قضايا

وسام حسين العبيدي: الجواهري في خُطوبه الخلّاقة.. قراءة سوسيوثقافية

في قصيدته "الخطوب الخلّاقة" عام 1967 كان الجواهري يمارسُ ضربًا من الجلدِ للذات العربية، تلك الذات المخذولة أو المتخاذلة – كلاهما الشيء نفسه – إزاءَ عدوٍّ لم يكن قويًّا إلا بسبب ضعف الدول العربية أمام الكيان الصهيوني الذي تمادى في طغيانه؛ فلذلك أراد أنْ ينتهز فرصة التصدِّي الشجاع للزعيم الراحل جمال عبد الناصر في وقوفه بوجه ذلك العدوان، أنْ يسبر تلك النفسَ المتخاذلة، بوقوفها على الحياد من الصراع الدائر آنذاك بين الكيان الغاصب وآخر جبهات التصدِّي لذلك العدوان الغاشم، فيطلبُ من أوَّل بيتٍ في القصيدة أنْ تأتي الطوارق بأحداثها الجسام لتكشف ما تخبّئه النفوس، بقوله:

دعِ الطوارقَ كالأتّونِ تحتدمُ

وخلِّها كحبيكِ النُسجِ تلتحمُ

**

وخُذ مكانكَ منها غير مكترثٍ

دهدى بك الموجُ أو علّتْ بك القِممُ

**

كفاكَ والخطبُ فخرًا أنْ تُصارِعَهُ

إنَّ المُصارعَ أنّى صارَ محتَرَمُ

والأبيات لا تُخفي ما يُضمرُهُ الشاعر من نفَسٍ ثوريٍّ يدعوهُ للمُضيِّ قُدُمًا في مقابلة الطوارق/ الخطوب بجأشٍ ثابتٍ، وكأنَّ القدَرَ لا يتغيرُ في النأي عن مواجهة ذلك الخطبِ الذي من شأنهِ الاستبداد أكثرَ وأكثرَ من دون رادعٍ يقفُ بوجهه، فلا بُدَّ من اتّخاذ الموقف الحازم في منازلة ذلك الخطب، ومصارعة ذلك الخطبِ في كلِّ الأحوال تُعدُّ مرتبةً من مراتب الشرفِ والاحترام؛ وذلك لأصالة المبدأ الذي ينطلقُ منه ذلك المُصارِع. ومثلُ هذه النتيجة التي يضعها الجواهريُّ أمامنا، يقدِّم لنا استدلالاً آخر يُعربُ من خلاله عن المنزلة الرفيعة التي ينالها من يتصدّى لدرء خطر ذلك الخطب، وذلك في قوله:

ومثلَ بلواكَ في غمّى تدافُعها

تكونُ عقباكَ إذ تُستكشفُ الغُمَمُ

بمعنى أنّ بمقدار عظيم الابتلاء الذي يقع على الفرد أو الجماعة في تصدِّيها لدفع الشدّة عنها، تكون النتيجةُ عظيمةً، وهذا المعنى مستفادٌ من أحاديث وأشعار، منها قول أحدهم في مدح الإمام علي: "وبِمقدارِ ما حباهُ ابتلاهُ" وكلُّ ذلك يُدلِّل على منطقٍ طبيعيٍّ للسلوك البشري في كل الأحوال، وليس هنالك مطامحَ ينالها الفردُ أو الجماعة تأتي من دون جهودٍ تُبذل في تحقيق نيل تلكم الطموح. ومن هذا المنطق، يستمدُّ الشاعر صورة الصبح الذي لا يأتي إلا بعد ليلٍ طويل، وذلك في قوله:

تعسّرَ الصبحُ واستعصتْ ولادتُهُ

حتى تشابكتِ الأنوارُ والظُلَمُ

أو في قوله مُباركًا نزول الخطبِ الجلل بوصفه ابتلاءً يكشفُ خبايا النفوس من جواهر ثمينة أو معادن رخيصة، بما ينعكس من تلكم النفوس من سلوكيات تنكشف عمَليًا عبر ذلك الابتلاء:

تباركَ الخطبُ تبلوهُ وتحصدُهُ

إنَّ الخُطوبَ إذا ما استُثمِرتْ نِعَمُ

وهذه المُباركةُ للخطبِ في حقيقتها ليس لذات الخطب، وإنما لما يُنتِجهُ ويكشفهُ من نوازع لا تظهر إلا بعد وقوع الخطب، ومن هذه الزاوية تُعد الرزيّة/ الخطب نعمة في حال استثمارها وبيان حقائق تلكم النوازع. وهذا المعنى مستفادٌ أيضًا مما قاله الشافعي في المنسوب إليه من شعر، وهو:

