قضايا

انزعج قراءٌ كرام من التعبير المكشوف عن الذات، خاصة في المقالة السابقة المنشورة الأربعاء الماضي بتاريخ 29-3-2023، بعنوان: "الرهان على الكتابة". ما ورد في ذلك المقال وما هو أسبق منه مما نشرتُه في صحيفة الصباح جاء استجابةً لطلبات متكرّرة من قراء محترمين يرغبون بتعلم الكتابة وكيفية القراءة، لم أجد جوابًا سوى التحدّث عن تجربتي الشخصية في هذا المجال. لم أتدرب على أحدٍ لتعلّم هذه الصنعة، ولا أتقن تدريبَ أحد. قرأتُ تجاربَ بعض المشاهير، جرّبت تقليدَهم ففشلت، عجزتُ عن أن أكون نسخةً لأحد، لم أجد ذاتي في طريقة أيٍّ منهم، فحاولتُ أن أشتقَّ لغتي وأسلوبي. رأيتُ ذاتي تنفر من تكرار غيري، لا أستطيع أن أكون إلا أنا. حاولتُ في سلسلة هذه المقالات التحدّثَ عن سيرتي ككاتب، وليس سيرة أيّ شخص مهما كان مقامُه. أتحدّث عن خبرتي ككاتب وقارئ بغضِّ النظر عن كيف يقرأ ويكتب الآخرون، لا يمكنني إلا توخي الصدق في كل ما أكتب. حقُّ الاختلاف يعكس الطبيعةَ الإنسانية، وهو ضرورةٌ في التربية والتعليم والثقافة والإعلام والسياسة، وكلّ ما يريد الإنسانُ أن يحقّقَ ذاتَه به بوصفه إنسانًا.

أتذكر بهذه المناسبة موقفًا حدث معي، عندما كنتُ حاضرًا أحد المؤتمرات ببغداد قبل نحو عشر سنوات، أثناء الاستراحة جاء شاب يتدفق حماسة، عرّف نفَسه بأنه في مرحلة دكتوراه العلوم السياسية، بدأ حديثَه بسؤالٍ إنكاري: لماذا لا تكتب للجماهير، لماذا لا تخطب في المساجد والحسينيات كما كان يفعل علي شريعتي. أجبتُه: أنا إنسان آخر، أعبّر عن ذاتي كما هي، وليس عن أي كاتب غيري أيًا كان مقامُه وتفكيره وتأثيره. أحترم قناعاتِ ونضالَ شريعتي، هو يختلف عني وأختلف عنه، لا أقلّده ولا أقلّد أحدًا غيرَه، لا أستطيع أن أكون صورةً مزورة لشريعتي، عجزتُ عن محاكاة أيّ إنسان آخر مهما كان عظيمًا، دائمًا لا أحقّق ذاتي إلا حين أعبّر عن فهمي ورؤيتي وقناعاتي. شريعتي أيديولوجي كان يرى نفسَه كأنه مبعوثٌ من السماء، أفتقر لحماسه، اكتويتُ بشعلة هذا الضرب من الحماس العاصف بدايةَ شبابي في سبعينيات القرن الماضي، بعد سنوات قليلة انطفأتْ شعلتُه في داخلي إلى الأبد، عندما نضج عقلي، واتسع أفقُ فهمي لذاتي والإنسان والواقع الذي أعيش فيه، وأدركتُ أن للحقيقة وجوهًا متعددة وطرقًا متنوعة، طالما أخطأ الإنسانُ في اكتشاف أحد وجوهها، وسلك طريقًا لا يوصله إليها. تضيّع الإنسانَ متاهاتُ العقل الوثوقي واليقين المسبق، وتكذّب الأيامُ أحلامَ هذا العقل وأوهامَه.

الأيديولوجيا غير الدين، مصطلحُ الأيديولوجيا كان يعني في أول ظهوره واستعماله علمَ الأفكار، ثم استعمل معناه لاحقًا في النسق الفكري المغلق، الذي يرفض كلَّ أشكال الاختلاف ‏في التفكير والتعبير. ‏ليس كلُّ مَنْ يعتقد بدين إنسان أيديولوجي، أن يكون الإنسانُ بوذيًّا أو هندوسيًّا أو مسيحيًّا أو مسلمًّا في دينه لا يعني أنه أيديولوجي. عندما نفهم "الدينَ بوصفه حياةً في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية" فهو غيرُ الدين الأيديولوجي. يمكن تحويل الدين أو أي معتقد أو أي فكرة إلى أيديولوجيا. أعني بالأيديولوجيا نظامًا لانتاج المعنى السياسي، يحوكُ نسيجَ سلطة متشعبة، وفقًا لصورة متخيلة حاكتها أحلامٌ مسكونة بعالم طوباوي. الأيديولوجيا تزييفٌ للحقيقة، وطمسٌ لمعناها عبر حجب الواقع، واحتكارٌ لنظام إنتاج المعنى، وتعطيلٌ للحق في الإختلاف. لا يعني ذلك رفض تغيير الواقع، تفسيرُ ونقد الواقع يسبقُ تغييره، عندما لا نفهمُ شيئًا نعجزُ عن تغييره،كلُّ عملية تغيير تسبقها عمليةُ تفسير ونقد عقلاني1 .

كثيرًا ما تصلني رغباتٌ وطلباتٌ من شباب أعتزُّ بهم، يفكرون بتوجيه الكتابات على وفق احتياجاتهم الأيديولوجية، وما يظنون أن الواقعَ الذي نعيش فيه يتطلبها. أحيانًا يظلّ بعضُهم يلحّ، وهو يشدّد على ضرورة أن أكتب ما تنشده أيديولوجيا يعتنقها وأجيب عن أسئلتها. أعرف أن هذه الطلبات تعكس احتفاءَ وثقة هؤلاء القراء الكرام بما أكتب، وتعلن عن شهادة اعتراف أعتزّ بها. يتكرّر هذا السؤالُ الإنكاري من هؤلاء القراء: لماذا لا تقومون بدوركم أيّها الكتاب، كأن هؤلاء يفترضون الكاتبَ سوبرمانًا أو مقاتلًا أو فدائيًا. الكاتب خارج الأيديولوجيا غير مستعدّ أن يموت من أجل ما يكتبه، يعرف أن كتابتَه وحتى مقتَله لن يغيّر المجتمع، ويعرف مسبقًا أن بعض قناعاته الأساسية قد تتغير غدًا بعد أن يكتشف خطأها. الأيديولوجيا تستعبد الإنسان، تغيّبه عن ذاته، تنسيه أن تغييرَ العالَم يبدأ بتفسيره، وأن تغييرَ العالَم ينطلق من قدرة الإنسان على تغيير ذاته أولًا. يعجز الإنسانُ عن تغيير عالَم لا يفهمه، مثلما يعجز إن كان لا يقدر على تغيير ذاته. الكاتب إنسانٌ يحتاج أن يشعرَ بالأمان، ويوفّر احتياجاته الأساسية، ويعيش كما يعيش كلُّ الناس. الأيديولوجيا تفسد الكتابة، يكرّر بعضُهم بطريقة مملّة عبارات للمفكر اليساري الايطالي غرامشي وكأنها نصوص مقدّسة، بوصفه مثالًا للمناضل الذي يجب أن يتخذه نموذجًا كلُّ مَن يكتب. الطريف أن هؤلاء يتحدثون عن حقِّ الاختلاف، وضرورةِ تعبير كلّ كاتب عن تفكيره هو، في الوقت الذي يريدون منه أن يكون صورةً مشوّهة لغيره، من دون وعي لموطن غرامشي وموهبته ونمط شخصيته وحساسياته وعواطفه وانفعالاته، والزمان والمجتمع والواقع الذي كان يعيشه، ونوع أيديولوجيته، وكيفية نضاله واضطهاده ومعاناته وعذاباته في السجن.

اعتاد هؤلاء الشباب على تلبية بعض الكتّاب لطلباتهم المتنوعة والاستجابة لما يريدون. أكثر مَن يستجيب لهذه الطلبات ممن يكتب بكلّ شيء من دون أن يقرأ أيَّ شيء قبل أن يكتب، ويجيب عن كلِّ سؤال من دون بحث وتقصٍّ، ويتحدث بكلّ تخصص، وإن كان خارج تخصصه. بعضُهم يكتب وينشر في مختلف الحقول بلا تكوينٍ معرفي عميق، ولا تكوين أكاديمي متخصص، ويفتقر إلى اللغة المناسبة لموضوع الكتابة.

كذلك تردني مناشداتٌ ملحة من قراء ومعجبين تدعوني لكتابةِ الموضوع كذا، والعملِ على تأليف كذا، وحاجة المجتمع لمطالعة كذا. احترم كلَّ الرغبات والطلبات، أعترف أن المشكلةَ تخصّني، أحذر الكتابةَ جدًا، أعجز عن الكتابة بكلّ شيء، أنأى بنفسي عن كلِّ شيء لا أعرفه، أدرك حدودَ علمي الضئيل جدًا مقارنةً بما أجهله، كلّما تعرّفتُ على محدودية معرفتي أذهلني جهلي. لا أمتلكُ تهورَ الكتابة أو التحدّث بغير تخصصي وخارج مطالعاتي، أشعر بضجر لحظة تفرض عليَّ مناسباتٌ اجتماعية الاستماعَ لمتحدث يتكلمُ خارجَ تخصصه، أراه لفرط جهله يتسابقُ مع أهل التخصص ويسكت مَن يبدي رأيًا، وهو يتكلم بحماس بموضوعات لا يعرف عنها شيئًا.

أحاول أكتب ما يعتمل بداخلي، ‏أعجز عن الكتابة استجابةً لطلبات لا أجد حافزًا بداخلي لكتابتها، وإن كانت في إطار تخصصي وكتاباتي في الشأن الديني والتراثي. فشلتُ عدة مرات بالاستجابة لطلبات عزيزة لإجراء حوارات شفاهية أو مدونة مع محاورين أذكياء أحترم تخصصَهم وفهمَهم وثقافتَهم، أحيانًا أتهرب بالتأجيل لأشهر، وأخيرًا أعجز عن إكراه نفسي على ذلك. مشكلة هذه المناشدات أن أصحابَها ينسون أني كغيري من البشر كائنٌ غارق بسجون ذاتي وهشاشتها وأحزانها ومخاوفها وعجزها ومواجعها، الكتابة عندي لا تولد بقرار مفروض، لا أقدر على ممارستها بشكلٍ يومي رتيب. لكلٍّ منا آلامُه ومزعجاته ومثيراته وحساسياته ومشاعره الخاصة،كتاباتاتي وحياتي تتذبذب كما يتذبذب المنحنى النفسي لذاتي صعوداً وهبوطاً. ذاتي كإنسان لا تخلو من حساسياتها وقلقها وتناقضاتها ومخاوفها. يقول كارل غوستاف يونغ: "الإنسان الذي تخلّص من مخاوفه هو إنسان على حافة الهاوية"2 .

يتعاطى الآخرون معك أحيانًا وكأنك ماكنةٌ تشتغل بانتظام رتيب، أو قالبٌ صناعي ينتج نسخًا متماثلة، وهم لا يعلمون أنك تعجز أحيانا عن تنفيذ قراراتك والتحكم بنفسك، عندما تخذلك ذاتُك لأسباب خفية أنت تجهلها عن نفسك. لا تخلو شخصيةُ الإنسان من تناقضات حادّة، أحيانًا يتعذّر عليه هو التحكم بها، لذلك لا يستجيب طوعًا إلا لما يتسق مع طبيعته ومزاجه ويتناغم وأحلامه ورغباته وقناعاته. الكتابةُ ليست عمليةً آلية، إن أراد الكاتبُ أن يكون مبدعًا ينبغي ألا يشاكس طبيعتيه، وأن يكون مختلفًا يعبر عن ذاته كما هي. الحقُّ في الاختلاف بالكتابة شرطُ الإبداع، الإنسانُ إن كان مبدعًا في حالة هبوطٍ وصعود، "قبضٍ وبسط" كما يصطلح العرفاء، شخصيتُه في حالة تذبذب، لا يستقرّ على برنامج مكرّر متواصل، يحتاج باستمرار أن يكسر الرتابة، ويتحرّر من كوابيس المواقيتِ المُعدَّة سلفًا، والخططِ المفروضة قسرًا.

أن نكتبَ يعني أن نختلف، المختلفُ غيرُ مألوف وغيرُ معروف، لذلك يثيرُ الناسَ وربما يتسببُ في خوفهم واستفزازهم. أكثرُ الناسِ يثيرهم الاختلاف، الاختلافُ أحيانًا يشعرهم بتغيير أحوالهم، وربما بتهديد استقرارهم، وسلب الأمان من حياتهم، فيحتاجون إلى الشعور بأن يلبثَ كلُّ ما كان على ما كان.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

...................

1- لمزيد من الشرح وتوضيح الفرق بين الدين والأيديولوجيا، راجع الفصل الثالث من كتابنا: الدين والكرامة الإنسانية، ط2، 2022، دار الرافدين، ومركز دراسات فلسفة الدين، بغداد.

2- هكذا تكلم كارل غوستاف يونغ، ترجمها وعلق على نصوصها: أحمد الزناتي، 162، 2022، الكويت. عن: (كارل غ. يونغ، الرسائل، الجزء الأول، صفحة 399).

 

سنغافورة دولة صغيرة تقع في الطرف الجنوبي من شبه جزيرة الملايو. معدل معرفة القراءة والكتابة 99.3 في المائة ولها نظام تعليم مدرسي يعد من أبسط و اكفأ الانظمة التعليمية في العالم.

لا أخفي سرا اذا بينت اني من اشد المعجبين بنظام التعليم السنغافوري وكثيراً ما كتبتُ بهذا الشأن وشرحت افضلية هذا النظام على الانظمة التربوية العالمية الاخرى. وبسبب ارتباطي الكبير بهذه الجزيرة لسنوات عديدة بدأت في بداية التسعينات من القرن الماضي حيث ساهمت مساهمة فعالة في تطوير علم البيولوجيا التطبيقية ومساعدة جامعة سنغافورة الوطنية في بناء القاعدة العلمية لإنتاج العقاقير الطبية والتي اشار اليها "لي كوان يو" مؤسس سنغافورة الحديثة، بان سنغافورة قامت "بتأسيس المعهد العالي للجينات البيولوجية، فاستقدمت خبراء من بريطانيا والسويد واليابان وعملوا معهم بجد ومثابرة على مستوى دولي، وبذلك تطورت لديهم صناعة متطورة للعقاقير الطبية". وهي إشارة واضحة إلى العمل الرائد الذي ساهمت به في تلك السنوات (راجع مقالنا: سنغافورة صرح كبير للعلم والتكنولوجيا، 2014)(1).

نظام التعليم في سنغافورة هو بلا شك الأفضل في العالم. في الواقع، إن الطلاب السنغافوريين هم الأفضل أداءً في جميع أنحاء العالم والذين يسجلون باستمرار درجات عالية في تصنيفات OECD PISA. بالإضافة إلى ذلك، أظهرت العديد من الدراسات أن الطلاب السنغافوريين أذكى من الطلاب من أوروبا وأمريكا الشمالية.

ماذا يمكن أن يكون السبب في أن نظام التعليم في سنغافورة هو الأفضل في العالم؟ وما هي الدروس التي يمكن أن نتعلمها منهم؟

تهدف وزارة التعليم السنغافورية إلى "تطوير شغف التعلم لمساعدة الطلاب على تحقيق إمكاناتهم الكاملة واكتشاف مواهبهم ومساعدتهم على التفوق". وقد اختارت منهجا فريدا من نوعه للتعليم مع التركيز الأساسي على ضمان نمو الفرد النفسي والاجتماعي. يعتمد تعليم سنغافورة على الأساليب المهنية النوعية والماهرة، وهذا هو سبب إنفاق 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على التعليم.

جودة التعليم السنغافوري فريدة من نوعها من حيث طرق التدريس والتعلم وتميز نفسها عن البلدان الأخرى من خلال التركيز على جودة التعليم بدلاً من كميته.

رواتب المعلمين سخية وليس عليهم أن يتحملوا وطأة السياسات الاقتصادية القاتلة للحكومة. يتم منحهم مكانة أكثر شرفاً في المجتمع من أي مسؤول حكومي آخر. من النادر العثور على أي خطأ في المدرسة فالمرافق مجهزة بأفضل التجهيزات، ونسبة الطلاب إلى المدرسين هي 15: 1 في المرحلة الابتدائية و 11: 1 في المرحلة الثانوية، اما معدل التسرب فهو لا يكاد يذكر ونظام القبول صارم للغاية. وسيلة التدريس هي اللغة الإنجليزية فقط ويعد "التعلم المبهج" و"الإحساس بالقومية" لدى الأطفال و"تعلم أقل لتعلم المزيد" من السمات المهمة لنظام التعليم في سنغافورة.

إذا تحدثنا عن المنهج، فقد اعتمدت الدولة المنهج الذي سيمكن مواطنيها من مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. على الرغم من أن هذه الدولة كانت تحت الحكم البريطاني لفترة طويلة، إلا أنها لم تتبنى نظام التعليم الغربي بالكامل. يركزون على قراءة وتدريس الرياضيات والعلوم واللغة الأم من المستوى الابتدائي والى المستوى الاعدادي، وتم تبني المواد المهنية الأكثر توجهاً عملياً بدلاً من الموضوعات التقليدية في سنوات الثانوية وما بعدها فمعظم المدارس في سنغافورة هي مدارس موجهة للتطوير المهني. ومن ثم، يوجد حد أدنى لعدد ساعات التدريب المهني لكل معلم.

يعتبر عدم قيام الوالدين بإرسال أطفالهم إلى المدرسة جريمة جنائية بموجب قانون الحق في التعليم لعام 2010. والتي بموجبه يمكن معاقبتهم أو تغريمهم. كما يجب توفير "التعليم المنزلي" والموافقة عليه بصورة خطية من إدارة التعليم. لأن الحكومة هناك ملتزمة ومسؤولة عن التطوير النوعي لمواطنيها.

وفي مقابلة مع صحيفة الفاينانشيال تايمز اللندنية، قال رئيس الوزراء السنغافوري "لي هسين لونج": "إن نظام التعليم مصمم لتدريب الطلاب على الوظائف التي يمكنهم شغلها. ولهذا السبب، عندما يتخرج الطلاب، يحصلون على عمل على الفور."

ولكن هذا ليس إلا غيض من فيض، حيث يوجد الكثير لنتعلمه من التعليم في سنغافورة. ومنه ما يلي:

1- يعلم المنهج مهارات حل المشكلات والتفكير الإبداعي.

يهتم التعليم السنغافوري بالجوهر الحقيقي للتفكير النقدي ويدرب الطلاب على تعزيز مهاراتهم بشكل كامل لحل مشاكل مكان العمل ذات الصلة، بالإضافة إلى ايجاد الحلول بفعالية. ويقدم مجموعة متنوعة من أساليب التفكير التي يمكن الطالب من استخدامها لصالحه. ويكتسب الطلاب من خلاله نظرة ثاقبة حول كيفية تقييم عبارات المشكلة المختلفة بشكل فعال وتقديم استنتاجاتهم بطريقة منطقية ومقنعة.

2- يركز منهج سنغافورة على تعليم الطلاب مهارات إبداعية وحل المشكلات.

3- يتم تعليم الطلاب موضوعات محددة توفر المعرفة العملية والمهارات التي تمكنهم من حل تحديات العالم الحقيقي.

4- بالإضافة إلى ذلك، يقوم جميع أصحاب المصلحة في مجال التعليم بتقييم وتحسين النظام المدرسي باستمرار لتحسين الأداء.

معايير التعليم العالي

1- قبل أن يتم توظيف المرشحين من الحاصلين على شهادات جامعية في التعليم بشكل كامل، يتم اخضاعهم لتمرين وفحص صارم.

2- يتم أيضا تأهيل المعلمين وتطويرهم بكفاءة قبل تلقي التدريب.

3- بمجرد اختيار المرشحين لمنصب معلم، يتم نقلهم إلى تدريب مهني كامل أوصى به المعهد الوطني للتعليم.

4- بعد الانتهاء من التدريب، يأخذ المعلمون المرشحون دورة تدريبية في التطوير المهني تستغرق 100 ساعة.

برنامج إنكليزي لا مثيل له

أنشأت هيئة التعليم في سنغافورة برنامج تعلم وقراءة اللغة الإنجليزية في عام 2006 لمساعدة الطلاب متعددي اللغات على تعلم اللغة الإنجليزية والتي هي اللغة الاولى في البلاد، ويشتمل البرنامج على تقنيات الدراما ولعب الأدوار لتحسين المهارات اللغوية للطلاب.

مناهج الرياضيات الرئيسية

على الرغم من أن الرياضيات هي أصعب موضوع للعديد من الطلاب حول العالم، إلا أن نظام التعليم في سنغافورة ينتج أفضل الطلاب في الرياضيات في جميع أنحاء العالم. وهذا يرجع إلى النهج الكفء للمؤسسة التعليمية الذي يشجع الطلاب على تعلم الرياضيات باستخدام الوسائل البصرية والعملية مثل المخططات الشريطية والكتل وما إلى ذلك.

مسارات تدريب مختلفة

نجاح سنغافورة كدولة، يعود إلى كون السياسات الاقتصادية والتربوية براغماتية، وليس أيديولوجية بحيث تؤكد دائما على أهمية الجهود ومعايير الجودة. وتؤكد سياسات التعليم على تحقيق الجدارة في مواضيع ثلاث رئيسية وهي العلوم والرياضيات واللغة الإنكليزية. أما في التعليم العالي فتؤكد سياساتها على التعليم التكنولوجي والمهني في معاهد تقنية وبولي تكنيك. وهناك خمس جامعات تضم 27% فقط من الطلبة المؤهلين لولوج التعليم العالي.

يوفر النظام التعليمي في سنغافورة للطلاب مسارات و تفصيلات تعليمية مختلفة. وتم تصميم نظام التعليم لتشجيع الطلاب على إيجاد شغفهم واهتماماتهم.

يحصل الطلاب السنغافوريون على مسارين للتدريب المهني، وكليات الفنون التطبيقية، وكليات المبتدئين التي تؤدي إلى التعليم الجامعي.

تم تصميم النظام المدرسي لتعزيز قدرات التعلم ونقاط القوة لدى الموهوبين مع إنه يمنح جميع الطلاب فرصًا متساوية في العالم الحقيقي.

اخيراً، لا يسعني إلا التأكيد على أن سنغافورة تتمتع بأفضل نظام تعليمي بسبب نظام التربية والثقافة من الدرجة الأولى في البلاد. وليس سراً أنه يمكننا تعلم الكثير من سنغافورة فيما يتعلق بأساليب التعليم والتعلم لتحسين قطاع التربية والتعليم العالي في بلادنا.

وأحب ان اكرر نصيحتي السابقة لوزارتي التربية، والتعليم العالي بدراسة هذه التجربة عن طريق إيفاد مختصين إلى مؤسسات التربية والتعليم في سنغافورة ومشاركة زملائهم السنغافوريين في الإدارة والتدريب لاكتساب الخبرة والمعرفة بصورة مباشرة.

***

أ.د. محمد الربيعي

................

* محمد الربيعي، سنغافورة صرح كبير للعلم والتكنولوجيا، 2014.

https://www.tellskuf.com/index.php/authors/321-mrub/41227-2014-09-02-19-05-36.html

ان تسمية الزمن هي تسمية افتراضية من صنع الانسان ومن المحال أن يشمل جميع جوانب الكون ومجراته الغائرة في المديات فأذا اردنا ان نقيس الزمان وفق المنظور البشري فأننا سنصطدم بمجموعة متنوعة من ازمان لاتعد ولا تحصى وسط هذا العمق الكوني اللامتناهي فلدى كل تجمع مجرّي (الجزر المجرية) كما يسمونها التي تبعد بعضها عن البعض الاخر مليارات من السنين الضوئية لكل منها زمان خاص بها ومكان في الموقع السماوي السحيق.. اننا لانمتلك معياراً ثابتاً نستطيع من خلاله ان نقارن به الزمن عند كل تلك المديات ونفهم معياره الدقيق سوى تكهنات العلماء وحساباتهم الفلسفية وفق ماجائوا به من معادلات من صنع محلي (أرضي) لاتشمل كل مافي الوجود من اسرار وخفايا ومن الممكن أن تكون حسابات تفتقر الى الدقة أو هناك حسابات اكثر تعقيداً تمتد الى ماوراء حساباتنا التي باتت متخلفة الى حدٍ ما أمام النظرة الجديدة المعقدة للحياة.. أن الكون الجبار اعظم شأناً من اي حساب تقوم به العقول البشرية المحدودة فما زلنا لانفهم ماتعني مسافات السنة الضوئية مثلاً وما زلنا جهلاء أيضاً بكيفية انتقال الموجات اللاسلكية في فراغ كوني خالي من عناصر الذرة بالمرة الا من بعض الهباءآت الغير قادرة أصلاً على حمل حزم الترددات اللاسلكية المليئة بتفاصيل الصور او الصوت او نبضات السيطرة والتحكم عن بعد وما زلنا نبحث في خفايا الذرة التي لم تُكتشف اعماقها بالكامل فقد اتضح ان الالكترون والبروتون والنيترون هم عوالم كاملة قائمة بذاتها أيضاً ولم يكتشف العلماء ليومنا هذا مصدر القوة التي تستطيع ان تحفظ البروتونات الموجبة الشحنة جنباً الى جنب داخل النواة بلا تنافر أن واحدة من اسرارها الذي ابهر العلماء مثلاً هو اختفاء الالكترون للحظات عند انتقاله من نطاق مداري الى آخر داخل الذره ولا يعلمون اين يختفي خلال هذه القفزة المدارية الصاعدة او الهابطة. انه مثال على ندرة المعلومات أمام الطبيعة وما تحويه من عجائب، لايمكن ان يوجد زمن شامل موحد لكل ارجاء الكون وانها تسمية افتراضية جئنا به لكي نقنع بها انفسنا وننظر للوجود بمنظار موحد وان كان موجود فعلاً فلا يعلم كنهه سوى الخالق العظيم سبحانه.. نستطيع ان نحدد الوقت مثلاً لدينا صبحاً كان ام عصراً بنظام 24 ساعة بسبب دوران الارض حول نفسها وتحديد السنة الارضية والفصول الاربعة اعتماداً على دورانها حول الشمس وهذا هو الاجراء الوحيد الذي نفلح به في وقتنا الحاضر ومن الممكن ان نجد مايرضينا مستقبلاً والله اعلم.. يقول احد علماء الاجتماع ان الله سبحانه وتعالى قد منح العقل الى الانسان ليدافع به عن نفسه في الطبيعة ليس إلاّ، حاله حال مخالب الاسد وانياب التمساح او سيقان الغزال او ترس السلحفاة ولايمكن له ان يفهم جميع ماجائت به الطبيعة من اسرار وخفايا معقدة صارت اسرارها اعقد من تركيبة عقولنا بما فيها من انسجة وشرايين..وتفاعل.

***

ماهر نصرت

بالرغم من تعدد المفاهيم التي تناولت الثقافة ودلالاتها، حتى كادت أن تتجاوز المئة تعريفاً، بل تجاوزتها، أستطيع أن أدلو بدلوي في هذا المجال لأقول: إن الثقافة في سياقها العام، هي مجموع ما قام الإنسان بإنتاجه في الاتجاهين الماديّ والروحيّ عبر علاقته التاريخيّة مع الطبيعة والمجتمع، مضافاً إليها كل ما اكتسبه هذا الإنسان من مهارات بفعل نشاطه الفرديّ، أو ما تجذر عنده من قابليات واستعدادات فطريّة انطبعت في جيناته بفعل نشاط الإنسان التاريخيّ. وانطلاقاً من هذا الفهم للثقافة، فالثقافة إذاً، تبدأ بالحرف، وبأول وسيلة إنتاجيّة اكتشفها الإنسان وهي (العصا)، وصولاً إلى ذروة الثورة المعلوماتيّة وأقمارها الصناعيّة الفضائيّة.

إن الثقافة في التحليل السوسيولوجيّ إذاً، هي ثقافة إنسانيّة، قام الإنسان بإنتاجها، وعمل تاريخيّاً على تطويرها، وفي كل مرة يقوم بإنتاج عناصر ثقافيّة جديدة أو تطوير ما قام بإنتاجه، تعمل هذه العناصر- ماديّة كانت أو روحيّه – بدورها أيضاً على تطوير عقل وأخلاق منتجها، وإدراكه وحواسه ومهاراته، فالعلاقة بين عناصر الحضارة والإنسان علاقة جدليّة، كل منهما يؤثر ويتأثر بالآخر.

إن الإنسان وفقاً لهذا المعطي هو إنسان ثقافيّ/ حضاريّ، وإنه أثناء وجوده في معطيات حياته أو جوده الاجتماعي، أي أثناء كدحه وإنتاجه لخيراته الماديّة والروحيّة وما يترتب أو يقوم على هذا الإنتاج من علاقات إنسانيّة، قد ساهم هذا الوجود أو الإنتاج ذاته في تحقيق اغتراب الإنسان وضياعه الماديّ والروحيّ أيضاً في هذا الإنتاج. فالإنسان في قسم كبير من حياته هو مغترب أو ضائع في منتجاته. ألم يصنع هو ذاته ألهته من حجر ويعبدها، أو من تمر يصلي لها وعندما يجوع يأكلها.. الم يصنع الإنسان ذاته النقود لتتحول إلى قوة ماديّة يباع هو ذاته بها ويشرى، ألم يخلق الإنسان بنفسه آلامه وقهره ومعاناته بفعل الإنسان. ألم يؤلف الشعر والقصة والرواية واللحن والرسم من أجل تصوير أحزانه وأفراحه وطموحاته في هذه الحياة التي أنتجها بنفسه، ثم راح بعض ما أنتج يأخذ حالة التقديس .

نعم.. هذه هي ثقافته التي كونها عبر التاريخ، وهذه هي ثقافته التي أثرت فيه وطورت وبدلت في حياته مثلما طور وبدل بها هو أيضاً. وأخيراً هذه هي ثقافته التي ضاع في منتجاتها وراح من جديد يبحث عن ذاته فيها لِيُكَوِنَ ثقافة أخرى تَصور أنها غير ثقافته... ثقافة من خارج التاريخ ... إنها الثقافة ألْعَالِمَة. أي هي ثقافة غربة الإنسان وضياعه في منتجاته... هي الثقافة التي فقد فيها الإنسان ذاكرته التاريخيّة، فراح يبحث عنها في عصر طفولته الإنسانيّة وما استجد عليها من أساطير نسج هو مكوناتها الفكريّة بما تتناسب مع حلمه في الخلاص وتحقيق السعادة والأمن والاستقرار. فالإنسان في كل دورة حياتية لمعطيات هذه الثقافة، يعيد إنتاج رؤاها الأسطوريّة وطقوسها ورموزها، كونه يشعر في كل دورة حياتية لها - وغالباً ما تكون سنويّة - استعادة جديدة لحياته يتخلص فيها من كل ما علق فيها من خطايا وذنوب ليخرج من جديد إنساناً بولادة جديدة. إنها ثقافة الأسطورة والمقدس والروحيّ بكل أشكالها التاريخيّة ومن ضمنها الثقافة البدائيّة التي لم يستطع الإنسان حتى هذا التاريخ أن ينسلخ عن الكثير من معطياتها. إنها ثقافة تقديس الشجر، والحجر، والضحيّة ودمها، وسن الذئب وجلده، ونضوة الحصان، وريشة الطائر، ورأس الوعل، والثعبان، والخرزة الزرقاء، وإشعال الشموع ...

إنها ثقافة الخوف من الحاضر والآتي، وما يرافق هذا الخوف من بحث عن سر الخلاص عند الشيخ وحجبته أو تميمته، أو عند الساحر ومائه ورماد نيرانه وأسماء جنياته وجنه.. إنها الثقافة التي اعتقدنا أن فيها سر الوجود وحركة الكون وكوارثه أو نعمه.. إنها ثقافة الأسطورة التي لم تزل تهيمن على حياتنا ونفسر بها قوانين حركة الطبيعة والمجتمع، وعالم الإنسان الداخلي في خوفه ومرضه وألمه وحلمه ورغباته.. إنها ثقافة استرداد الماضي التي لم نزل نعتقد أننا بإحياء ذكرى بعض محطاتها سنوياً نستعيد فردوسونا المفقود، أو ما يمنحنا تجديد حياتنا، وما أكثر تلك المواقف وتعدد دلالات إحيائها، أو الوقوف عند ذكرها، كأعياد الميلاد وغيرها.. إنها الثقافة التي تجسدت في بعض صيغها الأكثر حضاريّة في الطائفة والمذهب والحزب والطريقة الصوفيّة، التي تَلَقَنَهَا الأفراد عبر طقوس تنسيبيّة، ومُنحت لهم على درجات ومراتب يشعر المرء في كل مرحلة فيها أو مرتبة أنه خُلق خلقاً جديدا، وأنه حقق تمايزاً معرفيّاً عن غيره في معرفة نفسه وما يحيط به.. إنها ثقافة الشيخ والبطل السلبيّ الذي نزحف على ركبنا للوصول إليه وتقبيل يده أو أخذ البركة من حضوره ولمسات يده.. إنها ثقافة كل الرموز التي تُحول الفرد منا إلى ريبورت يشعر أن كل ما تعلمه من هؤلاء هو بداية المعرفة ونهايتها، وأن معرفة الكون والمجتمع والفرد تكمن فقط فيما تعلمه من هؤلاء.. إنها ثقافة الرموز والطلاسم التي لا تنتمي للعقل ولا لنشاط الإنسان، بل هي تريد للعقل والإنسان وحاضره أن ينتمي إليها، كونها هي وحدها من تمتلك الحقيقة المطلقة والعارفة بما كان وما هو كائن وما سيكون. أي هي وحدها الصالحة لكل زمان ومكان... إنها الثقافة الْعَالِمَة.

ثالثاً: التأثير السلبي للتثاقف مع الغرب وتعميق ثقافة الاغتراب:

مع تحقق عملية تركز الرأسمال في أوربا بشكل عام، وأمريكا على وجه الخصوص، وتحوله إلى رأسمال ماليّ، (1). وبالتالي التحامه بالدولة وتحوله أخيراً إلى رأسمال احتكاريّ، أخذ هذا الرأسمال الاحتكاريّ بدوره تحويل الدولة ذاتها التي التحم بها إلى دولة رأسماليّة احتكاريّة، راحت تمثلها في تاريخنا المعاصر الولايات المتحدة الأمريكيّة، بما تحمل هذه الدولة من مشاريع قهريّة لشعوب العالم، يأتي في مقدمتها تشكيل ما سمي بالنظام العالمي الجديد، والعمل على إعادة هيكلة العالم (السوق العالميّة) وفقاً لمصالحها. فأمام هذه التحولات البنيويّة للنظام الرأسماليّ، رحنا نلمس انغلاقاً لتاريخ الأفكار، وولوج مرحلة ما بعد الحداثة، التي راحت مقولة (أدر جيداً أرصدتك) تفرض نفسها على كافة مستويات هذه المرحلة، وبخاصة القيميّة منها ممثلة بالفن والأدب والفلسفة والأخلاق. الخ

إن معطيات ما بعد الحداثة في شقها ألقيمي هنا، لم تعد في مضمار هذا النظام أكثر من جملة من السيرورات التراكميّة التي يشدّ بعضها بعضاً، والتي دخلت عمليّاً كما يقول "ماكس فيبر" في مضمار (بناء تحديث الموارد وتحويلها إلى رؤوس أموال، عبر تنمية القوى الإنتاجيّة، وزيادة العمل...وعلمنة القيم الأخلاقيّة). (2).

إن قراءة أوليّة لأفكار " ماكس فيبر"، تشير لنا وبكل وضوح، إلى أن هناك حالات انزياح قد تمت لمسألة القيم الايجابيّة، ويأتي في مقدمتها النسق الثقافيّ موضوع بحثنا هنا، وذلك من خلال السعي إلى فصل المسائل القيمّة الثقافيّة، عن أصولها أو جذورها من جهة، ثم تحويلها إلى نماذج لسيرورات تطور حياديّة، وقطع صلتها بكل ما هو عقلانيّ، بحيث لم تعد الثقافة بصفتها عمليات تفعيل لتنمية المجتمع وتطوره، أي بوصفها التاريخ الموضوعيّ للبنى العقلانيّة، بقدر ما أصبحت مورداً للدخول (كم مليون دولار حقق هذا الفلم، وكم مليون دولار تساوي هذه اللوحة، وكم مليون دولار حقق هذا الكتاب.. الخ).

وهذا ما يدفعنا للقول أيضاً: إن الثقافة في معطياتها الما بعد حداثويّة التي جئنا عليها أعلاه، قد قضت على مقدمات التنوير، وأصبحت نتائج هذه التحولات القيميّة في صيغتها الما بعد حداثيّة التي أشرنا إليها، هي وحدها من يمارس التأثير على الفرد والمجتمع، وبالتالي هذا ما أدى بالمجتمع هنا، إلى أن يتحرر من إحدى الروافع الأساسيّة المحركة لتطوره الايجابي، وهي "الثقافة".

إن الثقافة في هذا السياق، تحولت إلى أسلوب عمل يساعد على تحريك القوانين الوظيفيّة لاقتصاد السوق المتوحش، وللتنمية والعلم الذين يخدمان هذه الوظيفة الاقتصاديّة، وخلق قيم اجتماعيّة وأخلاقيّة وسياسيّة جديدة كالتي أشار إليها "ماكس فيبر" بأنها، تخدم مصالح قادة النظام العالمي الجديد. أي تحويل هذه الثقافة إلى أداة لخلق قيم ونظام ربحيين بعيدين عن خدمة المجتمع، تتكئ على (عقل أداتيّ). (3) في التفكير والممارسة، كل ما يراد من هذا العقل هو إدارة الأرصدة بشكل جيد.

إن (نمذجة الثقافة) في المجتمع الغربيّ والأمريكيّ في الصيغة التي تقدمنا بها أعلاه، دفعت بعلم أو دون علم، بعض الكتاب والمفكرين العرب لتسويقها في ساحتنا الثقافيّة، الأمر الذي زاد من حدّة وسعة الانزياح الثقافيّ في وطننا العربيّ، وبالتالي المساهمة أكثر في تعميم التخلف وتجذيره.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية

..........................

الهوامش:

1- الرأسمال المالي: هو التحام الرأسمال التجاري والصناعي بالرأسمال المصرف، وبالتالي الزيادة في تمركز الراسمال في يد طغمة ماليّة قليلة العدد على مستوى الدولة الوطنيّة.

2- راجع القول الفلسفي للحداثة، "هبرماس"، ترجمة فاطمة ألجيوشي، وزارة الثقافة، دمشق، 1995 ، ص9).

3- - العقل الأداتيّ: هو العقل عندما يوظف في تسيير التكنولوجيا ورسم الخطط والبرامج الإداريّة او الوظيفيّة لأصحاب الرأسمال بعيدا عن دوره في التخطيط لتنمية المجتمع وتطوره.

مالك بن نبي مفكر جزائري معاصر، ومن أهم رواد الفكر النهضوي العربي والإسلامي، غير أن الاهتمام بأفكاره لم يكن في المستوى، ولم يلتفتْ بشكل جدي بأفكاره المعرفية والإصلاحية ...

درس الحضارة، والنهضة والتقدم العلمي، وحاول الاقتراب من أنماطه المختلفة؛ اشتراكي ورأسمالي أو أمريكي وأوروبي، وياباني وصيني ليؤكد أن النهضة لا ترتبط بالنظام السياسي ولا بالعرق وأنها ممكنة في بلاد العرب والمسلمين . وقد كان مالك بن نبي عميقاً في تحليل ظواهر التقدم في الغرب والصين واليابان، وبالمقابل أيضا فاهماً لظواهر التخلف في العالم الإسلامي أو ظواهر تقدم زائف!

وفي كتبه نجده يقارن بين الإنسان الفعال في أوروبا، اليابان أو الصين وبين الإنسان العربي سواء كان رجلا عاديا، مثقفا أو رجل السياسة والتخطيط . وطالما أكد لنا أنه إذا اتبع الإنسان العربي نفس الشروط فبإمكانه تحقيق التقدم والتطور، فالعرب كانوا سادة العالم والحضارة في القرون الوسطى بينما كان الأوربيون متخلفون فالتزموا نفس الشروط التي قامت عليها نهضة العرب في بغداد والأندلس وبخارى وبجاية... واقتبسوا من عند العرب فتطوروا وتقدموا، ثم جاء اليابانيون ففعلوا نفس الشيء إذ تعلموا من أمريكا وأوروبا فتقدموا ونهضوا، وكذلك فعل الصينيون والكوريون بعدهم والماليزيون والأتراك، رغم أن هذه الشعوب تعرضت للاحتلال من طرف الاستعمار الغربي لزمن طويل وبعضها لسنوات قليلة ...

وقد ذكر الأستاذ مالك تلك الشروط وبسطها وحللها وكررها وأكد عليها في كتبه جميعاً، ولعل أهم شيء أكد عليه، والذي يُعتبر العنوان الكبير للنهضة، هو أن الحضارة تُصنع بعرق وجهد أبنائها ولا تُشترى كما قال في كتاب تأملات : العربي عنده عقلية الزبون لذلك هو يشتري ما يصنعه الأمريكيون واليابانيون والأوروبيون، والصينيون ...

وكما قلنا سابقاً لم يُهتم بالرجل وفكره الاهتمام اللائق بأفكاره الإصلاحية والمعرفية، نعم كتبه تصدر كل عام، ويندر أن يوجد باحث أو مفكر عربي لم يقرأها، وبين الحين والأخر تصدر كتبُ وبحوث تحاول الاقتراب منه كرجل قومي وعربي وكمفكر من طراز عالي، بدون أن ننسى أنه أهم مفكر في المغرب العربي بعد ابن خلدون ...

وتحاليله واقعية مبينة على فهم عميق وتحليل قوي وعاطفة وطنية وقومية تتمنى أن ترى العرب ينطلقون بقوة في عالم الحضارة والتقدم...

***

بقلم عبدالقادر رالة

 

مقال الأسبوع الماضي أثار الكثير من الجدل، الذي جاء معظمه في صيغة «الرد» على الكاتب أو المقال، وليس مناقشة الفكرة التي يطرحها. وقد أكدت لي هذه الردود ملاحظة ذكرتها في كتابات سابقة، فحواها أن غالبية من يجادلون الكتابات المتعلقة بمسألة دينية أو التي لها ظلال دينية، ينطلقون من خوف على الدين، خوف من أن أي فكرة جديدة أو نقد للممارسات الرائجة، ربما يؤدي إلى هدم الدين، حتى لو كان غير مقصود في الأصل. والحق، أن معظم هذه الكتابات ينشرها أشخاص حرصاء، وبعضهم متخصص في مجاله. لكن أياً كان الأمر فإننا في حاجة إلى فهم دواعي الخوف المذكور، سواء قبلناه أو أنكرناه.

علاقة المسلمين بالأمم الأخرى، واحدة من أبرز انشغالات العقل المسلم في عصرنا الحاضر. وهو انشغال يشترك فيه عامة المسلمين ونخبتهم. من هنا بات موضوعاً أثيراً للكلام الشعبي والخطابة، فضلاً عن البحث العلمي. وفي حالة كهذه، فالمتوقع أن يكون للكتابات الخفيفة وما يجاريها من خطب منبرية، دور أكبر في تكوين الرأي العام المتعلق بالمسألة.

تدور الأبحاث العلمية المتعلقة بالموضوع حول أسئلة من قبيل: ما الذي نستفيد من علاقتنا بالغرب، وكيف نعظم الفوائد، تأثير هذه العلاقة على الاستقلال الوطني، التأثيرات المتبادلة بين المسارات المتعددة للعلاقة، أي تأثير العلاقة الاقتصادية على الوضع السياسي والثقافي، وتأثير هذه على تلك، إلخ. وأريد لهذه المناسبة استذكار الجهد الباهر للمرحوم الدكتور خير الدين حسيب، مؤسس مركز دراسات الوحدة العربية، الذي أشرف على عدد كبير من الأبحاث المتعلقة بالموضوع، وأذكر خصوصاً الدراسات الخاصة بالانكشاف الاقتصادي والأمني، وسبل التعامل معه على مستوى الوطن العربي. أود الإشارة أيضاً إلى أعمال المرحوم مالك بن نبي، المفكر الجزائري المعروف، الذي حاول الإجابة عن سؤال: كيف نجسر الفجوة التقنية/ العلمية مع الغرب، من دون أن نضحي باستقلالنا السياسي وخصائصنا الثقافية؟. هناك أيضاً باحثون كثيرون عرب وأوروبيون، ونظراء لهم من آسيا وأميركا اللاتينية، قدموا أعمالاً في غاية الأهمية، عالجت زوايا مختلفة للموضوع. وهي تشكل – في مجموعها – مصدراً لا غنى عنه، إن أردنا التوصل لفهم موضوعي، أو وضع خطة علمية لعلاقة مثمرة بين العالم العربي/ الإسلامي والغرب.

أما الخُطب المنبرية وما يجاريها من كتابات خفيفة، فقد وقع معظمها في فخ الخلط بين التوجيه التعبوي المناسب لمراحل الصراع، والتحذير مما يزعم أنه مؤامرة غربية، وبين أحكام مبنية على الخوف أو التخويف من الاختلاط بالمخالف.

وردت أبرز التنظيرات لفكرة «استعلاء الإيمان» و«استعلاء المؤمن» في كتابي «معالم في الطريق» و«في ظلال القرآن» لسيد قطب، وتناولها فيما بعد الخطباء والكتاب المتأثرون بفكره. لا بد من القول إن تعبير «استعلاء» لم يرد في القرآن ولا التراث الإسلامي القديم كسمة لأهل الإيمان، بل أورد القرآن الكريم لفظ «استعلى» على لسان فرعون.

التوجيه القرآني يؤكد أن الله رفع عباده بعملهم، لا بمجرد انتمائهم. لكن نفوذ فكرة الاستعلاء في التثقيف الديني العام، ولا سيما على ألسنة خطباء ودعاة، أسس لحالة نفسية محورها الترفع/ الكبرياء الشخصي، يمارسه الشخص المتدين حين يقارن نفسه بالآخرين. وقد اتخذ في بعض الأحيان مدخلاً لنفي الحاجة إلى العلم أو بقية القوى المادية، في المقارنة مع من يملكها. فكأن المؤمن يقول لنفسه: أنا متدين ولا أملك شيئاً مادياً، غيري يملك كل شيء، لكنه غير متدين، إذن أنا أرفع منه.

بطبيعة الحال، لا أحد يقول هذا صراحة. لكنه يجري في داخل النفس على شكل تعويض تخيلي عن بعض الإخفاقات. ولهذا حديث آخر نعود إليه في قادم الأيام إن شاء الله.

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

اعيدوا اليمن سعيدا فالطفولة في اعناقنا جميعا

اليمن بقعة عربية طاهرة من أرضنا العربية شهدت حضارة خالدة، وشعبها من أطيب الشعوب واكثرهم رقة وعلماؤها الاعظم فقها، ومع ذلك ابتلوا بالحرب، عقب ثورات الربيع العربي وفجأة دون سابق انذار تحولت أرضهم الطيبة التي دعا نبينا محمد صل الله عليه وسلم لها قائلا : " بارك الله في يمننا "، الى ساحة حرب

وطبعا عمل أباطرة السلاح على استمرار الحرب باليمن تحقيقا لمكاسبهم المالية على حساب شعب وأطفال عزل فقراء ومنكوبين، واستمرار الحرب طوال هذه السنوات قضى على مصادر الطعام، فالمصائد السمكية لا تعمل الا بطاقات محدودة وكذلك المناطق الزراعية تأثرت بفعل أتون الحرب وفوضويتها، مما جعل اليمن تحتل المركز الثاني عالميا بقائمة الدول معاناة من انعدام الامن الغذائي

والمؤسسات الدولية رصدت هذه الازمة مؤكدة ان اكثر من 16 .2 مليون يمني يعانون من انعدام الامن الغذائي بحسب “WFP” ، وأن حوالي 3.2 مليون طفل يمني دون سن الخامسة يعانون من سوء التغذية الحاد بحسب “OCHA

ورصدت منظمة "إنقاذ الطفولة"، بتقرير لها ديسمبر 2022، انعدام الأمن الغذائي باليمن بما في ذلك سوء التغذية الحادة وارتفع هذا العدد العامين الماضيين إلى 6 ملايين شخص من 3.6 مليون، بزيادة قدرها 66 بالمئة".

وكشفت المنظمة نفسها حقيقة أن اطفال اليمن يواجهون سوء التغذية والموت بسبب ضعف أجسامهم وتعرضها للاصابة بالأمراض، فضلا عن أن سوء التغذية يترك على الناجين من الأطفال آثارا تدوم مدى الحياة، بما في ذلك ضعف النمو البدني والنمو المعرفي .

ولا يوجد مبرر منطقي لازمة الجوع باليمن او غيرها من البلدان سوى غياب العدالة الدولية والمحلية ايضا، هذا الغياب جعل اكثر من 80% من اليمنيين يعيشون تحت خط الفقر، ووفقا لبرنامج الغذاء العالمي فان سوء التغذية سيضع جيلا بأكمله من أطفال اليمن على المحك، بعد أن بلغ سوء التغذية الحاد أعلى مستوياته وأهل معظم الأطفال للوقوع في شرك الجوع

والمجتمع يتحمل مسئولية جوع اطفال اليمن بفعل نقص تمويل الدعم المالي والغذائي، ونهب التبرعات او توزيع المساعدات على غير مستحقيه خاصة الاطفال، ولم تجد منظمة اليونسيف المختصة بالطفولة سوى مطالبة المجتمع الدولي زيادة الدعم المالي لاعادة المشاريع الاغاثية المتوقفة والمساعدات الغذائية والصحية لاطفال اليمن .

وللاسف فان الفساد داخل المنظمات الدولية جعل المتاجرة بمعاناة اليمنيين وهدر التبرعات لسد نفقاتها إلإدارية، بحسب ما أكدته الوطن العدنية حين كشفت عن فضيحة لبرنامج الغذاء العالمي تجسدت بوصول شحنة دقيق تالفة "مسوس" الى عدن، مما جعل هيئة المواصفات وضبط الجودة اليمنية تحتجز الباخرة لإتلاف الحمولة الفاسدة.

وبحسب منظمة سياج لحماية الطفولة، في بيان لها عام 2018 فإن المجاعة تجتاح أغلب محافظات اليمن وتحصد أرواح مئات الأطفال، وتهدد مئات الآلاف بالموت جوعاً، بفعل انعدام سبل المعيشة ونهب أموال المساعدات الإنسانية .

فالمساعدات الإنسانية الدولية تتعرض لعمليات نهب منظم، وما يعلن عنه منها اعلاميا تذهب غالبيته إلى غير مستحقيه الفعليين، و أن متوسط من يحصلون على مساعدات إنسانية حقيقة لا يتعدى 10% تقريباً من إجمالي المستحقين الفعليين .

أمام هذه الكارثة، فلابد من الاسراع من مراجعة السياسات المعمول بها في توزيع المساعدات على شعب اليمن وأطفاله الجوعى، وكشف شبكة المنظمات المحلية والدولية والمسئولين الحكومين باليمن التي تنهب المساعدات الانسانية لهذا الشعب المنكوب، ومحاسبة المسئولين عن سرقة ونهب المساعدات الدولية لليمن .

ونأمل تخصيص مسئولين شرفاء محايدين يتولون توزيع المساعدات الاغاثية لاطفال اليمن بعيدا عن أجندات خاصة باطراف الصراع او اصحاب المصالح والتصنيفات المذهبية أو السياسية .

اما على الصعيد العربي والاسلامي، فان منظمة التعاون الاسلامي وجامعة الدولة العربية مطالبين على وجه السرعة بتدشين حملة لانقاذ أطفال اليمن، وفتح باب التبرعات لجمع الاموال السريعة وكل أشكال المساعدات الغذائية والصحية من أثرياء العالمين العربي والاسلامي ومن المؤسسات الاقتصادية الكبرى المنتشرة في بلادنا ومن كبار الفنانين والشخصيات الاعتبارية الثرية .

والاهم هو تخصيص جهة شريفة تتولى توزيع هذه المساعدات على منكوبي اليمن خاصة الاطفال، وعلى كل الدول العربية ارسال قوافل طبية عاجلة لانقاذ اطفال اليمن من امراض سوء التغذية الحاد والجوع .

***

بقلم / سارة السهيل

 

إن عنوان هذا المقال ليس مبالغة في القول، ولا تضخيما لشيء لا يستحق التضخيم، وإنما هو وضع ملموس اتسم بضبابية منذ سنوات خلت، وما يزال.. إنه الوضع الثقافي في المغرب، الذي طُرحت حول مظاهره ومآله أسئلةٌ كثيرةٌ، عبَّر من خلالها مجموعةٌ من المثقفين المغاربة عن الأسباب الكامنة وراء تقهقره وانحساره.

