قضايا

يصعب أن تستقيم الحياة الإنسانية وتستوي موازينها دون فعل التعويض؛ ذلك أن الإنسان يعوض الغياب بالحضور، والفراغ بالامتلاء، والثبات بالحركة.. لدرجة أن كل شيء في حياتنا قابل للتعويض. لكن، كيف تعوض النفس غياب الأشخاص والأمكنة؟ هل ينتهي الاغتراب الروحي والوجودي بتعويض أشخاص بآخرين وأمكنة بأخرى؟ هل فعلا موطن النفس هو كل مكان أو فضاء، مادي أو معنوي، وجدت فيه نفسها الهائمة؟ هل يمكن للأشخاص أن يخلقوا اللحظة في الآن والهنا التي خلقها أشخاص آخرون في الماضي والهناك؟

يبدو هذا التعويض ممكنا نظريا، ولكنه مستحيل واقعيا؛ لأن اللحظة لا تكرر نفسها بالصيغة والكيفية نفسيهما، وإنما هناك لحظة مشابهة وليست اللحظة المفتقدة عينها. قد تبتعد عن الأشخاص والأمكنة التي يوجدون فيها، ولكن وجود أشخاص آخرين في الأمكنة والأزمنة نفسيهما لا يعوض ما افتقده المرء.. لذلك يبقى التعويض إيهاما للنفس أنها تكرر اللحظات نفسها، وأنها تعيش الأجواء عينها، وهي، إذ تفعل ذلك، فإنها لا تبرح دائرة ما اصطلح عليه فرويد "قهر التكرار". لكن هل الإنسان، فعلا، مجبور على السعي خلف التكرار: تكرار التجارب نفسها، والعلاقات الإنسانية والوجودية عينها؟ أليس للتكرار سبب وجودي يترك هوة ساحقة في النفس البشرية التائهة؟ ألا يعد التكرار سعي متواصل للوجود مرة أخرى في لحظة مختلفة ومع أناس مختلفين؟

فلئن نحن أخذنا العائلة مثالا، فإننا نلفي أنفسنا عاجزين عن تعويض أفرادها، والأجواء التي تخلقها.. صحيح أن للإنسان قابلية التأقلم والتعويض، والتأسي بالحضور تعويضا للغياب، ولكنه يبقى مع ذلك في حال ظمأ روحي ووجودي للعائلة وأجوائها حتى وإن كان بين أحضان عائلته الثانية، فإنه يظل مشدودا إلى العائلة. بيد أن هذا الفراغ والغياب اللذين يدخلان النفس البشرية في حال اغتراب روحي ووجودي لا يمكنهما أن يتبددا دون فعل التعويض النفسي والروحي. ولعل هذا ما يجعلنا كلما فقدنا شيئا سعينا إلى تعويضه بشيء آخر، والشيء نفسه يمكن أن ينسحب على الأشخاص والأمكنة والأزمنة. يفقد المرء أباه فيجد تعويضا مؤقتا له في أمه، ولكن هل الأم تملأ فراغ الأب؟ هل وجود الأم معناه نسيان الأب؟

إن الأمر ليس بهذه السهولة، كما أن الغياب والفراغ اللذين يتركهما الأشخاص لا يمكن أن يعوضا إلا تعويضا كاذبا؛ لأننا، ونحن نزعم أننا شفينا من جرح الغياب، لا نقوم إلا بإيهام النفس أنها في حال توازن، وأن الغياب لم يعد موجودا، وأنه مجرد لحظة خلخلة لأركان النفس سرعان ما تتخطاه بالتعويض.

ويبقى الأمل في عيش التجربة الأولى بكل تفاصيلها وجزئياتها، والانصهار فيها والتماهي معها، أي عيشه في أصالتها ونقائها حتى تترسخ في أعماق النفس، ولا يزعزعها الغياب والفراغ والفقد، لأنها تكون نفسا ممتلئة باللحظة والتجربة الوجوديتين الأصيلتين.

***

محمد الورداشي

جريمة حرق القرآن الكريم وتشويه صورة الآخر المسلم هي من مرتكزات الحضارة الغربية

إنَّ ما يحصل اليوم من أعمال مسيئة للقرآن الكريم وتتبعها هجمات تشويهية ضد الرسول محمد (ص) هي ليست نتاج فرد في دولة مثل السويد، أو مجموعة من الأشخاص، أو الجمعيات المناهضة للإسلام في الغرب، بل إنَّ القضية هي أبعد من ذلك بكثير، وهي أفعال مرتبطة بالسياسة الغربية عامة وبالعقل الغربي الذي تبني هذه المسألة منذ قرون عديدة مضت، وهي مبنية على دلالات قصدية هدفها ليس فقط أثارة ملياري مسلم في الوقت الحاضر، بل غرضها الإستمرار بنفس المخطط القديم الذي يتجدد في كل عصر بوصف معين وبصفات ونعوت مختلقة يتبناها الفكر الغربي تجاه الآخر العربي المسلم ونبيه الكريم وكتاب الإسلام المقدس (القرآن الكريم)

إنَّ تعاقب الحقب الزمنية على مجموعة من الدلالات القصدية تجاه ظاهرة تبناها العقل الغربي في تشويه الآخر المسلم،  وجعلها من أساسيات الحضور لديه في وصف هذه الظاهرة، التي أصبحت من المرتكزات المهمة في هذا الحضور الميتافيزيقي الغربي، في توصيف صورة الآخر المسلم، وهذه الظاهرة التي قامت عليها عملية تقييم الأنا الغربي تجاه الآخر في كل أبعاده ومسمياته، وأخذت حجم مهم في الحقول المعرفية والثقافية الغربية،  كون هذا الآخر من كان يخالف ويغاير النظرة الكونية الغربية في صياغة العالم ثقافياً ومعرفياً، وكانت لهذا الآخر دلالات يّعرف بها في الذهنية الغربية على مستوى الحضور في ذهنية الجمهور الغربي، ولكل طبقة أو شريحة يكون فيها الآخر ممثل بوصف معين، أو طريقة يحاكيها أبناء الحضارة الغربية، مثلاً كان الآخر وخاصة المسلم الشرقي، وأكثر تحديداً القريب الى الحدود الجغرافية الأوربية، يعرف في الديانات الغربية ومنها المسيحية، بأنه كافر وقاتل لأبناء الديانة المسيحية في الشرق، وما الحروب الصليبية التي أطلقها الغرب الأوربي بممالكه وحكوماته إلا صورة من صور التعبير عن هذا الآخر الكافر الخارج عن السياق الديني في الغرب، وليس المغاير الذي يشكل حلقة تكاملية مع الديانة الأخرى .

إنَّ (الأنا الغربية) وفي إحدى تمظهراتها وهي في حقبة القرون الوسطى وما بعدها وخصوصاً في أوج سيطرة الديانة المسيحية على أركنا القارة الأوربية، وما بعدها الأمريكية الشمالية كانت تعطي للآخر المسلم، الذي هو ند لها بحسب اعتقاد السلطات الدينية في الغرب المسيحي، أوصاف خاصة، إذ ظهر وفق توصيفاته، للشرقي، والعربي، والتركي، والفارسي، صورة للشهواني القاسي، أو صورة البربري الفظ يجمع بين هذه الصور دين بسيط وبدائي ومتعصب وعدواني هو الإسلام، وكانت مسيحية القرون الوسطى قد بنت هذه الصورة، ونسجتها مخيلة تمركزها اللاهوتي الذي دفع الى حدوث أكبر مواجهة دينية بين الإسلام والمسيحية خلال الحروب الصليبية التي دامت أكثر من خمسة قرون راح ضحيتها الآلاف من المسلمين والمسيحيين ودمرت مدن ودويلات، لسبب تبني العقل الغربي في هذه الحقبة أوصاف الآخر المسلم، وهي لم تكن وليدة لحظتها، أي أن هذه النظرة ودلالاتها التشويهية، هي كانت من ارتدادات أفكار سابقة جعلت من السابق بين الشرق المتمثل بالحضارات القديمة الى حين قدوم الإسلام في مقابل الإمبراطوريات الغربية في حوض المتوسط وما وضعوه من أوصاف مختلفة، ومنها البربري والهمجي الذي كان ينافس باعتقاد التفكير الغربي في تلك الحقب، بلاد اليونان وبعدها الرومان، وما الحروب التي شهدتها هذه المنطقة، أي منطقة التماس بين قارتي أسيا وأوربا، ما هي الا مشاهد لهذا التنافس، الذي كان يغلب عليه انتقال الغلبة بين الطرفين كلما كانت استعدادات أحد الطرفين أقوى من الآخر، لكن مع هذا التنافس الشديد، كانت هناك صفات وأوصاف ساقها الإغريقي ومن بعده الروماني ضد الآخر الشرقي سواء كان في بلاد وادي الرافدين، أو بلاد فارس، أو في مصر القديمة وحضارتها الفرعونية وما قبلها كان أسلوبهم في إخضاع الآخر اولاً، تم تثبيت أوصافهم على وفق ما يريدون، وخصوصاً ما فعل الرومان بالشعوب الأسيوية والأفريقية بعدما اجتاحوهم وأخضعوهم لسلطتهم، وهذه الطريقة في الإخضاع والتشويه يشير اليها (مونتسكيو) في كتابه(تأملات في تاريخ الرومان) إذ يقول عنهم : طريقتهم نوع من الغزو التدريجي، بعد فوزهم على عدو يكتفون بإضعافه، يملون عليه شروطاً توهنه من دون أن يشعر بالأمر، إنَّ انتعش عادوا وأهانوه إهانة أكبر حتى يصبح خانعاً خاضعاً وهو لا يعلم متى حدث ذلك بالضبط، فإن الخضوع والخنوع وما يرافقها من عمليات تركيع للشعوب الأخرى تضفي على هذه الشعوب مجموعة من الأفعال والتصرفات التي تصبح جزء من حياته دون أن يعرف من وضعها فيه ومن عمل عليها، لكن في الحقيقة هي يتم الاشتغال عليها بشكل مستمر على وفق تخطيط واستراتيجيات معينه، تصبح بمرور الزمان آليات عمل ممنهجة تجاه الشعوب المعارضة لهذه السياسات، وتصبح آليات التعامل والصفات التي ترافقها والتي وصمت بها الآخر ثابتة في هذا العقل، الذي مثله في بدايات الصراع، لا نقول الأولى، بل هي التي تؤسس للخلاف الثقافي عند اليونان الذين كانت لديهم نظرة استعلاء ضد الشعوب الأخرى التي يصفونها بأوصاف مشوهة لأبناء هذه الشعوب التي تقع خارج ما يسمى بالحضارة الغربية، ويسوق لنا (ول وايريل ديورانت) في (قصة الحضارة) جزءاً من هذه الحالة التي يوصف بها الشعوب الأخرى لديهم، أي أن مفكري الحضارة اليونانية قسموا الشعوب الى شعوب عقلية ومنهم (اليونان) وشعوب شهوانية (الشعوب الشرقية) لذلك كان رأيهم بأن كل شعب من هذه الشعوب يرزح تحت حكم الطغاة المستبدين، ويسلم أرواح بنيه الى الخرافات والأوهام ولا يعرف الا القليل من بواعث الحرية أو الحياة العقلية، وهذا السبب الذي حدا باليونان أن يطلقوا عليهم بلا تمييز أسم (Barbaroi ) أي الهمجي، والذي حاولوا تثبيته في ميتافيزيقياهم وتدوينه في مؤلفاتهم كصفات ثابتة لكل فعل بشري يقع خارج عقليتهم وحضارتهم، والتي أنتقلت الى من تبنى هذه الصفات وجعلها مركزية في تصوراتهم وفي مخططاتهم الأخرى. ومن ثم فإن دراسة الشعوب لا تقتصر فقط على الدراسة المباشرة دون سابق معلومات عن هذه البلدان والشعوب التي تقع خارج أرضهم، بل أن هذه الدراسات قائمة على اعتناق ما جاءت به كتب أسلافهم حول الحضارات الأخرى المنافسة، لذا فإن الأفعال الممنهجة التي نلاحظها حتى في الوقت الحالي في الحضارة الغربية جاءت منذ زمن بعيد وعقل ثابت وحضور ميتافيزيقي لكن البعض ومع الأسف، وخصوصاً في عصرنا الحالي يعتقد إنَّ كل الصفات الدونية التي تطبع بها حاليا بعض من أجيالنا توارثوها من الأجداد، على الرغم من أن ماضينا ورغم بعض الإخفاقات التي شابته، فإنه يروي لنا عن السابقين الكثير من الأعمال الجيدة التي قد لا تنطبق مع توصيفات الغربيين علينا، لكن في الوقت الحالي وجدنا أجيالنا والأجيال الأخرى المعاصرة لنا، تعترف بما يسوقه الغربي عن العربي المسلم، بل دائماً نرى أنفسنا أقل مكانه من الشعوب الغربية، حتى بدأ البعض من أبناء الشعوب العربية المسلمة يعتنق الأفكار الغربية عن الصفات المجعولة للمسلم العربي، لذا بدأت التراتبية تأخذ مأخذها من نظرتنا لأنفسنا وكأن مقوله (مونتسكيو)السابقة تنطبق على ما وصلنا اليه اليوم، كيف أصبحنا نوصف هكذا؟ ومتى بدأت هذه الأوصاف تأخذ مكانها في عقولنا ؟، فهل هي فعلاً من صفاتنا؟ أم إنَّ العالم الغربي بعد أن قسم العالم الى أول وثاني وثالث، أصبحنا نسمى بالعالم الثالث واقتنعنا بهذا المركز، وهو الأخير في التصنيف العالمي، حتى أن بعض مفكرينا عندما يتكلم عن مصطلح التقسيم يصف الشعوب العربية والمسلمة بهذا الوصف وهو منهم، بأنه من أبناء العالم الثالث، الذي يتخلف ثقافياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وحتى أخلاقيا عن الشعوب الغربية، ومن ثم فإن الدين الإسلامي هذه الرسالة العظيمة هي لأبناء العالم الثالث، وحتى نبينا محمد (ص) على وفق هذا التصنيف لا يصبح مرسل لكافة البشر، لأن الديانات الأخرى في أغلبها لا تعترف بالإسلام ولا بنبي الإسلام، وهو ما وصفوه بأوصاف غير لائقة حتى أصبح نبينا الكريم (ص) صاحب الخلق العظيم وهو أفضل البشر بحسب الوصف الإلهي، أصبح نبياً للعالم الثالث الذي أكثر شعوبه من المسلمين، أو بعبارة أدق أن كل شعوب العالم الإسلامي تقريباً تقع ضمن دائرة العالم الثالث.

إنَّ المثالين السابقين عن اليونان والرومان، وما تبعهما من تشويه ذات دلالات مختلفة كانت هي الأساس في صنع عقل ميتافيزيقي غربي حافل بأنواع الدلالات الأخرى، هي دلالة بسيطة على ما حفل ويحفل به الفكر الغربي من أشارات كثيرة لهذا التشويه، الذي تحول فيما بعد وخصوصاً في عصور أخرى لاحقة الى قاعدة أساسية يقيّم بها المسلم /العربي / الشرقي، كما في حقبه عصر التنوير وما تلاها وصولاً الى الوقت الحالي، ففي حقبة عصر التنوير تغير التوصيف من صراع بين (كافر، ومؤمن) الى (متخلف، ومتنور)، المسلم متخلف يسعى وراء السحر والشعوذة والغيبيات التي يعتقد بأن الدين هو أساس فيها وهو من أسهم في صنعها في المجتمعات الشرقية وخصوصاً (العربية) منها بعد أن كانت في أساسها تعيش في الحضارات الأولى في ظل أنظمة استبدادية كما يعتقده (أفلاطون وأرسطو) في تنظيراتهم الفكرية عن الشرق القديم، والتي يكون فيها الحاكم هو من يمتلك أرواح شعبه في الشرق ويضحي فيها للأفكار المبنية على الخرافة والأوهام، لذلك كانت العقول مغيبة وتسمح بانتشار مثل هكذا أفكار في العالم الشرقي وفيما بعد العالم الإسلامي، مما جعل الحملات الاستعمارية تأخذ دورها في سلسلة الإجراءات العملية التي جعلت من الشعوب العربية والمسلمة ترزح تحت حقب جديدة من التخلف، وتعمل هذه الحركات الاستعمارية كما هو في وصف (مونتسكيو) للرومان، تعمل هذه الحركات على جعل الشعوب خانعة وخاضعة وما أن تستيقظ من سباتها في ظل الاحتلالات، حتى تجد هذه الأوصاف قد ثبتت وبات المواطن العادي في الشرق وإفريقيا يقتنع بهذه الأوصاف الدونية، وأصبحت عملية تثبيت هذه المعاني في الذهنيات الشرقية أسهل على الحضور الغربي من أن يسهم بصنع أوصاف أخرى خارج السياقات الثقافية، فأن الخرافات والأوهام والسحر والغيبيات هي من تملأ الذهنية الشرقية، بالشهوانية وغيرها، وهي من تجعل الإنسان الشرقي العربي خاصة يبحث عن الجسد وملذاته، وأصبحت عدد الزيجات التي شرعها (الله جل جلاله) في القرآن من ضمن الأوصاف السلبية للإنسان العربي الذي أصبح يصور في الإعلام الغربي بأنه يشبه الإنسان البدائي عندما يجهز على الفريسة، بينما يقابله الإنسان الغربي الذي أصبح يبحث عن حقوق الحيوان الذي يضطهد في الشرق بعدما تقدم كثيراً حسب زعم مؤسساتهم في حقوق الإنسان، وهذه الأوصاف جعلت من (ماركس) يؤيد ويعلق بإيجابية ويناصر الاستعمار البريطاني للشرق عامة والهند خاصة لإن هذا الاستعمار حولها من دولة راكدة وشعوب منغلقة على نفسها الى أمة منتجة وقادرة على النهوض من بين الأمم الشرقية الراكدة فكرياً وعقلياً في سباتها ولهذا السبب أيضاً أعتبر أن (الدين أفيون الشعوب) وهذا الوصف يوافق وصف الشرق الغارق بالخرافات والغيبيات وغيرها.

إنَّ هذه الدلالات التي توجه الاتهام باللوم بشكل مباشر وغير مباشر الى الدين الإسلامي والى رسوله الكريم(ص) والذي اعُتبر بأنه هو من أسس مجتمع قائم على أسس منهجية تحمل في داخلها بذور التطرف والإرهاب وما هذه الحركات التي تدعي الإسلام من أمثال (داعش) ومثيلاتها ما هي الا سياق طبيعي ذات دلالات ثقافية وأخلاقية كبيرة عن المجتمعات الأولى للإسلام التي كان النبي محمد (ص) قد أسس لها، وهذه الادعاءات والتشويهات لصورة الرسول الكريم ساهمت في تثبيت هذه الدلالات المشوهة التي تسيء للرسول بقصيدتها وطريقة سوقها في الذهنية الغربية لدى المواطن الغربي البسيط، الذي بدأ ينظر للمسلم وخصوصاً بعد أحداث (11 سبتمبر2011) بأنه إرهابي حتى وإنَّ كان هذا المسلم ملتزم بالتعليمات والقوانين الغربية، وحتى لو كان متعايشاً منذ عشرات السنين مع الأمريكي الذي ينتمي للحضارة البيضاء والديانة المسيحية، بل ما كان من المسلمين في أمريكا أن يحاولوا إثبات حسن نواياهم للغربيين في كونهم ليسوا إرهابيين، وأن من يقتل بأسم الدين الإسلامي لا يمثل كل المسلمين، ولو أمنا بهذه النظرية بأن كل مسلم إرهابي، لكان الآن الغرب يغرق في بحر من الدماء، وذلك لكثرة الجاليات الإسلامية التي تعيش في الغرب منذ أزمان طويلة جداً.

لكن التحول الذي حصل في الغرب بعد أحداث (2011) أعاد الى الذهن الغربي وحفزته صورة الإسلام المشوه الذي كانت هذه الأحداث جرعة منشطة لإخراجه من عالم اللاوعي الى عالم الوعي الحضوري، ومن ثم فإن تحفيز الحضور الميتافيزيقي الغربي بصوره المشوهة عن الآخر المسلم كان لابد لها من أعادة ظهور في أوقات معينة تحت قضية أن الشعوب الأخرى يجب أن تبقى في وضعها وخانتها وخضوعها التي رُسمت لها منذ مئات السنين ولا تسعى مرة أخرى لعصيان النظام العالمي الجديد الذي بدأ بتشييد خارطته الهندسية على ارض الواقع مع اتفاقية (سايكس بيكو) وغيرها من الاتفاقيات التي دونت لعالم جديد، هو لنا وليس لهم، فإن عالمهم مبني على أسس مستقرة ومندفعة بطريقة سليمة الى الأمام لكن عالمنا الجديد يجب ان يظهر بحلة جديدة، ولكن بأوصافه القديمة، حتى إنَّ الرسم المعني للحدود سيجعل التنافس بين أبناء المرتسم الواحد يتنافسون في مبدأ التفضيل بينهم ومن هو مؤيد من قبل المرجعيات الغربية، وكأن مفكريهم يقولون : يتخاصمون العرب فيما بينهم، ونحن الذين نحكم من هو صاحب الحق، حتى يكون اشتغالهم ذاتي بأنفسهم دون الالتفات الى ما يُخطط لهم مستقبلاً، وهذا ما نعيشه اليوم، ويدفع ثمنه معنا الرسول الكريم (ص) الذي بدأنا نحمّله بعض سلوكياتنا بوعي أو بلاوعي منا، إذ أن الكثير من التصرفات التي نسبناها له وهو برئ منها، فنحن من صدقنا الغرب ونحن من صفقنا لهم ونحن من ثبتنا تعاليمهم علينا بحجة التفوق الثقافي، ونحن من أمددنا الغرب بثرواتنا وهو يتصدق علينا ونحن نتسابق على إرضائه، حتى وإنَّ كان ذلك على حساب الشعوب العربية والإسلامية، نحن من تركنا سيرة الرسول الكريم (ص) وتوجهنا لتصديق ما يقوله العالم الفلاني الغربي، من جمل وعبارات هي مكرر في أقوال رسولنا (ص)، بل أصبحنا نتعجب من أن المفكر الغربي قد مدح الرسول الكريم (ص) وكأنه يعطيه مصداقية في نفوسنا بدلاً من أن نقول بعبارة العالم الغربي بأن الرسول (ص) هو من يجب أن تقيم على شخصيته وكلامه وأخلاقه صور الآخرين، وليس هو من يقيم على لسان العالم الغربي الفلاني، ونحن نصدق بالمفكر الغربي ونندهش لوصف الرسول (ص) بهذا المعنى أو ذاك . ومن ثم فإن التشويه وقصديه الإساءة في الثقافة الغربية بحق الرسول (ص) كان لها وقعها في الواقع الثقافي الغربي على الرغم من قلة المدافعين عن الرسول (ص) من الغربيين الذين لا ننكر وجودهم في هذا المجال .

ومن ثم فإن كل ما يحصل من صورة التشويه وجريمة تدنيس القرآن الكريم وحرقه، وتشويه صورة الرسول الكريم من خلال الرسوم المسيئة وغيرها من الأفعال السيئة، أنها أفعال ليست بجديدة ولا هي قضية عابرة، بل هي من مرتكزات نظرة ثقافية مبنية على أساس التفوق العرقي للغربي الذي يرى العالم الذي يقع خارج الحضارة الغربية هو عالم يقع في المراتب الدنيا، وهذه الأفعال ستستمر لإن الآخر المسلم العربي خاضع لسياسة التهميش والأقصاء الحضاري .

***

الاستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

الشيخوخة هي عملية بيولوجية معقدة تعاني منها جميع الكائنات الحية. تتميز بتدهور تدريجي لا رجعة فيه في الوظائف الفسيولوجية وزيادة التعرض للأمراض المختلفة مع مرور الوقت. يتأثر معدل ومدى الشيخوخة بالعوامل الوراثية والبيئية، مثل النظام الغذائي ونمط الحياة والتوتر والتعرض للمواد الكيميائية السامة والمضرة. على المستوى الجزيئي والخلوي، ترتبط الشيخوخة بالعديد من الآليات التي تسبب الضرر والخلل في الحامض النووي والبروتينات والعضيات والخلايا. تتضمن بعض هذه الآليات الاضطراب الجيني، وتقصير التيلومير، والتعديلات اللاجينية، وفقدان البروتين proteostasis) (وضعف الالتهام الذاتي autophagy) (واختلال وظائف الميتوكوندريا، والشيخوخة الخلوية، واستنفاد الخلايا الجذعية، والاتصالات بين الخلايا، واستشعار المغذيات. يمكن أن يساعد فهم كيفية مساهمة هذه الآليات في أمراض الشيخوخة والأمراض المرتبطة بالعمر في تطوير استراتيجيات لتعديلها وتحسين النتائج الصحية. على سبيل المثال، ثبت أن بعض الفعاليات مثل تقييد السعرات الحرارية، والتمارين الرياضية، ومضادات الأكسدة، والعوامل المضادة للالتهابات، ومزيلات الشيخوخة senolytics) (وعلاج الخلايا الجذعية، والعلاج الجيني، والعوامل الدوائية تؤثر على بعض هذه الآليات وتؤخر أو تمنع ظهور الأمراض مثل السرطان والسكري وأمراض القلب والأوعية الدموية وأمراض التنكس العصبي وهشاشة العظام. لذلك، فإن توضيح الآليات الجزيئية للشيخوخة يمكن أن يوفر نظرة ثاقبة لبيولوجيا الشيخوخة ويقدم أهدافا محتملة لتمديد فترة الصحة والعمر.

على أية حال، الإنسان في الوقت الحاضر يعيش فترة لا تزيد عادة عن 100 عام اذا لم يقتله المرض او حادث سير او حرب او يد طاغية، بينما تعيش الفئران بضعة سنوات، والببغاوات فترة اطول من البشر، والسلاحف الى ما يصل لبضعة قرون، وفي النهاية يتثخن الجلد وتتوهن العضلات ويشيب شعر الرأس فيودع الانسان الحياة في نهاية المطاف، فكما يقول الشاعر:

كل ابن أنثى وان طالت سلامته

يوما على آلة الحدباء محمول

ابحاث الشيخوخة

أحد التحديات الرئيسية في أبحاث الشيخوخة هو التمييز بين التغيرات البيولوجية التي تسببها الشيخوخة وتلك التي تسببها الأمراض. الشيخوخة ليست مرضا بحد ذاته، لكنها عامل الخطر الرئيسي للعديد من الأمراض المزمنة، مثل مرض الزهايمر وأمراض القلب والأوعية الدموية والسكري والسرطان. ومع ذلك، فإن بعض الأمراض تؤدي أيضا إلى تسريع عملية الشيخوخة، مما يؤدي إلى انخفاض الأداء الوظيفي ونوعية الحياة.

تتمثل إحدى طرق دراسة علم الوراثة لشيخوخة الإنسان في إجراء دراسات الارتباط على مستوى الجينوم (GWAS)، والتي يمكن أن تحدد المتغيرات الموروثة المرتبطة بأنماط ظاهرية مختلفة ذات صلة بالشيخوخة، مثل العمر، والصحة، والضعف، والتدهور المعرفي، والأمراض المرتبطة بالعمر. كشفت GWAS عن العديد من المواقع التي تؤثر على سمات الشيخوخة البشرية الرئيسية، وبعض هذه المواقع مشتركة بين العديد من الأمراض المرتبطة بالعمر، مما يشير إلى آليات الشيخوخة الشائعة. على سبيل المثال، ترتبط المتغيرات في جين APOE بكل من مرض الزهايمر وطول العمر. يمكن أن توفر GWAS أيضا رؤى بيولوجية حول المسارات والآليات التي تشارك في الشيخوخة والأمراض.

هناك طريقة أخرى لدراسة جينات الشيخوخة البشرية وهي فحص الطفرات التي تسبب الشيخوخة المتسارعة في المتلازمات syndromes النادرة، مثل الشيخوخة المبكرة. تتميز هذه المتلازمات بالظهور المبكر للسمات المرتبطة بقصر العمر. غالبا ما تؤثر الطفرات التي تسبب هذه المتلازمات على الجينات المشاركة في صيانة الجينوم واستقراره، مثل إصلاح الحامض النووي، وصيانة التيلوميرmaintenance) (telomere، والتنظيم اللاجيني epigenetic) regulation). هذه الجينات ضرورية للحفاظ على سلامة ووظيفة الخلايا والأنسجة، ويمكن أن يؤدي اختلالها الوظيفي إلى عدم الاستقرار الجيني، والشيخوخة الخلوية، والالتهابات، والامراض.

تتمثل الطريقة الثالثة لدراسة العوامل الوراثية لشيخوخة الإنسان في التحقيق في التدخلات التي يمكن أن تطيل العمر وصحة حيوانات التجارب المختبرية، مثل الديدان والذباب والفئران والقرود. تشمل هذه التدخلات تقييد السعرات الحرارية، والتلاعب الجيني (genetic manipulation)، والعوامل الدوائية، والتلاعب البيئي. تستهدف العديد من هذه التدخلات نفس المسارات الجزيئية المتورطة في شيخوخة الإنسان بواسطة GWAS أو متلازمات الشيخوخة المبكرة، مثل إشارات الأنسولين / IGF-1، وإشارات mTOR. يتم حفظ هذه المسارات عبر الأنواع فهي تنظم جوانب مختلفة من التمثيل الغذائي والاستجابة للتوتر والنمو والبقاء.

واحدة من أكثر التدخلات الواعدة التي يمكن أن تطيل العمر والفترة الصحية في الحيوانات هي إزالة الخلايا الشائخة. الخلايا الشائخة هي خلايا فقدت القدرة على الانقسام والتكاثر، لكنها تستمر في إفراز الجزيئات التي تدمر الخلايا المجاورة وتسبب الالتهاب. تتراكم الخلايا الشائخة مع تقدم العمر وتساهم في الإصابة بأمراض الشيخوخة والضعف. اكتشف الباحثون مركبات يمكن أن تقتل بشكل انتقائي الخلايا الشائخة. لقد ثبت أن عقاقير(Senolytics ) تحسن الوظيفة البدنية والإدراك وعمر الفئران. دخلت أدوية Senolytics) (أيضا في تجارب بشرية في المراحل المبكرة للشيخوخة التي تمثلها مؤشرات مختلفة، مثل هشاشة العظام والتليف الرئوي مجهول السبب ومرض الكلى السكري.

من التدخلات الواعدة الأخرى التي يمكن أن تطيل العمر والفترة الصحية في الحيوانات تعديل التغيرات اللاجينية. التغيرات اللاجينية هي التغييرات التي تؤثر على التعبير الجيني دون تغيير تسلسل الحامض النووي، مثل مثيلة الحامض النووي (DNA methylation)، وتعديل الهيستون، وتنظيم الحامض النووي الريبي غير المشفر. تتأثر التغيرات فوق الجينية بالعوامل الجينية والبيئية، ويمكن أن تتوارث عبر الأجيال. يمكن أن تؤثر التغيرات اللاجينية (او فوق الجينية) على جوانب مختلفة من الشيخوخة، مثل التمايز الخلوي، ووظيفة الخلايا الجذعية، والالتهاب، وقابلية الإصابة بالأمراض. طور الباحثون طرقا لقياس العمر اللاجيني للخلايا والأنسجة بناءً على أنماط مثيلة الحامض النووي. يمكن استخدام العمر اللاجيني كمؤشر حيوي للشيخوخة البيولوجية والتنبؤ بمخاطر الوفاة. وجد الباحثون أيضا طرقا لعكس العمر اللاجيني في الخلايا والحيوانات عن طريق عوامل إعادة البرمجة أو العوامل الدوائية. يمكن لهذه التدخلات استعادة الوظيفة الخلوية وتجديد الأنسجة.

بالإضافة إلى هذه الأساليب، حدد الباحثون أيضا بعض الجينات التي ترتبط ارتباطا مباشرا بطول العمر عند البشر. تسمى هذه الجينات جينات طول العمر ويوجد حوالي 200 منها، منها 20 جينا بارزا جدا. ومن أبرز جينات طول العمر IGF-1 وFOXO3A وNF-kB وAMPK وCETP وSIRTUIN1. قد تساعد هذه الجينات في تنظيم الالتهاب والاستجابة المناعية وإزالة السموم والتمثيل الغذائي ووظيفة الخلية والالتهام الذاتي. ومع ذلك، فإن دور علم الوراثة في طول العمر لازال غير مفهوم جيدا، وليس كل الأفراد ذوي العمر الطويل الاستثنائي لديهم نفس الاختلافات الجينية. توجد بعض الاختلافات الجينية الشائعة التي قد تؤثر على طول العمر في جينات APOE وFOXO3 وCETP. جين CETP، على سبيل المثال، يشارك في تبادل الدهون وله تعدد الأشكال (polymorphism) يسمى (rs5882) الذي يرتبط بعمر أطول، وانخفاض خطر الإصابة بالخرف، وبمستويات HDL أعلى. قد تتفاعل جينات طول العمر أيضا مع خيارات نمط الحياة للتأثير على الشيخوخة.

ومن جانب اخر ظهرت حديثا دراسة أجريت عبر تعاون دولي لعلماء من 14 دولة اكدت بأنه لا يمكن إبطاء معدل التقدم في السن وذلك بسبب القيود البيولوجية. تم اختبار فرضية "المعدل الثابت للشيخوخة"، والتي تقول إن كل نوع لديه معدل ثابت نسبيا للشيخوخة من مرحلة البلوغ. تم مقارنة بيانات المواليد والوفيات من البشر والرئيسيات، ووجدوا أن النمط العام للوفيات كان هو نفسه لدى البشر وباقي الرئيسيات". وهذا يشير إلى أن العوامل البيولوجية، وليست العوامل البيئية، تتحكم في نهاية المطاف في طول العمر فمتوسط عمر الإنسان زاد بسبب التقدم الطبي والاجتماعي، وبات الناس يعيشون لفترة أطول، لكن المسار نحو الشيخوخة لم يتغير.

وفي المقابل اظهرت نتائج دراسة اجريت في جامعة اكستر الامريكية أن التخلص من الخلايا العجوزة في الجسم والحد من عددها يمكن أن يزيد من نشاط باقي الخلايا ويحسن من مقاومة الشيخوخة في الجسم. كانت هذه واحدة من الطرق التي استخدمها العلماء لمحاربة آثار الشيخوخة، بالإضافة إلى محاولتهم تحفيز الخلايا الأخرى لزيادة أدائها. وفقا للدراسة المنشورة، اكتشف الباحثون أن عامل كبريتيد الهيدروجين يؤثر على بعض عوامل التوصيل العصبي داخل الخلية، ويجعل الخلايا البشرية القديمة تستعيد نشاطها. لكن المشكلة التي تواجههم هي أن كبريتيد الهيدروجين بكميات كبيرة قد يكون ساما، لذلك يسعون إلى تحديد الجرعة المناسبة. كما وجد كاتب المقالة ان وجود السيرم في غذاء الخلايا المزروعة في الاطباق المختبرية ضروريا لالتصاقها في قعر الطبق وبذلك يحافظ على بقاءها ويزيد من عمرها.

مؤخرا نشرت مجلة الطبيعة بحثا لنتائج واعدة حول التغييرات المرتبطة بالشيخوخة. تشير الورقة البحثية إلى اكتشاف جديد مفاده أن سرعة الاستطالة النسخية (transcriptional elongation)، أو المعدل الذي يتحرك به RNA) polymerase II ( على طول قالب الحامض النووي، يزداد مع تقدم العمر في خمسة أنواع مختلفة: الديدان الخيطية، وفاكهة الفاكهة، والفئران، والجرذان، والبشر. يوضح الباحثون أن هذه الزيادة في سرعة الاستطالة تؤثر على تضفير الحامض النووي الريبي RNA splicing)) وتكوين الحامض النووي الريبي الدائري، والتي يمكن عكسها عن طريق تدخلات إطالة العمر مثل تقييد النظام الغذائي وتقليل إشارات الأنسولين وIGF. علاوة على ذلك، يوضح المؤلفون أن تقليل سرعة الاستطالة بوسائل وراثية أو دوائية يمكن أن يطيل العمر والفترة الصحية في الذباب والخلايا البشرية.

هذا الاكتشاف مهم لأنه يكشف عن آلية جزيئية أساسية تقوم على تنظيم الشيخوخة والعمر عبر الأنواع (across species). كما يشير إلى أن استطالة النسخ هي هدف محتمل للتدخلات المضادة للشيخوخة التي يمكن أن تحسن الوظيفة الخلوية وتمنع الاصابة بالأمراض المرتبطة بالعمر. توفر الورقة أيضا علامة بيولوجية جديدة للشيخوخة البيولوجية بناءً على سرعة الاستطالة، والتي يمكن قياسها من خلال تسلسل الحامض النووي الريبي. وهكذا فإن الورقة تزيد من فهمنا لعلم الوراثة وبيولوجيا الشيخوخة وتفتح آفاقا جديدة للبحث.

بعض الطرق الممكنة لمنع الشيخوخة:

1. تقييد السعرات الحرارية: يمكن أن يساعد الحد من تناول السعرات الحرارية في إبطاء عملية الشيخوخة.

2. التمارين: تحافظ التمارين البدنية المنتظمة على صحة الأنسجة ووظائفها ويعيد التوازن الأيضي.

3. مضادات الأكسدة: الأطعمة الغنية بمضادات الأكسدة يمكن أن تساعد في تقليل الإجهاد التأكسدي ومنع الشيخوخة.

4. العلاج بالهرمونات: قد تساعد الهرمونات مثل الإستروجين والتستوستيرون وDHEA في منع التدهور المرتبط بالعمر وتعزيز الصحة العامة.

5. العلاج الجيني: قد تسمح لنا تقنيات الهندسة الوراثية وتحرير الجينات بتصحيح العيوب المرتبطة بالعمر في الحامض النووي والهياكل الخلوية الأخرى.

6. العلاج بالخلايا الجذعية: قد يساعد استخدام الخلايا الجذعية لاستبدال أو إصلاح الأنسجة والأعضاء التالفة في مواجهة آثار الشيخوخة.

7. ادوية الشيخوخة (Senolytic drugs): تدمر هذه الادوية الخلايا الشائخة التي تتراكم مع تقدم العمر وتساهم في الإصابة بالأمراض المرتبطة بالشيخوخة.

8. تنشيط التيلوميريز: قد يسمح لنا تنشيط انزيم التيلوميريز، وهو الإنزيم الذي يحافظ على التيلوميرات، بإطالة عمر الخلية ومنع تقصير التيلومير.

9. الميتفورمين: الميتفورمين دواء يستخدم حاليا لعلاج مرض السكري، ولكنه قد يطيل العمر ويمنع الشيخوخة.

10. المركبات المضادة للشيخوخة: هناك العديد من المركبات التي تم تحديدها كعوامل محتملة لمكافحة الشيخوخة، بما في ذلك ريسفيراترول، رابامايسين، ومعززات NAD.

11. منع الطفرات الوراثية في عضيات الميتوكوندريا وهي مصادر الطاقة: استنساخ جينات الميتوكوندريا وحشرها في النواة حيث تكون محمية من مصادر استحداث الطفرات.

12. ازالة الخلايا غير المرغوب فيها مثل الخلايا الدهنية (خلايا السمنة): تحفيز جهاز المناعة للقضاء عليها.

13. التخلص من المواد السمية: تتراكم هذه المواد مع شيخوخة الخلايا حيث يمكنها ان تؤدي الى امراض كالخرف. هذه المواد يمكن تحطيمها  بالانزيمات التي يمكن صناعتها من قبل الخلايا الصحيحة.

14. تلف الاعضاء: يمكن تبديل الاعضاء التالفة باعضاء جديدة تم تكوينها عن طريق زراعة خلايا الاعضاء او زراعة الخلايا الجذعية.

في الختام، الشيخوخة هي عملية بيولوجية معقدة تحددها عوامل وراثية وبيئية. يمكن أن توفر العوامل الوراثية لشيخوخة الإنسان نظرة ثاقبة للآليات والمسارات التي تكمن وراء الشيخوخة والمرض، وتحديد أهداف التدخلات التي يمكن أن تطيل الفترة الصحية والعمر. تتضمن بعض الاكتشافات الحديثة في علم الوراثة للشيخوخة البشرية تحديد المواقع التي تؤثر على سمات الشيخوخة الرئيسية، ودور صيانة الجينوم واستقراره في الشيخوخة ومتلازمات الشيخوخة المبكرة، وإمكانية إعادة البرمجة الوراثية للشيخوخة لتأخيرها أو عكسها، وتحديد جينات طول العمر في البشر. توفر هذه الاكتشافات إمكانيات لتحسين صحة الإنسان واطالة عمره.

***

أ. د. محمد الربيعي

بروفسور في جامعة دبلن

 

دعاني مركز تجديد للفكر والثقافة للمشاركة بموتمرهم العلمي القراني الأول عن فهم القران الكريم في ضوء مستجدات العلوم الإنسانية مساء يوم 25حزيران 2023 وتكرموا بان خصصوا لي المحاضرة الافتتاحية للمؤتمر وقد قدمت في المؤتمر ورقة علمية اضع ملخصا لها

1- تنطلق الورقة من مشاطرة هدف الموتمر في إمكانية الإفادة من تطور العلوم الإنسانية ومنهجياتها المعاصرة لاستثمارها كاليات للتلقي القراني وتستثمر لكي تفتح افاقا جديدة لم تكن موضع بحث في القرون التفسيرية الأولى على ان تستخدم تلك الادوات البحثية بوجه دقيق في فهم القران الكريم فهما يتسق مع فضاء الحداثة وقضاياها المعرفيه ونزعاتها النقدية ومنهجياتها التي تطبق على عموم نتاج الانسانيات المعاصرة

ويقف في وجه ذلك احد رايين اما توصيف التجارب المعرفية السابقة في تفسير القران تراثا ثقافيا يشكل مرحلة من مراحل الصيرورة الفكرية لعلوم التفسير وانها كانت وفية لعصورها وقدمت ما بوسعها ان تقدمه من علم وتدقيق ولكن ذلك العلم كان نتاج عصره ومعبرا عنه بظروفه العديدة والثاني انها أي التجارب التفسيرية الماضية تخضع للنقد والمحاكمة والتفكيك بوصفها ثقافة بشرية قاصرة عن ادراك الحقيقة التامه تمهيدا لمسارات التجديد في الدرس التفسيري ، وكلا الامرين محاط بمحاذير وصعاب بحثية

2- علينا ان ناخذ بنظر الاعتبار ان الاستخدامات الأيديولوجية لهذه المعرفيات والمناهج سعت لاجراء دراسات كان لها غايات منحازة لاطراف الصراعات بين الشرق والغرب والمسيحية والإسلام واليهودية وصهيونيتها والصراع في الشرق الأوسط وتجارب الاستشراق المبكر الذي تنامى تحت عقد تلمودية وانجيلية لاثبات عدم الوهية النص القراني وانه من صنع النبي محمد فالحذر من ان تستغفلنا هذه الدراسات لتشوه الوعي التاريخي وعلينا ان نتبنى امر الإفادة منها بموضوعية وحيادية صارمة لتحليل جديد للقران والاضاءة على المكنونات القرانية.

3- لقد مر التفسير بأربع مراحل

كانت المرحلة الأولى مرحلة التفسير بالماثور والنص والرواية وكان الطبري والعياشي والقمي نماذج لها وكان النص القراني قد غمر تفكيرهم وثقافتهم ولم تكن لهم علوم بشرية آنذاك فاكتفى عصرهم بتفسير النص من خلاله ومن شروحات لسنة وفهم الصحابة والتابعين

بعد ان وفدت على العالم الإسلامي علوم الاقدمين الفلسفة والمنطق فقد تسربت الى التفسير فظهرت موجة التفسير بالراي والتاويل والمحاكمة العقلية للاراء فكانت المرحلة الثانية التي امتدت لقرون الى جنب الماثور فصار المسار التفسيري يسير بخطين متوازيين ومنهجيتين تلتقي أحيانا وتفترق غالبا والملاحظ ان التفسيرين احتضنا الخلافات الكلامية والفقهية وظهرت في ثنايا التاويل وفي الروايات المتعارضة المنقوله من الماثور وظهر الى جانب التاويل العقلي تاويل حدسي اشاري سمي بمنهجية التفسير الاشاري و استمر الحال على ذلك حتى القرن الثالث عشر الهجري الموافق للتاسع عشر الميلادي فظهرت تفاسير مثل المنار وتفسير طنطاوي جوهري انتهج نهج الإفادة من الإنجازات العلمية التي انتقلت من الغرب بل صاحبت غزو اوربا للعالم الإسلامي واستعماره وكان الغرض منها اسناد القران بادلة علمية

ونحن الان تحت تاثير الصدمة الثانية للهيمنة العلمية الاوربية مثل مناهج الدلالة الالسنية واراء سوسير واراء غادامير و التاويلية والبنيوية ومناهج الانثروبولوجيا والمنهح الفيلولوجي

وهذه هي المرحلة الرابعه التي دخلت فيها المقاربات التفسيرية المتاثرة بالثقافة الغربية عالم الثقافة العربية وكان من ذلك اجتهادات المفسرين الجدد مثل محمد شحرور في كتابه (الكتاب والقران) والجابري في فهم القران ونقد العقل العربي واركون في تاريخية الدين ونصر حامد أبو زيد في التص والسلطة والحقيقة وكتابه التاويل

4- هناك منهجيتان في التفسير، المنهجية التجزيئية والمنهجية الشمولية وهنا اشير الى ان التجزيئية نوعان احدهما ما يسع الجزء ان ينتظم مع الأجزاء الأخرى فيكون جهدا قابلا ان يكون ضمن مشروع الشمولية فيقبل والا فان التجزيئية ربما تفضي الى تشوهات في الوعي فلا يكون الخيار الا بالالتزام بالمنهجية الشمولية

5- ان النزعه النقدية في الثقافة الغربية الحديثة قد درست اكثر النصوص التاريخية دراسة نقدية وامتدت الى الكتب الدينية القديمة التوراة والانجيل لاسيما في خضم الصراعات بين العلمانية والكنيسة للوصول الى ان النص الديني ناتج عن الظرف التاريخي الاجتماعي والاقتصادي ولكي ينزل النص من سمة التعالي والقدسية الى انه نص غير متعالي ولا مقدس وزمني تمهيد لمرجعية العقل والعلم التجريبي

ويبدو لي ان سبب عدم ولوج أئمة الشيعه في ازمة خلق القران حيث لم يبدو رايا بها فلانهم ادركوا ان القول بخلق القران ربما يفضي اعتباره ناتج ظروف تاريخية يعبر عنها او يفض القول بقدم النص الى ان النص ازلي

6- بودي ان استعين بنموذج تطبيقي لما تقدم بان اشير الى مقاربة مشروع مهم اسمه (قران المؤرخين) للباحث امير معزي مع فريق عمل يشتغل معه يبلغ خمسة عشر باحثا كانوا قد كتبوا قرابة 4000 صفحة تحليلات للنصوص القرانية والتمسوا ما يشابهها من السرديات التاريخية ككتب الأديان التوحيدية والكتابات السريانية لاستثمار التشابه بينها وبين ما ورد بالقران لينتهوا الى ان التشابه يعني ب (ان محمدا اخذ هذه الأفكار من الثقافات السابقة وهي وان كانت تحمل سمة دينية غير انها ناتجة عن ظروفها التاريخية) وهي ليست متعالية ولا معصومة واخرجوا كتابا في تحليل سورتي العلق والطارق وتناولوهما من حيث البنية الموضوعية للسورة وعدد الايات وتحليل لاسم السورة وفواصلها وسبب النزول واستخدموا التناص مع ادبيات متعددة وصولا لهذا الغرض

بيد ان الايات القرانية قد عرضها النبي محمد بوصفها قراءة لاهوتية كونية للوجود ومشروعا للهداية والعرفان وانها خاتمة النصوص المنزلة ففي مضامينها خلاصة نهائية للاديان المتعاقبة لذا فان ارتباطها بالنصوص الدينية القديمة لايعد امرا غريبا ولعله ارتباط مضموني فقد ورد في اكثر من موضع قوله انه مهيمنا ومصدقا لما بين يديه وانه من قبيل صلة الأجزاء بالعام فقد قال (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) وقال (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيل) وقال (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) وقد يكون صحيحا القول ان الايات القرانية عبارة عن مجمع التراثات الدينية المتعددة او نقطة التقاء الديانات

7- ان معرفيات التفسير بوصفها جهدا بشريا ليس حجة على لاهوتية القران ولا على عدمها فلا مسوغ للاستدلال بالتفاسير على امر لاهوتية النص

8- القران ليس وثيقة تاريخية او مستند تاريخي حتى يجوز لنا ان نطبق عليه المنهج التاريخي ونلزمه بنواتج المنهج

9- ان إشكاليات التدوين الاول للقران واشكاليات جمع القران وتعدد المصاحف قد حسمت بالعصور الأولى وجرى عليها القبول ونقل قران المصاحف التي بين أيدينا بالتواتر وانتهى الامر علميا فاعادة الخلاف واستغلاله للاساءة للقران امر لا مبرر له

10- ان الرقم والاثار والالواح القديمة لا تشكل في البحث القراني الا قرائن معززة للافتراض وليست ادلة برهانية على دعوى لاهوتية النص او عدمه

11-  ان أي بحث علمي لن يتخلى عن المقاصد الذاتية والغايات الأيديولوجية

فان قيمته العلمية تنخفض الى درجة عدم الاعتبار العلمي له

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

كثر من الناس يستنفدون خياراتهم ويستسلمون لليأس. أكاد أقول، وعبر مراقبتي لحياة البشر والقراءة عنها في الكتب والمصنفات، أن غالبية البشر هم من هذا النوع.

ومن جهة ثانية فإن الإنسان، ومنذ أمد غير قصير، سعى ويسعى لأنسنة كل ما حوله إلا نفسه، رغم اعتراف الغالبية، وعلى رأسهم النخب الثقافية، بإن الإنسان يعيش حالة اغتراب مفزعة في عصره الحديث، وخاصة حقبة ما بعد الحرب الكونية الثانية.

قال أحد الكتاب عن هذه الحالة، في مقال له (إنها عملية اصطدام المرء بجدار الحياة غير المرئي، ذلك الجدار الذي يصادفه الجميع في كل مكان، رغم أنه بلا هيكل أو جسد وبلا أبعاد محددة)، وأنا، وعبر مراقباتي وقراءاتي التي أخبرتكم عنها، تفهمت هذا الوصف وكنت أحد المقتنعين بوجود هذا الجدار.

أين يقوم هذا الجدار وما هي أوصافه ومن يحميه ويديم بقاءه؟

حامل المطرقة (الفيلسوف، بحسب توصيف فريدريك نيتشه) يقول: الجميع وأولهم المؤسسات، وأول هذه المؤسسات هي المؤسسة السياسية، بعد أن تخلت عن المهمة التي تكونت من أجلها: صناعة الحياة.

من يصنع الحياة اليوم، بعد أن تفرغت المؤسسات، بقيادة المؤسسات السياسية، لصناعة الحروب ومصانع الأسلحة والأسلحة النووية والجرثومية والكيمياوية، التي تدمر الطبيعة، وقبل هذا وما هو أهم منه، ملاحقة الإنسان ومصادرة حريته والتنكيل به وقتله على رأيه وأفكاره وصوته إذا ما ارتفع محتجاً ومندداً؟

في زمن الثورة التكنلوجية، عندما صار مجرد هاتف، أصغر من حجم كف الإنسان، يقلب لك العالم ويأتيك بأخبار كل زواياه الضيقة، في هذا الوقت بالذات نجد أنفسنا في الزمن الأشد حماقة والأكثر التباساً وبؤساً: حروب مجانية تقتل مئات آلاف الأبرياء، مجاعات مخجلة، أوبئة، تدمير للبيئة، اضطرابات مناخية مرعبة، ارتفاع درجات حرارة الطبيعة من حولنا بصورة تحدث فيضانات وأعاصير مدمرة، وكل هذا موجه ضد الإنسان من دون المؤسسات التي ترتكب أفظع الحماقات وبكل ما تحوز من استهتار بالإنسان والقيم.. بل وكل هذا موجه إلى الإنسان الفرد وكينونته التي لا تريد أن تراها المؤسسات حرة مستقلة وتقول رأيها، المخالف لحماقات من يديرون المؤسسات، وأولها المؤسسات السياسية طبعاً.

لماذا؟ لماذا لا تستطيع المؤسسات التعايش مع الإنسان الفرد الحر وصاحب الرأي المستقل، وهنا لا نقصد الرأي السياسي المستقل بقدر ما نقصد الرأي الفكري العام وككل؟

لنعود إلى غرفة الفلسفة التي باتت باردة وشبه مهجورة، بعد أن فرضت عليها المؤسسات إقامة شبه اجبارية في أروقة الجامعات. هل مازالت ذات المطرقة، التي حملها سقراط وافلاطون ونيتشه وسبينوزا....، بيد أصحاب تلك الغرفة؟ هل مازال أولئك السكان قادرين على طرق صنج العقل البشري بذات الحدة، ومازالت ترددات طرقاتهم تسمع وتهاب بذات التقبل الذي كان لهم ذات يوم؟

كل شيء اليوم معجون في مرق (هل عليّ أن أقول في دم، كي أكون دقيقاً؟) السياسة ومصالح وعقد ولؤم محترفيها، من حبة البارستيمول إلى لقاح كوفيد 19 (بصفته آخر الأوبئة الخطرة المنتشرة حالياً على كوكب الأرض) وكل هذا على حساب الإنسان الفرد وحريته الشخصية، والأهم حريته في أن يصرح برأيه الخاص في مجريات حياته الخاصة ومجريات ما يدور من حوله، سياسية ودينية وثقافية واقتصادية وفكرية. لماذا؟ لأن الإنسان الفرد يرتكب الحماقات، كما تقول المؤسسات. ماذا ترتكب المؤسسات إذن عبر مراقبتها لرأي الإنسان وحرية ضميره ومعتقده وأفكاره... بل وحتى أحلامه وهلوساته عندما يغضب على ما تخيط له المؤسسات وتجبره على ارتدائه؟

ألا يحق للإنسان الغضب والصراخ عندما تمطره الطائرات القاصفة بالصواريخ والقنابل الذكية (التي لا تخطئه كهدف لها)، في حرب لا يعرف لم وقعت ولا يدري في أي جيب تصب مصالح وأهداف ونتائج انتصار أصحابها، من زعماء المؤسسة السياسية؟

ألا يحق للإنسان أن يتظاهر ويصرخ محتجاً وهو يرى أن النهر الذي يشرب منه ويسقي مزروعاته، يحول مجراه أو يقطع ماءه عنه لأسباب سياسية؟ ألا يحق له أن يغضب وهو يرى أن الحرارة ترتفع من حوله وتسبب له اضطرابات مناخية قاتلة ولم يعهدها، (بل ولم يقرأ عن مثيل لها في كل تاريخ البشرية السابق)، لأسباب سياسية تتعلق بما ينتج الساسة من حروب وأسلحة تنتج درجات حرارة وحرائق تدميرية، تكاد تقترب من درجة انفجارات الشمس؟

كل هذا يجري وعلى حامل المطرقة أن لا يقترب (وليس يهدم بمطرقته فقط) ما تبني مؤسسات السياسة، بل عليه فقط أن يجد مخرجات (فلسفية) مبررة لما ترتكب في حق الإنسان وحقه في الحياة والحرية، التي (على ما يبدو) أن لا حياة ولا يستقيم أمر ملاكها - المؤسسات السياسية – من دون مصادرتها وإذلاله وتحويله إلى إمعة. أليس هذا ما يفعله أغلب ساسة الأرض؟

ولنعود مرة أخرى إلى غرفة الفلسفة ونقلب بعض أدراجها، لنرى ماذا تملك مطارقها من توصيفات لهذا الوضع المختل. يقول نيتشه (حامل المطرقة الكبرى) في وصف الفلسفة بأنها السبيل إلى السخرية. السخرية مم غير الوضع المختل الذي فرض على الحياة، ممن نصبوا أنفسهم سادة وأوصياء على حياة ومصائر البشر؟ أما جيل ديلوز فيرى في الفلسفة وسيلة لمحاربة الغباء. هل هناك أكثر غباءً، مما يستحق محاربته، من إنتاج المؤسسات التي تفتك بالإنسان وتصادر حريته؟ أما فوكو فلا يرى بحامل المطرقة غير محارب، لا يهدأ، للحماقة. هل على الأرض أكثر حماقة من مصادرة حرية الإنسان وصناعة الأسلحة والحروب لإفنائه وافساد الطبيعة التي توفر له أسباب الحياة؟

نعم الثورة الصناعية، ومن بعدها الثورة التكنلوجية، قدمتا للإنسان الكثير؛ إلا أن نظرة متفحصة للجهة التي يحرف بها الساسة منجزات العلم والتكنلوجيا، والطرق التي يستخدمونها بها، تدفعنا للتساؤل: ماذا يفعل هؤلاء بهذا الكوكب وساكنه المسكين (الإنسان)؟ إنهم يفسدون عليه كل حياته وشؤونه؟ إلى أين يقود هؤلاء هذا الكوكب؟ إنهم يفسدون ترابه وهواءه وماءه بكل ما يتوفرون عليه من لؤم وبشاعة. لماذا؟ هل العالم بيد مجموعة من المنحرفين؟

يا للبشاعة قبل السخرية! إنهم يفرضون علينا (الوجود الزائف) بحسب توصيف الفيلسوف مارتن هيدجر؛ وهذا الوجود المصطنع يفرض علينا بقوة السلاح وأجهزة الشرطة والجندرمة والمخابرات والجيش والدرك ليصير هو وجودنا اليومي، والذي لا يجب أن نعرف سواه، ومن يرفضه أو يتمرد عليه فمصيره القتل أو التغييب في السجون. من منح الساسة حق تزييف وجودنا؟ القانون الذي وضعوه بأيديهم ووفق ما ترى مصالح هيمنتهم على السلطة.

