قضايا

يقول فيلسوف الحرية جان بول سارتر في كتابه الوجودية مذهب إنساني: "إن الوجود يعلن صراحة أن الإنسان يحيا في قلق ويكابد القلق"

فالإنسان الغربي المعاصر بعد أن تحرر من الحكم الكنسي باتباعه للعلمانية أو مايدعى بعصر التنوير، انتقل الى محاولة أخرى للتحرر فانتهج الليبرالية ليتوق الى حارس يحرس كل تلك القفزات التحررية، فتبنى الديمقراطية كطموح يحفظ حقوق الانسان وحرية التعبير وغيرها وأثناء هذه الجولات التي حاول من خلالها ضرب أمواج الفكر التي تتقاذفه من كل اتجاه لم يعد يفهم إلى أين الإتجاه، فإطلاق الحرية على غاربها مسح جميع معالمها، فلم تعد محددة أمامه بل لم يعد يعنيه أن تتحدد أمامه، لأنه لم يعد يسعى سوى إلى الحرية، و لم يعد يعرف بعدها حدودًا لوجوده، ولم يعد يعرف نطاق وجوده، فوقع في مشكلة أكبر. واجتهادًا منا في تفكيك مشكلة بسط أجنحة الحرية على إطلاقها دون تحديد لنطاقاتها، رأينا أنه علينا بدايةً أن نحدد التصورات الثلاثة التي اعتقدها الإنسان وهو يبحث عن الحرية:

التصور الاول: أنه يمكن للانسان من خلال الحرية أن يبلغ مبلغ الكمال، فوجد نفسه دون وعي منه يؤلّه نفسه ولا يؤمن بمقدّس سوى ذاته، وهذا ماحصل حين حرق بعض الأفراد القرآن الكريم في عديد من الدول الغربية، فالأمر أنهم لم يحاولوا حرق القرآن الكريم بل تلك محاولة لحرق المقدّس الذي ينافس قداستهم الإنسانية التي أرادوا تأليهها بدعاوى الحرية .

فلو عرف مثلا من أحرقوا كتاب الله العزيز بأن ديننا الاسلامي يهدي للتي هي أقوم، وجعل الانسان هو الأكرم لأحرقوا أنفسهم قبل أن يحرقوا الكتاب الذي يدعوهم إلى سلامهم.

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعاً قال: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟

قال:"تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف"

التصور الثاني: أن الانسان تخيل أنه بمقدار ماسوف يسع من حرية بمقدار ماسيسع من سعادة روحية الى الحد الذي فقد فيه هويته الانسانية، فانحدر بنفسه من سماوات تأليهها الى أسافل الحيوانية، ووجد نفسه ينافس الحيوان في شكله ودوره، ولم يحرجه عقله في أن يتشبه بالكلب كما رأيناه في بريطانيا حين تحول الآلاف من البشر الى كلاب بشرية .

التصور الثالث: محاولة بناء ذوات فردية منفلتة عن المؤسسات السياسية التي حبست الفرد بين حاجاته الإستهلاكية، وقادته بوسائل تخالف مطامحه البشرية مثل الإكراه، القهر، الإبتزاز، الإضطهاد، الإستبداد...وغيرها

ماأوقعه في متاهة بشأن نظام العقد الاجتماعي الذي يمكنه من خلاله بناء أساسات دولة حديثة يمكنها أن لاتنهار على داخلها بفعل صراع الهوية الذي يتضارب مع مطلقات الحرية، ومانجم عنه من إشكالات حول الدولة المدنية والدينية وفكرة الديمقراطية.

ثم مازاد في انهيار الوعي البشري هذه الفظائع الدموية والحروب العالمية التي لم يعد يرى فيها الفرد لحياته من غاية سوى الموت.

فنحن أمام اشكاليات لاتنتهي للحرية، وجب أن نفكر فيها كمسلمين ونتدبر، ولا نقع في براثن الإستعلاء والفوقية وكأننا نملك ناصية الحقيقة دون جميع البشرية، في حين لاوجه للحق دون وجه للحقيقة.

***

بادية شكاط كاتبة في الفكر، السياسة وقضايا الأمة

ممثلة الجزائر في منظمة إلاميون حول العالم الدولية في النمسا

يبقى غضب الطبيعة هو الأبرز من بين كل الموضوعات التي لا نمنحها وقتاً كافياً للتفكير، إلى أن تحل بساحتنا. كأننا نهرب من تخيل جموحها المفاجئ، نرتعب من قسوتها الهائلة حين تبطش في لحظات الكوارث. ربما لأنها ستكشف لنا عن ضعفنا الميتافيزيقي، عن حقيقة عالمنا كما لم نعرفه من قبل، تجعلنا ندرك مدى هشاشته، وكم هو فاقد للمعنى.

نحن البشر متشابهون في أشياء كثيرة، سواء أكنا من كهرمان مرعش التركية، حيث فتك الزلزال بكل ما على فوق الأرض، أم من حلب السورية التي أكمل فيها جبروت الطبيعة تدمير ما نسيته الحرب الأهلية، أو من بغداد، أو بيروت، أو حتى بورت/ برنس عاصمة هايتي، لا فرق أبداً. نطلب من مهندس البناء تدعيم أسس بيوتنا بمزيد من الحديد والخرسانة. نحلم بأن تصمد، وأن تبقى صالحة لسكن الأحفاد. إن أسوء الكوابيس التي يمكن تخيلها هو أن تأتي لحظة غير متوقعه لتجعل فردوسنا الآمن جحيماً، أن يقوم زلزال ما بتحويل بيت طفولتنا الموروث من آبائنا، أو الذي لم ندخر جهداً ومالاً لتشييده بأنفسنا إلى قبر ينهار فوق رؤوس أحبتنا وهم أحياء.

ذلك الإنسان الذي كان خارج البيت لحظة انهياره هل نعتبره إنساناً محظوظاً أم سيء الحظ للغاية؟ لنتخيل أن عائلته السعيدة طلبت منه أن يشتري لها من السوبر ماركت القريب خبزاً، أو بضع علب الكوكاكولا، وحين عاد بعد دقائق، وجد أسرته تحت الأنقاض. لحظتها سيتمنى لو أنه لم يطلب تدعيم بيته بالإسمنت والحديد، بل سيتمنى لو لم يقم ببنائه أصلاً، لو كان البيت مجرد خيمة، كل ما يقوى عليه الزلزال هو أن يوقعها، خيمة بسيطة من قماش، لا يحتاج التعامل معها لفريق إنقاذ ولا معدات، خيمة يرفعها بنفسه، بيد واحدة فقط، ليجد أفراد عائلته بصحة، وأمان تام.

هل ما أكتبه هنا هو تأمل فلسفي؟ لا أعرف، فالفلسفة برغم تراثها الباذخ ذي المسحة الإعجازية تبقى هشَّة هي الأخرى. ولعل إحدى مآسيها هو في كونها غير قادرة على تعريف المأساة، ربما لأن معناها لا يحتاج إلى شرح أصلاً. المأساة فلسفة بحد ذاتها، فلسفة تهزأ -لفرط بساطتها- بتكهنات المثاليين والماديين. إنها مؤقتة مثل الزلزال، تباغت ثم تنسحب، لكنها مثله أيضاً تترك خلفها آثار الخراب، في النفوس، كما في المباني. نعم. ستخلف لنا جوهرها، أو فحوى شعريتها، إن جاز لنا تذكر نماذج التراجيديا، تلك التي لم يعد لها مكان في أدب الحداثة، وما بعد الحداثة. ما استمر منها فقط هو جذرها الأكثر إيلاماً، الحزن الذي  ينتاب الروح بين حين وآخر، حتى وهي في أوج لحظاتها سعادة وأمنا. مع ذلك. لا شيء مثل الكارثة يمنحك فرصة للتأمل.

بالمناسبة، لا يوجد أبطال فرديون في المآسي الناتجة عن كوارث الطبيعة، فهذه الأخيرة بخلاف نماذج الفن، غير عضوية، ولا مترابطة. التراجيديا الكونية لا تحاكي فعلاً نبيلاً، ليس فيها نبلاء، ولا سوقة. هناك آلاف، وأحياناً عشرات الآلاف من الضحايا، وملايين المشردين فحسب. نحن، لحظتها، ولتعزية أرواحنا المستباحة سنقوم بالتفتيش عن بطل فردي، حتى لو لزم الأمر اختراعه، أو صنعه على عجل.

وهنا، علينا أن نستبعد من تفكيرنا جميع نجومنا الأكثر شهرة: الساسة، رجال الدين، لاعبي كرة القدم، فناني السينما والغناء، صناع المحتوى في اليوتيوب والفيسبوك. نريد بطلاً يكون قريباً جداً من ركام ما نتج من خراب، أو خارجاً من أنقاضه/رماده  بالأحرى.

لا أفضل من صور الصمود الاستثنائي لأحد الناجين، كمثال الطفل الرضيع الذي صمد لستة أيام متواصلة تحت أنقاض مبنى إنهار فوق جسده الصغير في مدينة هاتاي التركية، أو كمثال المتطوعين، وفرق الإنقاذ، وبعض منهم غامر بحياته لينقذ روحاً إنسانية، أو قطة، أو حتى كلباً دفنته الحجارة.  ببساطة، كلما كان وقع المأساة ثقيلاً اشتدت حاجتنا لعزاء روحي، ليد رحيمة تربت على أكتافنا، لمصدر إلهام يقول لنا بصوت مليء بالثقة: يمكن إنقاذ المستقبل.

كيف نبدأ من جديد مع 36 ألف قتيل حتى الأن، مع 26 مليون إنسان تضرروا  في تركيا وسوريا؟ لا جدال في أن العواقب المحتملة لكارثة بحجم ما حصل ستتعدى الحدود الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، ستمس بالصميم حدود علاقة الذات بالكون، حتى وإن لم ينتبه لذلك الضحايا لفرط ذهولهم، ستخترق كل ما يغذي سرديات الأخلاق، وخطاب الوعظ الديني، حيث تحقق الوعد بالخلاص يتوقف على ازدياد نسبة المآسي، وحيث الزلزال -كما سائر صور الكوارث الطبيعية- ليس سوى جندي من جنود الرب. جندي مرعب، مخيف للغاية، تقع تحت سيطرته أسلحة فتاكة تهزأ بأقوى القنابل النووية "فاق عدد ضحايا زلزال هايتي في العام 2010 مئتي ألف ضحية"، سيطال فتكه كلاً من الإنسان الطيب والشرير معاً. برغم ذلك، فعدالة السماء لن تُمس. ثمة حل جاهز في متناول اليد دائماً: الزلزال عقاب للأشرار، واختبار/ ابتلاء للأخيار، وموعظة لنا، نحن الذين نرقب هول ما يفعله عن بعد، مستريحين أمام شاشات الفضائيات في بيوتنا الدافئة، الآمنة ولو إلى حين!

لكن العوائل التي افترشت في أجواء البرد القارص ثلاثة كيلومترات من قارعة طريق في حلب، المرأة السورية المتشحة بالسواد تحديداً، تلك التي كانت تحتضن رضيعاً، وتلوذ بها ثلاث فتيات أكبرهن بحدود الثامنة من العمر لا تمتلك رفاهية لحظة التأمل، مثل التي نمتلكها نحن الآن، لا للإرث الفلسفي أو الديني. تعبت وبناتها طوال ما يزيد على عقد من تقاتل عشرات الآلاف من المحاربين، أولئك الذين أمعنوا في تدمير سوريا الجميلة، وكلهم يدعون أنهم "جنود الرب" أيضاً. كانت قد بدأت بعد ليلتين باردتين انخفضت فيهما درجة الحرارة إلى ما دون الصفر المئوي بحرق بعض قطع الملابس في علبة صفيح، لتوفر الدفء لبناتها. لم يكن بقربها أي بديل آخر، لا حطب، ولا حتى نفايات.

من المؤكد أيضاً أن المرأة الحلبية لم يسبق أن سمعت شيئاً عن التفسير الأسطوري لحدوث الزلازل كما يقدمه الفلكلور الياباني، ذاك الذي تروي حكاياته أن هناك سمكة سلور/ قرموط عملاقة، تعيش في جوف الأرض، وأن أدنى حركة مفاجئة لها ستتسبب بزلزال أرضي هائل. ربما لو كانت قد سمعت بالحكاية، لو خطرت ببالها وهي ترقب حال بناتها جائعات مرتجفات لكان التداعي قد قادها لتخيل السمكة وجبة غذاء تعدها لصغيراتها، حتى وإن كانت بحجم سمكة الزينة التي نزين بها غرفة المعيشة، فهي قد ذكرت لمراسل إحدى الفضائيات الشهيرة أن عائلتها  لم تحصل طوال اليومين الماضيين إلا على "ربطة خبز" واحدة. وحين سألها إن كانت تريد أن تناشد الدول والمنظمات، أجابت بجملة واحدة فقط: أريد خيمة لبناتي.

من جديد، تعود الخيمة لتصبح أمنية غالية. وقد كانت كذلك لآلاف وملايين المرات. كأننا عدنا بدائيين. السياسيون، سلطة ومعارضة، ومعهم المرابون، وتجار الأزمات لن يوفروا لأحد خيمة بالمجان. بابا نويل وحده هو من يهدينا في ليلة رأس السنة الباردة هي الأخرى هدايا بلا فواتير. أما منطق أولئك فهو يقوم على المقايضة المباشرة، في أيام الكوارث، كما في سواها، وعلى خبث انتهازي لا يتورع عن استثمار المأساة نفسها بجشع غير إنساني بالمرة.

لا بأس أيتها السيدة الفاضلة. ستحصلين على ما صار حلماً. لن يعجز ضمير العالم عن تدبير خيمة لك، قبل أن تجبري على تدفئة بناتك بآخر قطعة ملابس، خيمة ترممين فيها هشاشة عالمك، عالمنا برمته، ريثما تعودين لتدعيم أساسات بيتك المهدم. السر الذي سيهبك القوة هو نفسه الذي لا يزال يدفع  حتى الآن بنبلاء حقيقيين لمواصلة البحث عن ناجين، برغم مرور ستة أيام على حصول الكارثة، بآخر ما تبقى في صندوق باندورا الذي انطلقت منه كل الشرور إلى العالم، بأقوى ما واجه به الإنسان كوارث الطبيعة، وتلك التي صنعها توحش الطغاة: الأمل.

***

عباس عبيد

أكاديمي وباحث من العراق

القارئُ يبحثُ عن ذاته فيما يقرأ، أعذبُ كتابةٍ هي ما يرى فيها القارئُ محطاتِ حياته، وتتكشف فيها ملامحُ صورته، ‏ويتجلى فيها شيءٌ من الأعماق المختبئة في نفسه، وتفضح العقدَ الكامنة بداخله، ‏وتعلن أسئلتَه ومعتقداته المخيف ‏إعلانها. القارئ يفتش في الكتابة عن شخصيةِ الكاتب، وأحوالِه وانفعالاته وحساسياته وهشاشته وضعفه البشري، ويدقّق في كلِّ ما يسعى الكاتبُ لإخفائه. يريد القارئُ تمزيقَ ما يحجبُ شخصيةَ الكاتب من أقنعة، وما يتوارى خلفه وجهُه. لا يبحث القارئُ عن المكشوف الذي يعرفه الكلُّ عن الكاتب. أصدقُ سيرة ذاتية قرأتُها وتعلّمت منها ما كانت مرآةً لذات كاتبها، وما اعترفَ كاتبُها فيها بطبيعته بوصفه بشرًا لا ملاكًا، وتحدث عن شيء من ثغرات شخصيته، وأعلن عن شيء من وهنه وعجزه، وندمه على بعض أفعاله وآرائه الخطأ، بموازاةِ حديثه عن مزاياه ومنجزاته ومكاسبه ومواهبه.

لا نسمع من البشر إلا كلماتهم، ولا نرى إلا وجوهَهم، ولا نتحسّس إلا ما هو مُعلَن من مواقفهم وسلوكهم. يستعمل كثيرٌ من الناس مختلفَ الأقنعة لتغطية وجوههم، وتمويه كلماتهم، والمراوغة في مواقفهم. ‏نقع في الذهول أحيانًا حين ينكشف لنا شيءٌ مختزَنٌ في أعماق مَن نعرفه منذ سنوات وتربطنا به صداقةٌ قديمة، مما تفضحه المواقفُ الصادمة عند الغضب والانفعال الشديد، ومواقفُ الكيد والغدر والخيانة. مَن أراد تطهيرَ ذاته من أكثر العقد المترسبة في باطنها ينبغي أن يكون شجاعًا في الإعلان عن أخطائه وعثراته وإخفاقات مسيرة حياته، كما يقول علمُ النفس الحديث.

لا تكون الكتابةُ صادقةً إلا بالتحرّر من الوصايات، ومن أشدِّها وصايةً جماعةٌ أيديولوجية تُلزِم أفرادَها بالرضوخ لمعتقداتها وقناعاتها وشعاراتها، وتقحم أقلامَهم في صراعاتها ومعاركها. بعضُ الكتّاب يتنقل في محطات أيديولوجية واعتقادية وسياسية متنوعة، ويواصل الكتابةَ كلَّ حياته، من دون أن نعثرَ على جملةٍ واحدة تشير إلى أنه أخطأ يومًا ما في اعتناق واحدةٍ من أيديولوجياته، أو أخطأ في عناده وتشبّثه بآراء ومواقف قادته وغيرَه لعواقب مريرة، أو أنه كان لا يعلم شيئًا من قرارته، أو كان جاهلًا ببعض أفعاله وسلوكه. بعضُهم تراه في كلِّ محطةٍ يقع تحت وصاية جماعة أيديولوجية، لتصبح وجهتُها هي البوصلة المتحكّمة بمواقفه وغايات كتاباته.‏ أتحدث عن أولئك الذين يهرولون دائمًا نحو مَن يضمن لهم المزيدَ من المكاسب العاجلة، ومَن يعمل على تسويق كتاباتهم جماهيريًا، ويوفر لهم غطاءً وسلطةً تحميهم من أية ضريبة للكتابة. لا أتحدث عن أولئك الأحرار الذين تنشأ تحولاتُهم عن ذكاء، وضمير أخلاقي يقظ، ورؤية واعية، واستبصارات عميقة، وقدرة على تمحيص تجارب الحياة المتنوعة وغربلتها، والخلاص مما يتكشّف فيها من أكاذيب وأوهام زائفة. ‏

لا يمكن الوثوقُ بكتابةٍ يعجز فيها الإنسانُ عن الاعتراف بأخطائه، ومراجعة قناعاته، ونقد أفكاره. بعض الأشخاص تراه يقفز من أيديولوجيا إلى أخرى مضادة لها، من دون أن تقرأ له عبارةً واحدة يعترف فيها بخطأ في أفكاره أو مواقفه أو سلوكه،كأنه لا يدري أن كلَّ مَن يفكر يخطئ. الخطأ ضرورةٌ تفرضها طبيعةُ الإنسان بوصفه إنسانًا، لا يتحرّرُ الإنسانُ من الخطأ غالبًا إلا بعد أن يقعَ فيه، ويعترفَ بكونه خطأ، ويمتلك إرادةً جريئة تعمل بإصرار على الخلاص منه. مَن يمتلك شجاعةَ الاعتراف بالخطأ يمتلك القدرةَ على تغيير ذاته. الخوفُ من الاعتراف بالخطأ خوفٌ من التغيير.

تحدثُ تحولاتٌ في القناعات الفكرية والأيديولوجية والسياسية لمَنْ يمتلك عقلًا نقديًا، غير أن الإعلان عنها يتطلب ضميرًا أخلاقيًا حيًّا، ‏وإرادةً جريئة. يخاف أكثرُ الكتّاب الذين يعيشون في مجتمعات تقليدية مغلقة من البوح والاعتراف، عندما يكتبون يكرّرون ما يقوله غيرُهم بألفاظ أخرى. يعمد بعضُهم إلى عبارات زئبقية مموّهة، يريد أن تتنوع المواقفُ منها، تبعا لتعدّد تأويلات القراء وخلفياتهم.

طالما كانت الكتابةُ حجابا يخفي عاهات بعض الكتّاب الأخلاقية وعقدَهم النفسية. التجربةُ وحدها كفيلةٌ بتمحيصِ البشر، وفضحِ ما يحجبونه من عاهات بمهارتهم الحاذقة. الكاتبُ الأمين لغتُه صافية، بصمتُه واضحة في تعبيره وتفكيره. الكاتبُ الذي يعاند لغتَه، ويتمرّد على طريقة تفكيره وتعبيره ليس أمينًا.كلُّ كاتب يستنسخ توقيعَ غيره ويتلبّس قناعات تكذِّب قناعاتِه ليس وفيًا لمهنته. الكتابةُ هي الهويةُ المعرفية والأخلاقية للكاتب،كل ُّكتابةٍ تعاند لغةَ كاتبها وتغرق بلغةٍ مستأجرة كتابةٌ تخون قارئها وكاتبها. الكاتب الصادق مَن ترتسم سيرتُه الفكرية والأخلاقية في كتاباته، مَنْ تستمع بوضوح لإيقاع صوته، وترى بصمتَه الخاصة في الكتابة.

لا يحمي الكتابةَ والكاتبَ والقراء إلا يقظةُ الضمير الأخلاقي، الكاتبُ تحت الطلب لن يكون كاتبًا حقيقيًا. تسليعُ الكتابة يفتك بالقارئ، يخونُ الكاتبُ ضميرَه الأخلاقي عندما يزوّر قناعاته، ويظلّ قلمُه معروضًا للبيع يكتب لمن يدفع أكثر. أسوأ كاتبٍ ‏مَن يعمل كما يعمل البائعُ المتجول، البائع هدفُه بيعُ بضاعته والظفرُ بربحٍ عاجل من أيّ مصدرٍ كان. الكتابةُ الحقيقية هي تلك التي تثير نقاشًا جديًا (مع/ضد). يُكلّفُ الكاتبَ الإصرارُ على هذا اللون من الكتابة الكثيرَ من الإزعاجات، وهو موقفٌ يتكرّر مع كلِّ تفكيرٍ حر. باهضةٌ في مجتمعنا ضريبةُ كلّ تفكيرٍ ينشد الحرية، ويشتغل خارج إطار الأيديولوجيات والمفاهيم والقوالب المتداولة الجاهزة. لا جديدَ في كتابة لا تخرج على إجاباتٍ مكررّة وقناعاتٍ جاهزة. لا يشترط في الكتابة أن تنال إعجابَ الكلِّ وإجماعَهم، ‏الكتابةُ الذكية كتابةٌ خلافية، تثيرُ من الأسئلة أكثر مما تقدّم من الأجوبة، وتتمردُ على الكلمات والاجابات المملة. قوة الكتابة في اختلافِها، وفاعليتِها في إيقاظ الوعي، وتكريسِ الروح، وإيقاظِ الضمير الأخلاقي، وتهذيبِ الذائقة الفنية.

ليس هناك كتابةً جيدة لا تصطبغ بشيء من ذات الكاتب. الكتابةُ الجيدةُ يتكشفُ فيها شيءٌ من أعماق الكاتب، وتنهلُ من تجاربه الشخصية.كلُّ كتابة تعبر عن تجربة معاشة للكاتب ثريةٌ ومؤثرةٌ جدًا. الكتابةُ مفتاحُ قراءة شخصية الكاتب، كان أرسطو يقول: "تكلم لأراك"، ويمكننا أن نضيف لهذا الكلام: "اكتب لأراك". هناك صلةٌ وجودية بين الأثر وصاحب الأثر، الإبداع أعمق أثر تتجلّى فيه كينونةُ الإنسان الوجودية، الكتابة الجادة من أوضح أشكال الإبداع، وهكذا الشعرُ والرسمُ والنحتُ والموسيقى وأنواعُ الفنون السمعية والبصرية، يمكننا قراءةُ شخصية الكاتب واكتشافُ ما يرمي إليه عبر نصوصه، مثلما يمكننا قراءةُ شخصية المبدع عبر إبداعه.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

لم يزل الكثير ممن يشتغل على المعرفة، لا يميز في الحقيقة بين العقل والدماغ، فيساوي بينهما من حيث التكوين والوظائف. علماً أن هناك فرقاً بين العقل والدماغ.

فإذا كان الدماغ هو العضو المعقد التركيب داخل الجمجمة، والمسؤول عن إدارة نشاط الجهاز العصبي. وهو ذاته جزء من الجهاز العصبي المركزيّ، ويوجد في كلّ الفقاريات وفي مقدمتها الإنسان.

فالعقل هو مجموعة المعارف المكتسبة التي يحصل عليها الإنسان من خلال علاقته مع الطبيعة والمجتمع، عبر الحواس والتجربة، وكل وسائل المعرفة المتاحة التي يلعب الدماغ الدور الأساس في تلقيها وتحليلها وإعادة تركيبها وممارستها، وبالتالي تقويم صحة نتائجها وتوظيفها لمصلحة الإنسان أو ضده. ومع تأكيدنا على هذا الفصل أو النمذجة بين العقل والدماغ، إلا أننا لا نستطيع عزلهما عن بعض فكلاهما يكوّنان آليّة عمل واحدة هي تحقيق المعرفة والقدرة على استخدامها، ولا يمكن لأي منهما أن يعمل منفصلاً عن الآخر، فلا عقل يعمل (معرفيّاً) بدون كسب المعارف، ولا معارف تكتسب دون الدماغ ومكوناته وآليّة عمله الفيزيولوجيّة.

وبناءً على ذلك يمكننا تعريف العقل متضمناً الدماغ بالضرورة على اعتبارهما وجهان لقضيّة واحدة بأنه:

مجموعة من القدرات المتعلّقة بالإدراك، والتقويم، والتذكّر، وأخذ القرارات، وهو ينعكس في بعض الحالات على الأحاسيس، والتصورات، والعواطف، والذاكرة، والتفكير، والرغبات، والدوافع، والخيارات، واللاوعي، بالإضافة إلى التّعبير عن السّمات الخاصة بالشّخصيّة، كما يتصف بكونه ظاهرة يمكن إدراكها، ولا تقتصر على الإنسان، بل هو ينوجد عند الحيوانات أيضاً، كما يمكن للعقل أن يكون خارقاً، أو مطلقاً، أو فائقاً أو مسطحاً، أي ضعيف الإدراك عند بعضهم.(1).. أو بتعبير آخر نستطيع القول بأن العقل: هو مجموعة من القوى الإدراكيّة التي تتضمن الوعي، المعرفة، التفكير، الحكم، اللغة، والذاكرة. وهو ما يعرف غالباً بملكة الشخص الفكريّة والإدراكيّة. والعقل يملك القدرة على التخيل، والتمييز، والتقدير، وهو مسؤول عن معالجة المشاعر والانفعالات، مؤديًا إلى مواقف وأفعال. (2).

مفهوم العقل عند الفلاسفة المسلمين:  هو إدراك الشيء على ما هو عليه من حقيقة في تكوينه وغاية خلقه ووجوده، وهذا المعنى يشترك فيه الجنس البشري كله. ومقياس العقل عندهم هو إدراك الحكمة التي من أجلها خُلق الكون والعقل نفسه، وإدراك هذه الغاية هو الذي يُعطي الإنسان صفة العقل الشرعيّ، فمن أدرك هذه الغايـة فهو عاقل، ومن لم يُدركها فهو غير عاقل. (3). وقد جاء في النص المقدس: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ سورة البقرة: 242. ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾. سورة الملك: 10..

من هذا المعطى المنهجي في تعريف العقل، يطرح السؤال التالي نفسه علينا وهو: أين موقع العقل العربي بالنسبة للاتباع والابداع؟. مع تأكيدنا هنا بأن العقل العربيّ موضوع بحثنا لا يقصد به الدماغ فحسب، بل وجملة المعارف التي كونها تاريخيّاً.

رغم أن تعريف العقل في التراث العربي، ظل ينوس ما  بين الدماغ والقلب عند الكتاب والفقهاء والمتكلمين والفلاسفة العرب المسلمين منذ بدء الدعوة الإسلاميّة حتى اليوم، (4). إلا أننا لا ننكر أن هناك من استطاع أن يتعامل مع العقل على أنه مجموع المعارف التي اكتسبها الإنسان عبر علاقته مع الطبيعة والمجتمع، (5). مع تأكيدنا بأن البحوث التي اشتغلت على توضيح العقل كظاهرة ثقافيّة قائمة بذاتها لها سماتها وخصائصها وآليّة تشكلها وعملها التي تكونت في السياق التاريخ لحياة الإنسان، ولم تزل تتكون أو تتشكل عند الفرد والمجتمع عبر عملية تاريخيّة تفاعليّة ومعقدة ما بين الدماغ والواقع المعيوش بوساطة الحواس والتجربة البشرية، ظلت محدودة. وإن غياب مفهوم العقل النقدي المادي الجدلي التاريخي في الفكر العربيّ القديم والمعاصر إلى حد محزن، ساهم كثيراً  في غياب مناهج البحث العلميّة، وخاصة في فكر العصور الوسطى إذا ما أخذنا فكر "ابن خلدون" على سبيل المثال لا الحصر في مقدمته، كفكر علميّ يقوم على التحليل والتركيب والتعامل مع قوانين موضوعيّة (سنن) تتحكم في آليّة عمل الفرد والمجتمع، رغم أن "ابن خلدون" ذاته لم يطبق منهجه العلميّ الماديّ التاريخيّ عندما دَوَنَ كتابه في تاريخ العرب والاسلام، وظل ملتزماً بما اشتغل عليه "الطبري" و:ابن الأثير" وغيرهما. فمع غياب هذه المناهج في البحث، إما بسبب ضعف التطور في الوجودين الماديّ والفكريّ آنذاك، أو بسبب مواقف سياسيّة عملت على محاصرة الفكر العقلانيّ النقديّ كما جرى مع الخليفة المتوكل الذي أصدر فرمانه المشين عام 232 للهجرة يمنع فيه التعامل مع العقل والتوجه نحو النقل. ومن يومها راح الفكر اللاهوتي والمثاليّ الموضوعيّ، والمثاليّ الذاتيّ الميتافيزيقيّ يتحكم في حياة الإنسان ومصيره.  وإذا كان الفكر المثاليّ اللاهوتي قد اعتبر أن كل شيء مخلوق لله، وأن الإنسان في النهاية محكوم أو مقيد بقوى غيبيّة أو طبيعيّة أفقدته لقراره وإرادته في تقرير مصيره وحددت له كل شيء بشكل مسبق منذ ولادته حتى مماته. فإن المثاليّة الذاتيّة في الفكر الوضعي، هي ذاك الموقف الفكريّ الذي يعتقد دعاته أو ممارسيه بأن الإنسان بعقله أو بقلبه الذين منحهما الله له ووضع فيهما منذ بداية خلق الإنسان جملة من الأفكار الأساسيّة التي بها يستطيع تمييز الخير من الشر، مثلما يستطيع بهما أيضاً أن يمارس حياته ويشكلها وفق ما يمليه عليه عقله أو قلبه. وبناءً على هذا الموقف الفكريّ الذي ظل الدين هو مرجعه الأساس، تشكلت عقليّة وثوقيّه، أو دوغمائيّة تناولت التراث أو تعاملت مع الواقع ذاته، بمواقف جامدة سكونيّه مسكونة بهاجس المطلق والمقدس، والايمان والاستسلام، وبعيدة كل البعد عن التفكير النقديّ والشاك. أي أخذت تتكئ فكراً وممارسة على مرجعيات من خارج ذاتها، تعتقد أن هذه المرجعيات (النصوص) هي وحدها من يمتلك الحقيقة، وكل ما عداها هو حرام أو خطأ يسئ للحقيقة، وبالتاي يجب محاربته وإقصائه.

هذا وأن كل من حاول الخروج عن هذه العقليّة الوثوقيّة من فلاسفة وعلماء كلام وفقهاء حورب وشهر به وكفر وزندق أو حُرقت كتبه أو سجن أو قُتل. وفُسح في المجال واسعا لنشاط حملة الفكر القائم على النقل مدعوما من السلطات الحاكمة ذاتها منذ قيام الخلافة الأمويّة حتى اليوم.

أما أهم سمات وخصائص هذا الفكر الوثوقيّ الامتثاليّ الاتباعيّ فهي:

1- إن  هذا الفكر لم يزل له حضوره الفاعل، من خلال اعتماده على الماضي منطلقاً وجوديّاً ومعرفيّاً.

2- هو يعتبر الماضي النبع الصافي ممثلاً بأصوله التشريعيّة، وهي القرآن والحديث والإجماع والقياس.

3- كما اعتبر أن كل ما اشتغل عليه العلماء والفقهاء ولم يزالوا يشتغلون عليه عبر تاريخهم، هو ليس أكثر من تفسير واكتشاف لما هو موجود في هذا النص المقدس. لذلك فالكشوف العلميّة والقانونيّة وكل الأشكال الأدبيّة والفنيّة هي ليست أكثر من تجلي لما هو موجود أصلاً في هذا النص المقدس كما يعتقد بعض الأصوليين.

4- أن هذا التيار لا ينظر إلى طبيعة العلاقات القائمة في المجتمع وفق منظور مُسْتَغَلْ ومُسْتَغِلْ، بل وفق منظور دينيّ عقيديّ، (كافر ومؤمن وزنديق..).

5- إن هذا الفكر ينظر بريبة لأصحاب الديانات الأخرى بما فيها المسيحيّة واليهوديّة على أنهم كفار وليسوا مواطنين.

6- وهو فكر يحتقر المرأة ويعتبرونها ضلعاً ناقصاً أو كشاردة الإبل وحتى صوتها عورة، وبالتالي مكانها المنزل وتربية الأولاد وخدمة حياة الرجل وشهواته الجنسيّة.

7- هو يعتبر العمل في هذه الحياة يُبذل لكسب الآخرة وليس لتنمية المجتمع وتقدمه في هذه الحياة. وبالتالي فإن هذا التيار يرفض كل الأيديولوجيات الوضعيّة، أو الفكر الوضعي بعمومه، اليساريّ منه والقوميّ والليبراليّ، على أنه فكر تكفيريّ يراد به تقسيم المسلمين والإساءة لعقيدتهم.

8- هذا في الوقت الذي ظلت فيه السياسة عند دعاة هذا التيار الفكري تشكل أحد التوجهات الخفيّة والظاهرة. فالحاكميّة هي المصدر الوحيد للتشريع، وهي السبيل لوحدة المسلمين.

9-  لم يزل دعاة هذا التيار السلفيّ يتمسكون بسلوكيات السلف (الرسول والصحابة والتابعون وتابعو التابعين..)، من حيث اللباس والمسواك وتربية الدقون وحف الشوارب، والقطع القيميّ والأخلاقيّ في مسائل الضحك والعطاس ودخول الحمام وغير ذلك.

أمام هذا التيار الفكري السلفيّ الاتباعيّ نهض تيار آخر أكثر عقلانيّة، اشتغل فلاسفته ومفكروه في العصور الوسطى على المنطق الأرسطيّ الصوري، واتخذوا منه منهجاً في التعامل مع الدين عقيدة وفقها، فكان ابن رشد وابن سينا والفارابي والكندي وغيرهم، إلا أن العقل ظل عندهم يشكل منحة من الله يجب أن نستخدمه في فهمنا للدين، وبالتالي في تطبيق هذا الفهم على الواقع خدمة لمصلحة الإنسان، وبالرغم من أن "المنطق الصوريّ" هو منطق تأمليّ وحدسيّ وبدهي، وقليلاً ما يعتمد على التجربة، إلا أنه لم يستطع مواجهة أهل النقل وفلاسفته ومتكلميه الذين وجدوا في السلطات الحاكمة المستبدة عونا لهم، أو هم ذاتهم تحولوا إلى أدوات بيد هذه السلطات المستبدة، الأمر الذي أدى إلى محاربة حملة هذا الفكر التنويريّ والتنكيل بهم كما أشرنا قبل قليل. أما في عصرنا الحديث والمعاصر، فقد ظهر العديد من المفكرين العقلانيين التنويرين الذين اعتمدوا على مناهج بحوث علميّة ظهرت في الغرب. حيث تمت إعادة قراءة التراث والواقع المعيوش معاً قراءة اختلفت في مضمونها عن قراءات العصور الوسطى، فهناك من اعتمد المنهج الماديّ التاريخيّ والبعد الطبقيّ في دراسة التراث، وهناك من اعتمد المنهج البنيويّ، أو المنهج التاريخيّ، أو المنهج الوضعيّ، أو التاريخانيّ، أو الظاهري، أو الوصفي وغير ذلك. ومع ذلك ظلت معاناة هؤلاء الكتاب والمفكرين والفلاسفة لا تختلف عن معاناة من سبقهم في العصور الوسطى، فمنهم من كُفر وزُندق، ومنهم من طُرد من البلاد، ومنهم من مُنعت كتبه من التداول ومنهم من سُجن ومنهم من قُتل.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

........................

الهوامش:

1-  موقع موضوع. ما هو العقل.

2- الويكيبيديا.

3-   (العقل في الإسلام موقع ألوكة).

(4) – التيار الفلسفي والفكري الذي تعامل مع العقل والعقل كمصدرين وهبهما الله للإنسان، وبالتالي فالعقل هنا مستقل عن الواقع.

أبو بكر الرزي

" والقول بترجيح النقل على العقل أمر محال . لأن العقل أصل النقل . فلو كذبنا العقل لكنا كذبنا اصل النقل . ومتى كذبنا اصل النقل كذبنا النقل . فعلمنا انه لا بد من ترجيح العقل ."

ابن عربي

(العالم هو اعتراف متبادل بالوجود بين الله والإنسان، عبر العقل.)

هو يتعامل مع العقل على أنه معطى من قبل الله وليس معارفاً مكتسبة.

جابر بن حيان.

(إن الله هو الذي وهب الإنسان العقل والعقل علة كل شيء .. العقل نور والعلم نتيجة وهكذا كل علم نور. ) -

هو كذلك يتعامل مع العقل على أنه معطى من قبل الله وليس معارفاً مكتسبة..

- جلال الدين الرومي.

(أنتَ جوهرٌ والعالمان كلاهما عَرَض لك، والجوهر الذي يُطلَب من العَرَض ليس بذي قيمة، ابكِ على من يبحث عن العِلم في القلب، واضحك على من يبحث عن العقل في النفس.).

هو كذلك يتعامل مع العقل على أنه معطى من قبل الله وليس معارفاً مكتسبة..

(5) – التيار الفلسفي والفكري الذي تعامل مع العقل كمصدر للمعرفة المكتسبة تكون تاريخيا  فالعقل هنا مرتبط بالواقع.

(فإذا جازَ لعامّة الناسِ الاقتصار على معرفةٍ تخصصيّة ضيّقة، فإنّ القيادات الفكريّة لا بدّ أن تتسلّح بثقافةٍ واسعةٍ وعميقةٍ ومتنوّعة، لأن الاقتصارَ على فرعٍ واحدٍ من فروع العلم يصيب العقل بالضمور.)

إبراهيم البليهي

(عوّد نفسك الصبر على من خالفكَ من ذوي النصيحة، والتجرع لمرارةِ قولهم وعذلهم، ولا تسهلن سبيلَ ذلك إلا لأهلِ العقلِ والسن والمروءةِ، لئلا ينتشر من ذلك ما يجترئ به سفيهٌ أو يستخفُ به شانئ.).

عبد الله بن المقفع.

(و لو أني أصغيت إلى صوت الفطرة وتركت البداهة تقودني لأعفيت نفسي من عناء الجدل .. ولقادتني الفطرة إلى الله .. ولكنني جئت في زمن تعقد فيه كل شيء وضعف صوت الفطرة حتى صار همسا وارتفع صوت العقل حتى صار لجاجة وغرورا واعتدادا.).

مصطفى محمود

(زبدة قولنا، إن مفهوم العقل كما يتصوره الأستاذ الجابري، هو تلك الأداة المفكِّرة التي تتخذ شكلها من ثقافتها الخاصة. إنه أداة لأنه لا يدل على مجموع التصورات التي ينتجها بل هو تلك الميكانيزمات والنظم المعرفية التي توجع عقل ما نحو تصورات ضرورية حول عالمه الخاص.)

محمد عابد الجابري.

 

عَلمنا منهج التاريخ الأسلامي الماضوي السردي ان كل نظريات الخطأ الدينية والاجتماعية مستمدة من كتابات مؤرخيه وفقهائه الذين أختلفوا فيما بينهم في نقل النص وتفسيره على المنهج السردي دون تحقيق، حين لم تكن اللغة العربية قد استكملت بعد تركيزها في تجريدات، فقد كتبوا في السيرة النبوية خمس سير كل منها يختلف عن الأخر، وبعقلية الماضي ويدعي كل منهم انه هو الصحيح، هي: سيرة ابن أسحاق، وابن هشام، والواقدي، وموسى بن عقبة، وابن سعد، ولا ندري ما الصحيح؟. ولم يعلمنا منهجهم السردي المختلف والمتناقض ما تعلمته الشعوب من نظريات فلسفة أنبيائهم ومؤرخيهم لحياتهم خوفاً من التزوير التي فسروا فيها تاريخهم، حتى ساروا بها نحو التقدم وفلسفة الحياة الموحدة، من هنا بدأ مشوار الخطأ عند العرب والمسلمين،

ان المفهوم الحركي للتاريخ ليس واضحاً في موسوعاتنا الفكرية التي ورثناها – وبسبب فقدان هذه الصورة - وقع الباحثون فريسة احكام عشوائية ناقصة، لاينفذ من خلالها الى طريق سوي لحبٍ يقود الى الرأي السليم، بذلك فقدنا العمق النفسي للمؤرخ ذاته وطبيعة ما كتب لذا ظل المفهوم الحركي باهتاً، هنا كان مقتلنا منذ ان جاء حكم المسلمين بأهمال المبادىء التي تركها صاحب الدعوة لنا بالدليل والقوة ورأي المحاورين، وحين اهمل هذا التوجه كان هذا أول تجاوز على شورى المسلمين التي وردت في الكتاب العظيم "وأمرهم شورى بينهم"، فكان، رأي الأتفاق بين الحاكمين دون بقية المسلمين مرورا بالشورى الملغاة وقتل المعارضين من قبل خلفاء المسلمين، وصولا لكل نظريات القهر والغاء حاكمية الله في التنفيذ.حتى سموا من طالب بتحقيق الشورى بالمرتدين والخوارج على الدين،

حينها فرض النص المقدس بتفسير لا يتفق وعدالة انسانية الانسان في التقييم، خالي من اي منهجية فلسفية في التطبيق، من هنا توقفت عجلة التقدم الحقيقي منذ البداية التي كنا نامل منها بدين جديد جاء ليحمل مبادىء انسان الأنسان في صنع القوانين. فكانت وثيقة المدينة التي اخفوها على الناس خوفا من المطالبة بتحقيق عدالة الدين بين الناس وضياع السطة من ايديهم في التطبيق.واصبحنا تحت الفكر المنغلق الموروث دون معرفة الصحيح من الخطأ نُحكم حكما دينيا فرديا هرطقياً من قبل مرجعيات التفريق المصطنعة بلا شرعية القانون. فلا مؤسسات تحكُمنا، ولا عدالة تحمينا، من ظلم الحاكمين في مجتمعاتنا فسموا الاصلاح فتوح قهري والسلطة بهرجة تقاليد، كما نراها اليوم في حكوماتنا الاسلامية هذه الحكومات التي خلال مدة 656 سنة لم تعرف الادارة والقانون.وطلت تحكم كما في رأي القاعدة وداعش وبوكوحرام اليوم، دولة رجال دون النساء اللواتي ينظر اليهن بلا حقوق.

الحضارة العراقية القديمة عند السومريين والبابليين في أور وبابل جاءت بحضارة الانسان منذ القديم يرافقها التشريع والقانون، وهم الذين أبتكروا الكتابة والقلم ومجالس القضاء والشريعة وشرعية التغيير، منذ عهد آورنمو وحمورابي وقوانينهم كانت أشبه بعدالة قوانين النص المقدس، حتى ان الاسلام أخذ من بعض قوانينهم في التطبيق"العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص المائدة 45 " وفي قانون حمورابي جاءت المادة 127-195، متشابهة في النص، وفي أهوارنا تم تدجين الحيوان والزراعة ومستلزمات العيش الرغيد، ولم يناصبوا العداءاحدا منذ زمن قديم بعد ان فصلوا الحكم السياسي عن الدين.

وحين جاءت الاديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والاسلام مستمدة من الديانة الابراهيمية التي سبقتهم كل طبق دينه حسب الظروف التي مكنته من استخدام التيارات الفكرية التي مثلت العقلانية تارة، والسلفية اخرى.فكان الانشقاق منذ البداية. لكن التاسيس القرأني للمجتمع جاء ليعني رؤية اخرى تختلف عما سبق عند الديانات الاخرى نتيجة مفهوم المتغيرالاجتماعي من وجهة نظرجدلية تاريخية بعد ان اصبح القانون بموجب النص هو الذي يحكم الظاهرة الجديدة وليس لعادة او التقليد.هنا تشخص الخطأ بين التطبيق والخروج عليه نتيجة الانحراف السلطوي والتفرد في حكم المجتمع الجديد، ليكون المشروع الاسلامي مشروعاً قابلا للفعل في ظروف العصروما بعده باعتبار ان النص صالح لكل زمان ومكان في التطبيق.لكن امورا سلبية طرأت على تطبيق النص كضرب الشورى والتوجه الى غزوات القوة في فرض الدين حتى لم تعد الحركة بمستوى فرض الاحكام بين المسلمين، تلك هي معاناتنا في تثبيت الحقيقة التي لم تعد سوى تخريف.

- جاءنا الدين من نبي صادق أمين بكتاب مبين يقول،:" الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم احسن عملا، الملك 2" وجاءنا بمبدأ العدل المطلق والشورى بين المعتقدين. فهل استطاعوا ان يتغلبوا على الخطأ القديم ام كانوا معه يحاربون العدل والشورى ويلتجئوا لابادة المحاورين، وابتكار نظريات الاختيار دون تقييم، وتحويل الخلافة الى ملك عضوض لا يخرج من ايديهم حتى يسلموه لعيسى بن مريم والمهدي المنتظر في اخر الزمان، ليتحول قادتهم الى قديسين بأسرار التقديس الآلهي المعروف فقالوا عن انفسهم:"قدس سرهم" ولا ندري أية أسرار لديهم ليكونوا مقدسين، اللهم الا سر السلطة والمال والجنس اللعين، هنا مات القلم في ايديهم واصبحوا يلهثون خلف المواعين؟.

منذ القدم أكد ت لنا الكتب السماوية وأراء الفلاسفة الكبار النابهين على العقل لنتصرف به"لعلكم تعقلون"، وهو اول مكتشفات الانسان، وبهذا العقل نستطيع التغلب على الظروف العاطفية غير المواتية بدلا من الرضوخ لها وتركها تشكلنا كيف شاءت.لكن هذه النظرية استبعدت وحل محلها الاغتصاب لكل ما هو قانون،حين رأينا انفسنا منفردين بالفكر الحضاري وما عدانا همجاً او برابرة فهاجمنا الأخرين بحجة الدين دون امر من خالقه على مهاجمة الاخرين.وبررنا ذلك الاجتياح الباطل للاخرين على الرأي في البيئة التي كنا فيها والتي لا يقبلها المنطق الصحيح وان تناقضت مع الواقع الوهمي في التطبيق. وما دروا العرب ان صحرائهم كلها لها واقع قاسي لا يمكن التغلب عليه الا بالعمل والقانون وهم ضدهما تماما لانهم لم يعرفوا سوى السيف لا القانون،

هنا كانت المعضلة التي جرت علينا ويلات التطبيق بعد العهدين البويهي والسلجوقي 334—540 للهجرة حين اصبحت المذاهب بديلا عن الدين والتي جرت الى تغيير كل التفاصيل يساندها منهج دراسي خرف،فأدخلوا في فكر المسلم كل متاهات التخريف، حتى اصبح نظرية ثابتة يصعب نزعها من فكر العامة، والى الآن يدعي بعضهم، الحياة لنا والاخرة لنا وكل شيء ياتي من السماء او يستخرج من باطن الارض فهو لنا.الم نكن نحن من اهل المعرفة والعرفان المفضلين، على للأخرين.؟هكذا يعتقدون الى اليوم، والا لماذا الاصرار على هذا الفساد المتعمد الرهيب.

فهل فكرنا ان نكتب ونقيس الامور بمقياس الاحصاء الذي لا يُخطأ، ونؤمن بالانسان الاخر مهما كان دينه او عقيدته مادام يعايشنا باحترام القانون.ام نناصبه العداء ونتفاخر بالدين وهو يملك دينا يحترمه اكثر منا في التطبيق فحتى اصحاب عبدة البقر يقدسون دينهم ولا يخالفون، فالدين ايديولوجية بشرية لا يمكن نزعه من الاخرين وحتى نحن المسلمون ندعي لكم دينكم ولنا دين، فعلام محاربة الاخرين كذبنا وافترينا وظلمنا كل شعوب الاخرين دون قانون.

منذ عصر قبل الاسلام كنا نرى انفسنا فوق الناس واعلاهم قدرنا وشرفا، وحتى اليوم نسمي نبينا بأشرف الانبياء، ومدننا بالأشرف، والمقدسة ونستثني الاخرين، من قال لنا هذه تسميات القرآن ام مؤسسة الدين؟.تاريخ جاهلي يصب في عقل تاريخنا الحالي دون تبرير، حتى جاء الرسول ليقول لهم: "كلكم لآدم وآدم من تراب والناس سواسية كأسنان المشط" فتلاشى الغرور والكبرياء عندهم، ولتأكيد المقولة جمع الرسول من حوله المقربين خباب بن الارث عراقي، وصهيب الرومي بيزنطي، وسلمان الفارسي، فارسي، وماريا القبطية قبطية من مصر. دليلا لمساواة الخلق في الانسانية والقانون، لكن بعد وفاته عادت الجاهلية من جديد.

من هنا بدأ التاريخ الرسولي يتحول نحو الانسانية لا القبلية.لكن هذا التوجه لم يدم طويلا بعد الرسول (ص) مباشرة بسبب التوجه نحو السلطة والمال ونرجسية التفوق على الاخرين الذي أدى الى سوء النظام الاداري والمالي الذي تحول الى جمع المال الفاسد دون تقديم خدمات في مقابل المال المجموع حتى اصبح الفساد سياسة عامة وقناعة اخلاقية بأعرافهم الفاسدة، فانفصل الحاكم عن الرعية فتراجعت العدالة وانتكس التوجه السياسي نحو الضعف والانهيار، كما نشاهدهم اليوم.ومن يقل لك هذه خطبهم اقرأها فلا تصدق هذه من صنع فقهاء السلطة لا الدين.

نحن اليوم امام قضيتان في الاسلام لا حل لنا الا بمعرفتهما واجتيازهما عملا وتطبيقاً هما: الموقف من المنهج النقدي للتاريخ والفكر العربي الفلسفي، وقضية المعركة الحامية بين التقليد والأبتكار.وبدون تجاوزهما لايمكن ان نكتب تاريخا للأمة، ولاتقدما حضاريا لها، ناهيك عن عداوة الاخرين التاريخية لها.

يقول الاستاذ الدكتو جعفر آل ياسين احد اساتذة فلسفة التاريخ: نقله بتصرف في الاولى يعتمد على حساسية الاجتهاد للرواية التاريخية التي فسرت تفسيرا فيه الكثير من المنحنيات لان اللغة يوم ذاك لم تكن مستكملة لأدواتها بالمعنى العلمي الذي نريده ونفهمه اليوم، لاقامة الادلة التاريخية عليها وعلى نقيضها لذا لا يجوز الحكم عليها بالمنطق العلمي المطلق، وان غالبية الناقلين من غير العرب الذين فهموا النص فهما دون معناه الداخلي في التطبيق خارجيا.

والثاني يجب ان يتوفر فيه جانبي القوة والضعف بحيث لايعوز الباحثين سلامة الدليل عليه، والفحص الخارجي للنص، لأاثبات الاصل ببطلان النقيض وقد استغله بعض الفلاسفة من المسلمين امثال (ابن سينا ت428 للهجرة) وخاصة في العلوم البحتة كالرياضيات مثلاً، لأن العقل يحكم انه لا يجتمع على صدق نقيضان، ولكن في دولة النرجسية والفوضى والجنس من يسمعك ايها الخائب اليوم بعد ان انهارت قيم الحياة المقدسة عندهم كما هي تنهار اليوم عندنا دون رقيب او حسيب،

حتى اصبح المعتقد ظاهرة تاريخية لا تزيد عن الاخبار، وفي باطنها ماتت الأحداث والحقيقة معاً، فاصبح النص الديني لا يشكل المعيار الوحيد للسلوك السياسي، لذا ما لم نقدم على فصل الدين عن السياسة لن يكون لنا امل في الاستقلال والاستقرار وتطبيق القانون.

***

د.عبد الجبار العبيدي

الهندسة الاجتماعية هي تقنية تهدف إلى استغلال النفسية البشرية والتلاعب بها للحصول على معلومات حساسة أو الحصول على تصرفات تفاعلية معينة.

يمكن استخدام الهندسة الاجتماعية في العديد من الأغراض، من بينها الاحتيال، حيث يستخدمها المحتالون لإقناع الضحايا بإجراء عمليات مالية غير مشروعة، مثل تقديم معلومات الحساب البنكي أو كلمات المرور لمواقع الويب، ايضا الاختراق الإلكتروني والذي يمكن تطويعها به للحصول على الوصول إلى أنظمة الكمبيوتر المحمية، مثل استغلال الثغرات الأمنية، أو إغراء المستخدمين بالنقر على روابط خبيثة، كذلك الاختراق الذهني والذي يمكن به استخدام الهندسة الاجتماعية لتحفيز التصرفات المعينة في الأفراد، مثل إقناعهم بإعطاء معلومات حساسة أو القيام بأنشطة غير مشروعة وغير قانونية.

وبالإضافة إلى ذلك، يمكن استخدام الهندسة الاجتماعية لغرض حميد كتأسيس طرق تفاعل بشرية أفضل مع الأنظمة التقنية، على سبيل المثال، يمكن استخدامها في تصميم واجهات المستخدم لتسهيل عملية التفاعل بين المستخدم والنظام.

لكن الطابع الأكثر اخذًا على الهندسة الإجتماعية هو استخدامها لأغراض غير حميدة .

يمكن للهندسة الاجتماعية أن تلعب دورًا مهمًا في الحروب السيبرانية بين البلدان فهي تقنية كما اسلفنا تتضمن استخدام التلاعب النفسي لخداع الأفراد أو المجموعات لإفشاء معلومات ذات اهمية كبيرة أو القيام بأعمال قد تكون ضد مصالحهم الفضلى. في سياق الحرب السيبرانية، يمكن استخدام هجمات الهندسة الاجتماعية كسلاح ناعم للوصول إلى معلومات استخباراتية أو أنظمة الكمبيوتر للسيطرة على البلد المُهاجَم رقميًا، أو لتعطيل البنية التحتية الحيوية له، كون اغلب البلدان في الوقت الحاضر تتجه نحو انظمة الحوكمة الألكترونية لذلك مهمة المهاجِم هي السيطرة على تلك الأنظمة.

بناءً على ذلك قد تستخدم الجهات الفاعلة التي ترعاها الدولة تقنيات الهندسة الاجتماعية لشن هجمات سيبرانية ضد دول أو منظمات أخرى. على سبيل المثال، يمكن استخدام هجمات التصيد الاحتيالي لخداع الأفراد للكشف عن بيانات اعتماد تسجيل الدخول الخاصة بهم أو لتنزيل برامج ضارة على أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم. يمكن بعد ذلك استخدام هذه الهجمات للوصول إلى معلومات حساسة أو لشن مزيد من الهجمات لتعطيل انظمتهم.

يمكن أيضًا استخدام الهندسة الاجتماعية لإحداث الإرباك وانعدام الثقة بين البلدان. يمكن القيام بذلك من خلال استخدام حملات الدعاية والمعلومات المضللة، والتي يمكن نشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الأخرى عبر الإنترنت. يمكن استخدام مثل هذه الحملات لبث الفتنة والانقسام داخل البلدان المستهدفة، مما يجعلها أكثر عرضة للهجمات السيبرانية.

علاوة على ذلك، يمكن استخدام الهندسة الاجتماعية لإنشاء ستار دخان للتغطية على الهجمات السيبرانية. على سبيل المثال، قد يستخدم المختص بالأمن السيبراني من قِبل الدولة حملة هندسة اجتماعية لشن هجوم (رفض الخدمة الموزع DDoS) على شركة أو وكالة حكومية، حيث ترسل هذه الهجمات طلبات متعددة إلى مورد الويب الذي تمت مهاجمته بهدف تجاوز قدرة موقع الويب على معالجة الطلبات المتعددة وبالتالي منعه من العمل بشكل صحيح، بينما يشن في نفس الوقت هجومًا إلكترونيًا أكثر خطورة على نفس الهدف.

نظرًا للطبيعة السرية والتي غالبًا ما تكون سرية للعمليات السيبرانية وهجمات الهندسة الاجتماعية، فمن الصعب تقديم أمثلة محددة ومؤكدة لهجمات الهندسة الاجتماعية الأخيرة بين البلدان. ومع ذلك، تم الإبلاغ عن العديد من الحوادث التي تشير إلى أن الهندسة الاجتماعية لعبت دورًا في العمليات السيبرانية الأخيرة بين الدول. وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك:

التدخل الروسي في الانتخابات: في عام 2016، قامت الحكومة الروسية بإطلاق حملة هندسة اجتماعية ضخمة للتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. تضمنت الحملة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر معلومات مضللة ودعاية، فضلاً عن هجمات التصيد بالرمح (1) ضد النشطاء السياسيين ومسؤولي الانتخابات.

القرصنة الكورية الشمالية: استخدمت كوريا الشمالية أساليب الهندسة الاجتماعية في العديد من حوادث القرصنة البارزة، بما في ذلك هجوم 2014 على Sony Pictures وهجوم Wanna Cryransomware 2017 (2). في كلتا الحالتين، ورد أن المتسللين الكوريين الشماليين استخدموا رسائل التصيد الإلكتروني بالرمح للوصول إلى أهدافهم.

التجسس الصيني: قامت الحكومة الصينية باستخدام تكتيكات الهندسة الاجتماعية لسرقة معلومات حساسة من الحكومات والشركات في جميع أنحاء العالم. على سبيل المثال، في عام 2017، تم القبض على مواطن صيني في بلجيكا بزعم استخدامه حملة تصيد بالرمح لسرقة أسرار تجارية من شركة طيران فرنسية.

الهجمات السيبرانية الإيرانية: استخدمت ايران تكتيكات الهندسة الاجتماعية في العديد من الهجمات السيبرانية البارزة، بما في ذلك هجوم 2012 على شركة أرامكو السعودية وهجوم 2014 على Sands Casino في لاس فيغاس. في كلتا الحالتين، ورد أن المهاجمين استخدموا رسائل التصيد الإلكتروني بالرمح للوصول إلى أهدافهم.

هذه مجرد أمثلة قليلة على كيفية استخدام الهندسة الاجتماعية في العمليات السيبرانية الأخيرة بين الدول. تجدر الإشارة إلى أن هذه الحوادث غالبًا ما تكون محاطة بالسرية، وقد لا يكون النطاق الكامل لأساليب الهندسة الاجتماعية المستخدمة معروفًا للجمهور.

ولكل ما سبق يجب اخذ الحذر الكافي لتجنب الوقوع في هجوم الهندسة الاجتماعية من قبل المؤسسات الحكومية والأفراد لحماية المعلومات الحساسة والبنى التحتية للبلد، كالتمهل في الرد والتفاعل مع أي تواصل على البريد أو عبر الـ SMS ومحاولة البحث عن حقيقة النص الموجود في الرسالة ولو بشكل سريع، ايضًا عدم الانجذاب لأي محتوى أو رابط أو ملف موجود في أية رسالة وقراءة المحتوى بشكل دقيق، فضلًا عن العروض الخارجية كالعمل والدراسة غالباً ما تكون عبارة عن رسائل دعاية وتُصنف كـ SPAM أما اذا وجدناها على الـ Inbox فيجب الحذر من التفاعل معها بشكل سريع والبحث ايضاً عن حقيقة الأمر.

في النهاية، إن اتباع سياسة الوعي والتوعية في التعاطي مع أي تواصل هو الكفيل في حمايتنا من أن نكون فريسة لأي عملية اختراق لخصوصيتنا مبنيةً على الهندسة الاجتماعية، وفي هذا الإطار يقول Kevin Mitnic " (3) إن أكبر تهديد أمني ليس الفايروس أو ثغرة في برنامج أو إعداد خاطئ في جدار النار (4)، إنما في الواقع قد يكون السبب الأساسي هو .. أنت ".

***

ايهاب عنان سنجاري

باحث في مجال الذكاء الإصطناعي والأمن السيبراني

.................

1. التصيد بالرمح: هو نوع من هجمات الصيد حيث يستهدف ممثل ضار شخصًا معينًا عبر البريد الإلكتروني أو وسائل التواصل الاجتماعي أو الرسائل النصية القصيرة أو رسائل الدردشة التي تبدو مقنعة وكأنها من شخص يعرفه الهدف – مثل زميل أو صديق.

2. هجوم واناكراي الإلكتروني أو ما يعرف بهجوم WannaCrypt أو Wannacrypt0r 2.0 هو هجوم ببرمجية الفدية بدأ في الساعات الأولى من يوم 12 مايو 2017 واستطاع الإطاحة بأكثر من 230 ألف جهاز إلكتروني في 99 دولة حول العالم حسب اليوروبول.(ويكيبيديا).

3. Kevin Mitnick عالم حاسوب ومستشار أمن الحاسوب، من أكبر الهاكرز في العالم ولد في 6 أيلول/سبتمبر عام 1963 وهو أحد أشهر مخترقي الأنظمة.

4. الجدار الناري هو حاجز الحماية الأول في الحاسب أو الهاتف الخاص بك، حيث يقوم بفلترة ما يدخل إلى جهازك بحيث يسمح لما هو معروف بالدخول ويمنع كل ما يشتبه به من الوصول إلى جهازك بحيث تضمن حماية الجهاز الخاص بك قبل أن يدخل إليه أي ما يضره.

 

هذه عودة مختصرة إلى مسألة يكثر الكلام حولها، وهي دعوى أن حرية التعبير التي ينادي بها بعض دعاة الحداثة، ربما تؤدي لضرر شديد بالتقاليد السارية والقيم الفاضلة، بل لعلها تطيح الاستقرار والسلم الاجتماعي. أعلم أنَّ بعض القراء سوف يستنكر هذه المبالغة، لهذا يقتضي الإنصاف بيان أنَّ الخائفين من عواقب الحرية؛ أي حرية التفكير والتعبير والاعتقاد، لا ينادون بقمع الأفكار، ولا يعتبرون الحرية - في حد ذاتها – من الرذائل، لكنَّهم يقولون إنَّ كل ما يحتمل الحسن والقبح، يوجب الاحتياط في التعامل معه، مثل النار التي تستعملها لطبخ طعامك، لكنها قد تحرق البيت أيضاً.

ومقتضى هذا الكلام أنه يتوجب علينا – قبل منح الحرية لعامة الناس – أن نضع القوانين والسياسات التي تعالج ما سوف يترتب عليها من مشكلات. والمقصود بالقوانين هنا هو تحديد المجالات التي يسمح أو لا يسمح بممارسة الحرية ضمن حدودها.

بعبارة أخرى، فإنَّ الخائفين من الحرية، وهم في العادة الفريق التقليدي في المجتمع، يتفقون مع دعاتها في أن حرية التعبير خصوصاً، يجب ألا تقود إلى الإضرار بشخص آخر أو أشخاص آخرين. بعبارة أخرى، فإنهم يعطونك الحق في ممارسة حريتك في التعبير، لكن ليس إلى حد الإضرار بغيرك، كما أن لغيرك نفس الحق مشروطاً بألا يضرك.

كنت قد أشرت في كتابة سابقة إلى أن هذي المسألة تحديداً كانت محل جدل في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر. وعلى خلفية هذا الجدل نشر الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل رسالته الشهيرة «حول الحرية = On Liberty» في 1859. وقد أدى نشرها إلى توسيع الجدل وتعميقه، لكنها في نهاية المطاف ساهمت في إرساء نقاط استناد أو محددات للنقاش في الموضوع. ومن أبرز تلك النقاط أولوية الحرية على غيرها من القيم، واعتبارها حقاً شخصياً لكل فرد، لا يجوز للمجتمع تقييده إلا إذا أدت ممارستها للإضرار بالآخرين، ضرراً موصوفاً ومعرفاً في إطار القانون.

وقد أثارت هذه القاعدة نقاشاً كثيراً. وأُطلق عليها اسم «مبدأ ميل» أو «مبدأ الضرر» (Harm Principle). في إطار هذا المبدأ، صنف ميل الأفعال/التعبيرات المضرة إلى قسمين: فعل تقتصر أضراره على نفس الفاعل، مثل التدين أو الإلحاد، العمل أو البطالة، التدخين أو عدمه. فهذه التعبيرات/الأفعال وأمثالها، قد تزعج الناس، لكن ضررها المادي لا يطال أحداً سوى فاعلها. أما القسم الثاني فهو ضار بالآخرين ضرراً ملحوظاً، مثل الكلام المؤدي لإثارة الكراهية ضد الملونين أو أتباع الأديان الأخرى، أو مثل الإشارات النابية التي تنطوي على إيذاء نفسي أو إقصاء اجتماعي، مما يصنف تحت عنوان التنمر أو التحرش. وقد قرر ميل أن القسم الأول من الأفعال لا يبرر للمجتمع ردع الفاعل أو تقييد حريته، حتى لو كان فعله متعارضاً مع أعراف الجماعة أو تقاليدها. أما النوع الثاني فينبغي تحديده في قواعد قانونية، تسمح بتقييده، لكن دون أن يصل التقييد إلى حد التضحية بحق الفرد في أن يفكر بحرية أو يختار نمط العيش الذي يناسبه.

يخشى ميل بشكل جدي، من أن يؤدي التوسع في تقييد حرية التعبير إلى إشاعة النفاق والتملق، والقضاء على التلقائية التي هي سمة المجتمعات النشطة والناهضة. كلما كثرت القيود في المجتمع تقلصت سوق الأفكار، وتباطأت الحركة، وضعفت – تبعاً لذلك – الرغبة في التقدم. الحرية ليست قيمة بسيطة كي نتساهل في تقييدها لأي سبب؛ فهي أول القيم وأعلاها، وهي أكثرها ضرورة لحياة الإنسان.

