قضايا

محمد سيف: الصفحة الفارغة والملاحظة المفقودة.. في مِرآة الكاتب!

أَشْبَهَ بأن أقوم بزيارة رسمية لنفسي.. هكذا ارتأى الشاعر والكاتب البرتغالي فرناندو بيسوا - في كتاب اللاطمأنينة - أن يعبّر عن الكتابـــة، وهي نظرةٌ على غير العادة، إذْ يتّجه بالكتابة صَوْب الذات بدل أن تكون منتَجا مصدَّرا لما وراء حدود الآخر.

الكتابة - في أعنف تجلّياتها - هي فُسحة المكبوت كالحلم تماما، تُخرِج المدفون بلا إذن، وكأنها امتلكت زمام أمرها.. هكذا أراها أنا.

وفي حقل الكتابة بديهيٌ أنْ يرتبط الكاتب بعناصر شتى، هذه العناصر هي لغيره كعمود إنارة على الطريق السريع ليس بذي بال ولا يُعبأ بأمره، لكنها بالنسبة للكاتب منارة على جُرف صخري تسجد له السفن. إنّ شأن الكتابة في هذا شأن أي فن أو صنعة، فالجذع المقطوع في عين النحّات مشروع تحفة فنية، في حين هو لغيره لا شيء إلا بقايا شجرة لم يبقَ لها من الحياة أيّ رمق، وهذا عين ما يرمي إليه الفيلسوف والإمبراطور الروماني  ماركوس أوريليوس في (التأمّلات) من أنّ "الأشياء ذاتها خاملة، وإنما نحن الذين ننتج الأحكام ونطبعها في عقولنا".

الصفحة الفارغة

الصفحة الفارغة وما أدراك ما الصفحة الفارغة في عالَم الكتابة؟! إنها ذلك البُعبُع الذي كلما أفقدتَه جزءا استطال، وكأنّه كتب على نفسه الخلود، كاتبٌ يَفرَق منها لكنه مجبر على مواجهتها! حتى حين ينتهي من كتابته يظل كبرياء الصفحة الفارغة منتصبًا بعد آخر سطر! بينما كاتب آخر يشعل فراغُ الصفحة فيه التحدي والإثارة كحبيبة شَفَّ ثوبُها عما لا تُحسن عينا حبيبها إلا التسمّر أمامه، حيث أجمح ثورات الطبيعة!

أولى خطوات الكتابة تستهلّها الصفحة الفارغة، ومِلْئُها هي باقي الخطوات، ولكن كومة متراكمة من الحجارة كيفما اتفق شيء، وأنْ تتشكّل بناءً متّسقا هذه قصة مختلفة تماما، ومن لا يجلس مع الصفحة الفارغة على طاولة واحدة كيف يملؤها؟ وكيف ينتهي من لم يبدأ؟ في المَلءِ تُختزل مغامرة الكاتب، إن الصفحة الفارغة مادة خام تنتظر منظومة ذهنية تسكب في جوفها المادة الفكرية وقد جسّدتها اللغة. إنّ نظرة الكاتب للصفحة الفارغة حين ينفخه الأمل أشبه برؤية المعماري الأرضَ الخلاء وهو يتخيل خالدته المعمارية عليها.

إن جميع محاولات استجداء الإلهام الكتابي وما يقدمه الكاتب من قرابين كتحيّن الفرصة الملائمة وتحرّي مظانّ الإلهام؛ كَرْمى رضاه ليست إلا الرغبة العارمة لإنجاز مهمة واحدة، وواحدة فقط، هي تحويل الصفحة الفارغة إلى ممتلئة، امتلاءً مهندَسا ببراعة، ومدروسًا بعناية.

الفراغ الذي يجثم على صدر الصفحة هو السكون قبل العاصفة! هذا السكون الممتلئ بإمكانيات لا متناهية يخلُص إلى اختيار ما امتلك مُهجةَ الكاتب ليكون تلك العاصفة التي شقّت طريقها من الذهن حيث العالم المجرَّد، إلى الورق أو الشاشة حيث العالم المتجسّد، ولأنّ الطبيعة لا تقبل الفراغ، فالكاتب مع الصفحة الفارغة يعيش عراكا مصيريا لا يَكُفّ، فيما يشبه عبارة شكسبير الخالدة في مسرحية هاملت: "أن تكون أو لا تكون.. تلك هي القضية!"

