ومركز، فإن الدوران حول هذا المركز ضرورة طبيعية وأخلاقية، وهذا هو مبدأ الدين الذي يرفضه الملحدون خلافا للمنطق الطبيعي: فهل تستطيع الكواكب أو الالكترونات أن ترفض الدوران حول الشمس أو نواة الذرة، باسم الحرية؟!.. والخلاصة هي أن الدليل الأخلاقي علي وجود مركز للموجودات يعد متمما مثاليا للدليل الطبيعي الذي يجادل هؤلاء فيه."

وفيما يتعلق بالإنتاج الشعرى لظريف حسين فإن هناك ديواناً بعنوان" مجرد رغبة" وقد  صدر حديثا عن دار ليفانت بالإسكندرية وبمعرض القاهرة للكتاب 2022، ويضم مجرد رغبة (ديوان شعر) مجموعة من القصائد والمقاطع الشعرية في أغراض شعرية تدور موضوعاتها حول العلاقات الإنسانية وفلسفة الدين، ويمكن أن نقتطف فقرة من مقدمته حيث يقول رحمه الله:"

رَبَّاهُ أَنـزِلْ فـوقَ روضِ حبيبتي

قَطْـرا يعـانقُ قلبَها و يُساقِــی،

فأبيتُ أقطفُ من أزاهرِ حسنِها،

وتَبيتُ تشكـو لوعــةَ المشـتاق!

وآخر بيتيْن في قصيدة "عفاريت فاشلة"، من ديوانه "مجرد رغبة" نجده يقول:

إِلهِـــــي، ومِنكَ نَسَمْتُ الحـياةَ:

عليكَ بِخلقِكَ مَـــــــن أَجْرَموا،

فسُحقا خصومي؛ فكم أبدعوا

طريقا لمَـــــوتِي، فماتوا هُمُو!

ومن قصيدة "لا أستريح" من ديوانه "مجرد رغبة".  ومن أقواله أيضا:

هل كان حُبكِ سِوَي بُرهةٍ

أُجَددُ فيها سِنِييَّ الخوالي

أقلِّبُ عنها زمانا شقيا

وأنعَمُ فيها بحُلمِ الوِصَال

وأسألُ نفسي في كل يومٍ

ولا أستريحُ بِرَدِّ السؤالِ

لأن الجوابَ يُمزقُ نفسي

ويُرسل في جُنوحَ الخَبَالِ

فلا أنتِ غيمٌ و لا أنتِ صحوٌ

لقلبٍ ينوءُ بحِملِ الجبالِ!

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا الأستاذ الاكاديمي العاشق حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأستاذ الاكاديمي، فتحية طيبة للدكتور ظريف حسين الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

رحم الله الدكتور ظريف حسين، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا.. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

***

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

....................

المراجع:

1-   حلقة من برنامج "بتوقيع المؤلف" علي إذاعة البرنامج الثقافي من القاهرة، بصوت الأستاذ الدكتور ظريف حسين.

2- د. مصطفى النشار: نحو نظرية للأخلاق الكونية، جريدة الوفد، Friday, 21 October 2022 20:56

3- كتابات الأستاذ الدكتور ظريف حسين المنشورة.

عرّف علماء الاجتماع والاقتصاد التقشف بأنّه: (مصطلح يشير في علم الاقتصاد إلى السياسة الحكوميّة الرامية إلى خفض الإنفاق، وغالبًا ما يكون ذلك من خلال تقليص الخدمات العامة، في كثير من الأحيان، تلجأ الحكومات إلى الإجراءات التقشفية بهدف خفض العجز في الموازنة، وغالبًا ما تترافق خطط التقشف مع زيادة الضرائب.

التقشف بالمعنى العام يُقصد به صعوبة العيش وخشونته، بسبب عدم كفاية حاجيات الإنسان وهو في الاصطلاح السياسي، برنامج حكومي ذو طابع اقتصادي، يستهدف الحد من الإسراف من زيادة الإنفاق على السلع الاستهلاكيّة وتشجيع الادخار، والعمل على مضاعفة الانتاج، علاجاً لأزمة اقتصادية، تمر بها البلاد) {ويكيبيديا / الموسوعة الحرة}...

فالتقشّف، إذن، مصطلح اقتصادي وسياسي، ماديّ، براغماتي (نفعي)، غرضه المنفعة العامة. بينا الزهد دافعه روحي أو دينيّ ونفسي. غايته المنفعة الخاصة. إنّ التقشّف له منطلق خارجيّ، قد تفرضه مصاعب الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ويعزّزه الخوف من الوقوع في أزمة الجوع ونقص الموارد أو شحها، ممّا يهدّد حياة الإنسان بالفناء، بل وينشب عن ذلك الخوف نشوب صراعات داميّة بين الأفراد أنفسهم وبين الجماعات المتجاورة، وقيام حرب ضروس من أجل الاستيلاء على موارد الغذاء.

أمّا الزهد، فقد عرّفه العلماء والفقهاء، بأنه {النظر الى الدنيا بعين الزوال، وهو عزوف النفس عن الدنيا بلا تكلف} وقال سفيان النووي: " الزهد في الدنيا قصر الأمل ". ويقال: رجل زهيد العين إذا كان يقنعه القليل، ورغيب العين إذا كان لا يقنعه إلا الكثير. وزعم البعض أنّ المزهد هو الذي ليس عنده شيء من الدنيا. وهذا تعريف قاصر، لا يعبّر عن ماهيّة الزهد، إنّما الزاهد هو من يترفّع قناعة عمّا عنده، أمّا الذي لا يمتلك شيئا فلا حاجة له في الزهد. وكيف يكون زاهدا مسكين ومعدم ومترب، لا يمتلك قوت يومه؟

إذن، فالزهد لا علاقة له بالوفرة الماديّة والغذائيّة، ولا علاقة مباشرة له بالفقر أو الغنى، لأنّ مصدره ومنبعه ومنطلقه نفسيّ داخليّ بحت. بل هو رياضة نفسيّة يمارسها بعض الناس لغايات في أنفسهم. لقد حرّم الله على عباده الإسراف في استهلاك النعم تبذيرها، وأمرنا بالتمتّع بها بحكمة واعتدال.

ومن أهم الدوافع النفسيّة للزهد، الإحساس بالقناعة والإشباع والارتواء بالنزر القليل من الحاجيات الماديّة، بل قد تفضي القناعة مثلا إلى عدم الشعور بالجوع المادي، ممّا ينتج عنه طمانينة نفسيّة، وضمور في البطن وخفّة في العقل ونمو في الذكاء والفطنة، وراحة في الضمير. قيل: إنّ البطنة تذهب الفطنة. وهذا حكمة في غاية الصحة. فشرّ ما يملأ المرء بطنه.

والنفس راغبة إذا رغبتها

وإن تُرد إلى القليل تقنع

فالزهد لا يعني الامتناع عن ما أحلّه الله لنا من الطيّبات امتناعا كليّا، فهذا السلوك الامتناعي مخالف للفطرة الإنسانيّة، ومخالف للعقيدة والشريعة، وهو نوع من " التطرّف المعيشي " والتضييق على النفس، والتجاوز اللامشروع. قال تعالى: " وكُلُوا واشْربُوا ولا تُسْرفُوا إنّه لاَ يُحبُّ المُسْرفين " {الأعراف / 31}، وقوله: " لا تجعل يدك مغلولة إل عنقك ولا تبسطها كل البسط " {الإسراء / 29}، وقوله أيضا: " إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين " {الإسراء / 27} وقوله كذلك: " يَا أيُّهَا الذينَ آمَنُوا كلوا من طيبات ما رَزَقناكُم واشكُرُوا الله إنْ كنتم إياه تَعبدُون " {البقرة / 172}

يلجأ الفرد والجماعة إلى التقشّف في زمن الأزمات، جبرا لا اختيارا، كأزمة الغذاء الناتجة عن الكوارث الطبيعيّة، مثل الجفاف أو تعرّض المحاصيل الزراعيّة الاستراتيجيّة إلى جائحة الجراد الأصفر، او نتيجة الحروب الأهليّة والنزاعات البينيّة. تقوم السلطة الحاكمة، بتقنين توزيع المواد الغذائيّة بوساطة نظام بطاقات التموين، وتكتفي بتوزيع المواد الأساسيّة للمحافظة على استمراريّة الحياة. أما المواد المصنّفة في خانة الكماليّات، فلا تقيم لها وزنا، فهي خارج النظام الغذائي الاستراتيجي. وفي هذه الحالة يشعر الأغنياء والمترفين والمنفقين والمسرفين والمستهلكين والآكلين كالأنعام بتغيّر مفاجيء في حياتهم اليوميّة، ممّا يدفعهم إلى الهجرة بحثا عن الرخاء الذي افتقدوه في بيئتهم المأزومة. أمّا الفقراء والمهمّشون، فلا يطرأ على حياتهم أدنى تغيير، ما عدا شعورهم بالرضا والقناعة وإيمانهم عدالة السماء.

و بالمقابل، لا تزحزح تلك الأزمات والجوائح قيد أنملة من الحياة اليوميّة لمن اعتاد على حياة الزهد. فقد أكسبته تلك الرياضة النفسيّة وعلّمته كيف يروّض نفسه - التي ألهمها الله الفجور والتقوى – في زمن العسر واليسر معا. علّمته الحياة أن الصبر، صبران: صبر على الموجود وصبر على المعدوم، صبر على المكاره وصبر على المحاسن. لقد استطاع الزاهد أن يقمع شهوة اللذات، ويقبض على زمامها بقوّة، لئلا تنفلت، ويوجّهها.

يصبح التقشّف ضرورة اقتصاديّة ومعيشيّة واجتماعية، في حياة الأفراد والجماعات لحفظ النسل، ويأخذ صفة الوازع الأخلاقي، بشرط أن ينخرط في دواليبه جميع افراد المجتمع، دون تميّز بين فقيرهم وغنيّهم، ويتحوّل إلى لون من ألوان التكافل الاجتماعي، والتعاون على البرّ والتقوى. حينها تتكوّن في المجتمع مشاعر الأخوة والتراحم والتشارك في المنافع والأضرار، وتقاسم أعباء الحياة في اليسر والعسر.

و بين التقشّف والزهد علاقة جدليّة، بالمعنى الفلسفي الاقتصادي الروحي، أيّ كلّما أدرك الفرد المعنى الحقيقي للزهد - الذي لا يعني تعذيب النفس بحرمانها من ملذّاتها ومشتهياتها التي شرعها الله لها - قال تعالى: " يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " {المائدة / 87}. قاده ذلك إلى التقشّف في حياته، دون بخل وتقتير. فإذا كان الزاهد يشعر براحة النفس والبال، ويمارس طقوس الزهد بقناعة، فإنّ المتقشّف لا يبلغ درجة الرضا والحكمة والتضحيّة والخدمة الجماعيّة، إلاّ إذا ساهم - بفعله لا بقوله - في حفظ التوازن النفسي، وتجسيد الاستقرار والسلم الاجتماعيين.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر  

الوصولية السياسية في الوسط الأكاديمي:

مقدمة: شُغل الباحثون بقراءة مظاهر التسلط بأبعاده السياسية والاجتماعية، وقلما يعيرون التسلط الذي تعيشه مؤسساتنا التربوية والجامعية ما يستحقه من عناية واهتمام. ومن أجل تغطية هذا الجانب في المستوى الأكاديمي، فإن هذه المقالة تسلط الضوء على مشهد واقعي من مشاهد التسلط ومظاهر الانتهازية والوصولية في الوسط الجامعي والتربوي. وليس الهدف من هذا الوصف إبراز هذه الحالة بل تقديم وصف حي نموذجي للأساليب الانتهازية والديناميات الوصولية في تقلد المناصب والوصول إلى مركز القرار وممارسة التسلط بصورة ديكتاتورية مخجلة في الوسط الجامعي وفي المجتمع. ولا ننكر بأن المقالة الحالية تركز على حالة واحدة، ولكن هذه الحالة تمثل نموذجا متقدما لأغلب النماذج التي تفرض نفسها في هذا المستوى.

كانت الجامعات وما زالت في البلدان الغربية معاقل للحرية والقيم والديمقراطية. ولكن بعض هذه الجامعات في مجتمعاتنا تشهد ممارسات ديكتاتورية لا تقل خطرا وفتكا عن المظاهر الاستبدادية التي نجدها في الحياة السياسية العربية. وفي المشهد الذي نقدمه وصف ذو طابع سردي لآليات القهر والاستبداد التي تمارس في بعض الجامعات العربية التي بدأت تتحول إلى مراكز حيوية لبعض الممارسات الاستبدادية في المجتمع. والمشهد الذي أقدمه هو مشهد حقيقي وواقعي حدث في حياتنا السياسية والإدارية.

بداية المشهد:

يبدأ المشهد بصورة مدرس جامعي يسيل لعابه للوصول إلى أي موقع سلطوي يستطيع أن يمارس فيه نزوة التسلط والغلبة. ارتسمت الخطوات الأولى في انتهاز المناسبات السياسية ليعلن فيها نوعا من الولاء المطلق والمذل للحاكم والنظام أراده أن يكون مميزا في مستوياته الانتهازية ومتفردا في سماته الوصولية. واستجابة لهذا التعطش بدأت تفاعلاته بالمناسبات السياسية تأخذ طابعا غريبا مبالغا يتفوق فيه على أقرانه من الوصوليين والانتهازيين وما أكثرهم في مجتمعاتنا. 

ويمكن لنا تصوير المشهد الوصولي في مراحل أربعة أساسية:

المرحلة الأولى- اغتنام الفجيعة:

عندما فجع السلطان بفقدان عزيز له بدأ بطل قصتنا يبدي حزنه البالغ لمدة طويلة الأمد فاقت حدود كل الأعراف والتقاليد المعروفة في طقوس الحزن والألم، فافتعل موقف حزن مميز ولفترات طويلة ترك فيها للحيته العنان، ثم فجأة ظهر للعيان بعد غفلة طويلة عن الناس مرتديا سواد الثياب بلحيته الطويلة الحزينة معلنا استمرار طقوس الحزن على فقيد السلطان وذلك بعد أن مضى ردح طويل من الزمن عاد فيه الناس جميعا إلى حالتهم الطبيعية والاعتيادية حتى السلطان. وهو في ذلك أراد أن يعطي انطباعا بأن حزنه وانفعاله بالحدث يختلف عن جميع الناس! لأن الناس سرعان ما عادوا إلى حياتهم الطبيعية، ولكنه افترق عنهم بأنه أكثرهم حزنا وأسى وانفعالا بالحدث الأليم والمصاب العظيم. وقد فرض على الناس أن يستشعروا حالته المأساوية هذه من إخلاصه ووفاءه وصدق مشاعره لفقيد السلطان.

المرحلة الثانية- الترويج الانتهازي الإعلامي:

وهي التي يكثر فيها من أحاديثه في الملأ عن حبه للحاكم ووفائه للسلطان وعلاقته المقربة مع صاحب القرار، ويكثر فيها إشاعته لقصص المودة والاحترام التي تربطه بالحاكم والسلطان. والحديث هنا لا ينقطع عن لقاء الأحبة: اللقاء بينه وبين صاحب القرار أي الحاكم بأمر الله الفاطمي، وهي لقاءات كما يصورها مفعمة بالمحبة والمودة وعليه في كل يوم أن يروجها أمام الناس والحضور والطلاب. وأصبحت المحاضرات التي يلقيها محاضرات تدور في أفق العلاقات الحميمة التي تربطه بأصحاب القرار.

كان يبدأ محاضراته اليومية متحدثا إلى الطلاب عن لقائه بالحبيب، ويعني بذلك حاكم البلاد والعباد، والطلاب خير أداة في ترويج هذه العلاقة الودية في المجتمع بين الأستاذ الطموح وبين الحاكم المصاب. وهو في أحاديثه اليومية يستخدم كلمات متواترة: اجتمعنا البارحة بالحبيب (وترمز كلمة الحبيب إلى الحاكم)، وتناولنا العشاء مع سيادته في المطعم الفلاني، ثم قمنا بزيارة المكان الفلاني وبحثنا في القضية الفلانية. ثم يتجرأ الرجل أكثر فأكثر حيث ترد في عباراته: نصحت الحاكم أو صاحب القرار.. وأقنعت الحبيب (أي المسؤول الكبير).. وتداولنا في الأمر.. واستشارني.. وأخبرته.. وزارني في البيت.. ثم أهداني.. ونصحته.. وكثير من هذه العبارات التي يعلي بها من شأن نفسه ويلبي جموح غطرسته.

ويروج الانتهازي الصغير بين أصحاب القرار أنه الصديق الوفي لأعلى سلطة في البلاد وأنه الناصح المرشد والمستشار الملهم. ولاحقا وتحت تأثير هذه الأساليب الوصولية يستطيع الرجل بوسائله هذه أن يجد الوسيلة التي يقنع فيها بعض المسؤولين بتعيينه عميدا في الجامعة.

المرحلة الثالثة- تضخيم الجرعة الوصولية:

ثم تبدأ مرحلة جديدة في العمل الوصولي. هذه المرة بدأ الرجل يعرف بنفسه وطموحاته بطريقة فيها جرأة أكبر. فهو يعلن بأنه سيكون الوزير الأول في الوزارة المقبلة لأن صاحب الأمر طلب منه ذلك.. ليس أكثر.!! وفي بعض الأحيان سيكون وزيرا للتعليم العالي أو للتربية، ويعدد في مناسبة وغير مناسبة المناصب عرضت عليه. والتي ستعرض عليه بالطبع وهو عازف عنها ولكنها هي إرادة الحاكم وصاحب القرار.

في المؤتمرات الأكاديمية التي حضرها خارج بلاده وداخلها بدا يروج أيضا قربه من صاحب القرار، ثم بدأ المؤتمرون العرب من أساتذة جامعيين يسخرون منه همسا أو علنا به بأنه صديق الحاكم أو الوزير المرتقب، أو الشخص المقرب، أو المعجب بنفسه، ولم يرفض أن يخاطبه البعض بعبارات مجاملة فيها مثلا سيادة الوزير طبعا للوزارة الجديدة، أو سيادة المستشار في التشكيلات الجديدة أو القادمة وكان دائما يقابل هذه الألقاب المحتملة بابتسامة متعجرفة عنيدة مؤكدا لهم أنه حقا سيكون ودون أدنى شك ذلك الزعيم المرتقب. ولم تتوقف حدود غطرسته في بلاده إذ حاول أن يشمل بغطرسته هذه زملاء له من بلدان عربية أخرى رفضوه طبعا واحتقروه.

أول الحصاد - عميدا لكلية التربية:

أثمرت هذه الفعاليات الانتهازية والوصولية، حظي بطل قصتنا هذه بعظمة السلطان الأولى عميدا لكلية التربية متجاوزا بذلك كل المعايير الأكاديمية والأخلاقية التي تتعلق بالكفاءة والخصائص الأكاديمية التي يفتقر إليها كليا. والسؤال المهم هو كيف مارس الرجل سلطته في الكلية التي تعمدها (أصبح عميدا لها). بدأ حياته المهنية بطشا بزملائه، وأطلق على كليته أسماء عسكرية فهي الفرقة السابعة عشرة كما يحلو لأساتذة الكلية أن يسمونها تهكما بأسلوب التسلط الذي ينتهجه، وأطلقوا عليه عبارة (سيادة العميد) بالمعنى العسكري وليس بالمعنى الأكاديمي.

ولم يتورع في أحيان كثيرة أن يطلب من الفراش أو الآذن أن يطرد زميلا من زملائه من أساتذة الكلية خارج مكتبه وأن ينهال على بعض أعضاء الهيئة التدريسية من السيدات بشتائم وكلمات بذيئة. وبدأ يطلق على نفسه، أو يوحي لتابعيه وموظفيه أن يطلقوا عليه ألقاب مثل “المعلم” وغير ذلك من الألقاب أسوة بكبار السياسيين والزعماء. ووضع حوله جمهرة من المرافقين الذي يتميزون بالفظاظة هؤلاء الذين يوزعون ألقابه على الجميع ويفرضون هيبة ورهبة مدمرة لنفوس الطلاب وأساتذة الجامعة من زملائه في الوسط الجامعي.

التنكيل بالزملاء والانتقام الأكاديمي:

أما فيما يتعلق بمعاملته مع زملائه فبدأ ينكل بهم ولاسيما هؤلاء الذين لم يرضخوا لإرادته ورفضوا تسلطه، واستطاع أن يوجه الاتهامات إلى بعضهم وأن يستصدر القرارات التي ينهي فيها خدمة بعضهم ويدفعهم إلى قارعة الطريق بدوافع الثأر والأحقاد السابقة. ولم يستطع الرجل أن يحتمل مظاهر القوة والتبجيل والتهويل التي أحاطت به في مؤسسته الصغيرة هذه فبدأ يغالي في ارتكاب الحماقات وبدأ يبالغ في تسلطه واستبداده وغروره.

وعلى هذا الأساس سوّقَ نفسه رخيصا ومارس لعبته الوصولية الجديدة بأعلى درجة من الغطرسة وتضخم الأنا. وهي أحاديثه التي لم تتغير ، وهو ذاك بغطرسته وجنون اختياله في حديث طاووسي لا ينقطع عن نفسه، وعن أحلام المكابر الصغير الذي يبحث عن مكان يتغطرس فيه إلى الأبد. وتردنا مقولاته في أحاديثه المعهودة: إنني هنا من أجل تطوير التعليم… إنني هنا بإلحاح من القيادة السياسية … إنني هنا في محطة في استراحة بعدها سيعاود رحلته في طريق الانتهاز والوصول.

لقد استطاع الرجل أن يحقق نجاحا كبيرا في الوصل إلى مركز أكاديمي مهم مع أنه لم يكتب في حياته بحثا علميا واحدا، ونال درجة الأستاذية بأساليب التسلط في الوسط الجامعي. وكان الرجل في واقع الأمر مهيأ في وسطنا الاجتماعي لنجاح كبير لأنه استطاع أن يوظف أفضل الإمكانيات السيكولوجية التي تعلمها في بلد شرقي صغير في إقناع مركز القرار بأنه رجل مقرب جدا وأنه يجب أن يأخذ دورا مهما في البلد.

وفرة الحصاد - وزيرا للتربية:

هذه الممارسات اللاأخلاقية مهدت الطريق لصاحبنا إلى سدة الوزارة. وهكذا استطاع الرجل بتسلطه وتبجحه وغطرسته والجرعات الكبيرة من الوصولية والاختيال والنرجسية أن يصل إلى موقع القرار وزيرا للتربية وأن يأخذ دورا يستطيع من خلاله أن يشبع غطرسته وتعطشه. وها هي وزارته اليوم يشهد القاصي والداني بأنها مركز الفساد والفجور، إنه يدمر الأخلاق والقيم والمعاني والرموز ! سلوا عنه المعلمين والمربين، سلوهم عن تسلطه وجشعه، وهدمه لكل القيم، سلوهم عن الواسطة والمحسوبية والسرقات والعقود والرواتب المنهوبة، سلوهم عن جرائمه التي تتعلق بالعرض والشرف والكرامة، سلوا المعلمين والطلاب والمدارس عن الفضائح الجنسية التي ارتكبها، سلوهم كيف تحولت وزارته إلى مكان للعهر والفجور والنصب والاحتيال، وكل ذلك وعين السلطان غائبة عما يجري في أروقة وزارة لم تعرف ولن تعرف أبدا هذا القبح وهذا الفجور الإنساني الذي أدمى كل القيم الإنسانية والأخلاقية. أصبح في موقع المسؤولية ولكنه بقي صغيرا صغيرا لأن الانتهازي من هذا النوع لا يمكنه أن يكبر في عيون الناس والقيم بل يبقى صغيرا ويتصاغر مع دورة الزمن. سلوا عن تاريخه الأسود في وزارة التربية: تسريحه للمعلمات على الهوية والمذهب، الفساد، الفجور، تدمير الأجيال، النهب، السرقة، الزنا، الاعتداء على الكرامات.