***

د. توفيق السيف - كاتب ومفكر سعودي

نحو إصلاح إنسانوي

وأنا أطالع إحدى الكتب قابلتني رسالة مسلم كونغولي يقول فيها: نحن المسلمين في الكونغو فقراءـ ضعافـ حهلة ينقصنا كل شيئ، ونحملكم مسؤوليتنا امام الله، إننا رغم فقرنا لا نريد منكن المال بل نطلب منكم من يعلمنا القرآن والإسلام والعربية، لإن فقرنا يحول بيننا وبين الذهاب الى بلادكم للتعلم"، لا شك أن كل من يقرأ رسالة هذا المسلم الإفريقي الذي سمى نفسه محمدا تترك اثرا في قلب كل ضمير مسلم وبخاصة النخبة من دعاة ومثقفين وة سياسيين لكي يراجعوا أنفسهم ويعيدوا النظر في المعايير التي فقدوها من اجل صراعاهم من أجل التموقع.

الحاضر هو ما خططنا له في الماضي، والمستقبل هو ما نخططه اليوم للغد، لا يمكن طبعا تحديد مفهوم المستقبل، هل هو الغد أم الذي يأتي بعده أم هو الزمن البعيد، هذا الزمن الذي نهل إن كنا سنعيشه يوما ما أم لن نصل إليه لأن عمرنا محدود، كل الأنظمة تضع مخططات على أزمة متباعدة (قريب، متوسط ومدى بعيد) لتحقيق مشاريعها المستدامة ، تكون في خدمة الأجيال، نجد كبار المنظرين السياسيين والعسكريين يتحدثون عن مسائل تدخل في دائرة الإستشراف، كل القوى العظمى تعمل على وضع استراتيجيات لبسط هيمنتها وسيطرتها على الشعوب مثلما قامت به فرنسا على سبيل المثال عندما أرسلت عيونها إلى صحراء الجزائر وتمكن المستشرقون من التقرب من القبائل الجزائرية والاحتكاك بهم حيث تمكنوا من التعرف على عاداتهم وتقاليدهم وتعلموا اللغة العربية قراءة وكتابة ، ثم نقلوها إلى زعمائهم في كتب ومذكرات، كانت هذه ضمن الدراسات الاستشرافية التي وضعتها كبار الدول القوية لفرض هيمنتها وسيطرتها على الشعوب واستعمارها ومن ثم استغلال ثرواتها، بحجة أنها تعمل لتحقيق مستقبل افضل للإنسانية، ففتحت دير العبادة (الكنائس) لتشير الجزائريين والعمل بشعار الفوضى الخلاقة.

لقد عملت هذه القوى على خلق ما يسمى بالتعدديات الثقافية والسياسية وزرعت كبار عساكرها داخل المؤسسات من أجل التحسس واختراق اجهزتها، عن طريق اتفاقيات العمل لإنجاز المشاريع (السكن والبنى التحتية)، إن الأنظمة الاستعمارية طبعا ليست غبية، تعطي بعض خبراتها مقابل أن تأخذ ما لم يضعه الآخر في الحسبان، فنجده يقدم تنازلات إنه العمل للمستقبل، وما هو هذا المستقبل؟ إنه التأمرك أو الأمركة والتَّصَهْيُنْ والتَّمَسْيُن (من الماسونية) هذه المخططات التي تقودها الماسونية لضرب الإسلام والشعوب المسلمة ، زرعت سمومها باسم التعددية الثقافية في إطار حوار الثقافات والأديان والتعايش ، والسلم المسلح، ولا تزال بتطورها التكنولوجي تحفر لإدماج الأخر (المسلم) ، في قالب عولماتي، لطمس هويته وتجريده من كل ما هو مقدس فعملت على منح الحريات.

 كانت المرأة الطعم الوحيد لضرب المجتمع الإسلامي وتكسير شوكته، فظهر ما يسمى بالحداثة لمقابلتها مع الأصالة، من هنا بدأ الصراع الحداثي الأصولي، كمافتحت المجال للجمعيات ومنحها الحرية في ممارسة أي نشاك حتى لو كان خارجا عن المعايير والقيم الإنسانية باسم التحرر وكسر كل الطابوهات، وجندت جيوشها (العسكر) لقهر الشعوب بالدبابات والحروب الامتناهية، فلم نعد نفرق بين الجيش الصيل والمرتظقة، فهذا أحد المفكرين واسمه أدورنو يقول: إن الأصالة مفهوم مشتبه يدّعي عمقا ليس له، وحدث ما سمّوه بصراع المعاني والمفاهيم، المثقف الحداثي والمثقف التقليدي، الأول هو المثقف الغربي الذي يواكب التطور الحضاري، والثاني المثقف العربي الذي لا يزال حبيس العادات والتقاليد والأفكار البالية ولم يطور نفسه، وركن إلى السلبية والهامشية.

تعددت العناوين والمضمون واحد

إنه ضرب من الجنون واللاعقل على راي ميشال فوكو، فالعقل منذ اليونان كان المحرك الأساسي للكون، استطاعت العقلانية من إحداث ثورة التنوير، هذه الثورة التي قلبت كل الموازين، حتى في المجالات القانونية من حيث الدفاع عن المجرمين باسم حقوق الإنسان، حتى لو كان داخل السجون، كان الإنسان محل دراسة في إطار ما أطلق عليه بالإصلاح الإنسانوي الهدف طبعا نشر الأنسنة داخل السجن، فلا يوحد تعذيب ولا اشغال شاقة، ومنح السجين كل الحقوق التي كان يعبشها خارج السجن، إلا أن الواقع يعكس كل شيئ، فما هو معروضا شكلا يخالف الحقيقة وهنا نقف على مدى التلاعب بالمفاهيم كالحرية والعقلانية والإيديولوجيا، واليوتوبيا، والإسلاموفوبيا، والديقراطية والبدوقراطية والأنسنة والمأسسة وغيرها من المفاهيم التي تخدر عقل الإنسان المحدود الفكر، الذي وجد نفسه غارقا في تحديد المفاهيم وفهمها بل شرحها لأبنائه وتلامذته في المدرسة والوقوف على صحتها.

 الدليل هو أننا لما نقف على بعض الكتابات فهي لا تختلف في المضمون وإنما كان هناك تغيير في الكلمات والعناوين فقط مثل: نحن والآخر، ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، مستقبل العلاقة بين المثقف والسلطة، تهاية الإيديولوجيا، نهاية اليوتوبيا... الخ) هي مصطلحات تهدف ‘إلى إحداث "التنوع" بحجة الوصول إلى "التميز"، لقد وجد الإنسان العادي وحتى المثقف وهو يتلقى هذه الأفكار والفلسفات نفسه عاجز على أن يكون فاعلا في المجتمع وعاجز عن إحداث التغيير الإيجابي وبناء الإنسان وتحقيق الأفضل، فكانت له كما يقول مالك بن نبي "القابلية للاستعمار"، ونختم هذه الورقة بما قاله الدكتور عامر ممدوح خيرو وهو يعالج غشكالية الصراع الأصولي الحداثي في كتابه بعنوان : مسارات التراث والتاريخ صدر عن دار الأصالة للنشر الجزائر مايلي: " إن التاريخ متصل الحلقات، وإن الوضع الحخالي هو نتيجة تطورات الماضي وإن فهم الماضي هو خير وسيلة لفهم الحاضر ولذلك يتقدم التاريخ بمهمته التفسيرية لتلك الأحداث متجاوزا الجانب التوثيقي لتوسيع التحليل صوب الماضي والمستقبل.

***

علجية عيش

 

السياسةُ مفهومٌ يحمل في طيّاته دلالات ومعاني متعددة، إلا أنَّ عنوانه الأبرز يدور في حدود العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فيسوس من خلاله السياسون ما يُصلح أمرَ البلاد ويدبّر شؤون العباد من خلال قوانين وقرارات تقرها سلطة تشريعية، وطرق وإجراءات تعمل عليها سلطة تنفيذية ملزمة لجميع أفراد المجتمع. فهي إذن منظومة متكاملة ومنسجمة بين جميع عناصرها، تقوم على أركانِ الفصل بين السلطات، ورفضجميع أشكال الاستبداد، وترسّخ مفهوم التداول السلمي للسلطة.

والسياسة الناجحة هي تلك التي تعمل على الاستفادة من الماضي، واستثمار فرص الحاضر، والتخطيط الاستراتيجي لمستقبل واعد.

وبناءً على هذه الحقائق، فقد تمّ تصنيف السياسيين إلى ثلاث أصناف، الأول هم أصحابُ الفكروالعقيدة، ممن يحملون القِيَم والمبادئ والمُثل ويعملون على ترسيخها في واقع المجتمع الذي يحكمونه. والصنف الثاني هُم أولئك الذين امتهنوا السياسة واحترفوها واعتاشوا على مكتسباتها، وأما الصنف الثالث، فهم الفاسدون والمفسدون، والمخادعون والسارقون، يرفعون شعارات الاصلاح بِيد، ويحملون مِعوَل التهديم بيدٍ أخرى، همّهم المناصب، ودأبهم المكاسب.

وتعتبر السلطة أعظم تجليات المنهج السياسي، حيث يعتبرها الكثيرون أنَّها مدار السياسة، والاختبارالحقيقي للسياسيين، لما تحمله من مغريات، وما تدرّ عليهم من مكاسب يسيل لها لعاب الكثيرين، فيتسابقون على الغنيمة كما تتسابق الذئاب علي الفريسة؛ لا يترددون في الكذب والخداع بل يرونه منهج الصراع.

والواقعية السياسية هي تلك التي تتخذ من السلطة هدفًا ومغرمًا، نابذة وراءها القيم المفاهيم العقائدية أو الأخلاقية، ومستعينة بمناهج سلطوي واستبدادي، تقوم على أسس مادية، واعتبارات فوقية، ومناهج شاذة تدور في فلك صناعة الأفكار والرموز وتسويقها جماهيريًّا بغية تثبيت الدولة العميقة، والتي أركانها الإعلام والقضاء والأمن والجيش ومثقفون وكتّاب وصحفيون ورجال دين، حيث يمارس الجميع أدوارهم في لعبة كسب عواطف الناس واستحصال أصواتهم.

والإعلام الاستقصائي عادة ما يكون له دور ريادي في تثبيت الحقائق وإبراز ممارسات وقواعد الحكم الرشيد، إلا إنّه إذا ما جُيِّر لخدمة مصالح حزبية او فئوية وتحوّل إلى أداة لتحريف وتزييف الحقائق فإنّه قطعًا سيكون سببًا في بناء مجتمع تسوده الفوضى، " يُقرّب فيه اَلْمَاحِلُ ويؤتمن الخائِن وَيُخَوّنُ اَلْمُؤْتَمَن".

إنَّ عملية بناء الدولة العميقة لا تستغني أبدًا عن الإعلام المؤدلج والأقلام المُسيّسة والمُوجّه، فهي دون شكّ مصنعًا لبناء الرموز الكارتونية، وتشييد المسارح التي على خشبتها ترتقي القطع الشطرنجية فيمشاهد وفصول يصفّق لها الغافل ويهتف لها المستفيد.

إنَّ استمرار الأحزاب السلطوية بانتاج الدمى السياسية والاجتماعية وتسويقها أمرٌ منوط بقدرة وبراعةتلك المُنتجات في استغفال الناس من أجل تمرير أفكار ومناهج وبرامج عبر مشاهد وفصول تراجيديةتارة وكوميدية تارة أخرى، والهدف هو كسب ثقتهم أولًا، ثُمَّ التحكم بأفكارهم وسحق إرادتهم، وبالتاليتطويعهم وإخضاعهم.

وفي الوقت الذي يراقب فيه صنّاع القرار المشهدَ من خلف الستار، ويتمعّنون في مدى انجذاب الجمهوروارتباطهم بهذا الرمز أو ذاك، فإنهم يمسكون بخيوط اللعبة ويحركون الدمى كيف ومتى يشاؤون، وحينينتهي الفصل، ويُسدل الستار، يبدأ فصل جديد، ومشهد لقصّة أخرى، وأدوار لأبطال خرافية جديدة،تحركها اصابع الريبة وتُسوّقهم على أنهم رموز وطنية وشخصيات علمية أو أكاديمية، أو رجالات ثقافيةوفكرية، والحال أنهم سخرية.

ورغم أنَّ هذه الصناعة قد شهدت رواجًا واستقرارًا خصوصًا في سوق العالم الغربي، إلا أنَّ بعضًا من المثقفين والسياسيين قد وجّهوا نقدهم اللاذع لهذا النمط من التصنيع السياسي واعتبروه منهجًا يقوم على الخداع ويعمل على حرف العملية السياسية عن وجهتها الصحيحة ويفرغها من محتواها ومضامينها الجوهرية ويحوّل رموزها إلى سلع تجارية تُباع يومًا وتُشترى في يوم آخر.

يرى العديد من الباحثين في الشأن السياسي أن مصطلح التسويق السياسي قد نظّر له بتفصيل الكاتب والسياسي ستانلي كيلي في ستينيات القرن الماضي، حتى أصبح في يومنا هذا عِلمٌ وفنٌ لا يجيده إلا من امتهن السياسة وخبرَ خفاياها، لأجل ذلك يرى الكثير من السياسيين وصنّاع القرار  أن امتلاك وسائل إعلامية ضرورة من اجل الترويج لأفكارهم وبرامجهم والتسويق لرجالاتهم ، فهم يعلمون أن بقاءهم مرهون بقدرة وبراعة رموزهم المصنَّعة في اللعب على خشبة المسرح السياسة أو الثقافة أوالتعليمي، فكلها أسواق رائجة، والمشترون كُثر.

لذلك وبناءً على التجارب الواقعية يُصنّف التسويق السياسي إلى ثلاثة أوجه؛ الوجه الأول هو التسويق الكامل، وهو يشمل صناعة وتسويق كيانات أو أحزاب أو تيارات بغية الزّج بها في العملية السياسية.

والوجه الثاني هو التسويق لبرامج سياسية مرتبطة بأجندات ومبادرات خارجية، وأما الوجه الثالث، وهوالأكثر استخدامًا، فهو التسويق لرموز تثبّت أركان السلطة الحاكمة، سواء كانت هذه الرموز سياسية أمثقافية أم اقتصادية أم أكاديمية أم أمنية أم دينية، وغيرها.

ففي الدول التي تحكمها أنظمة قمعية نرى أنَّ رموز الدولة العميقة فيها من السياسيين والاعلاميين وأشباه المثقفين ومتقمّصي الكفاءات العلمية وأكاديميين ورجالات أمنٍ وقضاة، وهؤلاء في العادة لايُنتخبون من قبل عامة الناس بناءً على حقيقة كفاءاتهم وقدراتهم، أو برامجهم الإصلاحية أو أفكارهم ونظرياتهم وأيديولوجياتهم، بل بصورهم وأدوارهم المسرحية التي ترسَّخت في أذهان الجماهير. 

إنَّ عملية تسويق الشخصيات السياسية والاجتماعية لا تتم بمعزل عن الأحداث السياسية أو الاجتماعيةأو الأزمات الاقتصادية، أو التجمعات والمناسبات الرياضية أو الدينية؛ وهذه الأحداث إما أن تكون هيالاخرى مصنَّعة بشكل مباشر من قبل دوائر صنع القرار، أو بشكل غير مباشر، كأن يُدفع بجهة معيّنة أو تجمع جماهيري معيّن لصناعة حدث ما ليتمّ اختراقه وتغيير بوصلته بالاتجاه الذي يخدم مصالحالطبقة الحاكم.

وهكذا فإنَّ عملية تصنيع وتسويق الرموز السياسية والاجتماعية، وإن كانت تجري في بعض الأحيانب عفويّة وتلقائيّة، إلا إنّها تعتبر في كثير من دول الغرب مهنة لها قواعدها وبرامجها، وأنّها عملية يشرف عليها محترفون ومتخصصون، يُطلق عليهم خبراء الدعاية ومتخصصو الصور الذهنية، فهؤلاء عادة ما يشرفون على برامج وتحركات بعض من هذه الرموز ‘المصطنعة‘ ويهيؤون لهم الدعاية الكافية، تدعمهم بذلك الأذرع الإعلامية وبرامج التواصل الاجتماعي، بالشكل الذي يضمن وصولهم إلى حد المقبوليةالجماهيرية.

***

بقلم: د. أكرم جلال

 

نظَّر مفكرو دولة الخلافة الإسلامية بألفاظ معاصرة للدولة الإسلامية المنشودة، ليُقدّموا من ممارسات المسلمين الأوائل بديلا معاصرا يكفيهم مؤونة التطوير والتحديث، ومحاولة منهم لدفع تهمة الجمود أو القصور عن فقه الدولة في الإسلام؛ فأي جمود يُتّهم به! ومن منظورهم "الدقة والسمو والأصالة الفكرية قد وصل إليها الفكر الإسلامي في أبحاثه القانونية، هكذا قبل مجيء روسو وأتباعه بقرون عدّة."(1) فربطوا بين نظرية "العقد الاجتماعي" لجون جاك روسّو وبيعتي العقبة اللّتين كانتا بين النبي والأنصار قبيل الهجرة، ورأوا أنّ "العقد الاجتماعي الذي تحدّث عنه روسو، وأمثاله كان مجرّد وهم أو خيال، أمّا العقد الذي حدث مرّتين عند العقبة، وقامت على أساسه الدولة الإسلامية، فهو عقد تاريخي وحقيقة يعرفها الجميع."(2) "فالعقد الذي تكلّم عنه روسو كان مجرّد افتراض؛ لأنّه بناه على حالة تخيّلها في عصور ماضية سحيقة، ولا يوجد عليها بُرهان تاريخي، بينما نظرية العقد الإسلامية تستند إلى ماضٍ تاريخيٍّ ثابت: هو تجربة الأمّة في خلال العصر الذهبي للإسلام، وهو عصر الخلفاء الراشدين."(3)

لذلك حاول منظّرو الخلافة أو الدولة الإسلامية أن يُلبسوها ثوب الحداثة ورداء العصرية؛ فالبيعة مساوية لنظرية العقد الاجتماعي، واختاروا "جون جاك روسو" الذي وصفه أحدهم "بأبي الديمقراطية الحديثة"، ووصف كتابه "العقد الاجتماعي" "بالإنجيل لدى زعماء الثورة الفرنسية التي وُلد منها العالم الغربي الحديث."(4) ليقولوا بأنّ تجربة المسلمين في عهدي النبوة والخلفاء الأوائل حقّقت السبق والريادة؛ متجاهلين أنّ العقلية الغربية لم تتجمّد عند هذه النظرية التي تطوّرت عدّة مرّات قبل أن تتراجع أهميتها ابتداءً من القرن الثامن عشر إثر نقد الفيلسوف الإنكليزي ديفيد هيوم لها، وتجاوزها إلى نظريات أخرى.

فربْط مُنظّري الدولة الإسلامية بين البيعة والعقد الاجتماعي هو نوع من المساجلة مع العقلية الغربية أو التماهي معها في غير موضعه؛ لأنّهما في الواقع - إذا سلّمنا بصحّة طرحهم - مختلفان، فلا وجه للمقارنة بين ثابت ومتغيِّر!! فالدولة الحديثة القادمة من الغرب قابلة للتغيير والتطوير والنقد المستمر في مقابل الدولة في فكر منظّري الخلافة الإسلامية التي يرونها نموذجا ثابتا أنتجه الوحي منذ قرون، مرّة في عهد النبوة، وأخرى في عهد الخلفاء الأربعة الأوائل؛ لذا فهم دوما يتحرّكون وجدانيا وفكريا إلى الخلف عكس المسار الزمني للتطوّر الإنساني!!

هكذا انتهى التطوير في العقل المسلم قبل أن يبدأ.. لم يبرح مكانه بتكبّره عن ممارسة دوره الإنساني في التفكير المتجدّد، بزعم أنّه يمتلك في الممارسة التاريخية الأولى للمسلمين ما يفوق نتاج العقلانية الحديثة، فنتجمّد ولا نبدع، ونطلي القديم بألوان الحداثة، كي نقول لسنا في حاجة إلى إعمال العقل في تطوير الفكر الاجتماعي أو السياسي، فقد انتهينا إلى ما وصلوا إليه بعد قرون، هذا خطاب منظّري الدولة الإسلامية؛ لذا لن يتقدّموا خطوة إلى الأمام في تطوير رؤيتهم حول الدولة، ولم يستوقفهم أنّ ثمة فارقا كبيرا بين العقد الاجتماعي في القرن الثامن عشر الميلادي، وبيعتي العقبة في القرن السابع الميلادي من حيث المصدر والدافع والسياقات الزمنية والواقع الاجتماعي؛ فالعقد الاجتماعي في أحد مفاهيمه ممارسة من طرفين لا يملك أحدهما سلطة روحية دينية توجّهه، ولا تنصّ على تكاليف إلهية، ولا يجعل المقابل مؤجّلا في الحياة الآخرة، فالعقد الاجتماعي يبدأ من أناس يتراضون فيما بينهم كمتعاقدين، فرادى أو مجتمعين، على ميثاق اجتماعي، صريح أو ضمني، علني أو صامت، يتعهّدون فيه بالتنازل عن حقوقهم (كلّها أو بعضها) لصالح هيئة اجتماعية عامة، ذات إرادة كلية، تملك سيادة تامة على الجميع، تعبّر عنها مجموعة الأعراف والقواعد والقوانين التي تضعها أو تسنّها بنفسها، والتي توزّع الحقوق والواجبات على أعضائها.

وهذا يختلف عن البيعة التي تقوم على تبادل شيء بشيء، وأخذ الأيمان على ذلك في صورة عرفها العرب قبل الإسلام شكلا، لكن تطوّر مضمونها في العقبة لتصبح ممارسة دينية بامتياز بين النبي بوصفه حامل رسالة الإسلام وعدد من حجّاج يثرب إلى مكّة، وكان موضوعها ليس تحديد علاقة السلطة بالمجتمع، بل موضعها في البيعة الأولى الالتزام بدعوة النبي إيّاهم إلى الإسلام، وما يترتّب عليها من تكاليف دينية واضحة، والمقابل ديني أخرويّ هو الجنّة، وفي البيعة الثانية زاد اشتراط الدفاع عن الإسلام ونبيّه، وفي المقابل دوام النصرة من النبي والمهاجرين من أهل مكّة للمسلمين من أهل المدينة بعد حسم النبي لمواجهاته مع مشركي مكّة، وتشبيه النبي نفسه مع الأنصار في هذا الموقف بعيسى مع الحواريين يؤكد طبيعة العلاقة الدينية للنبي بأتباعه.(5)

ثمّ تعود البيعة لتأخذ شكلا ثالثا في الاستخدام الفقهي، فهي عهد بالطاعة من الرعيّة للراعي، وإنفاذ مهمّات الراعي على أكمل وجه، وكثيرا ما يُركّز الخطاب الإسلامي السنّي على كلمة البيعة تأكيدا على أنّ اختيار الإمام (الخليفة) يبدأ من الناس سواء تمّ بطريقة صحيحة أو غير صحيحة، وليست بتعيينٍ نصّ عليه الله لأسرة بعينها؛ لتتمايز الإمامة السُنّية عن الإمامة الشيعية التي تتمسّك بأنّ الإمام تمّ النصّ عليه وتحديده من الله؛ فالبيعة عند منظّري الإمامة السنّية عقد بين الخليفة (الإمام) والأمّة يصحّ بالشروط التي ينبغي توافرها في غيرها من العقود؛ ولذا سمّيت بيعة "وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده، جعلوا أيديهم في يده، تأكيدا للعقد؛ فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري، فسمّي "بيعة" مصدر الفعل باع."(6) وبهذا العقد تنتقل السلطة كاملة من الأمة للإمام ينيب عنه من يريد، ويفوّض من يختار فيما شاء من صلاحيات، له أن ينفرد برأيه فهو من أهل الاجتهاد، أو يستشير دون إلزام له، وأهل مشورته هم بطانته الذين يختارهم، وبمقتضي البيعة يلتزم المبايعون بالطاعة الكاملة للحاكم في كلّ أمر ما لم يكن معصية، فلا مجال لمخالفته بخلاف العقد الاجتماعي الذي تطوّر عنه الدستور في الدولة الحديثة، فهو يُعطى صلاحيات محدودة للحاكم، ولا يسمح له بتجاوز تلك الصلاحيات ولا التعدّي على عمل غيره من السلطات، من ناحية ثانية يختلف مستشارو الإمام في الدولة الإسلامية عن ممثّلي الأمّة في المجالس البرلمانية - أيًا كان اسمها مجلس شورى أو أمّة أو شعب - في الدولة المدنية، فهم يقومون بدور رقابي على قرارات السلطة الحاكمة، ففرق بين أهل الشورى وهم مستشارون فحسب، وبين أهل الشورى وهم سلطة مستقلة تمثل الشعب في مراقبة أداء الحاكم والحكومة (السلطة التنفيذية)، وفرق بين بيعة تلزم المحكومين بطاعة الحاكم، وتعاقد اجتماعي يلزم الحاكم بطاعة المحكومين وينظّم العلاقة بينه وبين المجتمع، ومن جانب آخر تصطدم البيعة مع المواطنة في الدولة الحديثة؛ فالبيعة بالخلافة الإسلامية اختيار من المسلم دون غيره، بموجب كون الخلافة الإسلامية منصبا دينيّا؛ فالدولة الإسلامية عند منظّري الخلافة الإسلامية هويّتها عقائدية تمتدّ، حيث وُجد مسلمون في أي مكانٍ فتجعلهم جزءًا من دولتها دون اعتبار لحدود جغرافيّة، وهذا تصوّر غير واقعي في عصرنا بخلاف الدولة المدنيّة الحديثة فهوّيتها جغرافية نابعة من الأرض التي يعيش عليها الإنسان، فالدولة المعاصرة محدّدة بنطاق جغرافي، فكلّ من ينتمي إلى مصر في جغرافيتها له حقّ اختيار رأس الدولة بصفته مواطنا يتساوى في ذلك الذكور والإناث والمسلمون وغير المسلمين. فمنظّرو الدولة الإسلامية لـ"الخلافة" ليس عندهم مفهوم المواطنة، وإن قبله بعضهم في خطابه المعلن بدافع من الواقع المعاصر للدول العربية، فتبدو تلك الدول عند بعض منظّري الخطاب الإسلامي ولايات إسلامية منفصلة تنتظر عودة الخلافة الجامعة، وتبدو عند البعض الآخر بمنزلة عدّة دول إسلامية كلّ منها خلافة في ذاتها، متخلّيا عن فكرة استعادة الخلافة لتعذّرها؛ فالمسلمون عاجزون عن إعادتها بسبب تغيّر النظام العالمي، ويبقى غير المسلم في كلا التصوّرين في منطقة ضبابية: هل هو ذمّي في دولة الإسلام فتكون أحكامه كما هي في كتب الفقه، أم مواطن له حقوق المواطنة كاملة فيأخذ بأفكار الدولة المدنية الحديثة!

ويظهر التلفيق في وصف الدكتور محمد عمارة الخلافة الإسلامية بأنّها "نظام من نُظم الحكم.. ونظم الحكم - ككلّ النُظم - هي مؤسسات وآليات تُقيمها الأمّة لتحقيق المقاصد والغايات والمصالح التي تتغيَّاها، والتي تحدّد معالمها المرجعية الفكرية أو الفلسفية أو الدينية التي تُؤمن بها هذه الأمّة؛ أي أنّ الخلافة مؤسسة مدنية بشرية أبدعتها الأمّة ... الخلافة الإسلامية - التي قامت كامتداد متطوّر لدولة النبوّة - فإنها باعتبارها - دولة النبوة - قد تأسَّست بالتعاقُد الدُّستوريِّ والعقد الاجتماعيّ الحقيقيّ الذي تمَّ في "بيعة العقبة" (1ق هـ/621م) وتوزَّعت فيها السُّلطات بين المؤسسات الدستورية الثلاث: مؤسسة الأمراء.. المؤسسة الدستورية الثانية هي مؤسسة النقباء الاثني عشر.. المؤسسة الدستورية الثالثة، وهي "مجلس الشورى" مجلس السبعين الذي كان يجتمع بمسجد النبوّة بمكان محدّد، وفي أوقات محدَّدة؛ لتعرض عليه شؤون الدولة والمجتمع، والتقارير الواردة من أقاليم دولة الخلافة."(7)

فمفردات مثل: نُظم الحكم، ومؤسسات، وآليات، ومدنيّة، ودستورية، ومؤسسية، وتعاقد دستوري، وعقد اجتماعي، ومجلس شورى لم يكن لها ولا لدلالاتها وجود في تلك الفترة التاريخية تماما، بل وُجدت تلك الألفاظ وتشكّلت معانيها في العصر الحديث، حيث استلهمت من تجربة الدولة المعاصرة في نسختها الغربية، كذلك توصيف الخلافة الإسلامية بأنّها "الدولة التي قامت في العام الثالث عشر لتحقيق سيادة الشريعة الإسلامية في حياة الأمة"(8)، تعبير غير دقيق لأنّ مصطلح الشريعة لم يكن له وجود؛ فالشريعة بمفهوم الأحكام الشرعية العملية الثابتة بالنصّ الشرعي مفهوم جاء متأخّرا عن تلك الحقبة بما يزيد عن مئة وخمسين عاما، كما أنّنا في الوقت الذي نسلّم فيه بأن النبي قاد تحوّلا جوهريا من القبيلة إلى مجتمع المدينة كخطوة نحو بناء مجتمع جديد فإنّ تجربته لا تمثل تجربة دولة بالمعنى الذي يروّج له الخطاب الإسلامي؛ لأنّ النبي لقي ربّه بعد تمام الوحي بينما تجربة المسلمين مع الدولة في حالة تشكّل وتكوين بوصفها جزءًا من الممارسة الإنسانية للنبي التي أرسى الوحي مبادئها العامة، ثم أوكل للبشر استكمال التفاصيل من تجارب الممالك المعاصرة لهم والسابقة عليهم، فلفظ دولة النبوة الذي استخدمه الدكتور عمارة له دلالة ملتبسة، ويحتمل قدرا من الدينيّة والتقديس ننفيها دوما عن شؤون الدولة؛ فالنبي لم يكن مكلّفا بإقامة مملكة بلغة ذاك العصر ولا استحداث دولة بل بتبليغ دعوة، وإنذار من يتخلّى عنها، فلم تكن مهمّته إنجاز دولة بل تبليغ مبادئها العامة، فلو بنى الرسول دولة لكانت شكلا ثابتا مقدّسا في حياة المسلمين، وهذا ما لا يستقيم مع حركة التطوّر الإنساني، فكانت الحكمة الإلهية صارفة للرسول عن ذاك..

وإذا كانت البيعة في صورتها التي وصلت إلينا من منظور المفكّر الإسلامي دينا مجرّدًا ثابتًا فلِمَ يقعُ إخضاعها للمقارنة بنظريات بشرية في نُظُم حُكْم تتغيّر وتتبدّل؟! وإذا كانت ضمن أفعال النبوة الزمنية التاريخية الداخلة في اجتهاده البشري، فلماذا تُجعل قالبا ينبغي أن تُقاس عليه اليوم ممارسات السياسة المتغيِّرة!

إنّ وصف بيعة العقبة بالتعاقد الدستوري والعقد الاجتماعي لا يخلو من تكلّف وتحميل للحوادث التاريخية بدلالات تتنافى مع طبيعتها، لأنّ البيعة لم تكن ميثاقًا اجتماعيًّا ينظّم علاقة السلطة بالمجتمع، فهناك فرق كبير بين التعاقد الدستوري والبيعة؛ فالدستور مجموعة القواعد القانونية المنظّمة لممارسة السلطة ومصادرها والعلاقة بين القائمين عليها، والأشخاص المعنويّين والطبيعيّين المحكومين بتلك السلطة، والقواعد الضامنة للحقوق والحريات العامّة في المجتمع.

كما أنّ جعلهم البيعة دستورا يحوّل ممارسات النبي (وجهاده لتبليغ دعوة الله) إلى جهاد من النبوة لإقامة دولة (مملكة بلغة تلك الفترة) وهذا الخلط له خطورته؛ لأنّه يؤسس لأصولية الدولة وجعلها غاية دينية، الفكرة التي تنطلق منها الجماعات الدينية في تأسيس الدولة الإسلامية بداية ببيعة أمير أو مرشد أو خليفة تجاهد تحت رايته لاستعادة الخلافة، الفريضة الإسلامية الغائبة من منظورهم.

من جانب آخر يظهر التلفيق في استخدام المفكّر الإسلامي مصطلح "مجلس الشورى" في غير موضعه؛ فدلالته المعاصرة هي مجلس نيابي يُمثّل السلطة التشريعية في الدولة الحديثة، ويُمارس دور الرقابة على سلطتها التنفيذية، بخلاف الشورى في الممارسة التاريخية الأولى للمسلمين التي لم تأخذ شكلا بعينه، ولم تكن مُلزمة، بل مُعلِمة برأي من يختارهم القائم على الأمر أهلا لشورته، وهي مبدأ عربي وإسلامي. أمّا كونها مبدأً عربيا؛ فلأنّ قبائل العرب مارست فعل المشورة وتبادل الرأي قبل الإسلام، وتحدث القرآن الكريم والأخبار النبوية عن نوادي كفّار مكة ومشاوراتهم في كيفية مواجهة النبي والقضاء على دعوته للإسلام، وكونها مبدأً إسلاميا؛ لأنّ الوحي حثّنا على ممارسته دون أن يضع له إطارا أو آلية؛ لذا تعدّدت أشكاله في الممارسة النبوية.

أخيرا من الآثام العلمية لمثل هذا النوع من الخطاب الإسلامي لغته الفضفاضة المفتقدة للدقة العلمية والاصطلاحية، فتشعرك أنّها كُتبت بأمنية المتعالي بماضيه على حاضره، فيكتب بلغة خطابية مستخدما المصطلحات الحديثة في توصيف ممارسات نبوية لم تستعمل مثل هذه المصطلحات؛ ليكسب المصطلح المعاصر دلالة دينية من السياق المستخدَم فيه، ويصبغ الممارسة التاريخية بالصبغة الحداثية، ويجعل من التاريخ ناطقا بالإسلام، والحقيقة أنّ التاريخ يحكى فعل المسلمين في زمن بعينه، وهو لا ينطق بل المؤرّخون والموجِّهون للشواهد هم من ينطقون، فلا يُقدّم إلاّ توصيفا دقيقا واقعيا لحقبة تاريخية من حياة المسلمين، مكتفيا بطلائها بمصطلحات حداثية؛ لتبدو وكأنّها ممارسات مساوية لها، وكأنّ المسلمين الأوائل أقاموا النموذج المعاصر للدولة، ويُجرّد التاريخي الإنساني؛ ليختلط بالديني المقدّس الثابت الصالح لكل زمان ومكان، وأستبعد افتراض أنه استخدم لغة فنية أدبية اعتمدت على الاستعارات والمجازات ليقرّب المعاني، ويُجمّل الأفكار، فهذا لا يتناسب مع الطرح العلمي الذي يحتاج إلى لغة معيارية علمية، فوصف القديم بلفظ الحديث تلفيق وإن زعم أصحابه المجازية أو التوفيق.

***

بقلم عبد الباسط سلامة هيكل

..............

(1) الدكتور ضياء الدين الريس، النظريّات السياسية الإسلامية، ص213 مكتبة دار التراث، الطبعة السابعة، 1979م.

(2) السابق، ص 32

(3) السابق، ص 214

(4) السابق، ص 213

(5) في حديث عبادة بن الصامت "بايِعوني على أن لا تُشرِكوا باللهِ شيئًا، ولا تَسرِقوا، ولا تَزنوا، ولا تقتُلوا أولادَكم، ولا تَأتوا ببُهتانٍ تفتَرونه بين أيدِيكم وأرجُلِكم، ولا تَعصوا في معروفٍ، فمَن وَفَّى منكم فأجرُه على اللهِ، ومَن أصاب من ذلك شيئًا فعُوقِبَ في الدنيا فهو كَفَّارةٌ له، ومَن أصاب من ذلك شيئًا ثم سَتَرَه اللهُ فهو إلى اللهِ، إن شاء عَفا عنه وإن شاء عاقَبَه. فبايَعْناه على ذلك." (صحيح البخاري. ٣٨٩٢)، وفي رواية كعب بن مالك عن بيعة العقبة الثانية قال النبي: "أُبايِعُكُمْ على أنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وأَبْنَاءَكُمْ قال فَأَخَذَ البَرَاءُ بنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثمَّ قال نَعَمْ والَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لِنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَزْرَنَا فَبايِعْنَا يا رسولَ اللهِ فَنَحْنُ واللهِ أَهْلُ الحُرُوبِ وأَهْلُ الحَلْقَةِ ورِثْنَاهَا كَابِرًا عن كَابِرٍ قال فَاعْتَرَضَ القَوْلَ - والْبَرَاءُ يُكَلِّمُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَبُو الهَيْثَمِ بنُ التَّيِّهَانِ حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ فقال يا رسولَ اللهِ إِنَّ بَيْنَنَا وبَيْنَ الرِّجَالِ حِبالًا وإِنَّا قَاطِعُوهَا - وهِيَ العُهُودُ - فهل عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ وأَظْهَرَكَ اللهُ عزَّ وجلَّ أنْ تَرْجِعَ وتَدَعَنَا؟ قال فَتَبَسَّمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال بَلِ الدَّمَ الدَّمَ والْهَدْمَ الهَدْمَ أَنْتُمْ مِنِّي وأَنَا مِنْكُمْ أُحارِبُ مَنْ حارَبْتُمْ وأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ وَقَالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ على قَوْمِهِمْ.." (الهيثمي، مجمع الزوائد، ج6، ص45)

(6) أبو زيد عبد الرحمن بن محمد (ابن خلدون) المقدمة، ص ١٧٤، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1408هـ-1988م.

(7) الدكتور محمد عمارة، بحث الخلافة الإسلامية، كتاب مؤتمر الأزهر حول الإرهاب ص27، 26. طبعة مشيخة الأزهر 2014م..

(8) السابق، ص 26

تصريحات ومقترحات وحلول وتفسيرات غريبة تصدر عن اشخاص يقدمون انفسهم كخبراء ودكاترة اقتصاد عراقيين. افكار غريبة وغير معقولة!!، بعضهم يدعو الى تحويل الاقتصاد العراقي الى حقل تجارب ومختبر يتم فيه دراسة افكارهم العظيمة. يقترحون على الحكومة اعادة تجربة عدد من السياسات التي هجرها العالم الرأسمالي مثل الخروج المطلق للدولة من الحياة الاقتصادية وترك القرارات الاقتصادية للسوق وللقطاع الخاص في بلد تملك فيه الدولة ،بحكم الواقع التاريخي، كل موارد البلد من العملات الصعبة !!

هل يريدون ان تبيع الدولة القطاع النفطي وتفرض ضرائب على الشركات (مثلما اقترح احد السياسيين الاكراد بعد الاحتلال مباشرة)؟؟

وفي بلد يشيع فيه الفساد وكل انواع المخالفات المعروفة مالياً واقتصادياً؟

لدينا قطاع خاص يفتقر الى الخبرة المتراكمة والقدرة على ادارة الحياة الاقتصادية ، حتى عند افتراض نزاهة هؤلاء ووطنيتهم.. بسبب تهميشه التاريخي بحكم السياسات المركزية المتشددة تحت شعار بناء الاشتراكية..

البعض الآخر قال ان الحكومة تستطيع طبع كمية من الدنانير بمقدار مالديها من رصيد متراكم بالدولار (يقال انه قد بلغ حالياً ١١٥ مليار دولار).

لايعلم هؤلاء الاشخاص بان تلك الدولارات المتراكمة هي ادخارات لدورات دخلية سابقة وانها متولدة بالاساس من قطاع ريعي هو النفط الذي هو جزء من الناتج المحلي الاجمالي لكنه لايولد اية منتجات للاقتصاد الوطني ولاشباع حاجات السوق سوى كمية النفط التي تصفّى وتباع في السوق المحلية.

وان طباعة مبالغ مساوية لذلك الفائض المتراكم يعني انفاقاً حكومياً اكبر وبالتالي طلباً اكبر على الدولار لاغراض الاستيراد الذي سوف يرتفع بنسبة عالية لان البلد يستورد كل شيء تقريباً.. 

بذلك سوف يُستنزف ذلك الاحتياطي تماماً والذي يعتبر وجوده ضمانة لقدرة الدولة على تمويل استيراداتها عند توقف تدفقات النقد الاجنبي من الخارج.

لذلك يقال ان الدولة لديها مايكفي من احتياطيات النقد الاجنبي لتمويل استيراداتها لفترة معينة (من خلال مقارنة حجم الاحتياطيات مع حاجات الاستيرادات السنوية من النقد الاجنبي) وكلما زادت فترة التغطية زادت الثقة بالاقتصاد في التعاملات الدولية..

ومع مشاكل هذا الحل المقترح والساذج، الا انه لن يحل الأزمة لان الأزمة ناشئة عن القيود على تحويل الدولار وليس نتيجة لعدم توفر الدولار لدى الدولة.

بل ان الازمة سوف تتفاقم ويزداد تدهور سعر صرف الدينار بسبب اشتداد الطلب على الدولار مع بقاء نفس القيود على التحويل.

آخرين قالوا انه يمكن للعراق الخروج من دائرة الدولار الامريكي والذهاب الى التعامل باليوان الصيني او الروبل الروسي!!!! بدون الاكتراث بالعقبات السياسية والاقتصادية المترتبة على ذلك الإجراء.

مجموعة اخرى من مراهقي الاقتصاد يدعون، بقوة غير معهودة، الى جعل الاقتصاد العراقي يدار وفق منطق آدم سمث القديم والاعتماد على اليد الخفية لقوى السوق التي تتكفل بتعديل اوضاع الاقتصاد ودفعه ثانية نحو حالة التوازن !!

ولايعلمون ان العالم الرأسمالي العريق بكافة دوله قد تخلى عن فكرة اليد الخفية منذ أزمة الثلاثينيات (او كما تعرف بالكساد العظيم) حينما عجزت النظرية الكلاسيكية في الاقتصاد عن معالجة تلك الأزمة وعجزت اليد الخفية عن تقديم الحلول!

 مما اضطر الدول واولها الولايات المتحدة وبريطانيا، الى الأخذ بنظرية كينز التي تدعو الى تدخل الدولة عن طريق الإنفاق العام والمشاريع العامة لتحريك الاقتصاد، وهذا ماحصل بالفعل.

البعض يدافع بشكل يدعو الى الدهشة، عن فكرة طبع الدينار دون قيود من قبل الدولة لتمويل نفقاتها !!

بل ان احدهم كتب لي على الحساب الخاص يدافع عن تلك الفكرة القاتلة بحجة ان الكثير من الدول تطبع بما فيها الدول الكبرى. ويقول: ماهو الضير من طبع العملة؟؟ الكل يطبع. (وهو هنا يحمل نفس نظريات الاستاذ المرحوم حسين كامل صهر الرئيس صدام حسين الذي كان يطبع النقود بشكل لامركزي ويتبجح بأنه قد بنى الجسر ذو الطابقين باستخدام برميل حبر ولفافة كبيرة من الورق)! دون النظر الى العواقب الكارثية لسلوكه هذا. ودون ان يعرف ان الاقتصادي الامريكي الكبير ملتون فريدمان، قد دعى الى تعديل الدستور الامريكي ووضع مادة تحرّم على الحكومة طبع العملة تحت اي ظرف لانها تحطم رصانة السلطات النقدية وتدمر مصداقيتها امام العالم، اضافة الى اثاره الكارثية على الاقتصاد الوطني.

يبدو ان هنالك تراجعاً في مستوى الثقافة الاقتصادية في العراق وتراجعاً في التعامل مع الاقتصاد كعلم له اصول وقواعد صارمة بحيث انه اصبح من النادر ان تطلع على بحث رصين من بين كل ماينشر من كتابات..

ربما يعود هذا التراجع الى ظاهرة شراء الشهادات وتدني مستوى الدراسات العليا في البلد بشكل عام وليس مطلق  (جزء من هذا الانطباع الذي تكون لديَّ يعود الى مستوى افكار ومدارك بعض طلاب الدراسات العليا، ماجستير ودكتوراه، الذين يطلبون مني النصيحة والاستشارة من خلال الكتابة على حسابي الخاص).

***

د. صلاح حزام

أن الحلم ظاهرة نفسية هو ما عبر عنه سيجموند فرويد بالوضوح والتأكيد القاطع لأنها حياة الإنسان وهو خارج الوعي وفي عالم آخر ربما يشبه حالة الموت كما يقول الفلاسفة. ويؤكد فرويد بأن الحلم عملية ذات معنى يمكن إدراجها في سياق خبراتنا النفسية، وليس بشيء خارج عمليات النفس المدركة أو غير المدركة، والسبب في ذلك كما يؤكد لنا فرويد إن النوم يجعل تكوين الحلم ممكنًا لأنه ينقص قوة الرقابة النفسية الباطنة.. إذن هو حارس النوم.

أن الحلم يحقق رغبة، وكل رغبة " أمنية" تصور في الحلم لابد أن تكون رغبة طفلية، وتنشأ هذه الرغبة من اللاشعور " اللاوعي" عند الراشدين كما يذكر فرويد ذلك في تفسير"تأويل " الأحلام في ص 544 ترجمة مصطفى صفوان.

يتساءل البعض ونحن معهم كيف يكون الشيء مبهم وهو فينا، نحمله في دواخلنا، يتعايش معنا، لا ندركه، ولكن نتعرف عليه بعد حدوثه فتأتي الإجابة بإن عقول الناس تحتضن أشياء معينة يعرفونها دون أن يعرفوا، وهو الحلم بعينه، رغم أن التحليل النفسي بكشوفاته أثبت وجود عالم اللاشعور " اللاوعي" مخزن اللامنتهي من السعة والإدراكات.

أذن الحلم يخرج من عوالم اللاشعور " اللاوعي" بطريقة قل وصفها ومعرفة آلية كنهها وعملها، ولكن فرويد بعبقريته لمس موضعها وأخرج مكنوناتها وسبر أعماقها بطريقة عجيبة غريبة، تفرد بفن قراءتها فاق قدرة الفلاسفة وواضعوا الاساطير ومدونو الكتابات، ولا نغالي إن قلنا أنه "فرويد" عرف لغة الأقدمين ممن كتبوا اللغات الهيروغليفية القديمة ودونوا نقوشهم على جدران الكهوف والمغارات، فكانت قراءته تنطلق بأنه عرف كنه هذا الإنسان معرفة حقه، ومنه أبتدأ في معرفة ما يعتمل في داخله قبل وأثناء وبعد ما يعيش لحظة الصراع النفسي. فلا نغالي إن قلنا أن التحليل النفسي هو تشكيل جديد للاوعي – اللاشعور بعد أن يكون قد أنهك هذا الإنسان المعاصر صراع لا منتهي وأزاء ذلك يقول العلامة مصطفى زيور الصراع في التحليل النفسي هو ذلك التعارض اللاشعوري "اللاواعي" بين رغبة غريزية تنشد التفريغ وميل يعارض ذلك ويناهضه. ويدور الصراع بين رغبات " الهو " الغريزية اللاشعورية "اللاواعية" ووظائف الأنا الدفاعية اللاشعورية كذلك كما هو في عصاب الوساوس القهرية. أنه اللاشعور " اللاوعي" منبع ما يصدر عنا من سلوك ويقود تعاملاتنا مع أقرب المقربين لنا ونحن أطفال، أو مراهقين، أو بالغين ناضجين، هو المحرك لكل ذلك دون علمنا، ومنها ما لا نستطيع قوله أو البوح عنه، لأنه غير مقبول إجتماعيًا أو دينيًا أو يتعارض مع القيم السائدة في مجتمعاتنا، وإلا فما بال من تحتقن بداخله برغبة الشذوذ عن ما هو معمول به في السلوك الجنسي، وهي رغبة المختلف عن الأخرين في طلب الحاجة الجنسية، وهو عالم المثليه. كيف يفكر الإنسان العادي ؟ وكيف يفكر الإنسان المثلي؟ وكيف يتم كبت هذه الرغبات والامنيات عنوة وبقوة، لكنها تعود بشكل آخر بغير الطريقة والأسلوب التي خزنت في هذا العالم الواسع الخفي، تعود بعد أن ضاقت بها النفس وكادت أن تمزقها فخرجت بتفريغ مقبول يرضي صاحبه ولكنه لا يفهمه، عاد مشوه، سريالي التكوين، مبعثر الكلمات واللغة، وحقًا حينما أطلق جاك لاكان مقولته أن للاشعور "للاوعي" لغة خاصة، تُفهم من خلال حل رموز الحلم، لأنه متركب من عالم اللاشعور. إذن الحلم.. تحقيق مقنع عن رغبة مكبوته كما أعلمنا سيجموند فرويد، وهو كذلك أي الحلم.. الطريق الملكي للاشعور، أو الطريق الذهبي للاشعور "للاوعي"

إذن.. الحلم تحقيق رغبة " أمنية"

يدلنا جاك لاكان بقوله عن فكرة الحلم: الحلم هو الحدث الذي بفضله تمر المتعة إلى اللاشعور "اللاوعي"

أننا أزاء ظاهرة نفسية لم تغب عن حياة الإنسان منذ فجر نشوء تاريخ البشرية لدى الأسوياء ولدى غير الأسوياء، وبذلك يقول فرويد.. الحلم ظاهرة شائعة في حياة الأسوياء، مهما تمايزت خصائصه عن ظواهر حياتنا اليقظة، ونقول نحن إنها عرفت منذ بدء تاريخ البشرية، لأنها أمنيات في الوجود المترف، والوجود الصعب، والحياة المعاشة في مختلف المجتمعات البشرية في مختلف الأزمنة والأمكنة في هذا الكون.

يتعمق سيجموند فرويد في بحثه عن عالم الأحلام ويقول: الحلم.. إذا افترضنا أن ما نذكره منه عند اليقظة ليس عملية الحلم الحقيقية بل هو واجهة تستتر وراءها هذه العملية. فعلا هناك خفي ما كان أعظم وأكثر غرابة، وأكثر اندهاشًا، لا وربما أكثر متعة وألمًا، لذة وألم.. هذا هو مبدأ الحياة في الوجود، يعلن الإنسان شيء ويخفي أشياءكثيرة، لأنها رغبات غير مقبولة، لكن يدلنا الحلم على كنهها وما تحتوي، يعرفها بحق المحلل النفسي في ميدان عمله لا سيما أن طبيعة عمل المحلل النفسي هي معرفة مسألة الرغبة وهي جوهر الإنسان.

تكلمنا عن فكرة بأن الحلم في جملته بديل محرف عن شيء آخر، عن شيء لاشعوري" لاواعي" وأن تأويل الحلم يهدف إلى الكشف عن هذه الأفكار اللاشعورية- اللاواعية وهي التي ظهرت في الحلم بعد أن أحيل بينها وبين اخراجها للواقع فذهبت بطريقة لا يدركها من لا يطلع على أدبيات التحليل النفسي وأسسه ونظرياته العلمية، لذلك يقول فرويد.. تمييزنا بين المضمون الظاهر للحلم، وأفكار الحلم الكامنة... وسمى فرويد العملية التي تحول الأخيرة إلى الأولى.. صياغة الحلم... ويضيف لنا سيجموند فرويد قوله " تقدم لنا دراسة صياغة الحلم مثالا عن النحو الذي تفرض به مواد اللاشعور " اللاوعي" في الهو – أصيلة كانت أم مكبوتة – وبذلك يؤكد لنا فرويد.. نحن نهدف إلى أن نتبين أن للاحلام معنى. لذا... فدراسة الأحلام خير تمهيد يمهد به لدراسة الأمراض النفسية. وقول فرويد في كتابه الموجز في التحليل النفسي إذن الحلم ذهان بكل ما يصاحبه من سخافات وهذيان وأوهام، والحق أنه ذهان قصير الأمد لا ضرر منه، بل إنه يؤدي وظيفة نافعه، ويتم بموافقة الحالم وينتهي بفعل إرادي يصدر عنه، ومع هذا فهو ذهان.

اننا في عالم الأحلام نذهب بعيدًا في بعض الأحيان رغم إنها "هي الأسلوب الذي تستجيب به الحياة النفسية للمنبهات التي تكتنفها خلال النوم" كما يقول فرويد وقوله كذلك إن من الأحلام ما يبدو بعض أجزائه واضحًا ناصعًا إلى حد بعيد، والبعض الآخر على درجة كبيرة من الغموض، وهو بحق أي الحلم يرتبط بانطباعات تأثر بها الشخص في الأيام الأخيرة التي سبقت الحلم ارتباطًا أوثق مما كنا نظن من قبل.

يزودنا فرويد بحقائق علمية تضيف معرفة جديدة لنا وقوله: كل حلم هو بناء نفسي ذو معنى يمكن الربط بينه وبين مشاغل الحياة في اليقظة، وكذلك يضيف "فرويد" أخيرًا قد يستطيع الحالم، إن أتخذ الحلم نقطة ابتداء، أن يتذكر حوادث وقعت له في عهد أبعد من هذا، بل قد يصل إلى أحداث ترجع إلى عهد جدً بعيد.

أما " موراي " فيرى بعبارة محوكة حياكة مقبولة: إننا نحلم بما رأيناه أو قلناه أو رغبنا فيه أو صنعناه.

أما منابع الحلم وأصوله تؤكد لنا أن بناءه يقوم على اسس أربع طبقات وهي استخدمت في تصنيف الأحلام نفسها:

1. منبهات حسية خارجية " موضوعية"

2. منبهات حسية داخلية " ذاتية"

3. منبهات جسمية باطنية عضوية

4. مصادر نفسية خالصة للتنبيه.

إن المنبهات التي تقلق النوم قد تكون نفسية كما قد تكون بدنية. فنحن نعلم علم اليقين أن المنبهات النفسية هي المسؤولة على وجه التخصيص عن إقلاق النوم عند الراشد الكبير. وكذلك أن الحلم نتاج لنشاطنا النفسي الخاص، بيد أن الحلم بعد أن ينقضي يثير العجب من أنفسنا، وكأنه شيء غريب عنا.

ويقول فرويد: أن لكل حلم مغزاه وإن خفي هذا المغزى، وأن الحلم قد جعل ليحل محل عملية فكرية أخرى، وليس علينا إلا أن نرفع هذا البديل على النحو الصحيح لكي نصل إلى ذاك المعنى الخفي. ويؤكد لنا فرويد بأن لكل حلم معناه وقيمته النفسية.. ولكن من الواجب مع ذلك أن نترك مكانًا لإمكان تفاوت هذا المعنى بتفاوت الأحلام. فحلمنا الأول قد حقق رغبة.. ولكن قد يجيء ثان فإذا هو يحقق مخافة.. أو ثالث فلا يخرج محتواه عن أن يُكونْ فكرة ما.. أو رابع يستحضر إحدى الذكريات وحسب.

يعرض فرويد رؤى متنوعه عن الأحلام بقوله فالحلم كما نتذكره ليس الشيء الحقيقي الذي نبحث عنه بل بديل محرف له تستدعى به أفكارًا بديلة أخرى، وأزاء ذلك يبين لنا فرويد وجود اصطلاحين اساسين في الحلم هما

الحلم كما يرويه الحالم المحتوى الظاهر للحلم وسنسمي المعنى الخبيء الذي نظفر به عن طريق التداعي الأفكار الكامنة للحلم ولكن فرويد لا يترك ذلك فحسب، بل يقول: علينا الآن أن نأخذ في فحص الصلات بين المحتوى الظاهر والأفكار الكامنة، فالعنصر الظاهر ليس تحريفًا للعنصر الكامن بقدر ما هو تصوير له.

وأخيرًا يمكننا أن نتعلم من فرويد بإن الحلم يبعد أن يكون مصدرًا لإقلاق النوم " كما يؤخذ عليه عادة ".. بل انه حارس النوم يحميه من كل ما من شأنه أن يسبب له ازعاجًا.. صحيح أننا نميل إلى الظن بأن النوم الخالي من الأحلام خير من النوم المصحوب بها، لكنه ظن خاطئ، فالرغبة "الأمنية" هي التي تستثير الحلم، ومضمون الحلم تعبير عن هذه الرغبة: تلك إحدى الحقائق الرئيسة للحلم. ونتفق مع رؤية بأن الحلم لديه رسالة ووظيفة ويمكننا أن نعبر عن ذلك بأن الحلم في المستوى الواقعي له وظيفة حماية النوم ولكن هذا لا يتعارض مع كونه رساله.. كما يقول المحلل النفسي محمد درويش...

أعتقد أنها وظيفة ورسالة استنادًا لقول العلامة مصطفى صفوان قوله أن الحلم يتألف أكثر ما يتألف من صور مرئية لا من اصوات. وهي لغة الحالم النهارية.. ويضيف صفوان قوله: أن اللغات النهارية مهما أمعنت في هذا الاتجاه لا تبلغ أبدًا إلى القضاء على اتساع اللفظ الواحد للمعاني المتعددة..

***

د. اسعد الامارة

 

لاتعد الكارثة مصطلحاً قانونياً، وطريقة تصنيفها يؤثر على الموضوع، لذا يرى بعض الباحثين انه من المهم في اثناء تقدير المصطلح أن يفهم أن مجرد وقوع الكارثة بحد ذاتها لا يشكل نقطة الاهتمام المادي، ولكن تلك النقطة تتمثل في مجموعة كاملة من الجوانب الداخلة في الموضوع، وهي السبب، والذي يتشكل من فيئتين، الكوارث الطبيعية والتي تعد الزلزال منها، والكوارث الناجمة من الأنشطة البشرية، والتي أجد بأن التلاعب بالبيئة او البنية الجيولوجية والتي تُعرف على انها تضاريس الأرض حيث يكون للكتل الصخرية بعض الخصائص او الجوانب التي تشكل هيكلها – البنيات-  وهي ترتبط بجميع الحوادث التكوينية التي تسببها الحركات التكوينية وحركات المنشأ، فضلاً عن عامل الانبساطية، الذي يعد نتاج النشاط البركاني والحركات الزلزالية، ويتميز هذا ايضاً بتشويه الصخور، مما ينتج عنه تموجات وثنيات، لبعض المناطق كأنشاء سدود عملاقة على ارض تُعد واقعة على خط الزلزال من ضمنها، وذلك ما يحيلنا الى الجانب الاخر المتعلق  بالمدة، والتي تكون في الغالب مفاجئة أو بطيئة تدريجية الظهور، مما يجعلنا أمام جانب اخر وهو السياق، حيث تقع الكوارث في صورة طوارئ واحدة أو معقدة، وهذا الامر برمته ينطوي على البحث في مكنون الكارثة، والنظر في القضايا المتعلقة بمختلف مراحلها، أي مراحل ما قبل الكارثة واثناءها وبعدها، وذلك ما أكده تقرير لجنة القانون الدولي الى الجمعية العامة عن اعمال دورتها الستين.

ولعل ما يحدث الان من هزات أرضية متتالية تضرب أماكن مختلفة وكلها مرتبطة بالبنية الجيولوجية المعقدة في منطقة الشرق الأوسط بالذات تعد تكراراً لنتائج اعمال تمس البنية الجيولوجية للمنطقة لاسيما في تركيا التي قامت بإنشاء سدود عملاقة ليس على مستوى المنطقة فحسب انما على المستوى الدولي،  ويكمن مفهوم التكرار حول جدلية بناء السدود وتأثيرها على النشاط الزلزالي ما حصل في الصين سابقاً والتي وقعت تحت تأثير زلازل أودت بحياة الالاف من الأشخاص مع تدمير شامل لتلك الأماكن، وكان احد الخبراء الصينيين – وانج يانجشين – قد تساؤل وقتها لماذا تتكرر الزلازل في تلك المنطقة بالذات، وكان يقصد بها مدينة زهاوتونج التابعة لإقليم يونان، التي تم بناء سدود ضخمة مبرمجمة في تلك المنطقة الجبلية، ومن المعروف كما يشير احد الباحثين ان الخزانات الضخمة من المياه تسبب ضغطاً على القشرة الأرضية يمكنه أن يسبب الزلازل على الرغم من الارتباط بين الامرين يعصب اثباته، ومع ذلك فان التجربة الصينية اولدت الكثير من التساؤلات حول جدوى بناء السدود الضخمة، لاسيما بعد أن اكدت الدراسات بكون الآراء متفقة على أن ارتفاع منسوب المياه في المحطات المائية يمكن أن تقف وراء زيادة النشاط الحركي للقشرة الأرضية، وهذه الظاهرة مشابهة لتلك التي حدثت في تركيا خلال هذه الفترة ومازالت تحدث فيها وفي بعض الدول المجاورة ذات الامتداد الجيولوجي والارتباط بمخلفات تلك المسطحات والخزانات المائية الكبيرة، وذلك ما ذهب اليه علاء اللامي في دراسة له بعنوان "الجديد في العلاقة بين الزلازل واحتمالات انهيار السدود التركية"، حيث أكد من خلال مناقشة اراء بعض الخبراء الذين ذهبوا الى أن كمية الخزين المائي الضخم لتلك السدود والذي بلغ اكثر من 651 مليار متر مكعب اثرت على القشرة الأرضية وحتى على الأرض بالكامل، مشيراً الى أنه إذا زادت المياه فهذا يؤدي الى تمددها وزيادة كمية الماء الذي تخزنه، وايضاً تؤدي الى عملية تمدد أو توسع للكسور الموجودة في الاحواض الجوفية، وهذا يؤدي الى خلخلة أو تكسير لهذه الفوالق الزلزالية، مؤكداً بأن هذا ما حدث بالفعل.

تواجه عمليات بناء السدود الضخمة في تركيا تحديات كثيرة منها ما يتعلق بالتغيير الجيولوجي للقشرة الأرضية، وأخرى تتعلق بحجم المياه المخزونة التي وبحسب العديد من الآراء إن انهارت تلك السدود ستسبب بكوارث قد تصل حتى  الى مناطق الخليج في اقصى جنوب العراق، ومنها تحديات تتعلق بالمسائل البيئية والقانونية، وهي اجمالاً لم تزل مثار نقاشات وطروحات لا تتفق على نهج واحد، ولكنها كلها في المضمون تتفق على نقطة واحدة، أن تلك السدود لها علاقة وإن اختلف حجمها بالزلازل التي ضربت تركيا وباقي المناطق الواقعة على خط ذلك الزلزال أو ما يسمى بحركة الصدع الاناضولي الشرقي، وتؤكد الاحداث العامة ببعض النشاطات الزلزالية أن الصلة موجودة بين بناء السدود وحدوث الزلازل، ولكنها تؤكد في الوقت نفسه أن حجم تلك الزلازل لاتصل الى درجة 6 في اغلب الحالات، وتبقى تتراوح بين 3- 5 درجة على مقياس ريختر، ولكن ذلك الامر ايضاً كان نسبياً بالنسبة للبعض، لأنه في عام 1963 ضرب زلزال  ولاية ماهراشاترا في الهند وذلك بعد ارتفاع مناسيب المياه في البحيرة خلف سد كوينا، وكان قوة الزلزال 6.5 درجة، ولدينا في اسوان المصرية عام 1981حيث وقع زلزال بقوة 5.6، بعد انشاء السد العالي، وامتلاء بحيرة ناصر بالمياه، وفي فوكوشيما عام 2011، انهار سد فوجينومو في مدينة سوكاغاوا بعد وقت قليل يقارب العشرين دقيقة من زلزال توهوكو ، وهناك العديد من الأمثلة تؤيد نظرية تأثير السدود الضخمة على القشرة الأرضية وبالتالي تسبب في تصدعات في البنية الجيولوجية للأرض، وذلك من خلال تكسير الفوالق الزلزالية، وأثر ذلك على النقطة التكتونية وحركة الصفائح.

وعلى الرغم من أن تلك الزلازل تعد من الكوارث الطبيعية، إلا أن علاقتها الوثيقة بالحاق الاضرار بالبيئة من خلال بناء تلك السدود الضخمة وبذلك الحجم الهائل من كميات المياه المخزونة، تجعلنا ننظر الى الامر على أنه تهديد مباشر شأنه شأن المخاطر التكنولوجية وتطورها، وفي ذلك يقول مداح عبد اللطيف في دراسة اكاديمية له بعنوان مسؤولية الدولة عن الاضرار البيئية: " لقد عد التدهور البيئي أثر حتمي للتطور التكنولوجي، وهو ضريبة فرضت على العالم بأكمله دفعها مقابل التقدم الصناعي، هذا ولم تدرك البشرية الاثار السلبية للتدهور البيئي إلا في النصف الأخير من القرن العشرين بسبب الكوارث البيئية التي هزت العالم، الشيء الذي جعل الاهتمام بالقضايا البيئية يتصاعد بشكل كبير "،  وذلك ما يحيلنا الى البحث عن المنافذ القانونية التي تجعل من الاعمال محضورة إذا ما توفرت بعض القرائن بإنشائها، وهي بلاشك تقع مسؤوليتها على المجتمع الدولي، لاسيما فيما يتعلق بنظرية الخطأ كأساس لإقرار المسؤولية الدولية عن المساس بالبيئة ومن هذه النظرية تناسلت نظرية التعسف في استعمال الحق كأساس للمسؤولية الدولية عن الضرر بالبيئي، والأخيرة يقصد بها أن يستعمل الشخص الدولي حقه المشروع بطريقة لا يجلب منافع بقدر الاضرار التي تجذبها للغير،  ولحجم الاضرار المترتبة حول استخدام ذلك الحق الحقت قوانينها بالقوانين الدولية، وذلك ما يؤكده  الباحث بوغانم يوسف في رسالته الماجستير، بعنوان "المسائلة عن جرائهم البيئة في القانون الدولي" حيث يقول:" ويعتبر مبدأ التعسف في استعمال الحق مبدأ مؤسساً على العرف الدولي والقانون الطبيعي، وقد نقل هذا المبدأ من القوانين الوطنية الى القوانين الدولية لأنه لا يوفر الحماية للدول في علاقتها بغيرها.."، وعند النظر الى الواقع سنجد بأن القانون الدولي لم يزل في طور المسائلة حول تغاضيه عن ما يترتب على استخدام تركيا لحقها في المجال البيئي من جهة، وبناء السدود التي لا تلحق الضرر بالبنية الجيولوجية للمنطقة فحسب، انما تلحق اضراراً جسيمة بغالبية الدول التي تتأثر بحجم تلك الخزانات المائية الضخمة، والتي كما سبق وأن نوهنا تهدد استقرار غالبية الدول التي تقع جنوب شرق وغرب تركيا، مما قد يتسبب انهيار تلك الخزانات الضخمة في تدمير شامل لتلك الدول، ناهيك عن مساهمتها في النشاط الزلزالي الذي تحول خلال فترة وجيزة الى هاجس موت جديد يضاف الى ما هو موجود اصلاً للمنطقة.

***

جوتيار تمر/ إقليم كوردستان

25-2-2023

في يوم الانترنيت الآمن الذي صادف في 7 شباط 2023،كان يُتوقع وكما حصل في السنة الماضية ان يعج هذا اليوم بالاجتماعات وعقد الندوات عبر الانترنيت لمناقشة قضايا تتصل بالتنمر الألكتروني والخصوصية والإساءات المتعمدة للآخرين والديمقراطية وحرية الكلام.

