قضايا

تأليف: مات هيوستن

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تشير الأبحاث إلى أن الناس يجدون الأعمال الفنية أكثر إمتاعًا من الناحية الجمالية عندما تكون ذات صلة بهم شخصيًا بطريقة ما.

ما الذي يجعل العمل الفني البصري جميلاً؟ لقد حدد الباحثون في علم الجمال العديد من الخصائص الفيزيائية - مثل التماثل والتعقيد البصري - التي يبدو أنها تؤثر على تفضيلات الناس، لكنها لا تفسر كل شيء. وفي حين أن بعض الأعمال الفنية تحظى بإعجاب أكثر من غيرها، فإن ذوق الناس في الأعمال الفنية متغير بشكل كبير (على ما يبدو أكثر من تفضيلاتهم للمشاهد الطبيعية أو الوجوه البشرية المحددة). نظرًا لخصوصيات الذوق الفني، كان الباحثون يبحثون عن أشياء أخرى قد تفسر مدى الجمال الذي ندركه أنت أو أنا في العمل الفني.

تشير مجموعة حديثة من الدراسات في مجلة العلوم النفسية إلى أن العامل الشخصي - على وجه التحديد، مدى ارتباط القطعة الفنية بك، بطريقة أو بأخرى - يمكن أن يساهم بشكل كبير في قوتها الجمالية. وسط الألوان الزاهية للمناظر الطبيعية الانطباعية المفضلة لديك، أو الضربات الجريئة للرسومات بالحبر الياباني المحبوب، أو الأشكال الملتوية لقطعة مجردة آسرة، قد تكون هناك صفات فنية تعجبك بشكل خاص لأنها تتحدث بطريقة ما عن ذكرياتك أو هويتك أو عناصر أخرى من حياتك.

أظهر إدوارد فيسيل، عالم الأعصاب المعرفي الحسابي في كلية مدينة نيويورك، وزملاؤه للناس (مجموعة صغيرة من المشاركين الألمان في إحدى الدراسات، ومئات من المتحدثين باللغة الإنجليزية في دراسة أخرى) صورًا للوحات تغطي أنماطًا مختلفة. والأنواع والعصور. نظر المشاركون إلى كل صورة للحظة ثم قاموا بتقييمها. على سبيل المثال، في إحدى الدراسات، قاموا بتقييم كل لوحة بناءً على مدى "جمالها أو إقناعها أو قوتها" ومدى تأثيرها فيهم. ثم قام المشاركون بتقييم مدى ملاءمة كل عمل فني، "استنادًا إلى مدى اعتقادك بأن العمل الفني المصور يرتبط بك، أو باهتماماتك وهواياتك، أو شخصيتك، أو الأماكن أو الأشخاص الذين تعرفهم، أو الأحداث في حياتك الشخصية." .

واختلف المشاركون بشكل كبير في كيفية تقييمهم للوحات المختلفة. لكن بشكل عام، كلما صنفوا العمل الفني على أنه ذو صلة شخصية بهم، زاد ميلهم إلى تقييم تأثيره الجمالي. والأكثر من ذلك، يبدو أن الملاءمة الذاتية تفسر الاختلافات في كيفية استجابة المشاركين للصور أكثر من قائمة طويلة من خصائص الصورة المختلفة، مثل التعقيد و"الطبيعية". وبشكل عام، تشير النتائج إلى أن الأهمية الشخصية تؤثر على كيفية استجابة الناس للفن البصري.

هل كان من الممكن للمتطوعين أن يقوموا ببساطة بتقييم الأعمال الفنية التي أعجبتهم أكثر على أنها الأكثر صلة بهم أيضًا؟ أجرى الفريق دراسة ثالثة تناولت هذا القلق، والتي تضمنت استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء عمل فني مصمم خصيصًا ليكون ذا صلة بكل مشارك.

شارك المشاركون أولاً تفاصيل شخصية عن أنفسهم، مثل المكان الذي نشأوا فيه، والأماكن التي سافروا إليها، والفئات الاجتماعية، والأشياء المفضلة (مثل الكتب، والطعام، والحيوانات) وأسلوب اللباس. قام الفريق بتغذية هذه المعلومات في خوارزمية التعلم الآلي لإنشاء صور مصممة بشكل فردي تبدو وكأنها أعمال فنية من صنع الإنسان، ولكنها تعكس أيضًا جوانب من حياة كل مشارك، مثل لوحة على طراز المناظر الطبيعية لمدينة قام المشارك بزيارتها .

صنف المشاركون الأعمال الفنية التي تم إنشاؤها لتكون ذات صلة بهم على أنها أكثر جاذبية من الناحية الجمالية، في المتوسط، من القطع الفنية الاصطناعية الأخرى، بما في ذلك تلك التي تستند إلى تفاصيل من حياة أشخاص آخرين والتي كانت قابلة للمقارنة من حيث خصائصها الجسدية. لذلك، ارتبطت الملاءمة الذاتية مرة أخرى باستجابة جمالية أكبر - وأظهرت هذه النتائج باستخدام الذكاء الاصطناعي بشكل أكثر إقناعًا من الدراسات الأولية أن الأولى هي التي قادت الثانية، وليس العكس.

لماذا قد يبدو الفن المرتبط بتجربتك الحياتية أو إحساسك بالهوية أقوى أو أجمل من القطعة المعلقة بجوارها؟ يعتقد الباحثون أن الأمر قد يكون له علاقة بميل الإنسان إلى الاستمتاع بفهم العالم. يقول فيسيل: "غالبًا ما أفكر في علم الجمال كعملية أسميها "متعة الفهم".ويوضح أن الفكرة الأساسية هي أنه "يمكنك استخلاص متعة المتعة من الانخراط في صنع الإحساس والاستمتاع بلحظات "آها" واكتساب فهم أفضل للعالم من حولك".

يعطي فيسيل هذا المثال: إذا علمت أن مقبض الباب في منزلك يتحول إلى اليسار بدلاً من اليمين، فهذا أقل أهمية بكثير لفهمك للعالم من معرفة أن شقيقك قد تم تبنيه بالفعل. هذا الأخير أكثر صلة بإحساسك بالهوية وأكثر إقناعًا. يمكن أن يكون شيء مماثل صحيحًا بالنسبة للفن: كلما زاد ارتباطه بك وزادت قدرته على إعلام الأجزاء المركزية من رؤيتك للعالم، زاد احتمال تأثيره فيك.

بالطبع، إحدى سمات العديد من الأعمال الفنية الرائعة هي قدرتها على جعلك على اتصال بشخص أو شيء بعيد عنك. قد تقدم لك اللوحة لمحة عن وقت أو مكان بعيد، أو تعرفك على شخص لا يمكنك مقابلته في الحياة الواقعية، أو تتيح لك رؤية الطبيعة من خلال عدسة مختلفة جذريًا. إن فكرة أن الكثير منا يفضل الفن الذي يتحدث عن إحساسنا بالذات قد تبدو متعارضة مع تلك الخاصية ذات المظهر الخارجي. ولكن هل هو كذلك؟

ولعل الاهتمام بالذات يساعد - على الأقل في بعض الأحيان - في تشكيل جسر إلى ذلك العالم الآخر الذي يسعى عاشق الفن للوصول إليه. في حين أن التسامح مع ما هو غير مألوف يمكن أن يختلف من شخص لآخر، "بالنسبة لمعظمنا، إذا تم تقديم شيء ما بطريقة يمكننا من خلالها ربطه على الفور ببعض جوانب تجربتنا الخاصة، فيمكننا التعمق بشكل أسرع بكثير". يقترح فيسيل ، على الرغم من كل ما قد يبدو غريبًا في مشهد عصر النهضة الكئيب أو الصورة التكعيبية، فقد يكون هناك شيء ما فيه يتردد صداه مع تجربتك، وبذلك يوفر لك موطئ قدم. يقول فيسيل: قد يعني ذلك أنه "يمكنك الانتباه إلى ميزة يمكنك فهمها". "وإلا، قد لا تولي اهتماما لذلك. يمكنك فقط المشي بجوارها.

***

...........................

* مات هيوستن /Matt Huston محرر وكاتب مهتم بعلم النفس والصحة العقلية والثقافة. قبل انضمامه إلى Aeon+Psyche، كان عضوًا في هيئة التحرير في مجلة Psychology Today لما يقرب من عقد من الزمان. لقد كتب عن مجموعة متنوعة من المواضيع في مجال السلوك البشري، بدءًا من العلاج عن بعد إلى الإدراك الاجتماعي إلى التكاثر في العلوم النفسية.رابط المقال: https://psyche.co/users/matt-huston

الأيديولوجيا من "علم اللغة الفرنسية، إلى اللغة اليونانية القديمة"، مفهوم مركب من كلمتي " إيديا "، بمعنى "فكرة" وكلمة " لوجوس " التي تعني "علوم التدريس"، الدارج بالعربية "علم المنطق". ووفقا للرؤية العالمية المعروفة بـ "نظرية الأفكار"، فان مفهوم الأيديولوجيا كمصطلح حديث في علوم السياسة المعاصرة كما يبدو، قد استقى تعريفات عديدة، ألا أنه، الشكل الأكثر تكاملا للأفكار والمعتقدات والاتجاهات السياسية الكامنة في أنماط سلوكية معينة، بالإشارة إلى "الوعي الساذج" للمجتمع. ومن ناحية أخرى، يشير علم الاجتماع إلى أن التعريف الدارج في الولايات المتحدة، يطلق على كل نظام معايير أيديولوجية تستخدمها مجموعات أصحاب القرار لتبرير وتقييم أفعالهم وأفعال الآخرين على النحو الذي يتطابق مع أفكارهم. ألا إن هذه الأيديولوجيا، تعكس: الأفكار ووجهات النظر العالمية التي لا تستند إلى أدلة وحجج جيدة، إنما تجسد العنف للهيمنة على الحكم.. إذن الأيديولوجية، لها مجموعة غير ثابتة من المفاهيم والمعاني، بعضها حصرية، يمكن للمرء أن يصفها على أنها نص منسوج من مفاهيم مختلفة، ومختلفة بخطوط تقليدية متباينة، طالما يتم ضخها بقوة في مفهوم نظري.

أدى تباين تلك الأفكار والعقائد والثقافات السياسية، بشكل أساسي، من خلال انعدام حرية التعبير واستقلالية المعتقد أو عدم التجانس الديني والعرقي، كما هو الحال في العراق، إلى العنف الأيديولوجي، وبالتالي إفراغ الفكر السياسي من محتواه المجتمعي باتجاه التوجيه نحو الصراع بين "اليسار واليمين" بين "علماني" و"أصولي"، اللذان أديا إلى محدودية أسس السيادة ومفهوم الدولة الوطنية وصيانة مصالح الدولة والمجتمع.

السؤال إذن، ما هو شأن خطاب الأيديولوجيا فيما يتعلق الأمر بمفهوم الدولة؟ ومركزيتها؟. في بلد كالعراق مثلا، تفتقر، أي "الأيديولوجيا الشعبوية" إلى الواقع العملي والقيمي لمعنى الحياة الاجتماعية وعلامات ظواهرها من الناحية السوسيولوجية والانسانية والفلسفية، ايضا إلى العديد من الأفكار ذات الدوافع الوطنية. وتقف حائلا أمام صعود قوى أو طبقات اجتماعية مستنيرة معينة، تستطيع من ناحية العقيدة الإدارية ـ السياسية، الفرز بين مسألتي السلطة وطبيعة نظام الحكم مؤسساتيا، لا وفق عقيدة ايديولوجية تعرض مصالح الدولة للخطر. الأمر الذي يعرض المجتمع إلى الجمود واللاأبالية إزاء ما يحدث على المستوى الوطني والمؤسساتي. وبالوسط الذي يحتكر السلطة وفق مبدأ "عقائدي"، ممارسة اختبار الأفراد وتحويل علاقاتهم به إلى واقع طبيعي يتصرف فيه الأشخاص وفقا لارادته بوسائل هي أقرب إلى ما يعرف بـ "الأمر الواقع" يتميّز بطابع توجيهي لا طوعي، داخل أو مع الدولة.

شهد علماء اللاهوت في العصور القديمة استخدام الدين من قبل السياسة لأغراض خاصة. في ذلك الوقت كان لها أشكال مختلفة: التغيرات اللاهوتية للقوى والظواهر الأكثر علمانية، "تعبير". التأليه الذاتي، الاثني - اثني، "رموز"، دنيوية مقلوبة ومتشابكة. وبدلا من جعل اللاهوت "الدين"، قابلا للاستخدام من قبل السياسة، أصبحت عملية الدين سياسية.

في هذا الشق فيما يتعلق بمسألة الحكم في العراق على مدى ستين عاما، منذ انقلاب البعث 1963 مرورا فيما بعد الاحتلال عام 2003، بكل تفاصيله كـ "تجربة" سياسية متأثرة بالعنصر الطائفي ـ الديني العرقي وفقا للظواهر والدراسات، باختصار: فإن ناتج المقارنة بين "الأيديولوجية والدين"، قولا واحدا مخيبا. إذ افرز تصنيفات على غير الشكل التقليدي من عدم الرضا تجاه سلوك الأحزاب الطائفية والإسلام السياسي التي أساءت استخدام السلطة وفي الغالب تمادت في اضطهاد الآخرين والتجاوز على الحياة المدنية والقانون. بيد أن طبقة أولياء الدين "الفقهاء" لم تتردد من دعم سلطة الإسلام السياسي "شيعي سني" على الرغم من مآثرها العقيمة، اسوأها: التفريط بأمن الدولة وسيادتها وانتهاك دول إسلامية جارة مثل تركيا وإيران والكويت حرمة العراق مما تسبب سقوط العديد من الضحايا الأبرياء بالإضافة إلى نهب موارده واحتلال اراضيه ومياهه وحدوث دمار بيئي واسع. يدلل ذلك، من وجهة نظر سياسية لا أيديولوجية، بأن الدين السياسي ومفهوم الديمقراطية على أساس الدولة الدستورية، أمران متعارضان بالشكل والمضمون.

مع هاجس كل هذه التحديات الخطيرة وتفاقم الأوضاع السياسية والاقتصادية وتسويف أحزاب السلطة ومحاولاتها تجيير الدستور لصالحها. فإن واحدة من أهم الموضوعات التي تخيف الكتل السياسية الماسكة بسلطة الدولة العميقة مسألة تحقيق الانتخابات بالشروط التي يطالب بها المجتمع العراقي وحراكه الشعبي في أغلب المدن العراقية. ورغم تأكيد المرجعية الدينية لمطالب المتظاهرين، إلا أن الطبقة السياسية التي تتشدق بالتزامها بآراء المرجعية، لا تزال تتصرف بمنطق: "المصالح الشخصية والفئوية بالضد من رأي الشعب الجمعي كمصدر للسلطات الاعتبارية التي لا يجوز التفريط بها بأي حال من الأحوال". وعلى قدر أهمية القضايا التي يتطلع الشعب العراقي لها، هناك مسألتان لا بد من معالجتمها على كل المستويات للخروج من المسارات الفاشلة للدولة العميقة (تركيبة الأحزاب ومفهوم الانتخابات). الأمران في العراق من الناحية الواقعية، لم يقتربا مما هو متبع في الدولة المدنية للمجتمعات الديمقراطية.

لكن إذا ما استمرت التجاذبات السياسية في ظل الظروف المحيطة بالعراق. تمرد الميليشيات وتوجيه نيرانها على القواعد الأمريكية بسبب الحرب العدوانية الاسرائلية الأمريكية على غزة، بالاتجاه المعاكس لما هو منشود، فلن تعد الانتخابات، مطلبا حكيما، للذين يهمهم بالأساس، تبيان مصداقية مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتحقيق مطالب القوى المعارضة للنظام الطائفي وأهمها: تعديل الدستور وسن قانونا الانتخابات والأحزاب بأيادي أصحاب الاختصاص على أن يعرضا للاستفتاء الشعبي، أيضا إعادة تشكيل مفوضية انتخابات مستقلة. وإذا لم تتحقق هذه المطالب الأساسية أولا، فليس أمام القوى المدنية التي تسعى إلى التغيير، من الناحية المنطقية والموضوعية، إلا مقاطعة الانتخابات والذهاب إلى المؤسسات الدولية لقطع الطريق أمام الأحزاب الطائفية ووضعها أمام الأمر الواقع.

***

عصام الياسري

أصبحت منصات وسائل التواصل الاجتماعي أدوات قوية وفائقة السرعة للتواصل والتعبير عن الذات، وريادة الأعمال. من بين عدد لا يحصى من منشئي المحتوى، يبرز المؤثرون كأفراد يتمتعون بتأثير كبير على جماهيرهم ومتابعيهم. ومع ذلك، فإن الديناميكيات بين المؤثرين الأذكياء والمشاهدين السذج في بعض الأحيان تثير أسئلة مهمة حول الأخلاقيات والمسؤوليات، وحتى الجوانب المالية لهذه المهنة الناشئة.

في عصر الهيمنة الرقمية، يعمل ظهور المؤثرين الأذكياء على إعادة تشكيل مشهد استهلاك المحتوى عبر الإنترنت. على عكس المؤثرين التقليديين الذين يركزون فقط على الجماليات أو الكاريزما الخاصة بهم، يجمع المؤثرون الأذكياء بين شخصياتهم الجذابة والفكر والخبرة. إن هذا الجيل الجديد يستفيد من المؤثرين من المعرفة والأصالة للتواصل مع الجماهير على مستوى أعمق.

يغطي المؤثرون الأذكياء مجموعة واسعة من المواضيع، بدءًا من العلوم والتكنولوجيا وحتى التنمية الشخصية والقضايا الاجتماعية. محتواهم لا يتعلق فقط بالترفيه؛ بل قد تكون رحلة تعليمية تلقى صدى لدى المشاهدين الذين يبحثون عن مادة في بحر المعلومات الواسع عبر الإنترنت. إن هذا التحول يمثل خروجًا عن السطحية المرتبطة غالبًا بثقافة المؤثرين، مما يعزز جمهورًا أكثر استنارة وانتقادًا.

إن التأثير على المشاهدين عميق جدا. عندما يتعب الجمهور من المحتوى المثير للبحت، فإنهم يلجأون إلى المؤثرين الأذكياء للحصول على وجهات نظر ثاقبة ومناقشات هادفة. المشاهدون لا يستمتعون فقط؛ بل يتم تحفيزهم فكريًا، وتحديهم للتفكير، وتشجيعهم على المشاركة في النقاشات المهمة. يشير هذا التحول نحو استهلاك المحتوى الذكي إلى نضوج الجماهير عبر الإنترنت والطلب على الجوهر بدلاً من الأسلوب.

يؤدي صعود دور المؤثرين الأذكياء إلى تغيير مشهد المؤثرين عامة ، مما يوفر للمشاهدين خروجًا منعشًا عن المحتوى التقليدي. ويدل هذا التطور على تحول إيجابي نحو مجتمع إلكتروني أكثر استنارة وتمييزا، حيث يحتل الذكاء والأصالة مركز الصدارة في عالم التأثير.

في العصر الرقمي، غالبًا ما يلجأ منشئو المحتوى إلى أداة غوغل أدسنس كمصدر أساسي للدخل. في وإذا كانت هذه المنصة توفر طريقة مباشرة لتوليد الدخل، إلا أنها تأتي مع مجموعة من التحديات والاعتبارات الخاصة بها.

على الجانب الإيجابي، توفر أداة غوغل أدسنس طريقة بسيطة نسبيًا لأصحاب مواقع الويب والمدونين لكسب المال من خلال عرض الإعلانات المستهدفة على منصاتهم. يستخدم النظام الخوارزميات لتحليل المحتوى وتقديم الإعلانات ذات الصلة بالجمهور، مما يزيد من احتمالية النقرات والإيرادات. يتيح هذا التكامل السلس لمنشئي المحتوى التركيز على إنتاج محتوى عالي الجودة بينما يتولى أدسنس عملية تحقيق الدخل.

ومع ذلك، فإن سهولة تحقيق الدخل تشكل أيضًا بعض المخاطر. قد يجد منشئو المحتوى أنفسهم يؤيدون عن غير قصد منتجات أو خدمات لا تتوافق مع قيمهم أو علامتهم التجارية. وهذا يمكن أن يؤدي إلى فقدان الثقة بين جمهورهم وتشويه سمعتهم.

علاوة على ذلك، فإن الاعتماد على غوغل أدسنس باعتباره المصدر الوحيد للإيرادات يمكن أن يجعل منشئي المحتوى عرضة للتقلبات في اتجاهات وسياسات الإعلان. يمكن أن تؤثر تغييرات الخوارزميات أو التحولات في سوق الإعلانات على الأرباح بشكل غير متوقع، مما يجعل من الضروري لمنشئي المحتوى تنويع مصادر دخلهم.

وعلى الرغم من أن غوغل أدسنس يقدم طريقة ملائمة لاستثمار المحتوى، إلا أنه يجب على منشئي المحتوى التعامل معه بحذر. يعد تحقيق التوازن بين توليد الإيرادات والحفاظ على الأصالة أمرًا بالغ الأهمية لتحقيق النجاح على المدى الطويل في المشهد الديناميكي لتحقيق الدخل الرقمي.

لقد تحول التدوين إلى مهنة قابلة للحياة ومجزية للوقت ، خاصة على منصات التواصل الاجتماعي. نظرًا لأن وسائل الإعلام التقليدية تفسح المجال أمام المحتوى الفوري عبر الإنترنت، يجد الأفراد فرصًا مربحة من خلال مشاركة أفكارهم وخبراتهم عبر مختلف القنوات الاجتماعية.

توفر منصات الوسائط الاجتماعية مثل أنسغرام وX (تويتر سابقا) وتيك توك أرضًا خصبة للمدونين لتنمية جمهور مخصص ومعلوم. مع قيام الملايين من المستخدمين بالتمرير عبر الخلاصات يوميًا، يمكن للمدونين الاستفادة من هذه المنصات للوصول إلى مجموعات متنوعة وبناء علامة تجارية مذرة للربح. تلبي طبيعة أنستغرام المتمركزة حول العناصر المرئية احتياجات مدوني أسلوب الحياة والموضة، في حين أن تنسيق  X المختصر يناسب أولئك الذين لديهم ميل للتعليقات الذكية. لقد أدى تطبيق تيك توك، بمقاطع الفيديو القصيرة، إلى ظهور جيل جديد من منشئي المحتوى.

لقد حولت طرق تحقيق الدخل، مثل المحتوى المدعوم والتسويق التابع وعائدات الإعلانات، التدوين إلى مصدر مشروع للدخل. تدرك العلامات التجارية قوة المؤثرين في التواصل مع المستهلكين، مما يؤدي إلى شراكات مربحة مع المدونين الناجحين.

تعتبر مرونة هذه المهنة عامل جذب كبير. يمكن للمدونين إنشاء محتوى وفقًا لشروطهم، وتخصيصه وفقًا لاهتماماتهم وجدولهم الزمني. ومع استمرار سيطرة وسائل التواصل الاجتماعي على تفاعلاتنا الرقمية، فإن التدوين كمهنة لا يقدم مكافآت مالية فحسب، بل يقدم أيضًا منصة للتعبير الشخصي والتأثير في العالم الافتراضي.

لقد أصبح التدوين عبر وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة مربحة للعديد من الأفراد، لكن آثاره المالية تمتد إلى ما هو أبعد من مجرد الإعجابات والمتابعين.

يحتاج المدونون إلى إدراك أن الدخل الناتج عن أنشطة وسائل التواصل الاجتماعي يجب أن يخضع للضريبة. سواء كان ذلك من خلال شراكات العلامات التجارية، أو المحتوى المدعوم، أو التسويق بالعمولة، يجب الإبلاغ عن الأموال المكتسبة إلى السلطات الضريبية. قد يؤدي عدم القيام بذلك إلى عقوبات وعواقب قانونية.

بالإضافة إلى ذلك، قد يكون المدونون مؤهلين للحصول على خصومات معينة. من المحتمل أن يتم خصم النفقات المتعلقة بالمعدات والبرمجيات والأنشطة الترويجية وحتى جزء من تكاليف المكاتب المنزلية لخفض إجمالي الدخل الخاضع للضريبة. من الأهمية بمكان أن يحتفظ المدونون بسجلات دقيقة لنفقاتهم لإثبات هذه الاستقطاعات.

يعد فهم التصنيف الضريبي جانبًا حيويًا آخر. يجب على المدونين تحديد ما إذا كانوا يعملون كمالكين ذاتيين أو شركات ذات مسؤولية محدودة  أو أي هيكل قانوني آخر. ولكل هيكل آثار ضريبية مختلفة، واختيار الهيكل المناسب يمكن أن يؤثر على الالتزام الضريبي الإجمالي.

إن التدوين عبر وسائل التواصل الاجتماعي يقدم مكافآت مالية، ولكن يجب على المدونين أن يتنقلوا في المشهد المعقد للآثار الضريبية. إن طلب المشورة المهنية والبقاء على اطلاع باللوائح الضريبية يضمن الامتثال ويزيد الكفاءة المالية إلى أقصى حد في هذا الفضاء الرقمي سريع التطور.

في الختام، إن عالم المؤثرين الأذكياء، والمتابعين السذج، والمدونين على وسائل التواصل الاجتماعي، هو مشهد متعدد الأوجه له أبعاد أخلاقية ومالية وقانونية. لقد أدى ظهور المؤثرين إلى إعادة تشكيل الطريقة التي يستهلك بها الأفراد المعلومات ويتخذون قرارات الشراء. ومع ذلك، فإن المسؤولية لا تقع على عاتق المؤثرين فحسب، بل تقع أيضًا على عاتق المشاهدين، الذين يجب عليهم إجراء تقييم نقدي للمحتوى الذي يتلقونه. علاوة على ذلك، مع استمرار تطور التدوين عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى مهنة مشروعة، يجب على المؤثرين التغلب على تعقيدات الضرائب لضمان مهنة مستدامة وقانونية. يعد تحقيق التوازن بين مصالح المؤثرين والمشاهدين والسلطات التنظيمية أمرًا ضروريًا لتعزيز نظام بيئي رقمي شفاف وأخلاقي.

***

عبده حقي

 

القطاع الأكاديمى فى أوروبا شديد التعلق بلغة يعرف أنها ماتت واندثرت، لكنه حريص على إعادة إحيائها، وهى اللغة اللاتينية.. تلك التى انبثقت منها كافة اللغات الحديثة كالإيطالية والفرنسية والألمانية والإنجليزية والأسبانية.. هذا نوع من التشبث بالجذور والوفاء للأصول وإعادة إحياء للتاريخ..

وعندما استقر اليهود فى أرض فلسطين المحتلة بحثوا عن لغة مشتركة يتحدث بها كافة اليهود المهاجرين من شتى أنحاء العالم إلى فلسطين، فكان حرصهم الأكبر هو إعادة إحياء اللغة العبرية التى كادت تندثر لولا الجامعة التى بنوها كأول ما بنوا لتعليم وتعميم اللغة العبرية..

لقد انشطرت اللغات واللهجات وتعددت حتى وصل عددها اليوم إلى نحو سبعة آلاف لغة، بعضها قديم باقى وبعضها جديد.. والذى يحدث فى الحقيقة هو التطور المستمر للغات العالم والتحديث يتم فى صورة لهجات تتجدد وألفاظ تتحور خاصةً فيما يتداوله العامة من كلام يختلف شكلاً ومضموناً عن اللغة الأم الفصيحة.. يحدث هذا فى اللغة العربية والإنجليزية وكل اللغات.. فلماذا تندثر لغات بعينها؟ وكيف بقيت اللغات القديمة آلاف السنين؟ وهل نحن فى حاجة لإحياء لغات ماتت؟

المسموع يفنى.. والمكتوب يبقى

التاريخ يذكر أن الكتابة المسمارية هى أقدم اللغات المسجلة فى العالم، رغم أن لغات عديدة سبقتها منذ آدم عليه السلام.. ما يعنى أن التدوين هو الأساس لبقاء اللغة وحياتها وتطورها.. يحدث هذا حتى فى النصوص المقدسة والمخطوطات الدينية.. ففى حين توجد بعض نصوص اللغة السنسكريتية التى كتبت بها الفيدا فى العقائد الهندوسية.. فإن نصوصاً أخرى ذهبت واندثرت، مثل صحف إبراهيم وزبور داود..

على الناحية الأخرى نجد كتاباً كالإنجيل موجود فى أقدم مخطوطاته "المخطوطة السيناوية" مكتوباً باللغة اليونانية رغم أن المسيح عيسي عليه السلام تحدث شفاهةً باللغة الآرامية! فالمسموع يختلف عن المكتوب.. وفى حين بقى المكتوب، بات المسموع رهناً بمن يسجله!

إن أفضل ما فعله قدماء المصريين أنهم سجلوا تاريخهم كله باللغة المكتوبة، ولعلهم الأقوى فى هذا المضمار.. والبرديات المصرية وما تم تسجيله علىى جدران المعابد والمسلات كان كافياً لنعرف تاريخاً سجلناه اليوم فى مئات وآلاف المجلدات فيما يُعرف بعلم المصريات.. هكذا أعيد إحياء اللغة الهيروغليفية المكتوبة رغم موتها منذ آلاف السنين! بل إن بعض المحاولات أجريت لتحويل الهيروغليفية إلى لغة مقروءة ومسموعة بنفس الطريقة التى نطق بها أجدادنا المصريين!

أميرة اللغات

الإحصائيات العالمية تهتم بذكر أقدم اللغات وأوسعها انتشاراً اليوم.. وفيما جاءت اللغتان العربية والصينية فى القائمتين معاً.. فدعونا نبحث عن مزايا أخرى يجب أن تؤخذ فى عين الاعتبار..

إن من بين السبعة آلاف لغة المنطوقة على لسان 8 مليار إنسان، ثمة 40% منها مهددة بالانقراض والتحول إلى تراث شفاهى مندثر، لدرجة أن بعض تلك اللغات لا يتحدث بها إلا ألف شخص فقط!

اللغات الأكثر تداولاً بين الناس لا يزيد عددها عن 23 لغة.. لكنها أثبتت جدارتها واستمراريتها لا لأنها قديمة أو مكتوبة أو سهلة النطق، لكن لأسباب أخرى أشد عمقاً.. مثل أن تكون مرنة قابلة للتطور ومواكبة للعصر بشكل دائم، وأن تظل لغة مطلوبة جغرافياً ودراسياً وواقعياً .. وأن تظل الأجيال التالية حريصة على تعلمها والتقيد بها..

هناك لغات واسعة الانتشار اليوم لكن نطاقها الجغرافى يتقلص، والناطقون بها يقلون.. إما لأنها أصعب فى النطق أو التعلم، أو أنها لغة لم تعد تتماشى مع متطلبات العصر ، أو أن لغات أخرى كالإنجليزية حلت محلها بسبب أهميتها العالمية فى الحياة العملية والعلمية معاً ..

وإذا عدنا لعصر الجاهلية وما حظيت به اللغة العربية من اهتمام العرب، وباتت الأشعار تقال فى معارض وأسواق جامعة لأهل الجزيرة العربية كافة.. فإننا سنكتشف أن كل ما قالوه من أشعار وقصائد كان مهدداً بالاندثار لولا مجئ النبي محمد عليه الصلاة والسلام ونزول القرآن.. والتطور المذهل والسريع والشامل الذى لحق بتلك اللغة البارعة يعود مرجعه إلى القرآن الكريم.. فمن خلال أسراره وآياته ولغته المعجزة خرجت علوم بأكملها كالبلاغة والنحو والصرف والاشتقاق، وبسبب سهولة حفظه ونطقه واحتوائه على سر ربانى مكنون بات الملايين يحفظونه عن ظهر قلب وإن لم يجيدوا اللغة العربية ذاتها!

اللغة العربية لغة متكاملة عريقة قابلة للتطور باستمرار، تنصهر فيها كافة اللغات بسهولة ويسر، ويسهل على الجميع تعلم أساسياتها بسرعة.. وهى فوق هذا متنوعة فى مخارجها اللفظية حتى سموها لغة الضاد؛ إذ يوجد بحروفها كافة الحروف المنطوقة فى كل لغات العالم وأكثر.. وهناك عشرات اللهجات الحديثة المنبثقة من رحمها، ومازالت العامية العربية تتطور باستمرار دون أن يشكل هذا خطراً على اللغة الأصلية الفصيحة التى بقيت منطوقة ومكتوبة ومحفوظة فى ملايين القواميس والمصادر والمراجع فى كل أنحاء العالم.. وإذا بحثت عن لغة تحوى كافة المزايا التى تجعلها تتربع على عرش لغات العالم فإن من الإنصاف أن تكون العربية هى تلك اللغة.

اللغة كمصدر للثروة والقوة

من بين صحابة الرسول الكريم، جاء زيد بن ثابت كأحد أهم الشخصيات المؤثرة فى تاريخ الإسلام.. ومن بين أسباب ذلك أنه كان مترجماً للرسول فى دعوته لكل من حوله من بلدان تتحدث لغات مختلفة كالعبرية والسريانية والرومانية وغيرها.. معنى هذا أن تعلم اللغات موهبة يمتاز بها البعض عن الآخرين.. وكان زيد بن ثابت يتعلم اللغة ويجيدها كأهلها فى زمن لا يزيد عن أسبوعين فحسب!!

وفى مقاطع اليوتيوب المنتشرة مقطع لشاب قيل إنه يجيد التحدث بما يزيد عن عشرين لغة! وهذا أمر متاح الآن أكثر من أى وقت مضى.. وثمة مهن ووظائف عالية الأجور تعتمد على إجادة الشخص لعدد من اللغات نطقاً وكتابة.. هكذا أصبح تعلم اللغات أمراً أساسياً لا غنى عنه فى أغلب مناهج العالم.. لكن هناك سر آخر من أسرار اللغة يجعلها مصدراً للقوة والهيمنة..

هذا السر نكتشفه من آخر إحصائيات ذكرت سرعة انتشار تدريس اللغة الصينية خارج الصين، فيما بدأ تدريس اللغة الفرنسية والألمانية يقل بشكل ملفت لأسباب أكثرها سياسي.. ولعل النبأ الذى يقول إن الجزائر قد منعت تدريس اللغة الفرنسية فى مدارسها يعطينا تصوراً عن تأثير السياسة العالمية على انتشار أو اندثار أو تقلص دور إحدى اللغات الرسمية العالمية.. هذا معناه أن اللغة ذاتها قد تُستغل كمصدر للقوة أو تُستخدم لجلب المال والثروة .

اللغات الموازية

ينفى الباحثون أن تكون ثمة لغة أصلية قديمة جامعة.. ويقولون إن تعدد اللغات أمر موجود منذ البداية، كما وجد الإنسان الأصفر والأسود والأبيض والقوقازى مختلفين منذ نشأتهم الأولى! وإذا كان التطور المستمر للغات لضرورة التفاهم بين البشر انقسمت وتكاثرت حتى بلغت سبعة آلاف لغة.. فقد نشأت لغات أخرى للتفاهم النوعى الخاص بين فئات بعينها.. إنها اللغات الكودية أو الرمزية أو المطلسمة..

مثلاً عالم السحر يعج بألفاظ ورموز لا يفهمها إلا مقتحموه.. وعالم المخابرات يعتمد فى أساسه على لغة التشفير والأكواد غير القابلة للحل والفك.. وأهم لغة باتت مطلوبة عملياً اليوم هى لغة الكمبيوتر فيما يسمى بلغات البرمجة.. تلك أنواع من اللغات الموازية المستخدمة فى أوساط خاصة، لكنها تحظى بنفس الاهتمام وبنفس القدرة على التحور والتطور من أجل مزيد من الاستفادة العامة..

إن اللغة فى حقيقتها ليست إلا جسر للعبور بين العقول والأفكار المختلفة، ولاشك أن حركات الترجمة عبر التاريخ أسهمت فى تطور البشرية.. وقد قيل فى الحكمة القديمة إن من عرف لغة قومٍ أمن شرهم.. وإذا كان ثمة رسالة أخيرة لهذا المقال فهى أن نفتخر أيما فخر باللغة العربية، وأن نحرص أيما حرص على تعلم كل ما نستطيعه من لغات العالم الرسمية أو الموازية..

***

د. عبد السلام فاروق

قال (ذو القروح) وهو يحاول الخروج من عباءة جدليَّاته المعتادة حول المرأة والنِّسويَّة:

ـ هل تعلم أنَّه قد زُعِم في تراثنا أنَّ لـ(أبي الوفاء علي بن عقيل بن محمَّد بن عقيل الحنبلي، 431- 513هـ= 1119- 1040م)، كتابًا بعنوان "الفنون"، جاء في 800 مجلد، وقيل إنَّه أكبر كتاب في الدنيا! غير أنَّ ما بقي منه وطُبع في العصر الحديث هو في نحو 800 صفحة فقط! ويبدو ذلك المطبوع هو الكتاب كاملًا، وإنْ زُعِم أنَّ بقيته إنَّما ضاعت.

ـ بل هو أكبر مؤلَّفٍ فرديٍّ في التاريخ، إنْ صحَّ ما وردَ عنه! كيف تفسِّر ذلك؟

ـ بداية لا بدَّ من إدراك مفهوم (مجلَّد) في التُّراث، أو (مجلَّدة). فهو مِثل مصطلح (كتاب)، الذي قد يشير قديمًا إلى رسالةٍ شخصيَّة، أو كُتيِّبٍ صغير، أو مؤلَّفٍ كبير. غير أنَّ مُقدِّسي السَّلَف تعجبهم مثل هذه المبالغات. وإلَّا فإنْ صحَّت الرواية، فهي إنَّما تعني 800 صحيفة. ولو أعمل هؤلاء عقولهم، لأدركوا أنَّ تأليف 800 مجلَّد، بما تعنيه كلمة مجلَّد من معنى في الأذهان اليوم، حديث خرافة، حتى لو أنَّ المؤلِّف إنَّما كان ينسخ تلك المجلَّدات نسخًا، ولا يؤلِّفها تأليفًا. لأنَّ ذلك بمنطقٍ حسابيٍّ يعني أنَّه كان يُنجِز سنويًّا تأليف أكثر من تسعة مجلَّدات، وأنَّه قد بدأ هذا منذ ولادته! أي إنَّه يؤلِّف في كلِّ شهرٍ من حياته مجلَّدًا تقريبًا، خلال عمره، 82 سنة، من 431- 513هـ. ولكَم في تراثنا من أحاديث خرافة، يا أُمَّ عمرو؟!

ـ أُمُّ عمرو غير موجودة! ولكن ما الجديد؟

ـ لا جديد سِوَى تقديس السَّلَف.

ـ كيف؟

ـ سأضرب لك مثلًا تاريخيًّا وعالميًّا مشهورًا.

ـ اضرب، يا عمِّي، ولا يهمك!

ـ الزَّعم بألوهيَّة البَشَر.

ـ أ إلى هذا الحدِّ يمكن أن يصل عقل الإنسان؟!

ـ أجل، فيتفوَّق على الحيوان في خبَله! وإذا طرحنا هذا السؤال حول أشهر إنسان مؤلَّه في التاريخ، وهو السيِّد المسيح، لزم أن نسأل: آليهود هم من اصطنعوا ألوهيَّته، ليُفسدوا دِيانة النَّصارى بأفكارٍ وثنيَّةٍ وخزعبلاتٍ أُسطوريَّةٍ تُناقض العقل والدِّين معًا؟

ـ أ وليست بداية هذا التصوُّر عن المسيح ومنطلَق العقيدة العجيبة فيه من قِبَل (بولس الرسول)؟

ـ بلى. ولكن مَن بولس هذا؟ لقد كان يهوديًّا، يضطهد المسيحيِّين ويلاحقهم. وربما كانوا يُسمُّونه (شاوُل)، ثمَّ، وبقدرة قادر، تاب الله عليه، فتحوَّل إلى مبشِّرٍ بـ(يسوع)، وذلك في عام 43م، بعد رؤيةٍ مناميَّةٍ رآها! وهو مؤسِّس عقيدة أنَّ "المسيح ابن الله"!

ـ وما زالت الرُّؤى والمنامات تُشكِّل بعض العقول والأحداث!

ـ أجل! ولقد وجدتُ (جلال الدِّين الرومي) يشير إلى ما يشبه هذه الفكرة، من خلال أُقصوصةٍ تحت عنوان "حكاية الملك الذي كان يقتل النصارى بسبب تعصُّبه". حيث جعل يُصوِّر كيف أنَّ وزير الملك استطاع إقناعه بأن يمكر بالنصارى؛ لتحريف دِينهم، من خلال هذا الوزير، بأن يلعب بينهم دورًا يُشبِه دور المسيح الدجَّال، وكأنه (بولس الرسول).(1) وتلك أُقصوصة اعتباريَّة تتكرَّر مع الأديان، والعقائد، أو الجماعات التي تربطها روابط أرضيَّة أو غيبيَّة.

ـ كلُّ مصائب البشريَّة ظلَّ يعزوها النموذج النمطي في التحليل والاستدلال إلى اليهود.

ـ لا تنس هنا أن مثل تلك المحاولة "البولسيَّة" قد وقع كذلك في الإسلام، في ما نُسِب إلى (عبدالله بن سبأ)، من ادعائه ألوهيَّة (عليِّ بن أبي طالب)، كما تروي الحكايات التاريخيَّة المشتهرة؟

ـ مهما يكن، وبغضِّ النظر عمَّا يُنسَب إلى (بولس) و(عبدالله بن سبأ)، فإنَّ تأليه الإنسان يبدو نزوعًا وثنيًّا قديمًا.

ـ هذا صحيح. وقد ظهر قبل هذا وذاك في وادي الملوك بـ(مِصْر)، أُمِّ الدُّنيا وأُمِّ الأديان القديمة.

ـ ونحن نعرف في هذا السياق أيضًا قِصَّة الإلٰهة (إيزيس) العذراء الأُسطوريَّة التي تلد (حورس)، بلا زوج، فيصبح إلٰـهًا، في اعتقاد المِصْريِّين القُدماء.

ـ وعلى ذِكر الفراعنة، ما زلنا نقرأ الآيتَين القرآنيَّتَين: "وَقَالَ فِرْعَوْنُ: يَا هَامَانُ، ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ،‏ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ؛ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَٰهِ مُوسَى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا"‏(2)، ونقرأ الآية الأخرى: "وقَالَ فِرْعَوْنُ: يَا أَيُّهَا المَلَأُ، مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي، فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ، فَاجْعَل لِـي صَرْحًا؛ لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَٰهِ مُوسَى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ"(3)، ولا نُدرِك المعنى.

ـ ماذا تقصد؟

ـ كيف سيبني (هامان) صرحًا لفرعون؟

ـ ثمَّ كيف سيبلغ ذلك الصرح درجة اطِّلاع فرعون إلى إلٰه (موسى)، مهما بلغ ارتفاع الصرح في السماء؟!

ـ التصوُّر السائد تصوُّرٌ طفولي، وكأنَّ فرعون إنسانٌ أحمق حين يطلب مثل ذلك الطلب! وأنت حين تعود إلى كُتب التفسير، لا تجد تفسيرًا معقولًا. ولقد ساق (الطبري)(4) تفسيرًا ينبني على ظاهر الآيات من جهة، وعلى بعض المرويَّات الإسرائيليَّة- كالعادة- من جهةٍ أخرى(5)، فتُظهِر فرعون في صورةٍ فكاهيَّةٍ لحاكمٍ معتوهٍ بالفعل. قال: "فذُكِر لنا أنَّ هامان بنَى له الصَّرح، فارتقَى فوقه... فأمرَ بِنُشَّابةٍ فرمَى بها نحو السماء، فرُدَّت إليه وهي مُتلطِّخةٌ دمًا، فقال: قد قتلتُ إلٰه موسى، تعالى الله عمَّا يقولون!" وهو ينقل هذه الأُقصوصة الفكاهيَّة لتفسير الآيات القرآنيَّة مطمئنًّا إليها، عن بعض يهود! وقد ظلَّ هذا التصوُّر الساذج، حتى جاء بعض علماء المِصْريَّات المعاصرين ليتوصَّلوا إلى أنَّ الأهرامات لم تكن مدافن موتَى أساسًا، وإنْ استُعمِلت لذلك أحيانًا، بل كانت بمثابة مراصد فلكيَّة.(6) ومن هنا قد نستطيع الآن فهم الآيات فهمًا جديدًا. فلعلَّ هذا ما كانت تشير إليه في طلب فرعون من هامان؛ إذ أراد أن يستكشف الكون، بحثًا عن علامات حِسيَّة على الإلٰه المزعوم من (موسى).

ـ ماذا عن غير المِصريِّين؟

 ـ ظهر تأليه الإنسان لدى غير المِصريِّين في مختلف أصقاع الأرض تقريبًا. ومن هذا تلك الأساطير الهنديَّة المتعلِّقة بالإلٰه (كريشنا).(7) على أنَّ هجرات الأديان في العالم، وتناسلاتها، ودوَّامات تشكُّلاتها، بلا حدود. وما أكثر ما تتشابه، أو يقتبس بعضها من بعض!

ـ غير أنَّه- وَفق معايير البحث المقارن- يغدو من التسرُّع غير العِلمي القطع بأصلٍ، ما لم تقم قرائن تاريخيَّة بينه وبين ما يُظَنُّ من تفرُّعاته، حسب المدرسة الفرنسيَّة التقليديَّة في الدرس المقارن.