النهاية – السقوط في سلة الفضلات:

لكل شيء نهاية ودوام الحال من المحال ، ونظام الاستبداد السياسي يرمي فضلاته في آجال محددة. بالغ الوزير الفاسد في ممارسة التسلط والتجبر والفساد الأخلاقي في وزارة التربية بطريقة أثار فيها حفيظة الخلق جميعا، وبلغ فساده حدا تجاوز منسوب الفساد في سورية، وقد رأت القيادة أن دوره قد انتهى وحان لحظة رميه في سلة المهملات ، والآن بعد أن قضى عهده وأنفق سنوات مجده في وزارة التربية عاد رخيصا وضيعا إلى حجرة صغيرة قرب دورات المياه في الكلية يرتجي من صديق أو زميل أن يقول له مرحبا كيف حالك أيها الديكتاتور الصغير ها قد عدت إلينا بحلتك المخجلة؟؟.

وفي هذه القصة عرض لأساليب الانتهاز والوصولية والتسلط التي نكابدها مع الأسف الشديد في مؤسساتنا الأكاديمية والجامعية. وإذا كانت جامعاتنا متخمة بمثل هؤلاء الوصوليين والانتهازيين والمتسلطين فيا لبؤس مجتمعاتنا ومؤسساتنا وحياتنا الأكاديمية أيضا. نعم تلك هي الحقيقة فصور التسلط والغطرسة وقيم الإكراه والوصولية ما زالت قوية في مؤسساتنا الجامعية وضاربة جذورها في أعماق الحياة الجامعية.

***

علي أسعد وطفة

كلية التربية – جامعة الكويت

 

و لما كانت مقالة الأستاذ البروفيسور قاسم حسين صالح المشار اليها، من عنوانها وتوطئتها تخص السعادة في العراق والسعادة في العراق تأتي من سعادة العراقيين كأفراد فمن الواجب ان انقل لكم رأي البروفيسور قاسم حسين صالح كواحد من علماء النفس العراقيين وربما الأكثر نشاطاً في الكتابة والنشر فيهم والتي ستكون كتاباته مصدراً مهماً للبحوث والدراسات لمتخصصي اليوم والمستقبل من الباحثين في علم النفس والاجتماع عليه فما يطرحه البروفيسور قاسم مهم جداً ويجب ان يخضع للتحليل والنقد لعلاقة ذلك بالإنسان العراقي / المجتمع العراقي والعراقيين عموماً.

كتب البروفسور قاسم حسين صالح عن تعاسة الشعب العراقي وعن سعادته بتناقض غريب يثير علامات استفسار واستفهام وتعجب كثيرة والإجابة عليها ضرورية للتخفيف من حيرة القارئ والباحث والدارس حيث ان المؤشرات السلبية والايجابية التي طرحها عن العراقيين فيها إشارات او احكام جازمة حاسمة لو صًّحَةْ لجعلت العراقيين متربعين على قمة سلم السعادة العالمي بشكل واضح كاسح ولسنوات لا تُعد ولا تحصى "من السومرية الى الديمقراطية" وبنفس الوقت تلك المؤشرات تجعل العراقيين في اسفل سلم السعادة لسنوات طويلة دون منافس وايضاً "من السومرية الى الديمقراطية" أي في قمة سُلَّم التعاسة..أهمية تلك المؤشرات التي انقلها لكم من منشورات البروفيسور قاسم حسين صالح والمنشورة في مواقع الكترونية كثيرة ومنشورة في صحف وجمعيات ومؤسسات وربما تضمنتها بعض الكتب التي اصدرها وتعرفون ان كاتبها من الراسخون بعلم النفس ورئيس الجمعية النفسية العراقية فأكيد تلك المؤشرات المفروض انها جاءت عن دراسات وبحوث كثيرة..

تفضلوا بالاطلاع على التالي:

1 ـ في مقالته: [العراقيون.. يحبون الحب قبل فلنتاين] بتاريخ 15.02.2023 يعني قبل صدور تقرير الأمم المتحدة للسعادة بحوالي شهر وعدة أيام (ثلاثة أيام) كتب التالي:

[لا يوجد شعب في العالم موصوف بالحب كالشعب العراقي.. ان العراق بلد الشعر وأن قلوب الشعراء لا تنظم الشعر الا حين تكون مسكونة بالحب.. فيما العشق عند العراقيين.. جنون!. وأنهم اهل طرب وكيف.. من صغيرهم الى كبيرهم. اننا نرى ان الحب هو (خيمة) الفضائل كلها.. لأن الحب يقضي على شرور النفس وامراضها.. فان تحب فهذا يعني انك لا تكره، وانك تتمنى الخير للآخرين، فضلا عن ان الحب يجلب المسرّة للنفس والناس ويجعلك تحترم حتى الطبيعة وتعمل على ان تجعلها جميلة، وبالصريح، لا يوجد شيء في الدنيا اجمل واروع من الحب، لأن الحب هو الفرح، هو النضج.. هو الكمال.. هو اليقين بأنك موجود.. باختصار، الحب هو الجنة التي يأتي بها الحلم الى الدنيا لتعيش فيها أدميتك كانسان، لهذا فانه صار شعار كل الاديان الذي دفعهم الان الى تخصيص يوم عالمي باسم (اليوم العالمي للوئام بين الأديان)..لقد صار يقينا ان العراقيين موصوفون بالحب، وما يجعلك تفرح.. تغني.. تثق بأنهم صنّاع حياة، انك تراهم يتفننون في التعبير عن (عيد الحب)] انتهى.

و قبل عام واحد من تاريخ المقالة(1) أي في 14.02.2022 كتب العبارة القريبة التالية في مقالته:[في عيد الحب.. العراقيون ما أروعهم]: [لقد صار يقينا ان العراقيين موصوفون بالحب، وما يجعلك تفرح.. تغني.. تثق بأنهم صنّاع حياة، انك تراهم يتفننون في التعبير عن (عيد الحب)] انتهى

وأعاد نفس الصياغة في 14.02.2021 بمقالته: [فالنتين..عراقي]. وكرر نفس النص في مقالته: [العراقيون..وعيد الحب] بتاريخ 15.02.2018 وأعاد نفس النص في مقالته:

[فالنتاين عراقي] بتاريخ 19.02.2016

وفي مقالته: [العراق..هو عيد الحب] بتاريخ 14.02.2015 كتب التالي: [والجميل ان العراقيين موصوفون بالحب، ليس من يوم اصبح العراق موطن الشعر، بل من قبل الاف السنين] انتهى

وأَتْبَعَ كل العبارات الرنانات السابقات بالمقطع التالي لتفسير/توضيح الحب حيث كتب التالي: [وبالصريح، لا يوجد شيء في الدنيا اجمل واروع من الحب، لأن الحب هو الفرح.. هو النضج.. هو الكمال.. هو اليقين بأنك موجود.. باختصار ، الحب هو الجنة التي يأتي بها الحلم الى الدنيا لتعيش فيها ادميتك كانسان، ولهذا فانه صار شعار كل الاديان الذي دفعهم الان الى تخصيص يوم عالمي باسم (اليوم العالمي للوئام بين الأديان)] انتهى

هذه النصوص او القريب اليها/ منها كررها البروفيسور قاسم حسين صالح ستة مرات واعتمدها لمدة تسعة أعوام سابقة وهذا يدل على انه اشبعها بحث وتقصي وتحديث وتدقيق حد الثقة التامة والجزم والحسم بها وهي تعكس نفسية العراقيين وحالة السعادة لديهم التي استخلصها خلال كل الفترة الطويلة / الممتدة من قبل الاحتلال الأمريكي للعراق وبعده والأهم فيها هي سنوات "الديمقراطية" الممتدة من(2003) الى اليوم أي (2023) وهي كما يبدو من الجزم والحسم انها ستستمر طويلاً حيث لا يمكن لأي قوة تغيير ان تقلبها بسرعة..

والغريب انه عمم حالة الفرح والحب والسعادة تلك بشكل مطلق وحازم وجازم على كل العراقيين بكل الوانهم واجيالهم من ""السومرية الى الديمقراطية"" بحيث جعلهم متفردين عن كل الناس وكل الشعوب الاحياء منهم اليوم (8 مليار انسان) والموتى بقرابة (30 مليار انسان) وهذا يدفع القارئ البعيد والقريب لأن يضع العراق متربعاً ولعقود طويلة قادمة على موقع/مرتبة الشرف الأولى في موضوع السعادة وهو يعني ان العراق بلد السعادة الأول دون منازع/ منافس لأنه بلد الحب الأول في العالم من ""السومرية الى الديمقراطية"".

وعن الحب، للبروفيسور قاسم حسين صالح مقالة متميزة هي: [ثقافة نفسية: (4) الحب.. هل هو نوع واحد أم انواع؟] نشرها في المثقف الغراء بتاريخ 07.02.2010 ذكر فيها التالي: [الحقيقة ان الحب على ستة انواع ! اشهرها: العشق والحب الرومانسي. وهنالك الحب الناجم عن المعاشرة والرفقة، والحب الافتتاني، والحب الفارغ، والحب الكامل] انتهى

الحقيقة لا اعرف أي نوع من أنواع الحب هو الحب الموصوف به العراقيين؟

و اليكم عن التعاسة في العراق كما فسرتُ مقاطع كتبها ونشرها البروفيسور قاسم.. تلك التعاسة التي تجعل العراق في اخر قائمة البلدان والشعوب في سُلَمْ السعادة أي انه متربع دون منافس/ منازع على قمة سُلم التعاسة العالمي حيث ورد التالي:

1- في مقالته: [العراقيون.. والاكتئاب الوطني] بتاريخ 22.01.2012 ورد التالي:

هذا مصطلح جديد(يقصد الاكتئاب الوطني) يجود به العراقيون على المشتغلين بالطب النفسي والسياسة فالمعروف أن نسبة الاكتئاب في المجتمعات بحدود (5%،لكنه في العراق أصاب شعبا بكامله فصار الاكتئاب وطنياً!.فمن من العراقيين (أعني الرعية!) لا يشعر بالضجر والسأم والحزن وفقدان السعادة وعدم القدرة على أن يكون بحال أفضل.. وتلك من أعراض الاكتئاب المتفق عليها عالميا بين أصحاب الاختصاص. ومن خصائص المكتئب عدم قدرته على تحقيق طموحاته. ومع أن العراقي كان بقلب بعير في صبره على الحكومة، فانه خرج ، بعد ان يأس، شاهرا صوته بين الناس والحكومة فكان ما كان من الذي تعرفونه..الخ) ثم أكمل: (ومن خصائص المكتئب انشغاله بالماضي واجترار خساراته وكل ما يبعث على انقباض النفس.. وتلك مصاب بها العراقيون. فنحن ننفرد عن خلق الله بماض مليء بالخسارات والفواجع)] انتهى

2 ـ في مقالته:[لأمراض النفسية في الأغاني العراقية] بتاريخ 02.09.2012 كتب:[الاغنية تعبير عن مشاعر الانسان نحو نفسه.. والآخر والأغنية من اكثر المواد الاعلامية شيوعا وتأثيرا، وربما كانت اكثر المؤشرات التي يعتمدها الباحثون في تحليلهم الحياة النفسية والاجتماعية للشعوب (ان الكثير من أغانينا العاطفية مليئة بأمراض نفسية، أخطرها المازوشية التي تعني ان الفرد لا يحصل على اللذة والمتعة والمشاركة العاطفية الا من خلال ايلام الذات. ولك أن تعدّ في أغانينا ما لا يحصى: «اجرح.. اجرح.. وعذّب على كيفك»، «عذّبني اكثر وآني احبك اكثر»، «تعذّبني بليالي جفاك.. تلوعني وأظل اهواك»، «حيل اسحن كليبي سحن.. وغركني بالهمّ والحزن») ثم أكمل: (.وتنفرد أغانينا بصفة مازوشية غريبة هي التباهي بالحزن!)] انتهى

3 ـ في مقالته: [العراق: وطن بلا طفولة] بتاريخ 21 تموز 2009كتب التالي: [وكان اخطر خلل سيكولوجي حدث للأطفال المولودين عام 1975 وما بعده انه تشكّل لدى هذا الجيل (يؤلف حاليا بحدود 70% من المجتمع العراقي) صور ذهنية ومعتقدات ومدركات مشوهه بخصوص نفسه والأخرين والعالم والحياة، وغير سوية بمواصفات الصحة النفسية للأطفال والشباب. ففي السنوات الثماني للحرب العراقية الايرانية تشكّل لدى الاطفال مفهوم ان العالم عدائي وان الاخرين يريدون افناءه. وبمشاهدته لجثث قتلى الحرب بدءا من برنامج( صور من المعركة) في الثمانينيات، الى مشاهد التفجيرات اليومية في المدن العراقية التي صارت تستهدف المدنيين، تراجعت لدى هذا الجيل( قيمة الحياة) التي كانت

[" ملاحظة: يمكن ان نضيف الى ما ورد أعلاه أمور أخرى تفضل بطرحها البروفيسور قاسم حسين صالح في مقالات وكتب عديدة عن حال العراق والعراقيين بخصوص انتشار المخدرات وتضاعف حالات الانتحار والطلاق وشيوع الفساد بكل انواعه من سياسي ومالي وإداري وربما غيرها.

الآن نتطرق الى السعادة في كتابات البروفيسور قاسم حسين صالح:

بخصوص "السعادة" كتب في مقالته: [رسالة إلى نفسي] بتاريخ 02.10.2009 التالي: [ والواقع أن كثيرين منّا يحمل مفهوما مثاليا عن السعادة، وهؤلاء لن يصلوا لها ولا يستمتعوا بالحياة. فالسعادة الواقعية لها معياران: أن يكون وضعك الحالي أفضل مما كنت عليه، وأن تكون بمستوى أقرانك في الوظيفة أو المهنة أو المكانتين الاجتماعية والاقتصادية..] انتهى

***

عبد الرضا حمد جاسم

 

عندما وصلنا الى موسكو في ستينيات القرن العشرين، أدهشتنا ظواهر عديدة، لأنها كانت جديدة بالنسبة لنا، ومن بين تلك الظواهر الواضحة تماما كانت العناية الفائقة جدا بالاطفال من قبل الروس، لدرجة، ان أحد طلبتنا المرحين أطلق على الاطفال حينها تسمية – (أصحاب الجلالة في المجتمع الروسي !!!)، وعندما ازدادت معرفتنا باللغة الروسية (بعد دراستنا الاكاديمية لها)، اكتشفنا، ان هناك أدب متنوع جدا (لاصحاب الجلالة هؤلاء!!!)، أدب يرتبط حتى بمراحل أعمارهم منذ السنوات الاولى، اذ تبيّن، ان هناك (أدب خاص!) لهم يستمعون اليه (اي قبل تعلّمهم القراءة)، ويتقبلونه بحب واهتمام وهم في بدايات حياتهم، وقد شاهدت (بام عيني!) اطفالا روس يكررون تلك الحكايات الشعبية ويعرفون أبطالها ووقائعها، ويطالبون آبائهم وامهاتهم باعادتها امامهم قبل ان يخلدوا للنوم، وعمرهم أقل من ثلاث سنوات !!!، وهذا النوع من الادب يساهم طبعا – وبشكل دقيق و واضح جدا - في تربية الطفل وبلورة افكاره المستقبلية و شخصيته لاحقا، وغالبا ما أتذكّر قول استاذنا في مادة (علم التربية) باول محاضرة له (وكنّا في الصف الثاني بكلية الفيلولوجيا في جامعة موسكو للعام الدراسي 1961/ 1962)، حول سيدة جاءت اليه وقالت له، ان ابنها بلغ خمس سنوات من عمره، وسألته - متى ابدأ بتربيته ؟ فقال لها رأسا – لقد تأخّرت خمس سنوات ياسيدتي .

أدب الاطفال موجود عند الشعوب كافة، بما فيها طبعا شعوبنا العربية، ولكن الاهتمام بهذا الادب وتدوينه و رعايته وتطويره يختلف عند مختلف تلك الشعوب، والظاهرة التي نود الاشارة اليها والتأكيد عليها بالنسبة لادب الاطفال في روسيا تكمن بالذات في الاهتمام الكبير وغير الاعتيادي هذا، وكذلك في التقسيم الدقيق جدا لادب الاطفال حسب اعمارهم ومداركهم، لدرجة، اننا لاحظنا كتابة ذلك حتى على أغلفة كتب الاطفال تلك، اذ توجد على الاغلفة كتابات واضحة تشير، مثلا، الى ان هذا الكتاب للاطفال (قبل المدرسة !)، وذاك الكتاب للاطفال في المراحل الاولى بالمدارس، وهذا الكتاب للاحداث ....الخ، اضافة الى ان هذا الادب يرتبط باسماء ادباء كبار في تاريخ الادب الروسي (لأن ادب الاطفال يتقبله الصغار والكبار، وفي هذا تكمن اهميته وروعته ودوره، فكل واحد من الصغار والكبار يجد في هذا الادب جماليته وعمق معانيه!)، فكريلوف، مثلا، الذي أسميناه مرّة في احدى مقالاتنا عنه (ابن المقفع الروسي) كان ولايزال (منذ نهاية القرن الثامن عشر ولحد الان، ونحن في العقد الثالث للقرن الحادي والعشرين) واحدا من تلك الاسماء الادبية اللامعة للقراء الروس الصغار والكبار على حد سواء، وتحولت الكثير من المقاطع في حكاياته حتى الى أمثال وحكم روسية ترد في احاديث الروس، ويمكن القول نفس الشئ كذلك بالنسبة لبوشكين، فحكاياته، التي كتبها شعرا، لا زالت (ولحد الان) في طليعة الكتب المطلوبة للقراءة في روسيا، ولجميع القراء من صغارهم الى كبارهم، وغالبا ما تعيد دور النشر الروسية طباعة تلك الحكايات باشكال جذّابة، وتزيّنها بلوحات فنية جديدة، يرسمها فنانون تشكيليون روس معاصرون، وتعتبر هذه الكتب أجمل هدية يقدمها الروس للاطفال في مختلف المناسبات، وكم تمنينا (نحن العرب الذين شاهدنا هذه الظاهرة الرائعة ان نحذوا حذوهم، ونتخلص من عادة منح النقود للاطفال!)، وقد التقيت جارتي قبل ايام، وكانت فرحة جدا، وعندما سألتها عن السبب، فقالت لي، انها وجدت في مخزن بيع الكتب طبعة جديدة في غاية الجمال لحكاية بوشكين عن الصياد والسمكة، واشترتها، وستقدمها قريبا هدية الى حفيدتها بعيد ميلادها، وقد ضحكت انا، وقلت لها، انك أخبرتيني مرة، ان حفيدتك تحب هذه الحكاية و تعرفها عن ظهر قلب، فقالت، نعم، هذا صحيح، ولكن هناك رسومات ملوّنة رائعة في هذه الطبعة الجديدة، وانا متأكدة، ان حفيدتي ستفرح كثيرا عندما تشاهدها.

يستحق أدب الاطفال اهتماما كبيرا، لانه يرتبط بمستقبل الامة باكمله، ويؤسفني ان اشير في نهاية هذه الخواطر السريعة جدا، الى ان أدب الاطفال في روسيا بقي مجهولا بالنسبة لنا، نحن العرب، رغم بعض الترجمات التي ظهرت هنا وهناك، ولم يحاول اي طالب عربي ان يدرسه في روسيا ويتخصص به حسب معرفتي المتواضعة، رغم ان هذا الادب يمتد من القرن الثامن عشر ولا زال يتفاعل بحيوية وازدهار وتطور في المجتمع الروسي الى حد الان، ويؤدي دورا متميّزا في مسيرة هذا المجتمع ...

***

أ.د. ضياء نافع

 

يحلّ علينا عيد الفطر المبارك وهو اجمل مناسبة لأن نسامح بعضنا بعضا، وستندهشون حين تدركون ان التسامح هو للروح كما الصابون للجسد، يغتسلها من اوساخها ايضا، وان من لا يقدم عليه، يتعفن من الداخل بنقيضه.. الكراهية.

وستندهشون ايضا.. ان التسامح الذي صار الان مبدءا انسانيا تعتمده الامم المتحدة، كان الدين الاسلامي قد سبقها وسبق الحضارة المعاصرة بالف وخمسمئة عاما في دعوته الى التخلي عن رغبتنا في ايذاء الاخرين لأي سبب حدث في الماضي، وان نفتح اعيننا لرؤية مزايا الناس بدلا من ان نحكم عليهم ونحاكمهم او ندين احدا منهم. وكان النبي الكريم قد ضرب اروع مثلا وانبل موقفا في التسامح يوم فتح مكة وقال للذين حاربوه.. من دخل بيته فهو آمن ومن دخل بيت ابي سفيان فهو آمن.. مع ان ابا سفيان كان من الدّ اعدائه.

والتّسامح.. الذي دعا إليه الأنبياء والمصلحون، لا يعني فقط العفو عند المقدرة، وعدم ردّ الإساءة بالإساءة، والترفّع عن الصّغائر، بل انه يعمل على السُّموّ بالنّفس البشريّة إلى مرتبة أخلاقيّة عالية، وله أهميّة كبرى في تحقيق وحدة وتضامن وتماسك المجتمعات، واحترام معتقدات وقيم الآخرين، والقضاء على الخلافات والصّراعات بين الأفراد والجماعات.. ولهذا فانه يعدّ ركيزة أساسيّة لحقوق الإنسان، والديمقراطية والعدل، والحريات الإنسانيّة العامّة.

والتسامح يقوم على مسلمات فلسفية بخصوص الطبيعة البشرية، اولها: لا يوجد انسان معدوم الخير، وثانيها: لا يوجد انسان لا يخطأ، وثالثها: ان الانسان مجبول على الحب.. ما يعني ان من يسيء لغيره قد يعيش ظروفاّ صعبةّ أدّت به الى أن يسيء لمن حوله، لكنّه لايجد من يعذره ويتسامح عن زلّته.

وما لا يدركه كثيرون ان التسامح لا يعني فقط ان نسامح آخرين على اخطاء ارتكبوها بحقنا، بل يعني ايضا ان نسامح انفسنا على اخطاء ارتكبناها بحقها وان نخلّصها من اللوم والاحساس بالخزي والشعور بالذنب الذي يصل احيانا الى تحقير الذات.

