قضايا
حاتم حميد محسن: سقراط وتأثير الانترنيت على الذاكرة

يقول تحوت (إله الحكمة)" هذا الإختراع "الكتابة"، سوف يجعل المصريين أكثر حكمة وسوف يحسّن ذاكرتهم لأنه إكسير للذاكرة وللحكمة التي إكتشفتها". ويجيب تاموس، "هناك من هو اكثر ذكاءً ولديه القدرة على خلق الفنون لكن القدرة في الحكم على فائدتها او ضررها على منْ يستخدمها يعود الى شخص آخر، والان، انت أب الحروف منقاد بعاطفتك لتنسب لتلك الحروف قوة مضادة لتلك التي تحوزها حقا. لأن هذا الاختراع سوف ينتج نسيانا في أذهان اولئك الذين يتعلمون استعمال ذلك الاختراع، لأنهم سوف لا يمارسون ذاكرتهم". افلاطون، حوار فيدون
انه لأمر مدهش، كيف لنص كُتب منذ أكثر من ألفي سنة يمكن ان يكون ملائما للمشاكل التي نواجهها في المجتمع الحديث؟ في الاقتباس أعلاه من حوار فيدون لإفلاطون، يستعمل سقراط حوارا افتراضيا بين الإله المصري تحوت، مخترع الكتابة، وتاموس ملك مصر، ليوضح لفيدون أخطار الكتابة وتأثيراتها الضارة على ذاكرة المصريين، وهكذا هو يعتقد ان هذا سيزود الشعب المصري بالحكمة التي تمتد الى ما وراء قدراتهم الطبيعية.
مع ذلك، يجادل تاموس ان إختراع تحوت الجديد – تكنلوجيته الثورية الجديدة – سوف لن تساعد المصريين ليصبحوا حكماء. هم بدلا من منحهم قوة جديدة للتذكر، سوف يفوضون ذاكرتهم الى نظام خارجي، وبهذا سوف يفقدون قدرتهم الطبيعية للتذكر الداخلي التي هي حجر الاساس للمعرفة. ذاكرتهم ومن ثم حكمتهم سوف تتآكل لأن المعرفة تصبح وبشكل متزايد مخزونة في رموز خارجية.
لنتقدم الآن من 2400 سنة الى الحاضر. دعونا نتصور ان اختراع تحوت ليس الحروف وانما الانترنيت. انه أمر مذهل للغاية كيف ان الاقتباس أعلاه لايزال قابل للتطبيق. طبقا لحجة سقراط، الانترنيت سيكون أكبر وسيلة لفقدان الذاكرة الجماعية في التاريخ الانساني. ان قدرة الانترنيت على خزن الذاكرات لا محدودة، ورغم ان الكتب بدت تحسّن قدرة الذاكرة، لكن نزعتنا في الاعتماد على التكنلوجيا الحديثة، وخاصة الانترنيت، كبنك ذاكرة خارجي كبير، يقودنا وبشكل متسارع نحو فقدان الذاكرة.
في السنوات الأخيرة كان الفلاسفة المعاصرون في كل من الفلسفة التحليلية والقارية، مثل اندي كلارك، ديفد شالمر، برنارد ستجلر، وكاترين مالابو مطلعين على هذا، وكانوا حريصين للنظر الى تأثيرات إضفاء الطابع الخارجي للذاكرة على أذهاننا والثقافة. شالمر مثلا، يلاحظ في رد له على عمل كلارك (تضخّم العقل، 2008) بان إضفاء الطابع الخارجي للذاكرة من خلال استعمال أشياء يمكن ان يكون له تأثير مباشر على الكيفية التي تتأثر بها الذاكرة ومن ثم الذهن بواسطة التفاعلات مع الوسائل الخارجية المساعدة : يقول شالمر"لو انت تشتري آي فون. الاي فون يستحوذ سلفا على بعض الوظائف المركزية لدماغك. انه يستبدل جزءاً من ذاكرتك، يخزن أرقام التلفونات والعنواين التي ذات يوم أرهقت عقلك بها".
ونفس الشيء بالنسبة لـ ستجلر حيث يكتب في عمله (نقد جديد للاقتصاد السياسي، 2009) بان التكنلوجيا تؤدي الى انتقال ذاكرتنا الى الآلات، بطريقة، مثلا، لم نعد نعرف رقم تلفون أقرب الناس لنا". الهاتف الذكي هو توضيح جيد للكيفية التي تصبح بها الأشياء الخارجية جزءاً من عمليات ذاكرتنا.
الإنتباه والذاكرة
ما الذي يقرر ما نتذكر وما ننسى؟ للاجابة على هذا السؤال، أفضل بداية هي عبر النظر في عمل المفكر الذي سخر حياته لدراسة الذاكرة، والحائز على جائزة نوبل وهو الطبيب النفساني ايريك كاندل.
