قضايا

الاحتراق النفسي مفهوم في الصحة النفسية يشير الى حالة من التعب والاحباط وهبوط الأداء الوظيفي ناجمة عن ضغط الجهد النفسي في العمل، أو من جراء التكريس لقضية معينة او لطريقة معينة في الحياة او لعلاقة معينة ولكنها تفشل في انتاج الغاية المطلوبة. ولقد زاد الاهتمام به بعد ان اصبح ظاهرة مؤسساتية أصابت عددا من العاملين في المؤسسات الصحية والتربوية والاجتماعية والعاملين في البنوك فتحول هذا الاحتراق الى ما يسمى (سايكولوجيا المنشأت والمنظمات والمؤسسات).

ومن اسباب الاصابة بــ "الاحتراق النفسي": التركيبة الشخصية للفرد الذي يكون واقعا" تحت تأثير اتجاهات فكرية ووظيفية غير واقعية، كأن يرسم لمستقبله اهدافا" لا يستطيع تحقيقها على مستوى الواقع فيصاب بخيبة امل واحباط تؤدي الى احتراقه نفسيا". وكذلك حين تسود بيئة العمل التنافر والبغضاء والحسد وتلقط الاخطاء، واتباع الادارة اسلوبا" سلطويا" لا يحترم انسانية العاملين.

 غير أن أهم أسبابه : شعور الموظف بالحيف حين يرى ان ما يتقاضاه لا يساوي ما يبذله من جهد فكري وتعب جسمي، وهذا ما حصل للعراقيين في سنوات الحصار الثلاث عشرة العجاف.. فراتب المعلّمة - في سبيل المثال – كان لا يساوي ثمن حذاء لها.او حين يشعر الفرد الكفوء أنه مغيّب أو مهمّش،وأن من دونه كفاءة يأمر وينهي ويجلس على كرسي أكبر من حجمه بكثير كما هو حاصل الآن،حتى على صعيد الوزراء كما هو الحال في وزارات التربية والتعليم العالي والنقل.. وسبع اخرى!. أو حين يشعر أن الحال قد تردّى وصار على وصف الشاعر: (تمزقت حتى لم أجد فيك مرقعا) فيكفر بالقيم والوطن.

 ولا يحدث الاحتراق النفسي فجأه بل يمر بمراحل، الاولى : مرحلة الحماس الوظيفي، وفيها يكون الموظف (طبيب، مدرّسة،..) في قمة نشاطه الايجابي، مفعما" بالتفاؤل والتوقعات الكبيرة بانجاز اشياء متميزة في مجال اختصاصه. وغالبا" ما يرفض الفشل في عمله ولا يقبل الا بالانجاز الكامل.الا أنه بعد سنوات يدخل المرحلة الثانية : الركود، وفيها تنخفض الطموحات ويدرك الموظف " الطبيب النفسي مثلا " انه محدود بالمتغيرات الموجودة في البيئة الطبية والاجتماعية التي يعيش فيها، وانه لن يستطيع ان يغير ما يريد بمحض ارادته وحماسه لفعل ما هو افضل، وان الأمراض النفسية صارت كالوباء وأنها سوف ستبقى موجودة مهما كانت براعته. واذا لم يكن واقعيا" في نظرته المهنية، فانه سوف ينحدر الى المرحلة الثالثة : الاحباط، وفيها يكتشف ان كل نظرياته الوردية السابقة اصبحت باهته لا لون لها، وانه محدود جدا" فيما يريد ان ينجز،وانه لن يغير ولن يستطيع ان يغير. وفي مرحلة الاحباط هذه ستظهر عليه اعراض نفسية وبدنية ناجمة عن الشعور بالانهاك والارهاق والالام البدنية، تؤدي به الى المرحلة الرابعة: التبلّد، حيث يكون فيها يائسا" من التغيير، تسيطر عليه حالة من عدم المبالاة والسخرية والتهكم من كل شخص يفكر تفكيرا" ايجابيا" بالتغيير او تحسين الاوضاع بالمؤسسة التي يعمل فيها، وكأن لسان حاله يقول لكل من يفكر بأشياء جديدة للتحديث : لا فائدة من ذلك لقد حاولنا قبلكم وفشلنا.

ترى كم من العراقيين أصيبوا بالاحتراق النفسي على مدى اربعين عاما من احتراقات بكل الوان النار؟!. بل لك أن تقول : كم منهم لم يحترق نفسيا ومع ذلك ما زال متعلقا بالحياة.. وبالوطن ؟!

الأعلاميون و ألأحتراق النفسي

 يتعرض عدد من الاعلاميين بعد سنوات من العمل الاعلامي بأنهم ما عادوا قادرين على العمل كما كانوا سابقا فيصابون بالأحتراق النفسي متمثلا بالتعب والاستهلاك وعدم وجود دافع،مع شعوره بأن ما يقدمه اصبح غير مرغوب فيه وليس مهما. وينجم عن هذا الأعياء النفسي والجسدي مشاعر او اتجاهات سلبية نحو مهنة الأعلام حين يتعرض الى اهم ثلاثة اسباب لأحتراقه النفسي:

- حين لم يعد يشعر بانجازه،ولايحصل على نتائج مجزية او ايجابية لعمله.. فتختل المعادلة النفسية القائمة على تكافؤ العمل مع نتائجه.

- حين يقع تحت ضغط الأدارة فيضطر لتنفيذ مطالبها وتحول دون تحقيق طموحاته في التألق والأبداع.

- حين يتنقل بين فضائيات واذاعات وصحف ولا يجد فيها ما يحقق ذاته.

اننا جميعا نتعرض الى ضغوط نفسية تكون على ثلاثة اصناف:

- ضغوط يمكن التنبؤ بها مستقبلا ويمكن السيطرة عليها

- ضغوط يمكن التنبؤ بها ولا يمكن السيطرة عليها

- وضغوط لا يمكن التنبؤ بها ولا يمكن السيطرة عليها.

ويتعرض الاعلامي الى نوعين من الضغوط: ايجابية،ناجمة عن زيادة العبء المصاحب للترقية في السلم الوظيفي، وسعيه الى مواكبة التطور الاعلامي الهائل لتحقيق طموحه في ان يكون مشهورا او نجما اعلاميا، وتحقيق طموح محطته الأعلامية في ايصالها الى التفرد والأقبال الجماهيري. وضغوط سلبية، ناجمة عن التنافس بين زملاء العمل وخوفه من الفشل.. الذي قد يوصله الى كراهية الأعلام ومن فيه!.. وقد ينجم عنها امراض جسمية: ارتفاع ضغط الدم، فقدان الشهية،اضطراب النوم، الربو، الصداع النفسي..، واضطرابات نفسية أخطرها الأكتئاب والأغتراب.

نصيحة للاعلاميين

لمجابهة هذه الضغوط،عليك ان تتدرب بخمس خطوات:

الأولى، مهارات الأسترخاء،مثل: التنفس بعمق.. من الحجاب الحاجز، رياضة سويدية تخفف او تخلصك من التوتر.

الثانية،تسلسل الأهمية للأحداث المشحونة بالضغوط،بأن تبدأ باقلها في الضيق وتنتهي باكثرها.

الثالثة، خواطر المجابهة، بأن تضع قائمة خاصة من الخواطر التي تساعدك على مجابهة الضغوط النفسية،تساعدك على اجتياز الأوقات التي تشعر فيها بالضغط النفسي.

الرابعة، مهارات المجابهة التخيلية، باستعمالك لخيالك حين تكون في موقف ضاغط لتخفيف التوتر.

والخامسة، مهارات المجابهة الفعلية، بعد قيامك بالخطوات الأربع.. ابدأ بتطبيق مواقف التحدي في حياتك اليومية لتصبح تمرينات الاسترخاء الذاتي وخواطر مجابهة الضغوط النفسية.. آلية يتم استخدامها في اي موقف مشحون بالضغوط النفسية.

 وخذ بنصيحة اهداها لي كرم شلبي صحفي مصري درسّنا فن الصحافة في دورة المذيعين (كنا عشرة فقط اجتزنا الأختبار من لجنة صعبة سبعينات القرن الماضي)،ما زلت احفظها بالنص (اذا ذهبت الى مقابلة شخصية مهمة،عليك ان تذهب وأنت معبأ).. أي ان تعرف عنه كل شيء وتفاجئه.. وقد طبقتها مع عفيفة اسكندر. فحين وصلت شقتها بشارع ابي نؤاس الساعة السابعة عصرا، قالت لي :(ترى الساعة ثمانية عندي موعد) فأجبتها: (ولا يهمك ست عفيفه).. وجاءت الثامنة والتاسعة والحادية عشرة ليلا!.. لأنني ذهبت لها معبئا، من قصيدة حسين مردان التي بتغزل بها وما حكاه لي عنها،الى.. (عفيفة اسكندر.. الوجه الآخر) مقالنا الموثق عنها في غوغل، وسيعجبك.

وعليك الاهتمام بصحتك عن طريق الرياضة والنوم الكافي، وحذار من (الفاليوم).. فان احتجت خذ بديله الجديد. واحضر المؤتمرات والندوات فمنها تتعلم الكثير،وسافر لتريح نفسك ودماغك.. وتغسل همومك من متاعب سلطتك الرابعة.. ان كنت تمارسها!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

يُعتبر جون ديوي ابو البرجماتية الأمريكية والمؤلف والمفكر البارز في مجال التعليم وعلم النفس، كان ايضا يكن تقديرا عميقا للفنون وبالذات حبه الخاص للشعر. كتب ديوي بعض القصائد التي عُثر عليها بالنهاية بين أوراقه ونُشرت بعد عدة سنوات من وفاته. وجد ديوي (1859-1952) نفسه يعيش في زمن الاضطراب الكبير حيث التصنيع، النمو الاقتصادي، والتقدم العلمي. مع هذه المظاهر العديدة لتغيّر الحياة الحديثة بين يوم وآخر، لا غرابة لو سعى ديوي للعزاء في الشعر. يبدو بالنسبة لديوي ان كتابة الشعر ربما هي أكثر من كونها متنفس إبداعي عاطفي او هواية فنية. في الحقيقة، اعتقد ديوي ان الشعر يمكن ان يملأ الفراغ الروحي الذي حصل في الغرب بفعل الانحدار في الايمان الديني وتقاليد الماضي. هذه هي الفكرة التي طرحها ديوي في الكلمة الافتتاحية بمناسبة تخرج الطلبة في كلية سمث في ربيع عام 1890. بدأ ديوي كلامه بمقطع من دراسة الشعر لناقد الادب الانجليزي والشاعر ماثيو ارنولد Matthew Arnold: "ان مستقبل الشعر لا تحده حدود، لأن في الشعر، سيجد الانسان، ومع مرور الزمن بقاءً واثقا وأمينا. لا توجد عقيدة لاتتزعزع، ولا دوغما يقينية غير خاضعة للتساؤل، ولا تقاليد لا تتعرض للانحلال. الدين لدينا جسّد ذاته في الحقيقة، في الحقيقة المفترضة، انه ربط عواطفه بالحقيقة، والآن الحقيقة تثبت فشله. ولكن بالنسبة للشعر، الفكرة هي كل شيء، الباقي هو عالم الوهم، الوهم الديني. الشعر يربط عواطفه بالفكرة، الفكرة هي ان مزيد من البشرية سيكتشف اننا علينا ان نتحول للشعر لكي يفسر الحياة لنا، لتعزيتنا، للحفاظ علينا. بدون الشعر علومنا ستكون غير تامة، ومعظم ما يجري الان في الدين والفلسفة سيُستبدل بالشعر".

يرى ارنولد ان الشعر ذاته هو نقد للحياة:"نقد الحياة في ظل الشروط المحددة لمثل هذا النقد من خلال قوانين الحقيقة الشعرية وجمال الشعر. في مقاله الشهير(دراسة الشعر، عام 1888) يقول ان الشعر وحده يمكن ان يكون مصدر قوتنا وبقاءنا في عصر فقدت فيه الاديان قبضتها". هو يدّعي ان الشعر متفوق على الفلسفة، والعلوم والدين.

بالنسبة لديوي هذا اكثر من مجرد سؤال حول ما اذا كان مستقبل البشرية ينظرللفلسفة، العلوم، الثيولوجي، او الشعر للحصول على أجوبة للحياة. في الحقيقة، ديوي يخشى من ان الشعر سوف يفقد صدقيته، قوته الدائمة، لو امتنع عن المسائلة. يسأل ديوي"منْ يحفظ الحارس؟"، وجوابه هو الحقيقة (انظر الشعر والفلسفة، كلام ديوي في كلية سمث، ص110-112).

الرؤية الى عالم متغير

القوة الخارقة للشاعر هي القدرة على ملاحظة ما يلاحظه افراد آخرون لنفس العالم وتفسيره بطريقة ستكون هامة وجيدة للناس: "الشعراء لا يمكن ان يتحرروا من الظروف المرتبطة بذكاء الانسان في كل مكان"(نفس المصدر، ص113).

التمدد المستمر في المعرفة الانسانية يقلق ديوي في عالم الشعر، بمعنى ان التقدم السريع في تطبيقات العلوم يتطلب شعرا للتكيف معه. الفيزيائي والمنظر الامريكي ريتشارد فينمان Richard Feynman (1918-1988) قال مرة، "انه شاعر رديء من يصمت عند معرفة ان الشمس كرة ضخمة من الهايدروجين المندمج بغاز الهيليوم". هذا الاقتباس يتصل مباشرة بمخاوف ديوي. في الحقيقة، الشعراء لايستطيعون التحرر من ظروف فهم الانسان. بل، ان هذه الظروف تحرر الشاعر لينظر للعالم بالأصالة التي يدعو لها ديوي. ولكن وكما ألمح فاينمان، لا كشف علمي او فلسفي يستطيع ان يُضعف الحقيقة المعبّر عنها مثلا في قول والت وتمان walt whitman"إعطني الشمس الرائعة الصامتة"(1865):

حافظ على شمسك الرائعة الصامتة،

حافظ على غاباتك، والأماكن الهادئة بجانب الغابات،

حافظ على حقول البرسيم وحقول الذرة والبساتين،

حافظ على حقول الحنطة السوداء الرائعة وحيث همهمة النحل في الشهر التاسع،

اعطني وجوها وشوارع، اعطني هذه الارواح المستمرة بلا نهاية على طول الممرات الجانبية:

اعطني عيون لا متناهية، اعطني امرأة، اعطني رفاق ومحبين بالآلاف،

يلاحظ وتمان جمال الطبيعة و "الأماكن الهادئة بجانب الغابات"، ولكن هناك اضطراب فيه، وفي السطر الاخير من القصيدة نشهد تطور الثقافة. ان رفض القصيدة للاماكن الهادئة بجانب الغابات، وحقول البرسيم والقمح، يُبرز التحول الانساني من العثور على العزاء في جمال الطبيعة الى العثور عليه في حضور الآخرين. هذا التحول لوحظ بوضوح بعد الاحداث التي وقعت في بداية او خلال القرن العشرين – الحرب العالمية، المجاعة، التحطيم البيئي غير المسبوق في التاريخ.

عندما تتعرض الانسانية لتهديدات وجودية خلال القرن (ثلاثة اوبئة انفلونزا، حربان عالميتان، مجاعات متعددة، وقمع مميت) فمن الصعب الحصول على العزاء فقط بالمشي بين الغابات. في عصرالتقدم التكنلوجي الحالي نحن سوف نلتفت ايضا الى "رفاق ومحبين" بحثا عن عزاء عاطفي في ساعاتنا الحالكة بدلا من الطبيعة.

لكن اذا كان الشعر هو إقامتنا، كما يرى ديوي، فوفق أي سلطة يعزل وتمان الانسان عن الطبيعة؟ أي حقيقة هو يجدها في المرأة، في الوجوه، والشوارع؟ وهل لانزال نستطيع النظر الى هذه الأبيات بعد 150 سنة لتعزية أنفسنا؟

بالطبع، كلمات وتمن يتردد صداها اليوم كما في وقت كتابتها. بعد تمديد فترات الاحتجاز والحجر الاجتماعي اثر وباء كورونا، نحن لا نستطيع النظر بسهولة للعالم الطبيعي طلبا للمساعدة. الآن، اكثر من أي وقت مضى، نحتاج للارتباط الانساني والتجارب الاجتماعية. الحقيقة الواقعية التي يعرضها وتمن جرى التحقق منها عبر ظروف الانسان التي نمارسها اليوم، وهي لايبدو تفقد أي زخم. حتى في هذا العصر من الاتصالات السهلة والفورية، لانزال نجد أنفسنا نحب اللقاء وجه لوجه.

الذهب و فروست

اذا كانت الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة هي ما يُكتشف في السطور العميقة لولت وتمن. هل سنجد ذات الشيء عند استطلاع أبيات الشاعر روبرت فروست Robert Frost؟

قصيدة فروست "لا شيء يبقى ذهباً(1923) تتأمل باختصار في راهنية الحياة، ومرة اخرى نحن نحصل على مقارنة فعالة مع الطبيعة وجمالها:

زهرة أوراقها المبكرة،

لكن فقط لساعة.

الورقة تتضائل الى ورقة.

هكذا غرقت عدن في حزن

حتى ينزل الفجر الى نهار.

لا شيء من الذهب يمكن ان يبقى.

هذه الأبيات المختصرة حول لايقينية الحياة تذكّرنا مباشرة بمقطع من ماثو ارنولد: لا وجود لعقيدة لا تهتز، لا تقاليد لا تتحلل. تماما كما اقترح ديوي حول شعر ارنولد، قصيدة فروست ايضا تذكّرنا بالفلسفة الكبرى للرواقيين وكتابات ماركوس ارليوس. ولكن كما في ديوي لا يعني الافتراض ان ارنولد ترجم تأملات ارليوس الى قصيدة شعرية، ولا ندّعي ايضا ان فروست نسخ الفلسفة الرواقية الى اسطر ثمانية: بل ان التشابهات تبرز من نفس الحقيقة الملاحظة من جانب هؤلاء الكتاب. إلهام الرواقيين واضح في الكثير من أبيات فروست، مثل التحفظ (1936)، مجموعة من قصائد قصيرة حول أمد الحياة:

هل الآفة تقتل الكستناء؟

الفلاحون غير واثقين

انها تبقى تحترق ببطء في الجذور

وترسل نموا جديدا،

حتى طفيلي آخر.

يأتي لقتل الآفة.

انظر الاستعمال المستمر لفروست للمجاز والخيال الذي يدور حول الطبيعة. مع ذلك بينما الطبيعة فكرة ثقيلة يعتمد عليها فروست، لكنه مثل وتمن يبدو انه يجد الكثير من العزاء فيها. مرة اخرى نحن يجب ان نسأل أي حقيقة توجد في هذه السطور.

الادّعاء الذي يطرحه فروست في هذه الأبيات هو ما نلاحظه عموما في الحياة. كل شيء في نظام هو بالنهاية يتحول الى اضطراب – هذا هو قانون انتروبيا. الكستناء التي هي تحتمي مؤقتا من الآفة، سوف تذبل وتتعفن بالنهاية. هل فروست مهوس بالموت؟ او هل نستطيع العثور على العزاء في موتنا؟

كما في وتمن، نحن لا يجب علينا عمل جمناستك ذهي للتعاطف مع الحقائق التي يدّعي بها روبرت فروست في شعره. هذه الحقائق تجسد تجربة حياة الانسان، لم يردعه التقدم في المعرفة العلمية او الوحي الديني. نجد من السهل الاعتقاد ان فاينمان امتلك ابيات فروست في ذهنه عندما تحدث عن مهارات الشاعر.

الشعر للذهن الحديث

لذا نحن الان نجد أنفسنا في "جرح غير طبيعي"يتحدث عنه ديوي متمثلاً بالفجوة القائمة والمستمرة بين العلم والشعر، والتي هي ايضا تعني الانفصال بين الانسان والطبيعة. الانسان في العالم الذي نظر اليه ارنولد، قد تحرر من سلاسل الدين في بحثه عن مصدر جديد للعزاء والراحة وهو لم يتمكن من العثور عليه في ميادين العلم والفلسفة. ألا يذكرنا هذا بالعالم الذي نعيش به اليوم؟

التجارب، الاختبارات، الفرضيات، السجلات، والمراجعات – هذه أدوات العلماء. اذا كان العلماء يهتمون بالمعرفة، فان الفيلسوف يركز على الحكمة. وان المنطق، الاستجواب، والمناقشة هي ادوات الفلسفة. لكن وسيلة الشاعر هي الشعور الملاحظ والتجربة المعاشة عندما يركز على الحقيقة.

الشاعر بالتأكيد، غير متحرر من إثباتات العلم، ولا من استجواب الفيلسوف. في الحقيقة، اذا كانت أبيات الشاعر لا تبقى منسجمة مع هذه القوى، فسوف لن توجد حقيقة فيها. لكن في كل من اشعار وتمان و فروست نحن لا نجد عدم الدقة العلمية او المغالطات الفلسفية. مع ذلك، نحن حقا نجد البقاء والعزاء الذي تنبأ به ارنولد في الشعر، والذي قال ديوي اننا نحتاجه جدا.

اذا كنا نبحث في الشعر عن عزاء للحقائق الباردة التي يمنحها لنا العلم والحكمة الصلبة التي تفسرها لنا الفلسفة – فانها بالتأكيد توجد في قصائد وتمان وفروست. اذا كان العلم يعطينا الحقائق، والفلسفة تكافح لأجل الحكمة، عندئذ فان الشعر يعطينا الحقيقة الوجودية. مرة اخرى، الافكار التي يتم إبلاغها بالقصائد تجد سلطاتها في حقائق التجارب القابلة للتصديق التي يتم تقاسمها جماعيا بين الناس. وبالرغم من ان الحقائق المعطاة لنا من جانب فروست، وتمان، وشعراء اخرون لم تُكتشف حديثا، فهي تُعطى بطريقة تتصل بتجاربنا. عندما يُعاد تفسير هذه الافكار من جانب شعراء أكثر مهارة، فان الحقائق المنقولة عبر هذه القصائد سوف لن تخفت.

الشعر للذهن العالمي

لكي يكون الشعر مقبولا كحقيقة، خاصة في ظل ارشادات ديوي، فان الكلمات يجب ان تعكس التجربة الشائعة للانسانية. هذه التجربة المشتركة ستكون مجموعة من الحوافز الثقافية والبيئية لا يشترك بها فقط مجتمع معين او جماعة معينة وانما كل العالم، وهي تستمر عبر الزمن. هنا "التجربة الشائعة" تختلف عن التقاليد الثقافية والطقوس الجماعية في كون الأخيرة أقل شيوعا ويتم تقاسمها فقط من جانب الافراد في جماعة معينة. ونحن نلاحظ انه في عصر التواصل الاجتماعي، تكون الاختلافات بين جماعات متميزة هي بنفس درجة الوضوح في التشابهات بينها.

بالرغم من الاختلافات فان الشاعر يجب ان يرتقي برؤيته لكي يستطيع ربط تجربته بالافراد عبر الثقافات والأزمان، لكي لا تكون قصيدته فقط استجواب لما هو مختبئ في العالم. بكلمة اخرى، الشعر الجيد يبقى صحيحا لجميع الافراد المتميزين بالفهم بصرف النظر عن خلفياتهم او تربيتهم الثقافية. هذا بالضبط يفسر لماذا لانزال ندرس ونقرأ ونتمتع بشكسبير ودون ودانتي. الحياة اليومية لدانتي ستكون مختلفة جدا عن حياتك او حياتي، وان المعرفة المتوفرة له محدودة جدا بالمقارنة، ذلك يعني من الصعب تصوّر انه يستطيع كتابة أي شيء لايزال يستحق الدراسة بعد ثمانية قرون. لكن دراسة ذلك هو بالضبط ما نجد أنفسنا نقوم به. والحقائق التي يكتبها فروست ووتمن هي نفس الحقائق التي كانت متوفرة لوليم شكسبير وجون دون John Donne.

البقاء مع الشعر

في الختام، ربما ينظر احد مجددا لكلام ديوي ليجد انه يتنبأ بانه مع التقدم المتسارع في المعرفة العلمية، فان الانقسام بين الانسان والطبيعة سوف يستمر بالاتساع. هو يقترح انه بالرغم من ان هذا الصدع سيضخّم الاديان والتقاليد، لكننا يجب علينا الالتفات الى الشعر لردم الهوة. يقترح البعض ان نُبقي في الذهن فكرة ديفد هيوم بان احدا لايستطيع الحصول على ما ينبغي ان يكون مما هو كائن: اي ان احدا لا يستطيع النظر الى الطريقة التي يبدو بها العالم ويقرر من تلك المشاهدات الطريقة التي يجب ان تكون. الشعراء العظام الذين يشير لهم ديوي ربما لاحظوا هذا الانقسام ولكن كما نرى من وتمن وفروست، ان هذا الانقسام شجع الانسان ليكوّن روابط أقوى مع رفاقه ومحبيه، والنظر باعجاب وتقدير للطبيعة.

من جهة اخرى، يمكن القبول بان البشرية حقا يجب ان تنظر الى الشعراء لتفسير المعرفة والحكمة التي تجلبها لنا الفلسفة والعلوم. ان الاختلاف بين تلك الحقائق والحقائق المفسرة بواسطة الشعر ليست الاّ اختلافات في اللغة. الشعر يستطيع الناس فهمه والوصول اليه بسرعة اكبر. طالما هذه هي الحالة، فان الشاعر هو المهندس في مهمة ردم الفجوة بين العلم والفلسفة من جهة والانسانية من جهة اخرى. العلم ليس الا مجرد وسيلة لفهم كيفية عمل العالم، الفلسفة ليست الا وسيلة للخطاب لفهم كيف نكتسب المعرفة، لكن الشعر هو طريقة لتفسير فهمنا للبشرية. في الحقيقة، نحن سنجد في الشعر بقاءً واثقا وأميناً.

***

حاتم حميد محسن

........................

Poetry and philosophy for the 21st century, philosophy Now Dec/Jan 2023

من أجل ان نحافظ على حرية الفكر والتعبير ولكي نواصل عملية التفكير النقدي ومن أجل مواصلة مسيرة المؤسسين الأوائل لثقافتنا الحديثة والبناء على ما أسسوه، أجد من الضروري ممارسة الشك المنهجي تجاه شك طه حسين في تراثنا الكبير من الشعر الجاهلي وإعادة مساءلة منهجيته ومدى دقتها ونتائج بحثه ومدى صحتها ومنطلقات بحثه ومدى علميتها!

ثم أليس طه حسين يدعونا الى اتباع منهج الشك!؟

فالاولى إذاً ان نشك بنتائجه التي اطلقها كأحكام عامة على تاريخ أمة كبير، ونفى من خلالها شعر مرحلةٍ كاملة، في ضوء افتراضات وتأويلات شخصية وشكوك ببعض هذا الشعر وقصائده ليعممها على الشعر الجاهلي كله وشعرائه كلهم .

كان الاولى بطه حسين ان ينفي شخصية او بعض الشخصيات او قصيدة او بعض القصائد بناءً على دراسة علمية وبحث منهجي وادلة بيّنة، أما ان ينفي تراث مرحلة كامل فذلك حكم مطلق عام يمكن ان نكشف تهافته ولاعلميته بتساؤل بسيط يحمل صفة التشكيك كما فعل هو فيقال له ؛

من وضع هذا الشعر كله!؟

ومادليلك على وضعه!؟

وفي اي وقت وُضع هذا الشعر!؟

وهل يعقل ان امة كاملة تتفق على تزييف تاريخ مرحلة كاملة وتضع له شعراً وتتبناه دراسةً ونقداً وتاريخاً!؟

واي مؤسسات كبرى ودول وقفت وراء هذا الموضوع لتضع كل ذلك وتزوره وتقنع به الاجيال لمدة الف عام حتى جاء طه حسين ليكشف هذا التاريخ المزيف كله!؟

اعتقد ان طه حسين لم يكن علمياً ولامنهجياً في شكه كما شخصت انت وكثيرٌ من الباحثين الجادين ذلك بدقة .

الشك المنهجي العلمي كان يجب ان يدعوه الى دراسة علمية منهجية لهذا الشعر ليقول لنا اي قصيدة مشكوك فيها او منتحلة واي شخصية غير حقيقية او مفتعلة، لكي يستطيع العقلاء واهل العلم قبول كلامه، اما بطريقته هذا الشكية الافتراضية واللاعلمية والتي تصدر احكاماً عامة وبهذا الاطلاق الشمول! فيكفي ان نجادله بطريقته ونقول له نحن نشك بكلامك وادلتك لانها كلام شخص واحد امام آلاف من العلماء والباحثين الذين اثبتوا وجود الشعر الجاهلي لكنهم شككوا ببعض القصائد وبوجود بعض الشخصيات اتباعاً للبحث العلمي وعملاً بالشك المنهجي، وليس كما فعلت في شكك اللامنهجي و احكامك الاطلاقية التعميمية اللاعلمية .

والثانية انه خلص الى نتيجة وهي اننا لايمكن ان نقرأ الحياة الجاهلية من الشعر الجاهلي لكننا يجب ان نتعرف على هذه الحياة من القرآن، وهذا امر ان قبلناه سقط شك طه حسين، فالقرآن يخبرنا عن شعر العرب وشعرائهم وانهم اتهموا النبي بانه شاعر وهذا الاتهام يدل على ان ظاهرة الشعر والشعراء ظاهرة معروفة وشائعة لدى العرب، فهل تم اخفاء كل ذلك الشعر ومحوه من الذاكرة واستبداله بشعر موضوع وشعراء غير حقيقين من وضع العصور التالية!

انه امر يستدعي الشك حقاً! اي الشك في الشعر الجاهلي كله، بناءً على القرآن كما يدعونا طه حسين نفسه، فالقرآن يخبرنا عن الشعر والشعراء عند العرب ويحذر من اتباعهم والسير على نهجهم لانهم يعيشون الخيال المتقلب والوهم ولايبنون حقيقةً عقلانية:

{ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) }

ولذلك ينفي عن نبيه ان يكون شاعراً او يسير على طريقة الشعراء:

 {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ}.