وسيكولوجيا.. يعني التسامح ايقاظ مشاعر الرّحمة، والتّعاطف، والحنان، الموجودة اصلا في قلبك، وازاحة مشاعر الغضب والكراهية والانتقام نحو من اساء اليك.ويعني فسلجيا.. ان الجهاز العصبي للانسان يكون في حالة التسامح .. مرتاحا، لأن الدماغ يكون مرتاحا جدا في حالات الحب فيما يكون مشوشا متوترا(مخبوصا) في حالات الكراهية.

اعرف ان بينكم من يقول: كيف يمكن أن اسامح من أخطأ بحقي او تجاوز عليّ؟. واعرف ان بين العراقيين من هو (أنفه) ولسان حاله يقول (والله لو يموت ما اسامحه) و(هو شنو حتى اسامحه). لكنك لو فكرت كيف ستكون مرتاحا نفسيا ان بادرت انت وكيف سيكون ممتنا لك من اساء اليك.. لشكرتنا وفعلت!

وثمة حقيقة سيكولوجية لطيفة جدا، هي انك اذا احببت احدا خلقت له الاعذار عن خطأ او سوء تصرف صدر منه نحوك، واذا كرهت احدا فانك تخلق له الاسباب وتعمل على تضخيمها.. وكلاهما ناجمان عن حسن الظن في الأولى وسوء الظن في الثانية.. الذي يشيع في زمن الكراهية.ما يعني ان علينا ان نبدأ بحسن الظن بالآخرين كخطوة اولى نحو التسامح، وان نستثمر مناسبة العيد المبارك في ان نبادر نحن بمسامحة الآخرين.. فبه نكسب رضا الله ورضا النفس والناس، ونشيع التفاؤل والمودة والحب والسلام في وطن كانت بغداده تسمى مدينة السلام.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

 

ترتبط التجربة التي يخوضها المتذوق في الجمال بالمعرفة التي يمتلكها، وأن المعرفة الجمالية تعتمد على الإدراك الحسي، وان التفاعل مع الموضوعات الجمالية يتم من خلال الأدوات الحسية، وهذا ما أشار إليه ابن (منظور) بقولة: أن التذوق يكون بالفم أو بغيره، لذا يمكن عد الجسد الإنساني كتلة حسية تتغذى على الملامسة، لكن الفلاسفة فضلوا في أن يجعلوا لكل معرفة قناة خاصة للإدراك، وهذا ما أشار إليه (أرسطو) بقوله: (من فقد حساً فقد الإحساس بمدارك ذلك الحس). وعلى هذا فرق (نيتشه) بين نوعين من النشوة التي يحصلها الإنسان المتذوق من الفنون الجميلة: ابولونية (عقلية) تثأر من خلالها العين، مثل الرسام والنحات، وديونيزوسية (حسية) تثير من خلالها وسائل الإحساس وتهيج دفعة واحدة في التحول والمحاكاة، مثل الكوميديا.

وبما أن الذائقة الجمالية لدى الإنسان تعتمد على الحواس في خوض التجربة الجمالية، فإن اي تأثر أو فقدان بتلك الحواس، يسبب نفياً للمعرفة الجمالية. ومن اهم عوامل الفقدان التي تتعرض لها اعضاء الإدراك الحسي تتمثل بالمرض أو الفقدان للحاسة. لذلك نرى ضرورة البحث في علاقة الجمال بالأمراض والأوبئة التي تسبب نفياً لذائقتنا الجمالية، وفقدان للمعرفة الحسية.

ويمكن تعريف (المرض): بأنه كل ما خرج بالكائن الحي عن الصحة والاعتدال من علة، أو نفاق، أو تقصير في أمر. فالمرض متعدد، مره يكون جسدي، وأخرى يكون نفسي، اذا ارتبط المرض بالنفس كان شكاً،او نفاقاً، أو حسداً، أما إذا أصاب الجسد كان الفقدان، وإن الذائقة الجمالية تعتمد على الإدراك من خلال الحواس في تكوين الصورة الحسية للجميل والاستمتاع به نفسياً، وهذا ما أكده الفيلسوف الإنجليزي (هيوم) أن التذوق وسيلة لتميز بعض خصائص الأشياء من خلال الحواس الخمسة. أما وظيفة المتذوق فقد بينها (هايدجر) بقوله: بأنها تتمثل في إعادة انتاج الرؤية الإبداعية للموضوع الجمالي. لذلك تعتمد عملية التأمل للجميل على الإدراك الحسي، والتي بدورها تتحرك من خلال بواعث غريزية ونفعية.

لذلك سلامة الأدوات الحسية جزء من فهم ووضوح الصورة الجمالية لدى المتذوق، فغياب الإدراك الحسي يعني غياب المعرفة الجمالية، والعيش بأوهام القبح دون الإحساس بلذة الحياة وزينتها، فالصحة جميلة وخيره، والمرض قبيح وشر، وهذا ما بينه الفيلسوف الإسلامي (ابن مسكوية) عن أرسطو، وأكد عليه سقراط من قبل بأن الشيء الجميل هو ما يؤدي وظيفته على أكمل وجه. فالمعرفة الجمالية هي معرفة يشترك في تكوينها الحس والفهم كما يرى (كانت)، وأن عملية التجريد التي يقوم بها الذهن للبينات الحسية التي تستورد من الحواس، ترتبط بسلامة العضو وصحته.

وعلى الرغم من أن يبدأ كل شيء مع الانطباع الحسي، فمن الضروري أن تمر هذه المعلومات بسلسلة من العمليات العقلية، وبما ان الواقع متغير، فإن الاحتفاظ بمعرفة الأشياء، يعتمد على الجمع بين الخيال والذاكرة، وإن هذا يتم من خلال الانطباعات التي تدركها الحواس لصفات الأشياء وتحولاتها، فتتكون لدينا فكرة عامة وشاملة عن الاشياء.

لذلك تكوين المعرفة المكتسبة من خلال العمليات الإدراكية تعتمد على صحة البدن، ونقاء الإحساس، فكل اعاقة أو مرض فايروسي يضرب حاسة من الحواس هو فقدان لتلك اللذة والمعرفة المرتبطة بها بحسب ارسطو،لكن (افلاطون) يرى المعرفة بأنها تذكر، فهل المرض أو الاعاقة للحواس لا يستوجب نفيا للمعرفة الجمالية، لكون الفرد يحتفظ بصورة ذهنية عن طريق المعرفة المكتسبة. نرى من المكن هذا الأمر ينطبق على من فقد حاسة جراء مرض فايروسي مؤقت أو إعاقة دائمة، لكن يبقى الأمر أكثر صعوبة على الإنسان عندما يكون المرض،او الاعاقة منذُ الولادة. فيمكننا التساؤل: كيف يمكن لهذا الشخص تكوين معرفته عن الاشياء الخاصة بهذه الحاسة المفقودة،هل الحواس الأخرى كافية لتعويض المعرفة التي فقدت ؟.

بما أن الإنسان يمتلك حواسا خمسة تتعدد مهمتها،و في أكثر الأحيان نحتاج جميع الحواس لمعرفة شيء معين والأستلذاذ به، فنعرف شكله من خلال العين، ونتأكد من ملمسه من خلال اليد، ومذاقه من خلال اللسان، وصوته من خلال الأذان، ورائحته من خلال الأنف، فكل تلك الأدوات الحسية تجتمع من أجل توصيل صورة كاملة وواضحة للذهن لغرض اختيار الاستجابة التي تلائم الموضوع الخارجي وحفظة في الذهن، لذلك يمكن الاستعاضة بالحواس الأخرى لغرض تكوين صورة عن الموضوع، وتبقى العين هي المصدر الرئيسي لمد الحواس الأخرى بالصور الحسية، لكن قد تكون خيالية بعض الشيء، ولنا في الصمم الذي أصاب بيتهوفن في أواخر أيامه مثلاً لم يمنعه من تأليف السمفونية التاسعة.

أما المرض النفسي فتجده ذا تأثير كبير على فهم وتكوين الصورة الجمالية من خلال ظهور اللاشعور أو المكبوت في اللاوعي إلى الواقع، فالرغبة المكبوتة هي المصدر في تحديد صورة الشكل وليست الأدوات الحسية، وهذا ما أكده (كروتشه) بقوله: عندما نشاهد لوحة قد تستثير في نفوسنا ذكريات طيبة، لكن اللوحة قد تكون قبيحة من الناحية الفنية، أو العكس من ذلك، قد تكون جميلة فنياً، ولكنها تترك أثرا بغيضا على النفس، لذلك الرغبات المكبوته في نفس المتذوق للموضوع الجمالي هي من تشكل صورة اللذة الجمالية، لذلك المرض النفسي يعيق العمليات العقلية ويوهمنا بصور لانطباعات مكبوتة تختلف عن غاية الموضوع الخارجي وصورته، لذلك كان الفن تطهيراً وشفاء للشر والأمراض التي تكمن فينا، لذلك قد يكون المرض نفياً للجمال، إلا أن معالجة تلك الأمراض لا تتم إلا من خلال الفن، لذلك يمكن دراسة الأمراض والأوبئة من الناحية الجمالية لغرض بيان الإعاقة التي تقف بوجه تكوين المعرفة الجمالية، والأسباب التي أدت إلى فقدان الحس الجمالي لدى الأفراد وتقديم المراجعة التي يمكن الاستفادة من دراسة لغرض تقديم المعالجة الجمالية.

***

كاظم لفته جبر

 

 

في الخامسة عشر من عمره ارسله والده لرؤية فيلسوف قرطبة الشهير. كان ابن رشد يبلغ من العمر آنذاك " 57" عاما، عندما طلب من صديقه علي بن محمد الحاتمي، ان يرى ابنه البكر محمد لما سمع من حكايات تشير الدهشة، عن هذا الصبي الذي يردد ان يعتزل العالم .

بعد سنوات سيُصبح هذا الفتى شديد الإيمان بأن يتعلم المرء من الآراء التي يجد نفسه مختلفا معها، أوحتى التي تبدو له غريبة، هذا لأن محي الدين بن عربي كان يرى ان من المحتمل كثيرا وجود ثغرات من الحقيقة متناثرة هنا وهناك، بل حتى في اكثر الاماكن غرابة، والمطلوب منا استخراجها من خلال المثابرة على طرح السؤال التالي: " هل الانسان حقا روح العالم، ولو فارق العالم هذا الانسان مات العالم؟ يكتب: " ان الملائكة ليست سوى قوة كامنة في ملكات واعضاء الانسان "، انفق ابن عربي معظم حياته في التفكير في الكيفية التي ينبغي ان يكون عليها الانسان، لقد اراد معرفة كيف السبيل الى ان يتحسن الانسان، كيف تصير له القدرة على الاكتمال في عالم هو برأي ابن عربي افضل عالم، يسير على طريق مستقيم اراده له الله . ذلك ان الحكمة الإلهية ارادت له الوجود بأيسر الطرق وأكثرها استقامة، واذا خيل لأحد بأن في العالم نقصا أو اعوجاجا، فانه لا يعرف سر الخلق: " ومثل هذا يشبه من يجهل ان اعوجاج القوس عين استقامته، فأن رمتَ ان تقيمه على الاستقامة الخطية المعلومة كسرته، فلم تبلغ انت بالاستقامة اللائقة به " – الفتوحات المكية تحقيق عثمان يحيى –

يردد ابن عربي عبارته الشهيرة " من عرف نفسه فقد عرف ربه " بمعنى ان السير في معرفة الحقيقة والوصول الى الحق هو الطريق الى الله، لان الانسان خلق على صورة الإله، فعليه أن يدرك الله وصفاته في نفسه . ويرى ابن عربي ان الانسان يمثل نسخة حقيقية للكون، بمعنى انه يوجد في الانسان شيء من السماوات وشيء من الارض وبهذا المعنى هو " نسخة من العالم " .ان مفهوم الانسان بوصفه كونا اصغر يمثل نقطة الانطلاق التي يستخدمها ابن عربي في تفسيره لنظرية " الانسان الكامل " ومواصفات هذا الانسان ان يكون: " متفقداً لجميع أخلاقه، متيقظًا لجميع معايبه، متحرزا من دخول كل نقص عليه، مستعملًا لكل فضيلة، مجتهدا في بلوغ الغاية، عاشقا لصورة الكمال، ملتذًّا بمحاسن الأخلاق، متيقظا لمذموم العادات، معتنيا بتهذيب نفسه، غير مستكثر ما يقتنيه من الفضائل، مستعظما لليسير من الرذائل، مستصغرًا للمرتبة العليا، مستحقرا للغاية القصوى، يرى التمام دون محله، والكمال أقل أوصافه، فأما الطريقة التي توصله إلى التمام وتحفظ عليه الكمال، فهي أن يصرف عنايته إلى النظر في العلوم الحقيقية، ويجعل غرضه الإحاطة بماهيات الأمور الموجودة، وكشف عللها وأسبابها وتفقُّد غاياتها، ولا يقف عند غايةٍ من علمه إلا ورَنَا بطرفه إلى ما فوق تلك الغاية، ويجعل شعاره ليله ونهاره قراءة كتب الأخلاق، وتصفُّح كتب السِّير والسياسات. وأخْذ نفسه باستعمال ما أمر أهل الفضل باستعماله، وأشار المتقدمون من الحكماء باعتياده، ويَنشُد أيضًا طرفًا من أدب البيان والبلاغة، ويتحلى بشيء من الفصاحة والخطابة، ويغشى أبدا مجالس أهل العلم والحكمة، ويعاشر دائما أهل الوقار والعفة " - الفتوحات المكية تحقيق عثمان يحيى - . ونظرية الانسان الكامل تفسر النشأة الانسانية بالحديث المنسوب الى الرسول، خلق الله آدم على صورته، فالله قد خلق الانسان على صورته وحلاه باوصافه وسماه باسمائه فهو الحي والانسان حي، وهو العليم والانسان عليم، وهو الموجود والانسان موجود، فالانسان متصف بالكمال وهو: " الكون الجامع لجميع حقائق الوجود، هو العالم الأصغر الذي انعكست في مرآة وجوده كل كمالات العالم " – فصوص الحكم تحقيق ابو العلا عفيفي -

ولد ابو بكر محمد بن محمد بن علي بن محمد الحاتمي المعروف بمحيي الدين، والشيخ الاكبر وابن افلاطون في مدينة مرسيه الواقعة جنوب الاندلس في الثامن والعشرين من تموز عام 1165 ميلادية، توقع والده ان حياته ستكون قصيرة بسبب الامراض التي ألمت به وهو طفل، كان الابن الثاني لعائلة غنية، عاش حياة هادئة، لم يذهب الى المدرسة، حيث كان المعلمون يأتون الى بيت اهله، درس القرآن، وقرأ في كتب المتصوفة التي كانت في مكتبة عمه " ابو محمد العربي "، كان والده من الاعيان، فاصطحبه معه في جولات بين مدن الاندلس .ويخبرنا ابن عربي ان له خالان سلكا طريق التصوف: " كان بعض اخوالي من الزهاد الذين تركوا الدنيا عن قدرة " –الفتوحات المكية - . في الثامنة من عمره تنتقل عائلته الى اشبيلية بعد ان سيطر الموحدين على مدينة مرسيه،، كان ابوه مقربا من حاكم اشبيليه وذا صلات وثيقة بالنخبة الفكرية، تكفل بنفسه مسألة تعليم ابنه لاسيما الفلسفة والفقه وعلوم الدين، وسرعان ما جذب الانظار اليه فكان ان دعاه ابن رشد ليسأله عن طبيعة الانجازات الروحية التي حققها .

يقول كتاب سيرة ابن عربي ان شغفه بالتصوف يرجع الى اتصال والده بالصوفي الكبير عبد القادر الجيلاني الذي لقب بسلطان العارفين، ويقال ان بزوغ ابن عربي نفسه إنما جاء نتيجة النفوذ الروجي للجيلاني الذي تنبأ لابن عربي منذ الصغر بان " هامته ستعلوا بها مواهب بارزة " – الصوفيون تاليف ادريس شاه ترجمة بيومي قنديل - .

في الثامنة عشرة من عمره يتوجه الى لشبونه لدراسة القانون والفقه، بعدها يسافر الى اشبيلية لدراسة علوم القرآن والحديث، وفي قرطبة اصر ان يحضر دروس الشيخ ابو القاسم الشراط التي كان يلقيها في جامع قرطبة .

في الثلاثين من عمره يسافر الى تونس وهناك يبدأ بتاليف اول كتبه " الاسراء "، بعدها يعود الى قرطبة لحضور جنازة ابن رشد، يقوم برحلات الى مصر وبيت المقدس ويقضي سنتين في مكة، حيث يتفرغ لكتابة مؤلفه الضخم " الفتوحات المكية "، في مكة يلتقي " عين الشمس نظام " وهي ابنة رجل من اصفهان مقيم في مكة، تميزت بالذكاء والتقوى والتبحر بعلوم القرآن، فضلا عن جمالها، كتب عنها قصائد شعرية جمعت في ديوان عنوانه " ترجمان الاشواق " – تحقيق عبد الرحمن المصطاوي – وقد اتهمه البعض بالتغني بالجمال الانثوي فكان رده بجملة بليغة: " المرأة الجميلة ليست سوى عمل فني مقدس " . وسيقدم ابن عربي شرحا لديوان " ترجمان الاشواق " يوضح فيه كيف يُصاغ القول بعبارات الغزل، حين يكون المقصود هو الأسرار الإلهية..وبسبب موقف رجال الدين منه، سيوجه ابن عربي سهامه الى الفقهاء الذين يتكالبون على جمع حطام الدنيا على حد قوله وهم ليسوا في حاجة اليه، ويتهمهم بالنفاق والرغبة في تحصيل الجاه، مما يدفعهم الى تملق الحكام والسعي الى تحقيق اغراضهم، وهو يرى ان الفقهاء اشد خلق الله على الاولياء والمتصوفة .

سيقضي ابن عربي عدد من السنوات في رحلات بين القاهرة وبيت المقدس ومكة وقونية وبغداد والموصل، ليستقر في النهاية في دمشق التي وصلها عام 1230، حيث وجد فيها الراحة والحماية من قبل الاسرة الايوبية الحاكمة، فاخذ يلقي دروسه على بعض الطلبة واصبح له اتباع، عاش حياة هادئة استطاع خلالها أن يضع عددا من الكتب كان اشهرها كتاب " فصوص الحكم " والذي يعد بمثابة وصيته الفلسفية، وفي دمشق اكمل وراجع " الفتوحات المكية " حيث انهى النسخة الثانية عام 1238 . في سنواته الاخيرة حاصرته الامراض فقال لاحد اتباعه: " قل لاصحابك استغنموا وجودي من قبل رحلتي " ليرحل عن عالمنا في السادس عشر من تشرين الثاني عام 1240 وكان يبلغ الخامسة والسبعين من عمره، دفن بمقبرة في جبل قاسيون، واقيمت له مراسيم صلاة في جامع دمشق، ويقال ان دمشق شيعته بجنازة مهيبة مثلما تمنى في كتابه " الفتوحات المكية " حيث قال: " فتسأل الله تعالى لنا ولاخوتنا ان يكون المصلى علينا عبدا يكون الحق سمعه وبصره ولسانه " .

في اللقاء الذي تم بين ابن رشد والفتى ابن عربي سأله ابن رشد: هل المنزلة التي وصل اليها الفلاسفة بالعقل والفكر، هي نفس المنزلة التي وصل إليها المتصوفة بالايمان والتجرد؟ فكان جواب ابن عربي: " نعم، ولا. وبينهما تطير الارواح " . نعم، لأن العقل يدرك ويلمس أسرار الكون وعجائبه، ولا، لان العقل المجرد مع وصوله إلى تلك القمة ينحدر وينزلق، ويضل في تفهُّم ذات الله، والعقل المجرد، ليس له من القيود ما يعصمه من سبحاته، التي تتطاير حول المعارف مع الريح في شتى الاتجاهات والغايات، فتصيب حينا وتخطئ أحيانا، ولهذا قال محيي الدين: وبين نعم ولا تطير الأرواح.

يؤمن ابن عربي بان الغرض من الفلسفة ومن تعلمها، انما لإصلاح النفس بأن تستعمل الفضائل، وحسن سياستها للمنزل والرعية، وهذا نفسه لا غيره هو غرض الشريعة ايضا من وجهة نظر ابن عربي .

ويخبرنا ان غالبية كتاباته عبارة عن نتائج لتجارب روحية، فهو يخبرنا ان كتابه " فصوص الحكم " تلقاه من يد النبي في رؤيا، وكذلك اجزاء من كتابه " الفتوحات المكية " الذي قال ان افكاره تولدت لديه من فيض حصل عليه من احد التجليات الالهية: " إنني اتحدث بأذن (من الله) .. اننا بالحضرة الإلهية فقط قلوب معلقة بباب الحضور الالهي، منتظرين بأن يفتح، نحن فقراء محرومون من أي معرفة ".

يرى ابن عربي في كل الاديان دروبا مختلفة تنطلق من مبدأ واحد لتوصل إلى غاية واحدة . وقد اوضح هذه الفكرة بقوله إن كل عبادة حتى ولو كانت موجهة لشيء وهمي، لا يمكن إلا ان تستهدف الله لأن كل الكائنلت تجليات له، وسينطلق عبد الكريم الجيلي من مشروع ابن عربي في التسامح الديني ليعلن ان كل دين بما في ذلك الوثنية، هي مظهر من مظاهر عبادة الله، مستندا الى ابيات ابن عربي الشهيرة:

لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورةٍ

فمرعى لِغُزلان وديرٌ لرهبانِ

*

وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ

والواح توراةٍ ومصحف قرآنِ

*

أدينُ بدين الحب أنًى توجهت

ركائبهُ، فالحبُ ديني وإيماني

عندما يتحدث ابن عربي عن منهجيته يقول انه لم يحدد لنفسه غاية عند الكتابة، بل يعتمد على ومضات من الإلهام، والطريقة الوحيدة للتخلص منها من عقله كانت بكتابتها . كان يكتب بأمر من الله الذي كان يلقاه اثناء نومه . ويصف ابن عربي هذا الحدس الروحي بانه كشف وفتح وهذا ما يتضح في فصوص الحكم الذي قال انه تلقاه كله في المنام، وقد مارس هذا الكتاب تاثيرا كبيرا على المتصوفة، واثر في افكار جلال الدين الرومي، وكان الشاعر الايطالي دانتي مسحورا بكتاب فصوص الحكم الذي ترجم الى اللاتينية . وعبر اسين بلاثيوس عن هذا التاثير قكتب: " عبر ابن عربي عن تعاليم وافكار الاجيال الصوفية التي سبقته، مسجلا لاول مرة، وبشكل منتظم، اطار واسع للتجربة الصوفية والتقاليد الشفوية " – ابن عربي ترجمة عبد الرحمن بدوي –

واذا تحدث ابن عربي في الكشف الرباني فهذا لا يعني انه رفض لدور العقل . فابن عربي يؤكد ان العقل ضروري في اكتساب معرفة الاشياء الحقيقية، وجعل في مركزية تفكيره دور البشر وقدرتهم في تحقيق صفات الله في ذواتهم . ويقصد ابن عربي بتلك الصفات الرحمة والغضب والعدل والجمال .وهذا يدل على فردانية البشر لانهم خلقوا على صورة الله . ويعترف ابن عربي ان العلم الصحيح هو اعلى درجة من الايمان، فهو يشمل على الايمان ويحفظه، ولهذا يسمو العلم فوق اي مفهوم للايمان: " تعلموا العلم، فان تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ودراسته تستبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وهو الانيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، والدليل على السراء والضراء" – الفتوحات المكية تحقيق عثمان يحيى - .ويرى ابن عربي ان المعرفة والعارف من اشهده الرب نفسه فظهرت منه الاحوال والمعرفة حاله، بينما العالم كم اشهده الله الله الوهته، ولم يظهر عليه الله حال، والعلم حالة " – رسائل ابن عربي تحقيق - وتشير هذه المقارنة بين المعرفة والعلم الى ان ابن عربي دعى الفضل للعلم " العلم الحق، والحق العلم " .

