قضايا

كلّما ذهبت إلى الأسكندريّة من القاهرة باستخدام الطّريق الصّحراويّ؛ ترجعني الرّوح إلى غنوصيّة الأسكندريّة، والّتي امتدت من الصّحراء الأمازيغيّة واللّيبيّة، تلك الأديرة الّتي انقطع وتبتل فيها الرّهبان لآلاف السّنين، جيلا بعد جيل حتّى يومنا الحاليّ.

وفي طريق الأسكندريّة الصّحراويّ وأنا أمر على دير الأنبا مقار في وادي النّطرون؛ يشدني الحنين إلى معرفة ذلك الرّاهب المتبتل، أو القدّيس متّى المسكين (ت 2004م)، هذا الرّجل الّذي جاء من القرن الأول الميلاديّ غنوصيّا وروحيّا، إلا أنّه بجسد زمانه في النّصف الثّاني من القرن العشرين ميلاديّا، لأعيش فترة مع كتبه ورسائله وتأملاته وشروحه ومحاضراته الرّوحيّة.

متّى المسكين أو يوسف أسكندر، الصّيدلانيّ الّذي ترك الصّيدلة، ويستبدلها بالرّهبنة في دير الأنبا صموئيل بجبل القلمون، ثمّ توحد مع سبعة من الرّهبان ابتداء في وادي الرّيان، ثمّ في مغارة في دير السّريان، إلى أن استقر به المقام في دير الأنبا مقار، ليصبح هذا الدّير من أهم الأديرة في مصر حاليا.

قد يكون الحديث عن الغنوصيّة فيها شيء من الحساسيّة مصطلحا، لكنّها كما يرى مصطفى هنديّ "هي المعرفة الباطنيّة الّتي تنطلق من عمق الإنسان، ولا تطلب شيئا خارجه"، فالغنوصيّة "هي فعاليّة روحيّة داخليّة تقود إلى اكتشاف الحالة الإنسانيّة ... الكفيلة بتحرير الرّوح الحبيسة في إطار الجسد الماديّ، والعالم الماديّ، لتعود إلى العالم النّورانيّ الّذي صدرت عنه".

وارتباط الأسكندريّة بالغنوصيّة ارتباط موغل في القدم، كان فلسفيّا كما في الغنوصيّة الأفلاطونيّة، أو دينيّا كما في اليهوديّة الآسينيّة في القرن الثّاني قبل الميلاد، الّذين تجسّدت فلسفتهم في الزّهد والرّهبنة، والاهتمام بالرّوح، فلا يأكلون لحوم الحيوانات، وتخلص  هدى عليّ كاكه يي في كتابها "الغنوصيّة" أنّ "الغنوصيين المسيحيين الإسكندرانيين اشتركوا جميعا في ضرورة التّخلص من سلطان الأهواء، وتحرير النّفس، وقد وجدوا في اعتقادهم بالمسيحيّة إرضاء لحاجاتهم الرّوحيّة والعقليّة، وتأكيدا لانقلابهم نحو الغنوصيّة".4946 متى المسكين

وبما أنّ الأسكندريّة عاشت عالمين أو ثنائيتين: الغنوصيّة الفلسفيّة في صورها المختلفة الأفلاطونيّة والهرمسيّة والأبيقوريّة، والغنوصيّة اليهوديّة الآسينيّة، إلا أنّ مجيء المسيحيّة إلى الأسكندريّة مع  مار مرقس أو مرقص في القرن الأول الميلاديّ، وتعتبره الكنيسة الأرثذوكسيّة القبطيّة البطريرك الأول لهم، واستمر تقليدهم البابويّ حتّى يومنا هذا مع الأنبا تواضروس الثّاني ليكون رقم (118)، ولهذا يطلقون على أنفسهم بابا الإسكندريّة وبطريرك الكرازة المرقسيّة، والكرازة كلمة إنجيليّة بمعنى الدّعوة، والمرقسيّة نسبة إلى مار مرقس الرّسول.

هذه الثّنائيّة ارتبطت بالغنوصيّة الأولى، والّتي وجدت بعض نصوصها مع مخطوطات نجع حمادي، وبطبيعة الحال يصعب الحديث حول ثنائيتها هنا في الأديان والفلسفات الأولى، إلّا أنّها ظهرت مع الرّمزيات الغنوصيّة المسيحيّة الأسكندرانيّة في القرن الأول الميلاديّ، رغم أنّهم هرطقوا وفق قانون الإيمان المسيحيّ عموما، أو الأرثذوكسيّ خصوصا بعد مجمع خلقيدونيّة (451م)، حيث سوف تتشكل الكنيسة الشّرقيّة الأرثذوكسيّة القبطيّة اللّا خلقيدونيّة، والّتي ستصنف لاحقا ضمن اليعاقبة اللّا ملكيين، وارتبطت بالأسكندريّة روحيّا حتّى اليوم.

ومن أهم الرّمزيات الغنوصيّة الأسكندرانيّة في القرن الأول الميلاديّ باسيليدس، وتقوم غنوصيّته على على "الثّنائيّة بين الخير والشّر، وأنّ مصدر الخطيئة الهوى، وأنّ مصدره الخارج لا من الدّاخل، فعليه أن يتحرّر بحرمان النّفس من العديد من الطّيبات، فحرموا أنفسهم من الزّواج مثلا، فاقتربوا من ثنائيّة الزّرادشت، وتعذيب الذّات كما في البوذيّة".

ثمّ أتى بعده فالنتيونس وغنوصيّته تقوم على "ثنائيّة الرّوح والجسد، وثنائيّة الإله الخالق، والإله الخيّر الطّيب وهي بذرة الرّوح، وهناك وسط بينهما، تبث ما هو إلهي روحيّ، وبين ما هو ماديّ جسميّ، ولهذا صورة المسيح الجامعة بين الرّوح والجسد".

كذلك أتى بعد باسيليدس الغنوصيّ مرقيون ليقترب من ثنائيّة  باسيليدس، "فهناك إله العبرانيين خالق العالم، وهناك إله المحبّة، وهو الإله المجهول، وهو إله المسيحيين، وهو خالق العالم الرّوحيّ".

هذه الغنوصيّة القائمة على الثّنائيّة من جهة، وعلى وجود إله أو حالة في الوسط هي الّتي تتشكل لاحقا مع الروحانيين المسيحيين، ومن ثمّ مع العرفانيين أو المتصوّفة المسلمين، من خلال ثنائيّة الخير والشّر، والمتمثلة في الرّوح والجسد، ووسطيّة النّفس لتلتصق بالإله الأعلى وتحلّ فيه، ويحلّ فيها، فهناك طرف وسط بين الرّوح الأعلى والجسد الأدنى، تجسّدت لاحقا مع الإيمان المسيحيّ في ثلاثيّة الأب والابن والرّوح القدسّ، وغنوصيّا في الجسد والرّوح والنّفس، وعرفانيّا في الظّاهر والباطن والحقيقة، مع ثنائيّة الحرف والرّمز أيضا.

لهذا تشكل مع الأفلاطونيين والمشائيين والهرمسيين قديما، ومن ثم مع العرفانيين المسلمين نظريّة الإنسان الكامل أو الإنسان السّماويّ، النّظريّة القائمة على الخير والشّر من خلال الرّوح والجسد كما عند الرّوحيين، "فالرّوح خالدة لا تموت ولا تفنى بموت الإنسان"، وخالفهم الماديون الّذين يرون أنّ الإنسان هو "هذا الجسم وأجهزته، فيزول ويتلاشى من الوجود بالموت"، إلا أنّ الماديّة لم تخرج عن الثّنائيّة، كالفلسفة الأبيقوريّة القائمة على ثنائيّة اللّذة وهي الخير، والألم وهو الشّر.

ونظريّة الإنسان الكامل الّتي أول من استخدمها من المسلمين لاحقا محي الدّين ابن عربيّ (ت 638هـ/ 1240م)، واشتهرت عند عبد الكريم الجيليّ [ت 826هـ/  1424م] هي تطوّر وتشكل للغنوصيّة من خلال الثّنائيّة من جهة، ومن خلال حلقة ثالوث الوسط من جهة أخرى، ويجمل مرتضى مطهري [ت 1979م] في كتابه "أنسنة الحياة" أهم نظريّاتها إلى ثلاث نظريّات رئيسة: الأولى "النّظريّة العقليّة كما عند ابن سينا، ويرون العقل هو جوهر الإنسان، فالإنسان الكامل هو الإنسان الحكيم، أي الفيلسوف العاقل من خلال إدراكه لكليّات الوجود، ويدرك هيكل الوجود ليعثر على فهم أجزائه، فتكمل نفسه البشريّة عندما تنعكس صورة هيكل العالم في عقل الإنسان، فيكون عقله مضاهيّا للعالم العينيّ، وهذه الحكمة النّظريّة، وبها يرتفع إلى الحكمة العمليّة أي يهمين على غرائزه وقواه الجسمانيّة".

والثّانية نظريّة العشق أي العرفان والتّصوّف، ورقيّ الإنسان الكامل من خلال العشق أي الله، "ويبدأ البحث عن العشق عموديّا بالصّعود إلى المعشوق، ثمّ تستقر أفقيّا، وترتبط بالرّوح لتصعد إلى الخالق، ليصبح الإنسان الكامل هو الله متحدّا معه".

والثّالثة نظريّة القدرة، أي القوّة، "فالإنسان الكامل هو الإنسان المقتدر، وهذه مدرسة السّفسطائيين، والقوّة عندهم هي الحقّ، فعلى الإنسان الكامل بذل الجهد للحصول على القدرة والقوّة، وهذه ظهرت مؤخرا عند نيتشة بمعنى الإنسان الأعلى، وعند غيره الإنسان الأسمى".

نظريّة الإنسان الكامل تشكلت أيضا في تشكلات أخرى كاللّذة، أو الوعي، أو إدراك الذّات، ومدارها على الرّقيّ من الأدنى إلى الأعلى لتحلّ فيه، من خلال إدراك الوسط في ذلك، ولهذا سميت بالإنسان الكامل أو الأعلى أو الأسمى.

فلمّا نأتي إلى متّى المسكين من خلال كتابه "حبّة الحنطة"، وأصله كلمة ألقيت على الرّهبان بدير القديس أنبا مقار في مطلع الصّوم الأربعيني عام 1974م، ثمّ حوّل إلى كتيّب من الحجم الصّغير، وصدر في طبعته الأولى في ست وثلاثين صفحة عام 1977م، ومع صغر الكتيّب إلّا أنّه يلخص غنوصيّة متّى المسكين في فترة مبكرة من حياته، وهو ينطلق من إنجيل يوحنا الّذي ارتبط به، وهو إنجيل غنوصيّ، حيث ينطلق من آية: "من يحبّ نفسه يهلكها، ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية" [يوحنّا: 15/25].

ومتّى المسكين يدور بين ثنائيّة الرّوح (الخير/ الأعلى) والجسد (الشّر/ الأسفل)، مع وسطيّة النّفس، "والنّفس موضوعة بين الجسد والرّوح .... فهي إمّا أن تتحد مع الجسد وتتعاطف معه ضدّ الرّوح، وإمّا أن تتحد مع الرّوح وتتعاطف معه ضدّ الجسد، وهكذا تكون النّفس إمّا جسدانيّة وإمّا روحانيّة"، "والنّفس تصدر عنها العواطف، وتحوي الحياة الجسديّة"، "والذّات هي النّفس"، "والذّات تتحصن داخل الجسد".

أمّا "الجسد بشهواته وغرائزه مخلوق أصلا على غير فساد، ومهيأ ليخضع لقانون الرّوح، وينضبط بالرّوح دون أن يفقد شيئا من شهواته وغرائزه الطّبيعيّة"، لكنّه "هو الموت والفناء"، ومركز الغرائز والشّهوات.

وأمّا الرّوح "هي نفحة من الله، وهي الّتي تجعل الجسد حيّا"، والرّوح "تستقبل التّأثيرات، وتعبّر عنها، وتتصل بالله وتحبّه"، "وتستمد قوّتها وطاقتها من الرّوح القدس مباشرة".

لهذا "هناك صراع بين الرّوح والجسد من جهة، وبين الرّوح والنّفس المنحازة إلى الجسد، لهذا على الرّوح أن تتحرّر من سطوة الجسد، وتتحد مع النّفس، حتّى لا يكون مداره النّفس المتحدة بالجسد، وإنّما النّفس المتحدة بالرّوح"، لهذا تدور النّفس بين ثنائيّة الأبديّة والفناء، "فتتحقّق الحياة الأبديّة إذا انحازت النّفس إلى الرّوح"، أمّا إذا التصقت بالفاني – أي الجسد – تفنى، وإن كانت حيّة في ظاهرها.

وعليه "النّفس هي العدو الّذي يقف ضدّ خلاص الإنسان إذا ارتبطت بالجسد، فعليها أن تتحرّر بالرّوح"، لكن "لا يمكن الجمع بين حريّة النّفس المتعاهدة مع الجسد، وبين حريّة الرّوح المتحدة بالرّوح القدس، فعليه أن يتحرّر من حريّة الخطيئة ليخلص بالرّوح"، وهنا يربط متّى المسكين الخطيئة بالوصايا العشر.

وهنا أيضا تظهر نظريّة الإنسان الكامل عند متّى المسكين لتكون أقرب إلى نظريّة العشق أو الصّعود من الأسفل إلى الأعلى،  ويرى أنّ طرق التّرقي أو الصّعود الرّوحيّ تبدأ من لحظة الميلاد من خلال المعموديّة حيث يمتزج الجسد بالماء، والماء رمز للروح، ثمّ التّوبة من الخطيئة [تطوّر لاحقا إلى سر الاعتراف وهو نوع من إيذاء النّفس لتخلص من أنانيّة الجسد]، وأرقى التّرقي محاصرة الذّات [أي النّفس] من خلال كبتها وإبطال سلطانها، ثمّ تجريدها وإماتتها.

وإبطال وكبت الذّات ليس سهلا؛ لأنّ "أخطر منطقة هي المنطقة بين النّفس والرّوح، حيث تختلط على الإنسان أعمال النّفس بأعمال الرّوح، في هذه المنطقة يعسر كشف العمل النّابع من النّفس، المستمد من الذّات والجسد والهوى، وبين العمل النّابع من الرّوح المستمد من الرّوح القدس"، لهذا "هناك منطقة بين الرّوح والنّفس وهي الضّمير، فهو بالرّوح يدرك حقيقة النّفس وغرورها وكبريائها".

وعليه عمليّة التّرقي تتحقّق "لمّا تبدأ بالرّوح في الإنسان حيث يبدأ الضّمير بالاستجابة لفعل الرّوح، فتتحرّك الرّوح داخل الجسد وتنمو وتتشدّد وتتقوّى، فيبدأ الجسد العتيق في التّقهقر، فتشتد الإرادة الرّوحيّة على الإرادة الجسديّة، فتبدأ أعمال الجسد والشّهوات بالخمول"، وهنا يحدث الاتّحاد مع الرّوح القدس علويّا لا التّجسد، فالاتّحاد من الأسفل إلى الأعلى.

هذه الصّورة الغنوصيّة عند متّى المسكين القائمة على الثّنائيّة والوسط، ثم رقي الإنسان الكامل أو الإنسان الرّوحي، هي حالة أقرب إلى الغنوصيّات الأرثذوكسيّة في الجانب العرفانيّ والصّوفيّ في اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، وإن كان لها مقارباتها أيضا في الأديان والفلسفات الأخرى، إلّا أنه بقدر ما يكون هناك من تقارب في مدارها؛ في المقابل تتعدّد في رؤيتها وصورها وتشكلاتها.

***

بدر العبري – سلطنة عُمان

...............

المراجع (غالب النّصوص نقلت بتصرّف):

حبّة الحنطة، متّى المسكين، مطبعة دير القدّيس أنبا مقار، مصر/ القاهرة، الطّبعة الحادية عشرة، 2019م.

أنسنة الحياة في الإسلام، مرتضى مطهري، ط دار الإرشاد، لبنان/ بيروت، الطّبعة الثّانية، 1441هـ/ 2020م.

الغنوصيّة، هدى عليّ كاكه يي، ط دار قناديل، العراق/ بغداد،  الطّبعة الأولى، 2021م.

الغنوصيّة وتأريخ الأديان، دافيد جي روبرتسون، ترجمة: محمّد عبد الله، ط آفاق المعرفة، السّعوديّة/ الرّياض، الطّبعة الأولى، 1444هـ/ 2022م.

لو بحثت عن فندق في دبي أو لندن مثلاً، فربما «تتعثر» بفندق يكلف عشرة آلاف دولار في الليلة. لكني وجدت هذا الأسبوع فندقاً مخصصاً لضيف واحد مع مرافقيه، يكلف خمسين ألف دولار فقط. نظرياً أستطيع أنا وأمثالي وكل شخص آخر، أن يتفرج على هذا الفندق أو ذاك. لكن هل يستطيع تدبير الخمسين ألفاً الضرورية كي ينام فيه ليلة؟

بعبارة أخرى، فإنَّ فندق الخمسين ألفاً يمثل فرصة متاحة لكل الناس. لكن كم من الناس يستطيع الإمساك بهذه الفرصة؟

توضح هذه القصة مقولة طريفة، تنسب للسير جيمس ماثيو (1830 - 1908) وهو قاضٍ آيرلندي، يقول إن «القانون في إنجلترا مثل فندق الريتز، مفتوح للجميع»... فرد عليه أحدهم: «لكن كم عدد الأشخاص الذين يستطيعون العشاء في الريتز؟».

اشتهرت هذه المقولة وكثر الاستشهاد بها في نقاشات العدالة الاجتماعية، لا سيما في سياق المقارنة بين الإصلاح على المستوى القانوني، ونظيره في الحياة الواقعية. نعلم أن غالبية النظم القانونية تقر بأنَّ جميع الناس سواء في استثمار الموارد والفرص المتاحة في المجال العام، وأن هذا هو المعنى الأساسي للعدالة الاجتماعية. لكن شتان بين هذه الفرضية الجميلة، والواقع المليء بالعقبات والصعوبات. دعنا نأخذ مثالاً؛ العاصمة البنغالية داكا، التي يعيش 50 ألفاً من سكانها بالشوارع، بلا بيوت ولا وظائف ثابتة. يرجع هذا الرقم إلى عام 2007، وتقدر تقارير البنك الدولي أنَّه كان يزداد بشكل سنوي، أي أنَّنا نتحدَّث عن ضعفي هذا العدد على الأقل، في الوقت الحاضر.

على مستوى القانون، يملك هؤلاء الفقراء جميعاً حقَّ الوصول إلى أي منصب حكومي، وخوض الانتخابات لدخول البرلمان، والحصول على قروض من البنوك... إلخ. فهل يستطيع أي منهم أن يحول تلك الحقوق إلى واقع؟ هل يستطيع أحدهم تدبير الأموال اللازمة للإنفاق على حملة انتخابية، أو المؤهلات الضرورية لتولي أي منصب رسمي، أو الإسناد اللازم للحصول على قرض مصرفي؟

هذا يشبه السؤال المتعلق بفندق الريتز: هل يتمتَّع الشخصُ المفلس - مثل نظيره الثري - بالحرية في تناول عشائه في الريتز؟

هل نقول «لا» لأنَّه - في واقع الأمر - لا يمكن لشخص مثله أن يتعشَّى في الريتز (على الأقل لن يفعل هذا لأنَّه لا يملك المال اللازم لذلك العشاء)؟ أم نقول «نعم»، لأنَّ العائق الوحيد الذي حال بينه وبين الريتز، افتقاره إلى الموارد المالية، وليس أي عائق خارجي، مثل رفض مالكي فندق ريتز دخوله لتناول الطعام فيه؟

هذا التباين دفع كثيراً من دارسي التنمية والاقتصاد، للتوقف ملياً عند نقاط التفارق بين الفرص التي يتيحها القانون، والإمكانية الفعلية لاستثمارها من جانب الناس العاديين. وهو تفارق دفع بلداناً عديدة للتركيز على الأدوات القانونية والاقتصادية، التي تجعل تلك الموارد متاحة واقعياً لعامة الناس. السبب في هذا هو اكتشاف الاقتصاديين لحقيقة كانت مهملة، وخلاصتها أنَّ الاقتصاد الوطني يزداد حركية وإبداعاً، كلما ازدادت نسبة المستثمرين الصغار. خلافاً لتصور قديم فحواه أنَّ الاستثمارات الضخمة هي الاقتصاد الحقيقي.

تأكيداً للفهم الجديد، يذكر مثلاً أنَّ صناعة الطائرات المسيرة في الصين تضم نحو 7 آلاف شركة، جميعها تقريباً حديثة التأسيس، ونصفها مملوك لشبان لا ينتمون لعائلات تجارية، وتصنف كشركات صغيرة أو متوسطة الحجم. ويقدر أن تصل مبيعات هذه الشركات إلى 10 مليارات دولار في العام الحالي، الأمر الذي أعطى الصين حصة تقارب نصف السوق العالمية للمسيرات.

جوهر المسألة إذن هو مفهوم «التمكين»، أي قابلية العدد الأكبر من الناس، لتحويل الفرص والموارد المتاحة في المجال العام، إلى مكاسب مادية. التمكين هو مفتاح النهضة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية معاً.

***

د. توفيق السيف - كاتب ومفكر سعودي

 

إنَّه المونديال! الحدث الكوني الاستثنائي الذي يشبه حَجَّاً موسمياً لطائفة دينية كبرى، أو أكثر أعيادها قُدسيَّة. تاريخياً، كانت للأديان قدرات هائلة على حشد جموع مؤمنة، واستثارة العواطف إلى أقصى ذروتها. لكن، وفي عقود قليلة، راحت لعبة كرة القدم  تثبتت - بما توفره من إمتاع مبهر- أن لها إمكانات مماثلة. لا أحد يجادل في أن التديُّن غير اللعب. الفعل التَعبُّدي منضبط، جاد، مصيري، ولا مكان فيه للارتجال. أما فعل اللعب فهو أرضي، منفلت، لاهٍ، وابن لحظته. مع ذلك، فنحن أمام مشهد لطقوسية ليتورجية في الحالتين. وفي إمكان المتتبع أن يجد أيضاً لحظات تاريخية جمعت الاثنين معاً، من غير أن تتسبب لأحدهما بالحرج. كانت الألعاب الأولمبية عند اليونان مثلاً تأخذ صفة دينية، فتقام باسم زيوس، كبير آلهة جبل الأوليمب.

مع كرة القدم لم يعد العالم مثلما عرفناه في أي وقت من أوقاته. كانت في أول أمرها لعبة بريئة ممتعة، بعيدة تماماً عن ألاعيب أهل السياسة والمال، أولئك الذين سيختطفونها لاحقاً. حتى أن بعض الكنائس شجَّعت على ممارستها، وجدت فيها نشاطاً نافعاً، يُسلِّي الصبية والشباب، ويصرفهم عن محرمات كثيرة. سرعان ما ستصبح الشغل الشاغل لفئات كبيرة من الناس. تشكَّلت فرق، ومنتخبات تمثل هويات فرعية، وأخرى وطنية. وراح محبو اللعبة يؤسِّسون روابط  تشجيع تشبه الأخويات، ويتبعون فرقهم أينما حلَّت. أقيمت البطولات وفقاً لجداول ومواسم هي أشبه بروزنامة مناسبات دينية، وستعمل على نقل مجرياتها فضائيات مشفَّرة لمشتركيها فقط، فما كان مجرد لعبة غدا استثماراً يَدرُّ المليارات. أما الملاعب فقد أخذت تُبنى بأبهة معمارية باذخة، وتتزايد كفطر شيطاني لتنافس وظيفة المعبد. لنتذكر أن الدخول لفضاء أمكنة العبادة مجاني، أما حضور مباراة مهمة بكرة القدم فيتطلب شراء تذكرة بمبلغ مالي كبير، مع شيء من الحظ السعيد أحياناً.

هل ثمة  دين يرقب ذروة طقوسه مليار من البشر، مثلما يحصل مع المباراة النهائية لكأس العالم؟ في الواقع، كرة القدم اليوم هي المنافس الأكثر خطورة لرأسمال الدين. لا تكتفي باللعب في ساحتها، بل تذهب في نزقها بعيداً، "تتسلل" إلى منطقته بمكر بالغ لتسرق منه أتباعاً مفترضين، مع أن مرماه مُحَصَّن بحراس عقائديين في منتهى الصلابة. مهاراتها في المراوغة تدفعهم للقلق، فلا غرابة في أن نجد بعض رجال الدين، شرقاً وغرباً، ومن مختلف الديانات والطوائف يحذرون من شرورها، من ملابس لاعبيها غير المحتشمة، من إلهائها للناس عن أوقات الصلوات (سابقاً، كان المباريات لا تُقام يومي السبت والأحد)، من المبالغة في الاحتفاء بنجومها، برغم أن فيهم من يرسم على جبهته شارة الصليب حين يحرز هدفاً، أو يؤدي سجدة شكر لله. وسيتم التركيز على تفاهة جوهرها أصلاً:" مجرد قطعة جلد مكورة تتقاذفها الأرجل". حتى أن بعضاً من أولئك ذهب بعيداً في محاربة شعبيتها الكبيرة إلى حدَّ الإفتاء بتحريمها.

لا تمتلك كرة القدم ما يختزنه جوهر الديانات الكبرى، أي القدرة على تقديم إجابات تريح الإنسان من قلقه الوجودي أمام المصير المجهول. لكنها تقدم له كل ما سوى ذلك مما توفره الديانة. صارت ديناً ببلاغة أقدام أساطيرها. شيئاً فشيئاً تمكنت الساحرة المستديرة من أن تغدو ملاذاً يلجأ إليه المرء من واقعه المتردي، من مخاوفه وخساراته. ستمنحه مزاولته أو متابعته للعبة فرصة أن يعيش تجربة حياتية مختلفة، فيها قدر كبير من الحرية المفتقدة بسبب الضبط الاجتماعي. أي أن يختبر الإنسان دون خجل، وفي غضون تسعين دقيقة فقط جميع أشكال المشاعر والانفعالات المكبوتة، يضحك بصوت مُجلجِل، يرقص بمنتهى الصخب، يبكي بحرارة، يغضب بهستيريا أحياناً، ويسب ويشتم بلا شعور بالإثم.

إذن، فأقدام نجوم اللعبة لا تتلاعب بقطعة جلد مكورة في الحقيقة، بل بأعصاب ومشاعر بشر حقيقيين أسقطوا عليها رغباتهم ومخاوفهم مثلما يفعلون ذلك في المعابد. إن المريدين، أياً كانت صفتهم، سواء أكانوا في معبد أم ملعب يمكن أن يتحلوا بالغفران والمسامحة، ب"روح رياضية" في عبارة أخرى، مثلما يمكنهم انتاج العنف، ومشاعر العنصرية، والتعصب ضد الآخر. السؤال الجوهري هنا هو عن ظروف حياتهم التي يعيشونها، فهي من تدفع بهم لتبني هذا السلوك أو ذاك. سؤال الحرية أم الاستبداد، الرفاهية أم الفقر، التحضر أم التخلف. هنا تكمن المشكلة.

مارادونا: الإله البشري

إن الحلم الجميل الذي بشَّرت به أغلب الديانات، راحت تُبشِّر به الرياضة "العلمانية" أيضاً. وكثيراً ما يؤكَّد أقطاب كرة القدم أنها نجحت بجعله واقعاً، بتنوع أبطالها وجمهورها فوق المستطيل الأخضر، وعلى مدرجات الملاعب، وخلف شاشات العرض، حيث الشغف بفن الكرة يوحِّد بين الأغنياء والمُشرَّدين، والكبار والصغار، والنساء والرجال، وذوي البشرة البيضاء والملوَّنين. الكل يتلو صلواته بحماس روحي، ويقدم قربانه المُكرَّس للفوز بكأس صعبة المنال، سواء تم الظفر بها بفضل المهارة والتفاني، أم بخطايا الغش والاحتيال. ألم يصفق العالم كله - باستثناء الإنكليز - لخديعة الساحر دييغو أرماندو مارادونا حين سجل هدفاً بيده في مرمى إنكلترا، في الدور قبل النهائي لمونديال العام 1986؟  مونديال أحرزه للأرجنتين دييغو مارادونا بمفرده. كانت تلك أشهر خدعة في تاريخ اللعبة. سيقول عنها مارادونا، حين يُسأل إن كان قد سجل الهدف بيده أم لا: (لم تكن يدي، بل يد الله)! من لا يتذكر هدفه الآخر في المباراة نفسها، والذي أعتبر أجمل هدف في التاريخ؟

كان الفتى الذهبي، قصير القامة، وابن الأحياء الفقيرة شخصية محبوبة، حقق مع الناس صلة لا مثيل لها، وليست عبقرية موهبته الكروية الفذة سوى واحدة من أسباب ذلك التعاطف النادر. كان عفوياً ومتواضعاً، مرحاً بروح طفل، حتى بعد أن أصبح أسطورة، وحاصره  صخب الشهرة من كل جانب. يسأله أحد الصحفيين: هل أنت معجزة؟ فيرد مبتسماً: راكيل ولش هي المعجزة. كان مارادونا يسارياً أيضاّ، كارهاً لأميركا، وصديقاً مناصراً للكوبيين والفلسطينيين. يساريته تلك ستقوده إلى انتقاد البابا يوحنا بولس الثاني نفسه، وسيدعو إلى بيع السقوف الذهبية للفاتيكان، من أجل أولئك الذين يتضورون جوعاً. باختصار، أدى الفتى الذهبي الذي لم يتنكر لأصوله المتواضعة دور من لا يملكون أي دور في الحياة، وجسَّد وعداً جميلاً بإمكانية تفوق المُهمَّشين في عالم صار أكثر تعقيداً وظلماً من ذي قبل.

ربما لا يعلم أكثرنا أن ديناً جديداً قد تأسَّس في العام 1998. دين كرة القدم. نعم. صارت اللعبة ديانة لها أتباع يبلغ عددهم ما يقرب من مئتي ألف. وهم قد اختاروا مارادونا ليكون إلهاً لهم، برغم أن له سمعة سيئة أيضاً، لحقت به لأسباب كثيرة: إدمان المخدرات، علاقات نسائية صاخبة، أبناء غير شرعيين، صداقات مع حكام مستبدين، بدانة مفرطة...إلخ. مهما يكن، فذنوب الأبطال مغفورة عند محبيهم. هذا إن تم الاعتراف بأنها أخطاء أصلاً.

إنَّ للكنيسة المارادونية المعروفة باللغة الإسبانية ب(IglesiaMaradoniana) أعيادها، وتقويمها الخاص، ووصاياها العشر أيضاً، وجميعها مستمدة من حياة مارادونا، كالاحتفال  مثلاً بيوم الثلاثين من أكتوبر، الموافق ليوم ميلاده، وباليوم الثاني والعشرين من شهر يونيو، ذكرى تسجيله للهدفين في مرمى إنجلترا.

حتى إن كانت هذه الديانة مجرد "باروديا"، ديانة تهكُّميَّة تقلب الوصايا العشر الشهيرة (لا تدنس الكرة. أحبب كرة القدم قبل كل شيء. أعلن عن حب غير مشروط لدييغو. انشر أخبار معجزات دييغو في جميع أنحاء العالم....) فإن الكثيرين من محبي  مارادونا في الأرجنتين، كما في مدينة نابولي الإيطالية التي لعب لفريقها المحلي وجدوا في ذلك الفوضوي المشاغب قديساً أنجز شيئاً خارقاً. نحن نعرف أن الدين الشعبي بطبيعته يبحث عن معجزات، عن بطل يشبه عامة الناس، لكن في مقدوره أيضاّ أن يحقق لأتباعه ما هو فوق الممكن (الإعجازي) في الحسابات الواقعية. هذا بالضبط ما منحهم إياه أعظم من داعبت قدماه/ يداه كرة القدم. أمتعهم مارادونا بفنونه، أهدى لهم الفوز بكؤوس أغلى الألقاب الكروية، فقابلوه بتبجيل رفعه لرتبة القديسين. صار مسيحهم المُخلص. وبحسب الكاتب الأورغواياني إدواردو غاليانو – وهو أفضل وأروع من كتب تاريخاُ للمونديال، ولكرة القدم عموماً - فإن مارادونا هو "أكثر الآلهة بشرية". يعود السر في ذلك لما ذكرناه قبل قليل عن طبيعة تَمثًّلات صورة البطل المُعبِّر عن الهوية في المتخيل الشعبي. هكذا. وبرغم الهالة النورانية، وتَجلِّيه مبتسماً بسلام روحاني سماوي، كما تُظهر ذلك بعض اللوحات الشعبية التي تنتج صورة مسيحها وقديسيها بطريقتها الخاصة، يبقى مارادونا مرتدياً تحت عباءة القديس ما يذكر بالهوية، قميص منتخب بلاده.

ما وراء الكؤوس: مونديال قطر

تحلم جميع دول العالم بالترشح لنهائيات المونديال. تريد الظفر بكأسها، أو بشرف تنظيم البطولة على أراضيها، وتفعل في سبيل ذلك كل شيء. حرصها هذا يذكرني بحمى البحث عن الكأس المقدسة (Holy grail)، تلك التي سعت للحصول عليها شخصيات نافذة، وأخويات شهيرة على مدار قرون: فرسان الهيكل، وفرسان الطاولة المستديرة، عدد من بابوات الفاتيكان، وأباطرة أسطوريون مثل الملك آرثر. لقد ألقت بسحرها لا على الملك فرديناند الأول فحسب، بل على آخر من يمكنه الإيمان ب"ملك اليهود"، هاينريش هملر، اليد اليمنى لهتلر، وقائد أجهزته الأمنية المرعبة. كان هملر قد ذهب سراً للبحث عن الكأس المقدسة في أقبية دير مونتسيرات قرب برشلونة. لم لا؟ ما دامت الكأس المقدسة هي "الإكسير"، حجر الفلاسفة الذي يهب الشباب الأبدي، ويمنح من يلمسه قدرات خارقة، لأن المسيح استخدمها في العشاء الأخير، ثم جُمِع بها دمه المقدس من قبل يوسف الرامي. فما أسهل أن تجلب النصر لألمانيا في الحرب العالمية الثانية. بعدها، بالتأكيد، لن يصعب الادعاء بأن المسيح كان نبياً آرياً بشعر أشقر.

لكن ما لا يمكن للدول أن تكسبه بكأس أسطورية لم يعثر عليها أحد منذ ألفي عام يمكن أن تحصل عليه بكأس ذهبية حقيقية ولدت في العام 1930 على يد الفرنسي جول ريميه. كأس لا تتعدى تكلفتها المادية العشرة أو العشرين مليون دولار. مع ذلك، أنفقت دولة قطر من أجل استضافة بطولتها مليارات مهولة من الدولارات. تلك الدولة الثرية، ذات المساحة الصغيرة، وعدد السكان القليل تعرف جيداً – مثل غيرها – القوة الرمزية لكرة قدم. لم يكن يهمها أن يخرج فريقها الوطني من الدور الأول خاسراً مبارياته الثلاث، مع أنه يلعب فوق أرضه، ولا يعنيها نقد يلح على التذكير بالدولارات المتساقطة من جيوب جوزيف بلاتر، (ربما كان مبعث بعض من ذلك النقد هو الحسد، لا غير) يمكنها أن تمتص أيضاً كل ما يثار عن ملف استغلال فقراء العمالة الرخيصة، أولئك الذين مات منهم المئات، وهم يبنون تحت ظروف صعبة ملاعب عملاقة لن يعود لبعض منها وجود بعد انتهاء المونديال الأغلى في التاريخ. في عالم السياسة يتوقف كل شيء على ما تمليه المصلحة، ويتم قياس جميع الأمور بالنتائج لا الوسائل. الأكثر أهمية بالنسبة لقطر هو أن تحافظ على وجودها ضمن محيط جغرافي غير آمن بالمرة، وبين جيران أقوى وأكبر منها بكثير.

كانت قناة الجزيرة بما أثارته من جدل كبير خطوة قطر المبكرة لترسيخ أقدامها في عالم تعيد تشكليه هيمنة الإعلام بتقنياته الجديدة. وها هي اليوم ترسم بالقوة الناعمة، ببركات كأس المونديال وشماً في ذاكرة العالم، تاريخاً سيبقى يُذكِّر بها على الدوام (مونديال قطر)، لأنه سيعني في الوقت نفسه أشياء كثيرة لمئات الملايين من محبي كرة القدم في شتى أرجاء العالم، وسيجعل جيرانها الكبار يراجعون حساباتهم  ملياً قبل التفكير بأيِّ تحرك ضدها. خطة قطر خطة قديمة، برغم كونها ناجحة. كل ما في الأمر أن السياسة وظَّفت هذه المرة ديناً جديداً.

**

عباس عبيد

أكاديمي وباحث من العراق

ايهما اجمل أن تكتب أو أن تقرأ؟ وايهما أهم أن تناقش أو تنقد؟ وايهما الأفضل أن تحاسب أو تبدع؟ أسئلة جديرة بالتفكر في عالم الثقافة والنقد والابداع الثقافيين..الجدير بالذكر أننا في منطقة تدمن الصراع الثقافي ولم نصل بعد لمرحلة القراءات النقدية حتى لا نتسرع ونقتحم حقول النقد الثقافي..

القيمة المضافة في الكتابة والقراءة تتحدد عندما يستطيع كل من القارئ والكاتب تحمل بعضهما البعض بتعبير بول ريكور الذات عينها كآخر، هنا الوردة هنا لابد من القفز  الفكري نحو التعاون الإبداعي فالكتاب والأدباء والشعراء والفلاسفة وأهل كل فن ينتجون صور وتمثلات وقراءات ورموز وقضايا ومصالح وقبل ذلك كله أفكار وينتهي الأمر بدوائر سقوط حجر في الماء!!

 منذ الأزل الفكر الإنساني متراكم وجدلي يبقى محل جدوائية  كل ما ينتجه في معيار القيم الإنسانية الكونية، حيث الماهية والهوية والحرية  تنتظم في معادلة التعاون الإبداعي للكرامة الإنسانية..

نختلف عن بعضنا البعض لكن واجبنا الوجودي أن نستفيد من مهارات كل منا ولا نبخس الناس أشياءهم ومضمار الحياة ليس النقد الهدام وإنما النقد العلمي البناء الذي بالنهاية يشعر كل منا بالعدالة التي تبقى نتاج التفهم وليس الحكم المسبق والتسامح وليس تبادل التهم والأحكام والحوار الموضوعي المنظم وليس الجدال العقيم وعليه التعايش بالتعاون لإبداع النفع العام كصورة مشرقة للعدالة، حيث الثقافة بشتى موجاتها واشعاعاتها هي محضن النباهة والرحمة والحضارة الإنسانية..

والنقد كعملية ثقافية-معرفية، هو عبارة عن فحص لكل ما هو سائد في سبيل واقع آخر مضاد له وفقا لنموذج أو تصور مستقبلي. "فالنقد يعني: الفحص والاختبار ووضع كل شيء في ميزان العقل والاحتكام إلى معاييره ".

وعليه الكتابة أو القراءة كلاهما نسق ثقافي، معيار التناسب بينهما هو التفكر العميق والعلمي الرصين حتى لا نظلم بعضنا البعض، ولكي تكون لقاءاتنا الثقافية ورشات تؤسس لدينا فن الإبداع النقدي كتابة وقراءة وترجمة في حركة الواقع الاجتماعي..

بالمختصر: عندما نتسامح فكريا سنتعلم الحوار وبعدما نتحاور بقيم سنتعايش بقوة ونتعاون بإتقان ونبدع بإحسان..غير ذلك سيظل دوائر لغوية وخطابات خشبية ومواقف جاهلية تزيدنا بعدا عن النقد العادل.. تعالوا الى كلمة الطيبة التي تفتق النقد الثقافي في كل فعالياتنا وتصنع الإبداع الثقافي المؤثر في الواقع، لأن الثقافة تهندس شكل الحياة الخاص وتخصص الهوية الذاتية، وهي التي تترجم الجذور في المكان والزمان وتعكس حمولات التراث، كما انها تفتح أمام الذات والآخر إمكانيات وآفاق التعارف مع صور الإبداع الإنساني عبر العالم.. 

تعالوا لفك النزاع بين منحنيات الثقافة وتضاريس المجتمع ومطبات الذاكرة والتاريخ، كي نتعاون في رسم معالم مستقبل أفضل لهويتنا الثقافية بعيدا عن الفوضى والهوان ونكوص الوعي الثقافي..و مهما اختلفت الأفهام وكان الإنسان أكثر شيء جدلا يبقى التعارف أساس الإبداع..

***

بقلم: أ. مراد غريبي

خلال معرض أحداث الحياة من حولها، تسلك فئة من الناس سلوك الغريب عنها غير المعني بها، هذه الفئة لا تحزن لموت ولا تفرح لولادة، تعيش كـأنها بلا روح. وبما  أن تعبير الإنسان عن ذاته هو استجابة تلقائية لما يخالجه، فإن طمس التفاعل الصادق هو قمع للتدفُّق الطبيعي لصوت الذات الداخلي. إن تكرار هذا الكبت يؤدي إلى إضعاف الذات شيئا فشيئا حتى إخراسها.

يرى عالم النفس النمساوي “بول فرديناند شيلدر” Paul Ferdinand Schilder"  وهو تلميذ فرويد وأحد الآباء المؤسسين لعلم النفس الجماعي، وهو مجال بحثي يدرس وضع الفرد في سياق الجماعة، يرى شيلدر أن “درجة الاهتمام التي يتلقاها الشخص في طفولته شديدة الأهمية” وتبعا لذلك فإن افتقار الطفل إلى القبول التلقائي والمحبة والعناية في سنوات طفولته المبكرة تجعله يتحرك بعيدا عن ذاته، ويوجِّه كل طاقته نحو ما يجب عليه أن يكونه لا نحو ماهو نابع بالأساس عن حقيقة شعوره.

إن محاولة فهم هذه الفئة من الناس التي حرمت من المحبة الخالصة في فترة الطفولة يقودنا إلى ملاحظة في غاية الأهمية وهي الانسحاب العاطفي* Emotional withdrawal لهؤلاء الأفراد، أي عدم قدرتهم على أن يكونوا منفتحين بشأن عواطفهم مما يضطرهم للهروب نحو طمس هذه العواطف، ذلك أن الوعي بالذات الأصلية المكروهة يثير لديهم الاضطراب والقلق والصراع الداخلى (لعدم قبولهم وإهمالهم أثناء فترة الطفولة)، وهو ما يقودهم إلى الاتجاه نحو حياة أكثر أمنا، لا تعبِّر عن الذات لكنّها تضفي طابعا مثاليا متوهّما عنها، حياة تسميها “كارن هورنى” Karen Horney وهي محللة نفسية ألمانية يُعزى لها الفضل في تأسيس علم النفس النَّسوي، تسميها “الحياة السَّطحية”، حياة يتم التخلص فيها من عبء الالتزام بالذات المكروهة، وصرف كل الاهتمام إلى العمل أو الوظائف التي تشغل الوقت وتكون بمثابة التخدير للتخلص من خبرة الاضطراب والقلق  الأساسي **  Basic Anxienty،   هذا القلق الذي نشأ منذ اكتشاف الطفل لعجزه في مواجهة الكبار، ومع تقدُّمه في العمر يسعى صاحب هذه الشخصية إلى توجيه كل الطاقة إلى محاولة قهرية لتحقيق الذات والثأر لها بتدمير الاحتقار والكراهية التي مورست عليه.

فكيف بتعامل صاحب الذات السطحية مع الآخرين؟

إن وجود الآخرين في حياة صاحب الذات السَّطحيَّة لا يعدو أن يكون سوى رمز خارجيّ، أي مجرد مرآة تشعره بوجوده فهو يختبر من خلال الآخر هويته المثالية والتي بذل كل الجهد في بنائها، دون أن يكون لوجود هذا الآخر قيمة مستقلة أو منفصلة فما إن يتوقف عن أداء وظيفته أو دوره بوصفه انعكاسًا إيجابيًا للذات السطحية حتى تنهار علاقته به.

ولكن البحث عن الشركاء / المرآة يظل مستمرا لأنهم مصدر يمده بالطاقة الضرورية ليحيا، حياة الازدواجية.

ظاهرة الازدواجية هذه انتقلت من كونها ظاهرة فردية لتصبح سمة من سمات المجتمع الذي انسحب من الواقع ليستعرض نفسه في عالم إفتراضي.

لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي مجالا  تتمظهر من خلاله الذات “المثالية” السطحية لتستتر وراءها ذات مقهورة خبأت أصالتها وشجاعتها هروبا من القهر والكبت.

وتنشد الذات السطحية التـأقلم حد الكمال مع كل ما هو مثالي وتقليدي، نشاهد مثلا صورا وهمية لأشخاص مثاليين أخلاقيا ولكنهم في الحقيقة انتهازيين أو متحرشين، يلبسون أقنعة تغطي وجوههم، وهي وسيلتهم للتّعويض عن الذات الأصلية / الحقيقية التي فشلت في التعبير عن نفسها ومن ثمة مواجهتها وعلاجها.

هذا ما يصعب معه -ونحن نتشارك الحياة مع الناس- الانتباه إلى هذه “الذات المثالية” التي يكون ظاهرها سكونا أما باطنها فكبت للتفاعل الصادق مع الوجود..قد لا ننتبه لأننا نمر مرور الكرام .. أن نكون كراما فهو أمر محمود أما أن نمر مرور الكرام على ما يدور حولنا فهو أن نرى الوجود بعين من لا يبغي منه سوى مجرد العيش ..نركض مع الراكضين دون أن نتوقف لنتساءل، ولكن يحدث أن نتوقف لسبب أو لآخر.. نتوقف فنرى زحاما..لا نشاهد رؤوسا..بل أجسادا رؤوسها أصفار مختلفة الأحجام …مربك جدا مشهد الزحام الذي تتحول فيه رؤوس البشر إلى أصفار..

ماذا لو ترد الطفولة لكل صفر منها ليمنح خلالها القبول غير المشروط لذاته والحب اللازم والعناية بفرديته لينشأ سويا معافى…

مستحيل أن يعود الزمن إلى الوراء ..مستحيل أن نرى زحاما ولا نبصر أرقاما مقيَّدة في غرف مغلقة دون خيار أو حركة..هذه الغرف قد يلزمها التهوئة ولكن ما تحتاجه أكثر هو مفاتيح لفك إغلاقها، هذه المفاتيح هي حتما بيد المختصين.

أن يتشارك الإنسانُ مع الإنسان وينخرط معه في بناء حياة أفضل قوامها الاهتمام المتبادل والتعاطف والتآزر والإيثار هو أرقى ما تتطلع إليه الإنسانية، ومع انتشار مفاهيم من قبيل الأنانية والتمركز حول الذات واللاجدوى ومديح الخسارات يبدو من المهم أن تتوقف لنتمعن فيما يقوله الطبيب النفسانيّ والفيلسوف الاجتماعي الفرنسي” فرانز فانون” Frantz Fanon في حديثه عن الإنسان:

”يجب أن نفتح صفحةً جديدة، يجب أن نكتشِف مفاهيم جديدةً وأن نحاول خلق إنسانٍ جديد”.

***

درصاف بندحر - تونس

 

ذكرى نافعة

تَخيَّل نفسك وأنتَ في قاعة امتحان، حيث الفضاء مليء بالتوتر، وبالهدوء المريب، إلا من صوت خطوات الأساتذة المراقبين، يرصدون أية حركة، وهم يذرعون القاعة جيئة وذهاباً، بين صفوف الكراسي التي أعيد ترتيبها. أكف ترتجف وهي تكتب الإجابات، وحبات عرق تتساقط، ودقات قلوب تكاد أن تَسمعَ صوت رعبها وابتهالاتها في آن واحد.

 دعوني أحدثكم عن ذكرى قديمة، فربما ستجعل موضوعنا هذا أكثر فائدة. لا أعرف بالضبط من الذي أوصل إلينا يوم كنا طلبة في المرحلة الابتدائية تلك الجملة المثيرة التي تقول: (إن خوض معركة أهون عندي من الدخول إلى قاعة امتحان)، وكنا ننسبها لنابليون بونابرت. لاحقاً، حين تأسس الوجود المهيمن لوسائل التواصل الاجتماعي سأجد الجملة ذاتها تتردد بكثرة، آخذة تنويعات أسلوبية أخرى، لا تخرجها عن معناها الذي عرفناه قبل عقود، بل تجعلها أكثر مبالغة، تنويعات من قبيل: (ألف معركة ولا امتحان واحد)، (ألف ساحة معركة ولا قاعة امتحان)، منسوبة لنابليون دائماً، إلا في تغريدة في تويتر، فضل صاحبها زعيماً آخر، ربما لأنه يفوق الأول في رغبته بإشعال الحروب، أو في عدد ضحاياه. نعم. إنه أدولف هتلر.

 شخصياً، وعلى امتداد سنوات دراستي الطويلة، من الابتدائية حتى مرحلة الدكتوراه، لم تكن قاعة الامتحان تعني شيئاً سوى كونها قاعة امتحان، وهذا حال نسبة طيبة من طلاب العلم. غير أن تلك الجملة كان لها سحرها الخاص. كانت تمنح النسبة الأكبر من زملاء الدراسة نوعاً من العزاء، وتبريراً استباقياً لرسوب محتمل. لقد وجدوا فيها تميمة  ضد خوفهم الطافح. والمفارقة أنه خوف آتٍ ممن يفترض أن يكونوا مصدر أمنهم وطمأنينتهم. ولا أصعب من أن يجتمع عليك (الخوف من الفشل، ومن تأنيب الوالدين، ومن عصا المعلم، ومن النظرة السلبية للمجتمع...)، فليس من المستغرب أن يسقط (ساقط تعني الطالب الراسب في الامتحان، كما تعني عديم الأخلاق في العامية العراقية) بعض الطلبة فرائس للتوتر والإعياء، أن ينسوا تماماً ما كانوا متأكدين من حفظه من مقرراتهم الدراسية قبيل لحظات قليلة من دخولهم القاعة. بعد ذلك، أي وصف سيختارونه لقاعة الامتحان إن لم يكن ميداناً لمعركة؟ من اليسير القول إن جميع أشكال الخوف المتقدمة لم تكن لتهيمن على نفوس صبية صغار لو كنا قد أحسنا فهم أسس التربية الأسرية والتعليمية. لكن كيف نفعل ذلك؟ من سيفعل ذلك؟

التعلم عبر اللعب

 أفكر في سياق استذكاري لمقولة نابليون في المستشارين والخبراء، وهيئات الرأي التابعة لوزارات التربية والتعليم في عالمنا العربي، فأتذكر في الحال حكاية تنابلة السلطان. وأفكر أيضاً في المشتغلين بحقول الدراسات الاجتماعية والتربوية، وإعداد المناهج، وطرائق التدريس، في ابتعادهم غير المفهوم عن الحياة المدهشة للفئات العمرية الصغيرة. فبينما تبدو الحاجة ملحة لإيجاد مقاربات علمية شجاعة تعتمد المنهجيات الحديثة، ظلوا يراوحون عند آليات وموضوعات مستهلكة تماماً. وما رهاب الامتحان -لاسيما الامتحان النهائي- إلا محصلة لفشل الخطط التعليمية، ولعجز المعلمين عن تقديم محتوى جاذب طوال العام الدراسي.

يلف الملل كل شيء، وتُغلِّف الرتابة عالم المدرسة والدارسين. وإن كانت للمعلم سلطة أن يحاسب الطلبة "الكسالى"، فمن الذي سيحاسب المعلمين الكسالى؟ أولئك الذين يدأبون طوال سنوات عملهم على تكرار الأساليب  نفسها بإصرار لا يتزحزح. هم أساتذة، لكنهم طلبة أيضاً، طلبة أوفياء لما تربوا عليه، للطريقة الإملائية التي تتعالى على المحاورة، ولا تؤمن إلا بالتلقين.

سرعان ما سينسى الطلبة أغلب ما تم تلقينهم إياه من مواد مملة. الأكثر حضوراً في ذاكرتهم هي اللحظات الجميلة للعب مع الأصدقاء. الأستاذ المعلم لا يلعب. هو جاد وعقلاني، وربما يكون شديداً أحياناً. ولا أحد يحب أن يتذكر شيئاً من ذلك. ما نتذكره من حديثه طوال عام كامل مجرد معلومات قليلة، ربما لأنه قدمها على شكل حكاية مشوقة من غير أن يكون قاصداً، أو وجد لها صلة بالواقع اليومي لحياة تلاميذه فشدتهم إليها. بهجة معرفية مرت مثل صدفة.

 اليومَ، يتقدم مصطلح التلعيب/ اللوعبة/ اللعبنة (Gamification) الذي دخل إلى المعجم الإنجليزي مع بداية القرن الحادي والعشرين ليمثل الخيار الأفضل من بين طرق  التعليم. فالتلعيب يستعير من اللعبة بعضاً من عناصرها "التحدي، النقاط أو المستوى، المكافأة" ليحرر المحتوى التعليمي من الرتابة، ويزيد من تفاعل الطلبة مع ما يُقدم لهم. إنه فرصة مثالية لتعزيز  روح المشاركة والتعاون، وتحفيز القدرات، بما ينمي الرغبة لا في التعلم فحسب، وإنما في التفوق أيضاً. تلك اللمسة الساحرة تتجاوز الدرس التقليدي، مستندة لكم هائل من الإمكانات التي أتاحتها تكنولوجيا الوسائط الذكية، وأثراها الفضاء الرحب لعالم الإنترنت. يكفي أن نتذكر آلاف الألعاب التي يمكن توظيفها في هذا السياق، وهي متوفرة بشكل مجاني. فضلاً عن ألوف الروابط والفيديوهات، والملفات الصوتية، والصور الثابتة والمتحركة. أقول ذلك، بعد أسبوع واحد من بدء العام الدراسي الجديد، في الوقت الذي بدأ فيه أكثر المعلمين يغلقون صفوفهم الإلكترونية، ومعها كل سبل الإفادة من تلك الإمكانات المجانية المفيدة. ما إن تراجع وباء كورونا حتى فضلوا العودة لطريقة التلقين المباشر. وهو ما كنت قد توقعت حصوله، وحذرت من تبعاته في مقال سابق. بينما تفكر الدول المتقدمة باستثمار الشوارع والمتنزهات، ومجمل الفضاء العام لتنمية سلوك الأطفال، عبر محفزات تعليمية مثيرة وغير مكلفة، لا شك في أنها ستسهم بتأسيس اللبنة الأولى لوعي مستقبلي أصيل.

 عالم بطراز خاص

حياة طلبة المدارس الصغار حياة مدهشة حقاً. لن يكون بمقدور أحد أن يفهمها ما لم يسترجع روح الطفل الذي يسكنه، براءته وطيبته، قلقه ومخاوفه، رغباته الساذجة، وخياله غير المُدجَّن بعد. إنها فضاء خاص، له مصطلحات ومرويات وشائعات تهم الأطفال وحدهم، وتستجيب لطبيعة اهتماماتهم. وليس بالضرورة أن تكون لمروياتهم وثائق إثبات صحيحة، حين ينسبونها لشخصية ما. يكفي أن يجدوا فيها شيئاً من أنفسهم.

 لقد تأكدت من ذلك، حين صرت في مرحلة الدراسة الإعدادية، وبدأت أقرأ نمطاً مختلفاً من الكتب. وكم كانت المفاجأة كبيرة حين اكتشفت أن ذلك الذي فضل ميادين المعارك على قاعة الامتحان لا يبدو هو الأصلح لنسبة الجملة التي أغرت بسحرها زملاء الدراسة، إلا لجهة كثرة الحروب التي تسبب بها. لقد كان نابليون تلميذاً ذكياً متفوقاً، وبفضل ولادته لأسرة أرستقراطية واسعة الثراء، ذات أصول كورسيكية إيطالية، درس وتخرج في أفضل معاهد التعليم بلا مشاكل.

حتى سيرة زعيم النازية نفسه لا تكاد تتفق مع حكاية الحروب الامتحانية، فتعثره الدراسي كانت له أسباب لا تعود إليه بالأساس، بل إلى كم القسوة المفرطة، وحجم العقاب العنيف الذي استمر يتلقاه من زوج والدته، أيام كان تلميذاً صغيراً. ومن يدري؟ فربما كان التاريخ سيأخذ مساراً مختلفاً لو أن ذلك الفتى الألماني ذا الأصول النمساوية، المعجب كثيراً بفن الرسم قد تهيأت له فرصة القبول في المعهد الفني الذي طمح لإكمال دراسته فيه، فالمهتمون بتتبع مسار حياته أكدوا أنه استمر يمارس هوايته الفنية بشغف، حتى وهو محشور في الخنادق الجهنمية للحرب العالمية الأولى.

نعم. يمكننا أن نجعل التعليم ممتعاً، حين نكسب ثقة المتعلمين، وحين نعزز الثقة في أنفسهم فلا تنتابهم المخاوف لا من الامتحان ولا من غيره. لحظتها أيضاً، لن يتوقفوا طويلاً عند أقوال "الإمبراطور" أو "الفوهرر"، سيفضلون أن يأخذوا في اعتبارهم مثال "المهاتما"، فهو أكثر نفعاً في إزجاء الصالح من جمل الحكمة، الحكمة الإيجابية التي تعزز الأمل في نفوس سامعيها، وتبشر العالم بمزيد من الطمأنينة  والسلام، لا بحروب الخراب والكراهية. ولا شك عندي في أن "غاندي" قد وصل إلى أوج تجلّيه حين قال: "الفرق بين ما نفعله وما نحن قادرون على فعله يكفي لحلِّ جميع مشاكل العالم".

***

عباس عبيد

أكاديمي وباحث من العراق

..............

الكلمات المفتاحية: عباس عبيد. التعليم العربي. أساليب التعليم. التلعيب. Gamification.