كالمعدة الممتلئة تبدو الصفحة الممتلئة للكاتب، خصوصا تلك الممتلئة حدَّ التُّخمة! حيثُ أوانُ الإمساك عن لقمة أخرى، وما إنْ يُشبَع الاحتياج حتى يضمّ إليها أخواتها، ولا يوقفه إلا اكتمال لَمّ شملهنّ، فالصفحات الممتلئات حيث تستقرّ في بَهوها بُنيّات الأفكار - فِلْذَات الكاتب - هي نعيمُه وفخرُه.

الملاحظة المفقودة

الكتابة وهي تتبختر على الصفحات مُعلنةً امتلاءَها، ما هي إلا ثمرة لعملية ذهنية معقدة، مادّتُها الأفكار، ومن غير الأفكار لا وجودَ فعليًا للكتابة، كما من غير الأرحام لا توجد أجنّة طبيعية، إنّها الكنز الذي يَضِنّ الكاتب به أكثر من سائر ممتلكاته النفيسة.

تأسيسًا على ذلك.. فإن الأفكار التي يدوّنها الكاتب أثناء رحلة الكتابة في مذكّرات الجيب أو ملاحظات الهاتف بينما يستعد للنوم أو وقد استفاق للتوّ من نومه وقد رأى ما رأى من عوالم إلهامه الكُبرى أو وهو يركن سيارته أو يتابع فيلما أو يسامر أقرانه…إلخ هي بحق بطاقة بنكية يضمّ حسابها سيولة نقدية من سبعة أرقام! فهي وقود حربه الضَّروس، وهي قوام نَفَسِه الكتابي، ولك أنْ تتخيّل - والحال كما وصفت - أن يفقدها، والكتّاب يعلمون أن الفكرة التي تضيع عادة ما ترحل بلا رجعة ولا رحمة.

الملاحظة المفقودة مُربكة، وقد تُفقِد الكاتب اتزانه وهو الذي لا يرِف له جَفْن أمام العظائم، كيف لا؟ وقد تكون مادة لفصل كامل لكتابه أو خِيارا مدهشا لحبكة روايته أو وصفا شعريا بديعا للحظة دهشةٍ مع محبوبته، إنّ جَسامة الملاحظة المفقودة تأتي من أنها الحاضنة للحظة (وجدتُها) أو بصيغتها اليونانية الأصل (Eureka) كما صاح بها أول مرة أرخميدس حين اكتشف أثناء استحمامه مبدأ الطفو أثناء غمر الجسم في الماء قبل زُهاء ألفين وثلاثمائة سنة من الآن، وهذه الإشراقات التي يجود بها عفريت الإلهام يُدمي فقدُها بمقدار وَهَجِها.

لستُ أُبعِد النَّجعة إنْ قلت إنّ الكاتب حين يفقد ملاحظة ما فهو يفقد معها جزءا من ذاته، ترحل كحلم جميل تلاشى في لحظة استيقاظه، لا يذكر منه إلا أنه كان دافئا ومثيرا! وهي وإنْ كانت تائهة في عقله لكنها بدون استحضارها كالميت الذي لا يتنفس إلا بالأجهزة، إنها تُذكّر الكاتب بأنّ الطبيعة أوجبتْ على نفسها أنّ كل شيء عابر في نهاية المطاف لا محالة، بَيْدَ أنّ الفارق الوحيد هو أن بعض الأشياء يكون عبورها بطيئا لدرجة أنّنا لا نتصوّر فواتها، وأخرى كالبرق لا يومض حتى ينطفئ فيصبح أثرًا بعد عَين، ولكن المفارقة أنّ في بعض الخسارة ربحا، وأنّ في بعض الفقد مكسبا! فيكون موت فكرة ما حياةً تُبعَث في فكرة أخرى أَمْضَى وأَبْقَى.

وكالنشوة التي تغمر الكاتب وهو يُنعِم النظر في الصفحة التي امتلأت بعد فراغ، فإنه عيدٌ بهيجٌ حين يعثر بعد ضياع على قصاصة ورقية وقد دوّن فيها طرفَ فكرةٍ فريدة تقاطعت معه يوما ما! فتُحيل يَبَسَه إلى نهر تغتسل فيه الحياة.

وبين الصفحة الفارغة والملاحظة المفقودة، والصفحة الممتلئة والملاحظة المسترجَعة، يعيش الكاتب الكثير من الحكايات، مكتظة بخليط من المشاعر، حنينٌ لملاحظة مفقودة ووَجَلٌ من صفحة فارغة وامتنان لملاحظة مسترجعة وبهجة أمام صفحة ممتلئة.

إن الكتابة هي ارتباطٌ شعوريٌ بمفردات يراها غير الكاتب هَمَلا، وهو يحتسيها ثَمِلا، كالصفحة الفارغة والملاحظة المفقودة.

***

بقلم محمد سيـف

في المثقف اليوم