بيد أن موت الكاتب المسرحي المغربي أحمد جواد، في ظروف مؤلمة ومحزنة، جعل من سؤال الثقافة سؤالا ملحا وآنيا، يستدعي تشخيصا دقيقا لمختلف الأسباب والعلل التي نتج عنها وضعٌ ثقافيٌّ مُهمّشٌ، وضعٌ أقلُّ ما يقال عنه إنه لا يرقى إلى المستوى الثقافي الذي عُرف عن المغرب العربي. ومن ثم، فإن السؤالَ الجوهريَّ الأحقَّ والأَوْلى بأن يُطرحَ هو: منِ المسؤولُ عن قتل الفعالية الثقافية في المغرب؟ هل المسؤولون الذين تعاقبوا على وزارة الثقافة هدما وتخريبا مدروسين، أم أن السببَ يُعزى إلى انسحاب المثقف من المشهد الثقافي، والنتيجةُ تركُهُ مكانَهُ شاغرا لأشخاص لا تربطهم آصرةٌ بالثقافة؟

على أن الجوابَ عن هذا السؤالِ ليس مهما؛ لأن في ذلك تعددا واختلافا في الزوايا التي يُنظر منها إلى أزمة الثقافة، فضلا عن كون الوضع الثقافي الراهن ناتجا عن مجموعة من العلل المركبة والمعقدة، التي يتداخل فيها المؤسسيُّ والفرديُّ.

إذ نجد أن المبالغَ الماديةَ التي تُرصدُ للثقافة في المغرب هزيلةٌ، وذلك إذا ما تمتْ مقارنتُها بمجموعة من الدول التي تَعرفُ للثقافة دورَها وجدواها في بناء الفرد والمجتمع، وتَحفظُ لها مكانتَها بحسبانها مكونا وحاضنا لهوية البلد. ومن ثم، فإن الوضعَ الماديَّ يُعدُّ دليلا واضحا على التهميش الذي تعرفهُ الثقافةُ والفاعلون في إطارها، الأمرُ الذي يؤدي إلى غياب التشجيع المادي والمعنوي للفاعلين الثقافيين.

فلئن نحن استحضرنا مجال الإعلام بقنواته الرسمية، فإننا نلحظ غيابا مقصودا للمثقفين الذين يحملون همَّ بناءِ وترسيخِ وتطويرِ الفعل الثقافي، ومواكبةِ تحدياته الراهنة والمستقبلية. إذ إن قنواتِنا الإعلاميةَ الرسميةَ استعاضتْ عن الثقافةِ بالتفاهة، وعن المثقفِ الفعليِّ بزُمْرةٍ منَ التافهين والمُهرِّجين الذين يُسْهمون في تعميقِ الجرح الثقافي، ويَعملون على إفراغِ الشعب المغربي من مقوماته الحضارية، ومن معالمِ هويته الوطنية والعربية.

إن التافهين اكتسحوا المشهدَ الإعلاميَّ، واستطاعوا أن يُقنعوا فئاتٍ عريضةً منَ المغاربةِ الذين ليس لهم منسوبُ وعيٍ مرتفعٌ، بأن الثقافةَ الحقيقيةَ لا تتحددُ في التمسُّكِ بالأصول والثوابت الثقافية الوطنية، وإنما في الانحلال من كلِّ ما له ارتباطٌ بالهوية، ودورٌ فعَّالٌ في تنميةِ الفكر وشحْذِ الوعي، وترسيخِ الذوقِ الجماليِّ الذي يُنَمي قيما ساميةً لدى الفرد.

هكذا، نرى أن المتعاقبين على الشأن الثقافي في المغرب، لم يتورّعوا في إفراغ المغاربة مما تبقى لهم من رأسمالهم الثقافي الذي تَتَهَدَّدُهُ تحدياتٌ داخليةٌ وخارجيةٌ عديدةٌ، والمآلُ أنهم دقُّوا مسمارَهُمُ الأخيرَ في نعشِ الثقافة.

فغيابُ الإرادةِ السياسيةِ القويةِ، وانحسارُ الدعمِ الماديِّ والمعنويِّ للوضع الثقافي والفاعلين فيه، تَرتب عنه انكماشُ المثقفِ على ذاته، وانسحابُهُ من عالَمٍ تَكتسحُهُ التفاهةُ والتافهون. ومن ثم، فلا غرابة أن يَدُقَّ أحمد جواد ناقوسَ الخطرِ، ويَستنجدَ المسؤولين والفاعلين في الشأن الثقافي، وبما أن نداءه واستغاثتَه لم يجدا تلبيةً ولا تجاوبا، فإنه اختار الطريقَ الأصعبَ.. إنه طريقُ الألمِ والموتِ، والتعبيرِ عن الرفض التام والمبدئي لهذا الوضع المتردي. ليبقى فعلُ الاحتراقِ ملاذا أخيرا، وشاهدا على فشل القائمين على الشأن الثقافي في تدبيره.

إن لجوءَ الكاتبِ المسرحي المغربي أحمد جواد إلى الاحتراق، لَهُوَ رفضٌ أليمٌ لكلِّ أشكال التهميش والإبعاد التي يتعرضُ لها المثقفُ المغربيُّ، فضلا عن كون احتراقه إعلانا على موت الثقافة في ظل زمنٍ يَنضحُ بالتفاهة والتافهين من مختلف الأشكال والأذواق.

إنه موتٌ واحتراقٌ، رغم مرارتهما وألمهما، فإنهما شكَّلاَ سبيلا إلى مساءلة التدبير السياسي العام للشأن الثقافي، والأدوارِ المنوطة به في خدمة الثقافة الوطنية والمثقفين، والحرصِ على ردِّ الاعتبارِ لدورها الفعَّال في الارتقاء بالفرد والمجتمع إلى مستوى القيم الأصيلة التي يَنصهرُ فيها الخصوصيُّ بالكوني، والمحليُّ بالإنساني. علاوة على أنهما يدفعانِنَا إلى مساءلة أدوار المثقفين في تحصين الفعل الثقافي، والحرصِ على استمراره في لعبِ الأدوار المُسندة إليه.

على هذا الأساس، نقول إن موتك أيها الكاتب المسرحي الأبي، إيذانٌ بموتِ الفعل الثقافي، وتهميشِ الثقافة التي باتَ حضورُها حضورا ضئيلا في مختلف المجالات الثقافية. ففي التعليم، نلفي أن المناهجَ والبرامجَ التربويةَ لم تعدْ تُواكب التحدياتِ التي تُواجِهُ وضعَنا الثقافيَّ، ولم تعد تُنتجُ مُتَعلما مُتسلحا بزادٍ ثقافيٍّ كبيرٍ يُؤهلهُ للاندماج داخل مجتمعه، والتعايش والتسامح مع بني جلدته.

أما المنابرُ الإعلاميةُ، فإن نسبةً كبيرةً منها تُرَوج لثقافةٍ استهلاكيةٍ فارغةٍ من أي محتوى جدي، وتُشَجع على ثقافة التفاهة والتفكه والإلهاء عن التحديات التي تُهددُ المواطنَ المغربيَّ في معيشته وصحته وفكره، وتُخَصِّص مساحاتٍ كبيرةً للتافهين على حساب المثقفين.

كما أن غيابَ دُورِ السينما، وسحبَ البساط من تحت المسارح والمكتبات والمُركبات الثقافية، والنوادي الثقافية والمقاهي الأدبية، وقمعَ التظاهرات الثقافية والعلمية التي يترعرع فيها الفكرُ والوجدانُ السليمانِ.. كل ذلك، وغيره كثير، أسهم في تقهقر الوضع الثقافي، وتهميش الفاعلين ماديا ومعنويا.

***

محمد الورداشي

 

 

المعتقدات الدينية بأنواعها منبثقة من محاولات وعي الجوهر الحقيقي للحياة، ومعاني الرحلة ما بين الولادة والموت، وقد إنتهت معظمها إلى مفاهيم متشابهة وأجوبة متقاربة، تفسر لماذا جئنا وإلى أين الرحيل، وهل أن الحياة رحلة منتهية أم متواصلة إلى الأبد بكينونات أخرى؟

والإسلام توصل إلى صياغة منظومة واضحة وتفصيلية عن الحياة، كنقطة عدمية وصيرورة عبثية لا معنى ولا قيمة لها، إلا بالتواصل اليومي المواظب مع الخالق العظيم.

فوعي حقيقة الحياة يجردها من قيمتها المادية، ويختصرها بأن الملك للخالق، والمخلوق لن يأخذ شيئا معه، وهو من التراب وسيعود إليه، وله ما سعى وأقام من العبادات والإنسلاخ عن الحياة الدنيا وعدم الإكتراث بها، وإعتبار ما يحصل مقدرا ومكتوبا، وعليه أن يكون ساكنا ومستكينا وممعنا بالقنوط واللامبالاة.

نعم الحياة عندما تستحضرها عقليا تبدو وكأنها هراء وعبث، ومجردة من المعنى لأنها إلى إنتهاء وغياب، والمخلوق يتواصل فيها بالتوالد والإمتداد الجيني، الذي يعني أنه سيعبّر عما فيه بالأجيال المنبثقة منه.

وهذا الوعي لا يكون مبكرا، لأنه سيحوّل الحياة إلى بركة حامية الوطيس، وأن يتأكد بعد هدوء العاطفة وإنجاز الإنسان لبعض ما فيه من القدرات والطاقات المتوافقة مع عصره، وبعدها يتعاقل مع الحياة ويتفاعل بتجاربه وخبراته التي إكتسبها.

والمشكلة المغفولة في الإسلام، أن الإنسان يصل إلى الوعي الأليم في بدايات حياته، مما يدفعه لتسخير طاقاته وإستثمارها في مشاريع متفقة وما يتصوره وينغرز فيه، فتجد الشاب يستسهل الموت ويحسبه غاية الحياة، ويخيم السأم على أيامه فينجم عنه سلوكيات متوافقة مع هذا الوعي.

ويساهم الذين يتحدثون بإسم الدين في نشر التصور اليائس العدمي العبثي، فيحشون خطبهم بما يعزز الرؤية السلبية لها، ويوجهون طاقات الأجيال الصاعدة نحو الضياع، والتبدد في نشاطات خسرانية معادية للحياة، التي تصبح عبئا، لا ميدانا للبناء والعطاء والإبداع والأمل والتقدم والرقاء، فيصيبون الشباب بأوبئة فقدان قيمتها، مما يؤهلهم للوقوع في حبائل الحركات الفتاكة الداعية للموت بعد أن تؤطره بمعاني عقائدية وإستلهامية ذات وعود فنتازية، تجعل الشباب يتصورونه الخيار الأسمى والأصدق!!

فهل من رؤية ذات أفق جميل؟!!

واتقوا ربكم يا ألوا الألباب!!

***

د. صادق السامرائي

8\6\2019

 

 

لا يوجد زمن "إلهى" بالمعنى الحرفي للكلمة. ومع ذلك، فمن الصحيح أن لدى البشر تصورًا شخصيًا للزمن يمكن أن يختلف اعتمادًا على عقليتهم وخبرتهم وثقافتهم. على سبيل المثال، قد يبدو أن بعض اللحظات تمر بسرعة كبيرة بينما قد يبدو أن لحظات أخرى تمتد إلى الأبد. في المقابل، فإن الوقت المُقاس علميًا هو كمية موضوعية لا تعتمد على الإدراك الفردي. طور الفيزيائيون أنظمة لقياس الزمن بشكل دقيق ومتسق، مثل الساعات الذرية التي تستخدم اهتزاز الذرات لتحديد الوقت.

وماذا نقول عن الزمن الكوني والزمن المطلق والزمن النسبي والزمكان؟

يشير الزمن الكوني إلى قياس الوقت على مقياس الكون بأسره. غالبًا ما يستخدم لوصف عمر الكون، والذي يبلغ حاليًا حوالي 13.8 مليار سنة.

الزمن المطلق هو مفهوم نظري يفترض وجود وقت عالمي يتدفق بشكل متماثل ومستمر لجميع المراقبين بغض النظر عن موقعهم أو حركتهم. تم اقتراح هذه الفكرة من قبل إسحاق نيوتن، ولكن تم تحديها من قبل نظرية النسبية الخاصة لألبرت أينشتاين.

قدمت النظرية النسبية الخاصة مفهوم الزمن النسبي، والذي ينص على أن الزمن يتدفق بشكل مختلف اعتمادًا على الإطار المرجعي للمراقب. هذا يعني أن اثنين من المراقبين يتحركان بالنسبة لبعضهما البعض يمكنهما قياس فترات زمنية مختلفة لنفس الأحداث.

الزمكان هو مفهوم يوحد المكان والزمان في كيان واحد، مما يعني أنهما لا ينفصلان ويؤثران على سلوك بعضهما البعض. تصف نظرية النسبية العامة لأينشتاين الزمكان على أنه بنية منحنية بوجود المادة والطاقة، مما يؤدي إلى ظهور ظواهر مثل الجاذبية.

باختصار، يصف الزمن الكوني قياس الزمن على مقياس الكون، والزمن المطلق هو فكرة نظرية تم تحديها من قبل نظرية النسبية، وينص الزمن النسبي على أن الزمن ينقضي بشكل مختلف اعتمادًا على الإطار المرجعي للراصد، والزمكان. هو كيان يوحد المكان والزمان في بنية واحدة تتأثر بوجود المادة والطاقة.

هل هذا يعني أن الزمن يمكن أن يتحول إلى مكان والعكس صحيح؟.

تصف نظرية النسبية العامة لأينشتاين بالفعل أن المكان والزمان مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، لدرجة أنهما معًا يشكلان كيانًا لا ينفصل يسمى "الزمكان". وفقًا لهذه النظرية، يتم تحديد انحناء الزمكان من خلال توزيع المادة والطاقة، ويؤثر هذا الانحناء على سلوك الأجسام المتحركة في هذا الزمكان.

بعبارة أخرى، يمكن أن تنحني المادة والطاقة في الزمكان، مما قد يؤثر على كيفية تدفق الوقت. تقترح نظرية النسبية أيضًا أن الطاقة يمكن أن تتحول إلى مادة والعكس صحيح، وفقًا للمعادلة E = mc²، حيث تمثل E الطاقة، و m تمثل الكتلة، و c تمثل سرعة الضوء.

وبالتالي، يمكن للمرء أن يقول أنه وفقًا لنظرية النسبية العامة، فإن المكان والزمان مرتبطان ارتباطًا وثيقًا ويمكن دمجهما من قبل بعضهما البعض، على الرغم من أنه ليس من الصحيح القول إن الزمن يتحول إلى مكان أو العكس حسب الفهم والإدراك البشري الكلاسيكي المألوف.

هل الزمن كيان مادي حقيقي أم أنه ينبع من العلاقات بين الأشياء؟.

إن مسألة ما إذا كان الزمن كيانًا ماديًا حقيقيًا أو ما إذا كان ينبع من العلاقات بين الأشياء هو سؤال معقد ومناقش في فلسفة الفيزياء.

من وجهة النظر المادية، يعتبر الزمن كمية قابلة للقياس، والتي يمكن تعريفها على أنها بُعد في الزمكان. يمكن قياس الوقت باستخدام الساعات، وهي أجهزة فيزيائية تستخدم ظواهر دورية، مثل اهتزاز الذرات، لقياس مرور الزمن. بهذا المعنى، يمكن اعتبار الزمن كيانًا ماديًا فعليًا.

ومع ذلك، يتنبأ بعض فلاسفة الفيزياء بأن الزمن ليس كيانًا ماديًا مستقلًا، بل هو خاصية ناشئة للعلاقات بين الأشياء في الكون. وفقًا لهذا المنظور، ينشأ الزمن من العلاقات بين الأحداث، والتي يمكن تعريفها على أنها تغييرات تحدث في الكون.

في النهاية، تعتمد الإجابة على هذا السؤال إلى حد كبير على المنظور الفلسفي المعتمد. من الممكن اعتبار الوقت كيانًا ماديًا فعليًا، أو خاصية ناشئة للعلاقات بين الأشياء في الكون.

هل هناك بداية للزمن وهل ستكون هناك نهاية له؟.

السؤال عما إذا كان هناك بداية لـ temps الزمن وما إذا كانت هناك نهاية تعتمد على المنظور المتخذ.

وفقًا لنظرية الانفجار العظيم، بدأ الكون في الوجود منذ حوالي 13.8 مليار سنة، خلال تمدد متفجر من حالة أولية من كثافة عالية ودرجة حرارة عالية. قبل هذه اللحظة، كان الكون "مضغوطًا" بطريقة ما في نقطة شديدة الكثافة والحرارة، لكن فكرة الزمن لم تعد منطقية داخل هذه النقطة.

هذا يعني، وفقًا لهذه النظرية، أن الزمن كما نعرفه بدأ في الوجود في وقت الانفجار العظيم، ولكن من الصعب تحديد ما إذا كان هناك شيء قبل ذلك، أو إذا كان لمفهوم "قبل" معنى في هذا سياق.

يعتمد تحديد ما إذا كانت هناك نهاية للزمن أيضًا على المنظور المتخذ. وفقًا لنظرية التوسع المتسارع للكون، يتمدد الكون إلى أجل غير مسمى، ويصبح باردًا وفارغًا بشكل متزايد، ولا يصل أبدًا إلى الحالة النهائية أو النهاية. ومع ذلك، تفترض نظريات أخرى أنه من الممكن أن يمر الكون بانهيار الجاذبية في مرحلة ما، أو أن الزمن نفسه سيتوقف عن الوجود في المستقبل.

باختصار، وفقًا لنظرية الانفجار العظيم، بدأ الزمن كما نعرفه في الوجود منذ حوالي 13.8 مليار سنة، لكن من الصعب تحديد ما إذا كان هناك أي شيء تم اختياره قبل ذلك. فيما يتعلق بما إذا كانت هناك نهاية للزمن، فهذا يعتمد على المنظور المعتمد والنظريات الحالية السارية.

ما إذا كانت هناك بداية للزمن وما إذا كانت ستكون هناك نهاية يعتمد على المنظور المتخذ.

وفقًا لنظرية الانفجار العظيم، بدأ الكون في الوجود منذ حوالي 13.8 مليار سنة، خلال تمدد متفجر من حالة أولية من كثافة عالية ودرجة حرارة عالية. قبل هذه اللحظة، كان الكون "مضغوطًا" بطريقة ما في نقطة شديدة الكثافة والحرارة عرفت باسم الفرادة أو نقطة التفرد، لكن فكرة الزمن لم تعد منطقية داخل هذه النقطة.

هذا يعني، وفقًا لهذه النظرية، أن الزمن كما نعرفه بدأ في الوجود في لحظة الانفجار العظيم الأولى أو اللحظة صفر، ولكن من الصعب تحديد ما إذا كان هناك شيء قبل ذلك، أو إذا كان لمفهوم "قبل" معنى في هذا سياق.

يعتمد تحديد ما إذا كانت هناك نهاية للزمن أيضًا على المنظور المتخذ. وفقًا لنظرية التوسع المتسارع للكون، يتمدد الكون إلى أجل غير مسمى، ويصبح باردًا وفارغًا بشكل متزايد، ولا يصل أبدًا إلى الحالة النهائية أو النهاية. ومع ذلك، تفترض نظريات أخرى أنه من الممكن أن يمر الكون بانهيار الجاذبية في مرحلة ما، أو أن الوقت نفسه سيتوقف عن الوجود في المستقبل.

باختصار، وفقًا لنظرية الانفجار العظيم، بدأ الزمن كما نعرفه في الوجود منذ حوالي 13.8 مليار سنة، لكن من الصعب تحديد ما إذا كان هناك أي شيء تم اختياره قبل ذلك. فيما يتعلق بما إذا كانت هناك نهاية للزمن، فهذا يعتمد على المنظور المعتمد والنظريات الحالية السارية.

هل هناك لحظة صفرية، وكيف نصف اللحظات الأولى للكون بشكل صحيح

وفقًا لنظرية الانفجار العظيم، بدأ الكون في الوجود منذ حوالي 13.8 مليار سنة من حالة أولية من كثافة عالية ودرجة حرارة عالية، لكن من الصعب وصف اللحظات الأولى للكون بدقة، لأن قوانين الفيزياء كما نعرفها لا تنطبق في هذه الظروف القاسية.

ومع ذلك، تقدم بعض النظريات أوصافًا محتملة لهذه اللحظات المبكرة. على سبيل المثال، تشير نظرية التضخم الكوني إلى أن الكون يمر بمرحلة توسع أسي سريع جدًا في اللحظات الأولى بعد الانفجار العظيم. كان من الممكن أن يكون هذا التوسع سريعًا جدًا لدرجة أن مناطق الكون التي كانت في البداية على اتصال مع بعضها البعض قد تصبح متباعدة جدًا بحيث لم يكن لضوءها الوقت للوصول إلينا، وهو ما يفسر سبب ظهور الكون المنتظم جدًا على نطاق واسع.

أيضًا، تشير بعض النظريات إلى أن قوانين الفيزياء كما نعرفها اليوم تتشكل من حالة ابتدائية أكثر جوهرية، تسمى "البذرة" أو "الجسيمات الكمومية" للكون. تفترض هذه النظريات أن الفيزياء كما نعرفها اليوم لم تكن دائمًا صالحة، وأن القوانين التي تحكم كوننا ظهرت في مرحلة ما.

باختصار، على الرغم من صعوبة وصف اللحظات الأولى للكون بدقة، فإن النظريات الحالية لعلم الكونيات تقدم تفسيرات مختلفة لهذه اللحظات، مثل نظرية التضخم الكوني ونظريات فيزياء الكم للجاذبية. يمكن أن تساعدنا هذه النظريات في فهم الظروف القاسية للكون في لحظاته الأولى وكيف ظهرت قوانين الفيزياء كما نعرفها اليوم.

كيفية تحديد وشرح مفارقة جومو التِؤام ومفارقة لانجفان وما الفرق بينهما؟.

المفارقة المزدوجة هي نظرية خاصة لمشكلة النسبية توضح كيف يتمدد الوقت بسرعة. تتخيل المفارقة توأمين متطابقين، A و B، حيث يبقى A على الأرض و B يسافر عبر الفضاء بالقرب من سرعة الضوء لفترة من الزمن. وفقًا للنسبية الخاصة، سيمر الوقت بشكل أبطأ بالنسبة لـ B نظرًا لسرعته العالية، لذلك عندما يعود إلى الأرض، سيكون B في النهاية أصغر من شقيقه التوأم A. أصغر سنًا وقضى وقتًا في الفضاء أكثر مما قضاه شقيقه التوأم على الأرض.

تتشابه مفارقة لانجفان، ولكنها تتضمن ساعتين متطابقتين تتم مزامنتهما وتوضعان في مواقع مختلفة في إطار مرجعي متحرك. أثناء تحرك النظام، تتحرك الساعات أيضًا، ولكن نظرًا للنسبية الخاصة، تخرج الساعات من المزامنة وتظهر إحداها قبل الأخرى. يبدو أن هذا التناقض يتعارض مع مبدأ النسبية، الذي ينص على أن قوانين الفيزياء يجب أن تكون هي نفسها لجميع المراقبين الذين يعانون من القصور الذاتي.

يتمثل الاختلاف الرئيسي بين المفارقين في أن المفارقة المزدوجة تتضمن حركة متسارعة (في إطار بالقصور الذاتي غير بالقصور الذاتي) بينما تتضمن مفارقة لانجفان حركة موحدة (في إطار بالقصور الذاتي). أيضًا، تتضمن مفارقة التوأم الكائنات الحية، في حين أن مفارقة لانجفان هي مجرد مسألة قياس الوقت.

باختصار، المفارقة المزدوجة هي مشكلة نسبية خاصة توضح كيف يتمدد الوقت مع السرعة، بينما تتضمن مفارقة لانجفان إلغاء تزامن ساعتين متطابقتين في نظام متحرك.

لماذا يلتف الوقت ويتعلق بالقرب من ثقب أسود هائل؟

يرجع سبب الالتواء الزمني بالقرب من ثقب أسود هائل إلى انحناء الزمكان، كما وصفته نظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين. الجاذبية هي في الواقع انحناء للزمكان من خلال وجود الكتلة والطاقة، مما يعني أن الجاذبية لا تؤثر على الفضاء فحسب، بل تؤثر أيضًا على الوقت نفسه. كلما تركزت الكتلة في مساحة صغيرة، زاد انحناء الزمكان، مما يؤدي إلى تشويه أكبر للوقت.

عندما يسقط جسم في ثقب أسود، فإنه يتعرض لجاذبية شديدة للغاية، مما يؤدي إلى إبطاء الوقت في جواره. في الواقع، إن انحناء الزمكان بالقرب من الثقب الأسود كبير جدًا لدرجة أن الزمن يكاد يبدو وكأنه ثابت أمام مراقب بعيد. هذا لأن الوقت يتباطأ عندما يقترب الجسم من تفرد الثقب الأسود، حيث يكون انحناء الزمكان أكبر. وبالتالي، فإن الوقت يلتف بالقرب من ثقب أسود هائل بسبب انحناء الزمكان الناجم عن وجود الكتلة والطاقة.

هل يمكننا مزامنة عدة أحداث في الكون بشكل مؤقت؟

يعتمد توقيت الأحداث في الكون على كيفية تحديدنا للوقت وحدود قدرتنا على قياس ومراقبة هذه الأحداث.

وفقًا للنسبية الخاصة، فإن التزامن متعلق بالمراقب. هذا يعني أن حدثين يظهران في وقت واحد لمراقب واحد قد يبدوان غير متزامنين لمراقب آخر يتحرك بسرعة مختلفة. لذلك، فإن تزامن الأحداث يعتمد على موضع الراصد وسرعته.

ومع ذلك، على الرغم من عدم وجود التزامن المطلق في النسبية الخاصة، فمن الممكن مزامنة الساعات في نفس الإطار المرجعي باستخدام إشارة ضوئية تنتقل بين الساعات. وهذا ما يسمى التزامن التقليدي، والذي يسمح بمزامنة الأحداث ضمن إطار مرجعي معين.

في النسبية العامة، حيث تنحني الجاذبية الزمكان، لم تعد المزامنة التقليدية كافية لوصف تزامن الأحداث، لأن انحناء الزمكان يمكن أن يؤثر على انتشار الضوء. في هذه الحالة، يجب استخدام طرق أكثر تعقيدًا لمزامنة الأحداث، مثل تزامن الساعات في مدار حول جسم ضخم.

في النهاية، يعتمد توقيت الأحداث على الافتراضات والأطر المرجعية المختارة لوصف الكون. على الرغم من أن النسبية الخاصة والنسبية العامة تظهران عدم وجود التزامن المطلق، فمن الممكن دائمًا مزامنة الأحداث داخل نفس الإطار المرجعي.

يمكن أن يوجد الزمن بدون المكان؟

ما إذا كان الزمن يمكن أن يوجد بدون مكان هي مسألة نقاش فلسفي وعلمي.

وفقًا لنظرية النسبية لـ A.آيزنشتاين لبرت أينشتاين، المكان والزمان مرتبطان في كيان واحد يسمى الزمكان. ينحني الزمكان بالكتلة والطاقة، مما يؤدي إلى ظهور الجاذبية. وهكذا، فإن نظرية النسبية تقترح أن المكان والزمان لا ينفصلان، وأن أحدهما لا يمكن أن يوجد بدون الآخر.

ومع ذلك، قدم بعض الفلاسفة مثل بيرغسون فكرة أن الزمن يمكن أن يوجد بشكل مستقل عن المكان. إنهم يقدمون أن الوقت كيان مجرد موجود في العقل البشري، وليس في العالم المادي. وفقًا لهذا المنظور، يعد الفضاء شرطًا ضروريًا لإدراك الزمن، ولكن لايمكن أن يوجد الزمن بدون المكان.

في نهاية المطاف، لا تزال مسألة ما إذا كان الزمن يمكن أن يوجد بدون مكان مفتوحة للنقاش ولم يتم حلها بشكل نهائي بعد.

كيفية التمييز بين الزمن الموضوعي والزمن الذاتي؟.

يمكن النظر إلى الزمن من جانبين مختلفين: الزمن الموضوعي والزمن الشخصي أو الذاتي.

الزمن الموضوعي هو الزمن الذي يتم قياسه بالساعات أو ساعات الإيقاف، ويتم تسجيله بشكل مستقل عن التجربة الذاتية للفرد. على سبيل المثال، جهاز توقيت المطبخ الذي يحسب الدقائق والثواني يقيس الوقت المستهدف.

في المقابل، يعتمد الوقت الشخصي على الخبرة الفردية وقد يختلف من شخص لآخر. على سبيل المثال، قد يبدو أن الزمن يمر بشكل أبطأ أثناء مهمة مملة منه أثناء نشاط ممتع أو ممتع. لذلك يتأثر الوقت الذاتي بعوامل مثل الحالة العاطفية والانتباه وإدراك الزمن والذاكرة والخبرة.

يعد التمييز بين الزمن الموضوعي والزمن الذاتي أو الشخصي أمرًا مهمًا لأنه يسلط الضوء على أن الوزمن مفهوم معقد ومتعدد الأوجه يمكن إدراكه وقياسه بطرق مختلفة. على الرغم من أنه يمكن قياس الزمن الموضوعي بدقة، فإن الزمن الشخصي يتم نقله بواسطة عوامل داخلية يمكن أن تغير تصورنا للزمن.

باختصار، الزمن الموضوعي قابل للقياس وعالمي، بينما يتم توفير الزمن الذاتي من خلال عوامل فردية ويمكن أن يختلف من شخص لآخر.

الزمن النيوتوني المستمر والوزمن الآينشتايني المتقطع من هو الحقيقي ومن هو الخادع من الزمنين

ليس من الصحيح تصنيف الزمن النيوتوني على أنه زمن متصل ومستمر وزمن أينشتاين متقطع. نظرت الفيزياء النيوتونية إلى الزمن على أنه تدفق عالمي أو كوني، يتدفق باستمرار، بغض النظر عن المادة والطاقة. في المقابل، أحدثت نظرية النسبية لأينشتاين ثورة في فهمنا للزمن من خلال إظهار أن الزمن مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمكان وأن كلاهما يمكن أن يتشوه بسبب وجود المادة والطاقة.

في نظرية النسبية، الزمن نسبي ويعتمد على السرعة والجاذبية. تقدم النسبية أيضًا فكرة دمج الزمان والمكان في كيان واحد يسمى الزمكان. الزمكان هو بنية هندسية يمكن ثنيها بوجود المادة والطاقة.

وهكذا، يُنظر إلى نظرية النسبية لأينشتاين على أنها تحسن في فهم الزمان والمكان على الفيزياء النيوتونية، وليس كمعارضة. توفر نظرية النسبية فهمًا أكثر اكتمالًا ودقة للزمان والمكان بما يتوافق مع الملاحظات والتجارب.

في الختام، الزمن النيوتوني ليس وهمًا، ولكنه تقدير تقريبي مفيد لوصف الظواهر على نطاق عياني. ومع ذلك، أظهرت نظرية النسبية لأينشتاين أن فهم الزمان والمكان كان أكثر تعقيدًا مما تغير، ومهدت الطريق لفهم الكون بشكل أفضل.

لماذا الجاذبية تشوه الوزمن؟

تشوه الجاذبية الزمن بسبب التفاعل بين المادة والزمكان. وفقًا لنظرية النسبية لأينشتاين، فإن وجود المادة والطاقة ينحني الزمكان، مما يؤثر على قياس الزمن اعتمادًا على مكانك في ذلك الزمكان المنحني.

الجاذبية هي في الواقع مظهر من مظاهر انحناء الزمكان الناجم عن وجود المادة أو الطاقة. كلما زادت كتلة الجسم أو طاقته، زاد انحناء الزمكان حول هذا الجسم. يمكن أن يؤثر هذا الانحناء في كيفية انتقال الضوء، ولكن أيضًا في كيفية مرور الزمن. بعبارة أخرى، يمكن لانحناء الزمكان تعديل تصور الوقت عن طريق تعديل الطريقة التي ينظر بها إلى الأحداث من قبل المراقبين الموجودين في أماكن مختلفة.

على سبيل المثال، سوف يلاحظ مراقب يقع بالقرب من جسم ضخم، مثل الثقب الأسود، أن الزمن يمر بشكل أبطأ مما يمر به مراقب بعيد عن الجسم الهائل. هذا بسبب انحناء الزمكان بالقرب من الجسم الهائل، والذي يجعل الزمن يتباطأ في هذا المكان.

في الختام، الجاذبية تشوه الزمن بسبب انحناء الزمكان الناجم عن وجود المادة والطاقة. يمكن أن يؤثر هذا الانحناء على كيفية إدراك الأحداث من قبل المراقبين الموجودين في أماكن مختلفة ويمكن أن يبطئ أو يسرّع الزمن اعتمادًا على قوة الجاذبية.

كيف نصف الزمن في فيزياء الكم

في فيزياء الكم، يعتبر الزمن معيارًا أساسيًا في وصف الأنظمة الكمومية. في هذه النظرية، غالبًا ما يتم التعامل مع الزمن على أنه عامل أو كائن رياضياتي يعمل على الحالات الكمية. على عكس الفيزياء الكلاسيكية، حيث يعتبر الزمن كمية مستمرة، في فيزياء الكم غالبًا ما يتم تحديده ومعاملته كمتغير منفصل.

سلطت فيزياء الكم الضوء أيضًا على وجود ظواهر مثل النفق والتشابك الكمومي، والتي لها آثار مهمة على فهمنا للزمن. على سبيل المثال، يشير النفق إلى أن الجسيمات يمكن أن تظهر تلقائيًا عبر حاجز محتمل، على الرغم من أنها لا تملك الطاقة الكافية للقيام بذلك بموجب القوانين الكلاسيكية للفيزياء. من ناحية أخرى، يشير التشابك الكمومي إلى أن الجسيمات البعيدة يمكن ربطها بطرق تتحدى فهمنا الكلاسيكي للزمن والسببية.

باختصار، كشفت فيزياء الكم عن ظواهر تتحدى فهمنا الكلاسيكي للزمن وتطور نماذج رياضياتية أكثر تعقيدًا لوصفها.

لا بد من شرح العلاقة بين الكون وسهم الزمن بالتفصيل

سهم الزمن هو مفهوم يصف الاتجاه الذي يتدفق فيه الزمن. وفقًا للفيزياء، فإن سهم الزمن هو نتيجة للقانون الثاني للديناميكا الحرارية، الذي ينص على أن الانتروبيا في نظام معزول لا يمكن إلا أن تزيد أو تظل ثابتة. بعبارة أخرى، يميل اضطراب أو فوضى النظام إلى الزيادة بمرور الزمن.

لذلك فإن سهم الزمن مرتبط بتطور الكون. منذ الانفجار العظيم، كان الكون يتوسع ويتغير باستمرار. وفقًا لنظرية توسع الكون، كانت هناك نقطة في الماضي كان فيها الكون عند كثافة ودرجة حرارة لا نهائيتين، تسمى الانفجار العظيم. في هذا الزمن، تمدد الكون منذ ذلك الحين وبُرد عدة مرات، حيث مر بمراحل تشكل النجوم والمجرات والثقوب السوداء والتركيبات الكونية الأخرى.

يرتبط سهم الزمن ارتباطًا وثيقًا بتطور الكون هذا. هذا يعني أن الكون بدأ في حالة عالية جدًا، قبل أن ينتقل إلى حالة من الانتروبيا المتزايدة. هذا يعني أن الهياكل الأكثر تعقيدًا في الكون، مثل الكائنات الحية، نشأت من حالة أولية عالية المستوى وشكلتها القوى الفوضوية التي أدت إلى زيادة الانتروبيا.

يمكن أن يرتبط سهم الزمن أيضًا بجوانب أخرى من الكون، مثل الجاذبية وتمدد الكون. على سبيل المثال، تُظهر نظرية النسبية العامة لأينشتاين أن الجاذبية يمكن أن تبطئ الزمن وتؤثر على سهم الزمن. وبالمثل، يمكن أن يؤثر توسع الكون أيضًا على سهم الزمن. إذا استمر الكون في التوسع إلى أجل غير مسمى، فقد يكون هناك زمن في المستقبل تصل فيه الإنتروبيا إلى الحد الأقصى المطلق، مما قد يكون له آثار على سهم الزمن.

باختصار، يرتبط سهم الزمن بتطور الكون وزيادة الانتروبيا. ولذلك آثار مهمة على فهمنا لعلم الكونيات والفيزياء، ويظل موضوعًا بحثيًا نشطًا للفيزيائيين وعلماء الكونيات.

***

د. جواد بشارة

(إن ثمة طريق واحد للإعلام الصحيح وهو الشجاعة، وليس الاستمرار في إغراق الناس بوحل الأكاذيب)... الصحفي الأمريكي الشهير "بوب وورد"، المتهم بافشاء أسراء فضيحة ووترغيت

يحتل الإعلام في الظروف الراهنة، أهمية كبيرة، نظرا لدوره في تكوين الرأي العام وتشكيل موقف الفرد من الأحداث السياسية والثقافية والإجتماعية، لذلك نلاحظ صراعاً متعدد الأشكال من قبل قوى الهمينة الدولية، من أجل السيطرة عليه وتوجيهه، بما يخدم مصالحها الخاصة بعيداً عن المعايير الأخلاقية.

تهدف هذه الدراسة إلى القاء الضوء على العلاقة بين سيطرة كبار رجال الأعمال على وسائل الإعلام والابتعاد عن المعايير الاخلاقية في العمل الإعلامي من خلال محاور ثلاث، الأول، الإعلام الحر والمعايير الاخلاقية، والثاني، الإعلام الغربي والمعايير الأخلاقية في ظل الليبرالية الجديدة، والثالث، موقف الإعلام الغربي خلال الأزمة الأوكرانية والمعايير الأخلاقية.

المحور الاول: الإعلام الحر والمعايير الاخلاقية

في البداية أود أن أشير إلى أن مفهوم المعايير الأخلاقية التي ترد في هذه الدراسة، تعني الاعراف والقواعد غير المكتوبة، تنشأ وتتطور مع النشاط الاجتماعي للأفراد، وتحدد معايير السلوك للفرد دون وجود قواعد قانونية تضبط السلوك الإنساني، تقوم على التعاون والمساعدة الاجتماعية والنزاهة والاخلاص بالعمل المهني والشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، وهي أشمل من القواعد القانونية التي تنظم سلوك الفرد مع أفراد المجتمع ومؤسساته ويعاقب القانون على عدم الالتزام بها وخرقها لأنها " المعايير الاخلاقية" تشمل واجب الإنسان تجاه غيره ومحيطة الاجتماعي والطبيعي وتوجه نواياه وأهدافه.

يمكن تكثيف ما تقدم بان المعايير الاخلاقية هي من تضبط الضمير الإنساني ذاتياً والذي لا يمكن ضبطه بقانون معين.

وفيما يتعلق المعايير الاخلاقية في العمل الإعلامي فأنها تفترض التركيزعلى تناول الاخبار والحوادث التي تهتم بحياة الناس وتوفير أفضل الظروف لتطويرها نحو الأفضل؛ وإيلاء الأهتمام بالمسؤولية الاجتماعية؛ وتوفير الظروف المناسبة لحق الأطراف المختلفة للتعبير عن وجهة نظرها بحرية.

ولتحقيق المهام السابقة ينبغي على وسائل الإعلام الإلتزام بمجموعة من القواعد: 1. التناول الحريص لمصادر المعلومات 2. حماية الشرف والكرامة وعدم انتهاك الحياة الشخصية 3 . عدم تلفيق المعلومات، 4. المسؤولية الاجتماعية.

وقد حدد الباحث البريطاني (ماكويل) المعايير الأساسية لوسائل الإعلام التي ينبغي أن تلتزم بها في أثناء نقلها لقضايا المجتمع وهذه المعايير:

1. الالتزام بالمعايير المهنية في حال تغطيتها للأحداث، والتحقق من المعلومات مثل (الدقة، الحقيقة، الموضوعية والتوازن).

2. تجنب ما يمكن أن يؤدي إلى الجريمة والعنف والفوضى الاجتماعية .

3. الالتزام بتعدد المصادر وتنوع الآراء والالتزام بحق الرد والتنوع في المضمون بما يتيح فرصة الاختيار، وتجعل الفرد قادرا على تكوين آرائه واتخاذ قراراته بناء على معلومات كافية ووجهات نظر متنوعة.

4. اهتمام الوسيلة بالعمل على منع التشويه والتحريف وزيادة الالتزام بالموضوعية والعدالة في تغطية النزاعات العرقية(1).

بناء على ما تقدم، أشير إلى أن المعايير الأخلاقية، بشكل عام، يجري عليها تطور لتكون أكثر وضوحاً سواء من حيث قيمها الإنسانية أو من حيث الالتزام بها من قبل الأفراد لدى قيامهم بالأنشطة المختلفة. وفيما ما يخص العمل الإعلامي، يشكل الالتزام بالمعايير الأخلاقية، أحد أهم متطلبات الاعلام الحر في الظروف المعاصرة لدوره الرئيس في تشكيل الرأي العام في المجتمع، بكون وسائل الاتصال المختلفة أصبحت، عادة حياتية وجزء هام من علاقة الإنسان اليومية بالعالم المحيط به. اضافة لذلك سهولة تفاعل الناس مع المعلومات التي تنقلها، بدون التفحص والتدقيق والنقد، فيصبح من السهولة تضليل المواطنيين واتخاذ مواقف تجاه الأحداث بناء على معلومات مفبركة لا تستند على وقائع حقيقية.

وفيما يخص علاقة الإعلام بالمعايير الإخلاقية، أشير إلى أن الإعلام الحر الذي يعتبر أحد اهم انجازات الليبرالية خلال فترة صعودها التقدمي، تطور نتيجة التزامه بالمعايير الإخلاقية، بحيث أصبح وسيلة رئسية بيد الشعوب لفضح الممارسات الاستبدادية التي تمارسها الأنظمة الدكتاتورية، وكسب تعاطف الرأي العام وتحريك نشاطه للضغط على الحكومات لتلبية حقوق المواطنين. كما ان الاعلام الحر لعب دورا بالغ الأهمية للضغط على الحكومات الغربية التي مارست العدوان العسكري والإرهاب المتعدد الأشكال ضد البلدان التي تحاول أن تتتهج سياسية وطنية مستقلة تخدم شعوبها وتكافح الهيمنة الغربية على ترواتها وقرارها السياسي المستقل، وقد تجسد ذلك على سبيل المثال، بالضغط على الولايات المتحدة، لايقاف حربها ضد الشعب الفيتنامي وشعوب الهند الصينية في سبعينيات القرن الماضي، اضافة إلى انهاء بقايا السياسية الاستعمارية للدول الاوربية في أفريقيا، وكذلك انهاء سياسة التمييز العنصري في زيمباوي "روديسيا الجنوبية" وجنوب أفريقيا ومناصرة قضية الشعب الفلسطيني في نضاله لنيل حقوقه المشروعة وكذلك الوقوف مع الشعب الكوبي ضد الحصار والعقوبات الأمريكية التي فرضت عليه بعد انتصار الثورة الكوبية 1961. كما لعب الإعلام الحر دوراً مرثراً في اسناد كفاح حركات التحرر الوطني في كافة بقاع العالم.

لقد أفرز تطور الإعلام الحر جملة من المعايير الاخلاقية الرئيسية التي تلتزم بها وسائل في تغطيتها للاحداث منها: أولا، الحقيقة والحيادية في عرض الأحداث، والثانية، الموضوعية في التحليل، والثالثة، نقل وجهات النظر المتعددة للمتلقى. إن الالتزام بهذه المعايير جعل وسائل الاعلام تبتعد عن التضليل والدقة في نشر المعلومات التي يحصل عليها الصحفي دون تزييف واحترام حقوق الإنسان والدفاع عنها ضد الانتهاكات التي تتعرض لها. وقد جرى تثبيت هذه المبادئ المهنية في الأنظمة التي تحكم عمل منظمات الإعلاميين في مختلف دول العالم، بحيث أصبح عدم الالتزام بالمعايير الاخلاقية في العمل الإعلامي يؤدي إلى المساءلة القانونية سواء للصحفي او للمؤسسة الإعلامية. لقد أدى هذا التطور في وظيفة وسائل الإعلام في نشر المعلومات الصحيحة عن الأحداث إلى أن تثبت كثرة من الدول المتطورة في دساتيرها حرية الإعلام في الحصول على المعلومات، بعد تعاظم أهمية وسائل الإعلام في التأثير على حركة المجتمع بما تملكه من تأثير ثقافي وسياسي واقتصادي، وبهذا أصبح يطلق على وسائل الإعلام " سلطة رابعة" بعد ان أصحبت وسائل الإعلام تعتمد في في عملها على تقديم المعلومات الصحيحة والحقائق كما هي، وعرض الأخبار الصادقة بأمانة وموضوعية، والأفكار المتعددة والحوار الحر المفتوح، والالتزام بتقديم المصادر التي تستند عليها، وترك الحرية للمتلقي بالإقناع وتكوين الرأي واتخاذ المواقف من الاحداث والأفكار المعروضة.

لقد اكتسب الإعلام الحر هذه المكانة بين السلطات نتيجة القيام بمهامه في مراقبة عمل السلطات وكيفية ممارستها لوظائفتها وكشف الأخطاء والسلبيات وتقديم الحلول لمعالجة السلبيات، اضافة لنقد الظواهر الاجتماعية السلبية والدفاع عن حقوق المواطنين، الامر الذي جعل من الإعلام الحر قادرا على تكوين رأي عام ضاغط على السلطات الحاكمة لتعديل سلوكها والقيام بالوظائف الموكلة لها في تحقيق مصالح المواطنين.

بمعني إن المعايير الأخلاقية التي اكتسبتها وسائل الإعلام الليبرالية، اعتمدت على مصداقيتها في نقل الأحداث وصدقية المصادر، بحيث أصبحث وسائل الأعلام مصادر أولية للمعلومات ذات قدر كبير من المصداقية.

ورغم أن تلك النجاحات، إلى انه كثير ما يجري خرقها أو الالتفاف عليها، بعد ان أصبحت وسائل الإعلام أداة في الصراع الإيديولوجي والسياسي بين القوى المتنفذة في الساحة الدولية للتعبير عن مصالحها الخاصة. ومما يسهل عملية الالتفاف على المعايير الاخلاقية للإعلام الحر، احتكارها من قبل قلة من كبار الرأسماليين، وتدخل المالكيين في إدارتها وتوجيهها، خاصة تلك التي تمتلك تأثيراً كبيراً، كوسائل الاتصال الاجتماعي (2).

إن سهولة الوصول إلى وسائل التواصل الإعلامي الذي ينتج عنه تدفق هائل من المعلومات والاخبار التي يصعب التدقيق من مصداقيتها، وهيمنة الاحتكارات الإعلامية على شركات صناعة الأخبار ووسائل البث الفضائي خلق واقعاً جديداً، أدى إلى محاصرة الإعلام الحر وصعوبة تدفق المعلومات التي ينشرها إلى المواطنين. إن هذا الواقع يؤكد ضرورة الالتزام بالمعايير الأخلاقية في النشاط الإعلامي الحر.

المحور الثاني: الإعلام الغربي والمعايير الأخلاقية في ظل الليبرالية الجديدة

أدى الكساد الكبير خلال 1928 ـ 1929 إلى نشوء أزمة اقتصادية واجتماعية نتج عنها زيادة مستوى الفقر والحرمان لفئات كبيرة من السكان نتيجة الركود الاقتصادي والتضخم وارتفاع تكاليف المعيشة والبطالة الواسعة، الأمر الذي دعى النخب الثقافية والفكرية والسياسية للتفكير بمعالجة نتائج الأزمة الاقتصادية والدعوة لتدخل الدولة لاعادة التوازن في مستوى الدخل والتخفيف من آثار الأزمة على العمال والكادحين والفئات الوسطى، فجرى تبني النظرية الاقتصادية الكينزية التي تدعو إلى ضرورة تدخل الدولة لضبط حركة السوق ومراقبة عمل الشركات والحد من سياستها الخاطئة التي قد تسبب ضررا للاقتصاد والمجتمع. إضافة إلى إدارة الدولة المباشرة للخدمات الاجتماعية الرئيسية في قطاعات الصحة والاتصالات والمواصلات والتعليم.

جرى التخلي عن المعاييرالاقتصادية والاجتماعية التي تميزت فيها الليبرالية الكلاسيكية وتطبيق أفكار النظرية الاقتصادية الكينزية في الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها من الدول الرأسمالية الأوربية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 حتى أواسط السبعينييات من القرن الماضي. ونتج عن ذلك، في المجال الاجتماعي، ظهور دولة الرفاه الاجتماعي في العديد من الدولة الرأسمالية الغربية، وإزدهرت بشكل خاص في دول شمال أوربا، تحت تأثير قوة المنظمات العمالية والحركات الاجتماعية والسياسية المطالبة بالعدالة والمساواة والمنافسة مع المعسكر الأشتراكي.

لقد عارض التيار الليبرالي المحافظ تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وقدم مفكروه العديد من الذرائع، جوهرها يقوم على ذريعة إن تدخل الدولة يؤدي إلى الحد من حرية نشاط المستثمرين، واستطاع هذا التيار من التأثيرعلى النخب الحاكمة في الولايات المتحدة وبريطانيا، التي قامت بتطبيق الأفكار طرحها أبرز منظريه، البروفيسور فريدريك فون هايك وتلميذه ميلتون فريدمان من جامعة شيكاغو(3)، اللذان طالبا بالعودة إلى الرأسمالية الكلاسكية والتخلي عن الكينزية، بنقل مسؤولية تنظيم الاقتصاد من الدولة إلى الشركات الكبرى وخصخصة القطاعات الحيوية التي تملكها وتديرها الدولة ونقل ملكيتها إلى القطاع الخاص وتخلى الدولة عن سياسة الرفاه الاجتماعي وتقليل الإنفاق الحكومي لتعزيز دور القطاع الخاص(4).

لجأت الليبرالية الجديدة ونخبها الحاكمة إلى الإعلام ليقوم بمهمة التضليل على نهجها الساعي للتخلي عن سياسة الرفاه الاجتماعي ودور الدولة في تحقيقه والترويج لسياستها الاقتصادية والاجتماعية الجديدة الخالية من المعايير الاخلاقية، التي تقوم على حرية الأسواق وحرية انتقال البضائع والخادمات ورأسمال، على الصعيدين الوطني والدولي، بدون رقابة من المجمتع، اضافة إلى استخدام القوة لفرض سياستها في العالم.

لقد جوبه النهج السابق بمعارضة واسعة من قبل منظمات المجتمع المدني ونقابات العمال والاحزاب الإشتراكية والديمقراطية، لذلك ازدادت حاجة النخب الحاكمة إلى وسائل الإعلام لتقوم بمهمة إدارة الرأي العام لتحقيق هدفين، الأول، اضعاف قوى المعارضة لنهج الليبرالية الجديدة، والثاني، رضوخ الرأي العام لسياسة السلطات الحاكمة، على الرغم بعدم قناعته، من خلال خلق مخاوف وهمية، التهديد الشيوعي، الخطر الإسلامي، الإرهاب الخارجي، التحدي الصيني، التهديد الروسي بعد شن الحرب ضد أوكرانيا (5). وهذه الأهداف لا تتحقق بدون السيطرة المباشرة على وسائل الإعلام عن طريق توسيع الاستثمارات المالية، فقام رجال الأعمال المرتبطين بالنخب الليبرالية الحاكمة بشراء عدد من وسائل الإعلام الكبري في عدد من البلدان الرأسمالية، فأصبح الإعلام المعولم يمثل قوة اقتصادية كبيرة حيث " بلغت استثمارات صناعة المعلومات تريليوني دولار عام 1995، وفي نهاية القرن (عام 2000) بلغت 3 تريليونات دولار، بعد إن كانت هذه الاستثمارات لا تتجاوز 350 مليار دولار عام 1980" (6) . وخلال الفترة اللاحقة شهدت الاستثمارات قفزة كبيرة، فقد زادت استثمارات الإعلام والإعلان على مستوى العالم بنسبة 5.6 بالمئة في 2020، مقارنة بالعام السابق، حيث وصلت الاستثمارات إلى 605 مليار دولار(7).

لقد ضمنت هذه الاستثمارات سيطرة الطغم المالية المباشرة على وسائل الإعلام، الصحف الكبرى واهم الشبكات الإعلامية ووكالات الأنباء، وتوجيهها لخدمة مصالحها(8). كذلك تمت السيطرة غير المباشرة، على وسائل الإعلام، من خلال تحكم الشركات الكبرى بمصادر التمويل الذي يأتي من الاعلانات التي من المستحيل أن تستطيع وسائل الإعلام الاستمرار بالعمل بدونها، وهذا يعني أنه من غير الممكن أن تسمح الشركات الكبرى بنشر توجهات تخالف مصالحها، وبالتالي ازدهاروسائل الإعلام الصفراء التي تعتمد على الإعلان كمصدر اقتصادي رئيسي(9).

ولم تسلم الصحف المستقلة من الأحتواء من قبل الشركات الإعلامية الكبرى ورجال الإعمال، فصحيفة Liberation الفرنسية ذات الاتجاه اليساري تخضع حاليا لمجموعة روتشيلد المصرفية وصحيفة Le Figarou الفرنسية اليومية أصبحت مملوكة لمجموعة داسو الصناعية(10). وكذلك صحيفة الاندبندنت التي أشتراها الملياردير الروسي ألكسندر ليبيديف(11).

طبعا سيطرة كبار الرأسماليين على وسائل الإعلام لم تقتصر على الدول الغربية؛ بل شمل الدول الرأسمالية في أسيا، على سبيل المثال، استحواذ مجموعة «أداني غروب» على شبكة «نيودلهي تليفيجن» الإعلامية البارزة التي يمتلكها الملياردير غواتام أداني، الذي يعد ثالث أغنى شخص في العالم(12).

تكثيفاً، أصبحت صناعة الرأي العام من المهام الرئيسية لوسائل الإعلام في عصر العولمة " بمعنى جعل الرأي العام يوافق على أمور لا يرغبها بالأساس عن طريق استخدام وسائل دعائية"(13)، إن هذا التوجه من وسائل الإعلام يتعارض مع أهم المبادئ الاخلاقية التي يستند عليها الإعلام الحر، في عرض المعطيات للرأي العام عن الأحداث وتترك له حرية تكوين الموقف.