ماذا بقي لحامل المطرقة ليفعله في عالم الحماقة والتفاهة هذا؟ كل منحى من مناحي الحياة من حوله تشيء أو في طريقه لذلك... بما فيها مطرقته (الفلسفة)، التي تسعى المؤسسات، بما فيها الأكاديميات للأسف، إلى تشيئها: تحويلها إلى ايديولوجيات سياسية تؤطر (فكرياً) لمشاريع الساسة أو إلى مجرد لذة نصوص (فخمة بغموضها) بعد أن كانت أداة التحرش بالغموض الكوني وطريقة الإحاطة به وتفسيره وفهمه.

من نافلة القول أن نذكر هنا أن من بين أهم مشاريع الساسة وأكثرها عتمة، كانت دفع حامل المطرقة (الفيلسوف) إلى ركن مطرقته والانزواء في برجه العاجي (الأكاديمي) ودفعه لإنتاج غموض مركب وتهويمات لقراءة التاريخ أو انتاج لوغارتمات جديدة تسند تطلعات الساسة إلى المزيد من كبح الإنسان ومصادرة حريته واحكام السيطرة عليه. وأمر مؤسف أن نجد بعض حاملي المطارق قد انساقوا وراء اللعبة من دون التوقف للنظر إلى الجهة التي يسير إليها هذا الكوكب، أو حتى للتساؤل عما سيحدث لهذا العالم، بعد أن صار حتى دخول الحمام يخضع لاعتبارات وأغراض سياسية!

هل لنا أن نتساءل، في النهاية، عن صورة العالم، فيما لو اختفى جميع الساسة منه؟ ربما لن يكون أجمل، ولكنه على الأقل سيكون بلا حروب ولا روائح جثث المقابر الجماعية المدفونة على عجل... وبالتأكيد ستعاود مطرقة سقراط العظيم التلويح من سفوح الأولمب.

***

د. سامي البدري - روائي وباحث

لمناسبة اليوم العالمي لمكافحة المخدرات

توطئة: أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً في العام 1987 حددت فيه، بأن يكون السادس والعشرون من يونيو من كل عام، يوما عالميا لمكافحة المخدرات، تقديراً منها للخطورة العالمية لتداعيات المخدرات، لما لها من أضرار جسيمة على النواحي الصحية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية.ولم تعد انواعها مقتصرة على (الحشيش، الماريجوانا، الكوكايين، والمورفين...) بل ظهرت مركبات جديدة لها تأثير واضح على الجهاز العصبي والدماغ، بل ان المخدرات نعدها بوصفنا انها (قاتلة الأحبة ومرتكبة الزنا)!.

والمفارقة ان العراق كان في السبعينات في ذيل قائمة الدول، فيما اصبح بعد 2003 من بين الدول الأكثر تعاطيا للمخدرات، وقد رجحت احصائية اصادرة عن الامم المتحدة ان السنوات العشر القادمة ستفتك بالشاب العراقي في حال بقي الوضع على ما هو عليه.

المخدرات في العراق

كان العراق في السبعينيات وما قبلها يعدّ الأقل نسبة في تعاطي المخدرات، وبنشوب الحرب العراقية الايرانية، بدأت المخدرات تدخل اليه.بل انها بدأت تزرع ايضا بحسب تقارير الاستخبارات الامريكية التي عزتها الى ان انقطاع التمويل المالي للجماعات الارهابية ادى الى زراعة اشهر نبتة مخدرات تسمى (الداتواره) بمناطق في محافضة ديالى، فيما افادت تقارير حديثة لمكتب مكافحة المخدرات التابع للأمم المتحدة تقول بوجود ممرين رئيسين الأول عبر الحدود الشرقية التي تربط العراق مع إيران وافغانستان، والثاني يوصل إلى أوروبا الشرقية، إضافة الى ممرات بحرية على الخليج العربي تربط دول الخليج مع بعضها.. وثغرات واسعة تستخدمها العصابات الإيرانية والأفغانية.

الجديد أن العراق لم يعــد محطة ترانزيت للمخدرات فقط، وإنما تحوَّل إلى منطقة استهلاك بين اوساط الشباب تحديدا. والاكثر من ذلك، ان فلاحين في ميسان وديالى كانوا يزرعون الطماطة توجهوا الآن الى رزاعة الخشخاش والقنب والنباتات المخدرة الأخرى، ونجحت في تسويقها لان الربح فيها سريع ومغري.

والمفارقة ان التقارير الرسمية تفيد بأن مدنا عراقية ذات طابع ديني (كربلاء مثلا) جاءت في مقدمة المحافظات في نسبة تعاطي المخدرات، وان احصائية لمستشفى الرشاد المتخصص في الادمان افادت بان نسبة المراجعين زادت على 70%، وأن التعاطي الذي كان على صعيد الشباب والراشدين، صار الآن على صعيد المراهقين والاطفال ايضا!.وان مخدرات ما كانت معروفة في العراق صار الشباب يتعطونها بالآلاف. فوفقا لوكالة عراق برس اطلق قسم الصحة النفسية بمستشفى البصرة العام صرخة استغاثة لمساعدته بعد رواج تعاطي مادة (الكرستال) بين الشباب ابتداءا بالمراهقين ووصولا الى طلبة الجامعات. والكرستال هذا الذي يشبه زجاج السيارة المهشم وصل سعر الغرام الواحد منه مئة دولارا، يجعل متعاطيه ينسى واقعه ويحلق منتشيا في الخيال.

لم يدرك حكام الاسلام السياسي كارثة اضرار المخدرات بين اوساط الشباب، فهي على صعيد الشاب تؤدي الى: تلف الجهاز العصبي، تعطل الطاقة الانتاجية، ارتكاب جرائم سرقة، الموت المفاجيء، والانتحار. وعلى صعيد الاسرة يصبح فيها الشجار افتتاحية الصباح وختام المساء، العدوان، قتل احد افراد الاسرة، الخيانة الزوجية، ممارسة البغاء والدعارة والقوادة واكراه محارمه على الزنا!.. والزنا بالمحارم!!.فيما تؤدي على صعيد المجتمع الى تهرؤ النسيج الاجتماعي، انحرافات سلوكية واخلاقية وجنسية، زيادة معدلات الجريمة، وتراجع القيم الاخلاقية الاصيلة، فضلا عن انها تشغل الدولة بمعالجة المدمنين وملاحقة تجار المخدرات والمتعاطين واضعاف الطاقة الانتاجية وشلل التنمية.

في العاصمة بغداد، افادت التقارير بانتشار تعاطي المهلوسات بين الشباب.ومع تعدد انواعها (سوبيتاكس، اكستازي، باركيزول.. ) فان اكثرها شيوعا هي حبوب «ال سي دي».. وكلها تعمل على جعل متعاطيها يفقد صلته بالواقع، بمعنى ان الشاب العراقي المحبط، المخذول، المأزوم نفسيا.. وجد فيها فرصة للهرب من واقع الخيبات والفواجع الى التحليق في عالم من النشوة والانطلاق بلا حدود.

ومرة اخرى نقول، ان السلطة لا تدرك حجم مخاطر هذه الحبوب، يكفي ان نقول عنها ان متعاطيها يذبح الانسان كما يذبح دجاجة، والشاهد على ذلك ان داعش كانت تستخدمه مع مقاتليها الذين كانوا يفجرون انفسهم ويتلذذون بقتل الآخرين ذبحا او حرقا.

وثالث الكوارث الاخلاقية، هي انتشار (الأيدز) بين اوساط الشباب، فوفقا لتصريح مدير عام صحة الكرخ لفضائية الشرقية، فان الايدز عاد الى العراق بعد خلوه منه لثلاثين سنة، وان بغداد تشهد اصابات كثيرة بين الشباب والشابات، المتزوجين وغير المتزوجين.

نظرية سيكولوجية عراقية

اعتاد علماء النفس في العالم استخدام الحيوانات (الفئران عادة) لاجراء اختبارات عليها تساعد على فهم الانسان حين يتعرض للضغوط مثلا. وعلى مدى السنوات العشرين الأخيرة، كان العراق فيها مختبرا سيكولوجيا على ارض الواقع تعرض فيها العراقيون الى ضغوط لم تحصل في تاريخ الشعوب المعاصرة، وقدمت نظريات جديدة لعلماء النفس.. نجود عليهم بواحدة منها نوجزها في الآتي:

(هنالك علاقة طردية بين تزايد اقبال الشباب على تعاطي المخدرات والمهلوسات

وبين تزايد شعورهم بالاغتراب والاحساس بانعدام المعنى من الحياة،

اذا كان حكاّم ذلك الوطن يزدادون ثراءا ويتركون اهله يزدادون فقرا).

اقتراحان

الأول خاص بالسلطة:

لأن الأطباء النفسيين وعلماء النفس المختصين بالصحة النفسية هم الأقدر على التعامل مع هذه القضايا، فان لدينا استراتيجية للتعامل معها والحد منها، وكل ما نطلبه من السلطة هو توفير الفرصة لنا لأنقاذ جيل كامل من الشباب يتعرض الآن الى اخطر ثلاثة قاتلة: المخدرات والمهلوسات والأيدز.. ورابعها الانتحار.

والثاني خاص بوزارة الصحة:

مع ان على رأس الوزارة شخص معروف بكفائته ونزاهته، وتربطنا به علاقة صداقة، فان معالي الدكتور صالح الحسناوي لم يشرك الجمعية النفسية العراقية في نشاطاتها، بل اقتصرها على الأطباء النفسيين، سواء على صعيد المستشارين او على صعيد نشاطات الوزارة الخاصة بالصحة النفسية، مع اننا كنا وقعنا مع رئيس جمعية الأطباء النفسيين السابق الدكتور نصيف الحميري وثيقة تعاون مشترك حققنا فيه نشاطات بينها مؤتمرات وندوات، وانا على يقين ان معاليه يدرك ان التعاون بين الأطباء النفسيين وعلماء النفس سيسهل تحقيق مهمتنا الانسانية النبيلة في حماية شبابنا من آفة المخدرات.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

لعل من مزايا المنهج الجدلي انه يحض الفكر على رفض كل ما يعيق تطلعه إلى فضائل (التغيير) الاجتماعي ومزايا (التطوير) الثقافي من جهة، ويحثه على مجانبة كل ما يشده إلى رذائل (الثبات) ورزايا (السكون) في مواجهة دفق الوقائع وفيض الأحداث من جهة أخرى . هذا في حين لا تفتأ رواسب الأصول الانثروبولوجية من السعي لإعاقة أي تقدم في مضامير الوعي وإيقاف أي تطور في ميادين السلوك . وكلما كانت سياقات المجتمع التقليدي أميل الى التأثر بتلك الأصول والانصياع لتلك الخلفيات، كلما تقلصت مساحات الجدلية الاجتماعية وضعف دورها في إيجاد المخارج المناسبة لتجنب الوقوع في شباك الخوانق البنيوية والعوائق الوظيفية المسؤولة عن تواتر الأزمات في الواقع وتكاثر الإشكاليات في الوعي .

ولعل من أسباب إعاقة أواليات التفكير الجدلي من اختراق حواجز البنية الاجتماعية المتكلسة والمتحجرة، ومن ثم حمل عناصرها على التفاعل والتمفصل البيني بما يفضي الى حراكها الدائم وتقدمها المستمر، هو رجحان كفة الأصول الانثروبولوجية المضمرة بين ثنايا الوعي الجمعي والمتحكمة في سيكولوجية مثل هذه الأنماط الاجتماعية التقليدية، خصوصا"وأن تلك الخلفيات والمرجعيات هي بمثابة مناجم لا ينضب ثرائها في مجال التصورات الاجتماعية، ولا يشح غناها في مضمار التمثلات التاريخية، ولا ينفد عطائها في ميدان الانزياحات الحضارية . لاسيما وأن الكيانات والتكوينات الجماعاتية (الأقوام والطوائف والقبائل) التي طالما كانت - وستبقى - الحاضنة العضوية لتلك الأصول، والمحفز الطبيعي لاجتياف أعرافها وقيمها والتماهي مع رموزها ومخيالها، لا زالت تتمتع بوجود اجتماعي طاغ وحضور ثقافي مسيطر .

ومما هو جدير بالذكر، ان دور هذه الظاهرة النكوصية لا يقتصر فقط على الإسهام في تأجيج الأزمات السياسية وتعقيد الإشكاليات الاجتماعية كما تقدم ذكره فحسب، بل ان تأثيرها السلبي يطال سيرورات الجدلية الاجتماعية ذاتها، من خلال عكس مسار الديناميات الموكول إليها تحقيق التطور الحضاري المنشود، كما سبق وبيناه في دراسة لنا تحت عنوان (الجغرافيا العراقية ومفارقات الديالكتيك الحضاري) . عازين ذلك الى دور (العوامل الذاتية) الناشطة في هذا النمط من المجتمعات المأزونة سياسيا"والمتشظية اجتماعيا"، والتي غالبا"ما كانت معرقلا"أساسيا"ومعيقا"فعليا" لأواليات وديناميات (العوامل الموضوعية) المشارك الرئيسي في دفع تلك السيرورات لبلوغ مراحل النضج والاكتمال . بمعنى ان الخاصية الجدلية للوعي لا تني تعاكس الخاصية الجدلية للواقع، إذ كلما أمعنت عناصر هذا الأخير في انتهاج مسار التقدم الاجتماعي والاستجابة لضرورات التطور الحضاري، كلما عمدت أصول الكيانات والمكونات الانثروبولوجية الى تحريف سيرورات الوعي باتجاه تصورات وسرديات وسياقات سابقة، كان الواقع التاريخي قد أسقط شروطها وتجاوز معطياتها وتخطى علاقاتها، الأمر الذي يجعل من عمليات الانزياح عن القديم والانفتاح على الجديد صعبة وغير ممكنة، ان لم تكن باهظة التكاليف "سياسيا" و"اقتصاديا" و"اجتماعيا" و"ثقافيا" و"حضاريا".

وكحال الغالبية العظمى من المجتمعات التي لا زال ماضيها يقرر توجهات حاضرها ويؤطر توقعات مستقبلها، فان ما يعيق قدرة الجماعات والمكونات العراقية على التفكير بكيفية (عقلانية) ناضجة تتيح لها فهم ما يضطرم في رحم المجتمع من تقاطعات وتصادمات، واكتناه ما يشترطه الواقع الموضوعي من ضرورات واستجابات، والاندراج، من ثم، داخل سيرورات التقدم الاجتماعي وديناميات التطور الحضاري وتفاعلات الترقي الإنساني، بما يجعلها تواكب تلك التحولات القيمية من شأنها تسهيل عمليات التحول والانتقال من طور (التبربر) الى طور (التحضر)، وتمكنها من مجاراة تلك الانتقالات الحضارية من حقبة (التبدون) الى حقبة (التمدن)، بأقل قدر ممكن من العوائق بنيوية، أو الانقطاعات التاريخية، أو الصدامات أصولية، أو الارتدادات القيمية .

ولعل ما يثير الأسى في النفس ان الأصول الانثروبولوجية المتحكمة بأواليات بنى الوعي وأنماط الثقافة لدى الجماعات العراقية المتذررة، لم تبرح تمتلك من مقومات القوة والصلابة ما يمكنها من مقاومة التغييرات الاجتماعية ومناهضة التحولات الحضارية فحسب، وإنما يجعلها مصدر لا يستهان بدوره في إثارة المشاكسات الذهنية وخلق الممانعات النفسية، إزاء كل محاولة يبديها الوعي التقليدي للتخلص من قيود الرتابة التي تكبل تطلعه، والخروج من شرانق العطالة التي تعيق تحرره .

***

ثامر عباس

يعد النهوض بتدريس مادة اللغة العربية في مناهجنا وممارساتنا الصفية هو نهوض بالعملية التعليمية التعلمية ككل، لأن اللغة العربية هي لغة التدريس بالمغرب في كثير من المواد، ولهذا فإن أي تقدم حاصل في درس العربية، وفي أي مكون من مكوناتها سينعكس بالإيجاب على المتعلم في كل المستويات التعلمية. ولا يمكن أن نجوّد ونطوّر من دروس اللغة العربية إلا بالوقوف على تجويد وتطوير الممارسات الصفية وكيفية التعامل مع هذه المكونات وإعادة النظر في البرامج التعليمية.

إن تطوير تدريس مكون النصوص ضمن مادة اللغة العربية  في السلك الثانوي التأهيلي يستوجب الوقوف أمام متطلبات تلاميذ هذه المرحلة وفهم حاجياتهم وتعثراتهم، بشيء من العمق والتحليل والتفسير، لهذا ارتأيت أن يكون موضوع مقالي هذه المرّة؛ حول تدريس النص النقدي، لمعرفة الطريقة التي يدرس بها هذا النص، ومعرفة أهم الصعوبات والعراقيل والتعثرات التي تواجه تلاميذ السلك الثانوي التأهيلي في دراسته بشكل عام، وتلاميذ السنة الثانية بكالوريا آداب بوجه خاص.

للنص النقدي  مكانة جد مهمة في منهاج اللغة العربية بالتعليم الثانوي التأهيلي، إذ نجد نصوصا نظرية في بداية كل وحدة من الوحدات، يتم بها التمهيد للنصوص  الإبداعية، وقد اعتبرت نصوصا نظرية، بينما هي نصوص نقدية، تعرف بالخطابات الشعرية  وبأسسها ومقوماتها، وتمهد لها مثل نص انبعاث الشعر العربي لمحمد كتاني، ونص الشعر الرومانسي لعبد المحسن طه بدر، ثم نص قضايا الإطار الموسيقي للقصيدة لعز الدين إسماعيل، وأخيرا قصيدة الرؤيا لأحمد سعيد أدونيس. كما نجد في المجزوءة الأخيرة من  هذا المنهاج مناهج  نقدية حديثة في المجزوءة الرابعة وهما منهجين اثنين، "منهج اجتماعي وآخر بنيوي" ، كما نجد نوع آخر من النصوص وهي النصوص التطبيقية، التي تطبق آليات المناهج النقدية المدروسة في مقاربتها لنصوص الأدب. وبالموازاة مع مكون النصوص يدرس تلاميذ السنة الثانية بكالوريا آداب النقد في مكون المؤلفات أيضا، من خلال مؤلف نقدي "ظاهرة الشعر الحديث "لأحمد المعداوي المجاطي.

ما يواجهونه تلاميذ السنة الثانية بكالوريا آداب وعلوم إنسانية من صعوبات وعراقيل في دراسة النص النقدي، قد يكون راجعا لعدم التعرف على مثل هذه النصوص في السنوات السابقة بالطريقة المرجوة، الشيء الذي يحول دون تفاعلهم وتواصلهم الفعال مع هذه النصوص وفهمها فهما جيدا. كما يواجه المدرس أيضا مجموعة  من الصعوبات في تدريس هذه النصوص.

لقد تم تقسيم منهاج السنة الأولى بكالوريا إلى أربع مجزوءات أساسية، حيث يشترط في النماذج المختارة أن تكون ممتثلة لخصائص الفنون النثرية، ومبلورة للقضايا النقدية والأدبية ومساعدة على استيعابها بكل وضوح وجلاء. فموضوع المجزوءة الأولى: الشعر العربي القديم بين التعبير عن الذات والتعبير عن الجماعة. أما المجزوءة الثانية: الشعر العربي القديم ومظاهر التحولت، ثم المجزوءة الثالثة:  بنية النص النثري القديم ووظيفته. وأخيرا المجزوءة الرابعة: قضايا أدبية ونقدية، وتشمل نصوصا تجسد القضايا التالية: (عمود الشعر العربي، أغراض الشعر العربي، التخييل الشعري، اللفظ والمعنى، الطبع والصنعة، الموازنة بين الشعراء).

وقد تم تصنيف قضايا عمود الشعر، وأغراض الشعر، والتخييل الشعري، ضمن قضايا أدبية . بينما تم تصنيف قضايا" اللفظ والمعنى، والطبع والصنعة، والموازنة بين الشعراء، ضمن قضايا نقدية".

وقد اختيرت مجموعة من النصوص لدراسة هذه القضايا في "كتاب الممتاز في اللغة العربية": نص " عمود الشعر" للمرزوقي، المقتطف من مقدمته، شرح ديوان الحماسة. ثم نص الأغراض الشعرية لحازم القرطجاني. إضافة إلى نص التخييل الشعري لابن سينا.أما في كتاب النجاح في اللغة العربية فنجد النصوص الآتية: نص " أبواب الشعر" للمرزوقي. ثم نص "أغراض القصيدة العربية "لأبي محمد عبد الله بن قتيبة ضمن كتابه "الشعر والشعراء". كذلك نص "الصدق و الكذب على التخييل"، لعبد القاهر الجرجاني،  المقتطف من كتابه أسرار البلاغة. بينما اختيرت للقضايا النقدية في كتاب النجاح في اللغة العربية، النصوص التالية: نص اللفظ و المعنى، لعبد القاهر الجرجاني، المقتطف من كتابه دلائل الإعجاز، ثم نص المطبوع والمصنوع، لابن رشيق القيراواني المقتطف من كتابه " العمدة في نقد الشعر". دون أن أنسى نص الموازنة بين الطائيين في الافتتاح بذكر الوقوف على الديار، من كتابه "الموازنة". أما في كتاب الممتاز في اللغة العربية، فنجد النصوص التالية:

نص اللفظ و المعنى، لعبد القاهر الجرجاني.، نص الطبعة والصنعة لابن قتيبة، نص الموازنة بين أبي تمام و البحتري، للأمدي. كما تم اعتماد مؤلف نقدي لعبد الفتاح كيليطو "الأدب والغرابة.

أما النص النقدي في كتاب الجذع المشترك لم تول له أهمية بالرغم من وجود نصوص نثرية وشعرية قديمة تناسب توظيفه للتعريف بها مثلا وبخصائصها، على الأقل توظيفه في نصوص قديمة نظرية، أو أقوال نظرية مثلا في التعبير والإنشاء، وبهذا يتم التمهيد لنصوص نقدية من بعد. فهذا المنهاج لم يهتم بالنص النقدي لا في نصوصه الأساسية، ولا في التقديم للنصوص الشعرية. فقد كانت هنالك إمكانية لإدراج النص النقدي في مجزوءة من مجزوءات هذا المنهاج، وهي مجزوءة الحجاج، خاصة أن نصوص هذه المجزوءة تعتمد على الحجاج والإقناع، وذلك باقتراح نص نقدي حجاجي حول قضية من القضايا التي اختلف بشأنها النقاد القدامى، مثل قضية اللفظ والمعنى، وذلك بشرط أن يكون النص مناسبا لمستوى المتعلم.

فمؤلفي هذا الكتاب لم يعملوا على إدراج المناهج النقدية داخل هذه السلسة، فقد اكتفوا بمجزوءة الحكي والحجاج والشعر العمودي، و ونعتبر هذا تقصيرا في حق هؤلاء التلاميذ.

بعد تكوين صورة عامة عن مسارات النقد وكيفية إدراجه في البرامج الدراسية  في السلك الثانوي التأهيلي، أتساءل عن ما مدى نجاعة توزيع النصوص المختارة التي ذكرناها سابقا؟.

للكتاب المدرسي أهمية كبيرة في العملية التعليمية التعلمية، وذلك بكونه "وسيلة ديداكتيكية منظمة لمحتوى مادة دراسية حددت موضوعاتها مسبقا انطلاقا من أغراض وأهداف معينة، حسب برنامج دراسي يلزم المدرس والمتعلم تطبيقه." فالكتاب المدرسي" ليس وسيلة فقط، بل هو جوهر العملية التعليمية التعلمية لكونه هو المحدد الأساسي للمعلومات التي ستدرس للتلاميذ كما وكيفا" .

أول ما سجلته من  ملاحظات في هذا الصدد تتعلق  بعدم إدراج النقد الأدبي في الجذع المشترك، أي السنة الأولى من السلك الثانوي التأهيلي، وهو ما ينتج في نهاية السنة متعلما غير قادر ولا يملك الاستعداد الكافي لتحليل نماذج النصوص النقدية في السنة الأولى بكالوريا، والتي كتبها نقاد بارزون في الساحة النقدية، فإذا كان هذا التغييب للنقد الأدبي في الجذع المشترك ،نظرا لأن مستوى التحصيل العلمي أو الاستعداد الإدراكي للمتعلم لا يسمح، فنصوص الأولى بكالوريا تضعف هذه الفرضية، لأن النصوص النقدية المختارة في السنة الأولى بكالوريا تتطلب متلقيا له دراية ومعرفة مسبقة بالنصوص النقدية العربية القديمة، وهذا الشرط للأسف لا يتوفر لا في التلميذ القادم من السنة الأولى من السلك الثانوي التأهيلي، ولا في تلميذ السنة الأولى بكالوريا الذي تراكمت عليه المجزوءات الثلاث، وما احتوت عليه من قضايا. وكل هذه القضايا التي تم طرحها في هذا المنهاج لم تراعي الفئة المستهدفة لأن النقد القديم يحتاج أولا إلى وقت طويل في عملية تدريسه، فالمتعلم هنا عليه أن يعرف المراحل الكبرى التي قطعها النقد  الأدبي خلال عصوره المختلفة، ومن جهة أخرى فهذه المواضيع في حاجة لقدرة التلميذ على التفكير النقدي.

وهذا صعب لأنه يحد من فاعلية تلقيه لمثل هذه النصوص، فالتلميذ لم يصل بعد إلى الحد الذي يتوفر فيه على أدوات تساعده على فهم وسبر أغوار هذه النصوص.

والسبب الرئيسي هنا يعود بالدرجة الأولى إلى طبيعة الموضوع النقدي من ناحية، وطبيعة النصوص المختارة الموجهة لهذه الفئة من التلاميذ من ناحية أخرى. كما أن التقسيم الذي تم اعتماده في هذا المنهاج لا يبدو مقنعا، لأن العناوين المدرجة ضمن ما اصطلح عليه ب"قضايا أدبية" وهي قضايا نقدية أيضا، بغض النظر عن ذلك فالمتأمل لهذه النصوص، يلاحظ أنه تم حذف فقرات مهمة من النصوص الأصلية، وتم التصرف فيها، ما يؤكد عدم مراعاة شروط النقل الديداكتيكي، وعدم المحافظة على وحدة النص النقدي وتماسكه، ومن زاوية أخرى فالطابع الطاغي في الكتاب المدرسي الخاص بالسنة الأولى بكالوريا هو طابع تكريس المعلومات، وشحن ذهن التلميذ بالمعارف الجاهزة، دون أن تترك له الفرصة لتنمية طاقاته وممارساته النقدية والتحليلية التي من الممكن أن تفتح أمامه فرصة للتفاعل مع النص الأدبي.

ولعل هذه الملاحظات المسجلة في مكون النصوص تنطبق على مكون المؤلفات أيضا، فيمكننا مناقشة كتاب "الأدب والغرابة" الموضوع في السنة أولى بكالوريا  الذي لم يكن اختياره صائبا، ولا متوافقا مع أفق انتظارات المتعلمين، ففي هذا المؤلف النقدي يشرح ويبسط عبد الفتاح كيليطو آراءه الدقيقة حول الأدب، والنوع الأدبي، وتصنيف الأنواع وشرحها وتوضيحها شرحا تاما، وبحث في تاريخ الشاعر وفي البلاغة، وغيرها من المفاهيم الإشكالية، إضافة إلى تقديمه تحليلات تأويلية طريفة لنصوص من التراث القديم.

والمؤكد أن الهدف من كتاب كيليطو هو تثبيت المعرفة النقدية، أما بالنسبة لقارئ هذا المؤلف فوجب أن تتوفر فيه مجموعة من الصفات لكي يفهم ما يرمي إليه المؤلف، منها توفره على ذاكرة معرفية غنية، لكي يكون قادرا على مواكبة ما يقدم له من معرفة نقدية. ولعل هذا الشرط لا يتوفر إلا في القارئ المتخصص، الذي له تجربة كبيرة في قراءة كتب النقد والأدب وغيرها من العلوم والمعارف الإنسانية العامة. لكن هل يجدر بنا إقراء هذا الكتاب لمتعلمين لم يسبق لهم أن اطلعوا على أي كتاب نقدي في تجربتهم القرائية؟ فالإجابة واضحة جدا. وهي أن هذا الاختيار كان غير صائب بحكم معارضته للمبادئ التربوية، التي تؤكد على مراعاة التوافق بين المعرفة وسياق التعلم ومستوى المتعلم.

ومن الجدير بالذكر أن هذه الاختيارات غير الصائبة تحول دون تحفيز وتشجيع التلاميذ على القراءة والمطالعة التي يعاني سياقنا التعليمي من النقص فيها، ذلك أن المتعلم في حاجة ماسة إلى معرفة أفكار يفهمها وتتناسب مع قدرته الاستيعابية والمعرفية، وإذا فرضت عليه مثل هذه المؤلفات التي لا يفهمها يهجر قراءتها، ويستعين بالكتب الموازية لمجاراة أنشطة الفصل عبر التلخيصات والأعمال الجاهزة على الشبكة الإلكترونية.

وبخلاف ما يتوفر في برامج الأولى بكالوريا، تبدو الدروس النقدية المقررة بالسنة الثانية بكالوريا، ملائمة لسياق التعلم، وذلك عائد  حسب وجهة نظرنا إلى الارتباط الوثيق بين النصوص النقدية والإبداعية، فقبل أن يشرع المتعلم  في سبر أغوار خطاب من الخطابات الإبداعية، يطلع على نص نقدي /نظري يقدم ذلك الخطاب ويعرف به ويبين خصائصه ومقوماته. وهذا يتكرر مع ستة  خطابات  إبداعية في الكتاب المدرسي "الخطاب الشعري الإحيائي، الاتجاه العربي الرومانسي، تكسير البنية الشعرية، القصة القصيرة، المسرحية"، كما هو الحال في الخطابين النقديين الأخيرين "المنهج البنيوي والاجتماعي" يتعرف المتعلم على نصين نظريين يقدمان المنهجين المقررين قبل الانتقال إلى تطبيقهما على نصوص أدبية، ولعل النقطة الإيجابية في هذا الترابط بين النقد وموضوعه، تتحدد في تقييد النص النقدي بموضوعه الأساسي وتوضيح وظائفه في صورة عملية تطبيقية في المقام الأول. ناهيك عن التكامل بين محتويات المؤلف النقدي "ظاهرة الشعر الحديث" ومحتويات الدروس الشعرية في مكون النصوص، فمن خلال تظافرهما المعرفي والمنهجي، تتكون الصورة العامة للتحولات التي عرفها الشعر الحديث سواء على مستوى السياق أو البنية أو الموضوع. وأخيرا تم اختيار نصوص ملائمة في عمومها في مستويات اللغة والبناء وطريقة التقديم. لكن ما يؤاخذ على هذا المنهاج هو الحيز (داخل الكتاب/ المقرر) الذي وضعت فيه المناهج النقدية، باعتبارها مناهج جد مهمة وسيمتحن فيها تلاميذ السنة الثانية بكالوريا.

وما ينبغي التأكيد عليه في هذا المبحث أن اختيار نصوص النقد بما فيها المؤلفات وكيفية إدراجها وتوزيعها في الكتب المدرسية، هما عمليتان تخضعان لرؤية قائمة على مستوى المتعلمين وتحصيلهم الدراسي، واستعدادهم للتلقي المعرفي والمنهجي، هذا بالإضافة إلى ضرورة الانتباه إلى التكامل مع المكونات الدراسية داخل مادة اللغة العربية ككل من جهة أولى، ومن جهة ثانية ضرورة الانتباه إلى التناسق المرحلي المتدرج في المعرفة النقدية المقدمة إلى المتعلم من جهة ثانية.

إذن هذه من أهم الأسباب الكامنة وراء نفور التلاميذ من النصوص النقدية، فالنصوص النقدية لا تراعي أفق انتظار التلاميذ في عملية التلقي  والتقبل، فإن قمنا بوصف عام للمناهج النقدية، والوقوف على ما تم تقديمه في المنهاج الدراسي من قبل المؤلفين من نصوص نظرية وأخرى تطبيقية، فإنّ أول ما يمكن ملاحظته هو الحيز المكاني الذي وضعت فيه هذه المناهج، حيث ساهم هذا الحيز بطريقة غير مباشرة في عدم تفاعل التلاميذ معها، خاصة وأن تلاميذ السنة الثانية بكالوريا مطالبين بامتحان وطني، لذا فهم يغادرون المؤسسات التربوية قبل إنهاء المقررات الدراسية، نظرا لكثرة الدروس مقارنة مع عدد الحصص، وإن تم إنهاء المقرر يتم بسرعة دون فهم أغلب التلاميذ لهذه المناهج ودون الوقوف على تعثرات التلاميذ فيها. من الممكن أن نقترح هنا أن يعتمد المتعلم على نفسه في البيت ويتمم المقرر، لكنه لا يمتلك ما يكفي من الكفايات التواصلية التي ستساعده على فهم وشرح وتحليل هذه النصوص بشكل فردي.

أما بخصوص الطريقة التي قدمت بها هذه المناهج فكان من الأفضل تقديم المنهج البنيوي على المنهج الاجتماعي، خاصة وأن المتعلم يجد صعوبة في فهم هذه المناهج وخاصة المنهج البنيوي لأنه لا يكشف عن كل ما بداخله، بل وجب على المتعلم أن يقوم بالكشف عن أسراره.

أما بخصوص نصوص المنهج الاجتماعي كما هو معلوم، فهذا المنهج انبثق من رحم المنهج التاريخي فالسؤال المطروح هنا إلى مؤلفي الكتاب المدرسي، بما أن التعريف الذي تم تقديمه في الكتاب المدرسي للمنهج الاجتماعي يوضح العلاقة بين المنهجين فلماذا تم فصل المنهج التاريخي عن المنهج الاجتماعي، ولم يتم دمجهما معا، ففي الممتاز على سبيل المثال تم وضع عنوان عريض للمنهج الاجتماعي، ما يعني أن نجد نصوصا تجاوز بين الاثنين والتي تدل على عدم الاختيار الصحيح للنصوص.

أما فيما يخص التمهيد الذي وضع في الكتاب المدرسي بمثابة إطار عام للتعريف  بالمناهج، فلم يتم فيها شرح بعض المصطلحات النقدية التي سيجد التلميذ صعوبة في فهمها. فالتمهيد هو اللبنة الأولى التي سيبني فيها التلميذ معارفه بخصوص هذه المناهج، أي ليست لديه معرفة مسبقة بها، والتمهيد هو المنطلق الأساسي الذي سيستطيع التلميذ أن يبني من خلاله أرضية معرفية للتفاعل مع النصوص المقررة داخل المنهاج الدراسي.

من وجهة نظري فالنصوص المقررة في الكتاب الدراسي الخاص بالسنة الثانية بكالوريا، هي نصوص تدرس بطريقة سكونية تقدم المعارف الجاهزة للتلميذ، وذلك كله من خلال التعريف بالكاتب وحياته وبمؤلفاته، انتقالا إلى الشرح اللغوي أي شرح الكلمات الصعبة، وصولا إلى القراءة المنهجية بمختلف مراحلها، وهذه الطريقة وإن كانت تدل على شيء فهي تدل على تلك المعارف التي وجب على التلميذ أن يكون على دراية بها، ما يمكن التلميذ من الحصول على كل شيء دون أي مجهود وفي نفس الآن لا يحصل على شيء. في حين أن إشراك التلميذ في العملية التعليمية لبناء تعلماته مهم جدا، وأول ما يشترط في هذه العملية هو أن يقرأ التلميذ تلك النصوص الأدبية قراءة منهجية وتحليلها وفهمها، باعتباره هو محور أساسي وطرف رئيسي في العملية التعليمية التعلمية، وليس مجرد مستهلك ومتفرج سلبي.

أنسل من هذا المنعطف وأحاول اقتراح حلول تم استنتاجها مما سبق؛  فتطوير وتجويد الممارسة الصفية يرتبط بالمدرس، المدرس/ة له الدور الأكبر  في نجاح تدريس النص النقدي، فهو وحده الذي يستطيع بتجربته وخبرته وممارسته للمهنة، أن يعالج الثغرات والتعثرات الحاصلة في اختيار النصوص المقررة، وكذلك اختيار الطريقة والمنهجية المناسبة من أجل نقل ديداكتيكي فعال لهذه النصوص هذا من جهة، ومن جهة أخرى دور المدرّس/ة يتضح جليا في تحفيز المتعلمين وتشجيعهم على تلقي هذا النوع من النصوص، عن طريق تشويقهم إلى أهميتها ووظيفتها في إضاءة النصوص الإبداعية. كما أن دوره يتضح أيضا في قدرته الخاصة على الربط بين المجزوءات، ووضع المتعلمين  في سياق النص وربط هذا النص بعلاقاته مع النصوص الأخرى.

هذا دون أن أنسى التدرج في وضع النصوص النقدية في الكتاب المدرسي والتمهيد لها منذ السنة الأولى من السلك الثانوي التأهيلي. وذلك عن طريق إضاءة النصوص الشعرية والنثرية بنصوص نقدية في بداية كل مجزوءة تعرف بها، أو أقوال نقدية لبعض النقاد في مرحلة القراءة المنهجية، أو أنشطة التقويم. كما أشير إلى اختيار نصوص نقدية ملائمة للفئة المستهدفة ولمستوياتهم المعرفية، وعدم التصرف في النصوص المختارة بشكل يخل بتماسك أفكارها ووحدتها. وإن كان من الضروري التصرف فيها فينبغي أن يكون هذا الأخير لأهداف تربوية وبيداغوجية.

كما يجب الحرص على الربط بين النصوص النظرية النقدية والنصوص الإبداعية، حتى يدرك المتعلم أن الهدف من النصوص النقدية هو التعريف بالنصوص الإبداعية وتقويمها والكشف عن عناصرها الفنية ومقوماتها. ثم مراعاة الترابط والتكامل بين المجزوءات والوحدات، وذلك بأن تكون النصوص النقدية تعالج قضايا تنسجم مع النصوص الإبداعية في منهاج السنة الأولى بكالوريا من سلك الثانوي التأهيلي، كما هو الحال في منهاج السنة الثانية بكالوريا من شعب الآداب والعلوم الإنسانية. إضافة إلى  النقل الديداكتيكي للنصوص الذي يجب أن يكون  ملائما، وذلك بنقل النص من سياقه النقدي الأدبي، إلى سياقه التعليمي مسطرا في ذلك مجموعة من الأهداف الواضحة ومراعيا في ذلك المستوى المعرفي للمتعلمين، معتمدا طرقا ومنهجيات واضحة تمكن المتعلم من أن يتعلم ما ينبغي أن يتعلمه، من أجل بلوغ الأهداف المرجوة والوصول إلى الكفايات الموضوعة .

***

من إنجاز الأستاذ: لوطة فؤاد

تنهمك الدول النامية وغالبية دول العالم الثالث بوضع خطط للتنمية في بلدانها سواءً أكانت غنية أو فقيرة في مواردها، ورغم أن بعضها حقق نجاحات عمودية في مجالات التصنيع أو الزراعة إلا أن غالبيتها أغفلت جوانباً غاية في الأهمية تلك التي تتعلق بنوعية الإنسان وأدائه الإنتاجي والاجتماعي والسياسي ودوره في عملية التطور النوعي للبلاد في مختلف القطاعات. وباستثناء مراكز المدن المهمة التي تتكثف  فيها الأنشطة الثقافية والسياسية والجامعية، فإن غالبية ما حولها من بلدات وقرى وتجمعات بشرية تعاني من إشكاليات معقدة في نظامها ووضعها الاجتماعي والوطني وما تمتلكه من ثقافة وتعليم، ناهيك عن ارتفاع مخيف في نسبة الأمية الأبجدية والحضارية رغم التقدم الهائل في وسائل التواصل والإنترنت، إذ ما يزال إهمال الدولة والإرث الاجتماعي الثقيل متكلساً في السلوك والعادات والتقاليد المرتبطة منها بالأديان والمذاهب أو بالأعراف الاجتماعية، ناهيك عما تفعله الأميّة والبطالة والفقر المدقع في تشويه وإلغاء مفهوم جامع للمواطنة والانتماء الموحد للوطن، حيث يُذيب الفقر وتدني المستويات المعيشية وانعدام العدالة كل هذه المفاهيم في المواطنة والانتماء والولاء بل يلغيها لصالح مفاهيم وتركيبات أخرى لا علاقة لها بالوطن والأمة.

إن عملية التحول للنظام الديمقراطي ليست قراراً تتخذه هيئة عليا في البلاد أو يتضمنه دستور دائم، بقدر ما هي نهج تربوي وسلوك اجتماعي، وليست ممارسات سطحية لا علاقة لها البتة بالفكر والنظام الديمقراطي، بل إن ما نشهده اليوم في بلداننا لا يتجاوز كونه ديمقراطيات فوقية تحاول اختزال هذا الفكر والنظام بعملية تبادل مواقع السلطة عن طريق الانتخابات التي تخضع لذات الأدوات التي استخدمتها النظم الشمولية في الشرق الأوسط والعالم الثالث في مجتمعات تعاني من ضعف في التعليم وأميّة بأشكالها المتنوعة تسود قطاعات واسعة من الأهالي في المدن وبشكل أوسع في الأرياف، وهي التي تنتج حينما تجتمع جميعها أمية وطنية.

ولا شك بأن هناك عاملين مهمين يعملان على إضعاف واضمحلال الثقافة الوطنية التي هي القاعدة الأساسية للنظام الديمقراطي؛ هذين العاملين يستخدمان كأدوات وسلالم لتسلق السلطة، وهما الشحن الديني أو المذهبي أو التكثيف العشائري، وفي الحالتين يتم مسخ النظام الديمقراطي وإضاعة فرصة لبلورة مفهوم جامع للمواطنة خاصة في البلدان متعددة المكونات العرقية والقومية والدينية والمذهبية، حيث تتلاشى فكرة المواطنة أمام الجهالة والضبابية في مفهومها الذي يُقزم البلاد ويختزلها في عرق أو قومية أو دين أو مذهب أو قبيلة أو فرد، وهي برأيي واحدة من امتدادات البداوة وتراكم التخلف والتجهيل المتعمد من قبل معظم الأنظمة التي تسلّطت على البلاد، وذلك من خلال عمليات غسل الأدمغة وتسطيح العقول الذي تعرض له المواطن طيلة عشرات السنين خاصةً في العراق منذ قيام مملكته مطلع القرن الماضي وحتى تقزّيمها في حزب أو عرق أو دين أو مذهب؟

إن ما يواجه العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان ومن ماثلهم في التكوين السياسي والاجتماعي اليوم ليس إرهاباً منظماً وتدخلات مخابراتية وسياسية أجنبية بقدر ما هو هذه الحاضنات الأمية والعقلية المسطحة التي أصبحت بيئة صالحة لانتشار الفساد والعصابات والميليشيات وأفواج من الإرهابيين والقتلة وتجار السياسة والمخدرات، تحت خيمة الولاء الديني والمذهبي والعنصري خارج أي مفهوم للانتماء الوطني الجامع خاصة في بلدان تعج فيها المكونات العرقية والقومية والدينية والمذهبية.

بلداننا اليوم بأمس الحاجة إلى تنمية الإنسان وتأهيله وطنياً أكثر من حاجتها الى تنمية في مجالات أخرى، لأن تنميته وتأهيله هي القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها كل تنمويات البلد، وبدونها لا يكتمل إعمار ولا تصنيع ولا إنتاج، إنها حقاً عملية إعادة تأهيل مجتمعاتنا بدءاً من رياض الأطفال وصعوداً حتى البرلمان!

***

كفاح محمود

سُئل قائد الهند العظيم المهاتما غاندي ما هي أحسن لحظة عشتها في حياتك ؟ فأجاب هي اليوم، أما اذا سئلت العربي والمسلم نفس السؤال يقول لك: هي عصر الاسلام الذهبي، عصر الخلفاء الراشدين، والأمويين، والعباسيين، فالماضي محفور في مخيلته حاجزا عنه صيرورة التاريخ، هكذا علمه منهج الدراسة. فحين يسود عصر الفقه الوهمي يختفي الوعي ليحل محله عصر الفوضى والجهل والتدمير، وهذا هو تاريخنا الاسلاي المكتوب.

وحين يسئلون عن عهد الخيانة للسياسيين الحاكمين عند المسلمين اليوم، نقول لهم منذ وفاة صاحب الدعوة، هذه حقائق التاريخ على المؤرخ ان يعترف بها امانة للتاريخ، فالوطن والانسان ينادي المؤرخ ضرورة الاعتراف بحقيقة فساد قلم المؤرخ والفقيه بعد ان دمرنا تاريخ السلطة ورجل الدين، وحولنا الى أكذوبة التاريخ، فالسلطة لهم والمال سائب لا مالك له في الوطن، انهبوه كيفما شئتم وهذا ما حصل ويحصل اليوم في وطن العراقيين دون قانون، أرث قديم حفره فكر التراثيين فينا وحسبناه دين.هنا يبرز دورالمنهج الأخلاقي في صحوة الوعي العقلي للتغيير، فأين المنهج الجديد، ؟

واليوم تظهر أول بادرة حضارية في عهد المسلمين حين ينبري الامير السعودي الشاب محمد بن سلمان ليقضي على اسطورة البخاري والتوجه نحو الاسلام الصحيح اسلام الحرية الحقيقية والدولة المدنية الدستورية، حاكم شاب يؤمن بالحداثة ويلغي من فكره التخلف والتخريف، لتنتهي الى الابد نظرية:"اعتزل الفتنة وصلي خلف الغالب" لأنهاء صحيح البخاري كذبة التاريخ، ونأمل ان يتوسع العمل لنكتب لنا تاريخ جديد قائم على الحق والعدل لا على باطل فقهاء الدين، فمتى نعرف خطي القوة والضعف عند المسلمين ونميز بينهما.

للضعف أصول، وللقوة أصول،

اصول الضعف ظهر مباشرة بعد وفاة صاحب الدعوة، وبدء التعامل مع الواقع الجديد حيث أصبح النص الديني لا يشكل المعيار الوحيد للسلوك السياسي، حين ظهرت العصبية التي تحيط بالحاكم، فبدء التزييف للتاريخ بما يناسب حاجة الحاكم المطاع، وبالتدريج اصبح الفقه خادم للسلطة فبدأ نظريات التبرير، حتى اصبح الحاكم الظالم وفق التنظير الجديد أفضل من انعدامه، فبدأت مظاهر هذا الاتجاه تبرز للعيان كقائد، فقلت جهة مابين الحياد وصاحب السلطة التي لجأ اليها كل متردد وضعيف.

والمظهر الثاني للضعف هوظهور تيار الارجاء، الذي كان نموذجا لخط الضعف وضياع الحق بالتقادم بعدان تم الوقوف مع صاحب الشوكة والاستسلام للمنتصر وان كان ظالماً.وظل النص يفسر لصالح صاحب السلطة، من هنا ولكي تستمر حالة الضعف أبتكروا نظرية أيقاف الاجتهاد وتقريب علماء الجبر وتشجيع فكرة القدر، اي ان ما حصل ويحصل مربوط بقضاء الله ولادخل للانسان فيه.:"وما تشاؤون الا ان يشاء الله، وهنا اصبح لا يصح انينسب الفعل الى فاعل غير مختار.

مثل هذا التوجه في العصر البويهي "334هج" الكليني صاحب كتاب الكافي والشيخ المفيد في كتابه الارشاد والطوسي في كتابه الاستبصاروكان تمهيدا لظهور علم الاصول ونمو حركة الاستنباط الفكري.بغيةالابتعاد عن عصر النصوص املا في الانفراج الذي اعتبروه تحديا علميا وفكريا لنظرية المذاهب وتشجيع علم الغيبة أملا بابعاد شرعية الخلافة العباسية واحلا التوجه العلوي.والهدف سياسي بحت لا ديني، وفي عهد كاظم اليزدي الذي مثل سلوك الضعف والطاعة للسلطة والتهاون مع الاحتلال البريطاني للعراق عام 1918 وطرد العثمانيين من العراق.

وهكذا فشل الفقهاء من نقل المبادىء الدينية الى تشريعات مطبقة.

ثم جاء العصر السلجوقي "450هج"الذي مهد لعصر الاستبداد والطاعة متمثلا بالماوردي" 450هج" حين اسس لنظريةاهل الحل والعقد الذين يضعون على البيعة واجب الطاعة والنصرة، والغزالي"ت505هج" ونظريتهالاعتراف بالسلطة القائمة لأن البديل هي الفوضى حتى لو كانت الخلافة غير مستوفية لشروط العقد وعدم محاربة استقرار الظلم والباطل وجاء من بعدهم ابن تيمية "ت728 هج" الذي اجاز فصل الدين عن الدولة يعني الفوضى".هؤلاء كلهم اسسوا لنظرية الفقيه السلطوية الدكتاتورية دون الشرعية.

وهكذا فشل الفقه وسلطتهم الجائرة من تحويل المبادي الدينية الى تشريعات مطبقة حتى استبد الضعف بالشعب حين جعلوا من الغنيمة بديلا للسيف، ومن المداورة بديلا للسياسة , ومن التبعية بديلاعن المشاركة.

ان أخفاء الوثيقة النبوية الدستورية طَمس التشريع في عهد الامويين والعباسيين لتعارضه مع حكم الغاصبين."فجاء الحكم العضوض" الذي يتداوله الحالكم الدكتاتوركما اسلفنا، فلم يعد قانون الشورى له مكانة الاحترام و التثبيت، فقامت الدولة على السيف والغاصبين والمُغتصبين، فكيف نطلب من سلطة الباطل اليوم تغييرحقوق الاجيال القادمة وهم بالقانون لا يؤمنون وبرسالة محمد لا يعترفون، وعن عصر التيقن بعيدين،؟.

هكذا ظهرت سلطة الاسلام التي يتباهون بها الفقهاء اليوم، سلطة بلا دستور ولا قانون، ولا حتى اخلاقية الحكم، فعن اي اسلام يتحدثون اليوم، اسلام مرجعيات الشيعة ام السُنة المبتدعة من الفقهاء دون تأويل، أم الداعشيين.

من هنا توقفت الدعوة الدينية ولم يعد لها من تأثير مباشر في التغيير، بل ظلت كعقيدة دينية مقدسة يفتي فيها الفقيه دون تأصيل.؟ أدخلت المنهج الدراسي واصبحت عند الطالب حقيقة دون تأصيل.حتى مات فينا اي أمل في التغيير.وها كما ترون اليوم كيف يتحكم الجاهل والعدو في حياة العراقيين.

وبهذا التاريخ المظلم الذي بنيناه فقدنا العقلانية الاخلاقية والدستورية والعلمية، وحقوق الانسان، فسمينا عصرنا بالعصر الاسلامي الذهبي، وان الاسلام هو الحل، "ولا ندري أي حل يقصدون، حل فقدان القانون، أم حل جز الرقاب، أو وما ملكت أيمانكم بأهانة المرأة وبيعها سلعة في سوق الاربعاء وتقديمها هدايا بين المتنفذين.

فحلت صناعة المؤمن الجاهل، بدلامن صناعة المواطن المخلص (أنظر تخريب التعليم)، وصناعة السيف، بدلا من صناعة القانون (انظر صناعة قتل العلماء والمفكرين، حين ادركوا ان أمتزاج الدين بالسياسة ينتج عنهما الأستبداد الكبير وخضوع الشعب بالترهيب. وهذا هو هدفهم في تفريق الحقوق ولا غير، كما نراه اليوم في سلطة الحاليين الذين حولوا الدولة الى عملية سياسية لأماتة مفهوم الدولة دون قانون، ومن أمثالهم كثير، حتى اصبح المواطن يعامل على اللقب والاسم والقبيلة،

على الكتاب والمؤلفين ان يبحثوا لنا بجدية البحث العلمي الرصين لا ان يجتروا في كتاباتهم واطاريحهم الجامعية والقصص اليومية والشعر الحديث، التراث الميت القديم، اذن لماذا نحن متخلفون عن بقية العالم الى اليوم حتى في الحقوق والواجبات.لكننا شطار حين نرفع شعار، الأسلام هو الحل" ولا ندري أي اسلام يقصدون، ؟ اسلام قيادات الشيعة اوالسُنة الفاسدين، ام داعش الاجرام، أم قتلة العلماء والمفكرين، قللوا ايها المثقفون من كتابات واطاريح التراث واتجهوا نحو حقيقة التغيير.مسئولية وطنية تقع على عاتق اساتذة الجامعات اليوم بالذات بعد ان اصبحت قيادات التعليم العالي تحتلها اللاكفاءات في التنفيذ من اصحاب شهادات التزوير.

ليس امامنا اليوم الا ما جاءت به الوصايا العشرلكتب السماء في كل الديانات في العدل والحرية والحقوق، "الأمن والأمان والأطمئنان والكفاية والعدل " لترفع عنا: نظرية الخوف، والهزيمة امام التجربة الاسلامية الفاشلة، ويرفع عنا اليأس والحزن والضعف من الفشل الروحي الكبير،؟ ولا يتم هذا الا بتغيير الرأي الفقهي الخاطىء الى علم تقني صحيح.

نعم، نحن نمر اليوم بمرحلة الجهل المطبق الذي خلفته لنا مؤسسة الدين منذ البداية ودكتاتوريتها الباطلة في التنفيد، التي فرقت المجتمع الى فرق واحزاب متناحرة 73 فرقة في النار الا واحدة ولا ندري من اين جاءت بالغيب الواحدة، والغيب محدد برب العالمين، احاديث مزورة أخذتها من مسلم والبخاري وبحار الانوار (أفة الاسلام الصحيح) وابن ماجة والاخرين المزورين فاضعفت الرابطة الانسانية والاحتياجات الاجتماعية والمالية فحل التذمر بدلا من الاخوة والوئام، والظلم بدلا من العدل، والخوف الدائم بدلا من الأمان، والسيف بدلا من القانون، والتخلي عن المُثل والقيم بدلا من الصدق واستقامة الصادقين.؟

ايها الناكثون للزمن والتاريخ، كنا نامل من التغييرالجديد حياة حرة كريمة سعيدة لحياة المشردين لا ان تحكمنا زمر الخيانة والفساد وقتل المخلصين.

