قضايا
الطيب النقر: مهد التصوف
ليس هناك ما يثير الدهشة إذا أحصينا أو سعينا لإحصاء الحركات الصوفية في بلد يستمد حماسته الدينية منها، فقلما نبغ مفكر، أو سياسي، أو أديب في “مهد الحضارات” كما يحلو للسودانيين أن ينعتوا وطنهم بهذه الصفة، إلا وأنه حتماً يدين بالولاء لأحد الحركات الصوفية التي نظمت حياته الروحية، وأنشأت في نفسه تصوراً مستقلاً لكيفية تعبده، تصوراً فيه ما فيه من القوة والعمل والتفاني، تصور يدعوه لأن يدرس نفسه فإذا استوفى تفاصيلها دعاه لأن ينتقل إلى ما عداها، ويسلك إلى هذا كله أيسر السبل وأسهلها وهو التدبر، وألا تثور في نفسه رغبة غير تزكية النفس وتطهيرها، “يوجد في السودان ما يقترب من أربعين طريقة صوفية، يمتد أغلبها في نطاق جغرافي واسع، ولكل طريقة منها مركز ثقل في منطقة جغرافية بعينها؛ حيث تتمركز الطريقة السمائية في وسط السودان وفي غرب أم درمان، وتنتشر الطريقة التيجانية في دارفور، وفي شندي، والدامر، والأبيض، وفي الخرطوم، وفي أم درمان، أما الطريقة الختمية فيوجد مريدوها في شرق السودان، وفي شماله، والخرطوم بحري، أما الطريقة القادرية فيوجد أنصارها في وسط السودان، وفي منطقة ولاية النيل، أما الطرق الحديثة البرهانية، والدندراوية، والأدارسة، فتوجد في أماكن متفرقة بالقرب من الحدود المصرية”.
وتتفاوت مناهج التربية في تلك الطرق التي لا نجد بين أهلها وشيعتها أستاراً صفاقا أو رقاقا، وكأن الشيطان أخفق أو استيأس أن يوقع بينهم ويجري تلك العداوة والبغضاء التي نألفها بين أهل الضرب الواحد، فأقطاب التصوف لا يبغضون شيئا كما يبغضوا الوشاة والكائدين، فهم مسرفين في الشدة عليهم وغمرهم باللوم والتعنيف، فمن أركان التصوف التي تعارف الناس عليها وكالوا لها المدح والثناء التسامح، ونكران الذات، والبعد عن الغيبة والنميمة، والشيخ يحتمل في شيء من الجهد هنات مريده، ويستصلح في كثير من الرفق مثالبه حتى يجد المريد بؤساً ممضاً إذا وقع في اللمم، ولن يخرج من ندمه وحزنه إذا تلطخ بذنب له ما له من الضخامة والارتفاع. “وتختلف مشايخ الطرق الصوفية في السودان في طريقتها فقد يسلك بعض المشايخ طريق الشدة في تربية المريدين، فيأخذونهم بالرياضات الشاقة مثل كثرة الصيام والسهر، وكثرة الخلوة والاعتزال عن الناس، وكثرة الذكر والفكر، وقد تسلك بعض الطرق اللين في تربية المريدين، والبعض الآخر يتخذ الطريق الوسطي في التربية”.
أما من أين وفد علماء الصوفية؟ فليس من المغالاة أن نزعم أن كثيراً من العرب الذين هاجروا لتلك الديار قبل تكوين مملكة الفونج التي نشأت نتاجاً لهجرتهم تلك، قد حطوا رحالهم في السودان وهم يحملون أبجديات تصوفهم وأركانه، هذه الجموع التي خفت إلى أرض السودان حتماً قد جاهدت عدوها فأحسنت الجهاد، وأبلت في ساحات الوغى فأحسنت البلاء، ولكنها لم تتجرع بعد كل هذا غير مرارة الهزيمة وتنكيل الخصوم، فلم تجد بُداً ولا بديلاً سوى أن تهاجر حتى تنجو بنفسها، “ولا شك أن معظمهم كان من الذين ألجأتهم الظروف السياسية إلى الفرار بحيلتهم ودينهم، وجاءوا إلى السودان من الحجاز والعراق والشام ومصر وشمالي أفريقيا بالذات يوم آلت كلها إلى حكم الفاطميين من الشيعة، فكان السودان بأفواجه الضخمة النازحة مجالاً رحباً لنشر دعوة جديدة من قوم أصابتهم جراحات سياسية فجنحوا إلى الزهد والتصوف، وهذا ولا شك أرسى من قواعد هذا الديني الصوفي الوافد المهاجر، بكل إمكانياته وجراحاته وآماله، وقد فسر شيخنا الكبير العقاد أن شيوع الطرق الصوفية في السودان قد نجم عن الشقاق بين الدول الإسلامية المتعاقبة، فانتشرت فيه الجماعات الصوفية”.