بعض مظاهر تخلي الإعلام الغربي عن المعايير الأخلاقية

ـ انساق الإعلام الغربي، في ظل نظام القطبية الواحدة، وراء النظريات والأفكار المتعصبة لمفكري الليبرالية الجديدة، حول آفاق التطور العالمي، من خلال التناغم " أي الإعلام الغربي" مع نظرية نهاية التاريخ، التي أعلنت انتصار الحضارة الغربية ونموذجها السياسي التي يجب أن يسود في كل مكان، سواء بالفكر والسياسة أو بالقوة أذا تطلب الامر وبالتالي اعطاء لكل ما غربي صبغة عالمية. والترويج لنظرية " الفوضى الخلاقة" كطريق لتحقيق الديمقراطية من خلال تفكيك الدول الوطنية واعادة بنائها بشكل يخدم الهيمنة الغربية.

وفيما يخص تنوع الثقافات لدى الشعوب، ساهم الإعلام المعولم بنشر مفاهيم الكراهية والحقد، بدل المحبة والتسامح والسلام وتعميم المعرفة والمعايير الاجتماعية والثقافية الإيجابية والتعريف بثقافة الشعوب والتعاون المشترك القائم على التنوع والاعتماد المتبادل لخير البشرية، مستلهما أفكاره من نظرية صراع الحضارات العنصرية، لصومائيل هنتغون، التي قسمت العالم إلى ثقافات متصارعة غير قابلة للتعايش المشترك، تتصارع فيما بينها من أجل التفوق، مؤكداً الغلبة في هذا الصراع لصالح الثقافة الغربية.

ـ لقد أدت سيطرة كباررجال الأعمال المرتبطين بعلاقات وثيقة بالنخب السياسية الحاكمة في الدول الرأسمالية على وسائل الإعلام، إلى ظهور نوع جديد من وسائل الإعلام الجماهيري، الإعلام التجاري السياسي، الذي يقدم الترفيه المجاني الشيق الممول من كبار رجال الأعمال وبنفس الوقت تسويق سياسة الليبرالية الجديدة من خلال تبني التفسيرات التي تقدمها السلطات الحاكمة حول قضية معينة، خاصة بعد نشوء الإعلام الفضائي، حيث أصبحت الفضائيات أداة للتنشئة السياسية تهدف إلى تخطيط السلوك السياسي والمواقف الاجتماعية والثقافية وبالتالي أصبحت أداة " مثالية في صناعة الثقافة القمعية التي تضمن سيطرة القيم الاجتماعية والاستهلاكية الرأسمالية"(14). إن هذا التحول شكل نهاية الإعلام المستقل، وبالتالي ابتعاده التدريجي عن المعايير الأخلاقية الذي تعمق في ظل نظام القطبية الواحدة.

ـ تسويق النموذج الأمريكي للديمقراطية، باعتباره المثال الذي ينبغي الاقتداء به من المجتمعات التي تتخلص من السلطات الاستبدادية والتغاضي عن الكوارث التي نتجت عن فرض تطبيقها في بلدان تختلف فيها البيئة الثقافية والاجتماعية كالعراق، على سبيل المثال، الذي جرى فيه تسويق مفهوم ديمقراطية المكونات، الطائفية القومية. كما روجت وسائل الإعلام المعولم لمفهوم مزيف عن الديمقراطية يقوم على اختزالها بجانبها السياسي، وأهمال جانبها الاجتماعي الذي يعرقل غيابه قدرة الفئات الاجتماعية الكادحة والفقيرة من التمتع الفعلي بالديمقراطية، وبالتالي السماح لقلة من المجتمع متمثلة بالإغنياء لإدارة العملية الديمقراطية بما يوفر استمرار سيطرة هذه الفئة على السلطة عبر الشرعية الإنتخابية. هذا جانب ومن جانب آخر نلاحظ ترويج وسائل الإعلام المعولم لدول معينة، باعتبارها نموذجا للديمقراطية، كدولة إسرائيل، على سبيل المثال، بهدف التغطية على إرهاب الدولة الذي تمارسة ضد الشعب الفلسطيني وجيرانها من الدول العربية، بينما يجري تشوية تجارب ديمقراطية لا تطبق النموذج الغربي، كتجربة الصين الشعبية وكوبا وفنزويلا، على سبيل المثال، التي نجحت، رغم بعض النواقص في الجوانب السياسية، في توفير قدر معقول من العدالة الاجتماعية في مجتمعاتها من خلال اعطاء الديمقراطية بعدها الاجتماعي.

ـ الترويج للأكاذيب التي تطلقها السلطات الرسمية في الدول الرأسمالية، بخصوص الكوارث البيئية والأزمات التي تواجه البشرية. وهنا نذكر مثالا لهذه الأكاذيب عن جائحة كورونا، حيث تم الترويج لأكاذيب الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترمب، حول الجائحة التي بلغت(400) كذبة حسب جريدة الغارديان البريطانية(15). كما تمثل الموقف اللاخلاقي للإعلام الرأسمالي بعدم تسليط الأضواء على كيفية تعامل الدول الرأسمالية اللا إنساني مع الجائحة الذي اتسم بنظرة وطنية ضيقة بدلاً من التعاون الدولي، إضافة إلى الأنانية غياب العدالة في توزيع اللقاحات واللوزام الطيبة، التي حصلت الدول الغنية على الحصة الأساسية منها في حين تركت الدول الفقيرة تواجه الجائحة بامكاناتها المحدودة، وحرمان ملايين الناس من تلقي اللقاح.

عموما روجت كثرة من وسائل الإعلام المعولم للموقف الإيديولوجي للنخب الحاكمة في الدول الغربية الكبرى من الجائحة، وقد عبر عن ذلك، أنتوني فاوتشي، مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية الأميركي بقوله: تأثرت القرارات المتعلقة بتدابير الصحة العامة مثل ارتداء الأقنعة والتطعيم بلقاحات فعالة وآمنة للغاية، بمعلومات مضللة والآيديولوجيات السياسية(16).

ـ إخفاء الحقائق عن موقف الرأي العام من قضايا معينة، وبهذا الصدد يشير الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي، إلى ان الإعلام الأمريكي لم يشر إلى نتائج الاستفاءات التي قامت بها مراكز الأبحاث عن أكثر الدول تهديدا للسلام العالمي والتي أظهرت بأن الخطر الأكبر يأتي من الولايات المحتدة(17). كما يجري التعتيم على المعاناة الهائلة للناس في مناطق الصراع كما في فلسطين وسوريا واليمن وشرق أفريقيا وغيرها من الدول التي تعرضت لكوارث طبيعية، مقابل ذلك تجري تغطية واسعة للمعاناة الأوكرانية، وقد انتقدت أزدواجية المعايير في الإعلام الغربي، آمي فيشر»، من «منظمة العفو الدولية بالقول: بأنه من الواضح أنه لا توجد طريقة للاهتمام بهؤلاء اللاجئين الذين «يغلب عليهم السواد»، بخلاف الأوكرانيين الذين يتصدرون عناوين الصحف الرئيسية لمجرد وجوههم البيضاء" (18).

ـ يركز الإعلام الغربي على النتائج وليس على الأسباب، على سبيل المثال عندما يتطرق إلى الزيادة الهائلة في اعداد اللاجئين والمشردين والنازحين في العالم، لا يتناول الأسباب التي أدت إلى هذه الزيادة، الناتجة عن عدم التكافؤ في العلاقات الاقتصادية بين الدول الغنية والفقيرة، والعقوبات الاقتصادية والغزو الغربي لبعض البلدان، والتدخل الغربي، في الشؤون الداخلية للدول الوطنية، اضافة إلى الاستبداد السياسي. وكذلك فيما يخص تناول ظاهرة الإرهاب، حيث نلاحظ تغطية واسعة للأعمال الأرهابية التي تقوم بها المنظمات المتطرفة، في حين يجري التعتيم على الأسباب الموضوعية لنشوء هذه الظاهرة، التي تشترك في كثير منها، مع أسباب زيادة اعداد اللاجئين والمشردين، اضافة إلى أسباب أخرى تتمثل، بنمو اليمين المتطرف في البلدان الغربية، وتوفر بيئة آمنة للعناصر الإرهابية في الدول الغربية، والمساهمة المباشرة في تأسيس المنظمات الإرهابية وتقديم مختلف أشكال الدعم لها(19).

كما ينساق الإعلام مع ادعاءات الموقف العنصري لليمين المتطرف من قضية اللاجئين وتحميلهم مسسؤلية البطالة وانتشار الجريمة والعنف في المجتمعات الغربية في حين يختلف الموقف من اللاجئين الأوكرانين حيث لاحظنا نظرة تتسم بالعنصرية حيث تردد وسائل الإعلام الغربية: عبارة كيف يحدث ذلك لمواطنين أوروبيين بيض البشرة ويمتلكون سيارات، وليسوا من مواطني الشرق الأوسط أو أصحاب البشرة السمراء؟»(20).

ـ الموقف اللا اخلاقي من المخاطر التي تهدد البشرية نتيجة التغيير المناخي كتلوث البيئة ومشاكل التصحر والجفاف والكوارت الطبيعية، والتي أصبحت احد أهم اهتمامات الرأي العام العالمي بفضل تسليط وسائل الإعلام الحرعليها، حيث نلاحظ، في الآونه الأخيرة، ليس تراجع اهتمام الإعلام الغربي بمخاطرها فقط؛ بل عدم انتقاد موقف الدول الغربية ومساعيها لتخريب التعاون العلمي الدولي، حيث تم قطع التعاون العلمي بين الدول الغربية وروسيا، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي لا يمكن الاستغناء عنه حسب رأي العلماء الغربيين(21).

ـ الموقف من قضية السلام والحرب وسباق التسلح

لقد خاضت البشرية صراعات وحروب أدت إلى خسائر بشرية ومادية هائلة، إلى أن تمكنت قوى السلام ومن ضمنها الإعلام الحر من التوصل إلى مبدأ التعايش السلمي بين المعسكرين المتصارعين، الإشتراكي والرأسمالي في سبعينيات القرن الماضي، ولكن بعد انهيار المعسكر الإشتراكي أصبح الموقف من قضايا السلام والحرب وسباق التسلح، يحتل أهمية ثانوية من اهتمامات الإعلام المعولم، على الرغم من المخاطرالكبيرة التي تهدد السلام العالمي في ظل نظام القطبية الواحدة. وهذا ما تدلل علية العديد من المعطيات، منها:

تراجع دور القطبية الواحدة في حل الأزمات والمخاطر التي تهدد السلام العالمي، نتيجة انتشار الحروب الأهلية في معظم القارات والتي تبلغ (54) نزاعا مستمرة لحد الآن(22).

زيادة سباق التسلح على المستوى العالمي حوالي 100% خلال العشرين سنة الأخير حيث ارتفع الإنفاق على التسلح من (1.1) ترليون دولار عام 2000 إلى (2.113) ترليون دولار عام 2022، منها 800 مليارإنفاق الولايات المتحدة (23).

تراجع دور الرأي العام المعارض للحرب واستخدام القوة في العلاقات الدولية

إن سبب ذلك يعود إلى الدور الذي لعبه الإعلام المعولم من خلال الترويج للفكرة التي تزعم بأن الحروب التي تشنها الولايات المتحدة والدول الغربية المتحالفة معها، هدفها درء المخاطر الخارجية والدفاع عن المصالح الوطنية والقيم الغربية، لذلك لم تلاحظ معارضة فعالة من قبل الرأي العام للغزو والتدخل العسكري في عدد من البلدان، من قبل التحالف الغربي، بالمقارنة مع الحرب الفيتنامية على سبيل المثال.

المحور الثالث: موقف الإعلام الغربي خلال الأزمة الأوكرانية والمعايير الأخلاقية

في البداية أشير إلى أنه ليس هناك مبررات أخلاقية إلى لجوء روسيا إلى الحرب كوسيلة لحل المشاكل بينها وبين أوكرانيا والدول الغربية، باعتبارها حرب بين الدول الرأسمالية من اجل المصالح الخاصة واعادة توزيع مناطق النفوذ بالقوة بين روسيا والدول الغربية.

بعد إندلاع الحرب الروسية الأوكرانية بقليل، ظهر اتجاهان لإنهاء الحرب، الاول، الضغط من أجل إيقاف الحرب عن طريق المفاوضات، والاتجاه الثاني، مواصلة القتال حتى سقوط " آخر أوكراني" وتوقع المواجهة النووية حسب تصريح، تشارلز فريمان، السفير الأمريكي السابق في السعودية(24). وكان يبدو ان الاحتمال الأول، قابل للتحقيق، عندما توصل الطرفان الروسي والأوكراني إلى وثيقة قدمها الوفد الأوكراني، في اجتماع وزيري الخارجية الروسي والأوكراني في اسطنبول، بعد أقل من شهرعلى بداية الحرب، تنص إلى حيادية أوكرانيا مع ضمانات دولية وحل قضية الدونباس من خلال المفاوضات وتأجيل النظر بقضية شبه جزيرة القرم لفترة طويلة وانسحاب القوات الروسية. وقد تخلى الجانب الأوكراني عن مسودة الاتفاق ورفض مواصلة المفاوضات، بطلب من الولايات المتحدة وبريطانيا، مقابل تقديم الدعم العسكري والمالي لأوكرانيا لمواصل القتال وهزيمة روسيا، وبالتالي السير بالاتجاه الثاني، الذي أدى إلى نتائج كارثية على على الوضع الدولي.

إن دعم الاحتمال الثاني لتطور الحرب الروسية الأوكرانية من قبل الولايات المتحدة وأغلب التحالف الأطلسي، يرجع إلى طبيعة النخب الحاكمة التي تسعى لخدمة كبار رجال الأعمال التي تزيد ثرواتهم عبر زيادة الانفاق العسكري ولا يتم تحقيق ذلك إلا عبر تشجيع الحروب التي يخلق حالة من التوتر على الصعيد الدولي وبالتالي نشوء بيئة، تزداد فيها الحاجة إلى المعدات العسكرية، وهذا ما نلاحظه، بشكل خاص، في ظروف الحرب الروسية الأوكرانية حيث بلغت المساعدات المدنية والعسكرية من دول حلف الأطلسي 120 مليار دولار في عام 2022 وتعهدات أولية بقيمة 57.6 مليار دولار لعام 2023(25)، اضافة إلى زيادة كيبرة في الإنفاق العسكري للدول الرئيسية في التحالف الغربي" الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا"(26).

من بديهيات المعايير الأخلاقية ان تقوم وسائل الإعلام بتسليط الضوء على أهمية الحل السلمي والأسباب التي تعرقل المفاوضات وتخلي أوكرانيا عن وثيقة الحل السلمي التي قدمتها؛ وبدلا من هذا التوجه الأخلاقي وقت الأزمات التي تهدد السلم العالمي، تماهي الإعلام المعولم مع الخطاب الرسمي للحكومات الغربية واصبح مروجاً لخطاب الحرب الذي يقوم على تقديم المزيد من الأسلحة من أجل استمرار الحرب، والمساهمة بتدجين المواطنين في الدول غربية، لقبول ما لا يرغبون به، من خلال التهويل من الخطر الروسي، بتغطية إعلامية ضخمة لانجد فيها عبارة واحدة تدعو لتحقيق السلام عبر المفاوضات؛ بل يجري الترويج لفكرة استمرار الحرب يؤدي إلى تحقيق النصر على روسيا، متغاضيا عن أن هزيمة دولة نووية بالحرب التقليدية، يزيد من مخاطر احتمالات مواجهة نووية. سنلقي الأضواء على ابتعاد الإعلام المعولم عن المعايير الاخلاقية من خلال المعطيات الآتية:ـ

ـ تسويق الحرب الروسية الأوكرانية، بأنها حرب ضد الديمقراطية، وليس محاولة إعادة تقسيم النفوذ بالقوة، الذي كان قائماً على التراضي بين روسيا والدول الرأسمالية الغربية. وبهذا الموقف تماهي الإعلام الغربي مع موقف الدول الغربية الذي يعتبر الحرب الروسية في أوكرانيا نزاعاً وجودياً بين الديمقراطية والاستبداد، وتقسيم دول العالم إلى دول استبدادية أو ديمقراطية بناء على موقفها من الحرب، فالدول التي لا ينسجم موقفها مع الموقف الغربي من الحرب وأسبابها، جرى وصفها بالاستبدادية، على الرغم من أن هذه الدول، كروسيا والصين، لم يجر أي تغيير على طبيعة نظامها السياسي وأسلوب ممارسة النخب الحاكمة للسلطة، وكانت توصف من قبل بأنها دول ديمقراطية.

ـ أهملت وسائل الإعلام الغربية، مناقشة الأسباب الموضوعية للأزمة الأوكرانية، التي تتعلق بعدم مصداقية الغرب بايفاء تعهداته بعدم توسع حلف الاطلسي شرقاً باتجاه الحدود الروسية، حسب اتفاقية بودابست 1996، وتنفيذ اتفاقية مينسك لحل قضية إقليم الدونباس(27). إن معرفة هذه الحقائق تساعد على خلق رأي عام متوازن رافضا للحرب وبنفس الوقت يضغط على السلطات الحاكمة لايقافها عبر المفاوضات للتوصل إلى تسوية سليمة دائمة تاخذ بنظر الإعتبار الأسباب التي أدت إلى نشوبها، وليس هزيمة روسيا وهو الشعار الذي أصبح " النغمة اليومية " للنخب الحاكمة في البلدان الغربية وإعلامها.

ـ غابت عن الإعلام المعولم الدعوة للسلام وايقاف الحرب وتشجيع المفاوضات، وسادت بدلا عن ذلك سياسة الترويج لفكرة أن هزيمة روسيا في الحرب سيؤدي إلى إبعاد الخطر الروسي عن الدول الغربية، وهذا يتطلب تقديم المزيد من الدعم العسكري والمالي لأوكرانيا، متناسياً " أي الإعلام" إن هذا النهج يؤدي إلى استمرار الحرب لفترة طويلة وتزايد احتمالات تطورها إلى حرب عالمية.

ـ الإهمال المتعمد للنتائج الكارثية التي سببتها الأزمة الأوكرانية، للفئات الفقيرة والكادحة في الدول الغربية، المتمثلة بغلاء متطلبات المعيشة لأغلبية المواطنين، بسبب زيادة اسعار المواد الغذائية والخدمات وارتفاع نسب التضخم وانهيار القدرة الشرائية للفئات الأقل ثراء. وللحد من تذمر المواطنين، تردد وسائل الإعلام أطروحة النخب الحاكمة التي تزعم: إن للحرية ثمن (28).

ـ كما كشفت الحرب الروسية الأوكرانية، المعايير المزدوجة التي يتناول فيها الإعلام الغربي قضية مكافحة الجوع في كثرة من الدول، حيث يشهد العالم انعدام الأمن الغذائي الحاد الذي ارتفع من 135 مليوناً عام 2019، إلى 345 مليوناً عام 2022(29). ففي الوقت الذي أوقفت فيه المنظمات الإنسانية أعمالها في تقديم الأغذية إلى ملايين الجوعى في الدول الأفريقية والأسيوية، بسبب عدم توفر الأموال اللازمة لشراء الأغذية، تقدم الدول الغربية عشرات المليارات من الدولارات إلى أوكرانيا لتمويل الحرب، في حين لم تقدم مساعدة للدول الفقيرة التي عانت أكثر من غيرها من نتائج الأزمة الأوكرانية، بسبب زيارة أسعار الطاقة والمواد الغذائية، على الرغم من تحذيرات منظمة الأغذية والزراعة الدولية من زيادة المجاعة على مستوى العالم بعد الأزمة وبدلاُ من تسليط الأضواء على حقيقة موقف الدول الغربية من قضية المجاعة، روجت وسائل الإعلام المعولم إلى أن الأزمة الأوكرانية هي سبب المجاعة(30). وقد علق على هذا الموقف رئيس المكسيك، أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، بالقول: إن الولايات المتحدة لم تستطع توفير حوالي 4 مليارات دولار لتنمية دول أمريكا الوسطى، لكنها وفرت 65 مليار دولار، (في وقت التصريح)، منها 17 مليار معدات عسكرية، لمساعدة أوكرانيا (31).

ـ لقد وقف الإعلام المعولم موقفاً لا اخلاقيا من الانتهاك الفاضح لكل القيم والمعايير الليبرالية عن حرية الرأي والتبادل الحر للأفكار بين الشعوب، وحماية الاستثمارات الأجنبية وحرية تنقل الأفراد والبضائع وحرية الأسواق والتجارة الحرة، وهي الأسس الرئيسية للعولمة الرأسمالية التي جرى تثبيتها باتفاقية دولية " الجات " التي تعتبر القاعدة القانونية التي تنظم مبدأ حرية التجارة العالمية، حيث لاحظنا تجاهل الإعلام الغربي للعقوبات غير المسبوقة على روسيا، وحجز أموالها في الدول الرأسمالية والتي تقدربأكثر من 300 مليار دولارا أضافة إلى عشرات المليارات لمواطنين روس، وكلها اجراءات تتعارض مع مبادئ العولمة.

ـ تماهى كثير من الإعلاميين والصحف الليبرالية الكبرى مع مضامين الإعلام المعولم، الذي اتسم بوحدانية الرأي في تناول أسباب ومجرياتها الحرب الروسية الأوكرانية، نتيجة حرمان المتلقي من الوصول للرأي والرأي الآخر، الذي يعني حرمان الجمهور من حرية الاختيار بين الآراء المختلفة، الامر الذي يعني تجاوزا للمعايير الأخلاقية التي ميزت مسيرة الإعلام الليبرالي الحر، بحيث أصبحث حرية التعبير سلعة تخضع للعرض والطلب كما يقول أيلون ماسك بعد شرائه شبكة تويتر(32).

أخيراً، أفرزت تغطية الإعلام الغربي للحرب الروسية الأوكرانية كثير من الظواهر التي لا تنسجم مع المعايير الأخلاقية للعمل الإعلامي ومنها:

انتشار ظاهرة " الفوبيا" من الروس، بحيث أصبحت الأصوات العنصرية، تلقى التشجيع وليس الشجب، مثلما جرى التعامل مع تصريح، توماس فريدمان، الذي طالما تغنَّى بحرية الرأي ومفاهيم الليبرالية، أن يطالب بطرد الأطفال الروس من مدارسهم في سويسرا وغيرها، بحجة الضغط على حكومة بلادهم (33). وهذا الموقف هو تكرار للموقف من الإسلام بعد 11سبتمبر حين تم الترويج للفوبيا من الاسلام من خلال الخلط المتعمد بين حقيقة مبادئ الدين الإسلامي والتفسير المتطرف للجماعات الجهادية لتبرير نهجها وأعمالها المتطرفة.

ـ الفبركة والتزييف لحوادث مروعة ارتكبها الجيش الروسي لكسب الرأي العام لقبول العقوبات الاقتصادية ضد روسيا والنتائج السلبية التي تنتج عنها، وبنفس الوقت تأييد تقديم المساعدات الضخمة إلى أوكرانيا بدلا من تقديم المساعدة للمواطنين لتخفيف آثار العقوبات على تدني مستوى المعيشة الناتجة عن التضخم وارتفاع الأسعار(34).

ـ روج الإعلام الغربي إلى معاداة روسيا في الفضاء العام من خلال التحريض ضد كل ما هو روسي كاللغة والثقافة الروسية وحتى الرياضة التي تعتبر بعيدة عن السياسة، باعتبارها وسيلة تعارف ومحبة بين الشعوب، اضافة إلى التحريض لاستخدام العنف ضد الروس، عسكريين ومدنيين، وكل ما يمت بصلة بالشعب الروسي، بشكل لم يسبق له مثيل في حالة الازمات والصراعات العسكرية بين الدول التي حدثت سابقاً.

ـ الإنحياز الواضح لسياسة السلطات الأوكرانية، سواء فيما يتعلق بتغطية مجريات الحرب، حيث تجري التغطية الواسعة لمواقف وسياسة الحكومة الأكرانية، في حين يجري التعتيم على الموقف الروسي، كما يتم التغاضي عن استهدافها للمدنين مقابل تضخيم السلوك الروسي من هذه القضية، أو فيما يتعلق بالتغطية على فساد الحكومة الاوكرانية الذي قال عنه، بيل غيتس انها " واحدة من أسوأ الحكومات في العالم. إنها فاسدة ويسيطر عليها عدد قليل من الأثرياء. وهذا أمر محزن للغاية بالنسبة للشعب هناك"(35).

خلاصات

1.إن الحديث عن المعايير الأخلاقية يحتل ضرورة قصوى، نظراً إلى الانفلات الكبير للذاتية المفرطة التي تعتبر تحقيق المصلحة الخاصة المعيار الوحيد في الحياة، وتدعو إلى التخلي عن أية معايير إنسانية تقوم على العدالة واحترام حق الإنسان في حياة حرة كريمة.

وبخصوص التزام وسائل الإعلام بالمعايير الأخلاقية، فإنه يحتل أهمية في الظروف الراهنة، نظراً لتسارع التطور التكنولوجي الذي يسمح بسهولة تغيير وتزييف الوقائع والأحداث واختلاق بدائل لها تتناسب مع المصالح الخاصة لفئات معينة، إضافة إلى تسارع وقع الحياة اليومية، والإرهاق الذي يصيب الفرد بسبب صعوبات الحياة الناتجة عن الجهود التي يبذلها لتدبير وسائل العيش اليومية. إن كل ذلك يترافق مع تراجع الوعي وشيوع ثقافة الإنترنت الذي يشمل فئات واسعة من المواطنين، بما فيهم المثقفين، الامر الذي يؤدي إلى سرعة التصديق بالمعلومات التي تبثها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة.

2. إن لجوء الليبرالية الجديدة ومفكريها إلى للكذب والتضليل يشير إلى أن سير التطور العالمي خلال نظام القطبية الواحدة، أكد عدم مصداقية اطروحتها حول نهاية التاريخ وانتصار أيديولوجيتها على المستوى العالمي.

3. تغيرت مهمة وسائل الإعلام في ظل نظام القطبية الواحدة، فبدلاً من عرض الأحداث وتحليلها بهدف تمكين الجمهورمن الاطلاع على التطورات والمستجدات، إلى مهمة التواصل الذي يهدف فيه الإعلام إلى التفاعل مع الحدث من خلال التقنيات التي تضاف إلى شكل الحدث بعد التلاعب بمحتواه، بحيث أصبح الترويج للأخبار الزائفة المدعومة من الجيوش " الالكترونية" حالة شائعة في أغلب وسائل الإعلام، الامر الذي ادى تراجع ثقافة التحقق من الأخبار المتداولة قبل التصديق بها والتفاعل معها.

4. إن تخلي وسائل الإعلام الغربية عن رسالتها الإنسانية والمعايير الإخلاقية للإعلام الحر، أصبح واضحاً، بإنحيازها خلال الأزمة بين أوكرانيا وروسيا، وأدى ذلك إلى اضعاف مستلزمات التوصل إلى حلول وسط لحل الصراع الروسي الاوكراني عن طريق المفاوضات، بحيث نجد من الصعوبة التفريق بين الإعلام الحربي والإعلام الحر الذي غالباً من يروج إلى التوصل للحلول السلمية لانهاء الأزمات والنزاعات العسكرية بين الدول.

5. يظهر ابتعاد الإعلام الغربي عن الاستقلالية، خلال الأزمات التي تهدد مصالح النخب الرأسمالية الحاكمة أو الصراعات التي تنشب بين المراكز الرأسمالية الدولية، من خلال فرض الرأي الواحد والحوار المغلق، وهذا ما لاحظناه خلال الحرب الروسية الأوكرانية حيث اشتركت وسائل الإعلام في الهوس الإيديولوجي للنخب الحاكمة حول الحرب وأسبابها وكيفية انهاءها، والإنخراط بالترويج لسلوك الدول الغربية ضد الشعب الروسي والدول التي تحاول أن تقف على الحياد من صراع الإحتكارات الرأسمالية في الأزمة الأوكرانية.

6. لقد أكدت الحرب الروسية الأوكرانية، ابتعاد وسائل الإعلام المعولم عن بديهيات المعايير الأخلاقية، في تغطيتها لأسباب الحرب ومجرياتها ومخاطر استمرارها على السلام والتعايش السلمي بين الشعوب، عندما أصبحت وسائل الإعلام في خدمة وجهة النطر الغربية من الحرب فأصبح الإعلام صورة مطابقة للعمليات النفسية الدعائية، وبما ينسجم مع المزاعم والدعاية السياسية للحرب، وبما يشبه الموقف من الإرهاب عقب تفجيرات الحادي عشر من أيلول2001.

***

د. فاخر جاسم

.....................

الهوامش

(1) نقلا عن عرفات مفتاح معيوف "معايير التغطية الإخبارية في القنوات التلفزيونية"، مجاة البلقاء للبحوث الدراسات، المجلد 17 العدد ا 2014، ص182 ـ 183 https://digitalcommons.aaru.edu.jo/albalqa/vol17/iss1/1/

(2) تدخل الملياردير أيلون ماسك، في إدارة وسياسة، تويتر، بعد شرائها بمبلغ 44 ملياردولار. توجد الآن ست منصات لوسائل التواصل الاجتماعي هي.

1. فيس بوك، Facebook

2. ماسنجرMessenger

3. واتس آبWhatsApp

4. تويترTwitter

5. انستجرام Instagram

6. تيك توك Tik Tok

(3) كان ميلتون فريدمان مستشارا لرئيسة الوزراء البريطانية مارغيت تاتشر، ثم مستشارا للرئيس رونالد ريغان طيلة فترة رئاسة 1980ـ 1988

(4). رنا فوروهار، ما بعد الليبرالية الجديدة، موقع اندبندنت عربية، التوثيق. independentarabia.com

(5) للمزيد عن إدارة الرأي العام بالدول الرأسمالية الغربية، يراجع، نعوم شومسكي، السيطرة على الرأي العام، ترجمة أميمة عبد اللطيف، مكتبة الشروق الدولية ط1، القاهرة، 2003، ص 17 ـ20.

(6) أدهم عدنان طبيل، الإعلام الحديث فى ظل العولمة، |دنيا الرأي (alwatanvoice.com) تاريخ النشر: 2007-5-25

(7) ترك برس. www.turkpress.co/node/80460

(8) لقد نقد هذه الظاهرة، أنير فوك بقوله : إن هناك قلق منزايد بشأن عدم قيام وسائل الإعلام التجارية بوظيفتها الإعلامية بشكل صحيح بسبب تملكها من قلة من كبارالشركات المتعددة الجنسية وأصبحث نتيجة لذلك قوة ضد الديمقراطية، تدافع عن الوضع القائم القائم". نقلا عن سويم العزي، نظرة ثانية بخصوص الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعية الغربية والحراك السياسي العربي، دار الحكمة، القاهرة، 2013، ص 9.

(9) نصر الدين لعياضي، إشكاليات الإعلام في عصر العولمة، communication.ahladalil.com/t1092-topic

بدأ سيطرة كبار الرأسماليين على وسائل، رجل الاعمال الاسترالي، كيث روبرت مردوخ، الذي استحوذ في الخمسينات والستينات من القرن الماضي علي العديد من الصحف المتنوعة وبحلول عام 2000، أصبحت شركة مردوخ "نيوز كوربوريشن" تمتلك أكثر من 800 شركة في أكثر من 50 بلدا في العالم بصافي أصول يصل لأكثر من 5 مليارات دولار. روبرت مردوخ - ويكيبيديا (wikipedia.org)

(10) نفيسة صلاح الدين، مقالة منشورة على موقع الهيئة العامة للاستعلامات، بتاريخ 11/03/2016 على الرابط التالي: www.sis.gov.eg

(11)/ ذي إندبندنت - ويكيبيديا (wikipedia.org)

(12) براكريتي غوبتا، "تسارع وتيرة هيمنة أثرياء الهند على قطاع الإعلام:، جريدة الشرق الأوسط، 02 يناير 2023.

(13) نعوم شومسكي، السيطرة على وسائل الإعلام، مصدر سابق، ص 9

(14) سويم العزي، مصدر سابق، ص 4.

(15) بدأت الغارديان تقريرها بالإشارة إلى زيادة أهمية وظيفة تدقيق الحقائق في ظل رئاسة ترامب "الذي أطلق، وفق أحد التقديرات، أكثر من 16 ألف ادعاء ينطوي على تضليل أو كذب خلال السنوات الثلاث الأولى من وجوده في البيت الأبيض". www.bbc.com/arabic/inthepress-

(16) أنتوني فاوتشي، رسالة إلى الأجيال المقبلة من العلماء، جريدة الشرق الأوسط، 12 ديسمبر 2022.

(17) مقابلة مع نعوم شومسكي إجريت عام 2015 مع صحيفة فرنسية. https://www.youtube.com/watch?v=Hz2F314oOZ4

(18)إزدواجية المعايير في تناول الإعلام الغربي للقضيتين الأوكرانية والفلسطينية، مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية

22 نيسان 2022، http://www.akhbar-alkhaleej.com/news/article/1293080

(19) ذكر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في مقابلة مع BBC في 11 آب 2016، بان الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، هو الذي أسس تنظيم داعش الإرهابي.

(20) ياسر عبد العزيز، "وقفة مع الإعلام الغربي، صحيفة الشرق الأوسط"، 21 مارس 2022.

(21) "كيف أثرت حرب أوكرانيا على المجال العلمي والتكنولوجي؟" جريدة الشرق الأوسط، الاثنين 02 يناير 2023.

(22) المعطيات من اعداد الكاتب، بالاعتماد على تقارير معهد السلام العالمي في استكهولم لسنوات متعددة وموقع ويكبيديا،

)(23)(https://www.sipri.org/media/press-release/2022/world-military-expenditure-passes-2-trillion-first-tim

(24) نقل هذا التصريح، نعوم شومسكي، في مقابلة صحفية مع قناة سكاي نيوز عربية أجريت في 19 نيسان 2022. https://www.youtube.com/watch?v=VNWV5Y7DYSA

(25) المساعدات الغربية لأوكرانيا خلال عام 2022 تجاوزت الـ 120 مليار دولار | الميادين (almayadeen.net)

(26) تبلغ ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية لعام 2023 أكثر من 858 مليار دولار، بزيادة قياسية عن عام 2022 التي بلغت 715 في حين كانت بحدود 400 مليار عام 2003.

https://www.skynewsarabia.com/world/1579158-2023-

(27) كشفت المستشارة الألمانية السابقة، إنكيلا ميركل، في مقابلة مع صحيفة "دي تسايت" في 10/12/2022 أن الدول الغربية الموقعة على الاتفاقية، فرنسا وألمانيا، لم يكن هدفها حل قضية الدونباس سلميا بل "منح كييف الوقت لتعزيز قدراتها العسكرية " لمواجهة روسيا.

(28) تظهر الأرقام التالية مدى تأثر نسبة كبيرة من المواطنين الامريكيين من التضخم الذي نتج عن الحرب الأوكرانية: 55% من الأمركيين توقفوا عن الأكل في المطاعم، 39 % قللوا التنقل بالسيارة، 32% أوقفوا الاشتراكات الشهرية، 29% الغوا خطط السفر بالصيف. حسب استفتاء لشبكة CNBC وجامعة جون هوبكونز. www.facebook.com/1420638235/posts/10229455789685413/?sfnsn

(29) تقرير برنامج الغذاء العالمي لعام 2022 انعدام الأمن الغذائي بالعالم في أسوأ مستوياته (annabaa.org)

(30) تقرير عالمي: انعدام الأمن الغذائي الحاد في ارتفاع - والنزاعات من الأسباب الرئيسية لذلك | أخبار الأمم المتحدة (un.org)

(31): تاس 8/6 / 2022 arabic.rv,com.world

(32) جيمي ساسكيند، الحكومات من تحتاج إلى حماية حرية التعبير وليس إيلون ماسك، صحيفة الفايننشاك تاميز 28/4/ 2022، https://www.bbc.com/arabic/inthepress-61253290

(33) سليمان الدوسري، أزمة أوكرانيا: المكارثية الجديدة في إرهاب الخصوم جريدة الشرق الأوسط، 14 مارس 2022.

(34) تلفيق الحوادث لم يكن جديداً، فقد استخدم خلال الحرب الأهلية في سوريا، عندما قامت منظمة الخوذ البيضاء بتلفيق أفلام عن استخدام السلاح الكيماوي، ولصق التهمة بالقوات النظامية السورية.

(35)https://aawsat.com/home/article/4121451/%D8%A8

"عِلم الجَمال/ فلسفة الجَمال: دراسة طبيعة الشعور بالجَمال، والعناصر المكوِّنة له، كامنةً في العمل الفنِّي."(1) فالعمل الفنِّي هو مادَّة (عِلم الجَمال The aesthetic). ويعود الفضل الأكبر في نشأته إلى المدرسة الألمانيَّة في القرن الثامن عشر. أمَّا قبل ذلك فقد كانت نظريَّة الجَمال تربط بين الجميل وأشياء أخرى: كالمتعة، والمنفعة، والأخلاق، والدِّين. وهو ما ظهر عند (اليونان)، منذ (أفلاطون) أو قبله، ثمَّ في الفلسفة المسيحيَّة، وفي عصر النهضة من بَعد. وقد استبعدت "الإستطيقا" الحديثة ذلك، وإنْ اتَّخذَت منه أُسسًا لفهم الجَمال ونقده. وكذلك فرَّقوا بين الجَمال و"الإستطيقا"، أو بين جَمال الطبيعة وجَمال الفَنِّ، ولم يكن مثل هذا التفريق معروفًا من قبل. وبهذا صار يدخل في مفهوم "الإستطيقا" ما يُعَبَّر عنه بجَمال القُبح.(2)

وقد ظهرت كلمة "إستطيقا" للمرَّة الأُولَى في بحثٍ نشره الفيلسوف الألماني (ألكسندر جوتليب باومجارتن Alexander Gottlieb Baumgarten، -1762)، بعد حصوله على الدكتوراه، سنة 1735م. ولم يخرج بهذه الكلمة عن معناها اللُّغوي الحرفي، وهو دراسة المدركات الحسيَّة. ثمَّ أخذ بذلك من بعده (إيمانويل كانت Immanuel Kant، -1804)، كما يتضح من كتابه "بحث العقل الخالص"، سنة 1781م. وظهرت محاولات في القرن التاسع عشر لضمِّ "الإستطيقا" إلى ميدان العلوم الوضعيَّة؛ فأصبحت "الإستطيقا"، كما عبَّر عن ذلك (إيتيان سوريو Étienne Souriau، -1979)، هي عِلم الأشكال، ولكنَّها تُفيد من تلك العلوم ولا تذوب فيها، فتُوسِّع بذلك من ميادينها. (3)

وتتناول "الإستطيقا" الحديثة مجموعتين أساسيتين من المشكلات: مشكلات التذوُّق الجمالي، ومشكلات الإنتاج الفنِّي. وهكذا يمكن أن يُطلَق على "الإستطيقا": عِلم الفن.(4)

تلك لمحات من مجمل تاريخ الوعي الإنساني بالجَمال. أمَّا من حيث الأُسس، فنظريَّة الجَمال الحديثة ترَى جَمال الفنِّ أسمَى من جَمال الطبيعة؛ لأنَّه نتاج الرُّوح.(5) ونقد هذا الجَمال الرُّوحي، المبنيُّ على عِلم الجَمال، يُعنَى بدرس الأثر الفنِّي من حيث خصائصه البنيويَّة، ومَواطن تميُّزه، بصرف النظر عن بيئته وتاريخه، وعلاقته بشخصيَّة مبدعه.(6) والحُكم الجَماليُّ، بالمعنَى "الإستطيقي" الصحيح، ينصبُّ على الصورة، وهو بمعناه الأعمِّ ينصبُّ على العمل من حيث هو كُلٌّ. (7)

وعند البحث عن أصول الجَمال ومقاييسه، فإنَّ (كانت)(8) يعرِّف الجميل بأنَّه "ذلك الذي يُرضي المتلقِّين جميعًا، بلا تفكير، أو فهم أسباب". ذاهبًا إلى أنْ ليست ثمَّة قاعدة موضوعيَّة للذوق الجَمالي يمكن من خلالها تعريف الجَميل وَفق مفاهيم محدَّدة. ذلك أنَّ كلَّ حُكمٍ جَماليٍّ إنَّما أساسه الشُّعور الذاتي. وإنْ نحن حاولنا البحث عن مبادئ ذوقيَّةٍ مبنيَّةٍ على معايير عالميَّةٍ للجَمال، من خلال مفاهيم محدَّدة، وقعنا في الإحالة والتناقض.(9) على أنَّه يرى أنَّ العبقريَّة الفنيَّة هي التي تؤسِّس معايير للذوق الجَماليِّ والحُكم على الجَمال.(10) ومن ثَمَّ فإنَّ (أميل فاغيه Émile Faguet، -1916) يرى أنَّ النقد الجَمالي يرتكز في بعض أصوله على الظنِّ والحدس، ويتمازج فيه العِلم بالفن، محاولًا الاقتراب من العِلم، دون بلوغه.(11) وكذلك يُنكِر الانطباعيُّون القواعد في نقد الجَمال.(12)

وفي مقال الأسبوع المقبل سنتطرق لآراء اليقينيِّين والتجريبيِّين في النقد الجَمالي.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)

.......................

(1) وهبة، مجدي، (1974)، معجم مصطلحات الأدب، (بيروت: مكتبة لبنان)، 7.

(2) يُنظَر في هذا: إسماعيل، عِزُّالدين، (1955)، الأُسس الجماليَّة في النقد العَرَبي: عرض وتفسير ومقارنة، (مِصْر: دار الفكر العَرَبي)، 32- 00.

(3) يُنظَر: م.ن، 20- 23.

(4) يُنظَر: م.ن، 23- 27.

(5) يُنظَر: هيجل، (1988)، المدخل إلى علم الجمال/ فكرة الجمال، ترجمة: جورج طرابيشي، (بيروت: دار الطليعة)، 8- 10.

(6) يُنظَر: غريِّب، روز، (1952)، النقد الجَمالي وأثره في النقد العَرَبي، (بيروت: دار العلم للملايين)، 5.

(7) يُنظَر: إسماعيل، 408.

على أنَّ دارس الجَمال قد يجد نفسه مضطرًّا، في بعض الحالات، إلى النظر في البيئة، أو العصر، أو التاريخ، أو علاقة الأثر بصاحبه، أو غير ذلك ممَّا هو خارج العمل الفنِّي، من حيث هو أساسٌ سياقيٌّ لفهم جَماله ونقده. وهو ما لم نَجِد عنه مناصًا في كثيرٍ من دراستنا التطبيقيَّة لجَماليَّات تصوير الحيوان.

(8) Kant, Immanuel, (1987), Critique of Judgement, translated with an introduction by: Werner S. Pluhar; with a foreword by: Mary Gregor, (Indianapolis/ Cambridge: Hackett Publishing Company), p.64- 66.

(9) See: Ibid., p.79- 84.

(10) See: Ibid., p.174- 189.

(11) يُنظَر: غريِّب، 7- 8.

(12) يُنظَر: م.ن، 8.

من الصعب تجاهل حقيقة ان هناك عالما ماديا موضوعيا. لو نظرت انا الى المظلة الموجودة على الرف، أفترض انت تراها ايضا. وعندما لا انظر الى المظلة، انا اتوقع ان تبقى في مكانها طالما لا أحد يسرقها. لكن نظرية ميكانيكا الكوانتم التي تحكم العالم الجزئي للذرات والجزيئات تعارض هذا الرأي البديهي الشائع.

طبقا لنظرية الكوانتم، كل نظام، مثل الجزيئات، يمكن وصفه طبقا لوظيفة او دالة الموجة، التي تتطور بمرور الزمن. وظيفة الموجة تسمح للجزيئات بامتلاك عدة خصائص متناقضة مثل ان تكون في عدة أماكن في وقت واحد – هذا يسمى مبدأ التراكب a superposition(1). لكن من الغريب ان هذه الحالة تحصل فقط عندما لا ينظر أي شخص للشيء.

رغم ان كل موقع محتمل في مبدأ التراكب له احتمالية معينة للظهور، لكن في اللحظة التي انت تشاهده، يلتقط الجزيء وبشكل عشوائي موقعا واحدا – منتهكاً مبدأ التراكب. الفيزيائيون عادة يشيرون الى هذا بانهيار وظيفة الموجة. لكن لماذا يجب ان تتصرف الطبيعة بشكل مختلف اعتمادا على ما اذا كنا ننظر ام لاننظر؟ ولماذا يجب ان تكون عشوائية؟

كما يرى ماركوس هوبر البروفيسور في معلومات الكوانتم في الجامعة التقنية بفيينا "اذا كنت ترغب توضيح كل ما نستطيع مشاهدته في تجربتنا بدون عشوائية، عليك الدخول في توضيحات طويلة ومثيرة للضجر لا أشعر بالارتياح معها". وفي الحقيقة، انت تستطيع التخلص من العشوائية لو قبلت ان المستقبل يمكن ان يؤثر في الماضي، وان هناك محصلة واحدة لكل قياس او ان كل شيء في الكون هو مصمم سلفا منذ بداية الزمن.

مشكلة اخرى هي ان ميكانيكا الكوانتم تبدو انها تقود الى حقائق متناقضة. لو تصوّرنا ان الخبيرة Lisa داخل المختبر تقيس موقع الجزيء. قبل ان يطرق زميلها باب المختبر ويسأل عن أي محصلة هي رأت، هو سيقيس ليزا باعتبارها في مبدأ تراكبي لكلا الموقعين – واحد حيث هي ترى الجزيء هنا وآخر حيث ترى الجزيء هناك. ولكن في نفس الوقت، ليزا ذاتها ربما مقتنعة انها تمتلك جوابا محددا حول مكان الجزيء. ذلك يعني ان هذين الشخصين سيقولان ان الواقع مختلف – هما سيكون لديهما حقائق مختلفة حول مكان الجزيء.

هناك العديد من حالات الشذوذ الاخرى حول ميكانيكا الكوانتم. الجزيئات يمكن ان تتشابك بطريقة تمكّنها من المشاركة بالمعلومات في وقت واحد حتى لو كانت تبعد مسافة سنة ضوئية. هذا يتحدّى بداهة حسية اخرى وهي ان الأشياء تحتاج الى وسيط مادي لكي تتفاعل. الفيزيائيون خاضوا نقاشات طويلة في كيفية تفسير ميكانيكا الكوانتم. هل هي وصف صحيح وموضوعي للواقع؟ اذا كانت هكذا، ماذا يحدث لجميع المحصلات الممكنة التي لا نقيسها نحن؟ التفسيرات المتعددة تجادل انها تحدث حقا – ولكن في عوالم موازية.

عدد آخر من التفسيرات، تُعرف مجتمعة بتفسير كوبنهاكن تقترح ان ميكانيكا الكوانتم هي لدرجة ما مرشد مساعد بدلا من وصف مثالي للواقع كما يوضح تمبسو فيلسوف الفيزياء في جامعة اكسفورد. "لذا في الحالة الكمومية، ان هذا الشيء الذي يصف هذه المبادئ التراكبية الرائعة،هو فقط وسيلة لعمل تنبؤات عن سلوك سيناريوهات القياس العياني".

ولكن لماذا لا نرى تأثير الكوانتم في نطاق الانسان؟ شيرا مارليتو فيزيائية الكوانتم في جامعة اكسفورد طورت نظرية شمولية تسمى نظرية المنشيء constructor theory تهدف لدمج كل الفيزياء بالارتكاز فقط على مبدأ بسيط بموجبه تكون التحولات الفيزيائية في الكون ممكنة بالنهاية.

هي تأمل انه يساعدنا في فهم لماذا لا نرى تأثيرات الكوانتم في المستوى العياني للانسان. "لا شيء هناك (في قوانين الفيزياء) يقول من المستحيل امتلاك تأثير كوانتمي على مستوى الانسان"، حسب قولها.

"لذا نحن اما نكتشف مبدأ جديد يقول انها حقا مستحيلة – والذي سيكون مثيرا للاهتمام – او في غياب ذلك،لابد من محاولة شاقة لتهيئة الظروف في المختبر لتحقيق تلك التأثيرات".

مشكلة اخرى مع ميكانيكا الكوانتم هي انها غير منسجمة مع النسبية العامة، التي تصف الطبيعة على النطاق الأوسع. مارليتو تستعمل نظرية التركيب في محاولة ايجاد طرق لدمج الاثنين معا. هي ايضا جاءت ببعض التجارب التي يمكن ان تختبر مثل هذه النماذج – وتستبعد تفسيرات معينة لميكانيكا الكوانتم.

***

حاتم حميد محسن

...................

The conversation.com, March29, 2023

الهوامش

(1) يصف مفهوم التراكب الكمي superposition قدرة النظام الكوانتمي على ان يكون في أوضاع متعددة في وقت واحد الى ان يتم قياسه. فيزياء الكوانتم تفترض ان الذرات او الفوتونات توجد في حالات متعددة تتطابق مع مختلف المحصلات الممكنة والإمكانات التي تسمى تراكب كمي،ولاتلتزم تلك الذرات بحالة محددة حتى تتم ملاحظتها. في الفيزياء الكلاسيكية، اشياء مثل الموقع او النشاط هي دائما تُحدد بشكل جيد. في ميكانيكا الكوانتم، الجزيء يمكن ان يكون في تراكب كمي في حالات مختلفة. انه يمكن ان يكون في مكانين اثنين بوقت واحد. القياس دائما يجد الجزيء في حالة واحدة،ولكن قبل او بعد القياس، هو يتفاعل بطرق يمكن توضيحها فقط بامتلاكه تراكيب من مختلف الحالات.أي حالتين أو اكثر من الحالات الكوانتمية يمكن إضافتهما الى بعضهما(superposed) والنتيجة ستكون حالة كوانتمية اخرى صالحة.

"سينيكا" فيلسوف وخطيب وكاتب مسرحي روماني، شرح من خلال مؤلفاته الانفعالات الإنسانية وأكد أن أحد أكبر مخاوف العصر وأعراضه المزمنة هو القلق الذي يفسد على الإنسان حياته.

أقيمت دعوى قضائية على صديق لسينيكا كادت تنهي حياته العملية وتشوه اسمه، فأرسل إلى صديقه سينيكا يطلب العون.

هو في الحقيقة كان يتحرّى الحكمة إذ كثيرا ما نحب سماع رأي من نثق به عندما نكون في وضع نفتقر فيه إلى صفاء الذهن.

ردّ سينيكا عليه قائلا: "قد تتوقّع أنّني سأنصحك بتخيّل نتيجة سعيدة، وأنْ تستسلم لإغراءات الأمل. ولكنّي سأدلّك على راحة بال عبر طريق آخر: لو أردتَ نفض كلّ القلق، تخيّل أنّ ما تخشى وقوعه سيقع فعلا."

عميق جدا هذا النصح الذي قدمه سينيكا لصديقه. أن تسحب البساط من تحت سطوة ما تتوقع أنه سيهزمك ويقضي عليك..أن تستقبل أسوأ ما يمكن أن يحدث لك برباطة جأش وبرضا. أن تقول في نفسك أنا هنا موجود بل وأقف على قدمين راسختين فليكن ما يكون.

كذا الشأن فيما يتعلق بٱراء الٱخرين فيك ومن حولك.

يفسر عالم النفس الأميركي "رولو ماي" في كتابه “بحث الإنسان عن نفسه" أن القلق الدائم بخصوص آراء الغير والاهتمام الشديد بوجهات نظرهم ينبع من الخواء الداخلي، إذ حين يفقد الإنسان إحساسه الداخلي بالمعنى والهدف من حياته يشعر بالخطر. هو يتجه للآخرين ليطمئن وليتلاشى إحساسه بالوحدة والخوف.

نفهم من ذلك أن حاجة الإنسان إلى الثناء والإعجاب تصبح حاجة قهرية ليمسي معها فاقدا لشجاعة أن يكون كما يريد.

وهو يخوض غمار الحياة سيحارب المرء حينئذ لإرضاء قناعات الآخرين بدلاً من إرضاء قناعاته.

بالتالي يصبح الإنسان في سعي دائم إلى أن يكون ما يريده الغير أن يكون، لا أن يكون نفسه..يستعمل كل الوسائل ليظفر بنظرة إعجاب أو كلمة إطراء ممن هب ودب.

فكيف يؤثر هذا الاهتمام المبالغ فيه بنظرة الآخر تجاهنا، على معتقداتنا تجاه أنفسنا وثقتنا بها؟

بالرغم من أن الوجود الإنساني يجعل كل فرد منا ذاتا مختلفة عن ذات الآخر إلا أن الكثيرين تعوزهم القدرة على اكتناه ما يميزهم بمعزل عن ذم الٱخر لهم أو إطرائه وهو ما يسقطهم في مأزق نفسي.

يتمثل هذا المأزق في أن يسلموا أنفسهم لتقديرات الغير. هي تقديرات قد تكون ممن لا يحسن التقدير فيعيشون في قلق دائم.. لا يشعرون بقيمة أنفسهم إلا من خلال سعيهم المحموم إلى اعتراف الٱخرين بهم.

فماهي تبعات هذا البحث عن المكانة؟

إن الرغبة المهوسة والمتكلفة التي تراود الكثيرين لكسب محبة الناس والسعي إليها مهما كلفهم ذلك من التصنع المثير للإشمئزاز أحيانا، تنبع في الحقيقة من انعدام ثقتهم في قيمتهم.

إن فسح المجال لتقييمات الٱخر حتى تلعب دورا حاسما في نظرتنا إلى أنفسنا مرده الرغبة في التعويض عن النقص.