لاشك ان جميع هذه القضايا تؤثر على الكثير من حياة الناس وتجاربهم سواء كانوا مرتبطين او غير مرتبطين بالنت . في هذه الايام يجري الحديث عن الـ infospher او عالم المعلومات وهي كلمة استخدمها الفيلسوف الايطالي لوسيانو فلوريدي لوصف فضاء البيانات والمعلومات التي نرتبط بها جميعا، بالاضافة الى صناعاتنا اليدوية والأدوات. اصبح عالم الانفوشفير وباستمرار مأهولا، ونحن نعتمد على الانترنيت وهو الجزء الاكبر من الانفوشفير. وطبقا لعالم المعلومات الرقمية،فان متوسط الوقت المُنفق كل يوم في العالم باستعمال النت هو 6 ساعات و42 دقيقة. ايضا، طبقا لـ statista.com لعام 2020 كان هناك 59 زيتابايت من البيانات تم خلقها والتقاطها واستنساخها واستهلاكها في العالم. وفي عام 2024 سنصل الى 149 زيتابايت، كل واحدة زيزابايت تساوي (10) مرفوعة للقوة 21 بايت، اي 1,000,000,000,000,000,000,000 بايت. ايضا في هذه الخطة هناك اكثر من 2 بليون موقع في العالم. المواقع النشطة فيها أقل من 200 مليون موقع. هذا يبيّن ليس فقط الحجم الهائل لـ، www.co وانما مقابر المعلومات الميتة التي تنشأ حول العالم.

هذه الاعتبارات تعطي للانترنيت مظهرا مشابه للكتاب اللامتناهي للمؤلف الارجنتيني جورج لويس بورجز Jorge Luis Borges (1899-1986) يصف في قصته القصيرة عام 1941 "مكتبة بابل". انت تستطيع ان تجد في كتابه متاهات بين الاماكن الاخرى. بورجز يتصور مكتبة صُنعت من قاعات سداسية الشكل معقدة جدا وممرات وسلالم: "عالم مركزه الدقيق هو أي واحد من أشكاله السداسية ومحيطه لايمكن الوصول اليه". على الرفوف كتب تحتوي على كل التاريخ واساطير الانسانية،هذه الكتب تحتوي على كل اللغات الماضية وغير المعروفة، بعضها رموز مشفرة، اخرى تقليد او نسخ دقيقة للاصل، اخرى تحتوي على معلومات زائفة أغلبها بلا معنى "نشازات وخلط لفظي وعدم ترابط".

هذا ايضا ما نجده في الانترنيت. قد يجادل احد ان اكثر من 59 زيتابايت تحتوي على معلومات غير ملائمة. شخص آخر ايضا يمكنه القول ان معظم البايتس لم تُصنع لنا كبشر بل لمكائن اخرى وصناعات يدوية لتسهل الاتصال معنا ومع الادوات الاخرى لكي يتم نقل ومعالجة المعلومات. الانترنيت يمتلك كتالوجات وكتالوجات للكاتالوجات: معلومات حول قطع اخرى من المعلومات، وتنظيمها وخزنها. نحن لا نجد قاعات سداسية الشكل وانما صف من الخوادم ومراكز بيانات تساعد وتحافظ على أنظمة التخزين السحابية في كل انحاء العالم.

هناك اختلافات اساسية اخرى بين مكتبة بورجس والانترنيت. البناء الاساسي للتراكيب التي تشكل مكتبة بورجس هو الأبجدية، بما في ذلك "الفراغ بين الكلمات، علامات التنقيط،الفارزة، و 22 حرف ابجدي". مكتبة بابل تحتوي على كل التراكيب الممكنة لتلك الرموز – طبقا لبورجز – وتراكيب لهذه العناصر، لا يهم اللغة،" ذلك جعل بالإمكان لأمين المكتبة الذكي اكتشاف القانون الاساسي للمكتبة". بالمقابل، في حالة الانترنيت،تكون الرياضيات الثنائية وبناء الجملة هو اللغة الاساسية التي تُترجم منها كل اللغات الاخرى والرموز والدلالات اللغوية. يبدو ان قول غاليلو بان العالم هو كتاب كُتب في الرياضيات صحيح حتى لو كان العالم غير طبيعي وانما اصطناعي وافتراضي.

التاريخ الرقمي hyperhistory وتحدياته

ربما معظم الاختلاف الاساسي بين مكتبة بورجز والانترنيت هو ان الاول حسب قول بورجز يوجد في نقطة بعيدة جدا في الماضي. انه كان دائما هناك بينما النت وُجد فقط قبل 30 سنة تقريبا. هذا لا يؤشر فقط فرقا بسيطا في العمر، وانما فرقا عميقا في طبيعة كلا المكتبتين. مكتبة بابل تحتوي على كل المعرفة في الكون التي نستطيع اكتسابها. انها كانت دائما هناك، وسوف تكون دائما كذلك. في هذا المعنى، معرفة المكتبة تعكس الكون من منظور عين الله، وان بحث امناء المكتبة هو حل لغز اسرار الكون ونظامه الاسطوري والهدف منه .

عندما نأتي للانترنيت يجب ان لا ننسى ان طبيعته هي انسانية واصطناعية على السواء. اذا كانت شبكة الويب العالمية ليست تقليدا جيدا للعالم الطبيعي، يمكن القول انها على الأقل تعكس طريقة واحدة يصوغ فيها الناس ويحوّلون العالم. نحن مثل الصانع الذي يستخدم ويعالج ويسيطر ويقوم بنمذجة وتحرير وايصال تدفق البيانات التي ننتجها. لو استعملنا كلمات الفيلسوف الايطالي لوسينا فلورايد (انظر على سبيل المثال "فلسفة المعلومات،2011)، فان النت ليس اداة مقلدة وانما اداة شاعرية – بما يعني ان فعلنا المستقل ليس فقط استنساخ او ابلاغ وانما اعادة شكل العالم. ما نقوم ببنائه هو اكثر من مجرد انسيكلوبيديا عالمية تحتوي على كل شيء نعرفه ونستطيع استشارته عند الحاجة. بدلا من ذلك،نحن نسكن "مكتبة" الانترنيت ليس فقط كناظرين او مستهلكين او مستعملين، وانما ايضا خالقين ومحررين – كما يُلاحظ بكل وضوح في الويكيبيديا او اليوتيوب.

نستطيع القول ان التاريخ يبدأ بقدرتنا على تسجيل ماضينا وافكاره. اذا كان هذا تعريف التاريخ، عندئذ يجادل فلورايد باننا الان نعيش في تاريخ رقمي، فيه لا نسجل فقط المعلومات وانما نعتمد عليها. الان،المعلومات وتكنلوجيا الاتصالات "تسجل وايضا تعالج المعلومات بشكل مستقل ، والمجتمعات الانسانية تصبح معتمدة مصيريا عليها وعلى المعلومات كمصدر اساسي لكي تزدهر" (الثورة الرابعة،ص6، 2014).

ان التحول من التاريخ الى التاريخ الرقمي يأتي مع كثير من التحديات وحالات اللايقين. التحدي الاكبر الاول يتعلق بكمية المعلومات التي ننتجها. ان كمية المعلومات المنتجة في الانترنيت في مدى عشر سنوات من 2010الى 2020 هو أضعاف مضاعفة وهو اكبر من كل المعلومات التي انتجتها الانسانية في تاريخها السابق. طبقا لخوارزمية جوجل، تقريبا 130 مليون كتاب نُشرت في فترة التاريخ الحديث، منذ اختراع مطبعة كوتنبيرغ للصحافة المطبوعة عام 1450. لكن هذا فقط قطعة صغيرة من شريحة المعلومات التي ننتجها حاليا ونستهلكها اون لاين.

يمكن للمرء ان يجد هذه الحقائق مزعجة ومخيبة لأن امكانية تنظيم هذا التدفق للمعلومات هو مستحيل. هذا ايضا بسبب اننا لسنا نجلس فقط على هذه الكومة من المعلومات وانما ايضا نحوّل ونعالج ونحرر المعلومات التي تتراكم باستمرار، وكل هذا يتم بسرعة متسارعة.

المشروع في اننا سنصل الى 149 زيتابايت عام 2024 يجسد تحديات أكثر صعوبة. أيّ المعلومات تستحق الحفاظ عليها، وما هي المعلومات التي يجب ان تُمسح؟ أيّ المعلومات ستكون حالا غير ملائمة ومنتهية الصلاحية، وأيّ بايت سيكون ضروريا لمعرفتنا لأجل المستقبل ؟ وكيف وأين سنخزن كل هذه المعلومات؟ وكيف نوجّه أنفسنا في هذا السيناريو؟.

وصف جديد للمعرفة

نحن لم نعد نرى أنفسنا سلبيين كسالى أو مجرد مشاهدين ساكنين نمشي في ممرات المكتبة، نتصفح من خلال صفحات الطبعات والكتالوجات . مُثل التنوير في انسيكلوبيديا عالمية كخزان لكل المعرفة الانسانية وكمرآة للطبيعة لا فائدة بها لنا. لكي نعرف كيف نتعامل مع "المكتبة" الجديدة التي بنيناها، سنحتاج لفكرة المعرفة كعملية ديناميكية لا تضعنا كمتلقّين سلبيين للمعلومات وانما تأخذ بالإعتبار دورنا كمحررين نشطاء.

نظرية فلورايد تزودنا بمثل هذا الاتجاه (انظر مثلا فلسفة المعلومات، ص267-289،2011). باختصار، النظرية ترتكز على فكرة ان "يتم إبلاغك بذلك، يختلف عن معرفة ذلك". اول حجة لفلورايد هي ان أي قطعة من المعلومات يمكن تجزئتها الى اسئلة وأجوبة حولها. اذا كان شخص ما يعرف ان "باريس" هي الجواب الصحيح لسؤال "ما هي عاصمة فرنسا؟"، ذلك الشخص يكون قد اُبلغ عنها. لكن شخص يستطيع القول ان احدا يعرف "باريس عاصمة لفرنسا" اذا كان يستطيع ربط ذلك الجواب بسؤال آخر ذو صلة، مثل، "كيف تعرف ان باريس هي عاصمة فرنسا؟" "منذ متى كانت عاصمة لفرنسا؟" "لماذا باريس عاصمة لفرنسا؟"، وهكذا. كل هذه القطع من المعلومات تشكل بمجموعها شبكة من الأجوبة بواسطتها ،لا بمجرد ابلاغها، يعرف احد ان باريس هي عاصمة فرنسا، لأن المعلومات توضع في "ويب من العلاقات المتبادلة تسمح لجزء منها توضيح آخر"(ص288). هذا يجعل معرفتنا شيء ما اكثر من مجرد معلومات نمتلكها. انها مجموعة العلاقات بين مختلف قطع المعلومات،تترابط مجتمعة عبر اسئلة واجوبة تشكل ما نعرف. كذلك، شبكة المعلومات التي نحملها تجعلنا لسنا فقط مطلعين بها وانما ايضا مسؤولين عما  نعرف. ولتوضيح الفكرة اكثر، كلما كانت الأسئلة التي نستطيع الاجابة عليها كثيرة،كلما كنا اكثر مسؤولية عما نعرف.

ثلاثة اسئلة للمواطن الرقمي

هذا الاتجاه للمعرفة كـ "شبكة معلومات" بالتأكيد جرى تكييفه جيدا لحياتنا في عالم المعلومات. مع ذلك ليس كل الاسئلة التي نطرحها في هذا الشأن هي ذاتها. في الحقيقة، هناك ثلاثة أنواع مختلفة من الأسئلة مفيدة لإستعمال ودخول أفضل للانترنيت:

1- "أي اسئلة" : أسئلة حول المحتوى

2- "كيف نعرف الأسئلة" : اسئلة حول الموثوقية والأصالة والشفافية.

3- "لماذا الأسئلة" : اسئلة مفتوحة

اول نوع من الاسئلة هو ذلك الذي نطرحه عندما نبحث موضوع معين في الوكيبيديا او موقع آخر لأننا نريد بعض المعلومات – مثلا حول شركة او مؤسسة، هيكلها وهدفها، قبل التقدم على وظيفة، او حول ارفاق وثيقة مع طلب التوظيف. هذه الانواع من الأسئلة هي عادة ما يتم توجيهها بفعل سذاجتنا . فلوريد يذكّرنا بان السذاجة تختلف عن الجهل. نحن سذّج عندما يكون لدينا سؤال واضح حول شيء ما لكننا نفتقر للجواب. عندما أسأل ما اذا كانت باريس عاصمة لفرنسا، انا حقا أعرف ان فرنسا لديها عاصمة وانا أريد معرفة أي مدينة تلك. بالمقابل، انا سأكون جاهلا لو كنت لا أعرف بان فرنسا موجودة على الخارطة ، او انها لديها عاصمة. هذا التمييز بين السذاجة والجهل يمكن ان يكون مفيدا لسببين على الأقل. الأول، انه يرشد ويقود تحقيقاتنا. في نفس الوقت، هو يفيد كتذكير بما نعرف وما لا نعرف. طبقا لتفسير نظرية الشبكة، كل سؤال يقود الى جواب والذي بالنتيجة يقود الى أسئلة اخرى ذات صلة. الأسئلة التي لدينا تشكل سذاجتنا، وهي يمكن أن ترشدنا لنسأل اسئلة اخرى،ومن ثم نقلل نطاق جهلنا حتى لو كنا لا نمتلك كل الأجوبة. أي بمعنى، عبر طرح مزيد من الأسئلة حول ما يمكننا معرفته،نحن نقلل نطاق ما نجهل. يمكن القول اذاً بانه حين نصبح أكثر سذاجة – نطرح مزيدا من الأسئلة حول المجهول المعروف –سنصبح أقل جهلا. السذاجة يمكن ان تكون شيئا جيدا كونها يمكن ان تساعدنا للبحث حول ما لا نعرفه بعد، وعلى الأقل كتذكير، لنفكر حول ما يمكن ان نسأل.

النوع الثاني من الأسئلة هو حول موثوقية وأصالة المعلومات. عبر طرح اسئلة مثل : من أين جاءت تلك المعلومات؟ هل المصدر موثوق؟ هل لديك دليل آخر يسند هذا؟ وهل هي اُبلغ عنها في مكان آخر؟ نحن نصبح أكثر ميلا للانتقاد تجاه طوفان المعلومات التي نغرق بها. بالنتيجة هذه الاسئلة تمكننا من تحديد وعزل الأخبار الزائفة .

النوع الثالث من الأسئلة مفتوح للنقاش، وهي تبرز من موقف نقدي تجاه المشاكل. امثلة على ذلك هي الأسئلة الأخلاقية مثل ماذا يجب ان أعمل؟ كيف يجب ان نتصرف؟ او لماذا يجب ان نتخذ هذا المسار من الفعل دون الآخر؟ الأسئلة المفتوحة هي تلك التي لا يستطيع الانترنيت الإجابة عليها – او على الأقل غير واضحة. مع ذلك مثل هذه الاسئلة تتعامل احيانا مع مشاكل تُثار بواسطة الانترنيت نفسه – تتعلق بالديمقراطية الرقمية، حرية الكلام، الخصوصية والتنمر الالكتروني، والتي هي حول أخلاق حياتنا اون لاين. مشاكل اخرى مثل زيادة اللامساواة بالعالم،الكراهية، الحروب وتقلبات المناخ هي ايضا يُفكر بها وتُناقش وتُستوعب عبر الانترنيت.

افتتاح جديد

نحن نعلم اننا لدينا الكثير من المعلومات في متناول ايدينا، لكن ما نحتاجه هو حس نقدي لتأسيس ارتباطات بين، ما يسهل الوصول اليه الان من كل مكان، وفي أي وقت وبواسطة أي شخص من جهة ، والمشاكل التي نشترك بها والتي نحتاج لمواجهتها من جهة اخرى. الانترنيت يجعل المعلومات متوفرة بسهولة ويربط الناس الى بعضهم، انه يجعلنا مواطنين لعالم معولم. لذا فان ما نحتاجه في النهاية هو فكرة المواطنة الرقمية: نحن نحتاج ان نتعلم كيف نتصرف ونعيش مجتمعين على الانترنيت كمكان جديد نقوم ببنائه وصياغته لأجل الانسانية. ان فكرة المواطنة الرقمية تستلزم تعلّم وتمييز أي حقوق وواجبات والتزامات نمتلكها لكل آخر في عالم (الانفوشفير). هذا يمكن  تحقيقه فقط من خلال التفكير والتقييم والمناقشة  واتخاذ القرار. العالم الرقمي ليس فقط وسيلة وانما ايضا فرصة نمتلكها الآن للارتباط بالقوى، للمناقشة والتعاون كمواطنين عالميين. النوع الثالث فقط من الأسئلة ذات التفكير النقدي والحوار والتعاون يمكنه ارشادنا نحو أجوبة جيدة وقرارات جيدة.

الوعي النقدي والانتباه للمشاكل لايوجدان في أي كتاب ولا في أي مكتبة. هذا ايضا يفسر لماذا النوع الثالث من الأسئلة – اسئلة مفتوحة النقاش – يجب ان تكون جوهر التعليم في عصر المعلومات، ويجب ان توفر تعليم يسعى لتعزيز فكرة المواطنة الرقمية. هذا يجب ان لا يتم تصوّره كموضوع جديد يُعلّم في عزلة عن الآخرين. بل انه فكرة ميثدولوجية يجب ان تدعم ممارسة تعليم كيفية التقييم النقدي  للمشاكل التي تبرز بفعل الرقمية العابرة للموضوعات  . اذا كانت هذه الأسئلة المفتوحة تقدم أي مساعدة،هذا يرشدنا لنصبح مستخدمين نقديين للانترنيت،نتجنب اللامعلومات وأوهام العلم بكل شيء التي يمكن ان يخلقها الويب بسهولة. ان إغراء المعرفة اللامحدودة هو الحفرة التي يسقط بها بطل قصة بورجس. في نهاية حياته هو على وشك ان يموت في احد ممرات المكتبة دون ان يجد الكتاب الذي فيه كل الأجوبة – كتالوج الكتالوجات الذي يكشف له نظام مكتبة بابل، وبهذا يخبره كيف يكتشف كل ما يريد معرفته.

اذا كان هناك درس نتعلمه من القصة، هو اننا يجب الاعتراف بان أي رغبة بالمعرفة التامة وأي فكرة عن النظام النهائي تبرز من ذلك، ليست الا وهما. بدلا من ذلك،انه تطمين وتحرير لنرى معرفتنا كجزء محدود من شبكة واسعة نستطيع دائما توسيعها. كذلك، نحن يجب ان لا ننسىى اننا باستمرارنشترك بهذه المعرفة مع الآخرين.

وبهذا نحن يجب ان نرفض فكرة ان الانترنيت هو المكان الذي نجد فيه كل الأجوبة. بل بدلا من ان يكون مكتبة لا محدودة، سيكون من الافضل النظر للنت كمكان جديد نسكنه وننفق فيه جزءا مهم من حياتنا. تماما كقادمين جدد في مدينة جديدة او بلد جديد، ليس من الضروري معرفة كل الأماكن وكل الأركان والزوايا المظلمة. كمواطنين جدد،سيكون كافيا المساهمة في جعله مكانا أفضل، ونعي المزايا التي نتمتع بها بالاضافة الى التحديات والمشاكل التي نواجهها.

***

حاتم حميد محسن

...................

World wide web or Library of Babel, philosophy Now Feb/March2023

 

لا يختلف أثنان في مدى شمولية الحداثة الغربية لأوجه الحياة المختلفة، ومن أهم هذه الأوجه هو البعد الأخلاقي. تأتي أهمية هذا البعد من مدى تأثيره الكبير على كل الأبعاد الأخرى، السياسة والعلمية والأجتماعية . فالأخلاق، هي مجموعة الضوابط والمبادئ التي تحدد سلوك الفرد مع غيره، والمجتمعات مع غيرها، وبطبيعتها تكشف مدى رُقي الأنسان ورؤيته للحياة، لذلك أخذت الأخلاق أهتماماً واسعاً في تفكير البشر عبر التاريخ . هذه الأهمية جعلت الموضوع محل نزاع بين الفلاسفة والعلماء بكل اتجاهاتهم، الألحادية والمؤمنة بإله على حد سواء، والحداثة الغربية أحد أهم وأشهر الأتجاهات العلمانية التي تسعى الى بناء منظومة أخلاقية بعيداً عما جاءت بها الأديان السماوية، في محاولة لأنتزاع الأنسان الدور المركزي سواء من الله في الأديان التوحيدية، أو من الآلهة في الأديان الوثنية، وأعتبار الأنسان هو الحاكم المطلق، صاحب الأرادة الحرة في تقرير منظومته الأخلاقية، وأن العقل الأنساني جدير بتقريرها وأختيار الأصلح منها . خلاصة القول أن الأنسان في نظر الحداثة الغربية هو الأجدر في تقرير ما يصلحه، والقادر على توفير الأرضية المناسبة لسير حياته، وتحقيق مستلزمات الرفاهية والحياة الحرة الكريمة لبني الأنسان، وتحقيق أقصى مديات السعادة له.

أشرنا في الحلقات السابقة الى سعي رواد الحداثة الغربية في إبعاد كل ما يمت للدين المسيحي من صلة، وأعتباره دين طارئ على المجتمعات الأوربية، ولا شك أن أهم بُعد في الديانة المسيحية هو البُعد الأخلاقي، حتى بات من المعروف بأن الدين المسيحي ليس دين تشريعات بقدر ما هو دين أخلاق، وكان ما سعى له هؤلاء الرواد، هو العودة الى أسلافهم الأغريق والتشرب من أخلاق الأبطال الأسطورين والحقيقين، الذين مَثلوا الطبقة النبيلة في ذلك الزمن، ونخص بالذكر هنا الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه، بأعتباره أكثر من أَصَلَ في البعد الأخلاقي، وبشكل واضح وصريح بفلسفته الأخلاقية من الأساطير الأغريقية، مُلقي باللأئمة على الأخلاق المسيحية، المتمثلة بالزهد والعفاف الجسدي المناهض والناكر للغرائز، حتى أنه أنتقد فلسفة سقراط بأعتبارها تتوائم والأخلاق المسيحية، فيقول (... ومع ظهور سقراط وفلسفته العقلية، حلت الثقافة العقلية محل قوة الجسد والروح، كما وضعت هذه الثقافة العلم مكان الفن، والعقل محل الغريزة، والحوار والجدل محل اللعب والرياضة (قصة الفلسفة ص513 –ديورانت). بأختصار تقوم فلسفة نيتشه الأخلاقية على النزعة الديونيزوسية التي تقوم على الرقص والثمالة والميول الشهوانية الغرائزية، الى درجة وصل الى قناعة يقول نيتشه فيها (إن الأفراط في المعقولية يؤدي الى خلق عالم من الأفكار المفارقة التي فقدت كل صلة لها بالواقع العيني...) (فؤاد زكريا-نيتشه ص81) . أن مفارقة نيتشه لسقراط لا يعني أن سقراط مفارق تماماً لأسلافه من الأغريق في البعد الأخلاقي، والدليل نراه في أحد مقولاته يجعل من شخصية أخيليوس نموذج للشخصية الأخلاقية التي يجب الأحتذاء بها، كنموذج للفضل والنبل الأخلاقي، معتبراً أن من يتحلى بالأخلاق المناظرة لأخلاق أخيليوس يكون محل أحترام الجميع، ولكن يبقى أرسطو من المسخوط عليهم من قبل نيتشه لأنه يفضل الأخلاق التي تحقق السعادة، عندما تُمارس لأجل الخير لذاته، بعكس نيتشه الذي ينتخب القيم الأخلاقية التي تحقق اللذة، والتي تحقق المجد الشخصي، أي أخلاق الطبقة النبيلة التي نقلتها السرديات الأسطورية القديمة .

عندما ندرس الميثيلوجيا الأغريقية نكتشف أن الطبقة الأرستقراطية النبيلة تمثل أرقى حالة أخلاقية يمكن أن يصل لها البشر في معيار الأغريق القدامى، وهي عين النظرة التي أعتمدها عمانوئيل كانط، والتي تقوم على أساس أن الأنسان يمتلك القدرة والقابلية لأن يصل الى أعلى درجات المعرفة، والتي تؤهله بالأعتماد عليها في تشكيل المنظومة الأخلاقية التي تغني الأنسان عن قيم السماء على حد رأيه، وهنا نجد بصمات الأساطير اليونانية واضحة على أفكار رواد الحداثة الغربية، وقد ذكر الباحث (فيرنر جايجر) بأن النظريات الأخلاقية التي وصلتنا من تراث أفلاطون وأرسطو فيها العديد من المبادئ التي تتناغم مع مشارب طبقة النبلاء في المجتمع الأغريقي القديم ) (ميثولوجيا الحداثة الأصل الأغريقي لأسطورة الغرب ص 172). بأختصار إن الأخلاق الحداثوية تتقوم على ذاتية الأنسان، والتي تُدعى بالنزعة الأنسانوية، في حين إن أخلاق السماء مطلقة، فلا تتأرجح وتميل حسب الأهواء ونزعات الأنسان الذاتية، وهو أتجاه له صدى ولكن ليس كلياً في منظومة الأسلام الأخلاقية، حيث يقر الأسلام بوجود الخير في ذات الأنسان، وقد عبر عنه علي بن أبي طالب (ع) بقوله (كفاك أدباً لنفسك ما تكرهه من غيرك)، ولكن نشاهد بأن الفضيلة المتقومة على المعيار البشري بشكل تام يخالجها ما يشبع رغبتهم بالغرور، وعلى سبيل المثال لا الحصر نرى الثروة في المجتمعات المادية هي معيار للمنزلة الأجتماعية، وهو توجه يشجع على حالة الجشع والتغول لدى الأنسان، وهذه ظاهرة لا يمكن نكرانها سواء على مستوى الأفراد أو الحكومات على حدٍ سواء. كما أن نزعة الفوز بأحترام المجتمع هي تمثل هاجس قوي عند الأغريقي، وهي من تجعله في مصاف الطبقة النبيلة، لذا تراه لا يتورع بالقيام باخطر المحاولات القتالية في المعارك مع العدو وان كانت تؤدي بحياته من أجل الفوز بلقب بطولي في الوسط الأجتماعي، وهذا هو من اكثر الدوافع التي نَمَّت نزعة المغامرات عند الإنسان الغربي وأدى بالحقيقة الى انجاز الكثير من الأنتصارات في الكثير من حروبهم وأكتشافاتهم وخاصة البحرية، فقد كانت المغامرة لها صيتها ومكانتها في المجتمع الغربي، وما ماجلان، وكريستوفر كولومبس، وحديثاً الطيار الأمريكي (تشارلز لنديرغ) الذي عبر الأطلسي في عام 1927 م في رحلة أستغرقت 33 ساعة طيران متواصلة، أنها نزعة حب المغامرة، ومنها في المجال الطبي ما قام به الطبيب الألماني (فيرنر فوسمان) الذي غامر بحياته من أجل أثبات نظريته بأمكان القسطرة، حيث مارس ذلك على جسدة، الا أحد مظاهر نزعة المغامرة عند الغربيين، حيث نجد جذر هذه النزعة في الموروث الأغريقي القديم، وقد ذكر هوميروس في ألياذته في المقطوعة السادسة شعاراً اخلاقياً يقول (إسبق الآخرين دائماً وكن الأول)، وهذا الشعار أخذ أهتماماً كبيراً عند الأوربين، وكان أحد أسباب نهضتهم الحديثة . وأن عصر التنوير الأوربي قد أحيا هذه الشعارات والمبادئ التي سادت الفكر الأغريقي القديم.

 عندما نأخذ فيلسوف حداثي آخر وهو رينية ديكارت نراه أيضاً ينزع في بحوثه في تحديد المعايير الأخلاقية على ما يجول من أرهاصات في نفس الأنسان، أي الى ما يرغبوه وما يكرهوه في دواخلهم، والتي فحواها، ضرورة البحث عن المعايير الأساسية في أنفسنا (ميثولوجيا الحداثة ص170- مرم صانع بور)، وهذه نزعة لا تخلوا من الصدق، ولكن كما قلنا لا يمكن أصطفائها كلياً لأنها تحمل جزء من الحقيقة، والسبب هو ما تحمله النفس في جنباتها من أهواء ونزوات شرسة تقترب من التوحش والعدوانية . كما أن الرغبات تتعارض بين بني البشر، في حين القواعد الأخلاقية العامة تقتضي قبول الأرادة العامة، وهنا أقتبس ما قاله الدكتور علي رسول الربيعي، في بحث منشور له في صحيفة المثقف، تحت عنوان (السؤال الأخلاقي الأول (1) بتاريخ 24تموز\ يوليو 2022 م يؤكد فيه على الأرادة العامة كشرط لكي تصبح قانون، فهو يقول (إن الأنتظامات التي أنشأها البشر هي دائماً قواعد تفترض الموافقة العامة، فلكي تصبح الأرادة قانوناً، لا يكفي أن يكون فرد واحد مستعداً لتعميم مسار عمله...) . من هنا يتضح لا يمكن أطلاق العنان للنفس الأنسانية في تحديد المعايير الأخلاقية، وذلك لما يعتريها من مزيج أنساني وآخر عدواني ، وهنا أستعير بيت من الشعر العربي الذي يؤكد وجود الطبيعة الشريرة لدى الأنسان والذي يقول فيه الشاعر (والظلم من شيم النفوس  فأن تجد ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلمُ) . هذا في الجانب النفسي الذاتي، اما في الجانب العقلي فنُشير الى كل من نيشة الذي أعترض على سقراط بنزعته العقلية الخالصة كما ذكرنا أعلاه، ويمكننا كذلك الأشارة الى ما قال به كانط من عدم معرفتنا على حقيقة الأشياء بشكلها الأطلاقي . كما يمكننا الأشارة الى مقالة أخرى لكانط يقول فيها (أننا بذلك لا ندرك طبيعة أنفسنا ولا العالم بكلّيّته ولا الكائن الأسمى (الله) كما هم في ذواتهم ..) وهذا يعني أستحالة المعرفة العقلية بشكل تام نظراً لمحدودية قدراتنا العقلية، وهنا السؤال الذي يطرح نفسه، كيف لنا أن نصل الى معيار واحد شامل لبني البشر؟ أذا كانت النفس تحمل القيم المتناقضة (الخير والشر)، وتحددها الرغبات المتقلبة، وعقل ذو معرفة محدودة في معرفة الشيء بذاته كما يقول كانط في كتابه ( نقد العقل المحض)، كل ذلك يجعلنا في أمس الحاجة الى من يعرف الشيء بذاته وخاصة في الأمور الصميمية، ومنها الأخلاق، وليس هناك غير الخالق قادر على معرفة الأشياء بذاتها، وهذه المعرفة غاية في الأهمية، لأننا نحتاج الى معيار عابر للزمان والمكان، وهي من شروط الأطلاق والشمول، لكي يُتمكن من تعميمها.

ليس فقط فلاسفة الحداثة من أستمدوا من السلف الأغريقي مصادرهم الأخلاقية، بل هناك حتى رهبان مسيحيون ممن أشاروا الى ضرورة الأخذ بقيم الأخلاق القديمه ومنهم الراهب بتراراك الذي دعى الى دمج التقاليد المسيحية مع ما جاء من قيم الميثيلوجيا الأغريقية، ويمكننا بالأستدلال على هذا التواصل مع الموروث الأغريقي القديم وتلاقحه مع الحداثة الغربية، هو قول الفيلسوف الفرنسي جورج سوريل يوجين في قوله (إن عصر التنوير الفكري في أوربا تأثر بسيرة الطبقة الأرستقراطية التي بسطت نفوذها في المجتمعات الأغريقية القديمة.. وبما في ذلك الأخلاق) (ميثولوجيا الحداثة ص168).

إن الأساطير الأغريقية تفيد بأن الطبقة الأرستقراطية هي مصدر الأبطال التي جاءت بهم المشيئة الإلهية، وقد لمسنا هذا التوجه في كلمة الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن حيث قال (إن العناية الإلهية أختارته لمحاربة الإرهابيين وإنه يشن حرباً بأسم السماء، وإن الله أختار الشعب الأمريكي للقيام بهذا الدور)(البعد الديني في الحرب الأمريكية لأحتلال العراق- م. مثنى فائق العبيدي-كلية القانون 5-3-2021)، ومن الواضح أن الرئيس الأمريكي، هو رئيس أكبر دولة في العالم الغربي ممن تتبنى سياقات الحداثة الغربية، ومن أكثرها تطرفاً، والمتمثل بالأتجاه البرغماتي .

إن الأخلاق الحداثية تُرغب في أشباع الغرائز والفوز باللذة، التي يُعتبر أشباعها مصدراً للسعادة، وأن ما تمارسه الشعوب الأوربية من سلوك إباحي، يُعتبر مصداق ذلك، وهي نفس النزعة التي دعى اليها نيتشة تحت ما يُسمى بالنزعة الديونيزوسية التي تقوم على الشهوانية الغرائزية، وهو عين ما عبر عنه الشاعر الأغريقي (ميمنيرموس) الذي تسائل قائلاً ما فائدة الحياة بدون أفروديت؟! الموت أفضل لي من أن أعيش دون حب ولذةٍ (ميثولوجيا الحداثة ص 166)، وأن ما نراه من الإباحية الجنسية في الحياة الأوربية تكمن جذوره في ميراثهم الأغريقي.

إن نسبوية الأخلاق التي تتسم بها الفلسفة الغربية البرغماتية هي الأخرى تمتد في أنتماءها الى أخلاق الأغريق، وقد سُئل أجسلوس ملك إسبارطة، عندما أستولى فوبداس اللسديموني على قلعة طيبة غدراً وخيانة على الرغم من معاهدة الصلح المعقودة مع الطيبيين، فأجاب (ليس لك إلا أن تسأل هل هو نافع أو غير نافع، لأن العمل النافع لبلدنا هو العمل الصالح) وهذا هو عين السياسة الغربية أتجاه الشعوب الأخرى، وهو عين ما ذهب اليه المنهج المكيافيلي والذرائعي الذي تمارسه البلدان الغربية اليوم وبالأمس القريب، والأستعمار خير دليل على هذا اللون من المنطق البرغماتي ذو الأصول الأسبارطية. ومن الطريف نذكر هنا مدى رسوخ الشذوذ الجنسي عند الغربيين، فقد مارست العاهرات في اليونان القديمة عشق الجنس المماثل الذي يُروج له اليوم بالمجتمعات الغربية، وقد فسره آنذاك أرسطوطاليس بأن هذا اللون من الممارسة مرده، خوف اليونانيون القدامى من أن تزدحم بلادهم بالسكان (أخلاق اليونان القديمة- المعرفة)، وأن ما يعيشة الغرب من أباحية جنسة، يستمد أصوله من أباحية المجتمع الأغريقي القديم . وكما يمكننا الأشارة الى ما يمارسه الغرب من سياسة تتسم بالكذب والخداع أتجاه الشعوب الأخرى، ونحن العراقيون بالخصوص، نعرف جيداً ما أدعاه الأنكليز من شعار عند أحتلالهم للعراق في عام 1917 م، بأنهم جاءوا لنا محررين لا فاتحين على حد قول الجنرال ستانلي مود قائد الجيش البريطاني عند دخوله بغداد، وهذا اللون من الأخلاق قد دعى أليها (زنوفون) أحد رجالات الأغريق، حيث نصح برسالة له في التربية (بالألتجاء الصريح الى الكذب والسرقة في معاملة أعداء البلاد). هناك الكثير من الدلائل والبراهين التي تثبت وتؤكد الصله الصميمية بين أخلاق الحداثة الغربية وأخلاق أسلافهم من الأغريق، ولا يسعني هنا الا أن أذكر ما جاء في كتاب (النقد الجينالوجي للأخلاق عند فردريك نيتشه) الذي يبين الصلة الوثيقة بين فلسفة الأغريق الأخلاقية، والأخلاق الحداثوية الغربية، حيث يقول فيه (إن الشفقة والزهد أعراض مرض وكان يرى أن الأحتكام الى منطق هذه القيم الأخلاقية في نظريته السبب في تدهور الحضارة الغربية وإنحطاط الإنسان الغربي). إن نيتشه الغارق الى أُذنيه والعاشق للميثيلوجيا الأغريقية، يصفه الباحث الأمريكي جوزيف كامبل بأنه فيلسوف ثقافة العصر الحديث.

***

أياد الزهيري

 

الجعد بن درهم أنموذجا

تتجلى في علم التفسير اتجاهات متعددة، نتوقف عند أكثرها انتشارًا وشيوعًا، أعني التفسير بالمأثور، والتفسير بالرأي، والمقصود بالتفسير بالمأثور الذي يعتمد على المصادر التفسيريّة، وهي: المصادر التاريخية وروايات  السنّة النبويّة، وأقوال الصحابة، ويضيف بعضهم أقوال التابعين، وهو بهذا " يهدف إلى الوصول إلى معنى النص عن طريق تجميع الأدلة التاريخية اللغوية، التي تساعد على فهم النص فهمًا موضوعيًّا " وتتجلى هذه المواقف لدى السلفية.

أمَّا التفسير بالرأي فإن العقل يسهم في تفسير الآيات القرآنية وتوضح بالعقل، وذلك بالنظر في الأدلّة، واستنباط ما يُمكن استنباطه من المعارف، دون معارضة العقل للنَّقْل الشرعيّ، واتِّباعه، إن التفسير بالرأي في جوهره هو التأويل " ونظر إليه على أنه تفسير غير موضوعي؛ لأن المفسر لا يبدأ من الحقائق التاريخية والمعطيات اللغوية بل يبدأ بموقفه من الزمن الراهن محاولًا أن يجد في القرآن سندًا لهذا الموقف "  ويتجلى هذا لدى الفلاسفة والمعتزلة ومن نهج نهجهم . وهذا يعني بشكل أولي أن النص القرآني يمثل أساسًا يرجع إليه المفسرون، ولكنهم يتفاوتون في كيفية قراءته، كل بحسب رؤيته وموقفه من العالم والإنسان، وبحسب تحليله وتفسيره للآيات القرآنية الكريمة .

وكان التفسير بالمأثور أقرب إلى السطحية، وأكثر قربًا من الدلالة الظاهرية للآيات القرآنية الكريمة، ولكن التفسير بالرأي أكثر عمقًا، بحيث يصبح العقل أداة للتأويل، وإزالة اللبس والغموض الذي يبدو ظاهرًّيا على الآيات القرآنية سواء أكانت محكمة أم متشابهة .

وأخذ الفكر الإسلامي في التطور بمقدار تعدد القراءات، وهذا يعني أن النص القرآني يحتمل كثيرًا من التفسيرات التي تتنوع بتنوع الرؤى والأفكار. غير أن بعض الاتجاهات المذهبية  - وهي المهيمنة في الماضي والحاضر - وبخاصة في التفسير بالمأثور، وهي في الأعم الأغلب تابعة للسلطة ومرتبطة بها، إنها لا تساوي بين القراءات المختلفة لعموم المفسرين،  وأخذت تفرض رؤيتها على القراءات الأخرى؛ بحيث تصبح رؤيتها العقائدية بديلًا عن الدين، ومن ثم يصبح الرأي الآخر منبوذًا، ويصبح أصحابه خارجين عن الملة؛ الأمر الذي يقتضي استتابتهم، وإن لم يعودوا إلى رشدهم ويتبعون رؤية أصحاب التفسير بالمأثور، فإن مصيرهم التصفية الجسدية، وإن من يقوم بتنفيذ حكم الموت بهؤلاء يكون محط تبجيل وتقدير، حتى يومنا هذا .

2

وفي إطار التعارض بين النقل والتفسير بالمأثور من جهة، والعقل والتفسير بالرأي من جهة أخرى، نلتقي بروايات " نقلت إلينا عن أعداء التأويل فوصلت مشوهة متناقضة "؛ الأمر الذي دفعهم إلى وصم أي شخصية تعارضهم بأوصاف إمّا  في أصلها الاعجمي وإما بالبيئة التي عاشوا فيها، وغالبًا ما يرجعون ذلك إلى أصول غير إسلامية يهودية أو صابئية، أو أنهم استمدوا جوهر فكرتهم من مؤثرات دينية بعيدة كل البعد عن روح الإسلام ومنهجه "، كما فعلوا ذلك مع الجعد بن درهم؛ لأنه " أول مسلم خاض المعترك العنيف ونادى بفكرة التأويل العقلي في الإسلام "

وتشوب تاريخ الجعد بن درهم عتمة شديدة، فهو تاريخ مشوش وغامض كتبه أعدائه وخصومه، ولا تزال تتبناه اتجاهات ومذاهب وشخصيات حتى يومنا هذا .

ولعل ما يثار ضد الجعد بن درهم أنه أعجمي وليس عربيَّا، وكأن الانحراف الديني مقترن بالأعاجم حصرًا، ولذلك أعاب السلفية على المعتزلة أن مؤسسيها، واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد كونهما أعجميين .

ومن الجدير بالذكر أن أي أعجمي  يعتنق الإسلام لا بد أن ينتسب إلى البناء الاجتماعي العربي القبلي، فيكون بذلك مولى هذه القبيلة أو تلك، وكانت مكانة الموالي متدنية في ظل نزعة قبلية تعلى من الأصول العربية وتقلل من أهمية غيرهم وقيمتهم .

ومن الجدير بالذكر أن العرب شغلتهم الفروسية والسلطة، وانصرف الموالي للعمل في الصناعات والفكر وعلوم الفقه والشريعة والأدب وغيرها، ولذلك برز الأعاجم في علوم كثيرة، نذكر على سبيل المثال:  سيبويه في النحو، والبخاري في جمع الحديث، وأبو حنيفة في الفقه، وغيرهم كثير .

ولقد ولد الجعد بن درهم " 46 ه ـــ 105 ه تاريخ الولادة والقتل تقريبي " في خراسان، وقد أسلم هو وأبوه، أصبحا من الموالي، مع اختلاف بتبعيته لأية قبيلة، ولكن الشائع أنه كان مولى لبني مروان، وأقام في دمشق في بيئة يكثر فيها غير المسلمين، وكأن من يعيش في هذه البيئة سيكون منحرفًا بالضرورة .

وحين اشتهر الجعد بن درهم بأفكاره طلبه خالد بن عبدالله القسري وكان أميًرا على العراق حتى ظفر به فخطب الناس في يوم الأضحى، وكان آخر ما قال في خطبته أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليمًا ولم يتخذ إبراهيم خليلًا، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر .

إن الجعد بن درهم يحاول تنقية العقيدة من كل ماله علاقة بالتجسيم والتشبيه، ومعنى ذلك مشابهة الخالق للإنسان المخلوق، وتنصب هذه المشابهة بالدرجة الأولى على صفات الله؛   لأن في القرآن الكريم آيات يدل ظاهرها الحرفي على التشبيه والتجسيم، وهذا يعني أن هناك أصولًا اعتقادية يصدر عنها الجعد تعتمد في جوهرها على العقل، بخلاف الرؤية المضادة التي تعتمد النقل والتفسير بالمأثور، ولما كان التأويل اللغوي ممكنًا لإزاحة لبس التشبيه والتجسيم فإن الجعد بن درهم يلجأ اليه، لتحقيق الغاية التنزيهية للذات الإلهية، بمعنى أنه يوصل المتلقي إلى معنى آخر غير المعني الحرفي الذي يدل عليه ظاهر الآية، وهذا يعني أن الجعد لم يغير أصلًا في التركيب اللغوي للنص القرآني، ولما كان سياق الآية القرآنية يتضمن معنى ظاهريًّا يدل على التجسيم والتشبيه، فإن الجعد بن درهم يتأول الآية لتدل على نفي التجسيم والتشبيه، ولذلك ففي قوله تعالى: " (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (سورة النساء–الآية 125)  "؛ إذ يستبعد الجعد بن درهم المعنى العام لكلمة الخليل الذي لا يليق بمقام الألوهية إلى معنى آخر؛ إذ تعني أن الله اتخذ ابراهيم صاحبًا أو صديقًا، ولقد أنكر الجعد بن درهم هذا المعنى؛ لأنه لا ينزه الله، وإنما يدل على التجسيم والتشبيه،  ولذلك فإنه يرى أن الخليل مشتق من لفظة خِلة - بكسر الخاء - لأنها تعني الاحتياج والفقر، أو كما يقول النشار إنه " لم يتخذ إبراهيم خليلًا في القديم، وإنما في زمان حادث " والمعتزلة الذين جاءوا في زمن لاحق "يلحون على معنى فرعي آخر يمكن أن تحتمله الآية، ويدعمه الشعر القديم، وهو الفقير ."

وبالطريقة نفسها يعتمد الجعد بن درهم التأويل على أساس لغوي في قوله تعالي (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) أي أن الله " لم يكلم موسى بكلام قديم وإنما بكلام حادث " أو أن التكليم ليس المقصود به الكلام العادي، وإنما المقصود به التكليم أي التجريح، أي جرحه بمخالب الحكمة.

إن التفكير العقلي ساعد الجعد بن درهم على هذه التأويلات، وساعده كذلك في نفي الصفات، وقال بخلق القرآن الكريم، وقد تبنت هذه الأفكار لاحقًا، فرق وجماعات كالمعتزلة وغيرها .

***

الاستاذ الدكتور كريم الوائلي

الواقعة: في كانون الثاني (2023) شكلت وزارة الداخلية العراقية لجنة لمكافحة المحتوى الهابط على مواقع التواصل الاجتماعي،واصدر مجلس القضاء الاعلى الى المحاكم والادعاء العام وهيئة الاشراف القضائي اشار فيه الى (استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لنشر محتويات تسيء للذوق العام وتشكل ممارسات غير اخلاقية،اضافة الى الاساءة المتعمدة وبما يخالف القانون للمواطنين ومؤسسات الدولة) وطالبها فيها باتخاذ (الاجراءات القانونية المشددة بحق من يرتكب نلك الجرائم وبما يضمن تحقق الردع العام).

ومع بداية شهر شباط 2023 تصاعدت حملة اعتقالات ضد من تطلق عليهم السلطات تسمية (منشئي المحتوى السيء "الهابط") الذين ينتجون مواد فيديوية  واغان ومشاهد تمثيلية ساخرة وكوميدية  وتعليقات بذيئة  وحركات "مايعة" واخرى خفيفة ومضحكة وايحائية..وصدرت احكام قضائية سريعة بسجن عدد منهم (أم فهد ،صانعة محتوى يتابعها اكثر من 145 الف شخص على تيك توك،بسبب مقاطع فيديو تظهر فيها بملابس ضيقة  وهي ترقص عل انغام موسيقى شعبية،سجنت ستة اشهر ..مثالا).

اشكالياته

ما حصل ..أثار تساؤلات مشروعة:

ان هذه الحملة اعتمدت قانون العقوبات العراقي رقم (111 لسنة 1969) الذي تضمن تجريم الاساءة للذوق العام واهانة مؤسسات الدولة. فهل يصح اعتماد قانون صدر زمن النظام الدكتاتوري  يخالف تماما الدستور العراقي الذي حرص على  صيانة حقوق الانسان، وفيه بالنص (تكفل الدولة،بما لا يخل بالنظام العام والاداب، حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل)؟.

مع اننا ضد (منشئي المحتوى السيء..الهابط)  الذي يخدش الحياء ويسيء الى قيمنا العراقية الاصيلة، ومع الحملة في مكافحتها باساليب رادعة لا انتقامية، فانه لا يمكن اعتبار احكام من سجنوا بهذه التهمة قانونية او مشروعة.. وليقل اهل القانون المستقلون كلمتهم ان كنا على خطأ.

والتساؤل هنا يصاغ بمشهدين..كلاهما يخدشان الذوق العام:

الأول: فتاة لابسه من غير هدوم وتحجي فشاير.

الثاني: اطفال يفتشون في القمامة عن فضلات طعام يأكلونها و قناني فارغة   يبعيونها.

أنك في الموقف الأول تستطيع  بضغطة زر أن تتخلص منه، ولكن ..كيف  لك ان تتخلص من المشهد الثاني وانت لحظة تراه تلعن من افقر العراقيين وأذلهم؟!

التــحليــل

ما حصل.. لم يكن مفاجأة لنا نحن السيكولوجيين،لأن أسبابه مهدت لظهوره من سنين.. نوجزها بالآتي:

1. تراجع ثقافة الجمال وشيوع ثقافة القبح..اوجعها انهم جعلوا بغداد هي أسوأ عاصمة في العالم بعد ان كانت عاصمة الدنيا.

2. عمل الفساد على اشاعة ما كان خزيا الى شطارة..ما يعني ان السلوك الذي كان يعد غير لائق  صار في زمنهم عاديا.

3. انعدام انموذج القدوة. سيكولوجيا ..الناس تقتدي بالحاكم او الرمز الديني..والذي حصل ان حكومة 2006 وما بعدها ..كلها متهمة بفساد مالي فاحش، واالمخجل ان يرى العراقي صاحب عمامة يتهم علنا صاحب عمامة آخر.. فيقول لنفسه.. ظلت عليّ .. وتشيع الفاحشة التي هي أقبح من المحتوى الهابط.

4. من عام 2007 كنا شخصنا في مقال موثق بالمدى والحوار المتمدن (المجتمع العراقي والكارثة الخفية)

ان جيل الشباب يمتلك منظومات قيمية تختلف عن المنظومات القيمية لجيل الكبار، وان الحروب الكارثية المتلاحقة تخلخل القيم وتفسدها وتشكل لديهم شبكة منظومات تتصدرها قيم الصراع من أجل البقاء والأنانية وتحليل ما يعد ّحراما أو غير مقبول في المعيار الأخلاقي للمجتمع العراقي. والذي يرجّح اكتمال الكارثة أن جيل الشباب قوة تتنامى حجما وفاعلية فيما جيل الكبار قوة تتآكل حجما وينحسر تأثيرها بتقدم الزمن).

وأوضحنا بأنه (إذا صار معظم من يفترض فيهم أنهم القدوة والنخبة يمتدحون الواقع المعاش مع ان كل ما فيه كارثي،فان الفرد يضطر الى ان يعرض نفسه سلعة في سوق السياسة تجبره على التخلي عن قيمه واخلاقه  والعمل بما يأمره به مصدره السياسي.. وسيشيع ذلك بعد ان اصبح الوضع العام في العراق طاردا للذين يمتلكون منظومات قيمية راقية بخاصة العلماء والمفكرين والمتدينين المتنورين والفنانين).

ورغم تحذيرنا المبكر(2007) من كارثة تهرؤ القيم وتخدير الضميرين الأخلاقي والديني.. فان من كان بيدهم القرار لم يعيروها اهتماما،وكأنهم كانوا يقصدونها.. فحين يشيع كل ما هو هابط بين الناس فانه يكون،في حساباتهم، ضمانة لبقائهم في الحكم.

ومع اننا مع مكافحة (المحتوى الهابط) بكل اصنافه،فأننا ننبه الى ان خبثاء السياسة من الفاسدين سيوظفون ما حصل و (يبيتون) لهدف خبيث، نقوله بالصريح،هو: التضييق على حرية التعبير،ليصل الى ان  من ينتقد سياسيا او مسؤولا في السلطة.. سيسجن بتهمة المحتوى الهابط!.. وسترون.. ما قاله البهلول!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

القبيلة أقوى هيكل اجتماعي في المجتمعات المُفَوّتة المتأخرة، وأكثر البنى الاجتماعية رجعية، فالولاء لها يضرب في الصميم الولاء للوطن، ويصيب في مقتل مبدأ المواطنة، والفكر الذي لا يتجاوز الإطار القبلي -مهما بدا جذريا وحداثيا- لا يخرج عمليا عن وظيفة استدامة التنظيم الاجتماعي القبلي، وتكريس سيطرة أعيانه المتنفذين في الدولة والمجتمع، ويصب فعليا في محاربة المشروع الديمقراطي الحداثي التواق إلى التغيير العميق في البنى الاجتماعية والثقافية من أجل مجتمع راق منخرط في بناء أفق النهضة، ويؤدي بالنتيجة إلى تكريس الفوات والتأخر.

هذا الحد لا بد منه لفهم خطورة السلوك القبلي في الفن والثقافة بشكل عام، خاصة عندما نريد الحديث عن علاقات الفنانين والمثقفين فيما بينهم، وكيف أنها أصبحت تنزع كل يوم إلى الانشطار والانكسار، وتتخذ النزعة القبلية أشكالا معقدة في التنظيمات الثقافية والاصطفافات الحلقية في مجال الفن، كيف نفسر ظواهر الانشطار والتشتت والعصبية التي تدعمها النزعات النرجسية والطموحات الذاتية المغلقة والصراعات الهامشية مدعومة بالأحقاد القديمة والجديدة الصغيرة في مستواها والخطيرة في نتائجها؟

صحيح أن الأفراد المبدعين المتمتعين بالحد الأدنى من الحرية هم أصحاب الإبداع والخلق والجمال، لكن بُغْيَةَ تقوية توق المجتمع نحو الخير والجمال، ولا يتم هذا إلا في إطار العيش المشترك في الحقل الفني الواحد، وبهمّ واحد وهدف واحد هو التنوير.

نستعير هنا مفهوم القبيلة لفهم أحد أقوى اختلالات الحقل الثقافي والفني عندنا، فقد أصبحت المجالات الفنية أشبه ما تكون ببواد شاسعة يقطنها أعراب، يتوزعون إلى قبائل، ولا تنتمي القبيلة الفنية بالضرورة إلى القبيلة الاجتماعية، بل تتأطر في ذهنياتها الهدامة المعادية للمواطنة المنتصرة للعصبية والنرجسية، والأخطر من ذلك أنها تمنع نشوء فنانين ومثقفين عضويين، إذ تحد نعراتُها من آفاق المبدعين وتشل فاعليتهم التاريخية، وتسلب إراداتهم في تأسيس روافع التغيير نحو المستقبل، فالانتماء لهذه القبائل قد يبرز بعض الذوات المبدعة، لكنه يمنعها حتما من أن تدخل التاريخ.

في بادية الشعر قبائل متناحرة،  لا يتأسس صراعها المدمر – هيهات! – على "مسائل خلافية"، أو مرجعيات إديولوجية ولا على منظورات جمالية، وإن كان هذا ادعاء باديا في تمظراتها الإبداعية، وخطابها الفني، ونفس الأمر يصدق على بادية الموسيقى، وبادية التشكيل وبادية المسرح وبادية السنيما...

إننا نجد التشتت والانشطار والعداء والعدوانية والعصبية والنرجسية من أجل "امتيازات" موهومة بحلم التألق وإثبات الذات، حتى داخل التوجه الفني الواحد، ونلحظ تناحرات غير مبررة سوى بمنطق القبيلة الفنية التي سرعان ما يدب إليها الانشقاق، وهذا النزوع النرجسي يطمس كل رقي نحو الفعل على أساس العيش المشترك.

إن غياب رؤية ساطعة لوظيفة الفن، ومن ثم غياب المشروع الفني الواضح الطموح، يضطلع به فنانون عضويون ملتحمون بقضية التنوير، لتحقيق ازدهار ثقافي وفني يصب في بناء نهضة الوطن، إن غياب هذه الرؤية وضحالة الرؤيا الجمالية التنويرية يسهل سقوط المثقفين والفنانين في الحلقية والحلقية المضادة والارتماء في أحضان فكر القبيلة، ويتمظهر هذا السقوط وهذا الارتماء في شتى أنماط السلوك المنافي لمستوى الوعي الذي يُفترض امتلاكه؛ كالصراع على الزعامات والإقصاء، والكولسة لطبخ المؤامرات وحبك الدسائس، والانعزال والتقوقع عند البعض المتوجس، والتهافت على المنصات والأضواء، والتنافس في التزلف لتحقيق مآرب صغيرة، والتخاذل في تنوير المجتمع، بل الضلوع في خذلانه.

ومما لا شك فيه أن امتلاك المبدع لوعي المواطنة، وإحساسه يجسامة المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقه، في إنجاز مهام التنوير وإخراج المجتمع من الحجر والوصاية، سيرفع من تطلعه إلى آفاق رحبة، تتجاوز الذاتية ونرجسيتها نحو تعميد وتعضيد سكك التاريخ، في اتجاه غد زاهر للأجيال القادمة، لتعيش في بيئة طبيعية واجتماعية صحية، فيصبح هم الفنان نشر ذائقة فنية وجمالية رفيعة تنأى به هو نفسه أولا وقبل كل شيء عن السقوط في مآزق التشتيت والانشطار، فيكون قدوة للناشئة، ليسهم في إشاعة الحس الجمالي الذي يهيئ العقل لتقبل الوعي الديمقراطي، وإدراك عمق التخلف وفداحته والارتقاء نحو فعل جماهيري أساسه المواطنة لا القبلية ونعراتها المقيتة الرجعية، ويرقى من النزعة الذاتية الفردية الضيقة نحو طموح جمعي قوي، كفيل بلم شتات الحقل الفني وتنسيق جهود الفنانين في اتجاه الرقي بذائقة العامة لا الانحدار نحو سفاسفها.

إن وعي الصراع التاريخي بين قوى الاستغلال والتأخر وقوى الانعتاق والتقدم، باعتباره تناقضا جوهريا، يجعلنا نميل أكثر إلى تعزيز الائتلاف والتعاون وقبول الاختلاف والتنوع فهو ناموس الكون والطبيعة، ونكران نرجسية الذات، ونبذ كل أشكال السلوك المتخلف وتقوية جبهة الفنانين والمثقفين، على أساس مشروع مجتمعي للتنوير والبناء، وعلى قاعدة خطط وبرامج عمل راقية، والاستفادة من الطاقات الخلاقة المنفية في غياهب الهامش من أجل أن يؤدي الفن رسالته الجمالية والتاريخية، ولا يبقى مجرد نزوة ذاتية عقيمة.

***

عبد القهّار الحَجّاري

 

هل المساواة حقيقة موجودة على ارض الواقع، ام انها كذبة يقولها احدنا للآخر، فنحن نؤكد في كلامنا اننا نعامل الجميع بنفس الطريقة ولا نفرق بين احد وآخر، لكن الواقع يقول اننا نتحيز لبعض الاشخاص وان هذا التميز جزء من حياتنا ولا نعتبره شيئا خاطئا .. اسال نفسك: لو كان الخيار بين انقاذ شقيقك او احد اقاربك، من تختار؟ لمن ستترك ميراثك، هل تترك لشخص غريب ام لابنائك. في كل مثال نضع بعض الناس في منزلة اعلى من غيرهم، ماذا يمكننا ان نسمي هذا إن لم نسميه تميزا .

كان هذه المسألة قد شغلت الفيلسوف الاسترالي بيتر سنغر والتي عرضها في اكثر من كتاب من كتبه اشهرها كتابه " الحياة التي يمكن انقاذها " الصادر عام 2009 – ترجمه الى العربية احمد رضا وصدر عن دار الرافدين - حيث يذكرنا فيه بان الحياة الجيدة ليست في الصحة الجيدة والاملاك والسيارات الجديدة . بل في إدراك ما يمكننا فعله لنجعل العالم مكانا اكثر عدلا . يؤمن سينغر ان الفلسفة يمكنها ان تتجاوز جدران الاكاديمية، وانها يامكانها ان تكون في عالم الواقع .

يؤكد سنغر ان المبدأ الأساسي بين هو المساواة جميع البشر، وان هذا المبدأ يجب أن يدفعنا الى الدفاع عن جميع أشكال وصور المساواة بين البشر، مهما كانت الاختلافات والفروق بينهم.

في أواخر عام 1789 كتب الفيلسوف الانكليزي جيرمي بينثام: " لقد وضعت الطبيعةُ البشر تحت حكم اثنين من الأسياد، الألم والسعادة وإليهما وحدهما يرجع القرار فيما يجب أن نفعله "، هذه الجملة التي جاءت في كتاب " مبادئ الأخلاق والتشريع "، جعلت الشاب بيتر سينغر الذي لم يتجاوز التاسعة عشر من عمره يقرر ان يترك دراسة القانون ويتجه إلى الفلسفة، فقد احب فكرة أن بامكانه ان يجادل حول القضايا الاساسية التي تهم الانسان والطبيعة ..بعد ذلك سيكتب: " أن الحق في الحياة مرتبط بشكل أساسي بقدرة الكائن على الاحتفاظ بالأفضليات، والتي ترتبط بدورها بشكل أساسي بقدرتنا على الشعور بالألم والمتعة " . وستكون فلسفة جيرمي بينثام النفعية هي سلة الغذاء الفكرية التي سيتغذها منها بيتر سنغر خلال مسيرته الفلسفية التي بدأت من عام 1971، عندما قرر ان يكتب اطروحته الجامعية عن موضوع العصيان المدني، والتي ستشر عام 1973 في كتاب بعنوان " الديمقراطية والعصيان ".

في العام 2009 ينشر بيترسينغر كتابه الأشهر " " الحياة التي يمكن انقاذها "، حيث يذكرنا فيه بان الحياة الجيدة ليست في الصحة الجيدة والاملاك والسيارات الجديدة . بل في إدراك ما يمكننا فعله لنجعل العالم مكانا اكثر عدلا . يؤمن سينغر ان الفلسفة يمكنها ان تتجاوز جدران الاكاديمية، وانها يامكانها ان تكون في عالم الواقع .

 بيتر ألبرت ديفيد سنيغر المولود في السادس من تموز عام 1946 في مديننة هاوثورن الاسترالية في نفس الشهر الذي نزحت فيه عائلته من فينا، بعد ان استولى النازيون على النمسا عام 1938، أرادت العائلة ان تهرب بسرعة، بعد ان تم ارسال الاجداد إلى معسكرات احتجاز اليهود، وقد مات جده لامه وابيه وجدته لامه، ونجت جدته لابيه باعجوبه لتلتحق بعائلة ابنها الذي استطاع ان يحقق نجاحا في عمله التجاري، ويتذكر بيتر الطفل ان والده كان بارعا في معرفة انواع القهوة التي يستوردها، اضافة الى براعته في التمثيل، حين أسس فرقة للهواة كان يخرج لها اعمالها التمثيلية . ولد لعائلة يهودية غير متعصبة وعندما بلغ الثالثة عشر من عمره وكان مطلوبا منه ان يذهب الى المعبد اليهودي لاداء المراسم حسب الشريعة اليهودية، قرر الصبي بيتر عدم الذهاب، فقد اعلن لوالده انه غير مؤمن، و لايستطيع ان ينافق، وقد تركت له حرية اتخاذ مثل هكذا قرارات مصيرية، بعد ذلك قرر الاب ان لا يرسل ابناءه الى مدرسة يهودية، وان يوفر لهم تعليما راقيا.في تلك السنوات يتفرغ بيترسينغر للقراءة، سيقرأ كل ما يقع بيده، من كتب الفيلسوف سبينوزا، وسيدهشه كتابه الضخم " الاخلاق "، وتسحره شخصية هذا الفيلسوف الذي عاش حياة قنوعة جدا فهو لم يتمتع بميراث ابيه، لكنه رفض ايضا ان يتلقى اموالا من اصدقاء اثرياء قانعا بدخل متواضع يأتيه من عمله في صناعة العدسات البصرية .. وسيحتفي بيتر فيما بعد بسبينوزا في كتابه " كيف نعيش؟ الأخلاق في عصر المصلحة الذاتية "، بعدها يتجه صوب كارل ماركس الذي كان يؤكد أن الانسان كائن طبيعي يتطور مع حركة التاريخ العالمي، وسيتوقف طويلا عند عبارة ماركس البليغة: " كل ما يسمى بالتاريخ العالمي إن هو إلا نتاج الإنسان عن طريق العمل الانساني "، ويخصص بيتر سينغر احد كتبه لماركس – صدر الكتاب عام 1980، حيث نجده متعاطفا مع انتقاد ماركس للرأسمالية، لكنه يشك في ما إذا كان من المحتمل إنشاء نظام أفضل، حيث يكتب: "رأى ماركس أن الرأسمالية هي نظام مسرف وغير عقلاني، نظام يتحكم بنا عندما يجب أن نسيطر عليها. هذه البصيرة لا تزال صالحة، لكن يمكننا الآن أن نرى أن بناء مجتمع حر ومتساو هو مهمة أكثر صعوبة مما أدركه كارل ماركس ماركس "، يكتب سينغر عن شغفه بافكار ماركس قائلاً: " هل يمكن لأي شخص أن يفكر في المجتمع من دون الرجوع إلى رؤى ماركس المتعلقة بالروابط بين الحياة الاقتصادية والفكرية؟ أدت أفكار ماركس إلى ظهور علم الاجتماع الحديث، وغيَّرت دراسة التاريخ، وأثرت بعمق في الفلسفة والأدب والفنون. بهذا المعنى نحن جميعًا ماركسيون الآن " .

ينهي دراسته الجامعية في ملبورن، بعدها يحصل على منحة لدراسة الفلسفة في اكسفورد، هناك سيحاول تطبيق الاخلاق على العالم، وستشغله قضية الحيوانات فيقرر هو وزجته ان يصبحا نباتيين، وسيخصص واحدا من كتبه للدفاع عن الحيوانت حيث اصدر عام 1973 كتابه الذي يقول عنه انه اهم كتبه بالنسبة اليه " تحرير الحيوان "، وفيه يرفض قداسة الانسان ويطالب بحقوق للحيوانات

الحجة المركزية للكتاب هي توسيع المفهوم النفعي بأن "أعظم خير لأكبر عدد" هو المقياس الوحيد للسلوك الجيد أو الأخلاقي، ويعتقد سينغر أنه لا يوجد سبب لعدم تطبيق هذا المبدأ على الحيوانات الأخرى، بحجة أن الحدود بين الإنسان و الحيوان تعسفية تمامًا.

أثناء وجود طالبا في في ملبورن، قام سينغر بحملة ضد حرب فيتنام واصبح على رأس جمعية تقف بالضد من التجنيد الإجباري. انضم عام 1974 إلى حزب العمال الأسترالي، لكنه بعد ذلك سيترك الحزب، لصبح عضوًا مؤسسًا لحزب الخضر .

ينتقد سينغر الولايات المتحدة لانها تساعد الحكومات الاستبدادية على "إبقاء الناس في فقر"، ويعتقد أن ثروة هذه الدول "يجب أن تنتمي إلى الناس" بدلاً من حكوماتهم . يصف سينغر نفسه بأنه ليس معاديًا للرأسمالية، ويصرح في مقابلة معه عام 2010: " إن الرأسمالية بعيدة كل البعد عن النظام المثالي، ولكن لم نجد حتى الآن أي شيء يقوم بعمل أفضل في تلبية الاحتياجات البشرية من الاقتصاد الرأسمالي المنظم إلى جانب نظام الرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية الذي يلبي الاحتياجات الأساسية لأولئك الذين لا تزدهر في الاقتصاد الرأسمالي".

عام 2010 يوقع سينغرعريضة يعلن فيها تنازله عن حقه في العودة إلى إسرائيل، لأن هذا الحق في رايه "شكل من أشكال الامتيازات العنصرية التي تحرض على القمع الاستعماري للفلسطينيين " .

