قضايا

علي عمرون: فلسفة الِاسْتِعْمار الْجَدِيد من الاستبداد الى الاستعباد

(سَيَكُونُ الاُّنسانُ المنحى الظُّهْر، اَلْمُسْتَغلُ المُقاتِلُ مِنْ اَجَلِ الِاسْتِقْلالِ، هوَ اَلَّذِي سَيُقَرِّرُ مَا اَلَّذِي يَخْتَارُهُ. وَهُوَ حَتْمًا سَيَخْتَارُ الحُرّيَّةَ)... كُوَامِي نُكُروما

الاستعمار من الظواهر المؤثرة في تاريخ الشعوب، ويمكن القول ان تاريخ الاستعمار يلخص بالضرورة تاريخ الإنسانية في جانبها المأساوي المؤلم والمظلم، بداية من الكولونيالية و الإمبريالية ووصولا الى الاستعمار الجديد أو ما يسمى الاستعمار المعاصر،هذا الاخير أصبح يتميز بالتخفي و بالقدرة على اعادة انتاج نفسه والتحور تماما كالفيروسات القاتلة لكن بصورة تجعله أكثر فتكا وغير قابل للملاحظة لذلك سنحاول في مقالنا هذا النبش والحفر في ظاهرة الاستعمار الجديد و هي ظاهرة مركبة ومعقدة يتقاطع فيها ما هو تاريخي مع ما هو ثقافي واجتماعي انطلاقا من تساؤلات نراها ضرورية لممارسة فعل التفكيك

فماهي الدلالات التي يحملها مفهوم الاستعمار عبر محطاته التاريخية المختلفة؟ ما هو الثابت والمتغير في هذه الظاهرة؟ وإذا كان هناك اختلاف بين الاستعمار الحديث والمعاصر كيف نفهم هذا الاختلاف وماهي ملامح ونتائج هذا التحول؟ وهل يمكن القول اننا مازلنا اليوم نعيش تحت وضع استعماري؟ ثم ماهي ألياته وكيف السبيل الى التحرر منه؟

من التصور الكلاسيكي للاستعمار إلى المفهوم المعاصر

لاشك ان الاشتغال على المفاهيم يعد بحد ذاته مشكلة ففي كل الحالات هناك دائما عوائق وعقبات  تقف في وجه تحديد مفهوم محدد ودقيق للظواهر الانسانية ليس فقط لتشابك هذه الظواهر وانما ايضا لصعوبة تحقيق الموضوعية في الطرح لاسيما ان هناك دائما أحكام عاطفية تتأرجح بين الاستهجان والاستحسان وهذا ما ينطبق على ظاهرة الاستعمار واول هذه العقبات صعوبة التعريف والتصنيف و التفسير ومن ثمة سيكون الرهان على فهم هذه الظاهرة والتنبؤ بها صعب وسنلاحظ منذ البداية ان التحديد المعجمي لا يساعدنا على فهم حقيقة هذه الظاهرة سواء في اللغة العربية او اللغات الاجنبية لأنه يحمل تناقضا وينطوي على مغالطات ولو عدنا الى ابن فارس مثلا- في معجم مقاييس اللغة- نجد ان مفهوم الاستعمار يحمل من الدلالات التي تجعله يندرج في  دائرة الافعال المستحسنة :" ..عَمَرَ الناس الأرض عِمَارةً، وهم يعمُرونها، وهي عامِرةٌ معمُورةٌ، وقولهم عامرة محمول على عمرَت الأرض، والمعمورة من عَمرت، والاسم والمصدر: العُمران، واستعمر الله الناس في الأرض ليعمروها" هذا المفهوم في ظاهر دلالاته يحول الاستعمار الى فاعلية انسانية تروم تحقيق منافع وفق غايات اخلاقية غير ان الدلالة المعجمية تتناقض مع حقيقة الاستعمار كواقعة تاريخية فالاستعمار كان يستهدف دائما- ولايزال- إحلال الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية  وإلغاء هوية الاخر واستلابه والحجر عليه واستنزافه سواء من الناحية المادية أوالمعرفية وهذا ما اشار اليه رامون غروسفوغل في حوار له متحدثا عن الاستعمار الاوربي الحديث او ما يسمى الكولونيالية قائلا:"لقد سرقوا المعارف والعلوم من باقي الشعوب ثم أعادوا تدويرها و نسبوها لأنفسهم على أساس أن العلم كان شيئا خاصا بهم و بطبيعتهم كأوربيين، مع أن أوربا و حتى القرن الخامس عشر كانت قرية مظلمة مهمّشة من قبل باقي العالم، فعلم و تطور القارة جاء بفضل حضارات أخرى، جاء من حضارة الهنود في أمريكا و من الحضارة الصينية و الاسلامية و الهندية و الافريقية، و كل هاته المناطق كانت تعرف تطورا اقتصاديا و سياسيا و اجتماعيا و علميا ضخما، فيما كانت أوربا مهمشة و فقيرة مقارنة مع الاخر"