النجف حاضرة ورمزية وكيان وإرث وحاضر ومستقبل، هي بقعة جغرافية بحجم العالم معنوياً، بقعة فريدة من نوعها، تضم عدداً من أقدس مقدسات المسلمين، في مقدمتها مرقد الأب الثاني للأمة الإسلامية ألإمام علي ابن ابي طالب، ومرقد أبي البشرية النبي آدم ومرقد الأب الثاني للبشرية النبي نوح، ومراقد مئات الأنبياء والأولياء والصالحين، كالنبيين هود وصالح، وفيه أحد المساجد الأربعة الأكثر قدسية في العالم؛ مسجد الكوفة، الذي كان مقرِّ حكم إمام المسلمين علي، وكان مقرِّ درس إمام مدرسة آل البيت جعفر بن محمد الصادق. وفي بقعة النجف أيضا عدد من أقدم وأقدس مساجد العالم، كمسجد السهلة المقدس ومسجد الحنانة وكميل وصافي صفا وزين العابدين وغيرها، وفي هذه البقاع نزل الأنبياء والأوصياء والأئمة والصالحين، ولهم فيها مقامات شاخصة.

والنجف هو مركز النظام الاجتماعي الديني الشيعي الذي تقوده المرجعية الدينية العليا، من خلالها إشرافها على الشؤون الدينية والاجتماعية للشيعة في كل أنحاء العالم؛ فالنجف هي عاصمة التشيع، وعاصمة الإمامة الوحيدة ماضياً ومستقبلاً. وتتربع الحوزة العلمية النجفية على عرش العلم والمعارف الدينية الشيعية منذ أكثر من 1000 عام؛ ما يعني أن القرار العلمي والديني والاجتماعي الشيعي تتخذه النجف، ويجد صداه في كل بقاع الأرض، حيثما يعيش شيعي. ويعود فضل التأسيس لهذه العاصمة العالمية الاجتماعية الدينية الشيعية المتفردة الى شيخ النجف والطائفة، أبي جعفر الطوسي الكبير، الذي أسس العصر الشيعي الثالث. ثم توالى على قيادة النجف فقهاء ومراجع لاتزال الحوزات العلمية تتداول أفكارهم ونتاجاتهم واكتشافاتهم العلمية الدينية، كالطوسي الثاني والمقدس الأردبيلي والوحيد البهبهاني وكاشف الغطاء الكبير والسيد بحر العلوم وصاحب الجواهر والشيخ الأعظم الانصاري، وصولاً الى الآخوند الخراساني والسيد اليزدي وشيخ الشريعة الأصفهاني والسيد الأصفهاني والسيد الحكيم، وليس انتهاءً بالسيد الخوئي والسيد محمد باقر الصدر والسيد السيستاني. هذه الأسماء المشعة التي تهز الوجدان الشيعي برمته، وتزيده فخراً واعتزازاً بالنجف العلوي.

هذه المركزية النجفية الشيعية العالمية، تمثل للعراق كدولة، إضافة نوعية أساسية منذ 1000 سنة، لأن النجف جعل من جغرافيا العراق محطة شيعية عالمية مركزية، ليس في الجانب الديني والعلمي وحسب، بل في الجانب الاجتماعي والمالي والسياسي والثقافي أيضاً؛ فالنجف تمثل للشيعة أكثر بكثير مما تمثله الفاتيكان للكاثوليك، وأكثر مما يمثله الأزهر للسنة، وكلاهما يمثلان وجوداً نوعياً لإيطاليا منذ 1500 سنة، ولمصر منذ 800 سنة.

وبالتالي؛ كان من المهم للدولة العراقية الاحتفاظ بقوة النجف ومركزيتها العالمية لكي تبقى ركيزة معنوية عالمية للدولة العراقية، تستفيد منها على مختلف المستويات، إلّا أن طائفية الدولة العراقية وعنصريتها، جعل قادتها السنة ينظرون الى النجف نظرة الند والشريك والمنافس، وهي نظرة سطحية ساذجة سببها العمى الطائفي، وليست نظرة واقعية مصلحية. ولذلك؛ تعرّض النجف منذ تأسيس الدولة العراقية برعاية بريطانيا، وبحكم سني غير عراقي، الى مختلف أنواع الحرب والتهميش والدعاية المضادة، وكان بدايته تسفير مراجع النجف الى إيران في العام 1924، وبينهم المرجع الأعلى السيد أبو الحسن الإصفهاني.

وتوّجت الدولة العراقية عداءها للنجف بعد حكم البعث، وهو تجلي أكثر سوءاً لايديولوجيا الدولة العراقية الطائفية؛ فحارب الحكم البعثي النجف حرباً شعواء دامية منذ العام الأول لسلطته في العام 1968، وكان يهدف الى تصفيته خلال عشر سنوات، وقد وصفها بالرجعية السوداء، وبدأها بتسفير العلماء والعوائل الدينية بحجة أصولهم الإيرانية، ثم اعتقال العلماء والمؤمنين، ومنع الانتساب الى الحوزة العلمية، والإعدامات وتدمير مدارس الحوزة وإغلاقها، حتى انخفض عدد منتسبي الحوزة العلمية النجفية من (16) ألف مجتهد وعالم وطالب في العام 1967 الى (500) منتسب في مطلع تسعينات القرن الماضي، وهو وضع لم تشهده النجف طيلة تاريخها، حتى في أيام الاحتلال العثماني التركي للعراق وضغوطاته الطائفية. وزاد الأمر سوءاً في نهايات تسعينات القرن العشرين، حين قام الحكم البعثي باغتيال مراجع الدين في الشوارع، واعتكاف باقي العلماء والمراجع في بيوتهم؛ ما أدى الى شبه انهيار للحوزة العلمية النجفية.

ولكن؛ عاد النجف تدريجياً الى وضعه المركزي العالمي الطبيعي بعد سقوط نظام البعث في العام 2003، وشهد تألقاً نوعياً وكمياً جديداً، حتى تحوّل النجف في كثير من المنعطفات الى مركز للقرار السياسي الوطني العراقي، وليس مجرد مركز للقرار العلمي والديني الاجتماعي، ولطالما ظل ساسة بغداد ينتظرون قرار النجف في المنعطفات السياسية.

وفي الجانب الثقافي؛ فإن الكتب التي تُؤلّف وتُطبع في النجف لا يضاهيها في العراق، كماً ونوعاً إلّا العاصمة بغداد. كما أن المؤسسات الدينية والثقافية والأدبية في النجف هي الأولى عراقياً أيضاً. وإذا تحدثنا عن الشخصيات العلمية والأدبية والثقافية والخطابية التي تخرجت من النجف؛ فنرى أنه الأول في العالم عدداً ونوعاً، قياساً بعدد السكان، وبينهم عشرات مراجع الدين الذين تسلموا زمام قيادة المجتمع الشيعي عالمياً على مدى أكثر من الف عام كما ذكرنا. وإذا طرحنا أسماء أربعة نماذج معاصرة فقط: المفكر والمرجع المجدد السيد محمد باقر الصدر، المرجع الديني الأعلى الإمام السيد علي السيستاني، عميد خطباء الشيعة في العالم المرحوم الشيخ أحمد الوائلي وشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري؛ سنعرف ماذا خرّج النجف، وماذا يضم من كنوز بشرية وحضارية ودينية ومذهبية.

على المستوى السياسي والجهادي؛ قاد النجف خلال المائة عام الأخيرة، ثورتين وخمس انتفاضات وطنية على مستوى العراق، ضد الاحتلال الاجنبي وضد نظام الحكم البائد، هي: مقاومة الجنوب في العام 1914، ثورة النجف في العامين 1917 و1918، ثورة العشرين في العام 1920، انتفاضة النجف الصفرية في العام 1977، انتفاضة رجب في العام 1979، الانتفاضة الشعبانية في العام 1991، وانتفاضة الجهاد الذي أعلنه مرجع النجف ضد ما سمي بدولة (داعش) الوهابية في العام 2014، ليكون الحراك النجفي الوطني الكبير السابع خلال مائة عام، وهي ظاهرة غير مألوفة عالمياً، وليس إسلامياً وعربياً وشيعياً وعراقياً وحسب؛ إذ لاتوجد مدينة في العالم تفجر وتقود سبعة حراكات ثورية سياسية إسلامية وطنية كبيرة خلال قرن واحد فقط، وهذه الحقيقة الميدانية تؤكد محورية دور الدين والمذهب والحوزة والمرجعية في قيادة المؤمنين ودفعهم باتجاه مقاومة الاستعمار والاحتلال والظلم والطائفية والانحراف الديني والسياسي، وليس كما يزعم الخصوم بأن المذهب والحوزة والمرجعية تدعو الناس الى السكوت واللامبالاة حيال الاستعمار والظلم والطائفية والانحراف.

هذه الحراكات الثورية الإسلامية الوطنية التي قادها النجف، لم تكن دون ضريبة، بل دفع النجفيون، ومعهم أغلب العراقيين، دماءهم وأموالهم من أجل أهدافها وغاياتها؛ فكان النجف ولايزال يتفرد في تقديم الشهداء نوعاً، وأحياناً كماً؛ فقد كان أول شهيد قدمته النجف في القرن العشرين هو المرجع الأعلى الشيخ محمد كاظم الآخوند الخراساني بعد قراره بالتحرك ضد الاحتلال الروسي لشمال ايران في العام 1911، ثم آية الله السيد الشهيد محمد سعيد الحبوبي الذي قاد مقاومة الجنوب ضد الاحتلال البريطاني في العام 1914، ثم شهداء ثورة النجف ضد الاحتلال البريطاني، الذين تم شنقهم في العام 1918، ثم شهداء ثورة العشرين، وصولاً الى شهداء الحكم البعثي بعد العام 1968، والذين بدأهم القائد الشهيد عبد الصاحب دخيل في العام 1972، ثم السيد عماء الدين الطباطبائي والسيد عز الدين القبانجي في العام 1974، ثم الشهداء القادة في انتفاضة النجف الصفرية في العام 1977، يتقدمهم السيد وهاب الطالقاني، وصولاً الى شهداء العامين 1979 و1980، وهم بالمئات، وفيهم عدد كبير من الفقهاء وعلماء الدين والكفاءات العلمية والطبية والهندسية والأكاديمية ورجال الأعمال والوجهاء الاجتماعيين، وبينهم الشهداء القادة في انتفاضة رجب، ثم توّجت النجف رحلتها مع الشهادة بإعدام سيد شهداء العصر محمد باقر الصدر وسيدة شهيدات العصر آمنة الصدر.

ولم تتوقف الاعدامات على الأفراد، بل شملت الأسر النجفية وبشكل جماعي، كما حدث لآل الحكيم وآل الغريفي وآل بحر العلوم وآل الخرسان وآل الحلو وآل الخلخالي وغيرها من الأسر النجفية. ولعل أسرة آل الحكيم النجفية أكثر أسرة في العالم الإسلامي والشيعي قدمت ضحايا نوعيين، وليس في العراق وحسب. وكان ضمن شهداء النجف في عقدي الثمنانينات والتسعينات من القرن العشرين، عدد من المراجع والفقهاء، كالسيد نصر الله المستنبط والشيخ محمد تقي الجواهري والسيد عبد الصاحب الحكيم والسيد عبد المجيد الحكيم والسيد قاسم شبر والسيد عز الدين بحر العلوم والسيد محمد تقي المرعشي والسيد صادق القزويني والسيد حسن القبانجي والسيد مرتضى الخلخالي والشيخ مرتضى البروجردي والشيخ علي الغروي والسيد محمد الصدر. ولم تتوقف قوافل الشهداء النجفيين حتى سقوط النظام البعثي في العام 2003.

إلّا أن مرحلة العراق الجديد، وخاصة بعد انتفاضة الجهاد في العام 2014، أعادت مسار التضحيات الى سابق عهده؛ فقدّم النجف وحوزته مئات الشهداء العلماء ومن مختلف شرائح المجتمع في مقاومة الطائفية والوهابية ودولتها الداعشية، وخاصة خلال الأعوام 2014 ـــ 2017.

ومع عودة النجف الى وضعه القيادي الاجتماعي الديني السائد منذ مئات السنين، بعد حصوله على استحقاقه الطبيعي، إثر تأسيس النظام السياسي العراقي التشاركي الجديد، ودخول المكون الشيعي شريكاً أساسياً في قيادة الدولة ورئاسة الحكومة الوطنية؛ فإن هذا الاستحقاق لم يقتصر على عودة المرجعية العليا الى موقعها الطبيعي في قيادة النظام الاجتماعي الديني الشيعي، بل امتد الى الأحزاب والتيارات السياسية الشيعية الكبيرة أيضاً، وخاصة الثلاثة الأكبر: حزب الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى الإسلامي والتيار الصدري، والتي تنتمي جميعها الى النجف؛ فحزب الدعوة الإسلامية، بهيكليته العالمية، تأسس في النجف وفي كنف الحوزة العلمية، وعلى يد علمائها وأبنائها، وفي المقدمة السيد محمد باقر الصدر والسيد محمد مهدي الحكيم وعبد الصاحب دخيل. كما أن قيادة المجلس الأعلى المتمثلة بالسيد محمد باقر الحكيم استقرت في النجف بعد سقوط دولة البعث، وبقيت بوصلتها وبوصلة من انشعب عنها، وتحديداً منظمة بدر وتيار الحكمة تشير الى النجف أيضاً. أما التيار الصدري؛ فقد تأسس في النجف على يد السيد محمد الصدر، وبقيت قيادته تقيم في النجف، بمن فيها التي انشعبت عنه، كحزب الفضيلة وحركة العصائب وغيرهما.

ويتميز المجتمع النجفي بأنه مجتمع عالمي من جهة، ومجتمع ديني ثقافي محافظ من جهة أخرى، ومجتمع أُسر وبیوت من جهة ثالثة؛ إذ يتألف من أكثر من (300) أسرة نجفية، بعضها ينتسب الى أئمة آل البيت، وهم السادة، والآخر تعود أصوله الى القبائل والعشائر العراقية، أو القبائل والعوائل النجدية والحجازية والأحسائية والبحرينية والسورية واللبنانية، والقسم الثالث من أصول غير عربية، أغلبها إيرانية، فضلاً عن أُسر من الهند وباكستان وتركيا وأفغانستان وكشمير والتبت وآذربيجان وأرمينيا والقوقاز، أي أن المجتمع النجفي يتكون ــ غالباً ــ من ثلاثة أصول: عراقية وجزيرية وإيرانية، وهي القاعدة التي تأسس عليها المجتمع النجفي منذ الإعلان عن قبر الإمام علي وبداية الهجرة إليه، والتي تتوّجت بهجرة آل شهريار من قم وتسلّمهم سدانة الحرم العلوي سنين طويلة، ثم هجرة الشيخ الطوسي ذي الأصول الخراسانية الى النجف وتأسيس الحوزة الشيعية المركزية العالمية. وسبق ذلك وتزامن معه وأعقبه، هجرة الأسر والعشائر العراقية من المدن والقرى المحيطة بالنجف، وبالاخص الكوفة، ثم من الفرات الأوسط، وبعد بضعة قرون، بدأت هجرة الأسر التي تنتمي الى قبائل الجزيرة العربية.

ويتميز المجتمع النجفي بقدرته الفائقة على تذويب جميع الأصول القومية واللغوية داخل بوتقة لهجته وعاداته وتقاليده، ولعله من المجتمعات النادرة التي تتعايش فيها الأعراق والقوميات وتتصاهر وتتناسب، دون تمييز وتهميش وعنصرية، وهو ما يحوِّل الوافد البدوي أو الريفي أو الحضري، أياً كانت قوميته، الى نجفي خلال بضعة عقود، ويلتصق بهذا البقعة ويفخر بانتمائه اليها. ولايزال للأسر والبیوت والعشائر النجفية دور علمي وديني وثقافي وسياسي بارز على مستوى العراق والعالم الاسلامي، وليس النجف وحسب.

وأبرز الأسر العلوية النجفية: الحمامي، الصافي، الحبوبي، الصدر، الحكيم، بحر العلوم، الغريفي، البغدادي الحسني، الرفيعي، المؤمن، الخرسان، الكشميري، مگوطر، القزويني، الكفنويز، الغرابي، غيبي، الفياض، البكاء، شبّر الموسوي، شبّر الحسيني، الخوئي، القابچي، زوين، الذبحاوي، الحلو، القبانچي، العميدي، أبو غربان، النويني، النفاخ، سنبة، آل سيد سلمان، أبو الريحة، الطالقاني، الكيشوان، البادكوبي، جمال الدين، الجابري الموسوي، البعّاج، الچاووش، الشرع، المحنّة، زيني، الهندي، محيي الدين، الأشبال، السلطاني، الدخيلي، الفحّام، المقرّم، العذاري، الكفائي، جريو، الشيرازي، أبو طبيخ، الشريفي، الجوفي، الخياط الموسوي، العوّادي، حبل المتين، زبيبة، السعبري، الخلخالي، المرعشي، الحجّار، البصيصي، النقشواني، آل سيد هاشم، آل سيد ربيع، آل علي خان.

أما أبرز الأسر والعشائر غير العلوية: البلاغي، الطريحي، كاشف الغطاء، الجواهري، الزرگاني، الشميساوي، آل نجف، الطريفي، الطيّار، العبايچي، آل العمية، العنتاكي، الغراوي، العصامي، فرج الله، الكرباسي، المحتصر، المختار، المشهدي، مطوّق، الملحة، الگیِّم، الترك، المنصوري، الملّة، المؤذن، الشبيبي، الشماع، الصالحي، الصغير، الصلاخ، الكاشي، الدمشقي، النجار، النجم الشمري، النجم السعيدي، آل خضر، آل خليفة، آل خنفر، آل خويِّر، آل ذيّاب، زاير دهام، آل زعيري، زنبور، زيارة، سماكة، زاغي، مطر، شحتور، شرع الإسلام، آل شنيِّع، شيحان، صبّار، ضامن، منصور ، هيدة، وهب العنزي، وهب الشمري، الرشدي، طويِّر، آل عبد الرسول، عريعر، علي بیج، آل علي عودة الخالدي، عمارة، عنة، عنبوري، عنوز، آل فرج الخزاعي، فليفل، مارد، مال الله، آل مانع، مبارك، محمد أمين، كرماشة، آل غدير الطرفي، القرغولي، الشوكتي، البحراني، التلّال، چبك، الصبّاغ، الخطيب، الفخراني، مانع، السرّاج، عمران، حتيتة، دراغ، مچي، شير علي، بقر الشام، الرماحي، ناجي، المعمار، الشريس، تويج، أبو النواعير، العاتي، الوديس، بشيبش، بيذرة، آل جاسم، جوذر، چیاد، حاجي، آل حسن الكلابي، آل أبو راس الجشعمي، حكمت، حميِّد، حميدي، آل حنوش، آل حيدر، زاهد، الصائغ، آلبو صيبع، دبش، الحداد، دخيِّل، البهّاش، محبوبة، سميسم، الأعسم، حرز الدين، الحرز، معلّة، شكر، الشكري، مرزه الأسدي، مرزه الخزاعي، الراضي الجبوري، سعد راضي الشمري، آل راضي المالكي، شعبان، آلبو عامر، آلبو گلل، العكايشي، المخزومي، الشمرتي، كمونة، شربة، گبون، صبي، الصرّاف الجبوري، الحارس، بلال، أبو غنيم، جبرين، الجد، جدي، الملالي، الجابري الحچيمي، البغدادي الدليمي، صفر علي، شمس علي، شمسه، الشمس، الصفار، آل ياسين، نصّار، أبو شبع، الدجيلي، العادلي، دوش، الشرقي، الغروي، السنبلي، الشبيبي، البراقي، دعيبل، بليبل، مشكور، المظفّر، سفينة، الجمالي، كشكول، القاموسي، اليعقوبي، الطرفي، المامقاني، القسّام، الجصّاني، أبو السبح، أبو الطابوق، أبو الحب، آل معيبر، آل ثامر، آل ابراهيم، حمودي، أسد الله، عبيد، الأحول، المطبعي، الخضري، السهلاني، چیوان، شريف، فخر الدين، عجينة، عدوة، الأسود، المرجاني، الأنصاري، أطيمش، الإيرواني، البزّاز، البنّاء، آلبو حدود، أبو الزرازير، الجباري، الچبان، الجحیشي، الجزائري الأسدي، الحار، الحارس، الحچّامي، الحجّار الشمّري، الخريساني، الدبّاغ، آل درويش، الشكّاكي، آل السبع، قفطان، السفير، شلاش، شلاگة، شنّون، موّاش، الخليلي، البرقعاوي.

وهناك أسر وبيوت أُخر منحدرة من قبائل وعشائر كبيرة مثل الحسني، الحسيني، الموسوي، العلوي، الأعرجي، الياسري، الطباطبائي، الميالي، الجزائري الموسوي، الفرطوسي، الزريجي، الجعفري، الحلفي، البياتي، البديري، الخفاجي، السلامي، الزبيدي، الربيعي، الطفيلي، السهلاني، الوائلي، العبدلي، الروازق، الجشعمي، الكعبي، الشمري، الخزرجي، الرويلي، الفتلاوي، البهادلي، الظالمي، الجبوري، الخاقاني، الخفاجي، الزرفي، القريشي، العارضي، الحدراوي، الرحباوي، السوداني، الزهيري، الخالدي، الخزاعي، التميمي، الكلابي، الكناني، الركابي، العنزي، العبودي، الشيباني، السعدي، الغزالي، الشبلاوي، الحسناوي، العيساوي، الإبراهيمي، الأسدي، الشافعي، الساعدي وغيرها من الأسر والعشائر الكريمة.

كما تضم النجف مقبرة لانظير لها، وتعد الأولى عالمياً كماً ونوعاً؛ إذ تضم رفات عشرات ملايين البشر؛ جيء بهم من كل أنحاء العالم، بينهم الأنبياء والأولياء والصحابة والتابعين ومراجع الدين والعلماء والزعماء السياسيين والأباطرة والملوك والأمراء والوزراء والشعراء والأكاديميين.

وهناك كثير مما يميز النجف، على مستوى الاجتماع الديني والسياسي والثقافي، وعلى مستوى التاريخ والسياسة والصناعة والعلم والأدب. ونترك الحديث عنها لمقالات أُخرى، والتي نأمل ان تتحول الى كتاب عنوانه "النجف الأشرف: حاضرة الشيعة والعراق".

***

د. علي المؤمن

لست من الذين يحبّذون المعارك النقديّة، ويسعون إلى خوضها، بحقّ أو بغير حقّ، دفعا لباطل متوهّم، ودفاعا عن قناعة ذاتيّة، على مذهب العقاد والمازني في موقفهما من أمير الشعراء أحمد شوقي. لكنّ، لست من دعاة السكوت وغضّ الطرف – أحيانا – عن بعض الآراء والأفكار الشوكيّة الداميّة.

و أنا أتصفّح صحيفة المثقف – كعادتي يوميّا - في عددها الصادر يوم 05 / مارس / 2023 م، لفت انتباهي مقالا أدبيا للأستاذة علجية عيش، بعنوان:

(أمين الزاوي ناقد تنويري كسّر بفكره وقلمه كل الطابوهات)، تناولت فيه قراءة لرواية {الخلاّن}. للروائي الجزائري، الدكتور أمين الزاوي.

وقبل أن أغوص في متن المقال، أودّ أن أعلّق على عنوانه أو (عتبته)، وأقول: إنّ الفلسفة النقديّة (التنويريّة) وظاهرة (كسرالطابوهات) عند بعض الكتاب السرديين والشعراء والنقاد، لا تعنيان التجديد والعصرنة والتطوير والنهوض بالفكر والأدب والذوق العام السليم، بل تعني عندهم الخوض – باسم حريّة التفكير والتعبير - في عوالم موبوءة، لا صلة لها بالذوق السليم والكرامة الإنسانيّة، واردة من الثقافة الغربيّة العاريّة من أثواب الحياء والقيّم الأخلاقيّة والإنسانيّة. بل وصل الأمر عند بعض كتاب السرد والشعر إلى محاولة تأصيل (مجتمع الميم) والدعوة إليه، تحت عنوان "الحريّة الفرديّة" ومظلّة "حقوق الإنسان".

إنّ مصطلح " الإخوان " ليس مصطلحا سياسيّا، من وضع حركة الإخوان المسلمين " وابتكارهم، التي أسسها حسن البنا ورفاقه. بل هي مصطلح قرآني وتراثيّ. جاء في المقال قول الكاتبة علجيّة عيش: " الملاحظ أن أمين الزاوي آثر اسم "الخلان" على اسم "الإخوان"، الأول (الخلان) هو مفهوم عقائدي والثاني (الإخوان) مفهوم سياسي ابتكرته الجماعات الإسلامية في مصر قبل أن تستورده الجماعات الإسلامية في الجزائر بقيادة الشيخ محفوظ نحناح ". وهو رأي عار من الصحة، لا أدري، من أيّ مصدر أو مرجع فكريّ اعتنقته. فمصطلح " إخوان " قديم، قدم لغة الضاد، وهو ليس من ابتكار فلان أو علاّن. ورد في أشعار الجاهليين وسردهم. كما ورد في القرآن الكريم، وفي كتابات فطاحل الأدباء والشعراء لاحقا، أي بعد ظهور الإسلام.

قال تعالى: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا " (سورة آل عمران / الآية 103). وقال تعالى: " إنّما المؤمنون إخوة " (سورة الحجرات / الآية: 10). وقال تعالى: " ولا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم " سورة أل عمران / الأية: 156. و(إخوان الشياطين " و" إخوان لوط ". وقد ظهر المصطلح كعنوان (إخوان الصفاء وخلاّن الوفاء). وهكذا ارتبطت كلمة (إخوان) بالإيمان، فكانت نقيض العداوة والبغضاء والكفر والتفرّق والتدابر.

أما مصطلح (الخلاّن)، فقد ورد عند جماعة إخوان الصفاء. وقد استمدوها ونحتوها من. الاسم (خليل) وجمعه: أخلاء، وخُلاّن (بضم الخاء)، والمؤنث خليلة، والجمع المؤنث: خليلات، وخلائل. والخليل هو صديق خالص، صفيّ خالص المحبة. والرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل. وخليل الله / خليل الرحمان: سيدنا إبراهيم. والخليلة هي الزوجة.

قال الشاعر ابن الرومي:

خليل من الخِلاّن أصفيه خلّتي

فأبدى لي السرّ الذي أنا كاتمه

و ممّا جاء في المقال: " إن مفهوم "الخلاّن " (بكسر الخاء) يفتح الباب على مصراعيه للتأويل والتفكيك بحريّة / فهي تدعو إلى ارتباط الأنا بالآخر ونبذ الانقساميّة، هي دعوة لجمع الشتات العربي / الجزائري. هي كما قال دعوة للتعايش والتسامح في وطن يسع الجميع ويتّسع للجميع بغض النظر عن معتقداتهم وأعراقهم ولغاتهم، وهو الجزائر ". لا أريد أن أعلّق على رأي الناقدة وقناعاتها، فهي حرّة في اعتناق الأفكار التي تؤمن بها. لكن، أودّ أن ألفت انتباهها إلى الغرض من هذه الإزدواجيّة بين (العربيّ / الجزائري) التي أوردتها في نصّها. وأسألها: هل في الجزائر شعبان، أحدهما عربي والآخر جزائري؟ أليست هذه النظرة التأويليّة، مثار فرقة منبوذة، وإيقاظ لفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها؟ ألا تناقض مفاهيم التعايش والتسامح التي ادّعت بأنّها من مقاصد رواية (الخِلاّن)؟

و ممّا جاء في مقال الكاتبة علجية عيش: " وهنا نتساءل إن كانت فلسفة أمين الزاوي مبنية على فلسفة إخوان الصفاء وهل هو متأثر بهم، ما جعله يختار "الخلان " عنوان لروايته، هل هو اعتراف ضمني بالإخوان الخلان؟ لا أحد له الحق طبعا في أن يشك في عقيدة الزاوي، فهو مسلم لكنه ذا منهج تنويري يفكك المسائل من زاوية عقلانية وموضوعية منية على الواقع، يحاول تجديد الفكر وتطهيره إن صح القول، وليس كل تنويري مجدد ملحدٌ بالضرورة، إذا قلنا أن لقاء الثلاثة في وهران كما قال الزاوي جمعتهم سلطة دينية، ولذا أطلق عليهم الزاوي اسم الخلان ".

وهنا تظهر الفلسفة التلفيقيّة عند الكاتبة علجية عيش. فقد جمعت شخوص الرواية سلطة عاطفيّة إنسانيّة وليس دينيّة. لأنه يستحيل أن يجتمع (دينيّا) الكافر والمؤمن على كلمة سواء. واحد يؤمن بوحدانيّة الله واثاني يؤمن بالثالوث والثالث مازال ينقّب عن هيكل سليمان تحت المسجد الأقصى ؟ قد يجمعهم التعايش السلمي في زمكانيّة واحدة، كما جرى في الأندلس، لكن يستحيل أن يتعايش الظالم والمظلوم، الغازي والمغزوّ، المحتلّ والمحتلّ، هلّم جرا..

هناك فرق شاسع بين مصطلحي الإخوان والخلاّن. لأن الأخوة مبيّة على النسب البيولوجي، وتنزاح إلى المفهوم الديني " إنّما المؤمنون إخوة "، بينما الخلاّن، قائمة على الصداقة والعاطفة فقط. وقد شهدت هذه الكلمة تفكيكات عدّة، إلى درجة ربطها بالحب الماجن والوجد والعشق والوله. الخلان كمفهوم يقودنا إلى الحديث عن إخوان الصفاء وخلان الوفاء.

وترى الكاتبة، علجيّة عيش: " الفرق بين الخلان الذي تحدث عنهم أمين الزاوي هو أنهم يختلفون في فلسفتهم ورؤيتهم وحتى في "يوتوبياتهم " لواقع الشعوب وللحياة، حتى لو كان يجمعهم قاسم مشترك وهو مناهضتهم للاستعمار، إلا أن إخوان الصفاء يجتمعون على فلسفة واحدة ومنهج واحد وعقيدة واحدة وعقيدة واحدة، وهنا نتساءل إن كانت فلسفة أمين الزاوي مبنية على فلسفة إخوان الصفاء وهل هو متأثر بهم. " والحقيقة ليس هناك وجه شبه بين حياة " خلاّن " أمين الزاوي وأخلاقهم ومنهج " إخوان الصفاء " وفلسفتهم الأخلاقيّة. وليكن في علم الناقدة علجية عيش، بأنّ فلسفة الدكتور الروائي أمين الزاوي، معلومة سلفا. فهو قد بدأ حياته الفكريّة في مدرسة الفكر الشمولي، إلى جانب الفكر الوطني الرافض لفكرة الانتماء العربي، ورافضا " للوسطيّة " النقديّة، التي يرى فيها شرا مستطيرا ومحدقا بالمجتمع.

جاء في مقال له تحت عنوان: " الوسطيّة خطر على الفكر النقدي "، قوله:

"الوسطية" هي أكبر كذبة فكرية معمرة في تاريخ الفكر العربي، يصدقها المثقف والسياسي ورجل الدين، يصدقها المثقف الانتهازي والسياسي الذي لا يؤمن بفكر التناوب ورجل الدين الذي يسعى إلى خدمة السلطان مهما كان لونه وفكره "

وهو يدعو - بكل وضوح – إلى التحرّر من فكرة "الوسطيّة" في السياسة والثقافة والدين

وجاء أيضا في المقال نفسه قوله:

" كلما تحرر السياسي والمثقف النقدي ورجل الدين من "الوسطية" وتعامل كل واحد منهم بصدق وشفافية وانسجام مع مواقفه تمكن المجتمع من التقدم بثبات، وأصبحت الحياة السياسية والثقافية والدينية في صحة جيدة، معافاة من النفاق والمراوغة والفساد بكل أنواعه "

والمتأمّل لما جاء في دعوته هذه، يستشّف منها دعوة مبطّنة إلى التطرّف الفكري يمينا أو يسارا. وهو موقف ينافي مبدأ التسامح والتعايش السلمي بين فئات المجتمع الوطني والقومي والإنساني، وتكرّس سوأة الانقساميّة الإيديولوجيّة والعصبيّة الإثنيّة والتطرّف الديني في أوساط الأفراد والجماعات الأهليّة..

ومن المؤسف – حقّا - أن يمارس بعض النقاد عندنا سلوكا نقديا نلفيقيّا، تعسفيّا، بغرض خدمة الروائي بشكل متعمّد، نظرا لمكانته في المشهد الروائي، والحقل السردي، وهو ليس في حاجة إلى ذلك. بينا يجب أن تكون رسالة الناقد، في منأى عن التلفيق والمجاملة والمهادنة، مهما كان اسم المنقود لامعا ومتربّعا على عرش السرد الروائي.

إنّ النقد الموضوعي يعتمد على التحقيق لا التلفيق. فلينظر الناقد إلى معمار النص السردي، نظرة فاحصة وممحّصة، دون الوقوع فريسة لخلفيات سياسيّة أو إيديولوجية أو كيديّة، متجرّدا من الذاتيّة، التي لا تخدم النص الإبداعي.

بالإضافة إلى ذلك، فمن واجب الناقد أن يمتلك وعيا نقديّا، كي يتخلّص من النقد الانطباعي، الذي ساد فترة طويلة في تراثنا النقدي. وذلك باعتماد قراءة نقديّة موضوعيّة للعمل الإبداعي، دون الوقوع أسيرا في أغلال ذاته. ومن واجب الناقد – أيضا - أن لا يعطي للنص الإبداعي أكثر ممّا يستحقّ. إنّ الناقد الموضوعي مطالب بجعل النص الأدبي مسايرا للنص النقدي، لأن الثاني ينبني على الأول فإذا انطلق الناقد في نقده من خارج دائرة النص الأدبي، وبعيدا عن واقعه، وقع الناقد في التلفيق والحدث من أجل الحديث.

***

بقلم: الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

تعلمت من خلال كتابتي في السير الذاتية، أن حياة المفكر مليئة بتفاصيل صغيرة وكبيرة، وعندما أكتبها أجد نفسي مستبعدا أمور كثيرة في حياته، فهي ليست مهمة بالنسبة لي أو لا تهم الناس كما أعتقد، وبالتالي فإن مثلي هنا كمثل النحات الذي ينحت قطعة من حجر، ينحتها كمن يكشف عن سر في منحوتته لاستخراج ما هو مهم بالنسبة لي، ثم أزيل الأجزاء غير المهمة كما أتخيل. وعندما أتحدث عن الدكتور فراس السواح، فإنما أتحدث عن اسم ذا جرس موسيقي، له وقعه على الأذن، وعلامة فارقة في تاريخ الفكر العربي الحديث، وباحث لا يباريه فيه مباري، ولا ينازله فيه أحد، حتى أنه يقول عن نفسه :" أنا باحث مهم لأني ولجت ميداناً لم يلجه الآخرون إلا قليلاُ"، وهو مجال تاريخ ودراسات الأديان والميثولوجيات والأساطير.

وفراس السواح من مواليد مدينة حمص عام 1941 وفيها درس وحصل على شهادة الثانوية، ثم انتقل بعدها للدراسة في دمشق، ونال شهادة البكالوريوس في الاقتصاد عام 1965م من جامعة دمشق.

استهوته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكراً، فكتب في الصحف والمجلات منذ عام 1958م، وقد نشر أبحاثه الأولي في مجلة الآداب اللبنانية في الستينات، وفي نهاية السبعينات، نشر كتابه المؤسس الذي عمده باحثاً رائداً تحت عنوان "مغامرة العقل الأولي – دراسة في الأسطورة في سوريا وأرض الرافدين.

في كتابه الأول اعتبر فراس السواح الأسطورة هي المغامرة الأولي للعقل الإنساني، ويري في كتبه المتعاقبة أن الأسطورة هي قفزة أولي نحو المعرفة، وهي مرحلة لاحقة على السحر بعد أن يئس منه الإنسان القديم.

وقد رصد فراس السواح في كتاباته المتعاقبة مثل " لغز عشتار"، " الرحمن والشيطان"، " الوجه الآخر للمسيح"، " القصص القرآني بمتوازياته التوراتية"، " الإنجيل برواية القرآن"، وهلم جرا، كما رصد فراس السواح التأثير الواضح بين الأساطير التي ورثناها عن الحضارة القديمة، ومجموع الأديان، ولا نقول أن فرج السواح يخلق في عمله الضخم الذي يزيد عن 23 مؤلفاً محاولة للتقريب بين الأديان، كي يبحر في المخيلة البشرية ونزعاتها الروحانية التي تترجم لأساطير وميثولوجيا.

صاغ فراس السواح نظريته الفلسفية ورؤيته للدين في كتابه المهم " دين الإنسان - بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، وهي أن الدين هو أحد السمات الرئيسية التي ميزت الإنسان عن غيره من الكائنات، وأنه يعد محرضاً أساسياُ، وهاماُ في حياة البشر عبر عصورها.

ظل فراس السواح مخلصاً للبحث والكتابة، وتوجت مسيرته بدعوة جامعة بيجين له بأن يكون أحد محاضريها لسنوات طوال، وذلك بعد أن تُرجم كتابه " التاو تي –تشينغ- انجيل الحكمة التاوية في الصين"، يقول فرج السواح :" إن الدين ظاهرة ثقافية، وكل دين ينشأ في حاضرة ثقافية تطبعه بطابعها، من هنا علينا أن نعترف بتنوع الأديان مثلما نعترف بتنوع الثقافات، وكما أننا نرفض سيادة ثقافة معينة على العالم، علينا أن نركض سيادة دين واحد، لا يوجد في رأيي أديان حقيقية وأخرى زائفة فكلها طرقاً تؤدي إلى الله.

وبحسب فراس السواح لا يخضع الدين لقانون التطور الذي رأي أنه لا ينطبق على حياة الإنسان الروحية والعاطفية، وبناءً على ذلك لا وجود لأديان بدائية وأخرى متطورة،، أو قديمة وحديثة، فالتجربة الدينية واحدة بحسب فراس السواح، وأبرز تعبير عن جدتها هي "الصوفية".

ركز فراس السواح على فردانية التجربة الدينية مؤكداً أن الدين أي الجماعي، أو الذي تتبناه الشعوب، والجماعات ظاهرة جديدة في تاريخ الأديان والحضارات عبرت عن نفسها في المعتقد، وظهور المعتقد نقطة فاصلة في تاريخ الأديان، حين خرجت التجربة الدينية من حيز الانفعال العاطفي إلى التأمل الذهني.

وارتباطا بما سبق خرج فراس السواح باستنتاج جديد وهو أن الوحي ظل متصلاً دون انقطاع منذ فجر التاريخ، والبشر جميعاً عرفوا الله عبر تاريخه الديني، كل ثقافة بما يتناسب ووضعها في سياق الارتقاء الثقافي.

والسؤال الآن: هل الدين فعلا واحد ؟، وهل هو تجربة فردية في المقام الأولي ؟، لماذا وجود الشيطان أساسي ولا غني عنه في الأديان؟

يقول فراس السواح :" إن الإنسان يولد، ولديه دافع طبيعي للتساؤل، وهذه الدافع أخذه منذ البدايات في رحلة أزلية بحثاُ عن أجوبة لتساؤلاته، وكان الدين احدي المحاولات الأكثر نضجاً للإجابة عن أسئلة الوجود، فالأديان بحسب عالم الأنثروبولوجيا ماكس مولر هو سعي الإنسان في تصور ما لا يمكن تصوره، وقول ما لا يمكن التعبير عنه ".

بينما عرفها فراس السواح بأنها التعبير الجمعي عن الخبرة الفردية الدينية، وهو تعريف ينسجم مع تعريف فراس السواح للإنسان بأنه كائن متدين، وهناك من خالف فراس السواح في فردية بداية التجربة الدينية، حيث يري هؤلاء المختلفين بأن التجربة الدينية هي نتاج تشكل المجتمعات البشرية الأولي وليست سابقة لها، بينما لجأ فراس السواح إلى الأركيولوجيا ولعلم الآثار لتدعيم وجهة نظره، حيث استدل باكتشاف حفريات تدل على ممارسات دينية لدي البشر الأوائل، وحتى إنسان نياندرتال السابقي لوجود الإنسان الحديث، وأما المعتقد فيري السواح نتاج انتقال التعبير عن التجربة الدينية من الانفعال العاطفي إلى الـتأمل الذهني، فالدين يبدأ فردياً، ويتحول إلى معتقد حسب فراس السواح عندما تتشارك جماعة من البشر التجربة الدينية الفردية ذاتها، فالمعتقد يعطي للخبرة الدينية شكلها العقلاني ويضبط ويقنن أحوالها.

وأضاف فراس السواح: لقد قمت بدراسة الأديان منذ تشكل وجود الإنسان على الأرض، فدرست الأديان في العصر الحجري القديم ثم الحديث، وقدمت براهين على وحدة الأديان، أو وحدة التجربة الإنسانية في الدين، ولاحظت التأثير الواضح بين الأساطير التى ورثناها عن الحضارات القديمة ومجموع الأديان، ثم كشف لنا ذلك كيف تأثرت الحضارات ببعضها، الحضارة تأخذ مؤثرها الأول، أو محرضها الأول من حضارة أخرى، ثم تشق الحضارة الجديدة طريقها وحدها منفردة بسماتها، نحن نجد تشابهًا مثلًا في الآلهة القديمة مثل أبلو اليوناني وبعلو السورى، أيضًا نستطيع أن نشير إلى براعة الحضارة السومرية فى الكتابة والعمارة، ثم أخذت مصر منها ذلك، وأسست لحضارة لا مثيل لها فى العالم.

وأكد فراس السواح أن التشابه بين الإسلام واليهودية يقتصر على وجود الشريعة، والمسيح تحدى الشريعة اليهودية، واعتبرها بولس لعنة ويجب أن يتخلص منها فصنع قطيعة مع كنيسة أورشليم. والمنظومة الأخلاقية المسيحية موجودة بالكامل فى القرآن، فهو يحتوى على منظومة أخلاقية وسلوكية متكاملة لا تفوقها منظومة أخلاقية فى العالم.

وانتقل فراس السواح للحديث عن بنية الدين الإسلامي ولغته، فقال: إن كثرة التفاسير الموجودة حول معانى القرآن تدل على أن هناك إشكالية كبيرة في اللغة، فلغة القرآن غير لغة القرن الثاني والثالث الهجري، هناك مفردات في القرآن لم يعرف المفسرون معناها، ومن الجدير دراسة اللغة العبرية والآرامية، فلغة القرآن هي لغة قريش التي ضمت ألفاظًا مشتركة بين اللغات.

وقد أعجبني جدًا تفريقه بين الدين الفردي الذى يعبر عن خبرة الفرد النفسية بالقدسي، وبين الدين الجمعي والمؤسساتى الذى يتطور مع تطور التكوين السياسي والاجتماعي المركب، يبدو أننا الآن فى عصر غابت فيه الخبرة الفردية بشكل مقلق للغاية، وتولت المؤسسات الاجتماعية المركبة استبدال هذه المشاعر الدينية الحقيقية التي نحن في حاجة إليها بمشاعر أخرى مصطنعة زائفة هي التي صنعت من الدين عصابًا كما رأى فرويد... الديانة الجمعية هي التي تولت لعصاب لا الدين في حد ذاته، وهو الأمر الذى عجوز فرويد عن فهمه، لأنه نظر إلى الدين على أنه مجرد مشاعر نفسية في حاجة إلى الأب الحامي، في حين عرض فراس السواح أن فكرة الألوهة هي فكرة لاحقة أساسًا على الدين، وأن الدين أسبق من ذلك بكثير.

في الحقيقة فإن المؤسسة الدينية هي بنية اجتماعية حديثة نسبًا فى تاريخ الحضارة الإنسانية، فقد عاشت الجماعات البشرية وفقًا لمعتقداتها ومارست طقوسها وقصَّت اساطيرها لعشرات الألوف من السنين دون مؤسسة دينية تشرف وتوجه وتجعل من نفسها السلطة المرجعية العليا. ربما قام أفراد متميزون فى مجتمعات العصر الحجري والمجتمعات القروية الأولى بالإشراف على الطقوس الدينية والتوسط بين العالم الدنيوي والعوالم القدسية إلا أن هؤلاء لم يتخذوا صفة الكهان المرسومين ولم يتمتعوا بسلطة مطلقة على الحياة الدينية لجماعاتهم".

في الختام لا يسعني إلا التعبير عن الإعجاب بموسوعية فراس السواح في تحريك الأحجار الراكدة للفكر الديني، حيث عرفنا عن معنى الدين وعن بنيته ومكوناته، كما مر بنا على تاريخ الأديان القديمة وشخصياتها المؤسسة، وطاف بنا حول نظريات كبار مفكري الدنيا ممن حاول دراسة أصول الدين وبداياته، كما لم يتخلف عن إطلاع قارئه كذلك على أشهر وأدق النظريات الفيزيائية المعاصرة دون أن ينسى البسيكولوجيا حيث رافقت آراء "كارل يونغ" أهم أفكاره الدينية.

***

د.محمود محمد علي

.......................

المراجع

1- يوتيوب: الدين والمعتقد عند فراس السواح | يتفكرون.

2- يوتيوب: مختلف - عليه.. إبحار في الأديان والأساطير مع فراس السواح – الجزء الأول.

3- فراس السواح: التجربة الدينية للإنسان واحدة محمود عبدالله تهامي، البوابة نيوز، الاثنين 28/يناير/2019 - 09:28 م.

4- أحمد إبراهيم الشريف: اقرأ مع فراس السواح.. "دين الإنسان" المؤسسات الدينية حديثة عهد والتدين قديم، اليوم السابع، الأربعاء، 08 يناير 2020 11:00 م.

لماذا الاهتمام والحديث المتزايد حول الإعجاز العلمي؟، ولِمَ تضخمت فكرة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في هذا القرن لهذا الحد؟! وهل لذلك اتصال بالمَدنية الأوروبية وتقديس العصر الحديث للعلم التجريبي؟ وكيف شغلت هذا الحيز الكبير في الخطاب الإسلامي المعاصر؟! وهل يمكن قبول أصول هذه الدعوة مع مُحكمات العلم أو القرآن جميعا؟!

هذا الجدل حول الإعجاز العلمي في الإسلام ليس الأول من نوعه، فقضية الإعجاز العلمي هيمنت على عقول عدد من الباحثين المسلمين في القرن الماضي، وهو ما جعل تعامل البعض مع القرآن باعتباره كتابا في الجغرافيا والجيولوجيا والأحياء والكيمياء والفيزياء والفلك، أكثر من كونه منهج هداية.

علاوة علي أن هذا الاهتمام بالإعجاز العلمي وتتبعه في القرآن لم يشغل مثل هذا الحيز في وعي المسلمين والمتدبرين لكتاب الله على مدى اثني عشر قرنا، حيث كان تعاملهم مع القرآن باعتباره وحي السماء والهداية الروحية والقيمية في الأرض، لا باعتباره موسوعة علمية ينبغي التنقيب في فروع العلوم التطبيقية بداخلها ودعوة غير المسلمين إليها.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد انسحب الحال من مجرد محاولة التفسير العلمي للآيات، وهو ما قد يُقبل إذ إن التفسير قابل للقبول والرد، إلى التحدي واعتبار أن هذا من الاكتشافات العلمية ودخوله تحت نطاق الإعجاز العلمي، وهو ما كان غريبا على العقل المسلم أن يذهب إلى أن الآيات الكونية إنما هي من إعجاز القرآن، حتى عند من أجاز التفسير العلمي للآيات من السابقين مثل الإمام الغزالي والسيوطي، فإنما أنزلوه منزلة التفسير المحتمل وليس الإعجاز القطعي.

ويعد زغلول النجار الأيقونة التي نقلت فكرة الإعجاز بين الناس وقربها لعموم الناس عن طريق برامجه في الفضائيات والتي بلغت المئات من البرامج المختلفة "أولو الألباب"، "الإعجاز العلمي"، "تفسير الآيات الكونية"، "الإعجاز العلمي في السنة النبوية".

كما كان أحد أبرز علماء الجيولوجيا العرب، حصل على شهادة البكالوريوس من قسم الجيولوجيا بمرتبة الشرف من كلية العلوم جامعة القاهرة في عام 1955م، ومن ثَمَّ سافر إلى المملكة المتحدة، وحصل هناك على درجة الدكتوراه في الجيولوجيا من جامعة ويلز - ببريطانيا عام 1963م، ثم رشَّحته الجامعة لاستكمال أبحاث ما بعد الدكتوراه من خلال منحة علمية من جامعة Robertson, Post-Doctoral Research fellows في إنجلترا.

قدم الدكتور زغلول في فترة وجوده بإنجلترا أربعة عشر بحثًا في مجال تخصصه الجيولوجي، ثم منحته الجامعة درجة الزمالة لأبحاث ما بعد الدكتوراه (1963م - 1967م)، حيث أوصت لجنة الممتحِنين بنشر أبحاثه كاملة، وهناك عدد تذكاري مكوَّن من 600 صفحة يجمع أبحاث الدكتور النجار بالمتحف البريطاني الملكي، طبع حتى الآن سبعَ عشرة مرة.

عمل أستاذًا للجيولوجيا في بعض جامعات العالم، ومنها جامعة الملك فهد للبترول والمعادن - السعودية، وضم إلى ذلك اهتمامًا كبيرًا بدراسة القرآن الكريم وعلومه، بين التفسير العلمي والإعجاز، ومن ثَمَّ التحق بعدة وظائف في الفترة ما بين 1955م إلى 1963م؛ حيث التحق بشركة صحارى للبترول، ثم بالمركز القومي للبحوث مناجم الفوسفات في وادي النيل، ثم التحق بجامعة عين شمس معيدًا بقسم الجيولوجيا بعد سنة واحدة من تعيينه في الجامعة، فانتقل للعمل بمشروع للفحم بشبه جزيرة سيناء، وفي عام 1959م لاحت أول انطلاقة حقيقية للدكتور زغلول النجار في إثبات ذاته، حيث دُعِي من الجامعة بالرياض إلى المشاركة في تأسيس قسم الجيولوجيا هناك،

ثم انتقل الدكتور زغلول بعد ذلك إلى "الكويت"؛ حيث شارك في تأسيس قسم الجيولوجيا هناك عام 1967م، وتدرج في وظائف سلك التدريس حتى حصل على الأستاذية عام 1972م، وعُيِّن رئيسًا لقسم الجيولوجيا هناك في نفس العام، ثم توجه إلى قطر عام 1978م إلى عام 1979م، وشغل فيها نفس المنصب السابق، وقد عمل قبلها أستاذًا زائرًا بجامعة كاليفورنيا لمدة عام واحد في سنة 1977م.

نُشِر للدكتور زغلول ما يقرب من خمسة وثمانين بحثًا علميًّا في مجال الجيولوجيا، يدور الكثير منها حول جيولوجية الأراضي العربية: كمصر، والكويت، والسعودية، زيادة على أبحاثه العديدة في أحقاب ما قبل التاريخ (العصور الأولى)، كما نُشر للدكتور زغلول ما يقرب من أربعين بحثًا علميًّا إسلاميًّا، وله عشرة كتب، منها: "الجبال في القرآن"، "إسهام المسلمين الأوائل في علوم الأرض"، "أزمة التعليم المعاصر"، "قضية التخلف العلمي في العالم الإسلامي المعاصر"، "صور من حياة ما قبل التاريخ" وغيرها، كما كان له بحثان عن النشاط الإسلامي في أمريكا والمسلمين في جنوب إفريقيا... هذا بالطبع بجانب أبحاثه المتميزة في الإعجاز العلمي في القرآن، والذي يميز حياة د. زغلول النجار.

وقد جاءت الفرصة الكبرى إلى زغلول النجار تسعى، عندما استضافه الإعلامى الكبير الراحل أحمد فراج فى برنامجه الشهير «نور على نور»، فبعد شهور من هذه اللقاءات، قابلت فراج فى بيته بالجيزة، كنت قد وصفته بأنه «صانع الأساطير» فقد كان هو نفسه، وفى نفس البرنامج من أطلق الشرارة الأولى للشيخ الشعراوى، حيث استضافه فى نهاية السبعينات فى حلقتين، لفت انتباه الجميع خلالهما، لينطلق بعد ذلك فى رحلة تفسيره للقرآن، وظل اسم أحمد فراج المذيع الشهير يتردد فى كل مرة يأتى فيها الحديث عن بدايات الشيخ الشعراوى.

وكان فراج منا كما يذكر محمد الباز قد استضاف زغلول النجار فى حلقتين، ومنحه مساحة كبيرة للحديث، أعاد تقديمه للناس، وكانت المفاجأة أن نجمه علا ربما بما لم يتخيله فى يوم من الأيام، وكان طبيعيا أن ينتقل من شاشة التليفزيون إلى كل مكان في مصر، طاف المحافظات جميعها، لم يترك جامعة إلا وعقد فيها ندوة، دخل كل النوادي، استضافه الأثرياء في ندوات خاصة في قصورهم وأجزلوا له العطاء.

لم يدع زغلول النجار مطلقا أنه جاء ليحل محل الشيخ الشعراوي، بل على العكس في واحد من أحاديثه الصحفية قال: أنا فين والشيخ الشعراوي فين، لقد كان الرجل صاحب عطاء واسع وعلم غزير، وفيما يتصل بتفسير القرآن، وهو حجة في اللغة، وفيما يتعلق بالتفسير العلمي للقرآن، فأنا أرى أنه يبرز من بين مسلمي كل عصر نفر من علمائه يقومون بتفسير كلام الله، يحيطون علما باللغة وأصولها ونواصيها وبالناسخ والمنسوخ وبالمأثورات من أحاديث الرسول الكريم، ولا أرى حرجا في توظيف الآيات الكونية في مجال التفسير العلمي بمنطق النظرية والفرض، بحيث إذا أصاب العالم فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد».

وكانت جريدة «الأهرام» قد خصصت صفحة أسبوعية يكتب فيها زغلول النجار ما أطلق عليه الإعجاز العلمي للقرآن، وهى الصفحة التي جرت عليه وعلى «الأهرام» مشاكل كثيرة، حيث أخذ منها منبرا ومنصة صواريخ ضد الأقباط، حيث طعن فى دينهم وكتبهم وسخر من كتابهم عندما وصفه بأنه «المكدس».. وليس المقدس، وتعاقدت معه عدة دور نشر، لإصدار أجزاء من تفسيره.. وبعد أقل من عامين، كان قد تبدد كل شيء.

ومن جملة أحاديثه التليفزيونية والصحفية ومقالاته وتفسيراته، يمكن أن نسجل الآتى حسب كلام محمد الباز :

أولا: مصطلح الإعجاز العلمي للقرآن ليس جديدا، فقد تحدث علماء التفسير منذ القدم، ولكن المعرفة بالكون ومكوناته لها طبيعة تراكمية، بمعنى أنه كلما زادت ملاحظات الإنسان فى الكون، وزادت تجاربه واستنتاجاته، زاد معرفة بهذا الكون.

ثانيا: لم تكن المادة العلمية المتوفرة لعلماء التفسير فى القرون الماضية كافية لإعطاء الإعجاز العلمي للقرآن حقه كأحد أشكال تفسير القرآن الكريم، لكن الآن تعيش البشرية عصر العلم، عصرًا تتضاعف فيه المعرفة العلمية مرة كل 4 أو 5 سنوات، وتتضاعف تقنياتها مرة كل 3 سنوات، وأصبح لدى العلماء معرفة بالكون ومكوناته تسمح بأن يقدموا خدمة لكتاب الله لم تتوفر لعلماء التفسير من قبل.

ثالثا: هناك فرق بين التفسير والإعجاز العلمي، ففي مجال التفسير، يتم التعامل مع القرآن من خلال توظيف اللغة وتوظيف أسباب النزول، وتوظيف المأثور من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، في تفسير الآيات لاستجلاء ما قالته في القضايا الأساسية في الدين وهى قضايا العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات.. وهى القضايا التي تمثل صلب الدين.أما الإعجاز، فينصرف إلى قضايا العلم في القرآن، أو إلى الآيات الكونية، التي جاءت بألفاظ محدودة ومحددة، يفهم منها أهل كل عصر معنى معينا، وتظل هذه المعاني تتسع في تكامل لا يعرف التضاد، وإذا حدث ووقع خطأ يظهر شيئا من التناقض، فهو خطأ المفسر.

رابعا: يمكن بلورة الأمر بشكل أكثر دقة، فالمقصود بالتفسير العلمي هو محاولة فهم دلالة الآيات الكونية في كتاب الله في إطار المعرفة العلمية المتاحة للعصر، ولا حرج أن يوظف فى هذه الحقائق القطعية الثابتة، كما يوظف الفروض والنظريات، لأن التفسير يبقى محاولة بشرية لحسن فهم دلالة الآيات القرآنية، بشرط أن يكون الإنسان لديه الشروط اللازمة للتعرض للتفسير، وهى فهم اللغة العربية وأسرارها وقواعدها وضوابطها، وفهم أسباب النزول، وفهم الناسخ والمنسوخ، وفهم المأثور من أحاديث الرسول، وفهم لجهود المفسرين السابقين، تم قدرته على توظيف المعارف المتاحة فى زمانه لإضافة بعد جديد للقرآن الكريم.

خامسا: يحدث الخلط أحيانا، لأن بعض الذين تعرضوا للتفسير العلمى ليست لديهم خلفية علمية، وحقيقة الإعجاز العلمي أننا نريد أن نثبت للناس – مسلمين وغير مسلمين – أن هذا القرآن الذى نزل على نبى أمى قبل 1400 سنة، فى أمة غالبيتها الساحقة من الأميين، يحكى من الحقائق بهذا الكون، ما لم يتوصل الإنسان إلى إدراكه إلا منذ عشرات قليلة من السنين.

سادسا: هناك من يسعى إلى تهييج عواطف الناس من خلال الحديث عن آيات الإعجاز فى القرآن، وهذا خطأ كبير، لأن القرآن لا يحتاج إلى التكلف أبدا.

