قضايا

عدي عدنان البلداوي: في نقد الواقع الثقافي

عصر التقنية المتطورة، بما يوفره من حق شخصي في إمتلاك أجهزة الموبايل والحاسوب والإنترنت. وبما يوفره من حرية وسهولة في إستخدام وسائل التواصل الإجتماعي، والمواقع الألكترونية. يوفر في رأي بعض المثقفين فرصة ركوب أمواج ثقافات الدول المتطورة بما يحقق أو يدفع بإتجاه اللحاق بركب العالم ثقافياً وإجتماعياً وإقتصادياً، من خلال التدفق الهائل للبيانات والمعلومات وسرعة الحصول عليها ودقة نتائج البحث الألكتروني التي يراها بعض المثقفين تغني رصيدهم الثقافي وتجربتهم الإبداعية.

منذ بدايات القرن الواحد والعشرين، كثر في العالم العربي حملة الشهادات العليا وحملة الألقاب الرسمية و الإجتماعية، وهيمنت الثقافة الشعبية على مشاهد الحياة اليومية للناس قياساً بثقافة النخبة. ربما لقلة العطاء الفكري والثقافي للنخب الثقافية، وربما لغزارته في الجانب النظري البعيد عن واقع حال المجتمع الذي يُراد ان يتأثر بفكر المثقفين بما يدفعه الى تغيير واقعه الى ما ينبغي ان يكون عليه. وربما لافتقاره الى علاقة تواصل مؤثرة بالمتلقي، تجعل من ذلك العطاء الفكري العملي موضع تفاعل الناس، فقد نجد كثيراً من البحوث الأكاديمية المهمة التي تصب في معالجة الواقع، لكنها حبيسة رفوف المكتبات ومكاتب المسؤولين الذين لا يجدون في تنفيذها ما يخدم توجهاتهم في إدارة البلاد.

التثقيف الافتراضي

كما أتاح العالم الافتراضي إمكانية تأسيس أكاديميات افتراضية ومراكز أبحاث وكليات ومعاهد للدراسة عن بعد، وسّعت مساحة اللقاء الثقافي والمعرفي وأعطت للكتاب الألكتروني حضوراً أثّر في حركة الكتاب الورقي فقلّ الإقبال عليه أمام وفرة المكتبات الألكترونية المجانية التي تعرض عنوانات متنوعة وكثيرة يمكن قراءتها عبر الشاشة أو نقل نسخة منها إلى الحاسوب الشخصي، فضلاً عن مكتبات بيع الكتب الكترونياً بأسعار هي الأقل مقارنة  بكلفة شرائها مطبوعة بصيغة كتاب ورقي.

انشطة ثقافية الكترونية

التغطية المستمرة والبث المتواصل للإنترنت على مدار الساعة  حفز كثيرين على الظهور في مواقع التواصل الإجتماعي وغرف الدردشة والملتقيات والصالونات والمجموعات الثقافية والإخبارية والتجارية. ثم جاء وباء كورونا ليدعم هذا الحافز ويوسعه، فلم يتوقف النشاط الثقافي والتواصل الإجتماعي بسبب العزلة التي فرضتها شروط السلامة من الوباء، فقد ظهرت منتديات ومجالس ثقافية الكترونية تلقى فيها المحاضرات بالصوت والصورة الحية تارة، والمسجلة تارة أخرى، وكان لرابطة مجالس بغداد الثقافية دور مميز في تحريك الوسط الثقافي في أجواء الحظر حيث التنسيق بين الأعضاء عبر المجموعة الالكترونية للرابطة وتحديد وقت ويوم لشخصية ثقافية تختارها الإدارة لتلقي محاضرة يختارها المحاضر ويرسلها على شكل بصمات صوتية الى المجموعة، تعقبها مداخلات واسئلة. تمخض عن هذا الدور، كتاب “ ثقافتنا في زمن الكورونا “ الذي جمع فيه رئيس الرابطة الاستاذ صادق الربيعي كل المحاضرات الثقافية التي القيت افتراضياً وطبع على شكل كتاب ورقي ضخم.

عمد بعض القائمين على الأنشطة الثقافية الإلكترونية الى تقديم " شهادة مشاركة " باسم كل من يسجل حضوره الالكتروني في المنصة التي تلقى من عليها المحاضرة الثقافية. فضلاً عن " شهادة شكر "  و" درع الإبداع والتميز ".

بعض الآراء ثمنت تلك المبادرات وعدتها تشجيعية ومحفزة، وبعضها رأت فيها أنشطة قائمة على أساس مشترك بين المظهر الإجتماعي والجوهر الثقافي، فتقديم شهادة مشاركة لمجرد دخول الشخص وتسجيله في المنصة يحفز كثيرين على تلك الخطوة من أجل الحصول على تلك الشهادة التي ترسل اليه الكترونياً فيقوم المشترك  بنشرها على حسابه الخاص كي يحصل على الإجايات وكلمات الثناء على نشاطه الثقافي هذا.

الثقافة المحلية وعصر التقنية

يرى بعض المثقفين المعجبين والمتأثرين بعصر التقنية والثقافات الغربية، ان ثقافاتهم المحلية ليس بمقدورها مواكبة المشاريع الثقافية العالمية التي تمولها مشاريع الإقتصاد الصناعي والسياسي للدول الكبرى في العالم عبر شركات عابرة للقوميات، وعبر مواقع التواصل الإجتماعي، من خلال محركات البحث الالكتروني. لذا وجدوا في المرونة حاجة ضرورية تفرضها ظروف مرحلية محلية واقليمية وعالمية متعلقة بمستقبل الحياة على الارض وبمصير الإنسانية، لذلك دعا نفر من المثقفين الى تكوين عقل ثقافي محلي بمواصفات عالمية عابرة للخصوصية، وفي بعض الأحيان عابرة للقيم والمبادىء والمثل العليا للمجتمع.

لقد منحت أدوات التقنية للمثقف العربي الواناً من الحرية كان ولا يزال يفتقر إليها في مجتمعه، فقد صار بمقدوره إنتاج ثقافته الخاصة بعد أن كان إنتاجها جماعياً.

الفردية الثقافية

اختلف المثقفون حول الفردية الثقافية،. منهم من يراها تهدد وحدة المجتمع، خصوصاً عندما تكون متأثرة بالتغريب الثقافي. ومنهم من يراها تعزز مركزية الذات، وتزيد في حرية التعبير، وحرية الإبداع التي يحتاجها العقل العربي المقيد بالمصادر والآراء القديمة والموروث الثقافي عموماً.

لا يرى بعض المثقفين، في التغريب الثقافي خطراً على حاضر بلدانهم العربية بموروثها الثقافي في ظل النظام العالمي الجديد الذي لا معنى فيه لحياة أي مجتمع بعيداً عن التأثر بثقافات المجتمعات الأخرى حول العالم والتأثير فيها. بينما يعتقد المثقف المحافظ ان الأمر يحتمل كل الخطورة ما دامت معادلة الأقوى في أجندات النظام العالمي لم تغادر بعدها المادي عددياً وعسكرياً وإقتصادياً فهي المعادلة التي لا تزال غالبة على طبيعة المشهد العالمي في كل المجالات تقريباً، وان الدول الكبرى التي استعمرت بلداننا في السابق، هي نفسها من يقود العالم اليوم بعد أن أجرت تحديثاً على بعض المفاهيم كالإستعمار والإحتلال. فصار الحديث عن الغزو الثقافي، وعن إحتلال العقول، والهيمنة الرقمية العالمية، والتغريب الثقافي وأمركة العالم وثقافة القطب الواحد.