ـ وإذا كانت القرائن التاريخيَّة شرطًا منهاجيًّا في مقارنات الآداب، على سبيل المثال- التي لا تعدو تجارب فرديَّة أو اجتماعيَّة أو قوميَّة محدودة، تظلُّ لها شخصيَّاتها المستقلَّة نِسبيًّا، ومكوِّناتها العائدة إلى تجارب زمكانية محدَّدة- فإنَّ ذلك آكَدُ في مجال مقارنة الأديان. هذا إنْ أجدَى نفعًا مثل ذلك الشرط المنهاجي في الخروج من تلك المتاهة الأزليَّة بنتائج شِبه عِلميَّة يمكن الركون إليها؛ وذلك للطبيعة الزئبقيَّة الموَّارة للموضوع، فضلًا عن غياب الوثائق المادِّيَّة، التي تستحق هذا الاسم.

***

.................................

(1) انظر: الرومي، جلال الدِّين، (1966)، كتاب المثنوي، تحقيق: محمَّد عبد السلام كفافي، (صيدا- بيروت: المكتبة العصريَّة)، 103- 111.

(2) سُورة غافر: الآيتان 36- 37.

(3) سُورة القصص: الآية 38.

(4) (2001)، تفسير الطَّـبَري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، (القاهرة: دار هجر)، 18: 256.

(5) ولقد غرسَ اليهودُ في العَرَب عُقدة النقص هذه منذ الجاهليَّة؛ بوصفهم إيَّاهم بأنَّهم أُمِّيُّون، وليسوا بأهل كتاب. ويبدو أنها بقيت هذه العُقدة بعد الإسلام، وبعد مجيء الكتاب المهيمن؛ إذ ظلَّ المسلمون ينظرون إلى اليهود نظرة إجلال؛ لتوهُّم عِلْمهم الكِتابيِّ القديم، الذي لا سبيل إليه إلَّا عن سبيلهم. بل لعلَّ تلك العُقدة قد تفاقمت بعد الإسلام لأسباب دِينيَّة أخرى. ولهذا لا غرابة أن يتكئ المؤرِّخون على الإسرائيليَّات، بل يتكئ المفسِّرون عليها لتفسير "القرآن"، وكثيرًا ما كان المؤرِّخ مفسِّرًا والمفسِّر مؤرِّخًا؛ لأن البضاعة الإسرائيليَّة تصلح لديه لهذا وذاك. ومن هنا، مثلًا، كان المرجع العُمدة لدَى ("الإمام" أبي جعفر محمَّد بن جرير الطبري)، في كثيرٍ ممَّا يرويه عن الغيبيَّات وبدء الخلق: (عبدالله بن سلام)، و(كعب الأحبار)، و(وهب بن منبِّه)، وأضرابهم؛ فهم، بحسب نعته إيَّاهم: "السَّلَف من أهل العِلْم"!

(6) يُنظر، مثلًا: صحيفة "الوطن" المِصْريَّة، الأحد 17 نوفمبر 2019:

https://www.elwatannews.com/news/details/4424356

(7) لمزيد تفصيلٍ يمكن للقارئ العودة إلى كتاب:

Doane, Thomas, (1882), Bible Myths and their Parallels in other Religions, (New York: The Commonwealth Company).

 وكذا كتاب: (التَّـنِّير البيروتي، محمَّد الطاهر بن عبد الوهاب بن سليم (-1352هـ= 1933م)، (1989)، العقائد الوثنيَّة في الدِّيانة النصرانيَّة، تحقيق ودراسة: محمَّد عبدالله الشرقاوي، (القاهرة: دار الصحوة). أمَّا الآلهة في "العهد القديم"، فحدِّث ولا حرج! (انظر: فريزر، جيمس، (1972)، الفولكلور في العهد القديم، ترجمة: نبيلة إبراهيم، مراجعة: حسن ظاظا، (القاهرة: الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب).

 

بحدود اطلاعي ومعرفتي المتواضعة، فإنَّ قراءة تحليليَّة لفكر علي الوردي، ومراجعة نقديَّة جادة لطروحاته، لم تتم حتى الآن، فالرجل دخل نادي المقدسات عند الكثير من القرَّاء والباحثين والطلبة الذين باتوا يرددون بعضَ مقولاته الاجتماعيَّة كما لو كانت نصوصاً مقدسة. والحقيقة أنَّ الرجل مثله مثل أي عالمٍ كبيرٍ متواضع، لم يكن ينظرُ إلى نفسه هكذا طيلة حياته، بل أنَّه كان كثيراً ما يعترف بالخطأ في بعض الاستنتاجات، ويعلنُ بشجاعة العلماء التراجعَ عنها.2036 مفارقات وأضداد

وبعد أكثر من نصف قرنٍ من تفتح عينيه وهو فتى بعمر 15 عاماً، على الجزء الأول من كتاب الوردي" لمحات اجتماعيَّة في تاريخ العراق الحديث"، يعود عبد الجبار الرفاعي لقراءة كاتبه المفضل الذي انجذب مبكراً إلى عقله النقدي، وطريقة تفكيره، وواقعيته، "واهتمامُه بالمهمَّش والمهمَل واليومي في المجتمع"، قراءة جديدة فاحصة ناقدة في الفصل الأول من كتابه الجديد: "مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث". وكذلك كان الأمر مع علي شريعتي الذي اطلع على آثاره الصادرة بالفارسيَّة قبل أكثر من ثلاثين عاماً في كتابه الأسبق: "الدين والظمأ الأنطولوجي". بل أنَّ الرفاعي يعقد مقارنة بين الاثنين، موضحاً البونَ الشاسعَ بين الرجلين، بينما يتوهم الكثيرون، أنَّ الوردي قد سار على خطى شريعتي في بعض طروحاته الدينيَّة والسوسيولوجيَّة، وأنَّه قد أخذ منه بعض الآراء وتأثر بها. لكنَّ قراءة الرفاعي الجديدة لكلا المُفَكِرَين تبين بوضوحٍ تامٍ الفرقَ بينهما، ففي حين كان الوردي مثقفاً نقدياً خرج من المجتمع والأيديولوجيات السياسيَّة، فإنَّ شريعتي كان مثقفاً أيديولوجياً، فأعمال الوردي تسودُها "عقلانيَّة نقديَّة لا تخلو من انطباعات ذاتيَّة، وما يسود أعمالَ شريعتي التبشيرُ بأيديولوجيا الثورة".

"المثقَف النقدي غير المثقّف الأيديولوجي" وبذلك يضع الرفاعي كلاً من الوردي وشريعتي في ميزانه الفاحص، وهو لا يرغب بأنْ يقسو كثيراً على أول من قرأ له بدهشة القراءة الأولى، والإطلالة الأولى على عالم المدينة في الشطرة التي عاش فيها ثلاث سنوات طالباً، وفيها اكتشف عالم علي الوردي، لكنَّه يشيرُ إلى افتقار الوردي إلى تكوين في الفلسفة، وعلم الكلام، وأصول الفقه، والتفسير، والحديث، والتصوف، وغيرها من علوم الدين التراثيَّة، يماثل خبرته الواسعة "بثقافة المجتمع العراقي وتقاليده وأعرافه وفولكلوره، وتاريخه في القرنين الأخيرين"، لذلك فإنَّ بحثه في شخصيَّة الفرد والمجتمع العراقي "لم يتوغل في الحَفر ليصل إلى البنى الدينيَّة والأنساق الاعتقاديَّة المترسخة في اللاوعي الجمعي".

وإذا كان شريعتي "مثقفاً رسولياً، كرّس جهوده لترحيل الدّين من الأنطولوجيا إلى الأيديولوجيا"، فإنَّ علي الوردي كان يمثل بذرة "المثقّف الديني النقدي"، وكان أول مثقفٍ ديني عراقي تُجهض ولادته.

لم يدخل علي الوردي في معركة مع الله. هكذا يقرر الرفاعي في دراسته المقارنة المثيرة بين الوردي وعلي شريعتي.

***  

د. طه جزّاع - أستاذ فلسفة بجامعة بغداد

 

التاريخانية في مشروع الدكتور عبد الله العروي

عندما يطل الدكتور عبد الله العروي على القارئ تتولد لديه على التو فكرة الدقة في اختيار التوقيت الزمني وحساسية المرحلة ارتباطا بحاجة الواقع المغربي والعربي إلى تحليلات من طينة تحليلاته الحكيمة والرصينة. إنه من رواد المفكرين في مجال النهضة العربية. لقد شخص بكل تفصيل عوائق تسريع النماء الثقافي والمادي في المنطقة الممتدة من الخليج إلى المحيط. لقد ركز بما فيه الكفاية على واقع الطبقة العربية السياسية والثقافية، وخصص لذلك حيزا كبيرا في كتاباته وتحليلاتها الرصينة. انصب اهتمامه أكثر على النخبة إبان الاستعمار وخلال الاستقلال ليضع آلة المكبر الإلكتروني الفاضح على مرحلة انتقالية فرضتها إخفاقات الماضي وانحرافات الحاضر.

العروي يعد من كبار رواد التاريخانية. تحدث عنها بإسهاب هادفا أن ينير عقول المتتبعين لفهم معنى التاريخ. لقد أضاف لهذا الأخير الفلسفة لفهم الدلالات والرموز واستنباط العبر النافعة للحاضر والمستقبل، معتبرا توجهه التوليفة المناسبة لفهم الفكر التاريخي. وبذلك، فهو يخالف التوجه الفكري الذي ينطلق من الفلسفة ويطعمها بالتاريخ. أبدع في تقنيات البحث التاريخي بدون الاقتصار على كونه كتابة فقط، بل توسع في برهنة كونه رواية أو قصة واقعية يراد استنباط العبر والحقيقة منها، وبالتالي تحويله إلى مدرسة سياسية تعتمد الكتابة الفنية وصناعة مبنية على المادة التاريخية كالوثائق المكتوبة والمخلفات الأثرية والمادية، والمصورات، والفنون، والنقوش على الجدار ...إلخ.

التاريخ بالنسبة للعروي علم يعتمد البحث المختبري، ويصبوا لإنتاج الفكرة الصائبة الحقيقية عن التطوير التاريخي، وبالتالي إنتاج المنفعة منها باعتمادها في كل التحليلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. مادته هي الرواية التاريخية التي تستدعي التمحيص والنقد العلمي من أجل تشريح علاقة الإنسان بالطبيعة وما نتج عنها من آثار في معيشته وحضارته، منبها أن ما يميز التطور التاريخي هو كونه مفهوما بعديا وليس قبليا. المراد من الدراسة التاريخية هو البحث في تطوير البنية المؤسساتية والسياسية والاقتصادية والمالية لمجتمع معين مع وضع المصلحة الراهنة للفرد والجماعة كأولوية الأولويات. المصلحة نقاش في زمانها ومخاطر الانفتاح عن المجهول تأتي في مرحلة تالية. في هذا السياق، تجربة الليبرالية حافلة بالدروس. انتصرت في مطلع التسعينات وتم إعلان بداية نظام عالمي جديد، وحققت المنافع والمصالح للأفراد والجماعات غربيا، ووصلت إلى مرحلة الإشباع، وانفتحت عن المجهول في سياق دولي تبحث قواه عن آفاق جديدة وتوازنات مرحلية (ما قبل الحداثة- الحداثة- ما بعد الحداثة والانفتاح عن المجهول).

إن النظرية التي يعتمدها عبد الله العروي في تحديد مفهوم التاريخ ما هي إلا تفسيرا تاليا لما آلت إليه التجارب التاريخية. إنه توجه فكري يعتمد نظرة معرفية عميقة عن المجتمع والدولة والحرية والعقل والإيديولوجيا. إنه يربط التاريخ بفهم النتائج المتولدة عن تحليل المادة التاريخية. التاريخانية، بتركيزها على السياسات الفعلية ومنطق ممارسة السلطة، لها نظرة شمولية وتحليلية تضع المنفعة أو المصلحة الآنية للإنسان في أعلى المراتب. إنها الفهم الكلي التفصيلي للحقائق التاريخية الذي يخدم الحاضر ويتكهن بمؤشرات علمية الآفاق المستقبلية. المتخصص في الحفريات مثلا له نظرة خاصة عن التاريخ. إنه ينظر له نظرة اثنوغرافية انتروبولوجية لا علاقة لها بالسياسة الفعلية. نفس الأمر ينطبق على المتخصص في مادة اللاوعي الذي له نظرة معينة للأزمنة التاريخية، بحيث يهتم بالخيال العربي، وحلم الفرد العربي، وتاريخ الفن والطرب.

***

الحسين بوخرطة

القراءة للدكتور عبد الجبار الرفاعي فيها من الغنى والرحابة الكثير. ميزة كل كتاباته تكمن في اقتران العقلانية النقدية مع حضور الوجدان الإنساني العميق. أنت دائماً ما تخرج بعد أن تقرأ له متصالحاً مع ذاتك، متحرراً من الانفعال بوصفه غريزة انحطاط، ومتبصّراً بحكمة ورويّة للواقع حولك. الواقع الذي يشكّلك بمقدار ونوعية تفاعلك معه.كيف نتفاعل مع هذا الواقع لنطوّر ذاتنا ونحسنها ضمنه، ولنطوّره بالتالي معنا. هذا الجهد الذي لا يتوانى الدكتور عبد الجبار عن الاشتغال به هو سعيٌ في سبيل العمران. فرقٌ بين ناقد يفكّك ليهدم وناقد يبني ويعمّر ويرمّم ويجمّل. فرقٌ بين فكرٍ يستثير فيك الغضب لأجل الرفض وحده، وبين فكرٍ يجعل من الرّفض حالة حُبّ على طريق الارتقاء الإنساني ككل. كما فرقٌ بين فكرٍ يجعل المعتقد به يعيش الإحساس بالدونية في ذاته، وبالخجل مما هو محاط به، وبين فكرٍ يذكّرك بألا تجرح ضمائر من هم حولك، وألا تتنكّر لما ومَن شكّلك في طفولتك وشبابك وعلى طوال الطريق، وشكّل شخصيتك وفكرك وما أنت عليه. اقتران حالة الرفض بحالة الرضا مفارقة، لكنها صنعةٌ جميلةٌ جداً، والأهم أنها ولّادة للارتقاء بالواقع لا للاغتراب عنه، وإن تباعدت أفكارك عن الأفكار التي يحملها من حولك.

لقد كتب الرفاعي في مرحلة مليئة وعاصفة بالتناقضات، وكان الإقبال على كتاباته كبيراً. لكني أعتقد، كل الاعتقاد، أن الحاجة لقراءته ستزداد أكثر مع تقادم الأيام والأحداث، وأن كتبه "ستمكث طويلاً في ذاكرة المكتبة". من خلال مراقبتي أقله لشبكة علاقاتي مع الشباب من حولي، بتّ ألحظ نوعاً من اليتم عند بعض الشباب الذي تغرّب عن مجتمعه وسعى للتمايز عنه (طبعاً ثمة فئة ما عادت تحمل هذا الهمّ أساساً وما عادت مسألة الإيمان ملحّةً عندهم). مع الوقت، جزء معتبرٌ من هؤلاء الشباب، خصوصاً من يسافر منهم، يتوازنون على إثر ما يرونه، وعلى إثر تفاعلهم مع الآخر/الأنا المستجد. حالة التوزان هذه أو الميل لها ستجد ضالّة لها في كتابات الرفاعي. وهنا ميزة جديدة، أنك تستطيع أن تقرأ له في كل حالاتك، وفي كل مرة ستسفيد، وستصلك خلاصات جديدة بعد قراءتك التالية وفقاً لتفاعلك الجديد مع المحيط، الذي سيهديك إلى تفاعل جديد مع النص.

هذا ليس نصاً من قبيل المديح الشخصي. هي كلمات أملاها الإحساس بالمسؤولية أمام جيل اليوم والغد، ممن يعيش او سيعيش مشاعر اعتراضية على الحالة الدينية، يتبعها تيهٌ وغضب. هذه الفئة لا بدّ وأنها ستزداد اتزاناً عندما تقرأ للدكتور عبد الجبار، وهي التي سترتاد نصوصه في ظلّ عالمٍ هو حتماً مقبلٌ على المزيد من المشاكل والخضّات والتساؤلات والأحداث السالبة للأمان واليقين... حينها، من الجيّد الانفتاح على أنّ الدين كما يقول الرفاعي: "ظاهرة حياتية تعبّر عن أعمق متطلبات الوجود والكينونة"، وأنه: "لن يتراجع عن أن يواصل حضوره المزمن المتنوّع في الاجتماع البشري"، كما أنه "الظاهرة البشرية الأشد غموضا في الحياة، وإن كانت تبدو فيه الأشد وضوحاً. ولولا غموضها لما بقت منذ فجر التاريخ حتى اليوم". وأنّ أغلب حالات "الاغتراب والعدمية هي احتجاج عالمي على قبح العالم". كما من الجيد الغوص مع الدكتور الرفاعي في رحلة الاحتجاج على اختزال الدين في المدونة الفقهية، ورحلة الحرص على"عدم ترحيله من حقله الروحي المعنوي القيمي الأخلاقي إلى حقل آخر يتفوّق فيه القانون على الروح، ويصبح الدين فيه ايديولوجيا سياسية صراعية، أيديولوجيا تهدر طاقاته الرمزية والجمالية والروحية والمعنوية"، واستدراك الرفاعي بأنّ: "ثقافةً لا تتشبّع بالفلسفة ولا تتذوق العرفانَ تظلّ فقيرة، تحاول أن تغطي فقرَها بفائض الألفاظ. مثلُ هذه الثقافةِ تجهل الحاجةَ للدين، وتعجز عن رؤية أعماق الحياة الروحية"... والتّنبّه إلى أنّ "كثرة الكلام في الدين وثرثرة معظم الجماعات الاسلامية ورجال الدين تتورط في نسيان الإيمان"، وقراءة أن" فشل الإسلاميين في بناء الدولة يعود إلى عجز معظمهم وقصورهم عن إدراك الجذور العميقة للدولة الحديثة. لأنهم يفكرون في مرحلة ما قبل الدولة لذلك يحرصون على استدعاء القبيلة وقيمها وتشكيلاتها العميقة". ومعرفة أن" المأزق يكمن في الأسس ومناهج التفكير والنظر والأدوات المتوارثة المنتجة للتفكير الديني في الإسلام"، وأنّ "معقولات العقل كائنات تاريخية، لحظة يكرر العقل نفسه لم يعد عقلا"... وأن "الفلسفة الحديثة والمعاصرة وفلسفة العلم والفيزياء الاحتمالية جميعها أشادت المعرفة والعلم على الاحتمال. تاريخ العلم مقبرة نظريات علمية".

الخوف، كلّ الخوف، أن تهدر طاقات الحياة عند الجيل الذي ينفتح على الكثير من المشاكل والتساؤلات والتناقضات. الخوف أن يتحول الإنسان الناقد إلى كائنٍ رافضٍ منعزلٍ يتعاطى مع محيطه بفوقية وازدراء، لأنه" اهتدى" إلى ما يناقض أفكار هذا المحيط، أو لأنه أدرك ما فيه من ثغرات تحول دون النهوض والتطور والعيش الواقعي لا الميثولوجي. قد يقول قائل إن الرفض بكلّ أشكاله وبتعددها، ومع تظافر هذه التعددية، سيولّد تحولاً وتغيراً منشوداً في النهاية. وقد يكون هذا واقعاً، لكني أرى أنه مكلفٌ للغاية، إذا كان عنيفاً وذا صفة اغترابية انعزالية، وأول هذه الكلفة تكريس النزعة العنيفة في هذا العالم.كثيرون ممن ينتقدون التجليات العنيفة لبعض أشكال التدين ينتهي بهم المطاف إلى أنهم يكشفون الغطاء عن التجليات العنيفة للاتديّن أيضاً. تطرّفٌ وتطرّفٌ مضادّ، ينبغي ترشيده بمساعي إعادة التوازن، ومما لا شكّ فيه أن كتابات عبد الجبار الرفاعي تشكل مسعىً هاماً في هذا الإطار، بالشكل الذي يمكن أن يقرأ له كلّ من امتلك نزعة الانصاف والتوازن، وابتعد عن مصيدة التصنيفات والتعميمات.

***

ملاك عبد الله - كاتبة لبنانية

 

منذ بداية القرن العشرين، حصل 1000 من الشخصيات البارزة على «جائزة نوبل»، من بينها 4 حالات فقط، منحت الجائزة لزوج وزوجته بصورة مشتركة. لكنها منحت مرتين أخريين لكل من الزوج والزوجة على انفراد. وكان هذا في 1974 حين منح البروفسور غونار ميردال «جائزة نوبل التذكارية» في الاقتصاد، ثم منحت زوجته ألفا «جائزة نوبل» للسلام عام 1982.

غونار ميردال واحد من أعلام الدراسات الاقتصادية المعاصرة. لكنه كتب وتحدث أيضاً في علم الاجتماع، وطرق أحياناً أبواب الفلسفة والتاريخ. وأظن أن اهتمامه بعلم الاقتصاد على مستوى الدولة، قد كشف له عن نقاط التعارض بين ما يصنف نفقات عامة، وما يعد استثماراً في الجيل القادم، من أجل ضمان مستقبل البلاد.

كانت السنوات التالية لنهاية الحرب العالمية الثانية (1939-1945) قد شهدت جدالات واسعة بين تيارين في السياسة الأوروبية، يدعو أحدهما إلى «دولة الرفاه» التي تضمن للمواطن الخدمات الأولية الضرورية كافة، بينما يدعو الثاني إلى «دولة الحارس الليلي» التي يقتصر دورها على حفظ الأمن الاجتماعي وتمثيل البلاد في الخارج. واختار ميردال النموذج الأول، لأنه - أولاً - يؤمن بأن العدالة الاجتماعية تتحقق من خلال التوزيع العادل للثروة، وأن هذا يعني تحديداً قيام الدولة بتوفير الحاجات الأساسية، التي لا يستطيع الناس توفيرها بمفردهم، مثل التعليم الأساسي والصحة وأمثالهما. لكن مجادلته الأساسية تكمن في المبرر الثاني، وهو اقتصادي بحت، خلاصته أن توفير الحاجات الأساسية للمواطنين، ولو من خلال زيادة الضرائب، أشبه بالمال الذي يستثمره التاجر أو الصانع، كي يربح لاحقاً. حين توفر الدولة الخدمات العامة الأساسية، فإن الكفاءة الإنتاجية للمجتمع سترتفع، ويرتفع تبعاً لها الدخلان القومي والفردي، لا سيما عند الأجيال الآتية.

يرجع اهتمامي بالأستاذ ميردال إلى دراساته القيمة عن اقتصاديات النمو، لا سيما الأرضية الاجتماعية للاقتصاد وملاحظاته على العلاقة بين الثقافة والاقتصاد، في كتابه الشهير «الدراما الآسيوية: تحقيق في أسباب فقر الأمم». وأريد الإشارة بالخصوص إلى رؤيته حول دور التعليم في صناعة السوق، وهي تخالف - من حيث المبدأ - الرأي القائل بأن على التعليم أن يعمل بحسب حاجات السوق. والذي يبرره أصحابه بأن الشباب يتعلم كي يضمن وظيفة، فلا بد له أن يكيف دراسته، على النحو الذي يريده أرباب الأعمال. هذه الرؤية جزء من منظور أوسع يركز على الإنتاج وكسب المال كغاية. لكن ماذا عن الغاية الأعلى، أي الإنسان نفسه؟.

يبدو لي أن الجدل في الفكرة سيقودنا إلى نوع من الدوران في حلقة مفرغة. فسواء أخذنا بهذا الرأي أو ذاك فسوف نصل إلى الثاني، إما كوسيلة أو كغاية. ومن هنا فإن المسألة مجرد جدل لفظي. لكن الجانب الذي يستحق الاهتمام هو حقيقة أن التعليم استثمار في العقول. وأن العقول الناضجة بذاتها مصانع للثروات، وليست مجرد خبرات تؤجر لرب عمل ما. تؤكد هذا المعنى تجربة بنغالور، المدينة الشهيرة بأنها وادي السليكون الهندي، فقد تجاوزت صادراتها من الخدمات التقنية في العام الماضي 38 مليار دولار. هذه الأموال جاءت بشكل رئيسي من عمل العقول. وهي مثال واقعي واحد على دور التعليم كصانع للسوق، وليس خادماً للسوق. سياسات التعليم التي اختارتها الهند، وفرت فرصة كي يتحول شبابها إلى قنوات تستقطب الأموال من أسواق العالم.

لمعرفة القيمة المقارنة لهذه الصادرات، أذكر أن مجموع العاملين في قطاع الخدمات التقنية بمدينة بنغالور يبلغ مليونين تقريباً. بالمقارنة فإن مجموع صادرات الهند الزراعية يبلغ 33.5 مليار دولار، ويعمل فيها 152 مليون شخص. أي إن كل عامل زراعي يوفر 220 دولاراً من الصادرات، بينما يوفر نظيره العامل في مجال التقنية نحو 19000 دولار.

أظن أن هذه مجادلة مقنعة بأن توجيه التعليم كي يخلق السوق وبالتالي الاقتصاد، خير من الاتجاه المعاكس ذي الطبيعة الانكماشية.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

إذا ما تكلمتُ عن الشهرة والأصداء التي تتركها نجاحاتنا في أذهان الناس، سأجد الكثيرين ممن يدّعون أنهم لا يعيرون بالاً لآراء الآخرين، وثنائهم ونقدهم، وهنا يقفز إلى رأسي فوراً إقتباس رائع لـ(سيوران): "باستثناء المجانين، لا يوجد أحدٌ غير مبالٍ بالثَّناء أو النّقد. ما دمنا طبيعيّين إلى حدِّ ما، فنحن حسّاسون لكلِّ كبيرةٍ وصغيرة، وإذا صرنا منيعين ضدّهما، فعن أيِّ شيء آخر نبحث بين بني جنسنا؟". لا أشكُ أبداً أننا نكتب لكي تكون كتاباتنا مقروءة وربما نحلم أن تكون مؤثرة وملهِمة وخالدة، أتكلم عنا نحن الشعراء والكتاب، حيث ننظر للذين سبقونا بانبهار، ونتوقع أن يُنظر لنا بذات الإنبهار بعد عدد من الأعوام، لكن الشهرة التي يتوقعها الكاتب لمؤلفاته التي سكب فيها من روحه الكثير ليست بالشيء اليسير في العراق، فالأدباء هنا يتبادلون الكتب فيما بينهم، فيقرأ بعضهم لبعض، ويكتب بعضهم عن بعض، وهكذا يتبادلون الثناء والذم، فيما يسمى العملية النقدية، كل هذا في منأى تماما عن القارىء العادي، الطالب في الجامعة والمعلم والمدرس والطيبب والمهندس، ولن أقول بعيدا عن العمال والكسبة لأني سأفترض أنهم غير معنيين إلى حد ما بالكتب، لكن حتى هؤلاء تجد في أذهانهم أسماء مثل نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وإحسان عبد القدوس، فيما لو سألت طالباً جامعياً متوسط الثقافة عن عبد الخالق الركابي، أو معلماً عن محمد خضير، أو مهندسا عن ميسلون هادي، فسوف تتأكد أن كتّابنا من ذوي الأسماء اللامعة لا يعرفهم أحد، فهذه إحدى طالباتي اللواتي كنت أدربهن على تطوير مهاراتهن في السرد، وقد جذبني إسمها (س الدليمي) فقلتُ لها: بالتأكيد إنك قرأتِ لـ(لطفية الدليمي) فصدمني قولها أنها لم تسمع يوماً بالكاتبة، فشرعتُ أعرّفها بها، وأذكر لها بعض عناوين كتبها. مع ملاحظة أن هذه الشابة هي من حملة الشهادات العليا ومن خيرة طالباتي، فماذا عن سائر الموظفين والطلبة والكسبة من متوسطي الثقافة.

ثمة خلل ينبغي معرفتهُ تحديدا يجعل الكاتب العراقي سواء كان شاعرا أو ساردا بعيدا عن الناس، ماعدا تلك الأسماء التي تحصد بعض الجوائز المهمة، شهد الراوي مثلاً، هذا يعني أن حصول الأديب على جائزة مهمة يسهّل من معرفة اسمه، لكنه ليس بالضرورة أن يكون قد قُرئ من الجمهور. هذا عامل من العوامل، فضلا عن الضخ الإعلامي، الذي أراه بات خجولاً فيما يخص الأدب، والتسويق الجيد لكتبنا.

الأديب العراقي غالبا يشق طريقه نحو الفضاء العربي والعالمي بصعوبة بالغة، مع إنه يملك مقومات النجاح والإنتشار بالمقارنة مع الأديب المصري والسوري مثلا، وهذه ظاهرة ينبغي دراستها والوقوف عندها، أظن من أسبابها ظاهرة الطباعة في الدور المحلية وبأعداد متواضعة، مما يدفع الأديب إلى توزيع كتبه بنفسه على الصديق الكاتب الفلاني والناقد العلاني، في ظاهرة ملفتة، ثم يتم الإتفاق على إقامة جلسة له، تُرضي بعضا من طموحه، وعند هذا الحد غالبا ينتهي كل شيء.

ما يحصل أن الأديب يبذل جهداً في الكتابة، لكنه لا يجيد إيصال ما يكتب، وهذا يجعل إسم الأديب محصوراً في الوسط الأدبي.

تتحمل المؤسسة الثقافية متمثلة بالوزارة والجمعيات  والإتحادات الأدبية مسؤولية العمل على تنمية الذوق العام لكي يصبح النوع الأدبي هو الخيار الأفضل لدى الفرد بالمقارنة مع الذوق الشعبي الذي يميل عموما إلى ترجيح كفة الشعراء الشعبيين والمراثي، هناك جهد واضح في إقامة معارض الكتب والأماسي الأدبية، وسواها، لكن هذه المحاولات لا تصل إلى عقل الفرد، وذوقه، لأن هناك تراكمات من إرث شعبي هائل سببه طبيعة هذا المجتمع القبلية العشائرية.

***

تماضر كريم – أديبة عراقية

ليس هناك أمة من أمم المعمورة مثل أمة العرب يمكن للأزمات أن تطلق عنان مخزونها العاطفي وتفجر كوامن مكبوتها النفسي، مع الحد الأدنى من الاحتكام إلى فضائل العقل وشمائل المنطق عند مواجهة تلك الأزمات، والركون إلى الواقع عند البحث عن حلول ومعالجات. ولعل هذا الأمر متأت من تراكم الصدمات وتعاظم الخيبات وتفاقم الخسارات، التي تسببت بها جملة من العوامل الداخلية والخارجية، بات الغالبية العظمى من الناس على اطلاع واف وكاف حيال الأطراف المساهمة بها والتداعيات الناجمة عنها.

والمفارقة أنه بقدر ما تتعامل أمم العالم الأخرى مع الأزمات على كونها باعث للتفكير العقلاني ومنشط للإرادة المستقلة، بحيث كلما كان وقع الأزمة أكبر ووطأتها أشدّ، كلما استدعت سيكولوجيتها استنفار قدرات العقل وطاقات الإرادة. بقدر ما تتعاطى معها امة العرب بمثابة طعنات مؤلمة وجروح غائرة تستلزم الصراخ والنواح من جهة، وتستوجب الإدانة والتنديد ومن ثم الخلود الى الانزواء بانتظار التعافي واستئناف الأفعال العبثية وكأن شيئا"لم يكن ! من جهة أخرى. وهو الأمر الذي شجع الخصوم وأغرى الأعداء بمختلف مشاربهم السياسية وتعدد مستوياتهم الحضارية، على افتعال كل ما من شأنه توريط العرب واستدراجهم للدخول بدوامة الأزمات الداخلية والانخراط بأتون الصراعات الخارجية، بحيث لن تفتأ هذه الأمة الجاهلة أن تتخطى أزمة معينة حتى تجد نفسها تصارع أزمات أخرى أكثر تعقيدا"واشد استعصاء على الحل، وهكذا دواليك !.

والغريب في الأمر ان شخصية الإنسان العربي – حاكما"ومحكوما"- مصممة وفقا"لنقيضين متقابلين؛ الأول وهو ما يمكن تسميته ب (التذاكي) و(التعالم) في الأوقات التي يشعر خلالها بوهم امتلاك القوة وحيازة التمكن، وأما الثاني فيمكن تسميته ب (التشكي) و(التباكي) وهو ما يمكن رصده وملاحظته عند الشعور بهزيمة الذات وخذلان الآخر. أي بمعنى أنه في الحالة الأولى يبدو كثير الإعجاب بنفسه وشديد الاعتداد بشخصيته، رغم حقيقة كونه يدرك انه مسلوب الإرادة ومعطوب الوعي ومعطل التفكير. أما في الحالة الثانية فانه يفرط في إظهار علائم الانكسار النفسي والخصاء الإرادي، حتى ولو تضمنت كينونته شيء من عناصر التحدي والمقاومة.  

والطامة الكبرى، انه بدلا"من أن تكون الأزمات التي غالبا"ما تعصف بمنطقة الشرق الأوسط عامة والمنطقة العربية خاصة، حافزا"ماديا"ودافعا"معنويا"للزعامات العربية المسؤولة عن كل ما من شأنه تخفيف – ولا نقول جفيف – سيول المعاناة عن شعوبها ودرء المخاطر عن أوطانها، عبر التمسك بالمواقف الإرادية الصلبة، والرهان على السبل العقلانية، فضلا"عن الاستعانة بالاستقصاءات الواقعية، للوقوف على البواعث والدوافع الكفيلة باجتناب التورط في اختلاق الأزمات الإقليمية والانخراط في الأحلاف والتكتلات الدولية، بحيث تتمكن من الإفلات من الوقوع في مصيدة تلك الأزمات وتتمكن من تخطي عواقبها بأقل التضحيات المعنوية وأدنى الخسائر المادية !.

وعلى هذا المنوال، فقد عرّت الأحداث الدامية في مدينة (غزة) الفلسطينية خلال الأيام الماضية، خصائص الشخصية العربية من حيث هشاشتها في المواقف الحاسمة وانهزاميتها في اللحظات المصيرية، فضلا"عن تعرية نمط سيكولوجيتها المهزوزة والمرتبكة إزاء المخاطر والتحديات المصيرية، التي أضحت بمثابة داء عضال لا شفاء له ولا خلاص منه. فعلى كثرة انعقاد المؤتمرات الباذخة، وإجراء الندوات الصاخبة، وتكثيف اللقاءات المكوكية بين قادة هذه الأمة المشلولة والمغلوبة، حيث الخطابات الرنانة والتحذيرات النارية الطافحة بالعبارات المتفذلة التي عادة ما تحتوي متونها على الكثير من (الخطوط الحمر) القومية والإسلامية على نحو حماسي مضحك، تارة لاستعراض (قوتهم) الدونكيشوتية، وتارة أخرى لاستنهاض (رعيتهم) المخصية.

وهكذا لم يتمكن سراة القوم – بعد أن أظهر الغرب الاستعماري مخالبه وكشر الغرب عن أنيابه - من تبني أية استراتيجيات فعالة واتخاذ أية قرارات حازمة لتفادي شراسة العدوان الغربي وهمجيته، سوى الركون الى لغة (التشكي) و(التباكي) الدبلوماسية بغية استدرار عطف المؤسسات والمنظمات الدولية، لإنصافها في محنتها المزمنة وحمايتها من مصيرها المحتوم !. وإذا ما حدث ونجحت هذه الأخيرة في انتزاع حق من حقوقهم المهضومة من براثن ضواري الغرب، فلك أن تتخيل كيف سينبري قادة الأمة (المجيدة) في التبجح عن (قدراتهم) السياسية العظيمة، والتباهي في (انتصاراتهم) الدبلوماسية المدوية !

***

ثامر عباس – باحث عراقي

 

شذرات من عشق عبد الله العروي لابن خلدون.

عاشق ابن خلدون (الدكتور عبد الله العروي) أصيب في مساره الفكري بنوع من الشغف لنيكولو مكيافيلي. سبر أغوار منتوجاته الفلسفية بالدرس والتمحيص. عند عودته محللا لكتابات ابن خلدون، اكتشف أن نظريات هذا الأخير لا تقل أهمية عن عمق كبار المحللين السياسيين في العالم، فانطلق مؤلفا كتابا قارن فيه بين مكيافيلي وابن خلدون، وبين هذا الأخير وأرسطو وعلاقته بالتحليل اليوناني القديم، ثم انكب بعد ذلك على قراءة "المقدمة" لابن خلدون قبل إنجازه لكتاب "العقل". لقد أبرز عبد الله العروي في حواراته الإعلامية أن كل عودة إلى كتابات ابن خلدون يجد فيها دائما تأويلات جديدة لمقولات السياسة والمجتمع وحتى الفلسفة، وكذا حلولا لأوضاعنا الحالية.

إن استنتاجات العروي توحي لنا أن المغرب يتوفر على ثروة فكرية استبقت الواقع منذ القرن السابع الهجري. حسب موقع ويكيبيديا، ابن خلدون هو عالم العرب والإسلام الذي لمع نجمه كونيا في علم الاجتماع والفلسفة والاقتصاد والتخطيط العمراني والتاريخ. طبق المنهج العلمي في مساره الفكري واستطاع بمبرراته العقلانية تفنيد الخرافات. لعب دور الرسول بين الملوك في بلاد المغرب والأندلس قبل أن يهاجر إلى مصر ويقلد قضاء المالكية هناك، ليصبح بعد ذلك معلما في إحدى مدارسها بالقاهرة. اعتكف وهو بالمغرب على الدراسة وأنهى مقدمته الشهيرة ذات الصيت الكوني.

لقد أبرز العروي أن ما استهواه أكثر في فكر ابن خلدون هو ما قاله عن الفكر النظري والفكر العملي. وهو ما تعيشه اليوم الدول المتقدمة: "تطور علمي نظري - هندسة لربط النظرية بالواقع - ازدهار الحياة الاجتماعية". لقد برهن ابن خلدون في عصره عن مصدر الثروة والرفاه في الغرب، وعن ما تحاول الدول العربية والمغاربية تطبيقه اليوم في الاقتصاد والسياسات العمومية. لقد اكتشف بعد خروج العرب من الأندلس، وسفره إلى القسم القشتالي، أن هناك فرق اجتماعي كبير بين القسم الترابي المحافظ التقليداني والقسم الغربي الروماني. هذا الأخير يعتمد على الدرابة اليدوية وتَمَلُّك الفكر العملي (الفكر الصناعي) من خلال تطوير الآليات والمناهج لإنتاج المصلحة والمنفعة الدائمة من قوة الطبيعة. إنه نفس الفرق الذي لاحظه في شأن تساكن الفكر الفقهي وفكر المحدثين في الثقافة العربية الإسلامية. إن الفكر الأصولي العملي ينظر إلى النتائج العملية للأحكام الفقهية 100%. وهو نفس الاستنتاج الذي أقره الكاتب لاكوست في كتابه عن ابن خلدون. لقد برهن أن نظرية المادية التاريخية التي عرف بها كارل ماركس توجد عند ابن خلدون بشكل واضح.

اعتبارا لما سبق يقول عبد العروي أن المجتمعات العربية الحالية لم تطور بعد نفسها بالشكل المطلوب في مجال ربط الفكر النظري بالعملي. قسم منها بقي تقليديا، وقسم آخر حديث نسبيا، لكنه مبني على قطاع الخدمات والقطاع المالي فقط. وبذلك، فهو يستنتج أن المشكل المطروح عندنا في الماضي والحاضر يتجلى في تصلب العلاقة مع قوة الطبيعة أي الصناعة. إذا استثنينا نسبيا الخصوصية المغربية، يمكن نعت العلاقة بالصناعة بغير الودية وغير الحميمة. والحالة هاته، ففي حالة استمرار الاستسلام للاستكانة وضعف المبادرة في هذا المجال، فيمكن لهذه العلاقة أن تتوتر وتتعقد أكثر مع التطور التكنولوجي والرقمي الذي تعرفه شعوب الدول المتقدمة. العمل يجب أن ينكب باستعجال على ضرورة تقليص المسافة بين التصنيع والمادة وتحويل التعاطي مع الماديات إلى ثقافة مجتمعية. إن أصل الاقتصاد والرفاه والتطور هو توطيد العلاقة اليومية بين الفرد المجتمعي والماديات.

***

الحسين بوخرطة

في تقديمه لكتاب المفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي " الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية " يقول محمد حسنين هيكل أنه ليس من المقبول انكار مأساة المحرقة اليهودية "الهولوكوست"، لأن إسرائيل تستغل ذلك للتعمية والتغطية على مأساة أخرى أكثر فداحة منها وقعت على عرب فلسطين" قتل ناس واغتصاب وطنهم"، لكنه يشير في ذات الوقت إلى المبالغات التي رافقت تلك المحرقة في عدد الضحايا أو اقتصارها على اليهود والتي كشفها مؤرخون ومفكرون وصحفيون غربيون، كان آخرهم غارودي نفسه.

يورد غارودي في كتابه الذي تعرض بسببه إلى حملة صهيونية شرسة أوصلته إلى المحاكم، مجموعة من الأساطير التي أُتخذت ذريعة لقيام إسرائيل، منها الأرض الموعودة لليهود في فلسطين، وشعب الله المختار، وأرض بلا شعب لشعب بلا أرض، ثم الأسطورة الحديثة التي نشأت خلال الحرب العالمية الثانية القائمة على الادعاء بأن النازية قد أبادت وأحرقت في افرانها ستة ملايين يهودي، مما أدى إلى شعور بالذنب وتعاطف غير مسبوق من قبل الحكومات والشعوب الغربية، وقد وَضَفت الصهيونية ذلك التعاطف الواسع لتعزيز ودعم دعوتها إلى إنشاء وطن قومي لليهود، يجمعهم من الشتات، ويحميهم من تكرار حملات الإبادة الجماعية كشعب ضعيف مُشتَت ومنبوذ ومُلاحَق ومُضطَهَد.

"الهولوكوست" واقعة حقيقية ليس من المقبول انكارها على رأي هيكل، لكنها ضُخمت كثيراً، وتم توظيفها للدفع باتجاه إبادة شعب آخر لا ذنب له فيما حدث، واغتصاب أرضه بالقوة، وتحويله من مواطن إلى لاجئ. ولذلك فإن غارودي يشير إلى الصحفي والروائي دوغلاس ريد الذي أثار ضجة حين أصدر كتاباً  قارن فيه بين احصائيتين لعصبة الأمم المتحدة، والأمم المتحدة قبل الحرب وبعدها، وقدر بأن المحرقة لم يزد ضحاياها عن ما بين ثلاثمائة ألف وأربعمائة ألف شخص، كما أن المحرقة لم تقتصر على اليهود، انما نالت أكثر منهم الألمان أنفسهم، والروس والبولنديين وحتى الغجر " ثم الفلسطينيين". ولقد تعرض دوغلاس ريد كما يذكر هيكل لحملة جامحة واختفى كتابه من المكتبات، واختفى المؤلف نفسه من الحياة الصحفية والعامة كلها. ودَفَنه النسيان حياً!. كذلك يشير غارودي إلى المؤرخ البريطاني دافيد إيرفنج الذي راح يبحث ويتقصى عن حقيقة الإبادة في الوثائق التي حصل عليها الجيش السوفييتي اثناء زحفه على بولندا وطرد الجيش الألماني عام 1944، وكان ثمانون في المائة من اليهود يعيشون في بولندا، وفيها حدثت أهم المحارق النازية لليهود، لكنه تعرض للمضايقة والضرب بعد أن أشيع بأنه أوشك للوصول إلى حقيقة المحرقة.

"الهولوكوست" الفلسطينية في غزة لا تحتاج إلى شهود لكي يثبتوا حقيقتها، وأرقام ضحاياها، إنها "مقبرة أطفال" وفق تعبير الأمين العام للأمم المتحدة، ووقائعها تجري في كل ساعة تحت نظر العالم وسمعه، وعلى الهواء مباشرة!.