كذلك زغلول النجار والذي تم نشره في عدد شهر يوليو عام 2007 تحت عنوان (العلم والقرآن في تعارض) حيث تم اللقاء في صالون الفيلا التي يقطن بها الدكتور النجار في المعادي (والتي أرجو أن يكون قد اشتراها من عائد عمله بجامعات انجلترا وليس من مصيبة الإعجاز العلمي). لشديد الأسف فقد بدأ الدكتور النجار حديثه مع الصحفي بــ (خطأ) كبير ظناً منه على ما يبدو أن الصحفي هو أيضاً من ضمن مريديه الذين سيهللون لكل كلمة يقولها دون تدقيق فقال له بالحرف (إن جميع المعارف العلمية في العالم هي مستمدة في الحقيقة من الحضارة الإسلامية) وكأن الدكتور النجّار لا يعرف بوجود حضارات صينية وفرعونية ويونانية وفينيقية وغيرها أضافوا جميعا للعلوم. ثم أردف الدكتور النجّار خطأه بخطأ آخر أكثر بشاعة حين قال إن الرسول قد أمر المسلمين أن يطلبوا العلم من المهد الى اللحد وكأن فضيلته لا يعلم أن تلك الحكمة ليست حديثاً نبوياً.

استطرد زغلول النجار قائلا للصحفي بالحرف (إن تخلفنا ليس بسبب الإسلام ولكنه بسبب ما فعله بنا الأمريكان والإنجليز (وكأن الأمريكان والإنجليز كانوا سبب سلسلة التخلف التي سادت مصر الإسلامية طوال قرون عديدة حتى استيقظ الشعب المسكين مذهولا أمام كتب الحملة الفرنسية التي كانت صفعتها له أشد إيلاماً من طلقات مدافع الفرنسيين.

ويستمر اللقاء فيؤكد الدكتور النجار للصحفي إنه كعالِم يرى أن حضارتنا الإنسانية تتعرض للخطر على يد الحضارة الغربية وذلك بسبب اعتراف الغرب بالشواذ جنسيا. ثم أكد الدكتور النجار للصحفي إن الكوارث الطبيعية التي تجتاح العالم هي عقاب إلهي لسكان تلك المناطق المنكوبة. فلما سأله الصحفي عن السبب أن الله قد اختار أن يعاقب أندونيسيا (وهي أكبر بلد إسلامي) بدلا من لوس أنجليس أو فلوريدا أجابه الدكتور النجار قائلا إن السبب هو أن سكان إندونيسيا كانوا يسمحون للسياح الغربيين بممارسة الرذائل على أرض أندونيسيا!

في النهاية أعطى زغلول النجار للصحفي ثلاث كتب من تأليفه تتحدث جميعا – بالطبع – عن الإعجاز العلمي، وقد أبدى الصحفي في مقالته عدة ملاحظات على ما ورد بتلك الكتب فقال إن زغلول النجار كثيرا ما يلجأ لتقنية أصبحت شهيرة بين حواة الإعجاز العلمي وهي أن يستند كل منهم الى الآخر كمرجع (using each other as a source) وبذلك يعطون انطباعاً للقارئ البسيط الغير مدقق أن أعمالهم تحمل قيمة علمية. ثم اشار الصحفي الى أن مشكلة دعاة الإعجاز العلمي هي أنهم بدلا من أن يبحثوا ليصلوا لنتائج منطقية (كما يفعل العلماء في جميع أنحاء العالم) فإنهم يختارون النتيجة التي يريدون الوصول اليها من القرآن ثم يحاولوا تطويع الحقائق العلمية لتتوافق مع النتيجة التي يريدون الوصول اليها. وقد أعطى الصحفي عدة أمثلة من الكتب التي أعطاه إياها د/زغلول النجار فقال مثلاً إن د/زغلول يشير في أحد كتبه الى أن عدد مفاصل جسم الإنسان هو 360 مفصلا وأن هناك حديث نبوي يشير الى ذلك ممّا يعد دليلا على صدق نبوة الرسول، فيعلق الصحفي على تلك الخدعة قائلا إن المصادر الطبية تحدد عدد مفاصل الجسم بحوالي 307 مفصلا ولكن دعاة الإعجاز العلمي لا يتوانون عن عدّ أشياء أخرى في الجسم (ليست مفاصل) لكي يصلوا للرقم 360.

ومن خلال تلك النقاط والشواهد عن زغلول التجار بادر البعض إلى القول بأن الدكتور زغلول النجار يتميّز بين كافة دعاة الدين بوضعية شديدة الخصوصية فهو يخلط الدين بالعلم بطريقة تبتعد تماماً عن المنهج العلمي الحقيقي ولكنه يعتمد في ذلك على الخلفية العلمية الضحلة لمعظم جمهوره وعدم تجرؤهم على مراجعة مايقوله ظناً منهم بأنه لايمكنه أن يخطيء (أو يكذب).

وبناء على ذلك فقد تمادى الدكتور زغلول النجار في أخطائه الى حدّ مهين للعلم والدين معاً فتارة هو يحاول أن يقنع جمهوره بأنه قد قام بتسجيل صوت النجم الطارق من الفضاء وتارة أخرى يتحدث عن وثيقة وهمية يقول إنها محفوظة في المكتبة البريطانية تتحدث عن رؤية أحد ملوك الهند لانشقاق القمر، ولهذا زغلول النجار يمثل في نظر البعض بأنه نجح في أن ينفق هو ومن معه في سوق "الإعجاز العلمي للقرآن" ملايين الدولارات في أوراش فارغة، هدفها مناوئة النموذج الحضاري الذي تمثله البلدان الأكثر رقيا.

ملخص أطروحة زغلول النجار ومن معه أن في القرآن حقائق علمية اكتشفها العلم الحديث، ما يعني أن الهدف الدعاية للدين لا للعلم، يتم هذا في وضع يعرف فيه المسلمون انحطاطا كبيرا على جميع الأصعدة، حيث فشلوا في إقامة أنظمة حكم عادلة، كما انهزموا في كل أسواق التنافس المادي والرمزي، ولم يقدموا شيئا يذكر في مجال التنظير للعلوم أو ابتكار التقنيات المتطورة، وظلوا يقتاتون على فتات موائد العالم المتقدم الذي قطع أشواطا كبيرة في تحصيل المعارف على أسس متينة من البحث التجريبي والنظري الدقيق.

واختم كلامي بما قاله الدكتور خالد منتصر في كتابه "وهم الإعجاز العلمي للقرآن"، القرآن كتاب دين وهداية وليس كتاب كيمياء أو فيزياء، وإنكار الإعجاز العلمي فى القرآن ليس كفراً ولا هو إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة، فالقرآن ليس مطلوباً منه ولاينبغى له أن يكون مرجعاً في الطب أو رسالة دكتوراه فى الجيولوجيا

***

د. محمود محمد علي

..................

المراجع

1- أحمد رمضان: الإعجاز العلمي بالقرآن.. حقيقة أم ترويج خاطئ للإسلام؟، الجزيرة، 17/8/2021

2-خالد منتصر: الحوار المتمدن-العدد: 988 - 2004 / 10 / 16 - 12:19.

3- محمد الباز : النبي الكاذب.. كيف انهارت أسطورة زغلول النجار؟، الإثنين 17/أبريل/2017 - 06:14 م

غوايةُ الكتابة واحدةٌ من غوايات عصر تكنولوجيا المعلومات. صار الهوسُ بالكتابة والنشر، بلا موهبة ولا قراءة مكثفة ولا تفكير صبور، كهوس تكديس الشهادات العليا بلا تكوينٍ علمي. يورث الحضورُ في تطبيقات وسائل التواصل إدمانَ الشهرة، يصبح هذا الإدمانُ أحيانًا على غرار الإدمان على الهيروئين، كذلك يورث الحضورُ فجأةً في السلطة إدمانًا من نوعٍ آخر، مَن يعمل سنوات طويلة من حياته مسؤولًا في سلطة، أو مسؤولًا في تنظيمٍ سياسي بدولة أو مدينة صغيرة أو كبيرة، فينتقل فجأةً للأدب والثقافة والفن في منتصف عمره أو في خريف العمر بغية المزيد من الحضور والشهرة. يجهل أو يتجاهل هؤلاء أن البدايةَ بالإنتاج الفكري والأدبي والفني متعذرةٌ بلا تكوينٍ مستمر وتفكيرٍ متأمل وتراكمٍ طويل لقراءات تتواصل العمرَ كلِّه. يمكن أن يجد الإنسان نفسه في السلطة في أي مرحلة من عمره، بلا تأهيلٍ سياسي واجتماعي وثقافي، ويصل إلى مواقع متقدّمة بسرعة خاطفة، إن كان يتقن الانخراطَ بجماعات ترفعه لهذا الموقع. ‏سياقاتُ التكوين الفكري فردية، وهي تحتاج إلى قراءاتٍ تتسع لعمر الإنسان كلِّه وتفكيرٍ مزمن وممارسةٍ يومية للكتابة، وسياحةٍ في الثقافات والآداب والفنون والمعارف والعلوم، وشغفٍ بالكتاب وولعٍ لا ينطفئ بالمطالعة. لا تتراكم الثقافاتُ والآداب والفنون والمعارف والعلوم وتتفاعل إلا في رحلة العمر الممتدة ومحطاته المتنوعة، ولا تتخصب وتنضج إلا ببطءٍ وزمن مديد.

سألني شخصٌ ممن تقدم بهم العمرُ، لم يمتهن المطالعةَ في حياته، ولا علاقة له بالكتاب والمكتبات، أنه يريد أن يبدأ بكتابة رواية فماذا يفعل؟

قلت له: الكتابة الإبداعية لا تولد بقرار، لست روائيًا ولا ناقدًا، لم أجرؤ حتى اليوم على كتابة رواية. الرواية من أثمن أجناس الكتابة وأغناها وأصعبها احترافًا. ليست الروايةُ تكديسَ ألفاظ أو حكايات مبعثرة، الرواية تتطلب موهبةً ومهارة وكاتبًا لا يمتلكها إلا بعد تراكمٍ معرفي وجمالي واسع وعميق، ومطالعاتٍ غزيرة لأعظم الروائيين العالمين والعرب، وتمارين شاقة على الكتابة تصل حدَّ الضجر. تتناغم في فضاء الرواية أجناسٌ كتابية وفنون ومعارف متنوعة، يحتاج الروائي مضافًا إلى الموهبة ثقافةً موسوعية تلتقي فيها مختلفُ أنواع الثقافات والآداب والفنون والمعارف، وشغفًا مبكرًا بالمطالعات المتنوعة. ليس هناك نصٌّ يبدأ من لا شيء، النصُّ المكثّفُ نسيجٌ يحيلُ إلى ما يختزنه الكاتبُ من نصوص قرأها في مراحل متوالية من حياته. تتجلى براعةُ الكاتب في استلهام ما يمده به الخزّانُ المترسب من قراءاته في أعماقه.

كاتب الرواية المحترف يحتاج مدةً طويلة للقراءة والتحضير لعمله، بعض الكتّاب يحتاج مدة طويلة للتحضير لعمله الروائي أحيانًا، وربما يتطلب التحضيرُ للرواية عدة سنوات. قرأت لأمبرتو إيكو أنه أمضى (ثمان سنوات من أجل كتابة "بندول فوكو"... وفي الفترة التي كنت أحضّر فيها لكتابة روايتي بندول فوكو، قضيت ليالي بأكملها أتجول في ردهات معهد الفنون والحرف في باريس، حيث تدور بعض أحداث القصة، إلى أن يغلق أبوابه. ومن أجل وصف تجوال كاسوبون ليلاً في باريس من المعهد إلى ساحة ليفوج، ثم إلى برج إيفل، قضيت ليالي كثيرة أتجول في المدينة بين الثانية والثالثة صباحاً، أهمس في مسجل مدوناً ملاحظاتي حول ما أرى، ولكي لا أخطئ في أسماء الأزقة والمدارات)1.

الروائي الحاذق لا يقف عند القراءة والتخيّل، بل يجد نفسَه يتقمّص أدوارَ أبطال روايته ومواقفهم، ويتموضع في أماكنها وأزمنة حوادثها، وينصهر بوقائعها، يعيش الأحداثَ ويتماهى مع الشخصيات ويسكن الأماكنَ وتسكنه. لفرط شغف الروائي يقع في فضاء الحدث ويتلبّس به كأنه هو من عاشه، ويلبث فيه مادام يفكر ويتخيل ويكتب عمله، لا يستطيع أن ينفكّ عنه في اليقظة، وعادة ما يلاحقه في نومه وأحلامه وكوابيسه. الروائي الحاذق لا يمكنه نسيانُ حضور شخصيات روايته، يتوحّد معهم إلى حدٍّ تتغلّب على مشاعره مشاعرُهم وينعكس صدى انفعالاتِهم ومواقفهم في انفعالاته ومواقفه. لفرط اندكاكه بكلِّ شيء في روايته ربما يأخذ شيئًا من كلِّ شيءٍ فيها إلى المستقبل، ولعمق تقمّصه لكلِّ التفاصيل وما يقع فيها تكون شخصيتُه حالةَ الكتابة كأنها صورةُ رواياته ورواياتِه صورةُ شخصيته. يتحدث نجيب محفوظ عن كمال عبد الجواد بطل ثلاثيته فيقول: "الأزمة الفكرية الخاصة بكمال هي أزمتي... التطور العقلي لكمال أذكر انني مررت به خطوة خطوة"2 .

تفرض الكتابةُ على الذهن أن يفكر بعمق في كلّ كلمة، اللغة ليست أداةَ تواصل فقط، كلّ كلمة تستبطن، منذ نشأتها وعبر رحلتها الطويلة، معاني مستترة. تطويعُ لغة الكتابة أشدُّ امتحانات كلِّ كاتب، تظهرُ حذاقةُ الكاتب في القدرة على الاستمرار بتغذّية الذهن بكلماتٍ يسطعُ ألقُها ويرتسمُ معناها بذهن القارئ، وبراعته في حرصه على عدم استنفاد ما تختزنه ذاكرتُه من هذا النوع من الكلمات. الكتابة الجيدة لغتها صافية، أفكارها واضحة، أسلوبها يتقن اقتصادَ الألفاظ، لا تغرقه كلماتٌ لا تقول شيئًا. تكتب الروائية إيزابيل الليندي: "أنا أصحح إلى حد الإنهاك، وفي النهاية أستسلم. الرواية دائمًا غير منتهية تمامًا، ودائمًا ما أفترض بأنها يمكن أن تكون أفضل، ولكنني أبذل قصارى جهدي... أن تستعبدك حكاية فهذا مرض. إنني أحملُ القصة في داخلي طوال اليوم، طوال الليل، في أحلامي، في جميع الأوقات. كلُّ شيء أراه، كل شيء يحدث، يشعرني بأن الكون يتحدث معي لأنني أوصِّل القصة... لا أزال خائفة من امتناع قدرتي عن الكتابة. الأمر أشبه بابتلاع الرمل، إنه مروّع"3 .

‏ يرى الروائي المبدعُ صورةَ العالم في أصغر الأشياء في عينه وأقصاها عنه، يرى كهلًا في طفل، يرى غابةً في شجرة، يرى جبلًا في صخرة، يرى شلالًا في قطرة، يمكن أن يرى في أصغر شيء كلَّ الشيء. المبدعُ يتحسّس ما لا يتحسّسه غيرُه، وينفعل بما لا ينفعل به غيرُه، ويتألم بما لا يؤلم غيرَه، ويكتئب بما لا يكتئب به غيرُه، ويبتهج بما لا يبهج غيرُه.كأنه يرى جزئيات كلّ شيء وذراته بمجهرٍ يضيء التفاصيلَ الهامشية بما يعجز عن رؤيته غيرُه. كلُّ قصة مادة ثرية لتأليف رواية ترسم لنا شيئًا من تجليات أعماق النفس الإنسانية، وتكشف ملامحَ صورة الإنسان ومختلف أحواله وهواجسه وقلقه وتناقضاته، والعالَم الذي يعيش فيه. حياةُ كلّ إنسان قصةٌ بل سلسلةُ قصص لا تكرّرها حياةُ إنسان آخر.‏كلُّ شيء في هذا العالم قصة، الكتابُ قصة، القصيدةُ قصة، الكلمةُ قصة، البذرةُ قصة، النبتةُ قصة، الوردةُ قصة، الشجرةُ قصة.كلُّ علاقة لإنسان بإنسان، كلُّ حدث، كلُّ نجاح، كلُّ فشل، كلُّ حزن، كلُّ فرح، كلُّ شيء مهما كان قصة تتسم بفرادة. تحكي كلُّ قصةٍ تميّز هذا الكائن واختلاف أحواله ومواقفه وانفعالاته وأفعاله. يقول يونغ: "في بعض الأحيان تستطيع شجرةٌ إخبارك أكثر مما تستطيع الكتبُ إخبارك به"4 .

لا يجد المبدعُ نفسَه على حالة واحدة حين يكتب، ربما يكتب نصًا لحظة توهجٍ لن يعود قادرًا على كتابة ما يشبهه في لحظة آتية. الكاتبُ الحقيقي مبدع، الإبداع اختراقٌ للقوانين المتعارَفة للكتابة وخروجٌ على الطرق المرسومة من قبل، ومغادرةٌ للأساليب المملة. أحيانًا يعجب الكاتبَ نصٌّ، يجد قلمَه يضيع عندما يحاول تقليده، لا هو ارتقى إلى لغته، ولا استطاع أن ينتج نصَّه الخاص. أحيانًا يحاول أن يستأنف محاكاةَ نصِّه الذي أنتجه كما هو مرةً أخرى، فيجد قلمَه يعاند تكرارَ التجربة مهما حاول أن يكرهه على ذلك.

كلٌّ يكتبُ على شاكلته، النصُّ كائن حيّ ‏يختلف باختلاف مثابرة وموهبة ولغة وعصر وحالة مَنْ يكتبه. لو كان الكاتبُ يكرّرُ ما يكتبُه غيرُه ويطابقُه، لأصبحت الكتابةُ نسخةً واحدة، ‏ولما تمايز كاتبٌ عن كاتبٍ وإبداعٌ عن إبداع، ‏ولصار كلُّ الروائيين دوستويفسكي، وكلُّ الفلاسفة إيمانويل كانط، وكلُّ العرفاء النفّري ومحيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي، وكلُّ الأدباء العرب الجاحظ وطه حسين ونجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف.‏‏‏

***

د. عبد الجبار الرفاعي

...................

1- أمبرتو إيكو، اعترافات روائي ناشئ، ترجمة: سعيد بنغراد، ص 26-27، 2014، المركز الثقافي العربي، بيروت.

2- نجيب محفوظ، أتحدث إليكم، ص 33-34، ط1، 1977، دار العودة، بيروت.

3- ميريدث ماران، لماذا نكتب: عشرون من الكتّاب الناجحين يجيبون على أسئلة الكتابة، ترجمة: مجموعة من المترجمين، مراجعة وتحقيق: بثينة العيسى، ص 32-35، ط3، 2013، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت.

4- هكذا تكلم كارل غوستاف يونغ، ترجمها وعلق على نصوصها: أحمد الزناتي، 165، 2022، الكويت. عن: (كارل غ. يونغ، الرسائل، الجزء الأول، صفحة 179).

 

اصل الحكاية: في الثامن من اذار /مارس 1908، خرجت 15 الف امرأة في مسيرة بمدينة نيويورك مطالبات بساعات عمل اقصر  واجر افضل  ومنحهن حق التصويت.

وبعد عام من تلك المسيرة، اعلن الحزب الاشتراكي الامريكي ذلك اليوم عيدا وطنيا للمراة.

وفي 1910  اقترحت سيدة تدع (كلارا) في مؤتمر دولي للنساء العاملات في كوبنهاغن، بأن يصبح يوم 8 مارس /اذار يوما عالميا للمرأة .. واحتفل بهذا اليوم لأول مرة في عام 1911 في كل من النمسا والدنمارك والمانيا وسوسيرا.

وفي عام 1977 دعت الجمعية العامة للامم المتحدة الدول الاعضاء الى اعلان الثامن من اذار مارس عطلة رسمية للامم المتحدة من اجل حقوق المراة والسلام العالمي، وتعبيرا عن الحب والاحترام العام لما تحققه المرأة من انجازات في مجالات الحياة المختلفة.

ونظرا لان عدد النساء اللواتي يستخدمن (الرقمنة) اقل بملايين من عدد الرجال، فان شعار 8 اذار لهذا العام 2023 سيكون (الرقمنة للجميع : الابتكار والتكنلوجيا من اجل المساواة بين الجنسين) بهدف التواصل مع الاخرين وتعبئة الموارد واحداث تغيير اجتماعي يكون اسرع وافضل واجمل بمشاركة المرأة.

المرأة العراقية..استثناء!

تؤكد الأحداث  ان المرأة العراقية هي الوحيدة بين نساء العالم التي تعرضت الى معاناة قاسية على مدى (43) سنة.. بدءا من الحرب العراقية الأيرانية وكارثة غزة الكويت والحصار وصولا الى الحرب الطائفية فالحرب الداعشية... حروب حمقاء سرقت الفرحة من عيونها وافقدتها الزوج والاب والابن والاخ والأحبة ..وحفر الزمن تجاعيده بوجهها على عجل..وما تزال تنظر بريبة وخوف من المجهول، فضلا عن تراكامات الهمّ المتزايد يوميا باعداد الارامل  والعوانس والشابات بعمر الزهور.

كانت المراة العراقية تتمنى ان تتحقق لها ظروف افضل لتتمكن من الاحتفال بهذا العيد بصورة تليق بهذا اليوم الكبير فبقيت معظم امنياتها مؤجلات. نعم لقد تحقق للمرأة مكسب كبير بدخولها المعترك السياسي،وصار لعدد مميز منهن صوت مسموع ومؤثر في الحياة السياسية التشريعية والتنفيذية،ومع ذلك فالمرأة العراقية ما تزال تعاني من الاضطهاد والخوف وتوقع الشرّ،والتعرض الى التشريد في الخيام خوفا على ازواجهن وابنائهن وبناتهن من القتل والسبي والبيع. والأقبح ان جرائم القتل بدافع الشرف ما تزال شائعة.. وما يزال القانون العراقي يتعامل مع الرجل القاتل بتعاطف!.

وتبقى ثمة مفارقة.. ان بعض النساء العراقيات لا يعرفن شيئا عن هذه المناسبة، والكثير منهن يبدو لهن الثامن من آذار تاريخا مجهولا في حياتهن وهن يواصلن رحلة العمل اليومي المضاف الى تعب السنين الطويلة التي حفرت تضاريسها على وجوههن بقسوة.

ان الاحتفال بعيد المراة هو اعتراف من العالم بدورها وحضورها في الحياة والمجتمع. فالحياة بدون المرأة.. بيت مظلم.. بستان بلا ورود.. بلا عصافير.. باختصار ..الحياة بدونها وحشة.. فمن منّا يطيق الوحشة؟!

***

د. قاسم حسين صالح

يقول فيلسوف الحرية جان بول سارتر في كتابه الوجودية مذهب إنساني: "إن الوجود يعلن صراحة أن الإنسان يحيا في قلق ويكابد القلق"

فالإنسان الغربي المعاصر بعد أن تحرر من الحكم الكنسي باتباعه للعلمانية أو مايدعى بعصر التنوير، انتقل الى محاولة أخرى للتحرر فانتهج الليبرالية ليتوق الى حارس يحرس كل تلك القفزات التحررية، فتبنى الديمقراطية كطموح يحفظ حقوق الانسان وحرية التعبير وغيرها وأثناء هذه الجولات التي حاول من خلالها ضرب أمواج الفكر التي تتقاذفه من كل اتجاه لم يعد يفهم إلى أين الإتجاه، فإطلاق الحرية على غاربها مسح جميع معالمها، فلم تعد محددة أمامه بل لم يعد يعنيه أن تتحدد أمامه، لأنه لم يعد يسعى سوى إلى الحرية، و لم يعد يعرف بعدها حدودًا لوجوده، ولم يعد يعرف نطاق وجوده، فوقع في مشكلة أكبر. واجتهادًا منا في تفكيك مشكلة بسط أجنحة الحرية على إطلاقها دون تحديد لنطاقاتها، رأينا أنه علينا بدايةً أن نحدد التصورات الثلاثة التي اعتقدها الإنسان وهو يبحث عن الحرية:

التصور الاول: أنه يمكن للانسان من خلال الحرية أن يبلغ مبلغ الكمال، فوجد نفسه دون وعي منه يؤلّه نفسه ولا يؤمن بمقدّس سوى ذاته، وهذا ماحصل حين حرق بعض الأفراد القرآن الكريم في عديد من الدول الغربية، فالأمر أنهم لم يحاولوا حرق القرآن الكريم بل تلك محاولة لحرق المقدّس الذي ينافس قداستهم الإنسانية التي أرادوا تأليهها بدعاوى الحرية .

فلو عرف مثلا من أحرقوا كتاب الله العزيز بأن ديننا الاسلامي يهدي للتي هي أقوم، وجعل الانسان هو الأكرم لأحرقوا أنفسهم قبل أن يحرقوا الكتاب الذي يدعوهم إلى سلامهم.

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعاً قال: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟

قال:"تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف"

التصور الثاني: أن الانسان تخيل أنه بمقدار ماسوف يسع من حرية بمقدار ماسيسع من سعادة روحية الى الحد الذي فقد فيه هويته الانسانية، فانحدر بنفسه من سماوات تأليهها الى أسافل الحيوانية، ووجد نفسه ينافس الحيوان في شكله ودوره، ولم يحرجه عقله في أن يتشبه بالكلب كما رأيناه في بريطانيا حين تحول الآلاف من البشر الى كلاب بشرية .

التصور الثالث: محاولة بناء ذوات فردية منفلتة عن المؤسسات السياسية التي حبست الفرد بين حاجاته الإستهلاكية، وقادته بوسائل تخالف مطامحه البشرية مثل الإكراه، القهر، الإبتزاز، الإضطهاد، الإستبداد...وغيرها

ماأوقعه في متاهة بشأن نظام العقد الاجتماعي الذي يمكنه من خلاله بناء أساسات دولة حديثة يمكنها أن لاتنهار على داخلها بفعل صراع الهوية الذي يتضارب مع مطلقات الحرية، ومانجم عنه من إشكالات حول الدولة المدنية والدينية وفكرة الديمقراطية.

ثم مازاد في انهيار الوعي البشري هذه الفظائع الدموية والحروب العالمية التي لم يعد يرى فيها الفرد لحياته من غاية سوى الموت.

فنحن أمام اشكاليات لاتنتهي للحرية، وجب أن نفكر فيها كمسلمين ونتدبر، ولا نقع في براثن الإستعلاء والفوقية وكأننا نملك ناصية الحقيقة دون جميع البشرية، في حين لاوجه للحق دون وجه للحقيقة.

***

بادية شكاط كاتبة في الفكر، السياسة وقضايا الأمة

ممثلة الجزائر في منظمة إلاميون حول العالم الدولية في النمسا

يبقى غضب الطبيعة هو الأبرز من بين كل الموضوعات التي لا نمنحها وقتاً كافياً للتفكير، إلى أن تحل بساحتنا. كأننا نهرب من تخيل جموحها المفاجئ، نرتعب من قسوتها الهائلة حين تبطش في لحظات الكوارث. ربما لأنها ستكشف لنا عن ضعفنا الميتافيزيقي، عن حقيقة عالمنا كما لم نعرفه من قبل، تجعلنا ندرك مدى هشاشته، وكم هو فاقد للمعنى.

نحن البشر متشابهون في أشياء كثيرة، سواء أكنا من كهرمان مرعش التركية، حيث فتك الزلزال بكل ما على فوق الأرض، أم من حلب السورية التي أكمل فيها جبروت الطبيعة تدمير ما نسيته الحرب الأهلية، أو من بغداد، أو بيروت، أو حتى بورت/ برنس عاصمة هايتي، لا فرق أبداً. نطلب من مهندس البناء تدعيم أسس بيوتنا بمزيد من الحديد والخرسانة. نحلم بأن تصمد، وأن تبقى صالحة لسكن الأحفاد. إن أسوء الكوابيس التي يمكن تخيلها هو أن تأتي لحظة غير متوقعه لتجعل فردوسنا الآمن جحيماً، أن يقوم زلزال ما بتحويل بيت طفولتنا الموروث من آبائنا، أو الذي لم ندخر جهداً ومالاً لتشييده بأنفسنا إلى قبر ينهار فوق رؤوس أحبتنا وهم أحياء.

ذلك الإنسان الذي كان خارج البيت لحظة انهياره هل نعتبره إنساناً محظوظاً أم سيء الحظ للغاية؟ لنتخيل أن عائلته السعيدة طلبت منه أن يشتري لها من السوبر ماركت القريب خبزاً، أو بضع علب الكوكاكولا، وحين عاد بعد دقائق، وجد أسرته تحت الأنقاض. لحظتها سيتمنى لو أنه لم يطلب تدعيم بيته بالإسمنت والحديد، بل سيتمنى لو لم يقم ببنائه أصلاً، لو كان البيت مجرد خيمة، كل ما يقوى عليه الزلزال هو أن يوقعها، خيمة بسيطة من قماش، لا يحتاج التعامل معها لفريق إنقاذ ولا معدات، خيمة يرفعها بنفسه، بيد واحدة فقط، ليجد أفراد عائلته بصحة، وأمان تام.

هل ما أكتبه هنا هو تأمل فلسفي؟ لا أعرف، فالفلسفة برغم تراثها الباذخ ذي المسحة الإعجازية تبقى هشَّة هي الأخرى. ولعل إحدى مآسيها هو في كونها غير قادرة على تعريف المأساة، ربما لأن معناها لا يحتاج إلى شرح أصلاً. المأساة فلسفة بحد ذاتها، فلسفة تهزأ -لفرط بساطتها- بتكهنات المثاليين والماديين. إنها مؤقتة مثل الزلزال، تباغت ثم تنسحب، لكنها مثله أيضاً تترك خلفها آثار الخراب، في النفوس، كما في المباني. نعم. ستخلف لنا جوهرها، أو فحوى شعريتها، إن جاز لنا تذكر نماذج التراجيديا، تلك التي لم يعد لها مكان في أدب الحداثة، وما بعد الحداثة. ما استمر منها فقط هو جذرها الأكثر إيلاماً، الحزن الذي  ينتاب الروح بين حين وآخر، حتى وهي في أوج لحظاتها سعادة وأمنا. مع ذلك. لا شيء مثل الكارثة يمنحك فرصة للتأمل.

بالمناسبة، لا يوجد أبطال فرديون في المآسي الناتجة عن كوارث الطبيعة، فهذه الأخيرة بخلاف نماذج الفن، غير عضوية، ولا مترابطة. التراجيديا الكونية لا تحاكي فعلاً نبيلاً، ليس فيها نبلاء، ولا سوقة. هناك آلاف، وأحياناً عشرات الآلاف من الضحايا، وملايين المشردين فحسب. نحن، لحظتها، ولتعزية أرواحنا المستباحة سنقوم بالتفتيش عن بطل فردي، حتى لو لزم الأمر اختراعه، أو صنعه على عجل.

وهنا، علينا أن نستبعد من تفكيرنا جميع نجومنا الأكثر شهرة: الساسة، رجال الدين، لاعبي كرة القدم، فناني السينما والغناء، صناع المحتوى في اليوتيوب والفيسبوك. نريد بطلاً يكون قريباً جداً من ركام ما نتج من خراب، أو خارجاً من أنقاضه/رماده  بالأحرى.

لا أفضل من صور الصمود الاستثنائي لأحد الناجين، كمثال الطفل الرضيع الذي صمد لستة أيام متواصلة تحت أنقاض مبنى إنهار فوق جسده الصغير في مدينة هاتاي التركية، أو كمثال المتطوعين، وفرق الإنقاذ، وبعض منهم غامر بحياته لينقذ روحاً إنسانية، أو قطة، أو حتى كلباً دفنته الحجارة.  ببساطة، كلما كان وقع المأساة ثقيلاً اشتدت حاجتنا لعزاء روحي، ليد رحيمة تربت على أكتافنا، لمصدر إلهام يقول لنا بصوت مليء بالثقة: يمكن إنقاذ المستقبل.

كيف نبدأ من جديد مع 36 ألف قتيل حتى الأن، مع 26 مليون إنسان تضرروا  في تركيا وسوريا؟ لا جدال في أن العواقب المحتملة لكارثة بحجم ما حصل ستتعدى الحدود الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، ستمس بالصميم حدود علاقة الذات بالكون، حتى وإن لم ينتبه لذلك الضحايا لفرط ذهولهم، ستخترق كل ما يغذي سرديات الأخلاق، وخطاب الوعظ الديني، حيث تحقق الوعد بالخلاص يتوقف على ازدياد نسبة المآسي، وحيث الزلزال -كما سائر صور الكوارث الطبيعية- ليس سوى جندي من جنود الرب. جندي مرعب، مخيف للغاية، تقع تحت سيطرته أسلحة فتاكة تهزأ بأقوى القنابل النووية "فاق عدد ضحايا زلزال هايتي في العام 2010 مئتي ألف ضحية"، سيطال فتكه كلاً من الإنسان الطيب والشرير معاً. برغم ذلك، فعدالة السماء لن تُمس. ثمة حل جاهز في متناول اليد دائماً: الزلزال عقاب للأشرار، واختبار/ ابتلاء للأخيار، وموعظة لنا، نحن الذين نرقب هول ما يفعله عن بعد، مستريحين أمام شاشات الفضائيات في بيوتنا الدافئة، الآمنة ولو إلى حين!

لكن العوائل التي افترشت في أجواء البرد القارص ثلاثة كيلومترات من قارعة طريق في حلب، المرأة السورية المتشحة بالسواد تحديداً، تلك التي كانت تحتضن رضيعاً، وتلوذ بها ثلاث فتيات أكبرهن بحدود الثامنة من العمر لا تمتلك رفاهية لحظة التأمل، مثل التي نمتلكها نحن الآن، لا للإرث الفلسفي أو الديني. تعبت وبناتها طوال ما يزيد على عقد من تقاتل عشرات الآلاف من المحاربين، أولئك الذين أمعنوا في تدمير سوريا الجميلة، وكلهم يدعون أنهم "جنود الرب" أيضاً. كانت قد بدأت بعد ليلتين باردتين انخفضت فيهما درجة الحرارة إلى ما دون الصفر المئوي بحرق بعض قطع الملابس في علبة صفيح، لتوفر الدفء لبناتها. لم يكن بقربها أي بديل آخر، لا حطب، ولا حتى نفايات.

من المؤكد أيضاً أن المرأة الحلبية لم يسبق أن سمعت شيئاً عن التفسير الأسطوري لحدوث الزلازل كما يقدمه الفلكلور الياباني، ذاك الذي تروي حكاياته أن هناك سمكة سلور/ قرموط عملاقة، تعيش في جوف الأرض، وأن أدنى حركة مفاجئة لها ستتسبب بزلزال أرضي هائل. ربما لو كانت قد سمعت بالحكاية، لو خطرت ببالها وهي ترقب حال بناتها جائعات مرتجفات لكان التداعي قد قادها لتخيل السمكة وجبة غذاء تعدها لصغيراتها، حتى وإن كانت بحجم سمكة الزينة التي نزين بها غرفة المعيشة، فهي قد ذكرت لمراسل إحدى الفضائيات الشهيرة أن عائلتها  لم تحصل طوال اليومين الماضيين إلا على "ربطة خبز" واحدة. وحين سألها إن كانت تريد أن تناشد الدول والمنظمات، أجابت بجملة واحدة فقط: أريد خيمة لبناتي.

من جديد، تعود الخيمة لتصبح أمنية غالية. وقد كانت كذلك لآلاف وملايين المرات. كأننا عدنا بدائيين. السياسيون، سلطة ومعارضة، ومعهم المرابون، وتجار الأزمات لن يوفروا لأحد خيمة بالمجان. بابا نويل وحده هو من يهدينا في ليلة رأس السنة الباردة هي الأخرى هدايا بلا فواتير. أما منطق أولئك فهو يقوم على المقايضة المباشرة، في أيام الكوارث، كما في سواها، وعلى خبث انتهازي لا يتورع عن استثمار المأساة نفسها بجشع غير إنساني بالمرة.

لا بأس أيتها السيدة الفاضلة. ستحصلين على ما صار حلماً. لن يعجز ضمير العالم عن تدبير خيمة لك، قبل أن تجبري على تدفئة بناتك بآخر قطعة ملابس، خيمة ترممين فيها هشاشة عالمك، عالمنا برمته، ريثما تعودين لتدعيم أساسات بيتك المهدم. السر الذي سيهبك القوة هو نفسه الذي لا يزال يدفع  حتى الآن بنبلاء حقيقيين لمواصلة البحث عن ناجين، برغم مرور ستة أيام على حصول الكارثة، بآخر ما تبقى في صندوق باندورا الذي انطلقت منه كل الشرور إلى العالم، بأقوى ما واجه به الإنسان كوارث الطبيعة، وتلك التي صنعها توحش الطغاة: الأمل.

***

عباس عبيد

أكاديمي وباحث من العراق

القارئُ يبحثُ عن ذاته فيما يقرأ، أعذبُ كتابةٍ هي ما يرى فيها القارئُ محطاتِ حياته، وتتكشف فيها ملامحُ صورته، ‏ويتجلى فيها شيءٌ من الأعماق المختبئة في نفسه، وتفضح العقدَ الكامنة بداخله، ‏وتعلن أسئلتَه ومعتقداته المخيف ‏إعلانها. القارئ يفتش في الكتابة عن شخصيةِ الكاتب، وأحوالِه وانفعالاته وحساسياته وهشاشته وضعفه البشري، ويدقّق في كلِّ ما يسعى الكاتبُ لإخفائه. يريد القارئُ تمزيقَ ما يحجبُ شخصيةَ الكاتب من أقنعة، وما يتوارى خلفه وجهُه. لا يبحث القارئُ عن المكشوف الذي يعرفه الكلُّ عن الكاتب. أصدقُ سيرة ذاتية قرأتُها وتعلّمت منها ما كانت مرآةً لذات كاتبها، وما اعترفَ كاتبُها فيها بطبيعته بوصفه بشرًا لا ملاكًا، وتحدث عن شيء من ثغرات شخصيته، وأعلن عن شيء من وهنه وعجزه، وندمه على بعض أفعاله وآرائه الخطأ، بموازاةِ حديثه عن مزاياه ومنجزاته ومكاسبه ومواهبه.

لا نسمع من البشر إلا كلماتهم، ولا نرى إلا وجوهَهم، ولا نتحسّس إلا ما هو مُعلَن من مواقفهم وسلوكهم. يستعمل كثيرٌ من الناس مختلفَ الأقنعة لتغطية وجوههم، وتمويه كلماتهم، والمراوغة في مواقفهم. ‏نقع في الذهول أحيانًا حين ينكشف لنا شيءٌ مختزَنٌ في أعماق مَن نعرفه منذ سنوات وتربطنا به صداقةٌ قديمة، مما تفضحه المواقفُ الصادمة عند الغضب والانفعال الشديد، ومواقفُ الكيد والغدر والخيانة. مَن أراد تطهيرَ ذاته من أكثر العقد المترسبة في باطنها ينبغي أن يكون شجاعًا في الإعلان عن أخطائه وعثراته وإخفاقات مسيرة حياته، كما يقول علمُ النفس الحديث.

لا تكون الكتابةُ صادقةً إلا بالتحرّر من الوصايات، ومن أشدِّها وصايةً جماعةٌ أيديولوجية تُلزِم أفرادَها بالرضوخ لمعتقداتها وقناعاتها وشعاراتها، وتقحم أقلامَهم في صراعاتها ومعاركها. بعضُ الكتّاب يتنقل في محطات أيديولوجية واعتقادية وسياسية متنوعة، ويواصل الكتابةَ كلَّ حياته، من دون أن نعثرَ على جملةٍ واحدة تشير إلى أنه أخطأ يومًا ما في اعتناق واحدةٍ من أيديولوجياته، أو أخطأ في عناده وتشبّثه بآراء ومواقف قادته وغيرَه لعواقب مريرة، أو أنه كان لا يعلم شيئًا من قرارته، أو كان جاهلًا ببعض أفعاله وسلوكه. بعضُهم تراه في كلِّ محطةٍ يقع تحت وصاية جماعة أيديولوجية، لتصبح وجهتُها هي البوصلة المتحكّمة بمواقفه وغايات كتاباته.‏ أتحدث عن أولئك الذين يهرولون دائمًا نحو مَن يضمن لهم المزيدَ من المكاسب العاجلة، ومَن يعمل على تسويق كتاباتهم جماهيريًا، ويوفر لهم غطاءً وسلطةً تحميهم من أية ضريبة للكتابة. لا أتحدث عن أولئك الأحرار الذين تنشأ تحولاتُهم عن ذكاء، وضمير أخلاقي يقظ، ورؤية واعية، واستبصارات عميقة، وقدرة على تمحيص تجارب الحياة المتنوعة وغربلتها، والخلاص مما يتكشّف فيها من أكاذيب وأوهام زائفة. ‏

لا يمكن الوثوقُ بكتابةٍ يعجز فيها الإنسانُ عن الاعتراف بأخطائه، ومراجعة قناعاته، ونقد أفكاره. بعض الأشخاص تراه يقفز من أيديولوجيا إلى أخرى مضادة لها، من دون أن تقرأ له عبارةً واحدة يعترف فيها بخطأ في أفكاره أو مواقفه أو سلوكه،كأنه لا يدري أن كلَّ مَن يفكر يخطئ. الخطأ ضرورةٌ تفرضها طبيعةُ الإنسان بوصفه إنسانًا، لا يتحرّرُ الإنسانُ من الخطأ غالبًا إلا بعد أن يقعَ فيه، ويعترفَ بكونه خطأ، ويمتلك إرادةً جريئة تعمل بإصرار على الخلاص منه. مَن يمتلك شجاعةَ الاعتراف بالخطأ يمتلك القدرةَ على تغيير ذاته. الخوفُ من الاعتراف بالخطأ خوفٌ من التغيير.

تحدثُ تحولاتٌ في القناعات الفكرية والأيديولوجية والسياسية لمَنْ يمتلك عقلًا نقديًا، غير أن الإعلان عنها يتطلب ضميرًا أخلاقيًا حيًّا، ‏وإرادةً جريئة. يخاف أكثرُ الكتّاب الذين يعيشون في مجتمعات تقليدية مغلقة من البوح والاعتراف، عندما يكتبون يكرّرون ما يقوله غيرُهم بألفاظ أخرى. يعمد بعضُهم إلى عبارات زئبقية مموّهة، يريد أن تتنوع المواقفُ منها، تبعا لتعدّد تأويلات القراء وخلفياتهم.

طالما كانت الكتابةُ حجابا يخفي عاهات بعض الكتّاب الأخلاقية وعقدَهم النفسية. التجربةُ وحدها كفيلةٌ بتمحيصِ البشر، وفضحِ ما يحجبونه من عاهات بمهارتهم الحاذقة. الكاتبُ الأمين لغتُه صافية، بصمتُه واضحة في تعبيره وتفكيره. الكاتبُ الذي يعاند لغتَه، ويتمرّد على طريقة تفكيره وتعبيره ليس أمينًا.كلُّ كاتب يستنسخ توقيعَ غيره ويتلبّس قناعات تكذِّب قناعاتِه ليس وفيًا لمهنته. الكتابةُ هي الهويةُ المعرفية والأخلاقية للكاتب،كل ُّكتابةٍ تعاند لغةَ كاتبها وتغرق بلغةٍ مستأجرة كتابةٌ تخون قارئها وكاتبها. الكاتب الصادق مَن ترتسم سيرتُه الفكرية والأخلاقية في كتاباته، مَنْ تستمع بوضوح لإيقاع صوته، وترى بصمتَه الخاصة في الكتابة.

لا يحمي الكتابةَ والكاتبَ والقراء إلا يقظةُ الضمير الأخلاقي، الكاتبُ تحت الطلب لن يكون كاتبًا حقيقيًا. تسليعُ الكتابة يفتك بالقارئ، يخونُ الكاتبُ ضميرَه الأخلاقي عندما يزوّر قناعاته، ويظلّ قلمُه معروضًا للبيع يكتب لمن يدفع أكثر. أسوأ كاتبٍ ‏مَن يعمل كما يعمل البائعُ المتجول، البائع هدفُه بيعُ بضاعته والظفرُ بربحٍ عاجل من أيّ مصدرٍ كان. الكتابةُ الحقيقية هي تلك التي تثير نقاشًا جديًا (مع/ضد). يُكلّفُ الكاتبَ الإصرارُ على هذا اللون من الكتابة الكثيرَ من الإزعاجات، وهو موقفٌ يتكرّر مع كلِّ تفكيرٍ حر. باهضةٌ في مجتمعنا ضريبةُ كلّ تفكيرٍ ينشد الحرية، ويشتغل خارج إطار الأيديولوجيات والمفاهيم والقوالب المتداولة الجاهزة. لا جديدَ في كتابة لا تخرج على إجاباتٍ مكررّة وقناعاتٍ جاهزة. لا يشترط في الكتابة أن تنال إعجابَ الكلِّ وإجماعَهم، ‏الكتابةُ الذكية كتابةٌ خلافية، تثيرُ من الأسئلة أكثر مما تقدّم من الأجوبة، وتتمردُ على الكلمات والاجابات المملة. قوة الكتابة في اختلافِها، وفاعليتِها في إيقاظ الوعي، وتكريسِ الروح، وإيقاظِ الضمير الأخلاقي، وتهذيبِ الذائقة الفنية.

ليس هناك كتابةً جيدة لا تصطبغ بشيء من ذات الكاتب. الكتابةُ الجيدةُ يتكشفُ فيها شيءٌ من أعماق الكاتب، وتنهلُ من تجاربه الشخصية.كلُّ كتابة تعبر عن تجربة معاشة للكاتب ثريةٌ ومؤثرةٌ جدًا. الكتابةُ مفتاحُ قراءة شخصية الكاتب، كان أرسطو يقول: "تكلم لأراك"، ويمكننا أن نضيف لهذا الكلام: "اكتب لأراك". هناك صلةٌ وجودية بين الأثر وصاحب الأثر، الإبداع أعمق أثر تتجلّى فيه كينونةُ الإنسان الوجودية، الكتابة الجادة من أوضح أشكال الإبداع، وهكذا الشعرُ والرسمُ والنحتُ والموسيقى وأنواعُ الفنون السمعية والبصرية، يمكننا قراءةُ شخصية الكاتب واكتشافُ ما يرمي إليه عبر نصوصه، مثلما يمكننا قراءةُ شخصية المبدع عبر إبداعه.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

لم يزل الكثير ممن يشتغل على المعرفة، لا يميز في الحقيقة بين العقل والدماغ، فيساوي بينهما من حيث التكوين والوظائف. علماً أن هناك فرقاً بين العقل والدماغ.

فإذا كان الدماغ هو العضو المعقد التركيب داخل الجمجمة، والمسؤول عن إدارة نشاط الجهاز العصبي. وهو ذاته جزء من الجهاز العصبي المركزيّ، ويوجد في كلّ الفقاريات وفي مقدمتها الإنسان.

فالعقل هو مجموعة المعارف المكتسبة التي يحصل عليها الإنسان من خلال علاقته مع الطبيعة والمجتمع، عبر الحواس والتجربة، وكل وسائل المعرفة المتاحة التي يلعب الدماغ الدور الأساس في تلقيها وتحليلها وإعادة تركيبها وممارستها، وبالتالي تقويم صحة نتائجها وتوظيفها لمصلحة الإنسان أو ضده. ومع تأكيدنا على هذا الفصل أو النمذجة بين العقل والدماغ، إلا أننا لا نستطيع عزلهما عن بعض فكلاهما يكوّنان آليّة عمل واحدة هي تحقيق المعرفة والقدرة على استخدامها، ولا يمكن لأي منهما أن يعمل منفصلاً عن الآخر، فلا عقل يعمل (معرفيّاً) بدون كسب المعارف، ولا معارف تكتسب دون الدماغ ومكوناته وآليّة عمله الفيزيولوجيّة.

وبناءً على ذلك يمكننا تعريف العقل متضمناً الدماغ بالضرورة على اعتبارهما وجهان لقضيّة واحدة بأنه:

مجموعة من القدرات المتعلّقة بالإدراك، والتقويم، والتذكّر، وأخذ القرارات، وهو ينعكس في بعض الحالات على الأحاسيس، والتصورات، والعواطف، والذاكرة، والتفكير، والرغبات، والدوافع، والخيارات، واللاوعي، بالإضافة إلى التّعبير عن السّمات الخاصة بالشّخصيّة، كما يتصف بكونه ظاهرة يمكن إدراكها، ولا تقتصر على الإنسان، بل هو ينوجد عند الحيوانات أيضاً، كما يمكن للعقل أن يكون خارقاً، أو مطلقاً، أو فائقاً أو مسطحاً، أي ضعيف الإدراك عند بعضهم.(1).. أو بتعبير آخر نستطيع القول بأن العقل: هو مجموعة من القوى الإدراكيّة التي تتضمن الوعي، المعرفة، التفكير، الحكم، اللغة، والذاكرة. وهو ما يعرف غالباً بملكة الشخص الفكريّة والإدراكيّة. والعقل يملك القدرة على التخيل، والتمييز، والتقدير، وهو مسؤول عن معالجة المشاعر والانفعالات، مؤديًا إلى مواقف وأفعال. (2).

مفهوم العقل عند الفلاسفة المسلمين:  هو إدراك الشيء على ما هو عليه من حقيقة في تكوينه وغاية خلقه ووجوده، وهذا المعنى يشترك فيه الجنس البشري كله. ومقياس العقل عندهم هو إدراك الحكمة التي من أجلها خُلق الكون والعقل نفسه، وإدراك هذه الغاية هو الذي يُعطي الإنسان صفة العقل الشرعيّ، فمن أدرك هذه الغايـة فهو عاقل، ومن لم يُدركها فهو غير عاقل. (3). وقد جاء في النص المقدس: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ سورة البقرة: 242. ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾. سورة الملك: 10..

من هذا المعطى المنهجي في تعريف العقل، يطرح السؤال التالي نفسه علينا وهو: أين موقع العقل العربي بالنسبة للاتباع والابداع؟. مع تأكيدنا هنا بأن العقل العربيّ موضوع بحثنا لا يقصد به الدماغ فحسب، بل وجملة المعارف التي كونها تاريخيّاً.

رغم أن تعريف العقل في التراث العربي، ظل ينوس ما  بين الدماغ والقلب عند الكتاب والفقهاء والمتكلمين والفلاسفة العرب المسلمين منذ بدء الدعوة الإسلاميّة حتى اليوم، (4). إلا أننا لا ننكر أن هناك من استطاع أن يتعامل مع العقل على أنه مجموع المعارف التي اكتسبها الإنسان عبر علاقته مع الطبيعة والمجتمع، (5). مع تأكيدنا بأن البحوث التي اشتغلت على توضيح العقل كظاهرة ثقافيّة قائمة بذاتها لها سماتها وخصائصها وآليّة تشكلها وعملها التي تكونت في السياق التاريخ لحياة الإنسان، ولم تزل تتكون أو تتشكل عند الفرد والمجتمع عبر عملية تاريخيّة تفاعليّة ومعقدة ما بين الدماغ والواقع المعيوش بوساطة الحواس والتجربة البشرية، ظلت محدودة. وإن غياب مفهوم العقل النقدي المادي الجدلي التاريخي في الفكر العربيّ القديم والمعاصر إلى حد محزن، ساهم كثيراً  في غياب مناهج البحث العلميّة، وخاصة في فكر العصور الوسطى إذا ما أخذنا فكر "ابن خلدون" على سبيل المثال لا الحصر في مقدمته، كفكر علميّ يقوم على التحليل والتركيب والتعامل مع قوانين موضوعيّة (سنن) تتحكم في آليّة عمل الفرد والمجتمع، رغم أن "ابن خلدون" ذاته لم يطبق منهجه العلميّ الماديّ التاريخيّ عندما دَوَنَ كتابه في تاريخ العرب والاسلام، وظل ملتزماً بما اشتغل عليه "الطبري" و:ابن الأثير" وغيرهما. فمع غياب هذه المناهج في البحث، إما بسبب ضعف التطور في الوجودين الماديّ والفكريّ آنذاك، أو بسبب مواقف سياسيّة عملت على محاصرة الفكر العقلانيّ النقديّ كما جرى مع الخليفة المتوكل الذي أصدر فرمانه المشين عام 232 للهجرة يمنع فيه التعامل مع العقل والتوجه نحو النقل. ومن يومها راح الفكر اللاهوتي والمثاليّ الموضوعيّ، والمثاليّ الذاتيّ الميتافيزيقيّ يتحكم في حياة الإنسان ومصيره.  وإذا كان الفكر المثاليّ اللاهوتي قد اعتبر أن كل شيء مخلوق لله، وأن الإنسان في النهاية محكوم أو مقيد بقوى غيبيّة أو طبيعيّة أفقدته لقراره وإرادته في تقرير مصيره وحددت له كل شيء بشكل مسبق منذ ولادته حتى مماته. فإن المثاليّة الذاتيّة في الفكر الوضعي، هي ذاك الموقف الفكريّ الذي يعتقد دعاته أو ممارسيه بأن الإنسان بعقله أو بقلبه الذين منحهما الله له ووضع فيهما منذ بداية خلق الإنسان جملة من الأفكار الأساسيّة التي بها يستطيع تمييز الخير من الشر، مثلما يستطيع بهما أيضاً أن يمارس حياته ويشكلها وفق ما يمليه عليه عقله أو قلبه. وبناءً على هذا الموقف الفكريّ الذي ظل الدين هو مرجعه الأساس، تشكلت عقليّة وثوقيّه، أو دوغمائيّة تناولت التراث أو تعاملت مع الواقع ذاته، بمواقف جامدة سكونيّه مسكونة بهاجس المطلق والمقدس، والايمان والاستسلام، وبعيدة كل البعد عن التفكير النقديّ والشاك. أي أخذت تتكئ فكراً وممارسة على مرجعيات من خارج ذاتها، تعتقد أن هذه المرجعيات (النصوص) هي وحدها من يمتلك الحقيقة، وكل ما عداها هو حرام أو خطأ يسئ للحقيقة، وبالتاي يجب محاربته وإقصائه.

هذا وأن كل من حاول الخروج عن هذه العقليّة الوثوقيّة من فلاسفة وعلماء كلام وفقهاء حورب وشهر به وكفر وزندق أو حُرقت كتبه أو سجن أو قُتل. وفُسح في المجال واسعا لنشاط حملة الفكر القائم على النقل مدعوما من السلطات الحاكمة ذاتها منذ قيام الخلافة الأمويّة حتى اليوم.

أما أهم سمات وخصائص هذا الفكر الوثوقيّ الامتثاليّ الاتباعيّ فهي:

1- إن  هذا الفكر لم يزل له حضوره الفاعل، من خلال اعتماده على الماضي منطلقاً وجوديّاً ومعرفيّاً.

2- هو يعتبر الماضي النبع الصافي ممثلاً بأصوله التشريعيّة، وهي القرآن والحديث والإجماع والقياس.

3- كما اعتبر أن كل ما اشتغل عليه العلماء والفقهاء ولم يزالوا يشتغلون عليه عبر تاريخهم، هو ليس أكثر من تفسير واكتشاف لما هو موجود في هذا النص المقدس. لذلك فالكشوف العلميّة والقانونيّة وكل الأشكال الأدبيّة والفنيّة هي ليست أكثر من تجلي لما هو موجود أصلاً في هذا النص المقدس كما يعتقد بعض الأصوليين.

4- أن هذا التيار لا ينظر إلى طبيعة العلاقات القائمة في المجتمع وفق منظور مُسْتَغَلْ ومُسْتَغِلْ، بل وفق منظور دينيّ عقيديّ، (كافر ومؤمن وزنديق..).

5- إن هذا الفكر ينظر بريبة لأصحاب الديانات الأخرى بما فيها المسيحيّة واليهوديّة على أنهم كفار وليسوا مواطنين.

6- وهو فكر يحتقر المرأة ويعتبرونها ضلعاً ناقصاً أو كشاردة الإبل وحتى صوتها عورة، وبالتالي مكانها المنزل وتربية الأولاد وخدمة حياة الرجل وشهواته الجنسيّة.

7- هو يعتبر العمل في هذه الحياة يُبذل لكسب الآخرة وليس لتنمية المجتمع وتقدمه في هذه الحياة. وبالتالي فإن هذا التيار يرفض كل الأيديولوجيات الوضعيّة، أو الفكر الوضعي بعمومه، اليساريّ منه والقوميّ والليبراليّ، على أنه فكر تكفيريّ يراد به تقسيم المسلمين والإساءة لعقيدتهم.

8- هذا في الوقت الذي ظلت فيه السياسة عند دعاة هذا التيار الفكري تشكل أحد التوجهات الخفيّة والظاهرة. فالحاكميّة هي المصدر الوحيد للتشريع، وهي السبيل لوحدة المسلمين.

9-  لم يزل دعاة هذا التيار السلفيّ يتمسكون بسلوكيات السلف (الرسول والصحابة والتابعون وتابعو التابعين..)، من حيث اللباس والمسواك وتربية الدقون وحف الشوارب، والقطع القيميّ والأخلاقيّ في مسائل الضحك والعطاس ودخول الحمام وغير ذلك.