"ألفرد أدلر"، أحد أهم رواد مدرسة التحليل النفسي، ومن إسهاماته الكبيرة ابتكاره مصطلح «عقدة النقص»، ونظريته الشهيرة عن «التعويض».

يرى" ادلر" أن مفهوم التعويض عن النقص يجب أن يكون له أثر إيجابي على الشخصية، فالشعور بالنقص قد يخلق رغبة جامحة في التفوق ويكون بالتالي محفزا للنجاح. لكن من جهة أخرى فإن للتعويض أثرا سلبيا عندما يضحى زائدا عن حده فيؤدي بصاحبه إلى الاستماتة من أجل السلطة والسيطرة والبحث عن التقدير الذاتي بشتى الأساليب حتى تلك غير اللائقة منها.

من خلال هذا نتبين أن في التعويض الزائد عن الحد تأثيرا سلبيا على سلوكيات الفرد.

هذا ما يجعله مرائيا، لا يبغي من وراء كل أفعاله سوى رؤية الناس لها.

هكذا لا تكون القناعة هي أساس فعل الخير والمودة والعطاء. كذلك لا تهدف ممارسة هذه القيم إلى إعلاء الإنسان من شأن الإنسان بل تصب كلها في خانة الحصول على الاعتراف والتبجيل والتهليل.. كلها وسائل لا يبغي صاحبها من ورائها سوى السعي إلى المكانة. مكانة يقلق كثيرا بشأنها فيسقط كل ما عداها ..لتصبح هي نقطة الوصول، تصبح هي الغاية.

***

درصاف بندحر – تونس

كان الفيلسوف الكبير ارسطو بايولوجيا ايضا، درس النباتات والحيوانات في جزيرة ليسبوس. وخلافا لمنْ جاؤوا قبله، فضّل ارسطو المشاهدة على النظرية، وقام بتجارب بسيطة، لكنه لم يستعمل وسائل التحكم واعتمد دون تمحيص على شهادات غير رسمية، قادت الى بعض الأخطاء .

في عام 370 ق.م، وعندما كان ارسطو بسن الـ 13 عاما توفى ابوه وامه. وفي عمر 17 ارسله ولي امره للدراسة في اكاديمية افلاطون في اثينا. بقي في الاكاديمية قرابة عشرين سنة ولم يغادرها الا بعد وفاة افلاطون عام 347 ق.م. ولما بلغ سن الـ 37 عاما، سافر ارسطو الى اسوس (تركيا حاليا) لمقابلة الطاغية اليوناني هيرمياس Hermias حاكم مدينة أترنيوس، الذي كان احد طلاب الاكاديمية. يبدو ان ارسطو مارس تأثيرا معتدلا على هيرمياس في التخفيف من حكمه الاستبدادي القاسي. ولكن في عام 344 تم أسر هيرمياس وتعذيبه حتى الموت على يد أحد مرتزقة الملك الفارسي ارتتحشتا الثالث.

وبعد موت هيرمياس، دعا تلميذ ارسطو(ثيوفراستوس) ارسطو للعبور الى موطنه الأصلي جزيرة ليسبوس. كلاهما بحثا في نباتات وحيوانات الجزيرة وفي بحيرتها الرائعة (بيرها) والتي تسمى الآن خليج كالوني.

من المفترض ان ثيوفراستوس الأكثر عملية ركز على النبات بينما ارسطو الاكثر تنظيرا ركز على الحيوان، لذلك يجري تذكّر الاول كأب لعلم النبات بينما الثاني كأب لعلم الحيوان. في الحقيقة، ثيوفراسيوس كتب ايضا حول الحيوانات، وارسطو كتب ايضا حول النبات، لكن جميع هذه الاعمال قد ضاعت.

أعمال ارسطو البايولوجية تمثل اول دراسة منهجية للبايولوجي وتكشف الكثير عن الرجل وطريقته. تلك الأعمال جرى في العادة تجاهلها مع انها تشكل ربع كتاباته المتوفرة حاليا، وجرى تقييمها عاليا من جانب الطبيعيين مثل جورج كوفيه وتشارلس دارون الذي كتب في سنة وفاته،1882، الى وليم اوغل انه "بالرغم من ان لينيوس وكافيه كانا مثالا يُحتذى بهما لكنهما ليسا اكثر من اطفال مدرسة قياسا بارسطو".

في أعماله البايولوجية، يوجز ارسطو اكثر من 500 نوع من الكائنات الحية، البعض يصفها بتفاصيل اكثر من غيرها. هو يصف معدة الحيوانات المجترة، والتنظيم الاجتماعي للنحل،والتطور الجنيني لفراخ الطيور. هو لاحظ ان بعض سمك القرش تضع صغارها بالولادة ، وان الحيتان والدولفينات تختلف عن الاسماك الاخرى في تنفس الهواء ورضاعة أطفالها. هو يستدل بان حجم الولادات يقل مع كتلة الجسم بينما يزداد مع كل من فترة الحمل وعدد سنوات الحياة المتوقعة .

ولعدة قرون، بدت بعض توضيحات ارسطو بعيدة عن الواقع، فمثلا، ان صغير كلب البحر ينمو داخل جسم امه، وان ذكر سمك السلور يحرس البيض لمدة 40 او 50 يوما بعد تركها من قبل الام. كل واحدة من هذه القصص كان لابد من الانتظار حتى القرن التاسع عشر ليتم التحقق منها.

خلافا لإفلاطون، فضّل ارسطو المشاهدة على النظرية. وكما في العلماء المعاصرين هو بدأ بتجميع منهجي للبيانات ومن هذه البيانات حاول الوصول الى توضيحات وعمل تنبؤات. هو أجرى ايضا تشريحات وحتى تجارب بدائية مثل قطع قلب سلحفاة ليكتشف ان كانت تستطيع تحريك اطرافها لوقت طويل.

لكن ارسطو، لم يقم بأي شيء يشبه دراسة الحالات الحديثة واعتمد دون نقد على الشهادات غير الرسمية لمربّي النحل وصيادي الاسماك والمسافرين. فقدان الصرامة هذا قاد لأخطاء محرجة مثل الادّعاء بان انثى العديد من الانواع الحية لها عدد أسنان أقل من اسنان الذكر.

ارسطو لم يدرس البايولوجي لأجل العلم، وانما لأجل الفلسفة. مثل افلاطون، هو كان يبحث عن العالمي ولكن هذه المرة من البداية. "نحن يجب ان نغامر في دراسة كل نوع من الحيوانات بدون كراهية، لأن كل حيوان يكشف لنا شيئا طبيعيا وشيئا جميلا". الحيوان يلد من نفس الحيوان بسبب شكله او نمط تنظيمه – وهي الفكرة الشائعة في الوراثة الحديثة. اهتمام ارسطو بالبايولوجي يجسّد نظريته في الشكل والتي بدورها تجسّد كامل فكره الفيزيائي والميتافيزيقي.

ورغم ان ارسطو آمن بان جميع الحيوانات لها شكل، وان ذلك الشكل ينتقل عبر الذكر، لكنه ايضا اعتقد ان العديد من الحيوانات الدنيا تتولد تلقائيا spontaneous generation: اي ان الثعابين تنشأ من الوحل، ويرقات الحشرات تنشأ من اللحم المتعفن. وفي دفاعه ذكر ارسطو ان الثعابين لا توجد فيها غدد جنسية.

أول تحدّي للتوليد التلقائي جاء عندما قام فرانسيسكو ريدي بتجربة أبطلت فرضية التوليد التلقائي (1).

***

حاتم حميد محسن

.......................

الهوامش (1)

في عام 1665 قام فرانسيسكو ريدي Francesco Redi بتجربة للتحقق من فرضية التوليد التلقائي التي ترى ان بعض أشكال الحياة البسيطة يمكن ان تنشأ تلقائيا من مواد غير حية. وضع ريدي لحما طازجا في وعاء مفتوح . وكما متوقع ادّى اللحم المتعفن الى جذب الذباب، وسرعان ما تراكمت عليه الديدان التي بدورها فقست لتنتج ذبابا. وعندما جرى تغطية الوعاء بغطاء محكم بحيث لا يصل اليه الذباب،لم تظهر اي ديدان. وللرد على المعارضين الذين قالوا ان الغطاء يمنع وصول الهواء الضروري للتوليد التلقائي، قام ريدي بتغطية الوعاء بعدة طبقات من الشاش ذو المسامات بدلا من غطاء محكم. رائحة اللحم المتعفن جذبت الذباب،لتتجمع على الغطاء لتكوّن على الفور تجمعات من الديدان، لكن اللحم ذاته بقي خاليا من الديدان. وهكذا أثبتت التجربة ان الذباب ضروري لإنتاج الذباب، انه لا يتولد عفويا من الاشياء العفنة. أي ان الحياة ضرورية لإنتاج الحياة.

بدأ جاري حواره هذا حول بنفي وجود إله في جميع الديانات – بحسب قوله – وبدأ بالقول: الذين يعبدون آلهة هم واهمون! فقاطعته - وأنا أمتلك معلومات عن هذا الموضوع ومنها مستقاة من كتاب والدي رحمه الله (الطبيعة في القرآن) وقبل ذلك عشرات الكتب التي قرأتها ومنها كتاب ( الله يتجلى في عصر العلم) في بدايات شبابي- بالقول: ومن خلق الأكوان بمجراتها وكواكبها ومنها الارض التي نعيش عليها بنظام غاية في الدقة والإنتظام؟

فقاطعني بالقول: إنها الطبيعة، تنظم ذلك، وعاد الى حوارٍ سابق معي، بالتأكيد على أن الانفجار الكوني العظيم هو من نتاجات الطبيعة التي أوجدت الأكوان جميعاً!

أجبته: سبق لي وأن أجبتك عن ذلك في حوارٍ سابق دار بيننا قبل عدة أشهر: " كيف لك أن تتصور بأن إنفجار كوني يخلق كواكب ومجرات تدور في فلك ونظام كوني غاية في الدقة وإنتظام وما هو حال عليه الأرض والشمس والقمر سوى أدلة قريبة على عقولنا وإدراكنا وحواسنا وهي جميعاً علامات تدل على وجود خالق عظيم ينظم عملها فاختلاف الليل والنهار وإنتظام درجات حرارة في أن لا تبلغ زيادة كبيرة فتصهر كل ما على الارض أو تنخفض الى درجات تجمد الارض ومن فيها وغير ذلك الكثير".

عاد جاري وكرر مرة أخرى رأياً قد طرحه لي في حوارٍ سابق، ولكنه ربما نتيجة لكبر سنه نسي انه لازال يكرره، عندما قال: " وُجدَت الأكوان وفقاً لقانون الصدفة، وهو ما توصل اليه أحد الفلاسفة صاحب نظرية (البرود اللامحدودة او المتناهية)، فإذا وفرنا لمجموعة من القردة عدة آلات كاتبة وتركناهم يضربون عليها بشكل عشوائي لمدة معينة فسينتج لدينا قصائد شبيهة بما تضمنته قصائد شكسبير من أحرف وكلمات وهو مماثل لما حصل في نشأة الكون".

أجبته: سبق وان أجبتك حول هذا الطرح من قبل، وهو اننا إمتلكنا روائع من أشعار شكسبير يمكن قراءتها والتمتع بكلماتها المليئة بالمشاعر الحساسة، ولكن ما أنتجه تطبيل القردة على الاَلات الحاسبة - حسب فرضية الصدفة التي تؤمن بها وتتبناها - لم ينتج سوى أحرف وكلمات متناثرة، ولو طُبقَ المثال على الكون لكانت مخرجاته عبارة عن دمار ونظام منفلت تتصادم فيه الكواكب وتحترق وتنطبق فيها السماوات السبع بعضها على بعض.

قال جاري متفاخراً: هل قرأت عن وحدة الوجود التي تبناها إثنان من كبار فلاسفة الغرب سبينوزا وهيغل؟ ثم أسترسل في شرح رأييهما باسهاب وأنا أستمع اليه دون مقاطعة لكي يفرغ ما في جعبته.

وما ان انتهى من كلامه حتى أجبته: وهل تعلم أن فلاسفة مسلمين وعرب مثل ابن عربي وابن الفارض وغيرهما قد تحدثوا عنها قبل علماء ومفكري الغرب ولكنها لم تصل اليكم لتّطلعوا عليها؟

وإسمح لي بالقول أن سبينوزا لم يكن ملحداً في طرحه لنظرية الوجود ليتمسك بالطبيعة وينكر وجود إله ولاسيما في كتابه الأخلاق - الذي لم أقرأه كاملاً للأسف ولكنني إطّلعت على خلاصات وتعليقات حوله - ولكنه أشار الى الإله في اطار فلسفي لم يفهمه كثيرون بسبب تعقيد طروحاته الفلسفية فبقي مدار خلافات كبيرة، فهو خلُصَ الى أن الكون له اصل واحد متناه في المطلق والله هو الوجود.

أما هيغل فهو قد ربط الطبيعة بالفلسفة والمنطق أكثر من الاشارة الى علاقتها بالاديان.

قال جاري: أبداً، كان هيغل واضحاً في الربط بين الدين والطبيعة فهو يقول بأن الدين حقيقة وكل حقيقة هي عقلانية، وبالنسبة الى الطبيعة، فقد وجد أنها جزء من فكرة مطلقة تتجلى في الانسان وديمومة المجتمع وهو أيضاً يؤمن بوحدة الوجود التي ذكرتها قبل قليل.

قلت لجاري: إنّ النقاش حول الطبيعة والدين قديم قدم الانسان مع انه تطور بمرور الزمن مع تطور الأفكار والعلوم والمعارف. خلاصة ما أستند اليه هو أن من لا يؤمن بوجود إله يرمي التبعة في خلق الكون على الطبيعة! في حين هو نفسه ينادي بتحكيم العقل والمنطق في كل جزئية يدور حولها جدال وخلاف، ولكنه هنا لا يرتضي بتحكيم العقل الذي يقول لا يوجد شيء في الكون بلا خالق. مثلأ ساعتك التي على هذه الطاولة، هل وجدت صدفة ؟ أم أن هنالك شخص إبتكرها وشركات طورتها في ما بعد ؟ إسمح لي أن أجيب نيابة عنك لأن السؤال بسيط جداً، بالتأكيد يوجد مبتكر ومطورين، فكيف بالأكوان المتناهية في العدد والحجم تعتقد أنها وُجدت بلا خالق؟!

يشير عدد كبير من المفكرين الغربيين - قبل المسلمين أو العرب- الى أن عصر التنوير قد إقترب من التوحيد بين الله وقوانين الطبيعة، ولعل إنتظام الطبيعة الذي كشفت عنه علوم نيوتن، يوثق اكتشافه بالألوهية، فالكون بكل دقته والطبيعة بكل جمالها، تؤكد وجود إله هو خالقها، يُسّيرها بقدرته ويحكم نظامها المتناهي في الدقة، أما الطبيعة فهي بيد الإله الذي يحكم السيطرة عليها ويدلل على وجوده بجمالها وبهائها.

ودعت جاري وعلامات عدم الرضا حول ما دار في حوارنا بادية على محياه، فهو لا يستسلم بسهولة، حتى ولو إقتنع بما أقول.

***

د. وليد كاصد الزيدي

باريس في 15 يونيو2017

يكادُ في الغالبِ ننظرُ إلى الأشياءِ وفق معاييرنا المصطنعة، وتحديدًا معاييرنا التي نرغب ورغب من قبلنا في إيجادها، وهذه المعايير إما أنْ تكونَ ذا نزعة اجتماعية أو دينية أو الاثنين معًا، وفي بعض حالاتها تكون ذا نزعة فردانية يصطنعها الفرد لتوائم توجهاته الداخلية الخاصة دون الاكتراث بالمعايير الجمعية الخارجية. في كل هذه الحالات لا يمكن أن نلغي أهمية هذه المعايير ودورها، وإنْ غلب على بعضها الطابع الظرفي والقابلية التجديدية إلا أنّ دورَ هذه المعايير لا يمكن أنْ يعكسَ حقيقةَ الأشياءِ وجوهرها، ولا يمكن أنْ يحققَ فلسفةً إنسانيةً شاملةً وكاملةً تُظهر الأشياءَ بجميعِ عناصرِها المعنوية مثل المنظومة الأخلاقية والعقلية والنفسية وحتى القوانين الكونية أو المحسوسة وتشمل كلَّ الأشياء المادية من حولنا.

نحاول أنْ نكسبَ ودَّ أنفسنا وودَّ بيئتنا بما فيه مجتمعنا البشري ومعاييره الجامدة؛ فنبتعد عن المعايير الحقيقية التي تتناول واقعَ الأشياءِ وحقيقتها؛ فنعيش وهمَ المعرفةِ، ووهمَ المنطقِ المصطنع الذي لا يقيم وزنًا للواقع بل يرتكز على أسس مبدأها الإنانية والترويج للفردانية الجمعية الداعية إلى النزعةِ البشرية، وإلى بقاءِ الفرد أو القبيلة أو الأمة ومحو الآخر سواءً كان فردًا أو مجتمعًا أو أمةً طالما أنّه مختلفٌ عن الطرفِ الأول. عندما أُلصِقَ العاملُ الجمعي على هذه الفردانية فهنا أقصد به العملية التراكمية لنشأة المعايير عبر التاريخ التي تؤكد لنا وجود عامل التطور والانتقائية لهذه المعايير؛ حينها نحن نقع تحت التأثير التاريخي بجميع أحداثه وعناصره الظرفية والبشرية بما في ذلك التوجهات والتفاعلات الإنسانية سواء كانت فردية أو مجتمعية، وبجميع مسبباتها سواء كانت دينية أو فلسفية أو اجتماعية أوسياسية. لهذا ليس من المستغرب أنّ معاييرَنا التي نتبناها اليوم هي مجردُ امتدادٍ "متطور" لمعايير أوجدها من كان قبلنا، وهذه حركة تسهِم -في جانب آخر- في تطور نظرتنا للأشياء وطرق تفاعلنا معها.

أدواتنا المعرفية وتطورها هي الأخرى تساهم في تطور هذه المعايير التي ننظر بها إلى الأشياء، وأدواتنا المعرفية ليست بالضرورة تلك الأدوات العلمية المحسوسة بل تمتد إلى طرق تفكيرنا ومنهجيتها؛ لتُحدِثَ في داخلِنا ثورةً عقليةً قد تساهم أيضا في اضطراب هذه المعايير، بل قد تزعزها وتنسفها لتستبدلها بمعايير أكثر تناسبًا مع الأدوات المعرفية وقواعدها، وهذا ما يمكن أنْ نراه واقعًا يتكرر في التاريخ مثل الثورة الحضارية الإسلامية التي جاءت مع الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام)، والتي تبنّت معاييرَ تصادمت في كثيرٍ من عناصرِها مع المعايير الموجودة والثابتة في ذلك الزمن، مما قاد إلى تبلور الصدام الاجتماعي والسياسي مع أتباع المعايير التقليدية، وهذه الثورة التي بدأت بإحداث معايير من نوعٍ آخر لا تلتزم بمعايير وضعية -في بعضها- أرادها الإنسان "الجاهلي" لتكون رافدًا لنزعته الأنانية الداعية إلى تقليص المصلحة في نطاقها الفرداني "الجمعي" الضيق الخاص إما لحماية أفراد بعينِهم دون غيرِهم أو مجتمعات معينة دون غيرها؛ يومها كان التفاضلُ في مراتب الإنسان ودرجاته؛ فكانت الطبقية واحتكار الحياة ومحاسنها لتلك الفئات التي اكتفت بمعاييرها الخاصة بها وألزمت غيرها من الضعفاء إلى الالتزام بها؛ فحينها يُنظر إلى الأشياء بهذه العين الضيقة، والتي يمكن أنْ نشبهها بمن يعيش في كهفِ إفلاطون، حيث يرى بعض من يتبعون هذه المعايير إلى ظلال الأشياء دون حقائقها الواقعية، أما المتحررون من قيود هذه المعايير الجامدة والمحتكرة فهم يرون حقيقة الأشياء كما هي.

هذا كله يقودنا إلى تساؤل مهم وهو هل نظرتنا إلى الأشياء وفقًا لمعاييرنا الخاصة بنا أم لمعايير الله؟ فعندما نأتي إلى الواقع البشري نجد محاولات الإنسان في معرفة داخله وخارجه من الأشياء؛ فيصيغ لأجل هذه المهمة الشاقة معاييره الخاصة التي يتشبث من خلالها بأملِ تحقق سعادة لا شقاء بعدها، وأمل تشكيل عالم مثالي تحقق افتراضه داخل خياله الواسع إلا أنّه فُقِد على أرضِ الواقع، ولا أجد أمةً بما فيها أصحاب الديانات التي أفقدت معاييرها أو بالأحرى عُطلت قسرًا إشباعًا لنزوات ونزعات الأنانية والطموحات التي تسقط وستسقط ملايين التابعين الذين حلّ عليهم الظلم والضّيْم ليس حبًا لها ولكن تضحية للمعايير السامية التي أرادها المتبوعون أنْ تكون؛ حينها لا غرابة أنْ نرى ملتصقين بالدين يسعون لمضاعفة أرصدتهم وكنوزهم دون العِبْء بما يحق ولا يحق لهم، وفقهاء سلطة يصفقون للجلاد ليس بالضرورة حبًا لهم ولكن تضحية للمعايير السامية التي أرادوها أن تكون خيرَ معين لفهم الأشياء التي تتحقق بها مآربهم ومصالحهم الشخصية. أما معايير الله الخالصة التي لا تتبنى محاباة ومصالح خاصة فإنَّها لا شك المعايير المثلى والأسمى والمتجردة من النقص. معايير الله الداعية إلى العدالة والحب والرحمة، الداعية إلى الفضيلة والأخلاق السامية، وإلى حفظِ النفس والمال والعرض، هذه بعض من كثير من معايير لا تتوافق مع معايير نُخَب المال والاقتصاد والحروب، نخبٌ تجد الخمرَ والمخدرات والجنسَ والسلاح أدوات تضاعف ثرواتهم الزائفة؛ فيصنعون لهذه الأدوات معايير جذابة تأخذ أحيانا شكل المعرفة في فلسفة وعلوم زائفة، وتتألف من قوانين وتشريعات يُلزم دهماء الناس وعاميتهم في قبولها وتطبيقها تارةً باسم صلاح الإنسانية ووحدتها، وتارةً لحماية حقوق الإنسان التي روجوا أنّ الدينَ ابتلعها وهضمها. لست من دعاة التعصب والتشدد، ولكنني أريد أنْ أرى حقيقة الأشياء كما ينبغي أنْ تكونَ وفقًا لمعايير سامية لا زائفة.

***

د. معمر بن علي التوبي - باحث وأكاديمي عُماني

"لقد أسسوا المدارس، ليعلموننا كيف نقول نعم بلغتهم"

(من رواية موسم الهجرة للشمال، للأديب السوداني، الطيب الصالح ).

ما زال الوعي التربوي العام السائد في بلادنا أسير الرؤية التقليدية السحرية إلى المدرسة بوصفها المكان الذي يتفتق بعطاء المعرفة، ويتضوع بأريج العلم، ويعبق بمعاني الحكمة، وينهض بأسرار الجمال، ويقدح بأنوار الحقيقة في تدفق ضوئي غامر يتعانق فيه سمو المعاني بألق الدلالات.

ومما لا شك فيه أن هذه الصورة الجميلة عن المدرسة قد تشكلت وتبلورت عندما كانت المدرسة عبر تاريخها الطويل عنوان عطاء إنساني حرّ ينهض بالإنسان ويعلو به إلى مراتب الحق والخير والجمال، وعندما كان روادها يشكلون طليعة من رسل الحق الخير والمعرفة والجمال، أي في الزمن الذي كانت فيه المعرفة التي تبثها المدرسة تعبق بطابعها الإنساني والأخلاقي والغائي دأبا على تشكيل العقول وبناء النفوس على مقاييس السمو الأخلاقي والإنساني تجسيدا لقيم المعرفة والحق والعدل والخير والغنى والجمال.

لقد تأصلت هذه الصورة الجميلة عن المدرسة في الوعي العام، وارتسمت في الوجدان تحت مطارق الشعارات والكلمات التي تعلمناها منذ الصغر حول المدرسة والمعلم والرسالة التربوية وقيمة العلم وعظمة المعلم وقدسية المعرفة وقداسة العقل، وهي المفاهيم التي رسخت في العقل الباطن وبقيت أصيلة في الوجدان العام دون تغيير أو تعديل يذكر على مرّ الأيام والأزمان.

ولكن هذه الصورة الجميلة للمدرسة ليست على جمالها في مدرسة اليوم، فالمدرسة لم تستطع - تحت معاول التغير ومطارق التحول - أن تحافظ على صورتها الجميلة، حيث فقد المعلم ألق الصورة التي رسمت له في الماضي، ولم تعد المعرفة العلمية غائية كما كانت في الأمس إذ سقطت في مستنقع الأداتية والنفعية الخالصة.

لقد فقدت المدرسة اليوم كثيرا من بريقها الإنساني وتألقها الأخلاقي تحت وقع تحولات رأسمالية جديدة تختزل الإنسان إلى أبعاده الوثنية المادية، وتغتال الطابع الإنساني للمدرسة، وتسحق أعماقها الأخلاقية، وتوظفها كأداة مدمرة لإنسانية الإنسان وقيمه الإنسانية. فمدرسة اليوم تًحتضر على مذابح التقدم المادي الرأسمالي، وتذهب ضحية الشهوات الرأسمالية الزاحفة نحو المال والربح والقوة والسطوة والسيطرة، حيث تقدم رسالتها الإنسانية قربانا في مواسم انتصارات الرأسمالية الجديدة التي تأخذ صورة عولمة جارفة زاحفة لا تبقي ولا تذر، وعلى هذه الصورة يتمّ تدمير الجانب الإنساني في الإنسان الذي يحتطب ليزود النظام الرأسمالي الجديد بالقدرة على الانطلاق إلى غاياته المادية والنفعية المطلقة.

لقد أبدعت العولمة بأدواتها الذكية تمائمها التربوية، وتعويذاتها السحرية، للسيطرة على مقدسات الأنظمة التربوية وروحها، واحتواء طاقتها الإنسانية، ومن ثم توظيفها للسيطرة على السوق، وتحويلها إلى مؤسسة رأسمالية بامتياز في وظائفها وغاياتها. واستطاعت في هذا المسار أن توظف أدهى الأدوات وأذكى الممارسات لقتل الروح الإنسانية في المدرسة، وتحويلها إلى جسد رأسمالي يعيش على إيقاعات القيم الرأسمالية الجديدة القائمة وعلى مقاييس الجشع الرأسمالي طلبا للثراء والقوة والربح في ميادين العرض والطلب.

علي اسعد وطفةوالأدهى من ذلك كله، أن الرأسمالية العالمية الجديدة تعمل وبطرق خفية ذكية على تغيير المدرسة وتفجير أعماقها الإنسانية والإبقاء على تموجات السطح بشواطئه الجميلة؛ فالتغيير والتدمير يحدث في العمق المدرسي دون أن تبدو آثار هذا التدمير في السطح، أي في الصورة الخارجية للمدرسة، التي ما زالت من حيث الشكل كما كانت في الماضي معادلة إنسانية جميلة ترتسم في معادلة العلاقة الخلاقة بين المعلم والطالب والرسالة والأمل والحياة والقيم والحق والخير والجمال، أما في العمق المدرسي وعلى خلاف ذلك فتعتمل كل معاول الهدم والتدمير التي تطبق على المعادلة الإنسانية تسييّدا لقيم الربح والتنافس والتسويق والتسابق وانسجاما مع قوانين السوق بما يعتمل فيه من صراع وعرض وطلب وربح واصطفاء وابتزاز.

فنحن اليوم إزاء صورتين للحقيقة المدرسية، صورة إنسانية تطفو على السطح، وصورة أخرى حقيقة تستقر في الأعماق. وهكذا تبدو الصورة الإنسانية التي تطفو على السطح جميلة صافية نقية، أما الصورة التي تستقر في الأعماق فهي صورة النار والبركان والحجر، وعلى هذه الصورة تبدو مدرسة اليوم أشبه بالمحيط الذي يستريح على جمال الشواطئ بينما تعتمل في أعماقه السحيقة اندفاعات الزلازل وثورات البراكين المدمرة.

ومما يؤسف له أن الوعي التربوي العام مأخوذ بمشاهد السطح وأوضاعه الجميلة دون أن يغوص في الأعماق ويتحرى في ظلماته وتياراته العنيفة. فمن منا اليوم لا تمتلكه مشاعر الرضا والإحساس بالنشوة الوطنية على إيقاعات التقارير الوطنية للتعليم في بلداننا، المتخمة بالمؤشرات الإحصائية عن إنجازات السياسات التربوية الكبرى في ميدان التربية والتعليم، من حيث النمو المتسارع في عدد المدارس، واقتحام معاقل التسرب، واختراق جدران محو الأمية، واتساع الجامعات وتنوعها، وارتفاع عدد الخريجين، وازدياد مخصصات التعليم من الدخل القومي. وغالبا ما تتجلى هذه التقارير التربوية في صورة خطب سياسية تبتهج وتُبهج شعوبها وتفاخر بعدد الإنجازات التربوية التي تحققت، كالزيادة في عدد الطلاب والجامعات والمدارس والفصول، ومن ثم فإن هذه الخطب تذكرنا دائما بالخطوات الكبيرة المتحققة في ميادين التربية والتعليم تحقيقا لإلزامية التعليم ومجانيته وشموليته وديمقراطيته ونسب الإنفاق عليه.

ومما لا شك فيه أن الخطاب التربوي الرسمي السائد يضعنا إلى حدّ ما في صورة الإنجازات المادية الملموسة المتحققة واقعيا في ميدان التربية والمدرسة، ولا يتجاوز حدود هذا الامتداد الكمي والتوسع البنيوي للأنظمة التعليمية، بل يقدم لنا في كثير من الأحيان معالم الصورة الخارجية الكمية لأوضاع التعليم وتحدياته وطموحاته، ولكن هذا الخطاب لا يضعنا أبدا- وهو بالطبع لا يستطيع لقصور في إمكانياته العلمية والنقدية- أن يضعنا في صورة المشهد الأيديولوجي والفعاليات الخفية المستترة الكامنة في عمق هذه الأنظمة التربوية وفعالياتها التعليمية؛ فالمشهد السطحي الذي تقدمه التقارير والبيانات تكاد تخلو من أي وصف حقيقي للفعاليات القيمية والوظائف الطبقية والأخلاقية المتأصلة في التكوينات الوظيفية لهذه الأنظمة التعليمية، بل تنأى كليا عن تصوير الجوانب الاصطفائية والإقصائية للمؤسسات المدرسية والتعليمية، كما تجفل إشاراتها إلى المضامين الاستلابية القائمة في المؤسسات المدرسية التي تصطفي النخب، وترسخ التفاوت الاجتماعي والاقتصادي بين أفراد المجتمع وفقا لانتماءاتهم الاجتماعية والطبقية.

فالصورة التمجيدية في الخطاب الرسمي لأوضاع التعليم وإنجازاته الكبرى تخفي في الظل منظومة من الحقائق والوقائع التي تنذر بالخطر، وتغفل عن قصد وعن غير قصد عن كثير من الممارسات التربوية المدمرة التي تعتمل في صميم هذه المؤسسات وعمقها، وتنذر بعدمية تربوية فائقة المقاييس والمعايير. وهذا الخطاب التمجيدي يتصف دون أدنى شك بقدرته على التضليل والتدليس في نشاط يهدف إلى ذر الرماد في العيون وإخفاء الحقائق التي يندى لها واقعنا التربوي بالمهانة والخجل. فالخطاب السياسي السائد عن الإنجازات والانتصارات لا يعدو أن يكون أكثر من مخادعة تربوية كبرى تضع في الخفاء ما لا يمكن الإعلان عنه والتصريح بوجوده من ممارسات تربوية اغترابية استلابية طبقية مضادة للإنسان والكرامة الإنسانية.

ولكي نكون في دائرة الموضوعية يتوجب علينا أن نعلن أن أصحاب هذا الخطاب هم أكثر الناس انخداعا بأوهام التقدم التربوي والإنجازات في ميدان التعليم. ويجب أن نعلن أيضا بأن منتجي هذا الخطاب هم أقل الناس قدرة على قراءة ما يعتمل في داخل أنظمتهم التربوية من أسرار وما يكتنفها من غموض وما يدور فيها من فعاليات تربوية استلابية واغترابية.

وهذا الخطاب الرسمي قد لا يختلف كثيرا عن الخطاب العلمي السائد الذي لم يستكشف أبعاد الأنظمة التربوية السائدة وفعالياتها الجوهرية، وقد يكون هذا الأخير مسؤولا إلى حد كبير عن الطابع الشكلي والسطحي للخطاب الرسمي الذي يغتذي من معين البحوث الجارية في ميدان المدرسة، وهي أبحاث تعوم على السطح وتتجنب الغوص في القاع واستكشاف الأعماق. وقد أثر هذا الخطاب بشقيه العلمي والسياسي الرسمي في تشكيل الوعي التربوي العام في المجتمع الذي يفتقر إلى المعطيات الجوهرية حول فعالية التعليم ودينامياته الأيديولوجية والسياسية. فالوعي التربوي العام ما زال مأخوذا بالعناوين الكبرى التي تطرحها الأيديولوجيا السياسية والطبقية للتعليم والتربية، حيث يتشدق أغلب التربويين بخطاب الانجازات، ولغة البيانات، ولهجة المؤشرات التربوية التي تدل على سلامة الأنظمة التربوية ومكانتها في الحياة الاجتماعية والسياسية دون دراية بالأبعاد الحيوية الأيديولوجية لهذه الأنظمة وغاياتها.

وفي خضّم هذا الواقع الملتبس تجب الإشارة إلى حضور طليعة نقدية واسعة من المفكرين والباحثين والمربين الذي أخضعوا أنظمتهم التربوية للنقد والتأمل، وكشفوا عن مواطن الضعف والقصور في بنيتها ووظيفتها، واستطاعوا في سياق رؤيتهم النقدية تناول مختلف جوانب الضعف والقصور في المنهج والمعلم والممارسات التربوية والأخطاء والسياسات القائمة. ولكن قلة قليلة من هذه النخب الفكرية استطاعت أن تذهب إلى أبعد من ذلك سعيا إلى استكشاف الخفي والكامن والمستتر والغامض في بنية الأنظمة التربوية ووظائفها الأيديولوجية، وذلك لأن هذه الجوانب الخفية تتميز بدهائها وقدرتها على التخفي والتدليس والمراوغة في المكان والزمان حيث يصعب استكشافها وتعيينها وتحديد أبعادها وملابساتها وديناميات وجودها. فالجوانب الأيديولوجية الخفية في الحياة المدرسية تتميز بدرجة كبيرة من الصعوبة والتعقيد وتحتاج إلى أدوات معرفية متقدمة وطاقات نقدية متفردة في عملية التقصي والاستكشاف.

ولا يمكننا أيضا أن نغض الطرف عن الجهود الكبيرة التي تبذلها طليعة من المفكرين التربويين في عملية استكشاف الفعاليات الخفية والأيديولوجية للأنظمة التعليمية وإدانتها، وعلى الرغم من أهمية الجهود التي بذلوها ويبذلونها ، فإن هذه الجهود ما زالت متفرقة وضائعة، ولم تشكل بعد قوة فكرية ثقافية مؤثرة في الوعي التربوي العام الذي ما زال مأخوذا بمعطيات سطحية وشكلية عن قضايا التعليم والفعاليات التربوية في جسد المؤسسات التربوية. وما زالت الساحة الفكرية تحتاج إلى المزيد من التطلعات الفكرية الجديدة والممارسات النقدية الساخنة كي يأخذ الفكر التربوي النقدي مكانه ودوره في خريطة الفكر التربوي المعاصر.

فالوعي التربوي في بلداننا مأخوذ بظاهر الأمور وليس بوشائج حركتها الداخلية وما يعتمل فيها من حقائق وممارسات على مبدأ " لك من الأمر ما ظهر وليس عليك منه ما خفي وما ستر"، ومن المذهل اليوم أن مفكرين تربويين يشهد لهم بالعطاء والعناء يقعون تحت سطوة ظاهر الأمور دون التوغل في الأعماق والبحث في دهاليز الأماكن المظلمة والردهات الخفية في الواقع التربوي المعاصر.

وتحت تأثير هذا الغياب الكبير للفكر التربوي النقدي، يجد الوعي التربوي العام نفسه مثقلا بأوهام كبرى عن المدرسة والتربية والتعليم، متأثرا بلمغالطات والضلالات التي ارتبطت بوظيفة المدرسة ودورها وفلسفاتها وبنيتها وديناميات عملها. وهذا الأمر قد ينسحب جزئيا على الوعي التربوي المتخصص الذي نجده لدى أجيال من الأكاديميين والجامعيين، ولدى كثير من الكتاب المفكرين الذي لم يستطيعوا تجاوز عتبة الرؤى السطحية الشكلية لوظيفة النظام التعليمي ودوره في الحياة الإنسانية للمجتمعات المعاصرة.

والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة اليوم هو: أين الرسالة الإنسانية للمدرسة المعاصرة؟ وأين دورها الأخلاقي؟ وما موقع رسالتها السامية في عالم شديد التحول والتغير والتسارع؟ أين هو الدور الحضاري والإنساني لمدرسة اليوم في ظل عولمة مادية جارفة زاحفة؟ أين الدور الإنساني والأخلاقي والحضاري للمدرسة في ظل رأسمالية جديدة تدور رحاها لتطحن كل القيم والمعايير الإنسانية التي عرفتها المدرسة عبر تاريخ الإنسانية الطويل؟

هل يمكن للمدرسة اليوم أن تؤدي أدوارا مختلفة لرسالتها الإنسانية؟ هل يمكن للمدرسة أن تتحول كليا إلى مدرسة بورجوازية أو رأسمالية نفعية لا أنسنة فيها ولا قوة روحية؟ هل تحولت المدرسة حقا إلى مؤسسة للتمييز والإكراه والاصطفاء الرأسمالي الجديد؟ هل يمكن للمدرسة أن تتحول إلى ممارسة برجوازية اغترابية؟ هل تحولت المدرسة في عصر الصورة والميديا والعولمة والثورات الرقمية والمعرفية إلى مؤسسة استلابية؟ هل فقدت المدرسة دورها الإنساني ورسالتها الأخلاقية؟ هل أصبحت مؤسسة للقهر والاصطفاء والعنف؟ هل أصبحت مؤسسة طبقية تمارس وظيفة التقسيم الطبقي؟ هل هي حقا مؤسسة أيديولوجية تنتج وتعيد إنتاج ثقافة الهيمنة والسيطرة للأنظمة السياسية القائمة وللطبقات التي تسود وتهيمن؟ هل تعمل على بث أيديولوجيا الدولة أيديولوجيا الهيمنة والقمع والسيطرة؟

وإذا كانت المدرسة قد قلبت ظهر المجن لرسالتها الأخلاقية، وتنكرت لدورها الإنساني، وتنكبت كل أسلحة القهر والاصطفاء والتمييز، وتبنت كل القيم التي فرضتها عولمة زاحفة ورأسمالية متجددة تخلع جلدها في كل يوم لتظهر في حلة جديدة متجددة، فما الأدوات والفعاليات الذكية الخفية التي تمارسها في عملية الاصطفاء الاجتماعي؟ كيف تمارس الاصطفاء والرمز والعنف الرمزي والقهر الأخلاقي ضد الفقراء والمسحوقين وأبناء الطبقات الهامشية المغفلة المنسية؟

وإذا كان قد ساد في الوعي العام أن المدرسة تقدم وحياة وحركة ونشاط وجمال وأخلاق وقيم وتحضر وعلم ومعرفة، فإن السؤال الكبير الذي يطرح نفسه هل هذه أوهام أم أصنام أم أقنعة مزيفة؟ هل ترمز المدرسة حقيقة إلى هذه القيم السامية وتجسدها؟ أم أن ما تأصل في الوعي هو زيف وأوهام وضلالات تخفي الوجه الخفي للمدرسة؟ فهل للمدرسة أوجه خفية وممارسات فاضحة في دائرة الصمت البارد خلف الستائر المهيبة؟ أسئلة أخرى وجيهة مشروعة يطرحها هذا الكتاب ويسعى إلى فك رموزها واستكشاف خفاياها وأسرارها. تلك هي الأسئلة المحورية التي تشكل منطق هذا الكتاب ومنهجه ولحمته وغايته.

وهنا يجب علينا أن نعلن في هذه المقدمة أن ثمة تحولات عميقة وجوهرية قد حدثت في بنية المدرسة ووظائفها وديناميات وجودها وحركتها، وأن عوامل اجتماعية وتاريخية قد فرضت هذا التحول الجوهري في بنية المدرسة ووظيفتها، ومما لاشك فيه أن العولمة وتطور النظام الرأسمالي الجديد قد أحدث ثورة في عالم التربية وزلزالا مدمرا في وظائفها، والمدرسة تحت وقع هذا الزلزال الكبير قد تحولت - وماضية في تحولها - إلى مدرسة برجوازية ورأسمالية بامتياز، وهي في دائرة هذا التحول تفقد طاقتها الإنسانية وقدرتها على بناء الروح الحقيقة للإنسان الخلاق. لقد تحولت المدرسة وهي ماضية في هذا الاتجاه إلى مؤسسة اقتصادية رأسمالية تفتقر إلى الدلالة والمعنى لتعلن بأن القيم المادية قد أصبحت جوهر الفعاليات التربوية والتعليمية.

وباختصار المدرسة قد تحولت إلى مؤسسة رأسمالية واستطاعت في دائرة هذا التحول أن تنمي في ذاتها فعاليات استلابية جديدة تمتاز بالقدرة على التخفي والتحرك في الظل دائما والتي تعطي للمدرسة من حيث الشكل صورة ترمز إلى معاني التقدم ولكنها في مضمونها تنزع إلى ممارسة الاستلاب ووضع روادها ومريديها في دائرة الاغتراب، حيث تمارس استلابا فكريا واغترابا طبقيا بأدوات عبقرية تتصف بقدرتها على التخفي والظهور من جديد في صور ومعاني ودلالات مخادعة مراوغة.

***

ا. د. علي أسعد وطفة

"حاضر ثقافتنا وماضيها وجود متميز"

في لقاء اعتدنا عليه بين الحين والآخر، كنت والصديق الكاتب والإعلامي يحيى علوان نتحدث عن ظاهرة ملتبسة لا تنفصل عن اضطرابات نفسية سائدة في المجال الثقافي في مجتمعاتنا العربية، ألا وهي (هوس الشهرة) عند أبناء المحيط العربي ومنهم بعض العراقيين في المهجر. وعلى ما يبدو أن انتشار ظاهرة الهوس بطرق مختلفة عند البعض من الكتاب والشعراء الناشئون، أصبحت أشبه بما يعرف بداء (العظمة). تفسر بلمحة سريعة أقل ما يقال عنها إشارات "صراع ثقافي بين الأجيال" أو نظرة قاصرة تجاه المنجز الأدبي للمبدعين الرواد العرب بالمهجر على الصعيدين العربي والعالمي في مجال "الشعر والرواية والفنون". ولكن إذا نظرنا عن كثب إلى الأمر سنكتشف بأن "شهوة الشهرة" يمكن أن تسبب ليس إشكاليات ثقافية وفكرية فحسب، إنما الإدمان على هذا السلوك، وقد يستغرق الأمر وقتا طويلا حتى يدرك البعض مدى ضياع التركيز عليه كثيرا، حيثما تتلاشى أحلام النجاح والشهرة. وبعد كل شيء قد تتغير الأولويات، لكنها أن تغيرت، كان هوس المال دائما هو الهدف، وليس فيما يتعلق بإنبات فلسفة الإبداع الفعلي. على مدار الوقت، تم تطوير نماذج عديدة لهذه الظاهرة، وفي كثير من النواحي بشكل مثير للجدل، في البحث الإنساني والاجتماعي والثقافي.

تتخذ مظاهر شكل الإنتاج الأدبي في نظر أصحاب "هوس الشهرة"، ليس كعلاقة مسبقة ووسيط يجب أن يؤخذ في الاعتبار في خصوصيته، إلى حد كبير، دوره منذ عقود في نشر ورقي المنتوج الأدبي العربي الأصيل كممثل ثقافي اجتماعي، لا ينضب تركيزه الرئيسي على المواجهة الحقيقية ضمن مختلف الثقافات. بل العكس، يمكنك أن ترى، أنه من لم يكن مقتدرا، جعل الناس يعتقدون أنه كاتب أو شاعر عصره. إن "الفرق بين القديم والجديد" يكمن في مدى حاجة الآخر، حين يكون الجديد "مثقفا لغويا" حقا، عندئذ فإن شخصا دائما يراعي نشاطه الثقافي. غير ذلك لا يمكن أن تتسامح مع أي مظهر آخر في هذا الشكل، غير المستقر، إلا عندما يكون كل واحد في دور "أنا" قادرا على الرجوع إلى النظير في دور "أنت". ومثلما يُدعى الإنسان للإجابة عن طريق قدرته على الإجابة عن نفسه، عليه ألا يسيء الظن بأن "الأنا"، فقط، من خلال ذروة أن يكون المرء قادرا حقا على قول "أنا" من أجل إن تكون العلاقة بينه وبين الآخر في الشأن الثقافي لا لغرض ولا جشع أو ترقب، إنما إلى أبعد من العلاقات بكل ما في الحقيقة، إذ إن اكتساب الشهرة يعني قبل كل شيء إثبات قيمتك الثقافية بما ينسجم مع القيم الإنسانية.

عقدة الـ "أنا" و "هوس" الشهرة بالسرعة القصوى وبأي ثمن، حالة ليست بالجديدة على المجتمعات الثقافية العربية في المهجر، إنما هي ظاهرة بدأت في أواسط سبعينيات القرن الماضي. آنذاك أخذ التنافس بين ضعفاء النفوس طابعا شخصيا للظهور في المنصات الثقافية الأدبية والفكرية في أوروبا، فقط لأجل أن تتصدق بعض المؤسسات الأوربية المشبوه بحفنة مال أو طباعة ديوان أو كتاب. هذا الارتباك الفكري واقع الحال لا يرقى لأن يكون وسيط لثقافة لديها ما تختزن من مهارات أدبية عبر التاريخ، ولا علاقة بموروثنا الثقافي، بل حماقة البحث على أرصفة الطريق عن شهرة زائفة. وعلى ما يبدو أن مفهوم الـ "... أنا" عند الناشئين أو دخلاء الثقافة، لا زال بعيدا عن التنقيب في أساسيات النصوص الأدبية السردية ـ الشعرية والحوارية، في الأدب العربي القديم والحديث، والذي قل نظيره القيمي مجتمعيا في العديد من الأماكن والأزمنة. بمعنى آخر، عدم فهم هؤلاء فلسفة العلاقة بين الإنتاج الأدبي ومصير الإنسان على اعتبار أن للثقافة الأدبية غايتين، الأولى من شأنها نشر الوعي واستخدامه لبلورة عناصر التأمل والتفكير في المحيط الاجتماعي الثقافي. الثاني أن يكون عنصر فاعل للدفاع عن قضايا الإنسان، الذي لازال ذلك حيويا ولم ينفصل منذ أول ملحمة شعرية "كلكامش" قبل آلاف السنين ولغاية اليوم. ولا زال أيضاً، في غاية الأهمية لرسم الخريطة الثقافية العربية وبالأخص أدب الشعر والرواية واتساع حجم روادها في العالم.

لا ضير في أن ينمو النشاط الثقافي الأدبي العربي في محيطات غير محيطه الأصل، لكن عليه أن يكون وحدة متجانسة إلى آخر حدود التناسق الحرفي التنموي، بعيدا عن ضجيج المهرجين ممن يسيئون الفهم للثقافة العربية وأبجدياتها اللزومية، مثل عدم إتقان اللغة ونقاوتها، افتقار الخبرة، انعدام الأساسيات والمناهج الألسنية والجمالية التي تمتاز بها وتشكل كغيرها من اللغات مقومات أي ثقافة وأدب، ودونها لا تنشأ أي ثقافة... الغريب أن العديد من العرب من أصحاب المقدرة والمكانة على الساحة الثقافية والأدبية والفكرية، أصبحوا جزءا من لعبة "الذروة الزائفة" وللأسف ملاقاتها ليكونوا جزءاً من المحسوبين عليها. فشكلت ظاهرة ميزة تستغلها بعض المؤسسات الأوروبية لإيقاع بعض المثقفين العرب الشباب المصابين بهوس الشهرة والعظمة في حبالها للاستفادة منهم بالشكل الذي تتطلبه مصالحهم دون أن يدركوا ذلك.

في تسعينيات القرن الماضي نظمت أكبر مؤسسة ثقافية في ألمانيا "دار ثقافات العالم"، ندوة ثقافية أوروبية على مدى أيام. الصديق المفكر أودونيس كان مدعوا للمشاركة. ونحن في طريقنا من مطار برلين متوجهين لمكان السكن وكان "بنسيون" صغير وليس هوتيل. اقترحت عليه أن نذهب أولا إلى دار الثقافات للاستفسار حول الأمر. سألني ما العمل إذا تبين سكن الضيوف الآخرين في أماكن موقرة، أجبته... "مكانك أعود مباشرا من حيث أتيت.. لأن ذلك غير مقبول"، وهو ما حدث بالفعل عند انكشاف الحقيقة... بعدها بأشهر نظمت مع الصديق الراحل المؤرخ زياد منى أمسية في نفس الدار للشاعر العربي الراحل نزار قباني شاركت فيها المفكرة الفلسطينية سلمى خضراء الجيوسي، وعلى ذكر الإحاطة بما حدث مع أودونيس عهدت لي إدارة المركز اختيار الهوتيل المناسب خوفا من أن يتكرر الموقف. وعند تنظيمي بالتعاون مع الصديق السينمائي قيس الزبيدي عام 1995 أمسية للشاعر العربي الفلسطيني الراحل محمود درويش في دار ثقافات العالم اقترح علي مدير الإدارة "الدكتور شيرر" أثناء إحدى جولات المباحثات، أن أسأل الشاعر درويش فيما إذا لديه مانع من مشاركة الكاتب اليهودي "آموس أوس"، سألته لماذا؟، أجابني لنضمن حضورا واسعا. قلت له: لكن علمي أن محمود سيرفض قطعا. لأنه وأنا أيضا، ندرك بان أدبنا العربي يحتل المركز الذي يستحقه، وان المثقف العربي لا يمكن أن يقاس على أنه من الدرجة الثالثة. نقلت المقترح مع ذلك لدرويش فسألني، ماذا كان ردي؟ أجبته كما ورد فقال: موقف مبدئي بمستوى المسؤولية... أخبره إلغاء الأمسية. عند هذا الحد انتهى أمر "أوس" وضجت القاعة الواسعة عن بكرة أبيها بالجمهور ووسائل الإعلام.. اذكر ذلك من باب التنبيه على مدى المسؤولية الثقافية والاخلاقية التي كان يتحلى بها جيل المثقفين العرب في الازمنة الغابرة ازاء ثقافتنا العربية، وبالتالي قيمها على المستوى الشخصي والعالمي. وليس بدافع الـ "..انا" و "شهوة الشهرة".

امتدح قيصر بروسيا فريدريك الثاني، الملقب بالعظيم، طاقة اللغة الفرنسية - لا شيء آخر، لا الليونة ولا النشوة. وكان يضع الفكر والأفعال على قدم المساواة، على عكس مظاهر البحث عن المجد باي وسيلة وغاية. ولم يكن عرش فرنسا معيار عنده: كان سيقاس به. انما وجد الثقافة ـ الادب والفن لا تضاهى في جميع درجات العرش. لا في فرساي التي تُرى من بعيد، وباريس لم تطأ قدما أبدا. جلست العقول المستنيرة للمملكة حول طاولته في بوتسدام - ليس بالضبط طواعية، لكن هذا لم يزعجه. ما أعجب به في فرنسا هو السمعة لفلاسفتها، حتى لو تم حظرهم.: كان يجب ألا يسمح لنفسه بأكثر من تفوق المفكرين والادباء. ومن الغريب أن الملك مات وهو يشيخ في استضافته واحترامه للادباء والثقافة والمثقفين والمفكرين، ليس الاوروبيين فحسب، انما من مشارق الارض ومغاربها. على النقيض من الصورة الذاتية المعكوسة عند المثقفين العرب الذين لديهم شغف كتابة "الشعر او الرواية"، لكن بالنسبة لواقعهم، امرا يتوجب إلى حد كبير ان يكون له سياقات لا تترك مجالا دون تنفيذ أهدافهم ونواياهم الشخصية. الامر يبدو الى حد ما طبيعيا، لكن تفسيره يتم في واقع الحال وفقا لاتجاه البحث على انه الصورة السيسيولوجية للشاعر او الكاتب والتي إذا ما أخذ المرء في الحسبان مدى تعبيرها المحدود في التفسير، سوف لا تنفصل عن غاياته المرتهنة الى "هوس الشهرة" بثقة مفرطة للغاية، ولكن إلى أي مدى يمكنه تحقيق ذلك في عمله الابداعي؟ الصورة لحد الان تبدو قاتمة، في شكلها واسلوبها.