فاين هذا الشعر الذي يتحدث عنه القرآن!؟

ومن هؤلاء الشعراء الذين يتحدث عنهم القرآن!؟

اذا كان هذا الشعر كله منتحلا ومكذوباً والشعراء كلهم اسماء وهمية، وهم حسب شك طه حسين غير موجودين وغير حقيقيين، ولا أصل حقيقي للشعر والشعراء الجاهليين!؟

قراءة طه حسين قراءة غير علمية وشكه ليس منهجياً ونتائجه تعميمات ايديولوجية، والحق انه (شك طه حسين) هو الذي يستدعي الشك والتساؤل!

ويكفي الدراسة العلمية التي قدمها الدكتور ناصر الدين الاسد في الرد على شك طه حسين واسقاط نتائجه غير العلمية ….

الثالثة وهي الاخطر، ان شك طه حسين في الشعر الجاهلي ونفي هذا الشعر لم يكن مقصوداً لنفسه ولغاية علمية، فطه حسين نفسه عاد ودرس هذا الشعر ودرّسه في الجامعة وقدم حديث الاربعاء وهو كتاب تناول فيه دراسة الشعراء الجاهليين وشعرهم .

إذاً ماهي الغاية من التشكيك بالشعر الجاهلي؟

لقد كانت الغاية هي التشكيك بالقرآن وقصصه، كما ذكر ذلك هو في كتابه، حيث شكك بوجود النبي ابراهيم وغيره من الانبياء وعد ذكرهم في القرآن ليس دليلاً على وجودهم التاريخي معللاً ذلك بان القرآن كتاب هداية وانه يستخدم المعلومات المتعارف عليها والقصص المنتشرة في زمنه لاقناع الناس وتوضيح مايريده لهم كما يستعين المعلم بالقصص والشخصيات القصصية المشهورة لتعليم الطلاب وليس لاثبات وجود الشخصيات تاريخياً!

وهذا مااستدعى ثورة الرفض التي واجهها والتي اضطر بسببها للتراجع وطباعة الكتاب بعد رفع التشكيك بالقرآن!

ومن هذا يتبين ان الرجل لم يكن قاصداً التشكيك بالشعر الجاهلي وانما كانت غايته التشكيك بالقرآن واسقاطه ككتاب ديني مقدس والتعامل معه ككتاب قصص وتاريخ مزيف كما تم التعامل مع التوراة والانجيل واسقاطهما من الاعتبار!

لذلك اقول ان قراءة طه حسين كانت ذات مسبقات ايديولوجية وغايات غير علمية وباسلوب الشك اللامنهجي .

***

د. احمد حمادي - المانيا

 

ثمّة تفسيرانِ أساسيان للتطرف في التأملات النقدية المعاصرة، وهما يقومان على فكرة أنّ التطرف تفريط أو إفراط في الوعي واغتراب عن التسامح العقلاني.

لا مبالغة عند القول اننا كأمة بشعوبها وتكويناتها الثقافية والاجتماعية والدينية والاثنية، يوما بعد يوم نغرق أكثر فأكثر في طوفان التطرف، فإذا كان الأمر متوقفا على ظاهرة الأمية أو البداوة في المجتمع فهو هين وقابل للنقاش، بالنظر لمخلفات الثقافة الاستعمارية في العالم العربي والإسلامي من جهة، وفوضى المنظومات التعليمية وفساد الادارة والتعصب الذي صنعته التيارات العلمانية والدينية من جهة أخرى، لكننا لا يمكننا أن نغمض أعيننا ونمر مرور الكرام ،عندما التطرف -الذي وصفناه بالمقال السابق أنه جهلا- يلبس العلم لباس الفرو مقلوبا، حيث يتقمص التطرف إسم العلم،عندما يصبح المتطرف دكتور يشتغل في مؤسسة جامعية عريقة أو في معهد عال، فهذا هو الاستغراب الخطير في مجتمعاتنا.

أن يسوق التطرف بغلاف علمي وإشهار عالمي وبصبغة قانونية، هنا الخطورة حيث يصبح العلماني والديني يتنافسان في تسويق التطرف بين الأفراد في المجتمع على حساب التسامح العقلاني..

 أن يحاضر دكتور في الفلسفة امام الطلبة ليبلغهم أن الخلاص هو في نبذ الوسطية وخاصة الإسلامية لأنها ضد النقد، فهذا عين الطامة، أن نتطرف في اصدار الاحكام على مفاهيم لأنها لم تتجسد في الواقع، والطامة الكبرى أن نتطرف بلا حكمة على ماهية هذا المفهوم في روح الإسلام، هذا استغراب العلماني عندما يتطرف على واقع مجتمعه بدل السعي نحو تصحيح المسارات وتجديد المناهج وتقريب الأغيار لإبداع النهوض الحضاري لدى إنساننا ككل.

ومن الطرف الآخر المتطرف الديني الأكاديمي الذي يدعو إلى إضافة مقررات إلى باب النكاح في الفقه الإسلامي في كليات الشريعة تخصص الفقه خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة والمسنين والموظفات والمضيفات بالطائرات والمطاعم والفنادق وهلم جرا، هذا تطرف بإسم الدين لغايات مريبة في نفوس أصحابها يراد العبث من خلالها بالوعي الديني وتشويه العقل وتعطيل المجتمع بحصره ضمن مربع التفاهة لكن بحلة أكاديمية عصرية تجعله يغترب عن دوره الحقيقي في الحياة..

في ظل هذا التطرف الأكاديمي بشقيه الديني والعلماني والذي لا يمكنه البقاء إلا إذا كان المجتمع فاسد الوعي، ومثل هذه الأمثلة وغيرها الطاردة للعقلانية السليمة والتسامح العقلاني والتعايش السلمي والتعاون الإبداعي، هي الركيزة الثقافية التي تستند عليها منظومة التطرف في تدمير كل مشاريع النهضة والتجديد والإصلاح في المجتمع.

أن يحاضر شيخ طائفي تكفيري في جامعة عريقة ويحدث طلبته عن هلوساته وفتاواه الإباحية والتكفيرية للشعوب والأنظمة بدون حياء ولا رهبة، بينما يطرد اكاديمي مثقف من جامعة وتحاصر كتبه كما تحاصر كتب المجددين في الفكر والثقافة والدين والاجتماع، كل هذا يعني أننا لسنا على شفا جرف هار وإنما في واد الطامة.

هذا هو حالنا في ظل تطرف أكاديمي صوري لا علاقة له بالعلم والفلسفة والدين وقيمه الإنسانية العظيمة والسمحة، لسنا ضد أي شخص ولكن علينا نظم أمورنا ووضع الشخص المناسب بعلمه وأخلاقه وإتقانه واخلاصه وشجاعته في المكان المناسب، الأكاديمي المفروض هو الصورة المثلى للنباهة والاخلاق والوعي والدقة والحكمة والصدق لا افراط ولا تفريط، لا دين داخل العلمانية ولا علمانية داخل الدين، هناك واقع بحاجة لاسعاف ثقافي دقيق بدلا عن الترهات والأساطير الطائفية التي تعج بها وسائل التواصل الاجتماعي حتى أصبحت تدرس في مدرجات الجامعات وتنقل عبر الشاشات والإذاعات وفي الندوات الرسمية بأصوات من يقال عنهم اكادميين، نفس الشيء المعلبات الغربية التي تنمق بها محاضرات علمانيي آخر الزمان دون أدنى تدقيق أو معرفة بجذورها ومنهجها وما هنالك مما كتب عنه ادغار موران وهو اللاديني، وما فنده كارل بوبر، هذه الأفكار والأقوال والقصص والفتاوى والأحكام والنظريات التي جعلت نقالها ممن هم فرضا أكاديميون، يعيشون إما استغرابا في فوضى التاريخ او الغرب المعاصر، كلما تصادفني أشعر بغثيان ثنائي التطرف اسمه الحسرة، في عالم لايزال يبحث عن معنى الحياة وماهيتها ودوره فيها، عالم نخبته غالبيتها لا تتقن سوى مباحث الجنس والمال والتاريخ بغثه وسمينه والعنف والفوضى، عالم خصه الله بدين التمدن والإنسانية والجمال والسلام لكنه يدمن التطرف والتعصب ويرفض التسامح والتعارف والتعايش والحوار، عالم لا تزال الجامعة فيه تفتقر لعلم اجتماع القيم رغم مخزونه العظيم الذي لا زال الاستشراق يغرف منه غرفا، بينما شبابنا يعيشون عصر التكنولوجيا المعقدة والبحوث في الذكاء الاصطناعي وهناك من يحدثهم عن جهاد النكاح وعلمانية المثلية،  إنها حسرة ثقافية كبيرة أن نظل نجامل.

هذا السرطان الثقافي المهدد لمجتمعاتنا، بحيث يصبح "المتطرف" "أكاديميا" مبجلا، ويوجه بإسم الدين والعلمانية مجتمعا كالمجتمع العربي والإسلامي الذي يغرق في وحول اللاعقلانية واستحكام التمويه الثقافي الديني واللاديني...

واختصارًا لما سبق يضمّ هذا الطرح للتطرف الفكرة القائلة: إنّ التطرف أساسًا لا يتضمّن فقر معرفيّ فقط؛ إنّما يتضمّن أيضًا إخفاقاً ثقافيا ًّ في صناعة الوعي بل موت سريري للاستراتيجية الثقافية النهضوية في مجتمعاتنا لأن كرسي العقلانية مختطف!!

وبالتالي: هل يمكن أن يكون مركز التطرف أكاديميا لهذه الدرّجة؟ !!.

حتى نجيب على هذا السؤال ببساطة يجب علينا أن نتأمل في مخرجات التطرف بكونها غياباً للسلام والجمال والإحسان، حتىّ لو جادل رواد التطرف بجناحيه الديني والعلماني جميعهم على أنّ تطرفهم يتضمّن ذلك؛ إذ لا بدّ لنا أوّلًا من موضعة مفهوم التطرف في ميزان نظرية قيم حضارية موسّعةٍ ؛ حيث يحتلّ التطرف موقعاً سلبياًّ مقابل التسامح العقلاني الثقافي، كما أنه لا يتسنى لنا فهم التطرف إلا بواسطة ذلك، وتحديدًاً، مسألة احتوائه على غياب العدالة والتعارف والتعاون والإبداع وإخفاقه الثقافي في الإصلاح والتجديد السلميين، إنه التطرف بوصفه اغتراب عن ثقافة التسامح العقلاني..

***

بقلم: أ. مراد غريبي

كاتب وباحث في الفكر

(إن معرفة الماضي دائما"نسبية، إذ تستجيب لمتطلبات الوضع القائم، وأنها دائما"عملية، إذ تجيب عن أسئلة حالية) ... د .عبد الله العروي(1)

للوهلة الأولى تبدو عبارة (الماضي) بريئة من المقاصد الرمزية ومحايدة عن التضمينات القيمية التي اعتادت الجماعات البشرية على الاعتقاد بها والاحتكام إليها والشروع منها، حين تلوح في أفق حياتها عواصف الأزمات السياسية والتوترات الدينية والانقسامات الاجتماعية والاحتقانات النفسية والانعطافات التاريخية، باستثناء كونها تشير إلى صيغة زمنية مضى أوانها وانقضى عهدها وتصرّم أمدها، وبالتالي فهي عبارة تقع خارج السياقات الاجتماعية والحضارية والتاريخية الحديثة والمعاصرة . بيد أن الحقيقة هي إننا لو أنعمنا النظر بتلك الكلمة (الماضي) سنجدها مثخنة بالدلالات ومكتنزة بالمعاني ومشحونة بالإيحاءات المبثوثة في كل زاوية من زوايا الوعي، والقارة في كل ركن من أركان الواقع . فهي، والحالة هذه، من العبارات التي تضمر وتخفي أكثر مما تظهر وتفصح، وتكتم وتستر أكثر مما تعلن وتبيح . لا بل يمكن القول أنها عبارة ملتبسة المعنى وإشكالية الدلالة وغامضة الإيحاءات بامتياز، خصوصا"في المجتمعات العتيقة /القديمة التي تمتاز مكوناتها بتعدد الأديان / المذاهب، وتنوع الأعراق / الأقوام، وتباين القبائل / العشائر وتغاير اللغات / اللهجات . ولذلك فقد شبّه المؤرخ الفرنسي (فرانسوا هارتوغ) دلالة مفهوم الماضي بمثابة خزان (من التصورات الخيالية للأفعال الممكنة، حيث ننطلق من أساطير الأصل إلى ذكريات حديثة العهد، من انفصال الأرض عن السماء إلى تثبيت حدود الجماعة، من الإلهي إلى الإنساني، من المجرد إلى العياني، من العام إلى الفردي)(2) .

ومن هذا المنطلق فليس من الغريب أو الصدفة أن تكون لصيغة زمن (الماضي) تلك العلاقة الحميمة بكل أنماط الظواهر والموجودات، التي تتبلور صيرورتها ويتمخض وجودها بناء على ممارسات الإنسان وطبيعة علاقاته، سواء"مع منتجات الطبيعة أو معطيات المجتمع أو تمظهرات الفكر . فالصيغة الزمانية – كما نظيرتها المكانية - وان بدت خارجة عن أواليات وديناميات الفضاء الاجتماعي ومستقلة عن نوازع عناصره ودوافع مكوناته، إلاّ إن ضرورتها الانطولوجية وأهميتها السوسيولوجية تتأتى من كونها كانت – وستبقى - مقترنة بسيرورات الإنسان في خضم عمليات التاريخ إنتاجا"ووعيا"، فعلا"وانفعالا"، تأثيرا"وتأثرا"، هذا بالإضافة عما ينجم عن كل هذه الفعاليات والممارسات من أنشطة مادية مختلفة وفعاليات رمزية متنوعة . ولإيضاح طبيعة هذه العلاقات العضوية والروابط الشبكية التي تشدّ الإنسان إلى الماضي وتملي عليه التصورات والخيرات، فقد أشارت الفيلسوفة والأكاديمية (ميريام ريفولت دالون) إلى انه (لم يعد التاريخ موضع تفكّر فحسب، بل يجب صنعه . انه السيرورة التي يتحقق فيها الإنسان، ذلك أن التاريخ هو تاريخ الإنسان الذي هو سيّد ذاته)(3) .

ولكي ندرك مقدار أهمية صيغة (الماضي) بالنسبة لفاعلية الإنسان في سيرورة التاريخ، وما قد يترتب على هذه السيرورة من بنى اجتماعية وأنساق ثقافية أنماط حضارية وتواضعات سلوكية، كان لابد لنا من معاينة سريعة وموجز لمختلف ضروب تلك المعطيات والتمظهرات التي تتمخض عن / وتترتب على علاقة الزمن الماضي بتلك الأنشطة والفعاليات التي يمارسها الفاعل الاجتماعي، سواء على صعيد سرديات وعيه للواقع الموضوعي (أسطورة، دين، ذاكرة، متخيل)، أو على صعيد منتجات علاقته بذلك الواقع (تاريخ، تراث، فولكلور، ثقافة، لغة) . وبالتالي يتسنى لنا معرفة كيف إن التلاعب بمواريث الماضي واستثمار رصيده الاعتباري وتوظيف رمزيته السيكولوجية، من قبل الجماعات المهمشة والسلطات السائدة على حدّ سواء، كفيل بتحويله من مثابة مركزية تستقطب شتات المكونات السوسيولوجية وقاسم مشترك يشدّ أزرها وعاصم يدرأ عنها الانفراط، إلى عامل من أخطر العوامل التي تتسبب بتمزيق لحمتها الوطنية وتفكيك نسيجها الاجتماعي وتدمير مدماكها الثقافي وتخريب معمارها الأخلاقي، كما حدث في العراق بعد الغزو الأمريكي وغيره المجتمعات التي تعرضت لذات الظروف القاسية والأوضاع العنيفة.

***

ثامر عباس

........................

الإحالات والملاحظات   

1. الدكتور عبد الله العروي؛ مفهوم التاريخ، الجزء الأول، الألفاظ والمذاهب، (بيروت، المركز الثقافي العربي، 1992)، ص38 .

2. فرانسوا هارتوغ؛ تدابير التاريخانية: الحاضرية وتجارب الزمان، ترجمة الدكتور بدر الدين عرودكي، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2010)، ص68.

3. ميريام ريفولت دالون؛ سلطان البدايات: بحث في السلطة، ترجمة الدكتور سايد مطر، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2012 )، ص147 .

(الأزهر يدين تصرف وزيرة المانية في مباراة كأس العالم بدولة قطر)

توطئة: يوثق القرآن الكريم تاريخ الجنسية المثلية الى عهد النبي لوط في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وهناك من يرى ان تاريخها اقدم بكثير.هذا يعني ان الجنسية المثلية لم تظهر حديثا لهذا السبب او ذاك.

وقد تم نحت مصطلح (Homosexuality) في القرن التاسع عشر، وهو مؤلف من مقطعين ( Homo ) وتعني المماثلة، و (Sexuality) وتعني النشاط الجنسي.وصارت تعرف في اللغة العربية بـ(مثلي الجنس)، ثم (الجنسية المثلية) مقابل مصطلح (Heterosexual ) التي تعني الجنسية المغايرة او الطبيعية.

هل الجنسية المثلية.. فاحشة؟

يصف القرآن الكريم الجنسية المثلية التي مارسها قوم لوط بالفاحشة، بقوله (أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها أحد من العالمين – الاعراف 80)، وقوله( ولوطا اذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون- النمل 54).

وتعني الفاحشة بحسب تفسير اهل الدين بأنها (معصية كبيرة في غاية القبح، او متناهية القبح)، وعدّها آخرون (قبحا كبيرا كالزنا)،  فيما تعني بحسب المختصين باللغة (ما عظم قبحه من الافعال والأقوال)، يقابلها في اللغة الانجليزية (Immorality) أو (Shameful Deed).

هذا يعني أن الدين الأسلامي وضع الجنسية المثلية في صنف الأخلاق التي لا تترتب عليها عقوبة، بقدر ما يكون مرتكبها قبيحا منبوذا في مجتمعه.

هل الجنسية المثلية.. جريمة؟

تنظر مدارس الشريعة الاسلامية التي تعتمد على اسس قرآنية واحاديث نبوية الى ان المثلية الجنسية هي شذوذ جنسي وخروج عن فطرة الانسان. ويصنف العلماء هذه العلاقة كخطيئة وجريمة يجب ان يحاسب عليها مرتكبها فيما لم يرتب نفس العقوبة على المثليات الجنسية ولم يعد السحاق زنى.غير ان ابن القيم في كتابه الجواب الكافي يقول (ولما كانت مفسدة اللواط من اعظم المفاسد، كانت عقوبته في الدنيا والاخرة من اعظم العقوبات).

للأزهر.. رأي

في مباراة كأس العالم المقامة في قطر (كانون الأول 2022)، حصل ان حضرت وزيرة المانية مباراة بلادها مع اليابان مرتدية شعار المثليين في منصة المتفرجين الخاصة بالمسؤولين، وصف تصرفها بأنه تحد سافر لقوانين دولة قطر، ما دعى شيخ الأزهر (أحمد الطيب) الى التضامن مع قطر، منددا بما وصفه (الغزو الثقافي الغربي الذي يريد تقنين المثلية والشذوذ والتحول الجنسي في المجتمعات الشرقية بدعوى الحقوق والحريات وغير ذلك من الأفكار غير المقبولة دينياً وإنسانياً).وما يعنينا هنا انه وضع (المثلية الجنسية) في صنف الأفكار غير المقبولة دينيا وأنسانيا.

وعن الحدث ذاته كشف مصدر أمني رفيع المستوى في القاهرة بأن (هناك مخططاً يجري تنفيذه لنشر المثلية في مصر والوطن العربي، وأن اتفاقية السيدو التي طرحت مؤخراً من جانب الأمم المتحدة لدعم الدول النامية تحتوي على بند يطلب من الدول العربية الموافقة على زواج المثليين، إلا أن مصر تحفظت على هذا البند الذي أعيد طرحه مرة أخرى). ورصدت الأجهزة الأمنية مؤخراً أفلاماً كرتونية للأطفال تشجع على المثلية.

وبالضد من كل المواقف السابقة، فان داعية أسلامية أسمه (مصطفى راشد) أيد زواج المثليين، مؤكداً أن (تحريم زواج الشذوذ جاء بالنسبة لآل لوط فقط). وحصل أن اقيم علنيا حفل لزواج المثليين على مركب وسط النيل.

في العراق.. طنطا!

على مدى أربعين سنة، وتحديدا" من عام 1980 بداية مسلسل الحروب الكارثية، عاصرت ما حدث بالمجتمع العراقي من ظواهر، واجرينا دراسات ميدانية سواء في ميدان جرائم القتل البشعة، البغاء، المخدرات، العنف، أو المثلية، توصلت من خلال من التقيت بهم الى الحقيقة الأتية :

(حين يمر المجتمع بأزمة حادة،

فأنه ينتج عنها ظواهر سلبية

تتجسد أكثر في أوساط الشباب).

واللافت للانتباه ان الظاهرة السلبية التي تحدث في المجتمع لها علاقة بطبيعة أو نوعية الازمة. ففي زمن الحصار شاعت في المجتمع ظاهرة سرقة السيارات المصحوبة بقتل اصحابها، التقينا في سجن (ابو غريب)بالعصابات التي القي القبض عليها وقمنا بتحليل شخصياتهم.وفي زمن الحرب العراقية الايرانية ازدادت حالات البغاء، واجرينا دراسة ميدانية شملت اكثر من ثلاثمائة بغيا" وسمسيرة القي القبض عليهن، لمعرفة اسباب ووسائل البغاء وتحليل لشخصية البغي.

وفي 2010 ظهرت للعلن حالات اصطلح على تسميتها شعبيا" (طنطا).. وتعني الشباب المتميعين الذين يستخدمون (المكياج) لتجميل وجوههم، وزرق الهرمونات لتكبير الصدر، والتشبه بالنساء في تصرفاتهم، وصفوا بــ (المخنثين) أو (المثليين) أو (الشاذين جنسيا")، فقامت احدى الميلشيات الاسلامية بقتل عدد منهم واحتجاز عدد آخر ولصق مادة السيكوتين على فتحات شروجهم.. وراحوا على ما فعلوا بهم يتفرجون!.

وكان السبب الرئيس لظهورهم في ذلك الوقت يتعلق بالتحولات الديمقراطية واشاعة الحرية، وظهور منظمات مجتمع مدني تطالب باحترام حقوق الانسان، فشّكل المثليون ما يشبه التنظيم الذي يهدف الى انتزاع الاعتراف بحقوقهم كما هو الحال في عدد من المجتمعات الغربية، دون اخذهم بالاعتبار ان المجتمع العراقي مجتمع اسلامي له قيمه التي تختلف عن قيم المجتمعات الغربية.وسبب اخر اعتقد انه الارجح، هو ان هؤلاء (المثليين) ارادوا في حينها ان يعلنوا عن انفسهم ليكشفوا للعالم الغربي كم هم مضطهدون ومستهدفون بالقتل لعلهم يحصلون على لجوء في دولة اوربية.

المثلية الجنسية.. في الطب النفسي

كانت التصانيف الطبية النفسية وأشهرها (DSM) قد وضعت حالات المثلية تحت مصطلح (اضطراب الهوية الجنسية).. وتعني تحديدا" ان الفرد " المثلي " يشعر انه ولّد في الجسم الخطأ. فالولد يشعر نفسيا" انه انثى ولكنه مولود في جسم ذكر، وهنا يحصل اضطراب بين هويته النفسية ومشاعره الانثوية وبين هويته البايولوجية وما مطلوب منه التصرف كرجل.وهذا ما كنا نبهنا له(في 2010) اجهزة الدولة المعنية والناس بشكل عام الى ان هؤلاء المثليين جاءوا بتركيبة نفسية وبايولوجية خاطئة، وانهم كالمرضى الذين لا يكونوا مسؤولين عن مرضهم. وعليه فان اساليب التعامل مع هذا الصنف تحديدا" يجب ان تختلف. فاذا كان الارشاد الديني والاخلاقي ينفع مع الذين (تخنثوا) لاسباب اسرية واقتصادية وشعور بالضياع، فانه لايجدي نفعا" مع المصابين بــ(اضطراب الهوية الجنسية)، وعلينا ان نكف، شرطة واجهزة امنية ومتشددون، عن استخدام العنف مع هؤلاء أو استهدافهم بالقتل، لأنه يزيد المشكلة تعقيدا".

وعلينا ان نقر بحقيقة تاريخية هي ان المثلية الجنسية حالة بشرية وجدت على إمتداد التأريخ، وموجودة في المجتمعات البشرية كافة في العالم المعاصر بغض النظر عن العرق أو الدين أو اللغة أو المستوى الحضاري أو الإقتصادي، بضمنها المجتمعات الإسلامية المعاصرة، والفرق انها صارت تمارس في المجتمعات الغربية بشكل علني فيما هي تمارس في مجتمعاتنا الاسلامية بشكل سرّي.

إن النظرة العلمية الحالية لظاهرة المثلية هي أنها في اغلب الأحوال ناجمة عن خلل تكويني يؤثر في نمو وتكوين الدماغ البشري، يبدأ في المراحل الجنينية ويستمر طوال حياة الفرد المصاب.ولهذا السبب، ولأحتجاجات المثليين في الغرب، تم رفع (المثلية الجنسية) من تص ولقد اتصلت بطبيب نفسي عراقي مقيم في لندن (الدكتور رياض عبيد) عن آخر ما تم التوصل اليه علميا عن المثلية، فاجاب بأن أسباب المثلية ليست معروفة تفصيلياَ، و لا يوجد لها علاج في الوقت الحاضر يمكن أن يغير المثلي الى سوي سواء بإستعمال العقاقير أو العلاج النفسي أو الإجتماعي، مؤكدا بأن (المثلية ليس لها علاقة بالتربية البيتية وليس لها أي علاقة بالتفسخ الخلقي أو الإجتماعي أو بقدرة الفرد على أن يمارس دوراَ إيجابياَ في المجتمع).

توصية

نوصي الأجهزة الأمنية والفصائل المسلحة بأن قتل المثليين الجنسيين او تعذيبهم لن يقضي على هذه الظاهرة، فضلا عن ان استهدافهم بالقتل او التعذيب يعد جريمة، وأن التعامل معهم يكون باحالتهم الى الأطباء النفسيين وتأمين متطلباتهم. وعلى الأعلام العربي الكف عن التحريض ضدهم واظهار انفسهم بانهم الأحرص على الدين والأخلاق.

وللتذكير، فان مدير شرطة بغداد استدعاني الى مكتبه في التسعينات، وعرض عليّ مجموعة من (المخنثين والمثلين) طالبا مني اجراء دراسة عليهم واقتراح الوسيلة المناسبة للتعامل معهم، فاخذ بما اقترحنا ونقلوا الى مستشفى ابن رشد للأمراض النفسية.. فكونوا مثلهم وخذوا بما يقوله العلم ان كنتم على القيم والدين وشعبكم حريصين.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

ليس من السهل الادعاء بأن فكرة ما قد خرجت من التاريخ. هذه دعوى عريضة؛ لا سيما إذا تناولت فكرة عظيمة التأثير، مثل نموذج الحكم الديني المعاصر.

قد تكون الدعوى صحيحة أو خاطئة؛ لكنها –على أي حال– احتمال ممكن. دعنا ننظر في نموذج قريب جداً منها، وهو «الخلافة الإسلامية» التي سادت نحو 13 قرناً من تاريخ الإسلام (من السنة العاشرة للهجرة- 632م، حتى 1342هـ- 1924م). لقد حظي نموذج «الخلافة» بقدر وافر من التنظير والتبجيل، كما حظيت بعمق عاطفي جعلها محط آمال النخبة والعامة معاً؛ لكننا نعلم أن تطبيق الفكرة في إطار الدولة العثمانية، قد قضى على القليل من المبررات التي احتفظت بها من تاريخها القديم. ومع سقوط الدولة العثمانية في 1924، لم تعد احتمالاً جدياً أو جديراً بالعناء عند أحد من المسلمين. الاستثناء الوحيد هو «حزب التحرير» الذي بقي مخلصاً لفكرة الخلافة حتى اليوم. لكن سيرة الحزب ذاته دليل على القول السابق، فقد أخفق تماماً في إقناع الجمهور، كما أخفق في الحصول على مكان في الحياة السياسية، منذ تأسيسه وحتى يومنا هذا. أما تجربة «داعش»، فلا تعد امتداداً أو تمثيلاً لنظرية الخلافة الإسلامية التي نتحدث عنها، فمضمونها أقرب إلى نموذج الميليشيا الفاشية الحديثة.

الخلافة التي اعتبرها معظم المسلمين نموذجاً للسياسة الفاضلة، لم تعد منذ مطلع القرن العشرين احتمالاً جدياً أو مرغوباً. ولهذا لا تجد بين جمهور المسلمين، فضلاً عن المفكرين والعاملين في الحقل السياسي، من يسعى إليها. وإذا تحدثوا عنها، تحدثوا عن ماضٍ جميل، لا عن مشروع ممكن. هذا يعني ببساطة أن الخلافة قد خرجت من التاريخ، وباتت جزءاً من المكتبة. وقد اعتاد العرب التعبير عن الشيء الذي خرج من التاريخ، بالقول إنه أمسى في «خبر كان». ولا شك أن فكرة الخلافة قد أمست كذلك.

بعد هذه المقدمة الطويلة، سوف أضع مؤشرين لتبرير ما ادعيته في مطلع المقالة: أولهما الصدام الواسع النطاق بين الجيل الجديد من الإيرانيين وبين حكومتهم، حول مسألة الحجاب خصوصاً. هذا الصدام المستمر منذ سبتمبر (أيلول)، جعل سياسات التدين القسري موضوعاً للتحدي بين الدولة التي تمتلك أدوات العنف، وجيل الشباب الذي يملك المستقبل. أما المؤشر الثاني فهو قرار حكومة «طالبان» بإلغاء التعليم الثانوي والجامعي للبنات.

إني واثق بنسبة عالية جداً، بأن كلتا الحكومتين سوف تتراجعان وتخضعان لمطالب الجمهور. وإذا حصل هذا -ولو ناقصاً- فسوف يسقط عنصر محوري في الخطاب الديني الرسمي، وهو الحق المفترض للدولة الدينية في فرض نموذج موحد لسلوك الأفراد، أي نمط اللباس والعمل والآداب العامة.