أمام هذا التيار الفكري السلفيّ الاتباعيّ نهض تيار آخر أكثر عقلانيّة، اشتغل فلاسفته ومفكروه في العصور الوسطى على المنطق الأرسطيّ الصوري، واتخذوا منه منهجاً في التعامل مع الدين عقيدة وفقها، فكان ابن رشد وابن سينا والفارابي والكندي وغيرهم، إلا أن العقل ظل عندهم يشكل منحة من الله يجب أن نستخدمه في فهمنا للدين، وبالتالي في تطبيق هذا الفهم على الواقع خدمة لمصلحة الإنسان، وبالرغم من أن "المنطق الصوريّ" هو منطق تأمليّ وحدسيّ وبدهي، وقليلاً ما يعتمد على التجربة، إلا أنه لم يستطع مواجهة أهل النقل وفلاسفته ومتكلميه الذين وجدوا في السلطات الحاكمة المستبدة عونا لهم، أو هم ذاتهم تحولوا إلى أدوات بيد هذه السلطات المستبدة، الأمر الذي أدى إلى محاربة حملة هذا الفكر التنويريّ والتنكيل بهم كما أشرنا قبل قليل. أما في عصرنا الحديث والمعاصر، فقد ظهر العديد من المفكرين العقلانيين التنويرين الذين اعتمدوا على مناهج بحوث علميّة ظهرت في الغرب. حيث تمت إعادة قراءة التراث والواقع المعيوش معاً قراءة اختلفت في مضمونها عن قراءات العصور الوسطى، فهناك من اعتمد المنهج الماديّ التاريخيّ والبعد الطبقيّ في دراسة التراث، وهناك من اعتمد المنهج البنيويّ، أو المنهج التاريخيّ، أو المنهج الوضعيّ، أو التاريخانيّ، أو الظاهري، أو الوصفي وغير ذلك. ومع ذلك ظلت معاناة هؤلاء الكتاب والمفكرين والفلاسفة لا تختلف عن معاناة من سبقهم في العصور الوسطى، فمنهم من كُفر وزُندق، ومنهم من طُرد من البلاد، ومنهم من مُنعت كتبه من التداول ومنهم من سُجن ومنهم من قُتل.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

........................

الهوامش:

1-  موقع موضوع. ما هو العقل.

2- الويكيبيديا.

3-   (العقل في الإسلام موقع ألوكة).

(4) – التيار الفلسفي والفكري الذي تعامل مع العقل والعقل كمصدرين وهبهما الله للإنسان، وبالتالي فالعقل هنا مستقل عن الواقع.

أبو بكر الرزي

" والقول بترجيح النقل على العقل أمر محال . لأن العقل أصل النقل . فلو كذبنا العقل لكنا كذبنا اصل النقل . ومتى كذبنا اصل النقل كذبنا النقل . فعلمنا انه لا بد من ترجيح العقل ."

ابن عربي

(العالم هو اعتراف متبادل بالوجود بين الله والإنسان، عبر العقل.)

هو يتعامل مع العقل على أنه معطى من قبل الله وليس معارفاً مكتسبة.

جابر بن حيان.

(إن الله هو الذي وهب الإنسان العقل والعقل علة كل شيء .. العقل نور والعلم نتيجة وهكذا كل علم نور. ) -

هو كذلك يتعامل مع العقل على أنه معطى من قبل الله وليس معارفاً مكتسبة..

- جلال الدين الرومي.

(أنتَ جوهرٌ والعالمان كلاهما عَرَض لك، والجوهر الذي يُطلَب من العَرَض ليس بذي قيمة، ابكِ على من يبحث عن العِلم في القلب، واضحك على من يبحث عن العقل في النفس.).

هو كذلك يتعامل مع العقل على أنه معطى من قبل الله وليس معارفاً مكتسبة..

(5) – التيار الفلسفي والفكري الذي تعامل مع العقل كمصدر للمعرفة المكتسبة تكون تاريخيا  فالعقل هنا مرتبط بالواقع.

(فإذا جازَ لعامّة الناسِ الاقتصار على معرفةٍ تخصصيّة ضيّقة، فإنّ القيادات الفكريّة لا بدّ أن تتسلّح بثقافةٍ واسعةٍ وعميقةٍ ومتنوّعة، لأن الاقتصارَ على فرعٍ واحدٍ من فروع العلم يصيب العقل بالضمور.)

إبراهيم البليهي

(عوّد نفسك الصبر على من خالفكَ من ذوي النصيحة، والتجرع لمرارةِ قولهم وعذلهم، ولا تسهلن سبيلَ ذلك إلا لأهلِ العقلِ والسن والمروءةِ، لئلا ينتشر من ذلك ما يجترئ به سفيهٌ أو يستخفُ به شانئ.).

عبد الله بن المقفع.

(و لو أني أصغيت إلى صوت الفطرة وتركت البداهة تقودني لأعفيت نفسي من عناء الجدل .. ولقادتني الفطرة إلى الله .. ولكنني جئت في زمن تعقد فيه كل شيء وضعف صوت الفطرة حتى صار همسا وارتفع صوت العقل حتى صار لجاجة وغرورا واعتدادا.).

مصطفى محمود

(زبدة قولنا، إن مفهوم العقل كما يتصوره الأستاذ الجابري، هو تلك الأداة المفكِّرة التي تتخذ شكلها من ثقافتها الخاصة. إنه أداة لأنه لا يدل على مجموع التصورات التي ينتجها بل هو تلك الميكانيزمات والنظم المعرفية التي توجع عقل ما نحو تصورات ضرورية حول عالمه الخاص.)

محمد عابد الجابري.

 

عَلمنا منهج التاريخ الأسلامي الماضوي السردي ان كل نظريات الخطأ الدينية والاجتماعية مستمدة من كتابات مؤرخيه وفقهائه الذين أختلفوا فيما بينهم في نقل النص وتفسيره على المنهج السردي دون تحقيق، حين لم تكن اللغة العربية قد استكملت بعد تركيزها في تجريدات، فقد كتبوا في السيرة النبوية خمس سير كل منها يختلف عن الأخر، وبعقلية الماضي ويدعي كل منهم انه هو الصحيح، هي: سيرة ابن أسحاق، وابن هشام، والواقدي، وموسى بن عقبة، وابن سعد، ولا ندري ما الصحيح؟. ولم يعلمنا منهجهم السردي المختلف والمتناقض ما تعلمته الشعوب من نظريات فلسفة أنبيائهم ومؤرخيهم لحياتهم خوفاً من التزوير التي فسروا فيها تاريخهم، حتى ساروا بها نحو التقدم وفلسفة الحياة الموحدة، من هنا بدأ مشوار الخطأ عند العرب والمسلمين،

ان المفهوم الحركي للتاريخ ليس واضحاً في موسوعاتنا الفكرية التي ورثناها – وبسبب فقدان هذه الصورة - وقع الباحثون فريسة احكام عشوائية ناقصة، لاينفذ من خلالها الى طريق سوي لحبٍ يقود الى الرأي السليم، بذلك فقدنا العمق النفسي للمؤرخ ذاته وطبيعة ما كتب لذا ظل المفهوم الحركي باهتاً، هنا كان مقتلنا منذ ان جاء حكم المسلمين بأهمال المبادىء التي تركها صاحب الدعوة لنا بالدليل والقوة ورأي المحاورين، وحين اهمل هذا التوجه كان هذا أول تجاوز على شورى المسلمين التي وردت في الكتاب العظيم "وأمرهم شورى بينهم"، فكان، رأي الأتفاق بين الحاكمين دون بقية المسلمين مرورا بالشورى الملغاة وقتل المعارضين من قبل خلفاء المسلمين، وصولا لكل نظريات القهر والغاء حاكمية الله في التنفيذ.حتى سموا من طالب بتحقيق الشورى بالمرتدين والخوارج على الدين،

حينها فرض النص المقدس بتفسير لا يتفق وعدالة انسانية الانسان في التقييم، خالي من اي منهجية فلسفية في التطبيق، من هنا توقفت عجلة التقدم الحقيقي منذ البداية التي كنا نامل منها بدين جديد جاء ليحمل مبادىء انسان الأنسان في صنع القوانين. فكانت وثيقة المدينة التي اخفوها على الناس خوفا من المطالبة بتحقيق عدالة الدين بين الناس وضياع السطة من ايديهم في التطبيق.واصبحنا تحت الفكر المنغلق الموروث دون معرفة الصحيح من الخطأ نُحكم حكما دينيا فرديا هرطقياً من قبل مرجعيات التفريق المصطنعة بلا شرعية القانون. فلا مؤسسات تحكُمنا، ولا عدالة تحمينا، من ظلم الحاكمين في مجتمعاتنا فسموا الاصلاح فتوح قهري والسلطة بهرجة تقاليد، كما نراها اليوم في حكوماتنا الاسلامية هذه الحكومات التي خلال مدة 656 سنة لم تعرف الادارة والقانون.وطلت تحكم كما في رأي القاعدة وداعش وبوكوحرام اليوم، دولة رجال دون النساء اللواتي ينظر اليهن بلا حقوق.

الحضارة العراقية القديمة عند السومريين والبابليين في أور وبابل جاءت بحضارة الانسان منذ القديم يرافقها التشريع والقانون، وهم الذين أبتكروا الكتابة والقلم ومجالس القضاء والشريعة وشرعية التغيير، منذ عهد آورنمو وحمورابي وقوانينهم كانت أشبه بعدالة قوانين النص المقدس، حتى ان الاسلام أخذ من بعض قوانينهم في التطبيق"العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص المائدة 45 " وفي قانون حمورابي جاءت المادة 127-195، متشابهة في النص، وفي أهوارنا تم تدجين الحيوان والزراعة ومستلزمات العيش الرغيد، ولم يناصبوا العداءاحدا منذ زمن قديم بعد ان فصلوا الحكم السياسي عن الدين.

وحين جاءت الاديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والاسلام مستمدة من الديانة الابراهيمية التي سبقتهم كل طبق دينه حسب الظروف التي مكنته من استخدام التيارات الفكرية التي مثلت العقلانية تارة، والسلفية اخرى.فكان الانشقاق منذ البداية. لكن التاسيس القرأني للمجتمع جاء ليعني رؤية اخرى تختلف عما سبق عند الديانات الاخرى نتيجة مفهوم المتغيرالاجتماعي من وجهة نظرجدلية تاريخية بعد ان اصبح القانون بموجب النص هو الذي يحكم الظاهرة الجديدة وليس لعادة او التقليد.هنا تشخص الخطأ بين التطبيق والخروج عليه نتيجة الانحراف السلطوي والتفرد في حكم المجتمع الجديد، ليكون المشروع الاسلامي مشروعاً قابلا للفعل في ظروف العصروما بعده باعتبار ان النص صالح لكل زمان ومكان في التطبيق.لكن امورا سلبية طرأت على تطبيق النص كضرب الشورى والتوجه الى غزوات القوة في فرض الدين حتى لم تعد الحركة بمستوى فرض الاحكام بين المسلمين، تلك هي معاناتنا في تثبيت الحقيقة التي لم تعد سوى تخريف.

- جاءنا الدين من نبي صادق أمين بكتاب مبين يقول،:" الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم احسن عملا، الملك 2" وجاءنا بمبدأ العدل المطلق والشورى بين المعتقدين. فهل استطاعوا ان يتغلبوا على الخطأ القديم ام كانوا معه يحاربون العدل والشورى ويلتجئوا لابادة المحاورين، وابتكار نظريات الاختيار دون تقييم، وتحويل الخلافة الى ملك عضوض لا يخرج من ايديهم حتى يسلموه لعيسى بن مريم والمهدي المنتظر في اخر الزمان، ليتحول قادتهم الى قديسين بأسرار التقديس الآلهي المعروف فقالوا عن انفسهم:"قدس سرهم" ولا ندري أية أسرار لديهم ليكونوا مقدسين، اللهم الا سر السلطة والمال والجنس اللعين، هنا مات القلم في ايديهم واصبحوا يلهثون خلف المواعين؟.

منذ القدم أكد ت لنا الكتب السماوية وأراء الفلاسفة الكبار النابهين على العقل لنتصرف به"لعلكم تعقلون"، وهو اول مكتشفات الانسان، وبهذا العقل نستطيع التغلب على الظروف العاطفية غير المواتية بدلا من الرضوخ لها وتركها تشكلنا كيف شاءت.لكن هذه النظرية استبعدت وحل محلها الاغتصاب لكل ما هو قانون،حين رأينا انفسنا منفردين بالفكر الحضاري وما عدانا همجاً او برابرة فهاجمنا الأخرين بحجة الدين دون امر من خالقه على مهاجمة الاخرين.وبررنا ذلك الاجتياح الباطل للاخرين على الرأي في البيئة التي كنا فيها والتي لا يقبلها المنطق الصحيح وان تناقضت مع الواقع الوهمي في التطبيق. وما دروا العرب ان صحرائهم كلها لها واقع قاسي لا يمكن التغلب عليه الا بالعمل والقانون وهم ضدهما تماما لانهم لم يعرفوا سوى السيف لا القانون،

هنا كانت المعضلة التي جرت علينا ويلات التطبيق بعد العهدين البويهي والسلجوقي 334—540 للهجرة حين اصبحت المذاهب بديلا عن الدين والتي جرت الى تغيير كل التفاصيل يساندها منهج دراسي خرف،فأدخلوا في فكر المسلم كل متاهات التخريف، حتى اصبح نظرية ثابتة يصعب نزعها من فكر العامة، والى الآن يدعي بعضهم، الحياة لنا والاخرة لنا وكل شيء ياتي من السماء او يستخرج من باطن الارض فهو لنا.الم نكن نحن من اهل المعرفة والعرفان المفضلين، على للأخرين.؟هكذا يعتقدون الى اليوم، والا لماذا الاصرار على هذا الفساد المتعمد الرهيب.

فهل فكرنا ان نكتب ونقيس الامور بمقياس الاحصاء الذي لا يُخطأ، ونؤمن بالانسان الاخر مهما كان دينه او عقيدته مادام يعايشنا باحترام القانون.ام نناصبه العداء ونتفاخر بالدين وهو يملك دينا يحترمه اكثر منا في التطبيق فحتى اصحاب عبدة البقر يقدسون دينهم ولا يخالفون، فالدين ايديولوجية بشرية لا يمكن نزعه من الاخرين وحتى نحن المسلمون ندعي لكم دينكم ولنا دين، فعلام محاربة الاخرين كذبنا وافترينا وظلمنا كل شعوب الاخرين دون قانون.

منذ عصر قبل الاسلام كنا نرى انفسنا فوق الناس واعلاهم قدرنا وشرفا، وحتى اليوم نسمي نبينا بأشرف الانبياء، ومدننا بالأشرف، والمقدسة ونستثني الاخرين، من قال لنا هذه تسميات القرآن ام مؤسسة الدين؟.تاريخ جاهلي يصب في عقل تاريخنا الحالي دون تبرير، حتى جاء الرسول ليقول لهم: "كلكم لآدم وآدم من تراب والناس سواسية كأسنان المشط" فتلاشى الغرور والكبرياء عندهم، ولتأكيد المقولة جمع الرسول من حوله المقربين خباب بن الارث عراقي، وصهيب الرومي بيزنطي، وسلمان الفارسي، فارسي، وماريا القبطية قبطية من مصر. دليلا لمساواة الخلق في الانسانية والقانون، لكن بعد وفاته عادت الجاهلية من جديد.

من هنا بدأ التاريخ الرسولي يتحول نحو الانسانية لا القبلية.لكن هذا التوجه لم يدم طويلا بعد الرسول (ص) مباشرة بسبب التوجه نحو السلطة والمال ونرجسية التفوق على الاخرين الذي أدى الى سوء النظام الاداري والمالي الذي تحول الى جمع المال الفاسد دون تقديم خدمات في مقابل المال المجموع حتى اصبح الفساد سياسة عامة وقناعة اخلاقية بأعرافهم الفاسدة، فانفصل الحاكم عن الرعية فتراجعت العدالة وانتكس التوجه السياسي نحو الضعف والانهيار، كما نشاهدهم اليوم.ومن يقل لك هذه خطبهم اقرأها فلا تصدق هذه من صنع فقهاء السلطة لا الدين.

نحن اليوم امام قضيتان في الاسلام لا حل لنا الا بمعرفتهما واجتيازهما عملا وتطبيقاً هما: الموقف من المنهج النقدي للتاريخ والفكر العربي الفلسفي، وقضية المعركة الحامية بين التقليد والأبتكار.وبدون تجاوزهما لايمكن ان نكتب تاريخا للأمة، ولاتقدما حضاريا لها، ناهيك عن عداوة الاخرين التاريخية لها.

يقول الاستاذ الدكتو جعفر آل ياسين احد اساتذة فلسفة التاريخ: نقله بتصرف في الاولى يعتمد على حساسية الاجتهاد للرواية التاريخية التي فسرت تفسيرا فيه الكثير من المنحنيات لان اللغة يوم ذاك لم تكن مستكملة لأدواتها بالمعنى العلمي الذي نريده ونفهمه اليوم، لاقامة الادلة التاريخية عليها وعلى نقيضها لذا لا يجوز الحكم عليها بالمنطق العلمي المطلق، وان غالبية الناقلين من غير العرب الذين فهموا النص فهما دون معناه الداخلي في التطبيق خارجيا.

والثاني يجب ان يتوفر فيه جانبي القوة والضعف بحيث لايعوز الباحثين سلامة الدليل عليه، والفحص الخارجي للنص، لأاثبات الاصل ببطلان النقيض وقد استغله بعض الفلاسفة من المسلمين امثال (ابن سينا ت428 للهجرة) وخاصة في العلوم البحتة كالرياضيات مثلاً، لأن العقل يحكم انه لا يجتمع على صدق نقيضان، ولكن في دولة النرجسية والفوضى والجنس من يسمعك ايها الخائب اليوم بعد ان انهارت قيم الحياة المقدسة عندهم كما هي تنهار اليوم عندنا دون رقيب او حسيب،

حتى اصبح المعتقد ظاهرة تاريخية لا تزيد عن الاخبار، وفي باطنها ماتت الأحداث والحقيقة معاً، فاصبح النص الديني لا يشكل المعيار الوحيد للسلوك السياسي، لذا ما لم نقدم على فصل الدين عن السياسة لن يكون لنا امل في الاستقلال والاستقرار وتطبيق القانون.

***

د.عبد الجبار العبيدي

الهندسة الاجتماعية هي تقنية تهدف إلى استغلال النفسية البشرية والتلاعب بها للحصول على معلومات حساسة أو الحصول على تصرفات تفاعلية معينة.

يمكن استخدام الهندسة الاجتماعية في العديد من الأغراض، من بينها الاحتيال، حيث يستخدمها المحتالون لإقناع الضحايا بإجراء عمليات مالية غير مشروعة، مثل تقديم معلومات الحساب البنكي أو كلمات المرور لمواقع الويب، ايضا الاختراق الإلكتروني والذي يمكن تطويعها به للحصول على الوصول إلى أنظمة الكمبيوتر المحمية، مثل استغلال الثغرات الأمنية، أو إغراء المستخدمين بالنقر على روابط خبيثة، كذلك الاختراق الذهني والذي يمكن به استخدام الهندسة الاجتماعية لتحفيز التصرفات المعينة في الأفراد، مثل إقناعهم بإعطاء معلومات حساسة أو القيام بأنشطة غير مشروعة وغير قانونية.

وبالإضافة إلى ذلك، يمكن استخدام الهندسة الاجتماعية لغرض حميد كتأسيس طرق تفاعل بشرية أفضل مع الأنظمة التقنية، على سبيل المثال، يمكن استخدامها في تصميم واجهات المستخدم لتسهيل عملية التفاعل بين المستخدم والنظام.

لكن الطابع الأكثر اخذًا على الهندسة الإجتماعية هو استخدامها لأغراض غير حميدة .

يمكن للهندسة الاجتماعية أن تلعب دورًا مهمًا في الحروب السيبرانية بين البلدان فهي تقنية كما اسلفنا تتضمن استخدام التلاعب النفسي لخداع الأفراد أو المجموعات لإفشاء معلومات ذات اهمية كبيرة أو القيام بأعمال قد تكون ضد مصالحهم الفضلى. في سياق الحرب السيبرانية، يمكن استخدام هجمات الهندسة الاجتماعية كسلاح ناعم للوصول إلى معلومات استخباراتية أو أنظمة الكمبيوتر للسيطرة على البلد المُهاجَم رقميًا، أو لتعطيل البنية التحتية الحيوية له، كون اغلب البلدان في الوقت الحاضر تتجه نحو انظمة الحوكمة الألكترونية لذلك مهمة المهاجِم هي السيطرة على تلك الأنظمة.

بناءً على ذلك قد تستخدم الجهات الفاعلة التي ترعاها الدولة تقنيات الهندسة الاجتماعية لشن هجمات سيبرانية ضد دول أو منظمات أخرى. على سبيل المثال، يمكن استخدام هجمات التصيد الاحتيالي لخداع الأفراد للكشف عن بيانات اعتماد تسجيل الدخول الخاصة بهم أو لتنزيل برامج ضارة على أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم. يمكن بعد ذلك استخدام هذه الهجمات للوصول إلى معلومات حساسة أو لشن مزيد من الهجمات لتعطيل انظمتهم.

يمكن أيضًا استخدام الهندسة الاجتماعية لإحداث الإرباك وانعدام الثقة بين البلدان. يمكن القيام بذلك من خلال استخدام حملات الدعاية والمعلومات المضللة، والتي يمكن نشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الأخرى عبر الإنترنت. يمكن استخدام مثل هذه الحملات لبث الفتنة والانقسام داخل البلدان المستهدفة، مما يجعلها أكثر عرضة للهجمات السيبرانية.

علاوة على ذلك، يمكن استخدام الهندسة الاجتماعية لإنشاء ستار دخان للتغطية على الهجمات السيبرانية. على سبيل المثال، قد يستخدم المختص بالأمن السيبراني من قِبل الدولة حملة هندسة اجتماعية لشن هجوم (رفض الخدمة الموزع DDoS) على شركة أو وكالة حكومية، حيث ترسل هذه الهجمات طلبات متعددة إلى مورد الويب الذي تمت مهاجمته بهدف تجاوز قدرة موقع الويب على معالجة الطلبات المتعددة وبالتالي منعه من العمل بشكل صحيح، بينما يشن في نفس الوقت هجومًا إلكترونيًا أكثر خطورة على نفس الهدف.

نظرًا للطبيعة السرية والتي غالبًا ما تكون سرية للعمليات السيبرانية وهجمات الهندسة الاجتماعية، فمن الصعب تقديم أمثلة محددة ومؤكدة لهجمات الهندسة الاجتماعية الأخيرة بين البلدان. ومع ذلك، تم الإبلاغ عن العديد من الحوادث التي تشير إلى أن الهندسة الاجتماعية لعبت دورًا في العمليات السيبرانية الأخيرة بين الدول. وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك:

التدخل الروسي في الانتخابات: في عام 2016، قامت الحكومة الروسية بإطلاق حملة هندسة اجتماعية ضخمة للتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. تضمنت الحملة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر معلومات مضللة ودعاية، فضلاً عن هجمات التصيد بالرمح (1) ضد النشطاء السياسيين ومسؤولي الانتخابات.

القرصنة الكورية الشمالية: استخدمت كوريا الشمالية أساليب الهندسة الاجتماعية في العديد من حوادث القرصنة البارزة، بما في ذلك هجوم 2014 على Sony Pictures وهجوم Wanna Cryransomware 2017 (2). في كلتا الحالتين، ورد أن المتسللين الكوريين الشماليين استخدموا رسائل التصيد الإلكتروني بالرمح للوصول إلى أهدافهم.

التجسس الصيني: قامت الحكومة الصينية باستخدام تكتيكات الهندسة الاجتماعية لسرقة معلومات حساسة من الحكومات والشركات في جميع أنحاء العالم. على سبيل المثال، في عام 2017، تم القبض على مواطن صيني في بلجيكا بزعم استخدامه حملة تصيد بالرمح لسرقة أسرار تجارية من شركة طيران فرنسية.

الهجمات السيبرانية الإيرانية: استخدمت ايران تكتيكات الهندسة الاجتماعية في العديد من الهجمات السيبرانية البارزة، بما في ذلك هجوم 2012 على شركة أرامكو السعودية وهجوم 2014 على Sands Casino في لاس فيغاس. في كلتا الحالتين، ورد أن المهاجمين استخدموا رسائل التصيد الإلكتروني بالرمح للوصول إلى أهدافهم.

هذه مجرد أمثلة قليلة على كيفية استخدام الهندسة الاجتماعية في العمليات السيبرانية الأخيرة بين الدول. تجدر الإشارة إلى أن هذه الحوادث غالبًا ما تكون محاطة بالسرية، وقد لا يكون النطاق الكامل لأساليب الهندسة الاجتماعية المستخدمة معروفًا للجمهور.

ولكل ما سبق يجب اخذ الحذر الكافي لتجنب الوقوع في هجوم الهندسة الاجتماعية من قبل المؤسسات الحكومية والأفراد لحماية المعلومات الحساسة والبنى التحتية للبلد، كالتمهل في الرد والتفاعل مع أي تواصل على البريد أو عبر الـ SMS ومحاولة البحث عن حقيقة النص الموجود في الرسالة ولو بشكل سريع، ايضًا عدم الانجذاب لأي محتوى أو رابط أو ملف موجود في أية رسالة وقراءة المحتوى بشكل دقيق، فضلًا عن العروض الخارجية كالعمل والدراسة غالباً ما تكون عبارة عن رسائل دعاية وتُصنف كـ SPAM أما اذا وجدناها على الـ Inbox فيجب الحذر من التفاعل معها بشكل سريع والبحث ايضاً عن حقيقة الأمر.

في النهاية، إن اتباع سياسة الوعي والتوعية في التعاطي مع أي تواصل هو الكفيل في حمايتنا من أن نكون فريسة لأي عملية اختراق لخصوصيتنا مبنيةً على الهندسة الاجتماعية، وفي هذا الإطار يقول Kevin Mitnic " (3) إن أكبر تهديد أمني ليس الفايروس أو ثغرة في برنامج أو إعداد خاطئ في جدار النار (4)، إنما في الواقع قد يكون السبب الأساسي هو .. أنت ".

***

ايهاب عنان سنجاري

باحث في مجال الذكاء الإصطناعي والأمن السيبراني

.................

1. التصيد بالرمح: هو نوع من هجمات الصيد حيث يستهدف ممثل ضار شخصًا معينًا عبر البريد الإلكتروني أو وسائل التواصل الاجتماعي أو الرسائل النصية القصيرة أو رسائل الدردشة التي تبدو مقنعة وكأنها من شخص يعرفه الهدف – مثل زميل أو صديق.

2. هجوم واناكراي الإلكتروني أو ما يعرف بهجوم WannaCrypt أو Wannacrypt0r 2.0 هو هجوم ببرمجية الفدية بدأ في الساعات الأولى من يوم 12 مايو 2017 واستطاع الإطاحة بأكثر من 230 ألف جهاز إلكتروني في 99 دولة حول العالم حسب اليوروبول.(ويكيبيديا).

3. Kevin Mitnick عالم حاسوب ومستشار أمن الحاسوب، من أكبر الهاكرز في العالم ولد في 6 أيلول/سبتمبر عام 1963 وهو أحد أشهر مخترقي الأنظمة.

4. الجدار الناري هو حاجز الحماية الأول في الحاسب أو الهاتف الخاص بك، حيث يقوم بفلترة ما يدخل إلى جهازك بحيث يسمح لما هو معروف بالدخول ويمنع كل ما يشتبه به من الوصول إلى جهازك بحيث تضمن حماية الجهاز الخاص بك قبل أن يدخل إليه أي ما يضره.

 

هذه عودة مختصرة إلى مسألة يكثر الكلام حولها، وهي دعوى أن حرية التعبير التي ينادي بها بعض دعاة الحداثة، ربما تؤدي لضرر شديد بالتقاليد السارية والقيم الفاضلة، بل لعلها تطيح الاستقرار والسلم الاجتماعي. أعلم أنَّ بعض القراء سوف يستنكر هذه المبالغة، لهذا يقتضي الإنصاف بيان أنَّ الخائفين من عواقب الحرية؛ أي حرية التفكير والتعبير والاعتقاد، لا ينادون بقمع الأفكار، ولا يعتبرون الحرية - في حد ذاتها – من الرذائل، لكنَّهم يقولون إنَّ كل ما يحتمل الحسن والقبح، يوجب الاحتياط في التعامل معه، مثل النار التي تستعملها لطبخ طعامك، لكنها قد تحرق البيت أيضاً.

ومقتضى هذا الكلام أنه يتوجب علينا – قبل منح الحرية لعامة الناس – أن نضع القوانين والسياسات التي تعالج ما سوف يترتب عليها من مشكلات. والمقصود بالقوانين هنا هو تحديد المجالات التي يسمح أو لا يسمح بممارسة الحرية ضمن حدودها.

بعبارة أخرى، فإنَّ الخائفين من الحرية، وهم في العادة الفريق التقليدي في المجتمع، يتفقون مع دعاتها في أن حرية التعبير خصوصاً، يجب ألا تقود إلى الإضرار بشخص آخر أو أشخاص آخرين. بعبارة أخرى، فإنهم يعطونك الحق في ممارسة حريتك في التعبير، لكن ليس إلى حد الإضرار بغيرك، كما أن لغيرك نفس الحق مشروطاً بألا يضرك.

كنت قد أشرت في كتابة سابقة إلى أن هذي المسألة تحديداً كانت محل جدل في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر. وعلى خلفية هذا الجدل نشر الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل رسالته الشهيرة «حول الحرية = On Liberty» في 1859. وقد أدى نشرها إلى توسيع الجدل وتعميقه، لكنها في نهاية المطاف ساهمت في إرساء نقاط استناد أو محددات للنقاش في الموضوع. ومن أبرز تلك النقاط أولوية الحرية على غيرها من القيم، واعتبارها حقاً شخصياً لكل فرد، لا يجوز للمجتمع تقييده إلا إذا أدت ممارستها للإضرار بالآخرين، ضرراً موصوفاً ومعرفاً في إطار القانون.

وقد أثارت هذه القاعدة نقاشاً كثيراً. وأُطلق عليها اسم «مبدأ ميل» أو «مبدأ الضرر» (Harm Principle). في إطار هذا المبدأ، صنف ميل الأفعال/التعبيرات المضرة إلى قسمين: فعل تقتصر أضراره على نفس الفاعل، مثل التدين أو الإلحاد، العمل أو البطالة، التدخين أو عدمه. فهذه التعبيرات/الأفعال وأمثالها، قد تزعج الناس، لكن ضررها المادي لا يطال أحداً سوى فاعلها. أما القسم الثاني فهو ضار بالآخرين ضرراً ملحوظاً، مثل الكلام المؤدي لإثارة الكراهية ضد الملونين أو أتباع الأديان الأخرى، أو مثل الإشارات النابية التي تنطوي على إيذاء نفسي أو إقصاء اجتماعي، مما يصنف تحت عنوان التنمر أو التحرش. وقد قرر ميل أن القسم الأول من الأفعال لا يبرر للمجتمع ردع الفاعل أو تقييد حريته، حتى لو كان فعله متعارضاً مع أعراف الجماعة أو تقاليدها. أما النوع الثاني فينبغي تحديده في قواعد قانونية، تسمح بتقييده، لكن دون أن يصل التقييد إلى حد التضحية بحق الفرد في أن يفكر بحرية أو يختار نمط العيش الذي يناسبه.

يخشى ميل بشكل جدي، من أن يؤدي التوسع في تقييد حرية التعبير إلى إشاعة النفاق والتملق، والقضاء على التلقائية التي هي سمة المجتمعات النشطة والناهضة. كلما كثرت القيود في المجتمع تقلصت سوق الأفكار، وتباطأت الحركة، وضعفت – تبعاً لذلك – الرغبة في التقدم. الحرية ليست قيمة بسيطة كي نتساهل في تقييدها لأي سبب؛ فهي أول القيم وأعلاها، وهي أكثرها ضرورة لحياة الإنسان.

***

د. توفيق السيف - كاتب ومفكر سعودي

نحو إصلاح إنسانوي

وأنا أطالع إحدى الكتب قابلتني رسالة مسلم كونغولي يقول فيها: نحن المسلمين في الكونغو فقراءـ ضعافـ حهلة ينقصنا كل شيئ، ونحملكم مسؤوليتنا امام الله، إننا رغم فقرنا لا نريد منكن المال بل نطلب منكم من يعلمنا القرآن والإسلام والعربية، لإن فقرنا يحول بيننا وبين الذهاب الى بلادكم للتعلم"، لا شك أن كل من يقرأ رسالة هذا المسلم الإفريقي الذي سمى نفسه محمدا تترك اثرا في قلب كل ضمير مسلم وبخاصة النخبة من دعاة ومثقفين وة سياسيين لكي يراجعوا أنفسهم ويعيدوا النظر في المعايير التي فقدوها من اجل صراعاهم من أجل التموقع.

الحاضر هو ما خططنا له في الماضي، والمستقبل هو ما نخططه اليوم للغد، لا يمكن طبعا تحديد مفهوم المستقبل، هل هو الغد أم الذي يأتي بعده أم هو الزمن البعيد، هذا الزمن الذي نهل إن كنا سنعيشه يوما ما أم لن نصل إليه لأن عمرنا محدود، كل الأنظمة تضع مخططات على أزمة متباعدة (قريب، متوسط ومدى بعيد) لتحقيق مشاريعها المستدامة ، تكون في خدمة الأجيال، نجد كبار المنظرين السياسيين والعسكريين يتحدثون عن مسائل تدخل في دائرة الإستشراف، كل القوى العظمى تعمل على وضع استراتيجيات لبسط هيمنتها وسيطرتها على الشعوب مثلما قامت به فرنسا على سبيل المثال عندما أرسلت عيونها إلى صحراء الجزائر وتمكن المستشرقون من التقرب من القبائل الجزائرية والاحتكاك بهم حيث تمكنوا من التعرف على عاداتهم وتقاليدهم وتعلموا اللغة العربية قراءة وكتابة ، ثم نقلوها إلى زعمائهم في كتب ومذكرات، كانت هذه ضمن الدراسات الاستشرافية التي وضعتها كبار الدول القوية لفرض هيمنتها وسيطرتها على الشعوب واستعمارها ومن ثم استغلال ثرواتها، بحجة أنها تعمل لتحقيق مستقبل افضل للإنسانية، ففتحت دير العبادة (الكنائس) لتشير الجزائريين والعمل بشعار الفوضى الخلاقة.

لقد عملت هذه القوى على خلق ما يسمى بالتعدديات الثقافية والسياسية وزرعت كبار عساكرها داخل المؤسسات من أجل التحسس واختراق اجهزتها، عن طريق اتفاقيات العمل لإنجاز المشاريع (السكن والبنى التحتية)، إن الأنظمة الاستعمارية طبعا ليست غبية، تعطي بعض خبراتها مقابل أن تأخذ ما لم يضعه الآخر في الحسبان، فنجده يقدم تنازلات إنه العمل للمستقبل، وما هو هذا المستقبل؟ إنه التأمرك أو الأمركة والتَّصَهْيُنْ والتَّمَسْيُن (من الماسونية) هذه المخططات التي تقودها الماسونية لضرب الإسلام والشعوب المسلمة ، زرعت سمومها باسم التعددية الثقافية في إطار حوار الثقافات والأديان والتعايش ، والسلم المسلح، ولا تزال بتطورها التكنولوجي تحفر لإدماج الأخر (المسلم) ، في قالب عولماتي، لطمس هويته وتجريده من كل ما هو مقدس فعملت على منح الحريات.

 كانت المرأة الطعم الوحيد لضرب المجتمع الإسلامي وتكسير شوكته، فظهر ما يسمى بالحداثة لمقابلتها مع الأصالة، من هنا بدأ الصراع الحداثي الأصولي، كمافتحت المجال للجمعيات ومنحها الحرية في ممارسة أي نشاك حتى لو كان خارجا عن المعايير والقيم الإنسانية باسم التحرر وكسر كل الطابوهات، وجندت جيوشها (العسكر) لقهر الشعوب بالدبابات والحروب الامتناهية، فلم نعد نفرق بين الجيش الصيل والمرتظقة، فهذا أحد المفكرين واسمه أدورنو يقول: إن الأصالة مفهوم مشتبه يدّعي عمقا ليس له، وحدث ما سمّوه بصراع المعاني والمفاهيم، المثقف الحداثي والمثقف التقليدي، الأول هو المثقف الغربي الذي يواكب التطور الحضاري، والثاني المثقف العربي الذي لا يزال حبيس العادات والتقاليد والأفكار البالية ولم يطور نفسه، وركن إلى السلبية والهامشية.

تعددت العناوين والمضمون واحد

إنه ضرب من الجنون واللاعقل على راي ميشال فوكو، فالعقل منذ اليونان كان المحرك الأساسي للكون، استطاعت العقلانية من إحداث ثورة التنوير، هذه الثورة التي قلبت كل الموازين، حتى في المجالات القانونية من حيث الدفاع عن المجرمين باسم حقوق الإنسان، حتى لو كان داخل السجون، كان الإنسان محل دراسة في إطار ما أطلق عليه بالإصلاح الإنسانوي الهدف طبعا نشر الأنسنة داخل السجن، فلا يوحد تعذيب ولا اشغال شاقة، ومنح السجين كل الحقوق التي كان يعبشها خارج السجن، إلا أن الواقع يعكس كل شيئ، فما هو معروضا شكلا يخالف الحقيقة وهنا نقف على مدى التلاعب بالمفاهيم كالحرية والعقلانية والإيديولوجيا، واليوتوبيا، والإسلاموفوبيا، والديقراطية والبدوقراطية والأنسنة والمأسسة وغيرها من المفاهيم التي تخدر عقل الإنسان المحدود الفكر، الذي وجد نفسه غارقا في تحديد المفاهيم وفهمها بل شرحها لأبنائه وتلامذته في المدرسة والوقوف على صحتها.

 الدليل هو أننا لما نقف على بعض الكتابات فهي لا تختلف في المضمون وإنما كان هناك تغيير في الكلمات والعناوين فقط مثل: نحن والآخر، ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، مستقبل العلاقة بين المثقف والسلطة، تهاية الإيديولوجيا، نهاية اليوتوبيا... الخ) هي مصطلحات تهدف ‘إلى إحداث "التنوع" بحجة الوصول إلى "التميز"، لقد وجد الإنسان العادي وحتى المثقف وهو يتلقى هذه الأفكار والفلسفات نفسه عاجز على أن يكون فاعلا في المجتمع وعاجز عن إحداث التغيير الإيجابي وبناء الإنسان وتحقيق الأفضل، فكانت له كما يقول مالك بن نبي "القابلية للاستعمار"، ونختم هذه الورقة بما قاله الدكتور عامر ممدوح خيرو وهو يعالج غشكالية الصراع الأصولي الحداثي في كتابه بعنوان : مسارات التراث والتاريخ صدر عن دار الأصالة للنشر الجزائر مايلي: " إن التاريخ متصل الحلقات، وإن الوضع الحخالي هو نتيجة تطورات الماضي وإن فهم الماضي هو خير وسيلة لفهم الحاضر ولذلك يتقدم التاريخ بمهمته التفسيرية لتلك الأحداث متجاوزا الجانب التوثيقي لتوسيع التحليل صوب الماضي والمستقبل.

***

علجية عيش

 

السياسةُ مفهومٌ يحمل في طيّاته دلالات ومعاني متعددة، إلا أنَّ عنوانه الأبرز يدور في حدود العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فيسوس من خلاله السياسون ما يُصلح أمرَ البلاد ويدبّر شؤون العباد من خلال قوانين وقرارات تقرها سلطة تشريعية، وطرق وإجراءات تعمل عليها سلطة تنفيذية ملزمة لجميع أفراد المجتمع. فهي إذن منظومة متكاملة ومنسجمة بين جميع عناصرها، تقوم على أركانِ الفصل بين السلطات، ورفضجميع أشكال الاستبداد، وترسّخ مفهوم التداول السلمي للسلطة.

والسياسة الناجحة هي تلك التي تعمل على الاستفادة من الماضي، واستثمار فرص الحاضر، والتخطيط الاستراتيجي لمستقبل واعد.

وبناءً على هذه الحقائق، فقد تمّ تصنيف السياسيين إلى ثلاث أصناف، الأول هم أصحابُ الفكروالعقيدة، ممن يحملون القِيَم والمبادئ والمُثل ويعملون على ترسيخها في واقع المجتمع الذي يحكمونه. والصنف الثاني هُم أولئك الذين امتهنوا السياسة واحترفوها واعتاشوا على مكتسباتها، وأما الصنف الثالث، فهم الفاسدون والمفسدون، والمخادعون والسارقون، يرفعون شعارات الاصلاح بِيد، ويحملون مِعوَل التهديم بيدٍ أخرى، همّهم المناصب، ودأبهم المكاسب.

وتعتبر السلطة أعظم تجليات المنهج السياسي، حيث يعتبرها الكثيرون أنَّها مدار السياسة، والاختبارالحقيقي للسياسيين، لما تحمله من مغريات، وما تدرّ عليهم من مكاسب يسيل لها لعاب الكثيرين، فيتسابقون على الغنيمة كما تتسابق الذئاب علي الفريسة؛ لا يترددون في الكذب والخداع بل يرونه منهج الصراع.

والواقعية السياسية هي تلك التي تتخذ من السلطة هدفًا ومغرمًا، نابذة وراءها القيم المفاهيم العقائدية أو الأخلاقية، ومستعينة بمناهج سلطوي واستبدادي، تقوم على أسس مادية، واعتبارات فوقية، ومناهج شاذة تدور في فلك صناعة الأفكار والرموز وتسويقها جماهيريًّا بغية تثبيت الدولة العميقة، والتي أركانها الإعلام والقضاء والأمن والجيش ومثقفون وكتّاب وصحفيون ورجال دين، حيث يمارس الجميع أدوارهم في لعبة كسب عواطف الناس واستحصال أصواتهم.

والإعلام الاستقصائي عادة ما يكون له دور ريادي في تثبيت الحقائق وإبراز ممارسات وقواعد الحكم الرشيد، إلا إنّه إذا ما جُيِّر لخدمة مصالح حزبية او فئوية وتحوّل إلى أداة لتحريف وتزييف الحقائق فإنّه قطعًا سيكون سببًا في بناء مجتمع تسوده الفوضى، " يُقرّب فيه اَلْمَاحِلُ ويؤتمن الخائِن وَيُخَوّنُ اَلْمُؤْتَمَن".

إنَّ عملية بناء الدولة العميقة لا تستغني أبدًا عن الإعلام المؤدلج والأقلام المُسيّسة والمُوجّه، فهي دون شكّ مصنعًا لبناء الرموز الكارتونية، وتشييد المسارح التي على خشبتها ترتقي القطع الشطرنجية فيمشاهد وفصول يصفّق لها الغافل ويهتف لها المستفيد.

إنَّ استمرار الأحزاب السلطوية بانتاج الدمى السياسية والاجتماعية وتسويقها أمرٌ منوط بقدرة وبراعةتلك المُنتجات في استغفال الناس من أجل تمرير أفكار ومناهج وبرامج عبر مشاهد وفصول تراجيديةتارة وكوميدية تارة أخرى، والهدف هو كسب ثقتهم أولًا، ثُمَّ التحكم بأفكارهم وسحق إرادتهم، وبالتاليتطويعهم وإخضاعهم.

وفي الوقت الذي يراقب فيه صنّاع القرار المشهدَ من خلف الستار، ويتمعّنون في مدى انجذاب الجمهوروارتباطهم بهذا الرمز أو ذاك، فإنهم يمسكون بخيوط اللعبة ويحركون الدمى كيف ومتى يشاؤون، وحينينتهي الفصل، ويُسدل الستار، يبدأ فصل جديد، ومشهد لقصّة أخرى، وأدوار لأبطال خرافية جديدة،تحركها اصابع الريبة وتُسوّقهم على أنهم رموز وطنية وشخصيات علمية أو أكاديمية، أو رجالات ثقافيةوفكرية، والحال أنهم سخرية.

ورغم أنَّ هذه الصناعة قد شهدت رواجًا واستقرارًا خصوصًا في سوق العالم الغربي، إلا أنَّ بعضًا من المثقفين والسياسيين قد وجّهوا نقدهم اللاذع لهذا النمط من التصنيع السياسي واعتبروه منهجًا يقوم على الخداع ويعمل على حرف العملية السياسية عن وجهتها الصحيحة ويفرغها من محتواها ومضامينها الجوهرية ويحوّل رموزها إلى سلع تجارية تُباع يومًا وتُشترى في يوم آخر.

يرى العديد من الباحثين في الشأن السياسي أن مصطلح التسويق السياسي قد نظّر له بتفصيل الكاتب والسياسي ستانلي كيلي في ستينيات القرن الماضي، حتى أصبح في يومنا هذا عِلمٌ وفنٌ لا يجيده إلا من امتهن السياسة وخبرَ خفاياها، لأجل ذلك يرى الكثير من السياسيين وصنّاع القرار  أن امتلاك وسائل إعلامية ضرورة من اجل الترويج لأفكارهم وبرامجهم والتسويق لرجالاتهم ، فهم يعلمون أن بقاءهم مرهون بقدرة وبراعة رموزهم المصنَّعة في اللعب على خشبة المسرح السياسة أو الثقافة أوالتعليمي، فكلها أسواق رائجة، والمشترون كُثر.

لذلك وبناءً على التجارب الواقعية يُصنّف التسويق السياسي إلى ثلاثة أوجه؛ الوجه الأول هو التسويق الكامل، وهو يشمل صناعة وتسويق كيانات أو أحزاب أو تيارات بغية الزّج بها في العملية السياسية.

والوجه الثاني هو التسويق لبرامج سياسية مرتبطة بأجندات ومبادرات خارجية، وأما الوجه الثالث، وهوالأكثر استخدامًا، فهو التسويق لرموز تثبّت أركان السلطة الحاكمة، سواء كانت هذه الرموز سياسية أمثقافية أم اقتصادية أم أكاديمية أم أمنية أم دينية، وغيرها.

ففي الدول التي تحكمها أنظمة قمعية نرى أنَّ رموز الدولة العميقة فيها من السياسيين والاعلاميين وأشباه المثقفين ومتقمّصي الكفاءات العلمية وأكاديميين ورجالات أمنٍ وقضاة، وهؤلاء في العادة لايُنتخبون من قبل عامة الناس بناءً على حقيقة كفاءاتهم وقدراتهم، أو برامجهم الإصلاحية أو أفكارهم ونظرياتهم وأيديولوجياتهم، بل بصورهم وأدوارهم المسرحية التي ترسَّخت في أذهان الجماهير. 

إنَّ عملية تسويق الشخصيات السياسية والاجتماعية لا تتم بمعزل عن الأحداث السياسية أو الاجتماعيةأو الأزمات الاقتصادية، أو التجمعات والمناسبات الرياضية أو الدينية؛ وهذه الأحداث إما أن تكون هيالاخرى مصنَّعة بشكل مباشر من قبل دوائر صنع القرار، أو بشكل غير مباشر، كأن يُدفع بجهة معيّنة أو تجمع جماهيري معيّن لصناعة حدث ما ليتمّ اختراقه وتغيير بوصلته بالاتجاه الذي يخدم مصالحالطبقة الحاكم.

وهكذا فإنَّ عملية تصنيع وتسويق الرموز السياسية والاجتماعية، وإن كانت تجري في بعض الأحيانب عفويّة وتلقائيّة، إلا إنّها تعتبر في كثير من دول الغرب مهنة لها قواعدها وبرامجها، وأنّها عملية يشرف عليها محترفون ومتخصصون، يُطلق عليهم خبراء الدعاية ومتخصصو الصور الذهنية، فهؤلاء عادة ما يشرفون على برامج وتحركات بعض من هذه الرموز ‘المصطنعة‘ ويهيؤون لهم الدعاية الكافية، تدعمهم بذلك الأذرع الإعلامية وبرامج التواصل الاجتماعي، بالشكل الذي يضمن وصولهم إلى حد المقبوليةالجماهيرية.

***

بقلم: د. أكرم جلال

 

نظَّر مفكرو دولة الخلافة الإسلامية بألفاظ معاصرة للدولة الإسلامية المنشودة، ليُقدّموا من ممارسات المسلمين الأوائل بديلا معاصرا يكفيهم مؤونة التطوير والتحديث، ومحاولة منهم لدفع تهمة الجمود أو القصور عن فقه الدولة في الإسلام؛ فأي جمود يُتّهم به! ومن منظورهم "الدقة والسمو والأصالة الفكرية قد وصل إليها الفكر الإسلامي في أبحاثه القانونية، هكذا قبل مجيء روسو وأتباعه بقرون عدّة."(1) فربطوا بين نظرية "العقد الاجتماعي" لجون جاك روسّو وبيعتي العقبة اللّتين كانتا بين النبي والأنصار قبيل الهجرة، ورأوا أنّ "العقد الاجتماعي الذي تحدّث عنه روسو، وأمثاله كان مجرّد وهم أو خيال، أمّا العقد الذي حدث مرّتين عند العقبة، وقامت على أساسه الدولة الإسلامية، فهو عقد تاريخي وحقيقة يعرفها الجميع."(2) "فالعقد الذي تكلّم عنه روسو كان مجرّد افتراض؛ لأنّه بناه على حالة تخيّلها في عصور ماضية سحيقة، ولا يوجد عليها بُرهان تاريخي، بينما نظرية العقد الإسلامية تستند إلى ماضٍ تاريخيٍّ ثابت: هو تجربة الأمّة في خلال العصر الذهبي للإسلام، وهو عصر الخلفاء الراشدين."(3)

لذلك حاول منظّرو الخلافة أو الدولة الإسلامية أن يُلبسوها ثوب الحداثة ورداء العصرية؛ فالبيعة مساوية لنظرية العقد الاجتماعي، واختاروا "جون جاك روسو" الذي وصفه أحدهم "بأبي الديمقراطية الحديثة"، ووصف كتابه "العقد الاجتماعي" "بالإنجيل لدى زعماء الثورة الفرنسية التي وُلد منها العالم الغربي الحديث."(4) ليقولوا بأنّ تجربة المسلمين في عهدي النبوة والخلفاء الأوائل حقّقت السبق والريادة؛ متجاهلين أنّ العقلية الغربية لم تتجمّد عند هذه النظرية التي تطوّرت عدّة مرّات قبل أن تتراجع أهميتها ابتداءً من القرن الثامن عشر إثر نقد الفيلسوف الإنكليزي ديفيد هيوم لها، وتجاوزها إلى نظريات أخرى.

فربْط مُنظّري الدولة الإسلامية بين البيعة والعقد الاجتماعي هو نوع من المساجلة مع العقلية الغربية أو التماهي معها في غير موضعه؛ لأنّهما في الواقع - إذا سلّمنا بصحّة طرحهم - مختلفان، فلا وجه للمقارنة بين ثابت ومتغيِّر!! فالدولة الحديثة القادمة من الغرب قابلة للتغيير والتطوير والنقد المستمر في مقابل الدولة في فكر منظّري الخلافة الإسلامية التي يرونها نموذجا ثابتا أنتجه الوحي منذ قرون، مرّة في عهد النبوة، وأخرى في عهد الخلفاء الأربعة الأوائل؛ لذا فهم دوما يتحرّكون وجدانيا وفكريا إلى الخلف عكس المسار الزمني للتطوّر الإنساني!!

هكذا انتهى التطوير في العقل المسلم قبل أن يبدأ.. لم يبرح مكانه بتكبّره عن ممارسة دوره الإنساني في التفكير المتجدّد، بزعم أنّه يمتلك في الممارسة التاريخية الأولى للمسلمين ما يفوق نتاج العقلانية الحديثة، فنتجمّد ولا نبدع، ونطلي القديم بألوان الحداثة، كي نقول لسنا في حاجة إلى إعمال العقل في تطوير الفكر الاجتماعي أو السياسي، فقد انتهينا إلى ما وصلوا إليه بعد قرون، هذا خطاب منظّري الدولة الإسلامية؛ لذا لن يتقدّموا خطوة إلى الأمام في تطوير رؤيتهم حول الدولة، ولم يستوقفهم أنّ ثمة فارقا كبيرا بين العقد الاجتماعي في القرن الثامن عشر الميلادي، وبيعتي العقبة في القرن السابع الميلادي من حيث المصدر والدافع والسياقات الزمنية والواقع الاجتماعي؛ فالعقد الاجتماعي في أحد مفاهيمه ممارسة من طرفين لا يملك أحدهما سلطة روحية دينية توجّهه، ولا تنصّ على تكاليف إلهية، ولا يجعل المقابل مؤجّلا في الحياة الآخرة، فالعقد الاجتماعي يبدأ من أناس يتراضون فيما بينهم كمتعاقدين، فرادى أو مجتمعين، على ميثاق اجتماعي، صريح أو ضمني، علني أو صامت، يتعهّدون فيه بالتنازل عن حقوقهم (كلّها أو بعضها) لصالح هيئة اجتماعية عامة، ذات إرادة كلية، تملك سيادة تامة على الجميع، تعبّر عنها مجموعة الأعراف والقواعد والقوانين التي تضعها أو تسنّها بنفسها، والتي توزّع الحقوق والواجبات على أعضائها.

وهذا يختلف عن البيعة التي تقوم على تبادل شيء بشيء، وأخذ الأيمان على ذلك في صورة عرفها العرب قبل الإسلام شكلا، لكن تطوّر مضمونها في العقبة لتصبح ممارسة دينية بامتياز بين النبي بوصفه حامل رسالة الإسلام وعدد من حجّاج يثرب إلى مكّة، وكان موضوعها ليس تحديد علاقة السلطة بالمجتمع، بل موضعها في البيعة الأولى الالتزام بدعوة النبي إيّاهم إلى الإسلام، وما يترتّب عليها من تكاليف دينية واضحة، والمقابل ديني أخرويّ هو الجنّة، وفي البيعة الثانية زاد اشتراط الدفاع عن الإسلام ونبيّه، وفي المقابل دوام النصرة من النبي والمهاجرين من أهل مكّة للمسلمين من أهل المدينة بعد حسم النبي لمواجهاته مع مشركي مكّة، وتشبيه النبي نفسه مع الأنصار في هذا الموقف بعيسى مع الحواريين يؤكد طبيعة العلاقة الدينية للنبي بأتباعه.(5)

ثمّ تعود البيعة لتأخذ شكلا ثالثا في الاستخدام الفقهي، فهي عهد بالطاعة من الرعيّة للراعي، وإنفاذ مهمّات الراعي على أكمل وجه، وكثيرا ما يُركّز الخطاب الإسلامي السنّي على كلمة البيعة تأكيدا على أنّ اختيار الإمام (الخليفة) يبدأ من الناس سواء تمّ بطريقة صحيحة أو غير صحيحة، وليست بتعيينٍ نصّ عليه الله لأسرة بعينها؛ لتتمايز الإمامة السُنّية عن الإمامة الشيعية التي تتمسّك بأنّ الإمام تمّ النصّ عليه وتحديده من الله؛ فالبيعة عند منظّري الإمامة السنّية عقد بين الخليفة (الإمام) والأمّة يصحّ بالشروط التي ينبغي توافرها في غيرها من العقود؛ ولذا سمّيت بيعة "وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده، جعلوا أيديهم في يده، تأكيدا للعقد؛ فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري، فسمّي "بيعة" مصدر الفعل باع."(6) وبهذا العقد تنتقل السلطة كاملة من الأمة للإمام ينيب عنه من يريد، ويفوّض من يختار فيما شاء من صلاحيات، له أن ينفرد برأيه فهو من أهل الاجتهاد، أو يستشير دون إلزام له، وأهل مشورته هم بطانته الذين يختارهم، وبمقتضي البيعة يلتزم المبايعون بالطاعة الكاملة للحاكم في كلّ أمر ما لم يكن معصية، فلا مجال لمخالفته بخلاف العقد الاجتماعي الذي تطوّر عنه الدستور في الدولة الحديثة، فهو يُعطى صلاحيات محدودة للحاكم، ولا يسمح له بتجاوز تلك الصلاحيات ولا التعدّي على عمل غيره من السلطات، من ناحية ثانية يختلف مستشارو الإمام في الدولة الإسلامية عن ممثّلي الأمّة في المجالس البرلمانية - أيًا كان اسمها مجلس شورى أو أمّة أو شعب - في الدولة المدنية، فهم يقومون بدور رقابي على قرارات السلطة الحاكمة، ففرق بين أهل الشورى وهم مستشارون فحسب، وبين أهل الشورى وهم سلطة مستقلة تمثل الشعب في مراقبة أداء الحاكم والحكومة (السلطة التنفيذية)، وفرق بين بيعة تلزم المحكومين بطاعة الحاكم، وتعاقد اجتماعي يلزم الحاكم بطاعة المحكومين وينظّم العلاقة بينه وبين المجتمع، ومن جانب آخر تصطدم البيعة مع المواطنة في الدولة الحديثة؛ فالبيعة بالخلافة الإسلامية اختيار من المسلم دون غيره، بموجب كون الخلافة الإسلامية منصبا دينيّا؛ فالدولة الإسلامية عند منظّري الخلافة الإسلامية هويّتها عقائدية تمتدّ، حيث وُجد مسلمون في أي مكانٍ فتجعلهم جزءًا من دولتها دون اعتبار لحدود جغرافيّة، وهذا تصوّر غير واقعي في عصرنا بخلاف الدولة المدنيّة الحديثة فهوّيتها جغرافية نابعة من الأرض التي يعيش عليها الإنسان، فالدولة المعاصرة محدّدة بنطاق جغرافي، فكلّ من ينتمي إلى مصر في جغرافيتها له حقّ اختيار رأس الدولة بصفته مواطنا يتساوى في ذلك الذكور والإناث والمسلمون وغير المسلمين. فمنظّرو الدولة الإسلامية لـ"الخلافة" ليس عندهم مفهوم المواطنة، وإن قبله بعضهم في خطابه المعلن بدافع من الواقع المعاصر للدول العربية، فتبدو تلك الدول عند بعض منظّري الخطاب الإسلامي ولايات إسلامية منفصلة تنتظر عودة الخلافة الجامعة، وتبدو عند البعض الآخر بمنزلة عدّة دول إسلامية كلّ منها خلافة في ذاتها، متخلّيا عن فكرة استعادة الخلافة لتعذّرها؛ فالمسلمون عاجزون عن إعادتها بسبب تغيّر النظام العالمي، ويبقى غير المسلم في كلا التصوّرين في منطقة ضبابية: هل هو ذمّي في دولة الإسلام فتكون أحكامه كما هي في كتب الفقه، أم مواطن له حقوق المواطنة كاملة فيأخذ بأفكار الدولة المدنية الحديثة!