المثقف والتطور

لا تزال لكلمة “ تطور “ جاذبيتها الشديدة التي تشد اليها كل باحث عن واقع أفضل وحال أحسن وحياة أجمل.

بإسم التطور خرجنا من عباءة الماضي وانفتحنا على العالم. وبإسم التطور وسّعنا علاقاتنا التجارية والثقافية والدبلوماسية مع بلدان العالم. وبإسم التطور خرجنا الى صناديق الإقتراع نحمل السلام بدل السلاح بحثاً عن ممثلين صادقين عنا في السلطة. وبإسم التطور ارتضينا الاختراق الالكتروني لخصوصياتنا عندما وفرت لنا بعض شركات الإنتاج الرقمي امكانية الكسب المالي بالترويج لصفحاتنا الشخصية بمنشوراتها ومعروضاتها ومن بينها شؤوننا الشخصية وحياتنا العائلية.

يُعتقد ان المساحة الكبيرة للحرية التي وفرتها التقنية الرقمية المتطورة في مجال النشر وإبداء الرأي، تعدّ من إيجابيات عصر التقنية. لكنهم قد لا يعلمون ان القائمين على مشاريع التطور التقني يستثمرون في الثقافة لصالح اجنداتهم الخاصة، فهم يوفرون للكاتب والمفكر سبل التواصل ونشر المقالات والكتب والأراء ويقدمون له عروضاً للشهرة، وفي الوقت نفسه، يستخدمون ظهوره الإعلامي وصوره الشخصية ومقاطع الفديو التي يتحدث فيها، كسلاح خطير يوجهونه اليه متى ما اراد ان يواجه بأخلاق ثقافته ووعي حريته ومبادىء مهنته، عروضاً وأفكاراً ومخططات يتم الترويج لها هنا وهناك، يراها تهدد أو تضرب البنية التحتية لمنظومة القيم والأخلاق والدين والإنسانية. فيعمدون عبر تقنيات برمجية متطورة الى إنتاج مقاطع فديو يظهر فيها ذلك المثقف وهو يتحدث بالضد من طروحاته ومنهجيته العلمية والأخلاقية والدينية، وقد يظهرونه في أوضاع مخلة بالأدب أو يجرون على لسانه آراء تضر بالسلامة الفكرية أو تطعن في الدين والقيم والموروث الأخلاقي.

الثقافة والتزييف العميق

هكذا نصبح أمام تعريفات جديدة للحرية والأخلاق والثقافة في عصر التقنية. تعريفات تسمح لكل من يلتزم بثقافة المشاريع الإستثمارية العالمية أن يصبح شخصية إجتماعية، أو شخصية مؤثرة، أو شخصية عالمية , ما دام يتمدد بتفكيره ضمن حدود المنتج العالمي لمفهوم الحرية التقنية الرقمية المؤرشفة والمؤدلجة.، من ذلك ما نسمعه ونشاهده هنا وهناك من ظهور اشخاص بلا محتوى ثقافي رصين وهم يملأون الشاشات ويشغلون اوقات البث، يحتفى بهم في محافل ثقافية تم الإعداد لها في إطار سياسي اقتصادي. وقتذاك سيشعر المثقف الحقيقي ان الثقافة من حيث هي رسالة وعي إنساني أخلاقي إيجابي، تشكل عبئاً يثقل كاهله حد كسر الظهر ان هو أصرّ على حملها في عصر الشاشات الملونة والنفوس الملوثة.

أدرك أصحاب الوعي هذا الخطر المحدق بمستقبل الثقافة الإنسانية. كما أدركوا ان الأعمال العظيمة التي خدمت الانسانية عبر التاريخ لن تكون بعيدة عن متناول يد مشاريع الإستثمار وبرامج التقنية المتطورة والذكاء الإصطناعي غداً، فبعد ان يمر وقت على ظهور جيل أو جيلين من الشباب الذين لا يعرفون غير الإنترنت مصدراً لمعلوماتهم ومعارفهم وثقافاتهم، ستأخذ مخططات ومشاريع الثقافة العالمية من تلك الأعمال العظيمة واولئك الأبطال والمفكرين والمثقفين ما تستفيده في برامج الكترونية عالية الدقة كـ “ تقنية التزييف العميق “ مثلاً، حيث يعاد إنتاج حديث نبوي أو رأي شرعي جاء على لسان عالم جليل القدر عظيم الأثر عند أتباعه ومريديه ومقلديه. أو إعادة صياغة حكمة أو وجهة نظر لفيلسوف أو مفكر أو كاتب مشهود له بالكتابة الجادة والأمانة العلمية وبقوة الشخصية وسلامتها. أو إعادة كتابة حدث أو مجموعة  من أحداث التاريخ. بحيث تقدم هذه الأعمال والأقوال والأحداث الى الأجيال الشابة المثقفة الكترونياً بعد أن يضاف اليها او يحذف منها أو يغير كامل محتواها بما يتوافق مع ما تقتضيه أجندات أصحاب المشاريع العابرة للقيم والإنسانية. فيتوهم اولئك الشباب انهم على إتصال بتاريخهم، فيبنون على هذا الإتصال الموهوم  ثقافاتهم الجديدة.

غالباً ما تأتي مشاريع تزييف الحقائق من أجل صناعة قوالب جديدة للثقافة ينتج عنها جيل مثقف مستهلك لا يسمح لابداعه أن يتجاوز المدة المحددة لصلاحية الثقافة الإستهلاكية، واذا حصل وأراد ان ينتج ثقافته الخاصة فإن السوق العالمية ستحذر المستهليكن منها كونها غير صالحة وغير آمنة، ولن يكون بوسع المستهلكين سوى تقبل تلك الإدعاءات لأنهم سيكونون في وضع لا يسمح لهم بالتمييز بين المزيف والحقيقي من المنتجات والأفكار والثقافات ومصادر التاريخ.

بين الإغتراب والتغريب

برغم أعداد الإصدارات التي تعلن عنها دور النشر ومعارض الكتب، لا تزال الثقافة في غربة عن واقع وطبيعة وطريقة حياة الناس. إما لمهنية وحرفية وتجارية طابع كثير من تلك المطبوعات او لإفتقارها الى لغة مرنة مشتركة بين الكاتب والقارىء. بعض الكتاب يستخدمون تعبيرات غامضة بهدف التشويق أو بهدف تكوين إنطباع أولي لدى القارىء عن علو كعب الكاتب، فكلما احتاج القارىء الى وقت أطول لفهم مقصد الكاتب دلّ ذلك - كما يتوهم بعضهم - على المهارة والعمق الثقافي والبعد الفكري للكاتب.

في كتابه “ قضايا الفكر “ المطبوع سنة 1959م يقول: وديع فلسطين” في صفحة 128 (وعليه فقد ازدحمت السوق بأطنان من الكتب وناءت الذاكرة بحفظ أسماء الكتاب الجدد. ولكن اذا استصفينا حصيلة كل هذا النتاج لم ننته إلا الى قليل من الدسم في محيط من الغثاثة والفجاجة وهوان التفكير

وقد أحسن الباحث والمحق المصري محمد عبد المنعم خفاجي تصوير هذه الحال فقال: ان القرّاء يقعون فريسة لذوي المواهب الضيئلة والأهواء الصغيرة من محترفي الأدب.. مما أدى الى ظهور الآلاف من الكتب والقصص التافهة التي تؤثر في عقول الشباب ونفوسهم تأثيراً ضاراً سيئاً ذا اثر محزن في حاضرنا الفكري والثقافي، وتؤدي الى انحطاط مستوى الروح الادبي والعلمي في اوساطنا المثقفة..)