الذي يحمل الحكومتين على التراجع، هو التفكك الحاصل فعلاً في الدوائر الاجتماعية التي تساند النخبة السياسية لأسباب دينية بحتة، من دون أن تكون شريكة في القرار (يدخل في هذا الصنف المدارس الدينية، ومعظم العلماء التقليديين). هذه النخبة مهمة جداً لأنها واسعة النفوذ، وهي تمثل ملجأ روحياً لعامة الناس في أوقات الأزمة؛ لأنها لا تتحمل وزر السياسات الحكومية الخشنة.

إن العنصر المميز لنموذج الحكم الديني المعاصر، هو قدرته على صنع مجال عام غير متأثر (ظاهرياً على الأقل) بنمط الحياة الغربي. وهذا يبرز بأجلى صوره في المظهر الخارجي للرجال والنساء (الحجاب في المقام الأول). وإذا وقف الجمهور في مواجهة الدولة، فلن يمكنها المحافظة على هذا المظهر، إلا باستعمال العنف الصريح، وعندها لن يكون الدين أداة لتعزيز الشرعية السياسية، كما جرى حتى الآن. سيكون العنف العاري أو الإغراء هو الأداة الوحيدة الممكنة للحفاظ على النظام العام، وعندئذ فإن «الخطاب السياسي الديني» سينتهي، وتحل محله «الخطابة الدينية»، أي الكلام الذي يفهم الناس جميعاً أنه «عدة شغل» تحمله حكومة عادية لا تبالي بحدود الدين، حتى لو تمسكت بلغته.

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

 

- هل سار كمال أتاتورك على نهج الشيخ علي عبد الرزاق؟

- (الوهابية في الجزائر .. من يمتلك السلطة الدينية؟)

كثير من الدراسات الي خاضت في قضايا الفكر الإسلامي منذ الخلافة الراشدة وأسباب تحول المسلمين، وما وقع من أحداث في البلاد الإسلامية، فكانت هناك دعوات لإسقاط الخلافة وإزالتها، وكان أول من دعا إلى إزالة الخلافة الشيخ علي عبد الرزاق في كتابه " الإسلام وأصول الحكم"، إذ يرى أن نظام الخلافة ليس من الإسلام، بل هو نظام سياسي ابتدعه العرب، وقد أثار كتابته ضجة كبيرة خاصة عند صدور طبعته الثالثة عام 1925، عالج فيه قضية الإسلام دين لا دولة، يقول عنه بعض المفكرين ومنهم محمد البهي بأن دراساته مستعرة من دراسات المستشرقين وبحوثه تفتقر إلى النزاهة لأنه يتأوَّلُ ما زاد عن الدين في الكتاب والسُّنَّة بأنه خارج حدود الدعوة الدينية وربما يقصد النظام الوراثي الذي ابتدعه الأمويون ولعل السباب ترجع إلى أن بعض التيارات الإسلامية أرادت أن تكون السيادة الشرعية وحدها، وذلك ما حدث في موقعة السقيفة بعد وفاة الرسول (ص) وهو ما دعا إليه المودودي وسيد قطب والخميني فيما أطلقوا عليه اسم ث الحاكمية أو ولاية الفقيه.

وقد تبنى كمال أتاتورك فكر الشيخ علي عبد الرزاق، أيام الإمبراطورية العثمانية، كانت له ثورة سياسية عسكرية وردّة فعل عنيفة ومتطرفة على الأوضاع في تلك الحقبة اعتبرها البعض ثورة إصلاحية، تميزت بإسقاط الخلافة الإسلامية وإبطال العمل بقوانين الشريعة وإقامة نظاما جمهوريا مدنيا علمانيا، في محاولة منه إخراج المجتمع التركي من عباءة الإسلام، كان كمال أتاتورك زعيم الحزب الوطني للأتراك، في سنة 1920 انتخب أتاتورك القائد العسكري رئيسا للجمعية الوطنية وكان الحلفاء أكثر طمعا في ضم أراضي تركيا اليونان، لكن أتاتورك تمكن من طردهم واسترجع الأراضي التي هي اليوم الجمهورية التركية طبقا لمعاهدة لوزان لعام 1923، فمكنه هذا النجاح من أن ينتخب ريسا لتركيا في انتخابات مارس 1924، ومن هذا المنطلق ألغت الجمعية نظام الخلافة .

كان هذا القرار صدمة لشعوب الإسلامية وبخاصة مسلمي القارة الهندية، أما الأكراد فقد وجدوا في إسقاط الخلافة الإسلامية فرصة للثورة على النظام الجمهوري الجديد الذي ألغى الخلافة، فثاروا باسم شيخ الطريقة النقشبندية سنة 1925 من أجل الحكم الذاتي وتأسيس الولايات التركية الشرقية، حوّل أتاتورك تركيا إلى دولة حديثة واستبدل القانون الشرعي الإسلامي بالقانون المدني السويسري وإلغاء وزارة الأوقاف وإغلاق المساجد على غرار المسجد الكبير أيا صوفيا الذي حوله إلى متحف كما حوّل مسجد الفاتح إلى مستودع، ومنع أتاتورك تعدد الزوجات، والطرق الصوفية وزوايا الدراويش كما يسمونهم في تركيا، جعل الأذان بالتركية وفرض اللباس الأوروبي.

 وبهذه القرارات قطع أتاتورك تركيا بماضيها الإسلامي، إلا أن الزعامة كانت محل أطماع البعض، تشير المصادر أن الشيخ الشريف حسين زعيم الثورة العربة 1916 وحليف الإنجليز ضد الأتراك في الحرب العالمية الأولى كان قد أعلن نفسه خليفة من مكة مستغلا علاقاتها الطيبة مع بريطانيا ومن هذه الدعوة عادت الخلافة إلى الساحة عندما هتف علماء الأزهر بالخلافة لملك مصر فاروق عام 1938، أمام الوهابية فهي تسعى اليوم لانتزاع الخلافة، مستغلة وجود البيت الحرام في السعودية، وبالتالي تريد أن تكون السعودية هي مقر الخلافة الإسلامية، ما جعل بعض التيارات الإسلامية في العالم الإسلامي تتبنى الفكر الوهّابي ليكون لها نصيب من السلطة، والوهابية نشأت في قلب الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر على يد الإمام محمد بن عبد الوهاب التميمي، وهو أحد علماء الجزيرة أخذ علمه عن الشيخ ابن تيمية الذي قد أحيا فقه الإمام ابن حنبل الذي اتهمه البعض بالتشدد، في الجزائر مثلا وبدخول المذهب الوهابي انقسم علماء الجزائر إلى جمعيتين : إصلاحية وطرقية، وكانت من بين التهم التي الصقها الطرقيون بجمعية العلماء المسلمين هي اعتناقها الوهابية، خاصة وأن البعض يقول أن الوهابية تتبنى فكر المعتزلة أما الشيخ أبو يعلى الزواوي وهو من أبرز العلماء الإصلاحيين في الجزائر فقد رفع عن الوهابية هذه التهمة وقال إن الوهابيون سنيّون وليسوا معتزلة.

***

علجية عيش

"الفهْم الحُر للانحطاط وممارساته الفردية أولُّ درجاتِ المقاومة ..."

أنْ تفهم معناه أنْ تقاوم نتيجة الوعي الحُر بالأشياء والأحداث والظواهر. والوعي مرتبطٌ دائماً بالمعرفة والقدرة على تحديد المواقف والأفعال. والفهم هو حيويتنا الإنسانية على أنْ نقول " لا " بملء الكلمة. فلا يُوجد فهْم يقول" نعم" على الدوام، لأنَّ كل فهم يقوم في جوهره على النفي لا الإثبات، على الرفض لا القبول والتسليم. والإنسان الذي يريد أنْ يفهم يستطيع بسهولةٍ مقاومة كل آفات التسلط والقمع، لأن عقله لا يتواطأ مع متغيرات وأفكار مفروضة، بل يبحث عما يُحرر ذاته. وهذا ما نحتاجه بصدد ظاهرة الانحطاط وممارساته السلبية الغالبة في المجتمعات المعاصرة. والفهم دعوة نقدية مفتوحة إلى معرفة: ماذا يعني الانحطاط، وكيف يتشكل لدى الأشخاص؟!

يبلغ الانحطاطُ مداه عندما يتجسّد في صورة  فكرةٍ أو سلوكٍ أو عملٍّ. ولكنه لن يجد قدرةً على المزيد دون أنْ يتبناه أشخاص بعينهم. وبخاصة أنَّه من غير المعقول أنْ تنحدر المجتمعات برمتها نحو الانحطاط أو تجعله هدفاً لها. فالانحطاط قد يكون عابراً أو قابلاً للزوال بحكم كونه منطوياً على البُعد العرضّي. ذلك أنه حالة تستغرق صاحبها إذْ يعطيها الشخص صورتها الفعلية. هو الشخص- العلامة على وجودها وممارسةِ دلالتها، ولذالك سيجد كلُّ انحطاطٍ أصداءً لدى أشخاصٍ يميلون إلى التعبير عنه.

والفارق كبير بين الانحطاط المادي (الجمعي) والانحطاط الفردي (الشخصي)، الأولُّ يعبر عن ضعف وتدهور الشروط الموضُوعيّة لتطور المجتمعات، فتكون فريسةً للتقهقر والتراجع الحضاري، وهو حصيلة تراكم تاريخي لعوامل الضّعة والتخلُّف. بينما الثاني يُمثل ميولاً وأفكاراً وتوجهات لدى بعض الإفراد لجني المصالح والإستفادة من الحالة القائمة. ويصبح ميلاً واعياً لدى هذا الشخص أو ذاك طالما يحقق المكاسب ويشبع مآربه المتدنية، ولذلك سيفعل أيَّ شيءٍ من أجل الوصول إليها وينحطُ إلى درجةٍ قميئةٍ بقدر ما تكون أهدافُه قريبةً!!

واللافت أنَّ هذا الشخص الذي يُنذر نفسه للانحطاط يصرُ إصراراً على ذلك، وكأنَّ الإنحطاط قدرٌ لا مفر منه، وكأنه يعرف ما يُضمر من نزوع نحو السقوط الإنساني أمام الناس. ولمزيد من الإيهام والخداع، يتطلع المنحط خلسة إلى مرتبة عليا ليست له، بينما هو يتدنى أكثر وأكثر، حتى يصل إلى الحضيض. الانحطاط حزمة خصال نفسية وسلوكية تتوافر في شخصٍ، فتهبط به إلى أدنى مؤشر للإنسانية. مثل عدم تقدير الآخرين والتوقح في التصرفات وثقل الظل والتمسك بالصغائر والتوافه واهتبال الفرص. فلا يرى في الإنسان الآخر إلاَّ مجرد" فرصة استغلال ". لو تمكن المنحطُ من الآخر لإفترسه افتراساً ولجعلّه كعصفٍ مأكولٍّ. ولن يلتفت إلى إهدار كرامته وتقديره لذاته، لكن يهمه بالمقام الأول الإستفادةَ من ورائه بأبخس الأثمان. المنحط يُلّخص أفعاله في قضية بارزةٍ هي: كيف أصنع من الآخر وسيلة إنتفاع واستعمال ليس أكثر؟!

الانحطاط يمثلُّ الجانب الخبيث والشرير بنعومةٍ من طبائع البشر، حتى أنَّه يأخذ البعض إلى مرحلة التداعي المُريع. ربما لكون الإنسان يبني حياته على أوهام أو أنه يُصّر اصراراً على فساد مواقفه أو أنه يمارس أفعاله بشكل حيواني. والحيوانية تتجلى في رغبة أحدهم للسيطرة على المحيطين مثلما يسيطر ذكر القطيع على الحيوانات الأخرى. والحيوانية بالمثل تتجسد في توجهاته الاستعراضية بالتزييف وسرقة وعي الناس، على غرار ما ينتفخ الذكر أمام الإنات لنيل القبول منهن، والتعبير عن قدراته لعله يحظى بالإعجاب.

يشير الانحطاط إلى التدهور والتقهقر نحو اللاأخلاق. ولئن كانت تلك الحالة موجودةً في شخص، فإنه يفقد أصالته ويغدو موضوعاً للتزييف والإفتعال. ويعيش دائماً في دائرة الإدعاء والشعور بالإنتفاخ المعبر عن النقص والدونية لا الإمتلاء. وقد يكون الانحطاط مادياً في مظاهر ملموسة حين نرى قبح الواقع وتدني أخلاقياته، وقد يكون معنوياً عندما نشعر بالإهانات المتوالية من شخصٍ منحطٍ، وقد يكون رمزياً على غرار اقتناص الفرص للظهور والخداع.

الرمزية الأخيرة هي شعار المنحط في مجال الثقافة تحديداً، حتى بات الظهور نوعاً من خطف وعي المتابعين وتلويث أفكارهم وصناعة بطل من ورق ومثقف لاقيمة له. يقال إنَّ شيئاً قد انحط من علٍّ، أي قد إرتكس وسقط من إرتفاع لم يكن ليبلغه بالإصالة. ولهذا يحاول أنْ يدور في عجلة التراجع إلى منتهاها،  ودون أنْ يقدم شيئاً ذال بال، يطلبُ من غيره أنْ يعطونه مكانةً لا يستحقها. وعدم الاستحقاق هو جوهر يجب الإعتراف به في مثل هذه الحالات، لأنَّ المثقف يجب أن يكون مثقفاً حقيقياً لا مزيفاً، مُبدعاً لا مقلداً، أصيلاً لا مُلفقاً، حُراً لا متسلطاً. وإذا لم يكن كذلك، سيكون مصدراً للانحطاط الثقافي بالضرورة.

في هذا الإطار هناك قضيتان:

القضية الأولى: هي قضية أنَّ داعية الثقافة المُزيف يُصدِّق نفسه، ربما يكون التصديق حالةً مرضيةً نتيجة الهوس بالذات ونرجسية قميئة لا يرى غيرها. ولكن هل يبلغ الوهم بأحدهم أنْ يعيش هذا الدور عاملاً على تضخيم ذاته بلا حقيقة؟! طبعاً الأمر كذلك، بل نتيجة كونه يعيش حالة مزيفة، فمن الممكن أنْ يتكلم عن الأخلاقيات والقيم كأنه داعية بالفعل. ويمارس الخطاب الديماجوجي نفسه من التمحك والتنطع والمداهنة والتمسح بالعقول سعياً لإستعمال الناس أو الإيقاع بهم عند اللزوم.

والانتقال هنا بالنسبة للمنحط لا تعوزه الفكرة: من حالة "وهمٍ مبين " إلى " يقين مفتعل " بأنه أصيل رغم التزييف المتواصل. وهو الشخص الذي لو فكر قليلاً لأدرك أن حجمه ليس كذلك بناء على معايير موضوعية. ولكن المنحط لا يلقي بالاً بالأشياء الموضوعية، فهو منذ الوهلة الأولى يبني حول نفسه جداراً من الصمت طالباً من المحيطين به الإعجاب المجاني. وتلك الفكرة تأخذه إلى التمسُّح بالعبارات اللزجة، وترديد المواقف والكلمات المتمحورة حول ذاته وأفعاله دون واقع حقيقي. يا لهذه السذاجة المعبرة عن خداع الذات إلى أبعد مدى!!

القضية الثانية: أنْ ينخدع البعضُ بهذا التضخم (الورم) المزيف، وأنْ يُستكتب سواه للإشادة بما هو غير حقيقي فيه، سواء أكان تكلفاً أم تخبطاً أو انخداعاً. والمبالغة في بابٍ كهذا صنفٌ من الجهل المضاعف الذي هو وليد مُناخ التخلُّف الفكري وعدم وجود أصالةٍ حقيقيةٍ. ولذلك يحصد المنحطون الأواخر ما زرعه المنحطُّون الأوائل!! وجميعهم في مناخ " الوباء الثقافي " سيّان، أحدهما يُخدّم على الآخر معتقدين أنهم يقدمون شيئاً جديداً.

والحقيقة أنَّ القضيتين ما كانتا لتظهرا لولا تغلغل مُناخ الجهل داخل المؤسسات الأكاديمية والعلمية وأروقة الثقافة ومنابر الفكر وبين الفئات الاجتماعية المختلفة. لأنَّ ظاهرة الانحطاط التي تسمح بـ" الأورام الثقافية " أنْ تتجلى وتستفحل دون تقلُّص لهي ظاهرة في: كيفية وجود ثقافة الإبداع وفهم معايير الأصالة وبنائها.

ولهذا يستغل المنحطُّون مُناخاً موبوءاً بالقمع لينالوا الرواج واللهاث وراء الشهرة والانتشار. والمنحطون يفهمون أنَّ مجرد العبارات الرنانة يعطيهم موهبةً أو قدرة على التعبير، ولكنه فهم مشوّه لحقيقة أنَّ الانتشار ليس إلاَّ بقدر ما يشكل الجهل فراغاً ثقافياً واضحاً. وما ينطبق على الناس كمتلقين للممارسات في المجتمع ينطبق بالمثل على أصحاب ميول الانحطاط. فالعبارات والكلمات الزاعقة مظهر لخواء لا حدود له، إنّه صوت الصدى لحالة التنطُّع الفكري الراهن.

وإذا أفسحنا الرؤيةَ قليلاً، لوجدنا أن الانحطاط جزء من ترسانة الفساد والقهر في المجتمعات البشرية، لكونه أحد مفردات الخنوع وممارسة التسلط الفج. فالمنحط إعتاد داخلياً على الخنوع لغيره ولو بشكل مقلوب. لأنه رأي عدم إمكانية مقارعة الآخرين تأثيراً ورمزية، فما كان منه إلاَّ أنْ اختار طريق التدني، حتى ينال ما يريد. ويمارس التسلط (المعكوس) على الناس الأقل منه مكانةً منتفخاً بلا قيمةٍ ولا أصالة. وفي بعض المواقف يبادر بنفسه لممارسة الانحطاط بشكلٍّ يدعُو للغثيان، والناس من فرط تلقائيتهم يعتبرون ذلك لوناً من العلاقات بينما هو عين الإهانة. لأنَّهم في كلِّ الأحوال مجرد موضوع يعتبره المنحطُّ قد مَرّر بواسطته ما يُريد، وأنهم قد ابتلعوا نواياه وامتثلوا لتوجهاته غير الإنسانية.

إنَّ طريق مقاومة الانحطاط هو طريق الفكر المستنير وحرية القول. فأن تتثقف على نحو حقيقي وبشكل فاعل يعني أنك لا تقبل الانحطاط مصدراً وممارسةً. وأنك لن تلتفت إلى المنحطين، عندما يطلبون منك رواجاً لبضاعتهم الثقافية الفاسدة. لأنَّ انجرارك وراء هؤلاء هو خنوع راهن لن يجر إلاَّ مزيداً من التنازلات. والمنحطُّون لن يرضوا أقل من انتهاك معنى الإصالة فيك، بل كل همهم هو الوصول إلى قتل أية أصالة في الحياة والثقافة عموماً حتى تتساوى الرؤوس. فلا يشيدُ بمنحطٍ إلاَّ منحطُ مثله وعلى الخط نفسه من التدني.

المقاومة لذلك التدني بالتبادل نمط من الفهم الكاشف لما يفعل المنحطُّون. ولهذا ليس هناك أكثر تأثيراً على المنحطين مثلما يؤثر فهمنا لما يصدر عنهم من أقوالٍّ وأفعالٍّ. وأنْ تفهم هذه الممارسات يعني إنطفاء وهج الإنحطاط وانزوائه مرةً أخرى. فلن تتقدم الثقافة دون التخلص من كل انحطاطِ يترصد الإنسانية فينا. والفهم هو الجدار الأول الذي يصطدم به المنحط من غير أنْ يتجاوزه، وأنْ يتم تعرية ألاعيبه الملتوية هو الباب الذي يتهرب من فتحه على الدوام. ومن ثمَّ، ليس يقتل المنحط أكثر من أنْ تكون واعياً بما يمارس وعارفاً بخريطة تحركاته. فهو ينتعش في أجواء" التغفيل والتجهيل " إلى أقصى مدى، لأنَّ السيطرة التي يحاول المنحط ممارستها على ضحاياه تتغذى على انعدام الوعي وغياب الاستنارة الحقيقية.

***

د. سامي عبد العال

لم يعد اليوم التّقويم الميلاديّ تقويما مسيحيّا، أو ذا أرث مسيحيّ أو غربيّ؛ بل أصبح اليوم تقويما جمع البشريّة ككل، على اختلاف أقطارهم وألسنتهم وأديانهم وتوجهاتهم، وأصبحت البشريّة على مشارف توديع عام مضى، بجسناته وسيئاته، وبإيجابيّاته وسلبيّاته، وعلى مشارف استقبال عام جديد بآماله وتطلّعاته، أي عام 2023م، ونحن لا زلنا في بدايات العقد الثّالث من بداية الألفيّة الجديدة.

ومع هذه الألفيّة الجديدة، إلا أنّ الصّراع البشريّ لا يزال يظهر بين حين وآخر، وبأشكال متعدّدة، آخرها الحرب الأوكرانيّة، الّتي أثرت في العالم أجمع، ولا يزال التّخوّف كبيرا من حرب عالميّة جديدة، في ظلّ صراع شرقيّ وغربيّ، وفي ظلّ توسع كبير للتّسلح، وفي تضخم الصّراع الاقتصاديّ، وانتشار الحرب البيلوجيّة، ممّا يعطي مؤشرات سلبيّة للواقع القادم، خصوصا إذا ما قاد العالم سياسيون يريدون خلق زعامة من دماء البشر، وكهنة يعيشون في ماورائيّات ما ورثوه من ضرورة الدّمار لمجيئ المخلّص، وبداية الحياة الأبديّة، وفلاسفة يبررون للسّاسة أفعالهم، وفنانون ومثقفون ومصالحيون يسيرون حول المنفعة الآنيّة المراد تحقّقها كذوات أو هويّات أو أعراق.

لا يمكن بحال للمجتمعات الإنسانيّة أن تتحرّر من ربقة هذا الصّراع، فهو رهين الإنسان منذ القدم، وإلّا لما قامت حروب ومجاعات ودمار وتشريد سببه الإنسان نفسه، ومنه ما تحوّل إلى معتقدات يدافع عنها، وموروثات يتعصّب لها، وبطولات ينظم حولها قصائده، وما نراه اليوم إلا نماذج تتكرّر في صور مختلفة ومتنوعة.

ولكيّ تتحرّر المجتمعات الإنسانيّة من ربقة هذا الصّراع عليها أن تتحرّر من مصالح السّاسة، وأوهام رجال الدّين وخطاباتهم الشّعبويّة، المبررة للسّاسة من جهة، ولتحقّق الأوهام الماورائيّة من جهة ثانية، والّتي صنعها البشر تحت ظلّ الخلاص وفق تمكين الصّراع البشريّ، ومن المصالحيين الّذين لا يتجاوزون منافع ذواتهم، وإن أوذي وحرم حتّى من هو أقرب منهم أصبح لا يعنيهم مقابل تحقّ مصالح ذواتهم بمعنى الأنا.

ولا يتحقّق ذلك كلّه إلا إذا خرجنا من صندوق السّاسة، والهويّات الاجتماعيّة والدّينيّة، إلى فضاء المبادئ والقيم المرتبطة بالإنسان ذاته، ونطرنا إلى العالم من الفضاء الواسع، حينها يمكن خلق نظام عالميّ إنسانيّ لا يفرق بين البشر، ويكون مواجها لهذه الصّراعات المفرقة والقاتلة للمجتمع البشريّ.

فإذا تأملنا ما بعد آثار الحربين العالميتين الأولى والثّانيّة، حيث استطاع العقل الإنسانيّ خلق منظومة عالميّة، تولد منها ما يتعلّق بحقوق الإنسان، فهي أرقى ما توصّل إليه العقل البشريّ، والّتي أعطت الاستقرار حينا من الدّهر، لا زلنا نتمتع بالعديد من حسناتها، أمام استبداد دول قطريّة، واستعلاء حكوماتها على الإنسان كإنسان، فحقوق الموطنة كلّما ارتبطت بالإنسان كلّما تحرّرت من استبداد هويّات الدّولة القطريّة كما يرى صادق جواد أنّ "للحقوق منظومتان: منظومة حقوق الإنسان، ومنظومة حقوق المواطنة، وبالنّسبة للأولى ليست لأيّ دولة معينة، فهي عالميّة لها مواثيقها وأدبياتها، ولا يصح لأيّ دولة التّدخل فيها، وإنّما عليها الموائمة من خلال المرجعيّة العالميّة، وأمّا حقوق المواطنة فيدخل في هذه الدّولة، ولهذا نجد حقوق المواطنة تختلف من دولة إلى دولة، عكس حقوق الإنسان، والمعادلة كلّما كانت حقوق المواطنة وافية من حيث تلائمها مع حقوق الإنسان كلّما كانت أقرب إلى الإنسان وحقوقه وكرامته، فعلى الدّول أن تنظّم حقوق المواطنة في تلائم مع حقوق الإنسان؛ لأنّ حقوق الإنسان أكثر سعة"، ويرى أنّ "مدى الوفاء بحقوق الإنسان  أضحى اليوم المسطرة الرّئيسة الّتي تقاس بها جدارة الدّول، وضمن الدّول تقاس بها جدارة الحكومات، والمعيار إذا ليس المواطنة فحسب؛ بل المواطنة المتساوية الّتي لا تشوبها أيّما امتيازات خاصّة ببعض دون سائر المواطنين".

إلّا أنّ هذه المواثيق الدّوليّة لحقوق الإنسان اليوم بدأت تتراجع لتلاعب السّياسة بها تحت دائرة النّفعيّة، وبما أنّها الأصل في الانطلاق من ذات الإنسان إلى الدّول الإجرائيّة، إلا أنّ نفعيّة بعض الدّول الإجرائيّة جعلتها تتحكم في خيرات ومصالح الشّعوب الأخرى باسم حقوق الإنسان ذاتها، وكما ترى سويدا معاني يوبنغ في جوابها عن سؤال "ما الحل بدل النّفعيّة؟" فترى أنّ "الحل في وجود منهج عالمي جديد مبني على تأسيس مبادئ مشتركة للعلاقات الدّوليّة، أي تحت مسمّى الأخلاقيّات العالميّة المشتركة، وأهم هذه المبادئ وحدة الشّعوب والدّول، وهذا ينبني أنّ منفعة الجزء (الدّولة) لا يتحقق إلا بمنفعة الكل (جميع الدّول)، وينبني أيضا أنّ الوطنيّة غير المقيدة أصبحت من الماضي، أي الوطنية القائمة على مصلحة دولة معينة بعيدا عن مصلحة الدّول الأخرى، ويتضح هذا مثلا من التّوزيع غير العادل للثّروات الطّبيعيّة، فنجد من الدّول الّتي تملك هذه الثّروات تمنع الدّول الأخرى من الاستفادة لكونها تملك الموقع الجغرافيّ، وهذا يعني لابدّ من تحقيق المساواة والعدالة المتمثلة في حكومة وطنيّة عالميّة عليها أن تجعل جميع الشّعوب والدّول تستفيد من هذه الثّروات .... ولابدّ من حل أزمة الفيتو الّتي جعلت لخمس دول فقط من أصل مائة وثلاثة وتسعين دولة، حيث يملك أعضاؤها سلطة غير عادلة فيما يتعلق بالدّول الأخرى، فالفيتو يجسّد النّفعيّة السّلبيّة واستخدامها بشكل متكرر .... وأنّ اللّجوء إلى القوة لا يستخدم إلا في حالة تحقيق العدالة فقط، فعلى الدّول أن تتنازل في استخدام القوة في العلاقات الدّولية، وتكون لأجل منفعة جميع الدّول وليس لهيمنة دول معينة يدعمها حق الفيتو أو المصالح النّفعيّة السّلبيّة".

فعلى العقل الفلسفي والثّقافيّ بل وحتّى الدّينيّ أن يدرك ذلك جيّدا، حتّى لا نستنسخ التّجارب البشريّة السّلبيّة السّابقة، ولن يتحقّق ذلك إلا عن طريق رؤية الذّات من جهة، واستقلاليّة رؤية الذّات من جهة ثانيّة، وأقصد برؤية الذّات أي رؤية الآخر والتّعامل معه من خلال الذّات ليس بمعنى الأنا، ولكن بمعنى الماهيّة الواحدة، فعلينا أن نتخلّص في رؤية الآخر من خلال ضيق هويّاتنا النّقغيّة، كانت دينيّة أم مجتمعيّة أم قطريّة، فالبشر جميعا سواء في الوجود، لهم حقّ التّمتع بالوجود وفق المبادئ والقيم الكبرى، من مساواة وعدل وحريّة، ومصاديق ذلك على التّعليم والصّحة والعدالة الاجتماعيّة ومحاربة الفقر والطّبقيّة والتّمييز بكافة أشكاله.

وأمّا استقلاليّة رؤية الذّات فإذا لم يستقل عقل المثقف كان مفكرا أم فيلسوفا أم كاتبا أم فنانا أم مخترعا عن نفعيّة وبرجماتيّة السّياسيّ من جهة، وإن لم يكن رهين هويّة ضيّقة، عرقيّة أم دينيّة أم اجتماعيّة؛ فسيكون أداة من أدوات تحقّق هذا الاستبداد، أيّا كان مقدار تمدّده وأثره، وهذا ما سيؤثر سلبا في المجتمع الإنسانيّ ككل.

فالمجتمعات الإنسانيّة لها تطلّعات قادمة تحقّق كرامتها الإنسانيّة، وتتجاوز هذا الصّراع، وهذه الحروب المدمرة، وهذا الاستبداد والنفعيّة لمصالح شخصيّة أو أسريّة أو قطريّة، وهذا التّمييز بكافّة أشكاله، والاتّجار بالبشر، وهذه الحروب البيلوجيّة، والتّسليح، والفقر والمرض والجهل، وهذا تحقّقه إن وجدت عقول ثقافيّة مدركة لأهميّة ذاتيّتها الماهيّة، ومستقلّة عن أيّ نفعيّات ذاتيّة أو برجماتيّة.

ونحن على مشارف عام 2023م نرجو أن نتجاوز ما يحدث في العالم من آثار الحرب الأوكرانيّة، وممّا يحدث في الشّرق والوطن العربيّ خصوصا، في فلسطين سابقا، وفي سوريّة واليمن حاليا، كما نرجو أن نتجاوز هذه الخطابات الطّائفيّة والفئويّة المفرقة، إلى الخطاب الإنسانيّ الجامع، المحقّق للكرامة الإنسانيّة، وهذه لها أثرها الكبير، وإن بدأ لها الدّاعون أقلة، إلا أنّ تأثيرها الجمعيّ كبير بعد حين؛ لأنّ الواقع لم يعد يتحمل الرّؤية الماضويّة، والهويّات النّفعيّة السّلبيّة المعاصرة، والّتي أضرت بالمجتمع الإنسانيّ ككل.