***

د. طه جزاع – كاتب وأكاديمي

فتاوي الدكتور الترابي مراميها وأبعادها

الفتوى حقيقة تعد في  حدودها وأطرها، فكرا لأن فيها م فيها من اعمال العقل، وكد الذهن، وليست هي قياسا مطلقا، والترابي شئنا أم أبينا، أغرق الناس في الاستماع إليه، والاعجاب به، ليس لفتاويه التي يرفض أن يصورها للناس من معيار أنها فتاوي يطلقها، ولكن لصور أخرى، أستطيع أنا وغيري أن نعجب بها، ونصفق لها، وبين أيدينا منها صورا مختلفة، استطاع الترابي أن يخلقها خلقا، ويبتكرها ابتكارا، أنا لا أريد أن تأخذني في سفسطة لا تنتهي، عن أشخاص نسبهم التاريخ أئمة للفكر، وقادة للاستنارة، وكيف لا يزال هذا النفر يؤثر في الحياة الإنسانية على اختلافها، وتباين فنونها ومنازعها، لقد عنيت هذه الناجمة بأن تضيف لهذه الأمم الممتدة، وأنا اعتقد أن من الحيف أن نهمل جهد هذه الطائفة، وأن نقصر عنايتنا بأنهم لم يبتدعوا شيئاً جديداً، فالفكر والابداع الذي يحبه الناس، ويكلفون به، موجود منذا أن خلق الله عباده وفطرهم وأورثهم سهول هذه البسيطة ومتعرجاتها، كل من أضاف شيئا ما في نظمنا الاجتماعية والسياسية وغيرها، ينبغي أن نقصر عليه اهتمامنا، لأنه لولا هذه الجهود، لكنا نحتاج إلى أشياء كثيرة لا تحصى، وقادة الفكر الذين يبتدعون الفكر ويديروه، هم من يدركوا الحقائق، ويحكموا على الأشياء، والحقائق هذه كما تعلم، تتصورها هذه الجماعة أولا، ثم تحكم عليها، أولا بعقلها لا بخيالها ولا دفق شعورها، وحتى ينتقل الانسان من الحياة الخشنة التي كان يحياها، إلى حياتنا الرغدة هذه، خضع لتأثير المفكرين والمجتهدين، فكل مبدع مجتهد، لأنه لم يرضى أن يمضي كما مضت عترته أعصبته، هو لجأ إلى شيء رائع خلاب يحمله في أعلى أكتافه كما يقول عميد الأدب العربي، واستخدم عناصره، التي كفلت له أن يحيا حياة مرتبة، يجد فيها ضروباً من الدعة، وألوانا من النعيم، وبعبارة مجملة أن الفئات التي استخدمت حصاتها، هي التي أوصلتنا إلى هذه الحقائق الثابتة التي لا تقبل شكا ولا جدالا. أما التعاقب، وتوارث العلوم، فهو أمر بديهي ومحتوم، لا منصرف عنه، ولا مفر منه، حتى الرسائل السماوية، تستأنف أهدافها الصالحة من رصيفاتها، ولكن لكل رسالة ما يميزها، وهي التي تحقق مثل عليا، ليس إلى تحقيقها من سبيل.

***

د. الطيب النقر

(في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

إنَّ النصوص لا قيمة لها بلا قراءة، والقراءة مَضِلَّةٌ قُصوى، ما لم تأتِ في ضوء العقل والتدبُّر واصطحاب السياقات والمقارنات، مع التسامي بالنصِّ عن حرفيَّته إلى مقاصديَّته. أمَّا القفز على ذلك كلِّه من أجل توظيف النصوص، سلبًا أو إيجابًا، فذلك هو الإفك المبين.

هكذا افتتح (ذو القُروح) مجلسنا لهذا اليوم، وهو ما يزال يشدُّ شعر رأسه، كما يفعل عادةً عندما يحاورني:

- بالمثال يتَّضح المقال!

- صدقت! مثلًا حينما يَرِد الحديث النبويُّ الصحيح، ويشار فيه إلى عقل المرأة ودِينها...

- ابتدأنا في المناكفة حول المرأة، أيُّها الذُّكوري المعتَّق؟!

- قل ما شئت! بَيْدَ أنَّه كان ينبغي لكلمتي "العقل" و"النقص" هاهنا أن تُفهما على وجهيهما، لا أن يُرفَض النصُّ، أو يثير التشنُّج؛ فهذا هو التعصُّب والتطرُّف الذي يُعمي ويُصِمُّ لدَى كلِّ الأطراف. 

- لِـمَ لَـم تُفهَما؟

- لدينا، عادةً في مثل هذا السياق، قراءاتٌ رديئةٌ للنصوص، مع سوء فهم، أو إغراضٍ أحيانًا في التأويل. مثال ذلك أيضًا ما رواه ( مُسْلِم) في "صحيحه"، عن (أبي ذر)، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إذا قام أحدُكم يُصَلِّي،  فإنَّه يَسْتُرُهُ إذا كان بين يدَيه مثل آخِرة الرَّحْل، فإذا لم يكُن بين يديه مثل آخِرة الرَّحْل، فإنَّه يَقطع صَلاتَه الحمارُ والمرأةُ والكلبُ الأسود".(1)  فيضجُّ الضاجُّون من هذا النصِّ! 

- لماذا؟

- الآن- وبقطع النظر عن تأويل الحديث- وبقراءةٍ محايدة، لدينا: "الحمار، والمرأة، والكلب الأسود"، هل قال: إنَّ هذه الثلاثة بمنزلةٍ واحدةٍ في المعنى، أو القيمة، أو الشَّرَف، أو الطهارة؟

- حاشا وكلَّا!

- لكن القراءة المحمومة بذِكر المرأة بين الحمار والكلب تثور، لمجرد ورودها بينهما.  ولو قيل: "الغزال، والمرأة، والأسد"، لما وقع ذلك.

- تثور لتصوُّر أنَّ الثلاثة تقطع الصَّلاة للعلَّة عينها.

- وهذا ما لم يَرِد في الحديث أيضًا، وإنَّما هو تحميلٌ للنصِّ بمعانٍ في بال المتلقِّي، ليست بصحيحة بالضرورة. 

- ماذا عن الحمار والكلب الأسود؟

- لا يعنينا هنا التعليل وراء القول بقطعهما الصَّلاة.  لكن من المؤكَّد أنْ ليست في النصِّ مساواةٌ للمرأة بالحمار والكلب، في أي صفةٍ من صفاتهما، كما قد يحلو تصوير ذلك أحيانًا، ولمآرب أخرى. 

- طيِّب، لماذا رُوِي عن (السيِّدة عائشة)، أنها كانت تستنكر الحديث، وتقول: "قد شبَّهتمونا بالحمير والكلاب! والله، لقد رأيتُ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يُصلِّي وإنِّي على السرير، بينه وبين القِبلة مضطجعة"(2)؟  وقعتَ، يا شاطر، يا ذا القُروح!

- كم تعجبني شخصيَّة عائشة القويَّة!  وها هو ذا صوت المرأة الحقيقي والمستقل، قبل دعاوَى النِّسويَّة المعاصرة.  لكن ألا ترى أنها إنَّما كانت تستنكر (التشبيه)، غير الوارد في الحديث، لا الحديث نفسه.  ولعلَّ هذا الفهم التشبيهي كان قد طرق بعض العقول منذ وقتٍ مبكر، وهو محلُّ اعتراضها. 

- ما الفرق؟

- ما يُستنبط من قولها هو أنَّها تفهم أنَّ المرأة التي تقطع الصَّلاة: المرأة الأجنبيَّة فقط، لما في ذلك من إشغال للرجل عن الصَّلاة، وعن الخشوع؛ فالصَّلاة ليست حركات وهمهمات، بل انصراف كلِّي عن كلِّ شاغل.

- لكن ماذا عن مرور الرَّجُل الأجنبي أمام المرأة وهي تُصلِّي؟

- هنا السؤال!  إنْ صحَّت العِلَّة في المرأة، صحَّت في الرَّجُل، سواءً بسواء؛ ليدور الحُكم مع العِلَّة وجودًا وعدمًا. 

- أم هل يقال إنَّ المرأة تقطع صلاة المرأة أيضًا؟! 

- بل كيف يُلتزَم ذلك كلُّه في مكانٍ كالحَرَمَ، أو في الحَج، بحيث يُشترَط أن لا تَـمُرَّ امرأةٌ أمام رَجُلٍ يُصلِّي، إلَّا إنْ كان مِثل آخِرة الرَّحْل بينهما؟!

- عليك نور!

-  كان علينا فهم النصوص، إذن، بشموليَّتها، لا بمجتذَّاتها من هنا وهناك، إنْ كُنَّا باحثين عن الحق، لا آخذين بمغالطة (رجُل القَش).

- أتفق معك في هذا.  لكني أرجو أن أفهم ما يدور في رأسك بشموليَّته، لا بمجتذَّاته من هنا وهناك؛ لأنِّي أزعُم أنِّي من الباحثين عن الحق!

- اختلاف الجنسَين حقيقةٌ لا تُنكَر، ولا مفرَّ منها، وهي ظاهرةٌ واقعيةٌ وعِلميَّةٌ، لا تنفيها المكابرات، ولولا ذلك الاختلاف ما كانت حياة.  وإلى جانب ذلك اختلاف بيئة المرأة عن بيئة الرَّجُل، وتفاوت القدرات والخبرات بينهما تبعًا لذلك.  ولذا فإنَّ "نقص العقل" المشار إليه لا يعدو وصفًا لما يعتور المرأة من تغيُّرات فسيولوجيَّة وسيكولوجيَّة.

- ما دمتَ قد جئت بمصطلحَي (فسيولوجيَّة) و(سيكولوجيَّة)، فقد أقنعتني!

- عليك من الله ما تستحق فقط، يا ذنَب الخواجات! 

- المهم ما تلك التغيُّرات "الفِسيو" و"السيكو"، يا ترى؟

- نتيجة الاضطرابات الهرمونيَّة للحمل والولادة والدَّورة الشهريَّة.

- يا سلام!

- وهي ناقصة دِين؛ لأنها لا تؤدِّي الفرائض الدِّينيَّة كالرَّجُل، للأسباب المشار إليها. 

- تخريجاتٌ قديمة!

- فلتُنكِر، إذا شئت، أنَّ المرأة مرأة، وأنها تمرُّ بتلك الحالات! 

- لا نستطيع إنكار المقدِّمات، لكننا نستطيع إنكار النتائج! 

- هذا تناقض!  ومهما يكن من مِراء، فإنَّ ذلك النصَّ لا يعدو وصف واقع الحال.  وليس شتيمةً أو تنقُّصًا من قَدْر المرأة.  غير أنَّه تحميل النصوص ما لا تحتمل، ولأغراضٍ معروفة. ثم بعد هذا، لو أردنا التوسع في مناقشة مثل هذه المهزلة القرائيَّة المُغْرِضة للنصوص، لأمكن القول: إنَّ الطَّرَفَين، ذُكوريِّين ونِسويِّين، إنَّما يأخذان مفرداتٍ لُغويَّةً قيلت قبل أكثر من 1400 سنة بما دَرَج في شوارعهم وأذهانهم، حول معنى كلمات: "ناقص"، "عقل"، "دِين".  وإلَّا فكلمة "ناقص" قد تأتي صفة ذاتية تارةً، واسم فاعلٍ في غيره تارة؛ أي أنَّ المرأة ناقصةٌ لعقل الرَّجُل ودِينه! وليست تلك بسُبَّةٍ أو انتقاصٍ من شأنها، بل قد تكون بعكس ذلك. والعقل كذلك لا يعني في مواطآت اللِّسان العَرَبيِّ ما يتبادر إلى الذهن أوَّل وهلة، من: الذكاء، والقدرة على التمييز، ومهارات التعلُّم، فحسب، بل معناه أوسع من هذا، متصلٌ بالحكمة، والحِلم، والصبر، ورباطة الجأش، إلى غير ذلك. على أنَّ النقصان في هذا، إنْ صحَّ في المرأة، تقابله لديها بحورٌ من العواطف، لا يملك الرَّجُل إلَّا بعض بعضها. فالرَّجُل ناقص في هذا الجانب أشدَّ النقص، قياسًا إلى المرأة. وما ذلك بمعيبٍ فيه، كما أنَّ نقصانها قياسًا إليه ليس بمعيب؛ فذلك وهذا سبيلا التكامل في الخصائص والوظائف بين الجنسَين.  وأمَّا مفهوم "الدِّين"، فعالَم أوسع في معانيه من ذاك كلِّه. 

- وعليه؟

- وعليه فإنَّ التحليل اللُّغوي، والفهم الكُلِّيِّ للنصوص، والتحليل النفسي والبيولوجي...

- ما دمتَ قد قلتَ (البيولوجي)، فقد اقتنعتُ!

- ليس من هدفي أن أُقنعك، على كُلِّ حال!  غير أنَّ الوعي الموضوعيَّ بطبائع الأشياء ومعطيات الواقع، هي عناصر تنقص قراءاتنا وأحكامنا، غالبًا. فضلًا عن نوازع عاطفيَّة وفئويَّة تتأجَّج نحو المناكفة والمزايدة، وهو ما لا يُنتِج معرفةً ولا عدلًا، بل مزيدًا من الجهل والحَيف والتطرُّف.  والجهل جهلان: (جهل المعرفة)، و(جهل الإعراض، والعِناد، والنَّزَق، والخُلُق).  ولذلك فإنَّ العُذر بـ(الجهل المعرفي) في شؤون الدِّين والدُّنيا أمرٌ عقليٌّ وعدليٌّ، لولاه لما كان معنًى لبعث الرُّسل وتعليم الجاهل، على حين أنَّ (جهل الإعراض، والعِناد، والنَّزَق، والخُلُق) لا عذر به، لا في دُنيا ولا دِين.  بَيْدَ أنَّ من لا يُدرِك الفروق اللُّغويَّة يقع في حيص بيص.  ولأجل هذا ترى تخليط كثيرٍ من الخائضين في شؤون التُّراث بلا فِقهٍ بأسرار لغته، وعلى ذلك الفِقه مدار الفهم والحُكم. 

*

وتركتُ صاحبي اللَّدود ذا القُروح في حيص بيص، من احتدامه المعتاد، على أمل عدم اللقاء به، ولكن هيهات!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

....................

(1)  مُسلِم، (2006)، صحيح مُسلِم، عناية: أبو قتيبة نظر محمَّد الفاريابي، (الرِّياض: دار طيبة)، (الحديث 510)، 1: 232.

(2)  م.ن، (الحديث 512)، 1: 233.

(إن رجال السياسة يصنعون الزمن الجماعي على مرآة زمنهم الفردي، أما رجال الفكر فينحتون زمنهم الفردي على مقاس الزمن الجماعي)... عبد السلام المسدي  

عن حال الكتابة عندي أتحدث. فقد أجد نفسي موغلا في العزلة، وتصيبني كآبة تجاه العالم والمحيط. لا تثيرني شهية الكتابة كما اعتدت كل صباح، أو عند ارتشاف كأس شاي، في خلوتي الخاصة.

هاته الفواجع والمآسي المتراصة، تشاغب ظلي، وتتعب أفكاري المليئة بالثقوب والمرائي الثقيلة. تسحبني مشاهد البؤس والبكاء والدم، في مقامع الزلزال الأخير في مراكش وأحوازها، والحرب على أهلنا في غزة العزة، وقبلها الزمان الكوروني المقبور.

أي كتابة تلك، ستمسح نذوب النفس والجراحات الثكلى؟ وأي أمل سيعيد جذوة الحياة، بعد زحام الألم والقسوة والحزن؟

سيسألني سائل، عن جدوى الكتابة، بعد كل هذا الجنون والفوضى، وسأقول له، إنني أجزم بكون التفكير انعكاس حقيقي لتجربة الكتابة، بينما التفسير المضطرب لعدميتها هو نتاج السقوط الحتمي والغرق في اللاجدوى، والوصول إلى النهاية ..

الأرواح المغدورة في كل الأنحاء البشرية، تسائل ضمائرنا، وتقيد الأفكار المنذورة للخيال المسجى بأوثاق الزمن. نتلهى في الوطن المنتظر، في الدروب الطويلة، على أهبة كل حين، دون أن نيأس من تقعر العمر واندلاقاته.. نستعيد في الخلفيات التاريخية وجذورها الثقافية والحضارية، أورام الشرور الإنسانية وأحقادها، ومثبطاتها والصدوع المترامية عبر سيرورات الحروب الطاحنة والأطماع المستعصية وجنون الاستبداد والسيطرة، فلا يعكس استحضارها سوى التأبيد المروع الناقم على السلام الروحي والتواصل الإنساني والمثاقفاتي، غير الانغماس الطوعي والساكت في خرسانة النزيف الداخلي لأمشاجنا وندوبنا، في مسلكيتها وطريقها الغامضة والملتبسة؟

إن عواصف التغيير التي نشبت أظافرها فينا، وما عادت تترك لنا فرصة للتفكير والتروي وشيئا من التأمل، أناخت اللثام عن قهريتنا ومرضيتنا في مداواة يقيننا المعلول، ولاهويتنا المنخرمة، وتذبذبنا في الإبقاء على كوة ضوء في مفترق أدائنا لمهمة الأرض ورسالتها القيمية.

إنه لا سبيل لفضاء العيش المشترك بين بني الجلدة والعقل، سوى الأمان الأصيل، والوجود المؤتمن الأقدر على تمكين أخلاق الحرية والمساواة والعدالة، من إبعاد كل قذارات الخوف والإظلام وانتهاك الحقوق والإبادة.

ومن أبلغ انتقاء لهذه المبادئ السامية، والقيم المجيبة على أسئلة الراهن والوجود، يكسر ثنائيات التناقض والتأويل السياسوي والحربي، ويدرأ عن وشاح التفكير الحر واليقظ، مخالف كوابيس التصنيف الضدي القاتل والمنتهك لحقوق البشرية في العيش بكرامة والاستقلال المصيري الموقن بالائتمان والسلام والمحبة.

إنه في حدود الأنظمة الإطلاقية للتيه والجنوح نحو القوة والسيطرة، كان وسيظل هناك، متحالفون ضد رعاتها ومتنفذيها، يقاتلون بالأفكار والثقافات، ما شذ ونشز، ويبادرون إلى توسيع ثمرات الفضائل والمكارم وقيم الإخلاص للحوار والاصطبار والتحول الإيجابي والإيثار الوجداني والتمنطق بالعقلانية.

ولا يزال هذا الانتماء، في حدود هذه العلامات القيمية الواعية بأدوار ووظائف المثقفين، مندغما في إواليات ما أطلق عليه بيار بورديو ب"رأس المال الثقافي للشعوب .. حيث ينثني وجود القيمة بالإصغاء والاقتراب ومباشرة الإصلاح".

فهل تحول تقاطعات هذا الهم، وتجافيها بين الإدغام والإبهام، دون تحقيق مناط تكسير مواطن الخلل وانعدام الرؤية، في تدوير أنساق الثقافة وأدوارها لدى المثقفين وصناع الفكر، حيث تختفي مسؤولية الكتابة والإبداع، بالتعتيم على مناهجها ونهوجها، والإقصاء الجبري والتجهيلي لمراميها وآثارها في الحضارة والعمران؟.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

 

تنطوي أطروحة النائيني تنبيه الامة وتنزيه الملة على مجموعة معطيات لم تعبر فقط عن زمنها بل تخطت في حيويتها الازمان اللاحقة وهي اليوم لاتزال بلسما لمعضلات قائمة ومنها:

1- انفردت الاطروحة في اكتشاف نقطة الارتباط والتوازن بين الدين كمصدر أساس للمعرفة والعقل الحضاري وبين النزعة المدنية التي أصبحت ضرورة وليست خيارا وذلك لتطور الحياة والتكنولوجيا ووسائل الاتصال والتواصل وتعقيد عملية الإنتاج وسبل الإفادة من الثروة الطبيعية والبشرية فلم تعد الثقافة الدينية بمكوناتها التاريخية حلا لمشاكل العصر كلها لاسيما مع توقف حركة التفكير والاجتهاد في الكلام والفقه وانحسار الجهد المعرفي بالشان الديني التاريخي وضمور الإنجازات التطبيقية وبسبب جمود التفكير الشرقي وعودة الغرب للهيمنة على بلاد الإسلام محملا بالانجازات التقنية التي وظفها لازاحة السائد الديني من واقع دنيا البلدان التي سلخت من الإمبراطورية العثمانية بعد خسارتها في الحرب الأولى 1914-1918 وتحول تلك الولايات الى دول صغيرة رسمت الدول المنتصرة حدودها ونظمها وقوانين مجتمعاتها فكانت مجاميع تلك الشعوب التي كانت مكبلة ومقهورة بنظام امبراطوري كان المحتم عليها طاعة الخليفة وتطبيق احكامه الفقهية التي يرجحها والتي لم يجر عليها تحديث وفقا لمتطلبات الازمان اللاحقة لزمن وقف الاجتهاد واقصاء العقلانية والمنطق وفجاة تستفيق على الغرب قد اغتال نظام الخلافة فتبنت الطبقات المحافظة مبدأ استعادة الخلافة والرجوع الى قوانين الفقهاء و بناء الدولة الدينية والإصرار على اعتبار المدنية غربة ثقافية وعصيان للدين وخضوع لارادة الغرب.

وقبالتها جماعة ادركت خطر التخلف التقني والاقتصادي وطالبت بان تكون الدولة مدنية وعلى وفق المسار الأوربي للخلاص من شقاء الانسان والتخلف والخضوع الابدي لقوة الغرب. فكانت رؤية رسالة تنبيه الامة الا تتبنى الامة القطيعة الكلية او الأغلبية مع الدين وقوانينه ولا تغرق في نزعة مدنية منفصلة عن تراث ثقافي صاغ العقل السياسي والاجتماعي للامة منذ الف واربعمائة سنة لكنها أيضا قررت الا تهمل اكتساب الخبرة والفكر المنهجي الأوربي والعلوم الحديثة وإقامة الدولة على أساس مدني لكن يجب ان يكون مرتبطا بتراثه وموظفا الانتماء الديني لخدمة تطلعات الانسان التي تتفق مع مقاصد والشريعة وبذلك تخلصت نظرية النائيني من كونها في طرف العصا الذي يظل قلقا للخلل في التوازن من الطرف الاخر لذلك نجد انها قد انحازت الى هذه التوازنية وفيما بعد اثيتت تجربة اليابان وسنغافورة وماليزيا وربما البيرستريكا في الصين ان تلك التوازنية هي الحل الانجح مقابل مقاربتين عدة (العلمانية هي الحل) و(الإسلام هو الحل).

2- مقابل نظرية اننا جزء من الامة الإسلامية (التي تحتاج الى خليفة الهي او الى ولي فقيه مرشد الهي ايضا) فينازعها اتباع الأديان الأخرى كونهم من امة دينية أخرى او من مذاهب أخرى لاترى الولاية للفقهاء وكذلك مقابل اننا جزء من الامة القومية (العربية او الكردية او التركمانية ...الخ) اوجزء من امة الرابطة الفكرية مثل العالم اليساري المتضامن مع الدولة اليسارية الام كالاتحاد السوفياتي اختارت أطروحة النائيني مصطلح الامة الوطنيةational nation وجعلت الرابطة الإخلاص للوطن وحمايته مع المواطن والسعي لرفاهه وعزته ومستقبله.

3- تبنت الاطروحة ان الفلسفة السياسية التي يجب ان تعتمد في دولة ما بعد سقوط الانموذج الامبراطوري العثماني فلسفة دولة ترسم الجغرافية ملامحها وتكون حدودها الجغرافية ميدان تطبيق سيادتها اما امتداداتها دينيا او قوميا او أيديولوجيا فيجب ان يوظف لاعلاء شان الوطن وخدمة شعب الوطن فهي تؤسس للمواطنة التي تتبنى شعار الوطن أولا وثانيا وعاشرا وبذلك فهي لا تعادي الإسلام والمسلمين ولا تتبنى رؤية الإسلاميين في بناء الدولة والشان الاجتماعي على أساس تاريخي ولا تضحي بمصلحة للوطن لصالح المسلمين خارج الوطن وترى ان الاخوة الدينية والقومية عاطفة محترمة لكنها ينبغي الا تكون مؤثرة على مصالح الوطن والمواطن ورفاهيته وتمتعه بثروات بلده.

وهي كما لا تتقبل الأيديولوجية القومية والاسلاموية والارتباط العرقي والديني الا انها ترى ان القومية انتماء غريزي محترم كانتساب الى عرق بشري لكن الانسان حرا في اختياره ان يبني تجربته على أساس أولوية الوطن والمواطنة.

 وثالثا لاتتبنى الاطروحة الارتباط بدولة اجنبية كائنة ما كانت بسبب الأيديولوجيا كارتباط دول من العالم الثالث بالاتحاد السوفيتي بسبب الايمان بالعقيدة الماركسية فليست الاطروحة عرقية ولا ايدولوجية ولا دينية بالأساس لكنها لا ترى مانعا من توظيف هذه الامتدادات لصالح الوطن والمواطنة

4- لا تتبنى أطروحة النائيني فكرة دولة المكونات والطوائف كالانموذج اللبناني انما تنصهر فيها كل الأعراق والأديان والمذاهب والثقافات والتراث التاريخي في مركب المواطنة الممتازة والاطروحة تنقل النظام الاجتماعي من نظام الرعوية للسلطان او الخليفة الى مواطن كامل المواطنة الدستورية.

5- تعلن أطروحة النائيني – بعد ان عاش عالمنا المتعب نظام حكم استبدادي يتمتع الخليفة فيه بكل الصلاحيات وبقداسة مستقرة على انه النائب عن النبي ص الذي استمر الف وثلاثمائة عام ان النظام الاصلح هو نظام الدولة الوطنية الدستورية البرلمانية القائمة على أساس شورى فعلية وحقيقية ومجالس نيابية بدائرة واحدة وتقسيم العمل بين السلطات التشريعية والتنفيذية وان يكون القضاء مرتكزا على اجتهاد القضاة ونزاهتهم المثلى والفصل المرن بين السلطات وان يكون دور الدين ومهمات العلماء ترصين الايمان والأخلاق فمتى حصل خلل في هذه التوصيفات تقف الاطروحة صارمة وفورية باتجاه التغيير نحو مقتضى الاطروحة.

6- تقدم الاطروحة رؤيتها النقدية للديمقراطية الغربية بوصفها ترى ان المؤهل وغير المؤهل يشارك في صنع القرار للوطن والأمة الوطنية فهي ترى ان صناع القرار هم المتعلمون والعلماء والمثقفون والمهنيون وهؤلاء من حقهم الترشيح والانتخاب ويحق ان يتم اختيارهم للمهام التنفيذية لكن على أساس انجازاتهم ونزاهتهم ومهنيتهم الأفضل فالامثل فيكون المجلس النيابي مجلس يتقن التشريع ويتقن الرقابة بلا استغلال للموقع ويكون المجلس التنفيذي امهر من يحول الخطط الى حقائق على الأرض ويتطور القضاء بالاجتهاد والتعمق واحقاق الحق والعدل.

***

ا. د. عبد الامير كاظم زاهد

من البديهي أن التنمية الديمقراطية تتطلب ديمومة التوازن السياسي بحكومة ومعارضة قويتين، والوعي التام بالحاجة الدائمة لتنمية القدرة على الاستجابة الفعالة للتحديات والرهانات التكنولوجية والعلمية التي يعرفها العالم، خاصة القدرة على إنجاز الخطط والتصاميم الاستراتيجية، وذلك من خلال مأسسة النسق المؤسساتي الدائم الضامن للارتباط الوثيق بين النظرية والواقع. إن حجم الأوراش الكبرى الاستثمارية في المجلات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية التي أطلقت زمن العهد الجديد تستوجب اليوم خلق الآليات لتقوية مكانة المهندس في كل المجالات الحيوية للبلاد: الأحزاب السياسية، والنقابات، والبرلمان، والحكومة، والجماعات الترابية، والقضاء، والإعلام.

لقد أثبتت التجربة مغربيا أن المهندس، بطبيعة تخصصه وخبرته التقنية العملية، يتواجد بقوة كرائد بتدخلاته التنموية في عمق الفعل العمومي على صعيد كل المستويات والمجالات المنتجة في القطاعين العام والخاص. إلا أن التركيبة المؤسساتية للأجهزة القيادية للمشاريع التنموية العمومية على صعيد التراب الوطني بتمويلاتها الوطنية والجهوية والإقليمية والمحلية، والتي تتداخل فيها تخصصات العلوم الإنسانية والعملية والهندسية وتأثيرات منطق إنتاج النخب، لم تُفْض منذ الاستقلال إلى النجاعة والمردودية المطلوبة التي أقرتها التجارب التي ترسخت في تاريخ الفعل العمومي في الدول المتقدمة (المعروفة بمردودية مشاريعها العالية وأمل حياتها (الديمومة) الطويل). العلاقة التنظيمية القانونية بين الفاعلين في مجالي المالية والمحاسبة (الآمرين بالصرف) والسلطات القيادية الدستورية والأجهزة الإدارية لم يترتب عنها ذلك الترابط المأمول بين الجانبين النظري والعملي. بقي المهندس في نفس الآن المحور الأساسي في التنمية الترابية والحلقة الضعيفة في النسق المؤسساتي المسؤول عن ضمان ديمومة التنسيق والتقييم للمنجزات. إذا استثنينا المشاريع التي يشرف عليها جلالة الملك بشكل مباشر، يمكن القول أنه شاع الانطباع في أذهان المرتفقين أن طبيعة المشاريع العمومية الترابية لم تكن يوما في منأى من الإصابة بداء تآكل المفاصل وتصلب شرايينها وضعف القيام بوظائفها المحددة مسبقا. الحصيلة تؤكد بجلاء عشوائية صفقات إنجاز الاستثمارات التجهيزية الترابية: تجهيزات ومنجزات غير مستغلة ومهجورة (فارغة) متروكة للتعرض للاهتراء، وأخرى مستعملة جزئيا أو ظرفيا، وأخرى ضعيفة المقاومة للشقوق والحفر، وعدد منها تم إنجازه فوق عقارات مهددة بالفيضانات، وكثير منها تم تشييدها في أماكن غير آمنة وبدون حراسة .....الخ. كما أبانت التجارب ضعف التنسيق بين القطاعات العمومية للرفع من نفعية وصلابة التجهيزات المنجزة إلى أعلى المستويات.

والحالة هاته، فإضافة إلى ضعف تحديد المقومات العلمية والتقنية الشاملة والدقيقة للمشاريع المجسدة في دفاتر التحملات، التي تغلب عليها بشكل واضح ولاعتبارات مبهمة المحددات الذاتية أكثر من الموضوعية العلمية، تبقى الهندسة في القطاع العام عاجزة إلى حد كبير عن تتبع التطورات العلمية النظرية العالمية بفعل ضعف التكوين المستمر ومحفزاته وغاياته. تتجدد التقنيات والآليات والقواعد والمناهج التدبيرية في الدول المتقدمة بسرعة فائقة ومربكة، لكن الممارسة الهندسية الوطنية تبقى في مجملها ملتصقة بتقنيات تفعيلية متجاوزة ومكلفة زمنيا وماليا.

في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى التميز الواضح الذي عبرت عنه المشاريع التنموية التي يشرف عليها القصر الملكي. لقد قدمت السلطة الملكية نموذجا راقيا للعلاقة البناءة لارتباط الهندسة بالمشاريع التنموية المهيكلة للتراب الوطني. إنه منطق قيادة حكيمة للمشاريع بشقيها المالي والمسطري. وعليه، فتمديد تفعيل المقاربات التدبيرية الملكية وتعميمها بشكل شامل وكلي على السياسات التنموية الحكومية يجب أن يتحول اليوم إلى أولوية الأولويات الاستراتيجية للدولة. لقد تمت البرهنة أن مستويات البلورة والإعداد والتنفيذ والتقييم وتتبع المردودية والصيانة يمكن أن تضمن تمديد النجاعة والشفافية من الأعلى إلى الأسفل، وبالتالي يمكن أن تتحول إلى مدرسة في العقلانية والحداثة التنموية. إنه السبيل الملائم مغربيا لترسيخ معاني التدبير التنموي الترابي من النواحي المالية والتقنية والقانونية من المحلي مرورا بالإقليمي والجهوي ووصولا إلى الوطني، وضمان جودة تنفيذ مضمون دفاتر التحملات بالضبط الدقيق للجوانب المالية والتقنية والقانونية، واحترام المراحل الزمنية للإنجاز، وملائمة المشاريع المسلمة رسميا لتصاميمها ومتطلبات وأهداف إنجازها المحددة مسبقا.

استحضارا لما سبق، نستنتج أن قيادة المشروع التنموي القطاعي، الهندسي بطبيعته، لا يمكن قيادته وتحقيق الجودة في تنفيذه إلا من طرف المهندس المدعوم بفريق إداري وقانوني ومالي. لقد عاش المغرب في مطلع الألفية الثالثة تجربة مؤسسة العامل المهندس التي اقترحها وسهر على انتقاء مواردها البشرية التي يزخر بها القطاع الهندسي المستشار الملكي مزيان بلفقيه رحمه الله. لقد لاقت هاته التجربة نوعا من الإجماع نظرا لوقعها الإيجابي على الصعيد الوطني. لقد أبرزت أن المهندس القيادي والسياسي له قدرة هائلة على تشخيص الأوضاع وتنويع معارفه القانونية والإدارية والمالية والتدبيرية بالسرعة المطلوبة. لقد تم اعتماد التخطيط الترابي والدقة في إعداد التصاميم الهندسية في التنمية القروية وتأهيل المدن.

إن قدرة المهندس على تملك المعارف وفهم وتتبع التطورات التقنية، وكفاءته في تحويل النظريات العلمية إلى تصاميم تفعيلية وتنزيلها ترابيا، وذكائه في فهم وتأويل القوانين في مختلف المجالات، وخبرته في قيادة التغيير، وإلمامه بأنماط التدبير العصرية، وكونه الفاعل المحوري في الفعل التنموي، تفرض اليوم تعميق التفكير في تجديد بنيات الأجهزة المؤسساتية لتفعيل المشاريع التنموية بتحويله إلى سلطة فعلية لقيادتها وتنفيذها في إطار نسق واضح المعالم تلعب فيه مؤسسات الحكامة والرقابة دورا رياديا مستمرا.

إن أول من اعترف سياسيا بالأدوار الريادية التي لعبها أو يلعبها أو يمكن أن يلعبها المهندس في التنمية المجالية وتهيئة التراب الوطني هو الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي رحمه الله. فإضافة إلى الفرحة التي أدخلها على قلوب الموظفين العموميين بتنفيذه مخرجات الحوار الاجتماعي الاستثنائي في تاريخ الحكومات المغربية، وتدبيره الرفيع للورش الحقوقي للمصالحة السياسية، أصر قائد حكومة التناوب التوافقي بالإمكانيات المالية المتوفرة لديه على إعادة الاعتبار للمهندس كمحور أساسي في تهيئة وتعمير تراب البلاد، بحيث فتح حوارا بناء وجادا مع ممثلي القطاع توج بإعادة الاعتبار للقانون الأساسي للمهندسين. لقد انشغل اليوسفي مطولا بالعلاقة السلسة بين التطورات العلمية النظرية وسرعة ربطها بالواقع المعاش للشعوب المتقدمة، وحرص بكل وزنه السياسي على خلق الآليات المؤسساتية والقانونية الضرورية لمعانقة التقليد التاريخي لمسار توطيد العلاقة بين الكشوفات العلمية وترسيخ مزاياها ومنافعها في الواقع.

أما اليوم، فأمام الثورة العلمية والتكنولوجية الخارقة التي ميزت العقود الأولى من الألفية الثالثة وما أحدثته من تحولات مدوخة ومغرية في العالم في كل المجالات، وتجنبا للحد من نزيف هجرة العقول الهندسية إلى الخارج، يبقى من واجب الدولة اليوم الانكباب الفوري لبلورة مخطط استعجالي لتقوية المعرفة الهندسية في الفعل العمومي، وبالتالي الرفع من جودة انتقاء المشاريع التنموية حسب الأولوية، ومضاعفة منافعها وتعظيم قيمة المصالح العامة المقدمة، وبالتالي تحقيق تصاعد دائم في نسب النمو السنوية والحد من التأثيرات المناخية السلبية والحد من المخاطر السياسية والحقوقية المرتبطة بها.       

***

الحسين بوخرطة

عقب الانتهاء من لقائنا مع عالمنا الجليل "الطهطاوي" تواصل معي أستاذي الجليلان د.عثمان ود. راشد من أجل الذهاب لهما في الغد بمقر الجامعة الجديدة. وقد اتفقت مع "نور الهدى" أن نذهب سويًا. ومع الصباح البارد يولد الجمال.

رنت عليا نور لتوقظني قائلةً: قد ذهب زوجي "رمزي" لإيصال البنات إلى المدرسة وعند قدومه سوف يوصلني إليك وهو في طريقه إلى عمله بالبنك وبالفعل وصلنا في الموعد المحدد.

- د. حليم عثمان: في البداية اطلب منكِ تلميذتي أن تسجلي كل ما دار أمس في لقائنا مع عالمنا الجليل وتحتفظي به، ومع ظهور تعبيرات الاستفهام على وجهي قال لي أستاذي: أنه حاجة في نفس يعقوب فاصبري وتمهلي.

- د. نجيب راشد: أما زلتِ على موقفك يا آمال من نقدك لأطروحة النسوية حول النظام الأبوي؟

- بكل تأكيد فأكثر ما يضايقني د. "راشد" استخدام نسويات الموجة الثانية لمصطلح النظام الأبوي منذ أوائل القرن العشرين، بشكل متكرر في عديد من المجلات والنصوص الكلاسيكية والدوريات (1)، للإشارة إلى النظام الاجتماعي القائم على السيطرة الذكورية على النساء، أصبح مفهومًا مهمًا في دراسات الجندر بشكل أساسيٍّ- وما أدراك وما الجندر د. راشد-، مما ترتب عليه تطوير عدد من النظريات التي تهدف إلى تحديد أسس تبعية المرأة للرجل(2).

- نور الهدي: أفهم من ذلك أنه مع الحركة النسوية بدأ النظر إلى النظام الأبوي بوصفة النظام القاهر النساء ولكن كيف تم ذلك؟

- د. نجيب راشد: سأوضح لكِ الأمر أستاذة "نور الهدى"، لقد استندت الحركة النسوية إلى أن الأم كانت تمثل الدور المسيطر في الاقتصاد، في مرحلة النظام الأمومي والتي تعد مرحلة تاريخية فيتطور المجتمع البدائي، حيث وجد النظام الأمومي لدى جميع الشعوب بلا استثناء، فخلال المراحل الدنيا من التطور الاجتماعي لم يكن معروفا من هو أبو الطفل في حين كانت أم الطفل معروفة، ولهذا كان ينسب النسل للأم وكان الاعتراف فقط بالصلة الأنثوية(3). وبناءً عليه أولاد الرجل لا يستطيعون ورثه، فقد كان الأقارب من ناحية الأم هم الذين يرثون مَنْ يموت من القبيلة حتى تكون الملكية داخل القبيلة؛ والسبب في ذلك يعود إلى انتساب الطفل للأم في ذلك الوقت(4). وبذلك يُلاحظ أن معظم التقدم الذي أصاب الحياة الاقتصادية في المجتمع البدائي يُعزى للمرأة أكثر مما يعزى للرجل(5).

- د. نجيب عثمان: لكن مع تقدم الزراعة انتزع الجنس الأقوى ألا وهم الرجال من أيدي النساء زعامتهن الاقتصادية التي توفرت لهن حقبة من الزمان بسبب الزراعة؛ وكانت المرأة قد استأنست بعض الحيوانات؛ فجاء الرجل واستخدم هذه الحيوانات بنفسه في الزراعة، وبذلك تمكن من أن يحل محلها في الإشراف على زراعة الأرض، ومن ثم فرض سيطرته عليها؛ وكذلك ازدياد ما يملكه الرجال من أملاك عديدة، كالماشية ومنتجات الأرض، مما أدى إلى إخضاع النساء للرجال إخضاعا جنسيا؛ لأن الرجال طالبوهن بالإخلاص لهم ليورثوا ثروتهم إلى أبناء من صلبهم؛ وهكذا تم الاعتراف بأبوة الرجال داخل الأسرة، وبدأت الملكية تهبط في التوريث عن طريق الرجال، واندحر حق الأمومة أمام حق الأبوة، وأصبحت الأسرة الأبوية هي الوحدة الاقتصادية والشرعية والسياسية والخلقية في المجتمع(6).

- د. نجيب راشد: بذلك أصبحت المرأة وأبناؤها ملكا لأبيها أو لأخيها الأكبر، ثم ملكا لزوجها، إنها اُشْتُرِيت في الزواج كما كان يشترى العبد في الأسواق سواء بسواء، وأصبح للوالد الحق في أن يعامل زوجاته وبناته كما يشاء(7)، ففي الأسرة الأبوية، أصبحت الزوجة وأبناؤها بمنزلة العبد لرأس الأسرة وهو الرجل(8). وهذا يعنى أنّ النظام أن الأبوي حرفيًا هو حكم الرجل المسيطر على الوحدة الاجتماعية كالعائلة أو القبيلة. وهو عادة ما يكون الأب الذي يوصف بأنه شيخ كبير في السن داخل المجتمع، والذي يمتلك السلطة الشرعية على الآخرين داخل الوحدة الاجتماعية، بما في ذلك الرجال الآخرين (ولاسيما الأصغر سنًا)، وكذلك يسيطر على الجميع من النساء والأطفال(9). وبإيجاز يعني النظام الأبوي حكم الأب داخل الأسرة التي يسيطر عليها الذكور(10).

- وبناءً على ما سبق يا "نور"استند روادُ الحركة النسوية على النظام الأبوي بوصفه سببًا لاضطهاد النساء وقاموا بطرح العديد من التعريفات، ولكن كان أكثر تعريف تأملت فيه: هو ما قدمته "كارول جيليجان "(ã)CarolGilligan (1939- ؟) حيث رأت أن النظام الأبوي هو نظام حياة يميز بعض الرجال على البعض الآخر والأغنياء على الفقراء والبيض على السود والآباء على الأبناء، وهذا الدين على ذاك وهذه الطبقة على تلك وجميع الرجال على النساء. إن سياسة النظام الأبوي هي سياسة الهيمنة وهى سياسة تبرر عدم المساواة(11). ووفقًا لهذا التعريف أستاذي الجليلين فإنه لم يجعل النظام الأبوي نظامًا قاصرًا على تمييز الذكور عن الإناث من خلال طرحه صورٍ أخرى للاضطهاد داخل المجتمعات. ولدي قناعاتي بأن نظرة النسوية للنظام الأبوي بوصفه نظامًا تتعرض فيه النساء للقهر والقمع من جهة الرجال غير مقبولة لأسباب عدة والتي منها: أن هذه التفسيرات تبدو اتجاهًا نحو التأمل (بمعنى آخر)، إنها أخفقت في الاعتراف بالاختلافات التاريخية لتفسير العلاقات بين الجنسين(12).وبناءً على ذلك لابدّ من أن نُحقّق في الفرضيّة المُسبقة للحركة النسويّة المبنيّة على تعميم الظلم والتمييز بين جنسٍ وجنسٍ آخر، فالدعوة الأساسيّة لهذه الفرضيّات هي أنَّ النساء كنّ يقبعن في موقعٍ أحقر مقارنة بالرجال طوال التاريخ بسبب جنسهنّ، ويمكن ملاحظة بعض أشكال هذا الاحتقار على شكل ظُلمٍ وتمييز.(13)

إنّ إثبات انتشار الظلم طوال التاريخ وبهذه السعة لابد أن يكون عبر تقارير وثائقيّة وتاريخيّة، وأمثال هذه التقارير لا تقتصر على أنّها غير موجودةٍ وحسب، بل من غير المُمكن الحصول عليها عمليًا(14).

- د. نجيب راشد: أتذكر تساؤلك يا "آمال" عن سبب اعتبار الحركة النسوية النظام الأبوي سببًا لقهر النساء؟ ألا يمكن اعتباره مصدرًا جَوْهَرِيًا لحماية المرأة والدفاع عنها؟ و تركيزك على أن أية أطروحة تنم عن المجتمع والعصر الذي نشأت فيه؛ ولكون الحركات النسوية غربية فهي تعبر عن بنية المجتمع الغربي الذي يتسم بالفردية والتفكك الأسري، وكذلك تعبر عن التجارب الشخصية لروادها واللواتي إن صادفن رجالًا قادرين على مشاركتهن في تحمل المسئولية ورعايتهن لتحولن إلى القول بأن النظام هو مصدر الآمان والاستقرار. وأتذكر حينما سألتك: تُرَى ما النظام البديل يا آمال؟

- نعم أتذكر تساؤلك؟ واقترحت باستبداله بالأقواس القهرية؛ لسببين الأول أن مصطلح الأقواس القهرية من وجهة نظري هو نظام قائم على وجود علاقة ثنائية تتسم بالتسلط والخضوع لقهر النساء تتمثل في أنماط متباينة من العلاقات كالقهر الطبقي أو التحيز الديني أو التحيز العرقي أو تحيز المجتمعات ذوات البشرة البيضاء ضد ذوات البشرة الملونة من النساء أو الرجال للنساء...إلخ، ومن ثم لا يمكن حصر التعريف على نمط واحد من أنماط القهر الذي يقع على المرأة ألا وهو قهر الرجال للنساء. ثانيًا إن مفهوم الأقواس القهرية تتشكل مبادؤه وفق الخلفية الدينية والثقافية والطبقية والعرقية والأيديولوجية ...إلخ داخل المجتمع، ومن ثم يختلف ويتغير باختلاف الأزمنة والعصور داخل المجتمعات.

- د. حليم عثمان: ولماذا كلمة أقواس قهرية بالذات تلميذتي النجيبة؟

- لأن العديد من النساء تتأرجح في عالم مظلم بين أقواس قهرية، حيث تقيدهن العادات والتقاليد الظالمة وكذلك الفهم الخاطئ لبعض النصوص الدينية...إلخ، فيصبحن أسيراتٍ لا يُسمح لهن بتحقيق ذواتهن الحقيقة . من خلال احتجازهن بين تلك الأقواس التي تحكم حياتهن وتحدد مصيرهن مما يحرمهن من الحرية والاختيار ويئد طموحاتهن الشخصية. من أجل ذلك يظللن في معركة مستمرة لكسر تلك الأقواس القهرية، فيخضن حربًا صامتة ضد الخلفيات الدينية والثقافية والطبقية والعرقية والأيديولوجية. وحتما د.عثمان إذا عالجنا الأسباب الحقيقة وراء ضعف مكانة المرأة عبرالتاريخ فسنصل إلى تحقيق التكامل بين الرجل والمرأة وفقاً لأطروحتنا الشرقية.