يشكل الحب مصدرا من مصادر فلسفة ابن عربي، فهو يرى ان العالم جميل وجدير بالحب حيث انعكس فيه جمال الله وكماله . ولو كان في العالم شيء من القبح لنزل عن الدرجة التي اراد الله ان يخلقه عليها .واذا كان الله مصدر الخير، فلا يجوز اعتبار الانسان مصدر الشر، وانما يقال بعض اعمال الانسان تحمل الشر، فالشر المحض لاوجود له، وبخلافه المحبة والخير ومعناها الوجود المحض نحن نسمي الشر شرا لاننا نجهل الخير المستتر فيه ونجهل الحكمة الالهية من خلقه، فالله في النهاية يغمر الموجودات جميعها بمحبته .ويرى ابن عربي ان الحب الإلهي السعادة الكبرى والنعيم الابدي ذلك لأن: " الحب المتعلق بشيء ازلي يغدق على النفس صفاء لا كدر فيه" – فصوص الحِكم تحقيق ابو العلا عفيفي – والحب اساس العبادة، ولولاه ما عبد شيء، لان العبادة تقديس، والتقديس سبيله الحب . والمحبوب الحق هو الذات الإلهية، التي تتجلى فيها معاني الجمال، وبالحب الإلهي يتأخى الناس، وإن فرقت بينهم الاديان .كان ابن عربي يرى ان الحب الإلهي سبيل الى قيام دين عالمي لا يقف عند الحدود التي وضعها رجال الدين واصحاب الملل . وليس الحب مقصورا على البشر، فالله يبادل عباده الحب أيضا .ولهذا فالحب سر الخلق ومغزى وجوده في هذه الدنيا، ولولا حب الله لذاته، ورغبته في التجلي لما برز في الوجود مخلوق، فلولا هذه المحبة لما ظهر العالم، فوجوده ناتج عن حركة حب الهية . ولما كان الحب سبب الوجود، كان الوجود باكمله مشمولاً بالرحمة والغفران، فلا مذنب ولا إثم إلا ومشمول برحمة الله المحبة للجميع . والله يحب الناس لهم ولانفسهم .. والله يبادل عباده حباً بحب واشتياقا باشتياق، بل ان شوقه الى عباده اقوى من شوقهم اليه يكتب ابن عربي: " قال تعالى: ما ترددت في شيء، أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن، يكره الموت، واكره مساءته، ولا بد له من لقائي " – فصوص الحكم تحقيق ابو العلا عفيفي-

بلعت كتب " ابن عربي " كما اخبرنا في الفتوحات المكية " اكثر من اربعمائة كتاب "، ويضع المستشرقون ابن عربي من حيث الانتاج الفكري بموازاة ارسطو في مجال الفكر .وهذه الكتب على كثرتها تعكس المراحل الفكرية التي مر بها ابن عربي، وكيف كان ممزقا بين الإيمان والعقل .

ان نظرية ابن عربي تفوم على تجل حقيقي يبدي فيها الله ولعا شديدا، يقوم على المحبة لاظهار ذاته، كذلك رغبة كبيرة في المعرفة والحب، ولهذا فعندما رغب ابن عربي في ان يختار صفة يستخدمها الله في فعل الخلق فإنه لجأ الى احد الاسماء التي يطلقها القرآن على الله ألا وهو اسم الرحمن . إذن فالخلق، قبل اي شيء، هو ثمرة لرحمانية الله ولمحبته للانسان .

كان ابن عربي فيلسوفا من طراز خاص، رغم انه انكر علاقته بالفلسفة، قرأ افلاطون جيدا، ورفض ان يكون مؤمنا من غير تفكير، فطور فهما جديدا لمكانة العقل عند الانسان .كانت مساهمة ابن عربي الكبرى تعليمنا ان اي كائن بشري وليس المسلم فقط، قادر على بلوغ حقائق عظيمة ان هو استفاد من اعظم عطية قدمها الله للبشر وهي العقل .واصر على ان الافكار الحسنة يمكن ان تاتي من اي مكان بصرف النظر عن العقيدة والجنس .

صحيح ان ابن عربي كان رجلاً شديد الإيمان إلا انه قدم اطارا فلسفيا لعملية الاخوة البشرية، وظل يذكرنا بان الحكمة يمكن ان تأتي من الحدس مثلما تأتي من التفكير العقلي، ويمكن أن تأتي من زهاد . انه منفتح على ذلك كله، وهو ياخذ ما يراه مفيدا ..فالحكمة بالنسبة لابن عربي تتجلى في صور متعددة وعقائد متباينىة وديانات مختلفة، والعارف من يدرك ان هذه كلها من مصدر واحد:

عقد الخلائق في الإله عقائدا

وانا اعتقدت جميع ما عقدوه

***

علي حسين

رئيس صحيفة المدى البغدادية

 

نحن من؟

الذات الفردية، والجماعة العصبوية، والكيان القومجي الهلامي، تعبيرات تختصر هذا النحن القابع في الظلمات، يراوح مكانه منذ قرون، يستديم فواته بانتظارية قاتلة، ولا يفتأ ينشر أننا محور العالم، ويُشيع أن العالم سيار حولنا.

هل تتمتع الذات الفردية بمقومات الفاعل المبدع المارد الخلاق البناء المبادر المستنفِر لكل طاقاته، من أجل الالتفات إلى البيئة الطبيعية والاجتماعية وحمايتها من صلفه، والانخراط في الفعل التنويري من أجل النهوض وتجاوز الفوات؟

أنى لها ذلك وهي حبيسة قوالب تفكير ورؤى معدة سلفا، مكبلة العقل، ضحلة الذائقة، مخنوقة العقيرة، لا تقوى على الصراخ، غير قادرة على الرفض، بل يعوزها أبسط تعبير في أحيان كثيرة؟!

هذه الذات الفردية هي نفسها التي تهُبُّ بنعرة وحمية، لكن بعمى عقلي لا حدود له وهي تعتقد أنها تنافح الهوية والعقيدة، وترد الاعتبار لذاتها الجمعية، فتفصح عن "فاعل" مُتّبِع ومارد متجبر هدام، مبادر إلى العنف والتدمير، مُستنفِر لكل طاقاته العدوانية وهو يعتقد أنه يهُبُّ ليدافع عن الحق ويصون الفضيلة، بيد أنه يحمل بين ما يصرح به وما يمارسه تناقضات غريبة لا حصر لها.

ينظر الفرد عندنا إلى ذاته نظرة دونية، لأنه فاقد للحرية وللكرامة والاستقلالية، يمجد الآخر ويتمنى الهروب إليه، أو يسعى ليُحرق الحدود بحرا وبرا نحوه، كي ينعم بشيء من إنسانيته في أحضان البلاد التي تحضن هذا الآخر، وحين ينظر إلى إخفاقاته يغرق في الشعور بالغبن وبأن العالم متآمر ضده وضد شخصيته وهويته.

تركيبة الفرد في المجتمع المستلَب تركيبة معقدة حابلة بالتناقضات، إنه يريد ولا يريد، له رأسان واحد به رأي والثاني رأي نقيض، يحب جاذبية الحداثة لكنه يريد ويكرس التقليد، فهو شديد التعصب، لا يحب الاختلاف، ينخرط في الحرب بمجرد ظهور ملامح التغاير، يحب أن يكون تقدميا لكنه شرس الدفاع عن أشياء كثيرة رجعية، إنه الفصام الذي جُبِلنا به في المجتمع الواقع في الفوات الرازح تحت الاستلاب.

الجماعة العصبوية مجموعة من الناس أشبه ما تكون بقطيع سائر تحت إمرة كرّاز (كبير التيوس)، تحكُم أفرادَها علاقة الشيخ بالمريد؛ العائلة والقبيلة والحزب والنقابة والجمعية والجماعة الدينية أو ذات لبوس ديني، وغالبا تكون ذات أهداف سياسية... كلها جماعات عصبوية، متراصة على قاعدة مسلمات متكلسة وأفكار محنطة غير قابلة لإعادة التدوير، لا تؤمن بالفرد المبدع، وتحاربه، فهو عدوها وهي عدوة النجاح، تُعِد كل شيء سلفا في مطبخها، ترفع أقوى شعارات الحداثة والتقدم والديمقراطية وهي ألصق بكل ما يخالف الشعار من احتكار للرأي وتقديس للزعامات، ونبذ للنقد ونفي للعقل وتحجيم للاختلاف وممارسة الإقصاء الممنهج، وتجريم التفكير والمبادرة .. وهذا كله يذيب الفرد في عصبة متماهية قاتلة تصبح قوة رادعة لكل محاولات النهوض والإبداع، والأدهى أنها تنخرط في منظومة الفساد عبر علاقات متنفذة تحقيقا لمصالح آنية ضيقة.

كلما شعرت الذات الفردية أو الجماعية بتهديد في وجودها أو توهمت ذلك التهديد، باعتبارها كيانا يعيد إنتاج التأخر، كلما رفعت فزاعاتها العديدة، ليس في وجه الاستبداد والظلم وجبروت السلطة السياسية، فهذا جدار عال، بل في وجه الذات المقهورة (الحيط القصير) أو القوى البعيدة التي لا يطالها عقابها.

أما الكيان القومجي الهلامي فتَمثُّله يرتبط بذلك الانتماء المثالي خالص النقاء والصفاء، لأمة لا توجد إلا في الخيالات الواقفة على أطلال الماضي التليد، واعتناقه والاعتقاد بحتمية تحققه في يوم من الأيام، يجعل برنامج النهضة الوطنية الديمقراطية مؤجلا، وإرساء مقومات المواطنة مستبعدا، ومفهوم الأمة/الوطن الحضن الحقيقي الذي نبت في أحضانه مغيّبا، ومثلما يقف الفرد مسلوب الإرادة متمترسا خلف السلبية والعداء الظاهر والمبطن لكل شيء ولأي شيء مصدره الوطن، تقف الجماعة العصبوية وكيانها القومجي الموهوم في وجه المواطنة، فتضرب كل قيمها حين تستبدلها ب"قيم" الولاء والانتساب المناطقي والقبلي والعشائري والحلقي الضيق...

"إن العالم سيّار حولنا" !

هكذا ذهنية مستلبة من الماضي، تكرس الشعور بأننا مركز الكون وضحيته، كل شيء موجود من حولنا يريد بنا شرا، وأننا مستهدفون، وهو استلاب لا يقل خطورة عن الارتماء في أحضان الغرب والاستعمار الجديد، وجوهر الاستلاب طلب إرادة المستلَب هدفا، وحين تُنزَع الإرادةُ من الإنسان يصير عاجزا عن الفعل والبناء، وبعيدا عن المواطنة التي تقتضي المسؤولية في إنجاز التغيير نحو غد أفضل للبيئة والإنسان.

***

عبد القهار الحجاري

 

هي مجموعة أسئلة ذات طابع وجودي، لواقع نعيشه وننشط فيه بحثاً عن ذواتنا المهمشة والمتعبة والمغربة والمستلبة والمشيئة، بفعل عوامل داخليّة وخارجيّة، وغالباً ما تكون العوامل الداخليّة أشد قسوةً وسيطرة على حياتنا، تفرضها بنية اجتماعيّة متخلفة، وتمارسها قوى اقتصاديّة وسياسيّة ودينيّة واجتماعيّة، تَحَوَلَ الوطن عندها إلى غنيمة، ومواطنوه ليسوا أكثر من رعايا فقدوا ممارسة حقوقهم وواجباتهم، وتحولت حياتهم إلى أشبه بحديقة حيوان، لا يفكرون إلا بلقمة عيشهم التي أصبحت عزيزة عليهم، في الوقت الذي تجد فيه قوى اجتماعيّة امتلكت كل شيء، تمارس وتحقق ما تريد باسم الوطن والقانون وبدونه.

س1- من أنا؟:

ج1- من الناحية النظريّة، أنا مواطن.. إنسان من لحم ودم، لي حقوق طبيعيّة ووضعيّة يجب أن أحوز عليها كي أشعر بكرامتي وحريتي وعدالتي ومساواتي مع مكونات أبناء المجتمع الذي أعيش فيه، وعليّ واجبات يجب أن أأديها خدمة لي وللأبناء مجتمعي، وهناك مبادئ إنسانيّة عريضة تحكم المجتمع يجب علي الايمان بها وتطبيقها... أما من الناحية العمليّة فأنا من هذا الزمان العربي، أشعر بذاتي ووجودي في واقع صنعته جملة من الظروف الماديّة والفكريّة، ابتداء من الأسرة مروراً بالمدرسة والشارع والمؤسسة والجامعة والإعلام والإعلان والأدب والفن والفلسفة. وأكثرها ليس لي أي دور في تشكيلها أو وجودها.. الأمر الذي جعلني فيها مقيداً وأسيراً لقيم ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة متعددة، منها ما هو مشبع بقيم الماضي، المغلفة بأساطير وخرافات ورموز وطقوس لا تغني من الحق شيئا وهي الأكثر حضوراً وانتشاراً، ومنها ما هو ذاتي النزعة وحدسيّ، ومنها ما هو عقلانيّ ملتزم بقضايا الإنسان ومشاكله الحياتيّة وطموحاته. هذا ويوجد هناك، قوي اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة ودينيّة تعمل على تهميش إنسانيتي وربطي بانتماءات ضيقة، وغالبا ما تعمل على تغريني وتشيئني، وتفرض علي الجوع والخوف وتكبيل حريتي وقمعها.. وبالتالي الحؤول دون خلاصي وإشعاري بإنسانيتي، أو بحاجتي للحريّة كي أقول وأمارس ما يعبر عن إنسانيتي وإثبات ذاتي وفق الأنظمة والقوانين التي تضمن الحق للجميع.

س2: أين أنا؟.

ج2- أنا اليوم في حديقة أشبه بحديقة حيوان، يعمل من يديرها علي تهجيني ونمذجتي، وتوجيه حياتي كي أمارسها بغرائزي وعواطفي وبعقل سطحي، دون إدراك مني لما يحيط بي وكيف تجري حياتي في محيطي، وكيفيّة إدارتها.. وبالتالي إقصائي عن حياتي الاجتماعيّة، ومعرفة تناقضاتها وصراعاتها وأسباب هذه التناقضات والصراعات، وكيف حلها ونشر العدالة والمحبة والمساواة بين مكوناتها.. ثم دور العقل النقديّ وحريّة الإرادة الإنسانيّة في بناء حياتي وحياة من يتطلعون لاسترجاع إنسانيتهم المستلبة والمشيئة والمغربة.

س3: ما هو المحيط الذي أعيش فيه؟.

ج3- أنا موجود في محيط اجتماعيّ مفوت حضاريّا.. مجتمع سيطر عليه التخلف منذ مئات السنين.. لم يزل أفراده يلوكون الماضي بأساطيره وخرفاته ويعتبرون كل جديد بدعة.. لم يزل التدين بصيغته السطحيّة الطقوسيّة وقصصه الوعظيّة، سائدا ينهش عقول الناس، فتلمس الفارق بين فكر الناس وواقعهم.. ففي حديثهم ولباسهم وممارسة شعائرهم، تشعر بالمثل والقيم تغيض من ألسنتهم، وفي العمل يغيب الكثير من هذه القيم.

اقتصاد متخلف. وسياسة متخلفة.. اقتصاد يفتقد إلى أبسط مقومات اقتصاد العدالة، تهيمن عليه طبقة من البرجوازيّة البيروقراطيّة والطفيليّة.. وسياسة تهيمن عليها روح الغنيمة.. ومجتمع تحكمه العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب، بدل المواطنة ودولة القانون.. الأمر الذي أدى إلى سيادة الفساد والظلم والاستعباد....

أنا أعيش اليوم في محيط هو أقرب في بنيته إلى وشيعة من الخيوط ضاع رأسها.

س4: كيف تسير العلاقات الماديّة والفكريّة في المحيط الذي أعيش فيه؟.

ج4- هي علاقات هجينة، يغيب فيها التوازن الاجتماعي.. فعلى المستوى الاقتصاديّ: مجتمع منقسم... حيث تجد فقر مدقع يسود الأكثريّة التي أصبحت على هامش التاريخ والوطن.. وغنى فاحش يعبر عن أقليّة تاجرت بدماء الناس والوطن باسم الوطن والوطنيّة.. تجار حروب وسياسة امتلكوا المال والجاه والسلطة...

أما على المستوى الاجتماعي: ففقر الأكثرية المدقع وغنى الأقلية الفاسدة أوجد ظواهر اجتماعية بعيدة كل البعد عن أبسط قيم الدين والإنسانيّة.. انتشار لتعاطي المخدرات والدعارة والسرقة والجريمة بكل أنواعها.. انحلال خلقيّ انعكس على الأسرة والمدرسة والشارع والمؤسسات.. سيادة روح الكذب والتزلف والأنانيّة. وبالتالي يمكن القول: علاقات اجتماعيّة متفسخة افتقدت فيها المكونات الاجتماعيّة مقومات توازنها.

أما على المستوى الثقافي: راحت تسود ثقافة المجتمع الاستهلاكي.. أو ثقافة الأنترنيت في جوانبها السلبية.. ثقافة راحت العقول فيها تتجه نحو الفن الرخيص والجنس الرخيص والأدب الرخيص والمواقف الذهنية المشوهة والمستلبة من رصانتها وجديتها، في الوقت الذي أصبح فيه كل ما هو جميل وإبداعيّ شبه مقصيّاً من وعينا وثقافتنا.

وعلى المستوى السياسي: غاب مفهوم الدولة والمواطنة وسيادة القانون.. فانتشرت الفتوات السلبية في تفكيرها وممارساتها.. وتعمقت الكراهية الدينيّة بين مكونات المجتمع.. فبدل الوطن حلت الطائفة.. وبدل المواطنة حلت الكراهية والحقد والحروب الأهليّة..

س5: لماذا سادت هذه العلاقات ومن وراءها؟.

ج5- السبب... غياب مفهوم الدولة ودورها المنوط بها دستوريّا وقانونيّا وأخلاقيّاً واقتصاديّاً. ومع غياب هذه الأسس انتشر الفساد وتعمم أسلوب حياة مع غياب المحاسبة.. كثر الانتهازيّة والمطبلين والمزمرين في البنية السياسيّة وسيادة المصالح الشخصيّة على حساب المصلحة العامة. غابت الطبقة الوسطى وثقافتها وقيمها التنويريّة، لتحل طبقة من البيروقراطيّة الفاسدة في مفاصل الدولة وأخذت تتعاون مع الطبقة الطفيليّة، وكلاهما غابت عندهما الروح الوطنيّة والإنسانيّة، فأصبح همهما الربح ولو كان على حساب الوطن والإنسان. وبالتالي ما يؤدونه من مشاريع اقتصاديّة وخدميّة منتهكة في جودتها وصلاحية استخدامها.

س6: هل البنية الفكريّة التي أحملها عن هذه العلاقات صح أم خطأ؟.

ج6- عموما. الحقيقة نسبيّة وهي تقوم دائما على معرفة ناقصة.. ومعرفة الحقيقة لا تقوم على جهد فردي.. قد تقدم الرؤى الفرديّة بعض التصورات المنطقيّة ولكنها تظل بحاجة للرأي الآخر.. إن ما أحمله أنا عن طبيعة هذه العلاقات التي نعيشها وننشط داخلها في عالمنا العربي، هي رؤى تقوم برأيي على منهج عقلانيّ نقديّ محايد... منطلق البحث فيه هو الإنسان عموما ومصالحه بعيدا عن أي مواقف أنانيّة ضيقة تغرق في ايديولوجيات دينيّة وتفريعاتها طائفية كانت أو مذهبية بشكل عام، أو أيديولوجيات ذات أبعاد عرقيّة وحزبيّة بشكل خاص.. هذا المجتمع الذي نعيشه متعدد في مكوناته وعلينا أن نراعي مصالح هذه المكونات انطلاقا من أن المواطنة هي بيضة القبان التي توصلنا إلى الحياديّة والعقلانيّة، وبالتالي تحقيق العدالة والمساوة وتكافئ الفرص والرفاهيّة والنمو للجميع.

س7- كيف أميز الصح من الخطأ في هذه العلاقات.. وماهي المعايير التي أعتمد عليها من أجل تحقيق ذاك؟.

ج7- إن مسألة تحديد الصح والخطأ في بنية العلاقات التي نعيشها لا تتحدد وفق معايير ثابتة صالحة لكل زمان ومكان.. مهما تكن طبيعتها ومصدرها دينيّة أم وضعيّة.. الأخلاق والأفكار والمبادئ في بعديها النظريّ والعمليّ نسبيّة، وطالما هي نسبيّة، فهي تتغير وفقا لمصالح الناس في المرحلة التاريخيّة المعيوشة.. فأخلاق وأفكار ومبادئ المجتمع العبودي تختلف إلى حد كبير عن أخلاق المجتمع الرأسماليّ أو أخلاق دول العالم الثالث المتداخلة فيها قوى وعلاقات الإنتاج ما بين الرعي والزراعة والاقتصاد الريعيّ والبسيط. أو بتعبير آخر تختلف ما بين أخلاق العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب، عن أخلاق الدولة المدنيّة والمجتمع المدني ودولة القانون والمحاسبة.

عموما نقول: إن الأخلاق التي نعوّل عليها اليوم تحت مظلة غياب مفهوم الدولة والقانون والمواطنة، هي الأخلاق التي تساهم في بناء الدولة المدنيّة ومؤسساتها والمواطنة.. أي الأخلاق التي تحق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص للجميع، والأخلاق التي تحترم العمل والكفاءة وحب الوطن والمواطنة.

س8- ما هو دور التدين الذي يسود في بنية علاقاتنا الماديّة والفكريّة وأين موقعه أو قربه من النص القرآني؟.

ج8- التدين هو تلك البنية الفكريّة المشتقة من النص القرآني ومن الحديث الشريف وما أدلى به الأئمة والفقهاء تاريخيّا. وهي بنية غالبا ما يطالب مشايخ الدين ومؤسسات الدولة المهتمة بالشأن الديني، تطبيقها سلوكا أو ممارسة.. بيد أن هذه الممارسة غالبا ما تكون شكليّة ومشبعة بالطقوس والرموز والأساطير والكرامات. هذا إضافة إلى اشتغال البنية الاجتماعيّة على مرجعيات تقليديّة ذات بعد طائفيّ ومذهبيّ غالبا ما تدفع إلى صراعات طائفيّة وحروب أهليّة مقيتة. وبالتالي هذا ما يدل على ابتعاد هذا التدين عن روح الدين الحقيقيّ ومقاصده.. وهي مقاصد تدعوا إلى نشر المحبة والتسامح واحترام الآخر المختلف.