على مواقع التواصل الإجتماعي وبدافع حرية التعبير وحرية انشاء صفحة شخصية، ينشر بعضهم ما يسمونه قصيدة أو مقالة قصيرة أو خاطرة، لا يكاد يفهم منها شيئاً. الغريب في الأمر إن اصدقاء الناشر يثنون عليه بـ “ احسنت النشر “، “ شكراً لحرفك الجميل “، “ روعة “ فتوهم بعضهم انه على خير حين غاب النقد الحقيقي وحلت محله المجاملات الإجتماعية في كثير من الأحيان.

تقارير ثقافية

حسب تقرير التنمية البشرية لعام 2003 الصادر عن اليونسكو ان كل 80 شخصاً عربياً يقرأون كتاباً واحداً في السنة، بينما يقرأ المواطن الاوربي الواحد حوالي 35 كتاباً في السنة.

وفي تقرير التنمية الثقافية للعام 2011 الصادر عن مؤسسة الفكر العربي ان المواطن العربي يقرأ بمعدل 6 دقائق سنوياً، بينما يقرأ المواطن الاوربي بمعدل 200 ساعة سنوياً

وبحسب تقرير اليونسكو فإن الدول العربية انتجت عام 1991 6500 كتاباً بالمقارنة مع امريكا الشمالية التي انتجت 102 الف كتاب و 42 الف كتاب في امريكا اللاتينية والكاريبي.

وحسب تقرير التنمية الثقافية فإن الكتب الثقافية العامة التي تنشر سنوياً في العالم العربي لا تزيد عن 5000 عنواناً وفي امريكا يصدر سنوياً حوالي 300 الف عنوان.

قد تساعد هذه الأرقام في الكشف عن الفارق الثقافي بين الشرق والغرب، فعدد النسخ المطبوعة من الكتاب الواحد في الشرق لا تزيد عن خمسة الاف نسخة، بينما يصل الى خمسين الف نسخة للكتاب الواحد في الغرب.

الكتاب والتسويق

تواجهنا في الحديث عن الدور المهم لدور النشر في حركة الثقافة مشكلة التوجه التجاري للعاملين في كثير من المطابع لأنه يحملهم دائما على طبع الكتب التجارية التي تستهلك وقت القارىء وقد يندم على ذلك الوقت الذي امضاه في قراءة هذه الكتب كما قال وديع فلسطين في حديثه عن المشكلة قبل اكثر من خمسين عاما في كتابه (قضايا في الفكر). تجذب الكتب التجارية الشباب اليها لأنها تخاطب رغباتهم في النجاح والثراء والتميز والحب بلغة مباشرة مقتصرة على لون محدد من الوان تلك الرغبات. لعلنا نستطيع معالجة هذه المشكلة بدخول المثقف على خط العمل في مشاريع الطباعة حيث تمتزج في شخصية المثقف ثنائية النشاط الثقافي والتجاري معاً مما ينتج عنه مطبوعات هادفة اكثر من تلك التي ينحصر انتاجها في الربح المالي فقط.

كثير من القراء الشباب يفضلون قراءة الكتب الأجنبية المترجمة الى العربية. ويستشهد كثير من الكتاب والباحثين العرب في كتاباتهم وابحاثهم ومحاضراتهم بكتّاب وباحثين وعلماء أجانب أكثر من العرب في مجال البحث نفسه.

لا يزال الكاتب والباحث العربي عموماً والعراقي بشكل خاص يؤدي كل الأدوار بنفسه في رحلة تأليفه الكتاب، إذ لا يزال الجو الثقافي جواً مقصوراً على صاحبه لا يكاد يجد من يشاركه فيه حتى من افراد عائلته ومقربيه، إلا من أوتي حظاً منهم،  لذا نتوجع كلما رحل كاتب وعالم الى العالم الآخر وقام ابناؤه ببيع مكتبته أو إهدائها الى جهة ما، ثم تطور الألم مؤخراً وصار الكاتب يتبرع بمكتبته في أواخر حياته الى مكتبة عامة أو جهة ثقافية معينة، وهو لا شك مؤشر مؤلم على إبتعاد نفوس وعقول المقربين من الكاتب والعالم والمفكر عن روح الثقافة. لأن الكاتب لم يوفق في نقل تلك الروح الى أحدهم، فكان إقدامه شخصياً على إهداء مكتبته، إجراء يشعر معه انه يتجاوز الألم الذي ينتابه وهو يرى مكتبة صديق له  قد بيعت أو تخلص منها ابناؤه بأي طريقة بعد مفارقته الحياة. وأضيفت الى دراما إهداء المكتبات الخاصة بعض التلحيظات التي تجمل المشهد وتطيب النفس نوعاً ما حين يعلن على العامة خبر إهداء العالم الفلاني والمفكر الفلاني والكاتب الفلاني مكتبته مع صور جميلة توثق ذلك، وقيام الجهة المستلمة للمكتبة بوضع إسمه على المكتبة كما هو حاصل في دار الكتب والمكتبات العامة والمراكز الثقافية.

وسواء كان عدم توفيق الكاتب في نقل روح الثقافة الى أحد أبنائه بسبب رؤيته المحدودة، أو بسبب ضعف همته على التوفيق بين عالمه الثقافي وجوه الأسري الإجتماعي، أو ان أدوات الزمان قد تغيرت وجاء تيار جارف أخذ الأولاد بعيداً عن الشاطئ الذي حط عنده الكاتب رحاله وألف اجواءه. فإن كل ذلك يؤشر عندي الى توقف تفاعل المثقف مع أدوات عصر أبنائه وإن كان يعيش إستخدامها معهم، لكنه لم يوفق الى آلة ربط بين زمانه وزمانهم فتجد كثيراً من الأطباء والمهندسين والكفاءات المعرفية في المجتمع هم أبناء أدباء وكتاب ومفكرين ومؤلفين، لكنهم في الأعم الأغلب ليسوا مثقفين كما هو حال آبائهم، فهم مهنيون، يؤمنون بالتخصص، أو هكذا وجدوا انفسهم  , وقد يبدو ذلك ملموساً في بعض المجالس الثقافية التي يحضرها أدباء وعلماء وأكاديميون تقدم بهم العمر، وكنت نادراً ما أرى أحدهم يرافقه ابنه أو ابنته، وان حصل فإنهم يحضرون بصفاتهم المهنية لا بصفات ثقافية، وهو لا شك نوع من أنواع الخسارة التي نتجرعها على مضض. وبهذا الصدد يتوجب عليّ ومن باب العرفان بالجميل أن أذكر ان والدي الأديب الناقد والشاعر عدنان عبد النبي البلداوي كان يدعوني وأنا في مرحلة المتوسطة الى الإستماع الى مقالة له قبل أن يبعث بها الى النشر، ليس لمجرد الإستماع بل كان يغريني وانا في ذلك العمر برغبته الصادقة في معرفة رأيي فيما كتب وان كانت لي ملاحظات على مقالته، وكان يأخذ برأيي، ليس لكفاءتي طبعاً ولكن لبراعته. كانت تلك طريقة عبقرية، اعترف بها اليوم وانا أتجاوز الخمسين عاماً من عمري وقد تحولت الى عاشق للكتاب. لقد أعدني بهذه الطريقة النفسية البديعة وشدني الى مكتبته التي احتفظ بها اليوم وقد نمت وكبرت معي، وصارت جزءاً مني. ليس هذا وحسب بل انه شجعني على أن أدرس تخصصاً استطيع به تكوين نفسي مادياً وان لا أفارق الكتاب، وفعلاً تخرجت في كلية الهندسة وانا أهوى الكتاب والكتابة، وكان يقرأ كتاباتي الطفولية قراءة نقدية لم يشعرني أبداً انه كان يداعبني أو (ياخذني على كد عقلي) كما نقول في العراق. كان صادقاً معي في كل ملاحظة وتصويب، وفوق كل هذا شجعني على نشر تلك الخواطر والكتابات فكانت أولى خطوات النشر لي في جريدة العراق وجريدة الراصد وانا في المرحلة الإعدادية.

