قضايا

شهد العقدين الماضيين جهود حثيثة لإعادة فهم العالم الذي نحيا في ظله، والعوالم التي تحيط بنا لكننا لا نراها بأم اعيينا، ومن ثم اعادة اكتشاف الطاقات والمواهب والعلوم الخفية التي وهبها الله لبعض الخلائق ومنهم هرمس

عاد العالم بقوة يبحث عن هذه القوي الخفية لشخصية هرمس التي اكتنزت المواهب العقلية والفلسفية والروحية معا، وذلك نجده حاضرا في كل الحضارات والثقافات والاديان بمسميات مختلفة، وكل حضارة تنسبه اليها، فالمسلمون يرون ان هرمس هو نبي الله اخنوخ، وعلماء مصريات يعتقدون انه الاله "أوزوريس".. ومؤرخون يرونه الحكيم "هرمس" بينما ذكرته التوراة بأنه "أخنوخ" من نسل آدم، ووصفه "المقريزي" بأحد بناة الأهرام.

جاء في تواريخ كل من الطبري، ابن كثير، ابن الأثير، والمسعودي، فإن إدريس هو أخنوخ من نسل شيث بن آدم، وتسميه الصابئة "هرمس"، بينما ذهب الامام جلال الدين السيوطي الى انه نبي وملك حكم مصر بعد ان توارث العلوم عن جده شيث بن آدم . أما "هرمس" عند الاغريق فهو شخصية أسطورية إغريقية، وعند اليونان فكان معبودا ضمن "آلهة الأولميب" الشهيرة، وكان ابنا لزيوس !!!

نسبت كل حضارة هرمس اليها وافادت من علومه وتعاليمه، من خلال تلاميذه، فهرمس هو نبي الله إدريس قد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، وإليه انتهت الرياسة في العلوم الحرفية واسرار الحكمة واللطائف الربانية والإشارات الفلكية، واستقى الحكماء والفلاسفة من حكمته، وتشرب العلماء من فيوضات علومه .

وقد صنف كتاب كنز الأسرار وذخائر الأبرار، وهو خامس كتاب كان في الدنيا في علم الحروف، وعلمه جبرائيل علم الرمل، وبه أظهر الله نبوته وقد بنى اثنين وسبعين مدينة،وتعلم منه علم الحروف .

الهرامسة وهم أربعون رجلا، وكان أمهرهم اسقلينوس الذي هو أبو الحكماء والأطباء، وهو أول من أظهر الطب، وهو خادم نبي الله إدريس وتلميذه، ثم ابنه متوشلخ ثم ابنه لامه ثم ابنه نوح، وهو نبي مرسل وله سفر جليل القدر، وهو سادس كتاب كان في الدنيا في علم الحروف، ثم ابنه سام ثم ابنه أرفخشد ثم ابنه شالخ ثم ابنه عابر، وهو نبي الله هود ثم ابنه فالغ ثم ابنه يقطر وهو قاسم الأرض بين الناس، ثم ابنه صالح نبي الله ورث علم الحروف، ثم ارغوا ابن فالغ المذكور ورث علم الحروف، ثم ابنه اسردع ثم ابنه ناحود ثم ابنه تارخ ثم ابنه إبراهيم، وهو نبي مرسل أنزل الله عليه عشرين صحيفة، وهو أول من تكلم في علم الوفق .

هذا يفسر وجود المبادئ الهرمسية جوهر الديانات الأسيوية الشرقية كالهندوسيَّة والطاويَّة والبوذيَّة، والديانات الشرق أوسطية من يهودية ومسيحية وإسلام إلى ديانات الشعوب الأصلية في الأمريكيتين، وإفريقيا وأوروبا واستراليا .

فلسفة هرمس

تقوم الفلسفة الهرمسية على سبعة قوانين وهي قانون الوحدة العقلية، والتطابق، الذبذبة أو الاهتزاز، الأقطاب أو الأضداد، السبب والنتيجة، الجنس، والايقاع .

وأثبت علماء الفيزياء الحديثة بعالمنا المعاصر، أنّ المبادئ الهرمسية كانت لديها المعارف المتطورة التي بدأنا في استكشافها في حقول الفيزياء الكونية والكيمياء وعلم الطبيعة وعلوم النفس والروح أو ما يعرف بعلم الكيمياء .

قانون الوحدة او العقلانية:

فالعقل هو الشيء الوحيد الذي يمكن إثباته وهو الحق، والكون عبارة عن تمثُّلات وتجسيدات لتصوّرات إبداعات العقل الكوني الكلي . وجميع الإبداعات والاختراعات والتصميمات البشرية لا يمكن وجودها في الواقع، ما لم تكن في البداية فكرة في ذهن المبدع ومن ثَمّ تجسدت في الواقع .

قانون التماثل أو التطابق

ويشير إلى وجود تماثل ما بين عالمين متوازيين، كما الأعلى الأسفل، وتَماثُل بين المبدأ وبين الظاهرة؛ القاعدة والتطبيق؛ والتّماثُل هو القدرة على إدراك ما هو غير محسوس، ويشير ذلك الى وجود عوالم لا متناهية، فكل عالَمٍ هناك ما يماثله في مجال زماني ومكاني آخر .

الذبذبة أو الاهتزاز

فالكون في حركة دائمة، كل شيء وكل كائن لديه حركة أو ذبذبة تصدر عنه، وهو ما اكتشفه اليوم علماء الفيزياء بأن للمادة حركة المادة إما أن تكون بطيئة أو سريعة، وكذلك على صعيد الفكر والروح هناك طاقة حركية ذات درجات من التذبذب؛ فتكون سريعة في الحالة الروحية بحيث تبدو في حالة ثبات .

الأقطاب أو الأضداد

والكون هو عبارة عن ثنائية؛ فلكل شيء وجهان، فالضوء هو كيان واحد له حالتان هما النور والظلمة، والحرارة هي شيء واحد له وجهان؛ الوجه الساخن والبارد . إذن فكل موجودات الكون لها قطبية: الكره والحب، الخير والشر، النهار والليل، الحزن والفرح،ولا بدّ للبشر من اختبار كافة المتناقضات لفهم الازدواجية .

السبب والنتيجة

ما يقع في الكون له سبب، وكل نتيجة لها مسبِّب. وهذا المفهوم يُعرف في الهندوسية بـ”الكارما”، وهو يدل على أن ما يحدث لنا هو نتيجة لأفكارنا، وأنّ ما يحدث في عالمنا هو نتيجة لأعمالنا، فمن عاش التعاسة إنّما هو استجلبها لنفسه بفكره وسلوكه؛ فالنجاح نتيجة الجهد والمثابرة .

قانون الجنس

يقرر هذا القانون أنّ لكل شي في الكون حالة ذكورية وحالة أنثوية، وقد أشار القدماء إلى هذا المفهوم بتمثال الشمس بوصفها ذكورية في القوة والسطوع، والقمر بوصفه أنثوي في الغموض والبرود، وفي الفلسفة الهرمسية فالأب هو العقل الكليّ وهو بالحالة الذكورية، وتليها الحالة التجسيدية التي خلقت كل الموجودات الكونية، وهي جميعها متواجدة في الرحم الكوني، إذ أننا نجد الوعي بالفكرة ومن ثمّ بعد ذلك خلقها وتجسيدها.

قانون الإيقاع

فكل الأشياء لها إيقاع مثل الأرجوحة . وكل ما يصعد لا بد له من أن يهبط، وهذا ينطبق على البشر في حالة الولادة والموت، البناء والدمار، طلوع الأمم ثم اندثارها، في الشروق والغروب، الاخضرار والذبول، والحياة والموت في كل المخلوقات، ونرى الازدهار في الشباب والاضمحلال في الكِبَر .

هذه القوانين السّبعة هي عماد الفلسفة الهرمسيّة ومنهجَ يفسر طواهر الكون وحركته وقواعده، فكل الموجودات تخضع لهذه القوانين، وفهم الانسان لها وادراكه بها يجعله أكثر تناغما مع الكون واستقرارا نفسيا ومتحققا بالسلام الداخلي .

***

 سارة طالب السهيل

مزيج حضاري ودول ثنائية الهوية

إنَّ هذه الفكرة حول المزيج الحضاري، أو الثنائية القومية في الممالك والإمارات الآرامية والعربية في الجزيرة الفراتية وعموم شمال العراق القديم وشرقي سوريا، قريبة أيضاً من الفكرة الخاصة بالعلاقة بين اللغتين العربية والآرامية والتي عبر عنها الباحث الهولندي البروفيسور هولغر غزيلا، في مقابلة معه / ضفاف 18 كانون الأول 2017، قال فيها: "يمكن القول إنَّ الآرامية بمثابة ابنة عَمٍّ للعربية، وليست شقيقة مباشرة، فاللغتان ساميّتان غربيتان، لكن الآرامية تنتمي إلى الفرع السامي الشمالي الغربي، أو إلى لغات بلاد الشام القديمة بالمعنى الجغرافي"، أي أنه يضع الآرامية بالتزامن، أو إلى جوار العربية المنتمية  إلى اللغات السامية الشمالية الغربية أيضا، ولكن إلى جنوبها جغرافيا (وشمال الجزيرة العربية). كما يوضح فكرته في موضع آخر بقوله "لا يمكن الحسم بهيمنة العربية في المناطق التي ذكرت (تدمر والحَضَر وأورفا)، فالأسماء تهاجر كما تعلم وليست دليل انتشار عرقي. هنا يأتي دور الدين والثقافة. الأسماء تهاجر مع الأفكار. ولتلافي التعميم في حالة شرقي المتوسط في العصر الروماني، يمكننا الحديث عن مجتمعات ثنائية اللغة، آرامية-عربية، في سورية الوسطى والشمالية، مع أكثرية عربية في الأردن وشمال الجزيرة العربية (الأنباط)".

وفي السياق، يفرق غزيلا بين لغة سريانية يسميها "القديمة"، وهي كما يقول لغة النصوص الدينية من العصور القديمة المتأخرة، ولم تكن لغة الكلام اليومي (لسان)، ولا يجب الخلط بينها، وبين ما يعرف بـ "السريانية الحديثة"، التي تشكّلت مع انتشار المسيحية في الشرق، والدالة على اللهجات الآرامية الشرقية المحكية حاليا في مناطق متفرقة من العراق والجزيرة السورية وجنوب تركيا، ويمكن مقارنة السريانية القديمة بالعربية الفصحى، التي هي لغة الأدب والتعليم والثقافة والدين، لكنها ليست لغة التواصل اليومي التي هي بالأحرى اللهجة الآرامية العامية التي كتبت فصارت تسمى "السريانية الحديثة". إن هذه الفكرة التي يقدمها غزيلا حول الفرق اللغوي واللهجوي بين العربية والسريانية يمكن استلهامها بشيء من الحذر عند الحديث حول المكونات العرقية المتجاورة والمتداخلة في المنطقة في العهدين الفارسي فالروماني بهدف رفض المنطق القومي الأيديولوجي المعاصر والساعي لفرض هوية عرقية واحدة هي السريانية أو العربية في حالتنا على سكان الممالك القديمة في هذه المنطقة وخصوصا في منطقة مملكة الرها. أما فيما يخص هوية مملكة الحضر الثقافية والسكانية فيبدو أن هويتها العربية كانت أكثر نضجاً ووضوحا، من دون أن يعني ذلك الشطب على موضوعة "الثنائية القومية واللغوية" تماما، فلغة الكتابة في مملكة الحضر كانت الآرامية، وخصوصاً وهي تحتل موقعاً وسطاً بين الرها شمالها والممالك العربية الأخرى جنوبها.

لقد عثر على دليل آثاري داخلي يؤكد عروبة الحضر، أو في الأقل يؤكد ما سماه هولغر غزيلا "الغالبية العربية" وقبلة توصل الباحثان العراقيان د. يوسف قوزي ود. محمد روكان في كتابهما "آرامية العهد القديم"، إلى هذا الاستنتاج فكتبا "وقد كان سكان هذه المملكة - الحضر - أخلاطاً من الآراميين والعرب ويبدو أن القبائل العربية كانت تشكل غالبية سكانها لذلك يطلق عليها اسم (عربايا)، أو ربما لأن ملوكها كانوا من أصل عربي. ص 30". عوداً إلى الدليل الآثاري والذي يمثله نقش وُجِدَ على تمثال الملك الحضري سنطروق ونصه بالآرامية: "صلما دي سنطروق ملكا دي عرب (ز-ك-يأ-) بر نصرو مريا بر نشريهب". وترجمته الشائعة هي: "تمثال (صلما / قارن مع صنم العربية) سنطروق، ملك العرب المنصورين/ الظافرين، ابن نصرو سيدي، ابن نشريهب". ولكني أتحفظ على عبارة "ملك العرب المنصورين/أو الظافرين" التي أرجحُ انها لم ترد حرفياً في العبارة الآرامية بل وردت "ملك دي عرب زكأ" وأعتقد أنها تعني، كما يوحي السياق، "ملك العرب الظافر"، دون أن أجزم بذلك لأنني لا أجيد اللغة الآرامية، ولكن المعنى العام المؤكد لعروبة الملك ورعيته لن يتغير كثيرا.

ثمة تمثال آخر للملك سنطروق مصنوع من حجر الحلان "الجيري" يؤكد ما تقدم ويضيف إليه غلبة العرب السكانية فقد دُوِّنت عليه بالآرامية في سطرين الحروف التالية:

1- ص.ل.م.أ. د.ي. س.ن.ط.ر.و.ق. م.ل.ك.أ. د.ي.

2- ع.ر.ب. ب.ر. ن.ص.ر.و. م.ر.أ.ي

وترجمتهما: تمثال سنطروق ملك العرب ابن نصرو سيدي.

وفي كِلا النصين، لا يمكن نسبة كلمة "العرب" إلى البادية أو الصحراء، كما يعتقد البعض ممن ينفون عروبة مملكة الحضر، بل إلى هوية السكان. وقريب من هذا الاستنتاج ما يورده د. قوزي الذي فسر كلمة عربايا في هامش له على ص، 45، م. س، قال فيه إنه آتٍ من سكانها المختلطين من الآراميين والبدو الرحل (رعاة غنم/ عِربايي).

مملكة الحضر في الأدب العربي قبل الإسلام

ومن الأدلة الثقافية التي تفيدنا في سياق تأكيد عروبة هذه المملكة الكاتبة بالآرامية، يمكن إيراد اهتمام المؤرخين والشعراء العرب في عصر الإسلام وما قبله بعدة قرون بقصة مملكة الحضر وملوكها، فقد ذكروها في أشعارهم، وسمّوا أشهر ملوكها؛ قال ياقوت الحموي (ت 1229) إن مؤسسها هو الملك الساطرون، وهي تحريف من "سنطروق" كما يرجح الباحث فؤاد سفر في الكتاب الذي ألفه بالاشتراك مع زميله طه باقر "المرشد إلى مواطن الآثار/ص33" ولكنه للأسف لم يبينِّ للقارئ معنى الاسم وجذره.

في هذا الكتاب ينقل لنا فؤاد سفر وصف الحموي لأبراج عاصمة الحضر الستين، وتفاصيل سقوط مملكة الحضر وتدميرها ومقتل ملكها الضيزن / سنطروق الثاني بأيدي جنود الملك الفارسي شاهبور بعد صمود رائع أمام جيوشهم. (يعتقد البعض أن سنطروق كلمة آرامية وتعني "الملك"، أما الضيزن العربية فمن معانيها؛ الحافظ الثقة، والمزاحِمُ غيره في أمر). وقد ذكر مملكة الحضر مؤرخون وأدباء عرب كثر منهم ابن قتيبة وابن إسحاق، وأورد أبو الفرج الأصفهاني وياقوت شعراً عربياً مقفىً لشعراء عرب من عصر ما قبل الإسلام منهم مثلا عمر بن آلة وفقَ رواية أبي الفرج الأصفهاني، أو جدي القضاعي حسبَ رواية ياقوت، كما نسبت الأبيات الى عمرو بن كلثوم، في رثاء الحضر وأهلها:

أَلَم يَحزُنكَ وَالأَنباءُ تَنمي

بَما لاقَت سَراةُ بَني العُبيدِ

وَمَقتَلُ ضَيزَنٍ وَبَني أَبيهِ

وَإِخلاءُ القَبائِلِ مِن يَزيدِ.

وبنو العُبيد - بضم العين - هم بطن من عشيرة سليح من قبيلة قضاعة القحطانية اليمنية. كما ورد ذكر مملكة الحضر في قصيدة للشاعر الجاهلي عَدي بن زيد العبادي التميمي (توفي سنة 587 م وكان شاعراً ومترجماً ودبلوماسيا، عربيا مسيحياً من أهل الحيرة) التي خاطب فيها النعمان بن المنذر عاهل مملكة المناذرة جنوبي العراق مذكراً إياه بمأساة الحضر وملكها الضيزن وشعبها، فهذه الإشارات الأدبية والتأريخية تؤكد الهوية العربية لمملكة الحضر وملوكها، بل إننا نضع أيدينا على إشارات في التراث العربي القديم على أن غالبية سكان الحضر وربما نخبتهم كانت من قبيلة قضاعة اليمنية كما يذكر مثلا ياقوت الحموي وفق توثيق فؤاد سفر، ومن قبائلها بني يزيد وبني عُبيد التي أجلاها  الغزاة الفرس والرومان من أراضي الحضر.

عوداً إلى موضوع العلاقة بين مملكتي الحضر والرها، وإيهما كانت تسمى عربايا، يمكن القول إن دليلاً آثارياً آخر ثم العثور عليه في أطلال مدينة الحضر ربما حسم الإجابة نسبياً على هذا السؤال وأكد أن مملكة الحضر هي عربايا نفسها. وهذا الدليل هو "لوح رخامي يحتوي نقشاً أنيقاً بالخط الآرامي يذكر اسم "الحضر" كمركز لمنطقة "عربايا" (مملكة عربايا). خلال فترة الاحتلال الفارسي البارثي، من القرن الأول إلى القرن الثالث الميلادي. والنقش معروض في المتحف العراقي في بغداد" وهو أيضا معروض بهذا التعريف على الموسوعات الحرة.

ولكن هذا النقش، بنص تعريفه الذي تقدم، والذي وردت فيه آن واحد كلمتا "المنطقة والمملكة"، قد يثير تحفظات وأسئلة من أخرى من قبيل؛ هل وردت عبارة "الحضر مركز لمنطقة ومملكة عربايا" نصاً وحرفياً في النقش، أم أن هذا التعريف هو مجرد استنتاج من قبل الطرف المعرِّف بالنقش؟ وعلى الإجابة على هذا السؤال - بعد الاطلاع على النص الأصلي وترجمته بدقة، تترتب نتائج مهمة على صعيد التعريف والتحديد الماهوي.

النفي الأيديولوجي للحضور العربي

إن مملكة الرُّها لا تختلف من حيث الهوية الحضارية كثيراً عن مملكة الحضر، على الرغم من احتمال غلبة الطابع الآرامي على الأولى، والعربي على الثانية، فأسماء ملوك الرها "الأباجرة؛ جمع أبجر" والتسميات الأجنبية التي أطلقت عليها تؤكد أنها على الأرجح كشقيقتها الحضر مزيج سكاني وثقافي من العرب والآراميين. وعلى هذا، فإنَّ الخلاف حول هويتها وهل هي عربية أم آرامية "سريانية" فقط ولا علاقة لها بالعرب، هو خلافٌ نافل ولا يخلو من شحنة أيديولوجية وعاطفية معاصرة ولكنها لا علمية. أما إضافة الفرس الآريين كمكون ثالث لسكان الحضر كما يفعل بيرتولينو (R. Bertolino)، فهو أمر لا يمكن القبول به بحثياً، فالفرس دخلوا المنطقة عدة مرات كجيوش غازية، شأنهم شأن الإغريق والرومان، لأراضي ممالك شعوب أخرى مختلفة عنهم لغة وانتماء عرقياً، ثم رحلوا عنها برحيل جيوشهم ولم يبق منهم سوى حالات فردية اندمجت في الموجود المجتمعي السائد.

نجد مثالاً على هذه النظرة الأيديولوجية القومية الباترة لدى هنري بدروس كيفا الذي يصف نفسه بالباحث الاختصاصي بتاريخ الأراميين، وهو من القائلين بأن مملكة عربايا تعني مملكة الرها لا الحضر، فهو ينفي أن تكون عبارة "ملكا دي عرب زَكّأ" الآرامية تعني "ملك العرب المظفّر" كما يقول منطوقها، بل تعني "ملك البادية المظفر" مع اعترافه بأن الرها بعيدة نسبيا عن الصحراء. وهو يعتقد أن "منطقة الحضر كانت تابعة جغرافيا لبيت عربايا التي يعتبرها الرها، وهذه الأخيرة لا تعني بلاد العرب تاريخياً وجغرافياً ولغوياً، كما يعتقد، بل تعني "البادية". بمعنى أن كيفا يحاول تحويل المعطى الإثني الصريح والمعبر عنه بكلمة "عرب" إلى آخر جغرافي محتمل وبعيد نسبيا عنها هو البادية أو الصحراء التي جاءوا منها وليس بسكانها.

 من الحجج التي يوردها كيفا أن القبائل العربية كانت تتنقل من الصحراء العربية الجنوبية إلى البادية السورية فعلاً، ولكنها لم تستقر في بيت نهرين وعاصمتها الرها في "بيت عربايا" ولهذا بقيت بيت عربايا آرامية! أما لماذا لم يستقر العرب في مملكة تحمل اسمهم – كما تزعم هذه القراءة - وظلوا يعيشون بمحاذاتها في الصحراء المجاورة لها، ولماذا نَسب الملك الحضري سنطروق المظفر نفسه الى العرب (أي البادية بقراءة كيفا) ولم ينسبها الى الآراميين أو إلى مملكته الحضر، وماذا عن سلسلة ملوك الرها (الأباجرة) وغالبية أسمائهم العربية؟  فهذا ما لم تفسره لنا هذه القراءة.

ويضيف كيفا حجة أخرى يصفها بالجغرافية فيقول "لقد أطلق علماء التاريخ والجغرافيا القدامى من اليونانيين تسمية " بلاد العرب "على المناطق الواقعة جنوب سوريا وشرقي نهر الأردن وليس على المناطق الواقعة قرب الرها أو نصيبين"، ما قد يعني أن بلاد العرب لا تشمل وادي الرافدين ولا منطقة أعالي الجزيرة الفراتية. وعبثا يحاول السيد كيفا إبعاد العرب عن مملكته الخاصة بكل الوسائل، فإذا ما علمنا أن هذه المنطقة التي نسميها بلاد الشام وسهول بلاد الرافدين حتى منطقة الحضر وشمالها الرها هي منطقة مفتوحة لا عوائق طوبوغرافية فيها، تعزل أجزاءها عن بعضها، وهي مفتوحة تماما على شبه الجزيرة العربية، وهي أيضا صفيحة تكتونية واحدة تمتد من جبال طوروس شمالاً وحتى البحر العربي وساحل حضرموت جنوبا وتسمى الصفيحة التكتونية العربية (Arabian tectonic plate)؛ وإن الكيانات السياسية التي نشأت فيها منذ أقدم الأزمان كانت تتسع أحياناً لتشمل هذه المنطقة كلها بل وتعبر أحياناً صحراء سيناء نحو وادي النيل كما حدث في عهد الآشوري آسرحدون سنة 673 ق.م، وتضيق أحياناً أخرى في عهود انحطاطها وضعفها فتنكمش إلى حدود عواصمها الأولى؛ إذا ما علمنا كل هذه الحيثيات، أصبحت وجهة النظر النافية لعروبة مملكة الحضر متهافتة ولا معنى لها، وبالمثل لا يمكن القبول بالشطب على الوجود العربي الممتزِج والمتداخل مع الوجود الآرامي في مملكة الرها.

عوداً إلى ملوك مملكة الرها، فلا يمكننا الجزم في ما إذا كانت كلمة "أبجر وجمعها أباجرة" التي تَسمى بها أحد عشر ملكا من ملوكها هي اسم لسلالة عرقية أم اسم علم ملكي لجدهم أبجر الأول (68-92 ق. م)! فكلمة أبجر - بالجيم القاهرية غير المُعطشَّة- يمكن أن تكون آرامية مثلما يمكن أن تكون عربية فهي تعني بالآرامية "الأعرج" وبالعربية "البطين"، كما يخبرنا كاتب آخر هو جورج شمعون.

ويضيف شمعون معلومة أخرى مفادها أن هناك مزاعم أرمنية بأن "مؤسس مملكة الرها هو أبكار وهو مرادف لأسم "ابجر". وينقل عن مؤرخ أرمني هو موس الخوريني قوله: إنَّ أرشام بن أرتاشيس من آل الملك ديكران الكبير جلس على عرش المملكة عام 33 ق. م. وحكم الرّها مدة ثلاثين عاماً. ولكن مؤرخاً، يسميه "روبانس"، نفى هذه المزاعم ووصفها "بأنها حكاية مزورة لفقوها ترويجاً لبضاعتهم"! 

باختصار، يمكن الاتفاق مع جورج شمعون على أنَّ هوية مملكة الرها هي مملكة آرامية لغةً، بدليل أن غالبية الآثار والكتابات التي عثر عليها فيها كانت باللغة الآرامية السائدة. وسيادة اللغة لا يمكن اعتبارها دليلاً حاسماً على السيادة العرقية لأهل اللغة فالآرامية كما قلنا كانت لغة الدولتين الفارسيتين "الأخمينية والبارثية"، أما أسماء الملوك فهي مزيج بين العربية والآرامية (بينهم ملوك بأسماء عربية بحتة كعبدو وبكرو ومعنو وأبجر، وأخرى آرامية كأريو وسومقا)، وهذا ما يجعلنا نميل إلى مقولة الهوية الثنائية الآرامية العربية للملكة، مثلما كانت حال النسيج السكاني كله لمنطقة الجزيرة الفراتية في شمالي بلاد الرافدين. لقد كان هذا الإقليم على الدوام منطقة وسيطة بين دولتي فارس والرومان المتصارعتين في حروب دامية وطويلة، فدفعت ثمن باهظا لهذا الصراع الطويل بينهما واستهدفها الطرفان بالاضطهاد والحروب المستمرة، مع غلبة نسبية ومتصاعدة للحضور العربي كلما توجهنا نحو جنوب الجزيرة الفراتية وللحضور الآرامي كلما توجهنا نحو شمالها.

نعلم أيضاً أن "الملك أبجر الخامس (أبْگر حَميشويو) قد عاصر يسوع المسيح وراسله، ومن ثم اعتنق المسيحية على يد "مار أدي" أحد التلاميذ الاثنين والسبعين وفقاً للتقليد الكنسي وفي سياق معجزة دينية مشهورة شعبيا، تحسب ضمن باب المرويات ذات النكهة الأسطورية الشعبية الكثيرة، والتي لا يمكن البت بصحتها منهجيا. ولكن الثابت هو أن مملكة الرها أصبحت أول دولة مسيحية في التاريخ في عهد الملك أبجر التاسع في القرن الثاني الميلادي كما يرى بعض الباحثين، سابقةً تنصر الإمبراطورية الرومانية بقرن تقريبا.

يُفهم من الإحداثيات الكرونولوجية المسجلة أن المملكتين - الرُّها والحضر - قد تزامنتا لفترة قصيرة، ثم زالتا من الوجود بفرق زمني قد لا يتجاوز العام الواحد. وهناك معلومات تأريخية أخرى تؤكد أن المملكتين تحالفتا في فترة تاريخية معينة مع إمارة حيداب ومركزها أربيل وحاكمها المتهوِّد إيزاط الأول سنة 194م، لمواجهة الهيمنة الرومانية وانتهت تلك المواجهة بهزيمة الحلفاء وتحويل مملكة الرها شبه المستقلة إلى ولاية رومانية تابعة.

إن القول بالكيانية الجغرافية المتحولة إلى أخرى حضارية تأريخية ثنائية أو مختلطة السكان عرقيا، لا يعني - إذا كان الحديث هنا عن العرب والآراميين في مناطق الجزيرة الفراتية - أي تأكيد أو تأييد لما يزعمه بعض المعاصرين لوجود سكاني أو ثقافي آشوري وكلداني، فالآشوريون والكلدان كيانات حضارية وسياسية انتهت بانتهاء دولها الإمبراطورية البائدة، وذابت كشعوب في شعوب وأمم أخرى طالعة، ولا يمكن من الناحية العلمية جعل الآراميين السريان امتدادا عرقيا للآشوريين أو الكلدانيين القدماء أو العكس في عصرنا، ولأسباب سياسية وأيديولوجية، وهذا موضوع يستحق مقاربة منهجية علمية مفصلة أخرى مستقبلا.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

الغرض من هذه الكتابة هو استدراك ما فات تبيانه في مقال الأسبوع الماضي. وعلّته أن زملاء أعزاء وجدوا فكرة المقال غير مقنعة، كما شكك آخرون في أهمية هذا النوع من «السوالف العتيقة» كما قالوا.

والحق أن قصة الطبيعة البشرية، أي سؤال: هل الإنسان صالح بالطبع أم فاسد بالطبع، عتيقة جداً. فقد وردت في كتابات أفلاطون الذي عاش قبل 2300 عام. وظهرت في كتابات فقهاء وفلاسفة مسلمين في القرن الحادي عشر الميلادي. ثم تكررت في نقاشات الفلاسفة وعلماء السياسة في القرون الوسطى. لكنها لم تخسر أهميتها في العصور الحديثة. بل أن غاري ماديسون رأى أن أي نظرية في الفلسفة السياسية، هي بصورة مباشرة أو غير مباشرة، نظرية حول طبيعة الإنسان ذاته. وقد ذكرت في دراسة سابقة، أنني أميل لرؤية فيها تعديل على رأي البروفسور ماديسون، وخلاصتها أن أي نظرية في علم السياسة أو في الفقه أو القانون، يجب أن تقام على موقف مسبق من طبيعة الإنسان. بمعنى أن على المشرّع أن يقرر الأساس الذي يبني عليه: هل يتوجه بتشريعه لبشر طبيعتهم صالحة خيرة، أم العكس؟

بيان ذلك: حين يفكر المشرّع في مواد القانون الذي يريد وضعه، يضع نصب عينيه الغاية التي يستهدفها هذا القانون. فالمشرّع الذي يحمل رؤية متفائلة إزاء طبيعة البشر، سوف يصدر قانوناً ليناً، يستهدف في المقام الأول تمكين الناس من تحصيل حقوقهم، وحيازتها بيسر وسلام.

وسيحدث العكس حين يحمل المشرّع أو الفقيه رؤية متشائمة، أي حين يكون معتقداً بأن الناس أميل للفساد، فهو حينئذ سيجعل غاية القانون وغرضه الأساس، تضييق الثغرات التي ربما يستغلها الفاسدون والعابثون. وبالتالي سيأتي خشناً معقداً، لا يمكّن الناس من حقوقهم إلا بعد ألف تحقيق وتحقيق.

بعبارة أخرى، فإن النوع الأول يفترض أن الناس طيبون، وأنهم حين يدّعون حقاً، فهم في الغالب صادقون، وأن دور القانون هو مساعدتهم. أما الثاني فيفترض أن الناس فاسدون، وحين يدّعون حقاً فإنهم في الغالب يسعون للاستحواذ على حقوق غيرهم، أو أن الجشع يحملهم على أخذ ما يزيد على حقهم. ولذا؛ تجب الحيلولة دون وصولهم إلى الحق المزعوم قبل التحقيق والتدقيق.

أعلم أن كثيراً من الناس يميل إلى الرأي الثاني. وقد قرأت عشرات الأمثلة التي ضربها قراء وزملاء لتأكيد هذا الرأي. أما أنا فأميل للرأي الأول، ولدي دليل واحد فحسب، وهو موقفك أنت عزيزي القارئ. أدعوك للتوقف لحظة وسؤال نفسك سؤالين، وأنت تعرف جوابهما، وفي هذين الجوابين يكمن الدليل على ما زعمته.

السؤال الأول: لو عقدت مقارنة افتراضية، بين عدد الفاسدين الذين تعرفهم وعدد الصالحين الذين تعرفهم. هل ترى أن عدد الفاسدين سيكون أكبر أم العكس؟

السؤال الآخر: ألقِ نظرة على تاريخ البشرية خلال ألف عام، هل تراها تقدمت أم تأخرت... على صعيد القانون والتكنولوجيا وتوافر الغذاء والدواء ورعاية الأطفال وكبار السن والتواصل وانتشار العلم والمعرفة... إلخ. هل يمكن للفاسدين أن يصنعوا هذه التحولات العظيمة. إذا كان الجواب نعم، فينبغي أن تكون السجون مصدر العلم والاختراع، وليس الجامعات ومراكز البحث والمصانع والمختبرات. فهل هذا ما حدث فعلاً؟

بعد هذا دعنا نتحدث انطلاقاً من مصلحتنا كأشخاص عاديين: ما هو الأصلح لي ولك وما الذي نريده لأنفسنا: أن يعاملنا القانون كأشخاص صالحين يريدون العيش بسلام، أم كأشخاص فاسدين يبحثون عن ثغرة كي يفسدوا عالمهم؟.

هل أمثّل أنا وأنت وعشرات الأشخاص الذين نعرفهم، نماذج عن ملايين الناس الذين يعيشون على هذا الكوكب، أم أن الله اصطفاك وبضعة ممن تعرفهم، دون بقية خلقه؟.

***

د. توفيق السيف - كاتب وباحث سعودي

تعتمد هذه المقاربة التأريخية التحليلية مفهوم "الهوية الحضارية/ الثقافية" بمحتواه الإناسي "الانثروبولوجي" للدول والمجتمعات موضوع البحث، في تعارض جوهري مع مفهوم "الهوية القومية" بمحتواه العرقي "الإثنولوجي". وعلى هذا المفهوم "الحضاري /الثقافي" ينبني تعريفنا لهويات مجتمعات ودول سادت ثم بادت في شمال العالم العربي الآسيوي، وتحديدا في منطقة الجزيرة الفراتية الممتدة من جنوب جبال طوروس شمالا ونزولا حتى خط الفلوجة تكريت شمال بغداد. ومع هذا التعريف سنعالج موضوعتنا القائلة إنها دول ومجتمعات تعددية، متنوعة (وثنائية التكوين أحياناً) من حيث النسيج السكاني والهيمنة الهوياتية الفعلية - التي قد تخف أو تكثُف تبعاً لتبعات العامل الجغرافي / البيئي - على الدولة والمجتمع المعني وفي إطار تحول الكيانية الجغرافية إلى أخرى سياسية وحضارية وبالعكس.

بين الإناسية والعرقية

معنى ذلك، إننا لا نأخذ مقولة الهوية الحضارية بماهيتها العرقية التي سادت وشاعت في العصر الحديث، وتحديدا خلال القرنين الماضيين، تحت تأثير الفلسفات والنظريات الغربية وبخاصة الألمانية، ففي الشرق القديم وحتى الوسيط، تنعدم حالات الصفاء العرقي أو "النقاء الرِّسي" في تلك الممالك البائدة. وعلى الأرجح، فلم تكن هذه الحالات والنَّزَعات تهم الشعوب القديمة ودولها كثيرا في غابر الأزمان على الرغم من الحروب والصراعات المديدة بين شعوب وأمم تلك العهود حول الأراضي الخصبة الغنية بالماء والغذاء أكثر منها حول الأصول والأعراق، بل سجلنا عدة حالات تخلت فيها بعض الشعوب غير الجزيرية السامية كالحيثيين والميتانيين عن لغاتها القومية ودياناتها، واتخذت الأكدية أو الآرامية والآلهة الرافدانية لغة وآلهة لها،  طوعا أو تماشيا مع موجبات الاندماج المجتمعي والحضاري الدائب واتخذت، الآرامية أو غيرها لغة لها، واندمجت في الأمة السائدة أو الأكثر إنجازات حضارية؛ وقبلهم سجل التاريخ حلول الأكديين محل السومريين - هذا إذا تأكد وجود الأخيرين المشكوك به كشعب - وجاء الأموريون من البادية بين العراق وبلاد الشام - ليسودوا في جنوب الرافدين ويقيموا دولة سلالة بابل الأولى (بين 1894 و 1531 ق م)،وينبغ منهم الملك حمورابي ثم ذابوا وانقرضوا في شعوب الوادي العراقي القديم. لقد أمست الهوية العنصرية العرقية ومشمولاتها من نقاء الدم وصفاء العنصر شيئاً من الماضي في سهول الشرق المفتوحة بفعل سلسلة الهجرات وعمليات التهجير والسبي الجماعي والغزوات والحروب وكوارث الجفاف والفيضانات الطوفانية وحالات الاندماج التي حدثت ومزجت الوجود السكاني المشرقي مزجا شديدا طوال آلاف السنوات، ولكن هذا النقاء أو الصفاء الرِّسي ظلَّ عزيزا على قلوب القوميين المعاصرين وهو يستيقظ لأسباب كثيرة أغلبها مفتعل وذو نكهة سياسية أيديولوجية أو أنه يأتي كرد فعل دفاعي على الغزو الاستعماري الأوروبي الغربي الدموي الاستئصالي طوال القرون الثلاث الماضية وما يزال مستمرا في عصرنا بأشكال ناعمة وأخرى شرسة. 

إن القوميين المتشددين المعاصرين من أبناء الأقليات القومية كالذين ينسبون أنفسهم إلى الهويتين الآشورية والكلدانية، والذين ينفون أي مظهر حضاري له علاقة بالعرب في هذه الممالك والإمارات البائدة يمكن اعتبارهم الضد النوعي العاطفي شكلا للقوميين العروبيين الذين يعتبرون كل الشعوب الجزيرية "السامية" بدءاً من الأكديين ومروراً بالآشوريين والكلدانيين وانتهاء بالآراميين عربا لا يجوز التشكيك بعروبتهم، بل أنهم أحيانا لا يستثنون من حملاتهم التعريبية حتى الأقوام والشعوب غير الجزيرية "السامية" كالكرد والأمازيغ وغيرهم. غير أن هاتين الرؤيتين "القوميتين"، المتخاصمتين مظهراً تنطويان على جوهر واحد نواته النزعة الأيديولوجية النفسية الشاطبة على التنوع والتعدد السلالي الجزيري، والساعية إلى تسييد لونها ونمطها القومي الخاص دون سواه، وهذا منطق يمكن وصفه من دون تردد بأنه لا تأريخي ولا علاقة له بالعلم وشؤونه.

إن َّهذه النظرة الواقعية إلى مفهوم الهوية الحضارية المركبة، ليست ابتكارا جديدا، بل يمكن أن نجد جذروها الحقيقية في ما عبر عنه عدد من الباحثين المعاصرين، منهم مثلا العلامة العراقي طه باقر في كتابة "مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ج1- الوجيز في تاريخ حضارة وادي الرافدين"، حيث كتب في هذا الصدد: "إن ما سنذكره عن الأقوام التي استوطنت وادي الرافدين وأسهمت بالأدوار الرئيسة في بناء حضارته سيقتصر بالدرجة الأولى على الجوانب اللغوية وليس بما يطلق عليه الجنس أو "الرِّس" (RACE) - ص 73". ومعلوم أن المعطى اللغوي ينتمي إلى الفضاء الثقافي الحضاري الأوسع وينأى عن المعطى العرقي السلالي الضيق.

ولكننا سنحاول تطوير وتنمية هذا المفهوم، لنعطيه مضموناً مادياً تاريخياً أكثر سعة وعمقاً، عَبْرَ ربطه بسياقه التاريخي الواقعي الموثق بما توفر من أدلة حاسمة سواء كانت آثارية وإناسية وتأريخية في محاولة للخروج من الإطار الضيق لمفهوم الهوية الحضارية وتوسيعه إلى الحد الذي يسمح لنا بتتبع التدرجات في تلك الهيمنة وفي محتوى الهوية وتحولها الى هوية تعددية بما يؤكد حقيقة التدامج والامتزاج بين مكونات منطقة الجزيرة الفراتية موضوع البحث.

لنبدأ بالأسماء العَلَمية، ولنلقِ نظرة فاحصة على الاعتقاد القائل بأن "بيت نهرين" وترجمتها اليونانية والرومانية "ميزوبوتاميا" قد أطلق على مملكة الرُّها دون غيرها، وإنه لم يعنِ يوما بلاد الرافدين "العراق القديم". ومع إننا كنا قد فصلنا في هذا الموضوع في مناسبة سابقة (الأخبار 1 تموز 2022)، ولكن لا بأس من التذكير بخلاصته التي تهم بحثنا هذا بعد تنقيحها: إن عبارة "آرام نهرايم"، كما يرى طه باقر (م.س - ص24)، هي عبارة آرامية، وردت في التوراة وتعني أرض النهرين. وأقدم منها، وجدت عبارة أكدية بابلية بذات المعنى هي "مات بريتيم" وترجمتها الحرفية هي "أرض الما بين"، وأصبحت لاحقاً تعني الجزء الشمالي من بلاد ما بين النهرين الممتدة - كما أسلفنا- بين جبال طوروس وحتى الخط الممتد بين الفلوجة وتكريت شمال بغداد والتي تسمى غالبا منطقة الجزيرة. وهناك أيضاً مصطلح "بيت نارم" (ما بين النهرين)، ومصطلح "نهارينا" الذي أطلق على المملكة الميتانية التي بلغت أوج قوتها حوالي سنة 1350 قبل الميلاد، في منطقة الجزيرة ذاتها كما ورد في رسائل تل العمارنة.

وبعد ترجمة التوراة إلى اليونانية في ما سمي الترجمة السبعينية، أخذ الإغريق عبارة "ما بين النهرين" وترجموها الى لغتهم فكانت "ميزوبوتاميا"، وبعد الإغريق جاء الاحتلال الروماني للمنطقة فأمست ميزوبوتاميا اسما لاثنتين من المقاطعات "المحافظات" التابعة للإمبراطورية الرومانية في بلاد الرافدين، إحداهما ظهرت لفترة قصيرة أثناء حكم الإمبراطور تراجان بين عاميّ 116 و 117 م، والأخرى أسّسها الإمبراطور سيفيروس حوالي العام 198 م، أما آسوريا (بلاد آشور) والتي اختزلت لاحقا إلى "سوريا" اختزال الكل الى الجزء، فقد أطلقها الرومان على ما سماها العرب بلاد الشام أو على شرقها تحديدا. وبعد ترجمة التوراة اليونانية السبعينية إلى اللغات الأوروبية الأخرى اتسع مدلول الكلمة (ميزوبوتاميا) كترجمة حرفية لما بين النهرين وتحول من معنى القسم الشمالي من بلاد ما بين النهرين ليعني البلاد كلها. وظل هذا الاسم بهذه الدلالة حتى عودة اسم العراق الحالي في عصر ما قبل الإسلام (عصر الاحتلال الفارسي الساساني)، واسم العراق تعود جذوره إلى العصر الآشوري وفي حوالي القرن الثامن قبل الميلاد بلفظ "آراكيا" كما كشف الباحث أولمستيد في كتابة "تاريخ آشوريا" ثم صار مرادفا له بصيغة بلاد الرافدين.

جدلية الكيانية الجغرافية والأخرى السياسية

إن الخلل في النظرة "التعقيمية/ الاستئصالية" الحاذفة للآخر إلى هوية وماهية الدويلات القديمة في المنطقة، إذا وضعنا جانباً الدافع النفسي والأيديولوجي الكاره للعرب والمحاوِل الشطب على اسمهم وحضورهم الحضاري قديماً وحديثاً بهدف تقديم هوية جديدة أو قديمة أعيد طلاؤها وفرضها قسراً على الماضي والحاضر، ينبع أساساً من عدم إدراك كُنْهِ العلاقة الجدلية بين الكيانية الجغرافية والأخرى الثقافية/ الحضارية في سياقهما التطوري، وتفاعل هاتين الكيانيتين، وتحول إحداهما إلى الأخرى بمرور الأزمان. فالبعض، ممن يجهل طبيعة هذه العلاقة، يشطب على الوجود العرقي لشعب ما، ويعتبر الاسم الموجود دالّاً على الكيانية الجغرافية فقط ودائما، وقد حدث هذا فعلا حتى مع الكنعانيين الذين قيل إنَّ اسمهم لا يدل على شعب بهذا الاسم بل على المنطقة "المنخفضة" التي عاشوا فيها، وحدث مع الآراميين أنفسهم حيث أنكر بعض الكُتاب وجود شعب بهذا الاسم في شمالي بلاد الرافدين واعتبره مشتقاً من "أور رمثا" أي الأرض المرتفعة، بل إنَّ هناك مَن أنكر وجود شعب باسم الآراميين واعتبر الكلام عنهم تلفيقاً من مؤرخين غربيين "متآمرين" لأغراض سياسية (فاضل الربيعي مثلا، في مقالته "خرافة الشعب الآرامي وتخريب تاريخ فلسطين القديم/ موقع الجزيرة 19 كانون الأول 2017")، وهذا كلام يُلقى على عواهنه ولا يصح منهجياً كما سنرى.

إن الدليل على وجود هذا الخلل في معالجة موضوع الكيانيات الجغرافية والأخرى الحضارية نجده مثلا في عرض تحولات اسم "بيت نهرين" الذي يقدمه هنري كيفا نفسه في مقالة له. فالملفت أن كيفا يؤكد في إحدى الفقرات التي يقدمها لتحولات اسم بيت نهرين، وربما دون أن يعلم، بقِدَمِ اسم بيت نهرين وكونه يسبق قيام مملكة الرها بعدة قرون. تقول الفقرة: "وقد عُثر على لوحات فخارية تذكر أسماء بعض العبيد الذين قدموا إلى بابل من مدن، تقع في بلاد (مات بيريتم)، وفي كتابة أخرى (مات ناريم). ويضيف؛ "وقد أثبت العالِم جاكوب جي فنكلشتاين في بحثه أن هاتين التسميتين هما التسميتان الآكاديتان اللتان أطلقتا على بيث نهرين قديماً / مقالة بعنوان - بيت نهرين؛ تسميتها موقعها وحدودها/ موقع الآرامي الديموقراطي".

ومعلوم أن الدولة الأكدية يعود تاريخ تأسيها على يد سرجون الأكدي (حكم من 2334 حتى 2284 ق.م) الى القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، أما مملكة الرها فتأسست بعدها بواحد وعشرين قرنا، وبالضبط في 132 ق.م، وزالت من الوجود بعد 180 عاما؛ فهل يعقل أن يطلق الأكديون اسم بيت نهرين على مملكة ستنشأ بعد أكثر من ألفي عام، أم أن المنطق العلمي يقول إنَّ الآراميين ورثوا هذا الاسم الأكدي للمنطقة (للكيانية الجغرافية) التي هاجروا إليها والتي تقع فعلا بين نهرين مثلها مثل بلاد الرافدين الأكبر والأقدم، مثلما ورثوا أسماء الأنهار والروافد وهي أسماء أكدية مثل الفرات وبليخ والخابور؟

هوية مملكتي الحضر والرُّها

 يخلط بعض الباحثين المعاصرين - للأمانة العلمية، فقد وقع كاتب هذه السطور في هذا الخلط حين أورده مقتبساً عن بعض المصادر دون تحفظ أو تفحص نقدي (الأخبار - عدد 27 نيسان 2022)، يخلطون بين مملكتين قديمتين نشأتا في شمال بلاد الرافدين (الجزيرة الفراتية)، ويطلقون على كل منهما مملكة "عربايا"،  وتعني وفق التفسير الأشيع "العربية"، وهما مملكة الرُّها / أورهاي / أسروينا / أدمة (عمَّرت بين 132 ق م، و214)، وتقع اليوم داخل حدود تركيا المعاصرة، ويسمونها باللغة التركية "أورفا"، ومملكة الحَضَر جنوب الموصل في العراق (عمَّرت أقل من قرن بين 185م و241م). فهل نحن إزاء مملكة واحدة أم مملكتين مختلفتين، أم أن هذا الاسم يشمل هذه المنطقة ككيانية جغرافية واحدة نشأت فيها هاتان المملكتان اللتان يصفهما بعض الباحثين بالعربيتين، فيما يصفهما البعض الآخر بالآراميتين والسريانيتين وينفي أي علاقة لهما بالعرب؛ فما هويتهما وموقعهما الجيوسياسي بين الدول العربية وغير العربية القديمة شمال الجزيرة العربية في ذلك العصر كدول الغساسنة والمناذرة وكندة وتدمر وسلع "البتراء"؟

وردت كلمتا عربي وعربايا بملفوظات مختلفة في الكتابات المسمارية الرافدانية، فكلمة عربي، كما يخبرنا عبد الحق فاضل في كتابه "مغامرات لغوية ص 17"، ترد بالملفوظات التالية: عَرَبي – عَرْبي – عُرْبي – عرِبي -  عَرُبي. ونضيف أنها وردت أيضا بلفظ "آريبي /آريبو" في اللغات التي ينعدم فيها حرف العين. أما الصفة، التي ربما تطورت إلى اسم علم للمنطقة فوردت بلفظتين: عَرَبيا – عرابايو. كما وردت في اللغة الآشورية بلفظة آريبو كصفة لقائد حربي هو "جنديبو آريبو/ جندب العربي" الذي شارك بجيشه من الهجانة على الجمال في معركة قرقرة سنة 853 ق.م، ضمن تحالف من أثني عشر ملكا لدولات المدن بقيادة الملك الآرامي بن حدد الثاني ملك دمشق، ضد جيش الإمبراطورية الآشورية بقيادة الإمبراطور شلمنصر الثالث. وما يهمنا هما لفظتا عربايا وعرابايو واللتان تدلان على مسمى أو موصوف واحد، وقد يكون هو نفسه، أو شبيها بالذي أطلِقَ على شبه الجزيرة العربية في عصر الفتوح الاستعمارية وربما قبله بكثير ودخل في القواميس الجغرافية والسياسية بلفظة "العربيا" (Arabie/ Arabia) وما يزال مستعملا حتى الآن.

 يمكن القول إنَّ المعطيات التاريخية والجغرافيا والآثارية تؤكد وجود مملكتين مستقلتين إحداهما عن الأخرى؛ الأولى والأقدم هي مملكة الرها "أورهاي"، فأول ملوكها هو أريو (132-127) ق.م، وآخرهم أبجر العاشر إبراهاط (يقرأه بعض الباحثين فرهاد) بن معنو242-240 م، وقد حكم بالاسم فقط تحت الهيمنة الرومانية، والثانية والتي نشأت بعد الميلاد هي مملكة الحضر وأول ملوكها ولجش (158- 165 م) وآخرهم الملك سنطروق الثاني بن عبد سميا/ والأدق؛ عبد سميسا، نسبة إلى الرايات المقدسة التي كانوا يسموها الـ "سميسا" التي كانت من معبوداتهم (200-241 م).

لا يقتصر الأمر على مملكة الرها في هذه المنطقة، بل ثمة العديد من الممالك والإمارات الأخرى الناطقة بالآرامية، يحصي منها طه باقر ست ممالك أو إمارات مدن هي: نهرايا "أرام نهرين"، فدان آرام ومركزها حران، آرام صوبة، آرام معكة في جبل الشيخ، آرام دمشق، دولة سمأل "الشمال" في إقليم زنجرلي، إضافة إلى هذه الممالك والإمارات ثمة أخرى أصغر مساحة وأقرب الى المشايخ والبيوتات منها: بيت أغوشي، بيت بحياني، بيت أديني وغيرها"/مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة. م.س - ص 543. أما الباحث الهولندي وأحد الأسماء اللامعة في حقل الدراسات الآرامية، البروفيسور هولْغَر غزيلا (Holger Gzella) فيذكر الإمارات الآرامية الأولى في الفرات الأوسط من دون أن يذكر بين نهرين بينها وهي تيمانا، بيت بحياني، بيت زماني، بيت عديني، والإمارات الشمالية بيت أغوشي، يأدي، والإمارات الوسطى والجنوبية حماة، دمشق، صوبا، رحوب، ومعكا- مقابلة معه / موقع ضفاف 18 كانون الأول 2017.  وقد فشلت هذه الممالك والإمارات في أن تتوحد في دولة قوية وتعرضت جميعها للسحق والتهجير من قبل الدولة الإمبراطورية الآشورية المجاورة لها وخصوصا في عهدي ثجيلات بلازر وشليمانصر ثم إلى الاحتلالات الفارسية فالإغريقية فالرومانية حتى جاء عهد الفتح والتحرير العربي الإسلامي.

ولكنَّ الآراميين رغم هذا الفشل سياحضاري، نجحوا - كما يسجل طه باقر وآخرون - في إنتاج تراث ثقافي ولغوي عريض فاق تراث جميع الأمم والشعوب السابقة لهم في المنطقة، حيث تحولت اللغة الآرامية إلى لغة دولية في شمال غربي آسيا، وأنجزوا الثورة الكتابية الثانية بعد أن أنجز الرافدانيون الجنوبيون الثورة الأولى بابتكارهم الكتابة المسمارية على الطين، أما الثانية فكانت الانتقال الى الكتابة الأبجدية على ورق البردي وجلود الحيوانات وقد أصبحت اللغة الآرامية هي لغة العلم والثقافة والدولة منذ الدولة الأكدية الحديثة " الكلدانية" واستمرت خلال فترة الاحتلال الفارسي لبلاد الرافدين والشام وبلوغه وادي النيل.

أما نسبة ابتكار الكتابة على الجلود وورق البردي إلى الدولة الفارسية في زمن داريوس الأول، كما ذكرنا سهوا ذات مقالة، فليس صحيحا، بل إن هذه الدولة استعملت الإنجاز الآرامي الموجود قبلها، وحدث ذلك بموجب قرار الملك الفارسي باتخاذ الآرامية لغة رسمية للدولة/آرامية العهد القديم. ص24 - د. يوسف متي قوزي. وفي عهد داريوس كان اليهوذاويون المسبيون في بابل، قد تخلوا عن أبجديتهم القديمة وكتبوا أجزاء من التوراة وخاصة سفر عزرا وأجزاء من سفر دانيال باللغة الآرامية وأبجديتها ذات المربعات. وماتزال هذه الطريقة في الكتابة قائمة حتى اليوم (ويسمونها في "إسرائيل" الحروف العبرية المطبعية وينكرون أنها آرامية).

وفي السياق، فمن المؤسف حقا أن يخضع بعض العرب والآراميين المعاصرين للابتزاز الصهيوني فيتخلون عن استعمال هذه الأبجدية الآرامية المربعة وعن اسمها - كما حدث في المعهد العالي لتعليم اللغة الآرامية في بلدة معلولة بسوريا قبل سنوات قليلة. لقد تراجع المعهد السوري المذكور عن اعتماد الأبجدية الآرامية المربعة لأن الصهاينة في الكيان - كما قيل في التبرير- استولوا عليها ونسبوها لأنفسهم، وكان الأجدر بالقائمين على المشروع أن يتمسكوا بأبجدية أجدادهم ويفضحوا لصوص الحضارات الصهاينة المعاصرين لا أن يتحولوا عنها إلى أبجدية إحدى لهجاتها وهي الأبجدية التدمرية الأحدث عهداً، فهذا أمر لا يمكن وصفه إلا بالخضوع للابتزاز الصهيوني واستسلام مجاني له.

إن كتابات اليهوذاويين المسبيين في بابل القديمة، والتي يسميها د. متي قوزي "العبرية" لم تكن "عبرية" إلا على سبيل التشبيه والمجاز؛ فالتوراة نفسها كانت تسمي اللغة تكلم بها بنو إسرائيل في فلسطين "شفة كنعان" أي اللغة الكنعانية، أما ما يسمى باللغة العبرية (لاشون عبريت = اللسان العبري)، كما تكتب الباحثة الجزائرية هاجر شيخي في دراستها الموسومة "الكنعانيون وتأثيرهم على اليهود /ص 41"، فلم تظهر كمصطلح إلى الوجود إلا مع البدء بتدوين المشناة "المثنى" كتفاسير توراتية في القرن الثالث الميلادي، وتخلُص شيخي إلى أن العبرية هي في الحقيقة لهجة من لهجات اللغة الآرامية، ورغم تسميتها اللغة العبرية فهي لم تكن لغة "جميع العبريين" بل لغة فرع منهم هو فرع بني إسرائيل (أبناء يعقوب).