- د .عثمان: صدقتِ تلميذتي.

- د. راشد: أنه لحوار مثمر ولكن معذرةً لابد أن أغادر؛ لأنه موعد خروج ابني "أسلم" من المدرسة.

- نور الهدى: وكذلك أنا يجب علىّ الذهاب إلى مدرسة بناتي فاليوم أخبرت زوجي بأنني سأحضر البنات من المدرسة حتى يُضطر إلى الاستئذان من عمله.

- ونحن في طريقنا للذهاب إلى مدرسة بنات قالت "نور"لي: أنَّ دكتور نجيب متشابه مع زوجي رمزي في حرصهما على المشاركة بتحمل مسئولية الأبناء والأسرة.

- إنهما نموذجان للعديد من الأزواج في مجتمعاتنا الشرقية، والتي يكون فيها الرجال قادرين على تحمل المسئولية وتقديم الرعاية لأسرهم بوصفهم مصدرً الأمان لزوجاتهم وأبنائهم؛ من أجل ذلك "يا نور" إن كلمة "الأبوي" تمثل بداخلي معاني إيجابية من حب وحرص على الأبناء وسعي دائم إلى دعمهم المعنوي وتوفير احتياجاتهم المادية، وإن كنت لا أنكر تواجد أمثالٍ كثرة من نموذج "سي السيد" في تعامله المستبد مع المرأة. وعلى أية حال يا نور إنني أنتظر مجيء رائد حركة تحرير المرآة بمصر في لقائنا القادم لمناقشة أهم معضلات "الست أمينة" على أملٍ أن القادم قد يحمل خيراً كثيرًا بين إيزيس وأزوريس .

***

د. آمال طرزان

........................

(1) Finn Mackay: Radical Feminism Feminist Activism in Movement, op.cit, p.104.

(2)Jane Pilcher and Imelda Whelehan: 50 Key Concepts in Gender ...., op.cit, p.93.

(3)) روزنتال (م.) وب.يودين: الموسوعة الفلسفية، ج1، ط2، ترجمة سمير كرم، مراجعة د.صادق جلال عبد العظيم وجورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 2006م، ص 528.

(4)) فردريك إنجلز: من مختارات كارل ماركس وإنجلز أصل العائلة...، مرجع سابق، ص48.

(5)) ول وايريلديورانت: قصة الحضارة "نشأة الحضارة"، ج1، مج1، ط1، ترجمة زكى نجيب محمود، محى الدين صابر، دار الجبل للطبع والنشر والتوزيع، بيروت، د.ت، ص61.

(6)) المرجع السابق، ص61- 62.

(7)) ول وايريلديورانت: قصة الحضارة "نشأة الحضارة"، ج1، مرجع سابق، ص62- 63.

(8)) المرجع السابق، ص71.

(9)Jane Pilcher and Imelda Whelehan: 50 Key Concepts in Gender Studies "Sage Key Concepts Series", Sage Publications Ltd, London, 2004, p.93.

(10) Johanna Martina Wood: Pateriachy Feminism..., op.cit, p.14.

(ã) حصلت على الدرجة العلمية في الأدب الإنجليزي مع مرتبة الشرف الأولى من كلية سوارثمور، ودرجة الماجستير في علم النفس الإكلينيكي من كلية راد كليف ودكتوراه في علم النفس الاجتماعي من جامعة هارفارد.من مؤلفاتها"صوت مختلف" وكذلك شاركت في تأليف أو تحرير خمسة كتب مع طلابها وهم: رسم الخرائط في المجال الأخلاقي 1988م؛ إجراء اتصالات 1990م؛ النساء والفتيات والعلاج النفسي: إعادة صياغة المقاومة 1991م؛ لقاء عند مفترق الطرق: علم نفس المرأة وتنمية الفتيات. كانت عضوًا في هيئة التدريس بجامعة هارفارد لأكثر من 30 عامًا، وأصبحت أول أستاذة لدراسات النوع الاجتماعي في جامعة هارفارد في عام 1997م.

See:https://its.law.nyu.edu/facultyprofiles/index.cfm?fuseaction=profile.biography&personid=19946, In: 6/5/2022, 12:00 AM.

(11)Carol Gilligan, Naomi Snider: Why Does Patriarchy Persist, Polity Press, UK, 2018, p.32.

(12)Carol Gilligan and David A. J. Richards: Darkness Now Visible Patriarchy’s..., op.cit, p.10..

(13) نرجس رودكر: فيمينزم "الحركة النسوية مفهومها وأصولها ..."، مرجع سابق، ص281.

(14) المرجع السابق، الصفحة نفسها.

بقلم: فرانسوا دي لاروشفوكو

François de La Rochefoucauld

ترجمة : عبد الوهاب البراهمي

***

سيطول حديثي لو قدّمت بالخصوص هنا، كل المبررات الطبيعية التي تحمل المسنّين  على الانسحاب من الحياة العامّة: تغيّر أمزجتهم وشكلهم وضعف أعضاءهم، يقودهم  دون أن يشعروا، مثل سائر الحيوانات، إلى الابتعاد عن الاختلاط بنظرائهم. إنّ الكبرياء، وهو قرين حبّ الذات، يقوم إذن مقامَ لامعقول: فهم لا يستطيعون أن يُمدَحوا بأشياء  تطري الآخرين؛ فقد عرّفتهم التجربة ثمن ما يرغب فيه الناس في شبابهم، واستحالة الاستمتاع به طويلا ؛ فالسبل التي تبدو متاحة للشباب لبلوغ العظمة واللذة والشهرة ولكلّ ما يرفع البشر، قد أغلقت دونهم، إمّا بموجب الصدفة أو لتصرفهم أو بموجب الشهوة وظلم الآخرين،؛ والطريق إليها طويلة ومضنية، حينما نكون قد تهنا عنها مرّة. وتبدو لهم الصعوبات مُتعذّر تجاوزها، ويحول السنّ دون الزعم بذلك. إنهم يصبحون غير مكترثين بالصداقة، لا لكونهم لم يعثروا ربّما على صداقة حقيقيّة فحسب، بل لأنّهم قد شهدوا موت عدد كبير من أصدقاءهم، ولم يكن لهم من الوقت ولا الفرص للتفويت في الصداقة، ويُقنعنون أنفسهم بسهولة بأنّهم كانوا أكثر وفاء ممّن تبقّى لهم من الأصدقاء. وليس لهم نصيب في أولى الخيرات التي شغلت خيالهم، بل ليس لهم تقريبا أيّ نصيب حتّى في المجد: فما حصلّوه منه قد ذبل مع الزمن، وغالبا ما يفقد الناس من المجد في كبرهم أكثر مما يحصّلوه. يخلع عنهم كلّ يوم يمرّ قطعة من ذواتهم؛ وليس لهم ما يكفي من الحياة للاستماع بما لديهم، ناهيك عن تحقّق ما يرغبون فيه؛ فهم لا يرون أمامهم سوى أحزانا وأمراضا و تصاغرا؛ فقد رأوا كلّ شيء، ولاشيء يمكن أن ينال لديهم فضل الجديد؛ فقد أبعدهم الزمن دون أن يدركوا وجهة النظر التي تلاؤم رؤيتهم للأشياء، والتي يجب أن يُروا منها. فأكثرهم سعادة قد تألموا أيضا، و الآخرون قد لحق بهم كره؛ ولم يبق لهم من حظّ ، سوى أن يخفوا ربمّا عن النّاس ما لم يظهروه كثيرا. إنّ ذوقهم، وقد خدعته رغبات غير مجدية، يلتفت إذن صوب الأشياء الصامتة والجامدة؛ البناءات والفلاحة والاقتصاد، وتخضع دراسة كل هذه الأشياء لإرادتهم؛ يقتربون منها أو يبتعدون كما يشاءون؛ إنّهم مالكون لمصائرهم واهتماماتهم؛ فكل ما يرغبون فيه تحت إمرتهم، ولكونهم تجاوزوا تبعيتهم للعالم حولهم، فهم يفعلون كلّ ما يخلّصهم منه. وأكثرهم حكمة يعرف كيف يستغلّ ما تبقى له من الوقت لخلاصه، وبما أنّه لا يملك سوى نصيبا صغيرا من هذه الحياة، فقد طلب حياة أرفع. أمّا الآخرون فليس لهم سوى أنفسهم شاهدا على بؤسهم، ويروق لهم ضعفهم وقصورهم؛ ويقوم لديهم أقلّ تراخ مقام سعادة؛ والطبيعة الناقصة هي أكثر حكمة منهم ، فهي تنزع عنهم جهد الرغبة ؛ وأخيرا هم ينسون العالم، الذي هو على استعداد كبير لنسيانهم؛ ويجدون في تقاعدهم عزاء في طمعهم، ويحملون، مع كثير من المتاعب واللايقين والضعف، عن عطف أحيانا وبموجب دافع أحيانا أخرى وفي الغالب عن تعوّد، عبء حياة لا طعم لها ومتهالكة".

***

........................

* أعمال"  فرانسوا دي لاروشفوكو "تأملات متنوّعة" الجزء الأول.

خطورة المفاهيم تكمن في أن تكون حقيقتها على خلاف ما نرسمه في أذهاننا، فكم من مفهوم عوّلنا عليه، ولبثنا دهرا ونحن نظن فيه خيرا، وهو لا ينفكّ يقوّض جوانب عدة من حياتنا، ونحسب أننا نحسن صنعا.

والأنْكى أنه كلما تنامى يقيننا بها ازدادت توغّلا واستفحل ضررها، فما نسدل عليه ستار الثقة العمياء أشد خطرا مما نَفْرَق منه من المفاهيم المأبونة التي نحاول جاهدين الابتعاد منها وحتى أن تكون بيننا وبينها صلة سطحية، في حين إننا غارقون إلى الأذقان فيما حقه المجافاة.

ومما يندسّ تحت عباءة اليقين، ما يكون ناتجا من الإدراك المتأخر، وهو ما يُصطلح عليه بتحيّز الإدراك المتأخر (Hindsight Bias) وهو في صورته الأساسية يعني أن نظن أننا كنا نتوقع جزما وندرك حتما مآل حدثٍ ما بعد وقوعه! فلو استحضرنا بعض المشاهد في حياتنا التي يتجلى فيها هذا الانحياز لوجدناها قائمة طويل الذيل، فكم من مرة صرخنا متيقنين: لقد كنتُ أعلم أنّ ذلك سيحدث، قلبي كان يحدثني: إن ذلك آتٍ لا محالة، لقد كانت الدلائل كلها تشير لذلك، إلى آخر تلك العبارات التي تصب في مصب واحد، وهو أن صيرورة الحدث لتلك النهاية لم يكن احتمالا من بين احتمالات شتّى، بل كان حتمية لا محيص عنها، والحقّ أنه ليس كذلك، فوقوعه لا ينفي عنه صفة الاحتمالية فيما سبق، وتوهّم حتميته لم يكن حاصلا من قبل.

تتخذ قرارا مدروسا للاستثمار في مشروع ما، مصطفيًا إياه من بين جملة من الخيارات المتاحة ووفق المعطيات الآنيّة، وبعد أمد تؤول الصفقة لنهاية مأساوية، لتنتصب قائلا: لقد كنت متيقنا من ذلك، لقد كانت القرائن طافحة، ومن ذلك كيت وكيت…إلخ تلك المزاعم التي تدور في فَلك واحد، وهو أن النهاية المأساوية كانت حتمية ولم تكن احتمالا، وأن هذه الحتمية مدرَكة من قِبلك من قبل، والأمر ليس كذلك بالمرّة.

وهُنا يطفح تساؤل مشروع: أين مسوّغ التجنّب في سياق الخطورة الذي استهلّ به الحديث، والحال أنّ الاعتقاد بحتمية حدوث ما حدث بعد أن حدث لا يغير من المعادلة شيئا؟ وهذا التساؤل رغم رصانته إلا أنه ناظرٌ للماضي، ولذلك تكاد تكون الخطورة مجرد زوبعة في فنجان، إلا أن سياق الخطورة الذي نتحدث عنه هُنا مرتبط بالمستقبل! كيف ذلك؟

إن تكرار هذا اليقين بإدراك حتمية حدوث ما حدث بعد أن حدث يبني فينا اتّكالا جازما بأن لدينا القدرة على التنبّؤ بمصير ما نلج فيه من شؤون حياتنا، لتدفعنا هذه الجرعة الزائدة من الثقة لتضخيم إمكانياتنا في توقّع مسار الخيارات المتاحة لموضوع ما آخر؛ الأمر الذي يُحدِث تشويها واسعا في التوقع وتاليا التقييم، ثم ما تؤول إليه تلك القرارات التي بُنيت على وهم اليقين، ولو كان الأمر كما نتوهمه، فلماذا إذن يستمر مسلسل النهايات البائسة لكثير من قراراتنا؟ ببساطة لأن ما اعتقدناه يقينا لم يكن إلا محض وهْم تخفّى في هيئة يقين.

إذن نحن إزاء إشكالية فكرية جسيمة تعززها عملياتنا الذهنية المعتادة، وعدم معالجتها تكلّفنا ثمنا باهظا، لا لشيء سوى أننا وضعنا يقيننا في غير موضعه، وعليه؛ يمكن الزعم بقوة: إن انحياز الإدراك المتأخر هو حرفيا فن صناعة القرارات المدمرة!

هذا لا يقتصر على الحياة الفردية أو الشؤون اليومية بل ينسحب على قرارات المنظمات والحكومات، ويمس جميع الأصعدة كالاقتصادية والسياسية، والقائمة تطول، فتؤدي إلى انتكاسات مالية وتخبّطات إدارية وحروب طاحنة ومشكلات بيئية كبرى، وقس عليها كل ما يمكن أن يتم اتخاذ قرار حياله، وهو حرفيا كل شيء!

وفي هذا الصدد ثمّة العديد من الحلول المطروحة، ولعل أبرزها - مما يمكن اعتباره بداية صلبة لتفكيك هذا الوهم - ما يقترحه البعض من ضرورة تدوين حيثيات القرار الذي تعتزم اتخاذه، مقرونا بالخيارات الأخرى، بالإضافة إلى الأسباب الداعية لاتخاذه دون ما سواه. إنّ من شأن ذلك أن يقِيم سدا منيعا في وجه الانجرار وراء وهم اليقين حينما يؤول الأمر لنتيجة مختلفة، وإن شئت فقل: إنه أشبه بتسجيل يذكرك بما جرى قبل أن يصيبك تحيّز الإدراك المتأخر بالزهايمر! على أن يصحب ذلك التدوين تقييم فاحص ومتأنٍ ومراجعة ذاتية حازمة، مع إشراك أهل البصيرة قدر المستطاع؛ للوقوف على زوايا أخرى للنظر يُحتمل أنها قد عميت عليك من جهة، وللتأكّد من عدم الانسياق وراء تضخيم إمكانياتنا الذاتية في تقييم الخيارات المتاحة وتوقّع مساراتها المستقبلية من جهة أخرى.

وأثناء تلك العملية الحاسمة، ينبغي لنا أن نتصالح مع فكرة أنه ليس بالضرورة أن تؤول الأمور كشبيهاتها من المواقف التي حدثت في الماضي، فملابسات كل موضوع وإن تشابه مع غيره، مختلفة عن أشباهه، وبالتالي فالاحتمالات غير محدودة، وليست مكررة، هذا المنطلق يقينَا من تشوّه توقّعاتنا المستقبلية؛ لفرط ثقتنا بقدرتنا على توقع مجريات الأمور بدقة؛ نتيجةً لتحيّز الإدراك المتأخّر.

قد يُفهم من هذا الطرح أنه يتجنّى على حقيقة الحدس، وهو غير مُراد، خصوصا حين نتكلم عن الحدس قبل أن تستوي الأمور على جوديّ النهايات، أما ما بعد ذلك، فالشبهة كبيرة في أنه ليس إلا فخّ تحيّز الإدراك المتأخر.

وأود أن أترككم مع هذه اللفتة.. لربما يجدر بنا التفريق بين القرارات السيئة وبين النتائج السيئة! فتحمّل مسؤولية القرارات يعني أن نحاول صنعها بما هو متاح لدينا من موارد وإمكانيات، والاستفادة الواعية بأقصى ما يمكن من أخطائنا الماضية، وما ينتج بعدئذ لا يجب أن نتحمّل تبعات وقوعه من حيث المبدأ، فنتاطعى معه بوعي لا بإلقاء اللوم على أنفسنا، فما يحدث خاضع لعوامل شتى، ونحن لا نملك زمام كل الأمور، فضلا عن أنه واردٌ جدا أن تخرج بعض التفاصيل عن السيطرة؛ وعليه فلا داعي للركون لوهم حتمية الوقوع بعد الوقوع!.

***

محمد سيف – كاتب عُماني

ذكرنا في المقالة السابقة أن الأستاذ الدكتور عصمت نصار – أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، كان من المؤمنين بأنه لا سبيل لتفعيل المشروع النهضوي إلا بإحياء العلوم العقلية وإدراجها في المعارف التعليمية، حيث إن وظيفة التعليم في نظره تعد من أهم وأخطر الوظائف في المجتمع، فعملية التعليم فضلا عن دورها في تثقيف الأجيال الصاعدة فهي تساهم في نظر عصمت نصار الوجدان المشترك وترسم صورة مستقبل الأمة بألوان متجانسة .

إن دولتنا العربية اليوم في نظر عصمت نصار تعيش في حالة شيزوفرينيا أو ازدواجية إن صح التعبير فهي مدنية من حيث الشكل وتعريفها لنفسها، لكن في الوقت نفسه لا زال الدين يلعب دورا رئيسا في التشريع والعلاقات والمعاملات بين الناس، وكذلك في التعليم، فالدين ليس حاضرا عبر مادة التربية الدينية فقط، بل في كافة مواد العلوم الإنسانية أيضا، بل حتى في تعليم العلوم الطبيعية هو موجود، فحتى يومنا هذا لازال تناول نظرية التطور علي سبيل المثال في كثير من الدول العربية مسألة شائكة جدا ومحل جدل وممنوع تدريسها في أغلب دولنا العربية.

وعملية تديين التعليم في نظر عصمت نصار في بلادنا تتم عبر مسارين: مسار رسمي تعكسه مناهج التعليم، ومسار غير رسمي عبر ما يلقنه المعلمون لطلابهم شفاهة من خارج المنهج، بل حتى أن بعض المعلمين ينتقدون ويخطئون ما جاء في المنهج إن وجدوا ما يتعارض مع ما يعتقدون أنه الحقيقة الدينية .

وهنا يتساءل عصمت نصار: هل ما نسميه تديين التعليم شيء صحي؟، أم أنه يتعارض مع بنية ومفهوم الدولة المدنية؟

وهنا يجيبنا  قائلا: أنا أرفض مدنية التعليم وذلك لأن الدين بطبيعته مدنيا، فهو يحوي ثوابت شرعية تندرج تحت ما يسمي قطعية ثبوت وقطعية دلالة، وهذا يعد نوعا من السماحة والاتساع اللذين يستوعبان أي نسق فيه خيرية للإنسان وليس المتبع أو المنضوي تحت عباءة أي دين .

وهنا يريد عصمت نصار أن يكون الثابت آمرا بالمعروف القطعي الذي يقبله العقل، وناهيا عن المنكر الذي يأباه الإنسان علي نفسه وعلى غيره، وأن التطبيق فيه بعض العوار ؛ ومن ثم لا يمكن الموافقة على التفرقة في نظر عصمت نصار ما بين مدني وديني لأن التعليم الديني في رأيه مدني بالضرورة، وهذه القضية قد ناقشها أجدادنا تحت مسمى مثل إشكالية النقل والعقل، وإشكالية الشريعة والحكمة، والآن في نظر عصمت نصار تناقش تحت مسميات مثل إشكالية التعليم بين التدين والمدنية.

وفي نظر عصمت نصار أن خطاب محمد عبده ومن قبله حسن العطار كان يعبر عن الاتجاه المحافظ المستنير الذي جمع بين الأصالة والمعاصرة، والعقل، والنقل، والدين، والتعليم، وذلك لتلبية احتياجات الواقع القائم على فكرة عدم الرفض للمدنية الغربية والعلوم العصرية ؛ علاوة على أن خطاب محمد عبده ومن قبله حسن العطار في نظر عصمت نصار خطاب تجديدي ويمثل مشروع مصري حضاري، وهذا المشروع يعبر عن هموم المجتمع المصري وطموحاته وغاية التطوير والتحديث، وآلياته ومعايير نقض الموروث والوافد لانتخاب الأفضل لدرء المفاسد وجلب المصالح، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل في نظر عصمت نصار على أن خطاب محمد عبده ومن قبله حسن العطار الفكري يدعو إلى تجديد الفكر الإسلامي وفتح باب الاجتهاد والفصل بين الثابت العقدي والفكر الموروث وتجديد اللغة العربية وتحديث ميادين إبداعاتها ونقض الراكد من أساليبها واستبعاد الوحشي من مفرداتها، وتطوير تهوج دراستها .

ولا يعني ذلك في نظر عصمت نصار إنكار دور المؤسسات الأجنبية في بناء خطاب التجديد، بل الذي يريد توضيحه في هذا السياق أن خطاب محمد عبده ومن قبله حسن العطار لم ينتحلوا الأغيار ولم يقلدوا مشروعات الأجانب، بل ابتضعوا المعارف العلمية والمناهج الحديثة والأساليب المتطورة من جل الثقافات التي اتصلوا بها عن طريق حركة التجارة، أو البعثات العلمية أو حركة الترجمة ؛ ثم أعملوا فيها النقد، ووظفوا النافع منها لخدمة مشروعهم الحضاري بعد صبغته بالصبغة المصرية، أي أن محمد عبده ومن قبله حسن العطار قد استطاعوا منذ البداية وضع الأسس والخطوط الرئيسة لخطابهم ومشروعهم، ويبدوا ذلك جليا في ربطهم بين النظر والعمل، وفضلهم بين الثابت والمتغير، وتجنبهم الصدام مع السلطات المهيمنة على صناعة القرار والعمل على توجيهها لخدمة مشروعهم، وتقديمهم تحديد الغايات على البحث في الوسائل، وانتخابهم مناهج التطبيق، ذلك فضلا عن براعتهم في صياغة لغة الخطاب وموضوعيتهم وواقعيتهم في مناقشة القضايا والتغلب على المشكلات.

ويعتقد عصمت نصار أن خطاب محمد عبده ومن قبله حسن العطار كان المرشف الذي فك ظمأ كل من " أمين الخولي "، وعبد المتعال الصعيدي"، ومحمد عمارة" - ويبدو ذلك في قراءة الأخير المتأنية لدعوة حسن العطار لابتضاع المعارف الغربية والكشف عن ما من منافع ونقد الموروث لتخليصه من معوقات التقدم وفتح باب الاجتهاد واستنفار طاقات الأنا لتستيقظ من ثباتها وتحييِ مجدها التليد.

وهكذ يكون التجديد في نظر عصمت نصار ليس حراسة الدين بنفي كل دخيل يمس أصوله أو فروعه، ولا ابتضاع المعارف الغربية بحيث تكون مرهونة بقدرة المسلمين على أسلمتها، وإنما التجديد يعني المزج بين الأصالة والمعاصرة حفاظا على الثابت من العقيدة والانفتاح على كل الثقافات لانتقاء النافع من المتغيرات .

وهنا يفرق عصمت نصار بين التجديد والتقليد، فالتجديد عنده عمل عقلي يمكن صاحبه من نقد الموضوع المراد تجديده فيق على صحيحه ثوابته فيستبعد الفاسد من عواضه ويستحدث عوضا عنها ما يتلاءم مع الأصل ويصبح نافعا ملائما للعصر، أما التقليد فهو المسايرة للغير فحسب، دون فحص أو تحليل، أو الإتيان بدليل أو حجة تبرر اتباعه واقتفاءه، ولا يفرق عصمت نصار بين تقليد الموروث وتقليد المستحدث، فكلاهما مذموم، فليس كل الموروث نافع وليس كل المستحدث ضار، ومن ثم ينبغي على المجدد الاجتهاد في فحص كل هذا وذلك .

وهنا يعلن عصمت نصار أنه في هذا وذلك متأثر بخطاب محمد عبده ومن قبله حسن العطار القائم على تحرير العقل من قيد التقليد، وتنقية الأذهان من الفكر الموروث الذي لا أساس له في الأصول الشرعية وهذا لن يتأتى في العملية التعليمية إلا بالتربية الصحيحة بمنأى عن التعصب والعوائد السيئة، والبحث على طلب العلم، وترغيب القلوب في رضاء الخالق وترهيبها مما يغضبه، هذا بالإضافة إلى الرجوع بالدين إلى نقاءه وسذاجته الأولى ؛ أي قبل الفتن وظهور البدع وانقسام الأمة إلى شيع وأحزاب، وذلك لاستنباط الأحكام من القرآن وصحيح السنة، لتيسير عمل المجتهدين للوقوف على مقاصد الشرع .

وعليه يصبح التجديد عند عصمت نصار هو السير على هدي خطاب محمد عبده ومن قبله حسن العطار من خلال العمل على إزالة ما طرأ على الأصول والكليات والقسمات الأساسية في الشريعة الإسلامية مما يتعارض مع روحها ومقاصدها للكشف عن نقاء هذه الأصول وإعادتها بالتعقل والاجتهاد لتفعل فعلها في مستحدثات الأمور، وما جد ويستجد في واقع الحياة .

ومن ثم يكون التجديد في  نظر عصمت نصار هو القدرة على الانتقاء والتقويم، فالمجدد هو المصلح الواعي، والحكيم الفطن، والمجاهد الذي لا يكل عن فك القيود المعطلة للأفكار الحرة التي تسعى لانتقاء النافع والمعين على نهوض مجتمعه وتقدم... ( وللحديث بقية)..

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي – كاتب مصري

قراءة في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة!

قال ذو القُروح، وهو ما يزال يشدُّ شعر رأسه، كما يفعل عادةً عندما يحاورني:

- السؤال الذي يستدعي الإجابة الواقعيَّة والعِلميَّة، لا الحكايات الأُسطوريَّة: أحقًّا تلك الحكاية النوعيَّة، التاريخيَّة الاجتماعيَّة، التي تُبسَّط على ألسنة بعض النِّسويَّات والنِّسويِّين، وكأنها حكاية "أُمِّنا الغُولة" للأطفال قبل النوم؟

- أيُّ حكاية، صدَّعتَ دماغي، يا رجل!

- تلك الحكاية التي يزعمونها- مغمضي العيون ككلِّ المؤدلَجين- وراء التحوُّل من قداسة الأُنثى إلى قداسة الذَّكَر، ومن التاريخ الأُنثوي إلى التاريخ الذُّكوري، بالتحوُّل البَشَري إلى المجتمع الزِّراعي، وأنَّ ذلك هو الأصل التاريخي للهيمنة الذُّكوريَّة! غير متسائلين: أفكان هناك تحوُّلٌ مثيلٌ إلى المجتمع الزِّراعي في عالم الحيوان أيضًا، أفضى إلى الهيمنة الذُّكوريَّة؟!  لأنَّ الظاهرة هي هي في مجتمع الإنسان ومجتمع الحيوان، بما في ذلك السُّلطة الذُّكوريَّة، وتوزيع المهامِّ بين شؤون الأُسرة الداخليَّة ورعاية الصغار، وشؤونها الخارجيَّة من كسب الرزق والدفاع عن البيت. ولا علاقة للموضوع، إذن، بثورة زراعيَّة، ولا صناعيَّة، ولا يفرحون! ثمَّ أتُرى ذلك هو السبب في التباين بين الجِنسَين؟ أم أنَّ الأُنثى- أيَّ أُنثى من مخلوقات الله- مختلفةٌ تكوينًا ووظيفةً عن الذَّكَر أصلًا؟ وهي لأجل هذا تَـمُرُّ بيولوجيًّا وسيكولوجيًّا بدورات...

- دورات؟

- نعم دورات من عدم الاستقرار، في شهرها، وسنتها، وحَملها، ووحامها، ونفاسها، وولادتها، وعُمرها، وسِنِّ يأسها، تختلُّ بها هرمونات جسدها، واتِّزانات أعصابها وذهنها ونفسها؟

- مبالغات لمآرب ذُكوريَّة أخرى!

- هذا ما يُثْبِته العِلم الحديث. ونجد فيه ما يفسِّر معنى الحديث النَّبويِّ بـ"نقص العقل في المرأة"، الذي ظلَّ إشكالًا لا يُراد قبوله، أو قد يُحتال في تفسيره، مع أنَّه حقيقةٌ، يُثْبِتها العِلم.

- يا عيني على العِلم!

- لماذا تُنكِر الحقائق الفِطريَّة والطبيعيَّة؟ أو تُفسِّرها في المقابل تفسيرات تستهدف غمط الأُنثى حقوقها؟

- أ هناك غمطٌ أشدُّ من غمطك، يا ذا القروح؟!

- لا شكَّ أنَّ المرأة تَـمُرُّ بحالات شتَّى، هي جزءٌ من تكوينها الأُنثوي، لا يمرُّ بها الرَّجل، بل لا يعرفها، ومن ثَمَّ فحاجاتها الجسديَّة والجِنسيَّة والنَّفسيَّة وحاجة الرَّجل مختلفتان حتمًا، طاقةً وتكوينًا وعُمرًا، وتترتَّب على ذلك بالضرورة الفروق بينهما.

- سلَّمنا جَدَلًا، ما النتيجة التي تريد الوصول إليها عبر كلِّ هذا المخاض؟

- تترتَّب على هذا ضوابطُ حياة المرأة وعملها، والوظائف التي تناسبها، لا عن ظُلم، بالضرورة، أو تحيُّزٍ مبيَّتٍ ضِدَّ المرأة، ولكن لأنَّ تلك هي الطبيعة التي خلقها الله، وتلك سنَّته في كونه.

- يا سلام!

- إنَّ للأُنثى حالات وحالات، لوظيفتها الحيويَّة في الحياة، فهي اليوم حائض، وغدًا تتوحَّم، وبعده نفساء، وبعده مرضع.. وهكذا.

- كلام الشيخ الشَّعراوي!

- بل كلام الشيخ العقلاوي!  أفمِن العقل والعدل أن يُساوَى الجسد وتساوَى النفس، وهذه أطوار حياتهما، بحياة الرجل وأطوارها؟! إنَّ في هذا ظُلمًا للمرأة، وتكليفًا لها فوق طاقتها، من حيث يتردَّد الزعم بإنصافها.

- وأنت من ستنصفها، يا ذا القُروح والحنان؟

- لا يعني هذا التفضيل المطلَق لأيٍّ من الذَّكَر أو الأُنثى على الآخَر، لا عند الله ولا في الحياة، لكنه يعني أنَّ كلًّا مُيَسَّرٌ لما خُلِق له؛ ولو تساويا لفسدت الأرض وانتهت الحياة.  تلك الحياة القائمة على التكامل لا على التماثل.

- أعرفُ ما تُجَمْجِم للوصول إليه.  وهو أنَّه، بناءً على مقدمتك، يصحُّ القول: إنَّ الأُنثى ناقصةٌ قياسًا إلى كمال الذَّكَر...

- كلَّا!  بل إنَّ الذَّكَر ناقصٌ قياسًا إلى كمال الأُنثى، كما أنَّ الأُنثى ناقصةٌ قياسًا إلى كمال الذَّكَر!

- مَن كمال الذَّكَر؟!  تظلُّ المعادلة صعبة!

- أين المشكل؟ إنَّه الاختلاف الحيويُّ الضروريُّ في كلِّ مخلوقات الله. ولقد ثبت عِلميًّا أنَّ خلايا دماغ المرأة تنقص بنسبة 4% عن خلايا دماغ الرجل، كما ينقص نسيج دماغ المرأة نحو 100 غرام عن نسيج دماغ الرجل. 

- الله أكبر!  هكذا اظهر على حقيقتك!

- هل العِلم أيضًا ذُكوريٌّ حين يقول مثل هذا؟!  على أنَّه بالرغم ممَّا يُثْبِته العِلم من زيادة خلايا الرجل الدماغيَّة،  يبدو بأنَّ النِّساء عندهنَّ ارتباطات شجيريَّة أشدُّ بين خلايا الدماغ.

- أكيد عندهنَّ ارتباطات أشدُّ بين خلايا الدماغ؛ ولذلك هنَّ صابراتٌ عليك وعلى أمثالك!

-وهذا ما يعطي المرأة تفوُّقًا على الرجل في سرعة معالجة المعلومات. أمَّا فيما يتعلَّق باللُّغة، فيبدو أنَّ معظم النِّساء يتفوَّقن على الرجال من حيث إمكانيَّة استخدامهنَّ كِلا فَصَّي الدماغ الأيمن والأيسر في المعالجة اللُّغويَّة، على حين يعتمد الرجل في الغالب على فَصٍّ واحد، عادةً هو الأيسر.

- "فَصّ مِلْح وذاب!"  المهم يبدو أنَّ الفصَّ الآخَر في دماغك ابتدأ يعمل الآن!

- قلت لك: ليس لديَّ ولا لديك إلَّا فَصٌّ واحدٌ للمعالجة اللُّغويَّة غالبًا. على حين أنَّ المرأة تتفوَّق عليَّ وعليك في إمكانيَّة استخدامها كِلا فَصَّي الدماغ الأيمن والأيسر.  وهذا يمثِّل تقدُّمًا للمرأة على الرجل في هذه الخاصيَّة.

- هكذا سيزعل عليك أسلافك وأحفادك من الذُّكوريِّين!

- إنَّ بإمكان المرأة، لو حدث لها عطب في فَصِّ دماغها الأيسر، أن تستمرَّ قُدرتها اللُّغويَّة اعتمادًا على الفَصِّ الأيمن.

- وأنا أقول: لماذا كلام حَرمنا لا ساحل له؟!  كلُّه من الفصَّين!

- فيما لو أصيب الرجل في فَصِّ دماغه الأيسر، لكانت قدرته على تعويض ذلك لُغويًّا أقل كفاءة.(1)

- لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله! لِـمَ، إذن، معظم الشعراء والأدباء والثرثارين، أمثالك، وعبر التاريخ، هم من الرجال؟

- تلك حكاية أخرى، ربما ترتبط بالتعليم، والحُريَّة الاجتماعيَّة. 

- ما الفائدة، إذن، من الفَصَّين؟

- ربما كان هذا التميُّز للمرأة مهمًّا وحيويًّا على نحوٍ خاصٍّ لموقع المكوِّن اللُّغوي في شخصيَّتها الأُسريَّة، من حيث هي أُمٌّ ومُربِّية.

- وزَنَّانة...!  لكن ما تقوله هذا كان قديمًا!

- تظلُّ المرأة مُربِّية، لأولادها أو لغيرهم.

- حتى لزوجها؟!

- حتى لزوجها!  وإنْ كان هذا التميُّز قد يوظَّف، ولاسيما في مجتمعاتنا الشرقيَّة، في مزيدٍ من الثرثرة! على أنَّ الثرثرة في ذاتها قد لا تخلو من فائدةٍ أُسَريَّةٍ أو اجتماعيَّة.  ولولا تلك الميزة لما استطاعت (شهرزاد)، على سبيل الشاهد، ترويض الوحش داخل (شهريار)، من خلال السِّحر اللُّغوي والحكائي! 

***

وانتهيت مع (ذي القروح)، وهو يودِّعني لدَى الباب، إلى وعدٍ بأن أكتم عليه ما باح به من أسرار؛ كيلا تتَّصل أنباؤها بنسائه، لا سمح الله!  ولقد وفيتُ بوعدي له، وإنَّما أبثُّ هنا أسرار ذلك المجلس لعِلمي أنهنَّ لا يقرأن ولا يكتُبن!  فاكتموا عني وعنه ما استطعتم، أثابكم الله!

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

 ...............................

(1)  يُنظَر في هذا ما يقرِّره (سايمون بارون-كوهين Simon Baron-Cohen)، مدير مركز بحوث التَّوَحُّد، بجامعة كامبردج، حول "الفرق الأساس بين دماغَي الرجُل والمرأة"، في كتابه تحت عنوان:  The Essential Difference: Men, Women and the Extreme Male Brain، (نُبذة عنه) على صفحة "الإنترنت" ذات الرابط:

http://www.doctorhugo.org/brain4.html

بعد أفول نجم الحضارة العربية الإسلامية وغروب مرحلة الازدهار وتألق الفكر الإسلامي، ظهرت علامات التخلف والانحطاط وكثرت صيحات التكفير والتهويل وفتاوى التحريم  وغيرها مما أدخل الفكر الديني في حالة من الفوضى وعدم التوازن، ومع بزوغ عصر فجر النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وبدايات القرن العشرين، ظهرت ثلة من العلماء والمفكرين والمجددين داخل فضاء الفكر الإسلامي .

ومن أبرز هؤلاء الإمام محمد عبده (1849-1905) حيث أخذ على عاتقه مهمة التجديد في أمور الدين من خلال تحرير   العقل العربي من الجمود الذي أصابه لعدة قرون، ومن أجل هذا وصفه الكاتب الكبير محمود عباس العقاد "بعبقري التنوير،" ووصفه الكاتب السيد يوسف "برائد الاجتهاد والتجديد للفكر الديني،" ووصفه آخرون بباعث الدولة المدنية وإمام المجددين، وقال عنه الكاتب والمفكر محمد عمارة إنه مجدد الدنيا بتجديد الدين.

وفي دراسة قيمة للدكتور جميل صليبا بعنوان " الانتاج الفلسفي – الفلسفة عموما وفلسفة العلوم "، نشرت ضمن كتابه الفكر الفلسفي في مائة عام، أن الوطن العربي شهد عدة اتجاهات رئيسة، ومنها تيار العقلانية كما فهمها مفكرون عرب أمثال محمد عبده والذي كان مؤمنا  بأن المشكلة ليست في الدين، وإنما في الفهم الخاطئ له، وما تراكم على هذا الفهم من أفكار استمرت في الوجود واكتسبت قداسة طمست حقيقة الإسلام التي تدعو للبناء والرقي المادي والروحي، باتساع المكان والزمان ووفق متطلبات كل عصر.

ومشروع  الإمام محمد عبده قد تبناه عدد كبير من مفكرينا المعاصرين، ومن أبرزهم صديقي الأستاذ الدكتور نصار – أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، حيث كان يؤمن بأن الإمام محمد عبده واحدا من كبار المجددين المصرين المعاصرين الذين أمنوا ، بأنه لا سبيل لتفعيل المشروع النهضوي - الذي خطط له وشرع في تنفيذه - إلا بإحياء العلوم العقلية وإدراجها في المعارف التعليمية والترويج لها في الصحف وعقد الحلقات النقاشية لتبسيطها للجمهور وإقناعهم بأنها خير سلاح يمكن للمسلمين الزود به عن دينهم أمام هجمة غلاة المستشرقين الشرسة التي أعدت العدّة للتشكيك في أصول الدين وسنة النبي والتاريخ الحضاري للأمة الإسلامية ونشر الإلحاد بين شبيبة هذا العصر.

وفي نظر عصمت نصار ( مع حفظ الألقاب) أنه قد أرادوا بذلك استكمال الطريق الذي مهّد له حسن العطار في حديثه عن التجديد وتلميذه رفاعة الطهطاوي وما كان يكتبه من الأبحاث الفلسفية في (مجلة روضة المدارس 1870م) وجهود على مبارك في إصلاح التعليم وإنشاء دار الكتب 1870م ودار العلوم 1872م .

ولذلك رأينا أن من أهم القضايا في نظر عصمت نصار والتي كانت تناقش في مجلس محمد عبده قضية ضرورة تبرأة الحكمة العقلية والمصنفات الفلسفية من تهمة الإلحاد التي ذاعت بين الأزهريين إلى درجة تحريمها والارتياب في عقيدة كل من يتحدث عن الفرق الكلامية، ولا سيما المعتزلة والكتابات العقلية مثل فلسفة ابن رشد وابن خلدون وذلك حتى عام 1871م.

ولم تقف دعوته الإصلاحية عند هذا الحد كما يؤكد عصمت نصار؛ بل فتح باب الاجتهاد متخذاً من المنطق والقياس العقلي منهجاً في الاستنباط، ونادى للتوفيق بين المذاهب الطائفية والفقهية والكلامية، وفرّق بين الحكمة العقلية والنظريات الفلسفية من جهة والنظر العقلي وآراء المتفلسفة من جهة أخرى، ومج التعصب بكل أشكاله، وكره أن يوصف بالكفر من يبوح برأيه حتى لو كان مخالفاً للمألوف أو المتفق على صحته، والأصوب في رأيه مجابهة الكتابات الجانحة والمعتقدات الشاذة بالمثاقفات العقلية والحجج العلمية والمنطقية والشرعية من قبل العلماء، وليس من فيهم المتعالمين والأدعياء، ولم يوافق كذلك على مصادرة الكتب أو معاقبة المجترأين؛ بل كان يرى أن الحوار والمحاججة أيسر السبُل لإثبات بطلان ادعاءات الخصوم أو كذب المدلّسين. كما دعا لتشكيل مجلس أعلى للعلوم الإسلامية للحد من خلافات الأقطار الإسلامية من جهة، والصراع الملّي من جهة ثانية، وتجديد فقه المعاملات والأحوال الشخصية تبعاً لثقافة العصر ومقتضيات الواقع من جهة ثالثة؛ ذلك فضلاً عن حثه لأول مرة ضرورة إدراج علم مقارنة الأديان، وتاريخ المذاهب الفلسفية، وكتابات المستشرقين والرد عليها، والفلسفات قديمها وحديثها، والأخلاق والمنطق، والتوسع في علم الكلام، ضمن المناهج الدراسية العالية، ولاسيما للطلاب المتخصصين في علوم الدعوة.

وفي نظر عصمت نصار أن ما توصل إليه محمد عبده في هذا الصدد راجع إلى إيمانه العميق بالخطاب الفلسفي عند ابن رشد، حيث ذهب إلى بعث الفلسفة الرشدية خاصة والمعارف الفلسفية من جديد في الثقافة العربية بعد أفولها، وارتدى بذلك عباءة ابن رشد وراح يدافع عن الحكمة العقلية مؤكدا موافقتها للدين وأن عزوف الأزهريين عنها لا مبرر له إلا الجمود والجهل .

وفي نظر عصمت نصار أن مشروع محمد عبده قد لقي ترحيبا منقطع النظير لدي هو الشيخ مصطفى عبدالرازق (1885م-1947م) الذي نجح في إكمال ما بدأه المراغي والظواهري وجمع حوله عشرات التلاميذ من شبيبة الأزهر المؤمنين برسالة الإمام "محمد عبده"، ومشروع النهضة والاستنارة مثل محمد فريد وجدي (1878م-1954م) الذي أثرى الثقافة الإسلامية بمناظراته العلمية حول قضايا الفكر الإسلامي وذلك منذ توليه تحرير مجلة الأزهر عام 1935م.

كما لقي ترحيبا لدي الدكتور محمد يوسف موسى (1899-1963م) الذي كشف عن أثر فلسفة ابن رشد في الثقافة الأوروبية والفلسفة المسيحية، ونبّه على بعض الأغاليط التي أُلصقت بفكر ابن تيمية، وبين وجهته العقلية في نقد المنطق الأرسطي واجتهاده في ميدان الفتوى وانتصاره للعقل في معالجة الكثير من القضايا. ذلك فضلاً عن مقابلة محمد يوسف موسى بين القوانين الوضعية للشريعة الإسلامية وتبيان حكمة الباري في دستوره والفلسفة الكامنة وراء آيات القرآن الكريم.

ولم يكتف نصار بذلك بل رأيناه يضم الشيخ عبد المتعال الصعيدي (1894م-1966م) حيث يقول عنه بأنه أحيا خطاب التجديد عند محمد عبده، ووضع شروطاً للداعية المجدد، وحدّد المفهوم الحقيقي للأصولية الإسلامية، وفعّل منهج الشيخ "محمد عبده" في تجديد علم أصول الفقه وعلم التوحيد، وناقش العديد من القضايا المعاصرة للمنهج العقلي البرهاني.

والسؤال الآن : ما السمات المميزة لمشروع محمد عبده المستنير في نظر عصمت نصار؟

وهنا يجيبنا نصار بأنها تقع في سبع قواعد:

أولها: الانتصار للعقل.

 وثانيها: نقض الغلو والتطرف والبدع والجمود المذهبي.

وثالثها: العودة بالدين إلى سذاجته الأولى.

ورابعها: إصلاح حال اللغة العربية،

وخامسها: الاحتكام إلى أساس مركزي ثابت يستطيع استيعاب سائر المتغيرات تبعاً للواقع المعيش ويتمثل ذلك الأساس في الفصل التام بين الثابت والمتحول على أن يكون ذلك الثابت مرناً على نحو لا يؤثر في قوة صلابته واستمراره، وذلك لأنه يحوي المشخصات الحاكمة للمجتمع والمقاصد العقدية والولاء والانتماء والعمل الجاد للحفاظ على تماسك البناء الاجتماعي. أمّا المتحول؛ فيتسم بالوعي والوجهة النقدية العملية دون أدنى محاولة منه للخروج عن نطاق الثابت الذي يحويه ويختص به لاستيعاب الوافد من المعارف ونقد المستحدث من النظريات والقوانين والنظم وانتخاب النافع من الوسائل والآليات التي توافق الواقع المعيش والحفاظ دوما على حرية البوح والخلاف.