طبقا لكاندل، الأساس في تكوين الذاكرة هو الانتباه. عملية خزن وحفظ ذكريات واضحة عبر بناء ارتباطات بين افكار تتطلب مستويات عالية من الارتباط الذهني، والتي يمكن تحقيقها عبر انخراط عاطفي وفكري قوي، وبكلمة اخرى، من خلال الانتباه.
في كتابه (بحثا عن الذاكرة، 2006) يكتب كاندل انه لكي تستمر الذاكرة، "يجب ان تتم معالجة المعلومات القادمة بعمق وبدقة. هذا يتم بواسطة الاهتمام بالمعلومات وربطها منهجيا وبشكل هادف بالمعرفة التي تأسست سلفا في الذاكرة".
بدون توجيه انتباه لفكرة او تجربة، فان الخلايا العصبية المشاركة ستفقد حالتها المحفزة للنشاط الكهربائي في غضون ثواني، وستذهب الذاكرة تاركة فقط أثر صغير في الذهن.
الانتباه اصبح من أهم القضايا الملحّة المؤثرة في المجتمع الغربي في السنوات الاخيرة، لأن قدرتنا على انتباه دائم تضاءلت منذ تطوير الانترنيت في بداية التسعينات. في كل مرة نذهب الى الاون لاين نواجه الحجم الهائل للرسائل التي ليست فقط تثقل كاهل عمل ذاكرتنا وانما تجعل من الصعب استمرارية عمل الأجزاء الأمامية لدماغنا في توجيه انتباهنا نحو مهمة معينة. يقول كاندل، انه حتى عملية بناء جيد للذاكرة لايمكن ان تبدأ. كل واحد منا وجد من الصعب جدا التركيز لفترات ممتدة في مهمات تتطلب انتباه مستمر، على سبيل المثال قراءة كتاب او حتى مشاهدة فيلم طويل؟ كلما استعملنا الويب لفترة أطول، كلما اعتادت أدمغتنا على التشتت – لأنها تعالج المعلومات بسرعة كبيرة بدون انتباه مستمر. من خلال تفويض الذاكرة وتدهور الانتباه، تصبح أدمغتنا متكيفة للنسيان وبالتالي تصبح عاجزة عن التذكر. وهنا نجد أنفسنا في حلقة مفرغة: استعمالنا للويب يجعل من الصعب علينا خزن المعلومات في ذاكرة بايولوجية، وسنكون مجبرين باستمرار في الإعتماد على بنوك الذاكرة الشبكية الخارجية ...
علاج سام
لذا، هل كان سقراط على صواب؟ مع مرور الزمن، ومع تزايد إعتمادنا على العوامل الخارجية التقنية، هل يعني هذا اننا محكوم علينا بمستقبل من الاضطراب وقلة الانتباه والخرف الاجتماعي؟ ربما يبدو الامر كذلك. مع ذلك هناك طريقة اخرى.
في حوار فيدون، يصف تحوت اختراعه للكتابه كـ "فارماكون" pharmakon، من الواضح ان أصل الكلمة "صيدلية". لكن فارماكون مهمة في هذا السياق لأنها يمكن ترجمتها بكلتا الحالتين "سم" و "علاج" (جاك دريدا يناقش هذا في رسالته بعنوان "صيدلية افلاطون"، عام 1981). وهكذا مند فيدون فصاعدا، فان تكنيك – ما تصنعه وتستعمله الانسانية – جرى التفكير فيه بهذه الطريقة المزدوجة، كدواء.
التكنلوجيا الحديثة ايضا يمكن ويجب ان تُفهم باعتبارها لها صفات سامة وعلاجية. لكن لإستغلال المظهر الايجابي لهذه الطبيعة المزدوجة لتكنلوجيا المعلومات الحديثة نحن يجب ان نستغل قدرتها على تحسين انتباهنا.
لكن ما هي الطريقة الأكثر فاعلية لتحسين انتباهنا في عالم المعرفة العابرة والمعلومات المشتتة؟ لإستعادة الانتباه، يجب ان نركز على كيفية التفكير بعمق. نحن يجب ان نقلب رأسا على عقب سطحية الفهم التي جلبها الانترنيت لنا. وكما يقول كاندل، يجب ان نوجّه انتباه.