والملفت أن الباحثة شيخي، وبعد كل ما أوردته من معلومات دقيقة عن اللغة والكتابة الكنعانيتين، تعود لتستعمل عبارة "الخط العبري" و "الكتابة العبرية" و "القلم العبري" على الصفحة ذاتها، ومن دون أن توضح إن كان الأمر يتعلق بلهجة عبرية اتخذت الكتابة الكنعانية قلما لها أم لا! ولكنها، ولحسن الحظ، تعود في خاتمة بحثها لتسجل الحقيقة الآتية: "تفرعت اللغة العبرية من الفروع السامية القديمة ومنها الأوغاريتية وسائر اللغات الآرامية القديمة وتدوين التوراة باللغة الآرامية، إذ إنهم لم يستعملوا غير لغة الكنعانيين في مراحلهم التاريخية، والتي صاغتها التوراة فيما بعد إلى ما سمي بلغته العبرية مستمداً حروفه من الحروف الأبجدية الآرامية المربعة - ص 43". أما آثارياً، فالأمر أكثر وضوحا؛ إذْ أن جميع الأدلة التي عثر عليها العلماء "الإسرائيليون" وغير الإسرائيليين في عصرنا، وهي شحيحة ونادرة أصلا، تؤكد أن حروف ما سمي باللغة العبرية القديمة لم تكن تختلف في شيء عن الأبجدية والحروف الكنعانية الأم، شأنها شأن لهجات كنعانية عديدة أخرى كالفينيقية والعمونية والمؤابية والأدومية.

وقبل أن ننتقل إلى الفقرة التالية لنتذكر أن بيت نهرين أو نهاريا قد ورد اسمها كواحدة من الممالك الآرامية في الشمال وهي ليست أعظمها قدرا وقيادة فالقيادة كانت منوطة تأريخياً بمملكة آرام دمشق وملكها الشجاع بر هدد "بن حدد" الذي قاد حرب التصدي للغزو الآشوري.

أما من ناحية الهوية الحضارية "الثقافية" للمملكتين -الرها والحضر- فالراجح أن مملكة الرها كانت ثنائية القومية مع غلبة للآراميين أما الحضر فكانت ذات غالبية عربية ولغتها المكتوبة هي الآرامية التي حلَّت بأبجديتها الصوتية السهلة محل الكتابة المسمارية المقطعية الرافدانية المعقدة وصارت سائدة في الشرق الجزيري "السامي" آنذاك وحتى في دول فارس، أو هي هوية عمادها مزيج حضاري من العربية والآرامية. وسوف نركز كلامنا في هذا الجزء القادم من هذا المبحث على هاتين المملكتين مؤجلين الحديث حول ممالك أخرى جنوباً كتدمر وسلع والغساسنة والمناذرة وغيرها.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

في خضم الصراعات والنزاعات الكبرى التي تعاني منها البشرية اليوم. وفي ظل الحروب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تنتاب العديد من مناطق العالم البشري. من الضروري أن نتساءل: كيف لنا في هذا الجو المحموم، أن نبدع ثقافة حوارية، تساهم في تطورنا الروحي والإنساني والحضاري. كيف لنا أن نطور ثقافة البناء والإصلاح في عالم يمور بالنزاعات والحروب.

ونحن حينما نتساءل هذه الأسئلة المحورية، لا نجنح إلى الخيال والتمني، ولا نتجاوز المعطيات الواقعية، وإنما نرى أن الخروج من نفق الحروب والنزاعات ومتوالياتهما النفسية والاجتماعية، لا يتم إلا بتوطيد أركان ثقافة الإصلاح والحوار والتوازن. ولا بد من إدراك أن هذه الثقافة، ليست حلاً سحرياً للمشكلات والأزمات، وإنما هي الخطوة الأولى لعلاج المشكلات بشكل صحيح وسليم.

فالعنف المستشري في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، لا يمكن مقابلته بالعنف، لأن هذا يدخل الجميع في أتون العنف ومتوالياته الخطيرة. ولكن نقابله بالمزيد من الحوار والإصلاح في أوضاعنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تساهم بشكل أو بآخر في تغذية قوافل العنف والقتل والتطرف بالمزيد من الأفكار والتبريرات والمسوغات.

فالاختناقات المجتمعية، تؤدي لا شك إلى بروز حالات من العنف ومظاهر الانحراف والجريمة. وعلاج هذه المظاهر، لا يتم إلا بعلاج البيئة التي أخصبت هذه المظاهر، وهي بيئة مغلقة، تصادمية، تشاؤمية، ذات نسق تعصبي.

فالتعصب يؤدي إلى العنف، والتزمت يفضي إلى الانغلاق والانطواء والانحباس. ولا علاج إلى العنف إلا بتفكيك نظام وثقافة التعصب، ولا علاج إلى التزمت إلا بالمزيد من الحوار، ونبذ الأحكام المطلقة، وتأسيس قواعد موضوعية للتعارف الفكري والمعرفي.

وثمة مفكرون، حاولوا أن يقدموا إجاباتهم ومشروعاتهم الفكرية والثقافية حول هذه الأزمات والإشكاليات..

ومن هؤلاء الصديق الدكتور عبد الجبار الرفاعي، الذي عمل عبر عطاءاته الفكرية المتعددة وجهوده الإصلاحية المتنوعة، على تقديم رؤيته لمعالجة هذا الواقع المريض بأمراض الاستبداد والتعصب والعنف..

وحين التأمل والتعمق في مؤلفات الأستاذ الرفاعي وأبحاثه المتعددة، نجد أن الأستاذ الرفاعي مهموم بهمي أساسيين وهما: هم الإسلام وهم الإنسان.. بحيث يرى أن الإسلام بالمعنى المعياري هو عبارة عن طاقة روحية وفكرية هائلة، ولكن هذه الطاقة لم تمارس فعلها الحضاري في بيئتنا العربية والإسلامية، من جراء مناهج النظر والتفكير ومتواليات ظاهرة الاستبداد التي سادت المنطقة العربية والإسلامية خلال عقود مديدة، مما أفضى إلى تشوهات فكرية وثقافية ومجتمعية، أدت إلى جمود مجتمعاتنا وغيابها عن المبادرة والفعالية الحضارية.. لذلك يعمل الاستاذ الرفاعي في أبحاثه ودراساته على تأهيل فكرة التجديد والتنوير، ويلح على تجاوز المتواليات النفسية والاجتماعية والفكرية لظاهرة التخلف الحضاري، حتى يتسنى لمجتمعاتنا العربية والإسلامية الانطلاق في مشروع النهضة والتقدم.. وحتى تستند هذه المجتمعات في مشوارها الحضاري على طاقة الإسلام التحررية والتنويرية في آن. ويوضح الدكتور الرفاعي هذه المسألة بقوله (أراد القرآن للتوحيد أن يكون صبغة لسائر مرافق حياة الإنسان (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) (سورة البقرة، الآية 138)، بمعنى أن تفكير الإنسان وفعالياته وسلوكه اليومي يجب أن يصطبغ ويتلون بالتوحيد، حتى تصير كل قضية علمية أو عملية، هي التوحيد قد تلبس بلباسه وتظهر في زيها، وتنزل في منزلها  فبالتحليل ترجع كل مسألة وقضية إلى التوحيد، وبالتركيب يصيران شيئا واحدا، لا مجال للتجزئة ولا للتفريق بينهما.. لقد كانت العقيدة التي يستوحيها المسلم من القرآن طاقة تنتج الإيمان، وتوجه السلوك، لأنها تجعل الإيمان معطى عمليا فاعلا، مفعما بالحيوية، عبر دمج النظر بالعمل، وعدم الفصل بين الإيمان كحالة وجدانية والسلوك الإنساني، الذي يتجلى من خلاله المحتوى الاجتماعي للتوحيد.. غير أن علم الكلام الذي تمت صياغته لاحقا بالاستناد إلى أدوات المنطق الأرسطي لم يقتصر على تعميق البعد النظري في العقيدة، بل تجاوزه إلى تفريغ التوحيد من مضمونه العملي، والتعامل مع المعتقدات كمفاهيم ذهنية مجردة لا صلة لها بالواقع ) (راجع كتاب مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد، ص23).

وفي موضع آخر يقول الدكتور الرفاعي (ومع أن المسلم أصر على التمسك بالإيمان بالله و بوحدانيته، ولم يتخل عن إيمانه، غير إن هذا الإيمان فقد إشعاعه الاجتماعي، وتجرد من فاعليته، فلم يتجسد في نزوع للوحدة والمؤاخاة في حياة المجتمع المسلم، باعتبار أن عقيدة التوحيد توحد المجتمع، في التصورات، والغايات، والشعور، وأنماط السلوك.. وإنما تعرض المجتمع إلى انقسامات شتى، وأمسى جماعات وفرقا متعددة، أهدرت الكثير من قدرات الأمة في سجالات أفضت إلى مواقف عدائية، وأقحمت الأمة في حروب أهلية في بعض الفترات.. وهكذا يضمحل دور العقيدة، فلا تحول دون اقتتال الأمة الواحدة، ولا تكون منبعا للوحدة، حين تفرغ من محتواها الاجتماعي) (راجع المصدر السابق ونفس الصفحة)..

وفي هذا السياق يدعو الاستاذ الرفاعي إلى إحياء علم الكلام وتجديده، وتطوير الدرس الحوزوي، وتطوير الفهم الاجتماعي للإسلام، والاستيعاب النقدي للتراث والمعارف الحديثة، وإعطاء أولوية للاجتهاد والإصلاح..

والهم الآخر الذي يبرز في كتابات ومؤلفات الاستاذ الرفاعي هو: هم الإنسان في وجوده ومصيره وحقوقه ومآلاته.. من هنا أعطى الاستاذ الرفاعي أولوية فكرية على هذا الصعيد لتفكيك ظاهرة التعصب والكراهية لأسباب دينية أو مذهبية أو قومية ووقف بجرأة ضد كل عمليات القتل والتدمير التي تجري باسم الإسلام وهو بريء منها كامل البراءة..

فالإسلام لا يشرع لأي أحد انتهاك حقوق الآخرين أو التعدي على حقوقهم المعنوية والمادية.. فالإسلام يدعو إلى صيانة حقوق الإنسان المختلف، ويحرم التعدي عليها مهما كانت المبررات والمسوغات..

فحياة الإنسان وكرامته مقدسة، ولا يجوز بأي شكل من الأشكال انتهاك هذه الحقوق أو امتهان الكرامة المعنوية والمادية..

لهذا نجد لدى الدكتور الرفاعي اهتماما بمعالجة ظاهرة التعصب والإرهاب وتفكيك موجباتها الذاتية والموضوعية..

فالإنسان يجب أن يحترم ويحمى في وجوده وحقوقه وآراءه وأفكاره.. لهذا فإننا نعتبر مشروع الاستاذ الرفاعي الفكري يتجه إلى تطوير مناهج النظر والتفكير للإسلام للإفادة من طاقة الإسلام الروحية والحضارية..

***

أ. محمد محفوظ

(لا يكفي على المثقف أن يقرأ "أوراق بيكويك" أو أن يحفظ منولوجاً من "فاوست"، فإن ما يحتاجه المثقف هو العمل الدائم، ليل نهار، والقراءة المستمرة، والدراسة، والإرادة، فكل ساعة هي ثمينة بالنسبة  له).. أنطوان تشيخوف

أن تكون مثقفاً إنسانياً يعني الدفاع عن مصالح الإنسان بكل بساطة، وهذا لا جدال حوله، دون صناعة الأحقاد ودعم ثقافات الكراهية والتسقيط والاضطهاد ضد الآخر. أن تكون مثقفاً إنسانياً عليك أن تلاحق "الخلل" في أبعاده الإنسانية، بعيدا عن اساليب صناعة الصراعات وبلا تقديس غير المقدس ودون التسرع في  الحكم على عناصر مجال الخلل.

 المثقف الإنساني، دون الاستغراق في  معاملات المصطلح وتداعياته، يسعى دائماً أن يعرض فكرته بشفافية وصدق وموضوعية وتواضع، يناقش أفكاره مع غيره مع تبنيه لها، يحاور بأخوة وصراحة ويلتزم السلمية والعدالة في تبليغ ما توصل إليه من رؤى وأفكار ومطارحات. هذا المثقف-الإنسان، يظل إنسانيا في كل حضوره الوجودي، وعيه إنسانيته يبعده عن كل ميادين التوحش بإسم الثقافة والدين والوطنية والحرية، او البغي بإسم الندية والسباب تحت عنوان المعاملة بالمثل والتهكم كمنهج الإعجاز والنفاق والانتهازية بحثا عن النجومية في حقول التأثير والتسيير لواقع الناس، قوة المثقف في سلميته وكرامته الانسانية التي يستمد منها عدالته وحريته في التفكير والنضال من أجل الحقيقة والحق كله..

لهذا مراوغات المثقف بكل أشكالها ليست شطارة أبداً، ولا صمته من فضة أيضاً. هذا التمويه الانحيازي هو تضليل للرأي العام..

لأن التمويه الثقافي حقل ألغام في الواقع والمستقبل، هو فضاء التلاعب بالعقول والمجتمعات، عموما التمويه هو سياسة المثقف الأيديولوجي والطائفي والنصاب في أروقة الثقافة ومؤسسات التعليم والإعلام ومجاميع الدين، إنه مثقف المصالح الضيقة، حيث يستقدم الاوراق التاريخية السوداء، ليصنع الفتن ويشوه الآخر ويستخدم كل وسائل  التزوير والتسقيط مقابل تأجيج الواقع عبر بث السموم بين الطوائف والإثنيات والاديان والشعوب والأحزاب والمدارس الفكرية والتيارات الثقافية. هذا النمط من المثقف هو في الواقع سمسار يدعي الاعتدال والموضوعية في خطاباته، اعتدال في صناعة الفوضى وموضوعية تخفي كل حقائق التاريخ الوحدوية وصور اللقاء ومواقف وأفكار التعايش، شغله الشاغل هو تضخيم الخلافات الفقهية والتاريخية وتغطية الإسلام الحضاري والوطنية الجامعة، هذا التلاعب الثقافي شكل عبر التاريخ العربي والإسلامي المعاصر أكبر المغالطات الفكرية والثقافية.

المثقف الذي ينحاز لكل صور الشر والباطل والخلاف والظلم في التاريخ والواقع، ليستعملها في تمرير مخططاته الاستدمارية لكل مفردات الوعي والتجديد والتغيير والإصلاح والتعايش والتعارف والتسامح، هو من حرم الشعوب العربية من وعي الحرية وثقافات الاختلاف والتعددية الفكرية عبر الترويج لثقافات احتكار الفكر والتاريخ والدين ..بعبارة  أدق "المثقف المتحيز سرطان النباهة وقاطع طريق النهوض أمام الشعوب "!

التخلف الاجتماعي هو نتاج تحيزات المثقفين في كل مجالات الإجتماع، في جل مؤسسات التعليم والإعلام والفن والاقتصاد والإدارة والإدارة والقانون والرياضة والدين، في كل مناشط الواقع، لذلك لا نستغرب وصولنا إلى ابتكار حيل شرعية (!!) ، ونلفق المتناقضات مع بعضها في تبرير الفساد، حتى صار قول الحق خيانة عظمى والشفافية والعدالة ترهات الحمقى.

في الوقت الذي يصبح المثقف يتلعثم في مواقفه ويلف ويدور في دهاليز التاريخ لخطف الأضواء عن الصدق والعدل والحق، اكيد الواقع الاجتماعي سيظل يئن من آلام التشويه والتسقيط والتفاهة والفساد الأخلاقي والإداري وما هنالك من معاملات الانحطاط والتخلف..

أحد أشكال تحيز المثقف هو تحوير معنى الفتنة. فتكون الفتنة كل ما لا يخدم مصالحه الضيقة، فالطائفية ليست فتنة، فقط لو لم تخدم تياره المقدس، والتحرش الجنسي والمثلية والشذوذ  وما هنالك من انحرافات جنسية واخلاقية لا تكون فتنة ما دامت تنطلق من مرجعيات  الدمقرطة والحداثة والليبرالية..

في الغالب هذا المثقف هو صانع الطاعة العمياء والفتن الكبرى والتخلف الذي أسسه في المؤسسات الاجتماعية والتربوية والسياسية والدينية، من العائلة مروراً بالتعليم والمسجد والإعلام وصولاً إلى التكوينات بشتى مشاربها اليسارية والليبرالية والدينية وغيرها..

المثقف الإنساني هو من ينتج "المفاهيم" النقدية المؤسسة على مرجعيات الواقع والمعتبرة من الماضي والمتطلعة للمستقبل.

هو مثقف الشعب بكل تنوعاته، يؤمن بأن "الثقافة هي  تنوير الواقع وتطويره من أجل كرامة الإنسان، هو ذاك المثقف الذي لا يسكت عن الظلم..

المثقف الإنساني مدافع عن إنسانية مجتمعه، هو المثقف الذي ضمنياً يقاوم التحيزات في ذاته وواقع مجتمعه..

وفي ذلك يظل المثقف هو الشخص القادر على تفكيك ورفع الغطاء عن فكر الخذلان والبهتان، هو القادر على إقناع الجمهور بأن ما التفكير معا والتعاون مع الاحترام والتعايش والتسامح هي كلها حلقات النهضة عينها.

المثقف الإنساني يولد ويكبر حكيما حكمة الكلمة الطيبة والعمل الصالح والوعي المتطور.. ليس ميكيافيليا، إنه ابن  المواقف الحرجة، إنسانيته كونه طليعي في مسرح فعل تقديم الخير للإنسان والوطن،  خير الحقوق وحرية الإنسان. همه هو الوطن والإنسان هذا المثقف الإنساني هو القادر على تحويل كل الأدوار الاجتماعية إلى ثقافة إصلاح وتجديد وشفافية وتسامح وتعاون وإبداع من أجل نهضة الوطن وكرامة الإنسان فيه..

***

ا. مراد غريبي

تضايق البعض من مكانته عند الحكام، وفُتن آخرون بطاقته الباهرة على الدفاع عن افكاره. مستشار الوزراء، صاحب الرسائل الحكيمة، المؤمن بأن الفيلسوف ليس هو الزاهد المنسحب في تأملاته، وإنما الذي يشترك في التغيير المعتاد للأراء، حتى يمكن للحقيقة ان تجد لها مكانا آمنا في المجتمع.يصفه صدبقه ابو حيان التوجيدي برغم الخلافات التي تنشب بينهم بين فترة واخرى بأنه: " لطيف اللفظ، رقيق الحواشي، سهبل المآخذ، مشهور المعاني كثير التواني، وبعد فهو ذكي،، حسنُ الشعر، تقي اللفظ، وله بهد ذلك مآخذ كشدوٍ من الفلسفة، وهو حائل العقل لشغفه في الكيمياء " – الامتاع والمؤانسة تحقيق احمد امين.

يرى ابن مسكويه ان افعالنا والقوى التي نختص بها من حيث نحن بشر وبها تتم انسانيتنا، ليست هي الافعال التي تصدر عن اجسامنا والتي نشترك فيها مع الحيوان، مثل التغذية والنمو والاحساس، بل هي الامور الإرادية التي تتعلق بها قوة الفكر والتمييز. وهذا ما ينتهي بنا الى افعال الخير او الشر، فالخير هو الأمر الذي يحصل للانسان بإرادته وسعيه والشر هو الذي يُعوق هذا الخير وايضا يتم بإرادة الانسان وسعيه، لقد اراد ابن مسكويه ان يدخل الى عقولنا نظاما اخلاقيا مبني على اساس فلسفي سليم حتى تصدر افعالنا جميلة من غير كلفة ولا مشقة. ونراه يربط بين السعادة والفضيلة. ويهتم بالفضائل الخلقية لصلتها بالعمل. وليست الفضائل طبيعية فينا وإنما هي مكتسبة ومن ثم يجب الاهتمام بتعليم المعارف حتى لا تضعف قوة العقل. وانسب المعارف الى الانسان هي قبول الحكمة وطلب الفضيلة والبلوغ الى السعادة. والسعادة هي افضل الخيرات

يقسم ابن مسكويه السعادة الى خمسة اقسام

الاول: في صحة الجسم واعتدال المزاج، حيث يكون الانسان سليم الحواس الخمس

والثاني: في الثروة التي عليه ان يجعلها في خدمة الخير

والثالث: في الاخلاق الحسنة واشاعة الفضل والاحسان

والرابع: في ان يكون ناجحا في الحياة

والخامس: ان يكون صاحب رأي صائب وفكر سليم الاعتقاد.

ابن مسكويه واحد من اكبر منظري الاخلاق والسعادة في الفكر الاسلامي. وقد كان كتابه "تهذيب الاخلاق" – تحقيق عماد الهلالي –محاولة لشرح ماهية الكمال الانساني وكيف يتم بناء الانسان عن طريق تهذيب الاخلاق ونشر الفضيلة، وكيف يتم بناء الدولة عن طريق اقامة العدل، مثلما يتم بناء الامم عن طريق الاستعانة بحكمة الفلسفة الخالدة.

كان ابن مسكويه مفتونا بكتاب ارسطو "علم الاخلاق" والذي طرح فيه المعلم الاول تحديد العوامل التي تجعل الناس يعيشون سعداء، وقد ذهب الى ان الاشخاص الأخيار والناجحين يمتلكون جميعا فضائل متشابهة. وقال إن من المفيد ان نحدد تلك الفضائل حتى نستطيع رعايتها وتنميتها في انفسنا، وحتى نستطيع تقديرها لدى الآخرين. فيما رأى ابن مسكويه ان هذه الفضائل لا يبلغها الإنسان إلا بالعقل، في كتابه " تجارب الامم " – تحقيق كسروي حسن – يقسم ابن مسكوية الناس الى ثلاث طوائف، قلة خيرة بفطرتها، وكثرة شريرة بطبيعتها ، وطائفة ينتقلون من الخير الى الشر او من الشر الى الخير، وفقا لاساليب التربية. ولكل انسان خيره الخاص أو سعادته، وهي عنده تتحقق بتنمية القدرات العقلية. ويرى ان اجتماع الناس ضرورة طبيعية، ومن اجل هذا كانت المحبة بين الناس، وهي اصل الفضائل واساس الواجبات، ولا يبلغ الانسان كماله إلا بالتضامن والتعاون مع الآخرين. ومن اجل هذا استهدف علم الاخلاق الذي يدعو اليه الى الوقوف على ما ينبغي ان تكون عليه اخلاق الانسان في المجتمع، ومن هنا يوجه ابن مسكويه نقده الى الرهبان والزهاد الذين يظنون ان عزلتهم عن المجتمع تتماشى مع تعاليم الدين، فهو يرى ان مثل هذه الافعال تخرج عن مبادئ الاخلاق. يكتب محمد اركون ان اعمال ابن مسكويه تعد من بين ابرز الاعمال الهادفة الى اعادة الاعتبار للعقل وجعله احد ركائز العقيدة الدينية.

***

بدأ يقرأ كتب افلاطون وارسطو وهو في الثانية عشرة، الفتى الذي فقد آباه في سن مبكرة، عاش صباه وشبابه من اجل العناية بامه، سيصاب بصدمة عندما تقرر الام الزواج وكان ابنها قد بلغ العشرين من عمره، يخبرنا ابو حيان التوحيدي وكان اقرب اصدقائه ان ابن مسكويه كان في مشغولا بطلب الكيمياء مع ابو بكر الرازي ومفتونًا بكتب جابر بن حيان.

ولد أبو علي الخازن أحمد بن محمد بن يعقوب الملقب بـ "ابن مسكويه" في الرابع من ايار عام 929 م في منطقة الري، اختلف المؤرخون في اصل ديانته فقال ياقوت الحموي في معجم البلدان انه كان يهوديا واسلم، فيما يؤكد آخرون انه من عائلة زرادشتية دخل الاسلام وهو صغير، ويرجح عبد الرحمن بدوي ان ابن مسكوية من عائلة اسلمت قبل ولادته بعقود كثيرة. وجدت الام ان ابنها كثير الاهتمام بالكتب، دخل الى حلقة أبو الحسن العامري وكان من ابرز المشتغلين في الفلسفة في مدينة الري يصفه ابو حيان التوحيدي بانه كان: " متبحراً في الفلسفة اليونانية منكباً على كتب أرسطو، وله على بعضها شروح"، ويخبرنا ابن مسكويه انه: " استأنف القراءة عليه، وكان يعد نفسه في منزلة من يصلح أن يتعلم منه فقرأ عليه عدة كتب مستغلقة ففتحها ودَّرسه إياها " –تجارب الامم -، بعدها يدرس المنطق عند أبو سليمان السجستاني، قال لامه ذات يوم انه قرر ان ياخذ من الكتابة مهنة فسخرت منه مثلما سخرت ام الجاحظ من ابنها، إلا ان الابن العنيد اصر على مواصلة المشوار، فعمل في عدة مهمن لاعالة عائلته المكونة من امه وثلاثة اشقاء ونراه يخبر ابو حيان التوحيدي انه كان يأمل ان يقضي حياته بالتأمل لولا محاصرة الفقر. قرر ان يهجر البيت بعد ان تزوجت امه، وبسبب ازمته اتجه الى حياة اللهو، الامر الذي كان ينتقده التوحيدي الذي وصفه بانه كان في تلك المرحلة " جاهلا مغرورا محبا للهو وللمشاجرة والنزاع ".عاش ابن مسكويه في هذا الجو كأنه ينتقم من نفسه بسبب سلوك امه، وبدا شابا غريباً، لكن هذه الحياة ستمر بتجربة قاسية بعد ان علم بوفاة والدته.يترك حياة اللهو ويعود الى هوايته الاولى كتب الفلسفة . يقرر السفر الى بغداد، هناك يدرس التاريخ على يد ابي بكر القاضي، والمنطق والطب عند ابن الخمار الذي كان يسمى في بغداد " ابقراط الثاني ".وسيفتن بتجارب جابر بن حيان في الكيمياء، يعمل خازنا في مكتبة ابن العميد الذي كان وزيرا في الدولة البويهية، ويخبرنا في كتابه " تجارب الامم " انه: " صحب ابن العميد سبع سنين لازمه فيها ليل نهار " وكانت مكتبة ابن العميد تحوي عشرات الكتب في معظم المعارف، وقد استفاد كثيرا من عمله في المكتبة كما يقول التوحيدي: " افاد الاطلاع على هذه الخزانة وهي موفورة "، وهذا الاطلاع ساعده في بلورة رؤيته في موضوعة الاخلاق والسعادة. استمر بخدمة ابن العميد ثم عمل مع الوزير ابا الفتح، ومن بعده عضد الدولة الذي اختاره ليصبح احد كتابه، وظل يعمل خازنا للكتب وكاتبا في ديوان الوزير حتى تفاقمت عليه الامراض فقرر العودة الى مدينته ري التي توفى فيها في السادس عشر من شباط عام 1030 وقد تجاوز عمره المئة عام.

في بغداد يقرر الاستعانة بالفلسفة اليونانية لوضع فلسفته الخاصة عن الاخلاق وقد كان يؤمن ان المعرفة الاخلاقية للفيلسوف لا تسقط من سماء الافكار، وانما ينبغي ان تُستخلص من ظواهر الحياة ومن تجارب التاريخ وعبره، ونجده يتخذ منهج ارسطو الذي يؤكد فيه ان السعادة الحقيقية للانسان تأتي من الخيارات التي نصل اليها من خلال العقل، فبعد ان جرب ابن مسكويه حياة اللهو والمتعة اكتشف ان حياة المتعة المجردة لا تجعلنا سعداء، فالسعادة في نظرابن مسكويه هي الخير التام في نفسه.. ولهذا نجده يجتهد لان يضع ثمانية شروط لاكتساب السعادة

1- ايثار الخير على الشر في الافعال، والحق على الباطل في الاعتقادات والصدق على الكذب في الاقوال

2- تحصيل السعادة يكون بالأختيار دائما

3- محبة الجميل لانه جميل لا لغير ذلك

4- الصمت في اوقات حركات النفس حتى يستشار فيه العقل

5- الاقدام على كل ما كان صوابا

6- الاشفاق على الزمان الذي هو العمر ليستعمل في المهم دون غيره

7- ترك الخوف من الموت

8- قوة الامل وحسن الرجاء

ان نقطة البدء في مفهوم ابن مسكوية للاخلاق هي السعادة، فهو يؤمن بان الناس مخلوقات عقلانية تتخذ القرارات التي ستقودها الى الخير والفضيلة، ولا يتميز ابن مسكويه في موضوع السعادة، عن الفلاسفة القدامي الذين تأثر بهم، ارسطو وقليل من الابيقورية ولمحات من الرواقية. انه ابيقوري من خلال رفضه الشرور، واصراره على اشاعة مبدأ الخير كتب ابيقور " ان تتفلسف يهني ان تتهلم معنى الخير " ولهذا فان ابن مسكويه ابيقوري بامتياز من خلال ميله للسعادة، واحترامه للصداقة، وهو ارسطي من خلال احساسه الشديد بقيمة المعرفة.

يكتب ابن مسكويه في تهذيب الاخلاق ان: " الكمال الخاص بالانسان كمالان، وذلك ان له قوتين: احدهما: العالمة، والأخرى العاملة، فذلك يشتاق باحدى القوتين الى المعارف والعلوم، وبالاخرى الى نظم الامور وترتيبها، وهذان الكمالان هما اللذان نص عليهما الفلاسفة، فقالو: الفلسفة تنقسم الى قسمين: الجزء النظري والجزء العملي، فإذا اكمل الانسان الجزء العملي والجزء النظري، فقد حصل على السعادة التامة – تهذيب الاخلاق –

الى جانب السعادة كانت قضية العدل تاخذ حيزا مهما في فكر ابن مسكويه حتى ان محمد اركون يعتبر مسكويه الفيلسوف العربي الابرز الذي اكد على مفهوم العدالة – محمد اركون نزعة الانسنة في الفكر العربي – حيث نجده في كتاب الهوامل والشوامل يرد على سؤال يطرحه عليه ابو حيان التوحيدي عن ماهية العدل؟، فيكون الجواب ان العدالة دواء للانسان، يمكن ان يصل اليها عن طريق العقل، وبفضل الاهمية الكونية للعدل فانه حسب ابن مسويه يمكن ان يشكل احدى نطاق الانطلاق الى الحكمة. ويذهب ابن مسكويه ابعد من ذلك حين يقر بان الحياة الاخلاقية كلها هي عبارة عن جهد يقوم به الانسان لكي يتوصل الى امتلاك العدالة، وتحقيق المساواة والتوازن بين الناس.

***

في بغداد التي وصلها وهو في الخامسة والعشرين من عمره، هاربا من مجتمع اللهو، باحثا عن الحقيقة في مجالس العلماء وكتب الحكماء، فنجده في كتابه الحكمة الخالدة يستعير عبارة من افلاطون يقول فيها: " ان الانسان إذا فقد ميزة العقل كان دائم البلاء "، ولهذا يرى ابن مسكويه ان ما يميز الانسان عن سائر الحيوانات، هو القدرة على اتيان الافعال الارادية الناجمة عن التفكير.وهذه الافعال نوعان " خيرة وشريرة. الافعال الخيرة هي تحصل للانسان بإرادته وسعيه في الامور التي وجد الانسان وخلق من اجلها. والافعال الشريرة هي " الامور التي تعوقه عن هذه الخيرات بإرادته أو سعيه او كسله " – تهذيب الاخلاق -.

يقسم ابن مسكويه كتابه " تهذيب الاخلاق " الى سبع مقالات يتحدث فيها عن النفس وقواها ويبين ان الفضائل تقرب بين الاطراف المتباعدة، والخير هو اسمى حالات الكمال الانساني، والفضيلة ارادية، لانها تتعلق بافعالنا الخيرة، وهي نتيجة لافعالنا التي نأتيها عن قصد وارادة، وان الفضيلة لا تكون فضيلة إلا متى اصبحت عادة تصدر عن صاحبها في يسر وسهولة جتى يجد في مزاولتها لذة.وكذلك الرذيلة تتعلق بنا، وكما نستطيع ان نقول نعم، نستطيه ان نقول لا، فإذن كما يتعلق بنا الفعل الخير، كذلك يتعلق بنا الفعل الشرير، وبهذه الطريقة يمكننا أن نحكم على الناس عندما نصفهم كاخاير او اشرار، والأمر يتعلق بنا في ان نختار بين الفضيلة والرذيلة.

يرى ابن مسكويه ان الانسان اشيه بعالم صغير، وقد انطوى في ذاته على كل ما يحتويه العالم، يكتب في " الفوز الاصغر " - تحقيق صالح عضيمة – اما ان الانسان عالم صغير وقواه متصلة وفيه نظائر جميع ما في العالم الكبير من المعمورة والخراب، ومن البر والبحر والجبال ونظائر من الجماد والنبات والحيوان، وكأنه مختصر من الجميع ومؤلف من الكل، فبعضه ظاهر بيّن وبعضه خفي غامض ".

يرى محمد اركون ان اصالة فكر ابن مسكويه تكمن من خلال كونه قدم مفهوما جوهريا لمسألة العقل وهو ما اراد ان يبينه في كتابه " الحكمة الخالدة حيث اكد ان: " العقل الانساني واحد في كل زمان ومكان، يأمر رغم الظروف الطبيعية والاجتماعية والجنسية، بنفس الاوامر والنواهي الخلقية ".

كان السؤال الذي يشغل الفلاسفة الاغريق هو: " كيف يمكننا أن نزيد حظوظ الانسان من السعادة ؟". وكان سقراط يصر إن السؤال يجلب لنا الحقيقة وهذه الحقيقة هي التي ستدلنا على السعادة، في الوقت الذي كان فيه افلاطون يرى ان السعادة تقوم على نوع معين من التناغم والانسجام بين الرغبات والأهداف، فيما أصر أرسطو أن يخبرنا إن الاحساس بالسعادة سيقودنا إلى السلوك الحسن.أرسطو الذي كان يطرح على تلامذته سؤالاً هو: "كيف يجب أن نعيش؟ ".كان يؤمن إن الاجابة عن هذا السؤال هي الطريق إلى الفلسفة ولهذا ظل طوال حياته يرفع شعار " إبحث عن السعادة".، وقد اختار ابن مسكويه ان ينحاز الى ارسطو مؤكدا ان السعادة تعني اكتمال الفضائل في النفس، فالسعادة تعني السعي لأن نكون أحسن، وأن نفعل الشيء الصحيح. هذا ما يجعل الحياة تسير على ما يرام. والسعادة لا تنبت إلا في المجتمعات التي ينتشر فيها العدل والمساواة، ولاتدرك إلا في علاقة مع الحياة في المجتمع. نعيش معاً، ونحتاج أن نجد السعادة بالتفاعل جيداً مع الناس الذين يحيطون بنا: " ان الانسان لم يخلق خلق من يعيش وحده ويتم له البقاء بنفسه، كما خلق كثير من الوحوش والبهائم، لأن كل واحد من تلك خلق مكتفيا بنفسه غير محتاج في بقائه الى غيره.وإذا كان هذا هو شأن تلك الحيوانات والطيور،فإن الانسان خلافا لها بحاجة الى التعليم والتعاون مع غيره من افراد البشر. ومن العدل ان نعين الناس كما اعانونا، ومن الظلم ان يعيش الانسان عالة على غيره " – الفوز الاصغر -. هكذا يدعو ابن مسكويه الى اخلاق تقوم على الاجتماع لا التوحد، بحيث تكون اول الواجبات محبة الانسان لكل الناس، وتعاونه معهم.واذا كانت الطبيعة تتجه الى غايتها بلا شعور في الجماد والنبات وبالغريزة في الحيوان، فانها تتخذ في الانسان طريقا آخر هو العقل، فهو اكمل الطرق لتحقيق اسمى الغايات، ووظيفة الانسان ان يستكشف بنفسه العقل الطبيعي، وان يترجم عنه بافعال أي أن يحيا وفق الطبيعة والعقل.

من المسائل الفلسفية المهمة التي خاضها ابن مسكويه مسالة وجود الله وخلق العالم، فقد ذكر ان جميع الفلاسفة القدماء اثبتوا وجود الله واقروا بوحدانيته،ونجد ان دليله المفضل على وجود الله يستند الى ارسطو فهو يراه اقوى الحجج الفلسفية على وجود الخالق الذي يعتبره ارسطو " المتحرك الذي لا يتحرك "، غير متغير، وهو يختلف كل الاختلاف عن اي كائن آخر. وينسب اليه اسمى الكمالات، وفي نشاة الكون، يرى ابن مسكويه ان الله هو العقل الفعال خلق جميع الاشياء من لا شيء.

يكتب المستشرق دي بوير في كتابه تاريخ الفلسفة في الاسلام ان ابن مسكويه نزغ في الكثير من نواحي تفكيره نزعة عقلية واقعية، استعان في تصويرها بخبراته الشخصية اضافة إلى اطلاعه على الفكر القديم، فوضع مذهبا اخلاقيا وفلسفيا جدير بالتقدير، فلسفة تدل على سعة في التفكير والثقافة.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

- نقطة الصفر بالعلم حسب جاستون باشلار هي بداية شروع علمي وليس نهاية مشروع علمي وصل نهايته. اما نقطة الصفر في حياة الانسان فلسفيا فهي ناتج محصلة الشد والجذب التي يتساوى فيها النجاح والفشل في التفكير وليس في السلوك. ارادة الانسان في طموح ورغبة التجاوز تجعل من نقطة الصفر كما هي بالعلم بداية شروع وليس نهاية مشروع.

- صناعة الطغاة في كل مجالات حياة الشعوب المقهورة المغلوبة على امرها انما تكون في افشاء الجهل والخرافات وتضليل وعي المجتمع بوسائل برمجة ايديولوجيات التخلف.

- مذهب وحدة الوجود  يكون مطلقا ميتافيزيقيا صوفيا يجمع بين الدين والطبيعة والفلسفة. مذهب وحدة الوجود يفقد حقيقة معناه في الصوفية التي يعتبرونها المتصوفة هي وسيلة تلاقي الذات بالحلول الالهي النوراني وهو ما لا يتحقق بسبب عدم توفر مجانسة نوعية واحدة تجمع خصيصة الذات الصوفية الروحانية مع خصيصة الذات الالهية غير المدركة لا بالعقل ولا في ما وراء العقل اي في التجربة الروحية . بهذا المعنى تكون التجربة الصوفية روحانية تدور في فلك ذاتيتها التي تفترض حلولها التواصلي مع الذات الالهية وهي لم تغادر مادية وجودها الارضي.. فالذات الالهية لا تمتلك الروحانية البشرية المدركة صوفيا في مجانستها الروحانية الصوفية التي هي في كل حالات التجربة الصوفية لا تغادر مواقع اقدامها.الذات الالهية لا تجانس الذات الروحية البشرية لا  بالماهية ولا بالصفات لذا تبقى الذات الصوفية روحانية مرتبط بالارض على خلاف الذات الالهية المرتبطة بنفسها بما لا يستطيع العقل ادراكها.

- يقول ياسبرز" حقيقة الاخفاق هي التي تؤسس حقيقة الانسان". الاخفاق بالحياة هي مرتكز مفترق الطرق الذي يجعل اهمية مراجعة الانسان ليس لماذا اخفق فقط. بل في مراجعة مجمل معتقداته وسلوكياته مع الذات والمجتمع. ومن الحماقة ان يحزن الانسان على اخفاقات حياته التي هي الوسيلة الوحيدة في جعله  يفهم كل شيء بحياته.

- ميراث الانسان الحقيقي بالحياة هي الاخلاق الرفيعة وليس المال رغم اهميته كوسيلة وليس كغاية بذاته.

- سألني احدهم لماذا تركت الكتابة في السياسة؟ اجبته اضعت اكثر من اربعين عاما اكتب بالسياسة فانكرتني محمّلا بكل رذائلها. وكتبت بالفلسفة ما يزيد قليلا على 15 عاما فاعطتني ما ارغبه بالحياة حين وجدت نفسي فيها. وانا سعيد انهي عمري بالتعلم منها والكتابة فيها.

- لم اجد فكرا يستحق الاحترام بالحياة لا تلازمه كثرة الاعداء.

- افضل لي اجد نفسي وسط ضمائر قليلة صادقة في تعاملها الاخلاقي الرفيع خيرا ان تحتويني شلة منافقة تظهر لي الود والاحترام وفي حقيقتها تكرهني.

- حاجة السؤال وكرامة الانسان لا يتعايشان.

- الاحلام نوع من اسطورة اللاشعور التي تلبست الانسان بلا رغبة منه. الانسان قديما في ميثالوجيا السحر وطقوس الاديان الوثنية التي يتم بها خرق قوانين الطبيعة في الزمان والمكان خرقا خرافيا وليس واقعيا علميا حقيقيا.وأنتقلت الاسطورة في ملازمتها الانسان في غيبيات الاحلام لاشعوريا أثناء النوم بفرق أن الاساطير تتوسل الالهة والاحلام متحررة منها عقليا زمانيا. والاحلام نوع من الاساطير التي يبتدعها اللاشعور في خرقه قوانين الطبيعة اثناء النوم ولا تنفع الانسان أكثر من تفريغ شحنات أمانيه المحروم منها في حياته,  وتترائى له في الاحلام تعويضا كاذبا له.

- الموضعة اللغوية في تعبيرها التجريدي عن الاشياء هي ادخار معرفي بها وليس اضافة تكوينية لها. الموضعة هي تلك القراءات التاويلية التداولية للادرك المتطور التي تعيد وتضيف وتعدل التي هي في حقيقتها تجريد تعبيري لغوي عن تلك الاشياء المدركة.

تساؤلنا هل الموضعة اللغوية المتعالقة بالفهم تكون معطيات مكتسبة قبلية عن ذالك الشيء ام هي معطيات فطرية عنها؟

- لا يوجد افكار فطرية معرفية قبلية غير مكتسبة بالخبرة عن الاشياء. اما بالنسبة للزمكان فهو وعي العقل لفراغ احتوائي للاشياء يوجد باستقلالية. فهو اي الزمكان لا يدخل مع الاشياء التي يحتويها بعلاقة موضعة تعريفية بها. ولا يدخل بعلاقة جدلية ديالكتيكية او تكاملية معرفية معها بل يبقى احتواء الزمكان للاشياء حياديا كما هي علاقة الزمن في ملازمته وجود الاشياء. وتكون افصاحات العقل عن مدركاته الاشياء التي يحتويها الزمكان هو الافصاح عن  علاقات تلك الاشياء المادية البينية مع بعضها. وبهذا تكون الموضعة اللغوية تحت وصاية العقل مادية في علاقة تكامل معرفي. الشيء الاهم هو الاقرار بحقيقة ان المادة لا تتموضع مع غيرها من الاشياء بغير علاقة تجريدية لا تعي ذاتها ولا تدرك موضوعها.

- لا تستغربن العمل الناقص من خبيث يخرج من حاضنة مفقس تخريج امثاله على الدوام.

- كل معرفة تكون خبرة مكتسبة حينما لاتوّرثها الجينات. والجينات تورث الصفات ولا تورث الجواهر والماهيات.

- صرخات حقائق الحياة لا تحتاج حكمة الصمت وما قيمة الصمت حين تكون محتاجا الصراخ.؟

-  الشعر الذي يتمثّل الواقع بصدق زائف وادراكات شعورية منطقية يخرج من دائرة خاصية الشعرالخيالية المصنوعة الى دائرة عاميته حين يصبح كل الناس يقولون الشعر.

- الشعر هو اللاشعور اللغوي الذي ينظّم منطق العقل.

- ما يسمى الاستكشافات الغربية لمنطقة الشرق الاوسط لم تكن في غالبيتها بريئة هدفها اكتشافنا حضاريا بل كان هدفها استعمارنا استكشافيا.

- حين يتجاهلك من  يعرف قيمتك فلا عجب على من يتجاهلك غباءا.

- من يخنك في ستر سرك فاعلم انه يبيعك بالمتاجرة به.

- ابحث عن الخير ولا تدعه يفتش عنك.

- الزمن يسبق الوعي الحقيقي.

- عشوائية الزمن حسب افلاطون تنظّم نفسها بدلالة نظام الطبيعة.

- من يفهم الاخلاق الفاضلة بازار مساومة فقد عرف اصله ولم يعرف نفسه.

- اعرف نفسك بالحق قبل محاولتك مساومة غيرك بالباطل.

- المال الفاسد يشتري وضاعة الاخلاق بالحياة لكنه يعجز شراء ذمم الناس.

- الصمت حمّال اوجه تاويلية بخلاف اللغة التي تكون هي التعبير الحقيقي عن الحياة.

- حين يجد الانسان ذاته في اسعاده الاخرين يكن صاحب رسالة بالحياة.

- نظافة القلب من الشرور سلوك يذيب جبالا من جليد الافكار الخاطئة.

- النيّة بالعمل والامور بخواتيمها.

- اخلاق المال الفاضلة اسمى من امتلاك المال ذاته.

- من يترفع عليك بالمال يطلبك تستجديه كرامتك منه.

- ما تستخف  به من مقدسات غير دينك ستجده ادانات لمقدسات دينك من غيرك عديدة.

- عمر الانسان المريض تلجم النفس عواطفها, كما تلجم بيولوجيا الجسم محاولة انبعاثها. كلا المنحيين كي يكتسبا حيوية الوجود لا بد لهما التخلص من مرض الجسد قبل الشروع بانطلاقة الثمالة الاخيرة بالحياة.

- اجد ان صدق عاطفتي تلجمني ان لا اجد كلمة لم يفت اوانها.

- الشك بعد تجربة مؤلمة توقع خيبات الحياة العاطفية مفتوحة النهايات.

- عليك ان تبحث عن عمل الخير ولا تنتظره ياتي اليك.

- تبنى الامجاد الزائفة بالعطايا في غير محلها يرافقها قرع الطبول.

- اذا لم تضع للحق مسطرة عدالة ومساواة لا يبقى المجاهرة بالعطايا معنى.

- يستغرب العديدون حين اخبرهم اني احرقت شهادتي الجامعية بالفلسفة حينما وجدتها عند الاخرين هوية انتساب لفلسفة لا يعرفون عنها شيئا.

- ليس الفضل لمن يغفر للاخرين اخطاءهم بحقه بل الذي يحفظ لهم كرامتهم بحكمته.

***

علي محمد اليوسف

كنت قد نشرت خلال شهر حزيران من العام الجاري مقالة بجزأين هي قراءة في كتاب "معجم المفردات المندائية في العامية العراقية" لمؤلفه قيس مغشغش السعدي. وقد ضمنتها استدراكاتي على العديد من الكلمات التي اعتبرها المؤلف كلمات مندائية دخلت في قوام معجمية اللهجة العراقية؛ وحين أكملت الاطلاع على الكتاب دهشت لكثرة تلك الكلمات العربية التي زجَّ بها المؤلف ضمن الكلمات المندائية أو ذات الأصول المندائية بطريقة لا علاقة لها بأي علم من علوم اللغة، وأقرب إلى ما يمكن أن نسميه التعسف التأثيلي "الإيتمولوجي" والعشوائية في الفقه لغوي "الفيلولوجي"، ولذلك قررت العودة إلى الكتاب مرة أخرى، ولكن هذه المرة بهدف آخر غير تقديم قراءة تعريفية به تعطيه حقه، بل لتأثيل هذه الكلمات ذات الجذر أو الاشتقاق العربي وترك الكلمات الأخرى والتي يُحتمل أنها تدخل فعلا ضمن ما سمّاها العلامة الراحل طه باقر رواسب لغوية من اللغات العراقية القديمة كالأكدية بلهجتيها البابلية والآشورية والآرامية وفرعها المندائي، وبهدف ضمني آخر هو تفكيك عملية القسر التأثيلي وإعادة الاعتبار إلى العلوم اللغوية واللهجوية وكشف التأويلات والتأثيلات العشوائية والرغبوية والتي قد لا تخلو من النزعة الأيديولوجية والذاتية المناهضة لعروبة اللهجة العراقية العربية العماد والمعجمية مقاربةً للحقيقة وإنصافاً للعلم ومنهجياته وأساليبه. وخلال هذه المراجعة التأثيلية لمفردات الكتاب المذكور ولعدد من المراجع في هذا الباب تطور نص مقالتي وأمسى على ماهو عليه الآن كبحث موسع في المعجم اللهجوي العراقي وفي مقترباته وعلاقاته باللغة العربية الأم واللغات الجزيرية "السامية" الشقيقة.

بكلمات أخرى؛ يمكنني القول إنني في قراءتي السريعة السابقة للصفحات الأولى من هذا الكتاب تفاءلت به أكثر مما ينبغي، ولكنني، ومع تقدمي واستغراقي في القراءة والاطلاع على المزيد من الصفحات والمفردات، وجدت أنني كنت على خطأ في تفاؤلي ذاك؛ فالكلمات في اللهجة العراقية ذات الأصل المندائي الأكيد لا تشكل إلا نسبة ضئيلة مما ورد فيه من كلمات، وهي نسبة طبيعية في لهجة تعيش منذ القدم وسط اختلاط وتنوع لغوي قل نظيره حيث سادت وبادت لغات عديدة في وادي الرافدين كاللغات الجزيرية "السامية" مثل الأكدية بلهجتيها البابلية والآشورية والأمورية والآرامية - وفروعها أو لهجاتها المندائية والنبطية والسريانية -  وعاشت معها حديثاً، وجنباً إلى جنب لهجات لغوية غير جزيرية كاللهجات الكردية الثلاث، والتركمانية وغيرها.

المأمول إذن أن يستدرك المؤلف على كتابه في طبعة لاحقة ويتجنب هذه الهفوات والثغرات الوفيرة والفادحة أحياناً ويتمسك بالأسلوب المنهجي العلمي، ويزيد من اطلاعه على المعاجم العربية الفصيحة والمنشورات التخصصية ذات العلاقة للتأكد من وجود هذه الكلمة أو تلك في اللهجة العراقية وفي العربية الفصحى أو في اللغات الجزيرية الأخرى قبل أن يزج بها في معجمه للكلمات المندائية في اللهجة العراقية المعاصرة، وبهذا سيقدم كتابا مفيدا يضيء بشكل موضوعي وعلمي على المساهمة المندائية الجميلة في اللهجة العراقية دون مبالغات أو قسر.

إنَّ هذا النوع من الكلمات العربية الفصيحة يمثل الكثرة الكاثرة والغالبية الساحقة من كلمات اللهجة العراقية إلى جانب ما سماها العلامة طه باقر الرواسب من اللغات العراقية القديمة المنقرضة، بل أن هناك كلمات عربية فصحى منقرضة أو نادرة الاستعمال وممعجمة في المعاجم القديمة ولكنها ماتزال حية في اللهجة العراقية وقد ضربت عليها أمثلة عديدة في كتابي "الحضور الأكدي والآرامي والعربي الفصيح في لهجات العراق والشام" ومنها مثلا: برطيل، مدردحة، أريحي، نازك، دحس، برطم، ملخ، دفر، أثرم، أجلح، ثخين، ثول، ثرب، خبن، دحس، أهدل وختل....إلخ، فهي كلماته الأليفة في لهجته العراقية المعاصرة، وفي الوقت ذاته مفردات مؤثلة الجذور والمشتقات في المعاجم العربية القديمة على الرغم من عدم وجودها أو ندرة استعمالها في اللغة العربية الوسيطة "الفصيحة" المعاصرة، وقد ذكرت توثيقاتها في كتابي.

خلاصة القول هي أنَّ العلاقة بين اللغة العربية الفصحى بلهجاتها المختلفة المعاصرة في العالم العربي واللغة المندائية واللغات الجزيرية الأخرى هي علاقة عضوية، جذورية واشتقاقية لأنها لغات شقيقة ومن عائلة لغوية واحدة. لذلك، ليس من الغريب أن نجد مفردات كثيرة بلفظها ومعناها في أكثر من لغة من هذه اللغات أو أنها توجد بقليل من التحريف اللفظي أو البعد في المعنى، أما اعتبار بعض الكلمات في اللهجة العراقية ذات الجذر العربي هي كلمات مندائية أو أكدية وأن هذه الكلمات في اللهجة العراقية جاءت منها فهو أمر غير علمي بتاتاً والأقرب الى المنهجية البحثية العلمية أن نعيد المفردات في أية لهجة في الدول العربية المعاصرة إلى جذرها العربي القريب، فإن لم نجده ووجدناه في لغة جزيرية أو غير جزيرة أخرى صحَّ عندنا  القول بأنها من رواسب هذه اللغة القديمة أو تلك.

كما أنَّ كون المندائية فرعاً من الآرامية والتشابه بل والتطابق بين هاتين اللغتين يجعل من العسير علينا البتُّ في ما إذا كانت هذه المفردة أو تلك في اللهجة العراقية هي ذات أصل مندائي أو آرامي.

إن محاولة إخراج المعجم اللهجوي العراقي من حاضنته العربية وهي اللغة السائدة الأحدث في عصرنا وإرجاعها الى لغة منقرضة أو في طريق الانقراض عمل لا مغزى فيه ولا يمت بصلة للمنهجية العلمية ولا يخلو من النزعات الأيديولوجية السياسية التي لا علاقة لها بعلوم اللغة.

إذن، سأخصص هذا العرض للكلمات التي اعتبرها مؤلف الكتاب مندائية ووجدت أنها ليست كذلك بل هي كلمات عربية ممعجمة.  وعلى أية حال فهذه مناسبة طيبة ليتعرف القارئ العراقي على الجذور العربية الفصيحة لمفردات لهجته إن لم يكن يعرفها من قبل.

اللهجة العراقية وعلاقتها بالعربية الفصحى

يربط العديد من الباحثين، كالشيخ محمد رضا الشبيبي في كتابه "معجم وأصول اللهجة العراقية"، بين ظهور وشيوع اللهجات وظاهرة الانتكاس الحضاري والتراجع المدني الذي أعقب سقوط الدول العربية الإسلامية وأهمها الدولة العباسية وعاصمتها بغداد، وهؤلاء يعتبرون اللهجة نقيصة ودليلا على الاستسلام الاجتماعي للمجتمعات العربية أمام الأجنبي، ويضيفون عاملا آخر إلى هذا العامل وهو اختلاط الشعوب غير العربية التي دخلت الإسلام بالعرب. والواقع فإن ظهور اللهجات أقدم كثيرا عصر ظهور الدول العربية الإسلامية، وهناك من يرى أن اللغة العربية الفصحى لم تكن في البداية إلا لهجة من لهجاتها القبلية ويحددونها بلهجة قريش.  والحقيقية هي أن العلاقية بين اللغات واللهجات علاقة جدلية "ديالكتيكية" لا تخلو من التعقيد والغموض؛ فإذا صح أن هناك لغات تطورت عن لهجات وهناك الكثير من الشواهد والأدلة في ما يخص اللغة العربية ولهجاتها القبلية قبل الإسلام وفي سوح لغات أخرى غير العربية كاللغات اللاتينية التي تقترب معجمياً وقواعدياً من بعضها إلى درجة يمكن اعتبارها أقرب الى اللهجات التي استقلت عن بعضها بمورو الزمن والتطورات التاريخية، فيمكن - في المقابل- أن نرى بعض الصحة في النظرية التي ترى في أن ظهور اللهجات جاء لاحقاً لوجود لغة أم أصيلة وبسبب عوامل تاريخية واجتماعية وجغرافية ولسانية كما هي الحال في اللهجات العربية في البلدان المتباعدة في قارتي آسيا وأفريقيا. وهذا ما عنيتُهُ بالعلاقة الجدلية التطورية بين اللغات واللهجات. يتبع.

