قضايا
محمد رضا عباس: كيف سنحتفل باليوبيل الذهبي للنماذج اللغوية الكبيرة

للذكاء الاصطناعي
منذ ان ظهرت ثورة جي بي تي في نهاية 2023 وبدايات 2024 وأنا، شأني شأن الكثيرين، اشعر بدوار الحركة نتيجة السرعة الجنونية للاحداث والاخبار الى حد كاد يفقدني الشغف في امور كثيرة اخرى. أصبحنا أكثر اعتيادا على التحدث مع نماذج الذكاء الاصطناعي المختلفة تارة لنسألها عن معلومة ما وتارة لنستشيرها عما نريد ان نلبس أو نأكل. تغير كل شيء فجأة واصبحت الألواح الصغيرة التي نحملها في أيدينا تحيلنا الى عباقرة من نوع جديد، عباقرة بشرط وجود هواتفنا وحزمة انترنت بسيطة واحدى تطبيقات الذكاء الاصطناعي. وقد التفت الكثيرون الى (المخاطر) او (الجديد) الذي يقدمه الذكاء الاصطناعي للبشرية من حيث تحطيم البحث العلمي والوظائف والفن والأدب أو تطوير البشرية وتيسير عملنا ونقله الى مراحل جديدة.
التفتنا الى الكثير من هذه الفرص والمخاطر التي تحيط بنا ولكننا لم نلتفت الى الاثار التي يمكن ان تحدثها هذه الثورة على دواخلنا، فهي تتفاعل معنا عبر أخطر قناة اسستها البشرية والتي يرى أغلب الباحثين في تاريخ البشرية أنها نقطة التحول الكبرى ألا وهي اللغة. هذه الوسيلة التي اختلف المختصون في كونها هي الفكر أو أنها مرآة له وفي كلتا الحالتين هي المهيمن الأساس على مصير البشرية في الماضي ولا يستبعد أن يستمر تأثيرها إلى المستقبل. أصبحت هذه الأداة البشرية الحصرية الآن ولأول مرة في تاريخنا مشتركة بيننا وبين كيان صنعناه قبل عقود قليلة وطورناه حتى أصبحت لديه هوية لغوية خاصة يمكننا ان نتعرف عليها عبر برامج (كشف الذكاء الاصطناعي) كزيرو جي بي تي وغيرها.
ولم يقف الأمر الى هذا الحد، فقبل ساعة من وقت كتابتي لهذه السطور أرسل إلي صديقي الذي يقطن في الولايات المتحدة ويشاطرني حب التكنولوجيا وأمورا كثيرة اخرى تقصر المسافات بيننا، أرسل إلي رسالة مرفقة برابط. لا أدري ما الذي جعلني اتفاجأ مما جاء فيها رغم أنها الإمتداد المنطقي لما يحدث الآن من تلاقح فكري بين الذكاء الاصطناعي والبشر. كانت المقالة المرفقة من موقع بي بي سي بالعربية تتحدث عن العالم السوري إياد رهوان الذي أجرى بمعية العديد من العلماء في برلين دراسة عن تأثير الذكاء الاصطناعي على لغة البشر (وليس العكس). ولمن لا يعلم فهنالك “كلمات معينة يستخدمها تشات جي بي تي بمعدلات أكثر من “ المعدلات التي نستخدمها فيها وقد “رصد المختبر طفرة في استخدامها بين البشر” وانا هنا اقتبس من رسالة صديقي. وبحسب رهوان فإن السبب المؤدي لهذه الطفرة هو تفاعل البشر مع لغة الذكاء الاصطناعي.