وسادسها: رفض السلطة الثيوقراطية وحكم الكهنة، ويرجع ذلك إلى وعي مدرسة العطار، ومن بعده محمد عبده وتلاميذه بمفهوم السياسة الشرعية الذي يختلف تماماً عن مصطلحات الحكم الإلهي والحكمة الشرعية والحاكمية الربانيّة وغير ذلك من المصطلحات التي زَجّ بها المتطرفون في ميدان السياسة وأمور الحكم والتأكيد على أن الأمة مصدر السلطات، وأن الإسلام لم يخصّ جماعة أو هيئة أو فئة للحد من حرية العباد.

وسابعها: نقد التعارض بين الدين والعلم والفلسفة والشرع؛ فقد ذهب الأستاذ الإمام وتلاميذه إلى أن الإسلام قد حرص على الإعلاء من شأن العلم وأهله، وبيّنوا ذلك في التفاسير المتواترة للقرآن، وأحاديث النبي صلوات الله وسلامه عليه،  وسيرة صحابته، وسلوك الخلفاء الذين حكموا ديار الإسلام، ويشهد بذلك تاريخ العلم في العصر الوسيط. وقد أهتم رواد مدرسة الإمام بعديد من الأمور ذات الصلة. أولها: التأكيد على أخلاقيات العلم وضوابط سلوك المشتغلين به، والحرص على انتقاء النافع والمفيد من المعارف بغض النظر عن جنسية أو دين أو توجّه منتجيها، وعدم الخلط بين الأحكام الظنيّة والرؤى الاستنباطية، والشائع من الأخبار والأمور المتعلقة بالدين في ميدان البحث العلمي. ومن ثمَّ لا يحق لغير المتخصصين في الأمور العلمية الإدلاء بالفتاوى المُحرضة أو الناهية أو المعطلة لمّا ثبت نفعه بالبرهان العلمي، أو وضع المصنفات التي تربط بين الآيات والأحاديث والنظريات العلمية التي لم يثبت بعدُ القطع بصحتها؛ بل على المفسرين والمألولين تفسيرُ مقاصد الآيات في ضوء الثقافة المطروحة على نحو لا يتعارض مع العقل من جهة، ولا يناقد التجربة والتطبيق من جهة ثانية، ولا ينكر الواقعات المسلم بحدوثها في القرآن وصحيح السنة مع عدم ارتياح العقل لها (وللحديث بقيّة)..

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

كاتب مصري

قال أبن خلدون ان عمرالدولة اربعة اجيال سماها دورة العمران، وأعتقد انها قاعدة سياسية ثابتة لأعمار الدول، وعددها باربعة مراحل الأولى الظفر والقوة والسلطان، والثانية دور الفراغ والدعة وفيه تقصير السامع بالشيء عن المعاني له، والثالثة المسالمة والتقليد والهدوء، والرابعة الاسراف والتبذير، وبداية السقوط للدولة ونهاية المجد، لا تتعداها اية دولة، وأعتبرها نظرية ثابتة تسري على كل الدول دون تغيير، فهل كا ن اعتقاده يتوائم مع صواب النظرية الحضارية العالمية، أم يتعارض معها؟ هكذا تعلمنا من منهجنا الدراسي الخطأ،

وليعلم القارىءان قيام دول المسلمين التي اتخذها ابن خلدون قاعدة لنظريته الفاشلة قامت على اسر معينة فقدت شروط دولة القانون، الامويون قاموا على السيف والقوة دون النظر الى صالح الجماعة او احترام القانون، او حتى لدماء الناس واموالهم.فقد قتل حجربن عدي واصحابه دون جريرة تستوجب استحلال الدم لمطالبتهم بتحقيق العدالة بين الناس. وامر يزيد بن معاوية بقتل الحسين بن علي في كربلاء دون حق او اكتراث بمشاعر الامة لمطالبته بالعدالة. وفي العهد المرواني أقترفت جنايات بشعة في العدل والحق والقانون لحماية البيت الحاكم. نظرية سارت عليها دولة الاسلام الفاشلة حتى النهاية، ولم تراعِ الشرعية والقانون، بأعتقادي لو ان الامويين حكموا وفق نظرية القانون لكانوا احسن من حكم المسلمين، لأنهم علمانيون يؤمنون بالتطور الحضاري العام.

وقامت دولة بني العباس بانفرادية السلطة دون استشارة الامة، وهي مثل سابقتها الاموية أقترفت اكبر الجرائم في القتل وحقوق الناس وانتهاك الشرعية الدينية فكانت قوانينها العصبية القبلية والاحقية الدينية وزادت على ذلك اشراك العناصر الفارسية الحاقدة على العرب، حتى سقطت عام 656 للهجرة على يد المغول.وهكذا دولة الفاطميين والصفويين والعثمانيين وغيرهم كثير.

كل الدول الاسلامية التي نشأت بعد وفاة الرسول (ص) لم تحرص على استيفاء الجانب الشرعي من تكوينها، فكان سقوطها حتميا لمخالفتها شرعية القانون، وستسقط كل الدول التي لاتعترف بشرعية القانون.

قبلَ ابن خلدون كتب المؤرخ الروماني توكيديد الذي قال: انه لاجديد في حوادث التاريخ، وان كل مايحدث اليوم حدث مراراً قبل ذلك، وسيحدث مراراً في مُقبل الزمان، والتاريخ كله ليس الا دائرة شريرة لا يزال البشر يدورون فيها، وكلما أتموا الطواف فيها مرة بدأوا من جديد.

وفي فلسفة التاريخ عند الفرس قال: أردشير بن بابك مؤسس دولة آل ساسان الى خلفائه، لا تزال ُتكرر هذه الفكرة وتحذر الملوك من الأغترار بالدنيا والجاه والسلطان، وتؤكد ان الزمان لا جديد فيه، فهل قرأ اصحاب السلطة ما كتبه القدماء من المؤرخين نتيجة تجاربهم العميقة في فلسفة التاريخ ليعدلوا مع العامة قبل نهاية السقوط.

ومن ماخذ نظرية ابن خلدون انها ترى ان الحضارة والتركيز على من يملك اسبابها يضعف فيه النزوع الى القوة والصراع من اجل بناء الدولة القوية، حين يتجه نحو الترف فيفسد ويضمحل تدريجيا.هنا يُخطأ ابن خلدون في هذا الاعتقاد لان التدرج في المراتب الحضارية بعدالة القانون لا يضعف الانسان بل يقويه ويقويها في العلوم والمعارف والخبرة والتجربة، فالدولة لا تنشأ وتقوى بالدين بل بالقانون والاعتراف به كتطبيق، لذا فشلت الدول الدينية عبر التاريخ لعدم ألتزامها بالعدل والقانون ومنها دولة الاسلام التي نشأت معادية للحقوق والقانون.

نقول ان الذي يضعف البشر هو سوء استخدامهم لنعَم الحضارة، والتوجه نحو التنعم والتبطل والدعة عند اسرافهم لما ملكوه من اسباب التمدن، ويزهدون في العمل والجهد ومراعاة القانون، فيحاولون استبدال القانون بالقوة مغطاة بشرعية الدين، فيتجهون نحوالمال والسلطة والجنس، فتضعف قوتهم في قبضتهم على السلطان، فيفلت زمام الامور من ايديهم بالتدريج، فيتمهد الطريق لغيرهم للتغلب عليهم وانتزاع الملك والسيادة منهم، وهذا مايحصل حتى اليوم لمن خانوا الله والقسم واليمين وعدالة القانون.

ان من لا يستطيع السيطرة على ادوات الحضارة سيطرت عليه، فهم كالطفل الذي بيده عود الثقاب ولايسطيع السيطرة عليه فيحرقة ويحرق من حوله جهلا بحقيقة الاستخدام، كالحروب الاعتدائية التي لا يحسب القائمين عليها حسابها، ولا شاربين الخمر الذين يسرفون في شربها مع انها غير محرمة.لكن الايغال فيها يعد منقصة في الاستخدام.وفي هذا الخصوص يقول القرآن: "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما أثم كبير ومنافع للناس وأثمهما أكبر من نفعهما، البقرة 219 ". لكن الفقهاء اسرفوا في التحريم وهوليس من حقهم حين قالوا: "ما أسكر كثيره فقليله حرام"فوضعوا بذلك قاعدة خاطئة بتحريمه دون معرفة النص.

وكذلك في الحروب لم يفرقوا فيها بين الاعتداءوالدفاع عن النفس لمصلحتهم في الكسب والسرقة واستغلال النساء لهم زيادة في الترف دون مراعاة الحقوق كما حصل في الفتوحات الاسلامية الباطلة المجافية لحقوق نشر الدعوة بقناعة المنطق وعدالة التشريع.

ويبقى الموقف الثقافي الملتزم بالعقيدة والقانون هو الذي يعين الانسان على اتخاذ الموقف الصحيح. ويجعله يستطيع اتخاذا موقف سليم من الحضارة وادواتها والترف واشكاله، فالتحجج بالدين والتشريع يرافقه الظلم والفساد والخيانة لا يتفق وشريعة العدالة في الدين،

هذا ما عانينا منه منذ مجيء الاسلام والى اليوم، لذا فأن المسلمين رافقهم الفشل الا قوة السيف وباطل القانون، بعد ان انهارت قيم الحياة المقدسة عندهم حين اشاعوا نظريات الفساد والرشوة واغتصاب النساء بحجة وما ملكت ايمانهم باعتباره شطارة على الاخرين، هنا سقطت قدسية الحضارة واصول الدين فباتوا عرايا اما م القانون كما في دولنا الاسلامية اليوم، وسيسقطون الى الابد بعد ان ابتعدوا عن استقامة الطريق فاصبحوا لغزاً محيرا ملفوفا بالغموض.

ان الحقيقة الدينية التي بها اغتصبوا الحقوق وخانون القيم والاصول خطئاً، هي خالية من التعصب وعليهم ان يعلموا انها حقيقة تتغير وتتطور وليست مطلقة ومنقوشة فؤق حجر، على المسلمين الاصرار على تفسيرالقرآن من جديد وفق مفاهيم التطور اللغوي والتجريدات اللغوية الحقيقية للنص، لا اقوال المفسرين الجهلة الذين اتخنا من تفاسيرهم للنص، دين، والا سنسقط نحن نحن والدين معاً، والسقوط لا يعني الانتهاء، بل يعني الفشل الدائم في التطبيق.

***

د.عبد الجبار العبيدي

في مرحلة التحوّلات التاريخية الكبرى الجارية اليوم في البلاد العربية، المتتابعة بسيروراتٍ مختلفة، وباحتمالات وصيرورات متنوّعة، وإن كانت لا تزال في مراحل انتقالية تفاعلية، ولم تستقر على نتائج بعد، فإنها تتطلب دوراً مركزياً للمثقفين العرب.

إن غياب المثقفين العرب عن المشهد الحالي الذي يقوم فيه الكيان الصهيوني بارتكاب أبشع الجرائم ضد الإنسانية في عدوانه على قطاع غزة، يعيد من جديد إثارة السؤال المتعلّق بأدوار المثقفين العرب في تاريخهم الراهن، في مجتمعات تتغيّر، ومخاطر مصيرية تتطلب مواقف واضحة، ومجابهة العدوان والقهر، والتصادم مع أنظمة الاستبداد، وقيادة نضال الجماهير لتحقيق أهدافها بالحرية، والعدالة، والكرامة، والمواطنة، والديمقراطية. وكذلك الوقوف إلى جانب الكفاح الذي يخوضه الشعب الفلسطيني لتمكينه من انتزاع حريته وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.

منذ القدم كان المثقف صوت المجتمع الصادق وضميره اليقظ، والكثيرون منهم سددوا أثماناً فادحة لمواقفهم بدءاً من سقراط الذي أعدم بسبب أفكاره، عبوراً بقتل الشاعر الشهير الضرير "بشار بن برد العقيلي" ببيتين من الشعر، وفي التاريخ الإسلامي شهدنا ابن الهيثم، وابن رشد، والكندي، وابن سينا، والفارابي، وابن حيان. وعربياً عبد الرحمن الكواكبي، وعباس محمود العقاد، وطه حسين، وإدوارد سعيد، ومحمد عابد الجابري، عبد الوهاب المسيري، عبد الله العروي، محمد أركون، جورج طرابيشي، وسواهم المئات من المثقفين عبر العصور بسبب انشغالهم في قضايا واقعهم.

مثلما أسهم المثقفون التنويريون الغربيون في نهضة أوروبا، وكما فعل روّاد عصر النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر فيما أُطلق عليه حركة التنوير العربية، أو اليقظة العربية، لما تم فيها من مقاربات التجديد الديني، وإنقاذ كبير للهوية العربية، بعد أن كادت أن تتأثر بكل ما حل عليها من ثقافات خارجية. فإن الراهن العربي البائس بكافة أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية، يفرض تحديات جسيمة، وأسئلة مركبة كبيرة ومعقدة، تتطلب مقاربات وإجابات علمية من عقول متخصصة ومتسلحة بالمعرفة والوعي والبحث العلمي، وهذا دور ومهمة المفكرين والمثقفين العرب الأصليين. ومن أبرز القضايا الكبرى التي تتطلب انخراط المثقفين العرب حالياً التحرك لمواجهة  العدوان الإسرائيليّ الوحشي على قطاع غزّة، والذي اتخذ شكل الإبادة الجماعية بكل أشكالها.

صورة المثقف العربي

منذ أواسط القرن العشرين، المرحلة التي شهدت استقلال الدول العربية تم تحديد صورة المثقف العربي الذي رسمت ملامحه الأحداث والأفكار التحررية المناهضة للاستعمار التي كانت سائدة في تلك الفترة. حيث استلهم المثقف العربي مكانته من تجارب المثقف الغربي النقدي وما أفرزته هذه التجربة من معارف نقدية وافكار وعلوم تنتصر للإنسان في مواجهة السلطة القمعية. حيث قام المثقف العربي بتقليد ما قام به المثقف الغربي من مواجهة العسف وتقييد الحريات التي ما رسها الاستعمار بأنماط متعددة في طول البلاد العربية وعرضها. فتبلورت صورة المثقف العربي في خضم القضايا العربية الكبرى، بدءً من معركة التحرر من الاستعمار الغربي، مروراً بمعركة تحرير فلسطين، إلى مناهضة الامبريالية وبناء الأوطان. ثم انخرط هذا المثقف بمهام تشكيل الهوية والسيادة والوحدة الوطنية، ومهام الحريات العامة، فكان المثقف الملتزم والعضوي والثوري والمناضل هي تسميات عكست الطابع الثقافي لتلك الحقبة الزمنية.

نجد أن المثقف تحول حينها إلى حالة رمزية واكبت جميع الأحداث التي ألمت بمنطقتنا. في عهد الثورة الجزائرية ساهم المثقفين العرب في تحويل المزاج العام للشارع العربي إلى حالة مناهضة للاستعمار الفرنسي والوجه القبيح للغرب. في فترة الثورة الفلسطينية احتل المثقف العربي مكانته الريادية في العداء للصهيونية وابنتها إسرائيل. وفي المرحلة الناصرية أيضاً كان للمثقف العربي مساهمته في جعل هوى الشارع العربي قومياً وحدوياً مؤمناً بمستقبله.

إن المثقف العربي الذي آمن بثورات التحرر العربية، وانخرط بحماس في القضية الفلسطينية، وارتفع صوته لنصرة القومية العربية، وسحرته الثورات الاشتراكية، وحلم بالمدينة الأفلاطونية، وجد نفسه خارج الأطر التي شكلت صورته عبر سبعين عاماً، حيث انهارت الأيديولوجيات الكبيرة من الماركسية التي أبهرت المثقفين العرب وسواهم، إلى القومية التي التف حولها كل من آمن بفكرة الصحوة العربية ومناهضة الاستعمار، فانتهت إلى عصبية فكرية عنصرية الميول. عبوراً للناصرية التي أفسدتها النزعات العسكرية، وتراجع الانشغال بالقضية المركزية للعرب -فلسطين- إلى أدنى مستوياته.

المثقف كما عهدناه

المثقف العربي كما نعهده أصبح شيئاً من الماضي، تخطته الأحداث والتحولات التي تجري -وماتزال- في المنطقة العربية، خاصة خلال العقود الأخيرة. فقد انكفأ المثقفون اليساريون العرب عقب انهيار الاتحاد السوفيتي واعتبروا أن الأفكار التي تدعو إلى البناء كفراً بعد "البروسترويكا". والمثقفون القوميون تمادوا في التطرف والعنصرية كلما تكشف أن نموذج الدولة القومية لا يخرج منه إلا التغول في القمع والاستبداد. أما نظرائهم المثقفون الإسلاميون فتبين أنهم عاجزون مثل الآخرين، وغير قادرين على تقديم نموذج أفضل، فكانت الطامة الكبرى أن تحول جزء منهم إلى حالة عدمية تكفيرية بذرائع متخيلة.

إن الأزمات العربية المتعددة والمتتالية أحدثت إرباكاً شديداً في إيقاع المثقف العربي، بصورة تشتت مكوناته وأدخلته في تجاذبات فكرية وأحداثاً لم يكن متهيئا لمقارباتها. وبدلاً من التوقف عن التقديس التراثي للالتفات عما هو حاضراً ومؤثراً، تجد العديد من المثقفين يحاولون إعادة إحياء العظام وهي رميم. أما المثقفين الحداثيين فقد اتبعوا منهاج النقل والاتباع لا الخلق والإبداع، فوقعوا في فخ التبعية للمذاهب الفكرية المتنوعة. هذا يفسر في مقاربته جزء من أسباب غياب الدراسات الفكرية والعلمية، والخطط الاستراتيجية الجيوسياسية في معظم الواقع العربي، والتي تقوم على مبادئ محلية تراعي في تشكلها الظروف والمكونات الوطنية.

بعد أن تقوضت الفكرة الاشتراكية بنموذجها السوفييتي، واضطربت الديمقراطية الغربية، وأخفق أتباع التيارات الليبرالية والقومية والدينية، وفشل اليمين واليسار والوسط جميعاً في إحداث أي اختراق بجدار الواقع العربي البغيض. أين سيقف المثقف العربي وما ذا سيفعل؟ وماهي خططه لمواجهة كل هذا التطرف والتشدد والعنصرية والطائفية المذهبية، والانقسامات العرقية التي ظهرت جلية صريحة واضحة في عموم المنطقة؟ وكيف سينهي حروب الإبادة، ويوقف ثقافة الاجتثاث والاستئصال؟

ماذا ظل للمثقف العربي المسكين في مرحلة الانهيارات المتتالية التي مسحت ملامحه، وتعيد الآن رسها من جديد، في ظل صعود الدولة الأمنية التي لا تقيم اعتباراً لكافة قيم الحريات العامة وسلطة القانون التي ينتمي لها المثقف. ماذا ظل من صورة المثقف العربي بعد التطورات المرعبة التي تتوالى في أماكن متعددة من الوطن العربي، والتي أحدثت تغيراً جذرياً على كل ما نعرفه، وكل ما هو مألوف لدينا في المشرق والمغرب.

كثيرة هي الأسئلة التي تتواتر من رحم الواقع العربي المتخم بالأزمات، ظلت دون إجابات واضحة. ومع بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، تحولت إلى أسئلة مصيرية وجودية، تعبر عن حالة الانسداد والاستعصاء الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، إذ وجدت معظم الشعوب العربية نفسها في حالة من التيه تعاني من ضنك الحياة ومن غياب الرعاية الصحية، وانخفاض معدلات التنمية، وارتفاع مستويات الفقر والبطالة، في حكم أنظمة استبدادية في معظمها تعتمد سياسة تكميم الأفواه. هنا أصبحت الأسئلة كبيرة عجز معها المثقفين العرب بصورتهم النمطية عن القيام بأية مقاربات موضوعية. وهذا يعود بظني إلى سببين، أولهما أن الاحداث التي وقعت في عدد ليس قليل من الدول العربية قد أسقطت الفكرة المألوفة عن المثقف العربي ودوره في الوعي الجمعي للشعوب، والثاني أن عدداً من المثقفين العرب قد وضعوا أنفسهم في مواجهة شعوب كانوا ذات يوم يتشدقون بالدفاع عنها وعن مصالحها وحقوقها، في حين جاء الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات هذه الشعوب ضد الاستبداد العربي، اختار بعض المثقفين أن يقف إلى جانب الطغاة العرب، فيما انحاز بعضهم للفكر العدمي التكفيري.

هذا الانقلاب من بعض المثقفين مرتبط بما هو شائع وتقليدي عن مفهوم المثقف، هذا المفهوم الذي يغيب عنه أن هناك إلى جانب المثقف العضوي والنقدي والتنويري، هناك مثقف متواطئ مع الأنظمة السياسية القائمة لأسباب متعددة، منها تحقيق المآرب الخاصة، أو خشية بعض المثقفين من صحوة الإسلام السياسي في المنطقة جعلهم يرتدون إلى حضن الأنظمة.

لغز المثقف العربي

أظهرت الثلاثة عقود الأخيرة أن معظم المثقفين المناضلين العرب الذين غصت بهم شوارع المدن العربية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وهم يهتفون بشعارات العدل والحرية والمساواة، وضد الرجعيات والديكتاتوريات العربية، ليسوا أفضل حالاً من أولئك الذين يمتهنون الأديان ويتاجرون بعذابات الناس، فالثقافة عند بعض اليساريين والقوميين والليبراليين مهنة للترزق وكسب العيش، فهم لا يتورعون عن عرض مواقفهم وأفكارهم سلعاً في الأسواق الإعلامية، ولا يترددون في انخراطهم بالتجاذبات السياسية والطائفية والمذهبية والإقليمية، لمصلحة من يملأ جيوبهم بالمال ويضاعف رصيدهم في البنوك، وهم يعلمون علم اليقين أنهم بفعلهم هذا يساندون القوى التي خرجت من التاريخ، ويقفون في وجه المظلوم والمعتدى عليه والمقهور، إلى جانب الأنظمة الفاسدة والمستبدة.

أثبتت المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية المتسارعة، أن غالبية المثقفين العرب لا يمتلكون وعياً تاريخياً، يمكنهم من قراءة الراهن العربي، وإجراء مقاربات علمية تحليلية تستنهض المقدرات الكامنة التي من شأنها أن تكون مبشرة، في حال توظيفها لترميم الخراب وإعادة الانخراط بالإصلاح البنيوي العربي.

في هذا الشقاء انقسم المثقفين بين من انتقل من جادة اليسار الثوري إلى اليمين الرجعي، فهو الانتهازي الوصولي الذي وضع مصالحه الذاتية فوق مصالح الجماهير. ومن آثر الصمت والانكفاء نتيجة الشعور بالعجز والاغتراب، وهو فعل مدان في التحولات الكبرى وجريرة لن يغفرها التاريخ. والقلة اليسيرة من المثقفين اختارت مقاومة الشقاء والتخلف، ومواجهة بعض الأنظمة التي تسببت بفعل سياساتها، في كل هذه الانهيارات التي يلاحظها المراقب في كل مفصل من جسد العالم العربي.

لم يعد من مهام المثقفين العرب خض جذع المجتمعات، وتحريك المفاصل المتكلسة، عبر أفكارهم التنويرية، ولا من مهامهم الآن الالتحام مع القضايا المطلبية للفقراء، والأهداف المصيرية للناس، ولا الدفاع عن المضطهدين والمظلومين، عبر إعلان المواقف والنضال لتحقيقها، ولم تعد تعني كثيراً المثقفين اليساريين قضية مواجهة الرجعيات والديكتاتوريات في العالم العربي، ولا التصدي للاستبداد الذي تتخذه معظم الأنظمة العربية سياسية معتمدة في علاقتها مع المواطنين.

لقد ولّى الزمن الذي كان فيه المثقفين المناضلين العرب يشكلون الضمير الحي اليقظ، الذي يعكس واقع وهوية المجتمعات، حين لم يكن المثقفين فيه يخشون من الاصطدام بالسلطتين السياسية والدينية، وبكل من يكرس ثقافة التجهيل. عصر مضى كان فيه المثقفين ينحتون الحجر بهدف تطوير المجتمعات العربية وترسيخ مفاهيم تدعو لاستخدام العقل لا إغفاله، والقضاء على النظام الأبوي ومجتمع القبيلة والطائفة، وترسيخ قيم ومفاهيم الحداثة، وبناء دولة المؤسسات والمواطنة.

أضحى الكثير من المثقفين العرب اليساريين شركاء لبعض الأنظمة العربية في محاربة الأفكار التنويرية الليبرالية، وشركاء في فرض سيطرة السلطات السياسية على الناس، وشركاء في تطويع وتليين الأفراد وقيادتهم وتوجيههم مثل القطعان الأنيسة، وهو ما يعزز الاستبداد الذي تشهره تلك الأنظمة، مما يطيل عمرها وعمره.

في اشتباك المثقف

المثقف الحقيقي ليس هو الخطيب البارع، ولا المنظّر السياسي والفكري. إنما هو من يمثل الشرائح الشعبية والفئات الصامتة في المجتمع، لمقاومة قهر السلطة السياسية وتعسفها، هو صوت الناس في دفاعهم عن حقهم في الحياة والتعليم والعمل والرعاية الصحية، هو الإنسان الذي ينتصر للمثل الإنسانية، ولقيم العدالة والحرية والمساواة الاجتماعية، هو من يسعى لتحرير الإنسان من كافة أنواع القيود والوصاية التي تفرضها عليه السلطة. المثقف هو ذاك الذي يكون ملتزماً ومشتبكاً مع واقعه ويمتلك المقدرة على رؤية وتحليل الإشكاليات المجتمعية، وتحديد خصائص وملامح هذا الواقع، والسعي مع الشرائح المتضررة لتغييره.

المثقف الملتحم مع قضايا أمته، المنخرط في الاشتباك بمواجهة القوى التي تستهدف ماضي وحاضر ومستقبل الأمة العربية، وتهدد هوية وفكر الإنسان العربي. نحتاج ذاك المثقف والكاتب والمفكر والفنان للتصدي لمخاطر هذه المرحلة التي يتم فيها تدمير أوطاننا، ويتعرض المواطن للقهر والتجهيل، وتفتك بنا الصراعات الطائفية والمذهبية، وتتضخم الأنا القطرية وينحسر الوعي الجمعي. أين هو المثقف الذي يعود ويلهب حماس الشعوب ويوقظ روحها من سبات الكبت والقمع؟ نحن في مرحلة سقطت فيها كافة الأسماء والألقاب، ولم تعد تعني شيئاً ذا قيمة ومعنى حقيقياً في عصر الأسئلة الكبرى، والمواجهات الكبرى، والاختيارات الكبرى. إما أن يكون المثقف حقيقياً ملتصق ثقافياً وفكرياً واجتماعياً التصاقاً فعلياً، أو يكون اسماً ولقباً أجوفاً وشيئاً براقاً يلمع دون قيمة تذكر.

المثقف العضوي هو من تُمتحن أفكاره ليس فقط في جدلية الوعي، إنما في اضطرابات الحياة الواقعية، في معارك الوجود، في المشاركة جنباً إلى جنب مع حراك الناس العاديين في الشارع، وليس الكتابة عنهم في غرف مكيفة. الثقافة والعمل، الوعي والحركة، متلازمات لا انفصام بينهما ولا تضاد.

معظم المثقفين العرب يعانون من متلازمة الوعظ والسلوك الانتقائي، ويعتمدون منهاج توبيخ الذات وتقريع الواقع، دون أية ممارسة ثقافية فكرية اشتباكية اعتراكية لمجابهة هذا الكم غير المسبوق من المخاطر السياسية والاقتصادية والأمنية، والأهوال الثقافية والاجتماعية التي تتوعد وجودنا.

مهما كان نوع المثقف وإلى أية مذهب فلسفي ينتمي، وبغض النظر عن تصنيفه الطبقي، إن كان مثقفاً غرامشياً قادماً من رحم الشريحة الاجتماعية التي ينتمي لها ويسعى لأجل تطوير وعيها الاجتماعي وهيمنتها السياسية، أو كان مثقفاً إدواردياً كونياً لا منتمياً يمارس النقد والتنوير، فإن مسؤوليته الفكرية والأخلاقية هي الالتحام مع القضايا الوضعية والمطالب الشعبية، والانخراط بالإصلاح الاجتماعي، ونقد البنى الهشّة، وامتلاكه رؤية للتغيير.

سقوط المثقف

إن هذا النكوص لبعض المثقفين العرب يظهر عجزهم وفشلهم في دورهم المجتمعي، ويبين قدراً كبيراً من الأنانية والانتهازية السياسية لديهم. إنه سقوط المثقف العربي في قعر السلطة التي تحدد له هامشاً لا يمكنه تجاوزه، وأصبح واحداً من الأدوات الخطيرة التي توظفها السلطة السياسية لتبرير استبداها وقمع شعوبها، وإلا كيف نفسر هذا الانحياز من قبل المثقف إلى سياسة الموت والقتل والحروب وإشاعة التفرقة والكراهية، عوضاً عن وقوفه إلى جانب النهضة والإصلاح والتحديث، ويساند الحياة، والسلام، ونشر المحبة، والتسامح.

وسقط المثقف العربي في شرك هويته -غير المتبلورة أصلاً- بمواجهة الآخر، وكأن الثقافة الغربية كلها شر مستطير، فنرى بعض المثقفين العربي يتبنون نظرية المؤامرة على الأمة لتبرير دفاعهم عن الأنظمة التي تقهر شعوبها، وهنا أنا لا أنفي بالمطلق وجود مؤامرات غربية هدفها السيطرة وتمزيق وحدة شعوب المنطقة، لكنني أعترض على توظيف هذه الفكرة لتثبيت دعائم الأنظمة، ووضع الشعوب أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تقبلوا بهذه النظم العربية المستبدة، أو أن تكونوا عبيداً للغرب.

إنه سقوط للمثقف العربي في أحد جوانبه بمفارقات مرعبة، إنه جاهز دوماً لتوجيه رماح النقد لأي آخر لا يشاركه مفاهيمه، بينما لا يملك الشجاعة على النظر إلى فكره وسلوكه في أية مرآة. يستفيض بالحديث عن الديمقراطية أياماً دون انقطاع، ويدعم حججه بآلاف الأمثلة والتجارب التاريخية لشعوب متعددة، لكنه لا يجرؤ على إجراء اية مقاربة للاستبداد والقهر الذي يعيش فيه ويعاني من بؤسه يومياً. يحدثك عن الفقر والجوع ونسب البطالة في كل العالم، وهو لا يجد لقمة العيش في وطنه ويشقى للحصول عليها. يطالب بالحريات العامة ويمارس العنف والاستبداد. يؤمن بالحوار نظرياً، ويضيق صدره بالمخالفين. يريد من الآخرين أن يضحوا ويموتوا في سبيل الفكرة أو الزعيم أو الوطن ليصبحوا أبطالاً، فيما هو يتلذذ بالرفاهية. يثقل رأسك بالحديث عن الوطنية والانتماء والصناعة الوطنية، وكل ما يرتديه هو ويأكله صناعة غربية. يخطب لساعات ضد الاستعمار الغربي وأطماعه وثقافته، ولا يثق إلا بالدواء الغربي.

سقط المثقف العربي -ليس الجميع- في هاوية الواقع الذي أنكره، سقط في قاع جموده العقائدي ودوغمائيته الضريرة، سقط في فخ اغترابه عن محيطه، مما أنتج إشكالية أخلاقية ترتبط بدوره ومهامه وموقعه.

إن من أبرز مظاهر سقوط العديد من المثقفين العرب هو تلك السلبية الشنيعة التي أبدوها تجاه قضايا الشعوب، حيث سقطوا في فخ التكيّف مع محيطهم، مثل نبتة صحراوية تتكيف مع ظروف المناخ القاسية، هي لا تقاوم الجفاف ولا يمكنها تغيير واقعها، هي فقط تتكيّف معه. هذا حال بعض المثقفين الذين يتلونون فيرمون ثوباً ليرتدوا ثوباً آخر، كلما تغيرت الظروف والبيئة المحيطة، بسبب عجزهم وإخفاقهم. هذا الوضع يجعل المثقف في حالة من الغيبوبة والموت السريري.

المثقف الجوكر

ظل بعض المثقفين العرب ردحاً من الوقت يكابدون مقاربة الكثير من القضايا بمفاهيم أيديولوجية عمدت إلى بتر أطراف الواقع العربي كي تلائم مقاس سرير الأفكار الأيديولوجية التي آمن بها المثقفين، وغاب عنهم أن واقع المجتمعات تتداخل فيه الكثير من العناصر والعوامل الشائكة المتعددة المتداخلة، ولا يمكن بحال أن يتم تحديده بالأيديولوجيا.

إن مواقف معظم المثقفين العرب صعدت وهبطت وتبدلت يميناً ويساراً عبر العقود الماضية، فنجد بعض المثقفين من دعموا هذا الزعيم أو ذاك وساندوه ومدحوه، ثم قاموا بالهجوم عليه في فترة مختلفة، ومنهم من تبنى الأيديولوجية الدينية أو اليسارية ثم انقلب عليها، وآخرون كانوا من أشد دعاة التنوير والديمقراطية والدفاع عن حقوق البشر، فأصبحوا يدافعون عن الديكتاتوريات العربية ويبررون استبدادها.

إنهم المثقفون الذين يؤدون دور "الجوكر" المشهور في لعبة الورق، فهو يصلح لكل الأوضاع ويتكيف مع الظروف، وهذا حال بعض المثقفين العرب الزئبقيين الحربائيين، الذين يمتلكون المقدرة على لعب دور الجوكر في الحياة السياسية والثقافية

معلقون في الفراغ

لقد شهدت تسعينيات القرن العشرين مراجعات فكرية هامة لعدد من المفكرين العرب، الذين أجروا مقاربات ومراجعات تناولت مفهوم المثقف ونقده وأصالة دوره، وأهم هؤلاء المفكرين "إدوارد سعيد، عبد الرحمن منيف، محمد عابد الجابري، عبد الإله بلقزيز، علي أومليل". وبالرغم من إيماني بأن عصر المثقف الأسطورة، المثقف الخارق القائد قد ولى بغير عودة، إلا أن الموضوعية في مقاربة الانتهازية الثقافية والأمانة المهنية، تفرض الذكر أن هناك القلة القليلة من المثقفين والمفكرين والنقّاد، الصابرين الأوفياء لأنفسهم وأوطانهم، المثقفين الملتصقين بالجماهير والمدافعين عن مصالحهم وحقوقهم، وما زالوا ملتزمين بقضايا الأمة وأهمها القضية الفلسطينية، وهم يستحقون منا كل احترام وتقدير.

ومن أبرز مهام هؤلاء المثقفين الملتزمين التصدي للمثقفين المزيفين، والتنبيه للمخاطر المترتبة عن أفعالهم التي تهدد بتفكيك البنية الثقافية والاجتماعية للأمة العربية. وبظني أن المثقف الحقيقي مطالب بالوضوح والشفافية في أفكاره ومواقفه وانحيازه، ورفض المواقف الملتبسة والتعابير الملتوية.

يقف ما ظل من المثقفين العرب اليوم بلا جدار أيديولوجي، يحصدون فشل المشروع القومي، وتشدد المشروع الإسلامي، وغياب المشروع الإصلاحي التنويري. يقفون دون أي حماية، معلقون في الفراغ، بدون خطاب موضوعي، بدون إطار مجتمعي موضوعي، مذمومون من السلطة السياسية، وهم موضع شك من السلطة الدينية، يشعرون بالاغتراب عن أنفسهم ومحيطهم، حائرون مربكون غير واثقون، يواجهون مجتمعاً مأزوماً مثقلاً بالخيبات، وسلطة منهزمة تسعى إما لتوظيفهم، أو تهميشهم، أو سجنهم، أو تصفيتهم.

***

الدكتورحسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

 

الإسلامُ فى حلِّ عن الأشخاص، مهما كان هؤلاء الأشخاص وأينما كانوا، اعرف الحق تعرف أهله؛ ولا تعرف الحق بالرجال؛ فإن معرفة الحق بالرجال فيها من البطلان ما يؤخِّرها عن رتبة المعرفة الحقة؛ لاختلاف الأهواء والتَصورات ومواطن القوة لديهم ومواطن الضعف.

لا تعرف حقاً قط على ألسنة الرجال، بل اعرف الحق من الحق أولاً تعرف أهله وتمادى فى العرفان!

ومن أجل ذلك قال الإمام عليّ بن أبى طالب رضوان الله عليه: «لا تعرف الحق بالرجال؛ اعرف الحق تعرف أهله». وأهل الحق يأخذون الحق من الحق لا يحيدون عنه، ويأنفون من أخذ الباطل ولا يطيقون استطالته وطغيانه. ومن هنا؛ فينبغى معرفة الشيء فى ذاته بعيداً عن خزعبلات الأشخاص وزعاماتهم الموبوءة.

كشفت أدبيات القدماء عن مثل هذه الزعامات المتسلطة؛ إذ كانوا يتنبَّهون إلى فعل الأهواء والمطامع والأغراض والمصالح فيها جيداً، ربما أكثر ممّا نتنبَّه نحن إليها اليوم، مع تطور الزمن وشدة الادعاءات فيه.

وأفاضوا فى شرح تلك السدود والحواجز والقيود؛ فهناك زعامة «الرياسة»، وهناك زعامة «الجاه»، وهنالك زعامة «المنصب»، وهنالك زعامة «السلطة». هذه الزعامات يشملها جميعاً مفهوم العلو، والتعالى، المجموع فى التقدير القرآنى تعبيراً بقوله :"تلك الدَّارُ الآخِرَةِ نَجْعَلهَا للَّذِيِنَ لا يُرِيدُونَ عُلوَّاً فِى الأرْضِ وَلا فَسَاداً، وَالعَاقِبَة للمُتَقِينَ" (القصص: آية 83).

هذا العلو هو فى بعض التخريجات يعنى: النظر إلى النفس. أما الفساد؛ فيعنى النظر إلى الدنيا، والأمن من المكر والكبر والعجب. وأصل ذلك كله من الجهل.

وليس الجهل هنا بالطبع جهلاً بالعلم، لا .. فقد يكون الإنسان عالماً ولكنه فى هذا الموطن هو من أجهل الجاهلين. الجهل هنا جهلُ بالنفس، ثم جهل بالله، مع كون الجاهلُ هنا عالماً من حملة الشهادات البرَّاقة واللافتات العلمية الكبرى. غير أنه يعدُّ جاهلاً مادام علمه لم يتحوَّل إدراكيًّا إلى علم بالجهل؛ فالعلماء بالله على هذا هم علماء بجهلهم؛ أى هم الذين يدركون جهل أنفسهم عن أن تصل إلى «حقيقة الحقائق»؛ أو حتى تصل إلى ما دونها، ناهيك عن احتكارها أو امتلاكها، فضلاً عن التعبير عنها بعد العلم بها.

فأما الذين يعلمون ويقولون مع شدة الادِّعاء إننا علماء فهم جهلاء على التحقيق؛ وعن الجهل يكون الكبر وطلب العز فى الدنيا، والعلو فى الأرض، والتلهف على السلطة والاستبداد بها.

وطلب العز فى الناس هو الذى يتولد منه العُجْب. فالوصول إلى قرب الله تعالى وإلى مراتب دنوِّه كما نبَّه عليه سبحانه فى الآية الكريمة، لا يكون مطلقاً لمن له حب «الزعامة» : رياسة، وجاهاً، وسلطة، ومنصباً، ونفوذاً. وأترك لك أن تعدِّد أنت أنواع الزعامات التى تلاقيها فى نفوس البشر ممَّن يحيطون بك وألوان الاستبداد بها، وهو كذلك لا يكون مطلقاً لمن تمكن حب هذا كله أو بعضه من قلبه. وإنما يكون لمن حذف هذه الآفات المُمْرضة عن قلبه ولم يباشر حظوظ نفسه وهواه؛ ولم يخضع لمصالحه ومطامعه وأغراضه فيما يتوجَّه به إلى خالقه، هنالك يَخُصُّه الله بالدرجات الشريفة والسعادات الدائمة فلم تعد تأتى منه إذْ ذاك أفعال الخبيثين.

الدين لله لا للأشخاص. والجماهير العريضة، وقطاعات وفيرة منها فى الغالب، تقدِّس الأشخاص الذين يتحدثون فى الدين من حيث لا يشعرون بألوان الخطابات الطاعنة فى الدين نفسه، شعروا بذلك أم لم يشعروا؛ وتُلْبِسَهُم أثواب القداسة لمجرد لأنهم يتكلمون عن الله ورسوله؛ هذا إذا مسَّت دعوة الداعى مشاعرهم، وذلك لأنها جماعات تنزع إلى المحسوس فى كل ما ترى، وفى كل ما تحسّ وتشعر، فتتخذ من الداعين إلى الله مكاناً للتجسيد القبيح؛ ليتسلط الداعى بعدها تسلطاً بغيضاً من حيث لا يشعر فتتحول الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة على يده إلى سُلطة، وتتحول الموعظة الحسنة إلى سياط يعلو قلوب الناس وعقولهم لا إلى رحمة للعالمين.

إنه الإرهاب بكل ما تحمله الكلمة من وقع كريه على المشاعر الإنسانية النبيلة. إرهابُ المشاعر والأفكار، وإرهابُ الضمائر والقلوب، وإرهابُ الطمأنينة النفسية وأمان الاستقرار، وما أكثر الذين يُرْهبون الناس فيرتكبون على شاشات الفضائيات ووسائل التواصل جرائم بشعة فى أبواب الفتاوى تارة، أو تحت ستار الفكر الإسلامى تارة أخرى، وفى عناوين وشارات كلها ترتكبُ باسم الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ لتكون سُلطة ما أنزل الله بها من سلطان.

***

د. مجدي إبراهيم

شهدت العقود الأربعة الأخيرة من حياتنا الفكرية والثقافية ظهور عدة مشاريع فكرية وإبداعية ونقدية أنجزها المفكرون والأدباء والنقاد في بلداننا العربية، وفي هذا الخصوص رأينا الدكتور طه حسين يبني مشروعه من خلال إدخال منهج الشك الديكارتي إلى مسرح نقد الأدب والفكر والثقافة والدين في مصر والعالم العربي معا،  بل إنه قد تحول عنده إلى ناظم محوري لكل كتاباته حيث قام بتوظيفه طوال مساره النقدي وطبقه على شتى الظواهر الثقافية والفكرية بما في ذلك حقل التعليم.

وفي مجال الفلسفة رأينا الدكتور حسن حنفي يبني مشروعه على فكرة تحليل ونقد خطاب الاستغراب، في وقت كان فيه محمد أركون يعلن عن مشروعه من خلال تشابك العقلاني والأسطوري في التراث الديني الإسلامي واستمرار تفريخ هذين البعدين في مجتمعاتنا راهنا، وكان أيضا محمد عابد الجابري  صاحب مشروع نقد العقل العربي، الذى يعتمد على العقلانية والتحليل المنطقي لتسليط الضوء على واقع العرب، وذلك من خلال عدد وافر من الدراسات صاحب مشروع نقد العقل العربي، الذى يعتمد على العقلانية والتحليل المنطقي لتسليط الضوء على واقع العرب.

وفي هذا السياق بالذات يلفت انتباهنا مشروع عبدالرحمن بدوي والجهود التي بذلها من أجل فهم الوجودية وتأصيلها في البيئة الفكرية والثقافية بمجتمعاتنا، ويمكن القول مع الأستاذ أزراج عمر أن المغامرة الفلسفية لعبد الرحمن بدوي تقوم على دراسة البعد الثقافي العربي الذاتي وعلى ترجمة وتحليل بعد الفكر الغربي، ولا شك أن جهوده قد توجت بإضافة مقولتين اثنتين إلى مقولات كل من أرسطو وإمانويل كانط، ومما يؤسف له أن هذه الإضافة المهمة للمفكر بدوي وغيرها لم تبرز في النقد الفلسفي العربي ولم تشهد توظيفا لها في الدراسات الفلسفية والنقدية الثقافية.

كذلك رأينا في الفكر الأوروبي المعاصر وبالذات مع هيدجر، احتل المشروع مكانة جوهرية في تاريخ الفكر، حيث بدا كرد على سؤال مركزي في الميتافيزيقا، يتعلق بإمكانية فهم الكائن البشري. وقد طرح هيدجر إشكالية جديدة للكينونة في كتابه “الكينونة والزمن” l’Etre et le Temps، نقلت الفلسفة من التفسير الميتافيزيقي إلى الذهاب إلى الأشياء في حد ذاتها، إذ أضحت الكينونة جوهرا ووجودا، وأضحى جوهر الإنسان يدرك ويفهم ويؤسس داخل سؤال الكينونة، كونه أضحى معنيا بتدبير هذه الكينونة. فكما قال كانط: "ليس الإنسان شيئا بالطبيعة، وبالتالي فإن إنسانية الإنسان تتولد من الإنسان نفسه".

ويرتكز مفهوم المشروع على مرجعيات ذات منظور فلسفي للإنسان حاول من خلاله البحث عن عالم له معنى، غير أنه لا يتخذ كليا بتلك "الوضعية" التي عبر عنها هيدجر بـ "قفزة ذاتية للإنسان إلى الأمام" من خلال ماضيه وحاضره، بل يفترض ذلك قدرته على التموقع داخل هذه "الوضعية" وقدرته على اتخاذ مسافة لملاحظتها وتحليلها وإدراكها بشكل من الأشكال.