الثقافة والتقنية الصناعية

كما إن التقنية الصناعية المتطورة قد أسهمت بشكل كبير في تسهيل إعداد وطبع ونشر الكتب، فصار بمقدور الباحث والمؤلف والكاتب إصدار أعماله بكلفة مالية مقبولة مقابل أعداد محدودة من النسخ، لكن المشكلة في عالمنا العربي لم تنته عند هذا الحل لأنها متعلقة بشكل كبير في عزوف الناس عن القراءة، حتى عندما توفرت خدمة الكتاب الألكتروني والنشر المجاني لملايين العنوانات في مكتبات إفتراضية تسهل عملية قراءة وتحميل الكتاب.

يدخل العامل الإقتصادي والعامل النفسي ليؤثرا بشكل فعال في عملية تفاعل الفرد العربي مع القراءة والكتاب، فهناك ملايين المواطنين في عالمنا العربي الإسلامي يعيشون تحت خط الفقر. وصل عددهم الى عشرة ملايين شخص في العراق وحده، يضاف الى ذلك الفوضى العامة التي ضربت البلاد في مجالات السياسة والأمن والصراعات المستمرة على السلطة ومكاسبها. هدّدت الإستقرار النفسي للفرد العربي عموماً، والذي من شأنه أن يهبط بالمعنويات الى مستويات متدنية مخيفة، بلغت عند بعض الشباب الى الإدمان والإنتحار والعنف. ودفعت بآخرين الى قبول ثقافة الواقع كما هو، بلغة تفكير وتعبير عادية وصلت حد كتابة الكلمات بالكيفية التي تنطق بها، فجاءت (لاكن) لتدل على (لكن) و(لكي) لتعني (لك) و (شكرن) بدلا عن (شكرا) و (بارك الله فيكي) بدلاً عن (بارك الله فيكِ)، وهكذا..

الثقافة المرحلية

هكذا تسهم الأحداث المرحلية في تشكيل ثقافة مرحلية للمجتمع، يتقبل فيها الفرد الشعر العامي على الشعر الفصيح، و ثقافة الصورة على ثقافة النص، وقراءة التعليقات على قراءة المحتوى، وصارت الشهرة عند كثيرين من دلالات المعرفة والثقافة فظن كثير من المتثاقفين وهَم الإبداع الحقيقي وهم يتلقون عبارات (متألق، نص رائع، يا لجمال حرفك، انت قامة ادبية، دام ابداعك،...) غير منتبهين الى ان سبب ذلك هو إستفحال ظاهرة المجاملات الأدبية على جميع تفاصيل الواقع المأزوم والمثقل بكثير من المعاناة والإختناقات النفسية التي قيدت حركة النقد البناء، خصوصاً عندما اخترقت بعض المفردات الأكترونية لغة الكتابة، فصار إعتيادياً عند بعض المثقفين ان يضمن حديثه (تم بموافقة الأدمن..) يريد بذلك المدير. ويبدأ أحدهم منشوره قائلاً: الأخوة في الكروب) يريد بها المجموعة او التجمع.

الكتاب الورقي وتقنية الطباعة

بعد ان وفرّت التقنية المتطورة أجهزة طباعة تتيح للكاتب والمؤلف طبع عدد محدود من كتابه بما يتلائم ومقدرته المالية من جهة، وحركة الإقبال على الكتاب الورقي من جهة اخرى. وجد بعض الكتاب ذلك محفزاً لمضاعفة جهودهم وتقديم اكبر عدد ممكن من المؤلفات، التي عدّها بعضهم مؤشراً على غزارة ثقافة الكاتب، بينما كانت موضع إنتقاد آخرين، خصوصاً عندما تحمل تلك الكتب عناوين ومضامين لا تخدم الواقع ولا تتحرك به في طريق النهضة، ولعل بعضها يفتقر الى أبسط مقومات النص السليم، الأمر الذي حمل بعض المعنيين على وصف هذه المرحلة بالمظلمة ثقافياً أو الفقيرة ثقافياً، لا من حيث الإمكانات المادية والتقنية وكثرة المطبوعات. بل من حيث قلة عدد القرّاء وكثرة عدد الفقراء في مجتمع ما بعد التغيير السياسي والإقتصادي والأمني في العالم العربي، والسماحية العالية التي توفرها شبكة الإنترنت للراغبين بكتابة بحث أو رسالة أو تأليف كتاب دون بذل جهد فكري أو حتى جهد عضلي. فقد أعدّت بعض شركات الإنتاج الألكتروني برامج وتطبيقات تتيح للمستخدم إعداد رسالة جامعية أو بحث أكاديمي أو تأليف كتاب في مجال من مجالات المعرفة والعلوم الإنسانية، منها تطبيق chatGpt الذي يقدم خدمات متقدمة في مجال تأليف الكتب. يكفي أن يكتب المستخدم عنواناً لكتابه المرتقب فيتولى التطبيق تنفيذ المهمة ويتيح التطبيق للمستخدم تحديد عدد فصول الكتاب وفقراته وقصر وطول المادة المكتوبة وعدد صفحات الكتاب ويتولى موقع آخر تصميم غلاف مناسب للكتاب. بالنتيجة يصبح بمقدور المستخدم أن ينجز عشرات الكتب سنوياً ما بين طبعها ورقياً وبين الإقتصار على نشرها الكترونياً والترويج لها بواسطة إعلانات الكترونية ممولة.

هكذا تجعلنا بدايات القرن الواحد والعشرين على موعد مع عدد كبير من الأسماء التي تبحث لنفسها عن مكان في عالم الثقافة بحكم غزارة إنتاجها من مؤلفات ومقالات لم تكتب فيها شيئاً، ولم تبذل فيها جهداً فكرياً.

في مستقبل عصر التقنية المتطورة سيكثر الكتاب والمؤلفون، وسيقل الثوّار والمبدعون. وستصبح الثقافة لوناً الكترونياً رقمياً يسهم في ترقيع لوحة الحياة التي ترسمها مشاريع الذكاء الإصطناعي.

المضامين الثقافية

اتسم طابع بعض الندوات والمجالس الثقافية التي تعقد هنا وهناك،  بإبتعاد موضوع المحاضرة أو الندوة عن قضايا الواقع. الأمر الذي جعل تلك المجالس تنغلق على نفسها ويقتصر حضورها على كبار السن من مثقفين واكاديمين، فمن النادر ان تلمح وجود بعض الشباب في تلك المجالس الثقافية.