نفس المغالطة نلمسها في المصطلح اللاتيني colonus وهذه الكلمة تعني المزارع وهنا نقع في ما نسميه منطقيا سوء الدلالة بالألفاظ على المعاني  ذلك ان الأصل في مفهوم الكولونيالية ارتبط بفعل انتقال مواطنين من دولة الأمة المحتلة إلى الأرض الواقع عليها الاحتلال، واستعمل المصطلح غالبا لوصف أماكن مثل أمريكا الشمالية ونيوزيلندا وأستراليا والبرازيل والجزائر، حيث انتقلت أعداد كبيرة من المواطنين الأوروبيين، وأنشأوا مستعمرات منفصلة عن أماكن معيشة السكان الأصليين وممارسة الهيمنة العسكرية والثقافية-  والحقيقة انه عبر مراحل تاريخية مختلفة حافظ الاستعمار على نزعته التسلطية اتجاه الاخر وتجلى كنوع من الهيمنة سواء هيمنة افراد او جماعات على اقليم او سلوك اشخاص وجماعات اخرى. او تغيير وضع ثقافي بالإكراه في مجتمع ما .وهذا ما أشار اليه أيضا  -هورفاث جيه رونالد- في مقال له عن الاستعمار الجديد حيث اشار الى ان الهيمنة التي يمارسها المستعمر تمت بطريقتين :اولا بين الجماعات وثانيا داخل الجماعة ذاتها ففي بريطانيا سابقا والى الان نلاحظ هيمنة الانجليز على الويلزيين والإسكوتلنديين والايرلنديين وداخل المجتمع البريطاني نجد تراتبية من حيث السلطة والمال والمكانة وفي نظره ان العلاقة بين الْمُسْتَعْمِرُ وَالْمُسْتَعْمَرِ تأخذ ثلاثة اشكال فهي إما عــلاقة ابادة ومثال ذلك  الاحتلال الاوربي لجزر الكاريبي او ما حدث في امريكا وأستراليا او ما يحدث اليوم في غزة  وإما تداخل اجتماعي كما وقع في امريكا اللاتينية او التوازن النسبي كما حصل في مصر مثلا.

وفي كل شكل من الاشكال الثلاثة عمل الاستعمار على تغيير فلسفته ومن ثمة ادواته مرتكزا على تفوقه العسكري وقدرته على القمع وعلى تفوقه المعرفي مستفيدا من بحوث فلسفة التنوير والاستشراق من هنا اشار إدوارد سعيد الى أن الخطاب الاستشرافي ليس خطابًا علميًّا بل نتاج للقوى الإمبريالية الغربية فالاستعمار بحسب ادوارد سعيد كان بحاجة الى اقامة حاجز كبير بين الشرق الذي وصف بالتقليدي والرجعي البدائي الخال من العقل والغرب الحداثي العقلاني التنويري كي يتمكن من الهيمنة والنفوذ على البلدان التي يستعمرها.

وفي نفس السياق تحدث احمد رهدار عن الاستعمار الجديد من حيث انه نوع يكون فيه القادة من نفس البلد المستعمر حيث يلاحظ ان القادة المحليين يتمتعون بحماية خاصة واضحة ومباشرة هذه الحماية يتمتع به ايضا بعض من النخبة المثقفة حيث يعمل المستعمر على تحقيق اهدافهم في الحصول على مناصب سياسية وعزل منافسيهم مقابل الدفاع عن مصلحة المستعمر وفي مرحلة لاحقة يكون المستعمرون واتباعهم المحليين متخفيين وغير ظاهرين للعيان.