وهنا اريد ان ارجع ثلاث خطوات الى الوراء لأستوعب ما يجري... لقد صنعنا نماذج لغوية استمدت قوتها من خوارزميات صنعناها بأنفسنا وغذيناها بنصوص بأعداد هائلة من لغاتنا (الحي منها والميت)، لنقوم بعد ذلك بالتأثر بشكل انعكاسي باللغة التي انتجتها هذه النماذج إلى حد أصبحنا نستخدم فيه كلمات لم نكن نستخدمها قبلا بهذه الوتيرة. وهنا لا بد أن أشير إلى ما يأتي:
دماغ الانسان هو عضو مجبول على استخدام اللغة. فاللغة كما قال نعوم تشومسكي (is hard wired to human brain) وهي تنتج كخليط معقد من افكاره واحاسيسه لتصبح فيما بعد اصواتا متناغمة منتظمة (حتى لو كانت نصاً مكتوباً فهي تبقى أصواتاً بالنسبة لنا) يفهمها الانسان المتلقي ليس كشيفرة لغوية مثلما تفهمها الآلة وانما كأفكار متعددة الطبقات تبدأ من النص الظاهري مروراً بالنص العميق (كما وصفه تشومسكي) ثم إلى تعابير الوجه وحركات الجسد المرتبطة بالنص (كالذي تتعامل معه البراغماتيكس Pragmatics) وانتهاءاً بكل ما يمكن أن يرافق النص من وسائط كالصورة المرافقة والموسيقى وغيرها (كما ترى جماعة النص متعدد الوسائط Multimodalism). فاللغة بالنهاية نصوص متعددة الطبقات عالية التشفير تنقل الفكر البشري والاحاسيس في آن واحد.
أما ما يحصل في الذكاء الاصطناعي أو النماذج اللغوية الكبيرة LLM فهو مغاير تماما لما يحصل في أدمغتنا، إذ يقوم المختصون بتحميل كمبيوترات عملاقة خوارزميات تكون الدليل الأكثر نجاعة لتمكين النماذج اللغوية الكبيرة من تحليل النصوص التي تغذى بها (والتي تكون بالعادة كبيرة بشكل لا يصدق) ليتدرب النموذج اللغوي شيئا فشيئا على تحليل ومحاولة تقليد اللغة أو اللغات بل والأساليب التي تدرب عليها بشكل لافت للنظر يخيل لغير المطلع أن ما يقابله خلف شاشته الصغيرة هو كيان بشري طبيعي.
وبالنتيجة فإن النموذجين اللغويين (الطبيعي المتمثل بالبشر والمقلّد المتمثل بالنماذج اللغوية) سيتلاقحان بالضرورة مما يفضي إلى تغييرات (متعمدة) في لغة الذكاء الاصطناعي تقابلها تغييرات (عرضية) في اللغة الطبيعية للانسان وهذا ما توقف عنده العلماء آنفي الذكر في برلين.
أنا الآن اكتب هذه السطور بينما تتم مراجعة ما كتبوه من قبل المراجعين في المجلات العلمية الرصينة ومع الأسف لم أقرأ ما كتبوا أو ما مقدار ما توصل اليه هؤلاء الباحثون ولكنني متأكد من أن هذه الدراسة (أو الدراسات) افضت الى نتائج صادمة لأنني ومنذ بداية تعاملي مع النماذج اللغوية (بدءاً من تطبيق دكتور ليسا في نهاية التسعينيات وبداية الالفينات) مروراً بأول ظهور لتشات جي بي تي شعرت بأنني أغير الكثير من مفرداتي تارة لكي أتواصل بشكل أكثر فاعلية مع النماذج اللغوية وتارة أخرى نتيجة للاحتكاك المباشر مع النصوص المنتجة من قبل الذكاء الاصطناعي.
