قضايا

أم الفكرة تولد من خلال التخطيط؟

هناك منهجية متبعة عند كثير من الفنانين في طريقة التعامل مع التخطيط فمنهم من يجتهد بان الفكرة باعثة على ظهور التخطيط ومنهم من يرى ان التخطيط بشكل عشوائي دون تحضير مسبق للموضوع يولد ويبرز بعض الافكار والتصورات.. هذه النظرية تشبه نظرية بعض الفلاسفة الذين يقولون " انا افكر اذن انا موجود او " انا موجود اذن انا افكر " وهو طرح فلسفي شغل الفلاسفة منذ القدم ويرجع البعض فكرتها الى ابن سينا.. ثم تبناها بعد ذلك ديكارت.

ولكن عملية التخطيط في الواقع هي عملية تنافسية بين العقل والعاطفة او بين المنطق والمشاعر والاحاسيس الوجدانية الداخلية. فمرة يقود العقل عملية ممارسة التخطيط ومرة تقودها المشاعر والعواطف الثائرة لدى الفنان للبحث عن تصورات وافكار جديدة، ومرة اخرى يساهم الاثنان في عملية الابداع.. واتذكر عام 1974 كنا في درس الاستاذ كاظم حيدر في مادة التخطيط فطلب منا ان نأخذ قلم او فحم ونقوم بالشخبطة على الورق، ثم نتأمل فيها، ماذا يظهر لنا من صور او افكار؟.. وهو يريد بنا بهذا اللون من الممارسة الخروج من النمطية السائدة واحداث لطمة على الذهن. فالنائم لا يستيقض نائما انما اللطمة تستيقض النائم.3282 بولوك

1 - المحور الاول يتلخص في ان ولادة التخطيط عادة ما تأتي من خلال مراحل وظروف مر بها الفنان. كما هو عند المراة في حالة الحمل فلابد لها من ان تمر بفترة زمنية حتى ينضج فيها الجنين ثم تضعه.. او هو ما يشبه ظروف حياة فنان الكهوف الذي دفعته ظروف الطبيعة القاسية والوحشية ان يفكر بايجاد مخرج يدافع به عن نفسه فلجأ الى فكرة الرسم على الجدران، فجائت تخطيطاته بعد الايمان المسبق بالسحر وعالم الارواح. فكان يعتقد ان فعله هذا سيرفع من معنوياته ويعتقل ذلك الحيوان الذي رسمه..

لهذا فان ولادة التخطيط تأتي من مسيرة وظروف الفنان. حيث التفكير والتصورات المسبقة واسباب اخرى تفرزها البيئة وتشارك معها الوراثة في عملية التصور قبل ان يجهض التخطيط الى عالم الوجود المادي.... ان الحياة التي يعيشها الفنان بكل معطياتها الايجابية والسلبية تنعكس دائما على مشاعره واحاسيسه، وبالتالي تتبلور لديه الكثير من الافكار والمواضيع والذي يعمد راغبا في التنفيس عنها ونقلها واخراجها الى عالم الوجود الحسي، وتجسيدها على الورق، وهنا تبدأ مرحلة الولادة حيث يمسك الفنان القلم ويبدأ بالتخطيط لينقل تصورات وافكار مسبقة كانت مرسومه في الذهن.... ثم تبدأ مرحلة اخرى وهي نقل الفكرة للمشاهد من خلال التخطيط وهنا ايضا تتفاعل الاحاسيس مع بعضها بين الفنان والمشاهد تؤدي الى عودة الفكرة الى البيئة مرة ثانية بعدما هضمت ونضجت بشكل جيد عند الفنان. فتأخذ بالتالي طريقها النافع الى عالم الاصلاحي والجمال..

2 - المحور الثاني يكمن في ان الفكرة تولد من خلال التخطيط. وهي حالة عاشها ويعيشها الكثير من الفنانين ذوي الحس المرهف والمشاعر الفنية الفياضة والعواطف الثائرة. حيث يمسك الفنان القلم ويبدأ يرسم بشكل عشوائي مبهم غير مفهوم، وبدون تحضير اي فكرة مسبقة.. ومن خلال هذه العملية تبرز بعض الافكار والتصورات والتي سيبني عليها الفنان عملا فنيا ما..

هذه العملية تعتمد على المفاجئة او التلقائية او كما يقال- الصدفة - والبحث والاكتشاف للتعبير عن احاسيس وعواطف مزدحمة محبوسة في دواخل الفنان فيحاول اخراجها وابرازها الى عالم الوجود المادي..3283 دومير

بعض الاحيان لم يتوصل الفنان الى اي نتيجة مرضية ويتوخاها من خلال التخطيط وبالتالي تبقى العملية مجرد تخطيط يتكون من دوائر واشكال على شكل شخبطة كما هو عند الاطفال في اعمار الثلاث والاربع سنوات وهي طريقة تبناها عدد من الفنانين المعروفين مثل الفنان الامريكي سي تومبلي Cy Twombly 1928 برجينيا – والفنان جاكسون بولوك 1912 – وايومنج – ويعتبر الاخير واحد من زعماء المدرسة التعبيرية التجريدية اللاموضوعية. ويعتبره البعض اول مصور امريكي له تأثير عالمي.. هذه الطريقة وجدت لها تيارا كبيرا في اوربا في بداية القرن العشرين وكانت محاولة منها للتمرد على المدرسة الكلاسيكية والاكاديمية واطلاق العنان الى مشاعر الفنان وعواطفه الثائرة والتعبير عن رغبته في التجديد والتغيير والحرية في الفكر والرأى والعمل..

ان الفكرة بحد ذاتها هي نوع من التجريد والخط هو الآخر تجريدي والتجريد هو محاولة الهروب من العالم المادي الى عالم الروح اذن ان العنصرين ينتميان الى عالم واحد وهو التجريد غير ان الروح ليس لها شكل او بعد وغير مرئية. بينما الخط له شكل ولون وبعد واحد.. ولهذا نجد ان هناك بين الاثنين مشتركات. فمرة يولد التخطيط بفعل فكرة كانت تدور في ذهن الفنان ومرة اخرى تولد الفكرة في ذهن الفنان من خلال الممارسات التخطيطية المرئية على الورق او القماش حيث توحي له هذه الممارسات بفكرة ما او موضوع ما ثم يبدأ بالشروع في تنفيذ عمله الفني..

و خير ما نختم به هذه المقامة هو قول الفنان الكبير مايكل انجلو (ان الرسم اساس كل معرفة، فالمعاني لا تتضح الا اذا خطت على الورق، والخطوط انما تجلوا المعاني والافكار).

***

د. كاظم شمهود

جاء في بيان وزارة الداخليَّة العِراقيَّة، عن «جماعة القربان» العليلاهيَّة: «إنَّ وزارة الدَّاخلية أخذت على عاتقها متابعة الجماعات المنحرفة، والخارجين عن القانون، والعمل على بسط الأمن والاستقرار، وتحقيق السِّلم المجتمعي» (الموقع الرّسميّ 19/5/2023). حقَّاً كان بياناً يُثلج بغداد القائظة، ولكنْ تعلم الدّاخليَّة أنَّ هؤلاء غرس خطباء المنابر، العابثين بالعقول والمغالين بالكراهيَّة.

يتسع الانحراف، عندما لا يُسأل المعلم والمعلمة: ما شأن أطفال الرَّوضات والابتدائيَّات يتدربون كيف يحزنون ويلطمون؟! وتثقيفهم بالانتقام قبل الأبجدية؟! غدت المنابر أكثر مِن النخيل عدداً، وكلُّ خطيبٍ يغرس الجهلَ، لملء السَّامعين بثقافته.

مع تقديرنا للقلة مِن خطباء المنابر، المحاولين كبح جماح الغلو والكراهيَّة، مِن أصحاب العمائم السُّود والبيض، غير أنّ هذا الصَّوت يكاد يختفي وسط الزَّعيق، زعيق مَن أثمر «جماعة القربان»، ولا نظلم أحداً إذا أنشدنا: «صاح الغُرابُ وصاح الشّيخ فالتبست/ مسالك الأمرِ أيٌّ منهما نعبا» (الجواهري، قف بالمعرة 1944). أليس نعيباً مَن يقول: أنا وريث الإمام المنتظر؟! ومَن يقول: الله فوض الحسين قدرته، فلا يحتاج الاستئذان من القادر؟! هذا ما يُذاع غدواً وعشياً. فعن أيّ انحراف يُسأل فتيةُ «جماعة القربان»، ويُترك غارسوها أحراراً؟!

لم يلفت الأنظار انتحار شاب في موكب حسينيّ، بسوق الشّيوخ (ذي قار/النَّاصريّة)، إلا بعد تكرار المشهد، أنْ تجري «جماعة القُربان» قرعةً بينهم، لتقديم الأنفس قرابين لعلي بن أبي طالب (اغتيل: 40هـ). عندما سمعتُ الخبر الأعجب لم اُصدقه، فقلت أوهامَ إنترنيت! فـ «العليلاهيّة» لها زمنٌ، ومستوى وعيٍ قد مضى، حتَّى أقرت الدَّاخليَّة بوجودها، واستفسرتُ الثُّقات بسوق الشّيوخ، فتبين القلق قد أصاب النَّاس على مصائر أولادهم، يمسون مشاريعَ انتحارٍ عقائديَّة إسوة بما فعلته «داعش».

ظهرت جماعات الغلو بعليّ وأولاده قديماً، وعرفت بـ «العليلاهيَّة»، أيّ تعتبر علياً إلهاً، لكنَّ الجديد في عليلاهية «سوق الشّيوخ» تقديم القربان البشريّ! يُنبيك إنَّ العقائد الدِّينيّة إذا فُسح لها مجال الغلو، وصار حملة لوائه أقطاباً في الدَّولة، يوجهون التَّعليم، فلا يتوقف التَّمادي في هدم الدَّولة والسّلم الاجتماعي، الذي يحاول عودة روحه مِن جديد في الفترة الأخيرة.

لا يتوهم أقطاب التّشيع الرَّافضين لـ «الغلاة والحلوليين» (المظفر، عقائد الإماميَّة)، أنَّ ما جرى نصرٌ للمذهب، فالمنابر تُثقف بالغلو والحلول بلا مراعاة لدولةٍ ودين ومذهب.

أقول: على سادة التَّشيع تذكر ابن فلَاح المشعشع (ت: 1492م)، المازج التّصوف بالتَّشيع، والقائل: إنّه المنتظر، ثم ولده القائل: إنَّ روحَ عليّ حلّ فيه! فعاث بالنّجف وضريحها قتلاً وخراباً، لأنَّ عليّاً حيٌّ يُرزق في عقيدته (التَّستري، مجالس المؤمنين).

لم تنتهِ المشعشيَّة إلا بمثلها، قضى عليها الصَّفويون (1508م)، بيد أنَّ الاثنين كانا غلاةً، وعقيدتهما مهدويّة واحدة، فلماذا جرت الحرب سجالاً بينهما؟! غير طلب السُّلطة بالخرافة.

كم دعيّ بالمهدي المنتظر، وكم مغالٍ بعليّ وأنجاله، قد ظهر، لأنَّ الادعاء والغلو مصدر رزقٍ، وهو يُطبق داخل العراق بإصرار، حتَّى صار المشروع «الجهاديّ» قائماً على حطام الدَّولة والدّين، فأصبح ما نسمعه مِن أصحاب المنابر ليس بدينٍ.

لنجم الدِّين النَّشابيّ (ت: 657هج) في يومٍ مشابهٍ: «عن فتية فتكوا في الدِّين وانتهكوا/ حماه جهلاً برأي فيه إفسادُ/ وشيخ الإسلام صدر الدِّين همته/مقصورةٌ لحطام المال يصطادُ» (كتاب الحوادث). أقول: أليس إيصال الفتيان يقتلون أنفسهم قرابين، انتهاكاً للدين وفساداً في الرَّأي؟ أليس الاستحواذ على عقارات الدَّولة والمغلوبين على أمرهم، وباسم الدِّين، الغنى بحطامها؟!

لا تقوم قائمة للبلاد العراقيَّة، ولا تتوقف مثيلات «جماعة القربان» مِن الظُّهور، والتَّعليم مرتهن لأعواد المنابر، وهو البنية التَّحتية التي تقوم عليها حضارة العُمران لا حضارة القربان. قابلوا غزارة المال المهدور على الميليشيات، ونزارة المستثمر في التَّعليم؟! ستكتشفون الكارثة!.

***

رشيد الخيّون

بين يدي كتاب «إعادة التفكير في التنمية الثقافية»، وهو دعوة لإحياء الدور المحوري للثقافة العامة، في الحَراك الاجتماعي - الاقتصادي الذي ينشده عربُ اليوم. بذل الكاتب د. محمد حسن جهداً فائقاً في الربط بين الأساس النظري للموضوع والتطبيقات التي يدعو إليها. لكنَّه - مثل كثير من الدراسات العربية، أخفق في التحرر من مؤثرات الانتماء الاجتماعي، وإيفاء الجانب العلمي حقه. للمناسبة فهذه مشكلة يواجهها كثير منا، حين نقارب قضايا متصلة بالتراث أو القيم الدينية. في حالات كهذه يتراجع المنظور العلمي لصالح ما يعتقد الكاتب أنَّه حقيقة دينية، مع أنَّها قد تكون مجرد انطباع عام أو فهم من الأفهام المحتملة. لإيضاح هذه الإشكالية، سوف أركّز على مسألتين، تكرَّرت الإشارة إليهما في الكتاب، وشكَّلا خلفيةً لجانب من طروحاته، وهما مسألة العلاقة مع الغرب، وربط صلاح المستقبل بالرجوع للماضي. يظهر واضحاً أنَّ الكاتبَ منتبهٌ لكون العلاقة مع الغرب عنصراً محورياً، في أي نقاش جاد حول عصرنة الثقافة العربية. لكنَّه لم يبذل جهداً مناسباً في معالجة المسألة، بل أراد الجمعَ بين الأضداد كما يقال. وهذا يظهر في دعوته للتمييز بين ما سمَّاه «الغرب الثقافي والغرب الاستعماري العدواني». هذه الفكرة تمثّل بالتأكيد خطوة متقدمة على نظيرة لها شائعة في العالم الإسلامي، تدعو لتقبّل التكنولوجيا والعلوم التجريبية، بموازاة نبذ الثقافة والفلسفة التي تطوَّرت في الغرب، لأنَّ الأخيرة رأس جسر للنفوذ والهيمنة الأجنبية. هذه فكرة متقدمة نسبياً، لكنَّها لا تخلو من العلة الأكبر، أي التعامل مع القيم ككائنات ناجزة ومهيمنة، خارج الوعي الإنساني. وقد وجدت هذا المنهج انعكاساً لتصور عليل عن الإنسان، ينطلق من اعتباره كائناً منفعلاً متأثراً، تصوغ حياتَه عواملُ خارجَ وعيِه وخارج اختيارِه. وهذا يعاكس أول أسس النهضة، أي اعتبار الإنسان عدلاً كاملاً مريداً خالقاً لعالمه، صانعاً لمستقبله، مسؤولاً عن أقداره، أو على أقل التقادير شريكاً في كل ذلك. يتَّصل هذا المعنى بالمسألة الثانية التي أشرت إليها وهي النظر للماضي كمرجع ونموذج. وقد شاعت كلمةُ الإمام مالكِ بن أنس رحمه الله «لا يصلح آخرُ الأمةِ إلَّا بما أصلح أولها»، حتى ظنَّها الناس من كلام النبي. وذهبوا في تفسيرها كلَّ مذهب. والمفهوم أنَّه يقصد أنَّ صلاح الأمة بالدين. لكن تكرَّرت التجارب، بما فيها تجربة الإمام مالك نفسه، فما ظهر في الواقع شيء من هذا القول. والأصل أن التجربة المتكررة هي الدليل على صحة الرأي. ولنا في حقيقة ما جرى في الماضي حديث طويل، لا يتَّسع له المقام. لكنّي أريد التركيز على جوهر المسألة؛ أي النظر للإنسان باعتباره وعاءً فارغاً، تُلقى فيه القيم والأفكار والآيديولوجيات، فيتلقاها كما هي. وأظنُّ هذا قياساً على مكانة الدين، حيث افترض غالبية الإسلاميين أنَّ الإنسان لا دور له في هندسة حياته الدينية، بل هو متلقٍ منفعل، يتلقَّى القيم والتعاليم كما هي فيطبقها تعبداً وتسليماً، بلا نقاش ولا مراجعة. هذا تصور عن العلاقة بين الدين والمؤمنين، أراه فاسداً، بل سبباً لإخفاق كثير من المحاولات النهضوية. إنَّ فرضية كونِ الدين ضرورةً للنهضة، فرضية لا يدعمها دليل، وفرضية أنَّ الدين الصحيح هو دين الأقدمين، لا يدعمها دليل، كما أنَّ إنكارَ دور الإنسان الفرد في صنع تجربة الحياة الدينية وصوغ تفاصيلها، هو الآخر بلا دليل. النهضة – في هذا الزمن بالذات – مستحيلة، ما لم يسترجع الفرد مكانتَه ككائن حر عاقل وأخلاقي. لا يمكن للدين أن ينهضَ على أكتاف المنفعلين السلبيين، بل على يد صناع الحياة المتفاعلين مع تجارب البشرية في الغرب والشرق، في الماضي والحاضر، من دون انبهار أو استسلام، ومن دون ارتياب أو ترفع.

***

د. توفيق السيف

أصبح من المؤكد علمياً وطبياً أن الضحك يعدُ علاجاً فعالاً للكثير من الأمراض التي تصيب الإنسان، كما أن الكآبة النفسية تورث أمراضاً بدنية لا حصر لها، فيما يعرف بالأمراض النفسجسمية، أو « السيكوسوماتية « وهي الأمراض المتبادلة بين النفس والجسد. ومن الذين خضعوا للعلاج بالضحك منذ الستينيات الصحفي الاميركي نورمان كوزنز الذي أصيب بمرض نسيجي في مراحله المتقدمة حتى ظن الأطباء أن لا أمل في شفائه، غير أنه اهتدى ذات يوم إلى أن الضحك يحفز على الإقلال من كمية السموم المسببة لمرضه، ثم تأكد من ذلك بعد نتائج التحاليل المرضية التي كانت تشير إلى انخفاض كمية السموم في جسمه بعد كل جلسة ضحك، وبعد تماثله للشفاء الذي حصل بعد سماعه لمئات النكات ومشاهدته لمجموعة من الأفلام الكوميدية، هجر كوزنز الصحافة ليعمل في إحدى كليات الطب لمدة عشر سنوات توجها بتأسيس قسم طبي علاجي في الكلية أطلق عليه تسمية قسم « قوة الدعابة»، ثم أصدر في العام 1979 كتاباً عن تجربته المثيرة تلك تحت عنوان» تحليل مرض كما يراه المريض» قال فيه : لقد قمت بالاكتشاف الممتع وهو إن عشر دقائق من الضحك العميق لها أثر مسكن وتمنحني ما لا يقل عن ساعتين من النوم بلا ألم. وهو كلام أكده خبراء في العلوم الإنسانية بقولهم إن للبهجة بمفهومها الكامل تأثير السحر على الإنسان، وان وضع برنامج من المشاعر الايجابية كالحب والأمل والبهجة والضحك يزيد من خلايا المناعة التي تساعد على مقاومة المرض.

وقد شغل موضوع الضحك والهزل الكثير من الحكماء والفلاسفة والأدباء والأطباء على مر العصور وفي مختلف الثقافات، بل أن الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون وضع كتاباً خاصاً عن الضحك الذي يثيره الهزل، والهزل هو الإنسان بحسب فلسفته.. وان هناك من كرسوا جزءاً من حياتهم وعلمهم ووقتهم وبحوثهم لهذا الموضوع، مثل العالم آرثر ستون أستاذ علم المناعة النفسي والعصبي الأميركي الذي أنجز بحثاً مثيراً عن كيفية تقوية جهاز المناعة لدى الإنسان عن طريق الضحك، مؤكداً فيه إن الضحك هو الدواء الشافي لأمراض هذا القرن، وان ضحكة واحدة من القلب لها القدرة على شفاء الكثير من الأمراض المعقدة مثل الضغط والسكر والروماتيزم. وفي لقاء صحفي قديم نبه أحد الدكاترة المشايخ المتفقهين إلى ضرورة الفرز بين نوعين من الضحك، ضحك يقودنا إلى الجنة، وضحك يقودنا إلى النار، وقبل هذا الشيخ كان المعري فيلسوف معرة النعمان المتشائم قد استنكر الضحك على نفسه وعلى الناس بقوله: «ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة». ولما كان كل ما حولك يثير الضحك الذي هو ضحك كالبكا على رأي المتنبي، دع نفسك تأخذ راحتها، ودع جسدك يجد سبيلاً مجانياً للعلاج بالضحك، لكن حاذر من أن تقودك ضحكة إلى النار لا إلى الجنة، أو أن تضحك بلا سبب، لأن ذلك من علامات السفاهة أو الجنون، أو من قلة الأدب. وحاذر أيضاَ من أن يفسد لك الضحك في غير محله، أو السخافة في غير وقتها، موضوعاً مهماً، أو ربما يفقدك متعة في لحظة من اللحظات الحميمية، مثل تلك السخافة التي راودت «يان» أحد أبطال الروائي الفرنسي التشيكي ميلان كونديلا في قصصه المترابطة التي جمعها في « كتاب الضحك والنسيان»، وكاد « شيطان الضحك « أن يفسد عليه متعته، هو ورفيقته، وكانا وحدهما في الغرفة، والشيطان ثالثهما، و» كان الضحك في الغرفة مثل شرك ضخم يتربص بهما»!.

غير أن الفكاهة لا تستوجب بالضرورة متعة الضحك، «بل أحياناً تعني متعة الحكمة والدهشة أو المفارقة السياسية»، وفي ذلك يخصص المفكر والفقيه والسياسي ورئيس الوزراء السوداني لأكثر من مرة الصادق المهدي «ت 2020» كتابه « الفكاهة ليست عبثاً « للبحث التاريخي في الفكاهة والسخرية من بين عشرات الكتب الفكرية والأدبية والفقهية والسياسية التي أنجزها في حياته، وهو بحث تفصيلي يبدأه من الإغريق وصولاً إلى مشاهير العصر الحديث وفلاسفته ومفكريه وسياسييه، من دون أن يتناسى فكاهات الزعماء السودانيين الحاكمين في أيامه وطرائفهم التي يستخلصها من احاديثهم وخطبهم وتصريحاتهم، وكان من حظ رفاق الأمس، المتصارعون على سدة الحكم في الخرطوم هذه الأيام، أن لا يكون المهدي بينهم، وألا لضمهم بأقسى العبارات وأكثرها سخرية، إلى حاشية كتابه في الفكاهة، بعد العبث الذي عملوه في السودان وشعبه الذي لا يستحق كل هذا الدمار والقتال الذي جرى ويجري، ومازال مفتوحاً على كل الاحتمالات التي لا يحتملها مثل هذا البلد المدمر أصلاً من دون حاجة لحرب أهلية بين الفقراء.

أما لماذا « الهزل هو الإنسان» ؟ فلأنه لا هزل أخيراً إلا في شخصية الانسان، في الواقع والكلمات والأشكال والحالات والمواقف والاشارات والايماءات التي تصدر عنه لكونه «حيوان يعرف كيف يضحك» بحسب تعريف العديد من الفلاسفة، وأن الضحك: « هو قبل كل شيء تصحيح وإصلاح، وُضِع من أجل التخجيل. فيجب أن يُشيعَ في الشخص المضحوك منه إحساساً متعباً». كما أن المجتمع « ينتقم عن طريق الضحك للحريات التي أُخِذَتْ منه « على حد تعبير هنري برغسون.

لكن ما فائدة الضحك ممن لا يعتريهم الخجل؟!

***

د. طه جزّاع

وكالات الأنباء: (قالت كريستين اينارسون، رئيسة لجنة حرية النشر التابعة للأتحاد الدولي للناشرين:

"ان التزام مازن لطيف تجاه المجتمع الأدبي وحرية التعبير في العراق يجب أن يكون مصدر إلهام لنا جميعا، وندعو من أخذوه إلى إعادته سالما". وأوضح غفانستا جوبافا نائب رئيس الأتحاد : "ان إسكات التعبير الثقافي هو إحدى أدوات الأنظمة القمعية. يجب أن نقاوم ترهيبهم، وأن نحتفي بالمؤلفين والناشرين الشجعان".

واستلم الجائزة ابنه عبد المهيمن نيابة عن والده وقال: "لم أتخيّل من قبل أنني سأقف يوما ما في مثل هذا المكان المتميز لأتحدّث عن والدي، الذي كان دائما يملأ الأجواء بمحادثاته حول الثقافة والفكر. ولسوء الحظ، تم إسكات صوته، وكانت خطيئته أنه كان لديه شغف بحرية الفكر.").

من هو مازن؟ 

مازن لطيف علي، ناشر و كاتب واعلامي وناشط وطني، شارك في مؤتمرات سياسية وندوات ثقافية داخل العراق وخارجه. وكان حريصا على نشر نتاجات العقل العراقي من خلال دار نشر يمتلكها بأسم (ميزوبوتوميا).ومازن كان طالبا بقسم علم النفس بالجامعة المستنصرية، وكان يراجعني بمكتبي بقسم علم النفس بجامعة بغداد في تسعينيات القرن الماضي.

ومازن، كان صحفيا عمل في اكثر من هيئة تحرير (الحوار المتمدن، الجيران..)، واكثر من صحيفة (المدى، الصباح..) واعلاميا ايضا، وترأس قسم البحوث والدراسات في شبكة الأعلام العراقي، وله برنامج في فضائية العراقية، والتقاني اكثر من مرّة بينها حوار في معرض أربيل للكتاب.

ومازن محاور ذكي، واذكر انه التقاني في عام 2008 واجرى حوارا (موثقا في موقع النور) بعنوان:

النظام السابق احدث تخلخلا كبيرا في تركيبة المجتمع العراقي..

(هذا ما يؤكده الدكتور قاسم حسين صالح عالم النفس العراقي وصاحب المؤلفات العديدة منها على سبيل المثال الإنسان.. من هو؟ الشخصية بين التنظير والقياس، نظريات معاصرة في علم النفس، الاضطرابات النفسية والسلوكية، ازمة العقل العربي، الإبداع في الفن، سيكولوجية إدراك اللون والشكل، الإبداع وتذوق الجمال، التلفزيون والأطفال، سيكولوجية الحب، الطاقات المكبوتة، دراسة في سيكولوجية المرأة العربية....) تجاوز عدد القراءات له الخمسة آلآف قراءة.3272 مازن لطيف

لماذا اختطف؟

سألني اكثر من اعلامي.. لماذا اختطف مازن لطيف؟.. وكان جوابي: ان الذين قتلوا اكثر من ستمئة شاب تشريني.. هم الذين اختطفوا مازن وتوفيق التميمي.فكلاهما كانا ناشطين في انتفاضة تشرين /اكتوبر2019، وكلاهما كانا يحضران المحاضرات التي كنت القيها في ساحة التحرير على ثوار تشرين.

شخصيات وطنية طالبت باطلاق سراحه

بحكم صداقة ثقافية كانت تربطني برئيس الوزراء السابق السيد مصطفى الكاظمي، فأنني قدمت لمكتبه الأعلامي مذكرة بتاريخ (9 أيار 2020) حملت تواقيع 243 شخصية وطنية من داخل العراق وخارجه تناشده باطلاق سراحه.. كانت مقدمتها بالنص:

(لأن معاليك مثقف، فان انظار المثقفين متوجهة نحو شخصك الكريم في اطلاق سراح الكاتب والصحفي بجريدة الصباح الرسمية (توفيق التميمي)، والكاتب والاعلامي وصاحب دار ميزوبوتاميا، (مازن لطيف).. اللذين مضى على اختطافهما اكثر من ثلاثة اشهر، دون الأعلان عن تهمة او قيامهما بعمل يحاسب عليه القانون سوى انهما كانا يشاركان في تظاهرات ساحة التحرير.

ان قدرات جهاز المخابرات ومهارتك بالعثور على متظاهرات ومتظاهرين اختطفوا من قبل قوات مسلحة غير نظامية واطلاق سراحهم، تجعلنا نتوسم في شخصكم الكريم العثور عليهما واعادتهما الى اسرهم المنكوبة وجمهور واسع من المثقفين، وتثبت عمليا أن حكومتك ليست كسابقتها التي لاذت بالصمت عن عمليات الأغتيال والأعتقال التي تعرض لها الأعلاميون وهجرة العديد منهم الى مغادرة البلاد التي فيها اكتشف الحرف، وتقدم الدليل العملي بانها تحترم حرية الرأي والتظاهر السلمي، وانك رجل افعال انسانية وتختلف عن سابقيك بأنك مثقف). 

ومع ان الكاظمي وعد في لقاء تلفزيوني بالعمل على اطلاق سراح مازن وتوفيق، فانه لم يستطع.. لأن من اختطفهما يمتلك القوة والمال واللارحمة مع من يطالب (نازل آخذ حقي) او يريد (استعادة وطن). وأن ما حصل يذكرني برئيس الوزراء الأسبق الدكتور حيدر العبادي. فحين تولى الرئاسة اعلن قائلا:سأضرب الفساد بيد من حديد.. واضاف متحديا (يقتلوني.. خل يقتلوني).. وبعد كم شهر صرح في اعتذار ضمني.. الفاسدون يمتلكون القوة والمال والفضائيات.. انهم مافيا. واذا كانت حكومة السيد محمد شياع السوداني غير قادرة على معرفة مصير (مازن وتوفيق).. فان الواجب عليها ان ترعى عائلتيهما.. وقد يكون لمنح هذه الجائزة الدولية حافزا لأن تبادر.

نبارك لعائلة المغيب قسرا ومحبيه والناشرين.. منح فقيد الثقافة العراقية مازن لطيف جائزة فولتير الدولية من اتحاد الناشرين الدولي.. ونتمنى على السيد محمد شياع السوداني، الذي يرعى هذين اليومين(24 و 25 مايس) احتفالا ثقافيا لأيقونة الشعر العربي.. نازك الملائكة.. ان تحظى عائلتي مازن وتوفيق.. بالرعاية.. فقد كانا هما مصدرا رزقهما الذي انقطع.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

لقد برزت الحضارة العربية – الإسلامية بدور مؤثر في تطوير الرعاية الصحية، حين أدرك العديد من الأطباء العرب الآثار السيئة للعادات غير الصحية، كذلك أهمية الرياضة والسباحة واتباع نظام غذاء صحي، وتنظيم النوم للحفاظ على صحة جيدة، وهي مفاهيم تتشابه إلى حد كبير مع الطب الوقائي.

وقد جميع أبو بكر الرازي في كتابه " الحاوي في الطب" المعلومات المتاحة آنذاك حول السمنة، بالإضافة إلى آراء العلماء الذين سبقوه فيما يتعلق بالسمنة المفرطة، وأساليب التحكم بها. ووثق الرازي نقاشه باستخدام تقارير الحالات السريرية لمرضي السمنة، ممن نجح علاجهم، وذكر تفاصيل العلاجات المستخدمة والتي شملت نظامًا غذائيًا صحيًا، وأدوية، وتمارين رياضية، وعلاجًا مائيًا، وتغيير نمط الحياة.

كما يعد اين سينا الأكثر شهرة من الأطباء العرب اهتماما بداء السمنة، ففي كتابه " القانون في الطب " قد خصص الجزء الثالث منه ليناقش خطورة السمنة المفرطة وصنفها كمرض يمكن معالجته بممارسة التمارين الرياضية، وتناول الأطعمة الخالية من الدهون.

ومن أهم ما ورد في علاج السمنة ما جاء على لسان ابن سينا في القانون في الطب: “ومن أنفع الأشياء لأكثر من يفرط في السمن هو استعمال الأدوية الملطفة (وهي القوية جدا في إدرار البول) والاستفراغات (الإسهال والقيء وخروج الأبخرة والعرق) فإنها تفعل في الأخلاط ثلاثة أفعال، كل فعل منها يعين على التهزيل، من ذلك ترقيق الخلط فيهم، وإبعاده عن الانعقاد، وتعريضه للتحلل، ومن ذلك أنها تدرّ وتحرك الأخلاط إلى غير جهة العروق، ومنها أنها تفيد الدم كيفية حادة غير حبيبة إلى القوة الجاذبة… فتدبير التهزيل هو ضد تدبير التسْمين وهو تقليل الغذاء وتعقيبه الحمّام والرياضة الشديدة مع تبعيد وجعله من جنس ما لا يغذو أو من جنس ما غذاؤه يابس أو حريف أو مالح مثل العدس والكوامخ والمخلّلات… وليكن خبزهم خبز الخشكار وخبز الشعير…وليكن طعامهم وجبة.

ومن أقوال ابن سينا في السمنة :" ليس ثمة معجزات، بل هو العلم والإرادة، أما العلم فهو في كتب الأطباء، وأما الإرادة فهي مغروسة في البشر، فإن يعينوا أنفسهم بها، لم يستطع الطبيب عونه، ولهذا نظروا للبدانة على أنها داء، بل هي أصل الأدواء، ولكن لم يوقنوا أن البدانة تعود أسبابها مما لا حيلة للرجل فيه.. القاعدة الأولى أن يدع المريض مخادعة نفسه، فلا بنسب الداء إلى سبب متحكم لا قبل له به ليبرء نفسه من المسئولية..  إن في الجسم مضغة أو غدة تتحكم في إنفاق الطعام في الجسم ونشاطه وحركته، فإن كان الغذاء على قدر الحاجة والحركة،وكانت هذه المضغة على حالها القويم، كان الجسم في عافية من الهدنة أو النحول الزائد عن القصد، إلا أن تكون في أبدانُا وأحوالًا أنشط منها في عامة الخلق فيظهر النحول وإن زاد الطعام، وإذا كانت خاملة بأصلها، أو بطارئ استقر أثر الطعام الزائد في الجسم حتى يصير شحمًا بركم بعضه بعضًا..  ومن عواقب التخمة المتصلة والشراهة المفرطة وإدخال الطعام على الطعام، مع قلة النشاط والحركة خمول تلك المضغة، وبذا تصير البدانة سببًا في إخمادها، ثم بصير إخمالها سببًا في زيادة البدانة، وتلك عي الدائرة المغلقة كما يقول المناطقة.

كذلك اعتبر ابن سينا مزاج السمنة بلغمي، فانطلق من مبدأ التضاد في شفاء الأمراض، وقد  عالج السمنة بالنباتات الحارّة اليابسة، وتصوّر أن القوى الفاعلة في التهزيل في الأفعال الجوهرية التالية: التسهيل والإدرار والتعريق والهضم والتقطيع والتفتيح والتّحليل والجلي والإنضاج والتلطيف والتجفيف والتقوية.

ولقد ذكر ابن سينا السمنة ومزاجها في كتابه القانون فقال: “إن السمن المفرط قيد للبدن عن الحركة والنهوض والتصرف، ضاغطا للعروق ضغطا مضيقا لها فينسد على الروح مجاله، وكذلك لا يصل إليهم نسيم الهواء فيفسد بذلك مزاج روحهم ويحدث بهم ضيق نفس وخفقان، وهؤلاء معرضون للموت فجأة وللسكتة] والفالج وهم لا يصبرون على جوع ولا على عطش بسبب ضيق منافذ الروح وشدة برد المزاج وقلة الدم وكثرة البلغم.

ويؤيد ابن النفيس ما ذهب إليه ابن سينا حيث نجد يقول في كتابه «شرح تشريح قانون ابن سينا»،:" السمنة تقيد الإنسان وتحد من حريته في النشاط، وتتسبب السمنة في تضييق الهواء، وقد لا يتمكن الفرد من التنفس، فيعاني من بحة الصوت أو الخفقان. كما يتعرض الشخص البدين لخطر تمزيق الأوعية، مما يؤدي إلى نزيف في تجويف الجسم والدماغ والقلب، والتي من شأنها أن تؤدي إلى الموت المفاجئ ".

كما تحدّث ابن النفيس أيضا في مؤلّفه الموجز في الطب فقال:… وأمراض المقدار صنفان، فأمّا بالزيادة أو بالنقصان، وكلّ واحد إما عام أو خاص، كالسّمن المفرط…  ثم قال: … وقد عرفت أن اللحم هو متين الدم وكثرة الشحم والسمين الرطوبة والبرودة لأن البرودة هي التي تعقّد مائية الدم وتُصَوِّرُهُ بصورة الشحم والسمين … كما عرّف مادة الشحم بقوله:… ومادّة الشحم كما علمت هي مائيّة الدم.

***

أ.د محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

........................

المراجع

1- ابن النفيس، شرح تشريح القانون لابن سينا، الجزء الأول.

2- ابن سينا، القانون في الطب، فصل في عيوب السمن المفرط.

3- أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، الحاوي في الطب، الجزء الثاني.

4- أحمد توفيق حجازي، موسوعة الطب الشعبي والتداوي بالنباتات والأعشاب، دار البدر للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر.

5-شحاته القنواني، تاريخ الصيدلة والعقاقير في العهد القديم والعصر الوسيط، دار أوراق شرقية، الطبعة الثانية، بيروت، 1996.

تعد دراسة الشخصية علمًا يرقى في البحث النظري والتطبيقي إلى مصاف عالم معرفة أعماق الشخصية ومكوناتها وما يتداخل معها من عوامل ومتغيرات لا حصر لها، ولو تناولنا هذا النمط من الشخصية، أو تلك سوف نتعرف على أنماط متنوعه، وسأحاول قدر المستطاع أن أدون ما يمكن معرفته عن نمط شاع معرفته وهو نمط من أنماط الشخصية عرف بأسم الشخصية الهندسية وأزاء ذلك بينت هذه الشخصية التي ظهرت وسميت بنظرية أنماط الشخصية الهندسية في العام 1998 حيث تعود الى ديلينجر (Dellinger) .

تقوم هذه النظرية على فكرة اننا ننجذب الى اشكال وانماط معينة في بيئتنا تعتمد على شخصيتنا ومواقفنا وتعليمنا وخبراتنا وتعتمد أيضا على الطريقة التي تعمل بها عقولنا الفردية المتفردة. نحن نعرف أن كل شخصية متفردة في نوعها بمعنى أنها تختلف عن الشخصية الآخرى حتى وإن تطابقت في كل شيء، وحتى بين الأخوة التوائم المتطابقة .

من المعلومات المثيرة في هذا النمط من الشخصية بأنها تقوم على نظرية المخ، اذ ان بعض الناس يميلون الى الوصول للمعلومات عبر الجانب الايسر (الفص الايسر) من المخ، وآخرون يفعلون ذلك عبر الجانب الأيمن، وتترتب على مفهوم السيطرة المخية والتي مفادها إن سيادة وسيطرة أحد جانبي الدماغ لدى الأفراد يمكن أن يعبر عنها الفرد على شكل أسلوب أو نمط معين يتباهى في عمليتي التعلم والتفكير .

كانت وما تزال النظريات تقدم لنا مختلف المداخل حيث ترى أن هناك ثلاث أشكال من الانماط الخطية لهذه النظرية " الهندسية" وهي:

أ. النمط الخطي الأول (المربع): شخصية الفرد من هذا النمط ينصب تركيزها التام على النظام، وهذا النظام ينطبق على جميع مناحي حياته حيث يفضل هذا الشخص المعلومات الواقعية على العواطف أو الأفكار التجريدية، وهذا هو السبب وراء كون هذا النمط يعتمد بشدة على العمليات التحليلية في أسلوب حياته كما ان الافراد من هذا النوع يتسمون بأنهم منطقيون وعمليون بشكل قهري ويتصفون بالعناد ويتجنبون الصراع .