ايها الحاكمون الباطلون: ان اوجه النفاق عندكم تتفاوت اليوم من نفاق اجتماعي الى سياسي ال ديني الى اخلاقي.حتى تلاحمت الاوجه كلها عندكم فلم نعد نفرق بينها فيكم، اصبحتم مزيجا مأساويا من مثالب تنخرسمومها في مجتمعاتنا البائسة، فتحولت الدولة الى عملية سياسية لصيقة بالخائنين، تتباهون بالسرقة و نظريات التفليش"مع التافهين.فلم يعد الاصلاح ينفع معكم الا بأجتثاثكم كما يجتث الفساد من عروقه مع الفاسدين، فمثلكم تعايش مع الباطل لا يعرف حقوق القانون، فأبقوا في المظالم سادرين، فحسابكم غداً عسير،

خذوا الثراء لكم ايها الفاسدون، وأعطونا الوطن، نحن ثراؤنا بمحبة الوطن والاخلاص له رصين، بالحب الصادق مع الاخرين الذين يحبون انسانية الانسان مؤمنين، سيبقى الوطن ثراؤنا وستبقون انتم في مذلة التاريخ.

حتى الطيور اصبحت لا تغرد في بلادي من جراء الفساد، بل تتذمروتزغزغ باصواتها تنادي بأزاحة الغمة عنها وعن الناس اجمعين، حتى اصبحت قصص القرآن الكريم التي نرددها، كل يوم

قديمة، تحتاج، الى تجديد،

***

د.عبد الجبار العبيدي

قالَ اللهُ تعالى: ﴿إِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾ [المنافقون: 4].

إنّ السُلوكَ الإنساني وما يُظهره من أفعالٍ، أو يُضمره من خَلَجات في نفسه، إنَّما هو في حقيقتهِ انعكاسٌ لطهارةِ النَّفسِ وَصَفائِها، أو إِتِّساخها وَتَكَدّرها. فالنَّفسُ إذا ما تَزَكّت وَصَلُحَت وَطَهُرت صَلَحَ بها السّلُوك وَسارَ بها الإنسان آمناً مُطمَئناً على المَحَجّة البَيضاء نَحوَ الخَير والصّلاح، وإنْ هِيَ تَشَبَّعت بالأوهام وفَسَدَت بالآثام وخضعت للغرائز الدنوية، كالأنا والغُرور وطَلَب الزّعامة والسلطة، فَإنَّ منسوبَ النّفاق والدَّجل حينها سيرتفع، وستتّسع معه الهُوَّة والتّناقض بين الظّاهر والباطن.

فالنّفاقُ أشدّ المصائب ضَراوة وأعظمها فتكاً بالإنسان، فحالَة الصّراع الداخلي التي يعيشها المُنافق هي خُلاصة الفراغ في مخزونه الرّوحي. والمنافقون هُم أهلُ الغِشّ والخِداع، مَنهَجُهُم قَلب الحَقّائق وتزييفها؛ يَسْتَميلون النّاس فَيَخدعونهم بِحَلاوة اللّسان وَلِباسَ الإيمان؛ يُظهِرُونَ خلافَ ما يضمرون؛ يُبعّدون القريب ويُقرّبون البعيد؛ يُطنطنون بكلمات الحَقّ ويكتمون الباطل؛ يستعينون بلباسِ الرّهبان وحلاوة البيان، ليخدعوا به الجهّال باسم الدين والقرآن. رويَ عن أميرِ المُؤمنين عَليّ (عَلَيهِ السّلامُ) أنَّه قال: " ولَقَدْ قَالَ لِي رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ إِنِّي لاَ أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِناً ولاَ مُشْرِكاً أَمَّا اَلْمُؤْمِنُ فَيَمْنَعُهُ اَللَّهُ بِإِيمَانِهِ وأَمَّا اَلْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ اَللَّهُ بِشِرْكِهِ ولَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنَافِقِ اَلْجَنَانِ عَالِمِ اَللِّسَانِ يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ ويَفْعَلُ مَا تُنْكِرُونَ ."1

فهؤلاء لا يفتأون يتجرَّؤون على اللهِ تعالى، وَمَا عَلِموا أنّه تَبارَك وتعالى خادِعُهُم، وأنَّهم لا مَحال سيسقطونَ في مستنقع مَكرِهِم، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 142].

إنَّهم لا يذكرون اللهَ تعالى إلا رياءً، ولا يَعبدوه إلا طَمَعًا؛ دَأْبهم التّضلِيل وَلأحكامِ الله وَشرعِه التّعطيل، فَكانَ جَزاءهم أنْ أعقَبَهُم اللهُ نفاقاً في قُلُوبِهِم، قال تعالى: ﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [التوبة: 77]. فَهُم كالأنعام يَهيمُون، وفي حَيرَةٍ يترددون، هَمّهم عَلَفهم، وشغلهم شهواته، وغايتهم رغباتهم.

يكفرون بقارونَ في العَلَنِ وَيَسيرونَ على نَهجهِ في السرّ، يهرولون كالجياع نحو المكاسب الدنيويّة والمغانِمَ الشيطانيّة، وقد مُلئَت بطونهم من المالِ الحرام، حتى قَبَعوا أذلّاءَ خاسِئينَ خَلفَ قُضبانِ سِجنِ الهَوى والنَزوات الحيوانيّة، فانسَلَخوا عَن آدَمِيَّتهم لِيَعيشوا تَثاقلاً ونفوراً عَن كُلّ ما يُقَرّبهم إلى الله تعالى، ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 23].

إنَّ التحرّرَ مِن عبوديّة الدُنيا، والخروج مِن مَحدوديّة الأَنا، والسَّير نَحو فضاء الصدق والاخلاص يستدعي إستنهاضاً كبيراً للنّفس لِكَي تُلامِس روحَ وَجَوهرَ العِبادة، وَتبتَعِدَ عَنِ النّفاق والخداع، فحينها فقط سَتَطهَر من جميع العلائق، وتَعبر مَجتازة جميع الحواجز والعوائق، وتسير بثبات واطمئنان لِتَصِل إلى محلّ التّطابق والتّكامل بَين الظاهر والباطن؛ حتى يختفي النفاق، وَتُحلّق الأرواح لتبلغ درجة من الكّمال والرقيّ، فَتَكون بذلك تجلياتٍ لأسماء الله تعالى وصفاته.

أن المُتابع الدقيق والقارئ للأحداث بِتَمعُّنٍ وإنْصاف يَجِدُ بين الفَيْنة والأخرى ظهور أفكارٍ ونظريات من رَحِمِ تَيّارات وأحزاب ثَبُتَ نفاقها وأنحرافها، فَقَد كانَت تَغْرُزُ أنْيابها لِتَشُلّ العُقُول بِشِعاراتٍ ظاهِرُها مُقَدّس وباطِنُه سُمٌّ زُعاف، وَلِتَسير بالأمّة نَحوَ المَزيد من التَشَظّي والانقسام والإبتعاد عَن جَوْهَر الدّين، وعَن حَقيقتة الإلهية كما أراده اللهُ تعالى وأمَرَ به، وَهذا لَعُمْري أعْظَم أنواع الفِتَن وأشَدُّه فَتْكاً بِجَسَدِ الأمّة.

أورَدَ الشيخ الكليني في الكافي عن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ اَلنَّوْفَلِيِّ عَنِ اَلسَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قَالَ قَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ : " سَيَأْتِي عَلَى اَلنَّاسِ زَمَانٌ لاَ يَبْقَى مِنَ اَلْقُرْآنِ إِلاَّ رَسْمُهُ ومِنَ اَلْإِسْلاَمِ إِلاَّ اِسْمُهُ يُسَمَّوْنَ بِهِ وهُمْ أَبْعَدُ اَلنَّاسِ مِنْهُ مَسَاجِدُهُمْ عَامِرَةٌ وهِيَ خَرَابٌ مِنَ اَلْهُدَى فُقَهَاءُ ذَلِكَ اَلزَّمَانِ شَرُّ فُقَهَاءَ تَحْتَ ظِلِّ اَلسَّمَاءِ مِنْهُمْ خَرَجَتِ اَلْفِتْنَةُ وإِلَيْهِمْ تَعُودُ ."2

إنَّ مراتب الإيمان تستدعي حالة التلازم بين الظاهر والباطن، وتستلزم في القلوب التي مُلأت إيمانًا أن يكون لها أعمالًا ظاهريّة تطفح عن ذلك الإيمان، وأما إذا رأيت الإنسانَ يتصنّع في قوله ومشيته وحركاته وقد انغمس في الشهوات والملذّات الحيوانية، والحياة القارونية، فأعلَم أنّ النفاق قرينه، فالإيمان لا يُقيمه التصنّع في الشّكل والمَظهر، إنّما التدبّر في الأركان والإمعان في الجّوهر. فالمؤمنُ الصادق همّه طَيّ المَراتب نحو مقام القُرب؛ لِيَتّخذ من الدنيا ممراً نَحوَ الآخرة، يرتشف ماء الحياة من نَبع العالم الأُخروي ما يَرتوي به مِن عَطَشِ الدّنيا، ويَعيش الدنيا من أجل أن يبلغ بها القُرب من الكّمال المُطلق.

إنَّ الاندماجَ والتَّلاحُم بَين الرّوح والجّسد والمُتَمثّل بالتّوجّه القّلبي والخُشُوع الرّوحي الممزوج بأفعال جَسَديّة تَحمِل مِعانٍ صادقة، حيث يَتَوَحّد فيها الظّاهر والباطن، والسرّ والعَلَن، والشّكل والمَضمون، هو مسلك يَملأ القلوب بأنوار اليقين، والصدور بالإيمان؛ يُجسّد فيها العابد حقيقة العبوديّة، فَتَطمئنَ بها القلوب التي ما فتئت تَقتَبِسُ أنْوارها مِن فيوضات النُّور المُقدس، لِتَستَضيئ بِه، ولتُزيلَ به العَوائق والعَلائق، وَتَسير بأرواحِها وتَشْخَص بأبصارها نَحوَ مَصدَر الجّمال الحَق؛ تلك هيَ النفوس السليمة، والقلوب المُطمئنة، أدْرَكت كمالَ اللّطف الإلهي، فَوَعَت، وَعَلِمَتْ فَعَمِلَت، ثُمَّ أدْرَكَت وسارَت فَنالَت، فَرَضِيَت، واطْمَأنّت.

***

د. أكرم جلال كريم

............................

المصادر

1. نهج البلاغة، ج1، ص383. وبحار الأنوار، ج33، ص581.

2. الکافي، ج8، ص307. وثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ج1، ص253. وأعلام الدین، ج1، ص406. والوافي، ج26، ص459. وبحار الأنوار، ج2، ص109.

(تقام العلاقات مع النرجسيين على أمل أن تتحسن يوما مع قليل من الادلة التي تدعم ذلك).. راماني دورفاسولا

تعود تسمية النرجسية الى الاسطورة اليونانية، حيث ورد فيها ان نرسيسوس –نرجس- بالانكليزية والذي كان آية من الجمال وقد عشق نفسه حتى الموت عندما رآى صورته في الماء!

وتعرف النرجسية على انها حب النفس أو الانانية، وهو اضطراب في الشخصية حيث تتميز بالغطرسة والغرور الاعمى، التكبر، التعالي، الشعور بالاهمية ومحاولة الكسب بأي طريقة على حساب الاخرين.

والنرجسية حالة مرضية تؤثر على الصحة العقلية للمريض الذي ينتابه شعورمضخم للذات على اعلى درجات المبالغة من الاهتمام، وهذا الاهتمام يتطلب إدامة وديمومة لاتنضب من الاعجاب والاهتمام والاطراء من قبل الاخرين بشكل مبالغ فيه وزائد عن الحد، كما يصاحب هذه الشخصية شعور غير عادي بالعظمة، وانه شخص نادر الوجود، فريد من نوعه لايمكن ان يفهمه الا خاصة الناس، وهو بالحقيقة يتعامل مع نفر من الناس يخدعهم باكاذيبه لينال اعجابهم أو انه يتعامل مع من لايعرفه تمام المعرفة.

والمشكلة الحقيقة للنرجسي لاتكمن في حبه لنفسه بل انه يتغذى ويقتات من استغلال الاخرين وبابشع الطرق، هذا المرض الذي يؤدي الى انعدام الاحساس بالاخرين تماما، حيث يغالي المريض وتكون لديه حاجة مفرطة للاعجاب والتقديس وهي إحدى سمات الثالوث المظلم، ومن الجدير بالذكر ان النرجسية تختلف عن مفهوم مركزية الذات.

والغريب بالامر إن هذا الهيكل الفارغ الممتلئ بالهواء لحد التخمة والذي يرى نفسه بمرآة محدبة، قد يكون أول الكارهين لنفسه ويمكن ان ينهار كيانه وينفجر البالون الفارغ من شكة دبوس صغيرة!

فهل قابلت شخصا بهذه المواصفات في حياتك! مكان عملك! أو بيتك!ت

هل تعيش مع شريكا يعتاش من استغلالك!

هل عانيت من تسلط نرجسي لحد التخمة يعد عليك الانفاس!

هل سأمت الانتقادات المتوالية على طريقة كلامك او لبسك او سعيك لتحقيق هدف ما!

هل صودر رأيك وخنقت كلماتك لمجرد انك تعاشر نرجسيا في البيت او العمل او اي مكان آخر!

هل سأمت من العطاء بلا حدود وبلامقابل!

هل تسلل احد النرجسيين الى حلمك للقضاء عليه!

هذه التساؤلات وغيرها قد تكون أشد وأقسى تبعا لنوع الحالة ودرجة استفحالها سنتناولها بشئ من البحث ..

بالحقيقة إن لكل مرض سبب أو عدة أسباب أدى الى إنهيار جانبا معينا من النفس وأدى الى سلوكيات معتلّة وهذا ليس تبريرا لانحراف السلوك لكن التاريخ المرضي يحرث اولا في ماهية الاسباب والدوافع التي أدت لذلك وسنلقي الضوء على الاسباب التي انتجت مرضا عضالا بحجم النرجسية:

- الوراثة:يعتبر هذا المرض من الامراض الذي تتحكم فيه الجينات بامتياز حيث يكون أحد الاباء او كلاهما مصاب بهذا المرض الذي يقدمه مع الكثير من التوابل والاضافات الى الابن الذي يجتهد بدوره للاجتهاد واضافة بصمته الخاصة التي ينال بها رضا الممول اولا ثم رضا نفسه.

- البيئة:وهي الحاضنة الاولى التي تتجسد بالوالدين وعلاقتهم التربوية مع الابناء، وهذه تمثل البذرة الاولى التي سقيت بابشع الصفات لتزهر!

الافراط بالتعامل :وهذه تتمثل بالدلال الزائد حد الفساد، أوالاضطهاد والتعسف حد المسخ!

- عوامل بيولوجية:تتمثل بقابلية الشخص على استقباله لهذا النوع من المؤثرات المرضية والسلوكية وتتويجها بالاستجابة القصوى نتيجة لخلل واعتلال في المنظومة العصبية.

هذه العوامل وغيرها انتجت شخصا نرجسيا بامتيازيرى الكون كله مسخرا له ولتحقيق أهدافه بشتى الطرق وعلى حساب الاخر مهما كان هذا الاخر بعيدا أو تربطه به صلة قرابة من أي نوع.

وإذا توقفنا قليلا بل كثيرا عند شخصية النرجسي سنجد الاعراض الاتية:

- انه شخصا ساديا بامتياز يقوم على استغلال الاخرين والاستمتاع بايذائهم بل والتلذذ باهانتهم وتحقيرهم والتقليل من شأنهم والشخصية الضعيفة هي ضالته الاولى ومكافأته التي يسعى للنيل منها.

- النرجسي شخص ماسوخي لمن هو أقوى منه وقيام الاقوى بتحقيره واذلاله يعيده الى حجمه الاول ويحدده.

- النرجسي شخص ميكافيلي عنده الغاية تبرر الوسيلة، وبامكانه سلك جميع الطرق للحصول على مايريد، مع وجود الدافع والمبرر مسبقا لكل عمل مهما كانت قباحة العمل.

- يعاني النرجسي من الوسواس القهري الذي يجعل حياته أتونا مستعرا يتغذى على أحقاده وسوء ظنه بالاخرين الذي يؤرقه ويحرمه من أبسط متع الحياة ويكون طاحونا مفزعا يطحن نفسه والاخرين بلا رحمة وهذا يتمثل بحرمانه من النوم واصراره على وجود خطر دائم يهدده وفقدانه للكثير من العلاقات الانسانية والاصدقاء الذين سرعان مايكتشفون مرضه ليلوذوا بالفرار.

- الاجرام الفكري :والذي يتمثل باستغلال نقاط الضعف عند الاخرين والسعي لاستخدامها في ابتزازهم بشتى انواع الابتزاز المادي عن طريق التحايل والنصب واستخدام الطرق الملتوية كا لتهديد او الاستعطاف حتى ينال مبتغاه بكل دونية! والجسدي الذي يتمثل بالحرمان من كل الحقوق وانتهاك الحرية الشخصية والاغتصاب والتعنيف الجسدي الذي يصل الى حد القتل! والمعنوي الذي يتمثل باحتقار الاخر وازدراءه ومناداته باقبح الالقاب ثم التسلل الى عقله وتحطيم البنية التحتية لنفسه حتى يشعر الاخر –وغالبا مايكون الشريك- بانه اقبح مخلوق وانه بلافائدة ولايملك من حطام الدنيا الا هدفا واحدا وهو الخلاص من هذه الدوامة التي تنتهي اغلب الاحيان بالطلاق –في حال الزواج- او الانتحار.

عقدة الاضطهاد:وهذه تتمثل بنظرته الى النصف الفارغ من الكأس الذي غالبا مايذكره بطفولة معنفة وحرمان أبوي أو تفرقة بين الاخوة جعلته يشعر بالدونية والغيرة القاتلة من إخوته التي تؤدي الى الكراهية وربما الى الجريمة! وتبقى هذه السمة تلازمه وهو الشعور بانه مضطهدا ومنبوذا لترافقه مدى الحياة، فبعد أن يجد ضحيته المثلى- والتي يذبح لها القطة من اول ليلة – لتتحمل شذوذه وانحرافه واعتلاله النفسي تحت اي بند!و من ثم يكوّن اسرة واطفال ليشعر ثانية بنفس العقدة والدونية بانه ليس أبا أو أما إنما خادما عليه القيام بهذا الدور مرغما وهو ماينعكس على نفسية الابناء الذين يعانون بانهم حمل ثقيل على اب مريض يعاني شتى انواع الاعتلال، وهذا الطريق يؤدي الى نتيجتين: الاولى أن يعتمد الابناء على انفسهم في ادارة شؤون حياتهم من خلال العمل او التفوق وهذا بافضل الاحوال والثانية هي سلوك طريق الانحراف والجريمة لاثبات ذواتهم المعتلة! وهذا مايدفع ثمنه الاسرة اولا والمجتمع ثانيا.

وبالاضافة الى ماسبق فهناك الكثير من الاعتلالات التي يعاني منها النرجسي والتي يعتبرها هو سمات فريدة يتفرد بها عن الاخرين منها:

- التردد باتخاذ القرارات وتكون الخطوة الاولى بالنسبة له مرعبة وهي الولوج الى عالم مجهول يخيفه الى حد اللعنة.

- الانطواء والابتعاد عن الاخرين مهما كانت صلة قرابتهم.

- الاكتئاب والقلق فهو دائم الشكوى من اي شئ، متمارض، كسول، جزوع،

نكدي بامتياز، يبحث عن المرض والنكد ويدعي الفقر حتى لو كان مليارديرا، يتباهى بانه غير مهندم وغير مرتب ويعتبرها سمة فريدة يعنونها بالتواضع وهو أبعد مايكون عن التواضع، فوضوي ويتفنن ببث الفوضى باي مكان يرتاده مع رغبة شديدة بتدمير الممتلكات العامة والخاصة، أوإنه يهتم بمظهره لايهام الاخرين باناقته ونظافته والحقيقة غير ذلك.

- التنابز بالالقاب:وهذه تتمثل باختياره الفاظا واسماءا وعبارات لكي يحط من شأن الاخر بمحاولة منه لازدراءه واهانته والتقليل من شأنه خصوصا في التجمعات والاماكن العامة.

- المشاعر المتبلدة وفقدان القدرة على تكوين حياة زوجية سعيدة بسبب السلوكيات المريضة التي يغلب عليها السلوك الدرامي والانفعالي وغالبا مايكون الطلاق هو الحل.

- عدم القدرة على التعبير عن المشاعر لاعطاء انطباعا على القوة الوهمية.

- عدم تقبل الانتقادات السلبية واعتبارها هجوما مضادا لابد التصدي له.

- التعامل مع الاسرة والاهل بقلة تهذيب و عدم الاحترام واللامبالاة وخصوصا الاستهزاء بألام وعلل الاخرين واعتبارها عارا!

- السعي لجذب الانتباه بأي طريقة.

- الشعور الدائم بالنجاح رغم الفشل وادعاء المواهب الخارقة.

- الخوف المرضي والاعتقاد بنظرية المؤامرة حتى من اقرب المقربين.

- التعامل مع الشريك او الحبيب بمنهج فردي بمعنى ان النرجسي لايبادل الشريك العاطفة وان قدم له الشريك تلك العاطفة مجانا لانه يعتبرها حق مكتسب.

- ادمان الكحول والمخدرات لكي يؤجج المرض بداخله ويساعده على المواجهة لانه بالحقيقة وكما ذكرت مخلوقا ضعيفا .

- التلاعب بالالفاظ فقد يلجأ الى حفظ بعض العبارات التي تجعل منه مميزا لبقا في المواجهة، فالحياة بالنسبة له حلبة مصارعة ولابد ان يكون الفوز حليفه.

- الشهامة الزائفة والثقافة الوهمية التي يدعي بها، والقدرة على الاقناع مهما تطلب الامرللحصول على ضحيته .

سياسة التجويع وهي تشمل التجويع المادي وادعاء الفقر للاستحواذ على مقتنيات الشريك باي طريق فالنرجسي لايغمض له جفن وهو يعلم ان الشريك لديه مبلغا من المال او بعض المقتنيات الذهبية فهو لايدخر جهدا بالحصول عليها واعتبارها حقا شخصيا (انت وما تملك لي).

والتجويع الجسدي حيث ان النرجسي شخص متبلد المشاعر يشعر بن الشريك اقل منه لذا فهو دائم التلاعب بهذا الموضوع وهو حرمان الشريك من العلاقة الحميمة خصوصا اذا علم ان هناك ميلا لهذا الموضوع.

- النرجسي غالبا مايكون جمهوره من المعدمين فكريا ليستطيع التغلب عليهم ونيل اعجابهم

- جنون العظمة وهذه تتمثل بتأليه الذات وتضخيمها الى حد إنه يقارن نفسه بالفلاسفة والعظماء والاولياء..

- الابتعاد عن الله جوهريا بل ان النرجسي في اغلب الاحيان لايؤمن بالله لان رأس الحكمة مخافة الله وهذا ماينعكس على شخصيته المريضة التي تعاني اعتلالات ماانزل الله بها من سلطان وفي ذات الوقت هو يدعي بالايمان الظاهري لكي يجذب اكبر قدر من المغفلين!

- الايحاء المرضي وهذا يتمثل بقدرته الهائلة على اللعب بمقدرات الاخرين عن طريق دس السم في العسل!

- النرجسي يكره الانسان الناجح بل ويحاربه ويحاول بكل طاقته النيل منه وتدمير سمعته والاساءة اليه.

- الخزي والعار وهوالشعور الذي يعاني منه النرجسي وعدم القدرة على معالجته.

- الحسد:النرجسي شخص حسود ينظر الى ابسط الامور التي يمتلكها الاخرين ويتمنى زوال النعم مهما كان هذا الاخر.

وتصنف الشخصية النرجسية الى عدة اصناف:

- النرجسية المعلنة وفيها يركز النرجسي على المكانة والثروة والقوة ويعتقد انه ينال هذا الاستحقاق وبجدارة.

- النرجسيةالخفية: وهي اقل وضوحا وفيها يشعر النرجسي الى اهميته وتظهر عليه سلوكيات معادية مثل لوم الاخرين والتشهير والتلاعب بمقدرات الاخرين.

- النرجسية المعادية وهي استغلال الاخرين للوصول باي طريقة.

- النرجسية الخبيثة:وهي اكثر الانواع خطورة فهي بالاضافة لكل ماذكر فهو يعاني من اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع(سايكوباث) مثل جنون الارتياب وانعدام التعاطف واستفحال السادية.

والحقيقة ان الاعتلالات النفسية التي تؤدي الى تدمير المريض الذي يقوم بدوره بتدمير كل المحيطين به دونما رحمة بل وتزين له نفسه انه العاقل الوحيد في مجتمع مريض، ومع ان لكل مرض سبب ونتيجة وعلاج لكن النرجسي شخص عصي على الشفاء اذا اخذنا بالحسبان ان جميع الامراض النفسية والسلوكية وامراض الثالوث المظلم(ميكافيلية، سايكوباث، السادية) تجتمع وتنصهر في بودقة النرجسي.

وهناك بعض النصائح التي قد تساعد الاشخاص الذين تضطرهم ظروف الحياة الى معاشرة النرجسي منها:

- وضع حدود غير قابلة للتجاوز، ومثال على ذلك ان النرجسي شخص غير مهذب يلجأ الى السب واللعن واستخدام الشتائم اثناء الحديث، وعلى الاخر ان يرفض هذه الوقاحة وان لم يستطع فالانسحاب افضل الحلول ..

- عدم الاهتمام لمواضيع النرجسي أو الاصغاء لما يقول.

- محاولة الحصول على الدعم المعنوي والمادي المناسب من الاهل لان النرجسي يستغل غياب الاهل والاقارب ليقوم بكل ماتغذيه نفسه المريضة من اعمال كالحرمان مثلا وسياسة التجويع المادي والجسدي!

- التجاهل وهو السلاح السري والعلاج الناجع للنرجسي الذي يقلب الطاولة عليه غيضا ويجعله يشعر بانه صغير جدا.

- التحلي بالصبر خصوصا اذاكان هناك اطفال يجب مراعاتهم ومحاولة ابعادهم عن ساحة المعركة باي طريقة.

- تحقيق الاهداف من خلال ممارسة هواية ما أو عمل ما يعود بالانجاز والنفع.

- الرحيل في حال تعذرت الحياة واصبح من المستحيل استمرارها في ضوء الانتهاكات المستمرة والتعنيف والحرمان والتحقير والاذلال.

- الاستقلال ماديا ونفسيا يجعل الشريك اكثر راحة بادارة شؤون حياته بعيدا عن الذل والاحتقار.

ورغم ان التقدم بالطب النفسي اتخذ خطوات واسعة لكن بقي العلاج متواضعا لايتعدى مرحلة التخدير وليس الشفاء التام.

النرجسية في القرآن

"حب لاخيك ماتحب لنفسك"

إن طاقة الحب هذه العاطفة الجياشة التي تغمر الانسان بكل ماهو جميل فتكون كشجرة مثمرة تؤتي اآكلها كل حين وعاطفة الحب ينطوي تحت جناحها كل انواع الحب كحب الوالدين لابناءهم وحب الانسان لاخيه الانسان وحب الوطن والارض والمكان وحب الابناء للوالدين وبقية افراد الاسرة وحب الزوج لزوجته والعكس بالعكس، هذه العاطفة من شانها ان تجعل المجتمع مبنيا على اسس قوامها الحب والتضحية من اجل الاخر، ولكن اذا انحرفت هذه العاطفة وجنحت وتشرذمت اهدافها فهي تتحول الى سرطان خبيث ينهش بجسد الامة، والقران فيه الكثير من النرجسيين على مر العصور التي ظهر فيها انبياء الله الذين بعثهم لتحجيم هؤلاء الذين طغت عليهم صفة النرجسية امثال فرعون و وقارون وهامان الذين جمعهم الله في أية واحدة" وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا" والسامري وجالوت وابو لهب والنمرود"قال أنا أحيي واميت" وهؤلاء الطواغيت يشتركون بصفة واحدة وهي النرجسية العالية التي اعمتهم واضلتهم فتكبروا حتى على الله، ومابعث الله الانبياء والرسل الا لمحاربة الطغاة أو هدايتهم لكن الله لايهدي القوم الظالمين .

يعتبر التكبر والتعالي من صفات النرجسي وهي صفات مذمومة واخلاقيات وسلوكيات منبوذة قال تعالى "والذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان"

والنرجسي هو شخص يشعر بالعظمة وقد تصل به الحال الى ان يتخيل نفسه إلها ويعلن ربوبيته كفرعون حينما قال"انا ربكم الاعلى"

واذا ماعدنا الى بدية الخلق سنجد إن النرجسية من صغات الشيطان الذي تكبر وتجبر وتمرد على الخالق جل وعلا"قال أأسجد لمن خلقت طينا" فهي العودة اذن الى طريق الخير والشر طريق الهدى والضلالة.

واخيرا علينا أن نقر بان الابتعاد عن الله يجعل الانسان عرضة لوساوس الشيطان الذي يجعل من الشخص مطية لاهواءه، فالروحانيات تطهر النفس من الدنس وتزرع قيم الفضيلة والمبادئ السامية من خلال جهاد النفس الذي يعتبر اعظم جهاد لانسان سليم من الامراض النفسية والاخلاقية، قال تعالى في كتابه العزيز"إنك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا" صدق الله العظيم.

***

مريم لطفي

لقد اشتغلت هذه الأحزاب براغماتيّا على مستوى الخطاب الديني عندما ربطت برؤية توفيقيّة/ تلفيقيّه ما بين العروبة والإسلام، لاعتقادها بأنها قادرة بهذا الربط أن تُكسب مشروعها السياسي مشروعيته أو مصداقيته عند الجماهير التي يغطي الخطاب الديني حيزاً كبيراً من وعيها أولاً، ولمنافسة الأحزاب الدينيّة، وبخاصة (الإخوان المسلمون) الذين ربطوا الدين بالسياسة أيضاً عبر طرحهم مشروع الحاكميّة لله ثانياً، ثم منافسة الأحزاب اليساريّة (الشيوعيّة) التي تشاركها الشعارات النهضويّة والتقدميّة وإظهارها معادية للدين أمام الجماهير ثالثاً. هذا دون أخذها بالاعتبار أنها بربطها بين العروبة والإسلام كانت تعمل على تعميق أزمة خطابها السياسي، كون الدين (الإسلامي) بشكل خاص بالنسبة هو في المحصلة أيديولوجيا ترفض الفكرة الوطنيّة والقوميّة، كما ترفض فكرة المواطنة وكل ما يتعلق بمفاهيم الحداثة والعلمانيّة التي تتبناها هذه الأحزاب في خطابها الأيديولوجي، فالأيديولوجيا الدينيّة غيبيّة لا تؤمن بوجود فكر وضعي قادر أن يتحكم بأليّة عمل الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة، كما لا تؤمن أيضاً بوجود أي قوى اجتماعيّة قادرة على التشريع لحل قضايا الناس بعيدا عن التشريع الذي وضعه الله وأقره السلف الصالح. وهذه المسألة يقرها خطاب الإخوان وكل القوى السلفيّة المعاصرة في خطابهم السياسي الذي يكفر كل من يخرج عن فكرة الحاكميّة كما جاء في كتاب (الخلافة والملك) لأبي الأعلى المودودي، وكتاب سيد قطب (معالم في الطريق)، أو في أدبيات القاعدة وفروعها مثل داعش والنصرة ومن يلتقي معها. وإن ما تقوم به هذه القوى الأصوليّة اليوم في ثورات الربيع العربي يؤكد ذلك.

إن مسألة الاشتغال على الخطاب الديني لتحقيق مصالح سياسيّة لقوى اجتماعيّة ذات توجهات دينيّة سياسيّة محددة، يبقى لها مخاطرها ومحاذيرها إذا ما اشتغلت عليه الأحزاب التقدميّة، وذلك كون الدين إذا ما تجذر ايديولوجيّا في عقل لإنسان، لم يعد من السهل بمكان توجيه عقل وتفكير هذا الإنسان خارج توجهات هذا الدين الذي امتلك عقله ورحه معاً، ففكرة الانتماء للمواطنة أو الوطن أو الانتماء القومي، تتنافى مع مسألة الانتماء الأممي للدين، وهذا ما أكده الكثير من رجال لدين ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الشيخ الإمام "محمد عبده" حيث يقول: (لأن جرثومة الدين متأهلة في النفوس بالوراثة من أحقاب طويلة، والقلوب مطمئنة إليه... فلا يحتاج القائم بإحياء الأمّة (قصده الأمّة الإسلاميّة) إلا إلى نفحة واحدة يسري نفثها في جميع الأرواح... ومن طلب إصلاح أمّة شأنها ما ذكرنا بوسيلة سوى هذه، فقد ركب شططاً وجعل النهاية بداية.). (1). ثم يقول أيضاً: (إن الأجناس قامت على العصبيّة القوميّة. لأن أفرادها تلاحموا حفاظاً لحقوقهم من جور حاكم من جنس آخر، أما الوضع فيختلف بين المسلمين. وأضاف : وهذا هو السر في إعراض المسلمين إلى اختلاف أقطارهم عن اعتبار الجنسيات، ورفضهم أي نوع من أنواع العصبيات ما عدا عصبتهم الإسلاميّة. فإن المتدين بالدين الإسلامي متى رسخ فيه اعتقاده يلهو عن جنسه وشعبه ويلتفت عن الرابطة الخاصة إلى العلاقة العامة.) (2). ثم أن الأحزاب التي تربط بين العروبة والإسلام سيؤدي هذا الربط بالضرورة إلى تجاهل وجود وتاريخ ومكانة مكونات دينيّة أخرى في مجتمعات هذه الأحزاب وستتحول بالضرورة إلى رعيّة، بل إن التجاهل سينال حتى بنية هذه الأحزاب التنظيميّة ذاتها، كالمكوّن المسيحي وغيره من المكونات الدينيّة التي لها انتماءاتها الدينية الخاصة بها من جهة، والتقليل من أهميّة انتماءاتها القوميّة والوطنيّة وإيمانها بدولة القانون واعتبار نفسها جزءاً أساسيّاً من نسيج الوطن لها حقوق وعليها واجبات، وأن المواطنة بالنسبة لها هي المخرج الوحيد لخروجها من مازق الأقليات أو أهل الذمّة الذي يتبناه دعاة المشروع الإسلامي السياسي الرافض للآخر. وما جرى ويجري اليوم تحت مظلة ما سمي بثورات الربيع العربي من ممارسة مشينة من قبل الإسلاميين المتزمتين (السلفيين) بحق الأقليات الدينيّة يثبت ذلك.

إن من يتابع كتابات عبد الرحمن الكواكبي منذ نهاية القرن التاسع عشر، يجده أكثر قدرة على فهم مسألة الدين وخطورة اللعب على وتره، وخاصة في المجتمعات المتعددة الديانات والطوائف والمذاهب، من فهم بعض هذه الأحزاب التي تدعي القوميّة والعلمانيّة المطالبة بالربط ما بين العروبة والإسلام، متناسية مكوّن هام من مكونات المجتمع وهو الأقليات الدينيّة، حيث يقول عبد الرحمن الكواكبي عن خطورة اللعب على الدين، ومحاولة ربط الدين بالدولة (السياسة) في المجتمع السوري الذي ينتمي إليه:(دعونا يا هؤلاء ندبر شأننا بالفصحى ونتفاهم بالإخاء ونتواسى بالضراء ونتساوى في السراء، دعونا نتدبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط . دعونا نجتمع على كلمة سواء ألا وهي فلتحيا الأمّة، فليحيا الوطن، فلنحيا طلقاء.) .(3). أما ساطع الحصري المفكر القومي الأصيل الذي يعتبر المنظر الأكثر اهتماماً وعمقاً في الفكر القومي على الساحة العربيّة في القرن العشرين فيقول حول مسألة ربط العروبة بالإسلام: (إن الأبحاث التي نشرتها في مؤلفاتي المختلفة، أظهرت إلى العيان وبأجلى المظاهر وأجلها، الدور العظيم المنقطع النظير الذي قام به ظهور الدين الإسلامي في تكوين الأمّة العربيّة وتوسيع نطاق العروبة، وترسيخ كيان بنيانها، وتشديد مقاومة التجزئة التي عصفت بها، ومع ذلك لم تر تلك الأبحاث مجالاً ولا لزوماً لاعتبار الدين من المقومات الأساسيّة للقوميّة العربيّةّ.). (4).هذا في الوقت الذي نجد فيه مفكراً إسلاميّاً مرموقاً في سورية وله حظوته ومكانته في دولة البعث، وهو الشيخ "محمد سعيد رمضان البوطي"، يقف ضد العلمانيّة بعد مئة عام من مقولة الكواكبي السوري حول هذه العلمانيّة في كتابه (العقيدة الإسلاميّة والفكر المعاصر)، وهو كتاب مقرر لطلاب الشريعة في جامعة دمشق: حيث يقول البوطي: (أما الدين الإسلامي فيحوي في أصله إلى جانب مبادئ الاعتقاد، والأحكام التي تضبط شؤون الدولة وتتكفل بإقامة أنظمتها وقوانينها، فحجزه عن ممارسة صلاحياته ومسؤولياته، ففي ذلك تغيير لجوهره وإبطال لكثير من مضمونه... ). (5). ثم يتابع ناعتاً من يؤمنون بالعلمانيّة ضمناً، ويتقربون إلى الإسلام قولاً، قائلاً: (إن التظاهر بالخضوع له – أي الدين - بعد ذلك كذب عليه ومخادعة له ولمشرعه.) (6)، بل هو لم يتوان أمام اعتبار الإسلام بداية ونهاية كل شيء، ويدفعه هذا الاعتقاد إلى نزع الأخلاق عن العرب قبل الإسلام وعن العروبيين المعاصرين كما ذكر في إحدى حلقاته التي تبث على قنوات التلفاز السوري وهي بعنوان، (لا يغير الله بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) حيث يقول: (إن العرب ليس لديهم أخلاق قبل الإسلام، وإن القوميين العرب الذين يقولون بأن العرب كان لديهم أخلاق قبل الإسلام هم كذابون.). هذا في الوقت الذي يُعتبر فيه حزب البعث الذي احتضنه حزبا عروبيّاً، وهو المنادي بالآمّة العربيّة الواحدة ذات الرسالة الخالدة.

نقول: إن الأحزاب القوميّة العربيّة (العلمانيّة) قد اشتغلت على تثبيت سلطتها في الحكم، بالتوازي مع الاشتغال على الدين، وربط العروبة بالإسلام في سياق عملها أكثر من اشتغالها على الفكر القومي ذاته، للأسباب التي أشرنا إليها سابقاً، بل أثبتت عجزها عن تحقيق أيّة قضيّة من قضايا مشروعها القومي، هذا العجز الذي غالباً ما يزيد الطين بلّة من حيث زيادة عمق التناقضات وحدّة الصراع ذاته بين القوى الوحدويّة ذاتها والقوى المناوئة لها عند سعيها لتطبيق أي مشروع قومي، كما هو الحال على سبيل المثال لا الحصر، مشروع الوحدة بين مصر وسوريّة الذي خلق للدولتين وللأمّة العربيّة أزمات وصراعات وحسابات سياسيّة من قبل القوى التقدميّة والرجعيّة المناوئة للوحدة معاً لم تزل قائمة حتى الآن، الأمر الذي جعل القوتين تتمسك بورقة الدين أكثر، وذلك للحفاظ على السلطة من قبل القوى الوحدويّة التقدميّة أومن قبل القوى الرجعيّة المعاديّة لها.

وفي ختام عرضنا لهذه المسألة أحب أن أضيف هنا مسألة أخرى حول ربط هذه الأحزاب براغماتيّا بين العروبة والإسلام وهي: إن هذه الأحزاب تعني بالعروبة هنا المشروع القومي، والمشروع القومي في جوهره مشروع يعمل على تحقيق الوحدة العربيّة، وهذا العمل هو في المحصلة عمل سياسي، والسؤال هو: كيف تبرر هذه الأحزاب لنفسها هنا ربط السياسة بالدين، في الوقت الذي تحرم وتحارب الأحزاب السياسيّة الدينيّة التي تربط بين السياسة والدين؟!.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

..........................

الهوامش:

1- (د. توما - أميل - الحركات الاجتماعية في الإسلام0 دار الفارابي. بيروت- 1981.). ص154

2- (المرجع نفسه- ص154).

3-(المرجع نفسه- ص155).

4- (توفيق – زهير - أديب اسحق مثقف نهضوي مختلف- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت -2003 – ص153).

5- د. البوطي - محمد سعيد رمضان. (العقيدة الإسلامية والفكر المعاصر). وهو كتاب مقرر لطلاب الشريعة في جامعة دمشق. ص 248

6- المرجع نفسه. 148

ـ في أهمية النقد التربوي:

يلعب النقد التربوي دورا هاما في مجال التربية والتعليم والتكوين؛ فهو يحسن الممارسات الصفية ويطورها إلى الأفضل بتصحيح أخطائها وتحدياتها، وبرفدها بالجديد من خلال الإبداع في مجالها، من واقع التجربة التعليمية نفسها أو من التفكير فيها، مقابل تطوير نظام التربية والتعليم والتكوين برمته. والنقد التربوي مكون من مكونات الفكر التربوي؛ لا تستقيم أية منظومة تربوية وتكوينية دونه، لأنها تتكئ عليه في استمرار تجددها وتطورها وتقدمها، فهو الدم الذي يدخ الأكسجين في عروقها الذي يبقيها حية تشتغل على أحسن وجه، ويبقيها فاعلة فعالة في المجتمع لأسباب عدة:

أ ـ النقد التربوي فرصة لا تعوض ولا تستدرك: إن فاتت هيئة التدريس والمهنيين والأطر التربوية في التفكير في الممارسات التربوية، من حيث التفكير في ديداكتيك التدريس والاستراتيجيات والأساليب التربوية والتعليمية، والبحث في بنياتها ووظائفها ونتائجها بما يقف على الإيجابيات للاستثمار، وعلى السلبيات والتحديات لتجاوزها. وفي ذلك تطوير لها وتجديد لبنياتها ووظائفها، وتجويد لنتائجها وعوائدها على التعليم والتعلم. والسؤال النقدي للممارسات الصفية سؤال   عن الاختيارات والتوجهات وتقويم الفعالية والأداء.

ب ـ النقد التربوي يبني ثقافة السؤال: وثقافة السؤال تبني ثقافة التجديد والتطور والتجويد والتحبير والتحسين المستمر؛ عبر تخليق بذرة البحث العلمي في الممارسات الصفية لأجل أن يصبح مكونا طبيعيا وعضويا في الفعل التعليمي التعلمي، لا يمكن الاستغناء عنه في البحث عن الإيجابيات والسلبيات معا؛ حيث تتوسل به في معرفة حيثياتها بشكل علمي وواقعي. فلا تستقيم أي منظومة تربوية وتكوينية دون النقد التربوي، لأنه موطن علامات الاستفهام الحرجة والمحرقة التي تتطلب الجرأة الأدبية للتعامل معها بروح رياضية ومرحة، لأنها ستتعرف على ما لا يعجبها خاصة عندما تكون الذات السائلة تهاب السؤال وتخاف منه كما في المنظومات التربوية والتكوينية المتخلفة، التي يعشش في عقلها التقليد والعادات ويعمر حاضرها الماضي ويستحوذ على كل شيء فيها حتى التفكير.

ج ـ الابتكار: النقد التربوي رديف مصطلحين في الفعل التربوي والتعليمي، وهما: التصحيح والابتكار، فهو عامل محفز على الابتكار في مجال التربية والتكوين والتعليم باقتحام مواطن الأساليب التقليدية وإزاحتها من المنظومات التربوية والتكوينية باستكشاف النظريات التعليمية والأفكار الجديدة فضلا عن التعليميات والتقنيات المبتكرة التي تفعل الدرس المدرسي وتطور نتائجه إزاء خلق متعلم/ة منهجي ومفكر وناقد ومبدع. فتظهر من خلال هذا الإبداع والابتكار ممارسات صفية ناجحة ومبتكرة، تبحث عن حلول إبداعية للتحديات والصعوبات والمشاكل التربوية والتعليمية والتكوينية التي تعترضها.

د ـ النقد التربوي يمنح أطر منظومة التربية والتكوين بما فيهم الممارس البيداغوجي والإدارة التربوية والإشراف التربوي فرصة معرفة ودراية أفكارهم ورؤاهم ومقترحاتهم وقراراتهم وأفعالهم ونتائجها، معرفة تامة تفصيلية تضعهم في مواجهتها مباشرة بالسؤال النقدي عما فعلوه وما أنتجوه؛ وتضعهم أمام ضمائرهم المهنية وأمام التاريخ والأمة وأجيالها، ليتحملوا المسؤولية عن اختياراتهم وقراراتهم وأفعالهم ونتائجها ضمن القبول بالمساءلة والمحاسبة خدمة للأجيال المقبلة، وبناء الالتزام والانضباط والشفافية تحسينا لجودة المنظومة التربوية. ولا تقدم ولا جودة للمنظومة التربوية والتكوينية دون وقوف أطرها أمام مرآتها مسلحين بالسؤال النقدي عما فعلوه لأجلها ولأجل روادها. وبدون السؤال النقدي تنتفي كل الممارسات الصفية الناجحة والفاعلة.

هـ ـ الحوار وتبادل المعرفة: النقد التربوي باب واسع للحوار وتبادل المعرفة وتقاسم الخبرات والتجارب ومعرفة الفعل، فهو يعزز ذلك في المجتمع المدرسي والمهني التربوي، خاصة بين جماعة الباحثين والدارسين، أي أولئك الأطر الحية في المنظومة التربوية والتكوينية التي تؤمن بالنقد التربوي مدخلا للتغيير. لإنه يخلق مساحات فكرية وثقافية شاسعة للمناقشة والحوار والتعاون والتكامل فضلا عن خلق الفكر العلمي الجمعي وفرق البحث الجماعية متعددة الاختصاصات، بل يمكنه أن يؤدي إلى خلق مراكز ومعاهد ومختبرات للبحث التربوي والعلمي في المؤسسات التعليمية. كما يؤدي إلى بناء مراجع تربوية لأصحاب القرارات السياسية والتربوية والتدبيرية.

وبناء على هذا المعطى، نجد النقد التربوي مطلبا ضروريا للمنظومة التربوية والتكوينية، لتطوير وتحبير الممارسات الصفية في ذاتها وناتجها، بجانب تعزيز التفكير الإبداعي الابتكاري مع تمكين أطر التربية والتعليم من تعزيز الحوار فيما بينهم، وتبادل المعرفة والمعلومات، وتقاسم الخبرات والتجارب ومعرفة الفعل، وبذلك يساهم بشكل كبير في تطوير النظام التربوي والتعليمي والتكويني إلى الأفضل، ويعمل على التحول الإيجابي للمنظومة وأطرها ومتعلميها.

ـ في أهمية الأسئلة النقدية للممارسة الصفية:

في الواقع التعليمي والتربوي والتكويني؛ ليست الممارسات الصفية متطابقة أو متشابهة إلى درجة كبيرة وبنسبة عالية، فقد يعتقد البعض أن الأداء الصفي متطابق أو متشابه نتيجة امتياحه نظريا وعمليا وبيداغوجيا من رسميات وزارة التربية الوطنية والتعليم، واعتماده على نفس المناهج ومحتوياتها، وعلى نفس الديداكتيك والتقنيات والمعينات البيداغوجية. لكنه في الممارسة العملانية والميدانية ينحو نحو التفرد، ويتجه نحو الأسلوب التربوي الخاص بالممارس البيداغوجي، الذي يتضمن خصوصيات وتفردات ومفردات لا تشبه ما في الأساليب التربوية الأخرى لمعطيات عدة تخص جماعة القسم ومكوناتها، ومستواهم العلمي والتحصيلي، والبيئة التعليمية، والشروط والمتطلبات الخاصة بهم. ومن ثمة يصبح التنظير التربوي والتعليمي والتكويني ممارسات صفية متنوعة.

لذا؛ نجد مجموعة الأسئلة النقدية تختلف من ممارس البيداغوجي إلى آخر تبعا لمعطياته الواقعية وتكوينه الأكاديمي والمهني والاجتماعي والثقافي، ووضعه الاقتصادي والاجتماعي، ومعتقداته الذاتية والخاصة وقيمه وأخلاقه وفلسفته في الحياة. ونتيجة معطيات جماعة القسم التي يدرسها، ونوعية         أسلوبه التربوي المتبع في تدريسهم المتن التعليمي. ونتيجة معطيات المجتمع الذي يؤدي رسالته التربوية فيه، ونتيجة علاقات الاجتماعية البينية خاصة في المؤسسة التعليمية. نتيجة ذلك وعوامل أخرى نجد كل ممارسة صفية هي تجربة ذاتية قد تتقاطع مع التجارب الأخرى وقد لا تتقاطع، لأن التقاطع حتمي بحكم الرسميات الوزارية التي يستقي منها الممارس البيداغوجي المتن التعليمي والديداكتيك أو التعليمية الخاصة به. وعدم التقاطع يحصل حتما عندما يخرج الممارس البيداغوجي عن الرسميات الوزارية التي يجد فيها تحديات للمتعلم/ة أو يلمس فيها انعدام الملاءمة والانسجام مع معطياته وحاجاته واحتياجاته.

ولهذا الاختلاف عائد إيجابي على العلمية التعليمية التعلمية من حيث تقاسم التجارب والخبرات وتلاقحها، والاستفادة منها في حل المشاكل والإشكاليات التي تعترضها، وتغني الخبرة الشخصية للمارس البيداغوجي بجديد الأفكار والرؤى والتقنيات والإجراءات. وتوسيع منظوره الذي يرى منه أداءه الصفي. وبالتي نجد الاختلاف بين الممارسات الصفية أمرا طبيعيا وإيجابيا، يمكن توظيفه في تطوير المنظومة التربوية والتكوينية نظريا وعمليا. ولكي تثرى وتنمى الممارسات الصفية لابد للمارس البيداغوجي طرح بعض الأسئلة النقدية الهامة والمحرقة في بعض الأحيان للتفكير في ممارسته الصفية، من قبيل:

ـ ما الأهداف التعليمية التي رصدتها للمتعلم/ة في ممارستي الصفية؟ هل تتلاءم وتتوافق مع منتظراته، ومع توقعات المناهج وحاجاته واحتياجاته؟

ـ هل ما قرر من متن تعليمي وتعليمية المواد الدراسية ومعينات بيداغوجية وشروط ومتطلبات تحقق أهدافها وأهدافي معا في انسجام مع معطيات المتعلم/ة؟

ـ ما كفاءتي في توليد الاستقلالية الفردية والحرية الشخصية والمسؤولية الذاتية عند المتعلم/ة نحو مسارهم التعلمي، والوعي بأهمية التفكير في التعلم الفردي لكل واحد منهم تحت سقف استحضار أهدافهم الشخصية؟

ـ ما الإشكاليات والمشاكل التي سيطرحها المتن التعليمي وتعليمية المواد والمعينات البيداغوجية وأساليب تديسي على المتعلم/ة؟ وسبل مقاربتها ومعالجتها؟

ـ ما خطة الطوارئ التي سأواجه بها تلك الإشكاليات والمشاكل والتحديات إن وقعت وحصلت في إطار إدارتي للأزمات؟

ـ ما الاستراتيجيات التعليمية وتقنيات التنشيط والأساليب التربوية التي يمكنني توظيفها من أجل تعزيز مشاركة المتعلم/ة في بناء درسه المدرسي؟

ـ ما كفايتي المهنية في ملاءمة أساليب التدريس المتنوعة مع مستويات المتعلمين/ات المهارية والتحصيلية، واهتماماتهم وانشغالاتهم ومنتظراتهم في تحقيق حاجاتهم واحتياجاتهم؟

ـ ما مهاراتي وقدراتي وكفاياتي الشخصية، وكفاءتي في خلق بيئة تربوية وتعليمية شاملة وعامة، يشعر فيها المتعلم/ة بالتقدير والاحترام، وباستقلالية التفكير وحريته، وبقيمته المضافة لجماعة القسم إنسانا؟

ـ ما التقويم الذي أجريه لقياس ناتج التعلم عند المتعلم/ة بشكل موضوعي ودقيق وعادل؟ وإلى أي حد فعلا أقيس معرفته وقدراته ومهاراته وكفاياته وناتج تعلمه في الاتجاه المستهدف؟ وما مدى مصداقية أداة القياس ومعاييرها وأسسها الإحصائية؟

ـ ما الموارد التربوية والتعليمية والتكنولوجية والتقنية والرقميات المتاحة والمتوفرة راهنيا، التي يمكنني توظيفها بنجاعة في إنجاح الدرس ودعم المتعلم/ة في تعلمه وأدائه؟

ـ ما كفايتي المهنية والاجتماعية في فتح دائرة العلاقات البينية مع الآخرين من ممارسين بيداغوجيين، وإدارة تربوية، وإشراف تربوي، وأسرة، ومتعلمين/ات، ومجتمع مدني... تعاونا وتكاملا من أجل تعزيز تربية وتعليم وتعلم المتعلمين/ات وتنميتهم في مجموع مناحي الشخصية، وتهيئتهم للاندماج الاجتماعي والمهني والثقافي والسياسي...؟

ـ ما مدى حضور ثقافة التكوين بكل أنواعه عندي وتشبعي بها، من أجل الانخراط الإيجابي والفاعل في تطوير مهاراتي وقدراتي وكفاياتي ومعطياتي الشخصية المختلفة باستمرار، وبوتيرة متدرجة تصاعدية لتحسين أدائي التدريسي والتعليمي والتربوي وتطويره بالجديد من معطيات متنوعة، وبمتابعة أحدث الأبحاث في مهنة التربية والتعليم وعلومها، وعلوم روافدها والاطلاع عليها، ومواكبة أجود وأحسن الممارسات الصفية؟ وما مدى قابليتي لاستنبات ثقافة التكوين في ذاتي المهنية والإنسانية؟

وتبقى منظومة علامات الاستفهام النقدية مفتوحة وفق معطيات كل ممارس بيداغوجي حسب سياق اشتغاله وأهداف التعلم المرصودة، والغاية من السؤال. وهي كما تفعل في الممارسة الصفية، تفعل في عملية التعلم.

ـ في أهمية الأسئلة النقدية لعملية التعلم:

الأسئلة النقدية الذاتية التي يطرحها الممارس البيداغوجي على ممارسته الصفية، لها وظيفة حيوية في تطوير عملية تعلم المتعلم/ة انعكاسا، من خلال خلق التفكير العميق، إن لم أقل التفكير الفلسفي عند المتعلم/ة، واستنبات التفكير النقدي لديه بما يديم يقظة الشك في تعلمه، من حيث يسائل شكا مجموع الأفكار والمعارف المسبقة لفحصها وتدقيق مصداقياتها من زيفها، فضلا عن تطوير التفكير الإبداعي عنده مع تحسين مجموع قدراته ومهاراته المختلفة من التحليل والتركيب والاستنتاج والتطبيق وغيرها. فهو يعزز آليات التفكير عند المتعلم، وينمي فضوله ويحفز مشاركته النشطة، من خلال طرح الأسئلة العميقة والمجدية التي تستوجب في الموضوع بكليته تفكيرا عميقا وتحليلا نقديا واستنتاجا علميا وموضوعيا وعقلانيا. كما تنقل المتعلم/ة من اكتساب المعرفة وترصيدها وتركيمها إلى اكتساب المهارات الأساسية المعرفية والعملية والأدائية لتنمية أبعاد شخصيته علميا ومعرفيا ومهنيا.