س9 - كيف عليّ أن أتعامل مع محيطي الاجتماعيّ الذي أنشط فيه؟.

ج9- عليّ بداية أن أنظر إلى الواقع الذي أنشط فيه خارج التفكير الذاتيّ والعاطفيّ والحدسيّ، أو أي موقف قبليّ مسيس أو مؤدلج بروح العداء والكراهية للمختلف.. وكذلك خارج الفكر الدينيّ الامتثاليّ الاستسلاميّ الذي يرفض العقل والتفكير والحكم على النص المقدس وفق مصالحه الإنسانيّة.. واتخذ من المنهج العلميّ في التفكير والممارسة وسيلة للتعامل مع هذا الواقع.. من خلال الاقرار. بأن الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة المحيطة بي لها أسبابها وقوانينها الموضوعيّة التي تتحكم فيها.. ودوري أن أسعى بحثا واستقصاء واستقراء وتحليلا واستنتاجاً لكشف هذه القوانين والبرهان على صحتها والتسلح بها.. ومن جهة أخرى عليّ أن أقر بعد اشتغالي المعرفيّ هذا، أن هذه الظواهر ليست ثابتة.. بل هي في حالة سيرورة وصيرورة دائمة.. أي في حالة حركة وتطور وتبدل.. وأن معرفتها ستظل بالضرورة معرفة ناقصة.. فلا شيء مطلق.. كل شيء نسبيّ.

ومن جهة أخرى عليّ الاقرار بأن تسخير قوانين هذه الظواهر لا بد أن تساهم به الدولة بمؤسساتها التي يحكمها القانون.. ومحاسبة من يستثمر معطيات هذا الواقع الماديّة والروحيّة لمصالح أنانيّة ضيقة عشيريّة كانت أو قبليّة أو طائفيّة أو حزبية شموليّة، أو مرجعيات ضيقة لقوى اجتماعية أسرية أو غيرها.. ففي مثل هذا الضبط القانوني والمؤسساتيّ، ستتحقق المواطنة والدولة المدنيّة ولا يعود الوطن غنيمة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

 

بعض الكتّاب ضائع لا يدري ما يريد، فيضيِّع القارئَ غير المتمرّس معه. كنتُ أجرّب التعرّف على الكتب بداية مطالعاتي، أقرأ أحيانًا كتابًا من الغلاف إلى الغلاف بصبرٍ مرهق على الرغم من نفوري منه، وعدم قدرتي على فهم ما يريده الكاتب، وكأن امتحانًا مفروضٌ عليّ بهذا الكتاب. وقعتُ ضحيةَ ذلك قبل أن تتراكم تجاربي، وأكتشف أن المطالعة تعني ضرورةَ تذوّق القارئ للنصّ، التذوق حالة للذات لا تنوب عنها أيةُ ذات أخرى. اكتشفتُ أن ما يُفقِر العقلَ ويشيع الجهلَ من الكتب أكثر بكثيرٍ مما يوقظ العقلَ ويبعث الوعي. ربما تقرأ كتابًا واحدًا يوقظ عقلَك ويجعله يفكّر منطقيًا بعمق، وربما تقرأ مكتبةً كاملة من الكتب الرديئة، لا تفقر عقلَك فقط بل تنوّمه، وتجعلك عاجزًا عن التفكير العقلاني بأيّ شيء، إن استسلمتَ لما ورد فيها من أكاذيب وأوهام وخرافات. يتناسب انتشارُ هذه الكتب تناسبًا طرديًا مع تفشي الجهل وانحطاطِ الوعي، الجهل بيئة خصبة لتفشي هذا النوع من الكتابات. الكتب الرديئة تطرد الكتبَ الجيدة، كما يقال: "النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من السوق"1. كشفتْ لي تجربةٌ في المطالعة بدأتْ منذ الخامس الابتدائي أن أكثرَ الكتب المعروضة للبيع يضيع فيها العمر ويُهدَر فيها المال، مضافًا إلى أن بعضَها يتشوش معه التفكير، وأحيانا يتعطل العقل، وتفسد الذائقةُ اللغوية. بين حين وآخر ألجأ إلى استبعاد كتب أخطأتُ في شرائها.

ما يبلِّد العقلَ ويشيع الجهلَ هو الأكثر مبيعًا وانتشارًا، على الرغم من أنه لا قيمةَ له. أشعر بالضجر عند قراءة أكثر كتابات ما يسمى بـ : "التنمية البشرية"، أو "تطوير الذات"، أو "علم الطاقة"، لما تتضمنه من مفاهيم غير علمية، وعباراتٍ متعجّلة، وشعاراتٍ مبسّطة مكرّرة، تتلاعب بمشاعر الناس. أضحى ركامُ هذه الكتابات مبتذلًا، يأكلُ وقتَ القراءِ غيرِ الخبراء، وتستنزفُ توصياتُها الواهنة تفكيرَهم، ولغتُها الرثة بيانَهم. تفشّت هذه الكتاباتُ الساذجة التي تجهل الطبيعةَ الإنسانيةَ كالوباء بين القراء في السنوات الأخيرة، وأوهمت عددًا منهم بأنها تعالج كلَّ متاعبهم النفسية. أكثرُ هذه الكتابات هزيلٌ، لا يقع في فتنتها إلا الناسُ المغفلون، الذين لا يفكّرون بتأملٍ ورويةٍ وتدقيق، ولا يمكن أبدًا أن تغوي العقولَ الحكيمة اليقظة. هذه الكتابات والتوصيات تجهل التناقضاتِ الذاتية في الإنسان، وتتعاطى معه كأنه كائنٌ آلي. يشبه هذه الكتاباتِ في الجهل بحقيقة الطبيعة الإنسانية أكثرُ التوصياتِ الجاهزة والعبارات المتداوَلة بين الناس. لا يكترث علمُ النفس وعلومُ الإنسان والمجتمع الحديثة وعلمُ الأعصاب كثيرًا بهذه التوصيات الزائفة لكتابات تشدّد على نصائح وإرشادات، من قبيل: "لا تحزن"، "لا تكتئب"، "لا تقلق"، "لا تتشائم"، "لا تتألم"، "لا تنزعج"، "لا تغتم"، "لا تتأرق في نومك"، "كن حازمًا وجادًا"، "تأقلم مع الظروف بدلًا من تضييع الوقت بالتفكيرِ الزائد"، "استمتع باللحظة الحالية"، وأمثالِها من وصفات كوصفات جاهزة لشخصٍ يمارس الطبَّ من دون أن يتعلمه. أكثر هذه التوصيات والوصفات ضدّ التفكير العقلاني العميق، وضدّ علم النفس وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة وعلم الأعصاب. هذه كتابات تجهل الطبيعةَ الإنسانية المركبة المعقدة العميقة، ولا تدرك تناقضاتِها، والعقدَ التربوية والأمراض النفسية المتنوعة والمختلفة المتفشية بين الناس، وتجهل ضرورةَ مراجعة المصابين بالأمراض النفسية والعصبية للعيادات والمصحات النفسية والعصبية لمعالجة هذه الأمراض،كي تشفي أو يسكن هؤلاء المرضى ويتخلّص الناسُ من حولهم من الآثار الموجِعة لإصابات بعضهم المؤذية للغير.

يزعم أكثرُ كتابات ما يسمى بـ: "التنمية البشرية"، وأشباهها أنه يعالج الأزماتِ الروحية للإنسانِ اليوم الغارقِ بالاستهلاك المادي حدّ التخمة والابتذال، وتشحّ في حياته كثافةُ المعنى الروحي وقوتُه الخلاقة، غير أن هذا النوع من الكتب يشيع وعيًا زائفًا بظمأ الروح وغربتها في ظلام المادة، ولا يعرف شيئًا عن روافد الأمن الروحي الذي تنشده. هو مزيج لخلطة غريبة مستقاة من دياناتٍ وارتياضات هندية وآسيوية، وشيءٍ من تمارين هجينة، تعبث بالروح وتشوه الوعي. يوهم الكاتبُ القراءَ البسطاء بأنه يوقد طاقةَ المعنى في حياتهم، مع أنه ليس سوى مسكنات خادعة. المؤسف أن بعضَ الناس عندما يعثر على هذه الكتابات يسكن إليها، لظنِّه بأنها تروي الظمأَ الروحي، وتستجيب لاحتياجاته للمعنى الذي يبحث عنه. لا قيمةَ لكتابة لا تعتمد العقل، العقلُ لا غير هو ما يحمي الإنسانَ من الانزلاق في متاهات الخرافات والأوهام والجهالات.

الكتابةُ المشبَعة بالمعنى يجب ألا تهدر مرجعية العقل، مثلما ينبغي أن تملأ الروحَ بالسلام الذي يفتش عنه الإنسان. المعنى الروحي يمكّن الإنسانَ من تجاوزِ ضيق المادة، والخلاصِ من الاختناق بفضائها الحسّي المظلم المملّ، ويطلق روحَه المكبّلة بأثقالها للتسامي في فضاء الأنوار الإلهية اللامتناهي. الكتابة المشبَعة بالمعنى الروحي الذي لا يغيب عنه العقل، يفتّش عنها الإنسانُ الذي يهتدي بالعقل ويتخذه أساسًا لأحكامه بالنفي أو الاثبات، ولرسم خارطة طريق حياته. عندما يعثر الإنسانُ على مثل هذه الكتابة يسكن إليها، بوصفها تحميه من الاغتراب الوجودي، وتعتق روحَه من استعباد المادة المُضجِر. العقلُ يحمي الإنسانَ من الضياع، عندما يمارس وظيفتَه الفاعلة يمنع انزلاقَ الروح في متاهات وكوابيس الخرافات والأوهام. أعرف أن إنتاجَ معادلة كهذه، تضبط التوازن العقلي والروحي، صعبة جدًا. هذا التوازن يستعصي على عدد كبير من الناس، وأحيانًا يتعذّر على بعضهم الآخر2 .

‏ ربّ قارئ ليس له من قراءته إلا النصب والتعب، القراءة بتأمل صبور من شأنها أن تنقل القارئَ من يقينياتِ الأجوبة الجاهزة إلى قلقِ الأسئلة الحائرة. قيمة كلّ قراءة تعكسها قدرتُها على أن تكون منتجة، بمعنى أنها تثير الأسئلةَ في ذهن القارئ، ويرحل معها عقلُه إلى ما لم يألفه في فضاء مسكوت عنه في التفكير. ليس المهمّ كمية ما تقرأه، المهم نوع ما تقرأ، وكيفية التلقي، وأثر ما تقرأ في بناء عقلك وروحك وقلبك وسلوكك. ليس هناك كتابٌ يختصر كلَّ الكتب، وليس هناك كاتبٌ مستوعب لكلّ العلوم والمعارف والآداب والفنون. لا يكفي عنوانُ أيّ كتاب للحكم على محتواه، أحيانًا يوقِع لمعانُ العنوان القارئَ بإغواء شراء الكتاب والمسارعة بمطالعته، بعد قراءة المقدّمة يدرك أنه كان ضحيةَ عنوان مخادع.كثيرٌ من الكتب المنشورة تسرق عمرَك، من دون أن تضيف لك شيئًا، لا تضيف لمعرفتك بنفسك وغيرك شيئًا، ولا تضيء وعيك بالعالم، لا تثري لغتَك ولا تعزّز رصيدَ معجم بيانك. ربما يتبلّد عقلُك وتندثر لغتُك الطرية وتتخشّب بسبب إدمانك على مطالعة هذا النوع من الكتب. خلافًا لكتب نوعية منتقاة بخبرتك كقارئٍ متمرّس، هذه الكتب توقظ عقلَك، وتحيي روحَك، وتبهج قلبَك، وتثري لغتَك، وتمنح حياتَك شيئًا من المعنى الذي تفتّش عنه.

لا يمكن تذوقُ كثير مما يُنشَر، أقرأ نصوصًا متخشّبة فأشعر كأني أُكسِّر حجارةً قاسية بأسناني، وأقرأ نصوصًا طرية مضيئة تنبض بالحياة لكتّاب آخرين فأتلذذ بكلماتهم العذبة.كم أشعر بالغثيان عندما أقرأ أحيانًا كتابات، لا تبهجني أو توقظ عقلي أو تضيف شيئًا مفيدًا لثقافتي وتثري لغتي فحسب، بل أخشى أن تشوّه ذائقتي اللغوية، وتُفقِر ثقافتي، وتشعرني باليأس من يقظة العقل، وأحيانًا تعكر مزاجي. لا أتفاعل مع أسماء معروفة أحيانًا، لحظة أجد لغتَهم غيرَ جذّابة، كلماتِهم لا تنبض بالمعنى، طريقةَ تفكيرهم ضبابية. أتذوق النصوصَ العذبة كما أتذوق الطعامَ الشهي بغضّ النظر عن كاتبها، أحيانًا يكون النصُّ لذيذًا فألتهمه كما ألتهم الطعامَ وأنا جائع، وأحيانًا يكون بلا طعم فأتجرعه، وأحيانًا يكون مرًا لا أستسيغه، وأحيانًا يكون متعفنًا لا أطيقه. بعضُ الكتّاب كأنهم يكتبون لأنفسهم،كتابتُهم مشغولة بتكديس كلمات مضجِرة، نثرهم مصنوع، لا نسيجَ طري ينتظم فيه، ولا تتدفق كلماتُه بسلاسة.كقارئ أتلذّذ بكلِّ كتابة ثمينة أتعلّم منها، أو تثير في ذهني أسئلةً جديدة، أو تدعوني لإعادة النظر بواحدةٍ من قناعاتي، وتقوّض شيئًا من وثوقياتي، وأتذوق نكهة كلماتها كما أتذوق الأشياء العذبة.

لم أهتم بداية حياتي بالفلسفة الحديثة، وأكثرِ أشكال الأدب والفن، وكنت أحسب الأعمال الخالدة لشكسبير ودوستويفسكي وتولستوي وماركيز ونجيب محفوظ وأمثالها مجرد ترهات. بعد أن طالعت بعضَ هذه الأعمال وأمثالها من النصوص الثمينة، أدركت خطأ عدم اهتمامي فيها من قبل، وتضييع سنوات ثمينة من عمري بكتب بعضها لا قيمةَ لها. أضاءت لي أعمالُ الفلاسفة العميقة، وكتبُ علوم النفس والمجتمع، ونصوصُ الأدباء الكبار والرواياتُ الخالدة، شيئًا من أعماق النفس الإنسانية، والاحتياجاتِ المتنوعة لحياة الإنسان الفردية والمجتمعية، والأنماطَ المختلفة لعيشه، وكشفت لي التصنيفَ الذي يولد بولادته، ويورثه هويته الإثنية والدينية والطبقية والجغرافية.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

...................

1- منسوب هذا القانون إلى توماس جريشام "1519- 1579م"، ويسمى بقانون "جريشام". وهو يشير إلى كيفية طرد النقود المزوّرة للنقود الصحيحة من السوق.

2- راجع فقرة: "الروح والعقل" في الفصل الثاني من كتابنا: الدين والكرامة الإنسانية، ص 74-76، ط2، 2022، دار الرافدين ومركز دراسات فلسفة الدين، بغداد.

 

ليس من الصواب ولا من المنصف محاكمة الشخصية العراقية من منظور كونها حالة (غريبة) عن طبيعة المجتمعات البشرية المعروفة، أو من منطلق اعتبارها نمط (شاذ) في عالم الثقافات الإنسانية المألوفة، فقط لمجرد كونها تعيش حالة من (الاحتباس) و(التشرنق) داخل ثقافات (فرعية) نسقية، استعصت بناها التحتية أمام تيارات التحديث الجارفة وموجات التجديد العاصفة التي أوجدتها البراديغمات الغربية الحديثة والمعاصرة من مثل ؛ الحداثة وما بعد الحداثة، والبنيوية وما بعد البنيوية، والوظيفية وما بعد الوظيفية، ناهيك عن اجتراحات العولمة في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والهوية، فضلا"عن ميادين الجغرافيا والتاريخ والدين . هذا بالإضافة الى ما حققته المنهجيات (الجينالوجية) و(الاركيولوجية) من فتوحات مزعزعة على صعيد البحث في الأصوليات السوسيولوجية والتنقيب في الخلفيات الانثروبولوجية والنبش في المطمورات السيكولوجية .

وكما سبق وأن أجمعت معظم الدراسات والأبحاث في المجالات الاجتماعية والإنسانية، على حقيقة أنه من المتعذر العثور على جماعة بشرية – قديمة أو حديثة - تمكنت من التسامي فوق حتميات الواقع والتعالي على اشتراطات التاريخ، بحيث استطاعت التخلص نهائيا"من مواريثها التاريخية والإفلات من أنساقها الثقافية، حتى ولوا بلغت الذرى في مدارج التقدم الاجتماعي والتطور المعرفي والرقي الحضاري . بيد أن وجود ظاهرة ما في مجتمع ما شيء، وطغيان تلك الظاهرة واستحواذها الكلي على ذهنيات وتصورات ذلك المجتمع وتحكمها بعلاقاته والتلاعب بخياراته شيء آخر تماما". إذ ان الأمر يخرج – في نطاق هذه الحالة – عن مألوف السياقات ومعروف الممارسات في مضمار التجربة الإنسانية، ليستحيل من ثم الى ما يشبه (المرض) السياكوباثي الذي يحتاج الى معالجات جذرية وحلول استثنائية، لن يكون بمقدور المجتمع المعني استعادة حالته السوية دون اللجوء إليها والاستعانة بها .

وإذا كان المجتمع العراقي يشارك بقية المجتمعات البشرية الأخرى في مثل هذه الظواهر الإنسانية، إلاّ أنه – وللأسف الشديد – لم يفتأ يشكل (استثناءا") محيرا"لكل القواعد والضوابط المتواضع عليها في هذا الشأن، مثلما ويحتل مركز الصدارة في الخروج عن كل ما سنته البشرية من قوانين وأنظمة وتشريعات، لجهة التخفيف من وطأة تلك المواريث التاريخية والحد من آثار الأنساق الثقافية التي لا تبرح تشد جماعاته السوسيولوجية ومكوناته الانثروبولوجية الى الوراء، وتحول دونها والخروج من قواقع الماضي وشرانق التاريخ، بغية التحرر من قيوده المزمنة والتخلص من آثامه المتوطنة، أو على الأقل إجراء الموازنة بين أصوليات ماضيها (المؤمثل) وبين ضرورات حاضرها (المؤمل) ومتطلبات مستقبلها (المؤجل)، وبالتالي جعلها أكثر سلاسة في القبول للتغيير وأقل عنادا"في الخضوع للتطوير .

ولعل من تبعات هذه الحالة المأزقية واستشرائها كلما تأزمت أوضاع المجتمع العراقي وبات يواجه تحديات الكيان والمصير، أن كثرت الدراسات السوسيولوجية والانثروبولوجية وتنوعت المداخل التحليلية والمنهجية، حيث يبادر أصحابها من الكتاب والباحثين والأكاديميين – من العراقيين والعرب - للكشف عن الأسباب المضمرة وإماطة اللثام عن الدوافع العميقة، التي يعتبرونها ليس فقط كونها المسؤول عن تفاقم تلك الحالة السلبية وتعاظم تداعياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية فحسب، وإنما يفترضون وسمها للشخصية العراقية بخصائص فريدة وسمات نادرة لا تشاطرها فيها شخصية حضارية أخرى أيضا"، ربما شكلت النزعة النكروفيلية (التدميرية) واحدة من أبرز تلك الخصائص والسمات ! .

وفي هذا الإطار فقد لفتت انتباهنا دراسة انثروبولوجية أنجزها أحد الأكاديميين العراقيين (جواد كاظم التميمي)، الذي عالج من خلالها هذه الموضوعة الإشكالية من منظور اللسانيات الانثروبولوجية، حيث توصل - بناء على استقراء جملة من النصوص السومرية والأكدية والبابلية والآشورية والإسلامية والملكية والجمهورية، الى حصيلة مفادها ان ما تعانيه الشخصية العراقية من ارتباك ثقافي وتعسّر حضاري ونزوع تدميري، ما هو إلاّ نتاج خلفيات أسطورية وسرديات تاريخية واعتقادات دينية وأصوليات ثقافية وصراعات سياسية واستبطانات لغوية، شكلت ولا تزال قاعدة بنيوية صلدة ليس من السهل تفكيكها أو اختراقها من جهة، مثلما ساهمت بتكوين راسب عقلي - نفسي ليس بالإمكان زحزحته أو إزالته من جهة أخرى . للحدّ الذي أورثها ثلاثة أنماط ثقافية وان بدت مختلفة الأدوار والوسائل إلاّ أنها متشابهة الوظائف والغايات، لا تعدو أن تكون (أقنعة سيميائية) تخفي أو تحجب طبيعة التشظي الذي ابتليت به تلك الشخصية على صعيد بنيتها اللسانية – الثقافية – النفسية .

وهكذا، فقد لاحظ الأستاذ المذكور أن النمط الثقافي (الأول) ويتمثل بالتمظهر (الذئبي) الذي يعبر عن الشخصية التي تمتلك من مقومات القوة الفيزيائية المجردة، ما يجعلها قادرة على فرض سلطنها وبسط هيبتها على من يحيطون بها سواء في مجال العائلة أو المدرسة أو الدائرة أو الحكومة، لا بل حتى القبيلة والعشيرة والطائفة . وإما النمط الثقافي (الثاني) فيتمثل بالتمظهر (الثعلبي) الذي يجيد سلوك التملق ويحسن التلون إزاء عناصر النمط الأول (الذئبي) من جهة، في حين لا يتورع، من جهة أخرى – عندما تتاح له الفرصة وتتوفر له الإمكانية – من انتهاج سلوك التعالي وممارسة التسلط على مكاريد النمط الثقافي الثالث الذين ينتمون الى ما يسميه الباحث بالنمط (الجرذي)، الذي تغلب على عناصره مظاهر (المسكنة) و(المظلومية) و(الانكسار) .

والجدير بالملاحظة ان الباحث المذكور يلفت انتباهنا الى مراعاة حقيقة أن هذه المستويات الثلاثة (( من التمظهر السلبي للشخصية العراقية، (الذئبية، والثعلبية، والجرذية)، يتحدد ظهور أي منه – وبلحظة واحدة – بالظروف الفيزيائية للمكان، أي بحسب الربح والخسارة الماديين . ويعود سبب وقوع بعض الباحثين العراقيين اللسانيين، والانثربولوجيين والاجتماعيين في فخ الهتاف المدائحي للشخصية العراقية (الطيبة)، و(الشعب العراقي الطيب) الذي يتحدون بطيبته العالم، الى الإخفاق الذريع في قراءة المستويين (الثعلبي)، و(الجرذي) من الثقافة العراقية، فالمستوى الأول (الثعلبي) يحسن – بحكم صفته الثعلبية – لعبة الخديعة الاجتماعية . والمستوى الثاني (الجرذي) يبث خطابه الى العالم، على شكل مسكنة، يحسن العراقيون أداءها بصورة مثيرة للشفقة )) .