في منزله بملبورن يقول لمراسل صحيفة الغارديان البريطاية وهو يساله: لماذا يعتقد أن كثيرا من الناس يتخوفون من التقدم التكنولوجي؟

 قائلا: " أنا لست عالم اجتماع ولا عالم نفس، ومن ثم فأنا لا أعرف. أتصور أن الناس يخافون المجهول والتغير بصفة عامة " . يتحدث سينغر عن اهمية العطاء في حياة الانسان وكم علينا ان نعطي ؟ ويشير الى ان هناك حوالي تسعمائة مليون انسان غني في العالم، اي اشخاص لديهم دخل اعلى، ولو اعطى كل منهم مبلغ مئتي دولار فقط في السنة، فسوف يقلل الفقر العالمي إلى النصف، ويسخر سينغر من اصحاب المليارات الذين ينفقون اموالا طائلة على اليخوت والرحلات الفاخرة والطائرات الخاصة: " حان الوقت كي نتوقف عن التفكير باهدار المال بهذا الشكل الاستعراضي السخيف، ونفكر بالامر على فداحة افتقارنا للاهتمام بالاخرين " .

ونظراً لعدد الارواح التي يمكن انقاذها بالعطاء، يتساءل سينغر إن كان بوسعنا تبرير ارسال اطفالنا الى مدرسة خاصة مرتفعة الثمن . إننا نستطيع تبرير ذلك فقط اذا توافرت النية بأن يصبح هذا الطفل مفيدا للكثير من الناس نتيجة لذلك المستوى من التعليم .

شكل بيتر سينغر فلسفته حول فكرة تقليل المعاناة وزيادة السعادة. كان هذا بمثابة الأساس لكتابه " الحياة التي يمكنك إنقاذها "، والذي ألهم حركة الإيثار الفعال.

يؤكد سينغر انه ليس شيوعيا ولا اشتراكيا متطرفا، وهو لا يدافع عن الضرائب العالية، ويرفع قبعته لرجال الاعمال الذين يجعلون هذا العالم اكثر غنى .

وعندما يساله الصحفي عن توقعاته لمستقبل العالم، يقول: " ليس لدي كرة بلورية، حقًا. لا أدري، لا أعرف. أنا قلق للغاية بشأن تغير المناخ، لأننا ربما وصلنا إلى مرحلة لا يمكن عكسها حقًا. هذا هو نوع الجانب السلبي الحقيقي. أعتقد أننا سنكون قادرين على التعامل بجدية أكبر مع مشكلة الفقر العالمي، وآمل أن نكون بالفعل. أعتقد أننا نستطيع فعل ذلك إذا بذلنا بالفعل المزيد من الجهد. وآمل أيضًا أن نطور، بشكل عام، أخلاقيات أكثر اتساعًا تشمل الكوكب بأكمله، وكل من فيه " .

يحاول سينغر ان يجعل من الفلسفة هم يومي، هناك اعتراضات ضد محاضراته. غير أنه يذكر طلبته بسقراط الذي بالنسبة اليه يمثل أحسن تقليد في الفلسفة. إنه يستفز الأفكار الشائعة.

في حوار اجراه معه حسن الشريف ونشره موقع معنى بقول سينغر ر دا على سؤال حول مسؤولية الفلاسفة مما يدور في العالم والخطر الذي يمكن ان يتعرضون اليهم لمناصرتهم قضايا ربما تثير استاء الناس: " أعتقد أنه من الممكن، بل ومن المرغوب فيه في بعض الظروف، أن يكون الفلاسفة ناشطين. قد يكون ذلك مرغوبًا، على ما أعتقد، لسببين: أولاً، لأن الفلاسفة يستطيعون مناصرة القضية التي ينشطون من أجلها، من خلال المساعدة في تحديد مسوغات التغيير الذي يحاولون تحقيقه بشكل أكثر وضوحًا وصرامة. "

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير – صحيفة المدى البغدادية

تبلور الموقف المنهجى فى دراسة التراث الفلسفى العربى الإسلامى

كانت أول تلك الأعمال لمحمد لطفى جمعة بعنوان (تاريخ فلاسفة الإسلام فى المشرق والمغرب) (1) الذى أوجز فيه خلاصة دقيقة لثقافته الفلسفية التراثية فى ضوء قراءات مقارنة، مع أعمال المستشرقين فى القرن التاسع عشر (2)، وهو دراسة شاملة عن حياة وأعمال الفلاسفة العرب المسلمين من الكندى وحتى ابن خلدون ؛ ولكنه عمل يكتنفه بعض التشويش من جراء محاولة لإحاطة الشاملة بجميع جوانب موضوعه ويعانى من عدم توثيق المصادر الذى أخذ عنها، وعموماً فهو يبقى متأثرا بدراسات بعض المستشرقين من امثال رينان . (3)

ونشير بشكل مجمل إلى بعض عيوب هذه الدراسات قبل التفصيل فيها، حيث نجد أن البحث فى تاريخ الفلسفة العربية والإسلامية أنصرف إلى الكتابة عن الأشخاص أكثر من الأهتمام بتحليل الأفكار التي طرحتها المذاهب والمدارس الفلسفية،، فنما البحث على أساس أكاديمى غير سليم، كما نجد فى هذه الدراسات تذبذبا شديداً وضموراً فى كتابه تاريخ هذه الفلسفة وكثرة الدراسات السطحية التى لا تدل على فهم دقيق للتراث الفلسفى العربى الإسلامى (4)، وفيما يلى أهم هذه الدراسات والمناهج:

المنهج التاريخى:

يقوم المنهج التاريخى بدراسة نشأة موضوعه وتطوره فى التاريخ، ويتمثل دوره الأساس فى بناء ذلك الموضوع وأعطاه تصوراً متكاملاً عن تكوينه، ويعنى هذا المنهج فى حقل التراث الفلسفى العربى الإسلامى، دراسة شخصياته بحسب سبقهم الزمنى فى التأليف الفلسفى ومجال انتشارهم اللاحق . (5)

ينصرف جل اهتمام الخطاب الفلسفى العربى فى اتجاهه التاريخى إلى البحث عن مكان فى التاريخ لتراثنا الفلسفى لتأصيله(6) ، وكانت هذه محاولة الشيخ مصطفى عبد الرازق فى كتابه (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) ليقدم منهجاً فى دراسة هذه الفلسفة، يتوخى الرجوع إلى النظر العقلى الإسلامى فى بداياته الأولى وتتبع تطوره فى ثنايا العصور حتى يتمكن من كشف طريق العقل الفلسفى الإسلامى فى مذاهب المعتزلة والأشاعرة (7)، وحتى يثبت تفكير فلسفى فى الإسلام رداً على أقوال المستشرقين (8)، ومن هنت كان لابد أن يتجه إلى علم الكلام والتصوف الذى لا تخفى صلته بالفلسفة وكذلك إلى علم أصول الفقه الذى تشده إلى الفلسفة صلة تقربه من الانضمام إليها (9)، ويكون دليل الأصالة .

وفى الحقيقة أن عبد الرازق أخذ رأيه هذا من قول رينان: أن الحركة الفلسفية الأصيلة فى الإسلام يتم البحث عنها فى مذاهب المتكلمين، وطبقه على علمين أصيلين وهما علم الفقه وعلم أصول الفقه، محاولا إثبات الخصوصية الفكرية للإسلام (10)، لقد تأثر بأسلوب نظر المستشرقين فى الكتابة عن الفلسفة فى الإسلام وحاول الرد على آرائهم التى تطعن فى أصالة هذه الفلسفة، ليثبت أن هناك فلسفة إسلامية لا بمعناها "اليونانى" ولكن بمعنى القدرة على التفكير العقلى فى ميدان المعرفة، فيأخذ على الغربيين تقليلهم من أهمية الفلسفة الإسلامية وغمطهم حقها وموقعها من التراث الفلسفى العام، حيث لا يهتمون فى دراستهم لها إلا بالبحث عن عناصر أجنبية ليردوها إلى مصدر غير عربى وغير إسلامى، ومن أجل هذا يقترح عبد الرازق بديلاً آخر يتمثل فى اتباع منهجاً يكشف من القدرة فى ممارسة تفكير عقلى إسلامى قبل دخول الفلسفة اليونانية التى لم تكن سوى حدث طارئ صادف الفكر الإسلامى ولم يكن هو خالقه . (11)

هذا المنهج الذى يقترحه عبد الرازق لم يكن سوى منهج "غربي" فى التاريخ للفلسفة، يقوم على بناء (تاريخ الفلسفة) على الوحدة والاطراد، متبعاً سير هذا التفكير منذ بداياته الأولى حتى دخوله مرحلة التفكير الفلسفى (12) . لقد حاول عبد الرازق فى (التمهيد) من خلال تطبيق منهجه المقترح إيجاد (الوحدة والاطراد) فى تاريخ الفكر العربى الإسلامى، فبدأ بالجدل الدينى قبل ظهور الإسلام، معتبراً ذلك أولى مراحل تطور التفكير العقلى عند العرب، حتى ظهور النظر العقلى المنظم عند المسلمين فى أصول الفقه الذى تكون نتيجة العوامل داخلية صرفة.(13)

لكن الإشكال المنهجى على  محاولة عبد الرازق فى (التمهيد) يأتى من  أن الانطلاق من الأرهاصات الأولى للتفكير العقلى فى الإسلام ومن أصول الفقه لا يوصل إلى الفلسفة الإسلامية كما هى عند الفلاسفة المسلمين حيث تطور كلا الطرفين فى خط مواز للآخرين (14)، أى أنه لم يتمكن من إقامة لروابط بين المسارين المستقلين المتمثلين فى التفكير العقلى فى الإسلام، وفي الفلسفة الإسلامية، ورغم ما يعطى من صفة فلسفية لأصول الفقه تبقى أمامه حقول فكرية مقطوعة الصلة مع بعضها ولا تربط بينهما رابطة لا على المستوى البنيوى ولا على المستوى التاريخى حيث لكل حقل أو قطاع استقلاله، أصول الفقه، علم الكلام، الفلسفة، والتصوف، وبالتالى فلا (وحدة) ولا (اطراد) وهكذا يظل عبد الرازق أسير (المركزية الغربية) فى مجال تاريخ الفلسفة . (15)

المنهج الموضوعى:

يقرأ المنهج الموضوعى تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية من داخلها، أي من خلال ربطها بهذا بالتراث العربي – الأسلامي حتى تلائم متطلبات الموقف الفكرى المعاصر، وهذه الفلسفة لم تصدر من مقالات الفلاسفة المسلمين فهؤلاء لا يمثلون العقل العربى الإسلامى فى إجاباته عن مشكلات الخلق والقيم والمعرفة العقلية، أن من يمثل هذا الفكر على الحقيقة هم علماء الكلام وعلماء الأصول والصوفية . (16)

وفى هذا الاتجاه نشر على سامى النشار كتابه (مناهج البحث عند مفكرى الإسلام) الذي اكتسب أهمية كبيرة فى الدراسات الفلسفية والمنطقية العربية (17)، وآخر( نشأة الفكر الفلسفي فى الإسلام)  مطبقاً فيه رؤيته المنهجية الموضوعية فى دراسة وتفسير الفكر العربى الإسلامى؛ و تنطلق هذه المنهجية من أن الفكر بظهوره يعبر عن حالة وضع اجتماعى وعن تكويناته السياسية والاقتصادية،  وكذلك لا يمكن إنكار الدور المؤثر الذى تقوم به العوامل الخارجية، وعوامله الداخلية التى تظهر نتيجة صلته بالمجتمع(18)  .

لقد تساءل النشار عن المنهج الذى نستطيع بواسطته أن نحدد أصالة الفكر الفلسفى الإسلام، وأن نبين به الجانب الإسلامى الخالص من بين الميراث الضخم الذى وصل إلينا للأمة الإسلامية حتى يمكننا كشف الطابع الميز للحضارة الإسلامية الحقيقة ولجوهرها الحقيقي(19).

جاءت إجابة النشار من خلال محاولته الكشف عن نتائج العبقرية الإسلامية لا فى نتاج " الفلاسفة المسلمين"  لأنهم – حسب ما يرى - دائرة منفصلة ومنعزلة عن تيار الفكر الإسلامى العام، بل فى نصوص ممثلى الإسلام من علماء الفقه والأصول والكلام (20)، فهو يعتمد على هذه المنهجية لكشف القناع عن إبداع العقلية الإسلامية من خلال التأكيد على وجود بحث إسلامى أصيل لدى علماء الأصول، وهذا الفكر الإسلامى الأصيل هو ما يكون انبعاثاً للروح الحضارية لدى الأمة الإسلامية، وأن أى فكر دخيل غريب مصيره الإبعاد والتهميش لانعدام تأثيره على معتقد المسلمين(21).

وأن العرب فى رسالتهم الجديدة صدروا عن نبع فكرى صاف، حتى إذا تفاعلوا مع حضارات الأمم الأخرى كونوا مزيجاً فكريا جديداً أخرج فلسفة لم يعرفها اليونان . هذه الرؤية هى التى جعلت النشار يعطى عظيم الاهتمام لعلم الكلام والتصوف فتتبع نشأتهن الأولى وتطورهن (22)، ولم يلتفت  إلى فلاسفة الإسلام حيث يعدهم مجرد ناقلين للفلسفة اليونانية متفقا مع رأى رينان فى أن المفكرين المسلمين قبلوا الفلسفة اليونانية قبولاً كاملاً ولم يبدعوا فيها على الإطلاق (23)، فالنشار يعد منهجه هذا محاولة  لتفسير نشأة التفكير الإسلامى الفلسفى فى كتابات المسلمين أنفسهم قبل أن يتصلوا بالفلسفة اليوناني ويقوموا بدراستها (24)، وعلى أساس منهجه هذا يستنتج أن للمسلمين تفكيراً عقلياً خالصاً نابعاً من تكوينهم الذاتي، وتفكيراً منطقيا كان لهم فيه ريادة الابتكار(25).

وجه النشار فى منهجه هذا قد أنظار المهتمين بدراسة الفلسفة العربية الإسلامية إلى ناحية جديدة فى الفكر الإسلامى، يعدها المعبًر الحقيقى عن روح الحضارة الإسلامية كلها، ومن هذه الناحية يمكن - حسب ما يرى-   انستعادة الطابع  المميز لهذه الحضارة،والتي أكثر ما تتجلى  فى علم أصول الفقه (26) و التصوف وعلم الكلام بوصفه إنتاج خالص للمسلمين(27) .

إذ إن النشار لا يعترف للحاضر بهوية أخرى غير تلك أورثها له الماضى أنه اتجاه سلفى يرجع إلى القديم ويعتبره الحقيقة الوحيدة وبالتالى فهو رفض لكل تجديد، إنها الأصالة التى يكتفى بها الخطاب السلفى المعاصر . (28)

المنهج التاريخي المقارن:

نشر إبراهيم بيومى مدكور كتابه (فى الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيق) فاكتسب أهمية كبيرة فى قراءات تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية على نحو تجاوز الشكل التقليدى، وذلك لوضوح الأثر الأوربى فى دراسته (29)، حيث قدم فيه منهجاً لـ (تاريخ) الفلسفة الإسلامية وتطبيقاً له . فما نوع هذا المنهج(30)  ؟؛ ينوه مدكور  عنه بأمرين، أولهما نشر وتحقيق مصادر التراث الفكرى لاستعادة الماضى وأحياء تراثه، والآخر يتعلق بالطريقة التي رسماه حتى يمكن ربط الفلسفة الإسلامية بمراحل التفكير الإنسانى.(31)

فكان يرى إن أفضل طريقة لدراسة الفكر الإسلامى هي إن يعرض فى ذاته ويصدر عن واقعه الماضى فى ضوء ما وصل إلى المسلمين من أفكار أجنبية وما ولدته البيئة الإسلامية نفسها من أفكار وأنواع من الجدل، ويعرف مباشرة عن طريق واضعيه والقائلين به: كى يمكن إدراكه على حقيقته، ثم تتبع إدوار تكوينية: نشأة، ونموا، وكمالا، ونضجا، وبين مدى تأثيره فى الخلف والمدارس اللاحقة . (32)

ودراسة كهذه لابد أن تقوم على النصوص والوثائق حتى تكون دعامة قوية للحكم وسبيل لاستنباط الحقيقة وكشفها، وما يزيدها وضوحاً أن تقابل بأخرى ويقارن بعضها البعض وهنا لابد من التعويل على (المنهج التاريخى) الذى يصعد بنا إلى الأصول الأولى، فبواسطته يمكن استعادة الماضى وترميم أجزاءه القديمة، وعرض صور منه تطابق الواقع ما أمكن، ويجدر بنا أن نضم إليه المنهج المقارن، الذى يسمح بمقابلة الآراء والأشخاص ويعين ما بينهما من شبه أو علاقة . (33) وفى عرض فكر الفيلسوف نعنى بوضعه فى بيئته، وأن يقارن بمن كان حوله وبيان كيفية نشاة فلسفته والعوامل التى أثرت فيها ومدى ارتباطها بالأفكار المعاصرة لها، أو الكشف أولاً عن نقطة البدء فى فلسفته، ثم تشرح كيف ترتبت عليها آراؤه ونظرياته المختلفة (34) وفيما يخص الأفكار والنظريات فنقوم بشرحها وتكوين تصور كامل عنها بالشكل الذى بدأت عليه فى العالم الإسلامى ثم بعد ذلك نحاول تلمس أصولها والبحث عن مصادرها فيما نقل إلى العربية من أفكار أجنبية، أو فيما جاء به الدين من تعاليم، وما نشأ حوله من فرق وطوائف وما تكون بجانبه من ملل ونحل ومذاهب ومدارس، ثم نقوم بتتبع تاريخ هذه النظريات للكشف عن مدى تأثيرها، ويكون من الطبيعى أن نبحث ذلك لدى المسلمين أنفسهم . (35)

إن نقطة انطلاق مدكور تأتى من الرد على الذى يعترضون على وجود فلسفة إسلامية أصيلة، فهذه الفلسفة رغم جهود المستشرقين فى النشر والتحقيق لم تدرس بعد الدراسات الجادة والمعمقة لا من ناحية تاريخية ولا نظرية،و أن أبحاث المستشرقين غدت بالية وقديمة وبالتالى بحاجة  الى لتعديل والتجديد . (36)

وبداية التجديد أن نمسك بالحلقة المفقودة فى تاريخ الفكر الإنسانى، وأن نتابع سير المستشرقين ونقتفي أثرهم فى توخى الدقة العلمية على المستوى الأول، أما على المستوى الثانى فعلينا أن نعتمد كلا المنهجين (المنهج التاريخى) و(المنهج المقارن) حتى نتمكن من إعادة بناء تاريخ الفلسفة الإسلامية بشكل  يكشف عن تلك الحلقة المفقودة فى تاريخ الفكر الإنسانى (حلقة العصور الوسطى) وبذلك يتم إبراز مكانة الفلسفة الإسلامية وإفساح الدور لها لتأخذ مكانها الطبيعى من تلك الحلقة، وفى هذه السلسلة تكون الفلسفة العربية الإسلامية فى الشرق مقابلة للفلسفة اللاتينية فى الغرب، ومن هاتين الفلسفتين يتكون البحث النظرى فى القرون الوسطى هذا من جهة، أما من جهة أخرى فلابد أن نربط الفلسفة الإسلامية بالفلسفات القديمة والمتوسطة والحديثة كى تبرز مكانتها اللائقة حتى تكتمل مراحل تاريخ الفكر الإنسانى. (37)

وهنا تظهر الفجوة بين الرؤية المنهجية والتطبيق فى قول مدكور حال القيام ينقد المفاهيم والتصورات التى جعلت تاريخ الحديث للفلسفة يمنع الفلسفة الإسلامية من أن تأخذ مكانها اللائق وفى مقدمة تلك المفاهيم والتصورات مفهوم (الفكر الإنسانى)، ذلك لأن هذا المفهوم محكوم بـ(المركزية الاوربية) لأن المقصود هو الفكر الأوربى فقط كفكر للإنسانية جمعاء، وبالتالى يكون الوضع اللائق للفلسفة الإسلامية فى تاريخ الفكر الإنسانى، هو جعلها فى موقع التابع ترسم وتكمل تاريخ الفكر الأوربى، أى ان توظف لدعم خط الاستمرارية والتواصل فى تاريخ الفكر الغربى حيث يتم التشديد على الحلقة الأضعف وهى حلقة القرون الوسطى، وهذا كله يكون على حساب تاريخية الفلسفة العربية الإسلامية وعلى حساب خصوصيتها وأصالتها . (38)

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.....................

(1) جمعة، محمد لطفى: تاريخ فلاسفة الإسلام فى المشرق والمغرب، القاهرة، 1927م .

(2) الأعسم، عبد الأمير، عرض بيلوغرافى لتواريخ الفلسفة العربية الإسلامية عند العرب المحدثين، الفلسفة الثقافية دوريات آفاق عربية العدد الثانى، 1985م، ص 107 .

(3) د. العبيدى، حسن مجيد: مناهج المحدثين فى قراءة التراث الفلسفى  العربى الإسلامى آفاق عربية العدد (5) 1993م ص 57.

(4) الأعسم: عرض بيلوغرافى، ص 170 .

(5) العبيدى: مناهج المحدثين، ص57 .

(6) الجابرى: الخطاب الفلسفى العربى المعاصر، ننار الطليعة ط 1، بيروت، 1985م، ص 139 .

(7) عبد الرازق مصطفى: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مطبعة لجنة التأليف والنشر، ط 3، القاهرة 1966، ص 13 .

(8) الجابرى: الخطاب الفلسفى العربى المعاصر، ص 27 .

(9) عبد الرازق: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، ص 27 .

(10) صبحى أحمد محمود: اتجاهات الفلسفة الإسلامية فى الوطن العربى ( 960 ـ 1980)، ضمن كتاب: الفلسفة فى الوطن العربى، ط 1 بيروت 1985م، ص 102 ـ 103 .

(11) الجابرى: الرؤية الاستشراقية فى الفلسفة الإسلامية طبيعتها ومكوناتها الأيديولوجية والمنهجية، ضمن مناهج المستشرقين فى الدراسات العربية الإسلامية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الرياض 1405 هـ ـ 1985م، ج 1، ص 308 ـ 311 .

(12) كذلك، ص 311 .

(13) كذلك، ص 311 .

(14) الجابرى: الخطاب الفلسفى المعاصر، ص 143.

(15) الجابرى: الرؤية الاستشراقية، ص 311 .

(16) العبيدى: مناهج المحدثين، ص 58 .

(17) الأعسم: عرض بيلوغرافى، ص 168 .

(18) العبيدى: مناهج المحدثين، ص 58 ـ 59 .

(19) النشار، على سامى: نشأة الفكر الفلسفى فى الإسلام، دار المعارف، ط 2، القاهرة 1966، ج 1 ص 19 .

(20) النشار: مناهج البحث عند مفكر الإسلام، دار المعارف، ط 4، القاهرة 1978م، ص 9 .

(21) د. صبحى، أحمد محمود: اتجاهات الفلسفة الإسلامية، ص 106 .

(22) كذلك: ص 106 .

(23) النشار: نشأة الفكر الفلسفى، ص 28 .

(24) كذلك: ص 22 .

(25) كذلك: ص 22 .

(26) كذلك: ص 22 .

(27) كذلك: ص 30 .

(28) الجابرى: الخطاب العربى المعاصر، ص 144 .

(29) الأعسم: عرض بيلوغرافى، ص 168 .

(30) الجابرى: الرؤية الاستشراقية، ص 312 .

(31) مدكور: إبراهيم بيومى: فى الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيق، دار المعارف ط 3، القاهرة، ج 1، ص 5.

(32) كذلك: ص 10 .

(33) كذلك: ص 11 .

(34) كذلك: ص 11 .

(35) كذلك: ص 12 .

(36) الجابرى: الرؤية الاستشراقية ن ص312 .

(37) كذلك: ص 312 ـ313، وانظر ذلك مدكور: الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيق، ص 15 ـ 30 .

(38) الجابرى: الرؤية الاستشقراقية: ص 315 .

غالبًا ما تُظهر وسائل الإعلام صورة مبسطة وثابتة للأفراد والجماعات. إنها عملية تؤثر على تصور الناس لكيفية النظر والتصرف تجاه الآخرين، ومن سوء الحظ أن كثير من الأفراد يؤمنون على نحو شبه أعمى بما يرون أو يسمعون.

وسائل الإعلام لا تُكسبنا المزيد من المعرفة فقط، بل إنها تؤثر أيضاً على الطريقة التي نعتقد أننا يجب أن نكون بها كأشخاص - كيف يجب أن ننظر للأشياء، وكيف يجب أن نلبس، وكيف يجب أن نتصرف تجاه الآخرين.

لذلك تتحمل وسائل الإعلام مسؤولية كبيرة فيما يتعلق بنقل المعرفة عن المجتمع بطريقة موضوعية. ومع ذلك، تساعد وسائل الإعلام أحياناً في إنشاء قوالب نمطية وتعميمات حول مجموعات مختلفة من السكان.

الصور النمطية لوسائل الإعلام

غالباً ما تحدث الصورة النمطية عندما نقوم بعمل وصف مبسط لمجموعة من الأشخاص دون مراعاة الفروق الفردية. في ضوء ذلك تستخدم وسائل الإعلام الصور النمطية لمنح القراء أو المشاهدين ملخصاً سريعاً وعاماً لشخص أو مجموعة من الأشخاص. يمكن أن يكون هذا على سبيل المثال، فيما يتعلق بعرقهم أو جنسهم أو مجموعتهم الاجتماعية. الأمر الخطير في القوالب النمطية هو أنه يجري تعميمها، ولا يعود الأشخاص الموصوفون أفرادًا بخصائص مختلفة، ولكن بدلاً من ذلك يصبحون مجرد جزء من مجموعة أكبر.

وسائل الإعلام تخلق قوالب نمطية مؤسفة

تتلقى وسائل الإعلام الكثير من الانتقادات بسبب التمثيلات النمطية. نعني بالقوالب النمطية صورة مبسطة لفرد أو مجموعة من الأشخاص الذين لديهم بعض الخصائص المشتركة. لذلك يعتقد النقاد أن الأشخاص الذين نلتقي بهم في وسائل الإعلام يظهرون كرسوم كاريكاتورية. وبهذه الطريقة يساهم الإعلام في إعطاء الناس صورة مشوهة للثقافات والأشخاص والمجموعات البشرية.

يتم انتقاد الأفلام والإعلانات التجارية والبرامج التلفزيونية لتركيزها فقط على الأشخاص المناسبين وذوي المظهر الجيد. تعرضت الصحافة وبعض المسلسلات الإجرامية لانتقادات لتصوير أصحاب البشرة السمراء، والمسلمين على وجه الخصوص، على أنهم أشرار وإرهابيون. وهذا يشكل أساساً للحديث عن التنميط.

في الصحافة الإخبارية غالباً ما توجد خصائص معينة تجعل المصدر مثيراً للاهتمام، وبالتالي فإننا نحصل بسرعة على قوالب نمطية مثل السياسيين والمجرمين والمشاهير. ولا يتم تقديم المصادر كأشخاص ذوي جوانب وخصائص مختلفة. في القصص الخيالية أيضا والأفلام الترفيهية والمسلسلات التلفزيونية، وفي كثير من الأحيان تُستخدم الشخصيات النمطية لأنها تجعل القصة أسهل في سردها.

ليس الأشخاص وحدهم من يمكن تصويرهم بنمطية. بل يمكن تبسيط العلاقات الشخصية وتنميطها، مثل العلاقة الرومانسية بين الرجل والمرأة، أو العلاقة بين الرئيس والموظف، أو العلاقة بين مدير الحالة والمستخدم، عندما يتم تصويرها في وسائل الإعلام.

أهي بهذا السوء؟

من السهل الحصول على انطباع بأن التنميط يؤثر علينا نحن البشر بطريقة سلبية للغاية. لكن هناك العديد ممن يعتقدون أنها ليست بهذا السوء. وحجتهم أن وسائل الإعلام ليست هي المكان الوحيد الذي نحصل منه على المعلومات، ونحن لا نشكل نظرتنا للعالم من خلال وسائل الإعلام فقط. وليس الأمر كأننا ببساطة "نتقبل" أو نصدق كل ما نراه. عادة لا تتغير معاييرنا وقيمنا لمجرد أننا نرى شيئاً ما في وسائل الإعلام.

لكن التأثير السلبي لوسائل الإعلام يحظى باهتمام كبير، رغم أن الطريقة التي نتواصل بها اجتماعياً عبر وسائل الإعلام يمكن أن تكون إيجابية أيضاً. على سبيل المثال، نتعلم لغات جديدة، ونعرف أشياء عن الثقافات الأخرى، ونحصل على معلومات تفيد في كيف نتوقع أن نتصرف في المواقف المختلفة.

لسنوات كان الباحثون مهتمين بالطريقة التي نتواصل بها اجتماعياً عبر وسائل الإعلام ، لكنهم لم يتفقوا إلى الآن على تقديم إجابات واضحة ومحددة. لأنه ليس من السهل تحديد دور وسائل الإعلام في تشكلنا كبشر وبأي طريقة. ذلك أن الأشخاص المختلفون يفسرون ويتأثرون بشكل مختلف عن بعضهم البعض.

سوف يتلقى ويفهم الناس الرسائل الإعلامية بشكل مختلف وبالتالي يتأثرون بشكل مختلف. ستعتمد طريقة إدراكك لما يقال وفقاً لما هو مكتوب على هويتك، ومستواك الدراسي، والخلفية الثقافية، ونوع التجارب التي لديك، وما هو رأيك في الأمر من قبل. سوف يفسر معظم الناس ما يرونه ويسمعونه بطريقة تتوافق مع الاهتمامات والمواقف التي لديهم بالفعل.

وبالتالي فإن الحملة ضد التدخين ستجعل غير المدخنين أكثر قوة في الاعتقاد بأن التدخين ضار، في حين أن المدخنين قد ينظرون إلى الحملة باعتبارها تأكيد على أن الدولة ستتحكم في خصوصيتهم. سيكون لديك حظ أفضل مع "المشككين". قد يتأثر المدخنون الذين فكروا بالفعل في الإقلاع عن التدخين لاتخاذ الإجراءات اللازمة. وهكذا نرى أن مثل هذه الحملات لا يزال من الممكن أن يكون لها تأثير.

قوالب وأفكار نمطية

كانت الصورة النمطية المنتشرة في أمريكا الشمالية هي أن الأمريكيين الأفارقة لديهم شهية غير عادية للبطيخ.

القوالب النمطية هي تمثيلات اجتماعية مشتركة. القوالب النمطية هي مسارات متعددة، ولكنها عادة ما تكون تمثيلات قوية ومبسطة وغالبًا ما تكون مبالغ فيها وسلبية. تم استخدام القوالب النمطية سابقًا بشكل مرادف لمصطلح التحيز، ولكن التحيز في علم النفس يعتبر الآن موقفاً.

يمكن أن تكون القوالب النمطية من خلال الجنسية، والعمر، والإعاقة، والجنس، والوظيفة، والجنس، والجمال، والعرق.

تُظهر العديد من الصور النمطية أنه على سبيل المثال، يُنظر إلى الأمريكيين على أنهم ماديون، والإيطاليون عاطفيون للغاية، والسود موسيقيون للغاية، والألمان واليابانيون مجتهدون للغاية، والإنجليز محافظون جداً، واليهود طموحون وجشعون جداً، والأيرلنديون مضطربون، والصينيون موالون جداً للعائلة. أظهرت دراسة أخرى أن الألمان ينظرون إلى أنفسهم على أنهم عمال مجتهدون. كان الفرنسيون ينظرون إلى الألمان على أنهم مستبدون ويعملون بجد.

تعتبر الصورة النمطية الشائعة أن النساء ذوات الشعر الأشقر يتمتعن بمظهر جيد، ولكنهن ضعيفات الموهبة.

غالبًا ما يستخدم مصطلح الصورة النمطية بمعنى مهين حول تصور أحادي البعد لإنسان ما، أو تصوير أحادي البعد لشخص ما في رواية، أو فيلم، أو مسرحية، أو ما شابه ذلك. يعتمد التصوير أو التصور النمطي لشخص ما على سلسلة من المفاهيم المعتادة الشائعة التي يمكن أن يكون لها طابع التحيزات المعممة، ولكن يمكن أيضاً أن تكون خيالية تماماً ومبتكرة لأغراض سياسية، أو أيديولوجية، أو فكاهية، أو فنية.

كانت الصور النمطية عنصراً معتاداً في العروض المسرحية الشعبية منذ العصور القديمة، وكان نوع الفيلم الكوميدي الشعبي خاص لجميع أفراد الأسرة إلى درجة متميزة بناءً على الصور النمطية وفرحة الاعتراف في نفس الاتصال. يعتمد قدر كبير من النكات المسطحة وفكاهة الأفلام المصورة على مثل هذه الكليشيهات النمطية.

فيما يلي بعض الأمثلة النموذجية لهذه الكليشيهات:

الإسكتلندي البخيل، الشقراء الغبية، الطفل المدلل، اليهودي الجشع، موسيقى السود، الإيطالي المحب للمرح، الدنماركيون الأبرياء، السويدي الجاد، الألماني الغاضب، النرويجي المتفاخر، الفنلندي الحزين، المكسيكي الكسول.

الأقليات في الإعلام

يخلق استخدام وسائل الإعلام للتعميمات قوالب نمطية مختلفة في صورة الوسائط. يمكن أن تكون الصور النمطية إيجابية أو سلبية، لكنها غالباً ما تكون سلبية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأقليات. بعض الصور النمطية الأكثر انتشاراً في الدنمارك على سبيل المثال، حول الغجر الذين يوصفون بأنهم غير أكفاء ومعظمهم من المجرمين. هناك صورة نمطية أخرى مستخدمة على نطاق واسع وهي عن الجيل الثاني من الفتيان المهاجرين الذين يوصفون بأنهم مثيري الشغب الذين لا يريدون أن يكونوا جزءًا من المجتمع. ومن الأمثلة الأخرى الصورة النمطية للشباب الذين يشربون بكثرة والعاطلين عن العمل الذين لا يكلفون أنفسهم عناء فعل أي شيء.

في فبراير 2008، كانت هناك اضطرابات في Nørrebro في كوبنهاغن، ذات الأغلبية السكانية من المهاجرين، سارعت حينها وسائل الإعلام الدنمركية في تسميتها "أسوأ أعمال شغب مهاجرين في تاريخ الدنمارك". لكن كيف أثرت تغطية وسائل الإعلام للاضطرابات على الصورة العامة لسكان نوريبرو؟

في كثير من الأحيان تستخدم وسائل الإعلام الصور النمطية لتنشر قصصاً بشكل أكثر بساطة حتى لا تغرق في التفاصيل. لكن في أحيان أخرى تنبثق الصورة النمطية من تحيزات الصحفيون أو جهلهم. يحدث هذا على سبيل المثال، إذا وصفوا مجموعة بناءً على ما يؤمنون به عنها - وليس بناءً على ما يعرفونه. وبما أن معظم التحيزات سلبية، فإن الصور النمطية تصبح سلبية أيضاً.

ونظراً لأن وسائل الإعلام لها تأثير كبير في الدنمارك، فإن صورتها النمطية لها أيضاً تأثير كبير في المجتمع. يقال إن الصور النمطية لوسائل الإعلام معدية. عندما يشار إلى منطقة Gellerupparken في آرهوس على أنه غيتو مليء بالمجرمين الشباب، فإنه يؤثر على تصور العديد من القراء للمكان. عندما توصف منطقة لولاند بأنها جزء من أطراف الدنمارك التي يسكنها متلقو المساعدات، فإنها تعزز الصورة السلبية في أذهان الجمهور. بهذه الطريقة تساعد وسائل الإعلام في إنتاج وإعادة إنتاج الصور النمطية.

لا تميز القوالب النمطية بين الأشخاص الذين ينتمون إلى مجموعة معينة ، مثل الغجر أو المسلمين أو المثليين جنسياً: ترتبط سمات وخصائص خاصة بجميع أفراد المجموعة، دون مراعاة كيف يتصرف الأشخاص في المجموعة بشكل فردي، أو ماذا يفعلون. مثل، ما هي المواقف التي لديهم أو من أين أتوا. تعطي الصورة النمطية صورة واحدة فقط عما يعنيه أن تكون غجرياً أو مسلماً أو مثلياً.

التنميط الاجتماعي في وسائل الإعلام

من أجل إنشاء وسيلة مفهومة ومقبولة من قبل جمهور واسع، يستخدم العديد من المرسلين الصور النمطية التي من شأنها أن تثير بعض الارتباطات. بهذه الطريقة لا توفر وسائل الإعلام المعلومات والترفيه فحسب، بل تؤثر أيضاً على حياتنا من خلال تشكيل مواقفنا ومعتقداتنا. استمرار أدوار الجنسين هو مثال على الآثار الاجتماعية السلبية لاستخدام الصور النمطية. في المجتمعات التي قطعت شوطاً طويلاً فيما يتعلق بالمساواة، لا يتم تتبع الصور النمطية للجنس في وسائل الإعلام وتساعد في الحفاظ على سرعة التنمية منخفضة.

بشكل عام ، غالبًا ما يتم عرض النساء في الإعلانات لأنهن (ما زلن) يعتبرن مسؤولات عن المشتريات اليومية.  في معظم الأحيان يتم عرض الرجال في إعلانات السيارات، أو السجائر، أو منتجات الأعمال، أو الاستثمارات، بينما يتم تمثيل النساء في إعلانات مستحضرات التجميل والمنتجات المحلية. كما يتم تصويرهن في كثير من الأحيان في المنزل على عكس الرجال الذين يظهرون في الهواء الطلق. الاختلاف المهم الآخر هو ظاهرة "الوجوه" في الإعلان، والتي تتمثل في إظهار أجساد النساء بالكامل، في حين يتم تصوير الرجال من خلال لقطات مقربة لوجوههم.

يتم تخصيص أدوار مختلفة للنساء في الإعلانات. الأكثر شعبية هي ربة منزل مهووسة بإزالة البقعة من مفرش طاولة جديد أو امرأة مشكلتها الأكبر هي عدم وجود أفكار لتناول العشاء، أو تلك الفاتنة المثيرة، التي يرغب فيها الرجال التي يكون شاغلها الرئيسي الحفاظ على جمالها.

يعلن النوع الأول من النساء عن مستحضرات التجميل أو يظهرن في الإعلانات الموجهة للرجال. أما النوع الثاني فيتعلق بإظهار نمط حياة صحي من خلال ممارسة النشاط البدني، على سبيل المثال. وبالمثل نميز بين القوالب النمطية المختلفة للذكور. الصورة النمطية الأكثر وضوحاً هي "الرجل الحقيقي" حيث يتم تقديمه كرجل أعمال رياضي مع امرأة جميلة إلى جانبه، ولديه سيارة باهظة الثمن وهاتف ذكي أيضاً.

النوع الثاني من الرجال أقل شعبية، ويُظهر أن الرجال يقضون الوقت مع العائلة. نادراً ما يظهر الرجال وهم يقومون بتنظيف الرأس ـ وإذا كانوا كذلك ـ فهذه صورة ساخرة. يظهرون هنا على سبيل المثال، كخبراء يقدمون المشورة للنساء حول كيفية ترتيب الغسيل بشكل صحيح. تستفيد الإعلانات أيضاً من الصورة النمطية للصداقات الذكورية، والتي يمكن تسميتها "قصص الأصدقاء"، حيث يتم تقديم صداقات مثلية للرجال: في مباراة كرة قدم أو في حانة وبنفس المواقف والاهتمامات.

تدمير القوالب النمطية الجنسانية

حاولت بعض وكالات الإعلان الكبرى مواجهة الصور النمطية للجنسين في إعلاناتها. الإعلان الأكثر شيوعاً والأقل نمطية هو من ماركة Dove للعناية بالشعر والبشرة. إنه إعلان يستهدف النساء من جميع الأعمار وبأجسام مختلفة ويحاول التأكيد على الجمال الطبيعي بدلاً من الأشكال النمطية "المثالية".

تفضل المشاهدات عادة رؤية النساء اللواتي يمكنهن التعرف عليهن وقد أثبتت الحملة نجاحها الكبير. وبالمثل ، تولى منتجات Ajax للمنظفات المسؤولية وقام ببناء إعلان يظهر فيه الرجال الوسيمون يدخلون مجال منتجات التنظيف. ونرى مثالاً على ذلك حيث يقوم الرجل بخلع الملابس لشريكته (الأنثى) في نفس الوقت الذي يلقي فيه الملابس في الغسالة. هذا الوضع هو عكس الوضع التقليدي والأكثر نمطية للمرأة المهتمة بالنظافة والمسؤولة (والمثيرة).

لذلك فإن الإعلان هو أداة فعالة تساعد على تكوين وتشكيل مفاهيم وآراء الناس حول النوع الاجتماعي. من خلال تبسيط الرسالة. يعمل الإعلان كواحد من أكثر الأساليب شيوعاً لإقناع الجمهور بشراء منتج ما، وفي الوقت نفسه إدامة ونقل وجهة نظر نمطية للعالم.

***

حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

مع رسُوخ ثقافة السمع والطاعة داخل بيئاتنا العربية، " تقف أدةُ الرفض" لا " كنبْتٍ شيطانيٍّ وسط حقول من الإجابات بنعم ". وفي الحقيقة، ليست الإجابات حقولّاً من الأزهار، بل حقولاً من الألغام التي تنفجر في وجه من يختلف. لأنَّ كل إجابةٍ بنعم وراءها محرمات ثقافية تواصل الإلحاح والتنكُّر عبر أزياء خادعة. فلا يستطيع المتلقي أنْ يتجاوزها وإلاَّ سيكون هناك نوع من العقاب الرمزي الذي يُنزله المجتمع بالمخالفين.

وهي ألغام خطيرة نتيجة الوقوف أمام مركزية التقاليد وخشونة السلطة وتيار الحياة الجارف. ألغام في التعليم والتفكير والتسييس والظواهر الاجتماعية وأشكال التدين المختلفة. مثل لغم التعليم القائم على الحفظ والتلقين، ومثل لغم التسييس الذي يستبعد التنوع ويقصر الممارسة على مؤيديه، ومثل لغم جُمود التدين ونضوب المعاني الروحانية التي تنتهي بالعنف والتطرف، ومثل لغم الدوران في فلك سلطة المجتمع وتقاليده شئت أم أبيت.

كل ذلك يظهر إزاء من يعترض على إيقاع الثقافة والحياة الجارية، حيث الاشمئزاز من صاحب" لا " وإقصاءه بعيداً خارج السرب طالما يرفض ما هو سائد. فمَنْ عساه أنْ يَرُد بـ" لا " على أسئلةِ الناس، سيعتبر شيطاناً رجيماً. أسئلة تدفع الإنسان لأنْ يقبل مواقف واختيارات الآخرين له دون نقاشٍ. بحيث لا يرضى هؤلاء عنك إلاَّ أنْ تكون تابعاً وخانعاً بمسميات شتى!!

وحتى إذا لم يكن الشخصُ الرافضُ شيطاناً بفعل المواقف المتداولة، فسيكون كذلك منبوذاً نتيجة طبيعة الثقافة العامة. فلا تتوقف تلك الثقافة عند حدود استقلال الأفراد، بل تتدخل في تشكيل وجودهم وكيانهم بالتبعية. نحن- في مجتمعاتنا العربية- نبتلع " أفكار نعم" و" آليات القبول " و" أساليب الموافقة " منذ المهد إلى اللحد. حتى شاعَ القولُّ بأنَّ هناك اتفاقاً تاماً حول الأمور الاجتماعية والسياسية التي هي موضع خلافٍ بالضرورة.

وفي شتى التجارب، لا نستطيع أنْ نختلف بشكل ثري وقابل لترسيخ قيم الحوار والنقاش والتساؤل. الأطفال يولدون وتحت ألسنتهم عبارات " نعم " طوال الوقت، بل وتشكل مخزوناً ثقافياً لا ينضب. والمرأة تتزوج، وفي أذنيها - مع الحلي والذهب - كمٌ فائض من نصائح الطاعة والاستسلام والمحرمات الاجتماعية. والرعية تستقبل طائعة كل حكامها ويبنى فوقها سقف القبول المسبق على امتداد البصر. وعبارات النصائح يلوكوها الناس مثل العلكة، ولكنها تظل مؤثرةً وحاسمةً في أغلب الحوارات والقضايا. والأشخاص الناضجون يواصلون مسيرة الـ" نعم" في المواقع التي يشغلونها تطبيقاً لإملاءات الثقافة. كيف سيرفض الإنسان أمراً وهو مكبل بقيود لا حدود لها؟! كيف سيدرك من يقول " لا " أنّه محاط بمتون من الـ" نعم" التي لا تنتهي؟ كيف سيعبر الإنسان بـ" لا " فكرياً وهو مشبع منذ صغره بالقبول فقط؟

تاريخياً، درجت الذهنية العربية على ألَّا تسمع الإجابةَ بـ " لا ". لأن الإجابة بنعم تزاحم أمورنا الحياتية والسياسية والفكرية حتى غدت قاعدةً لا استثناء لها. ويتوقع الفردُ هذه الـ" نعم" طالما يردد " الأقوال المستأنسة " بين أفكار الأفراد والجماعات. إنَّ الموافقة على الأحوال السائدة في كل العصور كانت هي الرافعة العامة لأنظمة السياسة مهما كانت طبيعتها. وسواء أكانت أنظمة مستبدةً أو غيرها، فهي تعيش على الغلبة والإخضاع. وتلك الفكرة هي لب الممارسات وتعطي للناس نموذجاً للقبول مهما تكن المشكلات والتناقضات في الواقع.

القول بـ" لا " سيُشعِر المتلقي بانتفاء أية جوانب حميمية على ما جرت العادة، وكأنَّ الرفض عملية عاطفية لا منطقية. وكأنه أيضاً خرق غير محمود العواقب دوماً بينما هو شيء طبيعي تماماً.  ولذلك لا يوجد في قاموس الأذن العربية المعرفي ولا الفلسفي كلمات الرفض منطقياً. أنْ ترفض يعني أنك ستكون هدفاً لحنق المحيطين طوال الخط. رغم أن الرفض في هذه الحالة أو تلك قد يكون رفضاً مبرراً، وقد يكون نوعاً من إحتجاجنا الإنساني على التجاوز.

إنَّ الرفض موقف مبدئي ينمُ عن فهم وقدرة على السير في اتجاهٍ آخر. إنه إمكانيه يراها صاحب الرفض تحقيقاً لذاته، وفوق هذا وذاك تجعله إمكانية الرفض معبراً عن وجوده الحُر الذي لا يجب أنْ ينازعه فيه أحدٌ. الرفض هو الوجود لحظة أنْ يشعر الكائن الإنساني بانسحاقه أمام الآخرين. عندئذ يكون الرفض هو الخيار الأخير بعد أن استنفد كافة أعمال الصدود والمقاومة. فلا يمتلك غير حال الرفض الذي يعيده إلى المبادأة ككائن حي مرةً أخرى, فالآخرون يُمارسون قهراً مباشراً أو غير مباشر عليه، لأنَّ هؤلاء نتاج أنظمة ثقافية تقمع الحريات وتُعدِم ثراء الوجود الإنساني. وإذا نظرنا إلى الشخص الرافض نفسه  سنجد أنه كان مجرد ترس في آلية الأنظمة التي تستعمل الأفراد طوال الوقت. فقد يرفض في محيطه المحدود، غير أنه بنظرة أكبر( نظرة طائر) سيتحدد موقعه بناء على آليات أخرى تستطيع الأنظمة إدارتها واستيعابها في النهاية.

حالة الـ" نعم" الدائمة حالةٌ مشتركة بين التيارات والاتجاهات السياسية والدينية فكراً وتنظيماً، فبالضرورة من وجهة نظرها أنْ يعلن المتلقي قبولَّ ما يُطرح عليه. أي يجب لكل إنسان أنْ يقول " نعم"، و نعم هي المفردة الفكرية التي تستحق دراسةً تأصيلية على كافة المستويات داخل دماغنا الثقافي العربي. فأغلب شعوب الأرض- أفراداً وجماعات- تقول(لا ) لمن تريد ولا تقبل الانسحاق والانبطاح، إلاّ بعض الشعوب العربية التي تردد الموافقة بنعم دون مبرر. حتى أنَّ الفرد التافه في مواقع المسئولية يتعوّد أنْ يسمع نعم( منغمةً ) بعبارات الشكر والأدعية والأذكار الصباحية والمسائية.

ومن جهة أخرى، تعدُّ الـ" لا " محرك بحث ضخماً مثل محرك جوجل Google search engine لمعرفة كامل تكوين الذهنية العربية. ولا تنتظرك العادات والتقاليد تعبيراً عنها، حتى تكشف أمامك أنَّ " نعم " هي الأساس لجوانب التربية والإخلاقيات والدين والفكر والتعليم والعلاقات العامة. لا يوجد أحدٌ في مجالات كهذه يعرفك: كيف تقول " لا " مطلقاً. ولا يخبرك كيف تختلف بشكل فاعل ومنتج؟ وربما السبب واضح: ضرورة أنْ تكون طائعاً ومرهوناً بوجود الأقوى، وليس عليك التملمُل، وإلَّا ستكون أنت الناقة الجرباء وسط القافلة!!

ورغم أنَّ" لا " أداة نفي في دروس النحو والصرف، إلاَّ أنها داخل وعيناً اليومي -نتيجة تزييف الحرية - أداة مراوغة ومماطلة وتسويف. وفي بعض الأحيان قد لا تعبر عن موقف ورؤية عقلية مختلفة ومستقلة في فهم الأمور والأشياء. وبخاصة حين يتم التلاعب بمواقف الرفض واعتباره مرحلة قابلة للمحو مرة أخرى، فالقبول المجاني للممارسات والأفعال العمومية ليس سهلاً حتى يلتئم على نقيضه وليس هشّاً كي يتسع لنوع من التناقض الذاتي. أمَّا "نعم"، فهي ترتبط بالرضا والاتفاق الضمني والأريحية، أي بالحوافز والجوائز الرمزية التي يتلقاها مَن يقول "نعم". وهي الـ " نعم " الآتية تمشياً مع اللغة العربية من النعيم لدى أصحاب الشأن والأمر في بيئاتنا الثقافية.

وهذا ما يجعل المقابل للـ " لا " على صعيد المفهوم ليست أداة النفي No فقط، بل دلالة المفارقة paradox كذلك، أي هي تدل على ما يُخالّف الرأي الشائع أو المعتقدات العامة مع عملية الرفض جنباً إلى جنبٍ. فالمناخ الفكري عندما يتكلس ويصبح حالة خاصة من الاستعصاء على التغيير، يكون الرأي المخالف نوعاً من الرفض المتناقض. ودوماً لا يتم الرفض بشكل تلقائي، لأن الرافض يخوض مساراً طويلاً من المقاومة. فالرفض ذروة المقاومة، وهو الذي يحرك أوصالها من مرحلةٍ إلى أخرى ضمن مناخ التسلط بأشكاله.

وبجانب ذلك هناك أشكال كثيرة لعمليات الرفض، فالرفض بـ" لا " قد يكون صمتاً، لأن الصمت هو مساحة الإمتلاء بالكلام القابل للإنطلاق في أية لحظةٍ، لكن على أن يكون لدى صاحبه من الحنكة ليجعله موقفاً دون ردٍ. والرفض في تلك الحالة ليس موقفاً سلبياً في ذاته، لكن لا بد للرافض أنْ يعبر عما يجعل الصمت بليغاً ومؤثراً. إنَّه قوة المواجهة الصامتة والتعبير عن تعرية المواقف والإختلاف عنها. ولعلَّ المتصوفة في تاريخ  المجتمعات العربية قد جعلوا من الصمت موقفاً ثورياً بهذا المعنى. لأنهم صمتوا عن الممارسات العامة والتكالب على الحياة وتركوا أحوالهم مع الأذواق والتجارب الروحية.  مغزى ذلك أن ما صمتوا عنه هو دائرة التسلط، لأنه ما خضع الإنسانُ لقوى القهر إلاَّ من باب الرغبة فيما بين أيدي الناس.

والتصوف شكلٌّ من أشكال الـ "لا" بمعناها الإنساني الحر، لأن المتصوف يمارس رياضة الرفض على كل المستويات الحياتية والوجودية. وتلك فكرة في غاية الحساسية تجاه أنواع القهر مهما يكن مسماها. لأنه يمتلك قوة التخلي التي تعطيه المعنى كل المعنى، ويغدو ثراء الحقيقة أبعد من فقر التملك. فمن يرفض كل شيء بهذا" المنطق الصامت " يستطيع أنْ يأتي على مسألة الخُنوع من جذورها. إنَّ من يقول" لا " حالاً وتجرية يستحيل ترويضه بأي شكل من الأشكال. وتاريخ التصوف ملئ بهذه الـ" لا " في وجه القوى الإجتماعية والسياسية.

والرفض بـ " لا " قد يكون فكراً حُراً،  ولاسيما أنَّ الفكر المختلف في ثقافتنا العربية ماضياً وحاضراً كان علامة رفض بحجم معناه. ولا يظهر الفكر بهذه الصورة سوى في مناخ من القبول والإتفاق. والفكر الرافض للمناخ العام ظهر مع ظهور سلطة الكهنوت بشقيه السياسي والديني. وأحيانا ينزلق البعض وراء ما يسمى فصل الدين عن السياسة. ولكن المسألة أكبر من ذلك، لأن تبادل المواقع بين الإثنين (السياسة والدين) يجعل منهما وجهين لحياة واحدة. لو اختفى أحد وجهيها أو تباعد عن الآخر، فلا يعني ذلك ممارسة الحياة بشكل حر، لكنه يعني أن الوجه الحاضر سيمارس دور الوجه البديل أيضاً.

ولعلَّ هذا كان سبباً مباشراً في عدم انتعاش الفكر العقلاني الحر لدى العرب، وكان مبرراً أيضاً للتمسك بالتقليد طريقاً يؤدي إلى النتائج نفسها في المعرفة والمجتمع. ولعل هناك وضوح رؤية من تلك الزاوية بصدد فشل الإفكار الجديدة، فهي أفكار مجهضة سلفاً قبل أن تولد، لأن البيئات المشبعة بالاتفاق لا تقبل أي مختلف، ومع الزمن تصبح أرضاً جرداء لا ينفع بها زرع الفكر ولا ماء العقل.

في هذا السياق جاء تراثُنا العربي حاملاً لعنات لا تتوقف حتى اللحظة على من يختلف فكراً. فعلى الرغم من وجود فرق ومذاهب إلاَّ أنها دخلت تحت عنوان الفرق الضالة. وتم تعقب هذه الفرق، لكونها تشكل خطراً على القول بـ" نعم". ولو كان المناخ الثقافي صحيّاً، لكانت تلك الفرق قد قالت ما قالت وذهبت من حيث أتت، ولا يستدعي الأمر نعتها بالفرق الضالة. وهذا الوصف بالضلال لم يتم من رجال الدين وحسب، لكنه وصف يجري على ألسن الناس العاديين. وبطبيعة الحال يقف وراء هذا الوصف التحريم الثقافي بصدد عدم الخوض في المعتقدات العامة ولو كانت غير صحيحةٍ. وحتى إذا أخذت المعتقدات لباساً سياسياً، فهي موكولة لأولي الأمر والنهي دون القطاع العريض من العامة.

***

د. سامي عبد العال

ثبت دائما ان التعاون هو المحرك الأساسي للابتكار التكنلوجي والعلمي. ولهذا فان بعض حالات التقدم الكبير جاءت من مراكز فكرية قوية تأسست لهذا الغرض بالذات. اليوم يُعتبر وادي السليكون مجسّدا لهذه الفكرة لكنه يشكل فقط نموذجا واحدا ضمن خط طويل من المؤسسات التي مهدت قبله الطريق. أحد الأمثلة جاء من بغداد في العراق اثناء العصر الذهبي الاسلامي في القرن الرابع الهجري او القرن العاشر الميلادي. في هذا الوقت كانت اوربا تعيش ما سمي مرحلة القرون الوسطى، هنا وُلد بيت الحكمة. حيث جرى جمع وترجمة العديد من الأعمال العظيمة من بلاد فارس والهند واليونان الى العربية بما في ذلك أعمال ارسطو واقليدس.

هذه البيئة من التنوع الثقافي واللساني قادت الى ابتكارات هامة في حقول الجبر والجغرافيا وعلم الفلك والطب  والهندسة.

أتمتة مع موهبة

خلال ثلاثة قرون ونصف، عمل في بيت الحكمة عدد من المفكرين المتعددي المواهب. من بين هؤلاء كان اخوة بنو موسى في القرن التاسع وهم ثلاثة اخوة من العلماء الفرس عاشوا في بغداد. شكّل الاخوة فريقا متعدد الاختصاصات، أحدهم كان رياضيا والآخر فلكيا والثالث مهندسا. قام هؤلاء بترجمة أعمال من لغات اخرى الى العربية، وجذبوا مترجمين آخرين كما استثمروا النقود في شراء المخطوطات النادرة. هم كانوا ايضا منخرطين في السياسة وتطوير بنية تحتية حضرية، وكانوا ايضا موهوبين موسيقيا.

لكن يمكن القول ان مساهماتهم الملموسة كانت في المكائن الآلية او الأتمتة automated machines. أحد أعمالهم نُشر عام 850 ميلادية، وهو كتاب الأجهزة البارعة The Book of Ingenious Devices، وتُرجم تحت عنوان  (كتاب الحيل)، ويصف المكائن التي عملت كمقدمة للروبوتات الحديثة. هذه الأتمتة تضمنت وسائل موسيقية ميكانيكية بعضها يعمل بالطاقة البخارية ذاتية التشغيل. اعتبر تيون كوتسير Teun Koetsier من جامعة فريجي في امستردام ان هذه الموسيقى الميكانيكية هي أول ماكنة مبرجمة في العالم.

موسوعيون لامعون

عالِم آخر من بيت الحكمة كان محمد بن موسى الخوارزي الذي يردد الناس اسمه بانتظام "الخوارزمية". في الحقيقة، يتألف موروث الخوارزمي من شقين "الجبر" والذي يُشتق من عنوان لأحد كتبه وهو (كتاب الجبر)، او كتاب الانجاز. كان هذا احد (أو أول) كتاب في قواعد الجبر. الخوارزمي ايضا انجز مساهمات هامة في الجغرافيا وعلم الفلك. عمل الخوارزمي عن قرب مع الكندي الذي عُرف باسمه اللاتيني. كان الكندي موسوعيا عباسيا. هو كان مواطن في الامبراطورية العباسية التي وسّعت العالم الناطق بالعربية من ما يعرف الان بباكستان الى تونس ومن البحر الاسود الى المحيط الهندي. هو كان رياضيا وتلميذا في تحليل الشفرات ورائدا في نظرية الموسيقى حيث جمع بين الفلسفة الارسطية و الثيولوجيا الاسلامية. الكندي له الفضل بتعريف الارقام الهندية الى زملائه ورفاقه في العالم الناطق بالعربية. هو مع الخوارزمي طوّرا ارقاما عربية يستعملها الناس حاليا (من صفر الى تسعة). هو ايضا ألّف أقدم كتاب معروف في تحليل الشفرات cryptanalysis، ويُعرف عنه انه استعمل استدلالا احصائيا (نوع من تحليل البيانات). الخبير الإحصائي لايل بروملك Lyle Broemeling وصف هذا بانه اول الامثلة على كلا الطريقتين. مكتبة الكندي الشخصية كانت رائعة جدا لدرجة ان اخوة بنو موسى تآمروا عليه وبسبب حسدهم تسببوا في ايذائه وطرده من بيت الحكمة، وتمت مصادرة مكتبته واستحواذهم عليها.

إختفاء دون أثر

بعد قرون من ترسيخ الفكر والتطور التكنلوجي، تم تدمير بيت الحكمة على أيدي المغول اثناء حصار بغداد عام 1258 دون ان يتركوا أثرا. هذا الغياب للدليل الأثري قاد بعض العلماء للشك حتى بوجود البيت او اقترحوا ان وجوده ليس كمكان بقدر ما هو حالة ذهنية.

في كتابه الفكر اليوناني،الثقافة العربية يقترح ديمتري غيت Dimitri Gutas ان بيت الحكمة ربما في افضل الاحوال هو إضفاء لطابع رومانسي عليه كـ "ارشيف وطني مثالي". لكن هذه الرؤية رفضها خبير الدراسات الاسلامية حسين كمالي . غيت يعترف بانه بين عام 800 و1000 ميلادي كان هناك حجم كبير من الترجمة في الشرق الاوسط قادت الى حركة ترجمة شاملة ومنهجية للاعمال اليونانية غير الأدبية الى العربية. المترجمون كان لهم تقديرا عاليا، والمكافئات الاجتماعية الثمينة مُنحت ليس فقط لهم وانما ايضا للنخبة التي ساعدت في تمويل نشاطاتهم.

جم الخليلي Jim al - khalili، كمعلّق علمي شهير وفيزيائي منظّر لخّص في كتابه "pathfinders":

"كانت هناك في الحقيقة مؤسسة تُعرف ببيت الحكمة اتسعت دراماتيكيا في مجالها من مجرد مكتبة شهيرة لتصبح مركزا للمعرفة العلمية الأصلية".

بكلمة اخرى،ربما كان بيت الحكمة مكانا صغيرا،لكنه مكّن من اكتساب ثقافة المعرفة المتعددة الحقول في بيئة ثرية . ميراث بيت الحكمة ومساهماته للبحث الحديث كانت واضحة.

دروس للحاضر

بينما هناك الكثير مما لا نعرفه حول بيت الحكمة، لكن شيئا واحدا يبدو واضحا: انه كان متحفزا بتقدير الأفكار الثرية التي يمكن ان تنشأ في بيئة ديناميكية متعددة الحقول.

ومن هذا الجانب، هو يبدو أقل شبها بوادي السليكون الذي كشف عن ذاته بوضوح في تركيزه على المكاسب التجارية واجتذابه السلوك غير النزيه.

وفي تفحّص أقرب، يبدو بيت الحكمة أكثر شبها ببيئة تعاونية يمكن تحقيقها في تعليم عالي .احد عناصر نجاح بيت الحكمة كان الدعم المالي المتواصل من مختلف الخلفاء الذين كانوا سياسيين وقادة دينيين للدولة الاسلامية. بكلمة اخرى،العلماء كانوا يركزون فقط على المعرفة الأكاديمية بدلا من الحصول على التمويل. ايضا،جرى احترام ومكافأة وتشجيع كل أساليب جمع المعرفة دون تمييز الامر الذي خلق استقرارا اجتماعيا وازدهارا.

ما الذي يتطلبه الأمر لإنشاء مكان مثل بيت الحكمة اليوم؟ المطلوب إعادة تقييم شاملة للطريقة التي يُدار ويُموّل ويُحكم ويُدرّس بها التعليم العالي؟ يجب ان نسأل: هل انقساماتنا التخصصية التي تجعل العلوم والانسانيات تبدو متناقضة، هي التي تعيق الابتكار؟ بالنسبة للعلماء في بغداد في القرن الرابع الهجري، كانت الصورة معاكسة حيث جميع تلك التخصصات تشكل وجهين متساويين لعملة واحدة. يمكننا الاستفادة حاليا لو تعلّمنا درسا من بيت الحكمة.

***

حاتم حميد محسن

الكهنوت هو أن يكون للكاهن أو رجل الدين سلطة فوق الكل، على طريقة القساوسة في العصور الوسطى للوصول للحكم عندما كانت لهم سلطة فوق سلطة الحكومات والشعوب،، فقد كانوا يتحكمون في الشعوب والحكومات، بل وفي بعض الحكام أيضًا.. فكلمتهم كانت مسموعة، واحكامهم كانت نافذة أكثر من نفاذ القوانين؛ فحكموا، وسيطروا، وطغوا، وتوحشوا، وتجبروا.. ومنحوا أنفسهم «صك الإله»، و«وكلاء الله» في الأرض، على غرار ما كان يفعله قساوسة العصور الوسطى!.

وللأسف، هناك- الآن- مَنْ يعيش بيننا، ويحمل لقب "شيخ"، أو "عالم"، أو "داعية"، ويمارس العمل الدعوي، لكنه حاد وانحرف عن طريق الدعوة.. ورويدًا رويدًا، بدأ الداعية من هؤلاء يتحول من عالم دين إلى رجل دين، ثم إلى "كهنوتيط، ولكنه "كهنوتي متأسلم"، يحيط نفسه بهالة من القداسة، ويلزم أتباعه بفتواه، وآرائه، ولا يُسأل عما يفعل.. فيما يسفه من نظرائه الذين لا يسيرون في فلكه، ولا يتبعون عقيدته، وفكره ومنهجه، فيُحط من شأنهم، ويشكك في علمهم، وعقلهم، وربما يتهمهم بالضلال و«الكفر».. ويوهم أتباعه بأنه أحد وارثي العقيدة، و«حامل الأسرار الإلهية»، وأنه «المفوض من الله» لهداية الناس؛ حتى يضمن السيطرة على أتباعه ومريديه!.

وضدّ التطرّف اللاهوتي الأصولي ينبغي أن نتخذ موقفاً نقدياً راديكالياً، واستخدام كل منهجيات العلوم الإنسانية ومصطلحاتها لإضاءة التراث الإسلامي من الداخل ومعه كل الظاهرة الدينيّة بمجملها، بغية الخروج من السياجات الدوغمائيّة المغلقة والتحرّر من النّزعة المذهبيّة التي أصبحت تشكّل في العقدين الماضيين تهديداً فعلياً لعالمنا المعاصر وللعالمين الإسلامي والعربي. إذا لم تحصل هذه الإضاءة التاريخية واللغوية والانتروبولوجيّة والفلسفيّة للخصومات العقائديّة المتراكمة منذ قرون وقرون بين الأديان التوحيديّة من جهة، وبين هذه الأديان والحداثة العالميّة من جهة أخرى، فسوف يستمرّ الصدام بين مخيالين قائمين على الكره والنبذ المتبادل منذ قرون عديدة.

هذه الأولويّة تشكّل خلفيّة مشروع محمد أركون النقدي وتلخص كما يقول في كتابه الجديد «الهوامل والشوامل حول الإسلام المعاصر»، دار الطليعة 2010، واحدة من أهم المعارك التي ابتدأ خوضها منذ زمن بعيد. ويذكر المؤلّف في المقدمة أنه شاء تغيير العنوان الفرنسي «ألف باء الإسلام من أجل الخروج من السياجات الدوغمائيّة المغلقة» بالنسبة للطبعة العربيّة لإعجابه بالكتاب الشهير للتوحيدي ومسكويه، الذي يحمل الاسم نفسه، وذلك لأنّ مفكري العصر الذهبي من عمر الحضارة العربية الإسلاميّة، كانوا جريئين جداً في طرح المشاكل الفكرية الكبرى من دينية وفلسفية. كتاب أركون هذا ما هو إلا مجموعة أجوبة مطوَّلة عن أسئلة طرحها عليه بعض الباحثين الفرنسيين حول الإسلام وقضاياه بعد الثورة الإسلاميّة وصعود الحركات الأصوليّة وضربة 11 أيلول.

