قضايا
نبيل الربيعي: النمو الحضري.. بين الهجرة الريفية والتكييف في المدينة (2-3)
وحينما تناقش العوامل (الطاردة) نجد الحروب والاضطرابات السياسية التي شهدها البلد قد لعبت دوراً بارزاً في ظهور أنماط استثنائية من الهجرة، مما كان له أكبر الأثر على الأنماط الحضرية المعاصرة. منها أن نسبة كبيرة من أبناء الريف المهاجرين وعلى الأخص الفقراء منهم قد انتقلوا إلى ضواحي المدن والعاصمة بغداد وأقاموا (مدن الأكواخ والصفيح- التنك)، ثم ما لبثوا أن انتقلوا إلى مناطق المدن ووسط بغداد، مما ساهم على تجريف البساتين والمزارع من قبل أصحابها بسبب المبالغ الطائلة التي تجنيها إذا ما قورنت بمبالغ المحصول والناتج الزراعي.
ولا نستطيع أن نغفل الإشارة إلى ما حدث للمدن الكردية، فمنذُ ازدياد الوعي القومي لدى الأكراد بسبب ظهور قيادات مثقفة استطاعت إحياء نزعة الاستقلال الذاتي. ومن هذه الزاوية يمكننا فهم الصراعات الحادة التي نشأت بين الحكومة العراقية والأكراد، التي أدت بها إلى هدم الكثير من القرى الكردية وهجرة سكانها إلى الأحياء الكردية داخل المدن العراقية.
فضلاً عن العوامل السياسية هناك؛ والعامل الاقتصادي الطارد الذي لعب دوراً هاماً في تحديد الهجرة الريفية، ويرتبط بطبيعة الحال بمعدل النمو الاقتصادي في مناطق العراق المختلفة. كما لوحظ أن طبيعة المبادئ السياسية التي تبنتها حكومة الزعيم قاسم قد انعكست على الواقع الريفي، إذ احدث مشروع الاصلاح الزراعي نتائج اجتماعية/ اقتصادية هامة، وبمقتضى هذا المشروع تكونت طبقة وسطى ريفية نتيجة لإعادة توزيع الأراضي الزراعية التي استولت عليها الحكومة من كبار الملاك. وعلى الرغم من أن هذا الموقف قد يؤدي على الأقل نظرياً إلى تقليل معدلات الهجرة الريفية، إلا أن ذلك لم يتحقق في الواقع. فكانت نتيجة ذلك تدهور الانتاج الزراعي وهجرة بعض العوائل الفلاحية إلى المدينة بسبب انتشار البطالة بين الفلاحين لينظموا إلى جماهير الفقراء الحضريين. وبسبب الهجرة الفلاحية ظهرت طبقات ممتازة متتابعة، غالباً ما كانت دخيلة، فخلقت في نهاية الأمر ارستقراطية زراعية وبروليتاريا ريفية رثَّة واسعة النطاق.
فكان الفلاح العراقي تدفعه العوامل الاقتصادية إلى ترك القرية لاهثاً وراء سراب المدينة، بسبب الانتاجية الزراعية الضئيلة إلى حدٍ بعيد، في الوقت الذي ترتفع فيه نسبة العمالة الزراعية إلى درجة عالية، يضاف إلى ذلك استغلال الوسطاء والمرابين للفلاحين، مما يعني ابتلاع الفائض النقدي الذي قد يحققه.
ومن هنا نستطيع أن نفهم استمرار ارتفاع معدلات الهجرة الريفية في معظم مدن العراق برغم مشروع الاصلاح الزراعي. وهناك شواهد تشير إلى أن الاصلاح الزراعي قد لا يحدث نتائجه الايجابية إلا في المدى البعيد، خاصة إذا ما ترتب عليه ادخال اساليب انتاجية جديدة وإعادة توزيع حقيقي للملكية الزراعية.
كما لوحظ أن القرى العراقية قد بدأت تفقد خلال عقدين من الزمان نسبة كبيرة من شبابها النشطين بسبب الهجرة إلى المدن، مما أدى إلى انخفاض الانتاجية الزراعية بسبب استمرار اساليب الانتاج التقليدية، وامتناع ابن القرية الذي اكمل دراسته الجامعية في المدينة للعودة إلى مسقط رأسه ليساهم في تطوير قريته وخدماتها. لذلك تواجه الحكومات العراقية المتعاقبة في بعض الأحيان موقفاً حرجاً، لكن في معظم حكومات دول الخليج العربية قد حلَّت ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة بتخصيص جزء من عائدات النفط لاستيراد آليات متطورة لتستخدم في تطوير الانتاج الزراعي، ومثال ذلك تطوير انتاجيتها في مجال التمور وتحسينه.
هذا فضلاً عن المشاكل التي احدثها ابن القرية في المدينة بعد الاستقرار، إذ نقل معه عاداته وتقاليده القروية من (الفصلية، والنهوة، والكوامة، والثأر، والقتل بالمثل)، فتجده على ابسط حال يطالب بحقوقه من خلال القضاء العشائري لا القضاء المدني، وقد سمعنا الكثير من تلك القصص والروايات والخلافات على أتفه الأشياء منها: عبور جرذ من دار إلى دار وارعب طفلاً ما فتكون النتيجة فصل عشائري، أو عبور ديك داجن إلى دجاجة الجيران من دار إلى دار يسبب القتل أو الفصل العشائري.
وقد نقلت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي قصص مؤلمة لما وصل إليه البلد، بسبب ترييف المدن، ومن سيادة عصابات الجهل لا يصدقها العاقل يتناقلها أهل بغداد ومدن العراق الوسطى والجنوبية. تقول إحدى القصص بأن رجلاً جاءه عزرائيل في الحلم ليأخذ روحه، فتوسل إليه هذا الرجل أن يتركه ويذهب إلى جاره الثالث، وفي الصباح حكى الرجل حلمه لعائلته وبعد يومين توفي الرجل الجار المعني بالحلم، وحصلت صدمة عند الرجل الحالم الذي ذهب إلى مجلس الفاتحة وحكى للجالسين من حوله الحكاية، فمسكه أهل المتوفي وفرضوا عليه (فصل الديَّة).
وهناك قصة أكثر سريالية لكنها حقيقية مفادها أن جرذاً يعيش في بيت بإحدى مناطق شرقي بغداد يرمز إليه بالرقم واحد، وهذا الجرذ يعبر كل يوم إلى البيت رقم 2، وحدث أن طالب صاحب البيت جاره (بفصل ديَّة) بسبب أن الجرذ تسبب بحدوث صدمة عصبية (جفلة باللهجة البغدادية) لزوجته، وكأن هذا الجرذ هو ابن لصاحب الدار رقم (1) وأُلزم بدفعها. وذات مرة وخلال دخول هذا الجرذ للبيت رقم (2) قتلوه ممّا دعا جاره إلى المطالبة بدفع الجزية جراء وفاة الجرذ، فأسترد ما دفعه سابقاً.
وهناك قصص كثيرة، منها: قصص عزوف الأطباء عن العمل في وجبات مستشفيات الطوارئ معروفة، حيث يطالب أهالي المتوفين الطبيب المعالج بدفع الفديَّة.
***
نبيل عبد الأمير الربيعي