فالأسئلة النقدية تساهم وتساعد على تطوير وتعزيز ودعم عملية تعلم المتعلم/ة عبر:

ـ تحفيز التفكير: الأسئلة النقدية تدفع بالمتعلم/ة إلى التفكير العميق في المشكل أو الإشكالية والبحث فيها باستقلالية ذاتية من خارج الرؤى والأفكار المسبقة وربما المبيتة، وتحليل معطياتها المتنوعة بما فيها من معلومات ومعارف وطرق... بدقة وبشكل علمي وعقلاني والموضوعي، يتوخى الإمساك بمكوناتها وأدوارها ووظائفها داخل نسقها إزاء معرفة العلاقات القائمة بينها لتسهيل الملاحظة والاستنتاج. كما تعمل الأسئلة النقدية على إكساب المتعلم/ة مهارات وقدرات التفكير النقدي والإبداعي تجاوزا لحفظ الحقائق وتلقيها دون مساءلتها أو الشك فيها. فهي تنشئ عند المتعلم/ة ملكة التفكير بكل أنواعها بدل ملكة الحفظ فقط. كما تفعل داخل عملية التفكير العملية الأساسية لفعل المعرفة " الصورنة " التي تهيكل الموارد المعرفية وتعمل على بنائها وتخزينها لتوظيفها في سياقات مطلبية متنوعة بعد استدعائها واسترجاعها. وتكسبه القدرات اللسانية والاستدلالية والعملية أو الفعلية معنى آخر قدرات الفعل.

ـ تنمية ملكتي التحفيز والفضول: تنمي الأسئلة النقدية التي يطرحها الممارس البيداغوجي على الممارسة الصفية التحفيز والفضول عند المتعلم/ة ارتباطا وتبعا، من خلال بعض المداخل من قبيل:

* في ظل السؤال عن البيئة التعليمية الحاضنة لعملية التعلم في مساحة فعل التعليم عند الممارس البيداغوجي، يمكن خلق وتشييد بيئة قابلة لممارسة الاستكشاف بطرح من الأسئلة استشفافا للأفكار الجديدة والمتطورة والتعبير عنها. كما تزيد من فضول المتعلم/ة في اقتحام المجهول لمعرفته والإلمام به.

* في إطار السؤال عن مناهج التدريس واستراتيجيات التدريس وتقنيات التنشيط يتعزز فضول المتعلم/ة، وتفعل ملكة الاستكشاف عبر المتن التعليمي وتعليميات المواد الدراسية ومشاريع البحث الجماعية والفردية، والمناقشات والحوارات البينية. كما تشجع انخراطهم وتفاعلهم في النشاطات التعليمية بكل جدية وحماس

* في إطار سؤال المتن التعليمي؛ بمعنى مضمون الدرس المدرسي قد ينبع من أكثر من مصدر ومرجع، فقد يستقيه الممارس البيداغوجي من تجارب واقعية تقدم للمتعلم/ة لاستكشافها وسبر غورها، عبر نماذج متنوعة من الطرق والاستراتيجيات والتقنيات مثل الرحلات والخرجات الميدانية والعملانية لزيارة المتاحف والمعارض وورش العمل التطبيقية كالمراسم أو المعامل ودور الطباعة وغيرها، فتغذي المتعلم/ة بحقائق ومعارف ومعلومات مستكشفة جديدة أو يستكشفها بطريقة محسوسة وملموسة وعميقة بنفسه مدفوعا من فضوله للمعرفة. فيكتسب بذلك ثقافة البحث وحل المشاكل؛ فيذهب في تعلمه إلى حل مسألة أو وضعية معينة لم يسبق له أن صادف محتواها أو مضمونها من خلال مكتسباته من التجارب الواقعية.

وفي إطار هذا السؤال يمكن استدعاء توظيف تكنولوجيا التعليم بشكل مبتكر وإبداعي في عرض التجارب والمواقف الواقعية على شكل مقاطع للفيديو أو برامج وثائقية أو أحداث اجتماعية للدراسة والبحث، ما يثير الفضول عند المتعلم/ة، ويحفزه على البحث والاستكشاف. كما يمكن توظيف منصات التعلم الإلكتروني والمحاكاة في تحليل ومناقشة تجارب تعليمية مستجدة ومبتكرة.

من خلال ما سبق وغيره يقف المتعلم/ة على جدوى الفضول والحافزية في التعلم بما فيه التعلم الذاتي، من حيث التعرف على مجموع الأسئلة المطروحة على الممارس البيداغوجي في نقده الذاتي، يؤدي إلى التعرف على مجموع الأسئلة الممكنة والقابلة للطرح على المتعلم/ة لاستكشاف رؤاه وأفكاره، وتلمس جهوده وتقديره لصالح فعل التعلم، ما يشيد لديه الدوافع الذاتية للتعلم والمعرفة والمشاركة والانخراط الإيجابي في بناء مستقبله، والاستمرار في عملية الاستكشاف حتى تصبح ثقافة عنده وسمة من سمات شخصيته.

ـ تشجيع المشاركة الفاعلة والنشطة: الأسئلة النقدية تدفع المتعلم إلى المشاركة الفاعلة والنشطة للمتعلم/ة اقتداء بالممارس البيداغوجي، خاصة عندما يكون السؤال يتعلق به؛ كأن يسأل الممارس البيداغوجي عن أسباب انخفاض نتائج جماعة القسم أو ضعف الحافزية لديهم اتجاه تيمة أو موضوع معين... ففي هذه المنطقة من الأسئلة النقدية تحث المتعلم/ة إلى التفكير والتحليل والاستنتاج فضلا عن التقويم وتركيب النتائج على الأسباب، فهو أمام القول المنطقي والموضوعي لا القول الإنشائي. ومن يشارك ممارسه البيداغوجي في الإجابة عن بعض الأسئلة المطروحة.

ـ تطوير الكفايات التحليلية وقدراتها ومهاراتها بشكل أساسي: تقود الأسئلة النقدية المتعلم/ة إلى تعميق البحث والتحليل ومساءلة تيمة الاشتغال إلى غير ذلك، حيث هذه القدرات والمهارات تخلق من المتعلم/ة متعلما معرفيا أو المتعلم الإبستيمي الذي ينتج الجديد ويبتكر المعرفة الجديدة، التي تنمي مختلف التخصصات العلمية والتقنية والاقتصاد والتطور الحضاري. وتزيح مفهوم المتعلم/ة من متعلم/ة مشحون الرأس بالمعلومات والمعارف والمعطيات، حافظ لها إلى متعلم/ة مفكر معرفي باحث ناقد مبتكر. يولد المعرفة من المعرفة ويوسع قاعدتها ويضخم تراكمها وترصيدها ويبتكر الجديد، يتجه نحو استقلاليته وحريته في التفكير والأداء والتعبير عن ذلك بوجهات نظره وقراراته.

فأهمية الأسئلة النقدية في العملية التعليمية التعلمية لا تكتفي بهذه الأدوار فحسب، وإنما تتعداها إلى البعد النفسي حين تجعل من المتعلم/ة إنسانا موضوعيا مع نفسه، يتقبل النقد البناء ويعتمده في تطوير ذاته وإمكاناتها المتنوعة، ويتقبل الحق ولو على نفسه باستقلالية تامة ويعترف بحقوق الآخرين قبل حقوقه، ويعمل على تحمل كامل المسؤولية عن نتائج قراراته وأفعاله. وصريح مع نفسه وغيره لا يعرف الالتواءات الحربائية ولا النفاق الاجتماعي القاتل للإنسان... هي دائما الأسئلة النقدية مطلوبة في الفعل التعليمي التعلمي لأنها معالم للطريق في تصحيح الاختلالات واستثمار الإيجابيات.

ـ سؤال برسم المستقبل:

مشهد واقعنا التربوي يفيد قلة السؤال النقدي في الممارسة الصفية للممارس البيداغوجي وباقي أطر المنظومة التربوية والتكوينية؛ تخوفا من مشرط جراحته المألم، الذي لا محالة سيعري عما تحت جلد منظومتنا التربوية والتكوينية من أورام وبؤر مرضية في أعضائها ووظائفها. فإبقاء مستور الجلد أسكن للواقع وتجميل له بدل إظهار شكله المتورم المقزز؛ لكن الطبيب الجراح الحكيم، والمحترف، والخبير، والعالم العارف، والإنساني؛ لا يكتفي بتوصيف الحالة المرضية، ولا بتسكينها بالمسكنات، بل يذهب إلى استئصال الورم من أساسه أو من جذوره، ليصح الجسم والجسد طلبا لصحة الإنسان. ولا صحة للإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي والرقميات والعالم الافتراضي مع مرض عقله. فصحة الإنسان من صحة عقله، والإنسان يرقى بعقله لا بجسده؛ فهل من ارتقاء لنا دون نقد ذاتي؟

***

عبد العزيز قريش

كثيرة هي المؤثرات على تكوين شخصية الفرد والجماعة، وبالنتيجة الحتمية صياغة فكره وقناعاته وعقائده الدينية والفكرية؛ فعلم الاجتماع تحدث كثيرًا عن شخصيات كل بيئة وطرق وأساليب معيشتها وأنماط تفكيرها؛ سواء كانت شخصية مدنية أو جبلية وريفية أو بدوية صحراوية.

والبيئة بشكل عام وبمفرداتها المعروفة، لا يمكن أن تُنسب إليها كافة الصفات والطباع وأنماط التفكير والسلوك؛ فالاقتصاد له مفعول السحر كذلك في صياغة الشخصية وتوجيه سلوكها وتحديد أطر تفكيرها، ومن ضمن هذه الشخصيات، تأتي الشخصية الريعية والتي ينتجها عادة الاقتصاد الريعي (أحادي المصدر)، وكما هو الحال في أقطار الخليج العربية، فلو نظرنا اليوم حولنا لوجدنا أن أغلب الشخصيات والمجتمعات شكّلها الاقتصاد بطابعه ونوعه وثقافته المصاحبة له.

نحن في أقطار الخليج العربية، انتقلنا مع استخراج النفط من اقتصادات تقليدية تعتمد على الرعي والحرف اليدوية والصيد البحري والزراعة، إلى اقتصادات ريعية مصدرها الوحيد استخراج النفط وتدوير عوائده في مفردات التنمية، وهذا النوع من الاقتصاد أنتج لاحقًا عقلية الشريك النائم والتجارة المستترة وثقافة الثراء بامتياز؛ حيث رَكَنَ المواطن والتاجر والحكومة معًا إلى الدعة والراحة بانتظار عوائد الدخل الشهري، أيًا كان مصدره أو نوعه أو إدارته، أي عائد بلا جُهد.

الخطورة في عقلية الاقتصاد الريعي وثقافته تكمن في البقاء تحت رحمة المصدر الواحد للدخل وتذبذب أسعاره، مع التوسع التنموي غير المدروس، وبالنتيجة مضاعفة الإنفاق على حساب الدخل في كثير من الأحيان، والدخول في سقف المديونيات والقروض للحفاظ على معدل وتيرة الحياة، دون مراعاة عواقب ذلك.

كما إن عقلية الريع أنتجت أخطر وأسوأ أنواع الاقتصادات والتي تُعرف بالاقتصاد الطفيلي (عقارات، أسهم، تأسيس مصارف وشركات...إلخ)، وهذا الاقتصاد والذي لا يراعي شيئًا من قيم التجارة وثقافتها، ولا يحقق أي وزن للقيمة المضافة في مشروعاته واستثماراته؛ بل ولا يستفيد منه من هم أبعد من الحلقة الضيقة الأولى لأصحاب رأس المال، وهذه في مجملها من ظواهر ثقافة الثراء الخالية من قيم الاقتصاد وثقافة التجارة وقيمها.

يُمكن للشخص تمييز كل شخصية بتأثير اقتصادها وثقافته عليها؛ حيث تجد التجديد والتنوع والإبداع لدى أبناء الاقتصادات النوعية المتعددة المصادر، وتجد الانكماش التجاري والفكري لدى أبناء الاقتصادات الريعية.

لم يكن للعملاق الصيني أن يجتاح العالم بعقلية الفلاح التي أنتجتها ثورة الزعيم "ماوتسي تونج" الثقافية، لولا تطعيمها بعقلية الصناعة والإنتاجية، تلاها تطعيم الاشتراكية الصينية ببعض مفردات الرأسمالية المنضبطة، مثل: السماح بالملكية الفردية وحمايتها، وحرية تنقل رؤوس الأموال من وإلى الصين وفق المعايير المصرفية العالمية، كما إن ثقافة الاقتصاد الشامل التي غرسها الزعيم أحمد سوكارنو في شعبه الإندونيسي في الخمسينيات من القرن الماضي، حفّزت كل مواطن على إنتاج ما يجيده من موقعه بدءًا من منزله، وخلّقت عقلية إنتاجية تنافسية نقلت إندونيسيا إلى مصاف الاقتصادات العملاقة في العالم بخطى حثيثة.

الاقتصاد اليوم هو المؤشر القيمي والعلمي والأخلاقي للشعوب، ومن أراد التحكم في تلك القيم وتأطيرها، عليه تأطير قيم اقتصاده ورسم ملامحه أولًا وقبل كل شيء.

قبل اللقاء: لم تعد الحاجة أم الاختراع اليوم؛ بل الاختراع هو الحاجة بذاتها، فليس بالضرورة أن تخترع لحاجتك؛ بل ما يحتاجه غيرك كذلك.

وبالشكر تدوم النعم.

***

علي بن مسعود المعشني - كاتب عماني

بداية خلق الله سبحانه وتعالي المخلوقات وسخرها لبني الإنسان لتيسير أمور حياته ولقضاء حوائجه وإشباع لذاته ورغباته المشروعة، فهو المخلوق الوحيد علي سطح الأرض من سخرت له بعض المخلوقات حتي تكون تحت طوعهِ وإرادتهِ وتلبية رغباته سواء كانت من الحيوانات أو غيرها من المخلوقات التي يتحكم بها الإنسان في وجودها وبقاءها، ومن المعروف أن الأضحية في العيد الأكبر هي إحدى أهم شعائر الإسلام، والتي يتقرب بها المسلمون إلى الله سواء كانوا من الأغنياء أو الفقراء، بتقديم ذبح من الأنعام، وذلك من أول أيام عيد الأضحى المبارك، حتى آخر أيام التشريق الثلاثة، ولذلك فهي من أهم الشعائر المشروعة والمجمع عليها، فهي سنة مؤكدة لدى جميع مذاهب أهل السنة والجماعات الفقهية سواء عند الشافعية أو الحنابلة أو المالكية، ما عدا الحنفية.

وإيماناً منا لهذا الدين الحنيف بكل أصوله وفروعه التي شرعها الله سبحانه وتعالي، وبكل ما جاءت به الشريعة الغراء من فرائض وواجبات وسنن، كان لزاماً علينا الوقوف ضد الذين يبتدعون البدع، ولعل قائل بأن هناك بدعة حسنة وأخري سيئة! لا ليس هناك في الشرع تقسيم للبدعة إلي حسنة وسيئة، حيث أن جميع البدع سيئة كما أقر بذلك الإمام أحمد السرهندي(1)

فإذا نظرنا إلي أمثال هؤلاء من الحاقدين للإسلام نجد أنهم يحاولون أن يضعوا العسل في السم، ويخرجون إلينا أموراً وفتاوي مبتدعة لا أنزل بها من سلطان، إنما مقصدهم ومبغاهم الوحيد هو هدم شعائر الإسلام محو سننه التي جاءت به شريعتنا الغراء، لذا وقد كانت من الأسباب التي دعتني إلي كتابة هذه السطور هو أنني قرأت في إحدى صفحات التواصل الاجتماعي المشهورة تعليقاً نصه كالآتي (ذبح الأضاحي يساهم في إهدار الثروة الحيوانية، ولا يفيد فقير ولا جائع، أنصحكم بالتبرع بثمن الأضحية لعائلة فقيرة فقد يسد رمقهم شهر كامل) هذا هو نص التعليق، ونلاحظ أن هذه الكلمات وإن كان ظاهره الشهد إلا أنه في الحقيقة يحمل في أحشاءه السم، فقد بدأ كلامه بأن ذبح الأضاحي ما هو إلا إهدار للثروة الحيوانية، وهو السبب الذي دفع به إلي إنكار ورفض هذه السنة، وتابع كلامه أن هذا الفعل من الذبح لا يفيد فقير ولا جائع، وهنا سأقوم بالرد علي تلك الشبهة بما قدر لي الله تعالي أن أرد علي هذه الخزعبلات التي يريدون من وراءها هدم سنة من السنن المؤكدة في الإسلام.

والرد على هذه الشبهة من عدة جوانب:

1-الحكم الشرعي

2-الناحية الاقتصادية

3-الناحية العقلية

أولاً: من ناحية الحكم الشرعي:

فالأضحية: سنة مؤكدة، وهذا ما ذهب إلية الجمهور: المالكية في المشهور، والشافعية، والحنابلة، ومذهب الظاهرية(2).

أما الدليل الشرعي من القرآن فنجد أن هناك الكثير من الآيات القرآنية التي تناولت الحكم من مشروعية تلك الأضاحي.

قال تعالي: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر َفَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ)(3)

وقال تعالي (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعیَ قَالَ یَـٰبُنَیَّ إِنِّیۤ أَرَىٰ فِی ٱلمَنَامِ أَنِّیۤ أَذبَحُكَ فَٱنظُر مَاذَا تَرَىٰ قَالَ یَـٰۤأَبَتِ ٱفعَل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِیۤ إِن شَاۤءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِینَ)(4)

وقال تعالي: (وَٱلبُدنَ جَعَلنَـٰهَا لَكُم مِّن شَعَـٰۤىِٕرِ ٱللَّهِ لَكُم فِیهَا خَیر فَٱذكُرُوا ٱسمَ ٱللَّهِ عَلَیهَا صَوَاۤفَّ فَإِذَا وَجَبَت جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنهَا وَأَطعِمُوا ٱلقَانِعَ وَٱلمُعتَرَّ كَذَ لِكَ سَخَّرنَـٰهَا لَكُم لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ)(5)

وقال تعالي أيضاً: (وَلِكُلِّ أُمَّة جَعَلنَا مَنسَكا لِّیَذكُرُوا ٱسمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِیمَةِ ٱلأَنعَـٰمِ فَإِلَـٰهُكُم إِلَـٰه واَ حِد فَلَهُۥ أَسلِمُوا وَبَشِّرِ ٱلمُخبِتِینَ)(6)

قال ابنُ تيميَّة: إنَّها مِن أعظَمِ شعائِرِ الإسلامِ، وهي النُّسُك العامُّ في جميعِ الأمصارِ، والنُّسُكُ مقرون بالصَّلاةِ في قوله تعالى: (قُل إِنَّ صَلَاتِی وَنُسُكِی وَمَحیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلعَـٰلَمِینَ)(7)، وهي مِن ملَّةِ إبراهيمَ الذي أُمِرْنا باتِّباعِ ملَّتِه، وبها يُذكَر قصَّة الذبيحِ، فكيف يجوز أنَّ المسلمينَ كُلَّهم يتركونَ هذا ولا يفعَلُه أحدٌ منهم، وترْكُ المسلمين كُلِّهم، هذا أعظَمُ مِن تَرْكِ الحجِّ في بعض السنين. وقد قالوا: إنَّ الحجَّ كلَّ عامٍ فَرْضٌ على الكفايةِ؛ لأنَّه من شعائِرِ الإسلامِ، والضحايا في عيدِ النَّحرِ كذلك، بل هذه تُفعَل في كلِّ بلدٍ هي والصَّلاةُ، فيَظْهَرُ بها عبادةُ اللهِ وذِكْرُه، والذَّبْحُ له والنُّسُك له ما لا يظهَرُ بالحجِّ، كما يظهَرُ ذكرُ الله بالتكبيرِ في الأعياد(8)

وقد جاء في السنة النبوية:

عن البراء بن عامر رضي الله عنه: قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم: (من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نُسكُه وأصاب سُنة المُسلمين)((9)

وفي هذا الحديثِ يَرْوي البَراءُ بنُ عازبٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّه سَمِع النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو يَخطُبُ يومَ عِيدِ الأَضْحَى، فَبَيَّن النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ هَدْيَه وسُنَّتَه في يومِ الأضحَى: أنْ يُبدَأَ أوَّلًا بصَلاةِ العِيدِ، ثمَّ يَأتيَ بعْدَ ذلك ذَبْحُ الأُضحيَّةِ، فمَن فعَل ذلك فقدْ أصابَ السُّنَّةَ، ووافَقَ طَريقتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وحَصَلَ له الأجرُ(10)

ثانياً: من الناحية الاقتصادية

والرد على الشبهة المذكورة من الناحية الاقتصادية فإنه إذا نظرنا إلى الأضحية وأهميتها نجد أن الأمر ليس به إهدار للثروة الحيوانية إطلاقاً، وذلك لأن الإهدار في معناه من وجهة نظري هو التبذير في الشيء بغير وجه حق أو هو معناه ما يقابل عدم الاستفادة من الشيء، وهنا في ذبح الأضاحي في الإسلام لا يدعوا إلى الإسراف أو الإهدار كما يزعم البعض من الرافضين للأضاحي، بل أننا نجد أن الإسلام كان حريصاً كل الحرص على ان تكون تشريعاته متفقة مع منهج الإسلام العام وهو المنهج المعتدل الوسطي، فنجد أن جميع الجلود التي تخرج من الأضاحي يتم استغلالها ودبغها في شتي الصناعات المتعلقة بالجلود.

ثالثاً: من الناحية العقلية

أما من الناحية العقلية فمن المعروف أن من شروط الأضحية أو من شروط صحتها سواء كانت من الأبل أو البقر أو الشاة هو أن تكون قد أتمت السن المُعتبر لها، فبالنسبة للإبل فإن العمر المُعتبر لها للذبح هو أن تكون قد أتمت خمس أعوام، وبالنسبة للبقر لا بد أن تكون قد اتمت أيضاً عامين، وفي الغن عام واحد على الأقل، أما في الضأن فقد رُخص ما أتم ستة أشهر فما فوق علي أن تكون قد أجدع، لذا فمن الناحية العقلية لا يمكن التسليم العقلي بأن ما يترتب علي كثرة الأضاحي يكون نتيجة حتمية لإهدار للثروة الحيوانية.

وذلك لأن:

- أن المُعتبر في الثروة الحيوانية هي كل الحيوانات فالحيوانات تشمل جميع الفصائل المختلفة منها، ويمكن القياس على ذلك أن الأُضحية المشروعة في الشريعة الإسلامية ليست غير الفصائل المذكورة آنفاً كـ (الإبل والبقر والأغنام والمعز)

- كما أن الإسلام قد وضع شروطاً محددة للأضحية من ضمنها أن تكون قد بلغت العمر المذكور لها، علماُ بأن الإسلام يمنع أيضاً ذبح الحوامل من هذه الحيوانات، فمن أين يأتي إذاً الإهدار في الثروة الحيوانية، والسؤال هنا لو الثروة الحيوانية تتأثر بتلك الأضاحي فلماذا لم تنقرض بعد فمن العقل أنه لو كان هناك إهدار للثروة الحيوانية لكانت قد انقرضت تلك الحيوانات ونحن جميعاً نعلم أن هذه الشعائر الإسلامية تُقام منذ بعيد.

وخلاصة القول

أن هناك الكثير من المقاصد النبيلة والسامية من وراء هذه الشعائر الإسلامية فكما ذكرنا من قبل أن الإسلام كان حريصاً كل الحرص على أن تكون تشريعاته متفقة مع منهج الإسلام العام وهو المنهج المعتدل الوسطي، ومن تلك المقاصد الإمتثال لأوامر الله تعالي والإذعان له، ومن أنكر سنة من السنن النبوية الشريفة فيكون بذلك قد أنكر شيء معلوماً من الدين بالضرورة، كما أن المتمثل لأمر الله تعالي يُحيي ذكري قصة سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام وتعلم الدروس المستفادة من تلك القصة، كما أن المسلم بإحيائه شعائر الأضحية فإنه بذلك يتخلص من الشُح والبخل والضغينة وتطهير قلبه من تلك الرذائل، وعندما يشتري المسلم الأضحية ويقوم بتوزيعها علي الفقراء والمساكين فهو بذلك يكون قد أحيا بقلبه معني العطاء.

هذا والله أعلم

***

كتب أركان حربي العوضي

ماجستير فلسفة إسلامية كلية الآداب جامعة المنيا

......................

(1) هو الإمام أحمد الفاروقي السرهندي من مدينة سرهند بالهند لقب بمجدد الألفية الثانية، حيث كان السبب من وراء ذلك اللقب هو أنه كان السبب الرئيسي لبقاء الإسلام في الهند وللوقوف علي تفاصيل أكثر عن سيرته الشريفة، يمكن الاطلاع علي مكتوباته الربانية في ثلاث أجزاء المسماة بالدرر المكنونة.

(2) الدرر السنية، الموسوعة الفقهية: ذبح الأضحية، إشراف عام: علوي بن عبد القادر السقاف الرابط:https://dorar.net/feqhia/3074/

(3) سورة: الكوثر.

(4) سورة: الصافات، الآية 37.

(5) سورة: الحج، الآية 36.

(6) سورة: الحج، الآية 34.

(7) سورة: الأنعام، الآية162.

(8) شيخ الإسلام ابن تيمية: مجموع الفتاوي، جمع وترتيب: عبد الرحمن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد، السعودية، بدون ط، 1425هـ- 2005م، المجلد الثالث والعشرون، صـ162-163.

(9) أخرجه البخاري رقم (968)، ومسلم رقم (1961).

(10) مرجع سابق: الدرر السنية، الشروح الحديثية. الرابط: https://dorar.net/hadith/sharh/6045

لم تكن العِمامة قديماً، عند العرب، تخص فئةً مِن النّاس، وليس لألوانها دلالاتٌ دينيَّةٌ، وأول مَن جعل السوداء منها زياً رسمياً أبو جعفر المنصور(ت: 158هـ)، مع سواد الرَّاية أيضاً (العسكريّ، كتاب الأوائل). ثم انتقلت وصارت زياً لرجال الدِّين الشِّيعة الإماميَّة، المنتسبين لسلالة النُّبوة. بعدها صار لكلِّ مذهبٍ عمامتُه، حتَّى رأينا في إحدى ملتقيات الحوار الدِّيني رجل يعتمر عمامة خضراء، وفوقها مجسدٌ للقبةِ النَّبويَّة.

كثرت أخبار العمائم في كُتب الأدب العامة، وكُتب تشريفات الخلافة، ومَن أفرد لها كتاباً خاصاً: «دفع الملامة في استخراج أحكام العِمامة» لابن المُبرد(ت: 909هج)، جمع فيه أطرزة العمائم واختلافها. كذلك صدر كتابُ «العِمامة» أعده سعود الرُّومي (الرِّياض 2014)، لم يترك كبيرةً ولا صغيرةً في العمائم إلا ذَكرها. ولم أجد بينها طرازَ عمامةٍ رأيتها بهيئة مختلفة، ولحقتُ الرَّجل في أزقة سوق القلعة بأربيل، مِن زمن بعيد، وسألته عن شأن عمامتهِ؟! فقال: «يا ولدي، نحن في موسم الأمطار، لذا غلفتها بالنَّايلون كي لا تبتل». قالها بأريحيّة معهودة عند العديد مِن رجال الدِّين غير المتحزبين.

ظل السُّودانيون والعُمانيون واليمنيون متمسكين بها، دون شرطها الدِّينيّ. بقدر ما كثر معتمرو العمائم كثر خالعوها، وصلةٌ بخلعها أثير الجدل حول مقالتي عن الشَّاعر السُّعوديّ محمَّد العلي: «جِدَّة.. تُكرم العليّ زميل مروة بالنَّجف»(الاتحاد 21/12/2022)، مَن نفى صلته بحسين مروة (اغتيل: 1987) وَمن أنكر تعممه، لكنّ ما عرفته أنّ الرَّجل درس بالنَّجف وتعمم، ثم تخلى عن عمامته، وهذا شأن مروة أيضاً، وأخذتُ الزَّمالة في المجال العام، فكلاهما درسا بالنَّجف، وكلاهما لم تصمد العمامة فوق رأسهِ. خلعها مروة قُبيل نزوله بمحطة أور/النَّاصريَّة (بعد 1940)، ليستلم وظيفته مدرساً للأدب العربيّ بثانويتها (مروة، خبايا السّيرة)، ولم يعد لها، بعد أغراه الفكر الاشتراكيّ.

أمَّا معروف الرُّصافي (ت: 1945) فخلعها بإسطنبول مكرهاً، حين وصلها في الانقلاب الاتحاديّ(1908)، فحصل استبدال الطَّرابيش بالعمائم. دخل مقهى أحد السوريين فطرده، حتى وجد دكان ملابس، فارتدى بذلةً حديثةً واعتمر طربوشاً، تاركاً جبته وعمامته عند صاحب الدُّكان (الرُّصافيّ، يروي سيرته)، ثم عشق أبا العلاء(ت: 449هـ) حتَّى ناجاه «يا أبتِ»، وسمَّاه بشاعر البشر والمخلوقات (الرُّصافي، رسائل التعليقات)، ففارقها نهائياً. بينما ظل جميل صدقي الزَّهاويّ(ت: 1936) يناور بين الطَّربوش والبنطلون ليلاً، والعِمامة والجبة نهاراً، فهو ابن المفتي وأخو المفتي، حتّى اعتنق نظرية «أصل الأنواع»، وافتخر أنه أدخل دارون إلى العراق (الرُّشوديّ، الزّهاوي دراسات ونصوص)، فجفا العمامة إلى الأبد.

لم يقتفِ الرُّصافيّ ولا الزَّهاويّ أثر رجال الدِّين بتركيا ومصر والشَّام، لما سُمح لهم الاحتفاظ بعمائمهم بشرط يتوسطها الطَّربوش الأحمر، وظلوا هكذا إلى يومنا. أمَّا محمد مهدي الجواهريّ(ت: 1997)، فعمل مدرساً، وفي البلاط الملكيَّ، والعِمامة على رأسه، حتّى قال وتخلى: «قال ليّ صاحبي الظَّريف وفي/ الكفِّ ارتعاشٌ وفي اللِّسان إنحباسة/أين غادرت عِمةً واحتفاظا/ قُلتُ طرحتُها في الكُناسة»(النَّزعة: 1929).

وافقني أحد المعممين أنه قصد المحلة المعروفة بالكوفة، حيث صُلب زيد بن عليّ(122هج)، ولهذا قيل: «إنا وجدنا قفيراً في بلادكم/أهل الكُناسةِ لأهل اللؤم والعدمِ»(الحمويّ، معجم البلدان)، أو أنَّه ترك المعنى مشرعاً!

بسبب الإقامة الطَّويلة بطهران وقُمّ، والدّراسة في الحوزات الدِّينيَّة، تزايد عدد المتعممين بالعِراق، وبسبب الوضع الذي تتصدره الأحزاب الدِّينيَّة، والخطاب الهابط، والزيادة في الفساد، كثر أيضاُ خالعو العمائم، وبينهم مَن يتبوأ الآن الدَّعوة العاقلة إلى التَّنوير والتَّقدم، بالمقابل منهم مَن شطح وجهل «فوق جهل الجاهلينا». هذا، وبينهم مَن انقلب على شروط عمامته، لكنه ظل يعتمرها، سوداء أو بيضاء، سلاحاً في الجدل، متقلباً بين اعتمارها وخلعِها.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

   

الدِّين هو قوة روحية تسمو على الرغبة والرهبة، وتملأ النفوس بفيض من الحب والجمال والكمال والقدسية الإلهية التي تضبط أفعال الإنسان وانفعالاته، وتكون شخصيته وتفكيره وسلوكه وتعامله مع نفسه ومع غيره، وتجعل من ذاته رقيباً على ذاته، ومن ضميره وجداناً خالصاً لا يضل ولا يُخدع .

وإذا نحن أردنا التعرف على قيمة الدين، أي دين، في مجتمع ما، فلن يكون ذلك بالنظر إلى سلوكيات أتباعه بداخل مساجد وجوامع ومصليات وحسينيات المسلمين، ولا في كنائس وكاتيدرائيات المسيحيين، ولا في بيع اليهود، و لا في غردوارات السيخ، أو اواتات -ج وات- البوديين والهندوس، والتي يفرض التواجد بها جميعها، أنماطاً سلوكية استثنائية من التعامل الظاهري المليء بالمثالية غير الموجودة في الواقع، ويكون بالنظر لسلوكيات الناس في المجامع التي يرتادونها خارج تلك المعابد، كالشوارع والأسواق والمدارس والمعارض والملاعب الرياضية، حيث يخضع الناس فيها إلى جملة من التجاذبات والمؤثرات الخارجية المعقدة نفسيا وماديا، التي تشكل العامل الحاسم تكوين التصورات الخاطئة عن الدين والتعاطي السيئ مع تشريعاته وفرائضه ونواهيه، التي، ينصرف ممارسوها، وبلا حرج، للكذب والنفاق والرشوة وباقي أنواع الفساد المذمومة أخلاقيا، والمحتقرة اجتماعيا، والمحرمة دينيا، والتي غدت بعد أن تحولت في الحقب الأخيرة، إلى مجرد طقوس لا علاقة لها بالحق والعدل، وسمة وقاعدة عادية تؤثث المشهد الاجتماعي، وتمارس باحترافية، كهوية مفضلة لدى الأغلبية الساحقة، ضدا في الأخلاق الحميدة التي هي أساس قيام الحضارات، والوسيلة المثلى لتحقيق المساواة والعدالة الشاملة المفضية إلى تقدم الأمم ونجاحاتها، المؤدية إلى استتباب الأمن وشيوع الاستقرار في المجتمعات، التي تبحث عن البدائل الأنجع للقضاء على الفساد، أو ضمان الحد من تغوله، على الأقل، في حال العجز عن القضاء عليه نهائیا، كما هو حال العديد من الدول الغربية المتقدمة، التي تستخدم قوة إرادتها السياسية في تنفيذ ذلك بفعالية وصرامة في ظل القوانين والقيود والإجراءات العقابية والتربوية التي تعود إنسانها على تحمله لمسئولياته الذاتية، وعدم تعليق فشله على الأساب الغيبية البعيدة عن أدائه على الأرض، ودفعه لمحاسبة نفسه محاسبة تصفيها وتنقيها مما يمكن أن يبدرَ منها من أعمال، فيتابع ويكثرَ ما كان منها صالحا، ويتوب عما كان منها سيئا ويتعهد بعدم الرجوع إليه ثانيةً، بخلاف مجتمعاتنا المتخلفة التي لا يتورع أغلبية الناس فيها في استغلال أي فرصة تتاح لهم –وحتى التي لا تتاح - للسرقة والاختلاس، لما جبلوا عليه من الاستعداد الفطري لتقديم المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، وتأهبهم لاقتراف كل التجاوزات حتى التي يمكن أن يسقط بسببها أبرياء- والتي تفضحها الكثير من السلوكيات التي تعتبر لد ى الغالبية العظمى، مع الأسف، أنها تصرفات عادية وبسيطة وربما تافهة، رغم أنها تكشف عما لدى أصحابها من بوادر الفساد وميولات اللصوصية والإستعداد للانقضاض على المال العام، وميلهم للتسلّق على أكتاف الغير لتحقيق لمصالحهم الشخصية، والتي من بينها على سبيل المثال، تلك التصرفات التي يعتبرها البعض شطارة و "قفوزية "بينما هي أنانية و قلة احترام "للاتيكيت " واستغلال للفرص: كعدم احترام إشارات المرور، وتجاوزها عنوة وضدا في كل قوانين السير، و قلة احترام الطوابير وتخطيها دون أي اعتبار للواقفين فيها، و كما يقوم به البعض عندما يكونون في ضيافة غيرهم، أو عند تواجدهم بالمطعم أو الاماكن العامة، فيتعمدون وضع كميات من السكر في الشاي أو القهوة أكثر مما يفعلون في منازلهم، أو كاستخدامهم المزيد من المناديل الورقية أو الصابون أو العطور أكثر مما يستخدمونها في بيوتهم، أو كاستهلاكهم لكمية زائدة من الطعام أكثر مما يلتهمونه في بيوتهم، لمجرد أن غيرهم سيسدّد الفاتورة.

فمن يلتمس في نفسه بعض من هذه الخصال أو جميعها، فليعلم أن لديه ميولات غريزية للعنصرية والفساد واللصوصية والاختلاس وتبذير المال العام، ومن المُحتمل أن ترتكبها مجتمعة أو متفرقة، دون وعي منك إذا هي صبت في مصلحتك الشخصية، و تستسلم بسهولة لمغرياتها، حتى لو كانت ضد مصلحة وطنك ومصالح البشرية جمعاء، لأنك أناني ونرجسي ومغرور وتحب الكسب والربح لك وحدك، حتى لو كان على حساب الآخرين.

ملخص القول، على القيمين على شؤون الناس، إن هم أرادوا كسر هذه الحلقة المفرغة من السلوكيات المتخلفة، إلا إخراج دين الله من المساجد إلى الأماكن التي يرتادها عموم الناس، ليتشبع الجميع بتعاليم الدين الخالصة وقيمه النقية، وعندها سيبتسم الغد المشرف لهم وللبشرية جمعاء .

***

حميدطولست

التعدد العرقي واللغوي وأثره على ثقافة التعايش الحضاري والديني في المغرب

ما ان تطأ قدم أي مواطن عربي لأرض المغرب ويتجول في مناطقها المختلفة، حتى يستشعر الثراء الثقافي والحضاري، والجمال الأخاذ الذي يشع من جنبات البيوت،القصور، والجوامع والصوامع، والبساتين الفسيحة، والحدائق.

القادم لبلاد المغرب سرعان ما يتذوق جماليات فنونها وطقوسها وعاداتها وتقاليدها الاجتماعية والدينية المتنوعة، والذي تتميز به كل منطقة ومدينة وقرية عن الاخرى رغم الرابط الوطني الذي يجمعهم.

يظل للتعدد العرقي والديني واللغوي بالمغرب نكهته الخاصة في اصباغ الحياة الثقافية والاجتماعية والفكرية بطابع قبول الاخر والتفاعل معه ومعايشته على ارضية من التسامح والتعاون مع احتفاظ كل مكون عرقي بمكوناته الثقافية المتوارثة في نسيج يكمل بعضه بعضا وينصهر في فسيفساء بديع التكوين والجمال.

وكان للموقع الجغرافي للمغرب دور في اشاعة هذا التنوع الثقافي بمدلولاته العرقية والدينية واللغوية فالمغرب جغرافيا يعد معبرا لتلاقي الغرب والشرق معا، حيث يتقارب مكانيا مع شبه جزيرة ايبيريا ويتماس مع الصحراء الكبرى وأفريقيا ودول المشرق العربي.

ولذلك عبرت الى المغرب العديد من الحضارات واللغات والثقافات القديمة كالفينيقية واللاتينية واليهودية والمسيحية والعربية والإسلام، وايضا الفرنسية والإسبانية والبرتغالية.

وهذه الثقافات مع انحسار بعضها بفعل تقادم الازمنة، الا ان اثارها قد انصهرت بالثقافة المغربية وامتزجت بها لتشكل هويتها الخاصة، وهو ما يتجلى في العديد من المظاهر الحضارية، منها على ـ سبيل المثال لا الحصر ـ الاثر الاندلسي في الموسيقى والمعمار، خاصة مدينة تطوان وطرازها المعماري الغرناطي.

وتعكس فنون المعمار بالذات عبقرية التلاقح الثقافي والحضاري المغربي، وتبرز في روعة العمارة الفنون الإسلامية التقليدية، مثل الصوامع التي تحذب السياح صومعتي الكتبية بمراكش، وحسّان بالرباط، وشبيهتهما “لاخيرالدا ” بمدينة إشبيلية بإسبانيا. والتي هي من بناء الموحّدين.

وايضا روعة الحصون، والأبواب الشامخة، والأضرحة، والمساجد المشهورة بالأسقف الخشبية المنقوشة والأعمدة الرخامية، والزلّيج الملوّن، الموزاييك ذي الرسوم والألوان والخطوط البديعة الزاهية.

ويتجلى التعايش اللغوي والعرقي من خلال اللغة العربية واللغة الامازيغية، والتلاقح بينهما قد لعب دورا في تشكيل الهوية الثقافية للمغرب، بجانب الثقافة الحسانية الشفهية والتي يمتزج فيها ثقافة عرب المغاربة بموريتانيا، ولا تزال تحافظ على ذاكرتها الجماعية عبر اللغة العربية العامية حتى اليوم عبر جلسات السمر واحتساء الشاي، بجانب حضور اللغات الأجنبية الفرنسية والإسبانية والإنجليزية.

والبصمة الافريقية لا يزال حضورها في المشهد الثقافي المغربي انطلاقا من دورها في نشر الدين الاسلامي بالمغرب والعلاقات القديمة مع الزنوج ومع السودان تجاريا وثقافيا واجتماعيا، قد ترك ارثه الثقافي بالمشهد المغربي وانعكس بالعديد من الطقوس المغربية التي تزال حية خاصة في مدينة مراكش وما تذخر به من فنون الحكايات والطرز المعمارية الافريقية.

وللثقافة العبرية حضورها بالمشهد الثقافي والاجتماعي المغربي كجزء أصيل من مكونات المجتمع عبر اليهود المغاربة، والتي تتجلى في العديد من الشواهد الحضارية كالمخطوطات المكتوبة بالعبرية على الطريقة المغربية، وصناعات الملابس، وأحياء الملاح السكنية التي يسكنون بها، والمعابد والمواقع الاثرية، كما ساهم اليهود المغاربة في تنشيط حركة الصناعة خاصة الحرف اليدوية وصناعات الذهب والفضة.

وألقى التنوع العرقي والحضاري بتأثيراته القوية على المطبخ فشهد تنوعا واسعا وابتكارات في أصنافه ارتباطا بانفتاح المغاربة منذ القدم بالحضارات المجاورة او التي هربت اليه واستوطنته، او التي حكمته.

فنجد ابداعات للمطبخ الامازيغي والاندلسي والتركي والمغاربي والشرق أوسطي والافريقي تتمازج فيما بينها لتقديم هوية خاصة للطبخ والذائقة المغربية.

الثراء والتنوع في الفلكلور المغربي يفتح شهية عشاق الفنون حيث تتعدد الايقاعات في الفنون الشعبية ارتباطا بتعدد البيئات بالقرى والبوادي، والمداشر، والأرباض، ونجد انعكاس الثقافات في الطرب الأندلسي، والغرناطي، والمدائح والفنون الأمازيغية، ورقصات اكناوة، ورقصات أحيدوس، والركادة، والدقّة المرّاكشية، والطقطوقة الجبليّة وغيرها

وللازياء خصوصية تاريخية بالمغرب وعلى رأسه " القفطان " الذي يرجعه المؤرخون الى عصر المرينييّن، فان للتبادل والتنوع الثقافي للمغرب أثره في نبوغ مبدعيه وفلاسفته مثل الفيلسوف والفقيه العلاّمة ابن طفيل صاحب ” حيّ ابن يقظان”، وتلميذه قاضي إشبيلية، وعالمها، وطبيبها، أبو الوليد محمّد بن رشد

هذا الغني الثقافي والحضاري التي يعيشه المغرب نتاج طبيعي لتعايش انساني بديع لكل المكونات الثقافية واللغوية والعرقية التي تحيا على هذه الارض الطيبة فهل كان هذا التمازج الثقافي الحضاري وقبول الآخر وعدم نبذ الثقافات والحضارات والديانات الاخرى و المختلقة سببا في التعايش السلمي السياسي والمجتمعي وهل كان عدم تصنيف وتوصيف المواطن بناء على دينه وعرقه سببا في الاستقرار السياسي ادامه الله عليهم ووهبه لجميع خلقه (آمين) وهل كان هذا التعايش والتبادل والانسجام سببا في تنوع مصادر التجارة والصناعة بل والسياحة في المغرب مما ادى لاستقرار اصحاب الثقافات المختلفة والديانات المتنوعة في وطنهم وحال دون هجرتهم وانقراض نوع معين او عدة انواع عن الساحة الوطنية؟ وهل كان لكل هذا دور في عدم تعرض المغرب لهجوم خارجي من قبل اصحاب المؤامرات او اصحاب اجندات الانتقام التاريخي؟ وهل المواطنة والانتماء مبني على عرق او لون او دين ام مبني على المساواة في الحقوق والواجبات واعطاء الفرص وهل سيأخذ باقي العرب المغرب نموذجا للاحتذاء به للمحافظة على مكوناته كل هذه اسئلة تطرح وربما اجوبة تستدعي النظر اليها ودراستها من قبل من يحب وطنه ويتمنى له الاستقرار والتقدم.

***

بقلم سارة طالب السهيل

لعبت منطقة الهلال الخصيب، ومحيطها الجغرافي، المُمْتَد شمالاً، من الشام إلى العراق؛ وصولاً إلى عُمق الجزيرة العربية، جنوباً. تلك الجغرافيا، التي تَكَوَّنَت أفكار ساكنيها، وثقافتها، ودياناتها القديمة، في فلك الثقافة العربية التي كانت سائدة، قبل المسيحية، بقرون طويلة من الزمان. والتي كان لها، حضاراتها، وممالكها، التي لَعِبَت أدواراً مهمة، في تاريخ المنطقة، والعالم.

تلك المنطقة؛ التي أطلق عليها مفكرنا الكبير د. يوسف زيدان تسمية (اللاهوت العربي) هذا المصطلح الذي يستخدم للمرة الأولى في مثل هذه الدراسات والأبحاث؛ هي منطقة (العروبة) التي توسطت، وتداخلت مع دائرتي، الانتشار المسيحي، والانتشار الإسلامي، الذي ظهر فيها من بعد. والتي وصفها د. زيدان بأنها، الدائرة المشتركة التي عاشت زمانين، الأول مطمور والآخر مشهور. وأعني بالمطمور يقول د. زيدان: الزمنَ السابق على ظهور الإسلام، وهو الزمن المسمى اتفاقاً بالزمن (الجاهلي) مع أنه كان زمناً عربياً مديداً، مجيداً. غير أن مجد العرب الممتد في الزمن (الإسلامي) كان من السطوع في وعينا، بحيث حَجَبَ المرحلة السابقة على الإسلام من حياة العرب، وتركها حالكةً في ناظرينا، بل مهملةً مظلمةً.

شهد قلبُ الشآم الكبير، والعراق، هرطقاتٍ متوالية التوالد يصعب تحديد زمن ظهورها الأول. وهذه الاجتهادات الهرطوقية العربية، الساعية إلى تأسيس لاهوت مسيحي، مضاد للكريستولوجيا الأرثوذكسية وهيمنة المؤسسة الكنسية؛ ظهرت كلها في محيطٍ جغرافيٍّ محدد، وبين جماعة بعينها من الناس. فكان ذلك المحيط الجغرافي وكانت تلك الجماعة، هما بذاتهما المجال الذي ظهر فيه، بعد ظهور الإسلام، ما سوف يسمى بعلم الكلام..

ظهرت بواكير علم الكلام، في النصف الثاني من القرن الأول الهجري. وذلك عقب انتشار الإسلام في البلاد المحيطة بجزيرة العرب، واستقراره فيها. كانت هناك بدايات (تراجيدية) انطلق منها علم الكلام ذاته، في منطقة الشآم الكبير والعراق. فقد ظهر هناك، قبل المعتزلة والأشاعرة، جماعةٌ من أوائل المتكلمين، كانوا بمنزلة (آباء الكلام) إذا ما استعرنا من التراث المسيحي السابق عليهم تعبير: آباء الكنيسة.. هؤلاء الآباء المسلمين، الذين استكملوا الطريق الذي سار فيه أسلافهم المسيحيون العرب، فظهر معهم، وبهم (علم الكلام).. وكان هناك، أربعة من أوائل المتكلمين، هم مَنْ حازوا على لَقْب، آباء الكلام، وهم:

مَعْبَدُ الجُهني: كان الجهني، عربياً من قبيلة جهينة، وقد عاش في البصرة، وتم وصفه (بنزيل البصرة) أي أنه كان يعيش بالمحيط الثقافي العربي، الذي عاصر المسيحية قروناً. وكان مَعْبَد معدوداً من (علماء) القرن الأول الهجري.. وقد دارت آراؤه الكلامية، أو بدعته (هرطقته) حول نقطةٍ وحيدة، هي نفي الَقدَر.. التي تَجَلت، برفضه، ومناقضته؛ للمذهب الجبريَّ الذي حرص الأمويون على تعميمه بين الناس، لقبول الحكم الأموي باعتباره من الله، وأن الإنسان عموماً ليس بيده شيء، لأنه لا يملك دفعاً للمقادير الإلهية. لأن الله له مشيئة واحدة، لابد أن تتحقق! وقد صيغ، في مقابله، المذهب (القدري) صياغته الأولى، في عبارة مشهورة تقول: لا قَدَرَ والأمرُ أُنُف. وهو ما يُفهم منه أن الأمر، أو السلطان، مفروضٌ بسطوة الحكام رغم أنف المعارضين؛ ولا شأن لذلك بالقضاء والقدر (الإلهيين) فالمفروض على الناس، فرًضَهُ أُناسٌ آخرون، لهم مصلحة بذلك.

وقد صار معبد الجهني، هذا الأب المؤسِّس، الذي تتلمذ للنصارى، لرجلٍ اسمه سوسن، أستاذاً لواحد من مشاهير آباء المتكلِّمين، هو غيلان الدمشقي.

غَيلانُ الِّدمشقي: عاش (غَيلان) في القرن الأول الهجري، في مدينة دمشق الذي نُسِب إليها. وكان يقيم في زقاقٍ فقير قرب أحد أبواب دمشق، اسمه: باب الفراديس. ومعروفٌ أن دمشق واحدةٌ من معاقل (العروبة) في المسيحية والإسلام. وكان غيلان على صلة بالخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (خامس الخلفاء الأمويين) وقد عهد إليه الخليفة بتصفية أموال الظالمين من أقاربه، فأخذ غيلان ينادي لبيعها للناس في المدينة، صائحاً: تعالوا إلى متاع الظلمة، تعالوا إلى متاع الخونة.

ومذهب غيلان الكلاميُّ، أو بدعته، أنه قَرَّر ما يوافق مَعْبَداً القائل بالحرية الإنسانية، فصار يخالف في الوقت ذاته ما كان الأمويون يؤكِّدونه من الجبرية، ومن تقريرهم، أن كل ما كان، وما هو كائن، وما سوف يكون، إنما هو أمر الله وقَدَرُه.. غير أن غيلان ناقضهم في ذلك حين قرر ضمناً، أي من دون تصريح، أن الإنسان مختارٌ وأنه سوف يُحاسب على اختياره. وقد رفض الخليفة عمر بن عبد العزيز (صديق غيلان) كلامه وآراؤه، وشدد عليه في عدم مناداته بالحرية الإنسانية. ثم قتله الخليفة هشام بن عبد الملك، بسبب هذه الأقوال (القدرية) وبسبب الذين شَّهر بهم من بني أمية، والذي وصفهم بالظالمين والخونة.

الجعدُ بن دِرهم: هو ثالث (الآباء) المؤسسين لعلم الكلام، عاش بالشام وفي دمشق تحديداً، وكان مؤدِّباً لأبناء الخلفاء. وهو مؤدِّب الخليفة مروان بن محمد، آخر ملوك بني أمية، الذي سُمِّي (مروان الجعدي) نسبةً لأستاذه. ويتلخص مذهب الجعد بن درهم الكلامي، في أنه كان يقرِّر أن الله مُنزَّهٌ عن صفات الحدوث، وكان ينكر بعض الصفات الإلهية القديمة، ومنها صفة الكلام. مما يعني أنه يرفض، بالتالي، القول (القرآني) بأن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وأنه تعالى كلَّم موسى تكليماً. لأن ذلك فيما يرى الجعد بن درهم، لا يمكن أن يجوز حقيقةً على الله. ولم يتوسَّع المؤرِّخون في بيان (المعتقد) الذي قال به الجعد بن درهم، وإنما اكتفوا بتلك الإشارات الواردة أعلاه، وعَدُّوها دليلاً على زندقته (هرطقته)..

الجهم بن صفوان: هو صاحب أول (كلام) متماسك، وآخر آباء الكلام، وأخطرهم جميعاً حسبما رأى معاصروه الذين فتكوا به، وفقهاء الإسلام اللاحقون الذين شنَّعوا به ووصموه بأبشع التهم.. وُلد أبو محرز الراسبي، المعروف بالجهم بن صفوان سنة (80هجرية) وانتهت حياته نهايةً مريعة سنة (128 هجرية). وفي ترجمة موجزة، (للذهبي) عرَّف بها الجهمَ قائلاً: جهمُ بن صفوان، الكاتبُ المتكلِّمُ، أسُّ الضلالة ورأس الجهمية. كان صاحب ذكاء وجدال، كتب للأمير حارث بن سريج التميمي. وكان ينكر الصفات، وينزِّه الباري (الله) عنها..، ويقول بخلق القرآن، ويقول إن الله في الأمكنة كلها.

وقد أخرج علماءُ الاسلام (الجهميةَ)، جملةً، من دائرة الإسلام. وهو ما يظهر من (فتوى) الإمام ابن تيمية الحاسمة التي نصُّها: اتفق سلفُ الأمة، وأئمتها، على أن الجهمية من شَرِّ طوائف أهل البدع، حتى أخرجهم كثيرٌ (من العلماء) عن الاثنتين والسبعين فرقةً (الإسلامية)...

وقد لقي آباءُ الكلام مصائرَ مفزعةً تذكِّرنا بعصر الشهداء، ومعاناة آباء الكنيسة الأوائل. فالجهم بن صفوان قتله الأمير (سَلْم بن أحوز) بأصبهان، مع أن الجهم كان لديه عهد أمان من الأمير، أبن القاتل! ولما ذكر له الجهم ذلك، رد عليه سًلْم بقوله: ما كان ينبغي له أن يفعل، ولو فعل ما أمَّنتك، ولو ملأتَ هذه الملاءة كواكب (دنانير) وأبرأك إليَّ عيسى ابن مريم، ما نجوتَ. والله لو كنت في بطني، لشققتُ بطني حتى أقتلك.. وقتله.

وقُتل الجعد بن درهم قتلةً أشد فظاعة مما لقيه تلميذه الجهم، فقد قتله الأمير خالد بن عبد الله القسري، بجامع واسط بالعراق. وقع هذا الأمرُ الشنيعُ صبيحةَ عيد الأضحى. كان الجعد مسجوناً في سجن الأمير، فأخرجوه مُقيَّداً بأغلاله، فَجْرَ يوم العيد، وجاءوا به إلى المسجد الجامع فأجلسوه أمام الناس، تحت المنبر. وفوق المنبر راح الأمير خالد القسري يلقي خطبة العيد، التي انتهى منها بقوله للحاضرين: "ارجعوا فاضحُّوا، تقبًّل الله منكم، فأني مضحٍّ بالجعد ابن درهم".. ونزل فاستلَّ سكيناً وذبح الجعد، تحت المنبر، وسط المصلِّين، والناسُ ينظرون.

وقُتل غيلان الدمشقي بأشنع مما سبق. قتله الخليفةُ هشام بن عبد الملك في مجلس الخلافة. روى ابن عساكر في تاريخه ما ملخَّصه أن الخليفة الحانق على غيلان من قبلها بسنين، زعق فيه: "مُدَ يدك". فمدَّها غيلان، فضربها الخليفةُ بالسيف فقطها. ثم قال: "مُدًّ رجلك". فقطعها الخليفة بالسيف الباتر... وبعد أيام مَرَّ رجلٌ بغيلان، وهو موضوعٌ أمام بيته بالحيِّ الدمشقي الفقير، والذبابُ يقع بكثرة على يده (المقطوعة) فقال الرجل ساخراً: يا غيلان، هذا قضاءٌ وقدرٌ! فَردَ عليه: كذبتَ، ما هذا قضاءٌ ولا قَدَر.. فلما سمع الخلفة بذلك، بعث إلى غيلان مَنْ حملوه من بيته، وصَلَبه على أحد أبوب دمشق.

