قضايا

علاء اللامي: من الحيوان إلى الإنسايوان ثم الإنسان (2)

"كتاب العراق" للركابي: مشروع جديد لتفسير تأريخ العراق والعالم

ولكن ماهي الإحالات المصدرية والوقائع والأدلة التي يرصفها المؤلف لبناء هيكله النظري ولتغذية هذا الهيكل بالضرورات الساندة التأليفية؟ نعم، ثمة هوامش قليلة لتأكيد هذه الفكرة أو تلك، وخصوصا في ما يتعلق بالماضي العراقي، أو باللحظة البابلية في العراق القديم؟ ولكن هل يكفي ذلك بحد ذاته أم أن للمؤلف رأي آخر بالسردية التأليفية السائدة والتي يصفها بالإيهامية والزائفة في المتن النظري الغربي والآخر غير الغربي والذي يعتبره مجرد اشتقاق من الأول؟ يمكن لنا ان نتلمس خروج المؤلف على الرؤية "العلمية" الغربية السائدة واللصيقة بالمجتمعية الآلية "في طور الصناعة الآلية" بما فيها الرؤية الثورية الخارجة عليها أي "الماركسية"، ورفضه العميق له، ولكنه حين يطرح بديله لا يحتج إلا بتفاصيل التاريخ التي يعالجها. وهذه قد تحسب نقطة منهجية عليه وليس له. فهو يقول مثلا "إن كل أشكال النظر والتفكير المتوفرة والمتداولة إلى اليوم، هي حصيلة زمن ونوع مجتمعية زالت مبررات وجودها/ ص 50". بمعنى من المعاني قد يفهم البعض هذه الخلاصة كقرار بالشطب على كل أو لنقل أغلب التراث الإنساني الفلسفي والإناسي المنجز. ولكن ما الدليل على أن هذه المجتمعية وقراءتها القديمة قد زالت مبررات وجودها؟ وهل يمكن ضبط هذا الزوال بمقياس نظري أو عملي ما؟ وحتى إذا افترضنا أننا نجد بعض تلك المبررات في الحالة الجهنمية التي تعيشها البشرية في عصرنا حيث المجاعات والأوبئة والحروب على حافة الحريق النووي الذي يهدد وجود الجنس البشري ذاته بالفناء، فهل يكون البديل في نوع من الانتظارية السلبية وتقديم رؤية هائمة لا جذور لها ولا تحققات عملية ولا براهين تؤكد فرضياتها الأصلية حول ضرورة تأسيس نواة الدولة اللاأرضوية الانتقالية الكونية ما بعد الدولة- دولة اللادولة، على سبيل المثال؟ إنَّ المؤلف ينطلق من يقينية مجتمعية وشبه علمية بحماس شديد يجعله يقف مرهقا على حطام النظريات التفسيرية والتغييرية القديمة ويقدم بديله سالف الذكر ولكن من الصعب قبول أن هذا البديل لا يمت بصلة للتراكمية العلمية والحضارية السابقة له رغم أنه يتنكر لها جذريا ويعتبرها "توهمية زائفة" ضمن ما يمكن تسميته بقوانين التناص الفكري بين النظريات والرؤى الإنسانية، فالتناص يظل ساريا على النص الجديد والهادم للنصوص السالفة له شئنا أم أبينا.