ويظهر التلفيق في وصف الدكتور محمد عمارة الخلافة الإسلامية بأنّها "نظام من نُظم الحكم.. ونظم الحكم - ككلّ النُظم - هي مؤسسات وآليات تُقيمها الأمّة لتحقيق المقاصد والغايات والمصالح التي تتغيَّاها، والتي تحدّد معالمها المرجعية الفكرية أو الفلسفية أو الدينية التي تُؤمن بها هذه الأمّة؛ أي أنّ الخلافة مؤسسة مدنية بشرية أبدعتها الأمّة ... الخلافة الإسلامية - التي قامت كامتداد متطوّر لدولة النبوّة - فإنها باعتبارها - دولة النبوة - قد تأسَّست بالتعاقُد الدُّستوريِّ والعقد الاجتماعيّ الحقيقيّ الذي تمَّ في "بيعة العقبة" (1ق هـ/621م) وتوزَّعت فيها السُّلطات بين المؤسسات الدستورية الثلاث: مؤسسة الأمراء.. المؤسسة الدستورية الثانية هي مؤسسة النقباء الاثني عشر.. المؤسسة الدستورية الثالثة، وهي "مجلس الشورى" مجلس السبعين الذي كان يجتمع بمسجد النبوّة بمكان محدّد، وفي أوقات محدَّدة؛ لتعرض عليه شؤون الدولة والمجتمع، والتقارير الواردة من أقاليم دولة الخلافة."(7)

فمفردات مثل: نُظم الحكم، ومؤسسات، وآليات، ومدنيّة، ودستورية، ومؤسسية، وتعاقد دستوري، وعقد اجتماعي، ومجلس شورى لم يكن لها ولا لدلالاتها وجود في تلك الفترة التاريخية تماما، بل وُجدت تلك الألفاظ وتشكّلت معانيها في العصر الحديث، حيث استلهمت من تجربة الدولة المعاصرة في نسختها الغربية، كذلك توصيف الخلافة الإسلامية بأنّها "الدولة التي قامت في العام الثالث عشر لتحقيق سيادة الشريعة الإسلامية في حياة الأمة"(8)، تعبير غير دقيق لأنّ مصطلح الشريعة لم يكن له وجود؛ فالشريعة بمفهوم الأحكام الشرعية العملية الثابتة بالنصّ الشرعي مفهوم جاء متأخّرا عن تلك الحقبة بما يزيد عن مئة وخمسين عاما، كما أنّنا في الوقت الذي نسلّم فيه بأن النبي قاد تحوّلا جوهريا من القبيلة إلى مجتمع المدينة كخطوة نحو بناء مجتمع جديد فإنّ تجربته لا تمثل تجربة دولة بالمعنى الذي يروّج له الخطاب الإسلامي؛ لأنّ النبي لقي ربّه بعد تمام الوحي بينما تجربة المسلمين مع الدولة في حالة تشكّل وتكوين بوصفها جزءًا من الممارسة الإنسانية للنبي التي أرسى الوحي مبادئها العامة، ثم أوكل للبشر استكمال التفاصيل من تجارب الممالك المعاصرة لهم والسابقة عليهم، فلفظ دولة النبوة الذي استخدمه الدكتور عمارة له دلالة ملتبسة، ويحتمل قدرا من الدينيّة والتقديس ننفيها دوما عن شؤون الدولة؛ فالنبي لم يكن مكلّفا بإقامة مملكة بلغة ذاك العصر ولا استحداث دولة بل بتبليغ دعوة، وإنذار من يتخلّى عنها، فلم تكن مهمّته إنجاز دولة بل تبليغ مبادئها العامة، فلو بنى الرسول دولة لكانت شكلا ثابتا مقدّسا في حياة المسلمين، وهذا ما لا يستقيم مع حركة التطوّر الإنساني، فكانت الحكمة الإلهية صارفة للرسول عن ذاك..

وإذا كانت البيعة في صورتها التي وصلت إلينا من منظور المفكّر الإسلامي دينا مجرّدًا ثابتًا فلِمَ يقعُ إخضاعها للمقارنة بنظريات بشرية في نُظُم حُكْم تتغيّر وتتبدّل؟! وإذا كانت ضمن أفعال النبوة الزمنية التاريخية الداخلة في اجتهاده البشري، فلماذا تُجعل قالبا ينبغي أن تُقاس عليه اليوم ممارسات السياسة المتغيِّرة!

إنّ وصف بيعة العقبة بالتعاقد الدستوري والعقد الاجتماعي لا يخلو من تكلّف وتحميل للحوادث التاريخية بدلالات تتنافى مع طبيعتها، لأنّ البيعة لم تكن ميثاقًا اجتماعيًّا ينظّم علاقة السلطة بالمجتمع، فهناك فرق كبير بين التعاقد الدستوري والبيعة؛ فالدستور مجموعة القواعد القانونية المنظّمة لممارسة السلطة ومصادرها والعلاقة بين القائمين عليها، والأشخاص المعنويّين والطبيعيّين المحكومين بتلك السلطة، والقواعد الضامنة للحقوق والحريات العامّة في المجتمع.

كما أنّ جعلهم البيعة دستورا يحوّل ممارسات النبي (وجهاده لتبليغ دعوة الله) إلى جهاد من النبوة لإقامة دولة (مملكة بلغة تلك الفترة) وهذا الخلط له خطورته؛ لأنّه يؤسس لأصولية الدولة وجعلها غاية دينية، الفكرة التي تنطلق منها الجماعات الدينية في تأسيس الدولة الإسلامية بداية ببيعة أمير أو مرشد أو خليفة تجاهد تحت رايته لاستعادة الخلافة، الفريضة الإسلامية الغائبة من منظورهم.

من جانب آخر يظهر التلفيق في استخدام المفكّر الإسلامي مصطلح "مجلس الشورى" في غير موضعه؛ فدلالته المعاصرة هي مجلس نيابي يُمثّل السلطة التشريعية في الدولة الحديثة، ويُمارس دور الرقابة على سلطتها التنفيذية، بخلاف الشورى في الممارسة التاريخية الأولى للمسلمين التي لم تأخذ شكلا بعينه، ولم تكن مُلزمة، بل مُعلِمة برأي من يختارهم القائم على الأمر أهلا لشورته، وهي مبدأ عربي وإسلامي. أمّا كونها مبدأً عربيا؛ فلأنّ قبائل العرب مارست فعل المشورة وتبادل الرأي قبل الإسلام، وتحدث القرآن الكريم والأخبار النبوية عن نوادي كفّار مكة ومشاوراتهم في كيفية مواجهة النبي والقضاء على دعوته للإسلام، وكونها مبدأً إسلاميا؛ لأنّ الوحي حثّنا على ممارسته دون أن يضع له إطارا أو آلية؛ لذا تعدّدت أشكاله في الممارسة النبوية.

أخيرا من الآثام العلمية لمثل هذا النوع من الخطاب الإسلامي لغته الفضفاضة المفتقدة للدقة العلمية والاصطلاحية، فتشعرك أنّها كُتبت بأمنية المتعالي بماضيه على حاضره، فيكتب بلغة خطابية مستخدما المصطلحات الحديثة في توصيف ممارسات نبوية لم تستعمل مثل هذه المصطلحات؛ ليكسب المصطلح المعاصر دلالة دينية من السياق المستخدَم فيه، ويصبغ الممارسة التاريخية بالصبغة الحداثية، ويجعل من التاريخ ناطقا بالإسلام، والحقيقة أنّ التاريخ يحكى فعل المسلمين في زمن بعينه، وهو لا ينطق بل المؤرّخون والموجِّهون للشواهد هم من ينطقون، فلا يُقدّم إلاّ توصيفا دقيقا واقعيا لحقبة تاريخية من حياة المسلمين، مكتفيا بطلائها بمصطلحات حداثية؛ لتبدو وكأنّها ممارسات مساوية لها، وكأنّ المسلمين الأوائل أقاموا النموذج المعاصر للدولة، ويُجرّد التاريخي الإنساني؛ ليختلط بالديني المقدّس الثابت الصالح لكل زمان ومكان، وأستبعد افتراض أنه استخدم لغة فنية أدبية اعتمدت على الاستعارات والمجازات ليقرّب المعاني، ويُجمّل الأفكار، فهذا لا يتناسب مع الطرح العلمي الذي يحتاج إلى لغة معيارية علمية، فوصف القديم بلفظ الحديث تلفيق وإن زعم أصحابه المجازية أو التوفيق.

***

بقلم عبد الباسط سلامة هيكل

..............

(1) الدكتور ضياء الدين الريس، النظريّات السياسية الإسلامية، ص213 مكتبة دار التراث، الطبعة السابعة، 1979م.

(2) السابق، ص 32

(3) السابق، ص 214

(4) السابق، ص 213

(5) في حديث عبادة بن الصامت "بايِعوني على أن لا تُشرِكوا باللهِ شيئًا، ولا تَسرِقوا، ولا تَزنوا، ولا تقتُلوا أولادَكم، ولا تَأتوا ببُهتانٍ تفتَرونه بين أيدِيكم وأرجُلِكم، ولا تَعصوا في معروفٍ، فمَن وَفَّى منكم فأجرُه على اللهِ، ومَن أصاب من ذلك شيئًا فعُوقِبَ في الدنيا فهو كَفَّارةٌ له، ومَن أصاب من ذلك شيئًا ثم سَتَرَه اللهُ فهو إلى اللهِ، إن شاء عَفا عنه وإن شاء عاقَبَه. فبايَعْناه على ذلك." (صحيح البخاري. ٣٨٩٢)، وفي رواية كعب بن مالك عن بيعة العقبة الثانية قال النبي: "أُبايِعُكُمْ على أنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وأَبْنَاءَكُمْ قال فَأَخَذَ البَرَاءُ بنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثمَّ قال نَعَمْ والَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لِنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَزْرَنَا فَبايِعْنَا يا رسولَ اللهِ فَنَحْنُ واللهِ أَهْلُ الحُرُوبِ وأَهْلُ الحَلْقَةِ ورِثْنَاهَا كَابِرًا عن كَابِرٍ قال فَاعْتَرَضَ القَوْلَ - والْبَرَاءُ يُكَلِّمُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَبُو الهَيْثَمِ بنُ التَّيِّهَانِ حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ فقال يا رسولَ اللهِ إِنَّ بَيْنَنَا وبَيْنَ الرِّجَالِ حِبالًا وإِنَّا قَاطِعُوهَا - وهِيَ العُهُودُ - فهل عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ وأَظْهَرَكَ اللهُ عزَّ وجلَّ أنْ تَرْجِعَ وتَدَعَنَا؟ قال فَتَبَسَّمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال بَلِ الدَّمَ الدَّمَ والْهَدْمَ الهَدْمَ أَنْتُمْ مِنِّي وأَنَا مِنْكُمْ أُحارِبُ مَنْ حارَبْتُمْ وأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ وَقَالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ على قَوْمِهِمْ.." (الهيثمي، مجمع الزوائد، ج6، ص45)

(6) أبو زيد عبد الرحمن بن محمد (ابن خلدون) المقدمة، ص ١٧٤، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1408هـ-1988م.

(7) الدكتور محمد عمارة، بحث الخلافة الإسلامية، كتاب مؤتمر الأزهر حول الإرهاب ص27، 26. طبعة مشيخة الأزهر 2014م..

(8) السابق، ص 26

تصريحات ومقترحات وحلول وتفسيرات غريبة تصدر عن اشخاص يقدمون انفسهم كخبراء ودكاترة اقتصاد عراقيين. افكار غريبة وغير معقولة!!، بعضهم يدعو الى تحويل الاقتصاد العراقي الى حقل تجارب ومختبر يتم فيه دراسة افكارهم العظيمة. يقترحون على الحكومة اعادة تجربة عدد من السياسات التي هجرها العالم الرأسمالي مثل الخروج المطلق للدولة من الحياة الاقتصادية وترك القرارات الاقتصادية للسوق وللقطاع الخاص في بلد تملك فيه الدولة ،بحكم الواقع التاريخي، كل موارد البلد من العملات الصعبة !!

هل يريدون ان تبيع الدولة القطاع النفطي وتفرض ضرائب على الشركات (مثلما اقترح احد السياسيين الاكراد بعد الاحتلال مباشرة)؟؟

وفي بلد يشيع فيه الفساد وكل انواع المخالفات المعروفة مالياً واقتصادياً؟

لدينا قطاع خاص يفتقر الى الخبرة المتراكمة والقدرة على ادارة الحياة الاقتصادية ، حتى عند افتراض نزاهة هؤلاء ووطنيتهم.. بسبب تهميشه التاريخي بحكم السياسات المركزية المتشددة تحت شعار بناء الاشتراكية..

البعض الآخر قال ان الحكومة تستطيع طبع كمية من الدنانير بمقدار مالديها من رصيد متراكم بالدولار (يقال انه قد بلغ حالياً ١١٥ مليار دولار).

لايعلم هؤلاء الاشخاص بان تلك الدولارات المتراكمة هي ادخارات لدورات دخلية سابقة وانها متولدة بالاساس من قطاع ريعي هو النفط الذي هو جزء من الناتج المحلي الاجمالي لكنه لايولد اية منتجات للاقتصاد الوطني ولاشباع حاجات السوق سوى كمية النفط التي تصفّى وتباع في السوق المحلية.

وان طباعة مبالغ مساوية لذلك الفائض المتراكم يعني انفاقاً حكومياً اكبر وبالتالي طلباً اكبر على الدولار لاغراض الاستيراد الذي سوف يرتفع بنسبة عالية لان البلد يستورد كل شيء تقريباً.. 

بذلك سوف يُستنزف ذلك الاحتياطي تماماً والذي يعتبر وجوده ضمانة لقدرة الدولة على تمويل استيراداتها عند توقف تدفقات النقد الاجنبي من الخارج.

لذلك يقال ان الدولة لديها مايكفي من احتياطيات النقد الاجنبي لتمويل استيراداتها لفترة معينة (من خلال مقارنة حجم الاحتياطيات مع حاجات الاستيرادات السنوية من النقد الاجنبي) وكلما زادت فترة التغطية زادت الثقة بالاقتصاد في التعاملات الدولية..

ومع مشاكل هذا الحل المقترح والساذج، الا انه لن يحل الأزمة لان الأزمة ناشئة عن القيود على تحويل الدولار وليس نتيجة لعدم توفر الدولار لدى الدولة.

بل ان الازمة سوف تتفاقم ويزداد تدهور سعر صرف الدينار بسبب اشتداد الطلب على الدولار مع بقاء نفس القيود على التحويل.

آخرين قالوا انه يمكن للعراق الخروج من دائرة الدولار الامريكي والذهاب الى التعامل باليوان الصيني او الروبل الروسي!!!! بدون الاكتراث بالعقبات السياسية والاقتصادية المترتبة على ذلك الإجراء.

مجموعة اخرى من مراهقي الاقتصاد يدعون، بقوة غير معهودة، الى جعل الاقتصاد العراقي يدار وفق منطق آدم سمث القديم والاعتماد على اليد الخفية لقوى السوق التي تتكفل بتعديل اوضاع الاقتصاد ودفعه ثانية نحو حالة التوازن !!

ولايعلمون ان العالم الرأسمالي العريق بكافة دوله قد تخلى عن فكرة اليد الخفية منذ أزمة الثلاثينيات (او كما تعرف بالكساد العظيم) حينما عجزت النظرية الكلاسيكية في الاقتصاد عن معالجة تلك الأزمة وعجزت اليد الخفية عن تقديم الحلول!

 مما اضطر الدول واولها الولايات المتحدة وبريطانيا، الى الأخذ بنظرية كينز التي تدعو الى تدخل الدولة عن طريق الإنفاق العام والمشاريع العامة لتحريك الاقتصاد، وهذا ماحصل بالفعل.

البعض يدافع بشكل يدعو الى الدهشة، عن فكرة طبع الدينار دون قيود من قبل الدولة لتمويل نفقاتها !!

بل ان احدهم كتب لي على الحساب الخاص يدافع عن تلك الفكرة القاتلة بحجة ان الكثير من الدول تطبع بما فيها الدول الكبرى. ويقول: ماهو الضير من طبع العملة؟؟ الكل يطبع. (وهو هنا يحمل نفس نظريات الاستاذ المرحوم حسين كامل صهر الرئيس صدام حسين الذي كان يطبع النقود بشكل لامركزي ويتبجح بأنه قد بنى الجسر ذو الطابقين باستخدام برميل حبر ولفافة كبيرة من الورق)! دون النظر الى العواقب الكارثية لسلوكه هذا. ودون ان يعرف ان الاقتصادي الامريكي الكبير ملتون فريدمان، قد دعى الى تعديل الدستور الامريكي ووضع مادة تحرّم على الحكومة طبع العملة تحت اي ظرف لانها تحطم رصانة السلطات النقدية وتدمر مصداقيتها امام العالم، اضافة الى اثاره الكارثية على الاقتصاد الوطني.

يبدو ان هنالك تراجعاً في مستوى الثقافة الاقتصادية في العراق وتراجعاً في التعامل مع الاقتصاد كعلم له اصول وقواعد صارمة بحيث انه اصبح من النادر ان تطلع على بحث رصين من بين كل ماينشر من كتابات..

ربما يعود هذا التراجع الى ظاهرة شراء الشهادات وتدني مستوى الدراسات العليا في البلد بشكل عام وليس مطلق  (جزء من هذا الانطباع الذي تكون لديَّ يعود الى مستوى افكار ومدارك بعض طلاب الدراسات العليا، ماجستير ودكتوراه، الذين يطلبون مني النصيحة والاستشارة من خلال الكتابة على حسابي الخاص).

***

د. صلاح حزام

أن الحلم ظاهرة نفسية هو ما عبر عنه سيجموند فرويد بالوضوح والتأكيد القاطع لأنها حياة الإنسان وهو خارج الوعي وفي عالم آخر ربما يشبه حالة الموت كما يقول الفلاسفة. ويؤكد فرويد بأن الحلم عملية ذات معنى يمكن إدراجها في سياق خبراتنا النفسية، وليس بشيء خارج عمليات النفس المدركة أو غير المدركة، والسبب في ذلك كما يؤكد لنا فرويد إن النوم يجعل تكوين الحلم ممكنًا لأنه ينقص قوة الرقابة النفسية الباطنة.. إذن هو حارس النوم.

أن الحلم يحقق رغبة، وكل رغبة " أمنية" تصور في الحلم لابد أن تكون رغبة طفلية، وتنشأ هذه الرغبة من اللاشعور " اللاوعي" عند الراشدين كما يذكر فرويد ذلك في تفسير"تأويل " الأحلام في ص 544 ترجمة مصطفى صفوان.

يتساءل البعض ونحن معهم كيف يكون الشيء مبهم وهو فينا، نحمله في دواخلنا، يتعايش معنا، لا ندركه، ولكن نتعرف عليه بعد حدوثه فتأتي الإجابة بإن عقول الناس تحتضن أشياء معينة يعرفونها دون أن يعرفوا، وهو الحلم بعينه، رغم أن التحليل النفسي بكشوفاته أثبت وجود عالم اللاشعور " اللاوعي" مخزن اللامنتهي من السعة والإدراكات.

أذن الحلم يخرج من عوالم اللاشعور " اللاوعي" بطريقة قل وصفها ومعرفة آلية كنهها وعملها، ولكن فرويد بعبقريته لمس موضعها وأخرج مكنوناتها وسبر أعماقها بطريقة عجيبة غريبة، تفرد بفن قراءتها فاق قدرة الفلاسفة وواضعوا الاساطير ومدونو الكتابات، ولا نغالي إن قلنا أنه "فرويد" عرف لغة الأقدمين ممن كتبوا اللغات الهيروغليفية القديمة ودونوا نقوشهم على جدران الكهوف والمغارات، فكانت قراءته تنطلق بأنه عرف كنه هذا الإنسان معرفة حقه، ومنه أبتدأ في معرفة ما يعتمل في داخله قبل وأثناء وبعد ما يعيش لحظة الصراع النفسي. فلا نغالي إن قلنا أن التحليل النفسي هو تشكيل جديد للاوعي – اللاشعور بعد أن يكون قد أنهك هذا الإنسان المعاصر صراع لا منتهي وأزاء ذلك يقول العلامة مصطفى زيور الصراع في التحليل النفسي هو ذلك التعارض اللاشعوري "اللاواعي" بين رغبة غريزية تنشد التفريغ وميل يعارض ذلك ويناهضه. ويدور الصراع بين رغبات " الهو " الغريزية اللاشعورية "اللاواعية" ووظائف الأنا الدفاعية اللاشعورية كذلك كما هو في عصاب الوساوس القهرية. أنه اللاشعور " اللاوعي" منبع ما يصدر عنا من سلوك ويقود تعاملاتنا مع أقرب المقربين لنا ونحن أطفال، أو مراهقين، أو بالغين ناضجين، هو المحرك لكل ذلك دون علمنا، ومنها ما لا نستطيع قوله أو البوح عنه، لأنه غير مقبول إجتماعيًا أو دينيًا أو يتعارض مع القيم السائدة في مجتمعاتنا، وإلا فما بال من تحتقن بداخله برغبة الشذوذ عن ما هو معمول به في السلوك الجنسي، وهي رغبة المختلف عن الأخرين في طلب الحاجة الجنسية، وهو عالم المثليه. كيف يفكر الإنسان العادي ؟ وكيف يفكر الإنسان المثلي؟ وكيف يتم كبت هذه الرغبات والامنيات عنوة وبقوة، لكنها تعود بشكل آخر بغير الطريقة والأسلوب التي خزنت في هذا العالم الواسع الخفي، تعود بعد أن ضاقت بها النفس وكادت أن تمزقها فخرجت بتفريغ مقبول يرضي صاحبه ولكنه لا يفهمه، عاد مشوه، سريالي التكوين، مبعثر الكلمات واللغة، وحقًا حينما أطلق جاك لاكان مقولته أن للاشعور "للاوعي" لغة خاصة، تُفهم من خلال حل رموز الحلم، لأنه متركب من عالم اللاشعور. إذن الحلم.. تحقيق مقنع عن رغبة مكبوته كما أعلمنا سيجموند فرويد، وهو كذلك أي الحلم.. الطريق الملكي للاشعور، أو الطريق الذهبي للاشعور "للاوعي"

إذن.. الحلم تحقيق رغبة " أمنية"

يدلنا جاك لاكان بقوله عن فكرة الحلم: الحلم هو الحدث الذي بفضله تمر المتعة إلى اللاشعور "اللاوعي"

أننا أزاء ظاهرة نفسية لم تغب عن حياة الإنسان منذ فجر نشوء تاريخ البشرية لدى الأسوياء ولدى غير الأسوياء، وبذلك يقول فرويد.. الحلم ظاهرة شائعة في حياة الأسوياء، مهما تمايزت خصائصه عن ظواهر حياتنا اليقظة، ونقول نحن إنها عرفت منذ بدء تاريخ البشرية، لأنها أمنيات في الوجود المترف، والوجود الصعب، والحياة المعاشة في مختلف المجتمعات البشرية في مختلف الأزمنة والأمكنة في هذا الكون.

يتعمق سيجموند فرويد في بحثه عن عالم الأحلام ويقول: الحلم.. إذا افترضنا أن ما نذكره منه عند اليقظة ليس عملية الحلم الحقيقية بل هو واجهة تستتر وراءها هذه العملية. فعلا هناك خفي ما كان أعظم وأكثر غرابة، وأكثر اندهاشًا، لا وربما أكثر متعة وألمًا، لذة وألم.. هذا هو مبدأ الحياة في الوجود، يعلن الإنسان شيء ويخفي أشياءكثيرة، لأنها رغبات غير مقبولة، لكن يدلنا الحلم على كنهها وما تحتوي، يعرفها بحق المحلل النفسي في ميدان عمله لا سيما أن طبيعة عمل المحلل النفسي هي معرفة مسألة الرغبة وهي جوهر الإنسان.

تكلمنا عن فكرة بأن الحلم في جملته بديل محرف عن شيء آخر، عن شيء لاشعوري" لاواعي" وأن تأويل الحلم يهدف إلى الكشف عن هذه الأفكار اللاشعورية- اللاواعية وهي التي ظهرت في الحلم بعد أن أحيل بينها وبين اخراجها للواقع فذهبت بطريقة لا يدركها من لا يطلع على أدبيات التحليل النفسي وأسسه ونظرياته العلمية، لذلك يقول فرويد.. تمييزنا بين المضمون الظاهر للحلم، وأفكار الحلم الكامنة... وسمى فرويد العملية التي تحول الأخيرة إلى الأولى.. صياغة الحلم... ويضيف لنا سيجموند فرويد قوله " تقدم لنا دراسة صياغة الحلم مثالا عن النحو الذي تفرض به مواد اللاشعور " اللاوعي" في الهو – أصيلة كانت أم مكبوتة – وبذلك يؤكد لنا فرويد.. نحن نهدف إلى أن نتبين أن للاحلام معنى. لذا... فدراسة الأحلام خير تمهيد يمهد به لدراسة الأمراض النفسية. وقول فرويد في كتابه الموجز في التحليل النفسي إذن الحلم ذهان بكل ما يصاحبه من سخافات وهذيان وأوهام، والحق أنه ذهان قصير الأمد لا ضرر منه، بل إنه يؤدي وظيفة نافعه، ويتم بموافقة الحالم وينتهي بفعل إرادي يصدر عنه، ومع هذا فهو ذهان.

اننا في عالم الأحلام نذهب بعيدًا في بعض الأحيان رغم إنها "هي الأسلوب الذي تستجيب به الحياة النفسية للمنبهات التي تكتنفها خلال النوم" كما يقول فرويد وقوله كذلك إن من الأحلام ما يبدو بعض أجزائه واضحًا ناصعًا إلى حد بعيد، والبعض الآخر على درجة كبيرة من الغموض، وهو بحق أي الحلم يرتبط بانطباعات تأثر بها الشخص في الأيام الأخيرة التي سبقت الحلم ارتباطًا أوثق مما كنا نظن من قبل.

يزودنا فرويد بحقائق علمية تضيف معرفة جديدة لنا وقوله: كل حلم هو بناء نفسي ذو معنى يمكن الربط بينه وبين مشاغل الحياة في اليقظة، وكذلك يضيف "فرويد" أخيرًا قد يستطيع الحالم، إن أتخذ الحلم نقطة ابتداء، أن يتذكر حوادث وقعت له في عهد أبعد من هذا، بل قد يصل إلى أحداث ترجع إلى عهد جدً بعيد.

أما " موراي " فيرى بعبارة محوكة حياكة مقبولة: إننا نحلم بما رأيناه أو قلناه أو رغبنا فيه أو صنعناه.

أما منابع الحلم وأصوله تؤكد لنا أن بناءه يقوم على اسس أربع طبقات وهي استخدمت في تصنيف الأحلام نفسها:

1. منبهات حسية خارجية " موضوعية"

2. منبهات حسية داخلية " ذاتية"

3. منبهات جسمية باطنية عضوية

4. مصادر نفسية خالصة للتنبيه.

إن المنبهات التي تقلق النوم قد تكون نفسية كما قد تكون بدنية. فنحن نعلم علم اليقين أن المنبهات النفسية هي المسؤولة على وجه التخصيص عن إقلاق النوم عند الراشد الكبير. وكذلك أن الحلم نتاج لنشاطنا النفسي الخاص، بيد أن الحلم بعد أن ينقضي يثير العجب من أنفسنا، وكأنه شيء غريب عنا.

ويقول فرويد: أن لكل حلم مغزاه وإن خفي هذا المغزى، وأن الحلم قد جعل ليحل محل عملية فكرية أخرى، وليس علينا إلا أن نرفع هذا البديل على النحو الصحيح لكي نصل إلى ذاك المعنى الخفي. ويؤكد لنا فرويد بأن لكل حلم معناه وقيمته النفسية.. ولكن من الواجب مع ذلك أن نترك مكانًا لإمكان تفاوت هذا المعنى بتفاوت الأحلام. فحلمنا الأول قد حقق رغبة.. ولكن قد يجيء ثان فإذا هو يحقق مخافة.. أو ثالث فلا يخرج محتواه عن أن يُكونْ فكرة ما.. أو رابع يستحضر إحدى الذكريات وحسب.

يعرض فرويد رؤى متنوعه عن الأحلام بقوله فالحلم كما نتذكره ليس الشيء الحقيقي الذي نبحث عنه بل بديل محرف له تستدعى به أفكارًا بديلة أخرى، وأزاء ذلك يبين لنا فرويد وجود اصطلاحين اساسين في الحلم هما

الحلم كما يرويه الحالم المحتوى الظاهر للحلم وسنسمي المعنى الخبيء الذي نظفر به عن طريق التداعي الأفكار الكامنة للحلم ولكن فرويد لا يترك ذلك فحسب، بل يقول: علينا الآن أن نأخذ في فحص الصلات بين المحتوى الظاهر والأفكار الكامنة، فالعنصر الظاهر ليس تحريفًا للعنصر الكامن بقدر ما هو تصوير له.

وأخيرًا يمكننا أن نتعلم من فرويد بإن الحلم يبعد أن يكون مصدرًا لإقلاق النوم " كما يؤخذ عليه عادة ".. بل انه حارس النوم يحميه من كل ما من شأنه أن يسبب له ازعاجًا.. صحيح أننا نميل إلى الظن بأن النوم الخالي من الأحلام خير من النوم المصحوب بها، لكنه ظن خاطئ، فالرغبة "الأمنية" هي التي تستثير الحلم، ومضمون الحلم تعبير عن هذه الرغبة: تلك إحدى الحقائق الرئيسة للحلم. ونتفق مع رؤية بأن الحلم لديه رسالة ووظيفة ويمكننا أن نعبر عن ذلك بأن الحلم في المستوى الواقعي له وظيفة حماية النوم ولكن هذا لا يتعارض مع كونه رساله.. كما يقول المحلل النفسي محمد درويش...

أعتقد أنها وظيفة ورسالة استنادًا لقول العلامة مصطفى صفوان قوله أن الحلم يتألف أكثر ما يتألف من صور مرئية لا من اصوات. وهي لغة الحالم النهارية.. ويضيف صفوان قوله: أن اللغات النهارية مهما أمعنت في هذا الاتجاه لا تبلغ أبدًا إلى القضاء على اتساع اللفظ الواحد للمعاني المتعددة..

***

د. اسعد الامارة

 

لاتعد الكارثة مصطلحاً قانونياً، وطريقة تصنيفها يؤثر على الموضوع، لذا يرى بعض الباحثين انه من المهم في اثناء تقدير المصطلح أن يفهم أن مجرد وقوع الكارثة بحد ذاتها لا يشكل نقطة الاهتمام المادي، ولكن تلك النقطة تتمثل في مجموعة كاملة من الجوانب الداخلة في الموضوع، وهي السبب، والذي يتشكل من فيئتين، الكوارث الطبيعية والتي تعد الزلزال منها، والكوارث الناجمة من الأنشطة البشرية، والتي أجد بأن التلاعب بالبيئة او البنية الجيولوجية والتي تُعرف على انها تضاريس الأرض حيث يكون للكتل الصخرية بعض الخصائص او الجوانب التي تشكل هيكلها – البنيات-  وهي ترتبط بجميع الحوادث التكوينية التي تسببها الحركات التكوينية وحركات المنشأ، فضلاً عن عامل الانبساطية، الذي يعد نتاج النشاط البركاني والحركات الزلزالية، ويتميز هذا ايضاً بتشويه الصخور، مما ينتج عنه تموجات وثنيات، لبعض المناطق كأنشاء سدود عملاقة على ارض تُعد واقعة على خط الزلزال من ضمنها، وذلك ما يحيلنا الى الجانب الاخر المتعلق  بالمدة، والتي تكون في الغالب مفاجئة أو بطيئة تدريجية الظهور، مما يجعلنا أمام جانب اخر وهو السياق، حيث تقع الكوارث في صورة طوارئ واحدة أو معقدة، وهذا الامر برمته ينطوي على البحث في مكنون الكارثة، والنظر في القضايا المتعلقة بمختلف مراحلها، أي مراحل ما قبل الكارثة واثناءها وبعدها، وذلك ما أكده تقرير لجنة القانون الدولي الى الجمعية العامة عن اعمال دورتها الستين.

ولعل ما يحدث الان من هزات أرضية متتالية تضرب أماكن مختلفة وكلها مرتبطة بالبنية الجيولوجية المعقدة في منطقة الشرق الأوسط بالذات تعد تكراراً لنتائج اعمال تمس البنية الجيولوجية للمنطقة لاسيما في تركيا التي قامت بإنشاء سدود عملاقة ليس على مستوى المنطقة فحسب انما على المستوى الدولي،  ويكمن مفهوم التكرار حول جدلية بناء السدود وتأثيرها على النشاط الزلزالي ما حصل في الصين سابقاً والتي وقعت تحت تأثير زلازل أودت بحياة الالاف من الأشخاص مع تدمير شامل لتلك الأماكن، وكان احد الخبراء الصينيين – وانج يانجشين – قد تساؤل وقتها لماذا تتكرر الزلازل في تلك المنطقة بالذات، وكان يقصد بها مدينة زهاوتونج التابعة لإقليم يونان، التي تم بناء سدود ضخمة مبرمجمة في تلك المنطقة الجبلية، ومن المعروف كما يشير احد الباحثين ان الخزانات الضخمة من المياه تسبب ضغطاً على القشرة الأرضية يمكنه أن يسبب الزلازل على الرغم من الارتباط بين الامرين يعصب اثباته، ومع ذلك فان التجربة الصينية اولدت الكثير من التساؤلات حول جدوى بناء السدود الضخمة، لاسيما بعد أن اكدت الدراسات بكون الآراء متفقة على أن ارتفاع منسوب المياه في المحطات المائية يمكن أن تقف وراء زيادة النشاط الحركي للقشرة الأرضية، وهذه الظاهرة مشابهة لتلك التي حدثت في تركيا خلال هذه الفترة ومازالت تحدث فيها وفي بعض الدول المجاورة ذات الامتداد الجيولوجي والارتباط بمخلفات تلك المسطحات والخزانات المائية الكبيرة، وذلك ما ذهب اليه علاء اللامي في دراسة له بعنوان "الجديد في العلاقة بين الزلازل واحتمالات انهيار السدود التركية"، حيث أكد من خلال مناقشة اراء بعض الخبراء الذين ذهبوا الى أن كمية الخزين المائي الضخم لتلك السدود والذي بلغ اكثر من 651 مليار متر مكعب اثرت على القشرة الأرضية وحتى على الأرض بالكامل، مشيراً الى أنه إذا زادت المياه فهذا يؤدي الى تمددها وزيادة كمية الماء الذي تخزنه، وايضاً تؤدي الى عملية تمدد أو توسع للكسور الموجودة في الاحواض الجوفية، وهذا يؤدي الى خلخلة أو تكسير لهذه الفوالق الزلزالية، مؤكداً بأن هذا ما حدث بالفعل.

تواجه عمليات بناء السدود الضخمة في تركيا تحديات كثيرة منها ما يتعلق بالتغيير الجيولوجي للقشرة الأرضية، وأخرى تتعلق بحجم المياه المخزونة التي وبحسب العديد من الآراء إن انهارت تلك السدود ستسبب بكوارث قد تصل حتى  الى مناطق الخليج في اقصى جنوب العراق، ومنها تحديات تتعلق بالمسائل البيئية والقانونية، وهي اجمالاً لم تزل مثار نقاشات وطروحات لا تتفق على نهج واحد، ولكنها كلها في المضمون تتفق على نقطة واحدة، أن تلك السدود لها علاقة وإن اختلف حجمها بالزلازل التي ضربت تركيا وباقي المناطق الواقعة على خط ذلك الزلزال أو ما يسمى بحركة الصدع الاناضولي الشرقي، وتؤكد الاحداث العامة ببعض النشاطات الزلزالية أن الصلة موجودة بين بناء السدود وحدوث الزلازل، ولكنها تؤكد في الوقت نفسه أن حجم تلك الزلازل لاتصل الى درجة 6 في اغلب الحالات، وتبقى تتراوح بين 3- 5 درجة على مقياس ريختر، ولكن ذلك الامر ايضاً كان نسبياً بالنسبة للبعض، لأنه في عام 1963 ضرب زلزال  ولاية ماهراشاترا في الهند وذلك بعد ارتفاع مناسيب المياه في البحيرة خلف سد كوينا، وكان قوة الزلزال 6.5 درجة، ولدينا في اسوان المصرية عام 1981حيث وقع زلزال بقوة 5.6، بعد انشاء السد العالي، وامتلاء بحيرة ناصر بالمياه، وفي فوكوشيما عام 2011، انهار سد فوجينومو في مدينة سوكاغاوا بعد وقت قليل يقارب العشرين دقيقة من زلزال توهوكو ، وهناك العديد من الأمثلة تؤيد نظرية تأثير السدود الضخمة على القشرة الأرضية وبالتالي تسبب في تصدعات في البنية الجيولوجية للأرض، وذلك من خلال تكسير الفوالق الزلزالية، وأثر ذلك على النقطة التكتونية وحركة الصفائح.

وعلى الرغم من أن تلك الزلازل تعد من الكوارث الطبيعية، إلا أن علاقتها الوثيقة بالحاق الاضرار بالبيئة من خلال بناء تلك السدود الضخمة وبذلك الحجم الهائل من كميات المياه المخزونة، تجعلنا ننظر الى الامر على أنه تهديد مباشر شأنه شأن المخاطر التكنولوجية وتطورها، وفي ذلك يقول مداح عبد اللطيف في دراسة اكاديمية له بعنوان مسؤولية الدولة عن الاضرار البيئية: " لقد عد التدهور البيئي أثر حتمي للتطور التكنولوجي، وهو ضريبة فرضت على العالم بأكمله دفعها مقابل التقدم الصناعي، هذا ولم تدرك البشرية الاثار السلبية للتدهور البيئي إلا في النصف الأخير من القرن العشرين بسبب الكوارث البيئية التي هزت العالم، الشيء الذي جعل الاهتمام بالقضايا البيئية يتصاعد بشكل كبير "،  وذلك ما يحيلنا الى البحث عن المنافذ القانونية التي تجعل من الاعمال محضورة إذا ما توفرت بعض القرائن بإنشائها، وهي بلاشك تقع مسؤوليتها على المجتمع الدولي، لاسيما فيما يتعلق بنظرية الخطأ كأساس لإقرار المسؤولية الدولية عن المساس بالبيئة ومن هذه النظرية تناسلت نظرية التعسف في استعمال الحق كأساس للمسؤولية الدولية عن الضرر بالبيئي، والأخيرة يقصد بها أن يستعمل الشخص الدولي حقه المشروع بطريقة لا يجلب منافع بقدر الاضرار التي تجذبها للغير،  ولحجم الاضرار المترتبة حول استخدام ذلك الحق الحقت قوانينها بالقوانين الدولية، وذلك ما يؤكده  الباحث بوغانم يوسف في رسالته الماجستير، بعنوان "المسائلة عن جرائهم البيئة في القانون الدولي" حيث يقول:" ويعتبر مبدأ التعسف في استعمال الحق مبدأ مؤسساً على العرف الدولي والقانون الطبيعي، وقد نقل هذا المبدأ من القوانين الوطنية الى القوانين الدولية لأنه لا يوفر الحماية للدول في علاقتها بغيرها.."، وعند النظر الى الواقع سنجد بأن القانون الدولي لم يزل في طور المسائلة حول تغاضيه عن ما يترتب على استخدام تركيا لحقها في المجال البيئي من جهة، وبناء السدود التي لا تلحق الضرر بالبنية الجيولوجية للمنطقة فحسب، انما تلحق اضراراً جسيمة بغالبية الدول التي تتأثر بحجم تلك الخزانات المائية الضخمة، والتي كما سبق وأن نوهنا تهدد استقرار غالبية الدول التي تقع جنوب شرق وغرب تركيا، مما قد يتسبب انهيار تلك الخزانات الضخمة في تدمير شامل لتلك الدول، ناهيك عن مساهمتها في النشاط الزلزالي الذي تحول خلال فترة وجيزة الى هاجس موت جديد يضاف الى ما هو موجود اصلاً للمنطقة.

***

جوتيار تمر/ إقليم كوردستان

25-2-2023

في يوم الانترنيت الآمن الذي صادف في 7 شباط 2023،كان يُتوقع وكما حصل في السنة الماضية ان يعج هذا اليوم بالاجتماعات وعقد الندوات عبر الانترنيت لمناقشة قضايا تتصل بالتنمر الألكتروني والخصوصية والإساءات المتعمدة للآخرين والديمقراطية وحرية الكلام.

لاشك ان جميع هذه القضايا تؤثر على الكثير من حياة الناس وتجاربهم سواء كانوا مرتبطين او غير مرتبطين بالنت . في هذه الايام يجري الحديث عن الـ infospher او عالم المعلومات وهي كلمة استخدمها الفيلسوف الايطالي لوسيانو فلوريدي لوصف فضاء البيانات والمعلومات التي نرتبط بها جميعا، بالاضافة الى صناعاتنا اليدوية والأدوات. اصبح عالم الانفوشفير وباستمرار مأهولا، ونحن نعتمد على الانترنيت وهو الجزء الاكبر من الانفوشفير. وطبقا لعالم المعلومات الرقمية،فان متوسط الوقت المُنفق كل يوم في العالم باستعمال النت هو 6 ساعات و42 دقيقة. ايضا، طبقا لـ statista.com لعام 2020 كان هناك 59 زيتابايت من البيانات تم خلقها والتقاطها واستنساخها واستهلاكها في العالم. وفي عام 2024 سنصل الى 149 زيتابايت، كل واحدة زيزابايت تساوي (10) مرفوعة للقوة 21 بايت، اي 1,000,000,000,000,000,000,000 بايت. ايضا في هذه الخطة هناك اكثر من 2 بليون موقع في العالم. المواقع النشطة فيها أقل من 200 مليون موقع. هذا يبيّن ليس فقط الحجم الهائل لـ، www.co وانما مقابر المعلومات الميتة التي تنشأ حول العالم.

هذه الاعتبارات تعطي للانترنيت مظهرا مشابه للكتاب اللامتناهي للمؤلف الارجنتيني جورج لويس بورجز Jorge Luis Borges (1899-1986) يصف في قصته القصيرة عام 1941 "مكتبة بابل". انت تستطيع ان تجد في كتابه متاهات بين الاماكن الاخرى. بورجز يتصور مكتبة صُنعت من قاعات سداسية الشكل معقدة جدا وممرات وسلالم: "عالم مركزه الدقيق هو أي واحد من أشكاله السداسية ومحيطه لايمكن الوصول اليه". على الرفوف كتب تحتوي على كل التاريخ واساطير الانسانية،هذه الكتب تحتوي على كل اللغات الماضية وغير المعروفة، بعضها رموز مشفرة، اخرى تقليد او نسخ دقيقة للاصل، اخرى تحتوي على معلومات زائفة أغلبها بلا معنى "نشازات وخلط لفظي وعدم ترابط".

هذا ايضا ما نجده في الانترنيت. قد يجادل احد ان اكثر من 59 زيتابايت تحتوي على معلومات غير ملائمة. شخص آخر ايضا يمكنه القول ان معظم البايتس لم تُصنع لنا كبشر بل لمكائن اخرى وصناعات يدوية لتسهل الاتصال معنا ومع الادوات الاخرى لكي يتم نقل ومعالجة المعلومات. الانترنيت يمتلك كتالوجات وكتالوجات للكاتالوجات: معلومات حول قطع اخرى من المعلومات، وتنظيمها وخزنها. نحن لا نجد قاعات سداسية الشكل وانما صف من الخوادم ومراكز بيانات تساعد وتحافظ على أنظمة التخزين السحابية في كل انحاء العالم.

هناك اختلافات اساسية اخرى بين مكتبة بورجس والانترنيت. البناء الاساسي للتراكيب التي تشكل مكتبة بورجس هو الأبجدية، بما في ذلك "الفراغ بين الكلمات، علامات التنقيط،الفارزة، و 22 حرف ابجدي". مكتبة بابل تحتوي على كل التراكيب الممكنة لتلك الرموز – طبقا لبورجز – وتراكيب لهذه العناصر، لا يهم اللغة،" ذلك جعل بالإمكان لأمين المكتبة الذكي اكتشاف القانون الاساسي للمكتبة". بالمقابل، في حالة الانترنيت،تكون الرياضيات الثنائية وبناء الجملة هو اللغة الاساسية التي تُترجم منها كل اللغات الاخرى والرموز والدلالات اللغوية. يبدو ان قول غاليلو بان العالم هو كتاب كُتب في الرياضيات صحيح حتى لو كان العالم غير طبيعي وانما اصطناعي وافتراضي.

التاريخ الرقمي hyperhistory وتحدياته

ربما معظم الاختلاف الاساسي بين مكتبة بورجز والانترنيت هو ان الاول حسب قول بورجز يوجد في نقطة بعيدة جدا في الماضي. انه كان دائما هناك بينما النت وُجد فقط قبل 30 سنة تقريبا. هذا لا يؤشر فقط فرقا بسيطا في العمر، وانما فرقا عميقا في طبيعة كلا المكتبتين. مكتبة بابل تحتوي على كل المعرفة في الكون التي نستطيع اكتسابها. انها كانت دائما هناك، وسوف تكون دائما كذلك. في هذا المعنى، معرفة المكتبة تعكس الكون من منظور عين الله، وان بحث امناء المكتبة هو حل لغز اسرار الكون ونظامه الاسطوري والهدف منه .

عندما نأتي للانترنيت يجب ان لا ننسى ان طبيعته هي انسانية واصطناعية على السواء. اذا كانت شبكة الويب العالمية ليست تقليدا جيدا للعالم الطبيعي، يمكن القول انها على الأقل تعكس طريقة واحدة يصوغ فيها الناس ويحوّلون العالم. نحن مثل الصانع الذي يستخدم ويعالج ويسيطر ويقوم بنمذجة وتحرير وايصال تدفق البيانات التي ننتجها. لو استعملنا كلمات الفيلسوف الايطالي لوسينا فلورايد (انظر على سبيل المثال "فلسفة المعلومات،2011)، فان النت ليس اداة مقلدة وانما اداة شاعرية – بما يعني ان فعلنا المستقل ليس فقط استنساخ او ابلاغ وانما اعادة شكل العالم. ما نقوم ببنائه هو اكثر من مجرد انسيكلوبيديا عالمية تحتوي على كل شيء نعرفه ونستطيع استشارته عند الحاجة. بدلا من ذلك،نحن نسكن "مكتبة" الانترنيت ليس فقط كناظرين او مستهلكين او مستعملين، وانما ايضا خالقين ومحررين – كما يُلاحظ بكل وضوح في الويكيبيديا او اليوتيوب.

نستطيع القول ان التاريخ يبدأ بقدرتنا على تسجيل ماضينا وافكاره. اذا كان هذا تعريف التاريخ، عندئذ يجادل فلورايد باننا الان نعيش في تاريخ رقمي، فيه لا نسجل فقط المعلومات وانما نعتمد عليها. الان،المعلومات وتكنلوجيا الاتصالات "تسجل وايضا تعالج المعلومات بشكل مستقل ، والمجتمعات الانسانية تصبح معتمدة مصيريا عليها وعلى المعلومات كمصدر اساسي لكي تزدهر" (الثورة الرابعة،ص6، 2014).

ان التحول من التاريخ الى التاريخ الرقمي يأتي مع كثير من التحديات وحالات اللايقين. التحدي الاكبر الاول يتعلق بكمية المعلومات التي ننتجها. ان كمية المعلومات المنتجة في الانترنيت في مدى عشر سنوات من 2010الى 2020 هو أضعاف مضاعفة وهو اكبر من كل المعلومات التي انتجتها الانسانية في تاريخها السابق. طبقا لخوارزمية جوجل، تقريبا 130 مليون كتاب نُشرت في فترة التاريخ الحديث، منذ اختراع مطبعة كوتنبيرغ للصحافة المطبوعة عام 1450. لكن هذا فقط قطعة صغيرة من شريحة المعلومات التي ننتجها حاليا ونستهلكها اون لاين.

يمكن للمرء ان يجد هذه الحقائق مزعجة ومخيبة لأن امكانية تنظيم هذا التدفق للمعلومات هو مستحيل. هذا ايضا بسبب اننا لسنا نجلس فقط على هذه الكومة من المعلومات وانما ايضا نحوّل ونعالج ونحرر المعلومات التي تتراكم باستمرار، وكل هذا يتم بسرعة متسارعة.

المشروع في اننا سنصل الى 149 زيتابايت عام 2024 يجسد تحديات أكثر صعوبة. أيّ المعلومات تستحق الحفاظ عليها، وما هي المعلومات التي يجب ان تُمسح؟ أيّ المعلومات ستكون حالا غير ملائمة ومنتهية الصلاحية، وأيّ بايت سيكون ضروريا لمعرفتنا لأجل المستقبل ؟ وكيف وأين سنخزن كل هذه المعلومات؟ وكيف نوجّه أنفسنا في هذا السيناريو؟.

وصف جديد للمعرفة

نحن لم نعد نرى أنفسنا سلبيين كسالى أو مجرد مشاهدين ساكنين نمشي في ممرات المكتبة، نتصفح من خلال صفحات الطبعات والكتالوجات . مُثل التنوير في انسيكلوبيديا عالمية كخزان لكل المعرفة الانسانية وكمرآة للطبيعة لا فائدة بها لنا. لكي نعرف كيف نتعامل مع "المكتبة" الجديدة التي بنيناها، سنحتاج لفكرة المعرفة كعملية ديناميكية لا تضعنا كمتلقّين سلبيين للمعلومات وانما تأخذ بالإعتبار دورنا كمحررين نشطاء.

نظرية فلورايد تزودنا بمثل هذا الاتجاه (انظر مثلا فلسفة المعلومات، ص267-289،2011). باختصار، النظرية ترتكز على فكرة ان "يتم إبلاغك بذلك، يختلف عن معرفة ذلك". اول حجة لفلورايد هي ان أي قطعة من المعلومات يمكن تجزئتها الى اسئلة وأجوبة حولها. اذا كان شخص ما يعرف ان "باريس" هي الجواب الصحيح لسؤال "ما هي عاصمة فرنسا؟"، ذلك الشخص يكون قد اُبلغ عنها. لكن شخص يستطيع القول ان احدا يعرف "باريس عاصمة لفرنسا" اذا كان يستطيع ربط ذلك الجواب بسؤال آخر ذو صلة، مثل، "كيف تعرف ان باريس هي عاصمة فرنسا؟" "منذ متى كانت عاصمة لفرنسا؟" "لماذا باريس عاصمة لفرنسا؟"، وهكذا. كل هذه القطع من المعلومات تشكل بمجموعها شبكة من الأجوبة بواسطتها ،لا بمجرد ابلاغها، يعرف احد ان باريس هي عاصمة فرنسا، لأن المعلومات توضع في "ويب من العلاقات المتبادلة تسمح لجزء منها توضيح آخر"(ص288). هذا يجعل معرفتنا شيء ما اكثر من مجرد معلومات نمتلكها. انها مجموعة العلاقات بين مختلف قطع المعلومات،تترابط مجتمعة عبر اسئلة واجوبة تشكل ما نعرف. كذلك، شبكة المعلومات التي نحملها تجعلنا لسنا فقط مطلعين بها وانما ايضا مسؤولين عما  نعرف. ولتوضيح الفكرة اكثر، كلما كانت الأسئلة التي نستطيع الاجابة عليها كثيرة،كلما كنا اكثر مسؤولية عما نعرف.

ثلاثة اسئلة للمواطن الرقمي

هذا الاتجاه للمعرفة كـ "شبكة معلومات" بالتأكيد جرى تكييفه جيدا لحياتنا في عالم المعلومات. مع ذلك ليس كل الاسئلة التي نطرحها في هذا الشأن هي ذاتها. في الحقيقة، هناك ثلاثة أنواع مختلفة من الأسئلة مفيدة لإستعمال ودخول أفضل للانترنيت:

1- "أي اسئلة" : أسئلة حول المحتوى

2- "كيف نعرف الأسئلة" : اسئلة حول الموثوقية والأصالة والشفافية.

3- "لماذا الأسئلة" : اسئلة مفتوحة

اول نوع من الاسئلة هو ذلك الذي نطرحه عندما نبحث موضوع معين في الوكيبيديا او موقع آخر لأننا نريد بعض المعلومات – مثلا حول شركة او مؤسسة، هيكلها وهدفها، قبل التقدم على وظيفة، او حول ارفاق وثيقة مع طلب التوظيف. هذه الانواع من الأسئلة هي عادة ما يتم توجيهها بفعل سذاجتنا . فلوريد يذكّرنا بان السذاجة تختلف عن الجهل. نحن سذّج عندما يكون لدينا سؤال واضح حول شيء ما لكننا نفتقر للجواب. عندما أسأل ما اذا كانت باريس عاصمة لفرنسا، انا حقا أعرف ان فرنسا لديها عاصمة وانا أريد معرفة أي مدينة تلك. بالمقابل، انا سأكون جاهلا لو كنت لا أعرف بان فرنسا موجودة على الخارطة ، او انها لديها عاصمة. هذا التمييز بين السذاجة والجهل يمكن ان يكون مفيدا لسببين على الأقل. الأول، انه يرشد ويقود تحقيقاتنا. في نفس الوقت، هو يفيد كتذكير بما نعرف وما لا نعرف. طبقا لتفسير نظرية الشبكة، كل سؤال يقود الى جواب والذي بالنتيجة يقود الى أسئلة اخرى ذات صلة. الأسئلة التي لدينا تشكل سذاجتنا، وهي يمكن أن ترشدنا لنسأل اسئلة اخرى،ومن ثم نقلل نطاق جهلنا حتى لو كنا لا نمتلك كل الأجوبة. أي بمعنى، عبر طرح مزيد من الأسئلة حول ما يمكننا معرفته،نحن نقلل نطاق ما نجهل. يمكن القول اذاً بانه حين نصبح أكثر سذاجة – نطرح مزيدا من الأسئلة حول المجهول المعروف –سنصبح أقل جهلا. السذاجة يمكن ان تكون شيئا جيدا كونها يمكن ان تساعدنا للبحث حول ما لا نعرفه بعد، وعلى الأقل كتذكير، لنفكر حول ما يمكن ان نسأل.

النوع الثاني من الأسئلة هو حول موثوقية وأصالة المعلومات. عبر طرح اسئلة مثل : من أين جاءت تلك المعلومات؟ هل المصدر موثوق؟ هل لديك دليل آخر يسند هذا؟ وهل هي اُبلغ عنها في مكان آخر؟ نحن نصبح أكثر ميلا للانتقاد تجاه طوفان المعلومات التي نغرق بها. بالنتيجة هذه الاسئلة تمكننا من تحديد وعزل الأخبار الزائفة .

النوع الثالث من الأسئلة مفتوح للنقاش، وهي تبرز من موقف نقدي تجاه المشاكل. امثلة على ذلك هي الأسئلة الأخلاقية مثل ماذا يجب ان أعمل؟ كيف يجب ان نتصرف؟ او لماذا يجب ان نتخذ هذا المسار من الفعل دون الآخر؟ الأسئلة المفتوحة هي تلك التي لا يستطيع الانترنيت الإجابة عليها – او على الأقل غير واضحة. مع ذلك مثل هذه الاسئلة تتعامل احيانا مع مشاكل تُثار بواسطة الانترنيت نفسه – تتعلق بالديمقراطية الرقمية، حرية الكلام، الخصوصية والتنمر الالكتروني، والتي هي حول أخلاق حياتنا اون لاين. مشاكل اخرى مثل زيادة اللامساواة بالعالم،الكراهية، الحروب وتقلبات المناخ هي ايضا يُفكر بها وتُناقش وتُستوعب عبر الانترنيت.

افتتاح جديد

نحن نعلم اننا لدينا الكثير من المعلومات في متناول ايدينا، لكن ما نحتاجه هو حس نقدي لتأسيس ارتباطات بين، ما يسهل الوصول اليه الان من كل مكان، وفي أي وقت وبواسطة أي شخص من جهة ، والمشاكل التي نشترك بها والتي نحتاج لمواجهتها من جهة اخرى. الانترنيت يجعل المعلومات متوفرة بسهولة ويربط الناس الى بعضهم، انه يجعلنا مواطنين لعالم معولم. لذا فان ما نحتاجه في النهاية هو فكرة المواطنة الرقمية: نحن نحتاج ان نتعلم كيف نتصرف ونعيش مجتمعين على الانترنيت كمكان جديد نقوم ببنائه وصياغته لأجل الانسانية. ان فكرة المواطنة الرقمية تستلزم تعلّم وتمييز أي حقوق وواجبات والتزامات نمتلكها لكل آخر في عالم (الانفوشفير). هذا يمكن  تحقيقه فقط من خلال التفكير والتقييم والمناقشة  واتخاذ القرار. العالم الرقمي ليس فقط وسيلة وانما ايضا فرصة نمتلكها الآن للارتباط بالقوى، للمناقشة والتعاون كمواطنين عالميين. النوع الثالث فقط من الأسئلة ذات التفكير النقدي والحوار والتعاون يمكنه ارشادنا نحو أجوبة جيدة وقرارات جيدة.