وكما نعلم محمد أركون  يعد واحد من المفكرين المعاصرين الذين أخذوا على عاتقهم مهمة الفحص والبحث والنقد الجذري للتراث العربي الإسلامي، وهو يعتبر ذلك ضروريا للانطلاق نحو العصرنة والحداثة، إنه عند البعض امتداد لجهود الأفغاني ومحمد عبده وشكيب أرسلان وطه حسين حتى إن إحدى أطروحاته الجامعية عنونها بـ"الجانب الإصلاحي في أعمال المفكر العربي طه حسين" بل يعتبر وريث الفكر الاعتزالي وامتدادا له غير أنه قدم نقدا جذريا للفكر العربي الإسلامي لم يسبق لمفكر عربي وإسلامي أن اقتحمه.

وهنا يتساءل محمد أركون في كتابه حول الإسلام المعاصر فيقول : هل توجد كهنوتية في الإسلام (ص: 213). فيقرر أن الكهنوتية موجودة "بأشكال ومجريات شتى، في جميع الأديان التوحيدية بل والشركية المتعددة الآلهة [...] بمعنى أنه لا يخلو أي مجتمع بشري منها، فكل المجتمعات الإنسانية فيها كهنوت أو طبقة رجال دين وإن كانت تجلياتها تختلف من هذا المجتمع إلى ذاك أو من هذا الدين إلى ذاك" (ن. ص). لأنها "عبارة عن وظيفة ذات أبعاد أنتروبولوجية أي إنسانية في العموم المطلق" (ن. ص).

ويقارن بين الكهنوت في المسيحية والكهنوت في الإسلام، حيث يلعب الكاهن أو رجل الدين المسيحي دور الوسيط بين جمهور المؤمنين والإله. فالقداس المسيحي لا يقوم به سوى الكاهن المؤهل دينيا لهذا الغرض. وبهذا المعنى لا يوجد كهنوت في الإسلام. فمن الناحية المبدئية بإمكان أي مسلم الدخول في علاقة مباشرة مع الله من خلال تأديته الشعائر الدينية المقررة. (ص 213-214).

لكن هذا، كما يؤكد أركون، لا يعني انعدام وجود الكهنوت أو رجال الدين في الإسلام. فانتفاء وجود تنظيم هرمي تراتبي، مثلما هو الشأن في المسيحية، لا يعني أنه لا توجد سلطة لرجال الدين في الإسلام. "وينبغي العلم بهذا الصدد أنه في الإسلام الكلاسيكي كما في الأنظمة المعاصرة فإن رجال الدين المسلمين يلعبون نفس الدور الذي كان يلعبه كهنة الكنيسة المسيحية في فترة ما قبل الفصل بين الدين والدولة في الغرب" (ص: 215) ومن خلال ممارسات الدولة في العالم الإسلامي وسعيها لحيازة مظلة دينية تمنحها المشروعية بهذا الاعتبار انقسمت طبقة رجال الدين في كل البلدان العربية والإسلامية "إلى قسمين: قسم مع الدولة، وقسم ضدها" (ص: 216).

وفي كتاب "قراءات في القرآن " يخلص أركون إلى أن هذه الأسئلة “طرحت في الأوساط اليهودية والمسيحية بخصوص التوراة والعهد الجديد. حاول علماء لاهوت وفلاسفة مشاهير منذ بضع سنوات تجاوز الإشكالات الكلاسيكية، لكي يستطيعوا التحدث عن الله بما يتناسب مع فكرنا الحديث ومعارفنا المعاصرة، ولكن مثل هذا الجهد التجديدي الكبير لم يحدث حتى الآن في ساحة الفكر الإسلامي. مثلاً، لا نجد في الساحة الإسلامية شخصيات فكرية لاهوتية تعادل أندريه نيهير (André Neher) بالنسبة إلى الفكر اليهودي، أو جان دانييلو (Jean Danielou) وإيف كونغار (Yves Congar) وجاك ماريتان (Jacques Martain) وإيتيين جيلسون (Etienne Gilson)…إلخ بالنسبة إلى الفكر الكاثوليكي، أو كارل بارت (Karl Barth) ورودلف بولتمان (Rudolf Bultmann)  وأندريه دوما (André Dumas )…إلخ بالنسبة إلى الفكر البروتستانتي” (قراءات في القرآن، ص 80).

لقد سعى أركون في كتابه إلى تفكيك “الدوغمائية الحرفية” التي ينهض عليها الخطاب الإسلامي الحركي والفقهي، في إطار صراعه التاريخي مع العقل الكهنوتي المتأسلم، وذلك انطلاقاً من “التوتر الصراعي الكائن بين العلوم الدينية أو التقليدية من جهة، والعلوم الدخيلة (الأجنبية) من جهة أخرى. هنا يكمن جوهر المشكلة. هكذا نجد أنفسنا وقد رجعنا إلى التقلبات الأيديولوجية التي طرأت على مكانة العقل وأنماط العقلانية المتصارعة داخل السياقات الإسلامية وذلك بدءاً من القرن الثامن ميلادي” (المرجع نفسه، ص 35). ثمة خلاصة هامة تشكل أحد أبرز الخلاصات الأساسية في الكتاب، يفسر فيها أركون أسباب تراجع “العقل الفلسفي” في الحضارة العربية والإسلامية. يقول: ” بعد الحضور الهش والمقاومة المشرفة للعقل الفلسفي في الإسلام الكلاسيكي، فإن تيار العلوم الدينية والقرآن اللامخلوق هو الذي انتصر وهيمن على العالم الإسلامي منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا. بمعنى آخر: إن المعتزلة هزموا والفلاسفة هزموا ولم ينتصر إلاّ التيار الحنبلي – الأشعري. إذا لم نأخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار، فلن نفهم شيئاً من شيء ضمن ما يحدث اليوم. إذا لم نفهم الماضي بل الماضي البعيد، فلن نفهم الحاضر” (المرجع نفسه، ص 36).

وهنا يقدم أركون نموذجا للمفكر النزيه الباحث عن الحقيقة الملتزم بشعار التوحيدي "نازعت الحق بالحق للحق" وهو مثقف نقدي يبتعد عن مغازلة السلطة بل كان ينتقدها ولا يفكر البتة في الاقتراب منها والتربح من وراء ذلك والرغبة في الشهرة والاستعراض عبر المحطات الفضائية والسعي إلى الجوائز والتكريمات والوصولية والطمع في المناصب والمكاسب بل كان يفضح أشكال الاستغلال والتلاعب واستغلال الدين لأغراض سياسوية (الكهنوت السياسي والديني) مما جعله مثقفا متخوفا منه لا تحبذ أي سلطة عربية الاقتراب منه ناهيك عن مساومته واستغلال اسمه كماركة تجارية للترويج لسياستها في محاربة الظلامية أو التطرف كما تدعي وهي ذاتها سلطة تفتقر إلى المشروعية السياسية والشفافية والعدالة والديمقراطية ومبدأ التداول على السلطة، وهذه نقاط مضيئة في مسار الرجل يجدر التنويه بها فقد عهدنا مثقفين يقدمون أنفسهم على أنهم نقديون أو تنويريون يمينيون أو يساريون قوميون أو وطنيون إسلاميون أو علمانيون سرعان ما ينكشفون على حقيقتهم إذ هم سلطة تريد مغازلة سلطة والتماهي معها وطلاب سمعة ورواد تربح يزيدون الطين بلة والأزمة طولا وعمقا باعتبار المثقف النبراس الذي تنكشف به الدياجر فإذا كان مجرد سامري يموه ويضلل بالعجل الذي يحسبه الناس إلها سيزيد في تخلف المجتمع واستبداد السلطة وعطالة الأمة من أي فاعلية حضارية أو علمية أو فكرية وصناعية.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.....................

المراجع:

1- ريتا فرج: محمد أركون: زعزعة اليقينيات و”اللاّمفكر فيه” في الإسلام، الهدف، الأربعاء 12 يونيو 2019 | 08:21 ص

2-إبراهيم مشارة : محمد أركون سبق التجديد أم أصالة الاجترار؟، ميدل ايست أونلاين، السبت 2021/07/03

3-أركون: الهوامل والشوامل حول الإسلام المعاصر»، دار الطليعة 2010

لعل من الظواهر الإنسانية الثابتة، والتي تتطلب قراءة عميقة لمعرفة العوامل والأسباب المفضية إليها، والطرق المناسبة، لتجاوز التأثيرات السلبية والمدمرة لهذه الظاهرة، أو التقليل من حدوثها وبروزها في الفضاء الإنساني . هي ظاهرة الكراهية والعداء والعداوة بين بني الإنسان . حيث تشترك عوامل عدة، موضوعية وذاتية، داخلية وخارجية، في بروز حالة العداء والعداوة بين الإنسان وأخيه الإنسان .

وكثيرة هي الأحداث والتطورات السياسية والاجتماعية والثقافية في المجالين العربي والإسلامي، التي تؤكد على ضرورة الإسراع في نبذ التعصب والوقوف بحزم ضد ثقافة الكراهية والإقصاء والتهميش. لأن هذه الثقافة، هي بمثابة الحاضن الأكبر والأساسي للعديد من الأزمات التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم.

كما أنها تؤسس باستمرار إلى صراعات داخلية خطيرة، ولا يمكن حماية استقرارنا السياسي والاجتماعي اليوم، إلا بنبذ ثقافة الكراهية وتفكيك جذورها التي تغذي عمليات الإقصاء والتهميش ضد المغاير حتى ولو اشترك هذا الأخير معهم في الدين والوطن.

ونظرة واحدة إلى طبيعة الأحداث والتطورات الداخلية التي تجري في العديد من البلدان الإسلامية، يجعلنا نعتقد وبشكل جازم أن هذه الثقافة (ثقافة الكراهية والنبذ والإقصاء) بمتوالياتها وتأثيراتها الاجتماعية والسياسية والسلوكية، هي المسؤولة عن الكثير من الأزمات والمخاطر، وهي صانعة للعديد من التوترات والاحتقانات المجتمعية.

وإن الحاجة اليوم ماسة وضرورية، إذا أردنا الأمن والاستقرار وحماية المكتسبات، إلى تفكيك هذه الثقافة التي لا تتوانى في خلق التطرف والإرهاب والأزمات المتلاحقة على أكثر من صعيد.

فاليوم وعلى مستوى العالم الإسلامي بأسره، لا استقرار اجتماعي وسياسي واقتصادي، إلا برفض ثقافة الاستبداد والتعصب والتشدد والتباعد ومتوالياتهما ولوازمهما المختلفة.

وفي إطار العمل على نبذ ثقافة التعصب والكراهية من فضائنا الاجتماعي، من الضروري التأكيد على النقاط التالية:

1- كسر حاجز الجهل بالآخر.  ولعلنا لا نبالغ حين القول: أن الجهل بالآخر أو تصور الآخر عن بعد وبعيداً عن وسائل المعرفة الحقيقية والسليمة، هو أحد الحوامل الرئيسية لظاهرة التعصب والتشدد والكراهية في الفضاء الاجتماعي.

لذلك فإن الضرورة قائمة وبشكل ملح لكسر حاجز الجهل بالآخر على مختلف الصعد والمستويات. بحيث انه لا يعقل بأي شكل من الأشكال أن نكون جميعاً حبيسي تصورات مغلوطة وملتبسة عن بعضنا البعض.

فالاستقرار السياسي والتماسك الاجتماعي اليوم، يتطلب معرفة دقيقة وموضوعية بالآخر بعيداً عن حروب الأوراق الصفراء والمماحكات الأيدلوجية والمساجلات المذهبية، التي لا تلتزم بأدنى متطلبات الحوار والفهم المتبادل. إننا مطالبون ومن مواقعنا المختلفة، إلى كسر حاجز الجهل عن بعضنا البعض. لأن الكثير من التوترات وحالات الجفاء والتباعد، هي من جراء جهلنا ببعضنا البعض. ويتغذى هذا الجهل باستمرار بخطابات ديماغوجية لا تمتلك من هم إلا هم تأكيد هذه القطيعة، ومن أفق إلا أفق المساجلات الأيدلوجية والمذهبية العقيمة وهذا التباعد بين مكونات المجتمع والأزمة الواحدة.

ونحن هنا لا ندعو إلى إلغاء نقاط الاختلاف الطبيعية والموضوعية بين مختلف المكونات والتعبيرات. ولكننا ندعو إلى ضبط عناصر الاختلاف بالمزيد من المعرفة الموضوعية المتبادلة.

وذلك لأن الجهل المتبادل وصياغة تصورات ومواقف من الآخر بعيداً عن مقتضيات العدل والموضوعية، هو المسؤول إلى حد بعيد عن استمرار ثقافة النبذ المتبادل بين المختلفين في الدائرة الاجتماعية والوطنية الواحدة.

آن الأوان بالنسبة لنا جميعاً، ومن أجل مواجهة المخاطر والتحديات المشتركة وصيانة وحدتنا الوطنية وحماية مكتسباتنا الاجتماعية والسياسية للعمل من أجل كسر حاجز الجهل الذي يغذي باستمرار ثقافة الكراهية والتطرف ضد بعضنا البعض.

وبون شاسع على المستويات كافة، أن نختلف على قاعدة الجهل المتبادل مما يحول هذا الاختلاف إلى مصدر للتوتر الدائم في مختلف مجالات الحياة. أو نختلف على قاعدة المعرفة المتبادلة التي تقودنا إلى المزيد من الحوار والتلاقي والفهم والتفاهم، بعيداً عن لغة التشنج أو خطابات القطيعة والنبذ والإقصاء.

لذلك فإننا ندعو باستمرار، ومن أجل مواجهة ثقافة التطرف والكراهية، إلى تأسيس الأطر والهياكل والقيام بالمبادرات التي تكسر حواجز الجهل المتبادل، وتضيء مساحة المعرفة المتبادلة. لأن هذا هو خيارنا من أجل نبذ الإرهاب وتفكيك موجبات الكراهية من فضائنا الاجتماعي.

ولنتذكر باستمرار قول الباري عز وجل {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} . (سورة آل عمران، الآية  102- 104).

فالمعرفة المتبادلة وكسر حاجز الجهل تجاه بعضنا البعض، هو الذي يحول دون تحويل الاختلاف إلى عداوة، وتعدد الآراء والاجتهادات إلى ساحة للصراع والنزاعات المفتوحة، والتي لا رابح منها إلا أعداء الأمة وخصومها الحاضرين والتاريخيين.

ولابد أن ندرك جميعاً وعلى ضوء تحديات المرحلة وتطورات الراهن أن كسر حواجز الجهل وتعميق أسباب المعرفة المتبادلة والعميقة تجاه بعضنا البعض، هي من الضرورات القصوى التي تمكننا من سد بعض ثغراتنا، وتمتين أواصر العلاقات الداخلية.

فالمعرفة المتبادلة والموضوعية اليوم، هي شرط الوئام الاجتماعي، وتعزيز التفاهم والتلاقي، وسبيل تنمية المشتركات وتفعيلها.

والحوار والتفاهم والتلاقي مع الآخرين، لا يلغي ضرورات الاعتزاز بالذات، ولكنه اعتزاز لا يصل إلى مستوى العصبية المذمومة، أو يكرس نظرة شوفينية واستعلائية للذات ضد الآخرين . انه اعتزاز بالذات لا يلغي متطلبات الوحدة وشروطها النفسية والأخلاقية. لذلك جاء في الحديث الشريف (العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم).

2- إن الالتزام بالفكرة على أي نحو من الأنحاء، لا يشرع للتعصب لها، وإنما هو يدفعك ويحركك نحو التجسيد العملي لكل جوانب الفكرة ومجالاتها وآفاقها، والمغاير لنا في الالتزام والقناعات والمواقف، نعترف بوجوده، وننظم علاقاتنا معه، ونتحاور معه حول كل القضايا والأمور، من أجل أن تتراكم أسباب المعرفة، وتتوطد عوامل العلاقة. إذ قال تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} (سورة آل عمران، الآية 64).. وبهذه العقلية تتجذر مفاهيم حقوق الإنسان، وتتأكد قيم التسامح والتعاون والتضامن.

وفعالية الحوار تنبع من أنه يجعل كل الآراء والقناعات والمواقف في ساحة التداول لتقويمها وتمحيصها وتطويرها. ولا ريب أن لهذه العملية التداولية تأثيرات إيجابية على الصعيد المجتمعي، حيث أنها تحرك الراكد، وتسائل السائد، وتبحث في آفاق وفرص جديدة وممكنة.

والالتزام الواعي بالأفكار، لا يمنع نقدها، وإنما يؤسس ويحفز على ممارسة النقد البناء والمعرفة العميقة.

والنقد في هذا الإطار، لا يتجه إلى الدحض والنقض، وإنما لتوليد رؤى وأفكار وصيغ جديدة، تحرك الراكد وتستفز الساكن، وتدفع الجميع نحو المزيد من الحوار والتلاقي.

وهكذا لا يتحول النقد إلى ممارسة عشوائية، قوامها النقض والاستفزاز، وإنما هو عملية قصدية وواعية تتجه إلى اكتشاف مساحات جديدة للنظر والتفكير، وحقول مميزة للعمل والحركة، وآفاق راهنة للتطلع وبلورة الطموح.

3- تنمية القناعات والمساحات المشتركة: فالقرآن الحكيم يعلمنا أن الحوار يستهدف الانطلاق من القواسم المشتركة، ويسعى عبر آلياته وأطره إلى تنمية المساحات المشتركة والعمل على تفعيلها. وبالتالي فإنه حوار لا يستهدف الإفحام والقطعية وإنما التواصل والتعايش.

لذلك فإن الجهود الوطنية والاجتماعية، من الأهمية بمكان أن تتجه صوب تنمية المشتركات وضبط عناصر التمايز والاختلاف، والعمل على تفعيل تلك المشتركات، حتى تتوفر في الفضاء الاجتماعي حقائق ووقائع جديدة قوامها التواصل والتضامن والتعايش، وعلى ضوء هذا نصل إلى حقيقة أساسية وهي أن مجابهة ثقافة الكراهية في الفضاء الاجتماعي، تتطلب كسر حاجز الجهل المتبادل وتوسيع دوائر المعرفة المتبادلة، وإطلاق مشروعات ومبادرات للحوارات المستديمة التي لا تستهدف الإفحام والمماحكة، وإنما توفير مناخ إيجابي لتطوير العلاقات الداخلية في المجتمع الواحد، والعمل على تنمية المشتركات وتفعيل عناصرها.

وذلك من أجل أن نخلق حقائق مجتمعية مضادة للقطيعة ومحفزة على التفاهم والتلاقي على قاعدة تنظيم دوائر الاختلاف وتحفيز خيارات الوحدة والوئام الاجتماعي.

والاختلافات العقدية والفكرية والسياسية بين بني الإنسان، ليست مدعاة ومبرراً لانتهاك حقوقه أو التعدي على كرامته. بل هي مدعاة للحوار والتواصل وتنظيم الاختلافات وضبطها تحت سقف كرامة الإنسان وصون حقوقه.

ولقد آن الأوان بالنسبة لنا نحن العرب والمسلمين، إلى إعادة الاعتبار إلى الإنسان ومقاومة كل حالات التعدي على حقوقه ومكتسباته. فالاختلاف مهما كان شكله أو طبيعته، ليس مبرراً ومسوغاً لانتهاك حقوق الإنسان. فالخالق سبحانه وتعالى أكرم الإنسان، ودعانا وحثنا جميعاً وعبر نصوص قرآنية عديدة على احترام الإنسان بصرف النظر عن لونه أو عرقه أو فكره، وصيانة كرامته وحقوقه.

والحرية بوصفها مصدر المسؤولية، لا تفضي بالكائن البشري إلى اختيار الحق والعدل والخير بالضرورة. بل تجعل الاختيار مفتوحاً على جميع الاتجاهات والاحتمالات. لذلك كان التاريخ البشري حافلاً باختيار الظلم والشر إلى جانب العدل والخير، وكان الإنسان مسئولا عن ذلك كله. أما الكائنات الأخرى، فليست مسئولة عن ما يعرض لها أو بسببها لأنها ليست كائنات مختارة. فالباري عز وجل لم يخلق الإنسان خلقاً جامداً خاضعاً للقوانين الحتمية التي تتحكم به فتديره وتصوغه بطريقة مستقرة ثابتة، لا يملك فيها لنفسه أية فرصة للتغيير وللتبديل، بل خلقه متحركاً من مواقع الإرادة المتحركة التي تتنوع فيها الأفكار والمواقف والأفعال، مما يجعل حركة مصيره تابعة لحركة إرادته. فهو الذي يصنع تاريخه من خلال طبيعة قراره المنطلق من موقع إرادته الحرة، وهو الذي يملك تغيير واقعه من خلال تغييره للأفكار والمفاهيم والمشاعر التي تتحرك في واقعه الداخلي لتحرك الحياة من حوله. وهكذا أراد الله للإنسان أن يملك حريته، فيتحمل مسؤوليته من موقع الحرية. ويدفعه إلى أن يواجه عملية التغيير في الخارج بواسطة التغيير في الداخل، فهو الذي يستطيع أن يتحكم بالظروف المحيطة به، بقدر علاقتها به، وليس من الضروري أن تتحكم به. فالإنسان هو صانع الظروف، وليست الظروف هي التي تصنعه. وعليه فإن تطوير واقع الحرية في الحياة الإنسانية، يتوقف على الإرادة الإنسانية التي ينبغي أن تتبلور باتجاه الوعي بهذه القيمة الكبرى أولاً، ومن ثمَّ العمل على إزالة كل المعوقات والكوابح التي تحول دون الحرية. فالحرية في الواقع الإنساني لا توهب، وإنما هي نتاج كفاح إنساني متواصل ضد كل النزعات التي تعمل على إخضاع الإنسان وإرادته. سواء كانت هذه النزعات ذاتية مرتبطة بحياة الإنسان الداخلية، أو خارجية مرتبطة بطبيعة الخيارات السياسية والاقتصادية والثقافية، التي قد تساهم في إرجاء الحرية أو تعطيلها ووأد بذورها الأولية وموجباتها الأساسية.

وما دام الإنسان يعيش على ظهر هذه البسيطة، سيحتاج إلى الحرية التي تمنحه المعنى الحقيقي لوجوده. ولكي ينجز هذا المعنى، هو بحاجة إلى إرادة وكفاح إنساني لتذليل كل العقبات التي تحول دون ممارسة الحرية الإنسانية على قاعدة الفهم العميق لطبيعة عمل سنن الله سبحانه في الاجتماع الإنساني. ومن هنا ومن خلال هذه المعادلة التي تربط الوجود الإنساني برمته بالحرية والإرادة والمسؤولية، فإن الكدح الإنساني سيتواصل، والشوق الإنساني إلى الحرية والسعادة سيستمر، والإحباطات والنزعات المضادة ستبقى موجودة وتعمل في حياة الإنسان. لذلك فإن الوجود الإنساني هو عبارة عن معركة مفتوحة بين الخير الذي ينشد الحرية والسعادة والطمأنينة القلبية، والشر الذي لا سبيل لاستمراره إلا البطر والطغيان والاستئثار.

ولكي ينتصر الإنسان في معركته الوجودية، هو بحاجة إلى الإيمان والعلم والتقوى، حتى يتمكن من هزيمة نوازعه الشريرة وإجهاض وتهذيب نزعات البطر والطغيان.

ولا يخفى أن شعور الإنسان بالأمن والطمأنينة في الحياة هو الشرط الضروري لكي يقدم على العمل والإنتاج والتعمير في الأرض. ففي مناخ الأمن النفسي تنمو القدرات الذهنية وتتجه نحو الإبداع، وتنشيط القدرات الإنجازية وتتضاعف فعاليتها ويزكو إنتاجها. فإنسانية الإنسان في جوهرها وعمقها مرهونة بحرية الإنسان. إذ أن الحرية هي شرط إنسانية الإنسان. وحينما يفقد هذا الشرط، يفقد الإنسان مضمونه وجوهره الحقيقي. لذلك فإننا نرى أن احترام آدمية الإنسان، ومجابهة أي محاولة تستهدف انتهاك حقوقه الأساسية، هي الخطوة الأولى في مشروع تحقيق إنسانية الإنسان. فالإنسان بكرامته وحرماته وحقوقه، هو حجر الأساس في أي مشروع تنموي أو تقدمي. لذلك فنحن بحاجة دائماً إلى رفع شعار ومشروع صيانة حقوق الإنسان وكرامته بصرف النظر عن عرقه أو لونه أو قوميته أو أيدلوجيته.

– انتهى –

***

محمد محفوظ

منذ الأزل لاندري كيف خُلق الكون بسمائه وأرضه، ومن خلقهُ، وبأي طريقة خُلق؟ وكيف ظهرت الأديان بشرائعها المتعددة والمختلفة محتوىً وتنفيذاً، كلها مجرد نظريات وهمية ليس لها في التاريخ من أصل، زمن طويل مضى حتى توالت نظريات الخلق، حين بدا العقل الانساني يقترب من ربط الظواهرنتيجة التطور الأجتماعي. وبمجرد ان اصبح العقل يُميز بين الحقيقة والوهَم، خطى الأنسان الخطوة الاولى في طريق الحضارة، من هنا بدأ يفكر ان هناك قوىً خفية تديرالكون، فمن هي هذه القوى ؟ فظلت الحَيرة تلازمه طويلاً، ؟

ومن أجل ان يتعرف عليها ليتخلص من الأخر المجهول، الجهل وفقدان القانون، هداه عقله الى ان هناك في السماء الاعلى يجلس عرش آلهي يُنظر اليه بقدسية الخالق العظيم، وان هناك معاييرقانونية صارمة وثابتة في الطبيعة تديرهذا الكون الكبير.

 بمرور الزمن ظهرت دعوات الاصلاح يقودها دعاة للناس سموهم بالمصلحين، منهم من حمل رسالة، ومنهم من جاء ناصحاً للعالمين، يخبرنا التاريخ كانوا 24 مصلحاً سموهم بالانبياء والرسل.

أخر الانبياء الثلاثة، هم موسى وعيسى ومحمد، كانت معهم كتب ورسالات مكلفين من خالقهم العظيم بنشر الفضيلة واحلا ل العدالة والسلام بين البشر، وحوت رسالاتهم اخبار السالفين والحاضرين وتنبأت بالقادمين، سميت "بالتوراة والانجيل والقرآ ن"، مصدرها واحد، اذن علامَ الاختلاف في العقيدة والمفاهيم.

ورسالة محمد (ص) تقول :"أنا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون، الحجر 9." وسُميت بالكتاب ايضاً، جاءت بتفصيلات عن كل ما غمض من مراسيم الحياة في العالمين، جزل اللفظ صعب المعنى حتى ان محمداً النبي لم يقم بتأويله حفاظا ً على حتمية النظرية التاريخية في التغيير، ليبقى القانون متغيراً تلبية لحاجات البشرأجمعين، وطلب منه الخالق العظيم ان يقرأ كتب الانبياء السابقين ليلمَ بكل مفاهيم الأله العظيم : "ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل، آل عمران 48".فدينه الانساني اخر الاديان لقوله تعالى."اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ألمائدة 3" فلم يعد الدين لنبي او وصي بل رسالة عدالة لمجتمع عاش في الوهم.

.من هنا ختمت رسالات السماء، نستطيع ان نتفق على ان نظرية الخلق جاءت تمييزا من حسابات الخالق العظيم الذي هو "الله" لهداية البشرية وحفظ القوانين التي ليس لأحد حق أختراقها، لأنها تمثل الحق المطلق والتي دونها في الوصايا العشر"اعدلوا ولو كان ذا قربى ". لكن التاريخ يقول لنا ان الانسان خلق جحودا ولم يلتزم بمنحة السماء حتى كان ظلوماً،

لكن التسمية لم تكن جديدة على الحضارات القديمة، العراقية والمصرية والزرادشتية وغيرها كثير.

ومع الاقرار بالتسمية الحضارية القديمة، لكن العدالة بين البشر ظلت مجرد قوانين لم تطبق من قبل السلطة تطبيقا عمليا الا في جزئياتها قبل رسالات السماء، لذا ظل الانسان لفترة طويلة يجهل العدل والقانون ولا زال لأنانيته المطلقة في نفسه بعد ان سيطرت الغريزة على العقل، فكانت الحروب والاعتداءات والظلم والقهر للأخرين، وحتى لا يصبح الدين اداة من ادواة الفُرقة والتدمير كما هو اليوم مطبقاً خطئاً دون اعتراض من مرجعيات الدين المعتمدين، هذا كافر، وذاك مؤمن، ولاندري، وهذا شيعي، وذاك سني، وعشرات مذاهب التزييف دون معايير الخلق في التطبيق؟ اذن لماذاجاءت الاديان موحدة دون تفريق؟

المصريون والعراقيون هم اول من اخبرونا بنظرية آلهة الدين قبل القرآن الكريم.وهما البلدان الوحيدان اللذان جاء ذكرهما في القرآن، مصرذكرت أربع مرات، البقرة 61، يونس87، يوسف 99، الزخرف 51، والعراق ذكرت بابل فيه مرة واحدة، البقرة 102، فهل لذكرهما علاقة بالايمان بعقيدة الدين ؟ أمر بحاجة الى مناقشة النص تأويلاً لا تفسيرا، لكن من يحاور او يناقش مرجعيات صامتة صمت القبور، لا همَ لها الا فتاوى التخريف،

نحن العراقيون ملكنا آلهة ودين وشريعة منذ عهد السومرين، آور نمو صاحب شريعة السومرين وحمورابي صاحب شريعة البابليين، وملكنا شريعة الابراهيميين التي خلفت لنا حضارة الزقورات، فقلنا ان هناك دينا واحدا عند الله هو الاسلام كما جاء في القرآن "هو سماكم المسلمين من قبل، الحج78، ".المصريون القدماء جاؤا بلا شريعة، لكنه شريعة الآلهة الفرعونية عندهم بقيت من العقائد القوية لسيادة قوة القانون، حتى تحولت الى عبادة دين الألتزام مع فقدان العدالة عند الفرعونيين لتطبيقهم دكتاتورية السلطة دون حدود، ومع هذا خلفت لنا حضارة ا لأهرامات التي لازال العلم الحديث يتابع فيها حقيقة البناء والتحقيق.

من هنا نقول : ان ديناً واحداً عند الخالق العظيم سماهُ الاسلام ( الدين عند الله الاسلام) الذي يشمل كل الديانات)، بدأ بنوح (ع) وتنامى متطورا ًمتراكماًعلى يد النذر والنبوات والرسالات، الى ان أختتم بالرسول الاعظم محمد (ص) (أنا أوحينا اليك كما اوحينا الى نوح والنبيين من بعده، النساء 163). وهو دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها، الروم 30)، وهي منظومة القيم والمُثل العليا، وهو العروة الوثقى، وهو السراط المستقيم ( وان هذا صراطي مستقيماً فلا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله الانعام 153)، فاين من اتباعه الذين يلتزمون اليوم وهو "الذي خلق الانسان من نفسٍ واحدةٍ، النساء 1" ولازال بحضارته الحالية المتقدمة قاصرا عن التحقيق لقوانين الدين، فالقدرة الآلهية أقوى وأعدل من كل القوانين.

 فلا رجال دين يحكمون، ولامذاهب تفرق بين الناس في الحقوق، فلماذ أ التحكم بالناس باسم الدين ورجاله بمذاهبٍ مُخترعين.هل جاء في الدين اسلام شيعي واخر سني وما يتبعهم بالعشرات من المذاهب الفارغة بين المسلمين، يلهثون وراء زيارات وادعية الصالحين يرجون شفاعة او مغفرة من المؤتمنين، ومن قال لك انهم الشفعاء عند الخالق العظيم، بينما الشفاعة تحددت بالوصايا الآلهية وتطبيقها ولا حاجة للدعاء والتشبث بالصالحين التي أنكرها الانسان قصدا، فلا حوائج منهم تأتي الا بعدالة القانون ؟ اذن كذب المنجمون واوهمتنا مرجعيات الدين بالوهم الذي به يقصدون، فديننا اليوم هو غير دين محمد (ص) الأمين، اذا أعترفنا وطبقنا ما جاء في النص المكين سنخرج من عنق الزجاجة الضيق الى الفضاء الكبير، الذي تخلفنا فيه كثير،

ولكي يفرق الانسان بأعتقادية الدين من عدمه، نتيجة غريزته المتغلبة على العقل، لذا بقيت حالات الاجرام والعدوان على الناس والاموال والاعراض والفساد والخيانة والهبوط بالانسان الى مستويات الاباحية والفوضى الخلقية وفي ارقي المجتمعات والى اليوم دليل، هنا لا بد من تسخير القانون الديني للتحضُر والحقوق وليس لعداواة الاخرين، كما في الحضارات القديمة والمجتمعات الحالية والى اليوم، رغم ان الاديان جاءت بالحقوق والواجبات بين الناس بالزامية التطبيق، فكانت الكتب والفرائض والمواعظ كل له دوره في التثبيت، ولكن ليس كما نزلت في كتب الخالق العظيم، فقد أخترقت، ورجل الدين كان وما زال أول المخترقين.أقرأ بنفسك ولا تصدق كتب التفسير المتعددة والمختلفة الناقصة التأويل،

جاءت فيها الفريضة بمعنى العطاء،، والموعظة، جاءت بمعنى التخويف والانذار والتنبيه، اما الحكمة فهي التبصر في الامور، وهي التذكير بالخير وقول الحق: "أدعُ الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، .النحل 125".لذا فالموعظة جاءت شمولية لحلول كثيرة.، وهناك الوصية الملزمة لقول الحق :"كتب عليكم اذا حضر احدكم الموت ان ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين البقرة 180".التي كانت حلا واضحا وعادلا لما ترتب عليها فهم جديد لقوانين الارث وأنصبته العديدة.فهل فهم المسلمون ما أنزل عليهم أمرأ وتطبيقاً، أم أتخذوه قراءةً وتجويداً، فأين التطبيق، في حقوق المرأة اليوم، وهل يقبل الخالق ان تُظلم المرأة وتستباح كرامتها وهو الذي خلقها من نفسٍ واحدة، ؟,هم يقولون عنها اذا مرت من امام المصلي تفسد صلاته، ياليتهم يعقلون.

أما العلاقة بين الله والناس فقد كانت ولازالت علاقة عبادية حرة، وليست علاقة عبودية أستبدادية مقيدة بأراء مؤسسة الدين، لان العبادات تتجلى في كل حقول الحياة. ولا زالت الدراسات الفقهية بعيدة عن اعطاء الحلول الواضحة او التفسير العلمي لحالات الرق والعبودية وملك اليمين والاكراه في الدين (لا أكراه في الدين )والمتهم فيها المسلمون بخرق حقوق الانسان، دون تبرير شرعي لها من الفقهاء سوى التحجج بقدسية النص والقبول به وعدم أختراقه، وهذا غير كافٍ للحجة والاقناع، فالحجة بالدليل. وانا اعتقد ان ليس لديهم ما يقدمونه من حجج ودليل ثبت للاخرين لقصر فهمهم وادراكهم للنص الديني المقدس، وهم يمنونا بالغزوات ونشر الاسلام وهي ليست فتوحات شرعية "فلا أكراه في الدين"وما حصلوا فيها من مغانم لا شرعية كالمال والجنس وما ملكت ايمانهم حتى اغرتهم وابعدتهم عن تطبيق النص وهذه منقصة شرعية يجب الاعتراف بها اليوم أمام العالمين.فنحن لا زلنا من المدانين.

من هذا المنطلق ندعو الى تعريف الكفر والشرك والاجرام والالحاد بعلمية النص لتخليص الناس من اتهامات الباطلين من المفسرين، فلا زالت الاصطلاحات مبهمة لم تُعرف سوى تعريفاً لغويا أحاديا وترادفياً، لعدم قدرة الفقهاء على اعطاء الصحيح، فالاسلام توحيد ومثل أنسانية عليا غير قابل للتسييس، وان محاولة البعض تسييس الاسلام، والبعض الاخر أسلمة السياسة، اضاعوا السياسة والاسلام معاً، لذا لا يمكن لمجتمع ان يتقدم وتقر فيه القوانين الا بفصل الدين عن السياسة حتى لا يكون تفسير النص المختلف وسيلة لتدمير عدالة القانون،

وحين نزلت شرائع السماء التي بدأت بنوح كانت شرائع لتنظيم حياة البشر وتحقيق الحقوق والواجبات بينهم، يقول الحق: (انا ارسلنا نوحاً الى قومه ان أنذر قومك قبل ان ياتيهم عذاب اليم، نوح 1) والانذار هنا الارشاد والتوعية، والعذاب الاليم العقاب نتيجة ممارسة الخطأ.لكن دعاء نوح لم يزدهم الا اصرارا على الخطأ والاعوجاج لعدم تمكنهم من استيعاب حركة الاصلاح والتغييرلجهلهم بمفاهيم الحياة والقيم العليا وتغير الظروف، حتى قال نوح على لسان خالقه: (فلم يزدهم دعائي الا فرارا، نوح6)، ورفض القرآن طلب نوح بأنقاذ أبنه من الغرق لأنه كان فاسدا، فالفساد جريمة بنظر الدين، من هنا تجلت قدرة الأية الكريمة "أعدلوا ولو كان ذا قربى. وطلب ابراهيم من الله ذبح ابنه أسماعيل فدية لله، لكنه لم يستطع بعد ان ردته السماء بقولها"أفعل بما تؤمر" وليس من حقك التصرف بالانسان، فكان الكبش هو البديل، من ساعتها انتهت التضحية في البشر كما كانت عادة عند المصريين ليقدمون فتاة جميلة كل سنة هدية للنيل. هكذا حمل النص المقدس للبشرية مجموعة القيم الانسانية التي تولدت منها قوانين البشرالصالحة للتطبيق وليس لمذهبية التفريق، فأين التطبيق في دول المسلمين ؟.

اذن لافرق بين الاديان كلها مادام القرآن يعترف بها، فالعامل الزمني لا يجسد التفريق، اما اركان الاسلام، فهي التوحيد والتصديق برسالة محمد والاخلاق والمساواة والوفاء بالعهود والقسم والشورى والجهاد في سبيل تحقيق مفاهيم العدالة ومحاربة الفساد والقدرة على الاستطاعة ورفض الغيبيات (لا يعلم الغيب الا الله)، "لو كنت أعلم الغيب لأستكثرت من الخير وما مسني السوء، الأعراف 188".، لذا حين حصروها بخمسة اركان (الشهادة والصلاة والصيام والحج اماتوا ما جاء فيها من تطبيق ليسود الحاكم ورجل الدين ومن هنا بدا الاستغلال بالقانون الديني العظيم من قبلهم حتى جعلوه سرابا لا يفهم منه الا الحدس والتخمين وما هم فيه راغبون.

.كلها قوانين ربانية لم يحسن الفقهاء شرحها للناس وفرز ما هو واجب ملزم وما هو حث على التنفيذ، فالقرآن يحوي الايات الحدية واجبة التنفيذ، والأيات الحدودية التي جاءت للعضة والاعتبار، فأضاعوا القيم الالهية بعد ان دمجوا الغث بالسمين من اجل مصلحة الحاكم ومصالحهم حين كونوا لانفسهم هالة دينية مقدسة لا تُخترق، والقرأن يرفض التقديس، (البقرة 174 ). وهي في الاصل تجاوز على التشريع.حتى قال المنصور العباسي :"انما انا سلطان الله في أرضه"تحديا للخالق العظيم، لكن الأكثر ايغالا في التخريب ان حولوا المنهج المدرسي الى وَهَم التخريف.فأصبح من الصعب نزع الفكر الخاطىء من رؤؤس القارئين،

اين كتابنا الذين يكتبون ومثقفينا الذي يفلسفون ومراكزنا البحثية الفاضية يهرجون، فماذا انتفعنا من الازهر الشريف، وجامعة الزيتونة، ومرجعية النجف، وقم، ؟غير الاختلافات والتفريق والتفاسير القرآنية التي تشعرك وكأنك تملك قرآئين لا قرآن واحد منزل من رب العالمين، هنا سر التخلف والانغلاقية والجمود في مجتمعاتنا العربية والانسانية الذين انتجوا لنا دساتير الأجبار والفُرقة والحلال والحرام واللامعقول، كتحريم التبني وتحليل مُلك اليمين، ونتحداهم ان جاؤا بحجة التحقيق.

واخيرا نقول ان الاسلام دين عالمي انساني لجميع البشر وليس خاصا باحد ٍ اضيفت اليه اضافات فقهية مسخت الكثير من مثله العليا مثل احتقار المرأة وما ملكت يمينك وتحويلها الى سلعة وهدر حقوقها. اما رفض المثل العليا وعم تطبيقها بالحق والعدل تطبق عليه الاية (ومن يرد ان يضله يجعل صدره ضيقاً حرجا كانما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون الانعام 125).وهنا منتهى حرية الرأي والعمل دون أكراه لكن اكثرهم لا يفقهون.

نحن بحاجة ماسة الى تصحيح المفاهيم وخاصة ما يتعلق بالعقيدة ونزعها من المحتكرين الذين اماتوا عقولنا وافكارنا وجعلوها مقفلة لا ترى النور، ومن يقرأ ويتمعن يرى ان لادولة اسلامية ولا دولة علمانية، ولا حزب اسلامي،، بل دولة الحق والقانون. وهذا هو الاسلام الذي جاء به محمد (ص) ولا من مجيب، يقول الحق :"ان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون، الانبياء 92".وأقره في دستوره العتيد المغيب اليوم عمداً، ونحن ندعوا للكشف عنه وهم الذين يستميتون من اجل عدم تطبيقه أو أظهاره للناس أجمعين، لانه بأظهاره هم ينتهون، فهل من حاكم عربي مسلم يتبنى نظرية الاسلام الصحيح لينقذه من برائن الطارئين، لمَ لا تكون لنا سابقة المجددين المصلحين، ام نبقى نتمشدق بما قاله السابقون من فقهاء التخريب كنقلة الحديث المزيف وتفسير النص بالترادف اللغوي وبلا حجة التثبيت، وندعي نحن المؤمنون؟

نحن مدعوون وملزمون الى وضع منهج جديد في أصول التشريع الديني القائم على البينات المادية واجماع أكثرية الناس، وان حرية التعبير عن الراي وحرية الاختيار، هما أساس الحياة الانسانية في الاسلام. وهذا ليست مِنَة من أحد، بل واجب مقدس ملزم بحدود ايات الكتب المقدسة الحدية ملزمة التنفيذ. يقول الحق: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، الفتح 28). والعاقبة للمتقين.

فلا مسلم ولا مسيحي ولا يهودي ولا غيرهم، بل الكل مؤمنين ومسلمين بموجب النص المكين، "المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات اعد الله لهم مغفرة ًواجراً عظيماً، الاحزاب 35"والنص الذي يقول :" ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عندربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، البقرة 62".

احترموا الحقيقة او بعضها، ولا تسمعوا من يفسرون النص المقدس تفسيرا ترادفياً من اصحاب مؤسسات الدين وهم يسرقون الناس بالقانون، الاسلام دين ثقافة يعطي لحياة الفرد والمجتمع خلاصة التجارب بعد كل الاديان الوضعية والسماوية للسابقين، لتطبق بحقهِ الوصايا العشردون تفريق، الاستقامة والعدل، كفاية يا رجال السلطة والدين فقد تأخرنا كثيرا، لا بل ضعنا بين الامم وأصبحنا في أخر الركب من المتخلين، أفصلوا الدين عن السياسة، حماية للدين من مفاسد السلطة والسياسة معاً،

***

د.عبد الجبار العبيدي

تفرض المحنةُ الكارثية السُّؤال: هل قادة الدول يحسبون حساب الكوارث الكبرى، وينظرون في تفاقم النزاعات، والتّربص لتغيير الأنظمة، بدوافع عقائديَّة، وتصدير الأزمات، والحاجة إلى التَّضامن؟! بدا ذلك جلياً في الوباء العالميّ(2020)، ظهرت دول عديدة منزوعة القُدرات، بينما قدراتها هائلة في زلزال عدم الاستقرار لغيرها.

تحتاج الفاجعة العظمى (6 فبراير2023)، بتركيا وسوريا، إلى التَّفكير بمصائر النَّاس، قبل الجموح بتصدير العقائد واستدامة الخلاف، وتسليم الشُّعوب للهاوية، فلا بلداً معتوقاً مِن الكوارث العِظام ولايحتاج التَّعاضد، وهذا قد يعيقه التَّغالب ومحاولات بسط النفوذ بالدسائس. لقد سُمعت المناجاة، واستعر الجدل، عندما زلزلت الأرضُ زلزالها فجراً، ولا مقياساً لهلع مَن استيقض ووجد نفسه بين الأحجار.

مَن جعل الزَّلازل غضباً إلهياً، فقيل سببها عدم مناصرة «طالبان في تحطيمهم لأصنام بُوذا» (الحِمَيد، التَّفكر والاعتبار). آخر فسرها غضباً لعدم الرَّد على حرق القرآن بالسُّويد (بيان الصَّدر)، ومَن اعتبر معاصي حفلات الموسيقى والغناء سبباً (تغريدة مطلق الجاسر). نلاحظ أنَّ الصَّحويين يستغلون الآلام لإظهار نوازعهم، تاركين ما خلق الله في العقل.

نجد في تاريخ الفكر، الدينيّ والعقليّ- نتحدث عن تاريخ الإسلام- ودخلت الزَّلازل في الجدل لأثرها المدمر. كانت عصارة الفكرة الدّينيَّة: «وَلما كَانَت الرِّيَاح تجول فِيهَا وَتدْخل فِي تجاويفها، وتحدث فِيهَا الأبخرة، وتخفق الرِّيَاح ويتعذر عَلَيْهَا المنفذ، أذن الله سُبْحَانَهُ لَهَا فِي الأحيان بالتنفس فَتحدث فِيهَا الزَّلازل الْعِظَام فَيحدث من ذَلِك لِعِبَادِهِ الْخَوْف والخشية، والانابة والإقلاع عَن مَعَاصيه»(ابن القيم، مفتاح دار السَّعادة).

أمَّا الفكرة العقليَّة فمفادها: «أمَّا الكهوف والمغارات والأهويَّة، التي في جوف الأرض والجبال، إذ لم يكن لها منافذ تخرج منها المياه، بقيت تلك المياه محبوسة زماناً، وإذا حمى باطن الأرض وجوف تلك الجبال، سخنت تلك المياه ولُطفت وتحللَّت وصارت بخاراً... انشقت الأرض في موضع منها، وخرجت تلك الرِّياح مفاجأةً، وانخسف مكانها، ويُسمع لها دويُّ وهدةٍ وزلزلةٍ، وإن لم تجد لها مخرجاً، بقيت محتبسةً، وتدوم تلك الزَّلزلة»(إخوان الصَّفا، الرِّسالة الخامسة مِن الجمسيات الطَّبيعيات). إذا اعتبر الفريق الدِّينيّ أن سبب الكوارث المعاصي، «نسبت الفلاسفة والحكماء هذه المصنوعات إلى القوى الطّبيعية»(إخوان الصَّفا، الرِّسالة السَّابعة).

يبدو الفيلسوف الكندي(تـ: 260هج) صاحب السّبق، بدلالة رسالته المفقودة «في عِلم حدوث الرِّياح في باطن الأرض المحدثة كثير الزَّلازل والخسوف»(النَّديم، الفهرست). توجد رسائل كثيرة في التراث بشأن الزَّلازل، لا يسع المجال ذِكرها، أطرفها عنواناً «قلائد العقائل في ذِكر ما ورد مِن الزَّلازل»، و«كشف الصَّلصلة عن وصف الزَّلزلة». أمَّا «الإنذار بحدوث الزَّلازل» لابن عساكر(تـ: 571هج)، لم نعثر عليه، لا تظنوه دراسة في قشرة الأرض وتوقع الزَّلزلة!

أفظع الزَّلازل ما حدث (369هج) «حتَّى ظن النَّاس إنها القيامة قد قامت»(الدَّواداريّ، كنز الدُّرر). هذا، ولا ندري لماذا كنى حذاء نفسه بأبي الزَّلازل، وآخر عُرف بابن أبي الزَّلازل، وأن مغنياً بغدادياً عباسياً سُمّى زلزلاً، وقائمة المتسمين بالزَّلازال، والزَّلزلة تطول.

إنْ نسيت مِن أمرٍ فإني ذاكرٌ جهدَ الأكاديميّ عبد الله يوسف غُنيم في شأن الزَّلازل، وكتابه الجامع المانع، دفعه لتاليفه زلزال اليمن الشَّماليّ(1982) «سِجل الزَّلازل العربيّ.. أحداث الزَّلازل وآثارها في المصادر العربيَّة»(الجمعية الجغرافيَّة الكويتيَّة 2002).

استوحيت عنوان المقال مِن محمَّد مهدي الجواهريّ(تـ: 1997)، وهو ينحت مِن غضب الطبيعة رائعته، مثلما كان فجر السَّادس من فبراير(شباط) الجاري: «ما لهذي الطبيعةِ البكرِ غَضْبَى/أَلها أنْ تثورَ نَذرٌ يُوفّى/ أَبْرَقَتْ ثم أَرْعدت ثم أَلقت/ حِمْلَها تُوسِعُ البسيطةَ قَصْفا/زَحَمَتْ كلَّ ثَغْرةٍ واستباحتْ/ شُرُفات البُيوت صفّاً فصفّا»(الدِّيوان، يومان في فارنا 1973). نعم استباح زلزال(2023) المنازل صفاً صفاً، والضَّحايا تجاوزوا حتى السّاعة(33) ألف ضحية.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

15 فبراير 2023

مادتي هذه عن اقتصاديات الزراعة الوطنية. الفلاح ومهنة الفلاحة وارتباطها باقتصاد الوطني للدول من الامور المهمة. سالني استاذي رحمه الله، المشرف على اطروحتى للدكتوراه عن سبب استمرار انتاج الفلاح للمحاصيل رغم ان كلفة الانتاج أغلى بكثير من المحاصيل المستوردة.

 في واقع الامر هناك اسباب عدده لاستمراره في الفلاحة والانتاج الزراعي. قد يكون الفلاح اميا ولا يوجد لديه اي مؤهلات في اختيار مهنة اخرى. وربما هو مجبر على الاستمرار بارتباطه بعقد ما او يعمل اجيرا عند اقطاعي (الأغا) يملك الارض. وربما هي المهنة الوحيده التي يجيدها. او يجب عليه اطعام افواه من ابناء عائلته يكفيه وعليه ان ينتج ما يشبع بطنة وبطن عياله. طبعا هناك عشرات الاسباب والاسباب لاستمراره في عمله وكل تلك الاجابات صحيحة على المستوى الشخصي. لكننا هنا نتحث عن وجود محاصيل منافسه استوردت من خارج الحدود. اذن يجب ان نفكر في مسار جديد. ماذا يعني وجود محاصيل رخيصة في الاسواق تنافس المحلي، الوطني. هل تكلفة انتاج المحصول الاجنبي اقل من المحلي. كلا بالتاكيد.. ما تسمى بسياسة الهيمنة الاقتصادية على الدول (استعمار اقتصادي) يشمل استراتيجية بعيدة المدى لتلك الدول للهيمنة على مقدرات الشعوب واستبعادها. قد تكون تلك سياسة مكلفة لهم ولكن ارباحها المستقبلية هائلة ومن كافة النواحي السياسية، الاقتصادية والبيئية.

الفلاحة هي اولى المهن العقلية اي يحتاج الى معرفة بالفصول، تخطيط واستمرارية التنفيذ. من حيث حراثة الحقل وتحضير الارض وربما تسميده ووقلع الشوائب والاعشاب المضرة. وهذا يحتاج الى جهد كبير وزمن والالات ومعدات. يحتاج كذلك الى البذور ونشرها في الحقول ثم سقيها بالماء. السقي يحتاج الى الماء والى نظام اروائي وقنوات تصريف ومبازل وربما الى انشاء سدود لخزن مياه المطر. الغلة تحتاج الى العناية بها في سايلوات انتظارا لتسويق المنتوج ومن ثم على الفلاح جني المحصول وخزنه او تسويقه. يصل المحصول الى (العلوة) سوق الجملة في هذا المكان يتجمع فيه التجار الصغار ليشتروا المحاصيل ثم يبيعونها للمستهلك. اي ان عملية الزراعة تاخذ وقتا وجهدا. بينما استيرادها تختصر العملية بالكامل وربما نحتاج الى العلوة وبائع الخضروات، فقط. لان تكلفة تأمين ايصال الغلة والمحصول تكون احيانا على البائع وحسب العقد المبرم، أحيانا.

الفلاحة قارئي الكريم، مهنة مقدسة رغم ان ابناء الحضارات العراقية القديمة كانوا يرون في مهنة الصيد شرفا ورفعة وفخرا لهم وبقى ذلك تراث لشعوب العراق لحد يومنا هذا.

4850 التفاح والكمثرى

حيث يحتقر ابناء الريف المهنة بصورة عامة ويمجدون الصيد. لن ادخل في تفاصيل الصراع التاريخي بين الفلاح والصياد او الراعي ، هابيل وقابيل وقبول الالهة لضحية احد الطرفين على الاخر مما ادى الى صراعهم المميت. الاكل يدخل ضمن الغرائز الانسانية وعلينا يجب ان ناكل خلال اليوم عدد من المرات. اما الصيد فهو يعتمد على حنكة الصياد وملائمة المكان والزمان مع وجود الضحية واحيانا يلعب الحظ دوره. الضحية قد يكون حيوانا بريا او من صيدا بحريا او نهريا. وهي اي الصيد مهنة الكسالى اللذين يريدون الضفر بالضحية بسرعة ودون جهد او انتظار. بينما على الفلاح ان يصبر عاما بعد عام واذا حل الجفاف جاء عليه بالمصائب. احيانا. هناك ايضا مهنة الراعي لكن دور الراعي هو حماية القطيع وتوجيهه الى اماكن وجود العشب والكلئ وبحماية القطيع من هجوم الوحوش. الفلاح يبقى هو من الاختيار الصعب كمهنة ويتركها المرء فور وجود البدائل. اما الصيد فقد تحول من مهنة الى مجرد هواية. ما اريد قوله ها هنا بان الفلاح العراقي ترك ارضه فور ما وجد البديل. وهذا حصل كذلك في الاقليم. حين غزت الاسواق المحاصيل المستوردة من ايران وتركيا وسوريا والرخيصة مقارنة باسعار المنتوج المحلي.

اعود الى جواب السؤال المطروح في البداية هذه المادة.

كل ما ورد من اجوبة على ألسؤال اعلاه صحيحة كما ذكرت. الا ان للدول اقتصاد وطني يساند استقلاليتهم كدولة حرة ذو سيادة ومستقلة. اي ان من مقتضيات الاقتصاد الوطني واستقلالية قرار البلاد استمرار الفلاح بالعمل والانتاج حتى لو كانت كلفة الانتاج باهضة. ان استمرار الفلاح في الانتاج حتى لو كان كلفة المحصول غاليا من مقتضات استقلالية الاقتصاد الوطني. ولذا على الدولة مؤازرة الفلاح ومساعدته ماديا عن طريق الموافقة على اعطاء قروض مناسبة بواسطة البنك الزراعي وعن طريق شراء محصوله او تزويده بالسماد والالات الزراعية، كذلك. اما المواطن فيقع عليه تشجيع المنتوج الوطني رغم كونه غاليا. وبترك وهجر شراء المستورد منه. وبذلك سنرى بمرور الزمن اختفاءه المحاصيل الاجنبية من الاسواق المحلية وانخفاضا في اسعار المنتوج المحلي. لانه وكما نعلم من طبيعة الخضروات والفواكة انها طازجة اي انها تتعفن مع مرور الزمن وبسرعة وليس قابلا للخزن لمدة طويلة. هذا ما لمسته في السويد فالموطن السويدي يدفع اصعافا ثمن المنتوج المحلي من لحوم وفواكه وخضراوت. وسالون دوما عن مصدر الفواكه ويجب كتابة مصدر الفاكهة والخضراوات على جميع المواد المعلبة.

 احدهم سيجيب قائلا:

 هناك خلط بين التفاح والكمثري، كما يقولون في السويد. وهذا لا يجوز لانه تخرج من التفاحة غازا يؤدي الى تعفن فاكهة الكمثري.

وهذا هو مربط الحديث (الحچي).

*** 

د. توفيق التونجي

يمر المجتمع البشري بكوارث طبيعية كزلازل وبراكين وأعاصير وفيضانات وأوبئة، كما يمر أيضا بكوارث يصنعها الإنسان كالحروب وصنع الأسلحة التي تفتك بالبشر، ويذهب ضحيتها الأبرياء، وفي كلتا الحالتين الطبيعية والبشرية تبقى النفس البشرية واحدة، تجمعها ماهية إنسانية واحدة، لا تتمايز بين شرق وغرب، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين معتقد وآخر، فأي نفس يلحقها ضرر في أي جزء من الأرض فكأنما يلحق جميع المجتمع البشري، ويكون ضحيتها جميع البشر.

هناك من يتشفى لحدوث حوادث طبيعية أو بشرية لأمة ما، وذلك لاختلافات سياسية أو عرقية أو لاهوتية، فيفرح لدمار الآخر وهلاكه، وهناك من يجعل نفسه نائبا عن الإله ليحكم على البشر، فيجعل ما يصيب المختلف عنه في المعتقد من ضرر وكوارث في خانة الغضب الإلهي، فيفرح لذلك، ولو كان الضحايا من الأطفال والنساء.

كما أن هناك من يمايز في الإعانة والوقفات الإنسانية، فإن أصيب مجتمع ما يوافقه سياسيا أو عرقيا أو لاهوتيا؛ استنفر إعلاميا، وما يتبع ذلك من إغاثة ومساعدات مادية ومعنوية، وإن أصيب مجتمع آخر يخالفه سياسيا أو عرقيا أو لاهوتيا اكتفى بالسكوت، أو بالحديث والمساعدة على خجل، وقد يتطور إلى عرقلة الإعانة، أو إصدار الأحكام اللاهوتية المسبقة.

علينا اليوم ونحن نعيش عالما إنسانيا واحدا أن نتجاوز الاختلافات التكوينية الطبيعية كاللون والجنس، والاختلافات الكسبية كاللغة والدين والمذهب والقطر، فهذه اختلافات في جملتها سننية في المجتمع البشري، لها جوانبها الإيجابية إذا ما نظرنا إليها من ماهية الإنسان الواسعة بين الكل، أو من مركزية الطبيعة الواحدة عند من يرى ما بعد الإنسانية، أو من الرحمة اللاهوتية الشاملة كما عند الغنوصيين والعرفانيين، أما إذا نظرنا إليها من الزاوية الضيقة كالعرق أو الهوية أو الدين أو المذهب ضاقت، وإذا ضاقت تصارعت وتنافرت، فكانت عنصر بلاء وهدم وفساد في الأرض.

فإن لم نستطع تجاوز ذلك في الرخاء، فعلى الأقل نتجاوزه في الشدة والبلاء، فالبلاء ضرر يعم الجميع، ففيروس كورونا مثلا لما أصاب الصين في الابتداء؛ فرحت أمم بذلك، لاعتبارات اقتصادية أو سياسية أو لاهوتية، فمنهم من رآه عقابا إلهيا لهم، فإذا به بعد فترة بسيطة يعم العالم أجمع، وتغلق لانتشاره جميع دور العبادة في جميع الأديان، كما أغلقت بسببه المدارس والأسواق وغيرها من الخدمات، ولم ينقذ العالم إلا العلم الذي تعامل مع المرض طبيعيا سننيا، ثم تعامل معه إنسانيا في العلاج بلا تفريق بين أحد.

كذلك هذه الكوارث الطبيعية لا تفرق بين أحد، ولا تمايز بين دين وجنس ولون، فهي سننية في الطبيعة وجدت منذ نشأة الكون، ولازمت تطوره، ولا زالت تتكرر بين حين وآخر، فمناطق تتأثر بالزلازل بشكل متكرر، ومناطق أخرى تتأثر بالبراكين والفيضانات والأعاصير، كما تتأثر مناطق من الأوبئة وشح المياه والتصحر وارتفاع الحرارة أو موجات البرد القاسية، فهي حالة طبيعية سننية لا يصح أن تربط لاهوتيا، ونعطي بها تفسيرات لاهوتية نمايز بسببها ومكان وقوعها بين البشر، فإن أصابت من يوافق اعتبرت رحمة وحبا إلهيا ضمن دائرة الابتلاء، وإن أصابت من يخالف أدخلت في الغضب الإلهي.

بل حتى على مستوى الأفراد، فكل فرد يعاني من أمراض ونواقص تختلف عن الآخر، فهناك من يعاني من نقص في السمع أو البصر، أو يولد وبه عرج أو تشوه في الجسم، وهناك من يولد دميما، كما أن هناك من يكسب أمراضا بسبب الغذاء أو بسبب التقدم في العمر أو الشيخوخة، وهذه حالة سننية طبيعية، المجال فيها للعلم وليس للأحكام المسبقة.

ثم إن الله رمز المحبة والرحمة بين البشر، خلقهم من الابتداء مختلفين، يسودهم التنوع والاختلاف الطبيعي والكسبي، ولولا هذا الاختلاف لما استطاع الإنسان عمارة الأرض وإصلاحها، فمحبة الله ورحمته تكمن في هذا الاختلاف بين البشر، وتحويل هذا الاختلاق السنني إلى صراع وتمايز باسم الإله هو تأييد لنظرية الشر عند من يستند إليها من غير اللاهوتيين.

لهذا ينبغي أن ننظر إلى المجتمع البشري، وما يصيبه من حوادث طبيعية أو بشرية بعين الحب والرحمة، وبعين ماهية الإنسان الواحدة، حيث يكون المجتمع البشري على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وألوانهم وأديانهم وأقطارهم وهوياتهم يدا واحدة في إعانة من أصيب بشيء من هذه الحوادث، مع التخفيف عنه في البلاء، وتحقيق كرامته الإنسانية.

الله أخبر في كتابه عن العديد من الآيات التي أصابت الأمم السابقة؛ لتحذر من سننيتها الأمم اللاحقة، فهو إخبار عن الغيب بمعنى الماضي، كما أنه إخبار عن الغيب بمعنى النسبة إلى الله، لكنه لم يأمرنا أن نتقمص دور الإله في الحكم على البشر، فالحكم لله وحده، هو أعلم بعباده، وكل ذلك وفق سنن طبيعية أوجدها في الطبيعة، على الإنسان البحث في هذه السنن، وكشفها لخدمة الإنسان، كما له حق الوعظ؛ لكن ليس من حقه أن يتقمص دور الإله.

وينطبق هذا تماما فيما حدث مؤخرا في تركيا وسوريا من زلزال مرعب، راح ضحيته آلاف الضحايا من مختلف الأعمار، فيجب على المجتمع الإنساني أن يقف يدا واحدة في رفع هذا البلاء، وإعمار الأرض، والتقدم في العلاج الصحي والنفسي للأحياء وذويهم، وهذا ينطبق تماما لأي أمة أو جنس آخر، فعلينا معاشر البشر أن نتجاوز اختلافنا في الشدة والرخاء، وأن نجعل من الاختلاق عنصر بناء وثراء، ويتحقق صدق ذلك من كذبه في الشدة كهذه الكوارث قبل الرخاء.

هناك اختلافات تحدث لاعتبارات سياسية أو أيدلوجية خصوصا في الوضع السوري حاليا مثلا؛ ولكن يبقى الإنسان هو الإنسان، وهو بماهيته أكبر بكثير من أي قطر محاط بحدود جغرافية أو إجرائية، فالإنسان يتمثل فيه صورة الجمال الإلهي، كما يتمثل فيه صورة الوجود بتعدده وفنه وجماليته، فعلينا أن لا نفرق بين أحد، وأن نكون يدا واحدة مع الجميع لمشترك الماهية الواسعة.

وما حدث من دول خليجية وعربية ودولية، ومنها سلطنة عُمان، من تحرك سريع من الابتداء، في إعانة المتضررين في الدولتين، متجاوزين اللغط السياسي خصوصا؛ لهو صورة جميلة تجسدت واقعا في خدمة الإنسان، كما أنه درس إنساني يكسر جميع الحواجز التي تحاول أن تعوق ذلك، وأن تستغل الأحداث والخلافات الحالية لانتصارات فئوية وهمية، يكون ضحيتها الإنسان ذاته.

إن المشترك الذي يجمعنا مع سوريا وتركيا، ممن أصابهم هذا الحدث الأليم، مع الرحمة لجميع الضحايا؛ يجعل المسؤولية بالنسبة لنا أكبر من غيرنا، وعنصر القربى في الجوار يرفع من درجة إلزامية المسؤولية في خدمة الإنسان، والذي بلا شك سيتجاوز الإعانة إلى الإعمار، وعودة الحياة من جديد إلى طبيعتها، وإن كان الفقد مؤلما، فإن إرادة الإنسان تبقى قوية، ولولا هذه الإرادة وتحملها لما عمرت هذه الأرض وأصلحت، فكم من خراب صنعه الإنسان فيها، وكما من بلاء كان بسبب طبيعتها وسننها، ولكن تجاوزها الصالحون الذين يصلحون الأرض ويعمرونها أمة بعد أمة، وجيلا بعد جيل.

فاليوم ونحن في عالم فضاء الإنسان الواسع، وفي القرية البشرية الواحدة؛ لا أقل أن نتجاوز جميع الخطابات التي تفرق بين البشر، وتسعد لأي كارثة تصيب أمة ما، وتظهر رؤيتها الضيقة في التفريق بين البشر في الإعانة، بل علينا أن نجسد الماهية الإنسانية الواحدة، إلى واقع إنساني يقوم على المساواة والعدل بين البشر، فإن كان التطبيق أبعد من ذلك، وأقرب إلى الأمنيات؛ فلا أقل أن يكون ذلك واقعا خطابيا دينيا أو ثقافيا أو سياسيا، فإن تحقق الخطاب وفق ذلك، سوف يؤثر في التطبيق بعد حين، ولو لأجيال تالية، فهي سنة الحياة، حيث الكلمة والإرادة والتضحية وفقها تؤتي ثمرتها بعد حين.

***

بدر العبري

لا يوجد شعب في العالم موصوف بالحب كالشعب العراقي.. دليل ذلك ان قلوبهم في الحب تبقى تنبض به برغم ان مصائبهم عبر اثنتين وأربعين سنة.. مسلسل تراجيدي من فواجع واحزان وحروب كارثية حمقاء وحصار اكلوا فيه خبز النخالة المعجون بالصراصر واحتراب طائفي وفقدان ملايين الأحبة بين قتيل واسير ومفقود ومعاق ومهاجر.. وشاهد قديم معاصر ان العراق بلد الشعر وأن قلوب الشعراء لا تنظم الشعر الا حين تكون مسكونة بالحب.. فيما العشق عند العراقيين.. جنون!. وأنهم اهل طرب وكيف.. من صغيرهم الى كبيرهم. شاهد ذلك أن (ناصر الاشكر.. الأشقر).. الذي سميت مدينة الناصرية باسمه، كان يعقد في الأماسي جلسات طرب، وكان يقول لمن يدخل مجلسه (لو تون لو ترتاح لو تلزم الباب!).