***

بدر العبري – عُمان

.....................

*مراجع النّصوص المقتبسة في المقالة: كتابي الإنسان والماهيّة مع صادق جواد، وكتاب التّعارف: معرفة بالذّات ومعرفة للآخر.

 

يولي الإسلام أهمية كبيرة للنبي عيسى عليه السلام، الذي يُعتبر أهم الأنبياء المذكورين في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. وقد ذُكر المسيح عيسى في خمسة عشر سورة بما مجموعه مئة وثمانية آية. ومع ذلك، تحيل الآيات التي تذكره بقوة على النصوص اليهودية والمسيحية. التقى النبي محمد كثيراً بمسيحيين أثناء رحلات قوافله بوصفه تاجراً يرافق عمّه، فأصبح على دراية بقصص الكتاب المقدس عن المسيح، وأدمجها في القرآن1. ويؤمن المسلمون بإنجاب مريم العذراء للمسيح عيسى، وبالعديد من المعجزات التي أظهرها في حياته، وبعودته إلى الأرض لاستعادة العدالة وهزيمة المسيح الدجال. كذلك، ووفقًا للتقاليد الإسلامية، سيعمل عيسى على تكسير الصليب بوصفه رمزاً للديانة المسيحية عند عودته في آخر الزمان، وبالتالي تدمير المسيحية التي يعتبرها الإسلام ديانة محرّفة. في هذه المرحلة ينبغي على أهل الكتاب (أي اليهود والنصارى) أن يؤمنوا بالمسيح ويصبحون مسلمين. لذلك سيكون هناك مجتمع واحد فقط، هو مجتمع الإسلام. من ناحية أخرى، يرفض القرآن الكريم قصة صلب المسيح، فقد أنكرت النصوص الإسلامية بشكل قاطع وفاة عيسى، وبدلاً من ذلك، ووفقًا للتفسيرات الإسلامية للقرآن، تم صلب رجل يشبه عيسى وتم رفع المسيح إلى الله. وعلى عكس المسيحية، لا ينظر الإسلام إلى المسيح (عيسى) على أنه ابن الله.

ومنح القرآن الكريم (والسنة النبوية الشريفة) الكثير من الألقاب والأوصاف للمسيح عيسى ابن مريم، أشهرها "المسيح(Messias)" و"ابن مريم (Sohn der Maria)"، وفيما يلي نذكر بعضها:

1- نبي:

-"قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ". (قرآن كريم، سورة البقرة، الآية 136).

2- بشارة جبريل:

-"فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21) ۞ فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا". (قرآن كريم، سورة مريم، الآية 17-22).

3- كلمة الله:

-"وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِين"َ. (قرآن كريم، سورة التحريم، الآية 12). 

4- الرضيع المتكلم:

-"وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)". (قرآن كريم، سورة ال عمران، الآية 46).

-"تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ۖ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ". (قرآن كريم، سورة المائدة، الآية 110).

5- المسيح:

-"إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ". (قرآن كريم، سورة النساء، الآية 171).

6- كلمة الله:

-"يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ". (قرآن كريم، سورة النساء، الآية 45).

7. مُؤيّد بالروح القدس:

-"إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ". (قرآن كريم، سورة المائدة، الآية 110).

8- خال من الذنوب:

-"ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخاً من مس الشيطان، غير مريم وابنها". (حديث نبوي شريف، رواه أبو هريرة، المصدر: أخرجه البخاري ومسلم).

9- خالق وشافي بإذن الله:

-"وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ". (قرآن كريم، سورة ال عمران، الآية 49).

10- مخبر بالغيب بإذن الله:

-"وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ". (قرآن كريم، سورة ال عمران، الآية 49).

11- حاكم في آخر الزمان:

-"لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد". (حديث نبوي شريف، رواه أبو هريرة، المصدر: أخرجه البخاري ومسلم).

12- آية على رحمة الله:

-"ولنجعله آية للناس ورحمة منا ۚوكان أمرا مقضيا". (قرآن كريم، سورة مريم، الآية 21).

13- لم يُصلب، إنما رفعه الله إليه:

-"وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا". (157قرآن كريم، سورة النساء الآية 157).

-"إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ". (قرآن كريم، سورة آل عمران، الآية 55).

***

رضوان ضاوي

باحث في الدراسات المقارنة / الرباط

..................

 هامش:

1. إحالة على محاولة المستشرقين والمبشرين المسيحيين إثبات أن القرآن الكريم من صنع البشر، وأنه كتاب ألفه محمد استناداً إلى معرفته بالتوراة والإنجيل، وهو ما تثبته عناوين بعض ترجمات معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية، حين نقرأ على غلافها الخارجي إشارة واضحة إلى أنه قرآن محمد.

* المصدر باللغة الألمانية:Zukunft /CH, Informationsblatt Mai 2017                                                    

https://www.zukunft-ch.ch/wp-content/uploads/2016/05/Zukunft-CH-Infoblatt-Jesusbild-im-Islam.pdf

* الصورة رفقة المقال: سجادة ايرانية محاكة في مدينة اصفهان، مباركة بآية من القرآن الكريم.

(ليس ثمة في الواقع من وجود بشري لا يندرج في شبكة قرابة مُكونًا ما يسميه تبادل الكينونة)... سلنس.

لسنا ضد من يعانون من حالات نفسية عميقة من الاضطرابات أو الانحرافات من كلا الجنسين "اقصد الذكور والاناث" أو الجنس الثالث، هي معاناة حقيقية والأمر سواء بين كل من يعاني بطريقته أو أسلوبه، أو نمط حياته أعني كبت رغبته في تحقيقها، أو قدرته على التسامي كوسيلة للمواجهة وللعلاج إن أستطاع، أو التكيف مع واقعه.

فرضُ رأي على المجتمع ونشره كفكر هذه كارثة رفضتها الأنظمة الغربية والرسمالية ما بعد الحرب العالمية الثانية حينما شعرت بأن الفكر الماركسي في الاتحاد السوفيتي المنتصر على النازية بدأ يتوسع وينتشر، فحاربته بكل ما أوتيت من قوة وقدرة غير معلنة حتى أسقطت النظام السوفيتي، وكذلك الرياح التي هبت من أواسط أسيا " افغانستان" وأتهم الغرب والولايات المتحدة في دعمها وتأسيسها، فحاربته وهدمت دول من أجل عدم نشر الفكر المتطرف، وأشاعت فكر جديد وخلقت حالة فوبيا "رهاب جمعي" منه وهو الاسلام فوبيا، وغطى اعلام الغرب كل صغيرة وكبيرة مكانيًا وزمانيًا في العالم، وغردت للعولمة وجعلتها قمة التحضر في عالم اليوم، وكانت البديل الأعرج لنظام عالمي جديد وليد كسيح يتصف بشلل مثل شلل الأطفال، واليوم يدعو الغرب إلى إنصاف حقوق المثلية Homosexual .

لا أعتقد هناك من البشر من لم يشعر بمعاناة إنسان آخر لديه معاناة لا يستطيع التخلص من اعباءها، ولم يقدم لها المساعدة قدر ما يستطيع، ولكن تفرض بعض الانظمة وهي أساسًا سبب رئيس في معاناة وتجويع شعوب لعدة قرون منها الهند، وأفريقيا، والعرب، ودول أسيا، واليهود في العالم هم أول من أضطهدهم وحرقهم بمحارق النازية الشهيرة، وشتتوهم عبر مغارب الأرض ومشارقها، اليوم الغرب يدعو إلى حرية هي أول من قمعها، وأول من أذاق مرضاها الويلات، وأول من أتهمها بالشذوذ، أول من واجهها بشتى أنواع العنف لغاية الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن العشرين، تعلن وفجأة أن لهذه الشريحة حقوق، وانها مظلومة، وأنهم أصحاب حق في الحياة وتحقيق رغباتهم، لا أعتقد يوجد عاقل في هذا الكون لا يتفق مع تطبيق رغبات هذه الشريحة لأنها مبتلاة بعلة لا يمكن الفكاك منها، أو معالجتها، ولكن تفرض على الشعوب في كل مجتمعات العالم بالقوة الناعمة، والاعلام الخشن الملمس، السيء الصيت والمتلاعب بالألفاظ والكلمات والأفكار كمثل المجنون في لحظة هلوسته وهذاءاته، هذا هو الغرب اليوم، من يدعي الديمقراطية الملبسة بدكتاتورية استعمارية مقيتة، جربتها الشعوب في كل اصقاع العالم عبر أكثر من قرنين، اليوم أصبحت المثلية والشذوذ، قضية ديمقراطية مُلبسة بدكتاورية الغرب في استعباد الشعوب في افريقيا وفي اسيا وفي الدول العربية وفي معظم دول العالم ومنها راعية الديمقراطية الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.

السؤال لماذا يفرض هؤلاء الغرب فكر ماركسي جديد بلباس الشذوذ، رفضوا الماركسية وحاربوها لأنه ضد الدين، ضد القيم، ضد الشعوب، أما الفكر الاممي في الشذوذ ليس خطير، ولا يهدم المجتمع والاسرة والطبيعة البشرية. يقول العلامة مصطفى صفوان المحلل النفسي المصري الفرنسي في كتابه ما بعد الحضارة الأوديبية ص113 يجب معرفة كيف يتكون الطاغية، ذاك الذي ينتحل قوة استعباد رغبة الآخر، حسنًا، إذا كانت الرغبة اللاشعورية بمعنى الأمنية، هي اساسًا الصيغة التي يتم بحسبها دخول الذات في مجال القانون، تظل الحقيقة أن الذات، حين تُعَد الرغبة من زاوية علاقتها بالعالم، لا تجنح إلى التمتع بالموضوع بقدر جنوحها إلى التمتع بالقوة التي ترتهن بها المتعة.

أعتقد أن حقوق المثلية هي سوى هذيان في واقع لم يستطع المثلي تحقيقة، فكان دعم الطاغية له " السيد- الدكتاتور" بكل ما أوتي من قوة وسلطة في أطلاق الأوامر على العبد " وهي الشعوب المغلوب على أمرها.. الاستعمار الانكليزي في الهند، أنموذجًا، الاستعمار الفرنسي في الجزائر وافريقيا، أنموذجًا، الاحتلال الامريكي للعراق حاليًا، إنموذجًا.. التدخل الإيراني في العراق وسوريا ولبنان، إنموذجًا، شبح إيران على دول الخليج العربي، إنموذجًا.. وغيرها من تجارب لم تدم غير قرون في حياة الأمم" ويضيف " صفوان في كتابه لأن قلب القانون الأخلاقي لا يسحب الذات من خضوعها لقانون الرغبة، الذي يقل تعبيره عن نفسه في هذا الانقلاب.

أن المثلية "الإنحرافات بكل أنواعها" المدعومة لن تستطيع أن تخترق جدران البيوت عنوة أو بقوة العقيدة الجديدة، أو الايديولوجية، فالأديان السماوية وغير السماوية لم تشترى لكي تبايع الغرب في توجهه لدعم المثلية وفرضها كايديولوجية على الشعوب في الكرة الأرضية، قطر وكأس العالم" مونديال قطر"، إنموذجًا.

 نحن نقول ونعترف بأن هناك حالات شاذة من الرغبات ذكرها سيجموند فرويد مؤسس التحليل النفسي قبل أكثر من قرن مضى .. قوله:  هؤلاء شطبوا الفارق بين الجنسين – إن صح التعبير – من برنامجهم في الحياة، فلا يستثير رغبتهم الجنسية إلا أفراد من نفس جنسهم، أما أفراد الجنس الآخر (وخاصة أعضائهم التناسلية) فلا تحرك منهم ساكنًا على الأطلاق، بل قد تثير فيهم التقزز والاستفظاع في الحالات المتطرفة" كتاب محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي، ص 335" ويضيف " سيجموند فرويد هؤلاء من نسميهم " المستجنسين" Homosexuals  أو " المرتكسين Inverts  وهم أغلب الأحيان – لا على الدوام - رجال ونساء على درجة لا بأس بها من الثقافة والتربية، وفي مستوى فكري وخلقي رفيع، إلا أنهم مصابون بهذا الشذوذ المؤسف ليس غير.

إن الشذوذ عندما يتحول إلى فكر فهو إستهداف لهذه الشريحة التي ظلمت عبر التاريخ، وجاء الغرب لكي يضعها هدفًا لدى الامم الملتزمة بمعتقداتها" أقصد المعتقد هنا الذي هو من الصعب تغييره" وهو راسخ ودينامي متحور مع الظرف الذي يمر به الإنسان، فالشيوعية خلال المرحلة السوفيتية أذابت الأفكار والاديان والمعتقدات خلال مرحلة من الزمن من حكمها لشعوب وأمم، ولكنها أنبثقت بأكثر نشاطًا وقوة في جمهوريات الاتحاد السوفيتي بعد انحلاله في العام 1991، فكانت المسيحية تعود بمركز عالمي في موسكو، وكذلك المسلمين في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة، فأعلنت أنها جمهوريات اسلامية، وبعضها جمهوريات مسيحية، وكذلك الحال الآن في الدعوات إلى محو أثر المثليين باعلانه ايديولوجية لها حقوق، ويجب فرضها على كل دول العالم، ومنتدياته الرياضية والثقافية والاجتماعية والتعليم والتربية، هي بداية لذبح هذه الشريحة من الناس التي لديها معاناة حقيقية. هذه الشريحة المسالمة الوديعة اللطيفة، كل أمنياتها تنصب على أشباع الرغبة الجنسية لا غير، لا يهمها السياسة بقدر ما يهمها الإشباع الجنسي الناقص، رغبة غير مكتملة فحسب، ولذلك فإن الشفاء من هذا الإنحراف هو خدعة، ولأن المنحرف "الشاذ" بمعنى التحليل النفسي في حالة تواصل مع رغبته الجنسية اللامنتهية، اللامشبعه، فهو لا يكتفي بتحقيقها، تظل هذه الرغبة في حالة خوف مزمن، وقلق دائم، فإينما يجد "مكانًا وزمانًا" من يشبع رغبته " المثيل له، أو من يرغب ولو بشكل طارئ" يرمي بنفسه ليحقق هذه الرغبة المبتسرة، الناقصة، غير المشبعة إطلاقًا، وهو كلام جازم، ونتفق مع التحليل النفسي بطروحاته العميقة وهي: الأكثر مأساوية أن إشباع مُتطلبات الرغبات مُستحيل، والسبب لأن المتطلبات الجامحة تتوق دومًا إلى تخطي النتائج المُحققة، مهما كانت، كما عبر ذلك العلامة مصصطفى صفوان. 

***

الدكتور اسعد شريف الامارة

بعد هذه المائة السنة الاخيرة من تاريخنا التي تحفل بالاحتلالات والتبعية والهزائم والدكتاتوريات وقمع الحريات والدمار والخراب الذي عشناه وتشظي الهوية وتمزق الاوطان والاقصاء والعنصرية!؟

أما آن لنا ان نعيد قراءة هذا التاريخ ونقد الافكار التي قادته وسادت فيه وكانت مهيمنة عليه!؟

أما آن الأوان لمراجعة حقيقية للفكر الذي وعدونا انه سيكون سبب خلاصنا وحريتنا ووحدتنا وقوتنا ونهضتنا وتطورنا ووو وكل الوعود الذي اطلقها هذا الفكر المستورد على انه البضاعة التي ان استهلكناها فسنصبح ماوعدونا اياه من قوة ووعي وحرية ووحدة ونهضة وتطور!؟

أما آن لدعاة هذا الفكر وهذه الايديولوجيا المسماة (العلمانية) ان يمارسوا النقد الذاتي لفكرهم وايديولوجيتهم ومسيرتهم خلال هذه المائة سنة الاخيرة ويحسبوا الحصيلة التي وصل اليها العرب بعد ان عاشوا في كنف ايديولوجيتهم ، ويصارحوا انفسهم بالفشل الذي وصلوا اليه والخراب الذي تسببوا به والدمار الذي الحقوه بهذه الامة والتمزق الذي كانوا سبباً به والحروب التي اشعلوها والهزائم التي تكبدوها والتبعية التي اسروا بلداننا فيها والاوهام التي صنعوها في ثقافتنا والكراهية والحقد على ذاتنا وتاريخنا وهويتنا الذي زرعوه في نفوسنا!!!

أما آن لعاقل ان يقف ويقول: كفى!

إنَّ بضاعتكم فاسدة وفكركم مشوه وحكمكم دكتاتوري ومنهجكم إقصائي واسلوبكم متعالي وثقافتكم مستنسخة مشوهة وايديولوجيتكم عمياء!!!

أما آن للمثقف أن يكون حرّاً ونقدياً حقيقياً لايخاف من المقولات التي استوردت لكي تجعله يشعر امامها بالعبودية، وان يكون شجاعاً ولايشعر بالصغار والدونية والتبعية (الثقافية) امام المقولات المشوهة!

كيف لمثقفٍ ان يكون حراً وهو يشارك المستبدين والدكتاتوريين والاقصائيين الايديولوجيا نفسها ويدافع عن الفكرة نفسها التي يستبد باسمها الحاكم ويستذل بها شعبه ويقمع الشعب بها ويقود باسمها الحروب ويدمر البلدان ويستذل الشعوب!!!

كيف يكون حراً وهو يبرر الاستبداد ويفلسف الخراب ويدافع عن الايديولوجيا التي انتجت كل ذلك!!!

نقد العلمانية، وكشف نتائجها، واظهار التشوهات التي رافقت استعارتها من ثقافة ومجتمعات اخرى ونقلها الى ثقافتنا ومجتمعاتنا، وبيان الحال الذي وصلت اليه بلداننا ومجتمعاتنا في ظلها، 

مطلب حضاري ومهمة ضرورية وفعل راهني يجب ان يتعلم مثقفنا ممارسته لكي يستطيع اعادة التوازن لحركة الوعي الفكري والثقافي داخل الحياة …

ان كان التنوير عند اهم فلاسفته هو ماقدمه في الاجابة عن السؤال: (ما التنوير؟).

عندما يحدد "إيمانويل كانت" مفهوم التنوير بأنه:

خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه من خلال عدم استخدامه لعقله إلا بتوجيه من إنسان آخر. ويحصر كانت أسباب حالة القصور تلك في السببين الأساسيين التاليين: الكسـل والجبــن! فتكاسل الناس عن الاعتماد على أنفسهم في التفكير أدى من جهة إلى تخلفهم، ومن جهة أخرى هيأ الفرصة للآخرين لاستغلالهم، وذلك بسبب عامل الخوف فيهم).

فان المثقف العربي لم يصبح تنويرياً، لانه لم يخرج عن قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، من خلال عدم استخدامه لعقله، إلا بتوجيه من إنسان آخر (فرض عليه فكرته العلمانية)، وبسبب تكاسل مثقفنا في الاعتماد على نفسه،  وجبنه امام الاخر وتصاغره ازاءه، هيأ الفرصة للآخر ان يستغله ثقافياً، ويستعبده فكرياً، ويجعله تابعاً له، فظل مثقفنا قابعاً في ظلاميته الايديولوجية العلمانية، وقاصراً عن استخدام عقله، فلم يدخل هو الى التنوير ولم يدخل التنوير الى فكره!.

لذا نقول آن الأوان ان يدخل مثقفنا عصر التنوير، وان يخرج عن قصوره، ويمارس التفكير الحر بلا وصايةٍ من أحدٍ، ولا توجيه من فكرةٍ مسبقة مفروضة عليه ، بل عليه ان يمارس فكراً نقدياً حراً ومستقلاً وشجاعاً لمقولاته التي شكلت موجهات فكره خلال هذه المائة سنة الاخيرة، واهمها؛ مقولة (العلمانية)،  لكي يكون تنويرياً خارجاً عن قصوره الذاتي، ومتمرداً على توجيه الاخر لفكره، ومتخلصاً من كسله الفكري، وجبنه الثقافي …

نحتاج عقولاً حرة ونقداً شجاعاً وتنويراً واعياً …

ولانحتاج افكاراً مستوردة تقيد التفكير وتحجم العقول وتحجب النقد وتؤسس للتبعية الثقافية للآخر …

الخلاصة اننا وبعد مائة سنة من ترديد مقولة العلمانية اصبح لدينا قطيع ثقافي علماني كله يردد خلف بعضه كلمة العلمانية حتى وهو يقاد الى مجازر ثقافية كبرى كما حصل مع الدكتاتوريات والاحتلالات والهزائم وقمع الحريات وتدمير الثقافات!

بعد مائة سنة اصبح لدينا قطيع ثقافي يثغو بالعلمانية خلف ناي الآخر بلا وعي ولا فهم ولا إرادة ولا نقد ولا حرية …

***

د. احمد حمادي

 

(السُّلْطَةُ الإسْلامِيَّةُ بَيْن الخِلافَةِ والمُلْكِ)

مَدْخَلٌ لِتأسٍيْسِ تَفْسِيْرِ التَّارِيْخِ:

من حق القارئ أن يعلن مسبقا قراره ورأيه بشأن الحديث أو بالأجدى حيوية وضرورة اجترار بعض إحداثيات تاريخ دولة الخلافة الإسلامية في وقتنا الراهن، فامتقاعه أو امتعاضه بعدم أهمية تناول هذه الفترة التاريخية في حياتنا جائز بلغة الفقه، لكن في ظل استعار ممارسات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بات لزاما التنويه عن بعض الإشارات التاريخية التي تتعلق بدولة ما بعد خلافة الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) تحديداً بزوغ نجم البيت الأموي في سماء الدولة الإسلامية والتي استطاع أن يحول المشهد الإسلامي آنذاك من خلافة راشدة إلى ملك عضوض يتسم بالتوارث دوماً، وبالوحشية وعبث السياسة وتسييس أحوال الرعية والأمصار أحيانا كثيرة.

وحينما يفتش القارئ في المصادر التاريخية التي تتعلق ببعض تفاصيل الدولة الأموية التي اقتنصت الخلافة لحين سقوطها على أيدي العباسيين الذين هم أيضاً مارسوا بطشاً ومحوا لسابقيهم تصيبه الدهشة لما يطالعه من أخبار وملامح ترصد هذه الفترة التاريخية التي طالت كل مناحي الحياة الدينية والاجتماعية والاقتصادية وبالقطع المشهد السياسي، في الوقت الذي نسمع فيه أصواتا كثيرة ونطالع وجوهاً باتت مكرورة وأكثر مللاً تدلل على أن عصور السلف كانت أكثر رحمة ولينا وحضارة.

وفكرة الإحساس بالتاريخ هي إحساس بالوجود والهوية تماما مثلما أشار الناقد المغربي جميل حمداوي وهو في معرض تحليله للسيميوطيقا التأويلية عند بول ريكور، حيث إن تحليل البنى الصورية والمنطقية للنصوص التاريخية يساعد المؤول على فهم النفس والذات والغير والعالم أيضاً. كما أن التفسير تلو التفسير يجدد هوية القارئ، ويغير دائما ثقافته العامة، ويساعده على استيعاب ثقافته الوطنية والقومية.

وتأكيداً لعبارة بول ريكور "شرح أكبر لفهم أفضل" فإن القارئ العربي بصفته الملمح الأكثر حضوراً في مشهده ينبغي عليه أن يدرك بعضاً من ملامح تاريخه الذي يدغدغ به أسماعنا وأذهانها فضائيون (نسبة إلى محترفي الظهور الإعلامي بالفضائيات) مشيرين إلى ضرورة التحلي بسمات هذه الخلافات المنصرمة البائدة والتي شوهت صفحة الإسلام والمسلمين بكتاب التاريخ الإنساني.

ومن ثم، فإن مسألة تفسير وتأويل التفاصيل التاريخية المرتبطة بهذه الفترة تعد عاملاً داعماً لتعرف الأسباب ولعوامل التي دفعت حركات مثل طالبان والقاعدة وكافة الفصائل الأصولية المتطرفة وأخيراً تنظيم داعش وغيرها إلى الظهور على ساحة الشرق الأوسط تحديداً دون غيرها من بقاع الأرض رغم يقيننا بالعلم بأن الكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية وبعض التحالفات الأوروبية الداعمة تقف جميعها بجوار تلك الحركات وتدعم الفصائل التي تسعى لتقويض الكيان العربي، بل إنه يمكن الإشارة بأن دخول الموالي والعناصر غير العربية والاستعانة بالهويات الأعجمية غير العربية هي التي قوضت كيان العرب وساعدت على سقوط الكثير من الأنظمة الإسلامية وصولاً إلى سقوط الأندلس بعد تفكيكها إلى طوائف ودويلات صغيرة متناحرة باسم الدين.

(2) مُعْضِلَةُ الشَّرِيْعَةِ وكُنْهُ تَطْبِيْقِهَا:

وأصبحت مهمة التأويل التارخية لحوادث الماضي ضرورية بعد أن ظهرت فصائل كثيرة تنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية كما كان تطبيقها في عهود الخلافة الإسلامية وأن عدم التطبيق لها هو الذي أودى بنا إلى موت حضاري إكلينيكي وهو أمر أثبت عكسه التاريخ نفسه لأن كتب الأوائل التاريخية أفاضت في الحديث عن فساد الأنظمة التي ادعت أنها إسلامية وحينما خلطت الدين بالسياسة كان دوما لمصلحة السياسة الأمر الذي أدى إلى إضعاف مظاهر الدين وليس الدين نفسه.

وكان من الأحرى على الذين جابوا شوارع أوطانهم رافعين شعارات تطبيق الشريعة الإسلامية أن يستهدفوا أولاً تحديد وتقعيد المفهوم وصياغته بصورة معاصرة ومتوافقة مع شريعة سمحة كالإسلام الحنيف، وأخطر ما يواجه كافة الفصائل والتيارات الأصولية المتطرفة أنها لم تع وتدرك حتى الآن أن الغرض من تطبيق الشريعة الإسلامية الأساسي هو تقويم الضمائر وتهذيبها، واستهداف الارتقاء بالإنسان وتحقيق رقيه، وضرورة تنقية الأصول التراثية من الدس والتحريف والتصحيف وذلل الكتابة ونواقصها.

وأقسى الأشياء التي وقع فيها تيارات الإسلام السياسي منذ سقوط آخر خلافة إسلامية وهي الدولة العثمانية المريضة منذ بدايات الحرب العالمية الأولى وظلت مريضة باللهاث حتى وقتنا الراهن خلف الركب الأوروبي الذي يتعامل مع تركيا بمنطق الإغراء بالجزرة مقابل تقديم كثير من التنازلات التاريخية والقيمية، ضيق الأفق في تفسير لفظة الشريعة تاريخيا، وهو الأمر الأكثر تناولاً في كتابات المستشار محمد سعيد العشماوي والذي تناول طرح الفكرة في كتبه أصول الشريعة، والعقل في الإسلام، والشريعة الإسلامية والقانون المصري.

وهذا الضيق في الأفق جعل رؤية هؤلاء المروجين لإعادة إنتاج الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة قاصرة ومحدودة؛ لأنهم ظنوا بأن الشريعة تحتجب وراء تطبيق الحدود والجزاءات وقطع اليد ورجم الزاني إلى آخر ما رأيناه من حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة وقتل المسيحيين في ليبيا، ووجوب إعفاء اللحى وارتداء النقاب للنساء وارتداء الجلباب القصير للرجال وغير ذلك من المظاهر الخارجية دون الاهتمام بروح الشريعة الإسلامية وأن وجوب تطبيقها يستلزم فهماً عميقاً للنصوص التي فسرت كتاب الله تعالى وسنة نبينا المصطفى (صلى الله عليه وسلم).

(3) فَرْقٌ وفَرْقٌ:

وفرق كبير ونحن نتاول بعض المشاهد التاريخية التي سيجيئ ذكرها والتي تتصل بالخلافة الأموية الغاصبة بين رجال ورجال وهم يطبقون الشريعة الإسلامية، فرق بين الرسول الكريم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الصديق أبي بكر الصديق والفاروق عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنهم أجمعين) وهم يطبقون الشريعة بعد أن فهموا مقاصدها ولم يفتتنوا بخلط الدين الثابت الحنيف بمناطق السياسة غير الثابتة، وبين أولئك المتاجرين بالدين والمستغلين لحالات الفقر المعرفي والديني لدى البسطاء فراحوا يروجوا لمزاعم ومطاعن ومثالب وهم يعون أنهم بصنيعهم هذا يفرقون شعوبا متلاحمة ويمزقون أوطاناً قائمة.

وتزاد المشكلة استعاراً حينما يخلط العامة بين الآيات القرآنية الواضح بيانها والأحاديث النبوية الثابتة والصحيحة متناً ورواية وسنداً وتواتراً في النقل، وبين نصوص واجتهادات لفقهاء ورجال دين متقدمين ومتأخرين وأحوال بعض مشايخ السلطة منذ بداية العهد الأموي وحتى سقوط الخلافة الإسلامية أو دولة الإسلام في الأندلس، وهم يعتقدون أن تلك الاجتهادات وهذه الشروح الإنسانية الفقيرة بإمكانها أن تسير حياتنا الدينية والسياسية متغافلين ركيزتين أساسيتين القرآن والسنة العطرة.

(4) مَشَاهِدٌ مِن عَوَارِ الخِلافَةِ الإسْلامِيَّةِ:

كان الدافع من وراء سرد بعض المشاهد التاريخية لسيرة دولة إسلامية بائدة وليست منقرضة وهي الدولة الأموية، هو حضوري صلاة الجمعة بأحد مساجد القاهرة العامرة الطاهرة بمصر المحروسة، ووجدت خطيباً يرتفع بصوته يحكي أساطيرا وقصصا تشبه حكايات الخيال العلمي عن بعض خلفاء بني أمية وأخذ يصورهم على أنهم أفضل رجال العهود الإسلامية وأنه من الأفضل الاحتذاء بهم والاقتداء بحكمتهم السياسية، فكان هذا الحديث وتلك الخطبة المنبرية موجهاً معرفيا لتقفي سير بعض هؤلاء الذين جاء ذكرهم في سياق الخطبة.