وحتى نأخذ عقولنا بمناهج البحث العلمي، يجب أن نسعى خلف الأسباب التي جعلت حياة العرب متصلة في عالمهم الجديد، هل لأنهم قد حصروا همهم في تفادي الخلاف مع السكان الأصليين، وقصروا جهدهم على الانزواء وعدم الاحتكاك بهم؟ أما أن السكان الأصليين لا يوجد من أوفى منهم بعهد، ولا أبقى منهم على مودة؟ ألم تجيش قلوب السودانيون لهم بالغل، وتضطرم بالعداوة؟ سعينا أن نجد بين نتاف الكتب، ومطويات الصحف، وخطفات الأحاديث، وفي أضابير النت الجواب الشافي لكل الأسئلة التي أوقعتنا في بيداء الحيرة، فــوجدنا بين طيات عدة مقالات حقائق وأسباب كفلت لهؤلاء المهاجرين إلى تلك البلاد البكر عيش هانئ، ورزق رغد، فمما لا شك فيه أن تلك الطائفة التي آثرت المخاطرة والمغامرة والتعرض للمكروه على البقاء في أرضها فيفنيها عدوها، قد قدمت إلى أرض السودان وهي تحمل معهاـ قيم التسامح، وقبول الآخر، ونبذ العداوة والبغضاء، والبعد عن الغلو والتطرف، فوضعت بذلك أول لبنة للوجود الإسلامي في أرض النيلين.
وحتماً قد امتزجت الأعراق، واختلطت الأنساب، بفضل التصاهر الذي يحرص عليه كل غريب يريد أن يحظى بالخفض والأمن والنعيم، وسط أقوام لا يمت لهم بصلة، وتخبرنا كتب التاريخ ومصادره عن ذلك الحلف الذي انعقد في مدينة سنار بين زعيم العبدلاب عبد الله جماع وعمارة دنقس عظيم الفونج وسيدهم عام 1504م، وهما بهذا التحالف قد وضعا نواة أول مملكة إسلامية في السودان، بعد أن انتشر الإسلام في ربوعه، والتي عرفت فيما بعد بالسلطنة الزرقاء، وكان الهدف منها هو القضاء على مملكة علوة المسيحية، المملكة النوبية الثانية القوية في العصر الوسيط في السودان.
“ولم تكن سنار حاضرة أول سلطنة إسلامية في السودان فقط، بل أصبحت عنوانا للبلاد، ومركزا مهماً للإشعاع الثقافي والإسلامي في أفريقيا، وكان أهل السودان في عهد مملكة سنَّار يعرفون بالسنَّارية، وربما وصفوا بالسنانير، عرفت تلك المملكة التي ازدهرت وذاع صيتها، وقوي مركزها لقرون من الزمن بأسماء متعددة، فتارة يطلق عليها مملكة الفونج، وأحيانا السلطنة الزرقاء، وأحيانا أخرى تسمى الدولة السنارية، واستمرت زهاء 360 عاما.
ولعل الحقيقة الناصعة التي لا تقبل شكاً أو جدالا، أن السودان يعد من أكثر البلاد الإسلامية استجابة وطواعية للروح الصوفية، لسلامة فطرته، وصدق طبيعته، ولنزوع أهله إلى الانطلاق من صراع العصبيات القبلية إلى مرفأ وسكن للروح النازعة إلى الأمن والأمان، وإلى سمو روح الرواد والحكام، وكان أهم الآثار التي ترتبت على انتشار التصوف في السودان أن عظم شأن شيوخها وأعلامها أكثر مما ينبغي، فالمريد الذي تثور في نفسه العواطف أضحى يعتقد في شيخه المعجزات التي لا يحصرها خيال أو يحتويها مكان، معجزات أعلاها الأرض التي تطوى له، وأدناها علمه بكل من يتربص به ويدبر له السوء، وشيوخ هذه الطرق أعزهم الله على مر الحقب لم يغيروا هذا الاعتقاد، ولم يعينوا أحداً على التغيير، وكأنهم يخشون إذا سعوا لإزالة هذه الاعتقادات الساذجة من قِبْل محبيهم، أن يزهد الناس في التقرب إليهم والدنو منهم، وسواء أردنا أم لم نرد هذه هي الطريقة التي انتشر فيها الإسلام في بلاد النيلين، ونضجت تعاليمه في نفوس قاطنيه نضجاً بطيئا.