قد يكون تفسير حب العراقيين للحب يكمن في جيناتنا، فالذي اعرفه أن اول آلة قيتارة واول عود وأول نص غنائي.. كانت من صنع السومريين، ما يعني أن اجدادنا السومريين هم اول من عزفت اوتار قلوبهم للحب وغنت له، وأننا ورثناها منهم.. ام ياترى أننا ورثناها من مجنون ليلى الذي خفق قلبه لها لحظة رأى الرماح وهو في ساحة الحرب فانشد قائلا:

(فوددت تقبيل السيوف لأنها.. لمعت كبارق ثغرك المتبسم)

ام عن جميل بثينة الذي ما احب سواها وحفظ سرها:

(لا لا ابوح بحب بثنة، انها اخذت عليّ مواثقا وعهودا)

ام عن الوسيم الرومانسي عمر ابن ربيعة الذي له قلب يسع من الحبيبات ما لا تسعه سيارة "كوستر"!:

(قالت الكبرى اتعرفن الفتى؟.. قالت الوسطى نعم هذا عمر

قالت الصغرى وقد تيمتها.. .قد عرفناه وهل يخفى القمر)

ام انهم غرائزيون على طريقة رؤبة بن العجاج:

(واها لسلمى ثم واها واها، ياليت عيناها لنا وفاه)

ام رقيقون شفافون مثل ابي صخر الهذلي:

(واني لتعروني لذكراك هزّة.. كما انتفض العصفور بلله القطر).

الحق اقول انهم موزوعون بين هذا وذاك، وأن كل واحد منهم هو (فالنتين عراقي) على طريقته الخاصة، مع ان قصة فالنتين ما كانت لها علاقة بالحب العاطفي. فأصل الواقعة ان الامبراطور الروماني.. كلوديوس الثاني اصدر قانونا يمنع الرجال في سن الشباب من الزواج بهدف زيادة عدد افراد جيشه لاعتقاده ان الرجال المتزوجين ليسوا كفوئين.وتذكر " الأسطورة الذهبية" التي اوردت القصة، ان القسيس فالنتين قام باتمام مراسيم الزواج للشباب في الخفاء. وحين اكتشف الامبراطور ذلك امر بالقاء القبض عليه واودعه السجن. وتناقلت الروايات ان فالنتين قام بكتابة اول "بطاقة حب" بنفسه في الليلة التي سبقت تنفيذ حكم الاعدام فيه اهداها الى حبيبة افتراضية موقعا اياها باسم "من المخلص فالنتين".

تلك هي الواقعة، لا كما يظن كثيرون انها بين اثنين من العشاق، لكنها شاعت بين الناس لسبب سيكولوجي أزلي خلاصته.. ان الانسان لديه حاجة الى ان (يحب وينحب). ولقد انشغل الفلاسفة في تفسير تلك الحاجة الى جانب علماء النفس مثل فرويد في تفسيره (لغريزة الحب) واريك فروم في كتابه (فن الحب)، فوجدوا ان سبب الحب هو حاجة الانسان الى (التعلّق) بشخص او جماعة او وطن.ومع انهم عدّوا الحب من اجمل الفضائل.. فاننا نرى ان الحب هو (خيمة) الفضائل كلها.. لأن الحب يقضي على شرور النفس وامراضها.. فان تحب فهذا يعني انك لا تكره، وانك تتمنى الخير للآخرين، فضلا عن ان الحب يجلب المسرّة للنفس والناس ويجعلك تحترم حتى الطبيعة وتعمل على ان تجعلها جميلة، باسثناء السياسيين الذين تشغلهم السياسة عن الحب، واليك الدليل.

نموذجان.. ضدان!

في معرض بغداد الدولي للكتاب (2019) كان هناك حفل توقيع كتابنا (سيكولوجيا الحب) والى جانبي مجموعة من المحبين بينهم الصديقان مفيد الجزائري والشاعر الدكتور عارف الساعدي، وجاء معمم (أشقراني) سياسي قيادي وعضو برلمان ومعه حمايته.. مرّ من أمامنا.. نظر واجتاز.. فقلت له:

مولانا، تفضل أخذ هذا الكتاب هدية منّي.. اقرؤه وتعلموا الحب!.. فخجل ودفع ثمنه لصاحب المكتبة، فيما كانت هناك حكايات اجمل من حكايات الف ليلة وليلة، شهدنا واحدة منها ولا أجمل، ففي وثبة شباب وشابات تشرين، تقدم شاب في ساحة التحرير نحو شابة.. ركع أمامها ومدّ يده نحوها وبين أصبعيه خاتم خطوبة!.

وبالصريح، لا يوجد شيء في الدنيا اجمل واروع من الحب، لأن الحب هو الفرح، هو النضج.. هو الكمال.. هو اليقين بأنك موجود.. باختصار، الحب هو الجنة التي يأتي بها الحلم الى الدنيا لتعيش فيها آدميتك كأنسان، ولهذا فانه صار شعار كل الاديان الذي دفعهم الان الى تخصيص يوم عالمي باسم (اليوم العالمي للوئام بين الأديان).

لقد صار يقينا ان العراقيين موصوفون بالحب، وما يجعلك تفرح.. تغني.. تثق بأنهم صنّاع حياة، انك تراهم يتفننون في التعبير عن (عيد الحب). فبرغم ان (2018) كانت من افشل سنوات حكم أحزاب الأسلام السياسي، فانهم طرزوا شوارع بغداد، وزينوا متنزه الزوراء بتشكيلة فنية من سبعة قلوب كبيرة محاطة بورود حمراء، وظل العراقيون كعادتهم يتبادلون:دارميات جميلة.. بوسات عراقية.. بطاقات ملونة.. هدايا للزوجة.. للأم.. للحبيبة، دبدبوب ابيض واحمر، ورود حمراء.. ارتداء ملابس حمراء مزركشة.. تزيين المحلات بباولونات ملونة، معجنات بقلوب حمراء عليها اجمل الكلمات (أحبك).. والأروع، انك لو دخلت قلوبهم لوجدتها باقة ورود ملونه.. مكتوب عليها بالأحمر: نحبك.. يا عراق!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

14 شباط 2023

 

الإنسان لا يحيا في عالم فارغ إلا منه، بل إن جميع ما يحيط به من بشر وظروف خارجية محيطة كالحرارة والماء والهواء يؤثر فيه؛ ووفقًا لعلم الفلك ولقانون الجذب العام لنيوتن فإنه حتى الشمس والقمر وباقي الكواكب تؤثر هي الأخرى في الإنسان وفي غيره من مكونات الطبيعة بدرجات متفاوتة.

وتعقيبًا على المشككين في إمكانية التنبؤ بالكوارث من خلال حركة القمر والزوايا التي توجد بينه وبين الأجرام السماوية، وكذا بين بعض الأجرام السماوية وبعضها، أود أن أخبرهم أن العرب هم أول أمة كانت لها تنبؤاتها بالكوارث من خلال الفلك، وأن في القرآن الكريم إشارات في سورة القمر تحديدًا إلى عذاب قوم نوح بالطوفان، وعذاب قوم عاد بالريح الصرصر العاتية، والفلكيون العرب من قديم يحكون عن دور تربيع القمر في إهلاك قوم عاد.

وكان العرب القدماء يربطون بين وجود الشمس في الأسد، والمريخ "القاهر" في الحمل أو الأسد أو اقترابه من الأرض، وبين حدوث الحروب والاستقواء، وعلى سبيل المثال فإنه عندما ألقيت القنبلتان الذريتان على هيروشيما وناجازاكي في أغسطس عام 1945م كانت الشمس في برج الأسد، ويوم انفجار مرفأ بيروت في لبنان في أغسطس 2020م كانت الشمس في الأسد، والقمر يقابلها مكتملًا في الدلو، والمريخ في الحمل.

أما برج الثور فارتبط من قديم لدى العرب والعجم بالزلازل، واشترك معه في ذلك باقي الأبراج الثابتة fixed signs ، وهي الأبراج التي يوجد كل منها في منتصف كل فصل من فصول السنة الأربعة (الثور- الأسد- العقرب- الدلو)، لأن أبراج الأسد والعقرب والدلو هي التي تدخل في زوايا تربيع وتقابل مع الثور، ووجود زحل تحديدًا في أحدها، ودخوله في زوايا تربيع أو تقابل مع الثور، خاصة عندما تتواجد به الشمس أو القمر، كان نذير كارثة، وفي العصر الحديث أضيف أورانوس كوكب المفاجآت إلى الكواكب التي عندما تدخل في زوايا صعبة مع زحل (خاصة التربيع) تنذر بحدوث زلزال في مكان ما على الأرض أو حادثة مدمرة.

وفي حال زلزال تركيا وسوريا المدمر الأخير فقد كان زحل في الدلو مقترنًا بالشمس، وأورانوس في الثور، وكان القمر يوم الزلزال بدرًا مكتملًا في الأسد، وكانت العقدة الجنوبية في العقرب.

وبالنسبة للكوارث المائية؛ الطوفان والسيول وغرق الشواطئ ونحوها، فالتعويل دومًا عند العرب على برج الحوت، بما فيه من كواكب، وما توجد بينها وبين غيرها من الكواكب من زوايا تربيع أو تقابل.

وعليه فإن كان يُخشى على بعض المدن الساحلية على شواطئ البحر المتوسط من الضغط في الصفائح الأرضية الذي تولد من زلزال تركيا، فإنه يلزم متابعة أوضاع الكواكب في الحوت وزواياها مع باقي الأجرام، خاصة وأن نبتون (كوكب المياه) في الحوت، وزحل سينتقل للحوت يوم 6 مارس، وكذا متابعة الزوايا بين القمر وغيره من الأجرام في الأيام البيض قبل وأثناء وبعد اكتمال القمر، للتحذير من هذه الأيام، مثل يوم 6 مارس 2023، و 30 و 31 أغسطس 2023م.

إقليم بيت المقدس وزلزال شرق المتوسط

أظهرت صور الأقمار الصناعية تحرك تركيا حوالي 4 أمتار أفقيًا. وما يحدث من تحرك لتركيا جهة الغرب بسبب الزلزال يعطي مساحة أكبر لتحرك الجزيرة العربية باتجاه الشمال الشرقي، واحتمال انحسار الماء عن أمتار من البحر المتوسط، وظهور مثلث من الأرض أمام مدينة يافا. وكل ما سبق هو ترتيب لعلامة هامة من علامات الساعة.

ولمن لا يعرف فإن إقليم بيت المقدس هو أرض المحشر الذي ستقف عليه جميع الخلائق يوم الحساب. وهذا الإقليم كما هو موضح في الصورة يتضمن منطقة بسيطة من شرق البحر المتوسط من المفترض أن تكون أرضًا يابسة يوم الحساب لأن خلقًا سيقفون عليها، وقطعًا فإن ترتيب الأرض لحدث القيامة لا يحتاج إلى تدرج، فكل ما يريده الحق سبحانه يمكن أن يتم بكلمة، ولكنها علامات لعل البشر يفيقون من غفلتهم.

4839 الزلزال

وقد اقتطفت لكم أجزاء من كتابي "نحو مجتمع عربي متحضر" لعلها تفيد.

طوفان

ربما يغيب عن علم كثير منا أن العرب في العصر العباسي الأول هم من وضعوا أسس علم الهيئة (هيئة السماء) بعد أن بدأوا بترجمة كتب بطليموس السكندري والفلك الهندي، ثم بدأوا في تأليف الكتب الخاصة بهذا العلم من خلال ما تجمع لديهم من الفلك العربي القديم ومن الأمم السابقة ومن خبراتهم في الرصد والحسابات وصناعة واستخدام الآلات المناسبة. وما عرف العالم قبلهم معنى وتقسيم البيوت الفلكية الاثني عشر، ولا عرفوا الزوايا بين الكواكب من اقتران وتسديس وتثليث وتربيع وتقابل، ولا دلالاتها.

والعرب هم من اعتبروا أن كرة العالم هي دائرة الأفق كاملة –ما يظهر منها وما يغيب- والتي تظهر فيها ما يُعرف بالنجوم الثابتة التي تشكل البروج المعروفة وغيرها من المجموعات النجمية، وتدور فيها الشمس والقمر والكواكب السيارة في حركتها الظاهرية اليومية حول الأرض، وقسموها إلى 360°، وقرروا أننا لا نرى سوى نصفها، أي نصف الكرة التي تظهر في الأفق، وكلما طلعت مجموعة نجمية من الشرق سقطت مجموعة من الغرب.

وكانوا أول من اهتم بالنجوم والكواكب في الطالع (جهة الشرق ناحية اليد اليسرى) وفي وسط السماء (جهة الجنوب)، واعتبروهما أهم ما في الهيئة الفلكية، وكذا ما بينهما، واعتبروا الطالع جهة الشرق هو البيت الأول في حياة المولود المعبر عن شخصيته، ومنه يبدأ دورة حياته، وهو ما يُناظر الحجر الأسود في جهة الشرق من حيث نبدأ الطواف حول الكعبة، وباقي البيوت تتوالى في خريطة هيئة المولود الفلكية عكس اتجاه عقارب الساعة، مثلما يكون الطواف حول الكعبة، ويكون الركن الجنوبي في وسط السماء مناظرًا الركن اليماني للكعبة وهو آخر الأركان الأربعة التي نمر بها قبل أن نصل إلى الحجر الأسود لنتم شوط الطواف.

ولكننا نجد في العصر الحديث تنفيرًا ورفضًا تامًا من المتطرفين لعلم الهيئة، وعدم فهم لأهميته في حياة البشر مثله في ذلك مثل التنبؤات العامة بالطقس، والتي لا يلزم أن تصدق ولكنها تجعلنا نأخذ الحذر.

وأثناء مطالعتي لحوادث سنة 489هـ في "المنتظم" وجدت خبرًا أورده ابن الجوزي عن أن المنجمين قد تنبأوا بحدوث طوفان كبير، فأمر الخليفة العباسي المستظهر بالله بإحضار ابن عيشون –وكان من أشهر فلكيي عصره- فطمأن الخليفة بأن طوفان نوح قد حدث عندما اجتمعت الطوالع السبعة (الشمس والقمر وعطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل) في برج الحوت، ولكن زحل ليس في الحوت مع باقي الكواكب، ومن ثم فالأمر أخف من أن يكون طوفانًا كطوفان نوح، وتنبأ بأنه في مدينة ما من المدن يجتمع فيها بشر من بلاد كثيرة مختلفة سيحدث غرق، فأمر الخليفة بإصلاح أي مواضع على الأنهار يُخشى منها الانفجار، وظن أهل بغداد أنهم مغرقون، ولكن وصل الخبر بأن سيلًا عظيمًا قد أصاب الحجاج في وادي نخلة، وهو أحد أودية مكة المكرمة، يفصلها عن الطائف من جهة السيل الكبير، وغرق كثير من الحُجاج!

وعندما قمت بمراجعة الخريطة الفلكية لظهيرة يوم 26 فبراير 1096م وهو يوم ميلاد الهلال واجتماع الشمس والقمر في برج الحوت في ذلك العام 489هـ وجدت أن كلام ابن عيشون لم يكن صحيحًا باجتماع السبعة عدا زحل في الحوت، بل كانت الشمس مقترنة بالقمر –الذي كان متأخرًا عن الشمس بدرجة، وهي أحلك درجات المحاق قبل ميلاد الهلال- وكان عطارد مقترنُا بهما إلى درجة التلاصق في الحوت، ولكن الزوايا الفلكية الموجودة بالفعل تنبئ باحتمال حدوث أمطار غزيرة أو غرق؛ لأن اجتماع ثلاثة طوالع أو أكثر في الحوت نذير مطر غزير، وزحل كان في برج العذراء يقابل هؤلاء الثلاثة المقترنين في الحوت ما يزيد التنافر، ومعلوم أن تقابل زحل مع أي من الشمس أو القمر أو عطارد نذير حادثة، فما بالنا وهم مقترنون، وكانت هناك زوايا أخرى لا أعتقد أن فلكيي العصر العباسي كان باستطاعتهم التنبؤ على أساسها لأن كوكبي نبتون وأورانوس لم يكونا قد اكتشفا بعد، والخريطة الفلكية أظهرت أن نبتون (كوكب الماء) كان في السرطان وهو برج مائي، وكان في الطالع في الساعة الثانية والثلث ظهرًا، وكان يشكل تربيعًا مع أورانوس كوكب المفاجآت في وسط السماء، ووجود تربيع بين نبتون في الطالع وأورانوس أو زحل في وسط السماء من علامات الغرق، وفي لحظة غرق الفنانة أسمهان كان نبتون في الطالع وزحل في وسط السماء.

وتموضع الكواكب الخارجية يدوم فترات طويلة، وهو في هذه السنة ينذر بإمكانية وقوع حادثة تتعلق بالماء في أي شهر؛ عندما يقابل القمر في الحوت في حركته الشهرية زحل في العذراء، ويكون التربيع حادثًا بين نبتون وأورانوس.

4840 زلزال

والأهم من كل هذا أنه لا الخليفة ولا كبار رجال الدولة أو رجال الدين أخذوا هذه النبوءة بالحساسية التي يمكن أن يأخذها بها متطرفو عصرنا، بل نجد إمامًا مستنيرًا كابن الجوزي -وهو أحد أكبر أئمة عصره- يروي القصة ببساطة ولا يعلق عليها أي تعليق مشين، لأن الأمر لا يعدو أن يكون تنبؤًا عامًا كتنبؤات الطقس، ويستحيل أن يدعي أي إنسان معرفته بأي مدينة يمكن أن تصدق فيها هذه النبوءة ولا من الذين يمكن أن يُكتب عليهم الغرق.

تأملات في الطباع الأربعة (2)

أكتب هذا المقال بينما أسمع زعابيب إعصار التنين التي هبت على مصر وبعض بلدان المشرق العربي يوم الخميس 12 مارس 2020، والذي تخوف منه كثيرون، حيث تزامن مع تربيع القمر في وباله في الدرجة الأولى من العقرب وفي منزلة الإكليل (الطريق المحترق) مع زحل في الدرجة الأخيرة من الجدي، وهي سمة فلكية تتشابه جزئيًا مع الريح الصرصر العاتية التي أصابت قوم عاد ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا﴾ [الحاقة:6-7]. ولكن الله رحمنا فكانت رياحنا مصحوبة بالمطر، وليست مبعوثة بالعذاب.

يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ

ولأبدأ بعرض رؤية فلكية لي عن توقيت الزمن الذي أصاب قوم عاد فيه العذاب، ووصفه في آية أخرى -غير آيتي الحاقة- بأنه كان يوم نحس مستمر ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ﴾ [القمر: 19] رغم أنه استمر ما يزيد على الأسبوع، والذي قيل إنه كان الأسبوع الأخير من الشهر العربي، وأنه بدأ يوم أربعاء وانتهى يوم أربعاء، ويوم الأربعاء هو يوم كارمي لتسديد الديون وتلقي الجزاءات.

واللافت لي أن الآية وردت في سورة القمر، وتُذَّكِر في أولها بالآيات والنُذر، وبعدها ورد ذكر عذاب قوم نوح، والذي يحكي الفلكيون العرب القدامى أن كواكبًا عديدة اجتمعت مع القمر في الحوت وهو أعلى الأبراج مائية، فهطلت الأمطار الغزيرة، وأضيف أنه ربما اقترب القمر البدر من الأرض بشدة فجذب الماء من باطنها حتى تفجرت منها العيون؛ بسبب طاقته المائية التي نراها في ظاهرة المد في البحار.

 أما بالنسبة لقوم عاد، والذين ورد ذكر عقابهم بعدهم في السورة، فلمن لا يعلم فإن القمر في رحلته الشهرية حول الأرض يكون في وضع تربيع لزحل مرتين، إحداهما يكون فيها متزايدًا لم يصل للبدر بعد، والأخرى يكون فيها متناقصًا، وتقول العرب عن كلا اليومين الذين يحدث فيهما التربيع بين القمر وزحل إنهما يوما نحس، وخاصة عندما يكون القمر متناقصًا. أما ما أراه في تفسير "يوم النحس المستمر" فهو أن التربيع بين القمر وزحل قد استمر، فثبت القمر ولم يتنقل في المنازل، رغم أن الأرض بقيت تدور حول الشمس، ومن ثم كانت الشمس تشرق وتغرب، فبحساب الشروق والغروب فقد دارت الأيام والليالي، وبحساب ثبات القمر في وضعه واستمرار تربيعه لزحل كان يوم نحس مستمر.

وبالنسبة لما لقينا في سنتنا الكبيسة النحيسة 2020، فقد كان القدماء لا يحبون السنة الكبيسة وسنوات النسيء لأنها سنة تسوية كسور مستحقة، كما كانوا يتخوفون من السنة التي تبدأ يوم أربعاء، ويقولون إنها سنة كارمية؛ سنة سداد ديون، وسترتد فيها على كل إنسان أي إساءة فعلها في آخر يومًا ما، كما كانوا يقولون إن السنة التي تبدأ والقمر في الحوت هي سنة مرض وموت؛ لأن الحوت هو آخر دائرة البروج. وقد اجتمعت في سنة 2020 كل هذه العلامات!

***

د. منى زيتون

الاثنين 14 فبراير 2023م

أشرنا في الحلقتين السابقتين، الأولى والثانية بأن الحضارة الغربية الحالية التي نعيش تجلياتها في العالم الغربي أقتصادياً وأجتماعياً وسياسياً وعلمياً، ترتكز في مبانيها وأسسها وجذورها على مصادرها التراثية، وخاصة على الميثولوجيا الأغريقية، فهي تمثل البنية التحتية لبناءها الفكري على جميع الأصعدة . في هذه الحلقة نتناول البعد السياسي في الحداثةِ الغربية، وعلى أي جذر ميثولوجي تأسست، حيث نتتبع مجرى النهر السياسي الغربي الى منابعه الأصلية، لكي نعرف منشأ ما يتمتع به من خصائص وأسلوب سياسي يمارسه لنفسه، وما يواجه به غيره من الشعوب والأنظمة الأخرى التي لا تنتمي له حضارياً .

من المهم أن نعرف ان حجر الأساس لبناء النظام السياسي الغربي هو ما ذَكرته المصادر التاريخية للمؤرخ الأغريقي الشهير (ثوسيديديس) صاحب كتاب تاريخ الحرب البلوبونيزية التي دعا فيها أهل أثينا الى منح الحق لكل من هو أكثر قوة في عالم الطبيعة، بحيث يكون الأقتدار هو المرتكز للقانون الطبيعي (ميثولوجيا الحداثة-الأصل الأغريقي لأسطورة الغرب ص250). هذا المبدأ، هو الذي أستلهمه نيتشه من الموروث الأسطوري الأغريقي الذي يقول فيه  أن (أقوى وأسمى ارادة في الحياة لا تتمثل في الكفاح التافه من أجل الحياة، وإنما في أرادة الحرب، أرادة السيطرة)، وهو من ألهم المنظر السياسي الأيطالي ميكيافيلي بالقول بالقوة الخاطفة في كتابهِ الأمير، والتي يعني بها قوة الصدمة، وهي القوة الكبيرة الباطشة والسريعة، التي توجه للخصم سواء كان من الشعب أم عدواً خارجياً من أجل أخضاعه والتحكم  به .

أننا لا نتردد اليوم من القولِ، من إن ما نعيشه اليوم من توحش سياسي وعسكري، وما نعيشه من أزمة أقتصادية مفتعله، هو تجليات واضحة للعقلية الحداثوية الغربية في هذه الجوانب المذكورة، لأننا لا نريد أن نبخس الحداثة الغربية في جانبها العلمي . هذا الواقع الوحش الذي هو من مخرجات الحداثة الغربية، قد أشار اليه، وحذر منه الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي حين قال (أن الحضارة الغربية قد ضيعت البعد الإنساني للبشر، فباتت ثقافتها ثقافة فرعونية، وأذا أستمرت هذه الثقافة في الأنتشار فأنها ستؤدي الى أنتحار الكون بأكمله) (مؤتمر السكان في القاهرة 1994م -الأسلام حضارة الغد-يوسف القرضاوي)، وفعلاً اليوم نحن نعيش هذا التهديد، من خلال التراشق في تصريحات الفريقين المتحاربين، روسيا من جهة، والعالم الغربي بقيادة أمريكا من جهة ثانية، حتى أصبحنا نعيش اليوم شبح الحرب النووية، التي لو حدثت لا سامح الله لأنتحر الكون على حد قول غارودي.

ولكي لا نختار منهجاً أنتقائياً، علينا الأشارة الى وجود أكثر من سياق فلسفي في الجانب السياسي، فهناك ما تطرحه المدونات الأسطورية للشاعر الأغريقي هسيود والتي يمنح فيها حق القيادة للعقل، وصاحب الروحية العالية، والتي يعتبر فيها روح الأنسان نسيم من نَفَس الآلهة، وهناك أفلاطون الذي رشح الفيلسوف أن يكون زعيماً يُدير جمهوريته . هذين الرجلين على سبيل المثال، يمثلان مدرسة غير مدرسة الشاعر الأغريقي هوميروس الذي يعطي في ملحمته قدراً كبيراً للقدرات الجسمية الخارقة، وقوة الحيلة والمكر كما في ملحمتيه الأوديسة والألياذة، والتي لعب أبطالهما أوديسيوس وأخيليوس دوراً كبيراً، وما تمتعا به من صفات البطش والمكر في مقاتلة الخصم، كما أن هوميروس يفضل أبناء الطبقة الأرستقراطية في مسألة السياسة والقيادة، ويسير بالتوازي مع هذا الأتجاه، الفكر الأسبرطي، القائم على العسكرة والقوة وتجيش المجتمع، وهو نظام لا مكان فيه للضعيف، أنه مجتمع الأقوياء . هذه النماذج التي ذكرناها لا نجد صعوبة في تشخيص مصاديق لها في الواقع الأوربي، فالأنظمة الكولونيالية التي حكمت أوربا كثيرة، منها المتمثل بالأمبراطورية البريطانية والفرنسية، وقادة مارسوا هذا النوع من الأنظمة كبسمارك وهتلر ونابليون، حتى ترسخ هذا النوع من الممارسة العنيفة في السياسة الغربية  في لا شعور كل الأوربيين، مما تحولت الى ما يُسمى بالثقافة الكولونيالية كما يُسميها الدكتور (أنيبال كيخانو) المنحدر من أمريكا اللاتينية.

يقول سقراط أن أنعدام الفلسفة في مدينة أسبارطة خطأ شائع : أذ آمن الأسبارطيون بفلسفة الحرب، وأعتنقوها مذهباً . اليوم أمريكا تتخذ من المنهج الأسبارطي منهجاً لها، وهو أعتماد العسكر والقوة لتأمين الهيمنة والأقتدار على الأخر . هذا الجذر الأسبارطي هو من أوحى الى قادة عسكرين وسياسين غربيين من أمثال هتلر ونابليون أستخدام العنف والقوة كأداة في فرض أجندتهم السياسية، وهو الفوز بالتمكين والأقتدار، وتأمين الحياة المرفهة لشعوب دولهم، وهي ذات الأهداف التي سطرها أبطال ملاحمهم الأسطورية أمثال أوديسيوس وأخيليوس، كما لو لاحظنا ملامح ما يعرضه هوميروس في أشعاره الملحمية، نجده ينزع الى تبني القيادة للطبقة النبيلة، وهي طبقة أرستقراطية، طبقة يطلق لها العنان في أمتلاك القوة والثروة، وهو أتجاه يُعتبر فيه هوميروس الأب الروحي للنظام الرأسمالي الحالي، وأما أشعار هسيود الملحمية، فهي أشعار تميل الى تمجيد قيم العمل في الحقل، وذات روح إنسانية، التي يعتبرها بأنها جزء من نفس الآلهة، والذي يعتبر الأب الروحي للنظام الأشتراكي .

أن سياسة العنف وأراقة الدماء والقتل الوحشي للخصم، هو ما يميز سياسة الأغريق، ولنا في أخيليوس بطل ملحمة الألياذة خير دليل، فهو رجل يتصف بالدموية والقسوة المفرطة، وبالحقيقة هذه الشخصية غير غائبة في المنظومة السياسية الغربية، ونلمس ذلك في قادة الجيوش الغربية الكثير منهم، وقد أعطتنا الحربين العالميتين الأولى والثانية، والمعارك التي قادتها أمريكا ضد السكان الأصليين لأمريكا (الهنود الحمر)، والحرب الأمريكيه الفيتنامية، ولا ننسى ضرب مدينتي هورشيما ونكزاكي اليابانيتين، كدليل صارخ على درجة القسوة المتوحشة  للقادة العسكريين والسياسيين الذين يعطون لهم هذه الأوامر في التنفيذ . أن السياسة الماكرة لدول الغرب أتجاه الشرق خاصة، والعالم عامة، هي سياسة لا تحيد عن ما يتصف به بطل الأوديسة (اديسيوس)، الذي يمثل صورة واقعية للإنسان الأغريقي المتصف بالمكر والخداع والأنغماس بالشهوات والمملوءة نفسه بالحقد والضغينة، كما يصفه الشاعر الروماني فيرجيل (ميثولوجيا الحداثة-ص265  )، وبالمناسبة حتى كلمة الأوديسة تكون أحد معانيها الكراهية والجور وقسوة القلب (ميثولوجيا الحداثة ص264 ). حتى دانتي صاحب كتاب (الكوميديا الألهية ) يصنف أوديسيوس بأنه بالدرك الأسفل من النار، جنب الى جنب مع إله الحرب ديموس، وهذه هي النهاية التي توقعها صاحب كتاب (أنهيار الغرب) أوسفالد شبينغلر، وهو كتاب ألفه صاحبه في بداية القرن العشرين، وهي نهاية حتمية للسياسة الأمبريالية التي يتبعها الغرب والتي أستمدت جذورها من بطلهم الأسطوري أخيليوس وأديسيوس أبطال الألياذة والأوديسة الأغريقيتين، ولا أستبعد أن تسقط هذه السياسة الأمبريالية كما سقطت أسبارطة، وليس كما توقع فوكوياما بحتميته التاريخية  للنموذج الغربي الأمبريالي.

أن أسطورة ملحمة طروادة كانت وما زالت مادة دسمة يستوحي العقل السياسي الغربي منها العبر والدروس والخطط العسكرية والسياسية . هذه الملحمة المعبئة بأساليب الخدع العسكرية، والقسوة المفرطة في معاملة الخصم كأسلوب لابد منه لتحقيق الأنتصار على الخصم.

أن أسلوب السيطرة الحديدية سواء بالداخل أو على الخارج، وأتباع سياسة العنف الممزوجة بالمكر والخداع هو ما ميز الأستراتيجية السياسية لبريطانيا في طريقة أستعمارها للكثير من دول العالم، حتى سُميت بالأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وأن الشعوب التي أستعمرتها بريطانيا تحتفظ بذاكرة مؤلمة عن أعمالها العدوانية أتجاه شعوب ما يُسمى بالعالم الثالث، واليوم أمريكا تمارس نفس الدور وبصورة أكثر بشاعة وقسوة. طبعاً أن التراث الأسطوري الأغريقي كان له بالغ الأثر ليس على السياسين فقط وأنما أيضاً على الفلاسفة الغربيين، ومنهم الفيلسوف الألماني المثير للجدل نيتشه، والذي نتيجة لتأثره بتراث أسلافه الأغريق، تنبأ بظهور عملاق ألماني، حيث قال (لا ينبغي لأحد تصور أن الروح الألمانية قد فقدت تراثها الأسطوري الى الأبد . وقد ذكر أيضاً في كتابه (مولد التراجيديا) عندما يولد هذا العملاق العظيم سوف يقتل الأفعوان ويقض على الأقزام الأشرار، وهنا وكأنه كان يتنبأ بظهور الدكتاتور الألماني هتلر.

أن سياسة الفصل العنصري الذي أتبعتها السياسة الغربية وخاصة في أمريكا وجنوب أفريقيا، تستمد نظرتها من تلك السياسة التي أتبعتها المدن الأغريقية، وما أوحته لهم ملاحمهم الأسطورية بالنظرة الدونية للأجانب، والذين ليس من جنسهم، وأنهم برابرة لايستحقون الا الموت أو السخرة والأعمال الشاقة، وهذا ما يؤكده التاريخ القريب في نظرة الأمريكان البيض الى الجنس الأسود، وما مارسوا عليهم من عبودية قاسية يندى لها جبين الإنسانية، وكذلك ما قام به النظام النازي بالنظر لغير الألماني بالدونية بأعتباره هو العنصر الأرقى في هذا العالم. يتبع....

***

أياد الزهيري

 

نبدا نقاشنا بوضع الأسئلة التي نجدها مهمة ومركزية  لنظرية العقد.

- بأي حق تحكم الحكومات أو الطغاة؟

 - قد يتم التحكم في الناس من خلال التهديدات ويخضعون للمراقبة بسبب الخوف، ولكن هل هذه ممارسة مشروعة للسلطة السياسية؟

- متى يكون من الصواب أن يغير الناس نظامًا سياسيًا قائما؟

- متى يكون من الصواب أن تسعى دولة ما إلى تغيير نظام في دولة أخرى، بدعوى ذلك لصالح شعبها (كما فعلت الولايات المتحدة في هجومها على نظام صدام حسين في العراق)؟

لا يمكنك الحصول على إجابات لهذه الأسئلة إلا بمجرد أن تقرر من قبل أي سلطة يمكن تشكيل حكومة بشكل صحيح.

والسؤال ذو الصلة هو السلطة التي يجب أن تتمتع بها الدولة على مواطنيها: لماذا يجب أن نطيع الحكومة وقوانينها؟

* هل نفعل ذلك على أساس أن الحكومة لها تفويض للحكم، لأن حزبها حصل على النصيب الأكبر من الأصوات؟

* هل نفعل ذلك على أساس أكثر براغماتية، وهو أنه إذا لم تكن قوانين الدولة موجودة وتحظى بالاحترام، فإن الدولة ستقع في حالة من الفوضى، مما يؤدي إلى الأذى المتبادل وانعدام الثقة؟

* أم أننا نطيع ببساطة على أساس أننا سوف نعاقب إذا لم نفعل ذلك؟

* وفي أي مرحلة نكون أحرارًا في رفض واستبدال تلك الحكومة إذا بدا أنها تتعارض مع رغباتنا؟

* هل يجب الحكم على الحكومة على أساس المنفعة - أي أنها تحقق أفضل نتيجة لأكبر عدد من الناس - حتى لو لم تحقق أفضل نتيجة بالنسبة لي كفرد؟

لكن بالطبع هناك فرق بين القوة والسلطة. يمكن لشخص إجبار شخص آخر على القيام بشيء من خلال التهديد باستخدام القوة ضده؛ لكن هذا لا يعني أن الشخص لديه "السلطة" للقيام بذلك. السلطة تعني شرعية متفق عليها. يكون القانون أو الإجراء مرخصًا سياسيًا إذا، وفقط إذا، كان يحظى بدعم حكومة قائمة بشكل شرعي، وتتمثل إحدى طرق تأسيس تلك الشرعية في بنائها على عقد متفق عليه بين الناس وحكامهم؛ وهي : العقد الاجتماعي.

العقود والمعضلات وألعاب الحرب

نشأت "حرب باردة" مع وجود الترسانات النووية المتعارضة للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي في الخمسينيات من القرن الماضي  ضمنت فيها نظرية الردع النووي عدم قيام أي من الطرفين بمهاجمة الطرف الآخر على أساس أن لدى الطرف الآخر أسلحة كافية يمكن أن يرد بعواقب وخيمة. كان يُنظر إلى تهديد (التدمير المتبادل) على أنه طريقة لضمان عدم مهاجمة أي من الطرفين للآخر.

لكن التفكير وراء هذا النوع من الإستراتيجية جاء من نظرية الألعاب، وتُعرف إحدى أهم هذه الألعاب باسم "معضلة السجين".

الوضع:

تم القبض على سجينين وكلاهما متهم بارتكاب جريمتين - جريمة أقل منها ما يكفي من الأدلة لإثبات إدانتهما، وأخرى أكثر خطورة لا يمكن ضمان إدانتها إلا إذا وافق أحدهما على الاعتراف.

العرض (لكل سجين):

- إذا اعترف بارتكاب جريمة أكثر خطورة، فسيتلقى عقوبة مخففة للغاية، لكن المتهم الآخر سيقضي العقوبة القصوى.

- إذا اعترف كلاهما، فسوف يتلقى كل منهما عقوبة أقل من الحد الأقصى، ولكنها أكبر من العقوبة الخفيفة التي سيتلقاها أحدهم اذا اعترف بمفرده.

- إذا لم يعترف أي منهما، فسيتلقى العقوبة القصوى للجرائم الأقل خطورة. (أي أكثر مما لو اعترفت بمفرده بجريمة أكثر خطورة، ولكن أقل مما لو اعترفت بها).

افتراض هذه المعضلة هو أن كل سجين مهتم بنفسه وبالتالي لا يهتم بالحكم الذي سيحصل عليه الآخر. ماذا يجب ان يفعلو؟

المعضلة هنا تتعلق بالثقة. إذا اتفقوا على أن أيا منهما لن يعترف، فسيحصل كل منهما على عقوبة اقل. من ناحية أخرى، إذا اعترف أحدهم، ولم يعترف الآخر، فسيحصل على أخف عقوبة على حساب الآخر. لكن المشكلة هي أن كل طرف يعرف أن الآخر لديه نفس الاختيار. يمكن لكل منهما محاولة الحصول على الحد الأدنى من العقوبة على حساب الآخر.

إن السعي وراء المصلحة الذاتية ليس دائمًا أمرًا سهلاً. إذا كنت تعتقد أن الشخص الآخر سوف يفي بوعده، فيمكنك الغش في صفقتك، وبالتالي الحصول على ميزة. من ناحية أخرى، أنت تعلم أن الشخص الآخر سوف يفكر بنفس الطريقة، وبالتالي قد يميل بنفس القدر إلى خداعك. كيف تحل هذا؟

الثقة والعقود

قد يبدو أن أفضل الخيارات، في مواجهة النزاعات المحتملة وانعدام الثقة، هي عقد اتفاق معًا من أجل الحماية والدعم المتبادلين، أو إعطاء السلطة الكاملة لحاكم أو قاضٍ متفق عليه. كلاهما ينطوي على عقد: الأول بين مواطني الدولة، والثاني بين كل مواطن والحكومة أو الحاكم المختار.

فكرة العقد السياسي لها تاريخ طويل.، يطرح أفلاطون في محاورة كريتو حجة مفادها أنه باختيار العيش في أثينا وقبول حمايتها والمزايا التي تقدمها، يكون المرء ملزمًا في المقابل بطاعة قوانينها. لقد جادل سقراط بذلك ؛ إذا كان الشخص لا يريد الامتثال للقوانين في أثينا، فعليه أن يذهب ويعيش في مكان آخر.

لكن الاهتمام المتجدد بالعقد جاء لأنه، مع التفكير الجديد الذي ظهر في عصر النهضة، والاضطرابات في أوروبا الناجمة عن الإصلاح، ظهر مجتمع تم فيه التركيز بشكل متزايد على الفرد. وبدلاً من النظر إلى المجتمع على أنه كيان منحه الله للبشر يجب على الأفراد أن يتلاءموا معه، وبالتالي تحقيق غرضهم داخل الكل، كان هناك رأي مفاده أن الناس يجب أن يكونوا قادرين على الاجتماع معًا وتحمل مسؤوليتهم الخاصة عن القواعد السياسية التي يجب أن يعيش بموجبها.

وهكذا، تبلورت نظرية العقد في القرنين السابع عشر والثامن عشر في محاولة لإيجاد تبرير عقلاني للدولة القومية الحديثة، بناءً على موافقة الشعب. أرست هذه الفترة أسس الديمقراطية الحديثة والليبرالية  وبالتالي فهي تشكل أساس الفكر السياسي الحديث.

الأسئلة الرئيسية التي تطرح حول التمثيل والموافقة هي:

- هل هذه الحكومة تمثلني بشكل عادل؟

- كيف أعطي (أو أحجب) موافقتي على التصرف باسمي؟

- هل أعتبر أنني منحت موافقتي على النظام السياسي للأمة بمجرد ولادتي هناك؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، في أي مرحلة يتم سؤالي عن موافقتي؟

- ماذا لو كنت أنتمي إلى أقلية وتم اتخاذ جميع القرارات السياسية لصالح الأغلبية؟ هل يعني ذلك أنني لن أعامل أبدًا بعدالة (من وجهة نظري) في نظام ديمقراطي؟

يفضل معظم الناس اليوم شكلاً من أشكال الديمقراطية - أن يتفق الناس معًا على دعم الحكومة، بدلاً من فرض حكومة عليهم.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

ذكرنا في الحلقة السابقة بشكل موجز السمات الخاصة بالحداثة، ونذكرها هنا مرةً أخرى لكي يستحضرها القارىء في ذهنهِ . محور هذه الحلقة هو تثبيت إدعائنا بمنسوبية سمات الحداثة التي أَصَّل رواد الحداثة الغربية جذورها المتمثلة في الميثولوجيا الأغريقية القديمة، وهذا التأصيل لا يعني نفي ما جاء به هؤلاء الرواد من اِبداع حَداثي في كل الجوانب الفلسفية والعلمية والدينية والفنية والإجتماعية، فالإبداع حاضر بقوة بالتوازي بالرغم من تأصيلهم له في منشئهِ الأول، وهذا ما وضع أساسه أسلافهم من اليونانيين والرومانيين القدامى . ولابد من الأشارة إلى نقطة حساسة بالغة الأهمية، ولا يخفى أن المتأمل لا يرى الا معنىً حقيقياً للحداثة دون إبداع، فالبعد الإبداعي مرتَكز صميمي للحداثة، وقد حقق الحداثويون الأوربيون الأوائل هذا الشرط، بعكس الكثير من المفكرين والكتاب العرب الذين دَعوا الى تقليد الحَداثة الغربية، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الدكتور طه حسين الذي دعا الى منظور تجديدي من خلالِ تقليد المنهجية الغربية كما هي في سلبيتها وإيجابيتها،  دون الأخذ بنظر الاعتبار خصوصية شعوب الشرق الأوسط وحتى ميراثهم الحضاري، حيث يقول (علينا أن نتشارك الحضارة الراهنة معهم، بكل جوانبها الإيجابية والسلبية) وقد ربط الرجل ما أراده لمصر بالحداثة الغربية، حتى أنه ذهب في دعوته ِالى أن تكون ثقافة مصر ثقافة غربية أوربية لا شرقية، وقد حذا حذوه كل من منصور فهمي، وسلامة موسى الذي رفض رفضاً كلياً ما أسماه إدعاءات قائلة بشخصية مصر العربية أو الآسيوية، حتى أن هذا الرجل جعل من احتلال نابليون وبريطانيا لمصر، هو تحرير لها من كابوس هويتها الشرقية . أن هؤلاء الكتّاب يدعون الى تغير الهوية الثقافية كإجراء ضروري للتحديث . ومن اللافت للنظر، اذا كان طه حسين وأمثاله قد دعوا الى التغريب فكراً، فأن دول الخليج والسعودية بدأت تسير على خطاهم، بتقليد الحداثة الغربية في جانبها الرفاهي تقليداً أعمى، والأدهى أن نقل أنجازات الحداثة الغربية الى هذه البلدان يتم بأيدي أجنبية، أي أنهم لا يتبنوا طريقة التفكير الحضاري، بل التركيز على التمتع بالإنجاز الحداثي الأوربي من المنظور المادي (عمارات، مسابح، سيارات فارهة، مدينة ملاهي، مطاعم ...) وهذا في حقيقته تقليد شكلي للحداثة الغربية، ويُسمى بالتغريب والاستلاب الحضاري، لأنه فاقد لشرط الإبداع الذي نوه عنه الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري في كثير من كتاباته وبخاصةٍ في كتابه (الحداثة ومابعد الحداثة)، حيث أشترط الإبداع في عملية التحديث، آخذاً بنظر الاعتبار أن الحداثة مفهوم معرفي، ولابد من إستيعابها والإبداع فيها للتمكن من بناء مشروع حضاري يتناغم مع البيئة المراد أقامة مشروع الحضارة فيها، والذي ينبغي أن يتناغم وطبيعة الموروث الحضاري للشعب الذي يقطن في هذه البيئة . نرى أن هناك أختلافاً كبيراً بين طه حسين الذي يدعو للأخذ بالحداثة الغربية بحلوها ومرها، بسلبيتها وايجابيتها، وبين الدكتورعبد الوهاب المسيري الذي يدعو للتميز بين البعد المظلم والبعد المنير في الحضارة الغربية، لذا والقول للمسيري أن معرفة وفحص جذور الحداثة سيجنبنا الكثير من المطبات والوقوع في شبكتها العنكبوتية، مما يجعل التخلص من آثارها السلبية أمراً غير سهلٍ، أو على الأقل يجعلنا حذرين في تناولها والتعاطي مع بعض مفرداتها. وأن هذا التحذير من المسيري، نجد هناك الكثير مما يبرره، سواء على مستوى الواقع الذي خلف مشاكل إجتماعية ونفسية وسياسية خطيرة، كما على مستوى مفكرين غربيين حذروا منها، ولنا فيما كتبه (أوسفالد شبينغلر) في كتابه (إنهيار الغرب) الذي حذر فيه عن تداعيات الحداثة الغربية وما جَرّته من مأساة، وفيه تنبأ بمصير مظلم لأوربا، وفي هذا السياق كتب كذلك هسرل في كتابه (أزمة العلوم الأوربية)، وهناك من كانت له رُدود فعل قوية إتجاه الحداثة الغربية، وما أفرزته من واقع لا يبشر بخير، مما دعا (أيريك فولجين) الى أحياء المسيحية الأفلاطونية، وكما دعت (حنه أرندت) الألمانية الأصل الى العودة الى العالم القديم .

من كل ما تقدم تقتضي الضرورة معرفة جذور الحداثة الغربية لدواعي خطورة انعكاسها على متلقيها، ومن يأخذ بها طوعاً أو قسراً، كما يحدث لنا اليوم من موجة حداثوية بسياقات مشبوهة، لأنها تتعامل مع منتوجات الحداثة وليس مع بنية الحداثة وشروطها المعرفية، وكما قيل لا أحد يولد أبناً للقدر، وبناءً على ذلك لكل شيء أصل يكون سبب لولادته.

وفي حقيقة الأمر لعبت الكنيسة بمنظومتها الفكرية المنافية للعقل، وما جاءت به من قيم لا تمت للواقع، بل ساهمت في إفسادهِ وخرابه، وكان ضحيته الإنسان الأوربي، كما لعب رجال الكنيسة دوراً زاد من أستغلال الناس بشكل بشع، بل وزادوا من معاناة الإنسان الأوربي بالتحالف مع الاقطاع والحاكم المستبد فكانوا خير عونٍ لهم، في إدخال أوربا في نفق مظلم، وكانت النتيجة هي العصور الوسطى، الموصوفة بالمظلمة، وهي كانت من أبشع العصور التي مرت بها أوربا عبر تاريخها الطويل. هذه المعاناة، دعت أحد رجال الكنيسة بالثورة على الواقع السيء لها وهو الراهب مارتين لوثر (1483-1546م) مؤسس المذهب البروتستانتي . هذا الراهب شَخّص ظلامات وفساد الكنيسة ورجالاتها، وانهم أحد أهم أسباب أنحطاط المجتمعات الأوربية، ولكن لا يمكننا أن نتناسى ممن سبقه من الرهبان، وهو المدعو فرانسيشكو بيترارك (1304-1374م) في إيطاليا، وهو واحد من أوائل الإنسانيين الذين مهدوا لعصر النهضة، وأحياناً يُسمى بأب الإنسانية، وكان رجل دين، وعمل مبعوثاً دبلوماسياً للكنيسة، (وقد أعتقد بيترارك بأن الحياة المسيحية لا تتطلب مجرد إمان ومناسك، بل ممارسات أخلاقية أيضاً .إن هذا الشكل من الأخلاق لا يتحقق إلا من خلال فهم أعمق لما يعني أن تكون إنساناً، وهذا لا يستوحى من الكتاب المقدس فحسب، بل من النماذج الأخلاقية للعصور القديمة) (الجذور اللاهوتية للحداثة-مايكل ألين جيلسبي) . فهذا رجل الدين المسيحي دعا الى دمج الروح الوثنية والروح المسيحية معاً . يتضح لنا أن التمهيد للحداثة كان في البدايةِ أو المحفز له ردة فعل بعض رهبان وقساوسة الكنيسة على واقعها الهزيل والفاسد، وما جلبه من سوء وخيبات على الواقع الأوربي . فقد كانت في أوربا بداية حركة إصلاح، يقودها بعض الأشخاص من أمثال ما ذكرنا، ولكن بالوقت نفسه كانت هناك حركة فكرية سبقت الحداثة أيضاً، وهي تنتمي الى المسيحية كذلك، تُعرف بالأسمانية، وقد جاءت بمفاهيم مغايرة للمألوف في حينهِ وخاصة مفهوم الفردانية، حيث تقوم في جوهرها على أن لكل فرد مادي أو إنساني جوهره الخاص، ولا يؤمن بمبدأ الكليات التي تميزت بها الفلسفة المدرسية الأرسطية -الأفلاطونية، وكانت تؤكد على التغير، وان هناك إرادة فردية لكل شيء بالوجود، وحتى الله يتغير في إرادته بين فترة وأخرى، ولا تلزمه حدود كلية . هذه الحركة الفكرية كانت احد المنابع التي أثرت في حركة الحداثة الغربية. إذن لا يمكننا العبور على بعض رجال الدين المسيحيين في التمهيد لفكرة الحداثة .

كما تحرك رجال من داخل الكنيسة رغبةً باصلاحها. كذلك تحرك البعض من أجل التغير امتعاضاً منها، وهم من خارجها، وهؤلاء يوصفون برواد النهضة الأوربية.هؤلاء الرواد، من أمثال عمانؤيل كانط وسبينوزا، وجون لوك، وأغست كونت، وفولتير وغيرهم الكثير مما لا يتسع المحل لذكرهم، كان هؤلاء من الساخطين على الكنيسة الأوربية، والمتهمين لها بأن لها القسط الأكبر فيما تعاني منه أوربا من أنحطاط، وشعوبها من بؤس شديد القسوة، وما يعانية الأنسان الفرد من محق وأستلاب لشخصيته. فلقد عقدَ هؤلاء الرواد النية الى الميل بوجوههم نحو أثينا وما تختزنه من تراث أسطوري قديم، مرتكزين عليه كمنطلق لنهضة تنقذ أوربا من واقعها المزري وتخليص أنسانها المستلب من قبل الثلاثي ( كنيسة-أقطاع-أمبراطور)، فوجدوا في السرد الأسطوري الأغريقي ضالتهم، فأسسوا عليه نهضتهم الأوربية .

من المؤكد لا يمكن أن تقوم أي نهضة حضارية الا على من يمهد لها من أسس ومرتكزات، تكون لها منصة انطلاق، وقد أشار الفيلسوف والمؤرخ الأيطالي (جيامباتيستا فيكو) الذي عاش في القرن السابع عشر بأن الأساطير الأغريقية هي البنية الأساسية للحداثة الغربية، ومما قاله في هذا المضمار (من المستحيل بمكان ولادة حضارة في طرفة عين. بل كل حضارة لا بد وأن تقوم على الخلفيات الثقافية للمجتمع الذي تنشأ فيه على ضوء مسيرة تكاملية ) (ميثلوجيا الحداثة ص12)، ولا غرابة في تبني الغربيين فيما يتبنونه من قيم في جذورهم الأسطورية، فالباحثة البريطانية (كارين أرمسترونج) تقول أن (أساطير كل ثقافة تعتبر مصدراً تعليمياً للقيم التي يتبناها أبناء تلك الثقافة) . ويمكننا الأستشهاد كذلك بما يقول به (فيرنرمايجر) بأن حتى فلسفة أفلاطون وأرسطو تعتبر الأساس الفلسفي والركيزة التي تقومت عليها الفلسفة الغربية، تعد هي الأخرى ذات جذور أسطورية أغريقية، كما في نظرية (النفس) الأفلاطونية، ونظرية (المحبة) الأرسطية التي تحكي عن المحبة الكامنة في ذات المتحرك المنزه عن الحركة (ميثلوجيا الحداثة ص 23) . إن ما ذُكر أعلاه على حد قول المفكرين والفلاسفة الأوربيين، بأن ما يتمتع به الأوربيون وما يختزنونه في لا شعورهم من فكر ومفاهيم أسطورية، هو الحافز والمرتكز الذي تقومت علية النزعة العقلية الغربية الحديثة، وهنا نذكر للروائي والناقد الإجتماعي الألماني (توماس مان) رأياً يقول فيه ضرورة سعي الباحثين والعلماء لاستكشاف العلاقات المتبادلة بين التجربة الأوربية الحديثة والأساطير الأغريقية، حتى وأن اعتبرت الحداثة أمراً مبتدعاً... والحقيقة أن الرؤية المنطقية الدقيقة تؤكد على وجود تناسب بين العالم الغربي المعاصر وبين ماضيه وأساطيره بصفتها أصولاً حديثة..) (ميثلوجيا الحداثة ص 25) . مهما قلنا عن آخرين لكن لا يمكننا الا أن نذكر ما يقوله المتخصص الضليع بالميثلوجيا الأغريقية (جيامباتيستا فيكو) في قوله ( انّ الميثلوجيا تُعين العلماء والباحثين على معرفة الجذور الثقافية للمجتمعات البشرية) (ميثلوجيا الحداثة ص49) .

فلو تتبعنا بعض مفاهيم الحداثة الغربية الأساسية ومنها النزعة الأنسانوية، والتي تعتبر الأنسان هو المحور في كل شيء، معياراً وعملاً وتوجيهاً، وهو الفاعل والراسم التاريخي لمسيرة الأحداث عبر الزمن. فالإنسانوية حقل مدارها الإنسان، وهو من يتعامل مع الطبيعة ويتفحصها ويستنفذ أغراضه منها، فإنشغاله وتفكيره بها خلق عنده تصورات فَسر من خلالها ما يجري عليها، ومن يقف وراء وجودها وما يطرأ عليها من ظواهر وأحداث، وقد فسر ذلك بأن وراء كل ظاهرة طبيعية إله، وقد أضفى على هذا الإله صفات البشر، ولكن لا يفنى كما يَفنى البشر، ولكن جماح خيال الإنسان صور هذا الإله بقدرات وميزات أعظم من قدرات الإنسان، ومن هنا تكون البداية في وضع اللمسات الأولى للإنسانوية . من هنا ومن خلال مرور الزمن بدأ الإنسان يتقمص دور الإله أملاً بالخلود، وهذا ما دونه هوميروس وهوسيود في أساطيرهما، فأخذ الإنسان يتقمص دور أبن الإلةهو أخرى بأنه نصف آله ونصف إنسان، الى أن وصل الى مرحلة أقصائها من مكانها والأحلال محلها، أملاً بالفوز بالخلود الذي ينشده . هذا الإحلال مكان الالهة والذي تمخض عن صراعات وصلت الى حد قتل هذه الآلهة كما حدث لمردوخ الإله الشاب ابن الإله أيا الذي قتل الآلهة تعامة، وكما كرونوس بقتله لوالده أورانوس الذي قطعه بالمنجل، فهؤلاء الآلهة القتله لهم صفات البشر، وهم مولودون وهذه تؤكد قربهم الشديد من الخصائص البشرية . فالإنسان كائن تواق للخلود وبما أنه ليس بإله فقد تلمس الخلود من خلال أعمال عظيمة يقدمها، تكون سبباً لخلود ذكره، وخير مثال هو أخيليوس الذي لعب دوراً مهماً وكبيراً في حرب طروادة، وعبر عن ارادة حديدية في مقاتلة العدو وتحقيق الأنتصار عليه، وهو عمل يبرز فيه قدراته الإنسانية الفريدة، ومن خلال ما قدمه، فهو يعكس المسيرة التي يمكن أن يرتقي لها الإنسان في رحلة تكاملية لكي يصل خلالها الإنسان الى المرتكز الأساسي بالكون على حد قول الشاعر والفيلسوف الروماني تيتوس لوكريتوس. فرواد الحداثة أتخذوا من الأبطال الأسطوريين، سواء كانت شخصيات تَخيلية أو واقعية رمزية لبلوغ الإنسان الغربي صورة بالغة القوة والرقي، والذي يطلق علية نيتشه بالإنسان الأعلى، حتى أن هذا الإنسان بنظر نيتشه يأخذ مكان الإله بعد أن أعلن في مقولة مشهوره له عن موت الإله، واصبح الإنسان ذو خصائص سوبرمانية لا يحتاج بها الى إله. إن المتتبع للأسطورة الأغريقية بخاصة في المرحلة الثالثة لها، مرحلة الأبطال الأسطوريين، الذين أحتلوا مكانة الآلهة، هم ما يطمح اليه رواد الحداثة في صناعة الأنسان الأوربي على غرارهم، وهذه مرحلة يدخل فيها الإنسان مرحلة الاقتدار، وهي مرحلة تجعله يفك ارتباطه بشكل تام عن الماورائيات، وأن الإنسان الأوربي يصبح كأخيليوس صاحب اليد الطولى في جميع القضايا وفي كل شؤون الحياة، وهو الآمر الناهي في كل الأمور. هذا النموذج الذي يجمع القوة، والسعي الى الهيمنة، عن طريق بناء أرادة حديدية، هوالنموذج الذي بواسطته يتحقق بناء الأمبريالية الغربية، والتي أعتبرها فاكوياما المرحلة الحتمية للتاريخ.

يتبع...

***

أياد الزهيري

 

‏كتاباتي مرآة سيرتي الفكرية والروحية والأخلاقية، أكتب تجربتي في الكتابة كما تذوقتُها بوصفها تجربةَ وجود. تجربة الوجود فردية، كلّ ما هو فردي ليس ملزِمًا لأي إنسان. أعيشُ الكتابةَ بوصفها أُفقًا أتحَقَّقُ فيه بطورٍ وجودي جديد. فشلتُ في أن أكونَ شخصيةً نمطية، أعرفُ أنِّي لا أنفردُ بذلك، كلُّ مَنْ تكونُ الكتابةُ تجربةَ وجود في حياته لا يمكن أن يكونَ نمطيًّا.

يفرض كونُ الكتابة تجربةَ وجود على الكاتب الذي يعيشها ألا يصغي إلّا إلى ندائها، ماخلا حضورَه فيها يغيبُ الكاتبُ عن كلِّ شيء ويغيبُ عنه كلُّ شيء. لحظةَ يبدأ الكاتبُ الكتابةَ تأخذه إليها، لا تدعه يفكّر إلّا في فضائها،كلّما حاول الهربَ قبضتْ عليه من جديد كيف كان، لا تتركه مالم يمنحها كلَّ ما يمكن من ذكائه وقدراته الكامنة وصبره الطويل. الكاتبُ الذي يعيشُ الكتابةَ بوصفها تجربةَ وجودٍ تمكث حياتُه الخاصة مؤجلةً على الدوام.

عندما أكتبُ أقعُ في أسرِ ما أكتبُ، كأني أسافرُ بسيارة تتيه في صحراء ليلًا، ‏أحيانا أتخبطُ وأحيانا أهتدي، يكشفُ لي التخبطُ دروبًا لم أعرفها من قبل. ‏ليست لدي قواعدُ مُلزِمة للكتابة، ولا طقوس مفروض عليّ أن أخضع لها، ولا برنامج أُكره نفسي على الانصياع له، ولا خارطة رسمتُها أنا أو رسمها غيري. لا طقوس أتباهى بها في الكتابة، لا طريقة خاصة أو عادة مستحكِمة، لا أوقات صارمة دقيقة منضبطة. أعيش الكتابةَ بوصفها تجربةَ وجود أحقّقها وأتحقّق بها، أتذوقها كما يتذوق كلُّ إنسان تجربةَ وجود للذات. تجربةُ الوجود هذه شائقةٌ وشاقة، طالما وقع الكاتب المفتون بصنعته في أسرها، ولفرط اندكاكه بها ليس بوسعه الفكاكُ منها والذهابُ إلى غيرها، مهما كان اغواءُ الصنعة الأخرى ومهما كانت مكاسبُها.

‏ أكتب قناعاتي لحظة الكتابة، ‏أحاول عندما أكتب أن أكون موضوعيًا، أعبر عن ذاتي كما هي بحياد ‏ما أمكنني ذلك. أعرف أن ‏الإنسانَ عندما يتحدث عن الذات حيادُه صعبٌ جدًا. ‏الإنسان كائنٌ بارع في إخفاء عيوبه وثغراته، والتكتم على مواطن هشاشته ووهنه.   أعجز عن أن أكونَ كاتبًا تحت الطلب أو تكونَ كتابتي سلعةً معروضة للبيع، فشلت أن أكونَ شخصيةً آلية، أعرفُ أني لا أنفردُ بذلك،كلُّ مَنْ تكونُ الكتابةُ تجربةَ وجود في حياته لا يمكن أن يكونَ كائنًا آليًا، تتسم كلُّ تجربة وجودٍ بفرادتها. في ممارسة الكاتب للكتابة يرى ذاتَه كلّ مرة بطورٍ وجودي آخر، لا تستنسخ أطوارُ وجوده الآتية أطوارَه الماضية. أحيانًا يكتب الجرح، كتابةُ الجرح أعمقُ تجارب الكتابة وأوجعُها وأغزرُها معنىً، عندما يكتب الجرحُ يشفى الإنسان.

يسعى الكاتبُ المبدع على الدوام أن يعثر على صوتِه الخاص، ولغتهِ الصافية، وطريقهِ الذي لا يمرّ عبر طريق غيره، طريقه الذي لا يوصله إلى نهايات مغلقة. لا يمكن للإنسان اكتشافُ الطريق حين يقاد كأعمى. هدفُ الكتابة أن يتلمس الإنسانُ الضوءَ الذي يدله على الطريق، وفي هذا الضوء يرسم خارطةَ الوصول إلى ما ينشده بأقرب الطرق. مَن يعجز عن اكتشاف طريقه بنفسه يعجز عن الإبداع. عندما يقودك دليلٌ يعرفُ الطريقَ من دون أن تكتشفَ أنت الطريق، تضيّع أثمنَ تجربة اكتشاف في حياتك، وتصبح كأنك معاقٌ يسير بغير أرجله.

لا ‏أتقيّد بخطة في الكتابة، ولا أقيّد طلابي الذين أشرف عليهم في الدكتوراه والماجستير بخطة صارمة، أقول لكلٍّ منهم ‏مارس اجتهادَك في كلِّ شيء، ‏في الكتابة، وفي رسم الخطة. في أثناء الكتابة ربما تستجدّ لديك أفكارٌ ثمينة وتظفر بمعطيات إضافية، حاول أن تضيفَ أو تحذف، حاول تبتكر، تعلّم التفكيرَ الحرّ، تمرّن على أن تناقش ما تقرأ مهما كانت مكانةُ مَن تقرأ له. ليس المهم أن تكون خطتُك كسكة قطار لا تحيد عنها. ‏الخطةُ الجيدة خارطةُ طريقٍ أولية تتوسع أو تتقلص أو تُستبدَل، حاول البحثَ عن الاختلاف أكثر مما تعمل على الاستنساخ، حاول أن تفكر بعمق أثناء الكتابة، وراجع أكثر من مرة ما كتبتَ بهدوء وتأمل فيه بدقة. اكتب وأنت تستحضر آراءَ القراء النابهين ومواقفَهم من كتابتك.

عندما أكتب أفكر كثيرًا بالقارئ، وإن كنتُ أكتب لنفسي قبل الكتابة للقراء، أخاطب نفسي قبل مخاطبة القراء، وأعلّم نفسي قبل أن أكون معلّمًا لأحد. أحاول البحثَ عن إجابات لأسئلتي الوجودية، واكتشافَ حلول لمشكلاتي الفكرية، عسى أن ينكشف لي النورُ الذي يضيء خارطةَ النجاة. يهمني أن أكتشف نفسي قبل أن أكتشف العالم، وأغيِّر نفسي قبل أن أغيّر العالم. أحاول أن أعبّر عن ذاتي كما هي عندما أكتب، أسعى بحماسٍ لأن يكون ما أكتبه وأتحدث به خلاصةَ تأملاتٍ عقلية، وتعبيرًا عن خبرةٍ روحية وحياةٍ أخلاقية. أحاول كتابةَ اكتشافاتي لذاتي، والاعترافَ بثغراتي، ومواطنِ هشاشتي، والتمرينَ على شجاعة الإعلان عن أخطائي، لعل الإعلانَ عنها يشفيني من مواجع الندم ويحرّرني من تكرارها، يهمني البوحُ بشيءٍ من جروحي الغاطسة عساني أطفئ جمرتَها بداخلي. مشغولٌ على الدوام برحلتي في أعماق نفسي، واستكشافِ ما هو غاطسٌ في ذاتي. هذه الرحلةُ لا تتوقف، ولا تصل نهاياتِها المغلقة، ولن تبلغ قاعًا أخيرة.كلُّ يوم يتكشفُ في هذه الرحلة الأبدية ما كنت أجهله عن ذاتي، وعن الناس من حولي، وما لا أعرفه من غموض الشخصية الإنسانية وتناقضاتها.

مَن يقرأ كتاباتي بوسعه أن يرحل معي ويطلع على شيءٍ من محطات حياتي. تدور كتاباتي في آفاق سيرتي الذاتية، أحاول كتابتها بلغة صافية، وأبوح فيها بما يمكنني الإعلانُ عنه، وكأنها لوحةٌ نسجتْها أقداري وآلامي ومواجعُ حياتي. ‏أحاول التحدثَ فيها عن شيءٍ من ضعفي قبل قوتي، وهشاشتي قبل صلابتي، وجهلي قبل علمي، وعواطفي قبل عقلي، ‏وأسئلتي قبل أجوبتي. أحاول الإعلانَ فيها عن شيءٍ من إخفاقاتي قبل نجاحاتي، وضعفي قبل قوتي، وقلقي قبل سكينتي. أكتب لنفسي قبل غيري، أحاول أن أكونَ منقِّبًا ‏أكتب لأغوص في عوالم الذات. ‏الكتابة الجيدة تتكشف فيها سيرةُ الذات وأطوارُها الوجودية، كلُّ كتابة تعبّر عن تجربةٍ معيشةٍ للكاتب تكون شائقةً بمقدار ما هي شقيّة، مريرةً بمقدار ما هي عذبة.كتاباتي سيرةٌ ذاتية لما تراكم من تجارب وجروح مريرة وخبرات مختلفة عشتُها عبر محطات حياتي المتعدّدة والمتنوعة.