وفي ضوء ما تقدم، فان ما يمكن استخلاصه واستنتاجه من هذا النص التحليلي لانثروبولوجيا الشخصية العراقية، هو أن تلك المستويات من التبلور والتمظهر لا تتموضع في السلوك الشخصي أو العلاقات الاجتماعية كممارسات منفصلة عن بعضها أو كونها غير مترابطة، بحيث تبدو كما لو أنها خاضعة لمبدأ (التتابع) المرحلي أو (التمرحل) التاريخي، وإنما هي أنماط (متعايشة) ونماذج (متضايفة) باستمرار وعلى الدوام داخل بنية الشخصية ذاتها . بيد أن ظهور أحدها مرهون بعامل (توازن القوى) بين قدرات الذات على صعيد الفعل والتأثير، وبين اشتراطات المجتمع على صعيد المنع والإعاقة، من حيث الظروف السياسية والإمكانات الاقتصادية والأوضاع الاجتماعية والسياقات التاريخية . فحيثما كانت الشخصية قادرة على ممارسة الفعل والتأثير في الوسط الاجتماعي، كلما كان سلوكها أميل الى النمط (الذئبي) الوحشي، أما إذا كانت عاجزة عن مقارعة من يتفوق عليها في المرتبة والمكانة والوظيفة، كلما أظهرت ميلها باتجاه النمط (الثعلبي) المراوغ، هذا في حين ليس بوسع الشخصية التي يكتوي صاحبها بلظى الجوع والمرض والجهل، سوى الميل صوب النمط (الجرذي) البائس ! .  

***

ثامر عباس

 

رأس السنة البابلية الآشورية بين الواقع والطموح

تشير المدونات التاريخية القديمة بمدى أهمية وقِدَم الاحتفال السنوي لرأس السنة البابلية الآشورية في النهضة الحضارية والمسيرة التاريخية التي شهدتها بلاد وادي الرافدين، ومن هنا أكدت غالبية النصوص المسمارية على الدور الإبداعي الذي لعبته الحضارات النهرينية في دعم واستمرارية الهيمنة الثقافية والفكرية لهذه المناسبة الكبيرة على الجموع البشرية في بلاد ما بين النهرين والشعوب المجاورة لها، حيث كانت تقيم المهرجانات والاحتفالات الشعبية في جميع أنحاء البلاد وذلك ابتداءً في الأول من شهر نيسان ولغاية الثاني عشر منه، تلك الاحتفالات المتسمة بالمعاني والدلالات المتباينة لكل يوم احتفالي على ِحدَه.

ونود التأكيد على إن العيد الوطني أعلاه ما هو إِلا استمرارية لعملية التواصل والتطور التاريخي الذي أنجزه وأحتفل به أجدادنا العظام في بلاد بابل وآشور واللذين بادروا بدورهم في مد جسور الثقافة والعلوم الى الأمم الأخرى، حيث أمست رأس السنة البابلية الآشورية أيقونة وموروث مهم يُقتَدى به من قبل شعبنا الآشوري والشعوب الأخرى، ولازال يُحتَفل ويحتفي به الى يومنا هذا في الوطن الأم العُراق والشعوب المجاورة له ومن ثم العديد من دول الاغتراب. لابد من الإشارة بأن الحكومات السابقة في العراق قد ساهمت في أحياء المناسبة أعلاه من خلال إقامة الاحتفالات والكرنفالات تخليداً لهذه المناسبة الوطنية المهمة من تاريخ بلاد ما بين النهرين العريق، وكان يُحتَفل به بِمُسَمى عيد الربيعين وفي محافظة نينوى حصراً، وقد تم استغلاله سياسياً وقومياً بعيداً عن إطارُه التاريخي وحلته القومية الأصيلة والتي صبت نتاجها في سلة مصالح الأنظمة الحاكمة حينها.. ويمكن القول بأن التبني الحقيقي والفكري الشامل لأعياد نيسان ورأس السنة البابلية الآشورية في بلدنا العراق، قد تم ترسيخه من قبل الحركة الديمقراطية الآشورية، والتي استطاعت بدورها في وضع الأسس الكفيلة في تعزيز وبلورة بصمات وقيم هذه المناسبة ضمن المسيرة التاريخية للعراق، حيث تم إٍقامة أول كرنفال سنوي بحلته الجديدة ولأول مرة في مدينة نوهدرا - العراق عام 1993، وأستمر الاحتفال بهذه المناسبة وبدون انقطاع ليومنا هذا.

والجدير بالذكر كان لنا الشرف بالمشاركة في احتفالات رأس السنة البابلية الآشورية في الأول من نيسان لعام 6773 آشورية مع وفد من أبناء شعبنا المغتربين في مدينة نوهدرا (دهوك)، وكان هناك احتفال آخر مماثل في مدينة نينوى. ومن هنا كان لابد منا الوقوف على عدد من المحطات الإيجابية خلال المسيرة البنفسجية ومن ثم على عدد من الملاحظات والتحفظات التي أفرزتها المسيرة برمتها، والتي بدورنا نحاول أضفاء الحلول اللازمة للحد من الإشكاليات من أجل خدمة وتعزيز مسيرة هذه المناسبة التاريخية القومية والوطنية.

لقد اثلجت صدورنا وزادت من عزيمتنا تلك الحشود الكبيرة من الجماهير المشاركة في المسيرة النيسانية التي أقيمت في مدينة دهوك الشمالية، وكانت بمثابة عُرس كرنفالي بهيج قام بكسر القيود ومن ثم القفز فوق جميع المطبات التي ساهمت سابقاً في تثبيط المسيرة التاريخية أعلاه. لذلك نود ان نرفع قبعاتنا احتراما لتلك الجماهير الغفيرة التي ساهمت بدورها في تعزيز نجاح الكرنفال من خلال مشاركتها المتكاتفة والمتراقصة فرحاً مع بعضها البعض على أنغام الموسيقى وصداح النساء، الرجال والشيوخ الحاضنين لتلك البراعم الطفولية البريئة. الجميع يصدح وبنغمة واحدة مبتهجة بالانقلاب الربيعي وكساء الأرض بالمسطحات الخضراء الزاهية بحلتها الربيعية المشرقة، وساهمت وبشكل جدي في إزهاء و إِكساء المسيرة بذلك الثوب الفضفاض الفاتن، والتي تؤكد جميع الوقائع بأنها لم تكن غالبيتها موالية لأي جهة تنظيمية معينة و إِنما انطلقت بذاتها وبكل عفوية في تجسيد دورها البناء في إِضفاء المعاني والدلالات العظيمة لقيم الوفاء والنضال والحرية من اجل البقاء في الوطن، وتمسكها بالعناصر والمبادئ المؤمنة بقضايانا القومية والوطنية العادلة على أرض الوطن والتي ناضل من أجلها شهداء الأمة، ومنها تعالت هتافات الجماهير تصدح شوقاً بأننا شعب يحب الحياة و لا توجد قوة تستطيع أن تقتلع جذورنا من أرض الأجداد.

 

أود التطرق أيضاً على بعض المحطات الغير مُستَغاثَه التي أفرزتها المسيرة برمتها، منها:

1 – في البداية نود الإشارة الى الجهود الحثيثة التي أدتها اللجنة المنظمة للمسيرة ومن خلالها ساهمت في إنجاح هذا العمل القيم، وإن تخللتها بعض السهوات والملابسات السلبية، حيث لم تكن موفقة في اختيار المكان المناسب لنهاية مطاف المسيرة والمتمثلة في منطقة كلي دهوك، بحكم برودة الجو في هذا المكان الذي أدى الى ارتداد ورجوع جموع غفيرة من العوائل المشاركة الى منازلهم، الارتداد لم يقتصر على العوائل وإنما شمل بعض قيادي الحركة اللذين عادوا الى منازلهم والقسم الاخر اِلتَجَأ الى الأكشاك البلاستيكية القابلة للإيجار في المنطقة، بحثاً عن القيظ والدفء الربيعي.

2 – تحكم الحالة الذكورية على السطر القيادي المترجل الأول خلال المسيرة ومن ثم السطر القابع على كراسي المقدمة أثناء الحفل من دون أخذ أي اعتبار للمرأة والمتمثلة بنصف المجتمع، تميز الحفل أيضاً بكثرة وإِسهاب الكلمات الرسمية الغير مجزية أساساً، ومن ثم فيض المطربين المغتربين. وهنا اود الوقوف على الحالة الغير صحية التي تعاملت بها اللجنة المشرفة للاحتفال مع فناني الوطن. بحيث نلاحظ طغي قاعدة التنزيه والتمجيد ما هو وافد من المهجر وحتى إِن كانت مستوى خلفياتهم الفنية والثقافية أوطأ من العديد من الطاقات المثمرة في الوطن، حيث لم يشركوا مطرباً محلياً واحداً من الوطن في الاحتفالات أعلاه، علماً بأن لدينا العديد من الطاقات الفنية في الوطن تضاهي أو بالأحرى أفضل بكثير من فناني المهجر.

3 – تميزت مسيرة نوهدرا الأخيرة بتواجد العديد من وفود المهجر من شتى بلدان العالم وهذا منعطف إِيجابي يساهم في تعزيز ومد الجسور التواصل الثقافي والقومي بين المهجر والوطن. حيث لم تكن اللجنة المنظمة موفقة في التعامل مع هذا الملف من خلال تسخير الطاقات والقوى التي تمتلكها تلك الجموع الوافدة. وكما هو معروف لدى الجميع بأن نظرة غالبية جموع المؤسسات القومية العاملة في الوطن نحو شعبنا القاطن في المهجر بانه تلك البقرة الحلوب المادية والتي تستغل إِعلامياً لصالح الفئوية الحزبية من دون استغلال طاقاتها الكامنة كلياً من اجل خدمة المسيرة القومية. وطبق مشاهداتنا كانت ترسل غالبية الوفود في جولات الى مناطقنا التاريخية من دون وجود دليل سياحي مُلِم بالوضع التاريخي والسياسي في المنطقة، والتي من خلالها يمكن ان يساهم في وضع الزائر على حقيقة الظروف الذاتية والموضوعية السيئة لشعبنا في الوطن، و مدى ازدراء وتناقص حكومة المركز والإِقليم في الحقوق الدستورية لشعبنا ومن ثم بيان صورة التجاوزات المفتعلة على قرانا والعديد من التجاوزات الأخرى ومنها على سبيل المثال التوزيع العادل للثروات والوظائف الحكومية التي توزع على من هم عناصر تنظيمية للحزب الحاكم وغيرهم، كذلك إِظهار مدى التخلف واللامبالاة من قبل السلطات المحلية في توفير الخدمات ولو بحدودها الأدنى الى المواقع الأثرية الآشورية. ومن هنا يمكن لوفود المهجر أن تعي بمسؤولياتها الملقاة على عاتقها في نقل هذه الصورة السلبية الى دول المهجر كافة.

نقطة أخرى كان لابد من الجهات المنظمة لأعياد نيسان بأن تقوم باستغلال فرصة تواجد الوفود الكثيرة والقادمة من المهجر في ترتيب و عمل كونفينشن أو تجمع عام ينضوي تحت لِوائِه جميع الوفود القادمة من الخارج مع البعض من الكوادر المتميزة من أبناء شعبنا في الوطن، يتم خلاله التعارف المنظم فيما بينهم، ومن ثم التشاور والتباحث حول الآليات والقوى البشرية والتقنية التي يملكها شعبنا في المجر والتي يمكن تسخيرها في إِنشاء لوبي قوي في بلاد الاغتراب من أجل وضع برامج مدروسة تساهم في دعم و إِسناد قضيتنا المركزية من أجل خدمة مسيرتنا القومية والوطنية في بلاد ما بين النهرين.

أود الإِشارة بأن اغلبية وفود المهجر كانت قادمة لغرض السياحة وهذا امر لا غبار عليه، ولكن كان من الأجدر أَن تُستَغَل زيارتهم لأسباب قومية وسياسية مضاف اليها ظاهرة السياحة، من خلال تكوين أواصر العلاقات القوية فيما بينها، ومن باب الأسف إِذا رغبنا بالتواصل معهم وغيرهم من الكوادر في الوطن، ليس بنا أن نلقاهم خلال السهرات المسائية والجلسات الصاخبة للعبة الدومبله.

***

عمانوئيل خوشابا

15 نيسان 2023

 

 

في العالم الخارجي، إذا كان الشخص ذكياً، فيمكن له أن ينجح في أي مجال من مجالات الحياة. لكن بالنسبة للآباء العراقيين، فإن جعل ابنهم طبيبا هو حلمهم. وبسبب محدودية الفرص المتاحة في المجال الهندسي في العراق، ينتهي الأمر بمعظم الشباب اللامعين كاطباء او صيادلة بدلا من ان يكونوا مهندسين حالهم حال اقرانهم في العالم.

على عكس ما يحدث في العراق فأن اعداد المهندسين وجودة دراستهم وتدريبهم تعتبر معايير اساسية لقياس درجة ومستوى التطور التكنولوجي والحضاري في البلدان. وعدم وجود اعداد كافية من المهندسين اللامعين، وانعدام فرص العمل لهم يؤدي بالبلد الى التخلف والتراجع في مختلف مجالات العمران والصناعة وكذلك في الابداع والابتكار.

بكل جدية وصدق، الهندسة تخصص صعب حقا. التدريب والمقررات الدراسية التي يخضع لها المهندسون قاسية. يجب أن تكون على دراية بمجموعة متنوعة من التخصصات، على سبيل المثال لا الحصر: الرياضيات والفيزياء والكيمياء والإحصاء وعلوم الكمبيوتر. والبيئة والاحياء وحساب الكلفة والاقتصاد

بالإضافة إلى الأساسيات، عليك أن تفهم أي مجال تختار أن تكون فيه، سواء كان ميكانيكيا، أو كيميائيا، او معماريا، أو حيويا، او مدنيا وما إلى ذلك ... هذا حقا يكسب كثير من المعرفة والفهم ويستغرق سنوات من الجهد والعمل الجاد، فأي نوع من الأشخاص يريد تجربة ذلك؟

لكي تكون مهندسا كفوءاً، يجب أن تكون قادرا على التفكير المنطقي والعقلاني والنقدي، والتواصل بفعالية وكفاءة، والتوصل إلى حلول مبتكرة وذكية لمختلف المشكلات. وإذا كنت ترغب في ادارة المشاريع، فيجب أن تكون قادرا على التخطيط بفعالية، واتخاذ القرارات التنفيذية بشكل جيد، وأن تكون اجتماعيا مع المجاميع التي تديرها، سواء كانت هندسية أو مالية أو أياً كانت.

كونك مهندس يمثل تحديا قد لا يرغب الكثير من الناس في تحمل هذا العمل الجاد والتوتر الذي يصاحب المهنة (خاصة في كلية متميزة او شركة كبرى). بالنظر إلى مدى صعوبة عمل معظم المهندسين، لا يسعك إلا أن تشعر بالاحترام لهم وتشفق على ظروف عملهم. في مقابل ذلك يتم مجازاتك على جهدك كمهندس فوفقا لمكتب الولايات المتحدة لإحصائيات العمل، يكسب المهندسون أجرا سنويا متوسطا يبلغ 106 الف دولار. وفي المملكة المتحدة يذهب كثير من حملة الشهادات الهندسية للعمل في سوق المال حيث تستميلهم البنوك لمهاراتهم في التحليل والتواصل والحسابات.

لكن مع هذا وللاسف لم تعد الهندسة في بلادي وظيفة مرغوبة او مشوقة!

لماذا يعتبر وجود مهندسين لامعين معيارا للتقدم والتطور الاقتصادي؟ السبب يكمن في امتلاك المهندس لثلاث مهارات رئيسية (يحصل عليها من الجامعة الناجحة والمتميزة) وهي: مهارات الملاحظة ومهارات التحليل ومهارات حل المشاكل.

من بين مهارات التحليل وحل المشاكل هناك شيء آخر وهو التجريب. إذا ذهبت إلى أبعد من ذلك، فهناك ما يتميز به خريج الهندسة وهو التحفيز والاختبار والانتاج. بالإضافة إلى ذلك، يتعلم طلاب الهندسة الكثير من الاشتقاقات التي تعمل أساسا على إنشاء معادلات او ايجاد مصادر، أو من الناحية العملية إيجاد حلول جديدة لمشكلة قائمة.

على الرغم من أن المواضيع المهنية الأخرى تمثل تحديا بنفس القدر وأن الاطباء وغيرهم يتمتعون بمهارات عالية، إلا أن مجال تخصصهم أكثر تركيزا. ومن ثم فإن المواد الخاصة بهم أكثر مباشرة على الرغم من أن كمية مواد الدراسة التي يتعين عليهم حفظها أكبر بعدة مرات من تلك الخاصة بالمهندس. وعلى الرغم من أنها تتطلب أيضا مهارات تحليلية، إلا أنها أقل من تلك المطلوبة من المهندس. يحتاج المهندس إلى حفظ مواد دراسية أقل بكثير عند مقارنتها بالاختصاصات الأخرى، لكن مقدار التحليل والتركيب والاشتقاقات التي يتعين عليهم الانغماس فيها أكبر بعدة مرات من الاختصاصات الاخرى.

من اهم صفات المهندسين الكفوئين هي صفة الابتكار في سياق تعليمهم الاكاديمي وحياتهم المهنية، فيتعلمون أن يكونوا متنوعين ومبتكرين ويعملون بجد واجتهاد. في المواقف الصعبة، فانهم جيدون في اتخاذ القرارات الإستراتيجية والعملية والتغلب على المشاكل، ويتعلمون من الاخطاء للقيام باعمال أفضل ويحافظون على تطوير أنفسهم باستمرار. وقد يحاججك احدهم بان هذه هي صفات الشخص الناجح في اي اختصاص، لكني أؤكد بأن المهندسين يتميزون بها بجدارة.

الشخص الذي لديه عقل هندسي يراقب ويحلل الأشياء دائما كجزء من الروتين اليومي للعمل وهذا يؤدي إلى ابتكار او خلق أفكار جديدة أو تعديل الأفكار الموجودة. عموما عندما تبتكر تنمو، بغض النظر عن المجال الذي تعمل فيه ولا تحتاج إلى ان تختص بالهندسة من أجل ذلك، فأنت تحتاج فقط إلى العقل الهندسي. في العالم يتم تصميم اختصاص الهندسة لتعزيز هذه المهارات أكثر من أي شيء آخر. ويعتمد ذلك على ما إذا كان الأساتذة يعززون هذه المهارات في الطالب وطريقة تفكيرهم.

يضاف الى كل ما ذكرته ان عماد الحضارة المعاصرة هو وجود طبقة كفوءة من المهندسين المسؤولين عن قطاعات الانشاء والبنى التحتية والصناعات التحويلية وانتاج الطاقة وغيرها، وبدونها لا يمكن تصور مفهوم الحضارة. واهم من كل ذلك ان الوظيفة الرئيسية للمهندس هو توفير السلامة ووسائل الراحة للانسان في مسكنه وعمله وتنقله وتلبية احتياجاته في مختلف المراحل العمرية مع الاستجابة للاحتياجات الخاصة الناجمة عن العوق الجسدي. ان العمل الهندسي هو الظهير الامثل لمختلف انواع الرعاية الصحية والاجتماعية.

برأيي ان البلد الذي لا يستطيع تدريب مهندسين لامعين ولا يستطيع ايجاد فرص عمل لهم او الاستفادة من قابلياتهم العقلية وقدراتهم العملية والادارية هو بلد فاشل.

بنيت هذا الرأي على تجربتي وملاحظاتي كون اختصاصي علوم طبيعية لكني عملت في كلية هندسة لاربعين عاما.

***

محمد الربيعي

بروفسور في كلية الهندسة، جامعة دبلن

 

ألقى الشيخ صالح المغامسي، وهو فقيه سعودي معروف، صخرة ضخمة في بحيرة هادئة نسبياً، يوم دعا لفتح الباب أمام الاجتهاد المطلق، بما يؤدي لظهور مذاهب فقهية جديدة.

نعلم أن الجدل الذي أعقب الدعوة راجع للقسم الثاني؛ أي المذاهب الجديدة، مع أن جوهرها في القسم الأول؛ أي الاجتهاد المطلق. وقد مهد له بالتأكيد على أن علم الفقه صنعة بشرية، ولذا تختلف آراء الفقهاء باختلاف الأزمان والظروف.

ثمة أسباب عديدة تبرر مواقف الداعين لاجتهاد مطلق، وثمة مثلها أسباب لرفض الدعوة في الجملة أو في التفصيل.

أهم المبررات الداعمة هي حاجتنا لعقلنة التفكير الديني وأحكام الشريعة. بديهي أن العقلنة المقصودة ليست مقابل الجنون أو السفه، بل العقلنة بالمعنى المعاصر؛ أي ربط المقدمات والمعايير بما تفضي إليه من نتائج. وقبل ذلك إقامة البحث على فرضيات علمية قابلة للإثبات المادي أو المنطقي.

خلفية هذه الفكرة أن العلم الحديث قد تطور وترك آثاره في مختلف جوانب الحياة، بل أمسى ضرورة للحياة السليمة الكريمة. ومن هنا اعتمد الإنسان المعاصر في حياته كلها تقريباً على نتاج العلم، كما جعل المنهج العلمي أساساً لاتخاذ أي قرار. ونتيجة لهذا التطور، فإن بعض الأحكام الفقهية القديمة لم تعد بديهية في نظر الناس، بل أمست مورد شك، في مطابقتها لواقع الحياة وحاجاتها، والنتائج التي تؤدي إليها إذا طبقت، قياساً بالأخلاقيات والنظم المماثلة التي توصل إليها العلم الحديث.

ونضرب على هذه الحجة مثالين: أولهما يتعلق بالمعاملات التي يعتبرها الفقه التقليدي ربوية، وهي تشمل كافة المعاملات المصرفية تقريباً، فضلاً عن العقود المستحدثة كالتأمين والبيع بالأجل وبيع البضائع التي لم تنتج بسعر غير محدد، وأمثالها من المعاملات التي لم تكن معروفة أو مقبولة في الأزمنة السابقة، لكنها باتت اليوم عنصراً أساسياً في الاقتصاد والمعيشة، بحيث لا يصح القول إنها تفضي للفساد أو تمحق الرزق، كما قيل في تبرير منعها، بل على العكس؛ نستطيع الجزم بأنه لولا النظام المصرفي الحديث، لبقيت الثروات العامة والخاصة تدور في محيط ضيق جداً «دُولة بين الأغنياء منكم» كما ورد في التنزيل الحكيم. ولولا الدين؛ أي تأجير المال، لما رأينا هذه الاستثمارات الضخمة، الضرورية لازدهار الحياة وتوليد الوظائف واستئصال الفقر.

المثال الثاني يتناول الأحكام المتعلقة بوضع المرأة ودورها في الحياة العامة. فالتفكير الديني بعمومه، وكل أحكام الفقه تقريباً، تميل لعزلها واعتبارها جزءاً من الحياة المنزلية، لمبررات أهمها أنها ليست كفؤاً للرجل، فلا تقوم بعمله ولا تحتل مكاناً مماثلاً لمكانه، لكنَّنا نرى بأعيننا أن هذه الفرضيات كبقاء المرأة في المنزل مثلاً، لم تعد كذلك أمام ضرورات الحياة ومتطلباتها في زمننا.