وأي مشروع لابد من أن يرتكز على إعادة مساءلة الحاضر ومدى ملاءمته، وذلك بالتساؤل عما نقوم به اليوم، وإلى أي حد نعتبر أن ما ننجزه اليوم يسمح لنا في نفس الوقت بمراجعة ماضينا والانفتاح على مستقبل ممكن.

وإعادة الحاضر تقتضي النظر في مسألة التجديد من خلال إعادة النظـر فـي كـل التجارب الاجتهاديـة فـي فهـم الكتـاب والسـنة والواقـع وفـي كـل أسـاليب العرض والاسـتدلال التـي اسـتهلك ها الـزمن لان التطـور فـي الأسـاليب -مـن حيث الشكل والمضمون- قد أدى إلى ضرورة استحداث أسـاليب جديـدة تنسجم مع الذهنية المعاصرة ومع تطـور المفـردات الثقافيـة، لنسـتطيع - مـن خلالها- الدخول إلى العقـل الإنسـاني المعاصـر وقلبـه.

وفي اعتقادي أن ذلك لن يتم إلا خلال إلغاء فكرة فصل المقال عن المنهج لا المقال عن العلم، وهذا المبدأ الابستمولوجي قد طبقته في كثير من كتاباتي، وأفضل تطبيق له، كان في كتابي " النحو العربي وعلاقته بالمنطق "، حيث كشفت أن الانبثاق المفاجئ للنحو العربي، يعد في واقع الأمر ليس تفسيرًا لأي شيء ؛ بل إنه تعبير غير مباشر عن العجز عن التفسير، فحين نقول إن النحو العربي كان جزءًا من المعجزة العربية يكون المعنى الحقيقي لقولنا هذا، هو أننا لا نعرف كيف نفسر ظهور نشأة النحو العربي.

والعجز عن التفسير هنا راجع إلى اختلاط لنشأة وتطور النحو العربي والتي تجسدت في اعتقادنا من خلال ثلاث مراحل حتي اكتملت:

1- المرحلة الوصفية: وهذه المرحلة قد استغرقت نحو قرن أو بالأحرى أكثر من نصف قرن، من عهد أبي الأسود الدؤلي حتى عهد سيبوبه، ولعل أهمية هذه المرحلة في النحو تعود إلى أنها شهدت بدء محاولات استكشاف الظواهر اللغوية بعد أن فرغ أبو الأسود الدؤلي من ضبط المصحف بواسطة طريقة التنقيط التي استعارها من يعقوب الرهاوي بعد تقنينها وتعديلها حسب مستجدات وأبعاد اللغة العربية، كما أنه تم فيها أيضًا المحاولات الأولى لصياغة ما استكشف من الظواهر اللغوية في قواعد، ثم تصوير هذه القواعد في شكل بعض المصنفات الصغيرة التي أتاحت الفرصة لمناقشة الظواهر والقواعد معًا، مما فتح الباب أمام أجيال هذه الفترة لوضع الأسس المنهجية التي كان لها تأثيرها فيما بعد .

كما شهدت هذه المرحلة أن النحاة العرب الأوائل قد استعاروا بعض مضامين النحو اليوناني الذي دون منظومته "ديونيسيوس ثراكس "، وذلك بطريق غير مباشر عن طريق السريان، وتجسد ذلك من خلال عصر " أبو الأسود الدؤلي، وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه )، وبالتالي فالمرحلة الأولى من النحو العربي شهدت تأثرًا بالنحو اليوناني بواسطة السريان؛ خاصة بعد أن امتلك العرب سوريا، والعراق، ومصر، وبلاد فارس بين سنتي ( 14" هـ" و" 21هـ، 635م- 641م" فاتصل العرب باليونان عن طريق السريان اتصالًا غير مباشر لقرب البصرة والكوفة من مراكز الثقافة ووجود كثير من الناس يتكلمون بلغتين، ووجود أوجه شبه لافتة بين النحو العربي والنحو اليوناني، مما يثبت أن النحاة العرب الأوائل قد استعاروا بعض العناصر من النحو اليوناني حتى يبنوا نظامهم النحوي عن طريق السريان.

2- المرحلة التجريبية: وهذه المرحلة قد استمرت قرابة قرن أو يزيد، وتبدو هذه المرحلة التجريبية للنحو العربي أوضح ما تبدو في كتاب سيبويه، وسبب اختيارنا لسيبويه هو أنه من الناحية التاريخية يعرف الجميع أنه بعد أن أنهى كتابة مؤلَّفه "الكتاب" الذي يعد مرحلة متطورة، وناضجة، من مراحل التفكير النحوي العربي، كان يعتمد في منهجه النحوي علي المنهج التمثيلي. والسبب طريقة سيبويه اعتمدت العمل الاستقرائي المرتبط بالواقع الاستعمالي للغة محاولًا تصنيفها، وتحديد علاقاتها على أساس التماثل الشكلي والوظيفي، وصولًا إلى وضع الأحكام والقوانين العامة .

ومن هذا المنطلق سنكشف لماذا لم يعتنِ سيبويه بالحدود النحوية؛ خاصة بعد أن رتب موضوعات المادة النحوية في كتابه على أساس ذكر المادة كاملًة دون مصطلح واضح محدد، ثم الدخول إلى الموضوع دون ذكر حد منطقي، وفي أكثر الأحيان يحدد الباب النحوي بالمثال أو ببيان التقسيمات مباشرة، وهذا يؤكد نفي تهمة تأثر كتاب سيبويه بمنطق ارسطو .

3- المرحلة الاستنباطية: وهي المرحلة التي أفضى فيها التراكم المعرفي الذي حققه تطور النحو العربي في المرحلتين الوصفية، والتجريبية، وقد أدى هذا التراكم الكمي إلي تغير كيفي علي ثلاثة مستويات محددة: مستوى الوسائل العقلية المنهجية من جانب، ومستوى مفاهيم العلم ومبادئه من جانب آخر .

أما المستوى الثالث فهو مستوي نظرية العلم، التي تحدد البينة أو الشكل الذي سيجئ عليه العلم في هذه المرحلة . وفي المرحلة الاستنباطية يتم صياغة الحد الأدنى من قواعد العلم ومبادئه التي تمكن المختصين من الانتقال من مبدأ أو أكثر داخل العلم إلي مبدأ جديدًا، كما هو الحال في المنطق والرياضيات، أو تمكنهم من التنبؤ بما سيحدث مستقبلاً – بحسب مبدأ عام مستقر – كما هو الحال في العلوم الطبيعية، أو تؤهلهم أخيرًا لاستنباط أحكام معينة من قواعد عامة لحل مشكلات اجتماعية جزئية معينة، وهذا هو مثلًا شأن علم القانون .

وهذه المرحلة حين نطبقها علي النحو العربي، نجد أنها تبدأ من أبي بكر بن السراج حتى الحقبة الحديثة، وهذه المرحلة قد ظهر فيها تأثير المنطق في الدرس النحوي بصورة واضحة في استعمال النحويين للتعريفات، أو الحدود، والعوامل، والأقيسة، والعلل، وبعض المصطلحات المنطقية كالجنس، والفصل، والخاصة، والماهية، والماصدق، والعهد، والاستغراق، والعموم، والخصوص، المطلق، والعموم، والخصوص الوجهي، والموضوع، والمحمول، واللازم، والملزوم، إلى أخر هذه المباحث المنطقية... وللحديث بقية.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي – كاتب مصري

.......................

المراجع:

1- أزراج عمر: المشاريع الفكرية العربية نزعة فردية متأثرة بالغرب، مثال منشور بجريد العرب، الجمعة 2020/01/24

2-د. محمود محمد علي: ملاحظات أبستمولوجية حول منهج خير الله سعيد، مقال منشور بصحيفة المثقف،  نشر بتاريخ: 08 نيسان/أبريل 2023

3-المختار شغالي: المشروع مفهوم فلسفي، مقال منشور بهسبريس، الأحد 5 يوليوز 2015 - 23:01

غيب الموت منذ أيام احد اشهر فلاسفة التحرير في أمريكا اللاتينية انريكو دوسيل  Enrique Dussel هنا قراءة مختصرة حول سيرته الذاتية والفكرية واهم المحطات التي مرت بها فلسفته خاصة وفلسفة التحرير عامة.

تأويلات دوسيل لماركس

رغم ان ماركس والماركسية لم تكن غريبة على دوسيل، غير ان دوسيل لم يتعامل معها جديا حتى وصوله كلاجيء سياسي الى المكسيك عام 1977. انشغل بدراسة موسعة وعميقة لأعمال كارل ماركس. هذا الانخراط أدى الى اصدار ثلاثة مجلدات (دوسيل 1985, 1988,1990). كانت مساهمة دوسيل تسعى لتطوير تفسير وتأويل جذري للماركسية. وهو ينتقد التأويل والتفسير الغربي السائد للماركسية، وهو تفسير هيجلي الى حد كبير، وهذا التفسير حسب دوسيل مسؤول عن مشاكل واخفاقات الثورات الماركسية من ثورة أكتوبر في روسيا، الى ثورة الساندنيستا في نيكاراجوا.

يرى دوسيل، ان قرنا مضى من تأثير ماركس على المسرح السياسي (1881-1983) . هذا القرن بعد وفاة ماركس تطور أولا تحت سلطة انجلز ثم تحت هيمنة الأممية الثانية (كارل كاوتسكي، لينين، لوكسمبورج) وأخيرا الأممية الثالثة في الفترة اللينينية التي سرعان ما سقطت تحت الستالينية. بعد وفاة ستالين وصلت مرحلة الماركسية الغربية من لوكاش، الى التوسير، وصولا الى هايبرماس. غير ان دوسيل يرى ان تأثير ماركس سيتمر قرنا اخر من (1983-2083)، في هذه الفترة سيكون ماركس ملكا للإنسانية لا لحزب سياسي او نخب معينة. سيكون ملكا للمعارضين للرأسمالية، ولساعون جديا لديمقراطية اجتماعية حقيقية.

نظرة دوسيل الى ماركس تنطلق من منظور تاريخ أمريكا اللاتينية. أي ان دوسيل يتبني منظورا عالميا لاعمال ماركس من منظور إقليمي، إقليمي مثل منظور انجلز، لينين، لوكسمبورج، هايبرماس، او التوسير. ومن هذه النقطة ليس مفاجئا او سرا ان قرأة دوسيل لماركس متأثرة بمفهوم لفيناس لما هو خارجي (الحالة التي تكون فيها خارج المنظومة السائدة ) exteriority، وكذلك العمل. ورغم ان دوسيل لديه تحفظ حول مفهوم لفيناس حول ما هو خارجي، ولكن في نفس الوقت يقبل بهذا المفهوم باعتباره انقساما معرفيا واخلاقيا وسياسيا في التعبير عن المعرفة الغربية. او بصورة أخرى هو يقبل ان تاريخ المعرفة تم بناؤه ذاتيا من الأفكار اليونانية الى العلوم والفلسفة الحديثة. تاريخ المعرفة هذا،  اساسه الابستمولوجي النظر الى المعرفة واللغات الأخرى (كمثال الصينية، الهندية، العربية، والهندو أميركية) كمعرفة خارجية، ومن ثم دمجها كمادة للدراسة او كسلع ثقافية عوضا عن كونها سياقات معرفية.

إن مفهوم "العمل الحي" يجعل من الممكن التقاطع بين الماركسية وفلسفة التحرر بقدر ما تم تعريف فلسفة التحرر منطقيا ؛ "شكل من أشكال التفكير من الخارج الكلية الأوروبية ومجمل الرأسمالية". (التي سيتناولها دوسيل لاحقا في المركزية الأوروبية والحداثة (Dussel 1995، 1998a]). في سبعينيات القرن العشرين، عرف دوسيل الخارجية بأنها ممارسة المضطهدين. صنف المضطهدين في المقام الأول على أنهم "فقراء". ومع ذلك، لم يكن يتحدث فقط عن اضطهاد الفقراء ولكن أيضا عن أنواع أخرى من الاضطهاد، على سبيل المثال، الاضطهاد على أساس الجنس والعمر والعرق. في الآونة الأخيرة، يفضل دوسيل تحديد المضطهدين على أنهم "ضحايا". كيف يصبح "الخارج" بعد ذلك خارج "العمل الحي" ولماذا كان مهما جدا في تأملات دوسيل السياسية والأخلاقية؟ يدفع دوسل هذا التفسير التحليلي في إعادة صياغة ثلاثة فروق رئيسية في كتابات ماركس: التمييز بين  الابداع poiesis / التطبيق العملي، والتمييز بين العمل الحي / قوة العمل، والتمييز بين المركز / المحيط. بعد قراءة المجلدات الأربع من عمل ماركس الأساسي Das Kapital (1857-1880))، يجادل دوسيل بأنه بالنسبة لماركس، كان "الشرط المطلق لإمكانية وجود الرأسمالية هو تحويل المال إلى رأس مال" (يقدم دوسيل الفرضية التفسيرية القوية القائلة بأن بداية رأس المال كانت بالفعل بحثا عن إجابة لهذا السؤال.

الكونويالية، العالم الثالث وفلسفة التحرير

يلخص كتاب دوسيل الأخير، (1988 Etica de la liberación)، مساره الطويل منذ أوائل سبعينيات القرن العشرين. في المقام الأول، من الواضح أن حجته قد أانتقلت من حقبة الحرب الباردة إلى فترة العولمة (ما بعد الحرب الباردة). التغييرات هي الاعتراف بظهور الجهات الفاعلة الاجتماعية الجديدة وتشكيل مواضيع تاريخية جديدة. لم تعد الطبقة العاملة مهيأة كما وصفها ماركس في البداية، على الرغم من أن عملية استيعاب العمل الحي وتحويل المال إلى رأس مال لا تزال قائمة. يتم وصف "الضحايا" الآن بشكل أفضل بأنهم "أرواح بشرية يمكن الاستغناء عنها" بموجب منطق السوق، المتحررة من كل من المسؤولية الأخلاقية وقيود اليوتوبيا الاشتراكية. هكذا تضع فلسفة التحرير عنوان "التحرر " بدلا من "الإصلاح" (Dussel 1998) . فلسفة التحرير هي نقد موجه للرأسمالية من وجهة نظر العالم الثالث. سيكون البؤس هو إعادة إنتاج ما كشفته فلسفة التحرير في حدودها: الوظيفة الديكتاتورية للأسباب الذرائعية، في نسختيها الليبرالية والاشتراكية على حد سواء.

هناك سياق تاريخي يعزى الى انبثاق فلسفة التحرير، وكذلك لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية. ان مشروع التحديث والتنمية بعد الحرب العالمية الثانية قاد الاقتصاديين الى استنتاج مفاده ان التفكير في التنمية والتحديث في أمريكا اللاتينية يجب ان يبدا بالاعتراف بالطابع التبعي للاقتصاد في هذه البلدان. أدى تقاطع تأثير الثورة الكوبية والمشروع الليبرالي النقدي لتنمية أمريكا اللاتينية الى ظهور نظرية التبعية (كاردوزو وفاليتو 1979) وراؤول بريبش (1980)، وذلك يتبع مبدا "ولراس"  حول النظام العالمي وحول الطبيعة التبعية لاقتصادات الأطراف على المركز الرأسمالي. وهذا يوضح الى حد ما من ناحية، اهتمام دوسيل المبكر وتفاعله مع نظرية النظام العالمي. من ناحية أخرى، ساقت نظرية التبعية الى المقدمة وفي الحوار القلق بشان المهمشين والفقراء والبائسين كضحايا للرأسمالية.

***

علي الرئيسي

الفصل بين الحقائق والقيم، واحد من التقاليد المستقرة في مجامع البحث العلمي. والمقصود به أن يتخفف الباحث أو الناقد من انحيازاته الشخصية والاجتماعية لحظة البحث، فلا يجعلها معياراً في اختيار موضوع البحث أو منهجه، أو في الحكم على نتائجه.

والحق أنَّ الفصل التام بين الموضوع والميول الشخصية، من أصعب الأمور، بل ادّعى بعضهم أنَّه مستحيل. ولا أراه كذلك، لكنّي أعرف صعوبته. وأعلم أنَّه أشدُّ عسراً في ظروف الأزمة والصراعات الداخلية والإقليمية، سيَّما تلك التي تدور حول قضايا الهوية، أو التي تكون الهوية عاملاً في تأجيجها، أو سلاحاً في يد أطرافها.

إنَّ حرصَ الباحث على مسايرة ميوله الخاصة أو ميول مجتمعه، لن يساعد في إنتاج العلم، بل لن يؤدي - على الأرجح - إلى أكثر من «تطييب الخواطر»، أي الوصول إلى نتائج مريحة لنفس الباحث أو «جماعته»؛ لأنَّها - ببساطة - تؤكد ما كانوا يقولونه دائماً وما يرغبون في قوله، في ثوب جديد أو لغة مختلفة.

وقرأت في الأيام الماضية كتاباً يعالج العلاقة بين الدين والأسطورة، خَصّص كاتبُه مساحةً واسعة نسبياً، لشرح رؤية علماء أوروبيين للمسافة بين الواقعي والمتخيل في الدين. وحين وصل إلى الفصل الخاص بمناقشة العلاقة بين الإسلام والأسطورة، ورأي المفكرين المسلمين الذين تحدّثوا في الموضوع، اشتغل محرك الهوية عند الكاتب فيما يظهر، فأغفل مناقشة آراء أولئك المفكرين وأدلتهم؛ كي يركّز على ما قال إنه تطابق بين تلك الآراء ونظائرها الشائعة في أوروبا. وبناءً عليه اعتبرها بعيدة عن المجال الإسلامي، ولا ينبغي التعامل معها كتفكير في الدين.

وأميل إلى الظن بأنَّ الكاتبَ لم يشرع في بحثه ذاك، قاصداً إنتاجَ معرفة جديدة. ذلك أنَّ منهجَ السجال الديني يبدو واضحاً في أكثر من موضع. ومن يتخذ منهج المساجلة، فإنَّه لا يهتم بالتحقق من آراء المخالفين، التي قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة. إنَّ همَّه الوحيد هو تسفيه تلك الآراء وتعزيز موقفه، بغض النظر عن كونه صحيحاً أو خطأً في الواقع. إنه - بعبارة أخرى - لا يسائل موقفه ومعتقداته؛ لأنَّه مشغول في محاكمة الآخرين.

ربما يكون هذا الموقف ناتجاً من الميول الآيديولوجية للكاتب، أو عن ارتباطه بمصالح المحيط الاجتماعي وإراداته. ولا شك عندي أن مسايرة الرأي العام أيسر مؤونة. وقد ذكرت مراراً أنَّ المفكر أو صانع الرأي، ليس مطالباً بمصارعة المجتمع والسير عكس التيار، إلا إذا اختار هذا المسار بنفسه. فهو - مثل غيره - حر في الأخذ بما يستطيع احتمال تبعاته. ومن هنا، فليس من الإنصاف أن نطالبَه أو نطالب غيره بتحمل أعباء اجتماعية، تزيد عمَّا التزم به سائر الناس وأصحاب الحرف الأخرى.

أقول هذا الكلام الذي يبدو محافظاً، وغايتي إنصاف تلك الشريحة من أهل الفكر الذين اضطروا إلى السكوت كلياً، أو اضطروا إلى إغفال قناعاتهم أو مسايرة التيار العام، طمعاً في السلامة. وأعرف العديد ممن اتخذوا هذا المسار بعدما اختبروا ضغط المجتمع، بل قسوته على أهل الرأي الذين اختاروا يوماً أن «يحملوا السلم بالعرض» كما يقال.

بموازاة هذا، فإنّي أعلم أنَّ المجتمعات لا تتقدَّم، إن ذوت فيها روح النقد. بل أستطيع القول إنَّ إنتاج العلم وتطويره مستحيل، إذا كان نقد الأفكار المعتادة والقناعات السائدة، ممنوعاً أو عسيراً. ليس هناك وقت مناسب للنقد ووقت غير مناسب. وليس هناك وقت مناسب لشرح الرؤى والمواقف وآخر غير مناسب. التعبير الحر عن الرأي يجب أن يكون متاحاً في كل وقت وفي كل ظرف، حتى لو كنَّا في أسوأ الظروف. أياً كان الأذى الذي ربَّما يخشاه الناس من النقد في ظرف الأزمة، فإنَّه - بالتأكيد - لن يؤدي إلى ضرر مادي. بل على العكس، فالضرر الأعظم الذي وقع سابقاً ولا زال يتكرَّر في عالم العرب، هو هيمنة الخيارات التي تشير إلى طريق غير التي ألفناها بعدما ورثناها عن الأسلاف.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

اليقينيات هي الأسس التي نبني عليها قناعاتنا وفهمنا للعالم. إنها توفر لنا إحساسًا بالاستقرار وإطارًا للتغلب على تعقيدات الحياة. ومع ذلك، فقد أظهر التاريخ أن ما كنا نعتبره يقينًا بالأمس يمكن أن ينهار في مواجهة المعرفة الجديدة أو الظروف غير المتوقعة.

لقد انقلبت النماذج العلمية، التي كانت تعتبر في زمن سابق حقائق لا تقبل الجدل، رأسا على عقب بفضل الاكتشافات العلمية الرائدة. كان يُعتقد في السابق أن الأرض هي مركز الكون، وأمرا مؤكدا لا جدال فيه حتى قدم كوبرنيكوس وجاليليو نموذج مركزية الشمس. وبالمثل، أفسحت الفيزياء النيوتونية، التي بدت أساسًا لا يتزعزع، المجال أمام نظريات النسبية وميكانيكا الكم الأكثر دقة.

حتى في حياتنا الشخصية، يمكن لليقين أن ينهار. فالعلاقات التي تبدو غير قابلة للكسر يمكن أن تنتهي، والمهن التي كانت تعتبر آمنة في السابق يمكن أن تتعثر، والمعتقدات الراسخة يمكن أن تتطور. وتؤكد هشاشة اليقينيات هاته على عدم الثبات الذي يحدد التجربة الإنسانية.

ومع انهيارها ، يظهر فراغ في أعقاب ذلك - هاوية تظهر فيها العبثية كبطل غير متوقع. إن العبثية، التي غالبًا ما تكون مرادفة للاعقلانية أو التناقض، تتحدى مفاهيمنا المسبقة وتجبرنا على مواجهة طبيعة الوجود الفوضوية وغير المتوقعة.

في الأدب والفلسفة، تم استكشاف مفهوم العبث من قبل مفكرين مثل ألبير كامو. العبث، عند كامو، هو الصراع بين رغبتنا في المعنى واللامعنى الواضح للكون. عندما تختفي اليقينيات، ونواجه العبث، تأخذ الحقيقة شكلاً جديدًا - وهو شكل متناقض يوجد في قبول اللاعقلاني واحتضان السخافات المتأصلة في الحياة.

إن اختفاء اليقينيات وظهور العبثية كحقيقة لهما آثار عميقة على إدراكنا للواقع. في عالم تتغير فيه الأرض تحت أقدامنا باستمرار، يصبح فهمنا للحقيقة نسيجًا ديناميكيًا ومتطورًا.

ويتجلى هذا التصور المتغير في عالم السياسة، حيث تطمس "الحقائق البديلة" وسرديات ما بعد الحقيقة الخط الفاصل بين الواقع والخيال. في مشهد حيث اليقين بعيد المنال، فإن السرد الذي يكتسب قوة قد لا يكون بالضرورة متجذرًا في حقائق يمكن التحقق منها ولكن في القوة المقنعة لسرد القصص.

علاوة على ذلك، أدى العصر الرقمي إلى تضخيم هذه الظاهرة. إن سهولة النشر السريع للمعلومات عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات عبر الإنترنت يمكن أن يحول الادعاءات السخيفة إلى حقائق منتشرة، مما يشكل الرأي العام ويغير مسار الأحداث.

إن التناقض بين اهتزاز اليقينيات وتحول السخافة إلى حقيقة يتطلب اتباع منهج دقيق للتعامل مع إشكاليات وجودنا. إنه يدعونا إلى التوازن بين الشك والانفتاح، والرغبة في التشكيك في افتراضاتنا مع الاعتراف بعدم اليقين المتأصل في واقعنا.

إن اعتناق عبثية الحقيقة لا يعني الاستسلام للعدمية أو النسبية. وبدلاً من ذلك، فهو يدعونا إلى إيجاد المعنى في خضم حالة عدم اليقين، لاستخلاص الهدف من فعل التنقل في التضاريس الغامضة للمجهول.

في الختام، فإن التفاعل المتناقض بين اختفاء اليقينيات وصعود السخافة كحقيقة هو شهادة على الطبيعة المعقدة للتجربة الإنسانية. إنه يتحدانا لإعادة تقييم علاقتنا باليقين، مما يدفعنا إلى استكشاف أعمق لرمال الإدراك المتغيرة باستمرار والروح الإنسانية المرنة التي تجد المعنى حتى في زوايا الوجود الأكثر سخافة.

***

عبده حقي

غيب الموت منذ أيام احد اشهر فلاسفة التحرير في أمريكا اللاتينية انريكو دوسيل  Enrique Dussel هنا قراءة مختصرة حول سيرته الذاتية والفكرية واهم المحطات التي مرت بها فلسفته خاصة وفلسفة التحرير عامة.

ولد انريكو امبروسوني دوسيل في 24 ديسمبر، 1934  في مدينة صغيرة تدعى لاباز، في محافظة ميندوزا، الارجنتين. هو ابن طبيب تدرب على التقاليد الامريكية اللاتينية. جده الأكبر هاجر من المانيا في عام 1870. امه كانت كاثوليكية، منغرسة في معظم اعمال الكنيسة وكانت رئيسة لجمعية اولياء الأمور في المدرسة. من كليهما تعلم دوسيل أهمية العمل الاجتماعي، والتراحم، والتواضع، والعمل الجاد. خلال الاربعينات من القرن الماضي ونظرا للحرب العالمية والشعور المعادي للألمان تم طرد والده من الوظيفة مما اضطر العائلة للهجرة الى بيونس ايرس، بعد سنوات انتقلا الى ميندوزا. في سنوات مراهقته كان ناشطا كاثوليكيا حيث كان من الأشخاص الذين تبرعوا بأوقاتهم في خدمة مستشفيات الأطفال من ذوي الإعاقة الفكرية. وكان أيضا ناشطا طلابيا في أيام الجامعة حيث كان يراس مركز الفلسفة، نشاطه الطلابي أدى الى اعتقاله من قبل نظام بيرون عام .1954 

درس دوسيل تحت امرة جيل من الأساتذة الذين تم تدريبهم في التقاليد القديمة للدراسات العليا: معرفة دقيقة للمصادر الأساسية باللغات الاصلية. كان تلميذا الى جانب أخريين، لارتيورو رواق (Arturo Roig)، انجيل كونزاليس الفريز، انتونيو ميلان بيوليس، ميرسو لوبيز (الذي تم تعذيبه حتى الموت  من قبل النظام العسكري في عام 1976)، وكويدو سوجا راموس Guido Soaje Ramos ، سوجا كان اكثرهم تأثيرا على الفتى دوسيل. سوجا راموس كان يطلب من طلابه ان يدرسوا اللاتينية، واليونانية، والألمانية، لمدة 4 سنوات، دوسيل درس الاخلاق Ethics لدى سوجا راموس, كان اهتمامه الاكبر على  الألماني ماكس شيلر ودريتش هيلدرباند بالإضافة الى ارسطو وتوما الأكويني. كانت الاخلاق هي تخصصه الرئيسي، وقد تخرج في عام 1957 حيث كان عنوان رسالته " الفلسفة الاجتماعية والأخلاقية". هذه السنوات أيضا كانت حافلة بالنشاط الطلابي، حيث كان من مناصري جاكوز مارتين، حيث ساعد في تأسيس جمعية الديمقراطيين المسيحيين.

بعدها التحق بجامعة مدريد في اسبانيا لنيل الدكتوراة حيث قدم رسالته تحن عنوان: الصالح العام: التناقض النظري. كانت رسالة الدكتوارة تبحث في مصدر وتطور مفهوم "الصالح العام" بدا من قبل فكر سقراط الى هانز كيلسن. بناء على راي احد اكثر المطلعين على اعمال وحياة دوسيل، مارينو مورينو فيلا، هذا العمل مهم لسببين: الأول، ان هذا العمل بالفعل يكشف ويتنبأ بالانشغال المركزي لفكر دوسيل وهو البحث عن التقريب للاستجابة المناسبة، على الرغم من انه نادرا ما يمكن تحقيقها للأخر. من خلال هذه الرسالة كان دوسيل يهدف الى الدفاع عن الديمقراطية في ضوء ما كنت تمر فيه اسبانيا في ذلك الوقت.

المواضيع التي تطرق لها انريكو دوسيل كثيرة وواسعة ولا يمكن تغطيتها في هذه المقالة. ولكن سنركز على عدد من القضايا التي تناولها دوسيل بصورة خاصة في مسيرته الفكرية البالغة حوالي 30 عاما. اهم هذه القضايا مناقشته لفكر الفيلسوف اليهودي الفرنسي امانويل ليفناس (Emmanuel Levinas)، انغماسه ودراسته لمجمل اعمال كارل ماركس بعد هجرة دوسيل الى المكسيك. حيث اصدر ثلاثة مجلدات عن ماركس، تناول فيها بالنقد وإعادة النظر في الماركسية منذ فرديرك انجلز حتى جارغن هيبرماس مرورا بجورج لوكاش، ولينين وروزا لوكسمبورج، وثم نظريته حول الكولونيالية والوضع الكولونيالي، ونقده للمركزية الاوروبية من خلال ابرز مفكريها. بالنسبة لدوسيل التجربة الحقيقية لفلسفة التحرير هو الوعي والكشف النقدي عن التجربة الضخمة للهيمنة. الهيمنة والتحرر الذي يقصدهما بين عالم الحداثة/ والاستعمار والعالم الثالث.

 متى ولماذا ليفناس؟

عندما قرات لأول مرة كتاب لفيناس الكلية واللانهاية (Totality and Infinity)، شعرت بعدم اليقين من كل ما تعلمته في السابق، بهذه العبارة يلخص دوسيل علاقته بأعمال لفيناس. بعد ذلك نظرا للمناقشة التي تمت ببنهم في باريس، استطاع دوسيل ان يقيم أوجه الاتفاق والخلاف في فكره مع فكر الفيلسوف اليهودي الفرنسي الكبير. وقد وصف هذه الخلافات بالاضطراب الكبير بين فكر لفيناس وفكر جيل من الفلاسفة الارجنتين الشباب ويمكن تلخيص هذا الاضطراب بالسردية التالية:

لفيناس قال لي ان التجربة السياسية لجيله هو وجود ستالين وهتلر(شخصيتان لا انسانيتان وهما نتيجة للحداثة الهيجلية الأوروبية). ولكن عندما اخبرته ان تجربة ليس فقط جيلي، ولكن تجربة نصف الالفية الأخيرة من تاريخ البشرية كانت غرور الحداثة الأوروبية. غرور منتصر استعماري، إمبريالي في ثقافته ومضطهدا لشعوب الأطراف، لفيناس يعترف بانه لم يفكر ان الاخر كان يمكن ان يكون الهنود الامريكان، والأفارقة او الاسيويين.. اذا كان لفيناس، باعتباره مفكرا يهوديا قادرا على ان يجد في تجربته الخاصة اثرا خارجيا لنقد الفكر الأوروبي في مجمله ( وخاصة هيجل، هوسرل، وهايدجر)، فانه لم يعاني من أوروبا في مجملها الاستعماري، وظلت نقطة مرجعية لفيناس هي أوروبا نفسها. ولكن بالنسبة لنا (الناس والمثقفين من أمريكا، افريقيا، واسيا) من اطراف العالم، الذين جربوا وعانوا من أوروبا، فالنقطة المرجعية لنا هو تاريخ الأطراف، انه تاريخ إيجابي، اما بالنسية "للعالم المتحضر" تاريخ الأطراف يعتبر متوحش، غير موجود، وغير متحضر. (دوسيل 1975, 8).  يتبع

***

علي الرئيسي

عندما تسقط شجرة في غابة نائية، ولا أحد هناك قرب الشجرة، فهل يُسمع لها صوت؟ اذا كنا نعني بـ "الصوت" اهتزاز الهواء المحيط بها، الجواب هو نعم، حيث ان سقوط الشجرة يؤدي الى اهتزاز الهواء حولها. ولكن اذا كنا نعني بالصوت الوعي بالضوضاء التي نسمعها عندما يتفاعل جهازنا الحسي مع الهواء المهتز، في هذه الحالة اذا لم يكن هناك أحد قرب الشجرة عند سقوطها فسوف لا يوجد جهاز حسي يتفاعل معه الهواء المهتز، وبالتالي لن يحصل أي وعي بالضوضاء ولا يُسمع شيء.

لذا فان الجواب على هذا السؤال القديم يعتمد على الكيفية التي نعرّف بها "الصوت". اذا كنا نعرّف الصوت كتجربة واعية عندئذ سوف لن يسبّب سقوط الشجرة أي صوت، ولكن اذا كنا نعرّف الصوت كـ "هواء مهتز" فان الشجرة الساقطة ستسبّب صوتا. وبهذا تُحل المشكلة.

المسألة الأساسية في السؤال هي ليس ان يُجاب على السؤال بسرعة ثم يُوضع جانبا، بل ان المسألة هي أبعد من ذلك، وتنطوي على تفكير عميق في مفهوم "الصوت".

فمن جهة، نحن نصنف "صوت" كعملية ميكانيكية توجد،"في الخارج" بدوننا. ومن جهة اخرى، نحن نعتبره كتجربة وعي خاصة، وجودها يعتمد علينا كليا. عندما نتحدث عن الصوت كتجربة خاصة للوعي، نحن ندرك انه لا يقتصر فقط على الأصوات. كل شيء نتعامل معه – كل شيء نراه، نسمعه، نشمه، نلمسه، نتذوقه – جميعها تعتمد على جهازنا الحسي، أي تعتمد علينا. بدوننا سوف لن توجد تجاربنا. وكما يوضح غاليلو الفلكي الكبير في القرن السادس عشر: "الذوق، الروائح، الألوان .. تكمن فقط في الوعي. عندما يزول الكائن الحي، كل هذه الصفات ستزول وتُمحى تماما".

لو انتزعنا بعيدا كل أحاسيسنا، واستُبدلت تجاربنا بالعالم بـ اللّالون، اللّاصوت، اللّارائحة، اللّاذوق. ماذا يتبقى بدوننا؟ سؤالنا الأصلي حول سقوط الشجرة هو سؤال صعب له معاني عميقة. بمعنى:

"اذا لم تكن هناك حياة واعية، هل سيكون هناك وجود للكون المادي؟ ردة فعلنا السريعة لهذا السؤال ستكون،"بالطبع نعم". لكن لو فكرنا مرة اخرى: اذا لم يكن هناك شيء واعي، عندئذ لا شيء سيُمارس او يكون موضوع للتجربة. سوف لن يكون هناك شيء يشبه ما نسميه "وجود". لا الوان، لا اصوات، لا روائح، لا اذواق، لا تلمّس للاشياء، لا معنى للزمان والمكان.

هل الوعي أكثر جوهرية من المادة؟

عند التفكير في هذا الموقف العام والغريب نجد ان عددا هائلا من المفكرين استنتجوا ان الوعي يجب ان يكون أكثر أهمية من "المادة" التي يتصورها الوعي. فمثلا، الفيلسوف جورج باركلي (1685-1753) في عمل له عام 1710 "مقال يتعلق بمبادئ المعرفة الانسانية" يناقش سخافة ان يكون هناك عالم موجود بشكل مستقل عن ذهننا الواعي . طبقا لباركلي "انه في الحقيقة رأي غريب سائد بين الناس في ان البيوت والجبال والأنهار وكل الأشياء المحسوسة، لها وجود طبيعي او واقعي متميز عن كونها مُدركة بواسطة الفهم .. لأن الأشياء المذكورة ليست الاّ أشياء نتصورها بالحواس؟ واننا لا ندرك أشياءً عدى  أفكارنا وأحاسيسنا، وانه من غير المنسجم والغريب ان يوجد أي واحد او أي مجموعة من تلك الأشياء اذا لم تكن مُدركة.

وفق هذه الرؤية، من السخف القول ان سقوط شجرة يسبب صوتا. بالنسبة لباركلي من الحماقة القول ان شجرة موجودة هناك بدون وجود ذهن يتصورها.

يؤكد باركلي ان جميع المعرفة تأتي من الادراك، ما ندرك هو افكار فقط ،وليست الاشياء في ذاتها، الشيء في ذاته يجب ان يكون خارج التجربة، لذا فان العالم يتألف فقط من أفكار وأذهان تدرك تلك الافكار، الشيء يوجد فقط بمقدار ما يُدرك. من هنا نحن يمكننا ان نرى ان الوعي يُعتبر شيء ما موجود بسبب قدرته على ان يدرِك. باركلي أنكر وجود المادة كشيء ميتافيزيقي، هو لم ينكر وجود الأشياء الفيزيقية كالبيوت والانهار،هو أنكر ما يسميه الفلاسفة المادة matter.(1)

يعرض باركلي حجته في إنكار المادة كالتالي:

1- نحن ندرك الأشياء العادية (بيوت، جبال، وغيرها)

2- نحن ندرك فقط الأفكار، ولذلك

3- فان الأشياء العادية هي أفكار.

ولكي نستطلع ايضا باختصار حالة التوتر بين التصور والواقع، يمكن النظر في تعليق للفائز بجائزة نوبل في فيزياء الكوانتم الفيزيائي ماكس بلانك في مقابلة معه عام 1931:

"انا أعتبر الوعي أساسيا. انا أعتبر المادة مشتقة من الوعي. كل شيء نتحدث عنه، كل شيء نعتبره موجودا يفترض الوعي".

***

حاتم حميد محسن

................................

الهوامش

(1) تعرضت مثالية باركلي للكثير من الانتقادات منها مثلا:

1- هناك مشكلة الموضوعية في تفكيره. اذا انا ادرك المنضدة فهي ستكون موجودة. واذا كان زيد يدرك المنضدة فهي ايضا ستكون موجودة. ما الذي يضمن ان ما نراه هو نفس المنضدة؟ باعتبار ان المرء لديه فقط أحاسيسه الخاصة به، لماذا نفترض ان هذه الاشياء يشترك بها الآخرون، او ان هناك عالم مشترك؟

2- في كتابه Sense and sensibilia يؤكد اوستن J.L.Austin بان: الشيء المألوف لنا هو اننا لم نشعر في يوم ما اننا بحاجة لتبرير إعتقادنا بوجود الأشياء المادية. في اللحظة الراهنة،مثلا، انا ليس لدي شك بأني ادرك الأشياء المألوفة مثل،الكرسي والطاولة والكتب والصور التي تزيّن غرفتي، وانا لذلك مقتنع انها موجودة. انا أعترف بان الناس احيانا تخدعهم حواسهم لكن هذا لا يقودني للشك عموما بان ادراكي الحسي لايمكن الوثوق به او انه يخدعني الآن.

3- الأنانية solipsism: وهي شكل متطرف للمثالية الذاتية تنكر ان يكون للذهن الانساني أي أساس صالح للاعتقاد بوجود أي شيء الاّ ذاته. حجة باركلي المبكرة – ان كل شيء يدركه المرء هو معتمد على الذهن – تشير الى ان لا سبب للاعتقاد بوجود أي شيء يتجاوز تجربة المرء. اذا كان شعار "لكي يكون الشيء موجودا هو ان يُدرك"، عندئذ ما هو السبب لديّ للاعتقاد بوجود الناس الآخرين والأشياء عندما لا ادرك أي منهم حينما أكون نائما مثلا؟ اذا كانت المثالية صحيحة، فهي تعني ان لا شيء يوجد ما لم ادركه انا – وان العالم لم يوجد قبل ان اولد، وهذا العالم غير موجود عندما أغلق عيني او أذهب للنوم. جواب باركلي هو ان الله موجود، ويدرك أي شيء حتى عندما لا أدرك انا ذلك.

 

تساءل (ذو القُروح المزواج)، وهو، كالعادة، لا يحاورني:

- تُرَى لماذا يتعصَّب بعض العَرَب اتِّباعيًّا لموروثهم من كتابة الياء والألف المقصورة بصورةٍ فارسيَّةٍ واحدة، دون سائر العَرَب؟!

- وما أدراني!  كأنَّك تنوي نقل حِوارنا من (نون النِّسوة) إلى (ألف الذُّكورة)!

- ماذا تعني؟

- كان حِوارنا عن النِّسويَّة العَرَبيَّة، فما علاقة ذلك باللُّغة والإملاء؟

- كُلُّ الثقافة العَرَبيَّة، في النهاية، لغةٌ وإملاء!

- سَلْ ما بدا لك، يا ذا القُروح!

- لقد أورثتْ تلك البلوَى الإملائيَّةُ العَرَبيَّةُ المعاصرةُ الكتابةَ والنطقَ معًا بلبلةً عجيبة. 

- بلبلة؟  كيف؟  قَرِّحنا!

- تسمع مذيع أخبارٍ يقول: "الرئيس فلان يَنْعِي الأمير فلان"، بدل: يَنْعَى، وترى امرأة اسمها (مُنَى) تكتب اسمها: مني!  لأنَّ حرفَين صارا يُكتبان برسمٍ واحد؛ فلم يَعُد يُفرَّق بينهما. 

- هذا وقته؟! الناس تُباد في (غَزَّة)، ولا يجدون من العَرَب نقطة ماء، وأنت مشغولٌ بنقطتَي إملاء؟! ثمَّ هؤلاء جهلة، والخطأ منهم محتمَل لهذا السبب أو لغيره.

- أوَّلًا، لا ينفصل التشظِّي اللُّغوي والثقافي عن التشظِّي الوطني والقومي. وثانيًا، ما زعمتَ من خطأ في دائرة العوامِّ: غير صحيح.  لقد بلغ هذا التخليط المتوارث إلى كتب التراث المحقَّقة، ومن كبار أعلام التحقيق، مثل (أحمد محمَّد شاكر، وعبدالسلام محمَّد هارون)!

- لا، هذه تستأهل جلسةً مطوَّلة.  أتحدَّاك أن تُثبت هذا الاتهام على مشايخ التحقيق العَرَب، وبسبب الياء المِصْريَّة التي يُصِرُّون على كتابتها ألفًا مقصورة، كما تزعم!  أتحدَّاك، ولقد سكتُّ عن ادعاءاتك طويلًا!

- دع عنك عبادة الأصنام! قلتُ لك: إذا كان "العَرَب ظاهرة صوتيَّة"، كما قال (عبدالله القصيمي)، فإنهم في الكتابة (ظاهرة إملائيَّة)!

- لا تلفَّ ولا تَدُرْ!  أين البيِّنة؟

- إليك حديث البيِّنة.  ستقرأ في كتاب "المفضَّليَّات"، (للمفضَّل الضَّبِّي)(1)، من قصيدة (الجميح الأسدي) بيته، وقد كَتبه شيخاك هكذا:

وأُمُّها خَيْرَةُ النِّساءِ عَلَي ...  ما خانَ مِنْها الدِّحاقُ والأتَمُ

- عَلَي؟!

- نعم، كتباها: "عَلَي"، بالياء المنقوطة؟!  وهي "عَلَى"، بالألف المقصورة. 

- طيِّب، هذا يُثبِت خلاف ما زعمتَ، وهو أنهما ينقطان ولا يُهملان!

- ينقطان ماذا؟  ينقطان المهمَل ويُهملان المنقوط؟!

- ليتك تنقِّطنا بسكوتك، يا ذا القُروح!  تُقيم الدنيا ولا تُقعدها من أجل نقطتَين؟!  أذكرتني بجيم جِدَّة!

- هي (جُدَّة) بالضم، كما قال (عبدالقدوس الأنصاري). وكذلك هي منذ أن سمَّاها العَرَب بهذا الاسم. لكن العَرَب المعاصرين بلغتهم وبأنفسهم يستهزئون!

- فلنَعُد إلى نقطتَيك!

- بل لنَعُد ، إذن، إلى عصر ما قبل الإعجام، أيَّام كانت تُكتَب العَرَبيَّة بغير نقط، ونستريح!

- كيف تفسِّر هذا، إذن؟

- يبدو أنَّ حِرص المحقِّقَين "الكبيرَين" على تلافي تلك الكتابة المِصْريَّة النمطيَّة، التي لا تُفَرِّق بين الألف والياء، قد أوقعهما في نَقْط الألف المقصورة أيضًا! 

- وهل النصُّ سليمٌ في غير "المفضَّليَّات" بتحقيقهما؟

- نعم، النصُّ سليمٌ في المصادر الأخرى. (انظر مثلًا: "الشاعر الجاهليُّ الجميح بن الطَّـمَّاح الأسدي: أخباره وشِعره"، شرح وتحقيق: محمَّد علي دقَّة)(2).  غير أنَّه لم يُشِر إلى ما في "المفضَّليَّات" من غلطٍ في الرسمٍ الإملائي.

- يبدو حِوارك في شأن النِّسويَّة أرحم من حِوارك في اللُّغة!

- العَرَب ظاهرةٌ إملائيَّةٌ هنا وهناك!  إملاء الموروث، أو إملاء الآخَر، (الغربي) طبعًا!