***

علاء اللامي

"الديمقراطية بحاجة إلى الدعم، وأفضل دعم للديمقراطية لا يمكن أن يأتي إلا من الفاعلين الديمقراطيين"

المقدمة: صارت الديمقراطية من الأمور المستحيلة في العالم العربي بعد أن كانت أن تتحول إلى مكسب مدني وتعطل القطار الذي اعتقد الكل بأن العرب قد ركبوه دون نزول بعد موجات من الحراك الاجتماعي السلمي. ربما يعود هذا التعثر إلى ضبابية المفهوم وغياب الضمانات والمؤسسات الراعية وتأخر الذهنيات وتعطل الثورة الثقافية وبروز التكالب على السلطة وانقسام النخبة بشكل لافت عن القيادة واختلاط مشاريع تحديث وتنمية.

فما هي الديمقراطية؟ كيف تعرف الديمقراطية؟ ما هي أسسها؟ وماهي مختلف أنواعها؟ وما الفرق بين المباشرة والتمثيلية والتشاركية والتداولية؟ ولماذا يعتبرها المدافعون عنها نظامًا سياسيًا محفوفًا بالمخاطر؟ ما الذي جعل الديمقراطية عندنا متعثرة وغير مالكة لوجودها القانوني؟ ومتى يتم تحصيلها بصورة تامة ونهائية لا رجعة فيها واستنباتها على أرضنا؟ ألا يجدر في البداية التربية على الديمقراطية وإعداد ديمقراطيين؟

مفهوم الديمقراطية

من الناحية اللغوية، يشير مصطلح "الديمقراطية" إلى نوع من النظام السياسي يكون فيه الناس (ديموس) هم من يمسكون بزمام السلطة (كراتوس). ومع ذلك، فإن أصل الكلمة هذا يتوافق بالتأكيد مع الديمقراطية التشاركية، وهي نادرة جدًا ودائمًا على نطاق محدود (بلدية بورتو أليجري على سبيل المثال)، ولكن ليس مع ما تفهمه عادةً الديمقراطية، الديمقراطية التمثيلية، أي لنقل نوع من نظام سياسي يكون فيه الناس هم من يحدِّد من يمسك بزمام السلطة أو من يملكها. ولكن من خلال الاكتفاء بهذا التعريف الأخير "الأدنى"، يمكن للمرء أن يصل إلى انحرافات حقيقية، وعلى وجه الخصوص تسمية الأنظمة "الديمقراطية" التي ليس لها حتى مظهر واحد. لأن الديمقراطية الحقيقية، حتى التمثيلية، تتطلب أكثر بكثير من الاقتراع العام. على وجه الخصوص، يمكننا أن نشير إلىالتعددية السياسية أو التعددية الحزبية، والتي تمنع الناخبين من الاضطرار إلى الاختيار بين مرشح واحد، وكذلك إمكانية حقيقية للجميع، دون تمييز، للترشح في الانتخابات. بعد ذلك ترتكز الديمقراطية على فصل السلطات - التشريعية والتنفيذية والقضائية - مما يجنب تركيز السلطة في أيدٍ قليلة. على سبيل المثال، لا يمكن المبالغة في التأكيد على استقلال القضاء عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، في حالة من غير المحتمل أن يكون ممثلو هاتين السلطتين محل اهتمام القضاة لأسباب تدينها العدالة. من جهة ثالثة تقتضي فترة ولاية معقولة، والتي تتجنب التقاعس عن العمل في السنوات الأولى من السلطة مثل إنشاء أنظمة لمنع التناوب السياسي، سواء كانت هذه الأنظمة قانونية - تعيين أشخاص "موثوق بهم" في مناصب رئيسية، ومحسوبية مختلفة،كما انها تحد من انتشار الفساد والاحتكار والتمركز والاقصاء على سبيل المثال.

علاوة على ذلك تحتكم الديمقراطية الى ضوابط وتوازنات عديدة ومتنوعة وتمثيلية - نقابات، وجمعيات مختلفة، ووسائل إعلام مستقلة - لها الحق في التعبير عن نفسها بحرية، والتي يجب أن يمنع عملها الحكام من الاستسلام لإغراء خطير لحل مشاكل الأغلبية بإيذاء أقلية حتى مع الموافقة الصريحة من هذه الأغلبية، مهما كانت هذه السياسة قد تبدو ديمقراطية. لكن هذه الضوابط والتوازنات لا ينبغي أن تكون "جماعات ضغط"، أي أعداء للمصلحة العامة، وهي ليست دائما، بعيدة عنها، مصلحة الأغلبية.

زد على ذلك ان “الضمانات" الأخرى هي بالطبع ممكنة بل ومرغوبة، حيث يُظهر التاريخ، وخاصة التاريخ الحديث، أنه حتى لو تم استيفاء جميع هذه الشروط إلى حد ما، يمكن أن يصاحب ما يسمى بالنظام الديمقراطي مواقف قد تبدو غير ديمقراطية على وجه التحديد، مثل وجود شكوك قوية حول نزاهة كبار السياسيين، شكوك يستحيل تأكيدها أو نفيها من خلال حقيقة ما يسمى بالقوانين الديمقراطية. على هذا لنحو يبدو إذن أن أهم هذه "الضمانات" تكمن، من الناحية النظرية على الأقل،فيما يشكل شرعية الديمقراطية ذاتها: فكرة أن الناس، أو بشكل أدق غالبية الناس الذين يتحدثون أثناء الانتخابات (والتي في بعض البلدان وفي بعض الانتخابات قد يتوافق مع الحد الأدنى من المواطنين) أولاً، يعرف دائمًا مكان مصلحته - كشعب - وبالتالي يعرف لمن يجب أن يصوت حتى يتم أخذ هذه المصلحة في الاعتبار،وثانيًا، يصوت دائمًا في اتجاه مصالحها الفضلى - دائمًا كشعب. ومع ذلك، فيما يتعلق بالنقطة الأولى، هناك العديد من الحالات التي تظهر أن الناس يمكن أن يكونوا مخطئين بشأن أولئك الذين يجب أن يتولوا مسؤولية مصالحهم، كما يتضح من جميع "خيبات الأمل" التي يدعي الناخبون أنفسهم أنهم ضحايا لها. فيما يتعلق بالنقطة الثانية، لا يزال هناك عدد أكبر من الحالات التي لا يصوت فيها الناخبون - لم يعد بإمكان المرء أن يقول الناس، الذين لم يعد لديهم وحدة - لمصلحة الشعب، ولكن لصالح الشعب. الشعور بمصالحهم الشخصية، أو ما يعتقدون أن يكون. على وجه الخصوص، تعتبر الانتخابات المحلية فرصة لمناشدة هذه المصالح الخاصة أكثر من المصلحة العامة، في تحد للديمقراطية. نحن نطلق على "الغوغائية" جميع الوسائل التي يمكن من خلالها للمرشحين في الانتخابات أن يحرفوامعنى الانتخابات الديمقراطية، أي تحديد المصلحة العامة وأولئك الذين سيكونون مسؤولين عن إرضاء له.

في الحالة الأولى، يعاني الناخبون من الغوغائية ("لم يتم الوفاء بالوعود").

في الحالة الثانية، يتم قبول الغوغائية بشكل أو بآخر من قبل هؤلاء الناخبين، على سبيل المثال عندما "يلعب" المرشحون على مخاوف أو تخيلات، عندما لا يهاجمون صراحة أقلية (مهنية، عرقية، مذهبية إلخ).لذلك يجب أن نسأل أنفسنا ما إذا كانت هذه الفكرة التي هي أساس أي ديمقراطية، فكرة أن الناس يتمتعون بالوضوح الكافي ويتمتعون بالكياسة الكافية حتى لا ينحرفوا، طوعا أم لا، الديمقراطية بأصواتهم، إذا كانت هذه الفكرة، بالتالي، هي شيء آخر غير الوهم. فهل تقوم الديمقراطية على الوحدة ام التعدد؟

"في مقدمة فينومينولوجيا الروح، يخبرنا هيجل بأن: "الحق هو الكل". هذه الجملة، للوهلة الأولى،ملغزة وغامضة، ومع ذلك فهي تدل على موقف وجودي رئيسي انخفض في جميع الثقافات عبر تاريخ الفلسفة. هذا الموقف يسمى الوحدانية. في حالة هيجل، أن التحرير الحقيقي يعني الكل وأن الاختلاف بين كائنات الكون والذات التي تتمثلها قد تم إلغاؤه حتى لا يصنع شيئًا أكثر من طبيعة مشتركة (التي يسميها هيجل الروح) وهذا،من خلال تاريخ طويل من المعالجة التاريخية. هذه الأحادية بالذات هي موقف فلسفي خاص بهيجل، ولكن الأحادية تراجعت في الإصدارات التي تتجدد دائمًا، على سبيل المثال موقف تلميذ هيجل، كارل ماركس، أو قبل ذلك بكثير في التاريخ البوذية،العلموية، ذرية ديموقريطس والعديد من الفلسفات الاخرى أو وجهات النظر الدينية. ولكن ما الذي يوحد كل هذه الآراء التي تبدو متنوعة للغاية؟ تشترك جميع الفلسفات والديانات الأحادية في هذا الأمر الذي يجعلهم يعتبرون كل ما هو موجود مكونًا من مبدأ واحد. يمكن أن يكون هذا المبدأ في قاعدة كل الوجود على سبيل المثال جوهر، وهذه كلها أشكال من المادية، ولكنها يمكن أن تكون أيضًا الروح، أو حتى الله، على سبيل المثال في النظرة اللاهوتية للعالم. تعني وحدة المبدأ هذه أن كل شيء موجود في الكون هو نتيجة لهذا المبدأ. على سبيل المثال، في الهيجلية، التاريخ هو العملية التي من خلالها يدرك الروح الكون على أنه من نفس الطبيعة كما هو الحال في حدس يسمى المعرفة المطلقة. في أحادية العالم، الإنسان مخلوق مادي، نتيجة لعمليات فيزيائية كيميائية معقدة. الفكر والمفاهيم يتم اختزالها في التبادل الكيميائي بين الخلايا العصبية والإنسان، تمامًا مثل الكونما هو إلا مجموعة من الذرات ذات بنية سعيدة.

الانسان او العالم

إن لمجتمع الوجود هذا بين الكون والإنسان الذي يسكنه ويمثله لنفسه نتائج فلسفية مهمة. النتيجة الأولى هي أن الفلسفة الأحادية هي دائمًا حتمية. في الواقع، إذا كان هناك استمرارية للطبيعة بين الكون والإنسان، فإن الاثنين يخضعان لنفس القوانين، قوانين الكون التي لا استثناءات لها والتي تخضع لها كل الأشياء لأن قوانين الكون هي تعبير عن المبدأ (المادي أو الروحي) من حيث هو أساس كل شيء. على سبيل المثال، إذا كان كل شيء، كما في حالة المادية، فستخضع كل ظاهرة لقوانين المادة، لأن المادة هي أساس كل الأشياء الموجودة. النتيجة الثانية هي الوضوح التام للكون. إذا كان كل شيء من نفس الطبيعة، فهذه الطبيعة مفهومة. في الواقع، الوضوح قدرة بشرية، وفي الوحدانية، الإنسان له نفس طبيعة الكون؛ وبالتالي فإن الكون نفسه مفهوم تمامًا: فالعقلانية والكون وجهان بالفعل لشيء واحد. هذا ما يقوله هيجل في مبادئ فلسفة القانون التي من أجلها: "كل ما هو عقلاني هو حقيقي، وكل ما هو حقيقي، عقلاني". العقلانية، اللغة العقلانية في كل الأحاديات، حتى اللاهوتيات، اللغة المميزة للوصول إلى الكون، والنتيجة الثالثة، والتي هي بالنسبة للعديد من الناس العاديين في الفلسفة الأكثر صعوبة في القبول، تتمثل في المكانة الممنوحة للإنسان من قبل الوحدانية. إذا كان الإنسان من نفس طبيعة الكون، فهو بطريقة ما غبار إذا قارناه بالكون، إذن، بعيدًا عن كونه مركز الكون، فإن الإنسان عبارة عن فتات سخيفة وادعاءاته سخيفة. يذوب الإنسان في المادة من أجل المادية، في الدولة، انبثاق الروح العالمي لهيجل، في إرادة الله لبعض اللاهوتيين. وبالتالي، فإن وجود الإنسان، في ظل هذه الظروف، لا لزوم له وطفلي. وبالتالي فإن كل أحادية هي معاداة إنسانية، وهذه اللاإنسانية وهذه الحتمية، المشتركة بين جميع الأحاديات، تتوج في البوذية، التي حتى الوعي هو مجرد وهم. في حين أن العلموية، التي تعتبر أن الإنسان قد اختزل إلى ظاهرة فيزيائية - كيميائية، تستبعد كل خصوصية الإنسان فيما يتعلق ببقية الكون. ومع ذلك، فإن هذه النتائج الثلاثة للوحدة،والحتمية، ومناهضة الإنسانية، والعقلانية المطلقة، هذه النتائج الثلاثة لها نتائج طبيعية، ونتائج عملية عندما يتعلق الأمر بالتفكير في العواقب الأخلاقية والسياسية لهذه النظريات. كما رأينا، فإن الأحادية لا تميز بين الكون والفرد. لذلك، يجب أن تكون قوانين المدينة من نفس طبيعة قوانين الكون وخاضعة لها. وبالمثل، يجب على المواطن داخل المدينة الخضوع لقوانين الكون لأنها نتيجة لها.لحسن الحظ، لم تعد الدول الحديثة انعكاسًا للنظام الإلهي كما كانت المدن القديمة أو الإنشاءات السياسية في العصور الوسطى. لكن الأحادية السياسية لا تزال قائمة على فكرة أن السلوك الفردي وقوانين المدينة يجب أن يخضع لقوانين وأعراف موضوعية، وواقعها الذي لا لبس فيه يتجاوز إرادة الفرد البسيطة. تتخذ الأحادية السياسية المعاصرة شكلين أساسيين: شكل الإيكولوجيا السياسية والماركسية الشعبية.

أولاً، تدعي البيئة السياسية أنها تبني سياستها على نتائج بيئية ملزمة، مثبتة من خلال البيانات والنتائج العلمية التي لا لبس فيها في موضوعيتها. وهكذا، بالنسبة لبعض علماء البيئة، فإن القوانين البيئية ليست ثمرة للتداول الحر، وليست ناتجة عن خيال ذاتي، ولكنها ضرورة قسرية ناتجة عن ملاحظة موضوعية. هذه هي الطريقة التي يدعي بها بعض دعاة حماية البيئة أنه، باسم الموضوعية البيئية، يجب أن نقصر البشرية على نصف مليار إنسان. المشكلة هي: كيف سيتم ذلك؟

ثانياً، تنوي الماركسية أن تبني برنامجها السياسي على أساس حل التناقضات الحقيقية والموضوعية للصراع الطبقي. إن الصراع الطبقي، محرك التاريخ، يولد بالضرورة المادية الديالكتيكية التي هي العلم الذي يمكّن من حل التناقضات الخاصة بالرأسمالية، مما يؤدي بالضرورة إلى دكتاتورية البروليتاريا والمجتمع اللاطبقي.

الوحدانية والحتمية

في كلتا الحالتين، نرى أن طبيعة الأشياء تعني أن سياسة المدينة ليست اختيارًا متعمدًا ولكنها مفروضة بالضرورة إما بيئية أو تاريخية بعد الملاحظات التي تدعي الموضوعية العلمية. من السهل أن نرى أن هذه النظريات الأحادية تنكر حريات الإنسان لأن الحرية تُنكر بالضرورة. في الواقع، فإن النظرية السياسية القائمة على الوحدانية هي دومًا شمولية لأن المواطن في الوحدانية يخضع دائمًا لواقع كوني وموضوعي لا يستفيد من حريته كثيرًا. إذا لم تكن كل الأنظمة الشمولية بالضرورة أحادية، فإننا نستنتج من هذه الاعتبارات أن كل الأحادية السياسية هي بالضرورة شمولية. ومع ذلك، فإن الوحدانية لها أيضًا عواقب أخلاقية: داخل المدينة (سواء كانت حرة أو دكتاتورية)، لا توجد إرادة حرة للمواطن إذا كان هذا الأخير نتيجة لنظام الكون الذي يتصرف فيه. مصير أسطورة إير في جمهورية أفلاطون، كارما البوذيين، الأقدار لجون كالفين، كلها نظريات كونية تنكر حرية الإنسان. وبالمثل، جغرافيًا ونفسيًا واجتماعيًا أو الحتمية الاقتصادية، إذا لم تكن هذه النظريات أحادية بالضرورة، فإنها تعمل كنظريات أحادية لأنها تنكر الإرادة الحرة للإنسان وتختزله إلى كونها تحديدًا بسيطًا بدون مضمون، فإنها غالبًا ما تعمل مثل النظريات الكونية للقدر المذكورة أعلاه بينما تريد بوعي أن تكون عقلانيًا وخاليًا من الخرافات اللاهوتية. ان الأحادية، هي سيف ذو حدين. إذا تصرفت بشكل جيد، فأنا أتواصل مع الكون، ولكن إذا تصرفت بشكل سيئ، فإن الكون كله يدينني ويعاقبني حتى لا أستطيع فعل أي شيء لتصحيح نفسي. تفترض الأحادية الشفافية بين الموضوع والكون وقوانين المدينة. نادراً ما تكون هذه الشفافية، في الأزمنة المعاصرة، دينية بل علمية إلى حدٍ ما: فقد حلت موضوعية العلم محل إرادة الله، ويجب على الديمقراطيات الغربية، في رأينا، أن تحذر من جعل العلم (وبياناته الموضوعية) برنامجًا سياسيًا. إنها ليست مسألة إعادة تأسيس النسبية أو القوانين التعسفية، لكن العلم يريد أن يكون موضوعيًا وينكر حرية الإنسان ليحل محله الإكراه. لذلك ينكر تنوع الآراء الذي هو أساس الديمقراطية".فكيف نجعل من النضال الديمقراطي مركز الثقل في البرنامج السياسي الذي يجدر تنزيله في زمن الموجات الثورية المتعاقبة؟

معنى الديمقراطية وشروط امكان استمرارها

"اخترعت العصور القديمة الأثينية المصطلح، والمفهوم المترابط للمواطنة، في شكل اجتماعي قائم على العبودية، بحيث يكون الرجال فقط، وليس النساء، "أحرار"، أي غير العبيد، مواطنين. من ناحية أخرى، تم تصور المثالية الديمقراطية الحديثة من خلال معارضة فكرة أن السلطة تأتي من الله - ما تقوله ملكية الحق الإلهي؛ ولكن أيضًا فكرة أنه قائم على النسب - وهو ما يؤمن به النبلاء. يمكننا تحديد أن فكرة تحديد المصدر الذي تأتي منه السلطة السياسية في الشعب تتعارض مع عدد من المعتقدات وعدد من الممارسات: على سبيل المثال، الاقتناع بأن السلطة تستمد شرعيتها من تفوق القوة. الحق في الغزو؛ السلطة "الغاشمة") - أو سلطة الأغنياء، والتي من شأنها أن تمنحهم "جميع الحقوق". ان أصل الكلمة: من الشعبdemos،"الجمهور" وkratos، "السلطة"، "السيادة". نظام سياسي يقوم على مبدأ أن السيادة ملك لجميع المواطنين، إما بشكل مباشر (من خلال الاستفتاءات) أو بشكل غير مباشر من خلال ممثليه المنتخبين. يجب إجراء الانتخابات بالاقتراع العام، على أساس منتظم ومتكرر. تفترض الديمقراطية وجود مجموعة من الخيارات والمقترحات، تتجسد بشكل عام في الأحزاب والقادة الذين يتمتعون بحرية معارضة وانتقاد الحكومة أو الجهات الفاعلة الأخرى في النظام السياسي. لذلك فإن الديمقراطية لا توجد إلا إذا كان هناك "تنظيم دستوري للمنافسة السلمية من أجل ممارسة السلطة" (ريموند آرون). تتطلب الديمقراطية أيضًا الاعتراف بالحريات العظيمة: حرية تكوين الجمعيات وحرية التعبير وحرية الصحافة. من الناحية القانونية، الديمقراطية جزء من سيادة القانون. ثقافيا، يتطلب قبول التنوع. كما تتعارض الديمقراطية مع الاستبداد: الاستبداد والأرستقراطية والملكية والديكتاتورية وجميع أشكال السلطة حيث يتم استبعاد الأغلبية من عملية صنع القرار (الأنظمة الاستبدادية والشمولية). يستخدم المصطلح أحيانًا بطريقة مسيئة أو مضللة لإخفاء الديكتاتورية (مثال: "جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية"). وتجدر الإشارة إلى أن المصطلح اليوناني demos لا يتوافق مع المجموع البسيط للمواطنين الأفراد. ميز القدماء لاوس عن العروض التوضيحية. المصطلح الأول مرتبط بحشد أو كتلة بدون تنظيم، بدون وعي واضح ؛ في الحالة الثانية، إنها مجموعة منظمة من المواطنين. نادرًا ما يُستخدم مصطلح الديمقراطية قبل القرن الثامن عشر. لم ينتشر الاستخدام الحالي للمصطلح إلا بعد الثورتين الليبرالية، الأمريكية والفرنسية. ومع ذلك، هل يكفي للديمقراطية أن يكون "صوت الشعب" "مقدسًا"، أن تستخدم المثل الروماني " صوت الشعب صوت الله "؟ يظهر التاريخ أن الانقلابيين يتمتعون بشعبية بعد مصادرة السلطة لإرساء الاستبداد أو الديكتاتورية. كان هذا هو الحال مع نابليون الثالث الذي أسس النظام الاستبدادي للإمبراطورية الثانية بعد الانقلاب الذي قام به في عام 1851. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أنه إذا كان بالفعل "صوت الشعب" هو المصدر الشرعي الوحيد السلطة السياسية في ديمقراطية، هذا الصوت لا يملي أي شيء في الأمور الاقتصادية والمالية. إن المفهوم الحديث للوجود المدني الديمقراطي، كما تم تطويره في القرنين السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، يفترض استقلالية السياسي فيما يتعلق بجميع سجلات الوجود العام الأخرى - وعلى وجه الخصوص ليس فقط تلك المتعلقة بالممارسات والسلطات الدينية، ولكن أيضًا في المجال الاقتصادي. لذلك ينبغي التأكيد على أن الاقتصاد الذي تحكمه المنافسة الحرة بدون مكابح لا ترتبط بطبيعته بالديمقراطية بأي حال من الأحوال. تحتفظ الملاحظة التي أدلى بها روسو في الكتاب الأول من العقد الاجتماعي بأهميتها: "في الواقع، تكون القوانين مفيدة دائمًا لمن لديهم شيء وتؤذي أولئك الذين لا يملكون شيئًا: ومن ثم فإن الحالة الاجتماعية مفيدة للبشر فقط. طالما أنهم جميعًا لديهم شيء ما، وليس لدى أي منهم أي شيء أكثر من اللازم ". في شرح مفصل لمبادئ أي مجتمع ديمقراطي، يرفض روسو في ملاحظة ما يتعلق بمسألة الثروة ويقتنع بالتشديد على أنه من المناسب للمواطنة ألا يكون هناك أحد فقير، لدرجة القلق فقط بشأن بقائها - ولا أيضًا. غني، لدرجة الرغبة في "شراء" الآخرين. يجب أن نصر: الاستقلالية السياسية تعني أن السلطة العامة هي التي تنظم الشؤون المشتركة - لا الدين وكنائسه المختلفة (كما هو الحال مع الثيوقراطيات) - ولا الاقتصاد والتمويل (هذا هو الحال مع الأوليغارشية). لذلك نرى أهمية البدء، كما هو مُحاول هنا، بعدم ترك مستوى التعريفات والمبادئ لأننا لا نستطيع الحكم على الحقائق التاريخية الماضية والحالية دون تصورات واضحة. روسو، بلا شك الأول، رأى بوضوح أن "سلطة الشعب" يجب أن تعني ليس فقط أن الشعب وحده هو المصدر الشرعي للسلطة، ولكن، علاوة على ذلك، يجب أن يُسمح لهم وحدهم بممارسة هذه السلطة. ويؤكد أنه "إذا كان روسو قد اقتصر على التأكيد على أن السيادة كانت أصلاً في الشعب، فلن يقل شيئًا أكثر من هوبز، المدافع عن النظام الملكي المطلق، الذي يرى أن: "الملكية، مثل الأرستقراطية، تستمد أصلها من سلطة الشعب، التي تنقل حقها، أي السيادة، إلى رجل واحد". على العكس من ذلك، فإن ما "يمثل حقبة"، هو التأكيد على الطابع "غير القابل للتصرف" للسيادة الشعبية: إذا لم يكن هناك حاكم آخر غير الشعب، فيجب على الأخير ممارسة السيادة بنفسه. يمكننا أن نرى بوضوح سلسلة الصعوبات التي سببتها فكرة الديمقراطية كسلطة للشعب من قبل الشعب: كيف نسمع صوت الشعب؟ كيف يمكن للشعب ممارسة السلطة؟ من هو "الشعب"؟

تتمثل الديمقراطية في ممارسة الشعب للسلطة بشكل مباشر أو غير مباشر. يتضمن هذا التنظيم السياسي حالة اجتماعية تتميز بحقيقة أن الجميع متساوون أمام القانون، وأن الجميع لهم نفس الحقوق. الوظائف متاحة للجميع، يجب أن يُدعى المواطنون إلى الحياة الفكرية والأخلاقية، وأكثر فأكثر في وضع يسمح لهم بممارسة جزء من السلطة لهم بطريقة فعالة ومعقولة يُنسب إلى الدولة الديمقراطية واجب إقامة الأعمال الإرشادية والتعليمية وأعمال التضامن. النظام الديمقراطي لديه حق الاقتراع العام كأداة له والشكل الجمهوري كإطار أكثر ملاءمة بشكل خاص. من الذي سيعلن إعجابه وتفضيله لنظام شمولي؟ حتى الحركات الدينية تدعو إلى الديمقراطية للحصول على الجنسية في البلدان أو في الأنظمة التي تتحدىها. حتى الأحزاب الفاشية والشعبوية تعتقد أن لها الحق الكامل في التمتع بالحريات الديمقراطية في التنظيم والتعبير عن نفسها علنًا، على الرغم من أنها أعداء للديمقراطية. يقول معظمهم إنه في الديمقراطية لا ينبغي "شيطنة" أحد، ولكن على العكس من ذلك، يجب أن يكون كل شخص قادرًا على التصرف والتحدث بحرية.إذا لم نعد نعارض "الحكم المطلق" - "الثيوقراطية" - "الاستبداد"- "الملكية" إلى "الديمقراطية"، من ناحية أخرى، فإن "الديكتاتورية" و "الديكتاتور" يعودان إلى اللغة المشتركة، بينما يتراجعان "الشمولية" ؛ إن نجاح هذا المصطلح باعتباره المتناقض الوحيد لكلمة "الديمقراطية" طوال الحرب الباردة يدين بالكثير لكتابات حنة أرندت. تُفرض سلسلة مزدوجة من الشروط: من ناحية، يجب أن تجد الإرادة الشعبية تعبيرًا عنها، الأمر الذي يتطلب تنظيم الاستشارات بالاقتراع. لذلك يبدو الحق في التصويت كحق سياسي رئيسي لتحديد مكانة المواطن. لكن من ناحية أخرى، لا يمكن أن تكون هناك إرادة شعبية إذا كان المجتمع يفتقر إلى كل من المؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام المحايدة. فالجاهل، كما نعلم، يقعون بسهولة فريسة للتعصب الأعمى الذي يجعلهم غير قادرين على الحكم على الصالح العام بشكل صحيح؛ وإذا حلت الدعاية محل المعلومات من خلال التظاهر بوضوح بأنها كذلك، فكيف يمكن للجماهير الشعبية أن تتجنب، كما يظهر التاريخ الحديث، التملق بطاغيتها؟ من خلال "زعيمهم" الكاريزمي (الفوهرر) لا يشكلون شعبًا سياسيًا، حتى لو تمت استشارتهم اشادة أو الاستفتاء العام الأخير. إما أن يقرر الناس بأنفسهم مباشرة في ديمقراطية مباشرة أو يفوضون سلطتهم في ديمقراطية تمثيلية. لم تتوقف النقاشات أبدًا بين مؤيدي الديمقراطية المباشرة وأنصار "التمثيل". الديمقراطية المباشرة، أو يقرر المواطنون المجتمعون بأنفسهم، بشكل مباشر، في كل ما يتعلق بالصالح العام. لا يجب عندئذٍ استدعاؤهم بانتظام فحسب، بل يجب أيضًا "استدعاءهم" دون توقف، نظرًا للطبيعة غير المتوقعة للظروف. الديمقراطية التمثيلية أو المواطنين يقررون، ولكن بشكل غير مباشر، من خلال ممثليهم، وهو أمر يمكن تصوره لمستويات متعددة من الوجود الاجتماعي. التمثيل يؤسس الشعب كشعب سياسي، ويؤسس كلاً من الممثل، على سبيل المثال الملك، والممثل، الذي هو دائمًا الشعب. وهكذا في المسرح، من خلال التمثيل، يظهر كل من الممثل (الممثل في عملية العزف) والممثل (هاملت على سبيل المثال) إلى الوجود. ومع ذلك، يرفض روسو هذا النوع من المصطنعة ويرى في تفويض السلطة إلغاءها. على العكس من ذلك، حسب رأيه، في صفة كل فرد أن يكون في نفس الوقت "سياديًا"، أي مشرّعًا، و "خاضعًا"، أي مطيعًا للقوانين، أن الجنسية تكمن. ليست الحرية الميتافيزيقية بأي حال من الأحوال، بل الحرية المدنية والسياسية التي ينظر إليها روسو وحده عندما يعلن أن هذا يتمثل في "طاعة القانون الذي يمنحه المرء لنفسه". " في الديمقراطية المباشرة نفس "ذات سيادة" و"رعايا". في الديمقراطية النيابية، يفوض "صاحب السيادة" لممثليه السلطة التشريعية المنوطة بمجلس نواب الشعب، ويبدو أن مناشدة المواطنين المجتمعين هي أفضل طريقة لتجنب الاستيلاء على قرارات الشعب. ومع ذلك، فإن هذا المظهر يتناقض إذا فكر المرء للحظة في ظاهرة جماعية، والتي تحدث حتى في مجموعات صغيرة: المنافسات، والحيل، وظهور "القادة" - بشكل عام الأكثر فظاظة، أولئك الذين يتحدثون بصوت عال، يعرفون كيفية جذب الناس. رأي. ولأن أفلاطون تحديدًا بين كل الديمقراطية والديمقراطية المباشرة، فقد كان أكثر قتلة لها: لقد رأى بوضوح شديد أن الأكثر عنفًا والأكثر استبدادًا استحوذ على عواطف وآراء الآخرين ورأى بصعوبة. على الرغم من أنه إذا كان رأي الجميع كذلك من المفترض أن تكون شرعية، لم يعد هناك صواب أو خطأ - لا صواب أو خطأ، صواب أو خطأ. الجاهل سيكون على حق ضد المتعلمين، والأطفال ضد تجربة المسنين، والبلطجية ضد الرجال الشرفاء، وهكذا، حتى يسود ميزان القوى في النهاية. وهكذا، فإن أثينا، التي أصبحت فريسة الديماغوجيين عن طريق الديمقراطية، غرقت في الطغيان، وبالتالي ستبقى الديمقراطية التمثيلية. رأى روسو في هذا، وليس بدون سبب، الخطر الكبير المتمثل في أن ممثلي الشعب يخلطون بين مصلحتهم والمصلحة العامة، أو أنهم يطيعون مصالح مجموعات معينة. ومع ذلك، يمكن تقليل هذا الخطر بشكل كبير إذا تم انتخاب ممثلي الشعب لفترات قصيرة - وخاصة إذا تم وضع مؤسسات للتحكم في قراراتهم وأفعالهم (مع سلطة تقييد واضحة في حالة الخيانة أو الاختلاس). الخطر الرئيسي الآخر هو أن ممثلي الشعب يصبحون محترفين في السياسة، وهو ما يمكن فهمه بمعنيين مختلفين للغاية. هذا لأن التسويق الإعلاني يتطلب خبرة ومهارة بطريقة مختلفة تمامًا عن فن السياسة. لالتقاط المشاعر والمعتقدات، لا تحتاج إلى شعب بل جمهور - ليس مواطنين، ولكن مستهلكين للصور. لذلك من الضروري معرفة كيفية إثارة التخيلات المغلفة ضمنيًا بعناصر اللغة والشعارات وتسريحة الشعر ولون ربطات العنق والأزياء. من ناحية أخرى، إذا أفسحت تقنيات التقاط المشاعر المجال للعلوم السياسية، فإن إدارة الشؤون العامة لم تعد مجازفة بأن تكون ديمقراطية بل، بالمعنى الدقيق للكلمة، "أرستقراطية" كحكومة من أكثر الحكومات علمًا، "الأفضل. ومع ذلك، فإن اعتناق العقيدة الديمقراطية يسير في اتجاه معاكس تمامًا: فهو يمنح الجميع القدرة على الحكم على المصلحة العامة بشكل صحيح، والتي يتم التعبير عنها من خلال المساواة في الأصوات. سواء كنت غنيًا أم فقيرًا، قويًا أم لا، مشهورًا أو مجهولًا، فإن بطاقة اقتراعك تحسب صوتًا واحدًا، مثل صوت أي شخص آخر: لا يوجد خبير في السياسة. هذا هو السبب الذي يجعل "الناخبين"، في الديمقراطية، "مؤهلين": الوصول إلى المناصب السياسية مفتوح للمواطنين. ومع ذلك، يبقى الناس، ويمارسه الناس أنفسهم، يقول إنه من الضروري التساؤل عما هو يقصده الناس. كيف يصبح السكان شعبا سياسيا؟ هناك نوعان رئيسيان من الإجابات: من ناحية أخرى، من خلال السؤال عن معرفة ما هو أساس التماسك الذي بدونه لا يمكن أن تكون وحدة الشعب كـ "هيئة سياسية" ممكنة (الإجابة من خلال أسس المجتمع السياسي ) ؛ من ناحية أخرى من خلال مسألة أغراض الوجود المدني (الذي يسأل المجتمع "لماذا"؟) ما هو الشعب السياسي؟

السكان ليسوا شعبًا سياسيًا: هذا التمييز هو الذي يفهمه هوبز، على سبيل المثال، عندما يراعي نفسه في الفكر مع حالة الطبيعة، والتي يجب، حسب رأيه، أن تُصوَّر على أنها حالة طبيعية. الكل ضد الكل. وبالمثل، عندما تصور روسو المجتمعات الأولى على أنها تجمعات عشوائية بسيطة خالية من جميع الحقوق، فإنه ينوي الإشارة إلى أن تجاور الأفراد في منطقة ما لا يجعل هؤلاء الناس شعباً. نحن نتحدث عن "الناس" من حيث "الجسم" السياسي - أو "الجسم" المدني للإشارة إلى أن فكرة السياسيين تغلف فكرة وحدة التعددية: المصلحة العامة، في الواقع، تسمح للكميات تعيش.من مجموعات معينة مع مصالحها المتنوعة، ولكن لا يوجد تماسك اجتماعي إلا إذا كانت هذه المجموعات والمصالح الخاصة لا تتعارض مع المصلحة العامة. وبالتالي فإن العلاقة بين المصلحة العامة والتماسك ستكون بالضرورة دائرية ؛ على العكس من ذلك، نفهم كيف أنه إذا كانت النزاعات بين مجموعات معينة (التي هي أجزاء من المجتمع) هي السائدة فقط، فإن الوجود الاجتماعي يصبح مجزأًا إلى درجة تدمير أي منظور عام. عندما لا يكون هناك سوى فصائل متنافسة في السلطة، فلا يوجد شعب سياسي، ولكن ما يسميه سبينوزا العزلة، أو "الصحراء". لأغراضنا، يكفي أن نفهم فقط ما هو أساس الاحتمال. كشعب يصر على تعايش الحريات. "التعايش" وليس "القيود المتبادلة". ومع ذلك، فإن الحريات الطبيعية للأفراد لا تتعايش إلا عندما تتحول إلى حريات مدنية، أي إلى حقوق فردية يكفلها حكم القانون. وترتبط طبيعة الجسم المدني بمسألة أخرى: وهي غايات الوجود في المجتمع. في ضوء أي وجود اجتماعي؟

خاتمة

يمكن اختزال وجهات النظر في العمل في تاريخ الفكر إلى مسارين رئيسيين: إما أن تكون الاحتياجات الحيوية هي التي تتطلب ضرورة تكوين المجتمع لأنها تتطلب التعاون، الطوعي أو غير الطوعي، من جميع أنواع المهام لتطوير التقنيات المطلوبة لإنتاج وصيانة وتوزيع البضائع - وهو ما قالته الأسطورة الأفلاطونية القديمة لبروتاغوراس جيدًا. لذلك فإن الغرض من المجتمعات هو الأمن، أو ما يسمى الرفاهية. الوجود المشترك في هذه الحالة ليس له نهاية ؛ إنها فقط وسيلة لضمان البقاء. كما ترتبط هذه النظرة السياسية بفرضيتين أخريين: من ناحية، تعد البشرية نوعًا ماديًا تتميز احتياجاته الخاصة بكونها قابلة للتمدد إلى أجل غير مسمى ؛ من هذه الملكية سيتبع الافتراض الثاني الذي يدعي أن الرجال سيكونون بالضرورة فريسة لرغبات الممتلكات والمتعة والسلطة مثل المنافسات، "حرب الكل ضد الجميع" لا يمكن كبحها إلا من خلال الهيمنة الحديدية. عندما نرى أن الأنثروبولوجيا المهينة مرتبطة بآراء سياسية سلطوية، فإن المسار الذي يمكننا تسميته بالعقلانية فقط هو الذي يتوافق مع المثل الأعلى الديمقراطي. يرى كل الفكر العقلاني الكلاسيكي (أي القرنين السابع عشر والثامن عشر) في الإنسانية، ليس فقط بالطبع، الوجود المادي لنوع حي، ولكن أيضًا وجودًا يسمى "أخلاقيًا" ؛ كل ما يمس مسألة معنى وقيمة الوجود الذي يقود المرء، ينتمي إلى الإنسان "الأخلاقي". يعرّف كانط الإنسانية على أنها نوع أخلاقي من خلال القدرة على تخصيص غايات أخرى غير الطبيعية (والتي تتكون بدورها من السعي لإشباع الحاجات والرغبات.) هذه القدرة تحدد بدقة حرية الإنسان.وبالتالي يرى كيف أنه من الضروري الإيمان في الحرية من أجل تصور الديمقراطية والدفاع عنها ؛ إذا كان المرء يؤمن فقط بالاحتياجات والرغبات، فإن "الاستبداد المستنير" سيكون كافياً بشكل كبير - ولكن أيضًا، للأسف، الاستبداد والاستبداد بدون عبارات، ذلك الذي يتبنى المبدأ القديم للأباطرة الرومان، "الخبز والدوائر" - الخبز والألعاب! بهذا، يُفترض أن يسكت الجمهور ... لأن الديمقراطية تقوم على الإيمان بالحرية، لأنها تؤسس الحريات وتضمنها وتحميها، فإنها تظهر وفقًا لمفارقة تشرشل على أنها أسوأ نظام غذائي، رغم أنه لا يوجد أفضل منها. الاتصال أكثر من الانهيار في الديمقراطية بالنسبة لتوكفيل، لا يمكن ولا ينبغي إعاقة المسيرة نحو الديمقراطية. وإلا فإنها تخاطر بالتسبب في اشتباكات عنيفة بين أفراد المجتمع (دفعت عائلتها ثمناً باهظاً في الثورة الفرنسية). هو بالأحرى تعبير عن انفصال بين تطور قيم المساواة من جهة والنظام السياسي الذي لم يتطور في هذا الاتجاه من جهة أخرى. يُظهر توكفيل أن ظهور الديمقراطية لا يشكل قطيعة مع نظام القديم. وهكذا استمرت بعض المؤسسات المركزية مثل محكمة المقاطعة بعد سقوط النظام الملكي. من المفروض ان تتم عملية "معادلة الشروط" التاريخية لضمان استمرارية الديمقراطية وتفادي عودة الاستبداد ومع ذلك، لا يحلل توكفيل الديمقراطية على أنها تجديد بسيط للنظام القانوني والسياسي، حيث تكون المساواة بين المواطنين شكلية فقط. تنبع الديمقراطية السياسية مباشرة من تطور لا يمكن إصلاحه للمجتمع بأسره وقيمه: إنها عملية تاريخية يسميها "تكافؤ الشروط". توكفيل يجعلها سمة مميزة للمجتمعات. يمكننا الاحتفاظ بثلاثة أبعاد لـ "معادلة الشروط":

- حقوق متساوية: يخضع جميع المواطنين لنفس القواعد القانونية

- تكافؤ الفرص: المواقف الاجتماعية مفتوحة للجميع حسب الجدارة وبغض النظر عن أصلهم الاجتماعي

- المساواة في الاعتبار: يمثل كل مواطن نفسه على أنه مساو للآخر حتى لو اختلف وضعه الاقتصادي والاجتماعي. إذن فالأمر يتعلق بحالة ذهنية، إنها القيمة الأساسية للمجتمعات الديمقراطية.

هناك علاقة جدلية بين تكافؤ الظروف والديمقراطية، بقدر ما يكون صعود الشعور بالمساواة هو ركيزة الديمقراطية. وهذا بدوره يعمل على البحث عن مساواة اجتماعية أكبر بين أعضائها. فمتى نرى الديمقراطية صلبة العود وضامنة للأساس الوجودي لاستمرارها؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

في الأكثرية والأغلبية وإرادة الأمة والحاكمية الإلهية ووضعية فقهنا السياسي

عندما نتناول بعض القضايا الأساسية المتعلقة بالحكم والسياسة (الإمامة والسياسة) ينبغي أن لا نقيسها بأحد العقول في تقابل ضدي وهما العقل التراثي والعقل الغربي ...

أو بالتبسيط والإختزال والإنطباعية والتبعيض والقفز على السياقات وتصنيم الموروث أو تراث الاخر وتقديس الإجتهاد البشري ورفعه إلى درجة الوحي...

إن موضوع الشورى يرتبط بقضايا عديدة وبدراسة لميكانيزماتها وكيفية إشتغالها في النموذج التطبيقي التاريخي الإسلامي البشري من بداية ميلاده إلى إخفاقاته إلى تحوله إلى حكم وراثي...الخ..

و هو يرتبط أيضا بما دون وشاع في تراثنا على قلته وضعفه وندرته وقلة جودته مما نجده في الفكر السياسي الإسلامي وما سمي بالسياسة الشرعية..

فقد تغلب ما يسمي بفقه العبادات على الفقه السياسي والدستوري والإداري الذي بقي باهتا أو شبه معدوم أو لم يصلنا..

و من ثمة ضرورة إنفتاح العقل القياسي حتى يستقيم قياسه ومقارنته وتحيينه على التجارب الإنسانية رغم تعثراتها وانزلاقاتها بما لها وما عليها بخصوص التجربة الديمقراطية والديمقراطية التشاركية ودور البرلمانات والمجالس المنتخبة والنقابات وصهاريج الافكارو الجمعيات والمنظمات غير الحكومية وقارتي الاعلام والمعلوماتية والمجتمع المدني ودوره...الخ..

فهي لا تتوقف على مراجعة لالياتها وأسسها ونقائصها وعوراتها وأعني التجربة الديمقراطية ...

عنوان نفكر في ونفكر ب عنوان يشمل كل مفاصل الحياة بل التفكير في اللامفكر فيه وبه أيضا بات موضوع نقاش وهي مقولة يتسرع بعض الناس في حكمهم على من يذكرها وتصنيفه أركونيا أو مستلبا بالمفهوم السلبي وهذا من أفعال العقل التصنيفي للأسف الذي يعيق عن التقدم. والمقولة تتعدى أركون انظر مثلا كلود لوفور وغيره ..

 نفكر الاسلام  نفكر العالم  نفكر الحداثة  نفكر السياسة  نفكر الإلحاد  نفكر العقل  نفكر ظاهرة الخيانة والجين والايطيقا والموت والحياة  نفكر التربية  نفكرالعالم الإسلامي والعربي والغربي وأوروبا ..الخ..بل نفكر كل شيء ...

...penser ..penser le monde ..penser l'avenir ..penser l'europe ..penser l'islam ..penser soi méme ..penser l'autre

و نحن للأسف كل شيء مقدس يسترجع من غير تفكير ونقد وتحليل ومراجعة...

على العقل العربي الاسلامي أن يكتشف الاخر ويقيس تلك الفوارق الكبرى التي توقظ وتصدم العقل العربي والاسلامي الذي يتحدث عن الشورى بصورة فضفاضة وهلامية في مخابىء التراث دون إلتفاتة إلى المنجز الغربي المختلف...

يجر تراثا فيه من المفاسد بلغة الفقه كما فيه من المحاسن التي يقدر حسنها في سياق معين ومحدد..

ينبغي أن نتلمس ونبحث بعمق وذكاء ووافر إطلاع على الذات و الاخر في كل ما يرتبط بموضوع الشورى والأكثرية من تراث وصلنا..

مع إنحسار مقولات إرادة الأمة و الأمة مصدر السلطات واتساع مقولة الله مصدر السلطات والتي تختصر في فهوم البعض في إرادة الله و الحاكمية الإلهية موضوعان مثيران للقلق قلقا لا يحسمه ببساطة هكذا للأسف إلا من كان بلغة القدامى عارية على الدين والفقه والتراث ومنجز الإنسانية في حين يهجر هذه الثغرة المجددون المقتدرون من النخب القليلة وهي ثغرة متروكة عارية.

لا يقرأ التراث من سمة وصفة كينونته المزايدات وبنيته النفسية نزاعة للإنغلاق والحسم المتعجل البسيط السطحي ومن كان عقله مشفرا يتقبح على الناس تكفيرا وتفسيقا وتتفيها ويجزم ويحسم في وثوقية ويقين مفتخرا بذلك طاردا ورافضا كل شك وتردد وسؤال...

ولا يقرأ التراث من لم يفهموا التراث بإستنارة أو الذين إختزلوه وتعاطوا معه بعقل إنطباعي قياسي فقهي يقفز على السياقات التاريخية او عقل هجين ملفق بعنوان التثاقف...

ويفرض علينا إستهلاك ما انتهت صلاحيته في سياق محدد ويلومنا بما ليس من مقولة الديني بل من مقولة فهم الديني والمطلق وهو دنيوي محايث خالص يمكن مراجعته أو تركه...

ومن خلال مبدأ الحاكمية الإلهية الذي إنزلقت فهوم الناس إليه ننزلق نحو فهوم كهنوتية تمنح مبررات لمن يتهمون الإسلام بالثيوقراطية ويشرع للدولة الثيوقراطية بامتياز مختصرا الاسلام في ايات الحكم وعلى رأسها من لم يحكم بما انزل الله .. قرآن

إن الأكثرية والأغلبية ليست مشكلة صواب وخطأ أو مشكلة الحقيقة بل قيمة أساسية تطبع الأداء السياسي الدنيوي وتحميه من الإستبداد والتفرد بالحكم باسم الدين أو التاريخ أو العلم ولا يجب أن نتعدى هذا الإعتبار...

إن إحترام مبدأ الأكثرية يصون حماة الثوابت اليوم وغيرهم ويطمئن العالم والناس أيضا ويرفع عن تيار الأصالة والدين تهمة أنهم يستخدمون الديمقراطية لينقلبوا عليها ويمارسوا بعدئذ مقولاتهم التراثية التي يؤمنون بها لبسط تفردهم واستبدادهم...

كما أن موضوع احترام الأكثرية يعلم الناس كيف أن للمدرسة دور هام وللجامعة دور مهم وللمؤسسات التثقيفية والدينية دور لا يقلل من قيمته في بناء الوعي الجمعي وصناعة العقل والسلوك الحر والمستقل والإرتقاء بالكسب والفهم والوعي...

و يجعل المجتمع يتقن ويحسن اختيار ممثليه الذين يشكلون هيئة الشورى عبر اللجان التقنية أولا التي تفحص الاراء عبر الخبرة ثم الهيئة العامة ثانية بحيث تتقلص احتمالات الخطأ والرأي الفاسد بما يمنع التفرد بالرأي والإستبداد تحت أي مبرر كان...

ينبغي التمييز بين الرأي التقني العلمي الدقيق المتعلق بعلوم المخابر وهندسة الطرقات والراي العلمي الإسلامي والإنساني وغيرهما.. الخ وبين الشأن المتعلق بالحكم وإدارته والشأن العام...

بل بات من مقتضيات الديمقراطية الصحيحة والياتها وأذرعها ما يسمى بالتنمية المستدامة او الدائمة وكذلك من بين اليات وأدوات اشتغالها العمل الجواري او المقاربة الجوارية التي تحولت الى هرف أي ثرثرة على المنابر للأسف وشعارات فضفاضة تنمق خطاب الباحثين والسياسيين والحكام عندنا وهي تقليد عملي في الحكامة والحكم عند غيرنا ومنها استشارة الناس عامة حول الخيارات الممكنة في كل ما يتعلق بالمشاريع الهامة التي تخدمهم وتمثل أولوياتهم...

و هو شكل من الاقتراب من الناس واشراكهم في القرار وهذا من الاجراءات التي اضيفت لترافق الممارسة الديمقراطية او التشاركية حتى تتقلص الهوة بينهم وبين الناس والمجتمعات لعزوفهم عن السياسي وهذا موضوع اخر...

عند إستجماع هذه الشروط يمكن ربما الجهر بأن رأي الأكثرية البرلمانية التي تعكس حقا إرادة الاكثرية إن إفترضنا فساده هو أهم من رأي صالح أتى به فرد متفرد لا نراه إلا يشق الطريق نحو الإستبداد...

لا مكان للرأي الفردي ولو صدر عن كبير علماء القوم في نظرهم ومن شيوخهم وكبار المختصين فهو رأي مكانه الكتب وحلقات النقاش ومخابر البحث والجامعات تعود إليه النخب ويعتمد عليه في المؤسسات المعنية ويعبر من خلال قنوات التفكير والتخطيط وصناعة المشاريع من أحزاب وجمعيات وكل من يتنافسون في معركة التمثيل النزيهة أو تلك المخولة لتمثيل الشعب ونخبه والتكفل بالمهمة التشريعية والمنبثقة حقا عن إرادة الشعب الفعلية...

أما الذين لم يتمكنوا من الوعي بالسياق وأهميته ويفكرون خارج التاريخ تفكيرا أسطوريا فعليهم أن يدركوا بأن المعرفة كما يقول جورج غورفيتش لها أطر إجتماعية - معرفية وكما يقول غيره لها زمن ثقافي ولحظة ثقافية...

كثير من الفكر التراثي القديم هو إجتهاد مرتبط بالسياق لا يعلو فوق النقد العلمي المفكك لبطاناته السياسية والايديولوجية محررا لدلالاته في السياق متجاوزا إياه لضرورات اللحظة الراهنة...

فلا نمكث مكاننا نستدعي اليات قديمة توفر اليوم ما هو أفضل منها بل علينا أن نشجبها ونستوعبها في إطار رؤية جديدة تمنحها محمولا أخلاقيا ومقاصديا وحضاريا مناسبا ومحينا أو نتجاوزها كلا أو بعضا ...

لم يعد اليوم يجدي نفعا اللجوء إلى مقولات أهل الحل والربط والإستمرار في النقاش حول هل الشورى ملزمة أم معلمة وهل رأي الأكثرية أم رأي الأقلية وهل دولة الإسلام تقوم على الحاكمية الإلهية وهل مقولة الأمة مصدر السلطات تنافي قيم الإسلام ومقاصده الكبرى ومقولة الديمقراطية كالية أو ميكانيزم وتقنية مجردة من علمانيتها الصلبة المعادية للدين هي خطر بليغ على الأمة الإسلامية أو هي كفر بواح...

لم يعد ممكنا الإنزياح بنقاشات قديمة غير مجدية اليوم نفعا بدل تطوير فقه سياسي جاد وعميق وراهني قائم على طرح عميق وقوي يستوعب التجارب الإنسانية ويتجاوزها نحو بديل قوي يغري العالم والإنسانية...

نعم لأننا مطالبون بحكم عالمية الرسالة أن نخاطب الناس لعلهم يغنوننا عن ذوينا الذين ينقلون لنا تراثا بشريا تتجلى لا راهنيته وتخلف مقولاته عن اللحظة الراهنة لا يتوقفون عن تكرار مقولة لا يصلح اخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها وكم في هذه المقولة من مخابىء للجهل المقدس...

إن الأكثرية والأقلية مقولتان ترتبطان بموضوعات كثيرة رئيسة لابد أن نعود إليها وكذلك أيضا مقولة طبيعة الدولة والحكم في الإسلام ومقولات الجبر والإختيار والحق ومدى سلطان الدولة في تقييده (عنوان لمبحث أصولي تقليدي علمي صاحبه فتحي الدريني) لكن بتوسع وطرح مختلف مغاير يشمل كل قضايا الحق والعنف الرمزي واحتكار الدولة للعنف ومقولة مجتمع اللادولة على نحو ما ذهب إليه بيار كلاستر وهي حالة أوغلنا فيها بل يضاف إليها مجتمع اللامجتمع . ..الخ

إن الأكثرية والأقلية ليست مهمة العقل الانطباعي التأملي اللاعلمي الذي يفتش فقط في التراث عن حلول لواقعه أو في الغرب وحده عن حلول لراهننا ولحظتنا..

فليس هذا من مقتضيات الاستخلاف الحضاري بمفهومه الإسلامي - الكوني...

ذلك أن العقل الانطباعي التأملي عقل سطحي تبعيضي ينتزع الواقعة التاريخية من سياقها ويمنحها القدسية ويريد أن يجعلها من ملهمات عقله وهو يهربها تهريبا من فضاء إشكالي لأمة قد خلت ويحتثها من سياقها...

هل تراني أقفز على كل التراث كلا أبدا بل أمنحه وظيفته وحجمه الحقيقي الذي لا يحوله إلى مطلق إلهي بل إلى مرتكز خبراتي بشري في فهم النص للاستئناس والقراءة والتحليل والنقد والتجاوز والأخذ منه بيقظة والترك منه بفهم رفيع وتبرير وعلم متنوع ووافر...

إن العقل التجزيئي والتبعيضي والانطباعي والتأملي والتراثي والاغترابي وغيرها كلها استلابات بالمعنى السلبي والهييمني لا تسعفنا اليوم...

***

حمزة بلحاج صالح

لماذا الحرية الأكاديمية مهمة جدا وفي نفس الوقت لا يطالب بها احد؟

هل هناك حدود مشروعة للحرية الأكاديمية؟

ما هي بالضبط العلاقة بين الحرية الأكاديمية وحرية التعبير بشكل عام؟

لا يمكن إنكار أن الحرية الأكاديمية هي أساس المشروع الاكاديمي السليم، ولكن عندما يتعلق الأمر بالتخصصات الاكاديمية كعلوم الاجتماع والنفس والتربية والتاريخ والاقتصاد والفلسفة والتي تبحث في ألافكار والمفاهيم والقيم، تصبح القضية أكثر تعقيدا واهمية. فقد تعتبر جهات معينة تفسيرا معينا لحدث ما تفسيرا مسيئا وخطيرا. في هذه الحالة، ما الذي يمكننا فعله للحفاظ على الحرية الأكاديمية عندما تعتبر جهات معينة بداخل الجامعات تفسيرات معينة للأحداث الاجتماعية او التاريخية اساءة او اعتداء او كفر. بصراحة، تصبح المشكلة أكثر حدة عندما تكون هذه الجهات مجرد قوة مسلحة بدون سلطة رسمية، ولكنها تمثل تيارا سياسيا او اجتماعيا رئيسيا، وبهذا تكون لديهم القوة للرقابة على ما يثار ويناقش من الحجج والموضوعات والتفسيرات.