زبدة القول أن المثالين يوضحان بجلاء، وفي تجارب متكررة، أن تلك الأحكام والفرضيات التي بُنيت عليها، لا تؤدي إلى مصلحة لعباد الله ولا تصلح بلادهم. رغم هذا فالمدرسة الفقهية التقليدية في مختلف المذاهب، ما زالت لم تأخذ بما طرأ من تغير على المجتمعات.

والذي أرى أن المشكلة لا تتعلق بالاجتهاد في الفروع أو الاجتهاد داخل المذهب، ولا حل لها بتجديد أدوات تحرير أو تحقيق المناط وفهم موضوع المشكلة، كما ذكر العلامة الشيخ قيس المبارك مثلاً. المشكلة تتعلق بالاجتهاد في الأصول؛ أي منح العقل وعلم الإنسان في كل زمن، مكاناً بارزاً، في تحديد ما هو مسألة شرعية وما ليس كذلك، ثم تحديد المعايير العقلائية العادلة التي ينبغي أن يأتي الحكم مطابقاً لمقتضياتها.

الاجتهاد في الأصول ضرورة لتمكين الدين من استيعاب حاجات العصر وأهله والرد على تحدياته.

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

 

أفردتُ في الكتاب المُنجز مؤخراً، «المقتولون بسبب دينيّ»، فصلاً بالناجين مِن القتل، مَن صدرت فتوى وحكم بقتلهم، لكنهم نجوا لسببٍ مِن الأسباب، بينهم فلاسفة وشعراء وأدباء ومتصوفة وفقهاء دين أيضاً، ووجدتُ أبرز النَّاجين في العصر الحديث، الكاتب عبدالله بن عليّ القصيميّ (1907-1996)، نجا مِن ثلاث محاولات قتل في حياته، بمواقف ودسائس مثيرة، لا مجال لتفصيلها في المقال.

لنتخيل أنّ القصيمي مازال حياً يُرزق، وشهد حكم التاريخ، وما كان يرجوه لبلاده، بصحة ضميره، ونظافة أفكاره، تلك التي شمها سيد قُطب (أُعدم: 1966)، عند الحوار بينهما، «رائحةً غير نظيفةٍ».

كان القصيمي ابن السلفية، يملك حجةَ المصدر، عندما يتحدث عن الإسلام، الذي جعل منه خصومه ومكفروه ديناً للموت لا للحياة، وهو ما دفع صاحبنا إلى منافحتهم، وأخيراً جاء مَن ينتصر له. مرَّ القصيميّ بفترة التدين السلفيّ، وكان محسوباً في صغره على «إخوان مَن طاع الله»، لكنه كان وظل حتى النهاية معجباً بالملك عبد العزيز آل سعود (ت: 1953)، فمَن يعرف نجد آنذاك وما يحيط بها يُبرر إعجاب القصيميّ، لذلك ناشده قبل ثمانين عاماً، في مقدمة كتابه «هذي هي الأغلال» (1946)، الانتصار للتطور والمَدنيَّة.

جاء ذلك بعد خياره الذي لم يتراجع عنه في التنوير، وصار يؤمن بالدين لا بمظاهر التدين، على اعتقاد «الدين حاجة مِن حاجات الإنسان، التي لا يمكن أنْ يُستغني عنها، ولكن ثبت أن البشرية عاجزة- إلا ما ندر- عن فهمه على وجهه الصَّحيح» (هذي هي الأغلال). بعد اتجاهه الجديد واجه مواقف شديدة ضده، وأشدها ضد «الأغلال»، الذي استهله برسالة إلى الملك، طالباً منه التدخل بقوة الصَّلاحية «الخروج بالناس مِن ضيق الدنيا إلى سعتها».

نبه في كتابه إلى العجز عن الإلحاق بالأنظمة المتطورة، التي اتجهت إلى العلم والصناعة. غير أن هذا الكتاب، الذي مثل وجهة نظره، فتح عليه بوابة التكفير، وأول الرَّد جاء مِن «الإخوان المسلمين» في صحيفتهم «النَّذير»، سخروا مِن صلته بالرَّائدة التنويرية هدى شعراوي (ت: 1947)، معتبرينها سبباً لتأليف كتابه، للتقليل مِن شأنه (ابن يابس، الردَّ القويم على ملحد القصيم). بعد ذلك جاء رد سيد قطب في صحيفة «السَّوادي»، التي عرضت مادة الكتاب «هذه هي الأغلال»، بقلم التّنويريّ إسماعيل مظهر (1891-1962).

أهدى القصيميّ كتابه لقطب، متوخياً فيه روح الأديب، قبل إخوانيته الرسميَّة، لكنه كتب: «كنتُ على استعداد أنْ أُدافع عن الرَّأي المخالف لو لم أشم هنا وهناك رائحة شيء غير نظيف تحول شعوري إلى اشمئزاز عميق، هذا رجل يُنافق، يُريد أنْ يطعن الطَّعنة في صميم الدِّين خاصة، ثم يتوارى ويتحصن في الدِّين» (السَّوادي: 11/11/1946).

لا جديد، استعار قطب عبارة ابن عقيل الحنبلي (ت: 513هـ) لتكفير المعريّ (ت: 449هـ): «أظهر ما أظهر من الكفر البارد الذي لا يبلغ منه مبلغ شبهات الملحدين» (ابن الجوزي، المنتظم)! ربح القصيميّ الحقيقة، ولصالح الجعفريّ (ت: 1979)، وأراه قصيميّ النَّجف: «حناناً يا أماثلنا حناناً/ حناناً أيها المتزمتونا/ تبعناكم على خطأٍ سنيناً/ فأسفرت الحقيقةُ فاتبعونا» (شعراء الغري).

أراد عدم إهمال الحياة، لصد «صحوة» شرسة، والرَّائحة التي شممها قطب مِن فكره، كانت رداً مسبقاً على «معالم في الطَّريق» وإطلاق الجاهليّة على مَن لا يقر بحاكميتهم الإلهية! لكنَّ الأعجب، تعرض القصيمي لاستخفاف مثقفين عرب، فلسان حالهم: مَن هذا البَدوي الذي أخذ يزاحمنا في التَّنوير بعواصمنا؟! أقول: إنَّ ما يجري اليوم، مِن إخماد الفكر التَّكفيريّ، انتصارٌ لِما نشده القصيميّ قبل ثمانين عاماً، عندما طلب مِن ملك بلاده التَّدخل بقوة القرار. تلك مقابلة بين فسطاطين، النُّور والظَّلام، والتَّاريخ قد أصدر حكمه.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في 12 تموز 2012، الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 20 آذار من كل عام بوصفه اليوم الدولي/ العالمي للسعادة ولبيان مؤشرات حدة المشاعر السلبية التي يعاني منها الناس وذلك اعترافا منها بأهمية تلك المشاعر وتأثيرها على البشر، ولما لها من أهمية في ما يتصل بمقاصد السياسة العامة.

شمل التقرير هذا العام (2023) فقط (137) دولة من اصل عدد الدول المنضوية تحت خيمة الأمم المتحدة الباغ عددها (193) دولة.. جاءت فنلندا في المرتبة الأولى كما موقعها في السنوات الخمسة الاخيرة وأوكرانيا بالمرتبة (92) والعراق حلَ في المرتبة(98) ولبنان للسنة الثانية على التوالي وقع في المرتبة (136) وآخر القائمة أي في المرتبة (137) كانت أفغانستان.. وبهذه المناسبة نشر البروفيسور قاسم حسين صالح مقالة تحت عنوان: [السعادة.. لمناسبة يومها الدولي وحالها في العراق] بتاريخ 23.03.2023.. وكتب في التوطئة: [في تقريرها السنوي لهذا العام (2023) تصدرت فنلندة الدول الأسعد عالميا فيما تصدرت الامارات عربيا وجاء العراق في مرتبة متأخرة، وعن احوالها فيه تتحدث هذا المقالة التي لم يتطرق لها التقرير المذكور] انتهى.

ما اثار انتباهي في هذا التقرير وما نُشر عنه من بعض المساهمين في اعداده وإصداره هو ان هناك جانب أو نَفَسْ سياسي فيه وهذا يمكن ان يلمسه من يتابعه وما قيل عنه من احد المساهمين فيه والدليل هو التالي:

1 ـ قال مساهم في التقرير [ان هناك ارتفاع في المشاعر الإيجابية للشعب الاوكراني].. ليتحسن موقع اوكرانيا في سلم التقرير بالقياس للتقرير السابق من مرتبة (98) الى (90) رغم دمار الحرب ومآسيها تلك الجارية على تلك الأرض منذ 24.02.2022 ولليوم واكيد آثارها ستستمر لسنوات وعقود ومست وستمس أجيال الشعب الاوكراني والمستقبل المظلم المتوقع لتلك الأرض وذلك الشعب مهما كانت او ستكون نتيجة او نتائج هذه الحرب الكبرى..

2 ـ قال مساهم في التقرير: [ان مآسي جائحة كورونا خلال الأعوام الثلاثة الماضية لم تترك اثرا على مستوى السعادة العالمي] وهذا كما اظن مُحير ومثير وغريب حيث كورونا واثارها مست كل الشعوب وتألم منها ولها كل انسان ينطبق عليه وصف انسان وحتى من لم ينطبق عليهم هذا الوصف عكسوا صور من الألم وحاولوا مراعاة مشعار الغير..

3 ـ أشار التقري الى تحسن موقع إسرائيل في قمت السلم التي كانت فيه منذ التقرير السابق حيث انتقلت في هذا التقرير من الموقع (5) الى الموقع (4) لتأتي بعد ايسلندا (3) والدنمارك (2) وفلندا (1).

ملاحظة:

https://al-ain.com/article/day-happiness-five-foods-improve-mood

في يوم السعادة العالمي.. 5 أطعمة لتحسين الحالة المزاجية

الطماطم والحمضيات والخضار الورقية التوت والسلطات3077 السعادة 

اكيد هناك أسئلة كثيرة تُطرح عن وعلى وحول السعادة .. مثل التالية:

ماهي السعادة وكيف تُقاس؟ هل يمكن للإنسان ان يصنع سعادته او يخلقها؟ ما هي المعايير التي اعتمدتها الأمم المتحدة في انجاز دراستها عن السعادة والنتائج التي طلعت بها علينا؟ هل السعادة تُمنح ام تُكتسب ام تُنتزع؟ هل السعادة مراتب ودرجات ومنازل؟ هل السعادة لحظات المتعة واللذة والرضا والقناعة؟ هل السعادة في الرفاه، في الحرية، في النجاح، في التفوق والتميز؟ هل المشاهير من الذين حققوا الكثير سعداء؟ هل يؤثر الدماغ والعقل في موضوع سعادة الفرد؟ هل السعادة مشاعر وانفعالات تنتج مواقف وأفعال؟ هل يتمكن الانسان من اختيار السعادة/الحصول عليها/تصنيعها/ انباتها أو انتاجها مختبرياً (كيمياء/فيزياء/بيولوجي)؟ هل سعادة الفرد من سعادة المجموع ام العكس؟ هل السعادة حالة طارئة / لحظية؟ هل يمكن تمييز الانسان السعيد عن غير السعيد؟ هل السعادة نواة تدور حولها المخلوقات وفق ثوابت؟ هل من ضمن تركيب جسم الانسان هناك غدة تفرز هرمون السعادة واليها تعود سعادة الانسان وهل يمكن تنشيط هذه الغدة وقت الحاجة او اذا أصابها قصور او عطب؟ هل مظاهر الرفاهية والسرور والضحك والتأمل والحب من علامات السعادة؟ هل الحكام والملوك والامراء والمترفين والمتسلطين الذين يملكون الأرض وما عليها وما في باطنها سعداء؟ هل القضاة سعداء؟ ما هي السبل التي تؤدي الى السعادة؟ هل هناك شعب/ مجتمع/مجموعة سعيد/سعيدة وأخرى غير ذلك وما هي صور السعادة هنا؟ هل يستطيع الانسان ان يكون سعيداً في وسط غير سعيد او طارد للسعادة؟ هل تحقيق /توفير الاحتياجات يؤدي الى السعادة؟ هل تحقق احتياجات الفرد بالطرق الملتوية وغير الشريفة (الفساد) تجلب له السعادة؟ هل الحب والابداع والنجاح والتفوق والانشراح والبهجة والاطمئنان من علامات ساعة السعادة؟ هل السعادة هي المدينة الفاضلة التي تتغنى بها دواخل النفس البشرية؟ هل للسعادة حراس ومدافعين ومتابعين وعاملين؟ هل الجغرافية تؤثر على السعادة؟ هل للكوارث الطبيعية المتوقع حصولها في أي لحظة وأي مكان تأثير على السعادة؟ هل الياباني سعيد.. هل الفنلندي سعيد.. هل الأمريكي سعيد.. هل من يعيش في الادغال سعيد وكيف التحقق من ذلك؟

شخصياً اعتقد ان السعادة فردية/ ذهنية ولا اعتقد انها تكتمل دون ان تكون جماعية إنسانية وهي في لبنتها الأولى كما أتصور ايضاً ان يعرف الانسان نفسه بدقة ويتعامل معها بصراحة تامة بينه وبين نفسه ويبدع في فعالياته الإرادية أولاً ويحاول مع أللإرادية بشكل متطور ليكون هذا التطور هو سُلَّمْ للسعادة.. اعتقد ان السعادة في الابتكار والتطوير والإخلاص والإنتاج.. و وفق ذلك اعتقد ان السعادة نادرة فردياً وجماعياً وتتعقد وتتشوه صورتها ومعناها بمرور الوقت ومع مرور الوقت تحيط بها شرنقة التعاسة الصلدة وهي لحظات عابرة يمكن ان تنتهي بكارثة اذا لم يُحسن ادارتها.. اعتقد ان انسان اليوم هو العدو الأول للسعادة، سعادته وسعادة الغير.

بعد البكاء الاول للوليد الناتج عن اعتراضه الواعي / ردت فعله على انتزاعه من مكان الأمان الذي تكَّون فيه وتَصَّور، أي رحم الام الذي سد ويسد كل احتياجاته دون بيع او شراء او مساومة او تهديد او مساومات او مزايدات او اهانات. بعد ذلك الرفض او الاعتراض يشعر الطفل ان عليه القبول بالأمر الواقع والتأقلم معه وبالذات تحت تأثير الفرح والسعادة التي يلمسها عند من يحيط به حيث يعمل الى ان يتأقلم من هذه الأجواء ليطمئن انه اشاع البهجة عند محيطه الذي سد له كل احتياجاته في عالمه الجديد وبالذات بعد ان يعيش الدفأ مرة أخرى بعد دفئ الرحم.. السعادة كما اظن هي الحلم الذي لم يتحقق وحَّيَرَ ويُحَّير الانسان في محاولاته تفسير ذلك الحلم ووضع الأسس اللازمة للوصول اليها تلك التي تساعد على انباته في الواقع سواء بمفرده او بتعاون المحيط الذي يعيش فيه بحلقته أولى او الحلقات اللامنتهية التي تليها.

وانا ابحث عن السعادة في الحياة العامة وفي الأرشيف والمصادر صُدمت ولم اُصْدَمْ بما صار امامي فأغلب المنشور عنها: قال افلاطون وقال سقراط وقال نيتشه وقال كانط وقال غيرهم ولا اعلم ما علاقة هؤلاء الفلاسفة وظروف زمانهم ومكانهم والناس المحيطين بهم ومعاناتهم وحياتهم واحتياجاتهم وسعادتهم بسعادة ناس اليوم فهل احتياجات الناس زمن افلاطون وسقراط ونيتشه هي احتياجات انسان اليوم وهل ظروفهم كما ظروفنا اليوم وهل طموحات الناس المحيطين بهم تقترب من تشعب طموحات انسان اليوم وهل المشاعر السلبية والايجابية في مسيرتهم الحياتية هي نفسها المشاعر السلبية والإيجابية التي تحيط بناس هذه الأيام وهل تزاحم وتصارع البشر وأدوات ذلك ووسائله وقتهم تقترب لحالها اليوم.

سينتفض بوجهي البعض لهذا الطرح ويقول : الانسان بحث ويبحث عن الرضا والاطمئنان والأمان ووسائل العيش الكريم في كل زمان ومكان، لا بأس لكن أقول هل كان البحث عن وسائل العيش الكريم مسيرة سهلة وجميلة بحيث لم تنتج التقاتل والتحارب والحرائق والاضرار وامامنا هابيل وقابيل حيث تقاتلا وهم مؤتمنين على كل الأرض وخيراتها ولا منافس لهما.. هل هناك انسان سعيد في تلك الحقبة وهو الذي يعيش القلق في محيطة من علية القوم والطبيعة بإفرازاتها من ظواهر وامراض والقلق على معيشته ومن معه مع ندرة المتوفر (كمية ونوعية).. انا اعتقد ان طرح الأساتذة افلاطون وسقراط ونيتشه وغيرهم من الذين قبلهم وبعدهم دليل على انها مفقودة او غير معروفة او ملموسة على زمانهم لذلك طرحوها كفلاسفة واختلفوا عليها وعلى معاييرها .. لا اعتقد ان سقراط عرف السعادة لكن ربما صنعها لنفسه من خلال الفلسفة حيث كان من يحيط به من الناس يعرفون حاله وحالته والقريبين منهم يعرف انه كان مهتم بالنفس الإنسانية والقول وقائله والرضا من النفس وهذه لا تترك له مجال للشعور بالسعادة حيث انه يعيش القلق في تفسيرها والتفكير بها وربما يعتبره البعض من الزنادقة وافلاطون عرفها بالعقل ولم يلمسها او يعيشها رغم جمهوريته الفاضلة التي ربما نشدَ السعادة بالعمل على ايجادها او اكتفا بأنه طرحها وتمناها وتخيلها فأسعدته ب (الفضيلة والشجاعة والحكمة) .و اخرون قالوا بعد ان عجزوا ان الإرادة هي التي تنتج السعادة او ترسمها او تُشعر الشخص بها.. حيث الأفعال الارادية تُحقق وجود النفس وتُشَّرِفْ الانسان لأنها فضيلة وتمنع الانسان من إيقاع الضرر بنفسه وبالغير.. و اختلفوا هنا حول الفضيلة وتفسيرها وهل هي العدل او الرحمة وتفرقوا في كيفية الوصول اليها ووتوصيفها وتفسيرها وتحديد معانيها وصورها واشكالها وكل خير فضيلة وكل عدل فضيلة وكل صحيح فضيلة وكل دقة وابداع فضيلة.

اما طرحها اليوم فهي رغبة انسان هذا الزمان في البحث عن شيء مفقود/ غير مرئي او يمكن تَلَّمسه اليوم وهو من تركات أفكار وطموحات ذلك الزمان حيث اخذوا الكلمة فقط "سعادة" ورغبوا في البحث فيها ليتيهوا كما تاه السابقون وانسان هذه الأيام راغب حد الغرام بأن يكرر ما قيل .. طروحات الأمس طرحها فلاسفة اما طروحات اليوم فهي إعلامية تجارية سياسية تحيط بها شكوك وإلا هل يتجرأ احد ليقول بوجودها وتحت يافطتها العريضة ويربطها باحتياجات الانسان التي لا تُقارن باحتياجات الناس وقت الفلاسفة ولو ان سد كل تلك الاحتياجات لا تعني غير الوصول المؤقت للحظة الرضا التي تثير القلق وليس السعادة لان الرضا سينتهي ربما بعد دقائق او في اليوم التالي حيث يعود الانسان الى التجهم والتعاسة وهو يفكر بفقدانها وصعوبة الحصول عليها.. و دليل ان سد الاحتياجات لا تجلب او تقيم او تنتج السعادة هو حال الدولة الأسعد الأولى للسنوات الأخيرة واقصد فلندا حيث انها رغم سد الاحتياجات تُعتبر الدولة التي تنخرها الكأبة وان الانتحار فيها من طرق الرغبة في رؤية او تلمس السعادة.. حيث تتحدث الأرقام عن ارتفاع حالات القلق والكآبة والانتحار في فلندا وكل بلدان قمة تقرير السعادة (الاسكندنافية) بحيث قيل للتندر: [ان حالات الانتحار والكآبة تتناسب طردياً مع السعادة].

الغريب لم اعثر وقد يكون قصور مني على من قال بشأنها هذه الأيام قولاً خارج قول أولئك الفلاسفة.. وكل او اغلب اقوال وطروحات اليوم لا تخرج عن تلك الطروحات بعد ان جعلوها نصوص مقدسة" نقل حرفي بتعظيم" وبعضها تجاسر كاتبها وقدم واْخَرَ فيها او ابدل هذه الكلمة بأختها وتلك العبارة برديفتها واللغة العربية بحر كلمات ومعاني.

لقد بيَّن البروفيسور قاسم حسين صالح رأيه بالسعادة في مقالته: [رسالة إلى نفسي] بتاريخ 02.10.2009 حيث كتب التالي: [ والواقع أن كثيرين منّا يحمل مفهوما مثاليا عن السعادة، وهؤلاء لن يصلوا لها ولا يستمتعوا بالحياة . فالسعادة الواقعية لها معياران : أن يكون وضعك الحالي أفضل مما كنت عليه، وأن تكون بمستوى أقرانك في الوظيفة أو المهنة أو المكانتين الاجتماعية والاقتصادية.. ] انتهى

مقالة البروفيسور قاسم حسين صالح التي يُشكر عليها لتفرده بطرح موضوع السعادة هي موضوع المناقشة في التاليات لأنها من أستاذ متخصص بعلم النفس وكونه طرح رأي علم النفس وهو احد المتمرسين بعلم النفس حيث كتب: [وصف علم النفس في بداياته بأن السعادة هي نتائج الشعور أو الوصول لدرجة رضا الفرد عن حياته أو جودة حياته، أو أنّها الشعور المُتكرر لانفعالات ومشاعر سارّة فيها الكثير من الفرح والانبساط.. ما يعني أنّ السعادة برأيه مفهومٌ يتحدّد بحالة أو طبيعة الفرد، فهو من يقرر سعادته من تعاسته]انتهى. وطرح في مقالته: [رسالة إلى نفسي] بتاريخ 02.10.2009 رأيه او تفسيره او تعريفه للسعادة حيث كتب التالي: [والواقع أن كثيرين منّا يحمل مفهوما مثاليا عن السعادة، وهؤلاء لن يصلوا لها ولا يستمتعوا بالحياة . فالسعادة الواقعية لها معياران : أن يكون وضعك الحالي أفضل مما كنت عليه، وأن تكون بمستوى أقرانك في الوظيفة أو المهنة أو المكانتين الاجتماعية والاقتصادية..] انتهى

و اختار البروفيسور قاسم حسين صالح معايير السعادة التي يبدو انه يعتمدها وحددها بالاحتياجات واعتمد هنا هرم ماسلو حيث كتب التالي: [يعد هرم ماسلو للحاجات افضل نظرية بعلم النفس عن السعادة برغم انها ما كانت خاصة بها] انتهى.3078 السعادة 

يتبع لطفاً

***

عبد الرضا حمد جاسم

 

16 أفريل (نيسان) من كل سنة، يوم للعلم في الجزائر.