ب. النمط الخطي الثاني (المثلث): يتميز الافراد من هذا النمط بالقدرة على اتخاذ قرارات حاسمة سريعة، فهم شديدو الثقة بذاتهم يرغبون في أن يكونوا محقين قبل أي شيء آخر وبأي ثمن، وغالباً ما يفوزون بالفعل، لا يحبون أن يكونوا مخطئين، ويواجهون صعوبة في الاعتراف بأنهم مخطئون. ربما كانت السمة الأكثر قوة في الشخص من هذا النمط هي قدرته على التركيز، ولا يمكن تشتيتهم أو إبعادهم عن غايتهم، إنهم شخصيات متحمسة ومتحفزة وقوية ونشيطة، يضعون الأهداف ويحققونها فقط ابتعد عن طريقهم، والسلاح السري للشخص من هذا النمط هو قدرته على تركيز طاقته على الهدف الحالي، والمذهل أكثر هو قدرته على تغيير تركيزه بسرعة هائلة من هدف إلى هدف.

جـ. النمط الخطي الثالث (المستطيل): هذا الشخص يعاني من انعدام التوازن، واكثر ما يميزه هو سلوكه غير المتسق الذي لا يمكن التنبؤ به، وله بعض العادات الشخصية التي تميزه عن غيره وهي النسيان، العصبية، الحضور المتأخر أو المبكر جداً، السلوك القهرية، الثورات العاطفية، الحفاظ على الممتلكات، تجنب أي شيء قد يحتوي على أدنى قدر من الصراع، والتنوع والاختلاف والتواجد مع المجموعات الكبيرة والتحدث من غير تفكر وهذا ما طرحه ديلينجر في العام 1998 .

وهناك أنواعًا أخرى مثل النمط غير الخطي حيث يميل الأفراد الذين ضمن هذا النمط الى التفكير ومعالجة المعلومات التي يتلقونها بشكل اقل خطية، واكثر تصويرية، وإنهم اكثر اهتماماً بالكل وليس بالجزء، ويضعون تركيزًا اقل على المنطق والتنظيم.

وبينت لنا الجوانب الميدانية بأنهم يكونون اكثر ابداعاً واعتماداً على الحدس ويعالجون المعلومات بشكل غير تتابعي بل يقفزون من أ. الى د.، وهم خاضعون لسيطرة النصف الكروي الأيمن من الدماغ وهذا يميزهم بالقدرة على اكتساب الطاقة في ظروف مختلفة، فهم يجدون عادة أن الأشياء الروتينية الجامدة مضجرة وخانقة، ولذلك فهم يستمتعون بالتغيير وبرامج الأعمال المرنة، والعمل بصورة عفوية وحدسية وبمجابهة التحديات، والانشغال بأكثر من مشروع واحد خلال اليوم الواحد، وهم يجيدون أعمال عدة في ظل مواعيد محددة لانجاز المهام، ولهذا السبب يدع الكثير منهم المشروعات تستمر حتى الدقيقة الأخيرة، كما يتخذون من تحدي المواقف غير التقليدية مصدرا للتزود بالطاقة، ويفضل بعضهم جود عدد كبير من عناصر الاستشارة الحسية في منطقة العمل الخاصة بهم مثل الألوان الزاهية والملصقات، وألوان أخرى من الأعمال الفنية والموسيقي، ويذكرنا هذا النمط بأهمية البيئة الخاصة بالعمل وما تحتوي من مثيرات مختلفة، ويميل أفراد هذه الفئة أيضا إلى أعمالهم، فضلا عن أن الكثير من هؤلاء بارعون في حل المشكلات ويمنلكون قدرة عالية على إيجاد أساليب مختلفة ومتنوعة من البدائل للموقف الذي يحتاج إلى حل كما طرحه أيضًا دلينجر في العام 2005 . ويرتبط أيضًا بهذا النمط نمطين هما النمط الدائري والنمط المتعرج، أما النمط الدائري فهو يقوم على فكرة أساسها : عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك، وهذا هو المثل المفضل لدى هذا النوع من الانماط، وهو محب للناس وهذا شغله الأول والشاغل بالنسبة له . أما النمط المتعرج فصاحبه هو الشخص الذي يفكر باستمرار في خطط وأساليب جديدة، وإنه الشخص الأكثر اعتماداً على جانب المخ الأيمن بيننا، ويعني هذا أنه لا يعالج البيانات والمعلومات بأسلوب خطي منطقي وانما بأسلوب متعرج، وقولنا في الأخير أن لله في خلقه شؤون.

***

د. لمياء حطاب - استاذة علم النفس التربوي

ندرس التحليل النفسي اليوم بالتحديد لإن النفس أمتلأت بما لا تستطيع ان تنوء بثقلها من ضغوط الحياة اليومية الخارجية وانفعالات النفس الداخلية في مواجهة هذه الازمات والضغوط، إنها تبحث عن تفريغ مقبول لشحناتها التي تراكمت. وتؤكد أدبيات التحليل النفسي يحدث التنفيس أو التفريغ عندما يتحرر الإنسان من كبتهِ بإظهاره إلى الخارج، أو الإفضاء بسر من الأسرار، وهو تنفيس بسيط وصمام أمان وجداني لإعادة التوازن النفسي حتى كاد أحدنا يقول هذا السر يخنقني، الأن شعرت بالراحة النفسية بسبب الإفضاء به.

ان النفس وجدت نفسها تحت طائلة الصراع بين ما تم قمعه وربما كبته لأنه يتعارض مع قيم الفرد الخاصة، وبين ما هو في الخارج " أعني البيئة الخارجية في حياتنا اليومية"، ونحن نعلم تماما أن القمع الشعوري والكبت اللاشعوري – اللاواعي يثير أعراض مضنية داخل النفس مما تؤدي عمليتي القمع والكبت أعراض مموهة أحيانًا خلف سلوك يبدو سويًا، وهنا تكون السوية تقود إلى الأضطراب النفسي.

نحن ضحايا السياسة والاقتصاد والتلاعب بارتفاع الدولار ومعه ترتفع كل احتياجاتنا من مواد غذائية وطبية وأدوية، الحياة اليومية تلتهم كل طاقاتنا فضلا عن التهديد بما يدور من صراعات تهدد وجودنا ويمتد هذا التهديد الى تهديد الاسرة، والاسرة لها اكثر من تهديد خارجي وداخلي، فهو تهديد عالم الاتصالات والتواصل الاجتماعي وتلك البرامج التي تخترق ادمغة أولادنا حتى كونت لدينا إدمان آخر هو إدمان الانترنت وهو لا يقل خطورة عن إدمان المخدرات والكحول والتدخين .

أين تهرب النفس من نفسها؟ هل تستطيع النفس أن تلوذ من النفس إلى النفس؟ من منا يستطيع ان يوقف ما يعتمل بداخلها من صراع، لم يعد الحلم تفريغ مناسب لهذه الشحنات في ظرفنا الراهن، ولم يعد التنفيس عبر النكتة والفكاهة وزلة اللسان كافية لإن تعيد النفس توازنها، علينا ان نعرف التحليل النفسي بدقة وإمعان لكي نتعرف على ما يدور بداخلنا، ومن الممكن أن نقف أو على الأقل يمكنه تخفيف هذا الصراع، تقول الممثلة السويدية "انغمار بيرجمان" ليس هناك شك في أن تربيتي كانت أرضًا خصبة لشياطين العُصَاب" – العصاب هي الاضطرابات النفسية، ومن منا لم يتعرض لانواع هذه الشياطين ونحن نشاركها قولها لاننا لا نخلو من القلق المرضي أو فوبيا متعددة، أو وساوس رهيبة تشغلنا في كل لحظة، لا بل في كل ثانية وعلى مدار يومنا صباحًا ومساء ً وليلًا، لم يبقى لنا غير ان ننبش داخلنا لكي نخفف من وطأة ما يدور فيها.

ويدون لنا الدكتور عبد المولى البستاني في صفحته فكرة مهمة عن "جاك لاكان" المحلل النفسي الفرنسي حيث يرى أن الرموز التي تترجم رغبات الأحلام الليلية، وعقد العصابات – الأعصبة " الامراض النفسية" والذهانات- الأذهنة " الامراض العقلية " مشتركة بين جميع الشعوب، بهذا المعنى، فإن من ينتجها لا يتعلمها، على سبيل المثال : حلم السقوط من الأماكن المرتفعة، دلالة على القلق الأخلاقي، و الرغبة في عقاب الذات، عند كل البشر باختلاف لغتهم الشعورية. لأن لغة اللاشعور كما يسميها جاك لاكان " تحت لسانية" لأن منبعها يوجد في منطقة أعمق من المنطقة التي تقيم فيها التربية اللغة الشعورية .

علينا ان نتعلم التحليل النفسي فهو دليل لمشكلات حياتنا اليومية ومعالجتها، بوساطته يعرف الإنسان نفسه، يستطيع أن يقيم نفسه من داخل نفسه لكي لا يمسي غريبًا عن نفسه وهو في وطنه، بين أهله واسرته، ولكي لا تتحول حياته إلى جحيم في حياته اليومية.

موتٌ يكلم الذي يهذي !!

هو حقًا صامت يهذي بداخله، انفجارات شديدة، قوى متصارعه، يعتقد أنه مائت لا محالة، ولا جدال فيه ولكنه يهذي من داخلهِ، يتنفس ويسترجع قواه التي يشدها الخوار، هو الموت الذي يتكلم وهو صامت ويهذي مع نفسه، ترك ما حوله في خارج نفسه يتصارعون ويتعاركون، ينفجرون ويغضبون ويَطلقونَ نسائهم ويعنفون ابنائهم بلا سبب واضح وصريح، هذا السلوك كله يرتب بما يعتمل بداخلهم من مشاعر واحاسيس مدمرة تجاه العالم الخارجي، فتكون آلية – حيلة الاسقاط حتماً على الاضعف، والاضعف هنا هي الزوجة والأبناء ومن ثم الضعفاء من العاملين معه، نسى هذا الذي يهذي، أن الله منحه فرصة للاستمرار بالحياة والوجود، وربما مات في داخله رغم ان الله لا وجود له إلا في مخيلتنا، في اللاشعور - اللاوعي، وحتى في بيته لم يتواجد عبر التاريخ في مكانهِ لأنه يراه فقط في الشدة، ولا يراه في كل الأوقات والأزمان.

تشتد علينا في حياتنا اليومية مختلف أنواع الأزمات وعلينا أن نواجهها بكل قوة، لأن الحياة تستوجب منا جهاد مستمر، ويقود هذا الجهاد، الإرادة، فالبعض يقول أنني أستطيع أن أحب، وأحلم، وأتعلم، وأفهم، أستطيع كل شيء شريطة أن أعفى من الإرادة، وهنا يبدأ تساؤلنا كيف تسير الحياة بلا إرادة؟ ونحن على يقين تام أن البعض ممن أهتزت إرادتهم وسيطر العجز على نفوسهم، لم تشفع لهم رغباتهم، أو أمنياتهم لأن الثقة بالنفس أو التحكم في الغضب وأسلوب الإدراك فضلا عن المشكلات التي تواجه أيٌ منا خلال حياته اليومية في العمل والعلاقات العاطفية لم تعد كما ندركها، بل يعاني البعض منا عصاب الوسواس القهري من الشك في النفس، وتنشأ غالبًا هذه الأعراض بسبب الطفولة وعدم التقدير من الوالدين أثناء الطفولة.

أننا أزاء مواقف حياتية متنوعة نشأت من الطفولة ويكون التعبير عنها في البلوغ وتكون هذه المشاعر ممثلة في بعض الدفاعات بمعنى الآليات " الحيل – الميكانيزمات" النفسية مثل رد فعل أو انعزال الوجدان ويكون لدى بعضنا رغبة في أن يقوم الطرف الأخر بلفت الانتباه لما يدور في داخله لأنه يعاني من الوسواس القهري، وهذا يثقل عليه ويتعبه، حتى يتحول إلى عدوانية ورغبة في الإنتقام من الآخر، نحن بحاجة لمعرفة التحليل النفسي لما يتمتع به من معرفة عمق النفس وما يدور بين حناياها.

***

الدكتور اسعد شريف الامارة

هنالك تنويريون مغامرون مسكونون بالقلق والسؤال، شغلتهم أحوال مجتمعاتهم التي تدور فيها العدل، وكثر الظلم، متعثرة في خطواتها، تغرق في الآثم مخلفات التاريخ وتجتر الجاهز من الأجوبة، هم خردوا عن المألوف في التفكير وفي تشخيص أعطاب المجتمع، فآثارت أطروحاتهم عصفًا من السجال والنقاش لم يهدأ قبل أن اتخذ شكل مرتكزات جديدة في أنواع المعرفة، فصاروا من المؤسسين. لذا لم يكونوا عادلين في زمانهم أو مقلدين، بل مقيمين في أزمنة مستقبلية بعد رحيلهم، وذلك عبر انجازهم المعرفي الذي كسر ما مألوف ومطمئن؛ إذ إنهم حركوا الساكن، وتجرأوا على المسكوت عنه، فحُوربوا من الذين وجدوا فيهم تهديدًا لسلطتهم وطمأنينتهم، فهم لم يطرقوا الأبوال الموصدة لمتعة شخصية، أو غاية نرجسية، بل لغاية الإصلاح، وتطوير المجتمعات، وتحصينهم بالمعرفة الخلاقة، فهم زعزعوا الثابت، والذي يبدو أبديًا في الثقافة المتحجرة عبر تفكيكه وتشريحه لغرض الاستدلال والإشارة إلى أسباب العلة. هم فلاسفة ومبدعون.. علماء من بلاد العراق حطموا صدمية العقل.

قصدت من هذا القول الدكتور علي حسين محسن عبد الجليل الوردي (1913- 13 تموز 1995 م)، ذلك العالم العراقي الشهير الذي حاول تفسير المجتمع العراقي على ضوء فرضيات ثلاث: صراع البداوة والحضارة، التناشز الاجتماعي، ازدواج الشخصية. سنتناول الآن هذه الفرضيات بإيجاز.

1ـ صراع البداوة والحضارة:

يتضح هذا الصراع بأجلي مظاهره في العراق كما ذكر الوردي، فالعراق هو "بلد هابيل وقابيل" بحسب المؤرخ المعروف آرنولد توينبي، وهذا هو الذي جعل المجتمع العراقي عُرضَة لمد البداوة وجزرها على توالي العصور، يأتيه المد البدوي تارة وينحسر عنه تارة أخرى حسب تفاوت الظروف. وأطول فترة سيطر فيها المد البدوي على العراق، كما احتمل الوردي، هي الفترة الأخيرة التي بدأت بسقوط الدولة العباسية أو قبلها بقليل، لتستمر لستة قرون.

2ـ التناشز الاجتماعي:

جاءت الحضارة الحديثة إلينا بأفكار ومبادئ وقيم تناقض عاداتنا الاجتماعية القديمة، مثلًا: جاءت بمبادئ المساواة والعدالة والديمقراطية والحرية والوطنية، وهذه لا تنسجم في حقيقة أمرها مع قيم العصبية والقرابة والجيرة والنخوة والدخالة وحق الزاد والملح. جاءتنا هذه الأفكار الحديثة من طُرقٍ متعددة، المدارس والأحزاب والحفلات والمظاهرات والصحف والكتب والإذاعات والتمثيليات، فحفظناها بسرعة لأنها تلائم ما نشعر به من طموح أو نتحسس به من آلام، ولكننا حين فعلنا ذلك لم نستطع أن نُغير عاداتنا الاجتماعية التي نشأنا عليها بمثل هذه السرعة التي غيّرنا بها أفكارنا.

3ـ ازدواج الشخصية:

تعني أن يسلك الإنسان سلوكًا متناقضًا دون أن يشعر بهذا التناقض في سلوكه أو يعترف به، وهو ينشأ عن وقوع الإنسان تحت نظامين متناقضين من القيم أو المفاهيم. وينتشر الازدواج في البيئات الدينية المتزمتة التي تُكثِرُ من الوعظ، إذ يتأثر الشخص بالوعظ ظاهرا، لكنه يسير في حياته حسب القيم المحلية المناقضة للتعاليم الدينية كل المناقضة.

ولهذا فقد قال عنه الدكتور عبد الحسين شعبان بأنه امتاز بثلاث صفات مهمة : امتاز بالشجاعة اللامنتاهية، عارض الجميع أو عارضه الجميع ولم يبالي، واخذ يبشر بأفكاره ووجهات نطره واستنتاجاته، امتاز باستقلالية حادة كحد السيف، لأنه لم يتخلى عن استقلاليته على الإطلاق، والشيء الآخر الثالث أنه كان مجتهدًا لم يكرر مقولات تقليدية، وإنما جاء بأشياء جديدة، وأهم كتاب تأسيسي لفكر علي الوردي هو كتاب وعاظ السلاطين، وهذا الكتاب نشره عام 1954 حيث ثار على رجال الدين جميعهم : سنة وشيعة، وهذا ما أثار عليه اليساريين واليمنيين ورؤساء العشائر، وكذلك المؤسسة التقليدية بجميع أركانها حيث واجهته، حيث خاصمه الجميع ولكن بقىّ ثابتًا لا يبالي أحد، حيث كان يستدرجهم أكثر للحوار وللسجال وللنقاش لأنه كان يشعر أنه الأقوى، يختبر صحة الأفكار للتطبيق.

أما حسن العلوي فقد قال عنه في كتابه عمر والتشيع : علي الوردي رائدًا: يُحَدّد الدكتور علي الوردي ثنائية الانقسام بفصلٍ مُوَسّع من كتابه "مهزلة العقل البشري" على ضوء قوانين علم الاجتماع، وببساطة وعفوية وبحياد وشجاعة رائدة مما يوجب علينا التوقف عن السرد والاستطراد، لنفسح المجال لرؤية الوردي أن تأخذ مداها الكامل، باعتباره أول عالم اجتماع وأديب ينتسب إلى أسرة شيعية فيسخر من المنهج الصفوي ورواياته مثلما ينتقد المنهج الأموي في تفسير التاريخ الإسلامي. والذي يبدو أن علي شريعتي قد تأثر بمنهج الوردي، أو أن الوردي هو الذي أيقظ في روح هذا المفكر عنفوان الاحتجاج والتمرد.

كما قال عنه الدكتور على المهرج بأنه أهم المفكرين في علم الاجتماع وهو مفكر إشكالي.. استطاع أن يخترق الوسط الأكاديمي ليدخل في الوسط الثقافي بشكل عام والوسط الاجتماعي لحلل ويطرح مجموعة من الرؤى التي جعلت كثير من العراقيين يستشهدون بها، وكأنها بديهيات للحكم على الشخصية العراقية.

أما المفكر الماركسي فالح عبد الجبار فقال عنه : ابتدع الوردي في هذه الرحلة طريقا ثالثا للخروج من إسار الفكر القومي المتزمت، أو قواعد الفكر اليساري في صيغته المتحجرة. ولم يكن من باب المصادفة أن يدعو إلى مجتمع يعتمد الليبرالية السياسية. كان يحرص على تفرده في مجتمع يبغض الفردية، وينفتح على كل النظريات في مجتمع يُحوّل النظرية إلى معتقد ديني، ويمضي في البحث وسط مؤسسات علمية خاضعة لجبروت الدولة، ومجردة من حرية التفكير والبحث الطليق. هذا وحده إعجاز!

هذا وغيره من أفكار على الوردي جعله رائدًا من رواد التنوير، ودعاة التحديث والإجهاز ما يعيض الحركة، لذلك وضع التاريخ والأفكار على طاولة البحث والتشريح، وأشار إلى الأطراف الهالكة في جسم المجتمع والذي شوشت شخصيته وجردتها من حريتها وحركتها في التعبير والتأمل وأعاقت خطواته في التقدم للمشاركة للمنجز الحداثي فكرًا وعلمًا وتقنية.

ولهذا يعد علي الوردي كما قال ابراهيم الحيدري معلماً كبيراً من معالم الفكر الاجتماعي ورائداً من رواد الفكر التنويري، النقدي في العراق، الذي شغل فراغاً واسعاً في الحركة الفكرية والثقافية والاجتماعية، وخلف وراءه ثروة فكرية قيمة كانت حصيلتها ستة عشر مجلداً ومئات الدراسات والبحوث العلمية والمقالات الصحفية، في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي. وبوفاته خسر العراق رائداً من رواد الفكر الاجتماعي في العصر الحديث

لقد كان الوردي شاهداً على أحداث قرن بكامله تقريباً، فقد فتح عينيه مع بدايات الحرب العالمية الأولى، وأسدلها وما زالت حرب الخليج الثانية لم تنته بعد. وكان في كل ذلك حاضراً، يستقرء الأحداث ويحللها وينقدها بأمانة، نابعة من استقلاليته الفكرية وموضوعيته العلمية، كما كان حاضراً وما يزال في وجدان ثرائه ويريده وأصدقائه وحتى نقاده لأنهم وجدوا في آرائه وأفكاره النقدية كثيراً من الأجوبة على تساؤلاتهم وتشخيصاً للكثير من مشاكلهم، وبخاصة ما يرتبط بازدواجية القيم. التي نتجت عن الصراع بين البداوة والحضارة، ومحاولته رسم ملامح شخصية الفرد العراقي وازدواجيتها، وكذلك ما أفرزته الحداثة والتحديث من تغير وتحول وصراع وتناشز اجتماعي. وهي مؤشرات على ما يحمله عراق اليوم من معاناة، والتي تنعكس على حالة الشكوى والتذمر التي تلفه والضياع الذي يحيط به، وذلك بسبب ما أصابه من مآسي ومحن ومظالم خلفتها سلسلة الحروب والانقلابات وتغير الأنظمة والحكومات واستبدادها.

وكان الوردي قد أشار منذ أكثر من نصف قرن، وبجرأة متميزة وفكر ثاقب، إلى الكثير من الظواهر الاجتماعية السلبية والعادات والتقاليد البالية التي ما زالت تؤثر فينا وتنخر في مجتمعنا وتسيطر على تفكيرنا وسلوكنا، فكشف عنها وحذر العراقيين من مغبة استفحالها أو إعادة إنتاجها وترسيخها من جديد. وبذلك يمكننا اعتباره أول عالم اجتماع درس المجتمع العراقي وشخصية الفرد فيه دراسة اجتماعية-تحليلية رصينة، وأول من استخدم منهجاً أنثرو-سوسيولوجيا في دراساته وبحوثه، وأول من غاص في جذوره الخفية منقباً عن الظواهر الشاذة والغريبة وغير السوية، التي ليس من السهل التعرض لها ونقدها، لشدة حساسيتها الاجتماعية والدينية والسياسية.

ولذلك نستطيع القول كما قال ابراهيم الحيدري أن الوردي هو أول من شخص تلك الظواهر الاجتماعية المرضية التي رزح تحت ثقلها المجتمع العراقي سنيناً طويلة، وبذلك استطاع أن يضع يده على الجرح العراقي العميق وقال: هذا هو الداء..ساهم الوردي مساهمات جادة فيما طرحه من أفكار وفرضيات في دراسة المجتمع العراقي وكرس حياته كلها لها، محاولاً تحليل أنماط الثقافة والشخصية من خلال تتبعه للتحولات الاجتماعية والتبدلات البنيوية التي حدثت في العراق والعالم العربي والإسلامي منذ نهاية القرن التاسع عشر، وما أفرزته من صراعات وتناشز اجتماعي بين القديم والحديث وبين البادية والحضر، التي شرحها في كتابه "شخصية الفرد العراقي"

وتعتبر مؤلفاته العديدة، وبخاصة "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي"، وكذلك موسوعته الاجتماعية "لمحات من تاريخ العراق الحديث"، بمثابة مراجعة جديدة وشاملة لتاريخ العراق الاجتماعي وفتح فيه باباً واسعاً للوعي به وإعادة إنتاجه من جديد، ولكن بشكل جديد ونقدي، مثلما وضع تصوراً واضحاً للتركيبة السكانية والمجتمعية التي هي تشكيل لظروف وشروط تاريخية واجتماعية واقتصادية-سياسية ما زالت تعيد نفسها اليوم، تلك المقدمات السوسيولوجية التي بينت بوضوح عمق ما يحمله العراق اليوم من تناقضات وصراعات واختلاف لا نعرف بعد نتائجها الوخيمة. إن كتابات الوردي ومحاولاته ومناقشاته العلمية كانت إسهاماً ثرياً ومثيراً أغنى الحركة الثقافية والاجتماعية في العراق وتركت قراء وتلاميذاً ومريدين ما زالوا يستنيرون بأفكاره الاجتماعية الثاقبة وآراءه الجريئة ومنهجيته الفريدة التي حصلت على اهتمامات فئات اجتماعية عديدة ومختلفة وذلك كما قال ابراهيم الحيدري.

وللكاتب الماركسي صادق البلادي بضع مقالات نوعية ناقش فيها جانباً من جوانب فكر علي الوردي مناقشة هادئة وعميقة، كأن يقف عند مفهوم ما من مفاهيم الوردي أو يرصد لديه تأويلا معينا، فيجادله موافقا أو معارضا. وقد يثيره مقال كُتب عن فكر الوردي فيعمد إلى الإدلاء برأيه حول ما طرحه ذاك المقال من رأي، موظفاً معرفته بفكر علي الوردي وكيف أوصله التذبذب في تبني طروحات الماركسية إلى بعض الثغرات والهنات التي أخذها عليه معارضوه وبعض منهم من الشيوعيين الذين اعترضوا عليه بردود أفعال قوية تارة ولينة تارة أخرى وبحسب طبيعة الفكرة التي يبادر الوردي إلى طرحها.

وهذا برأينا هو ما جعل الدارسين لفكر الوردي ينقسمون بين اعتباره شيوعياً يوالي الفكر الماركسي ويتبناه، وبين من يعتبره لا منتميًا يصادي الماركسية، متحينا الفرص للإيقاع بالشيوعية في شرك التشكيك والدحض. وعلى الرغم من أن الدكتور الوردي كان معروفاً بميوله لثقافة الحوار والتنوير العقلي، وبهما تعدى حدود السياسة بكل تحزباتها وتنظيماتها اليسارية أو الديمقراطية، فإن هذه الميول لم تمكنه من صنع رأي عام ديمقراطي يساهم في تنمية الوعي الشعبي. هذا الوعي الذي لم يكن ضمن أولويات الوردي بعكس الأحزاب التي تضع الرأي العام في مقدمة أولوياتها ساعية إلى تحقيقه مناهضة بذلك الفكر الرجعي المتعصب والمحافظ ومقاومة الأساليب الفاشية الراكدة التي أكل الدهر عليها وشرب والتي هي بمجموعها تخدم المصالح الإمبريالية.

وكان يمكن للوردي أن يكون مساندا القوى التقدمية في معركتها مع القوى الرجعية لو أنه ناصر طروحات اليسار العراقي ولم يدخل في ما يشبه التعارض مع فكرهم حتى أن بعضهم تصور الوردي يعادي الشيوعيين ويكرههم.

ومن المقالات التي أثارت اهتمام الاستاذ صادق البلادي المقال الذي كتبه وليد نويهض في جريدة الحياة اللندنية عام 1996 وعنوانه” كيف قرأ علي الوردي الشخصية العراقية في ضوء منهج ابن خلدون.؟” متحصلا فيه على فكرة “أن علي الوردي يكره الشيوعيين وأن الشيوعيين يكرهونه”. الامر الذي جعل الاستاذ البلادي يكتب مقالا عنوانه( الشيوعيون وعلي الوردي) رد فيه على نويهض، نافيا فيه عن الوردي النظرة السكونية والأحادية، ملقيا باللوم لا على فكر الوردي وإنما على محللي هذا الفكر الذين يتناسون ما للقوى الحزبية من ثبات وانحياز وما للوردي من تبدل ولا انتماء.

تحية طيبة لأستاذنا الدكتور علي الوردي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

***

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

............................

المراجع

1- علي الوردي: من وحي الثمانين، جمع وتعليق: سلام الشمّاع، مؤسسة البلاغ، الطبعة الأولى 2007.

2- علي الوردي: وعاظ السلاطين، دار كوفان لندن، الطبعة الثانية 1995.

3- روافد | الكاتب والباحث العراقي علي الوردي - الجزء الأول يوتيوب.

4- د. نادية هناوي: علي الوردي في مرايا الآخرين.. مثال منشور في الصباح بتاريخ 2021/05/12

5-إبراهيم الحيدري : علي الوردي: شخصيته ومنهجه وأفكاره الاجتماعية، منشورات الجمل، 2006.

6- معاذ محمد رمضان: علي الوردي.. قنطرة المرور إلى التنوير، مقال منشور بالبوابة نيوز.. الثلاثاء 13/يوليو/2021 - 09:08 م.

الاسلام والعربية، ليسا فقط نتاج السماء والصحراء، قدرما نتاج 1500 عام من الانجازات: اللغة الآرامية، ثم اليهودية، ثم المسيحية، ثم الاسلام والعربية

(ملاحظة: ننشر هنا فقط مختصر دراستنا، فلاسباب تقنية تتعلق باظهار الصور والخرائط والمصادر، فان الدراسة المفصلة منشورة في موقعنا على الرابط في نهاية هذا المختصر)

هذه الدراسة غايتها تبيان الفكرة التالية: إن ظهور الاسلام والعربية وما اعقبه من انبثاق (الحضارة العربية الاسلامية)، مهما اعتقدنا بدور الارادة السماوية وكذلك تأثير البداوة، فأنه خصوصا نتاج تحولات تاريخية حصلت في منطقة الهلال الخصيب (العراق والشام ومصر)، وتراكم إنجازات ثقافية ودينية استغرقت أكثر من 1500 عام، قد شاركت بها الاقوام البدوية الجديدة الثلاثة التي ظهرت تقريباً في نفس الحقبة (حوالي ألف عام ق.م) وفي نفس المنطقة (بادية الشام والعراق وسيناء): الآراميون والعبرانيون والعرب!

دور قبائل الرُحّل (البدو) في تاريخ العالم

أمضت البشرية مئات الآلآف من الاعوام في (ترحال دائم) بحثا عن (الصيد وجمع الثمار). ولم تكتشف الاستقرار إلّا  قبل حوالي (12 الف عام) مع (أكتشاف التدجين والزراعة) وكان ذلك في (شمال بلاد النهرين والشام). ولكن مع ذلك ولأسباب بيئية يندر فيها الغذاء: (البوادي والثلوج والبحار والجبال..) استمرت أقسام من البشرية في ممارسة حياة الترحال: (مثل البدو ورعاة الجبال واسكيمو الثلوج)، خصوصاً بعد أن تحول كثير منهم الى (قبائل رعاة) يتنقلون مع مواشيهم بحثا عن المراعي.

إن هذه (الاقوام المترحلة) قد لعبت أدواراً حاسمة في تاريخ البشرية. فجميع الدول والحضارات السابقة للعصر الحديث، أقامتها هذه الجماعات البدائية. إذ طالما تكررت في التاريخ الحالة التالية: أقوام مترحلة تقوم بغزو مناطق: (قرى ومدن) زراعية مستقرة، فتقوم خصوصاً بتدمير قياداتها ودولتها، كي تقوم هي نفسها مع الزمن بتكوين قيادات ودولة جديدة، وربما أيضاً حضارة جديدة تهيمن وتزدهر، حتى تتعب وتفسد لتموت على يد أقوام بدائية نازحة جديدة. وهكذا دواليك. أمثلة: (القبائل الهندو اوربية: الآرية) التي كانت تعيش في جنوب روسيا الحالية منذ الالف الثالث ق.م وبفضل اتقانها استخدام الخيول تمكنت من غزو جميع اوربا وأقسام من آسيا لتذوب فيها الاقوام الاوربية والهندية والايرانية القديمة. كذلك (قبائل اللاتين) التي قضت على (دولة الاتروسك)، ثم أسست امبراطورية روما، التي قضت عليها (قبائل الجرمان ثم الفيكنغ) التي أسست غالبية السلالات الملكية الاوربية، وأطلقت اسم قبائلها على دول: انكلترا وفرنسا والمانيا..الخ. كذلك مثال (قبائل العرب) التي قضت على (امبراطوريتي الفرس وبيزنط الشرق)، لتأسس أكبر امبراطورية وحضارة عربية اسلامية. وبعد ان هَرِمَت (امبراطورية العرب العباسية) قضت عليها (قبائل المغول). ثم (قبائل الترك) التي قضت على(الامبراطورية البيزنطية) لتحل محلها (الامبراطورية العثمانية). بل حتى الآن، هنالك بعض المفكرين الاوربيين يقولون: ان (الحضارة الغربية) سوف تقضي عليها من داخلها: "قبائل!" المهاجرين؟!

آراميون وعبرانيون وعرب!

في (نصب: وثيقة: كورح) عن (معركة قرقر: 853 قبل الميلاد ) للملك الآشوري (شالم نصر الثالث) يذكر انه انتصرعلى جيش مشترك لتحالف قبائل: (آرامية وعبرية وعربية) قرب مدينة (حما) السورية: الاراميون (مشيخة دمشق)، والعبرانيون (مشيخة اسرائيل)، والعرب (مشيخة جندبة العربي). وهذا أقدم نص في التاريخ يذكر تسمية (عربي).

إن هذه المعركة تستحق اعتبارها اولى وأهم علامات البروز السياسي والعسكري لهذه الاقوام البدوية الجديدة المختلطة والمتداخلة بينها لغوياً وقبائلياً، إذ أعلنت اتحادها لتحدي أكبر امبراطورية في تلك الحقبة: النهرينية الآشورية. والاكثر من هذا إن هذه القوى الجديدة قد تلقت دعماً عسكرياً من دولة أيضاً قوية: (مصر) المنافسة الدائمة لـ (دولة النهرين: العراق) في السيطرة على الشام.

ليس صدفة إن هذه الاقوام البدوية الخارجة من واحتها الصحراوية (بفضل الجمل: أكثر من الف عام ق.م) (حصان الصحراء)، بدأ دورها يبرز في المنطقة في نفس الفترة التي بدأت فيها تهديدات (موجة القبائل الرحل الآرية: الهندواوربية) التي كانت قد برعت بتدجين واستخدم (الحصان)، كأخطر آلة حربية جديدة. ثم نجحت بتكوين اولى دولها في (اليونان وايران، ثم روما) حتى تمكنت أخيراً من القضاء على الدولتين العراقية والمصرية، المحتضرتين، واحتلال كل الهلال الخصيب، ثم شمال افريقيا، إبتداءاً من القرن السادس ق.م ، وقد اكتمل خضوع عموم الشرق مع نهاية (دولة قرطاجة الفينقية: الكنعانية) في شمال افريقيا على يد الرومان في القرن الثالث ق.م. 

إن خضوع المنطقة لهذا الاحتلالات الاجنبية: (الآرية: الايرانية واليونانية ثم الرومانية) كان اعلاناً عن نهاية (حقبة الحضارة الشرقية: الهلال الخصيب المصري ـ الشامي ـ العراقي) التي دامت أكثر من ألفي عام (من حوالي الالف الثالث ق.م حتى أواسط الالف السابقة للميلاد) ومعها انتهت كل (البنية الاقوامية والثقافية والعقائدية واللغوية) التي شكلتها. (هذا لا يعني ابدا ابادة السكان الاوائل بل ذوبانهم التدريجي في الاقوام البدوية الجديدة).

كان من الطبيعي ان هذا (الفراغ الكلي) في المنطقة يستحيل على المحتلين الايرانيين واليونان ثم الرومان ان يملئونه، رغم سيطرتهم السياسية العسكرية، وذلك بسبب اختلافهم الكلي (أقوامياً وثقافياً وعقائدياً ولغوياً) عن سكان المنطقة وتكوينهم البيئ الطبيعي. لهذا فأن هذه (الاقوام البدوية الجديدة: الآرامية العبرية العربية) كانت هي الوحيدة المهيئة لملئ هذا الفراغ الشامل، لسبيين:

ـ إنها من نفس الأساس الأقوامي والثقافي واللغوي (السامي ـ الحامي) لسكان المنطقة، لأنها من نفس البيئة والمنطقة، بالاضافة الى تمضيتها لقرون في تواصل فعلي غزواتي وتحالفي وتجاري ومشايخي مع أقوام المنطقة ودولها: العراقية والكنعانية والمصرية.

ـ إن حياتها البدوية وامتلاكها للجمال (خيول الصحراء) وخبرتها بالعيش في البادية، منحتها القدرات القتالية الفائقة بالكرّ والفرّ والاحتماء السريع في أعماق بواديها. بالاضافة الى قدرات التنقل التجاري بين مدن  الهلال الخصيب.

هكذا بدأ التاريخ يبلور بوضوح الدور المحتم وغير الواعي لهذه القبائل البدوية اليافعة والمحاربة، لتشييد مرحلة جديدة ومكملة للمرحلة السابقة المنتهية. استغرق هذا المخاض، منذ اول ظهورها ثم في ظل الاحتلالات الاجنبية: (ايرانية ويونانية ورومانية ثم بيزنطية) حوالي 1500 عام (بين 1000 ق.م  و 600 م) حتى تمكنت هذه الموجة الجديدة من تحقيق واجبها التاريخي المحتم، أي انشاء امبراطورية وحضارة جديدة، ألا وهي: (الحضارة العربية الاسلامية)! خلال هذه الـ (1500 عام) قامت هذه الاقوام البدوية بانجازات تاريخية متوالية ومترابطة، قبل بلوغ (المرحلة العربية الاسلامية العليا)، هكذا كالتالي:

الانجاز الاول: تدوين اللغة ألآرامية ونشر الابجدية الكنعانية في العالم، منذ القرن السابع ق.م

الانجاز الثاني: تدوين التوراة في بابل بواسطة العبرانيون، منذ القرن السادس ق.م

الانجاز الثالث: انبثاق المسيحية واللغة السريانية، منذ القرن الاول م، وبروز دور العرب في التبشير المسيحي، امثال: ((مملكة ابجر الخامس في الرها ونصيبين) و(دولة المناذرة في العراق) و(دولة الغساسنة في الشام).

الانجاز الرابع: انبثاق الاسلام واللغة العربية في القرن السادي م، ثم الحضارة العربية الاسلامية، وريثة الحضارة الشرقية القديمة: العراقية المصرية الكنعانية.

***

سليم مطر ـ جنيف

..................

اضغط على هذا الرابط لمطالعة دراستنا مع الصور والخرائط والمصادر، في موقعنا:

https://www.salim.mesopot.com/hide-feker/154-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9%D8%8C-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%A7-%D9%81%D9%82%D8%B7-%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%85%D8%A7%D8%A1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%8C-%D8%A8%D9%84-%D9%87%D9%85%D8%A7-%D8%AE%D8%B5%D9%88%D8%B5%D8%A7-%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%AC-1500-%D8%B9%D8%A7%D9%85-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AC%D8%A7%D8%B2%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A2%D8%B1%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9%D8%8C-%D8%AB%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%87%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9%D8%8C-%D8%AB%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%AD%D9%8A%D8%A9%D8%8C-%D8%AB%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9.html

كثيراً ما تساءلت خلال سنوات الثورة عن موقع الجامعات السورية من الثورة، ولماذا كانت المظاهرات تخرج من الجوامع وليس من الجامعات، مع أن المنطق يقول: إن الجامعات هي التي يفترض أن تغرس في نفوس الطلبة منظومة القيم والحقوق وطرق التفكير الناقد التي تدفعهم إلى الثورة إذا ما تعرضت حقوق الناس وحرياتهم للخطر، ففي كل الدول المتقدمة التي انتفضت شعوبها يومًا ما على الاستبداد مارس منطق النقد ذو الخلفية الحقوقية دورًا متميزًا في الثورة، ونزع عن قمة هرم السلطة السياسية قداسة الأب أو المعلم التي كثيرًا ما احتمى بها الحكام العرب عمومًا.