وقد يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال فيما إذا كانت هذه الظاهرة تحدث لأول مرة في البشرية، وهنا تجدر الاشارة الى ان هذه الظاهرة في اصلها طبيعية، وهي السبب وراء ولادة وموت العديد من اللغات واللهجات. فلغاتنا تؤثر وتتأثر بعضها بالبعض الآخر. وهذا التغيير هو ما جعل العرب يضعون علم النحو خوفاً على لغتهم بعد دخول العديد من الأمم الى الإسلام. كما أننا نشهد تغييرات لغوية كبيرة مع ازدياد استخدامنا للتكنولوجيا. فها هي لغة وسائل التواصل الاجتماعي (المختزلة في أحيان كثيرة والركيكة بشكل موجع في اغلب الاحيان) تغزو مدارسنا. وقد كانت لي تجربة مزعجة مع ابنتي الصغيرة التي تعلمت اللغة الانكليزية بطلاقة من أجهزة التابلت، والتي تفاجأت بأنها لا تجيد استخدام الألف واللام (ال التعريف) بشكل محزن، اذ يمكن ان تقول مثلا “جاء المدير المدرسة “ و”قالت معلمة رياضة” مما حدى بي وزوجتي الى تتبع أسباب تدهور لغتها العربية على عكس المتوقع منها، وكانت النتيجة صادمة أكثر مما تخيلنا، ففي مجموعة التليجرام التي تضم المعلمين واولياء الأمور في المدرسة لاحظت زوجتي أن المعلمات يكتبن بنفس الطريقة الخاطئة، ولا يميزن بين المعرف ب(ال) من غيره. وهذه الظاهرة بالتأكيد لم تكن حكرا على معلمات هذه المدرسة ولا حتى قطاع التعليم وانما تمتد الى مختلف أطياف المجتمع (ولربما المجتمعات الاخرى ولكن بظواهر قريبة من هذه.
وهنا تجدر الإشارة أن ما توصلت إليه لم يكن مصدري الوحيد ولم أطرحه دليلا علميا على الظاهرة حيث أنني على علم بما تحتاجه هذه الظواهر لتكون إثباتاً علميا مقبولا وهو ما لم يحصل هنا، كما أنني لا أدعي أن العينة التي لاحظتها، تمثل بشكل أو بآخر المجتمع ككل، وإنما أركز على ما نلاحظه من انتقالات وتغييرات لغوية مهمة تحصل نتيجة للاستخدام الغير مسبوق للكتابة في وسائل التواصل الاجتماعي حيث لم يشهد العالم فترة استخدم فيها هذا العدد الهائل من البشر الكتابة. وهو بالطبع أمر يدعو الى الانتباه الى أن هنالك عدد لا بأس به ممن لا يجيدون الكتابة او التعبير الصحيح بدأوا يؤثرون ويتأثرون بالآخرين. ولكن ورغم فوائد ومآسي هذه الظاهرة الا أنها تنحصر بين البشر. نعم هي تختزل ما يحدث عادة في قرون الى ظوهر تحدث في عدة سنوات (ولربما في عدة شهور... من يدري؟! فهذه الظواهر على حد علمي لم تأخذ نصيبها الكافي من البحث العلمي الدقيق). بل أنني أكاد اجزم أنني تحسست تغييرات لغوية سواء بالعربية (لغتي الأم) ام الانكليزية (لغتي الثانية) في سنوات عمري المنصرمة أكثر مما شهدته أجيال من البشرية في عصور غابرة.
ولكن، سواءاً كان التغيير الذي أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي كبيراً جداً (كما أزعم) او طبيعياً (كما يمكن أن يثبته باحث ما) فإنه مقبول كونه متأت من تلاقح لغوي تواصلي بشري، وهو ما حدث ويحدث على مر العصور. أما الجانب الآخر من التغيير، والذي أشار اليه الباحث المذكور في بداية المقال فهو تغيير لا ينبغي السكوت عنه. وفيما يأتي من السطور سأحاول تخيل السيناريو المنطقي لما سيحدث في العقود الخمسة القادمة لأسمح لنفسي وللباحثين الآخرين ان نضع فرضية شبه منطقية تقود بحوثنا القادمة.