فهذا عبد الملك بن مروان الذي تشيد به المسلسلات التاريخية الضاربة في السذاجة إلى حد البله وربما السفه أيضاً يهدر حرمة أشرف بقاع الأرض مكة المكرمة تحت مزاعم دينية لخدمة أغراض السلطة والبقاء على كرسي الحكم، فقد أباح لجنوده دماء المسلمين بها، وأموالهم وأعراضهم أيضاً، ومن الصعب ألا نغفل حقيقة تاريخية وقعت في عهده البائس وهي ضرب الكعبة المشرفة بيت الله الحرام بالمنجنيق مرتين وهدمت الكعبة في كل مرة، ليس هذا فحسب، فالمستقرئ لكتب تاريخ الدولة الأموية يقرأ أن جنوده اقتحموا مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بخيولهم وملأوا المسجد الشريف بالروث والقاذورات، وهنا تجب الإشارة إلى ما ذكره منذ سنوات المستشار محمد سعيد العشماوي وهو بصدد مجابهة ومواجهة أصحاب الفكر الأصولي المتطرف بأن هذا العهد هو الذي يتمجد به أولئك المتطرفون ويسعون إلى تحقيقه بوصفه عهداً ذهبياً للخلافة الإسلامية.

وهذا الخليفة الأموي الذي صار مثلا يحتذى به لدى أنصار تنظيم الدولة الإسلامية والمروجين لتأسيس خلافة إسلامية لما انتقلت الخلافة إليه كان المصحف في حجره فأطبقه وقال: "هذا آخر العهد بك"، وكتبت العبارة في كتاب الأبيات في خزانة الأدب للبغدادي هكذا: "هذا فراق بيني وبينك" وتأكيدا على قولته تلك نشير أنه قبل خلافته كان من أفقه رجال عصره والذي سيغر لقبه إلى خليفة الله وهناك عملات إسلامية ترجع لعهده موجودة بالمتحف البريطاني منقوش عليها اسمها وتحتها عبارة خليفة الله.

وأصدق مرآة لعصر عبد اللك بن مروان قولته الأشهر: "ألا وأني لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف، فمن أراد أن يبدي لي صفحته فليفعل".

وهؤلاء، أي حكام الدولة الأموية الإسلامية، هم الذين أطلقوا وأسهبوا في إلصاق الألقاب التمجيدية بهم مثل نور الله وحكم الله وظل الله وخليفة الله وغير ذلك من ألقاب أضرت بهم لأنهم خلطوا دينا حنيفاً سمحاً بسياسة وأهواء ومطامع شخصية صوب الملك والرياسة. بجانب أنهم باستغلال مثل هذه الألقاب سمحوا لأنفسهم أن يكونوا بمنأى عن المحاسبة والمساءلة طبقاً لمنطق التقديس البشري لهم.

(5) الخلافة الإسلامية وداعش .. وجهان والعملة واحدة:

وإذا عقدنا مقاربة تاريخية بين عهد مظلم كالدولة الأموية وتنظيم داعش لما وجدنا اختلافاً على مستوى الممارسة والأداء السياسي، فكلاهما لم يحققا للإسلام عزة أو كرامة، ولم يقيما للدين صروحاً وحضارة اللهم سوى حضارة معمارية للدولة الأموية تمجد ملكهم وإرثهم الذي اغتصبوه من أصحاب الحقوق.

والصيغة العسكرية كانت في المشهدين هي القاسم المشترك بينهما، وهي صبغة تميزت بالوحشية واستغلال الدين، وهو نفس المنطق الذي يستخدمه اليوم تنظيم داعش، لذا فإن أهم ملمح يميز الدولتين باختلاف النطاق الزمني لكليهما هو الخلافة العنصرية وتطبيق الشريعة دونما فهم أو تأويل لمقاصدها الحكيمة.

ولنا في يزيد بن معاوية خير دليل استباقي على ما نشاهده اليوم من ممارسات وحشية على أيدي تنظيم الدولة الإسلامية داعش، فيقول المؤرخ ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان أنه قتل في موقعة الحرة ألف وسبعمائة من الأنصار، وألف وثلاثمائة من المهاجرين الأبرار، وخمسمائة من الموالي، ليس هذا فقط بل وفضت بكارات آلاف الفتيات، وهو الشيء الذي دعا محمد سعيد العشماوي يفسره بقوله: "أي أن يزيد الأموي خليفة المسلمين وأمير المؤمنين يرى أن موقعة الحرة بكل ما فيها من فظائع ما يفرحه انتقاماً لمشركي مكة الذين قتلوا أو هزموا في غزوة بدر".

والخلافة التي يريد أنصار الدولة الإسلامية داعش إعادة تأسيسها من جديد هي خلافة قامت على أساس من الفساد السياسي وهو التوارث بغير كفاءة أو حكمة أو معرفة تماما مثلما قرأنا في كتب التاريخ الأموي عن مشهد توريث الحكم بين معاوية وولده يزيد. ومعاوية بن سفيان كان أكثر الناس دهاء وذكاء، وكما يذكر أستاذنا الدكتور علي البطل في كتابه عن الدولة الأموية أنه لم يجترح الأمر هجوما، بل بدأ في تحويل الأساس الفقهي، منذ قال "المال مال الله".

وهي قولة حق لا يراد بها الحق في الأساس، وإنما أريد بها سلب حق الأمة في المحاسبة وتطبيق سئ للشريعة كما في الحالة الداعشية الراهنة وفي بعض ممارسات فصائل الإسلام السياسي منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، والتي استخدمت الإسلام لخدمة أغراض خاصة وإحياء نعرات استثنائية مع إقصاء الطوائف المختلفة معها في الأيديولوجية ورهانات المستقبل السياسي. المهم أن معاوية اجتمع بأهل الحل والعقد في زمانه فأشار المغيرة بن شعبة إلى معاوية وقال: "أمير المؤمنين هذا، ثم أشار إلى يزيد بن معاوية وقال: فإن مات فهذا، ثم أمسك بسيفه وشهره قائلاً: ومن أبى فهذا". فقال له معاوية: "اجلس فأنت سيد الخطباء".

ومعاوية هذا الذي يتفاخر به أقطاب المروجين للخلافة الإسلامية لم تكن له سابقة في الإسلام تؤهله لنيل الخلافة أصلاً، وبحسب القاعدة التي استنبطها الفاروق عمر بن الخطاب وهي أنه ليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شيء، والمغيرة بن شعبة الذي أقر بحدث التوريث بغير كفاءة هذا يذكره الكاندهلوي في كتابه حياة الصحابة بأنه رجل غريب الأطوار وقد كان يقال له مغيرة الرأي إذ كان من دهاة العرب وقال الإمام جلال الدين السيوطي عنه قولته الشهيرة: "لو أن للمدينة سبعة أبواب لا يخرج من أي باب منها أحد إلا بالحيلة لخرج المغيرة منها جميعا".

وقد ولاه الفاروق عمر بن الخطاب الكوفة فذهب إلى هند بنت النعمان بن المنذر خاطباً وكانت قد أصيبت بالعمى وزهدت في الدنيا فصدته بقولها: "وماذا تفعل بعجوز عمياء؟" ثم أردفت قائلة: "ما أردت بهذا إلا أن تحدث أحياء العرب بأنك تزوجت بنت النعمان".

***

د. بليغ حمدي إسماعيل

أستاذ المناهج وطرق التدريس (م)، كلية التربية، جامعة المنياـ مصر

بعض الأفكار وكذا السلوكيات التي ننتهجها في حياتنا،  قد تتحول لاحقا إلى صراعات ترهق  شخصياتنا، لأنها ليست سوى انفلات في التعامل وتخلف في وعي الاختلافات في حياتنا بالأساس، لعل من أهم المسائل في هذا الخصوص التطرف الذي يقع فيه غالبية الناس..

 التطرف؛ حيث ينطلق الشخص أو الجماعة من منطلق: (الاختلاف كله شر)، والتعامل مع الآخرين على أنهم أشياء وليسوا أشخاصا، أي تجريد الآخر من إنسانيته أي تصنيفه نمطيا بحسب العرق او الدين او التيار او الطبقة  او الطائفة  وما هنالك من تقسيمات هي في الأساس رمزية واعتمادها كآلية في الحكم والتقييم للآخرين هو شعور عميق بعدم الأمان داخل هذا الفرد أو الجماعة تجاه الآخر، وهي نتاج التعامل وفق الأفكار السلبية أو الأشياء السلبية لدى الآخرين أكثر من النظر والرؤية من زاوية الأفكار والأشياء الإيجابية عند الآخرين، وبالتالي لا نعترف للآخر بما لديه من إيجابيات شخصية حتى يتشكل لدينا مركب السمو على الآخرين، مما يفقدنا التصور الصحي  الواقعي، فيتضخم الأنا ويسيطر على الذات داخل سجن التطرف الذي يسلب الواحد منا حقيقة هويته الإنسانية..

وأحد أهم مسببات التطرف هو كبت الصراع أو نكرانه، أو بتعبير آخر عندما ننظر للآخرين بصور خيالية أو تاريخية أو بشكل عام غير حقيقية سلبية وعلى أن كينونيتهم ماهي سوى أشياء من قصص التاريخ او التراث او الحروب او الفتاوى او الرموز المتطابقة مع ادعاءات الصراع لدينا وعدم الشعور بالأمان وفقدان التوازن في تحديد الواقع الاساسي للسلام الحقيقي في صياغة المعنى الإنساني حولنا...

نستعيد مرة أخرى لماذا نتطرف؟

لأننا نخاف طرح الأسئلة المثيرة للغضب والتعامل معها بصدق وحكمة وجرأة، التطرف بالأساس بذرة لفكرة سلبية خاطئة تخشى سنة من سنن الخلق المتمثلة في الصراع، الصراع عملية طبيعية ذات اتجاهين بحسب نظرتنا ووعينا للحياة، متوقف على مستوى الاعتبار الفكري لدى الفرد أو الجماعة للأحداث والتطورات والتطلعات، الصراع الفكري مهم جدا في صياغة المنظومة الثقافية الحضارية لدى الأمم، إذا كان الصراع اختلاف إيجابي من خلال نظرة المساواة  للآخر كإنسان لديه نقاط القوة والضعف والخصائص والمواهب والنقائص مثلك تماما، يعني انا اتطرف عندما أبخل الناس أشياءهم واسعى لنكران المواهب الرائعة والحقوق الإنسانية التي يمتلكها الآخر، كما اجتهد بكل صلابة وعمى لتغطية سلبياتي وكبت صراع الفكر والنفس النابع من أسئلة حقيقية اتهرب من الإجابة عنها أي أتطرف من خلال خداع الذات والجماعة والعائلة والقبيلة والطائفة والمجتمع..

متى نبدأ نتطرف؟

غالبا التطرف منشأه اعتبار أي صراع حقيقي داخل الذات أو الجماعة مشكلة وليس فرصة للتقدم نحو التنمية والإبداع والسلام والنهوض.

أيضا التطرف يزدهر عندما تتعالى الأسوار الصلبة للآراء والأحكام والفتاوى والتسقيطات والاتهامات النمطية المتبادلة  والتي أصبحت  عبر التاريخ ذات رمزية تتحكم في الحاضر والمستقبل، وهي ركام من الصراعات غير المعقولة والأسئلة المكبوتة والإشكالات المتغافل عنها بخصوص الآخر،  وهذا أكثر صور التلاعب بالوعي شيوعا عبر تقنية التطرف بالمجادلات المبتذلة والتحريض وصدق سيث جودن لقد اوجد الانترنت قوة جديدة لتكوين القبائل!!!

التطرف مجمع الجهل

التطرف عكسه الأمثل هو الرفق بمعنى التسامح الإبداعي للتعاون والسلام بين الناس وليس احتكار الحقيقة الإنسانية، كون المتطرف أولى سماته هي العنف اللفظي والذي قد يصل للإيذاء الجسدي ناهيك عن المعنوي، والعنف نتيجة التسرع وعدم التفهم وهو مصداق التهور والانفلات الأخلاقي وكل ذلك مصدره سيطرة الجهل على نظام التفكير، أي المتطرف صاحب جهل مركب بحيث لايرى لمن يتطرف عليه أية حسنة وأي حق بل يراه شيئا قابل للتحطيم والإقصاء والإبادة، وهذا التوجه أيضا يعكس مدى كذب المتطرف على نفسه وخداعها بأعلميته وجدارته القيادية للآخرين واحتكاره للحقيقة كلها، إذن التطرف كجهل يحدث عندما يجد المتطرف عقله فوق عقول الآخرين، ويسعى لاجبارهم على النظر للواقع وكل الأمور  من منظوره فقط ، والتفاعل الشعوري مع القضايا والأحداث كما يشعر، إنه بذرة الاستبداد بل هو الاستبداد المبطن، المتطرف الطفل الرضيع أكثر إنسانية منه لأنه يحترم ابتسامة الآخر ودمعته ومشاعره وحركاته فيتضامن معه بفطرته، بينما جهل المتطرف يكبت الفطرة ويشوه الوعي ويفسد الأخلاق..

وبسبب التطرف نمنع أنفسنا من الحصول على السلام الإنساني والأمن الاجتماعي، ونهدر فرصاً رائعة لتنمية إنسانيتنا واجتماعنا، لأننا نركز على الرأي الواحد، ونتعصب له، وبالتالي يكون كل شيء آخر خارج نطاق اهتمامنا ونظرنا، وتكون هناك أسباب عديدة أخرى من قبيل النكوص المعرفي والكساح الثقافي المسيطر على واقعنا.

 لكن من المؤكد أن السبب الرئيسي الذي يجعل التطرف رائجا، هو الجهل المركب  والعيش بثقافة ذات أسوار صلبة وجامدة، مع عدم تجاوزها، والانغماس في الواقع دون مناقشته، وعدم التطلع وتوسعة الأفق، وكما هو معروف فإن التركيز على ما هو أمامنا بشكل دائم ومستمر، وعدم التطور، وعدم التفكير، سيؤدي إلى عدم النظر إلى عالم التنوع وجمال الفيسفساء الإنسانية.

 ببساطة، التطرف عندما ترفض تهوية عقلك ونفسيتك وكل وجدانك بالهواء الطلق، لأنك تعتقد أنك ذاتي التهوية وأنك تكون إنسانا بدون الآخر، وهذا  يناقض تماما كون الإنسان اجتماعي بالطبع، المتطرف ليس ذلك الجاهل البسيط بل قد يكون من صاحب الشهادات واعلى مراتب الوجاهة والقيادة، سمته أنه لا يرى انسانا غيره ضمن أطر تفكيره، آراءه هي الأفضل ولا يقبل التفاوض أو الترجيح لأنه نصف تفكيره هو كل التفكير، المقدس عنده هو ذاته والناس أشياء بالنسبة له لا إنسانية تجمعه بهم، هم أشياء يرتبها ويصنفها ويسحقها ويعيد صياغتها كما يشاء إنه مشروع طاغية ومستبد، وهكذا الجماعات التي ترى نفسها فوق النقد وعين الحق وصميم اليقين، لا تؤمن إلا بالقوة والحق عندها والعدل والكرامة والإنصاف والمساواة تابعة لها تخصصها كيفما تشاء...!!

المتطرف بوصفه جاهل هو أطرش لا يسمع لغيره، يخشى الاختلاف لأن الأخير هو محك الحقيقة التي تكشف له عن زيفه وكذبه وخداعه لنفسه واتباعه، حيث يرى في الحوار البناء خسارته ويفضل المجادلة بهدف الفوز وهزيمة الأشياء التي تمثل عوائق أمامه، لأنه لا يناظر للتعلم وفهم رؤية الآخر، بل يسعى لإخفاء أجزاء الحقيقة من أجل تغطية نقصه وهذا هو الجهل المركب التي نرى صوره في المثقف والفقيه والآباء والقيادات والجماعات والطوائف والأحزاب والقبائل والدول...

التطرف مشكلة إنسانية بإمتياز، تحتاج إلى تفكير مستقل وتهوية نفسية، خاصة أن تأثيرها يصل إلى مفاصل متنوعة من الحياة، والصحة النفسية للأفراد، والتنمية الاجتماعية للمجتمعات، لذلك تبقى الخطوة الاولى في اختراق لماذا نتطرف؟ هو الاجابة على الاشكال التالي: هل نحن مستعدون في حل الصراعات مع الآخرين بعقلية الرفق الصادق وانفتاح العقل والنفس على المشترك الانساني؟

هذا ما سنناقشه في الحلقة المقبلة بإذن الله تعالى...

 المهم ألا نترك أنفسنا  فريسة لجاهلية التطرف..

***

أ‌. مراد غريبي

الكلِيبتوقراطيّة أو حُكم اللصوص، هي حكومة يستخدم قادتها المتحكمون بزمام السلطة أو نظام الحكم، مجموعة من الفاسدين والمطبلين والمزمرين، والأهم من يعلنون ولاؤهم المطلق لهؤلاء القادة أكثر من ولائهم للشعب والدولة معاً، وذلك لإدارة السلطة السياسيّة وشؤون الدولة ومؤسساتها بهدف الاستيلاء على ثروات شعوبهم، أو اختلاسها وسرقتها بطرق مختلفة. ومصطلح "كليبتوقراطيّة" كما ورد في "الويكيبيديا" مركب من مقطعين باللغة الإغريقيّة؛ أولهما "كليبتو" (Κλεπτο) بمعنى لص، وثانيهما "قراط" (κρατ) بمعنى حُكم.

وعادة ما يكون نظام الحكم في تلك الحكومات في الأصل ذا طبيعة ديكتاتوريًّة أو استبداديًّة، أي شموليّة، ومع ذلك فقد تظهر الكليبتوقراطيّة في بعض النظم الديموقراطيّة التي انزلقت إلى الأوليجاركيّة (حكم القلة). ففي نظام حكم الكليبتوقراطيّة، يُثري السياسيون الفاسدون أنفسهم سرًا خارج سيادة القانون، إما من خلال الرشاوى، أو من خلال توجيه أموال الدولة لأنفسهم أو لشركائهم من خلال استغلال مناصبهم في السلطة أيضًا.

خصائص حكم اللصوص:

ترتبط الحكومات الكليبتوقراطيّة عمومًا بالدكتاتوريّة والأوليغارشية (حكم القلة) أو بالدكتاتوريات العسكريّة، أو بشخصيات كاريزميّة أو المرتبطة بمرجعيات تقليديّة كالعشيرة والقبيلة والطائفيّة، وغير ذلك من أشكال الحكم التقليديّ الاستبداديّ القائم على المحسوبيات والتسويات الانتهازيّة المصلحيّة بين مكونات المجتمع، والتي تكون الرقابة الشعبيّة فيها وحكم القانون مستحيلاً أو معدوماً إلى حد كبير. وبالتالي سيؤدي ضعف الرقابة الشعبيّة والمحاسبة القانونيّة إلى تفاقم تحكم المسؤولين اللصوص في موارد المال العام ووسائل صرف هذا المال وتهريبه إلى خارج دولهم.

يتعامل الحكام الكليبتوقراطيون في كثير من الأحيان مع خزينة دولتهم كمصدر لثروتهم الشخصيّة، وينفقون الأموال ويبذرونها كما تُملي رغباتهم على السلع الكماليّة والقصور الفارهة ومشاريع الفخفخة والأبهة بكل أشكالها.. كما يقومون بتسليم استثمارات الدولة الكبيرة ذات المردود الماليّ الكبير وإدارة مشاريعها إلى أقربائهم والموالين لهم، بحيث يشكل هؤلاء الأقرباء والموالون دولاً داخل الدولة الواحدة، يلعب الاقتصاد فيها دوراً كبيراً في التحكم برقاب الناس ومصالحهم. هذا ويقوم الكثير من الحكام الكليبتوقراطيين بتحويل الأموال العامة المسروقة بهذا الشكل أو ذاك سراً إلى حسابات مصرفيّة شخصيّة في بلدان أجنبيّة لتحصين أنفسهم ماليًّا في حال أُزيحوا عن السلطة، أو توظيفها داخل بلدانهم إذا سنت لهم قوانين من قبل حكومة اللصوص تسمح لهم بالاستثمار داخل الوطن المنهوب.

الكليبتوقراطية أكثر شيوعًاً في البلدان الناميّة والدول المنهارة التي تعتمد في اقتصادها على تصدير الثروات الطبيعيّة، أو ما يسمى الاقتصاد الريعيّ.

إن اعتماد الدول الناميّة على مدخول تصدير الثروات الباطنيّة أو الزراعيّة، يكوّن شكلاً من الاقتصاد الريعيّ، الذي يسهل سحبه دون التسبب في انخفاض الدخل. ما يؤدي إلى تراكم الثروة في أيدي النخب الاقتصاديّة المدعومة، وغالباً ما يساعد الفساد بهذا الشكل أو ذاك على زيادة توليد الثروة المنهوبة من الشعب.

في الدول المنهارة أو السائرة على طريق الانهيار بسبب تعميم الفساد وانتشاره في كل مفاصل الدولة والمجتمع، يُرجح الاعتماد على الاستيراد من الدول الأجنبيّة، أو الاعتماد على قروض صندوق البنك الدولي، وهذا الاعتماد يساهم في زيادة استنزاف الموارد الداخليّة للدولة وإفقار الشعب، ورفع الدعم عن حاجاتهم الأساسيّة وأولها رغيف الخبز، والأمر الآخر هو سير حكومات هذه الدول المنهارة أو الشبه منهارة اقتصاديّاً وسياسيّاً إلى التوجه بالزام الدولة نفسها بعقود مع الشركاء الذين تراكمت لديهم الأموال في التجارة من جهة، أو البدء بسحب جزءِ من أموال هؤلاء الشركاء لحساب ميزانية الدولة إذا اقتضت الحاجة من جهة ثانية. والأكثر خطورة هو ما يدفع الحكومة الكليبتوقراطية إلى مزيد من الخصخصة للاقتصاد العام وبيعه، وعقد الصفقات الاستثماريّة لموارد الدولة  مع دول أجنبية لإبقاء الوضع على ما هو عليه لأطول فترة ممكنة. وللحفاظ على نفسها وبقائها في السلطة حتى ولو على حساب مزيد من جوع الشعب وقهره وظلمه، وغالباً ما يستخدم الكليبتوقراطيون أموالهم المغسولة للانخراط في عمليات غسيل السمعة، لاعتقادهم بأنهم سيقدمون صورة عامة إيجابيّة عنهم أمام المواطنين، ولكبح الملاحقة الصحفيّة أو القانونية لعلاقاتهم السياسيّة وأصول ثرواتهم. كأن يقوموا بافتتاح مشاريع خيريّة ذات طابع إنسانيّ لعلاج المرضى والمساهمة في تدريس بعض الطلاب الفقراء، أو تقديم معونات مالية من باب الصدقات والزكاة وغير ذلك.

الآثار السلبية لنظام اللصوص على الدولة والمجتمع:

لا شك أن النظام أو الحكومة الكليبتوقراطيّة لها أثارها السلبيّة الكبيرة على أية دولة تنهج النهج الكليبتوقراطيّ،  فهو نظام يضر بمصالح الدولة واقتصادها وشؤونها السياسيّة والحقوق المدنيّة فيها. كما يدمر الحكم الكليبتوقراطيّ آفاق التنمية والتطور في الدولة والمجتمع، ويضعف السوق المحليّة الصناعيّة والزراعيّة والتجاريّة ذات البعد التنموي داخل الدولة وعبر حدودها بشكل كبير، والمساهمة في تأمين قشور سوق المجتمع الاستهلاكي الرفاهي للشعب الذي سيدفع مدخراته الماليّة في هذه السوق، وبعد فترة من الرفاه سيعرف أن أمواله راحت لجيوب قلة من اللصوص بشكل قانوني، وبدأت الدولة ذاتها تفقد ميزانيّة مدفوعاتها بسبب غياب التنمية الحقيقيّة. ولأن الكليبتوقراطيّة الطفيليّة والبيروقراطيّة تختلس أموال الدولة والمواطنين معاً عبر إساءة استخدام الأموال الواردة من الضرائب، أو الاقتصاد الريعيّ، فإنها ستؤدي بعملها اللاأخلاقيّ هذا إلى تدهور وتدمير حياة المواطنين بشكل كبير من خلال انتشار الفساد وتعميمه، وتمدده من بنية الدولة إلى بنية المجتمع والفرد. وخاصة عندما تقع هذه الأنظمة في أزمات سياسيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة، سيرافقها بالضرورة الجوع والقتل على الهوية، والتهجير وضعف دخل المواطن، وهنا تبدأ تظهر على الساحة سلوكيات اجتماعيّة مدمرة لبنية المجتمع ليس الماديّة فحسب، بل والقيميّة بشكل عام، حيث سيسود الخوف من المجهول ويعم الكذب والنفاق والدجل وتجارة الدين وانتشار السحر والشعوذة والأسطورة، وعلى المستوى المادي تنتشر الجريمة والرشوة والسرقة وتجارة المخدرات وتعاطي الدعارة، والأهم هو تردي وضعف الحس الإنسانيّ والوطنيّ عند المواطن، وبدء عمليّة البحث عن الذات الفرديّة على حساب الذات الاجتماعيّة، وحتى الأسريّة منها، فلا مشاحة أن يسرق الأخ أخيه، أو أخته أو أمه أو قريب له، أو ظهور جرائم القتل للقريب والبعيد من أجل الحصول على المال. بتعبير آخر حدوث انهيار تام لكل القيم الماديّة والروحيّة والأخلاقيّة لدى الفرد والمجتمع لتبرز مقولة (إن من يريد الحفاظ على أخلاقه، يصبح كالماسك على جمرة من نار). أو ظهور أنموذج (حارة كل مِنْ إيده إله).

ملاك القول:

يلاحظ المتابع في هذه الدولة صعوداً رديئاً لقواعد تتسم بالرداءة والانحطاط المعياريين. لقد تدهورت متطلبات الجودة العالية لكل شيء، وغيب الأداء الرفيع، وهمشت منظومة القيم، وبرزت الأذواق المنحطة، وأبعدت الكفاءات فسيدت شريحة من التافهين والجهلة، وذوي البساطة الفكريّة، وكل ذلك لخدمة أهداف السوق والربح السريع وتكديس الأموال، وسيادة البرجوازيّة الطفيليّة والبيروقراطيّة وشهوة السلطة، تحت شعارات الديمقراطيّة والشعبويّة وحريّة الاختيار الفردي والشعارات الثورية الفارغة شكلاً ومضموناً. إنها (دولة التفاهة أو الرذيلة).

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

..........................

* للاستزادة في معرف حكم اللصوص راجع، ويكيبيديا، الموسوعة الحرة. كليبتوقراطية

عدنان عويدمبادئ التصوف العرفانيّة: العرفان في اللغة مشتقّ من "عَرَفَ"، ويُعْنى به المعرفة. يقول ابن منظور: "عرف: العرفان: العلم... عَرَفَه، يَعْرِفُهُ، عِرْفَة وعِرْفاناً وَمَعْرِفَةً واعترفه... ورجل عروفٌ: وعَروفة: عارف يعرف الأمور، ولا ينكر أحداً رآه مرة... والعريف والعارف بمعنى مثل عليم وعالم... والجمع عرفاء...".

والعرفان في الاصطلاح هي المعرفة الحاصلة عن طريق المشاهدة القلبيّة، وليس عن طريق العقل أو التجربة الحسّية... وهذا اللون من المعرفة يحصل من خلال العمل المؤمن إيماناً كاملاً بأحكام الدين. وهو بالتالي، الثمرة الناضجة والنهائيّة للدين الحقيقي. وعلى هذا الأساس قدَّم أصحاب الاختصاص تعاريف متعدّدة للعرفان، من أبرزها ما جاء على لسان القيصري: "هو العلم بالله سبحانه، من حيث أسماؤه وصفاته ومظاهره، وأحوال المبدأ والمعاد والعلم بحقائق العالم وبكيفيّة رجوعها إلى حقيقة واحدة، هي الذات الأَحَدِيّة، ومعرفة طريق السلوك والمجاهدة، لتخليص النفس من مضايق القيود الجزئيّة وبالتالي اتّصالها بمبدئها أو خالقها، واتّصافها بنعت الإطلاق والكلّيّة". (16).

وعند الصوفيين، تتمثل الحقيقة اليقينيّة العرفانيّة بتزاوج مبدأيّ الفناء والبقاء الذين يتكاملان للوصول إلى اليقين.

والفناء عند الصوفيين هو مصطلح يدل على مستويات إدراكيّة يصل إليها المريد. وهي نوع من أنواع اندثار أو غياب النفس مع الحفاظ على الجسد الماديّ حياً. أو هي حالة كاملة الاتحاد مع الوجود الماديّ والروحانيّ. وهناك ثلاثة مستويات من الفناء التي يجب تحقيقها وهي:

"الفناء بالشيخ" أي التكامل مع الوجوديّة الفيزيائيّة الماديّة،

"الفناء بالرسول" أي التكامل مع العالم الروحانيّ،

ثم "الفناء بالله" أي التكامل مع الوجود المجرد.

ولكي يصل الصوفيّ إلى هذه المستويات، عليه تطهير ذاته النفسيّة من كل الدوافع الشريرة، والتغلب على كل الغرائز الجسديّة الوضيعة. بمعى أخر، الامتناع عن القيام بكل الخطايا (مثل الجشع، والشهوة، والمتعة، والغرور، والأنانيّة... والامتناع عن كل أنواع الحب ما عدا حب الذات الإلهيّة المطلقة. ويؤدي هذا الامتناع إلى تدمير الذات النفسيّة، مما يقرب المريد إلى الله لدرجة الفناء فيه. (17).

الفناء والبقاء:

إذا كان الفناء في الصوفيّة هو سقوط الأفعال المذمومة عند المتصوف، وتحقيق النقاء الجسديّ والروحيّ معاً، فإن البقاء في المنزلة التالية، هو درجة إدراكيّة عليا، يصل اليها المريد عند نهاية تجربته الصوفيّة، حيث يفنى كذات إنسانيّة بشكل تام بالذات الإلهيّة مما يعطيه الكمال في الوجود والعرفانيّة واليقين. ويعتبر الصوفيون أن كل المخلوقات ستصل إلى هذه الدرجة سواء بحياتهم أم بمماتهم. ويعتبرون أن كل الحكماء والأنبياء سيصلون لهذه الدرجة، وأنهم حاولوا تعليمها للبشر. فهذه الفكرة أساسيّة في كل الطروحات الدينيّة، فكل دين أو طريقة تطلق مصطلحا مختلفا لمعنى البقاء نفسه. فعلى سبيل المثال، تسمى في الإسلام "النجاة"، وفي المسيحيّة تسمى "الخلاص"، وفي البوذيّة تسمى "نيرفانا" وفي الهندوسيّة تسمى "موكتهي".(18).