في تقديري تشكل ثقافتنا عموما صراعات فكرية تتفاعل مع الأحداث وتتطور مع الزمن بموضوعية أهمها: المذهب العقلاني الذي يقول بأن العقل مصدر كل معرفة، والعلماني الذي يطالب بفصل الدين عن الدولة، والإسلامي أو الغيبي الذي هو ما لا يعرفه البشر إلا بواسطة الأنبياء. لكن كل هذه التناحرات لا تشكل نسبيا أي معيار، بقدر ما تبقى الباب أمام أعداء الثقافة العربية مفتوحا على مصراعيه فتختزل حضارتنا ويتعمق باسم "الثقافة" اتجاه الكتابة المشوهة على حساب ازدهار الاتجاه الثاني الذي يرفض إحباط القيمة الإبداعية في تراثنا الثقافي لأجل الشهرة والمال.

***

عصام الياسري

يسألني أحدُ الكتّاب الأصدقاء الأعزاء: لماذا لا تكتب للجماهير، نحتاج كتابةً تصنع الرأيَ العام، وتغيّر المجتمع، وتقضي على التخلف، وتنقلنا إلى مرتبة الدول المتقدمة، علينا النزول إلى الميدان، علينا أن نكون ثوارًا في كتاباتنا، نحن في معركةٍ تتطلب شجاعةَ التحدي والصمود والمواجهة والمغامرة، على الكاتب أن يكون كالعقائدي المؤمن بقضيته المتحمّس للقتال في المعركة. قلت له: لست وصيًّا على أيّ أحد، أحاول التحرّرَ من الوصايات، وتحرير الناس من وصايتي. منذ سنوات طويلة هجرتُ الكتابةَ التبشيرية، عندما أدركتُ حاجتي الشديدة لتفسير ذاتي والإنسان والعالم من حولي قبل كلِّ شيء. لا تصنع الرأيَ العام اليوم وتغيّر المجتمعَ الكتاباتُ التعبوية، والحلولُ المبسطة، والأمنياتُ والشعارات والأحلام الرومانسية. معادلات التغيير الاجتماعي التقليدية تبدّلت، عندما يتغير نمطُ التكنولوجيا يتغير نمطُ وجود الإنسان في العالم، وتصير الحياةُ أشدَّ تعقيدًا، والواقعُ أكثرَ تركيبًا، وتتراجع قدرةُ الإنسان على كبحِ التحول وترشيدِ مساراته، وربما يبلغ التحول درجةً ينفلت فيها الواقع، ولا يعود الإنسانُ قادرًا على تشكيله على وفق خرائطه الأيديولوجية ومعتقداته ورؤاه. لست أنا وأنت وغيرنا من الكتّاب مَن يحرّك التاريخَ ويغيّر الناسَ اليوم، ما يغيّر الناسَ هي تكنولوجيا المعلومات والذكاءُ الاصطناعي والروبوتات، والهندسةُ الجينية، ومعطياتُ التكنولوجيا الجديدة في هذا المجال وغيره، والتغيّرُ المناخي، والسياساتُ البراغماتية، والحروبُ العبثية، والكوارثُ الطبيعية والزلازل، والأوبئةُ المباغِتة. يجد ‏الإنسانُ الحاذقُ الذي يواكب الواقعَ بدقة نفسَه غارقًا بتحولات عميقة تعصف به كإعصار، وكأنه يسبح في تيارِ شلّالٍ متدفق، لا يهدأ، ولا يعرف إلى أين هو ذاهب. أوضحُ مرآةٍ تنعكس فيها صورةُ هذه التحولات هو تطبيق Chat GPT الجديد وشقيقاته، الذي ظهر نهاية سنة 2022، ووصفه بيل غيتس المؤسّس المشارك لشركة (Microsoft) بقوله: "إن برنامج الذكاء الاصطناعي (ChatGPT) له نفس أهمية اختراع الإنترنت، كما قال لصحيفة (Handelsblatt) اليومية الألمانية في مقابلة نشرت اليوم الجمعة"1 . لا أريد أن أكون متشائمًا بشأن ما يعدنا به الذكاءُ الاصطناعي ولا متفائلًا. أتحدث عن قدراتنا كبشر على التكيّف مع واقعٍ ملتبس شديد التعقيد، تتحكم فيه إراداتٌ متصارعة، ورأسُمال متوحش لا يعرف إلا الربحَ العاجل، وتصنع تحولاتِه بعمق تكنولوجياتٌ جديدة وضعته على أعتاب منعطف لم تتكشف ملامحُ خريطته، ولا يدري الإنسانُ مآلاتِه فيه غدًا.

منذ بدأتُ النشرَ لم أتوهم يومًا أن العالمَ يتغيّر على إيقاع كتاباتي، أو أن الناسَ يترقبون أن يكتمل رسمُ خرائط حياتهم وطرائق عيشهم بأفكاري وكلماتي، دائمًا أعيش هاجسَ أن ما أقوله لا ينصت إليه أحد. أحيانًا يتفاقم شعوري بلا جدوى كتاباتي، ما يسعفني ويخفض ضراوةَ هذا الشعور، ويستحثّني على إنفاق وقتي يوميًا بين القراءة والكتابة وتحرير النصوص، هي الحاجةُ إلى منجزٍ يشعرني بالحضور في العالَم. لست محبطًا ولا يائسًا، مازلت أنجو بالكتابة من الخوضِ في متاهات الحياة، وحمايةِ نفسي من الاكتئاب والمحافظةِ على صحتي النفسية، بغضِّ النظر عن أصداءِ هذه الكتابات وانقسامِ مواقف القراء حيالها. ما أجنيه من مكاسب في الكتابة تدعوني للاستمرار، إذ تخفض شيئًا من قلقِ الوجود والشعورِ المرير بضراوة الشرّ وتفشيه في الحياة، وتمنح حياتي شيئًا من المعنى. لا أتقن أيّةَ مهنة في الحياة سوى القراءة والكتابة، إن كانتا مهنة، لا يلهمني فعلٌ في الحياة كما تلهمني القراءةُ والكتابة.

قيمة الكتابة في صدقِها بالتعبير عن الذات أولًا، وصدقِها مع القراء ثانيًا. دائمًا أكتب ما أعتقده صوابًا لحظة كتابته، لم أكتب يومًا ولن أكتب ما أكذب به نفسي أو أخون ضميري الأخلاقي أو أضلّل القراء وأخدعهم. لا أتردّد بإعلان قناعاتي عندما تتغيّر في ضوءِ الدليلِ العقلي، وأصداءِ ما أعيشه في الواقع وانعكاسه على حياتي وحياة الناس. العقل الذي ينشغل بالتفكير والتأمل وإعادة النظر في قناعاته، وتمحيصها بامتحان الأسئلة الصعبة، لا تتصلّب قناعاتُه ولا تنغلق بشكل نهائي. الضمير يفرض على صاحبه أن يذعن لما يمليه عليه عقلُه، ولا يتردّد في إعلان ما يراه صوابًا، ويحمي صاحبَه من أن تكذِّب رؤاه وأفكارُه ومفاهيمُه أحاديثَه وكتاباتِه ومواقفَه. لا أراهن كثيرًا ‏على قدرة جيلي على مواكبة الواقع والإصغاء لصوت المستقبل. الواقع الذي نعيشه بحاجة لأن نكون أنا وجيلي أكثرَ شجاعة لنعلن للأبناء أن كثيرًا مما نراه من خراب أوطاننا المسؤولُ عنه أيديولوجياتٌ منفصلة عن الواقع، نسجها خيال أيديولوجيين مسكونين بأحلام رومانسية، ممن لا يعرفون مصالحَ أنفسهم ومجتمعاتهم وأوطانهم، وأحيانًا لا يعرفون بوضوح حتى ما يرفضونه بشدّة وإصرار عنيد.‏

لا يتغيّر العالمُ اليوم بكتاباتنا مهما كانت قيمتُها،‏كلُّ شيء من حولنا يتغيّر بعوامل عظمى خارج حدود قدراتنا.‏ لا أجد لكتاباتي وأمثالي أثرًا ملموسًا في إنتاج هذه العوامل، وإن كان هناك تأثيرٌ في تغيير الواقع فهو محدود جدًا. نمطُ الحضور الجديد للإنسان في الوجود يدعونا إلى أن نكتشف الديناميكيةَ التي يتغيّر على وفقها العالَم، وكيف أن تحولاتِ الواقع لم تعدْ محكومةً بما كنا نعرفه من معادلات وعوامل تقليدية يتغيّر العالَم تبعًا لها.‏ نمطُ الحضور هذا يُعاد فيه بناءُ صلة الإنسانِ بالإنسان، والأشياءِ، والمعرفةِ، والحقيقةِ، والذاكرةِ، والزمانِ والمكانِ، والماضي والحاضرِ والمستقبل، على نحو يتبدّل فيه تعريفُ مفاهيم ظلّت راسخةً في الثقافات البشرية لزمن طويل، وتحدث ولاداتٌ جديدةٌ لمصاديق وتطبيقات العدالة والحرية والأمن والسلام وغيرِها من القيم الكونية في الواقع المتجدّد، فالأمنُ المعلوماتي اليوم مثلًا هو مصداقٌ جديدٌ للأمن.كذلك يتبدّل تعريفُ مفاهيم اجتماعية واقتصادية وثقافية على وفق منطق العالم الرقمي، فالملكيةُ مثلًا تنتقل من امتلاك الأشياء المادية في نمط الإنتاج الماضي إلى امتلاك الأفكار في نمط إنتاج المعرفة، ويتبدّل تعريفُ رأس المال، فينتقل من رأسِ المال المادي المتمثلِ في أصول ثابتة إلى رأسِ مالٍ معرفي يتمثل في: تعليم، ومعلومات، وأفكار، ومهارات، وبرامج، وابتكار، وذكاء صناعي، وهندسة جينات، وأمثالها. إعادةُ بناء صلات الإنسان بما حوله تنتهي إلى إعادةِ إنتاج نمطِ وجودِه في العالَم.

واحدةٌ من المتاعب الموجِعة في مهنتي ككاتب أني لا أثق كثيرًا بكتاباتي، كلّما أقرأ ما أكتب تهتزّ قناعتي بكلماتي. المواقف الصادرة عن قراء لا أعرفهم ولا يعرفوني، ولم ألتقِهم من قبل، تعيد لي الثقةَ بما أكتب. يرى بعضُ القراء الكرام أن هذه الكلمات تعمل على خفض القلق الوجودي الذي يعيشه الجيل الجديد خاصة. ربما يعود تأثيرُ هذه الكلمات إلى أني أكتبها بصدق وإخلاص، وأكرّر كتابتَها عدة مرات إلى أن أستنفد كلَّ طاقتي، ولعلّ ذلك ما يدعو بعضَ القراء للقول بأنهم يتذوقونها وكأنها طعامٌ شهي.

بعض الكتّاب يظن أن العالمَ يتغيّر على إيقاع كتاباته، وأن كتاباتِه أهمُّ للبشرية من اكتشاف الكهرباء والسيارة والطائرة والبنسلين والانترنيت وغيرها، وأبرز من يمثّل هؤلاء كتّابُ الأيديولوجيات ممن تطغى في كتاباتهم الوثوقيات، وربما لا نقرأ لديهم أيّةَ كلمة في كتاباتهم تكشف عن ظنٍّ أو لايقين أو تشكيك. أكثر الكلمات في أحاديثهم وكتاباتهم تعبّر عن ثقةٍ مفرطة وجزمٍ نهائي، وحماسٍ يصل أحيانًا درجةَ الهوس، ورفضِ الإنصات لأية فكرة لا تنطق بما يقولونه. بعضُهم يرى نفسَه نبيًا مبعوثًا أرسلته السماءُ لإنقاذ البشرية. شخصياتهم صارمة، إراداتهم حازمة، وعنادهم لا ينكسر. يقينهم راسخ أبدي، مواقفهم نهائية، مهما تغيّرت الأحوال، وكذّبت الوقائع آراءَهم وشعاراتهم ورهاناتهم وأحلامهم. كثير من هؤلاء تحميهم هالةُ أسمائهم الكبيرة، ويلوذون بجماعات تحميهم وتروّج كتاباتهم بشكل واسع مهما كان مضمونُها، خاصة إن كانوا في شبابهم في حضانة أحد الأحزاب السياسية. أية محاولة لإعادة النظر في أعمالهم تُجهض قبل ولادتها، بعد أن يصنعون اسمًا لهم يحتمون به كلَّ حياتهم، ويواصلون الكتابةَ وتكديسَ مؤلفات بلا غربلة واختبار علمي لأعمالهم.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

.................

(شبهه بأهمية اختراع الإنترنت... بيل غيتس يمدح "شات جي بي تي" والذكاء الاصطناعي)، قناة الجزيرة، مقال منشور بتاريخ 10-2-2023.

 

 

مدخل:

الفريضة الغائبة، والجهاد إلى يوم الدين:

من يقرأ كتاب "الفريضة الغائبة" لـ (محمد عبد السلام فرج)، يجد فيه الدعوة إلى استخدام العنف المسلح من أجل إقامة دولة الحاكمية ومحاربة الكفار الذين لا يؤمنون بهذه الدولة حتى ولو كانوا من المسلمين الذين يشهدون ان لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. متكئين في دعواهم هذه على أحاديث ضنية لا تتفق في الحقيقة، لا مع النص القرآني في مقاصده الخيرة، ولا مع أخلاق الرسول الكريم ذاته. ومن هذه الأحاديث حديث رواه لبخاري عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله»، والحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري». (1).

وأمام هذا الموقف المتصلب في تطرفه، الذي يبشر به أكثر المسلمين أصوليّة وتشدداً في فهم مسألة الجهاد. نجد الموقف المقابل له من النص القرآني ذاته الذي يفند ما تدعيه هذه القوى الأصولية الجهاديّة المتطرفة. وهو الذي يدعو إلى نشر الدين بالمحبة والإحسان: حيث جاء في نص الآية: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). النحل. (125).

كما جاء في الحديث أيضا ما يؤكد هذا الموقف العقلاني (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). الراوي: أبو هريرة | المحدث: الألباني. انطلاقا من أن العرب كانتِ تَتخلَّقُ ببعضٍ مِن محاسنِ الأخلاقِ بما بقِيَ عندهم مِن شريعةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، ولكنْ كانوا قد ضلُّوا بالكُفرِ عن كثيرٍ منها؛ فبُعِثَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِيُتمِّمَ محاسنَ الأخلاقِ، كما يُؤكِّدُ هذا الحديثُ؛ حيث يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إنَّما بُعِثْتُ"، أي: أُرْسِلْتُ للخلْقِ، "لأُتَمِّمَ"، أي: أُكمِّلَ ما انتقَصَ، "مكارمَ الأخلاقِ"، أي: الأخلاقَ الحَسنةَ والأفعالَ المُستحسَنةَ الَّتي جبَلَ اللهُ عليها عِبادَه؛ مِن الوفاءِ والمُروءةِ، والحياءِ والعِفَّةِ، فيَجعَلُ حَسَنَها أحسَنَ، ويُضيِّقُ على سيِّئِها ويَمنَعُه.

على العموم نقول هنا: إن مسألتي التطرف والاعتدال من المسائل التي أخذت حيزاً كبيراً في النقاش والتداول بين الكتاب والمفكرين الإسلاميين منهم والعلمانيين أيضاً، وخاصة في المجال الدينيّ بعد ظهور تنظيم القاعدة والعديد من فصائلها كداعش والنصرة، والكثير من الفصال الجهاديّة التي راحت تؤول وتفسر النص الدين وفقاً لمصالح وأجندات لا تخدم في حقيقتها جوهر الإسلام ولا المسلمين معاً، ومن هذه الفصائل "حزب التحرير الإسلامي"، والفصيل المسلح لـ "الإخوان المسلمون). وبناءً على ذلك سنحاول في هذه الدراسة أن نشير ولو على عجالة، إلى معطيات هذه المسألة محاولين إظهار الفرق بين التطرف والاعتدال انطلاقا من الخطاب الديني ذاته.

إن المشكلة في فهم الدين برأيي تعود إلى عدم التبصر في آيات القرآن الكريم الذي يعتبر المرجع الرئيس للتفسير والتأويل، ثم للحديث الذي قال به الرسول، وما دخله من وضع وتحريف وتشويه وابتعاد عن النص القرآني ذاته، ويظل القصور في القدرة على التمييز ما بين الآيات المحكمات (البينات)، والآيات المتشابهات من جهة، وهذا ما أشارت إليه الآية السابعة من آل عمران: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾. ومن جهة ثانية، أخذ الكثير ممن فسر النص الدينيّ بعموم اللفظ من القرآن وليس بخصوص السبب، وهذه مسألة إشكاليّة في الفقه، حيث راحت مسألة التفسير والتأويل تخضع لمعطيات شخصيّة وسياسيّة تعمل على ليّ عنق النص كي يخضع لسلطة المفسر والمؤول، وبالتالي فالأحكام الصادرة هنا لا تراعي خصوصيّة السبب ولا المرحلة التاريخيّة وظروفها التي نزلت فيها هذه الآية أو تلك، هذا إضافة إلى تلك الاشكاليات الكبيرة التي وقع فيها الفقهاء في مسألتي "الناسخ والمنسوخ" وما يتعلق في دلالاتهما وأهدافهما، وكيفية التعامل معهما بعيداً عن مقاصد الدين، والمحكم والمتشابه في القرآن، وأسباب النزول، والعام والخاص، والمطلق والمقيد. وكذلك الوقوع في مسألة "القضاء والقدر" التي لا تختلف من حيث إشكالاتها عن مسألتي الناسخ والمنسوخ، والخلافات والصراعات الدائرة حولها من قبل الأشاعرة والكلابيّة والمعتزلة والمتصوفة وغيرهم من الفرق الكلاميّة والمذاهب الفقهيّة. (2). فلو عدنا إلى كل الآيات القرآنيّة لوجدنا أن كل آية لها سبب نزولها وهي مرتبطة في زمانها ومكانها وأحداثها التاريخيّة إن كانت خاصة أو عامة، لذلك علينا أن نتعامل مع هذه الآيات وفقاً لخصوصيّة تنزيلها ولا نقوم كما يقوم بعض الفقهاء في تفسيرها بناءً على عموم اللفظ للنص متكئين على ما تحمله اللغة في دلالاتها ومجازها وبلاغتها. هذا مع تأكيدنا بأن هناك آيات لها طابع خاص بنزولها، يتعلق بشخصيّة الرسول أو بعض الصحابة غيرهم من الذين عاشوا عصر التنزيل، وآيات لها طابعها العام وخاصة ما يتعلق منها في الجانب القيميّ والأخلاقيّ. فما هو خاص لا يمكننا أن نطبقه على العام، وما هو عام لا يمكننا أن نتجاهل أيضاً ظرفه التاريخيّ الذي جاء فيه، ومدى قدرته على التمدد التاريخيّ لمراحل لاحقة. ففي مثل هذه الحالة من التطبيق التعسفيّ سنعمل على ليّ عنق الواقع كي ينسجم مع الخاص أو مع العام، وهنا تأتي خطورة الدخول في غمار ومغامرة التطرف، والتلاعب بالنص الديني تفسيراً وتأويلاً لخدمة مصالح أنانيّة ضيقة. هذا وهناك عوامل كثيرة تؤدي إلى عدم فهم النص وتأويله وفقاً لمصالح خاصة، أو وفقاً لجهل في الكلام والبيان العربي الذي نزل به القرآن وخاصة بعد أن اتسعت مساحة الفتوحات ودخل الكثير من الأعاجم الإسلام، فراح بعضهم يؤول النص القرآنيّ حسب معرفته ومرجعياته الثقافيّة، الأمر الذي أدى إلى تأويل النصوص كما تريد سلطة المؤول، وليس سلطة النص التي لها مرجعيتها اللغويّة العربيّة المشبعة بالتشبيه والاستعارة والكناية وتقديم الكلام في العبارة أو تأخيره، وتعدد المعنى في المفردة الواحدة . وغير ذلك، وبناءً على خضوع النص لسلطة المفسر أو المؤول ظهرت الفرق والطوائف الدينيّة، وما حملته هذه الفرق والطوائف من اختلاف في الرؤى، أدت إلى صراعات دامية بين مكوناتها أو أتباعها تاريخيّاً. (3).

نقول إذا كان الاعتدال واضحاً وبديهياً في النص الإسلاميّ المقدس إذا ما تمسكنا بمقاصد النص أولا، وابتعدنا عن مصالحنا الأنانيّة الضيقة ثانياً، فإن التطرف موقف إشكالي في الحقيقة، لذلك، دعونا نتعرف بداية على موضوعة التطرف لغة ومجازا.

اولاً: التطرف لغة:

التطرف لغةً: هو إتيان منتهى الشيء والوصول إلى طرفه، وهو كذلك بمعنى مجاوزة التوسط والاعتدال في الأمر. (4).

ثانياً: التطرف مجازا:

وموضوعه الدين هنا. ويعني: التطرف أو الغلو في قضايا الشرع، والانحراف المتشدد في فهم قضايا الواقع أو الحياة في مسألة من المسائل الفكريّة أو الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة أو السياسيّة.. وهو أمر مذموم في الشرع . (يا أهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق). [سورة النساء آية: 171] وتارة يعبر عنه بلفظ الطغيان كما في قوله تعالى (ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي) [سورة طه آية: 81]

ثالثا: أسباب التطرف الديني:

1- كثرة المرجعيات التقليديّة والمعاصرة في الخطاب الدينيّ. وبالتالي فالاختلاف في الرأيّ هنا يؤدي إلى العداء والتباغض بين المسلمين بدلاً من أن يكون رحمة. على اعتبار أن كل مرجع يعتبر نفسه على حق، او هو من يمثل الفرقة الناجية.

2- افتقاد المجتمع إلى المرجعيات العقلانيّة التنويريّة، وإن وجدت يتم إقصائها من قبل القوى الحاكمة ومشايخ السلطان.

3 - غياب دولة المؤسسات ودولة القانون والمواطنة. وسيادة الدولة الشموليّة التي تتجر بالدين والسياسة معا، وتحارب الرأي الآخر المختلف عن توجهاتها الدينيّة والثقافيّة والاقتصاديّة وغير ذلك.

4- سيادة وانتشار الأيديولوجيات التعصبيّة (الجهادية) التكفيريّة الالغائية، بتوجهات خارجيّة أو سياسيّة داخليّة، بعد قيام ما سمي بالصحوة الإسلامية منذ سبعينيات القرن الماضي. وقد تجلت هذه العقليّة بكل سلبياتها وانحرافاتها الدينيّة فكراً وممارسة، مع داعش ومن التف حولها مثل جماعة حزب التحرير والنصرة والإخوان.

5- انتشار البطالة والفقر والجهل. بسبب الفساد الحاصل في دول العالم العربي والإسلامي، والقائم على سرقة أموال الدولة، وتقسيم المجتمع في هذه الدول إلى طبقتين رئيسيتين بعد إقصاء الطبقة الوسطى، هما: الطبقة الحاكمة ومن يلتقي مع مصالحها من البرجوازية الطفيليّة والبيروقراطية ومشايخ السلطان، وطبقة فقيرة مسحوقة ومغربة يقع عليها الظلم الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ والثقافيّ، التي وجدت في الدين خلاصها، وفي مضمارها ظهر التطرف الدينيّ الذي يعتبر في جوهره تطرفا مواجهاً لتطرف الدولة الشموليّة.

6- حضور الفكر الغيبيّ الامتثاليّ الجبريّ بشكل واسع في جوامع الدولة الشموليّة في عالمنا العربي والإسلاميّ، وإعلامها الرسمي وغير الرسمي، هذا الفكر الذي يلغي حرية الإنسان ويوقف عمل ونشاط العقل المنفتح على الواقع المعيوش وقضاياه على حساب النقل، واحياناً كثيرة على التواكل.

7- استغلال القوى الجهاديّة التكفيريّة من قبل قوى داخليّة أو خارجيّة كما بينا أعلاه، لتنفيذ أجندات عدائيّة بحق دول لا ترض عن سياساتها هذه القوى الداخليّة أو الخارجيّة، كما جرى مع تحريض القاعدة وداعش في بعض الأنظمة العربيّة من قبل أمريكا بشكل خاص وبعض الأنظمة العربيّة والإقليمية بشكل عام.

رابعاً: ما تمتاز به السمات والخصائص النفسيّة للمتطرف مثل:

1- فقدان التوازن الفكريّ في اتخاذ القرار. بسبب غياب العقل وسيادة النقل المشبع غالباً بالمثاليّة والخرافة والأساطير، وهذا ما يبعد المتطرف في تفكيره وسلوكياته عن قيم الدين الأساسيّة التي جاء من أجلها، إن كان لجهة مجادلة المختلف (وجادلهم بالتي هي أحسن). (سورة النحل - الآية)125. أو لجهة التعامل معه من حيث رفض السيطرة عليه وإجباره على اتخاذ سلوكيات هم يريدونها من باب هدايته بالقوة والتعزير. ﴿إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ﴾ [ القصص: 56].

2- كثرة اللجاج، والمخاصمة مع الآخر المختلف في الرأي أو العقيدة أو المذهب. لاعتقاد أصحاب كل طريقة ومذهب وطائفة بأنها هي وحدها على حق، وهي وحدها الفرقة الناجية والبقيّة في ضلال. وهذا ما يجعلهم يقومون بتصرفات تجاه المختلف مشبعة بالنزعة الفوقيّة والتعالي، إضافة لخروجها عن قيم الدين نفسه الذي يدعون انهم حملة رسالته.

3- التضييق والتشديد على النفس، وعدم قبول الانفتاح على الواقع ومتغيراته، من باب أن كل جديد بدعة، وكل مخالف لقناعاتهم يعتبر كافراً وملحداً وزنديقاً ومبتدعاً. وبالتالي هذا يعبر عن الحماقة والنزق واتباع الهوى والعجلة من أمر المتطرف، بسبب غياب المحاكمة العقليّة، وبسبب رفض الأخذ بالرأي وتكفير من يقول به كما أشرنا أعلاه.

وبناء على كل ما جئنا إليه هنا، تأتي الآيات الواردة في السور المدنيّة الداعية إلى قتال الكفار وغير المسلمين من أهل الكتاب الذين لم يدفعوا الجزّية مثلاً، من الآيات التي لم ينظر إليها تفسيراً وتأويلاً من قبل القوى المتشددة الأصولّية الجهاديّة وفقاً لأسباب نزولها، وإنما نظروا إليها وطبقوها بناءً على عموم اللفظ من جهة، أو بسبب القصور المعرفي في تفسير وتأويل النص من جهة ثانية، أو بسبب مصالح انانيّة ضيقة تقف وراء حصولها توجهات خارجية تحول هذه القوى الأصولية المتطرفة إلى أدوات لتحقيق مصالحها من جهة ثالثة. وبالتالي فإن استمراريّة العمل بها دون النظر إلى خصوصيات العصر وظروفه الذي نزلت فيه، ساهم في زيادة حدّة التطرف وظهور التنظيمات التي أساءت للإسلام والمسلمين معاً. مع تأكيدنا أن معظم هذه الآيات تدخل في نطاق الآيات المتشابهات التي حذرنا الله في القرآن أن نبتعد عن الآخذ بها. حتى لا تكون الفتنة وسفك دماء الناس دون حق. على اعتبار أن للقتال شروطه الأخلاقيّة، فمن لا يعتدي عليك لا تعتدي عليه، ويأتي العفو في الإسلام سيد الأحكام. (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ .) (سورة الممتحنة الآية. (8).

نعم...إن الآيات المتشددة التي تأمر بقتال من يسمى بالكفار وأهل الكتاب، قد جاءت موافقة لعصر نزولها، حيث أن لكل آية سبب نزول، ففي الوقت الذي نجد فيه آيات تحض المسلمين أو تدعوهم إلى القتال لها خصوصيتها، نجد أيضاً آيات أخرى اتخذت طابعاً عاماً دون تحديد السبب المباشر لها كالآية التي تقول على سبيل المثال لا الحصر: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). (البقرة 244). فالقتال في سبيل الله مفتوح هنا على دلالات كثيرة لم يحددها النص المقدس، ولكن يظل لكل مرحلة تاريخيّة خصوصياتها التي تحدد دواعي الجهاد وأشكاله، وتحديد هذه الدواعي مرتبط بالجهات الرسميّة وليس بأشخاص أو تنظيمات محددة. فالقتال زمن الرسول كان يأتي بأمر من الله ومن الرسول ذاته، وبعد وفاة الرسول جاء بأمر من خليفة الرسول كما هو الحال في حروب الردة. (5). (نحيل القارئ إلى هوامش الدراسة لمعرفة بعض الآيات التي تدعوا إلى القتال كي يتعرف على دلالاتها ومقاصدها معاً.).

إن ما يطلبه العقل والمنطق والموقف الفقهي من هذه الآيات، هو العودة إلى تحديد مسالتين أساسيتين في هذه النصوص هما: الأولى: معرفة الظروف التاريخيّة التي نزلت فيها هذه الآيات، وهل الظروف التاريخيّة التي نعيشها اليوم، تتطابق تماماً مع الظروف التاريخيّة التي نزلت فيها هذه الآيات من حيث طبيعة الكفر وموقف الكفار من الدعوة.؟. وثانيا: النظر في آيات القتال التي تقبل التجاوز الزمني أو التاريخيّ لأسباب نزولها من حيث اتخاذها دليلاً شرعيّاً على قتال المخالف لمقاصد الدين الأساسيّة، وشكل هذا القتال ودرجة عنفه. بيد أن الاقرار في اعتماد هذه الآيات لا يعني من حيث المبدأ أن يقوم أي إنسان أو حزب أو تنظيم بممارسة القتل باسمها، فقضية تطبيق الجزاءات أو العقوبات وشكلها ودرجاتها هو أمر من اختصاص مؤسسات الدولة المعنيّة فقط كما أشرنا في موقع سابق. أما اتخاذ بعض الأحاديث الظنيّة ذريعة أو دليلاً على مشروعيّة منح القتال لمن يدعي بأنه حامي الدين من مبدأ (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)، كالحديث الذي يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، وإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وهو أضعف الإيمان.). فهذا أمر أو تصرف لم يعد يتفق مع وجود الدولة ومؤسساتها المعنية، وإلا ستتحول طبيعة علاقات المجتمع إلى شريعة غاب.

دعونا أخيراً في هذا الاتجاه أن ننظر في دلالات هذه الآية المتعلقة بأهل الكتاب، فلها شأن آخر يتطلب منا الوقوف عندها كثيراً.

تقول الآية: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة 29).

ما يلفت الانتباه في هذه الآية، هو أن (دفع الجزية) من أهل الكتاب تجب أو تعفوا عن أسباب قتالهم، وأن أساب قتالهم تتعلق بما ذكرته الآية وهو: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ). فالجزية إذن هي البديل عن قتال الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ. والسؤال المشروع هنا هو: كيف يكون التفريق في التعامل بين الكفار وفقاً لدينهم، إذا كان الدين عند الله هو الإسلام، والإسلام هنا ليس الدين الذي بشر به محمد (ص) فحسب، بل هو كل الديانات التي نزلت من السماء كما تذكر بعض آيات القرآن.؟.

بعد هذا العرض الذي يشير إلى أسباب التطرف الفكريّة والماديّة، وإلى مظاهره وكيفية توظيف دعاته للنص الدينيّ، نأتي الآن لنبين كيف أن الدين وعبر نصه المقدس ذاته يبين لنا بأنه دين تسامح ومحبة، وأن دعوته قائمة على اللين والحسنى والمجادلة بالتي هي أحسن.

الإسلام دين المحبة والتسامح:

إن مشكلتنا ليست مع الدين كعقيدة وشريعة... أي ليست مع الكتاب المقدس (القرآن) في آياته البينات الواضحات في دلالاتها، والقائمة على المقاصد الخيرة للناس، أي على قيمه النبيلة. ولا مع (الحديث) الذي يتفق في نصه أو متنه مع مقاصد النص القرآني الأساسيّة الداعية إلى المحبة والتسامح كما ورد معنا في النصوص التي جئنا عليها في موقع سابق من هذه الدراسة، وإنما مشكلتنا مع المتنطعين ذوي العقول المغلقة والمتعالية على الواقع ومصالح الناس من الذين اعتبروا أنفسهم حماة الدين وحصنه المنيع، وفقاً لما فهموه هم من هذا الدين، وكذلك مشكلتنا مع من راح يوظف النص المقدس ممن في قلوبهم زيغ لإصدار أحكام لمصالحه أو مصالح أسياده في السلطة ممن يبحثون عن شرعنة ما يمارسونه من فساد في الأرض، وكذلك مع الذين فقدوا بصيرتهم في القراءة العقلانيّة التنويريّة للنص الديني، وأخذوا يفسرونه ويؤولونه خارج الواقع التاريخيّ الذي يعشون فيه، أي ممن تمسك بما فسره وأوله السلف في القرون الهجرية الثلاثة الأولى، دون مراعاة لاختلاف الزمان والمكان، الأمر الذي جعلهم يعملون على ليّ عنق الواقع كي ينسجم مع النص وليس العكس، وهم بذلك أساؤوا ويسيؤون للنص الديني المقدس والواقع مع.

إن من يتابع النص الديني الإسلاميّ في مقاصده الإنسانيّة يراه دينا يدعو إلى اليسر وليس إلى اليسر كما تريده القوى الأصوليّة التكفيريّة وخاصة الجهاديّة منهم. حيث جاء في نص الآيات التالية وغيرها الكثير مما يشير إلى بساطة الدين وانفتاحه على المحبة والخير الإنسانيّ، وتذكير الرسول أن يدعو الناس للدين بالحسنى كما هو وارد في الآيات التالية:

(فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر) الغاشية 22.

و(ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.). (125) النحل. و﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]. و﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]. و﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]. و(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ). ﴿١٤٧ الأنعام﴾

وهناك الكثير من الأحاديث التي تدل أيضاً على التسامح نشير إلى بعضها هنا مثل:

1- (الدين يسر). الإمام أحمد في مسند المكيين، حديث رقم 15593.

2- (يسّروا ولا تعسّروا) . صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، ج1، ص17.

هذا وهناك الكثير من الآيات البينات والأحاديث التي تبين أن هذا الدين ليس دين قتل وتدمير وتكفير للمختلف في الدين أو الرؤية في العقيدة والشريعة.. وهو ليس الدين الذين يقوم بعض دعاته بنسخ الآيات من عندهم كالتي تختلف مع فهمهم للدين أو لا تلتقي مع مصالهم، كما قال بعضهم بأن الآية الخامسة من صورة التوبة الدالة على مقاتلة الكفار في كل زمان ومكان – أي آية السيف - قد نسخت (500) آية من السور المكيّة الداعية إلى التعامل بالحسنى مع الناس، وهي الآية التي جئنا إليها في موقع سابق: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). (التوبة ٥﴾.

هذه الآية التي أسيئ فهمها، قد ساهم من نسخها وسلخها عن خصوصية تنزيلها، بغية تحويل الدين الإسلامي على يد القوى السياسية السلفية الجهادية منذ الخوارج حتى اليوم، إلى دين قتل وإرهاب، أو حولوه إلى سرير بروكست، فكل من لا يتفق مع فهمهم للدين هو كافر وزنديق وملحد ويجب أن يقتل.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من ديرالزور - سورية

...................

الهوامش:

1- راجع حول مسألة التطرف والجهاد في الإسلام كتاب (الجهاد -الفريضة الغائبة – محمد عبد السلام فرج) مكتب فلسطين للكتب المصورة. دون تاريخ نشر.

2- راجع كتاب حديث مسقط – رسالة في مفهوم الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم – رسالة في مفهوم القضاء والقدر – منذر محمد سعيد أبو شعر – دار ابن الكثير – دمشق –بيروت.

3- (تأويل القرآن سلطة القارئ أم سلطة النص - أ.م.د. حمزة فاضل يوسف - جامعة القادسية / كلية التربية).

4- (أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربيّة المعاصرة، صفحة 1396.).

5- بعض آيات القتال التي وردت في النص القرآني مثل:

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ). (البقرة 191).

(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ). (البقرة 193).

(الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا). (النساء 76).

(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ). (المائدة 33).

(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ). (التوبة 14).

(فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ). (محمد 14).

(فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ). (محمد 35).

تعتبر ثورة الذكاء الاصطناعي (AI) واحدة من أكبر التحولات الدقيقة التي يشهدها العالم اليوم. حيث العالم يتجه نحو توسيع استخدام الذكاء الاصطناعي في جميع المجالات، كالطب، والتجارة الإلكترونية، والأتمتة الصناعية، والزراعة، والتعليم، والأمن، والنقل، والخدمات المصرفية، والتسوق الإلكتروني، وغيرها من المجالات.

ومن المتوقع أن يستمر التطور في هذا المجال في المستقبل، وقد يتحول بذلك الذكاء الاصطناعي إلى جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية. قد يؤدي هذا التطور إلى الزيادة في كفاءة المردودية في العمل، وتحسين جودة الحياة، والصحة والعلاج، وتوفير فرص العمل، والعديد من المزايا الأخرى.

ومع ذلك، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي يثير أيضًا مخاوف وتساؤلات حول تأثيره على المجتمع والعمل والمؤسسات العمومية والخاصة وحتى السلوك والأخلاق. لذلك، يجب ترشيد استخدامه وتحديد القواعد والأخلاقيات اللازمة لضمان ذلك بشكل آمن وفعال وعادل للجميع. يتضمن تحقيق ذلك وضع سياسات وقوانين لحماية الخصوصية والأمان وضمان تحديد المسؤولية الملائمة للأضرار التي يمكن أن يتسبب بها الذكاء الاصطناعي.

كما يجب وضع قواعد وأخلاقيات لاستخدام الذكاء الاصطناعي في مجالات عدة مثل التشغيل والتعليم والطب والأمن والعدالة والتجارة والتحكم في التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

علاوة على ذلك، يجب أن يكون هناك تنظيم ومراقبة فعالة لاستخدام الذكاء الاصطناعي من قبل الحكومات والشركات لضمان تفادي الاستغلال الجائر والاستخدام الخاطئ وتحقيق الفوائد العامة من التكنولوجيا.

بشكل عام، يتطلب تنظيم الذكاء الاصطناعي جهودًا مشتركة من الحكومات والمؤسسات والأفراد لتحقيق التوازن بين الاستفادة من فوائده وحماية الحقوق والحريات والقيم الأخلاقية.

كما يجب على الحكومات تطوير سياسات وقوانين تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي وتحدد الأخلاقيات اللازمة للحفاظ على الحقوق والحريات الأساسية للأفراد وضمان عدم التمييز وتفعيل العدالة الشاملة. كما يجب أن تتعاون المنظمات والمؤسسات في تطبيق هذه السياسات والقوانين وضمان مطابقة الأنشطة الخاصة بها للمعايير الأخلاقية والقانونية المطلوبة.

بالإضافة إلى ذلك، يتطلب تنظيم الذكاء الاصطناعي توعية الأفراد بالتحديات والفرص المرتبطة بتطويره والتحذير من الاستخدام السيئ والخاطئ للتكنولوجيا. يجب أن يتعلم الأفراد عن الأخلاقيات والقيم اللازمة لاستخدام التكنولوجيا بشكل آمن وفعال وعادل.

من جانب آخر يجب أن يتم التعاون الدولي والتفاعل بين الحكومات والمؤسسات والأفراد في هذا المجال لتحقيق هذا الهدف.

يعرف المغرب حاليا بعض الجهود المبذولة في مجال الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، ومن المتوقع أن يتم توسيع نطاق هذه الجهود في المستقبل تماشيا مع طموح الحكومات المتعاقبة في هذا الصدد.

لقد تم إطلاق العديد من المشاريع المبتكرة في المغرب التي تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي، ومنها مثلا مشروع "المستشفى الذكي" الذي يستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين الرعاية الصحية وإدارة المستشفيات. كما تم تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجال الزراعة لزيادة الإنتاجية وتحسين الجودة.

في المجال الصناعي يستخدم الذكاء الاصطناعي في الصناعة المغربية لتحسين عمليات الإنتاج والجودة وتقليل التكاليف.

كما يتم استخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم لتحسين تجربة التعلم وتحديد نقاط القوة والضعف لدى الطلاب.

في الخدمات المصرفية والمالية: يستخدم الذكاء الاصطناعي في الخدمات المصرفية والمالية في المغرب لتحسين الخدمات المالية وتحليل المخاطر والتنبؤ بالتغيرات الاقتصادية.

في النقل واللوجستيات: يستخدم الذكاء الاصطناعي في النقل واللوجستيات في المغرب لتحسين تخطيط الطرق وتحسين الخدمات اللوجستية.

وقد أعربت بعض المؤسسات الحكومية والخاصة في المغرب عن نيتها في الاستثمار في الذكاء الاصطناعي لتحسين الخدمات وزيادة الإنتاجية.

ومع ذلك، توجد هناك تحديات تواجه تطبيق الذكاء الاصطناعي في المغرب، ومنها قلة الخبرة والكفاءة في هذا المجال ونقص البنية التحتية الرقمية المتطورة. لذلك، يتطلب تطبيق الذكاء الاصطناعي تعاونًا مندمجا بين الحكومة والقطاع الخاص والأكاديميين لتطوير البنية التحتية اللازمة وتعزيز التدريب والتثقيف في هذا المجال.

***

عبده حقي

أن الثقافة والمعرفة للإنسان هي عملية اكتساب للعقل من خلال ما يسمعه الإنسان أو يقرأه ويدرسه ليصل إلى حد يستطيع فيها إدراك وتقييم ما يدور من حوله ويعيش في مجتمعه شرا كان أو خيرا وهذا يفرضه تطور المجتمع الإنساني وطرق المعرفة ونوعها والتطور الذهني للإنسان فكلما اكتسب من معلومات يومية وصل إلى حدا من المعرفة والإدراك الفكري السلبي والإيجابي وما يهمنا هنا هو العقل العربي وأزمته الحالية في عصر التطور التكنولوجي ووسائل التقنية الحديثة وتطور العقل والفكر بعد عصر التدوين العربي للقرن الأول من الهجرة النبوية الشريفة حيث نُقلت لنا الثقافة والمعرفة عن طريق المشافهة والسمع والنقل بين المسلمين من قبل رواة يُديرون عجلة الفهم في تربية المسلم العربي وظلت الساحة الفكرية حصرا وحكرا على بعض الرواة والمؤلفين والكتاب مع هالة من القداسة وعدم المساس بتراثهم ضمن عصرهم وطريقة تفكيرهم التي استمرت طوال عصر التدوين في بداية الحكم العباسي حيث ظهرت طبقة من المفكرين والرواة وكتاب اغنوا عصرهم بأفكارهم ومؤلفاتهم نقلا للتراث الإسلامي وتفسيرات مبادئ العقيدة الإسلامية تحت إشراف الحكومة والسلطة آنذاك التي كانت تشدد على عدم الخروج من نسق التفكير والمنهج السلطوي للدولة وباتت هذه الآراء هي المهيمنة على الفكر العربي المقدسة لدى الأعم الأغلب إلا بعض المحاولات التي أرادت الخروج عن هذا الإطار الفكري حينها لاقت الصدود والمعارضة والمحاربة من الكثير واتهمت بالفئة المارقة والزندقة والإلحاد لأنها اصطدمت بالعقول والأفكار المسيطرة على الساحة الفكرية آنذاك ولكن هذا لن يمنع من ظهور بعض الحركات التحررية التي اتخذت الطريق الشاق وشقت طريقها نحو عصر التنوير والتغير للخروج من بودقة الموروث السلفي الذي أصبحت آرائه بعيدة عن خط سير التحضر للحياة المتطورة ومنها المسيئة للتراث الإسلامي والعقيدة وبرزت على الساحة العربية الإسلامية كوكبة من رجال الفكر بعد القرن التاسع عشر ميلادي أخذت على عاتقها إعادة صيغة الموروث الإسلامي والتأريخ والعقيدة وتفسير كتابها المقدس القرآن الكريم بطريقة تلاءم العصر الحديث الذي نعيش فيه وأنجبت لنا الأمة العربية رموزا أدبية وثقافية متنورة تتطابق مع حداثة عقلية الجيل الجديد وفهمه وإدراكه وفق المحيط الذي يعيش وسطه والتي لم تخرج عن الخط الفكري المقدس للعقيدة الموحدة وبالرغم من ذلك نرى أن هناك حملة شعواء منذ زمن بعيد تُقاد ضد حملة الفكر المجدد للقديم من قبل رجال الدين وكثيرا من المؤسسات الدينية التي لا يروق لها هذا التجديد كونه يهز عروشها ومصالحها ومناصبها الدنيوية ولإبقاء الناس حيارى بين التفكير والمعلومة السماعية الشفاهية المتداولة على المنابر المدونة بين سطور الكتب التي عفا عليها الزمن والتي لا تجاري الفكر المتطور للإنسان الجديد في زمن العولمة والتقنية والتكنولوجيا والتطور العلمي علما أن كل الرواة المتقدمين في نقل الأحاديث النبوية ودراسة مبادئ العقيدة الإسلامية والتراث الإسلامي لم نجد للكثير منهم مخطوطة بخط اليد وخصوصا الجيل الأول من صدر الإسلام من الصحابة والتابعين ولم نعرف أو نجد نسخة مخطوطة معروفة للقران الكريم فقد فُرض علينا أن نتبع كتب السنة والتراث والعقيدة من الرعيل الأول من المؤلفين والرواة شفاهية وعن طريق النقل والاستماع من الإخباريين والأصوليين بدون نقاش أو جدال لطريقة تفكيرهم ومنهجهم وفهمهم للعقيدة والدين والتأريخ الإسلامي العربي فمن حقنا كجيل جديد في زماننا هذا أن يكون لنا رجالا مفكرين ومتنورين وكتابا نحترم عقولهم وآرائهم وطريقة تفكيرهم والنقاش معهم على أصول العقيدة وفهمها على شرط مطابقة لمفهوم النظرية الإلهية والسنة النبوية وأخلاقيات وقيم القرآن والإسلام وأن تكون لنا وقفة عقلانية صحيحة صحية وسطية بين الماضي والحاضر واكتساب المعرفة بعد تحرير العقل من التبعية للغير بطريقة عمياء مجردة من البحث والتنقيب للخروج من أزمة خطيرة في نقل المعلومة عن طريق السماع والنقل بعيدا عن النمط التقليدي السلفي لكتابنا وعلمائنا الأفاضل البعيدين عن التجديد الفقهي والديني والعقائدي العقلاني المتطور المواكب لتطورات العصر الحديث.

***

ضياء محسن الاسدي

مقال الأستاذ مشعل السديري في «الشرق الأوسط» يوم الأحد الماضي، المعنون «لكم دينكم ولي دين» حرك في نفسي أسئلة كثيرة، يدور أكثرها حول نقطة واحدة، هي ضيقنا بالآخرين الذين يشاركوننا الحياة في هذا الكون الذي بات صغيراً ومتصل الأجزاء. لطالما حاولت فهم السر وراء شوقنا لتصنيف الذين يختلفون عنا قليلاً أو كثيراً، تصنيفاً يضعهم «دائماً» في مكان آخر، غير مكاننا. وأعلم أن هذا الميل القوي كان أرضية لنشوء التفكير الديني الذي ينظر للمختلف باعتباره مشكلة، فيضع لها أحكاماً ومعايير علاقة تنطلق من هذا المعنى وتؤكده.

الواقع أني غير متأكد من هذه النقطة تحديداً: هل شعورنا بالفوقية على الغير، هو الذي جعلنا ننشئ أحكاماً شرعية تبرر وتدعم هذا الشعور، أم أن العكس هو الصحيح، أي أن وجود تراث يدعو للتعالي على المختلف، هو الذي وضع الأساس النظري والروحي لهذا النوع من السلوك تجاه الغير.

واقع الأمر أننا لا نتعامل مع المختلف الديني أو المذهبي، باعتباره «شخصاً آخر» مثلما جارك شخص آخر وابن القرية الأخرى شخص آخر. المختلف هو «عالم آخر»، ولهذا فثمة منظومة أحكام شرعية تتناول العلاقة معه، حتى في أبسط تمثيلاتها، مثل: ماذا تفعل إذا رأيت هذا «العالم الآخر»، وماذا تفعل إذا ابتلاك بالسلام عليك، أو دعاك لزيارته أو تشارك معك في مال... إلخ.

هذه الأمثلة ليست من قبيل المزاح، فلدينا أكثر من مصدر يستند إلى روايات، تخبرك أن تعبس/تكشر في وجه ذلك «العالم» إذا لقيته صدفة في الطريق أو في مصعد العمارة، أو ألقته الأقدار أمامك في المقهى، أو وجدته على يسارك في كرسي الطائرة. وهناك قول آخر يخبرك أن تتبع طريقة خاصة في «رد السلام» إذا جاءك من «العالم الآخر»، طريقة تختلف عن رد السلام العادي.

لا أريد الاسترسال في الأمثلة التي قد تأخذنا لأمور موجعة من قبيل: ماذا لو كان هذا الآخر أمك أو زوجك أو جارك... إلخ. لكن زبدة القول إن تراثنا لم ينظر إلى الاختلاف بين الناس، باعتباره فرصة لتحريك فضول المعرفة، أو دافعاً للتعرف والتعارف، بل نظر إليه كمشكلة، جرى حلها بعزله ووضع دائرة محددة لحركته واتصاله ببقية أعضاء «الجماعة».

والعجيب أن التيار التقليدي يفاخر - كلامياً - بأن التاريخ يشهد على حسن تعامل المسلمين مع غيرهم. وقد يكون هذا الكلام صحيحاً أو نصف صحيح. لكن السؤال: ماذا عن التراث الضخم الذي يصنف «العالم الآخر» باعتباره في مرتبة أدنى، ويتعامل معه كمشكلة توضع في التعامل معها أحكام وتعاليم، غير أحكام وإرشادات العلاقة مع سائر الناس؟

أنا أتقبل أن مفهومنا للعلاقة الحسنة، صحيح، إذا نظرنا لتلك العلاقة ضمن شروطها التاريخية. لكن ماذا يفيدنا هذا الوصف اليوم؟ هل نستطيع استعمال الأحكام المشار إليها، أم نواصل الافتخار بما سمعناه عن تاريخ الأسلاف، أم نضع هذا وذاك وراء ظهورنا ونطرح السؤال الصحيح، سؤال: ما هو الأصلح للإنسان وللإسلام في عالمنا الحاضر... الانفتاح الكامل على كافة المختلفين، أم التمسك بإملاءات قديمة يسيرة مبنية على الخوف من العالم وترجيح اعتزاله؟

يقترح الأستاذ مشعل السديري أن نضع أنفسنا في مكان «العالم الآخر» كي نتعرف على وضعه الحقيقي، كي نفهم مشاعره، كي نستوعب فكرته ورؤيته لذاته وعالمه. وهو يضرب بعض الأمثلة، أمثلة عن أناس من ذلك «العالم الآخر» حاولوا أن يضعوا أنفسهم محلنا، أن يعيشوا حياتنا. أنا أعرف أمثلة أخرى، وأرى أن هذه تجربة جديرة بالتأمل. لدينا مبررات قوية لقناعاتنا وطريقة حياتنا، وللآخرين مبررات قوية أيضاً. نحن نعتقد أننا نفعل خيراً، وكذلك هم... ألا يجدر بنا أن ننظر للعالم بعيونهم، ولو على سبيل التجربة؟

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

أثار مسلسل (دفعة لندن) ضجة اعلامية بدأت على مواقع التواصل الاجتماعي.. وليتها بقت على صعيدها، لكان الأمر عاديا، لكن المؤسف ان يتبنى هذه الضجة أكاديميون معروفون وناشطون طالبوا الحكومة العراقية بتقديم الحكومة الكويتية اعتذارا رسميا وايقاف عرض المسلسل.

والمؤسف اكثر ان الضجة اثارت انفعالا عاطفيا يثأر للوطن والغيرة العراقية، ونسوا ان المسلسل هو من انتاج سعودي ويعرض على (أم بي سي وان) السعودية، ما يعني ان اللوم او العتب او النقد او الهجوم او المطالبه بالاعتذار وايقاف المسلسل، ينبغي ان يوجه الى السعودية وليس الى الكويت، فضلا عن ان مخرج المسلسل مصري وفيه ممثلون من دول عربية بينها العراق، باستثناء ان الكاتبة كويتية.. وبينها والحكومة الكويتية اشكالات. وينسون ايضا ان المسلسل يتحدث عن طلبة ذهبوا الى لندن في الثمانينات.. اي قبل غزو العراق للكويت.. ويعرف الطلبة الكويتيون قبل غيرهم ان طلبة البعثات العراقية كانوا يتقاضون رواتب تكفيهم.. وزايد.

ان الكل يعرف حقيقة ان العراق كان متقدما على معظم الدول العربية في اختصاص الطب تحديدا، والكل يعرف ان الكويتيين كانوا في الستينيات ياتون الى البصرة يتسوقون اللحوم الطازجة والالبان والخضروات يستجمون فيه ويرتاحون ويفضلونها على لندن.فضلا عن ان معظم المقارنات التي تضمنتها الضجة، يعرفها العراقيون والخليجيون بما فيها تفوق المرأة العراقية عربيا ايضا بتوزيرها في الخمسينات.. فلماذا اتخذوا من المسلسل وسيلة لاثارتها الان مع انه مسلسل متواضع تاليفا واداءا واخراجا؟.. وأنه لم تعرض منه سوى ثلاث حلقات من اصل ثلاثين حلقة! أم أن (الجواب باين من عنوانه!).

ولماذا هذه الضجة الآن والمسرح الكويتي كان من الثمانيات يسخر في بعض مشاهده من العراقي؟!.. مع انه لا يوجد شعب في العالم ليست فيه تصرفات تثير السخرية بمن فيها الشعبان العراقي والكويتي.. ان عرضت بهدف النقد وليس الأساءة.