سيستمر الذكاء الاصطناعي في محاولاته لتحليل وتقليد لغاتنا الطبيعية وسيخطئ في كل مرة (لأن خوارزمياته لن تتصرف كما يتصرف دماغنا وأحاسيسنا) بينما يستمر تاثيره بالتنامي في نصوصنا شيئا فشيئا ليضفي أثرا يبدو الآن صغيرا وغير مؤثر لينتقل الى ظاهرة مؤثرة ثم الى ظاهرة مهيمنة مدعوما بكم النصوص الهائل الذي إما يعدل أو ينشأ عن طريق الذكاء الاصطناعي. وهنا علينا أن لا ننسى أن الذكاء الاصطناعي سيتفوق علينا شيئا فشيئا من الناحية الكمية (فالباحث أو الكاتب مثلا يحتاج الى ساعة أو عدة ساعات ولربما أيام من أجل أن يولد نتاجا لغويا لا يتجاوز البضعة صفحات، بينما لا يحتاج الذكاء الاصطناعي الى اكثر من عدة ثواني لينتج نفس المقدار من النص. كما أن سعي الانسان الى الكمال (والذي بدأ يمثله الذكاء الاصطناعي) جعل عشرات الملايين (ولربما مئات الملايين او المليارات لاحقا) يعتمدون على الذكاء الاصطناعي في تعديل أو حتى انشاء نصوصهم.
نحن هنا على شفا معركة بين كتلة ضخمة (Corpus) من النصوص الطبيعية (النصوص البشرية) في مقابل كتلة أخرى لا تقل ضخامة عن الاولى من النصوص المولدة بالذكاء الاصطناعي وهو ما يؤدي الى احتكاك وتلاقح منقطع النظير ستنتج عنه لغات هجينة ولربما مريضة بسبب طبيعتها المزدوجة (البشرية – الاصطناعية) ولا استبعد أننا وبعد خمسين سنة من الآن سنحتفل باليوبيل الذهبي لثورة جي بي تي ولكن بلغة (او لغات) اخرى تحتاج حينها الى قواميس لكي تفسر نتاجنا الانساني الحالي أو الماضي، ولا أضمن أن تكون الترجمة دقيقة ان تدخلت فيها الخوارزميات.
قد تبدو هذه الصورة قاتمة او حالمة نوعا ما للبعض، وقد يتبادر الى ذهن البعض الآخر أن ما أقوله محض ترف علمي ولكنه في الحقيقة جزء يسير من الخطورة التي نواجهها. وإن كنت قرأت المقال بتمعن لأدركت أن الخطورة لن تتوقف عند اللغة. فمن حيث أن اللغة مرآه للفكر تتأثر به وتؤثر فيه، وأي تغيير في النمط اللغوي سيؤدي لا محالة الى التغيير في الفكر، وهنا لا أتحدث عن تأثير تعلم اللغة الثانية (الكبير) الذي يطرأ على تفكيرنا بعد اكتساب اللغة الثانية (أو الثالثة أو أي عدد كان) رغم أنه دليل جيد على احتمالية حدوث التغيير، وإنما أتحدث عن نمط لغوي فريد أنتجته خوارزميات رياضية بمعزل عن الفكر والمشاعر البشرية، لغة هجينة مقلدة للمشاعر، لغة نشأت بعيدا عن ناظرنا. فما الضامن أن تفكير البشر لن يتغير الى ما يشبه الآلة؟ ومن الذي يضمن أن المشاعر الانسانية لن تصبح (كوبي بيست) وتضمحل تدريجيا؟ ما الضامن بأن المحتفلين باليوبيل الذهبي (مرور خمسين سنة) لجي بي تي لن يكونوا بوجوه بشرية وتفكير واحساس (انساني-خوارزمي)؟ وما هي السبل التي يجب اتباعها لجعل المستقبل أكثر اشراقا؟ قد يصل بعضنا الى ذلك اليوم وبالتأكيد سيجد في كلامي الكثير من (اللغط العلمي) هذا ان تمكن من ترجمته الى لغته آنذاك ولكن الاخطر هو ما سيجد أن الأوان قد فاتنا لنتجنبه.
***
محمد رضا عباس يوسف - تدريسي في كلية الامام الكاظم
نيسان 2025