جَزَى اللهُ الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيْرٍ

وَإنْ كانت تُغصّصُنِي بِرِيقِي

**

وَمَا شُكْرِي لهَا حمْداً وَلَكِن

عرفتُ بها عدوي من صديقي

ولا يكتفي الشاعر بالخروج من هذه المقدِّمات التي تُبرهنُ للقارئ أو المستمع، ما لهذه الخطوب من منافع تكشف صدقَ الادّعاءات من شعارات أو مبادئ، ومن ترجمةٍ عمليةٍ لها في الواقع الذي تنزل فيه تلك الشدائد، فيستعيرُ لنا صورة عود البَخور الذي لا يُطلق عبق رائحته الزكية، إلا بعد الاحتراق، وذلك في قوله:

عودُ الرجالِ بكفِّ الخطبِ يُعجمُهُ

كالمَندلِ الرطبِ يذكو حين يضطرمُ

وفي هذه الصورة الاستعارية، يجعل الشاعر من الخطبِ رجلاً بلازمة كونه يعجم " العود، وحذف المشبه وأبقى تلك اللازمة، ومعلومٌ أنَّ عجم العود هو عضُّهُ ليُعلَمَ صلابتُهُ من خَوَرِه، ومن هذا المعنى قول أبي الطيب المتنبي:

إنّ نُيُوبَ الزّمَانِ تَعْرِفُني

أنَا الذي طالَ عَجْمُها عُودي

والمراد بذلك أنَّه مثلما يكشف ذلك العضُّ للعود لصاحبه من قوّةٍ أو ضعفٍ لذلك العود، كذلك الرجال، لا ينكشف عودُهُم إلا من خلال تمرُّسهم بتلك الخطوب وصبرهم عليها، أو كعود البخور الذي لا يُعطيك عبقه إلا بعد اضطرامه بالنار.

ثم بعد تلكم المقدِّمات الحِجاجية التي وضعها لمن يفترض به الشاعر إنكار ما للخطوب من أثرٍ إيجابيٍّ على الفرد أو الجماعة، يتوجّه إلى مخاطبه، فيُطالبُه بخوض الكوارث، وهي تسميةٌ أخرى للخطوب أو الشدائد التي أشار لها في الأبيات السابقة، بقوله:

خُضِ الكوارثَ لا نِكسًا ولا جزِعًا

واترُكْ إلى الغيبِ ما يجري به القلمُ

**

لو كانَ يُضمَنُ نصرٌ قبلَ موعِدهِ

لكانَ أرخصَ ما في الأنفسِ الهِمَمُ

وهو في حواره، مع طلبه بفعل الأمر (خض، اترُك) يبذل أقصى درجاتِ الإقناعِ بجدوى القيام بوجه تلكم الكوارث، وكأنّه يجيب عن سؤالٍ مُضمر يتوقّعه من ذلك المُتخوِّف من عدم مواتاة الفرصة بالظفر، ونيل الوطر، باتّكائه على القضاء والقدر، أنَّ في ذلك التعويل تسويفًا للفُرصة، وتضييعًا لنيل ما يرجوه، وهو في ذلك لا يريد إلا شحذ همّة المُخاطب، وتثوير عزيمته، فالنصرُ له شروطُهُ الموضوعية، ولا يمكن أنْ يُضمَن بمجرّد أنْ ينوي صاحبُهُ تحقيق النصر،

ولو كان النصر مضمونًا يُهدى دون عناء، لانطفأت جذوة الطموح، وأضحت الهمم رخيصة لا تُساوي شيئًا. لكن لأن المجد لا يُنال إلا بالمجاهدة، فإن الهمم تبقى أغلى ما في الإنسان، بل هي جوهر إنسانيته وسرُّ تميّزه وخلوده.

وإذا تمَّ له هذا الجانب، يقف رائيًا مستلهمًا عبر التاريخ الإنساني، إذ لم يجد في طيّاته خيرًا إلا وقابله شر، هذه الثنائية الضِدّية تخضع أيضًا لفلسفة الحياة منذ الأزل وإلى ما شاء الله، ومن خلالها تظهر حقائق الناس مختلفةً بحسب الاستعدادات المختلفة بينهم، وذلك في قوله:

إنّي وجدتُ الليالي في تصرُّفِها

تأوي إلى حكمٍ عدلٍ وتحتكمُ

**

تدُسُّ في الشرِّ خيرًا يُستضاءُ به

وتنزعُ الخيرَ من شرٍّ ويلتئمُ

**

إنَّ الشدائدَ تُستصفى النفوسُ بها

مثلَ الحظوظِ على أصحابِها قِسَمُ

**

يُلقينَ ظلاًّ على وجهٍ فيُلتَطَمُ

ويزدحمنَ على وجهٍ ويبتسِمُ

**

يا جَمرةَ الخَطبِ ساقينا على ظمأٍ

للمُصلياتِ فأنتِ الباردُ الشَبَمُ

والأبيات أعلاه، تؤدّي الفكرة التي يريد الجواهري تثبيتها في ذهن متلقّيه، من حتميّة انتصار الخير على الشرِّ مهما استقوى الطغيان واستبدّ، وكأنه يريد أنْ ينظر إلى الجزء الممتلئ من الكأس وليس الجزء الفارغ، من خلال رصد ما رشح من تلك الخطوب/ الشدائد من هممٍ عاليةٍ عند البعض لم تظهر إلا بفضل تلك الشدائد، في قبال انكشاف زيف ادعاءات البعض بالشعارات البرّاقة، وبما يتظاهرون به من هممٍ لم يكن لها في الواقع أثرٌ يُدفَعُ من خلاله خطرٌ أو بلاء.