يخطئ من يتوهم أن كاتبَ هذا النصّ يدلي بتوصيات جاهزة لتدريب الكتّاب وتوجيه القرّاء. لا أقدّم أية توصيات، لستُ وصيًا على عقل أحد، يهمني تحريرُ العقل من الوصايات مهما كان القناعُ الذي تتلبس به، ومهما اتخذت لها من تسميات. الكتابةُ الجادة تتطلب ذاتًا صبورة، وعقلًا يقظًا، وإرادة شجاعة، وضميرًا أخلاقيًا حيًّا، وتراكمًا لقراءات نوعية، ومِرَانًا متواصلا.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

للقراءة دلالتان: خارجية وداخلية،اذ تدل الاولى على مجرد التلفظ واخراج الوحدات الصوتية عبر جهاز النطق وبحسب الانظمة اللغوية : صوتية، وصرفية، ونحوية، ودلالية، وتدل الثانية على الفهم، لتعني تجاوز التلفظ الى التفسير والتأويل، وهذا يعني ان هناك ثلاثة عناصر أساسية تكون القراءة: القارئ والمقروء وناتج القراءة .

ان العلاقة بين القارئ والمقروء ليست سلبية في كل الاحوال بحيث يتحول القارئ او المقروء الى مجرد طرف فاعل، ويتحول مقابله الى طرف منفعل، اذ يؤثر كل منهما في الاخر، ويتفاوت التغاير لدرجة يؤثر بناتج

القراءة . ولذالك فليست هناك قراءة خاطئة وانما هناك قراءة ممكنة وقراءة متعذرة، الامر الذي يجعل تعدد القراءات وتباينها أمرا محمودا ومستحبا، غير اننا نلتقي بقراءة ( متعذرة ) تجعل ناتج القراءة الغاية والمعيار، بحيث تلغي القراءات المختلفة، وتجعل ذاتها البديل .

ويتجلى ذلك في ما نطلق عليه الدين والفكر الديني، اذ يقع الكثير في وهم يخلط بين الدين بوصفه يمثل الثابت والفكر الديني بوصفه يمثل المتغير، بمعنى ان كليهما يمثل حقيقة لها استقلالها وخصائصها، على الرغم من ان الفكر الديني يعتمد على الدين ويتأسس في ضوئه، ويقترن به أقتران المعلول بعلته الثابتة .

ان الدين هو القرآن الكريم وما صح من السنة النبوية، ويمثل الثبات، في حين يمثل الفكر الديني أحد قراءات الدين وتتأثر هذه القراءة بالضرورة بالمنهج الذي تصدر عنه وآليات التحليل التي يستخدمها والعصر الذي ولدت فية، وفي هذه الحالة تتعدد القراءات وتختلف ولكنها لاتخرج عن الاصول والثوابت التي أقرها الدين وحددتها الشريعة، ولذلك يصح ان نقول ان هناك قراءة أشعرية وقراءة معتزلية وقراءة شيعية ..وهكذا ..

ان هذه القراءات المتعددة هي قراءات ممكنة وكل واحدة منها لاتلغي الاخرى او تنفيها او تهمشها ولكنها منحازة للاصول والثوابت التي تصدر عنها، بحيث تؤكد مقولة الامام

الشافعي : رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيي غيري خطأ يحتمل الصواب، وهذا يعني ان الفكر الديني ليس هو الدين، وليس هو البديل عن الدين وأنما هو أحد القراءات .

ونلتقي في هذا السياق ببعض التصورات المتطرفة التي تجعل القراءة الخاصة وهي جزء من الفكر الديني بديلا عن الدين ومن ثم فأنها تسقط أصول القراءة على الدين فتصبغه بطابعها، وتجعل القراءة هي الدين وبذلك تهمش وتنفي وتلغي وتكفر كل قراءة أخرى، وهذا يعني ان من يجعل الفكر الديني متقدما على الدين او بديلا عنه انما يقوم بقراءة متعذرة للدين وفهم متخلف عن الواقع .

وتمثل بعض فرق الخوارج أبرز الامثلة على ذلك من تراثنا وتاريخنا لانها قرأت الدين والواقع قراءة متعذرة فكفرت المجتمع المسلم كله، وجعلت فكرها الديني بديلا عن الدين، الامر الذي دفعها الى التطرف في استخدام العنف ساعية الى اجتثاث مخالفيها من المسلمين فكريآ وجسديآ، ولكن حركة التاريخ تجاوزت هذه الممارسات فأصبحت مجرد حدث تأريخي محض يدرسه المتخصصون ويستفيد من عبرته الباحثون والناس جميعآ.

وتبرز اليوم بؤر مماثلة تعتمد تصورات اصولية و وتجعل فكرها الديني متقدما على الدين نفسه، وتعتمد فقها خاطئا يكفر المجتمع المسلم كله، وتمنح نفسها حق امتلاك المعرفة واحتكار الحقيقة، ثم تعمد بعد ذلك الى استخدام ادوات العنف ضد مجتمعات تدين بالولاء للدين والعقيدة .

ان حركة التاريخ وقوانينة اثبتت بما لايدع مجالا للشك ان حركة بعض فرق الخوارج كانت مجرد فقاعة في تأريخ المسلمين، ثم آلت الى الزوال، والامر نفسه يصدق على كل حركة تعاند صيرورة التاريخ، لآن مصيرها سيكون حتما الى الزوال ..ولو بعد حين ..

***

أ. د. كريم الوائلي

وردت العقل البشريّ هَواجِسُ، كثيراً ما تمنى الإنسان تحقيقها، لكنه عجزَ عنها، فالزَّمن كان قاصراً. فهذا صاحب «الصَّحاح» الجَوهري(ت:393هج) تملكه هاجس الطيران، فـ«ضمّ إلى جنبيه مصراعي باب، وسّطهما بحبلٍ، وصعد مكاناً عالياً مِن الجامع وزعم أنه يطير»(الحمويّ، إرشاد الأريب). أما المتكلم هشام بن الحَكم(ت: 190هج) فراوده هاجس رؤية باطن الأرضِ، أو بواطن الأشياء الصَّلبة، بنفوذ البَصر إليها بشُعاعٍ، جعله مِن القِدرة الإلهية: «إن الله عزَّ وجلّ إنما يعلم ما تحت الثَّرى بالشُّعاع المتصل منه، والذَّاهب في عمق الأرض...»(البغداديّ، الفرقُ بين الفرقِ). لا يُعتبر ذلك إعجازاً، إنما هواجس، لم يطلع عليه مخترع الطَّائرة، أو الأشعة الخارقة، كي تكون أساساً لِما اخترعا.

كذلك اختراع قِراءة العُمْيان، لموجدها لويس برايل(ت: 1852)، التي دخلت الاستخدام منذ(1826)، واستمرت تتطور، فعمت الفائدة عُمْيان العالم، لكنَّ قبلَه ظهرت القراءة أمانيَ وهواجِسَ لدى عُمْيان مشهورين، وفي مقدمتهم أبو العلاء المعريّ(ت: 449هج)، وبيته غير المشهور، مع ما فيه مِن هاجس سابق للزمن: «كأنَّ مُنجمَ الأقوامِ أعمى/ لديه الصُّحف يقرؤها بلمسِ»(ديوان لزوم ما لا يلزم). كان ذلك، كما برايل الأعمى، مِن حاجةٍ، فكلُّ ما كتبه المعري، على السَّمع والإملاء. لم يكن زمنه، ولا زمن أوروبا آنذاك، قادراً على ترجمة هاجسه إلى اختراع. كذلك مِن الصَّعب عده إعجازاً على طريقة أصحاب الإعجاز العلميّ المتلاعبين بتأويل معاني النُّصوص.

لفتت نظريّ مناسبة تحقيق كتاب «نَكتُ الهَميان في نُكتِ العميان» لصلاح الدِّين الصَّفديّ(ت: 768هج)، أنّه كان بفضل «المؤتمر الدُّوليّ لتحسين حالة العُمْيان»، تحت رعاية الخديوي عباس الثَّاني(حكم: 1892-1914)، حققه ونشره(1911) أحمد زكي بك(ت: 1934).

وردت في كتاب الصَّفديّ قصة زين الدِّين الآمدي(ت: 712هج)، ومحاولته في قراءة عناوين مكتبته، وهو المدرس في المستنصرية ببغداد، ومِن حاجةٍ توصل هذا الأعمى، الحاد الذَّكاء والملاحظة، إلى صنع حروفِ الهجاءِ على شكلِ فتائلَ، يُلصقها على «طرف جلد الكتاب مِن داخل، ويُلصق فوقه ورقة بقدره لتتأبد»(نَكث الهميان...). فكان إذا سُئل عن كتاب يُجيب وهو يقرؤها بأنامله. غير أنَّ مستوى ذلك الزَّمن، العلمي والصِّناعي، لم يُسعف الآمديّ، كي يكون «برايل»، مثلما لم يسعف المعريّ قبله.

قرأت تفاصيل عن المؤتمر الدُّولي المذكور في «مجلة العلم» النَّجفيَّة(صدرت: 1910-1912) لمنشئها الفقيه المحب للعلم هبة الدِّين الشَّهرستاني(28/6/1911)، ولأن أحمد زكي حقق كتاب الصَّفدي، نهض في المؤتمر معترضاً على تسمية برايل أباً لقراءة العُمْيان، بل إنّ أباها كان الآمدي، بينما قام مندوب حلب، في المؤتمر، منشداً للمعريّ: «كأن منجم الأقوام أعمى...»، قائلاً: هذا هو صاحب الاختراع، لا الآمدي ولا برايل.

ليت شِعري ماذا ذكر الصَّفدي للمعريّ، وقد أفاض بسيرته وشِعرهِ، بينما أغفل البيت «كأنَّ منجمَ...»، الذي لو ذكره لكان جوهرةَ كتابه في العُمْيان، إلا أنه ذَكر للشامتين به: «أمعرة النُّعمان ما أنجبتِ إذ/أخرجتِ منكِ معرةَ العُمْيان»(نَكت الهميان).

مِن حقّ الآمدي تسمَّية مدارسَ ومعاهدَ العُمْيان باسمه، وللمعري كذلك، لكنَّ المشكلة مذهب الآمدي، لا يسمح به عصر الطَّائفيّة، فمؤخراً شُطبت أسماءُ مؤسسات ببغدادَ: المنصور والمعتصم والفاروق. أمَّا المعريّ فيعسر رفع اسمه عنواناً، وهو القائل بعد بيته «كأن منجم..»: «إذا قلتُ المحال رفعتُ صوتي/ وإنْ قلتَ الصَّحيح أطلتُ همسي».

هذا، وأغربَ ما قرأته في «الأسبوع» المصريَّة(1/12/2022): أنَّ المؤتمرَ المذكور، وما نتج عنه «رحلة إلى معاهد العُمْيان في أوروبا»(1912) لطبيب العيون نجيب كُحيل، كان مِن وحي عبقرية طه حسين(ت: 1973)، والأخير لم يشتهر إلا بعد المؤتمر وصدور الكتاب بسنوات! أراه إسقاطاً ليس في محله.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في الجزائر ودراسة الأدب المغربي القديم

جمع الأديب والباحث الأكاديمي الأستاذ الدكتور العربي دحو عدة صفات جعلته يتبوأ مكانة متميزة في عالم الأدب، والثقافة، حيث إنه أحد أبرز الذين اهتموا بالثقافة الشعبية، وركزوا جهودهم على جمع الشعر الشعبي في مختلف المناطق، فهو أحد العناصر النشيطة، والفاعلة في خدمة الحركة الأدبية، و العلمية في منطقة باتنة، والجزائر قاطبة بكفاءة، و جهد، ومثابرة، وصدق ويمتد التاريخ الأكاديمي للبروفيسور العربي دحو إلى أكثر من نصف قرن، و خلال حياته العلمية، أثرى المكتبة العربية بعدد كبير من المؤلفات، ومن المساهمات الأدبية، والتربوية، والثقافية.

إنه واحد من الجامعيين الجزائريين الذين قدموا خدمات جليلة للأدب الجزائري، كما أنه من ألمع الشخصيات الأدبية، والثقافية الجزائرية منذ السبعينيات من القرن المنصرم، أسهم مساهمة فعالة في خدمة التراث الشعبي، ودراسة الأدب المغربي القديم، وتحقيق بعض الدواوين الشعرية المغربية، التي تكتسي أهمية بالغة، وقد تناوله الباحثون في مقالاتهم، وكتاباتهم على أنه أديب،، أو أنه شاعر، وأكاديمي، و تهدف هذه الورقة إلى إلقاء الضوء على بعض مصنّفات هذا العلم البارز من أعلام الأدب، والدراسة، والتحقيق في الثقافة الجزائرية،

وتتناول في شقها الأول: جهوده في خدمة الشعر الشعبي الجزائري، فتتحدث عن بعض مصنّفاته المتميزة في هذا الميدان، وتُقدم في الشق الثاني منها بعض الإضاءات على منجزاته العلمية في مجال دراسة الأدب المغربي القديم.

إننا نُلفي في كثير من الشهادات التي قدمها مجموعة من الأدباء، والمثقفين الجزائريين الذين عرفوا الأستاذ الدكتور العربي دحو أصداء لجهوده، ومنجزاته في المشهد الثقافي الجزائري، حيث يقول عنه الناقد المعروف الدكتور عبد الملك مرتاض: «العربي دحو وجه من وجوه الحركة الثقافية، والأدبية المعاصرة في الجزائر، فقد عرفناه متعدد النشاط الثقافي، والسياسي، والاجتماعي، فبينما هو شاعر يقرض الشعر، هو في الوقت ذاته جامعي يلقي المحاضرات على طلاّب جامعة باتنة، ويبحث في الأدب الجزائري قديمه، وحديثه، وفصيحه، وشعبيه، وبينما هو عضو قيادي سابق في اتحاد الكتاب الجزائريين، هو عضو سابق في البرلمان الجزائري على عهد الحزب الواحد. تجمعني بالعربي دحو علاقة ثقافية، وعلمية خاصة، تبلون حين كنا في قيادة اتحاد الكتّاب الجزائريين أيام الحزب الواحد، فقد كنا نقضي أياماً معاً في أنشطة ثقافية بالشرق، والغرب، والوسط، كان الاتحاد يقيمها، كما أتيح لنا السفر معاً إلى خارج الوطن، بحكم ذلك...» (1) .

وقد كشف الدكتور عبد الملك مرتاض لدى ترجمته للأديب العربي دحو عن بعض الرؤى النقدية، والفكرية التي تميز بها، حيث يشير إلى معرفته بأن العربي دحو كان يرى أن« الناقد لا يكون ناقداً متألقاً خريتاً في جنس أدبي ما، إلا إذا كان أديباً فاعلاً في ذلك الجنس، فناقد الرواية لا يكون ناقداً متمكناً من إجراءاته ما لم يمرّ بالتجربة في الكتابة الروائية، و لا يقال إلا نحو ذلك في ناقد الشعر، وهلم جراً... » (2) .

وقد جاء في موسوعة العلماء والأدباء الجزائريين التي أعدها الأديب والباحث الأستاذ رابح خدوسي: « دحو العربي من مواليد: 12-09-1942م، بمروانة (باتنة)، أستاذ جامعي، حاصل على دكتوراه دولة، من مؤلفاته: أهازيج جزائري عاشق (شعر 1988م)، و ذاكرة الظل الممتدة (شعر1988م)، وبعض النماذج الوطنية في الشعر الشعبي الأوراسي خلال الثورة التحريرية (دراسة1986م)، ودراسات وبحوث في الأدب الجزائري (1991م)، والشعر المغربي (1994م)، وديوان أبي الربيع عفيف الدين التلمساني الصوفي (1994م)، عضو المجلس الوطني لاتحاد الكتاب الجزائريين عام: 1998م. (3) .

أولاً: أضواء على جهوده في خدمة الشعر الشعبي الجزائري:

لقد أصدر الدكتور العربي مجموعة من الكتب، والمؤلفات العلمية، كما كتب عدداً كبيراً من الأبحاث الأكاديمية، نُشرت في مختلف المنابر الأكاديمية الجزائرية، والعربية، و شارك في عدة ملتقيات أدبية، وعلمية، وقد كان عضواً في عدد من الهيئات العلمية المرموقة، والحق أن آثار الباحث الأكاديمي العربي دحو هي أرحب، وأوسع من أن تحيط بها قراءة، أو بحث، مهما بُذل فيه من جهد، وأود في هذه الورقة أن أقدم إلى القارئ الكريم، وبشيء من الإيجاز، في هذا القسم الأول من البحث، ما تيسر لي من الاطلاع على مؤلفاته في ميدان الأدب الشعبي، أو الثقافة الشعبية، كما يُفضل بعض الباحثين تسميتها، وذلك على أساس أن الثقافة (4)، أوسع دلالة، وأشمل من مصطلحي الشعر، أو الأدب، وبدءاً أقول إن هناك من يُبرر دراسة الأدب الشعبي لجُملة من الأسباب الموضوعية، ومن بين هؤلاء العلاّمة المغربي عباس الجراري، الذي يُحدد أسباب تركيز الدراسة على الأدب الشعبي ب:

1-إن الأدب الشعبي صورة للشخصية الوطنية، مهما كانت باهتة فهي أكثر وضوحاً من الصورة التي يعيشها الأدب المدرسي المثقف.

2-إن دراسته تعزيز لإقليمية الأدب، وتقرير لمذهبه الذي نؤيد الداعين له منهاجاً للكشف عن أدب الأقاليم العربية المختلفة، وسبيل الأمة العربية إلى لم شتات أدبها المبعثر المجهول.

3- إن الأدب الشعبي مكمل للأدب المدرسي، وأن من شأن دراسته أن تُساعد على الربط بين الأدبين، واجتياز الهوة الكبيرة التي تفصل بينهما (5).

1- لمحة عامة عن الأدب الشعبي ونشأته:

والحق أن مسألة دراسة الأدب الشعبي لهي مسألة مثيرة للجدل، وقد خاض في غمارها الخائضون، ونستشهد في هذا الشأن بمنظور العلاّمة الجزائري (أبو القاسم سعد الله)، حيث يقول في شهادته عن الأدب الشعبي: «بيني وبين ما يُسمى بالأدب الشعبي علاقة غير ودية، فهو عندي علامة على جهل أصحابه، وأميتهم، يلجأون إليه، بدل الأدب الراقي الجميل، للتعبير عن خلجات نفوسهم ومشاعرهم.أما المثقف عندي فيترفع عن الأدب السوقي، أو العامي، كما يترفع في حياته، وآدابه، ودروسه، ومؤلفاته عن الكتابة، أو الحديث بلغة العامة، لأن ذلك ينحدر بمستواه الثقافي، وربما الأخلاقي والاجتماعي أيضاً، فيصبح في نظر المثقفين عاجزاً عن أداء أفكاره بلغة راقية تحتوي على عناصر الفن الأصيل، والجمال الأدبي، الذي يرفع صاحبه إلى مصاف الفحول، والمبدعين ويبوئه المكانة التي يستحقها، والتي هي الإسهام في تربية المجتمع، وترهيف الذوق، وخدمة اللغة.ومن أجل ذلك لا أحترم الأديب المثقف الذي يدعي أنه يكتب بالفصيح، والملحون (أو النبطي عند بعض أهل الخليج). وهذا الموقف مني ليس موقفاً استعلائياً، ولا طبقياً، وإنما هو اعتراف بواقع، فكما أن الناس، والطبيعة، والأشياء درجات، ومقامات، فكذلك الأدب، وخاصة الشعر: منه الراقي، والوضيع، والجميل، والقبيح، والفني، والسوقي. لذلك يُمكن للأدب الشعبي في نظري أن ينقل الأخبار، وأن يبث دعوة، وأن يروج لفكرة، أو لشخص، ولكنه لا يُمكن أن يُربي ذوقاً، أو يُرقق حساً، أو يؤسس لحضارة» (6).

ويذهب شيخ المؤرخين الجزائريين إلى أن الأدب الشعبي مضر باللغة القومية، وتراثها القومي، فهذه اللغة هي الرابطة المشتركة بين صاحب النص الشعبي، وقومه الذين ينتمي إليهم، ويتقاسم معهم، ويشترك في حب التراث، والدفاع عنه، عندما تُفاخر الأمم بأمجادها، وإرثها الحضاري، بما فيه الأدب الخالد، مثل: المعلقات، والشاهنامة الفارسية، فتمجيد الأدب الشعبي، والرفع من شأنه (وهو بطبعه أدب غير رفيع)، سيخرجه من دائرته ليصبح أدباً ذاتياً لا يفهمه إلا صاحبه، فإذا توسع فقد يصبح أدباً للغة أخرى هجينة، تتطور تدريجياً لتصبح لسان حال قوم جدد، وعصبيات مصطنعة، والنقطة الأخرى التي يُبه إليها العلاّمة سعد الله هي أن الأدب الشعبي قد تم استغلاله من قبل الاستعمار الفرنسي، الذين اتخذوه دلالة على تشرذم اللغة الواحدة، ومن ثمة تفكك مجتمعها، وابتعاد أهلها عن بعضهم، نظراً لعدم قدرتهم على التفاهم بلغة واحدة (7).

والجدير بالذكر في هذا الصدد أن الزجل (الشعر الشعبي، أو العامي) يعد فناً من فنون الشعر التي استحدثت في البلاد الأندلسية، حيث ظهر بعد الموشحات، إذ يُرجح العلاّمة عبد الرحمن بن خلدون أن دخوله كان مُتأخراً، ونفهم أن ظهوره جاء بعد الموشحات، في قوله: «ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلاسته، وتنميق كلامه، وترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية، من غير أن يلتزموا فيه إعراباً، واستحدثوا فناً سموه الزَّجل، والتزموا النظم فيه على مناحيهم إلى هذا العهد، فجاؤوا فيه بالغرائب، واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم الأعجمية» (8)

إن جميع القرائن تؤكد على أن الزجل قد جاء مُتأخراً، بعض الوقت عن فن التوشيح، أو الموشحات، فهو يندرج تحت لواء المرحلة الثالثة لتحول الشعر في بلاد الأندلس، فالمرحلة الأولى-وفق منظور الباحث مصطفى الشكعة-هي مرحلة الفصيح الذي استمر، وسوف يستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والمرحلة الثانية هي مرحلة إدخال العامية إلى الشعر مع تحوير في بناء القصيدة، وتعدد الأوزان والقوافي، فقد أُدخلت العامية من خلال الخرجة في الموشحات، والمرحلة الثالثة هي مرحلة قول منظومات عامية تلتقي مع رغبات العامة، ومن لا يُجيدون العربية من أبناء البلاد، وملوك البربر، وقد عُرفت هذه المنظومات العامية باسم الزجل (9)

والجدير بالذكر أن النقاد العرب القدماء، قسموا الشعر العربي إلى سبعة أنواع، هي: « الشّعرُ القريضُ، والمُوشَّحُ، والدوُّبيت، والزَّجل، والمواليَّا، والكانْ وكانْ، والقوما قوما، ومنهم من جعل الحُمَّاق من السبعة، وفي ذلك اختلاف، وعند جميع المحققين أنَّ هذه الفنون السبعة، منها ثلاثة معربة أبدًا لا يُغْتَفَرُ اللّحن فيها، وهي الشعر القريض، والموشَّح، والدُّوبيت، ومنها ثلاثة ملحونة أبدًا، وهي: الزَّجل، والكان وكان، والقوما، ومنها واحدٌ، وهو البرزخ بينهما، يحتمل الإعراب واللّحن، وهو المواليا، وقيل: لا يكون البيت منه بعض ألفاظه معربة، وبعضها ملحونة، فإنَّ هذا من أقبح العيوب التي لا تجوز، وإنّما يكون المعرّبُ منه نوعًا بمفرده، ويكون الملحون فيه ملحونًا لا يدخله الإعراب» (10)

فما نفهمه من هذا النص الذي أورده الأبشيهي أن الزجل، يعد نوعاً من أنواع الشعر العربي، وإن كان مكتوباً بلغة غير فصيحة، لغة الحديث اليومي بين عامة الناس، وقد وضح صفي الدين الحلي قاعدة هذه الفنون الشعرية في كتابه: «العاطل الحالي والمرخص الغالي»، ورأى: أنَّ أهل العراق، وديار بكر، ومن يليهم يثبتون الخمسة منها، ويبدّلون الزجل والحمّاق بالحجازي، والقوما، وهما فنان، اخترعهما البغاددة للغناء بهما، في سحور شهر رمضان خاصة في عصر الخلفاء العباسيين، وعذرهم في إسقاط الزجل، هو أن أكثرهم لا يفرّقُ بين الموشح، والزجل، والمُزَنَّم، فاخترعوا عوضه الحجازي، كما اقتطع الواسطيّون المواليَّا، وهذا يشبه الزجل في كونه ملحونًا، وأنَّه يعد كل أربعة أقفال بيت، ويخالفه بكون القطعة منه لو بلغ عدد أبياتها ما بلغ لا تكون إلا على قافية واحدة، وعذرهم في إسقاط الحماّق، هو أنّهم لم يسمعوه أبدًا، فعوّضوا عنه بالقوما، وإذا أضفنا الفَنينِ اللذين أوردهما صفي الدين الحلي لأهل العراق، وهما الحجازي والقوما، ثم الثالث وهو المُزَنَّم، والبليق، الذي عرفه المصريون، وبعض الشوام، كان عددها أحد عشر فنًا منظومًا، وقد اقتبس بعضها من الشعر الأندلسي المغربي، كالموشجات، والأزجال، واقتبس بعضها الآخر من بغداد، وفارس كالدوبيت، والمواليّا (11)

وقد تحدث صفي الدين الحلي في الباب الأول من كتابه: «العاطل الحالي والمرخص الغالي»، والذي وسمه ب: (الفن الأول: الزجّل)عن موشح ذائع الصيت لابن غرلة، عُرف بالموشح العروس، وهو يعد من موشحاته المزنمة، و المُزَنّمُ: مشتقة من التزنيم، وهو ما أعرب من ألفاظ الفنون الأربعة: الزجل، والمواليّا، والكان وكان، والقوما، والتزنيم في الأصل: هو المستلحق في قوم، وليس منهم، والمنتسب لغير أبيه.

حيث يقول صفي الدين الحلي في قسم (الفن الأول: الزجّل): «وقد كان ابن غُرلة، وهو من أكابر أشياخهم، ينظم الموشح والزجل والمزنم، فيلحن في الموشح، ويعرب في الزجل، تقصداً منه واستهتاراً، ويقول: إن القصد من الجميع عذوبة اللفظ، وسهولة السبك، وكان الوزير ابن سناء الملك يعيب عليه ذلك، ولهذا لم يثبت شيئاً من موشحاته في (دار الطراز)، فمن موشحاته المزنمة، الموشحة الطنانة الموسومة ب (العروس)التي نظمها عند عشقه رُمبْلة أخت عبد المؤمن الموحدي، ملك الأندلس.وقتله الملك بسببها، لتوهمه من مطلعها وما يليه اجتماعه بها، والواقعة مشهورة، وكان حسن الصورة، جليل القدر، ذا عشيرة، وكانت هي أيضاً جليلة القدر، جميلة الخلق، فصيحة اللسان، تنظم الأزجال الرائقة الفائقة» (12).

وإذا كان مؤرخو الأدب الأندلسي، لم يذكروا من قريب، أو بعيد من اخترع فن الزجل، إلا أنهم أشاروا إلى أول من أبدع القول فيه، وقد نبه عدد من المؤرخين إلى أن الأزجال التي قيلت قبل أبي بكر بن قزمان، لم تظهر حُلاها، ولم تنسكب معانيها، ولم تشتهر إلا في زمانه-أي زمان ابن قزمان-.

ومن بين النصوص التي تشير إلى الجانب التاريخي في نشأة الزجل، نص أورده العلاّمة عبد الرحمن بن خلدون، جاء فيه: «أول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية أبو بكر بن قزمان.وإن كانت قيلت قبله بالأندلس، ولكن لم تظهر حُلاها، وانسكبت معانيها، واشتهرت رشاقتها، إلا في زمانه، وكان لعهد الملثمين.وهو إمام الزجالين على الإطلاق.قال ابن سعيد: (ورأيت أزجاله مرويةً ببغداد، أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب.قال: وسمعتُ أبا الحسن بن جُنحدر الإشبيلي، إمام الزجالين في عصرنا يقول: ما وقع لأحد من أئمة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة)» (13)

فما يُستنتج من مختلف الأخبار أن أبا بكر بن قزمان المتوفى سنة: 554هـــــ، والذي عاش في ظل حكم المرابطين بالأندلس، هو أول من أبدع في فن الزجل، ولم تُعرف الأزجال التي قيلت قبله، وربما قد يكون أخذ منها، أو اقتبس، أو استفاد.

حيث يذكر ابن قزمان لدى تقديمه ديوانه: «ولقد كنت أرى الناس يلهجون بالمتقدمين، ويُعظمون أولئك المقدمين، ويجعلونهم في السماك الأعزل، ويرون لهم المرتبة العليا، والمقدار الأجزل، وهم لا يغرفون الطريق، ويذرون القبلة، ويمشون في التغريب والتشريق، يأتون بمعانٍ باردة، وأغراض شاردة، وألفاظ شياطينها غير ماردة، وبالإعراب، وهو أقبح ما يكون في الزجل، وأثقلُ من إقبال الأجل...» (14)

إن ما يتضح هو أن هناك من سبقوا ابن قزمان، وحاولوا الإبداع في فن الزجل، والأمر الذي يرجح، أنهم كانت لهم قصائد شعبية، بيد أنهم لم يبلغوا مبلغه، ولم يصلوا إلى مستواه الفني، ويُمكن القول إن الزجل الذي نشأ في الأندلس، قد انقسم إلى قسمين رئيسين: زجل العامة، وزجل الشعراء المعربين.

بالنسبة إلى زجل العامة، أو شعر العامة، فهو يتجلى في الأغنية الشعبية العامية، والتي تنبع تلقائياً لدى العامة بباعث تجربة شخصية، أو من وحي واقعة معينة، أو حدث عام، أو موقف مُعين، ثم تنتشر تدريجياً على ألسنة الناس، فيتغنون بها فرادى وجماعات..

أما زجل الشعراء المعربين، فيبدو أنه قد جاء تابعاً في النشأة لزجل العامة، ويبدو أن الشعراء الذين حاولوا هذا النوع من الزجل قبل عصر ابن قزمان، كانوا مدفوعين إليه، رغبة منهم في أن تنتشر أزجالهم المصطنعة بين الطبقات المثقفة كنوع من الطرافة، أو رغبة في أن يُعرفوا لدى العامة معرفتهم لدى الخاصة، ولعل دوافعه لدى بعض الشعراء المعربين أنهم وجدوا أنفسهم لايقعون مع فحول الشعراء المعاصرين لهم في شيء، فسلكوا سبيل الزجل ليتميزوا بينهم، بيد أن أولئك الشعراء الذين اصطنعوا الزجل اصطناعاً، لم يستطيعوا في مراحله الأولى أن يتخلصوا فيه من الإعراب، وهذا ما عابه عليهم ابن قزمان، حين قال: إنهم يأتون بالإعراب، وهو أقبح ما يكون في الزجل، ولم يشهد ابن قزمان لأحد من الزجالين الذين كانوا قبله بأنه كان مُجيداً لفن الزجل، ومتفوقاً فيه، باستثناء الشيخ أخطل بن نُمارة، الذي تميز بسلاسة طبعه، وإشراق معانيه، وتصرفه بأقسام الزجل وقوافيه.

ويظهر أن الرعيل الأول من الزجالين الذين جاؤوا قبل ابن قزمان، وسمّاهم في مقدمة ديوانه ب (المتقدمين) قد ظهروا خلال القرن الخامس، ويبدو أنهم لم يجدوا العناية الكافية، فملوك ذلك الزمان لم يكونوا مهتمين بالأدب العامي، أو الشعبي كونه يُمثل انحطاطاً في المستوى (15)

إن الحقيقة التي يقع الإجماع عليها، هي أن الزجل قد كانت نشأته نتيجة للانحطاط، فالزجل شعر منظوم بالعامية، وهو ينسجم مع مستوى الذين لا يُجيدون اللغة العربية من أبناء البلاد، وملوك البربر، ومن بين الوقائع التاريخية التي تُذكر في هذا الشأن أن المعتمد بن عبّاد«كان قد شجّع بعض الشعراء لكي يمدحوا يوسف بن تاشفين، فلما انتهوا من الإنشاد، قال المعتمد لابن تاشفين: أيعلم أمير المسلمين ما قالوه؟قال: لا أعلم، ولكنهم يطلبون الخبز، ولما انصرف ابن تاشفين إلى حاضرة مُلكه شمال إفريقية، كتب له المعتمد رسالة تضمنت بيتين من نونية ابن زيدون (بنتم وبنّا فما ابتلت جوانحنا شوقاً...)، فلما قرئ البيتان على ابن تاشفين، قال للقارئ: يطلب مني الجواري السود والبيض، فأجابه القارئ لا يامولانا، ما أراد إلا أن ليله كان بقرب أمير المسلمين نهاراً، لأن ليالي السرور بيض، فعاد نهاره ببعده ليلاً، لأن ليالي الحزن ليالٍ سود، فقال: والله جيد، اكتب له في جوابه: إن دموعنا تجري عليه، ورؤوسنا توجعنا من بعده» (16)

إن هذا الكلام يدل على أن اللغة العربية، قد انقسمت بين لغة خاصة بالمثقفين والنخبة، ولهجة عامية دارجة سادت على ألسنة العامة، وقد كانت نشأة الزجل نتيجة طبيعية بعد أن استولى البربر على البلاد الأندلسية في عهد يوسف بن تاشفين، فالزجل جاء ليقدم صورة عن انحطاط المستوى، وشيوع الزجل، يشكل نزولاً إلى مستوى الذين لا يفهمون اللغة العربية، فظهور الزجل يعد انتكاسة للشعر الفصيح، فقد أصبح الشعراء ينظمون بالعامية، حتى يفهمهم فريق من العوام، ومن بينهم الحكام البربر الذين يُخاطبون بالأدب الشعبي حتى يتسنى لهم فهم المقاصد.

ومما يؤكد أن ظهور الزجل، يعد نزولاً في المستوى، ويُشكل انحطاطاً، أن ابن قزمان اشتغل في أول أمره بالشعر المعْرَب (الفصيح)، فلم يسطع أن يبرع فيه، إذ قصر فيه عن أنداده ومعاصريه، فقد كان مُعاصراً لابن خفاجة، ولم يتمكن من الوصول إلى مستواه، فانقلب إلى الزجل (الشعر العامي).

والجدير بالذكر أن أبا بكر محمد بن عيسى بن قُزْمان الأصغر، لُقب بالأصغر تمييزاً له من عمّهِ أبي بكر محمد بن عبد الملك (ت: 508هـ)، وُلد سنة: 470هـ-1078م في قُرطبة في بيت جليل، خرج منه أعلام، ونبهاء كثر، وقد سلك ابن قزمان الأصغر في حياته طريق اللهو والاستهتار، والمجون، والغرق في الملذات، حيث يُذكر أنه كان كثير التردد على إشبيلية من أجل النزهة واللهو.

ومن بين الذين مدحهم ابن قزمان في حياته يحيى بن غانية، وهو حاكم معروف بأنه آخر وُلاة المرابطين في الأندلس (ت: 541هـ)، وقد عاش ابن قزمان الأصغر حياة صعبة في بُؤس وذلة، ثم أصبح إمام مسجد، بعد أن قضى كل حياته في اللهو والمجون والاستهتار، ويبدو أنه أصبح يُشرف على المسجد للحصول على الكفاف في العيش، وقد توفي ابن قزمان الأصغر في قرطبة في: 29رمضان من سنة: 555هـــــــ (2-10-1160م)، على الأرجح (17)

لقد طارت شهرة ابن قزمان في الزجل، وأضحى يحتل في ميدانه مكانة مرموقة، حيث إنه لا يُمكن لأي دارس أن يتحدث عن الزجل، دون أن يُغفل الحديث عن أزجاله، وجهوده، حيث يقول الشيخ العلاّمة صفي الدين الحلي في كتابه: (العاطل الحالي والمرخص الغالي)«واختلفوا فيمن اخترع الزجل، فقيل: إن مخترعه ابن غرلة المقدَّم ذكره، استخرجه من الموشح.وقيل: يخلُف بن راشد، وكان هو إمام الزَّجل قبل أبي بكر ابن قُزمان، وكان ينظم الجزل القوي من الكلام، فلما ظهر ابن قُزمان، ونظم السهل الرقيق، مال الناس إليه، وصار هو الإمام بعده.ونظم ينكر عليه قوة النظم زجلاً مطلعه:

زَجَلك يابن راشد قوي متين وإن كان هُوّ للقُوَّة فالحملين

يريد: إن كان النظم بالقوة، فالحمّالون أولى به من أهل الأدب.

وقيل: بل مخترعه مدْغليس.وهذا اسم مركب من كلمتين، أصله: مضَغَ اللِّيس.واللِّيس: جمع ليسة، وهي ليقة الدواة.وذلك أنه كان صغيراً بالكتب، فمضغ ليقة، فسُمي بذلك.ولسان المغاربة والمصريين يبدلون الضاد دالاً.فأطلق عليه هذا الاسم، وعُرف به.وكنيته في ديوانه ( أبو عبد الله بن الحاجّ)، عُرف بمدغليس. والصحيح أنه ليس مخترعه، لأني وجدت في ديوانه زجلاً مدِيحاً، يذكر في آخره أنه نظمه مُعارضاً لابن قُزمان.وهذا دليل على أنه معاصره، أو متأخر عنه» (18)

إن مدغليس يعد واحداً من الزجالين الكبار، إذ يعده أهل الأندلس خليفة لابن قزمان، ويعتبرون مكانته في الزجل موازية لمكانة أبي تمام في الشعر الفصيح، ومن بين الزجالين الذين اشتهروا بالبلاد الأندلسية: ابن جحدر الإشبيلي، وابن غرلة، و (أبو زيد البكّازور البلنسي)، و (أبو بكر بن صارم الإشبيلي)، وغيرهم.

ويؤكد ( تقي الدين أبو بكر بن حجة الحموي) أن مخترع الزجل هو ابن قُزمان، حيث يقول في هذا الصدد: «...وناهيك بهذه الصلة التي هي على مثله عايدة، واغتفر له أهل عصره اللّحن، وعدُّوه له من مطرب التلحين، فإنه أتى في نظمه بنكت تحرك العيدان، وتغني عن القوانين، ولهذا عدل قِبلة المغرب، وهو الإمام أبو بكر بن قُزمان، تغمده الله تعالى برحمته ورضوانه، واخترع فناً سمَّاهُ الزجل، لم يُسبق إليه، وجعل إعرابه لحنه، فامتدت إليه الأيدي، وعقدت الخناصر عليه.

ولما نظم بلفظ العوام تمكن منه أديب الطبع، وكان قد حبس عنانه عن العربيات، ورأى بيوته واسعة الفنا، فأسكن مخدرات نكته بتلك الأبيات..» (19)

2- الشعر الشعبي والثورة التحريرية بدائرة مروانة (1955-1962م):

صدر هذا الكتاب عن منشورات ديوان المطبوعات الجامعية بالجزائر، دون ذكر لتاريخ الطبع، وقد نبه الدكتور العربي دحو لدى تقديمه لهذا الكتاب إلى الأسباب، والدوافع التي دعته إلى تركيز الاهتمام على هذا الموضوع، والتي أرجعها إلى دوافع ذاتية، وعاطفية، ودوافع معرفية تتعلق بسد فراغ معرفي، حيث يقول: «يعود اهتمامي بهذا الموضوع إلى مسقط رأسي من جهة، وإلى معايشتي للثورة التحريرية من جهة ثانية، وإلى إكباري لهذه الثورة المظفرة من جهة ثالثة، وإلى حاجة الجامعة الجزائرية إلى متخصصين في هذا الميدان من جهة رابعة، وإلى خلو المكتبة الجزائرية باللغة العربية من هذه الدراسات حتى الآن، والتي تعتبر حديثة العهد في العالم، وإلى اقتناعي أولاً، وأخيراً بوجود أشياء كثيرة في النص الشعبي، لا نجدها في النص المدرسي، ومن هنا اقتنعت باختيار هذا الموضوع الذي أتعبني كثيراً عندما دخلت ميدان التطبيق لأسباب منها ما يتصل بإمكانياتي المادية، ومنها ما يتصل بنفسية الشعراء، والرواة الذين اتصلت بهم، والذين كانوا يمدونني بالنزر القليل كل مرة، بالرغم من كل الأساليب التي استخدمتها معهم، وخاصة أولئك الذين اعتلوا خشبات المسرح، وظهروا على شاشة التلفزيون، وتعودوا أخذ المقابل عما يقدمونه، إذ لا يعرفون أهمية البحث العلمي، ولا غايته، وفوائده، ومادامت الوسائل المادية التي استخدمتها في الجمع، والبحث معاً كلها كانت من إمكانياتي الشخصية، ومن هنا كان التأثير البالغ علي إذ لولا حبي للعلم، ولولا أستاذي الفاضل، ومساعدته مع أسرته الكريمة ما قطعت المسافة إلى هدفي الذي سعيت إليه أول الأمر، ولما بلغت ببحثي هذه المرحلة» (20).

يتضح من خلال هذا التقديم مدى ما كابده الدكتور العربي دحو من جهود مضنية في سبيل تأليف هذا الكتاب، فقد بذل صاحبه كثيراً من الجهد، فهذا الكتابي هو ثمرة مرحلة مهمة من حياته مليئة بعمل دؤوب لا يعتري صاحبه سأم، أو كلل، لأن الحافز عليها الطموح العارم، والجامح، والرغبة الأكيدة في تحقيق الذات بهدفها الأسمى، وخدمة الوطن، والتأريخ بدقة لثورة التحرير المظفرة، التي يُكن لها من الحبّ، والإخلاص، والوفاء، ما لا يعلمه، ولا يجزي به إلا الله.

يستهل الباحث الجاد الدكتور العربي دحو كتابه هذا، في بابه الأول بالحديث عن منطقة مروانة، وسكانها، وشعبها قبل اندلاع ثورة التحرير الجزائرية، وقد نبه منذ البداية إلى أنها ليست قديمة العهد في الحقيقة، وقد عُرفت بهذا الاسم الذي اختلف فيه، ولكن الاعتقاد السائد أن رجلاً اقترف جريمة قتل يدعى (مروان)، ثم اختفى في الوادي الذي سُمي بعدها باسمه، وبعدها نُقل إلى (مروانة)، وهناك من يشير إلى أن الكلمة مأخوذة من كلمتي (مروا)، ومن (هنا)، والمقصود أن جماعة عبرت المكان، فضل أفرادها طريقهم، وبعد عبورهم الوادي، واجتيازه، وجدوا أثر مرور أصحابهم، فقالوا (مروا)، ومن هنا، ثم تم التحويل من أجل الاقتضاب، والاختصار، فقالوا (مروان)، أو (مروانة) (21).

وقد قدم الدكتور العربي دحو لمحة عن السكان في العهد الفرنسي، حيث نبه إلى أن إخضاع منطقة (مروانة) لم يكن دفعة واحدة، حيث لقي الاحتلال الفرنسي مقاومة شديدة سنة: 1858م، وقد تم احتلال المنطقة كاملة سنة: 1895م، ومن جملة ما ترتب عن الاحتلال نزع الأراضي من أصحابها الحقيقيين، ولاسيما منهم أولاد فاطمة، وحيدوسة، حيث تم تقسيم الأملاك على المعمرين، وبالنسبة إلى لغة السكان، وعلى الرغم من إنشاء المدارس الفرنسية بالمنطقة، غير أن إقبال السكان كان ضعيفاً جداً، لأن أغلاب الآباء كانوا يعتقدون أن التعلم في المدارس الفرنسية حرام، وقد كان تعلم العربية متوفراً في الكتاب، حيث كان تعليم القرآن الكريم، وقد كانت تتوفر مدرسة واحدة أنشأتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بمدينة مروانة، ولغة السكان المعروفة هناك هي (اللهجة العامية)، أو (الدارجة) على المستوى العام، وعلى مستوى القبائل، فتوجد لديهم (لهجات الشاوية)، والتي هي متداولة بينهم (22).

وقد تطرق الدكتور العربي دحو في هذا القسم من الكتاب إلى بعض الأماكن التاريخية التي وردت في النصوص الشعرية التي قام بجمعها: الجبال، والسجون، والشوارع، والمدن، والقرى والعواصم، كما قدم لمحة عن الشعر الشعبي قبل ثورة التحرير الجزائرية المظفرة، وقدم عدة ملاحظات مهمة في هذا الشأن، لعل أبرزها تأكيده على أن المنطقة تمتاز في مختلف فتراتها، ومراحلها بوجود نصوص شعرية تعبر عن أفكار أصحابها، وتسجل قضاياهم، وتنقل أحاسيسهم، وبالنسبة إلى موضوعات النصوص السابقة لثورة التحرير، فالدكتور العربي دحو لم يجد فروقاً كبيرة بين مستوى النص قبل الثورة التحريرية، وخلالها، سواء ما يخص اللغة، أو طول النفس، أو طريقة الإنشاد، أو الألحان التي كانت تعطى لها، حيث اتسمت لغة النص بوجود اللهجة العامية، واللهجة الشاوية (23).

وقد انقسمت أنواع النصوص في هذه الفترة إلى نصوص دينية، ونصوص تُجسد الأفراح، والمناسبات العامة، مثل: الزواج، والختان، وبعض الحرف، إضافة إلى أغاني الأطفال، وبعض النصوص التي تُبرز ظاهرة الهجرة والحنين.

وقد سلط الدكتور العربي دحو الضوء في الباب الثاني من الكتاب على اندلاع الثورة التحريرية المظفرة، ومواكبة الشعر لأحداثها، حيث كانت قرية (سريانة) هي المنطلق الأول لاندلاع الثورة، حيث تعرضت ثكنة بها إلى هجوم، وقد جسدت النصوص الشعرية بعض الأحداث، والأماكن التي شهدت الأحداث الأولى للثورة، وقد رمى أصحاب النصوص إلى جملة من الأبعاد، من بينها: البعد السياسي، والبعد الاجتماعي، والبعد العسكري، والبعد الاقتصادي، والبعد التاريخي، وقد خلص الدكتور العربي دحو في ختام دراسته لهذه الأبعاد، وعرضه لها إلى أنه لا يمكن لأحد أن يدعي بأن « هذه الأبعاد المستنجة من بعض النصوص قيلت في فترة الثورة التحريرية بالمنطقة (مروانة)، هي وحدها المحددة لوظيفة النص الشعبي بالنسبة لموضوعاته، أو لمعانيه التي نجدها فيه، بل إن هذه الأبعاد ما هي إلا مفاتيح عادية تمكن الراغب في الدخول إلى الجوانب الأخرى...أقول (العربي دحو)أنها-الأبعاد-قد حددت وظيفة النص الشعبي في هذه الفترة، بالنسبة لهذه المنطقة، وهي وظيفة في مجملها أدت خدمات جليلة للثورة، وأصحابها، ولعامة الناس في أوانها، وزمانها...، كما أنها قدمت علاجاً واضحاً، وناجحاً للإنسان إبان الحرب، بصورة عامة، لأنها جددت العزم لكل من خارت قواه، ووجهت كل من ضل دربه، وأهبت مشاعر كل من عقد العزم على الاحتراق بالنار، وأججت العواطف لدى كل من تعود الخمول، والركود» (24).

توقف الباحث الدكتور العربي دحو في الباب الثالث، والأخير من الكتاب مع الخصائص الفنية العامة للشعر الشعبي في دائرة مروانة، حيث لاحظ أن الألفاظ، والكلمات التي استخدمها الشعراء الشعبيون في النصوص يُمكن إعادتها إلى العربية الفصحى بنسبة عالية جداً، وهناك إخلال بقواعد الكتابة، والعبارات كانت عادية وبسيطة جداً، ولا يوجد فيها أي تعقيد، كما درس الدكتور العربي دحو الخيال، والعاطفة، والوزن، وقد نبه الدكتور العربي دحو بالنسبة إلى الخيال، والعاطفة، والوزن إلى أن الخيال« كان مُصوراً للواقع الخصب بالأحداث التي فرضتها الظروف الجديدة، فكان بذلك متصلاً بالحقيقة ناقلاً لها، أكثر مما قدم صوراً فنية بمعناها القديم، أو الحديث، أي أن سمة الخيال الشعبي المعروف بالصفاء هي نفسها التي نجدها تميز نصوص فترة الحرب التحريرية، مع اختفاء الجنوح، أو الغلو المعروف عنه في القصص الشعبي في هذه النصوص....، ونفس الشيء يمكن قوله عن العاطفة، أعني أنها مع نبلها تمتاز بانبعاثها من أعماقهم بصدق وإخلاص، وإعجاب بالثورة، والثوار، مما جعلها عبارة عن لهيب مشتعل، وخاصة عندما تؤدى النصوص بألحانها، حتى ولو كانت موضوعاتها نقدية، فإن صدقها لا نعدمه في أي نص كان، ولعل خيالهم الصافي من جهته يؤكد صدق عاطفتهم، أو عواطفهم، لأنهم لا يتكلفون فيما يقولون...، أما الوزن فإن تأثير اللهجات الشاوية على لغة السكان العامية جعلت ضبطه غير ممكن....، والوزن الذي نجده قريباً من نصوصهم هو بحر المتدارك في الغالب، وفي بعض الأحيان بحر الرجز وإن كان قليلاً جداً» (25).

ومما يجري مجرى هذا الكتاب، تأليف آخر للدكتور العربي دحو، يبين جهوده في خدمة الشعر الشعبي، عنوانه: «بعض النماذج الوطنية في الشعر الشعبي الأوراسي خلال الثورة التحريرية-دراسة تاريخية فنية مقارنة في نصوص الشعر الشعبي الأوراسي وأشعار بعض الأقطار العربية-».

3-بعض النماذج الوطنية في الشعر الشعبي الأوراسي خلال الثورة التحريرية:

طُبع هذا الكتاب ضمن منشورات ديوان المطبوعات الجامعية بالجزائر، دون ذكر لتاريخ نشره، ويبدو أنه قد نُشر خلال سنوات الثمانينيات من القرن المنصرم، ولقد افتتح الدكتور العربي دحو كتابه هذا (بعض النماذج الوطنية في الشعر الشعبي الأوراسي خلال الثورة التحريرية-دراسة تاريخية فنية مقارنة في نصوص الشعر الشعبي الأوراسي وأشعار بعض الأقطار العربية- )، بالتساؤل: لماذا نماذج المقاومة في الأوراس أثناء الثورة التحريرية؟ هل هذه وحدها يُمكن أن يعتمد عليها كموضوع يعطينا دراسة كهذه؟، أم أن أقرب الزمان الذي برزت فيه هذه النماذج هي التي دفعتنا إلى هذا الغرض؟أم المناسبة هي التي أجبرتنا على اختيار الموضوع؟

يُنبه الدكتور العربي دحو بعض إثارته لهذه الأسئلة إلى أن كثيراً من الباحثين اعتادوا ذكر الدوافع التي أجبرتهم، أو وجهتهم لتناول الموضوع الذي يبحثونه، وذاك أمر طبيعي في الحقيقية، بيد أنه لا يسير في الفلك نفسه، حيث نلفيه يقول في المقدمة: « لأني في الواقع أخاف أن لا أضبط كل الدوافع والأسباب التي جعلتني أبحث الموضوع، لأن صلتي به قديمة، وتناولته من زوايا متعددة، وفي كل مرة أجد موضوعاً جديداً يدفعني إلى الكتابة، ومن هذه الموضوعات هذا العنوان الذي اخترته لهذا البحث، فضلاً عن دراسة وثائقية تنتظر فارسها مُستقبلاً، وعساي أكون صاحبها مرة أخرى، وهي تسجيل رواية النماذج الحية من أبطال ثورة نوفمبر الخالدة في كتاب، أو في دراسة تكون مصدراً أساسياً لكل الباحثين، وخاصة أبطال الفاتح من نوفمبر الذي التقوا في (أولاد موسى)، وفي أماكن أخرى، وما زالوا على قيد الحياة.

فضلاً عن المهمة الوطنية، والإنسانية، والواجب الأخلاقي، والتاريخي التي تدعونا مجتمعة إلى الالتفات لهذه المنطقة المجاهدة، وأهاليها الأبطال، وتسجيل بطولاتهم حتى تكون قدوة تحتذى، وحفظاً للأحداث التي سجلت هذه البطولات، وقدمتها لنا النصوص في شكل وثائق تاريخية حية، ستستكمل ملامحها-التاريخية خاصة-عندما تحل الرموز الواردة فيها، وتفسر الإشارة التي احتوتها، وتحدد أماكن، وأسماء الأشخاص التي وردت فيها تحديداً علمياً دقيقاً...

ومهما يكن فهذه الدراسة تظل حتى الآن وحيدة في ميدانها بالنسبة للمنطقة-حسب معلوماتنا الحالية-ولذلك سيكون لها فضل السبق على الأقل في توجيه الأقلام إلى هذا الموضوع الخصب الثري» (26).

تحدث الدكتور العربي دحو في المدخل الذي وسمه ب: (مع التاريخ)، عن عدة قضايا تتصل بتحديد جملة من المصطلحات، ورصد أبعادها المعرفية مثل: الجهاد، والمقاومة، والثورة، ونبه إلى بعض الرؤى، والأفكار المتصلة بشعر الثورة الشعبي تاريخياً، كما أشار إلى قضية النموذج في هذه النصوص الشعبية، وأشار كذلك إلى جملة من الإشكاليات المعرفية، من بينها بيئة هذه النصوص، وطرائق تدولها.

وقد جعل الفصل الأول للحديث عن هذه النماذج، والفصل الثاني تحدث عن بعض أقطاب أول نوفمبر1954م، مثل الحاج لخضر، والشهيد ابن بولعيد، وقرين بلقاسم، والفصل الأخير أشار إلى مكانة هذه النصوص بين النصوص العربية، كما قدم عدة ملاحظات عن شتى الجوانب الفنية في هذه النصوص، مثل: اللغة، والصورة التي رأى لدى رصدها أن الشعراء قد ركزوا على التراث الإسلامي، وعلى العادات والتقاليد العربية الإسلامية، كما نبه إلى بعض القضايا المتصلة بالوزن، والجوانب الموسيقية.

4- ديوان الشعر الشعبي عن الثورة التحريرية بالعربية والأمازيغية (الشاوية):

صدر هذا الديوان في طبعته الثانية، عن منشورات مؤسسة بونة للبحوث والدراسات بعنابة، سنة: 1433هـ/2012م، بالتعاون مع وزارة المجاهدين الجزائرية بمناسبة الذكرى الخمسين لعيد الاستقلال، وقد جاء في مستهل غلافه: جمع، وتوثيق، وتصنيف، وشرح، وتعليق، وترجمة إلى العربية، وتقديم: الدكتور العربي دحو، وقد نبه المؤلف إلى أن هذا الكتاب في طبعته الأولى لم ينل التوزيع الكافي على مؤسسات وزارة الثقافة التي تكفلت بتمويله، بيد أنه كان له حضوره المحترم في الوسط الجامعي المختص، والثقافي العام، وحتى الفني، حيث اعتمدته دراسات في مذكرات التخرج، في الماجستير، والدكتوراه، كما تمت الإفادة من مضامينه في الدراسات، والمحاضرات، سواء منها التدريسية العادية، أو المقدمة في الندوات، والملتقيات، والاحتفاء بالمناسبات الوطنية، كما استفادت من مادته وسائل الإعلام، ولاسيما منها المرئية، والمسموعة، كما نبه الدكتور العربي دحو في مقدمته إلى بعض الأصداء التي لقيتها الطبعة الأولى من هذا الكتاب القيم، فنلفيه، يقول: « في الطبعة الأولى لهذا الجهد كنت قد نوهت إلى أني أسعد كثيرا بأي شيء يرد عني بخصوصه. وبالرغم من أن العمل لم يسوق ولم ينل التوزيع الكافي على مؤسسات وزارة الثقافة التي تكفلت بتمويله، فقد كان للعمل حضور محترم جدا في الوسط المختص (الجامعي) والثقافي العام، وحتى الفني. بحيث اعتمدته دراسات في مذكرات التخرج، والماجستير والدكتوراه. كما استعملت مادته في الدراسات والمحاضرات سواء منها التدريسية العادية أو المقدمة في الندوات والملتقيات والاحتفاء بالمناسبات الوطنية.

كما استفادت منها (المادة) وسائل الإعلام، وبخاصة المرئية منها، والمسموعة، إذ تعود إليها بتقديم منها نماذج عن الموضوعات التي تتناولها، وتتواصل معي في حوارات بشأنها من حين لحين ومنها على سبيل الذكر حصة " ألوان من بلادي " التي اعتمد جل عملها على نصوص المدونة هذه والتي فازت بها في مسابقة التلفزيونات العربية قبل مدة، إلى جانب اعتماد مغنين عليها في أداء نصوص منها إلى غير ذلك مما أعتقد أن المتلقي يعرف ذلك ولا شك. وفي موقعي في الشبكة العنكبوتية وصفحة الفايسبوك بعض تلك الردود، وهذه غاية ما يتمنى أي باحث أو كاتب لكن هناك متطفلا على الموضوع لا يستحق ذكر اسمه لبعده بعد السماء عن كل ما هو علمي أكاديمي أو ثقافي فني قد أخذ بعض النصوص ونشرها في وريقات في عمل له سماها (موسوعة) فشوهها أيما تشويه إذ أسقط عناوين كل النصوص التي أثبتها وهي عبارة عن رباعيات، وأدمجها في نص واحد على أساس انها قصيدة واحدة ما شوه المعنى، وافقدها بنيتها الفنية والشكلية ويبدو انه تعمد ذلك حتى لا يحيل على المصدر الذي أخذ منه، وهو ما لم يفعله فعلا.

ويطول الكلام الذي يمكن أن يقال عنه، وسأثبته لاحقا، وبالتفصيل عندما تصدر الطبعة هذه في موضعي بالشبكة العنكبوتية وبالشواهد التي شوهها.

وحتى لا استطرد في متابعة ما قيل عن المدونة، فإني ارتأيت أن أخالف المعهود في مقدمات طبع الكتب فأورد جملا للأكاديميين تعنيها. فهي أبلغ تعبير وأفيد أيضا للمتلقي بعامة والمختص بخاصة... ومن الأقوال التي تعني الموضوع قول الدكتور (لخضر عيكوس): "هذه النصوص الشعرية ... [ تعد ] مصدرا هاما من مصادر الثورة لأنها من أدق الوثائق التاريخية التي لم يصبها الزيف ولم يتسرب إليها التملق، ... ومن ثم ستظل هذه النصوص محامي صادقا مخلصا دافعا لكل دعوى تحاول تزوير الحقيقة، وتسعى لطمس جهود تضحيات أناس ..."

أما الأستاذ الشاعر (شراف شناف) في بحث له مطول عن المدونة فنأخذ منه الآتي: (تنطلق الثورة من رحم الشاعر الشعبي لتعانق كل ذرة من ذرات هذا التراب الزكي، العابق بدماء الشهداء، الذين ضحوا بالنفس، والنفيس لأجل أن يعيش أبناء هذا الوطن سالمين، غانمين معافين...تنبثق الثورة من رحم الظلم، فتمور، وتهيج لتنسف غبار الركود المنسدل على الذاكرة الشعبية.

إن صرفنا النظر إلى الشعر الشعبي، وشبكة العلاقات التي خلقها، يُمكن أن نهدم البؤرة الأولى، ونزيحها من مكانها، ليتجلى الشعر الشعبي بؤرة مركزية، إذ يُشكل قطعة المغناطيس التي تستقطب كل ما هو ممكن، عن طريق الحساسية المفرطة التي يخلقها الشعر، أو جو الشعر بالأحرى، حين يرقص على الأوتار النفسية للإنسان الثوري، ويُحرك الكوامن الداخلية فيه.

ومن جملة ما يراه الدكتور (أمحمد عزوي) بخصوص المدونة نورد من بحثه المطول كذلك قوله: "ويمكن أن نعتبر هذا الجانب الفكري الذي اضطلع به الأستاذ، مهمة وطنية كلف نفسه بنفسه، القيام بها، دون أن ينتظر جزاء ولا شكورا.

وذلك بإصداره مجموعة قيمة من الدراسات تتعلق بالشعر الشعبي إبان الثورة التحريرية الكبرى (54-62) وبذلك يكون قد حقق نتيجتين هامتين:

الأولى: أنه ساهم بشكل فعال في إثراء الدراسات الشعبية بصفة عامة، والأدب الشعبي الجزائري بصفة خاصة. وهو مجال قلَّ من يتجه إليه، على الرغم من أهميته المتمثلة في ربط الجذور بالفروع وبهذا يكون وضع لبنه في أساس الدراسات التنظيرية للأدب الشعبي الجزائري.

أما الثانية: فبعمله هذا يكون قد سجل تاريخا بأكمله، لفترة هي من أكثر الفترات تعقيدا، ولازال الكثير من الشباب لا يعرف عنها إلا القليل لعدم الكتابة الجادة حول هذه الفترة وذلك بجمعه لنصوص شعرية متنوعة زمانا ومكانا" » (27).

إن هذا الكتاب يُمكن أن نصفه بأنه بمثابة موسوعة شعرية شاملة، رصد فيه الدكتور العربي دحو جُملة من القضايا المتصلة بثورة التحرير الجزائرية، كما جسدها الشعراء، فأدرج القصائد المتعلقة بالمكان، وبالأشخاص والمجموعات، والمؤسسات الاستعمارية، وبالأشخاص والمجموعات والمؤسسات الوطنية، وبالمعارك والأحداث، وبالعتاد والآلات العسكرية، و التاريخ بالأيام، والسجون والمعتقلات، والأشقاء، والأصدقاء، وفرحة الاستقلال، كما وضع فيه مجموعة من الأبيات، والرباعيات، والمقطوعات المتنوعة.

ثانياً: أضواء على جهوده في دراسة الأدب المغربي (أدب المغرب العربي) القديم:

1- لمحة عامة عن بلاد المغرب العربي والعصور الأدبية المغربية:

أ- اسم المغرب ومدلوله:

تقع بلادُ المغرب في القسم الشمالي من القارة الإفريقية، على ساحل البحر الأبيض المتوسط من جنوبه، وقد اختلف المؤرخّون والجغرافيون في تحْديد مدلولِه، فقد كان يُراد باسمِ « المغرب » في أوّل الأمر كل ما يقابل المشرق من البلاد (، ولهذا أدخل فيه بعض المؤرخين مصر والأندلس كالمقدسـي « أحسن التقاسيم » وعلي بن سعيد المغربي صاحب كتاب «فلك الأرب، المحيط على لغة العرب »، « وفي أيام العباسيين زاد مدلول المغرب اتساعا فصارت الشام أيضا ضمن المغرب، إذ يروي المسعودي أنّ العباسيين قسّموا مملكتهم إلى قِسمين، وهما: المغرب، ويشمل الشام ومصر وإفريقية وما يليها غربا، والمشرق ويشمل بلاد فارس وما يليها شرقا، وأبقى آخرون على « المغرب » الحالي كابن عِذَاري في البيـان المُغرب، وابن أبي دينار في المؤنس، فأخرجوا منه الأندلس، وجعلوا حدود المغرب تمتد من بحر النيل شرقاُ حتى ساحل المحيط الأطلسي غرباُ.

بينما نجد طائفة من الكتاب ظلّت تخْلِطُ بين لفظي: « المغرب » و«إفريقية » كالبكري الذي يقول في كتابه وصف إفريقية: « و حد إفريقية طولها من برقة (بنغازي ) شرقاً إلى طنجة الخضراء غرباً... »، ولكن ذلك لم يستمر طويلاً، فلم يلبثْ معنى كلٍّ من اللفظين أنْ تحدَّدَ

ولقد انتهى مصطلح« المغرب » عند المؤرخين و الجغرافيين العرب إلى أنْ يشمَلَ كُلَّ ما يلي مصر غرباً حتى المحيط الأطلسي، وقد قُسِّمَ المغرب إلى ثلاثة أقسام كبيرة بحسب قربها أو بعدها من مركز الخلافة في المشرق، و هي: أ. المغرب الأدنى: ويسمى أيضا إفريقية، ويبتدئ من مدينة السّلوم المصرية شرقا إلى مدينة بجاية الجزائرية غربا. وكانت عاصمته القيروان أيام حكم الأغالبة، ثم المهدية أيام الفاطميين، ثم مدينة تونس منذ عهد الحفصيين إلى اليوم.

ب. المغرب الأوسط: وهو من مدينة بجاية شرقا، إلى وادي ملوية غربا، وهذا الوادي يقع بين مدينتي تلمسان الجزائرية، و (تازا) المغربية، وكانت عاصمته مدينة تيهرت في عهد الدولة الرستمية الخارجية الاباضية (160-299هـ)، وفي الأيـام الأولى للدولة الزيرية الصنهاجية (361-543هـ) التي خلفت الفاطميين في حكم المغرب، صارت العاصمة مدينة أشير بالقرب مدينة المدية الجزائرية، ثم انتقلت العاصمة إلى قلعة بني حماد، ثم بجاية أيام الدولة الحمادية (405-547هـ)، وفي أيام دولة بني زيان (عبد الواد) صارت العاصمة تلمسـان في القرن السابـع الهجري (633-962هـ)، وأخيرا صارت جزائر بني مزغنة، وهي مدينة الجزائر الحالية، هي العاصمة حتى اليوم، وذلك منذ أن حكم العثمانيون هذه المدينة نحو سنة 1526م.

ج. المغرب الأقصى: من وادي ملوية شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، وترددت عاصمة المغرب الأقصى بين مدينتي فـاس (البيضاء) ومرّاكش (الحمراء)، فالأدارسة أسسوا مدينة فـاس سنة 191هـ، واتخذوها عاصمة لهم، ثم جاء المرابطـون وأسّسـوا مدينـة مرّاكـش سنة 463 هـ واتخذوها عاصمة، ثم اتبعهم الموحدون في اتخاذ مرّاكش عاصمة كذلك. ثم جاء بنو مرين في القـرن السـابع الهجـري (647-814هـ) فاتخذوا مدينة فاس قاعدة لحكمهم، وتبعهم في ذلك بنو وطاس في القرن التاسع الهجري إلى أن جاء السعديون في القرن العاشر الهجري، فنقلوا عاصمتهم إلى مدينة مرّاكش، أمّا عاصمة المغرب اليوم فهي مدينة الرباط التي اختارها الفرنسيُّون أيام الاحتلال لتكون مركزاً إداريا لهم سنة 1912م .

وتقسيم المغرب العربي إلى الأقسام الثلاثة السابقة تقسيم قديم يرجع إلى عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان آخر القرن الأول الهجري، وقد ظل إلى القرن العاشر الهجري، ثم لمّا استولى العثمانيون على المغربين: الأدنى والأوسط قسموهما تقسيما جديدا حسب الدول التي أنشؤوها فيهما فانقسما إلى: ليبيا وتونس والجزائر. أما المغرب الأقصى فَلأَنّهُ سَلِمَ من الحُكم العثماني، ظلّ له اسمُه العربي القديم وهو (المغرب) مع كلمة الأقصى أو بدونها، ولو أنه كان يعرف إلى عهد قريب باسم (مَرّاكُش) عاصمة الجزء الجنوبي منه.