هذا وهناك الكثير من المفاهيم الصوفيّة مثل:

اليقين:

وهو أعلى مقامات أو مستويات العرفانيّة الصوفيّة، وهو نهاية مطاف المريد الصوفيّ، التي وصل إليها كل الأولياء والقديسين.

الحقيقة:

وهي المعرفة الكاملة التي يصل إليها المريد عند مستوى اليقين.

المعرفة:

وهي عند الصوفيّة تعني إدراك الموجود بحقيقته بشكل غرائزيّ، وذلك عن طريق المرور بخبرات شخصيّة خارجة عن المألوف (الشطح) بدلا من تعلمها عن طريق الأخرين أو إدراكها بالتفكر.

الإحسان:

وهو الكمال وَالْتَمَيّزُ، ويعتبر من أهم أهداف الصوفيّة.

الْذِكْرُ:

وهو شعيرة فكريّة يقوم بها المريد للتقرب من الله. وبالعادة تكون بترديد لفظة معينة (مثل كلمة الله أو عبارة سبحان الله) أو القيام بحركة معينة مهمتها توجيه العقل كلياً للتفكر بالله. (19).

الكرامة الصوفيّة والأسطورة والحلم:

إن من يبحت في الأبعاد الفكريّة والنفسيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة وأخيراً الكاريزميّة للكرامة، سيجد فيها:

أولاً الوعي: حيث يسود الفكر والوضوح، وثانياً اللاوعي: حيث يسيطر المضمر والمقنّع والرمزيّ. أو بتعبير آخر يسود عالمان : عالم الوقائع الخارجيّة التي تجري فعلا وتحصل أمام العين، وعالم التجارب الداخليّة الذاتيّة للفرد المتصوف، التي يفصح عنها بواسطة الرموز. إلا أن المحتوى الخارجيّ، الواعي، أو الواقعي يظل متوازياً مع المحتوى المضمر للكرامة. فالكرامة التي يحققها الصوفيّ وتتجلى في الظاهر، هي نتاج أو تجلي لتجارب " روحيّة " أو أليات (ميكانيزم) نفسيّة. اشتغل عليها الصوفيّ كما بينا في عرضنا السابق. فالصوفيّ الذي يخرج إلى المجتمع ويحل مشكلة أخلاقيّة أو اجتماعيّة للناس أو للمريدين، هو صوفيّ يستمع كما يعتقد هو إلى صوت الضمير ممثلاً هنا بـ ( نداء ملاك، أو نداء الله،)، يأمره لفعل هذا الأمر المعجزة أو ذاك. فالمهم هنا هو أن القطاع اللاواعي الداخليّ عند المتصوف، بحكم موازاته للعالم الواعي، أي كون القطاع الخارجي الفعليّ، بحكم موازاته للعالم الذاتيّ والروحيّ للمتصوف فقد وجدا تعبيرا عنهما بحوادث قابلة لأن تحصل في العيانيّ أو أمام العيان. (20).

وفي الكرامة اتجاهان: الأول يرفض المجتمع والجسد باحتقار، والثانٍي يشكل المرحلة التي يعود فيها هذا الجسد (المطهر) إلى المجتمع مرة ثانية، ولكن بشكل أقوى، ليبني المجتمع الأكمل، والجسد الأكثر انقيادا للقيم النبيلة.

وفي الكرامة اشتياقان أو توقان: توق إلى المطلق واللامحدود والخلود. وتوق إلى نسيان قهر الواقع للإنسان، أو الهروب من الانجراحات ، الخاصة أو الفرديّة ،

وفي الكرامة منهجان: عمليّ يمارس الرياضيات الروحيّة لتخليص الجسد من الرذيلة، وفكريّ يتأمل المطلق والقيم النبيلة. اتجاه يروض البدن، وآخر يصقل النفس من الداخل، أو يعمل على النفسيّ أو الروحيّ. وهنا يندمج المنهجان في مبدأ حياتيّ هو سلوك، وطريقة عيش، وأسلوب تطهر، ودرب للخلاص، وحل مشكلة الإنسان أمام القدر والموت.

وفيها أيضا لغتان: لغة الكلام والمنطق والاقناع والصراحة، وأخرى أقدر على الإثارة، والتوجيه، والتوصيل والأداء، وأقرب إلى الإيحاء والإشارة.

وفيها أيضاً قطاعان: سويّ ومرضيّ ، حاضر وسحيق في قدمه ، متحضر وهمجيّ أو ابتدائيّ.

وفيها نوعان من القلق: قلق تجاه المصير، حيث تحل المشكلة هنا بإخراج الذات المقهورة من خلال إدخال الفردّي في الرمزيّ، والأنا في المطلق. وقلق إزاء المجتمع والسلطة وشتى رموز القمع التي تعمل على محو الذات.(21).

 

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

عبد الجبار الرفاعيمثلما تُعلِنُ العنصريةُ عن حضورها عبر النسب والقبيلة والقومية والمعتقد والجغرافيا والثقافة وغير ذلك، يُعلِنُ الاستهلاكُ المبتذل عن عنصريته عبر الغرابة والشذوذ فيما يستعمله ويتناوله الإنسان. الذي يتناولُ اللحمَ المطلي بالذهب يُعلِنُ أنه الاستثناء في استعلائه على الناس في الأرض، لا يستحقُ هذه المكانةَ غيرُه هو وحده المؤهل للتويج بها. أثار قرفي واشمئزازي خبرٌ نشرته قناةُ العربية يوم 12 ديسمبر 2021 على صفحتها في الانستغرام يتحدث عن: (فندق في فيتنام يقدّم لزواره فرصة شراء قطعة لحم "توماهوك" مغطاة بالذهب، مقابل 1319 دولارًا للقطعة). لفرط دهشتي بعثتُ الخبر إلى ولدي محمد باقر المقيم في استراليا، فبادر هو وأرسل رابطًا لصفحة أحد الطباخين المشهورين على الانستغرام في أحد الدول، يعلن هذا الطباخُ عن أسعار وجباته من اللحوم فيكتب: أن مطعمه يبيع قطعة اللحم المطلية بالذهب، بوزن 680 غراما، بسعر يصل إلى 2000 دولار أمريكي". مقابل ذلك قرأت خبرًا موجعًا على صفحة‏ منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة في اليوم ذاته يقول إن: "عددَ الجياع في المنطقة العربية وصل إلى 69 مليون شخص عام 2020، نتيجة للأزمات الممتدة حيث زاد الجوعُ بنسبة 91.1٪ عمّا كان عليه عام 2000".

‏   تذوقُ الإنسانِ للطعام يختلفُ عن تذوق الحيوان للطعام. تذوقُ الإنسانِ حالة تلذّذ أعمق من أن تنحصر بالحواس، إنها أبعدُ مدىً مما هو مادي لأنها تعبّر عن المشاعر والأحاسيس الإنسانية والرؤية الجمالية للعالَم أيضًا. الاستعلاءُ والتباهي والغطرسة والتبختر في الاستهلاك ضربٌ من خيانة الضمير والمرض الذوقي والأخلاقي الذي يهدرُ إنسانيةَ الإنسان، ويبذّرُ حقوقَ الفقراء والجياع في الأرض، بافتعال احتياجات مفارقة لاحتياجات الإنسان الأساسية والثانوية، ويبدّدُ الثرواتِ والمواردَ الطبيعية المشتركة لتأمين احتياجات كلِّ البشر بسفاهة وحمق.

بطرُ الذائقة في الاستهلاك وانحباسُها فيما هو مادي حالةُ تشوّه مرضية سامّة، تفتكُ بأخلاقية الإنسان، وتميتُ غيرتَه وشفقتَه ورحمتَه بأخيه الإنسان. يُنحَر الإنسانُ داخلَ الإنسانِ حين يُختَزل ويُنظر إليه وإلى كلِّ شيء يتصل بوجوده وعقله وروحه ومشاعره كشيءٍ من الأشياء. هذه واحدةٌ من خطايا رأسمالية السوق المتوحشة، وتعاملها مع كلِّ شيء حتى الإنسان كبضاعةٍ تجارية ومنتَجٍ استهلاكي يباع ويشترى.3140 fish

احتياجاتُ الإنسان: للمعنى، للإيمان، للمحبة، للجمال، لسكينة الروح، لطمأنينة القلب، لتقدير الذات، للاعتراف، للعطاء، للتضامن الإنساني، لا ترويها الأشياءُ المادية مهما غرق الإنسانُ في استهلاكها، ومهما كانت قيمتُها السوقية. مَنْ يعجز عن تأمين الاحتياجات الروحية والأخلاقية والإنسانية يعيش خواءً روحيًا وقلقًا وجوديًا يسلبُ سكينتَه الباطنية، ويحجب عنه معاني السعادة.

كثيرٌ من الناس في المجتمعات الغارقة في الاستهلاك، سواء كانت غربيةً أو شرقية، يكابدون الاضطراباتِ النفسية والقلقَ وفقدانَ السكينة والأرقَ والمللَ والضجرَ والاكتئاب. يعيشُ أكثرُ هؤلاء الناس بلا شعورٍ بالأمن والسلام في داخلهم، وإن كان معظمُهم يحاول التنكّرَ لتعاسته ويتظاهر بالسعادة. التظاهرُ بالسعادة تشجّع عليه كتاباتٌ ساذجة تتكتّم على بواعث مواجع الإنسان العميقة، وتلهيه عن البحث عن اكتشاف عللها الكامنة في داخله والسعي لإشباع احتياجاته الطبيعية، كما إن إعلانَ السعادة صار وسيلةً مخادِعة تتيح للإنسان الحضورَ الاجتماعي والتأثيرَ في الناس الذي ينشده.

في المجتمع الاستهلاكي يصير كلُّ شيء سلعةً، حتى الإنسان يُنظر إليه كأنه سلعة، ويجري تقديرُ قيمة كلّ شيء بمعيار الربح والخسارة بالمعنى الاقتصادي، وتقدّر قيمتُه بمقدارِ ما يسهم فيه من إنتاجٍ مادي، وبنوعِ ما يتسوقه ويستهلكه. تحديدُ قيمة الإنسان بنوعِ ما يتسوقه ويستهلكه أحدث تحولاتٍ في منظومة القيم، وخلق مفاهيمَ زائفة للسعادة والرضا وتقدير الذات والاعتراف، ولكلِّ ما يصنع للإنسان حضورًا ومكانة وتأثيرًا في المجتمع.

3141 fishفي المجتمع الاستهلاكي تزدهر حالةُ التباهي، ويتسيّد التبجّحُ والزهو بما يقتنيه الإنسانُ من أشياء مادية، ينظر الناسُ في هذا المجتمع للتسوق والاستهلاك بوصفه وسيلةً للتفوق على الآخرين، يجري استثمارُها في تنمية الرصيد الاجتماعي للفرد، خاصةً وسط الطبقة المُترَفة الغارقة في الأضواء، المتهافتة على إظهار استعلائها على غيرها بشتى الأساليب المبتذلة.    تُسرِف هذه الطبقةُ في شراء السيارات الفخمة، وماركات الملابس باهظة الثمن، والألماس والمجوهرات النادرة، والساعات الفاحشة السعر، وغيرها من المقتنيات التي تقاس قيمتُها بارتفاع ثمنها، وليس بإشباعها المباشر لحاجة حقيقية، بل تستعمل لغرض الظفر بإلفات نظر الغير وطلب المزيد من الإعجاب والاهتمام، لذلك كلّما غلا ثمنُها تضاعف شغفُ المترفين وتهافتهم عليها، بغضّ النظر عن قيمتها الاستعمالية، وما يمكن أن تؤديه من إشباع حاجة أساسية أو ثانوية.

تمادى نمطُ الاستهلاك التفاخري فشغف هؤلاء بأرقام السيارات، وأرقام الهواتف، وأشياء أخرى غريبة، صارت سلعًا تُعرَض في مزادات خاصة. وأضحت وسائلُ التواصل أداةً لتعويض الافتقار للمشاعر الإنسانية الصادقة، وابتُذلت العواطف وتنمّطت وتجمدت، حتى ابتلي الناسُ بالإدمان على الحضور الدائم في وسائل التواصل، واشتدّ التلهفُ والتسابقُ على الفوز بعدد أكبر من المتابعين والمعجبين، كتعويضٍ عن فقدان المشاعر الصادقة الدافئة الحميمة.

في المجتمع الاستهلاكي تُفتعَل احتياجاتٌ هامشيةٌ وحتى عبثية، ويختلّ سُلّمُ الاحتياجات، فيمسي ما هو ضروريٌّ هامشيًا وما هو هامشيٌّ ضروريًا. تُنسى الاحتياجاتُ العميقة، وتحتجب حاجةُ الإنسان للمعنى وللقيم السامية، ويتدجّن الإنسانُ ويُدمِن على النمط الاستهلاكي المادي المُنطفِئة فيه جذوةُ الحياة الأصيلة، فيموت الإنسانُ داخلَ الإنسان. هذا ما يقوله فلاسفةٌ وعلماءُ نفس واجتماع وقفوا على معاناة الإنسان في هذا العصر، وأدركوا مكابدات اغترابه الوجودي، وكيف صار كأنه آلةٌ ميكانيكية.

في هذا المجتمع يكبتُ الإنسانُ احتياجاتِه العميقة، ويفتعل احتياجات يتطلبها حضورُه في المجتمع الذي ينتمي إليه. يتحول الإنسانُ إلى ممثلٍ يستعير شخصيةً غريبة عن طبيعته، وبالتدريج يطمس احتياجاتِه الإنسانية، ويدمن على التلبّس بهذه الشخصية المستعارَة. في المجتمع الغارق في التباهي المتغطرس بالاستهلاك يصبحُ الإنسانُ السوي غريبًا بل كأنه شاذٌ. يصفُ إريك فروم هذا المجتمعَ بقوله: "الناس الأسوياء يبدون مرضى، ومن هم عكسهم يبدون أسوياء، وهذه ليست طرفة. إن الإنسانَ المريض يشعر أن هناك أشياء فيه لم يتم كبتها، فتدخل صراعًا مع ما هو سائد من أنماط ثقافية، لذلك يشعر بالألم. الشعورُ بالألم إشارةٌ الى أن هناك خطأ ما. هو محظوظ لأنه تألم، ذلك يؤشر إلى أن هناك خطأ في مساره. عندما لا يتألم الإنسانُ يعني أنه تأقلم، لدرجة أنه تخلّى عن كلِّ معنى يمتلكه، أصبح منسلخا أشبهَ بالآلات والروبوتات، ولم يعد يشعر بأيِّ صراع. وهذا يعني أن حُبَّه ومشاعرَه مكبوتةٌ إلى حدٍّ كبير، أو ضامرةٌ بنحوٍ يكشف عن صورةٍ لانفصام الشخصية المعتدل المزمن. إن ما يهدف إليه مجتمعُنا هو زيادةُ الإنتاج بغيةَ تأمين متطلبات زيادة الاستهلاك، أي الاقتصاد وتنميته والتكنولوجيا، هذا هو الهدفُ الذي نعيش من أجله، ولا يعيش الإنسانُ من أجل الإنسان. ما ينفع الناسَ لا يحظى باهتمامٍ كبير، ولا حتى ما يؤذي الناس يحظى باهتمام".

التعاطي مع الإنسان كشيء في المجتمع الاستهلاكي جعل البعضَ يوصي بإحراق جثته بعد الموت. رفاتُ الميت صار ضحيةَ المجتمع الاستهلاكي، بوصف الميّت شيئًا لا قيمةَ له في نظر بعضهم، لذلك ينبغي أن تتخلصَ الأرضُ ومَنْ عليها من رفاته، أو يبادر ذووه أحيانًا فيحرقونه، بغيةَ تحويل رماده إلى ألماس أو جواهر نادرة، كي يكتسب هذا الرمادُ قيمةَ الألماس والجواهر المادية. بعد أن خسر الإنسانُ حياتَه صار لا قيمةَ له كما تفرض ذلك معاييرُ السوق. الإنسانُ بوصفه منتَجًا استهلاكيًا لا قيمةَ له خارج جسده المادي، لذلك تعيره الجواهرُ قيمتَها السوقية بعد أن خسر قيمتَه كسلعة بعد موته. لا أعني بذلك أديانًا تمارس حرقَ جثة الميت بوصفه طقسًا دينيًا، وتعتقد بأن حرقَ الميت يعمل على تسامي روحه وخلاصها من وحشة عالم المادة وأدرانها، كي تعود الروحُ إلى أصلها متحرّرةً من ظلمات المادة. النار في اعتقاد هذه الديانات مطهرة كما يطهر الماء في ديانات أخرى.

في ثقافة الاستهلاك كلُّ شيء سلعة، كلُّ شيء معروضٌ للبيع والشراء والتسوق والاستهلاك والربح التجاري والعرض والطلب. الإنسانُ بعد موته يستعمل كسلعة، مادام كلُّ شيء في الحياة سلعةً استهلاكية، لذلك يمكن للورثة التصرّفُ برفاته كيفما يشاؤون، ومعاملتُه كشيء مادي، واستخدامُه على الضدّ من تميّز وفرادة الكينونة الوجودية له، المتعالية على كلِّ مخلوق في الأرض.

مكانةُ الإنسانِ لا يُحدِّدُها نوعُ ما يتسوقه من أشياء مادية ولا نمط ما يستهلكه. الإنسانُ هذا الكائنُ اللغز المدهش المستودَع لأسرار الخلق، هو الوحيد الذي تجلّت فيه أجملُ صورةٍ لله في العالَم. الإنسانُ جوهرُ الخلق، وأجلى مظهر ارتسمت فيه أكملُ صورةٍ لله، لا يمكن أن يضاهيه الألماسُ أو يساويه أيُّ شيء من الجواهر في العالَم، مهما كانت قيمتُها المادية. الإنسانُ محترمٌ مكرّمٌ في حياته محترمٌ مكرّمٌ بعد موته أيضًا، الموتُ ليس فناءً، الموتُ في مفهوم الدين طورٌ جديد لوجود الإنسان، لذلك ينبغي تكريمُ الإنسان بعد موته كما ينبغي تكريمُه في حياته.

عندما ينحطّ الإنسانُ يرى ذاتَه شيئًا ماديًا، وهو لا يدري أنه مهما كانت القيمةُ المادية لهذا الشيء فإنها لا يمكن أن تضاهي المكانةَ الوجودية ‏للإنسان فضلًا عن أن تماثلها. لن يدركَ الحقيقةَ الوجودية للإنسان إلا ذوو البصائر، ولن يتذوقَ صورةَ هذه الحقيقة بوصفها تجليًا للوجود الإلهي إلا مَنْ يعيش تجربةً روحية تشرق بنور إلهي. من هنا لابد من "إعادة تعريف الإنسان" وذلك هو موضوع مقالتنا القادمة.

 

د. عبد الجبار الرفاعي

 

 

امان السيد أرى أن حلاقة رأس شيرين التي غزت الميديا، ووسائل التواصل الاجتماعي قد طغت على العمق الإنساني، مرتكزها الأساسي، في أخذ بالشكل، وحجب للمضمون، كعادة تجار هذا الزمان في التسويق للمظهر لتنهبه العيون، فتجانبه القلوب.

   هناك عبارات تسفرعن كثير من الأسرار، بعضها سقط من شيرين نفسها، وأخرى من نضال الأحمدية، التي يُستشف الإنسان فيها، قبل الصحافي الذي يسابق الخبر في النشر، وتدويل الفضائح، أما ما ذكره والد زوج شيرين عن ابنه من تقاعسه واستغلاله لها، وصمت شيرين مقابلهما، فهو الذي قصم ظهر البعير حقا!.

 المرأة في شيرين التي أراها ضحية من الأضاحي في هذا الموضع لأسباب عديدة، دفعتني للبوح مطولا حول الظلم الذي يلحق بامرأة ذات كيان مستقل الحضور، فكيف حين يُضاف إليه نقاء سريرة، وتعقّل بتمريرها للأمور الكبيرة التي تأتي من زوج يستغلها تحت مظلة واسعة، فلا هي تود أن تنشر غسيل معاناتها على الملأ، ولا هي تسعى إلى الطلاق، وتحت ستار من الأوهام تصبّر نفسها مرددة: لأعطه فرصة، قد يتغير، ويدرك قيمتي..

 وتمر الأيام والسنون ليتعمق الخراب في نفسها بعد أن أهملت معالجة السبب الرئيس الذي أوصلها إلى ما هي فيه!

 كتبت بذرة هذا المقال في الفيس بوك، كما أفعل أحيانا، فوصلتني تعليقات متعددة، منها ما يخطّئ شيرين في صبرها، وقلة خبرتها، وعدم تعلمها من التجارب في زيجاتها السابقة، ومنها من اعتبر أن فضاء أهل الفن ليس جديرا بأن يؤخذ مقياسا لنجاح الزواج أو فشله، ومنها ما صادق على ما كتبته واجدا  العذر لها، إلى ما إلى ذلك، لكني هنا لست بصدد شيرين الفنانة، أنا بشأن امرأة خاصة، وغير خاصة في رضوخها للتعنيف، ولما هو خارج قناعاتها رغم أنه يفترض بما وصلته من الشأن والاستقلال أن تشطب على الفور زواجا مسيئا، ولكن ما يحصل هو العكس..

 يبدو أن الإناث لا يكتفين بارتشاف بياض الحليب من أثداء أمهاتهن فقط، بل يتعداه إلى رضوخ الجدات والتقاليد بحجة صون الأسرة وحمايتها من التفكك، والخوف من الفضيحة، ويغيب عنهن أن السوس يعمل النخر في عظامهن، وعظام أفراد العائلة كلها في جحيم يستشري!  

   ظاهرة لا يسلم منها المجتمع بتنوع مداراته، فكم من غائص سيخرج بسلال من القهر المكبوت، والدموع اللذّاعة التي تردمها النساء باختلافهن يحيلني إلى الحديث عن جانب عرفته، وعايشت انتشاره بقوة في أوساط أرباب من المثقفين ضمن معايير تختل، تغدو شيرين لها المحرض!

 ما الذي يحول امرأة ذات استقلال ورسوخ إلى قطّ خاضع يسكت لزوج يؤذي، ويستغل على كافة الصعد، وما الذي يلجئ رجلا ذا ألق ثقافي واجتماعي إلى الكذب، والزّيف ليتقرّب من امرأة، ثم حين تقترن به، تكتشف مثلا أن البيت الذي وعدها به قد أسكن فيه أخرى تحت حجة وغيرها، وأن أحلاما زينها بالمسؤولية تجاهها، ليست إلا قناعا يسقط في أول يوم يجمعهما، لتراه الكاذب، والكسول، والمتكاسل عن طلب الرزق، بل، وبكل وقاحة يطلب أن تستأجر بيتا ليسكنا فيه، وتدفع أجرته، وتتكفّل به وبنفسها، ويستغل آخر غياب امرأته عن الوعي بتأثير مرض ألمّ بها من شدة الجهد الذي تبذله في العمل لتنفق على البيت في تغيير للقبلة المتعارف عليها، فيسرق مالها، وما يُقدّم إليها من هدايا مادية لتعينها على استكمال علاجها، بل وإنه يرسله إلى زوجته الأولى التي ادعى طلاقها حين تقدم للزواج من الثانية، ويتباهى آخر بكل وقاحة أمام حشود معجبيه في أوساط الثقافة، والفنانين بالمرأة الحساسة التي ابتليت به، والتي تصمت كرها اتقاء أن يلوكها الناس، وتتقّنع بابتسامة دائمة كي لا يشعر أحد بما تكبت من الألم.

مثقفو هذا الزمان، وأستحضر أحدهم وقد اقتحم علي شباك المسنجر طالبا صداقة صفحتي، قبلته لأن صفحته أظهرت اهتمامه بالشأن الثقافي، لا بل هو المثبت نفسه شاعرا بين لفيفهم، ليصلني بعدها منه قذف، وشتائم، لماذا؟ لأنني لم أهتم لرابط أرسله، يبدو أنه عندما لم يلحظ تعليقا مني استبد به الغضب، وعدّها إهانة كبيرة، فكيف تهمله امرأة تكتب، وهو المتفوق في عرفه نوعا وقوامة دينية ومجتمعية؟!

  الرجل مريض بالإيغو المترفعة حدّ الهشاشة، فلم يجرؤ علنا على بث سمه، بل نفثه من شباك المسنجر معتقدا أنه ثأر لمكانته الأدبية التي يتوهمها، فقوبل مني ببساطة بعدم التعليق أيضا!

 يتهيأ لي أن عواءه المغتاظ خلف إسمنت مسنجري قد نهش جدرانه!

  أتخيل ذاك النموذج مع امرأته، وأستذكر الفراغ الذي تعكسه عيناه، وأتعداه إلى آخر سليل الشرذمة التي تعيش ازدواجية الذكورة وألق المناصب، وجوهٌ مجتمعية ذئبيةُ الأوكار والأحابيل، ضحاياهم نسوة مثل شيرين التي تمتلئ حياة ونشاطا، وعطاء وشفافية، وكاتبة كالتي أنصتّ إليها أمس مطولا بكل أحاسيسي، واصطحبتني ليلتها في منامي، وأستحضر أخرى لملمت معها جراح سنوات ثلاث كشفت لي فيها من تلّون ذلك الرجل الذي تزوجت به إلى أن أطلق الله يد رحمته بالخلاص.

 الحديث لا بدّ أن يمتدّ هنا، وبطلاقة عند "البيجاما" التي ارتداها الأخير ليلة زفافه، وقد انفض منها اللون، أكمامها المدلوقة خارج راحتيه بمقاس فاقه طولا، وحجما، والتي لم يستح أمام عروسه من الاعتراف أنها هدية قديمة من صديق اعتاد أن يرفده بالهدايا والمال بين الحين والآخر، أما بقع الصدأ التي كست أطرافها، فيمكن للقارئ تصورها بلا حرج، البيجاما الأسطورة التي رافت حقيبة سفره، واصلت صداقته سنوات أخرى متباخلا عن استبدالها، إلى أن صوّبت فيها الزوجة نيران عداوتها.. لا تظن أن المسكينة لم تشتر له الجديد، بل اشترت، لكنه لشدة بخله كان يتمسك بذات الأكمام المدلوقة!

 أواه على ذلك المثقف وقد قعد بها وسط الدار، يعلن لعروسه إفلاسه في مساء الليلة الأولى التي جمعتهما، ويطالبها بعد أن زجّها في قفص الزوجية أن تتقبل كذباته، وأن تتكفل بمصاريفهما ونفقات البيت، ثم يخرج إلى الملأ متفاخرا بما أنعم الله عليه، زوجة ذات منصب، وحضور مجتمعي، تظهر الاستكانة والخضوع، فقط كي لا ترفع رايتها حمراء أمام خلق الله، فتلوكها الألسن، والأقاويل!

يبدو أن أصناف أولئك المثقفين يثأرون من المرأة التي لا ترضخ لهم برميها بالجهل، كما قال " ألبرتو مورافيا".. أي تجهيل أكثر تدميرا من استغلالها، وقمعها؟!

 ترى لو أن تلك الزوجة، وأمثالها أدركن السر في قول الحقوقي والناشط الأسترالي مؤسس موقع ويكيليكس جوليان أسانج "في كل مرة نرى الظلم ولا نحرك ساكنا، فنحن نربي أنفسنا على الرضوخ".. هل كانت ستتغير بهن الحال؟!.

 

أمان السيد

 

 

ابراهيم مشارةموقع قنطرة من أجل حوار حضاري

ليس التقارب والرغبة في الفهم من قبل الألمان للعالمين العربي والإسلامي وليدي اليوم ووليدي مستجدات الحياة الاقتصادية بزخمها بل إن ذلك عريق يعود إلى زمن ما قبل غوته صاحب" الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" والذي أطلق فيه مقولته الكبيرة المفارقة للأطروحة الاستشراقية العدائية: (إذا كان الإسلام يعني القنوت فعلى الإسلام نحيا ونموت).

 فالمثقفون الألمان الذين عنوا بمقاربة الثقافة العربية والإسلامية بغية فهمهما انصرفوا أولا إلى القرآن باعتباره دستور الثقافة العربية والإسلامية فأول ترجمة للقرآن إلى اللغة الألمانية تمت عام 1616 عن الإنجليزية، فالقرآن كما أسلفنا هو دستور هذه الثقافة من طنجة إلى جاكرتا ،غير أن الألمان لم يحبذوا الترجمة عن طريق لغة وسيطة أي عبر الإنجليزية أو الفرنسية بل النقل عن لغة القرآن الأولى العربية ، واحتفت هذه الأوساط بصدور أول ترجمة لمعاني القرآن إلى الألمانية عن العربية مباشرة بواسطة ديفيد فريدريش ميجيرلين ولو أنها ترجمة ناقصة ويعتورها سوء الفهم والمقصد كما يوحي العنوان المختار لها  "التوراة التركية أو القرآن"  مع صورة للنبي كتب تحتها  "محمد النبي المدعي" هكذا عنون ميجيرلين ترجمته وهي ترجمة رديئة وصفها غوته بالإنتاج البائس وقد كان غوته نفسه يعتمد في دراسة  القرآن على ترجمة تيودور آرنولد عن الإنجليزية، لكن أحسن ترجمة إلى الألمانية والتي توصف بالشعرية والجيدة هي ترجمة فريدريش روكرت عام 1843 فقد كانت شعرية حقا واقتربت كثيرا من روح القرآن.

غوته الذي اكتشف الثقافة الإسلامية عبر شعر محمد حافظ الشيرازي الذي نقل إلى الألمانية عن الفارسية ديوانه الشعري المستشرق النمساوي هامر برجشتال عام 1814وقد كان الديوان الشرقي للمؤلف الغربي الذي تعد نسخته الأولى جزء من التراث الوثائقي  العالمي لليونسكو محاولة جريئة في طرح الأحكام المسبقة والرغبة الشديدة في الفهم والاعتراف بالآخر وثقافته وفهمها.بل أعلن غوته صراحة: (لا توجد لغة تتجسد فيها الكلمة والروح والكتابة بهذا الشكل الأزلي مثلما هي الحال في اللغة العربية) وكأن الديوان برمته هو رد على فولتير في مسرحيته محمد التي وسمه فيها بالمحتال دون ضمير.