يبدو إن بعض المثقفين، بتناولهم موضوعات لا صلة لها بالواقع يحاولون إيجاد متنفس لهم وهم يعيشون تحت ضغوطات كبيرة تسببت بها التغييرات التي طرأت على البلاد منذ بدايات القرن الواحد والعشرين، التي لم يكن للمثقف دور حيوي فيها بعد ان خاطبت سياسة السلطة الجديدة ثقافة المجتمع الشعبية دون ثقافة النخبة، واعتمدت كلياً على ثقافة المجتمع الشعبية بينما جاملت ثقافة النخبة. ذلك لأن ثقافة كثير من المتصدين للشأن السياسي ليست بالعمق الكافي الذي يجعل من الثقافة عندهم مشروع دولة، وقد كشفت كثير من تصريحات وحوارات ولقاءات وخطب ومواقف السياسيين عن حدة الفقر الثقافي الذي هم عليه، كما ان هناك سبباً آخر وهو إن الثقافة لم تزل مقتصرة على النخبة، الأمر الذي جعل من الثقافة قضية خاصة أو لوناً أو مظهراً إجتماعياً يتسم به نفر من الناس، فثقافة المجتمع شعبية بسيطة طبيعية غير متكلفة وهي تشكل نسبة كبيرة في البلاد، بينما تصل ثقافة النخبة عند بعضهم الى درجات عالية من الدقة والتنظيم والتعقيد والنقد والجرأة وهو ما يعلل عزوف كثير من السياسيين عن مخاطبة النخب الثقافية، بينما يتفننون في التقرب الى طبقات المجتمع الأخرى.

في نقد ثقافة الدولة

الثقافة الإنسانية هي الثقافة التي يعوّل عليها الحفاظ على بنية المجتمع، ذلك لقدرتها على حفظ القيم والمثل العليا والأخلاق بما يتوافق وطبيعة حياة المجتمع. فالانسان هو الكائن الحي الوحيد الذي لديه القدرة على اعطاء معنى لكل شيء، وهو الوحيد القادر بثقافته الخاصة على ان يعطي فهماً لذلك المعنى. من هنا جاء حرص كثير من الحكام على مر التاريخ على إبقاء الجهل والفقر في المجتمع ضماناً لإخضاع الناس الى طاعتهم . عندما تغيرت الأحوال بدخول الناس عصر التطور التقني وعصر البيانات والمعلومات، تغيرت أدوات السلطة الحاكمة وبقي الهدف ذاته .

فقد إستبدل الفقر والجهل، بالإستهلاك والثقافة المعلبة، في جو من الفوضى والسرعة بدعوى اننا نعيش عصر التطور العلمي الهائل وعلينا أن نركض لكي نلحق بركب العالم المتطور. إذ لم يعد الفقر متوافقاً مع التطور الصناعي الذي يحتاج الى سوق ومستهلكين ضماناً لإستمراريته، لذا جاءت مشاريع التمويل والقروض والتسهيلات المصرفية وزيادة مرتبات الموظفين.  الإجراء الذي فهمه بعضهم على انه إنتعاش إقتصادي ومنجز حكومي. هو وان كان كذلك، إلا انه ليس منجزاً خالصاً لمعنى الإنتعاش الإقتصادي وخدمة المجتمع لأهداف انسانية، بل يراد به تهيئة وإعداد مجتمع كثير الإستهلاك، يقضي كل وقته في العمل والتسوق، حتى بدت قدرة الفرد على التسوق ومتابعة أحدث منتجات شركات الإنتاج وبضائع الأسواق مؤشراً على تحضره.

إننا نعيش عصر أمركة العالم، وهو عصر لا يشغل السلطة فيه امر أكثر من جمع الاموال، لذا تجد الكاميرات الذكية في الشوارع لرصد مخالفات الناس، ولا تجدها داخل مؤسسات الدولة لرصد مخالفات الموظفين والمسؤولين، فكثر الحديث عن الرشوة والفساد المالي والتزوير والإبتزاز واغتصاب الحقوق داخل دوائر الدولة، وكثر الحديث عن المعاناة والامراض النفسية والملل وضنك العيش في أوساط المجتمع.

لم يعد الجهل متناسباً مع التدفق الهائل للبيانات والمعلومات، ومساحة التواصل والإتصالات العابرة للحدود الجغرافية والقوميات واللغات، فكانت الفردانية والحرية الشخصية في ظل ثنائية الفوضى والتسارع هي ثقافة المرحلة الجديدة، وهناك مشروع ثقافة عالمية ينتجها النظام العالمي بالقوى الكبرى المتنفذة فيه، يراد تمريره على جميع الناس من خلال حاجتهم المستمرة والمتواصلة الى إستخدام شبكة الإنترنت بما توفره هذه الشبكة من قوى جذب مغرية تشدّ المستخدم اليها وتجعله متسمراً أمام الشاشة ساعات قد لا يسعها عمر الليل عند بعض الشباب فتأكل من بعض ساعات نهارهم. فكلما وفرت الحكومة خدمة اتصالات متميزة، كلما ضمنت مساحات اكبر وفرصاً اكثر في البقاء في السلطة. فعندما يصل الفرد الى مرحلة لا يعود فيها قادراً على إنجاز مهامه أو بعض مهامه، بعيداً عن إتصاله بشبكة الإنترنت كالنشاط الفكري مثلاً، ولعله يشعر بالفشل أو العجز عن القيام بأي نشاط بدون ذلك الإتصال، عندها يصبح جانبه مأموناً ما دام مهموماً بدوام اتصاله بالشبكة .

ينتهي الإنسان ويضيع الدين وتنهار الأخلاق في كل مجتمع فيه مسؤول فاشل ومواطن غافل.

الثقافة الرسمية

في مؤسسات الدولة الثقافية لا يبدو العقل الثقافي الرسمي متفقاً في كثير من خطواته مع توجهات العقل الثقافي العام المستقل عن إرتباطاته الرسمية فيما يخص جوهر الثقافة ومشروع تمكين المجتمع ثقافياً. إذ يقتصر نشاط المؤسسة الثقافية الرسمية في كثير من الأحيان على النمط التقليدي الروتيني المتعلق بقص الأشرطة والحضور الشكلي المبرمج للمهرجانات والملتقيات والمعارض الفنية ومعرض الكتاب و.. و..

كثيراً ما يستغرق النشاط الثقافي في مؤسسات الدولة كوزارة الثقافة وإتحاد الأدباء في البعد الإداري المصاب بعدوى روتين دوائر الدولة الأخرى. ان الفارق الوحيد الذي يبدو واضحاً بين اتحاد الأدباء كدائرة حكومية رسمية وبين أي دائرة خدمية أخرى هو ان الموظف في إتحاد الأدباء يستقبلك بعبارة “ تفضل أستاذ “ بينما يستقبلك الموظف في دائرة حكومية أخرى بعبارة “ تفضل أخي “ ويخضع المثقف كما المواطن البسيط للروتين الإداري الذي تختفي فيه كثير من ملامح أنسنة الوجود البشري، ومما يوسف له أن تصاب ثقافة الدولة الرسمية بهذا الوباء ويصبح المثقف الحكومي ناقلاً لهذا الفيروس.

ترقين قيد مثقف

في بداية هذا العام 2024م قصد مبنى إتحاد الأدباء والكتاب في بغداد أحد اساتذتنا من الأدباء والنقاد الذين مضى على إنتمائهم الى الاتحاد ما لا يقل عن ثلاثين عاماً. شاءت ظروف البلاد القاهرة في سنواتها العجاف حيث فترة الإرهاب ثم مرحلة الجهاد الكفائي، مضافاً اليها ظروف الأديب الصحية وتقدمه بالعمر، أن تحول دون مراجعته مبنى الإتحاد لغرض تجديد عضويته، ولما تهيأ له الوقت والظرف المناسبين تفاجأ بأحد موظفي الإتحاد وهو يخبره ان إدارة الإتحاد قد رقنت قيده، ولكي يعيد انتسابه عليه ان يتقدم بطلب جديد.