وفي فقرةٍ أخرى، ينتقل الشاعر بالقول:

قالوا: أتتْ أَزمَةٌ جُلّى، فقلتُ لهم:

أهلاً وسهلاً، فنِعمَ الطارقُ الأزَمُ

**

يا جارتا: مَن يَضِق ذرعًا بنازلةٍ

فليسَ مِنّا وإنْ مَتّتْ به رَحِمُ

**

سَلي بنا الأزماتِ السودَ كم غَنِيَتْ

إذ كان عند سوانا الفقرُ والعَدَمُ

**

ما شِئتِ فامتحني نَزددْ ندىً وقِرىً

هل كان إلا ليومِ المِحنةِ الكَرَمُ

**

عِشنا وإياكِ أحقابًا مُناوَبَةً

ننسلُّ منك على رفقٍ وننسَجِمُ

**

جُلِّي بنا تجِدي من أزمةٍ قدَمًا

عفّى على رسمِها مِن أزمَةٍ قِدَمُ

يُريد الشاعر أنْ يردّ على زعم من ارتعدت فرائصهم من مجيء الخطب أو الأزمة، فقابلهم بما يحملُهُ من وثوقٍ بالذات، أنَّ مثل هذه الأزمة سببٌ لما تكشفه من دخائل النفوس وبما تكشفه من مواقف لأصحابها، فجديرٌ بنا أنْ نرحِّبَ بمجيئ هذه الأزمات، لا أنْ نعبّس بمقدمها، وفي البيت الذي يليه، يرى – وهو يخاطب تلك الجارة المفتَرَضة مثل ديدن كثير من الشعراء بوصفها معادلاً موضوعيا – أنّ الذي يشكو أو يتشكّى من وطأة هذه الأزمات ليس من هذه الجماعة – ويعني بهم العرب – التي شهد لها التاريخ على مدار قرونٍ طويلة، بعلوِّ هممهم في الشدائد التي مرّت عليهم – وما أكثرَها – فكانوا أهلاً للتصدّي بوجه الشرّ هزّامين أعداءهم، وإنْ لم تصدّق ما يقول، يطالبها أنْ تسأل الأزمات نفسها، كم مر بها وقومه وقد خرجوا منها أقوياء، في حين كان سواهم حين مرّ عليهم ما هو أخفُّ منها وطأةً، كان قد عانى الفقر والعجز من مواجهتها والصمود بعدها، فتوالي الامتحانات من وقوع الشدائد مدعاة لازدياد الصلابة والقوّة في الخروج منها بحالةٍ أفضل من السابق.

ويعود الجواهري في آخر ثلاث أبيات من مقدّمة هذه القصيدة، إلى تأكيد ما ذهبَ إليه من عرضٍ لفكرته في أول الأبيات، عبر ما يطلبه من هذه الجارة المفترضة – التي يمكن أنْ نقول إنَّ الشاعر أراد التقليل من قيمة الذي يتخوّف من مجيء هذه الأزمات بجعله موصوفا بالجارة وهي المرأة التي في أغلب أحوالها تخاف من الشدائد أو النوازل، بمعنى أنّ الرجال الأشدّاء الذين تربّوا على الشدائد يستحيل أنْ يدبّ الخوف في قلوبهم من مجيء هذه الشدائد – أنْ تمتحنَه بشتّى ضروب المكاره، فهي إنْ وقعت عليه أو على أمثاله من رجالٍ أشدّاء، لا تزيدهم إلا عطاءً، وإلا ثباتًا على مواقفهم، ويستدلُّ على ذلك بالكرم الذي لا يُعرف له طعمٌ إلا من خلال وقوع المحن. أما البيت الذي يليه – عشنا وإياك أحقابًا .. إلخ – فكأنّه يريد أنْ يصوِّر لنا مدى الألفة مع هذه الأزمات حتى صارت جزءًا من حياته اليومية التي يعيشها، وقد انسجمَ معها مثلما تنسجم الخيوط حين تُنسج في القماش، فلماذا يخاف من وقوعها الآن، وواضحٌ أنَّ الشاعرَ يتحدّث عن جماعته الذين يُثيرُ فيهم تلك الحمية للوقوف بوجه الأزمات والشدائد.

وفي البيت الأخير، يخاطب أصحاب تلك الدعاوى من خلال ذلك الوسيط "الجارة" بما يؤكّد الفكرة التي يريد ترسيخها في ذهن المخالف له، بأنْ لو اقتربتِ ودقّقتِ فيما وقع من رزايًا سابقة، سوف تتأكدين أن كل أزمة جديدة نقابلها بأزمات أسبق منها قد مررنا بها وتجاوزناها، حتى لم تترك السابق منها أي أثر لما بعدها.

***

د. وسام حسين العبيدي

أكاديمي من العراق

في المثقف اليوم