وبعيداً عن التعمق والاستقصاء يقر الباحث أن تقدير المريدين لشيوخهم قد اتخذ أشكالاً عدة، وألواناً مختلفة، و”كانت درجة نجاحة الصوفية في هذا المسمى تعتمد إلى درجة كبيرة على ما يتمتعون به من علم وخلق وورع وزهد وانقطاع عن الدنيا، وصلاح وبركة ولاعتقاد الأحباب المريدين والأتباع، أن من يخالف شيخ الطريقة أو يغضبه قد تصيبه اللعنة، ويلاحقه سوء الطالع، وكانوا يرون أن في مقدور الشيخ لما يتمتع به من بركة وكرامات، أن يكون خير معين للمريد في دنياه وآخرته، وبسبب هذا الوضع المتميز صار الشيوخ يشكلون قوة روحية ذات سلطان عظيم في النفوس، وفي نفس الوقت كانوا مصدر خير للفقراء، وسنداً للضعفاء، وحماة من غدر الحُكّام وظلم السلاطين ونوازل الدهر، وساعدت هذه الوشائج الروحية بين المشايخ والوطنيين على انتشار الإسلام وترسيخ تعاليمه”.
كان هدف الصوفية الأوائل، وغايتهم التي سعوا من أجل تحصيلها، هي بث المزاج الصوفي في بلاد تعد أشد تنوعاً واختلافاً عن رصيفاتها، وكسب أتباع جدد للعقيدة الإسلامية، يرضون حاجتهم بهم للبذل والعطاء، فالساذج منهم إلى أقصى حدود السذاجة، والكيس الفطن إلى أبعد آماد الكياسة والفطنة، كان لا يرمي إلا أن تسير العمليتان معاً جنباً إلى جنب في مجتمع ما زال يتسكع في بيداء الغواية، “وما زالت جيوب الوثنية ماثلة فيه، وكذلك رواسب النصرانية في بعض الممارسات الاجتماعية، واتبع رواد الصوفية الذين حلوا بالبلاد منهجاً مبسطاً في سبيل نشر الإسلام وتعميق مبادئه بين المواطنين، قوامه فيما ترجح إلزام المؤيدين باتباع منهج تعبدي، وسلوك خلقي، مع المداومة على قراءة أذكار وأوراد معلومة، ولتفشي الأمية يبدو أنهم لجأوا إلى التلقين، واستعمال الترانيم، والمدائح والطبول في الأذكار بغرض نشر تعاليم الدين، وكان لهذا الأسلوب غير المتزمت أثره في جلب العامة، وتحبيبهم في حلقات الذكر، والالتفاف حول مشايخ الطرق”.
ولعل في كل الأسباب التي ذكرتها تعليل كاف لشغف المجتمع السوداني بالتصوف، وهيامهم به، واحتفائهم بشيوخه، فهو المذهب الذي بهرهم وسحرهم وفرض نفسه عليهم، بعد أن وجدوا فيه كل ما يعرب عن ضمائرهم، وتذخر به عاطفتهم، كما كانوا راضين مطمئنين إلى تعاليمه، التي لا يجدون عند الوقوف عليها إطالة أو إملالا، وكان شيوخ التصوف كما أسلفنا يغذون عقولهم، ويرهفون خوالجهم، ويلهبون شعورهم، بتلك الطرق التي كانت خليقة بأن تزيدهم قوة وتمسكاً بأهداب الدين، ولكنها مع نجاعتها، وحرصها على الجهاد والسهاد أسرع إليها الضعف، وأحاط بها الهزال، فقد كان “آثار النمط التقليدي لانتشار الإسلام في السودان، حيث التعويل جله على استذكار القرآن، ومخطوطات الفقه الأولية دون تفهم، وعلى نقل شعائر الصوفية وشعاراتها عن طريق التقليد، أن تمكن الجهل بمعاني الدين في مصادرها الأصلية، وخالطت عقائد الناس وأعمالهم رواسب وخرافيات وأعراف جاهلية، بأثر الخلفية التاريخية الوثنية التي استبقاها ضآلة ثقافة العرب الوافدين بالإسلام إلى السودان، إضافة إلى شيء من الانحراف التقليدي في السودان، شيء من الباطنية في التصور، ومن ضعف الالتزام بالشعائر والآداب والأحكام، ويتصل ذلك أيضاً بضعف التراث الفقهي عامة، وغياب الممارسات الدينية التي تعهد في المجتمعات المؤسسة رسمياً على الدين”.
***
د.الطيب النقر