قضايا

عبد الخالق الفتلي: أيُّ مستقبلٍ ينتظر العلوم الإنسانيّة؟

يُعرض هذا السؤال من وجهتين تاريخيّتين مختلفتين إلى حدٍّ ما عن بعضهما؛ فعندما يتساءل السياق الغربي ـ كما حدث في القرن الثامن عشر وبعده ـ فهو يريد الوجهة المنهجيّة المتمثّلة في الجدليّة الآتية: إذا كانت الأدوات التجريبيّة قد سبّبت تطوّرا هائلاً للعلوم الطبيعيّة، فهل يمكن توطينها في العلوم الإنسانية ليحدث لها ما حدث من قبل للعلوم الطبيعيّة، أم أنّ هناك حدوداً فاصلة بينهما تفرضها خصوصية كل علم وطبيعته المكوّنة لها والحوامل الحافة به.

وقد نتج عن جواب ذلك صراعات منهجية ما زالت أصدائها تتردد حينا بعد حين.

غير أنّ لهذا السؤال فحوى أخرى في السياق العربي وهي المعنيّة بهذه المقالة؛ إذ لكل خطاب ظروفه الخاصة التي أنتجته، وما تهيء لمجتمع ربما أصحرت عنه أسباب مجتمعات أخرى؛ فقد خسرت المجتمعات العربية أن تشارك في الثورة الصناعية، ولم يتاح لها تخليق أمن اقتصادي مستقر، ولا تكوين سياسة راشدة، وهي اليوم تتفرج على العولمة مذهولة مرّة ومتوجسةً الحذر مرة أخرى!

ولا يعني ذلك تفضيل جنس بشريّ على حساب الاستخفاف بأجناسٍ أخرى، ولا مضاهاة معطيات الآخر والتماهي معها، وإنّما هي فضيلة التبصّر في عواقب الأمم والتحوّط من مخاطر المستقبل.

وعلى هذا الأساس فإن تساؤل العربي: أيُّ مستقبلٍ ينتظر العلوم الإنسانيّة؟

يراد منه قبل كل شيء انقاذ هذه العلوم من التحيّز المزاجي والعاهات الاجتماعيّة؛ واحتراز الخلط بين ما هو علميّ صرف وما هو خارج عن جنس العلم، وإذا كان العلم يوالي العقل فهو بريء من الولاءات الخارجة عنه.

ولا يتحقق ذلك ولن يتحقق إلا بسياسة وازنة، تحفظ الحقوق الاقتصادية والعلمية للمجموعات الإنسانيّة، وبيان ذلك بايجاز مؤثَر؛ إذ يلحظ أنّ أرهف الشباب عقلاً يتسابقون على الاختصاصات الطبيعيّة، لسبب أوحد وهو ما تؤهله لهم من دخل مالي يناسب تحقيق أمانيّهم، غير أنّ هذا يرتد عكسيا على الاختصاصات الانسانيّة، إذ يبقى لها من هم أقل رهافة، وبسوء هؤلاء تسوء مخرجات هذه التخصصات، وهذه حلقة جهنمية تنذر بمستقبل وعيد.

وإذا كان تراجع الانسانيات رهن السياسات الهشة، فإنّ التغيّر الراشد للثانية يطوّر من شأن الأولى، وعلى هذا الأساس يحوز المرء نصف العلم أو بعض ذلك إذا قال لا أدري متى يحصل التغيير ولا كيف يحصل، ولكنّ سننَ التّاريخ تُطلع الناظر أنّ من شأن الأزمات أن تهيئ أسبّاب التغيير وتفسح براحاً له، وهو آت لا محالة.

ويتفرّع عن تلك الحلقة خطر آخر يتمثّل بإكبار المجتمعات لرونق التخصص العلمي واشاحته عن دور التخصصات الأخرى، ولا يمكن ردم هذه الفكرة إلا بالضمان العلمي المُنتج للمجموعات الإنسانية بالتآزر مع الحقّ الاقتصادي لها.

وما أعنيه بـ (الضمان العلمي المنتج) أن يكون للمجموعات الإنسانية دور يكافئ في أهميته المجموعات العلمية من حيث فض إشكاليات الواقع وملء فراغاته، وتتصل بهذه النقطة إشكاليات أخرى أكثر ابراما وتعقيدا، منها أنّ ما تؤزم به الحضارات من أوبئة وحاجات حيويّة تدفع البشر دفعاً إلى الاختراع المادي بما يهيئ أولوية العلوم الطبيعية ساعات الأزمة بمقابل الانسانيات التي لا تحظى بهذه الأولوية.

***

عبد الخالق الفتلي

في المثقف اليوم