- عليك من القُروح ما تستحق!

- وعليك! المهم، اعلم أنَّ المغرَّر بهم وبهنَّ في هذا التيَّار، الذي يدَّعي النِّسويَّة، هم فرعٌ من ظاهرةٍ إملائيَّةٍ كذلك، وهم لا يقلُّون خطورةً عن المغرَّر بهم وبهنَّ في التيَّارات المضادَّة. فكلا الفريقين من الشباب الزُّعْر والشابَّات...

- الزُّعْر؟  هي وصلت إلى الزُّعْر؟!

- الزُّعْر: من الفِراخ، التي لمَّا ينبت ريشها بعد.  وفي بعض اللهجات المعاصرة يستعملون الكلمة بصيغة: الزُّعْران.

- ماذا عن الزُّعْر، أو الزُّعْران؟

- معظمهم جماعةٌ من مراهقي البلوغ والمراهقات- وأنا أذكُر لك هنا المذكَّر والمؤنَّث لكيلا تتهمني بالذُّكوريَّة- ومن أنصاف المثقَّفين وأنصاف المثقَّفات، ضحايا خطابٍ مضلِّلٍ من جهةٍ وخطابٍ متشدِّدٍ من جهة.

- ذو قُروحٍ يحدِّثنا عن التشدُّد!

- التشدُّد يتصاعد مع الزمن، ومن سُنن أتباع الأديان والأيديولوجيات ذلك التصاعد.  فأنت تلحظ هذا بالمقارنة بين صدر الإسلام، مثلًا، والعصر الأُموي، وظهور الخوارج فيه وغُلاة الشيعة وخصومهما، ثم في العصر العباسي جاءك تيَّار الزُّهد والتصوُّف والإعراض عن الدنيا وزينتها.  وتنامى ذلك مع الزمن، وصولًا إلى (داعش) وأخواتها في العصر الحديث، لا فرق في ذاك بين تطرُّفٍ فكريٍّ وتطرُّفٍ سُلوكي.  وكذلك في المسيحيَّة، تنامى التشدُّد، منذ عهد (السيِّد المسيح)، بسماحته وحياته اليسيرة الطبيعية، إلى عهود الرهبنة، والكاثوليكيَّة، وحركات التطرُّف القرعاء عبر العصور التالية.

- لا تُخرجنا من الموضوع باستطراداتك الجاحظيَّة؟

- أنت الذي تُخرجنا بتساؤلاتك المعتزليَّة!  قلتُ: إنَّ أولئك الزُّعْر هم ضحايا خطابٍ مضلِّلٍ من جهةٍ وخطابٍ متشدِّدٍ من جهة.  يدفعانهما دفعًا إلى تبنِّي أقصى الاتجاه المضادِّ، تنفيسًا عن نفسٍ غضبيَّة، وتحدِّيًا لخطابٍ خصمٍ، يُلغي منطق العقل والتمييز. فالحقائق ضائعة بين تطرُّفين، كلاهما سيِّءٌ ومُغْرِضٌ ولئيم. وحينما يكون الحديث عن النِّسويَّة فإنَّما هي في كثيرٍ من شطحها ونطحها: التطرُّف المضادُّ للذُّكوريَّة.  من حيث لا تُدرِك- أو هي تتعامَى كأيِّ أيديولوجيا- أنَّ سنن الله في الذُّكورة والأُنوثة ليست في بني الإنسان فقط، لتُجعل جريرتها على الرَّجُل أو المرأة، ويُرسَم لها سيناريو فيلمٍ (هنديٍّ) تاريخيٍّ، يُثبِت التآمر القديم على المرأة، وإنَّما هي فطرةٌ ظاهرةٌ في مخلوقات الله الحيَّة جميعًا، من حيوانٍ وطيرٍ ونبات. أم أنت قائل هنا: إنَّ تُراث مجتمع الدجاج، مثلًا، وعادات ذلك المجتمع وتقاليد أسلافه البالية- هي التي جعلت الدِّيك (الذُّكوري الفحل) يستولي على السُّلطة الاجتماعيَّة، وجعل الدجاجة تنسحب من ساحتها السياسيَّة، وتُسلم الحكم إلى الدِّيك؟! وأنَّ تَراجُعها ذاك هو ما جعلها تلتصق بالدِّيك حاميًا، وتقلِّص دورها في العهد الأبويِّ الديوكيِّ، إذ تربَّعت الديوكيَّة على العرش؟ وأنَّ ذلك هو ما أملى على الدِّيك أن يقترن بأكثر من دجاجة، وأن تكون له السيطرة الأُسَريَّة؟! وقِسْ على ذلك دور الجنسَين لدَى مخلوقات الله الأخرى، ومن ثَمَّ قارن بالسُّلوك الذُّكوريِّ الأَبويِّ في شؤون أُسَرها ومجتمعاتها. وذلك كالذئاب، التي تتولَّى ذُكورها مسؤوليَّة كسب الطعام لإناثها وصغارها، وكأنواع من القرود، تفعل مثل ذلك.(3) وعليه، فإنَّ تلك الأُحدوثة القديمة التي تُروَى عن التحوُّل من قداسة الأُنثى إلى قداسة الذَّكَر، ومن التاريخ الأُنثوي إلى التاريخ الذُّكوري، بالتحوُّل البَشري إلى المجتمع الزراعي، هي أُحدوثةٌ مُسَلِّية، لكنها تتناقض مع الحقائق الحيويَّة البيولوجيَّة التي هي الأساس، كما رأينا، في وضعيَّة الأُنثى والذَّكر، أكثر من أيِّ عوامل أخرى.

- يا حبيبي، يا أبا القُروح، قياسك باطل الأباطيل!  كيف تقيس عالَم الإنسان على عالَم الحيوان؟!  نعم هناك أشياء مشتركة بين العالَمين، لكن الإنسان العاقل يسعى إلى الترقِّي، وتجاوز بعض الفِطَر البدائيَّة.  ولولا هذا لبقي الإنسان حيوانًا، كالقرد، والذئب، والدِّيك!  أيُّ منطقٍ هذا؟

- في المساقات المقبلة سأُعلمك أيَّ منطقٍ هذا!

...  ...  ...

"وافترقْنا،

غابةً تكتبها الأرضُ وترْويها الفصولُ

أيها الطِّفل الذي كنتُ، تَقَدَّمْ!

ما الذي يجمعنا الآنَ؟ وماذا سنقولُ؟"(4)

***

أ. د.عبد الله بن أحمد الفَيفي

.................................

(1)  (1979)، بتحقيق وشرح: أحمد محمَّد شاكر وعبدالسلام محمَّد هارون، (القاهرة: دار المعارف)، 43/ 13.

(2)  ("مجلَّة جامعة الملك سعود"، 1413هـ= 1993م، م5، الآداب (2)، ص ص469- 498)، ص489/ 13.

(3)  يُنظَر مثلًا، موريس، ديزموند، (1984)، القِرد العاري: دراسة للتطوُّر العضوي والجنسي والاجتماعي للإنسان، ترجمة: ميشيل أزرق، مراجعة: محمَّد قجة، (اللاذقيَّة: دار الحِوار)، 22، 32- 33.

(4)  أدونيس.

نحن لا نهاجم الاديان ولا نرفضها، لكننا نرفض ان يُحتكر الدين لصالح مؤسساته الباطلة والتي لم يعترف بها النص المقدس، لتتحكم به ضد البشر حتى جاز لها شرعية التصرف باموال الدولة وانسانها لخدمتها دون خوف من الله والناس، بعد ان غلفت كل باطل بغلاف الدين.فالدين ليس سلعة تباع وتشترى كما عند اصحاب المذاهب الباطلة حين جعلوا موارد الدولة مُلك سائب لهم دون قانون، فكذبوا على الله والدين بعد ان سرقوا الدولة والمواطنين، بل هو قيم وعدل بين البشرلا خيانة وتدليس، نحن نحترم شجاعة من يقول الحقيقة او بعضها، ولا نحترم من اتخذ من الدين وسيلة لقتل الوطن ككل وبيعه للأخرين.

الدين، أي دين جاء نتيجة طبيعية لوعي الأنسان لتنظيم حياته الضائعة بين الغابة والصحراء، وبين القوة والضعف، وبين الحق والباطل، أدركها الأنسان منذ ان كان هائما على وجههة لا يلوي على شيء ولا نصير له في محنة التيه، في مواجهة من يهاجمه او يقتله او يستولي على حقوقه، من هنا بدأ يفكر بقانون يحميه، ولأن القانون لا وجود له في تصوره وواقعه في ذلك الزمن البعيد، ألتجأ الى المقدس الذي لايُخرق، فكانت النار المقدسة عنده عقيدة دين ثم تطورعبر الزمن، الى دين مشخص، للطاعة والتنفيذ.

أما الدولة، فهي تختلف عن مفهوم الدين كونها تنظيم سياسي يمثل مؤسسة أنسانية لتأمين الامن العام والنظام والسلطة، تقوم على القانون والقوة معأ، ولها جمهورها المختلف في العادة والتقليد والمعتقدات الدينية والتقاليد، وكيانها أعتباري تعاوني، اركانها الأرض، والدستور والقانون والقضاء لتأمين العدالة فيها، ولكل دولة نظامها الخاص بها، هنا الدولة تتناقض مع مفهوم الدين في توجهاته العقائدية وتطبيقاته الالزامية كون النص الديني ثابت وقانون الدولة متحرك، لان لكل دولة فلسفتها الخاصة بها، من هنا تبدا الجدلية بين الدين والدولة لصالح الانسان، وليس لصالح سلطة الدولة ومؤسسة الدين.

من هذا المنطلق بدأت تختمر في ذهن الأنسان الرؤية المفهومية بأطارها المرجعي فكان معيارها جملة مفاهيم ُيتفق عليها لا يجوز اختراقها، اساسها الحرية وحق الحياة والاختيار وحقوق الانسان، وبعد تجربة لعشرات الألوف من السنين بدأ الانسان يكتشف عقله ليصقله وترهف ملكاته ليصبح قادرا على عقل الأشياء أي ربطها بعضها ببعض حتى بدأ يدرك الظواهرالطبيعية وربطها ببعض حين بدأ يفكر في النجوم والشمس والقمر والمطر، من هنا خطا الانسان أولى خطواته في طريق الحضارة والتقدم، لذا يقول العلماء: "ان العقل نفسه أول مخترعات الانسان".

وبمرور الزمن استطاع الانسان ان يتصرف بعقله فتغلب على الظروف غير المواتية بدلا من الرضوخ اليها وتركها تشكله كيف شاءت، حتى استطاع ان يزيد من ادراكه العقلي والفكري ليصل الى ما وصل اليه اليوم، فبدأت النظريات تتحدث عن الانسان والبيئة والقوى المؤثرة عليه في اختلاف الطبائع والاختلافات البدنية حين عزتها الى الظروف المناخية والجغرافية، لكن يبدو ان بعض النظريات قد ذكرت بأن البيئة وحدها لا تكفي أيضاً دون المحرك الاساس هو العقل لربط الظواهر وتجسيدها في حقائق ملموسة، كما في نظرية أرنولد توينبي"العقل والانسان" ومقارناته لمفردات الحضارات المختلفة.

و بتطور العقل ووصوله الى مرحلة النضوج الفكري تهيأ لأستقبال أول الديانات، - فرق بين العقل والفكر، فالعقل هو ادراك الاشياء وفهمها والربط بين الظواهر، اما الفكر فهو استخدام الذهن العقلي استخداماً منظماً، بينما المخ هو عضو عضلي يشترك فيه الانسان والحيوان، ولا علاقة له بالتحديد العقلي في اتخاذ القرار- فكانت اولى الديانات هي ادعاءات الأنبياء والرسل كما حدثتنا عنها القصص القرآنية الواقعية كما ذكرت في القرآن " نحن نقص عليك نبأهم بالحق، الكهف 13". هذه القصص التي اعطتنا خط تطور التاريخ الانساني بالمعرفة والتشريع والسلوك.

وعندما خلق الله البشر منحه الحرية والأمان والسلطة العادلة على نفسه والأخرين ووصاه ان لا يخترقها "أعدلوا ولو كان ذا قربى" شرط قرآني مقدس لم يلتزم به المسلمون، وبأختراقه حدث الخلل، هذا النمط من العلاقة مَثلها النبي ابراهيم والتضحية بأبنه أسماعيل من اجل العهد والوفاء، ولكن بما يؤمر"أفعل بما تؤمر" وليس بأرادتك، فحياة الانسان مُلك له وليس لأبيه او الاخرين، هذه الظاهرة الآلهية الطبيعية الفريدة انهت تحكم الأنسا ن بالأنسان فأنهت أضاحي البشرية التي كانت متبعة آنذاك للبشر، واستبدلتها بالأضاحي الحيوانية، كما كانت عند المصريين الذين يقدمون أجمل فتاة للنيل غرقا كل رأس سنة.

افرزت هذ الظاهرة ظواهر أخرى كظاهرة طوفان نوح وغرق ابنه دون قبول نجدته لكونه كان ظالماً "دعه يا نوح يغرق لأنه ليس من أهلك، هود 46، "لذا كان لابد من الخلاص من الظلم والخطأ بما يعتقد مثل: الحقد والغضب والفوضى والعذاب والموت والتجربة والقلق، هذه الاوامر الآلهية التي لم تلتزم بها مؤسسة الدين الى اليوم، وتحدثت القصص عن الصداقة والوفاء، والخيانة والتوبة والغفران، بأن لها معايير أنسانية يجب ان لا تُخرق ولا تُخان، قيم ومعانٍ نقلت من التوراة الى مزاميرداوود، ومن الأنجيل الى القرآن، لذا اوصى الله محمد ألنبي ان يقرأ تلك الوصايا ويتعلمها لينقلها للناس بأمانة النص ليكون منها وحدة الدولة والدين يقول القرآن: " ويعلمهُ الكتابَ والحكمةَ والتوراةَ والاأنجيل، آل عمران 48".اذن اين الاختلاف في الانتماء الديني الذي اعتدناعليه.هذا مسلم وذاك كافر، واين التطبيق في مجال الحق والعدل، ؟ ولاشيء.

هذه الوصايا المتماسكة جاءت لسد الفراغ الكبير في حقل المعرفة الانسانية التي اوردها قانون حمورابي والوثائق الاشورية حتى ان بعضٍ من نصوص حمورابي جاءت في القرآن (السن بالسن والعين بالعين والجروح قصاص)، لذا جاء هذا التوجه الطبيعي بوضوح العبارة، ورشاقة الصياغة الادبية والأمانة لروح النصوص الاساس، ودقة المعاني، وحسن الأداء، لذا فالقدسية جاءت فيها أعتبارااتوجهات آلهية يؤمر الأنسان بأتباعها من أجل حياة العدالة الأجتماعية دون أكراه وليست جبرية "لا أكراه في الدين"، اذن كم كانت الحرية مقدسة عند عظماء الانسان وخالقهم الآله، او طبيعة الكون التي حرصت على العدل والحقوق لتعظيم الاديان في مجتمع الانسان، لكن الانسان عبر الزمن قد خان الامانة ولم يلتزم بقيم الخالق العظيم.فلا تقل هذا مقدس وذاك ناكر لقرار الرب العظيم.

هذه التوجهات بحاجة الى تطبيقات فلسفية معرفية قائمة على التشريع والاخلاق والتاريخ تقدمها نظرية التطور حيث تكمن عقيدة التوحيد، وقانون تغير الاشياء، من هذا التوجه الرباني وضع منهج جديد في اصول التشريع والواجبات الانسانية وحتمية عدم تجاوزها في حكم الناس، لذا كانت حرية التعبير عن الرأي وحرية الاختيار في العقيدة الدينية هما اساس الحياة الانسانية على الارض وليس الأكراه، ولا غفران لمن يخترقها أو يتجاوزها بالمطلق، فالسلطة والقانون يحميان العدالة ولا يحصنان الحاكم من الخطأ كما هي اليوم.من هنا فأن الدولة والدين يقعان ضمن ثنائية الارتباط وجدليتها. فكيف الحل، ؟

الحل يكمن بضرورة دراسة التراث دراسة رأسية حقيقية لا وهمية، لمعرفة الاديان وقيمها، والانسان وحقوقه والابتعاد عن محتكريها (مؤسسة الدين والفقهاء المزورين للنص والمفسرين له واصحاب الحجيث الذي رفض الرسول تدوينه كي لا يختلط بكلام القرآن.على منهجهم الناقص في معرفة اساسيات اللغة العربية قبل أكتمال تجريداتها )التي شوهت قيمها بأحتكارهم لها، وأحتكارالسلطة والمال واعتبارهما ملك سائب لهم دون قانون، وفي الاخرة جنة وحور عين لهم ايضا ويبقى الخالق هو الذي يظلم الانسان، ولاندري من رأى بعينه التطبيق، في وقت يقول القرآن على لسان الأنبياء: "لوكنت اعلم الغيب لأستكثرت من الخير وما مسني السوء، الأعراف 188

اراد الدين ان يضمن للانسان مزاياه التي تؤهله لقيادة الانسان في الحياة ليمتاز بخلق متين وصدق وصفاء نية وبعد عن الخداع وليس لهلمة التقديس، التي فرضتها الدولتان الاموية والعباسية وجعلت نظرية الملك العضوض قاعدة القوانين عندهما.فكم كان الالتزام بها رخيصاً، بعض الشعوب التزمت بها وانشأت القانون والدستور (شعوب القانون نموذجاً) والبعض الاخر في غالبيتها حولته الى تخريف لحية وسبحة وعمامة دين فأستحقت بامتياز بُعدها عن التطبيق، ونحن منها بعد ان حولنا الدين الى سلعة تباع وتشترى بيد ولي الامر دون الناس او الجماهير حين جعلنا ولي الامر بمثابة الله والرسول "أطيعوا الله والرسول وآلوا الامر منكم "وآلوا ليس جمعا لولي ولا من مادته.حتى وصلنا الى الدرك الاسفل في الانحطاط والتخريب في قيادة الدولة وتطبيق القانون حينما زورنا حتى النص في القراءة والتطبيق.

واخير نقول لن ننجوا من كارثة استغلال الدين من قبل سلطة الدولة ومرجعياتها الا بالانتباه الى وظيفة الكلام في صنع الفكر، ومعرفة النجدين في التطبيق، اي معرفة الخير من الشر لتحصين النفس من خطأ الاقدار ليبلغ الانسان اقصى نموه العقلي في الحد العام، لذا فالاهتمام يبدأ من الصغر لينمو مع الاستقامة وهنا يلعب المنهج المدرسي دور المرشد العام في التكوين، بعدها سيصل الانسان منذ الطفولة الى سعة الخيال وعدم معرفة الحد الفاصل بين الخيال والحقيقة فينمو الذهن وتتجسد مَلكة الحقيقة عنده، حتى يصبح التخيل منظما ومرتبطا بالواقع المدرك حين يبدأ العقل بربط الظواهر للاكتشافات العلمية التي يتحول صاحبها الى اصحاب التطور والدعوات الى حقوق الانسان بالقانون، هنا تظهر رجالات القيادة المرتبطة بالحقوق وبناء الدولة والانسان جراء عدم المبالات بالمكاسب الشخصية بالاستعداد للتضحية في سبيل الوطن والاخرين، لا تخريفات المتدينيين، في الافضلية والمعصومية وغيرها من اساليب التخريف.فلا معصوم حتى الانبياء لقوله تعالى: "يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك فان لم تفعل فمابلغت رسالته والله يعصمك من الناس المائدة 67".فالعصمة هنا في الرسالة وليس في شخصه الكريم.

وتبقى البيئة الجغرافية التي ينشأ فيها هذا الوعي من الانسان لها اثر كبير في الشكل الحضاري الذي ينِشأه.لأن الانسان يأخذ مادته الحضارية مما حوله، اي مما ورثه من بيئته التي ربت له عقله، حتى يستطيع التغلب على الظروف غير المواتية بدلا من الرضوخ اليها، لذا شق الانسان الواعي صعوبات العصور وتحول الى الوعي التطوري الكبير.

يقول حكيم: " من التوثيق حفظ التجربة للتغيير نحو الاحسن فالحياة وفق صيرورة الزمن تتغير للاحسن ولا نص يبقى ثابتا، ومن لا يقبل بنظرية التاريخ يبقى ملتحفاً بعباءة التخلف بين البشر، لذا نرى ان الفاشلين في التطور يصنعون من انفسهم رجال دين.

***

د.عبد الجبار العبيدي

تعايش سكان المغرب مع السلفية، لكن بمنطق مغاير للشرق. رضع المغاربة من ثدي الثقافة الأندلسية، وحقق السبق والتميز في مجال العقلانية الدينية. الإسلام المغربي إسلام فقهي بكل المقاييس. لقد عاشت البلاد تجربة تاريخية خاصة. تَنَاقُح القيم الإسلامية مع الفكر الأندلسي أنضج نسقا فكريا متميزا في مجال التفسير والتأويل التقدميين للنصوص الدينية.

لقد عاش المغرب الأقصى تطورات مختلفة في المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج. الانطلاقة الحقيقية لهذا المسار وتطوراته، يقول الدكتور عبد الله العروي، مرتبطة بالتأثير القوي لكل من ابن رشد وابن خلدون وابن حزم. لقد رسخ هؤلاء الثلاثة بجهودهم ودعم تلامذتهم نظرة جديدة في التفسير والتأويل للنص القرآني. الرصيد الفكري الإبداعي لكل واحد منهم لم ينضب أبدا، بل ترعرعت رمزيته ودلالاته وأبعاد معانيه مع مرور الزمن. لقد بقي فوارا بغذائه العقلي كما وكيفا وقيمة، ومتميزا بغدده الجينية وإفرازاته الطبيعية المحفزة على التغيير، إلى درجة مكن المغاربة من اكتساب المناعة المطلوبة من حساسية الظروف المحيطة ونزوعاتها السيئة وسلوكياتها الغير مرغوبة. بالنسبة لهم، يبقى النص الفقهي والديني دائم الإبهام وفي حاجة حتمية لتأويل التأويلات في كل زمان ومكان سعيا للاقتراب من الحقائق المطلقة.

الفكر الأندلسي، يقول العروي، يميز بجلاء بين الربانيات التي تستوجب أخذ النص بوجهه الظاهر بهدف تقوية الإيمانيات في المجتمع، والمعاملات المبنية على المصلحة الجماعية. لقد تأسست وترسخت في الأذهان فكرة تميز الفكر الظاهري بالنسبة للإيمانيات (الظاهر في العبادات) منذ الفترة الذهبية التي عاشها الفكر الأندلسي الممتدة في الزمن من ابن حزم إلى ابن عربي. إنه الاعتبار الذي جعل المغرب يختار المذهب المالكي كأساس لعقيدة المغاربة، معانقا بقناعة ثابتة المنطق الذي يجمع بين ابن خلدون وابن رشد. إنها التراكمات التي جعلت المغرب بلدا مستقرا وطامحا لاستتباب الأمن والسلام في العالم، ودولته لا تكل ولا تمل في السعي لتجديد طموحاتها لضمان تقدمية قيم قيادتها لمشروعها السياسي على أساس المصلحة العامة والديمقراطية والحداثة. أكثر من ذلك، تعتبر المملكة المغربية بلدا رياديا في تعاطيها مع العلمانية بدون أن ترتاب أو أن تتخوف منها.

الاستثناء المغربي أبرزه العروي عند ترجمته لكتاب مونتسكيو الشهير "تأملات في تاريخ الرومان". لقد أثارته وجذبته فكرة محورية هامة وبارزة في مضمونه، مفادها أن الخلط بين السياسة والدين كان السبب الرئيس في تأخر المسيحية البيزنطية عن الإمبراطورية الرومانية. في الأولى، عاشت مجتمعاتها تحت سلطة ومنطق الكنيسة الخانق للعقلانية والمبادرة، وفي الثانية كانت للبابا سلطة دينية منذ القدم بعيدا عن السلطة الدنيوية. وهو يحاضر طلبته طارحا سؤالا ذكيا للغاية في شأن "الخلط بين السياسة والدين وما ترتب عنه من تقهقر وتخلف في التاريخ" بدون أن يحدد الحقبة التاريخية المعنية (قولة مونتسكيو في شأن واقع الإمبراطورية البيزنطية)، لم يتفاجأ العروي من ردود وإصرار إجماع الطلبة كون القولة تتعلق بالخلافة الإسلامية.

لقد أبرز العروي من خلال ترجمته لكتاب مونتسكيو أن المشكل ليس في الفرق بين المسيحية والإسلام، بل يتعلق الأمر بالفرق بين المسيحية الشرقية والمسيحية الغربية، مثلما هناك فرق واضح بين الإسلام الشرقي والإسلام الغربي. إنها المعطيات التي جعلت تطورات العقود الأولى من مطلع الألفية الثالثة مختلفة جذريا بين المنطقتين. لقد سلك المغرب طريقا خاصا زمن ما سمي بثورات الربيع العربي. عمت الاحتجاجات ربوع المملكة تحت تسمية "حركة 20 فبراير"، وتوجت بخطاب 9 مارس والمصادقة الشعبية على دستور 2011 بنسبة قياسية.

إن ما وقع بالمغرب هو اعتراف ضمني ومعلن بطبيعة السياسة ومقومات التعامل السياسي. لقد تم توجيه الميول الشعبي إلى تكريس وإبراز الفرق بين العام والخاص بشكل سلس. لقد أفرزت التطورات ارتباط الماضي بخصوصياته ومتطلبات الحاضر وتحديات المستقبل. لم تختلط الأمور في أذهان المواطنين المغاربة. لقد عبر الحراك بوعي شديد أن منطق الدفاع عن المصلحة العامة (المطالبة بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية) لا ارتباط له بالدين (منطق الإيمان الفردي)، بل دوافعه كانت ولا زالت سياسية محضة تتجلى في الدفاع على مصلحة الفرد والجماعة وحقوقهما الاقتصادية والاجتماعية.

وبذلك يكون العروي قد ميز بجلاء في نفس الوقت بين مسيحية الغرب ومسيحية الشرق، وبين إسلام الغرب (السلفية المغربية) وإسلام الشرق (السلفية المشرقية). التركيبة الاجتماعية والتجربة التاريخية في المغرب الأقصى مختلفة تماما عن تجارب محيطها الجهوي. عاش المغرب تجربة دولة بتركيبة اجتماعية بإرث أندلسي، وفقه يتوخى المصلحة العامة الراهنة. الشعب المغربي تشرب من تراثه الحداثي، وتقوت مناعته السياسية، إلى درجة جعلته قادرا على تفنيد ومواجهة النزعات المشرقية المتزمتة. أما ما روجه ابن تيمية في حديثه عن ابن تومرت ودعوته للخروج عن السلطة فهو مجانب في مجمله للموضوعية، بل يمكن اعتباره استحداثا بدواعي ظروف معينة. لقد كان العرب في تلك الفترة تحت سيطرة المماليك الأتراك. اختلاق هذه الدعوة لم يكن سوى وسيلة لإحراج السلطة الأجنبية. الجهاد كأساس لشرعية السلطة يكون خارج الوطن الإسلامي. ما أثاره ابن تيمية لم يكن سوى سلاحا سياسيا لإحراج الطغمة التركمانية.

المغربي، بثقافته التاريخية ومعطياته السوسيوثقافية، لا يمكن له أن يعتبر بتاتا الأفكار والقرارات المخالفة للمصلحة الجماعية فرضا دينيا يستوجب الجهاد. إنه يعي تمام الوعي أن النص الديني الرباني لا يمكن له بتاتا أن يفرض شيئا ليس في مصلحة المسلمين. أشار العروي في هذا الصدد إلى أحداث من تاريخ المغرب القديم. لقد واجه الفقهاء، بشجاعة وحزم، الدعوة إلى تغيير المنكر باليد (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). لقد انجلت هذه السحابة بسرعة وعم الاقتناع أرجاء المملكة بكون تغيير المنكر باليد لم يكن يوما فرضا دينيا يلزم الجميع، بل كان دائما من المسؤوليات الأساسية التي تتحملها السلطة العمومية المعترف بها شعبيا.

استحضارا لمقومات المشروع الفكري النهضوي لعبد العروي يمكن القول أن المغرب قد خطا خطوات هامة في مسار الحداثة والديمقراطية والتنمية الذاتية. لقد صنفت الدعوات المشرقية لتغيير المنكر باليد في خانة الآفات المؤدية إلى الفوضى والفتنة. السنة والجماعة في الإسلام، كما تمارس بالمغرب الأقصى، بنيت على أساس اعتبار الفوضى أصل كل داء مجتمعي. لقد تشبع المغاربة بفكرة كون الإسلام نظام ولم يكن يوما فوضى. لقد أصبح الإسلام كما ترعرع وترسخ بالمغرب مرادفا للأمن والسلم والنظام (الكون نظام، ولا بد أن يكون المجتمع نظاما). الفكر السني المغربي أَوَّلَ قوله تعالى "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" تأويلا حداثيا، إذ اعتبرها دعوة صريحة للحيلولة دون قتل النفس وإيذائها وإلقائها إلى التهلكة بأي طريقة من طرق التهلكة، والأخذ بعموم لفظ الآية، وبالقياس الجلي، باعتماد القاعدة الأصولية القائلة :" العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب". لقد نهى الله عز وجل الإنسان ألا يأخذ فيما يهلكه. للسلف في الشرق في معنى الآية أقوال، والحق والدلالة النافعة بالمغرب هما مستنبطان مما قاله ابن جرير الطبري: أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما صدق عليه أنه تهلكة في الدين أو الدنيا فهو داخل في هذا.

وفي الأخير، لا يمكن ألا يتبادر إلى ذهن المغاربة رهان من الرهانات الكبرى التي يجب تصنيفها ضمن التحديات الجوهرية وكأولوية أولويات الدولة الإستراتيجية. فمقابل هذا الامتياز الثقافي المرسخ والمحفز للتنمية، تبرز الحاجة إلى خلق التحولات الكبرى المطلوبة في منطق ممارسة السلطة في مجال إنتاج النخب واستتباب الشفافية والاستحقاق في الأنشطة الرسمية والمجتمعية على مستوى كل الوحدات الترابية بشقيها التمثيلي والإداري.

***

الحسين بوخرطة

مهندس إحصائي ومهيئ معماري

ـ ان الشعوب مثل الافراد، شخصيتها وعقليتها نتاج بيئتها وتراكم تاريخها وتجاربها، منذ ميلادها وحتى حاضرها. يستحيل على الشعب كما الانسان، الغاء بيئته وتصفير تاريخه وذكرياته ولغته وعقيدته وعاداته، لتبني شخصية شعب آخر من بيئة وتاريخ مختلفين تماما.

نشوء العلمانية الاوربية

من المعلوم ان جذور (العلمانية: أي فصل الدين عن الدولة والقوانين، وعن التعليم والتثقيف الرسمي) في اوربا الغربية تعود الى ما يسمى بـ (عصر النهضة: اواخر 1400م) ([1]) والخروج مما يسمى بـ (القرون الوسطى المظلمة). إذ بدأت النخب الغربية بالتمرد البطيئ على (سلطان الكنيسة والثقافة المسيحية) التي سيطرت على اوربا خلال الف عام: تقريبا بين (400 م و 1400م).

وكانت الضربات المتتالية التي اضعفت الكنيسة الكاثوليكية المسيطرة، قادمة من الشرق الاسلامي حيث الازدهار الحضاري الكبير الذي ما كفّ وهجه عن بلوغ اوربا الغربية بمختلف الوسائل: العلاقات التجارية والامارات الصليبية والاندلس وصقلية العربية. وقد بلغ ضعف الكنيسة ذروته مع (الانشقاق البروتستاني:1517 م) الذي جعل الكنائس الجديدة تابعة لسلطان الملوك، على عكس (الكاثوليكية) التي كانت تفرض سلطانها على الملوك والشعوب. اعقب ذلك اندلاع حروب الابادة بين الطرفين: (حرب الثلاثين: 1618ـ 1648) التي قضت على ثلث سكان اوربا الغربية، واضعفت عموم المسيحية بصورة كبيرة.

ثم توالت التمردات والثورات (التحديثية) من قبل النخب المثقفة والسياسية مع تنامي الطبقات المدينية الرأسمالية والعمالية، حتى عصرنا الحالي، حيث اصبح تأثير المسيحية محددا في بعض المجالات الاجتماعية والمناسبات الدينية والفولكلورية، بالاضافة الى قيمتها السياحية في ميراث المعمار الكنسي وكلاسيكيات اللوحات والموسيقى الدينية.

الحال في العالمين العربي والاسلامي

وقد حاولت النخب الحداثية عندنا منذ القرن التاسع عشر تكرار ما حصل في اوربا الغربية، متصورة بكل حسن نية انه يكفي ان تقوم الحكومات باقرار: (عزل الاسلام وحصره في الجوامع والصوامع) و (فرض القوانين والثقافة والتربية العلمانية والحداثية) المستوردة نصا من اوربا. تعتبر تجربة (كمال اتاتورك: 1923ـ 1938) في تركيا اولها واهمها، ثم بصورة اقل تجربة (رضا شاه: 1925ـ 1941) في ايران. والطريف ان هذين البلدين الرائدين في العلمانية (تركيا وايران)، منذ عشرات السنين تسيطر على دولتيهما النخب الاسلامية!؟ (التوضيح في الاخير)

اما بالنسبة للعالم العربي، فرغم السيطرة شبه المطلقة للاحزاب العلمانية والملحدة على الحياة السياسية والثقافية منذ اوائل القرن العشرين وحتى اواخره: (وطنيون وقوميون وماركسيون وليبراليون.. الخ) الا ان جميع الدولة العربية وبدرجات تطبيقية وتعبيرية مختلفة، تعلن ان (الاسلام دين الدولة والمجتمع)، بالاضافة الى التنامي الكبير لتأثير الثقافة والتقاليد الاسلامية في جميع نواحي المجتمع، رغم جميع الجهود الاعلامية والتثقيفية (المدعومة غربيا) التي يبذلها انصار العلمانية والحداثة التغريبية!!

الاسباب التاريخية الحضارية المتجاهلة

بسبب غياب النظرة (الواقعية التاريخية) لدى (نخبنا الحداثية) واعتقادهم التبسيطي بأمكانية تقليد اوربا، تجاهلوا هذين الاختلافين الكبيرين والحاسمين في (الدور التاريخي والميراثي) لكل من (المسيحية في اوربا) و (الاسلام في بلدانا):

الحقبة المسيحية الاوربية ارتبطت بالظلامية والانحطاط

ان عصر سيطرة المسيحية وكنيستها على اوربا التي دامت الف عام (القرون الوسطى: حوالي 400 ـ 1400م)، لم يكن عصر (حضارة وقوة) بل كما يعتبرونه هم: (عصر تخلف وظلامية). إذ سيطرت المسيحية على اوربا عقب نهاية حقبتها الحضارية والامبراطورية (اليونانية ـ الرومانية: حوالي 500 ق م الى 300 م)، وبداية حقبة انحطاطها وخرابها بعد نهاية (روما) وغزوها المستمر من قبائل بدو الشمال (الجرمان: الالمان والفيكنغ) وسقوطها النهائي عام (476 م).

على عكس ما اشاعه العلمانيون الاوربيون، لم تكن (الكنيسة) سببا للانحطاط الاوربي، بل هي اتت لتهدئة وحشية القبائل البرابرية من خلال كسبها للمسيحية ومنحها بعض الروحانية والمسالمة. أي ان المسيحية الاوربية لم تكن هي سبب (ظلامية القرون الوسطى)، بل كانت اشبه بـ (العلاج التخديري) لتخفيف معانات الهمجية، إذ كانت هي (الطبيب الروحي) وليس (سبب الوباء). ([2])

لكن كما يبدو ان هذا العداء للمسيحية من قبل المفكرين التنويريين الغربيين في عصر النهضة وحتى الآن، نابع من شعور باطني عميق بأن هذه (المسيحية: ديانة شرقية روحانية) ولا تمثل عقليتهم وميراثهم (اليوناني ـ الروماني). لهذا اعتبروها سبب انحطاطهم. وكانت عملية (التمرد على الكنيسة وعموم المسيحية) تتجسد بهاتين الخطوتين المتداخلتين:

1ـ عملية الابدال: أي ابدال المسيحية بالميراث الاوربي (اليوناني ـ الروماني) الذي كان كان عهد امبراطوريات وحضارة عالمية كبيرة. ثم ان هذا الميراث الاوربي القديم يمثل شخصيتهم ومزاجهم، فهو (قليل الروحانية) كذلك (وثني متعدد الآلهة)، و (سلطته شخصية عائلية) لا تتدخل بسلوك المجتمع ونشاط الدولة. ثم خصوصا ان هذا الميراث ممزوج مع ثقافة (المنطق والواقعية الارضية والعملية) التي كان قد برع بتطويرها وتوضيحها (العقل اليوناني ـ الروماني).

2ـ تشويه وتظليم كل تاريخ الكنيسة: بتضخيم خطاياها ومسح دورها الايجابي: الروحي والتوحيدي والثقافي والمعماري، واعتبارها السبب الوحيد للتخلف والظلام السائد.

هاتان العمليتان: (الابدال والتشويه) لا زال العمل بهما مستمرا منذ اعوام 1400 م الى الآن. حتى تحولت عموم (المسيحية الاروبية) الى نوع من الفلكلور المناسباتي والسياحي.

الحقبة العربية الاسلامية ارتبطت بالحضارة والامجاد

على (النقيض التام) من حقبة (المسيحية الاوربية)، فأن (الاسلام) ظهر في (نهاية الحقبة الظلامية) التي كانت تسود الشرق منذ اكثر الف عام قبل الاسلام. أي منذ القرن السادس ق.م وبدأ انحدار وتساقط دول وحضارات الشرق الاولى: المصرية الفرعونية والنهرينية ـ العراقية، والكنعانية الشامية، ثم آخرها (القرطاجية) في شمال افريقيا ([3]) والخضوع للاحتلالات الاجنبية: الايرانية واليونانية ثم الرومانية ثم البيزنطية، خلال اكثر من الف عام وحتى الفتح العربي الاسلامي، أي بين حوالي (500 ق.م و 600 م)

أن (ظلامية الشرق) اخذت تنتهي مع (الاسلام والعربية)، في نفس الحقبة تقريبا التي بدأ فيها الانحطاط والظلام في اوربا المسيحية. حيث حقق (الفتح العربي الاسلامي) اكبر الانجازات التاريخية التي كانت منتظرة من قبل شعوب الشرق:

1ـ الاسلام حررهم من احتلال اجنبي دام اكثر من الف عام. بل شيد لهم اكبر امبراطورية عالمية (اموية ثم عباسية وفاطمية واندلسية، وغيرها) هيمنت من الاندلس حتى الهند. وتمكنت هذه الامبراطورية من اشراك جميع الشعوب في ادارتها وحتى قيادتها، إذ يكفي (نطق الشهادة) حتى تنتهي كل الفروق العرقية واللونية واللغوية. بل حتى الجماعات غير المسلمة مثل (اليهود والصابئة وخصوصا المسيحيين) قد شاركوا بصورة فعالة في صنع الحضارة وادارتهم لطوائفهم.

2ـ الاسلام تمكن خصوصا من توحيد شعوب شرق البحر المتوسط، السامية ـ الحامية: (العالم العربي الحالي)، دينيا وثقافيا وحتى لغويا. إذ قدم لها عقيدة نابعة من ميراثهم الروحي الاصيل: (الابراهيمي: اليهودي والعرفاني المسيحي)، النابع بدوره من الميراث الديني الاول السابق: (العراقي ـ المصري ـ الكنعاني). كذلك قدم لهم (اللغة العربية) التي هي ايضا حصيلة التطور والتمازج اللغوي (السامي ـ الحامي) بين شعوب المنطقة عبر آلاف السنين. ([4])

3ـ الاسلام، قد تمكن بصورة غير مقصودة، من تفجير (الطاقة الحضارية) التي كانت مكبوتة لدى شعوب المنطقة خلال اكثر من الف عام، منذ نهاية حضارتهم الشرقية السالفة (المصرية العراقية الكنعانية الفينقية). ان (الحضارة العربية الاسلامية) التي صنعتها شعوب العالم العربي الحالي و (معها باقي الشعوب التي اصبحت مسلمة)، كانت بالحقيقة (عملية احياء) لتلك (الحضارة الشرقية) التي كانت قد اندثرت من الارض، لكنها بقيت حية في ارواح واشواق شعوب الشرق.

ان هذا الانجازات التاريخية العظمى، كانت السبب الاكبر الذي دفع غالبية الشعوب الخاضعة في آسيا (ايران وتركستان والسند وغيرها) الى التخلي عن اديانها الاولى (المجوسية والهندوسية والبوذية وغيره). كذلك بالنسبة للغالبية المسيحية في (العالم العربي الحالي) التي اخذت بالتدريج تعتنق (الاسلام) و (تتبني العربية) و(تتعرب) تماما من خلال الامتزاج والتزاوج مع القبائل العربية الفاتحة.

حداثيونا واصرارهم على تقليد نفس خطوتي النهضة الاوربية: الابدال والتشويه

ان عملية التحديث قد بدأت لدينا منذ حوالي القرنين: (نهايات اعوام 1800) في الدولة العثمانية ومصر، وقد دعمتها بقوة ولا زالت، الدول الاوربية التي شرعت بتحطيم الدولة العثمانية ثم فرض الاستعمار والهيمنة على بلداننا حتى الآن.

الذي يجلب الانتباه ويستحق الذكر، وهو امر غائب عن الباحثين، ان نخبنا، بصورة واعية وغير واعية، هذه تجهد الى تقليد نفس خطوتي النخب التحديثية الاوربية:

1ـ العودة المبالغة جدا الى تاريخنا الحضاري الشرقي الاول القديم: المصري الكنعاني العراقي، كبديل للتغطية على (التاريخ الحضاري العربي الاسلامي) على غرار عودة الاوربيين الى (الميراث اليوناني ـ الروماني).

2ـ اهمال وتحقير (الميراث العربي الاسلامي): ان العودة الى تاريخنا القديم الاول، غير سلبية بحد ذاتها، ولكن المشكلة انها تتم بالتقليد الحرفي للطريقة الاوربية، أي على حساب (تاريخنا العربي الاسلامي)، من خلال تجاهله وعدم ذكره سوى بصورة سلبية تحقيرية ظالمة. فتلاحظ ان مواضيعهم المفضلة تتمحور حول: التعذيب والسجون في الاسلام.. قمع المثقفين.. الحروب الداخلية والاغتيالات والفضائح.. مع تغييب تام لذكر هذا الكم الهائل من الانجازات الحضارية العظيمة التي بفضل تأثيرها وترجمتها تمكنت اوربا من احداث نهضتها. ([5])

موانع اساسية ضد الحداثة الغربية

لكن رغم كل هذه الجهود الحداثية الكبرى التي جرت في بلداننا والتي اشرفت عليها اولا الدول الاوربية وجيوشها الاستعمارية، ثم نخبنا الحداثية المدعومة حتى الآن مباشرة وغير مباشرة من قبل الغرب، لا زالت عملية النهضة والعلمنة وعزل الاسلام، تثبت فشلها وتراجعها امام التنامي الكبير للعودة الى الميراث الاسلامي!؟

هنالك ثلاثة اسباب:

1ـ الاسلام يمنح شعوبنا الشعور بالاعتزاز والتمايز رغم قسوة الاوضاع

إذ بالاضافة الى الدافع (الديني الايماني)، هنالك خصوصا، بصورة واعية وغير واعية، ذكريات وتواريخ تلك الانجازات التاريخية الحضارية الميراثية العظمى المرتبطة بحقبة (الحضارة العربية الاسلامية).

2ـ فشل عملية التحديث القادمة من اوربا، رغم مرور حوالي القرنين

فحتى الان لم تتمكن الحداثة الغربية ان تقدم لشعوبنا من الانجازات واسباب الكرامة والفخر ما يجعلها تتناسى انجازات ومفاخر (الحقبة العربية الاسلامية). بل كما هو واضح حتى الآن ان هذه الحداثة مستمرة بنقلنا من انتكاسة الى اخرى. ثم هذه الحقبة الحداثية، لم ترتبط بعملية (فتح) من قبل ابناء منطقتنا، بل بعملية (استعمار غربي) استعلائي احتقاري الغائي، مختلف تماما دينيا وثقافيا ولغويا، لا زال يمارس علينا الهيمنة السياسية والتدميرية والتشويه الثقافي.

3ـ حداثيونا عنصريون قساة ضد شعوبنا

ان ما يزيد الوضع سوءا ان هؤلاء الحداثيين العلمانيين لا يكفون عن كيل سياط الادانة والاذلال العنصري الاحتقاري لشعوبنا، باعتبارها: (متخلفة متدينة رجعية) عاجزة عن تقليد (الحداثة والعلمانية والديمقراطية والانفتاح والتمدن وووو..) في الغرب. ان سطحيتهم ومعاناتهم من (عقدة النقص) ازاء كل ما هو اوربي امريكي، تعميهم عن ادراك الفروق الكبرى بين تاريخنا وتاريخ الغرب، بيئتنا وبيئتهم. بالاضافة الى الفروق الكبرى بين حاضرنا وحاضرهم، حيث الاختلال الشاسع بين رصيدنا العثماني والمهشم بالاستعمار والحروب الداخلية والخارجية، مقارنة بجبروتهم الصناعي العسكري الاقتصادي وما كسبوه من قرون عديدة من نهب واستعباد واستعمار العالم اجمع، وحتى الآن.