يتمثل الرأي السليم في أن الحرية الأكاديمية هي قيمة اساسية، أي شرط ضروري لتحقيق قيم أخرى، مثل الكشف عن الحقيقة او تحقيق إنجاز علمي. وبالتالي، فإن أي تقييد للحرية الأكاديمية يمثل حاجزا غير مباشر أمام تحقيق القيم الجوهرية، والتي تشكل سبب وجود الجامعة. فالعمل التعليمي الاكاديمي بحسب د. سعيد اسماعيل علي (2005) ”ليس مجرد تزويد الطالب بكم من المعارف والمعلومات، وإنما الجامعة ” بيئة ” اجتماعية وثقافية ذات مواصفات خاصة تسهم في إعادة صياغة الإنسان".

لكن ما هي الحرية الأكاديمية بالضبط؟ ما الذي يجوز لنا أن نقوله ونعمله وماذا لا يمكن ان نقوله ونعمله؟ هل تتيح لنا الحرية الأكاديمية الإدلاء بتصريحات فظة وخبيثة أو الإساءة الى احد عمدا تحت ستار البحث العلمي؟ علاوة على ذلك، هل لنا الحق في اقتراح نظريات وأفكار وحجج مسيئة باسم الحرية الأكاديمية؟

نحتاج اولا إلى تعريف واضح للحرية الأكاديمية. يمنحنا بحث غوغل البسيط بعض هذه التعريفات: "الحرية الأكاديمية هي حرية الباحث في التعبير عن الأفكار دون التعرض لخطر التدخل الرسمي أو الحرمان المهني". أو: "الحرية الأكاديمية هي حرية التدريسيين والطلاب في التدريس والدراسة واكتساب المعرفة دون أي تدخل غير معقول أو دون أي قيود قانونية أو تنظيم مؤسسي أو ضغط عام. من بين عناصرها الأساسية حرية التدريسيين في البحث عن أي موضوع يهمهم فكريا، وفرصة لعرض نتائج أبحاثهم على طلابهم وزملائهم وعامة الناس، ولنشر بياناتهم واستنتاجاتهم البحثية دون رقابة، وأن يدرسوا بطريقة يعتبرونها مهنية صحيحة. بالنسبة للطلاب، تتمثل العناصر الأساسية لحرية التعبير في حرية دراسة أي موضوع يهمهم، والتوصل إلى استنتاجاتهم الخاصة، والتعبير عن آرائهم حول هذه الموضوعات" (موسوعة بريتانيكا). من هذه التعريفات، يمكننا أن نستنتج دون أي صعوبة جوهر الحرية الأكاديمية. هي حرية البحث في أي موضوع دون التعرض لخطر النبذ أو العقاب بسبب الاستنتاجات التي قد تتوصل إليها.

في الحقيقة تحدد طبيعة الأشياء التي نتحرى عنها طبيعة البحث الذي نقوم به. حقيقة أن العلوم الطبيعية تبحث في الأشياء الجامدة أي الأشياء الخالية من الإرادة الحرة والعقلانية والعواطف تحمي الباحثين من المشكلات التي تنشأ في العلوم الاجتماعية والفلسفة والعلوم الإنسانية. التحديات التي تواجه حرية التعبير الناتجة عن طبيعة الأشياء التي تبحث عنها العلوم الاجتماعية هائلة. القيود الأخلاقية الأساسية الذي يواجهه الباحث هو أنه يجب عليه فصل آرائه الشخصية وقيمه وتحيزاته وصورته النمطية ومصالحه عن الحياد العلمي أو الموضوعية. وبشكل أكثر تحديدا، ما نؤمن به كبشر حول حقائق وأحداث ومواقف معينة لا ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار عندما ننخرط في البحث العلمي الذي نحاول فيه إيجاد تفسيرات معينة أو إظهار بعض الارتباطات أو اختبار مجموعة من الفرضيات.

في هذا السياق، السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يمكننا اقتراح أي نوع من الفرضيات التي نعتبرها ذات صلة، أو على العكس من ذلك، هل هناك سلسلة من الفرضيات التي لا ينبغي لنا أبدا صياغتها؟ على سبيل المثال، هل يسمح للاكاديمي ان يبدي رأيا معارضا لمشروع لائحة تنظيم المحتوى الرقمي والتي من شأنها تهديد الحق في حرية الرأي والتعبير والتضيق على الحريات في الفضاء الرقمي؟ وما هو قدر الجرعة المسموحة للتدريسي من المساءلة والتشكيك في عقيدة او فكر لغرض ممارسة قدر من التفكيك والتحليل العلمي ومن دون التعرض للملاحقة القانونية او التهديد بالقتل؟ وهل يمكن للتدريسي من انتهاج اسلوب مغاير للتعليم عبر التلقين والتكرار ودراسة الكتب الكلاسيكية وباساليب تدريس تقليدية عقيمة دون تفاعل مع الطلاب (محمد الربيعي، 2018)؟ وهل الخروج عن نمط ثابت ومبرمج في التدريس او الامتحانات والتخلص من فكرة قديمة هو عمل ضد الادارة العليا "السامية والنبيلة"؟ وهل يُسمح للاقتصادي، في حريته الأكاديمية، بمحاولة إيجاد علاقات متبادلة بين الاقوام والشعوب والتنمية الاقتصادية؟ أم بين العرق والقومية والذكاء والأداء الأكاديمي؟

وفي هذا الصدد يطرح د. محمد سعد برغل (2021) سؤالا جوهريا  وهو: هل تمثل علاقة الأستاذ الجامعيّ بالدرس والطلاب ترجمة أمينة للسياسات الحكومية التي تختار مناهج التعليم العالي وتحدد مقاصده وآلياته بحكم أنّ ميزانية الجامعات تأتى منها، وهو ما يمكّنها  بالتالي من إحكام قبضتها على السياسات الأكاديمية وإزاحة كلّ الموضوعات التي ترى فيها خطرا يهددّ وجودها؟

في الواقع اتجهت الجامعات العربية منذ نشوئها إلى تضييق حدود الحريات فكبلت التدريسي بقيود الرقابة والمحرمات والمقدسات، ومنعت عنه حرية التعبير عن آرائه، وغرست فيه الخوف من النقد، ودربته على الاستلاب الفكري وقبول الواقع وأبعدت عن عقله فكرة مقاومة السلبيات الاجتماعية والاقتصادية والفساد السياسي، ودرَّبته على الثناء والمديح (سمر روحي الفيصل، 1996، خالد صلاح محمود، 2015). وحسب ما كتبه د. عبد الفتاح ماضي (2012) فان الجامعات العربية تعاني من الانغلاق الفكري والبحثي لكثير من اساتذتها وباحثيها، باكتفاء البعض بما تعلموا في مرحلة الماجستير أو الدكتوراه، أو في بحوث الترقية، وعدم الانفتاح على مدارس فكرية جديدة أو محاولة اكتساب معارف جديدة.

يتعلق التمييز الاول للحريات الاكاديمية بحقيقة أنه يكاد يكون من المستحيل رسم خط فاصل واضح بين الحدس الشخصي والعناصر الذاتية الأخرى، من ناحية، وعملية البحث العلمي، من ناحية أخرى، والتي، على الأقل من الناحية النظرية، يجب أن تكون موضوعية تماما. يتعلق التمييز الثاني بالقيم التي يجب أو لا يجب على التدريسي أو الباحث الالتزام بها. في السنوات الأخيرة، شهدنا في العالم الأكاديمي الغربي عملية تم فيها إلقاء اللوم على الكثير من الأساتذة بسبب قيمهم الشخصية ووجهات نظرهم للعالم. جادل بعض الأشخاص وفئات اجتماعية معينة بأن الأشخاص الذين يلتزمون بقيم سياسية ايديولوجية محددة لا ينبغي السماح لهم بأن يكونوا مدرسين أو باحثين. منطق هذه الحجة هو: للحصول على وظيفة مدرس، لن يكفي تلبية معايير أداء معينة، لكونك ستفي، في نفس الوقت، ببعض المعايير الأيديولوجية أو العقائدية، وعندها سيكون هناك تعارض بين معايير الاداء الاكاديمي والمعايير الايديولوجي .(Charlotte West, 2021)

حقيقة أن طريقة التفكير هذه تدفعنا نحو فهم سلطوي للجامعة  حيث ترتبط هذه المسألة ارتباطًا وثيقا بفهمنا للحرية الأكاديمية. ما هو بالضبط دور الجامعة في مجتمعاتنا الحديثة؟ هل دور الجامعة يتركز في تعزيز البحث العلمي واكتشاف المعرفة والتحصيل الدراسي؟ أم على العكس من ذلك دور الجامعة في تعزيز قيم مثل العدالة الاجتماعية والمساواة؟

إذا كان دور الجامعة هو تعزيز الاكتشاف والابداع العلمي، فمن المشروع اعتبار الحرية قيمة مفيدة تخلق الظروف اللازمة لتحقيق القيم الجوهرية، مثل الحقيقة العلمية والإنجاز الأكاديمي. من ناحية أخرى، إذا كان دور الجامعة هو تعزيز تحقيق القيم الجوهرية بخلاف تلك المذكورة أعلاه، فقد لا تشكل الحرية الأكاديمية قيمة مفيدة فيمكن أن تحل محلها اليات أخرى، مثل الرقابة أو التدخل من أعلى إلى أسفل لسلطة رسمية لتحديد مواضيع الدراسة، واستنتاجات البحث، ومحتوى المناهج والمقررات، وهذا ما يحصل فعلا في الدول الدكتاتورية. ويبدو لي ان من اهم المبادئ التي يجب على الجامعات العراقية والعربية تبنيها كأسس عامة هي حق الاستاذ الجامعي في حرية التفكير التحليلي النقدي والمبادرة والتجديد وجعله قادرا على الجمع بين ضروريات التدريس والبحث العلمي والادارة الوظيفية والاكاديمية (محمد الربيعي، 2007).

دعونا نذكر بإيجاز ثلاثة أسباب تجعل دور الجامعة يجب اساسا أن يكون لتعزيز البحث العلمي واكتشاف المعرفة، وليس فضاء لتجانس القيم ووجهات النظر. أولاً، لا يوجد إجماع حول القيم التي يجب أن تروج لها الجامعة، وبالنظر إلى الطبيعة التعددية للمجتمعات الحديثة، سيكون من غير الواقعي التفكير في أننا سنصل إلى مثل هذا الإجماع. ثانيا، الجامعات بطبيعتها مؤسسات يجب أن تكون محايدة فيما يتعلق بالاختلافات في الرأي والقيم وبالعلاقة مع التدريسيين والطلاب. أخيرا، تعتمد رفاهيتنا ونوعية حياتنا على تقدم المعرفة العلمية، والتي تعد المدخل الرئيسي للتقدم التكنولوجي. إن أي تغيير في وظيفة الجامعة لا علاقة له بالاكتشاف العلمي والتقدم في المعرفة من شأنه أن يقوض تقدم المعرفة، وبالتالي التقدم التكنولوجي. كما ان عدم مراعاة معايير النزاهة الأكاديمية، والأمانة العلمية والالتزام بالحياد وحماية الطلبة من أي عمليات قد تستهدف التلقين الأيديولوجي أو المذهبي أو الحزبي قد يمكنه ان يقوض تقدم المعرفة.

واخيرا، يأتي التحدي الرئيسي للحرية الأكاديمية من أولئك الذين يريدون تغيير الدور المجتمعي للجامعة. حتى لو لم يعترفوا بذلك علنا، فهم يتبنون نهجا قوميا او طائفيا وبعضهم يطلق شعارات كالجامعة المنتجة والاخر يصر على التمسك بالمركزية وبالضد من الاستقلالية. وبالتالي، إذا أردنا المضي قدما وإجراء مناقشة صريحة حول الحرية الأكاديمية، يجب أن نذهب إلى جذر المشكلة ونجيب على السؤال بصراحة: ما هو دور الجامعة في المجتمع اليوم؟

***

أ. د. محمد الربيعي

 

(تقييد حرية التعبير يؤدي الى إشاعة النفاق والتملق، والقضاء على التلقائية التي هي سمة المجتمعات النشطة والناهضة).

هذه عودة مختصرة الى مسألة يكثر الكلام حولها. وهي دعوى ان حرية التعبير التي ينادي بها بعض دعاة الحداثة، ربما تؤدي لضرر شديد بالتقاليد السارية والقيم الفاضلة، بل لعلها تطيح بالاستقرار والسلم الاجتماعي. اعلم ان بعض القراء سوف يستنكر هذه المبالغة، لهذا يقتضي الانصاف بيان ان الخائفين من عواقب الحرية، أي حرية التفكير والتعبير والاعتقاد، لا ينادون بقمع الأفكار، ولا يعتبرون الحرية - في حد ذاتها – من الرذائل. لكنهم يقولون ان كل ما يحتمل الحسن والقبح، يوجب الاحتياط في التعامل معه، مثل النار التي تستعملها لطبخ طعامك، لكنها قد تحرق البيت أيضا.

ومقتضى هذا الكلام انه يتوجب علينا – قبل منح الحرية لعامة الناس – أن نضع القوانين والسياسات التي تعالج ما سوف يترتب عليها من مشكلات. والمقصود بالقوانين هنا هو تحديد المجالات التي يسمح او لا يسمح بممارسة الحرية ضمن حدودها.

بعبارة أخرى فان الخائفين من الحرية، وهم في العادة الفريق التقليدي في المجتمع، يتفقون مع دعاتها في ان حرية التعبير خصوصا، يجب ان لا تقود الى الاضرار بشخص آخر او أشخاص آخرين. بعبارة أخرى فانهم يعطونك الحق في ممارسة حريتك في التعبير، لكن ليس الى حد الاضرار بغيرك، كما ان لغيرك نفس الحق مشروطا بأن لا يضرك.

كنت قد اشرت في كتابة سابقة الى ان هذي المسألة تحديدا كانت محل جدل في اوربا في منتصف القرن التاسع عشر. وعلى خلفية هذا الجدل نشر الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل رسالته الشهيرة "حول الحرية =  On Liberty" في 1859. وقد أدى نشرها الى توسيع الجدل وتعميقه، لكنها في نهاية المطاف ساهمت في إرساء نقاط استناد او محددات للنقاش في الموضوع. ومن أبرز تلك النقاط أولوية الحرية على غيرها من القيم، واعتبارها حقا شخصيا لكل فرد، لا يجوز للمجتمع تقييده الا إذا أدت ممارستها للاضرار بالآخرين، ضررا موصوفا ومعرفا في اطار القانون.

وقد أثارت هذه القاعدة نقاشا كثيرا. وأطلق عليها اسم "مبدأ ميل" او "مبدأ الضرر  Harm Principle". في اطار هذا المبدأ، صنف ميل الأفعال/التعبيرات المضرة الى قسمين: فعل تقتصر أضراره على نفس الفاعل، مثل التدين او الالحاد، العمل او البطالة، التدخين او عدمه.  فهذه التعبيرات/الافعال وامثالها، قد تزعج الناس، لكن ضررها المادي لا يطال أحدا سوى فاعلها. اما القسم الثاني فهو ضار بالآخرين ضررا ملحوظا، مثل الكلام المؤدي لاثارة الكراهية ضد الملونين او اتباع الاديان الأخرى، او مثل الإشارات النابية التي تنطوي على إيذاء نفسي او اقصاء اجتماعي، مما يصنف تحت عنوان التنمر او التحرش. وقد قرر ميل ان القسم الأول من الأفعال لا يبرر للمجتمع ردع الفاعل أو تقييد حريته، حتى لو كان فعله متعارضا مع اعراف الجماعة او تقاليدها. أما النوع الثاني فينبغي تحديده في قواعد قانونية، تسمح بتقييده، لكن دون ان يصل التقييد الى حد التضحية بحق الفرد في أن يفكر بحرية او يختار نمط العيش الذي يناسبه.

يخشى ميل بشكل جدي، من ان يؤدي التوسع في تقييد حرية التعبير الى إشاعة النفاق والتملق، والقضاء على التلقائية التي هي سمة المجتمعات النشطة والناهضة. كلما كثرت القيود في المجتمع تقلصت سوق الأفكار، وتباطأت الحركة، وضعفت – تبعا لذلك – الرغبة في التقدم. الحرية ليست قيمة بسيطة كي نتساهل في تقييدها لأي سبب، فهي أول القيم واعلاها وهي اكثرها ضرورة لحياة الانسان.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

خارطة لغوية لأطفال الأهواز

تتسائل الكثير من الأسر الأهوازية عن كيفية مجابهة الحالة اللغوية عند الأطفال ولاسيما الأطفال المقبلين على دخول المدارس الحكومية التي تدار على أساس اللغة الفارسية أي اللغة الرسمية الوحيدة للبلاد. فماذا ينبغي أن يفعل الأبوان في هذه الفترة، قبلها، وبعدها؟ في هذا المقال وفي السطور القادمة المحكّمة بنتائج البحوث العلمية نرسم خارطة نأمل أن تفي بالغرض وتهدي الأسر الأهوازية سبيلا، حتى لا تخسر الأسرة طفلها المرتبط ارتباطاً نفسياً بلغته الأم ولا تخسر مستقبله المرتبط-إلى حد كبير- باللغة الفارسية.

بالنظر إلى تشكيلة المدارس في إيران فإنها تقتصر على منهجية أحادية فارسية لا تعترف باللغات  الأم للأطفال وليس هنالك خيارات. تُكتب وتؤلف الكتب الدراسية ويُدرّب المدرسون على أساس متلقين يتقنون الفارسية، عكس ماهو متداول في أغلب الدول المتحضرة ككندا وسويسرا والنرويج (الإيرانيون في ولاية بريتيش كلمبيا في كندا مثلا يمكنهم الدراسة بلغتهم الأم) وحتى في دول غير متحضرة كالدول المجاورة لإيران مثل أفغانستان التي تعترف بالباشتو والداري كلغتين رسميتين بهما يتم التعليم في جميع المدارس الحكومية؛ وفي العراق أيضاً الأكراد يدرسون بلغتهم الأم إلى جانب العربية. يحاول واضعو سياسة التعليم في إيران أن يوحّدوا كل الشعوب المتواجدة في هذه الجغرافية لغوياً وثقافياً تحت غطاء واحد-الدولة الأمة-  ولامراءَ أنّه أمر محال لكنه وفي مشروع احتواء شامل يؤثر على عقول البسطاء من الناس. تأتي المنهجية التعليمیة لتبدأ من التمهيدية أي روضة الأطفال باللغة الفارسية مما تسبب حالة نفور عند الطلبة العرب الأهوازيين الذين لم يمارسوا اللغة الفارسية في طفولتهم فهم من بيئة عربية يتحدث أفرادها باللغة العربية في حياتهم اليومية. وحالة النقل المفاجئ هذه تؤثر نفسياً على نمو شخصيته وتسبب له الاضطرابات لا محال (عازار، ۲۰۱۳).

ومن هذا المنطلق هنالك الكثير من الأسر الأهوازية  -بناءً على الإعلام الخاطئ والهادف لشطب اللغات الأم-تحاول محاولة غير دقيقة وغير علمية لمجابهة هذا الدخول المفاجئ للمدرسة فيبدأ كل من الأب والأم  أولاً باختيار اسم فارسي للطفل أو الطفلة ومن ثم التحدث معه بالفارسية دون العربية. يؤكد علماء النفس على أنّ ليس للأهل الحق أن يشطبوا اللغة الأم للطفل فهذه العملية ستدخل الطفل في نوبة نفسية قد تحبطه في الكثير من المهارات الإدراكية في المستقبل (هودال، ٢٠٠٥؛ ٢٨٦). نرى في أغلب الأحيان أنّ الأهل يتحدثون العربية مع بعضهم  البعض والفارسية مع أطفالهم وهنا يبقى الطفل يردد في نفسه لماذا الأب والأم والأقارب يتكلمون العربية ويمنعونها منّي؟ ومن هنا تبدأ عملية الانفصام من الأسرة والأهل. ينبغي أن يعرف الأبوان أن فطم الطفل من لغته الأم هو في الحقيقة فطمه من مجتمعه الذي يريد أن يربى فيه. إنّ اللغة الأم توحد الأسرة وتصلها بأمتها وهويتها وتأريخها وعملية فصل الأطفال عن لغتهم الأم -لا شك-سوف تفصلهم عن ثقافتهم ليتقمصوا ثقافة أخرى ويصبحوا غرباء في وطنهم.  يحث الباحثون الأهلَ أن يساعدوا الطفل في تنمية شعوره بهويته من خلال اللغة الأم لتقليل الآثار النفسية كالازدواجية والانفصام. تأسيساً على ذلك نؤكد على حلٍ درسه كاتب هذا المقال على أطفال في أسرته وقدمه لآخرين مما حقق الغاية المطلوبة في الظرف الذي يعيشه الأهوازيون. ولا غرو أن هذه النتيجة حالها حال أغلب الأبحاث والدراسات الميدانية ليست دقيقة مئة في المئة لكنها نفعت العينة أي أطفال الأسر القريبة من الكاتب.

ينطلق مشوار التعليم من البيت وهنا يأتي دور الأبوين ولاسيما الأم لأنّها تتعامل مع الطفل بنسبة أكبر. تقسم العشر سنوات الأولى من حياة الطفل إلى ثلاثة حقب تعليمية لغوية(ولا يفوتنا أن ننوه أنّ هذه العملية لا تطلب وقتاً وتنسيقا وبرمجة بل تأتي من تلقاء نفسها وبشكل عشوائي واعتيادي). الحقبة الاولى تبدأ من الأشهر الأولى من حياة الطفل حتى سنّ الخامسة. في هذه الفترة لا يمكن إدراج أية لغة غير اللغة الأم فمن الضروري أن يتشبع الطفل بلغته العربية في سنواته الخمس الأولى. هذه هي الفترة الحرجة التي سبق وتكلمنا عنها في مقالات عدة. (سيغلر،٢٠٠٦ و بوسامر ٢٠١٩). فاستناداً إلى ما سبق، على الأبوين أن يجعلا الطفل عرضة للغة العربية السليمة-الغير مشوهة- مما يضمن لهم أن الطفل يتلقى الصوتيات السليمة للغة العربية ويبدأ يفكر ويتحدث بلغته الأصلية بطلاقة .(رحاب البلد، ٢٠٠٥)  تأتي سلامة اللغة المعروضة على الطفل من خلال أساليب عدة منها قراءة القرآن الكريم، القنوات الفضائية الكرتونية العربية، قراءة القصص العربية عند النوم وحفظ الاشعار العربية .

أمّا الحقبة الثانية التي شرعنا بتجربتها تبدأ من عمر خمس إلى سبع سنوات. هذه الفترة تسمى فترة "التعليم الثنائي" حيث أدخلنا في عالم الطفل اللغة الفارسية كلغة ثانية إلى جانب لغته الأم كي نعدّه إلى الدخول إلى المدرسة وكي لا يصاب بصدمة عاطفية في المدرسة مع أقران ومدرسين يتحدثون الفارسية. هذه الحقبة الثنائية حقبة زمنية مهمة جدا بالنسبة لمستقبل الطفل وحياته المعيشية في إيران حيث لا مجال لدخول الجامعات ولا للتوظيف والعمل الحكومي والحر إلا باتقان اللغة الفارسية الرسمية.  ومن اللافت أن الحكومات دائما تحث أبناء القوميات على اتقان اللغة الفارسية(الخالية من اللكنة) من أجل التعليم والحصول على عمل أو الحصول على حياة كريمة.  لا مناص من القول هنا أننا دائما نكتب ونؤكد ضرورة التعليم باللغة الأم في المدارس الحكومية والمؤسسات التعليمية وتطبيق المواد الدستورية ١٥ و١٩ لكن، في الوقت الراهن لا يمكن إعمال ذلك ولا توجد أي بادرة أمل من قبل واضعي السياسات لهذا الامر رغم المطالبة الحقة والمستمرة من قبل الباحثين والناشطين من مختلف القوميات المتواجدة في جغرافية إيران؛ ويرى الودغيري أن الحكومات المهيمنة تمارس إزدواجية في الخطاب فإنها من جانب تدعوا إلى التعددية وتحسبها قوة لبلادها  ومن جهة أخرى تبذل المليارات لنشر لغاتها وفرضها على الشعوب الضعيفة (الودغيري، ٢٠١٣). في ضوء ما سبق تأتي وظيفة الأب والأم في فترة التعليم الثنائي بعرض اللغة الفارسية لساعتين -أقل أو أكثر- في اليوم (من خلال مشاهدة أفلام وكرتونات بالفارسية، المحادثة مع الطفل، قراءة القصص الفارسية، وترجمتهن للعربية). وتجدر الإشارة هنا أنّ الأبوين بهذه العملية قد يهيئان الطفل لغوياً وثقافياً للانخراط في المجتمع الأصغر-المدرسة- وثم إلى المجتمع الأكبر. إذن، هنا تعلّمَ الطفل وأتقن لغته الأم وتعلم لغة ثانية وأصبح ثنائي اللغة وهذه ميزة لكلّ طفل فالطفل الثنائي اللغة أقوى وأحكم دماغيا وعاطفيا من الطفل ذوي اللغة الواحدة. (باك وآخرون، ٢٠١٤).

تجربة الطفل للغة ثانية تعطيه المزيد من الإدراك في المفاهيم التي حوله ومرونة في نظامه العصبي وكفاءة أكثر في تعامله الاجتماعي قياسا مع الأطفال الذين لم يتقنوا سوى لغة واحدة أو الأطفال الذين يضحي أولياء أمرهم باللغة العربية للغة الفارسية فيشطبوها شطباً تامّا. لا ننسى أن نذكر أن للطفل القدرة على تعلم لغات عدة قبل سن السابعة فيمكن للأبوين أن يعرضوا الطفل للغة ثالثة (الإنجليزية مثلا) وبالممارسة والإصرار على التحدث بكل لغة على حدها وعدم الاختلاط بين اللغات ستأخذ كل لغة مكانها الخاص في دماغ الطفل.

الحقبة الثالثة والأخيرة تسمّی "الاستمرارية في الإشراف" وهي فترة تتحلى باستمرار العرض اللغوي المفيد والكافي حتى يتشبع الطفل بكل اللغات التي تعلمها من شهره الاول حتى سن السابعة. تبدأ هذه الحقبة من السابعة حتى العاشرة ويشرف الأب والأم على توفير الأدوات اللازمة من كتب وقصص وأفلام وبرامج تحكّم وتعزّز اللغات التي عُرضت على الطفل من عربية وفارسية وإنجليزية. تكتمل هذه الحقب الثلاث، والحصيلة ستكون طفلا متوازناً ادراکیاً وعاطفیاً يتحدث ويفهم ويفكر بلغتين أو ثلاث وهذا الطفل بالطبع سيعتز بلغته الأولى لأنّه أدرك أنها هويته الحقيقية ودونها سيفقد أهله أولاً وتاريخه ثانياً وأدرك أيضا أنّ الثقافة المهيمنة(الفارسية في المجتمع الإيراني) لا تقبل الهويات الضعيفة مهما حاولت الأخرى أن تتقرب إليها أو تنصهر فيها.

نافلة القول أمّا یؤكد الباحث على الالتزام والاهتمام بهذه المراحل الثلاث وعدم إهمال أيٍّ منها لأنها مراحل حساسة بالنسبة لمستقبل الأطفال العرب في الأهواز الذين لطالما أصبحوا ضحية اللامساواة في عملية التعليم. بهذا يستطيع الأبوان أن يتقدما خطوات إلى الأمام فإنهما رسخا اللغة الأم في حياة الطفل إضافةً إلى تعليمه لغات أخرى، وجعلاه متعدد اللغات وشخصية ذات ثقة عالية ودماغ مرن يستطيع أن يجابه الوظائف والفروض المتعددة بسهولة.

***

سعيد بوسامر

 كاتب وباحث أهوازي تخصص في علوم اللغة و نشر كتاب أنا لغتي وعدة مقالات في هذا الشأن.

........................

المصادر:

- رحاب، سعدة البلد. مفهوم اللغة في حياة الطفل الكاتب. Www.maganin.com, 2005

- عازار کالین. بین اللغة الأم واللغة العلمية واللغة الموضة. ماذا يدور في رأس الطفل. مجبة لاها. ٢٠١٣.

-الودغیري، عبدالعلي. لغة الأمة ولغة الأم. بيروت دار الكتب العلمية، ٢٠١٣.

Hodal, T. (2005). Using language . Cambridge university press.

Siegler, Robert. (2006). How children develop, exploring child development. Newyork: worth publishers.

-Thomas, H. Bak, Jack. Nissan, Michael M. Allerhand, lan, j. Deary (2014). Does bilingualism influence cognitive aging .

سال كثير من الحبر حول مسألة الإختلاف وأسبابه وكيف ادى الإختلاف الى الانقسامية وحدوث الصراعات وفقدان عامل التسامح بين الأطراف، وهذا واقع مر به المسلمون في زمن له سماته، في ظل ثورات الإتصال والتقنيات، أصبحت الحرب فيها رقمية، ووجب على الجميع أن يراجع أفكاره وسلوكاته وهذا يحتاج إلى التعامل مع المسائل والقضايا والمشكلات برؤية فكرية منفتحة على الآخر حتى لا يكون هناك اختلاف في الجوهر، وأن يدرك كل واحد واقعه الذي يعيش فيه، إن الخلاف الواقع بين الضدّان هو محاولة تحويل المتغير إلى ثابت والعكس، هو الصراع المستمر بين الأصالة والحداثة، وما ظهر من فتاوى حولهما ومن يدلي بها؟ وما هي النتائج المترتب عنها؟ خاصة وأن بعض المسائل أخذت لها بعدا خطيرا، إذ تجاوزت المنطق الاستهلاكي.

لقد تحول الصراع من صراع أفكار إلى صراع هويات، ليس من منطق هذا عربي وذلك أمازيغي، بل من منطق هذا مسلم وذلك كافر، حتى لو كان هذا الأخير ينطق بالشهادتين، يكشف لنا التراث الإسلامي أن أمما سبقتنا كان بينها اختلاف في الرؤى والمنهج، وكمثال، فقد اختلف الصحابة في مسألة الحروف السبعة التي تكتب بها القرآن وهذا راجع لتعدد اللهجات العربية وقت نزول القرآن الكريم،  واختلفوا حتى في طريقة النطق وفقا لاختلاف لغات القبائل واختلفوا في من تؤول له القيادة بعد وفاة الرسول فيما عرف بيوم السقيفة، واختلفوا في توجيه القِبلة وتغييرها وإن كانت القبلة في بيت المقدس حقيقة أم أكذوبة؟ وغيرها من الأمثلة التي رسمت صورة للاختلاف، حتى في الزيّ (إمّا إطلاق اللحية وتقصير السروال وإمّا العُرْيُ المفضوح) وطريقة العيش وما شابه ذلك، وقد نجد الإختلاف حتى بين العلماء والإصلاحيين فقد كان هناك اختلاف بين الطهطاوي والأفغاني في قضيَّة التسامح مثلا.

ما يمكن قوله هو أن هذا الإختلاف نابع من التعصب للرأي وصلت الأمور الى حد السبّ والشتم والقذف والطعن في عرض الآخر، بل الاعتداء عليه وربما اغتياله للتخلص منه، إن هذه التجزئة والإنقسامية  التي نعيشها اليوم وفي كل البلاد العربية ليست جديدة، ففي وقت مضى كانت الدولة العباسية في المشرق والدولة الأموية في الأندلس على اختلاف وخلاف وعدم  توافق، فعندما يدرس الباحث عادات الشعوب يجد أنها مختلفة في كل شيئ وهذا الإختلاف راجع إلى خصوصية المكان والزمان، كما أن  ثقافة منطقة تختلف عن ثقافة المنطقة الأخرى، فحياة الغرب تختلف عن حياة الشرق وبالتالي هم مختلفون في الدين وفي الفكر وفي اللغة وطريقة العيش.

إن الإختلاف سببه التعصب للرأي والفكر، وهذا ما وقع بين الأنظمة العربية  والتيارات الإسلامية  في مصر وتونس والعراق وسوريا والجزائر، حيث أدخلت شعوبها في حرب أهلية أتت على الأخضر واليابس، لابد إذن أن تكون لنا ثقافة إنسانية نفهم بها الآخر، قد نختلف معه في الشكل لكن لا نختلف معه في الجوهر، وأذكر هنا مقولة أحد المفكرين حيث قال: " كنت أتمنى أن يكون ديننا متعقلا، أي يؤخذ بالعقل لكي يكون مقبولا لدى الآخر"، السؤال الذي طرحه المفكرون هو كيف يمكن إحداث الموازنة بين الثوابت والمتغيرات في ثقافتنا؟ وتكييفها مع المفاهيم الجديدة الوافدة إلينا كالعولمة؟، من الصعب إذًا أن يغير طرفٌ  المتغير إلى ثابت وهذا يحتاج إلى صبر وجهاد.

***

علجية عيش

قبل عقدين من الزمن تقريباً، كانت الدكتورة منى البليهد تعد أطروحتها للدكتوراه، حول «الهوية الثقافية لدى طلاب وطالبات المرحلة الثانوية في المملكة». وفي إطار الأبحاث الميدانية المتعلقة بالموضوع، سألت د. البليهد عينة من طلبة الثالث الثانوي عن رأيهم في القول السائر «إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب»، فأجاب 70 في المائة منهم بالموافقة عليه، أي أنهم مقتنعون بأنه لا يمنع الناس من العدوان عليك إلا خوفهم منك. ثم تساءلت الباحثة: بعد بضع سنين سيلتحق هؤلاء بسوق العمل، وسيتعاملون مع الناس، فهل سيتمثلون دور الذئب حينذاك؟

تذكرت هذه القصة القديمة نوعاً ما، حين صادفت هذا الأسبوع أربعة كتاب، اتفقوا في مقالاتهم على أن الإنسان فاسد بطبعه، وهذا ما يبرر ظلم الناس لبعضهم البعض، لا سيما من لا يعرفونهم.

أعلم أن كثيراً من القراء الأعزاء يعدون هذا الأمر من قبيل المسلمات. وربما استغربوا اعتراضي على الفكرة وإنكارها جملة وتفصيلاً، فكيف تنكر ما أجمع عليه أهل العلم والشعراء جيلاً بعد جيل؟

والحق أن غالب الثقافات القديمة - ومن بينها العربية - تميل بقوة إلى هذا المنحى. ولذا احتفل أسلافنا ومعاصرونا بأمثال قول المتنبي:

الظلم من شيم النفوس فإن تجد

ذا عفة فلعلة لا يظلم

وقول زهير بن أبي سلمى:

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم.

ومن لا يظلم الناس يُظْلمِ

ورأيت عدداً من أجلّاء المفسرين يصرف الآية المباركة «وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً» إلى المعنى السابق نفسه، أي فساد الطبيعة البشرية.

ولعل القراء الأعزاء قد لاحظوا أن فهم الطبيعة البشرية على هذا النحو، قد اتصل بمفهوم الشجاعة، فتحول المفهوم المركب إلى تقديس للقوة المادية واحتفاء بالسيف، كما في شعر زهير السابق الذي يحتفي بظلم الغير حماية للأرض والعرض، وكأن هذا لا يسلم إلا بذاك، بل قيل هذا صراحة على لسان المتنبي: «لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى... حتى يراق على جوانبه الدم»، ومثله قول أبي تمام: «السيف أصدق إنباء من الكتب». مع أن الكتاب يصون حياة خلق الله والسيف يهدرها، فلا أدري كيف يكون هذا أصدق من ذاك؟

لا بد من إيضاح أن تلك الأبيات، قيلت جميعاً لمناسبات بعينها. ولعل أصحابها لم يقصدوا أن تكون الفكرة بذاتها مطلقة. لكن واقع الحال يخبرنا أن الرسالة الداخلية لكل منها، قد تجردت عن ظرفها الخاص، وتحولت إلى مسلمة يتبادلها الناس في مختلف أزمانهم وأحوالهم، من دون أن يتوقفوا قليلاً لمساءلتها أو التأمل في معناها، وهو معنى ناقص ومجروح قطعاً، إن لم نقل إنه خطأ في الجملة والتفصيل.

من المفهوم أن الأمم والثقافات كافة تحتفي بالسيف والسلاح. لكن عصر النهضة الأوروبية شهد حدثاً مهماً، هو انكماش الفهم القديم للطبيعة البشرية، وبروز مفهوم نقيض ينظر للإنسان باعتباره عاقلاً وخيراً، بمعنى أنه لو وقف أمام خيارين، فسوف يختار ما هو أصلح له ولغيره: إنه يختار ما يصلح له لأنه عقلاني يحسب عواقب الأفعال، وهو يختار ما ينفع غيره إن لم يكن به ضرر على نفسه، لأنه كائن أخلاقي. وفقاً للفيلسوف المعاصر جون رولز، فإن ما يميز الإنسان عن بقية الكائنات، هو قابليته لاكتشاف العدل والخير في الأشياء والأفعال، وتمييزه عن الشر، واختيار الخير في معناه العام.

الحقيقة أنه لولا عقلانية الإنسان وخيريته، لما تقدمت البشرية، ولبقيت مثلما كانت قبل آلاف السنين. إن فعل الخير لا ينحصر في مساعدة الفقير والمسكين، بل يشمل كل عمل يسهم في عمران الأرض وتحسين حياة البشر وتطورها في أي صورة من الصور. وكل ما نراه من حولنا شاهد على عقلانية الإنسان وخيريته.

***

توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

(سنُريهم آياتِنا في الآفاق وفي أنفُسِهم حتى يَتَبيَّن لُهم أنهُ الحقُّ) فصلت..53

تعريف الاعجاز: الاعجاز لغة مشتق من العجز والضعف وعدم القدرة، وهومصدر العجز ومعناه الفوت والسبق والمعجزة في اصطلاح العلماء يقصد به أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي وإعجازه للناس في عدم قدرتهم على الاتيان بمثله .

لينظر الانسان مما خلق، ليرى الظواهر الكونية المحيطة به من زلازل وبراكين واعاصير، من اجرام سماوية، خسوف وكسوف، السماء بطبقاتها، الارض وماتحوي من معادن، الحيوانات على اختلاف اشكالها وانواعها، النبات بتنوعه، الانسان بانظمته المعقدة من دماغه الى مراحل تطور الجنين بمسمياته ووصف مراحل تطوره بدقة بالغة، قال تعالى (وَلقَد خَلقنا الإنسانَ من سُلالةٍ من طين .ثمَ جَعلنا النطفةَ في قرارٍ مكين .ثمَ خَلقنا النطفةَ علقة فَخَلقنا العلقةَ مضغة فَخَلقنا المُضغَةَ عِظامًا فَكَسونا العظامَ لحمًا ثمً أنشأناهُ خَلقًا آخرَ فتَباركَ الله احسن الخالقين) المؤمنون

وان وضع الحقائق بدلائلها بين يدي القارئ إنما ليدرك عظمة هذا القران وعظمة هذا الخالق والكون الذي يسير بحساب دقيق .

فاذا تاملت القران ستجده دستورا كاملا للحياة بما ينص عليه من قوانين الزواج والطلاق والميراث والتعامل من بيع وشراء ومعاملات تجارية واحكام شرعية وفقهية.

وإن الاعجاز العلمي والرقمي في القرآن هو دعوة ومخاطبة لعقل الانسان بصورة مباشرة ومحاكاة علمية قائمة على حجج وبراهين ثابتة تسير وفق منهج ثابت دقيق لايستطيع احد أن يتدبره غير الله قال تعالى (خلق الانسان.علمه البيان) الرحمن/3

فمنذ خلق الله الانسان على الارض وهو يدعوه الى التأمل والتفكيروالتدبر بهذا الكون العظيم (كتابٌ أنزلناهُ مباركٌ ليدّبّروا آياته وليتذكرأولو الألباب)29

ومذ قتل قابيل أخاه هابيل وسجلت أول جريمة بالتاريخ الانساني، حينما بعث له اللهُ غرابًا يبحثُ في الارضِ ليُريَهُ كيفَ يُوارِي سوءةَ أخيهِ ويكرمه بالدفن (فبَعَثَ الله غرابا يبحث في الأرضِ ليريه كيف يُوارِيَ سوءةَ أخيهِ قالَ أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوَاريَ سوءةَ أخي فأصبحَ منَ النّادمينَ) المائد31

ومن الجدير بالذكر إن الغراب الذي بعثه الله لم يقتل أخاه، كما يذهب أغلب المفسرون إلى إن هناك غرابين اقتتلا، فلم تذكر الآية الكريمة إن هناك غرابين اقتتلا ودفن أحدهما الآخر، بل ذكرت ان هناك غرابا واحدا كان يبحث في الأرض، ذلك البحث الذي ألهم قابيل أن يدفن أخاه، وهل يوحى للمجرم أيضا؟نعم يوحى للمجرم لكي تُكرم الضحية التي لاذنب لها وهذا بحد ذاته إعجاز قام به أحد مخلوقات الله الذي أصبح آية وسمة لاكرام الميت بدفنه فيما اتخذه البعض نذيرا للشؤم لأنه ارتبط بأول جريمة بالتاريخالانساني.

ومذ تأمل نبي الله ابراهيم الكون العظيم بما آتاه الله من نورٍ في قلبه وهدىً في بصيرته، ورشاد لتفكيره في ملكوت السموات والأرض، توصل الى الايمان الاقناعي والذي يعني صلاح القلب بعقيدة الايمان، هذا الصلاح الذي بدوره ينشط الجوارح لاستيعاب كنه العمل ثم تطبيقه، فالقناعة هي الفرقان الذي يختار الطريق بدون أي ضغط وهي الحقيقة المطلقة للاتيان بجوهرالحكم الذي سيكون قاطعا فيما بعد حينما يتعزز بالشواهد والادلة والبيّنات، بعفوية الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وبالتأمل الفكري والعقائدي الصحيح بأن لهذه الأرض ومن عليها بكل ماحوت من مخلوقات، والسماء التي تزينها الكواكب والنجوم، ربّا خالقا، وحكيما مدبرا، وان لها صانعا اتقن كل شئ واحكم إنشاءه..فقدّره تقديرا(وإن من شيءٍ إلا عندنا خزائنهُ وماننزّلهُ إلّا بقدرٍ معلومٍ) الحجر21

ولطالما كان يتأمل في الليل نجوم السماء وكواكبها، فبعضها دائم المسيرلايستقر في مكان في هذه السماء اللامتناهية الاتساع وبعضها كالثابت في مكانه، لايتحرك اوهو يظهر كذلك، وماهو ثابت (والشّمسُ تجرِي لِمُستقرٍّ لها ذَلكَ تَقديرُ العزيزِ العليم.والقَمَرَ قدّرنَاه مَنازِل حتّى عادَ كَالعُرجُونِ القَديم.لا الشمسُ ينبغِي لَها ان تُدركَ القَمَرَ ولا اللّيلُ سابقُ النّهارِ وكلُّ في فلكٍ يَسبحُونَ)يس -40-38

وكان يلاحق القمر بنظراته متأملا إياه، فكان بين هذه النجوم، وقد أحاطته هاله من نورشفاف، كملك تحف به حاشيته، والرعية..

وعندما يتقدم الليل ينحدر هذا القمر الى الأفق الآخر، وكأنه في ارتحال دائم، لايتوقف (وسخّر لكم الشمس َ والقمرَ والنجوم مسخرات بأمرهِ إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يعقلون )النحل12

وفي الصباح، يتأمل إبراهيم الشمس، تغمربنورها الارض من الأفق الشرقي، فتملأها ضياءا، وتغمرها نورا، وتبعث فيها دفئا وحياة..

وتتهادى في قبة االفلك بمهابة وجلال ثم يهبط الظلام وتبدأ النجوم تتلألأفي كبد السماء كأنهن لؤلؤ مكنون ويبزغ القمر من جديد، متناقصا ليلة بعد ليلة، حينا متزايدا وحينا متناقصا، وهكذا تستمر الحياة بين ليل ونهار وتعاقب فصول في انتظام رتيب، واتساق عجيب، تبارك الله احسن الخالقين..

قال تعالى (وكذلكَ نُري إبراهيمَ ملكوتَ السمَواتِ والأرض وليَكونَ مِنَ الموقنينَ (76) فلما جَنَّ عليهِ الليلُ رأى كوكبًا قال هذا ربي فَلما أفل قالَ لاأحب الآفلين (77) فلمَّا رأى الشمسَ بازغةً قال هذا ربي هذا اكبرُ فلمَّا أفلَت قالَ ياقومِ انَّي برئ مما تشركونَ (78) إني وَجّهتُ وجهيَ للّذي فَطرَ السمواتِ والارضَ حنيفًا وماأنَا مِنَ المشركين (79)..) وهذا سبب اختيار الله لرسله حيث يبنى على الكثير من الاعتبارات فالانبياء يتأملون ويفكرون ويبحثون سبل خلق هذا الكون العظيم، ولكل نبي جعل الله معجزة يحاجج بها الناس ليؤمنوا بالله وهذه المعجزه التي أيد الله بها رسله وانبيائه خارقة للعادة تحدى الله بها البشر أن يأتوا بمثلها فكانت برهانا ساطعا على صدق انبياء الله في تبليغهم عن رب العالمين، فالبشر لايمكن أن يأتوابآية أو معجزة من عند أنفسهم وبالتالي يكون دليل على إن تلك المعجزة والآية آتية من رب قادر لايعجزه شئ في الارض ولا في السموات.

والمعجزات تنقسم الى قسمين:

-معجزات حسيّة:وهي المعجزات التي يراها الناس عيانا، كتحول عصا موسى (ع) لحيّة تسعى، واخراج صالح (ع) للناقة من صخرة.

-معجزات معنوية وهي التي يعيها الانسان ببصيرته كالقرآن الكريم معجزة النبي محمد.

وتعددت المعجزات وتنوعت بحسب تصنيفها فمثلا كانت معجزة النبي

 ابراهيم عليه السلام النار الباردة (قُلنا يانار كوني بَردا وسلامًا على إبراهيم)، ومعجزة موسى عليه السلام إنفلاق البحر والآيات المعروفة التي جابه بها فرعون وأتباعهِ (فاضرِب لهم طريقًا في البحرِ يبسًا) ومعجزة عيسى عليه السلام قدرته على شفاء المرضى وإحياء الموتى (وإذ تَخلقُ مِنَ الطينِ كهيئة الطير بإذني) وهذه المعجزات التي منحها الله لعيسى (ع) جعلت بعض الناس يعتقدون-خطأ- إن عيسى هو الله لما قام به من معجزات عظيمة، ومعجزة نوح(ع) السفينة (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا)، ومعجزة داوود (ع) الذي ألان له الحديد وكانت الجبال والطير يسبحن معه (ولقد آتينَا داوودَ منا فضلًا ياجبال أوّبي معه والطيرَ وألنا له الحديد)

 وسليمان الذي سخر له كل شيء الرياح والجن الذي كان يأتمر بأمره، وإسالة النحاس (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر) ومحادثته للحيوانات والنبات والجماد - سبحان الله - وهذا دليل على إن المخلوقات كلها لها أرواح، وهذا دليل قاطع على قدرة الله وبديع صنعه وفضله على الإنسان..

ولكي يتم الله نعمته على الإنسان أرسل محمد عليه الصلاة والسلام مبشرا ونذيرا ليكون خاتم الانبياء وتكون معجزته القرآن آخر الكتب السماويه المنزلة..

وحقيقة فإن القرآن ليس مجرد كتاب يحوي قصص وأساطير الأولين كما يدعي بعض الملحدين، بل يشتمل على إعجازا علميا ورقميا دقيقا حيرعقول العلماء بوجه عام والملحدين بوجه خاص مما حدا بأكثر العلماء الى إشهار إسلامهم بعد رؤيتهم الاعجاز العظيم لبعض الظواهر الكونية التي تم اكتشافها مؤخرا والتي من المستحيل أن يأتي بها رجل أمي لايعرف القراءة والكتابة كنبينا العظيم محمد عليه افضل الصلاة والسلام من دون أن يكون وراءه خالق عظيم يملي عليه آياته العظيمة..

فمنذ 1400 سنه وقت نزول القران الى يومنا هذا، والعلماء كل يوم يكتشفون إعجازا علميا جديدا كان قد ذكر في القران منذ ذلك الوقت، حقائق علمية مذهلة، أرقام ومعادلات وظواهر كونية تجعل الانسان يخر ساجدا لله وعظمة خلقه، ولذلك فان اكثر الناس خشية من الله هم العلماء لانهم يعلمون تماما من هو الله بالدليل القاطع، وماهي قدراته الخارقة التي حيرت العقول، قال تعالى في كتابه العزيز (إنّما يَخشى الله من عبادهِ العلماءُ) فاطر/28

وبهذا دلاله واضحه بينة على إن أكثر من يخشون الله هم العلماء..

هذه الخشية إنما تأتي من االمعرفة العميقة للذات الالهية وتقديرها حق قدرها، لانه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير أتم والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر.

ومن يقرأ القرآن ويتبحّر به يجد إنه موجها إلى كل البشرعلى جميع العصور، موجها الى العقل البشري ليبحث ويتدبر من خلق هذالكون العظيم وهذه الكائنات بما تحويه من انظمة معقدة، الانسان، الحيوان، النبات، الاجرام السماوية التي تسير بحساب دقيق محسوب بالدقيقة والثانية(الشمس والقمر بحسبان .والنجم والشجر يسجدان)الرحمن5

أي ان كل شئ يسير بحساب دقيق، حسابات متناهية الدقة تعجز أقوى الحاسبات على مواكبتها ومن هنا جاء الحساب أرقام وعمليات حسابية دقيقة تجري عليها الكائنات الاجرام السماوية، الفصول، اليوم محسوبا بالدقيقة والثانية لايطول ولاينقص من يستطيع جعل اليوم اربعا وعشرون ساعة تامة من غير نقصان وعددالاشهر والسنين وتعاقب الليل والنهار كل ذلك يجري بحساب دقيق (فبأي آلاء رَبِكُما تُكَذّبان)وقد تكررت هذه الآيه 31 مرة في سورة الرحمن، لما لها من أهميه وتذكير بنعم الله التي تدعو إلى وجوب الشكر والإرتقاء بالانسان بما يليق بمقامه الذي خلقه الله فيه وجعله بأحسن تقويم ليكون سيد الكائنات على هذه الأرض (لقد خلقنا الانسان في أحسنِ تقويم) التين/4

وبالاضافة الى كل ماجمع القرآن من نحو وقصص وقوانين وأحكام شرعية، فقد تطرق إلى مختلف العلوم كالتشريح وعلوم الفضاء

وتظهربقوه جلية قوة القرآن الإعجازية في هذا العصر الذي سادت فيه قوة العلم على أي قوة أخرى وقد باتت لغة العصر الحديث (علم الانسان مالم يعلم) العلق/5

ومن هنا نصل إلى نتيجه مفادها إن القرآن ليس مجرد كتابا للحفظ والترديد دون فهم معنى كل آية من آياته، إنه كتاب يضع الحقائق بادلتها أمام الإنسان ليعلم مالايعلمه وليتدبر هذاالخلق العظيم (فمن يُرد الله أن يَهديَهُ، يِشرح صَدرَهُ للإسلام ومن يُرِد أن يُضلّه، يَجعل صَدرَهُ ضِيقًّا حَرجًا كأنما يَصعّدُ في السّماء كذلكَ يَجعل اللهُ الرّجسَ على الذينَ لايؤمنونَ) الانعام 25

فلنتأمل هذه الآية القرآنية الرائعة على سبيل المثال، فالله جل وعلا يبين الفرق بين الانسان المؤمن الذي شرح له صدرا هانئا مطمئنا وبين الضال الذي جعل صدره ضيقا حرجا، ولنتأمل الاعجاز الرائع والتشبيه الدقيق في الآية التالية:

(كأنمايَصعدُ في السماء) بدءا الآية فيها تشبيه بدليل الاداة (كإن) ليقع بعدها المشبه به في صورة حسية فهل فكرت اخي القارئ كيف يصعّد الانسان في السماء ولم يقل (إلى السماء) حين تصعد الروح مثلا، بل قال (في السماء) وهذا مااختلف عليه المفسرون واعتبره البعض خطأ نحويا فكيف يحدث ذلك؟هذا التشبيه يشبه الانسان عندما يركب في طائرة وعندما تبحر الطائرة في السماء فأول مايحدث للانسان عند ارتفاع الطائرة هو الشعور بالاختناق وضيق الصدر نتيجة لتخلخل الضغط وقلة الاوكسجين، وتتسارع ضربات القلب، ياسبحان الله هذا الوصف الدقيق الذي يشعر به راكب في طائرة يجسده الله في آية بكلمات مكتنزة المعنى تصور حالة الضال بكل هذا التشبيه، ثم ورورد الفعل (يُصَعَّد) واصله (يتصعّد) وهو من التفعّل، اي كلما زاد الفعل زاداثره، والفعل هنا من (التصعيد) فكلما زاد الصعود زاد الضيق، بسبب الكفروالشرك بالله والابتعاد عن الصراط، فنجد الضال متذمر، كئيب، صدره ضيق لايتسع لاي حديث، يحمل اثقالا واحمالا تجعله يشعر بالمشقة والتعب، وكانه يحمل جبالا عل صدره وظهره!

ثم نأتي الى حرف الجر(في) وهنا يتجسد الاعجاز باجمل صوره فقد وردت الآية (في السماء) وليس (إلى السماء)فسبحان الله وبديع صنعه عندما يخفي حرف الجر ماورائه الكثير، ليجسد قوة الاعجاز وقوة الحرف الذي سخره الله وكلفه ليشرح لنا صورة من أجمل الصور، يكون الحرف نفسه قد ترك بصمته على إنه آية من آيات الله جل وعلا، ألاتكفي هذه الآية وحدها للسجود والاقرار بروعة ووحدانية الخالق جل وعلا، فمن ألهم النبي هذه المعلومة العلمية الدقيقة غير الله، فهل ركب النبي طائرة ليصف الضال بهذا الوصف الدقيق؟ هذا المعلومة موجودة في القرآن قبل 1400سنة فهل يوجد أعجاز اروع من هذا؟

وحقيقة نحن نتبارك بشئ من الذكر، وننهل منه قبسا ينير لنا عتمة الطريق، فالحمد لله على هذه النعم والمجد لله العظيم الذي لو ان البحر يمده من بعده سبعة أبحر مدادا، والاشجار كلها أقلام لم تنفذ كلمات الله.

(قُل لّئِن اجتَمَعَت الإِنسُ والجنُّ على أن يأتُوا بِمِثل هذا القرآنِ لا يأتونَ بمثلهِ ولو كانَ بعضهم لبعضٍ ظهيرًا) الاسراء 88

وان وضع الحقائق بدلائلها بين يدي القارئ ليدرك عظمة هذا القران وعظمة هذا الخالق والكون الذي يسير بحساب دقيق، وان بحثي المستفيض عن دلائل الاعجاز القراني لعدد من الايات التي اذهلتني بحق واذهلت العلماء والتي استسلم بسببها الكثير وخصوصا العلماء في العالم بعد تأكدهم وبالدليل القاطع الذي لايقبل الشك بان هذه الظواهر ذكرت بالقران قبل 1400

ان كل الحقائق العلمية الموجودة في القران تدحض فكرة المغرضين بأن القرآن من عند محمد وانه قام بتأليفه وتكرار ماموجود في الكتب والاساطير القديمة .

فهذه الحقائق لم تكتشف الا في عصرنا هذا وبدأت الامور تبدو جلية واضحة بعد اكتشاف علوم الفضاء، كما وتدحض فكرة ان الانسان كان جاهلا كالحيوان كيف ذلك اذا أخذنا بالاعتبار ان آدم أول إنسان نزل على الأرض وكان يعلم كل شئ مما علمه الله، قال تعالى (وعلمَ آدمَ الاسماء َكُلها ثمَ عَرضَهم على الملائكةِ فقالَ أنبئوني بأسماءِ هؤلاء إن كُنتم صادِقين) البقره/ 31

جل ماكان يناقش بشان القران هو الوزن والقافيه، اي ان النقاش كان يدور حول لغة القرآن في حين إن القرآن ليس شعرا ولانثرا بل هو كلام من عند الله جعله دستورا قائما بذاته يخاطب به العقول والالباب (قُل لَئن اجتَمَعَت الإنسَ والجنًّ على أن يَأتوابمثلِ هذا القُرآن لايأتونَ بمثلهِ ولوكانَ بَعضَهم لبعضٍ ظَهِيرا) الاسراء/88

هذا طيف يسير مما وفقني الله للابحارفي روائع الاعجاز.

***

مريم لطفي - العراق

لا يُسأل الدنماركيون في كثير من الأحيان عما إذا كان الدين مهمًا في حياتهم. ربما لا يذهب الإنسان الدانماركي العادي إلى الكنيسة كل شهر، ولا يؤمن بالضرورة بالله. ولكن إذا سألت ما إذا كان هذا الشخص مسيحيًا، فستكون الإجابة على الأرجح نعم.

اثنان من كل ثلاثة دنماركيين يعرّفون أنفسهم كمسيحيين. أظهرت دراسة رئيسية جديدة أنه على الرغم من الحضور المحدود للكنيسة والإيمان بإله التوراة والإنجيل، تظل المسيحية علامة هوية لغالبية الدنماركيين. يبدو أن الإيمان المسيحي أصبح على نحو متزايد علامة وسمة وطنية للدنمركيين.

في دراسة جديدة تركز بشدة على الإيمان في أوروبا ، سُئل 15000 دنماركي ـ من بين أمور أخرى ـ عما إذا كانوا يعرّفون أنفسهم على أنهم مسيحيون، وأجاب 65٪ منهم بنعم.

يتضح هذا من خلال دراسة جديدة وكبيرة أجراها مركز بيو للأبحاث التابع لمعهد التحليل الأمريكي، والذي سبق أن حدد تدين السكان في الولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا الجنوبية وأفريقيا. الآن ولأول مرة ينصب التركيز على أوروبا بما في ذلك الدنمارك، حيث شارك حوالي 15000 دنماركي في استطلاع.

في الاستطلاع عرّف 65 % منهم بأنهم مسيحيون. وهي أعلى مما قد يعتقده المرء في البداية، كما تقول "أستريد كرابي ترول" Astrid Krabbe Trolle عالمة اجتماع الأديان في جامعة كوبنهاغن، والتي تبحث في نظرة الدنماركيين للدين والكنيسة الوطنية.

تقول ترول "على الرغم من أن 75 % من الدنماركيين أعضاء في الكنيسة الشعبية، فإننا نعلم أن الكثيرين لا يعلقون قيمة معينة على العضوية أو يربطونها بهوية دينية. لذلك كنت أعتقد أن النسبة كانت أقل، ولكن عندما تنظر عن كثب في الاستطلاع، يتبين أن الدنماركيين يولون أهمية كبيرة لكونك مسيحيًا. لا يتعلق الأمر فقط بالاعتراف بالإيمان المسيحي. كما أن الهوية المسيحية تُعتبر أيضًا علامة ثقافية ووطنية ".

من بين 65 %من الدنمركيين الذين يصفون أنفسهم بأنهم مسيحيون، يذهب منهم حوالي 10% إلى الكنيسة شهريًا، بينما يؤمن 68 % منهم بالله. لكن بالنسبة للجزء الأكبر لا يتعلق الأمر بإله التوراة والإنجيل، ولكن بقوة أعلى أو قوة روحية. وبينما تتشابه الدنمارك مع البلدان المجاورة في التركيز على إله محب، فإن الدنماركيين على عكس سكان العديد من البلدان الأخرى لديهم إيمان أقل بالغيبيات.

في حين أن هذه الأرقام تتلاءم جيدًا مع المعرفة الموجودة حول ما يسمى بالمسيحية الثقافية في الدنمارك، فإن التقرير يظهر أيضًا ارتباطًا مثيرًا للاهتمام بين الهوية المسيحية ووجهة نظر الأديان الأخرى، كما تقول أستريد كرابي ترول.

"تشير النتائج إلى أن الهوية المسيحية حاسمة أو مؤشر قوي على مدى تعارض المرء مع الأديان الأخرى. ووفقًا لأرقامهم، فإن المسيحيين أكثر انتقادًا وتشككًا في الهجرة والمسلمين على وجه الخصوص. هذا ينطبق على كل من المسيحيين المتعبدين والأشخاص الذين يفهمون أنفسهم كمسيحيين دون عبادات فعلية. هذه الأرقام مثيرة للفكر، لكنها تتفق جيدًا مع الجدل السياسي، حيث يصبح المسيحي علامة هوية على شيء آخر. في البحث يطلق عليه اسم المسيحية التفاعلية، حيث تصنف نفسك على أنك مسيحي كرد فعل ضد الإسلام على سبيل المثال. يشير هذا السياق إلى جبهة جديدة في الدنمرك، حيث يتجه المسيحيون ضد غير المسيحيين " كما تقول.

وفقًا لـ "أولي ريس" Ole Riis الأستاذ الفخري في علم اجتماع الدين بجامعة أغدر Agder والذي تعامل مع علاقة الدنماركيين بالدين، يؤكد التقرير أن العديد من الدنماركيين يربطون الكنيسة بالهوية الوطنية.

"لكننا نتحدث عن انقسام أعضاء الكنائس، حيث يعتبر نصفهم الكنائس أماكن التقاء تفصل نفسها عن الغرباء، وخاصة المسلمين. تشكل الكنائس إطارًا للمجتمعات التي تم تشكيلها تاريخيًا والتي تشترك في مجتمع القيم وتعززه. بالنسبة لمعظم الناس تُعتبر العضوية تعبيرًا عن هوية عاطفية أكثر من كونها تأكيدًا لعقيدة إيمان الكنيسة "، كما يقول ريس الذي يجد أيضًا أنه من المثير للاهتمام أن يؤمن معظم الأعضاء بقوة أعلى أو قوة روحية، ولكن ليس في صورة الكتاب المقدس الله.

"إنه تعبير عن الاستقلال العام الذي تدربنا عليه منذ الطفولة، حيث نتعلم اتخاذ موقف في مواجهة جميع تحديات الحياة. كما أثّرت على نظرتنا لعقيدة الإيمان. قلة قليلة من الناس يعتقدون أن المسيحية هي عقيدة ملزمة ".

حتى بين الدنماركيين الذين وصفوا أنفسهم في الاستطلاع بأنهم غير مرتبطين بدين، فإن الروحانيات ليست أجنبية، كما يقول "بيتر بيركيلوند أندرسن"Peter Birkelund Andersen الأستاذ المشارك في قسم الدراسات الإقليمية وعبر الثقافات في جامعة كوبنهاغن.

"بين غير المنتسبين للكنيسة الوطنية الـ 37 % على سبيل المثال يؤمنون بقوة أعلى، وهي القبول بشيء ديني واضح. يجيب العديد من نفس المجموعة أيضًا أنهم يؤمنون بشيء روحي مما يشير إلى وجود سمة دينية.

يحدث تحول في الطريقة التي يتدين بها الناس. لكننا لا نختبر رفضًا عقلانيًا كاملًا للإيمان. وبدلاً من ذلك يتم إنشاء هياكل دينية أخرى ".

الكاهن "ماتيوس" راعي كنيسة فيستيربرو في كوبنهاغن يقول إن الدنماركيين يؤلفون عقيدتهم بأنفسهم، مما يعني أن الهوية المسيحية مجتمعة مع الإيمان بشيء أكثر بديلًا. بالإضافة إلى ذلك، فهي تؤشر على قلق مجموعة المسيحيين في الدنمارك التي تعرب عن قلقها بشأن الهجرة أكثر من أولئك الذين ليس لديهم انتماء ديني.

"وغني عن القول إنه عندما يكون لديك علامات هوية تحت الضغط، فستكون أيضًا أكثر قلقًا. أنا شخصياً أشعر بالقلق من أن تماسك أوروبا قد يكون مهددًا وأن التركيبة السكانية قد تبدو مختلفة. المسيحية لا تميل إلى أن تكون أصولية، لذلك نحن غالبًا من ينحني، ويمكن أن يصبح هذا ضعفنا. نخاف من تراجع المسيحية ".

إذا نظرت إلى البلدان الأخرى في أوروبا الغربية، ستجد عددًا أكبر بكثير من الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم مسيحيين أكثر مما يوجد في الدنمرك، والنرويج، والسويد. يعرف معظمهم أنفسهم كمسيحيين، على سبيل المثال في البرتغال، وإيطاليا، والنمسا، وأيرلندا.

ما هي الطريقة التي يقسّم بها الدنماركيون أنفسهم دينياً؟

يبلغ عدد أعضاء الكنيسة الوطنية الدنمركية لعام 2023 ـ وفقاً لسجلاتها ـ 4311333 عضواً، وهذا يتوافق مع 73.8٪ من سكان الدنمارك. بالإضافة إلى الكنيسة الوطنية، يوجد 120 طائفة مسيحية معترف بها في الدنمارك. أكبرها نمواً الطائفة الأرثوذكسية والكاريزمية. كما يوجد العديد من الطوائف المسيحية غير المعترف بها أيضاً.

تقدر الجهات الإحصائية أن هناك 280.000 مهاجر وحفيد في الدنمارك لديهم خلفية ثقافية مسيحية

ـ الفردانية التقليدية: 12٪. وهم مؤمنون، لكنهم يختارون عدة عناصر من دينهم على فترات متقطعة. وهذا ينطبق بشكل خاص على الإيمان بالجنة والنار.

ـ التقليدي: 6٪. يؤمن بمجمل عقائد دينه بما في ذلك الجنة والنار على سبيل المثال.

ـ المؤمنون البدلاء: 24٪. يؤمنون بالله، ولكن ليس بإله شخصي. يتعلق الأمر أكثر بقوة الحياة الإلهية أو الروحية.

ـ أتباع الروحانيات: 11٪. يؤمنون بقوة الحياة الروحية أو الإلهية ، ولكن ليس بالله.

ـ غير المتدينين: 10٪. ليسوا متدينين، لكنهم غير متأكدين مما يؤمنون به.

ـ لا دينيين: 21٪. هم متأكدون من أنهم لا يؤمنون بأي شيء.

ـ آخرين: 16٪. يغطي عددًا من المجموعات المختلفة.

يوجد في الدنمرك ما يقرب من 2340 كنيسة. تضم 50 كنيسة مبان خاصة وأماكن للمعارض. توجد 400 كنيسة مجانية في الدنمارك ـ بدون اشتراكات شهرية ـ معظمها يقع في أماكن تجمعات المهاجرين.

الروحانيات

في عام 1981 سُئل الدنماركيون عن عدد الذين يؤمنون بالتقمص فبلغت نسبتهم 13 ٪.

زادت النسبة إلى 17 ٪ في عام 1990، وبلغت 24 ٪ في عام 2022، وخاصة بين الشباب والنساء الذين يؤمنون بالتناسخ.

في عام 2022 ، تم تسجيل 40 مجموعة ومؤسسة تقدم اليوجا في مدينة آرهوس، و151 في مدينة كوبنهاغن. في البداية كان الأمر يتعلق بشكل أساسي بمدارس اليوغا، ولكن في السنوات الأخيرة انتشرت أيضًا مختلف الخدمات مثل المدارس المسائية ومراكز اللياقة البدنية وأيضا الكنائس.

تظهر المقابلات مع المنتسبين أن الغالبية يمارسون اليوغا لاكتساب الرفاهية الجسدية ومنع الإجهاد. حوالي 1/3 يرى اليوجا شيئًا روحيًا وأقل بقليل من 1/10 كشيء ديني. لا يرى كل 1/5 تقريبًا أن اليوغا شيء روحي على الإطلاق.

ممارسة اليقظة هي ممارسة شائعة أخرى لها جذور في الدين الشرقي. هناك 135 شركة ومؤسسة مسجلة في سجل cvr الدنماركي تستخدم اسم "اليقظة".

استطلاع عام 2016

في دراسة استقصائية بواسطة عينة تمثيلية أجرتها Epinion لصالح القناة التلفزيونية DR في عام 2016 أجاب 17 %أن الدين مهم في حياتهم. أجابت الغالبية العظمى من الدنماركيين أن الدين ليس مهمًا جدًا في حياتهم. يعتقد واحد فقط تقريباً من كل خمسة دنماركيين أن الدين مهم جدًا في حياتهم. يقول أحد الخبراء إن الكثير من الدنمركيين ليسوا مؤمنين ولا ملحدين، لكنهم ببساطة لا يهتمون.

يقول "بريان أرلي جاكوبسن" Brian Arly Jacobsenعالم اجتماع الأديان وأستاذ مشارك في جامعة كوبنهاغن إن علاقة العديد من الدنماركيين بالكنيسة تتعلق بالهوية الوطنية وليس الهوية الدينية.

الدين ليس بالضبط موضوع "حديث صغير" وكثير من الناس لا يفكرون به حتى إذا كانوا يؤمنون بشيء ما. الدين ليس مهمًا بشكل خاص بالنسبة للدنماركيين ، فنحن نعلم ذلك أيضًا من استطلاعات أخرى. ليس لها مكانة كبيرة في حياتنا ، كما يشرح جاكوبسن.

ولكن إذا نظرنا إلى آخر مسح مشابه لعلاقة الدنماركيين بالدين، نلاحظ انخفاضاً كبيراً في عام 2016. حيث إنه في استطلاع مشابه جرى عام 2008 لقيم الدنماركيين يسمى مسح القيمة، أجاب 30 % من الدنماركيين أن الدين مهم أو مهم جدًا في حياتهم.

وعلى الرغم من أن الدراستين غير قابلتين للمقارنة بشكل مباشر، إلا أنهما يعطيان إشارة إلى أن شيئًا ما قد حدث في نظرة الدنماركيين للدين.

من الجدير بالذكر أن استطلاع عام 2016 أظهر أن الكثيرين من المُستطلعين ما نسبته 30% استخدموا خيار الإجابة "لا أوافق ولا أعارض". وهذا يشير إلى أن معظم المشككين ليسوا مؤمنين ولا ملحدين، لكنهم ببساطة لا يهتمون. إنهم ليسوا متدينين ولا يبتعدون بشكل واضح عن الدين. أي أن هناك مجموعة من السكان تصر على أنها غير مبالية أو لن تتخذ موقفًا لأسباب أخرى.

ما مدى مسيحية الدنمركيين؟

سؤال صعب للغاية للدنماركيين. تشير "ماري فيجروب نيلسن" Marie Vigrupp Nielsen الأستاذة المشاركة في الدراسات الدينية في جامعة آرهوس، إلى أن هذا سؤال ليس الدنماركيون مستعدين للإجابة عليه تمامًا.

يجيب الكثيرون من الدنمركيين بحذر، لأنهم ليسوا مسيحيين بقوة ولا ملحدين معروفين، وهذا في الواقع يخبرنا بشدة عن علاقة الدنماركيين بالدين. لا يحب الدنماركيون المواقف الدينية القوية. إنه يشكل السمة الناعمة في هويتهم.

فعلى الرغم من أن 17% فقط من الدنمركيين يعتقدون أن الدين مهم في حياتهم، إلا أنه لا يزال هناك 76% من الشعب الدنمركي أعضاء الكنيسة الوطنية. قد يبدو الأمر متناقضًا في الواقع، لكن السبب في ذلك هو أن المسيحية الثقافية لا تُعتبر نفس الإيمان الشخصي.

في الأساس، يوجد في الدنمارك مستوى منخفض من التدين الشخصي، ولكن هناك مسيحية ثقافية مستقرة، وميل للناس لاستخدام مجموعة الرموز الدينية فيما يتعلق بالهوية الشخصية. حيث إن علاقة العديد من الدنماركيين بالكنيسة تتعلق بهوية وطنية وليس بهوية دينية.

التدين في الثقافة الدنماركية يقوم على قاعدة مفادها أنه من الأفضل الجلوس في الحانة والتفكير في الرب، بدلاً من الجلوس في الكنيسة والتفكير في البيرة والسيدات.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

تشكل الترجمة وتتشكل من خلال العلاقات الاجتماعية وديناميكيات القوة والتفاعلات الثقافية، فالترجمة ليست مجرد نشاط لغوي، ولكنها ظاهرة اجتماعية وثقافية معقدة تتضمن نقل المعنى عبر اللغات والثقافات المختلفة، يدرس علماء الاجتماع الذين يدرسون الترجمة جوانب مختلفة، بما في ذلك الأدوار والممارسات الاجتماعية للمترجمين، والأطر المؤسسية التي تحدث فيها الترجمة، وتأثير الترجمة على العلاقات الاجتماعية والديناميكيات الثقافية. يحللون كيف تتوسط الترجمة التواصل بين مختلف الفئات الاجتماعية وكيف تؤثر على بناء الواقع الاجتماعي.

ويشير عالم الأجتماع الفرنسي بيير بورديو في مقالته "الشروط الأجتماعية لتناقل الأفكار عالمياً " الى الترجمة كرأس مال ثقافي وعلاقتها بديناميكيات السلطة، وشدد على دور المترجمين كعوامل للتكاثر الثقافي واستكشاف التوزيع غير المتكافئ للموارد اللغوية فيرى في مقالته المذكورة /ت نائلة منصور:

"أرغب اليوم أن أقترح عليكم بعض التأملات، التي تبتغي الهروب من طقوس الاحتفاء بالصداقة الفرنسية الألمانية والاعتبارات الإجبارية حول الهوية والآخَرية. أعتقد أنه في شأن الصداقة، كما في شؤون كثيرة، ليس جلاء الرؤية بمضاد للعاطفة، بل على العكس تماماً. وهكذا فإني أودّ أن أعرض عليكم بعض التأملات حول الشروط الاجتماعية للتناقل العالمي للأفكار، أو بعبارات اقتصادية لها دائماً أثر القطيعة مع ما سبق، تأملات حول ما يمكن أن نطلق عليه الاستيراد والتصدير الفكري، ما أريد توصيفه، إن لم تكن القوانين، حيث لا أملك تلك اللغة المدّعية، فهو على الأقل الاتجاهات في هذه التبادلات العالمية، التي عادة ما نصفها بلغة صوفية أكثر مما هي لغة عقلانية. باختصار، أريد اليوم أن أقدم برنامجاً لعلم العلاقات الدولية التي تنظم الشأن الثقافي أن عمليات النقل والترجمة ليست بريئة من هذه الحسابات، ولكنها تجري بشكل آخر عبر البلدان، ويدخل فيها الحقل الثقافي الخاص بكل بلد، وأيضاً سوء الفهم الناتج عن عدم تناظر أو تطابق الشروط والسياقات بين البلدان المتناقلة للأفكار والنصوص".

وفي نفس الأتجاه ترى منى بيكر (مصرية مختصة في دراسات الترجمة ومديرة مركز الترجمة والدراسات الدولية في جامعة مانشستر بإنجلترا)، في كتابها "الترجمة والصراع "

حيث أنطلقت بيكر من السرديات كمدخل للترجمة وتعرفها" هي القصص التي نحكيها لأنفسنا أو غيرنا عن العالم الذي نعيش فيه فالسرديات تمثل مجموعة من القصص العامة التي نؤمن بصحتها، ومن ثم نجعلها موجهاً لسلوکياتنا وليست فقط تلك التي نرويها على الأخرين- ونتخذ منها إدراك للطبيعة، أن النظرية السردية تعطي أفضلية للهوية الأختزالية کالعنصر، والجنس والعرق والدين، بل تقر بالكتب القابلة للتفاوض بالنسبة للواقع الأجتماعي والسياسي و تُحِظَرْ حُذْف الفاعلين الاجتماعيين ومن بينهم المترجمين كأفراداً من الحياة الحقيقية الى مجرد تجريدات نظرية و تُتيح لنا النظرية السردية أن نفسر السلوك تفسيرا حرکياً إذ تشجعنا على التفکير والتشکيك في السرديات التي نتبناها وتشکل سلوکنا، لکنها في الوقت نفسه تفترض تحررنا من تلکؤنا حتى مع تشککنا فيها،إضافة الى ذلك تقرأ النظرية السردية البنى الأجتماعية وتأثيرات النظام السائد، لهذا يمکننا تطبيق النظرية السردية على کل من اللغة والترجمة، فالنظرية السردية هي الدينامية التي تمنحها هذه النظرية للباحث في دراسة سلوك المترجمين خارج القوالب لنظريات الترجمة السائدة" فضلاً عن ذلك تؤكد بيكر " نحن في حاجة لتبني فهم أوسع للترجمة ووضع خطاب واقعي منفتح للدراسين من الحقول المعرفية الأخرى ولعامة الجمهور إضافة الى اتساع حقل دراسات الترجمة، حيث أصبح يستوعب المزيد من القضايا والسياقات، بما فيها موقع المترجم من صناعة النشر العالمي، والترجمة داخل تكتلات المؤسسات الإخبارية، والمنظمات الدولية والقومية، وفي صناعة الأفلام، وفي الشركات متعددة الجنسيات".

ومن هنا نستطيع أن نقر فهماً أوسع للترجمة كما يراه علم أجتماع الترجمة بوصفه عدسة اجتماعية يمكن من خلالها فهم الأبعاد الاجتماعية والثقافية والسياسية لعمليات الترجمة، وإلقاء الضوء على تعقيدات التواصل والتبادل الثقافي في عالم متنوع ومترابط، ووفقاً لذلك تشكل الترجمة فهماً واسعاً يتجاوز النص الى حقلاً يوظف المفاهيم الأتية:

- القوة والإيديولوجيا: يُنظر إلى الترجمة على أنها موقع يتم فيه التفاوض على علاقات القوة وإعادة إنتاجها، يحلل علماء الاجتماع كيف تؤثر اختلالات القوة بين اللغات والثقافات والمجموعات الاجتماعية المختلفة على ممارسات الترجمة، كما يفحصون كيف يمكن استخدام الترجمة كأداة لتعزيز أو تحدي أيديولوجيات معينة.

- الوكالة والوساطة: يُنظر إلى الترجمة على أنها ممارسة اجتماعية وثقافية يقوم بها الأفراد الذين يتخذون القرارات ويمارسون الوكالة، يستكشف الباحثون دور المترجمين كوسطاء بين الثقافات، ويفحصون القرارات التي يتخذونها والقيود التي يواجهونها.

- الشبكات والمؤسسات الاجتماعية: تحدث الترجمة ضمن سياقات اجتماعية ومؤسسية محددة، يدرس علماء الاجتماع الهياكل التنظيمية والمعايير والشبكات المهنية التي تشكل عمليات الترجمة. يقومون بالتحقيق في كيفية تأثير هذه السياقات على جودة النصوص المترجمة وإمكانية الوصول إليها وتوزيعها.

- النقل والتحول الثقافي: تلعب الترجمة دورًا حاسمًا في تداول الأفكار والمعرفة والمنتجات الثقافية عبر المجتمعات المختلفة، يبحث العلماء في كيفية تأثير الترجمة على الإنتاج الثقافي والاستقبال والتفسير، يستكشفون أيضًا كيف يمكن للترجمات أن تساهم في التهجين الثقافي وتشكيل الهويات الثقافية غير الوطنية.

- العولمة والتوطين: يبحث علم اجتماع الترجمة في التوترات والديناميكيات بين قوى العولمة والثقافات المحلية، يستكشف كيف تتأثر ممارسات الترجمة بالتدفقات العالمية للمعلومات ورأس المال والأشخاص، فضلاً عن كيفية مساهمة الترجمات في الحفاظ على الثقافات المحلية أو تحويلها.

بشكل عام تعتبر الترجمة أكثر من مجرد نشاط لغوي - فهي جزء لا يتجزأ من السياقات الاجتماعية، وتتأثر بالديناميكيات الاجتماعية، ولها آثار على العلاقات الاجتماعية، والتبادل الثقافي، وتوزيع الموارد. يساعد فهم الترجمة كوظيفة اجتماعية في إلقاء الضوء على تأثيرها وأهميتها المجتمعية الأوسع.

***

د. فاطمة الثابت

عُرف طه حسين في بعض الأوساط الدينية وبين أبناء “جماعات التمايز بالإسلام الصحيح عن المسلمين” بأنّه المؤلف الذي أهان الدين الإسلامى بتكذيب القرآن فى إخباره عن إبراهيم وإسماعيل في كتابه “الشعر الجاهلي”، فتناقلوا ما سمعوا عنه دون أن يقرءوا ما كتبه هو.. حفظوا الاتهام عن ظهر قلب، ونسوا أو تجاهلوا قرار النائب العام بعدم صحة هذه الاتهام، ففي أمّة تسمع ولا تقرأ يُسوّد الطرف الأعلى صوتا والأكثر استحواذا على وسائل التواصل الشفهي، فتقوم الثقافة على التلقين والترديد، واختزالِ ما يُسمع في كلمة، وتصنيفِ الناس وفق هذا الاختزال بين ملاك وشيطان، ثمّ تلوك الألسنة شائعات مكذوبة؛ تُؤكد ملائكية هذا أو شيطانية ذاك، فيحيا إفك مفترى، من قبيل أن طه حسين قال: “أعطوني قلمًا أحمرَ لأُصحّح لكم أخطاء القرآن”! وتموت الحقائق المسطورة في كتبه، من قبيل قوله: “القرآن الكريم المعجزة الكبرى التي أتاها الله رسوله الكريم، آية على صدقه فيما يُبلّغ عن ربّه.. والقول في إعجاز القرآن يكثر ويطول وتختلف وجوهه وتختلف فنونه أيضا.. فللقرآن وجه من وجوه الإعجاز، لم يستطع العرب أن يحاكوه أيام النبي، ولا بعده، ذلك هو نظم القرآن، أي أسلوبه في أداء المعاني التي أراد الله أن تؤدى إلى النّاس، لم يؤدِّ إليهم هذه المعاني شعرًا، كما قدمنا، ولم يؤدها إليهم نثرًا أيضا، إنما أدّاها على مذهب مقصور عليه، وفي أسلوب خاص به لم يُسبَق إليه، ولم يلحَق فيه”.

لم يكن صاحب هذه الكلمات ذاك الرجل الذي يُمثّل تفكيره تهديدًا، وهل يُعقل أن يُمثّل التفكير خطرا! وهل يُعقل أن يُعرّض الدين للخطر رجلٌ كائنا من كان! لاشكّ أنّ منهجية طه حسين ومن حذا حذوه في تمسّكها بضرورة المعرفة من أجل الفهم، وضرورة الشكّ من أجل اليقين، وضرورة البحث عن الحقيقة في تجردٍ من الهوي؛ حتى يسطعَ نُور العقل من خلف أسوار الخرافة والقهر تُمثل خطرا على دوغمائية/ جزْمية “جماعات التمايز بالإسلام الصحيح عن المسلمين”، فروّجت الشائعات حول نتاجه الفكري مما حرم العقلَ المسلم من فرصة التعاطي المبكر معها والبناء عليها بعد نقدها نقدا علميا، فلم ننتبه إلى دعوته لمنهج التفسير الأدبي للقرآن الكريم، الذي استوقف عددا من الباحثين الألمان، فأشار إليه شتيفان فيلد في مقدمة كتابه “القرآن كنص” The Quran as Text، وجعلت السيدة فيلاند بداية الفكرة عند طه حسين، وأولية التنظير والتقعيد عند تلميذه أمين الخولي.

ففي كتاب “في الصيف” الذي يُمثّل مجموعة من خواطر طه حسين أثناء رحلته إلى فرنسا عام ١٩٣٣، لقضاء عطلته الصيفية من التدريس في الجامعة، توقّف أمام علاقتنا بالكتب المقدسة، مُقرّرا ثلاث منطلقات لدراستها.

أولها: إمكانية استقلال الجانب الفني/ الجمالي للقرآن الكريم عمّا فيه من مظاهر الدين والإيمان، والحاجة إلى دراسة هذا الجانب مستقلا عن الجانب التشريعيّ والتعبديّ مُؤكدًا على أهمية مثل تلك الدارسات في تذوق الإعجاز القرآني.

ثانيها: أحقية النّاس جميعا أن يقرءوا الكتب الدينية، ويدرسوها، ويتذوقوا جمالها الفني، “فليس من الضروري ولا من المحتوم، أن تكون حَبرًا، أو قسيسا، أو شيخا من شيوخ الأزهر؛ لتقرأ في التوراة أو الإنجيل أو القرآن، وإنّما يكفي أن تكون إنسانا مثقفا له حظّ من “الفهم” والذوق الفني لتقرأ في هذه الكتب المقدسة، ولتجد في هذه القراءة لذّة ومتعة وجمالا، بل ليس من الضروري، ولا من المحتوم أن تقرأ في هذه الكتب المقدسة، مدفوعا إلى القراءة فيها بهذا الشعور الديني، الذي يملأ قلب المؤمن، فيُحبّب إليه درس آيات الله، ويُرغّبه في تدبرها والإمعان فيها، بل تستطيع أن تنظر في هذه الكتب نظرة خصبة منتجة؛ وإن لم تكن مؤمنًا ولا ديّانا”.

يُؤكد طه حسين على أنّ قراءة طُلّاب الفنّ والجمال الأدبي للكتب المقدّسة يُنتج للإنسانية نتائج لا ينتجها عكوفُ الأحبار والرهبان والشيوخ على قراءة التوراة والإنجيل والقرآن! فهؤلاء يقرءون متعبدين يلتمسون الدين والإيمان، فيقرءون ويفسرون ويقربون هذه الكتب إلى الناس من ناحيتها الدينية، وقلّما يعنون بالناحية الفنية، وقلّما يدركون دقائق هذه الناحية إنْ هم عنوا بها أو التفتوا إليها، بينما طُلّاب الفنّ والجمال الأدبي يمكنهم أن يفتحوا للناس أبوابا لحياة فنية قوية الأثر، بعيدة المدى، على غرار الآثار الفنية المختلفة التي نشأت من تأثّرِ أصحاب الذوق والفن بما قرءوا، أو ما أُلقيَّ إليهم من العهدين القديم والجديد، وهي آثار فنية لا تحصى منتشرة شرقا وغربا، فالكتب الدينية، والعمارات الدينية، ليست وقفا على أصحابها وحدهم، وإنما هي خطاب للإنسانية كلّها كغيرها من الآثار الفنية التي كان لها حظّ عظيم في تكوين نفسية الأمم والأجيال.

ثالثها: الإعلان عن نتائج هذا التذوق والدرس والفهم ما دام هذا الإعلان لا يمسّ مكانة هذه الكتب المقدسة من حيث كونها مقدسة؛ فلا يُنقص من مكانتها، ولا يضعها موضع الاستهزاء والسخرية والنقد، وبعبارة أوضح: لمَ لا يكون من حق النّاس أن يُعلنوا آراءهم الفنية والعلمية دون أنْ ينالوا من مكانة تلك الكتب الدينية؟

“فالغربيون، كسبوا لأنفسهم هذا الحق، فهم يدرسون الكتب الدينية السماوية وغير السماوية، ثمّ يعلنون نتائج درسهم في حرية وصراحة، منهم الغلاة في التّعصب لها، والغلاة في التّعصب عليها، والمقتصدون بين أولئك وهؤلاء. أما الشرقيون، فقد كانوا أيام الأمويين والعباسيين آخذين في أسباب هذه الحرية والصراحة، يدرسون ويُعلنون نتائج درسهم دون أن يتعرّضوا لكثير من الخطر أو الأذى، ولكنهم لم يكادوا يفقدون سلطان السياسة العربية؛ حتى تورّطوا في شيء من الجهل والجمود حرمهم هذه الحرية والصراحة، وجعل حسّهم فيما يمسّ الدين يُصبح حادًا رقيقًا شديد التأثر، سريع الانفعال”.([1])

ويُتابع قائلا: “ثمّ كان هذا العصر الحديث، ونهضت شعوب الشرق العربي؛ وطلبت حرية الرأي، كما طلبت الحرية السياسية والاقتصادية، في ذلك كلّه، ووصل بعضها إلى حظّ لا بأس به، ولكنّ الحسّ الديني ما زال في الشرق العربي رقيقًا حادًا كما كان، ولعلّه قد أصبح في هذه الأيام أشدّ رقّةً وحدّةً، وأسرع تأثرا وانفعالا؛ لأنّ الأهواء السياسية الناشئة قد أخذتْ تستغلّ الدين طلبًا للغلب والفوز.

فاستغلال السياسة للدين في الشرق حال لا بد أن تَحول، ولا بد من أن يشعر الساسة غدا أو بعد غد بأنّ استغلال العواطف الدينية لمصلحة الأهواء السياسية شرّ يضرّ كثيرا ولا يُغني شيئا”.

مضى ثمانون عاما على هذه الكلمات؛ وما زال الحسّ الدينيّ أكثر حدّةً واستثارةً باستغلال جميع الأطراف له في معاركهم السياسية، فحرمنا أنفسنا لذّة البحث والدرس، لذّة التفكير بصوت مسموع، وأضعنا فرص الاستفادة من منهجيات يُمكنها إيجاد تصورات جديدة قادرة على مواجهة أفكار التطرف.

***

أ. د. عبد الباسط سلامة هيكل

....................

([1]) في الصيف، ص١١.

(الفرنكوفونية هي تلك النزعة الإنسانية الكاملة التي تنسج نفسها حول العالم: ذلك التكافل بين "طاقات نائمة" لجميع القارات، لجميع الأعراق، التي تنهض بفضل حرارتها المُكَّملة...اللغة الفرنسية هي الشمس الساطعة خارج فرنسا القاريّة).  ليوبولد سيدار سينغور

* لطالما دقت الفرنكوفونية وأذيالها نواقيس الخطر، منافحة على توجهاتها الكلاسيكية، عن طريق تقديم سياستها الأخطبوطية بديلاً للعولمة الجامحة التي تهدد هويات كل الشعوب الحرة، بالإضافة إلى طرح نظرياتها الهشة، القائلة بكونها تولد توحيدًا ثقافيًا متماسكا من خلال تشميل السلوكيات وأنماط الحياة، مع مدافعتها المتواصلة عن التنوع الثقافي وأشكاله التعبيرية الأخرى.

ويبدو أن هذه الهواجس القاتلة، صارت مجالا للبوليميك الاتصالي اليومي، الذي يسيطر على الأشكال الجديدة للثقافات المعولمة، وبنيات الاتصال السيبراني المهيمن، كما هو الحال بالنسبة لما يسمى راهنا بتشكل التيار الكوني الجديد للثقافة " الأنجلو-أمريكية"، التي يدعي خدام الفرانكوفونية الجدد أنها تهاجم تيارهم من الداخل، ساعية بالمفهوم الغامض "للأدب العالمي"، والذي تم تجاهله من قبل وسائل الإعلام والرأي العام الفرنسي، إلى إعادة تنشيط حوافزه وآثاره العميقة في منظومة التلقي للنخب والهيئات المؤثرة، متسائلة:

هل يجب اعتبار ذلك تحريك ثقافي مسيس أم مجرد انتقال مرحلي، إلى عولمة مقنعة وغير متطابقة؟.

الجميع يعلم، أن فكرة الفرانكوفونية هي في الأصل مشروع سياسي، كانت مدبرة بأيادي استخباراتية فرنسية، وبتوجيه لازم أحد أقطابها ليوبولد سيدار سنغور (أول رئيس للسينغال العام 1960)، بمعية التونسي الحبيب بورقيبة وحماني ديوري من النيجر، جاءت بهدف الترويج لفكرة "المجتمع العضوي" الناطق بالفرنسية. ثم احتدم الإطار المرجعي للفكرة، فصارت تفصيلا مواكبا لتوجيه سياسة المنظمة المدعومة من قبل دولة استعمارية سابقة، حيث تم تحويلها إلى مشروع لبناء "كومنولث" على الطريقة الفرنسية، بين الدول التي تستخدم الفرنسية كلغة وطنية أو لغة رسمية أو لغة ثقافية . وهو ما يرسخ مبدئية التبعية وتقويض أساسات المطالبة بالتوطين الهوياتي للغة والثقافة، ومن تمة للسياسة والاقتصاد .. وهلم جرا.

وكان الشاعر السينغالي سنغور يذهب عبر جنوحاته المتناقضة، إلى القول بأن بناء "الكومنولث" على الطريقة الفرنسية، يجب أن يجعل من الممكن تجنب التجزئة التي هددت أفريقيا المستقلة حديثًا والناطقة بالفرنسية، مع الحفاظ على روابط مميزة مع القوة الاستعمارية السابقة. مقتنعا بما يناسب مشروعه الغامض الذي أطلق عليه مفهوم "الجالية الفرنكوفونية"، وهو نفس المعطى الذي ساقه في قمة تاناناريف في يونيو 1966.

ومع تراكمات أخطاء قطعان ساسة فرنسا ووكلائها في أفريقيا على وجه الخصوص، وبعد أربعين عامًا من الخواء الأيديولوجي والسياسي المخالف لتطلعات الشعوب واستيقاظها متأخرا في ظل العتمات الحضارية ونذوبها الزائغة، ظلت الفرانكوفونية هشة للغاية، ممزقة بين رغبة البعض في تحويلها إلى أداة سياسية، ورغبة الآخرين في حصرها في دور تعليمي أو اجتماعي أو ثقافي بحت. ونمت صروف ومنافذ ثاوية جديدة، تجافي نظرات المتحفزين للتفوق الحضاري الفرنكوفوني، ما عزز انخرام قطائع التواصل والاندماج الثقافي إلى ما يشبه التنجيم الضاغط على "التدافع الحضاري" و"الرؤية المستقلة" و"الاحتواء الهوياتي " و"الوجودي" للمنخرطين في منظمة تزعم انحيازها لمفهومية "الحوار بين الثقافات" كقوة دافعة للتطور الإيجابي وانكسار ذلك كله، تحت وقع "طريقة معارضة الفرضية المؤلمة المتناغمة مع نظريات "الصدام بين الحضارات" "أو حرب الأديان"، وهي فرضيات تشبه بشكل غريب، تذويب خاصيات وهويات بلدان الجنوب وتباعدها الشاسع مع بلدان الشمال، في التوظيفات والمؤشرات التنموية والمجالية القاسية، حيث تبدو الفرانكوفونية، التي تحترم اختلافات وخصوصيات كل منها، بمثابة ثقل موازي للعولمة، المعتمدة على لغة واحدة لفرض فكر واحد .

أصبح من الأكيد، أن العقلاء الراشدون من أتباع الحلقة الفرانكوفونية الغاشمة، متقنعون بعد كل هذه الدورة الزمنية الطويلة، أنه لا يمكن فصل السياسة الفرنكوفونية، عن التعليم والثقافة والاقتصاد والتنمية، وأن أي نهج في هذه المجالات يخضع بالضرورة لفلسفة سياسية وإدارية شديدة التعقيد، تتبعها اجتزاءات وتجذرات دقيقة في باراديجم السياسات الدولية وفواعلها الأساسية، مع العلم أن كل القرارات المتخذة في هذا الإطار تقع أوتوماتيكيا تحت مسؤولية قادة الدول الأعضاء في المنظمة الدولية للفرانكوفونية، الذين يجتمعون بانتظام منذ عام 1986 في إطار قمة الفرانكوفونية أو من خلال المؤتمرات الوزارية.

وما يؤكد هذا التوجه، ما تضمنته كلمة نادرة للرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا خلال كلمة له بالمناسبة، يوم 20 (مارس) 2010 في الإليزيه أن "المنظمة الدولية للفرانكفونية هي دول من الشمال والجنوب، دول من الشرق والغرب .. ما فائدة وجود قيم مشتركة إذا لم نحول هذا التمسك بالقيم المشتركة إلى مواقف سياسية؟ ... لا تتعلق الفرانكوفونية بالمثقفين وعشاق الأدب واللغة فحسب، بل يجب أن يترجم هذا أيضًا إلى معركة سياسية؟".

إنه منطق الاعتراف البدهي، عندما تصير القوة المهيمنة نمطا مرجعيا للهوية الثقافية واللغوية، وإطارا سياسيا وأيديولوجيا مكرسا للسلطة القاطعة والمجسدة ل"لجماعة الدولية الحامية و"المخنوع إليها" و"السابح تحت عالمها"؟.

يرى قطاع كبير من المهتمين بحقل الفرانكوفونية، أنه منذ إعلان باماكو في 14 يناير 2017، الذي يعتبر  حسب رأيهم  أنه أول نص معياري للفرانكوفونية، يتعلق بممارسات الديمقراطية والحقوق والحريات، تمت الإغارة أفقيا على تضمين روح البيان للغات القومية المنفتحة على محيطها المحلي والتاريخي، بما يجسد حمولة طاقية عظيمة، لما يدعى بمفهوم "اللغة ابنة تاريخها"، كما يزعم خدام الفرانكوفونية، أو ما يطلق عليه " الفرنسية أساس الإنسانية"، حيث "تحمل القيم الجمهورية للحرية والمساواة والأخوة"، مثلما هو الادعاء القائم على أن الفرنكوفونية "تساهم في تحسين الحياة اليومية للسكان المحليين"، و"تكافح العنصرية"، و"تبدد التوترات وسوء التفاهم مع دول الشمال"، وهو ما يشرعن اعتبارية "احترام قيم راعية الاستعمار السابقة لا غير"؟، مع ما يبرر للمتواطئين والمغالين في هذا الاتجاه، إبقاء الحال كما هو عليه، وتكريس لغة التفوق والاستقطاع من فكر وتاريخ "الاستقلال" و"التحرر"، ومحاربة كل ما يرتبط ب"الذات الثورية" والمستجيرة بأمجادها وأنوارها البائدة؟.

إنه على الرغم من استعادة جذوة الحريات الثقافية والهوياتية، ضمن منظومة ارتدادات جيواستراتيجية وسياسية شهدها العالم، فإن حدودا قصوى لتلك التقاطعات والعوامل المتعددة، الواقعة تحت نفوذ الهيمنات الاقتصادية والمالية والعسكرية المتفاوتة، لا زالت تكرس نوعا من الانسداد والتعتيم، حيث تتحول الوضعيات إلى مجرد أرقام وحسابات في خرائط تقسيم العالم وتكسيره تحت صيرورة الحسم في الأشكال الجديدة "للحكم والسلطة الدولية"، كما يراد لها أن تكون؟.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

من المؤكد أن العلاقة التي يعيشها أهل المذاهب الإسلامية اليوم، من أصعب وأعقد اللحظات. وذلك لبروز الغرائز المذهبية والطائفية، وسعي كل طرف للغلبة على الطرف الآخر. صحيح أن الخلافات الفقهية والمذهبية بين  المسلمين ليست جديدة، وإنما هي ذات عمق تاريخي يمتد إلى مئات السنين. ولكن الأكيد أنها لم تشهد في كل تلك الحقب التاريخية الماضية من توتر واشتعال وتوجس الجميع من الجميع. 

فالعلاقة المذهبية بين المسلمين اليوم، تعيش أصعب مراحلها، وتنذر إذا استمرت هذه الحالة على حالها، كوارث هائلة تصيب البلاد الإسلامية على أكثر الصعد والمستويات. وذلك لأن الاحتقان وصل أقصاه، وازدادت المجموعات العنفية والإرهابية، التي تتبنى خيار الحرب والاستئصال للمختلف المذهبي، ودخلت بعض المجتمعات العربية والإسلامية في أتون الاحتراب المذهبي المفتوح على كل الاحتمالات الكارثية. 

ولا ريب أن صمت حكماء الأمة عن هذا الخطر، سيفاقمه، وسيدخله مرحلة جديدة من الاحتراب الصريح، الذي لن يبقي حجرا على حجر. كما أن اشتراك بعض الفعاليات الدينية العليا في تغذية حالة الاحتراب وبعض الجماعات الإسلامية ذات التأثير في مجتمعاتنا، يعني استمرار الغطاء الديني الذي يغذي حالة التوتر والاحتراب، ويبرر للجميع الانخراط في هذا المشروع الخطر والذي يهدد الأمة جمعاء في أمنها واستقرارها، وفي راهنها ومستقبلها. 

وكلنا يعلم أنه في هكذا أجواء، يرتفع الصوت الأحمق والممارسة المجنونة وغير المحسوبة من جميع الأطراف والأطياف. 

لذلك نتمكن من القول اليوم وللأسف الشديد أنه ثمة حالة من الاحتراب الأهلي الصريح والكامن بين المسلمين. 

وبفعل هذه الحالة يسفك يوميا الدم الحرام، ويتم تخريب الكثير من البنى التحتية للبلاد الإسلامية، ويتم إنهاك النسيج الاجتماعي وتفجير التناقضات البينية والفرعية في كل الاجتماع الإسلامي المعاصر. وتحول الإسلام بفعل هذه التوجهات المذهبية الحادة والمتطرفة، من مصدر لبناء الوحدة وتوحيد المجتمعات وخلق حالة من الطمأنينة والثقة بين مختلف تعبيرات ومكونات الأمة. إلى مصدر للحرب والقتل وخلق حواجز العداوة والكراهية بين المسلمين. وبدل أن يعمل الجميع على تحييد تاريخهم المليء بالإحن والأحقاد، تم استدعاء التاريخ بكل حمولته من قبل الجميع، وأصبح (أي التاريخ) هو أحد الروافد الأساسية لإدامة الفرقة والنزاع بين المسلمين. وكأننا كمسلمين معاصرين، نتحمل عبء التاريخ وأحداثه وحروبه. 

كل الأمم الحية اليوم، تتجاوز حقب التاريخ السوداء لها، إلا الأمة الإسلامية اليوم، فهي تجتهد لاستدعاء التاريخ وإعادة إحياء حروبه ونزاعاته. 

وبدل أن يلتفت الجميع إلى تجارب الأمة في تجاوز حروبها وانقساماتها التاريخية، نحن نبدع كمسلمين في اجترار التاريخ والإضافة على حروبه ونزاعاته المزيد من الحروب والنزاعات التي لا تفضي إلا إلى المزيد من الدماء  والأشلاء. 

وإن استمرار المجتمعات الإسلامية في هذا السياق والمسلك، يعني استمرار حالة التدمير الممنهج للذات الإسلامية بكل عناصرها الإيمانية والإنسانية. 

لهذا آن الأوان أن يرتفع الصوت عاليا ومن جميع الفعاليات والأطراف لا للاحتراب المذهبي، نعم للمصالحة التاريخية التي تعيد صياغة العلاقة بين المسلمين بعيدا عن احن التاريخ وإكراهات الواقع. 

فمهما أوتي أي طرف من أسباب القوة والمنعة، واستخدام كل أدوات القتل والإرهاب، إلا أنه  لن يتمكن من إنهاء الوجود الإسلامي الأخر. فليس بمقدور أي طرف من إلغاء الطرف الآخر، واستمرار حالة الاحتراب المذهبي، تضر الجميع وتفقدهم عناصر قوتهم، كما أنه يساهم في تقديم صورة الإسلام للعالم، وكأنه دين القتل والتصفية الجسدية وصناعة الحروب الأهلية. 

آن الأوان أن يلتفت حكماء وعلماء الأمة من السنة والشيعة، إلى ضرورة إطلاق مشروع متكامل للمصالحة الإسلامية الحقيقية، التي تنهي كل أسباب الاحتراب المعاصر بين المسلمين. 

لأن كل حروب المسلمين الداخلية، بلا أفق حقيقي، وإن استمرارها سيخرج  الأمة جمعاء من حركة التاريخ، وسيجعلها في سجل الأمم الفاشلة التي لم تتمكن من منع المسلمين من الاقتتال الداخلي. 

ونرى أن أهم أسس المصالحة بين المسلمين التي ننشدها وندعو إليها هي العناصر التالية : 

1. وقف حملات التشويه وحروب الأوراق الصفراء من قبل جميع الأطراف الإسلامية. لأن هذه الحروب لا تقدم المسلم الآخر على نحو حقيقي أو إيجابي، وإنما تقدمه وكأنه متعطش لدم المسلم الآخر. 

وجميع المؤسسات الإسلامية والفعاليات الدينية، تتحمل مسؤولية مباشرة في مشروع وقف حروب الشائعات والتشويه التي يتعرض إليها المسلمون من بعضهم البعض. ولو ن صتنا قليلا إلى ما يبثه الإرهابيون، لوجدنا أن أحد أهم الأسباب التي دفعتهم إلى الإرهاب وقتل المسلم الآخر، هو طبيعة الثقافة المشوهة المبثوثة، القائمة على تشويه سمعة المسلم الآخر، واتهامه بأقذع  التهم. مما يجعل المسلم يعيش حالة الاحتقان والحقد على الطرف المسلم الآخر. 

وقد يتحول هذا الحقد والاحتقان، إلى ممارسة عنفية ضد المسلم الآخر.لهذا لا يمكن أن ننجز مشروع المصالحة بين المسلمين اليوم، إلا بوقف حقيقي من جميع الأطراف لحملات  التشويه وحروب الشائعات، التي تقدم الطرف المسلم الآخر على النقيض من حقيقته الإسلامية والاجتماعية. لأن الكثير مما يبث في زمن الاحتراب المذهبي، ليس صحيحا أو مشوها أو مجتزأ. 

2.  التمسك بخيار التعايش، المبني على ضمان حق الاختلاف وضرورة المساواة، بحيث لا يكون الانتماء المذهبي في كل المجتمعات الإسلامية حائلا دون تمتعه بحقوقه الوطنية. 

كما أن التعايش لا يعني أن يغادر أحد الأطراف موقعه الأيدلوجي لصالح الطرف الآخر. فالمسلم السني يعتز بإسلامه وفق فهم السلف، ك م ا أن المسلم الشيعي يعتز بإسلامه وفق فهم أئمة أهل البيت. والمطلوب من الجميع احترام كل هذه القناعات، حتى لو لم يكن معتقدا بها. فالاختلاف المذهبي لا يشرع لأي طرف ممارسة الظلم وانتهاك حقوقه من الطرف الآخر. ومقتضى المصالحة الفعلية بين المسلمين هو التزام الجميع بمقتضيات التعايش، بحيث لا نسيء إلى بعضنا البعض، ونرفض جميعا كل أشكال الانتهاك التي يتعرض إليها الإنسان المسلم سواء كان سنيا أو شيعيا. 

3 تعلمنا تجارب الأمم التي ابتليت بحروب مذهبية بين مكوناتها، أنه لا خروج فعليا وحقيقيا  من هذه الحروب، إلا ببناء دولة جامعة، غير منحازة لأي طرف مذهبي، وتعمل بكل قدراتها إلى  الإعلاء من مبدأ المواطنة كبديل عن مبادئ الانتماء المذهبي. فكل مواطن بصرف النظر عن مذهبه، له كامل الحقوق وعليه كامل الواجبات. 

وإن الدولة معنية بتنفيذ كل مواد القانون والدستور التي تجرم التفريق بين المواطنين لأسباب مذهبية. 

فالدولة الجامعة اليوم في كل البلدان العربية والإسلامية، هي القادرة على  معالجة كل أسباب الاحتراب المذهبي، وإرساء أسس المصالحة الحقيقية بين المسلمين. 

لهذا فإننا نرفض أي شكل من أشكال المحاصصة الطائفية في بناء ال دول، وندعو إلى جعل المواطنة المتساوية هي مصدر الحقوق والواجبات.

***

أ. محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

يتصور كثيرٌ من الأزواج أنَّ الحياةَ الزّوجِيَّةَ ينبغي أنْ تكونَ خالِيَةً من المشكلاتِ وَالمُنَغِّصاتِ، وهذا لايمكن أنْ يقع مادمنا بشَراً، ولنا نوازعُ البشر، وَأَهواءُ البشر. هذا الافتراضُ يمكنُ تَصَوُّرُهُ في عالمِ المَلائكَةِ . المُشكلاتُ موجودةٌ حتى في بُيُوتِ الانبياء، فالنبيُّ نوحٌ (ع) لَدَيه مشكلة مع زوجه ومع ابنه اللذين كانا في الخط المعارض لرسالته عليه السلام . وكذلك لدى النبي لوط عليه السلام مشكلة مع زوجته، وفي بيت يعقوب مع أولادهِ الذين اغاضهم تعلق يعقوب بابنهِ يُوسُف، فكادوا بيوسف وخطّطوا لقتله ولكن اخاهم لاوي اقترح عليهم فكرةَ البئر، وكان الامرُ كذلك مع رسول الله صلى الله عليه وآلِهِ وسلَّم مع بعض أزواجه وقد تحدث القرآنُ عن ذلك.

 هذا أوَّلاً، وَثانياً، أنَّ كثيراً من الازواج لايفهمونَ سيكولوجِيَّةَ المرأةِ ولاطريقةِ تفكيرِها . قد تجد الرجل ناجحاً في علاقاتهِ مع الرجال،  ناجحٌ في ادارة علاقاتِهِ مع امثالهِ من الرجال، ولكنَّهُ فاشِلٌ في ادارة علاقاتِهِ في بيته ومع اولاده. المرأةٌ كائنٌ عاطِفِيٌّ وكائنٌ تعبيريٌّ يعبّرُ عمّا في داخلِهِ. قد تطالب المرأةُ الزوجَ بالطلاقِ-في لحظة انفعال، وهي لاتريدهُ، قد تثورُ وتغضب في وجه زوجها، ولكنَّها تنسى كلَّ شيءٍ بكلمة طيبةٍ من زوجها او بلمسةٍ حانيّة.

 أكثرُ المشكلات الزَّوجيَّةِ ناشِئَةٌ من عدم فهم سيكولوجية المرأة وطريقتها في التفكير، ولو تعاملنا مع المرأةِ وفق فهمنا لطبيعتها ومزاجها وانفعالاتها لتجنبنا الكثير من خراب البيوت وهدم الاسر.

النقطة الثالثة التي احب اثارتَها هي ان الرجل باعباره قَوّاماً على اسرتهِ، والقوامة هي الرعاية وتحمّل المسؤوليّة، وليست كما يفهما العابثون استبداداً وطغياناً وقهراً للمرأة . الرجل عليه ان يستوعبَ المرأة، ويتجازو عن بعض هناتها وهفواتها، ولايدقق ويتوقف عند كل شيء فيحيل حياتَهُ الاسريَّة الى جحيمٍ لايطاق.

 وعلى المراة كذلك أنْ تفهمَ عقليَّةَ الرَّجل وطريقةَ تفكيرهِ وفهمِ مزاجِهِ، حتى تسير الحياةُ بشكلٍ هادئ وطبيعيٍّ .

 أكتبُ هذا المقالَ، وانا ارى حالات الطلاق الكثيرة في جاليتنا العربية المسلمة وتمزق الاسر وضياع الاولاد، واسبابها هو هذا الذي اشرت اليه، المشكلات تبدأ بسيطة وتتراكم وتنفجر والاسباب بسيطة وتافهة، وهذه المشكلات لم تحدث لو كان الزوجان على درايَةٍ تامَّةٍ وفهم كامل لطبيعةِ كلٍ منهما.  نسأل الله تعالى العافيةَ وان يحل الوئام والتفاهم بين الازواج لينعم الابناءُ بالهدوء والاستقرار في ظلِّ أُسَرٍ يسودُها التفاهُمُ والاستقرارُ.

***

زعيم الخيرالله

منذ ان طاف الانسان في الارض، سعى ليجد مكانه في الكون. من دولة المدينة في أثينا القديمة الى معالم القبور الأنيقة للأهرامات المصرية، وعبر الصحاري المترامية الاطراف والجبال الشاهقة للصين القديمة نزولا الى السهول المنبسطة لأمريكا الوسطى، حاول الانسان فهم الكيفية التي يعمل بها الكون. هو طوّر الرياضيات لتعقّب حركة الكواكب، وقام بتقدير محيط الأرض عبر السير من مدينة الى اخرى، فخلق قائمة بالنجوم ومخطوطات لضبط الوقت، وحتى قام بتسجيل الأحداث الفلكية مثل مذنب هالي والسوبرنوفا والخسوف.

وبمرور الزمن، قام الانسان بصقل وتطوير النماذج المتوفرة لديه عن الكون.، كيبلر أعاد ترتيب حركات الاجرام السماوية . غاليلو غيّر جذريا نموذج مركزية الشمس للنظام الشمسي مكتشفا ان الشمس وليس الارض هي التي تدور حول كل عناصر النظام الشمسي. اسحق نيوتن طوّر نظرية الجاذبية التي حلّت محلها لاحقا النظرية النسبية لاينشتاين.

اكتشاف وراء اكتشاف، فيها نسعى لسد الفجوات في صورة الكون، ولكن مع ذلك، وفي كل عملية،تتغير الصورة لتتحول الى شيء جديد دائم التغيير يصعب فهمه. الكون الذي فهمه كبلر وغاليلو وكوبرنيكوس ونيوتن وحتى اينشتاين يختلف عن الكون الذي نعرفه اليوم.

الفهم الحالي للكون غير مستقر. ليس من النوع الذي يناسب صندوق صغير مرتّب ذو خطوط أنيقة وغطاء مثالي. كوننا الحالي محيّر ومعقد جدا. انه يتحدى التوقعات.

بالنسبة للمبتدئين، الكون ليس ثابتا، كيان مغلق. يتوسع باستمرار. نسيج الزمكان يتمدد من كل مكان فجأة وبعيدا عن أي مكان آخر مثل بالون منتفخ، يحمل معه المجرات. الفوتونات تسافر في مسارات الكون ممتدة على طول الزمكان، أطوال موجاتها تزداد طولا، وتصبح أكثر احمرارا، وهكذا يحصل التمدد الأحمر red shifting مع توسع الفضاء.

كوننا لايتمدد الى أي شيء. لا وجود هناك لبُعد إضافي حول الكون، بل ان الفضاء ذاته يتمدد، جاعلا من الفضاء الذي بين مجموعة المجرات يصبح أكبر وأكبر بمرور الزمن. وهذا يقودنا للاستنتاج التالي غير المستقر: لا وجود هناك لمركز للكون. في كل مكان هناك "مركز" لأن كل شيء وفي كل مكان يتحرك بعيدا عن أي شيء آخر، فجأة ودفعة واحدة.

لكن الكون لا يتمدد فقط . انه يتسارع. مع مرور كل لحظة، هناك قوة مستمرة يُطلق عليها "الطاقة المظلمة" تمدد نسيج الكون. الطاقة المظلمة هي خاصية اساسية للفضاء ذاته، غير مرئية، سلسة، وثابتة – ومع ذلك نحن في الحقيقة غير متأكدين منها كليا .

وهناك ايضا المادة المظلمة – مادة ثقيلة وسميكة غير مرئية تشد المجرات الى بعضها. في عدة طرق، المادة المظلمة هي نتيجة مباشرة للطاقة المظلمة: حينما تقوم الطاقة المظلمة بتمديد الفضاء بعيدا، تقوم المادة المظلمة بحياكة المادة وشدها الى بعضها. هما كلاهما غير مرئيين – لا تتفاعلان مع الاشعاع او الضوء – ومع هذا هما حاضرتان دائما، المادة المظلمة تعمل كلاصق كوني لتكوين بناء بنطاق واسع، والطاقة المظلمة مكوّن رئيسي في تطور الكون.

 شفق الانفجار الكبير Big Bang، المعروف بخلفيات المايكروويف الكونية، منحوت في نسيج الزمكان، هو بقايا اشعاع من الفترة التي كان فيها الكون ساخنا جدا وكثيفا وسلسا. ومن خلال رسم خرائط المطبات واللاانتظام والمقارنة مع استطلاع المجرات، وجد العلماء ان 70% من الكون صُنع من طاقة مظلمة. بينما 25% من الكون صُنع من مادة مظلمة. فقط 5% من الكون مادة عادية.

تلك المادة العادية في كل يوم من حياتنا هي الشعر، الملابس، الذرات والأعضاء، الطعام الذي نأكله والكلاب التي معنا، الهواء والبحر والشمس والقمر. كل شيء نعرفه – كل شيء نراه – هو فقط 5% من كل شيء في الكون. المتبقي 95% من الكون هو شيء لا نستطيع رؤيته ولم نتمكن بعد من فهمه. جزء هائل من الكون لايزال غير معروف. وبالرغم من التقدم التكنلوجي في القرن الماضي، حتى بوجود الكومبيوتر وشبكة الانترنيت العالمية واستعمال المراصد الفضائية في رسم خرائط لأبعاد الكون البعيدة، لايزال هناك الكثير لم نعرفه.

لقد حقق العلم قفزات كبيرة منذ أيام الاغريق القديمة والمصريين، و منذ كوبرنيكوس و كبلر. ولكن بالمحصلة، نحن لا نزال مبتدئين في لعبة بسيطة نسعى فيها لفهم النجوم. وفي نهاية اليوم، نحن في كوكب وحيد يتدلّى في الفضاء، يدور حول الشمس وسط ملايين النجوم الاخرى في زاوية صغيرة من مجرة معلّقة في كون يتوسّع الى ما لانهاية .

من طبيعتنا كبشر البحث عن معنى في النجوم. ولكن أحيانا نجد جوابا ليس هو الذي كنا نبحث عنه.

***

حاتم حميد محسن

.....................

Big Think, June21, 2023

 

الإشكالية الكبرى والمعضلة الحقيقية التي حَلّت بأبناء الديانة الإيزيدية هو حجم التشويه الذي تعرضوا لهُ في بلاد الرافدين، من خلال حجم الصراعات الدولية والإقليمية وحتى المحلية ذات الأبعاد العرقية والإثنية والطائفية التي سخرَّت لنيل مآرب اصحابها ومصالحهم ومطامعهم في المنطقة، من خلال مختلف العصور المتعاقبة على بلاد الرافدين وآخرها ما تعرضوا لهُ من عناصر ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، من قتل وسبي واغتصاب وانتهاك للأعراض وتدمير مناطق سكناهم منتصف عام 2016م.

لو سلطنا الضوء على معتقدات المكون الإيزيدي لوجدنا أنهم لا يقدسون بشراً ولا ابليس بل يعبدون الله الواحد الأحد بطريقة مغايرة، ولا يرغبون التخلي عن عقائدهم، ويحترمون الديانات الأخرى. أما تسميتهم بـ(الإيزيديين) فتعني من خلقني وليس يزيدي نسبة إلى يزيد بن معاوية، وهي تسمية مضللة ألصقت بهم لتشويه هويتهم وحقيقة معتقداتهم، وكان لسوء الفهم المترسب في وعي الناس عن هذا المكون المغلق على نفسه. والإيزيدية موحدين لله كسائر الديانات التوحيدية في العالم، وهم يعتقدون إن الله سبحانهُ وتعالى قد خلق العالم من العدم، وخلق الملائكة والكون والبشر. ويعتقدون من خلال ديانتهم بتناسخ الأرواح وانتقالها بين الأجيال، وهي ديانة غير تبشيرية كالمسيحية والإسلامية؛ فأنها ديانة مغلقة. وفيما يتعلق بطقوسهم الدينية، فلديهم الصلاة والصوم والأدعية والحج إلى ضريح الشيخ عدي بن مسافر الهكاري في معبد لالش، والتطهير والختان، ويوم العبادة عندهم هو يوم الأربعاء الذي يستوجب فيه التعطيل عن الاشغال. والإيزيديون كغيرهم لهم مراكز تواجد بعضها قرب مزاراتهم المقدسة؛ في سنجار والشيخان وبعض قرى نواحي تلكيف وبعشيقة وزاخو في محافظة دهوك. مع كل هذا الإيمان بالله فقد اتهموا بالكفر والزندقة وعبدة الشيطان التي اطلقها عليهم وزير العراقي العثماني سليمان باشا، فاستبيحت دمائهم.

بل نالوا من الحكومات المتعاقبة؛ منذُ الاحتلال العثماني ومن ثم البريطاني من تشويه اسم الإيزيدية وانتماءهم العرقي، وجوهر عقيدتهم، وموروثهم الاجتماعي والثقافي والديني، واستمر ذلك على مدى قرون طويلة، وحتى فترة قريبة من الآن. لقد طال هذا التشويه وساهم به بعض الكُتّاب والمؤرخين، لسرية عقيدتهم وانغلاقهم على الأجانب والغرباء وفقدان الثقة، لخوفهم من الحروب والمجازر التي تعرضوا لها، وعدم تمكنهم من التعبير عن مكنوناتهم بسبب جهلهم في العصور السابقة بالقراءة والكتابة المحرمة عليهم دينياً، أما اليوم فقد تصدى لذلك من ابنائهم ممن نالوا الشهادات والدراسات العليا وتعلموا في المدارس الحديثة.

وقد تناول تأريخهم بعض الكُتّاب غير الملمين بأحوالهم ومعتقداتهم معتمدين على الحكايات والمرويات من القصص التي تتحدث عنهم، والتي لا تخلو من الدَسّ لأسباب معروفة للجميع، كما أن أبناء الإيزيدية أنفسهم تأخروا كثيراً لتوضيح حقيقتهم؛ دينياً وعرقياً وثقافياً، وما انبروا في كتابته تركز على جوهر العقيدة الإيزيدية، والرد على بعض الاشكاليات التي طالت ديانتهم وكتبهم المقدسة، ومجدد ديانتهم الشيخ عبدي بن مسافر الهكاري، وأنهم ديانة سماوية قائمة بذاتها مثلها مثل اليهودية والمسيحية والإسلامية، وأنهم ليسوا فرقة إسلامية مرقت عن الديانة والتي بسببها عدوا مرتدين عن الإسلام ولاقوا صنوف العذاب والإبادة والقتل والتهجير على يد الكثير من الحكام المسلمين في أيام الدولة العثمانية بسبب فتاوى بعض رجال الدين المسلمين.

أما المؤرخين العراقيين فكانوا السباقين في هذا التشويه أمثال: السيد عبد الرزاق الحسني والأستاذ صديق الدملوجي والأستاذ سعيد الديوه جي والأستاذ عباس العزاوي والدكتور سامي سعيد الأحمد، الذين افردوا كتباً خاصة حول الإيزيدية وعقيدتهم وعاداتهم وتقاليدهم، بالرغم من أن بعضهم كان على تماس وتعايش مباشر معهم وعن قرب، وربما يمكن السبب إلى انغلاق الإيزيدية وجهل غالبية رجال دينها بالإجابة عن اسئلة الباحثين الحرجة وقتذاك، فضلاً عن ملازمة الخوف لهم والذي لا زال يلازمهم حتى يومنا هذا؛ لعدم تخلصهم من صور عذابات ومآسي فرمانات العثمانيين وحملاتهم التي كانت تجلب القتل والدمار إلى جميع مناطق سكناهم، وقيام رجال الدين الإيزيدي بالاجابات التي ترضي فضول السائلين عنهم، مما دفع الإيزيديون ثمناً باهضاً جداً من خلال عشرات الألوف من القتلى ومئات الألوف من المهجّرين قسرياً إلى مناطق مختلفة من العالم، أو التحول قسرياً إلى الدين الإسلامي، عدا الأتاوات وتدمير القرى والبلدان.

لقد تعرض اتباع الديانة الإيزيدية في العراق إلى ما يقارب (73) حملة عسكرية من قبل المسلمين، مما اسفرت عن عمليات قتل الأفراد وسبي النساء، ومحاولة القيام بعملية تطهير عرقي عبر عمليات القتل الجماعي والقضاء على إدامة النسل.

لم ينصف الإيزيديون إلا على يد قلّة من الباحثين أمثال الدكتور كاظم حبيب والدكتور خليل جندي والباحث زهير كاظم عبود والأستاذ خدر سليمان والباحث عدنان فرحان زيان وآخرين، الذين قدموا دراسات ومحاولات جادة حول بعض الاشكاليات التي لم يتم الحسم فيها أو في كليتها حول العقيدة الإيزيدية وجوانب أخرى من حياتهم وتقاليدهم الاجتماعية.

كما انصف أبناء الديانة الإيزيدية بعد تعرضهم من قبل عناصر تنظيم داعش الإرهابي عام 2016م في مجال القصة والرواية، بعد ما شهدت الأقليات في محافظة الموصل الاضطهاد والقتل والتهجير، إذ عانت الإيزيدية من موجة الإبادة الجماعية، حيث اقترنت قضيتهم بسبي النساء وبيعهن، الأمر الذي جعلها قضية تأخذ بعداً عالمياً، فلم يقف الأدب صامتاً أزاء ما حصل لهذا المكون العراقي، إذ استجابت النصوص الأدبية لهذا الحدث ونقلته بتفاصيله الدقيقة، حيث وصلت تلك الروايات إلى أكثر من سبع روايات افتتحها الروائي علي بدر وسنان انطوان في مدة ثمان سنوات، فأسست لأدب القضية الإيزيدية، وجعلت مفهوم الهوية ذات بعد ديني عرقي، ثم ابتدأت د. وفاء عبد الرزاق بروايتها (رقصة الجديلة والنهر) 2015م، ووارد بدر سالم برواية (عذراء سنجار) 2016م، وعامر حميو برواية (بهار) 2016م، وراسم قاسم برواية (شمدين) 2017م، ونوزت شمدين برواية (شظايا فيروز) 2017م، وعبد الرضا صالح محمد برواية (سبايا دولة الخرافة) 2016م، ونزار عبد الستار برواية (يوليانا) 2016م، وغادة صديق رسول برواية (مراثي المدينة القديمة) 2018م، ومن الروايات العربية التي كتبت عن القضية؛ رواية سليم بركات (سبايا سنجار) 2016م، ورواية زهراء عبد الله (على مائدة داعش) 2016م، ورواية سمير فرحات (بنات خودا) 2017م، ورواية إبراهيم اليوسف (شنكالنامة) 2018م، ورواية دنيا ميخائيل (في سوق السبايا). فضلاً عن ديوان شعر كتب باللغة الإيزيدية الكرمانجية، وترجمها للعربية الأستاذ عيدان برير.

نحنُ اليوم بحاجة للتوقف عند جدلية الصراع بين الثقافة والدين، وسيادة احتكار الدين الإسلامي لمعظم المرافق الحياتية والصراع بين الثقافة الحديثة والتقليدية. نحنُ بحاجة إلى تجديد الدين ليسمو بالإنسان ويحفظ كرامته ويقرّب البشر بعضهم من البعض. نحن بحاجة إلى التنوع الثقافي وليست سيادة ثقافة واحدة. نحن بحاجة إلى خلق مساحات من الحوار لخلق ذهنية صحيحة عن الآخر ومحاولة تصحيحها من قبل بعض المسلمين، فضلاً عن المصالحة مع الذات ومع الآخر المختلف لبناء السلم المجتمعي.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

 

الأم مدرسة إذ أعددتها

أعدت شعبا طيب الاعراق

*

الأم روض إن تعهده الحيا

بالري أورق أنما ايراق

*

الأم أستاذ الأساتذة الآلى

شغلت ماثرهم مدى الأفاق

***

حافظ ابراهيم

يقال ان المرأة هي نصف المجتمع والصحيح انها هي التي تبني المجتمع من خلال الإنجاب وكذلك تربية الأطفال، أضافة لكونها تمارس دورها في بناء الوطن حيث تعمل بختصاصها، أن كانت طبيبة او مهندسة او محامية أو معلمة وغيرها من المهن، أضافة لكونها زاولت العمل السياسي كما روزا لكسمبورك والمناضلة كلارا زيتكنا لعبن أدوار نضالية مشهودا في حركة الطبقة العاملة العالمية وتركنا بصماتهن في الحركة النسائية العالمية التي ظهرت بعد الحرب الوطنية العظمى متمثلة في اتحاد النساء الديمقراطي العالمي، في الدفاع عن حقوق الطبقة العاملة وضد التميز العنصري، في طروحاتهن حول النظام الرأسمالي وجشعه واستغلاله وحتمية انتهائه والوصول الى الاشتراكية ودفاعهن عن حقوق الطبقة العاملة في العمل والعيش الكريم، ويجب أن نتذكر دور المرأة السوفيتية في الحرب الوطنية العظمى ما قدمته في الدفاع عن الوطن السوفيتي ضد النازية الهتلرية والفاشية في الجبهة وفي المستشفيات، ولا ننسسى دور الشخصية الفرنسية المناضلة سيمون ديبفوار زوجة المفكر الفرنسي جان بول سارتر الماركسي وكانت كاتبة ومفكرة وفيلسوفه وجودية وناشطة سياسية ونسوية.

و في العالم العربي وأثناء احتلال الجزائر من قبل الاستيطان الفرنسي، ظهرت المقاومة الجزائرية متمثلة بحزب جبهة التحرير الوطني الجزائرية في قتالها ضد المستوطنين الفرنسين، لعبت المرأة الجزائرية دورا نضالية مشهودا مع مشاركتها للرجل في النضال والمقاومة المسلحة والسلمية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، جميلة بو عزة وجميلة بو حيرد ووريدة لوصيف، وزهرة ظريف حسين، وباية حسين ومريم بو عتورة، ووريدة مداد، وفضيلة سعدان، وفاطمة نسومر،  وغيرهن، وقمنا بنشاطات سرية استهدف حتى جنرالات الجيش الفرنسي في البارات، حيث وضعن المتفجرات وكبدن الفرنسين خسائر جما. هكذا انتصر الشعب الجزائري في تحرير بلاده وبمشاركة المرأة.

و اما المقاومة الفلسطينية ودور المرأة في النضال من تحرير الأرض من رجس الصهاينة محتلين الأرض، فكان للمرأة الفلسطنية دورا مهما في المشاركة الفعلية في حركة المقاومة الفلسطينية الباسلة، ومنهن المناضلة الباسلة ليلى خالد والتي انضمت لحركة القوميين العرب ومن ثم إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حيث شاركت بخطف الطائرات ومن خلال عملها البطولي من أجل ان تعلن للعالم أن قضية الشعب الفلسطيني لا يمكن نسيانها وانها حركة تحرر وطني، لعودة الشعب الفلسطيني من مخيمات الجوء إلى وطنهم وإقامة دولتهم الفلسطينية على ارض فلسطين.

و لايمكن أن ننسى الشهيدات الفلسطينيات من أمثال لينا النابلسي وكذلك شادية ابوغزالة وغيرهن من قدمن ارواحهن من أجل تحرير بلدهم فلسطين العربية من رجس الصهاينة المستوطنين.

اما المرأة السودانية المناضلة فاطمة ابراهيم وهي زوجة الشهيد القائد العمالي الشفيع أحمد الشيخ، فقد لعبت دورا مهما في أكبر منظمة عالمية الا وهي اتحاد النساء الديمقراطي العالمي، فقد قامت بالدفاع عن حقوق النساء في العالم وفي العالم العربي، ضد الاضطهاد والاعتقال والتعنيف وضد التقاليد القديمة البالية ومنها التي كانت سائدة في المجتمعات الأفريقية ومنها (ختام المرأة) لما كان يحدث بعدها من وفيات بسبب النزف.

اما المعمارية العراقية المولد والبريطانية الجنسية زها حديد، ابنت محمد حديد الشخصية الوطنية واحد مؤسسي الحزب الوطني الديمقراطي بقيادة كامل الجادرجي والذي أصبح وزيرا للمالية في حكومة عبد الكريم قاسم بعد ثورة الرابع عشر من تموز الخالدة عام 1958، فقد أبدعت زها حديد في فن العمارة المدنية واقدمت على تصاميم جميلة تتناسب وتتناغم مع سمة العصر وجمالها، في بلدان عديدة عربية كاالامارات العربية المتحدة والعراق في تصميم بناية البنك المركزي العراقي وبلدان عالمية ومنها اليابان، حيث قلدة ميداليات من قادة الدول في العالم ومنها ملكة بريطانية.

المرأة في العراق بين الأمس واليوم

بعد الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية على يد الحلفاء جرى احتلال العراق الذي كان تحت سيطرة الدولة العثمانية من قبل البريطانيين، وفي الثلاثين من حزيران عام 1920 انتفض العراقيين في ما سمي ما بعد بثورة العشرين شاركت فيها عشائر العراق في الفرات الأوسط والمنطقة الغربية وكذلك رجال الدين من الوطنيين، واندلعت معارك طاحنة بين جيش المحتل البريطاني والثوار العراقيين، على الرغم من عدم تكافؤ القوى في السلاح والمعدات بين الطوب (المدفع) المستخدم من قبل الانكليز، والفالة والمكوار وهو عصى فيها كتلة اسفلتية. ومن هنا جاءت ردة الثوار الشهيرة (الطوب احسن لو مكواري). ولعبت المرأة العراقية دورا كبيرا في تشجيع الثوار على المقاومة ومدهم بالطعام والاهازيج الحمساسية، وبعد تنصيب الملك فيصل الأول من الحجاز وجاء به من سوريا ملك على العراق، تشكلت الدولة العراقية بجهازيها التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (مجلس الوزراء) وبعد ذلك تم تشكيل (القضاء)، وبدء العمل من أجل التعليم العالي، الاعداد لتأسيس كلية الحقوق وكان للمرأة نصيب في دخول الكلية حيث أن أول امرأة تخرجت منها هي أمينة الرحال اول حقوقية تخرجت من هذه الكلية، وهي من عائلة تقدمية التوجه أضافة لدورها في تشكيل الحلقات الماركسية والتي أصبحت في ما بعد نواة لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي. وكانت أمينة الرحال اول امرأة تقود سيارة في العراق. وبعدها اختيرت اول امرأة أصبحت قاضية في العراق هي صبيحة الشيخ داود وأصبحت الكليات العراقية يدخلها الجنس الانثوي وتخرجن منها حقوقيات ومن كليات أخرى طبيبات ومعلمات ومهندسات.

و بعد ثورة الرابع عشر من تموز الخالدة عام 1958 ظهرت قوانين ومنها قانون الأحوال المدنية، هو من أهم القوانين في انصاف المرأة في الوطن العربي، لما جاء به من بنود لمساوات المرأة في الحقوق في الإرث والزواج والعمل ومشاركة الرجل في مهن متعددة وخير مثال استأزار نزيهة الدليمي وهي شيوعية وطبيبة، أصبحت وزيرة البلديات في حكومة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم.و انطلقت المرأة بالحصول على التعليم حتى بدء لجان مكافحة الأمية إجراء ممنهج لتعليم المرأة وحتى اخذت الجامعة والمدارس والوظائف تعج بالمرأة واستمرت الحكومات اللاحقة العسكرية والدكتاتورية تسير في هذا المنوال.

و اليوم وبعد الاحتلال عام 2003 الذي اقدمت الولايات المتحدة الامريكية والمملكة البريطانية ودول حلف الناتو على تدمير كيان الدولة التي مضى على انشاءها قرن من الزمن، دمرت المدارس والمستشفيات وجرى تحويل المنهاج في الدروس ليس لمتابعة النهج الذي يقوم على تطوير العلم والأحاق بالدول الاخرى بل هيمنة على التربية والتعليم الأحزاب الدينية وأصحاب الشهادات المزورة. وبالنسبة للمرأة أصبحت ربة بيت فقط لم يجري دفعها إلى أن تشارك الرجل في كل المجالات واهتمت الأسرة بشكل عام بتوفير لقمة العيش وتربية الأطفال ولكن للأسف حتى لم تكون هناك توعية في مجال الإبتعاد عن القتل والسرقة وبشكل مركز حول تعاطي المخدرات، التي دخلت على العراق لتدمير الأسرة اولا والمجتمع بشكل عام  (القتل والانتحار) حيث أن ايران لعبت هذا الدور وشجعت بفتح حدودها مع العراق للحصول على العملة الصعبة (الدولار ااامريكي) وأصبح العراق ليس فقط دولة عبور وإنما دولة مستهلكة لكل انواع المخدرات، وظهرت وانتشرت الجريمة كنتيجة حتمية لانتصار المخدرات وتفكك الأسرة. وللأسف لاتوجد قوى وطنية تأخذ على عاتقها مهمة التوعية للجيل الناشئ بمخاطر المخدرات صحيا، والعمل من أجل كبح جماح البطالة والبطالة المقنعة، وإيجاد فرص عمل وذلك بالضغط على الحكومة بفتح المعامل والمصانع.

ستبقى المرأة العراقية اصيلة وهي الأم والأخت والزوجة، في النضال لفتح الباب أمامها وعلى مصراعيها في التعليم والعمل والتوظيف.

***

محمد جواد فارس

طبيب وكاتب

الحقيقة في النفس يعرفها الإنسان ولا يريد أن يدركها.

نحن نعرف الحقيقة في دواخلنا ولكننا لا نريد أن نعرفها، وفي كل نفس حقيقة حتى ذلك الجانب المظلم وهو ليل النفس الذي يضمها لا نريد الاعتراف به، الحقيقة مؤلمة لنا جميعًا وكشفها يجعلنا نختل في إتزاننا النفسي في داخلنا أولًا، وفي ما يصدر عنا من تعامل وسلوك مع الأخرين ثانيًا. وإن بُعد الحقيقة غامض وغير قابل للتفسير ولا شيء يُمَكن من ضبط ضرورته لأن الإنسان يتعايش تمامًا مع عدم الحقيقة كما قالها فرويد في كتابه موسى والتوحيد وَدونها "جاك لاكان" في كتابه الذهانات ص245 ويرى "لاكان" أن التحليل النفسي لا ينفصل بتاتًا عن السؤال المركزي حول كيفية دخول الحقيقة في حياة الإنسان.

كل البشر يحملون في دواخلهم حقيقة ما في لاشعورهم – لا وعيهم كبتت واستبعدت في مرحلة الطفولة وهي طائفة من الذكريات الصادقة، أو الكاذبة، تافهة المضمون، مجردة عن الانفعال، معاصرة لأحداث مهمة أخرى وهي ذكريات تحل محل في الواقع محل ذكرى مؤلمة أصيلة كما يقول فرويد، هي من الطفولة أي منذ الولادة حتى سن السادسة أو السابعة وربما الثامنة، شيء بقي يحمل ما يمكن أن يكون قد حدد مسار سلوكه في حياته اللاحقة، لأن دواخلنا تحدد مسار سلوكنا الحالي، ويقول جاك لاكان " الحقيقة دائمًا جديدة "، نعم هي متجددة في دواخلنا، دينامية متفردة في كل شخص، مختلفه عن الأخر، لا بل مختلفة بشدتها وأعتدالها وضعفها تارة أخرى. الحقيقة نعرفها ولكن نحاول تجاهلها، تم تثبيتها في اللاشعور "اللاوعي " تركت الأثر فينا، كان الأب هو الأساس فيها، أو ربما الأم، أو أيٌ من كان يمثل الأخ الكبير، فهي " تمثل " Representation  ويشير مفهوم التمثل إلى تصور أو مجموعة من التصورات التي تتثبت عليها الرغبة خلال تاريخ الشخص وَتدون في النفس بواسطتها، إذن هي حقيقة يعرفها أي منا، ومتى تم تمثلها؟

لا نريد الكشف عنها، يتلذذ البعض في بقائها تجول في عالمه الداخلي مستأنسًا بوجودها كما هو حال الوسواسي، يعرف أنها أفكار لا صحة لها ولكنه ينقلها إلى الواقع المعاش كسلوك ويمارسها ولا يستطيع التخلص منها، يشتكي منها ولكنه يفعل نفس الحركات والأفعال ويعيد تكرارها، حتى وإن حاول أن يُجبر نفسه على ابعادها أو طردها فتعود مرة أخرى وهذا ما نلاحظه في مبدأ إجبار التكرار وهو الميل إلى تكرار الخبرات القوية، أيًا كانت النتائج المفيدة أو الضارة لهذا التكرار كما عبر عنه "دانييل لاجاش".

يعيش الإنسان الصراع طيلة حياته يجاهد من أجل اخفاء شيء، يصارع نفسه وينقل صراعه من داخله إلى عالمه الخارجي فتارة يسقطه على شيء مادي مثل الشخص الأضعف منه، وتارة يُحور في الفاظه فيقلب المعنى بشكل تكوين عكسي، ومرة يعمل كناية لما يريد بإزاحه نادره في العلن والوعي فتكون في لاوعيه ربما نلقاها بشيءٍ قض مضجعه في حلم خلق لديه أرق شديد وصاح وهو لا يدري ماذا حدث له، أو في استعارة جميلة كثف من خلالها مجموعة صور وأفعال أفضل من أي مخرج سينمائي أو تلفزيوني محترف فكانت الصورة مشوشة، هل يحق لنا أن نقول أنه مازال يهرب من معرفة الحقيقة وإدراكها، نتساءل: لماذا يخاف الاعتراف بها وهي موجودة فينا، أقصد الحقيقة التي يزوغ كمحترف من أن يعترف بوجودها فيه، لا بل ربما تجعله يمرض ويشقى ويلف ويدور على نفسه داخل نفسه، ومن نفسه في نفسه، وأستعير من الدكتور أحمد عكاشة قوله: إن ما أقامه فرويد من برهان على أهمية الصراع الدفين بما فيه من تعارض دينامي بين النزعات ( في) مصطفى زيور في النفس ص 17، أنه ديالكتيك الهروب من معرفة الشيء الموجود في نفسه.. أنه هروب من المواجهة، هروب من معرفة المعرفة التي تؤدي إلى كشف أعماق النفس وما غرس في ثناياها وظل يتجول بلا رقيب كما هو الذهاني، أعتزل عالمنا المعاش ووجد في عالمه الخاص عالمًا به كل حواراته بلا رقيب.. يعتقد أنه أريح له وأسلم وأجمل.. ولكن هذاءاته تدلنا على الشيء الذي حاول أخفاءه، وهذا الهذيان في نهاية الأمر يحمل معنى ودلالة، رغم معاناته ممن يخاف منهم ويأتوه في أوقات غير محددة ويهددون كيانه " أقصد على المستوى المتخيل، لكنه يخاف ويرتعب من تهديدهم له"، ويرتجف منهم هلعًا.. هل كل ذلك من أجل أن لا يعرف الحقيقة، وهو يعرفها تماما، يعرفها حقًا، ولكنه لا يريد أن يعرفها، ويمكننا أن نقول أن الحقيقة في النفس، في الإنسان، يعرفها ولا يريد أن يدركها، وقول سيجموند فرويد بأن اللاشعور " اللاوعي" ليس له وجود واقعي بالمعنى العلمي، وما هو إلا مجرد قول نتخلص به من مأزق حرج، أعرضنا عنه نهز أكتافنا وأغضينا عن هذا الاعتراض غير المفهوم : أيصح في الأذهان أن يتمخض شيء غير واقعي عن شيء واقعي ملموس كالفعل الحوازي "الوساوس" "محاضرات تمهيدية ص308" وما زلنا في صدد البحث عن الحقيقة في النفس وندور في فلكها داخل النفس البشرية فهي في اللاشعور "اللاوعي". يؤكد لنا فرويد أيضًا أن معنى العرض لا يكون على الدوام لاشعوريًا "لا واعيًا" فحسب، بل إن بين اللاشعور وبين إمكان وجود العرض صلة استبدال أيضًا، ويضيف "فرويد" فالعرض العصابي إذن نتيجة لعمليات نفسية قاطعها، أو تدخل في انسيابها سبب بكيفية ما، فقضى عليها بذلك أن تبقى لاشعورية" لاواعية" ص310. ويعرض لنا " جاك لاكان" جملة تحدثت بها المريضة التي كانت تخوض عملية التحليل يستدل بها داموريت وبيشون – في كتابه عن النحو قول المريضة " لقد أصبحت أتطابق مع نفسي أكثر" قالت السيدة، وذلك من دون شك لأنها أصبحت راضية لما تحقق من تقدم في علاجها، وتضيف السيدة وتقول : " في السابق كنت نفسًا مناقضة لأناي بحيث كنت أعتقد.." الذهانات، ص 306. ونعود لكلامنا عن الحقيقة في النفس فإذا أدركها الإنسان وعرفها حل اللغز، وربما شفى ولو مؤقتًا، وقول العلامة مصطفى زيور إذا عرفت أستطعت. وقول فرويد معرفةُ بمعرفة.. تفضي إلى الشفاء. وقولنا في الأخير أن الاستمرار في الجهل عن معرفة الحقيقة في النفس يظل شقاء النفس مستمر.

***

د. اسعد الامارة

مع بداية كل حرب تخوضها الدول الكبيرة، اقتصادياً وعسكرياً، يجري الحديث عن نهاية التأريخ أو أن تكون، تلك الحرب، الرصاصة الأخيرة في جيب التاريخ التي ستوقف عجلته، أي عجلة الحياة التي يسجل حركتها وأوجه تطورها التاريخ.

نظرة سريعة واقعية لمسيرة الحياة على هذا الكوكب المظلوم (بنا وبتاريخنا)، ومسيرة تطورها من عصور الكهوف والحياة البدائية، تخبرنا أن لا الحياة ولا مسيرة التأريخ قد بدأت بأمر جميل، من مثل اكتشاف العجلة أو البنسلين أو علم الجراحة، بل تخبرنا أن ما نطلق عليه التاريخ، كفاعل حركي، سياسي وتطوري، رسم مصير البشرية وأوجه تطورها المدني والحضاري، إنما قد بدأ بحرب، ولدت حروباً، تتابعت، وعلى ما يبدو فإنها لا تريد أن تتوقف إلا بتوقف الانسان (عن الحياة) أو نهايته بصورة نهائية، وبالتالي نهاية تاريخه.

يفترض، ومن الناحية الحضارية والمعرفية/ الثقافية، أن الحربين الكونيتين، واللتين جرتا على أرض القارة الأكثر تحضراً وتطوراً، معرفياً وعلمياً، أن لا تحدثا أبداً، ولكنهما حدثتا، وحدثت الحرب الكونية بالذات بعد اكتشاف البنسلين وغيره من المنجزات العلمية الكثيرة.

هل أعدد للقارئ عدد الحروب التي قامت بها دول العالم المتقدم بالذات، التي تلت نهاية الحرب الكونية الثانية، وصولاً إلى يومنا هذا من نهاية الربع الأول من الألفية الثالثة، والتي بدأت آخرها بحرب روسيا الاتحادية على جمهورية أوكرانيا، في الرابع والعشرين من شهر فبراير من عام 2022، أي والبشرية في قمة تطورها الحضاري والمعرفي والعلمي والتكنولوجي والثقافي؟

ما الدوافع لشن الولايات المتحدة الأمريكية لحربين لاحتلال بلدين (أفغانستان والعراق) في مطلع الألفية الثالثة؟ هل كانت كلا الحربين كحتمية لمسيرة التاريخ ومتطلبات سيرورته، أم كانتا حربين لتناحر ومتطلبات صيرورة بين ايديولوجيتين، تحاول كل منهما إزاحة الأخرى وفرض فكرها ومسيرتها، كونه الأصح والأكثر تطوراً وتحضراً، وبالتالي كونها الأحق في قيادة عجلة التاريخ وحتمية مسيرته؟

الحقيقة لا هذا ولا ذاك، رغم أن الكثير من التنظيرات التي أنتجتها دوائر ومراكز دراسات وبحوث الولايات المتحدة، قد سعت لصبغ أحداث 11 سبتمبر من عام 2001 بصبغة أيديولوجية، ببساطة وفي حساب منطق التاريخ ومتطلباته وشروطه، لأن تلك الهجمات لم تصدر عن تخطيط دولة لها دور يكافئ الفعل التاريخي (السياسي) للولايات المتحدة، بل صدرت عن مجموعة هامشية لا قيمة لها، لا في ميزان حركة التاريخ ولا أمام التطور العلمي والتكنلوجي والحضاري الذي تتوفر عليه الولايات المتحدة، بل ولا مجال للمقارنة الأيديولوجية وهيمنتهما فيما بينهما وفي أثرها التاريخي؛ وعليه يمكننا أن نقول أن سبب احتلال الولايات المتحدة لأفغانستان والعراق لم يزد في حجمه (في الحساب السياسي والايديولوجي) على سبب اندلاع الحرب الكونية الأولى، وهو، في وزنه التاريخي، اغتيال ولي عهد النمسا.

هل كان من الضروري لمسيرة التاريخ وحتمية تطوره أن تدمر قارة أوربا نفسها وتخسر أكثر من عشرة ملايين من رجالها من أجل ولي عهد النمسا، علماً أن النمسا تخلت عن كل النظام الملكي وعرش ذلك الولي فيما بعد؟ بقيت وتطورت النمسا، على مختلف الصعد، بعد اغتيال ولي عهدها، وبطريقة ربما لم تكن لتتاح لها تحت حكم ولي عهدها، فيما لو بقي على قيد الحياة وحكمها بنفسه.

حرب يجب أن تكون أيديولوجية:

الغزو الروسي لأوكرانيا، وهو غزو بشع بكل المقاييس والصور، لم يفسره الغرب الاوربي – الأمريكي إلا في الإطار الأيديولوجي: دولة شرقية (رغم أن جمهورية روسيا الاتحادية تغطي كامل القارة الأوربية من الأعلى) متخلفة حضارياً وثقافياً وايديولوجياً، تغزو المدنية والتحضر والانفتاح الليبرالي واقتصاد السوق الغربي. فروسيا، وبعد ثلاثة عقود من انهيار الحكم الشيوعي، مازالت في عيون الغرب دولة شيوعية مغلقة على ايديولوجيتها المعادية لليبرالية والانفتاح والديمقراطية وحقوق الانسان الغربية. روسيا ورغم تمدد مساحتها على كامل مساحة قارة أوربا من الأعلى، فالغرب لا يعتبرها أوربية، وروسيا (وهذا أحد جوانب التمييز الأيديولوجي الذي لا يرفع الغرب صوته في ترديده لكنه معروف ومفهوم ضمناً) ورغم أنها مسيحية، فهي ليست مسيحية الرؤية الغربية المتسامحة والمتمدنة والعصرية والمتحضرة، لأن مسيحية روسيا أرثوذوكسية متشددة ولها كنيستها المتمردة والمعادية للكنيسة الكاثوليكية، كنيسة الغرب الأوربي والأمريكي.

فلاديمير بوتين دكتاتور شيوعي، وعليه فكل ما يصدر عنه هو متخلف ومعادي ويسعى لهدم المدنية والرفاه والحرية والديمقراطية الغربية، فكيف إذا ما شن حرباً عدوانية على أحد أطراف جنة الوداعة والسلم الأوربية؟ فبالتأكيد هي حرب حقد وضغائن تاريخية – أيديولوجية تستهدف العقيدة الليبرالية واقتصاد السوق ونظام الحكم الديمقراطي، في أول ما تستهدف في الغرب الذي يعاديه.

بتفكك الاتحاد السوفيتي وانفراط عقد المنظومة الشيوعية، وكان انفراطاً ونبذاً ايديولوجياً بالدرجة الأولى، كان من المفترض أن تتجاوز المنظومة الغربية نظرتها القديمة لروسيا كند وغازي أيديولوجي، وخاصة أن الدولة الروسية وغالبية الشعب الروسي قد تخلت ونبذت الأيديولوجيا الشيوعية وتحولت إلى نموذج ليبرالي (مُعَدل) عن الليبرالية الغربية، لكن هذا لم يحصل وأصر الغرب على التعامل مع روسيا، شعباً ومنظومة سلطة، على إنهم شيوعيون بالفطرة أو أن الشيوعية هي بمثابة بلازما الدم للإنسان الروسي. لماذا؟ عندما ننظر لهذا الأمر من وجهة تحليلية، في إعادة الأمر إلى عناصره الأولية، نجد أن كارل ماركس، صاحب الفكر والأيديولوجية الشيوعية كان ألمانيا استورد رؤيته وايديولوجيته لينين ورفاقه، في قيادة الثورة الشيوعية التي حكمت روسيا – شيوعياً – من عام 1917 فقط، نخلص إلى أن نظرة التوجس وعدم الاطمئنان الغربية من روسيا إنما مردها ديني – مذهبي هو العقيدة الارثوذوكسية الأصولية التي تمثلها الكنيسة الشرقية الروسية والتي يتبعها غالبية الشعب الروسي طبعاً.

إذن ووفق هذه الرؤية، لا يمكن أن ترى المنظومة الغربية في الهجوم الروسي على أوكرانيا إلا من خلال مرجعيته الأيديولوجية – الدينية، قبل النظر إليه وحسابه عبر الحسابات السياسية والاستراتيجية العسكرية والأمنية.

نهاية التاريخ خارج رؤية فوكوياما:

ليس فوكاوياما وحده الذي عد انهيار المنظومة الشيوعية انتصاراً للولايات المتحدة وللايديولوجيا الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية، بل هذه كانت رؤية جميع رجال السياسية ومراكز الدراسات والبحوث والتحليل الأمريكية. وانتصرت الولايات المتحدة لتتحول إلى قطب أوحد يتحكم في مصير العالم، ولكنها بدل أن تتحول إلى إشاعة السلام واحلال الديمقراطية في العالم، كما افترض فوكوياما، فإنها استغلت أول حدث عدواني عابر تعرضت له، (اعتداء 11 سبتمبر 2001 ) لتخوض واحدة من أبشع حروبها الأيديولوجية – الدينية ضد الشعب الافغاني، ولتلحقها بحرب صليبية (كما دعاها رئيسها حينها، جورج دبليو بوش) ضد العراق. وكلا الحربين الوحشيتين لم تثمرا لا سلاماً ولا ديمقراطية، بل تفليش بلدين وإخراج لشعبين من مسيرة التاريخ الحضاري للبشرية وإعادتهما إلى عصر ما قبل الحضارة.

إذن حصيلة العالم من ما بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الأيديولوجيا الشيوعية ومعسكرها هي تفرد الولايات المتحدة في قرار ومصير العالم والمزيد من حروبها الأيديولوجية – الدينية المجانية، وليس نشر الديمقراطية والسلام والعدالة وحقوق الانسان، كما روجت تنظيرات تلك الفترة وتنظيرات فوكوياما وما تلاها. والخسارة الأكبر للعالم تمثلت في الجانب العدائي للولايات المتحدة، الذي توفرت لها ممارسته بسبب غياب القطب الرادع لها في السياسة الدولية، والذي كان يمثله الاتحاد السوفيتي، كقوة سياسية – عسكرية وليس كقوة أو عدو أيديولوجي.

إذن نهاية التاريخ أو العيش في مرحلة ما بعد التاريخ، التي تلت مرحلة انهيار القطب الشرقي (الاتحاد السوفياتي)، بكل امتيازاتها الاقتصادية والاجتماعية وحقوق الانسان والديمقراطية، لم تعشها سوى المنظومة الغربية، أما باقي العالم، وخاصة دول العالم الثالث، فعاش في ظل الحروب العسكرية والاقتصادية والتدخلات واملاءات المواقف السياسية.

هنا، في مرحلة تفرد الولايات المتحدة في صناعة مصير العالم، كان التاريخ بالفعل قد انتهى أو توقف، لأن أغلب أنظمة دول العالم (دول العالم الثالث على وجه الخصوص) كانت قد تحولت إلى توابع للرؤية الأيديولوجية والسياسية الأمريكية وتوقفت عن انتاج (الأيديولوجيات) والرؤى السياسية المستقلة التي تناسب ثقافات ومصالح شعوبها، الفكرية والثقافية والسياسية، وأصبح أغلبها رهينة للإملاءات الإعلامية والسياسية التي ينتجها صانع القرار الأمريكي، بسبب خوف زعماء هذه الدول من الإزاحة عن كراسي السلطة.

لقد انصب جهد دول الغرب، خلال العقود التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، على أن لا يصل حاكم في العالم إلى السلطة وتكون له رؤية فكرية وسياسية غير الرؤية الأمريكية، الرأسمالية كنظام اقتصادي، والليبرالية الديمقراطية، كنظام أيديولوجي – سياسي، رغم أن تجربتيّ الولايات المتحدة في فرض هذه الرؤية على أفغانستان والعراق، وبقوة السلاح (وعلى فرض صدق النوايا)، قد باءت بالفشل الذريع، ولم تكن حصيلتها الواقعية غير خسارة هذين البلدين وخروجهما من عجلة التاريخ وعلى كافة الصعد.

وإذا ما أضفنا إلى هذه الحصيلة المأساوية، نهج إدارة الولايات المتحدة الحالية في صناعة عدم الاستقرار أو تأسيس بؤر الصراع في المواقع الاستراتيجية من خارطة العالم، كما هو حاصل الآن في منطقة حوض الخليج العربي (بتمكين إيران من القبض والتحكم باستقرار هذا الجزء الحيوي من الجيوبولتك العالمي عن طريق توقيع الاتفاق النووي معها) نخلص إلى الصورة المأساوية التي أفرزتها عملية انهيار المعسكر الشرقي الذي كان يمثل دور المعادل والرادع لطغيان المعسكر الغربي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

من نافلة القول أن نذكر هنا أن حصيلة انهيار الاتحاد السوفيتي، كقوة ردع سياسي، لم تكن نتيجتها الأمريكية، كما رسمت تنظيرات فوكوياما أو هنغتون، بل انحصرت نتائجها بالصلف وتغول القوة الأمريكي والمزيد من حروبها المجانية، وقبل هذا تعطيل دور دول العالم (الثالث على وجه الخصوص) في انتاج رؤاها الايديولوجية والسياسية، بل وحتى الفكرية والثقافية المستقلة، وخاصة على صعيد صناعة القرار السياسي المستقل، وهذا ما تنبهت له دول الخليج العربية مؤخراً، وهي الدول الحليفة التقليدية للولايات المتحدة، منذ خمسينيات القرن الماضي، بتجاهل الولايات المتحدة لمصالحها الأمنية والسياسية، في مسيرة عقدها للاتفاق النووي مع إيران، من دون أخذ تهديدات ايران السياسية والأيديولوجية والأمنية لهذه الدول بعين الاعتبار، بل وإمعانها في تجاهل مطالبات هذه الدول بأخذ تهديدات الأسلحة، غير النووية المتطورة، التي توفرت لإيران وميلشياتها الطائفية المسلحة، والتي صارت تطوق دول الخليج من أغلب جهاتها، بعين الاعتبار.

إطلاقة الحرب ما قبل الأخيرة:

الحروب التدميرية المجانية والتدخلات في شؤون الدول، وإملاءات المواقف السياسية على الحكومات، وتسويق الأيديولوجيا الأمريكية وفرضها باسم الديمقراطية وحقوق الانسان، هذه هي كانت حصيلة تفرد الولايات المتحدة بالعالم، كقطب أوحد، والأهم قبل كل هذا هو التصرف من موقع أن مصالح الولايات المتحدة قبل كل شيء، هذا ما تنبهت له بعض الدول مؤخراً، وخاصة الدول التي نكثت الولايات المتحدة بعهودها معها، كالمملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية، بل وحتى أوكرانيا ذاتها، والتي اكتشفت مؤخراً جداً أن الولايات المتحدة ليست عند مستوى وعودها، بل ولا تحترم تعهداتها لحلفائها، بل ويمكنها التطويح بهم من باب التكبر عليهم والاستصغار لهم فقط، لأنها تثق ثقة عمياء بأنها قادرة على أن تفرض عليهم ما يحقق مصالحها ويصونها متى ما أرادت. وهذا ما دفع هذه الدول لرفع أصوات احتجاجها، بل ورفضها مؤخراً، لهذا التغطرس والعنجهية غير المبررين، وبالتالي ما دفعها للبحث عن حلفاء استراتيجيين بديلين، في إسرائيل والصين وروسيا، التي تحاول استعادة موقعها كقطب مساوي للولايات المتحدة، عبر حربها الأخيرة في أوكرانيا، التي اختارتها أو هيأتها الظروف السياسية الدولية لتكون موقع أو حاضنة لحربها مع الغرب وقيادته الأمريكية.

وفي التحليل السياسي، على الأقل، تبدو عملية حرب القيصر الروسي على أوكرانيا بمثابة الإطلاقة ما قبل الأخيرة في جيب الاستحقاق السياسي الدولي/التاريخي، أمام تغول وتنمر الولايات المتحدة وتفردها في رسم سياسة وصورة العالم الأيديولوجية، رغم أن هذا لا يسقط عن هذه الحرب عدوانيتها ووحشيتها وقسوة نتائجها الكارثية على الشعب الأوكراني طبعاً.

وفي سياق هذه السطور والمعيار التاريخي الذي تصدت للكشف عنه، يعد تهديد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بالسلاح النووي بمثابة التهديد الدرس، ومفاده لقد وعينا درس وأهداف تفردك، أيها العالم الغربي، في رسم النهج الأيديولوجي والسياسي والأمني للعالم، وآن للوضع الدولي أن يعود إلى نصابه، بعودة روسيا كقطب دولي موازٍ في القوة وفي تصحيح مسار التاريخ، وبغض النظر عما يخفي القيصر الروسي من توجه أيديولوجي وتصور استراتيجي وسياسي لمصير العالم، الذي لم تكن هيمنة الرؤية الرأسمالية عليه، طوال العقود الماضية، بأحسن من حاله خلال سنوات وجود الاتحاد السوفيتي، كقطب دولي لا يمكن تجاوزه، وسنوات الحرب الباردة التي مثلت عامل الكبح للتغول الأمريكي، الذي كانت تنبه له وتتصدى له المنظومة الشيوعية، وبغض النظر عن أهدافها الأيديولوجية في تلك المرحلة من التاريخ.

ومما لا شك فيه فإن الحركة الروسية الأخيرة، في المعيار الاستراتيجي – السياسي، تلاقي قبولاً من قبل الكثير من دول العالم، كعملية تصحيحية لمسار التاريخ السياسي والأمني الدولي، رغم أن ثمنه حرباً وحشية يدفع ثمنها الشعب الأوكراني. ولكن وفي الحساب التطوري لعمر البشرية، متى مر ذلك العصر أو الحقبة الذهبية التي لم تكن فيها حرباً وحروب، وبمختلف الأهداف والنوايا؟ وتحت سقف نفس هذا الحساب، فإن فروض العملية التاريخية الإنسانية تدلل على إن الحروب، بكافة أهدافها وأغراضها وتوجهاتها، لن تتوقف، وليس بيننا من يستطيع أن يجزم في جيب من تستقر اطلاقة التاريخ الأخيرة ولأي هدف سيطلقها، أيديولوجي أم سياسي أم أمني أم اقتصادي؟ 

***

دكتور سامي البدري

هنالك إشكاليات حقيقية في المجتمع بصورة عامة والإسلامي بصورة خاصة. منها الخلط بين الحرية والفوضى فهي أعظم مآسي عصرنا، والحل في الخلاص من هذه الإشكالية هو الارتقاء بالعلوم الانسانية* من خلال تنشيط العقل بالفكر، وتوسيع الذكاء الاجتماعي، والنمط الثقافي، حيث "لا شيء يتأبد في الحياة الاجتماعية، ليمنع العقل من بناء المعرفة الجديدة؛ إذ شحذ العقل باستخدامه الحر العام – بوصفه أداة الانتصار الإنساني- يشكل إدراكًا معرفيًا عماده القراءة، يحرر المجتمع من عطالته، ويفتح نوافذ التأمل التي تدفع المجتمع إلى رؤية أشد تحولًا، وتؤسس لتفعيل إرادته وتحرير مصيره (1)".

أولا: القيادة والعلوم المتعددة في وقتنا الحاضر.

من أبرز ما تعانيه القيادات السياسية والدينية في البلد، على اختلاف مسمياتها، هو فقدان الدراية الكافية بل غيابها عن العلوم الانسانية المتنوعة كالتاريخ الاجتماعي والسياسي والحضاري والنفسي للمجتمعات المختلفة، ومعرفتها بفنون الإدارة العامة والاقتصاد، وأصول القانون، وهذا ما ينعكس على قدرتها على استيعاب المفارقات التي تعيشها مجتمعاتها. فتكون في مورد التحديات الكبيرة، والتساؤلات الحرجة شهوانية غرائزية. بعبارة أخرى: تكون اجاباتها ومواقفها حسب الحالة النفسية التي تمر بها، فالحدة والتعنت في مواطن الغضب، والتراخي والانكفاء في مواطن السكون والبرود العصبي. كل ذلك لأن هذه القيادات غير خبيرة بعلوم متعددة ترفدها بالمعطيات الصحيحة في اتخاذ القرار. وعليه، ان الحل هو اتسام القيادات الدينية والسياسية بتنوع مشارب العلوم والآداب والفنون لتوسعة الفكر. وعدم الاقتصار على علم واحد. فإن ذلك يضيق زاوية الرؤية.

ثانياً : "أمة تسير إلى الأمام وراسها للخلف"

عندما ننظر في السلوك المجتمعي ندرك أنه مرتبط بالتاريخ السياسي الإسلامي. وهذا التاريخ مشدود بثلاث أنواع من الأفكار، فهناك الفكر القاتل، وهناك الفكر الميت، وهناك الفكر النشط. والغريب أن روافد السلوك المجتمعي يُغذى بالفكر القاتل والميت على طول الخط، فاغلب المنابر الدينية والإعلامية وحتى الجامعية تعكس هذه الحقيقية بخطابها، فبين التشجيع على الاحتراب الطائفي وبين الحقن الفكري الميت تترنح الأمة لنجد المجتمع يدور في حلقة التشدد والخرافة. ومن أبرز الحلول المناسبة التي أشار بعض العلماء على تشخيصها هو تفكيك التاريخ الإسلامي الذي احتضن العقائد والتشريع الديني الذي يرسم محددات العقل المعرفية الإسلامي، لعزل الأفكار القاتلة والميتة واستحضار النشطة فقط.

***

سُميَّة إبراهيم الجنابيِّ

دكتوراه علوم قرآن، جامعة بابل

.......................

* بوصفها الحلقة الأهم التي تؤثر على استمرارية المجتمع وتطوره واستقراره.

( 1) محمد عثمان الخشت، نحو تأسيس عصر ديني جديد، القاهرة: الهيئة المصرية ااكتاب،2019، طبعة خاصة تصدرها نيو بوك ضمن مشروع مكتبة الاسرة، 5.

(إنّا نحنُ نَزلنا الذكر وإنّا لهُ لحافظونَ)

(لايغرنكَ تقلب الذين كفروا في البلادِ.متاعٌ قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد).. ال عمران 196

إزدراء الاديان أو التجديف هو إساءة أو استخفاف يصدره شخص أو هيئة ما بشأن معتقدات وأفكار ديانة ما.

و مفهوم التجديف في مختلف الاوساط الدينية والفكرية والحقوقية العالمية، يقصد به الحد من السلوكيات التي تنال من الاديان بصورة خاصة أو عامة الهدف منها الاتي:

- تعمد الاساءة الى دين محدد أو مذهب أو طائفة.

- الاساءة الى الذات الالهية أو الانبياء والرسل أو الكتب السماوية أو الكل مجتمعة لاشاعة الافكار السلبية النمطية المسيئة.

- تبني مواقف متعصبة أو تميزية الهدف منها اثاة النعرات الطائفية وازدراء الاديان لزرع الفرقة والكراهية والعنصرية واثارة الفتن لازهاق المبادئ وتمزيق المعتقدات.

والحقيقة ان سن قوانين منع ازدراء الاديان الهدف منه (حماية المقدسات الدينية) وتحديد او تطويق مشاعر الكراهية للاديان لان انتشارها يهدد التعايش السلمي بين المجتمعات والامم ويدق ناقوس الخطر الى الاخلال بالسلم المجتمعي و الدولي ويشكل مساسا خطيرا بالكرامة الانسانية التي تتبنى دينا محددا ومعتقدا خاصا واختراق الخصوصية العقائدية للانسان.

ومن الجدير بالذكر ان سن قانون التجديف جاء بعد سلسلة انتهاكات وخروقات اساءت بصورة مباشرة للاديان والكتب السماوية والانبياء والرسل من خلال حرق الكتب السماوية والاساءة الى الذات الالهية والرسل والانبياء والرموز الدينية بقصد اثارة الفتنة.