الوعي النقدي والانتباه للمشاكل لايوجدان في أي كتاب ولا في أي مكتبة. هذا ايضا يفسر لماذا النوع الثالث من الأسئلة – اسئلة مفتوحة النقاش – يجب ان تكون جوهر التعليم في عصر المعلومات، ويجب ان توفر تعليم يسعى لتعزيز فكرة المواطنة الرقمية. هذا يجب ان لا يتم تصوّره كموضوع جديد يُعلّم في عزلة عن الآخرين. بل انه فكرة ميثدولوجية يجب ان تدعم ممارسة تعليم كيفية التقييم النقدي  للمشاكل التي تبرز بفعل الرقمية العابرة للموضوعات  . اذا كانت هذه الأسئلة المفتوحة تقدم أي مساعدة،هذا يرشدنا لنصبح مستخدمين نقديين للانترنيت،نتجنب اللامعلومات وأوهام العلم بكل شيء التي يمكن ان يخلقها الويب بسهولة. ان إغراء المعرفة اللامحدودة هو الحفرة التي يسقط بها بطل قصة بورجس. في نهاية حياته هو على وشك ان يموت في احد ممرات المكتبة دون ان يجد الكتاب الذي فيه كل الأجوبة – كتالوج الكتالوجات الذي يكشف له نظام مكتبة بابل، وبهذا يخبره كيف يكتشف كل ما يريد معرفته.

اذا كان هناك درس نتعلمه من القصة، هو اننا يجب الاعتراف بان أي رغبة بالمعرفة التامة وأي فكرة عن النظام النهائي تبرز من ذلك، ليست الا وهما. بدلا من ذلك،انه تطمين وتحرير لنرى معرفتنا كجزء محدود من شبكة واسعة نستطيع دائما توسيعها. كذلك، نحن يجب ان لا ننسىى اننا باستمرارنشترك بهذه المعرفة مع الآخرين.

وبهذا نحن يجب ان نرفض فكرة ان الانترنيت هو المكان الذي نجد فيه كل الأجوبة. بل بدلا من ان يكون مكتبة لا محدودة، سيكون من الافضل النظر للنت كمكان جديد نسكنه وننفق فيه جزءا مهم من حياتنا. تماما كقادمين جدد في مدينة جديدة او بلد جديد، ليس من الضروري معرفة كل الأماكن وكل الأركان والزوايا المظلمة. كمواطنين جدد،سيكون كافيا المساهمة في جعله مكانا أفضل، ونعي المزايا التي نتمتع بها بالاضافة الى التحديات والمشاكل التي نواجهها.

***

حاتم حميد محسن

...................

World wide web or Library of Babel, philosophy Now Feb/March2023

 

لا يختلف أثنان في مدى شمولية الحداثة الغربية لأوجه الحياة المختلفة، ومن أهم هذه الأوجه هو البعد الأخلاقي. تأتي أهمية هذا البعد من مدى تأثيره الكبير على كل الأبعاد الأخرى، السياسة والعلمية والأجتماعية . فالأخلاق، هي مجموعة الضوابط والمبادئ التي تحدد سلوك الفرد مع غيره، والمجتمعات مع غيرها، وبطبيعتها تكشف مدى رُقي الأنسان ورؤيته للحياة، لذلك أخذت الأخلاق أهتماماً واسعاً في تفكير البشر عبر التاريخ . هذه الأهمية جعلت الموضوع محل نزاع بين الفلاسفة والعلماء بكل اتجاهاتهم، الألحادية والمؤمنة بإله على حد سواء، والحداثة الغربية أحد أهم وأشهر الأتجاهات العلمانية التي تسعى الى بناء منظومة أخلاقية بعيداً عما جاءت بها الأديان السماوية، في محاولة لأنتزاع الأنسان الدور المركزي سواء من الله في الأديان التوحيدية، أو من الآلهة في الأديان الوثنية، وأعتبار الأنسان هو الحاكم المطلق، صاحب الأرادة الحرة في تقرير منظومته الأخلاقية، وأن العقل الأنساني جدير بتقريرها وأختيار الأصلح منها . خلاصة القول أن الأنسان في نظر الحداثة الغربية هو الأجدر في تقرير ما يصلحه، والقادر على توفير الأرضية المناسبة لسير حياته، وتحقيق مستلزمات الرفاهية والحياة الحرة الكريمة لبني الأنسان، وتحقيق أقصى مديات السعادة له.

أشرنا في الحلقات السابقة الى سعي رواد الحداثة الغربية في إبعاد كل ما يمت للدين المسيحي من صلة، وأعتباره دين طارئ على المجتمعات الأوربية، ولا شك أن أهم بُعد في الديانة المسيحية هو البُعد الأخلاقي، حتى بات من المعروف بأن الدين المسيحي ليس دين تشريعات بقدر ما هو دين أخلاق، وكان ما سعى له هؤلاء الرواد، هو العودة الى أسلافهم الأغريق والتشرب من أخلاق الأبطال الأسطورين والحقيقين، الذين مَثلوا الطبقة النبيلة في ذلك الزمن، ونخص بالذكر هنا الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه، بأعتباره أكثر من أَصَلَ في البعد الأخلاقي، وبشكل واضح وصريح بفلسفته الأخلاقية من الأساطير الأغريقية، مُلقي باللأئمة على الأخلاق المسيحية، المتمثلة بالزهد والعفاف الجسدي المناهض والناكر للغرائز، حتى أنه أنتقد فلسفة سقراط بأعتبارها تتوائم والأخلاق المسيحية، فيقول (... ومع ظهور سقراط وفلسفته العقلية، حلت الثقافة العقلية محل قوة الجسد والروح، كما وضعت هذه الثقافة العلم مكان الفن، والعقل محل الغريزة، والحوار والجدل محل اللعب والرياضة (قصة الفلسفة ص513 –ديورانت). بأختصار تقوم فلسفة نيتشه الأخلاقية على النزعة الديونيزوسية التي تقوم على الرقص والثمالة والميول الشهوانية الغرائزية، الى درجة وصل الى قناعة يقول نيتشه فيها (إن الأفراط في المعقولية يؤدي الى خلق عالم من الأفكار المفارقة التي فقدت كل صلة لها بالواقع العيني...) (فؤاد زكريا-نيتشه ص81) . أن مفارقة نيتشه لسقراط لا يعني أن سقراط مفارق تماماً لأسلافه من الأغريق في البعد الأخلاقي، والدليل نراه في أحد مقولاته يجعل من شخصية أخيليوس نموذج للشخصية الأخلاقية التي يجب الأحتذاء بها، كنموذج للفضل والنبل الأخلاقي، معتبراً أن من يتحلى بالأخلاق المناظرة لأخلاق أخيليوس يكون محل أحترام الجميع، ولكن يبقى أرسطو من المسخوط عليهم من قبل نيتشه لأنه يفضل الأخلاق التي تحقق السعادة، عندما تُمارس لأجل الخير لذاته، بعكس نيتشه الذي ينتخب القيم الأخلاقية التي تحقق اللذة، والتي تحقق المجد الشخصي، أي أخلاق الطبقة النبيلة التي نقلتها السرديات الأسطورية القديمة .

عندما ندرس الميثيلوجيا الأغريقية نكتشف أن الطبقة الأرستقراطية النبيلة تمثل أرقى حالة أخلاقية يمكن أن يصل لها البشر في معيار الأغريق القدامى، وهي عين النظرة التي أعتمدها عمانوئيل كانط، والتي تقوم على أساس أن الأنسان يمتلك القدرة والقابلية لأن يصل الى أعلى درجات المعرفة، والتي تؤهله بالأعتماد عليها في تشكيل المنظومة الأخلاقية التي تغني الأنسان عن قيم السماء على حد رأيه، وهنا نجد بصمات الأساطير اليونانية واضحة على أفكار رواد الحداثة الغربية، وقد ذكر الباحث (فيرنر جايجر) بأن النظريات الأخلاقية التي وصلتنا من تراث أفلاطون وأرسطو فيها العديد من المبادئ التي تتناغم مع مشارب طبقة النبلاء في المجتمع الأغريقي القديم ) (ميثولوجيا الحداثة الأصل الأغريقي لأسطورة الغرب ص 172). بأختصار إن الأخلاق الحداثوية تتقوم على ذاتية الأنسان، والتي تُدعى بالنزعة الأنسانوية، في حين إن أخلاق السماء مطلقة، فلا تتأرجح وتميل حسب الأهواء ونزعات الأنسان الذاتية، وهو أتجاه له صدى ولكن ليس كلياً في منظومة الأسلام الأخلاقية، حيث يقر الأسلام بوجود الخير في ذات الأنسان، وقد عبر عنه علي بن أبي طالب (ع) بقوله (كفاك أدباً لنفسك ما تكرهه من غيرك)، ولكن نشاهد بأن الفضيلة المتقومة على المعيار البشري بشكل تام يخالجها ما يشبع رغبتهم بالغرور، وعلى سبيل المثال لا الحصر نرى الثروة في المجتمعات المادية هي معيار للمنزلة الأجتماعية، وهو توجه يشجع على حالة الجشع والتغول لدى الأنسان، وهذه ظاهرة لا يمكن نكرانها سواء على مستوى الأفراد أو الحكومات على حدٍ سواء. كما أن نزعة الفوز بأحترام المجتمع هي تمثل هاجس قوي عند الأغريقي، وهي من تجعله في مصاف الطبقة النبيلة، لذا تراه لا يتورع بالقيام باخطر المحاولات القتالية في المعارك مع العدو وان كانت تؤدي بحياته من أجل الفوز بلقب بطولي في الوسط الأجتماعي، وهذا هو من اكثر الدوافع التي نَمَّت نزعة المغامرات عند الإنسان الغربي وأدى بالحقيقة الى انجاز الكثير من الأنتصارات في الكثير من حروبهم وأكتشافاتهم وخاصة البحرية، فقد كانت المغامرة لها صيتها ومكانتها في المجتمع الغربي، وما ماجلان، وكريستوفر كولومبس، وحديثاً الطيار الأمريكي (تشارلز لنديرغ) الذي عبر الأطلسي في عام 1927 م في رحلة أستغرقت 33 ساعة طيران متواصلة، أنها نزعة حب المغامرة، ومنها في المجال الطبي ما قام به الطبيب الألماني (فيرنر فوسمان) الذي غامر بحياته من أجل أثبات نظريته بأمكان القسطرة، حيث مارس ذلك على جسدة، الا أحد مظاهر نزعة المغامرة عند الغربيين، حيث نجد جذر هذه النزعة في الموروث الأغريقي القديم، وقد ذكر هوميروس في ألياذته في المقطوعة السادسة شعاراً اخلاقياً يقول (إسبق الآخرين دائماً وكن الأول)، وهذا الشعار أخذ أهتماماً كبيراً عند الأوربين، وكان أحد أسباب نهضتهم الحديثة . وأن عصر التنوير الأوربي قد أحيا هذه الشعارات والمبادئ التي سادت الفكر الأغريقي القديم.

 عندما نأخذ فيلسوف حداثي آخر وهو رينية ديكارت نراه أيضاً ينزع في بحوثه في تحديد المعايير الأخلاقية على ما يجول من أرهاصات في نفس الأنسان، أي الى ما يرغبوه وما يكرهوه في دواخلهم، والتي فحواها، ضرورة البحث عن المعايير الأساسية في أنفسنا (ميثولوجيا الحداثة ص170- مرم صانع بور)، وهذه نزعة لا تخلوا من الصدق، ولكن كما قلنا لا يمكن أصطفائها كلياً لأنها تحمل جزء من الحقيقة، والسبب هو ما تحمله النفس في جنباتها من أهواء ونزوات شرسة تقترب من التوحش والعدوانية . كما أن الرغبات تتعارض بين بني البشر، في حين القواعد الأخلاقية العامة تقتضي قبول الأرادة العامة، وهنا أقتبس ما قاله الدكتور علي رسول الربيعي، في بحث منشور له في صحيفة المثقف، تحت عنوان (السؤال الأخلاقي الأول (1) بتاريخ 24تموز\ يوليو 2022 م يؤكد فيه على الأرادة العامة كشرط لكي تصبح قانون، فهو يقول (إن الأنتظامات التي أنشأها البشر هي دائماً قواعد تفترض الموافقة العامة، فلكي تصبح الأرادة قانوناً، لا يكفي أن يكون فرد واحد مستعداً لتعميم مسار عمله...) . من هنا يتضح لا يمكن أطلاق العنان للنفس الأنسانية في تحديد المعايير الأخلاقية، وذلك لما يعتريها من مزيج أنساني وآخر عدواني ، وهنا أستعير بيت من الشعر العربي الذي يؤكد وجود الطبيعة الشريرة لدى الأنسان والذي يقول فيه الشاعر (والظلم من شيم النفوس  فأن تجد ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلمُ) . هذا في الجانب النفسي الذاتي، اما في الجانب العقلي فنُشير الى كل من نيشة الذي أعترض على سقراط بنزعته العقلية الخالصة كما ذكرنا أعلاه، ويمكننا كذلك الأشارة الى ما قال به كانط من عدم معرفتنا على حقيقة الأشياء بشكلها الأطلاقي . كما يمكننا الأشارة الى مقالة أخرى لكانط يقول فيها (أننا بذلك لا ندرك طبيعة أنفسنا ولا العالم بكلّيّته ولا الكائن الأسمى (الله) كما هم في ذواتهم ..) وهذا يعني أستحالة المعرفة العقلية بشكل تام نظراً لمحدودية قدراتنا العقلية، وهنا السؤال الذي يطرح نفسه، كيف لنا أن نصل الى معيار واحد شامل لبني البشر؟ أذا كانت النفس تحمل القيم المتناقضة (الخير والشر)، وتحددها الرغبات المتقلبة، وعقل ذو معرفة محدودة في معرفة الشيء بذاته كما يقول كانط في كتابه ( نقد العقل المحض)، كل ذلك يجعلنا في أمس الحاجة الى من يعرف الشيء بذاته وخاصة في الأمور الصميمية، ومنها الأخلاق، وليس هناك غير الخالق قادر على معرفة الأشياء بذاتها، وهذه المعرفة غاية في الأهمية، لأننا نحتاج الى معيار عابر للزمان والمكان، وهي من شروط الأطلاق والشمول، لكي يُتمكن من تعميمها.

ليس فقط فلاسفة الحداثة من أستمدوا من السلف الأغريقي مصادرهم الأخلاقية، بل هناك حتى رهبان مسيحيون ممن أشاروا الى ضرورة الأخذ بقيم الأخلاق القديمه ومنهم الراهب بتراراك الذي دعى الى دمج التقاليد المسيحية مع ما جاء من قيم الميثيلوجيا الأغريقية، ويمكننا بالأستدلال على هذا التواصل مع الموروث الأغريقي القديم وتلاقحه مع الحداثة الغربية، هو قول الفيلسوف الفرنسي جورج سوريل يوجين في قوله (إن عصر التنوير الفكري في أوربا تأثر بسيرة الطبقة الأرستقراطية التي بسطت نفوذها في المجتمعات الأغريقية القديمة.. وبما في ذلك الأخلاق) (ميثولوجيا الحداثة ص168).

إن الأساطير الأغريقية تفيد بأن الطبقة الأرستقراطية هي مصدر الأبطال التي جاءت بهم المشيئة الإلهية، وقد لمسنا هذا التوجه في كلمة الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن حيث قال (إن العناية الإلهية أختارته لمحاربة الإرهابيين وإنه يشن حرباً بأسم السماء، وإن الله أختار الشعب الأمريكي للقيام بهذا الدور)(البعد الديني في الحرب الأمريكية لأحتلال العراق- م. مثنى فائق العبيدي-كلية القانون 5-3-2021)، ومن الواضح أن الرئيس الأمريكي، هو رئيس أكبر دولة في العالم الغربي ممن تتبنى سياقات الحداثة الغربية، ومن أكثرها تطرفاً، والمتمثل بالأتجاه البرغماتي .

إن الأخلاق الحداثية تُرغب في أشباع الغرائز والفوز باللذة، التي يُعتبر أشباعها مصدراً للسعادة، وأن ما تمارسه الشعوب الأوربية من سلوك إباحي، يُعتبر مصداق ذلك، وهي نفس النزعة التي دعى اليها نيتشة تحت ما يُسمى بالنزعة الديونيزوسية التي تقوم على الشهوانية الغرائزية، وهو عين ما عبر عنه الشاعر الأغريقي (ميمنيرموس) الذي تسائل قائلاً ما فائدة الحياة بدون أفروديت؟! الموت أفضل لي من أن أعيش دون حب ولذةٍ (ميثولوجيا الحداثة ص 166)، وأن ما نراه من الإباحية الجنسية في الحياة الأوربية تكمن جذوره في ميراثهم الأغريقي.

إن نسبوية الأخلاق التي تتسم بها الفلسفة الغربية البرغماتية هي الأخرى تمتد في أنتماءها الى أخلاق الأغريق، وقد سُئل أجسلوس ملك إسبارطة، عندما أستولى فوبداس اللسديموني على قلعة طيبة غدراً وخيانة على الرغم من معاهدة الصلح المعقودة مع الطيبيين، فأجاب (ليس لك إلا أن تسأل هل هو نافع أو غير نافع، لأن العمل النافع لبلدنا هو العمل الصالح) وهذا هو عين السياسة الغربية أتجاه الشعوب الأخرى، وهو عين ما ذهب اليه المنهج المكيافيلي والذرائعي الذي تمارسه البلدان الغربية اليوم وبالأمس القريب، والأستعمار خير دليل على هذا اللون من المنطق البرغماتي ذو الأصول الأسبارطية. ومن الطريف نذكر هنا مدى رسوخ الشذوذ الجنسي عند الغربيين، فقد مارست العاهرات في اليونان القديمة عشق الجنس المماثل الذي يُروج له اليوم بالمجتمعات الغربية، وقد فسره آنذاك أرسطوطاليس بأن هذا اللون من الممارسة مرده، خوف اليونانيون القدامى من أن تزدحم بلادهم بالسكان (أخلاق اليونان القديمة- المعرفة)، وأن ما يعيشة الغرب من أباحية جنسة، يستمد أصوله من أباحية المجتمع الأغريقي القديم . وكما يمكننا الأشارة الى ما يمارسه الغرب من سياسة تتسم بالكذب والخداع أتجاه الشعوب الأخرى، ونحن العراقيون بالخصوص، نعرف جيداً ما أدعاه الأنكليز من شعار عند أحتلالهم للعراق في عام 1917 م، بأنهم جاءوا لنا محررين لا فاتحين على حد قول الجنرال ستانلي مود قائد الجيش البريطاني عند دخوله بغداد، وهذا اللون من الأخلاق قد دعى أليها (زنوفون) أحد رجالات الأغريق، حيث نصح برسالة له في التربية (بالألتجاء الصريح الى الكذب والسرقة في معاملة أعداء البلاد). هناك الكثير من الدلائل والبراهين التي تثبت وتؤكد الصله الصميمية بين أخلاق الحداثة الغربية وأخلاق أسلافهم من الأغريق، ولا يسعني هنا الا أن أذكر ما جاء في كتاب (النقد الجينالوجي للأخلاق عند فردريك نيتشه) الذي يبين الصلة الوثيقة بين فلسفة الأغريق الأخلاقية، والأخلاق الحداثوية الغربية، حيث يقول فيه (إن الشفقة والزهد أعراض مرض وكان يرى أن الأحتكام الى منطق هذه القيم الأخلاقية في نظريته السبب في تدهور الحضارة الغربية وإنحطاط الإنسان الغربي). إن نيتشه الغارق الى أُذنيه والعاشق للميثيلوجيا الأغريقية، يصفه الباحث الأمريكي جوزيف كامبل بأنه فيلسوف ثقافة العصر الحديث.

***

أياد الزهيري

 

الجعد بن درهم أنموذجا

تتجلى في علم التفسير اتجاهات متعددة، نتوقف عند أكثرها انتشارًا وشيوعًا، أعني التفسير بالمأثور، والتفسير بالرأي، والمقصود بالتفسير بالمأثور الذي يعتمد على المصادر التفسيريّة، وهي: المصادر التاريخية وروايات  السنّة النبويّة، وأقوال الصحابة، ويضيف بعضهم أقوال التابعين، وهو بهذا " يهدف إلى الوصول إلى معنى النص عن طريق تجميع الأدلة التاريخية اللغوية، التي تساعد على فهم النص فهمًا موضوعيًّا " وتتجلى هذه المواقف لدى السلفية.

أمَّا التفسير بالرأي فإن العقل يسهم في تفسير الآيات القرآنية وتوضح بالعقل، وذلك بالنظر في الأدلّة، واستنباط ما يُمكن استنباطه من المعارف، دون معارضة العقل للنَّقْل الشرعيّ، واتِّباعه، إن التفسير بالرأي في جوهره هو التأويل " ونظر إليه على أنه تفسير غير موضوعي؛ لأن المفسر لا يبدأ من الحقائق التاريخية والمعطيات اللغوية بل يبدأ بموقفه من الزمن الراهن محاولًا أن يجد في القرآن سندًا لهذا الموقف "  ويتجلى هذا لدى الفلاسفة والمعتزلة ومن نهج نهجهم . وهذا يعني بشكل أولي أن النص القرآني يمثل أساسًا يرجع إليه المفسرون، ولكنهم يتفاوتون في كيفية قراءته، كل بحسب رؤيته وموقفه من العالم والإنسان، وبحسب تحليله وتفسيره للآيات القرآنية الكريمة .

وكان التفسير بالمأثور أقرب إلى السطحية، وأكثر قربًا من الدلالة الظاهرية للآيات القرآنية الكريمة، ولكن التفسير بالرأي أكثر عمقًا، بحيث يصبح العقل أداة للتأويل، وإزالة اللبس والغموض الذي يبدو ظاهرًّيا على الآيات القرآنية سواء أكانت محكمة أم متشابهة .

وأخذ الفكر الإسلامي في التطور بمقدار تعدد القراءات، وهذا يعني أن النص القرآني يحتمل كثيرًا من التفسيرات التي تتنوع بتنوع الرؤى والأفكار. غير أن بعض الاتجاهات المذهبية  - وهي المهيمنة في الماضي والحاضر - وبخاصة في التفسير بالمأثور، وهي في الأعم الأغلب تابعة للسلطة ومرتبطة بها، إنها لا تساوي بين القراءات المختلفة لعموم المفسرين،  وأخذت تفرض رؤيتها على القراءات الأخرى؛ بحيث تصبح رؤيتها العقائدية بديلًا عن الدين، ومن ثم يصبح الرأي الآخر منبوذًا، ويصبح أصحابه خارجين عن الملة؛ الأمر الذي يقتضي استتابتهم، وإن لم يعودوا إلى رشدهم ويتبعون رؤية أصحاب التفسير بالمأثور، فإن مصيرهم التصفية الجسدية، وإن من يقوم بتنفيذ حكم الموت بهؤلاء يكون محط تبجيل وتقدير، حتى يومنا هذا .

2

وفي إطار التعارض بين النقل والتفسير بالمأثور من جهة، والعقل والتفسير بالرأي من جهة أخرى، نلتقي بروايات " نقلت إلينا عن أعداء التأويل فوصلت مشوهة متناقضة "؛ الأمر الذي دفعهم إلى وصم أي شخصية تعارضهم بأوصاف إمّا  في أصلها الاعجمي وإما بالبيئة التي عاشوا فيها، وغالبًا ما يرجعون ذلك إلى أصول غير إسلامية يهودية أو صابئية، أو أنهم استمدوا جوهر فكرتهم من مؤثرات دينية بعيدة كل البعد عن روح الإسلام ومنهجه "، كما فعلوا ذلك مع الجعد بن درهم؛ لأنه " أول مسلم خاض المعترك العنيف ونادى بفكرة التأويل العقلي في الإسلام "

وتشوب تاريخ الجعد بن درهم عتمة شديدة، فهو تاريخ مشوش وغامض كتبه أعدائه وخصومه، ولا تزال تتبناه اتجاهات ومذاهب وشخصيات حتى يومنا هذا .

ولعل ما يثار ضد الجعد بن درهم أنه أعجمي وليس عربيَّا، وكأن الانحراف الديني مقترن بالأعاجم حصرًا، ولذلك أعاب السلفية على المعتزلة أن مؤسسيها، واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد كونهما أعجميين .

ومن الجدير بالذكر أن أي أعجمي  يعتنق الإسلام لا بد أن ينتسب إلى البناء الاجتماعي العربي القبلي، فيكون بذلك مولى هذه القبيلة أو تلك، وكانت مكانة الموالي متدنية في ظل نزعة قبلية تعلى من الأصول العربية وتقلل من أهمية غيرهم وقيمتهم .

ومن الجدير بالذكر أن العرب شغلتهم الفروسية والسلطة، وانصرف الموالي للعمل في الصناعات والفكر وعلوم الفقه والشريعة والأدب وغيرها، ولذلك برز الأعاجم في علوم كثيرة، نذكر على سبيل المثال:  سيبويه في النحو، والبخاري في جمع الحديث، وأبو حنيفة في الفقه، وغيرهم كثير .

ولقد ولد الجعد بن درهم " 46 ه ـــ 105 ه تاريخ الولادة والقتل تقريبي " في خراسان، وقد أسلم هو وأبوه، أصبحا من الموالي، مع اختلاف بتبعيته لأية قبيلة، ولكن الشائع أنه كان مولى لبني مروان، وأقام في دمشق في بيئة يكثر فيها غير المسلمين، وكأن من يعيش في هذه البيئة سيكون منحرفًا بالضرورة .

وحين اشتهر الجعد بن درهم بأفكاره طلبه خالد بن عبدالله القسري وكان أميًرا على العراق حتى ظفر به فخطب الناس في يوم الأضحى، وكان آخر ما قال في خطبته أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليمًا ولم يتخذ إبراهيم خليلًا، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر .

إن الجعد بن درهم يحاول تنقية العقيدة من كل ماله علاقة بالتجسيم والتشبيه، ومعنى ذلك مشابهة الخالق للإنسان المخلوق، وتنصب هذه المشابهة بالدرجة الأولى على صفات الله؛   لأن في القرآن الكريم آيات يدل ظاهرها الحرفي على التشبيه والتجسيم، وهذا يعني أن هناك أصولًا اعتقادية يصدر عنها الجعد تعتمد في جوهرها على العقل، بخلاف الرؤية المضادة التي تعتمد النقل والتفسير بالمأثور، ولما كان التأويل اللغوي ممكنًا لإزاحة لبس التشبيه والتجسيم فإن الجعد بن درهم يلجأ اليه، لتحقيق الغاية التنزيهية للذات الإلهية، بمعنى أنه يوصل المتلقي إلى معنى آخر غير المعني الحرفي الذي يدل عليه ظاهر الآية، وهذا يعني أن الجعد لم يغير أصلًا في التركيب اللغوي للنص القرآني، ولما كان سياق الآية القرآنية يتضمن معنى ظاهريًّا يدل على التجسيم والتشبيه، فإن الجعد بن درهم يتأول الآية لتدل على نفي التجسيم والتشبيه، ولذلك ففي قوله تعالى: " (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (سورة النساء–الآية 125)  "؛ إذ يستبعد الجعد بن درهم المعنى العام لكلمة الخليل الذي لا يليق بمقام الألوهية إلى معنى آخر؛ إذ تعني أن الله اتخذ ابراهيم صاحبًا أو صديقًا، ولقد أنكر الجعد بن درهم هذا المعنى؛ لأنه لا ينزه الله، وإنما يدل على التجسيم والتشبيه،  ولذلك فإنه يرى أن الخليل مشتق من لفظة خِلة - بكسر الخاء - لأنها تعني الاحتياج والفقر، أو كما يقول النشار إنه " لم يتخذ إبراهيم خليلًا في القديم، وإنما في زمان حادث " والمعتزلة الذين جاءوا في زمن لاحق "يلحون على معنى فرعي آخر يمكن أن تحتمله الآية، ويدعمه الشعر القديم، وهو الفقير ."

وبالطريقة نفسها يعتمد الجعد بن درهم التأويل على أساس لغوي في قوله تعالي (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) أي أن الله " لم يكلم موسى بكلام قديم وإنما بكلام حادث " أو أن التكليم ليس المقصود به الكلام العادي، وإنما المقصود به التكليم أي التجريح، أي جرحه بمخالب الحكمة.

إن التفكير العقلي ساعد الجعد بن درهم على هذه التأويلات، وساعده كذلك في نفي الصفات، وقال بخلق القرآن الكريم، وقد تبنت هذه الأفكار لاحقًا، فرق وجماعات كالمعتزلة وغيرها .

***

الاستاذ الدكتور كريم الوائلي

الواقعة: في كانون الثاني (2023) شكلت وزارة الداخلية العراقية لجنة لمكافحة المحتوى الهابط على مواقع التواصل الاجتماعي،واصدر مجلس القضاء الاعلى الى المحاكم والادعاء العام وهيئة الاشراف القضائي اشار فيه الى (استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لنشر محتويات تسيء للذوق العام وتشكل ممارسات غير اخلاقية،اضافة الى الاساءة المتعمدة وبما يخالف القانون للمواطنين ومؤسسات الدولة) وطالبها فيها باتخاذ (الاجراءات القانونية المشددة بحق من يرتكب نلك الجرائم وبما يضمن تحقق الردع العام).

ومع بداية شهر شباط 2023 تصاعدت حملة اعتقالات ضد من تطلق عليهم السلطات تسمية (منشئي المحتوى السيء "الهابط") الذين ينتجون مواد فيديوية  واغان ومشاهد تمثيلية ساخرة وكوميدية  وتعليقات بذيئة  وحركات "مايعة" واخرى خفيفة ومضحكة وايحائية..وصدرت احكام قضائية سريعة بسجن عدد منهم (أم فهد ،صانعة محتوى يتابعها اكثر من 145 الف شخص على تيك توك،بسبب مقاطع فيديو تظهر فيها بملابس ضيقة  وهي ترقص عل انغام موسيقى شعبية،سجنت ستة اشهر ..مثالا).

اشكالياته

ما حصل ..أثار تساؤلات مشروعة:

ان هذه الحملة اعتمدت قانون العقوبات العراقي رقم (111 لسنة 1969) الذي تضمن تجريم الاساءة للذوق العام واهانة مؤسسات الدولة. فهل يصح اعتماد قانون صدر زمن النظام الدكتاتوري  يخالف تماما الدستور العراقي الذي حرص على  صيانة حقوق الانسان، وفيه بالنص (تكفل الدولة،بما لا يخل بالنظام العام والاداب، حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل)؟.

مع اننا ضد (منشئي المحتوى السيء..الهابط)  الذي يخدش الحياء ويسيء الى قيمنا العراقية الاصيلة، ومع الحملة في مكافحتها باساليب رادعة لا انتقامية، فانه لا يمكن اعتبار احكام من سجنوا بهذه التهمة قانونية او مشروعة.. وليقل اهل القانون المستقلون كلمتهم ان كنا على خطأ.

والتساؤل هنا يصاغ بمشهدين..كلاهما يخدشان الذوق العام:

الأول: فتاة لابسه من غير هدوم وتحجي فشاير.

الثاني: اطفال يفتشون في القمامة عن فضلات طعام يأكلونها و قناني فارغة   يبعيونها.

أنك في الموقف الأول تستطيع  بضغطة زر أن تتخلص منه، ولكن ..كيف  لك ان تتخلص من المشهد الثاني وانت لحظة تراه تلعن من افقر العراقيين وأذلهم؟!

التــحليــل

ما حصل.. لم يكن مفاجأة لنا نحن السيكولوجيين،لأن أسبابه مهدت لظهوره من سنين.. نوجزها بالآتي:

1. تراجع ثقافة الجمال وشيوع ثقافة القبح..اوجعها انهم جعلوا بغداد هي أسوأ عاصمة في العالم بعد ان كانت عاصمة الدنيا.

2. عمل الفساد على اشاعة ما كان خزيا الى شطارة..ما يعني ان السلوك الذي كان يعد غير لائق  صار في زمنهم عاديا.

3. انعدام انموذج القدوة. سيكولوجيا ..الناس تقتدي بالحاكم او الرمز الديني..والذي حصل ان حكومة 2006 وما بعدها ..كلها متهمة بفساد مالي فاحش، واالمخجل ان يرى العراقي صاحب عمامة يتهم علنا صاحب عمامة آخر.. فيقول لنفسه.. ظلت عليّ .. وتشيع الفاحشة التي هي أقبح من المحتوى الهابط.

4. من عام 2007 كنا شخصنا في مقال موثق بالمدى والحوار المتمدن (المجتمع العراقي والكارثة الخفية)

ان جيل الشباب يمتلك منظومات قيمية تختلف عن المنظومات القيمية لجيل الكبار، وان الحروب الكارثية المتلاحقة تخلخل القيم وتفسدها وتشكل لديهم شبكة منظومات تتصدرها قيم الصراع من أجل البقاء والأنانية وتحليل ما يعد ّحراما أو غير مقبول في المعيار الأخلاقي للمجتمع العراقي. والذي يرجّح اكتمال الكارثة أن جيل الشباب قوة تتنامى حجما وفاعلية فيما جيل الكبار قوة تتآكل حجما وينحسر تأثيرها بتقدم الزمن).

وأوضحنا بأنه (إذا صار معظم من يفترض فيهم أنهم القدوة والنخبة يمتدحون الواقع المعاش مع ان كل ما فيه كارثي،فان الفرد يضطر الى ان يعرض نفسه سلعة في سوق السياسة تجبره على التخلي عن قيمه واخلاقه  والعمل بما يأمره به مصدره السياسي.. وسيشيع ذلك بعد ان اصبح الوضع العام في العراق طاردا للذين يمتلكون منظومات قيمية راقية بخاصة العلماء والمفكرين والمتدينين المتنورين والفنانين).

ورغم تحذيرنا المبكر(2007) من كارثة تهرؤ القيم وتخدير الضميرين الأخلاقي والديني.. فان من كان بيدهم القرار لم يعيروها اهتماما،وكأنهم كانوا يقصدونها.. فحين يشيع كل ما هو هابط بين الناس فانه يكون،في حساباتهم، ضمانة لبقائهم في الحكم.

ومع اننا مع مكافحة (المحتوى الهابط) بكل اصنافه،فأننا ننبه الى ان خبثاء السياسة من الفاسدين سيوظفون ما حصل و (يبيتون) لهدف خبيث، نقوله بالصريح،هو: التضييق على حرية التعبير،ليصل الى ان  من ينتقد سياسيا او مسؤولا في السلطة.. سيسجن بتهمة المحتوى الهابط!.. وسترون.. ما قاله البهلول!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

القبيلة أقوى هيكل اجتماعي في المجتمعات المُفَوّتة المتأخرة، وأكثر البنى الاجتماعية رجعية، فالولاء لها يضرب في الصميم الولاء للوطن، ويصيب في مقتل مبدأ المواطنة، والفكر الذي لا يتجاوز الإطار القبلي -مهما بدا جذريا وحداثيا- لا يخرج عمليا عن وظيفة استدامة التنظيم الاجتماعي القبلي، وتكريس سيطرة أعيانه المتنفذين في الدولة والمجتمع، ويصب فعليا في محاربة المشروع الديمقراطي الحداثي التواق إلى التغيير العميق في البنى الاجتماعية والثقافية من أجل مجتمع راق منخرط في بناء أفق النهضة، ويؤدي بالنتيجة إلى تكريس الفوات والتأخر.

هذا الحد لا بد منه لفهم خطورة السلوك القبلي في الفن والثقافة بشكل عام، خاصة عندما نريد الحديث عن علاقات الفنانين والمثقفين فيما بينهم، وكيف أنها أصبحت تنزع كل يوم إلى الانشطار والانكسار، وتتخذ النزعة القبلية أشكالا معقدة في التنظيمات الثقافية والاصطفافات الحلقية في مجال الفن، كيف نفسر ظواهر الانشطار والتشتت والعصبية التي تدعمها النزعات النرجسية والطموحات الذاتية المغلقة والصراعات الهامشية مدعومة بالأحقاد القديمة والجديدة الصغيرة في مستواها والخطيرة في نتائجها؟

صحيح أن الأفراد المبدعين المتمتعين بالحد الأدنى من الحرية هم أصحاب الإبداع والخلق والجمال، لكن بُغْيَةَ تقوية توق المجتمع نحو الخير والجمال، ولا يتم هذا إلا في إطار العيش المشترك في الحقل الفني الواحد، وبهمّ واحد وهدف واحد هو التنوير.

نستعير هنا مفهوم القبيلة لفهم أحد أقوى اختلالات الحقل الثقافي والفني عندنا، فقد أصبحت المجالات الفنية أشبه ما تكون ببواد شاسعة يقطنها أعراب، يتوزعون إلى قبائل، ولا تنتمي القبيلة الفنية بالضرورة إلى القبيلة الاجتماعية، بل تتأطر في ذهنياتها الهدامة المعادية للمواطنة المنتصرة للعصبية والنرجسية، والأخطر من ذلك أنها تمنع نشوء فنانين ومثقفين عضويين، إذ تحد نعراتُها من آفاق المبدعين وتشل فاعليتهم التاريخية، وتسلب إراداتهم في تأسيس روافع التغيير نحو المستقبل، فالانتماء لهذه القبائل قد يبرز بعض الذوات المبدعة، لكنه يمنعها حتما من أن تدخل التاريخ.

في بادية الشعر قبائل متناحرة،  لا يتأسس صراعها المدمر – هيهات! – على "مسائل خلافية"، أو مرجعيات إديولوجية ولا على منظورات جمالية، وإن كان هذا ادعاء باديا في تمظراتها الإبداعية، وخطابها الفني، ونفس الأمر يصدق على بادية الموسيقى، وبادية التشكيل وبادية المسرح وبادية السنيما...

إننا نجد التشتت والانشطار والعداء والعدوانية والعصبية والنرجسية من أجل "امتيازات" موهومة بحلم التألق وإثبات الذات، حتى داخل التوجه الفني الواحد، ونلحظ تناحرات غير مبررة سوى بمنطق القبيلة الفنية التي سرعان ما يدب إليها الانشقاق، وهذا النزوع النرجسي يطمس كل رقي نحو الفعل على أساس العيش المشترك.

إن غياب رؤية ساطعة لوظيفة الفن، ومن ثم غياب المشروع الفني الواضح الطموح، يضطلع به فنانون عضويون ملتحمون بقضية التنوير، لتحقيق ازدهار ثقافي وفني يصب في بناء نهضة الوطن، إن غياب هذه الرؤية وضحالة الرؤيا الجمالية التنويرية يسهل سقوط المثقفين والفنانين في الحلقية والحلقية المضادة والارتماء في أحضان فكر القبيلة، ويتمظهر هذا السقوط وهذا الارتماء في شتى أنماط السلوك المنافي لمستوى الوعي الذي يُفترض امتلاكه؛ كالصراع على الزعامات والإقصاء، والكولسة لطبخ المؤامرات وحبك الدسائس، والانعزال والتقوقع عند البعض المتوجس، والتهافت على المنصات والأضواء، والتنافس في التزلف لتحقيق مآرب صغيرة، والتخاذل في تنوير المجتمع، بل الضلوع في خذلانه.

ومما لا شك فيه أن امتلاك المبدع لوعي المواطنة، وإحساسه يجسامة المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقه، في إنجاز مهام التنوير وإخراج المجتمع من الحجر والوصاية، سيرفع من تطلعه إلى آفاق رحبة، تتجاوز الذاتية ونرجسيتها نحو تعميد وتعضيد سكك التاريخ، في اتجاه غد زاهر للأجيال القادمة، لتعيش في بيئة طبيعية واجتماعية صحية، فيصبح هم الفنان نشر ذائقة فنية وجمالية رفيعة تنأى به هو نفسه أولا وقبل كل شيء عن السقوط في مآزق التشتيت والانشطار، فيكون قدوة للناشئة، ليسهم في إشاعة الحس الجمالي الذي يهيئ العقل لتقبل الوعي الديمقراطي، وإدراك عمق التخلف وفداحته والارتقاء نحو فعل جماهيري أساسه المواطنة لا القبلية ونعراتها المقيتة الرجعية، ويرقى من النزعة الذاتية الفردية الضيقة نحو طموح جمعي قوي، كفيل بلم شتات الحقل الفني وتنسيق جهود الفنانين في اتجاه الرقي بذائقة العامة لا الانحدار نحو سفاسفها.

إن وعي الصراع التاريخي بين قوى الاستغلال والتأخر وقوى الانعتاق والتقدم، باعتباره تناقضا جوهريا، يجعلنا نميل أكثر إلى تعزيز الائتلاف والتعاون وقبول الاختلاف والتنوع فهو ناموس الكون والطبيعة، ونكران نرجسية الذات، ونبذ كل أشكال السلوك المتخلف وتقوية جبهة الفنانين والمثقفين، على أساس مشروع مجتمعي للتنوير والبناء، وعلى قاعدة خطط وبرامج عمل راقية، والاستفادة من الطاقات الخلاقة المنفية في غياهب الهامش من أجل أن يؤدي الفن رسالته الجمالية والتاريخية، ولا يبقى مجرد نزوة ذاتية عقيمة.

***

عبد القهّار الحَجّاري

 

هل المساواة حقيقة موجودة على ارض الواقع، ام انها كذبة يقولها احدنا للآخر، فنحن نؤكد في كلامنا اننا نعامل الجميع بنفس الطريقة ولا نفرق بين احد وآخر، لكن الواقع يقول اننا نتحيز لبعض الاشخاص وان هذا التميز جزء من حياتنا ولا نعتبره شيئا خاطئا .. اسال نفسك: لو كان الخيار بين انقاذ شقيقك او احد اقاربك، من تختار؟ لمن ستترك ميراثك، هل تترك لشخص غريب ام لابنائك. في كل مثال نضع بعض الناس في منزلة اعلى من غيرهم، ماذا يمكننا ان نسمي هذا إن لم نسميه تميزا .

كان هذه المسألة قد شغلت الفيلسوف الاسترالي بيتر سنغر والتي عرضها في اكثر من كتاب من كتبه اشهرها كتابه " الحياة التي يمكن انقاذها " الصادر عام 2009 – ترجمه الى العربية احمد رضا وصدر عن دار الرافدين - حيث يذكرنا فيه بان الحياة الجيدة ليست في الصحة الجيدة والاملاك والسيارات الجديدة . بل في إدراك ما يمكننا فعله لنجعل العالم مكانا اكثر عدلا . يؤمن سينغر ان الفلسفة يمكنها ان تتجاوز جدران الاكاديمية، وانها يامكانها ان تكون في عالم الواقع .

يؤكد سنغر ان المبدأ الأساسي بين هو المساواة جميع البشر، وان هذا المبدأ يجب أن يدفعنا الى الدفاع عن جميع أشكال وصور المساواة بين البشر، مهما كانت الاختلافات والفروق بينهم.

في أواخر عام 1789 كتب الفيلسوف الانكليزي جيرمي بينثام: " لقد وضعت الطبيعةُ البشر تحت حكم اثنين من الأسياد، الألم والسعادة وإليهما وحدهما يرجع القرار فيما يجب أن نفعله "، هذه الجملة التي جاءت في كتاب " مبادئ الأخلاق والتشريع "، جعلت الشاب بيتر سينغر الذي لم يتجاوز التاسعة عشر من عمره يقرر ان يترك دراسة القانون ويتجه إلى الفلسفة، فقد احب فكرة أن بامكانه ان يجادل حول القضايا الاساسية التي تهم الانسان والطبيعة ..بعد ذلك سيكتب: " أن الحق في الحياة مرتبط بشكل أساسي بقدرة الكائن على الاحتفاظ بالأفضليات، والتي ترتبط بدورها بشكل أساسي بقدرتنا على الشعور بالألم والمتعة " . وستكون فلسفة جيرمي بينثام النفعية هي سلة الغذاء الفكرية التي سيتغذها منها بيتر سنغر خلال مسيرته الفلسفية التي بدأت من عام 1971، عندما قرر ان يكتب اطروحته الجامعية عن موضوع العصيان المدني، والتي ستشر عام 1973 في كتاب بعنوان " الديمقراطية والعصيان ".

في العام 2009 ينشر بيترسينغر كتابه الأشهر " " الحياة التي يمكن انقاذها "، حيث يذكرنا فيه بان الحياة الجيدة ليست في الصحة الجيدة والاملاك والسيارات الجديدة . بل في إدراك ما يمكننا فعله لنجعل العالم مكانا اكثر عدلا . يؤمن سينغر ان الفلسفة يمكنها ان تتجاوز جدران الاكاديمية، وانها يامكانها ان تكون في عالم الواقع .

 بيتر ألبرت ديفيد سنيغر المولود في السادس من تموز عام 1946 في مديننة هاوثورن الاسترالية في نفس الشهر الذي نزحت فيه عائلته من فينا، بعد ان استولى النازيون على النمسا عام 1938، أرادت العائلة ان تهرب بسرعة، بعد ان تم ارسال الاجداد إلى معسكرات احتجاز اليهود، وقد مات جده لامه وابيه وجدته لامه، ونجت جدته لابيه باعجوبه لتلتحق بعائلة ابنها الذي استطاع ان يحقق نجاحا في عمله التجاري، ويتذكر بيتر الطفل ان والده كان بارعا في معرفة انواع القهوة التي يستوردها، اضافة الى براعته في التمثيل، حين أسس فرقة للهواة كان يخرج لها اعمالها التمثيلية . ولد لعائلة يهودية غير متعصبة وعندما بلغ الثالثة عشر من عمره وكان مطلوبا منه ان يذهب الى المعبد اليهودي لاداء المراسم حسب الشريعة اليهودية، قرر الصبي بيتر عدم الذهاب، فقد اعلن لوالده انه غير مؤمن، و لايستطيع ان ينافق، وقد تركت له حرية اتخاذ مثل هكذا قرارات مصيرية، بعد ذلك قرر الاب ان لا يرسل ابناءه الى مدرسة يهودية، وان يوفر لهم تعليما راقيا.في تلك السنوات يتفرغ بيترسينغر للقراءة، سيقرأ كل ما يقع بيده، من كتب الفيلسوف سبينوزا، وسيدهشه كتابه الضخم " الاخلاق "، وتسحره شخصية هذا الفيلسوف الذي عاش حياة قنوعة جدا فهو لم يتمتع بميراث ابيه، لكنه رفض ايضا ان يتلقى اموالا من اصدقاء اثرياء قانعا بدخل متواضع يأتيه من عمله في صناعة العدسات البصرية .. وسيحتفي بيتر فيما بعد بسبينوزا في كتابه " كيف نعيش؟ الأخلاق في عصر المصلحة الذاتية "، بعدها يتجه صوب كارل ماركس الذي كان يؤكد أن الانسان كائن طبيعي يتطور مع حركة التاريخ العالمي، وسيتوقف طويلا عند عبارة ماركس البليغة: " كل ما يسمى بالتاريخ العالمي إن هو إلا نتاج الإنسان عن طريق العمل الانساني "، ويخصص بيتر سينغر احد كتبه لماركس – صدر الكتاب عام 1980، حيث نجده متعاطفا مع انتقاد ماركس للرأسمالية، لكنه يشك في ما إذا كان من المحتمل إنشاء نظام أفضل، حيث يكتب: "رأى ماركس أن الرأسمالية هي نظام مسرف وغير عقلاني، نظام يتحكم بنا عندما يجب أن نسيطر عليها. هذه البصيرة لا تزال صالحة، لكن يمكننا الآن أن نرى أن بناء مجتمع حر ومتساو هو مهمة أكثر صعوبة مما أدركه كارل ماركس ماركس "، يكتب سينغر عن شغفه بافكار ماركس قائلاً: " هل يمكن لأي شخص أن يفكر في المجتمع من دون الرجوع إلى رؤى ماركس المتعلقة بالروابط بين الحياة الاقتصادية والفكرية؟ أدت أفكار ماركس إلى ظهور علم الاجتماع الحديث، وغيَّرت دراسة التاريخ، وأثرت بعمق في الفلسفة والأدب والفنون. بهذا المعنى نحن جميعًا ماركسيون الآن " .

ينهي دراسته الجامعية في ملبورن، بعدها يحصل على منحة لدراسة الفلسفة في اكسفورد، هناك سيحاول تطبيق الاخلاق على العالم، وستشغله قضية الحيوانات فيقرر هو وزجته ان يصبحا نباتيين، وسيخصص واحدا من كتبه للدفاع عن الحيوانت حيث اصدر عام 1973 كتابه الذي يقول عنه انه اهم كتبه بالنسبة اليه " تحرير الحيوان "، وفيه يرفض قداسة الانسان ويطالب بحقوق للحيوانات

الحجة المركزية للكتاب هي توسيع المفهوم النفعي بأن "أعظم خير لأكبر عدد" هو المقياس الوحيد للسلوك الجيد أو الأخلاقي، ويعتقد سينغر أنه لا يوجد سبب لعدم تطبيق هذا المبدأ على الحيوانات الأخرى، بحجة أن الحدود بين الإنسان و الحيوان تعسفية تمامًا.

أثناء وجود طالبا في في ملبورن، قام سينغر بحملة ضد حرب فيتنام واصبح على رأس جمعية تقف بالضد من التجنيد الإجباري. انضم عام 1974 إلى حزب العمال الأسترالي، لكنه بعد ذلك سيترك الحزب، لصبح عضوًا مؤسسًا لحزب الخضر .

ينتقد سينغر الولايات المتحدة لانها تساعد الحكومات الاستبدادية على "إبقاء الناس في فقر"، ويعتقد أن ثروة هذه الدول "يجب أن تنتمي إلى الناس" بدلاً من حكوماتهم . يصف سينغر نفسه بأنه ليس معاديًا للرأسمالية، ويصرح في مقابلة معه عام 2010: " إن الرأسمالية بعيدة كل البعد عن النظام المثالي، ولكن لم نجد حتى الآن أي شيء يقوم بعمل أفضل في تلبية الاحتياجات البشرية من الاقتصاد الرأسمالي المنظم إلى جانب نظام الرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية الذي يلبي الاحتياجات الأساسية لأولئك الذين لا تزدهر في الاقتصاد الرأسمالي".

عام 2010 يوقع سينغرعريضة يعلن فيها تنازله عن حقه في العودة إلى إسرائيل، لأن هذا الحق في رايه "شكل من أشكال الامتيازات العنصرية التي تحرض على القمع الاستعماري للفلسطينيين " .

في منزله بملبورن يقول لمراسل صحيفة الغارديان البريطاية وهو يساله: لماذا يعتقد أن كثيرا من الناس يتخوفون من التقدم التكنولوجي؟

 قائلا: " أنا لست عالم اجتماع ولا عالم نفس، ومن ثم فأنا لا أعرف. أتصور أن الناس يخافون المجهول والتغير بصفة عامة " . يتحدث سينغر عن اهمية العطاء في حياة الانسان وكم علينا ان نعطي ؟ ويشير الى ان هناك حوالي تسعمائة مليون انسان غني في العالم، اي اشخاص لديهم دخل اعلى، ولو اعطى كل منهم مبلغ مئتي دولار فقط في السنة، فسوف يقلل الفقر العالمي إلى النصف، ويسخر سينغر من اصحاب المليارات الذين ينفقون اموالا طائلة على اليخوت والرحلات الفاخرة والطائرات الخاصة: " حان الوقت كي نتوقف عن التفكير باهدار المال بهذا الشكل الاستعراضي السخيف، ونفكر بالامر على فداحة افتقارنا للاهتمام بالاخرين " .

ونظراً لعدد الارواح التي يمكن انقاذها بالعطاء، يتساءل سينغر إن كان بوسعنا تبرير ارسال اطفالنا الى مدرسة خاصة مرتفعة الثمن . إننا نستطيع تبرير ذلك فقط اذا توافرت النية بأن يصبح هذا الطفل مفيدا للكثير من الناس نتيجة لذلك المستوى من التعليم .

شكل بيتر سينغر فلسفته حول فكرة تقليل المعاناة وزيادة السعادة. كان هذا بمثابة الأساس لكتابه " الحياة التي يمكنك إنقاذها "، والذي ألهم حركة الإيثار الفعال.

يؤكد سينغر انه ليس شيوعيا ولا اشتراكيا متطرفا، وهو لا يدافع عن الضرائب العالية، ويرفع قبعته لرجال الاعمال الذين يجعلون هذا العالم اكثر غنى .

وعندما يساله الصحفي عن توقعاته لمستقبل العالم، يقول: " ليس لدي كرة بلورية، حقًا. لا أدري، لا أعرف. أنا قلق للغاية بشأن تغير المناخ، لأننا ربما وصلنا إلى مرحلة لا يمكن عكسها حقًا. هذا هو نوع الجانب السلبي الحقيقي. أعتقد أننا سنكون قادرين على التعامل بجدية أكبر مع مشكلة الفقر العالمي، وآمل أن نكون بالفعل. أعتقد أننا نستطيع فعل ذلك إذا بذلنا بالفعل المزيد من الجهد. وآمل أيضًا أن نطور، بشكل عام، أخلاقيات أكثر اتساعًا تشمل الكوكب بأكمله، وكل من فيه " .

يحاول سينغر ان يجعل من الفلسفة هم يومي، هناك اعتراضات ضد محاضراته. غير أنه يذكر طلبته بسقراط الذي بالنسبة اليه يمثل أحسن تقليد في الفلسفة. إنه يستفز الأفكار الشائعة.

في حوار اجراه معه حسن الشريف ونشره موقع معنى بقول سينغر ر دا على سؤال حول مسؤولية الفلاسفة مما يدور في العالم والخطر الذي يمكن ان يتعرضون اليهم لمناصرتهم قضايا ربما تثير استاء الناس: " أعتقد أنه من الممكن، بل ومن المرغوب فيه في بعض الظروف، أن يكون الفلاسفة ناشطين. قد يكون ذلك مرغوبًا، على ما أعتقد، لسببين: أولاً، لأن الفلاسفة يستطيعون مناصرة القضية التي ينشطون من أجلها، من خلال المساعدة في تحديد مسوغات التغيير الذي يحاولون تحقيقه بشكل أكثر وضوحًا وصرامة. "

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير – صحيفة المدى البغدادية

تبلور الموقف المنهجى فى دراسة التراث الفلسفى العربى الإسلامى

كانت أول تلك الأعمال لمحمد لطفى جمعة بعنوان (تاريخ فلاسفة الإسلام فى المشرق والمغرب) (1) الذى أوجز فيه خلاصة دقيقة لثقافته الفلسفية التراثية فى ضوء قراءات مقارنة، مع أعمال المستشرقين فى القرن التاسع عشر (2)، وهو دراسة شاملة عن حياة وأعمال الفلاسفة العرب المسلمين من الكندى وحتى ابن خلدون ؛ ولكنه عمل يكتنفه بعض التشويش من جراء محاولة لإحاطة الشاملة بجميع جوانب موضوعه ويعانى من عدم توثيق المصادر الذى أخذ عنها، وعموماً فهو يبقى متأثرا بدراسات بعض المستشرقين من امثال رينان . (3)

ونشير بشكل مجمل إلى بعض عيوب هذه الدراسات قبل التفصيل فيها، حيث نجد أن البحث فى تاريخ الفلسفة العربية والإسلامية أنصرف إلى الكتابة عن الأشخاص أكثر من الأهتمام بتحليل الأفكار التي طرحتها المذاهب والمدارس الفلسفية،، فنما البحث على أساس أكاديمى غير سليم، كما نجد فى هذه الدراسات تذبذبا شديداً وضموراً فى كتابه تاريخ هذه الفلسفة وكثرة الدراسات السطحية التى لا تدل على فهم دقيق للتراث الفلسفى العربى الإسلامى (4)، وفيما يلى أهم هذه الدراسات والمناهج:

المنهج التاريخى:

يقوم المنهج التاريخى بدراسة نشأة موضوعه وتطوره فى التاريخ، ويتمثل دوره الأساس فى بناء ذلك الموضوع وأعطاه تصوراً متكاملاً عن تكوينه، ويعنى هذا المنهج فى حقل التراث الفلسفى العربى الإسلامى، دراسة شخصياته بحسب سبقهم الزمنى فى التأليف الفلسفى ومجال انتشارهم اللاحق . (5)

ينصرف جل اهتمام الخطاب الفلسفى العربى فى اتجاهه التاريخى إلى البحث عن مكان فى التاريخ لتراثنا الفلسفى لتأصيله(6) ، وكانت هذه محاولة الشيخ مصطفى عبد الرازق فى كتابه (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) ليقدم منهجاً فى دراسة هذه الفلسفة، يتوخى الرجوع إلى النظر العقلى الإسلامى فى بداياته الأولى وتتبع تطوره فى ثنايا العصور حتى يتمكن من كشف طريق العقل الفلسفى الإسلامى فى مذاهب المعتزلة والأشاعرة (7)، وحتى يثبت تفكير فلسفى فى الإسلام رداً على أقوال المستشرقين (8)، ومن هنت كان لابد أن يتجه إلى علم الكلام والتصوف الذى لا تخفى صلته بالفلسفة وكذلك إلى علم أصول الفقه الذى تشده إلى الفلسفة صلة تقربه من الانضمام إليها (9)، ويكون دليل الأصالة .