ان السبب الرئيس لهذه الضجة هو سيكولوجي خالص عنوانه (سيكولوجيا المفاضلات بين الشعوب) قائم على تعظيم الذات وتحقير الاخر. والخطر في ذلك ان هذه الآلية السيكولوجية تؤدي الى فتنة بين الشعوب، وان اقحامها في السياسة ليس في صالح العراق الذي حقق انجازا عربيا كبيرا قارب بينه وبين شعوب الخليج في خليجي البصرة المبهر في عكس صورة العراقي من يوم جلجامش وعشتار وعظمة حضارته.فضلا عن ان هذه الضجة حققت عكس ما كان يتوقع اصحابها.. فهي اعطت مسلسل الكاتبة دفعة انتشار ما كانت تحلم بها، معتبرة الهجوم عليها دليلا على ان العمل الدرامي الجيد هو ذلك الذي يثير جدلا يستقطب مشاهدين ما كان لهم ان يشاهدوه لولا ان الجدل وصل الى صعيد اكاديميين مقروئين!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

رغم أن الوحدة الوطنية مفهومٌ ضروري ومصيري، يضمن التعايش الحقيقي بين مكونات الوطن الدينية والمذهبية والقومية والايديولوجية، لكنه في كثير بلداننا العربية والإسلامية، يبدو مفهوماً نظرياً فضفاضاً طوبائياً لاقيمة عملية له، بسبب تعارض الأهداف والسلوكيات بين المكونات الدينية والمذهبية والقومية والايديولوجية في البلد الواحد من جهة، وبسبب عقيدة الدولة الطائفية أو العنصرية أو الشمولية، وسياساتها في تهميش بعض المكونات، والتمييز بين المواطنين على أساس الدين أو المذهب أو القومية أو الايديولوجية من جهة أُخرى؛ فيكون هناك مواطن من الدرجة الأولى، ومواطنون من الدرجات الثانية والثالثة.

ولاتقتصر هذه التعارضات على الأهداف والسلوكيات السياسية الطبيعية الموجودة في كل دول العالم المتحضرة، التي تعتمد معايير المساواة في الحقوق والحريات بين مواطنيها، أو الخلافات المقبولة بين المكونات، بل تتعداها الى مظاهر كسر الإرادات والاحتراب، ومخططات تخريب الدولة والوطن والانفصال عنه، ومحاصرة بعض المكونات عقدياً ومذهبياً ومعيشياً، والتضحية بأبنائه في الحروب الداخلية والخارجية، والضغوط عليهم من أجل التنازل عن الهوية الخاصة، تحت شعار الوحدة الوطنية والتضحية من أجل الوطن، وهي في حقيقتها تضحية من أجل أن يبقى الدكتاتور الحاكم أو الحزب الحاكم أو الأسرة الحاكمة تعض على السلطة بقوة.

وبالتالي؛ لن يكون مبدأ الوحدة الوطنية منتجاً في بلداننا إلّا أذا توافر شرطان:

١- أن تكون الدولة التي يتحقق مبدأ الوحدة الوطنية في إطارها، هي دولة المواطنة والقانون، التي تحترم رأي الأكثرية وتضمن حقوق الأقلية، وينعدم فيها التمييز بين المواطنين، على مختلف مذاهبهم وأفكارهم، وتتكافأ الفرص بينهم، وأن يكون هناك فصل بين الوطن والدولة وسلطاتها والحكومة. أما إذا كان شخص الحاكم أو الحزب الحاكم أو الأسرة الحاكمة هو الوطن وهي الدولة والحكومة والسلطة، وكانت الدولة تابعة لحاضنة طائفية اجتماعية معينة أو مكون قومي معين؛ فإن الوحدة الوطنية لن يكون لها أي موضوع ومعنى، لأنها ليست وحدة من أجل الوطن، بل مجرد شعار سلبي يستغله الحاكم والأسرة والحزب أبشع استغلال، من أجل استحكام سلطتهم والاستقواء على التحديات التي تواجه بقاءهم.

٢- أن تكون هناك رغبة حقيقية من قبل المكونات الدينية والمذهبية والقومية في البلد، بتحقيق الوحدة الوطنية، على أساس المشتركات التي تُنشِيء قواعد التعايش والتعاون والتحالف. أما إذا كان بعض المكونات يعيش تحت حراب مكون آخر وقمعه وتهميشه، وكان مكون آخر يخطط ويعمل على الانفصال عن الوطن، ومكون ثالث يعمل على تخريب الوطن والدولة، لإحساسه بأن الدولة لاتمثِّله؛ فحينها تكون الوحدة الوطنية شعاراً للمناورات السياسية والابتزاز والمزايدات لا أكثر.

ولذلك؛ نرى في كثير من بلداننا العربية والإسلامية أن أبناء البلد الواحد، المختلفِين دينياً ومذهبياً وقومياً وايديولوجياً، لايجمع بينهم سوى الرابط السياسي القانوني المتمثل بالجنسية وجواز السفر، وأحياناً اللغة وفريق كرة القدم وبعض الرمزيات، أي أنها وحدة الانتماء السياسي للبلد فقط، ووحدة العواطف المؤقتة؛ بينما تفرقهم الأهداف والطموحات والثقافات والسلوكيات والعلاقات.

وللتغطية على هذه التعارضات العميقة؛ يصرخ بعض حسني النية والمثاليين والمتحمسين، بأن التعارضات والفوارق لاوجود لها بين أبناء البلد، وإن وجدت؛ فلابد أن تزول فوراً، ويتحدث عن المشتركات وعن حب الوطن الذي (يجمعنا)، وبين هؤلاء المتحمسين من يرى بأن المكونات الدينية والمذهبية والطائفية والقومية واللغوية وجودات زائدة يجب إلغاؤها، أو إلغاء تأثيرها في الحياة السياسية، أو أن لايكون لها مدخلية في بنية الدولة وتشكيلة الحكومة. والحال أن هذا الحماس يعبر عن خطاب طوباوي وغير واقعي، لأنه سرعان ما سيصطدم بالواقع عند أول مفترق أو حدث.

وهناك من يعتبر أن السياسيين والأحزاب والاستعمار، أي العامل السياسي الداخلي والعامل السياسي الخارجي؛ هم سبب إيجاد هذه التعارضات، وهذا الخطاب ــ هو الآخر ــ يقرأ الواقع وحقائقه بتبسيط ودون عمق؛ فلا شك أن الاستعمار والسياسيين المحليين وأحزابهم، يلعبون جميعاً دوراً مهماً في تكريس هذه التعارضات، لكنهم لايخلقونها ولا يوجدونها، بل يكرسونها، لأنها موجودة أساساً، ولها عمق تاريخي، وترتبط بتكوين الوطن والدولة والنظام السياسي والتشريعات والأعراف التأسيسية، ولو لم يجد الاستعمار والأحزاب والسلطات الداخلية حواضن اجتماعية أساسية نشات على هذه التعارضات وشكّلت عقلها وخطابها الاجتماعي؛ لما استطاعوا استغلالها وتكريسها والنفوذ والسيطرة من خلالها.

ولذلك؛ ينبغي أن تذعن مكونات الوطن جميعاً، أن قدرها العيش في رقعة جغرافية واحدة توحدها الحدود السياسية والهوية القانونية للمواطنين، وأن عليها العمل على خدمة الوطن وبنائه وعلى تعزيز قوة الدولة وسيادتها وفاعليتها ونجاحها، دون النظر الى البقعة الجغرافية التي يسكنها كل مكون أو المذهب الذي ينتمي اليه المكون، ويكون ذلك بإرادة مشتركة وخطوات مشتركة، لا أن تتبادر بعض المكونات الى ذلك وتتردد أخرى أو تعمل بعكس الاتجاه؛ بحجة أن المكون الأكبر ــ مثلاً ــ هو (أم الولد) و(الأخ الأكبر)، وعليه أن يضحي ويتنازل للمكونات الأخرى، أو أن المكون الأصغر هو (مجتمع الأقلية) و(الأخ الأصغر) الذي يجب أن يضحي ويتنازل لمصلحة المكون الأكبر أو المكونات الأُخر؛ فهذه المفاهيم خاطئة أساساً ولاتبني دولة ولاتحقق الوحدة الوطنية.

كما ينبغي أن يذعن من يمسك السطة، سواء تمثل بشخص أو أسرة أو حزب؛ بأن الوطن والدولة والسلطة ليس ملكاً له، إنما هو مجرد أداة لخدمة الوطن والمواطن، دون تمييز بين مواطن وآخر، وأنّ تمثيله للوطن والدولة والسلطة هو بمقدار تخويل الشعب له، وأنّ تداول المسؤوليات، من قمة هرم الدولة الى قاعدتها، هو حق طبيعي لكل من ينتمي الى الوطن.

حينها؛ تتحول الوحدة الوطنية من مجرد شعار فارغ للتغطية على الأهداف المتعارضة للمكونات الطائفية والقومية في البلد، وعلى سوءات السلطة وسياساتها التمييزية، وأهدافها في إخضاع الشعب لعقيدتها ومخططاتها الخاصة؛ تتحول الى واقع منتج يقوم على قاعدتي التعايش والتحالف.

وتنسحب هذه الرؤية الواقعية أيضاً على مفهوم الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب الإسلامية ووحدة أتباعها، وهي رؤية تتعارض مع الرؤية المثالية الشعاراتية، سواء على مستوى الوطن الواحد أو عموم الأمة الإسلامية. وكنت أشير دائماً الى ضرورة العبور على الرؤية المثالية، وتجاوز مصطلح الوحدة الإسلامية، لأنه مصطلح غير واقعي وغير منتج، حتى حين كنت مستشاراً للعلامة الشيخ محمد علي التسخيري رئيس مجمع التقريب ورمز مشروع الوحدة الإسلامية، ولطالما كان هذا الموضوع محور تداول مع سماحته (رحمه الله) خلال أسفارنا ومشاركاتنا في المؤتمرات الإسلامية العالمية، أو عند مراجعة سياسات مجلة رسالة التقريب التي ترأست تحريرها لفترة.

الرؤية الواقعية لقضية وحدة المسلمين، هي رؤية إنسانية، تقوم أيضاً على قاعدتي التعايش الميداني والتحالف الواقعي بين المسلمين الشيعة والسنة، كما هو الحال مع الوحدة الوطنية، وذلك بهدف التكافؤ الكامل، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل عقدياً وفكرياً وسياسياً وإعلامياً واجتماعياً، والعمل المشترك على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية المشتركة، سواء على مستوى الأوطان أو على مستوى الأمة الإسلامية بشكل عام، واحتفاظ كل طرف بمتبنياته ومعتقداته، وأن تكون هناك رغبة حقيقية مشتركة من الطرفين الشيعي والسني لتنفيذ مشروع التعايش والتحالف، وليس رغبة من طرف واحد، في حين يقابلها الطرف الآخر بسياسة التمنع والتكبر، وعدم الاعتراف بالآخر، والإصرار على تهميشه ومحاربته سياسياً وإعلامياً وثقافياً.

وقد طرحتُ هذه الرؤية، بكل وضوح، في أكثر من مؤتمر وندوة وكتاب ودراسة ومقال وكلمة، ومنها كلمتي في الاجتماع السني الشيعي الخاص في القاهرة في العام 2000، بحضور شيخ الأزهر ومفتي مصر ووزير الاوقاف المصري والشيخ محمد علي التسخيري ووزير الثقافة الإيراني ومدير عام المجلس الشيعي اللبناني ومفتي عمان، وكانت الكلمة تؤكد معاني وحدة الواقع المتمثلة بالتعارف والتقارب والتعايش والتحالف، خلافاً لشعار الوحدة الإسلامية غير الواقعي.

ولعل أقرب صيغة لهذا التعايش والتحالف هو الصيغة الأوروبية الواقعية. ولا أقصد هنا (الإتحاد الأوروبي)، بل أقصد صيغة التعايش والتحالف المجتمعي المسيحي الأوروبي التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، والتي أنتجت الإتحاد الأوربي فيما بعد؛ فالأوربيون المسيحيون تتوزعهم أيضاً مذاهب دينية وكنائس متصارعة ومتحاربة لمئات السنين، كاثوليكية وبروتستانتية وارذثوكسية وانجليكانية وغيرها، وتتقاسمهم تيارات سياسية متنوعة، وأطماع استعمارية، وايديولوجيات نازية وفاشية وماركسية وعنصرية وليبرالية، لكنهم توصلوا، بعد حروب داخلية وخارجية طويلة قضت على عشرات الملايين منهم، ودمّرت بلدانهم، الى صيغة التعايش والتحالف، ليحققوا لأنفسهم أفضل المكاسب السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والاستعمارية.

وأختصر رؤيتي في وحدة المسلمين بكلمتين فقط، هما: (التعايش) و(التحالف)، انطلاقاً من المشتركات الواقعية في المجالات العقدية والإقليمية والوطنية، والتي تفرض التعايش الاجتماعي والسياسي والمذهبي، والمساواة في الحقوق والحريات، والمواطنة المتكافئة، والتحالف في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

هذه الصيغة التعايشية التحالفية النابعة من الواقع وتفاصيله، والتي تأخذ بالاعتبار خصوصيات المسلمين العقدية والمذهبية، وتتجاوز الشعارات المثالية غير الواقعية من جهة، والخطاب الطائفي الانعزالي من جهة اخرى؛ ستجلب للمسلمين مصالح نوعية، وستدرأ عنهم قرون من الصراعات والمفاسد.

***

د. علي المؤمن

استسمح أيها القارئ المفترض بقولي هذا أن"شيطاننا" ظل يُوسوسُ لنا منذ منتصف شهر أذار؛ بالتأكيد! شهر منعِش للمخطط الأخضر، قبل اليوم العالمي للسعادة وللشعر وللمسرح! ولم تكفيه الوسوسة، فأمسى في هزيع الليل يحرضنا أن نصرخ صرخة مسرحية، كعادتنا في اليوم "العالمي للمسرح" لكن "القرين " استيقظ من صمته، وانتظاريته، فأضحى يمنعُنا من الصرخة؛ ويحاول أن يُفشل دماغنا، ويشلَّ تفكيرنا كي لا نفكر ونكتب، عن يوم عشقنا الأبدي، عشق سيزيفي لمعانقة أريج ديونيزوس. فهل شيطاني على حق إلى أبعد ما ستحمله هاته الورقة من كلمات مبعْثرة، كأيامنا؟ أم قريني على ضلال، لكي لا أخط على هاته الورقة ما ستطفو به قريحتي من كلمات، تجاه اليوم العالمي للمسرح ؟ ولكن قريحتي هي قريني؟ إنّه ("قريني") أوّل من يسَعى لصَّفاء سبلي، ومنطلقات تفكيري، إنه لم يتخل عني يوما، إنها حقيقة الإحساس بذلك. ولكن من يدري؟ فهل تحول" شيطاني " إلى "قرين"؟ أم العكس؟ ممكن، وليس مستبعدا! لأننا نعيش( الآن) زمنا ما هو عَبثي ولا مشرق ولا سوريالي ولا اعتباطي ولا مظلم ولا عشوائي... ولكن هنا تذكرت ما قاله {أبو حيان التوحيدي} في كتاب«مثالب الوزيرين»[ «إذ أنت مُخش مجَش محِشّ، لا تهُش ولا تبُش ولا تمْتش، فقال له فيروزان... كلّمنا بما نعْقل علي العادة التي يمليها العَمل، واللّه ما هذا من لغة آبائك الفرس، ولا لغة أهل دينك من هذا السواد، فقد خالطنا الناس فما سمعْنا منهم هذا النمط، وإني أظن لو دعوت اللّه بهذا الكلام لما أجابك!» ولكن سمعْنا مثل هذا الكلام في قبة البرلمان، ليتذكر القارئ المفترض (هذا) لكن لماذا يحرضني شيطاني أن أصرخ؟ وقريني يحرضني أن نصمت؟هكذا سألت نفسي، ووقفت أتأمل! وأفكر بدون سند. لأن كلا الطرفين ذهبا في مهمة ديبلوماسية، حسب روايتهم .

طبعا في كل سنة نكتب عَن "اليوم العالمي للمسرح" بجوارحنا؛ أعماقنا؛ ذهننا. كغيرنا من الإخوة الفاعلين والغيورين على هذا الصرخ الفني/ الإبداعي/ الروحاني/ لكن لا تفاعل ولا استجابة ولا تغيير في منظومة الاحتفاء وما بعْده: موت مؤجل ! وصمت شبه مطلق! بين فضاءات المدينة، أما البادية فلا تعْرف المسرح، هكذا قالوا: عَفوا هكذا زعموا! ولكن لماذا البادية عرفت الزوايا؟ ثم انخرطت في الأحزاب السياسية؟ أليس هنالك رؤساء جماعات قروية؟ يبدو أن كلماتي هلوسات بعدما افترق عني قريني لحظة! أو لربما أضعف من أن تجاوز سن القلم، بعْدما انسحب شيطاني؟ ولكن ندرك بأن المعنيين (المسرحي) لايقرأون؛ وإن قرأوا فتلك الكلمات تتخندق في إطار اللامبالاة، وفي المنطوق الضمني أنت يا (هذا) تنفخ في رَمادٍ . باعتبار أن ما دوِّن ويُدوَّنُ من أفكار ومقترحات وتحفيز للأمل، مجرد نفخة في رماد . أليس كذلك يا قريني؟ هَذا ما كنت تود قوله : أنني أضيِّع وقتَي، ووقتك فيما لا فائدة فيه .

لنعترف سويا أننا نبْذلُ جهوداً لا طائِلَ من ورائها! لأن المسرحي والفنان والمثقف تخلى عن أدواره الطلائعية واتجه أغلبهم يهَرولون تجاه الريع والبحْث عن منافد المصادر المالية، أبرزها (الإشهار) للمواد الاستهلاكية والمعيشية، التي أصيبت بسعار الأسعار، وحولت المواطن إلى تائه، لا يدري أين المستقر! وفي المواد (التزينية / التكميلية) وإن أمست ضرورية ك( الهاتف النقال – مثلا) فلم يعُد يلحقها المواطن/ المشاهد البسيط . هذا الأخير كيف سيثق ويتواصل بعَطاء أي (مسرحي) ثم نتساءل أين الجمهور؟ ولكن لم نسأل من نفره من متابعة العروض المسرحية وملء القاعات؟ رغم قلة العروض، ناهينا عَن بعْض من تفاهتها . وضآلة القاعات بمواصفات تقنية / تكنولوجية؟ أليست مسلكية المسرحيين/ الفنانين؟ لأن الإبداع الحق هو المخلص الأساس من القبح النفسي الذي يعْتري البشر، ويسيء إلي علاقاتهم. فالمسرح الفعال صورة النفس. لكن اي مسرح سيكون فعالا ويرنو للتطور أمام مسلكيات وسلوك الانتهازيين والوصوليين، وصناع الظلمة! فالظلمة رمز للموت وللدمار، فهل المسرح في المغرب بدأ الموت يقترب منه، أم أنني أتوهم؟ ربما لا أتوهم، مادامت عدة مكتسبات ضاعت في غفلة أمام صراع المسرحيين، فانتشرت الدسيسة و الشرّ والكولسة والإقصاء والعداء بيننا، لنعترف بذلك؟ فهل اعترفت وبرأت ذمتها تلك {الزمرة} في اليوم الدراسي (مؤخرا) والذي نظمته وزارة الثقافة المغربية حول القطاع المسرحي؟ بالعكس كان الإطراء والمديح والنفاق الإجتماعي كالعادة؛ وقبول الوصاية، لأن الفضاء (الفندقي/ المخملي) ينسف نضالية المناضل، ويدحض الأفكار والتصورات النيرة؛ إنها عملية بسيكودرامية من زاوية؛ ومن زاوية أخرى يستكين المسرحي المتحمس للتخدير اللاسلكي؛ الذي ينتجه (الفضاء/ الأوطيل) ربما أن شخصيتنا هشة / ضعيفة/ مهترئة/ أمام الإغراءات ولو وهمية ! ولقد أشرت إلى "الفندق المصنف" في أعلى درجات في إطار المهرجان العَربي في دورته [13/ الدارالبيضاء] وأكررها هاهنا، لأن "شيطاني" أراد أن أصرخ: فالمسرح مهما حاولنا أن ندجنه؛ ونهربه لفضاءات بعيدة عن شغب / حضور المهتمين والمتتبعين الحقيقين، وليس المزيفين. سيبقى جماهيريا؛ لأنه سليل الشريحة الكادحة، ومنبثق من الشعب [الأثيني/ الإليجي/ الروماني] وليس الأنظمة! وبالتالي فأي مناورة تجاه المسرح، فأصحابها ورهطها ستنطبق عليهم (الآية الكريمة 83) من سورة الحجر: - فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُصْبِحين. ولقد أخذتهم وهم لا يدرون بذلك.

ولكن ما أتعجب فيه باستمرار، هناك أصوات تنادي بخروج المسرح كنشاط أدائي للساحات العمومية، وهناك من يدافعون بقوة على مسرح (الشارع) حتى أن هنالك لجنة شاركت في اليوم الدراسي! وهناك من يقترح أن الفرجات المسرحية لا يمكن لها أن تتحقق إلا خارج اللعبة الإيطالية! فكيف لبائع النعناع الأخضر/ ولطالب معْرفة أن يعرف أهمية مسرح الشارع، حسب ماهو معروف عندنا (الآن)؟ ومناقشته مهربة حيث لا يصل إليها ذباب الله تعالى، قبل الذباب الإلكتروني، إنه اسم / صفة متميزة ومائزة .

ألم يكفِّ حراس المسرح القديم، من تخريب المسرح؟ وساهموا في ردمه؛ واندحاره! لأنهم مستبدون بأيادي ناعمة، وبلاغة بيانية. لأنهم شعروا ما مَرة بأن مصالحهم في دهاليز مؤسسات القطاعات المشرفة، والفوائد النفعية خارج الوطن، مهددة ولن تدوم، فأرادوها أن تدوم، ولقد ساهمت معهم بعض الأيادي المسرحية، لكي تدوم؛لأنهم متواطئون؛ ومستفيدين من الهبات والدعم والريع المحلي والوطني! لسنا ضد الاستفادة، ولكن بالفائدة المرجوة، والصادقة للفن الإنساني ونبل منبعه. فشكسبير كان يكتب لكسب المال. وفي نفس الوقت بهدف لجذب الجمهور الاليزابيثي في عصره.

ولكن حراس المسرح القديم، وبعض الحواريين، يهدفون لكسب المال وتهجير الجمهور المغربي من المسرح! وهاهم لازالوا يصهلون ويناورون حتى في اليوم الدراسي . أليسوا هم الذين اغتالوا مسرح الهواة؟ ونسفوا المسرح المدرسي بشقيه؟ وشوهوا مسرح الشباب؟ ورغم كل شيء فإن العديد من، الشباب المولعين بالفن الرابع، يرفضون اليأس والاستسلام ويصرون على مواجهة الواقع المؤلم الذي أوصل "شقهم" المسرحي لحافة الاندحار؛ على أيدي زبانية المحاصصة؛ والإفساد! هؤلاء ومن سعى لتشتيت المسرحين شذر مذر عبر تعدد النقابات، ألم يتحَربؤوا لتنصيب أنفسهم جوانية اللجن، وكانوا مطأطئ الأكتاف، يشخصون من حيث لا يدرون فرجة (سيدي الكتفي) لأولياء نعمتهم؛ التي جعلتهم يناقشون ملفات العُروض؛ ويساومون على دعمهم! أليس كذلك يا شيطاني؟ ربما قريني يرفض هذا. أعلم جيدا أن الصرحة هي نفخة في رماد أو صيحة في واد، ولكن ما دمت رفيقي؛ نسيت ما قاله "عبدالرحمن الكواكبي" نفسه في توطئة كتابه: (وهي كلمات حق وصيحة في واد، أن ذهبت اليوم مع الريح، فقد تذهب غدا بالأوتاد..).

ولكن هل تصدقني إذا أنبأتك كيف طفرت من عَيني دمعة، حينما سمعْت أن هناك بعْض المسرحيين يقدمون أظرفة لبعْض المواقع الإلكترونية، من أجل تلميع وجودهم؟ ومحاصرة هذا عن ذاك، لعْبة قذرة، بالأيادي القذرة حسب رؤية "سارتر" إننا ندمر مسرحنا بأيدينا وليس بأيادي الآخرين . وهُناك (صحفي) محسوب على الجسم المسرحي؛ قيل قلبا وقالبا ويدافع عنه من موقع نقابي؛ يصادر مقالات ودراسات تمس فكريا وثقافيا بعْض الباحثين أو المخرجين، الذين يرشون عَليه بعْض الفتات، أو يستدعونه هنا أو هناك. ولكن عذره في عقليته التي تعِيش زمن [الرايخ الثالث] فالمشهد المسرحي في مغرب اليوم، بدوره مسرحا؛ ذو طبيعة [تراجيكوميديا] فكيف ياترى؟ سنحتفل باليوم العالمي للمسرح، لأننا عمليا سنحتفل على ممارستنا (نحن) وعلى سلوكياتنا لبعضنا البعض، كيف سنحتفل، ونحن تخلينا عن معاناة من عشنا معهم في الحواري والأزقة الرثة والضيقة، كيف سنحتفل ونحن تخلينا عن قضايا الجماهير؛ قضايا ساخنة تزيدها الأسعار لهيبا، وينضاف إليها القلق اليومي ليزيد للقضايا تعقيدا، أليس المسرح لسان من يرقصون على الجمر وبجِلد الماعز، جلدُ العذاب اليومي، والبكاء المهموس والمعْلن لأسر الهشاشة، فكل الأفكار والتجارب المسرحية / النضالية، أمست مجرد أحلام أو كومة ريح معسول ذهبت أدراج الرياح، مثل هذه السطور التي يقينا، ستبقى صيحة في وادي ونفخة في رماد، واذهب أنت وشيطانك وقرينك لتحتفل باليوم العالمي للمسرح؟ ولكن فمن سيهمس هذا القول، نقول له بقول "المقابسات" لأبي حيان التوحيدي{... كذلك فاعلم أنك لا تصل إلى سعادة نفسك، وكمال حقيقتك، وتصفية ذاتك، إلا بتنقيتها من درن بدَنك وصِقالها من كدر جبلَّتك}.

***

نجيب طلال

فاس / 25/ مارس/2023.

"انا أبدو أكثر حكمة من هذا الرجل، لأن لا أحد منا يعرف أي شيء عظيم وجيّد، لكنه يتصور انه يعرف شيئا ما رغم انه لا يعرف شيئا، بينما انا كوني لا أعرف أي شيء، لا أتصور انا أعرف. في هذا الموقف، انا أبدو أكثر حكمة منه لأني لا أشعر أعرف بما لا أعرف". (دفاع سقراط).(1)

طبقا لإفلاطون، كان هذا جزءاً من دفاع سقراط في المحاكمة التي انتهت بإعدامه والتي وجد فيها القضاة ان دفاعه غير مقنع. كان سقراط رجلا مزعجا، يتجول في أثينا يستدرج المواطنين البارزين في محادثات تنتهي بهم عادة في تناقض صارخ مع أنفسهم مما يدفعهم للاعتراف بجهلهم. هل هو حقا يعرف أفضل منهم؟ ام هل هو، كما ادّعى، كان مجرد ذبابة حصان تلدغهم لتثير انتباههم؟ هو رأى نفسه يخدم الصالح العام، وقوله أعلاه يجعله يشبه العلماء اليوم الذين لديهم نظريات وآراء ولكن ايضا يؤمنون برؤى مؤقتة، مستعدون لإعادة فحصها او التخلي عنها عند الضرورة عندما يبرز دليل جديد.

في أية حال، مهمة سقراط كانت خطيرة. العديد من المواطنين الاثنيين الذين تحدّاهم اعتبروه يتجاهل الحقائق الأخلاقية والسياسية التي بُنيت عليها دولتهم. يحقّق في معنى الشجاعة او طبيعة العدالة؟ كم واحد منا لم يقل "بالطبع انا أدعم حرية الكلام، ولكن ليس الآن، ليس في هذا الموضوع بالذات؟" المفاهيم التي كان يحقق بها سقراط كانت حقا أساسية، جزء من "المعرفة" المشتركة التي ساعدت في ديمومة عمل المجتمع. محاكمة سقراط هي مثال على العلاقات المتشابكة والمعقدة والمتغيرة بين المجتمع والمنطق والمعرفة.

المعرفة العلمية تأتي من العقل والتجربة، لكن ما يُعد "معرفة" في مجتمع يتضمن ايضا العادات والقواعد وحكايات الناس الخاصة والمعلومات المضللة والعقائد المشتركة حول الدين والأخلاق والمعرفة التقنية العامة حول كيفية العمل في سياق اجتماعي معين. كيف ان التفكير او المنطق يساعدنا في غربلة كل هذا وتقييمه ومعرفة الدور الذي يلعبه؟

ما نستطيع قوله هو ان المجتمع، من بين أشياء اخرى، نظام لمبادلة ونقل المعرفة والعقيدة حول كل شيء من سعر التفاح في السوق الى الفيزياء النووية وكيفية التصرف تجاه المواطنين الآخرين. المجتمع ايضا يولّد معرفة بمختلف الطرق، والمعرفة تحافظ على المجتمع ايضا بطرق مختلفة.

التفكير او المنطق يكتشف المعرفة والمعرفة بدورها توفر الأساس لتفكير جديد آخر. المجتمع والتفكير والمعرفة متشابكون ومترابطون بطرق معقدة. هل هناك فقط طريقة واحدة للمنطق؟ المثقفون النسبيون يدّعون ان ما هو صحيح في مجتمع معين قد لا يصح في مجتمع آخر، وان ما يُعد كسبب جيد للاعتقاد بشيء ما ايضا يتغير من مكان وزمان الى مكان وزمان آخرين. لكن هل يمكن ان يكون هناك أكثر من منطق، او هل المنطق سليم وصادق عالميا في كل الأوقات والأماكن؟

يجب ان نتذكر ان البيانات الضخمة Big Data (بيانات كبيرة ومعقدة جدا يصعب التعامل معها بالسوفتوير التقليدي) حاضرة في الميدان. نحن نعرف دائما ان "معرفة قليلة يمكن ان تكون شيئا خطير" – يتبع ذلك ان الكثير من المعرفة هي أكثر خطورة؟ ميشيل فوكو المثير للجدل بالتأكيد يعتقد بهذا ويستطلع التفاعل بين المجتمع والمعرفة والسلطة كأساس في كتبه المثيرة. عندما نمتلك معرفة هل يجب ان نتقاسمها مع الآخرين؟ في العلوم ذلك متوقع جدا وضروريا، لكن ماذا في المجال الأعم؟ واذا كانت لديك معرفة، ففي أي ظروف يجب ان تحتفظ بها؟ طبقا للنكتة الشعبية: المعرفة تشبه الملابس الداخلية نحتاج امتلاكها لكن لا نحتاج كشفها أمام الآخرين.

***

حاتم حميد محسن

......................

الهوامش

(1) بما ان سقراط أنكر معرفته بأي شيء، هو حاول ان يجد شخصا أكثر حكمة منه بين السياسيين والشعراء والناس الحرفيين. تبيّن له ان السياسيين ادّعوا الحكمة بدون معرفة، والشعراء يمكن ان يلامسوا مشاعر الناس بكلماتهم لكنهم لايعرفون معانيها. اما الحرفيين يستطيعون فقط ادّعاء المعرفة بمجالات محددة.

 

 

الإنسان والطبيعة توأمان. أحدهما صورة عن الآخر، كل منهما يمتلك من الرحمة ما يكفي للملمة جراح العالم، ومن القسوة ما يمكن به تدمير جميع ما نتخيله. الرحمة والقسوة هما موجز لنا، للتاريخ البشري برمته، ولتاريخ الطبيعة التي منحتنا بوجهها الأول خيرات وفيرة بكرم مبارك. صارت قدرنا وملاذنا، من البدء حتى المنتهى: مهد ولحد. أما وجهها الثاني، ذاك الذي تظهر ضراوته ساعة الكوارث، كما في الزلزال الأخير الذي فتك بتركيا وسوريا فهو سيف الفناء الذي لا يساوم أبداً، ولا يمنحك ولو ثانية، ثانية واحدة فحسب، تهرع فيها لتنقذ ما يمكنك انقاذه، إلا إذا كنت بذكاء وشجاعة ذلك الشاب السوري الذي رمى ولده الصغير من علو أربعة طوابق لينقذ حياته، تماماً مع اللحظة الأولى لانهيار المبنى الذي يضم شقته فوق رؤوس ساكنيه، ليدفن بعدها مع زوجته وهم أحياء. رحلا قبل انتهاء أمد الثانية نفسها.

وبينما كانت أرواح الأبوين، ومن معهما من سكان العمارة تحلق نحو السماء، كان ثمة ولد يحلق على مقربة هو الآخر، ولد صغير في الرابعة من العمر اسمه محمود قدادو، رفرف بيديه، طار قليلاً، ثم هبط سالماً، بجرح بسيط في جبهته فقط، مثل عصفور يجرب جناحيه للمرة الأولى فتسقط منهما ريشة، أو ريشتان. كان مراسل إحدى الفضائيات العربية الشهيرة قد التقى مع جد الطفل لأمه، رجل في مطلع الخمسين من العمر بثياب سوداء، وغطاء رأس أسود، روى الحكاية وهو يحتضن حفيده. ذكر أن محمود الذي لم يتحدث بالكثير منذ ساعة الحادث، والذي لا يزال ذاهلاً من هول الموقف أخبره قائلاً: "جدّو. أنا طرت هيك، وجيت بالأرض". وكان الجيران قد وجدوه قرب حطام المبنى.

بعض الناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي نقلوا الخبر أيضاً، وأحدهم ظهر بمعية الطفل وجده. تحدثوا عن نزوح الأسرة من حرستا إلى بلدة جنديرس في ريف حلب، أكثر بلدة أصابها الدمار بسبب قربها من الحدود التركية. من الواضح أنهم يعيدون ذكر الخبر من مصدر واحد، وقسم منهم ذكر أن الشقة كانت ضمن الطابق الثالث. لن يغير ذلك كثيراً من فرادة ما صنعه الأب، أو خطورة ما واجهه الطفل، لكن من المؤكد أن رواية الجد هي الصحيحة، إنه أعلم بموقع شقة ذويه بلا شك، وقد كان يشير إلى مكانها، وهو يتحدث أمام أطلال المبنى الذي صار تراباً.

تلك الثانية كانت ذهبية حقاً– ربما هي نصف ثانية- لا وزن للثانية لكي نقول إنها تساوي وزنها ذهباً. ما قيمتها أصلاً إزاء ما نضيعه كل يوم من وقت طويل محسوب من أعمارنا القصيرة؟ لكنها، هنا، كأنت أغلى من جميع الأشياء ذات القيمة. لقد سرقها الأب من عقارب الساعة الأزلية للزمن، تلك التي لا تهرم، ولا يصيبها العطب مطلقاً. المثير فيما حصل لا يتمثل بمكر الطبيعة، أو تناقضاتها، كما لا صلة له برحمة الأبوين، فهذه لازمة لا فضيلة. ما يبعث على الدهشة هو مقدار جرأة، وشجاعة الأب، ذكاؤه، ورباطة جأشه في لحظة ترعب وتشل تفكير أكثرنا قوة! لم يكن يائساً أبداً، وإن راهن بأغلى شيء لديه على أمل غير موثوق بالمرة.

لا أحد يمكنه التحرر من التشرنق على الأنا مثل الأبوين. لقد تابعنا في الأيام الماضية صوراً عاطفية مؤثرة لأكثر من أب يحتضن عائلته مع بدء الزلزال، يحميهم بجسده، بعضهم كان يتلو صلواته ملتمساً الرحمة الإلهية، أو يردد الشهادتين منتظراً النهاية. وكان ثمة أب من منطقة الغوطة الشرقية، مثلاً، نجح بإنقاذ أولاده، ثم فقد حياته بعد أن انهار عليه المبنى. لكن ليس كل الآباء يجرؤون -لكي ينقذوا أولادهم- على التفكير برميهم من نافذة طابق مرتفع، حتى وإن كانوا في عمارة بدأت تتداعى.

لكي نتخيل المشهد دعونا ندخل إلى العمارة "ما كانت كذلك"، تحديداً إلى طابقها الرابع، حيث الشقة التي شهدت ما حصل. في الواقع، لا تتوفر معلومات كافية عن الحكاية، وكل ما سنورده هنا مبني على افتراضاتنا الشخصية، لكنها افتراضات معززة بقرائن. نحن أمام عائلة سورية صغيرة، مهجرة، ومثقلة بأعباء أكبر من طاقتها. لم يكن بوسعها سوى السكن في مبنى رخيص، لا تتوفر فيه معايير السلامة، بسبب الفوضى التي غرقت فيها سوريا. الأب والأم بعمر الشباب، وهذا افتراض يتعزز قياساً بعمر الجد، وقد مضى على زواجهما خمسة أعوام في الأقل، فالطفل محمود في عمر الرابعة مثلما عرفنا. الأبوان إذن كبرا وتزوجا وأنجبا في أقسى ظرف عاشته سوريا الحديثة، حيث الخراب في كل زاوية، وشبح الموت متحفز للانقضاض. أنموذج لآلاف العوائل المنكوبة هناك، ضحايا لعبة سياسة عالمية لا يد لهم فيها.

حين بدأت أركان العمارة تهتز كان الطفل محمود نائماً، والأبوان كذلك، فقد حدث الزلزال بحدود الرابعة والثلث فجراً. يستيقظ الأبوان مرعوبين. كل اهتزازة للمبنى كانت تستفز الأب. الشاب الذي لم يستسلم أمام المشاهد المرعبة للموت طيلة اثني عشر عاماً، والذي تشبث بأمل أن يبني أسرة، وينجب أولاداً ها هو يجد عالمه وقد بدأ بالترنح، سينهار حلمه الجميل الآن، بعد ثوان قليلة فقط. أتخيل رد فعله الأول وقد ركض نحو ولده ليجده لا يزال نائماً. يحمل ولده بينما الأرض تميد، والمبنى يواصل الاهتزاز بشدة، يفكر بالنزول مع عائلته من السلم، غير أن الجدران أخذت تتصدع، وأصوات سقوط المباني المجاورة تنشر رائحة النهاية المروعة. إذن لا وقت لبلوغ السلم. يتحرك الأب بسرعة نحو النافذة المغلقة بالتأكيد، فدرجة الحرارة كانت بحدود الصفر المئوي، وحين فتحها لم يكن يملك وقتاً لتأمل الخراب المهول، كان قد اتخذ قراره، مغامرته/ مقامرته التي لم يتخيلها طوال سني حياته، حياته التي ستنتهي الآن، لكن ليس قبل أن يودع العالم بفعل استثنائي.

هل يملك الأب وحده حق المجازفة هنا؟ هل سأل الأم عن رأيها بقراره؟ شخصياً لا أتصور ذلك. أي سؤال أو نقاش سيبدد الوقت الضائع أصلاً. علينا هنا أن نتذكر أن يوكابد بنت لاوي أم النبي موسى صار فؤادها فارغاً خوفاً على وليدها، مع أنها قبل أن تلقيه في اليم وضعته في سلَّة من القصب المبطن بالقار، مع وعد إلهي بالحفاظ على حياته، وإرجاعه إليها. سيكون الشاب الذي لا يمتلك وعداً مماثلاً هو الأب والأم معاً. لقد قرر أن ينجب ولده من جديد، بنفسه هذه المرة، أن يخرجه إلى الحياة بولادة قيصرية من جوف الموت عبر النافذة، نافذة أمل غير يقيني بالمرة، مع ذلك، يبقى رهاناً أفضل من الاستسلام، ومن الجميل أنه نجح بكسبه.

انتهى الأب والأم كحال آلاف السوريين والأتراك. رحلا قبل الأوان، ولم يتم انتشال جثتيهما إلا بعد أربعة أيام، أي خارج أوان الفرصة الأفضل للعثور على أحياء، تلك المتمثلة بالأيام الثلاثة الأولى بعد حدوث الزلزال، أو ما تصطلح عليه فرق الإنقاذ ب"الفترة الذهبية". لم يسبق للأب الشاب أن سمع بهذه التسمية، لم يفكر حتى بفريق إنقاذ يخرج ولده من تحت الأنقاض. كان متأكداً من أن بقاءه للحظة فحسب يعني نهايته الحتمية. "الفترة الذهبية" -في مفهومه- هي في أن يسبق النهاية نفسها بثانية ذهبية واحدة، ثانية كافية لتنقذ فيها شخصاً واحداً فقط، وخيار من يكون هذا الشخص بالنسبة إليه محسوم أساساً.

تلك هي مواضعات اللغة والعقل المسؤولين عن جعل الذهب وصفاً للقيمة في أعلى ذروتها. تغييرها ليس بالأمر الهين، وإلا فقد ذكرنا في البدء أن الثانية التي استغلها الأب كأنت أغلى من أي ثمن. بالمناسبة، الطفل محمود غير معني بذهب آخر، ذهب حكمتنا القديمة التي تقول: "إن كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب"، سكوته هو نتيجة لهول الصدمة التي تعرض لها، أن يُحمل من فراش نومه في آخر ليلة شديدة البرودة ليلقى به في الهواء، وسط مبان تنهار تباعاً. لكن محمود سيعيش، وسيعود ليتحدث من جديد. سوف يكبر ويروي لا حكاية موت والديه نتيجة الزلزال، فهناك آلاف الأطفال ممن يشبهونه في ذلك، بل حكاية أخرى، حكاية أمل، إيثار وإرادة حياة، وبطولة أب قاوم بشجاعة نادرة لحظة الموت الجماعي. لا شك في أن الطفل محمود يحتاج للمساندة والرعاية، إنه وسائر أطفال سوريا يستحقون حياة أفضل، وتلك هي مسؤوليتنا جميعاً، مسؤوليتنا التي لا زلنا نهرب منها للأسف، وكأنها تحدث في كوكب آخر.

قلنا في البدء إن الإنسان والطبيعة توأمان متشابهان في الرحمة والقسوة. ولنا هنا أن نعرف أيهما الأشد خطراً. الحق إن كوارث الطبيعة ذات قوة تدميرية هائلة، لكنها -برغم ذلك- تبقى متباعدة الحدوث، قد لا تحصل طوال عشرات السنين، وهي فوق ذلك قصيرة الأمد، فالزلزال ينتهي بعد دقيقة، والفيضان بعد يومين أو ثلاثة، أما الكوارث السياسية في عالمنا العربي العجيب فهي الشيء الوحيد الذي بقي رافضاً التراجع لما يزيد على نصف قرن! كيف سنقنع حكامنا العرب بأن يمتلكوا أفقاً سياسياً حديثاً، لننعم مع أولادنا بقدر معقول من الطمأنينة والسلام، شيئاً مما يتمتع به ساسة اليابان مثلاً، كأن يعملوا على جعل مبانينا وبيوتنا كحال مثيلاتها في المدن اليابانية المصممة بعلمية مبهرة لكي لا تتأثر بالزلازل؟ إن كان ذلك أمراً مستحيلاً فليتهم يمتلكون رحمة وشجاعة الأب الشاب والد الطفل محمود، أن يبادروا لإنقاذنا وقت الأزمات، لا أن يتمترسوا بنا في الصغيرة والكبيرة. هم من جعلوا أنفسهم آباء لنا، "بطريركية" لم نخترها، أبوة قهرية خالية من العواطف. لقد استمروا لعقود وهم يصفون فترات حكمهم بكونها "ذهبية" هي الأخرى. في الواقع، لم نصادف فيها ما يمكن عده ذهبياً. نعم. كانت هناك لمعة فحسب، لمعة نيران أحرقت كل نافذة للأمل، ربما لكي لا ينجو طفل قد يفكر والده برميه منها لحظة الكارثة.

***

عباس عبيد

أكاديمي وباحث من العراق

أصبحت ممارسة الأنشطة عن بعد، مثل التعليم والعمل، ضمن الأساليب الرئيسية التي لجأت إليها الدول لمواجهة تداعيات انتشار فيروس كورونا، فقد أتاح التقدم التكنولوجي الكبير في مجال الاتصالات إمكانية إدارة دورة تعليمية كاملة دون الحاجة لوجود الطلاب والمعلمين في حيز ضيق من المساحة، والسماح- في الوقت ذاته - باتخاذ التدابير الاحترازية لمنع انتشار كورونا، وعلى الرغم من العوائد الإيجابية المتعددة التي يحققها التعليم عن بعد، إلا أنها تواجه عدة تحديات لاسيما في الدول العربية التي لا تتوفر بها بنية تكنولوجية قوية.

يعد التعليم عن بعد‏ أحد أهم المفاهيم والتقنيات الحديثة للتعليم بكافة مستوياته، وقد أصبح هذا النوع من التعليم ركنا مهما للاقتصاد المعرفي، ومن الجدير بالذكر أن التعليم عن بعد، أو ما يسمى أحيانا التعلم الإلكتروني المحوسب أو التعلم عبر الإنترنت؛ لا يعني تدريس المناهج وتخزينها على أقراص مدمجة، ولكن جوهر التعليم عن بعد هو النمط التفاعلي، حيث يعني وجود مناقشات متبادلة بين الطلبة وبعضهم، والتفاعل مع المحاضر. فهناك دائما معلم يتواصل مع الطلاب، ويحدد مهامهم واختباراتهم. وهناك عدة آليات للتعليم عن بعد، إما من خلال تقنية الفيديو كونفرنس، أو المحاضرات المباشرة، أو قيام الأساتذة والمتخصصين بتسجيل عددا من المحاضرات ووضعها على موقع معين على الإنترنت.

التعليم الإلكتروني هو نظام تفاعلي للتعليم يقدم للمتعلم باستخدام تكنولوجيات الاتصال والمعلومات، ويعتمد على بيئة إلكترونية رقمية متكاملة تعرض المقررات الدراسية عبر الشبكات الإلكترونية، وتوفر سبل الإرشاد والتوجيه وتنظيم الاختبارات وكذلك إدارة المصادر والعمليات وتقويمها.

وتعرف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) التعليم عن بعد بأنه أي عملية تعليمية لا يحدث فيها اتصال مباشر بين الطالب والمعلم، بحيث يكونان متباعدين زمنيا ومكانيا، ويتم الاتصال بينهما عن طريق الوسائط التعليمية الإلكترونية أو المطبوعات.

يعني هذا النظام بصفة عامة نقل التعلم إلى المتعلم في موقع إقامته أو عمله بدلا من انتقال المتعلم إلى المؤسسة التعليمية ذاتها، وعلى هذا الأساس يتمكن المتعلم أن يزاوج بين التعلم والعمل إن أراد ذلك، وأن يكيف المنهج الدراسي وسرعة التقدم في المادة الدراسية بما يتفق والأوضاع والظروف الخاصة به.

ويوجد العديد من التعريفات للتعليم عن بعد ولكن تتفق جميعها على أن التعليم عن بعد يعتمد على أساسين:

- وسائط الاتصال المتعددة (مطبوعة أو الكترونية).

- وجود حدود مكانية تفصل المعلم عن المتعلم.

وهناك نوعان من أنواع التعليم عن بعد: التعليم الإلكتروني المتزامن وهو التعليم على الهواء أو البث المباشر، والذي يحتاج إلى وجود المتعلمين في نفس الوقت أمام أجهزة الحاسوب، لإجراء النقاش والمحادثة بين المتعلمين أنفسهم، وبينهم وبين المعلم، ويتم هذا النقاش بواسطة مختلف أدوات التعليم الإلكتروني وهي: اللوح الأبيض التشاركي، والفصول الافتراضية، والمؤتمرات عبر (الفيديو، الصوت)، وغرف الدردشة. والتعليم الإلكتروني غير المتزامن هو تعليم غير مباشر، لا يحتاج إلى وجود المتعلمين في نفس الوقت حيث يتمكن المتعلم من الحصول على الدراسة حسب الأوقات المناسبة له وبالجهد الذي يرغب في تقديمه، ويستعمل أدوات مثل: البريد الإلكتروني، والويب، والقوائم البريدية، ومجموعات النقاش، وبروتوكول نقل الملفات والأقراص المُدمجة.

إن التعليم عن بعد يقوم على أساس فلسفة تؤكد حق الأفراد في الوصول إلى الفرص التعليمية المتاحة، بمعنى تقديم فرص التعليم والتدريب لكل من يريد في الوقت والمكان الذي يريده دون التقيد بالطرق أو الأساليب والوسائل الاعتيادية المستخدمة في عملية التعليم التقليدية. ويحتاج التعليم عن بعد إلى توفر شبكة الإنترنت للتواصل من خلالها، وكذلك وجود الطالب أو الدارس الذي يتابع كل ما يخص المادة التعليمية من خلال مواقع مبرمجة مخصصة لذلك وفق آلية مناسبة لشرح المادة بأسلوب يسهل فهمها والاستفادة منها، أيضا يمكن أن تتوفر حلقات النقاش المباشرة وغير المباشرة بين الطالب والأستاذ، وفي النهاية لابد من توفر المعلم المسؤول عن متابعة وتقييم أداء الطالب ومنحه العلامات التي يستحقها.

بدأ التعليم عن بعد من خلال بعض الجامعات الأوربية والأمريكية في أواخر السبعينات التي كانت تقوم بإرسال مواد تعليم مختلفة من خلال البريد للطالب، وكانت هذه المواد تشمل الكتب، شرائط التسجيل وشرائط الفيديو، كما كان الطالب بدوره يقوم بإرسال فروضه الدراسية باستخدام نفس الطريقة، وكانت هذه الجامعات تشترط حضور الطالب بنفسه لمقر الجامعة لأداء الاختبار النهائي الذي بموجبه يتم منح الشهادة للطالب. ثم تطور الأمر في أواخر الثمانينات ليتم من خلال قنوات الكابل والقنوات التليفزيونية، وكانت شبكة الأخبار البريطانية رائدة في هذا المجال. وفي أوائل التسعينات ظهر الإنترنت بقوة كوسيلة اتصال بديلة سريعة وسهلة ليحل البريد الإلكتروني محل البريد العادي في إرسال المواد الخفيفة والفروض. وفي أواخر التسعينات وأوائل القرن الحالي ظهرت المواقع التي تقدم خدمة متكاملة للتعليم عن طريق الويب، وهي الخدمة التي شملت المحتوى للتعليم الذاتي بالإضافة لإمكانيات التواصل والتشارك مع زملاء الدراسة من خلال ذات الموقع أو البريد الإلكتروني. وحديثا ظهرت الفصول الافتراضية التفاعلية التي تسمح للمعلم أو المحاضر أن يلقي دروسه مباشرة على عشرات الطلاب في جميع أنحاء المعمورة دون التقيد بالمكان، بل وتطورت هذه الأدوات لتسمح بمشاركة الطلاب بالحوار والمداخلة.

في نهاية شهر فبراير/ شباط 2020، عندما بدأت أجراس الإنذار تدق للتحذير من تزايد تفشي فيروس كورونا المُستجد، قام البنك الدولي بتشكيل فريق عمل عالمي متعدد القطاعات لدعم تصدي البلدان لهذه الأزمة والإجراءات التي تتخذها للتكيف معها. في ذلك الوقت، لم يكن هناك سوى الصين وعدد قليل من البلدان المتضررة الأخرى تفرض التباعد الاجتماعي من خلال إغلاق المدارس. وبعد أكثر من أسبوعين بقليل، أغلق 120 بلدا المدارس مما أثر على نحو مليار طالب في جميع أنحاء العالم رأوا مدارسهم تُغلق لفترات زمنية مختلفة.

كما شهدنا من حالات الطوارئ الصحية السابقة، وآخرها حالات تفشي فيروس الإيبولا، من المرجح أن يكون التأثير على التعليم أكثر تدميرا في البلدان التي تنخفض فيها نتائج التعلم، وترتفع فيها معدلات التسرب من التعليم، وتضعف فيها القدرة على الصمود في وجه الصدمات. وبينما يبدو أن إغلاق المدارس يمثل حلا منطقيا لفرض التباعد الاجتماعي داخل المجتمعات المحلية، فإن إغلاقها لمدة طويلة سيكون له تأثير سلبي غير متناسب على الطلاب الأكثر تضررا. فهؤلاء الطلاب لديهم فرص أقل للتعلم في المنزل، وقد يمثل الوقت الذي يقضونه خارج المدرسة أعباء اقتصادية على كاهل آبائهم الذين قد يواجهون تحديات في العثور على رعاية لأطفالهم لفترة طويلة، أو حتى توفير الطعام الكافي في حالة عدم وجود وجبات مدرسية.

كما يمكن للمكاسب التي تحققت بشق الأنفس في توسيع نطاق الحصول على التعليم أن تتوقف، بل وتنتهي مع تمديد إغلاق المدارس، وتبقى إمكانية الحصول على خيارات بديلة - مثل التعليم عن بعد- بعيدة المنال لمن لا تتوفر لديهم وسائل الاتصال، وقد يتسبب هذا الأمر في المزيد من الخسائر في رأس المال البشري وتُقلص الفرص الاقتصادية.

لقد أدى انتشار فيروس كورونا بشكل سريع ومفاجئ في جميع دول العالم إلى التحول بشكل إلزامي لاستخدام التعليم الإلكتروني للحفاظ على ما تبقى من السنة الدراسية من الضياع. فبعد ظهور هذا الفيروس تمكنت الصين وبسرعة مذهلة من التحول إلى التعليم التزامني عن بعد من خلال الإنترنت لمائتان مليون طالب والتي قد تكون الأضخم في تاريخ البشرية، وبمجرد انتشار الفيروس في جميع بقاع العالم تبعتها معظم دول العالم بلا استثناء في التحول إلى التعليم عن بعد وأصبح هناك توجه إلى استخدام المحتوى التعليمي الرقمي، وقد تمثل ذلك في مباردة يونسكو بأن وضعت جميع مصادرها التعليمية الإلكترونية تحت تصرف العديد من الدول.