ولكن من المحزن القول: إنه منذ تسلم البعث السلطة في سورية ومهام الجامعات انحصرت في العمل التعليمي الأكاديمي فقط، حتى لا يستطيع أحد أن يرصد لها إسهامات متميزة في المجال الثقافي أو التنويري، وإن حصل ذلك فلا بد أن يكون منسجمًا مع نسق السلطة السياسي والثقافي، لذلك بقيت مسألة الثقافة مهمشة وخجولة ومحدودة جدًا، ولم تستطع الجامعات كمؤسسات تعليم عال أن تقوم بدورها في المساهمة البارزة في دفع الحراك الثقافي، لا باتجاه العلم والتكنولوجيا التي تدرسها وتخرج الطلبة على أساسها، ولا باتجاه تعزيز ثقافة الثورة، ولا في حل بعض المشكلات الثقافية، ويعود ذلك بطبيعة الحال الى محدودية استقلال الجامعات، وتدخل السلطة الرسمية بالإدارة، وتغليب السياسي على الفكري والثقافي، كما يعود أيضاً الى ضآلة الدور الذي قامت به الجامعات في انتاج علماء ومفكرين متميزين وبارزين، وعدم انتاج قادة رأي طليعيين مؤثرين في الرأي العام ومؤثرين في المجتمع، وقادرين على توجيهه بالشكل الذي يعزز النهوض في المستقبل.

وإذا ما أضفنا إلى ما سبق تحويل الجامعات إلى مراكز أمن لمراقبة كل ما يقال فيها من قبل الطلبة وأعضاء هيئة التدريس على حد سواء، عندها ندرك أن الجامعات لم يكن لها يومًا أية مساهمة بالثورة، بل نستطيع القول: إنها شكلت بمخزونها المعرفي قوة دعم للنظام في حربه على الشعب السوري، وهذا ليس غريبًا على الجامعات السورية التي تم تخريب منظومتها القيمية، والسيطرة عليها أمنيًا، مما جعل معظم أعضاء هيئة التدريس يسجلون مواقف مخزية من الثورة، ومن مختلف القضايا القائمة على الفساد والجريمة السياسية.

وفي هذا السياق أشار المفكر التربوي السوري "علي وطفة" في مقاله عن "أكاديميو الاستبداد" إلى أنه "خلاف الدور النقدي المتوقع من الأكاديميين بدا واضحًا أنهم كانوا أكثر وفاء للظلم والقهر. وعلى خلاف الدور الإنساني الذي يفترض بأساتذة الجامعات أن يقوموا به من نقد للظلم والعنف والاستبداد عمل فريق كبير منهم على تمجيد الاستبداد وتبرير البطش الذي يقوم به الطغاة ضد شعوبهم. ومن الواضح أن أنظمة الاستبداد وجدت في هذه الطبقة من أساتذة الجامعة طليعة آثمة متوحشة انبرت للدفاع عن القهر السياسي وتمجيد القمع الاجتماعي الذي تمارسه هذه الأنظمة السياسية ضد شعوبها".

إن المستقرئ لواقع الجامعات السورية يُدرك أنه من الصعب أن تنخرط الجامعات بالثورة للأسباب السابقة التي ذكرتها، ولأسباب أخرى يصعب حصرها في مقال، وحتى أعضاء هيئة التدريس الذي انتفضوا دفاعاً عن أهلهم، فمعظمهم أما قُتل، وأما سُجن، وأما في المنافي. لذلك عندما انطلقت شرارة الثورة في درعا انطلقت من جامع وليس من جامعة، لأنه يتعذر أن يجتمع عشر طلاب في جامعة، ويرفعون لافته ينددون فيها بممارسات النظام، أو يُرددون شعارًا ضد عبث النظام وفساده، وإن حصل ذلك لن يكون مصير الطلبة إلا الاعتقال والموت.

من هنا يمكن القول: إن تغييب دور الجامعات وعزلها عن الثورة قد أضر بالثورة كثيراً، لأن الجامعات لم تستطيع أن تمارس ما مارسته الجامعات الفرنسية في القرن الثامن عشر وما قبله، التي طرحت مبادئ مناقضة للواقع السائد سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا في فرنسا، والتي كانت من أهم العوامل التي وجهت الثورة الفرنسية لتكون مؤسسة على أيديولوجية المساواة والحرية في مواجهة النظام القديم المؤسس على الامتياز وسلطة الملك المطلقة.

***

د. صابر جيدوري

غالبا"ما ينظر الى الخطاب الإعلامي الرسمي على أنه وسيلة من وسائل الدعاية السياسية والتضليل الإيديولوجي، لا لشيء إلاّ لكونه ممهور بطابع الدولة المسيطرة ومنظور إليه كأداة فاعلة من أدوات سلطتها الناعمة في مجالات الضبط الاجتماعي والتوجيه الثقافي . ولهذا قلما عوّل الجمهور المتلقي على ما يطرحه هذا الخطاب من معلومات وما يقوم به من تحليلات، خصوصا"حين يكون هذا الخطاب صادر عن مؤسسات سلطة ساهمت سياساتها التعسفية وإجراءاتها القمعية في نسف جسور الثقة بينها وبين من تقع مسؤولية حمايتهم ضمن واجباتها الوطنية والأخلاقية .

ولكن، وبرغم شيوع هذا الانطباع بين الناس، فان وظيفة الخطاب الإعلامي - لم تكن ولن تكون - مقصورة على تبرير الممارسات وترويج الإجراءات التي تتبناها سلطة الجماعة الحاكمة دائما"وأبدا"، وإنما هناك نوع من الخطابات ساهمت – وستساهم – في نشر الثقافة الإنسانية وتعميم الوعي العقلاني، عبر قيامها بوظيفة (النقد) المعرفي والسوسيولوجي للانحرافات التي تتورط فيها الحكومات، واضطلاعها بدور (التنوير) للذهنيات التي أدمنت التخبط في التهويمات والتشبيحات . ولعل الكثير من التجارب والممارسات التي شهدنا معطياتها وعشنا تجاربها، سواء على صعيد بلدان العالم الغربي الذي قطع شوطا"بعيدا"في هذا المضمار، أو على مستوى بلدان نظيره العالم الشرقي التي لا يزال بندولها السياسي يتذبذب ما بين دكتاتوريات متشددة مدججة بالعنف وبين ديمقراطيات شكلية مبتلاة بالفوضى، ما يؤكد هذا النموذج أو يدعم هذا المثال من التعاطي الايجابي والبناء .

ولعل من أبرز خصائص (النقد) الهادف في الخطاب الإعلامي، هي تسمية الأشياء السلبية بأسمائها الصريحة دون لف أو دوران، وتشخيص العلل والأعطال الاجتماعية بجرأة دون القفز فوقها أو التعتيم عليها . بحيث يستهدف الظاهرة موضوعة النقد بصورة (علنية) وبطريقة (مباشرة) دون رتوش أو تزويق، متخليا"بذلك عن أساليب (المداورة) و(المراوغة) التي من شانها جعل عملية النقد ذاتها بمثابة ستار يخفي القباحات ويحمي التجاوزات، بدلا"من أن يسوق النظر الفاحص والفكر المدقق إليها، ويسلط الأضواء الكاشفة والفاضحة عليها كما ينبغي للنقد أن يكون، ويشير من ثمة الى سبل الإصلاح الواقعي والمعالجة الملموسة التي تسهم في تقويم الاعوجاجات وتصحيح المسارات  .

ومن هذا المنطلق، ليس من مصلحة الخطاب الإعلامي الجاد في وظيفته والحريص على رسالته، أن يتردد باللجوء الى اللغة التي تحتوي في أروماتها العبارات الصريحة حتى وان كانت قاسية والكلمات المباشرة حتى وان كانت حادة، سواء أكان أثناء وصف الحالة الشاذة أو الظاهرة المدانة، أو خلال نقد هذه وتعرية تلك بما يتناسب وخطورة عواقبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية على المجتمع . ذلك لأن استخدام هذه الطريقة في المواجهة لا يحقق فقط معدلات عالية في (التوعية) و(التثقيف) لجمهور العامة المخدر في وعيه فحسب، بل وكذلك يبصّر صاحب القرار المعني بمدى عمق الأزمات وجسامة خطورتها على الدولة والمجتمع، هذا بالإضافة الى إرشاده الى ماهية الإجراءات الواجب اتخاذها لوضع الحلول واقتراح المعالجات .

وعلى هذا الأساس، فان إيعاز المسؤولين عن وظيفة الخطاب الإعلامي، سواء داخل مؤسسات المجتمع السياسي أو داخل منظمات المجتمع المدني، حيال (تلطيف) عبارات (النقد) المعرفي و(اختزال) جمل (التحليل) السوسيولوجي، بقصد حمل الرعية المضللة بالأكاذيب على تكوين الانطباع بأن الأمور تجري على خير ما يرام وأن ليس هناك ما يقلق، سوف لن يفضي الى حل المشاكل الاجتماعية المتوطنة وإزالة الصعوبات الاقتصادية المزمنة، بقدر ما يفاقم الأولى ويراكم الثانية على المديين المتوسط والبعيد، بحيث لن يمر وقت طويل حتى تشرع الأوضاع السياسية والأمنية - المحتقنة أصلا"- بالتأزم والتفجر، ولكن هذه المرة بأشد ما يكون عليه العنف من قسوة والتطرف من ضراوة ! . ناهيك عن ان انتهاج مثل هذه الممارسة (الانتقائية) في اختيار لهجة الخطاب والسعي للحد من طابعه النقدي، سوف يحرم الجمهور المحاط بكل ما يجعله مدجن الوعي ومخصي الإرادة من فرصة التغلب على أميته الثقافية المزمنة، والتمكن من تحقيق تراكم معرفي هو بأمس الحاجة إليه يتيح له التعاطي مع المستجدات بمرونة عقلية وإدراك صائب .

***

ثامر عباس

تتمدد مدينة بريستول حول شبكة من الانهار الصغيرة، تتصل في نهايتها بخليج يعرف أيضا بقناة بريستول، جنوب غرب انجلترا. وخلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر، عرفت المدينة كأبرز مركز لصناعة السفن في غرب اوروبا.

كنت متشوقا لرؤية المتحف البحري للمدينة، ولا سيما السفينة "بريطانيا العظمى" التي كانت اعجوبة تكنولوجية، من حيث الحجم والحلول الهندسية المبتكرة يوم صنعت في 1845، وساهمت في اشهار مصممها ايسامبارد برونيل كأعظم مهندس بريطاني في تلك الايام.

قبل صناعة السفن، اشتهرت بريستول كمركز لتجارة الرقيق. ولو قدر لك ان تقرأ عن تاريخ تلك الحقبة، ثم تمشيت بين حاراتها ومبانيها القديمة، فلعلك تشعر ان هذه المباني التي تشع بالجمال والمهابة، توحي بنفس القدر، وربما اكثر، بالكآبة والألم. فكأنما هي مسكونة بأرواح الآلاف من العبيد التي فاضت بعدما حطوا فيها ثم نقلوا الى موانيء الشرق الامريكي.

كان ذهني يغص بالصور المتخيلة عن تلك الحقبة الملعونة، حين وقعت عيني على حجر تذكاري ثبت في جدار يطل على الميناء والسفينة. وقد اختير موقعه بعناية كي يلفت أنظار العابرين. يحمل الحجر عبارات اعتذار وتمجيد لآلاف العبيد الذين عانوا وعذبوا، ثم قضوا في الطريق بين قراهم والبلاد التي كتبت فيها نهاياتهم.

قرأت العبارات المنقوشة على الحجر تكرارا. وشعرت بدافع يشدني بقوة لفهم السبب الذي دعا ادارة الميناء-المتحف،  لتذكير زواره بان هذا المكان لم يكن جميلا دائما، وان العابرين به او العاملين فيه لم يكونوا سعداء دائما، وان اصحابه ومن يديرونه، اي الاقوياء واصحاب القرار فيه، لم يفعلوا الصواب دائما، ولم يكونوا عادلين مع الضعفاء في معظم الاوقات.

هل هو اعتذار متأخر عما جرى قبل قرنين؟ وهل يشفي تلك الجروح القديمة؟

التأمل في هذه القصة لفت نظري الى جانب ذي صلة عميقة بقيمة التسامح، أعني به الاقرار بالخطأ، على النفس او على الغير.

  بيان ذلك: ذكرت في مقال سابق، ان جوهر مفهوم التسامح هو احترام حق الآخرين في اختيار ما تمليه عليهم عقولهم، من دين او مذهب او طريقة حياة، كما تتوقع منهم احترام خياراتك. هذا مبدأ اخلاقي مبني على حكم عقلي عام. واساس الحكم العقلي هو الاعتقاد بان الانسان خطاء، بمعنى انه يجتهد في حياته، فيصيب حينا ويخطيء حينا آخر، وانه لا عيب في اقرار الانسان بانه اخطأ في حق نفسه او في حق الاخرين.

بل لعلي لا أبالغ لو قلت ان اعتراف الانسان بخطئه في حق الآخرين، حاجة لنفسه، مثلما هو حاجة للآخرين. انها عملية تطهير للذات، واعادة تموضع للأنا العاقلة فوق الغرائز، لمنع احتمالات الانزلاق مرة أخرى في حمأة الظلم والاحتقار.

لوح الحجر ذاك، يشكل بوجه ما، إقرارا بالآثام التي ارتكبتها بريستول في حق الافارقة الأسرى، واعتذارا لكل أحد عما جرى في الماضي. قد يكون هذا شافيا للضحايا وقد لا يكون. لكن المهم فيه انه سيشكل بالتأكيد سدا يمنع تمجيد الماضي الاسود، فضلا عن احيائه او تكراره.

دعنا نقول اذن ان الطريق الى التسامح قد يبدأ باقرار الانسان امام نفسه وامام الغير بانه مثلهم، خطاء، وانه ربما يكون قد اخطأ في حق نفسه والآخرين بقدر ما أصاب.

***

د. توفيق السيف

في بداية الأمر لعلنا لا نضيف شيئا إلى علم القارئ والمتتبع حين القول: أن المجتمعات الإنسانية كلها اليوم، تعيش تعدديات وتنوعات متفاوتة. بحيث لا يخلو مجتمعا إنسانيا من وجود حالة تعدد وتنوع..فهناك مجتمعات تتعدد دينيا، حيث يوجد فيها أتباع ديانات مختلفة.وهنالك مجتمعات تشترك في الانتماء الديني إلا أنها تتنوع على الصعيد المذهبي. وهناك مجتمعات تتفق في المذهب إلا أنها تختلف وتتنوع على الصعيد العرقي والقومي. ولو بحثنا اليوم في واقع كل المجتمعات الإنسانية، سنجد أن التعدد بكل مستوياته هو السمة الملازمة لهذه المجتمعات.. ولكن الاختلاف الحقيقي على هذا الصعيد بين هذه المجتمعات، يكمن في طبيعة وآلية إدارة هذه التعددية القائمة في المجتمعات.

فهناك مجتمعات تعاملت مع حقيقة تعددها بعقلية حضارية، لذلك صاغت لنفسها أنظمة وقوانين استوعبت هذه الحقيقة، وضمنت لها المشاركة في بناء مجتمعها ووطنها..وهناك مجتمعات أخرى ضاقت ذرعا بالتعدد الموجود في فضائها، وسعت عبر وسائل مختلفة لدحر هذه الحقيقة بوسائل قسرية - قهرية..فأضحت التعددية بكل مستوياتها في المجتمعات الأولى، أي المجتمعات التي تعاملت بعقلية حضارية معها، إلى مصدر للقوة والثراء المعرفي والمجتمعي.أما المجتمعات التي ضاق صدر بعضها لحقيقة التعددية الموجودة فيها، فإن هذه التعددية تكون عنوانا للخلاف والاختلاف ورافدا من روافد التشظي والاهتراء الداخلي. ومجتمع المملكة ليس بدعا من المجتمعات، وإنما هو كغيره من المجتمعات,الذي يضم تعدديات مذهبية وتنوعات ثقافية واجتماعية، إلا أن الجامع الديني والوطني هو الذي يحتضن الجميع ويرفدهم بأسباب التلاقي والتفاهم والوحدة.

من هنا فإننا نشعر بأهمية العمل على تعزيز وحداتنا الاجتماعية والوطنية على قاعدة احترام واقع التعددية الموجود في كل مجتمعاتنا وأوطاننا..لأن هذا الاحترام بكل مضامينه ومداليله، هو القادر على إفشال كل المخططات التي تستهدف تمزيق الأوطان وإدخالها في نفق الحروب والصراعات والنزاعات على أساس مذهبي - طائفي..فهذه الطريقة والوسيلة هي القادرة على إفشال هذه المخططات والمؤامرات التي تستهدف أمن واستقرار أوطاننا ومجتمعاتنا.

ومن الضروري أن ندرك أن تقسيم أبناء الوطن على أسس مذهبية ، لا يضر حاضر الوطن فقط، بل يهدد مستقبله. لذلك فإننا جميعا ومن مختلف مواقعنا، ينبغي أن نقف ضد كل مظاهر التقسيم الطائفي والمذهبي، وذلك لأن هذا التقسيم لا يضر فقط الطرف الموجهة ضده، بل يضر وحدة الوطن والمواطنين، ويزيد من فرص الاحتراب الداخلي.

التعددية ومفهوم المواطنة:

فنقد الطائفية وفضح ورفض كل مظاهرها ووقائعها، هو الخطوة الأولى في مشروع بناء الوحدة الوطنية الصلبة وتطوير مستوى الانسجام والاندماج الاجتماعي.والاجتماع الوطني الصلب، لا يبنى على قاعدة محاربة حقيقة التعدد بكل مستوياتها الموجودة في المجتمع. فكل المجتمعات تحتضن تعدديات، وبنيت الأوطان دائما على احترام هذه التعدديات.

والأوطان التي عملت سلطتها السياسية على دحر حقيقة التعدد ومحاربة وقائع التنوع، فإنها أوطأن هشة لا تستطيع أن تصمد أمام رياح التغيير والتحديات المختلفة.. والاتحاد السوفيتي كتجربة مجتمعية، ليس بعيدا عنا، بل هو أحد النماذج الصارخة على أن الأوطان لا تبنى بمحاربة وقائع التعدد بل باحترامها وتقديرها وتوفير كل مستلزمات فعاليتها الإيجابية..

وتجربة العراق الحديث ليست خافية علينا، فمهما كانت سطوة الحكم وقسوته، إلا أن حالة التعدد في المجتمع العراقي قائمة وراسخة. والمطلوب ليس محاربتها وإنما إدارتها على نحو سليم وحضاري، حتى يتسنى لجميع الأطياف المشاركة الفعالة..فقوة الأوطان في قدرتها على صياغة نظام متسامح وقادر على استيعاب كل التعدديات وفسح المجال لها بل تشجيعها للمزيد من الاندماج الوطني.

والمواطنة لا تقتضي بأي حال من الأحوال أن تندثر خصوصيات الأفراد، بل إنها تقتضي صياغة منظومة قانونية وسياسية لجميع المواطنين على قاعدة الاعتراف بتلك الخصوصيات، والتعامل الإيجابي والحضاري مع متطلبات التعدد بمختلف أشكاله ومستوياته.

فالتعدد المذهبي ليس حالة مضادة للمواطنة، بل هو الجذر الثقافي والاجتماعي لبناء مواطنة حقيقية بعيدا عن الشعارات الشوفينية واليافطات الشعبوية والعدمية. فاحترام التعدد المذهبي وحمايته القانونية والسياسية، هو الذي يوجد الشروط المجتمعية الحقيقية لبناء مواطنة مندمجة مع بعضها البعض في مجتمع متعدد مذهبيا أو قوميا أو سياسيا.. فالتعدد المذهبي في الاجتماع الوطني الحديث، لا يؤسس للانزواء والانكفاء، بل يؤسس للتواصل المستديم بكل صوره على قاعدة المواطنة الجامعة.. ولا سبيل لخلق مجتمع وطني متراص ومتماسك ونسيجه الداخلي صلب إلا بحماية هذا التعدد ودفعه صوب المشاركة الإيجابية والاندماج الوطني. الذي لا يعني الإلغاء والنبذ والخصومة، وإنما المشاركة والمسؤولية والبعد عن النزاعات الشوفينية والنرجسية سواء إلى الذات أو إلى الآخر.

نقد التعصب:

والحوار الدائم والمتواصل بين مختلف المكونات والتعبيرات، هو الذي يسمح للجميع من التجاوز الدائم للمشاكل والأزمات. لهذا كله فإن نقد العصبية والوقوف بحزم ضد كل أشكالها ومستوياتها، هو الذي يؤسس لثراء معرفي ومجتمعي من جراء حقيقة التعدد في الاجتماع الوطني.. فالتعددية ليست هي الحالة المضادة للمواطنة، وإنما الحالة المضادة للمواطنة هي التعصب وبناء التكتلات الاجتماعية على قاعدة عصبانية طاردة ونابذة للغير والآخر.. فالتعصب الأعمى للذات بكل عناوينها، هو الذي يخلق حالة العداء بين المختلفين.

والنسيج الاجتماعي لأي مجتمع، يصاب بالضعف والاهتراء، حينما تستحكم فيه نزعات العصبية والتعصب.لذلك فإن العدو الحقيقي لاستقرار المجتمعات والأوطان، هو التعصب. لأنه هو الذي يقضم المساحات المشتركة بين المواطنين، وهو الذي يثير النعرات والغرائز.وليست هناك علاقة عميقة وطردية بين التعددية والتعصب.فبإمكان المجتمع المتعدد أن يخلق ثقافة التسامح والحوار والتواصل.كما بإمكانه أن يخلق ثقافة القطيعة والنبذ والإقصاء. وجذر التحول في هذا يعتمد على طريقة التعامل مع واقع التعددية في الاجتماع الوطني..فإذا كان التعامل راقيا وحضاريا وبعيدا عن لغة الإلغاء والنبذ.فإن هذا التعامل يؤسس لثقافة التسامح والأخوة والاندماج. أما إذا كان التعامل فوقيا وإقصائيا وطاردا، فإنه ينم عن عصبية تخلق بدورها عصبية معكوسة. فتكون النتيجة العملية لكل ذلك سيادة العصبية ونزعات التعصب في الفضاء الاجتماعي والثقافي، فتضمحل المساحات المشتركة، وتغيب الحكمة، وتتصاعد نزعات الاتهام والاتهام المضاد..فعدو الوحدة والاندماج، ليس التعدد والتنوع، وإنما هو التعصب الذي لا يرى وقائع الحياة والمجتمعات، وإذا رأى لا يرى إلا بعين واحدة.وهي عين مهما كان اتساعها فإنها قاصرة ولا تستطيع الإلمام بكل الحقائق والوقائع.

ولعل من العناوين المعبرة عن هذه الحقيقة، هو عنوان الكتاب الأخير للدكتور (وجيه كوثراني) وهو (هويات فائضة.. مواطنة منقوصة). وكذلك عنوان كتاب الأديب أمين معلوف (الهويات القاتلة). فحينما يتعصب الإنسان لجماعته المذهبة أو العرقية أو القومية أو ما أشبه ذلك، تعصبا أعمى، فإن هذه الهوية القائمة على العصبية، إما أن تنتقص من مضامين المواطنة وحقوقها، أو تتحول إلى منطلق إلى النبذ والإقصاء والذي قد يصل إلى ذروته القصوى وهو القتل والإعدام.

الانفتاح وبناء الهوية الوطنية:

فالهويات الوطنية لا تتشكل على نحو إيجابي وبعيد عن نزعات الشوفينية والتعصب الأعمى، إلا إذا انفتحت هذه الهويات على حقائق مجتمعها، وتواصلت مع مكونات وطنها الدينية والمذهبية والقومية والأثنية.. بحيث تكون الهوية أو الهويات الوطنية، تعبير دقيق عن حياة المجتمع الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بكل تنوعها وتعددها. وفي المحصلة النهائية فإن الثقافات الإنسانية في أي بيئة اجتماعية كانت، هي ثقافات متداخلة، ومتشابكة، بحيث أن الأفكار الرئيسية موجودة في كل الثقافات.ونزعات الاصطفاء الثقافي، لا توجد إلا في عقول أصحابها. حيث أن جميع الثقافات والهويات متداخلة مع بعضها، ومن الصعوبة بمكان أن تعبر ثقافة أو هوية عن نفسها بعيدا عن روافدها المتعددة القادمة إليها من ثقافات وهويات مجاورة.

وتشير الباحثة ( سعيدة لطفيان ) إلى أن 95 بالمئة من دول العالم هي دول متعددة القوميات، أي تتألف من أمم متعددة.فإذا أحصيت الأثنيات والأقوام أي الجماعات المتمايزة لغويا أو دينيا أو مذهبيا أو عرقيا في العالم لاستنتجنا أن دول العالم تمارس السيادة على خمسة آلاف أمة وشعب.

لهذا فإن نزعات الاصطفاء، هي نزعات ذهنية أكثر منها اجتماعية واقعية. حيث أن الهويات متداخلة والثقافات متشابكة. ولا يمكن بناء الاجتماع الوطني الحديث بلغة الاصطفاء والهويات الخالصة. لأن هذه اللغة لا تبني مجتمعا وطنيا بل تبني كيانا اجتماعيا خاصا ومنعزلا وغير قادر على استيعاب كل التعبيرات والمكونات. والأوطان دائما تتسع لكل القوى والتعبيرات، وأية محاولة لحصر الوطن بفئة أو شريحة، فإن هذه المحاولة تضر بالوطن مفهوما وكيانا أولا، وتضر بالنسيج الاجتماعي ثانيا.

فالاجتماع الوطني المستقر والحيوي في آن، لا يبنى على دحر التعدديات أو محاربتها، وإنما ببناء نظام اجتماعي - ثقافي - سياسي، قادر على استيعاب كل حقائق التعددية، ويبلور للجميع خيار المشاركة الذي يزيد من فرص التفاعل والاندماج الوطني. وإننا هنا لا ندعو إلى إيقاظ العصبيات المذهبية أو القومية أو الأثنية، وإنما ندعو إلى التعامل مع الوجودات المذهبية والقومية والأثنية، بعقلية الاستيعاب وبمنهج الجوامع المشتركة، التي تضبط بطبيعة الحال إذا أحسنا التعامل معها، كل النزعات التي تضر بمفهوم الوحدة وحقائق الشراكة الوطنية.

- انتهى –

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

ذهبتُ إلى مكتبة في الكويت بمعية الصديق العزيز د. حسين الفضلي سنة 1980، أستاذ علم الاجتماع بجامعة الكويت سابقًا، فنبهنا صاحبُ المكتبة، وهو رجلٌ كهلٌ يعتنق عقيدةَ جماعة دينية مغالية، إلى كراس بعنوان: "مذكرات مستر همفر"، مدحه كثيرًا، وقال إنه مترجم عن الإنجليزية. اشترينا نسختين، أول ما لفت نظرَنا عدمُ ذكر اسم المترجِم، ولا الأصل الإنجليزي المترجَم عنه النصُّ العربي، ولم نعرف من قبل رحالةً ومستشرقًا انجليزيًا باسم "مستر همفر". فور العودة لمقرّ إقامتي قرأتُه في ساعةٍ واحدة، وجدتُ هذا الكراس كلَّه أكاذيب، سطرها شخصٌ مسكون بالتآمر إطارًا للتفسير، بلغةٍ بليدة مبتذلة. تذكرتُ عدةَ كتب كنا نتداولها في مراهقتنا السياسية في المضمون ذاته، تتفاوت في الدرجة، وتتطابق في الكيفية والغرض الذي تنشده، مثل كتابات أنور الجندي وأمثاله. ضاعت أيامٌ ثمينة من عمري بقراءة كتبٍ تعتمد التآمر إطارًا لتفسير كل واقعة.كلُّ شيءٍ في السياسة وغيرها يحدث في بلادنا تخضعه تلك الكتبُ لهذا النوع من التفسير الأُحادي. كان لتفشي هذه الكتابات أثرٌ فتاك في تزييفِ وعي الشباب، وتخريبِ التفكير السليم.

الإنسان الذي لا يفكر بهدوء وتأمل يلجأ دائمًا للإجابات والتفسيرات الجاهزة المبسطة لأعقد المشكلات. التفسيرُ الأُحادي الذي يفسّر كلَّ شيء بشيءٍ واحد، ويختزل كلَّ الأسباب بسببٍ واحد، جاهزٌ ومُشاعٌ لمن لا يطيق التفكير. إنه تفسيرٌ عاجل لا يتطلب أيَّ تأمل، يشجع كلَّ إنسان، مهما كان مستوى وعيه، للتشبث فيه واعتماده في الجواب لما يسمع ويرى من وقائع. ليس كلُّ إنسان قادرًا على إيقاظ عقله وتوظيفه في الفهم، العقلُ النائم مرتاح، الإنسانُ كسولٌ يزعجُه إيقاظُ عقله، يلجأ بسهولة لاستعارة التفسير الأُحادي المتداول بشكل واسع. التفسير الأُحادي لا يتطلب يقظةً للعقل وتأملًا صبورًا، ولا يدعوه للتقصي عن نسيج العوامل المتشعبة المتنوعة لإنتاج الواقعة. تداولُ أيّ تفسير بشكل واسع يرسخه، ويرتقي به إلى بداهات العقل الجمعي، ويصيّره حقيقةً نهائية لا تقبل النقاشَ لدى أكثر الناس. التفكيرُ الهادئ لا تطيقه إلا العقولُ الحاذقة، ولا يلجأ إليه إلا إنسانٌ ذكي قادرٌ على إيقاظ عقله وتوظيفه في فهم الأشياء والظواهر والأحداث. التفكيرُ الهادئ الصبور يتوغل في البنية العميقة للأشياء، ويكتشفُ العواملَ المستترة للواقعة، ويقدّم تفسيرًا لمختلف الأشياء والظواهر والوقائع في ضوء حفر وتنقيب يسعى لبلوغ المديات القصوى، وهو يحاول التعرفَ على العوامل الظاهرة والخفية لها. هذا التفكيرُ لا يطيقه كثيرٌ من الناس لأنه مرهِقٌ للذهن، وطالما شغل الإنسانَ عن متع الحياة الحسية، وعكّر مزاجَه الشخصي.

التآمرُ بوصفة إطارًا لتفسير الأحداث والمواقف الفردية والمجتمعية قديمٌ في التاريخ قدم الإنسان، وخبرته بحماية ذاته والإعلاء منها، وتبريره المتواصل لأخطائه، وعجزه عن الاعتراف بضعفه وهشاشته، والتنكر لكونه كائنًا مطبوعًا على النقص والخطأ. الإنسان بارع في حماية نفسه وتنزيهها والإعلاء منها، دائمًا يبحث عن مشجب يعلّق عليه عجزَه وفشلَه. لا يختصّ هذا التفسيرُ بفرد أو مجتمع أو ثقافة أو ديانة أو معتقد أو حقل معرفي، يوجد حيثما وجدت أحداثٌ مثيرة ومواقفُ غريبة، ويتغول باستمرار في السياسة. ازدادت فاعليتُه هذا التفسير بشكلٍ لافت، وصار أحدَ الظواهر المتفشية في المعرفة العاميّة غير العلمية، والأدبيات الشعبوية للجماعات الراديكالية اليسارية أممية وقومية، وانتقلت عدوى هذا التفسير للجماعات الأصولية، وهي الأكثر دراية بمخزونٍ لا ينضب في اللاوعي الجمعي يمدّ التآمرَ بوصفة إطارًا للتفسير ويجذّره. تمرست هذه الجماعاتُ بابتكارِ صيغٍ جديدة للتفسير التآمري لأكثر ما يجري من تحولات وأحداث ومواقف، وغرسِها واستنباتها وتعميمها بسهولة. أمسى إنتاجُ كتابات تعتمد هذا التفسير حرفةً تتخصص بها دوائرُ تمتلك خبرةً مهنية في الحرب النفسية، وبثِّ الشائعات، وصناعةِ الرأي العام، تحترفها أجهزةُ مخابرات الأنظمة الشمولية، ومختلف الحركات اليسارية والقومية والأصولية في بلادنا.

لا أنكر وجودَ مؤامرات، بمعنى أنه كلّما كان الإنسانُ أذكى كان أكثرَ دهاء، وأكثرَ قدرةً على ابتكار مختلف الخطط والأساليب والوسائل للتمويه والخداع لبلوغ أهدافه، ما يخفيه مثلُ هذا الإنسان أكثر مما يظهره، يسعى لتحقيق غاياته عبر مختلف الوسائل. كلّما كانت غاياتُه أعظمَ وأكثرَ عرضةً للرفض والإجهاض كان تخطيطُه لها أدقَّ وأخفى. يحاول دائمًا أن يسلك سبلًا مراوِغة، أكثر من المباشرة، ومكتومةً أكثر من المعلنة من أجل بلوغ غاياته، وأحيانا يلجأ لاستخدام وسائل غير مشروعة أخلاقيًا.

لا أريد التنكرَ للأشكالِ القديمة والحديثة للغزو، وكيفيةِ اجتياح الإسكندر المقدوني العدواني للعالم القديم، وكيف اجتاحت الحروبُ والفتوحات العالمَ القديم، وما راكمته من أموال وممتلكات وأراضي ورقيق. التقدمُ الذي وصلته العلومُ والمعارف والفنون والآداب والتطور في الغرب لم تصله البشريةُ من قبل في كلِّ تاريخها، غير أن هذا الغربَ الحديث صنع الاستعمارَ، وهو ظاهرةٌ مقيتة لم تتردّد في استعبادِ مجتمعات بأسرها، والسطوِ على ثرواتها، واستنزافِ مواردها وكلِّ ما تمتلكه. الغزاة يقتلون ويسترقون الإنسانَ وينهبون كنوزَ البلاد المنكوبة وثرواتها ومواطنها، غير أن الغزو الإسباني سنة 1492 ثم الأوروبي للأمريكتين تمادى في التوحش فأباد الحضاراتِ وسكانَها واستولى على ديارها. هذه الحضاراتُ مازالت شواهدُها وأطلالها ترثي أهلَها، مثل: حضارة نورتي شيكو، حضارة أولمك، حضارة المايا، حضارة الإنكا، حضارة الزابوتيك، حضارة نازكا، حضارة إمبراطورية تيواناكو، حضارة واري، حضارة المسيسيبي، حضارة الأزتك. الاحتلال والاستعمار ضربٌ من التواطؤ الفردي والمجتمعي اللاأخلاقي لاستعبادِ الغير وتسخيرِهم لخدمة المُستعمِر والمحتل. المفارقة أن الغربَ الحديث ذاته ابتكر أحدثَ صيغةٍ للتداولِ السلمي للسلطة، وفصلِ السلطات، وبناءِ الحكم والإدارة ونظم الدولة المتنوعة الحديثة، وتأسيسِ الدولة الديمقراطية، وضمانِ حقوق مواطنيه وحرياتهم، داخل حدود دولته خاصة.

الكلام عن التآمر بوصفه إطارًا للتفسير ليس دفاعًا أو تبريرًا للاستعمار، لا أثق بالاحتلال مهما كانت الأسماءُ التي يتخفى خلفها، أنا ضدّ كلّ شكل من أشكال انتهاك الإنسان واستعباده واستلاب حرياته وحقوقه تحت أيّ شعار وتسمية، سواء كانت تلك الانتهاكاتُ تحت راية الرأسمالية أو الليبرالية أو القومية أو الاشتراكية أو الأصولية. الكفاحُ الذي خاضته البشرية منذ فجر التاريخ حتى هذه اللحظة ‏كان وما زال من أجل استرداد الكرامة والحريات والحقوق الإنسانية، الغزو والاستعمار والاحتلال وكلّ أشكال الاستغلال والعنصرية لا يمكن الشفاءُ منها بشكلٍ تام في كلّ المجتمعات والدول والحضارات أمس واليوم.

التنكرُ للأخطاء أحدُ أهم عوامل العجز العربي والإسلامي المزمن، وهو أحدُ بواعث تسيّد التآمرُ بوصفة إطارًا لتفسير الأحداث. الإنسانُ كائن مسكون بإعلاء ذاته، وحماية صورته أمام نفسه وغيره بمختلف الوسائل، هذا الضرب من التفسير يمثل حيلةً لحماية الهوية المغلقة للجماعات من أن تتصدع أو تنثلم أو تتهشم. نرى هذا التفسيرَ ماثلًا في تفسير الصراعات والمعارك المريرة بين الفرق والمذاهب في الماضي، بعض الكتّاب يحيل نشوءَ أكثر الفرق والمذاهب والفلسفة والتصوف في تاريخنا إلى مؤامرات أعداء الإسلام، ويفسِّر كلَّ ما حدث في تاريخنا البعيد والقريب إلى عدو خارجي يخطّط وينفذ بخفاء ويزجّنا في معارك مفتوحة،كما نرى هذا التفسيرَ ماثلًا اليوم في تبرير ما نعيشه من انقساماتٍ تتوالد منها نزاعاتٌ وصداماتٌ متواصلة، تستقي من إكراهات التاريخ وتراث تكفير المختلِف في المعتقَد. يتسيّد يقينٌ راسخ في أذهان بعض الكتّاب بأن كلَّ شيء في الماضي مؤامرة،كلّ شيء في الحاضر مؤامرة، كلّ شيء في المستقبل محكومٌ مسبقًا بأنه مؤامرة. يصعب جدًا على الأفراد والمجتمعات قبولُ إخفاقاتها وأخطائها وفشلها، تخاف دائمًا من فضح عوامل عجزها الداخلية، ودراسة الأسباب الماضية والحاضرة الكامنة لفشلها. يلجأ الإنسانُ لصناعة العدو والتفنن في تصويره ورسم مهاراته وقدراته الاستثنائية على اختراق وإفساد كلِّ شيء مهما اتخذنا حياله من حصون.

"ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة"1، هذا شعار ضجّت به شوارعُ العراق سنة 1959، بعد الإعلان عن انقلاب في الموصل بسبب الصراع على السلطة والثروة داخل جماعة الضباط الأحرار الذين قاموا بالثورة. العراق من أكثر البلدان حديثًا عن المؤامرة، منذ ثورة 14 تموز 1958 وتسلم الجنرالات للسلطة إلى 9 نيسان 2003 يوم احتلال بغداد وسقوط صدام حسين ونظامه. تورطت الأنظمةُ المتعاقبة والأحزاب السياسية والإعلام والثقافة والتربية والتعليم في هذا البلد بتبني التآمر بوصفه إطارًا للتفسير. ذبح صدام رفاقَه في مجزرة قاعة الخلد، بذريعة التآمر عليه، في 22 تموز 1979 بعد 6 أيام من وصوله الى الرئاسة، وبدأ بتصفية رفاقه بالتدريج منذ انقلاب 17 تموز 1968، واعدام الأحرار في العراق بوحشية بتهمة التآمر على الحزب والثورة، ولم تنشر أجهزتُه الأمنية والمخابراتية أيةَ وثيقة يُطمئَن إليها تفضح ذلك التآمرَ المزعوم.

عملت التعبئةُ الأيديولوجية وخطاباتُ صدام حسين وأمثاله على ترسيخ التفسير التآمري، بنحوٍ صار مكونًا غاطسًا في اللاوعي الفردي والجمعي، يتحدث فيه الناسُ بحماس بلا تدبر، ويصعب جدًا وربما يتعذر معه حضورُ التفسير الواقعي. كتّابٌ شعبويون كانوا ومازالوا مسكونين باتخاذ التآمر إطارًا للتفسير، سيئو الظن بالمواطن الذي ينتمي لحزبٍ غير أحزابهم، وأيديولوجيا غير الأيديولوجيا التي يعتنقونها، ومعتقَدٍ غير معتقَدهم، وهويةٍ غير هويتهم. هؤلاء المولعون بهذا التفسير يعجزون عن رؤية أيّ عامل يساهم في إنتاج الواقع، ما هو مكشوفٌ أمامهم يغمضون عيونهم ويصمون آذانهم عنه، يتجاهلون العواملَ الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية الداخلية المنتِجة للواقع الذي يعيشه المواطن. التفسيرُ السياسي متهمٌ في بلادنا، إن لم يعتمد التآمر إطارًا للتفسير، ولو حاول اكتشاف العوامل المحلية للفشل والإخفاق والتخلف، مهما كانت تلك العواملُ مكشوفةً وتعلن عن حضورها بكثافة وقوة. أظن هذه المقالة يضعها بعضُ هؤلاء في خانة التآمر.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

....................