وفى الحقيقة أن عبد الرازق أخذ رأيه هذا من قول رينان: أن الحركة الفلسفية الأصيلة فى الإسلام يتم البحث عنها فى مذاهب المتكلمين، وطبقه على علمين أصيلين وهما علم الفقه وعلم أصول الفقه، محاولا إثبات الخصوصية الفكرية للإسلام (10)، لقد تأثر بأسلوب نظر المستشرقين فى الكتابة عن الفلسفة فى الإسلام وحاول الرد على آرائهم التى تطعن فى أصالة هذه الفلسفة، ليثبت أن هناك فلسفة إسلامية لا بمعناها "اليونانى" ولكن بمعنى القدرة على التفكير العقلى فى ميدان المعرفة، فيأخذ على الغربيين تقليلهم من أهمية الفلسفة الإسلامية وغمطهم حقها وموقعها من التراث الفلسفى العام، حيث لا يهتمون فى دراستهم لها إلا بالبحث عن عناصر أجنبية ليردوها إلى مصدر غير عربى وغير إسلامى، ومن أجل هذا يقترح عبد الرازق بديلاً آخر يتمثل فى اتباع منهجاً يكشف من القدرة فى ممارسة تفكير عقلى إسلامى قبل دخول الفلسفة اليونانية التى لم تكن سوى حدث طارئ صادف الفكر الإسلامى ولم يكن هو خالقه . (11)

هذا المنهج الذى يقترحه عبد الرازق لم يكن سوى منهج "غربي" فى التاريخ للفلسفة، يقوم على بناء (تاريخ الفلسفة) على الوحدة والاطراد، متبعاً سير هذا التفكير منذ بداياته الأولى حتى دخوله مرحلة التفكير الفلسفى (12) . لقد حاول عبد الرازق فى (التمهيد) من خلال تطبيق منهجه المقترح إيجاد (الوحدة والاطراد) فى تاريخ الفكر العربى الإسلامى، فبدأ بالجدل الدينى قبل ظهور الإسلام، معتبراً ذلك أولى مراحل تطور التفكير العقلى عند العرب، حتى ظهور النظر العقلى المنظم عند المسلمين فى أصول الفقه الذى تكون نتيجة العوامل داخلية صرفة.(13)

لكن الإشكال المنهجى على  محاولة عبد الرازق فى (التمهيد) يأتى من  أن الانطلاق من الأرهاصات الأولى للتفكير العقلى فى الإسلام ومن أصول الفقه لا يوصل إلى الفلسفة الإسلامية كما هى عند الفلاسفة المسلمين حيث تطور كلا الطرفين فى خط مواز للآخرين (14)، أى أنه لم يتمكن من إقامة لروابط بين المسارين المستقلين المتمثلين فى التفكير العقلى فى الإسلام، وفي الفلسفة الإسلامية، ورغم ما يعطى من صفة فلسفية لأصول الفقه تبقى أمامه حقول فكرية مقطوعة الصلة مع بعضها ولا تربط بينهما رابطة لا على المستوى البنيوى ولا على المستوى التاريخى حيث لكل حقل أو قطاع استقلاله، أصول الفقه، علم الكلام، الفلسفة، والتصوف، وبالتالى فلا (وحدة) ولا (اطراد) وهكذا يظل عبد الرازق أسير (المركزية الغربية) فى مجال تاريخ الفلسفة . (15)

المنهج الموضوعى:

يقرأ المنهج الموضوعى تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية من داخلها، أي من خلال ربطها بهذا بالتراث العربي – الأسلامي حتى تلائم متطلبات الموقف الفكرى المعاصر، وهذه الفلسفة لم تصدر من مقالات الفلاسفة المسلمين فهؤلاء لا يمثلون العقل العربى الإسلامى فى إجاباته عن مشكلات الخلق والقيم والمعرفة العقلية، أن من يمثل هذا الفكر على الحقيقة هم علماء الكلام وعلماء الأصول والصوفية . (16)

وفى هذا الاتجاه نشر على سامى النشار كتابه (مناهج البحث عند مفكرى الإسلام) الذي اكتسب أهمية كبيرة فى الدراسات الفلسفية والمنطقية العربية (17)، وآخر( نشأة الفكر الفلسفي فى الإسلام)  مطبقاً فيه رؤيته المنهجية الموضوعية فى دراسة وتفسير الفكر العربى الإسلامى؛ و تنطلق هذه المنهجية من أن الفكر بظهوره يعبر عن حالة وضع اجتماعى وعن تكويناته السياسية والاقتصادية،  وكذلك لا يمكن إنكار الدور المؤثر الذى تقوم به العوامل الخارجية، وعوامله الداخلية التى تظهر نتيجة صلته بالمجتمع(18)  .

لقد تساءل النشار عن المنهج الذى نستطيع بواسطته أن نحدد أصالة الفكر الفلسفى الإسلام، وأن نبين به الجانب الإسلامى الخالص من بين الميراث الضخم الذى وصل إلينا للأمة الإسلامية حتى يمكننا كشف الطابع الميز للحضارة الإسلامية الحقيقة ولجوهرها الحقيقي(19).

جاءت إجابة النشار من خلال محاولته الكشف عن نتائج العبقرية الإسلامية لا فى نتاج " الفلاسفة المسلمين"  لأنهم – حسب ما يرى - دائرة منفصلة ومنعزلة عن تيار الفكر الإسلامى العام، بل فى نصوص ممثلى الإسلام من علماء الفقه والأصول والكلام (20)، فهو يعتمد على هذه المنهجية لكشف القناع عن إبداع العقلية الإسلامية من خلال التأكيد على وجود بحث إسلامى أصيل لدى علماء الأصول، وهذا الفكر الإسلامى الأصيل هو ما يكون انبعاثاً للروح الحضارية لدى الأمة الإسلامية، وأن أى فكر دخيل غريب مصيره الإبعاد والتهميش لانعدام تأثيره على معتقد المسلمين(21).

وأن العرب فى رسالتهم الجديدة صدروا عن نبع فكرى صاف، حتى إذا تفاعلوا مع حضارات الأمم الأخرى كونوا مزيجاً فكريا جديداً أخرج فلسفة لم يعرفها اليونان . هذه الرؤية هى التى جعلت النشار يعطى عظيم الاهتمام لعلم الكلام والتصوف فتتبع نشأتهن الأولى وتطورهن (22)، ولم يلتفت  إلى فلاسفة الإسلام حيث يعدهم مجرد ناقلين للفلسفة اليونانية متفقا مع رأى رينان فى أن المفكرين المسلمين قبلوا الفلسفة اليونانية قبولاً كاملاً ولم يبدعوا فيها على الإطلاق (23)، فالنشار يعد منهجه هذا محاولة  لتفسير نشأة التفكير الإسلامى الفلسفى فى كتابات المسلمين أنفسهم قبل أن يتصلوا بالفلسفة اليوناني ويقوموا بدراستها (24)، وعلى أساس منهجه هذا يستنتج أن للمسلمين تفكيراً عقلياً خالصاً نابعاً من تكوينهم الذاتي، وتفكيراً منطقيا كان لهم فيه ريادة الابتكار(25).

وجه النشار فى منهجه هذا قد أنظار المهتمين بدراسة الفلسفة العربية الإسلامية إلى ناحية جديدة فى الفكر الإسلامى، يعدها المعبًر الحقيقى عن روح الحضارة الإسلامية كلها، ومن هذه الناحية يمكن - حسب ما يرى-   انستعادة الطابع  المميز لهذه الحضارة،والتي أكثر ما تتجلى  فى علم أصول الفقه (26) و التصوف وعلم الكلام بوصفه إنتاج خالص للمسلمين(27) .

إذ إن النشار لا يعترف للحاضر بهوية أخرى غير تلك أورثها له الماضى أنه اتجاه سلفى يرجع إلى القديم ويعتبره الحقيقة الوحيدة وبالتالى فهو رفض لكل تجديد، إنها الأصالة التى يكتفى بها الخطاب السلفى المعاصر . (28)

المنهج التاريخي المقارن:

نشر إبراهيم بيومى مدكور كتابه (فى الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيق) فاكتسب أهمية كبيرة فى قراءات تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية على نحو تجاوز الشكل التقليدى، وذلك لوضوح الأثر الأوربى فى دراسته (29)، حيث قدم فيه منهجاً لـ (تاريخ) الفلسفة الإسلامية وتطبيقاً له . فما نوع هذا المنهج(30)  ؟؛ ينوه مدكور  عنه بأمرين، أولهما نشر وتحقيق مصادر التراث الفكرى لاستعادة الماضى وأحياء تراثه، والآخر يتعلق بالطريقة التي رسماه حتى يمكن ربط الفلسفة الإسلامية بمراحل التفكير الإنسانى.(31)

فكان يرى إن أفضل طريقة لدراسة الفكر الإسلامى هي إن يعرض فى ذاته ويصدر عن واقعه الماضى فى ضوء ما وصل إلى المسلمين من أفكار أجنبية وما ولدته البيئة الإسلامية نفسها من أفكار وأنواع من الجدل، ويعرف مباشرة عن طريق واضعيه والقائلين به: كى يمكن إدراكه على حقيقته، ثم تتبع إدوار تكوينية: نشأة، ونموا، وكمالا، ونضجا، وبين مدى تأثيره فى الخلف والمدارس اللاحقة . (32)

ودراسة كهذه لابد أن تقوم على النصوص والوثائق حتى تكون دعامة قوية للحكم وسبيل لاستنباط الحقيقة وكشفها، وما يزيدها وضوحاً أن تقابل بأخرى ويقارن بعضها البعض وهنا لابد من التعويل على (المنهج التاريخى) الذى يصعد بنا إلى الأصول الأولى، فبواسطته يمكن استعادة الماضى وترميم أجزاءه القديمة، وعرض صور منه تطابق الواقع ما أمكن، ويجدر بنا أن نضم إليه المنهج المقارن، الذى يسمح بمقابلة الآراء والأشخاص ويعين ما بينهما من شبه أو علاقة . (33) وفى عرض فكر الفيلسوف نعنى بوضعه فى بيئته، وأن يقارن بمن كان حوله وبيان كيفية نشاة فلسفته والعوامل التى أثرت فيها ومدى ارتباطها بالأفكار المعاصرة لها، أو الكشف أولاً عن نقطة البدء فى فلسفته، ثم تشرح كيف ترتبت عليها آراؤه ونظرياته المختلفة (34) وفيما يخص الأفكار والنظريات فنقوم بشرحها وتكوين تصور كامل عنها بالشكل الذى بدأت عليه فى العالم الإسلامى ثم بعد ذلك نحاول تلمس أصولها والبحث عن مصادرها فيما نقل إلى العربية من أفكار أجنبية، أو فيما جاء به الدين من تعاليم، وما نشأ حوله من فرق وطوائف وما تكون بجانبه من ملل ونحل ومذاهب ومدارس، ثم نقوم بتتبع تاريخ هذه النظريات للكشف عن مدى تأثيرها، ويكون من الطبيعى أن نبحث ذلك لدى المسلمين أنفسهم . (35)

إن نقطة انطلاق مدكور تأتى من الرد على الذى يعترضون على وجود فلسفة إسلامية أصيلة، فهذه الفلسفة رغم جهود المستشرقين فى النشر والتحقيق لم تدرس بعد الدراسات الجادة والمعمقة لا من ناحية تاريخية ولا نظرية،و أن أبحاث المستشرقين غدت بالية وقديمة وبالتالى بحاجة  الى لتعديل والتجديد . (36)

وبداية التجديد أن نمسك بالحلقة المفقودة فى تاريخ الفكر الإنسانى، وأن نتابع سير المستشرقين ونقتفي أثرهم فى توخى الدقة العلمية على المستوى الأول، أما على المستوى الثانى فعلينا أن نعتمد كلا المنهجين (المنهج التاريخى) و(المنهج المقارن) حتى نتمكن من إعادة بناء تاريخ الفلسفة الإسلامية بشكل  يكشف عن تلك الحلقة المفقودة فى تاريخ الفكر الإنسانى (حلقة العصور الوسطى) وبذلك يتم إبراز مكانة الفلسفة الإسلامية وإفساح الدور لها لتأخذ مكانها الطبيعى من تلك الحلقة، وفى هذه السلسلة تكون الفلسفة العربية الإسلامية فى الشرق مقابلة للفلسفة اللاتينية فى الغرب، ومن هاتين الفلسفتين يتكون البحث النظرى فى القرون الوسطى هذا من جهة، أما من جهة أخرى فلابد أن نربط الفلسفة الإسلامية بالفلسفات القديمة والمتوسطة والحديثة كى تبرز مكانتها اللائقة حتى تكتمل مراحل تاريخ الفكر الإنسانى. (37)

وهنا تظهر الفجوة بين الرؤية المنهجية والتطبيق فى قول مدكور حال القيام ينقد المفاهيم والتصورات التى جعلت تاريخ الحديث للفلسفة يمنع الفلسفة الإسلامية من أن تأخذ مكانها اللائق وفى مقدمة تلك المفاهيم والتصورات مفهوم (الفكر الإنسانى)، ذلك لأن هذا المفهوم محكوم بـ(المركزية الاوربية) لأن المقصود هو الفكر الأوربى فقط كفكر للإنسانية جمعاء، وبالتالى يكون الوضع اللائق للفلسفة الإسلامية فى تاريخ الفكر الإنسانى، هو جعلها فى موقع التابع ترسم وتكمل تاريخ الفكر الأوربى، أى ان توظف لدعم خط الاستمرارية والتواصل فى تاريخ الفكر الغربى حيث يتم التشديد على الحلقة الأضعف وهى حلقة القرون الوسطى، وهذا كله يكون على حساب تاريخية الفلسفة العربية الإسلامية وعلى حساب خصوصيتها وأصالتها . (38)

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.....................

(1) جمعة، محمد لطفى: تاريخ فلاسفة الإسلام فى المشرق والمغرب، القاهرة، 1927م .

(2) الأعسم، عبد الأمير، عرض بيلوغرافى لتواريخ الفلسفة العربية الإسلامية عند العرب المحدثين، الفلسفة الثقافية دوريات آفاق عربية العدد الثانى، 1985م، ص 107 .

(3) د. العبيدى، حسن مجيد: مناهج المحدثين فى قراءة التراث الفلسفى  العربى الإسلامى آفاق عربية العدد (5) 1993م ص 57.

(4) الأعسم: عرض بيلوغرافى، ص 170 .

(5) العبيدى: مناهج المحدثين، ص57 .

(6) الجابرى: الخطاب الفلسفى العربى المعاصر، ننار الطليعة ط 1، بيروت، 1985م، ص 139 .

(7) عبد الرازق مصطفى: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مطبعة لجنة التأليف والنشر، ط 3، القاهرة 1966، ص 13 .

(8) الجابرى: الخطاب الفلسفى العربى المعاصر، ص 27 .

(9) عبد الرازق: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، ص 27 .

(10) صبحى أحمد محمود: اتجاهات الفلسفة الإسلامية فى الوطن العربى ( 960 ـ 1980)، ضمن كتاب: الفلسفة فى الوطن العربى، ط 1 بيروت 1985م، ص 102 ـ 103 .

(11) الجابرى: الرؤية الاستشراقية فى الفلسفة الإسلامية طبيعتها ومكوناتها الأيديولوجية والمنهجية، ضمن مناهج المستشرقين فى الدراسات العربية الإسلامية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الرياض 1405 هـ ـ 1985م، ج 1، ص 308 ـ 311 .

(12) كذلك، ص 311 .

(13) كذلك، ص 311 .

(14) الجابرى: الخطاب الفلسفى المعاصر، ص 143.

(15) الجابرى: الرؤية الاستشراقية، ص 311 .

(16) العبيدى: مناهج المحدثين، ص 58 .

(17) الأعسم: عرض بيلوغرافى، ص 168 .

(18) العبيدى: مناهج المحدثين، ص 58 ـ 59 .

(19) النشار، على سامى: نشأة الفكر الفلسفى فى الإسلام، دار المعارف، ط 2، القاهرة 1966، ج 1 ص 19 .

(20) النشار: مناهج البحث عند مفكر الإسلام، دار المعارف، ط 4، القاهرة 1978م، ص 9 .

(21) د. صبحى، أحمد محمود: اتجاهات الفلسفة الإسلامية، ص 106 .

(22) كذلك: ص 106 .

(23) النشار: نشأة الفكر الفلسفى، ص 28 .

(24) كذلك: ص 22 .

(25) كذلك: ص 22 .

(26) كذلك: ص 22 .

(27) كذلك: ص 30 .

(28) الجابرى: الخطاب العربى المعاصر، ص 144 .

(29) الأعسم: عرض بيلوغرافى، ص 168 .

(30) الجابرى: الرؤية الاستشراقية، ص 312 .

(31) مدكور: إبراهيم بيومى: فى الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيق، دار المعارف ط 3، القاهرة، ج 1، ص 5.

(32) كذلك: ص 10 .

(33) كذلك: ص 11 .

(34) كذلك: ص 11 .

(35) كذلك: ص 12 .

(36) الجابرى: الرؤية الاستشراقية ن ص312 .

(37) كذلك: ص 312 ـ313، وانظر ذلك مدكور: الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيق، ص 15 ـ 30 .

(38) الجابرى: الرؤية الاستشقراقية: ص 315 .

غالبًا ما تُظهر وسائل الإعلام صورة مبسطة وثابتة للأفراد والجماعات. إنها عملية تؤثر على تصور الناس لكيفية النظر والتصرف تجاه الآخرين، ومن سوء الحظ أن كثير من الأفراد يؤمنون على نحو شبه أعمى بما يرون أو يسمعون.

وسائل الإعلام لا تُكسبنا المزيد من المعرفة فقط، بل إنها تؤثر أيضاً على الطريقة التي نعتقد أننا يجب أن نكون بها كأشخاص - كيف يجب أن ننظر للأشياء، وكيف يجب أن نلبس، وكيف يجب أن نتصرف تجاه الآخرين.

لذلك تتحمل وسائل الإعلام مسؤولية كبيرة فيما يتعلق بنقل المعرفة عن المجتمع بطريقة موضوعية. ومع ذلك، تساعد وسائل الإعلام أحياناً في إنشاء قوالب نمطية وتعميمات حول مجموعات مختلفة من السكان.

الصور النمطية لوسائل الإعلام

غالباً ما تحدث الصورة النمطية عندما نقوم بعمل وصف مبسط لمجموعة من الأشخاص دون مراعاة الفروق الفردية. في ضوء ذلك تستخدم وسائل الإعلام الصور النمطية لمنح القراء أو المشاهدين ملخصاً سريعاً وعاماً لشخص أو مجموعة من الأشخاص. يمكن أن يكون هذا على سبيل المثال، فيما يتعلق بعرقهم أو جنسهم أو مجموعتهم الاجتماعية. الأمر الخطير في القوالب النمطية هو أنه يجري تعميمها، ولا يعود الأشخاص الموصوفون أفرادًا بخصائص مختلفة، ولكن بدلاً من ذلك يصبحون مجرد جزء من مجموعة أكبر.

وسائل الإعلام تخلق قوالب نمطية مؤسفة

تتلقى وسائل الإعلام الكثير من الانتقادات بسبب التمثيلات النمطية. نعني بالقوالب النمطية صورة مبسطة لفرد أو مجموعة من الأشخاص الذين لديهم بعض الخصائص المشتركة. لذلك يعتقد النقاد أن الأشخاص الذين نلتقي بهم في وسائل الإعلام يظهرون كرسوم كاريكاتورية. وبهذه الطريقة يساهم الإعلام في إعطاء الناس صورة مشوهة للثقافات والأشخاص والمجموعات البشرية.

يتم انتقاد الأفلام والإعلانات التجارية والبرامج التلفزيونية لتركيزها فقط على الأشخاص المناسبين وذوي المظهر الجيد. تعرضت الصحافة وبعض المسلسلات الإجرامية لانتقادات لتصوير أصحاب البشرة السمراء، والمسلمين على وجه الخصوص، على أنهم أشرار وإرهابيون. وهذا يشكل أساساً للحديث عن التنميط.

في الصحافة الإخبارية غالباً ما توجد خصائص معينة تجعل المصدر مثيراً للاهتمام، وبالتالي فإننا نحصل بسرعة على قوالب نمطية مثل السياسيين والمجرمين والمشاهير. ولا يتم تقديم المصادر كأشخاص ذوي جوانب وخصائص مختلفة. في القصص الخيالية أيضا والأفلام الترفيهية والمسلسلات التلفزيونية، وفي كثير من الأحيان تُستخدم الشخصيات النمطية لأنها تجعل القصة أسهل في سردها.

ليس الأشخاص وحدهم من يمكن تصويرهم بنمطية. بل يمكن تبسيط العلاقات الشخصية وتنميطها، مثل العلاقة الرومانسية بين الرجل والمرأة، أو العلاقة بين الرئيس والموظف، أو العلاقة بين مدير الحالة والمستخدم، عندما يتم تصويرها في وسائل الإعلام.

أهي بهذا السوء؟

من السهل الحصول على انطباع بأن التنميط يؤثر علينا نحن البشر بطريقة سلبية للغاية. لكن هناك العديد ممن يعتقدون أنها ليست بهذا السوء. وحجتهم أن وسائل الإعلام ليست هي المكان الوحيد الذي نحصل منه على المعلومات، ونحن لا نشكل نظرتنا للعالم من خلال وسائل الإعلام فقط. وليس الأمر كأننا ببساطة "نتقبل" أو نصدق كل ما نراه. عادة لا تتغير معاييرنا وقيمنا لمجرد أننا نرى شيئاً ما في وسائل الإعلام.

لكن التأثير السلبي لوسائل الإعلام يحظى باهتمام كبير، رغم أن الطريقة التي نتواصل بها اجتماعياً عبر وسائل الإعلام يمكن أن تكون إيجابية أيضاً. على سبيل المثال، نتعلم لغات جديدة، ونعرف أشياء عن الثقافات الأخرى، ونحصل على معلومات تفيد في كيف نتوقع أن نتصرف في المواقف المختلفة.

لسنوات كان الباحثون مهتمين بالطريقة التي نتواصل بها اجتماعياً عبر وسائل الإعلام ، لكنهم لم يتفقوا إلى الآن على تقديم إجابات واضحة ومحددة. لأنه ليس من السهل تحديد دور وسائل الإعلام في تشكلنا كبشر وبأي طريقة. ذلك أن الأشخاص المختلفون يفسرون ويتأثرون بشكل مختلف عن بعضهم البعض.

سوف يتلقى ويفهم الناس الرسائل الإعلامية بشكل مختلف وبالتالي يتأثرون بشكل مختلف. ستعتمد طريقة إدراكك لما يقال وفقاً لما هو مكتوب على هويتك، ومستواك الدراسي، والخلفية الثقافية، ونوع التجارب التي لديك، وما هو رأيك في الأمر من قبل. سوف يفسر معظم الناس ما يرونه ويسمعونه بطريقة تتوافق مع الاهتمامات والمواقف التي لديهم بالفعل.

وبالتالي فإن الحملة ضد التدخين ستجعل غير المدخنين أكثر قوة في الاعتقاد بأن التدخين ضار، في حين أن المدخنين قد ينظرون إلى الحملة باعتبارها تأكيد على أن الدولة ستتحكم في خصوصيتهم. سيكون لديك حظ أفضل مع "المشككين". قد يتأثر المدخنون الذين فكروا بالفعل في الإقلاع عن التدخين لاتخاذ الإجراءات اللازمة. وهكذا نرى أن مثل هذه الحملات لا يزال من الممكن أن يكون لها تأثير.

قوالب وأفكار نمطية

كانت الصورة النمطية المنتشرة في أمريكا الشمالية هي أن الأمريكيين الأفارقة لديهم شهية غير عادية للبطيخ.

القوالب النمطية هي تمثيلات اجتماعية مشتركة. القوالب النمطية هي مسارات متعددة، ولكنها عادة ما تكون تمثيلات قوية ومبسطة وغالبًا ما تكون مبالغ فيها وسلبية. تم استخدام القوالب النمطية سابقًا بشكل مرادف لمصطلح التحيز، ولكن التحيز في علم النفس يعتبر الآن موقفاً.

يمكن أن تكون القوالب النمطية من خلال الجنسية، والعمر، والإعاقة، والجنس، والوظيفة، والجنس، والجمال، والعرق.

تُظهر العديد من الصور النمطية أنه على سبيل المثال، يُنظر إلى الأمريكيين على أنهم ماديون، والإيطاليون عاطفيون للغاية، والسود موسيقيون للغاية، والألمان واليابانيون مجتهدون للغاية، والإنجليز محافظون جداً، واليهود طموحون وجشعون جداً، والأيرلنديون مضطربون، والصينيون موالون جداً للعائلة. أظهرت دراسة أخرى أن الألمان ينظرون إلى أنفسهم على أنهم عمال مجتهدون. كان الفرنسيون ينظرون إلى الألمان على أنهم مستبدون ويعملون بجد.

تعتبر الصورة النمطية الشائعة أن النساء ذوات الشعر الأشقر يتمتعن بمظهر جيد، ولكنهن ضعيفات الموهبة.

غالبًا ما يستخدم مصطلح الصورة النمطية بمعنى مهين حول تصور أحادي البعد لإنسان ما، أو تصوير أحادي البعد لشخص ما في رواية، أو فيلم، أو مسرحية، أو ما شابه ذلك. يعتمد التصوير أو التصور النمطي لشخص ما على سلسلة من المفاهيم المعتادة الشائعة التي يمكن أن يكون لها طابع التحيزات المعممة، ولكن يمكن أيضاً أن تكون خيالية تماماً ومبتكرة لأغراض سياسية، أو أيديولوجية، أو فكاهية، أو فنية.

كانت الصور النمطية عنصراً معتاداً في العروض المسرحية الشعبية منذ العصور القديمة، وكان نوع الفيلم الكوميدي الشعبي خاص لجميع أفراد الأسرة إلى درجة متميزة بناءً على الصور النمطية وفرحة الاعتراف في نفس الاتصال. يعتمد قدر كبير من النكات المسطحة وفكاهة الأفلام المصورة على مثل هذه الكليشيهات النمطية.

فيما يلي بعض الأمثلة النموذجية لهذه الكليشيهات:

الإسكتلندي البخيل، الشقراء الغبية، الطفل المدلل، اليهودي الجشع، موسيقى السود، الإيطالي المحب للمرح، الدنماركيون الأبرياء، السويدي الجاد، الألماني الغاضب، النرويجي المتفاخر، الفنلندي الحزين، المكسيكي الكسول.

الأقليات في الإعلام

يخلق استخدام وسائل الإعلام للتعميمات قوالب نمطية مختلفة في صورة الوسائط. يمكن أن تكون الصور النمطية إيجابية أو سلبية، لكنها غالباً ما تكون سلبية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأقليات. بعض الصور النمطية الأكثر انتشاراً في الدنمارك على سبيل المثال، حول الغجر الذين يوصفون بأنهم غير أكفاء ومعظمهم من المجرمين. هناك صورة نمطية أخرى مستخدمة على نطاق واسع وهي عن الجيل الثاني من الفتيان المهاجرين الذين يوصفون بأنهم مثيري الشغب الذين لا يريدون أن يكونوا جزءًا من المجتمع. ومن الأمثلة الأخرى الصورة النمطية للشباب الذين يشربون بكثرة والعاطلين عن العمل الذين لا يكلفون أنفسهم عناء فعل أي شيء.

في فبراير 2008، كانت هناك اضطرابات في Nørrebro في كوبنهاغن، ذات الأغلبية السكانية من المهاجرين، سارعت حينها وسائل الإعلام الدنمركية في تسميتها "أسوأ أعمال شغب مهاجرين في تاريخ الدنمارك". لكن كيف أثرت تغطية وسائل الإعلام للاضطرابات على الصورة العامة لسكان نوريبرو؟

في كثير من الأحيان تستخدم وسائل الإعلام الصور النمطية لتنشر قصصاً بشكل أكثر بساطة حتى لا تغرق في التفاصيل. لكن في أحيان أخرى تنبثق الصورة النمطية من تحيزات الصحفيون أو جهلهم. يحدث هذا على سبيل المثال، إذا وصفوا مجموعة بناءً على ما يؤمنون به عنها - وليس بناءً على ما يعرفونه. وبما أن معظم التحيزات سلبية، فإن الصور النمطية تصبح سلبية أيضاً.

ونظراً لأن وسائل الإعلام لها تأثير كبير في الدنمارك، فإن صورتها النمطية لها أيضاً تأثير كبير في المجتمع. يقال إن الصور النمطية لوسائل الإعلام معدية. عندما يشار إلى منطقة Gellerupparken في آرهوس على أنه غيتو مليء بالمجرمين الشباب، فإنه يؤثر على تصور العديد من القراء للمكان. عندما توصف منطقة لولاند بأنها جزء من أطراف الدنمارك التي يسكنها متلقو المساعدات، فإنها تعزز الصورة السلبية في أذهان الجمهور. بهذه الطريقة تساعد وسائل الإعلام في إنتاج وإعادة إنتاج الصور النمطية.

لا تميز القوالب النمطية بين الأشخاص الذين ينتمون إلى مجموعة معينة ، مثل الغجر أو المسلمين أو المثليين جنسياً: ترتبط سمات وخصائص خاصة بجميع أفراد المجموعة، دون مراعاة كيف يتصرف الأشخاص في المجموعة بشكل فردي، أو ماذا يفعلون. مثل، ما هي المواقف التي لديهم أو من أين أتوا. تعطي الصورة النمطية صورة واحدة فقط عما يعنيه أن تكون غجرياً أو مسلماً أو مثلياً.

التنميط الاجتماعي في وسائل الإعلام

من أجل إنشاء وسيلة مفهومة ومقبولة من قبل جمهور واسع، يستخدم العديد من المرسلين الصور النمطية التي من شأنها أن تثير بعض الارتباطات. بهذه الطريقة لا توفر وسائل الإعلام المعلومات والترفيه فحسب، بل تؤثر أيضاً على حياتنا من خلال تشكيل مواقفنا ومعتقداتنا. استمرار أدوار الجنسين هو مثال على الآثار الاجتماعية السلبية لاستخدام الصور النمطية. في المجتمعات التي قطعت شوطاً طويلاً فيما يتعلق بالمساواة، لا يتم تتبع الصور النمطية للجنس في وسائل الإعلام وتساعد في الحفاظ على سرعة التنمية منخفضة.

بشكل عام ، غالبًا ما يتم عرض النساء في الإعلانات لأنهن (ما زلن) يعتبرن مسؤولات عن المشتريات اليومية.  في معظم الأحيان يتم عرض الرجال في إعلانات السيارات، أو السجائر، أو منتجات الأعمال، أو الاستثمارات، بينما يتم تمثيل النساء في إعلانات مستحضرات التجميل والمنتجات المحلية. كما يتم تصويرهن في كثير من الأحيان في المنزل على عكس الرجال الذين يظهرون في الهواء الطلق. الاختلاف المهم الآخر هو ظاهرة "الوجوه" في الإعلان، والتي تتمثل في إظهار أجساد النساء بالكامل، في حين يتم تصوير الرجال من خلال لقطات مقربة لوجوههم.

يتم تخصيص أدوار مختلفة للنساء في الإعلانات. الأكثر شعبية هي ربة منزل مهووسة بإزالة البقعة من مفرش طاولة جديد أو امرأة مشكلتها الأكبر هي عدم وجود أفكار لتناول العشاء، أو تلك الفاتنة المثيرة، التي يرغب فيها الرجال التي يكون شاغلها الرئيسي الحفاظ على جمالها.

يعلن النوع الأول من النساء عن مستحضرات التجميل أو يظهرن في الإعلانات الموجهة للرجال. أما النوع الثاني فيتعلق بإظهار نمط حياة صحي من خلال ممارسة النشاط البدني، على سبيل المثال. وبالمثل نميز بين القوالب النمطية المختلفة للذكور. الصورة النمطية الأكثر وضوحاً هي "الرجل الحقيقي" حيث يتم تقديمه كرجل أعمال رياضي مع امرأة جميلة إلى جانبه، ولديه سيارة باهظة الثمن وهاتف ذكي أيضاً.

النوع الثاني من الرجال أقل شعبية، ويُظهر أن الرجال يقضون الوقت مع العائلة. نادراً ما يظهر الرجال وهم يقومون بتنظيف الرأس ـ وإذا كانوا كذلك ـ فهذه صورة ساخرة. يظهرون هنا على سبيل المثال، كخبراء يقدمون المشورة للنساء حول كيفية ترتيب الغسيل بشكل صحيح. تستفيد الإعلانات أيضاً من الصورة النمطية للصداقات الذكورية، والتي يمكن تسميتها "قصص الأصدقاء"، حيث يتم تقديم صداقات مثلية للرجال: في مباراة كرة قدم أو في حانة وبنفس المواقف والاهتمامات.

تدمير القوالب النمطية الجنسانية

حاولت بعض وكالات الإعلان الكبرى مواجهة الصور النمطية للجنسين في إعلاناتها. الإعلان الأكثر شيوعاً والأقل نمطية هو من ماركة Dove للعناية بالشعر والبشرة. إنه إعلان يستهدف النساء من جميع الأعمار وبأجسام مختلفة ويحاول التأكيد على الجمال الطبيعي بدلاً من الأشكال النمطية "المثالية".

تفضل المشاهدات عادة رؤية النساء اللواتي يمكنهن التعرف عليهن وقد أثبتت الحملة نجاحها الكبير. وبالمثل ، تولى منتجات Ajax للمنظفات المسؤولية وقام ببناء إعلان يظهر فيه الرجال الوسيمون يدخلون مجال منتجات التنظيف. ونرى مثالاً على ذلك حيث يقوم الرجل بخلع الملابس لشريكته (الأنثى) في نفس الوقت الذي يلقي فيه الملابس في الغسالة. هذا الوضع هو عكس الوضع التقليدي والأكثر نمطية للمرأة المهتمة بالنظافة والمسؤولة (والمثيرة).

لذلك فإن الإعلان هو أداة فعالة تساعد على تكوين وتشكيل مفاهيم وآراء الناس حول النوع الاجتماعي. من خلال تبسيط الرسالة. يعمل الإعلان كواحد من أكثر الأساليب شيوعاً لإقناع الجمهور بشراء منتج ما، وفي الوقت نفسه إدامة ونقل وجهة نظر نمطية للعالم.

***

حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

مع رسُوخ ثقافة السمع والطاعة داخل بيئاتنا العربية، " تقف أدةُ الرفض" لا " كنبْتٍ شيطانيٍّ وسط حقول من الإجابات بنعم ". وفي الحقيقة، ليست الإجابات حقولّاً من الأزهار، بل حقولاً من الألغام التي تنفجر في وجه من يختلف. لأنَّ كل إجابةٍ بنعم وراءها محرمات ثقافية تواصل الإلحاح والتنكُّر عبر أزياء خادعة. فلا يستطيع المتلقي أنْ يتجاوزها وإلاَّ سيكون هناك نوع من العقاب الرمزي الذي يُنزله المجتمع بالمخالفين.

وهي ألغام خطيرة نتيجة الوقوف أمام مركزية التقاليد وخشونة السلطة وتيار الحياة الجارف. ألغام في التعليم والتفكير والتسييس والظواهر الاجتماعية وأشكال التدين المختلفة. مثل لغم التعليم القائم على الحفظ والتلقين، ومثل لغم التسييس الذي يستبعد التنوع ويقصر الممارسة على مؤيديه، ومثل لغم جُمود التدين ونضوب المعاني الروحانية التي تنتهي بالعنف والتطرف، ومثل لغم الدوران في فلك سلطة المجتمع وتقاليده شئت أم أبيت.

كل ذلك يظهر إزاء من يعترض على إيقاع الثقافة والحياة الجارية، حيث الاشمئزاز من صاحب" لا " وإقصاءه بعيداً خارج السرب طالما يرفض ما هو سائد. فمَنْ عساه أنْ يَرُد بـ" لا " على أسئلةِ الناس، سيعتبر شيطاناً رجيماً. أسئلة تدفع الإنسان لأنْ يقبل مواقف واختيارات الآخرين له دون نقاشٍ. بحيث لا يرضى هؤلاء عنك إلاَّ أنْ تكون تابعاً وخانعاً بمسميات شتى!!

وحتى إذا لم يكن الشخصُ الرافضُ شيطاناً بفعل المواقف المتداولة، فسيكون كذلك منبوذاً نتيجة طبيعة الثقافة العامة. فلا تتوقف تلك الثقافة عند حدود استقلال الأفراد، بل تتدخل في تشكيل وجودهم وكيانهم بالتبعية. نحن- في مجتمعاتنا العربية- نبتلع " أفكار نعم" و" آليات القبول " و" أساليب الموافقة " منذ المهد إلى اللحد. حتى شاعَ القولُّ بأنَّ هناك اتفاقاً تاماً حول الأمور الاجتماعية والسياسية التي هي موضع خلافٍ بالضرورة.

وفي شتى التجارب، لا نستطيع أنْ نختلف بشكل ثري وقابل لترسيخ قيم الحوار والنقاش والتساؤل. الأطفال يولدون وتحت ألسنتهم عبارات " نعم " طوال الوقت، بل وتشكل مخزوناً ثقافياً لا ينضب. والمرأة تتزوج، وفي أذنيها - مع الحلي والذهب - كمٌ فائض من نصائح الطاعة والاستسلام والمحرمات الاجتماعية. والرعية تستقبل طائعة كل حكامها ويبنى فوقها سقف القبول المسبق على امتداد البصر. وعبارات النصائح يلوكوها الناس مثل العلكة، ولكنها تظل مؤثرةً وحاسمةً في أغلب الحوارات والقضايا. والأشخاص الناضجون يواصلون مسيرة الـ" نعم" في المواقع التي يشغلونها تطبيقاً لإملاءات الثقافة. كيف سيرفض الإنسان أمراً وهو مكبل بقيود لا حدود لها؟! كيف سيدرك من يقول " لا " أنّه محاط بمتون من الـ" نعم" التي لا تنتهي؟ كيف سيعبر الإنسان بـ" لا " فكرياً وهو مشبع منذ صغره بالقبول فقط؟

تاريخياً، درجت الذهنية العربية على ألَّا تسمع الإجابةَ بـ " لا ". لأن الإجابة بنعم تزاحم أمورنا الحياتية والسياسية والفكرية حتى غدت قاعدةً لا استثناء لها. ويتوقع الفردُ هذه الـ" نعم" طالما يردد " الأقوال المستأنسة " بين أفكار الأفراد والجماعات. إنَّ الموافقة على الأحوال السائدة في كل العصور كانت هي الرافعة العامة لأنظمة السياسة مهما كانت طبيعتها. وسواء أكانت أنظمة مستبدةً أو غيرها، فهي تعيش على الغلبة والإخضاع. وتلك الفكرة هي لب الممارسات وتعطي للناس نموذجاً للقبول مهما تكن المشكلات والتناقضات في الواقع.

القول بـ" لا " سيُشعِر المتلقي بانتفاء أية جوانب حميمية على ما جرت العادة، وكأنَّ الرفض عملية عاطفية لا منطقية. وكأنه أيضاً خرق غير محمود العواقب دوماً بينما هو شيء طبيعي تماماً.  ولذلك لا يوجد في قاموس الأذن العربية المعرفي ولا الفلسفي كلمات الرفض منطقياً. أنْ ترفض يعني أنك ستكون هدفاً لحنق المحيطين طوال الخط. رغم أن الرفض في هذه الحالة أو تلك قد يكون رفضاً مبرراً، وقد يكون نوعاً من إحتجاجنا الإنساني على التجاوز.

إنَّ الرفض موقف مبدئي ينمُ عن فهم وقدرة على السير في اتجاهٍ آخر. إنه إمكانيه يراها صاحب الرفض تحقيقاً لذاته، وفوق هذا وذاك تجعله إمكانية الرفض معبراً عن وجوده الحُر الذي لا يجب أنْ ينازعه فيه أحدٌ. الرفض هو الوجود لحظة أنْ يشعر الكائن الإنساني بانسحاقه أمام الآخرين. عندئذ يكون الرفض هو الخيار الأخير بعد أن استنفد كافة أعمال الصدود والمقاومة. فلا يمتلك غير حال الرفض الذي يعيده إلى المبادأة ككائن حي مرةً أخرى, فالآخرون يُمارسون قهراً مباشراً أو غير مباشر عليه، لأنَّ هؤلاء نتاج أنظمة ثقافية تقمع الحريات وتُعدِم ثراء الوجود الإنساني. وإذا نظرنا إلى الشخص الرافض نفسه  سنجد أنه كان مجرد ترس في آلية الأنظمة التي تستعمل الأفراد طوال الوقت. فقد يرفض في محيطه المحدود، غير أنه بنظرة أكبر( نظرة طائر) سيتحدد موقعه بناء على آليات أخرى تستطيع الأنظمة إدارتها واستيعابها في النهاية.

حالة الـ" نعم" الدائمة حالةٌ مشتركة بين التيارات والاتجاهات السياسية والدينية فكراً وتنظيماً، فبالضرورة من وجهة نظرها أنْ يعلن المتلقي قبولَّ ما يُطرح عليه. أي يجب لكل إنسان أنْ يقول " نعم"، و نعم هي المفردة الفكرية التي تستحق دراسةً تأصيلية على كافة المستويات داخل دماغنا الثقافي العربي. فأغلب شعوب الأرض- أفراداً وجماعات- تقول(لا ) لمن تريد ولا تقبل الانسحاق والانبطاح، إلاّ بعض الشعوب العربية التي تردد الموافقة بنعم دون مبرر. حتى أنَّ الفرد التافه في مواقع المسئولية يتعوّد أنْ يسمع نعم( منغمةً ) بعبارات الشكر والأدعية والأذكار الصباحية والمسائية.

ومن جهة أخرى، تعدُّ الـ" لا " محرك بحث ضخماً مثل محرك جوجل Google search engine لمعرفة كامل تكوين الذهنية العربية. ولا تنتظرك العادات والتقاليد تعبيراً عنها، حتى تكشف أمامك أنَّ " نعم " هي الأساس لجوانب التربية والإخلاقيات والدين والفكر والتعليم والعلاقات العامة. لا يوجد أحدٌ في مجالات كهذه يعرفك: كيف تقول " لا " مطلقاً. ولا يخبرك كيف تختلف بشكل فاعل ومنتج؟ وربما السبب واضح: ضرورة أنْ تكون طائعاً ومرهوناً بوجود الأقوى، وليس عليك التملمُل، وإلَّا ستكون أنت الناقة الجرباء وسط القافلة!!

ورغم أنَّ" لا " أداة نفي في دروس النحو والصرف، إلاَّ أنها داخل وعيناً اليومي -نتيجة تزييف الحرية - أداة مراوغة ومماطلة وتسويف. وفي بعض الأحيان قد لا تعبر عن موقف ورؤية عقلية مختلفة ومستقلة في فهم الأمور والأشياء. وبخاصة حين يتم التلاعب بمواقف الرفض واعتباره مرحلة قابلة للمحو مرة أخرى، فالقبول المجاني للممارسات والأفعال العمومية ليس سهلاً حتى يلتئم على نقيضه وليس هشّاً كي يتسع لنوع من التناقض الذاتي. أمَّا "نعم"، فهي ترتبط بالرضا والاتفاق الضمني والأريحية، أي بالحوافز والجوائز الرمزية التي يتلقاها مَن يقول "نعم". وهي الـ " نعم " الآتية تمشياً مع اللغة العربية من النعيم لدى أصحاب الشأن والأمر في بيئاتنا الثقافية.

وهذا ما يجعل المقابل للـ " لا " على صعيد المفهوم ليست أداة النفي No فقط، بل دلالة المفارقة paradox كذلك، أي هي تدل على ما يُخالّف الرأي الشائع أو المعتقدات العامة مع عملية الرفض جنباً إلى جنبٍ. فالمناخ الفكري عندما يتكلس ويصبح حالة خاصة من الاستعصاء على التغيير، يكون الرأي المخالف نوعاً من الرفض المتناقض. ودوماً لا يتم الرفض بشكل تلقائي، لأن الرافض يخوض مساراً طويلاً من المقاومة. فالرفض ذروة المقاومة، وهو الذي يحرك أوصالها من مرحلةٍ إلى أخرى ضمن مناخ التسلط بأشكاله.

وبجانب ذلك هناك أشكال كثيرة لعمليات الرفض، فالرفض بـ" لا " قد يكون صمتاً، لأن الصمت هو مساحة الإمتلاء بالكلام القابل للإنطلاق في أية لحظةٍ، لكن على أن يكون لدى صاحبه من الحنكة ليجعله موقفاً دون ردٍ. والرفض في تلك الحالة ليس موقفاً سلبياً في ذاته، لكن لا بد للرافض أنْ يعبر عما يجعل الصمت بليغاً ومؤثراً. إنَّه قوة المواجهة الصامتة والتعبير عن تعرية المواقف والإختلاف عنها. ولعلَّ المتصوفة في تاريخ  المجتمعات العربية قد جعلوا من الصمت موقفاً ثورياً بهذا المعنى. لأنهم صمتوا عن الممارسات العامة والتكالب على الحياة وتركوا أحوالهم مع الأذواق والتجارب الروحية.  مغزى ذلك أن ما صمتوا عنه هو دائرة التسلط، لأنه ما خضع الإنسانُ لقوى القهر إلاَّ من باب الرغبة فيما بين أيدي الناس.

والتصوف شكلٌّ من أشكال الـ "لا" بمعناها الإنساني الحر، لأن المتصوف يمارس رياضة الرفض على كل المستويات الحياتية والوجودية. وتلك فكرة في غاية الحساسية تجاه أنواع القهر مهما يكن مسماها. لأنه يمتلك قوة التخلي التي تعطيه المعنى كل المعنى، ويغدو ثراء الحقيقة أبعد من فقر التملك. فمن يرفض كل شيء بهذا" المنطق الصامت " يستطيع أنْ يأتي على مسألة الخُنوع من جذورها. إنَّ من يقول" لا " حالاً وتجرية يستحيل ترويضه بأي شكل من الأشكال. وتاريخ التصوف ملئ بهذه الـ" لا " في وجه القوى الإجتماعية والسياسية.

والرفض بـ " لا " قد يكون فكراً حُراً،  ولاسيما أنَّ الفكر المختلف في ثقافتنا العربية ماضياً وحاضراً كان علامة رفض بحجم معناه. ولا يظهر الفكر بهذه الصورة سوى في مناخ من القبول والإتفاق. والفكر الرافض للمناخ العام ظهر مع ظهور سلطة الكهنوت بشقيه السياسي والديني. وأحيانا ينزلق البعض وراء ما يسمى فصل الدين عن السياسة. ولكن المسألة أكبر من ذلك، لأن تبادل المواقع بين الإثنين (السياسة والدين) يجعل منهما وجهين لحياة واحدة. لو اختفى أحد وجهيها أو تباعد عن الآخر، فلا يعني ذلك ممارسة الحياة بشكل حر، لكنه يعني أن الوجه الحاضر سيمارس دور الوجه البديل أيضاً.

ولعلَّ هذا كان سبباً مباشراً في عدم انتعاش الفكر العقلاني الحر لدى العرب، وكان مبرراً أيضاً للتمسك بالتقليد طريقاً يؤدي إلى النتائج نفسها في المعرفة والمجتمع. ولعل هناك وضوح رؤية من تلك الزاوية بصدد فشل الإفكار الجديدة، فهي أفكار مجهضة سلفاً قبل أن تولد، لأن البيئات المشبعة بالاتفاق لا تقبل أي مختلف، ومع الزمن تصبح أرضاً جرداء لا ينفع بها زرع الفكر ولا ماء العقل.

في هذا السياق جاء تراثُنا العربي حاملاً لعنات لا تتوقف حتى اللحظة على من يختلف فكراً. فعلى الرغم من وجود فرق ومذاهب إلاَّ أنها دخلت تحت عنوان الفرق الضالة. وتم تعقب هذه الفرق، لكونها تشكل خطراً على القول بـ" نعم". ولو كان المناخ الثقافي صحيّاً، لكانت تلك الفرق قد قالت ما قالت وذهبت من حيث أتت، ولا يستدعي الأمر نعتها بالفرق الضالة. وهذا الوصف بالضلال لم يتم من رجال الدين وحسب، لكنه وصف يجري على ألسن الناس العاديين. وبطبيعة الحال يقف وراء هذا الوصف التحريم الثقافي بصدد عدم الخوض في المعتقدات العامة ولو كانت غير صحيحةٍ. وحتى إذا أخذت المعتقدات لباساً سياسياً، فهي موكولة لأولي الأمر والنهي دون القطاع العريض من العامة.

***

د. سامي عبد العال

ثبت دائما ان التعاون هو المحرك الأساسي للابتكار التكنلوجي والعلمي. ولهذا فان بعض حالات التقدم الكبير جاءت من مراكز فكرية قوية تأسست لهذا الغرض بالذات. اليوم يُعتبر وادي السليكون مجسّدا لهذه الفكرة لكنه يشكل فقط نموذجا واحدا ضمن خط طويل من المؤسسات التي مهدت قبله الطريق. أحد الأمثلة جاء من بغداد في العراق اثناء العصر الذهبي الاسلامي في القرن الرابع الهجري او القرن العاشر الميلادي. في هذا الوقت كانت اوربا تعيش ما سمي مرحلة القرون الوسطى، هنا وُلد بيت الحكمة. حيث جرى جمع وترجمة العديد من الأعمال العظيمة من بلاد فارس والهند واليونان الى العربية بما في ذلك أعمال ارسطو واقليدس.

هذه البيئة من التنوع الثقافي واللساني قادت الى ابتكارات هامة في حقول الجبر والجغرافيا وعلم الفلك والطب  والهندسة.

أتمتة مع موهبة

خلال ثلاثة قرون ونصف، عمل في بيت الحكمة عدد من المفكرين المتعددي المواهب. من بين هؤلاء كان اخوة بنو موسى في القرن التاسع وهم ثلاثة اخوة من العلماء الفرس عاشوا في بغداد. شكّل الاخوة فريقا متعدد الاختصاصات، أحدهم كان رياضيا والآخر فلكيا والثالث مهندسا. قام هؤلاء بترجمة أعمال من لغات اخرى الى العربية، وجذبوا مترجمين آخرين كما استثمروا النقود في شراء المخطوطات النادرة. هم كانوا ايضا منخرطين في السياسة وتطوير بنية تحتية حضرية، وكانوا ايضا موهوبين موسيقيا.

لكن يمكن القول ان مساهماتهم الملموسة كانت في المكائن الآلية او الأتمتة automated machines. أحد أعمالهم نُشر عام 850 ميلادية، وهو كتاب الأجهزة البارعة The Book of Ingenious Devices، وتُرجم تحت عنوان  (كتاب الحيل)، ويصف المكائن التي عملت كمقدمة للروبوتات الحديثة. هذه الأتمتة تضمنت وسائل موسيقية ميكانيكية بعضها يعمل بالطاقة البخارية ذاتية التشغيل. اعتبر تيون كوتسير Teun Koetsier من جامعة فريجي في امستردام ان هذه الموسيقى الميكانيكية هي أول ماكنة مبرجمة في العالم.

موسوعيون لامعون

عالِم آخر من بيت الحكمة كان محمد بن موسى الخوارزي الذي يردد الناس اسمه بانتظام "الخوارزمية". في الحقيقة، يتألف موروث الخوارزمي من شقين "الجبر" والذي يُشتق من عنوان لأحد كتبه وهو (كتاب الجبر)، او كتاب الانجاز. كان هذا احد (أو أول) كتاب في قواعد الجبر. الخوارزمي ايضا انجز مساهمات هامة في الجغرافيا وعلم الفلك. عمل الخوارزمي عن قرب مع الكندي الذي عُرف باسمه اللاتيني. كان الكندي موسوعيا عباسيا. هو كان مواطن في الامبراطورية العباسية التي وسّعت العالم الناطق بالعربية من ما يعرف الان بباكستان الى تونس ومن البحر الاسود الى المحيط الهندي. هو كان رياضيا وتلميذا في تحليل الشفرات ورائدا في نظرية الموسيقى حيث جمع بين الفلسفة الارسطية و الثيولوجيا الاسلامية. الكندي له الفضل بتعريف الارقام الهندية الى زملائه ورفاقه في العالم الناطق بالعربية. هو مع الخوارزمي طوّرا ارقاما عربية يستعملها الناس حاليا (من صفر الى تسعة). هو ايضا ألّف أقدم كتاب معروف في تحليل الشفرات cryptanalysis، ويُعرف عنه انه استعمل استدلالا احصائيا (نوع من تحليل البيانات). الخبير الإحصائي لايل بروملك Lyle Broemeling وصف هذا بانه اول الامثلة على كلا الطريقتين. مكتبة الكندي الشخصية كانت رائعة جدا لدرجة ان اخوة بنو موسى تآمروا عليه وبسبب حسدهم تسببوا في ايذائه وطرده من بيت الحكمة، وتمت مصادرة مكتبته واستحواذهم عليها.

إختفاء دون أثر

بعد قرون من ترسيخ الفكر والتطور التكنلوجي، تم تدمير بيت الحكمة على أيدي المغول اثناء حصار بغداد عام 1258 دون ان يتركوا أثرا. هذا الغياب للدليل الأثري قاد بعض العلماء للشك حتى بوجود البيت او اقترحوا ان وجوده ليس كمكان بقدر ما هو حالة ذهنية.

في كتابه الفكر اليوناني،الثقافة العربية يقترح ديمتري غيت Dimitri Gutas ان بيت الحكمة ربما في افضل الاحوال هو إضفاء لطابع رومانسي عليه كـ "ارشيف وطني مثالي". لكن هذه الرؤية رفضها خبير الدراسات الاسلامية حسين كمالي . غيت يعترف بانه بين عام 800 و1000 ميلادي كان هناك حجم كبير من الترجمة في الشرق الاوسط قادت الى حركة ترجمة شاملة ومنهجية للاعمال اليونانية غير الأدبية الى العربية. المترجمون كان لهم تقديرا عاليا، والمكافئات الاجتماعية الثمينة مُنحت ليس فقط لهم وانما ايضا للنخبة التي ساعدت في تمويل نشاطاتهم.

جم الخليلي Jim al - khalili، كمعلّق علمي شهير وفيزيائي منظّر لخّص في كتابه "pathfinders":

"كانت هناك في الحقيقة مؤسسة تُعرف ببيت الحكمة اتسعت دراماتيكيا في مجالها من مجرد مكتبة شهيرة لتصبح مركزا للمعرفة العلمية الأصلية".

بكلمة اخرى،ربما كان بيت الحكمة مكانا صغيرا،لكنه مكّن من اكتساب ثقافة المعرفة المتعددة الحقول في بيئة ثرية . ميراث بيت الحكمة ومساهماته للبحث الحديث كانت واضحة.

دروس للحاضر

بينما هناك الكثير مما لا نعرفه حول بيت الحكمة، لكن شيئا واحدا يبدو واضحا: انه كان متحفزا بتقدير الأفكار الثرية التي يمكن ان تنشأ في بيئة ديناميكية متعددة الحقول.

ومن هذا الجانب، هو يبدو أقل شبها بوادي السليكون الذي كشف عن ذاته بوضوح في تركيزه على المكاسب التجارية واجتذابه السلوك غير النزيه.

وفي تفحّص أقرب، يبدو بيت الحكمة أكثر شبها ببيئة تعاونية يمكن تحقيقها في تعليم عالي .احد عناصر نجاح بيت الحكمة كان الدعم المالي المتواصل من مختلف الخلفاء الذين كانوا سياسيين وقادة دينيين للدولة الاسلامية. بكلمة اخرى،العلماء كانوا يركزون فقط على المعرفة الأكاديمية بدلا من الحصول على التمويل. ايضا،جرى احترام ومكافأة وتشجيع كل أساليب جمع المعرفة دون تمييز الامر الذي خلق استقرارا اجتماعيا وازدهارا.

ما الذي يتطلبه الأمر لإنشاء مكان مثل بيت الحكمة اليوم؟ المطلوب إعادة تقييم شاملة للطريقة التي يُدار ويُموّل ويُحكم ويُدرّس بها التعليم العالي؟ يجب ان نسأل: هل انقساماتنا التخصصية التي تجعل العلوم والانسانيات تبدو متناقضة، هي التي تعيق الابتكار؟ بالنسبة للعلماء في بغداد في القرن الرابع الهجري، كانت الصورة معاكسة حيث جميع تلك التخصصات تشكل وجهين متساويين لعملة واحدة. يمكننا الاستفادة حاليا لو تعلّمنا درسا من بيت الحكمة.

***

حاتم حميد محسن

الكهنوت هو أن يكون للكاهن أو رجل الدين سلطة فوق الكل، على طريقة القساوسة في العصور الوسطى للوصول للحكم عندما كانت لهم سلطة فوق سلطة الحكومات والشعوب،، فقد كانوا يتحكمون في الشعوب والحكومات، بل وفي بعض الحكام أيضًا.. فكلمتهم كانت مسموعة، واحكامهم كانت نافذة أكثر من نفاذ القوانين؛ فحكموا، وسيطروا، وطغوا، وتوحشوا، وتجبروا.. ومنحوا أنفسهم «صك الإله»، و«وكلاء الله» في الأرض، على غرار ما كان يفعله قساوسة العصور الوسطى!.

وللأسف، هناك- الآن- مَنْ يعيش بيننا، ويحمل لقب "شيخ"، أو "عالم"، أو "داعية"، ويمارس العمل الدعوي، لكنه حاد وانحرف عن طريق الدعوة.. ورويدًا رويدًا، بدأ الداعية من هؤلاء يتحول من عالم دين إلى رجل دين، ثم إلى "كهنوتيط، ولكنه "كهنوتي متأسلم"، يحيط نفسه بهالة من القداسة، ويلزم أتباعه بفتواه، وآرائه، ولا يُسأل عما يفعل.. فيما يسفه من نظرائه الذين لا يسيرون في فلكه، ولا يتبعون عقيدته، وفكره ومنهجه، فيُحط من شأنهم، ويشكك في علمهم، وعقلهم، وربما يتهمهم بالضلال و«الكفر».. ويوهم أتباعه بأنه أحد وارثي العقيدة، و«حامل الأسرار الإلهية»، وأنه «المفوض من الله» لهداية الناس؛ حتى يضمن السيطرة على أتباعه ومريديه!.

وضدّ التطرّف اللاهوتي الأصولي ينبغي أن نتخذ موقفاً نقدياً راديكالياً، واستخدام كل منهجيات العلوم الإنسانية ومصطلحاتها لإضاءة التراث الإسلامي من الداخل ومعه كل الظاهرة الدينيّة بمجملها، بغية الخروج من السياجات الدوغمائيّة المغلقة والتحرّر من النّزعة المذهبيّة التي أصبحت تشكّل في العقدين الماضيين تهديداً فعلياً لعالمنا المعاصر وللعالمين الإسلامي والعربي. إذا لم تحصل هذه الإضاءة التاريخية واللغوية والانتروبولوجيّة والفلسفيّة للخصومات العقائديّة المتراكمة منذ قرون وقرون بين الأديان التوحيديّة من جهة، وبين هذه الأديان والحداثة العالميّة من جهة أخرى، فسوف يستمرّ الصدام بين مخيالين قائمين على الكره والنبذ المتبادل منذ قرون عديدة.