وفي الوطن العربي كغيره من البلدان فقد كان ملزما بالتوجه للتعليم عن بعد للحفاظ على المسيرة التعليمية، وهذا التوجه أدى إلى تفعيل العديد من المصادر التي تحتوى على محتوى تعليمي رقمي باللغة العربية، والتي لم تكن مستخدمة سابقا لأسباب كثيرة منها عدم قناعة الجهات الرسمية بأهمية هذا المحتوى التعليمي وجدوى التعليم الإلكتروني، ففي مصر على سبيل المثال وفي الأمس القريب كانت كلمة «أي كي بي» وهي اختصار للبنك المعرفي المصري(Egyptian Knowledge Bank) تعاني التجاهل والتقاعس والاستهزاء، ولكن بعد التحول إلى التعليم الإلكتروني في مصر بفعل فيروس كورونا أصبحت هذه الكلمة هي طوق نجاة لدى العديد من الطلبة والمعلمين في مصر. وأعتقد بان هناك العديد من المبادرات العربية السابقة التي تضم محتوى تعليمي رقمي باللغة العربية تم تفعيلها.

إن تغلغل كل ما هو رقمي واتساع انتشاره قد تسارع على مدى الأعوام العشرين الماضية، وهو مستمر في النمو بشكل كبير. تتحول التكنولوجيا الرقمية بشكل متزايد نحو التشابك مع الحياة اليومية: من التعليم المدرسي والتربية، إلى الانخراط السياسي وحتى الإدارة المالية والصحية. إن التطورات في التكنولوجيا الرقمية وسرعة نشوئها تدفع الابتكار والتطبيقات الجديدة التي تلامس حياتنا بطرق مختلفة وفي أحيان كثيرة، بطرق عميقة. بينما توجد العديد من الفرص والتطلعات التي ترتبط بالرقمية، فإن هناك حاجة أساسية أيضا لفهم التحديات التي تمثلها بالنسبة للمجتمع والتخفيف منها.

إن تجربة التعلم عن بعد ستظهر نقاط القوة والضعف، والفرص والتحديات في مجال التعليم بجميع المدارس والجامعات، من خلال اختبار الكفاءات، والإمكانات المادية والبشرية، وتقييم مدى قوة المنصات التعليمية والبنية التحتية في كل مدرسة وجامعة، ما يتيح العمل لاحقا على تطوير هذه البرامج للتغلب على التحديات ومواجهة الأزمات في المستقبل.

إن تجربة التعليم عن بعد الحالية هي تمهيد لمرحلة التعليم ما بعد كورونا والتي ستكون ناجحة وأكثر تقدم بإذن الله وتساعد في التغلب على الكثير من المشكلات والعقبات التي تعيق التعليم المباشر الذي يتطلب حضور الجميع بنفس غرفة الصف. إن تجربة التعليم عن بعد ستساهم بشكل كبير في تطوير عمليات التعليم والتعلم من حيث تطوير سياسات التعليم والمناهج وطرق التدريس والتقويم. إن التعليم العام عن بعد سيستخدم مستقبلا على نطاق واسع وبجودة عالية وربما لن يكون بديلا للتعليم التقليدي فقط بل سيكون جزءا رئيسيا من منظومة التعليم وتمهيدا لمرحلة جديدة ومتطورة من عمليات التعليم والتعلم التي تراعي الفروق الفردية بين الطلاب وتشجع تفريد التعليم والتنويع في استراتيجيات التعليم وتنمية مهارات التفكير لدى الطلاب لاسيما أن الجيل الجديد محب للتقنية ويستخدمها في حياته بشكل يومي ومستمر.

وأخيرا وما هو أكثر أهمية، هو أن هناك الكثير من الأدلة التي تشير إلى نتائج تعليمية مماثلة بين التعليم عبر الإنترنت والتعليم وجها لوجه، في حين يعتبر التعليم المدمج صاحب التأثير الأكبر على تعليم الطلاب. وقد وجدت دراسة قارنت أداء الطلاب الجامعيين الذين يدرسون ذات المنهج عبر الإنترنت ووجها لوجه أنه لا توجد فروق كبيرة في أداء الاختبارات، بغض النظر عن ما إذا تم تقديم مادة الفصل والاختبار اللاحق وجها لوجه أو عبر الإنترنت. إضافة إلى ذلك، أظهرت دراسة أخرى قارنت نتائج مجموعتين من المحترفين في مجال الصحة الذين درسوا نفس المساق على امتداد 18 شهرا، إحداهما عبر الإنترنت والأخرى وجها لوجه، أن كلا المجموعتين اكملتا المساق بأداء أكاديمي متماثل.

يعتبر التعليم عبر الإنترنت نموذجا جديدا من شأنه أن يساهم في معالجة بعض التحديات الحالية التي تواجهها الجامعات في العالم العربي. بشرط أن يتم تنفيذه بطريقة ناجحة، يمكن أن يكون هذا النموذج أكثر مرونة وقابلية للتوسع والقدرة على توفير تعليم عالي الجودة لشرائح أكبر من المجتمع.

***

أ. د. هاني جرجس عياد

استاذ علم الاجتماع - كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الجامعة الأفروآسيوية المفتوحة

توطئة: اعتمدت الامم المتحدة اليوم العشرين من شهر مارس/ اذار ليكون اليوم العالمي للسعادة.

وفي تقريرها السنوي لهذا العام(2023) تصدرت فنلندة الدول الاسعد عالميا فيما تصدرت الامارات عربيا وجاء العراق في مرتبة متاخرة، وعن احوالها فيه تتحدث هذا المقالة التي لم يتطرق لها التقرير المذكور.

*

لا يعنينا هنا مفهوم السعادة من وجهة نظر الفلاسفة، بدءا من افلاطون الذي يرى ان السعادة تقوم على نوع معين من "التناغم والانسجام بين الرغبات والأهداف في حالة تعددها"، الى نيتشه الذي خالف افلاطون وارسطو ورأى ان تصادم الرغبات وليس انسجامها هو الذي يؤدي الى السعادة.

ولا يعنينا ايضا ما يراه علماء الدين الذين يتفقون مع الأمام الغزالي بأن (اللذة والسعادة عند بني آدم هي معرفة الله عز وجل)، ولا رأي الناس الذين يرى بعضهم بان السعادة تعني راحة البال، واخرون يرون انها الصحة ثم الصحة ثم الصحة، وآخرون يرون انها المال ثم المال ثم المال.. بل يعنيننا هنا ما يقوله علم النفس، لأن (السعادة) مفهوم سيكولوجي قدم عنها علماء النفس نظريات واجرى آخرون حولها دراسات ميدانية.

في البدء

وصف علم النفس في بداياته بأن السعادة هي نتائج الشعور أو الوصول لدرجة رضا الفرد عن حياته أو جودة حياته، أو أنّها الشعور المُتكرر لانفعالات ومشاعر سارّة فيها الكثير من الفرح والانبساط.. ما يعني أنّ السعادة برأيه مفهومٌ يتحدّد بحالة أو طبيعة الفرد، فهو من يقرر سعادته من تعاسته، وهو الذي يحدد طبيعة تفاعله مع مواقفه الحياتية والبيئة التي يعيش فيها.

بعد ذلك، لفت علماء النفس الانتباه الى ان السعادة انواع، وان مفهومها او الشعور بها يختلف من شخص الى آخر، وان ما يجعل احدهم يشعر بالبهجة قد لا يعني لآخر شيئا، وان ما يجعل شخصا ما يشعر بالرضا عن حياته، يراه آخر بأنه حياته لا تستحق ان تعاش.. ما يعني ان السعادة هي شعور نسبي يختلف باختلاف قدرات الفرد ودوافعه ورؤيته للحياة.. ليس هذا فقط بل انها تختلف من مجتمع الى آخر.. فمهوم السعادة عند العربي يختلف عن مفهومها عند الأوربي، ومفهومها عند الياباني يختلف عن مفهومها عند الهندي.

هرم ماسلو للحاجات الأنسانية

يعد هرم ماسلو للحاجات افضل نظرية بعلم النفس عن السعادة برغم انها ما كانت خاصة بها، بأن رتب حاجات الأنسان في حياته بهرم على النحو الآتي:

أولا :الحاجات الفسيولوجية.. وتعني حصول الانسان على الطعام والماء بما تؤمن بقاءه في الحياة، وقد وضعها في قاعدة الهرم لأن الانسان بدونها يموت.

الثانية: الحاجة الى الأمان.وتعني سعيه الى تحقيق الأمن والطمأنينة له ولأفراد عائلته، وشعوره بالأمن في مجال عمله وتأمين دخله المالي وحمايته من الأخطار.. وبدونها ينشغل نفسيا وفكريا ويعيش حالى قلق .

الثالثة :الحاجات الأجتماعية.. وتعني تكوين علاقات وصداقات مع الآخرين، ومشاركتهم له ومشاركته لهم في مناسبات الأفراح والأتراح.. وبدونها يعيش حالة اغتراب اجتماعي.

الرابعة :الحاجة الى التقدير.. وتعني شعور الفرد بقيمته وأهميته، وما يمتلكه من قدرات وخبرات، وتقدير الآخرين له لاسيما في مجال عمله.

الخامسة: الحاجة الى تحقيق الذات: وتعني تحقيق الفرد لطموحاته العليا، وان يكون ما يريد ان يكون.. مميزا ومستقلا ومستثمرا لكل ما لديه من قدرات ومواهب في مجالات الحياة المختلفة والتخصصات المتنوعة.

المهم هنا.. ان الانسان لا ينتقل الى الحاجة التالية الا بعد ان يشبع التي قبلها.. بمعنى، انه لا ينتقل الى الحاجة الأجتماعية المتمثلة بتكوين علاقات وصداقات مع الناس ما لم يكن قد اشبع حاجاته الفسيولوجية وحاجاته الى الشعور بالأمن والطمأنينة. والأهم.. انه لا يمكن لأي انسان ان يصل الى تحقيق ذاته واهدافه وطموحاته واستثماره لما يمتلك من قدرات ومواهب ما لم يكن قد اشبع حاجاته الأربع: الطعام والامن والصداقات والتقدير.

والتساؤل هنا: كم من العراقيين وصلوا الى تحقيق الذات؟ .. اعني كم منهم استطاع ان يشبع حاجاته الأربع في الهرم؟

والتساؤل الأخطر: عند اية حاجة في الهرم يقف ملايين العراقيين؟.. اليس ملايين منهم يقفون عند حاجة البحث عن الطعام والماء النظيف؟ و أليس ملايين منهم يقفون عند حاجتهم الى ان يعيشوا في امان لا أن يمشي الموت معهم كظلهم حين يمشون في الشارع؟!

هذا التحليل يوصلنا الى حقيقتين:

الأولى، ان تأمين هذه الحاجات الخمس هو الشرط لشعور الناس بالسعادة.. ولأن ملايين العراقيين بقوا عند منتصف هرم الحاجات او دونه، فانهم ليسوا سعداء.

الثانية، ان العراقيين هم الشعب الوحيد في العالم المعاصر الذي عانى خلال اربعين سنة متواصلة حروبا كارثية افقدتهم ملايين الأحبة وخلفت ملايين الأرامل والأيتام، وانهم ما يزالون يعيشون حالة الخوف والقلق من المجهول.. والسعادة لا تعيش مع من يخاف من يومه وغده.

العراق.. وليس لبنان

اصدرت الامم المتحدة في اليوم العالمي للسعادة هذا العام( 20 آذار/ مارس 2023) تصدرته فنلنده عالميا والأمارات عربيا الأكثر سعادة.. وجاءت لبنان في ذيل الدول العربية والعالمية (المرتبة 136) الأقل سعادة في العالم بحسب معهد غالوب.. وهذا ليس صحيحا علميا وعمليا، اذ نرى ان العراق هو الأقل سعادة، لأنه البلد الأغنى في المنطقة الذي يمتلك كل المقومات لأن يعيش أهله بحرية وكرامة، فيما هو وبعد عشرين سنة من نظام حكم ديمقراطي! اضطر اكثر من خمسة ملايين عراقي الى الهجرة، وقتل اكثر من 320 عالما واستاذا، واصبح طاردا للعقول، وتضاعفت فيه حالات الطلاق والانتحار وتعاطي المخدرات، فضلا عن 13 مليون دون خط الفقر بحسب وزارة التخطيط.. .ما يعني ان العراق وليس لبنان هو الأقل سعادة على صعيد الدول العربية.. وهذا خطا آخر يرتكبه معهد غالوب، اذ وصف العراقيين في عام 2022 يحتلون المرتبة الرابعة من بين الشعوب الاكثر غضبا في العالم، وتجاهل دراسة بريطانية توصلت الى ان العراقيين هم اذكى شعوب المنطقة، والذكي لا (يمتاز) بالغضب.ونسي ان العراقيين محبون للطرب والمرح والفكاهة والنكتة و العشق.. ومن يمتلك هذه الصفات لا يتصدر شعوب العالم بحدة الغضب.. ويتجاهل الآن ان العراقيين هم الأقل سعادة على صعيد الشعوب العربية.. ولو أن الذين اعدوا تلك الدراسة لمعهد غالوب عاشوا يوما واحدا في بغداد او الناصرية ورأوا كيف تغرق البيوت من سيول الأمطار في آذارها، وكيف يعيش الناس دون كهرباء في آبها.. لرفعوا تقريرا يناشد الأمم المتحدة بأن تكون عونا للعراقيين.. لأنهم الأقل سعادة في العالم.

ما تفعله الأبتسامة.. ستندهشون!

تمثل الابتسامة دالة عن السعادة وكلامنا هذا ليس (حجي جرايد) كما يقولون، فالدراسات النفسية تقول ان الابتسامة والضحك تجعلنا نشعر بالراحة النفسية والاسترخاء وتحسّن المزاج، وأنهما تخففان عنّا وطأة أعباء الحياة.والدراسات الفسيولوجية تؤكد أنهما يعملان على تحسين وتقوية عمل جهاز المناعة في الجسم، وتقليل الاصابة بالأمراض، وتخفيض نسبة الكولسترول في الدم.. والأكثر انها تجنبنا الاصابة بالأزمات القلبية!.

وما لا نعلمه عن سحر الابتسامة انها مصيدة القلوب.. ليس في الحب فقط بل في الصداقات ايضا.فأنت حين تبتسم بوجه أحد فانك ترسل له رسالة قبول تحمل كلمة (أحبك، او سعيد برؤيتك) وتعزف على وتر الفرح في قلبه.ولأن في داخل كل واحد حاجة الى صديق او صديقة، فانه سيبادلك الابتسامة تلقائيا وتصبحان صديقين.

وسبب آخر هو أن من شأن الابتسامة انها تجعل الوجه جميلا مشرقا كما الحديقة.. بعكس الوجه العبوس الذي تتفادى النظر اليه لانه كالح كما الصحراء.. متشنج بسبب ان صاحبه لم يستخدم عضلات الابتسامة التي تجعل الوجه مسترخيا.. ولك ان تلاحظ ذلك على وجوه العراقيين الذين تعطلت لديهم عضلات الفرح واشتغلت عندهم عضلات الحزن سنينا طويلة فصارت وجوههم (معقجه)قبل اوانها!.

أكيد ستقولون.. انتقم الله من الذين حرمونا من الأبتسامة وسرقوا منّا السعادة.. ومؤكد ايضا ان هذه الدعوة لن تعيدها لكم!.. فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

يحل علينا هذا الأسبوع شهر رمضان المبارك، الذي اعتاد أهل بلدنا أن يتخذوه فرصة للتواصي بمكارم الأخلاق، لا سيما الإحسان إلى ضعفاء الخلق، وكذلك التواضع وفعل الخير، وترك الإساءة بالقول والفعل، حتى لمن أساء إلينا، وأمثال هذا من الآداب والمحاسن.

وقد سمعت أحياناً من يعارض هذا الكلام بمثل القول إنه إذا تكبر عليك أحدهم فتكبر عليه، وإذا ضربك أحدهم فرد الضربة بضربة، وإذا كان سيئاً فكن سيئاً معه، ولعله يستشهد بقول عمرو بن كلثوم: «ألا لا يجهلن أحد علينا... فنجهل فوق جهل الجاهلينا».

ولست في وارد الجدل مع أصحاب هذا الرأي. لكني وجدت حاجة لوضع قاعدة، تكون معياراً نرجع إليه في الأخذ بهذا الرأي أو نقيضه. هذه القاعدة هي فكرة الأمر المطلق أو القانون الكوني التي اقترحها إيمانويل كانط، الفيلسوف الألماني الشهير.

يبدأ كانط بالنظر في داخل النفس الإنسانية، فيراها منجذبة بطبيعتها للاستكثار من المنافع المادية، حتى لو أدى للاستئثار بها دون الآخرين أو على حسابهم. هنا يتوقف كانط، داعياً للبحث عن مصدر هذا الميل الأناني: هل هو غريزة التملك التي نولد وهي جزء من تكويننا العقلي؟ أم هو صادر عن قناعات امتصها الإنسان من محيطه، مثل استنقاص الآخرين، لسبب ديني أو عرقي أو طبقي أو غيره؟

يدعونا كانط للنظر إلى أحكامنا وقراراتنا وأفعالنا، كما لو أنها ستصبح قانوناً كونياً يطبق على غيرنا أولاً، لكنه بعد ذلك سيطبق علينا وعلى أبنائنا وأهلنا أيضاً. بعبارة أخرى، فإن القانون الكوني يعني أنني سأكون عرضة للحكم نفسه الذي أصدرته على غيري. فإذا حرمته من شيء، فسيكون من حق الآخرين أن يعاملوني بالطريقة نفسها، وإذا كذبت عليهم، فقد أعطيتهم المبرر كي يكذبوا علي، وإذا استأثرت أنا وأهلي بشيء دونهم، فقد منحتهم إذناً إن أرادوا أن يستأثروا بما شاءوا ويحرموني من كل ما أظنه حقاً مشتركاً لي ولهم.

القانون الكوني إذن هو ما ينطبق على الجميع بنفس القدر والدرجة. فإذا أعطيت لنفسي الحق في فعل شيء يؤذي الغير، فقد أقمت قاعدة جديدة تسمح لهم بفعل ما يؤذيني، فإذا عارضتهم، فلهم أن يقولوا: لقد سبقتنا ووضعت قانوناً، وقد جرى في الأمثال قول بعض السلف «كما تدين تدان».

أريد الإشارة إلى أن هذه الفكرة ليست جديدة تماماً، وليست من مبتكرات كانط، فقد ورد مثلها في كثير من النصوص القديمة، الفلسفية والأخلاقية. ولعل من أقربها إلى مألوفنا، وصية الإمام علي بن أبي طالب لولده، التي يقول فيها: «يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارضَ من الناس بما ترضاه لهم من نفسك».

يستطيع الإنسان معرفة الدافع العميق لحكمه على الآخرين أو تصرفه تجاههم. فهو قد يترفع عليهم، لأنه يرى نفسه صاحباً للدين الحق، أو منحدراً من عرق أصفى أو أرقى، أو منتمياً إلى طبقة أرفع شأناً. بل إن الإنسان يسعى لاستنباط مبررات (كاذبة في بعض الأحيان) تربط ربطاً اعتباطياً بين الميول الأنانية وهذه الانتماءات. أقول إن الإنسان يستطيع اكتشاف هذه الحقيقة لو تأمل بعمق في دواخل نفسه.

أتمنى لكم شهراً حافلاً بالمسرات، كما أتمنى أن تتاح لكل منا الفرصة كي يهذب ما استطاع من نوازع النفس، كي نعود في ختامه أقرب إلى حقيقة الإنسانية الصافية، التي هي تجلٍ من تجليات الفيض الرباني. كل عام وأنتم بخير.

***

توفيق السيف - كاتب سعودي

شكلت قضايا الهجرة واللجوء واندماج المهاجرين المسلمين في الدول الغربية أولوية على جدول الأعمال السياسي للدول الأوروبية لعدة عقود. تطورت هذه القضية في السنوات العشرين الماضية بشكل خاص إلى مسألة التكامل المدني المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالهوية الدينية. خلال فترتي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كان الاندماج الاجتماعي والاقتصادي للمهاجرين ذوي الخلفية الإسلامية هو المحور الأساسي للبحث الأكاديمي، ولكن مع ظهور الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين، تحول الاهتمام إلى التعبئة السياسية والتجاذبات الانتخابية.

بدءًا من قضية رشدي في المملكة المتحدة وقضية الحجاب في فرنسا من عام 1989 حتى الوقت الحاضر، انتقلت الأضواء إلى شرعية وجود العلامات والدلالات الإسلامية في الأماكن العامة، مثل قواعد اللباس، والمآذن، والأطعمة الحلال، والمدارس الإسلامية.

نتيجة لذلك، تصاعد الجدل حول رؤية هذه العلامات بشكل مطرد. الجدل ليس مجرد خلاف حول وجهات النظر المتباينة. ولكن الأمر يتعلق بالاختلافات الأساسية (أو على الأقل يُنظر إليها على هذا النحو) حول المبادئ والقواعد التي تنظم الحياة المشتركة للأفراد الذين يتشاركون نفس المجتمع في نفس الفترة الزمنية. مثل هذه الاختلافات الأساسية التي تؤدي إلى مواقف حصرية أو ثنائية لا يمكن أن تتعايش في ذات الأمكنة العامة.

الإسلام والرفض المتصور للديمقراطية

يُنظر إلى الحجاب، والمساجد والمآذن على أنها رفض للقيم الديمقراطية الغربية بشكل متزايد، أو حتى أسوأ من ذلك، أصبح يُنظر لها في العديد من دول القارة الأوروبية باعتبارها تهديداً مباشراً للغرب وثقافته وهويته.

خلال حملة عام 2006 لحظر المآذن في سويسرا، أظهرت ملصقات انتخابية من اليمين، امرأة ترتدي البرقع تقف بجانب المآذن التي كانت ترتفع من العلم السويسري وتشير إلى السماء مثل الصواريخ. وصل هذا التصور عن الإسلام في المجال العام إلى الولايات المتحدة أيضاً من خلال النقاشات الجارية والخطاب حول التطرف الإسلامي في السجون، والجدل حول مسجد جراوند زيرو "Ground Zero Mosque" في بارك51/ Park5 بمدينة نيويورك.

في الدنمرك أقدم حزب الشعب اليميني على نشر ملصقات انتخابية مسيئة للإسلام أكثر من مرة. ويقوم السياسي المتطرف راسموس بالودان بحرق القرآن الكريم جهراً في الساحات العامة بحراسة قوات الأمن الدنمركية بذريعة حرية التعبير.

منذ أكتوبر/ تشرين الأول عام 2003 ومجلس الشيوخ الفرنسي والجمعية الوطنية الفرنسية منشغلان بزي المرأة المسلمة، وأصدرا العديد من التشريعات بهذا الشأن. فرضت الحكومة الفرنسية الحظر على منع ارتداء الحجاب في المدارس الحكومية عام 2004.

وفرضت في أبريل 2011 حظراً على ارتداء النقاب أو البرقع، والذي تمت الموافقة عليه بأغلبية ساحقة في عام 2010 من قبل المجلس التشريعي الفرنسي. اتبعت دول أخرى مثل بلجيكا وهولندا المسار الفرنسي في عامي 2011 و2012. وفي عام 2022 تم نقاش مشروع قانون يحظر ارتداء الحجاب في المسابقات الرياضية في الجمعية الوطنية الفرنسية.

لا يتم نبذ الإشارات والدلالات الإسلامية في الخطاب العام الغربي فحسب، بل يتم التحكم فيها أيضاً وتقييدها من خلال إجراءات قانونية وإدارية متعددة في محاولة لنشر "الحضارة" أو تعديل العلامات لتناسب الثقافات السياسية الغربية.

مثال آخر يضاف إلى القائمة الطويلة من العلامات الإسلامية المنبوذة هو الختان. في يونيو 2012، قام قاض في مدينة كولونيا بألمانيا بحظر الختان على أساس أنه يسبب "ضرراً جسدياً غير قانوني. على الرغم من أن المستشارة الألمانية السابقة ميركل قد وعدت المجتمعات المسلمة واليهودية بأنه يمكنهم الاستمرار في ممارسة الختان، إلا أن الآثار القانونية لهذا الحظر لم يتم تحديدها بعد.

في الدنمرك نوقشت قضية الختان العديد من المرات في البرلمان الدنمركي، والذريعة أنه يجب أن يكون الأولاد قادرين على اتخاذ القرار بأنفسهم. وقدم مجلس الطفولة نتائج أبحاث علمية تؤكد أن الأطفال المختونين معرضون بشكل كبير للإصابة بالتوحد مقارنة بالأطفال غير المختونين.

الصراع الثقافي في الإسلام

جزء من هذا الصراع الثقافي يتم خوضه أيضاً بين المسلمين. فالتيار السلفي يعارض القيم والثقافات الغربية بشدة، ويدعو إلى العديد من الممارسات مثل الفصل بين الجنسين، ورفض المشاركة السياسية والمدنية، التي تعتبر جهوداً لتجميل وجه الغرب القبيح. هذا النوع الخاص من الإسلام هو أحد التفسيرات الأكثر وضوحًا وانتشاراً في الشرق والغرب، وبالتالي يعطي الانطباع لكل من المسلمين وغير المسلمين بأن السلفية هي الإسلام الحقيقي.

في الوقت الذي يرمز فيه البرقع إلى إنكار تام للحرية والمساواة بين الجنسين بالنسبة لمعظم الغربيين، فإنه بالنسبة للأصولية الدينية، يرمز إلى كرامة المرأة وتفانيها لقيم الأسرة، على عكس البيكيني الذي يُنظر إليه على أنه تجسيد وتدهور لجسد الأنثى وانحطاطه.

باختصار، إن الغرب الأصولي والإسلام الأصولي يقاتلان بعضهما البعض، وبذلك يعزز كل منهما الآخر. غالباً ما تستخدم معارضة "البرقع مقابل البكيني" من قبل كل من الإسلاموفوبيا والأصوليين المسلمين على حد سواء. هذا الشعور بعدم التوافق العميق يتعلق بالسياسة وأنماط الحياة والأكثر إثارة للاهتمام أجساد النساء.

إن مثل هذه التعارضات الصارخة هي بالطبع متطرفة، لكنها في نفس الوقت تعكس نهج "إما أو" الذي يقع فيه معظم الخطابات حول الإسلام حالياً في شرك الالتباس. أوضح الرئيس الألماني السابق "يواخيم غاوك" Joachim Gauck القس اللوثري الذي ترأس ألمانيا من عام 2012 إلى عام 2017 أن المسلمين يمكنهم العيش في ألمانيا، وهو بذلك قدم النسخة الأكثر اعتدالًا من هذه المعارضة الثنائية على عكس سلفه "كريستيان وولف" Christian Wulff الذي ترأس ألمانيا عام 2012 واضطر إلى الاستقالة عام 2012 بعد تهم إخلال بالواجب، والذي قال إنه لا يعتقد أن المسلمين يمكن أن يكونوا جزءًا من ألمانيا.

في الدنمرك يعتقد حزب الشعب اليميني أن الدنمرك ليست بلداً مناسباً لعيش المسلمين. ونلاحظ هجوماً على الإسلام والمسلمين من قبل الأحزاب اليمينية الآخذة في التوسع من السويد وحتى المجر.

عقلية الاستقطاب

تتمثل إحدى النتائج الرئيسية لمثل هذه العقلية الاستقطابية في إخفاء الواقع الاجتماعي للمسلمين. في الواقع، توجد فجوة مذهلة بين صورة الإسلام كما هي مبنية في الخطاب العام الثنائي، والواقع الحقيقي متعدد الأوجه للمسلمين في مختلف الدول الأوروبية.

يتطلب الأمر مراجعة منهجية ومقارنة معرفية حول السلوكيات السياسية الإسلامية والممارسات الدينية للمسلمين في أوروبا الغربية والولايات المتحدة.

على سبيل المثال، الافتراض السائد هو أن الهويات الإسلامية المرئية في الغرب مرتبطة عكسياً بالولاءات المدنية والسياسية، في حين أن هناك أدلة تجريبية تتعارض مع مثل هذا الافتراض.

عرضت "جوسلين سيزاري" Jocelyne Cesari ـ رئيسة قسم الدين والسياسة بجامعة برمنجهام البريطانية في كتابها "لماذا يخاف الغرب من الإسلام؟ استكشاف المسلمين في الديمقراطيات الليبرالية" الصادر عن دار النشر «بالغريف ماكميلان» الأمريكية عام 2013- بيانات مباشرة من مجموعات التركيز التي نظمتها الكاتبة في باريس ولندن وبرلين وأمستردام وبوسطن بين عامي 2007 و2010. والاستنتاج الرئيسي هو أنه على الرغم من تحدي البيئة العلمانية للمسلمين، إلا أنهم لا يواجهون التناقض الذي يناقش بشكل مكثف من قبل السياسيين الغربيين والدعاة السلفيين على حد سواء. إذن لماذا يصور الإسلام كعقبة في الخطاب السياسي والإعلامي؟ من خلال معالجة هذه الفجوة المثيرة للفضول، حاولت الكاتبة أن تفهم هذا الانفصال بين ما يفعله المسلمون والبناء والخطاب السياسي "لمشكلة المسلمين". وخلال هذا الاستكشاف ظهرت الليبرالية والعلمانية على أنهما المصطلحان الرئيسيان المستخدمان لفهم الوجود الإسلامي.

عنوان الكتاب الأصلي

"Why the West fears Islam? – An Exploration of Muslims in Liberal Democracies"

تحديد سياق الليبرالية

إن "الإشكالية الإسلامية" في أوروبا ظهرت نتيجة إضفاء مصطلحات دينية وثقافية وسياسية على توطين المهاجرين في الثلاثة العقود الأخيرة. حقيقة أن المسلمين المهاجرين في أوروبا يعانون من ثلاث "مشاكل" اجتماعية رئيسية هي (الطبقية والتكامل الاقتصادي، الانتماء العرقي، والتعددية الثقافية) إضافة إلى ظهور عامل جديد يتعلق بالاهتمام بالدين الإسلامي، الذي أصبح يُنظر إليه بشكل متزايد على أنه السبب الرئيسي لجميع المشاكل.

إن الثقافة في الولايات المتحدة الأمريكية لجميع القضايا السياسية المتعلقة بالمسلمين هي أكثر حداثة وتتعلق بشكل أساسي بالمخاوف الأمنية. لكن تتداخل قضايا "المهاجرين" و "المسلمين" في أوروبا الغربية، على عكس الولايات المتحدة حيث تركز نقاشات الهجرة على الاهتمامات الاقتصادية والاجتماعية مثل الأجور، والاستيعاب، واللغة.

تظهر نتيجة هذه التحولات الاجتماعية في التحول المروع للخطاب العام حول الإسلام في أوروبا. تتحدث شخصيات سياسية يمينية متطرفة مثل السياسي اليميني الهولندي خيرت فيلدرز Geert Wilders عن "إطفاء الأنوار فوق أوروبا" أو "البقاء المطلق للغرب".

يظهر التحول المروع للخطاب العام حول الإسلام في أوروبا جلياً في العديد من المناسبات والأمكنة وإن تعدد المتحدثون. هذا الاحتكاك والصراع بين الإسلام والغرب لا يدور فقط على هامش المجتمعات الأوروبية. في الواقع تُظهر العديد من استطلاعات الآراء والخطابات السياسية أن تصور الإسلام كخطر على القيم السياسية الأساسية الغربية يتم تقاسمه عبر الولاءات السياسية والدول.

تحالف الليبرالية والنسوية

يمكن تعريف الحرب "الوجودية" على أنها ليبرالية تتمحور حول القيم والتي تضع نفسها ضد الاعتراف بالتنوع الديني والثقافي. على سبيل المثال، أعلن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في فبراير 2011 في مؤتمر ميونخ للأمن السنوي لزعماء العالم: "بصراحة، نحتاج إلى قدر أقل بكثير من التسامح السلبي في السنوات الأخيرة والليبرالية القوية الأكثر نشاطًا".

من المهم التأكيد على أن الليبرالية السياسية في الديمقراطيات الغربية لا تتعارض بالضرورة مع الاعتراف بالتعددية تاريخياً. لذلك من المتوقع تقليدياً أن تمنح الدولة الليبرالية المساواة للمواطنين من جميع الخلفيات الدينية، والثقافية، والعرقية.

في المقابل، يعتبر الخطاب الليبرالي الغربي الجديد الاعتراف بحقوق الأقليات كتهديد لحرية التعبير، وحقوق المرأة التي تعتبر من القيم الأساسية للمجتمعات الوطنية. ومن ثم فهي تدعو إلى تكامل ثقافي للوافدين الجدد. ونتيجة لذلك، فقد أوجدت تحولات مهمة للغاية في السياسة في البلدان التي تتميز عادة بالتعددية الثقافية مثل هولندا، أو المملكة المتحدة.

على سبيل المثال، فإن المشروع متعدد الثقافات للاعتراف بـ "التنوع الثقافي في سياق التسامح المتبادل" لوزير الداخلية العمالي روي جينكينز Roy Jenkins في عام 1966 يتعرض الآن لانتقادات شديدة. في الواقع إن الإجماع السياسي الجديد هو إعطاء الأولوية للاستيعاب الثقافي القوي للقيم البريطانية على حقوق الأقليات.

علامات الهوية الأوروبية

هذا الخطاب "الاندماجي الجديد" منتشر على نطاق واسع عبر الدول الأوروبية، ومن المثير للاهتمام أنه يروج له نشطاء يساريون سابقون. أصبحت المساواة بين الجنسين ورفض السلطة الدينية، والتي كانت موضوعات يسارية أساسية للنضال في الستينيات من القرن الماضي، أصبحت علامات شرعية للهوية الأوروبية في العقد الحالي. في ظل هذه الظروف يُطلب من جميع المجموعات والأديان والأعراق والأفراد إظهار التوافق مع هذه القيم الليبرالية من أجل أن يصبحوا أعضاء شرعيين في المجتمعات الوطنية. وتخدم تسمية "المسلمون المعتدلون" أو "المسلمون الثقافيون" هذا الغرض. إنه يخلق تمييزاً يُفترض أنه لا يستند إلى الإسلام في حد ذاته، ولكن على تمسك المسلمين بالقيم الليبرالية.

اللافت للنظر أن الجماعات النسوية أصبحت فاعلة رئيسية في هذا الخطاب. كانت بعض الشخصيات النسوية شديدة بشكل خاص ضد حقوق الجماعات، وخاصة ضد أي مبادئ إسلامية يمكن أن تقوض المساواة بين الجنسين. من المثير للفضول أن هذا الخطاب النسوي يقمع النساء المسلمات الذي يزعم الدفاع عنهن. ونتيجة لذلك يتم تحويل النساء المسلمات إلى تابعات بطريقة تشبه الرؤية الاستعمارية وما بعد الاستعمار لقضية الإسلام.

يسير هذا الخطاب الاندماجي الجديد جنباً إلى جنب مع السياسات النشطة للدول لتغيير سلوكيات وهويات مواطنيها المسلمين. على سبيل المثال، ينعكس التوجه الذي تقوده الدولة للرعايا المسلمين الصالحين ذوي الهوية الإسلامية في سياسات مختلفة: اختبارات القيم وقسم الولاء للمهاجرين والمواطنين المحتملين، تجنيد "المسلمين المعتدلين" ليكونوا قدوة تحت رعاية الدولة وقادة المجتمع، القيود الرسمية وغير الرسمية على الممارسات الإسلامية التي يُنظر إليها على أنها متطرفة أو غير ليبرالية.

كل هذه السياسات يمكن تلخيصها كمحاولة لتحضير "العدو". إن مشروعاً كهذا ليس مجرد نظريات على الورق، ولكنه يترجم إلى أنظمة / وقيود سرية أو غير مرئية على الممارسات الثقافية والاجتماعية الإسلامية. ومن المثير للاهتمام أن معظم المسلمين الذين يعيشون في الغرب هم "متحضرين" بالفعل، ويحاولون إيجاد قواسم مشتركة مع المجموعة المهيمنة. ومع ذلك، يتم إسكاتهم، أو تجاهلهم، أو اختزالهم في تجسيد لأجسادهم أو لباسهم أو مآذنهم في معظم الأوقات.

أن تكون مسلما ومواطنا

من أكثر الأمور إثارة هو الطبيعة غير الخلافية لكون المرء مسلماً ومواطناً، في حين أن هذه الثنائية الدقيقة هي التي تضع المسلمين على طرفي نقيض مع التوقعات الاجتماعية لمعظم الأوروبيين. تظهر الاستطلاعات أن المسلمين لا يرون أي تعارض بين أن يكونوا مسلمين وأن يكونوا مواطنين.

في صميم التحول الأوروبي توجد النقطة العمياء للشرعية الاجتماعية للدين التي تم إزالتها تماماً من معظم الخطاب والقيم الوطنية.

باختصار، يتطلب الاندماج الرمزي للمسلمين في المجتمعات الوطنية تغييراً جذرياً في الروايات الليبرالية والعلمانية الحالية. إنها مهمة شاقة لكنها ليست مستحيلة.

خلال جلسات الاستماع في لجنة الكونغرس عام عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، حول تطرف المسلمين، ذكر عضو الكونغرس "كيث إليسون" Keith Maurice Ellison (ديمقراطي من مينيسوتا) وهو أول مسلم يُنتخب للكونغرس في شهادته قصة "سلمان أحمد" المسعف المسلم وطالب شرطة نيويورك الذي قُتل أثناء محاولته مساعدة زملائه من سكان نيويورك في 11 سبتمبر. بالإضافة إلى ذلك صرح عضو الكونغرس "براين هيغينز" Brian Higgins وهو كاثوليكي، أن تقليد أمريكا هو "مسيحي-يهودي-إسلامي"، وليس مجرد "مسيحي-يهودي".

يمكن أن يُنظر إلى هذه المواقف على أنها لا تعني شيئاً سوى الشعور بالرضا لأصحابها، ولكن يمكن أيضاً أن تكون بمثابة تصور مسبق لكيفية استخدام المراجع التاريخية لتحقيق تكامل رمزي ومواجهة السرد السائد الذي يميل إلى تقديم الإسلام كدين غريب وغير مقبول.

الدنماركيون أيضاً يخافون من الإسلام

كلمات مثل تعدد الثقافات وتنوع الأعراق تخيف العديد من الدنماركيين. إنها قضية تدور حول إزالة بعض المصطلحات من المستويات الأكاديمية. رغم أن المسلمين يؤكدون دائماً أن الهدف ليس مجتمعاً يتم فيه القضاء على الدنماركية كأسلوب حياة، ولكن مجتمع تتوسع فيه الدنماركية بما يمكنها من استيعاب ثقافات أخرى وأنماط مختلفة. لذلك يمكن أن تكون دنماركياً ومسلماً في ذات الوقت، بدلاً وضع المسلمين أمام خيار وحيد يساوي بين الدنماركية والمسيحية تقريباً. المسلمون يريدون الاعتراف بهم دنماركيون مسلمون، مثل الدنماركيون البوذيون، ومثل الدنماركيون اليهود، والدنماركيون السيخ.. الخ.

يخاف الدنماركيون من" إسلام الإعلام ". إنهم يساوون بين الإسلام والتطرف، ويخشون دخول أنماط وثقافة دول بعينها إلى الدنمرك، مثل تقاليد المملكة العربية السعودية أو النمط الإسلامي المتشدد القادم من الشرق الأوسط. بينما يتساءل الكثيرون من الدنمركيين عن سبب كون كل المسلمين مجرمين، ولماذا يختن جميع المسلمين بناتهم.

يمكننا في الدنمرك أن نكون مسلمين بعدة طرق مختلفة. وأن النسخة الدنماركية للإسلام آخذة في التطور. هناك مسلمون ثقافيون معظمهم من البوسنة على سبيل المثال، ومسلمون متدينون، ومسلمون أصوليون، ومسلمون عاديون وهم الغالبية.

لا يجب أن تتدخل السلطات فيه في ثقافة الناس ودينهم، إلا إذا خالفوا القانون أو فعلوا أشياءَ تسبب الإساءة للمجتمع. ومن الأهمية بمكان احترام المسلمين للقوانين والتشريعات الدنمركية، مثل المواطنين الأخرين، وألا يقدمون المفاهيم الدينية على حساب الدستور الدنماركي.

يتصادم الإسلام مع الثقافة الدنمركية في نقاط قليلة جداً. مثلاً يأكل المسلمين اللحوم الحلال فقط، والدنمركيين يعبرون ذلك إساءة إلى الأشخاص الذين يهتمون في الرفق بالحيوان. ولكن لماذا لا تتم مناقشة ظروف تربية الحيوانات ونقلها إلى المسلخ وذبحها، بدلاً من توجيه الاتهامات للمسلمين بأنهم غوغاء بلا رحمة. كما يصطدم الإسلام أيضاً بعلاقة الدنماركيين بالعري. فيما يجب على المسلم ألا يظهر نفسه بلا ملابس. ولا حتى أمام إخوته. ويمتنع المسلمين عن أكل لحم الخنزير. رغم ذلك علينا أن نكون حريصين على عدم المبالغة في تضخيم النزاعات. في معظم المواقف والأماكن يمكن حل الأمور سلمياً.

الإشكالية الكبيرة لا تتعلق بالدين والعبادات، بل بمفاهيم الشرف والعار التي تشكل الثقافة الجماعية في الضفة الأخرى، ويجلبها اللاجئون والمهاجرون معهم من بلدانهم الإسلامية إلى الدنمارك البلد الحديث الذي يولي الفردية اهتماماً خاصاً.

على سبيل المثال تتم تنشئة الصغار في معظم الدول الإسلامية على مفاهيم إجلال الوالدين وعدم النظر في وجهيهما حين التحدث كناية عن الاحترام، بينما يطلب الدنمركيون من الفرد النظر في وجه من يخاطبه. مثال آخر: يُطلب من الأخ في بلادنا الاعتناء بإخوته والاهتمام بأحوالهم. في الدنمرك يقولون لك: لا تتدخل في شؤون غيرك. وفيما تكون قضايا مثل الاتجاه الدراسي، والعمل والزواج والسكن شأن عائلي في بلاد المسلمين، هي قضية فردية تماماً في الدنمرك. هذه بعض الأمثلة على المشكلات الاجتماعية التي يعاني منها المسلمين في الدنمرك والغرب عموماً. هناك اختلافات ثقافية ينبغي عدم تجاهلها، مثل دور الجنسين في المجتمع والعلاقة بينهما. حيث لا تتاح فرصة إكمال التعليم للفتيات في كثير من البلدان الإسلامية. ومنهن من يتم منعهن من مواصلة تعليمهن. لا نعتقد أن هذا بسبب الدين، إنما بسبب التفسير الخاطئ للدين.

يصاب الدنمركيون بالدهشة حين يقول المسلمون لهم أن نبيهم حضهم على تعليم الأولاد ركوب الخيل والسباحة والرماية، ويلاحظون أن الفتيات يمنع عليهن ممارسة تلك الرياضات لأسباب تتعلق بالدين أيضاً.

تتعارض الزيجات المرتبة والقائمة على أساس التفاهم بين العائلات المسلمة مع الثقافة الدنمركية. ويمنع الزواج القسري بقوة القوانين المرعية. تضطر الكثيرات من الفتيات المسلمات في الدنمرك والغرب عامة إلى الهرب الاختفاء ليتجنبن زواجاً مدبراً، أو بسبب رغبتهن الزواج من شخص بعينه لا توافق عليه العائلة.

***

حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

سبق للمفكر السوري (برهان غليون) أن أنجز دراسة قيمة في مضمونها بقدر ما هي جريئة في طروحاتها بعنوان ؛ المحنة العربية : الدولة ضد الأمة . وبصرف النظر عما إذا كنا مؤيدين أو معارضين لما حملته تلك الدراسة من تصورات فكرية أو إيحاءات سياسية استهدفت إقناع القارئ / المتلقي العربي بطبيعة مضامينها وتوجهاتها، إلاّ ان أحدا"لا ينكر أنها وضعت يدها على بعضا"من أوجاع المآسي المتوطنة في بيئة البلدان العربية الموبوءة، ليس فقط في مجال السياسة المضطرب باستمرار والتاريخ الملتهب على الدوام فحسب، بل وكذلك في مجالات الاقتصاد الخرب والاجتماع المحترب والثقافة المجدب والوعي المستلب .

وإذا كان (غليون) قد وجّه أصابع الاتهام الى (الدولة) العربية لاعتقاده بدورها المحوري في إعاقة نهضة (الأمة) العربية من كبوتها المزمنة، ومن ثم الحيلولة دون استئناف سيرورتها في مضامير التطور العلمي والثقافي والحضاري، فان فداحة (المحنة العراقية) تدعونا هذه المرة لأن نوجه أصابع الاتهام ليس الى (الدولة) بما هي كيان مؤسسي مختطف من قبل الجماعات العصبية والكيانات الأصولية بعد أن تم تجريدها من عناصر سيادتها الإقليمية ومكونات هيبتها القانونية، وإنما الى (السلطات) العديدة المذاهب والمتنوعة المشارب والمتعارضة المآرب، والتي لم تفتأ تناصب الدولة العداء على أكثر من مستوى وفي أكثر من صعيد، مثلما تسعى جاهدة لاخصائها بشتى الطرق والأساليب، للحدّ الذي يجعلها ضعيفة الإرادة وعنينة القدرة وغير مؤهلة لحماية نفسها والذود عن سلطتها، ناهيك عن حماية المجتمع الذي تحكمه داخليا"تمثله خارجيا"، والذي يفترض بها أن تحفظ كرامته وتدافع عن مصالحه .

ولعل من مفارقات التاريخ في إطار المحنة العراقية أن تأتمر (الدولة) بأوامر (السلطة) وليس العكس، كما ينبغي أن يكون الأمر في واقع التجربة الإنسانية الممتدة على مسار التاريخ . وإذا ما حدث – كما في بعض الحالات – وأن تجرأت (سلطة) ما على إزاحة (الدولة) من عرينها والحلول مكانها الشرعي والاستحواذ على مكوناتها المادية ومقوماتها الرمزية، فان العواقب الناجمة عن هذا الفعل كانت – وستكون – وخيمة ليس فقط بالنسبة لمستقبل (الدولة) المنتهكة فحسب، بل وكذلك بالنسبة لمصير (السلطة) التي تجاسرت على الخوض في هذا الغمار الشائك والخطر . ذلك لأن فعل (الاغتصاب) المؤسسي للدولة من قبل السلطة سيترجم الى خراب في المؤسسات السياسية والأمنية، وتداعي في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية، وتصدع في البنى الثقافية والرمزية، وتفكك في المنظومات التاريخية والرمزية، على خلفية تشظي جماعات السلطة الى أحزاب متصارعة، وتذرر كياناتها الى قبائل متحاربة، وانشطار ولائها الى طوائف متقاتلة .

ولعل ما يجعل المحنة العراقية تبدو بهذا القدر من الفجيعة المنغمسة في الطابع الكارثي (العدمي) كونها وليدة مصدرين أساسيين من مصادر الخراب العراقي المستديم ؛ الأول هو أن (الدولة) استمرت – منذ نشأتها الأولى – تتعاطى مع الشأن (الوطني) الجامع من منظور (أقوامي – مذهبي) تجزيئي، بحيث تعذر عليها تأسيس هوية معيارية (عراقية) شاملة تقوم على مبدأ (المواطنة) التي تلزم الفرد باحترام (الدولة) وتحضه على أن يقيم وزنا"لقوانينها واعتبارا" لتشريعاتها . وهو الأمر الذي سيؤسس لاحقا"لصيرورة المصدر الثاني القائم على شعور الإنسان العراقي – فردا"كان أم جماعة – ب (اغترابه) عن كل ما يتعلق بكيان الدولة ومؤسساتها، بحيث تولد لديه – بالتقادم والتراكم - انطباع لن يمحى من ذاكرته بسهولة مفاده ؛ ان كل ما ينتمي الى الدولة ماديا"ومعنويا"هو (غريب) عنه وعديم ( الثقة) به، وبالتالي شرعنة انتهاكه سواء بالسرقة أو بالتحطيم ان تعذر عليه ذلك . لاسيما وانه يحمل موروثا"متداولا"يفيد بان الدولة العراقية ما هي إلاّ صنيعة الاستعمار البريطاني المتحالف مع الإقطاع الريفي والرجعية المدينية .

وفي ضوء ما يعيشه العراق حاليا"– أرضا"وشعبا"- من فوضى وخراب ودمار على جميع الصعد والمستويات، تبدو لنا صورة المستقبل قاتمة وموحشة حيث يضمحل الأمل وينعدم الرجاء في إمكانية الخروج من هذا المأزق الوجودي والخانق التاريخي، خصوصا"وان جماعات (السلطة) المنفلتة من عقالها لا تبرح تتعملق - بقوة السلاح - على كيان (الدولة) المتصاغر على نحو مستمر . ومما يزيد الطين بلّة ان (المواطن) العراقي المستلب الحقوق والمنتهك الحريات، لا يجد من يذود عنه طغيان العنف بشتى أنواعه واستشراء الفساد بمختلف أشكاله سوى جماعات (السلطة) الأقوامية والطوائفية والقبائلية والمناطقية، بعد ترسخ لديه الاعتقاد ان (الدولة) العراقية لم تعد قادرة على حمايته وضمان أمنه وتحقيق مصالحه، بقدر ما أضحت مجرد عبارة جوفاء تلوكها الألسن العاجزة وتتداولها الخطابات البائسة ! .

***

ثامر عباس

 

يعتقد المسيحيون ان السيد المسيح هو الأمين عليهم، هو حاميهم من الذنوب، هو حي باقٍ لا ينام ولا يموت.. " تعالوا الي َ يا جميع المتعبين، من الحياة، أريحكم لتجدوا الراحة والنجاح في نفوسكم، أنجيل متى 28 ".. لكن أتباعه يعتقدون انهم ليسوا بحاجة دائما الى الله (المسيح الباقي)، فالنجاح ليس بحاجة اليه ولا بدونه ولا حتى الراحة والفشل.. فالفشل سبيله التراخي واختراق القانون.والراحة سبيلها العمل.فطريق النجاح هو الصدق والعدل والوفاء للرب والانسان وليست منية من أحدٍ، وهذه خصال انسانية يجب ان تتوفر فيك تلقائيا ايها المؤمن بالامين مَهما كانت ديانتك، ولا داعي لتُدخل الرب فيها.. هنا ينتفي عندك التوسل والدعاء من اجل نيل الأصول.. ويبقى الرب هو القدوة.. ولا حاجة لرجال الدين..

وتقول المسيحية ان الاعتماد على الدعاء يؤدي الى الفشل والكسل والاعتماد على الوهم حيث السقوط والموت الاكيد.. لكنهم يؤمنون ان الرب لا ينام ولا يصيبه النعاس ابداً فهو الذي يرعاهم دون ان يرفعوا ايديهم اليه بالدعاء والتوسل بالقبول.. نظرية في غاية الواقعية الصحيحة.

نعم.. المسيحيون يؤمنون ان الكون وخالقه يسيران وفق قوانين السُنن الثابتة التي لا تتغير كما يقول القرآن الكريم:"لن تجد لسنة الله تبديلا، الاحزاب 62".. اذن.. ما الجدوى من الدعاء وزيارة المراقد والوهمية منها؟ واللطم والبكاء على ميت مات قبل اكثر من 1400 سنة ولن يعود.وهو المقدر له دون تبديل وتغيير..؟ فلا زالت المسيحية تدعو للنظام والمحبة والحقوق.. لا للوهم من مؤسسة الدين.. فهل وجدت في بلدٍ مسيحي تفرقة بين الكاثوليكي والبروتستانتي.. مستحيل.. لماذا.؟لانهم يحتكمون بالقانون ويبقى الدين هو الرقيب.. فالمذهب عندهم عقيدة رأي لا تفريق..

أما نحن المسلمون تصب علينا المصائب من السلطة والانسان الظالم ليل نهارونحن ندعو ونقول ربنا ارحمنا وخلصنا من الظالمين، وها نحن بعد أكثر من 1400 سنة ولن يستجب لنا القدر برفع ظلم الظالمين.فالى متى نبقى رافعين الأكف نتظر رحمة رب العالمين.. والصالحين؟ولم يستجب لنا دعاء.. فالدعاء فرية عند من لا يؤمنون بالقانون.. انما العمل وعقيدة القانون هي المطلب الصحيح.

بينما نحن ندعو فلا يستجاب لنا وهم لا يدعون والحياة وفرة لهم كل ما يطلبون فأين الخلل؟.. حتى اصبح المسلم يهرول من ورائهم يستمد الامل.. ولامجيب؟

الخلل.. هم يطبقون السُنن بصحيح ونحن ندعومنها متاكسلين لا نفهم الحق والعدل الصحيح.. فهل ان دينهم يدعوللصلاح وديننا يدعو للهلاك والعدم.. لا..؟ الفرق بيننا وبينهم.. هم رحماء بينهم بالقانون الذي يتساوى فيه الجميع وبلا رب يدعون.. بينما نحن ندعو الرب ان يرحمنا ولا نؤمن بعدالة الله في القانون.. الم يقل القرآن:"اعدلوا ولو كان ذا قربى.. اذن علام َ تفرقون.. ان كنتم من الصادقين..؟

يقول يوسف وهو في سجنه مناديا صاحب السجن ": يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار، يوسف 39".. فكيف فسرت الاية عند المفسرين.. وكيف فهمها المسلم في التطبيق؟

على المسلمين ان يفهموا ان الجهد لا يأتي من موضع الدعاء، كما ان الدعاء لا يشتغل في مكان الجهد.. ولكن لابد منه في ظلمات فيها نوراًونصيباً من أمل.. ابقوا يا شيعة الفُرقة بين المسلمين على اللطم والدعاء والبكاء والنحيب والرادود يجهلكم وانتم تلطمون.. أملا في عودة المستحيل.. مستحيل..