سبق  الحضور الألماني في الشرق والرغبة في الاكتشاف والفهم – وإن كان لبعضهم الحكم المسبق والنظرة العجائبية والولع بالعالم الأسطوري  تحت شمس الشرق الحارة ونسائه المثيرات للرغبة ، الحريم- وقد كانت الرحلة سيبل تعزيز هذه النظرة مثلما هي الحال مع برنهارد فون برايدن الذي زار فلسطين في رحلة الحج إذ انطلق يوم  يوم 25 نيسان عام 1483وهي تدخل ضمن السياحة الدينية وهي تهدف إلى دعم المسيحية على حساب الإسلام فقد كان الرجل قسيسا مع تقديم صورة سيئة برصد اختلالات الواقع وإحالتها على النصوص المؤسسة للثقافة الإسلامية.

وكانت رحلة الحج المتتكرة والمشهورة لهاينريش فون مالتزان( 1826/1847) والتي بدأها بزيارة المغرب والجزائر والحجاز برغبة الاطلاع والاكتشاف تحدوه روح المغامرة مع الولاء للمسيحية والتعصب لها وهي كسابقتها محكومة بالفكر المسبق والرأي المشحون ضد ما هو مختلف بل وتقزيمه  وربطه بالمتخلف والعجائبي والسحري وكتب تقريرا عن رحلة الحج هذه في 750 صفحة وقد كان مالتزان ضمن 12 رجلا أوروبيا الذين رأوا الكعبة إلى  ذلك التاريخ 1860 ونصوصه يطبعها طابع السخرية وسطحية الفهم لكن أهميتها تكمن في أن معرفة الآخر لم تعد سبيله الأولى القراءة بل الرحلة إليه وهذا في حد ذاته إنجاز هام.

وجاءت زيارة الإمبراطور فيلهلم الثاني أوغليوم الثاني كما تسميه المصادر العربية (1859/1941) عام 1898 بدعوة من السلطان عبد الحميد الثاني إلى إسطنبول وبعض ولايات السلطنة كالشام وفلسطين ولبنان  لتوكيد الرغبة في التقارب والفهم العميق والاحترام المتبادل  وقال الإمبراطور عقب عودته :(إن استقبالي في دمشق كان باهرا ومدهشا وتمنيت لو أخذ عن دمشق كيف تستقبل الملوك)  وقد زار قبر الناصر صلاح الدين الأيوبي وأدى عند الضريح آيات التجلة والاحترام بل نزع غطاء الرأس وانحنى إجلالا ووضع إكليلا من البرونز صنع في برلين وللأسف سرق لورنس العرب هذا الإكليل بدعوى أنه غنيمة حرب بل أثر عنه أنه قال: (لو لم يكن لي دين عند وصولي إلى القدس لكنت قد اعتنقت الإسلام حتما) وامتدحه أمير الشعراء شوقي في شهامته وحسه النبيل ومنزعه الحضاري الإنساني:

فهل من مبلغ غليوم عنـــي

مقالا مرضيا ذاك المقامــا

رعاك الله من ملك همــــام

تعهد في الثرى ملكا هماما

وقفت به تذكره ملوكـــــــا

تعود أن يلاقوه قيامـــــــــا

حوار وتقارب ثقافي وعلمي مع العالمين العربي والإسلامي تعمق وترسخ وغدا أكاديميا في طلائع الاستعراب وما قدمه مستعربون ألمان أمثال فلايشر وبروكلمان وشاخت وهونكه وصولا إلى آنا ماريا شمل وتوماس باور وأنجليكا نويفرت والحق أن هذه الدراسات الاستعرابية الألمانية قد أفادت الثقافة العربية الإسلامية بإخراج كنوزها الرابضة في المتاحف العالمية  وفي تحقيق النصوص وصيانتها وقد اتسم منهجهم بالضبط والصرامة والدقة العلمية وإن كان لبعضهم من التحيز والاستعلاء والتعصب ما لا يخفى على الحصيف  من القراء بتعمق وبروح نقدية صارمة.

هكذا يواصل موقع قنطرة رسالة المثقفين الألمان من لدن القرن السابع عشر إلى اليوم في        الحوار والتفاهم والرغبة في الفهم العميق وطرح الأحكام المسبقة واحترام الآخر وثقافته وقد تأسست هذه البوابة بناء على مبادرة من وزارة الخارجية الألمانية من أجل فهم الآخر المختلف وبغرض الحوار البناء الذي يكرس ثقافة السلم والتبادل المعرفي والخبرة العلمية مع العالم العربي والإسلامي ومعرفة ثقافته معرفة صحيحة في تطورها وراهنيتها وامتدادها التاريخي ونبذ كافة الأحكام المسبقة وأشكال الإدانات ونرجسية الذات الغربية المتسلطة وتعاليها ومركزيتها في سبيل الفهم والتواصل ولا أدل على ذلك من العنوان "قنطرة" الذي يحيل على  معنى التواصل ومد الجسور بين التاريخين والفكرين والوجدانين العربي الإسلامي والألماني  من أجل العبور بسلاسة إلى قرن جديد قائم على الاعتراف المتبادل والتعددية والانفتاح على ثقافة الآخر بروح كونية إنسانية لا تقصي الآخر ولا تلغيه إيمانا بمبدأ التعددية والتناغم الحضاري وأن الآخر هو تكملة للأنا وتعزز هذا المنحى بعد هجمات 11 سبتمبر ويتم تشغيل الموقع من قبل الوكالة الفيدرالية الألمانية للتربية المدنية والإذاعة الألمانية دويتشه فيله  والمعهد الألماني للعلاقات الثقافية الخارجية  وشعار الموقع: مكافحة الجهل والتحامل من خلال المعرفة.

تأسس موقع قنطر عام 2003 عقب هجمات 11 سبتمبر وما خلفته تلك الهجمات من عدائية وتحامل من قبل الغرب على الثقافة العربية الإسلامية وكونها داعمة الإرهاب والأصولية وعدوا لدودا لقيم المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة والفنون والحداثة ونأى الموقع عن هذه النظرة المتحاملة والمغرضة والمسبقة سالكا مسلك الاعتراف والموضوعية والاحترام والتقصي والفهم والتحليل محررا بلغات ثلاث الألمانية والعربية والإنجليزية  وهو يعرف نفسه بأنه (يعرض وجهات نظر متنوعة نقدية في الشرق والغرب وكل الثقافات والسلوكيات والسياسات التي ترفض الآخر وتنكر الحقوق الأساسية للإنسان وتناقض قيم الديمقراطية).

والحق أنه بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 اتجه العالم الغربي بما فيه أمريكا - ضحية تلك الهجمات- إلى رغبة قوية في التعرف على العالم العربي والإسلامي  فهناك من المقولات الاستشراقية ما يزعم أن الإرهاب من صميم الثقافة الإسلامية وهي مقولات روج لها بعض المستشرقين  منذ القرن الثامن عشر قرن بداية الثورة الصناعية ونمو البورجوازية وبداية عهد الاستعمار  ووجد أولئك المستشرقون مجالا للطعن في القرآن  والزعم أن الإسلام إنما انتشر بالسيف  كما أنه يهين المرأة ويرفض الآخر المختلف بل ويلغيه (كافر) ولا يمكن ابدأ التقارب بين الشرق والغرب فهما كما قال كبلنج: (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبدا).

من منظور معرفة الآخر والتعمق في ثقافته ومحاولة التحلي بروح الموضوعية والتقصي وعمق التحليل والاعتراف بحق الآخر المختلف في الوجود وكذا بثقافته التي كانت الرائد ة في  العصر الوسيط وقنطرة إلى الثقافة الإغريقية  ذاتها اقترب موقع قنطرة بلغاته الثلاث  من العالمين العربي والإسلامي نابذا كل مشاعر الكراهية والتعالي  معليا من شأن الحوار  داعيا إلى التناغم الحضاري وإلى ثقافة السلام ولا يعني هذا أبدا وجود ثقافة يمينية في ألمانيا ذاتها - شأن اليمين في كامل أوروبا-  يتسم بالرفض والعنف أحيانا وإبداء  مشاعر النبذ والكراهية  ولكنها ثقافة تبقى مدانة من قبل الألمان أنفسهم أو على الأقل عند قطاع عريض من مثقفيهم وساستهم ومن عامة الناس فالتعايش السلمي والاحتكام إلى قيم المواطنة والديمقراطية  وحقوق الإنسان والحريات الأساسية للإنسان هي السقف الذي يظلل سماء الوطن وموقع قنطرة يكتب به أكثر من 500 من الكتاب  من المختصين والمستعربين والأكاديميين  وعلماء المستقبليات من الشرق والغرب  بإشراف من أستاذ اللاهوت كارل يوسف كوشل، وعالمة الإسلام حليمة كروزن، وباحثة  الصراع هاينر بيليفيلد وعالم الفيزياء إرنست أولريش فون فايتسكر وحوالي 100 من نخبة الكتاب العرب والمسلمين   كما يقدم الموقع نفسه  إلى المهتم ، وهكذا يتلاقى التحليل والرصد والتقصي من قبل الغرب والشرق معا من أجل الوصول إلى الحقيقة وتكريس التلاقي على قيم العلم .وقد كتب بالموقع أو تم تعريب ونشر مقالات  كبار الكتاب والمفكرين والمستعربين الألمان أمثال يورغن هابرماس غونتر غراس ، آنا ماري شيمل، هارتموت فندريش، مراد هوفمان، شتيفان فايدنر ،أنجليكا نويفرت ،توماس باور وغيرهم وحوارات ودراسات ومقالات من الشرق نفسه بأقلام إلياس خوري، برهان غليون، جورج طرابيشي، سلامة كيلة، صادق جلال العظم، نصر حامد ، علي حرب، محمد شحرور، وحورات حضارية وثقافية عن الثقافة الإسلامية، الحداثة الشعرية، حوار الحضارات ، الحقوق الإنسانية، أزمة المواطنة في الشرق ، التجارب الديمقراطية ، قضايا المرآة والمعاصرة الخ مع أدونيس، إدوارد سعيد، محمد بنيس، ناصيف نصار، محمد أركون، نوال السعداوي، أمين معلوف  وغيرهم.

وهكذا قدم الموقع للمثقفين في العالمين العربي والإسلامي  ملفات على جانب من الأهمية عن الثقافة العربية والإسلامية وحوارات مع مستعربين وعلماء مستقبليات ورحالة مازالوا يواصلون عطاءهم الحضاري والعلمي في حقل الدراسات العربية والإسلامية مثل زابينه شميتكه الباحثة في الدراسات الإسلامية مكتشفة العديد من المخطوطات العتيقة في القاهرة وإسطنبول وبرلين والتي تؤكد دائما على الأثر الإيجابي للتفكير المشترك بين الفلاسفة المسلمين والمسيحيين واليهود حيث كانت اللغة العربية قاسمهم المشترك وقد اهتدت إلى كثير من المخطوطات الضائعة وبعضها يكاد يتلف من أثر القرون والعوامل الجوية أو الإهمال الإنساني وهو  يحتاج إلى إصلاح وهو ما تفعله في ألمانيا مع خليتها البحثية فالعقل الإسلامي عقل يحث على السلام مع نبذ فكرة أن ليس هناك عقلانية في الإسلام  والإسلام دين متخلف وتقليدي بل إن العالم الإسلامي كافح من أجل التعددية وما هيمنة التيارات المتعصبة سوى طارئ له أسبابه السياسية والتاريخية والاجتماعية دون أن ننسى الصدمة الحضارية في التقاء الشرق بالغرب عبر الحروب الصليبية أولا ونشوء الإمبريالية والاستعمار وما خلف ذلك من ردة فعل عند الشرق بالانكفاء على الذات .وفي اليمن لوحده 50ألف مخطوطة جلبها الشيعة معهم إلى هناك بعد تراجع الاعتزال وهي تسلط الضوء على نشأة الفكر الفلسفي والصراعات الفكرية والمذهبية والسياسية في العالمين العربي والإسلامي.

كما عرف القارئ العربي عبر موقع قنطرة المترجمة الألمانية دوريس كيلياس التي نقلت إلى الألمانية حوالي 40 رواية من روايات الأديب العالمي نجيب محفوظ  وقد رحلت عن دنيانا في 2008 وترجمت كذلك روايات محمد شكري وجمال الغيطاني وميرال طحاوي ، وتعرف الألمان والعرب على السوية بدور النشر التي تهتم بحقل الترجمة إلى الألمانية عن العربية  كدار نشر أونيون في زوريخ التي دأبت كل عام منذ1986 على ترجمة ونشر رواية لنجيب محفوظ  وهي للناشر لوسيان لايتس.

كما يقدم الموقع للعالمين العربي والإسلامي و للمتتبع في العالم برمته عبر اللغات الثلاث وفي محاور تطرح إشكالات المثاقفة والحوار بين الأديان والثقافات وأحوال المجتمع العربي          المعاصر سياسيا وثقافيا واجتماعيا وعبر معرض الصور والملفات الكثيرة الموثقة بالمقالات المتخصصة لكتاب ألمان وعرب وغربيين مما يعطي المتتبع صورة بانورامية للعالم العربي والإسلامي في القرن الجديد بروح أقرب إلى الموضوعية وكشف الحقيقة كما يقدم صورة الجالية المسلمة في ألمانيا اليوم ومشاكلها في الاندماج والعمل واللغة وأزمة الهوية فلم تعد الجالية المسلمة اليوم في ألمانيا هي الجالية التركية فقط بل تشكلت من أفواج طالبي اللجوء من سوريا والعراق وأفغانستان والجمهوريات الإسلامية والمغرب العربي وتسعى السياسة الألمانية إلى احتواء هذه الجاليات عبر تأهيلها مهنيا مع الاعتراف بخصوصيتها الدينية في إطار احترام الدستور الألماني وحقوق الإنسان والحريات وفي نفس الوقت شجب كل التصرفات اليمينية المعادية التي تستهدف هؤلاء المهاجرين وثقافتهم كتجربة اليوم المفتوح على المساجد ، وتجربة رفع الآذان يوم الجمعة منذ سنتين في مدينة كولونيا فمازالت الصعاب قائمة رغم محاولات التقارب والفهم كما يقول الإمام بنيامبن إدريس الذي امتدحته المستشارة ميركل: (فالمجتمع الألماني ليس مستعدا أن يعيش في بلد يمكن فيه سماع أجراس الكنائس في الأماكن العامة كرمز ديني ولكن لا يفهم فيه أيضا صوت الآذان على أنه يشكل تهديدا للقيم المشتركة بها كإثراء وأن يكون قدوة للدول الإسلامية بالظهور في الأماكن العامة.) ومثل هذه الإشكالات يطرحها الموقع بجسارة بقصد الحوار والتفاهم وإيجاد مساحة للعيش المشترك في جو السلام المنشود.

والمتتبع لما يطرحه الموقع من قضايا الساعة في العالم العربي خاصة سياسيا واجتماعيا    وثقافيا لا يلمس روح الإدانة والأحكام المسبقة أو روح التحريض والإثارة بقدر ما يلمس روح التقصي ومقاربة الحقيقة مع احترام سيادة هذه الدول على أراضيها كقضايا الحريات والديمقراطية والتعددية السياسية والانتخابات والحراك الشعبي في البلدان العربية وما اصطلح على تسميته بالربيع العربي ومشاكل الأصوليات والانغلاق الديني وقضايا يشكل طرحها جسارة كبيرة مثل: المثلية الجنسية والعلاقات بين الجنسين خارج الزواج والاغتصاب وزواج المسيار،  الطفولة المشردة ، العمالة، الكحول، المخدرات، الحريات الدينية ، البغاء، سجناء الرأي، التعذيب  وهي قضايا تحرم الأنظمة العربية طرحها وتتابع أصحابها فالعادة أن السياسات العربية تنأى عن مناقشة  مثل هذه المواضيع كونها شاذة وخارجة عن منظومتنا الأخلاقية والدينية ومن آثار التغريب والتخريب وهو عذر أقبح من ذنب فالشمس لا تغطى بالغربال كما يقول المثل العامي فلا يمكن حجب آثار هذه المشاكل في الحياة الاجتماعية خاصة وهي ظاهرة للجميع مراقبين داخليين أو خارجيين ، هذا الطرح الذي يجنح إليه الموقع في مقاربة تستخدم العلوم كالإحصاء وعلم النفس والأنثربولوجيا والاقتصاد والتاريخ  والدراسة الميدانية لمشاكل العالم العربي والإسلامي في صراعه من أجل الحداثة والمواكبة وجملة المشاكل المعترضة تاريخيا وثقافيا وسياسيا وصدمة المواجهة مع الغرب وما ترتب عنها من هزات آثارها مؤثرة إلى اليوم بعيدا عن الطرح المثالي والرومانسي الذي لا يقدم ولا يؤخر عبر ما يكتبه المختصون من الألمان والعرب ويسمح لكل ذي رأي عرض وجهة نظره في إطار احترام حق الرأي المختلف يعيدا عن الإدانة والتحقير والتعالي ومس الكرامة. خاصة فيما يتعلق بالحريات وحقوق الإنسان حيث عرض الموقع تجاوزات هذه الأنظمة مما حدا بمصر مثلا إلى حجب الموقع في 2017.

تجربة رائدة في الحوار والتواصل البناء برغبة الاكتشاف ومقاربة الحقيقة يقوم بها موقع قنطرة بين ألمانيا والعالمين العربي والإسلامي  وهو نموذج للغرب نفسه في السلوك الديمقراطي والروح الموضوعية - ما أمكن- وثقافة الحوار والعيش المشترك والرغبة في الفهم وطرح الكليشيهات الجاهزة والأحكام القبلية الجائرة التي صنعتها قرون من الأحقاد والحروب والاستعمار والأطماع والنرجسية والتعالي والمركزية التي ترى غيرها هامشا وذيلا وتابعا في أحسن الأحوال ولا يعيب ألمانيا أنها تسعى إلى المكاسب الاقتصادية فهذا حقها في عالم يبحث عن التوسع والشراكة الاقتصادية فالوجه التجاري للعولمة لا يخفى على أحد ولكن من أجل عولمة أكثر إنسانية لا تلغي الآخر وثقافته ولا تتنكر للحقوق والحريات الإنسانية ليس في الغرب لوحده ولكن في العالم أجمع وهذا ما يسعى إليه المتنورون من مثقفي ألمانيا استكمالات لمساعي غوته في التقريب بين الشرق والغرب ورسالة غليوم الثاني وجهود الراحل مراد هوفمان.

  

إبراهيم مشارة

 

فارس حامد عبدالكريملا شك ان التعليم ومدى جودة بنيته التحتية قد أخرج دولاً من تحت ركام الجهل والتخلف والبدائية والحروب ...  لتغدوا عملاقاً اقتصاديا ينافس اقتصاديا أقوى الدول في العالم المعاصر ، بينما  كان انحدار مستواه قد اخرج دول من نطاق المنافسة بعد ان شهد بداية قوية وصعود ملحوظ في نظام تربوي ناشئ كما في العراق بعد ان انحدرت به الثوريات المزيفة والتثقيف الحزبي المتحيز الملئ بالغباء شخوصاً ومضموناً الى الحضيض الكلي!!

التجربة الكورية للتعليم؛

هل كانت كوريا الجنوبية افقر دولة في العالم سنة 1960. !!!!!

حسب تقرير التنمية البشرية الذي يصدر عن هيئة الامم المتحدة سنوياً، ان الهيئة أوصت بدراسة وتحليل اقتصايات الدول من حيث الاقتصاد والبنية التحتية ومستوى الفقر ومعدل دخل الفرد السنوي ...

 وجاء تصنيف كوريا الجنوبية لسنة 1960 ضمن الجدول الذي يضم الدول الأفقر على مستوى العالم: (السودان، غانا، موزمبيق، كوريا الجنوبية) ومعدل دخل الفرد كان فيها لا يتجاوز 79 دولاراً في السنة !!ّ

 هل هذه مزحة؟

لا انا جاد جداً في جدي ومزاحي دائماً.

ولكن السؤال كيف تحولت كوريا من افقر دولة في العالم سنة 1960 الى عملاق اسيوي اعتباراً من ثمانينات القرن الماضي اي خلال عشرين سنة فقط لتصنف ضمن:

(مجموعة العشرين لأكبر اقتصادات العالم).

لقد طبقوا نظام التعليم الياباني الدي اخرجها من ركام القنبلة الذرية الى عملاق ينافس بقوة ويوجه اقتصادياً اقوى الضربات لاقتصاديات من قصفه بالذرية ... نظام تعليم متشدد يأخذ فيه كل صاحب حق حقه اما غير المتمكن فيخرج من نطاقه في وقت مبكر الى اعمال ومهن تتلائم مع قدراته بدون (يله خطية نجحوه) دمرتنا هذه ال (خطية) دماراً اجتماعياً شاملاً مادامت تأتي في غير مناسبتها وفي غير مكانها. 

وإذا قلنا إن النظام التعليمي في كوريا الجنوبية هو الأفضل ويصنف بأنه الأول على مستوى العالم إلا هذا لا يمنع أنه الأشد قسوة على الطلاب، فاليوم الدراسي الكوري يستغرق نحو 12 ساعة.

فيبدأ اليوم تقريبًا في الثامنة صباحًا، وتظل المدارس مفتوحة حتى الساعة الثانية عشرة صباحًا. وحتى الساعة الحادية عشرة مساءً ستجد الشوارع مكتظة بالطلاب والآباء.

ينقسم اليوم المدرسي في كوريا إلى: يوم دراسي رئيسي، وصفوف تقوية، اليوم الدراسي الرئيسي يقسم إلى 7 دروس وساعة للغداء، مدة الدرس 50 دقيقة، مع وجود 10 دقائق راحة بين الدروس، بعد مرور 4 دروس يحصل الطلاب على راحة لمدة ساعة للغداء، تُقدم فيها المدرسة وجبات صحية وشهية للطلاب، ثم بعد ذلك يعودون لاستئناف يومهم الدراسي أو ما تبقى منه أي 3 دروس وينتهي في الخامسة.

التجربة العراقية للتعليم

لانريد العودة الى زمن الملك البابلي العظيم حمورابي حيث أسست أول مدرسة نظامية لتعليم الطلاب في التاريخ.

ولكن في بدايات تشكيل الدولة العراق في مطلع القرن العشرين أُسس نظام تعليمي يقوم على بنى تحتية ذات جودة عالية، ابنية مدرسية غطت اجزاء واسعة من مدن وأرياف العراق، وتم إعداد معلمين ومدرسين  على قدر عال من التأهيل العلمي والتربوي فضلاً عن الثقافة الشخصية المعتبرة، يقودها نظام اداري هرمي حديث ووزارة للمعارف، فضلاً عن نظام مراقبة وتفتيش فعال يراقب تطبيق معايير الجودة والأسس الحديثة للتربية، وكانت هناك دوماً رغبة وطنية صادقة  لجميع أعضاء الهيئات التعليمية لتطوير التعليم وزيادة جودة الطلاب..

نحن الآن في مشكلة عويصة اومجموعة مشاكل عويصة في مجالات متنوعة من أوجه الحياة المعاصرة كانت حلولها قد وضعت قبل قرن من الزمان ولكنها ضاعت او تم تَضيعها عن عمد وعن إهمال .... نعود ونقول ان  الفاسدين قد أضاعوا علينا اكثر من 18 سنة من فرص التعليم والتطور (والله حرامات) ..

 

 

فارس حامد عبد الكريم

 

عبد الخالق الفلاحكانت الرسالة التي حملها الرسول محمد ( ص) رسالة حق وعقل ومنطق، حملها حكيم تميزبها فلهذا كُتب لها النجاح في العالمين لأنها اعتمد الركائز الاساسية التي كانت أساسا لتثبيتها ثم لانتشارها لتكون في النهاية (رحمة للعالم أجمعين)، ولاشك ان ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ 157الاعراف ، لانهم وجدوا فيه كل صفات الحكيم وحمله البارئ القادرعز وجل الامانة والله هو (من أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً، وخلق كل شيء فقدره تقديراً ودبر شؤون ملكه تدبيراً لا يعتريه خلل ولا تفاوت وحكم بين عباده بالعدل المطلق وهو يقول الحق ويهدي إلى سواء السبيل بالحكمة الباهرة والحجة الظاهرة والسلطان القاهر، ويقضي قضاء لا يقبل الرد ولا التعقيب. وهو الذي يعلم من شاء من عباده الحكمة وحسن المنطق، واحكام التدبير والتقدير وتحري الصواب في الأقوال والأفعال) ومن الناس من هو الذي يضع الأمور في موضعها أو الذي يصيب في أقواله وأفعاله بقدر طاقته البشرية، أو هو الذي ينطق بالحكمة، والحكمة: هي القول السديد والعمل الرشيد والتدبير الأمثل. وهي أيضاً: حبس النفس عن الزيغ والانحراف عن الحق والميل مع الهوى الجامح والتيار المنحرف. والحكمة أيضاً هي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم.

لقد كانت كلمات الله سبحانه وتعالى الي نبيه في أول ما أنزل عليه قرآنا فصيحا ببلاغته ومنطقة بدأ من: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) العلق الآيات من 1 الى 5، وكانت لحكمة الرسول الكريم وحواره العقلي في عشيرته الأقربين أي: أنذرهم وإن لم يسمعوا قولك أو لم يقبلوا نصحك لكونهم أزهد الناس، فإن ذلك ليس عذراً مسقطا للتبليغ عنك"، الاية"، وَأَنذِرۡ عَشِيرَتَكَ ٱلۡأَقۡرَبِينَ" 214 الشعراء ، ثم الناس أجمعين .

ان العقل ليس كائناً أو موجوداً مادياً، إنما هو فعلٌ وعملٌ فكري ونفسي وروحي غير مادّي، ترتبط به الأعمال الفكرية غير المادية، التي تظهر في الأوامر والنواهي، والخيارات والمفاضلات، وأعمال الإرادة واتخاذ القرارات، والإبداعات الفنية والأدبية... وإن كانت هذه الأعمال الفكرية تُترجم إلى أفعال مادية وتتجسّد فيها تستمد وجوده من نبع المنطق الصافي ليكون حجة لمن يحتج به.

لقد تعلمنا من أن الدماغ والأجهزة العصبية التابعة له، هو مركز الإدراك، والفهم، والتجريد، والتحليل، والتركيب والاستنتاج والاستنباط؛ يعني باختصار و بين العقل والقلب جامع مشترك في اللغة، هو اللبّ، الذي يعني العقل كما يعني القلب، من هنا تأتي الإشارة إلى القلوب بمعنى العقول في القرآن الكريم، رمزاً واصطلاحاً، كونها تعني الألباب. بالألباب تعني القلوب، وهي تعني العقول في الوقت عينه، حيث وُصف الإنسان العاقل والذكيّ الفطن اللبيب.

أن الدماغ هو مركز الذي يسير العقل والتعقّل، بدليل وجود مراكز دماغية متعدّدة، وكل مركز منها مسؤول عن نوع من أنواع السلوك والتصرفات، إذ يوجد مراكز للحركة الإرادية وغير الإرادية، ومراكز استقبال المعلومات الواردة من الحواس، ومراكز للإحساس بالجوع والعطش وتنظيم عمل الغدد، كذلك مراكز للمشاعر والعواطف والانفعالات، والقدرات المتنوعة، "اللغوية والحسابية والرياضية " وغيرها من أعمال الإدراك والتحليل والتفكّر والتذكّر. وهذه المراكز تغطّي وتدير جميع أنواع السلوك والتصرّفات، والحالات الإنسانية المختلفة، النفسية والعقلية والفكرية والاجتماعية. والمعلوم ان لا يكون الإنسان حكيمًا إذا لم يعرف الحدود الفاصلة بين ما يعلمه، وبين ما يجهله و المعرفة ضرورية جدًا لتجلي الحكمة في حياة الإنسان و من خلال المعرفة نستطيع التوقف عن الكلام والجدال والإعلان باننا لا تعرف أكثر مما تقول، أو الإعلان بأن الكلام لم يعد مفيدًا؛ لأنه صار عبارة عن مراء، يُظهر أمراض النفوس أكثر مما يُظهر.

يقول بعض العلماء ان "الوعي هو ادراك عقلي حدسي كونه غير موضوع يدركه العقل، ولا يستمد الوعي قدرته الادراكية من غير تعالقه بالذهن والذاكرة والمخيلة والجهاز العصبي الناقل لتفكير ومخارج العقل، وأخيرا يأتي تعبير الفكر واللغة في خلاصة تعبير العقل عن الاشياء وكل حلقة خارج هذه المنظومة العقلية لا معنى لها بغير دلالة العقل لها أدراكا حسيا في انتظامها الإدراكي وليس إدراكا حسّيا منفصلا كونها حلقات معرفية استدلالية مجردة مهمتها نقل تعبيرات وافصاحات العقل ولا تشكل موضوعات إدراكية متعينة مادية للعقل.. عليه يكون كل موجود معرفي مدرك وغير معرفي لا مدرك هو حالة قلقة في فرضية امتلاكه معرفة قبلية مدخّرة مستقلة عن بعدية الإدراك العقلي لها.. وقبلية المعرفة المستقلة ذاتيا يجعل العقل منها معرفة بعدية لذا لا تمر الانطباعات العقلية بالذهن الا من خلال المرور عبر حاجز الادراك العقلي الذي يكون مصفاة لما يمكن إدراكه من عدمه بما يستقبله من أحاسيس داخلية وإحساسات خارجية".

 

عبد الخالق الفلاح

 

 

عصمت نصارإنّ المتابع لكتاباتنا عن المشروع الفلسفي في مصر، وخطابات الاتجاهات المختلفة عن مشروع النهضة العربية، في إمكانه مراجعة جهود "إسماعيل مظهر" ودعوته لنشر المعارف الفلسفية وإدراجها ضمن المناهج التعليمية؛ سوف يتبيّن له أن معظم آرائه تنضوي تحت راية المجددين الليبراليين العلمانيين، وأن وجهته تجمع بين الفكر الحداثي الذي يُعلي من قدر الفلسفة والعلم ويؤيد في الوقت نفسه نقد الفكر الموروث لتخليصه من البدع والخرافات والتعصب. أي أن "مظهر" يشكل حجر الزاوية في بناء مشروع النهضة.