آليات الاستعمار المعاصر

قوة الاستعمار المعاصر تتجلي في تحكمه في الحقول البرمجية من خلال سلطة العلم او ما يسمى التحكم في الثقافة ومثال ذلك ISI وهو مُصطلح مُختصر لجملة ISTITUTE FOR SCIENTIFIC INFO، بمعنى (معهد المعلومات العلمية) والذي يقع مقره بولاية بنسلفانيا الأمريكية، ويُعَدُّ تصنيف ISI أشهر التصنيفات للمجلات الدولية المحكمة، ووضع إطار ذلك التصنيف العالم "يوجين جارفيلد"، أحد مؤسسي المعهد في بداية ستينيات القرن الماضي. وفي فترة التسعينيات قامت مؤسسة "ثومسون رويترز" بالاستحواذ على المعهد، وأصبحت هي المتعهدة بذلك التصنيف، وفي ظل ظهور شبكة الإنترنت ظهرت مواقع متنوعة خاصة بتصنيف ISI، وتُعرف باسم INERNATIONAL SCIENTIFIC INDEXING"، وتتضمَّن قواعد بيانات ISI عددًا كبيرًا من المجلات التي تتضمَّن مادتها ملخصات بحوث وتقارير وأوراق علمية، وتُقاس قيمة هذه المجلات وفقًا لمعامل التأثير IMPPACT FACTOR.مما ادى الى ما يسمى وهم الانتشار العلمي عن طريق زيادة المقالات في فهرسة ISI وبالتالي تحولت الجامعات -وهذا ما نلاحظه في الجزائر مثلا- الى مراكز للفهرسة ونشر المعلومات وبدل الاهتمام بالمضمون اصبح الاهتمام بالشكل حيث افرغ البحث العلمي من محتواه القيمي وقدرته على التأثير في الواقع وقد سجل احد الباحثين ان ربط مسالة الارتقاء في المراتب الجامعية بامتلاك مقالة في ISIليس بالأمر الجيد وربما يتعارض والروح العلمية هذه الالزمات عادة ما تتخذ بناء على خلفيات سياسية حيث ان اجبار الجامعي على كتابة مقالة في المجلة الفلانية لتأكيد مصداقية صلاحيته العلمية هو امر بالغ في عدم الاحترام لكلا العلم والعلماء فالعلم حيثما كان فهو علم والعلم هو الذي يعطي الصلاحية للمجلات وليس العكس.

وهكذا الاستعمار المعاصر أصبح يمارس سلطته عبر التحكم الثقافي وهذه مسألة يجب الانتباه الى خطورتها فلا يمكن ان نتصور تاريخا حقيقيا للتحرر بلا ثقافة والشعب الذي فقد ثقافته فقد ولا شك تاريخه كما كان يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي لاسيما إذا فقدت الثقافة المبادئ التي يجب ات تقوم عليها كالمبدأ الاخلاقي الذي يحدد الدوافع والغايات والبعد الجمالي الذي يشكل الصياغة والمنطق العملي الذي يحول الفكرة الى انتاج يستفاد منه اجتماعيا والعلم الذي يزودنا بالوسائل لتحقيق هذه الغايات.

والواقع ان محاولة فرض نمط ثقافي واحد ممثلا في الثقافة الغربية قوبل بالرفض حتى داخل الجامعات الاوربية فقد عبرت منظمات طلابية في بريطانيا عن نبذها لتاريخ البلاد الاستعماري لكن الغريب في الامر ان جامعة مثل جامعة "أوكسفورد" رفضت دعوات اتحاد طلبتها بإزالة تمثال سيسيل رودس (1853-1902) من كلية أوريل، أحد أبرز الشخصيات الاستعمارية البريطانية في جنوب أفريقيا، مؤسس De Beers الشركة التي تملك أكبر مناجم الألماس، والتي كانت حتى وقت قريب مسيطرة على 90% من سوق الألماس في العالم. وبدلاً من أن يرتبط اسمه بالضحايا الذين قضوا في مناجمه أو جرائم الاستعمار، يرتبط اسمه بمنحة دراسية رفيعة تقدّمها أكسفورد التي درس فيها. وذات ملاحظة نسوقها ونحن نرى اعتصامات الطلبة في الجامعات الامريكية وبدل من معاقبة الجاني يتم توجيه اللوم الى الضحية في مفارقة حزينة.