اندهشت كثيراً وتألمت وهو يحكي لي ما دار معه في صباح ذلك اليوم في مبنى الإتحاد وسألته هل قدمت طلباً جديداً ؟ قال: لشدة امتعاضي من سوء التصرف وسماجته، اعتذرت عن كتابة الطلب كوني لا اتمكن من الكتابة وطلبت من الموظف ان يقوم بذلك بدلاً عني، ثم غادرت المبنى.

تحت عنوان “ ترقين قيد مثقف “ نشرت على حسابي الخاص في الفيس بوك منتقداً هذا التصرف دون ذكر اسم الأديب نزولاً عند رغبته، فكان من بين التعليقات على الموضوع الذي انهيته مستفهماً: هل في هذا الإجراء شيء من الثقافة ؟. تعليق قال صاحبه: بل قل هل في هذا الإجراء شيء من الأدب.

لا بد لي من الإشارة الى الحس الثقافي الإنساني الذي ابداه عدد من المثقفين ممن قراوا المنشور إذ عرض بعضهم مساعدته بالتدخل شخصياً لتسوية المسألة وطلبوا مني اسم ورقم هاتف الاستاذ المرقن قيده للتواصل معه من أجل إنصافه. مقابل هذه المواقف الإنسانية الثقافية. كان موقف الموظف المثقف الرسمي الملوث بروتين الدولة الإداري، فحين بعث أحد الأدباء بنسخة من المنشور الذي كتبته الى أحد المسؤولين في إدارة الإتحاد متسائلاً عن هذا التصرف أجابه برسالة صوتية، بعث لي الأديب المتفضل نسخة منها قال فيها انه إجراء إعتيادي تتخذه الإدارة بسبب إنقطاع العضو الذي لا يُعلم إن كان مريضاً أو مسافراً أو ميتاً، وهو إجراء مؤقت لا يقصد منه الإساءة الى العضو. ينتهي بمجرد إعادة تقديمه طلباً جديداً للإنتماء على وفق السياق الروتيني.

في حادثة أخرى، قصد أحد الكتاب  والمؤلفين مبنى الإتحاد لطلب الإنتساب، فسأله الموظف عن عطائه الثقافي. أخبره الكاتب ان لديه مؤلفات  في الفكر الإسلامي تجاوزت الخمسين كتاباً مطبوعاً. رد عليه الموظف: لا نريد كتباً في الفكر الإسلامي. اليس لديك رواية أو قصة أو ديوان شعر أو كتاب في الأدب. قال له الكاتب: اليس هذا اتحاد الأدباء والكتاب ! قال له الموظف: نحن نروج معاملات أصحاب الأعمال الأدبية والفنية. حصل هذا فعلاً مع احد الأصدقاء عام 2023م.

وفي لقاء مع شخصية ثقافية شغلت منصب رئيس إتحاد الأدباء والكتاب سنة 2021م، أجرته احدى القنوات الفضائية سئل عن الإنجازات التي قدمها الإتحاد في عهده، فكان من بين ما أجاب أن الإتحاد لم يطالب اعضاءه بدفع الإشتراك المالي كما كان متبعاً في العهد البائد.

يروي أحد الأدباء انه حين قصد مبنى الإتحاد سنة 2010م لتجديد هويته، سأله الموظف عن تاريخ انتمائه الى الإتحاد، فقال له سنة 1976م. نظر اليه الموظف وقال له مبتسماً: (انت واوي عتيك استاذ).

لا حياة بدون ثقافة

ماذا يريد المثقف من وزارة الثقافة ومن اتحاد الأدباء والكتاب ؟

ماذا يريد المجتمع من الثقافة والمثقف ؟

هل الثقافة التي نبحث عنها هي صفة أصحاب الشهادات والمواقع الإجتماعية والقيادية والمهن العليا أم هي ثقافة المجتمع ؟

هل ما يتم تداوله عبر وسائل التواصل الإجتماعي وأجهزة الموبايل والحواسيب والإنترنت هي ثقافة عالمية أم غزو ثقافي ؟

لا يرى كثير من المثقفين، معنى للحياة في أي مجتمع من دون ثقافة. فهي تمثل عندهم جوهر الحياة. عادة ما يصار الى تقسيم الثقافة الى ثقافة شعبية وأخرى راقية. يختلف علماء الإجتماع على مفهوم الثقافة من حيث كونها واحدة أم هي ثقافات مختلفة، ويرى علماء إجتماع في تقسيم الثقافة الى نوعين. نوع مرتبط بالمنجز المادي كالإختراعات والصناعة، ونوع مرتبط بجوانب الشخصية المتعلقة بالسلوك والأخلاق والعواطف والقيم والمثل العليا.

الثقافة مفهوم أوسع مدى من إنتاجات المبدعين في مجالات الأدب والفن والمعرفة. فهي محتوى يضم قيم المجتمع وتراثه وأفكار الناس وإنتاجاتهم على إختلاف أعمالهم ومجالات معارفهم ومدياتها. ينتقل هذا المحتوى من جيل الى جيل آخر عبر الرابطة الإجتماعية التي تحكم علاقة أبناء المجتمع ببعضهم. من هنا نشأت المخاوف إزاء مفهوم الثقافة الكونية أو عولمة الثقافة، كونه مفهوماً يحمل معنى تذويب الثقافات المحلية ودمجها في ثقافة عالمية وهو ما قد يهدد الروح الإجتماعية التي تتحكم بآلية انتقال المحتوى الثقافي لمجتمع ما أو لبلد ما من جيل الى الجيل الذي يليه، بحيث تفقد الثقافة المحلية خصوصيتها.

الثقافة وانثروبولوجيا المجتمع

في كتابهما “ الثقافة عرض نقدي للمفاهيم والتعريفات” ذكر العالم في مجال الانثروبولوجيا الثقافية الامريكي الفريد كروبر Alfired Louis Krober  (1876 - 1960) والعالم الامريكي كلايد كلاكهون Clyde Kluckhohn   (1905 - 1960). قدما قرابة 164 تعريفاً لمفهوم الثقافة. يرى “ كروبر” ان اول ظهور لكملة ثقافة كان في قاموس الماني عام 1793م .

يرى الانثروبولوجي الامريكي “ مالينوفسكس “ ان الثقافة: “ كل متكامل من الأدوات والسلع والأفكار والمعتقدات والأعراف لمختلف الفئات الاجتاعية”.

أما “ الانثروبولوجي “ رادكليف براون “ فيقول عن الثقافة انها (جملة اكتساب التقاليد الثقافية، كما انها العملية التي تنتقل بها اللغة والمعتقدات والأفكار والأذواق الجمالية والمعرفة والمهارات).

في أنشطتنا الثقافية والإجتماعية اليوم، أعمال أدبية وعلمية وفنية رائعة، فيها من الإبداع ما يدعو الى الفخر، وفيها من الهمّة ما يدعو الى الزهو، وفيها من الأصالة ما يدعو الى التباهي. لكن واقعنا المأزوم بكثير من المشاكل الإجتماعية والتذبذبات الإقتصادية والإضطرابات الأمنية والصراعات السياسية، يدعونا الى التساؤل عن غايتنا من الثقافة. وما إذا كان اللون التقليدي للثقافة لا يزال فعالاً في مثل مرحلتنا الحرجة التي نعيشها منذ مطلع القرن الواحد والعشرين. إننا بحاجة الى ثقافة تخاطب في المتلقي العقل والنفس والقلب معاً.