ومات مَعْبَد الجهني مصلوباً أيضاً، بعدما أُهينَ إهانات مريرةً.. يقول الذهبي: كان الحجاج بن يوسف الثقفي يعذِّب معبداً الجهني بأصناف العذاب، ولا يجزع.. وقال سعيد بن عُفير: في سنة 80 (هجرية) صلب عبد الملك بن مروان (الخليفة)، معبداً الجهني، بدمشق.

وعلى هذا النحو، دفع آباءُ الكلام ثمناً باهضاُ لهذه (الأفكار) التي طرحوها على الناس في زمانهم، فنظر إليها معاصروهم على أنها كُفْرٌ (هرطقة) ورأى فيها الحكامُ وبعضُ علماء السُّنَّة المسلمين (الأرثوذكس) المتشددين، خروجاً عن الدين. خاصةً أن كلام الآباء الأربعة المذكورين، ارتبط بالتطبيق الواقعي للمعتقدات الخاصة بالحرية الإنسانية ونفي الصفات الإلهية التي تأوَّلها الحكام، بحيث تجعل أفعالهم قضاءً وقدراً، على اعتبار أن هناك إرادةً ومشيئةً إلهية واحدة (مونوثولية) لا مجال فيها لاختيار الإنسان.

وفي الختام: أرى، أن تلك الارهاصات المبكرة، والاجتهادات (الكلامية) اللاهوتية؛ التي ظهرت من خلال، المتكلمون الإسلاميون، عامةً، والآباء المؤسسين لعلم الكلام، بشكلٍ خاص؛ كانت تُبَشِّر، وتَعَد، بتأسيس فلسفة (لاهوتية عربية) تُنتِج ثقافة، وفكر عربي وإسلاميّ، قوامه، العقل والمنطق. لذلك، تم قمعها في مهدها، مبكراً، بعنفٍ ودموية قلَّ نظيرها؛ عندما استشعر الحكام خطرها، على ممالكهم. وهكذا، سادت سياسة العُنف والتكفير، وتكرَّست، إلى يومنا هذا!

إلى اللقاء..

***

سمير البكفاني – كاتب سوري

على المستوى الواقعي ثمة مشكلة فكرية ـ سلوكية يتورط بها الكثيرون. ومفاد هذه المشكلة أن الاختلاف سواء كان فكريا أو اجتماعيا أو سياسيا، في غالب الأحيان يبرر ويسوغ لأحد طرفي الاختلاف والتباين أن يمارس التسقيط  والاغتيال المعنوي للمختلف والتعدي على بعض حقوقه سواء كانت مادية أو معنوية.

وحين التأمل في هذا السلوك، نجده وفق المعايير الشرعية والأخلاقية، مما لا ينبغي الوقوع فيه. بمعنى لا توجد مسوغات شرعية تغطي أو تبرر لأحد طرفي الاختلاف التعدي على حقوق الطرف الآخر سواء كانت المادية أو المعنوية. وإن الاختلاف ليس مبررا كافيا للتعدي على حقوق المختلف.

ولكن على المستوى الواقعي ثمة وقائع عديدة تثبت أن الاختلاف سواء في دائرته الفكرية أو في دائرته السياسية يقود إلى انتهاك حقوق المختلف سواء كانت المادية أو المعنوية.

ولكي تتضح الرؤية لطبيعة العلاقة بين الاختلاف والعدالة نذكر النقاط التالية:

1ـ الاختلاف في كل دوائره ومستوياته، حالة طبيعية، لا يمكن أن تخلو أية ساحة اجتماعية منها. ولكن غير الطبيعي في هذا السياق، هو أن يدفعك هذا الاختلاف بأي مستوى من مستوياته، إلى التعدي المادي أو المعنوي على حقوق من اختلف معك..

ومعالجة هذا المسألة لا يمكن أن تكون بإفناء عناصر الاختلاف، لأنه من لوازم الحياة الاجتماعية، بمعنى حيث تكون هناك حياة اجتماعية، ستكون هناك اختلافات وتباينات في وجهات النظر، وإن هذه الاختلافات ستقود من يتخلى عن أخلاقه أو معاييره الشرعية إلى التعدي على حقوق من يختلف معه.

ولو تأملنا في طبيعة الإساءات التي تصدر في مجتمعنا فيما يتعلق وظاهرة الاختلاف، نجد حين التأمل العميق أن أحد أطراف الاختلاف يدفعه الاختلاف حقيقة أو إدعاء إلى تبني مواقف عدائية من الطرف الآخر المختلف معه.

وهذا يعني أن الاختلاف الفكري أو السياسي، يفضي على المستوى الواقعي إلى انتهاك الحقوق المادية أو المعنوية.

2ـ مع أن الاختلاف بمختلف دوائره ومستوياته، حالة طبيعية في حياة الإنسان فردا وجماعة، إلا أننا جميعا مقصرون في فقه الاختلاف. وهذا التقصير يساعد على أن يقودك الاختلاف إلى انتهاك حقوق من تختلف معه. لهذا فإن من الأمور المطلوبة في حياتنا الإنسانية والاجتماعية هو فقه الاختلاف بشكل جوهري وحقيقي.

لأننا نعتقد أن فقه الاختلاف سيقود إلى فك الارتباط بين الاختلاف بمختلف دوائره ومستوياته وانتهاك حقوق المختلف. بحيث يتم التعامل مع الاختلاف في سياق حدوده الطبيعية التي لا تتعداه إلى أي شيء آخر.

والمجتمع الذي يتمكن من فك الارتباط والاشتباك، هو المجتمع القادر على إدارة اختلافاته بشكل صحيح وإيجابي.

وأغلب المجتمعات التي تعاني من أزمات ومآزق في علائقها الاجتماعية سواء كانوا أفرادا أو مكونات، يعود في أحد جوانبه إلى هذه العلاقة الشائكة بين الاختلاف وانتهاك الحقوق. فمن يختلف معك ليس ساحة مكشوفة لانتهاك حقوقه أو التعدي على حقوقه.

الفصل بين الاختلاف والتعدي على الحقوق، هو الحل الأمثل لكل الأطراف.  والديمقراطية في التجربة الحضارية الغربية، هي في أحد جوانبها، محاولة مؤسسية لضبط الاختلاف وعدم استخدامه كمبرر أو مسوغ للتعدي على الحقوق.

والمجتمعات الغربية قبل لحظة التطور الحضاري، كانت تعاني من هذه الإشكالية، التي ساهمت في إدخال المجتمعات الغربية في حروب دينية وغير دينية مع بعضها البعض. وبداية اللحظة التي تمكنت فيها المجتمعات الغربية من الانتصار على واقعها المرير، هي تلك اللحظة التي فكت الارتباط فيها بين الاختلاف بمختلف دوائره ومستوياته، وأشكال انتهاك الحقوق.  و الديمقراطية في أبعادها الاجتماعية السياسية، هي التي جنبت المجتمعات الغربية الدخول في معارك دائمة على خلفية الاختلاف الفكري والسياسي.

ونحن في الدائرتين العربية والإسلامية، ومن أجل التخلص من الكثير من الأزمات والمآزق الداخلية، أحوج ما نكون لبناء العلاقة بين الاختلاف والعدالة. بحيث لا يتحول الاختلاف إلى مبرر للتعدي على الحقوق أو عدم الالتزام بمقتضيات العدالة.

3ـ العدالة الاجتماعية والسياسية تتجاوز في جوهرها، البعد الأخلاقي والوعظي. بمعنى أن المطلوب من الجميع سواء كنا نعيش لحظة اختلاف  أو لحظة صراع، المطلوب هو الالتزام بكل مقتضيات العدالة. وإن أحد الأسباب المباشرة لتجاوز حدود ومعايير العدالة، هو حينما تبرز ظاهرة الاختلاف بين البشر سواء بعنوان سياسي أو تحت يافطة فكرية بحيث يقود الاختلاف الفكري والسياسي إلى تجاوز حدود العدالة وممارسة العدوان المعنوي أو المادي مع من يختلف معنا سواء كان فردا أو جماعة.

لذلك ثمة ضرورة قصوى لسيطرة قيم العدالة على كل أطراف الاختلاف. بحث لا يتحول هذا الاختلاف إلى مبرر إلى انتهاك الحقوق أو التعدي على مقتضيات العدالة. فمن حقنا جميعا أن نختلف مع بعضنا البعض، ولكن ليس من حق أحد أن ينتهك حقوق من يختلف معه.

فالإنسان بطبعه نزاع إلى جعل الآخرين مثله في القناعات والسلوك، ولكن دون هذا خرط القتاد. وحينما لا ينضبط الإنسان بضوابط العدالة فإن هذه النزعة التي تتحكم في حياة الإنسان ومسيرته المتنوعة، هي التي تبرر له تدفيعه ثمن الاختلاف معي أو التباين مع وجهات نظري.

وعلى كل حال ما نود أن نقوله في هذا السياق: أن فك الارتباط والاشتباك بين الاختلاف والتعدي على حقوق المختلف المعنوية والمادية، هو أحد المداخل الأساسية لمعالجة الأزمات والمآزق التي تعاني منها مجتمعاتنا.

وإنه ليس ثمة مسوغات شرعية أو أخلاقية، للتعدي على حقوق المختلف. وإن المطلوب دائما صيانة حقوق المختلف. فمن حق الجميع أن يختلف مع الجميع، ومن حق الجميع أن يصون حقوقه ويمنع التعدي عليها، وإن التباين في الأفكار والآراء والمواقف، لا يسوغ لأي طرف التعدي على حقوق الطرف الآخر سواء كانت هذه الحقوق مادية أو معنوية.

وفي زمن التعصب المذهبي نحن أحوج ما نكون إلى ضرورة إبراز هذه القيم التي تمنع التعدي على حقوق المختلف معه. وإن الاختلاف المذهبي لا يشرع لأي طرف التعدي على حقوق الطرف الآخر. بهذا نصون مجتمعاتنا من الكثير من المخاطر التي تهدد استقرار المجتمعات ووحدتها الداخلية.

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

تحليل مُفَصّل للتحولات السوسيوسياسية وتجلياتها الأدبية

المقدمة: النظام الإقطاعي الأوروبي، بتداخل علاقات السلطة المعقدة فيه، كان يشكل النظام العالمي السائد حينها، في الداخل الأوروبي ومع العالم الخارجي على حد سواء. كان هذا النظام الهرمي له تأثير عميق على المجتمع والثقافة والوعي الجمعي في ذلك الوقت. توغلت ثقافة الإقطاع عبر أدوات السرد والمنطق والأمثال في الوعي الأوروبي وحيكت خيوطها في نسيج الحياة اليومية جميعها حول النظام الإقطاعي. حتى المنازل شيدت بالقرب من المزارع هنا وهناك مما جعل المدن في أوروبا أقل بكثير من عدد القرى الزراعية المبثوثة في الرقعة الزراعية الأوروبية. التخطيط العمراني الزراعي للقرى يؤكد الترابط المتبادل بين السادة الإقطاعيين والعائلات الزراعية التي تعمل على أراضيهم. كان النظام الإقطاعي يوفر مظهرًا من الاستقرار، مضمونًا الاستمرارية الاقتصادية للمزارعين من خلال ضمان السيد شراء إنتاجهم. ومع ذلك، فإن هذا النظام الموجود تم تقليصه على حين غرة بظهور الثورة الصناعية، التي أعلنت نظام عالم جديد.

ظهور الثورة الصناعية المضطربة

ظهرت الثورة الصناعية خلال فترة مضطربة عندما بدأ النظام التقليدي ينهار بعدم قدرته من مجاراة التطورات الكونية و لم يكن مجهزًا للتكيف مع عالم يتغير بسرعة. أدت هجرة الجماهير الأوروبية من المناطق الريفية إلى المراكز الحضرية النامية، حيث ازدهرت المصانع، إلى ارتكاب ظلمات جسيمة واستغلال للمزارعين غير المهرة وعائلاتهم ومجتمعاتهم. هذه الهجرة الجماعية أخلت بالهياكل الاجتماعية الموجودة، تاركة الأفراد الضعفاء رهن رحمة نظام صناعي يعطي الأولوية للربح على حساب الإنسانية. في هذا السياق، كتب آدم سميث، الذي نشر عمله الأصلي "نظرية الأحاسيس الأخلاقية" في عام 1759، لتغريس القيم في نظام العالم الصناعي الناشئ، والتصدي للمشاكل الأخلاقية التي تنشأ عن هذه التحولات.

استجابة فيكتور هوغو: "البؤساء"

في مواجهة هذا الخلفية من الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي، لاحظ فيكتور هوغو، الكاتب الفرنسي الشهير، التغيرات المتتالية وسجلها في أعماله الرائعة "البؤساء" المتكونة من خمسة أجزاء باعتبارها ردًا عميقًا. نُشرت موسوعة البؤساء في عام 1862، وتعتبر هذه الأعمال الضخمة تصويرًا مؤثرًا للواقع القاسي الذي تحمله العمال خلال الثورة الصناعية، حيث يظهر بوضوح ظروف عملهم القاسية والمعايير المعيشية المتدنية. يكشف السرد المتقن لهوغو عن عالم يستغل فيه أرباب العمل العمال، عبر تقديم أجور ضئيلة لا تكفي بالكاد للبقاء على قيد الحياة، مع اللجوء أيضًا إلى استغلال العمالة الأطفال المتفشي. علاوة على ذلك، يفحص بذكاء كيف تزيد إدخال الآلات الجديدة من مشكلات البطالة، خاصة بالنسبة للأفراد من الخلفيات المهمشة.

أهمية "البؤساء" في السياق المعاصر

لا يزال التصوير القوي لهوغو للحياة خلال الثورة الصناعية يرى لحد اليوم في المجتمع المعاصر، مما يجعل "البؤساء" عمل أدبي مهم ودائم الأثر. من خلال استكشاف تجارب الأفراد المتأثرين بهذه التحولات الاجتماعية بصورة شخصية، يقدم هوغو نظرات ثمينة إلى الأسباب الأساسية للثورة الفرنسية، وكذلك الموجات التالية للتقدم الاجتماعي وتحسين ظروف العمل التي نشأت بعدها.

ثورة 1832: حدث تاريخي يتم تصويره في "البؤساء"

أحد الأحداث التاريخية المحورية المصورة بوضوح في "البؤساء" هي ثورة 1832. نشأت هذه الثورة من رغبة في إجراء إصلاحات ديمقراطية، وهدفها الإطاحة بالحكومة القائمة وإقامة مجتمع أكثر مساواة. من خلال شخصية ماريوس بونتميرسي، طالب القانون الشاب الذي ينضم إلى الثوار، يقدم هوغو للقراء نظرة عن قرب على الأفكار المثالية الحماسية والالتزام الثابت لأولئك الذين قاتلوا من أجل تغيير المجتمع في هذه الحقبة المضطربة. تسجل الرواية بعناية تاريخ بداية الثورة وتقدمها وفشلها النهائي، مؤكدة التحديات والتعقيدات الجوهرية في مثل هذه الحركات الثورية.

انتقاد هوغو اللاجئ للأنظمة السوسيوسياسية

من خلال "البؤساء"، ينتقد فيكتور هوغو بلا تردد النظام الإقطاعي الأوروبي والظروف المقمرة التي أحدثتها الثورة الصناعية. يكشف تصويره الحاد عن الفروق الواضحة بين الطبقات الحاكمة والعمال المهمشين، مسلطًا الضوء على الظلم والفساد الذي ينبع من هذا النظام. علاوة على ذلك، يسلط الضوء على الجوانب الإنسانية للأفراد الذين يعانون من الفقر والحاجة، مع توجيه رسالة قوية بضرورة العدالة الاجتماعية والرحمة.

خلاصة

يعد النظام الإقطاعي الأوروبي والثورة الصناعية حقبة مهمة في التاريخ الاجتماعي والأدبي. تتعرض "البؤساء" للتحولات السوسيوسياسية التي نشأت في هذه الفترة بشكل متفائل وواقعي. تمثل الرواية صرخة واعية تدعو إلى العدالة الاجتماعية وتناصر النضال من أجل إصلاح الظروف الاقتصادية والاجتماعية غير المشجعة. وبفضل تأثيرها القوي وتصويرها المؤثر للحياة في تلك الحقبة، تستمر "البؤساء" في الإلهام والتأثير على القراء اليوم.

***

د. محمد الزكري القضاعي

............................

* جزء من محاضرة قدمتها لطلبة الماجستير في ألمانيا

أولا، أنا لا أدعي أن أنني راكمت تجربة مهمة أو حققت منجزا هائلا في ميدان الترجمة والدراسات الترجمية التي باتت تشغل اليوم حيزا مهما في مجالات عديدة ليس فقط داخل العلوم الإنسانية بل أيضا في العلوم الأخرى بعد أن كان ينظر إليها كنشاط ثانوي تابع لأنشطة ثقافية أكثر أهمية.  ولجت مجال الترجمة من باب الدراسات الأدبية وبالخصوص من خلفية ترتبط باهتمامي بالأدب المقارن والأدب العالمي الذي تعرفت على تاريخه ومدارسه ومبادئه من خلال اطلاعي على كتابات غوته، وويليك ووارن وإتييمبل ودامروش  وباسكال كزانوفا وغيرهم. انبهرت كثيرا بالقيم والمبادئ التي استند عليها الأدب المقارن، وبعده الأدب العاملي، بالرغم من الأزمات التي مر منها في تأثره وتفاعله مع نظريات ومنهجيات ومفاهيم أخرى لها علاقة بالانتماء الثقافي والقومي. شخصيا، لم يسبق أن فكرت في الأدب وقيمته كنسق أو نتاج جمالي يرتبط حصرا بقومية أو ثقافة أو جنس أو عرق أو لغة محددة، بل اعتبرته على الدوام حقلا معرفيا يهدف إلى تجاوز تخوم الانتماء وحدود القومية بتأكيده على أهمية الإبداع كخطاب عابر للقوميات والأوطان.

كانت قراءاتي الأولى لمختلف الأجناس الأدبية باللغة العربية في قرية أمازيغية صغيرة لا تتوفر على مكتبة مدرسية أو عمومية. اطلعت حينها على معظم القصص القصيرة والروايات والدواوين الشعرية التي كنت أشتريها أثناء زيارتي للأسواق الأسبوعية بالمدينة المجاورة. بعدها انفتحت على اللغة الفرنسية فقرأت بها أمهات كتب الأدب الفرنسي التي خطتها أنامل موليير، وراسين، ورونسار، وشاطوبريان، وهيغو، وبالزاك، وفلوبير، وزولا، وكامي، وسيلين، وسارتر، قبل أن أقع في حب اللغة الإنجليزية أثناء دراستي الثانوية. كان للغة الإنجليزية أثر كبير وراسخ في تكويني الشخصي والعلمي حيث فتحت لي آفاقا جديدة أطلعتني على ثقافات وشعوب وتجارب إنسانية مختلفة. أصبحت أقرأ لأدباء عالميين ينحدرون من افريقيا وأسيا وأمريكا وأستراليا وكندا، وأمريكا الجنوبية، وجزر الكرايبي، أدباء لم تتح لي الفرصة لأتعرف عليهم وعلى انشغالاتهم، وعلى أسلوبهم في الكتابة بسبب عائق اللغات المختلفة. بدا الأمر وكأن اللغة الإنجليزية قلصت المسافات واختصرت الأزمنة وحافظت على الجهد المبذول بما وفرته من ترجمات للآداب العالمية. كان الأدب بعوالمه المتخيلة يمثل بالنسبة لي العالم الذي كنت أتوق إليه والبديل الممكن لظروف الفاقة والحاجة التي كنت أعيشها. هناك في أحد أركان غرفة كئيبة ومهملة شيدت بلامبالاة على سطح المنزل كنت أنزوي وأتيه في عوالم شكسبير، ودانييل ديفو، وطوماس هاردي، واوسكار وايلد، وجيمس جويس، وهمنغواي، وجون ستاينبك، ولانغستون هيوز، وجيمس بالدوين، وشينوا أشيبي، ووول شوينكا، و أيي أرما، وماريما با، وديريك والكوت، وجميكا كنكيد، وجورج لامين، وبورخيس،  وماركيز، وكورتزار، وأوكتافيو باز، وفيرجينيا وولف، وجيرترود ستاين، ودستويفسكي، وتولستوي، وكوغي، وبوشكين، وكونترغراس، وهولدرلين وريلكيه وغيرهم. أدركت حينها أهمية الترجمة كمجهود نبيل يروم تقليص الهوة بين الثقافات والشعوب، كأداة تساهم في توسيع الإدراك ونشر الوعي، فانشغلت بتعميق إلمامي باللغات التي تعلمتها بالإضافة إلى لغتي الامازيغية. كنت كلما فرغت من قراءة نص أدبي في لغته الأصلية إلا وتمنيت أن أتقاسم هذه الغبطة الروحية واللذة الحسية التي اشعر بها مع أكبر عدد ممكن من القراء في اللغات التي أتقنها، وفي نفس الوقت كنت أتمنى أن أقرأ النصوص المترجمة في لغتها الأصلية والتي لم أكن أتقنها. كنت أحس بأن كل نص أدبي له تأثير خاص وهالة جمالية فريدة في لغته الأصلية يفقد جزءا منها في كل عملية نقل ترجمي يتعرض لها. وهكذا صرت اهتم بالترجمة كمجهود شخصي يسعى إلى محاولة نقل لذة الأدب والفن والفكر باعتبارها مجالات تمثل معينا لا ينضب لأسمى ما يصبو إليه الإنسان من قيم لتحسين ظرفه الوجودي.

كان للأدب والفكر في علاقتهما بالترجمة وما تحمله من قيم إنسانية مشتركة تأثير كبير على شخصيتي وتصوري للحياة فقد دفعت بي مجالات المعرفة تلك إلى الانفتاح على الآخر وجعلتني أتوق إلى استكشاف ثقافات وجغرافيات أخرى مختلفة عن موطني. كافحت بما توفر لي من موارد مادية محدودة للحصول على تأشيرات تسمح لي بالسفر إلى دول مختلفة تعرفت عليها من خلال الأدب والفكر، وتخول لي فرصة لقاء كتاب وشعراء وفنانين كنت أطلع على كتبتهم وكانت تشغلهم نفس القضايا الإنسانية التي ترتبط بالأساس بالحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة والتعايش السلمي والإيمان بالاختلاف. شكلت رحلاتي إلى أمريكا وكندا وتركيا وأستراليا وأوروبا منعطفا مهما في حياتي الشخصية وتحصيلي العلمي فقد استكشفت خلالها مواقع تاريخية وثقافية وأيكولوجية مهمة والتقيت بكتاب وشعراء وفنانين كانت تربطهم علاقة وطيدة بأدباء جيل البيت الذي كنت أعد حوله أطروحة الدكتوراه. في 2013 خلال مؤتمر عن جيل البيت، التقيت بآن ولدمان، إحدى أبرز شواعر مدرسة نيويورك وإحدى أقرب صديقات ألن غينسبرغ فاستدعتني للمشاركة في دروس الكتابة الإبداعية التي يلقيها مجموعة من الكتاب البارزين بمدرسة جاك كيرواك للشعر بجامعة نروبا بكولورادو كل صيف.  هناك سأتلقى دروسا في الكتابة الإبداعية وانفتح على الترجمة من خلال كتاب ومترجمين بارزين يهتمون بالإنسانيات المقارنة أمثال آن كارسن المتخصصة في الأدب الكلاسيكي، وجاك كلوم المهتم بالشعريات الإيكولوجية، وريد باي المهتم بالفكر البوذي، وسيسيليا فيسونا المهتمة بالفنون وثقافات الشعوب الأصلية، وإيمي كتانزانوالتي تدرس تقاطعات الشعر والعلوم في نظريتها عن "شعريات الكوانتم". هناك ستتبلور أولى أفكاري عن ترجمة أشعار جيل البيت، ومدرسة نيويورك، ونهضة سان فرانسيسكو وكوليج بلاك ماونتن إلى اللغة. كان لي أيضا شرف لقاء الصديق الشاعر مايكل روتنبرغ مؤسس حركة مائة ألف شاعر من أجل التغيير، والذي سبق أن تبادلت معه رسائل عن الكتابة الإبداعية والحياة الثقافية في السبعينات ومشاكل البيئة وبالخصوص عن تجربته مع بعض كتاب جيل البيت الذين كانت تربطه علاقة وطيدة بهم، خاصة الشاعر مايكل مكلور والشاعرة جوان كايغر اللذين عرفني عليهما خلال زيارات خاطفة. هناك في سانتا روزا بكاليفورنيا سيبدأ مشروع ترجمتي لديوان مايكل روتنبرغ الذي توفته المنية عام 2022، وبعد العودة من الغرب الأمريكي إلى الضفة الشرقية سألتقي ببوب هولمان وبعض شعراء جماعة نيوريكان كما التقيت أيضا بالشاعرة والفنانة أمينة بركة، زوجة الشاعر أميري بركة، أحد أقطاب حركة الفنون السوداء، والذي ترجمت بعض أشعاره ونشرتها في الأنثولوجيا المذكورة.

الترجمة إذن مشروع إنساني نبيل وضروري يهدف إلى نقل المعرفة والفكر الإنساني في شتى تمظهراته من حيز جغرافي معين ومن لغة معينة ويجعله متوفرا في مختلف بقاع العالم. إنها محاولة إنسانية، قبل أن تكون مهنة مدرة للربح أو مشروعا سياسيا يرجى من خلاله اخضاع الشعوب كما فعلت قوى الاستعمار في عصور مختلفة، الترجمة نابعة من قناعات الشخص، وتطمح إلى ربط جسور التواصل مع الذوات والألسن، والثقافات الأخرى من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والتعايش السلمي.

الترجمة عملية مضنية لأنها تتعامل مع أنظمة لغوية معقدة وغير متساوية كما تقول نظرية سابير-وورف، كما أنها يمكن أن تنطوي على تحيزات وتناقضات كما بين التوجه النسوي والتفكيكي الذي دعا إلى قراءة نقدية مزدوجة لما أنتجه الفكر الغربي من خلال تفكيك مكونات النصوص للوصول إلى المعاني التي تخفيها متجاوزا مفهوم الحقيقة الثابتة.  إنها مجهود فكري يبدو ضروريا ومستحيلا في نفس الوقت لأنها تخضع أيضا لعلاقات القوة الملموسة والمجردة، تلك التي تخترق الجغرافيات المتعددة للعالم وتكتسح البرامج السياسية والسياسات الثقافية لصانعي القرار. في هذا الصدد، يؤكد جاك دريدا على حاجة المترجم إلى التفاوض مع ما لا يقبل التفاوض من خلال نسق علاماتي معقد واعتباطي يحكمه سياق معين لترجمة ما لا يمكن ترجمته.

الترجمة بهذا المعنى تصبح ممارسة اقتصادية تتأرجح بين الاحترام والاستغلال لأنها تسعى إلى الاستملاك والاستيلاء الذي يهدف إلى نقل المعنى المناسب من النص الأصلي إلى اللغة الأم بالطريقة المناسبة بأقل عدد ممكن من الكلمات لتفادي أي خسارة. يتضح هذا العامل الاقتصادي وتبعاته في طبيعة العلاقة التي تربط بين المترجم والناشر والسوق حيث يجد المترجم نفسه في أغلب الأحيان يستجيب لاختيارات الناشر التي تفضل أعمالا ألفها كتاب معروفين يمتلكون قاعدة قراء واسعة، ويتخلى عن اختياراته الشخصية التي تحددها غاية نبيلة في تقاسم المعرفة ونشر الوعي، كما يضطر في نهاية المطاف إلى التخلي عن مقابل مادي يكلل جهوده في سبيل تأميم الرأسمال الثقافي المترجم. في ظل ظروف الرأسمالية المعولمة، يمكن للترجمة أن تصبح ضحية عندما لا تغدو أن تكون سوى أداة تواصلية للعولمة التي تصبو إلى جعل العالم قرية صغيرة في نفس الوقت الذي تهدد فيه باختزال اللغات الإنسانية في لغة واحدة لأغراض اقتصادية في غالب الأحيان، وهو خطر يجب أن ننتبه إليه كي نتفادى انقراض واختفاء اللغات العالمية التي تحمل في طياتها تجارب ثقافية إنسانية متميزة وتحمل ذاكرة تاريخية فردية وجماعية.

تقول غياتري شاكرفورتي سبيفاك أن «الترجمة هي فعل القراءة الأشد حميمية" وفيه يستسلم المترجم للنص بعد أن يحصل على إذن الآخر المختلف للتجاوز والانتهاك والخيانة من خلال اللغة حيث تتجاوز الذات حدودها. لهذا السبب نجد أنفسنا كمترجمين وكممارسين لفعل الترجمة مرغمين على دخول ما أسمته سبفاك حلبة الأخلاقي-السياسي لأن الترجمة في نهاية المطاف هي "محاكاة بسيطة لمسؤولية أثر الآخر في الذات" وتستدعي تجاوز أغلال الهوية الشخصية أثناء إعادة إنتاج النص وكأن المترجم يشتغل باسم أو بسند ملكية في ملكية الذات الأخرى1.   تدعو سبيفاك إلى أخذ المنطق بعين الاعتبار واستبعاد التشويشات والإزعاج الذي يمكن أن يأتي من البلاغة لضمان السلامة في عملية تحضر فيها المجازفة والعنف اتجاه الواسطة المستعملة في الترجمة. ولهذا يبدو أنه ضروري من الناحية الأخلاقية استحضار قيم مشتركة من قبيل الحصافة والعدالة والمساواة والديموقراطية والحق في الاختلاف وحتى الحب الذي تتساءل سبيفاك عن مكانته ودوره فيما هو أخلاقي. يكمن دور المترجم، في رأي سبيفاك، في تبسيط هذا الحب الذي يربط بين الأصلي وظله، حب يسمح بالإبلاء والإنهاك، ويبعد فاعلية المترجم ومتطلبات جمهوره المتخيل أو الحقيقي2 ، وهي إمكانية تلغيها سياسات الترجمة من نصوص لا تنتمي للموروث الأوروبي لأن المترجم لا يتفاعل بشكل كاف مع بلاغة النص الأصلي. لكي يكون المترجم إذن أخلاقيا وسياسيا في الآن نفسه يلزمه أن يعي هذه العلاقة الخشنة التي تربط المنطق والبلاغة اللذين يمثلان، حسب سبيفاك، شرط ونتيجة المعرفة، فالمنطق يخول الانتقال من كلمة إلى كلمة بواسطة قرائن مشار إليها بدقة بينما البلاغة تلتزم بالاشتغال على الصمت الموجود بين وحول الكلمات وتحافظ على أدبية ولذة النص3.

سأختم بالتذكير بأهمية اللغة والثقافة الأم في أي مشروع يهتم بالترجمة، خاصة في ظل ظروف العولمة التي تختفي فيها الخصوصيات الثقافية والممارسات الاجتماعية ذات البعد الكوني. يجب إعادة رد الاعتبار للغات الأصلية وللأدب الشفهي والشعريات الإثنية التي تذكر دوما بأهمية الحفاظ على النظام الايكولوجي المعقد على هذا الكوكب، وعدم تفويت جميع السلط وملكات التفكير الإنساني لآلات ميكانيكية مرقمنة تمارس نوعا من القمع أو العنف الإبستيمي دون أن تحترم خصوصيات الذوات الفاعلة وحساسياتها.

***

د. الحبيب الواعي

شاعر ومترجم وأستاذ مساعد بشعبة الدراسات الإنجليزية وآدابها بجامعة ابن زهر بأكادير، المغرب.

......................

1- ص 320.

2- نفسه ص321

3- نفسه ص 322

أنا على ثقة تامة بأن هناك الكثير ممن سيقرأ عنوان هذه الدراسة سيضحك بقرارة نفسه وهو يقول: هل من المعقول ان الدكتور عدنان عويّد لا زال يؤمن بهذه الترهات الفكريّة بعد أن أثبت التاريخ فشلها على مستوى الممارسة؟. على العموم هي قناعة ربما لا تختلف عن قناعة الذين لازالوا يعتقدن بأن الدين الإسلامي هو الحل لمشاكلنا اليوم، رغم الفشل الذريع الذي أصاب تطبيقاته العمليّة ماضياً وحاضرا. ولكن الفرق بيني وبين من يفكر بعودة الدولة الإسلامية، أن دعاة الحاكميّة ينطلقون من نصوص مقدسة لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من تحتها، فهي نصوص مطلقة غير قابلة للإلغاء والتعديل أو المراجعة. أما دعوتي أنا فهي لا تنطلق من النصوص المقدس، بل من الواقع ومدى ملاءمة الفكر الوضعي لهذا الواقع. فأفكار الاشتراكيّة ورؤاها وضعيّة في معطياتها، وهي قابلة للتعديل والمراجعة وحتى الالغاء إذا اقتضت مصلحة الواقع أي مصلحة الفرد والمجتمع. ولهذا السبب أقول: بأني لا أريد في بحثي هذا أن أقنع جميع من يطلع عليه أن يأخذ به، فالحقيقة نسبية وكل منا ينظر إليها من مصلحته ودرجة ثقافته ومدى اهتمامه بمصالح الفرد والمجتمع. لذلك أقول بأني لا أريد أن أقنع بما جئت عليه هنا، إلا هؤلاء الذين يؤمنون بالعدالة والمساواة وحريّة الفرد المشروط بالوعي وبالمسؤوليّة تجاه نفسه وتجاه المجتمع. أي هؤلاء الذين سيتخلون عن أنانيتهم ومصالحهم الفرديّة الضيقة، والنظر والعمل معاً لمصلح الدولة والمجتمع وحب الوطن والسمو به.

في صيف عام 2001وفي العدد (27) من مجلة "النهج" التي كان يرأس تحريرها السيد "فخري كريم"، كان محور العدد فيها (هل للاشتراكيّة مستقبل ؟). وقد ساهم في هذا المحور كل من الكتاب والمفكرين "كريم مروة" و" حسين عبد الرازق" و"الدكتور قدري جميل" و" حامد خليل" و " مصطفى الحسيني" وكان لي شرف المشاركة في هذا المحور بدراسة تحت عنوان: (الاشتراكيّة قابلة للتجديد والتطور).

لقد بينت يومها في تلك الدراسة المطوّلة بأن الاشتراكيّة – والمقصود بها " الاشتراكية العلميّة" - قابلة للتجدّد والتطور، كونها تحمل في جوهرها فهما وممارسة، الحل العقلانيّ والمنطقيّ لتجاوز الشعوب المتخلفة والمضطهدة والمستعمرة معاناتها إذا ما توفرت المقدمات الموضوعيّة المتعلقة بدرجة تطور قوى وعلاقات الانتاج، والمقدمات الذاتيّة المتعلقة بالحامل الاجتماعيّ لها، والمسلح بفكر وتنظيم ثوريين هدفهما بناء الإنسان وتقدمه.

اليوم وبعد اثنين وعشرين عاماً على نشر تلك الدراسة، وبعد كل تلك التحولات العميقة والواسعة التي انتابت العالم تحت مظلة النظام العالمي الجديد، وبعد انهيار المنظومة الاشتراكيّة ذاتها في العديد من الدول التي سارت على الخط الاشتراكيّ في التنمية، وفي مقدمتها الاتحاد السوفياتي، أجد بأن السؤال ذاته (هل للاشتراكيّة مستقبل؟.)، لم يزل قابلاً للطرح من جديد، بل وبإلحاح شديد، خاصة بعد أن تكشفت لنا الكثير من القضايا اللاإنسانيّة التي بشرت بها الليبراليّة الجديدة وعالم ما بعد الحداثة.

دعونا بداية نتعرف على أهم ما أفرزه النظام العالمي الجديد بعد انهيار المنظومة الاشتراكيّة وسيادة القطب الواحد.

إن من تابع حركة النظام العالمي الجديد من نهاية العقد الثامن من القرن العشرين، إلى نهاية القرن العشرين، كيف أخذت الولايات المتحدة الأمريكيّة تفرض نفسها على السياسة العالميّة بشكل عام، وعلى سياسات الدول الأوربية ذاتها وخاصة الدول الحليفة لها في المعسكر الغربي وهما فرنسا وبريطانيا بشكل خاص.

مؤتمر يالطا:

قام المشاركون في مؤتمر يالطا في 2 - 3 ديسمبر 1989 طرح ومناقشة النظام العالمي الجديد، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وظهرت مفاهيم وعناصر جديدة مختلفة في هذا النظام العالمي الجديد، حيث توقع المتابعون للحركة السياسيّة العالميّة بأن سياسة الاحتواء يمكن أن تُستبدل بتعاون القوى العظمى. وقد يعالج هذا التعاون مشاكل مثل الحد من التسلح ونشر القوات، وتسوية النزاعات الإقليميّة، وتحفيز النمو الاقتصادي، وتقليل القيود التجاريّة بين الشرق والغرب، وإدماج العديد من دول الاتحاد السوفياتي السابق في المؤسسات الاقتصاديّة الدوليّة وحماية البيئة. ووفقًا لتعاون القوى العظمى، تم توقع دور جديد لحلف الناتو، حيث اعتقد الكثير من المؤتمرين سيكون الحل الشامل لحلف الناتو وحلف وارسو، ومع ذلك، كان من المتوقع أيضاً أن يساعد الوجود العسكري الأمريكي المتواجد في أوروبا على احتواء "العداوات التاريخيّة"، مما يجعل من الممكن  وجود نظام أوروبي جديد خارج عالم الحرب الباردة. (1).

بيد أن الذي تم على أرض الواقع غير ذلك تماما، حيث تبين بعد سنوات قليلة من سقوط المنظومة الاشتراكيّة بأن ما سمي بـ" النظام العالمي الجديد"، هو ليس أكثر من حكومة عالميّة دكتاتوريّة سريّة ناشئة تقودها طبقة رأسماليّة متوحشة من خلال نظريات المؤامرة المختلفة. فجوهر الموضوع المشترك في (نظريات المؤامرة) في عالم النظام العالمي الجديد، هو أن نخبة القوة السريّة ذات الأجندة العالميّة، راحت تخطط لوضع خرائط طريق لحكم العالم في نهاية المطاف، من خلال حكومة عالميّة استبداديّة ستحل بالضرورة وفي نهاية المطاف، محل الدول القوميّة المركزيّة ذات السيادة، ومن خلال بروباغندا شاملة تعمل أيديولوجيتها عل تشييد هذا النظام العالمي الجديد باعتباره تتويجا لتقدم التاريخ أو نهايته. لذلك، تبين أن العديد من الشخصيات المعاصرة والمؤثرة على المستوى الاقتصاديّ والسياسيّ والثقافيّ بأنساقه الفلسفيّة والفنيّة والأدبيّة، راحت تُنَظِرُ وتبشر بهذا النظام العالمي الجديد، باعتبارها جزءاً من عصابة تقودها الطبقة الرأسماليّة المتوحشة، التي بدأت تعمل من خلال العديد من المنظمات الدوليّة على تنظيم الأحداث السياسيّة والفكريّة والماليّة الهامة، عبر خلق أزمات نظاميّة على المستويين الوطني والدولي، كخطوات مستمرة في تقدمها وتآمرها لتحقيق الهيمنة على العالم. (2).

ماهي أهم التجليات العمليّة للنظام العالمي الجديد.؟:

1- على المستوى السياسي: استغلال الأجهزة الرئيسة والفاعلة لهيئة الأمم المتحدة ومجالسها، وفي مقدمتها مجلس الأمن، ومحكمة العدل الدوليّة. بحيث استطاعت أمريكا عبر تحكمها بأعضاء مجلس الأمن، أن تَقَرِرَ الكثير من القرارات الدوليّة التي تخدم الطبقية الرأسماليّة المتوحشة المتحكمة في الاقتصاد العالمي، بل وعند الضرورة كانت تمارس أعمالاً ذات طبيعة عدوانيّة على الدول الأخرى دون أخذ موافقة مجلس الأمن كما جرى في احتلالها للعراق. أما محكمة العدل الدوليّة فهي سلاح آخر تهدد به الأنظمة التي لا تتفق ومصالحها، تحت ذريعة غياب الديمقراطيّة في هذه الأنظمة وممارسة حكوماتها الدكتاتورية ضد شعوبها.

أو بتعبير آخر نقول: لقد تحولت الهيئة العامة للأمم المتحدة ومجالسها أدوات ضغط بيد الولايات المتحدة وحلفائها من الدول العظمى، تمارس عبرها فرض هيمنتها على دول العالم، والعمل على تفتيت الدول المركزيّة، وإجبار من تريد أن تخضعه من الدول لإرادتها بالترغيب أو الترهيب، حتى ولو كانت دولة من الدول العظمى، كما يجري اليوم في محاصرة روسيا  من خلال الحرب الروسيّة الأوكرانيّة.

2- على المستوى الاقتصاديّ: نمو الشركات المتعددة الجنسيات وتضخم أعمالها على مستوى العالم، وإدخال دول العالم تحت مظلة أسواقها عبر خلق منظمات وصناديق دولية تمارس من خلالها فرض هيمنتها على دول العالم، وتحويل بلادها إلى أسواق تعمل لخدمة الطبقة الرأسماليّة المتوحشة التي تحولت إلى طبقة عالميّة، فوجد في هذا النظام العالمي منظمة الجات، أو السوق الحرة بكل أشكاله على مستوى العالم، إضافة إلى وجود السوق الأوربية المشتركة، وصندوق البنك الدولي للأعمار والتنمية، وصندوق النقد الدولي، وغير ذلك من اتفاقات ومعاهدات اقتصاديّة تفرض على هذه الدولة أو تلك لتحول بلادها إلى أسواق تخدم السوق الرأسماليّة العالميّة. هذا وقد أصبح لهذه الشركات المتعددة الجنسيات دوراً في التأثير على سياسة الدول الداخليّة وفرض هيمنتها على اقتصاد وسياسة بلادها، ولا تتوانى عند الضرورة من خلق مؤامرات وانقلابات على أنظمة حكم غير موالية لسياساتها إذا اقتضت الحاجة من أجل ربط دولها بعجلة اقتصاد السوق العلمية.

3- وعلى المستوى الثقافيّ بكل أنساقة الفلسفيّة والأدبيّة والفنيّة والدينيّة: راح كباتنة النظام العالمي الجديد يعملون على تحطيم كل قيم الحداثة ممثلة بقيم عصر التنوير، حيث اعتبروا كل هذه القيم قد تجاوزها الزمن، ولم تحقق شيئاً للفرد والمجتمع والدليل على ذلك بنظرهم قيام الحربين العالميتين وما تركته من نتائج مدمرة، متناسين أو مبعدين الأسباب الحقيقيّة التي كانت وراء قيام هاتين الحربين وهي الطبقة البرجوازيّة في مرحلتها الإمبرياليّة.

عبر هذا الهجوم على قيم الحداثة والتنوير بكل أبعادها الفلسفيّة والسياسيّة والدينيّة والفنيّة والأدبيّة، المشبعة بقيم العدالة والمساوة وحب الإنسان وتنميته، راحت تُطرح قيم الموت والنهايات، فالتاريخ انتهت حركته لتقف عند النظام العالمي الجديد، وعلى مستوى الفن طرح موت الفن وكذلك موت الأدب والدين وكل القيم النبيلة، وعلى المستوى الفلسفي تم التركيز على الفرديّة وحريّة الفرد وإرادته في تحقيق ذاته، وضرب كل ما يمت للروح والقيم الجماعيّة، فالفرد وقيمه المصلحيّة النابعة من ذاته هي القيم المطلوبة، وهي قيم لا يحددها العقل بقدر ما تحددها الرغبة الذاتيّة وجوانيّة الفرد وغرائزه، هذا وإن وكل الأيديولوجيات التي تدعوا إلى دور ومكانة الكتلة الاجتماعيّة، هي أيديولوجيات ربطت من قبلهم بالفاشيّة والنازيّة والشيوعيّة. وبناءً على هذه التوجهات ساد الضياع واللامعقول والعبث والوجوديّة بشقيها المادي والروحي عالم الفرد، فتذرر المجتمع وتنمذج الفرد، وأصبحت اللذّة والشهوة الغريزيّة هي المحرك لطوح الإنسان وإثبات ذاته، التي فقدت لونها وشكلها وقيمها وكل ما يعبر عن إنسانيتها.

هكذا نرى إذن، باسم الحريّة الفرديّة والإرادة الحرّة، راحت قوى النظام العالمي الجديد تعمل على إعادة هيكلة الإنسان عبر كل الوسائل المتاحة لديها الماديّة والفكريّة، وفي كل مجالات حياته، من أجل قبول ما خططت له هذه القوى من قبله، وبخاصة زرع قيم الحريّة الفرديّة، وجعل الفرد سيد نفسه وهو وحده من يقرر مصيره بيده.

بعد كل هذا الذي جئنا إليه في تحليلنا لطبيعة النظام العالمي الجديد، وما يصبوا إلى تحقيقه هذا النظام على مستوى الفرد والمجتمع، بل وإعادة هيكلة العالم وفقاً لمصالح الطبقة المتحكمة اليوم بهذا النظام، يأتي السؤال المشروع ليطرح نفسه علينا من جديد وهو:

لماذا الاشتراكيّة هي الحل:

نقول: باسم الحريّة والإرادة الحرة في النظام العالمي الجديد ضاع الفرد والمجتمع وفقد الإنسان إنسانيته وقيمه النبيلة، أي استلب وغرب وشيء وهجن ونمذج، وباسم الديمقراطيّة سيطرت حريّة السوق اللامشروطة على حياة الناس بقيادة زعماء الشركات المتعددة الجنسيات. كما غاب دور الدولة ومؤسساتها والمواطنة والقانون، بعد أن أعيد صياغة مضامينها وفقاً لمصالح قادة هذا النظام، إذ باسمها يمارس ويتحكم كباتنة الرأسمال على حياة الإنسان وتحديد مسارتها الماديّة والروحيّة كما بينا أعلاه. وهذا يعني أن النظام العالمي الجديد أصبح ضد الإنسان وعدوه اللدود. لذك لا بد من البحث عن نظام آخر يحقق للإنسان ذاته ويعيد له جوهر إنسانيته التي استلبها منه النظام الرأسماليّ منذ دخول الطبقة الرأسماليّة مرحة الإمبرياليّة وصولاً إلى النظام العالمي الجديد. وهذا لن يتحقق برأيي إلا بالنظام الاشتراكيّ الذي حورب سابقاً تحت أجندات دعائيّة عديدة منها: اتهامه  بقتل الروح الفرديّة لدى الإنسان باسم تحقيق المصلحة الجماعيّة، ومحاربة حريّة الفرد والمجتمع، وبالتالي اعتبار النظريّة الاشتراكيّة ومفاهيمها، لا تختلف من حيث الجوهر عن الروح الفاشيّة والنازيّة، وكذلك اعتبروا أن الاشتراكيّة تعمل على قتل روح المبادرة والإبداع، بسبب محاصرتها للسوق الحرّة، ففي السوق الحرّة تتجلى ابداعات الإنسان كما يدعون. هذا مع تأكيدهم بأن الفكر الذي تتبناه الاشتراكيّة هو ضد الدين، إن كان من حيث تحجيم دور الملكيّة الخاصة التي يبشر بها الدين، أو من حيث البنية الفلسفيّة لفكرها الذي يدعوا إلى الإلحاد، وعلى هذا الموقف وظفوا لمحاربة الاشتراكيّة التي نعتوها بالشيوعيّة كلاً من الكنسية والجامع، وكل القوى الأصوليّة الجهاديّة.

انهيار المنظومة الاشتراكيّة وتأثيرها على دعم واستمراريّة النظام الرأسماليّ بصيغة النظام العالمي الجديد:

لاشك أن سقوط المنظومة الاشتراكيّة التي لعبت عوامل كثيرة على مستوى داخل الدول المتبنية للاشتراكيّة نفسها، أو على مستوى الخارج ممثلاً بالدول التي حاربت الاشتراكيّة، وخاصة المعسكر الغربي، كان له التأثير الكبير على دعم واستفحال آليّة النظام العالمي الجديد والعمل للسيطرة على العالم. ومن أهم هذه العوامل التي ساهمت في سقوط المنظومة الاشتراكيّة التالي:

على مستوى الداخل:

غياب الحامل الاجتماعي الممثل الحقيقي للمشروع الاشتراكي، إن كان على المستوى الطبقيّ، حيث غابت هنا الطبقة العاملة كوجود مادي بسبب غياب مكونات وجودها، أي التطور الصناعي، فكثير من الدول التي تبنت النظام الاشتراكي أسلوب حياة، هي دول فقيرة متعددة الانماط الانتاجيّة وفي أضعف حالاتها، وبالتالي ساد فيها التعدد الطبقي في صيغته الهجينة، فكان الفلاح عموده الفقري، وهو يمثل قوى طبقيّة فقيرة ومجهلة وجبريّة في تفكيرها، ومعظمها يعمل لدى ملاكين لم يكتسبوا أصلاً ملامح الطبقة الاقطاعيّة الأصيلة في ملكيتها وطبيعة عملها في الدولة والمجتمع، وعندما استلمت الأحزاب الديمقراطيّة الثوريّة السلطة، قامت بإجراء الإصلاح الزراعي، فحولت الجميع الاقطاعي والفلاح معاً إلى ملاكين صغار ومنتجين، وفي بعض الدول ومنها الاتحاد السوفيات عملت الكولخوزات والفولخوزات، فسادت الملكيّة العامة للدولة في الزراعة وغيرها من قضايا الاقتصاد. فالملكية الأرض الصغيرة الموزع بقانون الاصلاح راحت تصغر مع مرور الأيام، ولم تعد كافية في إنتاجها بسبب تقسيمها بين الورثة، وهذا ما ساهم في دفع الفلاح إلى الهجرة الداخليّة والخارجيّة معا، ففي الهجرة الداخليّة تريفت المدن التي هي أقرب إلى المدن الريفيّة أساساً منها إلى المدينة، فعم الفقر في الريف وانتشرت الأحياء الفقيرة في المدينة. أما الذين هاجروا إلى الخارج، فراحت أموالهم تتجه إلى بناء الفيلات وتعدد الزوجات وبعض المشاريع الاقتصاديّة الصغيرة وخاصة مشاريع البناء السكني. وهنا دخلت الدولة في مآزق كثيرة في الجانب الاقتصادي، في الوقت الذي يتطلب منها النظام الاشتراكي تأمين التعليم والصحة والعمالة المجانيّة، وبناء قاعدة خدماتية مثل تأمين الكهرباء والمياه النقيّة، ومد طرق المواصلات وغير ذلك، وفي مثل هذه الأجواء تَحَمَلَ عبء مسؤوليّة قيادة الدولة والمجتمع ضباط الجيش وبعض النخب السياسيّة المثقفة، وهي بمعظمها لا تمتلك الثقافة الحقيقيّة لمعنى الاشتراكيّة، ولا أسلوب تطبيقها، الأمر الذي أدى إلى سيادة البيروقراطيّة في قيادة الدولة، رغم الانجازات الكبيرة التي حققتها هذه القيادات لشعوبها في هذه الدول على كافة المستويات مقارنة لما كانت تعيشه قبل التطبيق الاشتراكي.

أن شهوة السلطة التي تبلورت عند قيادات الأحزاب الاشتراكيّة، ساهمت في خلق طبقة جديدة من القيادين على مستوى الدولة والحزب، أخذت تهتم بمصالحها الخاصة، ووجدت في السماسرة أو الفئة الطفيليّة، ما يساعدها على سرقة الكثير من أموال الدولة والمجتمع، وبالتالي إدخال الدولة في عالم من الفساد، وهذا تطلب من القوى الحاكمة أن تمارس القمع وإرهاب الشعب كي لا يتحرك ضدها، فانتشر الكذب والتزلف والرياء والمطبلون والمزمرون والانتهازيون، وعبادة الشخص وغياب الديمقراطيّة بعد تحويل المنظمات الشعبيّة والنقابات المهنيّة إلى حزام ناقل للسلطة، وليس لخدمة الشعب أو المكونات التنظيميّة لهذه المنظمات والنقابات، وبناءً على ذلك تكلست السلطة والأيديولوجيات التي تحملها معاً. وهكذا راحت البلاد تُحكم بالحديد والنار، وأخذت تتسع الهوة بين الشعب والسلطة والأحزاب الحاكمة، الأمر الذي أدى إلى انهيار معظم هذه المنظومة الاشتراكيّة، وبخاصة الاتحاد السوفيتي، العمود الفقري لهذه المنظومة، أو تحول بعضها إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، أو اقتصاد السوق ودخول عالم النظام الجديد، ومنها من ثارت الشعوب ضدها وأجبرت الطبقة الحاكمة على تغيير نهجها تحت ضغط الشعوب وباسم التحولات الديمقراطيّة، بيد أن الطبقة الغنية من البيروقراطيين والطفيليين هي من استمر في قيادة الدولة والمجتمع بطريقة أسوأ من الماضي.

على المستوى الخارجية:

لقد لعبت الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، كما عرف سياسياً، دوراً كبيراً في إضعاف المعسكر الشرقي وإنهاكه، وترك دوله في النهاية تبحث عن تأمين لقمة العيش قبل البحت عن خلق تنمية متطورة ومستدامة في بلادها. فالحرب الباردة اتسعت مجالات نشاطها ودعمها الماديّ والمعنويّ بين المعسكرين، وصرفت مليارات الدولارات خدمة لهذه الحرب. هذا وقد عمل قادة هذا النظام على إعادة هيكلة الكثير من الدول وفق عمل السوق الرأسماليّة الحرة لمنافسة الدول الاشتراكيّة وإظهار التقدم التي حققته هذه الدول المدعومة بكل وسائل الدعم المادي والتكنولوجيّ والمهارات، كما جرى لدول النمور مثلاً، أمام دول المنظومة الاشتراكيّة المتخلفة.

فعلى المستوى العسكري: اشتغل قادة النظام العالمي الجديد على تطوير الأسلحة الفتاكة بكل اشكالها وفي مقدمتها السلاح النووي، والأسلحة الذكيّة الموجهة عن بعد، حيث وصلت فكرة هذا التطوير إلى ما سمي بحرب النجوم.

وعلى المستوى الاقتصادي: عملت وبكل الوسائل المتاحة لديها الماديّة والمعنويّة على تجذير وتعميم اقتصاد السوق الحرة عالميّا، وتعميق دوره في حياة الدول والمجتمعات، والعمل على الدعاية لهذه السوق إعلاميّا وتعليميّاً وثقافيّا وفنيّاً وخلق العديد من المعاهد والمؤسسات التي تشغل لمصلحة هذه السوق واقناع الفرد والمجتمع على تبنيه، بل جعله أنموذجا للحريّة الفرديّة التي سيجد فيها الفرد ذاته وقدرته على الإبداع.

وعلى المستوى الثقافي بعمومه: اشتغل قادة هذا النظام على تجسيد قيم الفرديّة المطلقة التي تدفع الفرد ليمارس حياته وفقاً لغرائزه وأهوائه ورغباته، فلا شيء يحد من هذه الحريّة الفرديّة التي ساهمت في تجميد العقل والمنطق واقصاء القيم الإنسانيّة على مستوى الفرد ذاته وعلى مستوى الكتلة، وما النظريات الفلسفيّة والأدبيّة والفنيّة الما بعد حداثويّة التي روج لها إلا لتحقيق هذه الغاية. فكل المداس المعروفة بالتفكيكيّة والبنيويّة والسرياليّة والوجوديّة والحدسيّة والوضعيّة والوضعيّة الجديدة .. وغيرها ليست إلا مشاريع فكريّة هدفها إعادة هيكلة البنية النفسيّة والعقليّة والأخلاقيّة للفرد بما يتفق وعالم اقتصاد السوق الحرة. أي نمذجة الإنسان وتعليبه خدمةً لهذه السوق التي أصبحت حتى غرائز الإنسان سلعاً تباع وتشترى فيه.