اعتادت الجزائر، منذ سنوات الاستقلال الأولى، على إحياء يوم العلم، الذي ارتبط بذكرى وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس في 16 أفريل / نيسان 1940 م. يومها، كان العالم غارقا في حرب عالميّة ثانيّة، أزهقت ملايين النفوس البريئة وغير البريئة. أما القطر العربي الجزائري المسلم، فقد كان يرزح تحت نير الاحتلال الفرنسي الغاشم. وكان قد مرّ على الأمّة الجزائريّة مائة سنة وعشرا من القهر ومحاولات الاستيلاب الثقافي والمسخ الديني والتجهيل وسلب الخيرات ونهبها. حتى ظنّ بعضهم، أنّ الأمّة الجزائرية أمست في خبر كان، ولم يعد يُسمَع لها صوت.

حتى قال أحدهم: فرحات عباس:

" بحثت في التاريخ، وسألت الأموات والأحياء، وزرت القبور، فلم يحدثني أحد عن هذا الوطن ".

لكنّ الشيخ عبد الحميد بن باديس ردّ عليه في مقاله الشهير بجريدة الشهاب، قائلا: " إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت. بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها وفي دينها ".(جريدة الشهاب).

و توفي الإملم المصلح الشيخ عبد الحميد بن باديس في السادس عشر من أفريل 1940 م، بمدينة قسنطينة، مدينة العلم والعلماء. احتضنته حيّا بين أزقّتها ورحباتها، وضمّت جسده الطاهر في قلب ثراه. وشيّعته العيون باكيّة، وودّعته القلوب راجفة إلى مثواه الأخير، ولسان حاله ما فتئ يرّدد صادحا:

هَذَا لَكُمْ عَهْدِي بِهِ حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَبْ

فَإِذَا هَلَكْتُ فَصَيْحَتِي تَحْيا الْجَزَائِرُ وَالْعَرَبْ

كان الشيخ الإمام رجلا، بالمعنى الذي وصف به القرآن الكريم الرجولة والرجال (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا). رجل، ومصلح من طينة أسلافه ومعاصريه الكبار (الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، محمد بن عبد الوهاب، الندوي، وغيرهم) من الرجالات العربيّة والإسلاميّة.

- احتفلت فرنسا الاستعمارية في عام 1930 م ن بمرور قرن على احتلالها القطر الجزائري، وأعلن خطباؤها وسفهاءها وعملاءها أن الأمة الجزائريّة قد ماتت وفنيت، ولا وجود لأمة اسمها (الجزائر). لكنّ الشيخ عبد الحميد بن باديس ورفاقه الأبرار(72 عالما من شتى الاتّجاهات الدينيّة)، أبرزهم: (الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والعربي التبسي ومحمد المين العمودي، والطيب العقبي، إبراهيم بيوض، مبارك الميلي، والمولود الحافظي، والطيّب المهاجي، ومولاي بن شريف، السعيد اليجري، حسن الطرابلسي، عبد القادر القاسمي، ومحمد الفضبل اليراتني)

لقد رفعوا راية التوحيد خفاقة في سماء الجزائر على منوال أسلافهم الكرام، وأعلنوها دون كناية أو استعارة أو خوف.

" الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا "، شعارا لهم، لا لبس فيه، وتهاون.

إنّها هويّة الجزائر الوطنيّة، التي انصهرت في بوتقتها مكوّنات الأمة الجزائريّة برمّتها، فأصبحت جسدا واحدا، إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.

كانت مباديء جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين واضحة لا لبس فيها. وكانت رسالتها موجّهة إلى العقول الخاملة لإيقاظها من الغفلة والتواكل، وإلى القلوب الغافلة لإيقاد روح العزم والحزم، وإنارة الكهوف المظلمة، وبيان سبل الخلاص من الاحتلال الفرنسي، الصليبي البغيض.

و المتأمّل لكتابات المحتلين الفرنسيين، من رجال الكنيسة الكاثوليكية الإفريقيّة يدرك مدى تحمّسهم الشديد للقضاء على مقوّمات الأمّة الجزائريّة المجيدة. لقد كانوا منخرطين " جنبا إلى جنب مع جنود الجيش الفرنسي، يدرك حجم الحقد الصليبي. لقد صاح لويس فييو، وهو يطأ أرض الجزائر قائلا: " كم كنت أتمنى في هذه اللحظة أن ألبس بدلة جنودنا، وأن أحس بالسيف يقارع ركبتي، إنّه سيف الله نضرب به عدوّه " (لويس فييو – الفرنسيون في الجزائر – 1841)

و في الوقت الذي اعتقد فيه العدو الفرنسي أنّ مقامه في الجزائر قد ترسّخ وضرب بجذوره في أعماق تربتها الزكيّة، وظنّ زعماء الكنيسة الكاثوليكية، أنّ الجزائر قد تحوّلت من انتمائها العربي الإسلامي إلى معسكرهم الصليبي، هبّ رجال الجمعيّة بقيادة الشيخ عبد الحميد بن باديس، ليصرخوا في وجهه القذر. مردّدين ملء الآفاق:

مَنْ قَالَ حَادَ عَنْ أَصْلِهِ

أَوْ قَالَ مَاتَ فَقَدْ كَذَبْ

لقد ردّا مفحما، زلزلوا به أركان المحتلين. وهم الذين قالوا ذات يوم على لسان عرّابهم الكاثوليكي: " لا من أن نستخلص من هذا بأنّ الاسلام أخذ يلفظ أنفاسه الأخيرة في كل مكان، أو على الأقل في ساحل البحر الأبيض المتوسط الذي يحق لنا نحن المسيحيين ان نسميه بعد اليوم: بحرنا " (لويس فييو – الفرنسيون في الجزائر – 1841).

و تكتف جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين، بمحاربة الأعداء الغزاة الصليبيين، بل إن الشيخ ابن باديس رحمه الله، بفضل فطنته وحكمته وذكائه وبعد نظره وإخلاصه لدينه وأمّته – وجّه سهام دعوته الإصلاحيّة التحرريّة إلى صدور طائفة من الحركى (الخونة والعملاء) ودعاة الاندماج قائلا:

أَوْ رَامَ إِدْمَاجًا لَهُ

رَامَ الْمُحَالَ مِنَ الطَّلَبْ

*

وَاقْلَعْ جُذُورَ الْخَائِنِينَ

فَمِنْهُمُ كُلُّ الْعَطَبْ

لقد أدرك الشيخ ابن باديس – طيّب الله ثراه - أنّ الأمّة الجزائريّة، قد تكالب علي إفنائها ومحو هويّتها ومسخ تاريخها التليد، الغزاة والخونة. ولهذا السبب – وغيره – وجب اقتلاع الجذور الخائنة، وتطهير النفوس النجسة، لأنها مصدر الخطر كلّه على مصر الأمّة الجزائريّة. عايش الشيخ ابن باديس ورفاقه، فترة عصيبة في ثلاثينات القرن العشرين. فقد لجأت فرنسا الاستعماريّة إلى محاربة جمعيّة العلماء بكل الوسائل الماديّة والمعنويّة والسياسية، من أجل إفشال مشروعها التعليمي والإصلاحي. فمنعت – بمراسيم – تدريس اللغة العربيّة وتحفيظ القرآن وتفسيره وتدريس تاريخ الجزائر خاصة والتاريخ العربي الإسلامي عامة. واستعملت عقوبتي السجن والنفي وكل وسائل الترهيب والوعيد والترغيب.

آمن الشيخ ابن باديس، بأن الأخذ بزمام العلم، وتربيّة النشء وتعليمه، هو باب الخلاص من المحتل الغاصب.

يَا نَشْءُ أَنْتَ رَجَاؤُنَا

وَبِكَ الصَّبَاحُ قَدِ اقْتَرَبْ

*

خُذْ لِلْحَيَاةِ سِلاَحَهَا

وَخُضِ الْخُطُوبَ وَلاَ تَهَبْ

*

وَارْفَعْ مَنَارَ الْعَدْلِ

وَالإِحْسَانِ وَاصْدُمْ مَنْ غَصَبْ

لقد أدرك أنّ الحريّة لن مُنال إلا إذا أضاء نور العلم عقول الناشئة. ولن ينجلي ليل الجزائر إلا على أيدي رجال العلم والحكمة، رجال مسلّحين بالإرادة والعزم والحزم والطموح.

و قد سعت فرنسا الاستعماريّة إلى طمس هويّة الأمّة الجزائريّة، باتّباع سياسة ثقافيّة وصليبيّة، أداتها فرنسة اللسان الجزائري، ورومنة التاريخ الجزائري، وتنصير وكثلكة (من الكاثوليك) الجزائريين، وتفتيت وحدة الأمّة الجزائريّة (سياسة فرّق تسد)، وإثارة الفتن العشائريّة والنعرات القبليّة والتعدّدات الإثنيّة. لكنّها فشلت، وسقطت مساعيها الخبيثة في الوحل. وهذا بفضل ما قانت به جمعيّة العلماء الجزائريين وتضحيات رئيسيها الفذ الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله.

لقد دافعت الجمعيّة على وجود الأمّة الجزائريّة، وبعدها القومي ورسوخه، المتمثّل في انتمائها العربي والإسلامي الأصيل. من خلال ما سنته من مباديء وأهداف، نشرها الشيخ ابن باديس في العدد 160 من جريدة البصائر الصادرة في 7 أفريل / نيسان 1939 م. أهمّها: 1939.

1 – التعليم والتربية.

2 – تطهير الإسلام من البدع والخرافات.

3 – إيقاد شعلة الحماسة في القلوب بعد أن بذل الاحتلال جهده في إطفائها حتى تنهار مقاومة الجزائريين.

4 – إحياء الثقافة العربيّة ونشرها

5 – المحافظة على الشخصيّة الجزائريّة بمقوّماتها الحضارية والدينيّة والتاريخيّة. ومقاومة سياسة الاحتلال الرامية إلى القضاء عليها.

و هذا ما صرّح به الشيخ عبد الحميد بن باديس في ختام قصيدته:

فَإِذَا هَلَكْتُ فَصَيْحَتِي

تَحْيا الْجَزَائِرُ وَالْعَرَب

و في الختام، وددت أن أتحف القاريء الكريم بقصيدة الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس كاملة، التي قال فيها:

شَعْبُ الْجَزَائِرِ مُسْلِمٌ

وَإِلىَ الْعُرُوبَةِ يَنْتَسِبْ

*

مَنْ قَالَ حَادَ عَنْ أَصْلِهِ

أَوْ قَالَ مَاتَ فَقَدْ كَذَبْ

*

أَوْ رَامَ إِدْمَاجًا لَهُ

رَامَ الْمُحَالَ مِنَ الطَّلَبْ

*

يَا نَشْءُ أَنْتَ رَجَاؤُنَا

وَبِكَ الصَّبَاحُ قَدِ اقْتَرَبْ

*

خُذْ لِلْحَيَاةِ سِلاَحَهَا

وَخُضِ الْخُطُوبَ وَلاَ تَهَبْ

*

وَارْفَعْ مَنَارَ الْعَدْلِ

وَالإِحْسَانِ وَاصْدُمْ مَنْ غَصَبْ

*

وَاقْلَعْ جُذُورَ الْخَائِنِينَ

فَمِنْهُمُ كُلُّ الْعَطَبْ

*

وَأَذِقْ نُفُوسَ الظَّالِمِينَ

سُمًّا يُمْزَجُ بِالرَّهَبْ

*

وَاهْزُزْ نُفُوسَ الْجَامِدِينَ

فَرُبَّمَا حَيَّ الْخَشَبْ

*

مَنْ كَانَ يَبْغِي وُدَّنَا

فَعَلَى الْكَرَامَةِ وَالرَّحَبْ

*

أوْ كَانَ يَبْغِي ذُلَّنا

فَلَهُ الْمهَانَةُ وَالْحَرَبْ

*

هَذَا نِظَامُ حَيَاتِنَا

بِالنُّورِ خُطَّ وَبِاللَّهَبْ

*

حَتَّى يَعُودَ لِقَوْمِنَا

مِنْ مَجْدِهِمْ مَا قَدْ ذَهَبْ

*

هَذَا لَكُمْ عَهْدِي بِهِ

حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَبْ

*

فَإِذَا هَلَكْتُ فَصَيْحَتِي

تَحْيا الْجَزَائِرُ وَالْعَرَبْ

***

بقلم الروائي والناقد علي فضيل العربي – الجزائر -

 

عزيز السيد جاسم مثالا

توطئة: نقصد بالحاكم.. الرجل الأول في الدولة الذي يرأس حكومة مسؤولة عن ادارة شؤون الناس والوطن، سواء كان النظام دكتاتوريا او ديمقراطيا. ونقصد بالمثقف..الذي يؤلف ويكتب وينشر في قضايا تخص الفكر بكل انواعه والحياة بكل مجالاتها، ويكون مخلصا للحقيقة وصادقا مع نفسه.

هذا يعني ان الحاكم والمثقف يجمعهما ميدان مشترك من القضايا التي تخص الناس والحياة، ولكنهما يختلفان في امرين: المنظور الفكري الذي يحملانه بخصوص هذه القضايا، واساليب التعامل معها. فالقضية عند الحاكم تقاس على ما يمكن ان تكون عليه، فيما يقيسها المثقف على ما ينبغي ان تكون عليه، والفرق كبير بين الحالين. ومن هنا فان الاشكالية بين الحاكم والمثقف قد تحكمها البرانويا..ان وجد الحاكم ان المثقف صار خطرا عليه .

الوسيط..بين عزيز والحزب الشيوعي

تعود علاقتي بعزيز السيد جاسم الى الخمسينيات يوم كان طالبا بدار المعلمين في مدينة الناصرية. كانت في الدار اذاعة داخلية يتحدث فيها كل صباح، وقد وجد عندي بعض اللباقة فاستضافني.. وتطورت العلاقة بعد ان عرف انني من قرية (السادة البوهلاله) التي تبعد سبعة كيلومترات عن مدينته (سوق الغازيه - النصر حاليا).

اخذ عزيز يزودني بكتب كانت ممنوعه لا اعرف من اين يحصل عليها.." فولتير وروسو وروبسبير، ثم بدأت اتعرف على نيتشه وشوبنهاور، وديكارت، وكانت.. حتى وصلت الى ضفاف الفلسفة الأوربية، حيث استطلعت، فرأيت ماركس، وهيجل، وفيورباخ، وانجلز، والفلاسفة الأنجليز. كذلك تجولت في عالم توم بين، ولنكولن، والسياسيين، والروائيين، والمفكرين ". (كتابه علي سلطة الحق صفحة 54).

ودخل عامل الثقة بيننا لتكون صداقتنا أقوى. وافترقنا حيث تخرج هو قبلي ليتعين معلما في احدى مدارس مدينته (الغازية). وفي العام 1960 كنت انا قد صرت شيوعيا ومسؤولا عن تنظيم الشيوعيين في مدينته.وكانت تأتيني رسائل من اللجنة المحلية في الناصرية، المسؤولة عن تنظيمات الحزب في كل مدن المحافظة وقراها، ملفوفة كما لو كانت (جكارة لف) معنونة له، فاوصلها له عبر مسؤول خلية تنظيم مدينته التي اجتمع بها، عرفت بعد حين ان هنالك خلافا بينه وبينها..تطور فيما بعد الى قطيعة، فهمت بعدها ان عزيز ترك او استقال من الحزب لأسباب كانت فكرية وسياسية.

كنت انا قد فصلت من وظيفتي معلما في المدرسة بقريتي (البوهلاله) القريبة من مدينة الشطرة، فجئت الى بيت أختي في العاصمة بغداد ابحث عن عمل. كنت حينها ادخن السجائر من نوع (الجمهورية)، ولدى مغادرتي مقهى (البرازيلية) بشارع الرشيد حيث كانت ملتقى المثقفين، متوجها الى بيت اختي بمدينة الحرية، لم يكن في جيبي سوى اجرة باص المصلحة وكم فلس، وآخر سيجارة في جيبي. فوقفت بمنتصف جسر الشهداء ووجهي الى دجله.. اخرجت السيجارة..شعلتها .. بدأت ادخّن.. وتحول المشهد الى دراما بيني وبينها.. في لحظة وداع كأنها حبيبتي.. ورميتها في دجلة بعد حوار وكم دمعه!

ونعود لعزيز، ففي العام 1970 زارني في بيتي وفد من الحزب الشيوعي العراقي وطلب مني الأتصال بعزيز السيد جاسم لأعرض عليه رغبة الحزب بالعودة اليه. وكان عزيز في حينها يكتب في جريدة حزب البعث (الثورة) مقالات تنتقد الحزب الشيوعي. اتصلت به والتقينا بسهرة في شارع ابي نؤاس، واعتذر عن تلبية الدعوة بالعودة، منتقدا قياداته الحالية والسابقة.

كانت آخر مرة التقيته فيها يوم كان رئيس تحرير مجلة (وعي العمال) بموقعها الذي هو الآن داخل المنطقة الخضراء. دخلت مكتبه في مقر المجلة فلمحت عليه مجموعة من الأدوية، سالته عنها فقال: ضغط وسكر وكلشي يخطر على بالك، فهمت انه يعاني من ضغوط نفسية. حاولت أن اعرف الأسباب فأشار لي بعينيه ما يعني ان المكان مراقب، واتفقنا ان نلتقي مساءا.. والتقينا في سهرة حيث كنا كلانا نحب شرب ما نشتهي ليلة تكون السهرة في كازينو تصدح بها أم كلثوم بشارع ابي نؤاس!.

عزيز.. مفكر استثنائي

يمتاز عزيز ان وعيه الفكري كان من صباه سابقا لعمره، وانه عمل من حداثته وبداية شبابه على تعميق هذا الوعي وتنوعه (الذي كان هو السبب في تصفيته!). وانعكس ذلك على نمو (الأنا) لديه وعلى تكوين شخصية طموحة تسعى لتحقيق اهداف مثالية في واقع معقد.ولقد عزز اعتداده بنفسه، اعتراف رموز النظام بمن فيهم رئيسه صدام حسين بقدراته وتفوقه على شخصيات تحتل مراكز ثقافية وسياسية متقدمه.

ولأن شخصية كهذه تكون ناقدة وجريئة وغير قادرة على المساومة والأنبطاح، فان الخيبات التي تعرض لها عزيز عرضته الى احباطات وضعته امام خيارين:اما التخلي عن تحقيق اهدافه او التحدي الذي اختاره.ولأنه ادرك ان خصمه لا يرحم فقد استعان روحيا بوسيلة سيكولوجية هي اللجوء الى الدين، ليخفف من معاناته من جهة وليعزز الثبات على الموقف من جهة أخرى، عبر انجازات ثقافية كانت اكثر من عشرة مؤلفات وروايات مميزة في عقد الثمانينات فقط!.. بينها كتابه (علي سلطة الحق) الذي انجزه عام 1988. وما كان هو السبب في حينه لاعتقاله، لكنه كان سببا لاحقا لاحتجازه بعد ثلاث سنوات، والطلب منه كتابة ثلاثة كتب عن الخلفاء ابي بكر وعمر وعثمان. ويشاع هنا، ان من قام بكتابتها هو شقيقه الدكتور محسن الموسوي( موجود في اميركا الآن) بالتعاون مع آخرين.وأشيع ايضا انها حين نزلت الى الأسواق دفعة واحدة، كثر اللغط حولها فأمر صدام بسحبها من الأسواق.

الحاكم.. يقهر المثقف التنويري

كان عزيز قد كتب كتابه (علي بن ابي طالب سلطة الحق ) كما اراده هو. والموجع والمفجع ان الحاكم (صدام ) امر المثقف(عزيز) ليس فقط ان يعيد كتابته، بل وان ينكر انه كتب ذلك الكتاب، ما اضطره ان يكتب في النسخة الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة بوزارة الثقافة والاعلام (1988) بالنص:

(وبالمناسبة، علمت ان هناك كتابا مطبوعا بالخارج بالعنوان نفسه " علي بن ابي طالب سلطة الحق" يحمل اسمي، وهو كتاب لا علاقة لي به حيث انه يتضمن مفاهيم انا بريء منه، وان هذه النسخة التي بين يدي القاريء الكريم هي الكتاب الوحيد الصادر عني. المؤلف عزيز السيد جاسم – بغداد) الصفحة 62.

والموجع اكثر ان الحاكم (صدام) اّذلّ المثقف التنويري، وان المثقف (عزيز) خشي بطش الحاكم، فاضطره ان يمدح الحاكم كمن يتجرع السم فكتب بالنص:

(ونحن، في ظل قيادة البطل العربي الاصيل صدام حسين نسل الامام علي بن ابي طالب...) صفحة 158

واستشهد في اكثر من مكان بعبارات من كتابات صدام (في الدين والتراث، وكيف نكتب التاريخ) مثل:(قال السيد الرئيس: ان ايماننا بالسلام ليس حالة ظرفية تكتيكية....) ص 123

و: (ومع ان الفارق التاريخي كبير وقديم، الا اننا لا يمكن ان نقول ان قيادة العراق المتمثلة بسيادة الرئيس صدام حسين....) ص 135

ومع كل هذا الأذلال، فان مدح المثقف التنويري للحاكم.. لم يشفع له!.

برانويا الحاكم.. لا ترحم

تعني البرانويا .. الشك المرضي بالآخر الذي يفسّر حتى همس اثنين في مسألة خاصة بهما بأنه تآمر عليه. بل يصل الى ان المصاب به يقتل حتى امه حين يوهمه شكه المرضي بأنها ستضع السم في طعامه، وهذا ما يحصل للحاكم في موقفه من المثقف التنويري.والذي حصل ان عزيز اعتقل في 15 نيسان 1991 للمرة السادسة، ولم تفلح مناشدات مفكرين عرب واجانب ومذكرة قدمت الى امين عام الأمم المتحدة (كوفي عنان) باطلاق سراحه. ومع تعدد الروايات حول طريقة تصفيته، فان المتفق عليه ان جثته لم تسلم الى اهله، وان مصيره ظل مجهولا.

والمؤسف في هذه الواقعة ان المثقف التنويري الذي يحصل له ما حصل لعزيز السيد جاسم، يخسر حتى الذكر الطيب بعد رحيله. فلا الحزب الشيوعي العراقي استذكر عزيز بوصفه انموذجا لشيوعي ناقد لفكر الحزب (وكنا اقترحنا عليه). وانه ظل نسيا منسيا في عهد حكّام يدّعون أنهم أحفاد علي واخلص شيعته، مع أنه علوي ومؤلف لكتاب (علي سلطة الحق).

وتعلمنا هذه الاشكالية أن الأمر لا يختلف ما اذا كان الحاكم في نظام دكتاتوري او ديمقراطي، فعزيز السيد جاسم كان انموذجا لعلاقة الحاكم الدكتاتوري بمثقف تنويري، وكامل شياع كان انموذجا لعلاقة الحاكم الديمقراطي بمثقف تنويري تمت تصفيته ايضا!.. وستظل الأشكالية قائمة في العراق الى ان تتخلص الجماهير من ثقافة القطيع وتأتي بحكّام يؤمنون بتداول السلطة!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

 

 

 

في المثقف اليوم