يضاف الى كل هذا، عامل آخر خطير وحاسم: ان موقع العالم العربي المجاور لاوربا، خلق ولا زال نوعا من العلاقة المتوترة: (الاخوة الاعداء)، طيلة التاريخ وقبل الاسلام والعربية. انها اشبه بـ (العلاقة الحسودة الاستحواذية) التي تمارسها اوربا الغربية ازاء (روسيا) التي رغم انها مثلهم اوربية ومسيحية وراسمالية، لكنها رغم ذلك تثير شهيتهم الغريزية باجتياحها والسيطرة عليها لاستثمارها ونهبها مثلما فعلوا ويفعلون في عموم الارض.

اما ازاء العالم العربي، فالحالة اسوء بكثير من روسيا، لهذا يستمر الغرب بكل وسائله العسكرية والثقافية الى منع وقمع اية (تجربة تحديثية) مهما تماشت مع الحداثة الغربية: منذ تجربة محمد علي في مصر، حتى تجارب القومييين اليساريين في العراق وسوريا ومصر وليبيا واليمن.. وما خلقهم (اسرائيل) وتقديسها الا دليل على مدى الحقد التاريخي والقرار المقدس بمنع الاستقرار والتنمية في المنطقة.

***

سليم مطر

........................

توضيح

[1] ــ عن الاهمية الكبرى للاسلام في تاريخ تركيا، يتوجب التذكير بان:

ـ (الترك: شعوب آسيا الوسطى) ما دخلوا التاريخ وكونوا الدول والالامبراطوريات الا بعد اعتناقهم للاسلام (السلاجقة ثم العثمانيين وغيرهم)، واسهامهم البارز في الحضارة العربية الاسلامية.. ثم ان (تركيا) لا يمكنها التخلي عن ميراثها (الامبراطورية العثمانية) التي انتهت قبل قرن فقط!

ـ عن الاهمية الكبرى للاسلام في تاريخ ايران، يتوجب التذكير بان:

ايران قبل الاسلام، رغم انها صنعت ثلاث امبراطوريات متتالية: اخمينية وبارثية وساسانية، دامت الف عام، الا انها لم تتمكن من صنع حضارة خاصة بها، بل بقيت تعيش على بقايا الحضارة العراقية السابقة. ولم يتمكن الفرس من الاسهام الفعال في صنع حضارة الا في الحقبة العربية الاسلامية. ثم ان وحدتهم السياسية والدينية المذهبية لم تتحقق الا بفضل الاسلام و (الدولة الصفوية الشيعية: 1500م).

لفهم تعريفنا لماهية الحضارة، طالع دراستنا: ماهي الحضارة، وما فرقها عن الثقافة؟ هل نحن مقبلون على (حضارة عالمية جديدة)؟ سليم مطر

ملاحظة: لمن يرغب مطالعة دراستنا هذه، مع الصور والخرائط والمصادر العربية والاجنبية، في موقعنا:

https://www.salim.mesopot.com/hide-feker/159-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%86%D8%AC%D8%AD%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%88%D8%B1%D8%A8%D8%A7%D8%8C-%D9%88-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D9%84%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%9F.html

المصادر

[1] ـ لقد دشن عصر النهضة بثلاث احداث كبرى في نفس الفترة تقريبا: (سقوط القسطنيطينة: 1453) على يد الاتراك المسلمين، وفي عام واحد: (1492) تمكن الاسبان المسيحيين من (اسقاط الاندلس: غرناطة) و (اكتشاف امريكا)!

[2] ـ لفهم اشكالية (دور المسيحية في اوربا الغربية) طالع دراستنا في موقعنا: نحو رؤية جديدة لتاريخ الاديان: مثال المسيحية والاسلام.. سليم مطر

[3] ـ لمعرفة قصدنا بـ (الحضارة الشرقية) ابحث في موقعنا عن: العراق ومصر والشام، مهد اول حضارة في التاريخ: ماهي الحضارة الشرقية القديمة؟

[4]ـ لفهم موضوع دور البيئة والتراكم التاريخي في ظهور الاسلام والعربية، طالع دراستينا في موقعنا:

الإسلام والعربية، ليسا نتاج السماء والصحراء، قدرما نتاج 1500 عام من الإنجازات: اللغة الآرامية، ثم اليهودية، ثم المسيحية، ثم الإسلام والعربية/ سليم مطر

ـ دور الجغرافيا والتاريخ في انتشار العرب والتعريب واللغة العربية! لماذا يصح اعتبار ظهور العرب ولغتهم ودينهم، خلاصة تراكم آلاف الاعوام من تمازج الاقوام والأديان واللغات السامية ـ الحامية؟/ سليم مطر

[5] ـ ابحث عن دراسات كثيرة تحت عنوان: دور الحضارة العربية الاسلامية في نهضة اوربا

ـ لزيادة المعلومات عن موضوع العلمانية والحداثة في مجتمعاتنا العربية الاسلامية، ابحث عن المواضيع المهمة التالية:

ـ الدولة الإسلامية ليست مستحيلة عند وائل حلاق

ـ المفكر والمؤلف وائل حلاق للجزيرة نت: مشروع الاستعمار بدأ في أوروبا التي احتلت نفسها ولهذا كتبت "قصور الاستشراق"

ـ حوار المشرق والمغرب.. نقاش طه عبد الرحمن ووائل حلاق بشأن أزمة الحداثة

إن نسيت فلا أنسى، في أمر مصافحة النّساء، استفسار الشّاعرة العِراقيَّة المعروفة لميعة عباس عمارة (تـ: 2021) مني، عندما قدّمَ لها المعمار محمَّد مكيَة (تـ: 2015) الدعوة إلى ندوة بعنوان "الصّابئة المندائيّ والإسلام" (كونها صابئيَّة مندائيَّة) في ديوانه "ديوان الكوفة بلندن" (1995). قالت: مَن يُصافح ومَن لا يُصافح عندكم؟ واخبرتها بُعداً للإحراج، هناك مَن لا يصافح، أمّا صاحب الدِّيوان، فيتجاوز المصافحة إلى التّقبيل، فالنّساء عنده، أخوات وبنات، وخصوصاً أنّه سمّى لميعة بعشتار العصر. فأول ما دخلت قالت: أنا لا أصافح الرّجال، فضحك مَن حضر، ثم أقبلت على محمّد مكيّة فاحتضنته وقبّلته.

شهدتُ العديد مِن مواقف الإحراج في المجالس التي تقتضي وجود الرّجال والنّساء، عندما يمدُّ الرّجل يده لمصافحة امرأة فيُفاجأ بضمّ يدها إلى صدرها، فيتغيّر وجهه مِن شدّة الحرج، والأكثر حرجاً عندما تمدّ المرأة يدها لمصافحة الرّجل؛ فيضمّ يده إلى صدره، أمام الصُّفوف مِن الرّجال والنّساء، وقد تعدّى الحال الحفاظ على الوضوء إلى التّفكير أنَّ المصافحة وسيلة لإثارة الشَّهوة، غير أنَّ الإسلاميين الحريصين، على هذا التّقليد، يتخذون منع المصافحة، كتقليد حزبيّ، وهذا أول ما يتلقنه المنتمي الجديد، كدليل على التّقيد بالانضباط الحزبي. لهذا، وبعداً عن الإحراج عمدّت التَّشريفات لدى الملوك والرُّؤساء، إلى إبلاغ النّساء: مَن لا تُصافح تتقدّم ضامةً يدها، كي لا يُحرج الملك أو الرَّئيس.

لم تكن مصافحة النِّساء مسألة تسترعي اهتمامنا في القرى والقصبات، فتحصيل حاصل أنّ النِّساء في ظلّ الأعراف كنَ لا يختلطنَ بالرِّجال إلا لماماً، مع التَّذكير بأنّ العمل في الأرياف يجمع بين الجنسين، وأنّ هناك نساء برزنَ متفوهات، ولهنَّ السَّطوة كأُمهات أو زوجات أو أخوات، وقد يهابهنَّ كبراء القوم، مِن شيوخ عشائر، ووجهاء، ووزراء، ورؤساء.

لكنْ أخذ تحريم أو منع المصافحة مداه، وخصوصاً زمن الصّحوة الدّينيّة، وكثرة أتباع الأحزاب الدّينيَّة، فمِن تقاليد المتدين الحزبيّ السّياسيّ، مع وجود شواذ عن هذه القاعدة، التّظاهر أمام الملأ بأنّه لا يُصافح النّساء، مثلما يعتقد ويتظاهر بغيرها مِن التحريمات أو المكروهات، أن أصل ذلك حديث نبويّ يقول: "إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ، إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ مِثْلِ قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ"(الإمام مالك، المُوطأ). لعلَّ الإمام مالك بن أنس (تـ: 179هـ) كان أول مَن رواه ووصلنا عنه مدوناً، مِن بين كتب الحديث، وقد سمعه عن مُحمّد بن المنكدر (تـ: 130 أو 131هـ) عن أُميمة بنت رُقيقة (ابنة اخت السّيدة خديجة بنت خويلد)، ورُقيقة أُمها.

نقل محمَّد بن سعد كاتب الواقدي (ت: 230هـ) الحديث عن مالك بن أنس، كذلك أتى بروايات متعددة عن غيرها، منها رواية الفقيه عن سفيان الثّوري (تـ: 161هـ)، ورواية أن بين النّساء كانت هند بنت عُتبة زوجة أبي سفيان، التي عاشت حتّى خلافة عمر بن الخطاب (ابن سعد، الطّبقات الكبرى).

مع ذلك، أقول: لا بدّ مِن الشّك في سماع ابن المنكدر عن أميمة، فالرّواية نجدها مضطربة في حياة الأخيرة أو سيرتها، منها أنّها كانت مخضرمة بين قبل الإسلام وبعده، وأسلمت والإسلام في مكة، وعذبت قُريش ابنة لها، فاشتراها أبو بكر الصّديق (الطَّبقات الكبرى)، ولا يوجد تاريخ لوفاتها (ابن عبد البرِّ، الاستيعاب). فكيف سمع منها ابن المنكدر الحديث، وكانت وفاته بعد المائة بنحو ثلاثين عاماً؟!

 غير أنَّ أحد أبرز شُراح "الموُطأ"، أبي الحسنات محمّد عبد الحيّ اللَّكنويّ (تـ: 1886) يضع مصافحة النّساء "كراهة" وليست تحريماً، عندما يجعل العنوان "ما يكره مِن مصافحة النّساء" (شرح الموطأ برواية محمَّد بن الحسن)، ولا نعلم هل يقصد التّخفيف أم أنّ الكراهة عنده بمستوى القطع بالتحريم أو المنع البات؟!

جاء في القرآن عن مبايعة النّساء، ولم يُحدّد شروطاً، أو تمييزاً لمبايعتهن، سوى الآتي: "يَا أيُّهَا النَّبِيُ إذا جَاءَك المؤمناتُ يُبَايِعْنَكَ على أن لا يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً ولا يَسْرِقْنَ، ولا يَزْنِينَ، ولا يَقْتُلْنَ أولادَهن ولا يَأتِيْنَ بِبُهتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أيدِيهِنَّ، وأَرْجُلِهِنَّ ولا يَعْصِيْنَكَ في معروفٍ فَبَايِعْهُنَّ واستَغْفِر لَهُنَّ الله (الممتحنة: 12).

غير أنَّ الاحتجاج في عدم مصافحة النّساء، حتّى أصبحت واحدة مِن الركائز لدى الإسلاميين، قبل الحديث المذكور، ما ورد في القرآن: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنْوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّساء» (النِّساء: 43). ويحكي مَنْطوق الآية عن الطَّهارة، وما يمْنَع الصَّلاة: السُّكر، والجُنب (الاحتلام)، والغائط، وملامسة النِّساء.

ويُنقل عن علي بن أبي طالب (اغتيل: 40 هـ) وابن عباس (تـ: 68 هـ) وأبي حنيفة النُّعمان (تـ: 150 هـ): إنّ «المراد به (الملامسة) الجِماع» وليست المصافحة (الطَّبرسي، مجمع البيان). على محمل ليس مِن الدِّين مشابهة قذارة الغائط بمصافحة المرأة! وقال فريق آخر مَثَّله عمر بن الخطاب (اغتيل: 23 هـ) وابن مسعود (تـ: 32هـ) ومحمَّد بن إدريس الشَّافعي (تـ: 204 هـ): «المراد به اللَّمس باليد» (نفسه).

قال الطَّبرسي: «الصَّحيح الأول، لأنّ الله سبحانه بيَّن حكم الجنب في حال وجود الماء...». وورد لدى نجل المفسر أبي الثَّناء الآلوسيّ (تـ: 1854 هـ) أبي البركات نعمان الآلوسي (ت 1899): «قول أبي حنيفة لا ينقض (الوضوء) إلا بالمباشرة الفاحشة» (الآلوسي، غالية المواعظ).

ويأتي شيخ الطَّائفة الطُّوسي (ت 460هـ)، مؤسس الحوزة الدِّينية في النَّجف؛ بما لا يتفق مع رأي متشدّدي العصر، وبينهم الأحزاب الشّيعيَّة. قال: «ملامسة النِّساء، ومباشرتهنَّ لا تنقض الوضوء، سواء كانت مباشرة ذات مُحرم، أو غيرهنَّ مِنَ النِّساء. سواء كانت المباشرة باليد، أو بغيرها مِنَ الأعضاء، بشهوة كانت أو بغير شهوة» (الطُّوسيّ، كتاب الخلاف). فإذا كان هذا ما ورد في القرآن ووضحه الكبار مِن علي بن أبي طالب إلى أبي حنيفة النُّعمان ومحمّد الطُّوسي بجواز المصافحة، فيبقى للحديث: «إني لا أُصافح النِّساء، إنما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة» (الهندي، كنز العمال)، مناسبة أو سبب، يتحدّد في وقته، شأنه شأن أسباب نزول الآيات، هذا ما إذا كان حديثاً صحيحاً!

قد تكون المناسبة، وجود هند بنت عُتبة، وعلى رواية بما لها دور في قُتل الحمزة بن عبد المطلب (3هـ)، والتّمثيل به (ابن عبد البرّ، الاستيعاب)، وهو عمّ النَّبي، فلم يشأ النَّبي مصافحتها وهي بين النّساء، أو أن يكون عدد النّساء كبيراً، فاكتفي بوضع أيديهن في إناء مِن الماء، مثلما مشهور في الرّواية. فعندما جاء وحشي قاتل الحمزة، مبايعاً تائباً، عفى عنه النّبي، ولم ينظر إليه، وبالتالي لم يصافحه، فقد قال له: "غَيّب وجهك عني يا وحشي، لا أراك" (الاستيعاب).

 للأسف نخوض في مثل هذه المسألة وها هو الزَّمن قد تعدَّ الألفية الثَّالثة بربع قرن، وثورة التكنولوجيا أخذت تهزّ العروش، مثل الفايسبوك وتويتر والإيميل، ويستخدم هذه الوسائل في إعلام المحرمين والمحللين لهذه المصافحة، على حدٍّ سواء، وربما يصطدم بهذه المسألة أكثر مَن يُخالط المنتسبين للأحزاب الإسلامية، وهناك مَن يتجاوزها منهم، لسبب وآخر، مثل وصوله إلى قناعة في المساواة، أو على قول "مكره أخاك لا بطل"، في حال مصافحة هيلاري كلينتون مثلاً، وهناك مَن استفتى وحصل الفتوى الإباحة للضرورة.

بعد سُلطة الأحزاب الدّينيّة بالعراق، كنا نلاحظ عند وصول زائرة رسمية أجنبية؛ لدولتها دالة على هذه الأحزاب، تُمدّ الأيدي لمصافحتها مِن قِبل الممتنعين، أو مثلما نقول مطالستها، فما أتذكره كنا نستخدم بمنطقتنا لفظة "المطالسة" بمعنى المصافحة، مِن "طلس" على وزن "مفاعلة"، ورد "طلس" في عدة معانٍ ليس بينها المصافحة، أما معناها «طلسه بالدَّهان» أي غشاه (المنجد في اللُّغة والأعلام)، ويُذكر إنّها سريانية النِّجار، فصاحب المنجد ليس بمعتمد في أًصول المفردات.

نقول: إنَّ جوهر عدم مصَّافحة النّساء، الذي حمل المعاني الدِّينيّة، على ما يبدو، مرتبط جذره بالتَّمييز الاجتماعيّ، فغُطي بأمر دينيّ عبادي، فصار مِن مبطلات الوضوء، بدلالة أنّ الخصم لا يُصافح خصمه، والسيَّد لا يُصافح عبده، والضَّابط لا يبدأ بمصافحة جنوده، بسبب التّراتبيّة الاجتماعيّة، لأنّ "المصافحة"، مثلما ذَكرناها بـ"المطالسة" فيها اعتراف بالمساواة، والمرأة في العرف القبليّ أو العشائريّ، عند العرب والأعاجم أقل درجةً، ولتبرير هذا الفعل ارتبطت بمبطلات الوضوء، وبالتَّالي مبطلات الصَّلاة.

أما عن العذر الدِّينيّ، فأقول: لماذا الذِّهاب إلى الأصعب، وبين أيدينا الأسهل، أهو الرَّغبة بتغليف الزَّمن بصفائح فولاذية، ودحرجة الصُّخور في مجرى الزَّمن المنطلق إلى الأمام بلا عودة. في حالة العِراق هناك 25 بالمئة مِن البرلمان أكثرهنَّ مِمن لا يصافحهنَّ، فهنَّ جمهور الإسلام السياسي؛ وكيف يُنظر إلى المستقبل، والسِّياسي فيه لا يُصافح النَّساء، حيث جمعت النَّظرة إلى المرأة على أنّها مشروع لَّذة ليس إلاّ، وبالتالي تثير الغرائز عند المصافحين، أو لأنّها أقل رتبةً، وهنا يكون التّعامل معها لا لعقلها وشَّخصيتها ودَّورها الاجتماعي!

 علمنا شيئاً مِن ممانعة الإسلاميين ورجال الدِّين المسلمين؛ ولم نقل شيئاً عن التَّشدد في عدم مصافحة ومجالسة النّساء عند الهندوس واليهود مثلاً، وقد رأيتُ بعيني تصرفات هؤلاء، وسمعتُ بمثل هذه المواقف، لكن المعرفة تنقصني للبحث في هذا الشَّأن.

***

رشيد الخيّون

 

لقيت خلال حياتِي المدرسيَّة أساتذةً من مشاربَ شتى. عرّفني كلٌّ منهم بعالمٍ غير العوالم التي عرفتُها وألفتُها. وما زلت أذكر تلك النقاشاتِ الساخنةَ التي أخذتنا بعيداً عن الكتاب والمنهج، حين انفتحت أمامنا تجربة الأستاذ العلمية والحياتية، والتي حوت -دائماً- ما يفوق المنهج الدراسي قيمة وفائدة. أقول هذا كي أدعوَ أصدقائي العاملين في حقل التعليم والتدريب لفتح عقولِهم وقلوبهم لتلاميذهم، وتشجيعهم على الانخراط في النقاش الجاد حول مختلف قضايا الحياة، في موضوع الدرس أو غيره. ثمة مجتمعات لا توفر غير مساحة ضيقة للنقاش الجاد والمنفتح، النقاش الذي يأخذ الإنسان إلى حدود الخيال، من دون رهبة.

لهذا أرى دور المعلم وصاحب الثقافة حيوياً في تحريض الناس على التفكير والنقاش الذي يطرق الآفاق البعيدة وغير المألوفة. من بين الأساتذة الذين تركوا أثراً في نفسي، أذكر اثنين، لا يقول أحدهما شيئاً إلا وقع على خلاف رأي الآخر. فمن ذلك مثلاً أن الأول اعتاد التشديد على أن الحكمة في الصمت، وأن سر المعرفة يكمن في التأمل الفردي وتجنب الجدال. وغالباً ما ذكر روايات وأشعاراً تؤكد هذا المعنى. وبعكسه تماماً كان الأستاذ الثاني، الذي ما انفك يذكرنا بأهمية النقاشات الثنائية والجماعية، ويؤكد أن النقاش سبيل وحيد لشحذ قدرة التحليل عند الإنسان. وكان يقول مثلاً إن الأثر المروي عن علي بن أبي طالب «تكلموا تعرفوا، فإن المرء مخبوء تحت لسانه» لا يعني مجرد النطق، بل أراد التركيز على «الكلام» أي الحديث المنظم الملتزم بقواعد المنطق، الذي يقيم وسطاً معرفياً يتواصل عبره مختلف الناس، نظير ما يسمى اليوم الميديا/ الوسائط media التي يصل دورها إلى تكوين الرأي العام أو الفهم المشترك للقضايا المطروحة في المجال العام. ولطالما لفت هذا الأستاذ أنظارنا إلى بعض القواعد اللطيفة في الحديث، سواء تعلقت بآداب النقاش أو قواعد التفكير المنطقي والعقلاني، وهي قواعد أظننا في أمس الحاجة إلى أمثالها، في ظل التحولات المثيرة التي نشهدها اليوم -بل كل يوم. ويظهر لي أن ميول هذين الأستاذين تحاكي نمطاً عاماً. فثمة مجتمعات تتقبل النقاش في أي مسألة، وتقبل مختلف الطروحات مهما كانت غريبة عن عاداتها ومألوفها. وثمة مجتمعات لديها ميول معاكسة تماماً، فهي تقصر النقاش في القضايا العامة على الحد الأدنى، في الموضوعات وفي عدد المشاركين وفي الحدود المسموح بها. ومما أذكره أنني كنت أزور بين حين وآخر أحد الأشخاص، وكان يحضر مجلسه نخبة البلد من مختلف المجالات. لكنني لا أذكر أبداً أن النقاش قد تجاوز أحوال الطقس، وهل نزل المطر أم لا، خفيفاً كان أم ثقيلاً، ويطول الحديث عن البلدان التي شهدت سيولاً، وماذا ترتب عليها... إلخ. لقد ظننت -وربما أكون مخطئاً- أن هذا النوع من النقاش ليس عفوياً، بل هو مقصود للحيلولة دون انفتاح نقاشات قد لا ترضي جميع الحاضرين.

أما مبررات الذين يعارضون النقاش العام في القضايا الساخنة فهي لا تتعدى الإشارة إلى «حساسية» من نوع ما.

فبعضهم يشير لحساسية الموضوع ذاته، وأن هناك أشخاصاً ربما تستفزهم الحقائق غير المألوفة، فيرون فيها تحدياً لقناعاتهم. وثمة من يطلب قصر النقاش على الأشخاص الموثوق في أهليتهم والتزامهم بالخط العام للمجتمع. لكن أكثر الحساسيات شيوعاً هي المتعلقة بتوقيت الكلام، ولا يعدم المعارضون أزمة من هنا أو هناك، يقدمونها مبرراً لتأجيل النقاش في هذا الموضوع أو ذاك.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

(لن يتحقق عندي المعنى من تاريخ الفلسفة إذا اكتفيت بالنظر في المادة الموضوعية اللانهائية التي يقدمها إليَّ التراث، أو اقتصرت على إخضاعه لمعايير معرفية محددة . إن ذلك كله لن يكون إلا عملية ذهنية تتعامل مع موضوعات ميتة، دون أن أشارك فيها بنفسي مشاركة أساسية).. كارل ياسبرز

يكاد الكثير منا ألا يتفقوا على شيء اتفاقهم على السخرية من الفلسفة وعن عدم جدواها، البعض يصفها باللغو المضر، والبعض الاخر يعتقد ان العلم تجاوزها، ولم يعد لها مكانا في عالمنا ! ودعونا نطرح سؤالا: هل ماتت الفلسفة حقا؟ هل اصبحت شيئا من الماضي؟ وهذه الاسئلة وغيرها كثير لم تطرح هذا اليوم فقط والعالم يحتفل بالفلسفة التي خصص لها السابع عشر من تشرين الثاني يوما لتكريمها، وإنما طرح هذا السؤال منذ ان تاسست الفلسفة اول مرة وكانت تعني " حب الحكمة "، فكلما تطورت الحياة كان هنالك سؤالا محددا: هل استنفذت الفلسفة اغراضها وماتت؟، وقد اثير هذا السؤال قبل سنوات عندما كتب عالم الفلك الشعير ستيفن هوكنغ في مقدمة كتابه " التصميم العظيم " - ترجمه الى العربية ايمن احمد - أن الفلسفة ماتت، لأنها لم تتمكن من مواكبة التطور في العلوم الحديثة. فالعلماء الآن وليس الفلاسفة حسب قول المرحوم هوكنغ، هم من يحملون المشاعل لاستكشاف ما هو مجهول في الكون:" فلم نعد نحتاج لتأملات الفلاسفة للإجابة عن أسئلة من شاكلة: كيف نشأ الكون؟ وهل يحتاج الكون إلى خالق؟ وما إلى غير ذلك، فلدينا الآن من القدرات النظرية الرياضية والمعدات التجريبية لمقاربة هذه الأسئلة المحيرة، ما يغنينا عن التأملات الفلسفية المحضة "

في كتابه الفلسفة انواعها ومشكلاتها – ترجمه الى العربية فؤاد زكريا – يكتب هنتر ميد:" اذا قال احدهم ان الفلسفة عبارات لا معنى لها، وإنها في حقيقتها لغو، لكان ذلك أسوأ من مجرد إثارة أعصاب "

في كل مرة يحاول البعض ان يقول بان الفلسفة لم يعد لها مكانا في المجتمع الحديث، فالفيلسوف مجرد رجل سفسطائي ثرثار، أو ينظر الى العالم من برجه العاجي، يحلق في الخيال، مثلما وصف ارستوفانيس، غريمه الفيلسوف سقراط في مسرحيته الشهيرة " السحب " عندما وضعه في " سلة " معلقة بين الأرض والسماء! .

قبل حوالي 2500 عاماً تجول في بلاد اليونان رجل اسمه " بروتاغوراس " ولد عام 490 ق.م في ابديرا احدى جزر اليونان، وكانت هذه المدينة مقرا لديمقريطس مؤسس المدرسة الذرية، ويذهب ابيقور الى ان بروتاغوراس نشأ في اسرة فقيرة، وكان في صباه يعمل في جمع الحطب إلى أن التقى ديمقريطس الذي علمه الفلسفة . في كتابه " مشاهير الفلاسفة " – ترجمة امام عبد الفتاح امام – يذكر ديوجينيس ان بروتاجوراس قرأ اول كتاب في بيت الكاتب المسرحي يوربيديس، عاش بروتاجوراس يتجول في المدن اليونانية يلقي الدروس مقابل اجور يدفعها الطلبة، وفي افتتاحية محاورة " بروتاغوراس " لافلاطون – ترجمة عزت قرني – نجد ابوقراط الشاب يخبر سقراط ان بروتاغوراس في اثينا وطلب منه أن يكون وسيطا ليقبله تلميذا في مدرسته، فقال له سقراط:"اذا دفعت له مالا وصادقته لجعلك حكيما كنفسه "، يصفه سقراط بانه:" اعلم واحكم اهل العصر بلا منازع " .

اشتهر بروتاغوراس بمقولته:" الإنسان مقياس الاشياء جميعا، وهو مقياس وجود ما يوجد منها وما لا يوجد " . ويقصد بذلك أن الصح والخطأ، والخير والشر، كلها يجب أن تحدّد حسب حاجات الإنسان. وعندما سُئل ذات يوم هل يؤمن بآلهة الاغريق، أجاب بالقول: " أما فيما يتعلق بالأرباب، فليست لي أدنى معرفة عما إذا كانوا موجودين أو غير موجودين، فهناك أمور كثيرة تحول بيني وبين معرفة هذا الأمر، منها غموض الموضوع ومنها قصر عمر الإنسان "، وبسبب هذه المقولة تم حرق كتبه في ساحة السوق، ومطاردة أي شخص يقتنيها .

كان بروتاغوراس قد كون مجموعة فلسفية اطلق عليها " السفسطائيون " سيسخر منها افلاطون في محاورته " السفسطائي " – ترجمة قؤاد جرجي بربارة - حيث يصورهم في هيئة رجال يتاجرون بتعاليم تتعلق باروح الناس، فهم متموجين، ويحاول افلاطون ان يدحض ادعاء السفسطائي بالمعرفة، ورغم أن أفلاطون يظهر احترامه لعض الفلاسفة للسفسطائيين؛ إلا انه يختلف مع معظم معتقداتهم، ويعارض فكرة دفع مال مقابل تعليم قِيَمٍ وفضائل مثل المواطنة الصالحة والانسان الماهر والفضيلة . ولهذا كان ادِّعاء السفسطائيين تعليم القيم الحياتية هو ما ركَّز عليه أفلاطون هجومه. وفي الحقيقة كان هذا بعيدا كل البُعد عن منهجهم الحقيقي، وهو تدريس البلاغة، والنقد الأدبي، والموسيقى، والقانون، والدين، والأخلاق، والسياسة، وأصل الإنسان والمجتمع، والرياضيات، وبعض العلوم الطبيعية. فقد سعى السفسطائيين الى احتلال مكانة شعراء القصائد الملحمية مثل هوميروس في نشر الحكمة من خلال دروس يومحاضرات تتخللها احاديث عن التاريخ والشعر والفلسفة .

سعى السفسطائيون الى تقديم فلسفة تشمل خبرات الإنسان اليومية، وعلى عكس أفلاطون الذي كان يرى أنّ مهمة الفلسفة هي أن تفتح الطريق إلى ما وراء الطبيعة، كان السفسطائيون يهدفون إلى إعادة صياغة التجربة الإنسانية بكل تعقيداتها كوسيلة للوصول إلى الحياة المنشودة. ويذهب ماركري تايلور الى أن الاصل في نشاة الفلسفة السفسطائية هو الموازنة بين التقاليد وصور الحياة اليومية المختلفة، وان السفسطائية تختلف عن الفلسفة الطبيعية في الموضوع والمنهج والغاية، فالسفسطائية فلسفة موضوعها الانسان وحضارته التي ابدعها، وسعي الفيلسوف السفسطائي الى جمع اكبر قدر من المعرفة في كل نواحي الحياة – تايلور الفلسفة اليونانية ترجمة عبد المجيد عبد الرحيم –، فالوجهة التي وجهها السفسطائيون للفلسفة هدفها اعلاء شأن الحياة الاجتماعية للانسان، حيث كان بوتاغوراس يؤكد على مقدرة الانسان واستقلاله في المجتمع . وقد دعا السفسطائيون إلى معارضة كل تمييز بين الطبقات والطوائف والشرائح الاجتماعية، وكان يبدو لهم الفخر القومي بأنه " حماقة بلا معنى"، وأعلن بروتاغوراس أن دولة إلى جانب القومية هي أشياء بلا أهمية، فيما أصرّ الفيلسوف المتمرد ديوجين أن الإنسان هو مصدر لكل الطموحات.

عاش السفسطائيون في أثينا في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، وشغلوا مناصب معلمين خصوصيين ومستشاري علاقات عامة ومحاضرين وممثلي مسرح وفلاسفة وخطباء وأطباء في آن واحد، وكانوا يستخدمون الفلسفة لتدريس معظم المعارف للشباب، وفي إحدى محاورات أفلاطون يتوجه سقراط بالسؤال إلى بروتاغوراس عمّا يقترحه من موضوعات لتعليم الطلبة فيجيب بروتاغوراس: أعلمه كيفية الاهتمام بكل أموره الشخصية، لكي يحسن إدارة بيته، وأعلمه كذلك الاهتمام بأمور الدولة لكي يصبح قوّة حقيقية في المدينة كمتكلم ورجل أفعال.

يقول كيركغارد عن " بروتاغوراس " إنه أوّل من تفلسف حول الانسان، وأن الفلسفة التي انبثقت عنه هي فلسفة للحياة، الحياة الانسانية الحرة، التي هي الهدف لدى بروتاغوراس .!، ومثلما كانت غاية كيركغارد -الأب الحقيقي للوجوديّة- هو أن يعرف الإنسان نفسه بنفسه، كان بروتاغوراس يدعو الناس إلى معرفة حدودهم وقدراتهم، ولذلك يرى بعض مؤرخي الفلسفة أن الوجوديّة بدأت مع السفسطائيين واكملت توهجها مع سقراط الذي كان هدفه الاساسي العمل على جعل الفلسفة تتّجه إلى الإنسان نفسه، وليس إلى العالم الخارجي، فسقراط ومعه بروتاغوراس رغم اختلافهم في الافكار كانا اول فلاسفة يقرّرون تحويل الفلسفة من النظر إلى الكون والبحث عمّا وراء الطبيعة، وجعلها تتّجه إلى الإنسان وما يحيط به.

يكتب زكي نجيب محمود في مقدمته لمحاورات افلاطون ان السفسطائي بروتاغوراس استطاع رغم مرور كل هذه الاعوام ان يظل الفيلسوف الذي يرافق الانسان في حاضره ومستقبله.تُصبح الفلسفة مع السوفسطائيين مهمة عملية، اسلوب في جعل ان يكون للمرء اسلوب في هذا العالم، فالحديث عن اصل الكون والعالم، حديث لا نفع منه، دعونا من الغيبيات والحجج المنطقية، ولننطلق ونسير شؤون الحياة ونتعامل مع الفلسفة باعتبارها كيانا يستفاد منه الانسان، يصر بروتاغوراس على ان نعتقد بكل ما هو مفيد لنا، انه يطالبنا بنقل اهتماماتنا من الواقع المطلق الى قضايا المعرفة البشرية . حين صرخ السفسطائيون بكلمة " الانسان "كانت تلك الصرخة بمثابة تجربة لتطوير الفلسفة اليونانية من مجالها الطبيعي الى وجودها الانساني وكانت خطوة لتمجيد الذات الانسانية، كانت مهمة الفيلسوف السفسطائي ان يعبر عن الروح الجديدة التي تسعى إلى الحرية، واعلان قوة الانسان والثورة على التفكير الذي يمجد الاساطير والابطال الخارقين، وسيلخص سوفوكليس الذي ولد قبل بروتاغوراس بست سنوات، في مسرحيته انتيغون الفكرة التي طرحتها السفسطائية عن الانسان:" الانسان من بين الاشياء القوية اقواها جميعا.لقد علم نفسه الكلام، والتفكير السريع، وسكنى المدن " - انتيعون ترجمة علي حافظ –، قرر السفسطائيون ان ينشروا هذه الافكار، فالانسان سيد الطبيعة، وله الحق في الحرية والسلطة، ولا بد ان يكون قويا لينتزع حقه . انها النزعة النيتشوية في اعلاء شأن ارادة القوة . ان مصلحة الإنسان فوق القوانين التي تقيد حريته

كان نيتشه يرى ان سقراط أوّل من تفلسف حول الحياة، وأن جميع الفلسفات التي انبثقت عنه هي فلسفات للحياة؛ الحياة السعيدة والنزيهة، التي هي الهدف لدى سقراط، ويضيف نيتشه أن الفلسفة السقراطية تُناصب العداء لكل معرفة لا تقترن بالإنسان. ويكتب الفيلسوف الوجوديّ الألماني كارل ياسبرز: " ربما كان أنقى وجه في طريق من جازفوا بأنفسهم ليطيعوا مطلباً مطلقاً هو وجه سقراط، هو من كان يعيش في ضياء عقله، بشمولية عقله ( لا أعرف شيئاً)، فقد تابع طريقه دون أن تبلبله أو تضلّه عن سبيله الأهواء العنيفة للناس الذين يغتاظون ويكرهون ويريدون بأي ثمن أن يكون الحق معهم، ولم يقدم أي تنازل، ولم ينتهز فرصة الهرب التي كانت متاحة له، ومات في صفاء وسكينة، متحملاً تلك المجازفة باسم معتقداته التي يؤمن بها- كارل ياسبرز مدخل الى الفلسفة ترجمة محمد فتحي الشنيطي -، في حوار مع سيمون دي بوفوار يقول سارتر إنّه تعلم من سقراط كيف يمكن للفيلسوف أن ينزل الفلسفة من السماء إلى الارض، ويُدخلها إلى الأسواق والبيوت. ومثلما ارتبطت الوجوديّة بالمقاهي الباريسية والنوادي الثقافية الألمانية ومدرجات الطلبة، ارتبطت فلسفة سقراط ومعه السفسطائيين بالناس الذين كانوا يقابلونهم في الأسواق والشوارع، حيث كانت عادته أن يتوجه كل صباح إلى الأسواق حيث يتجمع الناس ليلقون عليهم اسئئلتهم، والخلاف الوحيد بين سقراط والسفسطائيين، انه لم يكن يتقاضى مالاً مقابل أحاديثه ودروسه، حيث اعتبر نفسه منشغلاً برسالة مفروضة عليه، فلا يكاد إنسان يلقي عليه السلام حتى يسأله عن معنى كلمة الشرّ، ولماذا علينا أن نختار الخير. وتدور المناقشات ساعات وساعات، مثلما كانت تدور في المقاهي الفرنسية التي كان من أشهرها مقهى اسمه (لي دو ماغو) حيث كان جان بول سارتر ومعه سيمون دي بوفوار ومجموعة من أصدقائهم يدخلونه صباحاً ويجلسون فيه على موائد صغيرة متجاورة ويدخلون في نقاشات لا تتوقف وهم يحرقون السجائر. تكتب سيمون دي بوفوار: " كنتُ أشعر أن المقهى أصبح جزءاً من العائلة" – قوة الاشياء ترجمة محمد فطومي - .وفي أثينا القديمة كان يمكن أن تصادف رجلاً يتجوّل في الشوارع يحادث المارة، وإن كان ثمة شخص لا يعرفه فلسوف يسأله: من تكون يا هذا؟

- سقراط بن سوفرونيسكوس.

* ما هي اهتماماتك؟

- أن أتحدّث مع الذين يودّون ذلك.

* ولأيّ هدف؟

- لكي أساعد العقول على أن تولّد الحقيقة.

وليس غريباً أن تكون لدى كلٍّ من كيركغارد ونيتشه، مواقف متضاربة تجاه فلسفة سقراط؛ فمن ناحية، كان يُنظر إلى سقراط كمدافع عن نوع من العقلانية يتخطى القيم التقليدية والشخصية الخالصة إلى معايير أخلاقية عالمية، وهو ما أشاد به كيركغارد نفسه وانتقده نيتشه. لكن كليهما أدرك أن سقراط خاطر بتجاوز حدود المعقول كي يعيش الحياة بكلّ معانيها. وكما علق كيركغارد حول أهمية القناعة الشخصية التي يكون فيها الشخص مستعدّاً للتضحية بحياته من أجلها مثلما فعل سقراط وهو يتجرع السمّ.

هكذا نجد أن الأساس في فلسفة سقراط وبرتاغوراس هو معرفة الإنسان لنفسه. إن موضوع الفلسفة ودورها الأساسي وهدفها الرئيس، يكمن في معرفة طبيعة الإنسان للمصدر الأول لأعماله وسلوكه، لطريقته في العيش والتفكير، وان المعرفة المعرفة لا تتحقق إلّا من خلال معرفة النفس، وأن الفيلسوف الحقّ هو من يمارس فلسفة الحياة، وأن يكون منهجه الحقيقي هو الحوار والمحادثة الحية، ودراسة المسائل التي تنشأ من السؤال والجواب.

في محاورة المادبة يصف ألقيبيادس ما فعلته في نفسه حواراته مع سقراط:" تركني في حالة ذهنية شعرت فيها انني، ببساطة، لا استطيع أن امضي في العيش بالطريقة التي كنت عليها .. جعلني اعترف انني بينما اقضي وقتي في السياسة فأنا اهمل كل الاشياء التي تهيب بي ان انتبه اليها في نفسي " – افلاطون محاورة المأدبة ترجمة وليم الميري -

عندما يقول برتاغوراس: " الإنسان مقياس الأشياء جميعًا"، فإنه يتحدث عن الإنسان بوصفه نوعا، لا عن الناس بوصفهم أفرادًا. وعندما يقول: " إننا وجدنا في عالم غير مكترث"، فإنه يعني أيضًا الجنس البشري في عمومه، وهو يضيف إلى ذلك على الفور الفكرة الإيجابية المتفائلة القائلة إن الناس من حيث هم أفراد ليسوا وحدهم، وإنما هم بطبيعتهم كائنات اجتماعية قادرة على المشاركة مع أقرانهم من البشر والتعاون معهم من أجل تحقيق مصالحهم الفردية ومصالح الجنس البشري بأكمله. فصاحب النزعة الإنسانية يرى في وحدة الجنس البشري قوة فاعلة يمكن استغلالها في نشر مزيد من الوعي الاجتماعي وروح المساعدة المتبادلة بين الأفراد. وهو على هذا النحو يحول ما يرى معظم الناس أنه جانب مؤسف من جوانب الموقف الإنساني، أعني عزلة الإنسان في الكون، إلى مصدر ممكن للخير البشري.

ينسب إلى بروتاغوراس ما يقارب عشرة أعمال، من بينها: " في الموجود"، و" في العلم"، و" في الآلهة"، و" الجدل أو فن الحوار"، و" الحقيقة"، ولم يبق من هذه الكتب شيئا بسبب ما تعرضت له من مصادرة او حرق، وقد وصلت منها شذرات في كتب تاريخ الفلسفة وايضا في محاورات افلاطون التي كان بروتاغوراس احد شخصياتها مثل محاورة " بروتاغوراس" ومحاورة " الثئيتتس" .

في معظم شذراته التي وصلتنا نجد ان بروتاغوراس يسخر من الميتافيزيقيا وينظر الى الوجود الطبيعي من خلال الوجود الانساني، مناديا بانسانية الانسان ووجود ذاته، وعلى هذا الاساس رقض السفسطائيون وفي مقدمتهم بروتاغوراس القوانين التي تحد من حرية الانسان، فالانسان في نظرهم مزود بطبيعة حرة متمردة متفوقة .فالانسان كما يقول الفيسوف السفسطائي أنطيفون " اعظم الحيوانات الوهية "، فالفرد هو كل شيء هو المقياس، هو الحقيقية .. والذي يريد السعادة ويحرص عليها يجب ان يقتنيها في ذاته .فالطبيعة البشرية في راي السفسطائيين هي طبيعة الذات القوية التي لا تخضع ولا تسمح باستعبادها . هسي طيسعة متمردة تنشد الفرادة والتميز والتفوق . هي طبيعة تكره الضعف وتنادي بـ " إرادة القوة "

لم يتزوج بروتاغوراس طوال حياته، حتى يتجنب كما يقول في محاورة افلاطون " عبئا ثقيلا يقع عليه " عاش حياته متجولا، يهتم بالجدال مع الناس، وينسب اليه انه اول من ابتكر ذلك تانوع تاذي سمي " الجدل السقراطي "، ووفقا لما يقوله افلاطون فان بروتاغوراس اول من اوضح الكيفية التي يتسنى بها للمحاور ان يدحض القضايا المطروحة امامه للنقاش . يحبرنا ديوجينيس في كتابه مشاهير الفلاسفة ان بروتاغوراس توفي بعد ان غرقت سفينته عندما كان يقوم باحدى رحلاته البحرية، وقد كان عمرة قد قارب التسعين عاما.وقد القيت في رثاءه قصيدة جاء فيها:

" إي بروتاغوراس

لقد سمعت عنك قولا

مؤداه أنك قضيت نحبك

وانت رجل هرم " .

اليوم ونحن نحتفل بالفلسفة، نتساءل: هل الفلسفة تقف في مواجهة مشكلة التعايش السلمي بين البشر في العالم كله؟ . وهل لا يزال الفيلسوف يساهم في السؤال المطروح دوما عن معنى ان ننحترم حق الاخر في الحياة؟ .. لعل موقف بعض كبار فلاسفة الغرب من الحرب الهمجية التي تشنها اسرائيل على الفلسطينيين يجيب على بعض الاسئلة التي تراودنا عن موقف الفلسفة تجاه ما يجري في العالم . في الايام الاخيرة وصفت الفيلسوفة الامريكية جوديث بتلر ما يجري في غزة بالابادة الجماعية التي يريد من خلالها جيش الاحتلال الاسرائيلي القضاء على شعب باكمله ومنعه من الحصول على حقع في اقامة بلد يعيش فيه بامان .فيما عبر الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك عن ادانته لاسرائيل التي وصفها بالكيان المتشدد الذي يسعى الى الغاء الاخر، فيما عبر الفيلسوف الايطالي جورجيو اغاميين عن خيبة امله من الحكومات الغربية التي تتفرج على المحازر ولا تحرك شيئا . في الوقت الذي اصدر فيه اكثر من " 80 " فيلسوفا واستاذا للفلسفة بيانا اعلنوا فيه تضامنهم مع الشعب الفلسطيني وإدانتهم المذبحة التي ترتكبها إسرائيل في غزة، ولم يكتفوا بذلك بل وجهوا ادانة شديدة لحكومات بلدانهم لكونها تقف مع اسرائيل وطالبوهم بموقف انساني واضح امام ما يحدث من انتهاكات للانسانية، ونجد مفكرا كبيرا مثل الامريكي نعوم تشومسكي يصف ما يجري في عزة بانه تطهير عرقي، مطالبا العالم بان يقفوا مع الانسانية المضطهدة، فلا شيْ اهم من الانسان وحريته وحقه في العيش بامان واستقرار وكرامة .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم