قضايا

حيدر عبد السادة جودة: التمّرد وميلاد العبقرية

إنَّ الخروج من حالة القصور المفروضةُ علينا ذاتياً، والذي عدّهٌ (إيمانؤيل كانت) تنويراً، لهو تمردٌ في الدرجةِ الأساس، لِكونه قد يؤسس لمرحلةِ الإبداعِ والابتكار بعيداً عن وصايا الآخرين، والتي من شأنها أن تَخلُق قطيعاً أهوجاً، يُردِّد ما يتلقّاه من وصايا، فتؤسس بذلك لثقافة التلقي وصناعة العقل المطيع، ذلك الذي لا يفقه الرفض والاعتراض، ويقبل بجميع أنواع الهيمنة والإكراهات؛ ولا سبيل إلى الخلاص من تلك الهيمنةِ إلّا بالتمرد على أشكال الوصايا المفروضة على الإنسان...

ومن ثمَّ فالتمرد خلاص طبيعي من أمراض الهيمنة، والتي تُمارِس سطوتها بفعل السلطة، دينية كانت أم سياسية أم غير ذلك.

ومن شأن التمرد أن يخرق فضاء الإتّباع، ليبني بذلك صرحاً من الإبداع، والذي يتحدد مع ثقافة الفصل والتخلص من ثقافة الوصل مع تراث الماضي. وإذا ما أردنا أن نناقش الفصل والوصل من جهةٍ معرفية، فنجد إنّ الإبداع الأول، والذي لازم ثقافة التمرد في تاريخ الفكر الفلسفي قد نشأ مع المدرسة السفسطائية، تلك التي أنزلت الفلسفة من السماء إلى الأرض، وليس كما ادعّى (شيشرون)، والذي لصق هذا المُنجز بـ(سقراط)، الذي كان سفسطائياً فتمرد سلباً على الحقيقة السفسطائية، والتي رجّحت سلطة الإنسان بعدِّه مقياساً لجميع الأشياء.

ومنذ ذلك الحين-وباستقراءٍ ناقصٍ في جميع الأحوال- لم نجد شيئاً عن ثقافة الفصل وإعلان ميلاد العبقرية، وكل ذلك يعود إلى الافتقار لحملات التمرد في تاريخ الفلسفة، والتي سطع نجمها بميلاد الفلسفة المعاصرة، وسواءٌ ابتدأت الحقبة المعاصرة للفلسفة مع الفيلسوف الدنماركي (سورين كيركيجارد) أم مع الفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه)، فإن بوابة الدخول نحو العبقرية قد بدأ مع ميلاد التمرد، ومع إنّ (كيركيجارد) قد تجبّر في ثورته الكبرى على فلسفة الأنساق الهيغلية، إلا أنّ الانقلاب القيمي عند (نيتشه) كان بمثابة الأصل الأصيل في ديمومة فلسفة التمرد، فلم يكن أمام أحدٍ من الفلاسفة فرصة التجاوز لذلك التمرد، سواء كان على الدين أم على الأخلاق والفلسفة.

ومن هنا يُجاز لنا أن نصف الفلسفة المعاصرة بعصر الإبداع والعبقرية، لإنّ معيار الحكم على الفيلسوف ومنظومته المعرفية تُقاس بمدى خروجه عن السائد المألوف؛ ولكن-وكما هو معتاد- قد يدفع المُتمرد ضريبة العمر  نتيجة الخروج عن ذلك المألوف؛ وقد لا يُقاس الأمر على الفلسفة المعاصرة، لأنها، بفضل (نيتشه)، قد تحولت إلى ظاهرة، أما إذا أردنا أن نناقشها كحالة متفردة، فإن ذلك يستتبع أن نعود أدراجنا نحو التمرد بصورته البِكر، في الحلقة الأولى من الوجود، وسواء ابتدأنا مع (آدم) الذي عصى أمر ربّه، أم مع (سيزيف) الذي هتك أسرار الآلهة، فإن النتيجة واحدة، وهي التمرد وفضح المسكوت عنه، وتلك جريمة بمقاسات العدل الإلهي، وإن الحكم على شناعتها لم تخرج عن سراج الأبدية... وهكذا يصطدم التمرد بحاجز السلطةِ الصلد، عموديةً كانت تلك السلطة أم أفقية، وبذلك يُولد القطيع المردد لمسلّمات الدين والسياسة، ويندثر أمر الإبداع والعبقرية باندثار مفهوم التمرد.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

 

في المثقف اليوم