* "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة" باللهجة العراقية، تعني: ليس من مؤامرة إلا وحبال المشنقة معدة لها.

كثر إقبال الشعوب العربية على ولوج مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة عامة، وموقع "يوتوب" خاصة. إذ بتنا نرى تواجدا كبيرا لأشخاص كثيرين بوصفهم مؤثرين بآرائهم وأفكارهم وتصوراتهم. ذلك أن وسائل التكنولوجيا أتاحت للكل إمكانية ولوج عوالم التواصل المختلفة، وتقديم بضاعته كيما تتنافس مع بضاعات أخرى، ليغدو مقياس ومعيار جودة البضاعة هو ما تحققه من نسبة مشاهدات وإعجابات واشتراكات، أي ما تدره من أموال على صاحبها، وليس معيار جودة الأفكار وأصالتها وجدتها، ولا وضوح توجهات المؤثر وتصوراته، أو علمية وموضوعية "المعرفة"، البضاعة" التي يعرضها.

بيد أن المشكلة الكبيرة تتمثل في الأمراض الاجتماعية والنفسية والاخلاقية والفكرية والثقافية التي أصبح "اليوتوب" يبثها في الجسم الاجتماعي للشعوب العربية. على هذا الأساس، سنحاول عرض هذه الأمراض بناء على ما استخلصناه من متابعتنا لبضاعة مؤثرين عديدين، تناولوا قضايا المجتمعات العربية والإسلامية عموما، والمجتمع المغربي خصوصا.

هكذا نجد أمراضا من قبيل:

- ادعاء امتلاك الحقيقة الساطعة التي على المشاهد/المتابع أن يبتلعها دون هضم نقدي، أو تدقيق ومساءلة علمية حقيقية لمشروعية هذه الحقيقة، وانطباقها على المجتمع واستجابتها لمجرياته وتحدياته. حيث يزعم الزاعم أنه سيقدم للمشاهد الحقيقة التي يجهلها، والتي سيسمعها لأول مرة، ومن ثم، ضرورة وحتمية تصديقها ما دام العلماء الحقيقيون قد أخلوا المجال لمدعي المعرفة الشاملة بكل حدث ويحدث وسيحدث في العالم.

- بيد أن تقديم هذه "الحقيقة المزعومة" يستدعي من المشاهد مقابلا؛ وهو تسجيل الإعجاب بالقناة ووضع ملصق إعجاب كيما يتوصل بالجديد. وهكذا، لا يخفي المؤثرون هدفهم الربحي الأساس؛ إذ همهم، الظاهر أو المضمر، هو تحقيق أرباح مادية كبيرة، وليس تقديم معرفة علمية وموضوعية تحقق إضافة للمجتمع، أو تسهم في حل مشاكله.

- تربية المشاهدين الأحداث على التعصب القبلي والفكري، الشيء الذي يترتب عنه رفض للاختلاف في الرأي والفكر والاعتقاد، ومن ثم، يسلبونهم حق النقد والمساءلة والفحص ما دام ما يقدم لهم يدعي "المصداقية والموضوعية".

هذا ما تعرب عنه الأفعال التي تصدر من أصحاب القناوات؛ إذ يقومون بحظر كل شخص قدم رأيا مخالفا لهم، ويرمونه بالجهل وضيق الأفق والتعصب.. إلخ، دون أن يعلم هؤلاء المؤثرون أنهم هم من يستخف بعقل المتلقي، ويسهم في تسطيح وعيه، وتضييق أفقهم المعرفي والنقدي.

- شخصنة الصراعات الشخصية وإضفاء بعد الوطنية عليها؛ ذلك أن أغلب المؤثرين يزعمون أنهم يدافعون عن أوطانهم، وأن ما يقومون به ما هو إلا خدمة للوطن وشعبه، في حين أنهم يعملون على إحداث التفرقة بين أفراد المجتمع، وخلق الفتنة وتوسيع الصدع، وتفكيك الروابط التي تجمع بين أفراده المختلفين.

- إلهاء الشعوب العربية عن مشاكلها الحقيقية، والزج بها في عالم التفاهة والاقتات على أعراض الناس وأخلاقهم. الشيء الذي يجعل المشاهد غارقا في مشاكل تافهة، وغافلا عن التحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والوجودية التي تتهدد وجوده وكرامته وإنسانيته.

إن الشعوب العربية في غنى عن معارك فارغة، ومشاكل مصطنعة عابرة، وفي حاجة إلى معرفة تنمي منسوب وعيه، وتشحذ عقله وفكره النقدي الحر، وتساهم في تحرره فكريا واجتماعيا من براثن الجهل، وسجن الفقر والبطالة.. إلخ.

- التشجيع على النفاق الاجتماعي والسياسي والأخلاقي؛ إذ إن المؤثر ليس له مبدأ ثابت، ولا رأي مستقر، وإنما تتغير مبادئه وآراؤه بتغير أعدائه الوهميين، والأشخاص الذين يغدقون عليه العطاء، ويضفون على كلامه وقناته مشروعية، ويخلقون له أتباعا من أفراد المجتمع الجوعى والغرباء في وطنهم، والنتيجة هي أن المؤثر يساهم في الإلهاء والتجهيل والتسطيح.

- زرع بذور الخلاف والشقاق والنفاق بين أفراد المجتمع، وخلق أتباع ومريدين يدافعون وينافحون عن أفكار المؤثر وتصوراتهم حتى وإن كانت خاطئة، ومليئة بالديماغوجية والدعاية الفجة. وهكذا، يرى المؤثر في من يتقدم إليه ببضاعته مجرد مستهلكين سلبيين، وينظر إلى عقولهم على أنها مرتع للمخلفات الفكرية، وحاوية للنفايات العرقية والإثنية والعنصرية.

- نزع الخصوصية عن الحياة الشخصية لأفراد المجتمع؛ لأن كل شيء مباح في مواقع التواصل الاجتماعي، وبإمكان أي شخص أن يكشف أسرار الآخرين، ويهتك حجب حياتهم الحميمية لمجرد اختلاف في الرأي والفكر والثقافة والمعتقد، فضلا عن تعامل المؤثر مع متتبعيه بشخصية مزدوجة. فهو لا يظل على سجيته، كما أنه يفرض على نفسه نوعا من الانفصام والازدواجية في الشخصية والمواقف والمبادئ، ويتعامل بنوع مقيت من المجاملة والمواربة؛ إذ يغدو كل المشاهدين إخوة وأخوات له، ومن ثم، يحرك عواطفهم بكلماته العاطفية، ويتلاعب بعقولهم بمغالطاته وخطله المعرفي، والنتيجة أنه يقدم نفسه باعتباره ذا أخلاقية مفتقدة، ومحب الخير للجميع، ومساعدا للمشاهدين على حل مشاكلهم.

إن الأمراض التي تتهدد وجود الإنسان العربي بسبب "اليوتوب" كثيرة ومتعددة، وإن لها تأثيرا كبيرا على الجسد الاجتماعي العليل؛ لأنها تسهم في تعميق الجراح المندملة، والإبقاء على الأوضاع المزرية كما هي. لذلك، على الدول العربية والإسلامية التي تحترم شعوبها، ولا تستخف بعقولها وفكرها، أن تسن قوانين ضابطة للبضاعة التي تعرض على شعوبها تفاديا للنفاق الاجتماعي والسياسي والديني، وصيانة للمجتمع من الشقاق والافتراق شيعا وطوائف عرقية إثنية.

وعلى المثقفين أن يقوموا بدورهم في محاربة التفاهة والتافهين، والحد من سطوتهم على العقول والنفوس الهائمة في أوضاعها الاجتماعية المجحفة. فما دام المسؤولون السياسيون والمدنيون، والمثقفون والمفكرون، والأساتذة والمعلمون، قد أخلوا المجال وغادروا مضمار الصراع الفكري، فإن فعل المؤثرين سيلقى صدا متسرعا من قبل أفراد المجتمع، وسيزيد من محن وإحن الإنسان العربي، وسيربي فيه أخلاق التفاهة، وقيم النفاق والكذب، والتعصب للجماعة واللغة واللون والعرق.

***

محمد الورداشي

اذا كنا نغفر للدولة والمسؤولين القائمين على خدمة مواطنينا إهمالَ الناس نتيجة ضعف الخدمات وقلة الرعاية التي تقدم اليهم وانعدامها طوال سنوات عديدة  تقارب العقدين ؛ غير اننا من الصعب ان نتقبل الاهمال الذي يعاني منه مواطنونا المعوّقون والذين فقدوا اجزاءً من اعضائهم وأصيبوا بعاهات جسمية سببت لهم الاعاقة.

فالكثير منهم لا يستطيع القيام بأيّ شيء وآخرون يعانون صعوبات جمة في ممارسة حياتهم على الوجه الطبيعي اذ لابدّ من الالتفات اليهم وتقديم ما يمكن تقديمه للعناية بهم فهم أحوج الى العون والسند نتيجة اوضاعهم الصحيّة.

لا يخفى ان بلادنا قد مرّت خلال اكثر من أربعة  عقود بحروب مريرة كان من نتيجتها ظهور بضعة ملايين من معوّقي الحروب الكارثية ناهيك عن الاعاقات الطبيعية التي اصيب بها الكثير من الولادات وظهور التشوهات الخلقية واختلال في الجينات بسبب ما وقع على العراق من قذائف ذات دمار شامل واستخدام اسلحة غير تقليدية على أبناء بلدي خلال سنوات حرب الخليج الاولى والثانية وما تبعها من غزو همجي وحشي شنته الولايات المتحدة على بلادي عام /2003 وما لحقه من انهيار في هياكل الدولة ومنها الهيكل الصحي، ويقدّر المختصون ان في العراق ما يربو على الاربعة ملايين معوّق بإعاقات مختلفة منها طبيعية ومنها بسبب الرعونة في استخدام السلاح الكيمياوي او البايالوجي غير التقليدي.

ومهما كان نوع العوق ونسبة العجز فيه فلابد من ايلاء الرعاية القصوى لهؤلاء العاجزين لكي تمضي حياتهم بشكل اكثر يسرا واقل وطأة مما يعانون ، ونركّز هنا على الخدمات والرعاية الصحية اول الامر للتخفيف عن كاهلهم وتوفير مستلزمات الحياة في حدها الادنى على الاقل.

لست في حاجة الى التذكير على انّ العالم المتحضر يولي لهؤلاء المعوقين المتعبين عناية اكبر مما تقدّم الى الأصحاء والأسوياء من خلال توفير التأمين الصحي المجاني وتهيئة مستلزمات الطبابة التي تعينهم كالأدوات التي تعينهم على الوقوف او الجلوس والحركة من خلال توفير الاطراف الصناعية والكراسي المتحركة وغيرها الكثير من وسائل الإعانة.

فالمعوقون في أبدانهم لم تكن يوما حائلا ومانعا لتحريك عقولهم وتنشيط مواهبهم بل بالعكس، فالله يعوّض من أٌخذ من أعضائه شيء وأفقد حاسّة وحرم خلقه من عضو نافع لكنه يعوّضه عقلا وموهبة وتنويرا في النفس.

واذا كان قسم منهم من لا يستطيع الحركة او يبقى قعيد البيت بسبب عجزه الكلي لكن نباهة فكره أثمرت للبشرية ابداعات جمّة والكثير ممن أصابهم العوَق اثْروا حياتنا علما وادبا وفنا راقيا وقدموا للانسانية خدمات ترقى كثيرا عما قدم الاسوياء من المبدعين وهم اكثر من ان يعدّوا لا لشيء إلاّ لان الخالق لا نظير له في عدلهِ وكم يكون الامر مبهجا اكثر حينما تقوم الدولة برعاية معوقيها كما ترعى أصحّائها بل ان الاولين اكثر حظوة واهتماما في تقديم الخدمات الممكنة لهم، ولنضرب مثلا على من عاصرنا الذي مات مؤخرا ممن ابتليَ بالعوق وهو" ستيفن هوكينغ " الذي ظلّ قعيد كرسيّه المتحرك طوال اربعة قرون ولم ينعم بنومٍ هادئ على سريره طوال مديد حياته وقدم ابتكاراته في علوم الفيزياء وتقف البشرية اجلالا له على ابتكاراته الخلاّقة مثلما سبقَهُ الموسيقار الشامخ " بيتهوفن " الذي لا يضارع في رقيّه وعبقريتهِ والذي امتع العالم بموسيقاه من خلال سيمفونياته وسوناتاته الساحرة ، فهذا العبقري المعوّق الذي كان جنينا في بطن امه وعزمت هذه الام على إسقاطه وإجهاضه لانها موقنة انه سيولد معاقا حتما لان ثلاثة من أخوته الثمانية الذين يفوقونه عمرا مصابون بالصمم التام واثنين مصابين بالعمى وواحد متخلّف عقليا، ووالدته ايضا كانت تعاني امراضا عديدة في أحشائها واخذَ مرض الزهريّ يفعل فعله في جسدها ولكن في اللحظة الاخيرة قررت الابقاء عليه في احشائها ؛ فالربّ الكبير هو الراحم على عباده وهكذا كان، وفي تاريخنا العربي نرى العديد من مبدعينا المعاقين الذين اثروا الانسانية بعطائهم سواء من الاسلاف أومن الاخلاف امثال ابو العلاء المعري وبشار بن برد والخطاط الذي لا يضاهيه أحد في عصرهِ ابن مقلة يوم قطعت يده المبدعة اليمنى فاستعان باليسرى ثمّ قطعوا لسانه لكنه مرّن يده اليسرى وأبدع اكثر مما كان من الاول، والامام الترمذي صاحب السنن الذي يعدّ مرجعا امينا للاحاديث النبوية وسيرة الرسول (ص ).

ومن قادة الفتوحات الاسلامية موسى بن نصير الذي أوسع رقعة البلاد الاسلامية وهو المصاب بعرَجٍ شديد واعوجاج في ساقيه ومثله الأحنف بن قيس ومن المحدثين طه حسين الأعمى ومصطفى صادق الرافعي الأصمّ اللذان ابتكرا النهج السليم لكتابة النثر العربي المعاصر والمقالة الحديثة بالاسلوب والطريقة التي نقرأها الان.

هلاّ سعيتم وحثثتم الخطى لانتشال معوّقينا من الوضع المزري الذي يعيشونه اليوم ايها الساسة المسؤولون على هذا الشعب المقهور وخاصة شريحته المعاقة وليتكم تبدأون بالمعْوزين والفقراء منهم عسى ان تخففوا من الأعباء التي أثقلت كاهلهم، لا نريد عطفا وانكسارا وجبرا للخواطر وتأسّيا فارغا لا يسمن ولا يشفي ولا يغني عن حاجة ، شـــمّروا عن سواعدكم وأعطوهم ما يحتاجونه من علاج ورعاية واهتمام ليشعروا انهم مازالوا في عداد الأحياء الفاعلين في المجتمع، وكم يحزّ في نفوسهم حينما يشعرون انهم منسيـون ويعيشون مهمشين وكأنهم ينتظرون موتهم بين لحظة واخرى فارحموا من في ارض السواد من معوقينا عسى ان يرحمكم الخالق الرؤوف الذي وسعت مغفرته كلّ الذنوب والآثام الكثر التي اقترفتموها.

***

جواد غلوم

تعددت وتكاثرت الصور والأحداث، التي تساهم في تشويه الإسلام وتقدمه، وكأنه دين للقتل والإرهاب بكل صنوفه وإشكاله. ولعل آخر هذه الأحداث، هو قيام حركة بركوحرام في نيجيريا في اختطاف طالبات بريئات وصل عددهن (223) في شمال البلاد وإعلان أحد قيادات هذه الحركة التكفيرية أنهم ينوون بيع هذه النساء في سوق النخاسة.. إضافة إلى استمرار عمليات القتل العشوائي والتفجيرات التي تطال الأبرياء في أكثر من بلد عربي وإسلامي. وكلها أحداث تجري باسم الإسلام، والإسلام منها بريء براءة الذئب من دم يوسف..

و لكن الذي ينبغي إثارته ومناقشته حول ظاهرة هذه الأحداث العبثية والخطيرة في آن، هو كيف نساهم في وقف هذه الإحداث الإرهابية، وكيف نحول دون استمرار تشويه سمعة الإسلام من جراء أفعال هذه الجماعات التكفيرية والعنفية، التي لا تتورع عن القتل وسفك الدم.. نحاول أن نجيب على هذه الأسئلة من خلال النقاط التالية:

1ـ تتأكد الحاجة العربية والإسلامية في كل أمصار البلاد الإسلامية، إلى ضرورة السعي والعمل من أجل تفنيد وتفكيك خطابات جماعات العنف والتكفير، والتي تغطي أفعالها الشنيعة بمفردات دينية وخطابات إسلامية عامة. لأن الصمت تجاه خطابات العنف والتكفير والإرهاب، يساهم في اتساع رقعة هذا الخطاب الذي يحث على العنف والإرهاب ويبرر ممارستهما.

و هذا بطبيعة الحال يتطلب القيام بهجوم علمي ـ ثقافي على كل الخطابات التي تسوغ ممارسة العنف والإرهاب، وبيان تهافت هذه الخطابات، وعدم انسجامها مع ثوابت الدين والشريعة..

فلا صمت أمام ماتقترفه جماعات العنف والإرهاب باسم الإسلام.

ولعلنا لا نجانب الصواب حين القول : أن التبرير الديني أو السياسي لأفعال العنف والإرهاب، يعد مشاركة مباشرة في عمليات العنف والإرهاب. لأن هذه الجماعات تتغذى من منظومة قيمية فكرية، وإن ممارسة التبرير لهذه الأفعال، يعد وفق كل المقاييس مساهمة معهم في فعل العنف والإرهاب.

و لعل الصمت المريب الذي مارسته أكثر الجهات الدينية والفعاليات الإسلامية، هي ساهمت بطريقة أو أخرى، في استمرار عمليات العنف والإرهاب، وأتساع رقعتها. وإن استمرار الصمت يعني المزيد من أتساع رقعة العنف والإرهاب. وهذا بطبيعة الحال له مضار وسيئات نوعية كبرى على كل البلدان والأوطان، وعلى طبيعة النظرة والتعامل مع الدين الإسلامي. لذلك ثمة ضرورة دينية وأخلاقية لتراكم كل الجهود العلمية والثقافية والاجتماعية، صوب تفكيك الخطابات التي تبرر ممارسة العنف وتحرض على فعل الإرهاب..

2ـ آن الأوان بالنسبة إلى كل النخب الدينية والسياسية والثقافية لإنهاء ازدواجية الخطاب والتعامل مع الإرهاب وممارسة العنف لأغراض سياسية.. فلا يوجد على المستوى الواقعي إرهاب مقبول وإرهاب مرفوض، لعنف نساهم في التحريض على ممارسته، وعنف آخر نحاربه ونسعى لتجفيف منابعه. إننا نعتقد أن هذه الثنائية والازدواجية ساهمت بطريقة غير مباشرة في حماية جماعات العنف والإرهاب. لذلك ثمة حاجة لإنهاء هذه الازدواجية ورفض كل أشكال العنف والإرهاب، ومحاربة كل الجماعات والتيارات التي تمارس الإرهاب وتحرض على العنف. لأن فعل الإرهاب ينبغي أن يدان بصرف عن إستهدافاته أو المصالح السياسية التي قد تجنيها بعض الأطراف من هذه الممارسات الإرهابية والعنفية. فقتل الأبرياء لا يمكن تبريره في كل البلدان والمجتمعات، وينبغي علينا جميعا أن ندين جميع عمليات القتل والتفجير. لأن رفع الصوت حول أحداث بعينها وصمتنا المريب حول أحداث أخرى مشابهة، يثير الكثير من علامات الريبة والاستفهام. وهي على المستوى الواقعي شكل من أشكال تأييده لأغراض سياسية.

و هذا بطبيعة الحال يجعل من أصحاب هذه المواقف المزدوجة، في محل حماية واقعية لمن يمارس الإرهاب في سياق سياسي يفيدني أو لي مصلحة في استمراره. وهذا بطبيعة الحال يحول الإرهاب وممارسته إلى حاجة لدى بعض الأطراف في صراعاتها الدينية والسياسية. لذلك آن الأوان لرفع الصوت ضد الازدواجية في الخطاب والتعامل مع ظواهر العنف والإرهاب. فكل جماعات العنف والتكفير والإرهاب، ينبغي أن تدان وتحارب. ولا يجوز أن يتم التعامل مع الممارسات الإرهابية والعنفية في بعض الساحات وكأنها أعمال شرعية ـ جهادية، وفي ساحات أخرى هي أعمال إرهابية ـ عنفية.. فلا ثنائية في التعامل مع هذه الآفات التي تهدد الجميع. ولقد أبانت الكثير من التجارب السياسية والاجتماعية أن الازدواجية في التعامل مع هذه الظواهر الخطيرة، سينعكس سلبا حينما تتغير الظروف والأحوال على من حابى الإرهاب في أي ساحة من الساحات. لذلك لا خيار حقيقي أمام كل الأطراف والفعاليات إذا أرادت محاربة العنف والإرهاب على نحو حقيقي، إلا رفض كل الخطابات والممارسات الازدواجية في التعامل مع جماعات العنف والإرهاب.

3ـ حين التأمل في مسار وتجربة الكثير من جماعات العنف المسلح، والتي مارست الكفاح المسلح لأغراض سياسية واجتماعية. نجد أن بعض هذه الجماعات وفي لحظات وظروف زمنية معينة، تحولت هذه الجماعات إلى ما يمكن تسميته (بندقية للإيجار). بمعنى أنه في الظروف الذي ينسد فيها أفق العمل المسلح، تتحول هذه الجماعات إلى بندقية للإيجار وتقوم ببعض العمليات المسلحة لأغراض ليست من صميم مشروعها وكفاحها. وفي مستوى آخر فإن أغلب هذه الجماعات ذات عقل سياسي محدود وضيق، فيتم التقاطع معها من بعض الأطراف سواء محلية أو إقليمية ودولية، مما يفضي إلى استخدام قوتها المسلحة وخبرتها العسكرية لأغراض سياسية مرتبطة بشكل مباشر بتلك الأطراف التي تقاطعت مع جماعات العنف المسلح. لذلك فإن استقرار مجتمعاتنا وأوطاننا، يقتضي الوقوف بحزم على مختلف المستويات ضد جماعات العنف والإرهاب. وإن هذا الوقوف يقتضي العمل على رفع الغطاء الديني والاجتماعي عنها، والعمل على تفكيك خطاب هذه الجماعات الديني والثقافي وتضافر كل الجهود من أجل صياغة مشروع وطني متكامل في كل البلدان العربية والإسلامية لمحاربة جماعات العنف والإرهاب.

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

النقد تفاعل حضاري يساهم في التطور والرقاء، وبحاجة إلى وعي جمعي وثقافة تسامحية تفاعلية ذات قيمة إنسانية، مؤثرة في صناعة الحياة الأفضل.

وفي مجتمعاتنا يغيب النقد، وتتخمر السيئات في أوعية التجاهل والغفلة وعدم الشعور بالمسؤولية.

ومن الواجب أن تدرك الأجيال قيمة النقد للوصول إلى الحقيقة، التي بموجبها تتحدد مسارات الصيرورة الجماعية، وتتحقق الأهداف المنشودة.

وهذه إطلالة على النقد من بعض الزوايا:

أولا: نقد العقل أم السلوك؟!!

المفكرون العرب إهتموا بنقد العقل، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، ولا تزال مشاريعهم في ذروتها، لكنها لم تخلص إلى نتيجة ذات قيمة حضارية وتفاعلية تساهم في البناء والتقدم والتحضر.

والعلة تكمن في أن النقد موجه إلى حالة غير موجودة أو مفقودة ومغيبة ، وكأننا ننتقد السراب أو الدخان، ولهذا لم ينجح المفكرون في بناء المناهج المعاصرة الكفيلة بنقل العرب إلى حالة متفاعلة مع زمانها ومكانها.

فأين العقل الذي ننتقده؟

وما هو ذلك العقل؟

وهما من الموضوعات اللا مُفَكر بها عبر الأجيال.

فالخطاب يتوجه نحو العقل، والعقل غائب أفقيا وعاموديا، فالمجتمع لا يستعمل عقله، ومنذ الصغر ينشأ الناس على تعطيل العقل، والجري وراء "قال"، وكل ما عداها محال.

فالمجتمع فيه قِوى وإتجاهات تلغي العقل وتحرّم إستعماله، وتدعو للتجهيل والتعويل على الذين يوهمونهم بأنهم يمثلون الدين، فتحول البشر إلى عبيد عندهم، وبضائع في أسواق متاجراتهم بالدين.

ولهذا فأن نقد العقل لا يمكنه أن يأتي بنتيجة ذات قيمة، لأن البشر عبارة عن مقاطعات مملوكة لقوى تسخرها لما تشاء، ولا يمكنها أن تتصرف وفقا لما تشاء، وإن تساءلت أو نظرت وتفكّرت، فأنها ستحسب من الخارجين عن التقاليد ومن المرتدين والكافرين .

إن مخاطبة العقل أو نقده لن تأتي بأكلها إن لم يتحرر الإنسان العربي من أصفاده ويدرك أن في رأسه دماغ ومن واجبه أن يستعمله مثلما يستعمل يديه، ولا يكون خانعا وتابعا ومعتقلا في أضاليل الذين يمتهنونه، ويحاصرونه بالفقر والقهر والحرمان من أبسط الحاجات.

فالأمة بأجيالها تضع العقل على الرف، ولا تعرف أن تفكر، و تسأل و تتصور وتبحث عن جواب غير الذي يتم تلقينه لها مرارا وتكرارا وعبر الأجيال.

وهكذا فأن الخطاب العقلي لا يلقى رواجا، والذي يسود هو الخطاب الإنفعالي العاطفي الذي يتفاعل مع النفوس ولا يقترب من العقول.

ومن هنا فأن الواجب يقع على الذين يجيدون مخاطبة النفوس، وإخراجها من أقبية الضلال التي تكبلها وتقضي على الوجود المجتمعي، بما تؤججه فيها من مرادات السوء والبغضاء والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، الذي تسوغه أنى تشاء أسواق بضائعها النكراء.

ثانيا: القائد بحاجة إلى نقدٍ ومعارضة!!

القائد هو الذي يعبّر عن إرادة مَن يقود، فهو صاحب مؤهلات وقدرات إستشرافية وآليات إدراكية، ومهارات تنفيذية تساهم في تحقيق مصالح شعبه أو مجتمعه أو دائرته ومؤسسته، أيا كان موقعه القيادي.

ولابد من إمتلاكه لقدرات إلهامية وقابليات تحفيزية، تثير في مَن يقود الحماس والإرادة للوصول إلى الهدف المطلوب وفقا للرؤية القيادية، ويكون صاحب أفكار، ويتمكن من التواصل بوضوح مع الآخرين.

ونزيها وأمينا صادقا، يقدّم حلولا ويحلل المواقف والمواجهات، ويبحث عن النتائج، ناجحا في علاقاته، مهنيا، يمتلك ستراتيجية، ويساهم بتطوير الآخرين وإبتكار القدرات.

ولا يمكنه أن يصل إلى نتائج ذات قيمة إنجازية ومؤثرة في التقدم والرقاء إن لم يكن متفاعلا، وقادرا على قراءة ما يجيش في أعماق الذين من حوله وتحت إمرته، ولهذا فهو بحاجة إلى نقدٍ وتقييم وتقدير لما يقوم به ويقرره، بمعنى أن عليه أن يُخضِع قرارته وتصوراته للنقد ولفحوصات معارضيه لكي يبصر سواء السبيل، وإلا فأنه سيكون كالميت الذي يتفاعل مع الحياة.

وهذا المفهوم للقائد يغيب في المجتمعات التي تقاسي ويعم فيها الفساد، وتهيمن على وجودها التداعيات والإنكسارات المتنوعة، ويخيّم على وجودها الإحباط واليأس والقنوط، وعدم الثقة بنفسها وحاضرها ومستقبلها.

فأول عاهة إعتبار المعارضة أعداء، وأي رأي معارض عدوان، والنقد إعتداء سافر على مقام السلطان، فالواقع الذي يؤدي إلى تداعيات مريرة، يؤكد إنتفاء مفهوم القائد وسيادة مفهوم الفردية والنزقية والتبعية، وتعطيل العقل ومصادرة الرأي، والقضاء على ما هو صالح لخدمة الوطن والمواطن.

فالعلة الكبرى أن الذي يتسنم المسؤولية في هذه المجتمعات يعيش في عالم منقطع عن الواقع الحقيقي للحياة، ويكون متأثرا بالمراسيم البروتوكولية والتفاعلات التبجيلية، التي تخرجه من كونه من بني آدم وتوهمه بأنه قد إعتلى عرش فرعون وأكثر، حتى ليُصاب بتشويشات إدراكية وتفاعلات هذيانية ووهمية تدفع به إلى إتخاذ قرارات فجائعية بحق نفسه وحزبه وشعبه وغير ذلك، وقد حصلت مثل هذه الحالات في مجتمعات عديدة أودت بالقادة إلى نهايات مروعة، بسبب الإنقطاعية وفقدان الحاسة القيادية الحقيقية، وعدم الشعور بأن الزمن يتحرك والدنيا تتبدل، فيتوطن القائد بركة من الأفكار والأوهام التي تتعفن وتفسد وتقضي على مَن فيها.

وعليه فأن القائد الحقيقي هو الذي يكون متقبلا للنقد ومُراجعا لما يقوم به، ومصغيا للمعارضين وتقييم وجهات نظرهم وآرائهم، والعمل على الأخذ بها أو ببعضها وعدم إهمالها والنظر إليها بعين الكراهية والعدوانية التي تتسبب بزيغان البصر.

فهل لدينا قادة بهذه المواصفات لكي تتقدم مجتمعاتنا ؟!!

ثالثا: النقد الحُكمي والسلوك الحتمي!!

أجاب أحد القراء الحاذقين عن سؤال، لماذا يتخذ الناس سُبلا تتعارض مع الحقائق والأدلة العلمية ويجنحون نحو إتباع الغيبيات، بقوله أن المثقفين والكتاب يوجهون لهم إنتقادات عامة وشديدة، مما يجعلهم في موقف دفاعي وتحدي رافض لما يصفونهم به!!

توقفت عند هذا الرأي أو الجواب وتفحصته جيدا!!

فهو رؤية من زاوية مختلفة تماما ويشير إلى نظرة تستحق الدراسة!!

فالسائد في الكتابات المنشورة أن الكاتب يضع نفسه في صومعة المثالية والعلائية، ويبدأ بالكتابة عن الحالة التي يتصدى لها، وأول ما يتناوله أنه يلغي العقل الجمعي ويحسب الناس قطيعا خانعا لقوة ما تتحكم بمصيرها، فينهال عليها بالأوصاف والتسميات التي تستحضرها ذاكرته ويبدعها قلمه، ولو أنه وُضِع مكانها لتصرف بأشد مما تتصرف به!!

فالأقلام تنهال على المجتمع وتشحذ فيه طاقات التمسك بما يقوم به وإن عَرَفَ بأنه خطأ، وذلك ردا على العدوان الواقع عليه من الكتاب والمثقفين، وبسبب ذلك فقدَ الكاتب والمثقف دوره في بناء الإنسان ومساعدة المجتمع للخروج من محنه المتواكبات.

أي أن الكاتب يساهم في شل المجتمع وتحرير طاقاته السلبية، ولا يعرف كيف يساعده على الإستثمار بطاقاته الإيجابية الصالحة لبناء الحياة الأفضل.

والواقع الحقيقي أن الناس موضوعة في صندوق، وتنهال عليهم القوى الطامعة فتجردهم من الإرادة والخيار وتندفع في تعليمهم العجز والإستسلام، ويأتي الكتاب ويزيدون الطين بلة، فيعززون السلوك الذي تريده القوى الطامعة بالبلاد والعباد.

والمطلوب أن يتنبه الكتاب إلى ما يكتبون، وكيف يكتبون ويختارون المفردات ويضعونها في عبارات ذات قيمة إيجابية، بدلا من التفاعل السطحي الإنفعالي الحُكمي المؤذي لمسيرة الحياة، والذي يدفع إلى مزيد من التداعيات والخسران.

فهل لنا أن نكون مع الجماهير وفيهم عندما نتناول ما يخصهم من الموضوعات، ونبتعد عن الخيالات والتصورات المستحضرة من المدن الإفلاطونية، والأوهام والهذيانات السرابية، التي إنشغل بها المفكرون والمثقفون العرب، وما إستطاعوا أن يؤسسوا لتيار فكري حضاري نهضوي معاصر.

رابعا: النقد النفسي!!

هو القراءة الموضوعية المحايدة للحالة بمنظار نفسي سلوكي بحت، ولا يعنيه الخطأ أو الصواب، وإنما تسليط الأضواء النفسية والسلوكية، ولتأكيد الرؤية التي تظهرها الأسئلة التي تطرحها، وهي مساهمة في التنقية والتطهير من الأضاليل الملوثة للحالة أيا كانت.

فالنقد النفسي ناصع طاهر مجرد من الميول العاطفية والمواقف المسبقة والتصورات المؤدلجة.

إنه ينظر بعيون السؤال ويبحث عن الجواب، ويغوص في حيثيات الحالة وفقا لمعطيات مكانها وزمانها، ولا يفرض عليها ما يعيشه في عصره الذي قد يبعد عنها قرونا عديدة.

ويبدو أن ما ينقص الواقع الفاعل فينا، أن القراءة النفسية غائبة، وما يسوده القراءات الإنحيازية المؤدلجة المتطرفة، الغارقة بالتبريرية والتسويقية، والهادفة لإستعباد الأجيال وتضليلها لأغراض معادية لروح الأمة وجوهر دينها، ومانعة لتطلعات أجيالها وقدرتهم على الحياة الأفضل.

وقد يرى فيها البعض غير ما تذهب إليه ويحسبها عدوانا عليه، وهذه مشكلته لأنه متسلح بعواطفه ومتخندق في ترسانة إنفعالاته، التي تمنعه من إعمال العقل وتوظيف طاقاته لما يحقق طموحاته ويكشف الغشاوة عن بصيرته، ويريه الحقيقة ويجرده من الضلال والبهتان والدجل المعفر بالقدسية والإمتهان.

وقد يبدو النقد النفسي خطيرا وخارجا عن النهج العام ويتجاوز الخطوط الحمراء، وقد يُتهم أصحابه بالكفر والزندقة والإلحاد ويتحقق الإعتداء عليهم.

وهذا سلوك المعادين للصراط المستقيم، الذي ما أن تلد الأمة من يأخذها إليه، حتى تثور ثائرة الوحوش الكامنة فيها، فتكشر عن أنيابها ومخالبها وتنقض على أصحاب الرأي من المصلحين والمفكرين والمنورين.

وكم عانت الأمة وأعطت من الشهداء على هذا الطريق الذي لا بد لها أن تسلك لأن ما ينفعها سيبقى وسيذهب الجفاء.

ويموت الضلال والتضليل وتدرك الأمة جوهرها وحقيقة دورها، ومعنى ذاتها الإنسانية.

وهكذا فأن من ضرورات المواكبة والمعاصرة والجريان الدافق في نهر الحياة، أن تستوعب المجتمعات أهمية النقد ودوره في إطلاق ما فيها من الطاقات والقدرات الأصيلة، لكي تكون بحجم ذاته ويسطع جوهرها.

فهل من جرأة في إعمال العقل، والنقد العلمي الواعي البنّاء؟!!

***

د. صادق السامرائي

أثار الروائي واسيني الأعرج ضجة ثقافية حول قصيدة " حيزية " للشاعر الشعبي محمد بن قيطون وما توصل إليه واسيني الأعرج من فرضيات أن حيزية ماتت مسمومة وأن الشاعر محمد بن قيطون هو عاشق حيزية وشخصية سعيد هي وهمية. كل هذا آثار نقاشا بين الكتاب والمثقفين وهو ظاهرة صحية حركت المياه الثقافية الراكدة.

يبين لنا الكاتب " مفيد نجم " العلاقة الملتبسة بين الرواية والتاريخ فيقول: "  تطرح العلاقة الملتبسة بين الرواية والتاريخ جملة من الأسئلة المنهجية والبنيوية حول طبيعة هذه العلاقة وحدودها، نظرا للتداخل الحاصل بينهما على مستوى الشكل والوظيفة من جهة، وعجز هذه الثنائية عن تقديم هوية سردية جامعة من جهة ثانية. يتم التعبير عن هذه الإشكالية من خلال الجدل المستمر حول المصطلح الدال على هذا النوع من الرواية بين كتاب الرواية والنقاد والدارسين. 

يتنازع مصطلح الرواية التاريخية طرفان مختلفان في الرؤية والمفهوم هما الرواية والتاريخ، فالرواية التي هي عمل ذاتي وفني وتخييلي يتميز عن الكتابة التاريخية التي تدعي الموضوعية وتعمل على تفسير التاريخ. من هنا كان الجدل وما زال مفتوحا بين النقاد والدارسين حول هذا المصطلح الملتبس والإشكالي وقدرته على التعبير عن واقع الرواية التي تظل محكومة بتأثير التاريخ عليها"(1).

قضايا التاريخ دائما تثار حولها ضجة خاصة إذا تناولها الروائيون في أعمال سردية والروائي بطبعه ليس مؤرخا بل يصنع من المادة التاريخية عملا سرديا متخيلا وإن كان يستند على الوقائع التاريخية..

وهذه  القضايا التاريخية التي تناولها الروائيون في أعمالهم الإبداعية وأثارت تلك الأعمال أثناء صدورها ردود أفعال متفاوتة بين متقبل للعمل وناكر له هي من صميم إبداعهم ككتاب مبدعين رأسمالهم الخيال فلا نحاسبهم على التفاصيل الدقيقة للأحداث التاريخية، فهناك من النقاد والدارسين من يكيلون الاتهام للروائي لأنه منحاز لوجهة نظر تاريخية على حساب وجهات نظر أخرى فكأن هذا الكاتب الروائي يسلط الضوء على مرحلة تاريخية معينة تخدم إيديولوجيته أو إيديولوجية دولة معينة طمعا في الفوز ببعض الجوائز وانتشار عمله الروائي على نطاق واسع وهذا مطمح كل كاتب.. فأين الحقيقة من كل هذا وكيف نظر النقاد إلى تناول الرواية للقضايا التاريخية؟

في البداية ينبغي أن نفرق بين التاريخ والتأريخ هكذا يقول الكاتب زياد الأحمد: "نبدأ بالتفريق بين التّاريخ والتأريخ: فالتأريخ بالهمز: هو الكتابة عمّا حدث أمّا التّاريخ فهو إعادة قراءة ما حدث، وإعادة كتابته بصورة أخرى أقرب إلى الحقيقة التاريخيّة ومن هنا كان الإشكال بين الرواية والتاريخ وليس التّأريخ (بالهمز) لأنّ الأديب يقرأ الأحداث بعينين: الأولى واقعية والثانية تخييلية ويعيد كتابتها في بنية فنية"(2)

فالكاتب ليس مؤرخا ينقل الأحداث كما وقعت نقلا حرفيا بل هو فنان يملك القدرة على التخيل فيستلهم من الواقع التاريخي مادة للأعمال الروائية يصبغها بذاته وتصوراته ويسقطها على الواقع المعاصر وكل هذا في عمل بنائي فني جمالي مبهر.

والسؤال المطروح هل الرواية تمثل تعويضا للتاريخ وبديلا عنه ؟فحسب  كارلوس فونتيس الروائي وعالم الاجتماع المكسيكي (1928-2012) فإن الرواية هي تعويض للتاريخ فهو يقول: “أعتقد أن الرواية تمثل الآن تعويضا للتاريخ، إنّها تقول ما يمتنع التّاريخ عن قوله…. نحن كتاب أميركا اللاتينية نعيد كتابة تاريخ مزور وصامت، فالرواية تقول ما يحجبه التّاريخ” (3).