إننا بحاجة الى دور جديد للثقافة من خلال علم الإنسان (الانثروبولوجيا). دور نقدم فيه حلولاً تنقذ مجتمعاتنا من آثار الأعراض الجانبية لمخرجات عصر التقنية المتطورة بمنتجاتها الآلية فائقة السرعة، عالية الدقة، التي تسبب إستخدامها الخاطىء من قبل الناس في كثرة المشاكل الإجتماعية وإرتفاع معدلات الطلاق والإنتحار والإدمان والأمراض النفسية والعنف الأسري وجرائم القتل وحالات الغش والتزوير والإبتزاز والتسقيط الإعلامي والتشهير. ان من بين أهداف الثقافة حماية الناس البسطاء ممن يعيشون فقر التعليم وفقر المعيشة وفقر الرفاهية والجهل والمرض. لأن هؤلاء البسطاء عرضة لإستثمار ظروفهم من قبل تجار الأزمات لصالح فكرة معينة قد تضر بسلامة وجودهم. أو لصالح منفعة خاصة قد تفقدهم كرامتهم وحرية وجودهم وبناء انفسهم بعيداً عن أي تدخل خارجي.

لا معنى للحديث عن الثقافة دون الحديث عن المجتمع، فالثقافة والمجتمع يشكلان أهمية تبلغ حدَّاً يتعذر معه الفصل بينهما، وسواء أكان المجتمع هو الأساس أم الثقافة هي الأساس كما اختلف على ذلك نفر من العلماء، فإننا نعتقد ان المجتمع هو الأساس وان الثقافة ضرورة حتمية لهذا الأساس لكي يستمر. ذهب مايكل كارذرس في كتابه (لماذا ينفرد الانسان بالثقافة ؟) الصادر عام 1992م الى ان المجتمع أو العلاقات الإجتماعية هي الأساس وليست الثقافة.

يرى “ هوجين “ ان المجتمع يعني العلاقات التي تربط ابناءه، وان الثقافة هي سلوك اولئك الأفراد، لذا فهو يرى ان الثقافة والمجتمع وجهان لشيء واحد.

إن تمكين المجتمع ثقافياً هو اليوم  حاجة ملحة تفرضها التشوهات التي اخذت تنعطف بالمفاهيم العامة باتجاه التطرف والتحوير حين دخلت الأخلاق ودخل الفكر سوق العرض والطلب وحلّت لغة الجسم مكان لغة العقل، ولحنت ألسنة المتكلمين بالعربية وصاروا الى اللهجة العامية أقرب من الفصحى في التعبير عن مواقفهم وعواطفهم، واحتلت العامية مساحة كبيرة على لسان كثير من المثقفين في المحاضرات والندوات والمؤتمرات والمهرجانات الثقافية. ودخلت مشاكل البيئة والمناخ على خط الأزمات التي تكاد تعصف بالناس في مختلف أنحاء العالم بسبب إرتفاع معدلات البطالة ونسب التصحر والجفاف وإزدياد أعداد الفقراء حول العالم، خصوصاً في عالمنا العربي والإسلامي.  يقول الأمريكي كارلتون كون carlton coon  وهو أحد علماء الإنسان (فموضوع دراسة الثقافة هام وهو اليوم أهم من الدراسة الذرية أو الآداب، او الأعمال المصرفية العالية. إن في دراسة الثقافة مفتاح كرامة النوع الإنساني ومساواته في المستقبل كما انها قد تهدينا الى سبيل الخروج من الحيرة التي اوقعنا فيها عصرنا، عصر التقدم الآلي الفائق السرعة..)

يقول إليوت (اول ما اعنيه بالثقافة هو ما يعنيه الانثروبولوجيين: طريقة حياة شعب معين، يعيش معاً في مكان واحد وهذه الثقافة تظهر في تنوعهم وفي نظامهم الإجتماعي وفي عاداتهم واعرافهم وفي دينهم).

في كتابه (الثقافة البدائية) الصادر سنة 1871م يقول إدوارد تايلور (الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والاخلاق والقانون وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الانسان بوصفه عضواً في المجتمع).

واقع حال كثير من انشطة المثقفين اليوم تشير الى انهم اقرب الى الذاتية منهم الى الموضوعية في عطاءاتهم الثقافية واذا ما اخذنا بأن الموضعية هي عقلنة الواقع في حدود الإمكانات المتاحة من أجل الحفاظ على البناء الإجتماعي من التداعي لمنع المجتمع من الإستسلام للظروف المعاكسة التي تمر به وتدفع بابنائه الى قبول واقع جديد مختلف عن طبيعة وطريقة حياتهم، فإننا نتساءل عن حدود الموضوعية الثقافية التي على المثقف في القرن الواحد والعشرين التمتع بها  ؟.

قد لا يسعنا القول إن بمقدور المثقف أن يكون موضوعياً أكثر منه ذاتياً، لكننا نستطيع أن نقول إن بمقدور المثقف أن يوظف ذاتيته في خدمة الموضوعية الثقافية.

يقول سلامة موسى في كتابه “ مقالات ممنوعة “ ص17 (الواقعية هي المعالجة الموضوعية التي تتفق وواقع الحال، وليست المعالجة الذاتية التي تعتمد على الاغراض الشخصية. ولا يستطيع أحد منا أن يفصل الفصل التام بين ذاتيته الشخصية وما تحمل من أهواء وأغراض وبين واقع الحال في الأشياء والناس والمجتمع والفن.).

تتحرك المجاملات الإجتماعية في واقعنا الثقافي اليوم بنشاط أخذ يطغى على القيمة الحقيقية للمنجز الثقافي وللأثر الذي يمكن ان يحدثه في الواقع.

فصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي

منذ بدايات القرن الواحد والعشرين والعالم من حولنا يعيش تغييراً يراه بعضهم طبيعياً بحكم المنجزات العلمية والتطور الكبير في مجال الصناعة والتقنية الرقمية ومشاريع الذكاء الإصطناعي والحوسبة والروبوت. ويراه البعض الآخر تغييراً مقلقاً بسبب سلوكيات غريبة وخطيرة أخذت تظهر في ظل هذه التغييرات مدعومة بالدعوات والصيحات المتعالية المنادية بحرية المواقف والعواطف مع ما تقدمه التكنلوجيا المتطورة من أدوات تخدم الكشف عن هذه الحريات. مع الأخذ بنظر الإعتبار التوجه العالمي لدعم تلك السلوكيات الشاذة والثقافات الغريبة بدعوى الحريات الشخصية. ثم محاولات توفير حماية لتلك الحريات حول العالم. أخذت معاناة المثقف العربي في التزايد في المرحلة الراهنة التي يغلب عليها الفوضى والتفاهة والإنهيار الإخلاقي والفساد المالي والإداري وكثرة المشاكل الإجتماعية مع مطلع القرن الحالي وما يخبئه المستقبل من تهديد تراه بعض الرؤى المستقبلية واقعاً ما لم يحدث تغيير في النظام العالمي الذي لم يعد قادراً على تفادي ومواجهة ومعالجة مشكلات البيئة والمناخ والتصحر والمياه وإزدياد الطلب على الغذاء والطاقة وإزدياد عدد النفوس حول العالم وشحة الموارد الطبيعية وغيرها

وسط هذه الأجواء المضطربة يقف المثقف مهموماً مشغولاً قلقاً، فهو معني بالواقع من جانبين. كمواطن مفروض عليه تدبر شؤونه وكمثقف تملي عليه مسؤوليته الثقافية أن يجد مخرجاً لهذا الضيق.