أما على المستوى السياسي: لقد أصبح حكام البيت الأبيض وبقيّة حكام الدول الموالية له، طيور جوارح في عالم الشركات المتعددة الجنسيات وأسواقها، وبالتالي راح هؤلاء الحكام يستخدمون جيوش دولهم  ومنظمات ومجالس الهيئة العامة للأمم المتحدة خدمة لمصالح عالم الرأسمال الاحتكاريّ المتوحش، وهذا ما لمسناه في العديد من دول العالم، وخاصة الدول التي لا ترضي مصالح قادة وأصحاب هذا الرأسمال، وهم الذين شكلوا حكومات الظل في هذه الدول العظمى.

ملاك القول:

أمام كل ما جئنا إليه أعلاه، من حيث قراءتنا وتحليلنا لمنظومة الدول الاشتراكيّة ومنظومة الدول الغربيّة الرأسماليّة، وكيف آلت إليه الأمور في كلا المنظومتين، إن كان من حيث سقوط المنظومة الاشتراكيّة، أو من حيث تشكيل وظهور النظام العالمي الجديد من صلب المنظومة الغربيّة، وكيف استطاع هذا النظام العالمي الجديد ان يعيد هيكلة العالم وفقاً لاقتصاد السوق الرأسماليّ المتوحش بكل تجلياته وأساليب عمله.

إن نظرة أوليّة لما جئنا إليه، يبين لنا أنه، باسم الديمقراطيّة والحريّة الفرديّة في الغرب دمّر الإنسان ذاته وشيء وغرب ونُمذج وذرر، وبالتالي فقد قيمه وسلع، وفسح في المجال واسعا أمام الطبقة الرأسماليّة العالميّة المتوحشة أن تفرض سيطرتها ووجودها ومصالحها على الساحة العالميّة. في الوقت الذي تحولت فيه الكثير من دول المنظومة الاشتراكيّة إلى ذيل تابع لمصالح هذه الطبقة، وراح الفساد وقيم اقتصاد السوق تعمل على تحطيم الإنسان ذاته وكل مابنته الأنظمة الاشتراكيّة على كافة المستويات سابقاً، بل أن الكثير من هذه الدول دخلت في صراعات دامية بين الحكومات وشعوبها حرقت الأخضر واليابس كما يقال.

نعود مرة أخرى لسؤالنا المشروع وهو: (لماذا الاشتراكيّة اليوم؟)، أوهل الاشتراكيّة صالحة للمستقبل؟.

أقول: نعم هي صالحة، بل هي الحل الوحيد لخروج العالم بشكل عام من هيمنة وسيطرة الطبقة الرأسماليّة المتوحشة بشكل عام، وهي الحل لعودة الإنسان إلى مرجعيته الإنسانيّة التي استلبت منه وخاصة في دول المنظومة الاشتراكيّة السابقة بشكل خاص.

إن ما تحقق من انجازات عظيمة لشعوب المنظومة الاشتراكيّة على كافة المستويات، رغم كل ما عانته دول هذه المنظومة من الداخل والخارج كما بينا في موقع سابق، لهو أمر على درجة عالية من الأهميّة، ومن الضرورة بمكان العودة للنظر برؤية عقلانيّة نقديّة إلى ما كنت عليه المنظومة الاشتراكيّة قبل انهيارها، وما آلت إليه اليوم. فعندما نقول الاشتراكيّة هي الحل، فقولنا هذا مبني على موقف منهجي عقلانيّ ينطلق من أن الاشتراكيّة بكل عيوبها هي نظام يحمل في طياته الكثير من العدالة لكل مكونات المجتمع، وهو النظام الذي يضع مصلحة الفرد والمجتمع موضع الاهتمام على كافة المستويات الماديّة والروحية معا. وعلى هذا فإن مسألة القول بأن السعي لعودة النظام الاشتراكيّ تشكل اليوم برأيي مطلباً عقلانيّا، وذلك انطلاقاً من فهمنا العميق لدور الاشتراكيّة والديمقراطيّة في تنمية المجتمع وتطوره. فمقولة: (مزيداً من الاشتراكية تعني مزيداً من الديمقراطيّة). لهي أكثر حيويّة وحاجة لعالمنا اليوم. فكلاهما مترابطتان مع بعضهما، ويعنيان بناء الدولة المدنيّة .. دولة المواطنة.. دولة القانون والمؤسسات والمشاركة. فالاشتراكيّة تحقق العدالة والمساواة وتكافئ الفرص واحترام المرأة ونشر التعليم بكل مستوياته وبناء قاعدة اقتصادية متينة، والديمقراطية تحقق العدالة والمشاركة واحترام الرأي والرأي الآخر، مثلما تمثل العلمانية التي تحترم الدين ولاترضى زجه في عالم السياسة، فالدين لله والوطن للجميع، وهذا يبعد المجتمع عن حروب طائفيّة ومذهبيّة، واعتبار المواطنة مرجعا أساس لوحدة مكونات المجتمع.. والديمقراطّية والاشتراكيّة كلاهما يدعوان إلى التقسم العادل للثروة الوطنيّة، وكلاهما يؤمنان بدور المنظمات الشعبيّة والاتحادات والنقابات المهنيّة في المراقبة والدعوة لمحاسبة المسيء، وتفعيل آلية الانتاج وتحقيق التنمية.. وكلاهما يؤمنان بدولة تقوم مرجعياتها الإداريّة والسلطوية للشعب، وفق دستور يقره الشعب.

هذه هي معطيات الاشتراكية، وهذا مآلها.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة.

...................

الهوامش:

1- (راج موقع معرفة – النظام العالمي الجديد – سياسة).

2-  ). (الويكيبيديا – النظام العالمي الجديد – نظرية المؤامرة).

"الرحمن،علم القرآن،خلق الانسان، علّمه البيان".. سورة الرحمن

عندما تُذكر اللغة فأول شئ يتبادر الى الذهن النطق الانساني بكل ما يحويه من مفردات ولهجات وقواعد وكل ما يخص هذا العلم من  تفاصيل، وإذا أردنا أن نعرّف اللغة اصطلاحا: هي نسق من الرموز والاشارات التي يستخدمها الانسان للتواصل مع البشر والتعبير عن مشاعره واكتساب المعرفة، وهي عبارة عن رموز صوتية لها نظم متوافقة في التركيب والالفاظ والاصوات، وهي أحدى وسائل التفاهم بين الناس داخل المجتمع، ولكل مجتمع لغته الخاصة به.

والحقيقة ومنذ فجر الحضارة الانسانية القديمة والعلماء في بحث دائب عن نشأة الكلام، وما من علم أخذ جهدا هائلا كعلم اللغة ونشأتها والذي كان مثار اهتمام الكثير من العلماء على مر العصور، وقد اختلفت النظريات وتشعبت الاراء حول أصل اللغة حتى اعتبرها بعض العلماء من الماورائيات وإن لاجدوى من الاستمرار بالبحث فيها خصوصا وإنها وصلت إلينا كلا قائما بذاته بقواعدها ومفرداتها ولهجاتها وتنوعها، وقد تبنت المؤلفات العربية نوعين من الآراء أو فريقين من الباحثين:

الأول: النظرية التواضعية، والتي تنص على إن اللغة من صنع الانسان بطريقة المحاكاة، وهي نظرية تغوص في الغموض الى ماهو أبعد من المعقول، خصوصا إنها ليست لغة واحدة ولو كانت كذلك لقُبل الامر الى حد ما، لكن الموضوع كبير جدا لتعدد اللغات وتنوعها، وكل فرضية تبحث على إن اللغة من صنع الانسان لن تكون إلا ضربا من الخيال والتخمين، حتى إن الجمعية اللغوية في باريس قررت سنة 1878 منع تقديم الابحاث في هذا الموضوع لأن الابحاث كان فيها من السذاجة والبساطة وعدم كفاية الادلة  مايدعو الى التوقف .

الثاني: إن اللغة توقيفية أي إنها وحي من الله تعالى ولادخل للانسان في نشأتها إستنادا الى الاية الكريمة"وعلّم آدم الاسماء كلها" والنظرية التوقيفية ثابتة بنص الاية الكريمة ويبقى الاختلاف في تفسيرها  تفسيرا قطعي الدلالة، ومااذا كانت هذه الاسماء متداولة في الجنة أم إنها نزلت الى الأرض مع آدم وذريته فيما بعد، والأسماء هنا يقصد بها المسميات وكل مايدخل في هذا الحيز إستنادا الى كلمة "كلها"في الآية الكريمة والتي تشمل الأفعال والحروف  وإن الله علم آدم ولم يوحي له بل علّمه تعليما خصه به دون الملائكة و هذا العلم هو علم البيان "هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين"..ال عمران 1283359 لوحة مريم لطفي

"قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" فلنتأمل معا هذه الاية الكريمة التي جاءت على لسان آدم وزوجه فهي جملة متكاملة مرتبة ترتيبا نحويا تحوي على اسماء وأفعال وحروف، وبما إن الآية جاءت على لسان آدم وزوجه فهذا يعني إن ذرية آدم قدتعلمت الاسماء والمقصود بها اللغة ككل عن طريق الوراثة والتربية"ومن آياته خلقُ السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآياتٍ للعالمين"..الروم22

فاللغة إذن نزلت مع آدم وزوجه وذريته فيما بعد وتناقلتها الالسن وسلقتها وربما أضافت عليها بعض المفردات كما يحدث عند الفتوحات أو الغزوات أن تتعشق اللغة ببعض المفردات الدخيلة من الثقافات الاخرى نتيجة الاختلاط أو التجارة أو المعايشة أو الهجرة أو الزواج وهكذا وفي هذالامر  الكثير من الامثلة عن وجود مفردات دخيلة نُسبت إلى موطنها لكنها بقيت قيد التداول سواء في اللغة العربية أوفي اللغات الاخرى..

وإذا ما دعتنا هذه الآية الكريمة لتدبرها بتأنٍ  فاننا سنجد الاتي:

-ان الآية جملة مضبوطة الشكل معنىً ونحوا.

-أن الله تعالى لم يخص آدم بالأسماء فقط بل كلما يخص المسميات من أفعال وحروف "علّمه الاسماء كلها".

-إن اللغة آية وقد خلقت مع خلق السموات والارض شأنها شأن آيات الله الاخرى وهذا الاستنتاج يقودنا الى أصل اللغة بانها آية من آيات الله جل وعلا وقد تنوعت واختلفت باختلاف الناس وألوانهم واللون هنا يعني الجنس البشري بعينه ولونه كالابيض والاسود والاحمر والاصفر..الخ

"إنا جعلناه قرأنا عربيا لعلكم تعقلون"..الزخرف3

فهذا الاختلاف في الاجناس تبعه اختلاف الامم"الوانهم" ثم إختلاف ألسنتهم" كيف لا والله هو الخالق المدبرلكل شئ"إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"..الحجرات

ودليلنا الآخر على إن اللغة من الله أن الكتب السماوية نزلت وكتبت بلغة الرسل والأنبياء الذيم بعثوا لكل أمة من الامم كالتوارة والانجيل  والزبوروالقرآن" لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين" ..النحل

وهذا يعني إن اختلاف اللغات إنما جاء بسبب إختلاف الامم والشعوب وإن كل رسول إنما بُعث بلغة قومه وكل كتاب نزل بلسان الرسول عن طريق الوحي لكيلا لاتبقى حجة للناس ليؤمنوا ويعلموا إن السموات والارض لها خالق عظيم وهو الاجدر بعبادته "وماخلقت الجن  والانس الا ليعبدون"..الذاريات56

وعليه فان الله قد وضع السر بين أيدينا ودعانا لتدبره من خلال ما جاء بالايات القرانية من اعجاز واسرار وآيات قال تعالى"قرأنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون"..الزمر28

***

مريم لطفي

الظّواهر الطّبيعيّة كالأعاصير والفيضانات وقوّة الرّياح والحرارة والرّطوبة والجفاف وغيرها ارتبطت بالطّبيعة منذ القدم، منها ما يكون الإنسان متسبّبا فيها كالاحتباس الحراريّ، أو تلوث المياه والبيئة وما يترتب على ذلك من آثار سلبيّة، من اضطراب في الطّبيعة، لمخالفة فعل الإنسان في تغيير ما جرت عليه من سنن، سواء تعلّقت بالأرض أو تعلّقت بالإنسان.

هذه الظّواهر الطّبيعيّة تطوّرت في تفسير الإنسان، وقديما ربطت بالأساطير والخرافة والسّحر، إلى حالة التّأويلات والتّفسيرات الماورائيّة، وربطها كليّا بالعالم الآخر كما في الأديان، ثمّ إلى العلم والفلسفة المعاصرة وارتباطها بالظّواهر من خلال تأويلها سننيّا وكشفيّا، فاستجدت جدليّة تفسيرها بين التّأويلات الماورائيّة والتّفسيرات العلميّة.

والعالم اليوم منه ما تجاوز التّأويلات الماورائيّة كالعديد من دول الغرب، وأصبح ماديّا عقلانيّا أو تجريبيّا صرفا في تأويلها، مصاحبا تقدّم العلم، وقدرته الفائقة في التّنبؤ والتّفسير، ممّا جعل من اللّاهوتيين تأويل ظاهر النّصّ المقدّس بما يوافق رأي العلم، والّذي كان يوما ما تأويلُ ذلك جريمة قد يصبح مصير المؤول الموت.

ومن العالم ما زال غارقا في الطّقسيّات الخرافيّة المرتبطة بأساطير سابقة كما في بعض أدغال أفريقيا، ومن العالم أيضا من يحاول الجمع بين اللّاهوت والعلم في ذلك، فلا يرفض العلم، ولكنّه تطبيقا وحكما يدور وفق النّصوص المقدّسة لديه، كان في الأديان الإبراهيميّة أم غيرها كما في أغلب الشّرق.

إنّ تجاوز مرحلة الدّين إلى العلم هذه لها اقتضاءاتها وأسبابها في أروبا خصوصا، وحاولت الكنيسة البروتستانتيّة تجاوز انغلاق الكهنوت الكاثوليكيّ حول العلم، ولكن الكنيسىة عموما في الغرب اليوم – في الجملة - تقف حول تأويلات ثلاثة في الجمع بين النّصّ المقدّس وتأويل الظّواهر الطّبيعيّة علميّا، ففريق يجنح إلى ظرفيّة النّصّ المقدّس، فذكره لهذه الظّواهر الطّبيعيّة كان ملازما للحالة الثّقافيّة والعلميّة في ظرفيّة وجود النّصّ، ولو جاء النّصّ اليوم لكان ملازما للحالة الثّقافيّة والعلميّة في عصرنا هذا، وهذا الفريق يحاول الجمع بين لاهوتيّة النّصّ وجوهره، فالجوهر هو الاهتمام بالعلم، ولاهوتيّا كان مراعيا لمفردات وتأويلات ذلك الزّمن، ليترك مساحة للعقل البشريّ لينطلق في كشف المجهول من سنن الكون والوجود والإنسان.

ومن هذا الفريق انبثق فريق يضع النّصّ كليّا في خانة الثّقافة، إذ هو يشكل حالة ثقافيّة لفترة زمنيّة أكثر منه حالة لاهوتيّة، فلا يتكلّف في تكييف ظرفيّته والتّبرير له، بقدر ما يجعله في الحالة الثّقافيّة المؤرخة لرؤية الإنسان للظّواهر الطبيعيّة وقت نزول النّصّ، وهذه الحالة المسيحيّة تمدّدت إلى اليهوديّة كما يرى يعقوب ملكين أنّ التّوراة والتّناخ "الأساس المشترك لثقافة كلّ تيارات اليهود .... ويحتوي الذّاكرة الجماعيّة لليهود"، وأقرب إلى "الأدب الكلاسيكيّ اليهوديّ".

وفريق ثالث من يحاول الجمع بينهما، كتأويل الأيام السّتة في بداية سفر التّكوين بالحقب الزّمنيّة، ومنم من يحاول استخراج معاجز النّصّ المقدّس، ومنم من يتوقف حال التّناقض، جاعلا حالة الحقيقة العلميّة لا تتجاوز حدّ النّظريّات النّسبيّة بالمفهوم الشّموليّ لا التّجريبيّ، الفارق اليوم أنّ الكهنوت الدّينيّ كما في كاثوليكيّة القرون الوسطى لم يعد متحكما في العلم، والّذي ينطلق اليوم في فضاء رحب بلا قيود سياسيّة أو دينيّة أو اجتماعيّة في الجملة.

ولقد كانت الحالة الإسلاميّة بما ورثته من ثقافات الأمم الأخرى غارقة أيضا في الرّؤية الماورائيّة، وتمّ التّعامل مع العديد من الظّواهر الطّبيعيّة وفق الاغتراب الماورائيّ، وقد قوبل العديد من الرّمزيّات الفلسفيّة الّتي اقتربت قريبا من التّأويلات الطّبيعيّة بالزّندقة، كما قوبل في الطّرف المسيحيّ بالهرطقة، مع وجود إضاءات متقدّمة كما عند الشّاطبيّ (ت 790هـ) حيث يرى أنّ "الشّريعة الإسلاميّة شريعة أميّة؛ لأنّ الله بعث بها رسولا أميّا إلى قوم أميين كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة/ 2] .... فيلزم أن تكون الشّريعة في معهودهم ومستواهم".

وإن كنّا لا نستطيع تحميل نصّ الشّاطبيّ فوق ما لا يحتمل وفق القراءات التّأريخيّة والظّرفيّة المعاصرة؛ إلّا أنّ العالم الإسلاميّ عموما، والعربيّ خصوصا؛ لمّا انفتح على أمّة كانت غارقة في الماورائيّات، ثمّ تجاوزت ذلك إلى الاستغراق الطبيّعيّ والعلميّ، إلى حدّ الاتّجاهات العلمويّة والإنسانويّة، مرورا بعصر الأنوار فالنّهضة والحداثة، حيث أفاق العالم العربيّ على هذا مؤخرا، فحاول الجمع بين النّصّ المقدّس وما بعده من تراث روائيّ وبين تفسير الظّواهر الطّبيعيّة، حيث بدأت بوادر ذلك عند محمّد عبده (ت 1905م)، وتلميذه محمّد رشيد رضا (ت 1935م) كما في المنار، ولازم العديد من الإصلاحيين إبعاد النّصّ المقدّس خصوصا عن النّظريّات العلميّة كما عند محمّد المراغيّ (ت 1945م) "فالنّظريّات الّتي لم تستقر لا يصح أن يردّ إليها كتاب الله"، وهي محاولة لعلمنة البحث العلميّ – إن صح التّعبير – أي المفارقة بين ظاهريّة آيات الظّواهر الطّبيعيّة في النّصّ الدينيّ، وبين البحث العلميّ ونتائجه،  ويعتبر طنطاوي جوهري (ت 1940م) من مؤسّسي التّفسير العلميّ للقرآن من خلال تفسيره "الجواهر في تفسير القرآن الكريم"، وهي محاولة مبكرة في رفع التّعارض بين النّصّ المقدّس والعلم، بما فيه تأويل الظّواهر الطبيعيّة.

ويرى رشيد الخيّون أنّ نظريّة التّطوّر لداروين (ت 1882م) اتّجهت سلبا في العراق في خمسينيّات القرن العشرين الماضي بسبب البعد السّياسيّ الّذي أدخلها كصراع من التّيارات اليساريّة، وقبل هذا لم تلق ذاك الاعتراض.

ونتيجة مرحلة الصّحوة، وارتباطها بإحياء التّراث، وأسلمة العلوم، والدّعوة تحت مظلّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بمعناه الكلاسيكيّ، وقف بعضهم سلبا من التّأويل العلميّ للحقائق والظّواهر الطبيعيّة ككرويّة الأرض ودورانها، والاستغراق الماورائيّ في تفسير الظّواهر الطبيعيّة وربطها بالعذاب الإلهيّ، ومنهم من بالغ في المعاجز كعبد المجيد الزّندانيّ وزعلول النّجار.

وبعيدا عن هذه الجدليّات الدّينيّة حول العلم والظّواهر الطّبيعيّة، فالمباحث حولها لا تتعدّى الحالة المعرفيّة؛ لأنّ العلم شقّ طريقه، بيد ليس الخطر – في نظري – في هذا الاختلاف الطّبيعيّ الّذي لا يتجاوز القول والخلاف الكلاميّ؛ الخطر في نظري هو  تقمّص دور الإله، والنّيابة عنه بلا برهان قطعيّ في الحكم على الخلق، وتصوير الإله بصورة الغاضب المنتفم الّذي لا يفتأ إلّا بإرسال الجراثيم والأمراض والأعاصير والفيضانات، ليهلك العباد والحرث والنّسل، ومنهم من يمايز بين قوم وقوم، فإن أصيب قوم ما قال ابتلاء، وإن أصيب آخرون اعتبره عذابا، وكأنّ الله أوحى إليه بذلك.

إنّ استجداء النّصوص المقدّسة في التّحذير من بلايا الذّنوب والمعاصي، أو مخالفة الطّبيعة لسننها؛ هذا من حقّ الإنسان في ذلك فيما يراه واجبا عليه دينيّا، ولكن أن يجعل من نفسه نائبا على الإله، ووصيّا له، في الحكم على العباد، وكأنّ هذا الإله ليس رحمانا ولا رحيما، فهو تأله وتقمص للإله بلا براهان ولا ولا وحي.

وفي بلدنا "عُمان" رأيتُ من التّغريدات والمنشورات التّويتريّة من يربط بين قدوم الفرقة الكوريّة  "كيبوب B.I.G" وبين الحالة المداريّة "بيبارجوي" المتكوّن حاليا في بحر العرب، وكأنّ لسان الحال أنّ قدوم هذه الفرقة قابله هذا الغضب الإلهيّ المتمثل في الحالة المداريّة أو الإعصار، ومنهم من يربط تكرار الحالات المداريّة بالذّنوب كليّا، ويرسل سخطه للدّولة ومؤسّساتها، بشكل خفيّ أو مباشر، ويحاول الرّبط في العقل الباطنيّ أنّ هذا مرتبط بحداثة الدّولة، وكأنّها لا دين لها، فهو ناقم ساخط عليها في الابتداء، ولو كان في مكان آخر مرتضيّا عنده لكان لا يتجاوز حدّ الابتلاء.

بيد هذه الظّواهر الطّبيعيّة هي حالات طبيعيّة ومتكرّرة منذ القدم، ولقد تكرّرت في عمان في وقت لا علاقة لهم بالحداثة وتمظهراتها كما يرى حامد البراشديّ في صفحته على تويتر أنّ "عمان تعرضت من عام 1891م وحتى 2010م لثلاثة عشر حالة عاصفة وإعصار، وأنّه كلّ ثلاث سنوات حالة مداريّة واحدة يمكن أن تعبر السّواحل العمانيّة، خمسون بالمائة منها يوصف بالعاصفة المداريّة أو الإعصار".

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

قبلَ الحديثِ عنْ مصدرِ الاخلاقِ، هل هو الهيٌّ أم بَشَرِيٌّ؟ لابد لنا من إِثارَةِ هذا السؤال وهو: هل يمكن للانسان أَنْ يضعَ منظومَةً أَخلاقِيَّةً، ام ليس بامكانهِ ذلك؟ وبتعبيرٍ آخر، هل الاخلاقُ مَصدرُها عُلوُيٌّ سماويٌّ اَم سُفلِيٌّ أَرضيٌّ؟ هل الطبيعةُ والمادةُ يمكنُهما اَنْ تنتجَا أخلاقاً؟ وهل الغريزةُ يمكنها ان تكونَ مصدراً للاخلاق؟ مانراهُ في الحيوانات من تضحية وايثار يؤدي بالام الحيوانيّةِ أن تُضَحِيَ بحياتِها من اجلِ صغارِها. هل يمكن أنْ نقولَ من خلالِ هذه المشاهداتِ أَن الحيوانَ يمتلكُ منظومَةً أخلاقِيَّةً؟ الدارونيُّونَ وفق الرؤية التَّطَوُّرِيَّةِ يرون ان الحيوانَ يمتلك أخلاقاً حسب درجته في سُلَّمِ التَّطَوُّرِ، والاختلافُ بين الانسانِ والحيوان هو اختلافٌ في درجة الاخلاق لافي نوعها.

البَشَرُ قَدَّمُوا لنا مفاهيم متضاربةً عن الاخلاق، بعضها يناقضُ البعض َالآخر.

افلاطون يرى وفقاً لنظريته في المثل ان الاخلاق مصدرها علويٌّ وهو الخير المطلق الذي يراه افلاطون فوقَ الوجودِ شَرَفاً وقُوَّةً، وكانط يرى ان الاخلاق مصدرُها العقلُ العمليُّ، وهي مجرَّدَةٌ من المنفعة الذاتيَّةِ، وبنثام وجون ستوارت مل قالا بالاخلاق النفعيَّة والتي تأسست فيما بعد انطلاقاً من هذهِ النظرةِ النفعِيَّةِ للاخلاق، الفلسفة البراغماتية في امريكا، والتي رأتْ كل شيء على اساس منفعته، وقد فَسَّرت الاخلاقَ على هذا الاساس.

اطلاقُ الاخلاقِ ونِسبِيَّتُها

القولُ بأنَّ الاخلاقَ مطلَقَةٌ أو نِسبِيَّةٌ، يرجعُ الى مصدرِ الاخلاقِ، فالقائِلُونَ بالمصدرِ الالهيِّ للاخلاق يقولون باطلاقِها؛ لانَّ القولَ بوجودِ اله وَأَنَّهُ مصدرُ الاخلاقِ يشكّلُ الاساسَ المَوضوعيَّ للاخلاقِ. والقائِلُونَ بالمصدرِ البشريِّ للاخلاقِ يقولونَ بِنِسبِيتها. الملاحدة لايمتلكون مرجعيَّةً للأخلاقِ؛ لأنَّهُم لا يُؤمنونَ بالهٍ للكونِ ولا يؤمنونَ بيومٍ آخِر، وكما يقول دستوفسكي: " اذا كانَ اللهُ غيرَ موجودٍ فكلُّ شيءٍ مُباحٍ". ولذلك بَنَوا مرجِعِيَّتَهُم الاخلاقيَّة؛ لانَّهُم لايمتلكونَ مَرجِعِيَّةً، بَنَوها على اساس الغريزة التي لاتصلحُ أنْ تكونَ مرجعيَّةً للاخلاق، فقالوا: ان اساس الاخلاق: جلب اللذة وطرد الالم، وهذا ماقاله ابيقور في فلسفته الاخلاقية القائمة على اساس اللَّذَّةِ.

ويمكننا الاجابةَ عن هذه المرجعيَّةِ للاخلاقِ التي يتعكَّزُ عليها الملاحِدَةُ بالقول أَنَّ الطبيعةَ والغريزةَ لايمكنهما انتاج اخلاق وتاسيسَ منظومَةِ أَخلاقِيَّةٍ، فالاشياءُ المادِيَّةُ التي تسيرُ بأَمرِ الله، كالشمس التي تُشرِقُ وتغربُ بنطامٍ ثابتِ مُحَددٍ. لايمكننا وصفَ هذه الحركةَ القسريَّةَ للشمس والكواكب بأَنَّها فعلٌ أَخلاقِيٌّ؛ لانَّ الفعلَ الاخلاقِيَّ ينطلقُ من ارادَةٍ واختيارٍ. وكذلك الامرُ مع الفعل الغرائزيِّ للحيواناتِ، فلا يمكننا وصفَ ما تقوم به الاُمُ في عالم الحيوان بأَنَّهُ التزامٌ أَخلاقيٌّ؛ لانَّهُ فِعلٌ غرائزيٌّ، الحيوانُ مجبورٌ على فعلهِ؛ وعليه فالاخلاقُ خاصِيَّةٌ انسانِيَّةٌ، يتَفَرَّدُ بها الكائِنُ الانسانِيُّ.

الفرقُ بينَ الاخلاقِ والآدابِ

هناك خلطٌ يقعُ فيه الباحثون في الميدانِ الاخلاقِيِّ بين الاخلاقِ والآدابِ، فالاخلاقُ مصدرها عُلويٌّ الهيٌّ، والآدابُ مصدرُها بَشَرِيٌّ. الاخلاقُ ثابتة لاتتغير بتغيّرِ الزمانِ والمَكانِ والاحوالِ بينما الآدابُ تتغيّرُ بتغيّرِ الزمانِ والمَكانِ والاحوال.الاخلاقُ فطريَّةٌ والآدابُ مكتسَبَةٌ؛ ولذلك المجتمعات تختلفُ بآدابِها وثقافاتِها واعرافها مع ثباتِ أخلاقِها. فدوركايم حين يقول بأنَّ المجتمعَ هو مصدرُ الاخلاقِ لم يميّز بين الاخلاق والآدابِ. المجتمع مصدر الآدابِ ولايمكن ان يكون مصدراً للاخلاق.

يتحدثُ عالمُ الاجتماعِ الفَرَنسِيُّ دوركايم في رؤيتِهِ لمصدرِ الأخلاقِ "أَنَّ مصدرَ الاخلاقِ هو المجتمع. ويؤكدُّ دوركايم  القولَ أَنَّهُ: (ليسَ هناكَ سوى قوَّة أخلاقِيَّةٍ واحِدَةٍ تستطيعُ أنْ تَضَعَ قوانينَ للناسِ هيَ المجتمع). ويقولُ أيضاً:(أَنَّ الفردَ دُميَةٌ يُجَرِّكُ خُيُوطَها المُجتَمَعُ). وحتى الضمير يراهُ دوركايم انعكاساً للمجتمع. أَمّا ليفي برول فيقول: (الاخلاقُ ظاهِرَةٌ اجتماعِيَّةٌ تَهتَمُّ بما هو كائنٌ، وظاهرةٌ مُتَغَيِّرَةٌ يمكنُ مُلاحَظَتُها).

القرآنُ الكريمُ يتَحَدَثُ عن اطلاقيَّةِ الآخلاقِ وتجاوزها للزمان والمكان والاحوال، يقول الله تعالى:

(قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). المائدة: الآية:(100).

فالآيَةُ تتحدثُ عن خبيثٍ مطلقٍ وطيبٍ مطلق؛ اذ لاقيودَ في الاية للطيب والخبيث. والنقطة الثانية أنَّ الانسانَ ليس هو مصدر القيم الاخلاقِيَّةِ؛ لانها قالت "ولو أعجَبَكَ كَثرَةُ الخبيث".

وخلاصةُ الكلامِ عن الاخلاقِ أَنَّها الهِيَّةُ المصدر، وانها مطلقة، وانّها مما يتفردُ بها الكائن الانسانيُّ، ولايمكن ان تكون الطبيعة أو المجتمع أو التطور البيولوجي الداروينيُّ مصدراً للاخلاقِ.

***

زعيم الخيرالله

أمام العالم الذي تعيشه، هناك أسئلة كثيرة محرّمة يجب عليك اكتشافها من خلال المجاهر التي تملكها المتمثّلة في العقل والإحساس، تسمع وتتحرك في سياق الاكتشافات المتواصلة التي تخترق وعيك الداخلي. إنّها نهضة طبيعية بيولوجية، لكنها محرمة في بعض مفاصلها، تصهل لكنك لا تتحدث، فعليك أن تكون إنسانًا بذاتك، وما الحياة إلا قشّة خفيفة تطير بفعل ذراتها إلى الآفاق التي قُدّر لها.

اختلافك مع نفسك لا يساوي جناح بعوضة وقفت على ضلعها، تسأل: كيف أتت؟ ولماذا أنا هنا؟

فعلك الطبيعي يستمر، إما خطأً أو صوابًا، شعورك بالمستقبل قد يصل إلى السآمة والضجر، وحاضرك المعيش هو من يبني تلك الطوبة العالية التي تتكون في صلد النفس العوراء المتعظمة بين بالحقيقة التي تدوّي بداخلك مُشكّلةً صورًا ميتافزيقية شرسة أمام حرب داخلية دائمة تقرع طبول السلام والحرب في آن معًا، إنّها التناقضات الشريفة التي تبحث عن الحقيقة الضائعة، وما إن تأخذ خطوتك الأولى تفشل ثم تتعثر بين عناقيد الأشجار التي تزحف معك في اشتباك قد لا يتوقف أبدًا.

الفكرة كانت دائمًا هي المساحة المتوفرة لعقلك هو أن تنمو بشكل طبيعي في سياق التطور العمري الذي يفرض عليك أن تكون ناضًجا بفعل المراحل المنتظمة، تؤهل أن تكون افتراضيًّا في داخل سرايا المختبرات التحليلية في إنشاء رؤية جديدة للبشرية أمام عظمة الكون في اكتشاف الأسرار العظيمة التي لا يعرف عنها من بحار عميقة وأكوان ما زالت في بدايتها؛ مما يؤثر على علوم الإنسان المعرفية التي تتقدّم بشكل مذهل تحت انتفاضة الثورة العقلية منذ بداية خلق الكون.

العقل يكتشف نفسه بالطبيعة، إنه السحر الذي تارة لا يستطيع البشر تفطّن الأسباب التي تنير العقول وتبسط النفوس، القدرات عاجزة عن تعيين البئر التي تنبع منها الحقيقة، إنه العقل، العظمة التي تشرئب لها النفوس الظمأى بين الخوف والشجاعة إلى الطريق المستقيم بعيدًا عن الظلام، للتجلي في داخل الروح الغائبة الحاضرة، وما البحث إلا رؤية ضبابية ابتلينا بها أمام التعسر في الإبصار البعيد، يتوقف الأفق في خط أفقي مستقيم ممتد، لكنه لا ينتهي في تحدٍّ أمام البصر اللامتناهي.

إنها حركة منتظمة مستقلة عاقلة ناقلة للأحداث ببساطتها وتعقيداتها المتأثرة بالمكان والوقت الذي لا يتوقف، وما الحياة إلا معركة وجودية عميقة تتأثر بألوان السعادة والشقاء، يقول "وليم جيمز": "على الإنسان أن يتخذ من أفكاره ذرائع لحفظ حياته، ثم السير بالحياة نحو الكمال ثانيًا، اقتباسًا، إنّ الفلسفة في أفضل حالاتها تجعلك أكثر تواضعًا، فهي تجبرك أن تدرك قصورنا ككائنات مفكّرة، الأخير أن تكون واثقًا في رؤيتك للحياة، وما البشر إلا قُراء ذلك الحدث.

***

فؤاد الجشي

لإعطاء فكرة مبسطة عن الغاية أو القصد المراد من طرح هذا الموضوع، فقد آثرنا الابتداء بصيغة السؤال التالي: هل قراءة الكتب الثقافية توازي ثمن مكابدات القارئ؟!. وقبل أن نعطي جوابا"على مثل هكذا سؤال حري بنا الإقرار بحقيقة؛ أنه في معظم لغات الأمم وثقافات الشعوب لا يكاد يختلف اثنان إزاء معنى لفظة (القراءة)، مثلما لن يختلفان إزاء ما تحمله هذه اللفظة من دلالات ايجابية واضحة وصريحة، بحيث قلما تحتاج تينك اللفظتين الى إعمال العقل في التحليل أو التأويل أو التعليل لحيازة المعنى واستخراج الدلالة.

ولكن مثلما يقال، فان لكل قاعدة شواذ، أي بمعنى أن هذه القاعدة العامة في معناها والشاملة في مغزاها، لا تسري أو لا تنطبق على البعض من المجتمعات التي فقدت حصانتها وأهدرت كرامتها وانتهكت حقوقها وأعيقت حضارتها، حيث يحمل فعل (القراءة) - بالنسبة للمنخرطين في هذا النشاط الثقافي - نوعين من الدلالات؛ الأولى (ايجابية) تشي بكم وكيف المردودات الفكرية والمعرفية ذات القيمة الاعتبارية العالية التي يجنيها الفاعل الاجتماعي على المستويين الشخصي والجماعي. والدلالة الثانية (سلبية) تضمر للمتجرأ – المغامر محاذير جمّة ليس أولها الوقوع في مغطس الهامشية الاجتماعية، والخضوع للمعاناة الاقتصادية، والتجرع للمكابدات النفسية فحسب، بل وكذلك التعرض للمطاردات البوليسية والتهديدات الأمنية التي قد تستهدف ذات الفاعل ككيان اجتماعي وكوجود إنساني، لاسيما في ظل ظروف سياسية وأوضاع تاريخية وسياقات حضارية غالبا"ما تتسم بالشذوذ والانفلات، كما هي حال غالبية هذا النمط من المجتمعات.

والحال هل يعني ذلك أن على من يرغب ممارسة فضيلة (القراءة) من أفراد وجماعات البلدان المستباحة بمظاهر التخلف والتشظي والتشرذم، أن يقتلعوا هذه الفكرة من أذهانهم نهائيا"، وينصرفوا للبحث عن مجالات وأنشطة أخرى لا تسبب لهم الأذى ولا تلحق بهم الضرر، بقدر ما تحقق لهم الكسب المادي وتمنحهم الراحة النفسية؟!. الحقيقة ان أبعد ما يكون عن مرامي هذه المقالة هي الدعوة الى هجر الكتاب أو الترويج لترك القراءة من قبل الراغبين باغناء معارفهم الفكرية وتوسيع آفاقهم الثقافية وتطوير ملكاتهم الذهنية، بدعوى ان (المواطن) في مثل تلك المجتمعات المستباحة يكفيه ما يعانيه من صنوف القهر السياسي، ومظاهر الظلم الاجتماعي، وأساليب الحرمان الاقتصادي،  وأشكال الاستعباد الثقافي، وضغوط الاحتقان النفسي. وبالتالي لا حاجة له بزيادة الأعباء الاقتصادية ومفاقمة المعاناة النفسية ومضاعفة المكابدات الاجتماعية. ذلك لأن (القراءة) – في كل الأحوال والظروف - هي المدخل الوحيد والشرط الأساسي الذي يستطيع الإنسان من خلاله الولوج الى عالم الثقافة الرحيب والتجوال في رحاب الفكر الواسع، حيث الضمان الأكيد للتخلص من كل ما يكبل العقل ويغل الروح ويشل الإرادة.

وإذا ما تبين لنا ان فعل (القراءة)، ليس فقط كونه (مرغوب) و(مطلوب) بحيث يراد له يمارس على نطاق واسع من لدن الجميع، نظرا"لما يحمله من مكاسب اعتبارية (ثقافية وأخلاقية وإنسانية) فحسب، بل وكذلك هو (ضروري) و(مصيري) لإحداث التغييرات الجذرية والتحولات النوعية الواجب إجرائها على صعيد إنضاج الوعي الحضاري للفاعل الاجتماعي من جهة، وتنمية إحساسه بقيمته الذاتية من حيث هو إنسان متفرد من جهة ثانية، وتعظيم شعوره بانتمائه للأنا الجمعي الذي يحمل نمط شخصيته ووشم هويته من جهة ثالثة.

ومع كل ذلك، فان سؤالا" يبقى بحاجة الى إجابة؛ هل أن مجرد الانغماس بفعل (القراءة) قمين بانتشال القارئ من وهدة الجهل الثقافي، وتحسين مستواه الفكري، وتهذيب سلوكه الاجتماعي؟!. بالطبع كلا. ذلك لأن هذا الأمر لا يتعلق (بكم) الكتب التي تقرأ، بقدر ما يتصل (بنوع) الأفكار التي تطرحها، والقيم التي تحملها، والفكرة التي تسوقها، الرسالة التي تروجها. إذ لا يخفى ان الكثير من الكتب حملت بين متونها الكثير من الخرافات والمغالطات والعصبيات، التي ساهمت – وستساهم – في الحطّ من قيمة الإنسان وهدر كرامته، عبر تشويه وعيه ومسخ شخصيته ووأد إنسانيته، مثلما كانت – وستكون – عاملا"من عوامل صيرورته كائنا"متوحشا"لا يعرف سوى قوانين الغاب وشرائع الافتراس !.

***

ثامر عباس – كاتب وباحث عراقي

كان الكون كتلتين، الاشتراكيّة والرَّأسماليَّة، الشَّرقيَّة والغربيّة، ومع أنَّ الصِّين الشَّعبيَّة اشتراكيَّة وشرقيَّة، وأكثر سُكان الأرض عدداً، ظلت لزمنٍ دون اعتراف مِن الأمم المتحدة. كان الاعتراف بالصّين الوطنيَّة. دافع بمثال الصِّين أحد المتحمسين للشعر الشَّعبي العراقيّ، لعدم اعتراف شعراء الفصحى، وتضييق السُّلطة على شعرائه في السَّبعينيات، بالقول: «إنَّ عدم اعتراف الأمم المتحدة بالصِّين الشَّعبيّة، لا يعني أنّها غير موجودة»!

على مستوى الأحزاب الشّيوعيَّة، كانت الانشقاقات تحدث على أساس موسكو وبكين، ما أتذكره أنّ أحدهم عُذب، لمعرفة على أيّ نهجٍ يتحزب: السّوفييتيَ أم الصّينيّ؟! فالأخير «الماوي» كان يُشكل خطورةً، لأنّه الأكثر حماسةً وثوريّةً، لارتباطه بما عُرف بالكفاح المسلح.

لم تخلُ سوقٌ من صناعات الصِّين، بأقصى الأرض وأدناها، على ما يبدو هذا ليس مستحدثاً بالصّين، فالجاحظ(ت: 255هـ) يقول: «فأمَّا سُكان الصّين فإنهم أصحاب السَّبك والصِّياغة، والإفراغ والإذابة، والأصبغ العجيبة، وأصحاب الخرط (الحدادة) والنَّجر، والتَّصاوير»(الحنين إلى الأوطان). كذلك ورد في تُراثنا: «الصّين موصوفة بالصِّناعات الدَّقيقة، والتّصاوير العجيبة...»(الزَّمخشريّ، ربيع الأبرار). بهذا الماضي دخلت الصّين بثقة ديارنا.

سمعتُ تصريحاً لرجل الأعمال محمَّد العبار، من مؤسسة «إعمار»، أنّ مؤسسته تستثمر بعشرة مليار (لا أعلم أدرهم أم دولار) في مطار بكين، وفي شركة «أوبر» الصّينيَّة، وسلسلة مقاهٍ تفوق «ستاربوكس» و«كوستا»، وهو يقول بثقة: إنَّ الصّين خلاف أميركا والغرب عامةً، تتقاسم الأرباح مع مَن يعمل، وتضع أمامه كلَّ ما لديها مِن خبرات ومهارات. أتيت بالعبار مثالاً، وإلا الاتفاقيات الكبرى مع حكومات المنطقة في تصاعد.

نشطت المعاهد داخل الصِّين المختصة بتعليم العربيَّة، وبالمقابل نشطت بالمنطقة العربيَّة المعاهد لتعليم الصِّينيّة. كذلك سمعتُ رجل الأعمال راشد الشّامسي متحدثاً عن تواضع الصِّينيين، والحميمية التي يخلقونها في الاجتماعات معهم، بجعل العربية لغة التَّفاوض والاتفاق الرَّئيسيّة، وتجري التَّرجمة إلى الصِّينية، وهم داخل الصِّين.

لم تبق الصّينية تُسمَى «لغة الطَّيور» جهلاً بها، والقصة تتعلق بالشّيخ جلال الحنفي(ت: 2006)، عندما عاد مِن الصّين إلى العِراق، وكان يُعلم الصِّينيين العربيّة، أخذ يتحدث مع زوجته عبر الهاتف بمفردات صينية، كي لا ينساها، وإذا برقيب التَّلفونات ببغداد يدخل على الخط: «ألا تعرف العربيَّة يا شيخ جلال، هل أنت تتكلم بلسان الطُّيور»؟(بصريّ، أعلام الأدب في العراق الحديث)؟!

لم تعدّْ الصّين الأقصى، بعد اكتشاف الأقصى منها، والوسائل التي تدني البعيد وتقصي القريب، فلعظمة «البيان عن تأويل آي القرآن» لأبي جعفر الطَّبريّ(ت: 310ه)، قيل: «لو سافر رجل إلى الصِّين، حتَّى يحصل له كتاب تفسير محمد بن جرير، لم يكن ذلك كثيراً»(البغدادي، تاريخ بغداد). أمّا الفقيه ابن حزم الأندلسيّ(ت: 456ه)، فجعلها مادة لقصة حبّ عاشها: «أرى دارها في كلِّ حينٍ وساعة/ ولكنَّ مَن في الدَّارِ عني مغيبُ/ فيا لك جار الجنب أسمع حسه/ وأعلم أنَّ الصِّين أدنى وأقرب»(طوق الحَمامة).

لم ننس قصة عنوان المقال «الدَّار صينيّ»، الذي وطناه باسم «الدَّارسين»، النّبات العجيب بنكهته، وما نقل عنه الأطباء والعشابون القدماء مِن فوائد. بين يديّ كتاب «الطَّبيخ» لمحمَّد بن الحسن البغداديّ(صنفه: 623هـ)، حُقق ونُشر بالموصل(1934)، وجدته تاريخاً لمطبخ بغداد العباسيّة، في أنواع الطَّهي للُّحوم والأسماك والدَّجاج والحلويات، غير أنَّ «الدَّارصينيّ» كان القاسم المشترك بين الأكلات كافة، وأحسب أنّ مصنف الكتاب كان طاهياً وكاتباً، أو ملأه عليه أحد الطُهاة. هذا المسمَّى بالقرفة عند بلدان عدة، كان يأتينا مِن الصِّين عبر طريق الحرير، وما زالت تجارته رائجة.

كم شغلتنا بلاد الدّارصيني (الدَّارسين) بتحريفيتها عن الماركسيَّة اللينينيَّة، وتبين تجاوب اشتراكيتها مع «كونفوشيوسيتها»، أبطل ما كنا نعتبره، عبر التَّلقين، انحرافاً.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

يخللط كثير من الناس – للأسف – بين الصوفيّة والتقوى. ويورّطهم هذا الخلط بين المصطلحين – الناتج عن الجهل بالمفاهيم والمعاني – في جملة من المغالطات والانحرافات الفكريّة، ويجرّهم إلى ضروب من المتاهات المتاغيبيّة الماورائيّة، يصعب عليهم التحكّم في مساراتها ومآلاتها ومخرجاتها.

معنى الصوفية: جاء في موقع ويكيبيديا، ميلي: " الصوفية أو التصوف هو مذهب إسلامي، لكن عند الصوفية هو احد مراتب الدين الثلاثة، اهتم بتحقيق مقام الاحسان وتربية النفس والقلب وتطهيرهما من الرذائل وتحليتهما بالفضائل. وهو عند الصوفية الركن الثالث من اركان الدين الاسلامي، بعد ركني الاسلام والايمان. ". قال أحمد بن عجيبة: " مقام الإسلام يعبر عنه بالشريعة، ومقام الايمان بالطريقة، ومقام الاحسان بالحقيقة. فالشريعة تكليف الظواهر، والطريقة تصفية الضمائر، والحقيقة شهود الحق في تجليات المظاهر، فالشريعة أن تعبده، والطريقة أن تقصده والحقيقة أن تشهده "

والصوفيون هم جماعات ابتدعوا (من البدعة) طرقا في العبادة والتنسك في صلواتهم، وفي أذكارهم، وفي خلواتهم، ما شرعها الله. وقيل، أنّ نُعتوا بالتصوّف، لأنّهم لبسوا الصوف، وقيل: هي من الصفا، لأنهم يعتنون بصفاء القلوب من كدر الذنوب، وكدر الكسب الحرام. وقد غلب على المتصوفة البدع والزهد في الدنيا، وأغلب زهدهم كان صادرا عن الفقر والحاجة والحرمان من ضرورات الحياة الفطريّة السليمة. أي أنّه زهد فرضته ظروف الحياة الماديّة القاسيّة، او صحوة ضمير وتوبة نصوح بعد ترف ومجون وولغ في أوحال المعاصي والذنوب. أمّا مفهوم التقوى، فقد ورد ذكره في القرآن الكريم والسنة النبويّة الشريفة. وهو مفهوم يجمع بين القول والعمل، موطنه القلب السليم، وميدانه عمل العقل والجوارح. كما أنّه شديد الصلة بالواقع المعيش، وبعيد كل البعد عن الشطحات الصوفيّة والتطرّف الرهبانيّ.

ارتبطت ظاهرة الصوفيّة، منذ ظهورها، شأنها شأن الزهد، بالحقل الديني. فاعتُبرت ردّا قويّا على مظاهر الماديّة المفرطة والفساد الأخلاقي، المتمثّل في شيوع المجون قولا وفعلا. لقد شهدت أمصار الدولة الإسلاميّة، في مشرقها ومغربها، خلال فترة العصر العباسي والأندلسي، مظاهر الانحلال الأخلاقي، بسبب اتّساع الفتوح الإسلاميّة، وامتزاج الفاتحين العرب بالعجم ؛ كالفرس والترك والزنج والروم، وغيرهما. فاختلطت الثقافات وانصهرت في بوتقة واحدة، وظهرت أجيال من المولّدين، تحمل في أوردتها وشرايينها دماء وجينات متعدّدة النسب. ونظرا. أمّا من الناحيّة الفكريّة والثقافيّة والعقائديّة. فقد أثّرت فلسفة العلوم اليونانيّة وحكمة الهند والفرس، في تحوّل العقل العربي من الحياة البدويّة القائمة على الانتماء والولاء العشائري، والعصبيّة القبليّة إلى ميدان العلوم العقليّة، والتفكير العلمي البحت، وفي مقدّمتها علوم الفلسفة والرياضيات والفلك واللاهوت، وغيرها.

و بالتوازي مع تطوّر العقل العربي وانفتاحه على علوم عصره ؛ العقليّة المجرّدة والعلوم التجريبيّة، كالبصريّات والكيمياء والطبّ وغيرها. بدأت معالم الصوفيّة، تطفو على السطح، على أيدي جماعة من الزهّاد والوعاظ، الذين آثروا العزلة عن المجتمع، واعتنقوا أفكارا ومبادئء وسلوكات ترفض ملذات الحياة، وتدعو الناس إلى هجرتها والتطهّر من مظاهرها ولذائذها، بما يشبه " الرهبنة " (لا رهبنة في الإسلام). بل الأدهى من ذلك، داسوا على مبدإ " الوسطيّة "، التي تنهى عن الإفراط والتفريط، والقبض والبسط، والتبذير والتقتير. وغضّوا الطرف عن قوله تعالى: " ولا تنس نصيبك من الدنيا ". " وقل اعملوا.. " أي، عمل للعيش في الدنيا وعمل لأجر الآخرة.

لقد تجاوز الصوفيّة، بشطحاتهم الوهميّة، معالم العقيدة " الوسطيّة "، وسبّبوا للحضارة الإسلاميّة خسائر علميّة وفكريّة فادحة. حين انشغلوا، وشغلوا الناس معهم برؤاهم وتوهماتهم ومناماتهم التي تشبه أحلام اليقظة، وكراماتهم المزعومة. فبينما كان العقل النيّر في الأمم الأخرى، يبحث ويجتهد في البحث، ويقيم المعامل للتجارب، ومراصد الكشف، وينفق علماء تلك الأمم الأعجميّة أوقاتهم في خوض غمار البحث والاختراع، كان المتصوفة، يدعون الناس إلى العزلة وترك الدنيا والغوص في عوالم وهميّة، لا تختلف كثيرا عن المتافيزقيا (ما وراء الطبيعة).

الرمز الصوفي: الرموز الصوفيّة، إشارات ودلالات نفسية أكثر منها ماديّة. نظريّة أكثر منها تطبيقيّة.

يزعم الصوفيّون أنّهم يسعون إلى التقرّب من الله سبحانه وتعالى ونيل محبّته ورضوانه. والله سبحانه وتعالى أقرب إلى العبد من حبل الوريد.

* التقرّب إلى الله تعالى، لا تستدعي تلك الشطحات الفكريّة والنفسيّة، التي يحاول الصوفي إبداءها وإضفاءها وإظهارها على سلوكه وعلاقاته الاجتماعية بالخلق. فقد ارتبط الزهد، لدى البعض، بالعزلة، وكانت دوافعه لديهم الفقر والحاجة والمتربة. بينما الزهد الحقيقي والشرعي، هو اتبّاع المنهج الوسطي، فلا إفراط ولا تفريط، ولا تبذير ولا تقتير (لا تجعل يذك مغلولة إلى عنقك، ولا تبسطها كل البسط). هذا هو المنهج الرباني السليم والمفيد.

* فلا يعقل أن يدّعي المريد، أنّه مجرّد من إرادته، ايّ منزوع الحريّة، أيّ فاقد للتكليف، وهذا ما يجرّه إلى فقدان العقل، او تسفيهه، ما دام الادّعاء، بمجاوزة الرسوم والمقامات في غير مكابدة ومشقة وجهد بدنيّ. ومن المآخذ على الصوفية، أنّهم يسفّهون العقل وهو مناط التكليف، وموطن العلم (اقرأ باسم ربّك) (لعلّهم يعقلون) (أولي الألباب) (أولي النهى)، ويدّعون أنّهم السائرون والسالكون سبيل الحق بأحوالهم لا بعلمهم، الذي أودعه الله في الفطرة الإنسانيّة (وعلّم آدم الأسماء كلّها). إنّ التوجّه إلى الله والهجرة إليه والسفر إلى مرضاته، يحدث بالقلب والعقل والنفس والبدن. وإلاّ لماذا فرض الله على المؤمن طهارة البدن ومكان العبادة والوقوف والركوع والسجود والجلوس في حالة التشهّد في الصلاة والطواف والسعي بين الصفا والمروة وصوم رمضان ودفع الزكاة، لماذا، كل هذا، إذا كان السالك والمسافر، في عرف الصوفيّة، وسيلته الوحيدة توجّه القلب فقط، وترك الجسدً على صورته حتى لا يعرف أحد أنه فُقِد.

لقد ابتدعت الفيوضات الصوفيّة على مرّ العصور، مصطلحات تأويليّة، يصعب في أغلب الأحيان تفكيكها وتأويلها، وأصبغتها بصبغة قدسيّة مطلقة، ما أنزل الله بها من سلطان. وكانت سببا من أسباب تعطّل العقل والفكر والعلم النافع. كـ(السحق، والمكاشفة، والتجلّي، والتخلّي، المشاهدة، السالك، القطب، النقباء، النجباء، الأوتاد..إلخ).

و قد ألّف شيخ التصوّف والعالم الروحاني والشاعر والفيلسوف محي الدين بن عربي (1165 م – 1240 م) - الذي لقبه مريدوه وأتباعه بألقاب منها: الشيخ الأكبر، والبحر الزاخر، ورئيس المكاشفين، وبحر الحقائق، وإمام المحققين - ما يربو عن 800 كتاب، ووصلنا منها قرابة 100 كتاب، في التصوّف وعلم الكون. وعمّت آراؤه العالم الإسلامي، شرقا وغربا.

و الملاحظ، أنّ ابن عربي طلع نجمه في نهاية العصر العباسي الثاني، وقبل سقوط بغداد على أيدي التتار والمغول سنة 656 هـ (1258 م)، والذي اعقبه عصر الضعف والانحطاط (عصر المماليك والعثمانيين) (656 هـ - 1213 هـ) الموافق (1258 م – 1798 م). وهي فترة شهدت البلاد العربيّة ركودا أدبيّا فظيعا، تدهورا في المنظومة الفكريّة العربيّة والإسلاميّة وركون العقل العربي والإسلامي إلى التفكير المستند على البدع والخرافات والأوهام، كما أصبحت الفلسفة الصوفيّة مذهبا عقائديا جديدا. ومن المؤسف، حقّا، انتقال الفكر الصوفي إلى العامة، وأنصاف الوعاظ، وتفرّعت عنه ظاهرة (الأولياء)، وشيّدت على قبورهم (حسب زعمهم) قبب خصراء اللون وبيضاء، لتصبح مقامات للزوار، وملجأ للطرقيّة والزوايا، بل تحوّلت، مع مرور الوقت، إلى مقامات مقدّسة، تنافس المقدّسات الإسلاميّة في مكة والمدينة والقدس. يقصدها العامة طلبا للشفاء ورغبة في نيل بركات (خدّامها) وشيوخها، المدّعين بأنّهم أصحاب كرامات، خصّهم الله تعالى بها.