وقد أسهبنا في تبيان موقفه من الفلسفة من قبل. والطريف أن "محمد فريد وجدي" هو أيضاً وقف نفس الموقف وشغل عين الموضع. فبات مجدداً بين المحافظين حيث جمع في آرائه بين الحفاظ على التراث وتقويمه وتجديده والدفاع عن العقيدة ضد المجترئين والمتشيعين للغرب. في حين نجده مناصراً للعلم والفلسفة، ومناهضاً لكل أشكال الجمود والتخلف والاجتراء والإلحاد، وكأن لسان حال الرجلين ينطق بأن فلسفتنا دين بلا كهانة أو تعصب، وعلم بلا اجتراء أو جحود؛ الأمر الذي يثبت أن مشروع النهضة العربية قد تأسس وتطور في كنف الاتجاه المحافظ المستنير.

وقد أنضوت كل الأقلام الساعية لإعادة تشكيل العقل العربي مع تباينها تحت عبائته. ويبرر كذلك حرص وجدي على مشاركة أساتذة كلية الآداب بالجامعة المصرية وقادة الرأي من أعلام الاتجاه المحافظ المستنير في احتفالهم بإدراج الفلسفة في البرنامج الدراسي للتعليم الثانوي.

ولعله أراد من ذلك التأكيد على أن المؤسسة الأزهرية التي يرفع رايتها والاتجاه المحافظ المعتدل لا يعارض في إحياء التفلسف في برامجنا الثقافية والتعليميّة، وتوضيح أن الدين الإسلامي كان دائماً وأبداً مناهضاً لكل أشكال الجنوح والطعن في الدين، والتشكيك في قداسة الوحي وليس للفلسفة أو التفكير العقلي؛ بل مشجعاً لفتح باب الاجتهاد في الرأي للوقوف على المقصد الشرعي من ثوابت العقيدة، ومحافظاً على الجهاد بالحجة والعلم والبرهان في مناظرة ومجادلة ومصاولة أعداء الدين؛ الأمر الذي لا يتحقق بمنآي عن تعلم النهوج الفلسفية ومباحثها المنطقية.

وقد بيّن ذلك في مقاله المعنون (نظرة في الفلسفة) على صفحات السياسة الأسبوعية التي مازلنا نعيد قراءة ما بها من مقالات ورسائل موجهة للرأي العام. فقد أراد "محمد فريد وجدي" التأكيد على منهجه الإصلاحي القائم على التوفيق بين المنقول والمعقول؛ مُبيناً أن من يتوهم وجود خصومه بين الإيمان بوجود الباري وشرعته وما جاء به أنبياءه، والفلسفة أو تعارض مع المنهج العقلي في التأمل والتفكير الناقد الباحث عن الحقيقة؛ لا ينبغي عليه ادعاء انتسابه للفلسفة التي تعبر عن الحكمة المجردة عن أي تعصب أو هوى يلقي بها إلى جحود ما لا تسعى إليه أو ترمي إلى تحقيقه. كما أنه من أشنع الاتهامات التي وجهت للفلسفة وهي تهمة المروق والكفر التي لا دليل على ثبوتها؛ فلا نجد في تاريخ الفلسفة من ينكر وجود الله إلا حفنة لم تُحسن قراءة الحقائق الكونية بداية من وجود العالم ومروراً بحدوث موجوداته والروح وأسرارها ونهاية بالقدر والإرادة الإلهية التي لا مَردَّ لها واللطف الرباني الذي لا يجحده إلى من حالت قلوبهم وبصائرهم عن إدراك نعمة وجود الباري.

ولعل ما صرح به "وجدي" يُعرب عن سعادته بإدراج الفلسفة ضمن المعارف والمواد الدراسية التي يجب على شبيبة المجتمع العربي الإسلامي التزود بها حتى لا يُفتنوا بتقاليد ومعتقدات أبعد ما تكون عن حقيقة الدين والعقل معاً.

فالفلسفة هي الآلية التي تمكن الأذهان من الفصل بين الأضداد، والتمييز بين المتناقضات مع ملاحظة البون بين المتشابهات، وفضح الأكاذيب والدّس والمغالطات التي تحول بين منهجية التفكير والوصول إلى الحقائق، لذا نجد "وجدي" يُبادر بمخاطبة الرأي العام باعتباره أحد قادة الرأي وأكثر من اضطلعوا عن الزود في الإسلام ضد هجمات الماديين وجحود المجترئين، مُعلناً أن الفلسفة ليست خطراً على الإسلام؛ بل كانت قديماً وسوف تظل حصناً لحماية الدين والزود عنه ضد منكري الإيمان. ويقول عن ضرورة وجود الفلسفة (إنه يسهل عليك أن تنتزع من إنسان اعترافات صريحة بأنه خلو من كل علم، ومجرد من كل صناعة، ولكنك لا تستطيع أن تنتزع منه اعترافاً واحداً بأنه محروم من كل نظر في الأمور). وتدبر لما يصادفه من قضايا ومشكلات (أنه في إمكاننا تخيل أقوام لا يعرفون شيء عن العلوم والفنون ولكن لا يمكننا تخيل وجود مجموعة من الناس لا تسمع فيهم ترويجاً للفلسفة حتى من متسولة الأزقة)، ويعني ذلك أن لكل صاحب عقل معتقد مكتسب فبعضه صواب وصالح والبعض الأخر خطأ وفاسد، ومن ثمّ يحتاج ذلك العقل المقلد إلى غُربال لانتخاب ما يصلح له ويفيده. وكيف لا (والفلسفة هي محبة العقل، والجهاد لإدراك الحقائق، وتنوّر أسرار الخليقة، وتعرّف مصائر الشئون، والعمل على مقتضى الحكمة، فقد امتازت من بين جميع مظاهر الروح بأنها الشغل الشاغل لجميع الخلق، والمثل الأعلى لمحاولات الإدراك الإنساني؛ فما من نفس بشرية تخلو من الهيام بها، والجنوح إليها، على درجات شتى وأقدار متفاوتة).

ونجد مفكرنا يُوَحّد بين الدين والفلسفة، وكأنه يسير على نفس الضرب الذي سلكه "ابن رشد" في مقولته الشهيرة عن وصف الفلسفة بأنها من الشريعة مثل الأخت الرضيعة «ما قيل من مخالفة الحكمة أو الفلسفة للشرع دعوى باطلة… فالحكمة هي صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة». وذلك في كتابه (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال).

ويريد "وجدي" في هذا السياق توجيه أنظار شبيبة المثقفين إلى أننا يجب النظر إلى الوحي الإلهي باعتباره الحكمة العاقلة التي أنتجها علم الله وأرسلها إلى أنبياءه لتبليغ البشر بدستوره الذي يقيهم كل الشرور ويحميهم من شتى الآلام، ويهديهم في الوقت نفسه لكل اللذائذ التي تسعدهم في الدنيا والآخرة؛ فالفارق الوحيد بين الحكمة الفلسفية البشرية والفلسفة الربانيّة هي محدودية الأولى وقصر مدركاتها عن أن تصل إلى الحقيقة الشاملة التي خصها الله بعلمه وتدبيره.

ولمّا كان الوحي قبساً من ذلك العلم، فيجب أن تحاكيه الفلسفة بعد استيعابه وفهم حقيقته، وتسترشد به لتُعصم من الذلل والتطرف والانحراف ثم السقوط  ويقول مفكرنا في ذلك (هل الدين إلا فلسفة للحياة والوجود وما يتعلق بهما؛ وفيما يؤول إليه الإنسان بعد أن يخلع هذا الجسد الفاني؛ ويلتحق بعالم وراء هذا العالم؟ وإذا كان الدين فلسفة والآخذون بها يبيعون أرواحهم في سبيلها رخيصة؛ حتى أنهم ليضحون بأفلاذ أكبادهم وبأنفسهم...؛ فهل تصادف مظهراً من مظاهر العقل يقدسه الإنسان هذا التقديس؛ ويفديه بماله وولده ونفسه، غير الفلسفة متى اعُتبرت ذات مصدر إلهي).

ولا يريد مفكرنا ممّا سبق سوى حث شبيبة المثقفين بخاصة والمعنيين بدراسة الشريعة على وجه الخصوص على إعمال العقل في الحكمة الإلهية؛ فالتفكير عنده فريضة إسلامية واجبة على كل عاقل للوصول إلى المقصد الشرعي لما عساه يقدس ويعتنق ويضحي من أجله؛ الأمر الذي يجعل من دراسة الفلسفة ومناهجها أفضل تدريب للوصول إلى الحقيقة شأن كل الفلاسفة الذين أنفقوا عمرهم بحثاً عن لحظة الوصال وبوابة الأنس والاتصال.

وينتقل وجدي إلى الحديث عن مكانة الفيلسوف في الثقافات الراقية والمجتمعات المتحضرة وقدر الإكبار والاحترام الذي يحظى به جزاءً مستحقاً لسعة علمه، ورجاحة عقله، وصواب آرائه، ونفع مشورته.

وما أحوج مجتمعاتنا إلى الفلاسفة ليعلمونا فن المفاضلة بين السُبل للوصول إلى الغايات التي أرشدونا إليها بعد إقناعنا بصلاحها. ويقول عن تلك المجتمعات (ولا غرو فليس في عرفهم بعد النبوة درجة فوق الفلسفة حتى أنهم متى أرادوا أن يصفوا إنساناً بأنه بلغ أكبر قسط من الثقافة والمعرفة قالوا أنه فيلسوف وكفى. هذا الشعور العام من الناس خاصّتهم وعامتهم عن الفلسفة؛ يعرب عن مكانتها الممتازة في النفوس، وعن قيمتها الحقيقية من بناء الثقافة العامة؛ ولست أجد برهاناً فوق هذا البرهان على أنها عنصر رئيسي من عناصر التربية الاجتماعية). (أن دراسة الفلسفة ليست بحلية عقلية، أو أدبية؛ ولكنها حاجة من حاجات الثقافة العملية لا تتم سلسلتها إلا بها). ويضيف "وجدي" أن للفلسفة لذائذ ذوقية وعقلية لا تتحقق من خلال العلاقات المادية التي تشغل العلماء الطبيعيين، فالإنسان ليس بدن فحسب؛ بل روح أيضاً تهوى الجمال والجلال والكمال، وترنو إلى العشق والحب والألفة، وتتذوق الفنون وتتأمل المجردات والمعاني والدلالات؛ التي يعبر بها الإنسان عن مشاعره ومكنوناته التي تخرج عن نطاق مدركات العلم ومعامله وفحوصاته المادية. أضف إلى ذلك أن تلك العلوم لا تتطور وأن الإبداع والاختراع لا يتحقق إلا بممارسة التأمل الفلسفي والرياضات الحدسية العقلية، أمّا القيم والأخلاق والإيمان بالمعتقد فهو لا يُثبت كذلك إلا بقناعات وأدلة يصطنعها العقل؛ فيبني منها حصناً تقيه من الشرور والشهوات المنحطة والجرائم والعنف).

ثم إن الفلسفة في ذاتها ليست دراسة تجريدية محضة، فإن من أهم أركانها، وأخص خصائصها دراسة النفس والأخلاق والمنطق والدستور العلمي، وهذه المواضيع ذات خطر عظيم لا تستقيم ثقافة علمية إلا بها. ويختتم مفكرنا حديثه بالتأكيد على أن الفلسفة من أعرق المعارف الإنسانية وأكثرها أصالة، وأنه من الجهل الاعتقاد بأن مباحثها من اختراع أمة بعينها؛ بل يمكننا التسليم بأن مصطلح (الفلسفة) قد لفظته لغة وثقافة عرقية ما. أمّا حب الحكمة والبحث عن الحقيقة وتأملات الروح وهمسات الإلهام وقد وجدت جميعها مع وجود الإنسان وتطوره تبعاً للبيئة التي يعيش فيها.

ويمكننا أن نتسأل هل هناك مجالاً للتشكيك في أصالة الاتجاه المحافظ المستنير وبراعة رواده في توظيف الفلسفة لتربية الرأي العام وحمل راية الحرية والوعي والتنوير والإصلاح؟

(وللحديث بقيّة عن قراءات في مجلة السياسة الأسبوعيّة)

 

بقلم: د. عصمت نصّار

 

 

عبد الجبار العبيديأكبر جريمة تاريخية ارتكبت من قبل فقهاء الاسلام: هي تحالف مؤسسة الدين مع السلطة الحاكمة.. لتدمير اسلامية المعرفة.. في المجتمع الاسلامي .. ولا زالت..

يقول القرآن الكريم: (أفنجعلُ المسلمينَ كالمجرمينَ، مالكم كيف تحكمون، القلم 35-36) . يقول الناشر لهذا الكتاب القَيم مع التصرف:

هناك دين واحد عندالله هو الاسلام، بدأ بنوح (ع)، وتنامى متطوراً متراكماً على يد النذر والنبوات والرسالات، الى أن خُتم َ متكاملاً بمحمد"ص". رسول المسلمين: يقول الحق: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا المائدة 3، ".. أي صدقا في الاخبار المنزلة، وعدلاً في الأوامر والنواهي"فلسفة العدل المطلق " .فالأسلام هو دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهو منظومة القيم والمثل العليا، وهو العروة الوثقى، وهو الصراط المستقيم.. كما جاء في الوصايا العشر، الأنعام151-153 فأين الفقهاء والحكام من هذه الاوامر والنواهي اليوم.. بعد ان عتموا عليها.. وهم يحكمون بأسم الدين؟

جاء هذا الدينٍُ للناس جميعا وليس لمؤسسة الدين المُنحرفة عن الصراط المستقيم التي استغلت السلطة الحاكمة لمصالحها دون الناس منذ البداية، وما درت انها دفنت نفسها بسياسة التضليل فأنفصلت عن الجماهير .. فكأن التفاضل عندها معدوم.. أي لا طاعة لمنظومة القيم .. وهكذا فالحاكم العربي المسلم هم أول من خرق المبادىء المعلنة لهذا الدين في السلطة حين ضرب الشورى في حكم الدولة من أجل السلطة والمال تؤيده مؤسسة الدين .. وهو يتصارع على الحكم.. " كما بين المهاجرين والأنصار وأختراع نظرية منا أمير ومنكم أمير.. ولازالت السلطة المنحرفة الى اليوم هي العقيدة عند المسلمين .. وخاصة من اصحاب سلطة الدين ..

وحين حاصرهم الخطأ ألتجئوا الى الفتوحات لأمتصاص غضب المسلم الجديد، فاغتصبوا الشعوب نهباً وقتلاً وأعتداءً على الحرمات خروجا عن قيَم ومبادىء الدين.. وعلى نظرية "لكم دينكم ولي دين".. ومنه استقوا اليوم محاربة المعارضين .. وفي ظل وحدة الدين أنقسموا تحت راية المذهبية المفرقة لعقيدة الدين وهي بدعة لا أصل لها في أحكام النص المقدس لتحصين حكمهم تجاه المعارضين .. فجاءت الحكومات تحكم باسم المذهبية الباطلة، لا قيم النص الديني الحقيقية فضاع مفهوم الدولة والحقوق وأصول الدين .. فاسلامنا اليوم هو اسلام الفقهاء المخترع منهم .. لا اسلام القرآن الكريم.. أليس من حقنا ان نعترض..؟

مخالفات لا حد لها ولاحصر في التطبيق.. فهل من خالف المبادىء والقانون والعدالة يحق له التفرد بحكم الناس والأدعاء بتطبيق القانون.. كما نراهم اليوم؟.اذن النظام الاسلامي السياسي محرف منذ البداية والى اليوم، لذا عمدوا على تركيز الخطأ في الرؤوس فأصبح نزعهُ منها صعب او قل مستحيل.. فماذا لو كنا بلادين ..؟ أما كان الأفضل لنا ان نتعايش مع فقهاء لا يعترفون بأنسانية الانسان في الدين.؟ حين لم يستطيعوا ان يلملموا الجراح والألتحام مع التراث الأصيل للدين دون تحريف.. لان الدين يشكل ضميرا مراقبا للقوانين التي يستخدمها الناس.. لكنهم لايعتقدون .

يقول مؤلف كتاب الاسلام والايمان: الاسلام فطرة .. والأيمان تكليف، الأسلام يتقدم على الأيمان، أذ لا أيمان بدون أسلام يسبقه ويأتي قبله..المسلمون هم معظم أهل الأرض، أما المؤمنون فهم أتباع محمد(ص).فأبراهيم (ع) أبو المسلمين، ومحمد (ص) ابو المؤمنين.. يقول الحق: " ان المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات.. أعد الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً، الأحزاب 35 . اذن لا فرق بين الأثنين معاً.. كما تعتقد خطئاً مؤسسة الدين اليوم في الأزهر والنجف وقُم والزيتونة .. التي فرقت بين الناس خلافا لما اراده الله لهم بقصد أنانية السلطة لا الدين.. التي اوصلت المبادىء الى حد الابتذال في العالم.. والمرجعيات الدينية اليوم ومن يتبعها نموذجا..

ولكن لا ندري أي ايمان يطبقون جماعة المؤمنين اليوم.. أنظروا اليهم كيف يتصرفون مع النص والعقيدة؟ بغباء واصرار عنيد وغبي.. لذا لم يعالجوا الاشكاليات بتجفيف المصائب السياسية من جذورها بل من ثمارها المرة..حتى وصلنا الى فكر مثقل بالانحرافات والخُرافات، ونفوس محبطة بالاغلال، ومجتمعات تنوء بالفردية المقيتة، وتفرقة مرفوضة في غياب القانون.. فأي اسلام هذه الذي يريدوننا ان نؤمن به..؟أسلام محمد أم اسلام الفقهاء..؟

من هذه الأسس ينطلق المؤلف في هذا الكتاب، لفهم الفرق بين تعاليم الاسلام وتكاليف الأيمان بدلالة الفرق بين النص القرآني المقدس، والفريضة، والموعظة، وما ترتب عليه من قوانين الأرث وأنصبته.. وأحكام الزواج والطلاق، والحقوق، وظلم المرأة في التطبيق.. مجتمع ادخلوه في نفق التخلف لن يخرج منه بسهولة بعد ان حولوا الخطأ الى عقيدة .. لذا هان عليهم قتل المطالبن بالحقوق دون ضمير كما في ثوار تشرين، فكيف نتقدم..؟ ففاقد الشيء لن يعطيه.

ومن القواعد النصية، نلمس دلالة الفرق بين العباد والعبيد، حتى ينتهي المؤلف الى أن التنزيل الحكيم لم يعترف بالرق ولم يُجزه، ولم يلغيهِ، وأن كان قد ذكره ذاماً لظروفه المعقدة يومذاك . وأن ملك اليمين لا يعني الرق البتة، وأنما يعني أسرى الحروب المقهورة، لكن الدولة عجزت عن وضع قانون انساني يحميهم لولوغ القائمين عليه بالجنس وأستغلاله لصالحهم في اسواق العبيد.. والخمر لم يحرمه القرآن لكنه قال: مضاره اكبر من نفعها فحذر منه، البقرة" 219" فلم يعالجوا النص المكين معالجة فكرية .. فبقيت المشكلة سلبية دون ايجاب ولا زالوا يستغلونه اصحاب متعة الجنس المبتذل في الدين... الرافعين ليافطات الدعارة الدينية في متعة النساء التي انتهى زمانها اليوم دون خجل من اخلاق دين.. فأين العدل الانساني في عقيدة الدين.. كما يدعون ..؟

يقول المؤلف: ان العلاقة بين الله والناس علاقة عبادية وليست علاقة عبودية أستبدادية، لم يفهمها الفقهاء ولم يضعوا لها قواعد سلوكية ثابتة، فظلت عائمة الى اليوم تحقيقا لمصالحهم الخاصة .. لا بل تستطيع ان تقول ان غالبية المؤمنين اليوم هم جهلة دين ومن الخارجين عليه .. ويعتقد الكاتب ان العبادات تتحلى في كل حقول الحياة وليس بعضها، لكنها لم تدرك ولم يؤسس لها قانون ملزم للمسلمين والمؤمنين معاً .. أي كنظرية أستقامة وحقوق لا مكان لها في التطبيق.. ناسين أو متناسين أن قوة العقيدة تتمثل في مدى الألتزام بمبادئها وتطبيقها فهي أمر.. لا أختيار.. ولكن أين هم من هذا الأمران كانوا مؤمنين؟ بعد ان تجاوزوا على حقوق .. الانسان والدين .اذن لا حق لهم ان يطالبوا الأخرين بتطبيق عقيدة .. الدين .. فالدين مبادىء واخلاق وليس رغبات الحاكمين.. وهم الذين يحمون أوكار الدعارة .. ويعاقبون الأخرين على أغنية تفرح الجماهير..

من هذا المنطلق نقول ان تعريف الكفر والشرك والأجرام والألحاد بحاجة الى دراسة وتعريف من جديد بعد أن فقد الفقهاء السيطرة على تعريف محتواها ومقاصدها قصداً لا جهلاً بها لمصلحة السلطة ..لا الدين.. كما فقدوا التفسير فجاء منقصة للنص لا تضمين .

ويختم المؤلف رأيه في الاسلام والسياسة، فيبين ان الاسلام، من حيث هو توحيد ومثل عليا انسانية، غير قابل للتسييس، وأن محاولة تسييس الاسلام، ومحاولة البعض الأخر أسلمة السياسة، أضاعت السياسة والأسلام معاً.. لذا لم يتقدم قادة الاسلام قيد أنملة لصالح الحقوق في التغيير .. ولم يستيطعوا توظيف النص في التطور المجتمعي والتغيير.. ولن يستطيعوا.. ماداموا هم من الناكرين لمعنى النص في التطبيق. حتى اصبح عالمنا اليوم يقف في مؤخرة المتخلفين..

ونحن نقول: ان مراكز الدراسات الاسلامية والسياسية والجامعات الاسلامية في الوطن العربي والاسلامي الحالية التي ينخرها الفساد بحاجة ماسة جداً الى اعادة النظر في المناهج الدراسية للخلل الكبير الذي رافقها منذ النشأة الأولى للدولة الاسلامية نتيجة خطأ تفسير النص الديني من قبل مفسري الفِرق الاسلامية المختلفة والمتخالفة في الاعتقاد والتطبيق .. فهي بحاجة الى تصحيح بعد ان اضاعوا النص والدين معاً .. لذا قامت قائمتهم عندما أعلنت المعتزلة ضرورة مراجعة النص وفق التأويل لا التفسيروبأعتبار النص مخلوق لا قديم . لذا هم بحاجة الى اعادة نظر في العديد من المنطلقات الفكرية السائدة اليوم والتي أخذت شكل تيارات ثقافية حديثة كل منها يدافع عن نفسه ليبرهن انه الافضل ومنها:

التيار الذي يدعم سيطرة الثقافة الغربية و يعتقد انها الثقافة النهائية التي يتمحور حولها سير التاريخ.والتيار السلفي الاسلامي المنغلق على نفسه الذي يتناقض معها في الاعتقاد والتطبيق .. والذي اخذ من المرجعيات الدينية وسيلة للتزييف.. بعد ان جعلوا الحروب وتصفية المعارضين حلاً لمشكلة الفشل .. وما دروا انهم وقعوا في الفشل والتدمير.. بعد فقدانهم نظريات العدل في التطبيق .

لعل اقسى ضربة حلت بالنظام السياسي الاسلامي هي نقل الرئاسة من قضية فروع الى قضية عقيدة .. فاصبح الملك العضوض هو البديل..

 فالسلفية الاسلامية والسلفية الاصولية .. الحكم الأموي والعباسي فيها هو الاساس .. اليوم"داعش والقاعدة وحزب الله والولي الفقيه هم من يمثلون الفكر الجديد .لكن الذي يهمنا هو تيار السلف الأسلامي في الوطن العربي الذي ظل متقوقعاً متشبثاً بالتراث فهواشبه بالميت دون حراك.. كما في نظريات الوهم عند فرقة معينة المتمثلة بالتقاليد البالية للمعتقدات الأجتماعية كالبكاء على الأضرحة واللطم والزنجيل والتعري امام المواطنين .. ونظرية المهدي المنتظر مستحيلة التحقيق حتى حولوا هذا الاعتقاد الوهمي الى ما يشبه عبدة اصنام قريش -ياليتهم مثلهم في الاعتقاد والتطبيق -.. والغريب ان هؤلاء لوكانوا يؤمنون بالمهدي حقا وحقيقة لطبقوا مبادئه وهم اليوم يحكمون.. كذابون منافقون.. ظالمون.. خارجون عن عقيدة التطبيق.. لم يشهد الوطن العراقي مثلهم ظلما وانحرافا على مدى تاريخه عبر السنين .. لابل هم أسوء من هولاكو المغوليين..؟ وهكذا هي حياة الظالمين.

اما مشاريع الحداثة التي طرحت في الوطن العربي متمثلة بجمال الدين الافغاني ومحمد عبده ورشيد رضا كانت بداية لانطلاقة جديدة لكنها مع الاسف انطلقت من مسلمات وردت في التراث الديني فوقفت عاجزة عن التحرك الحضاري المطلوب.. فسقطت وتلاشت ولم يبقَ منها الا الكلمات ..

لقد التقى اصحاب التيار السلفي وتيارالحداثة في أستبعاد الاخلاق والقانون من مشاريع التجديد والتحديث لديهم، حين أستبعدوا الاحسان والعمل الصالح من أركان الاسلام واركان الأيمان التي تم تأسيسها على أيديهم.. حتى حولوها الى شهادة وصوم وصلاة ونسوا الحقوق .. وهي مسلمات مدركة لا تحتاج الى قوانين .. والا كيف اصبحوا أصحاب العقيدة الدينية خائني وطن. وسراق مال، ومزوري شهادات علمية، ومغتصبي سلطة، وناكري عدالة .. وهم راضون ..؟ وكلها وردت بآيات حدية في الوصايا العشر للتوراة والأنجيل والقرآن.. لا يجوزأختراقها بالمطلق..

هنا لم تتحقق اهداف الاسلام المطروحة . بعد ان فسروا النص الديني والسيرة النبوية المتعددة التوجهات "بخمس سير في الاسلام للرسول لدينا " أبن أسحاق، وأبن هشام، وابن سعد، وموسى بن عقبة، وعبدالله الانصاري لاندري ايهما نعتمد؟ طبقوها على هواهم، واعتقدوا بأنهم يملكون الحقيقة المطلقة فهما ًوتطبيقاً.ولكنهم مادروا أنهم أختزلوا التاريخ والجغرافيا وسكان العالم الأسلامي ومشاكله في أرائهم وحولوها الى عقيدة دون تعليل.. والحقيقة التاريخية تقول: "الحجة بالدليل" هذه الاختزالات عكسها الامام الشافعي (ت 204 للهجرة) في كتابه (الرسالة) الذي حدد فيه اصول الفقه الاسلامي وأعتبرها القانون الذي يجب ان لا يُخرق، وما زالت هي المعتمدة الى اليوم.والتي ارتبطت بتقديس النص التراثي الذي اصبح منهجا في مدارسنا بَلدَ فكر الأجيال العربية جيلا بعد جيل.. وحوله الى عبدة أصنام..

ثم جاء استبعاد العمل الصالح وعدم تحديد من هم مستحقي الخمس والزكاة فكونوا لهم موردا ماليا في سرقة موارد العتبات المقدسة و بيت مال المسلمين .. وجزءوا الاوقاف الى وقف سني وأخر شيعي وثالث للديانات الاخرى .. فسرقوا كل اموال الميتين ومزقوا وحدة المسلمين .. حين وضعوا القانون الاخلاقي في المرتبة الثانية من سلم الاولويات، وهنا تكمن المآساة.وها ترى مدارسنا اليوم بعد ان سيطر عليها الفكر الديني المتعصب معزولة عن الانفتاح الفكري تماما ولا يرجى منها التحديث.. فمالم تتغير المناهج المدرسية لصالح التطور ويقرها الدستور المؤيد من الشعب لن يكون لنا من أمل في التطور والتغيير.. ولكن كيف تتغيرالأمور والسلطة بيد المتخلفين المنغلقين من اصحاب المصالح الخاصة والسلاح القاتل المنفلت الذين يملكون سلطة السياسة والتصفيات دون رقيب او حسيب.. لا العامة ولا اخلاقية الدين..؟

نرجو ممن يطلع على الكتاب، عليه ان يقرأ بعمق مشكلة المعرفة والاخلاق والحرية والحداثة، حتى نكون على الاقل، مالكين للوعي المعرفي والاجتماعي والسياسي وعيًا افضل من السابقين، وعسى ان نكون قد أدركنا جزءً من مشكلة حركة التغيير..

نعم نحن نمر اليوم في أزمة العقل العلمي .. اخلاقياً وتشريعياً منذ ان حسمت المعركة بين المعتزلة والفقهاء لصالح الفقهاء في بداية القرن الثالث الهجري على يد المتوكل العباسي (ت232 للهجرة) حتى ضاع الفرق بين النبوة والرسالة، وبين الكتاب والقرآن.. ولا زال النقاش دائراً اليوم بين القرآن والمصحف .. هذا يقول مصحف عثمان، وذاك يقول مصحف فاطمة الزهراء .. والأذان .. فهذا يقول "علي ولي الله، والاخر يقول الصلاة خير من النوم" ولا ندري من اباح لهم التفريق ..؟ فبقيت عقيدة القرآن مجرد شعارات ترفع من قبل مؤسسة الدين للاتباع وتحكمهم في مجتمع نشروا فيه عقيدة التخريف لا الدين الصحيح.. والحل هو ألغاء هذا التوجه .. في الخطأ الكبير.. لمنع قوة المتغلبين.. والغاء القيادة الفردية لأحلال أهل الأهلية والكفاءة في حكم الدولة دون المغتصبين..

وأخيرا نقول " التشريع الاسلامي قائم على البينات المادية، وأجماع الأكثرية، وان حرية التعبير عن الرأي، وحرية الأختيار.. هما اساس الحياة الانسانية في التطبيق.. فأين نحن منهما اليوم.. بعد ان اصبح العقل والمنطق عملة صعبة بيد الجهلة.. والمغتصبين؟

 

عرض بتصرف: د.عبد الجبار العبيدي

.............................

أنظر: كتاب: الاسلام والأيمان، تأليف الاستاذ الدكتور محمد شحرور.

 

 

في المثقف اليوم