وحتى يخرج النقاد من هذا الجدل حول إشكالية الرواية والتاريخ واتهام الروائي في كثير من الأحيان أنه يشوه الحقائق التاريخية لحساب قراءة منحازة إيديولوجية كما حدث للروائي الشاب " عبد الوهاب عيساوي " في روايته الفائزة بجائزة البوكر العالمية " الديوان الإسبرطي" ففي تقديمه لكتاب" الرواية والتاريخ، وقائع الأرشيف ومجازات السرد" لصبحي حديدي يقول الكاتب محمد بكري: "دعا عبدالله إبراهيم، في كتابه “التخيّل التاريخي” إلى إحلال مصطلح “التخيّل التاريخي” (الذي يعني المادة التاريخية المتشكلة بواسطة السرد، وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقية والوصفية وأصبحت تؤدي وظيفة جمالية ورمزية) محل مصطلح “الرواية التاريخية”، مؤكدا أن هذا الإحلال سوف يدفع بالكتابة السردية إلى تخطي مشكلة الأنواع الأدبية وحدودها ووظائفها، ويفكك ثنائية الرواية والتاريخ، ويعيد دمجهما في هوية سردية جديدة، فلا يرهن نفسه لأيّ منهما، كما أنه سوف يحيّد أمر البحث في مقدار خضوع التخيلات السردية لمبدأ مطابقة المرجعيات التاريخية، فينفتح على كتابة لا تحمل وقائع التاريخ ولا تعرّفها، إنما تبحث في طياتها عن العبر المتناظرة بين الماضي والحاضر، وبين التماثلات الرمزية فيما بينهما، فضلا عن استيحاء التأملات والمصائر والتوترات والانهيارات القيمية والتطلعات الكبرى، فتجعل منها أطرا ناظمة لأحداثها ودلالاتها"(4).

بهذا يتحرر الكاتب من تهمة تزوير التاريخ ويحاكم وكأنه مؤرخ ينقل الأحداث والوقائع كما هي لا كسارد يعتمد في كتاباته على مخيلته وإن كانت مستندة على مادة تاريخية فكتابته هي تاريخ متخيل او خيال يركن إلى فترة تاريخية معينة ..

***

الكاتب والباحث في التنمية البشرية

شدري معمر علي

........................

المراجع:

1- مفيد نجم، حوار الرواية والتاريخ: مشكلة المصطلح، مجلة الجديد.

2- زياد الأحمد، العلاقة بين الرواية والتاريخ، مجلة الجديد .

3- مجلة الكرمل العدد 18 نقلا عن مجلة الجديد..

4- محمد بكري، صبحي حديدي يدرس علاقة التاريخ بالرواية في أعمال سردية، جريدة العرب

(هكذا استثمر المبشرون في الثورات والحروب الأهلية بين الأنظمة والحركات الإسلامية)

يبحث المبشرون اليوم عن سبل العودة للمغرب الإسلامي مستغلين في ذلك تردي الأوضاع في البلدان العربية التي عاشت الثورات والحروب الأهلية كما تستغل مباحث تاريخ الأديان ومقارنتها في جامعات المغرب العربي لتطرح مشروعيتها، حيث اتجهت بعض المنظمات التنصيرية إلى أساليب جديدة في عملياتها التبشيرية، باستغلالها الأغاني الشعبية التي تغلب عليها الصبغة "الصوفية" وتحويلها إلى أغنية تنصيرية تدعو للتحول إلى النصرانية، وهي تعد من أخبث ألوان التخطيط، يحدث هذا أيضا في منطقة القبائل بالجزائر عن طريق تعليم تلاميذ المدارس أغاني تنصيرية.

يعود الاهتمام بالمغرب العربي كونه يعد من أكثر الأقطاب والبلدان ثراءً من ناحية الكثافة السكانية التي يزخر بها، حيث كان مسرحا للتنوع الثقافي، فكان اللعب على وتر هذا التنوع عاملا مساعدا للسيطرة على المنطقة وتنفيذ المخططات والقضاء على الوحدة القومية للمغرب العربي ونشر الأباطيل والشبهات حول الدين الإسلامي، ونشر كذلك الانحلال والتفسخ الأخلاقي ومظاهر الفسوق والمجون داخل المجتمع، والقضاء على التنوع الثقافي والعادات والتقاليد ونشر الثقافة الاستهلاكية والتبعية للغرب، فتاريخ التنصير في المغرب العربي بدأ منذ انحسار ظل الدولة الفاطمية وتدهور أوضاع دولة الموحدين، وهجرة رهبان الفرنسيسكان والدومنيكان إلى دول المغرب العربي والحملات التي قادها رامون لول، إلى غاية الاحتلال المسيحي لدول المغرب العربي، وشجع تسامح الحكومات المغاربية مع المسيحيين توغل المسيحيين والمتنصرين.

فبين الإسلام والغرب ضراوة أحقاد قديمة وعداء ديني من قبل الكنيسة كرد فعل للفتح الإسلامي الممتد في أوروبا وشقيقاتها، ما أدى إلى تحول الكنيسة إلى العالم الإسلامي وبالخصوص المغرب العربي، وما ساعد على الغزو التنصيري توافر المناخ الثقافي من خلال اللغة الفرنسية، على الرغم من أن مسار التعريب يواصل مجراه، فإن اللغة الفرنسية ما زالت تشكل أداة العمل في كل المواقع الإدارية منها والبيداغوجية، وقد كان لها دور كبير في تأهيل شعوب المغرب العربي في استقبال الإرساليات التنصيرية من خلال التبادل الثقافي، وقد سبق وأن سلط أكاديميون ومختصون في مقارنة الأديان الضوء على ظاهرة التنصير في المغرب العربي عامة وفي الجزائر خاصة في ملتقى حول الحركة التنصيرية في المغرب العربي، ناقش فيه أكاديميون ظروف تعرض أقطار المغرب العربي للظاهرة الاستعمارية الاحتلالية الحديثة وكيف مكنت هذه الأوضاع المبشرين من أن يندسوا ويبثوا سمومهم في نشر العقيدة الإنجيلية تحت كل المسميات: الإغاثة، التطبيب، حوار الثقافات وحوار الأديان.

لم يكن عامل الفقر والبطالة الخيط الذي ربط به المبشرون الشباب العربي وحده، فالمخطط النصراني شمل مختلف الجوانب الدينية والسياسية والثقافية من أجل خلق الصراع بين المسلمين، تذكر الأرقام أنه في الأيام الأولى من استقلال الجزائر (كعينة) كان هناك 327 كنيسة لأقل من 700 معمر أوروبي مسيحي ممن لم يرحلوا مع فرنسا وأثروا البقاء في الجزائر وبالمقابل لم يكن يتعدى عدد المساجد 116 مسجدا لأزيد من 08 مليون جزائري مسلم، وبعد اعتماد الكنائس من السلطات الرسمية في الفترة بين 1969 و1974 تأسست جمعيات تنصيرية، أهمها الجمعية الأسقفية الجزائرية واللجنة المسيحية للخدمة في الجزائر، تشير المصادر الى وجود 16 جمعية تنصيرية في الجزائر العاصمة وحدها، و20 جمعية في منطقة القبائل، هذا وبداية من سنة 2004 اجتاحت حملة تنصيرية شرسة ترمي إلى تمزيق الشعب المغربي المسلم عرقيا وعقديا وأخلاقيا، وتفتيت قوته وإضعاف مقاومته لإلغاء هويته الإسلامية وعروبته على يد أجنبي متكالب كي يتمكن من مسخ هويته واستنزاف ثروته الوطنية وتوسيع رقعة ما يطلق عليه اسم " فرنسا ما وراء البحار"، تذكر الدراسات عن ارتداد 2000 مغربي عن الإسلام في ظل وجود أكثر من 800 منصر، ومصادر أخرى تقول 500 منصر حسبما جاء في دراسة أجراها الباحث المغربي العايب يوسف نشرت في صحيفة المساء المغربية.

وفي تونس زاد عدد المسيحيين خلال السنوات الأخيرة وشكل قدوم أعداد كبيرة من الأفارقة المعتنقين للدين المسيحي، وامتد اعتناق المسيحية في تونس إلى مدينة جربة السياحية جنوبا، وفيها أعيد افتتاح كنيسة القدّيس يوسف بعد 30 سنة من إغلاقها، في تونس يفوق عدد المسيحيين اليوم 20 ألف مسيحي لهم 11 كنيسة، وتكشف نفس الدراسة أن الأرقام في موريتانيا تبقى شحيحة جدا لكن نشاط المنظمات التنصيرية يلقى تجاوبا كبيرا من المجتمع الموريتاني بسبب الفقر والجهل، وتوجد في موريتانيا أكثر من 100 منظمة غربية..، ولكون مسألة التنصير لم تطرح في ليبيا، شرعت بعض المنظمات في غرس هذا السم في قلب الشعب الليبي، تذكر تقارير تورط قساوسة ووعاظ يعملون لدى شركة أمريكية تعمل على نشر التبشير في ليبيا في إطار منظمة تحمل اسم "جماعة الله" وهي مؤسسةً دينيةً تضم أكثر من 13 ألف كنيسة منتشرة حول العالم، ومقرها في أمريكا، وتضمّ نحو 53 مليوناً من المسيحيين البروتستانت وينصبّ تركيزها على فئة الشباب، ولديها مؤسسات تعليمية خاصة، وتمتلك فروعاً في آسيا وإفريقيا وبعض الدول العربية وتهدف إلى نشر الديانة المسيحي.

الأسباب تعود إلى الأوضاع الحالية التي تمر بها البلاد، ضف إلى ذلك غياب الدعوة الإسلامية والصراعات التي تدور بين الحركات الإسلامية وانشغالها بالنزاعات السياسية إن استهداف ليبيا واستغلال ظروفها يعود إلى كونها من الدول السادسة عشر على مستوى العالم من حيث المساحة وتملك من بين الدول المطلة على البحر المتوسط ساحل عريض يبلغ طوله حوالي 2000 كلم، تتكون من ثلاثة أقاليم: طرابلس، برقة وفزان)، وتعد ليبيا من حيث الديانات متجانسة إلى أبعد ما يمكن حيث يدين غالبية البلاد بالدين الإسلامي ويتبع أغلبهم المذهب المالكي، والأقلية البربرية تتبع المذهب الإباضي، حيث يمثل عدد المسلمين بليبيا نسبة 67 بالمائة، و03 بالمائة فقط ينتمون إلى ديانات أخرى، وقد نبه باحثون ومنهم الدكتور محمد عبد الدايم علي سليمان محمد الجندي إلى الخطر الذي يهدد الشعوب العربية والإسلامية وبخاصة دول المغرب العربي، وهو أن بعض المنظومات التنصيرية اتجهت إلى أساليب جديدة في عملياتها التبشيرية، بحيث أصبحت تستغل الأغاني الشعبية التي تغلب عليها الصبغة الصوفية وتحويلها إلى أغنية تنصيرية تدعو للتحول إلى النصرانية، وهو من أمكر وأخبث ألوان التخطيط التي تستعملها المنظمات التبشيرية.

فقد اتخذت هذه المنظمات من مهنة التطبيب كذلك وسيلة لتحقيق مآرب التنصير، وخصوصا عند تقديم العلاج والكشف المجاني على الفقراء وصرف أدوية مجانية من طرف البعثات الطبية، ويسعى المبشرون الى تكريس مفهوم عولمة ديانة الإمبراطورية الأمريكية عن طريق التنصير الإلكتروني، وقد اشار إلى ذلك باحث جزائري هو الدكتور الحسين عمروش من جامعة المدية في إحدى دراساته، حيث تسيطر الولايات المتحدة على أغلبية المواقع الإلكترونية وتحارب عن طريقها العقائد والقوى العسكرية والاقتصادية المعادية، مستخدمة التكنولوجية الضخمة التي توفرها المؤسسات التنصيرية من جعل الفضاء الإلكتروني مسرحا للحرب المقدسة والتي تطال شريحة الشباب باعتبارهم الشريحة الأكثر قابلية للتأثر، ما جعل العلماء والدعاة دق ناقوس الخطر، والدعوة إلى وضع آليات سياسية وقانونية لمواجهة ظاهرة التنصير في المغرب العربي

***

علجية عيش 

قيل إن التكنولوجيا خطر يتهدد الكتاب المطبوع وأن عصر الكتاب المقروء انتهى، فهل حقاً من الممكن أن يتهدد العقل عقلاً أقل تطوراً؟! أم أن الخطر الحقيقي على الكتاب هو اللاعقل؟

قديماً كانت الحروب الهمجية هى العدو الأول للكتب، إذ كانت تقام محارق جماعية لكبري المكتبات العالمية الشهيرة تأكيداً لانتصار المنتصر، وطمساً لذاكرة الشعوب. واليوم نشهد سلوكاً مماثلاً لبعض الهمج من الحاقدين على الإسلام يحرقون المصاحف جهلاً منهم بأن كثيراً من المسلمين هم مصاحف تمشى على الأرض يحفظون القرآن عن ظهر قلب. فهل باستطاعة أعداء الكتب أن يهزوا عرشه؟

الآن هناك موجة قادمة من التقنيات المتطورة تتمثل فى الذكاء الاصطناعى والميتافيرس وتكنولوجيا الجيل الخامس..تأتى تلك الموجة فى ظل مخاوف من انهيارات اقتصادية ومجاعات تتهدد البشرية فى المستقبل طبقاً لبعض الدراسات المتشائمة، فهل يصبح الكتاب المطبوع عبئاً يتم التخلص منه تدريجياً لصالح الكتاب الإليكترونى؟ 

إعدام الكتاب عبر التاريخ

شهدت الحروب والصراعات الهمجية واللاأخلاقية استهدافاً متعمداً للنيل من التراث الحضارى للأمم عبر حرق الكتب والمكتبات الضخمة الجامعة لمختلف علوم الأرض، وقد تكرر هذا كثيراً فى التاريخ الإنسانى منذ ما قبل الميلاد؛ كما حدث من حرق مكتبة آشور بانيبال عام 612ق.م وحرق مكتبة برسيبوليس 330 ق.م والأشهر منهما ما حدث من حرق مكتبة الإسكندرية العظمى 48 ق.م على يد يوليوس قيصر.

المغول فعلوا ما هو أفظع وأفدح؛ فكانوا يبيدون فى طريق اجتياحهم لبلدان العالم كل ما هو حضارى ومنه الكتب..وعندما دخلوا بغداد عاصمة الخلافة العباسية آنذاك أتوا على كل ما تحويه مكتبة بغداد الكبري من كتب وصنعوا بها جسراً لعبور نهر الفرات حتى أن النهر تحول من البياض إلى السواد جراء ما سال من أحبار الكتب داخل النهر الجارى!

الحملات الصليبية أحرقت عشرات المكتبات الكبري فى طريقها لأورشليم واعتبرت أن مثل تلك الفعلة الشنعاء نوع من التقرب للرب! ومثل هذا حدث عندما سقطت الأندلس فى قبضة الموتورين.

حرب ضد القراءة

فطن الغزاة القدامَى إلى حقيقة أن التخلص من الكتب بالحرق والإغراق والإعدام والمصادرة لا يوقف سريان الأفكار واستمرارها ربما بصورة أقوى وأشد رسوخاً مما سبق. ما جعلهم يتخذون منحى مختلفاً يعمدون من خلاله إلى مواجهة الأفكار بأفكار مضادة، أو تزييفها بإدخال ما هو مكذوب بها، أو مجابهة الأفكار بالصور والمرئيات بأساليب متنوعة عرفت بالغزو الفكرى.. إنه نوع جديد من الحرب ضد الكتب بطريقة ناعمة ماكرة لا تصادرها وإنما تدمر ما بها من أفكار سليمة لتستبدلها بأفكار مضللة.

مثل تلك الطريقة الخبيثة استطاعت أن تفعل ما لم تستطعه الحروب والمحارق..فأمكن عن طريقها تشويه العقائد وتزييف التاريخ ونشر التطرف وإخضاع الأمم. التليفزيون والسينما والفضائيات والسوشيال ميديا تلك هى الآن سارقات الأبصار والعقول، فلا وقت لقراءة كتاب ولو لساعة واحدة كل يوم، لكن الوقت كله متاح للبقاء أمام الأفلام والبرامج والإعلانات والأغانى لساعات أطول من ساعات النوم! ذلك هو التحدى الأكبر أمام الكتاب المطبوع اليوم..

طبقاً لبعض الدراسات الحديثة أن العرب لا يقرأون إلا فى النادر إن قرأوا..وأن متوسط عدد ساعات القراءة لديهم يبلغ من خمسمائة إلى ستمائة دقيقة فى الشهر أى ما يعادل نحو عشر صفحات سنوياً أكثرها لمطالعة الصحف والمجلات! وأن ما يتم طباعته من الكتب سنوياً إذا قورن بتعداد العرب فى الوطن العربي فإنه يوازى كتاب واحد لكل 12 ألف عربي! بينما على الناحية المقابلة فإن الدول الغربية المصدرة لثقافة الصورة والمرئيات بها أرقام مختلفة لعدد المطبوعات والكتب ومدى انتشارها بين العامة فى المتنزهات ووسائل المواصلات بل وحتى فى السجون. إنهم يحضوننا لاستهلاك ثقافتهم المغرضة، ويحتفظون هم بهويتهم الثقافية التى يضمنون بها تفوقاً حضارياً  يدوم!

ذخائر الغد

الحرب المدعاة بين الكتاب الرقمى والمطبوع تأتى فى صالح الكتاب المطبوع وتحوله فى حقيقة الأمر إلى كنز وتحفة وتراث يحرص أبناء اليوم على اقتنائه، خوفاً من أن يقل إنتاجه غداً..

كثيرة هى الندوات والمحاضرات والمساجلات التى شرحت المخاطر التى تواجه الكتب المطبوعة بسبب ارتفاع تكلفتها واحتياجها لخدمات كتابة وطباعة وتوزيع ونقل وتخزين وإمكانية تعرضها للتلف. بينما الكتاب الإليكترونى على عكس ذلك زهيد التكلفة طويل العمر قليل الحاجة للخدمات يمكن تخزين آلاف منه فى ذاكرة إليكترونية ضئيلة الحجم. لكن فى المقابل يدافع الناشرون التقليديون عن مهنتهم بأن عشاق الكتاب التقليدى لا يستطيعون الاستغناء عن سحر الكتاب الورقى وأن القراءة الإليكترونية المثيرة للملل لا يمكن مقارنتها بالقراءة الحية الممتعة لكتاب تحبه وتصحبه وتستمتع بمظهره وملمسه.

مثل تلك الحالة من المواجهة لا تثير عندى مخاوف أو شكوك فى ضياع المعرفة ذاتها، لأن الاختلاف بين الكتاب الورقى والإليكترونى هو مجرد اختلاف وسائل وشكليات لا اختلاف فى الجوهر. تماماً كما تطورت الكتابة على الحجر إلى العظام والأخشاب والجلود ثم إلى الرقاع والأوراق، وكما تطورت الكتابة باليد إلى الطباعة اليدوية ثم الطباعة الآلية.. إنه اختلاف وسائل لا أكثر.. بل حتى لو شهدنا يوماً يأتى فتختفى فيه الكتب المطبوعة لتحل محلها الكتب المرئية والمسموعة، فسوف تتحول المكتبات العامة والخاصة إلى نوع جديد من المتاحف التراثية، وسوف يصير اقتناء الكتب المطبوعة نوعاً من الرفاهية لا يملكها إلا أصحاب الثروات.. ستتحول الكتب المطبوعة حينئذ لكنوز حقيقية!!

الإعلام والنشر.. بالذكاء الاصطناعى

أحدث صيحات الكتابة والنشر التجريبية تقنية تشات جى بى تى التى طورتها شركة أوبن للذكاء الاصطناعى من خلال تدريب الذكاء الاصطناعي باستخدام قواعد البيانات النصية على اختلاف مصادرها بما في ذلك الكتب والمجلات ونصوص ويكيبيديا، بحيث تم إدخال 300 مليار كلمة في ذاكرة العقل الإليكترونى بغرض إعادة تقديمه فى أية صورة تُطلب منه..هكذا يمكن لتشات جي بي تي عند الطلب أن يصوغ لك نصاً معقداً يبدو وكأنه كُتب من قبل محترفين... سواء كان هذا النص علمياً أو أدبياً أو صحفياً، الأمر الذى قد يفتح الباب للاستغناء عن قطاع كبير من العمالة فى مجالات الكتابة بأنواعها ومنها الكتابة البحثية والأكاديمية وفى مقدمتها النشر والصحافة والإعلام! بل إن إمكانيات مثل هذا الشكل من الذكاء الاصطناعى تصل إلى حد إمكانية استنساخ طريقة كبار الأدباء القدامَى كأن نجد روايات لنجيب محفوظ لم يكتبها قط! فإذا كانت مثل تلك القدرات الهائلة فى الكتابة تولدت لدى الذكاء الاصطناعى وهو لم يزل بعد صبياً يافعاً، فما بالنا إذا نضج وتطور أكثر؟!

السؤال الأهم فى حالتنا هو : كيف نعبر نحن تلك الفجوة بين أمية معرفية وثقافية وتقنية وغزو فكرى أعطب العقل العربي لنقفز إلى عصر قادم يختلف فيه شكل الثقافة عما هو الآن؟!

***

عبد السلام فاروق

لماذا تدخلت أوروبا مرتين لإنقاذ عدوتها "الدينية المفترضة" الدولة العثمانية من السقوط بعد هزيمتها العسكرية أمام مصر محمد علي باشا، ثم تدخلت ثالثةً لإنقاذ حكم حفيد محمد علي (الخديوي توفيق) من ثورة أحمد عرابي ووضعت مصر تحت الحماية البريطانية. عن هذه المحطات التأريخية الكبرى التي ربما يجهلها البعض أدرج أدناه الخلاصات التالية من أكثر من مصدر:

* اسمه الكامل محمد علي باشا المسعود بن إبراهيم آغا القوللين، من بلدة "قولة" التابعة لمحافظة مقدونيا شمال اليونان عام 1769، ومن أسرة ألبانية. (ادعى آخر ملوك هذه الأسرة الألبانية وهو فاروق نسبا هاشميا حسينياً وفق ما جاء في بيان نقابة الأشراف برئاسة "محمد الببلاوى"، المنشور في صحيفة الأهرام بتاريخ 6 أيار/مايو 1952، وهو ادعاء لم يؤكده طرف آخر). بدأ محمد علي حياته عسكرياً بسيطاً، لم يكن يتكلم غير اللغة الألبانية وشيئا من التركية، ضمن قوة "المتطوعين" الذين أجبرت المدن التابعة للسلطنة العثمانية - ومنها الألبانية - على تقديمهم عقب غزو نابليون لمصر في عام 1799، ثم عُين محمد علي قائدا مساعدا لهذه المفرزة المؤلفة من مئات الجنود. ولكنه برز سريعاً بفضل كفاءته وبراعته وشجاعته وترقى في السلم الوظيفي العسكري. في عام 1802 عُين محمد علي رئيسا لجميع الوحدات الألبانية في الجيش العثماني حتى هزيمة نابليون وانسحاب حملته من مصر إثر ثورة المصريين في 21 أكتوبر 1798، وبعد هزيمة نابليون أمام أسوار عكا وتحت الضغط البحري البريطاني المنافس.

* في مارس 1804، عيَّن الباب العالي والٍ عثماني جديد يدعى «أحمد خورشيد باشا»، الذي استشعر خطورة محمد علي وفرقته الألبانية، فتمكن الوالي من إجلاء المماليك إلى خارج القاهرة، وطلب من محمد علي التوجه إلى الصعيد لقتال المماليك، وأرسل إلى الآستانة طالباً بأن تمده بجيش من "الدلاة" وهم قوة من الجنود الأكراد ضمن الجيش العثماني عرفت بالبسالة والتهور والقسوة ولذلك أطلق عليهم اسم الدلاة أي "المجانين". وما أن وصل هذا الجيش حتى عاث في القاهرة فساداً ما أثار غضب الشعب، وطالب زعماؤه الوالي خورشيد باشا بكبح جماح تلك القوات، ولكنه فشل في ذلك، فاشتعلت انتفاضة شعبية أدت إلى عزل الوالي العثماني، واختار زعماء الشعب بقيادة عمر مكرم -نقيب الأشراف- محمد علي ليجلس محله. وفي 9 يوليو 1805، وأمام حكم الأمر الواقع، أصدر السلطان العثماني سليم الثالث فرماناً سلطانياً بعزل خورشيد باشا من ولاية مصر، وتولية محمد علي على مصر. اتبع محمد علي منذ الأيام الأولى من حكمه سياسة مستقلة، ولم ينسق قراراته مع اسطنبول.

* ظهر البريطانيون في مارس عام 1807 في حملة عسكرية قادها الجنرال ألكسندر ماكنزي بقوة قوامها 6000 عسكري أمام السواحل المصرية وتمكن من احتلال الإسكندرية، إلا أن محمد علي صد البريطانيين بهجوم مضاد وأجبرهم على الجلاء عن مصر.

* بعد أن ثبت أركان حكمه، شرع محمد علي في إصلاح الدولة، وبدأ بمساعدة ضباط أجانب في تحديث الجيش المصري، وتخلى عن التقاليد العسكرية القديمة التي اتبعها المماليك، وأعاد تشكيل قوات المشاة والمدفعية وجهزها بأسلحة حديثة، ومضى أبعد ببناء أسطول بحري قتالي.

* على خلفية تمرد بقايا الماليك على الإصلاحات الجارية وحرمانهم من امتيازاتهم، لم يتردد محمد علي في القضاء على تلك البقايا في ما عرف بمذبحة القلعة (سنة 1811 وقُتل فيها 470 مملوكاً) وعزز سلطاته بإنهاء الحكم المملوكي لمصر إلى الأبد.

*في عام 1831 شنَّ الجيش المصري بأمر من محمد علي حربا ضد السلطان العثماني، وزحف شمالا وسيطر على سوريا الغربية (وكانت تشمل لبنان الحالي، ومعه فلسطين والأردن)، وعبر الجيش المصري الأناضول وهدد بشكل مباشر القسطنطينية، إلا أن القوى الأوروبية ضغطت على محمد علي باشا وأجبرته على التراجع.

* بعد محاولة عثمانية فاشلة لاستعادة السيطرة على سوريا في عام 1839، أرسل محمد علي باشا حملة عسكرية جديدة ضد الدولة العثمانية في عام 1840، وهزم قواتها وانفتح الطريق أمامه رحباً للتقدم إلى القسطنطينية. وهذه المرة أيضا لم ينقذ الدولة العثمانية من السقوط في قبضة الجيش المصري إلا تدخل بريطانيا والنمسا. حيث قطعت الدولتان اتصالات الجيش المصري البرية والبحرية في خريف عام 1840، واستولى البريطانيون على بيروت وعكا، وأجبر محمد علي بموجب اتفاقية وقعت في 13 تموز /يوليو 1841 على إعادة معظم الأراضي في سوريا إلى الدولة العثمانية، إضافة إلى الأسطول العثماني الذي كان قد انشق في السابق وانضم إلى الجيش المصري. وتعرف هذه الاتفاقية باتفاقية المضائق بين (فرنسا وانكلترة والنمسا وبروسيا) والدولة العثمانية. وقد "تطورت اتفاقية المضائق كوسيلة لحماية الدولة العثمانية من الانهيار. فمصر في ذلك الوقت، بقيادة محمد علي باشا، ثارت على الدولة العثمانية. وقرر القيصر الروسي، نيقولاي الأول، أن سقوط العثمانيين سيكون كارثياً/ اتفاقية المضائق في "موسوعة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المعاصر".

* ثم تدخلت بريطانيا للمرة الثالثة وأنقذت حكم الخديوي توفيق من انتفاضة الجيش المصري الاستقلالية بقيادة أحمد عرابي وعززت حكم الخديوي ووضعته تحت حمايتها ووصايتها بعد هزيمة عرابي في معركة التل الكبير في 13 أيلول /سبتمبر عام 1882، وعززت سيطرة الخديوي توفيق مرة أخرى من الإنجليز بعد هزيمة الجيش المصري.

* بعد أن تمكنت أوروبا من انتزاع مخالب وأنياب محمد علي تركت له ولخلفائه حكم مصر والسودان وراثيا، وبقيت سلالة الخديوي في سدة الحكم حتى عام 1952، حين أطاحت حركة الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر بالملك فاروق، وتأسست جمهورية مصر.

* السؤال المركزي هو، هل كان هذا الصراع صراعاً دينياً كما يزعم البعض، فلماذا إذن تدخلت أوروبا في كل مرة نشأت فيها حالة حكم استقلالي في العالم العربي، ووقفت ضد انتصار الدولة المصرية الوليدة والمتمردة على العثمانيين الذين يزعم الخطاب السياسي الرسمي للطرفين أنهما (أوروبا والدولة العثمانية) عدوان تقليديان وتاريخيان دينياً، ثم وقفت - بريطانيا - ضد انتفاضة أحمد عرابي وأنقذت حكم حفيد محمد علي، الخديوي توفيق، ووضعت مصر تحت الوصاية البريطانية ثم تتالت التدخلات اللاحقة وصولا إلى العدوان الثلاثي سنة 1956 ضد مصر الجمهورية وما بعده؟

* هذا السؤال قد يبدو نافلا ولا يحتاج إلى جواب سريع ومختصر بل إلى تفكير طويل مشفوع بالممارسة الاستقلالية المقاوِمة للغرب الإمبريالي وإلا فلن تقوم قائمة لأي محاولة استقلالية "سياسية أو اقتصادية أو ثقافية" في المنطقة العربية كلها.

تلك هي حكمة التاريخ وخلاصة تفاصيل العلاقة الصراعية العنيفة، ذات الأساس الجغراسياسي والاقتصادي، بين ضفتي البحر المتوسط، الجنوبية الشرقية العربية والشمالية الأوروبية في القرنين الماضيين وقبلها دارت تجارب استقلالية مشرقية مشابهة بين هاتين الضفتين، أقدم عهداً وتمتد إلى العهود الوثنية كما هي الحال في الحروب البونيقية الثلاث بين روما الإمبراطورية وقرطاجنة الفينيقية الساعية إلى الاستقلال. لقد اختتمت تلك الحروب بهزيمة حنة بعل (247 ق.م) وتدمير قرطاجنة من قبل الجيوش الرومانية التي رفعت شعار "قرطاجنة يجب أن تزول إلى الأبد"، وبعد ذلك في تجربة دولة زنوبيا (272م) في تدمر الوثنية الآرامية، والتي انتهت بدورها نهاية مأساوية بسيوف جيوش الإمبراطور الروماني أورليان وماتت زنوبيا أسيرة في روما حسب بعض الروايات، ولكن تدمر انتفضت في ثورة عارمة بعد عام واحد فعادت إليها جيوش أورليان ودمرتها تماما. ولكن نزوع الدويلات العربية لم ينته، وتوِّج بحرب الفتح والتحرير العربية الإسلامية وتم تحرير العراق وبلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا في القرن السابع الميلادي، لتبدأ صفحات أخرى من الصراع بين ضفتي المتوسط وما تزال تترى فصولا حتى يومنا هذا!

***

علاء اللامي

تتعلق الفلسفة بالذكاء الاصطناعي بشكل كبير من حيث تناولها للأسئلة الأساسية حول طبيعة الذكاء والوعي والحوسبة  ..إلخ حيث تعتبر أساسًا لتطوير الذكاء الاصطناعي لأنها تساعد في تحديد الأسئلة والإشكاليات التي يجب حلها، وتساعد على تحليل وتفسير النتائج التي يتوصل إليها الذكاء الاصطناعي.

على سبيل المثال، تتعلق الفلسفة بالأسئلة المرتبطة بالوعي والذات والأخلاق، وتلعب هذه الأسئلة دورًا هاما للغاية في تطوير الذكاء الاصطناعي، حيث يتم الاعتماد على مفاهيم الوعي والذات في تصميم وتطوير الأنظمة الذكية التي يمكنها اتخاذ القرارات والتفاعل مع العالم بطريقة تشبه الإنسان.

بالإضافة إلى ذلك، تساعد الفلسفة في تحديد الآثار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للذكاء الاصطناعي، وتحديد النقاط القوية والضعيفة للتطبيقات الذكية في المجتمع. وبهذه الطريقة، تساعد الفلسفة في توجيه التطور التقني نحو الفوائد الأكبر للإنسانية بشكل عام لأنها تشكل إطارًا نظريًا يمكن من خلاله تحليل الآثار الاجتماعية والأخلاقية والسياسية للتطور التقني.

فعلى سبيل المثال، عندما يتم تطوير نظام ذكاء اصطناعي جديد، يمكن للفلسفة أن تساعد في تحديد الآثار الاجتماعية لهذا النظام، مثل تأثيره على سوق الشغل والاقتصاد، وتحديد مدى تأثيره على الحياة اليومية للأفراد في المجتمع. كما يمكن للفلسفة أن تساعد في تحديد الآثار الأخلاقية للنظام، مثل مسألة الخصوصية والتحكم في البيانات الشخصية، ومسألة تأثير النظام على حرية الأفراد.

كما يمكن للفلسفة أن تساعد في تحديد النقاط القوية والضعيفة للتطبيقات الذكية، وتحديد المجالات التي يمكن للتكنولوجيا أن تقدم فيها أكبر قدر من الفائدة للإنسانية.

ولذلك، فإن الفلسفة تلعب دورًا هامًا في توجيه التطور التقني نحو الفوائد الأكبر للإنسانية بشكل عام، وتساعد في تحديد السبل الأفضل لاستخدام التكنولوجيا لتلبية احتياجات الإنسان وتحسين جودة الحياة في المجتمع ، لأنها توفر الإطار الفكري اللازم لتحليل وفهم الآثار الاجتماعية والأخلاقية والسياسية للتكنولوجيا والابتكارات التقنية المختلفة.

فالتكنولوجيا ليست مجرد مجموعة من الأدوات والأجهزة التي يمكن استخدامها لتحقيق أهداف محددة، بل هي أيضًا نظام من القيم والمعتقدات والمفاهيم الفلسفية التي تحكم استخدام هذه التكنولوجيا وأثرها على الإنسان والمجتمع.

وعلاوة على ذلك، فإن الفلسفة تساعد في رسم خريطة للمخاطر والتحديات التي تواجه التكنولوجيا والابتكارات التقنية، وتساعد في تحديد السياسات والإجراءات التي يجب اتخاذها للحد من هذه المخاطر والتحديات وتعزيز فوائدها للإنسانية.

أخيرا إن الفلسفة تساعد في تشجيع النقد والتفكير النقدي حول التكنولوجيا والابتكارات التقنية، وتساعد في تحديد الاحتياجات والاهتمامات والأولويات التي يجب أن تتوجه إليها الأبحاث والتطور التقني.

وبهذه الطريقة، يمكن أن تلعب الفلسفة دورًا هامًا في توجيه هذا التطور التقني في مجال الذكاء الاصطناعي نحو الفوائد الأكبر للإنسانية، وفي تحقيق التوازن بين الاستفادة من التكنولوجيا والحفاظ على القيم الأخلاقية والاجتماعية الهامة للإنسانية.

***

عبده حقي

اختراق سيادة المهن الهندسية والقطاعات الحكومية

اجتمعت رسميا مع بعض المهندسين في إطار تظاهرة خاصة. لم أجد كتقديم لمداخلتي بعد إعطائي الكلمة سوى التنبيه بالغزو المتوغل المخيف للإلكترونيات والذكاء الاصطناعي للعالم ثم الحديث عن ما تعرفه المهن الهندسية التقليدية والقطاعات الحكومية الكلاسيكية من اختراق لسيادتها. كل الدول عزمت على استثمار الغالي والنفيس من ثرواتها الوطنية واضعة نصب عينيها حاجتها الملحة لرفع التحديات المفروضة لتجنب المخاطر المستقبلية متشبثة بالاستماتة في الصمود لإعلان حضورها الوازن في المواعيد الزمنية المحددة مسبقا، وبالتالي لعب الأدوار المنتظرة منها في مجالات المنافسة والتباري والدفاع على حق وجودها المستقل، ومن تم ضمان الاعتراف المستحق بأحقية إسهامها في الدورات التفاوضية على المصالح المشتركة بمنطق "رابح - رابح".

إن توقيت إعلان لحظة الحسم الدولي في تقييم مستوى قدرات المجتمعات ومؤسساتها على الاستمرارية في إطار الاستقرار وشيك للغاية. لقد تم فرض إجبارية تجاوز التقليد في الرؤية وبلورة السياسات العمومية وتنفيذها. الظرفيات الاقتصادية والسياسية الكونية المتعاقبة في الزمن لن تحتمل مستقبلا ككيانات تاريخية فاعلة إلا من صُنِّفَ منها ضمن لائحة الدول القادرة على تحقيق المؤشرات التنموية المتوافق في شأنها، والتي تمنحها المصداقية في مقاومتها للتقليدانية في منطق ممارسة السلطة وتجاوزها. إن سر وجودها سيرتبط بطبيعة أداء فعلها العمومي. بكل تأكيد، ترسيخ شروط الاستمرارية سيرتبط بالكفاءة في مراكمة مقومات الاستحقاق الوجودي. إنه عصر لن يتيح إمكانية التموقع الطبيعي في سوق المنافسة العالمي بشقيه السياسي والاقتصادي إلا للدول التي تبذل الجهود الحقيقية لتقوية الروابط بين المجالات السالفة الذكر (إذكاء حياة الإنسان، تقوية الروابط بشكل قار بين العلوم والهندسة الرقمية والبرامج الحكومية القطاعية والذكاء الاصطناعي). الديمقراطية في هذا السياق تحتاج إلى أحزاب وجماعات ترابية حديثة ببنيات عصرية منفتحة وأساليب عمل متطورة وأنماط تدبيرناجعة وقدرة عالية على تحمل المسؤولية في خلق التحولات المؤسساتية برهاناتها الصعبة.

التكنولوجيا الإلكترونية تتطور ماديا بسرعة فائقة. في نفس الآن، يشتد الحرص لدى المبرمجين للرفع من مستوى استغلال امكانيات مكوناتها الدقيقة الذكية. الحواسيب تحولت إلى وعاء لبلورة وتجريب التطبيقات والبرامج الجديدة. وهنا، برز ما يسمى اليوم بالذكاء الاصطناعي. انتشرت تطبيقاته المتطورة بشكل كبير. يقتنيها المهندسون والمحررون والمحامون والإداريون والسياسيون وأصحاب المهن الرائدة لتسهيل مأمورياتهم ومشاريعهم وانشغالاتهم. السلط القيادية المتنافسة على المصالح الحيوية في العالم بمجتمعاتها المختلفة ثقافيا تسعى إلى تحرير شعوبها من الأشغال المضنية ليتفرغوا للتفكير والإبداع والابتكار. التطور الديمغرافي للعالم لا يسمح بتضييع الوقت في اعتماد الطرق المتجاوزة في صياغة الخطابات وتحرير التقارير والمحاضر وتركيب الفيديوهات وملصقات الإعلانات الإشهارية والتسويقية..... الذكاء الآلي يكتسح العالم بدون مقاومة تذكر. لقد أصبح أكثر انتشارا وعرفت التطبيقات المتعلقة به طفرة استثنائية مخيفة لا يمكن أن يصدقها إلا المتتبعون النبهاء.