ساهمت الصوفيّة في تعطيل العقل العربي، وغاصت في البحث فيما وراء الطبيعة، بينما تركوا البحث في الطبيعة الماديّة، التي سخّرها الله لهم، وجعل لهم فيها معايش وسبلا شتّى. حوّلوا العلم إلى نظريّات مثاليّة، خارج الجوارح، وعطّلوا نشاط الجسد، وأفنوا مقاصد الوجود المادي، وأشغلوا عقل الإنسان وقلبه بمسائل فلسفية وشطحات صوفية كبرى كمسائل الألوهية والمحبة الإلهية والقول بوحدة الوجود ووحدة الشهود. وكان محي الدين بن عربي محل تبجيل وإجلال، من أتباعه ومريديه، حيث أنزلوه منزلة أرباب المواجد والأذواق، الناطق بلسان الكشف والإشراق. كغيره من أوائل الصوفية، كالجنيد (1) والشبلي (2) وذي النون المصري (3).

يقول د. شوقي ضيف أنّ أبا حمزة الصوفي المتوفي سنة 269 هـ: " أول من تكلّم على رؤوس المنابر ببغداد خالطا مواعظه بإصطلاحات الصوفية وأفكارهم من صفاء الذكر وجمع الهم والمحبة والعشق والأنس، وكان هؤلاء الوعّاظ يجذبون إليهم الناس بأكثر ممّا يجذبهم الوعّاظ العاديون لقيام حياتهم على الزهد والتقشّف ورفض كلّ متاع. " ص 528 / ص 529. (4) ويقول أيضا: " وتكوّنت حول هؤلاء الوعّاظ من المتصوّفة سريعا حكايات كثيرة تصوّر جهادهم العنيف في قمع شهوات النفس ولذّاتها وكيف كان الصوفي يفرض على نفسه عناء شاقا مضنيّا لا يطيقه إلاّ أولو العزم. " ص 529 / (5) المصدر نفسه.

و قد رويّ عن بشر الحافي المتصوّف المتوفي سنة 227 هـ من أنّه مرّ ببعض الناس فسمعهم يقولون: هذا الرجل لا ينام الليل كلّه ولا يُفطر إلاّ في كلّ ثلاثة أيّام مرّة، فبكى حين سمعهم يردّدون هذا الكلام. وسأله سائل: ما يبكيك ؟ فقال: إنّي لا أذكر أنّي سهرت ليلة كاملة، ولا أنّي صمت يوما ولم أفطر من ليلته، ولكن الله سبحانه وتعالى يلقي في القلوب أكثر ممّا يفعله العبد لطفا منه سبحانه وكرما " المصدر نفسه / ص 529. (6) عن رسالة القشيري / طبعة سنة 1346 هـ.

و الباحث في أعماق التراث ولججه، ستواجهه قصص وحكايات عجيبة عن حياة المتصوّفة ومصطلحاتهم وأفكارهم وشطحات مكرماتهم المزعومة. فقد أنزلوا أنفسهم منازل فوق الأرض والبشر، ونسبوا لأنفسهم الخوارق من الأفعال، ووصفوا أنفسهم بأقوال لا يصدقها العقلاء، ولا يستسيغها العقل الراشد. ألزموا أنفسهم وأتباعهم (مريديهم) ما لا لزوم له. وحوّلوا الإيمان بالله والتقرّب إليه إلى تعذيب للنفس، وإرهاق للروح. وحرّموا على أنفسهم ومريديهم (أتباعهم) ما أحلّه الله من الطيّبات، اعتقادا منهم – وهو اعتقاد لا أساس له في الدين ولا مسند له في العقيدة – أنّهم بنهج الصوفي ذاك، يزدادون قربا إلى الخالق سبحانه وتعالي. ونسوا أو تناسوا أو غضوا الطرف عن قوله تعالى: " ……… … »

يقول د. شوقي ضيف نقلا عن تلميذ الحلاج ابراهيم الحلواني (أخبار الحلاج ص 20): " دخلت على الحلاج بين المغرب والعشاء، فوجدته يصلي، فجلست في زاوية البيت، كأنّه لم يحس بي لاشتغاله بالصلاة، قرأ سورة البقرة في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية آل عمران، فلمّا سلّم سجد وتكلّم بأشياء لم أسمع بمثلها، فلمّا خاض في الدعاء رفع صوته كأنّه مأخوذ عن نفسه، ثم قال: يا إله الآلهة ويا رب الأرباب ويا من " لا تأخذه سنة ولا نوم " رُدّ إليّ نفسي لئلا يفتتن بي عبادك، يا هو أنا، وأنا هو، لا فرق بين إنسيّتي (وجودي) وهويّتك إلاّ الحدوث والقدم. ثم رفع رأسه ونظر إليّ وضحك في وجهي ضحكات. ثم قال: يا أبا إسحق، أما ترى أنّ ربي ضرب قدمه في حدوثي حتى استهلك حدوثي في قدمه، فلم يبق لي صفة إلا صفة القدم، ونطفي في تلك الصفة، والخلق كلّهم أحداث ينطقون عن حدوث، ثم إذا نطقت من القدم ينكرون عليّ ويشهدون بكفري ويسعون إلى قتلي، وهم بذلك معذورون، وبكل ما يفعلون بي مأجورون " ص 531 / 532. (7)

و المتأمّل لهذه الشهادة الصادرة عن تلميذ لأحد أكبر الصوفيّة، يستخلص، إلى أيّ مدى وصل الصوفيّون في اعتقادهم الضال والمضلّل. وهو اعتقاد لا سند عقلي يسنده، ولا منطق عاقل يصدّقه، لأنّه لا يعدو أن يكون وهما كاذبا وخرافة وضلالة وادّعاء باطل، يسوق صاحبه إلى الكفر الصريح.

لا أدري، إلى أيّ مدى، كان يسعى الحلاج، ويمنح نفسه، التي ألهمها الله الفجور والتقوى، وجعلها تارة تذنب وتارة تتوب، هذه الصفة الربّانيّة، ووسما بها إلى عتبة القداسة ؟

لقد تحولت هذه الحكايات الصوفيّة إلى نوع من القصص الشعبي المتداول بين عامة الناس، ممّن لا فقه لهم في مسائل الدين والعقيدة. لم يكن المخيال الشعبي بمقدوره الصمود أمام هذه الحكايات الصوفيّة نظرا لهشاشة، بل انعدام، الملكة النقدية لديه بشكل كليّ. إنّ العقل العامي (الشعبي)، عقل عديم التأويل المعرفي والدلالي. لهذا السبب، شكّلت الصوفيّة خطرا داهما على النسيج الاجتماعي وبالخصوص المربّع العقائدي لدى عامة الناس وذوي التحصيل العلمي المحدود والمستوى التعليمي الزهيد. يقول الدكتور شوقي ضيف: " وهذه الحكايات الصوفية أخذت تكوّن ضربا من ضروب الآداب الشعبيّة العربيّة، إذ كان الناس يتداولونها رجالا ونساء وشيبا وشبّانا، وكأنّ التصوّف كان عاملا قويّا في ظهور تلك الآداب وطبعها بطوابع الشعب ولغته وألفاظه. " ص 530. (8).

و من أعجب ما تداولته كتب التراث العربي الإسلامي، قصص الكرامات التي نُسبت إلى أشخاص، يُوصفون بأنّهم صوفيون، ولا ندري هل هم بشر من سلالة آدم، أم هم من سلالة الجنّ أم هم من سلالة الوهم والخيال والخرافة والادّعاء. ومن هذه القصص العجيبة في محتواها والغريبة في تفاصيلها، ما روي عن رجل اسمه بنان الحمّال المصري المتوفي سنة 316 هـ. " فقد قيل إنّ خمارويه أمر بأن يُطرح بين يدي سبع، فطُرح وبقي ليلته، وجعل السبع يشمّه ولا يضرّه، فلمّا أصبحوا وجدوه قاعدا مستقبل القبلة والسبع بين يديه، وعجب خمارويه، فأطلقه واعتذر إليه. " ص 530. (9).

و لا ندري، هل كان السبع جائعا أم شبعا ؟ وهل كان السبع بريّا ضاريّا أم من السباع المروّضة ؟ لم يخبرنا راوي القصة (الكرامة) بذلك. وأورد الدكتور شوقي ضيف قصة أخرى من قصص الكرامات (الصوفيّة)، فقد " حُكي أنّه كان لرجل على آخر دين: مائة دينار، بوثيقة، فطلب الرجل الوثيقة فلم يجدها، فجاء إلى بُنان ليدعو له، لعلّه يجد الوثيقة الضائعة، فقال له بُنان: أنا رجل قد كبرت وأحبّ الحلواء، اذهب إلى قريح (حلواني)، فاشتر رطل حلواء وائتني به، أدعو لك، ففعل الرجل، وجاءه. فقال له بُنان: افتح ورقة الحلواء، ففتحها، فإذا هي الوثيقة، فقال: هذه وثيقتي، فقال بُنان: خذها. وأطعم الحلواء صبيانك. " ص 530. (10).

إنّ هاتين الحكايتن، لا يصدّقهما إلاّ العامة من الناس وجمهور المغفّلين. فهما تصلحان أنّ تصنّفا في أخبار المنجّمين وسحرة بابل. وتعكس هذه القصص (الصوفيّة)، وغيرها، والمصنّفة ضمن الكرامات (الدينيّة)، المنسوبة إلى أناس انتحلوا صفة الإيمان والتقرّب إلى الله تعالى، وادّعوا حقّ اليقين وعينه وعلمه، حالة المجتمع الإسلامي، ومستوى التفكير الذي نجم عن شيوع الخرافة والترّهات وسيطرتهما على العقول التائهة في خضم المفاهيم الأخلاقيّة المغلوطة، والتديّن المخالف لروح الدين الحقّ. وهو نوع من التفكير الفلسفي الذي عطّل مبدأ السببية، وسفّه التفكير العلمي، وهمّش العقل والمنطق.

لم تكن الأمّة الإسلاميّة، وتحتضر تحت نير الاحتلال الصليبي، وتفقد مكانتها الحضارية، في حاجة إلى الصوفيّة، وقد فلت منها زمام مصيرها الحضاري. منذ القرن السابع الهجري، الموافق للقرن الثالث عشر الميلادي. بل كانت في حاجة ماسة وضروريّة إلى إعادة مجدها العباسي والأندلسي، وإحياء العلوم العقليّة والإنسانيّة التي وضع أسسها علماءها الأفذاذ، من أمثال ابن سينا وابن رشد والفارابي وابن الهيثم وابن النفيس وابن خلدون والخوارزمي وجابر بن حيّان وأبي حامد الغزالي ووووووو. لبناء حضارة أصيلة وجديدة خدمة للإنسانيّة جمعاء، وتقف في وجه الفلسفة الماديّة، التي أفسدت العقل البشري والأخلاق معا. وحوّلت الإنسان إلى مجرّد آلة صمّاء.

تأخرت الأمّة العربيّة الإسلاميّة، وأفلت شمسها شرقا وغربا، وسقطت في شراك الخرافات والأساطير والترّهات. وبمثل هذا التفكير، الذي لا يستقيم له عقل قويم، ولا قلب سليم، أضاعت أمّة (اقرأ) معالم الريادة الحضارية، بعد قرون من سطوعها على البشريّة جمعاء. تلك الحضارة، التي أغنت الغرب والشرق بالعلوم العقليّة والإنسانيّة والآداب. في فترات كانت فيها روما، وقبلها أثينا وغيرهما، تحارب العلم والفلسفة وتحاكم العلماء والفلاسفة، فتعدمهم أو تحبسهم أو تنفيهم.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر ..........................

هامش:

(1) الجنيد: اسمه أبو القاسم الجنيد النهاوندي البغدادي القواريري، من مواليد بغداد في العقد الثالث للقرن الثالث الهجري. من أعلام الصوفية، لقب بـ (سيّد الطائفة) و(طاووس العلماء).

(2) الشبلي: هو أبو بكر دلف بن جحدر الشبلي، ولد سنة 247 هـ، صحب الجنيد وعلماء عصره مات ببغداد سنة 334 هـ، وقبره هناك. قيل أنه اكتحل بكذا وكذا من الملح ليعتاد السهر ولا يأخذه النوم.

(3) ذو النون المصري الزاهد، شيخ الديار المصريّة ثوبان بن إبراهيم، النوبي الإخميمي، ويكنى أبا الفيض، ولد في اواخر أيام المنصور: توفي سنة في ذي القعدة 246 هـ.

(4) العصر العباسي الثاني / د. شوقي ضيف / ط. 4 / دار المعارف.القاهرة.

(5) المرجع نفسه.

(6) المرجع نفسه.

(7) المرجع نفسه.

(8) المرجع نفسه.

(9) المرجع نفسه.

(10) المرجع نفسه.

(فكرة صغيرة قادرة على أن تغير التاريخ وتؤسس حضارات)

إن الاحتكار الفكري في مجتمعنا العربي وبالخصوص المجتمع الجزائري وراء الكساد الذي تعيشه "النخبة" في الوطن العربي، والأفكار تنتقل من جماعة إلى أخرى، فهل حان الوقت بأن تستفيد الأمة العربية من التغيرات التي حدثت في اليابان وتركيا وماليزيا، وكيف تصنع تاريخها العربي والإسلامي بواسطة حركة الأفكار؟ تلك هي المشكلة؟

فهجرة الأفكار وصب خبرتها في مؤسسات الأجنبي مثلما نراه في الوقت الحالي، هي واحدة من أهم المشكلات الخطيرة التي تواجه المجتمع العربي والمجتمع الإسلامي في كل أقطاره، وقد تحدث الكثير من الباحثين عن هجرة الأفكار، ومنهم جلبرت هايت في كتابه تحت عنوان: "هجرة الأفكار"، وضع فيه فلسفة التاريخ، وقدم أمثلة عن تطور الأفكار في جانبها الإيجابي وكيف استثمرت الشعوب في أفكار شعوب أخرى، ويكفي أن تكون فكرة صغيرة قادرة على أن تغير التاريخ وتؤسس حضارات، لقد تحدث جلبرت هايت عن التاريخ بإسهاب شديد، وقال أن التاريخ من الدراسات الأكثر تعقيدا باعتباره الحقل الذي يحفز أحداث الماضي، والجزء الأكبر من التاريخ لا يدور حول الأشخاص والأفراد أو رجال عظماء، أو سجل للمعارك والحروب، وكيف انتزعت إحدى الطبقات الثروة والمجد من طبقة أخرى، وإنما يدور حول جماعات مختلفة ذات قوة أرادت أم تهيمن على جماعة ضعيفة، ليس بالسلاح بل بالأفكار، يمكن أن نقول أنه بهجرة الأفكار كان جلبرت هايت  يدعو إلى  التغريب.

فرغم  أن الإسلام تابع سيره مخترقا الحدود الطبيعية والجغرافية حتى وصل شرقا إلى إيران والهند والصين وغربا إلى إسبانيا، وشمالا إلى جزر البحر الأبيض المتوسط وبلاد الأناضول وأرض روسيا، وجنوبا إلى قلب أفريقيا وسواحلها الشرقية والغربية، غير أن العالمين العربي والإسلامي لم يعيشا عيشة الجسد الواحد، ولم يعملان بدستور الإسلام، هذا ما تؤكده العديد من الكتابات، فلم يعرف التاريخ مجتمعا نشأ سليما، أبيا مثل المجتمع العربي، ذلك أن المجتمع العربي أقبل في حماسة لكل ما يجلب له الخير والنفع، لقد كان العرب منذ أن ظهروا على مسرح الأحداث العالمية أصحاب رسالة سامية يدعون فيها إلى المحبة والإخاء، غير أنهم لم يستثمروا في أفكار غيرهم وحتى أفكارهم، وتخبط البعض منهم من أصحاب النفوس المريضة في فهم هذه الرسالة السامية، حيث اتخذ أعداء هذه الفئة طابعا خاصا في التاريخ، ومن هنا بدأت الحضارة العربية تعرف نوعا من التراجع والصراعات والخلافات بين المسلمين تحت ستار تيارات مختلفة فظهر الانشقاق في الأمة العربية والإسلامية التي كانت خير أمة أخرجت للناس، فعرفت بالشلل والجمود.

لقد ظهر رجل من شمال افريقيا ليطرح مشكلة الأفكار لكن بطريقة  تختلف عن الطريقة التي طرحها هايت، إنه المفكر الجزائري مالك بن نبي، إذ يقول وهو يتحدث عن جهل المسلمين بهذه الاعتبارات : "إنّ المجتمع الإسلامي يُعاني من السخط الإلهي الصادر من النماذج الكُلِّية في محيطه الثقافي بالذات، كما يعاني من الانتقام الشديد على الأفكار التي استعارها من أوروبا دون أن ينظر في الشروط التي من شأنها أن تُحافظ على قيمتها الاجتماعية، وينجم عن ذلك فقدان الحيوية في الأفكار الموروثة وفي الأفكار المُكْتَسَبَةِ، وهو الأمر الذي يُخِلُّ إخلالاً خطيرا بالتطور المعنوي والمادي في العالم الإسلامي، ودون تعميم طبعا، وكتابات مالك بن نبي حول مشكلة الأفكار والمشكلة الحضارية لقيت رواجا كبيرا عند المثقف الغربي كون مالك بن نبس كان يكتب باللغة الأجنبية، وقام مشارقة بترجمتها إلى اللغة العربية  لكن بالرغم من ذلك  لم تستثمر افكاره بالشكل الكافي وتؤسس لها مخابر للتحليل حتى السنوات الأخيرة بدأ ضوؤه يلمع في فضاء  الكتابة والنقاش في الفضاءات الجامعية،، حين حرك كتاب عرب وجزائريون اقلامهم للتعريف بفيلسوف الجزائر ومحررهم من التبعية، مثله مثل محمد أركون والعوّا والجابري وغيرهم من الذين اعتبروا الأفكار تخضع لسُنّة التغيير.

فحين تلتقي أفكارٌ مع أفكارٍ أخرى قد يحدث تصادم بينهما وقد تتلقح وتصبح لها قابلية التطور، وهو ما اشار إليه الباحثون بالازدواجية الفكرية  أكانت تعليمية إصلاحية أو سياسية، المشكل أن العرب لم يأخذوا بتجارب غيرهم فها هو إمبراطور اليابان الذي تحدث عنه جلبرت هايت وهو يؤدي مرسوم القسم أمام الشعب عام 1868، حيث قال: " سنبحث عن المعرفة في جميع أنحاء العالم" ومن هنا بدأت سياسة اليابانيين تنحصر في تعلم كل ما يمكن تعلمه من الشعوب الأخرى، وطبقوا هذا الشعار في حياتهم اليومية، فاقتبسوا من الصين ذات الحضارة العظيمة، دون أن يصبحوا أسرى لها، فكانوا قوما أقوياء الإرادة، وقد سارت تركيا على نهج اليابانيين وكذلك الرومان الذين حوّلوا منطقة غرب البحر الأبيض المتوسط من أحراش وصحاري إلى بلاد كلها حدائق وكروم وحقول يانعة، إن الفكرة الواحدة يمكن أن تولد في عقل فرد واحد، ثمّ تنتشر بعد ذلك لتشمل الجماعة كلها، فتثمر وتتحول إلى فعل أو مشروع وقد تموت عندما العرب في مفترق الطرق، الفكرة تظل فكرة سواء كانت صغيرة أو كبيرة، يكفي أن نؤمن بها لأنها من صنع تفكيرنا،  يبقى السؤال كيف نحقق التوزان بين ما نفكر فيه وما نقوله وبين ما نفعله؟

***

علجية عيش - كاتبة وباحثة - الجزائر

التطورات الكونية بتأثيراتها الغربية (الولايات المتحدة الأمريكية وكندا ودول الاتحاد الأوروبي) والشرقية (الصين والهند وروسيا) وضعت مصادر القرار المركزية الإدارية والتمثيلية بالمغرب أمام تحدي تجديد النخب بالشكل الذي يستجيب للمنطق الذي يخدم بالقوة والسرعة المطلوبتين طبيعة المشاريع الترابية الجديدة بأبعادها التكنولوجية والاقتصادية، وكذا بلورة هندسة اجتماعية قادرة على مواجهة الإكراهات الثقيلة والمرهقة التي تتصاعد ضغوطاتها مع مرور الزمن.

الأجندات السياسية أصبحت جد مرتبطة بالتفكير في تنمية المجالات الترابية وتأهيل العنصر البشري وإشراكه في دعم مسار الانخراط الشمولي لفهم متطلبات الحاضر والمستقبل. تحتاج المجالات الترابية إلى نخبة تمثيلية وإدارية قادرة على بلورة وتنفيذ المشاريع التكنولوجية والرقمية والروبوتية ... بمنطق سياسي يخدم هدف تخفيض مستوى الفقر والتهميش إلى أدنى المستويات.

في هذا الصدد، المهندس المنتصر للفكر الاشتراكي الاجتماعي أصبح فاعلا لا غنى عنه وطنيا وجهويا وإقليميا ومحليا. الحاجة للتكيف بأقل الأضرار أبرزت أهمية تقوية ارتباط المهندسين بالفلسفة الاشتراكية الاجتماعية. دول الجنوب لن تصمد أمام العواصف السياسية الكونية ما لم تستثمر في توطيد الملكية الجماعية أو الحكومة الجماعية للموارد الاقتصادية ووسائل الإنتاج وبالتالي تحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين حياة الناس على المستويين الزمني والجغرافي.

الحاجة إلى ترسيخ الثقافة الاشتراكية الاجتماعية جنوبا أصبح مطلبا لعامة الشعوب والأمم نظرا لتفاقم نسبة الفقر والتهميش. نسبة الأفراد والجماعات غير القادرين على ركوب قاطرة التطورات العالمية تزداد ارتفاعا كل يوم. الحفاظ على الأمن العام وتوطيد النظام في إطار الاستمرارية أحدث اليوم ارتباطا وثيقا بين الثروة والإنتاج ومستوى ملكيتهما من طرف الجماعات الترابية. احتكار الخيرات وتراكماتها الإنتاجية والمالية لن تجدي طالما تم التماهي مع تركيزها في يد الأقليات أو الشركات الخاصة. الهندسة السياسية في زمن التحولات المبهرة تضع في جدول أعمالها كأولوية الأولويات ضرورة توزيع الموارد بالتساوي وتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية من خلال تحقيق المساواة في فرص الحصول على التعليم والرعاية الصحية والعمل المنصف والأجور المعقولة. الرهان كذلك يفرض تفاعلا نافعا بين الأجيال المتعاقبة، تفاعل يثمن توارث وتطوير الخبرات والتجارب بين الفئات العمرية، بما في ذلك ضمان تطويل استقلالية الفئات المجتمعية في وضعية شيخوخة وخلق الآليات المسهلة لسيولة المعارف إلى الفئات العمرية الشابة.

أمام هذه التحديات، المهندس يشكل في الحاضر والمستقبل حلقة محورية لتقوية الاندماج التفاعلي النافع بين الفكر الاشتراكي الاجتماعي والتنمية المستدامة. المهندس بمعارفه النظرية والتطبيقية هو القادر على ربط العلوم بالحياة المعيشية في روح المجتمعات الترابية. بحضوره القوي، يمكن للدولة المغربية أن تحقق السبق في بناء مجتمع يتوخى المساواة والعدالة في عالم شديد التحول. الاشتراكيون الاجتماعيون لهم الثقة الكاملة في الهندسة والمهندسين، ويعتبرونهم الأكثر جدارة على تصميم وتنفيذ مشاريع تعزز الفائدة العامة وتحسن جودة حياة الناس بشكل عام، بما في ذلك الحفاظ على المصالح الفردية أو أرباح الشركات الكبرى متعددة الجنسيات والعابرة للقارات.

كما سبق أن أشرت إلى ذلك في مقالات سابقة، في زمن الذكاء الاصطناعي، يعتبر المهندس الفاعل الأكثر تمكنا للعب الأدوار المطلوبة في تبني المقاربة التشاركية وتعزيزها. فهو بذلك القادر بأسلوبه على ترسيخ التعاون والمشاركة الفعالة بين المهندسين والمجتمع الطامح لاستخدام تصاميم وتطورات التكنولوجيا والحلول الذكية في حياة أفراده. الذكاء الاصطناعي كواقع يكتسح بقوته فضاءات العيش اليومي للمجتمعات مَوْقَع المهندس في صلب المعركة التنموية. إنه الإطار الأنسب لتدريب وتعويد الناس للتفاعل مع الأنظمة الحاسوبية لتنفيذ أنشطتهم المعقدة المدرة للدخل ومساعدتهم على اتخاذ قرارات على أساس بيانات ذات مصداقية. قوة وجوده كذلك مرتبطة بكونه يشارك بشكل وثيق في عملية تصميم وتطوير هذه الأنظمة بتفاعل مباشر مع مختلف فئات المستخدمين والمجتمعات المتأثرة. باستخدامه للمقاربة التشاركية، يكتسب المهارة في التعاون المنتج مع الخبراء في المجالات الاجتماعية والأخلاقية والقانونية والثقافية، متشبثا بصفاء ذهنه بالتأثير على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بالشكل الذي يجعلها متوافقة مع القيم الأخلاقية وتلبي الاحتياجات الاجتماعية والبشرية.

المهندسون بتخصصاتهم لا يجدون أي صعوبة في تبني مبادئ التصميم المستدام والمسؤول وترسيخ الاعتقاد بكون الحلول الذكية والطاقات المتجددة لا تسبب آثار سلبية على البيئة وتتوافق مع مفهوم التنمية المستدامة. كما أن التشارك كمقاربة يفرض نفسه باستحقاق لرفع مستوى توظيف المستخدمين المحتملين والمستفيدين في عملية التصميم وتجربة المنتجات وتقديم الملاحظات والاقتراحات لتحسين الأداء وتلبية الاحتياجات الفعلية. أهمية موقع المهندس تتجلى في كونه الأكفأ في لعب الأدوار الحيوية في مجال تبني المقاربة التشاركية في زمن الذكاء الاصطناعي، حيث يتعاون مع مجتمعات الاستخدام والخبراء المتخصصين لتصميم وتنفيذ حلول تكنولوجية تلبي الاحتياجات الاجتماعية وتكون مستدامة وأخلاقية.

من ناحية أخرى، المتتبعون يولون اهتماما بالغا للهندسة بسبب قدرتها الموثوقة في مجال تحقيق العدالة الاجتماعية. فبتصميم وتطوير البنية التحتية والتكنولوجيا بطريقة تضمن توفير الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء والاتصالات للجميع، بما في ذلك الأشخاص الذين يعيشون في المناطق المحرومة والمهمشة، تتيسر أمانة تعميم استفادة الجميع من الخدمات الحيوية. المهندس يعطي اعتبارا بالغا للبيانات المتعلقة بتنوع السكان واحتياجاتهم المختلفة عند تطوير المنتجات والخدمات. هو كذلك الإطار الأنسب لتصميم المباني والمنشآت لتكون متاحة وملائمة للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، وتقديم تكنولوجيا متوافقة مع الثقافات المختلفة واللغات المتعددة، مع الحرص التام لتقليل التأثيرات الضارة على البيئة وتغير المناخ وتضييق الفجوة الرقمية بين المواطنين. بثقافتهم وتخصصاتهم المعرفية والتقنية، يراكم المهندسون التجارب التي تجعلهم قادرين على التأثير على أنماط إنتاج الشركات بتجويد طبيعة القرارات المتخذة بها ودفعها لاستحضار مدى أهمية الالتزام بالمسؤولية الاجتماعية في برامجها.

قدرة المهندس على خلق التفاعل البناء في إطار السياسات العمومية بوأته مكانة هامة في البنية المؤسساتية التنموية من الوطني إلى المحلي. لا أحد يجادل إمكانياته للإسهام في تطوير تقنيات الإنتاج المحلي، مثل تصميم أنظمة الزراعة المائية والزراعة العضوية وتقنيات تنقية المياه. فهو يوجد في صلب رهان تعزيز الاكتفاء الذاتي في إنتاج الغذاء والموارد الطبيعية. مردوديته مشهود لها في مجالات تصميم وتطوير الحلول التقنية البسيطة والمنخفضة التكلفة التي يمكن للأفراد تصنيعها وصيانتها بسهولة، مثل تصميم أجهزة طبية محمولة أو أدوات توليد الطاقة المحلية، وتطوير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتصميم وتطوير تقنيات الاتصال والانترنيت، وتعميم الاستفادة من الطاقات المتجددة لتشمل المناطق النائية والمهمشة وحتى وعرة التضاريس.

المهندس يوجد في جوهر الفكر الاشتراكي الديمقراطي، وبذلك فهو في صلب المعركة التنموية في الحاضر والمستقبل. دوره حاسم في تأهيل وتعزيز الطبقات الهشة والمجتمعات الضعيفة. أدواره تتجلى في ترويجه العملي لثقافة المقاولة المواطنة الاجتماعية، وإسهامه الرائد في تحسين وصيانة الشوارع والجسور ونظام الصرف الصحي والتوزيع الكهربائي والمياه. هو كذلك الحلقة القوية المدافعة على ضرورة تصميم وتطوير حلول سكنية معقولة التكلفة وآمنة وصحية ومناسبة للعيش للأفراد ذوي الدخل المحدود، واختيار المواقع الإستراتيجية لبنائها حتى تكون قريبة من فرص العمل والخدمات العامة. انشغاله هو مواجهة تداعيات العولمة المالية والتكنولوجية بالإسهام في تأهيل الطبقات الهشة من خلال تصميم وتنفيذ مشاريع وحلول تقنية تعمل على تحسين جودة الحياة وزيادة فرص النمو واستقلالية الأفراد والجماعات.

***

الحسين بوخرطة

جاء هذا الموضوع بمناسبة قرب صدور الطبعة الثالثة من المجموعة الشعرية المشتركة (هذا العراق) التي أشترك بكتابتها 388 شاعرا من 17 دولة عربية.

ترى نظرية "الغائية" أن كل شيء موجود في الطبيعة، وكل العمليات التي تجري فيها، إنما خلقت وولدت وصدرت لتحقيق غاية، تكمن خلفها علة قد لا تكون مرئية لغيرهم، وغالبا تكون بطريقة واعية لدى الإنسان دون سواه من باقي المخلوقات. والغائية نفسها تتدخل في عملية تبدل المصطلحات ومنظور الوحدة وآليات التوحد وأشياء كثيرة أخرى، وقد قلت مرة في واحد من كتبي: مع التقدم المهول الذي حققه الإنسان بحرا وبرا وجوا وصولا إلى الفضاء الخارجي، ومع التقدم في العلاقات والتحالفات والممارسات والصداقات والتكتلات والتحالفات، ومع تغير العلاقة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والكون، وجد العالم أنه لابد من إعادة تعريف وتسمية الأشياء، كل الأشياء المحيطة بنا، والتي نتعامل بها ومعها، كل الآليات والآلات، كل الحقائق، كل المسميات حتى العبادة، والدين، والقوة، والعلم، والحياة، والإنسان، والرجل والمرأة والطفل، والحرية، والأمن، والتنمية، والمجتمع، والدولة، والحق، والسلام، والإرهاب، والمدنية، والجنس والنضج، والبيئة، والمهارات، والفنون، والأخلاق، والمُثل، والشرف، والمال والفرح والحزن، كلها  أعيدت تسميتها، أو أعيد تعريفها. لم يعد أي شيء منها كما كان عليه قبل ذلك، حتى علاقتنا بالله سبحانه أعيدت تسميتها، بل حتى علاقتنا بأنفسنا أوجدت لها تسميات غريبة عن المألوف، وعلاقة الزوج بالزوجة، والأب بالابن، والأخ بالأخ، والفرد بالمجتمع وبالعشيرة وبالأمة؛ كلها أعيدت تسميتها وتعريفها، بما يناسب الواقع المفروض، دون النظر إلى علاقة الأشياء بمحيطها وأصلها الأول، وأحيانا دون النظر إلى علاقتها بمنظومة الأخلاق والسنن الموروثة، والقيم التي نشأت عليها المجتمعات، ولاسيما بعد الغزو الثقافي المدعوم بقوى مؤثرة قادرة متمكنة ذات سطوة وطَول وتَمَكُن وتأثير ساحر، جعل النسبية هي المعادل الموضوعي الذي يعلل سبب القبول والرفض.

ويعني هذا فيما يعنيه أن حركة الغائية تتفاقم مع تطور حياة الإنسان وتوسع مديات تحضره، وهي نفسها التي تجبرنا على إعادة النظر في بعض مصطلحاتنا، مثل مصطلح الوحدة، فنظرتنا لمصطلح الوحدة العربية التقليدية بمفهومها السياسي التقليدي الذي طالبت به ودعت إليه بعض الأحزاب القومية منذ أربعينيات القرن الماضي يجب أن تتغير هي الأخرى، لتكون دعوة إلى وحدة رؤى، وحدة فكر، وحدة أدب، وحدة تطلع لما هو أبعد من الحدود القومية الضيقة والشوفينية المقيتة. ومن هنا جاءت دعوتنا هذه، لا لتحسب على فكر قومي أو منهج سياسي أو ديني أو فئوي، طالما أن هذا الفكر وهذا المنهج عجزا كلاهما عن تحقيق جزئية صغيرة منها، بل جاءت لتكون بحد ذاتها فكرا ومنهجا له شخصيته المائزة ورؤيته المعبرة وروحه الإنسانية التي تتوافق مع الواقع ومع معطيات العلاقات الدولية المعاصرة المعقدة.

وقد يستغرب من يطلع على منهجنا الداعي إلى إحياء مشروع الوحدة العربية ثقافيا وليس سياسيا كونها تمثل جزءً فاعلا من كيان الإنسانية كلها؛ لا من خلال الدعوات الفارغة الفاشلة، وإنما من خلال لغة العرب أنفسهم، ومن خلال الشعر منها بالذات، ومن حقهم أن يستغربوا طالما أن الأعم الأغلب من الدعوات المعروفة والمشهورة سواء كانت سياسية أم قبلية أم دينية أم اقتصادية، فشلت في تحقيق هدفها أو مجرد الاقتراب من بعض حافات النجاح، بسبب تنوع مناهج وأساليب دعاة الوحدة أنفسهم، سواء كانت دينية أم قومية أم جندرية أم فكرية أم سياسية؛ وفقا لرؤى القائمين على مشروعها. وأنا واقعا سُئلت مثل هذا السؤال من أكثر من واحد ممن استغربوا من استخدامي الشعر لخلق رابط بين شعراء الأمة، إذ تكرر سؤال: لماذا الشعر على مسامعي عدة مرات، ومثله سؤال: هل تثق بالشعر، بعد أن فشلت الآليات الأخرى؛ ولأكثر من مرة؟ ورغم كونه سؤالا يبدو للوهلة الأولى تقليدياً ساذجاً بسيطا، لا يحتاج إلى عناء البحث عن الإجابة عنه، إلا أنه في معناه الافتراضي والفلسفي والحياتي عميقٌ جداً، ويستحق فعلا أن تكون الإجابة عنه بنفس مستواه الفكري. من هنا أقول في جوابي:

الشعرُ في معناه الأوسع صورةٌ من صور الحياة الأدبية التي لم تكن يوماً بمعزلٍ عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية والأخلاقية والدينية، بل والمصيرية للمجتمعات والشعوب كلها، والشعرُ حسب الناقد الأدبي والفيلسوف الفرنسي "فابريس ميدال" هو الرابطة التي تؤدي إلى الذات، وإلى الآخرين، وبدونه لا يمكن العيش حقيقة. والشعر هو الجسر والباب والعالم، هو الشجاعة نفسها، وهو حارس الحضارة، ويحمل جذوة الحقيقة، وهو صديق كل حي في المعمورة، ويذهب دائما نحو العمق. ولأن الشعر مثلما وصفه صلاح عبد الصبور هو: فن اكتشاف الجانب الجمالي والوجودي من الحياة، والإنسان بلا شعر من شأنه أن يفقد فضيلة تقدير الحياة والنفس البشرية. ولأن الشعر ضرورة وفق توصيف "جان كوكتو"؛ الذي كان يتأوهُ محتاراً على أمل أن يعرف لماذا؟؛ وهو يبحث عن دور الشعر في العالم.  ولأني أؤمن أن ليس الشعر أن نقوله ونردده، وإنما الشعر الحقيقي هو الذي نعيشه ونَكُوُنَه ونتفاعل به ومن خلاله مع أنفسنا ومع بعضنا، وأن يشتعل في دمنا، ليتحول إلى وميض داخلي تستضيءُ به بصائرنا وبصيرتنا، ونستشف من أجوائه عبق إنسانيتنا. ولأن الشعر يحمل كل هذا الهطول الروحي والوجداني، كان ولا يزال على تواصل دائم مع حركة الإنسان وحركة التاريخ والوجود. وعلى مر التاريخ كان له دوره الفاعل والمتواصل في رصد تلك الأحداث، والتفاعل سلباً أو إيجاباً معها؛ وبالتالي كان لهذا التفاعل دوره في تغيير أنماط مسارات الحركة العامة للأمم، كلٌ ضمن محيطها الخاص، وصولاً إلى التأثير على المجتمع الإنساني كله عبر مراحل نشوئه وذروة عطائه.

ولأن الشعر امتدادات بوهيمية لحركة الإنسان بحثا عن المضمون والمعنى، وهرولة وراء الخلاصة المركزة جدا لموضوع لم يكتمل بعد، ولأنه مسافة موبوءة بكل أشكال المخاطر، يجازف من يدخلها بعمره وربما بقضيته، ولأن فيه دفقة شجاعة يمنحها للفرسان في ميادين الحروب حينما يرتجزون بعض أبيات منه، يحثون بواسطتها أنفسهم على تقحم المخاطر، أو يسمعون رجزاً من مؤيدين وحاثين ومشجعين لهم يزيدهم اندفاعا وتهورا، ولأن فيه خوفٌ وتحريضٌ ومجازفةٌ، مثلما هو  مصنعٌ  للجمال وأيقونة للسحر، سحر الكلمات التي يحولها الشاعر من مجرد جماد بارد لا روح فيه إلى حوريات تتوهج وتتراقص أمام مشاعل الفكر لتوقد فيه جذوة الحياة، لكل هذا كان الشعر قضيةً قائمةً مثلما هي القضايا الإنسانية الأخرى، ولاسيما بعد أن وظف الشعراءُ أشعارهم لخدمة القضايا تاريخياً، وهو الأمر الذي لم يجعل لتقادم الأيام والسنين أثراً يُفقد الشعر ألقه، فكل جيل نشأ وهو يتلفع بعباءة من سبقه من أسلافه، يبحث فيها وتحتها عن دفء المشاعر وحرارة الإحساس، من خلال الكلمات التي تم تشذيب مخرجاتها بعمق الإحساس المرهف والجمال الأخاذ، حيث تتوالد الرؤى وهي تحمل صور الماضي بألق جديد، يمتد ليرسم طيف المستقبل، فتتواصل الحياة التي تحترم قيمة الجمال الأسطوري، لا الجمال التقليدي وحده.

ودون الغوص في دنيا الشعر القديمة؛ التي يطول الحديث عنها، نجد منذ مستهل القرن التاسع عشر فيما عرف بعصر النهضة أو عصر التنوير العربي تواشجاً أسطورياً بين شعر القضية وقضية الشعر، فالشعر في هذه المرحلة تفاعل ضمن الإطار الزمني للأحداث، ذلك لأنه الأسرع في التعبير عن هموم الأمة وقضاياها الشائكة المشتركة الأخرى من غيره من صنوف الأدب بفضل بنيته الخطابية والأسلوبية، وذلك الحب  السليقي التراثي المتأصل في النفوس منذ أن كان العربي يتنفس الشعر، وعلى يديه يتعلم مناهج العيش، ومنذ أن كان الشعر نفسه ديوان العرب، فكان لساناً ناطقاً عن حال الأمة في حلها وترحالها، بما يبدو وكأنه يبحث دائما عن بيئة صالحة ليرتع فيها بأمان، ويرفع صوته معلنا عن نفسه. وكان فعله الكبير والمميز في حركات ونشاطات الجماهير المطالبة بخروج الاستعمار، أو بتصحيح الواقع الاجتماعي، وإنصاف العمال والفلاحين والفقراء والمعوزين والطبقات المعدمة، والدفاع عن جميع المستضعفين، أو لتأبين الشهداء الذين سقطوا في الانتفاضات الجماهيرية، أو للدفاع عن قضايا الأمة، أو لتأييد حق تقرير المصير للشعوب العربية المستَعْمَرَة، أو لتأييد الثورات الوطنية، أو لشحذ الهمم، مثلما حدث أثناء العدوان الإسرائيلي المتكرر، كان واضحا ومؤثرا.

في كل هذه المناطق الساخنة وساحات النزاع الشرس كانت للشعر صولات شهيرة، وكانت عقيرة الشعراء تترجم حال الأمة وتعبر عن بواطنها وروحها الوطنية، بما يبعث في الأمة أمل الخلاص القادم المرتقب، وكانت الجماهير نفسها تستمع إلى الشعراء وكأنها تسمع وصايا السماء، وتردد أقوالهم وكأنها تبحث بين ثناياها عن عزمٍ متأصل يزيد الحركة تسارعا نحو الأمام.

لكن انكفاء المعادلات التحررية، وفشل المشاريع الوحدوية التي لم تكن جادة، وتفشي روح القطرية والمناطقية، وتلاشي وهج الحركات والدعوات القومية، وانتشار الصراعات المصلحية الدينية والمذهبية والسياسية، وتفشي ظاهرة التكفير والنبذ، زائدا عسف الحكام وجور السلطات، وتحكم النظم العشائرية والقيم البدوية، وتنامي الروح اللامبالية، وأشياء كثيرة أخرى، اشتركت كلها سوية لتُثبَّط عزائم الشعراء وتُقعدهم، وتُبعدهم عن معايشة الحدث والتأثير فيه.

ثم لما جاءت حركات الشباب فيما عرف باسم "الربيع العربي" التي تسببت في سقوط أنظمة حكم شمولية.. ونظم أخرى، تَسبَّبَ سقوطها غير التقليدي في تخريب تلك البلدان وتدمير بناها التحتية، وتحويل شعوبها إلى "ميليشيات" متقاتلة فيما بينها، وبدل أن تنتظر الأمة الفرج على يد المنقذ، جاء الرد القاسي على أيدي الحركات الإسلامية الراديكالية المتطرفة، وصولا إلى ولادة "القاعدة" و"داعش" و"الميليشيات"؛ الذي زادت الطين بلة، وزاد رقعة التخريب اتساعا، بدا من خلال ذلك المشهد المأساوي المعقد؛ الذي ضخمت بعض فقراته بشكل يفوق حقيقتها على أرض الواقع وكأن حركة الشعر أصابها الشلل الرعاشي، ربما بسبب القنوط والهزيمة النفسية أو بسبب الخوف، خوف الشعراء على أنفسهم وعوائلهم ومصالحهم، أو خوفهم من أن تترجم أقوالهم إلى غير مقاصدها، فيقعون تحت المسائلة، أو يُحسبون على هذه الفئة أو تلك، وهم ليسوا منها.

مع كل ذلك، ومع كل الإخفاقات الكبيرة التي تعرض لها واقعنا العربي، ولأننا نحن من خلق أسطورة "العنقاء" ورسم صورتها في المخيال الجمعي، بدا وكأن الأحداث تتجدد بوجوه أخرى، وكأن المعادلة انقلبت إلى الضد، فعاد الشعر ليرفع رأسه مثله مثل العنقاء التي تنهض من بين أنقاض الخراب ورماد الحرائق لتحلق في دنيا الدهشة، ربما لأن الشعر لم يتخل يوماً عن قضيته، والقضايا نفسها كانت وباستمرار بحاجة ماسة إلى الشعر لتستمد منه العزم والقوة، فكيف ينهزم ويترك الساحة فارغة، يجول في أرجائها أنصاف المتعلمين المدعومين من الحكام المتسلطين؟ ولأن لكل فعلٍ فعلٌ مساوٍ له بالمقدار ومخالفٌ له بالاتجاه، ولأن الشعر فعلٌ لم ينهزم من ساحة المنازلة في أي واقعةِ تحدٍ خاضها من قبل، كان متوقعاً أن جذوته لابد وأن تتقد من جديد إذا مسها شرر قبس من خير، وأنه لا بد أن يزمجرُ بصوتٍ رعدي مسموعٍ، لكن وفق هذه الثنائية المتعارضة، في هذا العالم الغرائبي، وفي زمن الانفتاح السيبراني الإلكتروني، وفي عصر انفتاح الكل على الكل، حتى بدا وكأن الإنسان انفتح على عوالم جديدة حولته إلى كائن كوني يمتد ولاؤه إلى العالم كله وليس لمجرد رقعة جغرافية اسمها الوطن، أو مجموعة بشرية أسمها الأمة، أصبح الحديث عن الوطن والأمة جزءً من الموروث الأساطيري البالي الذي يوصم بالتخيل والماورائية، وصار مجرد نكتة سمجة لا ترتاح لها الأسماع، ولا تطيق الألسن التحدث عنها أو نطقها، وبالتالي، تعني محاولة الشعر العودة إلى الحياة الواقعية، لا من خلال سطحية البروج العاجية الوهمية، ولكن من خلال قضية مصيرية؛ تبدو وكأنها مجازفة غير محسوبة النتائج، ويبدو فعل من يعمل على إيقاد جذوة الشعر عملاً مجازفاً مجنوناً لا يحسب للواقع حساباً، ولا يضع الأمور في نصابها. لكن رغم ذلك علمتنا التجارب أن الإنسان ابن شرعي للمخاطر، وما كان ليبقى كل هذه السنين صامدا لولا التجارب الخطرة التي خاضها عبر تاريخه الطويل، والتي توارث ألقها الأبناء عن أسلافهم، والمخاطر نفسها تُعلِّم الإنسان ـ إلى درجة الإدمان ـ على المجازفة، وتكرار المجازفة مرة ومرتين دونما التفات إلى النتائج غير المحسوبة أو غير المحسومة، فالمجازفة بحد ذاتها هي نتيجة حتمية لكل صاحب قضية يؤمن بعدالتها.

ولأني صاحب قضية، قدمت لها الكثير من سنين عمري، ولم أحصد سوى التعب والتقتير والسجن والتعذيب والتشريد والاختطاف والتهجير، فقد مارست حقي في أن أطبق بعض منهجياتها من خلال الشعر، لا الشعر التقليدي المتداول من خلال جلسات بائسة أو مؤتمرات بلا معنى، وإنما من خلال التجميع الانتقائي الذي يصب في هدف مباشر واحد، مثلما تتجمع الغدران الصغيرة لتصب في واد سحيق تتجمع فيه مياهها لتتحول إلى نهر عظيم، يشعر من خلاله جميع من شارك بكتابته وكأنه ملكا شخصيا له وحده، وكأن ذلك النهر الزاخر فاض بفعل مياه غديره التي غذت النهر بالحياة، وهذا يستفز رغبة التوحد الإنساني في النفوس، على خلاف التنافر العبثي الذي يتحكم بالحياة اليوم.

من هذه الحافات الناتئة والمنحدرات الخطيرة الصعبة، أطلقت مشروع (قصيدة وطن؛ رائية العرب) عام 2020، وخرجت بمحصلة لا شبيه لها في التاريخ من قبل، تمخضت عن صنع قصيدة بوزن واحد وبقافية واحدة، تتألف من (371) بيتا، اشترك بكتابتها (139) شاعرا من أغلب الأقطار العربية. وقد أثبت نجاح المغامرة أن روح الوحدة والألفة العربية التي تبدو ظاهرا في أسوأ أحوالها، كانت مجرد تصور موهوم ومغالط، ومجرد كذبة صلعاء، وخرافة روج لها أعداء الأمة الحاقدين عليها وعلى وحدتها، فجذوة الوحدة وروحها لا زالت تعتمل في نفوس العرب الشرفاء وضمائرهم الحية قولا وفعلا واعتقادا. ولكي انقض كل ترهات الأعداء وأثبت لهم خطأهم، كررت المحاولة، وخضت المجازفة مرة أخرى، فأطلقت عام 2021 مشروع قصيدة (جرح وطن؛ عينية الوجع العربي)، التي تألفت من (423) بيتا بنفس الوزن والقافية، كتبها (177) شاعرا من (17) دولة عربية، ولو كنا مددنا مدة استلام المشاركات لشهر آخر لكان العدد قد تضاعف، ولما تخلت أي دولة عربية عن شرف المشاركة.

في المشروع الثاني لم يكن نجاح المغامرة وحده ما جلب الأنظار بدهشة وغرابة فحسب، بل جاء عدد المشاركين في كتابة القصيدة وعدد البلدان التي جاءوا منها ليثت للعالم أجمع أن نهر الوحدة العربية لن يجف، ولن تنجح أي قوة في العالم مهما عتت وتجبرت في سرقة مياهه العذبة، وستبقى أمواجه زاخرة بالحياة والحب والإنسانية والعطاء، وهو الأمل الكبير الذي دفعنا لنجازف مرة أخرى في بداية عام 2023 لنطلق مشروع (هذا العراق) ولكن بشكل آخر يختلف من حيث البناء والأسلوبية عن المشروعين السابقين، وتتلخص فكرته في أن يشارك كل شاعر من شعراء الأمة العربية بكتابة مقطوعة من خمسة أبيات بالوزن والقافية التي يختارها، على أن يبدأ الشطر الأول من البيت الأول من المقطوعة بجملة "هذا العراق". ومع كل التردد الذي كان يعتمل في النفوس، والخوف من ضعف الاستجابة، كان الأمل بصدق مشاعر أبناء الأمة تجاه أمتهم حافزا ودافعا قويا منحنا جرأة لا محدودة، بدأت تحقق مكاسبها مع وصول أولى المشاركات التي وردت إلينا تحمل الفرح، ثم سرعان ما تبنت بعض المنتديات الثقافية والمواقع الأدبية الترويج للفكرة؛ التي ما إن وصلت للشعراء العرب الجادين حتى بدأوا بأنفسهم يروجون للفكرة بين أصدقائهم ومعارفهم ومن على صفحاتهم في الفيسبوك، لتتحول قطرات الرّذاذ الصغيرة التي بلت طمعنا في بداية الأمر إلى طل، ثم رّش، ثم دّيم، ثم غيث، وسرعان ما تحولت إلى وابل شديد، فاضت بخيره صفحات الأمل الصادق، فكان هذا الكتاب دليلا على عمق علاقة العرب ببعضهم رغم المحن، ومقدار حبي أنا بالذات لأمتي العربية وللعراق الذي لا يقاس بالمقاييس المعروفة، العراق الذي أبدأ مع شروق شمس كل يوم جديدة بالتوضؤ بنوره، مرددا دعاء الوطنية الخالد: سيدي العراق إن أحلى سنين العمر تلك التي عشقتك فيها، ولأني لا زلت أعشقك إلى الآن أكثر من كل شيء، وأكثر من أي وقت مضى، فذلك يعني أن سنين عمري لا زالت حلوة، فأنا حينما تشعر روحي بالجفاف، ويهبُّ في أرجائها غبار الفوضى، أبلها بجميل ذكريات لقاك المتجددة في صباحاتك العذبة ، فيهطل الحب مدرارا، وتورق كروم سنيني، وتحلق النوارس في مديات عمري، تصدح بما هو آت من سعادات، فأتنشق نسائم الربيع ربيعا، وتغرق مشاعري ببحر حبك، وأهيم في فيض وجدك، حتى تتصابى سنين عمري الموغلة في القدم، وأرى بياض شعري والشيب الذي يكلل رأسي كتاب تجارب ملحمية تغفو بين طياته كل بقايا أمسي الذي تضمخ بطيب ترابك، وكلها مجرد غيوم صيف تدفعهن نسماتك العذبة إلى دنيا المشاعر، ليعربد الشوق في جنبات قلبي سكرانا من دون خمر، فعشقك هو خمري وصحوتي ويقيني، أنت يا كل العمر، يا أحلى سنيني.

بعد هذه التأملات أعود وأكرر طرح السؤال الذي طرح عليَّ: لماذا الشعر؟ وهل حقا أن الشعر الذي نجح قديما في أداء أكبر وأخطر مهام التاريخ ممكن أن ينجح اليوم في أداء المهمة نفسها، وبنفس الكفاءة والقدرة والقوة؟

وللبيان والتوضيح، أقول: انضوى العدد الخامس؛ كانون الأول 2022 من مجلة أوراق مجمعية التي يصدرها المجمع العلمي العراقي، وهو عدد خاص عن العربية بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، انضوى على عدة مواضيع، تكلمت عن سوق عكاظ كظاهرة فنية ولغوية، ولأن سوق عكاظ كان في ظاهره مجرد ساحة يتبارى فيها الشعراء العرب بسلاح الشعر للفوز بالفحولة والصيت والسمعة والمركز، فذلك لا يمثل كل الحقيقة، الحقيقة تكلم عنها الأستاذ الدكتور إيـاد إبراهيم الباوي في موضوعه المعنون "قدسية عكاظ في الجاهلية والإسلام" المنشور في الصفحة 34 وما بعدها، وهي أن عكاظ الملتقى، كان يقام في ناحيـة مـن نواحـي مكـة عـلى مقربــة مــن الطائــف كل عــام، في موعــده الــذي تواضعتــه العــرب، على أرض تســمى "الأثيـداء"، ويستمر عـلى مـدى عشريـن يومــا الأولى مــن أيــام شهر ذي القعــدة كواحدة من الشعائر الدينية التي توارثتها العرب استعدادا لحج البيت، إذ كانوا يبدئون رحلـة حجـهم انطلاقـا مـن هذا السـوق باتجـاه سـوقي "ذي المجنـة" و"ذي المجـاز"، فهـذه الأسـواق هـي المواقيـت الشرعية لأهل الجاهلية، بـل تشـبه إلى حـد كبير تلـك المواضع التســعة (المواقيــت) التــي حددهــا الإســلام لمــن أراد أن يُحـْـرِم للحــج والعمــرة. ويعني هذا أن عكاظ لم يكن مجرد ساحة للتسابق شعرا، وإنما كان ميقاتا للحج الجاهلي.! وأن يتزامن مهرجان الشعر مع شعيرة دينية لها مكانتها وقدسيتها في النفوس، فذلك يعني أن للشعر منزلة ترقى إلى مستوى التقديس، وهذه حقيقة غائبة قلما التفت الباحثون إليها وإلى دلالاتها العميقة والوجدانية.

هذه القدسية لم تفقد ألقها حتى في زمن البعثة، بل وظفت لنصرة الدين الجديد، ومن ثم وظفها الحكام والسياسيون لدعم قضاياهم ومشاريعهم ومراكزهم ومناصبهم، ومن ثم متعهم وأنسهم وعبثهم، لكن قدسيتها بقيت تتحكم بها، فكم من مرة أصبحت سلاحا بيد المعارضين تنتهك خصوصيات السلطان وتقلق باله. هذه القدسية استمرت صفة غالبة للشعر الحقيقي، وهي اليوم بنفس ألقها الماضي، وسوف تستمر إلى الأبد، حيث يبقى الشعر متعة وسلاحا.