يقدم لنا المؤلف تفسيره أو رؤيته للتطور البشري وانتقال الكائن الحي من الحيوان إلى ما يسميه "الإنسايوان" بناء على "تدابير الطبيعة وديالكتيكها وحكمتها من دون أن يعي ماهو بصدده وما هو صائر إليه، فلم يكن أصلا يملك أداة الإدراكية والوعي، وانتقل بعد ذلك من الصيد واللقاط، إلى إنتاج الغذاء والمجتمعية، من دون إدراك لما هو في غمرته وسائر نحوه، وجاءت اليوم لحظة انتقالية كبرى من ذات المستوى وأهم وأكثر دلالة وحسما تكوينيا مع بشائر الانتقال إلى ما بعد مجتمعية، بينما الكائن البشري مهيأ لامتلاك القدرة والأسباب الضرورية اللازمة لأن يكون حاضرا وواعيا... ص 53". والأسئلة التعليلية هنا، كما في مواضع أخرى كثيرة ومهمة؛ فهل نحن بإزاء تعليلات بدئية ميتافيزيقية كنوع من اللاأدرية الفلسفية؟  ولكننا لن نجد إجابات حاسمة على هذا النوع من الأسئلة، بل سيكون لزاما علينا أن نواصل استكشاف السياق العام لرؤية متن كتاب من داخله، عسانا نظفر بإجابات من النوع التقليدي فالمؤلف يضع نصب عينيه مهمة "كسر الايهامية التفكيرية والتدني المعرفي وبمقدمته "الجهل التوهمي الأوروبي" والذي بطبيعة الحال نحن القراء من ضحاياه، وعلى هذا قد لا تصح محاكمة مقدماته النظرية التي يطرحها بهذا النوع من الأسئلة والتساؤلات الطالبة لتعليلات وتفسيرات ماهوية لا لشروحات وصفية غائمة وفالتة من كل شرط معرفي معهود.

نهاية الطور الإنسايواني

مع الفصل المعنون" نهاية الطور الإنسايواني من التأريج البشري" يبدأ المؤلف بالتطامن النظري التوضيحي شكلا فيضع ما يشبه المخطط لكيفية قراءته وفهمه للأنماط المجتمعية التاريخية البشرية ويلخصها في أربعة أنماط هي:

1-نمط رافداني تحويلي إمبراطوري وحدته في إزدواجه، وهو مزدوج أرضوي وآخر لا أرضوي.

2-نمط أحادي ومثاله دولة وادي النيل حيث أحادية الدولة والمجتمع من دون طبقية.

3-نمط "لا دولة أحادي" ومثالها أميركا قبل الغزو الإبادي الاستيطاني الغربي، وبعض المواضع في أفريقيا وآسيا.

4- نمطية مختلطة لم تتجسد كيانيا ومثالها ساحل بلاد الشام.

وعلى امتداد صفحات الفصل يقدم المؤلف رؤيته العريضة والتي لا تخلو من تعقيد لأساسات علم اجتماع جديد ومختلف يحاول أن يجترح رؤية مخالفة للسائد العلم اجتماعي الذي يركز المؤلف على صفته الغربية مع انه ليس غربيا تماما لا من حيث التأسيس الخلدوني المشرقي، ولا من حيث الإسهامات الجديدة من قارات أخرى. أما إذا كان المقصود بعلم الاجتماع الأوروبي السائد ضمن سيادة المدارس الامبريالية الغربية في نسختها الليبرالية الجديدة وما بعدها فهو صحيح جزئيا.

ومن الإلتماعات المهمة في هذا السياق نشير إلى الكيفية التي حلل بها المؤلف ما سماها "الانقلابية البنيوية الريعية/ ص80"؛ فهو حين يستعرض عودة النهضة التوهمية البرانية في المشرق العربي، والتي يحددها زمنا بأنها تقوم على متبقيات إسلام ما بعد بغداد، والمقصود الإسلام العثماني والمملوكي والمتمحورة على القصوية الحنبلية - لا يلتفت المؤلف إلى كون ابن حنبل كان بغداديا عاش ذروة الصعود الحضاري لبغداد العباسية ولكن من موقع محافظ فقهياً مع نزوع شعبوي على المستوى الحياتي اليومي ولكن بنسختها الشامية التيمية (نسبة لابن تيمية الحراني). ففي حين كان الإسلام – كما يرى المؤلف -قد حوَّل المجتمع العربي الجزيري إلى حالة "الإزدواج اللاأرضوي العقيدي/ القبيلي، حتى بدا في الفترة النبوية والراشدية كنموذج لمجتمع اللادولة العقيدي خضعت فيه القبيلة لأول مرة للعقيدة. فالنبي محمد في هذه التجربة - يضيف الركابي - ثار ابتداء على قريش وأخضعها للعقيدة قبل أن تستعيد القبيلة باسم بني أمية ثم بني العباس سلطتها وتجعلها وراثية لاحقا وتحول العقيدة إلى أيديولوجيا حكم نجد أن محمد بن عبد الوهاب لم يتمكن من أن يكون فاعلاً كداعية إلا بقوة القبيلة "آل سعود" الذين استعملوا العقيدة بحالتها التكرارية السلفية كأيديولوجية لتكريس غلبتهم ثم لتحويل المجتمع الجزيري المسلح بطبيعته إلى مجتمع منزوع السلاح بواسطة الريع النفطي والإيهام العقيدي. وحتى إن بدا هذا التحليل مغرقا في التخمينية ولكن جوهره الديالكتيكي بارز للعيان دع عنك أنه مدعوم بما تقدمة السردية التاريخية لأحداث الجزيرة العربية طوال القرن الماضي من أدلة ووقائع. هنا، في هذا المثال الصغير، سيتبين لنا الفرق النوعي الكبير بين القراءة التقليدية للتأريخ ووقائعه والقراءة التي يقترحها الركابي في كتابه.