لا يمكننا أن نتجاوز الكم الكبير من المقالات والكتب التي تتناول الواقع وتبحث في سبل معالجة أزماته، كما لا يمكننا أن نتجاوز ازمتنا الحقيقية في ظل الإنموذج الأمريكي للديمقراطية المتمثلة في مشاريع تحوير المفاهيم وإلباسها ثياباً جديدة لا يجد المستخدم والمتلقي والمواطن بداً من مجاراتها، خصوصاً وان التوجه العالمي الجديد في ظل التطور العلمي ومشاريع الذكاء الإصطناعي تبحث في توفير حلول مرضية تناسب واقع الحال وإن كانت لا تناسب الأصول والمنطق والقيم والمبادىء، هكذا يعيش المثقف اليوم محنته الحقيقية التي لا أظنني أبالغ إذا قلت إنه يعيشها لأول مرة في تاريخ الثقافة الإنسانية.

تبنى بعض المثقفين دعوات فصل الدين عن الدولة كحل من الحلول التي يرتجى منها إخراج العالم العربي من أزماته وتحريك واقعه لإخراجه من دائرة التراجع والتأخر التي هو فيها. وبغض النظر عن دوافع تلك الدعوات وأهدافها، فإن طبيعة المجتمع العربي طبيعة لا يغادرها الدين، وأي جهود إصلاحية خلاف تلك الطبيعة لا تعطي نتائج مرضية، ولعل إنحراف السلطة السياسية عن روح الدين كان من أهم أسباب الفجوة الآخذة بالإتساع مع مرور الوقت بين السلطة والمجتمع.  يبدو لي إن طرح فكرة فصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي مع الإبقاء على تبعية المؤسسات الثقافية للدولة، سيخرج المثقف الرسمي من عباءة السلطة السياسية التي طبعته بطابعها الروتيني التقليدي الذي لم يقدم جديداً للمجتمع في مجال تمكينه ثقافياً. بهده الدعوة يمكن للثقافة أن تعايش وعي الواقع وفهم ما ورائيات الطرح المباشر للإعلام الرسمي، فعندما تصبح المؤسسة الثقافية مؤسسة إجتماعية يباشرها مثقف مسؤول تحمل الثقافة عنده بعداً رسالياً وهماً إنسانياً لا تأثير للمصالح والعلاقات السياسية والشخصية فيها، فمن المؤكد إن طريقة حياة الناس ستتغير الى الأفضل.

بفصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي سيتحرر المثقف من روتين الأنشطة الشكلية الرسمية التي باتت عرفاً تقليدياً ينتهي مفعولها مع نهاية الفعالية، وبهذا الخروج سنصل بالمثقف الى الناس في البيوت والأماكن العامة.

بفصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي وإلحاقها بالمجتمع، سيتمكن المثقف من تنمية الحس الجمعي للناس للإرتقاء به الى حد النهوض بالمسؤولية تجاه رموز وعلماء وشخصيات ثقافية واجتماعية، قدّمت أعمالاً رائدة في مجال النمو الإيجابي لوعي الأمة، اظطرتهم ظروفهم الصحية الى أن يكونوا في وضع يحتاجون فيه الى رعاية تفوق قدراتهم المادية، ولطالما دفع كثير من هؤلاء حياتهم ثمناً لعدم إكتراث السلطة السياسية والمؤسسة الرسمية للثقافة لحالهم. كثيراً ما رأينا مشاهد مؤلمة وسمعنا أخباراً لا تسر عن شخصية ثقافية أفنت عمرها وهي تكتب وتطبع على نفقتها الخاصة وكانت في بعض الأحيان تقتطع من قوت عيالها ما تؤمن به ثمن طبع كتاب يرتجى منه تنمية حركة وعي الأمة ونهضة المجتمع وتحسين ذائقته الجمالية ونظرته الى الحياة. كثير من هؤلاء الكبار ماتوا وسط إهمال وإغفال المؤسسة الثقافية الرسمية التي لم تشعر بأدنى درجة من الإحساس بالمسؤولية الثقافية الإنسانية الوطنية تجاه رواد الثقافة في البلاد فلم تتورع عن ترقين قيد أديب كبير لأنه غاب عنهم إثني عشر عاماً بسبب ظروفه الصحية الخاصة وظروف البلاد السيئة. كم من أديب ناشد من على فراش المرض سلطة سياسية وثقافية. وكم سمعنا ذوي أحد العلماء وهم يناشدون السلطة لمساعدة والدهم العليل. وكم شاهدنا صوراً حية لشخصيات ثقافية وعلمية وفنية وهم على فراش المرض قد أهلمتهم سلطة الثقافة ونسيتهم المحافل التي كانوا يحاضرون فيها. ومن المؤسف ان وظف بعض السياسيين هذه الخصلة الملوثة في انفاس المتسلطين فعمدوا من باب الدعاية الإعلامية الى تقديم مساعدة مالية الى الفنان الفلاني والكاتب الفلاني لإجراء عملية جراحية له.

تأتي أهمية إثارة هذا الحس الجمعي في المجتمع في وقت أخذت فيه السلطة التافهة ترعى وتتبنى شخصيات هابطة أسهمت مواقع التواصل الإجتماعي في دفعهم الى الواجهة بحكم عدد الإعجابات التي حصلوا عليها وعدد المتابعين الكبير الذي عدّه بعضهم شهادة على اجتماعية هذه الشخصية وتأثيرها في الناس، وقد سجل على بعض المسؤولين السياسيين ومثقفي السلطة تكريمهم لعدد من هذه الشخصيات الفاشلة، ولكي لا تتساوى “ الكرعة وام شعر” كما يقول المثل العراقي فإننا ندعو الى فصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي آخذين بنظر الإعتبار ما الحقته السياسات الفاشلة والإدارات الروتينية التقليدية للبلاد منذ أكثر من عشرين عاماً من بداية القرن الحالي.

يقول عبد الإله بلقزيز ان (الثقافة أمست خارج حدود تعريفها وماهيتها الطبيعيين. لن يعود في وسعنا حدّها بالقول انها تعبير عن تمثّل الناس لمحيطهم، وتعبير عن نظام اجتماعهم المدني، بل سيصبح مطروحاً علينا أن نفكر في معنى أن تنشأ في وعي الناس ثقافة أو قيم ثقافية لا تقوم صلة بينها وبين النظام الإجتماعي الذي ينتمون اليه).

الثقافة في زمن الشاشات وشبكات التواصل الإجتماعي. هي في وضع أخطر مما هي عليه في حدود فتح مركز ثقافي هنا، ومسرح وبيت للثقافة هناك. انه زمن صناعة الأحداث وفبركة التفاصيل. زمن يحتاج من المثقف دوراً أعمق وأخطر تصل خطورته حد التضحية  بالنفس في سبيل إعادة يقظة وهي الجماهير التي شدّها العالم الإفتراضي وأغرتهم الوان الشاشات. تضحية تصل الى قول الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد:

علمتني مذ شراييني برت قلمي

كيف الأديب يلاقي موته حربا

وكيف يجعل من اعصابه نذراً

حيناً وحيناً نذوراً كلما وجبا

ولن يتحقق هذا الدور بوجود الثقافة ضمن جسم الدولة السياسي المصاب منذ أكثر من عشرين سنة بأورام خطيرة تكبر كلما مر عليها الزمن.

***

د. عدي عدنان البلداوي

في المثقف اليوم