هذه الأولويّة تشكّل خلفيّة مشروع محمد أركون النقدي وتلخص كما يقول في كتابه الجديد «الهوامل والشوامل حول الإسلام المعاصر»، دار الطليعة 2010، واحدة من أهم المعارك التي ابتدأ خوضها منذ زمن بعيد. ويذكر المؤلّف في المقدمة أنه شاء تغيير العنوان الفرنسي «ألف باء الإسلام من أجل الخروج من السياجات الدوغمائيّة المغلقة» بالنسبة للطبعة العربيّة لإعجابه بالكتاب الشهير للتوحيدي ومسكويه، الذي يحمل الاسم نفسه، وذلك لأنّ مفكري العصر الذهبي من عمر الحضارة العربية الإسلاميّة، كانوا جريئين جداً في طرح المشاكل الفكرية الكبرى من دينية وفلسفية. كتاب أركون هذا ما هو إلا مجموعة أجوبة مطوَّلة عن أسئلة طرحها عليه بعض الباحثين الفرنسيين حول الإسلام وقضاياه بعد الثورة الإسلاميّة وصعود الحركات الأصوليّة وضربة 11 أيلول.

وكما نعلم محمد أركون  يعد واحد من المفكرين المعاصرين الذين أخذوا على عاتقهم مهمة الفحص والبحث والنقد الجذري للتراث العربي الإسلامي، وهو يعتبر ذلك ضروريا للانطلاق نحو العصرنة والحداثة، إنه عند البعض امتداد لجهود الأفغاني ومحمد عبده وشكيب أرسلان وطه حسين حتى إن إحدى أطروحاته الجامعية عنونها بـ"الجانب الإصلاحي في أعمال المفكر العربي طه حسين" بل يعتبر وريث الفكر الاعتزالي وامتدادا له غير أنه قدم نقدا جذريا للفكر العربي الإسلامي لم يسبق لمفكر عربي وإسلامي أن اقتحمه.

وهنا يتساءل محمد أركون في كتابه حول الإسلام المعاصر فيقول : هل توجد كهنوتية في الإسلام (ص: 213). فيقرر أن الكهنوتية موجودة "بأشكال ومجريات شتى، في جميع الأديان التوحيدية بل والشركية المتعددة الآلهة [...] بمعنى أنه لا يخلو أي مجتمع بشري منها، فكل المجتمعات الإنسانية فيها كهنوت أو طبقة رجال دين وإن كانت تجلياتها تختلف من هذا المجتمع إلى ذاك أو من هذا الدين إلى ذاك" (ن. ص). لأنها "عبارة عن وظيفة ذات أبعاد أنتروبولوجية أي إنسانية في العموم المطلق" (ن. ص).

ويقارن بين الكهنوت في المسيحية والكهنوت في الإسلام، حيث يلعب الكاهن أو رجل الدين المسيحي دور الوسيط بين جمهور المؤمنين والإله. فالقداس المسيحي لا يقوم به سوى الكاهن المؤهل دينيا لهذا الغرض. وبهذا المعنى لا يوجد كهنوت في الإسلام. فمن الناحية المبدئية بإمكان أي مسلم الدخول في علاقة مباشرة مع الله من خلال تأديته الشعائر الدينية المقررة. (ص 213-214).

لكن هذا، كما يؤكد أركون، لا يعني انعدام وجود الكهنوت أو رجال الدين في الإسلام. فانتفاء وجود تنظيم هرمي تراتبي، مثلما هو الشأن في المسيحية، لا يعني أنه لا توجد سلطة لرجال الدين في الإسلام. "وينبغي العلم بهذا الصدد أنه في الإسلام الكلاسيكي كما في الأنظمة المعاصرة فإن رجال الدين المسلمين يلعبون نفس الدور الذي كان يلعبه كهنة الكنيسة المسيحية في فترة ما قبل الفصل بين الدين والدولة في الغرب" (ص: 215) ومن خلال ممارسات الدولة في العالم الإسلامي وسعيها لحيازة مظلة دينية تمنحها المشروعية بهذا الاعتبار انقسمت طبقة رجال الدين في كل البلدان العربية والإسلامية "إلى قسمين: قسم مع الدولة، وقسم ضدها" (ص: 216).

وفي كتاب "قراءات في القرآن " يخلص أركون إلى أن هذه الأسئلة “طرحت في الأوساط اليهودية والمسيحية بخصوص التوراة والعهد الجديد. حاول علماء لاهوت وفلاسفة مشاهير منذ بضع سنوات تجاوز الإشكالات الكلاسيكية، لكي يستطيعوا التحدث عن الله بما يتناسب مع فكرنا الحديث ومعارفنا المعاصرة، ولكن مثل هذا الجهد التجديدي الكبير لم يحدث حتى الآن في ساحة الفكر الإسلامي. مثلاً، لا نجد في الساحة الإسلامية شخصيات فكرية لاهوتية تعادل أندريه نيهير (André Neher) بالنسبة إلى الفكر اليهودي، أو جان دانييلو (Jean Danielou) وإيف كونغار (Yves Congar) وجاك ماريتان (Jacques Martain) وإيتيين جيلسون (Etienne Gilson)…إلخ بالنسبة إلى الفكر الكاثوليكي، أو كارل بارت (Karl Barth) ورودلف بولتمان (Rudolf Bultmann)  وأندريه دوما (André Dumas )…إلخ بالنسبة إلى الفكر البروتستانتي” (قراءات في القرآن، ص 80).

لقد سعى أركون في كتابه إلى تفكيك “الدوغمائية الحرفية” التي ينهض عليها الخطاب الإسلامي الحركي والفقهي، في إطار صراعه التاريخي مع العقل الكهنوتي المتأسلم، وذلك انطلاقاً من “التوتر الصراعي الكائن بين العلوم الدينية أو التقليدية من جهة، والعلوم الدخيلة (الأجنبية) من جهة أخرى. هنا يكمن جوهر المشكلة. هكذا نجد أنفسنا وقد رجعنا إلى التقلبات الأيديولوجية التي طرأت على مكانة العقل وأنماط العقلانية المتصارعة داخل السياقات الإسلامية وذلك بدءاً من القرن الثامن ميلادي” (المرجع نفسه، ص 35). ثمة خلاصة هامة تشكل أحد أبرز الخلاصات الأساسية في الكتاب، يفسر فيها أركون أسباب تراجع “العقل الفلسفي” في الحضارة العربية والإسلامية. يقول: ” بعد الحضور الهش والمقاومة المشرفة للعقل الفلسفي في الإسلام الكلاسيكي، فإن تيار العلوم الدينية والقرآن اللامخلوق هو الذي انتصر وهيمن على العالم الإسلامي منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا. بمعنى آخر: إن المعتزلة هزموا والفلاسفة هزموا ولم ينتصر إلاّ التيار الحنبلي – الأشعري. إذا لم نأخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار، فلن نفهم شيئاً من شيء ضمن ما يحدث اليوم. إذا لم نفهم الماضي بل الماضي البعيد، فلن نفهم الحاضر” (المرجع نفسه، ص 36).

وهنا يقدم أركون نموذجا للمفكر النزيه الباحث عن الحقيقة الملتزم بشعار التوحيدي "نازعت الحق بالحق للحق" وهو مثقف نقدي يبتعد عن مغازلة السلطة بل كان ينتقدها ولا يفكر البتة في الاقتراب منها والتربح من وراء ذلك والرغبة في الشهرة والاستعراض عبر المحطات الفضائية والسعي إلى الجوائز والتكريمات والوصولية والطمع في المناصب والمكاسب بل كان يفضح أشكال الاستغلال والتلاعب واستغلال الدين لأغراض سياسوية (الكهنوت السياسي والديني) مما جعله مثقفا متخوفا منه لا تحبذ أي سلطة عربية الاقتراب منه ناهيك عن مساومته واستغلال اسمه كماركة تجارية للترويج لسياستها في محاربة الظلامية أو التطرف كما تدعي وهي ذاتها سلطة تفتقر إلى المشروعية السياسية والشفافية والعدالة والديمقراطية ومبدأ التداول على السلطة، وهذه نقاط مضيئة في مسار الرجل يجدر التنويه بها فقد عهدنا مثقفين يقدمون أنفسهم على أنهم نقديون أو تنويريون يمينيون أو يساريون قوميون أو وطنيون إسلاميون أو علمانيون سرعان ما ينكشفون على حقيقتهم إذ هم سلطة تريد مغازلة سلطة والتماهي معها وطلاب سمعة ورواد تربح يزيدون الطين بلة والأزمة طولا وعمقا باعتبار المثقف النبراس الذي تنكشف به الدياجر فإذا كان مجرد سامري يموه ويضلل بالعجل الذي يحسبه الناس إلها سيزيد في تخلف المجتمع واستبداد السلطة وعطالة الأمة من أي فاعلية حضارية أو علمية أو فكرية وصناعية.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.....................

المراجع:

1- ريتا فرج: محمد أركون: زعزعة اليقينيات و”اللاّمفكر فيه” في الإسلام، الهدف، الأربعاء 12 يونيو 2019 | 08:21 ص

2-إبراهيم مشارة : محمد أركون سبق التجديد أم أصالة الاجترار؟، ميدل ايست أونلاين، السبت 2021/07/03

3-أركون: الهوامل والشوامل حول الإسلام المعاصر»، دار الطليعة 2010

لعل من الظواهر الإنسانية الثابتة، والتي تتطلب قراءة عميقة لمعرفة العوامل والأسباب المفضية إليها، والطرق المناسبة، لتجاوز التأثيرات السلبية والمدمرة لهذه الظاهرة، أو التقليل من حدوثها وبروزها في الفضاء الإنساني . هي ظاهرة الكراهية والعداء والعداوة بين بني الإنسان . حيث تشترك عوامل عدة، موضوعية وذاتية، داخلية وخارجية، في بروز حالة العداء والعداوة بين الإنسان وأخيه الإنسان .

وكثيرة هي الأحداث والتطورات السياسية والاجتماعية والثقافية في المجالين العربي والإسلامي، التي تؤكد على ضرورة الإسراع في نبذ التعصب والوقوف بحزم ضد ثقافة الكراهية والإقصاء والتهميش. لأن هذه الثقافة، هي بمثابة الحاضن الأكبر والأساسي للعديد من الأزمات التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم.

كما أنها تؤسس باستمرار إلى صراعات داخلية خطيرة، ولا يمكن حماية استقرارنا السياسي والاجتماعي اليوم، إلا بنبذ ثقافة الكراهية وتفكيك جذورها التي تغذي عمليات الإقصاء والتهميش ضد المغاير حتى ولو اشترك هذا الأخير معهم في الدين والوطن.

ونظرة واحدة إلى طبيعة الأحداث والتطورات الداخلية التي تجري في العديد من البلدان الإسلامية، يجعلنا نعتقد وبشكل جازم أن هذه الثقافة (ثقافة الكراهية والنبذ والإقصاء) بمتوالياتها وتأثيراتها الاجتماعية والسياسية والسلوكية، هي المسؤولة عن الكثير من الأزمات والمخاطر، وهي صانعة للعديد من التوترات والاحتقانات المجتمعية.

وإن الحاجة اليوم ماسة وضرورية، إذا أردنا الأمن والاستقرار وحماية المكتسبات، إلى تفكيك هذه الثقافة التي لا تتوانى في خلق التطرف والإرهاب والأزمات المتلاحقة على أكثر من صعيد.

فاليوم وعلى مستوى العالم الإسلامي بأسره، لا استقرار اجتماعي وسياسي واقتصادي، إلا برفض ثقافة الاستبداد والتعصب والتشدد والتباعد ومتوالياتهما ولوازمهما المختلفة.

وفي إطار العمل على نبذ ثقافة التعصب والكراهية من فضائنا الاجتماعي، من الضروري التأكيد على النقاط التالية:

1- كسر حاجز الجهل بالآخر.  ولعلنا لا نبالغ حين القول: أن الجهل بالآخر أو تصور الآخر عن بعد وبعيداً عن وسائل المعرفة الحقيقية والسليمة، هو أحد الحوامل الرئيسية لظاهرة التعصب والتشدد والكراهية في الفضاء الاجتماعي.

لذلك فإن الضرورة قائمة وبشكل ملح لكسر حاجز الجهل بالآخر على مختلف الصعد والمستويات. بحيث انه لا يعقل بأي شكل من الأشكال أن نكون جميعاً حبيسي تصورات مغلوطة وملتبسة عن بعضنا البعض.

فالاستقرار السياسي والتماسك الاجتماعي اليوم، يتطلب معرفة دقيقة وموضوعية بالآخر بعيداً عن حروب الأوراق الصفراء والمماحكات الأيدلوجية والمساجلات المذهبية، التي لا تلتزم بأدنى متطلبات الحوار والفهم المتبادل. إننا مطالبون ومن مواقعنا المختلفة، إلى كسر حاجز الجهل عن بعضنا البعض. لأن الكثير من التوترات وحالات الجفاء والتباعد، هي من جراء جهلنا ببعضنا البعض. ويتغذى هذا الجهل باستمرار بخطابات ديماغوجية لا تمتلك من هم إلا هم تأكيد هذه القطيعة، ومن أفق إلا أفق المساجلات الأيدلوجية والمذهبية العقيمة وهذا التباعد بين مكونات المجتمع والأزمة الواحدة.

ونحن هنا لا ندعو إلى إلغاء نقاط الاختلاف الطبيعية والموضوعية بين مختلف المكونات والتعبيرات. ولكننا ندعو إلى ضبط عناصر الاختلاف بالمزيد من المعرفة الموضوعية المتبادلة.

وذلك لأن الجهل المتبادل وصياغة تصورات ومواقف من الآخر بعيداً عن مقتضيات العدل والموضوعية، هو المسؤول إلى حد بعيد عن استمرار ثقافة النبذ المتبادل بين المختلفين في الدائرة الاجتماعية والوطنية الواحدة.

آن الأوان بالنسبة لنا جميعاً، ومن أجل مواجهة المخاطر والتحديات المشتركة وصيانة وحدتنا الوطنية وحماية مكتسباتنا الاجتماعية والسياسية للعمل من أجل كسر حاجز الجهل الذي يغذي باستمرار ثقافة الكراهية والتطرف ضد بعضنا البعض.

وبون شاسع على المستويات كافة، أن نختلف على قاعدة الجهل المتبادل مما يحول هذا الاختلاف إلى مصدر للتوتر الدائم في مختلف مجالات الحياة. أو نختلف على قاعدة المعرفة المتبادلة التي تقودنا إلى المزيد من الحوار والتلاقي والفهم والتفاهم، بعيداً عن لغة التشنج أو خطابات القطيعة والنبذ والإقصاء.

لذلك فإننا ندعو باستمرار، ومن أجل مواجهة ثقافة التطرف والكراهية، إلى تأسيس الأطر والهياكل والقيام بالمبادرات التي تكسر حواجز الجهل المتبادل، وتضيء مساحة المعرفة المتبادلة. لأن هذا هو خيارنا من أجل نبذ الإرهاب وتفكيك موجبات الكراهية من فضائنا الاجتماعي.

ولنتذكر باستمرار قول الباري عز وجل {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} . (سورة آل عمران، الآية  102- 104).

فالمعرفة المتبادلة وكسر حاجز الجهل تجاه بعضنا البعض، هو الذي يحول دون تحويل الاختلاف إلى عداوة، وتعدد الآراء والاجتهادات إلى ساحة للصراع والنزاعات المفتوحة، والتي لا رابح منها إلا أعداء الأمة وخصومها الحاضرين والتاريخيين.

ولابد أن ندرك جميعاً وعلى ضوء تحديات المرحلة وتطورات الراهن أن كسر حواجز الجهل وتعميق أسباب المعرفة المتبادلة والعميقة تجاه بعضنا البعض، هي من الضرورات القصوى التي تمكننا من سد بعض ثغراتنا، وتمتين أواصر العلاقات الداخلية.

فالمعرفة المتبادلة والموضوعية اليوم، هي شرط الوئام الاجتماعي، وتعزيز التفاهم والتلاقي، وسبيل تنمية المشتركات وتفعيلها.

والحوار والتفاهم والتلاقي مع الآخرين، لا يلغي ضرورات الاعتزاز بالذات، ولكنه اعتزاز لا يصل إلى مستوى العصبية المذمومة، أو يكرس نظرة شوفينية واستعلائية للذات ضد الآخرين . انه اعتزاز بالذات لا يلغي متطلبات الوحدة وشروطها النفسية والأخلاقية. لذلك جاء في الحديث الشريف (العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم).

2- إن الالتزام بالفكرة على أي نحو من الأنحاء، لا يشرع للتعصب لها، وإنما هو يدفعك ويحركك نحو التجسيد العملي لكل جوانب الفكرة ومجالاتها وآفاقها، والمغاير لنا في الالتزام والقناعات والمواقف، نعترف بوجوده، وننظم علاقاتنا معه، ونتحاور معه حول كل القضايا والأمور، من أجل أن تتراكم أسباب المعرفة، وتتوطد عوامل العلاقة. إذ قال تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} (سورة آل عمران، الآية 64).. وبهذه العقلية تتجذر مفاهيم حقوق الإنسان، وتتأكد قيم التسامح والتعاون والتضامن.

وفعالية الحوار تنبع من أنه يجعل كل الآراء والقناعات والمواقف في ساحة التداول لتقويمها وتمحيصها وتطويرها. ولا ريب أن لهذه العملية التداولية تأثيرات إيجابية على الصعيد المجتمعي، حيث أنها تحرك الراكد، وتسائل السائد، وتبحث في آفاق وفرص جديدة وممكنة.

والالتزام الواعي بالأفكار، لا يمنع نقدها، وإنما يؤسس ويحفز على ممارسة النقد البناء والمعرفة العميقة.

والنقد في هذا الإطار، لا يتجه إلى الدحض والنقض، وإنما لتوليد رؤى وأفكار وصيغ جديدة، تحرك الراكد وتستفز الساكن، وتدفع الجميع نحو المزيد من الحوار والتلاقي.

وهكذا لا يتحول النقد إلى ممارسة عشوائية، قوامها النقض والاستفزاز، وإنما هو عملية قصدية وواعية تتجه إلى اكتشاف مساحات جديدة للنظر والتفكير، وحقول مميزة للعمل والحركة، وآفاق راهنة للتطلع وبلورة الطموح.

3- تنمية القناعات والمساحات المشتركة: فالقرآن الحكيم يعلمنا أن الحوار يستهدف الانطلاق من القواسم المشتركة، ويسعى عبر آلياته وأطره إلى تنمية المساحات المشتركة والعمل على تفعيلها. وبالتالي فإنه حوار لا يستهدف الإفحام والقطعية وإنما التواصل والتعايش.

لذلك فإن الجهود الوطنية والاجتماعية، من الأهمية بمكان أن تتجه صوب تنمية المشتركات وضبط عناصر التمايز والاختلاف، والعمل على تفعيل تلك المشتركات، حتى تتوفر في الفضاء الاجتماعي حقائق ووقائع جديدة قوامها التواصل والتضامن والتعايش، وعلى ضوء هذا نصل إلى حقيقة أساسية وهي أن مجابهة ثقافة الكراهية في الفضاء الاجتماعي، تتطلب كسر حاجز الجهل المتبادل وتوسيع دوائر المعرفة المتبادلة، وإطلاق مشروعات ومبادرات للحوارات المستديمة التي لا تستهدف الإفحام والمماحكة، وإنما توفير مناخ إيجابي لتطوير العلاقات الداخلية في المجتمع الواحد، والعمل على تنمية المشتركات وتفعيل عناصرها.

وذلك من أجل أن نخلق حقائق مجتمعية مضادة للقطيعة ومحفزة على التفاهم والتلاقي على قاعدة تنظيم دوائر الاختلاف وتحفيز خيارات الوحدة والوئام الاجتماعي.

والاختلافات العقدية والفكرية والسياسية بين بني الإنسان، ليست مدعاة ومبرراً لانتهاك حقوقه أو التعدي على كرامته. بل هي مدعاة للحوار والتواصل وتنظيم الاختلافات وضبطها تحت سقف كرامة الإنسان وصون حقوقه.

ولقد آن الأوان بالنسبة لنا نحن العرب والمسلمين، إلى إعادة الاعتبار إلى الإنسان ومقاومة كل حالات التعدي على حقوقه ومكتسباته. فالاختلاف مهما كان شكله أو طبيعته، ليس مبرراً ومسوغاً لانتهاك حقوق الإنسان. فالخالق سبحانه وتعالى أكرم الإنسان، ودعانا وحثنا جميعاً وعبر نصوص قرآنية عديدة على احترام الإنسان بصرف النظر عن لونه أو عرقه أو فكره، وصيانة كرامته وحقوقه.

والحرية بوصفها مصدر المسؤولية، لا تفضي بالكائن البشري إلى اختيار الحق والعدل والخير بالضرورة. بل تجعل الاختيار مفتوحاً على جميع الاتجاهات والاحتمالات. لذلك كان التاريخ البشري حافلاً باختيار الظلم والشر إلى جانب العدل والخير، وكان الإنسان مسئولا عن ذلك كله. أما الكائنات الأخرى، فليست مسئولة عن ما يعرض لها أو بسببها لأنها ليست كائنات مختارة. فالباري عز وجل لم يخلق الإنسان خلقاً جامداً خاضعاً للقوانين الحتمية التي تتحكم به فتديره وتصوغه بطريقة مستقرة ثابتة، لا يملك فيها لنفسه أية فرصة للتغيير وللتبديل، بل خلقه متحركاً من مواقع الإرادة المتحركة التي تتنوع فيها الأفكار والمواقف والأفعال، مما يجعل حركة مصيره تابعة لحركة إرادته. فهو الذي يصنع تاريخه من خلال طبيعة قراره المنطلق من موقع إرادته الحرة، وهو الذي يملك تغيير واقعه من خلال تغييره للأفكار والمفاهيم والمشاعر التي تتحرك في واقعه الداخلي لتحرك الحياة من حوله. وهكذا أراد الله للإنسان أن يملك حريته، فيتحمل مسؤوليته من موقع الحرية. ويدفعه إلى أن يواجه عملية التغيير في الخارج بواسطة التغيير في الداخل، فهو الذي يستطيع أن يتحكم بالظروف المحيطة به، بقدر علاقتها به، وليس من الضروري أن تتحكم به. فالإنسان هو صانع الظروف، وليست الظروف هي التي تصنعه. وعليه فإن تطوير واقع الحرية في الحياة الإنسانية، يتوقف على الإرادة الإنسانية التي ينبغي أن تتبلور باتجاه الوعي بهذه القيمة الكبرى أولاً، ومن ثمَّ العمل على إزالة كل المعوقات والكوابح التي تحول دون الحرية. فالحرية في الواقع الإنساني لا توهب، وإنما هي نتاج كفاح إنساني متواصل ضد كل النزعات التي تعمل على إخضاع الإنسان وإرادته. سواء كانت هذه النزعات ذاتية مرتبطة بحياة الإنسان الداخلية، أو خارجية مرتبطة بطبيعة الخيارات السياسية والاقتصادية والثقافية، التي قد تساهم في إرجاء الحرية أو تعطيلها ووأد بذورها الأولية وموجباتها الأساسية.

وما دام الإنسان يعيش على ظهر هذه البسيطة، سيحتاج إلى الحرية التي تمنحه المعنى الحقيقي لوجوده. ولكي ينجز هذا المعنى، هو بحاجة إلى إرادة وكفاح إنساني لتذليل كل العقبات التي تحول دون ممارسة الحرية الإنسانية على قاعدة الفهم العميق لطبيعة عمل سنن الله سبحانه في الاجتماع الإنساني. ومن هنا ومن خلال هذه المعادلة التي تربط الوجود الإنساني برمته بالحرية والإرادة والمسؤولية، فإن الكدح الإنساني سيتواصل، والشوق الإنساني إلى الحرية والسعادة سيستمر، والإحباطات والنزعات المضادة ستبقى موجودة وتعمل في حياة الإنسان. لذلك فإن الوجود الإنساني هو عبارة عن معركة مفتوحة بين الخير الذي ينشد الحرية والسعادة والطمأنينة القلبية، والشر الذي لا سبيل لاستمراره إلا البطر والطغيان والاستئثار.

ولكي ينتصر الإنسان في معركته الوجودية، هو بحاجة إلى الإيمان والعلم والتقوى، حتى يتمكن من هزيمة نوازعه الشريرة وإجهاض وتهذيب نزعات البطر والطغيان.

ولا يخفى أن شعور الإنسان بالأمن والطمأنينة في الحياة هو الشرط الضروري لكي يقدم على العمل والإنتاج والتعمير في الأرض. ففي مناخ الأمن النفسي تنمو القدرات الذهنية وتتجه نحو الإبداع، وتنشيط القدرات الإنجازية وتتضاعف فعاليتها ويزكو إنتاجها. فإنسانية الإنسان في جوهرها وعمقها مرهونة بحرية الإنسان. إذ أن الحرية هي شرط إنسانية الإنسان. وحينما يفقد هذا الشرط، يفقد الإنسان مضمونه وجوهره الحقيقي. لذلك فإننا نرى أن احترام آدمية الإنسان، ومجابهة أي محاولة تستهدف انتهاك حقوقه الأساسية، هي الخطوة الأولى في مشروع تحقيق إنسانية الإنسان. فالإنسان بكرامته وحرماته وحقوقه، هو حجر الأساس في أي مشروع تنموي أو تقدمي. لذلك فنحن بحاجة دائماً إلى رفع شعار ومشروع صيانة حقوق الإنسان وكرامته بصرف النظر عن عرقه أو لونه أو قوميته أو أيدلوجيته.

– انتهى –

***

محمد محفوظ

منذ الأزل لاندري كيف خُلق الكون بسمائه وأرضه، ومن خلقهُ، وبأي طريقة خُلق؟ وكيف ظهرت الأديان بشرائعها المتعددة والمختلفة محتوىً وتنفيذاً، كلها مجرد نظريات وهمية ليس لها في التاريخ من أصل، زمن طويل مضى حتى توالت نظريات الخلق، حين بدا العقل الانساني يقترب من ربط الظواهرنتيجة التطور الأجتماعي. وبمجرد ان اصبح العقل يُميز بين الحقيقة والوهَم، خطى الأنسان الخطوة الاولى في طريق الحضارة، من هنا بدأ يفكر ان هناك قوىً خفية تديرالكون، فمن هي هذه القوى ؟ فظلت الحَيرة تلازمه طويلاً، ؟

ومن أجل ان يتعرف عليها ليتخلص من الأخر المجهول، الجهل وفقدان القانون، هداه عقله الى ان هناك في السماء الاعلى يجلس عرش آلهي يُنظر اليه بقدسية الخالق العظيم، وان هناك معاييرقانونية صارمة وثابتة في الطبيعة تديرهذا الكون الكبير.

 بمرور الزمن ظهرت دعوات الاصلاح يقودها دعاة للناس سموهم بالمصلحين، منهم من حمل رسالة، ومنهم من جاء ناصحاً للعالمين، يخبرنا التاريخ كانوا 24 مصلحاً سموهم بالانبياء والرسل.

أخر الانبياء الثلاثة، هم موسى وعيسى ومحمد، كانت معهم كتب ورسالات مكلفين من خالقهم العظيم بنشر الفضيلة واحلا ل العدالة والسلام بين البشر، وحوت رسالاتهم اخبار السالفين والحاضرين وتنبأت بالقادمين، سميت "بالتوراة والانجيل والقرآ ن"، مصدرها واحد، اذن علامَ الاختلاف في العقيدة والمفاهيم.

ورسالة محمد (ص) تقول :"أنا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون، الحجر 9." وسُميت بالكتاب ايضاً، جاءت بتفصيلات عن كل ما غمض من مراسيم الحياة في العالمين، جزل اللفظ صعب المعنى حتى ان محمداً النبي لم يقم بتأويله حفاظا ً على حتمية النظرية التاريخية في التغيير، ليبقى القانون متغيراً تلبية لحاجات البشرأجمعين، وطلب منه الخالق العظيم ان يقرأ كتب الانبياء السابقين ليلمَ بكل مفاهيم الأله العظيم : "ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل، آل عمران 48".فدينه الانساني اخر الاديان لقوله تعالى."اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ألمائدة 3" فلم يعد الدين لنبي او وصي بل رسالة عدالة لمجتمع عاش في الوهم.

.من هنا ختمت رسالات السماء، نستطيع ان نتفق على ان نظرية الخلق جاءت تمييزا من حسابات الخالق العظيم الذي هو "الله" لهداية البشرية وحفظ القوانين التي ليس لأحد حق أختراقها، لأنها تمثل الحق المطلق والتي دونها في الوصايا العشر"اعدلوا ولو كان ذا قربى ". لكن التاريخ يقول لنا ان الانسان خلق جحودا ولم يلتزم بمنحة السماء حتى كان ظلوماً،

لكن التسمية لم تكن جديدة على الحضارات القديمة، العراقية والمصرية والزرادشتية وغيرها كثير.

ومع الاقرار بالتسمية الحضارية القديمة، لكن العدالة بين البشر ظلت مجرد قوانين لم تطبق من قبل السلطة تطبيقا عمليا الا في جزئياتها قبل رسالات السماء، لذا ظل الانسان لفترة طويلة يجهل العدل والقانون ولا زال لأنانيته المطلقة في نفسه بعد ان سيطرت الغريزة على العقل، فكانت الحروب والاعتداءات والظلم والقهر للأخرين، وحتى لا يصبح الدين اداة من ادواة الفُرقة والتدمير كما هو اليوم مطبقاً خطئاً دون اعتراض من مرجعيات الدين المعتمدين، هذا كافر، وذاك مؤمن، ولاندري، وهذا شيعي، وذاك سني، وعشرات مذاهب التزييف دون معايير الخلق في التطبيق؟ اذن لماذاجاءت الاديان موحدة دون تفريق؟

المصريون والعراقيون هم اول من اخبرونا بنظرية آلهة الدين قبل القرآن الكريم.وهما البلدان الوحيدان اللذان جاء ذكرهما في القرآن، مصرذكرت أربع مرات، البقرة 61، يونس87، يوسف 99، الزخرف 51، والعراق ذكرت بابل فيه مرة واحدة، البقرة 102، فهل لذكرهما علاقة بالايمان بعقيدة الدين ؟ أمر بحاجة الى مناقشة النص تأويلاً لا تفسيرا، لكن من يحاور او يناقش مرجعيات صامتة صمت القبور، لا همَ لها الا فتاوى التخريف،

نحن العراقيون ملكنا آلهة ودين وشريعة منذ عهد السومرين، آور نمو صاحب شريعة السومرين وحمورابي صاحب شريعة البابليين، وملكنا شريعة الابراهيميين التي خلفت لنا حضارة الزقورات، فقلنا ان هناك دينا واحدا عند الله هو الاسلام كما جاء في القرآن "هو سماكم المسلمين من قبل، الحج78، ".المصريون القدماء جاؤا بلا شريعة، لكنه شريعة الآلهة الفرعونية عندهم بقيت من العقائد القوية لسيادة قوة القانون، حتى تحولت الى عبادة دين الألتزام مع فقدان العدالة عند الفرعونيين لتطبيقهم دكتاتورية السلطة دون حدود، ومع هذا خلفت لنا حضارة ا لأهرامات التي لازال العلم الحديث يتابع فيها حقيقة البناء والتحقيق.

من هنا نقول : ان ديناً واحداً عند الخالق العظيم سماهُ الاسلام ( الدين عند الله الاسلام) الذي يشمل كل الديانات)، بدأ بنوح (ع) وتنامى متطورا ًمتراكماًعلى يد النذر والنبوات والرسالات، الى ان أختتم بالرسول الاعظم محمد (ص) (أنا أوحينا اليك كما اوحينا الى نوح والنبيين من بعده، النساء 163). وهو دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها، الروم 30)، وهي منظومة القيم والمُثل العليا، وهو العروة الوثقى، وهو السراط المستقيم ( وان هذا صراطي مستقيماً فلا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله الانعام 153)، فاين من اتباعه الذين يلتزمون اليوم وهو "الذي خلق الانسان من نفسٍ واحدةٍ، النساء 1" ولازال بحضارته الحالية المتقدمة قاصرا عن التحقيق لقوانين الدين، فالقدرة الآلهية أقوى وأعدل من كل القوانين.

 فلا رجال دين يحكمون، ولامذاهب تفرق بين الناس في الحقوق، فلماذ أ التحكم بالناس باسم الدين ورجاله بمذاهبٍ مُخترعين.هل جاء في الدين اسلام شيعي واخر سني وما يتبعهم بالعشرات من المذاهب الفارغة بين المسلمين، يلهثون وراء زيارات وادعية الصالحين يرجون شفاعة او مغفرة من المؤتمنين، ومن قال لك انهم الشفعاء عند الخالق العظيم، بينما الشفاعة تحددت بالوصايا الآلهية وتطبيقها ولا حاجة للدعاء والتشبث بالصالحين التي أنكرها الانسان قصدا، فلا حوائج منهم تأتي الا بعدالة القانون ؟ اذن كذب المنجمون واوهمتنا مرجعيات الدين بالوهم الذي به يقصدون، فديننا اليوم هو غير دين محمد (ص) الأمين، اذا أعترفنا وطبقنا ما جاء في النص المكين سنخرج من عنق الزجاجة الضيق الى الفضاء الكبير، الذي تخلفنا فيه كثير،

ولكي يفرق الانسان بأعتقادية الدين من عدمه، نتيجة غريزته المتغلبة على العقل، لذا بقيت حالات الاجرام والعدوان على الناس والاموال والاعراض والفساد والخيانة والهبوط بالانسان الى مستويات الاباحية والفوضى الخلقية وفي ارقي المجتمعات والى اليوم دليل، هنا لا بد من تسخير القانون الديني للتحضُر والحقوق وليس لعداواة الاخرين، كما في الحضارات القديمة والمجتمعات الحالية والى اليوم، رغم ان الاديان جاءت بالحقوق والواجبات بين الناس بالزامية التطبيق، فكانت الكتب والفرائض والمواعظ كل له دوره في التثبيت، ولكن ليس كما نزلت في كتب الخالق العظيم، فقد أخترقت، ورجل الدين كان وما زال أول المخترقين.أقرأ بنفسك ولا تصدق كتب التفسير المتعددة والمختلفة الناقصة التأويل،

جاءت فيها الفريضة بمعنى العطاء،، والموعظة، جاءت بمعنى التخويف والانذار والتنبيه، اما الحكمة فهي التبصر في الامور، وهي التذكير بالخير وقول الحق: "أدعُ الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، .النحل 125".لذا فالموعظة جاءت شمولية لحلول كثيرة.، وهناك الوصية الملزمة لقول الحق :"كتب عليكم اذا حضر احدكم الموت ان ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين البقرة 180".التي كانت حلا واضحا وعادلا لما ترتب عليها فهم جديد لقوانين الارث وأنصبته العديدة.فهل فهم المسلمون ما أنزل عليهم أمرأ وتطبيقاً، أم أتخذوه قراءةً وتجويداً، فأين التطبيق، في حقوق المرأة اليوم، وهل يقبل الخالق ان تُظلم المرأة وتستباح كرامتها وهو الذي خلقها من نفسٍ واحدة، ؟,هم يقولون عنها اذا مرت من امام المصلي تفسد صلاته، ياليتهم يعقلون.

أما العلاقة بين الله والناس فقد كانت ولازالت علاقة عبادية حرة، وليست علاقة عبودية أستبدادية مقيدة بأراء مؤسسة الدين، لان العبادات تتجلى في كل حقول الحياة. ولا زالت الدراسات الفقهية بعيدة عن اعطاء الحلول الواضحة او التفسير العلمي لحالات الرق والعبودية وملك اليمين والاكراه في الدين (لا أكراه في الدين )والمتهم فيها المسلمون بخرق حقوق الانسان، دون تبرير شرعي لها من الفقهاء سوى التحجج بقدسية النص والقبول به وعدم أختراقه، وهذا غير كافٍ للحجة والاقناع، فالحجة بالدليل. وانا اعتقد ان ليس لديهم ما يقدمونه من حجج ودليل ثبت للاخرين لقصر فهمهم وادراكهم للنص الديني المقدس، وهم يمنونا بالغزوات ونشر الاسلام وهي ليست فتوحات شرعية "فلا أكراه في الدين"وما حصلوا فيها من مغانم لا شرعية كالمال والجنس وما ملكت ايمانهم حتى اغرتهم وابعدتهم عن تطبيق النص وهذه منقصة شرعية يجب الاعتراف بها اليوم أمام العالمين.فنحن لا زلنا من المدانين.

من هذا المنطلق ندعو الى تعريف الكفر والشرك والاجرام والالحاد بعلمية النص لتخليص الناس من اتهامات الباطلين من المفسرين، فلا زالت الاصطلاحات مبهمة لم تُعرف سوى تعريفاً لغويا أحاديا وترادفياً، لعدم قدرة الفقهاء على اعطاء الصحيح، فالاسلام توحيد ومثل أنسانية عليا غير قابل للتسييس، وان محاولة البعض تسييس الاسلام، والبعض الاخر أسلمة السياسة، اضاعوا السياسة والاسلام معاً، لذا لا يمكن لمجتمع ان يتقدم وتقر فيه القوانين الا بفصل الدين عن السياسة حتى لا يكون تفسير النص المختلف وسيلة لتدمير عدالة القانون،

وحين نزلت شرائع السماء التي بدأت بنوح كانت شرائع لتنظيم حياة البشر وتحقيق الحقوق والواجبات بينهم، يقول الحق: (انا ارسلنا نوحاً الى قومه ان أنذر قومك قبل ان ياتيهم عذاب اليم، نوح 1) والانذار هنا الارشاد والتوعية، والعذاب الاليم العقاب نتيجة ممارسة الخطأ.لكن دعاء نوح لم يزدهم الا اصرارا على الخطأ والاعوجاج لعدم تمكنهم من استيعاب حركة الاصلاح والتغييرلجهلهم بمفاهيم الحياة والقيم العليا وتغير الظروف، حتى قال نوح على لسان خالقه: (فلم يزدهم دعائي الا فرارا، نوح6)، ورفض القرآن طلب نوح بأنقاذ أبنه من الغرق لأنه كان فاسدا، فالفساد جريمة بنظر الدين، من هنا تجلت قدرة الأية الكريمة "أعدلوا ولو كان ذا قربى. وطلب ابراهيم من الله ذبح ابنه أسماعيل فدية لله، لكنه لم يستطع بعد ان ردته السماء بقولها"أفعل بما تؤمر" وليس من حقك التصرف بالانسان، فكان الكبش هو البديل، من ساعتها انتهت التضحية في البشر كما كانت عادة عند المصريين ليقدمون فتاة جميلة كل سنة هدية للنيل. هكذا حمل النص المقدس للبشرية مجموعة القيم الانسانية التي تولدت منها قوانين البشرالصالحة للتطبيق وليس لمذهبية التفريق، فأين التطبيق في دول المسلمين ؟.

اذن لافرق بين الاديان كلها مادام القرآن يعترف بها، فالعامل الزمني لا يجسد التفريق، اما اركان الاسلام، فهي التوحيد والتصديق برسالة محمد والاخلاق والمساواة والوفاء بالعهود والقسم والشورى والجهاد في سبيل تحقيق مفاهيم العدالة ومحاربة الفساد والقدرة على الاستطاعة ورفض الغيبيات (لا يعلم الغيب الا الله)، "لو كنت أعلم الغيب لأستكثرت من الخير وما مسني السوء، الأعراف 188".، لذا حين حصروها بخمسة اركان (الشهادة والصلاة والصيام والحج اماتوا ما جاء فيها من تطبيق ليسود الحاكم ورجل الدين ومن هنا بدا الاستغلال بالقانون الديني العظيم من قبلهم حتى جعلوه سرابا لا يفهم منه الا الحدس والتخمين وما هم فيه راغبون.

.كلها قوانين ربانية لم يحسن الفقهاء شرحها للناس وفرز ما هو واجب ملزم وما هو حث على التنفيذ، فالقرآن يحوي الايات الحدية واجبة التنفيذ، والأيات الحدودية التي جاءت للعضة والاعتبار، فأضاعوا القيم الالهية بعد ان دمجوا الغث بالسمين من اجل مصلحة الحاكم ومصالحهم حين كونوا لانفسهم هالة دينية مقدسة لا تُخترق، والقرأن يرفض التقديس، (البقرة 174 ). وهي في الاصل تجاوز على التشريع.حتى قال المنصور العباسي :"انما انا سلطان الله في أرضه"تحديا للخالق العظيم، لكن الأكثر ايغالا في التخريب ان حولوا المنهج المدرسي الى وَهَم التخريف.فأصبح من الصعب نزع الفكر الخاطىء من رؤؤس القارئين،

اين كتابنا الذين يكتبون ومثقفينا الذي يفلسفون ومراكزنا البحثية الفاضية يهرجون، فماذا انتفعنا من الازهر الشريف، وجامعة الزيتونة، ومرجعية النجف، وقم، ؟غير الاختلافات والتفريق والتفاسير القرآنية التي تشعرك وكأنك تملك قرآئين لا قرآن واحد منزل من رب العالمين، هنا سر التخلف والانغلاقية والجمود في مجتمعاتنا العربية والانسانية الذين انتجوا لنا دساتير الأجبار والفُرقة والحلال والحرام واللامعقول، كتحريم التبني وتحليل مُلك اليمين، ونتحداهم ان جاؤا بحجة التحقيق.

واخيرا نقول ان الاسلام دين عالمي انساني لجميع البشر وليس خاصا باحد ٍ اضيفت اليه اضافات فقهية مسخت الكثير من مثله العليا مثل احتقار المرأة وما ملكت يمينك وتحويلها الى سلعة وهدر حقوقها. اما رفض المثل العليا وعم تطبيقها بالحق والعدل تطبق عليه الاية (ومن يرد ان يضله يجعل صدره ضيقاً حرجا كانما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون الانعام 125).وهنا منتهى حرية الرأي والعمل دون أكراه لكن اكثرهم لا يفقهون.

نحن بحاجة ماسة الى تصحيح المفاهيم وخاصة ما يتعلق بالعقيدة ونزعها من المحتكرين الذين اماتوا عقولنا وافكارنا وجعلوها مقفلة لا ترى النور، ومن يقرأ ويتمعن يرى ان لادولة اسلامية ولا دولة علمانية، ولا حزب اسلامي،، بل دولة الحق والقانون. وهذا هو الاسلام الذي جاء به محمد (ص) ولا من مجيب، يقول الحق :"ان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون، الانبياء 92".وأقره في دستوره العتيد المغيب اليوم عمداً، ونحن ندعوا للكشف عنه وهم الذين يستميتون من اجل عدم تطبيقه أو أظهاره للناس أجمعين، لانه بأظهاره هم ينتهون، فهل من حاكم عربي مسلم يتبنى نظرية الاسلام الصحيح لينقذه من برائن الطارئين، لمَ لا تكون لنا سابقة المجددين المصلحين، ام نبقى نتمشدق بما قاله السابقون من فقهاء التخريب كنقلة الحديث المزيف وتفسير النص بالترادف اللغوي وبلا حجة التثبيت، وندعي نحن المؤمنون؟

نحن مدعوون وملزمون الى وضع منهج جديد في أصول التشريع الديني القائم على البينات المادية واجماع أكثرية الناس، وان حرية التعبير عن الراي وحرية الاختيار، هما أساس الحياة الانسانية في الاسلام. وهذا ليست مِنَة من أحد، بل واجب مقدس ملزم بحدود ايات الكتب المقدسة الحدية ملزمة التنفيذ. يقول الحق: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، الفتح 28). والعاقبة للمتقين.

فلا مسلم ولا مسيحي ولا يهودي ولا غيرهم، بل الكل مؤمنين ومسلمين بموجب النص المكين، "المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات اعد الله لهم مغفرة ًواجراً عظيماً، الاحزاب 35"والنص الذي يقول :" ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عندربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، البقرة 62".

احترموا الحقيقة او بعضها، ولا تسمعوا من يفسرون النص المقدس تفسيرا ترادفياً من اصحاب مؤسسات الدين وهم يسرقون الناس بالقانون، الاسلام دين ثقافة يعطي لحياة الفرد والمجتمع خلاصة التجارب بعد كل الاديان الوضعية والسماوية للسابقين، لتطبق بحقهِ الوصايا العشردون تفريق، الاستقامة والعدل، كفاية يا رجال السلطة والدين فقد تأخرنا كثيرا، لا بل ضعنا بين الامم وأصبحنا في أخر الركب من المتخلين، أفصلوا الدين عن السياسة، حماية للدين من مفاسد السلطة والسياسة معاً،

***

د.عبد الجبار العبيدي

تفرض المحنةُ الكارثية السُّؤال: هل قادة الدول يحسبون حساب الكوارث الكبرى، وينظرون في تفاقم النزاعات، والتّربص لتغيير الأنظمة، بدوافع عقائديَّة، وتصدير الأزمات، والحاجة إلى التَّضامن؟! بدا ذلك جلياً في الوباء العالميّ(2020)، ظهرت دول عديدة منزوعة القُدرات، بينما قدراتها هائلة في زلزال عدم الاستقرار لغيرها.

تحتاج الفاجعة العظمى (6 فبراير2023)، بتركيا وسوريا، إلى التَّفكير بمصائر النَّاس، قبل الجموح بتصدير العقائد واستدامة الخلاف، وتسليم الشُّعوب للهاوية، فلا بلداً معتوقاً مِن الكوارث العِظام ولايحتاج التَّعاضد، وهذا قد يعيقه التَّغالب ومحاولات بسط النفوذ بالدسائس. لقد سُمعت المناجاة، واستعر الجدل، عندما زلزلت الأرضُ زلزالها فجراً، ولا مقياساً لهلع مَن استيقض ووجد نفسه بين الأحجار.

مَن جعل الزَّلازل غضباً إلهياً، فقيل سببها عدم مناصرة «طالبان في تحطيمهم لأصنام بُوذا» (الحِمَيد، التَّفكر والاعتبار). آخر فسرها غضباً لعدم الرَّد على حرق القرآن بالسُّويد (بيان الصَّدر)، ومَن اعتبر معاصي حفلات الموسيقى والغناء سبباً (تغريدة مطلق الجاسر). نلاحظ أنَّ الصَّحويين يستغلون الآلام لإظهار نوازعهم، تاركين ما خلق الله في العقل.

نجد في تاريخ الفكر، الدينيّ والعقليّ- نتحدث عن تاريخ الإسلام- ودخلت الزَّلازل في الجدل لأثرها المدمر. كانت عصارة الفكرة الدّينيَّة: «وَلما كَانَت الرِّيَاح تجول فِيهَا وَتدْخل فِي تجاويفها، وتحدث فِيهَا الأبخرة، وتخفق الرِّيَاح ويتعذر عَلَيْهَا المنفذ، أذن الله سُبْحَانَهُ لَهَا فِي الأحيان بالتنفس فَتحدث فِيهَا الزَّلازل الْعِظَام فَيحدث من ذَلِك لِعِبَادِهِ الْخَوْف والخشية، والانابة والإقلاع عَن مَعَاصيه»(ابن القيم، مفتاح دار السَّعادة).

أمَّا الفكرة العقليَّة فمفادها: «أمَّا الكهوف والمغارات والأهويَّة، التي في جوف الأرض والجبال، إذ لم يكن لها منافذ تخرج منها المياه، بقيت تلك المياه محبوسة زماناً، وإذا حمى باطن الأرض وجوف تلك الجبال، سخنت تلك المياه ولُطفت وتحللَّت وصارت بخاراً... انشقت الأرض في موضع منها، وخرجت تلك الرِّياح مفاجأةً، وانخسف مكانها، ويُسمع لها دويُّ وهدةٍ وزلزلةٍ، وإن لم تجد لها مخرجاً، بقيت محتبسةً، وتدوم تلك الزَّلزلة»(إخوان الصَّفا، الرِّسالة الخامسة مِن الجمسيات الطَّبيعيات). إذا اعتبر الفريق الدِّينيّ أن سبب الكوارث المعاصي، «نسبت الفلاسفة والحكماء هذه المصنوعات إلى القوى الطّبيعية»(إخوان الصَّفا، الرِّسالة السَّابعة).

يبدو الفيلسوف الكندي(تـ: 260هج) صاحب السّبق، بدلالة رسالته المفقودة «في عِلم حدوث الرِّياح في باطن الأرض المحدثة كثير الزَّلازل والخسوف»(النَّديم، الفهرست). توجد رسائل كثيرة في التراث بشأن الزَّلازل، لا يسع المجال ذِكرها، أطرفها عنواناً «قلائد العقائل في ذِكر ما ورد مِن الزَّلازل»، و«كشف الصَّلصلة عن وصف الزَّلزلة». أمَّا «الإنذار بحدوث الزَّلازل» لابن عساكر(تـ: 571هج)، لم نعثر عليه، لا تظنوه دراسة في قشرة الأرض وتوقع الزَّلزلة!

أفظع الزَّلازل ما حدث (369هج) «حتَّى ظن النَّاس إنها القيامة قد قامت»(الدَّواداريّ، كنز الدُّرر). هذا، ولا ندري لماذا كنى حذاء نفسه بأبي الزَّلازل، وآخر عُرف بابن أبي الزَّلازل، وأن مغنياً بغدادياً عباسياً سُمّى زلزلاً، وقائمة المتسمين بالزَّلازال، والزَّلزلة تطول.

إنْ نسيت مِن أمرٍ فإني ذاكرٌ جهدَ الأكاديميّ عبد الله يوسف غُنيم في شأن الزَّلازل، وكتابه الجامع المانع، دفعه لتاليفه زلزال اليمن الشَّماليّ(1982) «سِجل الزَّلازل العربيّ.. أحداث الزَّلازل وآثارها في المصادر العربيَّة»(الجمعية الجغرافيَّة الكويتيَّة 2002).

استوحيت عنوان المقال مِن محمَّد مهدي الجواهريّ(تـ: 1997)، وهو ينحت مِن غضب الطبيعة رائعته، مثلما كان فجر السَّادس من فبراير(شباط) الجاري: «ما لهذي الطبيعةِ البكرِ غَضْبَى/أَلها أنْ تثورَ نَذرٌ يُوفّى/ أَبْرَقَتْ ثم أَرْعدت ثم أَلقت/ حِمْلَها تُوسِعُ البسيطةَ قَصْفا/زَحَمَتْ كلَّ ثَغْرةٍ واستباحتْ/ شُرُفات البُيوت صفّاً فصفّا»(الدِّيوان، يومان في فارنا 1973). نعم استباح زلزال(2023) المنازل صفاً صفاً، والضَّحايا تجاوزوا حتى السّاعة(33) ألف ضحية.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

15 فبراير 2023

مادتي هذه عن اقتصاديات الزراعة الوطنية. الفلاح ومهنة الفلاحة وارتباطها باقتصاد الوطني للدول من الامور المهمة. سالني استاذي رحمه الله، المشرف على اطروحتى للدكتوراه عن سبب استمرار انتاج الفلاح للمحاصيل رغم ان كلفة الانتاج أغلى بكثير من المحاصيل المستوردة.

 في واقع الامر هناك اسباب عدده لاستمراره في الفلاحة والانتاج الزراعي. قد يكون الفلاح اميا ولا يوجد لديه اي مؤهلات في اختيار مهنة اخرى. وربما هو مجبر على الاستمرار بارتباطه بعقد ما او يعمل اجيرا عند اقطاعي (الأغا) يملك الارض. وربما هي المهنة الوحيده التي يجيدها. او يجب عليه اطعام افواه من ابناء عائلته يكفيه وعليه ان ينتج ما يشبع بطنة وبطن عياله. طبعا هناك عشرات الاسباب والاسباب لاستمراره في عمله وكل تلك الاجابات صحيحة على المستوى الشخصي. لكننا هنا نتحث عن وجود محاصيل منافسه استوردت من خارج الحدود. اذن يجب ان نفكر في مسار جديد. ماذا يعني وجود محاصيل رخيصة في الاسواق تنافس المحلي، الوطني. هل تكلفة انتاج المحصول الاجنبي اقل من المحلي. كلا بالتاكيد.. ما تسمى بسياسة الهيمنة الاقتصادية على الدول (استعمار اقتصادي) يشمل استراتيجية بعيدة المدى لتلك الدول للهيمنة على مقدرات الشعوب واستبعادها. قد تكون تلك سياسة مكلفة لهم ولكن ارباحها المستقبلية هائلة ومن كافة النواحي السياسية، الاقتصادية والبيئية.

الفلاحة هي اولى المهن العقلية اي يحتاج الى معرفة بالفصول، تخطيط واستمرارية التنفيذ. من حيث حراثة الحقل وتحضير الارض وربما تسميده ووقلع الشوائب والاعشاب المضرة. وهذا يحتاج الى جهد كبير وزمن والالات ومعدات. يحتاج كذلك الى البذور ونشرها في الحقول ثم سقيها بالماء. السقي يحتاج الى الماء والى نظام اروائي وقنوات تصريف ومبازل وربما الى انشاء سدود لخزن مياه المطر. الغلة تحتاج الى العناية بها في سايلوات انتظارا لتسويق المنتوج ومن ثم على الفلاح جني المحصول وخزنه او تسويقه. يصل المحصول الى (العلوة) سوق الجملة في هذا المكان يتجمع فيه التجار الصغار ليشتروا المحاصيل ثم يبيعونها للمستهلك. اي ان عملية الزراعة تاخذ وقتا وجهدا. بينما استيرادها تختصر العملية بالكامل وربما نحتاج الى العلوة وبائع الخضروات، فقط. لان تكلفة تأمين ايصال الغلة والمحصول تكون احيانا على البائع وحسب العقد المبرم، أحيانا.

الفلاحة قارئي الكريم، مهنة مقدسة رغم ان ابناء الحضارات العراقية القديمة كانوا يرون في مهنة الصيد شرفا ورفعة وفخرا لهم وبقى ذلك تراث لشعوب العراق لحد يومنا هذا.

4850 التفاح والكمثرى

حيث يحتقر ابناء الريف المهنة بصورة عامة ويمجدون الصيد. لن ادخل في تفاصيل الصراع التاريخي بين الفلاح والصياد او الراعي ، هابيل وقابيل وقبول الالهة لضحية احد الطرفين على الاخر مما ادى الى صراعهم المميت. الاكل يدخل ضمن الغرائز الانسانية وعلينا يجب ان ناكل خلال اليوم عدد من المرات. اما الصيد فهو يعتمد على حنكة الصياد وملائمة المكان والزمان مع وجود الضحية واحيانا يلعب الحظ دوره. الضحية قد يكون حيوانا بريا او من صيدا بحريا او نهريا. وهي اي الصيد مهنة الكسالى اللذين يريدون الضفر بالضحية بسرعة ودون جهد او انتظار. بينما على الفلاح ان يصبر عاما بعد عام واذا حل الجفاف جاء عليه بالمصائب. احيانا. هناك ايضا مهنة الراعي لكن دور الراعي هو حماية القطيع وتوجيهه الى اماكن وجود العشب والكلئ وبحماية القطيع من هجوم الوحوش. الفلاح يبقى هو من الاختيار الصعب كمهنة ويتركها المرء فور وجود البدائل. اما الصيد فقد تحول من مهنة الى مجرد هواية. ما اريد قوله ها هنا بان الفلاح العراقي ترك ارضه فور ما وجد البديل. وهذا حصل كذلك في الاقليم. حين غزت الاسواق المحاصيل المستوردة من ايران وتركيا وسوريا والرخيصة مقارنة باسعار المنتوج المحلي.

اعود الى جواب السؤال المطروح في البداية هذه المادة.

كل ما ورد من اجوبة على ألسؤال اعلاه صحيحة كما ذكرت. الا ان للدول اقتصاد وطني يساند استقلاليتهم كدولة حرة ذو سيادة ومستقلة. اي ان من مقتضيات الاقتصاد الوطني واستقلالية قرار البلاد استمرار الفلاح بالعمل والانتاج حتى لو كانت كلفة الانتاج باهضة. ان استمرار الفلاح في الانتاج حتى لو كان كلفة المحصول غاليا من مقتضات استقلالية الاقتصاد الوطني. ولذا على الدولة مؤازرة الفلاح ومساعدته ماديا عن طريق الموافقة على اعطاء قروض مناسبة بواسطة البنك الزراعي وعن طريق شراء محصوله او تزويده بالسماد والالات الزراعية، كذلك. اما المواطن فيقع عليه تشجيع المنتوج الوطني رغم كونه غاليا. وبترك وهجر شراء المستورد منه. وبذلك سنرى بمرور الزمن اختفاءه المحاصيل الاجنبية من الاسواق المحلية وانخفاضا في اسعار المنتوج المحلي. لانه وكما نعلم من طبيعة الخضروات والفواكة انها طازجة اي انها تتعفن مع مرور الزمن وبسرعة وليس قابلا للخزن لمدة طويلة. هذا ما لمسته في السويد فالموطن السويدي يدفع اصعافا ثمن المنتوج المحلي من لحوم وفواكه وخضراوت. وسالون دوما عن مصدر الفواكه ويجب كتابة مصدر الفاكهة والخضراوات على جميع المواد المعلبة.

 احدهم سيجيب قائلا:

 هناك خلط بين التفاح والكمثري، كما يقولون في السويد. وهذا لا يجوز لانه تخرج من التفاحة غازا يؤدي الى تعفن فاكهة الكمثري.

وهذا هو مربط الحديث (الحچي).

*** 

د. توفيق التونجي

في المثقف اليوم