أما خصوصية موضوع هذا الكتاب؛ الذي انصب على نصرة العراق ظاهراً، من خلال جملة (هذا العراق) التي زينت بدايات الشطر الأول من البيت الأول من جميع المشاركات، فهي لا تعني بالضرورة تقديم العراق على غيره، ولا تحيزا له، فأنا من خلال دعوتي، لم أطلب نصرة العراق وحده، بل طلبت نصرة الهوية المشتركة التي تجمعنا نحن الكل، لأن نصرة الجزء تدعم نصرة الكل، ولأن العراق جزءٌ من أمة حية، بمجموع بلدانها تمثل حائطا بني بحجارة التاريخ ليقف بوجه كل الأطماع مهما كانت هويتها، وأي حجر يضعف أو يتآكل أو يقع من هذا الحائط قد يودي به إلى التصدع والانهيار والسقوط، فإن لم يسقطه فإنه سيفقده متانته وقوته ويضعفه، بل إن مجرد سقوط حجر منه مهما كان صغيرا سوف يترك ثغرة تدخل من خلالها الرياح المسمومة الشريرة التي تريد به وبأهله السوء. الحائط نفسه عليه أن يحرص على سلامة أحجاره لأنه بحاجة إليها، مثلما على كل حجر منها أن يحرص على علاقاته بباقي الأحجار، لأنه هو الآخر بحاجة إليها، لكيلا تتخلخل موازنة الحائط ويصيبه الوهن، وهذا يعني أن نصرة الشعراء للعراق هي نصرة للأمة كلها وللوطن الكبير كله، ولكل بلد من بلدانه، وهذا هو المفهوم الحقيقي لقوة التماسك وتماسك القوة التي ندعو إليه بعد أن تأزمت أمور حياتنا بسبب هجمات الأعداء ومؤامرات الحاقدين في الداخل والخارج، وتفتت عرى التآلف بين إنساننا العربي هنا وهناك، إلى درجة احتقار الهوية والبحث عن هوايات جامعة أخرى لا أصول لها.

سؤال آخر يأتي عادة مكملا للسؤال الأول طالما سمعته من زملائي وأصدقائي والمحيطين بي حينما كنا نتحدث عن هذا المشروع: لماذا العراق؛ الذي تعرض إلى عسف وجور بعض إخوته، يتبنى فكرة الدعوة للوحدة؟

لماذا العراق؟ لأن العراق يا سادتي هو الأصل والجوهر، فهو كان موطن الرؤية الحضرية الإنسانية الأولى، وموطن الابتكارات الإنسانية الأولى، فيه نشأت أولى المدن في التاريخ، وعلى أرضه قامت أولى حضارات الإنسانية، وفيه عرف الإنسان الحرف والكتابة والعجلة لأول مرة، وفي شرائعه سنت أولى القوانين التي نظمت حياة الناس، وعزفت قيثاراته الذهبية أناشيد الأمل لتسمع البشرية سحر الموسيقى لأول مرة في حياتها، وفي أجوائه شعت الحكمة والأدب والفلسفة والتنوير، فشكلت بمجموعها سلسلة من التناقل الحضاري العراقية التي لم تنقطع عبر التاريخ، فقد كان العراق سباقا لصنع الأفذاذ من القادة والباحثين والمفكرين والعلماء واللغويين والأدباء والفنانين، ولم تخل أي حقبة بما فيها الحقب السوداء المظلمة من وجود مثل هؤلاء العظماء على أرضه، بما فيهم العلماء الأعلام الذين لا زالت علومهم ترفد الإنسانية بقواعد علومها المتجددة، والشعراء العظماء الذين لا زالت قصائدهم تسحر السامع وتطرب الماتع.

ومن أرض العراق خرجت كل علوم اللغة والعروض والبيان والبلاغة والنقد، فقواعد نحو لغة العرب وضعها العراقي أبو الأسود الدؤلي، وعلم عروض وبحور شعر الأمة العربية وضعها العراقي الخليل بن أحمد الفراهيدي، ومن خلال الجمع بين النحو والعروض ولدت طبقة فحول شعراء الأمة ولغوييها الخالدين الجاحظ والأصمعي وسيبويه وابن جني وابن مالك والمبرد والجرجاني وبشار بن برد وأبو العتاهية والفرزدق وأبو نوأس والمتنبي واليشكري وصفي الدين الحلي والجواهري وعبد المحسن الكاظمي ومحمد صالح بحر العلوم والزهاوي والرصافي والسياب ونازك الملائكة وعبد الرزاق عبد الواحد وكثيرون غيرهم. وبلد كالعراق هو جوهرة البلاد حري به أن يتصدر الدنيا كلها وليس العالم العربي وحده، لتكون دعواته انتصارا للإنسانية، كل الإنسانية، وليكون الشعر هو وسيلة وآلية دعوته للوحدة، ذلك لأن حتى أشجار النخيل في العراق تقول الشعر، ومن جني رطبها انمازت أشعار العراقيين بالحلاوة والطلاوة والعذوبة والجمال، فشعت أنوار الإبهار إلى العالم، ليتحول شعر العرب إلى تميمة تشع أنوارا في ظلمات ومخاطر الطريق، طريق أمة يريد الأعداء أن يطفئوا وهج نورها، وتأبى إلا أن تكون القائدة. ولذا لا غرابة أن تنبعث مشاريع الدعوة للوحدة من خلال الشعر من العراق دون غيره من البلدان العربية، وهذا ليس مصادرة لحق أحد! ولا غرابة أن يستجيب شعراء الأمة لهذه الدعوات فيردوا عليها بأحسن منها شعرا يفيض عذوبة وجمالا ومشاعر حب وود.

وأقول في ختام حديثي: إن ما تؤسس له هذه المشاريع الشعرية البنائية المشتركة؛ التي لا سابق لها في التاريخ كله، لا بين العرب وحدهم، بل حتى في البلدان والشعوب الأخرى، هو شيء أكبر من الشعر نفسه، وفيه دلالات على أن للإنسان القدرة على خلق المعجزات التي تدهش الرائي وتسر الناظر وتجبر الخاطر، وتفعل في جسد الأمة مثل فعل الدواء المقوي الشافي في الجسد المنهك المريض. والذي أرجوه وآمله أن تحفز مشاريعنا هذه جميع شعراء الأمة، ليبادروا إلى استنباط موضوعات جديدة على غرارها، وأن يسهموا في رفد المشاريع الجديدة المقترحة بأشعارهم الرائعة، فذلك لا يقوي أواصر الإخوة والصداقة بينهم فحسب، بل ويسهم في الترويج لقضايانا الوطنية، ويعمل على إعادة الاعتبار للشعر العمودي بعد أن تعرض إلى ضغوط شديدة، حدَّت من أثره في الحياة، إلى درجة استهجان بعضهم لمجرد سماعه أو التحدث عنه.

***

الدكتور صالح الطائي

من طريف ما يُروى عن الرئيس اللبناني الأسبق شارل الحلو، أنه استقبل ذات يوم في قصر الرئاسة عدداً من الكُتاب والصحفيين اللبنانيين، ففاجئهم بالقول:» أهلاً بكم في وطنكم الثاني لبنان»!. وكان رحمه الله يغمز من قناتهم بسبب ولاءاتهم لبلدان أخرى غير بلدهم، فيما يُفترض أن يكون الولاء الأول للكاتب والصحفي، بل للمواطن البسيط قبل كل شيء، هو وطنه ومصالح شعبه أولاً وأخيراً.

ويبدو أن هذه الغَمزة الشارلية، كانت وما زالت تشير إلى أحد الأمراض والهموم الكبرى التي تشكو منها الصحافة في العديد من البلدان العربية، بهذه النسبة أو تلك، بصورة ظاهرة مفضوحة، أو مستترة على شيء من الحياء، يرافقها ولاء آخر، هو الولاء للسلطة على حساب المواطن الذي يعول على الصحافة في إيصال صوته ومعاناته ومشكلاته إلى المسؤولين الحكوميين. وكثيراً ما تتخطى العلاقة بين الصحفي والحكومة صيغة العمل الصحفي، ليتحول الأخير إلى صوت للسلطة، وسوطاً على المواطن، وربما أداة لنقل الأخبار إلى السلطة، ومن ذلك ما جسده الكاتب والصحفي المصري موسى صبري في روايته « دموع صاحبة الجلالة « التي تحولت إلى فيلم سينمائي في العام 1992 أدى فيه الممثل سمير صبري دور الصحفي « محفوظ عجب «، الذي يتعرف في سهرة على راقصة مصر الرسمية سوسن رفقي «مثلتها دينا» ثم يزورها في بيتها حين كان بريئاً يطلب شرب الشاي لا الويسكي، فتستقبله بملابس فاضحة ويجلسان متقابلين ويدور بينهما الحوار الآتي :

- سعيد اني قاعد مع راقصة مصر الرسمية. فتخبره أن هذا اللقب سيفيده كثيراً .

- أنا رغم أنني محرر سياسي، وما اكتبش إلا في السياسة، إنما حغير القاعدة عشان خاطر عيونك انت وبس، أنا عايز أأرخ لتاريخ حياتك الفني.

- عندك فكرة اني الراقصة الخصوصية بتاع السرايا؟. أنا أقدر أجيبلك أخبار مهمة وخطيرة.

ويمضي الحوار الساخن مع طول الجلسة ومع تحول محفوظ عجب من الشاي إلى الكحول والتدخين، وتمضي العلاقة بين الصحفي والراقصة في العمق، لتصف أحوال الصحافة في حقبة الاربعينيات وبداية الخمسينيات قبل ثورة يوليو 1952، وكيف يمكن للصحفي أن يحصل على معلومات مهمة من راقصة السراي الحكومي، لكن من طرائف الأمور أيضاً، أن أحد المواقع المصرية الإلكترونية طرح سؤالاً قبل سنوات: من هو «محفوظ عجب» هذا الزمان في رواية موسى صبري « دموع صاحبة الجلالة»؟، فأجاب أحدهم: « شوف مين اللي بيدخن سيجار وصعد، وكان على علاقة مباشرة وشخصية بالسلطة على مر العصور»، فيما أشار آخرون صراحة إلى اسماء صحفيين كبار في مصر.

ولو درسنا بعمق تاريخ الصحافة العربية، ومنها الصحافة العراقية التي تحتفل هذه الأيام بعيدها الرابع والخمسين بعد المائة، لوجدناها لا تخلو في كل حقبها من علاقة ما، إيجابية أو سلبية مع السلطة تشبه لعبة « الحَية والدَّرَج « إلى حد كبير، تكون أحياناً في خدمة الصحفيين، لكنها تنقلب في أحيان أخرى ضد أهم ما يمكنهم الحصول عليه، وهو الحرية، ففي ذلك التاريخ الطويل تجد أن السمة الغالبة على معظم حقبه تتمثل في غياب الحرية، إلا في بعض السنين المعدودة، وفي بعض البلدان لا كلها، فالحريات الصحفية، وحريات الرأي والتعبير، مدونة كنصوص قانونية في عموم دساتير الدول العربية، لكنها في الغالب أيضاً، مجرد مواد دستورية، مُعطّلة أو مُهمَلة أو منقوصة أو غائبة عن أرض الواقع. وإذا ما تحدثنا عن واقع الحريات الصحفية العربية، فإن إشكالية الانفصال بين النص الدستوري وواقع الحال تبدو ظاهرة إلى الحد الذي تسجل فيه دولاً عربية تراجعاً سنوياً ملحوظاً في المؤشر العالمي لحرية الصحافة الذي تصدره منظمة «مراسلون بلا حدود»، ومما يؤسف له أن الكثير من هذه الدول جاءت في ذيل آخر تصنيف للمنظمة للعام 2023. لكن لهذه الإشكالية جوانب متعددة ومتداخلة، ولا يمكن الاكتفاء بمؤشر عالمي يقيس الحريات الصحفية في هذا البلد أو ذاك، اعتماداً على ممارسات وحوادث مرصودة، لكي نصدر حكماً على مستوى الحريات الصحفية فيها، فحوادث مثل الاحتجاز، أو الاعتقال والتغييب، أو الاغتيال، أو التهديد بملاحقات أمنية أو قضائية، تمثل بكل تأكيد خرقاً فاضحاً لحقوق الانسان برمتها ولا تقتصر على الحريات الصحفية، وهي ممارسات تحدث في أكثر من دولة تحمل راية الديمقراطية وتتشدق بالدستور الذي يحمي الحريات على الورق فقط، لكن الأمر الأهم من ذلك هو الحماية المجتمعية، لاسيما في الدول التي تضعف فيها سلطة القانون وتكثر فيها الخروقات القانونية والأمنية من دون أن تتمكن السلطات الحكومية من ملاحقتها واتخاذ اجراءات رادعة تحد منها، وهنا يحضر دور المجتمع الذي يوفر بيئة آمنة للصحفي وهو يؤدي دوره ويمارس حريته المسؤولة بلا خوف ولا مجاملة ولا تهاون.

ما بين غمزة الرئيس اللبناني الراحل شارل الحلو، وشخصية الصحفي «محفوظ عجب»، والراقصة الخصوصية بتاع السرايا  «سوسن رفقي «، تجد في عالم الصحافة والسلطة أشياء وأشياء من الأسرار والحكايات والخفايا والغرائب والابتزاز وتبادل المصالح .. والكثير من العجب!.

يوم مبارك للصحافة العراقية، وللصحفيين العراقيين النجباء الذين يحملون وطنهم في قلوبهم وضمائرهم وحدقات عيونهم، ويذودون عنه بمداد أقلامهم.

***

د. طه جزّاع

يمكن للأدب أن يكون صورة عن الواقع الإجتماعي بأبعاده النفسية والفكرية والشعورية والمادية، بل قد يكون الأدب الضوء الذي يتم تسليطه على معاناة معينة ويتم لفت نظر المجتمع لهذه المعاناة وبالتالي إيجاد حلول جذرية لها، أي أن الأدب يمكن أن يكون مرآة لكل ما يدور في المجتمع وبقدر جديته وتركيزه على القضايا الانسانية يكون نجاحه بأن يتحول لجزء من الواقع الإجتماعي وليس مجرد إنعكاس له، فكم من الروايات غيرت مجرى حياة الكثير من الناس بل غيرت مفاهيم متجذرة في المجتمع . ولكن الأدب أيضاً له وجه آخر وهو الوجه الخيالي، أن يتمكن الأديب من نقل القاريء العادي إلى عوالم من الخيال الذي لا يمكنه أن يتخيله كشخص عادي، أن تتحول الرواية الخيالية إلى رحلة إلى مجهول آخر جميل ومثير ومحرك للذكاء والفضول، يعلم القاريء والكاتب أنهما يبحران في عوالم خيالية ولكنهما قُبِلا ومنذ البداية على الذهاب في تلك الرحلة عبر الخيال والخيال فقط، فيطلق كل منهما العنان لمشاعره وأفكاره بالإبحار لتلك العولم الخيالية بلا قيود ولا حدود لزمان أو لمكان، بل قد يبدو أن هذا الأدب الخيالي من أجمل ما يعتري النفس البشرية بتحرريها من كل ما هو واقعي، وهذا الخيال يمنحها بعداً آخر للواقع الذي تعيشه، فهي تخرج من قيودها عبر الأدب الخيالي وترحل معه بعيداً عن الواقع وحين تعود لواقعها تعود محملة بكل تلك الصور الخيالية، فيحصل المزج ليس بين الصور الخيالية والواقعية بل يحصل المزج في عالمين من الشعور لأن الشعور لا يفرق بين ما هو خيالي وما هو واقعي، لذلك يحلق الشعور بالقاريء إلى فضاءات أخرى حتى ولو كانت أفكاره متجذرة في العالم الواقعي. وحين يكون الأدب صورة عن الواقع لابد أن يكون شديد النقاء وشديد الدقة في نقل تلك الصورة الواقعية، لأن الخيال يسمح بالإلتفاف حول الأفكار ولكن الواقع لا يسمح بذلك ولا يسامح على ذلك الإلتفاف، حين يكون الأدب واقعياً لابد أن يكون حزيناً حين يكون الواقع حزين، لابد أن يكون غاضباً حين يكون الواقع غاضب، لابد أن يكون مملاً حين يكون الواقع ممل، الأدب الواقعي عالم جدي جداُ ولابد أن يكون الأديب على درجة من المسؤولية والإدراك حين يكتب عنه لأنه لا ينقل صور فقط بل يرسم حياة بأكملها على الأوراق ولا يُسمح له بتزوير ما هو واقعي .

إذا كان الواقع خارج ذواتنا ثابت ولكنه بأعماقنا ليس ثابت، فنحن نرى الواقع بمنظار المشاعر والأفكار ونحاول أن نفهم الواقع عبر ما يدور بأعماقنا، فيكون دور الكاتب رؤية الواقع واستقراء ما يدور بداخل الأشخاص من حوله، أي أنه راصد للواقع وبذات الوقت يحل شيفرة الذات الداخلية لانسان، لأن الحياة ليست الواقع فقط، بل هناك عوالم أخرى تمتد لأبعد من الواقع الذي نحياه وعالم الفيزياء يؤكد هذه الحقيقة بجميع ابحاثه العلمية، ويبلغ إبداع الكاتب أقصى حدوده بمقدار تجاوزه لحدود هذا الواقع وبمقدر سبره للأعماق الدفينة لما يدور في الذات البشرية وإستشعاره لتلك العوالم الأخرى خارج حدود الواقع وأبعد من حدود النفس البشرية.

ولكن ما الذي يبحث عنه الكاتب حين يكتب عن الواقع؟ هل يبحث عن الحقيقة، الإثارة، أم أن يجعل كتابه أكثر مبيعا حتى ولو كتب عن كل أنواع الشذوذ الأخلاقي والنفسي مقابل شهرة دائمة أو مؤقتة؟  الكاتب الباحث عن الشهرة وتألق الأسم مهما كان الواقع الذي يكتب عنه، يبقى كاتب ولكنه لا يلبي المطلب الانساني والأدبي الأول وهو البحث عن الحقيقة، لأنه لم يبحث عن الحقيقة ولكنه بحث عن النجاح عبر ما لفظه المجتمع وأحتقره من تصرفات أو أفكار، لا يمكن أن يكون أديب ولكنه ناقل للغرابة للإثارة وبأي ثمن، القاريء حين يقرأ كتابته لا يقرأ له فعلياً ولكن يقرأ عن الغرابة والشذوذ وما خرج عن المألوف، أما الأديب الحقيقي فهو من جذب القاريء لكتابته عبر الأبعاد الانسانية المتجذرة في الذات البشرية، فمهما ابتعدت هذه الذات عن قيمها الانسانية تشعر دائماً بالحنين لهذه القيم وحين تجدها في أدب لم يتجاهلها تستعيد اطمئنانها بأنها لم تفقدها تماماً بل قد يُعيد الأدب لها الرغبة بأن تعود من جديد لهذه القيمة لأنه بدونها أصبح انسان آخر أقل انسانية . الأديب الحقيقي هو من حافظ على ملامحه الانسانية في كل المواقف وفي كل السطور والصفحات، لم يحافظ على هذه الانسانية ليبدو أجمل ولكن لأنه و ببساطة لا يستطيع أن يعيش بدونها لا يستطيع أن يكتب بدونها، لذا يبدو أن أكثر الدباء العالميين شهرة هم أكثرهم انسانية ورقة وشفافية .

قد يكتب الكاتب عن الواقع  ولكن مهمته الأساسية هو أن يكشف ما يقبع خلف الواقع من مشاعر، مشاعر قد تكون نبيلة وقد تكون وضيعة، قد تكون مثالية وقد تكون مادية ولكنها المحرك لكل التصرفات الانسانية، قد تنحرف بسبب الطمع والحقد، وقد تتخذ المسار الصحيح بسبب الحب والنزاهه، جميع الأعمال الأدبية تحمل ذلك الوجه الواقعي للعمل الروائي ثم تحمل ذلك الوجه الخفي لما يدور في الذات البشرية وما يدور في الذات البشرية يبدو أكثر تعقيداً مما يدور في الواقع الحسي، لأنه بداخل هذه النفس تكمن جميع المشاعر، جميع الرغبات، جميع التطلعات وايضاً آخر محطات اليأس والانسحاب غير المعلن.

ولكن هل الأدب يأخذ دور المصور الفوتوغرافي للواقع؟ إذا أكتفى الكاتب بأن يأخذ دور المصور فهو فعلاً يكون مصور فوتوغرافي ليس بالكاميرا الخاصة به بل بالكلمات والحروف والجمل، وهو بذلك لا يُضفي شيء جديد للقاريء، كل ما يفعله هو أن يزود القاريء بالصورة ونجاحه لا يكمن إلا بمقدار صفاء الصورة، وهو لا يفعل سوى اعطاء القاريء فرصة رؤية الواقع مرتين ليس إلا . ولكن العمل الأدبي الفني لا يكتفي بأن يأخذ دور الكاميرا بل يمنح للواقع صور أو حتى عدة صور مختلفة الألوان والحركة والتفاعل، يضع رؤية جديدة لكل تفاصيل الصورة، لأنه يرى الأحداث من منظار متعدد الأبعاد والزوايا وليس من منظار الكاميرا المحدود، الأديب الفنان يرى الواقع من عدة أبعاد وليس من بعد واحد، يكتب عما هو بسيط بلغة عميقة، ويكتب عما هو معقد بلغة بسيطة لأنه يفكك الواقع ويعيد تشكيله برؤية الانسان الأديب وبمقدار وعيه الانساني والثقافي تأخذ هذه الصورة الواقعية أبعاد أوسع، ولهذا يبدو أن الأديب الحقيقي له دور غير دور الكتابة الأدبية، له دور إيجاد الحلول أيضاً لمشاكل انسانية لأنه يرى العالم بمنظار متعدد الأبعاد .

من ناحية أخرى، لابد أن نتعلم كيفية قراءة الأدب، خصوصاً لمن قرأ الكثير من الأعمال الأدبية، لابد أن تتوفر مهارة رؤية كل عمل أدبي بنظرة جديدة ودون افكار مسبقة تقارنها أو تشبهها بعمل آخر، فمهما تشابهت الأعمال الأدبية خصوصاً حين تتحدث عن الواقع فإن روح كل كاتب تختلف عن الآخر، وعملية الكتابة عملية روحية بالدرجة الأولى رغم كونها تتصل بجميع العلوم الأخرى، ولكن العلاقة الأصلية والأساسية بين الكاتب وما يكتب هو صلة روحية مع ما يكتب، ما دفعه للكتابة ليس الألم أو الفرح وإلا يمكن لكل انسان يتألم أو يفرح أن يكتب، ما دفعه للكتابة هو نداء الروح بأن تتسلل الكلمات بهدوء دون هدف ودون غاية لتبدأ بنسج تلك العلاقة الأدبية بين الكاتب وأوراقه، هذه العلاقة الروحية تنشأ حين يكتب أول سطر ولا يدركها في البداية ولكنه مع استمراره في الكتابة يستشعر هذه العلاقة بقوة أكبر، لا يستطيع وصفها لأنها خارج حدود الوصف، ولكن كل ما كتبه يحمل طيف هذه الروح الشفافة الخفية .

وأخيراً، لكي نستمتع حقاً بالأدب لابد أن نتخلى عن جميع أفكارنا حول الموضوع الذي نقرأ عنه أن نقرأ وكأننا لا نعلم، أن نقرأ وكأننا نشعر لأول مره، أن نقرأ وكأننا برحلة اكتشاف الحياة، وحين ننتهي من القراءة يمكن لنا أن نستعيد أفكارنا المسبقة ونكتشف إن كنا قد اضفنا شيء أجمل أرفع أنقى لأفكارنا أم أننا اضعنا الوقت والجهد بقراءة ما لا يستحق القراءة . قراءة الأدب لا يجب أن تخضع للنقد خلال القراءة ولكنها تقدم نفسها طواعية للنقد بعد القراءة خصوصا حين يكون هذا الأدب يتحدث عن الواقع.

***

د. سناء أبو شرار

من البداية نقر بالإلزام أن هنالك مجموعة من المصطلحات الكبرى التي قد لا تَلْقَى اعتبار التوافد في الدلالة الرمزية، وبيان المعنى الحقيقي على مستوى (الخطاب الفكري)، لكنا قد نُطلقُ عنان اللغة في اقتحام التأويل (التجديد العقلاني والنقدي للتاريخ الثقافي)، ولما لا استيفاء رمزية الدلالة السيمائية بكل أريحية. فحين التفكير في شكل القطيعة بين الواقع والخيال، وبين الماضي والحاضر، فإننا نلعب لعبة الطريقة البولسية (البطل واللص) في البحث عن مستوى (الخطاب الفكري) بتنوع الروافد، وقد نقف عند علو سد فارغ وجاف من أثر الخطاب، وركام من الفكر الذي لا ينتج طاقة مياه تغير الواقع، وقد يرتكز التفكير عند مستوى المياه الراكدة، ببحث في خطاب الحواشي والهوامش.

فالحراك في فكر ذاكرة لغة الدلالة الداخلية (النظام المعرفي)، والتي تتأسس على الإنسان باعتباره (علامة من نسقية) من البنيات الثقافية. فلطالما الحداثة (البعدية) تخلق نوعا من غرابة تناسق (الخطاب) وائتلاف (الفكر) باعتبارهما من المتناقضات المتجانسة وغير المتنافرة كليا.

وقد تصل لغة العداوة بين (الكاتب والناقد) و(الكاتب والقارئ) في أثر الفكر. فالمهادنة في الدراسات الثقافية غير قائمة الذات، بل متحركة مثل الرمال المتموجة. من تم، يمكن الاصطلاح على تلك الفجوة القاتلة، بتسمية القطيعة الفيزيائية (الثورات العلمية مطلع القرن العشرين)، بين أثر الرسالة وأداء المرسل في الفكر من جيل لآخر ممتد.

اليوم، بات الكتابة تحمل شفرات الرقمنة و الذكاء الاصطناعي، بات فيها القارئ يتفاعل بالشكل المباشر مع النص الفكري/ والخطابي، وفتح قنوات الاندماج مع الرسالة، ولما لا خلق حالات من الضبط والتصويبات وملاحقة اللواحق، وبناء أجوبة متنوعة لتلك الكتابات التي يمكن أن تنتهي بأسئلة استنكارية، ولما حتى الإخبارية منها، القابلة للتأويل والبحث عن اللاممكن في متغيرات الخطاب.

فمن تمثل القارئ المستهلك السلبي والنمطي في نَهْلِ المعرفة والفهم، إلى ثنائية القارئ التفاعلي، الذي قد يصبح عدوا ليس للكاتب والكتابة، بل عدوا وناقدا حربيا في تطوير(الخطاب الفكري ) والنص، بعيدا عن أدب (الشكلانية). فالناقد النبيه (المسالم)، هو الذي يحبب القراءة للمتلقي و الباحث، ويُزكي توافق خطاب الكاتب و فكر المتلقي. أما النقاد من علو منبر الثقافة السمجة، ومن جهابذة علماء الشَّدة والجرِّ فَهُم ْبحق من أفزع ممارسة فعل القراءة، وبدا الكتاب يماثل الصنم الأكبر الذي حطم رمزية أصنام الثقافية والمعرفية الصغرى.

لعنة اللغة والمعنى بين الكاتب و القارئ تستفحل حدة بزيادة العداوة والغربة من داخل لغة الخطاب، فبالأحرى مع فكر القارئ المتردد والمتنوع. من تم قد تبيت الثقافة تتسم بالتحنيط، وتصيبها تعرية الحث في الزمن والمكان والحدث، وفي دلالة المعنى ونوعية الإيديولوجية. إنها الكارثة الآتية من زمن هجاء (يغرف من البحر وينحت في الحجر)، والتي أفسدت الثقافة برؤية العصيان (أنا ربكم الأعلى!!)، وأتلفت مشية الكُتابِ والقُراءِ بين نظارة الحمامة وحفرة ثقافة التناقل الذي صنعها الغراب من تاريخ قابيل وهابيل (الكاتب والناقد).

المشكلة العويصة أن تلك التيارات التقاطعية بين ثقافة الماضي، ومنتجات ثقافة الحاضر يستبيح (الصدمة الثقافية)، وما يفد من عولمة المعلومة وكونية المعنى ونقد الآليات المنتجة للمعرفة ( المنهج الابستمولوجي)، الأمر يسقطنا في تنازع الأفكار بين تمثيل رمزية (الأنا/ الهوية) و(الآخر) بالتحدي، بين (الماضي) في رمزية (الذهب) و(الحاضر) في عجز تسمية (الحديد). من تم قد نتخلى عن الذوات من شدة التحدي (الغربي) والانبهار مع منتجات (الآخر) المستنيرة بالمفرقعات المدسوسة في ثقافة الاستلاب وقتل القيم.

قد نتقمص (الأنا) العلوية (الطاهرة)، ونلبس ثوب الأسلاف ثقة في (العقل الأخلاقي)، ومفهوم (العقلانية التأسيسية)، وقد لا نحيد قيد أنملة عن اجترار المتون والحواشي (بداية التخلف)، ثم نسقط في تثمين (الماضي) باختلافه، ونجعل من (الحاضر) رمز البؤس والتيئيس، وقد نتخلى عن الذات، وما ورد من قيم الماضي ونرتمي في حضن (الآخر) و(الحاضر) المتعري بكل أنواع التفاهة ومفزعات عولمة. 

***

محسن الأكرمين

منذ الأزل ظل تاريخ الكون مجهولاً، من خلقهُ؟ وبأي طريقة خُلق؟. نظريات وهمية ليس لها في الرأي العقلي من أصل، الى ان جاءت أرشادات السماء لتدون لنا نظريات الخلق، فبدأ العقل الانساني يفكرفي ربط الظواهر، والتمييز بين الحقيقة والوهَم. ساعتها شعر ا ن لابد من خالقٍ لهذا الكون مدبر له، فمن هو هذا الخالق أذن؟من هنا بدأت قصة الحياة من جديد، لكن الحَيرة ظلت تلازم عقله حتى ادرك المعرفة الكلية لخلق الكون بعد ان اصبح مدركاً للاشياء المحيطة به، رابطا للظواهرالعلمية بعضها ببعض وخاصة ظهورالشمس والقمر وغيابهما، من هنا يحق لنا ان نقول :  ان العقل هوأول مخترعات الأنسان،

وحين بدأ الانسان المدرك يستخدم الذهن استخداما منظماً اصبح التفكير العقلي متناولا دراسة التجربة الانسانية على الارض، فبدأت دراسة الماضي لمعرفة نشأت الحاضر لتستطيع توجيه المستقبل، حتى اصبح يشمل التجربة الانسانية كاملة، وبالتدرج الزمني ظهر الفقه الديني الذي نشأ فيما بعد لتفسير ما غُمض من اسرار الكون حسب النص الذي صار مقدساً عنده، فانتشرت فكرة الاديان في المجتمعات الانسانية حتى اصبحت غريزتها الوهمية تتغلب على العقل وتذلله لرغباتها، "الغريزة اقوى من العقل"عند بعض الشعوب المتخلفة، من هنا بدأت عملية الصراع بين العقل والعاطفة التي استخدمتها السلطة لصالحها، فكانت نظرية الصراع بين العلم والدين، اي بين العقل والنص.

ومن أجل ان نعرف الحقيقة للتخلص من الأخر المجهول، يقول العالم :  فريمان الانجليزي، شعوب أدركت الحقيقة العلمية فتقدمت بعد ان احتاجت لكل جديد في المخترعات فكان اختراع الطباعة في الصين وانتقالها لاوربا فيما بعد. وشعوب غطست في الوهم النصي فتأخرت، فالمسلمون مثلاًفي غالبيتهم اعتقدوا ان الله هو الذي اعطى الانسان العقل والفكر والحكمة، فالفكر هو الذي يخترع واليد هي التي تعمل، وبهذا التوجه انتقل الانسان الى التقدم الحضاري، لكنه بقي زمنا طويلا لم يتمكن من حل معضلة كيفية قيام الحضارات لان الفكر المقيد من الجانب الديني بتفسيراته للنص ظل حجر عثرة في انفتاحية التفكيرعلى كل ما يتعارض معه. من هنا بدأ التعارض والخصام بين العلم والدين،

اذن هل كانت عقيدة الدين من اجل الخصام المستمر بين البشر الانسان، فاذا كانت من اجل الوحدة والعدل كما هو شائع عندهم، اذن لماذا أنفرد الفقهاء بتعدد الأديان والمذاهب التي لاوجود لها في الدين وطبقات المخلوقين، فاين الخطأ في الدين ام في اطروحاتهم الوهمية التي لا اصل لها في الدين؟. وهل كانت شعوب الارض كلها لا تستحق دين المسلمين الا نحن، اذن لماذا هم المتقدمون، ونحن اصبحنا في الركب الاخير، كيف نفسر النظرية، فسروها لنا يا فقهاء الدين، المتعجرفون؟. فقد مللنا منكم الرأي، ومن به تعتقدون؟.

ومادام الاصل مجهولاً فلمَ المبالغة في أختلاف المجهول، واذا كان هو سبب ثبيت المجهول دون القانون، عرفنا سبب اعاقتنا عن التقدم، فنحن لا نريد دينا من هذا القبيل دون قانون وعلم لا يقوم على اساس من الفكر غير المقيد، والعقل دوما متعطشا لكل جديد، واذا كان الدين هو العدالة والحقوق كما أخبرتنا كتب السماء التي وصلتنا بعد ان احتاجت الى وقت طويل، فنحن أول المتدينين، ولكن من حقنا ان نعرف أصل التكو ين وحقوق الآدميين وكيفية التطبيق، حتى ننهي نظريات الاختلاف بين الانسان، والدين، التي يطرحها الفقهاء الوهميين والذين فسروا النص المقدس تفسيرا ترادفيا قبل ان تستكمل اللغة تجريداتها الحسية، فجاؤونا بأفكار لا تتفق وطبيعة الانسان والدين، مذاهب الشيعة والسُنة وما تفرع منها من اللامعقول؟

كل الديانات السابقة بقوانينها طبقت على منتسبيها دون اعتراض سوى التعارضات في الرأي والتطبيق، الا الاسلام الذي نتحدث عنه منذ عهد ابراهيم ظل يعيش بيننا بقوة السلاح لا بقناعة المنطق في التطبيق نتيجة انفراد الحاكم به دون الناس. فأبراهيم اراد ان يذبح ابنه قربانا للأخرين، لكن ابنه الانسان رفض الا اذا جاء بأمر من اله السماء (افعل بما تؤمر) فالحياة الانسانية ليست هي ملكا للحاكم دون دليل. وها هي النتيجة اليوم التي اوصلتنا الى العدم في دولة فاشلة تقتل العلماء والمفكرين بلا قانون معتمدة على غيبيات يرفضها الدين، (لوكنت أعلم الغيب لأستكثرت من الخير وما مسني السوء) الفرق، ان الاسلام حمل الوعد والوعيد دون ان يصاحبه قانون التقييس، حتى قانونهم الديني المزيف يعيش في رؤوس الناس دون تطبيق، هنا المصيبة الكبرى التي ظلت تلازم المسلمين حين فقدوا قانون الالزام في التطبيق.؟فأصبح الدين العائق الاول في التقدم وحقوق الأدميين.

أما العلاقة بين الله والناس علاقة عبادية حرة حددها النص لا الفقيه. من هذا المنطلق ندعو الى تعريف الكفر والشرك والاجرام والالحاد فلا زالت الاصطلاحات مبهمة لم تعرف سوى تعريفاً لغويا أحاديا وترادفياً، لعدم قدرة الفقهاء على الحل، فالاسلام توحيد ومثل أنسانية عليا غير قابل للتسييس، وان محاولة البعض تسييس الاسلام، والبعض الاخر أسلمة السياسة، اضاعوا السياسة والاسلام معاً.

من الخطأ ان نسمي الناس من نوح الى محمد بالكافرين، انهم كلهم من المسلمين بدلالة الاية الكريمة (ان المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، أعد الله لهم مغفرة وأجرأ عظيماً، الاحزاب 35). من هذه الاية نفهم أمرين، الاول ان المسلمين والمسلمات شيء والمؤمنين والمؤمنات شيء اخر، لذا فأن الاسلام يتقدم على الايمان ويسبقه في تنفيذ الشريعة الربانية. اي منذ مجيء آدم وبداية التجريد الانساني، حيث بدا الايمان يرافق الاسلام خدمة في التطبيق، والالزام بضرورة عدم تجاوز النص، لكن ظل بلا قانون، والدين ان لم يرافقه القانون لا نكسب منه الا الضرر، فالدين لا يمكن ان يُكون دولة دون قانون، انظر كيف قامت دعوة المسلمين التي لم تستطع تكوين دولة خلال 656 سنة لانها كانت بلا قانون، بينما اوربا استطاعت ان تلغي دولة الكنيسة التي كانت بلا قانون، وهكذا حصل التقدم، في ظل القانون.

ان الاسلام فطرة، والفطرة تعني الايحاء الفكري للبشرجميعاً بضرورة التدبر في الحياة بالتعاون الجماعي وتطبيق العدالة لتسود المجتمعات الامن والامان والاطمئنان على النفس والمال والعرض، هنا الفطرة احتاجت الى رسالة سماوية انسانية لافهامها للناس بكل حرية، ولم يعطِ الله لرجال الدين صلاحية التصرف بالبشر كما نلاحظه اليوم حتى اماتوا الدين والبشر معاً بلا قانون، وكيف قامت دولة الاوربيين الحضارية عندما قضت على اراء الكنيسة دون قانون. فالاسلام لا يعترف بوكلاء عنه، ولا يخول احد حق الفتوى على الناس ولا يعطيهم حق الافضلية، والنصوص واضحة في ذلك لا تحتاج الى برهان. اذن لا مرجعيات ولا رجال دين، ولا فقيه ولا ولي الفقيه، كلها ألاعيب السلطة لا الدين.

الاديان كلها قوانين ربانية لم يحسن الفقهاء شرحها للناس خدمة لصاحب السلطة الذي ساووه مع الخالق العظيم:  "اطيعوا الله والرسول وآولوا الأمر منكم"وآلوا جمع لا مفردله من جنسه، وآلوا ليس جمعا لولي، فهل ادرك المفسرون الخطأ الذي وقعوا فيه، كفاية تدليس.

اين كتابنا الذين يكتبون ومثقفينا الذي يفلسفون وهم لاهون بابحاث وكتابات سطحية تملأ الخزائن كمعدة البعيربمجلات واطاريح جامعية ما انزل الله بها من سلطان، كالجائع الذي متى ما احتاج للطعام ارجعه منها للاجترار. هنا سر التخلف والانغلاقية والجمود في مجتمعاتنا العربية والانسانية، واليوم همهم الشهادة الجامعية وليس محتواها العلمي في التطبيق، لدرجة بدأوا يجرأون على استبدالة علم الفلسفة بعقيدتهم الدينة الفقهية الخائبة والبعيدة عن ماهية الدين. وحين تزور معارض الكتب وبهرجتها الاعلامية لا تخرج الا بهذه النتيجة الغير النافعة لتظيفها الى خزانة كتبك لتملأها ضعفا لا قوة. وقد ابتلينا في مجتمعاتنا العربية ، بثلاثة مجمعات دمرت عقل الانسان، الازهر في مصر والمرجعيات الدينية في ايران والعراق وجامعة الزيتونة في تونس وكلها غثاء كغثاء البعير.؟؟؟

فعلى سبيل المثال لم ارَ كتاباً عالج لنا مسألة التبني وملك اليمن سوى كلمة (حرام) التي تتصدر كل فكر ظلامي منغلق، فالتبني عملية انسانية ليس فيها ضيرأ، اما غيرنا من المستشرقين فقد أسهبوا في الصح والخطأ حتى كونوا لنا دائرة معارف فكرية في هذا المجال مطروحة للمناقشة والحوار، فلماذا نحن بعيدون؟. هنا نحتاج لحاكم متفتح جريء يؤمن ويقول وينفذ، وهذا الحاكم الجريء لم يظهر فينا الى اليوم. بينما هم وجد عندهم هذا الحاكم الجريء المنفذ لكل رأي صحيح، فتقدموا.

هناك امورا كثيرة بحاجة الى تعريف حقيقي وواقعي غير تعريف الفقهاء الذين حولوا الاسلام من اسلام آلهي الى اسلا مهم المقيت، كالفريضة والوصية والموعظة والذنب والسيئة والعبد والعبيد والمواثيق وقوانين الزواج والطلاق وضرورة ايجاد فقه موحد عند المسلمين وترك خرافة المذهبية والتفريق والدك واللطم والبكاء على السالفين، وفي الاراء والمعتقدات التي اشبعتنا فرقة وتخلفا وهي من صنع العباسيين ومن جاء بعدهم من الترادفيين. والتي هي ليست من الاسلام في شيء ابداً، لكن غالبيتها من صنع المنتفعين فقهاء الأحاديث المزورة كمسلم والبخاري وابن ماجة وبحار الانوار. فاين حاكمنا الفذ الذي نرى فيه صدق القول ومعرفة اليقين؟فأذا بقيتم على ما أنتم فيه أتركوا الدين لحاله واعبدوا ما به تعتقدون.

نحن بحاجة ماسة الى تصحيح المفاهيم وخاصة ما يتعلق بالعقيدة ونزعها من المحتكرين الذين اماتوا عقولنا وافكارنا وجعلوها مقفلة لا ترى النور، فالعقيدة تتناقض مع البندقة والسيف، وتتوافق مع الرحمة والسلام ومن يقرأ ويتمعن يرى ان لادولة اسلامية ولا دولة علمانية، ولا حزب اسلامي، بل دولة الحق والقانون. وهذا هو الاسلام الذي جاء به محمد(ص) وكتب له الوثيقة المغيبة اليوم من فقهاء الدين، ونحن ندعوا للكشف عنها وهم الذين يستميتون من اجل عدم تطبيقه أو أظهاره للناس أجمعين، لانه بأظهاره هم ينتهون، فهل من حاكم عربي مسلم يتبنى نظرية الاسلام الصحيح لينقذه من برائن الطارئين، لمَ لا تكون لنا سابقة المجددين المصلحين، ام نبقى نزور بما قاله الامام جعفر الصادق(ع) والامام ابو حنيفة النعمان(رض) والذي ابتكر منهما مذهب الشيعة والسنُة المزورين والامامين براء منهما؟

الدولة الدستورية ملزمة بالقانون الى وضع منهج جديد في أصول التشريع الاسلامي وملزمة بتعيين الكفاءات العالية في مناصب الدولة العليا وليس من هب ودب من المتخلفين كما حصل بعد التغيير في 2003، وبسلطة منتخبة شرعا وقانونا من المواطنين، مستقلة نظيفة أمينة على الدستور والقانون، لا خاضعة لفقهاء التخريف، ومنهج قائم على البينات المادية واجماع أكثرية الناس، وان حرية التعبير عن الراي وحرية الاختيار، هما أساس الحياة الانسانية في الاسلام، وترك تعاليم الأزهر والمرجعيات الدينية الميتة في ايران والعراق وجامع الزيتونة في تونس وغيرها كثير،

وهذا ليست مِنَة من أحد، بل واجب مقدس ملزم بحدود الايات القرآنية الحدية، ملزمة التنفيذ. هم يمنحون الامتيازات لمن لا يستحقون ويحجبونها عن الاخرين من المواطنين بحجة القبيلة والدين، نعم والف نعم هم الكافرون المجرمون الذين لا يستحقون، يقول الحق: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، الفتح 28). والعاقبة للمتقين. كفاية كتب واطاريح ومقالات التخريف.

واخيراً نسئل من يدعون بدولة الاسلام الفقهي، لماذا هم وابناؤهم يهرولون ويركعون من اجل الوصول الى دولة الكافرين في اوربا وغيرها من اجل الامان والقانون، لو يؤمنون لعاشوا في دولهم الخائبة بلا قانون. كفاية تدليسا ايها المنافقون. نحن نحترم شجاعة من يقول الحقيقة او بعضها وينشرها بين الناس، فأطلب الحق وان قل.

***

د. عبد الجبار العبيدي

عُد التعليم العالي في كل دول العالم هو المدخل الرئيس للتقدم والتطور في كل مجالات الدول المتقدمة، فهو الذي يؤسس لتحديث الإدارة والمصارف والتعليم الأساس "الإبتدائي والمتوسط والثانوي" والتعليم الجامعي، فهو ينظم المنهج الدراسي ومنهج التعليم بمختلف تخصصاته، الطبي والتقني " الهندسة والتكنولوجيا" فضلا عن مناهج المجموعة الطبية بمختلف أنواعها، فهو لابد أن يواكب هذا التحديث لكي يتكيف مع ما يجري مع التعليم في كل دول العالم.

تؤكد لنا التجارب النفسية والتربوية على مستوى الفرد كيف أن الفرد المتكيف تماما مع مجتمعه في الحياة اليومية ربما يصل إلى درجة من الآلية وعدم القدرة على التجديد تجعله قليل التلقائية والإبداع في مجال تخصصه، لا نقول أنه مسلوب الإرادة بقدر ما يمكن أن يكون متآلف مع أزمات مجتمعه. أما لو نظرنا إلى التطور على أنه يشمل القدرة على التغيير والتجديد تجعله مع درجة من الرفض للواقع الذي قد تتحول إلى درجة من عدم التكيف.

أما على مستوى المجتمع نستطيع أن نرى كيف أن المجتمع وهو في مرحلة التجديد أو التغيير وهو يعايش الصناعات والأجهزة والتكنولوجيا وأدوات التواصل بكل نجاح لأنها تفرض عليه مواكبة هذا التطور والتحديث ويمكنه أن يجاريه ويستمر معه في قبول أحدث المنتجات العلمية في العالم ويتقبلها ومنها الأجهزة الكهربائية والموبايلات وبناء البرامج المختلفة التي يؤثر على شريحة كاملة من الشباب، وأنظمة التواصل الاجتماعي فضلا عن موجات الملابس والموضة والماركات وغير ذلك.

تؤكد لنا التجارب أن في مختلف دول العالم التي تعرضت إلى أزمات وثورات وحالات الحصار وفرض العقوبات الدولية وغلق الحدود، إلى انغلاق التواصل مع العالم، وفيه ينسحب المجتمع من مواكبة التطور والتحديث ولكن ما أن تبدأ دورة الحياة يعود الانفتاح على العالم الخارجي بعد الوصول إلى درجة الاستقرار، حيث بات من المؤكد أنه لابد أن يجمع الفرد وكذلك المجتمع والمؤسسات التربوية والتعليمية بين ثورة التكنولوجيا القادمة من الخارج وتأثيرها على المجتمع، وقدرته على المواكبة وهو أمر فيه من الحالة السوية الصحيحة، والمفروض أن يواكب هذا التطور التعليم أيضًا بكل مراحله لأنه جزء من التطور الكلي لمجالات الحياة، ففي العراق لم نلاحظ مواكبة التطور والتحديث في المناهج والأساليب الدراسية وطرائق التدريس، وخلق دافعية الطلبة نحو التعليم ومشاهدة تأثيرات التكنولوجيا في الصناعات التي وصل لها الغرب، ظل الفرد العراقي مبهورًا بما حققته الصين أو كوريا الجنوبية بصناعاتها العملاقة فضلا عن التطور الذي وصلت له تركيا في صناعاتها وقدرتها على تجديد السياحة والتعليم ومناهجها الدراسية التي صنعت إنسان جديد واعي مواكب للتطور والتحديث في كل مجالات الحياة.

ويمكننا القول إذا لم يستطيع التعليم العالي في العراق وهو المحرك للتطور والتحديث في احداث تغيير من خلال برامجه ومناهجه وأساليب التعليم فإنه سوف يظل في حالة تدهور ومعه يتدهور الأساس في ذلك وهم الشباب وهي مادته الأساسية، وهو المحرك الرئيس في البناء، يبدأ يتشكك ويثور ويسعى إلى التغييرات الجذرية ومن خلال تلك الثورة يبحث الشباب عن هويته الجديدة في العالم خارج وطنه، ولكي لا تكون أساليب التعليم في العراق أساليب وأنظمة جامدة ومتحجرة تقاوم وتصد أية مبررات لأي فكر جديد وأي تحديث أو تطور، عليه أن يعيد الحسابات في هذه المهمة الشاقة والصعبة.

***

د. لمياء حطاب رحيم

الكلية التربوية – البصرة

شكلت العولمة انعطافاً كبيراً في حياتنا الحديثة والمعاصرة، بما في ذلك تفاصيل كل الحياة التي دخلت فيها من حيث الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية..الخ

وعُرفت العولمة بأنها: عملية من التكامل في الاقتصاديات والاجتماعيات والثقافات التي تنتشر في العالم، ومنها الثقافة في تراث الشعوب التي تدخلت بها أي العولمة لتصنع منها وجهاً ثقافياً بشكل آخر.

وهذا ما يجعل العولمة أنها أخذت بتاثيرها الواضح المعالم، ليس في الثقافات العالمية البعيدة عن ثقافاتنا في مجتمعنا العربي، بل كان لها التاثير الواضح في ثقافتنا العربية المعاصرة، التي تاثر بها جمع هائل من مثقفينا والشباب خاصة منهم، وغلبت على طبيعة حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والارث الثقافي ايضاً.

وكان من أهم التأثيرات التي واجهتها الثقافة العربية، هو تعرضها لتأثيرات الثقافة الغربية والتي حملت شتى أنواع المعرفة الانسانية وغيرها، وهذا التعرض سيؤدي حتما الى التغيرات في القيم والمعتقدات والسلوك وأنماط الحياة التقليدية العربية التي تربى ونشأت عليه أجيال متعاقبة .

فضلا عن ذلك فأن اللغة العربية هي الأخرى قد واجهت التأثير عليها من اللغات الاجنبية وخاصة اللغة الانكليزية، باعتبارها لغة عالمية بسطت نفوذها منذ ظهرت الحركات الاستعمارية او اختيارها كلغة عالمية للتفاهم بين الشعوب، أو نتيجة الهيمنة الاستعمارية التي كانت من قبل بريطانيا في القرون السابقة (التي لا تغيب عنها الشمس) نتيجة اتساع سيطرتها على دول عديدة غطت سيطرتها في الشرق والغرب .

ولكن، هل هذا يعني ان الثقافة العربية اصبحت جانب سلبي مستقبل وغير منتج إن صح التعبير؟ وبتعبير آخر إن الثقافة العربية، لم تؤثر ولم تبسط حضارتها ونتاجها الفكري وغيره؟ الواقع إن الثقافة العربية ، بفعل ما تمتلك من خزين وتراث وإرث قديم وحديث ومن مبدعين وفنانين وأدباء وعلماء، وبفضل التطور التكنولوجي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي (التي هي جزء لا يتجزء من جسد العولمة) ان تعزز من قوتها وفرض وجودها.

نعم ، لقد أعطت وساهمت وقدمت بحكم التفاعل مع العولمة الذي جاءت به العولمة ذاتها.

مع ذلك، ورغم تواجد فرص كبيرة للثقافة العربية مكنها أن تعزز من تفاعلها مع العولمة من خلال التبادل الثقافي، وتسهم في انتشار الأدب العربي والفن العربي في جميع أنحاء العالم. بفضل التطور التكنولوجي ووسائل التواصل الاجتماعي، إذ أصبح بالإمكان للمبدعين والفنانين العرب الوصول إلى جمهور أكبر وتبادل أعمالهم وآرائهم وطرح ما يمكن طرحه من أفكار تتفق أو لا تتفق مع منهج الحياة العالمي، او بكل ما يصدر من إبداع إنساني عربي معاصر..

إن الثقافة العربية، تلعب دوراً هاماً في التعايش الثقافي والحوار بين الثقافات المختلفة، كما يمكنها أن تسهم في انتشار الأدب العربي والفن العربي بكل أنواعه، وبالاضافة الى الحكايات الشعبية التي تشكل موروثا شفاهيا لا غنى عنه، مما يمكن للغرب ان يطلع عليه والغور في دراسته، إضافة الى التعرف عن قرب بطبيعة المجتمع العربي وخصائصه. وهذا يقود المبدعون الى الوصول الى أكثر مساحة للتواصل والتعارف والاطلاع مع المبدعين في العالم، وبالتالي تعزز عملية التبادل الثقافي والمعرفي بين الشعوب.

إن آتساع هذا التبادل والتفاعل الثقافي والسعي الى التكاملات الاقتصادية والاجتماعية، وبقدر الاستفادة الواسعة للجوانب الايجابية للعولمة، تبقى هنالك المخاوف من التأثير على الهوية العربية واللغة والتقاليد والعادات للشعوب .

فالعولمة، بقدر ما تمد وتعزز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي، يمكن ان تستفيد الثقافة العربية منها من خلال اعتماد مظاهر الحضارة العالمية المتقدمة ودمجها في اطارها الثقافي الخاص.

فلا شك ان التطور التكنولوجي له دوره البارز والمؤثر في الثقافة العربية ونشرها الى أوسع مساحة في العالم، وفسح المجال للتعرف عليها من دول كانت ولا تزال لا تعرف الشيء الكثير عن القيم والثقافة العربية، و كذلك ما يحمل العرب من قيم حضارية وتأريخ حافل بالمنجزات التي لم تطلع عليه اليوم العديد من الشعوب العالم.

بصفة عامة، يتعين على الثقافة العربية البقاء مفتوحة للتغيير والتطور، مع الحفاظ على القديم أو التراث العربي الذي ورثوه العرب من أجدادهم عبر حقب تأريخية ليست بقليلة فكر وقيم وليست بجديدة و حديثة العهد، إنها موروث يعتز به إنسان هذه الأرض.

لا شك إن التنوع الثقافي سيزداد في مجتمعاتنا بسبب العولمة، وبالتالي سيقوده الى التعايش بين مختلف الثقافات، مما سينعكس ذلك جلياً على النتاجات الابداعية في الأدب والفن ومنه الغناء، ونمط الحياة بالمأكل والملبس وغيره. واذا ما أخذنا بنظر الاعتبار ان التكنولوجيا لعبت دورها الكبير، فمن خلال مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الاعلامية الأخرى، ستؤثر حتماً على العادات والتقاليد وتغير الكثير من المفاهيم التي عاشها العرب، وليس العرب فحسب بل والغرب أيضاَ فكل يؤثر بالآخر بحالة تبادلية، والكفة تميل الى القوة الأكثر سرعة بالتطور والانتاج .

كذلك التعليم واساليبه وطرق التدريس التي أخذت منهجاً جديداً بما يوازي ما يعيشه العالم من تطورات سريعة في كافة مجالات الحياة، ولابد من الاشارة هنا الى تأثر اللغة العربية بما ستكتسب مزيداً من الاستعارات والمصطلحات الأجنبية في اللغة العربية والعكس هو الصحيح فبقدر تأثرها لغتنا العربية، فهنالك الكثير من المفردات والعبارات في اللغات الاجنبية جاءت من أصول عربية، وإذا كانت العولمة واللغة عنصران متفاعلان، فأن الثقافة الشعبية العربية المعاصرة سوف تسعى للأخذ بما يمنحها من رمزية أو نفس معاصر توازن بين القديم والمعاصرة بحكم التلاقح بالتراث الشعبي العالمي، وتكون النتيجة في التفاعل الذي فرضته العولمة على الحضارات، بين الغرب من جهة والعرب من جهة وبين دول آسيا وأفريقيا من جهة أخرى.

ومن الجدير بالذكر إن الثقافة العربية ليست مستقلة عن التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذا يعني إن التطورات والتغيرات التي تطرأ في حياتنا المعاصرة والقادمة ليست بعيدة عنها ، فهي جزء من هذا العالم المتفاعل إن كنا متفقين أو غير متفقين، إذ هذه التغيرات ستسهم في تطويرها أو تغيير بعض جوانبها، فالعولمة أدت الى تقارب وتشابه بعض العناصر الثقافية في مختلف أنحاء العالم، وتوسع الحوارات الثقافية بين العرب والثقافات الأخرى.

وعليه فأن الثقافة العربية تستمر وتكون جزءاً حيوياً من المشهد العالمي، بتبادل المعلومات والتواصل السريع، وإذا كانت العولمة قد أدت الى تقارب وتشابه وتفاعل في مختلف انحاء العالم، فأن الثقافة العربية تحتفظ بخصوصيتها وتنوعها الثقافي الغني، وإن الموروث الثقافي العربي واللغة العربية عناصر مهمة في الهوية العربية، ورغم كل التحديات فأن هذه العناصر سوف تستمر في الوجود والتأثير والتأثر رغم التحولات العالمية.

***

د. عصام البرام - القاهرة

في المثقف اليوم