قضايا
مجدي إبراهيم: الإمام والتّصوُّف (٧)
فى وصية «ربّانىّ الأمة» لتلميذه كميل بن زياد (قتل عام ٨٣ هجرية) حكمة بالغة، نحن أحوج ما نكون إليها فى زمن القيم الساقطة، زمن فقدنا فيه حكمة العقول وحكمة القلوب، وأخذنا بالحرف والعنوان دون الجوهر واللباب حتى خرج علينا الأفاكون من كل حدب وصوب، جعلوا من نقاء القلوب مجرّد أساطير خُرافية، فكانوا أساتذة فى أسطرة المعقول واللامعقول على السواء، كما جعلوا من حكمة العقول ظواهر برانيّة لا تلبث أمام أباطيلهم أن تتهافت، فلا منطق العقل مقبول لديهم ولا حكمة القلب، ناهيك عن بصيرة الذوق أو ذوق البصيرة، جعلوا أهدافهم حفنة من الأموال يُحصّلونها ليشبعوا شهواتهم وآفاتهم ومطامحهم التى تقام، فى زعمهم، على أنقاض الدين.
ولم يكن لأوكارهم الموبؤة التى يؤسسونها حديثاً صلة مقطوعة النسب بما (تكوّن!) قديماً، ولن يقدّموا طعناً أكثر ولا أحجى ممّا قُدِّم فى السابق من ليّ الألسنة ومن طعن فى الدين.
نحن أحوج ما نكون اليوم، وكل يوم، إلى تأمل وصية الإمام لتلميذه، لتعطى صورة صادقة وافية عن حقيقة الإمام من حيث نزوعه إلى الملأ الأعلى، ولتملأ النفس جلالاً وروعة، وليكون على الحقيقة هو أول فقيه للقلوب يمثل سلامتها من الدّغل والتعطيل.
يُقال، حسبما يروى المؤرخون، إنّ علياً أخذ بيد كميل بن زياد، وأخرجه إلى ناحية القبور، وتنفس نفساً طويلاً ثم تكلم عن القلوب، فقال: «يا كميل القلوب أوعية، فخيرها أوْعاها للعلم، أحفظ ما أقول لك : الناس ثلاثة :
عالمٌ ربّانى. ومتعلمٌ على سبيل النجاة. وهمجٌ رعاعٌ أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق». ثم يمضى الإمام فى تفضيل العلم على المال، ويخبر تلميذه أن فى قلبه علماً يخشى أن يُلقنه للناس فلا يحسنون استخدامه، غير أنه لن يعدم حجج الله فى الأرض، إذْ لم تخلو الأرض مطلقاً من قائم لله بحجة، لكيلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك هم الأقلون عدداً - هكذا يقول الإمام - الأعظمون عند الله قدراً، بهم يحفظ الله حججه، حتى يؤدونها إلى نظرائهم ويزرعوها فى قلوب أشباههم.
هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعر منه المترَفون، وأنسوا بما استوحش عنه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحها مُعلقة بالمنظر الأولى، أولئك خلفاء الله فى بلاده، ودعاته المخلصون إلى دينه، ثم يتنهد الإمام شوقاً إلى مشاهدة رؤيتهم.
حقاً .. إنّ الشبيه يدرك الشبيه كما كان يقول الفلاسفة قديماً؛ فالمُخلصون لله يدركون بعضهم بعضاً. وأصحاب المطامع والأهواء والمخازى أيضاً أشباه وأنداد يدركون أنفسهم ويعرفون أهدافهم ويجتمعون على الدَّنيّة. أولئك هم الهمج الرّعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، كما تقول الوصية.
هذه سنة الدنيا مذ قامت، ولن تجد لسنة الله تبديلاً : نسخٌ آدميّة مأجورة مستخدَمة، تتكرر فى كل زمن وفى كل عصر، وهى لا تعرف معنى لتحرير القلب ولا لحرية العقل.
وأهل الباطل فى كل جيل أشباه وأنداد. وأهل الحق كذلك هم من يتخذون من كنز العلم والتحقيق غاية نحو وَحْدَة قصد، ولا يخشون من أجل الحق فى الله لومة لائم.
وربّانيُّ الأمة هو على التحقيق المثل الأعلى للولى العالم العامل، الجامع بين علوم العقل وعلوم التصفية، وربما وجدنا من مؤرخى التصوف (أبو نعيم صاحب حلية الأولياء) من يضع على لسان عبدالله بن مسعود حديثاً مسنداً : «إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرفٌ إلا له ظهر وبطن، وإنّ علياً بن أبى طالب عنده علم الظاهر والباطن».
أو يذهب صاحب نهج البلاغة إلى أن علياً يعلن أنه اندمج على مكنون علم لو باح به للناس لاضطربوا اضطراب الأرشية فى الطوى البعيدة. أى أنه، عليه السلام، أنطوى على علم لم يعلمه أحد لو أظهره لاضطرب الناس مثل اضطراب الحبال فى البئر العميقة.
حقيقة، لن تضام أمة وفيها الأمثلة العليا من كبار العقول وكبار القلوب، فإذا ظهر فيها اليوم، كما ظهر فيها فى السابق، من يقدح فى ثوابتها أو يطعن فى أصولها، تحت دعاوى لقيطة، فحكمه حكم من سبقه عبر تطاول الأزمنة والدهور : فى مزبلة التاريخ.
ولن تخلو أمة التوحيد من قائم لله بحجة، كما صحّ عن الإمام.
(وللحديث بقيّة)
***
د. مجدي إبراهيم