ويمكن القول أيضا ان الاستعمار المعاصر هو بالأساس استعمار لغوي واللغة ليست مجرد رموز للاتصال والتواصل او اداة للتخاطب والتعبير عن المشاعر والافكار اللغة في جوهرها أكثر من ذلك انها تشكل روح الامة والإطار الذي تشكلت فيه ثقافتها ولذلك قيل انت تتكلم لغتي انت تنتمي الى مجموعتي واهمية اللغة تتجلى في كونها تشكل جهاز الادراك عند الفرد فهي تحدد له  زاوية النظر الى العالم الداخلي والخارجي وحياة او موت الامة متوقف على حياة او موت لغتها الام  من هنا اشتغل الاستعمار الكلاسيكي و المعاصر على هذه المسالة ووظفها لصالحه من خلال فرض لغته يقول فيليبسون صاحب كتاب الهيمنة اللغوية : “هناك نظام لاختيار اللغات في كل دولة، وليس بالضرورة أن تشمل الخيارات الإنجليزية أو أن تكون الإنجليزية الخيار الأول في كل مكان! في تنزانيا مثلا تتصدر الإنجليزية المشهد ويتلوها السواحيلية ثم عدد من اللغات المحلية، وانطلاقاً من هذا الوضع فإن عددا ًمن اللغات في نيجيريا وتنزانيا ستنقرض مع مرور الوقت، وتلك مأساة، لأن معرفة أن الثقافات مندمجة في اللغات سيعني أن عددا ًمن الثقافات ستخرج وتنتهي من التعدد الثقافي في ذلك البلد، وربما من العالم… والسبب الرئيس في هذا هو الفشل في التخطيط اللغوي خاصة على مستوى التعليم”.حيث خلص البروفيسور البريطاني روبرت فيليبسون في كتابه “الإمبريالية اللغوية” إلى أن تعليم الإنجليزية هو في الحقيقة فعل استعماري بأدوات لغوية. ويضيف البروفيسور البريطاني: أن الرئيس السنغافوري لي كوان يو قد ندم كثيراً على اهتمامه المبالغ بفرض الإنجليزية مقابل التقليل من شأن المحليات وأهمها اللغة الصينية ذات الثقل الكبير اقتصادياً.

وتذكر احصاءات انه بإنجلترا وبسبب السياسات الاستعمارية اللغوية ذهبت لغة الأيرلنديين والأسكتلنديين أدراج الرياح ولم يبقى منها إلا النزر اليسير (أقل من 2%) يتحدثها وأقل من ذلك من يكتب أو يقرأ بها. لقد استعادت إيرلندا استقلالها، لكنها لم تستطع استعادة لغتها!

ومن المفارقات ان الدول التي لها تاريخ استعماري تدرك خطورة الهيمنة الثقافية كفرنسا مثلا التي تعمل على فرض لغتها في العديد من المستعمرات السابقة لكن في نفس الوقت تضع القوانين التي تحمي لغتها مثل قانون رقم 94-665 في 4 أغسطس 1994 المتعلق باستخدام اللغة الفرنسية ويعرف باسم (قانون توبون (‏، نسبة إلى وزير الثقافة جاك توبون، يرتكز على ثلاثة أهداف رئيسية هي: إثراء اللغة؛ والالتزام باستخدام اللغة الفرنسية ؛ والدفاع عن الفرنسية كاللغة الرسمية للجمهورية كما تهدف لضمان أسبقية استعمال المصطلحات الفرنسية التقليدية، لضمان السيادة الفرنسية في فرنسا. واستجابة لتزايد استخدام اللغة الإنجليزية في فرنسا، ولا سيما في الإعلانات التجارية، حيث يلزم قانون توبون جميع الإعلانات والملصقات الترويجية أن تكون مكتوبة باللغة الفرنسية. والمجالات التي يسرى عليها الحظر هي:

- كافة الوثائق والمستندات والإعلانات المسموعة والمرئية.

- كافة مكاتبات الشركات العاملة على الأرض الفرنسية، وبوجه خاص المحلات التجارية، والأفلام الدعائية التي تبث عبر الإذاعة والتلفزيون. وعقوبة المخالفة تتضمن السجن أو غرامة مالية. وقد اثار مقطع فيديو لحفيدة الرئيس الأميركي السابق  دونالد ترمب وهي تغني وتنشد باللغة الصينية ضجة كبيرة كما تداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي الصينية مقطعاً آخر لابنة الملياردير الأميركي جيم روجرز وهي تردد بطلاقة أغنية صينية. وكان المستثمر الأميركي قد أشار في تصريحات صحفية إلى أنه عادة ما يشدد في محاضراته على ضرورة تعليم الأطفال الصينية باعتبارها لغة القرن الجديد. وقال إن القرن التاسع عشر كان قرن بريطانيا، والقرن العشرين قرن أميركا، وتوقع أن يكون القرن الواحد والعشرين قرن الصين.

من اليات عمل الاستعمار الجديد التحكم في الخارطة السياسية لدول العالم الثالث

عموما والدول العربية على وجه الخصوص والعمل على لجم الثورات العربية التي عجزت عن تحقيق اهدافها وقد استنتج حكيم بن حمودة في مقالٍ له نُشر في شباط/فيفري 2011:" انّ اليقظة العربيّة الثانية- وكان يقصد الربيع العربي - لن تُترجم بعمليّة دمقرطة، بل بتغيير في قمم (رؤوس) الطبقة الحاكمة، وفي بعض الحالات، بتغيير الأنظمة. عمومًا، مع ذلك، هم لن يتغيّروا. المصالح الداخليّة والخارجيّة التي تحميهم قويّة جدًّا. وفق هذا التفسير، فإنّه من المرجّح أنّ قدر «الربيع العربيّ» هو أن يصبح، بسرعة، خريفً قاسيًا، دون المرور بصيف أو خريف. الإصلاحات التي ستجرى لن تكون إلّا شكليّة، سيتمّ إرساء ديموقراطيّات معادية لليبراليّة شبيهة بسابقاتها. ويرى بعض المعلّقين الأكثر تشاؤمًا، أنّها يمكن أن تكون الجديدة أسوأ ".