فاذا كان الدعاء يقوم على السُنن، فالعقل له مكانة التكريم والاستجابة ليكون العلم والهدف والتسخير فمصدره السنن.. لا الدعاء والعويل فثقافة الانسان يشكلها العقل والتفكيراليوم لا الوهم في عالم الظالمين الفاسدين.

اذن الدعاء ما هو الا بدعة من الفقهاء ورجال الدين، لتجهيل المسلم ووضعه في دائرة الأرتخاء النفسي والكسل الجسمي وانغلاقية الفكر في التفكير.. وكسب المكاسب الباطلة من اموال الجهلة والمغفلين.. كما في العتبات المقدسة.. ولا علاقة له بالمراد منه ابداً.. فمتى نصحو على الصحيح..؟ أمر تشجعه حكومات الفاسدين زيادة في التجهيل..

وتعتقد المسيحية ان المسيح الانسان سيظهر ممجدا مطاعا في اخر الزمان.( يوم القيامة) بنص قرآني بلا احداث رهيبة.. بل سينتهي بعودته ابليس ليظهر العرش العظيم حين تظهر معه الحالة الابدية.. ليتحقق الخلاص النهائي للمؤمنين به دون عقاب، وهذه هي ابدية الخلاص من الذنوب.. دون وعود وترهيب، وهذا هو اعلان الخلاص لكل انسان منهمدونتفريق.فهم يقدمون للانسان الواجب المراد الذي نادى به السيد المسيح ولا يظلمون منتظرين العودة بلا امل في القريب.

ونحن ونظرية المهدي المنتظر الوهمية.. الى اين..؟ النظرية لم تأت بنص مكين كما ذكر المسيح.. بل مجرد وهم من مؤسسة الدين ولا نص فيها ابدا حتى من اهل البيت(ع).. أصحاب الشأن الكبير.

اذن نظريته مخترعة من رجال الدين لالهاء الناس بالاخرة وصدهم عن الدنيا ولكسبهم السلطة والمال دون تحقيق. نظرية مبنية على الوهم، ولا نص فيها ولا اثبات صحيح.. فماذا سنحصد ممن ابتكر الوهم الذي.لا صحيح.

كتبنا فيها الكثير وبالتفصيل فمن يقرأ ومن يكتب والحاكم همه ايهام الواهمين.

ورغم ان المسيحية تدعي ان المسيح بن مريم قد صلب ومات ودفن وصعدت به الارادة الآلهية الى السماء.. لكن القرآن ينفي ذلك..:"وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم، النساء 157".الفرق ان ما تدعية المسيحية جاء بنص يهودي قديم، وهم يدعون انه حي عند الله حسب نظرية التثليث.. ففي كلتا الحالتين هو عرج الى السماء لتدعي فيه الابدية.. فحققت لاتباعها الكثير في الحرية والحقوق وبنت لهم وطنا فاق اوطان الاخرين.. وكلنا اليوم نعيش في ظل ما ابتكروا واخترعوا واوجدوا من دساتير وقوانين.. رغم انهم انحرفوا عن جادة الصحيح حين ساهموا بدمار بلدان الاخرين في حروب سلطوا علينا فيها امعات الشعوب، فدمروا الانسان والقانون.. لكن تطبيقا انهم ساهموا في الكثير.بينما نحن بقينا نفتش في أوهام مؤسسات الدين والادعية والاقاويل، ولا غير دون تحقيق.

ونحن نفتش ما جاء في الديانات التي نقلوها لنا من اساطير الآولين لنحوله الى تحقيق.. حتى شكلت الجزء الكبير من اساسيات الفكر العربي المسلم بالتعاليم الدينية الوهمية التي اتخذت المنحى التعليمي والوعظي، حتى استطاعت السيطرة على عقولنا، مستمدة قوتها من القوى الخفية في غياهب الجب الوهمية، متمثلة في الجنة والنار، والفرق بين الرجل والمرأة في الحقوق، واطاعة ولي الامر حتى لو كان ظالما وفاسداً، والخوف من عذابات القبر الوهمية، والغيبيات التي لا اول لها ولا اخر.. والقرآن يقول: ما يعلم الغيب الا الله العظيم "لو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء الأعراف 188"..

من هنا تلقفها المنهج المدرسي السلطوي، ليعلمها للصغاء والكبار حتى حَفَر في اذهانهم كل التخاريف. فتحولت الحقائق الى اوهام يصعب نزعها اليوم في ظل دولة الوهم واللاقانون.. حتى أصبحت الاساطير اديان آلهية صبت في التشريع الديني المقدس عند الغالبية فكانت المذهبية الباطلة المخترعة من فقهاء السلطة ومارافقتها من تقاليد.. تنخر في الصدور.

من هنا باتت تزرع فينا معتقد الموت والأخرة هي المقصد كماجاء في النص المقدس: "الحياة الاخرة خير وابقى، .. فضعنا وضاع المجتمع في ظل حكومات تعتقد في الوهم دون القانون في حكم الأغلبية من اصحاب المعرفة والعرفان والمفضلين في السلطة والمال.. وما دروا ان المال لا يشتري المواطنين.. فعملية العودة للصحيح باتت مستحيلة في ظل السيف وقوة السلطة الظالمة والتنفيذ دون وازعٍ من احساس انساني وضمير.. لكن النهاية للحق ابداً.. لذا سيفشلون.. بعد ان اقرت الرسالة الانسانية بأنتهاء عصر الاحادية، ومجيء عصر الاجتهادية في التطبيق..؟

***

د. عبد الجبار العبيدي

"فسحة عائلية بعيدة عن السياسة ومنغصاتها"

الحياة الزوجية الهادئة الساكنة الخالية من الخصومة ليست تماما بأفضل حال، فقد تحيط بها الرتابة والملل والسطحية ويُضعفها الروتين اليومي عندما لا نكترث بما يحصل من منغّصات وأخطاء ومسالك غير سويّة ؛ فنلجأ للسكوت لئلا يحصل شجار بسيط او ملاسنة كلامية أو نزاع أسَري، في حين ان المخاصمة الايجابية العابرة التي تهدف الى معالجة الخطأ واجتثاثه من جذوره تعدّ ضرورية لبقاء الآصرة الزوجية متينة وشديدة الحزم .

لتدرك ايها الزوج، وايتها الزوجة اذا لم تتشاجرا بين حين وآخر فأنتما لستما متحابين بالقدر الذي يُرضي حياتكما ويزيد من أواصر محبتكما، وليكن الخصام سائدا بين أمدٍ وآخر من اجل إدامة الحياة الزوجية، فهذه الفسحة الصغيرة من الملاسنة الكلامية والنقاش الهادف هي نكهة الديمومة والالتحام بين الزوجين .

ان لم تتشاجرا بين حين وحين فأنتما تفتقدان حبا حقيقيا ؛ ففي الخصام البريء يتحرك الحب ويعيد ترتيب الحياة الجميلة ويحرّك الراكد ويذيب الجمود السائد بين اثنين تعلقا ببعضهما ؛ وإلا كيف تعالج الأخطاء ونكشف السوءات التي تتخلل حياة الحبيبين من اجل محوها من صفحاتنا البيضاء ؟؟

لا تخافا من الشجار المؤقت العابر وكشف الأخطاء على سبيل العتب وبيان مواقف الفتور والضعف التي تتخلل حياتكما ؛ فالمعاشرة الرتيبة تثير الملل أحيانا ولا بد من تحريكها وتسخينها لو بردت، وما أجمل ان تُسمع وجهة نظر الزوج او الزوجة عند الإشارة الى سبب الخصام ومبعثه من اجل معالجة حالة الإرباك والخطأ التي لابد ان تتخلل الحياة الزوجية، انها اشبه بمصل اللقاح لتعزيز وتقوية مناعة الجسد السليم حتى ولو أُنهك بضع ساعات ليعود معافى قوياً منتصرا على حالة الفتور والهوان .

ايها الزوجان الغاليان؛ اذا أردتما إبقاء جذوة الحميمية بينكما دافئة ومشتعلة فادخلوا في خصومة مؤقتة لتعالجا مطبّات طريقكما ولو شعرتما ان الأمور بينكما أضحت ليست على ما يرام، تخاصما قليلا، ولتعلموا ان أكثر الشجار حدّة لا يستطيع ان يضعف حالة الحب بينكما بل يزيد من حالة الثقة بين الطرفين طالما إنكما تهدفان الى إعادة ترتيب حياتكما بالشكل الأسلم .

وليفهم الزوجان ان لاشيء يشبه الكائن الاخر في السلوك والتصرف والتعامل ولسنا نسخا كاربونية نشبه بعضنا ونتطابق تماما وانما نقترب فيما بيننا الى حد التلاقي والتهامس والمناجاة وقد نبتعد في حالة ما ونلجأ الى رفع الصوت اذا اختلفت وجهات النظر وتعارضت الآراء مع الإبقاء على احترام آراء الطرف الاخر حتى وان اختلفت مع وجهات نظر الطرف الثاني دون ان نترك الاختلاف يبعد المسافة بينكما بحيث تسحقنا الاختلافات سحقا ؛ انما من الضروري الإبقاء على احترام وجهات النظر مهما ابتعدت عن قناعة الطرف المقابل .

هكذا هو الشجار الأسَريّ العابر والمؤدي الى التصحيح باعتباره اختبارا للقوة العقلية وامتحانا للقوة العاطفية كي ترسخ أكثر فأكثر وهنا لابدّ ان يقف الخصام على معالجة أمرٍ شاذ وطارئ قد يطفو وإزالته من محيط العلاقة الزوجية السامية دون ان يمتدّ ليخرب كلّ شيء وما على الزوجين سوى ان يمسكا زمام الأمر بيدٍ واثقة قوية لئلا ينفلت الى ما لا تحمد عقباه، فما ان تنتهي عاصفة الخصام وتهدأ رعود أمطارها سيعود القوس قزح جميلا ساطعا بألوانه في سماء العلاقة الحميمية وتصفو الأجواء صفاءً لا مثيل له .

اذا كانت الخصومات العائلية تمثل لحظات انفجار التراكمات غير المستساغة في مسار الحياة الزوجية ورفع مستوى الشجار الى درجات مخيفة وصحوة الخلافات في نفس الزوجين وظهورها للعيان بكل مخاطرها لمجرد إشعال عود ثقاب صغير او شرارة عابرة فقد تحرق كل هذه الأكوام من الأشياء القابلة للاشتعال وربما تكون هذه الحرائق بداية لانفصال الزوجين واتخاذ قرار الطلاق الى غير رجعة .

غير ان العقل الراجح والتأنّي العميق والمراجعة الايجابية يمكنه ان يعيد تدوير تلك المعركة الظالمة الى معركة عادلة وتحويل الاشتباك الى اتفاق والشقاق الى عناق وتطويع الخصام الى وئام مما يسمى في علم النفس التربوي (الاشتباك من اجل الاتفاق) .

فلا شيء ضمن الخلافات التي يسببها الشجار يصعب حلّه لو تم إحكام العقل والعاطفة المتّزنة وتسييرها صوب التوافق والتواد، فالحرائق الكبيرة الممتدة يمكن إطفاؤها لو خلصت النوايا الطيبة واتجهت نحو اللحمة والآصرة السليمة، فما بالك لو انبعثت شرارة صغيرة هنا وهناك اذ يكفيها قطعة منديل صغيرة مبللة بالمسامحة والغفران وإحكام العقل وترطيب العاطفة والأحاسيس لسحقها حتى تنطفئ .

وكم من الملاسنات والعويل والصراخ وتبادل الأصوات والزعيق بين زوجين اثنين اختلفا في أمرٍ ما ؛ لكنها سرعان ما هدأت وتيرتها لأن الحب دخل بينهما فجأة وأغلق الأفواه بغمضة عينٍ مستعينا بمراقبة العقل وشدّ وثاق الانفلات اللساني والتحكّم العقلاني وإطفاء ثورة الغضب ببلل القلب ومائه الرطيب وتتجسّد المصالحة أمامهما كائنا ضاحكا مستبشرا غاية في اللطف واضعا يدا بيد في مصافحة حارة ينبعث منها دفء التوادّ وملامسة الوداد .

ويبدو لنا ان كل المعارك والخصومات التي اعتدنا عليها في وسطنا الاجتماعي والسياسي هي كريهةٌ وممقوتةٌ باستثناء معركة الحبيبين من اجل معالجة الهفوات والمشاكل التي يسهل علاجها وتعديل المسار وهذه يمكن ان نسميها المعركة العادلة الجميلة بين الأزواج المتخاصمين ولو ارتفعت لغة الكلام والملاسنة وتعالى منسوب الغضب وزاد من حدّه لأنها بالنتيجة سيؤدي في نهايته الى المصالحة والتراضي طالما كان ذلك الخصام محصورا بالتحكّم والاستماع الفعّال لوجهات النظر حتى ولو ارتفع الصوت ونحا نحو الصراخ والزعيق والتشنج والدويّ العالي، فمثل تلك الخلافات تعدّ ايجابية وفرصة لمراجعة النفس وطرح المقترحات الايجابية لطمر المشاكل وإسكات الاهتزازات اللسانية وطلب الهدأة بعد النزاع كأن تقول لخصمك : انا أنهيت كلامي فابتعد عني ودعني الان وحدي أفكر فيما قلتَ وتخاصمتَ من اجله وأعرف مدى فائدته او ضرره .

تلك المساحة الزمنية لفكّ الاشتباك والخلوة مع النفس بعيدا عن الطرف الخصم كفيلة بمراجعة ما قال وما ردّ الطرف الاخر وفرز الهذر والقذع من الكلام، والتبصر بالنافع والمجدي والمصيب ليكون مفتاحا لفكّ كل مغاليق الابواب الموصدة والنوافذ المغلقة لإعادة تهوية البيت رياحا منعشة مبللة بالنسائم العليلة بدلا من الخناق والوخمة وضيق الأنفاس وخلق أجواء صحية من المناخات الأسرية الرائعة .

ليت الزوجين الذين يواجهان بعضهما كخصمين أن يدعا جانباً كلمة " أنت فعلت كذا " و" أنت أسأت التصرف وأنت تصرفتَ عكس ما نريد " حينما يشتدّ هياج الخصام وتتصاعد وتيرة المواجهة وليقولا بدلها " أنا فعلتُ كذا وأنا أقدمتُ كذا من أفعال وسلوكيات وأنا من يؤمّن ترتيب حالة معينة " ولنجعل من المشاعر الغاضبة الى أدوات من الرجاء والسماح والعفو والغفران عن سلوك شاذ وغريب يخدش العلاقات الحميمة بين الزوجين، فإن لغة المخاصمة والمعاتبة ضمن هذا الإطار برفع سبابة أصابع الاتهام " أنت " قد تشعل اليانع واليابس بينما تكون لغة " الأنا " اثناء المواجهة هي إشارة للبناء ومراجعة النفس والثقة بإعادة المسار الى جادّة الصواب والصلح .

مناي ان يكون الخصام والشجار الأسري العابر بين ثنايا الحياة الزوجية طريقا سالكا نحو التراضي وتصحيح الأوضاع الأسرية ومنغصاتها وطمرها بعيدا عن واحة البيت تماما لتنعم أسرنا وعائلاتنا في كل بيتٍ بمناخ يعمّه العنفوان العاطفي والمحبة والتوادّ وراحة البال والهدأة بدلا من الصراخ والزعيق والربكة .

***

جواد غلوم

 

 

ليس بعيدا عن الكوارث الطبيعية والبيئية وربما أيضا السياسية العالمية الراهنة نذهب، بل نحن صوب الإحداثيات ذاتها ولكن بصورة تتمايز قليلا عن الرصد والتأويل، فبرغم الهوس الإعلامي المشهود في تسجيل واقتناص اللحظات الإنسانية المتزامنة مع زلزالي سورية وتركيا، وتتابع العمليات العسكرية ثنائية الاتجاه بين الكيان الروسي العتيق والمساحة الأوكرانية قليلة الحيلة على مستوى المواجهة الاستراتيجية المباشرة . ولا حتى التظاهرات الاستثنائية في الكيان الصهيوني ضد نتنياهو المتربص بالقضاء الصهيوني، أو تظاهرات باريس التي يبدو أنها ليست على موعد مع التوقف أو السكون.

هذا القرب من مشاهد العالم الراهنة تأتي من الغياب القصدي إعلاميا عن رصد التحولات الفكرية ذات الصبغة الدينية في شتى بقاع العالم، وإن كان البيت الإبراهيمي الذي أعترف طوعا وليس كرها بأنني لم أكترث أو حتى ألقي بالا قصيرا بشأن الحدث والحادثة لثمة أمور تتصل باليقين العقدي لديَّ أولا، ثانيا أن مثل هذه الترهات التي تمثل رفاهية في التصرف لا علاقة لها بما يجري من أحداث هي بالفعل جديرة بالاهتمام بدلا من اقتراح أشياء وتدشين سيناريوهات تبدو مشبوهة الاعتقاد والمعتقد في رأي ملايين المسلمين الموحدين على سطح الكرة الأرضية .

ومن قبيل المرور السريع على هذه الأحداث العالمية الآنية اقتراب الجمهورية الإسلامية الإيرانية ذات المرجعية الإمامية في تصنيع القنبلة النووية الكفيلة بتدمير المنطقة وإيران نفسها، وصولا إلى العبث الإيراني السياسي المرتبط بطرد بعض الدبلوماسيين الألمان والتوحش الاستيطاني الصهيوني في فلسطين المحتلة وسط صمت عربي مستدام وتاريخي لا يمكن الاستغناء عن سماته ونتائجه أيضا، مثل هذه الأمور وغيرها كفيلة بالاهتمام بدلا من مساعٍ صهيونية في تعزيز وجودها الأيديولوجي بحركات دمج عقائدي لا يمكن تحقيقها إلا من زاوية التوحيد المطلق لله لا من حيث تماثل الشعائر والطقوس الدينية الخاصة بكل ديانة.

يأتي هذا كما ذكرنا وسط تجاهل إعلامي عن التهديد المستمر للأمن الفكري العربي والسعي الممنهج غربيا لتقويض الطمأنينة على سلامة الفكر والاعتقاد الديني من أجل تفاعل غير رشيد مع ثقافات وافدة وغازية تزيد من مظاهر الانحراف الفكري لدى الشباب العربي.

وتبدو مشكلة تحقيق الأمن الفكري عصية بل ربما مستحيلة في بعض الأحايين ؛ لاسيما وأنه ـ الأمن الفكري ـ يعني تحقيق الطمأنينة على سلامة الفكر والاعتقاد، كذلك إحساس المجتمع بأن أفكاره الرصينة الضاربة في القدم ليست مهددة، وهو الأمر الذي بات صعبا أيضا بسبب تسارع المنصات الرقمية وتصارعها بغير رقابة أو ضوابط رسمية تحكم حركتها المضطربة.

مثل هذه الإحداثيات التي تتوافد على كوكب الأرض المشحون بالتنازع والتصارع والاحتراب كانت فرصة سانحة بحق لأولئك المتلاعبين بالعقول الذين باتوا يجيدون فعل المراوغة العقلية والعبث بأفكار الشباب العربي، وأصبح الصراع الحقيقي اليوم ليس صراع الجيل الرابع أو الخامس المهموم بالتكنولوجيا الرقمية، بل بالأدمغة من خلال منابر مباشرة وأخرى إلكترونية تسعى إلى اعتقال النص الديني وتقويضه إن كان في الاستطاعة من أجل صناعة خطاب آخر موازٍ.

وهؤلاء لا يزالوا دونما مهل أو تراخٍ يخططون لثمة سيناريوهات أشبه بالمؤامرات سعيا للوصول إلى سدة الحكم بمناطق عربية شتى، مستخدمين في ذلك أقصى أنواع التواصل المسموع والمرئي أو المقروء فهم يعلمون أن حال الثقافة ومقامها في الوطن العربي يدعو إلى البؤس والإحباط، وهذا شكل لديهم حلما واسعا في السيطرة على أدمغة الشباب المسكين الذي لا يقرأ سوى كتبه الدراسية والجامعية فقط.

لذا فإن مسألة اعتقال النص واعتناق نصوص مغايرة للمألوف هي الهدف الراهن لكافة التيارات والجماعات الراديكالية المتطرفة؛ هذا الهدف يرتكز على فكرة الثنائيات التي لا تقبل مساحات أخرى بين الإباحة والتحريم .

هذه الثنائيات الراهنة هي التي تجسد شكل العلاقة ثلاثية الأبعاد بين الأنظمة الحاكمة الرسمية والشباب وأخيرا الجماعات والطوائف التي أبغي تسميتها بالمتطرفة إن لم تكن الأشد تطرفا وشراسة، فبين حكومات تسعى لتحقيق رؤيتها الاستشرافية كجمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية ضمن أجندة التنمية 2030 والتي تستهدف الارتقاء بالشباب في شتى المجالات وصولا إلى حالة مرضية وجيدة من الأمن الفكري عن طريق إعمال العقل واتباع الوسطية والرهان على الشباب أنفسهم باعتبارهم مصدر قوة وصلابة وحيوية للدولة، نجد على الشاطئ الآخر من يريد أن يأخذ الشباب إلى زوايا أخرى مناوئة مستخدمة في ذلك النص الديني بوجه عام، والنصوص الثقافية على وجه الاختصاص من حيث تأويلها وتحريفها وفق ضوابط تعكس أيديولوجية تلك الجماعات فنجدهم مستخدمين سلاح احتلال العقل بدلا من إعماله، وبأن المرشد أو الإمام أو قائد الجماعة التكفيرية الأولى بالتفكير والتدبير والتخطيط لا أكثر لا أقل .

فضلا عن الولع بالتحريم، الأمر الذي أكاد أشاهده على كافة المنصات الرقمية المتزايدة في الانتشار والتي تنتمي لفكر الخوارج أو الطوائف الساعية إلى الحكم تحت مظلات دينية سياسية، والتحريم بات أمرا خطيرا بل هو الملمح الأخطر في هذا العصر. ورغم أن إثم التكفير أمر عظيم وقتل المخالف أمر أعظم إلا أن إطلاق التحريم بل والولع به صار المشهد الأبرز لدى أنصار وأقطاب وأمراء الفكر المتشدد، وأصبح استغلال النص الديني وفقا للتفسير الظاهري هو الحاكم في حدة التحريم.

وإذا بحثنا على عَجَلٍ عن أبرز روافد التطرف لوجدناها في شيوع ثقافة اللاتفكير، وغلو التحريم وتناسي الكراهية والندب والمباح من الأساس، حتى بات التحريم بفضل أمراء الفتنة وشيوخ جبر الخواطر شهوة لها سطوتها وسحرها سيطرت على عقول الآلاف من الشباب العربي . علاوة على أن المتربصين بالنص الديني أكاد أجزم قولا بإنهم لا يفقهون الفرق بين منطوق النص صفة وشرطا واستثناء وغاية وعددا، والله أعلم !.

المشهد الثاني ضمن إحداثيات اعتقال النص هو مشهد مغاير تماما ؛ لأنه من المدهش ارتفاع نسب الشباب الملحد في الوطن العربي وهذا يدخل من باب الاستعمار الثقافي حيث التشكيك في كافة النصوص الدينية وإطلاق العقل في خياله وصولا إلى ضرب الهوس بالتأمل بغير ضابط أو حاكم رشيد للعقل، والأخطر أن تجد شبابا فقير الرؤية والرؤى ضعيف اكتساب الثقافة عن طريق منابعها الأصيلة والرصينة يعكف طويلا على شاشات الهواتف النقالة سعيا إلى معرفة الفكر الإلحادي المتطرف، الأمر الذي من الأيسر والأسهل معرفة قدر ولو بسيط عن أمور العقيدة والدين نفسه من أجل تحقيق سلامة الأمن الفكري الذي تحدثنا عنه.

ولا شك أن الهاربين من النص الديني هم أنفسهم يسعون إلى اعتقاله وحبسه بعيدا عن أنفسهم أولا، وهي مغبة نكراء تعصف بطمأنينة المجتمعات العربية صاحبة التقاليد الثابتة، وإذا استقرأنا طبيعة الفلسفات الإلحادية المعاصرة لاكتشفنا أنها في مضمونها عبارة عن تيارات فلسفية ترتكز على مجموعة من المبادئ الدينية ذات الطبيعة الذهنية المحضة تتخللها أفكار وثنية شرقية وغربية. وتتناول هذه الفلسفات ـ في العادة ـ قضايا غيبية كمصير الإنسان بعد الموت، أو قضايا ذهنية حياتية كوجود الإنسان وماهية هذا الوجود، والأدوار الحياتية للإنسان كدور الخير والشر والتسامح، بالإضافة إلى الطبائع البشرية غير الثابتة كالقلق والتوتر والخوف من المجهول وهكذا.

وأغلب اليقين لا الظن في هذه الفلسفات التي انتشرت بقوة وسطوة في أوروبا منذ بزوغ نظرية النشوء والارتقاء والتي كان من بين ضحاياها ملايين الشباب في الدول الغربية اهتمت جل اهتمامها بالروحانيات، لكن للأسف الشديد لم ينتبهوا إلى عظمة الإسلام وطبيعة القرآن الكريم بوجه خاص في معالجة الجانب الروحي للإنسان، ولأنهم أرادوا بأنفسهم سوءاً طفقوا يجربون كل شئ على سبيل القلق الوجودي فكانت النتيجة انتحار الملايين وانتشار البغي والفساد وشيوع الزنا لاسيما زنا المحارم، انتهاء بالشرك والعياذ بالله. إن هؤلاء مرضى بحق لاسيما وانهم ضحايا الجهل المركب ؛ جهل العقيدة، وجهل الحياة !.

وما أشبه تلك الفلسفات بمرض السرطان الذي يدخل جسد الإنسان في خلسة غير مرئية أو مسموعة، وسرعان من تتحول الخلايا السرطانية إلى وحش كاسر فاتك يدمر الإنسان نفسه، والتشبيه هنا يتقابل في مبدأ السرية والتخدير الكاذب، فمعظم المبشرين للفلسفات الإلحادية أوهموا الشباب التائه لاسيما بعد وقائع الحرب العالمية الثانية التي دمرت أوروبا بالكامل من وجهيها الحضاري النفسي والمادي المحسوس، وأوقعوهم في شرك الهدوء النفسي والبحث عن سبب لوجودهم، وهدف يأملون إليه، ناهيك عن المزاعم التي فرضوها على أولئك الشباب قسراً وقهراً حول إعادة التوازن النفسي لهم إزاء الآثار الناجمة عن الحرب .

ولاشك أن أولئك الشباب لم يجدوا في تعاليمهم الدينية غير الإسلامية ملاذاً وملجأ ومأوى، مما دفهم إلى الهرولة نحو هذه التيارات الهدامة التي أججت النار في نفوسهم المحمومة بدلاً من تطفئها وتهدئ من روعها. وكأنهم لم يقرأوا قول الله تبارك وتعالى: (وكذلك أوحينا إليك من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) .

وكما تعددت مسميات هذه الفلسفات الإلحادية مثل الهندوسية والجينية والبوذية والطاوية والشنتوية، أو وثنيات الشامانية والدرودية والهونا والويكا، أو فلسفات حديثة مثل الوجودية والبنيوية والتفكيكية والواقعية القذرة (كما في ترجمتها الإنجليزية) وغيرها من الفلسفات العجيبة، تنوعت وتباينت مظاهر معتنقيها مما دلل على هوسهم وتشتتهم الفكري والعقلي. فوجدنا أنصار ومريدي تلك الفلسفات ممن يطيلون شعرهم كالنساء، بالإضافة إلى ملابسهم الغريبة والتي تعبر عن حالات القلق والتوتر والتمرد التي يعيشونها .

وليتهم في ذلك الوقت استعانوا بالذكر الحكيم وهو يعبر عن حالات إنسانية راقية ترتقي وتعلو بفضل الله ورحمته، يقول تعالى : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء * ومثل قوله تعالى الذي يفيد أن كل شئ بيده وحده لا شريك له: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير). وهذه الآية الكريمة من شأنها أن تجعل الإنسان المؤمن قرير العين هادئاً مطمئناً لقدرة الله.

وجاءت الفلسفات الإلحادية المعاصرة بفكرة موحدة وهي القدرة المطلقة للوجود الإنساني، وأن الإنسان بقدرته فاعل وقادر، واستندوا في ذلك على عشرات الأساطير اليونانية الوثنية التي تدعم قدرة هذا الوجود كأساطير بروميثيوس وأدونيس وغيرهما من القصص الأسطورية التي خدرت عقول الشباب الأوروبي وجاهد المستشرقون والتبشيريون في نقلها إلى الواقع العربي الإسلامي، وهوى كثير من الشباب العربي المسلم في بئر هذه الظنون والمزاعم الكاذبة من باب الولع بالتقليد.

واستندت أفكارهم على نثار الفلاسفة القدماء، أمثال ديكارت الذي حاول أن يقيم علاقة بين العقل والمادة، لكنه لم يعبأ بإقامة علاقة بين الله ـ سبحانه وتعالى ـ وبين العالم ؛ لأنه كما أشار المفكر الإسلامي عباس محمود العقاد أن قدرة الله في غنى عن هذه العلاقة، وكذلك جورج بركلي الذي لم ير أهمية في الكون سوى العقل لاسيما العقل الباطن . ومنهم من ارتكز على فلسفات أخرى مثل مذهب اسبينوزا الذي اعتقد أن الله والكون والطبيعة جوهر واحد، ومذهب الأخير متعدد الولوج في قضايا ذهنية مملة تدور في فلك الجوهر والماهية والامتداد ومصطلحات أخرى لا تفيد.

ولا شك أن الحكومات والأنظمة العربية في مأزق شديد بسبب حالتي التطرف الديني المتشدد، والنزوع إلى الإلحاد، وبات من الأحرى تحقيقا لسلامة الأمر الفكري التخطيط لمواجهة إحداثيات شائكة تعصف بالمجتمعات العربية، هذا التخطيط وفق أجندة رؤى الدول الطامحة في التنمية المستدامة لأعوام مقبلة ؛ التنوير الثقافي هو أبرز هذه الأسلحة من خلال التوعية والتبصير المباشر بغير خلل أو غموض لكثير من المفاهيم ذات الأهمية مثل التطرف والإرهاب والوسطية وازدراء الأديان واحترام الآخر والمساواة بين الرجل والمرأة .

ناهيك عن ضرورة معالجة قضايا مجتمعية ساخنة كالاستنساخ والزواج العرفي وزواج المتعة ونكاح الجهاد وتعليم الفتاة وغير ذلك من مشاهد من المؤسف زمنيا تناولها لأنها من أساسيات قيام المجتمعات منذ القدم.

من أسلحة المواجهة أيضا التوسع في دوائر النقاش والحوار مع الشباب الذي بدا تائها باحثا عن بوصلة لليقين ومرفأ آمن للمعرفة، بدلا من تركهم فريسة سهلة القنص لتيارات وجماعات ذات مخالب ومثالب ومطامح خبيثة، أو هؤلاء الشباب اللاهث وراء فوضى منصات التواصل الاجتماعي سعيا لشهرة باهتة مؤقتة حتما تنتهي بهم لنهايات لا تبدو سعيدة كالإصابة بالأمراض النفسية أو الإلحاد أو الانتحار.

***

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية - كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر.

بداية نود الإشارة الى أن ظاهرة (التأدلج) لدى المثقفين العرب عموما"والعراقيين خصوصا"، لا تبدو كما لو أنها (مرض) فكري يصاب به كل من يتعاطى مع منتجات الفكر ومعطيات الثقافة - إنتاجا"أو استهلاكا"- وإنما هي ظاهرة تكاد تكون (طبيعية) بل و(مشروعة) ضمن بعض الظروف الخاصة والسياقات المعينة التي تحتم على الإنسان الانخراط فيها والتفاعل معها والاحتكام إليها . ولكن برغم كونها تتمتع بهذا الضرب من الحجج التبريرية والتعليلات التسويغية، إلاّ أنها سرعان ما تتحول الى (النقيض) في ذات اللحظة التي تتخطى فيها الأطر المقبولة اجتماعيا"والمعقولة معرفيا"، بحيث تبدو من خلالها مواقف المثقف المقصود وسلوكياته عبارة عن سلسلة من المفارقات والتناقضات التي تفضحه وتدينه .

وقبل أن ندلف الى رواق الموضوع، حري بنا إحاطة القارئ الكريم بما نعنيه بعبارة (المثقف المؤدلج) الواردة في عنوان المقال، إذ من المحتمل – بل والمتوقع - أن يتبادر الى ذهنه أن اقتران مفهوم (الأدلجة) بشخص ما لا بد أن يعني أنه يضمر بين ثنايا وعيه أطياف (إيديولوجيا) معنية، كما انه لا يعدم التعبير عنها قولا"وسلوكا"إزاء (إيديولوجيا) الآخر . وهذا ما نعتقد أنه الفهم الشائع لمعنى (التأدلج) لدى الغالبية العظمى من عامة الناس لا بل وخاصتهم أيضا". ولعل هذا الرأي أو التصور وان بدا أقرب الى الواقع منه الى الافتراض، فهو ليس سوى نتاج بيئة فكرية – ثقافية عملت مجموعة من الإيديولوجيات الراديكالية (المتحزبة) على تكريسه في الوعي الاجتماعي التقليدي، عبر شطر - بل قل تشظية – مكونات تلك البيئة الاجتماعية الى أجزاء متباغضة وأقسام متكارهة، لا تجمع بينها رابطة سوى علاقات التنازع للسيطرة على مصادر القوة السياسية والتصارع على موارد الهيمنة الثقافية، وفقا"لطروحات الفيلسوف الايطالي (أنطونيو غرامشي) الذي أظهر خلالها أهمية هذه الأخيرة في مضمار التحكم بالمسارات والاتجاهات والقيادة للمؤسسات والجماعات .

والحقيقة أن ظاهرة (التأدلج) التي يعاب عليها بعض المثقفين على نحو اعتباطي وبلا تحفظ، لا يجب أن تشكل (إدانة) أخلاقية يدمغ بها هذا المثقف أو ذاك، كما لا ينبغي أن تعتبر (تهمة) ثقافية يستحق عليها الاستهجان والاستنكار دائما"، من حيث أن كل فاعل اجتماعي سوي لا مناص من حمله (تصور) خاص أو (رؤية) معينة إزاء ما يطرحه الوقع القائم من تفاعلات وما ينتجه المجتمع المعيش من صراعات . وعلى هذا الأساس نجد أن كل ما يستبطنه الإنسان من أفكار وتصورات وتمثلات غالبا"ما تكون موسومة بسمات ذلك الواقع ومطبوعة بطابع ذلك المجتمع، مهما حاول ذلك الإنسان (المثقف) النأي بنفسه عن تأثيرات هذا أو ذاك والتمظهر بمظاهر الحيادية والموضوعية . طبعا"مع الأخذ بنظر الاعتبار واقعة أن تلاوين تلك (التصورات) و(الرؤى) بين الأفراد والجماعات، لا تعدو أن تكون انعكاسا"جدليا"لطبيعة الانقسامات الاجتماعية والاختلافات الثقافية والتنوعات الحضارية، التي لا تفتأ تتمفصل وتتفاعل في إطار وحدة السيرورات والديناميات الفاعلة في بنى المجتمع الكلي .

والحال أن ما نقصده بمفهوم (الأدلجة) الذي يخشى على المثقفين الانخراط في أتونه والوقوع في مصائده، ليس هو المعنى المراد منه الدلالة على (الايديولوجيا) من حيث كونها مجموعة أفكار وتصورات كوّنها المجتمع عن طبيعة كيانه وصاغها عن تاريخ جماعاته، عبر أنماط متعددة ومتنوعة من البنى الذهنية والأنساق الثقافية والتمثلات الرمزية . وإنما المقصود هي تلك الحالة أو الظاهرة المعبرة عن (التداخل) أو (التخالط) بين عناصر مجموعة من الإيديولوجيات المتناقضة والمتعارضة التي يستبطن مضامينها هذا المثقف أو ذاك ضمن محزون (اللاوعي)، سواء بالنسبة لتعدد الإيديولوجيات المحلية الخاصة بالجماعات الداخلية الاثنية أو الطائفية أو المناطقية، أو بالنسبة لتنوع مشارب الإيديولوجيات الأجنبية الخاصة بالمجتمعات الخارجية الغربية منها والشرقية . أي بمعنى ان المثقف يكون عرضة للوقوع في شرك (التهجين) الإيديولوجي متى ما تجاهل الفواصل النوعية القائمة بين طبيعة ونوعية سرديات تلك الإيديولوجيات (أفكار وتصورات وقيم)، فضلا"عن الإصرار في محاولات تسويغ عمليات هذا الضرب من السلوك الذهني النكوصي، كلما أشعره (الوعي) بعواقب الانسياق خلف هذا المسلك الارتدادي .

والجدير بالملاحظة ان الغالبية العظمى من المثقفين (المؤدلجين) قد لا يشعرون أو لا يعون قيامهم بهذه الممارسة الذهنية / الفكرية، كونهم لبثوا خاضعين لفترات طويلة لسلطان (النسق الثقافي) التقليدي الذي ولدوا في إطاره وتغذوا على قيمه وتمثلوا رموزه واحتكموا الى تواضعاته . لا بل أن هناك من تصل بهم ردّة الفعل الى حدّ إلصاق هذه التهمة بأقرانه الآخرين كما لو أنه مبرأ منها وبعيد عنها، وهو الأمر الذي خاله أستاذ اللسانيات الانثروبولوجية في الجامعة المستنصرية (جواد كاظم التميمي) في أحدى دراساته الممتازة ؛ بمثابة (نشوة نرجسية بالغة للمتكلم العراقي، بحكم الرغبة اللسانية العراقية المعتادة في تضخيم الذات، لكنها – في حقيقة أمرها – مورفيم مشفّر بقدر هائل من سيميائبات الخراب العراقي، وتحيل بشكل مؤكد – كما نرى – على مضمرات نصية مؤلمة، من دون أن يعي المتكلم العراقي ذلك) . ولذلك تراه ينشط في كيل النقد يمينا"ويسارا"دون أن يلاحظ حالة (الازدواجية) التي تأسره بفتنتها، وتحول دونه والوقوف على حقيقة كونه لا يختلف بتاتا"- ان لم يكن أسوأ منهم - عمن يكيل إليهم النقد (الحداثي وما بعد الحداثي)، ومن ثم لا يتورع برميهم بتهمة الانخراط بتلك الظاهرة المستهجنة معرفيا"وأخلاقيا"، متوخيا"بذلك الحفاظ على توازنه النفسي الهش واعتباره الاجتماعي الضعيف .

ومن جملة مساوئ (الهجنة الإيديولوجية) أنها تحيل (المثقف) المصاب بلوثتها الى فاعل اجتماعي شديد (النفاق) ومفرط (الانتهازية)، بحيث لا يتورع من تبرير كل شيء وتسويغ أي شيء طالما ان هذا الموقف يصب في مصلحته ويحقق له مآربه، معتمدا"بذلك على آلية (التقمص) اللاشعوري التي تبيحها ظاهرة (الهجنة) في اختيار ما يتناسب مع الحالة أو الموقف من أفكار أو تصورات، حتى وان بدت - على مستوى بنية الوعي - متناقضة في طبيعتها ومتعارضة في توجهاتها . ولعل ما يعزز وجود هذه الظاهرة في أوساط (النخبة المثقفة)، فضلا"عن توطن قيمها وتمكن أعرافها وتشرعن سلوكياتها، ان الحاضنة الاجتماعية التي تنشأ تلك النخبة بين ظهرانيها وتجتاف قيمها وتحمل مواريثها، لا تفتأ تحافظ على ثبات (أنساقها الثقافية) التي تطاولت عليها الآجال وتعاقبت ضمنها الأجيال دون أن تفقد حضورها في الوعي الجمعي وتضعف آثارها في السلوك الجماعاتي، للحدّ الذي يمكن اعتبارها مكون أساسي – لا بل مسيطر - من مكونات البنية العميقة والمؤسسة (لسرديات) المجتمع الكبرى في مجالات الجغرافيا والدين والتاريخ والثقافة والهوية .

وعلى هذا الأساس، فإذا ما أريد الوقوف على دواعي وجود هذه الظاهرة (الهجنة) فضلا"عن استمرار تأثيرها، لابد من الرجوع تاريخيا"واجتماعيا"لمساءلة تلك (الأنساق) المستبطنة في (اللاوعي)، والتي لا تفتأ تمارس وتجيد لعبة التخفي عن الأنظار، عبر ديناميات هذا الخير (اللاوعي) الذي يمتلك إمكانيات حجبها عن الإدراك وإزاحتها عن الوعي .

***

ثامر عباس

 

كثيرًا ما نقرأ ترجماتٍ ملتبسةً مشوشة، تُغرِق القاريءَ بفائضٍ لفظي من دون أن تفيد معنى واضحًا. الترجمات الحرفية أسوأ الترجمات، أحيانًا نقرأ نصًا منقولًا من لغة أخرى من دون أن يلوح لنا أيُّ ضوء في كلماته، لا نرى إلا كلمات مظلمة لا نتحسّس فيها معنى مفيدًا. أن تتملك معاني الكلمات شيء، وأن تنقلها للغتك كودائع مغترِبة عنها وعن فضائها الدلالي ورؤيتها للعالم شيء آخر. تملّك المعنى يعني توطينَه في فضاء لا يغترب فيه، وتحويلَه إلى عنصرٍ حيّ في نسيج ثقافة موازية، بعد اكتشافِ ما تنطق فيه اللغتان، والإصغاءِ للصوت العميق فيهما معًا. التملّك غير تلقي الكلمات كما هي بمعناها الحرفي، عدم تملّكها يعني استنباتها حرفيًا في فضاءٍ دلالي لا يمدّها بشيء من نهر الحياة. تملّك معاني الكلمات يعني أن تتكلم كلُّ واحدة من اللغتين إلى الأخرى بما هو خارج دلالة كلماتهما الحرفية، ويتحقّق ذلك باكتشاف منطق الفهم المشترّك للغتين معًا. المترجم المحترف حين يعمل على تملّك معاني الكلمات يتعاطى مع اللغة وكأنها مادةٌ خام يغرسها في فضاءٍ دلالي لا تجد ذاتَها مغترِبة فيه، ولا تتنكر له اللغةُ المنقولة إليها. تصير اللغة المُترجَم منها عنصرًا فاعلًا في اللغة المُترجَم إليها، تغذّي فضاءها الدلالي وتتغذى منه. عندما تهاجر الكلمة من لغتها الأم إلى لغة أخرى تلتقي بمعناها العميق، الذي تظلّ تبحث عنه في الطبقات القصية للغة الراحلة إليها، وتظلّ تسعى لذلك في أية لغة تقيم فيها مجدّدًا. الترجمة كما تعمل على تجديدِ حياة اللغة وإثراءِ معجمها بتوالد ونحت كلمات ومصطلحات جديدة، وإثراءِ لغة المترجم واغناء رصيد معجمه، واتساعِ فضاء وعيه اللغوي، تعمل أيضًا على تجديدِ حياة اللغة والأدب والثقافة وتغذيتِها بما يتيح لها أن تنفتح على آفاق رحبة للمعنى. المترجم الحاذق راءٍ تمكّنه استبصاراتُه من أن ينصت لصوتٍ لا يسمعه القارئُ المتعجّل للنصوص، يقظة الرائي تدلّه على الصوت الواحد في لغات متعدّدة. فرادة الرائي بقدرته على التذوق كمتصوف حالة شهود.

تنبه الجاحظ في وقت مبكر إلى عدّة المترجم وما ينبغي أن يتسلح به من أدوات، وهو يعيد إنتاجَ المعاني بلغته، وكيف يجعل المترجم لغةً تتحدث إلى لغةٍ أخرى وتتفاعل معها بالأخذ والعطاء، بقوله: "ولابد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواء وغاية، ومتى وجدناه أيضا قد تكلم بلسانين، علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها، وتعترض عليها، وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكنه إذا انفرد بالواحدة، وإنما له قوة واحدة، فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهما، وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتين، على حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات. وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضيق، والعلماء به أقل، كان أشد على المترجم، وأجدر أن يخطئ فيه" .

‏ الترجمة مرآةُ ذات المترجم وثقافتُه، ليست هناك ترجمةٌ مبرأة من بصمة الذات.كلُّ ترجمة محترفة قراءة للنصّ، ترجمات النصّ هي محصلة قراءات المترجمين له، في كلّ ترجمة صوتٌ مميز لا يكرّر غيرَه، مثلما ننصت لصوتٍ موحد يبوح بما تستبطنه الكلماتُ، وما هو أقصى مما تكشّف للوهلة الأولى من دلالاتها. الترجمة ضربٌ من التأليف يتطلب استعداداتٍ تناظر ما تتطلبه عمليةُ كتابة النصوص الجادة، الترجمة المحترفة تغوص لتكتشف القاعَ التي تقف عليها مداليلُ الكلمات. الترجمة نهر حيوي لتغذية الثقافات وتلاقحها وتوالدها واتساع آفاق رؤيتها للعالم، وإثراء منابع العيش المشترَك فيها، وانفتاح مفاهيمها وقيمها الكلية بعضها على بعض، وتواصلها من أجل بناء فضاءٍ يستوعبها في إطار اختلافها وتنوعها. ‏الترجمه أعمق روافد إيقاظ المشتركات الكونية بين الأفراد والمجتمعات، وأجمل مرآة تتجلى فيها القيمُ الكلية في الثقافات والحضارات والأديان.

الترجمةُ أشدُّ وطأةً من التأليف. أنا مؤلفٌ ومترِجم، على الرغم من أن الكتابةَ تتعبني، لكن الترجمةَ تنهكني بل كانت تعذّبني أحيانًا، لذلك هجرتها منذ سنين طويلة. الترجمةُ ضربٌ من امتحان الضمير الأخلاقي للمترجم، إن كان كلامُ المؤلف ليس منطقيًا، أو لا يتفق مع معتقد المترجم وثقافته، يضع المترجمَ في مواجهة الكاتب، وأمام امتحان ضميره الأخلاقي.كنت أتحيّر مما أراه خطأ لدى الكاتب، وأتردّد في ترجمةِ مفاهيمَ لا أرى صوابَها، وعباراتٍ لا اقتنع بمضمونها، أنزعج وأتردّد في نقلها للقارئ العربي، وأخيرًا أترجمها مهما كانت، لشعوري بأن استبعادَها خيانةٌ لمؤلف أنا مُستأمَن على نصوصه عندما تطوعت بنقلها إلى العربية، وهي خيانةٌ لقارئٍ يتطلع لقراءة هذه الترجمة بلا تصرف بحذف واضافة أي شيء من أصلها.

بعد صدور: "الدين والظمأ الأنطولوجي" سنة 2016 أسعدني انتشارُه الواسع وتكرّرُ طبعاته، وتواصلُ الكتابة عنه حتى اليوم. قبل سنوات راسلني د. عثمان ياسين بعد أن قرأ الكتاب، وبعث بمقالات من كتاباتي ترجمها ونشرها مشكورًا في الصحافة الكردية. أعرب الأخ عثمان عن قناعته بضرورة حضور كتاب: "الدين والظمأ الأنطولوجي"، ومؤلفاتي الأخرى في الحياة الدينية والثقافية للمجتمع الكردي، واقترح ترجمتَه للغة أهله. الكردية واحدة من لغات الإنسان المعروفة، وهي كما الشعب الناطق بها طالها كثيرٌ من التجاهل والإقصاء والظلم والتعسف، إذ حُرِم الإنسان الكردي من تعلّم لغته في المدارس مدة طويلة، وتعرضتْ آدابُه وفنونُه ومنتجاتُه الثقافية للإهمال والنسيان، على الرغم من عراقة شيءٍ من نصوص هذه الثقافة وتميّز آدابها وفنونها. في كردستان اليوم عدة جامعات حديثة، ويقظة ثقافية وأدبية وفنية تعد بحياة جديدة للغة وثقافة وآداب وفنون لبثت منفية عن موطنها وأهلها زمنًا طويلًا. أنفق الأخ الدكتور عثمان ياسين شيئًا من وقته الضيق، حاول وهو في زحمة أعماله في القضاء والتعليم والتأليف أن يترجم الكتابَ للكردية، وتعاون معه الأخُ الأستاذ عبد الله أحمد المعروف بـ "سرمد"، فأنجزا معًا مشكورَين هذه الترجمة، وهي تصدر بعد صدور الطبعة الجديدة عن دار الرافدين ببيروت من هذا الكتاب. يحاول الأخوان عثمان وسرمد ترجمةَ أعمالي الأخرى، آمل أن تصدر ترجمةُ الكتاب الثاني منها العام القادم، علمًا أن الكتاب التالي المقرّر ترجمته للكردية "مقدمة في علم الكلام الجديد" معتمَد كمقرّر دراسي في أقسام الفلسفة وعلوم الدين في جامعات متعدّدة خارج وداخل العراق.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

...........................

* تقديم الترجمة الكردية لكتاب: "الدين والظمأ الأنطولوجي".

1- الجاحظ، كتاب الحيوان، تحقيق: محمد عبد السلام هارون، ج1: ص 75-79، 1955، دار الجيل.

 

المفهوم الشائع عن (التمييز العنصري) في ثقافتنا العراقية، والعربية ايضا، هو لون البشرة ما اذا كان أبيضا او اسودا. لكننا اذا اعتمدنا تعريف القانون الدولي للتميز العنصري فأنه يعني (أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل قائم ليس فقط على أساس العرق أو اللون أو النسب بل كل تمييز يستهدف تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها على قدم المساواة في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي).. فان البلدان العربية تتصدر دول العالم في التمييز العنصري، وان العراق يتصدر البلدان العربية لأن فيه (12) تنوعا اجتماعيا ودينيا وطائفيا..

فاذا اخذنا بالمفهوم الحقيقي للعنصرية بأنها لا تقتصر على التحيز ضد لون او عرق فقط، بل ايضا تفضيل معتقد على آخر او عائلة على أخرى او نسب على نسب او مهنة على أخرى، فان الدراسات توكد على شيوعها في البلدان العربية بنسبة تزيد على 60%.. ما يعني ان أكثر من نصف شعوبنا العربية عنصريون وان كانوا بهذا الخلل او العقدة السيكولوجية لا يعلمون.

خذ العراقيين مثلا.. تجد ان كل العشائر العراقية مصابة بالتمييز العنصري، فعشيرة شمر تعتقد انها العشيرة الأفضل و.. و..، وعشيرة خفاجة تعتقد هي الكذا والكذا.. وآل عبيد والسواعد وبنو تميم.. وعدد ما شئت ولا تستثني قبيلة او عشيرة، ولا تستثني احدا من هذا التمييز حتى لو كان حاملا شهادة الدكتوراة من جامعة رصينة!

والعراقيون ينفردون (بنكات عنصرية) تسخر من الآخر بمضامين (التحقير والدونية والتخلف)، تبدأ هكذا:

اكو فد واحد دليمي، اكو فد واحد عمارتلي، اكو فد واحد مصلاوي، اكو فد واحد كردي.. مع ان الأمام علي يقول ( الناس صنفان اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق).. ما يعني أن ألأمام علي أدرك هذا التمييز العنصري وحذر منه قبل اكثر من ألف سنة!.. في حين شاع في العراق بعد 2003 تمييز عنصري طائفي قاتل ابتكرنا له مصطلحا سيكولوجيا هو (الحول العقلي).. ويعني ان المصاب بهذا الحول يرى الايجابيات في طائفته ويغمض عينيه عن سلبياتها، ويرى السلبيات في الطائفة الاخرى ويغمض عينيه عن ايجابياتها.

ولقد نجم عن هذا التمييز (محسوبيات ومنسوبيات) بينها تعيين سفراء لا يصلحون موظفين في تلك السفارات التي تمثل واجهات لبلد كان موطن الحضارات. والأخطر انه نجم عن هذا التمييز العنصري ارتدادات اجتماعية قاتلة.. فلأن المصاب به اعتبر طائفته على حق وانها الحق، والطائفة الأخرى على باطل وانها الباطل، وان الطائفة الأخرى هي السبب في خلق الأزمات مع ان طائفته شريك فيها.. فانه اوصل العراقيين الى حرب حصدت عشرات الألاف من الضحايا الأبرياء بين عامي (2006- 2008).. وكان احد الأسباب العنصرية لهذا الاحتراب.. في منتهى السخافة، ان العراقي يقتل اخاه العراقي لمجرد ان اسمه حيدر او عمر او رزكار!

ولقد سألني مندوب راديو سوا (حسين الشمري) عن العلاج.. وبالصريح اقول:

ان كل المؤتمرات والندوات الثقافية وتوعية رجال الدين والاعلام، لا تقضي على هذا النوع من التمييز العنصري القائم على المعتقد، الانتماء الطائفي، القومي، العشائري، او الجغرافي. وان العلاج يكون باشاعة وعي ثقافي انتخابي بين الجماهير ليأتوا بممثلين الى البرلمان غير مصابين بهذه العقدة السيكولوجية وبهذا الحول العقلي المصابة بهما معظم من حكموا العراق في العشرين سنة الماضية. والأشكالية ليست في عنصريين حكموا العراقيين واذلوا الملايين.. بل في الذين يعيدون انتخابهم ويعرفون انهم.. عنصريون!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

في المثقف اليوم