وقد ظهرت بالاونة الاخيرة خروقات وتجاوزات على الدين الاسلامي من خلال الرسوم المسيئة للرسول وانتهاك حرمة الدين من خلال الاساءة للذات الالهية وتمزيق وحرق كتاب الله بمحاولة للاساءة وتشويه صورة الاسلام واثارة الفتنة وتعزيز النمطية العنصرية بالتعامل التي تبنى عليها اعتبارات كثيرة منها :

- عدم احترام مشاعر المسلمين والذين يشكلون نسبة كبيرة في ارجاء المعمورة.

- انتهاك الخصوصية الفكرية والعقائدية من اجل زرع الفتنة وازدراء الخصوصية الدينية ومايترتب على ذلك من انتهاكات.

لقد دعانا الله في كتابه العزيز الى احترام الاديان والكتب السماوية والرسل والانبياء وعدم الاساءة لاحد (آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه كل آمن بكتبه ورسله لانفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربي واليك المصير)285 البقرة

هذه الروحية لاحترام الاخر التي جاءت لتعزيز الاخاء بين ابناء الامم والشعوب والتي تدعوا الى التعايش السلمي الذي يبنى على تقبل الاخر ومؤاخاته، وقد كفل الله لعباده حرية الدين (لا إكراه في الدين) ولم يدعوا الى التعصب الاعمى واثارة الاحقاد التي تمزق الامم وتجعل الضغينة الهدف الاسمى لبث روح التعصب والعنصرية.

ان المسلمين في كل أرجاء المعمورة يجمعهم كتاب واحد قائم على احترام الخصوصية الدينية لكل امة من الامم والايمان بجميع الكتب المنزلة على الرسل والانبياء وتكاد لاتخلو سورة من القرآن من ذكرالانبياء والرسل وتذكيرنا للايمان بهم كشرط اساس للايمان بالله .

فهل نتبادل هذه القيم السماوية الرفيعة أم نتجاهلها لتعم الفوضى والبغضاء وتنتشر الحروب والانتهاكات وتعاني الشعوب بسبب استهتار نفر ضال يدعوا الى الفناء!

إن مبدأ التعايش السلمي الذي يدعوا اليه جميع مسلمي العالم واضح المعالم وهو احد شروط الايمان بالله جل وعلا، و التعايش بين مختلف الشعوب والاعراق والجماعات الدينية والعشائر والقبائل وطيف كبير من الهويات هو التحدي الكبير للقرن، فقد دعانا الاسلام الى ان نتشارك الطعام ونتبادل الزيارات ونبارك الاعياد ونحسن الى جيراننا حتى نعيش بسلام . (قولوا آمنا بالله وماأنزل إلينا وماإنزل الى إبراهيم واسماعيل وإسحق ويعقوب والاسباط وماأوتي موسى وعيسى وماأوتي النبيون من ربهم لانفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) البقرة

ان اللجنة الاوربية لمناهضة للعنصرية والتعصب تدين بشدة التحريض على العنف او الكراهية او التمييز ضد الافراد والجماعات، ومجلس حقوق الانسان يدعوالى اهمية احترام وتفهم التنوع الديني والثقافي واعرب عن قلقه ازاء النظرة النمطية السلبية الى جميع الاديان وازاء مظاهر التعصب والتميز ضدها وحث على اتخاذ اجراءات تمنع نشر افكار ومواد تنطوي على عنصرية وعلى كره اي دين من الاديان مما يشكل تحريضا على العنصرية والكراهية الدينية والعداوة والعنف والارهاب الفكري والديني.

ان ماحدث في اول ايام عيد الاضحى من استهتار سافر لمشاعر المسلمين في جميع ارجاء المعمورة وهم يؤدون الشعائر الخاصة بالعيد حينما أقبل احد كاملي النقص ممن بصق في الاناء الذي اطعمه والبئر الذي ارتوى منه والحضن الذي آواه وخرق كل قوانين الانسان باعتباره مسخ أراد ان يلفت الانظار الى الكم الهائل من الحقد والضغينة واللوثة الفكرية التي دعته الى حرق الكتاب الكريم ناسيا ومتناسيا قوله جل وعلا (انّا نحنُ نزلنا الذكرَ وانّا لهُ لحافظون) فجنة المؤمن في صدره وعقله وجوارحه ومافعله لم يسئ الى الدين والكتاب بل اساء الى انحطاط الفكر وفجور النفس الامارة بالسوء، فهو عندما اقدم على فعله القبيح هذا انما أحرق اوراقا ولم يحرق ذكرا وحرق سمعته وادميته وعائلته التي انحدر منها وان عاش فهو ملعون شأنه شأن اي مرتد عاش حقيرا ومات خالدا في جهنم (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. خالدين فيها لايخفف عنهم العذاب ولاهم ينظرون) البقرة 171

وحقيقة فان إقدام اي ضال على هذه الخطوة الكسيحة للنيل من كرامة المسلمين وايمانهم بالله لن تزعزع الثقة أو تزرع الفرقة لكنها ستزيد من قبح من قام بهذا الفعل الشنيع وهي ليست بالمرة الاولى فقد حدث وان أحرق اليميني المتطرف رامسوس بلودان نسخة من المصحف في ستوكهولم وسط حماية من الشرطة، فهل تحمي الشرطة المسئ وتباركه !!مما أثار حفيظة كل انسان غيور على دينه، لكن كل هذه الاساليب لن تكون سوى ورقة يابسة زفرتها احد اشجار الخريف (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون)البقرة28- 29.

***

مريم لطفي

من أين لنا بمعرفة خير ما يصلح للمجتمعات الإنسانية ممّا يفسدها إذا لم نكن على علم باللغة التي جاء بها النفع والصلاح؛ فإذا هي مُوجِّهة الإنسانية قاطبة إلى خير ما ينفع، زاجرة لها ناهية عمّا يضر ويفسد؟ وليس من شك في أن الأمر والنهي الإلهيين إنما هما في الأصل لغة قائمة، مجرد نصوص من كلمات جامدة تتحول مع الممارسة في أجواف القارئين إلى حياة؛ فاللغة هنا رموز وإشارات لا قيمة لها بغير الفاعلية التطبيقية.

وتلك هي بالحقيقة لغة القرآن في بساطتها وخلوّها من التعقيد الخاوي والتكلف الممقوت. ونحن لا نعلم في لغة من اللغات مدى عنايتها بالسلوك والتهذيب وإثراء الجانب الأخلاقي على الجملة فضلاً عن التفصيل كما عنيت لغة القرآن بضوابط الحركة والسلوك : انتقال الفكرة فيها إلى دائرة العمل المشروع؛ فإذا لم يتح للمتلقي أن يعمل بما وَصَل إليه من فكر في هاته الأداة المبينة، أو في اللغة التي عرفها؛ فعرف من أسرارها الشيء الكثير أو القليل على قدر استعداده؛ إذا لم يتح له في ميدان العمل أن يعمل بما عرف من فكر مؤدَّى بلغة مُبينة، كان ما عَرَفَه أنقص ممّا جهله على المستوى التطبيقي؛ لأن السلوك هنا هو بمثابة اكتمال دائرة لا تكتمل الحركة إلا به؛ فحركةُ في الذهن يصحبها عمل، وعملُ نتاج حركة ذهنية، وكلما أحكم وضبط، أحكمت مراحل التوجيه وضبطت لكي تؤدي الغرض الساري منها قصداً؛ فدائرة الأخلاق ناقصة إنْ لم تكن اللغة فيها فكرة عملية قابلة للممارسة التطبيقية، وكل كمال على هذا النحو ناقص ما لم يكن الفكر فيه لغة مُوحية بالعمل مُوجبة لإرادة التنفيذ .

فما كنَّا لنستطيع أن نعرف مجمل الخصائص العقائديّة والأخلاقية، ولا سائر العبادات والآداب الإسلامية، ونحن بمعزل عن لغة القرآن. وما كنا لندرك شيئاً عن هذه اللغة، ونحن بمعزل أيضاً عن العمل بفكرتها التأسيسية، تؤديها على أكمل ما تكون تأدية الأفكار وتوصيلها إلى المؤيدين والمنكرين سواء .

ولو لم تكن اللغة في أدائها موصّلاً جيداً لما فيها من أفكار ومعان وإيحاءات وتعاليم (أغراض كما في خصائص ابن جني حيث حدّ اللغة فقال إنها : أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم) (الجزء الأول من تحقيق محمد على النجار ص 33) ما كان يقرّها منكر قبل مؤيد، وما صارت قط موضع لغط كبير أو ضئيل من قبيل نفر يجيدون اللغط حتى على الثوابت الرواسخ، ولا ينفرون من إجادة اللغظ؛ فيريدون أن يجعلوه قاعدة التجديد المبتكر والتحديث من بعد التحديث من بعد التحديث إلى غير انتهاء في مثل هذه “التحديثية” الغريبة والمنفّرة، بدعوى مسايرة العصر وحداثته الفجة الكسحاء، وهو عصر كم اللغط المنفر والدردشة الفارغة فيه، أعمُّ وأشمل من كم الصدق والعمل النافع والاستقامة الخالصة.

وليس أغرب من أن تجئ هذه الدعوات على ألسنة وأقلام لأناس يمتلكون في الغالب الإحساس باللغة، ورهافة الذوق، والقدرة على التعبير، والتوظيف بكلمات ذات مساقات أصيلة، ومع ذلك يريدون أن يتقدّموا ولشعوبهم أن تكون مستنفرة تجاه اللغة على حساب التأخر والخسارة، وأن يرتفعوا على فريضة الإهمال، غاية ما هنالك أنهم يضربون اتجاه فكري باتجاه آخر حتى إذا ما أهملوا هذا أخذوا بذاك، وفرضوه على أنفسهم وعلى غيرهم، فإذا الإنسان معه يسير كما الأكتع بغير استقامة، إذ لم يكن عقلاً كله ولا علماً كله؛ بل له من العلم والعقل جوانب تمتلئ بها مناطق ولا تزال فيه مناطق لا يملأها العلم التجريبي ولا العقل المحدود، جوانب أخرى وجودية تحتاج إلى امتلاء. وما كان التقدّم ومسايرة العصر أبداً ضرباً من خسارة القيم الروحيّة التي شكلت حضارات وقوّمت أمثلة نادرة في التاريخ الثقافي الإسلامي وغير الإسلامي على حدٍ سواء.

وما كان الارتفاع قط مطلوباً من جرّاء فريضة الإهمال لمقوم الهُويّة النشطة والفعال في حياة الفرد أو في حياة المجموع، أعني هُوية العقيدة واللغة والأخلاق.

وعندي أن أخصّ ما يكون مكنون فيها هو اللغة المُعبرة عن وجود الإنسان الحق، الإنسان الإنسان لا الإنسان الحيوان، ولو شئت لقلت الإنسان الكامل. هذه اللغة، ولا ريب، أسهل مأخذاً وأبلغ قناة إنْ في ألفاظها وإنْ في معانيها أو في مساقاتها من كثير من اللغات العصرية تلك التي لا تعرف لها مؤدّى ولا مرفأ أميناً ترسو عليه. 

نعم! هي لغة، ولكنها تجري على ألسنة المحجوبين، وتعوج بهم بمقدار ما ينسدل عليهم حجاب الغفلة والاعوجاج، هي اللغة المفككة عن الضوابط والأحكام، المنحلة عن القواعد والأصول التي تربطها بالقيم الداخلية وأخلاق الكمال في مطمح كل إنسان شريف.

هذه اللغة ـ من تلك الجهة ـ تمثل عائقاً معرفيّاً كما يمثل الاعتماد فيها على العلم أو العقل هذا العائق الذي يسير فيه المرء بمقتضاه كما لو كان أكتعاً يشعر بالنقص والاعوجاج، لأنه ملأ جانباً في وجوده على حساب جانب آخر، حتى أن الفراغ المتروك يطالبه دائماً بتغذية وجوده فيه، الأمر الذي تحدث معه هزّة باطنة هى المقصودة عندنا بالعوائق المعرفيّة.

وكما تكون اللغة من تلك الجهة مدعاة للعوائق المعرفية، تكون سبباً لإزالتها فيما لو صدق صاحبها في استخدامها، واستعمال أنشتطها في تغذية وجوده الروحي؛ فالتجرد والصفاء من علامات حسن الاستخدام للغة وإزالة العوائق المعرفية، وهما من علامات الترقي المعرفي ومن موجباته كذلك.

فليس علماً على التحقيق ما كان صادراً عن حكاية أقوال الغير؛ ولتلحظ أن أقوال الغير هذه، إنْ هي إلا مجرد لغة؛ لأن أقوال الغير ليست إلا أحوالهم، فالذي يحكي عنها هو لا محالة يصف حال صاحبه وقت أن صدر عنه هذا القول أو ذاك، والأحوال تتبدل ولا تستنسخ كما تستنسخ الآلات آلاف آلاف النسخ المكررة فيما تريد استنساخه؛ فأحوال هذا ليست كأحوال ذاك، وأقوال هذا لا يمكن تبعاً لذلك أن تكون هي نفسها أقوال ذاك. فليس علماً ما كان صادراً عن حكاية أقوال الغير؛ إذْ العلم بداية المعراج المعرفي، ما فوقه أسمى منه وأرقى.

أمّا العلم في ذاته، فليس أسمى منه في الحياة، ولكنه مع ذلك ليس هو كل ما في الحياة، لأن في الحياة ما هو أعلى من العلم وأسمى، إذْ من شرط العلم النافع أن يقود إلى المعرفة، وأن يؤدي إليها بالتحقيق لا بالاستشراف. ومن شرط المعرفة أن تقود إلى شهود الفضل الإلهي ومعاينته كما يُعاين المحسوس.

وليس هناك أفرح للقلب ولا أدعى للرحمة من ذلك الشهود على التحقيق :” قل بفضل الله وبرحمته؛ فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ ممّا يجمعون” (يونس: ٥٨). وعليه؛ يصبح العلم الذي لا يؤدي بدوره إلى مثل هذا الشهود، شهود الفضل الإلهي، ليس بنافع ولا هو أهل لأن ترقى معه حياة صاحبه إلى منازل المحققين. إنه ليمثل عائقاً معرفيّاً في ذاته، كما تمثل اللغة فيه نوعاً من التحجير والتضييق؛ لتصبح هي الأخرى نفسها عائقاً معرفياً يؤخر ولا يقدّم، يحصر المرء في منطقة محدودة بحدود الأفق الذي يتحرك فيه العلم المحدود والعقل المحدود .

وفي المقابل؛ لاحظ اللغة في الآية الكريمة، ولاحظ المعراج الدلالي فيها، فإنّ فضل الله مدعاة للفرح، وأن فضل الله هذا مقرون بالرحمة، وهما معاً أفرح ما يُفرح قلب السائر مع الشهود، فليس من فرح أسمى ولا أعلى من الفرح بفضل الله وبرحمته. فاللغة هنا معراج، تجربة، والمعراج باللغة ليس لفظاً يكرر، ولكنه حقيقة واقعة وحياة تعاش مع أن اللغة في عين هذا الشهود لا أثر لها على الإطلاق.

اللغة هنا في هذه الحالة العليا ليست عائقاً معرفيّاً؛ بل نقلة إلى ما بعد العلم والمعرفة، إلى الحقيقة مباشرة. أجواء الآية بفضل رهافة الإحساس باللغة فيها، تقضى بمثل هذا العروج إلى منازل الشهود حيث لا لغة هنالك ولا واصف ولا موصوف.

***

بقلم : د. مجدي إبراهيم

في الحديث عن السلطة في العالم العربي والإسلامي تواجهنا إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، تلك الإشكالية التي بدأت مع انتقال المجتمع الإسلامي من مرحلة الوحي الى مرحلة الوعي بإنتقال النبي الخاتم الى الحياة الآخرة، تاركاً أمته على مقربة من يوم الغدير الذي إتفق المسلمون عليه كحدث تاريخي بكل ما تضمنه من تفاصيل، واختلفوا فيما بعد على تأويلات تلك المضامين، واخذت هذه الإشكالية تفرض نفسها بإلحاح على الفكر العربي والإسلامي المعاصر في ضوء معطيات الثورة الصناعية الغربية في مراحلها المتقدمة، وما نتج عنها من تقنيات متطورة ارتبطت بشكل مباشر بعصب الحياة اليومية للناس، الأمر الذي أثار في أذهان الأجيال المعاصرة استفهامات كثيرة حول فاعلية علاقة الدين بثنائية السلطة والمجتمع خصوصاً وإننا صرنا مرتبطين بنظام عالمي تتحكم فيه مشاريع الإقتصاد الصناعي بمجالات الحياة السياسية والإقتصادية، واتسعت اكثر في الآونة الأخيرة لتشمل مجالات ثقافية وإجتماعية، ونفذت من خلال واقع الناس وظروفهم الى معتقداتهم وطقوسهم الدينية فظهرت طروحات وافكار تطال بعض الثوابت الصحيحة المتفق عليها في التاريخ بدعوى التجديد وحرية التفكير وحرية التعبير وإعادة قراءة التاريخ ونقد احداثه، يحدث كل ذلك كنتائج لفشل السلطة في مجتمعاتنا في تقديم انموذج يرقى الى مستوى تلك الحضارة الإسلامية التي أسس لها نبي الرحمة في إطار أخلاقي انساني تتحرك فيه روح العقيدة في منظومة المجتمع النابض بحب الحياة التي اخبرهم نبيهم انها " حلوة خضرة والله مستعملكم فيها فانظروا كيف تعملون"، لكنهم وبعد اكثر من الف عام على ذلك الربيع الإنساني وجدوا انهم يعيشون إحباطاً واضطراباً متواصلين في علاقتهم بسلطة تقر بالدين منهجاً دستورياً، في الوقت الذي تمكن فيه العلم بعيداً عن الدين في الغرب من إنتاج سلطة مضت بالناس الى التحضر والتقدم ..

يمثل يوم الغدير بما تضمنه من حدث البيعة مرتكز انطلاق المجتمع نحو مرحلة الوعي حين أبلغ النبي الخاتم الناس بقرب إنتهاء مرحلة الوحي في حجة الوداع " اني قد يوشك أن أدعى فأجيب وإني مسؤول وإنكم مسؤولون .."  وبدأ إعداد المسلمين لهذه المرحلة الجدية بالإستفهام: "ألستم تعلمون اني اولى بالمؤمنين من انفسهم ..؟" في وقت كان المسلمون فيه على مقربة من أجواء الروح وهي تطوف حول الكعبة في طقوس الحج بحضور نبي الرحمة، وما ادّته هذه الأجواء من دور مهم في الوصول بالمنظومة الآدمية للفرد المسلم الى حالة من التوازن والطمأنينة فجاء جوابهم " بلى" إيذاناً بإستعدادهم للإنتقال الى مرحلة ما بعد إنقطاع الوحي إنتقالاً ضرورياً يمليه عليهم وعيهم بمصيرهم ..

يعنى علم الانثروبولوجيا (علم الانسان) بدراسة كل ما له علاقة بطبيعة المجتمعات البشرية ويشتمل على علم الإنسان الثقافي المعني بدراسة ثقافة المجتمعات وتنوعها وإختلافها على وفق التجارب التي يمر بها كل مجتمع في مكانه وظروفه المحيطة ويراه أمراً طبيعياً لا يدعو الى التفريق بناء على وحدة الفكر الإنساني .. وعلم الإنسان الإجتماعي المعني بدراسة القضايا الإجتماعية التي تعترض مسار الحياة اليومية للفرد وللأسرة وللمجتمع والوقوف عندها من أجل الوصول الى حلول تضمن سلامة النسيج الإجتماعي وتحفظ بناءه وتحمي بنيته التحتية من أي أضرار تلحقها به الظروف المرحلية التي يتعرض لها الناس .. وعلم إنسان اللغة المعني بدراسة تأثير اللغة في الفرد والمجتمع .. وعلم الإنسان الحياتي المعني بدراسة منظومة جسم الإنسان وتأثير وضعها الصحي في شخصية الفرد في مجالاتها النفسية والسلوكية والأخلاقية والعقلية.

يدرس علم الإنثروبولوجيا واقع المجتمعات البعيدة، ويدرس علم التاريخ ماضي المجتمعات المعاصرة، لذا نحاول من خلال هذه المحاور أن نقف على ذلك الحدث التاريخي الذي مرّ عليه أكثر من الف عام، وقفة معاصرة يقتضيها واقعنا كأمة مسلمة تحمل شعار " محمد يجمعنا " ونحاول من خلالها أن نعاير صحّة مسار واقعنا اليوم باستحضار أجواء يوم الثامن عشر من ذي الحجة حيث بيعة الغدير، للبحث في التشابهات والإختلافات في الأفكار والميول والإعتقادات من أجل الوقوف على المشترك الإنساني في جميع المراحل التاريخية، يقول الفيلسوف الألماني فالتر كولد "ان الحضارات متعددة مع ان الإنسان واحد"، إن إختلاف الثقافات ضرورة تفرضها ظروف الإدراك وتباين مستويات الوعي والجو العام والبيئة التي تتدخل كثيراً في صياغة تعبير الناس عن مواقفهم وعواطفهم، وبعيداً عن الآراء المتباينة التي مضت بكلمة "أولى" و"مولاه" في فضاءات التحليل النفسي والقلبي والعقلي للمسلمين، قريباً من مفهوم السلطة اليوم على وفق البعد الإجتماعي والإداري والثقافي للخط الرسالي السماوي الذي اختطه بنجاح كبير سيد الخلق وخاتم النبيين وأسس عليه حضارة إنسانية إسلامية تواجه اليوم تحديات كبيرة جديدة من حيث الأدوات المستخدمة التي جاءت مع الثورات الصناعية والعلمية والتكنلوجية والمعلوماتية وبرامج الذكاء الإصطناعي ورأس المال والشركات العابرة للقوميات والنظام العالمي الجديد الذي يراد له أن يسود العالم ويحكمه عبر برامج الكترونية عالية الدقة فائقة السرعة وشبكة إتصالات تربط الناس فيما بينهم بكبسة زر وتفتح أمامهم نوافذ لم يكن ممكناً فتحها من قبل، وهي في الوقت ذاته تهددهم بمشاكل كثيرة ترتبط بمصيرهم ووجودهم في هذه الحياة، فعلى الرغم من وفرة المعلومات هناك فقر ثقافي، وعلى الرغم من سرعة الحصول على المعلومة هناك بطؤ شديد في إدراك الواقع ووعي المصير ..

من اهم المشتركات التي توافر عليها يوم الغدير هو حضور المجتمع الإسلامي حضوراً واعياً لما حدث في ذلك اليوم، وكان النبي الخاتم والإمام علي محوري ذلك الحدث، فبإستخدام لغة الإنسانية نحاول أن نقرأ أحداث يوم الغدير بعيداً عن الذهنية الغالبة على المناخ التفكيري لمساحات كبيرة من مجتمعات تعيش المذهبية والعصبية وتستخدمها في صناعة مواقفها والتعبير عن عواطفها بمعزل عن الموضوعية في كثير من الأحيان، نحاول أن نصنع وعياً ينهض بمجتمعاتنا اليوم الى ما ينبغي أن تكون عليه، لا البقاء على ما هي عليه، والإستفهام من أهم ادوات صناعة الوعي، استخدمه النبي الخاتم في ذلك اليوم والناس يعيشون ثلاثية النفس والقلب والعقل في أجواء الحج الروحية التي ينتج عنها إستقرار يهيء إتصالات هادئة هادفة بين النفس والقلب والعقل ليكون جواب أحدهم حراً بالمعنى الذي يتجاوز فيه حريته الشخصية الى الحرية المسؤولة وطاعته العمياء الى طاعة واعية فكانت كلمة " بلى "

وبصرف النظر عن ملابسات ما حدث من مواقف كثير من المسلمين بعد وفاة النبي الخاتم، فإننا بحاجة الى أن نرجع الى يوم الغدير لننطلق بواقعنا اليوم الى ما نتجاوز به ملابسات الأمس ..

ذكر النبي الخاتم في سياق حديث الغدير ما جاء في سورة الأحزاب الآية 6 " النبي أولى بالمؤمنين من انفسهم .."، وبعيداً عن أسباب النزول وعن تنوع الآراء بخصوص معنى " أولى " فإن سورة الأحزاب مدنية نزلت حيث أسست دولة الإنسان الجديد على يد النبي الخاتم، يضاف الى ذلك ذكر المسؤولية في قوله صلى الله عليه واله وسلم " اني مسؤول وانكم مسؤولون " في سياق الإستفهام " الستم " الذي يوفر مساحة كافية للحرية كي تتحرك بوعي الإجابة، وهذا ما نحتاجه اليوم حيث يأخذ مفهوم الحرية مديات اكبر في أذهان الناس تصل عند بعضهم الى تعريض وجودهم واستقرارهم الى الخطر، ومع تطور أدوات التقنية الصناعية وشبكات الإتصال ومواقع التواصل الإجتماعي وجد الشباب العربي أنه أمام إستفهامات خطيرة تلح عليه في موضوعة تأثير الدين في الحياة المدنية للمجتمع في ضوء هذا التسارع الملفت للثورات العلمية والتقنية والذكاء الإصطناعي، ووجد ان حريته منقوصة في هكذا جو وهو ما دفع بكثير من الشباب العربي المسلم الى التغريب الثقافي مع إحتفاظ كثير منهم بإنتمائه لبيئته الإجتماعية بمنظوماتها الدينية والإخلاقية والقيم والعادات، لكن المشكلة تبدو اكبر من مجرد تشخيص، انها بحاجة ماسة الى علاج قبل أن يتحول المجتمع الى تجمعات بشرية أو كتل بشرية فاقدة لمعنى البناء الإجتماعي الذي عمل عليه الإسلام المحمدي منذ خطواته الأولى والذي يتوافق مع الصفة الإجتماعية  لطبيعة الشخصية العربية، ولعل مجتمعنا العربي يمرّ اليوم بالمحنة ذاتها التي مرّ بها المجتمع الغربي بعد الثورة الفرنسية والثورة الصناعية مع الفارق بين طبيعتي المجتمعين وإختلاف الدوافع، فقد وجد الإنسان الغربي ان بمقدور العلم معالجة جميع المشكلات التي تواجه الجنس البشري ووجه إنتقاداته للكنيسة حينما بدت له غير قادرة على مواكبة التطور العلمي وتقديم حلول ورؤى تناسب أدوات المجتمع الجديدة خصوصاً ما يتعلق منها بالشباب وتحديداً النساء في مجالات الحرية والمساواة وتحديد النسل لمواجهة النمو المطرد في السكان ومراعاة الوضع المعيشي في ظل التطور الصناعي الذي يستوجب نفقات اكثر مما كانت عليه الحياة قبل ذلك، ومع ان محنة الغرب لم تمر بسهولة فقد أخذت نصف قرن تقريباً حتى إنتقل المجتمع من العاطفة والخيال الى المادة والواقع، يبدو ان مجتمعنا العربي اليوم يواجه ما يشبه أجواء محنة المجتمع الغربي، لا من حيث إنه مجتمع علمي منتج صناعي، ولكن من حيث هو مجتمع إستهلاكي موجود على خط مباشر مع الغرب بحكم مشاريع الإقتصاد الصناعي العابرة للحدود الجغرافية والمتخذة من المصالح لغة تعامل مشتركة ومن المال وسيلة إدامة تلك المصالح، وأسهمت أنظمة الحكم في العالم العربي في دفع الناس بهذا الإتجاه جرّاء إخفاقاتها المتراكمة في إيجاد حلول لمشاكل الناس، لذلك اتسعت الفجوة بين المجتمع والسلطة، ثم بدأ المجتمع يوجه إنتقاداته لواقعه والبحث عن حلول فكان من نتائج تلك الإنتقادات أن ظهرت دعوات لفصل الدين عن الدولة، ودعوات تهميش الدين في حياة المجتمع وإقصاره على الفرد كحرية شخصية يعيشها بينه وبين معبوده ولا يحملها معه خارج البيت حيث توجد قوانين وضعية تحكم العلاقات بين الناس وبين المجتمع والدولة  أسوة بما يحدث في الشارع الأوربي الذي قد لا تفرق فيه أحياناً بين بناية المطعم وبناية المول والكنيسة إلا من خلال عنوان اللافتة، وحيث ان المجتمع الشرقي لا يزال على الرغم من محنه المستمرة يعيش حضور البعد الروحي في تفاصيل حياة الناس، بل لعل اكثر الناس يحرصون على تفعيل تلك الروح وكثيراً ما يبدون إنتقاداتهم لحكوماتهم من خلال هذا الدافع، لأنهم لا يزالون يتصورون في السلطة قدرتها على إدارة جميع شؤون البلاد بما فيها الثقافية والإجتماعية، وهو بإعتقادي خطأ وقع فيه الناس منذ زمن بعيد عندما صوّرت لهم السلطة ان الحاكم هو خليفة الله على الارض وان عليهم طاعته والإمتثال لأوامره التي هي بالنتيجة سبب سعادتهم، وكان على المجتمع أن يدرك إن ذلك لم يعد كما كان على عهد النبي الخاتم بعد أن إختط بعضهم للمجتمع خطاً جديداً لمسار العلاقة بين السلطة والناس، ولعل في قول الإمام علي " لقد علمتم إني أحق الناس بها من غيري، ووالله لأسلمن ما سلمت امور المسلمين .."  إشارة واضحة الى الخلل الحاصل في ثنائية العلاقة بين السلطة والمجتمع بعد النبي ..

 إذا اخذنا مفردة الحرية إنموذجاً، كما وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر سنة 1948م وقارنا معناها  التطبيقي العملي اليوم بما ورد في قاموس سلطة الإمام علي عنها، سنجد ان في إختيار شخص الإمام يوم الغدير من قبل النبي القائد ومنحه درجة "الولاية" على الفرد والمجتمع بصرف النظر عن الأبعاد التأملية والتأويلية التي اعطيت لهذه المفردة من قبل العلماء والباحثين والنقاد، فإننا سنجد ان وراء " من كنت مولاه فهذا علي مولاه " بعداً ثقافياً لأنسنة الوجود البشري، عابراً للظرف الزمكاني في ذلك الوقت بكل أبعاده الدينية والسياسية والجغرافية والقومية ..

تنص المادة الأولى في الميثاق على " يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الاخاء"، بهذا المضمون تتحرّك كثير من الفعاليات والأنشطة الفردية والجماعية حول العالم بصفة خاصة وبصفة مسؤولة .. يشتمل البحث الإنثروبولوجي على مرحلة الوصف ومرحلة التحليل، يتم في الأولى وصف وتدوين الأحداث كما هي، تعقبها مرحلة التأمل في ذلك الوصف من أجل تكوين رؤية واضحة للقضية أو المشكلة موضوع الدراسة، لتقديم الحلول الأنسب التي لا تتقاطع مع طبيعة المجتمع، كان من ضمن الأحداث المهمة التي اثارت عندي فكرة إعادة قراءة مفهوم الحرية الوارد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، هو التصريح الرسمي للسلطات الفرنسية الذي جاء رداً على تزايد حالات الإحتجاج والغضب في الشارع الإسلامي حول العالم على إثر الرسوم الكاريكاتيرية التي نشرتها إحدى الصحف في 2020م، فقد رأت الحكومة الفرنسية ان ما حدث يندرج ضمن حريات التعبير والنشر التي كفلتها المادة التاسعة عشر في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي تنص على " لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير ويشمل هذا الحق حرية إعتناق الآراء دون أي تدخل، وإستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية"، ثم تلتها تصريحات لمسؤولين في دول كبرى اعتبروا فيها ان لكل شخص الحق في حرية تحديد ميوله الجنسية، وان المثليين أشخاص شجعان لأنهم واجهوا مجتمعاتهم بالإعلان عن رغباتهم الجنسية دون خوف، ودعا بعضهم الى توفير أجواء حرة لأولئك المثليين حول العالم وحمايتهم طالما انهم يمارسون تلك الحريات دون ان يلحقوا ضرراً بغيرهم، هكذا أخذ مفهوم الحرية يتسع دون ضوابط ليكون اقرب الى الرغبة المادية للإنسان منها الى الرغبة الوجودية التكوينية .. بمقارنة هذا المفهوم مع ما جاء في نهج علي السلطة عن الحرية تبرز أهمية إستحضار ذكرى بيعة الغدير من حيث هي رسالة تاريخية عمرها أكثر من الف عام، تدعونا مستجدات الواقع الإنساني العالمي اليوم الى إعادة قراءتها للوقوف على عمق البعد الثقافي لإعلان ولاية الإمام علي الذي يقول في مفهوم الحرية "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً " ..

بين أن يعرف الشخص إنه حر بحكم وجوده البيولوجي، اي ان حريته مرتبطة بولادته، كما في المادة الاولى " يولد جميع الناس أحراراً .."، وبين أن يعرف انه حر من خلال وعيه بالحرية كما في قول الإمام "وقد جعلك الله حراً" و"جعل" عمل وهيأ وخلق، وجعله: صيّره، كما في لسان العرب لابن منظور، وقوله تعالى "وجعلني نبياً" و " جعلناه قرآنا عربياً " " وجعلنا من الماء كل شيء حي " " وجعلوا لله شركاء " ..

عن الدكتور فاضل صالح السامرائي: (الجعل) هو إخبار عن ملابسة مفعولة بشيء آخر بأن يكون له أو منه أو فيه أو حالة من الحالات، في الغالب الجعل يتعلق بشيء آخر وليس فقط جعل أي خلق هكذا لكن هناك شيء آخر في المفعول يتعلق به، جعل تقتضي اكثر من شيء واكثر من ان تذكر المفعول وحده وهذا ما نص عليه اهل اللغة..

ان تعريف الحرية في إطار فطري من شأنه ان يحددها عملياً في النشاط المادي لحياة الشخص، لكن تعريفها في إطار فكري من شأنه ان يفضي الى تحركها عملياً في النشاط التكويني لوجود الشخص، ففي " جعلك الله حراً " دعوة الى إدراك الذات وتنمية وعي النهضة في الفرد والمجتمع والسلطة، وفي " يولد جميع الناس أحراراً " دعوة الى تلبية إحتياجات المنظومة الجسمية للشخص في الجانب المادي للتفكير، لذا جاء تبرير الإساءات التي صدرت عن أشخاص ومؤسسات بحق شخصية النبي الخاتم على الرغم من الأذى الكبير الذي الحقته بمساحات كبيرة من الناس الذين صنفهم الإمام علي (إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) وهو التصنيف القائم على أساس وحدة الإنسان وتعدد الإتجاهات وتنوع الأفكار، فلو أضيفت عبارة " دون مساس أو دون إساءة الى ثقافات الآخرين) في آخر المادة التاسعة عشر لحقوق الإنسان لربما تجنب العالم الآثار الجانبية للأذى المعنوي الذي لحق بملايين المسلمين بسبب تلك الإساءات ..

يذهب علم النفس الى ان كل شخص أياً كان وضعه وموقعه ولونه وميوله ومعارفه إلا وله رسالة في حياته، لكن أكثر الناس يخطئون إدراك رسائلهم لجهلهم بأنفسهم وعدم إحاطتهم بما يكفي بذواتهم، ويتحقق هذا الإدراك وتلك الإحاطة عندما تمر الشخصية بحالة توازن في جوانبها النفسية والعقلية والأخلاقية، واذا كانت النبوة بحضور الوحي دافعاً لتعريف الناس بأنفسهم وإحاطتهم بذواتهم، فإنه بعد إنقطاع الوحي يظهر الوعي الذي كانت الرسالة المحمدية في جانبها الإجتماعي تعدّه في شخصية علي عليه السلام حتى اذا ما جاء التوقيت الملائم لإظهار ذلك نادى النبي القائد بالناس "من كنت مولاه فهذا علي مولاه"، تلك الولاية التي ترى في حرية التعبير والنشر وإعتناق الآراء والأفكار، حرية مرهونة بعدم تجاوزها على المشترك الإنساني لجميع الناس على إختلاف السنتهم والوانهم وتوجهاتهم ..

***

د. عدي عدنان البلداوي

البعيد عن العين، أبعيد أو قريب عن القلب؟

 القرن الحادي والعشرين جاء بتغيرات جوهرية من الدرجة الأولى في حياة البشر وأسلوب المعيشة. بدأت تلك التغيرات مع الثورة الصناعية والاكتشافات الكبيرة والتطور العلمي مع نهايات القرن التاسع عشر. كل ذلك اثرت على العلاقات بين ابناء المجتمع وداخل العائلة الواحدة. جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى لديهم من الذكريات التي لا تشبه أبدا بذكريات جيل اليوم. التطور التقني الكبير في عالم الاتصالات  واختراع التلفون الارضي ومن ثم الجوال ووسائل الاتصالات عبر الانترنت وسهولة السفر بين البلدان البعيدة و مع تطور أدواتها أدى إلى سهولة التواصل بين البشر وصولا إلى ما يسمى اليوم بالقرية الكونية.

 كانت أيام زمان العلاقات الأسرية وروابط القرابة محكمة وحتى حين يكون خصام بين شخصين أو طرفين كانت هناك دوما حلول يرضي الطرفين. كانت هناك كذلك دوما طرفا ثالثا في حل النزاع. ففي العلاقات البشرية تكون الخصام خالة طبيعية في عدم توافق الآراء ونتيجة مباشرة للجدال والنقاشات بين البشر. قد يكون الخصام ضمن أبناء العائلة أو الأقربون ومن ثم بين العشيرة الواحدة وقل تنتقل لتكون بين عدد من العشائر وحتى بين القوميات المختلفة داخل الدولة أو مع الدول المجاورة. لكن في الماضي كانت هناك منظومة اجتماعية تدير الحوارات وفي النتيجة يتم الصلح. بين القبائل المتنازعة أو بين الأشخاص. كان لديوان القوم والعشيرة مكانة مهمة في تمتين عرى الصداقة ونشر المحبة بين الناس. كان لشيخ القبيلة دورا مهما في تمتين أواصر العلاقات بين أبناء العشيرة. كانت المؤسسة الدينية أيضا تقوم بدور النشاطات بين المتنازعين بالإضافة إلى وجود المحاكم المدنية والشرعية.ز كانت الجوامع ملتقى لأداء الشعائر الدينية ولها دورا اجتماعيا كذلك. إما المقهى فكان بالإضافة إلى دوره كأماكن للترفيه عن كاهل المواطن له دور مهم في الجمع بين الناس والتصاهر وحتى إجراء العقود التجارية وفك المنازعات.3430 توفيق التونجي

الدور الحضاري لجميع تلك المؤسسات خرجت إلى الوجود مع سقوط الدولة العراقية اثر الاحتلال دول التحالف وأسقط النظام فيها عام ٢٠٠٣. أي أن تلك المؤسسات عادت إلى أداء نفس أدوارها السابقة وقد كان الإنكليز في احتلالهم وانتدابهم للعراق إبان وبعد الحرب العالمية الأولى قد ذكروا تلك التركيبة العشائرية للمجتمع العراقي الذي أبدع  د. على الوردي في وصفها في لمحاته الاجتماعية. الغريب أن في الاحتلال الأخير أي في عام ٢٠٠٣ كان نفس ذلك التركيب العشائري لا يزال حيا وأعيد إليه النشاط خاصة التركيب الديني ورجال الدين بعد أن كانوا لفترة وجيزة من تاريخ العراق بعيدون من الساحة السياسية الفعلية ويؤدون دورهم الطبيعي في المجتمع ويؤدون دورا محددا اجتماعيا و دينيا.

إما على مستوى العائلة فقد كانت التواصل قويا بين أبنائها من ناحية ومع الأقرباء وأبناء العشيرة كذلك وكان العديد من الأجيال يسكنون ويعيشون طول حياتهم في بيت واحد. صعوبة المواصلات كانت تؤدي أحيانا كثيرة في صعوبة التواصل بين أبناء العائلة خاصة لموظفي الدولة المعتقلين بين المدن جراء متطلبات عملهم. كانت الحالة أسوء القرويين اللذين يعيشون في مناطق نائية والتي لا تربطها مع المدن حتى الطرق المبلطة. كان القروي يعيش طول حياته في قريته دون أن يرى المدينة.

 إما المدينة فلم تكن كبيرة إلا قياسا بالنسبة للقرية خذ مثلا مدينة طوز خورماتو كانت تعتبر مدينة كبيرة بالنسبة إلى أبناء قرى منطقة افتخار المحيطة والقريبة منها، مثلا. لذا كان العديد من أبناء القرى المحيطة لمدينة كركوك لم يشاهدوا حتى كركوك نفسها طول حياتهم. إما العاصمة بغداد فكانت حلما وربما كنا نجد أحدهم قد حج إلى الحجاز يتجمع الناس حوله التبرك وسماع الروايات عن تلك السفرة المتعبة والشاقة إلى مدينة النبي صلوات الله عليه وسلامه وموطن هبوط الوحي وللعلم كان الحاج يتوجه أولا إلى المسجد الأقصى في القدس الشريف قبل أن ينعطف ويتجه جنوبا إلى الحجاز.

العالم الجديد الذي نعيش فيه اليوم اثر على تكوين العائلة. في الثقافة الغربية نجد ثقافة الأنا إي إن الشخص فقط مسئول عن أعماله ولا ينعكس تلك الأعمال على العائلة. المجرم في العائلة مسئول عن أفعاله بنفسه ولا يجلب العار للعائلة. إما في ثقافة الشرق " ثقافة نحن" فان الفرد جزء من الكل إي كل اعمله من خير أو شر ينعكس مباشرة على العائلة.

هذا الخلاف الجوهري ينعكس على مجمل العلاقات الإنسانية. صلة الرحم ونقصد به طبعا بين أبناء العائلة من المقربين وممن تربطهم رابطة الدم والانتماء. هذه الرابطة مختلفة كذلك هنا في الغرب. نحن لسنا هنا بصدد التقييم وإصدار الأحكام على الصحيح من تلك العلاقات والخطأ منها. لأنني كما أسلفت لا يمكن التقاء ثقافتين متناقضتين من حيث المبدأ. الجدير بالذكر إن هناك اختلافا واضحا بين الجنسين. بناتنا أكثر التصاقا بالعائلة من الذكور مثلا. تحاول جاهدا الزواج من نفس ثقافتها طبعا إذا أمكن ذلك. بالإضافة إلى ذلك تبقى على صلة وارتباط مع عائلتها. الذكور أكثر ثورية ويحبذون الانتقال وهجر العائلة وهناك دوما استثناء لكل قاعدة.

المهاجرين من العراقيين والقادمين من دول الشرق عامة يحتارون في انتمائهم الثقافي فهم ذو ثقافة شرقية في مجتمعاتهم في الغرب ولكنهم حين يزورون وطن أجدادهم ينظر إليهم بعيون ملئها الشك ويراقب كل حركة وكلمة ينطقون بتا وأخيرا يقولون لهم:

 انتم تغيرتم بعد الهجرة وترك اوطانكم والعيش في الخارج.

لكن طبعا هذا صحيح فهم يفكرون بالعلوم التربية التي حصلوا عليها في مدارسهم ومنذ أيام الحضانة في الغرب. وتأثروا بتلك التربية والتعليم التي حصلوا عليها ومختلفون مع أبناء البلد  لأنهم  تربوا ضمن العائلة الشرقية التي تسود فيها الأعراف ومبادئ الدين ورموز الثقافة الشرقية. لا ريب إن الانتماء والتربية الدينية أؤثر في سلوكهم كذلك خاصة ن يخص العبادات والشعائر. لعدم إلمامهم الكامل باللغة العربية. من ناحية ومن ناحية أخرى اختلاطهم مع العديد من الثقافات لمواطني الدول الأخرى من المهاجرين. هذا الاحتكاك يؤدي إلى تغيرات عديدة في تحليلهم و رؤيتهم إلى الأمور. إشكالية الانتماء الثقافي يولد حاجزا بينهم وبين اقرأنهم من أقربائهم في وطن إلام وهنا اقصد العراق. ختاما قد يتسائل المرء هل يمكن العودة الى ما كانت عليها اواصر المحبة والتضامن في العلاقات الاسرية وبين الإخوان والأقرباء ام انها تبقى كموروث ثقافي للامم. الجواب على هذا التسائل ومع الاسف سيكون بالنفي ليس فقط لان سلم التطور الانساني والتقني في الكون ياخذ مسارا صاعدا الى الاعلى ولا نرى وجود أي نقطة رجوع في الافق خاصة في المجال التقني العلمي والتطورات الحديثة في عالم السفر الى الفضاء واكتشاف المجهول. ليس هذه الإجابة من باب الياس بالمستقبل لكنه من الناحية العلمية لا عودة الى مجتمعات الماضي (الجميل) الابايقاف التطور العلمي والتقني في المستقبل. فكيف لنا في عالم يعيش جزء منه في مجرات بعيدة ويفصلها مع الارض سنوات ضوئبة ان نتصور العلاقات الأسرية الحميمة مثلا. واليوم  كيف نقنع الشاب وحتى الطفل الذي بيده احدث تلفون خلوي بان الجلوس حول صوبة (مدفئة) علاء الدين

والتمتع بمشاهدة فلم اسود ابيض في التلفزيون افضل من عالم الانترنت و وسائل التواصل الاجتماعي.

يبقى ان نعلم بان استمرارية الموروث الثقافي الديني في المستقبل خاصة في دول الشرق ستبقي على حميمة بعض العلاقات الأسرية خاصة في المناسبات الدينية والأعياد.

***

د. توفيق رفيق آلتونجي

...................

* الصورة لأحفادي - الأندلس

كثير من المتخصصين في علم النفس والأمراض النفسية، لا يهتموا كثيرا بظاهرة الرهاب الاجتماعي. من الطبيعي أن يشعر المرء ببعض التوتر والقلق في حياته، وهذا أمر طبيعي. ولكن قد يزداد هذا الشعور عن حده بحيث يؤثر حتى على تفاعلاتنا اليومية مع الآخرين، وهذا ما يسمى \"بالرهاب الاجتماعي\"...

الرهاب الاجتماعي هو خوف وقلق من التعرض لبعض المواقف الاجتماعية أو الأداء الاجتماعي. وغالبا ما يجري تجنب هذه المواقف أو تحملها على حساب الكثير من الضيق والإزعاج...

هو عبارة عن اضطراب مزمن يتميز بخوف مفرط وغير مبرر من الإحراج والهوان في المواقف الاجتماعية مما يؤدي إلى ضيق شديد وعدم القدرة على أداء الوظائف اليومية...

يعتبر الرهاب الاجتماعي من أسوأ أنواع السلوك التي من الممكن أن تسيطر على الإنسان، وذلك لما له من تأثير سلبي على صاحبه، فهو يعبر عن ضعف الشخصية، وعدم مقدرة الشخص على القيام ببعض الوظائف الحياتية، وهذه الصفة قد تسبب له مشاكل ومتاعب كثيرة، داخل محيطة البيئي إذ إنه من الصعب العيش في عزلة عن الآخرين، والخوف والقلق المستمرين، وضياع الكثير من فرص الحياة، وخسارة أصدقاء ومقربين، وكل ذلك يتسبب به الرهاب الاجتماعي...،

لذا يجب على كل شخص يعاني من هذه المشكلة أن يعمل بجدية للتخلص منه، فالرهاب الاجتماعي يختلف عن الخجل، فالخجل عادة طبيعية وليس لها أي تأثير سلبي على حياة الأشخاص، بل يعتبر من الصفات المحمودة.: الحياء"

أعراض الرهاب الاجتماعي

ومن الأعراض التي تظهر على الشخص والتي من خلالها نستطيع أن نؤكد إصابته بالرهاب الاجتماعي-- فتتمثل في ما يلي:

1- الخوف الواضح من المواقف الاجتماعية، حيث يتجنب التصرف أمام الآخرين خوفا من أن يظنوا أنه شخص غبي وغير مدرك للأمور.

2- الخوف من أي مناسبة اجتماعية، ويكون ذلك في التجمعات وبين الحضور الكبير والقلق من الظهور أمام الجميع، وفي بعض الحالات يمنعه هذا الخوف والقلق من حضور مثل هذه المناسبات. أفراح أو مؤتمرات أو عزاء خوف أن يتصرف بتصرف عفوي يجعله في تصرفا محرجا...

إن الشخص نفسه يستطيع تقييم حالته ومعرفة مدى إصابته بالرهاب الاجتماعي أكثر من أي شخصا آخر.

هل يوجد علاج للرهاب الاجتماعي...؟

1- انتباه الشخص لنفسه: أي عليه ملاحظة كل تصرفاته، وعند القيام بعمل ما عليه الفصل بين التفكير الشخصي والتفكير الناتج عن الرهاب الاجتماعي، فإذا قام بعملية الفصل، سيكون في المسار الصحيح للعلاج.،

2- تحكم الشخص في أفكاره: فهي خطوة أخرى للتخلص من الرهاب الاجتماعي عن طريق التحكم في تسلسل الأفكار، والتخلص من الأفكار السلبية التي تقود إلى الخوف والقلق، ومحاولة التفكير بطريقة إيجابية.

3- التخلص من الخوف عن طريق مواجهة المخاوف: وهذه الخطوة من أصعب خطوات العلاج، وتتطلب قوة وجرأة، إلا أنها أكثر الطرق فاعلية ونتائجها مضمونة وسريعة.

4- العلاج عن طريق الأصدقاء: فهذه خطوة مهمة لعلاج الرهاب الاجتماعي عن طريق كسب أصدقاء جدد، والتقرب من الأصدقاء القدامى، ومحاولة التقرب من أشخاص يعززون التفكير الإيجابي والدعم النفسي.

5- قيام الشخص بإشغال نفسه وشغل وقته بالمفيد: وذلك لتجنب التفكير السلبي، ومن هذه الوسائل منها: العبادات والتقرب إلى الله بالصلاة وقراءة القرآن، ممارسة التمارين الرياضية، قضاء أكثر وقتا ممكنا مع العائلة والأصدقاء... وللأسف في مجتمعنا الريفي الذي أعيش فيه. مع هذه الحالات وحالات الأمراض النفسية نعاملهم على أنهم ؛ مجانين " ونتجنب الاقتراب منهم على أنهم مجانيين... ونعاملهم بقسوة وفي غياب دور كبير للاهتمام بهم من قبل الدولة... تركوا جارنا وهو في العقد الخامس بعد أن رفضت كل المستشفيات قبوله يصارع المرض وحيدا حتى مات من البرد والإهمال...؟!\"

***

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث مصري متخصص في الجغرافيا السياسية

ليف تولستوي [ت 1910م] مصلح وأديب مسيحي روسي، أنهى مقالته الطّويلة: ما الدّين؟ وأين يكمن جوهره؟ عام 1902م، والّتي طبعت ضمن نصّ في كتاب: في الدّين والعقل والفلسفة، وتولستوي لم يخرج من الإطار اللّاهوتي، ولكنّه لم يفصل الجانب الإنساني عن هذه العلاقة الّتي يسميها بين الإنسان واللّامتناهي من جهة، وبين الإنسان والعالم من جهة ثانية، إلا أنّه يرى ضرورة حضور العقل في هذه العلاقة، وحضوره يجمع بين تفعيل الدّين في خدمة البشريّة جميعا في ضوء مبدأ المساوة من جهة، وفي تطوير هذا الدّين ذاته بما توصل إليه العلم من جهة ثانيّة بما يحقق مبدأ المساواة والوحدة بين البشريّة.

فيرى تولستوي أنّ "العقل هو القوّة الّتي تمكّن البشر من تحديد علاقتهم بالعالم، وكما أنّ البشر جميعهم في مصاف واحد من ناحية وجود علاقة تربطهم بالعالم، فكذلك الدّين الّذي يؤسس لهذه العلاقة يوحّد البشر، وتؤدي هذه الوحدة إلى رخاء البشر روحيّا وماديّا"، لهذا "إذا حاد العقل عن دوره الطّبيعيّ في تأسيس العلاقة مع الله، والنّشاط الّذي يتلاءم مع هذه العلاقة، لا يوجه البشر فقط لخدمة أهوائهم، ولا حتّى حرب شريرة بين البشر بعضهم وبعض، بل يبرر هذه الحياة الشّريرة المتناقضة لسمات ودور الإنسان، فتحدث هذه المجاعات المريعة الّتي يعاني منها الآن معظم البشر، وتصبح العودة إلى هذه الحياة العاقلة والصّالحة مستحيلة تقريبا".

فالدّين عنده "هو الّذي توافق مع العقل ومعرفة الإنسان، ويحدّد علاقته بالحياة اللّانهائيّة من حوله"، وبالتّالي التّطور ملازم لأيّ دين، "فليس الدّين إيمانا يتأسس مرة واحدة في العمر كاملا، كالخرافات والصّلوات والطّقوس العبثيّة الشّهيرة .... بل يشكل الدّين علاقة الإنسان بالله القابلة للتّطوير بشكل يتّفق مع العقل ومعارف الإنسان، وهذه العلاقة من شأنها أن تحرك الإنسانيّة للأمام ....".

لهذا يرى أنّ فكرة التّطور في الأديان يلزم منها تعدد الأديان، وهو شكل طبيعيّ جدّا، ويعلل ذلك "لأنّ التّعبير عن طبيعة العلاقة الّتي تربط بين الإنسان واللّانهائي – الله أو الآلهة – مختلفة من زمان لآخر، وحسب درجة تطوّر الشّعوب المختلفة"، وهنا يضرب مثلا أنّ "في الدّين البرهمي العميق .... بمجرد أن شاخ وبدأ في الذّبول مبتعدا عن فكرته الرّئيسة، متحوّلا إلى عقائد متحجرة، ظهرت من إحدى الجوانب حركة إعادة بعث للبرهميّة، ومن ناحية أخرى تعاليم البوذيّة الّتي عملت على تقدّم فهم الإنسانيّة في علاقتها باللّانهائيّ، نفس الانحطاط حدث مع الأديان اليونانيّة والرّومانيّة، والّذي تلاه ظهور المسيحيّة، الأمر ذاته مع المسيحيّة الكنسيّة والّتي انحطت في بيزنطة إلى مستوى الوثنيّة وتعدد الآلهة، بينما على الجانب الآخر من هذه المسيحيّة المشوهة ظهرت من جانب الحركة البولسيّة، ومن جانب آخر ظهر الإسلام بعقيدته التّوحيديّة الصّارمة ردّا على عقيدة التّثليث وعبادة العذراء، الأمر ذاته مع مسيحيّة القرون الوسطى البابويّة، وردّا عليها ظهرت تعاليم الإصلاح الدّيني".

بيد أنّ دخول السّلطة، والمصالح النّفعيّة كما يرى تولستوي أحدثت انحرافا في الدّين، وبالتّالي تولدت تحريفات داخليّة مضافة إلى النّص الديني نفسه، فكل دين يولد بسيطا ثم يتضخم تأريخيّا، وهذا التّضخم يتزاوج مع المصالح النّفعيّة لفئة من النّاس [سياسيّا، دينيّا، اجتماعيّا]، فيكون العقل خادما في تفعيل هذه النّفعيّة باسم العلم الدّيني، لا أن يكون خادما للدّين الحقيقي لا التّأريخي، وهذا لا يكمن إلا بالعودة من خلال العلاقة بين الإنسان واللّامتناهي شريطة أن لا يخرج إلا من خلال الوحدة بين البشر جميعا، فكلّ دين "يؤسس لعلاقة بين الإنسان واللّانهائي، وهي علاقة واحدة لكلّ البشر .... لذا يحوي كلّ دين مفهوم مساواة جميع البشر أمام من يدعونه إلها"، فلهذا يرى تولستوي أنّه لا يمكن فصل هذه العلاقة عن مبدأ المساواة، وهي الّتي جاءت الأديان لتقريرها.