إن إنتاجات التطبيقات الذكية (Outputs) تقتات من أجمل الإبداعات البشرية وتقدم عروضا تحاكي أفضل الموجودات تفكيرا وتعبيرا وجمالية. عندما يصل التفكير المجرد والتطبيقي الهندسي إلى نقطة النهاية في موضوع ما، لا يجد رواده أدنى صعوبة في عرض وإبراز قيمة إبداعاته المكتملة على العملاء والمهتمين. هؤلاء الرواد أصبحوا يتقنون التحرير الآلي للكتابات المهنية وتصميم الصور والفيديوهات التسويقية والمصادقة على صياغتها النهائية. المهنيون تحرروا إلى حد بعيد من جل الصعوبات المادية والمعنوية التي كانت تعترضهم في جمع المعلومات والتكوين والتسويق والتدبير الإداري والمالي.

التطبيقات المتطورة اليوم تتفاعل بقوة مع المُستخدِم مُكَثفَة التواصل معه. إن ما يصدر عنها يوازي أجود ما أنتجته البشرية لغويا وفنيا. ارتقى المنتوج الإبداعي وأصبح يتوفر على بنيات جذابة شكلا ومضمونا. اُمْتُزِج في تشكيلهما الحرف والصورة والصوت والألوان المغرية. أكثر من ذلك، لقد أصبح بمقدور هذه التطبيقات فهم مقصود المُستخدِمين. تجيب عن أسئلتهم، فتحقق في النهاية ما يصبون إليه بإتقان مبهر. المنتوج المستخلص يشعرهم بالرهبة، فتتاح بذلك فرص اتخاذ القرارات الصائبة ذات الجودة العالية. هذا التفاعل يمكن كذلك من تحليل ما يصدر عن عصفهم الذّهني من أفكار وانفعالات، فتنبعث على إثره على الشاشات الكبرى الأفكار الراقية والموضوعات النصية الاحترافية، واللوحات التسويقية الجذابة ذات القدرات الهائلة لاستقطاب العملاء التجاريين والمستهلكين. بهذه البرامج لم يعد عسيرا أمام المهنيين كتابة النصوص المهنية ولا ترجمتها بإتقان. حتى نصوص البرامج المعلوماتية الشخصية (Codes) يتم تصحيحها واقتراح حلول لتحسينها.

في هذا العصر المخيف بعالمه الافتراضي المغمور بالنصوص والصور والفيديوهات، يجد المستهلكون أنفسهم أمام مخاطبين آليين. يستقبلون محادثات وتعليمات صوتيَّة، يتحدثون مع حواسيبهم وسياراتهم.. يختارون المخاطبين، ويُجْرُون مُكالَمات، ويرسلون رسائل نصيَّة، ويجيبون على الأسئلة المطروحة ويقدمون التّوصيَات المناسبة. إنها برامج ذكية تحاكي الكلام الطبيعي وتجيب بالدقة المتناهية على الاستفسارات والتساؤلات.

من الناحية الأمنية، تم إعداد التصاميم لضمان حماية سرية المحادثات بين المستعملين. كل التطبيقات تتمتع بخاصيَة التشفير التام لما يصدر بين الأطراف المتفاعلة. البيانات الحرفية والصوتية والفيديوهات والصور لا يمكن الاطلاع على مضمونها حتى وإن تمت قرصنتها. تحولت الترجمة الآلية إلى دعامة للسياحة عبر العالم. لم يعد هناك ما يستدعي التردد في السفر إلى الخارج بسبب عدم الإلمام بلغة شعوب الأقطار التي يراد زيارتها. بهذا الذكاء كذلك، أصبح يسيرا تذكر الأمكنة والتوجه إليها بسهولة والعثور على الحاجيات المسروقة أو الضائعة والولوج إلى مرافق الإيواء والتغذية.

المكونات الإلكترونية الصغيرة أصبحت تتلقّي الأوامر الصوتيَّة وتحللها ثم تقوم بتنفيذها بدقة عالية. كما يمكن استغلالها في البحث عبر الإنترنت وفحص البريد الإلكتروني وإعداد وتنفيذ مخططات البرامج اليومية.. كما تمكن من ربط أجهزة الكمبيوتر بالهواتف الذكية، وبالتالي تبادل التنبيهات الضرورية والاطلاع عن بعد على الملفات ومعالجتها. بهذا الذكاء الخارق للعادة، توفرت فضاءات الكترونية للتمتع بالموسيقى وإمكانيات التحكم عبر الهاتف في تجهيزات المنازل الذكيَّة (جهاز التلفزيون والتكييف والسيارة وكاميرات المراقبة..). كما أصبح بإمكان المستعملين الاستفادة من برامج التنبيه والتذكير بالمواعيد المُستقبليَة وطلب الحاجيات عن بعد، وتسجيل المكالمات الهاتفيَّة.

الإبداع في هذا المجال يتيح اليوم إمكانية المحادثة الشخصية مع مُساعِد افتراضيّ مُبرمج بلغة وأسلوب راقيين. لقد أصبح في متناول مستخدمي التكنولوجيا توطيد علاقة صداقة مع كائن آلي تُشبه الصداقات الحقيقيَّة. يتدرب التَّطبيق على أنواع الحوار ويراكم ويبلور منطقا يتقن الإجابات والمحادثات، وكأننا أمام روبوت يترعرع وينمو إدراكه كالإنسان. يراكم وينضج ويتمكن من الاحترافية في تصنيف الردود واختيار الكلمات والعبارات المناسبة. تربية الروبوت، بالرغم ما يحمله هذا التطور من مخاطر في السلوكات النفسية للإنسان أصبحت أمرا ممكنا. يقوم المربي البشري في البداية بتوجيه مجموعة من الأوامر السَّريعة المعروفة إلى الروبوت فيقوم بتنفيذها على الفور.

فكر رواد قيادة العالم أكثر في تسويق وترويج جودة الخاصيات الذاتية للإنسان ومراكز جودة خدماته وسلعه. صناعة المحتوى المرئي باحترافية أصبحت أمرا شائعا ونافعا. هناك تطبيقات لجمع المعلومات وتحليلها وتقديم إجابات على الأسئلة المُختلفة وتحليل الإشكاليات المعقدة. الروبوتات بالتطبيقات الحالية تعلم نفسها بنفسها وتقدم مع مرور الوقت إجابات مثلى على أعقد الأسئلة وتنجز الحسابات الرقمية المعقدة. أما تعلم اللغات، فأصبح يتم بطريقة منهجية عالية الجودة. التطبيقات تساعد اليوم المستعمل على تجويد نطقه اللغوي وتتابع تطور مستواه وتقيمه باستمرار. أما أجيال السيارات الجديدة فأصبحت ذاتية التحكّم ومجالات عبورها يمكن أن تتجاوز الطرقات لتطفو فوق الماء وتخترق الفضاء بسرعة متزايدة.

لقد نحج الإنسان في مساعيه البحثية لخلق وسائل تمكّن الآلة من محاكاة جوانب الذكاء البشري. سنة 2016 كانت محورية في هذا الشأن. تشعّبت بعد ذلك التطبيقات المعلوماتية في الحياة العملية. الكل يعترف اليوم بالضجة الإعلامية التي خلقها الآلي الذكي "صوفيا" وقدراته على بناء علاقات شبه حقيقية مع البشر.  تتفرع اليوم أنواع الذكاء الاصطناعي إلى أقسام. مرت من أبسط أنواعه المركزة على الوظائف الأساسية فقط ثم شملت الأنواع الأكثر تقدّمًا. هي اليوم بمثابة كيان واعٍ تمامًا بذاته وبما يدور حوله، ويشبه إلى حدّ كبير الوعي البشري. لقد تم تجاوز الآلات التفاعلية محدودة الذاكرة. هناك طموح لاعتماد نظرية العقل في تقوية الوعي الذاتي، ليصل عالم اليوم إلى ممارسات بجاذبية قصوى وبإمكانيات برنامجية جديدة لا تتيح الفرصة بضغوطاتها للتفكير في مخاطرها. لقد اكتسحت الآلات التفاعلية حياة الإنسان كونيا. لقد تمكن برنامج ذكي من هزم بطل العالم في لعبة الشطرنج.

برامج التعرّف على الصوت والصورة متعددة ومتنوعة. روبوتات المحادثة على المواقع الإلكترونية غمرت حياة الإنسان ألفة. أبحاث نظرية العقل كمرحلة مقبلة تم وضعها على طاولة القرار السياسي العالمي. الآلة ستكون مستقبلا جد ذكية في فهم الإنسان المتفاعل معها. ستعبر لا محالة عن قدرة عالية لاستيعاب احتياجات المخاطبين ومشاعرهم وحتى مبادئهم ومنطق تفكيرهم وتساعدهم على الشعور بحال أفضل. الأبحاث مستمرة ومكثفة في مجال الذكاء العاطفي الاصطناعي والوعي الذاتي، وقد يصل مستوى الابتكار إلى تطوير ذكاء اصطناعي واعٍ بنفسه وله ذكاءٌ خاصّ ومستقلّ بذاته. قد يتفاوض الإنسان مع الآلة وقد تتفاوض الآلة مع مثيلتها. لقد فسح المجال اليوم للتفكير في الكثير من الافتراضات والتوقّعات والتخيّلات. قد يتواجد إنسان إلى جانب كائن آلي تمّ تصنيعه بغاية التسويق مثلا. نفس التطور سيغزو الخدمات المصرفية. سيستفيد العملاء من الدعم الدائم، ومن إمكانية اكتشاف التلاعب والنصب وعمليات الاحتيال في التعاطي مع الحسابات البنكية (مثلا تدعيم الرقم السري للزبون بصمة اليد أو العين أو الصوت). على المستوى الصحي، تتطور التطبيقات الذكية لتحسين نظام الوقاية من السكتة الدماغية والكشف عن أمراض القلب وتتبّع أداء الأشخاص المسنّين ومساعدتهم على تطويل سن استقلاليتهم الوجودية، واختراع وتطوير أدوية جديدة واستعمالها بطريقة صحيحة... في مجال اكتشاف الفضاء (الفلك) والتعلم الآلي، لقد تمت الاستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعي لدراسة وتحليل البيانات الفضائية وتحديد واكتشاف أنظمة مجرات وأنظمة شمسية وكواكب تبعد عن الأرض بآلاف وملايين السنين الضوئية. بهذا الذكاء كذلك طورت الدول المتقدمة المسبارات والمركبات الفضائية التي تجوب كوكب المريخ وتكتشف خفاياه وكذا التقدم في الأبحاث العلمية لاختراع المركبات التي ستقل آلاف المسافرين إلى هذا الكوكب العجيب. على مستوى التعليم، قد نفترض في المستقبل القريب خلق روبوتات تلعب دور المعلّم وتقوم بإعطاء المحاضرات والدروس. الذكاء الاصطناعي يساعد اليوم المعلّمين في أداء بعض المهام الإدارية كإجراء التقييمات وإعداد الدروس والاختبارات.

وعيا بمتطلبات المستقبل، تحول الذكاء الاصطناعي إلى تخصص هندسي أكاديمي وارتبط بقوة الواقع بكل المهن الهندسية التطبيقية الأخرى. تطبيقاته ستخترق حدود سيادات الوظائف المستقبلية. على الأحزاب السياسية أن تؤسس مختبرات قارة لتعميق البحث في تقوية الروابط بين العلوم المجردة والإلكترونيات والهندسة والذكاء الاصطناعي. إنه المطلب الذي سيرفع مستقبلا من الوعي الحكومي لتعميم هذه المختبرات على مختلف القطاعات الحكومية.

***

الحسين بوخرطة

أعرف أشخاصاً يقرؤون كلَّ شيء يقع بأيديهم منذ عشرات السنين، لكنهم مصابون بسوء هضم. مطالعاتهم لا تعمل إلا على تكديس المزيد من المعلومات العشوائية، بلا أن تلهمهم أسئلةً جديدة، أو تضيء عقولَهم رؤيةٌ أعمق وأدق للعالم، أو تضعهم تلك المطالعاتُ في الأفق الراهن لزمانهم. ليس المهم كمية ما يقرأ الإنسان، المهم نوعية ما يقرأ، وكيفية تلقيه لما يقرأه، وقدرة عقله على تمثله وتوظيفه، وتجلي أثرِه في نمط تفكيره وشخصيته وسلوكه. بعضُ القراء ليس له من قراءته إلا المزيد من التيه والتخبط وتشوه الوعي. إنه كمن يأكل الكثيرَ من الطعام بشراهة، إلا أنه مصابٌ بسوء هضم، فمعدته تعجز عن هضم معظم ما يأكله، ما تهضمه من الطعام يعجز جسدُه عن استثماره في عملية التمثيل الغذائي وبناء الجسد. أعرف رجلًا في العقد التاسع من عمره، بدأ يقرأ منذ بداية حياته، يقرأ حيثما يكون، يقرأ كلَّ كتاب يقع بيده مهما كان، ‏إلا أن وعيَه لم يتطور أبدًا، لبث قابعًا في بيئته الأولى، لم تمنحه القراءةُ القدرةَ على اكتشاف آفاق رحبة في الحياة، ولم تلهمه أيةَ أسئلة. لا يمكن أن يصدق على أمثال هذا الإنسان عنوانُ قارئ، على الرغم من غزارة قراءاته وتنوعها. قراءاته كانت ومازالت حتى اليوم تتخبط بشكلٍ عشوائي بين عشرات الكتب الرثة، وهذا الصنف من الكتب رائج في أسواق الكتاب. القراءةُ العشوائية عاجزةٌ عن التمييز والفرز والتمحيص، تفتقر للقدرة على الإنصات لأيّ صوتٍ ينبعث من الكتب، كأن كلَّ الكتب في هذه القراءة لغتُها ومضمونُها وأفكارُها متشابهة. الكتبُ الجيدة يتطلب اكتشافُها خبرةَ قارئٍ ذكي، ويتطلب التعلّمُ منها عقلًا شجاعًا، والتفاعلُ معها استعدادًا نفسيًا. أعرف مدرسًا للتراث، يقرأ الفلسفةَ والأدب والفن والسينما والمسرح والرياضة والعلوم، يشتري الكتبَ مهما كان ثمنُها، يمتلك مكتبةً تزدحم فيها أصنافٌ لا تأتلف من الكتب والدوريات، يمضي كلَّ أوقات فراغه في المطالعة، يسهر الليلَ غالبًا أيام العطل إلى الفجر، يلتهم بشغفٍ كلَّ شيء تحت يده من رواياتٍ عالمية، وأعمال فلاسفة ومفكرين كبار، ذهنُه مخزنٌ واسع مكتظّ بمعلومات مكدّسة، كأنها مطموراتٌ تحت ركامٍ معتم، لا تنتظم بسياقٍ منطقي، ولا ينبثق منها ضوءٌ يبدّد عتمتَها. رأيتُه كلّما قرأ أكثر ازداد انغلاقًا وتشدّدًا ومعاندة لأية رؤيةٍ مضادة لما يتبناه. يمتلك قدرةً على إماتةِ بذرة أيِّ سؤال، وإسكاتِ أيّ صوتٍ غير مألوف في قراءاته، وإغلاقِ النوافذ أمام كلِّ ما يمكن أن يزلزل شيئًا من أحكامة النهائية وقناعاته الصارمة. كأن ذهنَه تشكله قوالبُ خرسانية غير قابلة للاختراق أبدًا، مهما كان إبداعُ ما يقرأه من روايات مشاهير، وعقلانية وعمق نصوص فلاسفة أمثال كانط، وحفريات أعمال مفكرين في الشرق والغرب. أظنّ البنيةَ اللاوعية لتفكيره، وأفقَ انتظاره وتمنياته وأحلامه ورغباته، تجعل ذهنَه يتحصن بأسوار منيعة، ذهنُه قادر على إجهاض أية محاولة لإيقاظه، وإطفاء شعلة أي تساؤل غريب يمكن أن يخترقه. أراه يشعر بأمان وهو يتشبث بهذه اليقينيات، يظل يحرسها بطريقة لا تسمح لأية فكرةٍ مهما كانت عقلانيةً أن تتسلل إلى حصونها.

بعد مدة من السياحة في عالم الكتب ينبغي على القارئ أن ينتقي ما يقرأه بنباهة ويقظة. العناوين الجذابة كثيرة، غير أن مضمونَ معظمها رديء.كلُّ يوم تضيف دورُ النشر أكداسًا من الكتب في مختلف الآداب والفنون وحقول المعرفة، لا يكفي العمر مهما امتدّ حتى لمطالعة ما هو جيد منها، فكيف يضيّع الإنسانُ العمرَ بكتب بائسة. كما يعمل الإنسانُ على انتقاء أحسن الأشياء من كلِّ شيء، عليه أن ينتقي الكتابَ الذي هو منبعٌ أساسي في بناء وعيه بمهارة. القراءةُ العشوائية إن كانت بدايةً لقراءة تنشد الاكتشافَ واتساعَ آفاق ثقافة الإنسان فهي ضرورية، غير أن من الضروري عبورَها عاجلًا، قبل ضياع سنوات بتخبط فيها الإنسانُ بين الكتب، ربما تقوده إلى متاهات مظلمة يغرق فيها ويعجز عن انقاذ نفسه منها إلى اليوم الأخير من حياته. أتحدثُ عن العشوائية بوصفها حالةً ملازمة للقراءة، تأكل عمرَ القارئ، وتستنزف وقتَه، ولا يجني منها ثمارًا تنعكس على وعيه وثقافته، ولا تترك أثرًا ملموسًا في حياته. إن كانت القراءةُ لغرض التسلية فهي ضروريةٌ أحيانًا مهما كان نوعُ الكتب المقروءة، ضروريةٌ للترويحِ عن النفس، وكسرِ الرتابة الصارمة، وربما للخلاصِ من الملل والسأم والضجر.

ما يخدع القراء من الكتب ويزيّف وعيَهم ليس قليلًا، مثل هذه الكتب ينبغي الفرار من شراكها. لا يعكس تعدّدُ عناوين الكتب ‏واختلافُها تنوع مضمونها، أحيانًا التعدّد تكرارٌ مملّ لكلمات خاوية، لا تجيد رسمَ صورة ما تنشده بلغةٍ صافية، قلّما نقرأ مَن يمتلك موهبةَ إعادة بناء الكلمات ورصفها بتشكيلةٍ معمارية فاتنة. تسود مجتمعنَا حالةُ شغفٍ بالكلام، وطالما تحول الكلامُ إلى ركام كتبٍ مبتذلة لا تقول شيئًا مفيدًا، يضيع فيها عمرُ القراء ويزيف وعيُهم. أعرف رجالَ دين لا يعرفون الكتابة، يتحدثون كثيرًا بثقة عن كلِّ شيء يعرفونه ولا يعرفونه، تتراكم تحتَ أيديهم أموالًا لم يبذلوا جهدًا في اكتسابها، يجندون طلابَ العلم المحتاجين إلى قوتِ يومهم، لينتجوا لهم كتبًا من ركام كلماتهم، بعد سنوات قليلة يباغتون القراء بنشر عشرات المجلدات بأسمائهم.

‏‏القارئ المتمرّس مولعٌ بالاكتشاف، يحاول عبر مطالعة ‏الكتب ممارسةَ هواية ممتعة، يسعى أن يعثر على الكتاب بنفسه، دون أن يدلّه عليه أحد. لا أبحث كثيرًا عن أفكار جديدة في مطالعاتي، أهتمّ بلغة الكتابة غالبًا، لا أواصل قراءةَ الكتاب لو لم أتذوق كلماته. أحاول رصدَ أسئلةٍ جديدة لم تولد بذهني، شغفي الكتاب الذي يحرّض أسئلتي على توليد أسئلة أكبر منها. لا تثير مخاوفي الأسئلةُ الحائرة، مثل هذه الأسئلة تضع الذهنَ في مواجهة مباشرة مع قناعاته، وتقوده لإعادة النظر في وثوقياته وتمحيصها كلّ مرة. ‏أكثر من مرة طالعتُ كتبًا يمتدحها قراء غير أني عجزتُ عن إكمال مطالعتها، ‏بعضُها أتركها بعد مطالعة المقدّمة، وبعضُها أقرأ بضعَ صفحات منها، فأتركها الى الأبد، ‏ذلك ما دعاني لأن أمارس طريقتي الممتعة في اكتشاف الكتب التافهة والثرية بنفسي. القراءةُ ضربٌ من الدهشة، القارئ الحاذق مكتشِف، القراءةُ متعةُ الاكتشاف. عندما يقاد القارئ كأعمى يخسر بهجةَ الدهشة، ويخسر متعةَ الاكتشاف. كلٌّ منا يقرأ على شاكلته، إن قرأ الكتبَ الجادة. ليس بالضرورة أن تكون كلُّ الكتب مناسبةً للكل، لأن مسارَ حياتي يختلف عن مسار حياة غيري، وجيلي يختلف عن الأجيال الأخرى، ‏احتياجاتهم العقلية والعاطفية ليست بالضرورة تتطابق مع احتياجاتي كلها في محطات زمنية متوالية من صيرورة حياتي.

لكلّ مرحلة من مراحل العمر عند أكثر القراء المتمرسين كتبُها وكتّابُها. بعضُ الكتب تدهش القارئَ لأول مرة، وحين يكرّر مطالعتَها في مراحل لاحقة بعد سنوات يفتقد دهشتَه. الوعي يتطور، التجارب تعلّم الإنسان، الجروح توقظ الإنسان، العالم يتغيّر، والإنسان يتغيّر. ربما يصبح القارئ المتمرس مصابًا بالملل وسريعَ الضجر من تشابه الكتب الجديدة الرتيب في اللغة والمضمون مع ما قرأه من قبل، وربما يكتشفُ في رحلة القراءة فجأة كتبًا ثمينة كان غافلًا عنها تفضح انتحالَ كتب كان يعتز بها مما قرأ، فلا تعود الكتبُ الصديقة أمس صديقتَه اليوم. بعضُ الكتب يظلّ يحتاجها الإنسان ولا يستغني عنها في مختلف محطات حياته، مثل الكتب المقدسة، وأعمال الفلاسفة الكبار، والمؤلفات الخالدة في الأدب، يقال إن كارل ماركس كان يعيد قراءةَ شكسبير كلَّ سنة في حياته. ليس هناك وصفةٌ جاهزة كالوصفات الطبية تنطبق على كلِّ إنسان في القراءة أو الكتابة أو غيرها. القراءة تختلف باختلافِ الناس وشخصياتهم ونوع احتياجاتهم المتنوعة، وطبيعةِ الظروف التي يعيشونها.

أفرح بهدية الكتب الثمينة مثلما يفرح الأطفالُ الفقراء بالهدايا النادرة. ‏قليلٌ من الكتب لا تحذفها ذاكرةُ المكتبة، ولا يمحو بصمتَها النسيان. عندما أقرأ مثلَ هذه الكتب أحيانًا أحزن في فقرة، وأفرح في فقرة أخرى، أبتهج في فقرة، وأكتئب في فقرة أخرى. المبدع يبتكر موضوعاتِه الفريدة، وطريقتَه الخاصة في التأليف، ولغتَه الصافية بالكتابة. نادرًا ما أعثرُ على كتابٍ يعلِّمني صنعةَ الكتابة، كتابٌ يختصر مكتبة، كلّما كرّرتُ مطالعتَه أكثر تعلّمتُ أكثر. وأندرُ منه أن أكتشفَ كتابًا بقدر ما يدهشني يبهجني، لا ‏أكتفي بقرائته مرةً واحدة، لا أعرف، ربما لفرط دهشتي لا أستطيع تصنيفَه أو توصيفَه، كلّما أردتُ أن أعرّفه يعاند تعريفي، أستمع فيه إلى: ألحان عازف، أغاني شاعر، مكاشفات عارف، وتأملات ‏فيلسوف، أراه كلوحةٍ فنية تتناغم ألوانُها، وتتحدّث رموزُها لغةً لا يفكّ أسرارَها إلا مَنْ يتذوقها.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

يُقال في القاعدة المشهورة: (لا مُشَاحَّة في الاصطلاح) ونريد أن نخالف هذه القاعدة، بالوفرة المتحصلة بدلالة المعاني الواردة لكل كلمة، لا سيما في سياقها القانوني الذي يتجه صوب حفظ الحقوق، ومراعاة العدالة، وتحقيق المعنى المثيل لطبيعة الحدث. قد تتوارد وتتوالد العبارات، بطريقة تتجه بنفس الوصف، المتداول بين الناس شعبياً، وكما وصفت لأول وهلة، وقد لا تحضر بذلك المعنى وذات الوقع، الا بالتعبير عنها بنفس المفهوم العميق الذي ألفته أسماع الناس.

فكلمات مثل: جريمة، ومجزرة، ومذبحة، وإبادة، كلها تشترك بنتيجة القتل ومآلاته، وإن كانت كلمة جريمة تصدق على أفعال أخرى مختلفة، ولكن المراد بذكرها هنا "جريمة القتل" على نحو خاص. فما شأن بقية الكلمات التي لم نشأ أن نعالجها معجمياً، بقدر ما نريد إن نحدها اصطلاحياً بكونها مصطلحات ترد في العادة في مسودات، وقرارات قوانين في مجال القانون الجنائي، والقانون الحقوقي،والتشريعات القانونية والفقهية.

ونريد أن نشير في هذا المقال إلى الأشكال القانوني الظاهر في توصيف (جريمة سجناء بادوش) ونقول عنها جريمة لنختصر القول فيها بنتيجة الحدث الواقع. ولنأخذ معاً بالتوصيف المناسب لطبيعة هذه الحادثة، ونحن نقف على عدة مصلحات ومفاهيم، لم نجد استقراراً في استعمالها، مثلاً توصف على أنها: (جريمة حرب) (جريمة ضد الإنسانية) (جريمة إبادة جماعية) وهذا ما وحدته لجان حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بتوصيفها كلمة "جريمة" بكونها تشير إلى فعل جنائي صرف بكل الأحوال. ولكن حاجتنا إلى التوصيفات المكملة والمضافة إلى كلمة جريمة، هو بسبب أبعاد عرقية، ودينية، وقومية، وسياسية، وهوياتية. وهنا يتحقق الإشكال في معنى الوصف! وهنا ممكن أن نخالف القول الدارج لا مشاحة بالمصطلحات، بل هنا يتطلب الأمر لرفع المشاحة، ومخالفتها والقول بنقيضها، وما يزيد في القول الواصف، وتحقيق الوفرة.

ظهر هذا الأشكال الاصطلاحي في قرار رقم (4) لسنة 2015 المشرع من قبل البرلمان العراقي،والمصادق عليه من قبل رئيس الجمهورية، وكذلك في الدوائر المعنية بتنفيذ هذا القانون وتصريحاتهم بخصوص هذا الأمر.

ذكر المشرع العراقي في الفقرة الأولى من القانون اعلاه، واصفاً الجريمة على إنها "مذبحة سجن بادوش"، وفي الفقرة الثانية من القانون ذكرها على أنها "مجزرة " تشبه مجازر أخرى ذكرها القانون في نفس الفقرة. وذكر المشرع في هذه الفقرة إن هذه المجزرة يجب أن توثق توثيقاً معتمداً وتقدم إلى فريق التحقيق الدولي الذي شكلته الأمم المتحدة والمنتظر قدومه للعراق في حينه! علماً إن هذا الفريق يعتمد توصيفات محدده في بنوده بين جريمة حرب، أو جريمة إبادة، أو جريمة ضد الانسانية!

وأشار التقرير مُجدداً في الفقرة الثالثة إلى مصطلح "مذبحة سجن بادوش" وإن المذبحة على وفق التعريف الدقيق للكلمة هو من يفعل به فعل "الذبح" كما تذبح المواشي، بينما فعل بهم، وقد يكون كذلك، كل أنواع القتل، ذبحاً وقتلاً بالرصاص، وقد يكون خنقاً، أو غرقاً، أو حرقاً جزئياً، وهنا يكون الاستعمال الادق للمعنى، ولأول وهلة، وبكون مجريات التحقيق لم تتم بعد،يكون من المناسب استعمال كلمة "جريمة" (جريمة سجن بادوش). بينما نجد المشرع العراقي يستعمل في الفقرة الرابعة منه كلمة "مجزرة". وكلمة "مجزرة" لها مدلول مختلف من حيث تطابق عدة أفعال لإكمال معناه وتحققه. وكذلك في الفقرة الخامسة يستعمل كلمة "مجزرة"، بينما نجد في الفقرة الأخيرة من القانون، وهي الفقرة السادسة لا علاقة لها بباوش! وإنما تخص جرائم داعش بحق النساء، ولا نعلم هل سجناء بادوش هم من الرجال والنساء معاً؟ أم للرجال فقط؟

كما أن المشرع العراقي في نفس القانون وعنوانه، يشرع بتصنيف المذبحة على إنها جريمة إبادة جماعية! وهو لا يملك قانون يعرف بالإبادة الجماعية، حتى نعرف هذا التصيف ينطبق عليها فعلا أم لا؟! وكيف للمشرع العراقي أن يستعمل كلمة مذبحة مرتين في القانون! ويستعمل كلمة مجزرة ثلاثة مرات! ولم يلتفت إلى توحيد المسمى والتوصيف! وأهميته في ذلك.

ونسمع أيضاً بتوصيف آخر من خلال تصريحات المسؤولين التنفيذيين وهو مصطلح "ضحايا سجناء بادوش" ولم نجد أكثرهم يستعمل المصطلحين الرسميين الواردين في القانون المشار إليه في أعلاه وهو "مذبحة سجن باوش" أو "مجزرة سجن بادوش" بل يذهبون إلى استعمال ما يتم تداوله إعلامياً أكثر وهو "ضحايا سجن بادوش" أو ما يعبر عنها أيضاً بمصطلح "ضحايا مجزرة بادوش".

بينما تفضل بعض وسائل الاعلام استعمال مصطلحي "شهداء سجن بادوش" و"ضحايا نزلاء سجن بادوش "، وعبر عنهم بالشهداء؛ لأنهم قتلوا على الهوية الطائفية!، وهو السبب الرئيس لحدوث الجريمة! ولم يذكر القانون إنهم شهداء بل وصفهم "بالمغدورين"، واستعمل بحقهم ايضاً كلمة نزلاء؛ لأنهم أنزلوا في هذا السجن واودعوا به بعد نقلهم له من سجون من وسط العراق وجنوبه، بخطأ استراتيجي من قبل الحكومة التي لم ترع أي اعتبار للموقع الجغرافي، ولا الإنساني، والاجتماعي، من حيث صعوبة تنقل الاهالي لهم في أوقات الزيارة والمواجهة.

كثيرة هي الأخطاء التي أودت بحياة العراقيين وزيادة مآتمهم ومصائبهم التي تتكرر عليهم يومياً بعناوين شتى، بالأمس كانوا يسمون بالمفقودين، واليوم بالموتى، وما بين الأولى وتأكيد الثانية، ألف لوعة ولوعة، في نفوس أهاليهم، وذويهم، وألف ألم تحكيه تجاعيد وجوه أمهاتهم وآبائهم التي تسببت بها أنظمتهم السياسية الفاشلة، وحظهم بها ومنها مزيد من آلم الفقد والخراب!

***

د. رائد عبيس

أسهب العلماء في الحديث عن نشأة الكون الأولى، ولهم في ذلك نظريات عديدة ومتنوعة، لا زالت رؤاها تتجدد مع كل اكتشاف واختراع جديد تجود به علوم الفضاء المعاصرة. وإذا ما كان الحديث العلمي في هذا الشأن قد جاء متأخرا نسبة إلى العمر الحقيقي للكون، فإن كتب الأديان السماوية المقدسة، اهتمت بهذا الجانب من أجل توظيفه في تبيان قدرة الله تعالى. وكانت الديانتان اليهودية والإسلامية من أكثرها حديثا عن النشأة الأولى، ففي التوراة هناك سفر كامل بعنوان (سفر التكوين)، جاء في الإصحاح الأول منه حديثٌ عن تفرعات بداية الخلق، وفيه عن بدء الخليقة: (في البدء خلق الله السموات والأرض)، وجاء وصفٌ لها بأنها: (وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه)، ثم جاء عن خلق النور والليل والنهار: (وقال الله ليكن نور فكان نور..  ودعا الله النور نهارا والظلمة دعاها ليلا وكان مساء وكان صباح يوما واحدا)، ثم جاء حديث شامل عن خلق الأرض وسمائها ومياهها ونباتها ومخلوقاتها؛ التي كان الإنسان آخرها خلقا. أما في الإصحاح الثاني فتحدث بداية عن الفراغ أو الانتهاء من خلق النشأة الأولى التي تلتها الاستراحة: (وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل)، وهكذا.

المهم أن الحديث التوراتي جاء عاما روتينيا قصصيا سرديا يكاد يكون خاليا من العمق الفكري والاستراتيجي والوجداني وحتى الوعظي، وهذا ليس لعيب فيه، وإنما لأنه جاء لتغطية حقبة زمنية، ستكون البشرية خلالها بعيدة عن إدراك حقائق النشأة، لأنها لا تملك الإدراك الكامل ولا الوسائل العلمية التي تعينها على فهمها.

أما القرآن؛ الذي يتفق المسلمون على أنه كتاب هداية لا كتاب علوم وقصص، والذي يمثل آخر رسالة سماوية إلى الأرض وسكانها، بمعنى أن حقائقه سوف تصطدم بالحقائق العلمية التي ستبتكر من خلال التطور العلمي المستقبلي، فقد تناول الحديث عن النشأة الأولى بكثير من الجدية والتركيز الذي يتماهى مع مساعي وتطلعات واستنتاجات العلماء المعاصرين، كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ* وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ* وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِهَا مُعْرِضُونَ* وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الَّليْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، هذه الآيات التي قال ابن كثير في تفسيره لها: "كان الجميع [أي الكون كله] متصلا بعضه ببعض، متلاصق متراكم، بعضه فوق بعض؛ في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه. فجعل السماوات سبعا، والأرض سبعا".

وهذا أقرب ما يكون، بل هو تصوير في منتهى الوضوح لما اتفق عليه العلماء الفلكيون والفيزيائيون المتأخرون؛ الذين أطلقوا على عملية (الفتق) هذه اسم (الانفجار العظيم) (Big Bang)؛ الذي تناولته الكثير من الدراسات المعاصرة ووضعت بشأنه نظريات عديدة لا زال العمل على تطويرها جاريا.

كما أنه ليس من قبيل المصادفة أن تولد هذه النظرية العلمية التي تدعم الرؤية الدينية على شكل فرضية على يد رجل دين (كاهن) كاثوليكي بلجيكي هو العالم "جورج لومتر (1894ـ 1966) أستاذ الفيزياء في الجامعة الكاثوليكية، وهي التي تحولت في حدود عام 1927 إلى ما عرف لاحقا بنظرية الانفجار العظيم.  وقد اعتمد الإطار العام لنموذج الانفجار العظيم المتخيل على نظرية (النسبية العامة) لألبرت أينشتاين، وعلى تبسيط عدة فرضيات مثل: تجانس نظم الفضاء، وتوحد خواص الفضاء من خلال وضع معادلات رئيسية للنظرية على يد عالم الكون الفيزيائي والرياضياتي السوفيتي "ألكسندر فريدمان" (1888ـ 1925) ومن خلال الصيغ البديلة التي أضافها لها الرياضياتي والفيزيائي وعالم فلك الهولندي "فيليم دي سيتر" (1872ـ 1934).

لكن هذا لا يعني أن النظرية أصبحت من المسلمات العلمية إذ هناك من نفى وقوع الانفجار العظيم، ولكنه عجز عن نفي الوجود الأول المجتمع الموحد للكون، وبالتالي كان مطالبا بالبديل الذي عجز عن تقديمه، ومن هؤلاء العالم الفيزيائي الهولندي "إريك نوردنسكيولد فرلنده" (1832ـ 1901) الأستاذ في جامعة أمستردام؛ الذي يرى أن هناك وجودا قبل الوجود، وأن الكون لم ينشأ نتيجة الانفجار، بل نشأ من شيء كان موجودا بالفعل، نشأ من المادة المظلمة والطاقة. ولكي يثبت نظريته أنطلق من فرضية أنه كان هناك دائما شيء ما موجود، انبثقت منه المادة كما نعرفها الآن، ويمكن لها أن تختفي فيه مجددا، هذه عملية لا تنتهي أبدا.

رأي إريك كان عبارة عن فرضية فلسفية وجدت بالتأكيد من عارضها من العلماء، مع أن قوله كاد أن يكون في منتهى القرب من قول القرطبي في تفسيره: "كانت السماء مخلوقة وحدها والأرض مخلوقة وحدها، ففتق من هذه سبع سماوات". وبين القرطبي أن المقصود بالفتق: "فتق السماء بالمطر، والأرض بالنبات"، ولكنه رأي يأتي على خلاف ما أكدته التقنيات العلمية الحديثة، التي أكدت بالملاحظة الدقيقة حقيقة حدوث الانفجار العظيم، ولاسيما بعد اكتشاف الخلفية الإشعاعية للكون في عام 1964، واكتشاف أن طيفها يتطابق مع الإشعاع الحراري للأجسام السوداء، الذي دعمته المعلومات التي أرسلتها المحطات الفضائية السوفيتية عام 1986 مؤيدة نظرية الانفجار العظيم، والتي توافقت كليا مع المعلومات الدقيقة التي أكدها القمر الصناعي الذي أطلقته وكالة الفضاء الأمريكية (NASA) عام 1989 وهي معلومات عن صحة نظرية الانفجار العظيم.

وإذا ما كان سفر التكوين قد تجاوز الحديث عن عودة الكون إلى نشأته الأولى، فإن القرآن لم يهمل هذا الجانب، وهناك عدة آيات صريحة تتحدث عن فناء الأكوان في آخر الزمان، منها في الأقل قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}؛ التي قد تفسر على أن المقصود بها هو أن خلق الإنسان من العدم لا يستحيل معه إعادته في يوم الحساب من العدم مرة أخرى، هذا بالرغم من ارتباط الكلام بما سبقه ارتباطا وثيقا، وقد ذهب إلى ذلك ابن كثير في قوله: "وقوله: (كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين) يعني: هذا كائن لا محالة، يوم يعيد الله الخلائق خلقا جديدا، كما بدأهم هو القادر على إعادتهم، وذلك واجب الوقوع". وهذا أحد رأيين أوردهما ابن كثير، والرأي الثاني منهما، يناقض القول الأول، وفيه، "عن ابن عباس في قوله: (كما بدأنا أول خلق نعيده) قال: نهلك كل شيء، كما كان أول مرة"، وهو قول يناقض قول القرطبي السابق وقول إريك أيضا.

أما العلم فإنه لا يستبعد فناء الكون، وللعلماء نظريات كثيرة في هذا الشأن، منها ما يتحدث عن دمار شامل، ومنها ما يتحدث عن الدمار الجزئي مثل انتشار الفيروسات مثلما حدث مع فيروس كورونا، وهذا الدمار الجزئي هو الذي سيغير وجه الكون ويمهد للفناء الكلي، وكانت من آخرها نظرية عالم الفيزياء الفلكية في جامعة سوسكس (University of Sussex) الفيزيائي "جيليان سكادر" التي تتحدث عن الدمار الجزئي؛ الذي سيتسبب في فناء الأرض، والذي قال عنه: "إن اليوم الذي ستدمر فيه الشمس كوكب الأرض سيكون أقرب مما نعتقد، وأن الشمس سوف تفقد كل مدخراتها في نهاية الأمر، لتتحول إلى قزم أبيض، سوف يتلاشى من الوجود كما لو أن الشمس لم تستضيف الكواكب الأكثر حيوية على الإطلاق من بين كل الاكتشافات السابقة في الكون".

أذَّكر في الختام أننا كدين سماوي لا يمكن أن نعوِّل على نتائج الأبحاث العلمية فيما يخص الغيبيات أو الأمور المتنازع عليها، ولا نؤمن بها كمسلمات يقينية؛ لعدة أسباب منها:

- إيماننا الراسخ بقوله تعالى: {يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلْكِتَٰبِ}.

- ولأننا نعتقد أن تطور العلم لابد وأن يُسْقط نظريات، ويأتي بنظريات أخرى، قد تكون مخالفة لها.