أما أهل التاريخ، و السياسة في وقتنا الحاضر، فالمغرب عندهم لا يعني سوى تلك الأقطـار مجتمعـة ( ليبيـا، وتونس، والجزائر، والمغـرب، وموريتانيا)، ويطلق على مجموعها اسم « بلاد المغـرب العربـي » (28).

عصور الأدب المغربي:

قَسّم الأستاذ رابح بونار في كتابه (المغرب العربي: تاريخه وثقافته) العصور الأدبيـة في المغرب العربي إلى خمسة عصور حسب تصوّره واستقرائه، وهي:

1- عصر النشوء الثقافي: ويبتدئ من الفتح الإسلامي، وينتهي بقيام الدولة الأغلبية (50-184هـ).

2- عصر النهضة الثقافية: ويبتدئ بقيام الدولة الأغلبية، وينتهي بسقوطها أواخر القرن الثالث الهجري (184-296هـ).

3- عصر الازدهار الثقافي: ويبتدئ بقيام الدولة الفاطمية، وينتهي بسقوط دولة بني زيري (296-547هـ).

4- عصر النّضج الثقافي: ويبتدئ بقيام دولة الموحدين، وينتهي بسقوط دولة بني زيان بالجزائر (547-958هـ).

5- عصر الانحطاط الثقافي: ويبتدئ بقيام دولة الأتراك (العثمانيين) بالجزائر وتونس، وينتهي بالانبعاث الثقافي في أوائل القرن العشرين بالجزائر (1515-1931م)

لقد كان تقسيم الأستاذ رابح بونار منطقيا واضحا في جملته، ماعدا العصر الأخير الذي سمّاهُ (عصر الانحطاط)، فإنّي أرى أنه لم يكن عصر انحطاط بل كان عصرا مزدهرا، ومن يجادل في ذلك يعود إلى كتاب تاريخ الجزائر الثقافي للدكتور (أبو القاسم سعد الله). وأقترح أن يسمّى: عصر العثمانيين والسعديين... (1515-1830م).

6- العصر الحديث: ويبدأ منذ الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830م إلى اليوم... « وهو تاريخ حاسم يُعتبرُ درجة التّدهور العام للمغرب (العربي) خلال العصور الوسطى » )29).

والحقيقة التي يقف عليها كل من يُتابع قضايا أدب المغرب العربي القديم، و الأدب الجزائري التليد، هي أنه لم ينل حظاً وافراً من العناية، إذ ليس يخفى أن الأدب الجزائري القديم لم يحظ بالعناية الكافية من لدن مختلف الدارسين، والباحثين، ولعل أحداً لا يحتاج إلى كبير عناء لكي يدرك هذا الأمر، فالملاحظة التي يخرج بها كثير من المهتمين بقضايا الأدب الجزائري القديم، هي أنه لقي صدوداً، وإعراضاً من قبل جملة من مؤرخي الأدب، وهذا ما عبر عنه الباحث رابح بونار في مقدمة كتابه: «المغرب العربي: تاريخه وثقافته»، بقوله: «إن الباعث الحقيقي على تأليف هذا الكتاب هو إيفاء الحركة الثقافية، وتاريخها بالقطر الأول (الجزائر)، وقد أغفله مؤرخو الآداب إغفالاً، وجهل كثير من الدارسين نشاط علمائه، وأدبائه في مختلف العصور»(30).

ويؤكد الشيخ العلاّمة عثمان الكعاك هذه الملاحظة في كتاب يكتسي أهمية بالغة، وسمه ب: «بلاغة العرب في الجزائر»، حيث يذهب إلى القول: «إن العلماء قد اعتنوا بالتنقيب عن آداب اللغة العربية، وتاريخها، وتطوراتها في مختلف الأصقاع الإسلامية، إلا الجزائر، فإنهم أغفلوها، ولو سألت أحدهم أن يسمي لك أديباً جزائرياً لعجز عن ذلك، مع أن الجزائر قد أخرجت من الأدباء، وعشاق البلاغة، ورسل الفصاحة، والبيان ما يكون لها به الفخر، وما تسمو به مرتبتها في تاريخ الأدب العربي العام»(31).

ومن بين الدراسات الحديثة التي اهتمت ببعض قضايا الأدب المغربي القديم، دراسة الناقد المعروف الدكتور عبد الملك مرتاض المعنونة ب: «الأدب الجزائري القديم-دراسة في الجذور-»، فهذا الكتاب ثمرة جهود جديرة بكلّ تقدير، درس فيه الدكتور عبد الملك مرتاض بمنهجية علمية لافتة للنظر، قضايا تكتسي أهمية بالغة، تتصل بالأدب الجزائري القديم، وحلل فيه بعض النصوص الأدبية التي تعد درراً تراثية ثمينة، وقد ساعد الناقد الدكتور عبد الملك مرتاض على إنجاز هذه الدراسة شغفه، وانكبابه على قراءة، ومطالعة التراث الجزائري القديم، مستقصياً الأخبار، والنصوص الأدبية القديمة، حيث أفاد أيما إفادة من قراءاته المتنوعة عن تاريخ الأدب الجزائري القديم، وتناول الموضوع من وجوه عديدة، ومن ميزة الباحث الجاد عبد الملك مرتاض أنه لا يترك عنصراً من عناصر الموضوع، إلا بعد أن يوفيه حقّه من الدراسة، وقد استعان بمصادر، ومراجع كثيرة، ومتنوعة في الصنف، والمادة.

إن العلاّمة الدكتور عبد الملك مرتاض يُدرك أهمية دراسة الأدب الجزائري القديم، وحاجة المكتبة العربية إلى مثل هذه الدراسات الجادة، حيث يحدد الأسباب التي دعته إلى تأليف هذا الكتاب بقوله: «أمّا ما حملنا على دراسة هذه الفترة المبكرة من عمر هذا الأدب الطويل، فقد يعود إلى ما رأيناه من تقاعس الباحثين الجزائريين، الشباب خصوصاً، وإصرارهم على التجانف عن مُدارسة التراث الوطني بحجج واهية، وعلل خاوية...»(32).

ومن باب النقد الذاتي، يرى الدكتور عبد الملك مرتاض أن من أسباب عدم الإقبال على دراسة الأدب الجزائري القديم، من قبل الباحثين الشباب، هو التقصير في التوجيه، والقصور في تدريس هذه المادة (الأدب الجزائري القديم)، التي قُررت في الجامعة الجزائرية منذ أكثر من ربع قرن.

في مقدمته التحليلية الشائقة تساءل الدكتور عبد الملك مرتاض: (الأدب العربي القديم في الجزائر: هل؟ وما؟ ولماذا؟ وكيف؟).وهو يرى أنه لا يجوز أن نتحدث عن هذا الأدب دون إثارة مثل هذه الأسئلة، و يذهب إلى التأكيد على أن الأدب العربي القديم في الجزائر موجود ما في ذلك ريب، وأن قدمه ينطلق، أساساً، من تاريخ تأسيس الدولة الرستمية التي يرتبط بعض الشعر، والنثر بحكامها أنفسهم.

وقد أوضح الدكتور عبد الملك مرتاض أن الشاعر (بكر بن حماد)، هو الذي يمثل الأديب الجزائري الأول بحق، وذلك طوال عهد الرستميين، بحكم أنه أكثر الشعراء الذين ينسبون إلى هذا العهد، وهو أجملهم نسجاً، وألصقهم مكانة بالشعر، وهذا ما دفعه إلى القيام بدراسة تحليلية معمقة، وطويلة في قصيدته الشهيرة التي عُرفت بقصيدة (ذكر الموت).

وبالنسبة إلى أهم المصادر الثمينة، التي استعان بها الدكتور عبد الملك مرتاض، وأفاد منها، فقد قام بتوصيفها، وقدم لمحة عنها، و من أبرزها:

1.البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، لابن عذاري المراكشي، وقد عبر المؤلف عن رؤيته لهذا المصدر، وقيمته، بالإشارة إلى أنه«ولئن كان هذا المصدر من أقدم الوثائق التاريخية التي تحدثت عن الشعر الجزائري على عهد الرستميين، فإنه لم يكد يختص تيهرت وشعراءها، إلا ببضع صفحات من الجزء الأول.

وقد وقع ابن عذاري في خطإ تاريخي لدى ترجمته لبكر بن حمّاد (و هذه الترجمة هي التي عوّلت عليها، فيما بعد، جميع المراجع التي لها صلة بهذه المسألة)، حيث ذهب المراكشي إلى أن بكراً حين ألم على بغداد التقى فيها، من بين من التقى بهم هناك، بمسلم بن الوليد المعروف تحت لقب (صريع الغواني) الذي توفي سنة: 208هـ، في حين ابن حماد ولد بتيهرت سنة: 200هـ، ولكن الأغرب من هذا أن كل الذين ترجموا لبكر بن حماد وقعوا، هم أيضاً، في هذا الخطإ المتولد عن سهو من الشيخ المراكشي في إضافة هذا الشاعر إلى جملة الشعراء البغداديين الذين التقى بهم بكر بن حماد، في بغداد، ومنهم حبيب بن أوس أبو تمام الطائي، ودعبل الخزاعي ، وعلي بن الجهم... »(33).

2-المسالك والممالك، لأبي عبيد الله البكري المتوفى عام: 487هـ

يرى المؤلف أن لهذا المصدر أهمية أدبية لا تقل عن أهميته الجغرافية، حيث إنه يثبت كثيراً من المقطوعات الشعرية، وقد أفاد منه الدكتور عبد الملك مرتاض، حيث وجد فيه ثلاث مقطوعات لها صلة وثقى بمدينة تيهرت، من بينها قصيدة في وصف مدينة تيهرت لبكر بن حماد.

3-الأزهار الرياضية في أئمة وملوك الإباضية، لسليمان بن الشيخ عبد الله الباروني النفوسي

وهذا الكتاب مصدر مهم في دراسة الأدب الجزائري القديم على عهد الرستميين، حيث أورد هذا المصدر كثيراً من النصوص الشعرية، والنثرية المهمة التي تناقلتها المراجع الجزائرية المؤلفة، فيما بعد عهده، ومن أهمها:

- الدر الوقاد من شعر بكر بن حماد، لمحمد بن رمضان شاوش

- المغرب العربي: تاريخه وثقافته، لرابح بونار

- تاريخ الأدب الجزائري، لمحمد طمار .

و يبدو أن عدم وجود دراسات في الأدب المغربي القديم هو الدافع، و السبب الرئيس الذي دفع الباحث الدكتور العربي دحو لتناول مجموعة من قضايا الأدب المغربي القديم:

2- مدخل في دراسة الأدب المغربي القديم:

صدر هذا الكتاب عن منشورات ديوان المطبوعات الجامعية في الجزائر، وقد دفع الدكتور العربي دحو دراسة هذا الموضوع غياب كتابات علمية بأقلام مغربية، وغياب الدراسات التي تهتم بالأدب المغربي عموماً، وهو أدب خصب، وثري، وفيه إبداع رائع، كما يذكر الدكتور دحو في مقدمته، وقد خصص الدكتور العربي دحو الفصل الأول منه للحديث عن: «الأرض والإنسان بين مختلف الآراء والدراسات في النسب واللغة»، فأشار إلى الأرض المغربية، وتطرق إلى طبيعة سكان المنطقة قبل الفتح الإسلامي، فتوقف مع تاريخ الأمازيغ، أو البربر، باسمهم القديم، كما أشار كذلك إلى لغة السكان قبل الفتح الإسلامي، وأدبهم، حيث يقول عن هذا الموضوع: «تسكت الدراسات التي اطلعنا عليها عن قضية تعريب سكان شمال إفريقيا، ويبدو أن اهتمام هذه الدراسات بأصول السكان، وبالفتح الإسلامي صرف نظر هؤلاء الباحثين عن هذه القضية، وأن ظروف الفتح الطويلة التي عرفت المد، والجزر، قد ساعدت كذلك على عدم تحري هذه النقطة، فضلاً عن طبيعة السكان الذين نجدهم قد امتزجوا في ظروف عديدة، ومنها فترة الفتح الإسلامي، الأمر الذي جعل ظهور لغات متعددة في مختلف الفترات على ألسنة هؤلاء من السمات البارزة التي ميزت لغة السكان، وإذا عدنا إلى التاريخ محاولين تلمس بعض المظاهر اللغوية التي كانت تعرفها المنطقة قبل الفتح الإسلامي، وتعريب السكان، أمكن لنا أن نسوق سلسلة من الآراء التي لها صلة بالموضوع، منها التي تحدثت عن اللغة نفسها، أو منها التي وصفت هذه اللغة ذاتها محاولة تحديد خصائصها، ومنها التي تحدثت بطريقة أو بأخرى عن أدب هذه اللغة، أو السكان المتحدثين بها، وهي آراء في مجملها مقتضبة، فقيرة إلى الأدلة، والشواهد العلمية الكاشفة عن تعابيرها الفنية، التي تمكننا من خصائص أدبها، وتراكيبها المختلفة»(34).

وقد عرض الدكتور دحو منظور الباحث محمد الطمار الذي ذكر أن لغة قدماء المغرب كانت بسيطة، ثم تطورت مع الأيام، وتأثرت مع لغات الأمم التي جاورت البربر، أو استوطنت بلادهم، وهي ذات لهجات متنوعة كما يشاهد بين سكان القطر الجزائري، فهناك لهجة خاصة بزواوة تختلف في بعض مظاهرها عن لغة الشاوية، وبني مزاب، والتوارق، ويُطلق على هذه اللغة اسم تمازغت، وقد كانت لها كتابة، ومن أبرز الأدلة على وجودها ذلك الخط الذي عُثر عليه في مختلف الجهات، والذي يُشبه خط الطوارق، وقد كانت حروف اللغة البربرية تمثل رسوماً، وكان الخط البربري يتشكل من عشرة أحرف يسمونها (تيفناغ)، أي الحروف المنزلة بخلاف من عند الله، وأما الأشكال فهي خمسة، ويسمونها (تيسد باكير)، أي الدليل على العمل، والتوسع، وهي عكس (تيفناغ) من وضع البشر، ويذهب بعض المؤرخين إلى أن الخط البربري حديث العهد، إذ يرجع اختراعه إلى (ماسينيسا) في القرن الثالث قبل الميلاد، وقد وضعه على الحروف الهجائية الفينيقية(35).

كما تناول الدكتور العربي دحو منظور الباحث المعروف شكري فيصل، الذي نبه إلى وجود ثلاث لغات هي: اليونانية التي كانت اللغة الرسمية السائدة في الإدارة، وفي غيرها، وفي ولاية (بيزنطة)، ولغة سكان المدن التي هي عبارة عن خليط من اللغات اليونانية، واللاتينية، والفينيقية، ثم لغة السكان الأصليين، التي قال عنها: «اللغة البربرية التي تُخالطها اليونانية في السواحل، أو قريباً منها، ولم تقض عليها من تأثر بها، فقد كانت دون هذه اللغات حظاً من الاتساع، والغنى...كانت لغة فقيرة لا تكاد تعدو حياة البربر اليومية الضيقة إلى شيء وراءها من الثقافة والفكر»(36).

عالج الدكتور العربي دحو في الفصل الثاني من الكتاب، والذي جاء تحت عنوان: «السماء: العقيدة واللسان»، جملة من الأفكار، الرؤى المتصلة بالفتح الإسلامي لبلاد المغرب، وأشار إلى قضية تعريب السكان، كما توقف مع بعض الرؤى التي قُدمت عن نشأة الأدب العربي المغربي.

وفي الفصل الأخير من الكتاب، والذي وسمه ب: «أشعة الشمس تُفجر الإبداع على ألسنة أهل المغرب»، تناول الدكتور العربي دحو بعض قضايا الأدب المغربي في ظل الولاة (85-184)، فتوقف في القسم الأول مع الشعر، حيث خرج بملاحظة مفادها أن موضوعات الشعر المغربي في عهد الولاة، كما تجلى من خلال المقطوعات، والقصائد التي انتقاها بدا أنه «تتجاذبه عدة مميزات، توجز في اتصاله الوثيق بموضوع الشعر العربي المشرقي الذي يتناول الحياة اليومية للإنسان العربي عاملاً، أو مجاهداً، أو متوتراً متألماً لحدث من الأحداث، أو مهدداً متواعداً لسبب، أو لآخر، وهو دون ذلك الشعر في جمالياته اللغوية، والأسلوبية، وفي نفسه المحدود، الذي لا يتجاوز إنجاز فكرة يمكن أن تشكل ملحمة بكاملها...وتصقله العفوية والتلقائية، فيأتي بسيطاً بساطة الجو الذي أنتجه، واللحظة التي أعطته، وهذا يعني بالضرورة أننا عند تناولنا هذا الشعر لا ينبغي علينا أن نُحمله أكثر مما يُطيق، بل علينا أن نضعه في كفة، وقائليه في كفة أخرى...»(37).

وفي القسم الثاني أشار إلى بعض الخصائص الفنية المتعلقة بالنثر في تلك الفترة.

3- الشعر المغربي من الفتح الإسلامي إلى نهاية الإمارات الأغلبية والرستمية والإدريسية (30-230هـ)-جمع وتوثيق وتعليق ودراسة-:

طُبع هذا الكتاب في ديوان المطبوعات الجامعية بالجزائر، سنة: 1994م، وقد خصص الدكتور العربي دحو القسم الأول منه للدراسة، حيث يتكون الشق الأول للكتاب من تمهيد، وفصلين، فالتمهيد تطرق من خلاله إلى رؤى متنوعة تتصل بما قيل عن تعريب السكان، ونشأة الأدب العربي في المغرب العربي، وهو يرى أن الموضوعين أغمط حقهما من الدراسة، والبحث، والتحليل، والنقاش، في حين جعل الفصل الأول من هذا الكتاب لمعالجة مضامين شعر الديوان، الذي جُمع عن الفترة المحددة، والتي قام بجمعها، وهي تزيد عن ألف بيت من الأشعار المتعددة الأغراض، وبالنسبة إلى الأسباب التي أدت إلى تعدد الرؤى فيما يتصل بأولية الأدب المغربي القديم، وأول من أبدع فيه، فالدكتور العربي دحو، يوجزها في:

1- ضياع المصادر المغربية المبكرة، ولاسيما منها التاريخية، كما اندثر كذلك الكتب الأدبية، وهي خير مظان الشعر الذي قيل خلال تلك المرحة التي تكتسي أهمية كبيرة.

2- بعد الشقة بين المغرب، والمراكز الأدبية القوية في العراق، والشام، وفي المراكز التي احتفت بالأدب درساً، ونقداً، وتدويناً.

3- أولوية شعر البلاط لدى كثير من المهتمين بدراسة الأدب في تلك الفترة.

4- الضعف النسبي لكثير من شعر الفتوح، نظراً لملابساته، التي تبعث على العجلة، وعدم التنقيح، فإذا كان المشرق قد احتفظ بقدر من شعر فتوجه، فهذا الأمر يعود إلى وفرة المصادر المشرقية التي وصلتنا.

5- طبيعة السكان التي لم تكن تسمح لهم بتلقف النصوص الشعرية باللسان العربي، خلال السنوات الأولى من الفتح الإسلامي، فقد كان من الصعب تناوله، وتداوله، وحفظه، والاهتمام به، كونهم لا يتقنون اللغة العربية، ولا يستطيعون تدوينه، أو روايته.

6- إن الفاتحين أنفسهم لم يكن لهم استقرار في المنطقة طوال القرن الأول الهجري، حيث تأكد تاريخياً أن حملاتهم كانت تتميز بالمدر، والجزر، وأن مكوثهم في المنطقة في البداية كان محدوداً جداً، ففتح المنطقة نفسها لم يتم إلا في سنة: 84هـ، أعقبها التوجه إلى المغرب الأقصى، لتدعيم، وإرساء أسس الدولة الإسلامية، ثم تلاها التوجه إلى البلاد الأندلسية سنة: 91هـ.

7- ما يُلاحظ إلى اليوم على جل سكان المغرب العربي من عدم الاهتمام، والاحتفاء بالثقافة الأدبية، ولاسيما منها الشعرية، وذلك خلافاً للمشارقة، ولعل ما يروى من هجرة شعراء المغرب العربي إلى المشرق، لهو خير دليل على هذا الأمر(38).

قدم الدكتور العربي دحو في الفصل الأول من الكتاب مقاربة وصفية لمحتويات الديوان، وموضوعاته، وأشار إلى أهم الأغراض الشعرية منها: الفخر، والحكم والشكوى، والزهد، والمدح.وفي الفصل الثاني أشار إلى الخصائص الفنية.

خاتمة:

إن هذا البحث ما هو إلا مجرد قراءات مقتضبة في بعض جهود الباحث الأكاديمي المتميز العربي دحو، فجهوده هي أكبر من أن تحيط بها قراءات سريعة، فهو واحد من الأساتذة المتميزين علمياً، ظل طوال حياته ينتج، ويبدع في مختلف ميادين المعرفة، وما يزال كذلك يتجاوب مع مختلف الأنشطة الثقافية التي تقام، و له صلة وثيقة بقضايا الثقافة الشعبية، والأدب الجزائري، والأدب في المغرب العربي، وليس من شك في أن جهود الباحث الأكاديمي العربي دحو تستحق الإشادة، والتنويه، اعترافاً بمكانته، وتقديراً لخدماته الجليلة في حقول الأدب، والتراث، والتربية، وإنه لمن الصعب أن نلم بنشاطاته الكثيرة إلمامة وافية، وسيتذكر كل من عرفه، وقرأ له، إنجازاته الأدبية القيمة، وسيذكرون ذلك الأديب المبدع، والأستاذ الجامعي الأكاديمي المنفتح الذهن على الثقافات، والأفكار، والذي تميز بإخلاصه لمهنته، ولطلابه، فقدم عصارة فكره، وجهده، وعلمه، بكل أمانة، وصدق، وأسهم بفعالية كبيرة في إثراء المسيرة العلمية، والأدبية.

***

  الدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاقـة

 كلية الآداب واللُّغات، جامعة عنابة، الجزائر

.......................

الهوامش والمراجع:

 (1) د.عبد الملك مرتاض: معجم الشعراء الجزائريين في القرن العشرين، منشورات دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر، 2007م، ص: 395.

 (2) د.عبد الملك مرتاض: معجم الشعراء الجزائريين في القرن العشرين، ص: 396.

 (3) رابح خدوسي: موسوعة العلماء والأدباء الجزائريين، منشورات دار الحضارة للطباعة والنشر والتوزيع، 2002م، ص: 166.

 (4)الثقافة من » الثَّقْفِ «، الذي له عشرة معانٍ في لغة العرب، حسبما هو مدّون في القواميس، والمعاجم الموثوق بها عند علماء اللغة، ومن أهمها: تسوية الشيء، وتقويم اعوجاجه، تقول: ثقفتَ الرُّمح، أو القوس، أو أي شيء معوج، إذا قوّمتَه، وسويته من اعوجاجه، فيغدو مثقّفًا مُقوّمًا، وعلى هذا الأساس استعيرت لفظة: » مثقف « إلى كُلّ ما هو مستقيمٌ صَلْبٌ، وكذلك فهي الحِذْقُ والمهارة في إتقان الشيء، قال ابن منظور: » ثقف الشيء ثقفًا، وثقافًا، وثقوفه، حذقه، ورجلٌ ثَقْفٌ، وثقِفٌ، وثقَفٌ، وثَقِفَ الرّجلُ ثقافة، أي: صار حاذقا فطنا، فهو ثَقِفٌ، وثُقُفٌ، مثل: حَذِرَ، وحَذُر...، «، وقد ورد هذا المعنى نفسه في بعض عبارات المتقدّمين، مثل: عبارة أبي حيان التوحيدي في » المقابسات «، وعبارة ابن خلدون في » المقدمة«.و الثقافة في أدنى مستوياتها هي مجموع الاستجابات، والمواقف التي يواجه بها شعب من الشعوب – بحسب عبقريته – ضرورات وجوده الطبيعي من مأكل، وملبس، وتناسل، أمَّا على المستوى الأرفع فإنَّ للثقافة أوجهًا ثلاثة هي: تنمية الفكر، وترقية الحس النقدي، وتكوين الحس الجمالي، و وإرهاف الذوق، والاستمساك بالقيم، وغرس الحس الأخلاقي. وقد اعتمدتُ في صياغة هذه التعريفات من عدة مراجع: د.محمد بن عبد الكريم الجزائري: الثقافة ومآسي رجالها، شركة الشهاب للنشر والتوزيع، الجزائر (د.ت)، ص: 9 وما بعدها.و ابن منظور: لسان العرب، مادة: ثقف.و التوحيدي: المقابسات، مطبعة الرحمانية، القاهرة، 1929 م، ص: 375.و ابن خلدون: المقدمة، منشورات مكتبة المدرسة، ودار الكتاب اللبناني، بيروت، 1967 م، ص: 448. ويذكر الباحث سيد غدريس هاني أن الحضارات هي هويات ثقافية في التقليد الأنثروبولوجي الأمريكي، وهم نادراً ما يُفرقون بين الثقافة والحضارة، وقد اعتادوا في الترجمات ذات الأصول الأمريكية أن يترجموا الثقافة بالحضارة، والحضارة واحدة والثقافات متعددة، ففي«عصر ثورة الاتصالات هناك حضارة واحدة، في الماضي سمعنا عن وجود حضارات، وهذا إنما يرجع إلى أزمة التواصل ومشكلة العزلة، إن الحضارة ليست هي مطلق الحضور، كما ينحو الجميع، فمالك بن نبي مثلاً وهو الرأي التقليدي السائد، بالنسبة إليه الحضارة هي أخص من الحضور، إنها حضور أمثل وأقوى، والحضارة هي القوة، والثقافة هي أمر ملازم لكل أشكال الحضور، الثقافة هي إفراز وجودي لكل الكيانات الاجتماعية، لكن الثقافة ليست بالضرورة حضارية، فالثقافة تمثل من الحضارة مرحلة القوة، والحضارة تمثل من الثقافة مرحلة الفعل، والحضارة أخص من الثقافة، فالقوة واجبة في حق الحضارة، ممكنة في حق الثقافة، ما يعني أن كل ثقافة تملك إمكانية التحضر، ولا يجب لها التحضر حتى تصبح قادرة على إنتاج القوة»

الحضارة: - عند اللغويين - » خلاف البداوة «، وهي عند ابن خلدون: » تفنُّن في التّرف وإحكام الصنائع «. أمَّا في نظر الدكتور محمد بن عبد الكريم، فهي: » ظاهرة اجتماعية، تتبلور في نظم محكمة، وآثار ماثلة «. فقولنا: » ظاهرة اجتماعية «، احترازا من الظاهرة الفردية التي مبعثها الثقافة. ونعني بـ » النظم المحكمة « كل ما يقتضيه النظام والإحكام في تسيير شؤون الإنسان المتحضر: مثل: النظم السياسية، والاقتصادية، والإدارية والقضائية، والحربية، والثقافية، والزراعية، والتجارية، والأسرية، وهلمَّ جرًّا... ونعني بـ » الآثار الماثلة « فن العمارة بجميع أنواعها: مثل: تخطيط المُدن، وتمصير الأمصار، وتشييد البنيان، ثم النحت، والرسم، والتصوير، والزخرفة، وجميع الفنون الجميلة..، وهناك فرق بين » الثقافة « وبين » الحضارة « من عدة وجوه. أولاً: إذا كان مفهوم الثقافة ينزع إلى الخصوصية، فإنَّ الحضارة تنزع إلى العمومية، فالثقافة هي الحضارة الخاصة بأمة من الأمم، لا يشاركها في شأنها أحدٌ، تحمل صيغة هذه الأمة، وتتّسم بسماتها، ووراء كل حضارة دينٌ، وقد تصبُّ عدة ثقافات في نهر حضارة واحدة. فالثقافة العربية التي ننتمي إليها هي في أدنى مستوياتها مجموع تقاليدنا وعاداتنا، أمَّا على مستواها الأعلى فهي النهج الذي نهجه الغزالي في الجانب الروحي، وابن رشد في الجانب الفكري، وابن حزم في الجانب الأخلاقي، وابن خلدون في الجانب الاجتماعي، ونشكل – نحن العرب – بثقافتنا مع ثقافات أخرى – الفارسية والتركية – نشكل الحضارة الإسلامية التي ساهمنا جميعا في إنشائها وإثرائها.

ثانياً: أنَّ الثقافة تصور وإرادة، وأنَّ الحضارة أثر ونتيجة لهما.

ثالثاً: أنَّ الثقافة وصف عـام للفرد والأمة، وأنَّ الحضارة وصف خـاص بالأمة، أي: مثلها مثل » العلم «. يقـال: » حضارة الأمة الفلانية «، ولا يقـال: » حضارة الشخص الفلاني «، بخـلاف » الثقافة «، فتصدق على الشخص والأمة.

رابعاً: أنَّ الحضارة تتجسم في النظم السياسية، وفي العلوم، والصنائع، والاختراعات على وجه العموم، وأنَّ الثقافة تتمثل في اللغات، والآداب، والتواريخ، والفلسفات، وجميع العلوم الإنسانية، أي: إنَّ الثقافة تقدّمٌ من الوجهة الخُلُقية والفكرية، والحضارة تقدّمٌ من الوجهة الاجتماعية على وجه العموم.

خامساً: كل أمّة مثقفة يصدق عليها أن تكون متحضرة، وليس العكس، لأن هناك الكثير من الآثار الحضارية القديمة التي مازالت قائمة ومرئية حتى الآن، بَيْدَ أنّ إيجادها لم يكن بدافع ثقافي: مثل أهرام مصر، ومختلف الأسلحة المحفوظة في المتاحف الدولية، فتلك شُيّدت بدافع وهمي – على أحد الأقوال في سبب بنائها - وهذه صُنعت من أجل الدفاع عن النفس تارة، وسفك الدماء بها تارة أخرى. وما قيل في ذلك يقال في القنابل الذرية والأسلحة الفتاكة، المصنوعة في العصر الحاضر، فإنَّ صنعها لم يكن بدافع ثقافي، وإنَّما كان بدافع الترهيب، وحُبّ التسلط على البشرية، وسفك دمائهم، وهذا منافٍ للثقافة، التي تهدِفُ إلى تهذيب الأخلاق، وتقويم السلوك، وحب الخير، وإصلاح المجتمعات. وعلى هذا الاعتبار فالثقافة أعلى من الحضارة، وأرقى منها في سلم الحياة. وهي، على وجه العموم، روحية في الجوهر... أمَّا الحضارة فمادية في جوهرها ومحسوسة، والثقافة سابقة على الحضارة في الوجود... وليس في الإمكان ضبط الحد الفاصل بين الثـقافة والحـضارة بوجه دقيق. ويرى بعض الدارسين أن مفهوم الحضارة لم يلق إجماعاً على دلالته بين مختلف الحضارات الإنسانية التي عرفها التاريخ، على الرغم من اشتراك هذه الحضارات في الكثير من القيم الإنسانية التي تشكل جوهرها، فمن يرغب في المضي في مسار حوار الحضارات عليه أن يتفق على حدود دنيا لمفهوم (الحضارات الإنسانية)، ولتصنيفاتها التي تتفاوت نظراً لاختلاف المعايير، وهناك«أمر آخر، وهو أننا ننسب الحضارات الإنسانية في محاولتنا تصنيفها إلى القارة حيناً (فنقول الحضارة الغربية)، وإلى اللغة أو الأمة حيناً ثالثاً (فنقول الحضارة العربية، أو الحضارة الصينية، أو الحضارة اليابانية)، وإلى العقيدة حيناً رابعاً (فنقول الحضارة الإسلامية)، وإلى الإقليم أو النهر أو الوادي خامساً (فنقول حضارة بلاد الرافدين)وإلى العصر سادساً (فنقول الحضارات القديمة، أو الحضارة الحديثة)، وإلى غير ذلك مما يقع المرء عليه في قراءاته لتاريخ الحضارات الإنسانية، ولكننا نادراً ما نسأل أنفسنا هل ثمة حضارة صرف نقية لا تشوبها شائبة من حضارة أو حضارات أخرى؟ونمضي أحياناً في نزعة التمركز حول الذات فنتحدث عن (عبقرية الحضارة)التي نتماهى معها، وننتسب إليها، أو نرغب في الانتساب إليها». وقد اعتمدنا في صياغة هذه الفوارق من عدة مراجع متنوعة منها: أحمد مسجد جامعي: كلمة افتتاحية لكتاب محاضرات في حوار الحضارات، منشورات المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق، 1421هـ/2001م، ص: 9.و د.محمد بن عبد الكريم: الثقافة ومآسي رجالها، ص: 38. و د.سعد بوفلاقة: حوار الثقافات في الغرب الإسلامي، مجلة دراسات، مجلة دورية محكمة تصدر عن جامعة الأغواط، الجزائر، العدد: 02، جوان2005م، ص: 114-115.و د.عبد النبي اصطيف: حوار الحضارات في عصر العولمة، بحث منشور في كتاب محاضرات في حوار الحضارات، ج: 01، ص: 323 وما بعدها.

 (5) مصطفى يعلى: نحو تأصيل الدراسة الأدبية الشعبية في المغرب، نموذج (من وحي التراث)، دراسة منشورة ضمن كتاب: الأدب المغربي: إشكالات وتجليات (دراسات مهداة للأستاذ عباس الجراري)، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، جامعة محمد الخامس، المملكة المغربية، 1427هـ/2006م، ص: 157.

 (6) أبو القاسم سعد الله: حاطب أوراق، منشورات دار عالم المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، ط: 01، الجزائر، 1431هـ/2010م، ص: 104.

 (7) أبو القاسم سعد الله: حاطب أوراق، ص: 105.

 (8) ابن خلدون: المقدمة، منشورات مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر بيروت، 1956-1961م، ج: 3، ص: 404.

 (9) مصطفى الشكعة: الأدب الأندلسي موضوعاته وفنونه، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط: 04، 1979م، ص: 448.

 (10) الأبشيهي: المستطرف من كل فن مستظرف للأبشيهي (تح: مفيد محمد قميحة)، ج2، ص: 448، دار الكتب العلمية، بيروت، وقد نقل الأبشيهي باختصار هذا النص من كتاب العاطل الحالي والمرخص الغالي لصفي الدين الحلي.

 (11) صفي الدين الحلي: العاطل الحالي والمرخص الغالي، (تح: د.حسين نصار (، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، 1981 م، ص: 2 وما بعدها.

 (12) صفي الدين الحلي: العاطل الحالي والمرخص الغالي، ص: 11.

 (13) مقدمة ابن خلدون، ص: 53.

 (14) عبد العزيز الأهواني: الزجل في الأندلس، منشورات معهد الدراسات العربية العالية، القاهرة، مصر، 1957م، ص: 52.

 (15) عبد العزيز عتيق: الأدب العربي في الأندلس، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1976م، ص: 397.

 (16) فضائل الأندلس وأهلها، ص: 33 (رسالة الشقندي).

 (17) عمر فروخ: تاريخ الأدب العربي، ج: 5، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط: 03، نيسان/أبريل1992م، ص: 229.

 (18) صفي الدين الحلي: العاطل الحالي والمرخص الغالي، ص: 13.

 (19) ابن حجة الحموي: بلوغ الأمل في فن الزجل، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، سوريا، 1974م، ص: 52.

 (20) د.العربي دحو: الشعر الشعبي والثورة التحريرية بدائرة مروانة (1955-1962م)، منشورات ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر (د.ت)، ص: 5-6.

 (21) د.العربي دحو: الشعر الشعبي والثورة التحريرية بدائرة مروانة (1955-1962م)، ص: 15.

 (22) د.العربي دحو: المرجع نفسه، ص: 26.

 (23) د.العربي دحو: المرجع نفسه، ص: 35.

 (24)المرجع نفسه، ص: 103.

 (25)المرجع نفسه، ص: 143 و144.

 (26) د. العربي دحو: بعض النماذج الوطنية في الشعر الشعبي الأوراسي خلال الثورة التحريرية-دراسة تاريخية فنية مقارنة في نصوص الشعر الشعبي الأوراسي وأشعار بعض الأقطار العربية-، منشورات ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر (د.ت)، ص: 7.

 (27)د. العربي دحو: ديوان الشعر الشعبي عن الثورة التحريرية بالعربية والأمازيغية (الشاوية)، منشورات بونة للبحوث والدراسات، عنابة، الجزائر، 1433هـ/2012م، ص: 7-8.

 (28) استقينا هذه المعلومات من كتاب د.سعد بوفلاقة: دراسات في أدب المغرب العربي، منشورات بونة للبحوث والدراسات1428هـ/2007م، ص: 15 وما بعدها.

 (29) رابح بونار: المغرب العربي: تاريخه وثقافته، منشورات الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981م، ص: 8-9.

 (30) رابح بونار: المغرب العربي: تاريخه وثقافته، منشورات الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981م، ص: 05.

 (31) عثمان الكعاك: بلاغة العرب في الجزائر، نقلاً عن: رابح بونار: المغرب العربي: تاريخه وثقافته، ص: 07.

(32) د.عبد الملك مرتاض: الأدب الجزائري القديم-دراسة في الجذور-، منشورات دار هومة للنشر والتوزيع، الجزائر، د، ت، ص: 10.

(33) د.عبد الملك مرتاض: الأدب الجزائري القديم-دراسة في الجذور-، ص: 18.

 (34) د.العربي دحو: مدخل في دراسة الأدب المغربي القديم، منشورات ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، (د.ت)، ص: 29.

 (35) د.العربي دحو: مدخل في دراسة الأدب المغربي القديم، ص: 30.

 (36) د.شكري فيصل: المجتمعات الإسلامية في القرن الأول، منشورات دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط: 04، 1978م، ص: 180، نقلاً عن: د.العربي دحو: مدخل في دراسة الأدب المغربي القديم، ص: 31.

 (37) د.العربي دحو: مدخل في دراسة الأدب المغربي القديم، ص: 87-88.

 (38) د.العربي دحو: الشعر المغربي من الفتح الإسلامي إلى نهاية الإمارات الأغلبية والرستمية والإدريسية (30-230هـ)-جمع وتوثيق وتعليق ودراسة-، منشورات ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1994م، ص: 38 وما بعدها.

استغلال الدين والمذهب وتحويلهما إلى أغراض السياسة

بعد انهيار النِّظام العراقي السَّابق (9- 4- 2003)، أصدر آية الله محمد كاظم الحائريّ، أحد أقطاب الإسلام السِّياسيّ، فتوى تُجيز قتل البعثيين، ضمن بيانه الـ«19» المؤرخ 10-4-1424هـ «إهدار دم وجوه البعثيين في العراق».

لا جدال في محاسبة مَن ابتلي بدم عبر قضاء نزيه، وأن تؤخذ كقضايا جنائية، لكن أنْ تصدر فتوى بالقتل، ويتصدر آية الله القضاء، فتلك جريمة قتل جماعي. تتحمل هذه الفتوى، وما سنعرضه مِن فتاوى «دليل المجاهد»، كلّ ما حصل مِن تصفيات للكفاءات العراقيَّة، ولمَن قاتل في صفوف الجيش العراقي، مِن كبار الضُّباط، خلال الحرب مع إيران (1980 - 1988)، فالمجاهد، المعني بهذه الفتاوى، لا يقتل من دون الاطمئنان لوجود رخصة دينيَّة تبيح له ذلك، فلا تبقى فتوى القتل محصورة في شخص أو جماعة، إنما تصبح عامة تنفذ في من دعاهم الحائري بـ«الكفار». نأتي على كشف هذه القضية الخطيرة مساهمة في تأرخة هذه الحِقبة العصيبة مِن تاريخ العراق، بيان أفظع فتاوى القتل واستباحة الأموال، تلك التي أصدرها الحائري في «دليل المجاهد»، باستغلال الدِّين والمذهب، وتحويلهما إلى أغراض السّياسة بأعنف أشكالها، وباعتبار نفسه مرجعاً، واعتبار مقلديه له نائباً للإمام، ففي التقليد مَن يعصي المرجع عصى الإمام، ومَن عصى الإمام عصى الله (الكُليني، كتاب الكافي)، ولو لم يعتبر نفسه بهذه المنزلة ما صدرت فتاويه في «دليل المجاهد» بعبارة: «نسمح لكم بالقتل»!

اشتهرَ «دليل المجاهد» للحائري بين المعارضة الإسلاميَّة العراقيَّة، التي كانت تتخذ مِن إيران قواعد لانطلاقها عبر الأهوار، فهي غابات مِن البردي والقصب، وممرات مائيَّة، لا يجوع ولا يعطش مَن يتحصن بها. كذلك قيام الإسلاميين بتفجيرات داخل المدن، أدى إلى قتل أبرياء، إذ وجودهم في مؤسسة أو وسيلة النّقل، أو أي مصلحة عامة، يسقطهم قتلى، لهذا ورد عدد مِن فتاوى «دليل المجاهد» بإجازة «التترس».

صدر «دليل المجاهد» أول مرة السنة 1414هـ - 1993م، وليس خلال الحرب العِراقيَّة الإيرانيَّة، التي قُتل فيها جواد نجل الحائري دفاعاً عن «الجمهوريَّة الإسلاميَّة»، وفق ما ورد في الموقع الرَّسمي للحائريّ، وهذا خلاف ما أشيع بأنْ «الدَّليل» صدر خلال الحرب، ما يشي أنَّ قتل ولده زخّ في صدره كل هذا العنف، كي يُحمّل دمه العراق كافة، ما عدا مَن سماهم «المؤمنين». ظل الكتاب يُطبع حتَّى الطَّبعة الرَّابعة (1420هـ - 1999م) التي بين أيدينا، والطَّبعات صدرت في داخل إيران كافة، مِن دون إشارة، فحين صدر كانت العلاقات بين النّظامين قد تحسنت، وتبادلت الوفود، واشتبكت المصالح.

كان الحائري فقيه حزب الدَّعوة، ولد في كربلاء، مِن أصل إيرانيّ، وحامل الجنسية الإيرانيَّة، انتهت علاقته الرَّسميَّة بالحزب، بعد الانتقال إلى إيران، خلال ما عُبر عنه بـ«أزمة القيادة» (العام 1988)، وكان الخلاف مع جماعة الحزب بلندن عن دوره كولي فقيه له الكلمة الفاصلة، فاعتزل الموقع (الشَّاميّ، المرجعية مِن الذَّات إلى المؤسسة).

ظل الحائريّ، ومحمود الشَّاهرودي (ت 2018) - الأخير تسلم مناصب كبرى بإيران - يعدان مِن وجوه «الدَّعوة» باهتمام الحزب بهما في إعلامه. كان الاثنان مِن تلاميذ محمد باقر الصَّدر (أعدم 1980)، غير أنَّ الشَّاهرودي لم يكن عنيفاً متطرفاً، إنما شغله درسه الفقهي ومناصبه، عن ما تورط به زميله الحائري، مع أنَّ الحائريّ، وكلّ الدَّعويين ممن تصدوا للمرجعيَّة، لم يذكروا في سيرهم انتماءهم للحزب في يوم ما (انظر مثلاً؛ الموقع الرَّسمي للحائريّ، موقع الآصفي الرَّسمي، سيرتهما الذَّاتية). كأنَّ مَن يتصدى للمرجعية يمسي انتماؤه الحزبي عائقاً أمام توسيع مقلديه.

مؤخراً اعتزل الحائري العمل المرجعيّ، على أنه كان مرجعاً للتيار الصَّدري، بوصية من محمد محمد الصَّدر (اغتيل 1999)، والد مقتدى الصَّدر، وسلم مقلديه لطاعة علي خامنئي. قال: «على جميع المؤمنين إطاعة الولي قائد الثَّورة الإسلاميّة سماحة‌ آية الله العظمى السيد علي الخامنئي (دام ظلّه)، فإنّ سماحته هو الأجدر والأكفأ على قيادة الأمة، وإدارة الصّراع مع قوى الظّلم والاستكبار في هذه الظُّروف التي تكالبت فيها قوى الكفر والشرّ ضدّ الإسلام المحمدي الأصيل» (1 صفر 1444هـ، موقع الحائري على الرَّابط: https:--www.alhaeri.org-pages-statments - detail.php?id=149).

قصدَ مَن يقلده مِن العراقيين. أمَّا «الإسلام المحمدي الأصيل» فيقصد به الإمامية ومَن يؤمن بولاية الفقيه منهم.

بيد أنَّ علاقة الحائري بمحمد الصَّدر لم تكن على ما يُرام، كي يوصي بأنه خليفته على أتباعه، بدلالة رفضه فتح مكتبٍ للصدر بإيران، رافضاً تسلم رسالته في هذا الشَّأن، بعد تحسن العلاقات بين العراق وإيران، وفق شهادة مبعوث الصَّدر إلى إيران حينها: «رفض السيد الحائري قبول الدَّعوة، وقال ماذا يفعل محمد الصَّدر بالمكتب هنا، ألا تكفيه النَّجف؟» وذكر أموراً أخرى نحن في غنى عنها الآن (الزَّيدي، السَّفير الخامس، بيروت 2001).

- دليل المجاهد

نصب الحائري نفسه قاضياً وحاكماً، فنجده يستهل ويختم فتاويه بـ«جوَّزت لكم»، و«نسمح لكم بالقتل»، و«نسمح لكم بقتله»... إلخ. منح لنفسه مطلق الصلاحيات، يتصرف في الدِّماء والأموال، تحت مبرر «محاربة المؤمنين». كذلك في «دليل المجاهد» نصّب نفسه محصلاً للخُمس مِن الغنائم، التي يغتنمها مجاهدوه مِن العراقيين، كغنيمة أموال توجد في ثياب القتلى، أو المال المنهوب مِن البنوك، فكل هذا له خُمسه، لأنه الفقيه «الجامع الشَّرائط»!

نُشرت مؤلفات الحائري كافة على موقعه، من بينها «الكفاح المسلح في الإسلام»، إلا «دليل المجاهد» نراه اختفى! فهل صار الكتاب عبئاً على مرجعيته، وعلى «الدَّعوة» حزبه، بعد أنْ صار في السُّلطة، وللحائري بالعراق في ظله 12 مكتباً؟! للمبالغة في العنف والتطرف، بما لا ينقص عما ورد في أدبيات «القاعدة» و«داعش».

احتوى «الدَّليل» 165 صفحة، 8 فصول، و213 فتوى، جاءت وفق طريقة الفقهاء، يصدرون الفتوى وكأنها جوابٌ على سؤال، وهذا ليس حقيقياً دائماً، فما يخص فتاوى «الدليل» كان المستفتي والمفتي واحداً، لذا تجد بعضهم يجعل الاستفتاء باسم «ثلة مِن المؤمنين»، وفي حال فتاوى الحائري جُعلت الفتاوى جوابات على استفتاءات المجاهدين.

استهل الكتاب بآية الجهاد: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ...». (سورة الصَّف 10 - 11)، قصدها الحائري جهاداً بدائياً، لنشر الإسلام! وقد وصل أتباعه إلى السُّلطة فماذا حصل؟! أمَّا الطَّبعة الأولى فاستُهلت بالآية: «فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ» (سورة التوبة 12). بهذا وضع الحائري إسلام أهل العراق وراء ظهره، ليقوم بفتوح جديدة على يده، طالما الخصم كافر، وفق دليله.

استهل الحائري بجواب على سؤال: «صدر لسماحتكم كُتيب يُسمَّى (دليل المجاهد)، فهل العمل به مبرئ للذمة»؟ أجاب: «مبرئ للذمة إن شاء الله». ثم عطف عليه سؤال آخر: «وهل يجوز لمقلدي السَّيد الخوئي أو السَّيد الإمام (يقصد الخميني) أو مقلدي مرجع آخر»؟ الجواب: «نعم يجوز ما داموا محرومين مِن فتوى مرجعيتهم في تلك المسألة»، ويقصد الفتاوى الواردة في دليله.

طالما جرى الحديث عن فتوى التترس، وتطبيقها مِن قِبل «القاعدة» و«داعش» وغيرهما مِن الجماعات الإرهابيَّة، ووردت كثيراً ضمن فتاوى «دليل المجاهد»، وفحواها أن يبرر قتل الأبرياء في عمليات قتل المطلوبين. توجد إباحة التترس في وصايا الجهاد، واشتهرت عن الشيخ أحمد بن تيمية (ت 728هـ)، ونصّها: «فإن الأئمة متفقون على أنَّ الكفار لو تترسوا بمسلمين، وخيف على المسلمين، إذا لم يقاتلوا، فإنه يجوز أنْ نرميهم، ونقصد الكفار...» (النَّجدي، فتاوى الشيخ ابن تيمية)، أطلقت في ظرف اجتياح المغول في ذلك الزَّمن، لكن السؤال؛ هل توافق الحائري مع ابن تيمية، كي يستلهم منه «التترس»؟! وقد زاد باعتبار العراقيين كفاراً، ما عدا «المؤمنين».

شملت فتاوى «الدليل» سائق السّيارة والشّرطي، وناقل الأغراض، اعتبرهم كفاراً كافة، بجريرة عملهم مع الدَّوائر الرَّسميَّة العِراقيّة. جعل الحائري العِراقَ فُسطاطين؛ المؤمنين وهم المجاهدون، والكفار العاملين في الدَّولة العراقيَّة، أي «دار الهجرة ودار الحرب»، والمنطق نفسه عند «القاعدة» و«داعش»، وفسطاط الكفر كان، وفق منطقه، مشمولاً فيه مَن يتبوأ اليوم مناصبَ، وزراء وقضاة، وقادة في الجيش، حتَّى رئيس الوزراء الحالي، فكان مديراً للزراعة داخل العراق، في وقت صدور «الدليل»، وبالمحصلة الجميع كانوا يعملون في دوائر الدَّولة «الكافرة». ففي منطق الحائري ليست المسألة معارضة وسُلطة، إنما مؤمنون وكفار.

***

رشيد الخيُّون

يعد عصمت نصار (أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية)، أحد الأسماء الهامة واللامعة في سماء الفلسفة العربية؛ حيث أسهم بقسط وافر في بناء هذا الصرح، وتعد لبناته الفكرية والأدبية التي وضعها بالجهد والعرق بمثابة الأساس الذي بني عليه الكثيرون من تلامذته مشاريعهم الفكرية، ورؤاهم الفلسفية في العربي المعاصر.

ففي دراسة له بعنوان "إشكالية الهوية من غائية الخطاب إلى ضرورة المشروع"، أكد لنا على حقيقة مهمة وهي أنه لما كان التفكير الناقد هو النهج المُنتج للآراء والتصورات والمُوؤل والمُحلل للإشكاليات والقضايا، فأعتقد أنه الضرب الأنسب والأوفق لهذا اللقاء الذي نستهل به برنامج التثاقف الفلسفي لعام 2023م تحت مظلة المعهد العالمي للتجديد العربي وإذا ما سلمنا بأن التحاور والتناظر والتصاول هو رحم التجديد المولد للفكر الحر فأنني أدعوكم لمصاحبتي في تلك الجلسة لممارسة الإمتاع والمآنسة لإحياء سنة الفلاسفة والمفكرين المستنيرين. وعليه سوف نبدأ من السؤال الفلسفي لنصل إلى فلسفة السؤال التي تنطلق من خمس قضايا رئيسة هي: عتبة موضوع إشكالية الهوية، الهوية بين التعريف والدلالة والمفهوم، الهوية بين الانتماء والانضواء والتغريب والاغتراب، ثقافة الذات المفكر وبنيته وأهوائه وميوله، وسلطة الهوية واستبداد المجتمع، رسالة المجدد وواجبات الموؤل.

ثم يدلف إلى عتبة موضوعه فيتساءل : لماذا جعلنا موضوع الهوية العربية إشكالية وليس قضية؟ فكلنا نعرف أن معنى لفظة إشكالية أنسب للتعبير عما يتسم به موضوع الهوية من حيث المشكلات التي أثيرت ومازلت، ومن حيث التعريف والمضمون والمسائل ذات الصلة وتصارع الرؤى والتصورات حول ماهية المشخصات التي تشكل بنية الهوية من حيث أصالتها وطرافتها وإدراجها ضمن التليد أم المستحدث الجديد. ونتسأل ثانيةً هل الإشكالية هي الإلتباس والمغالطة في الاستدلال، أو الأمر الصعب المعقد الذي يصعُب الفصل فيه أو الاختلاف والتناطح والتصاول الذي لا يُقطع بصدقه والمشتبه فيه دون دليل كافي أو صفة لقضية لا يظهر فيها وجه الحق كما عند الفلاسفة، أم تراها المقُرر دون دليل؟ الحق أن جُل قضايا الفكر العربي الحديث يمكن إدراجها ضمن الإشكاليات بالمعنى السابق ويرجع ذلك إلى الوقائع والواقعات التي أنتجت تلك القضايا شأن قضايا التراث والتجديد والحرية والإصلاح أما مسألة الهوية فقد خرجت من بوطقة الوعي وتربية الرأي العام وتوجهات أهل الحل والعقد والسلطات القائمة ومثاقفات أصحاب المنابر ورجالات الدين وكتابات المستشرقين وذلك في أخريات القرن التاسع عشر والعقدين الأول والثاني من القرن العشرين في بلاد الشام ومصر والعراق، ثم المغرب العربي. وقد دارت الحوارات حول مفهوم الوطنية والقومية والأصول الحضارية وعراقة الأنساب وأصالة المشخصات والسمات المشتركة والصفات المتشابكة دون جدوى، وليس أدل على ذلك مما يتردد في حواراتنا المعاصرة حول الآراء المتباينة حيال بنية المصطلح.

ثم يستطرد المفكر الكبير عصمت نصار فيقول: وإذا ما انتقالنا إلى مصطلح الهوية العربية سوف نُدرك أنه لا يقل تعقيداً عن سابقه من ناحية ولا يختلف في صفة الخلط والاختلاف والالتباس في التعريف عما نجده حيال مصطلح القومية Nationalismفي الفكر الغربي الحديث من جهة أخرى. حيث ورد في معظم المعاجم السياسية والاجتماعية بمعاني متباينة (الوطنية، الأمة، والجنس، الأصل) وجعلت معظم التعريفات (اللغة والمعتقدات والتقاليد والأعراف ووحدة المكان والمصير والمصالح والمقاصد) من أهم المشخصات التي يعول عليها في تحديد مفهوم القومية.

ولم يكتف بذلك الدكتور عصمت نصار أكد على أنه إذا ما انتقالنا إلى المثاقفات في المجتمع العربي الحديث سوف نجد ما يشابه ما أشرنا إليه سلفاً. وذلك لأنه من العسير التمييز بين مفهوم الهوية والذات وذلك في السياقات اللغوية والمنطقية العربية، ومن المستحيل فصل الذات عن الهوية عندما نتحدث عن المشخصات العربية ووجودها، ويرجع ذلك لأصالة وعقلانية عقلها الجمعي الذي دأب على غربلة المستحدثات الوافدة، والمتغيرات العالقة التي يحملها الأغيار الوافدون عليها. وقد ظهر مصطلح الهوية العربية كرد فعل مباشر لتحديات ثلاثة رئيسة أنتجها الواقع المعيش، أولها: الربط بين الدين والهوية وذلك على يد الراديكاليين التراثيين (الجامعة الإسلامية)، وثانيها: تعصب الأتراك وانتشار شعار التورانية على يد حزب الاتحاد والترقي وتركيا الفتاة، وثالثها: الدعوة للكوكبة والعولمة وتزييف المشخصات وجحد التراث والسير في زيل الثقافة الغربية تحت العديد من المسميات (الوحدة الإنسانية، المدنية الحديثة، ثقافة البحر المتوسط، والشروق من الغرب وليس من الشرق) وعلى مقربة من ذلك نجد حركات إحياء للنعرات العرقية والعصبيات المذهبية. الأمر الذي دفع عبدالرحمن الكواكبي، وبطرس البستاني، وإبراهيم اليازجي، ونجيب العازوري، ثم الشيخ على يوسف، وأحمد لطفي السيد، وعبدالله النديم، وعبدالرحمن الرافعي، وسعيد الشرتوني، وأمين الريحاني، وعبد الحميد الزهراوي، وأحمد زكي باشا، وأنطون سعادة، وعبدالرحمن عزّام، وغيرهم من الرافضين لربط العروبة بالعقيدة وإقصاء المسيحيين والأغيار عن مفهوم المواطنة الكاملة. وتغليب المشخصات الفاعلة في بناء الذات العربية مثل اللغة والتاريخ والمصير والتحديات والمصالح المشتركة على غيرها، والراغبين أيضا في التحرر من تعصب الأتراك وتعاليهم على الجنس العربي ومحوهم للثقافة العربية وإنكار دورها للحضارة الإنسانية ناهيك عن الظُلم والاستبداد والقمع الذي عانت منه المجتمعات العربية في المشرق أو المغرب تحت وطأتهم بإسم الخلافة الإسلامية وخوفهم من هجمة الاحتلال الغربي ولا سيما بعد الحرب العالمية الأولى واتفاقية سايكس بيكو.

ثم ينتقل الدكتور عصمت نصار للحديث عن بنية القضايا المطروحة فيقول: أعتقد أن الوقت لن يسعفنا في الاسترسال في الحديث عن القضايا التي يحويها عنوان ذلك اللقاء أعني مناقشة الفارق بين الخطاب والمشروع حيال هذه القضية، فعلى الرغم من اجتهاد المُجددين الأوائل في تحديد بنية الهوية العربية ومشخصاتها ومقاصدها إلا أن جميعهم لم يحسن التخطيط في نقل تلك المفاهيم ومقاصدها من طور التنظير إلى طور التفعيل وليس أدل على ذلك مما نحن فيه الآن. فإذا ما عرضنا قضية الهوية العربية على مائدة الفلاسفة والتفكير الناقد فسوف نُجابه العشرات من التساؤلات من منظور مبحث الوجود ومبحث المعرفة ومبحث القيم، بالإضافة إلى تهكم الساخرين من تطبيق المقولات المنطقية الرئيسة على دلالة المصطلح، فأتصور أن يكون الطرح على هذا النحو:

* هل القومية العربية موجودة بالفعل؟ وبأي معنى؟ وبأي دلالة؟

* وهل تلك القومية العربية ومشخصاتها يمكن الاستدلال على وجودها في الثقافة المعاصرة؟ وفي أي مرتبه يمكن وضعها، في مكانة الفاعل أم المفعول دوماً؟

* وهل عقلنا الجمعي المنتمي، المجدد، الموؤل. موافقاً على وجودها أم ساخراً من الحديث عنها؟

* وهل القضايا التي تشغلها في الحاضر يمكن الحكم على صحتها أو كذبها في المستقبل أو ستظل غير معروفة؟ وهل سنظل نحلل قيمنا ومبادئنا في ضوء (المنطق المتعدد القيم) أو (المنطق المائي) أم (المنطق الضبابي أو الغائم)؟

* وهل سنبيت نؤمن بمقولة "إما... أو الإطاحي " أم " (مبدأ الثالث المرفوع)"؟

* وهل إنتمائاتنا يمكن إدراجها في قوائم الحضور أم في سجلات الغياب؟.

* وهل في إمكاننا التخلص من شيفونيتنا وعصبيتنا أم سوف نسمي نزيف تلك الهوية المزعومة ونلبسها أوهام الشاعر الروماني الساخر بيلاوتوس (نحو250/184ق.م) على مسرح الحياة أم قبعات الفيلسوف الإسكتلندي توماس كارليل (1795/1881م) وتيجانه في ساحة الزعماء والأبطال وحديثه عن أشكال فلسفته للملابس؟

ثم يجيبنا الدكتور عصمت نصار على ذلك قائلا: والإجابة يمكن إدراكها عند الجاحدين لتلك الهوية في شتات الاغتراب وتأوهات المغتربين في مجتمعاتهم العربية. وكذا في أكاذيب دعاة الأصالة والإصلاح تارة، وفي أوهام وإفك التفكيكيين والفوضويين وأرباب البدع تارة أخرى، ولهذا وخليق بنا أن نعمل سوياً لتجديد مبحث الوعي في مشروعنا الحضاري فنعين الثابت والمتحول في مشخصات هويتنا ونتخلص من الأوهام التي شغلت حيزاً كبيراً في خطابات ذواتنا عن الهوية ونجعل دراسة الواقع بكل ما فيه هي سبيلنا إلى إعادة بنائها. ونؤكد على أن نجاح ذواتنا المتطلعة إلى الرقي والتقدّم لن يتحقق بمعزل عن العيش مع الأغيار في متنفس من الحرية والتناغم والمحبة والتراحم والقيم الأخلاقية المستمدة من مكارم تراثنا التليد ووعينا الجديد حتى نتمكن من الإجابة التي ينبغي علينا البوح بها وإعلانها: من نحن وماذا نريد ولماذا؟ ونربي أولادنا على حكمة الأيقاظ الأصحاء الخالدة القائلة "إذا كانت كلمة نعم تطرب الأذان، فإن كلمة لا تُحيي العقول، وأن الولاء والانتماء لا يقوى على مجابهة عذابات الواقع بمنآي عن قناعات الأنا المُفكر وإنضواء الذات العاقلة". وأن غاية التأويل المعاصر يجب أن تنصب على فضح الأكاذيب وتوضيح المعاني والدلالات المستترة وفك الرموز وإزالة الألغاز وليس اختلاق المعاني والدلالات التي تبدد المقاصد الواضحة بذاتها.

وقد توصل الدكتور عصمت نصار إلى حقائق مهمة وهي إلى عدة توصيات ونتائج، أولها: أن قضية الهوية لم تُعد مقولات خطابية ولا شعارات غنائية؛ بل ضرورة حتمية واجبة التحقق بتخطيط علمي ينطلق من الواقع المعيش ويرمي إلى النظر للمستقبل باعتبار العرب فاعل وليس مفعول. وثانيها: ضرورة العزوف عن الشيفونية المضللة سواء بين الرأي العام القائد للزعمات العربية والسلطات القائمة أو في مُخيلة الرأي العام التابع حيث الثقافة السائدة في كل الأقطار العربية وأخيراً بين تصورات الرأي العام القائد وأهل الحل والعقد والمجددين الحقيقيين المسئولين عن حركة الأمة العربية وتقدمها إلى الأمام أو إلى الخلف، وثالثها: التخلص من كل قيود معوقات البوح وحرية الفكر والرأي والعمل على إنهاض الأذهان الراقدة لتلج أبواب الصمت وتحريضها على قيادة ثورة المستنيرين التي تنشد البناء وليس الهدم، ورابعها: تفعيل الخطوات العملية التي تُحيل الهوية اللفظية إلى وقائع وواقعات تثبت أن العرب أمة ووطن له حدود أمنة ومصانة تأوي شعوب متحابة متناغمة في العيش بمنآي عن العصبية الدينية أو الحزبية الأيديولوجية أو الرجعية العرقية، أي أمة تعبر عن كيان واحد اقتصاد واحد (عملة وسوق وإستثمار طاقات وموارد) وقرار سياسي ودستور أعلى يدين بالعلم والمصلحة التي لا تناقد مشخصات الهوية التي لا تفصل في الولاء والانضواء في رفعة القومية والإخلاص في الولاء للوطنية، وأخيراً: مراجعة المشخصات العقدية وتخليصها من الأوهام والأكاذيب وإعادة تربية الأذواق والبرامج التربوية والتعليمية وذلك لإنتاج جيل جديد من شبيبة راقية جديرة بحمل الهوية العربية التي تعبر دوماً عن يقظة التفكير الناقد وأصالة العقل الراجح الذي لا تضلّه الأكاذيب ولا تصرفه عن مقصده الأهواء والمطامع الزائفة.

ونخلص من قراءتنا لهذه الدراسة وحسب فهمنا لها أننا نلاحظ المفكر الكبير عصمت نصار يستخدم التفكير الناقد كأداة للحوار من أجل إحياء التجديد الفكري، ويراه السنة المميزة لكل مفكر تنويري، وبالتالي وضع أيدينا على بعض المرتكزات الأساسية لإشكالية الهوية العربية، فأراد أن يخرج بالمصطلح من دائرة المقولات والشعارات إلى مجال التطبيق والتخلص من القيود، ففرق بين القضية والإشكالية، ورأى أن الهوية هي إشكالية كبرى، لأننا نتحدث هنا عن بنيتها دون أن نتحقق من دلالاتها.

ويحزم مفكرنا بالعلاقة الوثيقة بين الهوية والوعي فلا هوية بدون وعي من الرأي العام، وأهل الحل، والعقد، وأصحاب المنابر، ورجال الدين. ثم يعود مفكرنا إلى مصطلح الهوية العربية فيراه اصطلاحا معقدا وذلك بسبب ما احيط به من لبس واختلافات خول تعريفه وعدم التمييز بين مفهوم الهوية والذات .ولقد ارجع مفكرنا ظهور هذا المصطلح كرد فعل للربط بين الدين والهوية .وتعصب الاتراك .والدعوة للعولمة علي قاسم وجحد التراث والسير في تبعية الثقافة الغربية وهو الامر الذي جعل العديد من المفكرين العرب يرفض ربط العروبة بالعقيدة لأنه يترتب عليه إقصاء غير المسلمين من مفهوم المواطنة الكاملة

ويتحدث الدكتور عصمت نصار عن بنية القضايا المطروحة فيأخذ على المجددين الأوائل انهم لم ينجحوا في تقل المفاهيم من طور التنظير إلى التفعيل ويحاول حل هذه المشكلة عن طريق طرح تساؤلات جديدة تنقلنا من هذا الطور فيتساءل عن وجودها الفعلي والدلالي ومدى استيعاب عقلنا الجمعي لوجودها، وهل القضايا المطروحة تجاهها في وقتنا الحالي صالحة للمستقبل في ظل المنطق متعدد القيم أو المنطق الضبابي وغيرها من آليات الحكم والتعقل

إذن التساؤلات التي تدور في اطار قضية إما... أو.. إن الإجابة في رأيه يمكن أن ندركها عند جاحدي الهوية الذين اصابهم الاغتراب وأكاذيب دعاة الإصلاح .. ويخلص مفكرنا إلى أن الحل يكمن في تحديد مبحث الوعي في مشروعنا الحضاري والتخلص من أوهام الماضي التي شغلت حيزا كبيرا في خطابات ذواتنا عن الهوية .والاهتمام بدراسة الواقع بكل ما فيه هو طريق مفكرنا لإعادة بناء الهوية والعيش مع الآخر في إطار الحرية والمحبة والقيم الاخلاقية .

ويطول بنا المقال غير أني لا أملك في نهاية حديثي عن الدكتور عصمت نصار إلا أن أقول تحية طيبة لهذا الرجل الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به و يسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخرى مني لهذا الرجلٍ العظيم الذي لم تجز به السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

***

أ. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

في المثقف اليوم