وجدير بالملاحظة ان الاستعمار الجديد يتغذى على  نشر نظام التفاهة وتغليب الكم على الكيف وتغييب النظرة النقدية وقد اشرنا الى ذلك في مقال سابق عن اغتيال الفلسفة والتأسيس لنظام التفاهة نضيف هنا فقط قول مالك بن نبي وهو يتحدث عن القابلية للاستعمار :" هذا الوجه المتخلف الكئيب مازال حيا ...نصادفه في المظهر الكاذب الذي يتخذه ابن صاحب المليارات نصف المتعلم الذي انطبع في الظاهر بجميع اشكال الحياة الحديثة فاكسبه مليار ابيه وشهادة البكالوريا مظهر الانسان العصري بينما تحمل اخلاقه وميوله وافكاره صورة انسان ما بعد الموحدين" كما يمكن العودة الى احدى نصوص ابن خلدون وهو يحلل ظاهرة تقليد المغلوب للغالب في كتابه المقدمة يقول :" والسبب في ذلك ان النفس ابدا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت اليه،اما لنظرة بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه،أو لما تغالط به من انقيادها ليس لغلب طبيعي،انما هو لكمال الغالب،فاذا غالطت واتصل لها حصل اعتقادا،فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به،وذلك هو الاقتداء.....ولذلك ترى المغلوب يتشبه ابدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه ..بل وفي سائر احواله،وانظر ذلك في الابناء مع ابائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائما وما ذلك الا لاعتقادهم ان الكمال فيهم .وانظر الى كل قطر من الاقطار كيف يغلب عليه زي الحامية وجند السلطان في الاكثر،لانهم هم الغالبون لهم،حتى اذا كانت امة تجاور اخرى ولها الغلب عليها فيسري اليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير،كما هو في الاندلس لهذا العهد من امم السلاجقة،فانك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم واحوالهم،حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت،حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة انه من علامات الاستيلاء .والامر لله.

وكتخريج عام نقول إنه في كل المحطات التاريخية اقترن مفهوم الاستعمار بالهيمنة والتعالي والسيطرة على الاخر والتعامل معه وفق ثنائية السيد والعبد وثنائية الشرق المستبد والغرب الحداثي الديمقراطي او ثنائية الجنوب المتخلف والشمال المتقدم بل ان الاستعمار الغربي لايزال يواصل حربه القذرة بأسلحة اخرى ولكنها أكثر فتكا. ويمكن القول اننا لا زلنا نعيش حالة من الاستعمار والإستدمار وانه لا سبيل للتحرر الا من خلال تحرير الانسان المستعبد ونشر قيم التسامح اتجاه الاخر والتواصل معه والاعلاء من شان التفكير النقدي والاحتكام الى منطق العقل لا العاطفة وهذه مهمة المثقف الثوري فإما فلسفة جديدة للحياة او الكارثة والاُّنسانُ المنحى الظُّهْر، اَلْمُسْتَغلُ، اَلَّذِي يُعَانِي مِنْ سُوءِ التَّغْذِيَةِ، المُقاتِلُ مِنْ اَجَلِ الِاسْتِقْلالِ، المُغَطَّى بِالدَّمِ، اذا ما احسن اختيار الطريق الذي يسلكه هوَ اَلَّذِي سَيُقَرِّرُ مَا اَلَّذِي يَخْتَارُهُ. وَهُوَ حَتْمًا سَيَخْتَارُ الحُرّيَّةَ"

***

علي عمرون – أستاذ فلسفة - الجزائر

................

هوامش

01-   كُوَامِي نُكُروما: فَيْلَسوفٌ وَرَجُلٌ سياسيٌّ وَقائِدٌ وَطَنيٌّ ثَوْريٌّ غاني 1909 – 1972

02-   رامون غروسفوغل باحث بورتوريكي متخصص في السوسيولوجيا. يشغل منصب أستاذ بجامعة بركلي بالولايات المتحدة الأمريكية، مهتم بسؤال الكلونيالية والسلطة.

في المثقف اليوم