ولكن ذلك لا يعني أن جميع ما يأتي به العلم لا يؤخذ به، فالإسلام أولا وأخيرا دين علم، أمر بطلب العلم ولو كان في أقصى الدنيا، وأوجب طلب العلم على المسلمين من كل الأعمار، وفي كل الأوقات، من المهد إلى اللحد. والعلم عند الله سبحانه وتعالى.

***

الدكتور صالح الطائي/ الكوت 

الاستدلالُ سلوكٌ يوميٌّ لا ينفك الإنسانُ عن ممارسته بغضّ النظر عن مَبلغ علمِه ومقدارِ ثقافتِه، فلا ينحصر أمرُه في العالِم وبحوثه أو في السياسي وجمهوره أو رجل الدين ومصدّقيه أو المعلم وتلامذته، أو أصحاب الحرف والصناعات بل يمكن القول إنَّ الاستدلال ممارسةٌ إنسانيةٌ تصدر من مطلق الانسان مع نفسه وأسرته ومجتمعه، وربِّه أيضا. فإذا ما دعاه قال: أنت الذي دللتني عليك .

والاستدلالُ مقياسُ قدرة الإنسان الذهنية وعلمه وفهمه، فالطبيب إذا ما ربط عرضاً بمرضٍ وأعطانا دواء لم يشفِ، صرنا نَصَفُه بالضعف وعدم الفهم . والعالم الهولندي فرانك هوغربيتز الذي استدل بحركة الكواكب على وقوع الزلازل وصادف حدوث زلزال أنطاكيا، قد عظُم شأنُه عند الناس وازداد متابعوه؛لأنَّهم استدلوا على صدقه بذلك التصادف، وهذا هو حال الناس مع أصحاب النبوءات الذين يدّعون علْمَ ماسيكون .

الاستدلال فعلٌ ذهنيٌّ يكشف عن علم الإنسان وعقله، فالانسان الذي يستدل بالمحسوس على المحسوس فقط، أو بالظاهر على الظاهرفحسب لن يكون بدرجة الذي يستدل بالمحسوس على المعقول أو بالمعقول على المعقول، وهذا محل تفاوت العلماء وتفاضلهم في كل علم وصناعة، وهو موضع تتفاوت فيه الأديان والمذاهب والنظريات، ويتحدد في ضوئه قبولُها الاجتماعيُّ والعلميُّ، فمتى ما كان استدلالها قويّا مستحكماً مقنعاً لوضوحه وبيانه ازداد عددُ المصدّقين والأتباع، وشاعت الأفكار كالنار في الهشيم . وهذا ما انتبهت له الحضارة الغربية، إذ عَلمتْ أنَّ خلخلةَ استدلال أيّ فكرٍ تعني إقصاءه، وإنهاءه. وإحكام استدلاله وتمتينه يؤدي إلى بقائه، واستمراره . ووجدنا أنَّ القرآن الكريم لا يفتأ يُنهي استدلالاً حتى يبدأ بآخر، ما يسوّغ لنا أن نصفه بأنَّه بنيةٌ استدلاليَّةٌ محكمةٌ. وهذا ما يبين لنا أهمية دراسة الاستدلال وتحليله وضرورة إدراكه، وتعلمه، وتعليمه لرفع وعي طلبتنا، واكسابهم المعرفة، وتحصيلهم العلم .

***

أ. د. علي جاسب عبد الله

نشرت هذا الأسبوع تدوينة قديمة حول التسامح الديني. فأثارت نقاشاً غير متوقع. وجدت الأسئلة الرئيسية تكراراً لما عرفناه قبل عقد من الزمان، مع أنها تطرح الآن بلغة لينة. وهذا يكشف عن حقيقتين متزاحمتين نوعاً ما: فمن ناحية نستطيع القول إن مجتمعاتنا تتحرك بصورة ملموسة، نحو تقبل الاختلاف وتداعياته. لكنها - من ناحية ثانية - غير قادرة على حسم بعض الإشكالات الرئيسية في هذا الموضوع نفسه، الأمر الذي يستدعي نقاشاً أكثر تركيزاً على نقاط التوقف.

أبرز أسباب الجدل في ظني مبدأ تعدد الحق. أي أن نكون على أديان مختلفة بمذاهبها أو حتى من غير المتدينين، من أجل العيش جميعاً في توافق وسلام. ولهذا سوف أخصص مقال اليوم لتوضيح الفكرة، وتمهيد أرضيتها لمن أحب مزيداً من النقاش.

نفهم تعدد الحق على وجهين:

الوجه الأول: أن الحق في طبعه الأولي، لا ينحصر في تطبيق واحد، بل يتجلَّى في صور عديدة، يمكن لكل منها أن يكون طريقاً إلى الله. فالذي آمنت به هو أحد احتمالات الحق أو تجلياته. والذي آمن به غيري هو احتمال آخر للحق أو صورة ثانية. وهناك صورة ثالثة ورابعة وخامسة... إلخ. بمعنى أن كل الناس متجهون إلى الحقيقة المطلقة، وهي الخالق سبحانه، عبر الطريق التي يراها أقرب وأوضح. وكل شخص مسؤول عن خياراته. لن يقف أحدنا نائباً عن غيره يوم الحساب، ولن يحمل أوزاره. وهذا مذهب ابن عربي، الفيلسوف والمتصوف المعروف.

الوجه الثاني: إنَّ الحق هو الصورة المثلى للحياة الفاضلة، وليس شيئاً منفصلاً عن الحياة أو مختلفاً عنها. وهو يتجلَّى في كل فعل إنساني خيّر. إنَّ اختلاف الأعمال والمشارب وسبل العيش ومصادر القوة والمعرفة، هو الحيز الحيوي لتجلي قيمة الحق، بوصفها المستوى الأرفع في كل مجال، الأرفع موضوعياً وأخلاقياً. إن الاختلاف الطبيعي بين سبل الحياة - وبالتبعية تجليات الحق في كل منها - عامل مؤثر في ارتقاء الإنسان والعمران.

في هذا المعنى، يتطابق مفهوم الحق مع سعي الإنسان لإتقان عمله. ونعتبر هذا المسعى جزءاً من التجربة الدينية الواسعة، التي نسميها عمران الأرض. الفلاح يسعى إلى الكمال من خلال توفير الغذاء للناس، والطبيب يسعى من خلال حمايتهم من الأمراض، وهكذا البناء الذي يبني البيت، والصانع الذي يوفر السيارات وأجهزة الاتصال، والفقيه الذي يعلّم الناس الشعائر، والفنان الذي يحول الفكرة إلى مشهد للتأمل من خلال لوحة أو مقطوعة موسيقى... إلخ.

جوهر الحق في الوجه الأول علاقة واعية بين الخلق والخالق. مركزها الخالق، والطريق إليه نية التقرب. أما في الوجه الثاني فالحق يتجلَّى في تفاعل البشر مع بعضهم، تفاعلاً بناء وأخلاقياً، يؤدي - موضوعياً - إلى تطور حياة الإنسان وارتقاء الجوهر الإنساني، أي العقل - العلم والأخلاق. وهذا - في اعتقادي - الغرض الجوهري للرسالات السماوية وجهود المصلحين في كل المذاهب والمشارب.

كلا المفهومين يبدو غريباً شيئاً ما، لأننا تعلمنا منذ نعومة أظفارنا أن الدين مطابق للتعريف الفقهي. وهو تعريف ينطلق - بالضرورة - من التزام إطار اجتماعي وعرفي خاص، لا يتعداه. لكنه - رغم غرابته - ليس جديداً. وقد أشار إلى جانب منه غالبية المفسرين حين وصلوا إلى الآية المباركة «ولو شاء ربك لجعل الناس أمَّة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم». وفحواها أن الاختلاف أصل في الخلق وضرورة للحياة. وهكذا أراده الله. فهل أرادنا أن نقتتل مثل حيوانات الغابة، أم نتسالم - رغم اختلافنا - كما يحكم العقل السليم؟

***

د. توفيق السيف – مفكر وباحث سعودي

كُتب التاريخ الإسلاميّ بمنطقين، تجاه الخلافة والثَّورات عليها، فمَن اعتبر عليّ بن محمد صاحب الزِّنج (قُتل: 270هج) خبيثاً (الطَّبريّ، تاريخ الأُمم والملوك)، ومَن عدَّه مُحرراً مِن العبوديَّة (السَّامر، ثورة الزُّنج)، ومَن اعتبر بابك الخُرميّ (قُتل: 223هج) «أَخَذَ فِي الْعَيْثِ وَالْفَسَادِ» (ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ)، ومَن اعتبره ثائراً على الاقطاعيَّة (العزيز، البابكيّة)، والكتابان «الزِّنج» و«البابكيَّة» صُنفا في ظل تقاليد ثورة أيضاً، الثَّورة الرُّوسيّة. أما «تاريخ الأمم...» و«الكامل...» فصنفا في عهد الخلافة التي لم يمر عام عليها من دون ثورةٍ!

حسب فيصل السَّامر (ت: 1982)، وحسين قاسم العزيز (ت: 1995)، أنَّ أيّ تمرد ضد سلطة ما أنه الحقّ. أما الطَّبري (ت: 310هج) وابن الأثير (ت: 630هج) فيؤمنان بالمقابلة بين مفسدة السُّلطة ومفسدة الثَّورة، أيهما أهون، فوجدا الأول أهون، أما السَّامر والعزيز فلا يقابلان بين المفسدتين! ولم يفكرا أنَّ لا صاحب الزّنج ولا بابك سيشيدان العدالة الاجتماعيَّة.

هذا، والسَّامر والعزيز، وهما يعيدان كتابة التَّاريخ، يؤمنان تحقيب التَّاريخ على أساس خمس حِقب متتالية (مشاعيَّة، عبوديَّة، إقطاعيَّة، رأسماليَّة، شيوعيَّة)، فمِن غير الوارد، وفقاً لعقيدتهما، الماركسيَّة، أن يتجاوز صاحب الزِّنج العبودية، و«بابك» الإقطاعيَّة، لأنهما مرحلتان حتميتان، يكون إسقاطهما خارج حتمية التاريخ، لهذا يكون مِن الجهل أنّ يُطلب مِن صدر الإسلام إلغاء الرِّق أنذاك. غير أنّ الطَّبريّ وابن الأثير، إذ نعتا الثَّائرين بأرذل النُّعوت، لم يغفلا مساوئ الخلفاء.

ذكرني بهذه المقدمة إيريك دورتشميد، وكتابه «همس الدَّم.. قصص الثورات والفوضى والخيانة والمجد والموت» (دار المدى 2020). تحدث عن ثورات كبرى، منها: الفرنسية (1782) والبلشفيّة (1917). كان الجدل جارياً بين الثوار عن قتل أو بقاء الملك، فمَن قال انتصرنا ولنوجهه بما نريد، وقتله سيصبغ مجدنا بالدَّم!

هل كان الثوار، بعد انتصار الثَّورة البلشفيَّة، ونفي الأسرة المالكة إلى سيبيريا، بحاجة إلى قتل طفل أمام أمّه، لأنه نطفة الملك؟ أو إبادة العائلة الملكيّة بالعراق (1958)؟ هل كان الثوار المنتصرون، وهم يحملون الدِّين والعدل شعاراً، بحاجة إلى الإعدامات المريعة؟ ينقل المؤلف ما قرره أحد قادة الثَّورات أن الرُّعب (الثَّوريّ) فضيلة.

ظهر في إحدى الثَّورات المنطق الآتي: «الدّفاع عن الوطن في الدَّولة البروليتاريَّة هو واجب ثوريّ، لكنه في الدَّولة البرجوازيَّة خيانة» (همس الدَّم). كان مِن المحرضات مِن أجل الثَّورة الإساءة للفقهاء، لكن عندما استحكمت حلقاتها، أخذت تُحاكم الفقهاء بالخيانة!

عرفنا الثَّورات المسلحة دَمويَّة، لكنّ ماذا عن الثَّورات المسالمة، كشباب «تشرين» ببغداد، لم يحملوا حتى خيزرانة، وكذلك ثورة النِّظام على نفسه، لتصحيح مساره. غير أنَّ هذا التّصحيح يُؤخذ مِن قِبل خصومها انتكاسةً، فمجلس الإعمار العراقي (1951)، الذي جعل واردات النِّفط كافة لتشييد البُنية التّحتيّة، سماه خصومها بمجلس الاستعمار. كذلك مثال «الثَّورة البيضاء» في عهد الملكيَّة، اشراك العمال في المصانع، وتأميم المراعي والغابات، ومشاركة النّساء في السِّياسة، لكنَّ الثّوار قدموها «خطورة في طريق التَّرويج للفساد والفحشاء» (رفسنجانيّ، حياتي).

قال محمَّد محمود الزُّبيريّ (اغتيل: 1965) لثورة (26 سبتمبر) بصنعاء: «يومٌ مِن الدَّهرِلم تصنع أشعته/شمس الضُّحى بل صنعناه بأيدينا»، والشَّاعر نفسه قال لثورة العراق (1958): «صيحة الشَّعبِ في بلد الرَّشيد/أشعليها ناراً وثوري وزيدي/ فاحذري يا بغداد إنَّ أفاعينا/ أشرُ مِن ألف نوري السَّعيد» (الدّيوان). لكنّ ما لم تصنعه الشَّمس للزُّبيريّ، أخذ يردده الثُّوار والثّوار المضادون أيضاً، وأجلس عصابةً تلو عصابة على قلب صنعاء، وأنَّ أحفاد جيل نوري السَّعيد، ممَن شهدوا سحل ما تبقى مِن جسده، صاروا يتغزلون بعراقيته.

إنَّ أول ما يلفت نظرك في «همس الدَّم...»، أنَّ الثَّورات، من اليوم الأول، ينمو فيها عِرق خرابها، وسرعان ما تختفي شعاراتها، الدُّم صار فيها شلالاتٌ لا همسٌ.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

انتصرت العلوم كونيا وتكسرت وتفتت أسس الخطابات التقليدانية العاطفية والحماسية الواهية. تم إعلان انتصار العقل. السلطة التقديرية للدول المتقدمة، المتصارعة مصلحيا تارة والمتوافقة تارة أخرى، اكتسبت ما يكفي من الخبرات لتشخيص استعدادات الشعوب لركوب قاطرة التطور العالمي بشعبه العلمية والهندسية وتفاعلها القوي مع العلوم التكنولوجية والذكاء الاصطناعي. هذا الأخير يتطور بسرعة فائقة كل يوم مثبتا أوضاعا اضطرارية تفرض واقعا متطورا يجعل الأفراد والجماعات أمام إجبارية رفع تحديات التخلي على أنماط تفكير سابقة والتسابق لفهم وإثمار الأنماط الجديدة.

لقد تقوى التلاحم بين العلوم والهندسة والذكاء الاصطناعي إلى درجة كبيرة. لم يعد الوقت يسمح بالتراخي والمسايرة. الأسرة أصبحت مطالبة بالتفكير المستمر المتفاعل مع ميولات فلذة أكبادها واضعة نصب أعينها حلم التفوق في انتقاء تخصصات تخدم مستقبل أبنائهم ومجتمعهم.

والحالة هاته، وجدت نفسي هذه المرة أمام إشكالية تحليل منحى تطور الترابط والتفاعل بين العلوم والهندسة والذكاء الاصطناعي زمن ما بعد الحداثة (العشرية الثالثة من الألفية الثالثة).

تشكل العلوم القسم الأكبر والهام من أقسام المعرفة. مكانة كل علم أصبحت مرادفة لقدرته على مراكمة المعلومات والمعارف المتطورة ذات طبيعة تمكن الإنسان من فهم الكون الشاسع وضمان الحفاظ على شروط العيش فيه بسلام وطمأنينة. الالتزام بالتفكير العلمي من أجل الفهم واكتشاف المزيد من أسرار الحقائق المطلقة أصبح مؤشرا أساسيا لاستشراف مكانة الفاعل في وطنه وإقليمه وجهته. لم يعد هناك سبيل أمام الفرد البشري سوى الانخراط في العقلانية التي تقوده إلى تطوير فهمه ونظرته للحقائق الكونية وللتفاعلات والاستراتيجيات العالمية.

الانطلاقة بالنسبة للمتعلم لا يمكن أن تتم إلا من خلال الانخراط الواعي في استيعاب قوانين الشعب المعرفية المجردة والإلمام بتراكماتها النظرية والتطبيقية (الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك ...). إنه شرط النجاح في اكتساب المهارة والكفاءة في ممارسة المهن الهندسية. إنهما القطاعان (العلوم المجردة والهندسة) اللذان تحديا كل العراقيل، وتمكنا من التفاعل المثمر القوي، ليخرج من رحمهما ما نسميه اليوم بالذكاء الاصطناعي المبهر. بهذا التطور، تحول التفاعل بين التشخيص المرئي بحمولته النفسية والروحية والتفكير العلمي إلى مصدر فوار لإنتاج النظريات والتفسيرات التطبيقية، والوصول إلى مستويات عالية من الخلق والمنفعة والاستفادة. لقد تيسرت أمام الإنسان إمكانيات اكتساح الطبيعة وسبر وفهم أسرار أغوارها. انطلاقا من الملاحظة وإشكالياتها وفرضياتها المعرفية المعقدة، تتبلور الفكرة والتجربة والاستنتاج، وتستخلص النظريات الجديدة.

لقد تحولت بقوة الواقع تربية الأجيال على التفكير العلمي إلى خيار وحيد لكل من يطمح لتطوير انشغالاته المدرة للدخل، وبالتالي الإفلات من وضعيات الركود والإشباع المرادفين لتهميش الكفاءات في عصرنا. وصول بعض التخصصات إلى حد الاكتفاء في سوق الشغل وعدم القدرة على خلق مناصب جديدة ليس قدرا محتوما بقدر ما ترتبط هذه الآفة بتفاقم التقاعس في التفكير والاختلال في تدبير الوقت. ما حققه الإنسان من ابتكارات وكشوفات في علوم الأحياء والكيمياء والفيزياء والاقتصاد والهندسة وعلم النفس والطب والصيدلة ... لا زال ضعيفا مقارنة مع حجم ما تختزنه الطبيعة وما يتوارى في الكون من حقائق مطلقة لا تعد ولا تحصى. كل العلوم تحتاج إلى مواكبة دائمة ومتابعة متواصلة لتجعل من التطور المعرفي والتكنولوجي عقيدة تتحكم في سلوك الأفراد والجماعات. التشبع بالتفكير المستمر في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك يعتبر في هذا الزمن دعامة قوية للنجاح. لا يمكن للفرد أن يغامر في تفسير القواعد والقوانين العلمية والسعي إلى تطبيقها على أرض الواقع بدون اكتساب الأدوات المعرفية للتفكير المجرد. إضافة إلى ذلك، أصبح الشباب يجدون أنفسهم أمام شعب هندسية متطورة بفعل تلاحمها المبهر مع التكنوجيات المتطورة. الرقمنة والروبوتات والذكاء الاصطناعي اكتسح وبدون رجعة كل المهن الهندسية: الهندسة الإنشائية والفنية، والهندسة المعمارية، والهندسة المدنية، والهندسة الكيماوية والصناعية والبيئية والميكانيكية، والطب بمختلف تخصصاته، والصيدلة، والهندسة الطاقية، والهندسة الزراعية والبيطرية، والهندسة النووية، والهندسة الكهربائية، والهندسة التجارية .....

الكل يتحدث اليوم عن القوة المتصاعدة لتلاحم العلوم والهندسة والذكاء الاصطناعي. الحداثة لم تعد اليوم مجرد خطابات ونقاشات وموضوع صراعات إيديولوجية. بفعل طبيعة الإبداع والاختراع ومهارات التواصل وصناعة القرارات والسياسات الجديدة تَشَكَّل وعي عالمي جديد أبكم أفواه رواد التقليد بشكل نهائي.

التطورات السريعة فرضت على الجميع إجبارية الارتباط اليومي بالتفكير الإبداعي والخيال المنتج والشغف للعمل الميداني المسؤول والقيام بالواجب بمهارات التخطيط والتنظيم، وبالتالي العمل بالصبر المطلوب لاكتساب الحق في التموقع بمعية المتميزين أكاديميا ومهنيا.

***

الحسين بوخرطة

دائما المجتمعات الساكنة والجامدة، تخاف من التغيير والتجديد. وهذا الخوف يتحول بفعل عمق الجمود والتكلس إلى رهاب. أي إلى مرض مجتمعي يحول دون أن ينفتح المجتمع على آفاق التغيير والتجديد وموجباتهما.

وفي هذا السياق تبرز المفارقة الصارخة، التي تعيشها المجتمعات الجامدة. فهي تعيش التخلف والجمود والسكون على كل الأصعدة، وتعتمد على غيرها من الأمم والمجتمعات في كل شيء، وترضى بكل متواليات هذا الواقع السيء. وفي ذات الوقت تخاف التغيير، وترفض التجديد، وتقبل العيش في ظل هذا الواقع السيء..

ولعلنا لا نبالغ حين القول: أن الخوف من التغيير والرهاب من التجديد، ليس خاصا بمجتمع دون آخر، وإنما هي من خصائص المجتمعات المتخلفة والجامدة، بصرف النظر عن أيدلوجيتها وبيئتها.. فكل المجتمعات الجامدة تخاف من التغيير، وكل الأمم المتخلفة تخشى من التجديد لمستوى الرهاب.

من هنا فإن لحظة الانطلاق الحقيقية في هذه المجتمعات، تتشكل حينما تتجاوز هذه المجتمعات حالة الخوف والرهاب من التغيير والتجديد. فحينما يكسر المجتمع قيد الخوف من التغيير والتجديد، حينذاك يبدأ المجتمع الحياة الحقيقية، التي تمكنه من اجتراح فرادته وتجربته. أما المجتمعات التي لا تتمكن لأي سبب من الأسباب من تجاوز حالة الرهاب والموقف المرضي من التجديد، فإنه سيستمر في التقهقر والتراجع على جميع الأصعدة والمستويات.. والفئات والشرائح التي لها مصلحة في استمرار التقهقر والجمود، ستستثمر هذه الحالة المرضية وتبني عليها الكثير من المواقف والإجراءات، والتي تعمق حالة التخلف وتزيد حالة الخوف المرضي من كل آفاق ومتطلبات التغيير والتجديد.

وينقل في هذا الصدد عن التاريخ الصيني القديم، أنه في ظل سلالة هان (25 - 220 ب م) صدر مرسوم إمبراطوري ينص على أنه لا يجوز لأي متأدب أن يطرق، بصورة شفهية أو خطية، أي موضوع لم يعينه له أستاذه. فليس يحق لكائن من كان أن يتخطى ميراث معلمه.وكل من تسول له نفسه أن يتعدى الحدود المرسومة يغدو مبتدعا.

وهكذا تأسس رهاب البدعة الذي شل قدرة المثقفين الصينيين على التفكير كما على التخيل. فلكأن عقولهم قد حبست في أكياس من البلاستيك حتى لا يتسرب إليها أي جديد.

فالنزوع القهري إلى رفض التغيير والخوف من التجديد، هو حالة مرضية، تزيد من انحطاط المجتمعات، وتبقيها تحت ضغط الجمود والتخلف. ولا تقدم لهذه المجتمعات إلا بإنهاء حالة الرهاب من التغيير والتجديد..ونحن هنا لا نقول أن التجديد في المجتمعات بلا صعوبات وبلا مشاكل، ولكننا نود القول: أن مشاكل المجتمعات من فعل التغيير والتجديد أهون بكثير من استمرار حالة التخلف والجمود.. وإن المجتمعات لم تتقدم إلا حينما انخفض منسوب الخوف من التغيير والتجديد إلى حدوده الدنيا. بدون ذلك ستبقى مقولات التقدم والتجديد والتغيير، مقولات جامدة ومنفصلة عن الحياة الاجتماعية. وهذا ما يفسر لنا حالة بعض المجتمعات العربية والإسلامية على هذا الصعيد. فهي مجتمعات مليئة في الإطار النظري بمقولات التقدم والحرية والتجديد، إلا أن واقعها الفعلي، أي واقع النخب وأغلب الشرائح والفئات الاجتماعية، تتوجس خيفة من هذه المقولات، وتنسج علاقة مرضية مع مقتضيات التقدم والحرية والتجديد.فتجد الإنسان يصرخ ليل نهار باسم التغيير والتجديد، إلا أنه في ذات الوقت يقف موقفا سلبيا من كل الوقائع الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تنسجم ومقولة التغيير والتجديد، فتتضخم لديه الخصوصيات إلى درجة إلغاء مقولة التجديد.. فهو باسم الثوابت يحارب المتغيرات، وباسم الخصوصية يحارب التجديد، وبعنوان عدم التماهي مع الآخر الحضاري يقف ضد كل نزعات التغيير والتجديد.فهو على الصعيد النظري، جزء من مشروع الحل، إلا أنه على الصعيد الواقعي، جزء من المشكلة والمأزق. وكل ذلك بفعل رهاب التجديد والتغيير.وهي عناوين ومقولات لا يكفي التبجح بها، وإنما من الضروري الالتزام النفسي والعقلي والسلوكي بمقتضياتهما ومتطلباتهما.وهنا حجر الزاوية في مشروعات التجديد في كل الأمم والمجتمعات..

لهذا من الضروري لأي إنسان ومجتمع، أن ينسج علاقات جدلية ونقدية مع مقولاته وشعاراته، حتى لا تتحول هذه المقولات والشعارات إلى أقانيم مقدسة، تحارب التجديد في العمق والجوهر، وهي تتبناه في المظهر.

ويبدو من خلال التجارب الإنسانية المديدة، أن المجتمعات تتمايز على هذا الصعيد في هذه المسألة..فكل المجتمعات تصدح بضرورة التطوير والتجديد والتغيير، إلا أن هناك مجتمعات تخاف حقيقة من التجديد، لذلك فهي على الصعيد الواقعي تحارب كل ممارسة تجديدية.فالتمايز يكون بين المجتمعات، بين مجتمعات ترفع شعار التجديد وتلتزم بكل مقتضياته ومتطلباته. ومجتمعات ترفع شعار التجديد دون الالتزام بكل المتطلبات.  ولعل من أهم الأسباب لهذا التمايز بين القول والممارسة هو في الخوف من التجديد والرهاب من التغيير. صحيح أن هذه المجتمعات ترفع شعار التجديد، إلا أنها على الصعيد النفسي والثقافي تخاف من المقتضيات والمتطلبات. فهي مع التجديد الذي لا يتعدى أن يكون شعارا فحسب، أما التجديد الذي يتحول إلى مشروع عمل وبرامج عملية متكاملة، فهي ترفضه وتخاف منه. وأي مجتمع لا يتحرر من رهاب التجديد، فإنه لن يتمكن على المستوى الواقعي من الاستفادة من فرص الحياة ومكاسب الحضارة الحديثة.

ولكي تتحرر مجتمعاتنا من رهاب التجديد والتغيير، من الضروري التأكيد على النقاط التالية:

1- إن التجديد والتغيير في المجتمعات الإنسانية، لا يحتاج فقط إلى توفر الشروط المعرفية والثقافية والسياسية، وإنما من الضروري أن يضاف إلى هذه الشروط، شرط الاستعداد النفسي والعملي لدفع ثمن ومتطلبات التجديد في الفضاء الاجتماعي. وبدون توفر هذا الشرط، لن تتمكن المجتمعات من ولوج مضمار التجديد. لأن التجديد بحاجة إلى جهد إنساني متواصل، واستعداد نفسي مستديم لإنتاج فعل التجديد والتغيير في الواقع الاجتماعي. والاستعداد النفسي الذي نقصده في هذا السياق، ليس ادعاء يدعى، وإنما هو ممارسة سلوكية، تحتضن وتستوعب كل شروط التجديد، وتعمل على تمثل وتجسيد متطلباته في الذات والواقع العام.

فطريق التجديد في مجتمعاتنا، ليس معبدا أو سهلا، وأمامه العديد من الصعوبات والمآزق، وبدون الاستعداد النفسي والعملي لدفع ثمن التجديد والتغيير، لن تتمكن مجتمعاتنا من القبض على حقيقة التجديد والتغيير. فالمطلوب دائما وأبدا ومن أجل الاستيعاب الدائم لمكاسب العصر والحضارة الحديثة، هو توفر الجهد الإنساني الموازي لطموحاتنا وتطلعاتنا.وبدون ذلك ستصبح دعوات التجديد في أي حقل من حقول الحياة وكأنها حرثا في البحر.فعليه فإن التجديد في المجتمعات الإنسانية، يتطلب وجود مجددين، يجسدون قيم ومبادئ التجديد، ويعملوا من أجل بناء حقائق ووقائع في الحياة الاجتماعية منسجمة وقضايا التجديد ومتطلباته.

2- إن قانون التغيير والتجديد في المجتمعات الإنسانية، لا يعتمد على قانون المفاجأة أو الصدفة، وإنما على التراكم. فالتجديد يتطلب دائما ممارسة تراكمية، بحيث تزداد وتتعمق عناصر التجديد في الواقع الاجتماعي. ولهذا ومن هذا المنطلق فنحن مع كل خطوة أو مبادرة صغيرة أو كبيرة، تعمق خيار التجديد وتراكم من عناصره في الفضاء الاجتماعي. وفي المحصلة النهائية فإن التجديد هو ناتج نهائي لمجموع الخطوات والمبادرات والممارسات الايجابية في المجتمع.

ويشير إلى هذه الحقيقة المفكر العربي (جورج طرابيشي) في كتابه (هرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية ) بقوله: والواقع أن قانون الترابط بين حركة الإصلاح الديني والتقدم الثقافي دلل على فاعلية نموذجية في الدول الصغيرة الحجم في المقام الأول. وتلك هي حالة السويد التي كانت أول بلد في العالم يطور برنامجا شاملا لمحو الأمية . فانطلاقا من فكرة لوثر البسيطة القائلة إن جميع المسيحيين بلا استثناء كهنة، وبما أن الكاهن هو بالتعريف في تصور بشر ما قبل الحداثة من يعرف القراءة، بات واجبا على البشر، كي يكونوا كهنة أي محض مسيحيين، أن يتعلموا القراءة. وعلى العكس من الكنيسة الكاثوليكية التي عارضت وصول العامة إلى النصوص المقدسة، شجعت الكنائس البروتستانتية أهالي المدن والأرياف على السواء على تعلم القراءة. ومنذ مطلع القرن السابع عشر أطلقت كنيسة السويد اللوثرية، بمساندة من الدولة، حملات واسعة النطاق لمحو الأمية. وفي أقل من قرن، كان ثمانون في المئة من السكان، في ذلك البلد القروي، قد أضحوا من المتعلمين.وما إن أطل القرن الثامن عشر حتى كان تعميم التعليم في السويد قد أضحى ظاهرة جماهيرية ناجزة، وهذا بدون وجود شبكة موازية من المدارس والأجهزة التربوية.

من خلال هذه التجربة نرى أهمية أن تترجم دعوات التجديد والتغيير إلى خطط وبرامج ومبادرات، حتى يتسنى للمجتمع اكتشاف بركات ومنافع التجديد على المستويين الخاص والعام.

وجماع القول: أن التجديد في مجتمعاتنا ضرورة قصوى. ولكن هذا لا يعني أن طريق التجديد سالكا ومعبدا وبدون مشاكل، بل على العكس من ذلك حيث أن طريق التجديد والتغيير مليء بالأشواك والصعاب.والشرط الضروري الذي يوفر لنا إمكانية تجاوز كل هذه العقبات وإبراز منافع التجديد والتغيير هو إنهاء حالة الرهاب والخوف من التجديد.

- انتهى -

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

الاطفال هم احلام مستقبلنا المضئ نجد ونتعب من أجلهم تربيتهم احسن تربية ونجاهد لنوفر لهم أحسن تعليم أحسن نادي واحسن كتاب ونغرس فيهم كل القيم الاخلاقية والدينية التي ترعرعنا عليها من الايمان وفعل الخير واشكال العفو والاحسان والفداء وغيرها من القيم .

كانت هذه الاحلام المشروعة محل تحقيق عبر عقود طويلة، ولكنها في زمن ألفيتنا الثالثة للميلاد باتت من أصعب الاماني ، ليس لقصور الاسرة في التنشئة فقط، ولكن بفعل متغيرات زمنية رهيبة صارت تتحكم بشكل أكبر في تنشئة الطفل وتغذية عقله ووجدانه أكثر من المنبع الرئيسي للأسرة، فصار الطفل تائها بين القيم التربوية والاخلاقية وبين قيم الميديا وتكنولوجيا العصر الفتاكة .

لعلي أظن ان الاسرة في كل بقاع العالم صارت محتلة من ملوك تكنولوجيا العصر ووسائط الميديا المذهلة التي سرقت عقولنا ووجداننا وباتت توجهنا في شكل حياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية وطرق تفكيرنا حتى صار تفكيرا معلبا جاهزا نشتريه من السوبر ماركت بضغط زر  يصل الينا ويلبي احتياجاتنا بلا عناء .

فاذا كان هذا حال الاسرة الكبيرة الناضجة والتي أمضت سنوات طوال في التعلم واكتساب الخبرات والمعارف تمت سرقتها بمحض اراداتها، فما بال الأطفال الصغار يجدون متع سريعة وجاهزة دون ان يعوا كيف يوضع السم بالعسل؟!!

فالطفل الضعيف الباسم فجأة صار عنيفا جدا اذا لم يتم اعطائه اغنيه او رقصة او لعبة حركية على الموبايل او التلفاز، اما اطفال المدارس فقد انشغلوا عن التعليم بالالعاب  الالكترونية التي تعلم مهارات مذهلة في فنون القتال وفنون السطو على البنوك، والقتل تحت مزاعم الدفاع عن النفس او المنافسة او الاستحواذ على السلطة .

والاهل هم ايضا مشغولون اما بالكد لتوفير متطلبات ذويهم او مشغولون ايضا بالالعاب الالكترونية، بينما يقضي الصغار معظم اوقاتهم بالمدراس الخالية من الرقابة، ووسائل الاعلام التي تشكل تفكيرهم خاصة الالعاب الالكترونية حيث اكتساب العنف والجريمة بسهولة  تدفع الطفل الى قتل نفسه بنفسه تطبيقا لخطوات اللعبة الالكترونية وانا اشدد انني لست ضد الاطار بل ضد المضمون وضد كمية الوقت المصروف .

الانكى من ذلك ما تمرره افلام ديزني من تقديم شخصيات غير سوية في الفئات الصغيرة بعيدا عن قيم الأديان السماوية والاخلاقية والمفاهيم الاجتماعية والثقافية المتفق عليها عبر العصور .

بظني ان المجتمعات البشرية كلها بحاجة الى يقظة من التيه العقلي الذي صنعته التكنولوجيا بنا، ووضع يدها على موطن الداء الذي ينتشر كالسرطان الخبيث بين أطفال العالم ويقودهم للضياع بفعل خضوعهم للوحش الرقمي الميسطر على عقولهم .

بظني ان البشرية كلها خاصة في منطقتنا العربية والشرق اوسطية  مطالبة بسرعة استعادة الوعي والحفاظ على القيم الاسرية التي تربينا عليها وغرس هذه القيمة بنفوس الصغار، عبر  اليات متعددة منها الدور الاسري في مراقبة ابنائهم في برامج  التواصل الاجتماعي والاستفادة من برامج  الخبراء والمتخصصين في معالجة ابنائهم من التنمر  واكتساب خبرات لحماية صغارهم وابنائهم من الابتزاز الالكتروني . بجانب الادوار المهمة للتثقيف والتوعية للمدارس والجامعات والمؤسسات الثقافية والتعليمية والاعلامية بتوعية النشئ من مخاطر الوحش الرقمي وضرورة تقليص نسبة مشاهدته والتواصل فيها الي اضيق الحدود .

والعالم العربي كله مطالب بالتعاون في انتاج اعمال فنية من تراثنا القديم وواقعنا الجيد الحديث وما نأمله من مستقبل متطور علميا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وتقديم هذه الافكار بوسائل عصرية جاذبة تغرس كل فضائل الاخلاق والقيم اللازمة لتنشئة الصغار وصون هويتهم .

وبتقديري اننا في أشد الحاجة لوضع خطة عملية لاستثمار فترة العطلة الصيفية بالمدارس في خلق أنشطة تستهوي الطلاب من انشطة رياضية وكشافة ومسابقات في الشعر والقصص واقامة المعارض للوحات الفنية والاشغال اليدوية والحرفية وتعليم الخياطة والزراعة والبحث العلمي والاختراعات العلمية وغيرها من الانشطة التي تستقطب وقت الطلاب في اعمال مفيدة وتحقق لهم ايضا مرودا عمليا ناجحا .

استغلال المدارس فترة الصيف لاستيعاب الاطفال من خلال نشاط صيفي يلعبون ويستمتعون ويقرأون قصصاً. كذلك تنظم المدرسة معارض للوحاتهم ومشغولاتهم اليدوية التي قاموا بها من انشطتهم ومواهبهم  وهو ما سيلقي ترحيباً من الاطفال .

وبظني ان الابوين عليهما ان يقدما الأسوة الحسنة في تقليص استخدامهم للموبايل  واوقات اتصالهم بقنوات التواصل الاجتماعي وان يشجعوا ابنائهم على اكتشاف مواهبهم والعمل على تنميتها داخل الاسرة قبل النادي والمدرسة .

من المهم استفادة الابوين من البرامج والتطبيقات المراقبة لحماية الاطفال ، فهي تعمل بلوك على المناظر والمواقع والدعايات الغير أخلاقية، كما يبنغي على الابوين تحديد الوقت الذي يقضيه الطفل على الموبايل،  وترسل اشعارات للابوين بالبرامج التي يستخدمها الطفل.

وعلى الابوين ايضا تقديم النصح المباشر وغير المباشر لابنائهم بعدم قبول صداقات غير معروفة لهم وعدم افشاء أسرارهم مع غرباء عبر الواتس اب والماسنجر وغيرها من وسائل التواصل .

***

بقلم: سارة طالب السهيل

أعتقد أن الكتب تحسب وتُقيَّم من حيث تأثيرها وفعاليتها وتداعياتها في المجتمعات والميادين التي ألفت فيها، وليس بعددها. وعلى الرغم من تراجع منزلة وانتشار الكتاب الورقي تراجعا خطيرا في أيامنا، واقتصار توزيعه خلال المعارض الدولية تقريبا، فإن القاعدة الذهبية والمجربة تبقى كما كانت من قبل وهي أن الكِتاب الأكثر تأثيرا والأطول بقاء هو الذي تمليه على كاتبه شبكة عوامل وظروف دافعة ومتداخلة في مقدمتها ذلك المزيج العبقري من الجدة والإبداع والتطوير وربما يأتي الدافع النرجسي والوجاهي في أخيرها وقد لا يأتي.

لنأخذ - كمثال أول - شاعرا معروفا كالفرنسي آرثر رامبو؛ لقد هزَّ هذا الشاعر قصير العمر ونادر المنتوج الشعر الفرنسي - والغربي- القديم والحديث وخضه خضاً، أو بعبارة الروائي والناقد الأميركي هنري ميلر - إن لم تخني الذاكرة - "أمسك بالشعر الفرنسي والأوروبي من أذنه وطرحه أرضاً ثم قَلَبَهُ رأساً على عقب"، واعتُبِرَ مؤسس الحداثة الشعرية في الغرب، هذا الشاعر لم يترك خلفه إلا كتابين صغيرين أو دفترين اثنين هما "إشراقات" و"فصل في الجحيم" وست قصائد أشهرها "المركب السكران" والتي ترجمت عدة ترجمات الى اللغة العربية، ثم طلَّق الشعر بالثلاث وهَجَرَ عالم الأدب نهائياً وهو شاب ثم تحول الى تاجر سلاح مغامر جوّال حتى موته وهو في الثلاثينات من عمره بعد حياة قصيرة صاخبة ومنفلتة ومضطربة. لست أقارن أحداً بأحد أو حالة بحالة محددة بل أذكر أمثلة لتعضيد الفكرة. 