ومن خلال هذا المبدأ يظهر مدى التّحريف الّذي أضيف إلى هذه الأديان والابتعاد عن جوهره، فهي في الابتداء جاءت مؤكدة أنّ "مفهوم مساواة البشر يشكّل سمة رئيسة في كلّ دين"، بيد أنّه يطرح تساؤلا تعجبيّا من خلال القراءة التّأريخيّة لكلّ دين، فيخلص "في الواقع لم تحدث في أيّ وقت، وفي أيّ مكان مساواة حقيقيّة بين البشر، وهي ليست موجودة الآن أيضا"، فهل الأديان فشلت في تحقيق هذه المساواة، أو انحراف حدث في ذاتها؟ فالأديان أفقيّا من مبادئها الواضحة المساواة، وجاءت لتحقيقها بين البشر، إلا أنّ هذه القيمة انحرفت لسببين، الأول: تّأثير النّفعية البرجماتيّة على الدّين نفسه لكن ليس باسم المجموعة، وإنّما باسم فئة منتفعة من هذا الدّين ذاته: " فكلما يظهر تعليم ديني جديد يحوي في تعاليمه المساواة بين البشر، يحدث مثلما يحدث مع النّاس في الواقع، يحاول المنتفعون من عدم مساواة البشر أن يخفوا هذه [القيم] الرّئيسة للتّعليم الدّيني بتشويه أصل هذا التّعليم .... ينتج فقط بسبب أنّ المستفيدين من لا مساواة بين البشر، الموجودين في السّلطة والأغنياء ... وحتّى يبرروا موقفهم أمام أنفسهم دون أن يغيروا من أوضاعهم، يحاولون بكل ما لديهم من قوّة أن يلصقوا بالدّين تعليما يمكن أن تكون فيه عدم المساواة ممكنا، وينتج عن ذلك حتما أنّ دينا يتم تحريفه يمكن لمن يتسلّط فيه على الآخرين أن يجد لنفسه مبررا، ينتقل إلى العامة أيضا، ويوحي إليهم بأنّ خضوعهم لمن يتسلطون عليهم أمر من متطلبات الدّين الأساسيّة".

والسّبب الثّاني أنّ هذه القيمة تغيّب مقابل طقوس وخرافات فتغيب  أدبيات القيمة ذاتها "مثل: عامل الآخرين كما تحبّ أن يعاملوك .... لا تستغل احتياجات إخوتك من أجل تلبية رغباتك أو رغبات آخرين، أن تكون موحية بقوّة وملزمة للبشر، مثل الإيمان بقداسة القربان، والأيقونات عند النّاس ...".

ولكون تولستوي مسيحيّا، ويناقش المجتمع المسيحيّ، نجده يناقش مبدأ المساواة في المسيحيّة، وكيف استطاعوا تحريفه في الدّين المسيحيّ ذاته منذ فترة مبكرة جدّا، حيث يرى أنّ "المسيحيّة قد أعلنت أنّ مساواة البشر لا تنتج فقط عن علاقة البشر بالله اللّانهائي، بل إنّها تعليم رئيس عن أخوّة البشر جميعا، كما أنّ البشر جميعا أبناء الله، لذلك يبدو من المستحيل تحريف المسيحيّة كي نزيل حالة مساواة البشر بينهم وبين أنفسهم"، وهذا من قراءته لأصل النّص المسيحيّ، إلا أنّ التّأريخ كما يقول أثبت العكس، فيدرك أنّ "العقل الإنساني مراوغ، وبلا وعي أو بنصف وعي تمّ ابتكار طريقة جديد للمراوغة ... كي تجعل من التّحذيرات الإنجيليّة، والتّصريحات الواضحة عن مساواة كافّة البشر غير حقيقيّة، هذا العمل البارع بتأسيس [العصمة] ليس فط لكتابات معينة، بل لبشر معينيين أيضا، تعيّنهم الكنيسة، ولديهم الحق في نقل هذه العصمة لأناس آخرين يقومون بدورهم ...]، وهكذا عن طريق هذا الكهنوت انتقلت العصمة من النّص إلى بشر مثلنا، وبهم غلبت النّفعيّة والتّحريف في صرف هذه المساواة الّتي جاء بها حقيقة الدّين المسيحيّ.

ومع بداية عصر التّنوير، وظهور العلمويّة في الغرب، التفت الفلاسفة والعلمويون إلى مبدأ المساوة من جديد في ظلّه النّاسوتي الشّامل عند الفلاسفة الشّموليين، أو النّاسوتي الخاضع للعلمويّة عند التّجريبيين والعلمويين، وهؤلاء أدركوا أن الدّين بالكليّة ضدّ المساواة، وقسّموا العصور – كما يرى تولستوي – إلى ثلاثة عصور: العصر الدّيني، والعصر الميتافيزيقي، وعصر العلم القطعيّ، ونحن نعيش العصر الثّالث، لهذا رأى العلمويون "أنّ احتياجنا إلى الإيمان بالدّين قد انهار"، وأنّ الدّين "صار عنصرا ضارا بحياة المجتمع"، لهذا يرى تولستوي أنّ سبب هذه الرّؤية ليس الدّين ذاته، بل أنّ السّبب الحقيقي أنّه "في كافة المجتمعات الإنسانيّة وفي فترات معينة من حياة تلك المجتمعات دائما ما حلّت بعض الأوقات انحرف فيها الدّين عن معناه الحقيقي، ثمّ أخذ هذا الانحراف يزيد أكثر فأكثر، حتّى فقد الدّين معناه الرّئيس، وحين تحوّل إلى صيغ متحجرة أخذ يذبل، ومن ثم أخذ تأثيره على حياة النّاس يضعف أكثر فأكثر"، وقد قدّم فلسفته في هذه من خلال العلاقة بالإنسان مع اللّامتناهي في ضوء فلسفة الدّين والأخلاق والعلم، ويصعب هنا بيانه والإسهاب فيه لضيق المقالة.

إلا أنّه جملة يرى أنّ الانحراف في تحقيق مبدأ المساوة لم يقتصر عند الدّين نفسه؛ بل حتّى في ضوء الدّول المبنيّة على دساتير الأصل حافظة لقيمة هذه المساواة، فيجد التّناقض في التّطبيق ليس تحت مظلّة الدّين؛ بل حتّى تحت مظلّة الدّولة ذاتها، فأمّا عن الأول فيرى تولستوي "كما أنّ كافّة البشر إخوة ومتساوون؛ فعلى كلّ منهم أن يتصرف مع الآخرين كما يريد الآخرون أن يتصرفوا معه، لذا فالأمر كلّه يعتمد على ترك القانون الدّيني الكاذب، ولكن الأمر لا يقتصر على أنّ مثقفي العالم المسيحي لم يفعلوا ذلك؛ بل على النّقيض من ذلك، يحاولون أيضا إخفاء إمكانيّة هذا الحل عن النّاس، ومن أجل القيم بذلك يقومون بكلّ هذه الجهود العقليّة البطّالة الّتي يطلقون عليها اسم علم" أي العلم الدّيني.

وأمّا عن الدّولة فيرى أنّهم "يكتبون مئات الكتب عن المبادئ المختلفة: المدنيّة، والجنائيّة، الشّرطيّة، والكنسيّة، والماليّة، الخ، ويتحدّثون ويتجادلون وهم على ثقة كاملة أنّ ما يفعلونه مفيد ... ولكن التّساؤل عن سبب إمكانيّة إدانة وإجبار بشر متساويين بالطّبيعة، وسلبهم وإعدامهم، لا يجيبون عنه أبدا ... هذا العنف لا يقوم به النّاس، بل كائن مجرد يدعى الدّولة".

هذه المقاربة الّتي قدّمها تولستوي قبل مائة سنة ينطلق من خلاصة الفكر الإنساني أنّ فهم الأديان وتحليلها لا ينطلق من الدّين التّأريخي، بل من القيم الكبرى المطلقة بين البشر جميعا والمرتبطة بالإنسان، والمحددة علاقتها باللّامتناهي، وهي الّتي جاءت الأديان الحقيقيّة في بساطتها لتفعيلها، فكلما اقتربنا منها لن نجد فارقا كبيرا بينها وبين العلم والفلسفة، بل تساهم بشكل كبير في رقي المجتمع الإنسانيّ أخلاقيّا وروحيّا.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

إن التعبير الإسلامي الشامل، الذي يحتضن مفردات التسامح وتجلياته الخاصة والعامة، الثقافية والاجتماعية والسياسية، هو تعبير ومبدأ العدل والعدالة.. قال تعالى [فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا وإليه المصير]. إذ هو(العدل) يستوعب كل مفردات التشريع الإسلامي، والعدالة هي أم القيم وتجلياتها جميعا. وفي هذا السياق أيضا تأتي مفردات (العفو – الإحسان – دفع السيئة بالحسنة – الإعراض عن الجاهلين). إذ يقول تبارك وتعالى [والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار]. ويقول عز من قائل [وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما]. وغيرها من الآيات التي تحث المؤمنين على تجسيد هذه القيم في حياتهم وأحوالهم المختلفة.

وإن هذه القيم بحاجة إلى سياق اجتماعي، يتوجه صوب بناء هذه القيم وإرساء دعائمها لبنة لبنة، وخطوة خطوة. وذلك لأنه من المستحيل أن تتحقق هذه القيم في الفضاء الاجتماعي والإنساني دفعة واحدة، وإنما تنجز بالتدرج والتراكم. لذلك ينبغي أن نقوم بدعم وإسناد كل خطوة في هذا الطريق الطويل والشاق. وإننا من الضروري أن لا نستعجل النتائج. قال تعالى [سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين]. ونحن مأمورون دائما بإتباع الأحسن. إذ قال تعالى [الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم ال وأولئك هم أولوا الألباب]. فحينما تتطور الظروف وتتبدل الأحوال وتزداد وتيرة المتغيرات، فعلينا استنادا على هدى القرآن الحكيم ونور العقل وبصيرة الإيمان من إتباع الأحسن في القول والفعل. وهذا النهج يؤسس لنا منهجا واضحا في طبيعة التعامل مع مستجدات الحياة وتطوراتها على الصعيدين النظري والعملي. إذ أننا مطالبون من الاستفادة من كل هذه المنجزات والمكاسب على قاعدة [فليأخذوا أحسنه] و" إن ما نعيه من مقصد الشريعة في إثارة العقل، ومخاطبة العقلاء، وفي رفع حجب الشهوات، عن العقل، وفي تنمية الإرادة ضد من يصادروا العقل. إن مراد الشرع من كل ذلك – حسبما نعيه – هو العمل بما يقتضيه العقل والعلم، وبما يكشفان من حقائق الحياة وواقعياتها، فإن كانت الحقائق ثابتة عملنا وفقها، وإذا كانت متغيرة عملنا وفقها ".

والحرية الحقيقية للإنسان تبدأ حينما يثق الإنسان بذاته وعقله وقدراتهما. وذلك لأن التطلع إلى الحرية بدون الثقة بالذات والعقل، تحول هذا التطلع إلى سراب واستلاب وتقليد الآخرين بدون هدى وبصيرة. لذلك فما لم يكتشف الإنسان ذاته ويفجر طاقاته المكنونة، لن يستطيع من اجتراح تجربته في الحرية وبناء واقعه العام على قاعدة الديمقراطية والشراكة بكل مستوياتها.

والعدالة هي الناموس العام والإطار الأكبر الذي يحتوي ويتضمن كل الفضائل والضرورات الدينية والدنيوية. والحرية لا تنمو في واقع إنساني بعيد عن مقتضيات ومتطلبات العدالة. إذ أن الظلم وهو نقيض العدالة، حينما يسود في أي واقع اجتماعي، فإنه يزيد من إفساد الحياة العامة، ويحول دون المساواة والحرية وكل الفضائل الإنسانية. فالظلم هو البوابة الكبرى لكل الشرور والرذائل، كما أن العدالة هي بوابة كل الحسنات والفضائل. ولذلك جاء في الحديث الشريف أن [العدل رأس الإيمان، وجماع الإحسان، وأعلى مراتب الإيمان].

ولو تأملنا قليلا في مضامين الحرية الإنسانية، نجدها حقائق جوهرية في مفهوم العدل والعدالة. فلا مساواة مع ظلم. لذلك فإن طريق المساواة هو أن يعدل الإنسان مع نفسه ومع غيره. كما أنه لا حقوق محترمة ومصانة للإنسان، إذا كان الظلم هو السائد، لأنه هو بوابة انتهاك الحقوق.

من هنا فإن طريق صيانة الحقوق، هو إحراز العدالة بكل مستوياتها وجوانبها.

وهكذا نجد أن كل تجليات مفهوم الحرية، ترجع في جذورها العميقة والإنسانية إلى قيمة العدالة. فهي طريقنا إلى كل الفضائل. ولا حرية خاصة أو عامة بدون عدالة في حقول الحياة المختلفة.

والعدالة كمفهوم في هذا السياق، هي أوسع وأعمق من القوانين والإجراءات الديمقراطية. إذ هي تتعلق بالممارسات والمواقف كما تتعلق بالبواعث والدوافع. فهي الدعامة الأساسية لأي نظام ديمقراطي حقيقي. والنظام الذي يفتقد العدالة، لا يمكن أن يكون ديمقراطيا حتى لو تجلبب بكل شعارات الديمقراطية. فالعدالة هي جوهر الأنظمة الديمقراطية، وهي جسر توسيع رقعة الحرية في مجالات الحياة المختلفة. وعلى هذا فإن الحرية هي ذلك الحيز الذي يستطيع فيه الإنسان التصرف في أموره وقضاياه دون أن يصل إلى ظلم نفسه أو الآخرين. بمعنى أن حدود هذا الحيز الذي يستطيع الإنسان التصرف في فضائه هو العدالة.

فالحرية تتسع وتضيق من خلال علاقتها بقيمة العدالة. وبهذا تتضح العلاقة العميقة في الرؤية الإسلامية بين مفهومي الحرية والعدالة. فلا عدالة حقيقية بدون حرية إنسانية، كما أنه لا حرية بدون عدالة في كل المستويات.

فالحرية لا تعني التفلت من القيم والضوابط الأخلاقية والإنسانية، كما أن العدالة لا تعني قسر الناس على رأي واحد وقناعة محددة. لذلك فإننا ينبغي أن ننظر إلى مفهوم الحرية بعيدا من لغة الحذر والتوجس والتسلسل المنطقي الذي قد يوصل إلى مساواة معنى الحرية إلى التشريع للانحراف والرذيلة، ونعمل على توضيح العلاقة الجوهرية التي تربط معنى الحرية مع مفهوم العدالة. وبالتالي فإن الحرية عامل محرك باتجاه إنجاز مفهوم العدالة في الواقع الخارجي. كما أن العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية هي التي تكرس مفهوم الحرية في الواقع المجتمعي.

وعلى هذا فإننا لا بد أن " نميز بين الحرية كحق اجتماعي والحرية كخطوة وجودية. كحق، لا تشمل الحرية خيار ما هو محرم، ولكن كحالة وعي وجودي فهي تشمل جميع الاحتمالات، كما سبق وبينا. ففي المفهوم الوجودي يستطيع الفرد أن يقرر ما يشاء وهو عالم بتبعات قراره، ولا يحتاج إلى إجازة من أحد، بينما طالب الحق مقيد بما هو مجاز، ومن ذلك شرعية المطالبة بما هو محرم، ولكن ليس باختيار المحرم.

وأخيرا، لا بد أن نتذكر أن ما هو جائز يظل أمرا خاضعا لتفاسير مختلفة، باختلاف الأفراد والجماعات.

المفهوم الاجتماعي للحرية يتعلق بخيارات متاحة في حيز مباح، كالتعبير الخاص والعام عن الآراء والأفكار، والعمل السياسي بمختلف أوجهه، وحرية العبادة والمعتقد، والبيع والشراء والتعاقد وغيرها، وهي في مجملها حقوق محددة المعالم ومكتسبة، وما هو مكتسب بفعل اجتماعي يفقد بقرار اجتماعي. إن نقد الحكومة والقانون في النظام الديمقراطي حق قائم، ولكن مخالفة القانون أو التمرد عليه غير مباح، المباح هو العمل على تغيير الحكومة والقانون بالطرق المشروعة ".

فأجواء الحرية وممارستها تحسن من قدرات المواطنين، كما أن العدالة ومتطلباتها توجه هذه القدرات باتجاه القضايا والموضوعات ذات الأولوية. فكلما تتوسع مساحة تأثير العدالة في المجتمع، فإنه يفضي إلى تكريس قيم الحرية ومفرداتها المتعددة في الأمة والمجتمع والوطن. فالحفاظ على الحرية يقتضي ممارسة العدالة في مختلف المستويات. كما أن ممارسة الحرية تكون في فضاء الالتزام والتقيد بمتطلبات العدالة. لذلك لا يجوز أثناء ممارسة الحرية الإضرار بالغير. فلا يجوز من الناحية الشرعية والفقهية مثلا أن المالك لأرض في حي سكني، أن يبني عليها مصنعا يلوث البيئة والهواء ويؤدي إلى الإضرار بالجيران. فممارسة الحرية في الملكية، ينبغي أن يكون في إطار العدالة. وأية ممارسة تتجاوز هذا الإطار أو تضر به، فإنها تصبح ممارسة غير شرعية. فالإنسان الذي لا يتمتع بالحرية، لا يستطيع إنجاز عدالته. كما أن الإنسان الذي يعيش واقعا اجتماعيا بعيدا عن العدالة وتسوده حالة الظلم واللامساواة، فإنه لن يستطيع أن يدافع عن حريته ويجذرها في واقعه العام.

ولكن لا يمكن أن يتم الحفاظ على حقوق الأفراد والجماعات ومكتسباتهم الحضارية بدون العدالة. فهي حصن الحقوق، وهي بوابة الأمن الشامل. وبدونها تشيع الفوضى، وتزدهر الفتن والإضطرابات، وتزداد أسباب الاحتقان والانفجار في المجتمع. فالعدالة بمفرداتها (القسط والبر والإحسان) هي التي توفر الأمن والاستقرار في حياة الأفراد والجماعات. فلا فلاح إلا بالعدل، فهو سبيلنا الوحيد لإنجاز الاستقرار والأمن والتقدم. وإن الخروج من سجن التخلف والتأخر إلى رحاب التقدم والحرية والتطور بحاجة إلى العدالة..

وإن جوهر التقدم الإنساني والتطور البشري، هو الحرية، حرية الاختيار والتعبير، ونفي الإكراه بكل صوره وأشكاله، وغياب الحتميات التي تحول دون ممارسة الإرادة الإنسانية.

- انتهى –

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

صار حرق المصحف الشريف ظاهرة ببلد عريق في حرياته وديمقراطيته مثل مملكة السُّويد؛ مملكة قصدها اللاجئون مِن مختلف بقاع العالم، حيث يوجد التَّوتر، أو انهيار الاقتصاد، وحصة المسلمين بينهم الأكبر. فسمحت السُّويد بتشييد المساجد والمعابد، بعرضها وطولها، ولكلّ عقيدة دينية حقها في ممارسة طقوسها، مثل بقية بلدان القارة الأوروبيَّة، غير أنَّ الوجود الدّينيَ المختلط، وبهذه الكثافة، بحاجة إلى ضمان قانونيّ لحمايته، والحول دون تحوله مِن نعمة التَّعايش والتّساكن إلى نقمة الكراهيَّة، بإثارة الغرائز المتطرفة، التي طالما توجعت منها السُّويد والعالم بأسره.

أخذ كتاب المسلمين، وهو تاج مقدساتهم، يُهان بالحرق بين فترة وأخرى، مارسه متشدد، لا يقل عن متشددينا إيذاءً، يدعى راسموس بالودان، ومارسه اليوم سويدي بالتجنيس يدعى داس سلوان موميكا، ولأن السُّويد بلد قانون وشريعة مدنيّة، لا يمارس التّظاهر فيها إلا بإجازة مِن شرطتها، وبالتّالي يكون الحرق قد تم بموافقة رسمية، وهذا ما نفهمه، وليس لنا بالتفاصيل.

بيد أنّ الأغرب والأعجب أن يحصل هذا التصعيد بالكراهيَّة ضد المسلمين، وقد كان ملكها في القرن التَّاسع عشر خصص جائزتين لأعمال بحثيّة وثقافيّة تخص الشرق الإسلاميّ، خصصهما الملك أوسكار الثَّاني (توفي عام 1907) ملك السُّويد - كانت والنّرويج مملكة واحدة - جائزة تمنح لمَن يؤلف كتاباً في تاريخ تمدن العرب قبل الإسلام، ففاز العلامة محمود شكري الألوسي (توفي عام 1924) بكتابه «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب».

قدمت عدة أعمال، لكن الجائزة ذهبت إلى الألوسيّ، وقد أرخ تلميذه محمَّد بهجة الأثري للجائزة التي حصل عليها أستاذه. كُلفت قنصلية السُّويد بالقاهرة بالمراسلات والتنسيق. وصلت رسالة موقعة مِن قِبل القنصل بالقاهرة، الكونت كرلو دي لندبرغ، إلى الألوسي، مؤرخة في الرَّابع مِن يوليو (تموز) 1882، وبعدها بحين استلم البشارة بنيله الجائزة في رسالة أخرى مِن القنصل نفسه المؤرخة في الخامس مِن نوفمبر (تشرين الثَّاني) 1889 (أعلام العِراق سيرة الإمام الألوسي الكبير).

كان الوسام أو الجائزة ممهورة باسم الملك أوسكار الثَّاني، وقد أشارت مجلة «الهلال» المصريَّة إلى اهتمام الملك بالآداب الشّرقيَّة، وزينت الجزء السَّادس منها، بصورة الملك، في عددها 15 نوفمبر (تشرين الثَّاني) 1897 موشحة بعبارة «نصير العلم والأدب وخصوصاً الآداب الشَّرقية».

حضر وفد مصري للمشاركة في المؤتمر العلمي للمستشرقين (1889)، المقام باستوكهولم، الذي أعلن فيه الفائزون، فيرصد أحد مرافقي الوفد يوميات رحلته إلى أوروبا، ويُصنف فيها كتاب «إرشاد الألبَّا إلى محاسن أوروبا» (مطبعة المقتطف 1892). كان ضمناً قد رصد ندوات المؤتمر وجلساته، تعذر على الألوسي الحضور، فتلي أمر الملك: «منح مؤلف (بلوغ الأرب) الميدالية الذَّهبية المعدة للفنون والعلوم، ليحملها على صدره معلقة في شريط واز (هكذا وردت)، وسترسل تلك الميدالية إلى الشَّيخ الألوسي بواسطة سفير مملكة السُّويد والنَّرويج (بالقاهرة)» (إرشاد الألبَّا، ص 626).

أنجز الألوسي كتابه «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب»، حسب خاتمته في نهاية الجزء الثَّالث منه عام 1304هـ/1887م، أي عمل فيه عاماً كاملاً مِن تاريخ تكليفه، ثم نُشرت طبعته الأولى عام 1314هـ/1896م، وذلك حسب مقدمة الكتاب للأثري، طُبع بثلاثة أجزاء. بعد إنجاز الكتاب أُرسلت مخطوطته، وفاز بالجائزة. مِن فحوى الرسالة الأولى يغلب على الظَّن أن الألوسي كان قد عمل في مثل هذا الكتاب قبل التكليف، أو كان لديه مخططٌ أرسله، فجاءت الموافقة على العمل فيه، أو أن رسالة التكليف لم يعثر عليها الأثري وينشرها، كلُّ هذا وارد.

تسلم الألوسي رسالة من القنصل العام لمملكة السُّويد بالقاهرة؛ يبلغه فيها بفوز كتابه في المسابقة والجائزة الملكية، جاء فيها:

«حضرة العالِم الفاضل السَّيد محمود شكري أفندي أعزه الله. أيد الله الأستاذ وشرح بالمعارف صدره، ورفع بالكمالات قدره، ولا زالت تُحييه المعالي، وتخدمه بأبيضها وأسودها الأيام والليالي. نكتب إليه وفضله لدينا أظهر مِن الظُّهور، وأشهر مِن كلِّ مشهور، معتقدين أن يسرّ بما نتلوه عليه، إذا ألقى بمقاليد سمعه إليه، وذلك أن كتابه بلوغ الأرب جليل في بابه، وقد استحق التقدم على أضرابه، فإن جميع الكتب التي وصلتنا، في هذا الصَّدد، مع ما بلغت إليه مِن كثرة العدد، واختلاف مصادرها شرقاً وغرباً، وبُعداً وقُرباً، مِن أوروبا ومصر والشَّام والعِراق، وغيرها مِن الآفاق، لم يحصل سواك في أربابها أحد، على تلك الجائزة، التي سبق بها الوعد، لأن الموضوع واديه عميق، بعيد الطَّريق، غير أن كتاب الأُستاذ أجمع الكلَّ مادةً، وأوسعها جادةً، فلذلك أنعم عليه صاحب الجلالة مولانا ملك السُّويد والنَّرويج بنيشان مِن ذهب، أخضر العلاقة لا أخضر الجلدة مِن بينت العرب، وهذا النّيشان لا يناله إلا عالم فاضل، وقد خُصص به الأستاذ دون سواه على كثرة الآمل. فيجعل صدره له حلية، وليفخر به على نظرائه، فإنما يُحسن الفخر على العلية. وليعلم أننا قد عزمنا على طبع ذلك الكتاب، تخليداً لمآثر صاحبه في خزائن الأدب، فلينشط لمثله همته، وليُجرد على أعناق الخمول عزمته، والسَّلام عليه ورحمة الله» (القاهرة 12 ربيع الأول 1307هـ المصادف 5 نوفمبر/ تشرين الثَّاني 1889م).

تمعنوا في فقرات رسالة القنصل ووكيل مملكة السّويد أعلاه، وما بها مِن اهتمام وموضوعيَّة، ومحاولة اقتراب مِن الشّرق الإسلاميّ، وانظروا إلى ما يمارس على أرض تلك المملكة مِن تهييج للمشاعر، واتجار بالكراهيات، والدولة السُّويدية قادرة على لجم مثل هذا التَّهور بالحريات، فما حصل سيترجم وبطرفة عين إلى دماء وأشلاء.

أقول أين سويد الأمس عن سويد اليوم؟! سيقول قائل: إنها الحرية والتعبير عنها، ولكن على ما يبدو أنّ ضرر التَّضييق على الحريّة، الذي تدافع عنه السّويد، كبلد حريات، لا يختلف بشيء عن فوضى التَّعبير عنها، وبإجازة رسميَّة. يوم منحت الجائزة، التي وصلت إلى محمود شكري الألوسيّ، مِن السّويد عبر القاهرة إلى بغداد، لم يعرف عنها إلا قلة مِن النَّاس، قد لا تتعدى الحاضرين في احتفال إعلانها، لكن «حرق المصحف» اليوم علم به العالم بأجمعه، وبالصورة والصّوت، فأقطاب الأرض واتجاهاتها الأربعة طويت كأنها الخاتم. فكيف يكون حرق كتاب يقدسه أكثر مِن مليار إنسان حرية تعبير؟! إن مثل هذا الفعل، الذي أضاع ما سعى إليه ملوك السّويد الأوائل، سيوّلد كراهيات، ويؤسس لجماعات متطرفة، تنتظر استفزازاً يستفزها، كي تعود التفجيرات والكارثيّة، وكأن هناك مَن خسر وجودها مِن ساسة الغرب!

***

د. رشيد الخيون

جيوما پولينييه Guillaume Apollinaire (1880 – 1918) شاعر وكاتب وناقد فني يعتبر من اهم الادباء في جيل الرواد الطليعيين Avant-Garde، وابرز من أسسوا للثقافة الفرنسية الجديدة التي تبلورت في مطلع القرن العشرين. وهو أول من بدأ التنظير في الفن الحديث فكتب عن التكعيبية وهي ما تزال في المهد.

فيما يلي مقتطفات مختارة من اهم ثلاثة نصوص كتبها پولينييه عن الفن الحديث والتكعيبية بين 1911 و1913. وهي النصوص التي تضمنها كتاب Art in Theory: An Anthology of Changing Ideas 1900-2000 الذي حرره چارلس هاريسن و پول وود والمنشور من قبل مؤسسة بلاكويل عام 2003.

ولابد لي في البدء أن اقول بأنه كان صعبا علي ان ارى بأن ما كتبه پولينييه يعتبر من قبيل النظرية، كما اشيع خلال اكثر من قرن من الزمن! إذ ان تصريحاته الوصفية المنطوية على العاطفة واللغة الشعرية لم تتح المجال لتأسيس اي قواعد نظرية، ولم تحتو على أي تحليل علمي، في اعتقادي. ولكن يبدو لي ان المقصود بالـ "نظرية" هو "الرأي"! وهذا هو الاستعمال الشائع للكلمة، فنقول مثلا "ماهي نظرية فلان في هذا الحادث" أو كما يسأل الحاكم "ماهي نظريتك في الدفاع عن نفسك". بهذا المعنى، نعم، اقول ان هذه هي آراء پولينييه، وليس نظرياته. فالاكاديميون الذين يبحثون فيما كتبه الاوائل عن نظرية بمعناها العلمي، لا يجدونها.

النص الاول هنا هو مقالة پولينييه الموسومة "التكعيبيون" المنشورة في : L’Intransigentالباريسية في العاشر من اكتوبرعام 1911.

كان تركيزه في هذا النص على التمييز بين الخصائص النوعية للتكعيبية بالمقارنة بمدارس فنية معاصرة كالانطباعية والوحشية. يرى پولينييه ان التكعيبية ليست صرعة فنية طارئة، انما مدرسة رصينة لم تتخل عن المبادئ الفنية الاولى المستندة على الخط والكتلة والفراغ واللون والانشاء. ولو انها كانت برغم تمسكها بتلك الجذور صدمة للمتلقي الذي تعود ان يرى الاعمال الانطباعية بهارمونيتها الساحرة ودقة وانسجام تفاصيلها. فها هو الآن امام تناوب السطوح بين الظل والنور حيث يفرض خيال الفنان حضوره المتميز من دون حشر اللوحة بالتفاصيل الفوتوغرافية ولا بخزعبلات الفن المفرط بحداثته الثورية. ان هذه المدرسة الجديدة ستمثل تيارا جادا ونبيلا ومؤهلا لطرح الاعمال المذهلة التي لم يخطر على بال الانطباعيين او الوحشيين اعتبارها. ويضيف: سأذهب ابعد من ذلك لأقول ان هذه التكعيبية هي اكثرالمدارس الفنية فخامة وتهذيبا في مسيرة الفن الفرنسي.

النص الثاني هو مقالته الموسومة "حول الموضوع في الفن الحديث" المنشورة في Les Soirees de Paris في شباط عام 1912.

يعتقد پولينييه انه طالما بدت التكعيبية وكأنها بداية الطريق للتجريدية، فان ذلك أجاز لموضوع اللوحة ان يحضر أو يغيب. وحتى في حضوره المحدد فان عنوان العمل قد يصف الموضوع او لا يصفه، وقد لاينطبق بالضرورة على مانراه في سطح اللوحة. ومن هذا المدخل نستطيع ان نتبين نزوع بعض الفنانين لاستخدام عناوين شعرية مثيرة لا علاقة لها بالمحتوى، أو عناوين عامة بديهية كأن يكون عنوان اللوحة "كرسي" أو "كتاب على منضدة" من دون ان يرى المتلقي اي اشارة بصرية للكرسي او الكتاب والمنضدة.

يفخر پولينييه بالتكعيبية بانها المدرسة التي تقدم لنا فنا، تماما غير الذي كان، خاصة بمعنى الاقلاع عن ما يحاكي الواقع الفيزياوي. وبذلك فلم تعد متعة المتلقي، كما كانت تجاه اعمال الفنانين الاوائل، مقرونة بطبيعة خلابة قد تكون ازهى واجمل من الواقع، أو نساء عاريات تقترب اجسادهن الى كمال الملائكة، أو تفاصيل مدروزة ومصقولة باعلى درجات الحرفة. فالفن الحديث بهذا المعنى وخصوصا التكعيبية معنية بان تقدم للمتلقي فنا اجردا متقشفا منزوعا من التزويق وخال من الزينة. ويعتقد بأن مثل هذا التجرد والغموض هو سبب تصاعد شعبية التكعيبية بين طبقات المجتمع الراقية، ذلك ان واقعية الفن بمواضيعه الواضحة ومعانيه المدروسة المؤثرة اصبحت في عداد الماضي وبقيت تثير الجمهور الذي لايتطلع الى التغيير. ويضيف بانه اذا كان المتلقي اليوم يبحث عن امتاع عينه واشباع جوارحه بما يتوقع ان يوفره الفن، فان عليه ان يبحث مليا الآن عن منابع اخرى للامتاع ليجد ضالته في التكوينات التكعيبية الساحرة. وهذه هي مهمته الجديدة، ولا خوف على الطبيعة والواقع الذي يعكسها لانها ستبقى مشرعة الابواب كمصدر اولي للامتاع.3421 نظرية الفن

التكعيبية فن نقي نبيل! يعيد هذه العبارة مرارا وتكرارا ويقصد انه فن خال من الزوائد والشوائب والمتعلقات، ويشبهه بالموسيقى باعتبارها الفن عالي المقام الذي يثير حواسنا ويهيج عواطفنا دون ان نشعر بالحاجة لوجود موضوع او معنى او اي شئ يحاكي الطبيعة ويعيد صورة الواقع. ويتوقع ان ينتشر هذا الفن الجديد ويطغي على الحيا ة الثقافية لكنه سوف لن ينبذ الطبيعة واستلهام الواقع ولا يتسبب باندثار الفن التقليدي. ذلك انه مجرد طعم جديد لمتعة الفن مثل طعم التدخين بعد الاكل بالنسبة للمدخن.

ويعرج على استحدام التكوينات الهندسية التي تميز التكعيبية والتي كانت موضوع انتقاد من قبل الجمهور الاول. يؤكد ان التكعيبيين، بالرغم من عملهم الدقيق كعمل خبراء الرياضيات، لايطمحون ان ينافسوا او يغيروا من هندسة اقليدس Euclidean Geometry لكنهم يوظفونها كما يوظف الكتاب والشعراء قواعد النحو في نتاجاتهم. انهم يستخدمونها للتعامل مع فضاء اللوحة من اجل تنغيم انشائها. وهم في ذلك يتحلون بالعناية والدقة والحذر كما يعمل الطبيب في تشريح الجثة. ويذهب ابعد من ذلك فيقول ما معناه ان التكعيبية في توظيفها للتكوينات الهندسية تتسامى الى عالم لا نهاية له. انها تتخطى استخدام الابعاد الثلاثة وتسمو الى بعد رابع فتصبح تناسبات الاجسام في الانشاء الفني غير ما هي عليه في الواقع الفيزياوي. بعبارة اخرى يصبح التناسب مركّزا وعقليا بدلا من كونه حسيا وعاطفيا كما نحسه في الرسم التقليدي. أي الانتقال بنسب الاشكال من التصوير الحرفي الى عالم آخر مفترض! وبهذا يتسع التعبير عن الاشياء الى ما لا نهاية له من تجسيدات تشكيلية. ويكرر بان الفنانين المجددين لايحصرون تصوراتهم في صندوق الابعاد الفيزياوية الثلاثة الضيق، بل لابد لهم من التحليق عاليا والامساك بالبعد الرابع.

المنشور الثالث هو كتاب پولينييه الشامل الموسومCubistes Meditations Esthetiques: Les Pentres المنشور عام 1913.

في هذا الكتاب يعود پولينييه لموضوعة الواقع فيؤكد اولا ان التكعيبية تختلف عن بقية المدارس بانها ترفض تصوير الواقع كما هو بل تميل ان تكون نتاجاتها مفاهيمية خلاقة. فحين يقوم الرسام بتكعيب قسمات المشهد، سوف لن يكون بالضرورة ان يظهر المشهد كما هو عليه! وهنا يكمن فعل الخلق والابداع. أي ان الرسام يقدم المشهد بمفهومه الخاص الذي يختلف ظاهريا عن المشهد كما نراه.

ويواصل ليميز بين انواع مختلفة من التكعيبية:

التكعيبية العلمية Scientific Cubism

التي يصفها بانها انقى صنوف هذه المدرسة التي تتلخص برسم المشهد ببناء جديد ولكن باستخدام عناصر مأخوذة من المشهد، ليس بواقعيتها، انما بالهيئة التي يتصورها الرسام ذاتيا. وهذه العناصر التي يستعيرها الرسام كمواد ضرورية لتشكيل البناء الجديد هي التي تسهم في تمثيل جوهر ذلك المشهد. وما نرى من تشكيلات هندسية ماهي الا اشارة لذلك الجوهر.

التكعيبية الفيزياوية Physical Cubism

هي التي تبقى مخلصة للطبيعة الفيزياوية للمشهد فتستعير العناصر التي تحتاجها من الواقع البصري للاشياء. وهنا يعتقد پولينييه ان هذا الصنف لا يحقق النقاء الكافي الذي تسعى اليه التكعيبية العلمية.

التكعيبية الأورفية Orphic Cubism

نسبة الى الاله الاغريقي أورفيوس Orpheus وهي التي يعمد فيها الفنان لصنع تلك العناصر بدلا من استعارتها من الواقع البصري او المفاهيمي. وهي بذلك، حسب مذهب پولينييه، فن نقي صافي كما تهدف اليه التكعيبية الاصيلة. وهذا الصنف له القدرة على ان يمنح المتلقي متعة فنية مباشرة وعظيمة.

التكعيبية الحدسية Instinctive Cubism

هنا لايميل الفنان الى استعارة عناصر بناء المشهد التكعيبي، لا من الواقع الظاهري ولا المتخيل، انما يعتمد الفنان على حدسه وبديهته وامكاناته الغريزية لهضم المشهد وتحليله لعناصره الاولية واعادة تشكيله بما يراه الفنان مناسبا. قد يفتقر هذا الصنف الى المذهب الجمالي الذي يربطه ببناء التكعيبية الاصيل.

وينتهز پولينييه هذه الفرصة ليقول : التكعيبية تتطلب النظرة الجمالية المثالية التي تقدم نفسها بجرأة وهي تقطع وشائج الصلة بالواقع الفيزياوي للاشياء. ويؤكد مرة اخرى بانها فن نبيل مفعم بطاقة الفنان الشجاع الخلاقة، ويصفها بانها فن النور المتوهج. يدرج پولينييه الرسامين الذين يراهم أعمدة التكعيبية الاساسيين. فيما يلي الرعيل الاول كما يراه پولينييه:

- پابلو پيكاسو Pablo Picasso

يصف پولينييه بيكاسو مرة اخرى بالطبيب الذي يدرس تضاريس الجسم قبل تشريحه. ويقول انه رغم ميله لتسطيح الاشياء فانه يبني تلك السطوح المستوية بطريقة شاملة لتظهر وكأنها اشياء مجسمة ذات احجام مختلفة.

- جورج براك Georges Braque

يقول عنه ان هذا الفنان الملائكي الشجاع هو أول من استخدم الطابع الهندسي Geometrical للاشياء عام 1908، والذي كان متناغما مع حالة المجتمع آنذاك، فكان فنه معبرا عن الرقة والهدوء، جميل ومشع كاللؤلؤ.

- جان متزنگر Jean Metzinger

يصفه پولينييه بأنه التكعيبي الثالث بعد بيكاسو وبراك. ويقول انه فنان رائع لم يعطه الجمهور حقه المستحق. يمتاز بتصميمه الساحر وانشائه المتقن وتميزه بتضاد الظل والنور.انه ثمرة المنطق الدقيق الذي اعطانا فنا نقيا خال من كل غموض او تشويش ومفعم بالضوء والوضوح.

- ألبرت گليسز Albert Gleizes

يصف پولينييه هذا الرسام بأنه فنان الانسجام الجبار ذي السطوة الآسرة الذي يرسم بعقل وتبصر في فنه الجديد الذي يريد له ان يعود الى المبادئ الاولية بتكوين ساحر ذي جلال دراماتيكي.

- هوان كرس Juan Gris

وهذا هو فنان التكوينات العلمية الذكية التي تجسد ذلك الصفاء والنقاء الذي تنشده وتتميز به هذه المدرسة الجديدة.

- فرناند ليجيه Fernand Leger

يقول پولينييه "احب هذا الفنان الموهوب" الذي يقدم اعمالا جدية لاتستكين للتأثيرات الهابطة ولاتعتذر عن جرأتها وشجاعتها.

- فرانسز پيكابيا Francis Pikabia

تشكل اعمال هذا الفنان انتقالة منيرة وهي لاتنشد الترميز للموضوعات ولا تأبه بمعانيها ودلالاتها، بل تعتبر اللون هو البعد المثالي للتشكيل.

- مارسيل دوشامپ Marcel DuChamp

هذا هو الفنان المصر على قطع الوشائج مع الفن التقليدي لكنه يستخدم الفورم واللون، ليس لمحاكا ة أي شكل في الواقع، انما لاختراق جوهر الاشياء من أجل ان يضعه على الكانفس مع تجرده الكامل عن المفاهيم التي سبق ان ترسخت في ملكة عقله.

***

ا. د. مصدق الحبيب

(يا واد يا يويو يا مهلبية

فوق الصواني

سايحه وطريه

فى كل جلسه تلبس قضيه

وتخيل عليها

يا مشخصاتي

حسب الوظيفة .. ) أحمد نجم فؤاد

ليعذرني شاعر مصر الكبير الراحل أحمد فؤاد نجم، وأنا أتماهى بافتتان وخجل مع عنوان قصيدته الباذخة ( ياواد يا يويو)، حيث ينتقل بنا عبر خيال تصويري شفيف، من وصف ذيل السلطة، المائل المتلون، الخفيف العجيني، الساخر المتذلل، إلى الأدوار السخيفة التي يؤمر بأدائها تحت الطلب، بكل أبعاد العبودية والتبعية والامتثال. فالمثقف "اليويو " هو هو كائن سيروري متغفل لا يتغير، مطبوع على السمع والطاعة، أعمى الرؤية والبصيرة، لا يجد مانعا من تدوير علاقته بالقابض على السلطة، متقمصا أعنة الهش، حتى يصير خوَّارًا ضعيفًا، يقايض ويناقض، يحاذر ويمتهن، بكل إيقاعات التخفي والتقنع بأشكال الكمون والاستعلام...

وهو على هذا النحو من البشاعة، يقارب عين حجة الاعلامي، ربيبه في العته، وناقله في الطريق والطريقة. وإن كان المفهوم الصحيح للاعلامي مخالف لما هو رائج اليوم، وما ينتبد من تشوهات الممارسة الإعلامية وأخلاقياتها الحذيرة.

وإذا كان المثقف يجتز قطائعه المعرفية وأبنية تصريف هذه الملاذات، من واجهة موقعه كفاعل إصلاحي ومجتمعي عضوي، فإن الاعلامي يترجم هذه الفعالية على مبضعين متنظمين، واحدتهما المعرفة بالأخلاق وفهمها وتأسيسها، وثانيثهما نشرها ومراقبة تنفيذها ورصد تأثيراتها على المجتمع والإنسان. وهو على هذا، فإنه الأقرب إلى الفعل العضوي منه إلى العمل المحدود.

فمن يرتضي قلب منظومته إلى مجرد لعبة أطفال، تستعاد نقرتها على المساحة فور انتهاء مهمتها في التحرك والمراوغة، ثم الالتفاف والتخفي؟ هل هو الاعلامي "اليويو" أم لعبة التحفيز على رهن المجتمع والحرية والمساواة والعدالة؟.

عندنا في تاريخ لعبة "اليويو" التي يطلق عليها باللهجة المغربية الشعبية "الطرمبيا"، يقتضي أن يستأثر اللاعب بها، بكل ماجريات الميدان. من واقع الأرضية ومحيطها وزمنها وشخوصها المحتملين.

وإذا انزلقت إحدى ورقاته عن تضمين روح هذه الخريطة، يصبح النفاذ لقاعدة اللعبة منذورا للتشوه والابتذال، والنقص والتقصير في تشكيل المنتوج وتحقيق أهدافه.

فالمثقف الذي لا يستحضر بدائله الإصلاحية، ولا يرتقي بمواقفه وقناعاته لمراتب التأثير وإحداث التغيير والتحول الديمقراطي، هو في مرتبة الاعلامي "اليويو"، المتصنع، الواجهة المدلسة للسلطة الآمرة، يستطيع أن يبيع أصوله الأخلاقية، ويعرض خدماته المحضية لمن يدفع الثمن؟!.

ولا يبقى لمثل النموذجين قائمة، فالتاريخ لا يرحم المدلسين، ولا يفتدي معدومي الضمير وبائعيه.

فانظر كيف رفع شأن الأصفياء القابضين على الجمر، ممن سجلوا مواقف الفخر والعزة والحرية الشامخة، كما هو الشأن بالنسبة لمواقف وآراء لازالت محفورة في ذاكرة التاريخ، نذكر من بينها مثالا لا حصرا، موقف الفيلسوف الفرنسي الفرنسي جون بول سارتر الذي أبدى النظر بكل تجرد من مسألة استعمار بلاده للجزائر، رغم صعوبة وضعه كمثقف مقرب من محيط الحكم، وهو ما اعتبر التزاما حقيقيا، بمحافظته على مبادئه حتى وإن اقتضى منه ذلك الوقوف ضد سياسة الدولة التي تحتضنه.

"إن قول الحقيقة وتصرفها بثبات ودقة يكاد يكون صعبًا، وربما يكون جادًا، مثل التحدث عنه تحت الترهيب أو العقوبة" كما يذهب إلى ذلك جون روسكين، لكن الافق الصعب غالبا ما يخرج من الآلام المبرحة، تلك التي ينتظرها الضمير الجمعي لتصير سلوكا بارا وقدوة يحتذى بها، كبذور الغموض عند لاوزي، بذور "تكمن في المياه الموحلة". يسائلها "كيف يمكنني إدراك هذا اللغز؟ يصبح الماء صافياً من خلال السكون. كيف يمكنني أن أصبح ساكنا؟ عن طريق التدفق مع التيار".

هذا المسار الطاعن في الحكمة هو السبيل الوحيد لضبط بوصلة النخب الثقافية والسياسية والاعلامية، حتى نتمكن من تصفية مياهنا السخيمة بقليل من السكون الذي يتدفق فينا مع تيار لا يرحم ؟!.

***

د مصْطَفَى غَلْمَان

"الم. تلك آيات الكتاب الحكيم. هدىً ورحمةً للمحسنين".. لقمان4

مدخل الى كنه الحرف..

يعرف الحرف لغة على إنه الطرف والجانب ومنه قوله تعالى (ومن يعبد الله على حرفٍ فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه).. الحج11 اي على طرف وجانب من الدين، ومثله حرف السيف وحرف الجبل وحروف الهجاء (اطراف الكلمة).

ويعرف الحرف اصطلاحا بأنه لفظ يدل على معنى من خلال كلام.

وإذا أردنا أن نجد تعريفا منصفا للحرف فنقول إنه أصغر وحدة لتكوين الكلمة. وقد أختلف العلماء في عدد الحروف الهجائية، فذهب بعضهم إلى انها 28 حرفا على اعتبار إن الالف والهمزة حرفا واحدا، وذلك لأن الالف يسمى همزة وتنطق نطقها وهذا مادعا إليه الخليل بن أحمد الفراهيدي وطائفة أخرى من علماء اللغة، والحروف نوعان:

- حروف مبانٍ: هي التي تبنى منها الكلمة ويطلق عليها (حروف التهجي)

- حروف معانٍ وهي الحروف التي لها معنى مع غيرها مثل (حروف الجر).

وقد اختص علم الصرف بأبنية الكلام (اسم، فعل، حرف) واشتقاقاته، والميزان الصرفي هو المعيار الذي تقاس به الكلمة لضبط بنيتها ومعرفة حروفها من حيث اصالتها وزيادتها والمحذوف منها وهيأتها وضبطها بالحركات ومايعتريها من تغييرات.

وقد تناول علم الصرف الكلمات (الاسم الاصلي، والاسم المعرب) فوجد انها غالبا ماتكون على ثلاثة أحرف أصلية لذلك جعلوا ميزان الكلمة على ثلاثة أحرف هي (الفاء والعين واللام) وقد أختيرت كلمة (فعل) للفعل الثلاثي و (فعلل) للرباعي، وان سبب اختيار هذه الاحرف (ف، ع، ل) جاء للاسباب التالية:

- إن الفعل هو أعم الاحداث، وكل مايصدر عن الجوارح هو فعل مثل: قرأ كتب، سمع، قال، وهكذا.

- إنها تمثل مخارج الحروف وهي الشفة والحلق واللسان، فالفاء تمثل الشفة والعين تمثل الحلق، واللام تمثل اللسان.

وأما الفرق بين الحروف الاصلية والزائدة فهي كما يأتي:

- الحروف الأصلية: هي الحروف التي لاتحذف من الكلمة وإذا حذفت اختل معناها.

- الحروف الزائدة: هي الحروف الغير أصلية في الكلمة واذا حذفت لايحدث خلل في المعنى.

وتكمن أهمية الميزان الصرفي بما يأتي:

- معرفة الحروف الاصلية وتمييزها عن الزائدة وهي (س، أ، ل، ت، م، و، ن، ي، ه، ا) والتي تتجسد في عبارة (اليوم تنساه)-مع وجود عبارات اخرى- وهي على سبيل المثال لاالحصر

- الاهتداء الى مكان الكلمة في المعجم، فالمعجم مبني على الحروف الأصلية.

- معرفة الحركات والسكنات وطريقة نطقها ومعرفة مايزيد على الكلمة وماحذف منها، أو ماطرأعليها من تغيير في حروفها كالتقديم والتأخير.

وبعد هذه المقدمة البسيطة عن كنه الحرف وماهيته نأتي الى موضوع البحث وهو الحرف في القران الكريم.

والحقيقة يتناول موضوع البحث الحروف المقطعة أو النورانية في القران الكريم والتي حيرت العلماء والباحثين بتفسيرها، وقد خاض غمار هذا الموضوع الكثير من العلماء وتوصلوا الى نتائج شتى فهل أنصفوا الحرف باعتباره حرفا لذاته أو ضمن كلمة!

لنتأمل عدد الحروف العربية والتي عددها ثمانٍ وعشرون حرفا سنجد إن نصفها بالضبط، أي أربعة عشر حرفا وهو عدد الحروف المقطعة ولنطلق عليها في القرآن الكريم وهذا بحد ذاته إعجازلان الوسطية هي سمة من السمات التي دعا اليها الله في كتابه العزيز (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) البقرة 143، والحروف المقطعة-من الظلم ان نطلق عليها مقطعة لان كل منها آية والايات لاتقطع- والحروف بدون تكرار هي (أ، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ك، ل، م، ن، هـ، ي) والتي تتجسد بعبارة (نص حكيم قاطع له سر)، ومهما اختلف المفسرون في طريقة جمع هذه الحروف لتكوين عبارة مناسبة مع إن الله جل وعلا لم يشأ وضعها في كلمة أوجملة بل أنزلها كما هي.

فلنتأمل هذه العبارة التي ربما تكون الاقرب-وهذا لاينفي استقلالية الحروف- بشئ من التفصيل فقد وردت كلمة نص ورغم إن القران يتكون من الكثير من النصوص التي تتناول مجمل تفاصيل الحياة على شكل سور قرانية محكمة جاءت لتوضيح وتفسير كل أمر على حدة كالزواج والطلاق والميراث وغيرها من المواضيع التي تتصل اتصالا مباشرا بالحياة وأغلب القوانين المدنية استندت واعتمدت بشكل أوبآخر على هذه النصوص لكن ورود كلمة نص تدل على إن القران كل واحد لايتجزأ.

ثم نأتي الى كلمة (حكيم) وهي اشارة واضحة الى الحكمة الالهية التي وضعها الله في القرأن باعتباره كتابا مقدسا يدعوا الى الحكمة والموعظة، والحكيم من اسماء الله الحسنى.

ويلي الحكيم كلمة (قاطع) للدلالة على قطعية الحكم الصادر من الله جل وعلا، تليه (له) فاللام حرف جر والهاء ضمير متصل في محل جر بحرف الجر وشبه الجملة من الجار والمجرور في محل رفع خبر مقدم.

أما كلمة (سر) فهي المفتاح الذي يدعونافيها الله جل وعلا لتدبر كتابه (أفلا يتبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).. النساء82

 والحقيقة فعندما نخوض في أي موضوع فأننا نبدأ بالأصغر ثم الأكبر، وهو أمر منطقي للولوج الى أي موضوع، ونحن نبحر في عالم الحرف والذي يعتبر السر والمفتاح الذي ندخل منه الى عالم اللغة نجد إن الحرف الذي خصه الله بقسمه إنما هو سر من أسرار اللغة التي خص الله بها الأمة العربية وميزها على غيرها من الأمم (كنتم خير أمة أخرجت للناس) ال عمران 110 وهذا التميز يقابله تميز آخر وهو اللغة التي جعلها بلسان القرأن (وهذا لسان عربي مبين). النحل103

وإذا ماعدنا الى الحرف أو مجموعة الحروف المقطعة التي وردت في تسعٍ وعشرون سورة من سور القرآن والبالغ عددها أربعة عشرا حرفا كما ذكرنا والتي أطلق عليها العلماء اسم (الحروف النورانية) والتي اختلف العلماء في تفسيرها سنجد ان كل حرف من هذه الحروف هو آية قائمة بذاتها ولو شاء الله لجعلها ضمن كلمة لكنه جل وعلا خصّها بالقدسية وابتدأ بها اوائل السور فهل توجد حروف مقدسة وأخرى اعتيادية؟

في الحقيقة وبما إن كتاب الله كله مقدس وإنه جاء بلسان عربي مبين مايعني إن الحروف كلها مقدسة لكن الله جل وعلا قد جعل نصف حروف اللغة أكثر قدسية من الاخرى (ورفع بعضكم فوق بعض درجات).. الاسراء 21 وهذا التفاوت إنما لحكمة خص الله بها مايشاء من خلقه، ومادام الحرف آية فهو شأنه شأن المخلوقات الاخرى بحسب قوله جل وعلا (الم. تلك آيات الكتاب الحكيم).. 1 لقمان

وهذه الايات تشمل جميع الحروف المقطعة مثل (الم، المص، الر، كهيعص، طه، طسم، طس، يس، ص، حم، حم عسق، ق، ن)

ومما تجدر الاشارة اليه ان حرف (ن) جاء على صورتين في القران الاولى بشكله المستقل (ن) في سورة القلم والذي يعتبر من الحروف المقطعة أو النورانية حيث قال جل وعلا (ن والقلم ومايسطرون).. القلم1 وهنا ذكر المفسرون ان (ن) يعني الحوت استنادا الى قوله جل وعلا (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لاإله إلا إنت سبحانك إني كنت من الظالمين).. الانبياء 87

ومن المعروف إن ذا النون هو النبي يونس بن متى الذي بعثه الله لهداية قومه والقصة المعروفة عن ابتلاع الحوت له.

لكن في الحقيقة ان (ن) ليست هي نفسها (النون) والتي تعني الحوت كما ذكر العلماء، إنما جاءت بمعنى مختلف واختصت بشأنها لتكون آية مستقلة من آيات الله جل وعلا وسرا من أسرار اللغة العربية المقدسة والتي اكتسبت قداستها من قداسة القرآن (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل).. النحل101

هذه الايات وحروفها أنما تدعم بحثنا السابق عن اللغة والتي كما ذكرها القرآن هي أيضا آية خصنا الله بها لنحمده كثيرا ونسبحه كثيرا.

 هذه القداسة التي خصنا الله بها حين سخر آياته لتكون لنا قبسا لكي نحسن ضيافتها ونخصها بالشكر والثناء ونحمد الله علي جميل هباته وعظيم خلقه، فكم آية أنزلها الله لنا ليكرمنا بها وكم آية نزلت لهدايتنا سبيل الصراط، وكم آية نزلت لترينا الخيط الابيض من الاسود، وكم آية نزلت لبر الوالدين والاحسان لهما ولذي القربى، وكم آية نزلت وهي تحثنا حثا على احترام الاخر والعطف والمحبة ونشر السلام قال تعالى (وجعلنا آية الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب، وكل شئ فصلناه تفصيلا).. الاسراء12

***

مريم لطفي

في المثقف اليوم