ولكن، ما الذي يقصده المؤلف بالمتقابلة الثنائية  "الأرضوي واللاأرضوي"، وإذا  فهمنا الأرضوي بمعنى المحدود، الجسدي، المادي، المتناهي، الواقعي، ألا يقودنا هذا إلى اعتبار اللاأرضوي ملتبسا بالغيبي الحدسي السماوي الديني الإبراهيمي، أو أنه هو ذاته؟ يجيب المؤلف على هذا السؤال بالنفي فيقول "لا، هو نمط مجتمعي فوق حاجاتي جسدوي، غير محكوم لاشتراطات وأحكام الحاجة الجسدية الحيوانية، يوجد ابتداء غير قابل للتحقق، لنقص موضوعي مادي وعقلي، وعند الضرورة يعبر عن ذاتيته كما حدث حدسيا نبويا سماويا بسبب عدم تصالحه مع الأرضوية الجسدية، لكن هذا ليس التعبير النهائي عنه، إذْ هو ينتظر اليوم التعبيرية الثانية العليّة السببية  ما بعد الإبراهيمة بنت ظروف النقص الأولى المنقضية، المطرودة من قبل الانسايوان والمجتمعية الأرضوية إلى خانة الدين والغيب، جهلا بخلفيتها الواقعية اللاأرضوية ... اللاأرضوي ليس خارج الأرض، بل منها ونتاجها الواقعي،  وإنْ عجز العقل الارضوي عن تخيله/ رسالة شخصية من المؤلف إلى كاتب هذه السطور".

وبناء على هذا التوضيح يمكن ان نفهم أن اللاأرضوي لا علاقة له بالميتافيزيقي التقليدي المنفصل عن الواقع الأرضي والمتعالي عليه والآمر بالأفعال وتصيير الكينونات بطريقة دينية إبراهيمية، أو غير إبراهيمية، بل هو ناتج منها وعنها ومؤثر فيها. وهو والحالة هذه يبقى مفهوما وتصورا شخصيا، وجزءا من مجموعة افتراضات نظرية لم تتحول بعد إلى نظرية مبرهن على صحتها وقابلة للتطبيق أو الاختبار.

ولكن ماذا بخصوص ما يسميه المؤلف الإنسايوان؛ هل هو الكائن الوسيط بين مرحلة الحيوان والإنسان الحالي "الإنسايوان" والإنسان "المستقبلي"؟ يقول المؤلف إنه الكائن الآخذ من الإنسان "الجسد - عقلي" صنو الانتاجية اليدوية، الصائر الى الإنسان العقل المتحرر من الجسدية. وعلى هذا يمكن أن يقترن الإنسايوان بمرحلة مجتمع الصناعي الآلي الصاعد من الإنتاجية اليدوية. يتبع.

***

علاء اللامي

في المثقف اليوم