الانتباه كعناية
ان كلمة انتباه "attention" مشتقة من الكلمة اللاتينية attendere، التي تعني كل من "تطبيق ذهن احد ما على شيء ما" و "يعتني بـ ". يمكننا ان نرى كيف احتفظت هذه الكلمة بهذه السمة المزدوجة عندما نقول، مثلا، الدكتور "يعتني بالمريض". ما نعني هو ان الدكتور يهتم بمريضه. وهكذا اذا كان الاساس في تكوين الذاكرة هو الاهتمام ، نحن يجب ان ننتبه الى ما نقوم به في أذهاننا. كذلك، وكما يوضح برنارد ستجلر، في فرنسا حين نصف الفرد بـ atentionne هو ان نقول انه منتبه بمعنى "يراعي الاخرين" او يأخذ بالاعتبار: ان تكون رقيقا يعني انك مدني او حضري(في المعنى الاصلي للكلمة). ورغم اننا عادة نعني بالانتباه القدرة الذهنية على التركيز، لكن مع ذلك هو في نفس الوقت عمل سايكولوجي واجتماعي، لا يعمل احدهما دون الآخر. (علم البيئة العلائقية والصيدلة الرقمية، 2012). وبعبارة أبسط، لتكون منتبها هو ان تكون عطوفا. لكن ليس هذا فقط، بدون الانتباه لوجهات نظر الاخرين، يخسر المرء القدرة على التعاطف وبهذا يخسر القدرة على "العناية" بالآخر وبالمجتمع الذي يعيش فيه.
لذا نحن يجب ان لا نفهم قضية الانتباه كقضية مركزية عصبية. بدلا من ذلك، اذا نظرنا للدراسات ليس فقط في العلوم وانما في الانسانيات ايضا، نجد ان نظرية المنظّرة الادبية رينيه لاشمان في "التناص" توفر اطارا ثاقبا لفهم الكتب والادب كـ "ذاكرة ثقافية". هي تقترح ان الادب هو "فن التذكر المتميز". الادب يزود الذاكرة بالثقافة ويسجل هذه الذاكرة. انه ذاته فعل الذاكرة.
الادب ينقش ذاته في مساحة الذاكرة المكونة من نصوص ، و يرسم مساحة ذاكرة تُستوعب فيها وتُنقل تدريجيا النصوص المبكرة " (الذاكرة والادب: التناص في الحداثة الروسية، 1997). لذا، فان ذاكرتنا تمتد الى ما وراء حدود البايولوجي الى الثقافي. وكما يصف ذلك دونالد هب: "عندما انت تكرر التجربة مرات ومرات فان الدماغ يتعلم اثارة نفس الخلايا العصبية في كل مرة". لذا فان نقاط الاشتباك العصبي يمكن ان تتكون او لا تتكون نتيجة لتأثير الموقف الثقافي للفرد. هكذا المرونة العصبية تكون هي نعمة في الكفاح لاستعادة انتباهنا وذاكرتنا. ان نفس خاصية التعلم التي سمحت لنا بالوقوع في ثقافة التفكير السطحي وقللت فترة الانتباه يمكن ان تعيد ذاكرتنا مما يسمح لنا بالتذكر. عندما نطور ثقافة نوازن فيها بين عاداتنا بتصفح الانترنيت مع تقنيات تسمح بالتركيز العميق المطلوب عند القراءة او الكتابة، عندئذ نحن نستطيع إعادة برمجة أدمغتنا لنستغل الفوائد الكبيرة لكل من هذه الاشكال الخارجية للذاكرة.
ميراث الافكار
طوال حوارات افلاطون، نحن نرى إشارات الى رفض سقراط للكتابة بسبب الاخطار المتعددة للطابع الخارجي لهذه الافكار. سقراط كان خطيبا، لكن افلاطون كان كاتبا. ميراثه استمر من خلال الكتب التي تركها خلفه. في الحقيقة، لا سقراط ولا افلاطون يمكنهما بشكل مبرر انتقاد الكتابة. افلاطون يمكن القول هو اكبر مؤثر فردي خارجي على الذاكرة الداخلية للتاريخ، وحتى سقراط مع انه لم يكتب، لكن واضح جدا انه قُرئ جيدا. طبيعة الحجج التي ينخرط بها سقراط في حوارات افلاطون ترتكز على تراث ثقافي يوناني هو ذاته تأسس على الكتابة. وفي حوار الابولوجي، كان سقراط "يتناول الطعام مع هوميروس وهسيود و اورفيوس" بعد وفاته.
الانتباه العميق والمستمر الضروري عند قراءة قطعة طويلة من الكتابة، يمكن النظر اليها كطريقة للاعتناء بأدمغتنا وأذهاننا، لكن للقيام بهذا بشكل جيد، من الضروري اولاً فهم كيف نعتني بالمجتمع ككل. يجب ان نولي اهتمام بالطريقة التي بها تتطور ثقافتنا. الانترنيت لازال شابا، ونحن لانزال نتعلم كيف نتكيف معه، لكن طبيعته الدوائية المزدوجة يجب ان تُفهم لكي يمكننا عمل قرارات عقلانية واعية سواء انفراديا او جماعيا، حول كيفية التفاعل معه في المستقبل.
***
حاتم حميد محسن