أما في عالم الرواية فكثيرون هم أولئك الذين هزّوا عالم الأدب والرواية بكتاب واحد ثم سكتوا حتى الموت؛ منهم مثلا: بوريس باسترناك في روايته اليتيمة والشهيرة «دكتور زيفاجو» التي فاز عنها بجائزة نوبل للآداب سنة 1958 ولكنه رفض استلام الجائزة أو كما قيل في الإعلام الغربي أجبر على رفض استلامها من قبل السلطات الستالينية في الاتحاد السوفيتي، وسيلفيا بلاث في «الناقوس الزجاجي»، وإميلي برونتي في «مرتفعات وذرنج» وآنا سويل في «الجمال الأسود» ومارجريت ميتشل صاحبة «ذهب مع الريح» التي تحولت إلى أيقونة سينمائية لاحقا. ونلاحظ أن أغلب هؤلاء المبدعين ذوي العمل الواحد من النساء (أربعة من خمسة أسماء)، ربما لأنهن أكثر شجاعة واستخفافاً بنشر إبداعهن الأدبي من الرجال. أما في مجال الأبحاث العلمية فالأمثلة أكثر من أن تختصر عن أصحاب العمل الواحد والعملين!

ولكن دعونا نأتي بمثالين عراقيين؛ لعل الباحث والعلامة العراقي الكبير جواد علي خير مثال على المُقلِّين الذين لم يبلغ عدد كتبهم أصابع اليدين، ولكنه أيضاً صاحب الموسوعة التاريخية الأشهر والأكفأ والأوسع والأوثق في اللغة العربية والتي تحمل عنوان "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" في عشرة أجزاء، وطبعت لاحقاً من طرف دور نشر لصوصية داخل وخارج العراق (أقول لصوصية لأتها لم تراع حقوق المؤلف العلمية أو حقوق ورثته) بعشرين مجلدا، وهو متوفر على الانترنيت بنسخ رقمية "بي دي أف" مجانية، وصار هذا الكتاب مرجعاً لكل من كتب عن تاريخ العرب قبل الإسلام. وحتى كتب المؤلف اللاحقة فقد كانت اشتقاقات وتنوعيات وتفصيلات على موسعته "المفصل" ككتبه "أصنام العرب" و "تاريخ الصلاة في الإسلام" و "التاريخ العام" إضافة إلى أطروحته لشهادة الدكتوراة التي قدمها في جامعة هامبورغ الألمانية سنة 1938 وهي بعنوان "المهدي وسفراؤه الأربعة"، ويقال إن له كتباً أخرى لم تنشر في حياته.

أما زميله ومجايله العلامة طه باقر فلا يكاد يُعرف له إلا عدد مقارب من الكتب قد لا يتجاوز الستة كتب، منها كتابه المهم "مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة" بجزأين، الأول عن العراق القديم، والثاني عن مصر (وشمل فيه حضارات بلاد الشام والجزيرة العربية وبعض الحضارات القديمة في بلدان فارس والإغريق والرومان)، وهو كتاب مرجعي مهم يَعْدِلُ مكتبة كاملة. وكتابه الثاني "المرشد في الآثار" وهو في ستة أجزاء وبحر تخصصي في بابه، والثالث "مقدمة في الأدب العراقي القديم" والرابع "موجز في تاريخ العلوم والمعارف في الحضارات القديمة والإسلامية"، والخامس كتاب شبه مفقود عن "بابل وبورسبا" صدر سنة 1959، وأخيرا وسادساً كتابه "من تراثنا اللغوي القديم" ويقول تعريف الكتاب "هذا الكتاب، يرد فيه طه باقر على عجز المعجميين العرب عندما تعوزهم الحيلة في إثبات أصل أو جذر بعض الكلمات والمصطلحات فيردوها نتيجة لهذا العجز إلى الدخالة أو العجمة. لقد أثبت طه باقر أصول هذه الكلمات والمصطلحات السومرية والآكادية، وبعضها شائع في اللهجة العامية العراقية لا سيما في الجنوب العراقي". وكنت قد قلدته وسرتُ على خطاه من دون أن أعلم أو أطلع على كتابه هذا، في تأليفي لكتابي "الحضور الأكدي والآرامي والعربي الفصيح في لهجات العراق والشام" ولعلني أكتب لكم ذات يوم شيئا عن هذا الكتاب الثمين الذي حصلت على نسخة منه متأخراً.

إضافة إلى ما سبق أنجز الراحل طه باقر بعض الترجمات المهمة وفي مقدمتها ترجمته الرائدة لملحمة كلكامش، وتحتوي أيضا على فصول بحثية مهمة بقلمه. كما ترجم كتاب "دراسة للتاريخ" للمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، وكتاب "ألواح سومر" لصموئيل نوح كريمر، وكتاب "الرافدان"، وكتاب "الإنسان في فجر حياته" لدوروتي إيفرسن، ترجمه بالاشتراك مع زميله الباحث فؤاد سفر، كما ترجم فصولا من كتاب "تاريخ العلم" لجورج سارتون. وهناك من يعتقد أن مؤلفاته أكثر مما ذكرنا، ولا أظنها تتجاوز ما ذكرنا ولكنه نشر العديد من الدراسات والمقالات في المجلة الفصلية التي أسسها سنة 1945 وحملت اسم "سومر"، وكانت أرقى مجلة آثارية وتأريخية صدرت باللغة العربية في زمنها، وماتزال مرجعا مهما حتى اليوم وهي منشورة بكافة أعدادها على الانترنيت.

أعتقد لو أن مؤلفات الراحل طه باقر الشهيرة الستة أنجزها باحث معاصر في أيامنا لتحولت الى ثلاثين أو أربعين كتاباً، فتأملْ وأنت تتذكر أمثال هؤلاء الكبار عطاءً وإبداعاً على قلة عناوين كتبهم!

***

علاء اللامي

مناقشة رسالة الماجستير أو اطروحة الدكتوراه حلقة تكاد تكون أخيرة في ترصينها العلمي أو المعرفي، زيادة على بنائها المنهجي، وخطواتها المنطقية كي تظهر بلباس علمي يجعل منها جهدا معرفيا حقيقيا تكون دليلا للباحثين من بعد، لا تبخس الموضوع حقه، ولا المسترشد بها سؤله، وهذه مهمة وذمة المناقش أولا وربما أخيرا أيضا، بيد أن الاتجاه العام عند بعضهم يسير باتجاه الاقرار الضمني والنفسي أن ما يقدم للمناقشة عمل متكامل لا تشوبه الا هنات بسيطة ليست بذي بال، والدليل على ذلك ما يأتي: مدة القراءة الممنوحة للمناقش التي تقلصت من شهر إلى أسبوعين -بما فيها من مداخلات واجبات علمية، ووظيفية أخرى، فضلا عن حاجات انسانية طبيعية للمناقش، فكم سيتبقى منها؟!- الزمن المخصص للمناقش الواحد، وأخيرا قراءة بعضهم للبحث التي تقلصت عنده إلى مبحث واحد وربما جاءت بما يزيد قليلا، يستعرض عبره عضلاته العلمية الشفوية التي هي في النسق العلمي العام للموضوع، وقد تكون خارجه نهائيا، لا بما انجز فعليا عبر الكتابة في البحث قيد المناقشة، وهذا الفاعل الأخير باستراتيجية (اسقاط الفرض) هو من مؤيدي تقليص زمن المناقشة إلى عشرين دقيقة لكل مناقش، يضاف إلى ذلك التبرم بأي مناقشة جادة حريصة على التقويم، والتقييم العلمي الحقيقي لا البهلواني، مما خلق عند بعضهم ما يمكن أن نسميه: (فوبيا مناقش) إذ يخافون كل مناقش جاد، وهذه السلوكيات آنفة الذكر كلها تدخل ضمن مشروع سابق لتمرير وتمشية حال ابناء السلطة، حيث بات المناقش مقيدا بمفردات العمل الذي أمامه، لا يحيل إلى خارجه قيد أنملة، كي لا تظهر ضحالة الطالب وجهله بقضايا محيطة بموضوعه هي من صميم رصانة البحث والباحث، والكفاءة العلمية الواجبة في حامل شهادة عليا من مؤسسة أكاديمية يفترض أن تكون رصينة - بغض النظر عن أي تفاوت بين هذه المؤسسة أو تلك مادامت تمنح هذه الشهادات العليا- ومن علل التضيق كذلك الخشية من اكتشاف سرقة المحظي عند أربابه الكاملة، او سرقاته وتدليسه، أو أن يكون قد كتبها له آخرون.

وعودة بمرور سريع إلى ما كتبه طه حسين في مذكراته عن دراسته في فرنسا وما يقوم به المناقشون في جامعاتها من سياحة علمية مع الطالب بمواضيع شتى؛ تاريخية، وجغرافية، وأعلام وأحداث كبرى في حياة الأمة،  وقضايا ثقافية وفنية عامة، فضلا على اللغوية والأدبية والقضايا التخصصية الدقيقة في موضوع المناقشة، لَبَانَ بشكل جليّ بُعدنا عن شروط وضوابط الحياة العلمية والعملية، وموقعنا الحقيقي منها، ولأجبرتنا على اعادة النظر في كثير من سلوكياتنا في المناقشات، واعداد الطالب علميا ومعرفيا وذهنيا، ونفسيا منذ بدأ التسجيل في الدراسات العليا، وما يتلو ذلك من مسيرة يفترض أن تكون منقطعة تماما للعلم والمعرفة، والدرس والدراسة، والبحث والكتابة دون تمويه، أو توهين، أو مداجاة وانحراف، ودون فوت وتقصير، أو زخرفة لغشاوة العيون، أو بهرجة لتضليل العقول، أو لمساومة لخلخلة المواقف، أو لخلق مجريات ما لإرضاء الأهواء، وتحصيل منافع ومصالح على حساب الضمير العلمي، ومستقبل البلاد والعباد، وتحقيق وجودهم أسوة بعالم يكاد يقبض على أجرام السموات ومقدراتها، كما فعل في الأرض باطنا وظاهرا، بحرا، وجوا، ويابسة، ونحن الذين سمعوا أول كلمة نزلت من السماء تدعو للعمل والجد وفق هذا الاتجاه )اقرأ)..!.  ونحن الذين استرشدنا بمثل قرآني قل نظيره عن الذين يحملون العلم، ولا يحيطون بشيء مما فيه،  فقال عز من قائل:(مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا)، فالذين حملوا العلم والقرآن ثم لم يفقهوا منه شيئا  كمثل الحمار تماما..!. لا يُحمّل أكثر من طاقته في الوظيفة؛ وهي حمل الأثقال، فلا شأن له بعلم، ولا بدرس، ولا بمراجعة.. ومن هنا صار لزاما علينا مراجعة  أشيائنا العلمية كلها، ونموذج صياغتها وصوغها، وإدارتها وضوابطها، وقوانينها بين فينة وأخرى، وفقا للحال العلمية القارة في محيطنا الناجح، أو في العالم. كي نلحق بالركب العلمي للعالم وواقعه المدني والحضاري كما هو في قواه الكبرى متسيدة العالم، ولا نبقى نقرن أنفسنا ونربطها بنماذج لم تقدم لأنفسها ما يحميها من السقوط او التيه. فمسافة الألف ميل للوصول إلى قمة الهرم العلمي لابد أن تبدأ بخطوة منهجية علمية مدروسة جيدا، تليها خطوات متراصة متتابعة لا غنى عنها ابدا لتحقيق ذلك الانجاز والوصول. ومن أبرز علامات تحققه حينئذ اجراء مناقشات (علمية) في كل أصناف علومنا، تستحق فعلا حمل هذا الوصف الأخير.

***

د. رياض الناصري

العالم يتغير بسرعة قصوى وكأنه ينذر بالموازاة أن التطور الحضاري في العقود المقبلة لن يحتمل إلا المنخرطين بمعرفة قصوى في البنية الأساسية للسحاب المحوسب والاستفادة العالية من الذكاء الاصطناعي. والحالة هاته، ليس أمام الآباء والأمهات وأولياء الأطفال سوى تدريب فلذة أكبادهم على المناهج والتقنيات التي ستمكنهم من الانخراط في التعلم الآلي وبالتالي الولوج إلى خدماته الرائدة. إن هذا السحاب الافتراضي يمكن اليوم عبر برامجه المذهلة وشبكاته المتطورة من رصد تحركات وأنشطة وهويات الفرد الواحد أينما حل وارتحل. في نفس الوقت تمكنه من الاستفادة من خدمات ذات جودة عالية تسرع من وثيرة تكوينه واستفادته من خدمات متنوعة وذات جودة عالية (التسوق عن بعد، التكوين بتحويل النص إلى كلام أي إلى خطاب نابض بالحياة، التكوين بتحويل الكلام إلى نص، التعلم الآلي ببرامجه الثرية، الترجمة الآنية، .....). كما تصبو المؤسسات الراعية لمشروع الرقمنة العالمية إلى ربط البيانات الهوياتية للفاعلين والزبناء التجاريين بكل الأنشطة المدرة للدخل بشقيها السلعي والخدماتي في القطاعين العام والخاص.

السيولة المؤسساتية في مجال الهويات الفردية، ستتحول مع مرور الوقت إلى امتياز يمكن الأفراد من قضاء مصالحهم بالسرعة المتناهية والجودة القصوى. على مستوى المغرب كنموذج، إذا ما تمت إضافة المجهود المبذول في مجال رقمنة الحالة المدنية بمشروعها الوطني إلى ما يتحقق من تراكمات في مجال بناء السجل الاجتماعي ومشاريع الرقمنة لتحديث جل الخدمات العمومية والخاصة تقريبا، سيجد المتتبع نفسه في أقرب الآجال أمام حقيقة بارزة ستؤكد لا محالة وباستحقاق أن المغرب قد اختار سبيل التأهيل عقيدة متشبثا بالوصول إلى مستويات تمكنه من لعب دور القاطرة إفريقيا وعربيا.

بلا شك، هذا المشروع تحول اليوم إلى جوهر التنمية الترابية وأصبح من أولوليات البرامج العمومية. في هذا الشأن تم اختيار إقليم سيدي سليمان من ضمن عدد من الأقاليم كمختبر لتيسير تعميم هذا المشروع الريادي على مختلف الوحدات الترابية للمملكة. فما تقوم به العمالة بتنسيق مع رؤساء مجالس الجماعات الترابية للتقدم في تحقيق الأهداف الاستراتيجية هو تعبير واضح عن طموح السلطات الإقليمية لإبراز النموذج الترابي الواعي بالرهانات المستقبلية للدولة المغربية في آجال معقولة. المشروع الإقليمي وقيادته يستمدان بذلك مقوماتهما من الإستراتيجية الوطنية المعبرة عن حكمة نظام سياسي له خصوصيته الإقليمية والجهوية والقارية وحتى الدولية. بالفعل، وزارة الداخلية لا تدخر جهدا من أجل ربط البيانات الهوياتية الفريدة (unique) على أساس التسجيل في الحالة المدنية (رسم ولادة واحد)، بسجل المعطيات المهنية والتعليمية والتكوينية وكذا بسجل الممتلكات القارة والمنقولة. هناك حرص ملموس لتنمية رأسمال معلوماتي بطبيعة الرفع من الثقة المؤسساتية وإضفاء المصداقية التامة على علاقة المواطنين (المجتمع) بالدولة. هذه الأخيرة على وعي تام بضرورة تحقيق هذا الرهان الصعب بطابعه الإجباري. الرقم الوطني الفريد المحدد للوجود الفردي (المرتبط بالصورة الفوتوغرافية والبصمات الجينية الفريدة لليدين والعينين) سيتحول مع مرور الوقت إلى مصدر من مصادر المشروعية للانخراط السهل في المهن المدرة للدخل مستقبلا وشرطا إجباريا للاستفادة من الخدمات المتنوعة وطنيا ودوليا. حتى المسلسل الديمقراطي سيجد في الإلكترونيات أرضية أوتوماتيكية لضبط عمليات الترشيح والاقتراع وإعلان النتائج بسرعة فائقة. أكثر من ذلك، سيادات الأوطان سترتبط بقوة في أقرب الآجال بمدى تطور شعوبها في التعاطي مع الذكاء الاصطناعي المقوي لتأثيرها وجاذبيتها عبر تقاسم البيانات الحيوية النافعة المعبرة عن إمكانيات نفوذ مجالاتها الترابية المختلفة والمتنوعة.

لقد تدخل الذكاء الاصطناعي بتطبيقاته في حياة الإنسان عالميا. لقد تيسرت أمامه المهام المُعقدة التي كانت تتطلب في الماضي جهودا بشرية مضنية. لم يعد أمام التعلم بالصور والنصوص والفيديوهات الإلكترونية أي عائق يذكر. الإنتاج بإبداعاته والتجارة بتقنياتها في طريقهما للاندماج الكلي في العالم الرقمي. الشركات الكبرى تستثمر بشكل كبير في علوم البيانات التي تعد اليوم مجالاً متعدد التخصصات العلمية. الهدف المسيطر على هواجس الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين عالميا هو تطوير الأساليب العلمية في هذا المجال للرفع من قيمة المعطيات ببعدها الكمي والنوعي. كل المهن ارتبطت اليوم بالرقمنة، وبرزت بشكل واضح المهارات في مجالات حيوية مثل الإحصاء وعلوم الكمبيوتر والمعرفة العلمية لتسهيل تحليل البيانات التي يتم جمعها من مصادر متعددة.

خلاصة: سأكتفي بهذا القدر مبرزا حرص المغرب الملموس لتصدر قائمة الدول الإفريقية والعربية في لعب الأدوار الريادية في ربط الهوية والذكاء الاصطناعي بكل المجالات الحيوية في المجتمع والدولة مع الحفاظ على سرية المعلومات الفردية.

فتعميم التصاريح الأولية الإلكترونية في كل المجالات، وإثباتها بالوثائق الرسمية الوثائقية، ستضفي على بيانات الفرد المصرح به وممتلكاته المنقولة والقارة وتكويناته المتراكمة طابع الهوية الإلكترونية الشاملة والقارة المتدفقة بسلاسة بين الحواسيب المؤسساتية الرسمية. بهذا الانشغال الدائم تقود السلطة الإقليمية بسيدي سليمان بحكمة وتبصر مشروع رقمنة الحالة المدنية وبناء السجل الاجتماعي. لقد أصبح من الواجب على المرتفقين تحمل المسؤولية الكاملة في تصريحاتهم. الدولة عازمة على تجاوز ثقافة الرعاية والرعايا لتحل محلها ثقافة المواطنة.

كما أن ربط وسائل الأداء الإلكترونية (البطاقات البنكية والتحويلات الإلكترونية ....) بالهوية الفردية الجينية والفواتير والطلبيات التجارية والاستهلاك اليومي سيضع البنيات الإنتاجية والخدماتية أمام بيانات اقتصادية وتجارية عالية القيمة. إن رقمنة الهوية يشكل اليوم دعامة أساسية للتطور المبهر والمتزايد الذي يعرفه قطاع النقل والتنقل بوسائله السريعة وكذا مجال الطاقات المتجددة (سيارات وقطارات وطائرات ومروحيات ودراجات نارية وهوائية ... عالية السرعة). الاستفادة السريعة من خدمات الوسائل المتطورة للنقل والتنقل على أساس الهوية الالكترونية تشكل اليوم إغراء لكل المجتمعات الكونية. فإضافة إلى التحديد المستمر لتطور الخريطة العالمية لتنقل الأفراد ونقل السلع والخدمات (Flux)، وتوقع حجم الاستثمارات والمهن المستقبلية المربحة في كل المجالات، تجد المؤسسات العامة والخاصة نفسها أمام إجبارية الاستثمار الهائل في التكنولوجيات الحديثة والرفع من الاستفادة من الذكاء الاصطناعي إلى أعلى المستويات القياسية. الهوية الالكترونية الدقيقة ستحل محل الوثائق ووسائل الأداء. الاندماج الكلي للأفراد والجماعات في السحاب المحوسب (Cloud computing) سيرفع من مستوى الأمن والاستقرار إلى أعلى المستويات. فالبرامج المستقبلية ستكون بلا أدنى شك مؤهلة لترقب التحركات غير الطبيعية للأفراد والجماعات. هذا عالم اجماع كوني جديد تتقاسمه القوى الكونية في الشرق والغرب.

***

الحسين بوخرطة

رحل من الدنيا مهموما مثقلا بالافكار مملوءا بالنظريات أنغمس بعقله لفهم الأزدواجيه لم يتعصب يوما يسمع ويبتسم لكثير من نقاده ليرد بالادلة القطعية والمنهج الموضعي، ولكنه سيبقى في ذاكرة التاريخ تلهج الألسن باسمه وتسطر الأنامل ارثه وضل منهجه محور الجدل مابين الحقيقة والبحث عنها والمجردة من فكره الاجتماعي ونقده السياسي الصريح والجريء البعيد عن المجاملة والمبالغة، ترك الدنيا من غير معرفة نهاية جولته ايهما المنتصر النهائي البداوة ام الحضارة، وتغالبت عليه صفحات وكتب النقد والتهجم عليه خلال حياته من قبل وعاظ السلاطين واذيالهم حتى استبيح دمه لأكثر من مره علنا ً، لم يشهد كاتب ومفكر دخل معترك الاجتماع والثقافة والدين وانتقد السياسة والنحو وابحر منهما دون أن يغرق في امواجها، أستراح في غرفته  وعلى سريره البسيط مسجى بعد تعب وكفاح طويل دام من ولادته عام 1913 الى يوم وفاته 13/7/1995، غادر عملاق الفكر الأنساني رائد علم الاجتماع الحديث في العراق ولم ينتهي الجدل بعد  وحصل كل عشاقه ومتابعيه على ذكريات مع كتبه من متعة فكرية وثقافة اجتماعية، معظم ابحاثه كانت مرٌكزة على صراع البداوة والحضارة والتناشز الاجتماعي وزدواجية الفرد العراقي والتي عممها على الفرد العربي ومعتركها في جميع المجتمعات، ووضع لها البلسم  وعلاج  لاغلب المشاكل والصراعات في المجتمعات بالديمقراطية الحديثه وهي اساس بنا الحضارة وتقدم الفكر الآنساني، كان على الوردي رحمه الله جريئاً بنقده المجتمع العراقي مما اظهر له الامر ان يجتمع بمخالفيه ويكٌونون جبهة ضده من اليمين واليسار، ووصف العراق في احد مقالته (عادة ما أشبه العراق بأمرأة اسمها (غنيه) حسناء لبيبه مترفه ثرية ومكتنزة بالحلي ومرتدية حل مقشبة يحف بها بداة حفاة اجلاف رث الثياب شبقين كل منهم يريد وطأها، لكن كل منهم يخشى سطوة الأخر وليس سطوتها كونه أمة واهنة.. ثم يقول الكل ينتهز الغفلة للانقضاض عليها، حتى وطئها الجميع وكانت ولادتها هجين من أرومات هولاء البداة) ثم بين الوردي على ان الفرد العراقي واقع بين القيم الاجتماعية المتناقضة من قيم البداوة وقيم الحضارة وقد نتج عن ذلك صراع مستمر بين بدوي غالب وحضري مغلوب، وهذا صراع عان منه الشعب العراقي، ومن زاوية اخرى يجد الدكتور العلاج الناجح للشعب العراقي وهو نظام الديمقراطي وكما وصفه (أن الشعب العراقي منقسم على نفسه وفيه من الصراع القبلي والقومي والطائفي أكثر من أي بلد آخر، وليس هنالك من طريق لعلاج هذا الانقسام سوى تطبيق النظام الديمقراطي، الذي يتيح لكل فئة منه أن تشارك في الحكم حسب نسبتها العددية، وعلى العراقيين ان يعتبروا من تجاربهم الماضية ولو فلتت هذه الفرصة من ايدينا لضاعت منا امداً طويلا!) ما اشبه ما قاله الوردي وتحديات المرحلة لهذا اليوم في العراق، ويحث العلامة الوردي رحمه الله بقوة على نظام التصويت منذ عام 1954 في كتابه وعاظ السلاطين  حينما قال (لو كنت من أرباب العمائم لا أفتيت باعتبار التصويت واجبا دينيا، ولجعلت التقاعس عنه ذنبا لايغتفر،، أني اعرض هذا الرأي على رجال الدين  واتحداهم أن يقبلوه او يحققوه) وقد تأثر الدكتور الوردي بطروحات وافكار ابن خلدون وبارائه ودرس المجتمع دراسة متمعنة، وكان اول من دعا الى علم اجتماع عربي يدرس المجتمع العربي في ضوء خصوصياته الجغرافية والثقافية انطلاقا من طروحات ابن خلدون، كما ركز الوردي ايضا على عامل البداوة وقيمها واثرها في تكوين الشخصية العربية، ومن حيث خصوصيات البداوة وتقاسيمها، انفرد الدكتور على الوردي في مركبات الثقافة البدوية بعد ماطرحها (براون) وهو احد المستشرقين  الانكليزي ونال شهرة في دراسته للابحاث الشرقية وكان يجيد التحدث باللغة العربية والفارسية، وقد طرح اربعة فضائل عن البداوة هي الشجاعة، والكرم، والولاء للقبيلة، والثأر، في حين يقول الوردي عن ذلك ان الفضائل ثلاث هي العصبية، والغزو، والمرؤة، وهذا دليل واضح ان العلامة الوردي استنبط ذلك من حصيلة افكاره ومايطرح في ظل معطيات ومناخات جمعها خلال دراسات ميدانية وكانت لديه زيارات الى البداوة مع طلابه لمعرفة الحقائق عن قرب لا بالوصف الخيالي والتخمن، وخلص بعد المقارنة الى هذه النتائج، كما اطلق على ظاهرة غريبة في تاريخ العراق الأجتماعي والتي اسماها  بـ(ظاهر المد والجزر) والتي يرى فيها أن ظاهرة البداوة تستفحل ثم تضعف او تتقلص من وقت لأخر تبعا لظروف الدولة وماتتعرضه من ضعف وقوة، وكلما قويت الدولة كلما اتسعت الحضارة وقلة فجوة الصراعات الداخلية وتعم الحياة السياسية والأقتصادية والأحتماعية بالاستقرار، أن تحليل الطبيعة البشرية والصراعات الفكرية والثقافية مع البداوة وتحليل الازدواجيات للمجتمعات العربية والأهتمام بالجوانب الاجتماعية للواقع العراقي، اخذت من منظور ما ركز به الوردي على مصادر مادية مختلفة من ضعفاء الواقع وأرباب المهن البسيطة ولمختلف جوانبها، كما اخفى الكثير من افكاره وطروحاته تقية لشدة المواقف السياسة وظلم الحكام ولم يتحدث الا ماهو ضمن المعطيات المطروحة، ولو امد الله بعمر الوردي لهذا الانقلاب الجذري لكافة الامور في يومنا هذا لوضع نظرية جديدة اصلاحية بانت نتائجها واخفت مجادلاتها وخصوصا انه درس التاريخ الاجتماعي للعراق الحديث وكيفية النهوض بالبنية الاساسية، فيما تعرض الدكتور الوردي لكثير من النقد سوى  في محاضراته او كتبه ولم يترك مجال الا ورد بأسلوبه العلمي والمقنع، وحين انتهائه من الجزء الاخير لكتابه لمحات اجتماعية تعرض لجملة من الانتقادات واتهمه الكثير من اصحاب العلم والدراية بأنه اصبح مؤرخا تاريخيا واهمل جانب علم الاجتماع فيما رد عليهم بما يلي : (مشكلة هولاء النقاد انهم لايفهمون علم الاجتماع فهما محدودا او مغلوظا من بعض الوجوه، ان الحقيقة التي اود ان يعرفها هولاء النقاد هي انه لايوجد فاصل حدي يفصل بين التاريخ والاجتماع فكلا الأمرين  مترابطان او هما وجهان لشيء واحد) كان الدكتور علي الوردي قبل رحيله بشهور اجريت له مقابلة تلفزيونية  من قبل قناة العراق الفضائية وسأله : المقدم ماهي الأخطاء التي ارتكبتها في حياتك ؟  فلم يظفر منه بجواب سوى ما ردده أن اخطأي كانت كثيرة، ثم حاول المقدم أن يجره للهجوم على ناقديه املآ للوصول الى  جواب عن السؤال نفسه، الا انه لم يفلح منه بجواب فكان الوردي يحترم الرأي الآخر ويتقبل النقد، وقد قال الوردي في أخر عبارة في البرنامج نصا: (لا أدري كيف سأقابل ربي)، واخيرا ترى ماذا يكون حال العراق لو انتبهوا منذ أكثر من نصف قرن لطروحات ومناشدات الدكتور علي الوردي في مجال التصويت وحث الناس والحكام على تطبيق الديمقراطية .

***

صادق غانم الاسدي

لعوامل ذاتية وموضوعية، اقتحمت فضائنا الثقافي والاجتماعي في الآونة الأخيرة، مجموعة من القيم والمبادئ، وأضحت هذه القيم عناوين إلى أنشطة ثقافية مختلفة.. وبعيدا عن المواقف الأيدلوجية المسبقة..

من الضروري أن ندرك أن رفع شعار الحرية أو التسامح أو التعددية أو الوسطية، لا يعني بشكل طبيعي وأوتوماتيكي إننا أصبحنا من أهل هذه القيم..

وإنما المطلوب بناء رؤية ثقافية متكاملة، تساهم في تفكيك القيم المضادة لهذه القيم، وبناء وقائع ومناهج وخيارات، تساهم في تعزيز خيار القيم الجديدة في الفضاء الوطني الخاص والعام..

وما ينقص المشهد الثقافي الوطني، هو صياغة كيفيات وآليات التحول نحو القيم الجديدة، وتوفير كل موجباتها في الحياة العامة..

من هنا فإنني أود في هذا المقال الاقتراب النظري من مفهوم الحرية.. وإن الخطر الحقيقي الذي يواجهنا كعرب ومسلمين على هذا الصعيد، حينما يتم التعامل مع هذا المفهوم بوصفه مفهوما ناجزا، وإنه الحل السحري لمشاكلنا المختلفة..

فالحرية في بعدها النظري وبعدها التطبيقي، ليست مشروعا ناجزا، وإنما هي من المشروعات المفتوحة على كل المبادرات والإبداعات الإنسانية.. من هنا فإنه لا حرية بدون أحرار، ولا ديمقراطية بدون ديمقراطيين.. وإن كل حرية أو ديموقراطية بلا أحرار فهي حرية وديمقراطية شكلية.. وإن حجر الزاوية في مشروع الحرية هو وجود الإنسان الحر، الذي يترجم قيم الحرية ويدافع عن مقتضياتها ومتطلباتها..

وإن هذه العملية، لا تتم اعتباطا أو صدفة، وإنما هي بحاجة إلى تهيئة وتنشئة وتربية..

من هنا فإن المطلوب ليس الصراخ باسم القيم الجديدة، وإنما العمل على التربية عليها.. لأن التربية على هذه القيم والمبادئ، هو الطريق الطبيعي لخلق وقائع مجتمعية منسجمة ومقتضيات هذه القيم..

والحرية في الرؤية الإسلامية، ليست بعيدة عن مرجعية التوحيد، وإنما هي منبثقة من هذه المرجعية، وهي التي تعطي للحرية معنى وهدفا وتشريعا. والشرك العقدي يعيق من انطلاقة فكرة الحرية ويضيف لها أبعادا ومضامين مناقضة للمفهوم الجوهري للحرية. فالحرية ليست تفلتا من القيم، وإنما هي انسجام تام مع النواميس والقوانين الاجتماعية والكونية.

كماان الحرية كممارسة مجتمعية تتسع وتضيق من خلال علاقتها بقيمة العدالة. فلا عدالة حقيقية بدون حرية إنسانية، كما أنه لا حرية بدون عدالة في كل المستويات. فالحرية هي عامل محرك باتجاه إنجاز مفهوم العدالة في الواقع الخارجي. كما أن العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هي التي تكرس مفهوم الحرية في الواقع الاجتماعي.

فالإنسان الذي لا يتمتع بالحرية، لا يستطيع إنجاز عدالته. كما أن الإنسان الذي يعيش واقعا اجتماعيا بعيدا عن العدالة وتسوده حالة الظلم، فإنه لن يستطيع أن يدافع عن حريته ويجذرها في واقعه العام. فالحرية التي تؤدي إلى الظلم أو تفضي إليه ليست مطلوبة. فالمطلوب دائما هو خلق منظومة متكاملة من القيم كالحرية والمساواة والعدالة. والتضحية بإحداهما من أجل الأخرى، يؤدي إلى بروز مشاكل اجتماعية أو سياسية أو هما معا. فكيف نؤسس لحرية لا تتعدى على حقوق وحريات الآخرين المادية والمعنوية. وكيف تقبض على العدالة بدون التضحية بقيمة الحرية. فالحرية هي جزى من أجزاء العدالة، ومن يطلبها يطلب جزءا من العدالة.

هذه الأسئلة وغيرها لا يمكن الإجابة عليها الا بتطوير (مجال التفاضل بين القيم). وهو من المجالات التي تحتاج الى الكثير من اعمال العقل والاجتهاد لبناء منظومة قيمية متكاملة.بحيث لايحدث تعارض بين هذه القيم على المستوى الخارجي.

كما أنه لا حرية في أي فضاء اجتماعي، بدون احترام وصيانة حقوق الإنسان، فهي بوابة القبض على الحرية وممارستها. فالحرية في جوهرها، ليست مقولة جاهزة، وإنما هي إجراءات وحقائق وممارسات تتمسك بحقوق الإنسان وتدافع عنها.

والحرية كممارسة، ليست خطابا يلقى، أو ادعاءا يدعى، وإنما هي إرادة إنسانية صلبة تتجه نحو التمسك بالحرية ومقتضياتها. وحيث تتوفر الإرادة الإنسانية المتجهة صوب الحرية، تتحقق بذات القدر حقائق الحرية. فحجر الزاوية في مشروع ممارسة الحرية، هو الإرادة الإنسانية. من هنا ينبغي الاهتمام بمفهوم (التربية على الحرية)، إذ أن المهمة العامة الملقاة على كاهل جميع النخب هي تربية شرائح المجتمع المختلفة على الحرية.

والتربية على الحرية تحتاج إلى:

أ‌- استعداد نفسي تام للقبول بكل مقتضيات الحرية.

ب‌- الاطلاع والتواصل الثقافي مع المنجز الثقافي الإنساني الذي يؤسس لخيار الحرية ويبلور مضامينها.

ت‌- الموازنة الواعية بين ثقافة الطاعة وثقافة المسؤولية.

وخلاصة القول: أن الحرية كقيمة فردية ومجتمعية، بحاجة إلى من يدافع عنها، ويبشر ببركاتها.

***

محمد محفوظ

من يحمل شمعة في درب حالك، لا محالة يأنس ويسعد إن وجد من يحمل شمعة أخرى إلى جانبه، فحلكة الدرب تحتاج كل الأنوار، من يحمل مشروع التنوير، لا يشعر بمنافسة أحد، بل يتعاظم لديه العزم ووتتقوى همته أكثر لنشر رسالته النبيلة كلما آنس قبسا من نور هنا أو هناك، وبخلاف ذلك يضيق صدر صغير النفس، ويحس بالخطر من الآخرين سطحيُ الفكر قصيرُ الرؤية وعديمُ الرؤيا، يَغرَق في أناه "المبدعة" المتضخمة من تعوزه رسالة الجمال، ولا يثق بما يكفي في مكانته وملكاته، فهذا صنف من المبدعين لا يرى فيما يبدع سوى نوازع نرجسية لا تتجاوز الذات المبدعة، هذا سقفه، فلا يطمح لطرق باب التاريخ بمشروع إبداعي أصيل من شأنه أن ينفذ إلى البنى الذهنية ويتغلغل في أعماق التفكير السائد ويساهم في تغييرها، فامتلاك مثل هذا المشروع الإبداعي ليس بالأمر الهين ولا المتاح لأي كان، ولذلك تجده يشعر بالتهديد عندما يقابل طرحا متماسكا ورؤيا جمالية، فيضيق به المجال ويعتقد أنه لا يسع أحدا غيره، فينكر الإبداع على الآخرين، وينخرط في حرب دونكيشوطية لا يجني منها شيئا سوى بضعة "مكاسب" صغيرة، يتقرب ويتزلف للسلطة إن كانت رمزية ثقافية اجتماعية أو سياسية أو مدنية... ليبقى في الهامش، وهو يعتقد أنه اخترق الآفاق ونطح السماء.

الفن ما لم يحمل نبله في رسالته الجمالية وفي سلوك الفنان، يبقى حبيس سقف الذات، صحيح أن الذات الفردية المبدعة الحرة هي صانعة الخلق ورافعة الإبداع، إلا أن لرسالة الجمال أفقا شاسع الرحابة، يرفع الفن والفنان إلى ذرى سامية راقية، تتجاوز أنانية الذات ونرجسيتها وتضخمها وأوهامها المثقفية العاجية نحو أمداء تنويرية لا حدود لها.

نحن في أمس الحاجة إلى هذا الوعي، من أجل الخروج من دوامة الضغائن والأحقاد الصغيرة والدسائس والمكائد من حيث نحن فنانين، موسيقيين شعراء مسرحيين سنيمائيين وتشكيليين وكتابا ... إذ لا يليق بمقامنا ورسالتنا النبيلة في الحياة مثل هذا الانحسار في جَزر النرجسية، تلك الرسالة التي لن تتحقق بالحلقية الضيقة والصراعات، وعندما نضع في أولوياتنا تنوير الدروب المظلمة، عبر نشر قيم الجمال والخير، نتغلب على فردانيتنا المقيتة، ونُسخر فرديتنا البناءة في الخلق ورفع ذائقة المجتمع وسلوكه نحو الأجمل، حب البيئة الطبيعية والكف عن تدميرها، وحب البيئة الاجتماعية والعمل على تعزيز جمالها وتشذيبها من شوائب القبح والشر...

بينما يكون هم الفنان الحامل لرسالة جمالية واضحة المعالم في ناظريه تنوير الناس ونشر قيمه النبيلة وذائقته الرفيعة، ومساعدة الآخرين على تعلم كيفية استشعار جمال الفن وكيف ينظرون إلى البيئة والعالم، يكون هم المبدع النرجسي إثبات ذاته بأية وسيلة كانت، حتى وإن اقتضى الأمر إخساء أنوار قناديل الآخرين، وبينما يترك حامل المشعل أعماله تتحدث عن مشروعه الإبداعي، وتشيع أنواره إلى أبعد مدى، ينشغل المبدع النرجسي بنفسه ويبحث في تكوين هالة حوله سرعان ما سيلفظها الزمن.

الفن الأصيل الراسخ يتغلغل في الوجدان الجمعي، يحمل في أتونه بذور توالد خلاياه اللامتناهي، فيستمر في الحياة، ويصمد في الزمن، وقد يدخل التاريخ من بابه الواسع عندما يسهم في تحقيق التراكمات الكمية والتحولات النوعية للذائقة الجمالية ولفاعلية التفكير الفردي والجماعي، فيشارك من ثم في وضع أسس الرقي البشري والابتعاد عن الهمجية المتلبسة بلبوس الحداثة أو التقليد أو بهما معا في ثنائيات ضدية فصامية.

الفن رسالة جمالية، والرسول يسخر ذاته لأداء رسالته وتبليغها على أحسن وجه، والرسالة هدف نبيل يرتكز على الطاقات الخلاقة للشاعر والفنان عامة وينطلق من وجدانه وذاته ثم يتجاوز فردانيته ويربأ بنفسه عن السقوط في مطبات الأنانية من أجل نشر الجمال وقيمه.

فإذا لم يكن الشعر بلسما شافيا للذات أولا من ضعف النفس ومركباتها وإسقاطاتها ونزقها السلبي الضار، إذا لم يجد الفن امتدادات جميلة في سلوك الشاعر الفنان، فما فائدة الشعر وما جدوى الفن؟

***

عبد القهار الحَجّاري

في المثقف اليوم